در النظيم نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

در النظيم - نسخه متنی

یوسف بن حاتم شامی مشغری

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: الدر النظيم
المؤلف: إبن حاتم العاملي
الجزء:
الوفاة: 664
المجموعة: مصادر سيرة النبي والائمة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
ردمك:
ملاحظات:
الدر النظيم
الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم بن فوز بن مهند الشامي المشغري
العاملي.
مؤسسة النشر الاسلامي

1
الدر النظيم
نبذة من حياة المؤلف
نبذة من حياة المؤلف
اسمه:
هو الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم بن فوز بن مهند الشامي المشغري
العاملي.
مشايخه: له على ما يظهر من الإجازات وغيرها ثلاثة مشايخ:
أحدهم: المحقق الحلي أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن بن يحيى بن
سعيد المتوفى سنة 676 ه‍، كما صرح به الشيخ الحر في أمل الآمل.
وثانيهم: الشيخ نجيب الدين يحيى بن أحمد بن يحيى بن سعيد الحلي
صاحب الجامع في الفقه، المولود سنة 601 ه‍، والمتوفى سنة 690 ه‍، قرأ عليه
كتابه الجامع ومعه جمع آخر، هم: الشيخ شمس الدين محمد بن أحمد بن صالح
القسيني، والسيد جلال الدين محمد بن السيد رضي الدين علي بن طاووس الحلي،
والوزير شرف الدين علي بن الوزير مؤيد الدين محمد بن أحمد بن العلقمي، كما
ذكرهم الشيخ شمس الدين القسيني المذكور في إجازته للشيخ نجم الدين طومان
ابن أحمد العاملي المتوفى بطيبة حدود 738 ه‍، وقد أدرج صاحب المعالي إجازة
القسيني في إجازته الكبيرة والسيد نجم، المطبوعة في آخر مجلدات البحار.
وثالث مشايخه: السيد رضي الدين علي بن طاووس الحلي المتوفى سنة 664 ه‍

3
صاحب التصانيف الكثيرة. وقد كتب السيد للشيخ جمال الدين يوسف بن
حاتم إجازتين إحداهما مشتركة بينه وبين جمع آخر، هم: الشيخ شمس الدين
القسيني وأولاده الثلاثة جعفر وإبراهيم وعلي والفقيه أحمد بن محمد
العلوي النسابة والفقيه نجم الدين محمد الموسوي والسيد صفي الدين محمد بن
بشير العلوي الحسيني وصدرت تلك الإجازة من السيد ابن طاووس المذكور في
سنة وفاته بعد قراءة هؤلاء عليه كتابه " الأسرار المودعة في ساعات الليل
والنهار " وكتاب " محاسبة الملائكة " باستدعاء الشيخ شمس الدين القسيني
المذكور، كما صرح هو في إجازته لطومان المذكور، والثانية إجازة مختصة للشيخ
جمال الدين يوسف، وهي كبيرة ذات فصول كثيرة، سماها السيد ب‍
" كتاب الإجازات لكشف طرق المفازات ".
وقطعة من أوائل كتاب الإجازات هذا موجودة، أدرجها العلامة المجلسي في
إجازات البحار، وليس في هذه القطعة اسم للمجاز لأنها ناقصة، ولكن في البحار
بعد ذكر هذه القطعة حكى صورة استجازة الشيخ جمال الدين يوسف المذكور عن
السيد رضي الدين علي بن طاووس عن مجموعة شمس الدين محمد الجبعي جد
الشيخ البهائي، وهو نقلها عن خط الشيخ محمد بن مكي الشهيد، إلى أن قال
الشهيد: ثم إن السيد أجاز الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم إجازة عظيمة ذكر
فيها مصنفاته ومشايخه، وذكر في أثناء الإجازة ما صورته: " فصل " واعلم انني
انما اقتصرت على تأليف كتاب... إلى آخر الفصل الذي هو بعين ألفاظه موجود
في تلك القطعة من كتاب الإجازات، فيظهر منه أن تمام كتاب الإجازات كان عند
الشهيد ونقل عنه خصوص هذا الفصل، وأنه كان فيه التصريح بأنه إجازة للشيخ
جمال الدين يوسف الشامي.
وإليك - عزيزنا القارئ - نص استجازة الشيخ يوسف بن حاتم الشامي من
السيد النقيب الطاهر رضي الملة والحق والدين علي بن طاووس.
" بسم الله الرحمن الرحيم، وصلواته على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين.
إن رأى مولانا وسيدنا فريد عصره ووحيد دهره، السيد الإمام العالم الفاضل

4
الكبير الفقيه الزاهد العابد الزكي الورع، سلالة النبي صلوات الله عليه وآله وسلم
رضي الدين حجة الاسلام والمسلمين، قدوة العلماء والعارفين، سلف السلف
وبقية الخلف، زين العترة الطاهرة أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن محمد
الطاووس عضد الله الكافة بطول بقائه بمحمد وآله الطاهرين [صلوات الله وسلامه
عليه وعليهم أجمعين] أن يجيز لأصغر خدامه وربيب نعمته يوسف بن حاتم بن
فوز بن مهند الشامي جميع ما صنفه أو ألفه أو نظمه أو نثره أو اختاره أو حرره أو
قرأه أو سمعه أو أجيز له أو كتبه أو كان له طريق إلى روايته أو يكون مما يعد من
سائر درايته أو يمكن أن يرويه أحد عن خدمته، فينعم بذلك على ما يليق بفضله
وسجاياه ". (1)
أقوال العلماء فيه:
قال الميرزا محمد باقر الموسوي الخوانساري في روضات الجنات:
" وفي رجال المحدث النيسابوري أنه كان فقيها محدثا، وأن له أيضا كتابا
سماه " الدر النظيم في مناقب الأئمة اللهاميم "، ينقل فيه من كتاب مدينة العلم
وغيره من الكتب المعتبرة وكتاب الأربعين من الأربعين " (2).
وقال العلامة الميرزا محمد علي المدرس في ريحانة الأدب:
" صاحب الدر النظيم الشيخ يوسف بن حاتم الشامي العاملي من علماء
الإمامية في أواخر القرن السابع الهجري أو أوائل القرن الثامن الهجري. فقيه
جليل، فاضل نبيل، ملقب بجمال الدين، كان من تلامذة المحقق الحلي (المتوفى
سنة 676) وأيضا أجيز من السيد ابن طاووس (المتوفى سنة 664). ومن تأليفاته:
الأربعون حديثا، والدر النظيم في مناقب الأئمة اللهاميم " (3).
وقال الحر العاملي في أمل الآمل:



(1) بحار الأنوار: ج 107 ص 45 فائدة (10).
(2) روضات الجنات: ج 8 ص 199 تحت رقم (748).
(3) ريحانة الأدب: ج 3 ص 362.
5
" الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي العاملي: كان فاضلا، فقيها،
عابدا، له كتب منها: كتاب الأربعين في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، عندنا منه
نسخة. يروي عن المحقق جعفر بن الحسن بن سعيد، وعن ابن طاووس " (1).
وقال الميرزا عبد الله الأفندي الإصبهاني في رياض العلماء:
" الشيخ الفقيه جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي العاملي المشغري كان
من أجلة فقهاء تلامذة المحقق والسيد ابن طاووس أيضا " (2).
منزلته العلمية:
لم يترك المترجم له أثرا فقهيا، ومع ذلك فقد عبر عنه جل من ترجم له بأنه
كان فقيها بالإضافة إلى كونه محدثا، كالحر العاملي صاحب الوسائل وصاحب
رياض العلماء وغيرهما.
وقد نقل الشهيد في ذكرى الشيعة في مسألة الجمع بين الصلاتين ما نصه:
" وأورد على المحقق نجم الدين تلميذه جمال الدين يوسف بن حاتم الشامي
المشغري، وكان أيضا تلميذ السيد ابن طاووس أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يجمع بين
الصلاتين فلا حاجة إلى الأذان الثاني إذ هو للإعلام وللخبر المتضمن أنه عند
الجمع بين الصلاتين وإن كان قد يفرق فلم ندبتم إلى الجمع وجعلتموه أفضل؟
فأجابه المحقق أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يجمع تارة ويفرق أخرى، ثم ذكر الروايات كما
ذكرنا - يعني في الذكرى - وقال: إنما استحببنا في الوقت الواحد إذا أتى بالنوافل
والفريضتين فيه لأنه مبادرة إلى تفريغ الذمة من الفرض حيث ثبت دخول
وقت الصلاة، ثم ذكر خبر عمر بن حريث عن الصادق (عليه السلام) وسألته عن صلاة
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: كان رسول الله يصلي ثماني ركعات الزوال ثم يصلي أربعا
للأولى وثماني بعدها وأربعا العصر وثلاثا المغرب وأربعا بعدها والعشاء أربعا
وثماني الليل وثلاثا الوتر وركعتي الفجر والغداة ركعتين ". (3)



(1) أمل الآمل: ج 1 ص 190.
(2) رياض العلماء: ج 5 ص 389.
(3) ذكرى الشيعة: ص 119 س 21 - 25.
6
وتقرير الشهيد الأول (قدس سره) هذه المسألة في الذكرى واسم المترجم له وتتلمذه
على يد المحقق الحلي والسيد ابن طاووس، وإشكاله على المحقق وجواب
المحقق له دليل على علو شأنه وعظم منزلته العلمية.
وقد وجه الشيخ يوسف بن حاتم (42) مسألة في فروع فقهية متفرقة عرفت
بالمسائل البغدادية قال المحقق الحلي في جوابها: " فإنا مجيبون عما تضمنته هذه
الأوراق من المسائل لدلالتها على فضيلة موردها ومعرفة ممهدها، فهو حقيق أن
نحقق أمله ونجيبه إلى ما سأله، وبالله التوفيق ". (1)
ومن هذا التقريض الفريد يتضح لك منزلة المترجم له عند أستاذه المحقق
الحلي (قدس الله روحه الطاهرة) صاحب كتاب شرائع الاسلام والمعتبر
والمختصر النافع والذي هو علم من أعلام الطائفة على مر العصور.
وكانت جل هذه المسائل في فروع فقهية مبتكرة لم يتعرض لها أحد قبله، وقد
صرح بذلك نفس المحقق (قدس سره) في جواب المسألة السادسة والثلاثين
قائلا: " وليس هذه الفروع مما تعرض لها أوائلنا فيذكر عنهم فيها خلاف، بل هو
في التفاريع المحدثة، وعلى الباحث استفراغ وسعه في إصابة الحق " وفي هذا
النص اعتراف واضح من المحقق رحمه الله للسائل بأنه من أصحاب النظر وعليه
استفراغ جهده في استنباط الأحكام.
والبعض الآخر من هذه المسائل كان استفسارا عن مواضع من كلام الشيخ
الطوسي (قدس سره) في النهاية، وقد أيده المحقق رحمه الله على تلك الإشكالات وهو
يدل على أنه كان من أصحاب النظر والرجوع إلى الأدلة ولكنه كان يتوقف عن
الفتوى قال المحقق في جواب المسألة العاشرة: " لا ريب أن في كلام الشيخ (رحمه الله)
إشكالا... وبعد هذا التقدير فلا ضرورة لبيان الفرق الذي ذكره الشيخ في النهاية،
وينزل الحكم على ظواهر هذه النصوص " وقال (رحمه الله) في جواب المسألة الثالثة
عشر: " لا ريب أن في كلام الشيخ (رحمه الله) اضطرابا، ولم يستقم إلا أن يجعل موضع



(1) الرسائل التسع: ص 235 المسائل البغدادية.
7
" أقل " " أكثر "، والظاهر أنه من زوغ القلم " وغير ذلك من الشواهد المبثوثة في
أثناء أجوبة هذه المسائل.
ونستعرض الآن هذه المسائل الفقهية المعروفة بالمسائل البغدادية لتقف
بنفسك - عزيزي القارئ - على دقة عبارة المترجم له الفقهية ودقة أسئلته،
ولئن المرء تعرف منزلته من سؤاله أكثر مما تعرف من جوابه.
" المسألة الأولى: إذا أتلف الانسان على غيره دابة أو جارية هل يلزمه المثل
أو القيمة وما الحكم في ذلك؟
المسألة الثانية: في امرأة دخل إليها صبي دون البلوغ فأمرته بالصعود إلى
سطحها ليكشف كنيسة الدار وعليها لحاف فصعد الصبي ليكشف اللحاف عن
الكنيسة فوقع إلى وسط الدار فمات في الحال، فهل على المرأة دية الصبي وما
الحكم في ذلك شرعا؟
المسألة الثالثة: في رجل اشترى من شخص حيوانا فوجد فيه عيبا سابقا على
العقد وقد انقضت الثلاثة الأيام ولم يتصرف، فهل له الرد بعد انقضاء الأيام؟ وهل
إن حصل فيه عيب بعد العقد وقبل التصرف وانضاف إلى العيب السابق ما الحكم
في الجميع؟
المسألة الرابعة: ما يصطفيه الإمام (عليه السلام) من الغنيمة التي توجد في دار الحرب
هل فيها خمس أم لا؟ وكذا ما يجب له من رؤوس الجبال وبطون الأودية والآجام
إذا كانت في الأرض التي تملك رقبتها هل يكون فيها خمس أم لا؟ وهل الأرض
التي تملك رقبتها تصير له (عليه السلام) أم لا؟
المسألة الخامسة: في شخص ادعي عليه أنه قتل رجلا وتعذرت البينة وثبت
اللوث وأحلف المدعي خمسين يمينا فلما تكملت الأيمان أقر شخص آخر بأنه
الذي قتله، فما الحكم في ذلك؟
المسألة السادسة: في رجل قتله خمسة أنفس عمدا فاختار ولي الدم قتل
ثلاثة أنفس منهم فكيف حكم الرد على ورثة المقتولين وما الحكم فيه؟
المسألة السابعة: في رجل له على رجل دين إلى أجل معلوم فجاء شخص

8
وضمن ما عليه لرب الدين بإذن من عليه المال، فهل يكون للمضمون له مطالبة
الضامن بالمال قبل حلول الأجل أم لا؟ وهل إذا صانع المضمون له بأقل مما ضمن
يكون له الرجوع على المضمون عنه بما ضمنه أم لا أو بما صانع المضمون له؟
المسألة الثامنة: قوله في النهاية: " ولا يجوز أن يبيع الانسان متاعا مرابحة
بالنسبة إلى أصل المال بأن يقول: أبيعك هذا المتاع بربح عشرة واحدا أو اثنين،
بل يقول بدلا من ذلك: هذا المتاع علي بكذا وأبيعك إياه بكذا بما أراد " فما الفرق؟
وهل قوله: " لا يجوز " على التحريم أو الكراهية؟ وما العلة في كراهية ذلك إن كان
مكروها أو محرما؟
إلى آخر المسائل، وهي مطبوعة بتمامها مع أجوبتها في كتاب الرسائل التسع
للمحقق الحلي.
ولعل السبب في إعراض المترجم له عن التأليف في الفقه هو عين السبب
الذي ترك لأجله أستاذه السيد ابن طاوس (قدس سره) التأليف في هذا الباب. ويشير لذلك
قول السيد ابن طاووس في إجازته لصاحب الترجمة:
" واعلم أنني إنما اقتصرت على تأليف كتاب غياث سلطان الورى لسكان
الثرى من كتب الفقه في قضاء الصلوات، ولم أصنف غير ذلك من الفقه وتفريغ
المسائل والجوابات لأنني كنت قد رأيت مصلحتي ومعاذي في دنياي وآخرتي
من التورع عن الفتوى في الأحكام الشرعية، لأجل ما وجدت من الاختلاف في
الرواية بين فقهاء أصحابنا من التكاليف النفلية، وسمعت كلام الله جل جلاله يقول
عن أعز موجود من الخلائق عليه محمد (صلى الله عليه وآله) * (ولو تقول علينا بعض الأقاويل *
لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين) *
ولو صنفت كتبا في الفقه يعمل بعدي عليها كان ذلك نقضا لتورعي عن الفتوى
ودخولا تحت خطر الآية المشار إليها، لأنه جل جلاله إذا كان هذا تهديده للرسول
العزيز الأعظم لو تقول عليه، فكيف كان يكون حالي إذا تقولت عنه جل جلاله،
وأفتيت أو صنفت خطأ أو غلطا يوم حضوري بين يديه ". (1)



(1) بحار الأنوار: ج 107 ص 46.
9
مؤلفاته:
1 - كتاب الدر النظيم في مناقب الأئمة اللهاميم. وهو هذا الكتاب الذي
بين يديك.
2 - كتاب الأربعين حديثا عن الأربعين رجلا في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام).
وقد أورد هذا الكتاب بتمامه السيد هبة الله بن أبي محمد الحسن الموسوي في
كتابه " المجموع الرائق " مخطوط. وقال عنه العلامة المجلسي " أخذ منه أكثر
علمائنا واعتمدوا عليه ". (1)
كتاب الدر النظيم ونسخه الخطية:
عنوان الكتاب " الدر النظيم في مناقب الأئمة اللهاميم " والنظيم بمعنى
المنظوم، واللهاميم قال في مجمع البحرين: لهاميم العرب أي ساداتهم جمع لهموم
وهو الجواد من الناس. وهو كتاب في مناقب النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام)
على منوال كتاب المناقب لابن شهرآشوب السابق عليه تاريخيا.
قال عنه الشيخ الطهراني في الذريعة: " كتاب جليل في بابه، ينقل عن مدينة
العلم للشيخ الصدوق وكتاب النبوة له أيضا، فيظهر وجودهما عنده، كانت نسخة
منه عند العلامة المجلسي ينقل عنه في البحار " (2) ثم ذكر وجود ثلاث نسخ من
الكتاب إحداها بسامراء والأخريان بكربلاء، وجميعها متفقة في النقص في
مواضع أولا ووسطا وآخرا.
وقال العلامة المجلسي في البحار: " وكتاب الدر النظيم كتاب شريف كريم
مشتمل على أخبار كثيرة من طرقنا وطرق المخالفين في المناقب. وقد ينقل من
كتاب مدينة العلم وغيره من الكتب المعتبرة، وكان معاصرا للسيد علي بن
طاووس (رحمه الله) وقلما رجعنا إليه (3) لبعض الجهات " (4) ولم يذكر تلك الجهات.
وأما النسخة الخطية الوحيدة التي اعتمدنا عليها في تحقيق هذا الكتاب فهي



(1) بحار الأنوار: ج 1 ص 40.
(2) الذريعة: ج 8 ص 86.
(3) مما عثرنا عليه: ج 78 ص 355 ب 26 ح 9.
(4) بحار الأنوار: ج 1 ص 40.
10
نسخة خطية في همدان كتابخانه غرب مدرسة الآخوند تحت رقم (1553) بخط
النسخ وهي نسخة كاملة رتبها المؤلف على ثلاثة أجزاء. ولم نعثر على نسخة
خطية أخرى لهذا الكتاب الجليل.
مؤسسة النشر الإسلامي

11
[الباب الأول]
[في ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)]

13
$ رسول الله (صلى الله عليه وآله) / البشارة بنبوته
[قال عفكلان الحميري] (1) لعبد الرحمن بن عوف: ألا أبرك (2) ببشارة نبي
خير لك من التجارة؟ أنبئك بالمعجبة وأبشرك بالمرغبة، إن الله قد بعث في الشهر
الأول من قومك نبيا ارتضاه صفيا، أنزل عليه كتابا جعل له ثوابا، ينهى عن
الأصنام ويدعو إلى الاسلام، أخف الوقعة وعجل الرجعة.
وكتب إلى النبي (صلى الله عليه وآله):
اشهد بالله رب موسى * إنك أرسلت بالبطاح
فكن شفيعي إلى مليك * يدعو البرايا إلى الفلاح
فلما دخل على النبي (صلى الله عليه وآله) قال: أحملت إلي وديعة أم أرسلك إلي مرسل
برسالة فهاتها (3)
وبشر أوس بن حارثة بن ثعلبة به قبل مبعثه بثلاث مائة عام وأوصى أهله
باتباعه في حديث طويل وهو القائل:
إذا بعث المبعوث من آل غالب * بمكة فيما بين زمزم والحجر
هنالك فاشروا (4) نصره ببلادكم * بني عامر إن السعادة في النصر (5)



(1) ما بين المعقوفتين أضفناه من كتاب المناقب لابن شهرآشوب.
(2) في المناقب: ألا أبشرك.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 / ص 22.
(4) في ظاهر الأصل: فاسروا، وما أثبتناه من المناقب والبحار.
(5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 / ص 22 - 23.
15
وفيه يقول النبي (صلى الله عليه وآله): رحم الله أوسا أنه مات في الحنيفية، وحث على نصرنا
في الجاهلية (1).
وقيل: إن عامر بن الطفيل كان من جملة العشرة الذين أوفدهم النعمان بن
المنذر على كسرى، فتكلم كل واحد منهم بكلام، إلى أن قام عامر بن الطفيل فقال:
كثر فنون المنطق، وليس القول أعمى من حندس الظلماء، وإنما العجز في الفعال
والعجز في النجدة، والسؤدد مطاوعة القدرة، ما أعلمك بقدرنا وأبصرك بفضلنا،
وبالحرا إن أدالت الأيام وثابت الأحلام أن تحدث أمور لها أعلام.
قال: وما تلك الأحلام والأيام؟ قال: تجتمع الأحياء من ربيعة ومضر على
أمر يذكر.
قال كسرى: وما الأمر الذي يذكر؟ قال: ما لي علم بأكثر ما خبرت به محمد.
قال كسرى: متى تكهنت يا ابن الطفيل؟
قال: لست بكاهن ولكني بالرمح طاعن.
قال له كسرى: فإن أتاك آت من ناحية عينك العوراء ما أنت صانع؟
قال: ما هيبتي في قفاي بدون هيبتي في وجهي، وما أذهب عيني عيث (2)
ولكن مطاعنة العيث (3).
قيل: كانت تبع الأول من الخمسة الذين ملكوا الدنيا بأسرها، فسار في الآفاق،
وكان يختار من كل بلدة عشرة أنفس من حكمائهم، فلما وصل إلى مكة كان معه
أربعة آلاف رجل من العلماء، فلم يعظمه أهل مكة فغضب عليهم وقال لوزيره
" عمياريسا " في ذلك. فقال الوزير: إنهم جاهلون ويعجبون بهذا البيت. فعزم
الملك في نفسه بأن يخربها ويقتل أهلها فأخذه الله بالصدام، وفتح من عينيه وأذنيه
وأنفه وفمه ماء منتنا عجزت الأطباء عنه، وقالوا: هذا أمر سماوي وتفرقوا عنه.



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 / ص 22 - 23.
(2) العيث: مصدر عاث: أفسد وأخذ بغير رفق. (لسان العرب 2 / 170).
(3) جواهر الأدب: ص 198. وفيه " مطاوعة العبث " بدل " مطاعنة العيث ".
16
فلما أمسى جاء عالم من العلماء إلى وزيره وأسر إليه إن صدق الملك بنيته
عافيته. فاستأذن الوزير له فلما خلا به قال له: هل نويت في هذا البيت أمرا؟.
قال: كذا وكذا.
قال العالم: تب من ذلك ولك خير الدنيا والآخرة.
قال: قد تبت مما كنت قد نويت فعوفي في الحال، فآمن بالله وبإبراهيم
الخليل (عليه السلام) وخلع على الكعبة سبعة أثواب. وهو أول من كسا الكعبة.
وخرج إلى يثرب، ويثرب هي أرض فيها عين ماء، فاعتزل من بين أربعة
الف (1) عالم أربعمائة عالم على أنهم يسكنون فيها، وجاؤوا إلى باب الملك وقالوا:
إنا خرجنا من بلداننا وطفنا مع الملك زمانا وجئنا إلى هذا المكان ونريد المقام فيه
إلى أن نموت فيه.
فقال الوزير: ما الحكمة في ذلك؟
قالوا: اعلم أيها الوزير أن شرف هذا البيت بشرف محمد صاحب القرآن
والقبلة واللواء والمنبر، مولده بمكة وهجرته إلى هاهنا، وإنا على رجاء أن ندركه
أو يدركه أولادنا.
فلما سمع الملك ذلك تفكر أن يقيم معهم سنة رجاء أن يدرك محمدا (صلى الله عليه وآله)،
وأمر أن يبنى أربعمائة دار لكل واحد دارا، وزوج كل واحد منهم جارية معتقة،
وأعطى كل واحد منهم مالا جزيلا.
ويروى أن تبعا قال للأوس والخزرج: كونوا هاهنا إلى أن يخرج هذا النبي أما
أنا لو أدركته لخدمته ولخرجت معه (2).
وروي أنه قال:
قالوا بمكة بيت مال داثر (3) * وكنوزه من لؤلؤ وزبرجد



(1) كذا في الأصل، وفي المناقب والبحار: آلاف.
(2) كمال الدين وتمام النعمة: ص 170 ح 26، المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 / ص 15.
(3) الدثر - بالفتح -: المال الكثير.
17
بادرت أمرا حال ربي دونه * والله يدفع عن خراب المسجد
فتركت فيها من رجالي عصبة * نجبا ذوي حسب ورب محمد. (1)
وقال أيضا:
شهدت على أحمد أنه * رسول من الله باري النسم
فلو مد عمري إلى عمره * لكنت وزيرا له وابن عم
وكنت عذابا على المشركين * أسقيهم كأس حتف وغم
وكتب كتابا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) يذكر فيه إيمانه وإسلامه وأنه من أمته فليجعله
تحت شفاعته، وعنوان الكتاب: إلى محمد بن عبد الله خاتم النبيين ورسول رب
العالمين من تبع الأول، ودفع الكتاب إلى العالم الذي نصح له.
ثم خرج منها وسار حتى مات بغلسان بلد من بلاد الهند، وكان بين موته
ومولد النبي (عليه السلام) ألف سنة.
ثم إن النبي (عليه السلام) لما بعث وآمن به أكثر أهل المدينة أنفذوا الكتاب إليه على
يد أبي ليلى، فوجد النبي (عليه السلام) في قبيلة بني سليم، فعرفه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: أنت
أبو ليلى.
قال: نعم.
قال: ومعك كتاب تبع الأول؟ فتحير الرجل.
فقال: هات الكتاب.
فأخرجه ودفعه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فدفعه النبي (عليه السلام) إلى علي (عليه السلام)، فقرأه
عليه، فلما سمع النبي (عليه السلام) كلام تبع قال: مرحبا بالأخ الصالح - ثلاث مرات -
وأمر أبا ليلى بالرجوع إلى المدينة (2).
وروى محمد بن إسحاق: إن زيد بن عمرو بن نفيل ضرب في الأرض يطلب
الدين الحنيف، فقال له راهب بالشام: إنك لتسأل عن دين ذهب من كان يعرفه،



(1) كمال الدين وتمام النعمة: ص 170 ح 25.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 / ص 16.
18
ولكنك قد أظلك خروج نبي يأتي ملة إبراهيم (عليه السلام) الحنيفية وهذا زمانه.
فخرج سريعا حتى إذا كان بأرض لخم عدوا عليه فقتلوه. قال النبي (عليه السلام):
زيد بن عمرو يبعث أمة وحده.
وقد رثاه ورقة بن نوفل:
رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما * تجنبت تنورا من الله حاميا
بدينك ربا ليس رب كمثله * وتركك أوثان الطواغي كما هيا
وقد تدرك الانسان رحمة ربه * ولو كان تحت الأرض ستين واديا (1)
وقال محمد الفتال (2): إنه كان عند تربة النبي (عليه السلام) جماعة فسأل أمير المؤمنين
علي (عليه السلام) سلمان عن مبدأ أمره.
فقال: كنت من أبناء الدهاقين بشيراز عزيزا على والدي، فبينا أنا سائر مع أبي
في عيد لهم إذا أنا بصومعة وإذا فيها رجل ينادي أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن
عيسى روح الله وأن محمدا حبيب الله. قال: فرصف (3) حب محمد في لحمي ودمي.
فلما انصرفت إلى منزلي إذا أنا بكتاب معلق من السقف. فسألت أمي عنه
فقالت: لا تقربه فإنه يقتلك أبوك.
فلما جن الليل أخذت الكتاب فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم هذا عهد من
الله إلى آدم أنه خالق من صلبه نبيا يقال له محمد يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى
عن عبادة الأوثان، يا روزبه أنت وصي عيسى فآمن واترك المجوسية.
قال: فصعقت صعقة شديدة، فأخذني أبي وأمي وجعلاني في بئر عميقة وقالا:



(1) سيرة ابن إسحاق: ص 119.
(2) وفي هامش الأصل: (ذكر أبو محمد عبد الملك بن هشام النحوي في كتاب سيرة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أول الجزء الخامس من... قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمرو بن
قتادة الأنصاري، عن محمود بن لبيد، عن عبد الله بن عباس، قال: حدثني سلمان الفارسي
من فيه، قال: كنت رجلا فارسيا من أهل اصبهان من أهل قرية يقال لها جي وكان أبي دهقان
قريته إلى آخر القصة لفظا بلفظ، هكذا ذكر وكتب من التاريخ المذكور.
(3) الرصف: المزج والضم.
19
إن رجعت وإلا قتلناك، وضيقوا علي الأكل والشرب.
فلما طال أمري دعوت الله بحق محمد ووصيه أن يريحني مما أنا فيه. فأتاني
آت عليه ثياب بيض فقال: قم يا روزبه، فأخذ بيدي وأتى بي الصومعة.
فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن عيسى روح الله، وأن محمدا حبيب الله.
فقال الديراني: يا روزبه اصعد، فصعدت إليه فخدمته حولين.
فقال: إني ميت أوصيك براهب أنطاكية فاقرأه مني السلام وادفع إليه هذا
اللوح، وناولني لوحا.
فلما فرغت من دفنه أتيت راهب أنطاكية وقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأن
عيسى روح الله وأن محمدا حبيب الله.
فقال: يا روزبه اصعد فصعدت إليه فخدمته حولين، فقال: إني ميت أوصيك
براهب إسكندرية فاقرأه مني السلام وادفع إليه هذا اللوح.
فلما فرغت منه أتيت الصومعة قائلا: أشهد أن لا إله إلا الله وأن عيسى روح
الله وأن محمدا حبيب الله.
فقال: يا روزبه اصعد فصعدت فخدمته حولين، فقال: اني ميت.
فقلت له: على من تخلفني؟
فقال: لا أعرف أحدا يقول بمقالتي في الدنيا وأن ولادة محمد قد حانت،
فإذا أتيته فاقرأه مني السلام وادفع إليه هذا اللوح.
فلما فرغت من دفنه صحبت قوما لما أرادوا أن يأكلوا شدوا شاة فقتلوها
بالضرب، فقالوا: كل.
فقلت: إني غلام ديراني وأن الديرانيين لا يأكلون اللحم.
ثم أتوني بالخمر، فقلت مثل ذلك، فضربوني وكادوا يقتلونني، فأقررت لواحد
منهم بالعبودية، فأخرجني وباعني بثلاثمائة درهم من يهودي. فسألني عن قصتي
فأخبرته وقلت: ليس لي ذنب سوى حبي محمدا ووصيه. فقال اليهودي: واني

20
لأبغضك (1) ولكن أبغض محمدا. ثم أخرجني إلى باب داره وإذا رمل كثير فقال:
والله لئن أصبحت ولم تنقل هذا الرمل كله من هذا الموضع لأقتلنك.
قال: فجعلت أحمل طول ليلي، فلما جهدني (2) التعب سألت الله تعالى الراحة
منه. فبعث الله ريحا فقلعت ذلك الرمل إلى ذلك المكان.
فلما أصبح نظر إلى الرمل فقال: أنت ساحر قد خفت منك. فباعني من امرأة
سليمية لها حائط، فقالت لي: افعل بهذا الحائط ما شئت.
فكنت فيه إذا أنا بسبعة رهط تظلهم غمامة، فلما دخلوا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله)
وأمير المؤمنين وأبو ذر والمقداد وعقيل وحمزة وزيد فأوردتهم طبقا من رطب
فقلت: هذه صدقة.
فقال النبي (عليه السلام): كلوا، وأمسك رسول الله وأمير المؤمنين وحمزة وعقيل.
ووضعت طبقا آخر وقلت: هذه هدية. فمد يده وقال: بسم الله كلوا.
فقلت: في نفسي: بدت ثلاث علامات، وكنت أدور خلفه إذ التفت رسول
الله (صلى الله عليه وآله) وقال: يا روزبه تطلب خاتم النبوة، وكشف عن كتفيه وإذا بخاتم النبوة
معجوم بين كتفيه عليه شعرات، فسقطت على قدميه اقبلهما.
فقال لي: [يا روزبه ائت] هذه المرأة وقل لها: يقول لك محمد بن عبد الله
تبيعينا هذا الغلام؟
فلما أخبرتها قالت: قل له لا أبيعكه إلا بأربعمائة نخلة، مائتي نخلة صفراء،
ومائتي نخلة حمراء.
فأخبرته بذلك فقال (صلى الله عليه وآله): ما أهون ما سألت. قم يا علي فاجمع هذا النوى
كله. فأخذه بيده فغرسه ثم قال له: إسقه، فسقاه، فلما بلغ آخره خرج النخل ولحق
بعضه بعضا، فقال لها: خذي شيك وادفعي إلينا شينا.
فخرجت وقالت: والله لا أبيعكه إلا بأربعمائة نخلة كلها صفراء.



(1) كذا في الأصل، والظاهر لا أبغضك.
(2) كذا في الأصل، وفي روضة الواعظين وفي المناقب: أجهدني.
21
فهبط جبرئيل (عليه السلام) فمسح بجناحه على النخيل فصار كله أصفر.
فنظرت وقالت: والله نخلة من هذه أحب إلي من محمد ومنك.
فقلت لها: والله وإن يوما مع محمد أحب إلي منك ومن كل شئ أنت فيه.
فأعتقني رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسماني سلمان (1).
وقال نصر بن المنتصر في ذلك:
من غرس النخل فجاءت يانعا * مرضية ليومها من النوى
* * *
$ رسول الله (صلى الله عليه وآله) / نسبه
فصل
في ذكر نسبه (صلى الله عليه وآله)
محمد بن عبد الله
وهو الذي تصور أبوه عبد المطلب أن ذبح الولد أفضل قربة، لما علم من
حال إسماعيل (عليه السلام)، فنذر أنه متى رزق عشرة ذكورا أن ينحر أحدهم للكعبة شكرا
لربه عز وجل.
فلما وجدهم عشرة قال لهم: يا بني ما تقولون في نذري؟
فقالوا: الأمر إليك ونحن بين يديك.
قال: فلينطلق كل واحد منكم إلى قدحه وليكتب عليه اسمه. ففعلوا وأتوه
بالقداح، فأخذها وقال:
عاهدته والآن أوفي عهده * إذ كان مولاي فكنت عبده
نذرت نذرا لا أحب رده * ولا أحب أن أعيش بعده
فقدمهم ثم تعلق بأستار الكعبة ونادى: اللهم رب البلد الحرام، والركن
والمقام، ورب المشاعر العظام، والملائكة الكرام، اللهم أنت خلقت الخلق لطاعتك



(1) روضة الواعظين: ص 275 - 278، المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 / ص 16 - 18.
22
وأمرتهم بعبادتك، لا حاجة منك إليهم، في كلام له.
ثم أمر بضرب القداح وقال: اللهم إليك أسلمتهم، ولك أعطيتهم، فخذ من
اخترت منهم فإني راض بما حكمت، وهب لي أصغرهم سنا فإنه أضعفهم ركنا.
ثم أنشأ يقول:
يا رب لا تخرج عليه قدحي * واجعل له واقية من ذبحي
فخرج السهم على عبد الله. فأخذ عبد المطلب الشفرة وأتى عبد الله حتى
أضجعه في الكعبة وقال:
هذا بني قد أريد نحره * والله لا يقدر شئ قدره
فإن يؤخره يقبل عذره
ثم هم بذبحه، فأمسك أبو طالب يده وقال:
كلا ورب البيت ذي الأنصاب * ما ذبح عبد الله بالتلعاب (1)
ثم قال: اللهم اجعلني فديته وهب لي ذبحته، وقال:
خذها إليك هدية يا خالقي * روحي وأنت مليك هذا الخافق
وعاونه أخواله من بني مخزوم، وقال بعضهم:
يا عجبا من فعل عبد المطلب * وذبحه ابنا كتمثال الذهب
فأشاروا عليه بكاهنة بني سعد، فخرج في ثمانمائة رجل وهو يقول:
تعاورني هم فضقت به ذرعا * ولم أستطع مما تجللني دفعا
نذرت ونذر المرء دين ملازم * وما للفتى مما قضى ربه منعا
وعاهدته عشرا فلما تكملوا * أقرب منهم واحدا ماله رجعا
فأكملهم عشرا فلما هممت أن * أفئ بذاك النذر ثار له جمعا
يصدونني عن أمر ربي وأنني * سأرضيه مشكورا ليكسبني نفعا
فلما دخلوا عليها قال:
يا رب اني فاعل لما ترد * إن شئت ألهمت الصواب والرشد



(1) التلعاب: مصدر لعب.
23
فقالت: كم دية الرجل عندكم؟
قالوا: عشرة من الإبل.
قالت: فاضربوا على الغلام وعلى الإبل القداح، فإن خرج القدح على الإبل
فانحروها، وإن خرج عليه فزيدوا في الإبل عشرة عشرة حتى يرضى ربكم.
فكانوا يضربون القداح على عبد الله وعلى عشرة فيخرج السهم على عبد الله، إلى
أن جعلها مائة وضرب فخرج القدح على الإبل، فكبر عبد المطلب وكبرت قريش
ووقع عبد المطلب مغشيا عليه، وتواثبت بنو مخزوم فحملوه على أكتافهم، فلما
أفاق من غشيته قالوا: قد قبل منك فداء ولدك.
فبينا هم كذا وإذا بهاتف من داخل البيت وهو يقول: قبل الفداء، ونفد (1)
القضاء، وآن ظهور محمد المصطفى.
فقال عبد المطلب: القداح تخطئ وتصيب حتى أضرب ثلاثا. فلما ضربها
خرج على الإبل، فارتجز يقول:
دعوت ربي مخلصا وجهرا * يا رب لا ينحر بني نحرا
فنحرها كلها، فجرت السنة في الدية بمائة من الإبل (2).
ولهذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: " أنا ابن الذبيحين ولا فخر " (3) يعني عبد الله
وإسماعيل (عليهما السلام).
وكانت امرأة يقال لها فاطمة بنت مرة قد قرأت الكتب، فمر بها عبد الله بن
عبد المطلب فقالت له: أنت الذي فداك أبوك بمائة من الإبل؟ قال: نعم
فقالت: هل لك أن تقع علي مرة وأعطيك من الإبل مائة؟ فنظر إليها وأنشأ يقول:
أما الحرام فالممات دونه * والحل لا حل فأستبينه
فكيف بالأمر الذي تبغينه



(1) في المناقب: نفذ.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 / ص 20 - 22.
(3) الدر المنثور: ج 5 ص 281.
24
ومضى مع أبيه فزوجه أبوه آمنة، فظل عندها يوما وليلة فحملت بالنبي (صلى الله عليه وآله)،
ثم انصرف عبد الله ومر بها فلم ير بها حرصا على ما قالت أولا، فقال لها عند ذلك
مختبرا: هل لك فيما قلت لي فقلت لا؟
قالت: قد كان ذاك مرة فاليوم لا. فذهبت كلمتاهما مثلا.
ثم قالت: أي شئ صنعت بعدي؟
قال: زوجني أبي آمنة فبت عندها.
فقالت: لله ما زهرية سلبت ثوبيك ما سلبت وما تدري.
ثم قالت: رأيت في وجهك نور النبوة فأردت أن يكون في، وأبى الله أن يضعه
إلا حيث يحب. ثم قالت:
بني هاشم قد غادرت من أخيكم * أمينة إذ للباه يعتلجان
كما غادر المصباح بعد خبوه * فتائل قد ميثت له بدخان
وما كل ما يحوي الفتى من نصيبه * بحرص ولا ما فاته بتواني
ويقال أنه مر بها وبين عينيه غرة مثل غرة الفرس.
وكان عند الأحبار جبة صوف بيضاء قد غمست في دم يحيى بن زكريا،
وكانوا قد قرؤوا في كتبهم: إذا رأيتم هذه الجبة تقطر دما فأعلموا أنه قد ولد
أبو السفاك الهتاك.
فلما رأوا ذلك من الجبة اغتموا، واجتمع خلق منهم على أن يقتلوا عبد الله،
فوجدوا الفرصة منه لكون عبد المطلب في الصيد، فقصدوه فأدركه وهب بن عبد
مناف الزهري، فحان منه نظرة، فنظر إلى رجال نزلوا من السماء فكشفوهم عنه،
فزوج ابنته من عبد الله، قال: فماتت من نساء قريش مائتا امرأة غيرة.
ويقال: إن عبد الله كان في جبينه نور يتلألأ، فلما قرب حمل محمد (صلى الله عليه وآله) لم
يطق أحد رؤيته، وما مر بشجر ولا حجر إلا سجد له وسلم عليه، فنقل الله منه نوره
يوم عرفة وقت العصر وكان يوم الجمعة إلى آمنة (1).



(1) المناقب: ج 1 ص 27.
25
وكانت أم آمنة: برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار (1).
وعبد الله وآمنة ماتا مسلمين، والدليل على ذلك ما ورد في الأخبار المروية
عن الثقات.
فمن ذلك: ما رواه الثعلبي والواحدي وابن بطة، عن عطاء وعكرمة، عن
ابن عباس في قوله تعالى: * (وتقلبك في الساجدين) * (2). يعني ندبرك من أصلاب
الموحدين من موحد إلى موحد حتى أخرجك في هذه الأمة، وما زال رسول
الله (صلى الله عليه وآله)، يتقلب في أصلاب الأنبياء والصالحين حتى ولدته أمه (3).
وعن علي (عليه السلام): ان النبي (صلى الله عليه وآله) قال: خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح
من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي، ولم يصبني من سفاح الجاهلية شئ (4).
وقال متكلم: لقد من الله عليه بالآباء الطاهرين الساجدين. ولو عنى سجدة
الأصنام لما من عليه، لأن المنة على الكفر قبيح.
وفي مسلم: قال بريدة: انتهى النبي (صلى الله عليه وآله) إلى رسم قبر، فجلس وجلس الناس
حوله، فجعل يحرك رأسه كالمخاطب ثم بكى.
فقيل: ما يبكيك يا رسول الله؟
قال هذا قبر آمنة بنت وهب، استأذنت ربي في زيارة قبرها فأذن لي، فزوروا
القبور يذكركم الموت (5).
ولو لم تكن مؤمنة لما جاز له زيارتها، ولا أذن له، لقوله: * (ولا تصل على أحد
منهم مات أبدا ولا تقم على قبره) * (6) الآية.
[قال] أبو عبد الله (عليه السلام): نزل جبرئيل (عليه السلام) على النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: " يا محمد



(1) السيرة النبوية لابن هشام: ج 1 / ص 165.
(2) الشعراء: 219.
(3) الدر المنثور: ج 5 / ص 98، مجمع البيان: ج 7 - 8 / ص 207.
(4) البداية والنهاية: ج 2 / ص 255.
(5) صحيح مسلم: ج 2 / ص 672 باب 36 من كتاب الجنائز ح 106.
(6) التوبة: 84.
26
إن الله جل جلاله يقرؤك السلام ويقول: إني قد حرمت النار على صلب أنزلك،
وبطن حملك، وحجر كفلك " (1) يعني عبد الله وآمنة وأبا طالب وفاطمة بنت أسد.
وقال الحسن البصري في قوله: * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا
للمشركين) * (2): أي ما كان ذلك يا محمد إلا بأمر مني، فلما أمره أن يقول:
* (وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) * (3) علمنا أن الله أمره.
وعبد الله أنفذه أبوه عبد المطلب يمتار له تمرا من يثرب فتوفي بها.
وعبد الله بن عبد المطلب:
وكان لعبد المطلب عشرة أسماء: عمرو، وشيبة الحمد، وسيد البطحاء، وساقي
الحجيج، وساقي الغيث، وغيث الورى في العام الجدب، وأبو السادة العشرة،
وحافر زمزم، وعبد المطلب.
وسمي " عبد المطلب " لأن أباه هاشما كان شخص في تجارة إلى الشام فترك
طريق المدينة فتزوج سلمى ابنة عمرو فولدت شيبة، ومات هاشم بالشام، فمكث
شيبة سبع سنين فرآه حارثي في غلمان يتناضلون وهو إذا خنقه الأمر يقول:
أنا ابن هاشم، فحكى الحارثي للمطلب ذلك، فذهب المطلب وأردفه خلفه ودخل
مكة وهو مردفه، فقيل إنه عبد المطلب، فصار بذلك لقبا له.
وإنما سمي " شيبة الحمد " لأنه كان في رأسه شيبة حين ولد.
وكان له عشرة بنين وهم: الحارث، والزبير، وحجل وهو الغيداق، وضرار
وهو نوفل والمقوم، وأبو لهب وهو عبد العزى، وعبد الله، وأبو طالب، وحمزة،
والعباس. وكانوا من أمهات شتى إلا عبد الله وأبو طالب والزبير فإنهم كانوا أولاد
أم، وأمهم فاطمة بنت عمرو بن عابد.
وأعقب منهم البنين خمسة: عبد الله أعقب محمدا سيد البشر (صلى الله عليه وآله)، وأبو طالب
أعقب [طالبا] (4) جعفرا وعقيلا وعليا وهو سيد الوصيين، وعباس أعقب عبد الله



(1) روضة الواعظين: ص 139، الكافي: ج 1 ص 446 باب مولد النبي ح 21.
(2) التوبة: 113.
(3) الإسراء: 24.
(4) لم يرد في الأصل.
27
وقثم والفضل وعبيد الله، والحارث أعقب عبيدة، وأبو لهب أعقب عتبة ومعتبا وعتيقا.
وأعقب عبد المطلب ست بنات: عاتكة، أميمة، البيضاء وهي أم حكيم، برة،
صفية وهي أم الزبير، أروى ويقال وريدة.
وأسلم من أعمام النبي (عليه السلام): أبو طالب، وحمزة، والعباس. ومن عماته صفية،
وأروى، وعاتكة. وآخر من مات من أعمامه: العباس، ومن عماته: صفية.
وكانت لعبد المطلب خمس من السنن أجراها الله في الاسلام: حرم نساء
الآباء على الأبناء، وسن الدية في القتل مائة من الإبل، وكان يطوف بالبيت سبعة
أشواط، ووجد كنزا فأخرج منه الخمس.
وسمي حافر زمزم حين حفرها وجعلها سقاية الحاج.
وكان أول من تحنث بحراء، والتحنث: التأله، وكان يدخل فيه إذا أهل هلال
شهر رمضان إلى آخر الشهر.
وهو الذي خرج إلى أبرهة بن الصباح ملك الحبشة لما قصد لهدم البيت،
وتسرعت الحبشة فأغاروا عليها وأخذوا سرحا لعبد المطلب بن هاشم، فجاء
عبد المطلب إلى الملك فاستأذن عليه فأذن له وهو في قبة ديباج على سرير له،
فسلم عليه، فرد أبرهة السلام وجعل ينظر في وجهه، فراقه حسنه وجماله وهيأته
فقال له: هل كان في آبائك مثل هذا النور الذي أراه لك والجمال؟ قال: نعم أيها
الملك، كل آبائي كان لهم هذا الجمال والنور والبهاء.
فقال له أبرهة: لقد فقتم الملوك فخرا وشرفا، ويحق لك أن تكون سيد قومك.
ثم أجلسه معه على سريره وقال لسائس فيله الأعظم - وكان فيلا أبيض
عظيم الخلق، له نابان مرصعان بأنواع الدرر والجواهر، وكان الملك يباهي به
ملوك الأرض -: آتيني به.
فجاء به سائسه وقد زين بكل زينة حسنة، فحين قابل وجه عبد المطلب سجد
له ولم يكن يسجد لملكه، وأطلق الله لسانه بالعربية فسلم على عبد المطلب (1).



(1) أمالي المفيد: ص 312 المجلس 37 ح 5.
28
وفي خبر: وقال بلسان فصيح: يا نور خير البرية، ويا صاحب البيت والسقاية،
ويا جد سيد المرسلين (1).
وذكر ابن بابويه في الجزء الرابع من كتاب النبوة ان الفيل نادى بلسان... (2)
على النور الذي في ظهرك يا عبد المطلب، معك العز والشرف، ولن تذل ولن تغلب
أبدا. فلما رأى الملك ذلك ارتاع له وظنه سحرا، ثم قال: ردوا الفيل إلى مكانه.
ثم قال لعبد المطلب: فيم جئت فقد بلغني سخاؤك وكرمك وفضلك ورأيت
من هيبتك وجمالك وجلالك ما يقتضي أن أنظر في حاجتك فسلني ما شئت.
وهو يرى أنه يسأله في الرجوع عن مكة.
فقال له عبد المطلب: إن أصحابك عدوا على سرح لي فذهبوا به فمرهم
برده علي.
قال: فتغيظ الحبشي من ذلك وقال لعبد المطلب: لقد سقطت من عيني، جئتني
تسألني في سرحك وأنا قد جئت لهدم شرفك وشرف قومك ومكرمتكم التي
تتميزون بها من كل جيل، وهو البيت الذي يحجج إليه من كل صقع في الأرض،
فتركت مسألتي في ذلك وسألتني في سرحك!
فقال له عبد المطلب: لست برب البيت الذي قصدت لهدمه، وأنا رب سرحي
الذي أخذه أصحابك فجئت أسألك فيما أنا ربه، وللبيت رب هو أمنع له من الخلق
كلهم وأولى به منهم.
فقال الملك: ردوا عليه سرحه.
وانصرف عبد المطلب إلى مكة، واتبعه الملك بالفيل الأعظم مع الجيش لهدم
البيت، فكانوا إذا حملوه على دخول الحرم أناخ وإذا تركوه رجع مهرولا.
فقال عبد المطلب: ادعوا إلي ابني: فجئ بالعباس، فقال: ليس هذا أريد،
ادعو إلي ابني. فجئ بأبي طالب، فقال: ليس هذا أريد، ادعو إلي ابني. فجئ
بعبد الله أبي النبي (صلى الله عليه وآله)، فلما أقبل إليه قال له: اذهب يا بني حتى تصعد أبا قبيس ثم



(1) بحار الأنوار: ج 15 / ص 132.
(2) هنا كلمتان مطموستان.
29
اضرب ببصرك ناحية البحر فانظر أي شئ يجئ من هناك وخبرني به.
قال: فصعد عبد الله أبا قبيس فما لبث أن جاء طير أبابيل مثل السيل والليل
فسقط على أبي قبيس، ثم صار إلى البيت وطاف به سبعا، ثم صار إلى الصفا
والمروة فطاف بهما سبعا. فجاء عبد الله إلى أبيه فأخبره الخبر.
فقال له: انظر يا بني ما يكون من أمرها بعد فأخبرني به.
فنظرها فإذا هي قد أخذت نحو عسكر الحبشة، فأخبر عبد المطلب بذلك،
فخرج عبد المطلب وهو يقول: يا أهل مكة اخرجوا إلى العسكر فخذوا غنائمكم.
قال: فأتوا العسكر وهم أمثال الخشب النخرة وليس من الطير إلا ومعه ثلاثة
أحجار في منقاره ويديه يقتل بكل حصاة منها واحدا من القوم. فلما أتوا على
جميعهم انصرفوا. فلم ير قبل ذلك ولا بعده.
فلما هلك القوم بأجمعهم جاء عبد المطلب إلى البيت فتعلق بأستاره وقال:
يا حابس الفيل بذي المغمس * حبسته كأنه مكوكس (1)
في محلس يزهق فيه الأنفس.
وانصرف وهو يقول: في فرار قريش وجزعهم من الحبشة:
طارت قريش إذا رأت خميسا * فظلت فردا لا أرى أنيسا
ولا أحس منهم حسيسا * إلا أخا لي ماجدا نفيسا
مسودا في أهله رئيسا (2)
فكانوا بين هالك مكانه، أو مات في الطريق عطشا، وسلط الله على جيشه من
العرب الجدري والحصبة، وهلك الأشرم وابنه النجاشي وكان على مقدمته، وأفلت
نفيل بن الحبيب الخثعمي وكان قائد الفيل، وأفلت أخنس الفهمي وكان دليل الحبشة.



(1) قال الفيروز آبادي: المغمس كمعظم، ومحدث: موضع بطريق الطائف فيه قبر أبي رغال
دليل أبرهة، ومكوكس: المنكس الذي قلب على رأسه، وفي نسخة البحار " مكوس "
بتشديد الواو وهو بمعناه. ونقل في البحار في بيانه عن القاموس: المكوس كمعظم: حمار.
(2) أمالي المفيد: ص 313 - 315 المجلس 37 ح 5.
30
وورث الله قريشا أموالهم وما معهم. وسمى الناس قريشا أهل الله وسمتهم
العرب الحمى الممنوع، وقالوا: قاتل الله عنهم أقيالهم وخولهم أموالهم.
وهو الذي سار إلى سيف بن ذي يزن وبشره بالنبي (صلى الله عليه وآله). قال ابن عباس
رضي الله عنهما: لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة وذلك بعد مولد النبي (عليه السلام)
بسنتين أتته وفود العرب وأشرافها وشعراؤها تهنئه وتمدحه وتذكر ما كان من
بلائه وطلبه بثار قومه. فأتى وفد قريش وفيهم عبد المطلب بن هاشم وأمية بن
عبد شمس وأسد بن عبد العزى وعبد الله بن جذعان فقدموا عليه وهو في قصر له
يقال له غمدان، وله يقول أبو الصلت:
لن يدرك الثأر أمثال بن ذي يزن * في لجة البحر للأعداء أحوالا
أتى هرقلا وقد شالت نعامته * فلم تجد عنده القول الذي قالا
ثم انثنى نحو كسرى بعد تاسعة * من السنين لقد أبعدت إيغالا
حتى أتى بفتى الأحرار يقدمهم * إنك لعمري لقد أسرعت إرقالا
من مثل كسرى وبهرام الجنود له * ومثل وهرز يوم [الجيش إذ صالا] (1)
لله درهم من عصبة خرجوا * ما أن رأينا لهم في الناس أمثالا
صيدا جحاجحة بيضا خضارمة * أسدا تربت في الغابات أشبالا
أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد * غادرت جمعهم في الأرض أفلالا
فأشرب هنيئا عليك التاج مرتفعا * في رأس غمدان دارا منك محلالا
ثم أطل بالمسك إذ شالت نعامتهم * وأسبل اليوم في برديك أسبالا
تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا * بماء فعادا بعد أبوالا (2)
فطلبوا الإذن عليه فأذن لهم، فدخلوا فوجدوه متضمخا بالعبير، وعليه بردان
أخضران قد اتزر بأحدهما وارتدى بالآخر، وسيفه بين يديه والملوك عن يمينه
وشماله، وأبناء الملوك والمقاول. فدنا عبد المطلب واستأذنه في الكلام، قال له: قل.



(1) بياض في الأصل.
(2) تاريخ الطبري: ج 1 / ص 564، السيرة النبوية لابن هشام: ج 1 / ص 67 - 68 مع اختلاف.
31
فقال: إن الله تعالى أيها الملك أحلك محلا رفيعا صعبا منيعا باذخا شامخا
وأنبتك منبتا طابت أرومته، وقرت جرثومته، ونبل أصله، وبسق فرعه في أكرم
معدن وأطيب موطن، فأنت أبيت اللعن رأس العرب، وربيعها الذي به تخصب،
وملكها الذي إليه ينقاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي تلجأ إليه العباد،
سلفك خير سلف، وأنت لنا بعدهم خير خلف، ولم يهلك من أنت خلفه، ولم يخمل
منهم سلفه، نحن - أيها الملك - أهل حرم الله وسدنة بيته، أشخصنا إليك الذي
أبهجنا من كشفك الكرب الذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزية.
قال: ومن أنت أيها المتكلم؟
قال: أنا عبد المطلب بن هاشم.
قال: ابن أختنا.
قال: نعم. فأدناه وقربه. ثم أقبل عليه وعلى القوم فقال: مرحبا وأهلا، وناقة
ورحلا، ومستناخا سهيلا، وملكا سبحلا (1)، يعطى عطاء جزلا - وكان أول من
تكلم بها - قد سمع الملك مقالتكم، وعرف قرابتكم، وقبل وسيلتكم، لكم الكرامة
ما أقمتم، والحبا إذا ظعنتم.
ثم استنهضوا إلى دار الضيافة والوفود، وأجرى عليهم الأنزال (2)، فأقاموا ببابه
شهرا لا يصلون إليه ولا يأذن لهم بالانصراف.
ثم انتبه لهم انتباهة فدعا بعبد المطلب من بينهم فأخلاه وأدناه مجلسه وقال:
يا عبد المطلب إني مفض إليك من سر علمي أمرا فليكن عندك مصونا مطويا حتى
يأذن الله فيه، فإن الله بالغ أمره.
فقال عبد المطلب: مثلك أيها الملك من سر وبر فما هو فداك أهل الوبر زمرا
بعد زمر؟



(1) السبحل: الواسع (لسان العرب 11 / 323).
(2) أنزال القوم: أرزاقهم (لسان العرب 11 / 658).
32
قال: إذا ولد بتهامة غلام، بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة ولكم الدعامة
إلى يوم القيامة.
فقال: أيها الملك قد أتيت بخبر ما أتى بمثله أحد، ولولا هيبة الملك وإجلاله
لسألته من ساري ما أزداد به سرورا.
قال: هذا حينه الذي يولد فيه أوقد ولد، اسمه أحمد، يموت أبوه وأمه ويكفله
جده وعمه، قد ولد سرارا والله باعثه جهارا، وجاعل له منا أنصارا، يعز بهم
أولياءه، ويذل بهم أعداءه، ويفتح بهم كرائم الأرض، ويضرب بهم الناس عن
عرض، يخمد الأديان، ويكسر الأوثان، ويعبد الرحمان، قوله حكم وفصل، وأمره
حزم وعدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله.
فقال عبد المطلب: أيها الملك دام ملكك وعلا كعبك فهل الملك ساري
بإفصاح، فقد أوضح بعض الإيضاح.
فقال ابن ذي يزن: والبيت ذي الحجب، والعلامات على النصب، إنك يا
عبد المطلب جده غير كذب.
فخر عبد المطلب ساجدا.
قال ابن ذي يزن: ارفع رأسك ثلج صدرك، وعلا أمرك، فهل أحسست شيئا
مما ذكرت لك؟
قال عبد المطلب: أيها الملك كان لي ابن كنت له محبا، وعليه حذرا مشفقا،
فزوجته كريمة من كرائم قومه يقال لها آمنة بنت وهب بن عبد مناف، فجاءت
بغلام بين كتفيه شامة، وفيه كلما ذكرت من علامة، مات أبوه وأمه، فكفلته أنا وعمه.
قال ابن ذي يزن: إن الذي قلته لك كما قلت فاحفظ ابنك واحذر عليه من
اليهود، فإنهم له أعداء، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا، واطو ما ذكرت لك دون
هؤلاء الرهط الذين معك فإني لست آمنهم أن يدخلهم النفاسة من أن يكون لك
الرئاسة، فيبغون لك الغوائل، وينصبون لك الحبائل، وهم فاعلون أو أبناؤهم،
ولولا أني أعلم أن الموت مدركي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير

33
بيثرب دار مهاجرته، فإني أجد في الكتاب الناطق والعلم السابق أن يثرب دار
مهاجرته، وبيئة نصرته، ولولا أني أقيه الآفات، وأحذر عليه العاهات، لأعليت
على حداثة سنه أمره، وأوطأت رقاب العرب كعبه، ولكني صارف إليك ذلك عن
غير تقصير مني بمن معك.
ثم أمر لكل واحد منهم بعشرة أعبد وعشرة إماء سود، وخمسة أرطال مسكا،
وكرشا مملؤة عنبرا، وحلتين من حلل اليمن. وأمر لعبد المطلب بأضعاف ذلك،
وقال له: إذا حال الحول فأتني بما يكون من أمره.
فما حال الحول حتى مات ابن ذي يزن، فكان عبد المطلب يقول: يا معشر
قريش لا يغبطني أحد منكم بعطاء الملك فإنه إلى نفاد، لكن ليغبطني بما بقي لي
ولعقبي ذكره وفخره إلى يوم القيامة. فإذا قالوا له: وما ذاك؟ قال: سيظهر بعد حين (1).
وقال ابن رزيك:
محمد خاتم الرسل الذي سبقت * به بشارة قس وابن ذي يزن
وأنذر النطقاء الصادقون بما * يكون من أمره والطهر لم يكن
الكامل الوصف في حلم وفي كرم * والطاهر الأصل من ذام ومن درن
ظل الإله ومفتاح النجاة وينبو * ع الحياة وغيث العارض الهتن
فاجعله ذخرك في الدارين معتصما * به وبالمرتضى الهادي أبي الحسن (2)
وعبد المطلب رأى في منامه أن شجرة نبتت على ظهره قد نال رأسها السماء،
وضربت بأغصانها الشرق والغرب، ونورا يزهر بينها أعظم من نور الشمس سبعين
ضعفا، والعرب والعجم ساجدة لها، وهي كل يوم تزداد عظما ونورا، ورأى رهطا
من قريش يريدون قطعها فإذا دنوا منها أخذهم شاب من أحسن الناس وجها
وأنظفهم ثيابا فيأخذهم ويكسر ظهورهم ويقلع أعينهم.
فقص ذلك على كاهنة قريش فقالت: لئن صدقت ليخرجن من صلبك ولد



(1) اعلام النبوة للماوردي: ص 157 - 160.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 20.
34
يملك الشرق والغرب، ونبيا في الناس (1).
وذكر الماوردي أن عبد المطلب رأى في منامه أيضا كأنه خرج من ظهره
سلسلة [لها] (2) أربعة أطراف: طرف قد أخذ المغرب، وطرف قد أخذ المشرق،
وطرف لحق بأعنان السماء، وطرف لحق بثرى الأرض. فبينما هو يتعجب إذ
التفت الأنوار فصارت شجرة خضراء مجتمعة الأغصان، متدلية الأثمار، كثيرة
الأوراق، قد أخذ أغصانها أقطار الأرض في الطول والعرض، ولها نور قد أخذ
الخافقين، وكأ ني قد جلست تحت الشجرة، وبإزائي شخصان بهيان، وهما نوح
وإبراهيم (عليهما السلام)، قد استظلا بها فقص ذلك على كاهن، ففسره بولادة النبي (صلى الله عليه وآله) (3)
وفي رامش أفزاي (4): إن عبد المطلب عاش مائة وأربعين سنة، فأعطاه
شخص مهيب ضغث ريحان وقال له: شمه، فلما شمه مات، وكان الشيخ ملك
الموت (عليه السلام). وكان يفتي على ملة إبراهيم (عليه السلام).
وقال الشعبي: دخل عبد الله بن جعفر الطيار عليهما السلام على معاوية بن أبي
سفيان وعنده ابنه يزيد بن معاوية، فجعل يزيد يعرض بعبد الله في كلامه وينسبه
إلى الشرف في غير مرضاة الله.
فقال عبد الله: إني لأرفع نفسي عن جوابك، ولو صاحب السرير كلمني
لأجبته.
فقال معاوية: يا عبد الله بن جعفر كأنك تظن أنك أشرف منه.
فقال ابن جعفر: اي والله إني أشرف منه ومن أبيه وجده.
فقال معاوية: ما كنت أحسب أن أحدا في عصر حرب بن أمية أشرف منه.
فقال ابن جعفر: إن أشرف من حرب من غطاه بإنائه وأجاره بردائه.



(1) في روضة الواعظين: ينبأ، ج 1 ص 64 مجلس في مولد النبي (ص)، المناقب لابن
شهرآشوب: ج 1 ص 23.
(2) بياض في الأصل.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 24.
(4) قال في الذريعة ج 10 ص 59: هو كتاب للشيخ محمد بن الحسين المحتسب، قال الشيخ
منتجب الدين أنه في عشر مجلدات.. ورامش في الفارسية بمعنى الطرب والعيش.
35
قال الشعبي: هذا كلام عربي، وتفسيره: إن حرب بن أمية كان إذا خرج في
سفر فعرضت له ثنية أو عقبة فتنحنح، لم يقدم أحد أن يسلكها حتى يجوزها
حرب، فجاء غلام من بني أسيد فجاز العقبة قبل حرب، فهدده حرب وقال له:
سيمكنني الله منك إن دخلت مكة، فضرب الدهر ضرباته أن قدم الأسيدي مكة
فسأل عن أعز أهل مكة، فقيل له: عبد المطلب، فقال: دون عبد المطلب، قيل:
فالزبير. فقرع عليه الباب، فقال الزبير: إن كنت مستجيرا أجرناك، وإن كنت طالب
قرى قريناك. فأنشأ الأسيدي يقول:
لاقيت حربا بالثنية مقبلا * كالليل أبلج (1) ضوؤه للساري
فتركته خلفي وسرت أمامه * وكذاك كنت أكون في الأسفار
أنا يهددني الوعيد ببلدة * فيها الزبير كمثل ليث ضار
ليث هزبر (2) يستضاء بقربه * رحب المباءة (3) حافظ للجار
وحلفت بالبيت العتيق وركنه * وبزمزم والحجر ذي الأستار
إن الزبير لمانعي بمهند * عضب المهزة صارم بتار
قال الزبير: قد أجرتك فسر أمامي فإنا بني عبد المطلب إذا أجرنا رجلا لم
نتقدمه. فمضى والزبير في أثره، فلقيه حرب، فقال الأسيدي: ورب الكعبة ثم شد
عليه، واخترط الزبير سيفه ونادى في إخوته، ومضى حرب يشتد والزبير في أثره
حتى دخل دار عبد المطلب.
فقال: ميهم يا حرب.
قال: ابنك الزبير.
قال: ادخل الدار، وكفا عليه جفنة هاشم التي كان يهشم فيها الثريد ويطعم
الناس.
وجاء بنو عبد المطلب فجلسوا بالباب، واحتبوا بحمائل سيوفهم، فخرج إليهم



(1) بياض في الأصل.
(2) الهزبر: الأسد.
(3) المباءة: المراح الذي تبيت فيه الإبل.
36
عبد المطلب فسره ما رأى منهم وقال لهم: يا بني أصبحتم اسود العرب.
ثم دخل إلى حرب فقال له: قم فاخرج إليهم يا أبا الحرب.
فقال حرب: هربت من واحد وأخرج إلى عشرة؟
فقال: خذ ردائي فالبسه فإنهم إذا رأوا ردائي عليك لم يهيجوك.
فلبسه ثم خرج، فرفعوا رؤوسهم ونظروا إلى رداء عبد المطلب ونكسوا
رؤوسهم حتى جاز. فذلك قوله: " إن أشرف من حرب من كفا عليه إناءه وأجاره
بردائه (1).
وقيل: كان لعبد المطلب ماء بالطائف يدعى ذا الهرم، فادعته ثقيف واحتفروا،
فخاصمهم فيه عبد المطلب إلى عزى سلمة الكاهن العذري بالشام، وخرج مع
عبد المطلب ابنه الحارث ونفر من قومه، ولا ولد له يومئذ غيره، وخرج جندب بن
الحارث الثقفي خصم عبد المطلب في نفر من قومه. فلما كانوا ببعض الطريق نفد
ماء عبد المطلب فسأل عبد المطلب الثقيفيين أن يسقوه من مائهم، فأبوا، وبلغ
العطش منهم كل مبلغ، وظنوا أنه الهلاك، ونزل عبد المطلب وأصحابه وأناخوا إبلهم
وقد يئسوا من الحارث، فظهر (2) الله لهم عينا من تحت جران بعير عبد المطلب،
فحمد الله وعلم أن ذلك غوث الله، فشربوا وتزودوا.
ثم نفد ماء الثقيفيين فطلبوا إلى عبد المطلب أن يسقيهم. فقال ابنه الحارث:
والله لئن سقيتهم لأضعن سيفي في هامتي (3) ولأجثين عليه حتى ينجم من ظهري.
فقال له عبد المطلب: يا بني استقم ولا تفعل ذلك بنفسك. وسقاهم عبد المطلب.
وانطلقوا إلى الكاهن وقد خبئوا له خبيئا وهو رأس جرادة في حربة مزاده،
وعلقوه في قلادة كلب لهم يدعى سوارا.
فلما أتى القوم الكاهن فإذا هم ببقرتين تسوقان بحزجا (4) كلتاهما ترأمه



(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 15: ص 229 - 231 مع اختلاف في رواية ألفاظ
القصيدة.
(2) كذا في الأصل والظاهر: فطر أو فأظهر.
(3) في ظاهر الأصل: رهامتى، والظاهر هامتي.
(4) البحزج: ولد البقرة الوحشية (لسان العرب 2 / 211).
37
تزعم أنه ولدها، وذلك أنهما ولدتا في ليلة واحدة فأكل النمر إحدى البحرجين،
فهما يرئمان الباقي.
فلما وقفتا بين يدي الكاهن، قال: هل تدرون ما تقول هاتان البقرتان؟ قالوا:
لا. قال: تختصمان في هذا البحزج ويطلبان بحزجا آخر ذهب به ذو جسد أربد (1)
وشدق (2) مرمع، وناب معق (3) وحلق صعق (4) فما للصغرى في البحرج من حق.
فقضى به للكبرى وذهبتا.
وتقدم عبد المطلب وأصحابه فقال لهم الكاهن: ما حاجتكم؟
قالوا: إنا خبأنا لك خبيئا فأنبئنا عنه.
قال: نعم، خبأتم لي شيئا طار فسطع التصوب فتصوب فوقع، فالأرض منه بقع.
قالوا: لادة فلادة، أي بين.
قال: إن لادة فلادة، وهو رأس جرادة، في حربة مزادة، في عنق سوار
صاحب القلادة.
قالوا: لادة.
قال: هو شئ طار فاستطار، ذو ذنب جرار، ورأس كالمسمار، وساق كالمنشار.
قالوا: قد أصبت. فانتسبا له وقالا: أخبرنا فيم اختصمنا.
قال: احلف بالضياء والظلم، والبيت ذي الحرم، إن الدفين ذي الهرم للقرشي
ذي الكرم.
قال جندب بن الحارث الثقفي: اقض لأرفعنا مكانا، وأعظمنا جفانا،
وأشدنا طعانا.
فقال عبد المطلب: اقض لصاحب الخيرات الكبر، ولمن كان أبوه سيد مضر،
وساقي الحجيج إذا كثر.



(1) الربدة: الغبرة (لسان العرب 3 / 170).
(2) الشدق: جانب الفم (لسان العرب 10 / 172).
(3) المعيق: الشديد الدخول في جوف الأرض (لسان العرب: 10 / 346).
(4) الصعقة: الصوت الشديد (لسان العرب 10 / 198).
38
فقال الكاهن:
أما ورب القلص (1) الرواسم (2) * يحملن أزوالا (3) بفئ طاسم
إن علاء المجد والمكارم * في شيبة الحمد الندى بن هاشم
فقال عبد المطلب: اقض بين قريش وبين ثقيف أيهم أفضل؟
فقال الكاهن:
إن مقالي فاسمعوا شهادة * إن بني النضر كرام سادة
من مضر الحمراء في القلادة * أهل رباء وملوك قادة
زيارة البيت لهم عبادة
ثم قال: إن ثقيفا عبد آبق، فثقف فعتق، ثم ولد فأبق، فليس له في النسب
من حق.
أبق: أي أكثر، والبق من هذا اخذ.
ففضل عبد المطلب وقريشا على الثقفي وقومه.
وكان لعبد المطلب حوضان يسقي فيهما اللبن والعسل، يربيان حصوريان.
وأنشد بعضهم لأمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام:
أنا ابن ذي الحوضين عبد المطلب * أخو رسول الله لا قول الكذب
وأنبط الله لعبد المطلب ماء زمزم، وحوض عليه، فجاءته قريش حسدا له
فثلمته، فقال: " اللهم إني لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حل وبل " فكان بعد من
رامه بسوء سئ به، وأصيب ببلية في جسده، فهو ماء عبد المطلب. ثم صار لأبي
طالب، وكان مملقا، وكان أخوه العباس ذا مال فأدان منه عشرين ألفا ولم يقدر
على قضائها.
فقال العباس: يا أبا طالب إنه مال كثير ولا قضاء عندك فاجعل لي ماء زمزم



(1) فرس مقلص: طويل القوائم منضم البطن (لسان العرب 7 / 80).
(2) رسمت الناقة: اثرت في الأرض من شدة وطئها (لسان العرب 12 241).
(3) الزول: الخفيف الظريف، والجمع أزوال (لسان العرب 11 / 316).
39
بمالي عندك. فلهذا السبب صارت السقاية للعباس.
وقال الفضل بن العباس:
إنما عبد مناف جوهر * زين الجوهر عبد المطلب
نحن قوم قد بنى الله لنا * شرفا فوق بيوتات العرب
برسول الله وابني عمه * وبعباس بن عبد المطلب
وبعمرو أن عمرا في الذرى * من بني عبد مناف والحسب
قال أبو سعيد الخركوشي في اللوامع وفي شرف المصطفى (1): قال ابن عباس:
قال النبي (صلى الله عليه وآله): يا بني عبد المطلب إني سألت الله تعالى أن يثبت قائلكم، وأن
يهدي ضالكم، وأن يعلم جاهلكم، وسألت الله تعالى أن يجعلكم رحماء نجداء
جوداء نجباء، فلو أن امرء صف قدميه بين الركن والمقام فصلى وصام ثم لقى الله
عز وجل وهو لأهل بيت محمد مبغض دخل النار.
وفي اللوامع أيضا: قال النبي (صلى الله عليه وآله): أتروني يا بني عبد المطلب إذا أخذت
حلقة باب الجنة مؤثرا عليكم، أحدا.
وعنه (عليه السلام): من أولى رجلا من بني عبد المطلب معروفا في الدنيا فلم يقدر أن
يكافئه كافأته عنه يوم القيامة.
كتاب مدينة العلم: قال الصادق (عليه السلام): يحشر عبد المطلب يوم القيامة أمة
وحده، عليه سيماء الأنبياء، وهيبة الملوك (2).
وقال (عليه السلام): إن عبد المطلب حجة وأبو طالب وصيه انتهى.
وأنفذ أبرهة حياطة الحميري ليرد بسيد قريش، فكان يعد بعسكر، فلما رأى



(1) اللوامع وشرف المصطفى لأبي سعيد عبد الملك بن عثمان الخركوشي الواعظ المتوفى
سنة 406 هجرية. (كشف الظنون: ج 2 ص 1569).
(2) مدينة العلم للشيخ الصدوق: مفقود. قال عنه صاحب الذريعة في ج 20 ص 252: وينقل
عنه الشيخ جمال الدين يوسف بن حاتم الفقيه الشامي تلميذ المحقق الحلي وابن طاووس
وغيرهما في كتابه " الدر النظيم " في مناقب الأئمة.
40
عبد المطلب خرس وغشي عليه، وكان يخور خوار الثور، فلما أفاق قال: أشهد
انك سيد قريش، فحيرني جمالك، ولقد أنفذني إليك يدعوك.
وعبد المطلب بن هاشم.
وكان لهاشم خمسة بنين: عبد المطلب، وأسد، ونضلة، وصيفي، وأبو صيفي.
وسمي هاشم هاشما لهشمه الثريد للناس في زمن المسغبة. وكنيته: أبو نضلة،
من نضل الرامي رسيله نضلا. واسمه: عمرو العلى. قال ابن الزبعري:
كانت قريش بيضة فتفلقت * فالمخ خالصها لعبد مناف
الرائشون وليس يوجد رائش * والقائلون هلم للأضياف
والخالطون فقيرهم بغنيهم * حتى يكون فقيرهم كالكافي
عمرو العلى هشم الثريد لقومه (1) * ورجال مكة مسنتون عجاف (2)
ويروى أن أهل مكة من الصغار والكبار كتبوا على أنفسهم وعلى أولادهم بطنا
على بطن أن يكونوا عبيده وعبيد أولاده ما بقوا لهشمه الثريد كل يوم من حمل.
ويقال: سمي هاشما لأن قريشا أصابها سنوات ذهبت بالأموال، فخرج هاشم
ابن عبد مناف إلى الشام، فلما أراد الرجوع أمر بالخبز، فخبز له خبز كثير، ثم حمله
في الغراير على الإبل حتى وافى مكة، فهشم ذلك الخبز ونحر تلك الإبل وطبخت،
ثم ألقيت القدور على الخبز في الجفان، فأوسع أهل مكة، فكان ذلك أول الجبا.
عن الزبير بن بكار: انه كان إذا حضر موسم الحاج ينادي مناديه: يا وفد الله
الغداء الغداء، يا وفد الله العشاء العشاء، فكان يطعم بمكة... (3) ويجمع ويثرد لهم الخبز
واللحم والسمن والسويق والتمر في حياض الأدم، وما فضل عن الناس تركه
للوحوش والطير، حتى قيل إنه يطعم الناس بالسهل، والوحوش في الجبل، والطيور
في الهواء، وكان له عند زمزم حياض من ادم ملئ من مياه آبار طيبة، فيشرب الحاج.



(1) وفي هامش الأصل: لضيفه.
(2) الروض الآنف: ج 1 ص 161 مع تقديم وتأخير في رواية الأبيات.
(3) هنا كلمة مطموسة.
41
ولما شاع خبره في الآفاق وظهر فيه نور النبوة سجد له جاثليق بني غسان
وقضاعة وربيعة وخبر هرقل بأخبار النبي محمد المذكور في الإنجيل رغب فيه أن
يزوج منه ابنته بجيل، فتعلل هاشم بالقحط الواقع فيهم واستأجله سنة، وسر بذلك.
ثم إن هاشما رأى في منامه أن كفؤك سلمى بنت عمرو من بني النجار دون
ابنة قيصر. فلما انتبه قص ذلك على أهل الثقة فأشاروا إليها فتزوجها، فولدت له
عبد المطلب.
وكان هاشم يفتي على دين المسيح (عليه السلام)، ويدعونه حواري الهادي، وحبر
الصارم، ولذلك قيل: بنو هاشم سادات الأنام في الجاهلية والإسلام.
وولد هاشم وعبد الشمس توأمان في بطن، فقيل: إنه اخرج أحدهما وأصبعه
ملتصقة بجبهة الآخر، فلما أزيلت من موضعها أدميت، فقيل يكون بينهما دم.
وروى محمد بن العباس، عن عمه، عن ابن حبيب قال: كان أمية بن
عبد الشمس ميلا، فلما صنع هاشم عمه ما صنع تكلف مثل فعله، فعجز عنه وقصر،
فشمت به ناس من قريش وسخروا منه، فهاج ذلك بينه وبين عمه شرا، حتى دعا
هاشما إلى المنافرة، وألب أمية اخوته ووبخوه، فكره ذلك هاشم لسنه، وأبى أمية.
فقال هاشم: أما إذا أبيت إلا المنافرة فأنا أنافرك على خمسين ناقة ننحرها
ببطن مكة والجلاء عنها عشر سنين.
فرضيا بذلك وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي، وخرج أبو همهمة بن عبد العزى
من بني الحارث بن فهر، وكانت ابنته أمة بنت أبي همهمة عند أمية، فخرج
كالشاهد لهما.
فقالوا: لو خبأنا له خبيئا نبلوه به. فوجدوا أطباق جمجمة بالية، فأمسكها
أبو همهمة معه، ثم أتوا الكاهن، وكان منزله (1) الإبل ببابه.
فقالوا: إنا قد خبأنا لك خبيئا فأنبئنا عنه.
قال الكاهن: أحلف بالنور والظلمة، وما بتهامة من أكمة، لقد خبأتم لي أطباق



(1) هنا كلمتان مطموستان.
42
جمجمة مع البلندج أبي همهمة.
قالوا: أصبت، فاحكم بين هاشم وبين أمية أيهما أشرف؟
فقال: والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر،
وما اهتدى بعلم مسافر من منجد أو غائر، لقد سبق هاشم أمية إلى المآثر أولا
منه وآخر.
وقال لامية: تنافر رجلا أطول منك قامة، وأعظم منك هامة، وأحسن منك
وسامة، وأقل لامة، وأكثر منك ولدا، وأجزل منك صفدا (1).
فأخذ هاشم الإبل ونحرها، وأطعم من حضر. وأخرج أمية إلى الشام، فأقام
بها عشر سنين منفيا (2). وذلك قول الأرقم بن نضلة بن هاشم:
وقبلك ما أردى أمية هاشم * فأورده عمرو إلى شر مورد
وكانت هذه أول العداوة.
وكان عبد مناف وصى إلى هاشم، ودفع إليه مفتاح البيت وسقاية الحاج
وقوس إسماعيل، فقبلوه في حياته، فلما توفي عبد مناف قالوا: إن هاشما خالف
آلهتنا، وصاروا يعادونه، ومات هاشم بغزة من آخر عمل الشام، ومات
عبد المطلب بالطائف.
وأم هاشم: عاتكة السلمية، ولها يقول النبي (عليه السلام): " أنا ابن العواتك من سليم "
يعني عاتكة بنت هلال من بني سليم أم عبد مناف بن قصي، وعاتكة بنت مرة بن
هلال أم هاشم، وعاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال أم وهب بن عبد مناف
أبي آمنة (3).
وأسد من ولد هاشم انقرض عقبه إلا من ابنته فاطمة أم أمير المؤمنين (عليه السلام)،
وأبو صيفي انقرض عقبه إلا من ابنته رقيقة وهي أم محرمة بن نوفل، وصيفي
لا بقية له.



(1) الصفد: العطاء (لسان العرب 3 / 256).
(2) تاريخ الطبري: ج 2 ص 13.
(3) الجامع الصغير: ص 107.
43
ونضلة لا بقية له. والبقية من سائر ولد هاشم من عبد المطلب.
وهاشم بن عبد مناف واسمه المغيرة بن قصي.
واسمه زيد قصي عن دار قومه لأنه حمل من مكة في صغره إلى بلاد أزد شنوه
فسمي قصيا.
ويلقب بالمجمع لأنه جمع قبائل قريش بعدما كانوا في الجبال والشعاب،
وقسم بينهم المنازل بالبطحاء.
وقصي هو الذي أدخل كنانة الحرم ونزع البيت من خزاعة وسابور ذا الأكتاف
عن مكة. وهو أول من أصاب الملك من ولد كعب بن لؤي، لأن قومه ملكوه
عليهم، وكان أمره في قريش كالدين المتبع، معرفة منها بفضله، وتيمنا برأيه.
وأمه فاطمة بنت سعد بن أزد السراة. وأم فاطمة: طريفة بنت قيس بن ذي
الرأسين من فهم بن عمرو بن كلاب.
وأمه هند بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن مرة بن كعب بن لؤي بن
غالب بن فهر بن مالك بن النضر.
وسمي قريشا. واختلف في سبب ذلك...
فقال بعضهم: كان النضر بن كنانة ركب بحر الهند، إذ ضج أهل السفينة، فقال:
مهيم - كلمة يمانية للعجب - قالوا: هذه قريش تريد كسر مركبنا. فرماها النضر
بالحراب فقتلها وحز رأسها وكانت آذانها كالشراع، فقدم به مكة فنصبه على أبي
قبيس، فكان الناس يتعجبون من عظمه ويقولون: قتل النضر قريشا.
ابن عباس وابن سلام: إنما سمي بذلك لغلبته على الناس تشبيها بدابة في
البحر تغلب على سائر الحيوان. وفيه يقول الشاعر:
$ رسول الله (صلى الله عليه وآله) / خصال قريش
وقريش هي التي تسكن البحر * به سميت قريش قريشا
سلطت بالعلو في لجة البحر * على سائريه جيشا فجيشا
تأكل الغث والسمين ولا تترك * فيه لذي الجناحين ريشا
هكذا في البلاد حي قريش * يأكلون البلاد أكلا كشيشا (1)



(1) البداية والنهاية: ج 2 ص 202 وفيه " كميشا " بدل " كشيشا ".
44
قال أبو عبيدة: هو مأخوذ من التقريش وهو التحريش. قال ابن حلزة:
أيها الناطق المقرش عنا * عند عمرو وهل لذاك بقاء (1)
ويقال: سموا بذلك لتجارتهم، يقال: قرش الرجل قرشا، والتقرش:
التكسب (2).
وقال ثعلب: لأنهم تقارشوا بالرماح، والأقراش هو وقوع بعض الرماح على
بعض، قال القطامي:
قوارش بالرماح كأن فيها * شواطن ينتزعن بها انتزاعا
وقيل: لتجمعها بعد تفرقها. قال بعضهم:
قرشوا الذنوب علينا * في حديث من دهرهم وقديم
وقيل: من قولهم: تقرش الرجل إذا تنزه.
الكلبي والزجاج وأبو مسلم: في قوله تعالى: * (وانه لذكر لك ولقومك) * (3) أي
للعرب، لأن القرآن نزل بلغتهم، وأخصهم إليه قريش (4).
[خصال قريش]
وقد فضل الله تعالى قريشا بخصال:
منها: انهم عبدوا لله عز وجل عشر سنين لا يعبد الله فيها إلا قريشي. وأنه
نصرهم يوم الفيل وهم مشركون، وكانوا يسمون آل الله بعد أصحاب الفيل. وكانوا
سدنة الكعبة. ونزلت فيهم سورة من القرآن خاصة (5).
وتزكية النبي (صلى الله عليه وآله) لهم في قوله: " أرقبوني في قريش " (6).
وقوله: " أبرارها أئمة أبرارها، وفجارها أئمة فجارها " (7).
وقوله: " لا تسبوا قريشا " (8).



(1) البداية والنهاية: ج 1 ص 201.
(2) البداية والنهاية: ج 1 ص 201.
(3) الزخرف: 44.
(4) مجمع البيان: ج 9 - 10 ص 49.
(5) الدر المنثور: ج 6 ص 396 - 397.
(6) لم نعثر عليه في مظانه.
(7) كنز العمال: ج 14 ص 77 ح 37982.
(8) الدر المنثور: ج 6 ص 398.
45
وقوله: " إن للقرشي قوة رجلين من غيره " (1).
وقوله: " من أبغض قريشا أبغضه الله " (2).
الفضل بن العباس:
كرام قريش معدنا ومركنا هم * الفرع منهم والذرى وذوائبه
لهم مأثرات في المكارم كلها * ومجد رفيع ما ترام مراتبه
هم القادة المهدون والمهتدى بهم * وفي أهل هذا الدين قد خط كاتبه
هم الأمة الوسطى التي تقتدى بهم * دعاة إلى الخير الكثير رغائبه
هدوا بنبي الله رحمة ربهم * وقد حال عن باب الرشاد مجانبه
فمنهم علي الخير صاحب خيبر * وصاحب بدر يوم سارت كتائبه
وصي النبي المصطفى وابن عمه * فمن ذا يدانيه ومن ذا يقاربه
وحمزة منهم ليث حرب مجرب * عليه بفعل الخير قامت نوادبه
وجعفر منهم ذو الجناحين لم يكن * هبوبا إذا ولى من الموت هاربه
وفي حسن أعلام خير منيرة * وجود إذا ما جاء للجود راغبه
ومنهم حسين أمه بنت أحمد * وخير قريش حين ينسب ناسبه
ومنهم أبو العباس والفضل منهم * وعم النبي المصطفى ومصاحبه
وكل من كان من ولد النضر سمي قرشيا.
والنضر بن خزيمة: وسمي بذلك لأنه خزم نور آبائه ابن مدركة، لأنهم أدركوا
الشرف في أيامه.
وقيل: لإدراكه صيدا لأبيه.
وسمي أبو طابخة لطبخه لأبيه.
ابن اليأس: وسمي بذلك لأنه جاء على اياس وانقطاع.
ابن مضر: وسمي بذلك لأخذه بالقلوب، ولم يكن يراه أحد إلا أحبه.



(1) كنز العمال: ج 14 ص 81 ح 37996.
(2) مجمع الزوائد: ج 10 ص 24.
46
ابن نزار: واسمه عمرو، وسمي بذلك لأن معدا نظر إلى نور النبي (صلى الله عليه وآله) في
وجهه فقرب له قربانا عظيما وقال: لقد استقللت هذا القربان له لأنه قليل نزر.
ويقال: إنه اسم أعجمي، وكان رجلا هزيلا فدخل على شتاسف فقال: هذا نزار.
ابن معد: وسمي بذلك لأنه كان صاحب حروب وغارات على اليهود، وكان
منصورا مظفرا.
ابن عدنان: لأن أعين الحي كلها كانت تنظر إليه.
وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " إذا بلغ نسبي إلى عدنان فأمسكوا " (1).
وعنه (عليه السلام): " كذب النسابون، قال الله تعالى: * (وقرونا بين ذلك كثيرا) * (2) " (3).
قال القاضي عبد الجبار: المراد بذلك أن اتصال الأنساب غير معلوم، فلا يخلو
إما أن يكون كاذبا أو في حكم الكاذب (4).
وقد روي أنه انتسب إلى إبراهيم (عليه السلام) (5).
أم سلمة رضي الله عنها: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: " معد بن عدنان بن أدد
- وسمي أددا لأنه كان ماد الصوت كثير العنن - بن زيد بن ثرا بن أعراق الثرى ".
قالت أم سلمة رضي الله عنها: زيد: هميسع، وثرا: نبت، وأعراق الثرى:
إسماعيل بن إبراهيم (عليهما السلام) ".
قالت: ثم قرأ (عليه السلام): * (وعادا وثمودا وأصحاب الرس) * الآية " (6) ن ه‍ (7).
واعتمد النسابون وأصحاب التواريخ أن عدنان هو: أد، بن أدد، بن اليسع،
ابن الهميسع، بن سلامان، بن نبت، بن حمل، بن قيذار، بن إسماعيل.
وقال ابن بابويه: عدنان بن أد، بن أدد، بن زيد، بن نفدد، بن يقدم، بن
الهميسع، بن نبت، بن قيذار، بن إسماعيل (8).



(1) كشف الغمة: ص 15.
(2) الفرقان: 38.
(3) الجامع الصغير: ص 90، طبقات ابن سعد: ج 1 ص 56.
(4) بحار الأنوار: ج 15 ص 105 ح 49.
(5) طبقات ابن سعد: ج 1 ص 56.
(6) البداية والنهاية: ج 2 ص 195 - 196، وفيه: زند بن اليرى بدل زيد بن الثرا، والمناقب:
ج 1 ص 155 - 156.
(7) قد ورد هذا الرمز في الأصل في موارد، ولعله بمعنى " انتهى ".
(8) مناقب ابن شهرآشوب: ج 1 ص 155.
47
وقال ابن عباس: عدنان، بن أد، بن أدد، بن اليسع، بن الهميسع.
ويقال: ابن يامين، بن يحشب، بن مبحر، بن صابويح، بن الهميسع، بن
نبت، بن قيذار، بن إسماعيل، بن إبراهيم، بن تارخ، بن ناحور بن... (1) بن أرغو
- وهو هود، ويقال: بن فالع - بن عابر، بن أرفحشد بن متوشلح، بن سام، بن
نوح، بن ملك بن أخنوخ - وهو إدريس - بن مهلائيل - ويقال: مهائيل - بن يازد -
ويقال: مارد ويقال آياد - بن قينان، بن انوش - ويقال: قينان - بن أود، بن
أنوش، بن شيث وهو هبة الله بن آدم (عليه السلام).
أمه (صلى الله عليه وآله):
آمنة بنت وهب، بن عبد مناف، بن زهرة، بن كلاب، بن مرة إلى آخر النسب.
لم يلق النبي (صلى الله عليه وآله) عند عبد الله أحد، يلقاه عند عبد المطلب بنو عبد المطلب،
ويلقاه عند هاشم بنو هاشم، ويلقاه عند عبد مناف بنو عبد مناف.
وبنو هاشم وبنو عبد شمس رهط أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد
شمس، وبنو المطلب وهو الفيض بن عبد مناف رهط عبيدة بن الحارث البدري،
وهم يد، مع بني هاشم.
ومن ولده عمرو بن علقمة بن المطلب الذي قتله خداش بن أبي قيس
العامري، وله خبر.
وبنو نوفل بن عبد مناف، وهم يد مع بني عبد شمس.
وأجمعت نسابة قريش أن من لم يلده فهر بن مالك فليس من قريش.
وقال آخرون: من لم يلده النضر. والمعنى واحد، لأنه لا بقية للنضر إلا من
فهر بن مالك بن النضر.
تفسير خندف:
وقريش سادة خندف، وخندف ولد الياس بن مضر جميعا.



(1) هنا كلمة مطموسة.
48
وإنما سموا خندف باسم أمهم، وسميت بذلك لأنها خندفت في طلب بعض
ولدها، والخندفة سرعة المشي. واسمها ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن
قضاعة، وهي التي جعلت على نفسها إن هلك الياس أن تبكيه عمرها وأن تسيح،
وحرمت على نفسها الطيب واللحم واللذات، فصارت مثلا بذلك.
وكانت وفاة الياس يوم الخميس، فكانت إذا طلعت الشمس من ذلك اليوم
بكته حتى تغيب، فقالت الغسانية ومات أخوها وأبوها فنهاها القوم عن كثرة
البكاء، فقالت:
تنهون سلمى إن بكت أباها * وقبل ما قد ثكلت أخاها
فحولوا العذل إلى سواها
عصتكم سلمى إلى هواها * كما عصت خندف من نهاها
خلت بنيها أسفا وراها * تبكي على الياس فما أتاها
تفسير معنى الأحابيش:
وقريش سادة الأحابيش، والحبش: التجمع. والسبب في وقوع هذا الاسم
أن ولد كنانة أخرجت بني أسد بن خزيمة من تهامة وحالفت... (1) بينها، فضموا
القليل إلى الكثير، وجعلوا بني الهون بن خزيمة قادة لا إلى أحد دون أحد، فسموا
بني كنانة: الأحابيش وهو قريش، وبنو الحارث بن عبد مناف من كنانة ومن مع
بني الحارث من حلفائهم: عضل، والريش أبناء بيثع بن الهون بن خزيمة، والحبا
والمصطلق وهما بطنان من خزاعة.
تفسير الحمس:
وقريش سادة الحمس، وكان السبب في هذا الاسم أن قريشا تحمست
في دينها وأخذت في تعظيم الحرم بما لم يكن منه حمس الوعاء.



(1) هنا كلمة مطموسة.
49
وقيل: إنما سموا الحمس بالكعبة لأنها حمسا حجرها أبيض يضرب
إلى السواد.
ولم يكن التحمس حلفا ولكن دينا شرعته قريش، وكانوا لا يسألون سمنا
ولا نساؤهم، ولا يطبخون أقطا، ولا يلبسون شعرا ولا صوفا ولا وبرا، ولا يلجون
بيوتا من شعر ولا صوف ولا وبر، ولا يقفون بعرفة مع الناس في الحل، وإنما يقفون
بالحرم ويقولون لا ينبغي لأهل الحرم أن يقفوا إلا فيه.
تفسير المطيبين:
وقريش سادة المطيبين، وكان السبب في هذه الحلف أنه كانت السقاية
في بني عبد المطلب، وكانت الرئاسة في بني عبد مناف كلهم، وكانت الرفادة
- وهي شئ، كانت تترافديه قريش في الجاهلية، تخرج فيما بينها مالا تشتري به
للحاج طعاما وزبيبا للنبيذ - في بني أسد بن عبد العزى، واللواء والحجابة في
بني عبد الدار.
فأراد بنو عبد مناف أن يأخذوا ما في يد بني عبد الدار فمشوا إلى بني سهم
فحالفوهم وقالوا تمنعونا من بني عبد مناف، فلما رأت ذلك البيضاء بنت
عبد المطلب وهي أم حكيم عمدت إلى جفنة فملأتها خلوقا (1) ثم وضعتها في
الحجر وقالت: من يطيب بهذا فهو منا. فتطيب بنو عبد مناف وأسد وزهرة وبنو تيم
وبنو الحارث بن فهر، فسموا بذلك المطيبين.
ولما سمعت بنو سهم بذلك نحرت جزورا وقالوا: من أدخل يده في دمها ولعق
منه فهو منا. فأدخلت أيديها بنو سهم وبنو عبد الدار وبنو جمح وبنو عدي وبنو
مخزوم، فلما فعلوا ذلك وقع الشر بينهم، ثم اشفقوا من الفرقة فتراجعوا وتحاجزوا.
$ رسول الله (صلى الله عليه وآله) / حلف الفضول
تفسير قريش البطاح وقريش الظواهر:
كانت مكارم قريش كلها لقصي بن كلاب: الحجابة والرفادة والندوة واللواء



(1) الخلوق: ضرب من الطيب، وقيل: الزعفران (لسان العرب 10 / 91).
50
والسقاية، وحكم مكة، فقطع مكة رباعا بين قريش، فأنزل كل قوم منازلهم
من مكة التي أصبحوا فيها وصار له البلد، وكان كثير الشجر والعضا والسلم فهابت
قريش قطعه، فشكوا ذلك إلى قصي فأمرهم بقطعه، فهابوه فقطعه هو وقطعه الناس
بقوله، فأخذ لنفسه وجه الكعبة فصاعدا وبنى دار الندوة فكانت مسكنه، وأعطى
بني مخزوم أحيا دين، وبني جمح المستقلة، وبني سهم الثنية، وبني عدي أسفل
الثنية، وأعطى ظواهر مكة محارب والحارث ابني فهر ومن هناك من جيرانهم من
بني عامر بن لؤي، وهم الأدرم بن غالب.
ثم إن الحارث بن فهر دخلت مكة وهي من قريش البطاح، فأين نزلت قريش
من البطاح فهم قريش البطاح، وأين نزلت قريش الظواهر من الأباطح فهم قريش
الظواهر. فقريش البطاح: بنو هاشم، وبنو المطلب بن عبد مناف وهم يد مع بني
هاشم، وبنو عبد شمس بن عبد مناف، وبنو نوفل بن عبد مناف، وبنو عبد الدار بن
عبد مناف، وبنو زهرة بن كلاب، وبنو تيم بن مرة بن كعب، وبنو مخزوم بن نفطة بن
مرة، وبنو عدي بن كعب، وبنو جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب، وبنو حل بن
عامر بن لؤي، وبنو الحارث بن فهر.
وأما قريش الظواهر: فبنو معيص بن عامر بن لؤي، وبنو سامة بن لؤي وهم
بنو ناجية وهم قريش العوارب، وبنو خزيمة بن لؤي وهم عائدة قريش، وبنو سعد
بن لؤي وهم نباته، وبنو محارب بن فهر، وبنو الأدرم.
تفسير أقداح النضار:
وهم هاشم والمطلب ونوفل وعبد شمس بنو عبد مناف. والنضار أكرم
الحشب وهو الإبل والكريم من كل جنس.
ذكر حلف الفضول:
ذكر عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: سمعت حكيم بن حزام يقول:
انصرفت قريش من الفجار وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ابن عشرين سنة، وكان الفجار

51
في شوال، وكان حلف الفضول في ذي القعدة، وبينهم وبين الفيل عشرون سنة
وكان حلف الفضول أكرم حلف كان قط وأعظمه شرفا.
وكان أول من تكلم فيه ودعا إليه الزبير بن عبد المطلب، وذلك أن الرجل من
العرب... (1) من العجم كان يقدم بتجارة إلى مكة ربما ظلموا، فكان آخر من ظلم بها
رجل من بني زيد بن مذحج قدم بسلعة فباعها من العاص بن وائل السهمي وكان
شريفا عظيم القدر فظلمه ثمنها، فناشده الزبيدي في حقه قبله، فأبى عليه، فأتى
الزبيدي الأحلاف وهم عبد الدار ومخزوم وجمح وسهم وعدي فأبوا أن يعينوه
على العاص وزبروه، فلما رأى الزبيدي ذلك أوفى على أبي قبيس قبل طلوع
الشمس وقريش في أنديتهم حول الكعبة وصاح بأعلى صوته:
يا آل فهر لمظلوم بضاعته * ببطن مكة نائي الحي والنفر
إن الحرام لمن تمت حرامته * ولا حرام لثوب الكافر الغدر (2).
قال: فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب وقال: ما لهذا منزل. فاجتمعت هاشم
وزهرة وتيم بن مرة في دار عبد الله بن جدعان وصنع لهم طعاما فتحالفوا في ذي
القعدة في شهر حرام قياما يتماسحون صعدا، فتعاقدوا وتحالفوا وتعاهدوا بالله
ليكونن يدا واحدة مع المظلوم على الظالم حتى يؤدوا اليه حقه ما بل بحر صوفه
وما أرسى ثبير (3) وجرى مكانهما، وعلى التأسي في المعاش. فسمت قريش ذلك
الحلف حلف الفضول.
وقيل: لقد دخل هؤلاء في فضل من الأمر.
$ رسول الله (صلى الله عليه وآله) / مولده
وحكي عن بعض علماء قريش أنه قال: كان مثل هذا الحلف في جرهم، فمشى
فيه رجال يقال لهم أفضل وفضال وفضيل وفضالة، فبذلك سمت قريش هذا
الحلف حلف الفضول. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " لقد شهدت حلفا في دار عبد الله بن



(1) كلمة مطموسة، لعلها: وربما.
(2) وفي الروض الآنف: ج 1 ص 156: " كرامته " بدل " حرامته " و " الفاجر " بدل " الكافر ".
(3) ثبير: جبل في مكة.
52
جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت إليه لأجبت هاشم وزهرة وتيم " (1).
* * *
فصل
في ذكر مولده (عليه السلام)
قال أبان بن عثمان: قالت آمنة رضي الله عنها: لما قربت ولادة رسول
الله (صلى الله عليه وآله) رأيت جناح طائر أبيض قد مسح على فؤادي فذهب الرعب عني، واتيت
بشربة بيضاء، وكنت عطشى فشربتها فأصابني نور عالي، ثم رأيت نسوة كالنخل
طوالا يحدثنني، وسمعت كلاما لا يشبه كلام الآدميين، حتى رأيت كالديباج
الأبيض قد ملأ بين السماء والأرض، وقائل يقول: خذوه في (2) أعز الناس، ورأيت
رجالا وقوفا في الهواء في أيديهم أباريق، ورأيت مشارق الدنيا ومغاربها،
ورأيت علما من سندس على قضيب من ياقوت قد ضرب بين السماء والأرض
على ظهر الكعبة، فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) رافعا إصبعه إلى السماء، ورأيت سحابة
بيضاء تنزل من السماء حتى غشيته، فسمعت نداء: طوفوا بمحمد شرق الأرض
وغربها والبحار ليعرفوه باسمه ونعته وصورته، ثم انجلت عنه الغمامة فإذا أنا به
في ثوب أبيض من اللبن وتحته حريرة خضراء وقد قبض على ثلاث مفاتيح من
اللؤلؤ الرطب وقائل يقول: قبض محمد على مفاتيح النصرة والريح والنبوة.
ثم أقبلت سحابة أخرى فغيبته عن وجهي أطول من المرة الأولى، وسمعت
نداء: طوفوا بمحمد الشرق والغرب وأعرضوه على روحاني الجن والإنس والطير
والسباع وأعطوه صفاء آدم ورقة نوح وخلة إبراهيم ولسان إسماعيل وجمال
يوسف وبشرى يعقوب وصوت داود وزهد يحيى وكرم عيسى، ثم انكشف عنه



(1) الروض الآنف: ج 1 ص 155 وسيرة ابن هشام: ج 1 ص 141 وليس فيها: هاشم وزهرة وتيم.
(2) في هامش الأصل: من خ ل، وفي المصدر: من.
53
فإذا أنا به وبيده حريرة بيضاء قد طويت طيا شديدا وقد قبض عليها وقائل يقول:
قد قبض محمد على الدنيا كلها فلم يبق شئ إلا دخل في قبضته.
ثم إن ثلاثة نفر كأن الشمس تطلع من وجوهم، في يد أحدهم إبريق فضة
ونافجة مسك، وفي يد الثاني طست من زمردة خضراء، له أربعة جوانب، من كل
جانب لؤلؤة بيضاء، وقائل يقول: هذه الدنيا فاقبض عليها يا حبيب الله، فقبض
على وسطها، وقائل يقول: قبض (1) الكعبة. وفي يد الثالث حريرة بيضاء مطوية
فنشرها فأخرج منها خاتما تحار فيه أبصار الناظرين، فغسل بذلك الماء من
الإبريق سبع مرات، ثم ضرب الخاتم على كتفيه، وتفل في فيه واستنطقه فنطق فلم
أفهم ما قال، إلا أنه قال: في أمان الله وحفظه وكلاءته، قد حشوت قلبك إيمانا
وعلما وحلما ويقينا وعقلا وشجاعة، أنت خير البشر، طوبى لمن تبعك وويل لمن
تخلف عنك، ثم ادخل بين أجنحتهم ساعة، وكان الفاعل به هذا رضوان، ثم
انصرف وجعل يلتفت إليه ويقول: أبشر يا عز الدنيا والآخرة.
ورأيت نورا يسطع من رأسه حتى بلغ السماء، ورأيت قصور الشامات كأنها
شعلة نار نورا، ورأيت حولي من القطاء أمرا عظيما قد نشرت أجنحتها (2).
قال عبد المطلب: لما انتصفت تلك الليلة إذا أنا ببيت الله قد اشتمل بجوانبه
الأربعة وخر ساجدا في مقام إبراهيم (عليه السلام)، ثم استوى البيت مناديا: الله أكبر رب
محمد المصطفى، الآن قد طهرني ربي من أنجاس المشركين وأرجاس الكافرين،
ثم انتقضت الأصنام وخرت على وجوهها، وإذا أنا بطير الأرض حاشرة إليها،
وإذا جبال مكة مشرفة عليها، وإذا بسحابة بيضاء بإزاء حجرتها، فأتيتها وقلت:
أنائم أنا أم يقظان؟
قالت: بل يقظان.
قلت: فأين نور جبهتك؟



(1) في المناقب: اقبض.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 28 - 29.
54
قالت: قد وضعته، وهذه الطير تنازعني أن أدفعه إليها فيحمله إلى أعشاشها،
وهذه السحاب تسألني كذلك.
قلت: فهاتيه أنظر إليه.
قالت: حيل بينك وبينه إلى ثلاثة أيام.
فسللت سيفي وقلت: لتخرجنه أو لأقتلنك.
قالت: شأنك وإياه. فلما هممت أن ألج البيت بدر إلي من داخل البيت رجل
وقال لي: ارجع وراءك فلا سبيل لأحد من ولد آدم إلى رؤيته أو ينقضي زيارة
الملائكة، فارتعدت وخرجت (1).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لما كانت الليلة التي ولد فيها النبي (صلى الله عليه وآله)
أصبحت الأصنام على وجوهها، وارتج (2) إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة
شرافة، فعظم ذلك أهل مملكته، فما كان يوشك من أن كتب اليه صاحب خراسان
أن بحيرة ساوة غاضت تلك الليلة، وكتب إليه صاحب الشام يخبره أن وادي
السماوة انقطع تلك الليلة، وكتب إليه صاحب طبرية يخبره أن الماء لم يجر تلك
الليلة في بحيرة طبرية، وكتب إليه صاحب فارس يخبره أن بيوت النار خمدت
تلك الليلة ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، ولم يبق سرير لملك إلا أصبح منكوسا،
والملك... (3) يتكلم يومه ذلك، وانتزع علم الكهنة، وبطل سحر السحرة، ولم يبق
كاهنة في العرب إلا حجبت عن صاحبها.
فلما تواترت الكتب على كسرى برز سريره وظهر لأهل مملكته وأخبرهم
الخبر.
فقال الموبدان: أيها الملك إني رأيت تلك الليلة رؤيا هالتني.
قال له: وما رأيت؟
قال: رأيت إبلا صعابا تقود خيلا عرابا حتى عبرت دجلة وانتشرت في بلادنا.



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 29.
(2) في البحار ج 15 ص 293: ارتجس.
(3) كلمتان مطموستان، ولعلها: " مخرسا لا ".
55
فقال له: لقد رأيت ما رأيت فما عندك في تأويلها؟
قال: ما عندي فيها ولا في تأويلها شئ، ولكن أرسل إلى عاملك بالحيرة
يوجه إليك رجلا من علمائهم فإنهم أصحاب علم بالحدثان.
فبعث اليه عبد المسيح بن نفيلة الغساني، فلما قدم اليه أخبره كسرى بالخبر،
فقال له: أيها الملك ليس عندي فيها ولا في تأويلها شئ، ولكن جهزني إلى خال
لي بالشام يقال له سطيح. فقال: جهزوه.
فلما قدم على سطيح وجده قد احتضر، فناداه فلم يجبه، وكلمه فلم يرد عليه،
فقال عبد المسيح:
أصم لم يسمع غطريف (1) اليمن * يا فاصل الخطة أعيت من ومن (2)
أتاك شيخ الحي من آل سنن (3) * أبيض فضفاض من الردا والبدن
رسول قيل العجم يهوي للوثن * لا يرهب الوعد ولا ريب الزمن (4)
فرفع إليه رأسه وقال: عبد المسيح على جمل مشيح، جاء إلى سطيح، وقد
أوفى على الضريح، بعثك ملك ساسان لارتجاج الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا
الموبدان، رأى إبلا صعابا تقود خيلا عرابا، حتى اقتحمت الوادي، وانتشرت في
البلاد، عبد المسيح إذا ظهرت التلاوة، وغاض وادي السماوة، وظهر صاحب
الهراوة، فليست الشام لسطيح بشام، يملك منهم ملوك وملكات عدد سقوط
الشرافات، وكلما هو آت آت. ثم قال عبد المسيح:
شمر فإنك ماضي الهم شمير * لا يفزعنك تفريق وتغيير
أن يمس ملك بني ساسان أفرطهم * فإن ذا الدهر أطوارا دهارير



(1) الغطريف - بالكسر -: السيد.
(2) الفاصل: المبين والحاكم والخطة - بضم الخاء وتشديد الطاء -: الخطب والأمر والحال، أي
يا من يبين ويظهر أمورا أعيت وأعجزت " من ومن " أي جماعة كثيرة.
(3) السنن - محركة: الإبل تسنن في عدوها. وفي تاريخ اليعقوبي: آل يزن.
(4) في اكمال الدين: " كسرى للوسن " بدل " يهوى للوثن ". وهو الصحيح والقيل - بالفتح -:
الملك، والوسن: أي لشأن الرؤيا التي رآها الموبذان.
56
منهم بنو الصرح بهرام واخوته * والهرمزان وسابور وشابور
فربما أصبحوا منها بمنزلة * تهاب صولتهم الأسد المهاصير (1)
حثوا المطي وجدوا في رحالهم * فما يقوم لهم سرح ولا كور
والناس أولاد علات فمن علموا * أن قد أقل فمحقور ومهجور
والخير والشر مقرونان في قرن * والخير متبع والشر محذور
ثم أتى كسرى فأخبره، فغمه ذلك وهاله، ثم تعزى فقال: إلى أن يملك منا
أربعة عشر ملكا يدور الزمان، فهلكوا كلهم في أربعين سنة (2).
وقال القيرواني:
وصرح كسرى تداعى من قواعده * وانقاض منكسر الأوداج ذا ميل
ونار فارس لم توقد وما خمدت * مذ ألف عام ونهر القوم لم يسل
خرت لمولده الأوثان وانبعثت * ثواقب الشهب ترمي الجن بالشعل (3).
وقال كعب: بلغني أنه ما بقي يوم ولد النبي (صلى الله عليه وآله) جبل إلا نادى صاحبه
بالبشارة، وخضعت كلها لأبي قبيس، ولقد قدست الأشجار أربعين يوما بأنواع
أفنانها وثمارها، ولقد ضرب بين السماء والأرض سبعون عمودا في أنواع
الأنوار، وأن الكوثر اضطرب في الجنة فرمى بسبعمائة ألف قصر من قصور الدر
والياقوت نثارا له، ولقد ضحكت الجنة فهي ضاحكة أبدا (4).
وقال الصادق (عليه السلام): صاح إبليس في أبالسته فاجتمعوا إليه، فقال: انظروا
لقد حدث الليلة حدث ما حدث مثله منذ رفع عيسى (عليه السلام).
فافترقوا ثم اجتمعوا إليه فقالوا: ما وجدنا شيئا.
فقال إبليس: أنا لهذا الأمر. ثم انغمس في الدنيا فجالها حتى انتهى إلى الحرم



(1) المهاصير: جمع المهصار وهو الشديد الذي يفترس.
(2) كمال الدين وتمام النعمة: ج 1 ص 191 - 196 يرويه عن هانئ المخزومي.
وفي تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 8 مختصرا مرسلا: وتاريخ الطبري: ج 1 ص 579 - 580.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 30.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 31.
57
فوجد الحرم محفوظا بالملائكة. فذهب ليدخل فصاحوا به، فقال له جبرئيل:
ما وراءك؟
قال: حرفا أسألك عنه ما هذا الحدث الليلة؟ فقال: ولد محمد.
قال: هل لي فيه نصيب؟ قال: لا.
قال: ففي أمته؟ قال: نعم قال: رضيت (1).
وقيل: حملت به أمه في أيام التشريق عند جمرة العقبة الوسطى في منزل
عبد الله بن عبد المطلب.
والصحيح أنه ولد (عليه السلام) عند طلوع الفجر من يوم الجمعة السابع عشر من ربيع
الأول بعد خمس وخمسين يوما من هلاك أصحاب الفيل.
وقالت العامة: يوم الاثنين الثامن أو العاشر منه لسبع بقين من ملك أنوشروان،
ويقال في ملك هرمز بن أنوشروان.
وذكر الطبري أن مولده (عليه السلام) كان لاثنتين وأربعين سنة من ملك أنوشروان (2).
وهو الصحيح لقوله (عليه السلام): " ولدت في زمن الملك العادل أنوشروان " ووافق
شهر الروم العشرين من شباط (3).
وقال الكلبي: ولد (عليه السلام) في شعب أبي طالب في دار محمد بن يوسف في
الزاوية القصوى عن يسارك وأنت داخل الدار (4).
وقال الطبري: في بيت من الدار التي تعرف اليوم بدار محمد بن يوسف،
وهو أخو الحجاج بن يوسف، وكان قد اشتراها من عقيل وأدخل ذلك البيت في
الدار حتى أخرجته الخيزران واتخذته مسجدا يصلى فيه (5).



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 31.
(2) تاريخ الطبري: ج 1 ص 571.
(3) بحار الأنوار: ج 15 ص 250 باب 3 ح 1.
(4) بحار الأنوار: ج 15 ص 276 باب 3 ح 23 نقلا عن المناقب لابن شهرآشوب: ج 1
ص 172 وفيهما: قال الكليني.
(5) تاريخ الطبري: ج 1 ص 571، المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 172.
58
كتاب العروس وتاريخ الطبري: إنه أرضعته ثويبة مولاة أبي لهب بلبن ابنها
مسروح أياما، ثم أرضعته حليمة السعدية فلبثت فيهم خمس سنين وكانت
أرضعت قبله حمزة وبعده أبا سلمة المخزومي. وماتت ثويبة التي أرضعته أولا
سنة سبع من الهجرة، ومات ابنها مسروح قبلها (1).
ولد (عليه السلام) مسرورا مختونا، وكان القمر يحرك مهده في حال صباه.
وقال عباس بن عبد المطلب: رأيت في منامي أخي عبد الله كأنه خرج من
منخره طائر أبيض، فطار فبلغ المشرق والمغرب، ثم رجع وسقط على ظهر الكعبة،
فسجدت له قريش كلها، فبينما الناس يتأملونه إذ صار نورا بين السماء والأرض
وامتد حتى بلغ المشرق والمغرب. قال: فسألت كاهنة بني مخزوم، فقالت:
ليخرجن من صلبه ولد يصير أهل المشرق والمغرب له تبعا (2).
وروي عن حليمة السعدية أنها قالت: كانت في بني سعد شجرة يابسة ما
حملت قط، فنزلنا يوما عندها ورسول الله (صلى الله عليه وآله) في حجري، فما قمت حتى
اخضرت وأثمرت بركة منه. وما أعلم أني جلست موضعا قط إلا كان له أثر إما
نبات وإما خصب. ولقد دخلت على امرأة من بني سعد يقال لها أم مسكين وكانت
سيئة الحال فحملته فأدخلته منزلها فإذا هي قد خصبت وحسنت حالها، فكانت
تجئ في كل يوم فتقبل رأسه (3).
زيد بن اليمان قال: سمعت سعد بن هريم قال: كانت حليمة تقول: ما نظرت
في وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو نائم إلا ورأيت عينيه مفتوحتين كأنه يضحك، وكان
لا يصيبه حر ولا برد (4).
حدث الوليد بن المغيرة قال: بينا أنا واقف بالبطحاء إذ مر محمد (صلى الله عليه وآله) فسلم



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 173.
(2) كمال الدين: ج 1 ص 175 باب 12 ح 33.
(3) بحار الأنوار: ج 15 ص 340 باب 4 ح 12.
(4) بحار الأنوار: ج 15 ص 341 باب 4 قطعة من ح 12 من غير إسناد.
59
عليه كل حجر ومدر، فتعجبت من أمره، فلقيت حليمة السعدية فأخبرتها، فقالت:
أتعجب من هذا! والله لقد رأيت الظباء والوحش تجتمع اليه فتسلم عليه، ولقد كنا
نسمع صباحا ومساء صوتا من السماء وهو يقول: سلام على أمين الله ورسوله.
ولقد لقيت ليلة ليس عندنا سراج فأحمل النبي (عليه السلام) وأدخل البيت فيضئ البيت
فآخذ حاجتي من البيت، ولقد كنت أحمله إلى البرية ليفرح فلا يبقى يومئذ طير
ولا وحش إلا يجتمع اليه ويخضع له ويشمه.
وقال مودود مولى عمر بن علي عن آبائه قالوا: قالت حليمة السعدية: ما
تمنيت شيئا قط في منزلي إلا أعطيته من الغد. ولقد أخذ ذئب من الذئاب عنيزة
لي، فيداخلني من ذلك حزن شديد، فرأيت النبي (صلى الله عليه وآله) رافعا رأسه إلى السماء، فما
شعرت إلا والذئب والعنيزة على ظهره قد ردها علي ما عقر منها شيئا (1).
وقال محمد بن عبد الرحمن بن تومان، عن عثمان بن عفان قال: سمعت من
يحكي عن حليمة أنها قالت: ما أخرجته قط في شمس إلا وسحابة تظله، ولا في
مطر إلا وسحابة تكنه من المطر. وما زال من خيمتي نور ممدود بين السماء
والأرض، ولقد كان الناس يصيبهم الحر والبرد فما أصابني حر ولا برد منذ كان
عندي ولقد هممت يوما أن أغسل رأسه فجئته وقد غسل رأسه ودهن وطيب،
وما غسلت له ثوبا قط، وكلما هممت بغسل ثوبه سبقت إليه فوجدت عليه ثوبا
غيره جديدا (2).
وقال مسلم بن خالد، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه قال: سمعت مشيخة قريش
يحكون عن حليمة أنها قالت: ما كنت أخرج لمحمد (صلى الله عليه وآله) ثدي إلا سمعت له نغمة،
ولا شرب قط إلا وسمعته ينطق بشئ فتعجبت منه، حتى إذا نطق وعقل كان يقول:
" بسم الله رب محمد " إذا أكل، وفي آخر ما يفرغ من أكله وشربه يقول: " الحمد لله
رب محمد (3).



(1) بحار الأنوار: ج 15 ص 341 باب 4 قطعة من ح 12 من غير إسناد.
(2) بحار الأنوار: ج 15 ص 341 باب 4 قطعة من ح 12 من غير إسناد.
(3) بحار الأنوار: ج 15 ص 341 باب 4 قطعة من ح 12 من غير إسناد.
60
وقال أبو حمزة الثمالي، عن أبي جعفر محمد الباقر (عليه السلام) قال: لما أتى على
رسول الله (صلى الله عليه وآله) اثنان وعشرون شهرا من يوم ولادته رمدت عيناه، فقال
عبد المطلب لأبي طالب: اذهب بابن أخيك إلى عراف الجحفة وكان بها راهب
طبيب في صومعته.
قال: فحمله غلام له في سفط هندي حتى أتى به الراهب، فوضعه تحت
الصومعة، ثم ناداه أبو طالب: يا راهب يا راهب.
فأشرف عليه فنظر حول الصومعة إلى نور ساطع وسمع حفيف أجنحة
الملائكة. فقال له: من أنت؟
قال: أنا أبو طالب بن عبد المطلب جئتك بابن أخي لتداوي عينه.
فقال: وأين هو؟
قال: في السفط قد غطيته من الشمس.
قال: اكشف عنه. فكشف عنه فإذا هو بنور ساطع في وجهه قد أذعر الراهب
فقال له: غطه، فغطاه.
ثم أدخل الراهب رأسه في صومعته فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسوله
حقا حقا وأنك الذي بشر به في التوراة والإنجيل على لسان موسى وعيسى
عليهما السلام، فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ثم أخرج رأسه. فقال: يا
بني انطلق به فليس عليه بأس.
فقال له أبو طالب: ويلك يا راهب لقد سمعت منك قولا عظيما.
فقال: يا بني شأن ابن أخيك أعظم مما سمعت مني، وأنت معينه على ذلك
ومانعه ممن يريد قتله من قريش.
قال: فأتى أبو طالب عبد المطلب فأخبره بذلك.
فقال له عبد المطلب: اسكت يا بني لا يسمع هذا الكلام منك أحد، فوالله ما
يموت محمد حتى يسود العرب والعجم (1).



(1) بحار الأنوار: ج 15 ص 358 باب 4 ح 15.
61
وروي أن قريشا كانت في جدب شديد وضيق من الزمان، فلما حملت آمنة
بنت وهب برسول الله (صلى الله عليه وآله) اخضرت لهم الأرض، وحملت لهم الأشجار، وأتاهم
الوفد من كل مكان، فأخصب أهل مكة خصبا عظيما، فسميت السنة التي حمل
فيها برسول الله (صلى الله عليه وآله) سنة الفتح والاستيفاء والابتهاج، ولم تبق كاهنة إلا حجبت
عن صاحبتها، وانتزع علم الكهنة، وبطل سحر السحرة، ولم يبق سرير لملك من
الملوك إلا أصبح منكوسا، والملك مخرسا لا يتكلم يومه ذلك، وفي كل شهر من
الشهر نداء من السماء أن أبشروا فقد آن لمحمد أن يخرج إلى الأرض ميمونا
مباركا (1).
وروى الزهري، عن علي بن الحسين عليهما السلام أن أبيه صلى الله عليه
قال: أول خبر قدم المدينة في ولادة النبي (صلى الله عليه وآله) لامرأة تدعى فطيمة، وكان لها
تابع، فجاءها ذات يوم فقام مذعورا على الجدار يرتعد ارتعادا شديدا، فقالت له:
انزل مالي أراك على هذه الصفة؟
فقال: ومالي لا أكون على هذه الصفة وقد ولد الرسول المصطفى، ولد الرسول
المجتبى، كلت الشياطين، ومنعت الجن عن أخبار الغيوب.
فقالت له فطيمة: فمه؟
قال: يحرم الزنا (2).
$ رسول الله (صلى الله عليه وآله) / تنقله في الأصلاب الطاهرة والأرحام الزكية
قال: وروى ابن أبي سبرة، عن يحيى بن شبل، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعت
آبائي يحدثون ويقولون: كانت لقريش كاهنة يقال لها جرهمانية، وكان لها ابن من
أشد قريش عبادة للأصنام، فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) جاءت
إليها تابعتها وقالت لها: جرهمانية حيل بيني وبينك، جاء النور الممدود الذي من
دخل في نوره نجا، ومن تخلف عن نوره هلك، وهو أحمد صاحب اللواء الأكبر
والعز الآيد، وابنها يسمع.



(1) بحار الأنوار: ج 15 ص 296 باب 3 ح 33.
(2) لم نعثر عليه في مظانه.
62
فلما كانت الليلة الثانية عادت بمثل قولها ثم مر، فلما كانت الليلة الثالثة
عادت بمثل قولها، فقالت: ويحك ومن أحمد؟
قال: ابن عبد الله بن عبد المطلب يتيم قريش، صاحب الغرة الحجلاء والنور
الساطع. فلما تكلم بهذا الكلام نظرت إلى صنمها يمشي مرة ويعدو مرة ويقول:
ويلي من هذا المولود، هلكت الأصنام.
قال: وكانت الجرهمانية تنوح على نفسها بهذا الحديث (1).
وقيل: لما ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال أبو طالب لفاطمة بنت أسد: أي شئ
خبرتك به آمنة أنها رأت حيث ولدت هذا المولود؟
قالت: خبرتني أنها لما ولدته خرج معتمدا على يده اليمنى، رافعا رأسه إلى
السماء، يصعد منه نور في الهواء حتى ملأ الأفق.
فقال لها أبو طالب: أستري هذا ولا تعلمي به أحدا، أما إنك ستلدين مولودا
يكون وصيه (2).
* * *
فصل
في ذكر تنقله في الأصلاب الطاهرة والأرحام الزكية
من آدم (عليه السلام) إلى أن ولده أبوه عبد الله (رضي الله عنه)
حدث أبو محمد عبد الله بن حامد، قال: أخبرنا أبو صالح خالد بن محمد بن
إسماعيل البخاري ببخارى فيما قرأت عليه، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن
علي بن حمزة الأنصاري، قال حدثنا عبد الرحمن بن إسماعيل الدمشقي دحيم،
قال حدثنا بشر بن بكر السيسي، عن بكر بن أبي مريم، عن سعيد بن عمرو



(1) بحار الأنوار: ج 15 ص 297، باب 3 ح 34 من غير ذكر السند.
(2) بحار الأنوار: ج 15 ص 297 باب 3 ح 35.
63
الأنصاري، عن أبيه قال: صحبت كعب الأحبار وهو يريد الاسلام فلم أر
رجلا لم ير رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان أوصف له من كعب، ولقد وصف لنا حالاته
وأخلاقه وقال: هذه سنة موته.
فلما كنا ببعض الطريق ذات ليلة جعل يكثر الدخول والخروج والنظر في
السماء، فلما أصبح قلنا له: يا أبا إسحاق لقد رأينا منك عجبا؟
قال: فاستعبر باكيا وقال: قبض في هذه الليلة محمد (صلى الله عليه وآله):
قال: فأعجبني كلامه، فودعني وانصرف راجعا. فلم أره حتى قبض أبو بكر.
فلما كان في خلافة عمر قدم علينا بالمدينة فبلغني قدومه، فأتيته فسلمت عليه،
فعرفني، فأدناني وقربني.
قال: فجعلت أحدث الناس بما كان وصف كعب من صفة النبي (عليه السلام).
قال: فعجبوا من ذلك وقالوا: إن كعب الأحبار ساحر.
فلما سمع مقالتهم قال: الله أكبر، الله أكبر، والله ما أنا بساحر، ثم أخرج من
مزودته سفطا صغيرا من در أبيض عليه قفل من الذهب مختوما بخاتم، ففض
الخاتم فأخرج منه حريرة خضراء مطوية طيا شديدا فقال: هل تدرون ما هذه
الحريرة؟ قالوا: لا.
قال: هذه صفات محمد ونعته وأخلاقه (صلى الله عليه وآله).
قال: فقلنا: يا أبا إسحاق فحدثنا رحمك الله بنبذ من خلقه (عليه السلام).
قال: نعم، إن الله لما أراد أن يخلق سيد ولد آدم محمدا (صلى الله عليه وآله) أمر جبرئيل (عليه السلام)
أن يأتيه بالقبضة البيضاء التي هي قلب الأرض ونور الأرض.
قال: فهبط جبرئيل (عليه السلام) في ملائكة الفراديس المقربين الكروبيين وملائكة
الصفح الأعلى، فقبض قبضة رسول الله (صلى الله عليه وآله) من موضع قبره، وهي يومئذ بيضاء
نقية، فعجنت بماء التسنيم، ورعرعت حتى جعلت كالدرة البيضاء، ثم غمست في
كل أنهار الجنة وطيف بها في كل السماوات والأرض والبحار.
قال: فعرفت الملائكة محمدا وفضله (صلى الله عليه وآله) قبل أن يعرف آدم (عليه السلام).

64
قال: فلما خلق الله عز وجل آدم سمع من تخطيط أسارير جبهته نشيشا
كنشيش الذر.
فقال: سبحانك ما هذا؟
قال الله عز وجل: يا آدم هذا تسبيح خاتم النبيين وسيد ولدك من المرسلين،
فخذه بعهدي وميثاقي على أن لا تودعه إلا في الأصلاب الطاهرة والفتيات
الزاهرة.
قال آدم: نعم يا إلهي وسيدي، قد أخذته بعهدك على أن لا أودعه إلا في
المطهرين من الرجال والمحصنات من النساء.
قال: فكان نور محمد (صلى الله عليه وآله) يرى في دائرة غرة جبين آدم (عليه السلام) كالشمس في
دوران فلكها وكالقمر في ديجور ليله، فكان آدم (عليه السلام) كلما أراد أن يغشي حواء
تطيب وتطهر وأمرها أن تفعل ذلك ويقول: يا حواء تطهري فعسى هذا النور
المستودع ظهري ووجهي عن قليل يستودعه الله طهارة بطنك.
قال: فلم تزل حواء كذلك حتى بشرها الله عز وجل بشيث أب الأنبياء
والمرسلين عليهم أفضل الصلاة والسلام، وأصبح آدم (عليه السلام) والنور مفقود من
وجهه، فنظر إليه في وجه حواء فسر بذلك.
قال: وحواء تزداد في كل يوم حسنا وجمالا وشكلا، وبقي آدم (عليه السلام) لا يقربها
لطهارتها وطهارة ما في بطنها، تأتيها الملائكة كل يوم بالتحيات من عند رب
العالمين، وتؤتى في كل وقت بماء التسنيم من الجنة فتشربه حتى خلق الله
عز وجل شيثا في بطنها جنينا وحيدا، وقد كانت تضع في كل بطن قبل ذلك ذكرا
وأنثى، ما خلا شيثا فإن الله عز وجل خلقه وحيدا كرامة من الله عز وجل لنور
محمد (صلى الله عليه وآله). فلم تزل كذلك حتى وضعت شيثا (عليه السلام).
فلما أن وضعته نظرت إلى نور رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين عينيه، فضرب الله بينها
وبين ملعون الله إبليس حجابا من النور في غلظ خمس مائة عام، فلم يزل إبليس
محبوسا حتى بلغ شيث سبع سنين، وعمود النور بين السماء والأرض وللملائكة

65
فيه مسلك، وعلى مقاعد كرامته مجلس، ومنادي البشارة ينادي في كل يوم: أيتها
الخضرة اهتزي وبشري سكانك بعظيم نور محمد المضروب بين السماء والأرض
فقد صار إلى قرار الأرحام ومستقر الأصلاب. وضرب له بين السماء والأرض
عمود من النور، فلم يزل ذلك النور في الأرض ممدودا حتى أدرك شيث وبلغ،
وذلك النور لا يفارق وجهه.
وأيقن آدم (عليه السلام) بالموت والمفارقة حين أدرك شيث، فأخذ بيد شيث وانطلق به
إلى الحوض الأعظم وقال: يا بني إن الله عز وجل أمرني أن آخذ عليك عهدا
وميثاقا من أجل هذا النور المستودع في وجهك وظهرك أن لا تضعه إلا في أطهر
نساء العالمين، واعلم أن ربي عز وجل قد أخذ فيه علي عهدا عظيما وميثاقا شديدا.
ثم قال آدم (عليه السلام): ربي وسيدي إنك أمرتني أن آخذ على شيث من بين ولدي
عهدا من أجل هذا النور الذي في وجهه، فأسألك أن تبعث إلي ملائكة من
ملائكتك ليكونوا شهودا عليه.
قال: فما استتم آدم الدعوة حتى نزل جبرئيل (عليه السلام) في سبعين ألف ملك، معه
حريرة بيضاء وقلم من أقلام الجنة، فقال: السلام عليك يا روح الله فإن الله
عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول: قد آن لحبيبي محمد أن ينتقل في الأصلاب
والأرحام، وهذه حريرة بيضاء وقلم من أقلام الجنة ليستمد لك من غير مداد نورا
بإذني، فاكتب على ابنك شيث كتاب العهد والأمانة بشهادة هؤلاء فإنهم عباد
ملائكة السماوات.
قال: فكتب آدم (عليه السلام) كتابا وأشهد عليه رب العزة جل جلاله وجبرئيل ومن
حضر من الملائكة، وطوى الحريرة طيا شديدا وختمها بخاتم جبرئيل (عليه السلام)، وكسا
شيث في ذلك المقام حلتين حمراوين في نور الشمس ورقة الماء، وزوجه الله
عز وجل قبل نزول الملائكة بمخوايلة (1) البيضاء، وكانت في طول حواء وجمالها



(1) في البحار، محاولة.
66
وذؤابتها، بخطبة جبرئيل (عليه السلام) وشهادة الملائكة والولي آدم (عليه السلام)، وضربت
عليه قبة الزمرد الأصفر، فواقع مخوايلة فيها فحملت بأنوش.
فلما حملت به سمعت نداء الأصوات من كل مكان: هنيئا لك هنيئا لك يا
بيضاء، البشرى فقد استودعك الله نور محمد المصطفى.
قال: وضرب لها حجاب من النور عن أعين الناس ومكايدة الشيطان، فكان
إبليس لا يتوجه في وجه من الأرض إلا نظر إلى ذلك الحجاب عليه مضروبا.
قال: فلم تزل مخوايلة حتى وضعت أنوش (عليه السلام). فلما وضعته نظرت إلى نور
رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين عينيه.
فلما ترعرع دعاه أبوه فقال له: يا بني إن أبي أمرني أن آخذ عليك عهدا
وميثاقا ألا تتزوج إلا بأطهر نساء العالمين. فقبل وصيته.
وأوصى كذلك أنوش ابنه قينان، وأوصى قينان ابنه مهلائيل، وأوصى مهلائيل
ابنه يزد، فتزوج يزد امرأة يقال لها برة، فحملت بأخنوخ وهو إدريس النبي (عليه السلام).
فلما ولد إدريس (عليه السلام) نظر أبوه إلى النور يلوح بين عينيه فقال له أبوه: يا بني
أوصيك بهذا النور كل الوصية. فقبل وصيته. فتزوج بامرأة يقال لها بزوجا، فولدت
له متوشلخ.
وولد متوشلخ لمك، وكان لمك رجلا أشقر قد أعطي قوة وبطشا، فتزوج امرأة
يقال لها قسوش بن يردائيل بن مخوائيل، فواقعها فولدت له نوح (عليه السلام)، وفيه نور
النبي (صلى الله عليه وآله) يلوح في وجهه.
فقال له: يا بني إن هذا النور هو النور الذي توارثته الأنبياء عليهم السلام، وهو
نور المصطفى محمد (صلى الله عليه وآله) ينقل بالعهود والمواثيق إلى يوم خروجه، وإني آخذ
عليك عهدا وميثاقا أن لا تتزوج إلا بأطهر نساء العالمين.
قال: فقبل وصية أبيه، فتزوج امرأة يقال لها عمردة، وكانت من المؤمنات
الصالحات، فواقعها فولدت سام (عليه السلام)، وفيه نور النبي (عليه السلام).
فلما نظر نوح (عليه السلام) إلى النور في وجهه سلم اليه تابوت آدم (عليه السلام)، وكان

67
التابوت من درة بيضاء، له بابان مغلقان بسلسلة من الذهب الأحمر،
وعروتان من الزمرد، وفيه العهد. وزوجه امرأة من بنات الملوك لم يوجد لها في
الحسن والجمال شبيه، فواقعها فولدت أرفخشد، وفيه نور النبي (عليه السلام) فأوصاه أبوه
سام بذلك وسلم إليه التابوت.
فتزوج ارفخشد امرأة يقال لها مرجانة، فحملت غابر وهو هود النبي (عليه السلام)،
فلما وضعته سمعت نداء الأصوات من كل مكان: هذا نور محمد النبي الذي يكسر
كل صنم، ويقتل كل من طغى وكفر، يخرج من أجمل قومه جمالا، وأكثرهم زهدا.
فتزوج امرأة يقال لها ميشاخا، فولدت له فالغ، وولد فالغ شالخ، وولد شالخ،
ارغو، وولد أرغو شروع، وولد شروع ناحور، وولد ناحور تارخ.
فتزوج تارخ امرأة يقال لها دبا بنت غرة، فولدت له الخليل إبراهيم (عليه السلام)، فلما
ولدت إبراهيم (عليه السلام) ضرب عليه علمان من النور: علم في شرقها وعلم في غربها،
فصارت الدنيا كلها نورا واحدا، وضرب له عمود من النور في وسط الدنيا قد لحق
بعنان السماء، له إشراق.
فقالت: ربنا ما هذا؟ فنوديت: إن هذا نور محمد.
ورفع إبراهيم كما رفع آدم من قبل، فقال إبراهيم (عليه السلام): رب لم أر لك خليقة
هي أحسن من هذه الخليقة، ولا أمة من أمم الأنبياء أنور من هذه الأمة.
فنودي: يا إبراهيم هذه أمة محمد حبيبي، لا حبيب لي من خلقي مثله،
أجريت ذكره من قبل أن أخلق سمائي وأرضي، وسميته نبيا وأبوك آدم بين الطين
والروح، وقد التقيت أنت معه في الذروة الأولى، وأنا مجريه إلى قناة صلبه، ثم
أخرجه من صلبك إلى صلب ابنك إسماعيل، فأبشر فقد أمرت الخير والكرم أن
يجريا معه في طريقه.
قال: وكان إبراهيم (عليه السلام) قد خبر سارة أن الله عز وجل سيرزقها ولدا طيبا،
فطمعت في نور محمد (صلى الله عليه وآله)، وكان إبراهيم (عليه السلام) قد خبرها بعظيم نوره وحسنه
وبهائه، فلم تزل متوقعة لذلك حتى حملت هاجر بإسماعيل.

68
فلما حملت هاجر إسماعيل (عليه السلام) اغتمت من ذلك غما شديدا، فلم تزل في
أشد الغم والكرب. فلما ولدت هاجر إسماعيل (عليه السلام) أدرك سارة الغيرة فأخذها ما
يأخذ النساء، فبكت وقالت: يا إبراهيم مالي من بين الخلق حرمت الولد؟
قال لها إبراهيم (عليه السلام): أبشري وقري عينا، فإن الله عز وجل منجز وعده، وأنه
لا يخلف الميعاد. فلم تزل سارة كذلك حتى رزقها الله عز وجل إسحاق (عليه السلام).
فلما نشأ وصار رجلا أدركت إبراهيم (عليه السلام) الوفاة، فجمع أولاده وهم يومئذ
ستة ودعا بتابوت آدم (عليه السلام) ففتحه وقال: يا بني انظروا إلى هذا التابوت.
قال: فنظروا فإذا فيه بيوت بعدد الأنبياء كلهم أجمعين، وآخر البيوت بيت
محمد (صلى الله عليه وآله) ياقوتة حمراء. قال: فإذا هو قائم يصلي وبين يديه علي بن أبي طالب
شاهرا سيفه على عاتقه، مكتوب على جبينه: هذا أخوه وابن عمه المؤيد بالنصر
من عند الله عز وجل. وحوله عمومته والخلفاء والنقباء.
فقال إبراهيم (عليه السلام) لبنيه: يا بني انظروا في من ترون النبيين منقولين.
قال: فنظروا فإذا الأنبياء عليهم السلام كلهم منقولون في صلب إسحاق إلا
النبي محمد (صلى الله عليه وآله) خالصا فإنه منقول في صلب إسماعيل.
قال: فلما نظر إبراهيم (عليه السلام) إلى النور في وجه إسماعيل (عليه السلام) قال: بخ بخ، هنيئا
لك يا بني، قد خصك الله تعالى بنور نبيه (صلى الله عليه وآله)، فأنا آخذ عليك عهدا وميثاقا.
قال: فلم يزل إسماعيل (عليه السلام) متمسكا بذلك العهد والميثاق حتى تزوج هالة
بنت الحارث فواقعها، فولدت له قيدار، وفيه نور رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فلما نظر إسماعيل إلى النور في وجه قيدار سلم إليه التابوت، وأوصاه بدين
الله وسنته، وأمره أن لا يضع النور إلا في أطهر نساء العالمين.
قال: فنظر قيدار إلى المطهرات من ولد إسحاق فتزوج منهن بمائتي امرأة،
وكان شابا جميلا، فأحب الله عز وجل أن يريه في نفسه عجائب كثيرة لئلا يضع
هذا النور إلا في أطهر نساء العالمين.
قال: وكان قيدار ملك قومه وسيدهم، وكان قد أعطي سبع خصال لم يعطها

69
أحد من الناس قبله: أعطي: 1 - القنص، 2 - والرمي، 3 - والفروسية، 4 - والشدة،
5 - والبأس، 6 - والصراع، 7 - وإتيان النساء.
وكان صاحب قنص وصيد. وكان قد تزوج بمائتي امرأة من بنات إسحاق،
وأقام معهن مائتي سنة لا يحبلن ولا يلدن له ولدا، فبينا هو ذات يوم راجع من
قنصه فتلقته زمرة من الوحش والطير والسباع من كل مكان، فنادته بلسان
الآدميين: ويحك يا قيدار قد مضى عمرك وإنما همتك اللهو ولذة الدنيا، أما آن لك
بعد أن تهتم بنور محمد أين تضعه، ولماذا استودعته؟
قال: فرجع قيدار إلى منزله مغموما مكروبا، وحلف بإله إبراهيم ألا يطعم
طعاما ولا يشرب شرابا ولا يقرب أنثى أبدا حتى يأتيه بيان ما سمع على ألسنة
الطير والوحش والسباع، إذ بعث الله عز وجل إليه ملكا في الهواء في صورة رجل
من الآدميين لم ير قيدار أحسن منه وجها، ولا أنقى منه ثوبا، ولا أحسن منه خلقا،
فهبط عليه الملك فسلم، فرد قيذار عليه السلام، فقعد معه.
فقال: يا قيذار إنك قد ملكت البلاد، وقد زينت بالقوة والبأس، وقد نقل إليك
مع هذا نور محمد (صلى الله عليه وآله)، وأنه كائن لك ولد من غير نسل إسحاق (عليه السلام)، فلو انك
تجردت وقربت لإله إبراهيم قربانا وسألته أن يبين لك من أين لك التزويج لكان
ذلك خيرا لك من اللهو والتواني. وتركه الملك وعرج إلى مقامه.
فقام قيذار تلك الساعة، وكان صاحب جمة وجمال وبهاء وكمال إلى البقعة
التي ولد فيها إسماعيل (عليه السلام) فقرب يومئذ سبعمائة كبش أقرن من كباش
إبراهيم (عليه السلام)، فكان كلما ذبح كبشا جاءت نار من السماء حمراء لا دخان لها في
سلاسل بيض فتأخذ ذلك القربان فتصعد به إلى السماء. فلم يزل قيذار يذبح ويقرب
حتى ناداه مناد: حسبك يا قيذار فقد استجاب الله دعوتك وقبل قربانك، انطلق من
فورك هذا إلى شجرة الوعد فنم في أصلها وانتبه إلى ما تؤمر به في المنام فافعله.
قال: فرد قيذار باقي غنمه، وأقبل حتى أتى الشجرة فنام في أصلها، فأتاه آت
في المنام فقال له: يا قيذار إن هذا النور الذي في ظهرك هو النور الذي فتح الله

70
عز وجل به الأنوار كلها، وخلق الدنيا والخلق طرا من أجله، واعلم أنه لم يكن الله
عز وجل ليجريه إلا في الفتيات (1) العربيات، فابتغ لنفسك امرأة طاهرة من العرب
وليكن اسمها الغاضرة.
قال: فوثب قيذار من نومه فرحا إلى منزله، وبعث رسلا يطلبون له امرأة من
العرب اسمها غاضرة، ولم يرض بأولئك الرسل حتى بكر وهو على جواده وأخذ
السيف معه شاهرا مسلولا فجعل يبقر عن أحياء العرب، ينزل على قوم ويرحل
إلى آخرين، حتى وقع على ملك الجرهميين، وكان من ولد ذهل بن عامر بن
يعرب بن قحطان وله ابنة اسمها الغاضرة، وكانت أجمل نساء العالمين، فتزوجها
وحملها إلى أرضه وبلاده، فواقعها فحملت بابنه وأصبح قيذار والنور من وجهه
مفقود منتقل إلى وجه الغاضرة فسر بذلك سرورا عظيما.
وكان عنده تابوت آدم (عليه السلام)، وكان ولد إسحاق ينازعونه التابوت ليأخذوه،
وكانوا يقولون: إن النبوة قد صرفت عنكم وليس لكم إلا هذا النور الواحد فأعطنا
التابوت. فكان يمتنع عليهم ويقول: إنه وصية أبي ولا أعطيه أحدا من الناس.
قال: فذهب ذات يوم يفتح ذلك التابوت فعسر عليه فتحه، فناداه مناد من
الهواء: مهلا يا قيذار فليس لك إلى فتح هذا التابوت سبيل، انه وصية نبي، ولا يفتح
هذا التابوت إلا نبي من النبيين، فادفعه إلى ابن عمك يعقوب إسرائيل الله.
قال: وإنما سمي يعقوب إسرائيل الله لأن يعقوب كان يخدم بيت المقدس،
وكان أول من يدخل وآخر من يخرج، وقد يسرج القناديل، فكان إذا كان بالغداة
أصابها مطفأة.
قال: فبات ذات ليلة في مسجد بيت المقدس فإذا بجني يطفيها، فأخذه فأسره
إلى سارية في المسجد، فلما أصبحوا رأوه أسيرا، وكان اسم الجني ائيل.
فلما أن سمع قيذار هذا أقبل إلى أهله وهي الغاضرة فقال: انظري إن أنت
ولدت غلاما فسميه حملا، وأنا أرجو أن يكون غلاما طيبا.



(1) في الأصل: فتيات.
71
قال: وحمل قيذار التابوت على عاتقه وخرج يريد أرض كنعان، وذلك أن
يعقوب (عليه السلام) كان بأرض كنعان، فأقبل يسير ترفعه أرض وتخفضه أخرى حتى
قرب من البلاد.
قال: فصر التابوت صرة سمعها يعقوب (عليه السلام)، فقال لبنيه: اقسم بالله لقد جاءكم
قيذار فقوموا نحوه.
قال: فقام يعقوب وأولاده جميعا، فلما أن نظر يعقوب إلى قيذار استعبر باكيا
وقال: يا قيذار مالي أرى لونك متغيرا وقوتك ضعيفة، أرهقك عدو أم أتيت معصية
بعد أبيك إسماعيل؟
قال: ما رهقني عدو، ولا أتيت معصية، ولكن نقل من ظهري نور محمد (صلى الله عليه وآله)
فلذلك تغير لوني وضعف ركني.
قال يعقوب: أفمن بنات إسحاق؟
قال: لا ولكن في العربية الجرهمية وهي الغاضرة.
قال يعقوب: بخ بخ، شوقا لمحمد (صلى الله عليه وآله)، لم يكن الله عز وجل ليجريه إلا في
الطاهرات يا قيذار وأنا مبشرك ببشارة.
قال: وما هي؟
قال يعقوب: اعلم أن الغاضرة قد ولدت لك الليلة غلاما.
قال: وما علمك يا بن عمي وأنت بأرض الشام وهي بأرض الحرم؟
قال يعقوب: أعلم ذلك لأني رأيت أبواب السماء قد فتحت، ورأيت نورا
كالقمر الممدود بين السماء والأرض ورأيت الملائكة ينزلون من السماء بالبركات
والرحمة، فعلمت أن ذلك من أجل محمد (صلى الله عليه وآله).
قال: فسلم قيذار التابوت إلى يعقوب (عليه السلام) ورجع إلى أهله، فوجدها قد ولدت
غلاما فسماه " حمل "، وفيه نور رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فلما ترعرع أخذه أبوه بيده ليريه مكة والمقام وموضع البيت الحرام. فلما أن
صار على جبل ثبير تلقاه ملك الموت (عليه السلام) في صورة رجل من الآدميين، فقال:

72
إلى أين يا قيذار؟
قال: أنطلق بابني هذا فأريه مكة والمقام وموضع البيت الحرام.
فقال: وفقك الله ولكن عندي نصيحة، فهلم إلي فإن بيني وبينك سرا.
قال: فدنا منه قيذار ليساره فقبض ملك الموت روحه من اذنه فخر ميتا بين
يدي ابنه حمل، وعرج ملك الموت إلى أسباب السماوات. فرفع " حمل " رأسه فلم
ير داعيا ولا مجيبا فعلم أنه إنما كان ملك الموت، فقعد عند رأسه يبكي، فقيض الله
عز وجل لقيذار قوما من أولاد إسحاق النبي (عليه السلام) فغسلوه وحنطوه وكفنوه، ودفن
في جبل ثبير.
وبقي حمل يتيما وحيدا، فكلاه الله عز وجل حتى بلغ، وذكر في العز والشرف،
فتزوج من قومه امرأة يقال لها يريرة، فحملت بابنه نبت.
قال: فخرج يطلب مواضع آبائه، ويحب القنص والصيد، حتى ولد له هميسع،
وولد لهميسع أدد.
وإنما سمي أددا لأنه كان ماد الصوت طويل العز والشرف، وكان أول من تعلم
بالقلم من ولد إسماعيل، وكان طالبا يطلب آثار الخير، ففضل في الكتابة على أهل
زمانه. حتى ولد له أد، وولد لأد عدنان.
وإنما سمي عدنان لأن أعين الجن والإنس كلها كانت تنظر اليه، فقالوا: إن
تركنا هذا الغلام حتى يدركه مدرك الرجال ليخرجن من ظهره من يسود الناس
كلهم أجمعين. فأرادوا قتله فوكل الله عز وجل به من يحفظه، فبقوا لا يقدرون على
حيلة، وهو يخرج منه أكرم العالمين خلقا وخلقا حتى ولد له معد.
وإنما سمي معدا لأنه كان صاحب حروب وغارات على بني إسرائيل من
يهودها، ولم يكن يحارب خلقا إلا رجع بالنصر والظفر، فجمع من المال ما لم
يجمعه أحد من الناس، حتى ولد له نزار.
وإنما سمي نزارا لأن معدا نظر إلى نور رسول الله (صلى الله عليه وآله) في وجهه فقرب له
قربانا عظيما، وقال: لقد استقللت هذا القربان وأنه لقليل نزر، فأنت نزار وانزارت

73
لك الأرض بحضرتها، فمن أجل ذلك سمي نزارا.
فتزوج امرأة من قومه يقال لها سعيدة، فولدت له مضر.
وإنما سمي مضرا لأنه أخذ بالقلب، فلم يكن يراه أحد إلا أحبه، وكان صاحب
ظفيرتين، وكان صاحب قنص.
وكان كل رجل منهم يأخذ على ابنه كتابا وعهدا وميثاقا أن لا يتزوج إلا
بأطهر النساء في زمانه. وكانت الكتب تعلق في البيت الحرام، فلم تزل معلقة من
ولد إسماعيل (عليه السلام) إلى أيام الفيل. وكان أول من بدلها وغيرها عمرو بن اللحى
صاحب استخراج الأصنام من الكعبة.
فلم تزل كذلك حتى تزوج امرأة من قومه يقال لها كريمة، وتدعى أم حكيم،
فولدت له الياس.
وإنما سمي الياس لأنه ولد على اليأس والكبر وانقطاع الرجاء، فكان يدعى
كبير قومه وسيد عشيرته، لا يقطعون أمرا دونه، يسمع من ظهره أحيانا دوي تلبية
رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فلم يزل كذلك حتى تزوج امرأة يقال لها مخة، فولدت له مدركة.
وإنما سمي مدركة لأنه أدرك كل عز كان في آبائه وكل شرف، وكانوا
لا يتزوجون إلا بالمهور السنية.
فلم يزل كذلك حتى تزوج امرأة يقال لها قزعة، فولدت له خزيمة.
وإنما سمي خزيمة لأنه خزم نور آبائه وشرفهم، ومكث لا يدري بمن يتزوج
حتى أري في منامه أن يتزوج بمرة بنت ود بن طابخة، فتزوجها فولدت له كنانة.
وإنما سمي كنانة لأنه لم يزل في كن ودعة من قومه حتى تزوج امرأة يقال لها
ريحانة، وتدعى أم الطيب، فأولدها النضر.
وإنما سمي النضر لأن الله عز وجل اختاره وألبسه النضرة، وسمي قريشا، فكل
من ولده النضر فهو قرشي، ومن لم يلده النضر فليس بقرشي، وهو الذي قال: بينا
أنا نائم في الحجر إذ رأيت كأنما خرجت من ظهري شجرة خضراء حتى بلغت

74
عنان السماء، وأن أغصانها نور في نور وإذا أنا بقوم بيض الوجوه وإذا القوم
متعلقون بها من لدن ظهري إلى السماء الدنيا. فلما انتبهت أتيت كهنة قريش
فأخبرتهم بذلك.
قالوا: إن صدقت رؤياك فقد صرف إليك العز والكرم والشرف، وقد خصصت
بحسب وسؤدد لم يخص به أحد من العالمين. فأعطاه الله عز وجل ذلك، وذلك
حين نظر الله عز وجل نظرته إلى الأرض فقال للملائكة: انظروا من ترون أكرم
أهل الأرض اليوم عندي، وأنا أعلم وأحكم؟
فقالت الملائكة: ربنا وسيدنا ما نرى في الأرض أحدا يذكرك بالوحدانية
مخلصا إلا نورا واحدا في ظهر رجل من ولد إسماعيل.
قال الله عز وجل: اشهدوا إني قد اخترته لنطفة حبيبي محمد.
قال: فبسط له الحرم بالعز والشرف حتى ولد له مالك، وإنما سمي مالك لأنه
ملك العرب. وأوصى مالك ابنه فهرا، وأوصى فهر إلى لؤي، وأوصى لؤي إلى
غالب، وأوصى غالب إلى كعب، وأوصى كعب إلى مرة، وأوصى مرة إلى كلاب،
فولد له قصي، وذلك في زمان فيروز بن قباد.
وإنما سمي قصي لأنه كان يقصي الباطل ويدني الحق، وكانت العرب اليه
تتحاكم زمانا ودهرا، وهو الذي ولي الناس وولي أمر البيت، وأطعم الحاج، وساد
الناس، وبنى لنفسه دارا بمكة، فكانت أول دار بنيت بمكة، وهي دار الندوة، وجمع
قبائل قريش فأنزلهم أبطح مكة، وكان بعضهم في الشعاب ورؤوس الجبال بمكة،
فقسم منازلهم فسمي بذلك مجمعا، وفيه يقول مطرود لبنيه، ويقال إنه لحذافة بن
غانم الجمحي:
قصي أبوكم كان يدعى مجمعا * به جمع الله القبائل من فهر
هم نزلوها والمياه قليلة * وليس بها إلا كهول أبي عمرو
يعني خزاعة. ومات قصي بمكة، ودفن بالحجون، فتدافن الناس في الحجون،
والحجون هو الجبل الذي بحذاء المسجد الذي يلي شعب الخرازين إلى ما بين

75
الحوضين اللذين في حائط عوف، وكانت العرب تتحاكم إلى قصي زمانا ودهرا
حتى ولد له عبد مناف.
وإنما سمي عبد مناف ولأنه شرف وعلا وناف فضرب إليه الركبان من أطراف
الأرضين يتحفونه بتحف الملك، بيده لواء نزار وقوس إسماعيل وسقاية الحاج،
ووهب له خمسة من الذكران وتسع نسوة، فأول من ولد له هاشم.
وإنما سمي هاشما لأنه أول من هشم الثريد لقومه، وكان الناس في جدوبة
شديدة وضيق من الزمان فكانت مائدته منصوبة لا تحمل في السراء والضراء،
وكان يحمل أبناء السبيل ويؤوي الخائفين، وكانت ضفيرتاه على صفة ظفيرتي
إسماعيل النبي (عليه السلام). وخرج أفخر قومه مفاخرة وأسبقهم سابقة لم تدنسه دنسات
الأمهات، بل أمهاته طاهرات مطهرات (1).
حدث الأوزاعي: قال حدثني أبو عمار شداد، قال: حدثني واثلة بن الأسقع،
قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " إن الله اصطفى بني كنانة من بني إسماعيل، واصطفى
من كنانة قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم " (2).
فلما خص الله هاشما بالنور واصطفاه على العرب وقريش كلها قال الله عز وجل
للملائكة: يا ملائكتي اشهدوا اني قد طهرت عبدي هذا من دنس الأرض كلها.
قال: فأجريت نطفة محمد (صلى الله عليه وآله) في ظهره ممزوجة بلحمه ودمه فكانت ترى
على وجهه كالهلال وكالكوكب الدري في توقد شعاعه، لا يمر بشئ إلا سجد له،
ولا يراه أحد من الناس إلا أقبل نحوه.
قال: فلم يزل كذلك حتى أري في المنام أن يزوج بسلمى بنت زيد بن عمر بن
لبيد بن خراش بن عدي بن النجار، فتزوجها وكانت كخديجة بنت خويلد في زمن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) لها عقل وحلم ويسار، وكانت كعوبة نهود عطبولة (3) فواقعها،



(1) ذكر في بحار الأنوار كلاما ملخصا بمعناه ج 15 ص 33 فما بعد نقلا عن كتاب الأنوار
للشيخ أبي الحسن البكري.
(2) البداية والنهاية: ج 2 ص 256.
(3) العطبول: الممتد القامة الطويل العنق، وقيل: هو الطويل الصلب الأملس، ويوصف به
الرجل والمرأة. النهاية لابن الأثير: ج 3 ص 256 مادة " عطبل ".
76
فولدت له عبد المطلب، واسمه شيبة الحمد، فصارت مكارم الأخلاق كلها إليه.
وقد قيل: إنما سمي شيبة لأنه ولد وكان في رأسه شعرة بيضاء حين ولد،
فبذلك سمي شيبة.
وولد بيثرب وهي المدينة، فمكث بها سبع سنين أو ثمان سنين حتى أخذه
المطلب وأردفه خلفه على راحلته لا يثق أن يدعه وحده ظنا به وحبا له، ودخل به
مكة فسمي بذلك عبد المطلب، وأقام في مكة وهو سيدها وكبيرها، فتزوج هالة
بنت الحارث، فولدت له أبا لهب واسمه عبد العزى، فخرج كافرا شيطانا رجيما، ثم
ماتت فتزوج بعدها سعدي بنت غياث فأولدها العباس ثم ماتت، فتزوج بعدها
حميدة فولدت له حمزة سيد الشهداء وحجل وعاتكة، وبقي زمانا ودهرا لا يدري
من يتزوج من نساء العالمين حتى أري في منامه أن يتزوج فاطمة بنت عمرو،
فتزوجها وأمهرها مائة ناقة حمراء ومائة رطل من الذهب الأحمر، فواقعها
فأولدها أبا طالب وآمنة بنت عبد المطلب وبرة بنت عبد المطلب.
وأقام على ذلك زمانا ودهرا لا يخرج نور رسول الله (صلى الله عليه وآله) من وجه
عبد المطلب إلى بطن فاطمة، فلما كان يوما من الأيام راجعا من قنصه وصيده في
الظهيرة نصف النهار وهو عطشان يلهث فرأى في الحجر ماء فنزل فشرب من ذلك
الماء فوجد برده على قلبه، ثم دخل تلك الساعة على فاطمة فواقعها فحملت
بعبد الله، وهو أصغر أولاده.
فلما ولد سر أبوه سرورا شديدا، ولم يبق أحد من أحبار الشام إلا علم
بمولده، وذلك أنه كانت عندهم جبة من صوف بيضاء، وكانت الجبة مغموسة في
دم يحيى بن زكريا عليهما السلام، وكانوا يجدون في الكتب عندهم إذا رأيتم
الجبة بيضاء والدم يقطر فاعلموا أنه قد ولد عبد الله بن عبد المطلب، فعدوا الأيام
والشهور والسنين فلما أن صار غلاما مترعرعا قدم عليه الأحبار ليقتلوه فصرف
الله عز وجل كيدهم عنه، فرجعوا إلى الشام ولم يقدروا له على حيلة.
قال: وكانت تجارات قريش يومئذ بأرض الشام، فكان لا يقدم على أحبار

77
يهود الشام أحد من قريش إلا سألوه عن عبد الله بن عبد المطلب كيف تركوه؟
فتقول قريش: بخ بخ، تركناه نورا في قريش يتلألأ حسنا وبهاء وجمالا وكمالا.
فتقول الأحبار: معاشر قريش إن ذلك النور لمحمد (صلى الله عليه وآله) بن عبد الله بن
عبد المطلب نبي يخرج من ظهره في آخر الزمان يغير عبادة الأصنام ويبطل عبادة
اللات والعزى.
فكانت قريش إذا سمعوا بذلك يغشى عليها، فإذا أفاقت رجعت في تحيرها
وكفرها، ثم تقول: القول كما يقولون ورب الكعبة.
وعبد الله يومئذ أجمل قريش كلها، قد شغفت به كل نساء قريش، حتى لقى في
زمنه ما لقي يوسف الصديق (عليه السلام) من امرأة العزيز في زمانه، وكان يخبر أباه بما
يرى من العجائب، وكان يقول: يا أبه إني إذا خرجت إلى مكة خرج من ظهري
نوران: أحدهما يأخذ شرق الأرض والآخر غربها. ثم إن النورين يستديران في
ظهري كأسرع من طرف العين.
قال أبوه: لئن صدق قولك فسيخرج من ظهرك (1) أكرم العالمين، وقد رأيت
رؤيا بعد رؤيا، كل يدل على أن سيخرج من ظهرك أجمل الخلق أجمعين.
وبقي عبد الله على ذلك زمانا ودهرا ليس لنساء قريش غسل من أزواجهن
ولا للرجال فرح من أهاليهم شوقا إلى عبد الله بن عبد المطلب.
فجاؤوا معهم بسبعين سيفا شاهرة مسمومة، فجعلوا يسيرون الليل والنهار حتى
نزلوا بفناء مكة، فلما كان يوم من الأيام خرج عبد الله إلى صيده وحيدا وأصاب
الأحبار منه الخلوة أحدقوا به ليقتلوه، فلما نظر إلى ذلك وهب بن عبد مناف
الزهري وهو أبو آمنة جد النبي (صلى الله عليه وآله) أدركته الحمية وعصبية العرب والجاهلية
فقال: سبعون رجلا تحدقون برجل واحد من أهل مكة تريدون قتله لا ناصر له،
والله لأنصرنه.
$ رسول الله (صلى الله عليه وآله) / تنقله من لدن فطامه إلى وقت مبعثه
قال: فأجرى جواده لينصر عبد الله بن عبد المطلب على أولئك الأحبار فحانت



(1) في هامش الأصل: صلبك خ ل.
78
منه التفاتة نحو السماء، فنظر إلى رجال لا يشبهون رجال الدنيا ينزلون من السماء
قد حملوا على أولئك الأحبار فقطعوهم وهزموهم حتى كشفوهم عن عبد الله، فلما
نظر وهب إلى ذلك رجع مبادرا إلى أهله فخبرها بالخبر وقال: انطلقي إلى
عبد المطلب فاعرضي عليه ابنتك لعله أن تزوجه إياها قبل أن يسبقنا إليه أحد من
الناس فتكون الحسرة الكبرى والمصيبة العظمى.
قال: فجاءت برة أم آمنة إلى عبد المطلب فعرضت ابنتها عليه.
فقال عبد المطلب: لقد عرضت علي امرأة لا يصلح لابني من النساء غيرها.
فزوجه إياها وابتنى بها.
فلما ابتنى عبد الله بآمنة مرضن نساء قريش، وماتت مائتا امرأة من قريش
بغيرتها أسفا وجزعا، إذ لم يتزوج بهن عبد الله بن عبد المطلب. فأعطى الله عز وجل
آمنة من النور والعفاف والبهاء والجمال والكمال ما أنها كانت تدعى سيدة قومها.
قال: وبقي عبد الله على ذلك عدة سنين ونور رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يخرج منه إلى
بطن آمنة حتى أذن الله عز وجل في ذلك.
* * *
فصل
في ذكر تنقل رسول الله (صلى الله عليه وآله) من لدن فطامه إلى وقت مبعثه
قيل: إنه لما شب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وترعرع وسعى ردته حليمة السعدية إلى أمه
آمنة بنت وهب فافتصلته وقدمت به على أخواله من بني عدي بن النجار بالمدينة،
ثم رجعت به حتى إذا كانت بالأبواء هلكت بها، فيتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان عمره
يومئذ ست سنين، فروي أن أم أيمن رجعت به إلى مكة وكانت تحضنه، وورث
رسول الله (عليه السلام) من أمه أم أيمن وخمسة أجمال أوداك (1) وقطعة غنم، فلما تزوج



(1) أوداك: دجاجة وديكة أي سمينة (لسان العرب 10 / 509).
79
خديجة أعتق أم أيمن.
وروي أن آمنة لما قدمت برسول الله (صلى الله عليه وآله) المدينة نزلت به في دار النابغة،
لرجل من بني عدي بن النجار، فأقامت بها شهرا، فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يذكر
أمورا كانت في مقامه ذلك، فقال (عليه السلام): نظرت إلى رجل من اليهود يختلف وينظر
إلي ثم ينصرف عني، فلقيني يوما خاليا فقال لي: يا غلام ما اسمك؟ قلت: أحمد.
فنظر إلى ظهري فأسمعه يقول: هذا نبي هذه الأمة، ثم راح إلى أخوالي فخبرهم
الخبر، فأخبروا أمي، فخافت علي وخرجنا من المدينة (1).
وكانت أم أيمن تحدث وتقول: أتاني رجلان من اليهود يوما نصف النهار
بالمدينة فقالا: أخرجي لنا أحمد، فأخرجته فنظرا إليه وقلباه مليا ونظرا إلى سرته،
ثم قال أحدهما لصاحبه: هذا نبي هذه الأمة، وهذه دار هجرته، وسيكون بهذه
البلدة من القتل والسبي أمر عظيم (2).
فلما ماتت آمنة ضم عبد المطلب رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى نفسه، وكان يرق عليه
ويحبه ويقربه اليه ويدنيه.
وقال الواقدي: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوما يلعب معه الغلمان حتى بلغ الردم
فرآه قوم من بني مدلج، فدعوه فنظروا إلى قدميه والى أثره ثم خرجوا في أثره،
فصادفوا عبد المطلب قد اعتنقه، فقالوا له: ما هذا منك؟ قال: ابني. قالوا: احتفظ به
فإنا لم نر قط قدما أشبه بالقدم التي في المقام منه. فقال عبد المطلب لأبي طالب:
اسمع ما يقول هؤلاء، فكان أبو طالب يحتفظ به (3).
وقال كندير بن سعيد، عن أبيه قال: حججت في الجاهلية فإذا أنا برجل
يطوف بالبيت وهو يرتجز ويقول:
يا رب رد راكبي محمدا * رد إلي واصطنع عندي يدا
فقال: فقلت: من هذا؟



(1) لم نعثر عليه في مظانه.
(2) البداية والنهاية: ج 2 ص 279.
(3) البداية والنهاية: ج 2 ص 282 نقلا عن ابن إسحاق.
80
قيل: هو عبد المطلب بن هاشم ذهبت إبل له فأرسل ابن ابنه في طلبها،
ولم يرسله في حاجة قط إلا جاء بها، وقد احتبس عليه.
قال: فما برحت أن جاء النبي (صلى الله عليه وآله) وجاء بالإبل.
فقال له: يا بني لقد حزنت عليك حزنا لا يفارقني أبدا (1).
وتوفي عبد المطلب وللنبي (صلى الله عليه وآله) ثمان سنين، وكان خلف جنازة عبد المطلب
يبكي حتى دفن بالحجون، وكان يومئذ للنبي (عليه السلام) ثمان سنين وشهران وعشرة
أيام، فكفله أبو طالب عمه، وكان أخا عبد الله لامه وأبيه.
وقيل: إنه لما كبر واستوى (عليه السلام) عاداه أبو جهل وجمع صبيان بني مخزوم
وقال: أنا أميركم، وانعقد صبيان بني هاشم وبني عبد المطلب على النبي (عليه السلام) وقالوا
له: أنت الأمير.
قالت فاطمة بنت أسد رضي الله عنها: وكان في صحن داري نخلة قد يبست
وخاست ولها زمان يابسة، فأتى النبي (صلى الله عليه وآله) يوما إلى النخلة فمسها بكفه فصارت
من وقتها وساعتها خضراء، وحملت، فكنت في كل يوم أجمع له الرطب في
دوخلة (2)، فإذا كان وقت ضاحي النهار يدخل فيقول: يا أماه أعطيني ديوان
العسكر. وكان يأخذ الدوخلة ثم يخرج يقسم الرطب على صبيان بني هاشم.
فلما كان بعض الأيام دخل وقال: يا أماه أعطيني ديوان العسكر. فقلت: يا
ولدي اعلم أن النخلة، ما أعطتنا اليوم شيئا. قالت: فوحق نور وجهه لقد رأيته وقد
تقدم نحو النخلة وتكلم بكلمات، وإذا بالنخلة قد انحنت حتى صار رأسها عنده،
فأخذ من الرطب ما أراد ثم عادت النخلة إلى ما كانت، فمن ذلك اليوم قلت: اللهم
رب السماء والأرض ارزقني ولدا ذكرا يكون أخا لمحمد، فصار لي علي، فما كان
يقرب صنما ولا يسجد لوثن، كل ذلك ببركة محمد (صلى الله عليه وآله) (3) وكان من وقاية



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 34 نقلا بالمعنى.
(2) الدوخلة: بتشديد اللام: سقيفة من خوص كالزبيل والقوصرة يترك فيها التمر وغيره، والواو
زائدة. النهاية لابن الأثير: ج 2 ص 138 مادة " دوخل ".
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 37 - 38.
81
أبي طالب للنبي 9 أنه عزم على الخروج في ركب من قريش إلى الشام تاجرا
سنة ثمان من مولده (عليه السلام)، وفي رواية أنه كان عمره اثني عشرة سنة وشهرين
وعشرة أيام أخذ النبي (صلى الله عليه وآله) بزمام ناقة أبي طالب وقال له: يا عم على من تخلفني
ولا أب لي ولا أم لي؟ وكان قد قيل له: ما تفعل به في هذا الحر وهو غلام صغير؟
فقال: والله لأخرجن به ولا أفارقه أبدا (1).
وفي رواية الطبري: ضب به رسول الله، أي لزمه، فرق له أبو طالب فأمر
فحشيت له حشية وكانوا ركبانا كثيرا، فكان يقول: والله البعير الذي كان عليه
محمد أمامي لا يفارقني ويسبق الركب كلهم، وكانت سحابة بيضاء مثل الثلج تظله،
وربما مطرت علينا أنواع الفواكه، وكان يكثر الماء ويخضر الأرض، وكان وقفت
جمال قوم فمشى إليها ومسح عليها فسارت، فلما قربنا من بصرى إذا نحن
بصومعة تمشي كما تمشي الدابة السريعة حتى إذا قربت منا وقفت، فإذا فيها
راهب، فلما نظر إلى النبي (صلى الله عليه وآله) قال: إن كان أحد فأنت أنت.
قال: فنزلنا تحت شجرة عظيمة قليلة الأغصان ليس لها حمل، فاهتزت
الشجرة وألقت أغصانها عليه وحملت ثلاثة أنواع: فاكهتان للصيف وفاكهة للشتاء،
فجاء بحيرا بطعام يكفي النبي (عليه السلام) وقال: من يتولى أمر هذا الغلام؟ فقلت: أنا.
فقال: أي شئ تكون منه؟
قلت: أنا عمه.
فقال: له أعمام كثيرة فأيهم أنت؟
قلت: أنا أخو أبيه من أم واحدة.
قال: أشهد أنه هو وإلا فلست بحيرا، فأذن في تقريب الطعام.
فقلت: رجل أحب أن يكرمك فكل.
فقال: هل هو لي دون أصحابي؟
قال: فهو لك خاصة.



(1) بحار الأنوار: ج 15 ص 408.
82
فقال: إني لا آكل دون هؤلاء.
فقال: إنه لم يكن عندي أكثر من هذا.
قال: أفتأذن أن يأكلوا معي قال: بلى.
قال: كلوا بسم الله. فأكل وأكلنا معه، فوالله لقد كنا مائة وسبعين رجلا فأكل كل
واحد منا حتى شبع وتجشأ، وبحيرا على رأسه يذب عنه (عليه السلام) ويتعجب من كثرة
الرجال وقلة الطعام، وفي كل ساعة يقبل يافوخه ويقول: هو هو ورب المسيح.
فقالوا له: إن لك لشأنا.
فقال: وإني لأرى ما لا ترون، وأعلم ما لا تعلمون، وأن تحت هذه الشجرة
لغلاما لو أنتم تعلمون منه ما أعلم لحملتموه على أعناقكم حتى تردوه إلى وطنه،
ولقد رأيت له وقد أقبل نورا أمامه ما بين السماء والأرض، ولقد رأيت رجالا في
أيديهم مراوح الياقوت والزبرجد يروحونه، وآخرين ينثرون عليه أنواع الفواكه،
ثم هذه السحابة لا تفارقه، ثم صومعتي مشت اليه كما تمشي الدابة على رجلها، ثم
هذه الشجرة لم تزل يابسة قليلة الأغصان وقد كثرت أغصانها واهتزت وحملت
ثلاثة أنواع من الفاكهة، ثم هذه الحياض قد فاضت بعد ما غارت في أيام
الحواريين.
ثم قال: يا غلام أسألك باللات والعزى عن ثلاث.
فقال: والله ما أبغضت شيئا كبغضي إياها.
فسأله بالله من حاله ونومه وهيبته، ثم نظر إلى خاتم النبوة فجعل يقبل
رجليه (1).
وفي رواية: أنه قال لأبي طالب: ما هو منك؟ قال: ابني.
قال: ما هو بابنك، ولا ينبغي أن يكون أبوه حيا.
فقال: إنه ابن أخي مات أبوه وهو صغير.



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 38 - 39.
83
فقال: صدقت الآن فارجع به إلى بلده واحذر عليه اليهود، والله لئن عرفوا منه
ما عرفت ليقتلنه، وان لابن أخيك لشأنا عظيما.
فقال: إن كان الأمر كما وصفت فهو في حصن الله.
وفي ذلك يقول أبو طالب وقد أوردها محمد بن إسحاق:
إن ابن آمنة النبي محمد * عندي بمثل منازل الأولاد
لما تعلق بالزمام رحمته * والعيس قد قلصن بالأزواد
فارفض من عيني دمع ذارف * مثل الجمان مفرد الأفراد
راعيت فيه قرابة موصولة * وحفظت فيه وصية الأجداد
وأمرته بالسير بين عمومة * بيض الوجوه مصالت الأنجاد
حتى إذا ما القوم بصرى عاينوا * لاقوا على شرف من المرصاد
خبرا فأخبرهم حديثا صادقا * عنه ورد معاشر الحساد (1)
حدث الشيخ الجليل أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين رحمه الله، قال:
حدثنا علي بن أحمد: قال: حدثنا أحمد بن يحيى، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل،
عن عبد الله بن أحمد... (2)، قال: حدثني أبي، عن ابن شبرة، عن عبد الحميد بن
سهل، عن صفية بنت شيبة، عن آمنة بنت أبي سعيد السهمي.
قالت: امتنع أبو طالب من إتيان اللات والعزى بعد رجوعه من الشام في المرة
الأولى، حتى وقع بينه وبين قريش كلام كثير، فقال لهم أبو طالب: إني لا يمكنني
أن أفارق هذا الغلام ولا مخالفته، وأنه يأبى أن يصير إليهما ولا يسمع بذكرهما،
ويكره أن آتيهما أنا.
قالوا: فلا تدعه وأدبه حتى يفعل ويعتاد عبادتهما.
فقال أبو طالب: هيهات ما أظنكم تجدونه ولا ترونه يفعل هذا أبدا.
قالوا: ولم ذاك؟



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 39 - 40. وفيه حبرا.
(2) هنا كلمة مطموسة.
84
قال: لأني سمعت بالشام جميع الرهبان يقولون: هلاك الأصنام على يدي
هذا الغلام.
قالوا: فهل رأيت يا أبا طالب منه شيئا غير هذا الذي تحكيه عن الرهبان فإنه
غير كائن أبدا أو نهلك جمعيا.
قال: نعم نزلنا تحت شجرة يابسة فاخضرت وأثمرت، فلما ارتحلنا وسرنا
اهتزت ونثرت على رأسه جميع ثمرها، ونطقت فما رأيت شجرة قط تنطق قبلها،
وهي تقول: يا أطيب الناس فرعا وأزكاهم عودا، امسح بيديك المباركتين علي
لأبقى خضراء إلى يوم القيامة.
قال: فمسح يده عليها فازدادت الضعف نورا وخضرة.
قال: فلما رجعنا للانصراف ومررنا عليها ونزلنا تحتها فإذا كل طير على ظهر
الأرض له فيها عش وفرخ، ولها بعدد كل صنف من الطير أغصان كأعظم الأشجار
على ظهور الأرضين.
قال: فما بقي طير إلا استقبله يمد بجناحه على رأسه.
قال: فسمعت صوتا من فوقها وهو يقول: ببركتك يا سيد النبيين والمرسلين
قد صارت هذه الشجرة لنا مأوى. فهذا ما رأيت.
فضحكت قريش في وجهه وهم يقولون: أترى يطمع أبو طالب أن يكون ابن
أخيه ملك هذا الزمان (1).
وبهذا الإسناد عن عبد الله بن محمد، قال: حدثنا أبي، عن الضحاك بن عثمان،
عن يحيى بن عروة، عن أبيه، عن حكيم بن حزام، قال: سمعت أبي يحكي عن أبي
طالب قال: لما انصرفت من الشام وكان بيننا وبين مكة منزل رأيت سحابة بيضاء
جاءت حتى وقفت على رأس رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهي تنثر عليه أشياء والله ما أدري
ما كانت، لأنه كان كلما وقع عليه غاب ولا ندري أين ذهب، فلم نزل معه لا نفارقه



(1) بحار الأنوار: ج 15 ص 357 - 358 باب 4 ح 14 نقلا عن كتاب العدد للشيخ الصدوق
(مخطوط).
85
حتى نزلنا مكة، ولقد رأيت طائرين قد ألفاه لا يفارقانه، فلما كان عند رجوعنا
ونزلنا سمعتهما يقولان: انزل في حفظ الله وكنفه، والله لقد همت بك اليهود ليغتالوك
فلو فعلوا لمسحت أعينهم، ثم غابا (1).
وروي عن ابن عباس، عن أبيه، عن أبي طالب أن بحيرا الراهب قال
للنبي (عليه السلام): يا من بهاء نور الدنيا من نوره، يا من بذكره تعمر المساجد، كأني بك
وقد قدت الأجناد والخيل وقد تبعك العرب والعجم طوعا وكرها، وكأن اللات
والعزى قد كسرتهما، وقد صار البيت العتيق لا يملكه غيرك تضع مفاتيحه حيث
تريد، كم من بطل من قريش والعرب تصرعه، وأنت مفتاح الجنان، ومعك الذبح
الأكبر وهلاك الأصنام، أنت الذي لا تقوم الساعة حتى تدخل الملوك كلها في
دينك صاغرة قميئة (2). فلم يزل يقبل رجليه مرة ويديه مرة ويقول: إن أدركت
زمانك لأضربن بين يديك بالسيف ضرب الزند بالزند، أنت سيد ولد آدم، وسيد
المرسلين، وإمام المتقين، وخاتم النبيين، والله لقد بكت البيع والأصنام والشياطين
فهي باكية إلى يوم القيامة. أنت دعوة إبراهيم، وبشرى عيسى، أنت المقدس المطهر
من أنجاس الجاهلية.
وقال لأبي طالب: أرى لك أن ترده إلى بلده عن هذا الوجه، فإنه ما بقي على
وجه الأرض يهودي ولا نصراني ولا صاحب كتاب إلا وقد علم بولادة هذا
الغلام، ولئن عرفوا منه ما عرفت أنا منه لابتغوه شرا، أكثر ذلك هؤلاء اليهود.
فقال أبو طالب: ولم ذاك؟
قال: لأنه كائن لابن أخيك - هذا - النبوة والرسالة، ويأتيه الناموس الأكبر
الذي كان يأتي موسى بن عمران وعيسى بن مريم.
قال أبو طالب: كلا لم يكن الله ليضيعه.
قال: ثم خرجنا إلى الشام (3).



(1) كتاب العدد (مخطوط).
(2) قميئة: أي ذليلة.
(3) كمال الدين وتمام النعمة: ج 1 ص 185 - 186 ذيل ح 33.
86
وحدث خالد بن أسيد بن أبي العاص وطليق بن أبي سفيان بن أمية أنهما كانا
مع النبي (عليه السلام)، قالا: لما قربنا من الشام رأينا والله قصور الشامات كلها قد اهتزت
وعلا منها نور أعظم من نور الشمس، فلما توسطنا الشام ما قدرنا أن نجوز السوق
من ازدحام الناس ينظرون إلى النبي (عليه السلام)، فجاء حبر عظيم اسمه نسطورا، فجلس
بحذائه ينظر اليه. فقال لأبي طالب: ما اسمه؟
قال: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب.
فتغير لونه. ثم قال له: اكشف ظهره. فلما كشفه رأى الخاتم فانكب عليه يقبله
ويبكي، وقال: أسرع برده إلى موضعه، فما أكثر عدوه في أرضنا. فلم يزل يتعاهدنا
في كل يوم وأتاه بقميص فلم يقبله، فأخذه أبو طالب مخافة أن يغتم الرجل (1).
وقال أبو طالب: فعجلت به حتى رددته إلى مكة، فوالله ما بقي بمكة يومئذ
امرأة ولا كهل ولا شاب ولا صغير ولا كبير إلا استقبلوه شوقا إليه ما خلا أبا
جهل بن هشام لعنه الله فإنه كان فاتكا ماجنا قد ثمل من السكر (2).
وقيل: إن نساء قريش كن يجتمعن في عيد لهم في المسجد فإذا هن بيهودي
يقول: يوشك أن يبعث فيكن نبي فأيكن استطاعت أن يكون له أرض يطأها
فلتفعل فحصبنه، وقر ذلك القول في قلب خديجة (3).
وكان النبي (عليه السلام) قد استأجرته خديجة على أن تعطيه بكرين، فلما مر في سفره
نزل تحت شجرة لم ينزل تحتها إلا نبي، فرآه راهب يقال له نسطورا فاستقبله وقبل
يديه ورجليه، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ثم قال لميسرة:
طاوعه في أوامره ونواهيه فإنه نبي، والله ما جلس في هذا المجلس بعد عيسى
أحد غيره، ولقد بشر به عيسى (عليه السلام) * (ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه
أحمد) * (4) وهو يملك الأرض بأسرها.
فقال ميسرة: يا محمد لقد اجتبنا في ليلة عقبات كنا نجوزها بأيام كثيرة،



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 40.
(2) كمال الدين وتمام النعمة: ج 1 ص 186.
(3) كمال الدين وتمام النعمة: ج 1 ص 186.
(4) الصف: 6.
87
وربحنا في هذه السفرة ما لم نربح في أربعين سنة ببركتك يا محمد.
فاستقبل خديجة وبشرها بربحنا، وكانت حينئذ جالسة على منظرة لها وهو
يوم صائف تنتظر ميسرة، إذ طلع رجل من عقبة المدينة والسماء ليس فيها سحاب
إلا قطعة قدر ما تظل ذلك الرجل، فلما رأته قد طلع من العقبة رأت على رأسه
سحابة وعلى يمينه ملكا مصلتا سيفه، وفي السحابة قنديل معلق من زبرجدة
خضراء وحوله قبة من ياقوتة حمراء، فقالت: إن كان ما يقول اليهودي حقا فما
ذلك الرجل إلا هو، وقالت: اللهم إلي والى داري، فلما أتى كان محمدا (صلى الله عليه وآله)
وبشرها بالأرباح.
فقالت: وأين ميسرة؟
قال: يقفو على أثري.
قالت: فارجع إليه وكن معينه. ومقصودها لتتيقن حال السحابة، فرجعت
السحابة معه، فأقبل ميسرة إلى خديجة وأخبرها بحاله وقال لها: إني كنت آكل معه
حتى يشبع ويبقى الطعام كما هو، وكنت أرى وقت الهاجرة ملكين يظلانه.
فدعت خديجة بطبق عليه رطب ودعت رجالا ودعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأكلوا
وشبعوا ولم ينقص شيئا. فأعتقت ميسرة وأولاده وأعطته عشرة ألف درهم لتلك
البشارة ورتبت الخطبة من عمرو بن أسد عمها (1).
قال النسوي في تأريخه: أنكحه إياها أبوها خويلد بن أسد، وكان عمره (صلى الله عليه وآله)
يومئذ خمسا وعشرين سنة وشهرين وعشرة أيام، فحضر أبو طالب ومعه بنو
هاشم ورؤساء مضر، فخطب أبو طالب وقال: الحمد لله الذي جعلنا من ذرية
إبراهيم، وزرع إسماعيل، وضئضئ (2) معد، وعنصر مضر، وجعلنا سدنة بيته،
وسواس حرمه، وجعل لنا بيتا محجوجا، وحرما آمنا، وجعلنا الحكام على



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 40 - 41.
(2) الضئضئي - كجرجر وضئضئ كجيرجير وضؤضؤ كهدهد: الأصل والمعدن أو كثرة
النسل وبركته.
88
الناس، ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوزن به رجل إلا رجح وإن كان
في المال قل، فإن المال ظل زائل وأمر حائل، ومحمد من قد عرفتم قرابته،
وقد خطب خديجة بنت خويلد وبذل لها من الصداق ما عاجله وآجله من مالي،
وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم، وخطب جليل (1).
فلما تزوجها بقيت عنده قبل الوحي خمس عشرة سنة، فأولدها ستة: القاسم
وبه كان يكنى (صلى الله عليه وآله)، والطاهر ويقال اسمه عبد الله، وفاطمة وهي خير ولده، وزينب
ورقية وأم كلثوم.
وروي أنه قال بعض قريش: يا عجبا ليمهر النساء الرجال. فغضب أبو طالب
وقال: إذا كان الرجال مثل ابن أخي هذا طلبوا بأغلى الأثمان، وإذا كانوا أمثالكم
لم يزوجوا إلا بالمهر الغال. فقال رجل من قريش يقال له عبد الله بن غنم:
هنيئا مريئا يا خديجة قد جرت * لك الطير فيما كان منك بأسعد
تزوجته خير البرية كلها * ومن ذا الذي في الناس مثل محمد
وبشر به المرءان: عيسى بن مريم * وموسى بن عمران في أقرب موعد
أقرت به الكتاب قدما بأنه * رسول من البطحاء هاد ومهتدي (2)
حدث قيس بن سعد الدئلي (3)، عن عبد الله بن بحير، عن بكر بن عبد الله
الأشجعي، عن آبائه قالوا: خرج سنة خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الشام عبد مناة بن
كنانة ونوفل بن معاوية بن عروة تجارا إلى الشام، فلقيهما أبو المويهب الراهب
فقال لهما: من أنتما؟
قالا: نحن تجار من أهل الحرم من قريش.
فقال لهما: من أي قريش؟ فأخبراه.
فقال لهما: هل قدم معكما من قريش غيركما؟
قالا: نعم شاب من بني هاشم اسمه محمد.



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 42 مع اختلاف يسير.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 42.
(3) في نسخة كمال الدين: الديلمي.
89
فقال أبو المويهب: إياه والله أردت.
فقالا: والله ما في قريش خمل ذكرا منه، إنما يسمونه يتيم قريش وهو أجير
لامرأة منا يقال لها خديجة، فما حاجتك إليه؟
فأخذ يحرك رأسه ويقول: هو هو. فقال لهما: تدلاني عليه؟
فقالا: تركناه في سوق بصرى.
فبينما هم في الكلام إذ طلع عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: هو هذا، فخلا به
ساعة يناجيه ويكلمه، ثم أخذ يقبل بين عينيه، وأخرج شيئا من كمه لا ندري ما هو
ورسول الله (صلى الله عليه وآله) يأبى أن يقبله.
فلما فارقه قال لنا: تسمعان مني، هذا والله نبي هذا الزمان، سيخرج عن قريب
يدعو الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فإذا رأيتم ذلك فاتبعوه.
ثم قال: هل له ولد لعمه أبي طالب ولد يقال له علي؟ فقلنا: لا.
فقال: أما أن يكون قد ولد أو يولد في سنته هو أول من يؤمن به، نعرفه وإنا
لنجد صفته عندنا بالوصية كما نجد صفة محمد بالنبوة، وأنه سيد العرب وربانيها
وذو قرنيها، يعطي السيف حقه، اسمه في الملأ الأعلى علي، هو أعلى الأنبياء
يوم القيامة بعد الأنبياء ذكرا، وتسميه " الملائكة البطل الأزهر المفلح " لا يتوجه
إلى وجه إلا أفلح وظفر، والله لهو أعرف من بين أصحابه في السماوات من
الشمس الطالعة (1).
عن عبد الله بن محمد، قال: حدثني أبي، عن أحمد بن عبد الله الزرقي، عن
نساف، عن إبراهيم بن عمرو الأسدي قال: سمعنا ابن عباس يحدث عن أبيه
العباس بن عبد المطلب وهو يحكي عن أبي طالب قال: قال أبو طالب: يا عباس
ألا أخبرك عن محمد (صلى الله عليه وآله) بما رأيت منه. قلت: بلى.
قال: إني ضممته إلي فلم أفارقه في ليل ولا نهار، وكنت أنومه في فراشي



(1) كمال الدين وتمام النعمة: ج 1 ص 190 ح 37.
90
وآمره أن يخلع ثيابه وينام معي، فرأيت في وجهه الكراهة، وكره أن يخالفني،
فقال: يا عماه اصرف وجهك عني حتى أخلع ثيابي وأدخل فراشي.
قلت له: ولم ذلك؟
قال: لا ينبغي لأحد من الناس أن ينظر إلى جسدي.
قال: فعجبت من ذلك وصرفت بصري عنه حتى دخل فراشه، فلما دخلت أنا
الفراش إذا بيني وبينه ثوب ألين ثوب ما مسسته قط ثم شممته، فإذا كأنه قد غمس
في المسك، فكنت إذا أصبحت افتقدت الثوب فلم أجده، فكان هذا دأبي ودأبه،
فجهدت وتعمدت أن انظر إلى جسده فوالله ما رأيت له جسدا، ولقد كنت كثيرا ما
أسمع إذا ذهب من الليل شئ كلاما يعجبني، وكنت ربما أتيته غفلة فأرى من لدن
رأسه نورا ممدودا قد بلغ السماء، فهذا ما رأيت يا عباس (1).
وبهذا الإسناد، عن عبد الله بن محمد، قال: حدثني أبي، عن سعيد بن منصور
التميمي، عن ليث بن أبي نعيم، قال: حدثني أبي، عن جدي بلغ به أبا طالب، قال:
كنا لا نسمي على الطعام ولا على الشراب ولا ندري ما هو حتى ضممت
محمدا (صلى الله عليه وآله) إلي فأول ما سمعته يقول: " بسم الله الأحد " ثم يأكل، فإذا فرغ من
طعامه قال " الحمد لله كثيرا " فتعجبنا منه.
وكان يقول: ما رأيت جسد محمد قط، وكان لا يفارقني الليل والنهار، وكان
لا ينام معي في فراشي فأفقده من فراشه، فإذا قمت لأطلبه بادرني من فراشه
فيقول: ها أنا يا عم ارجع إلى مكانك.
ولقد رأيت ذئبا يوما قد جاءه وشمه وبصبص حوله ثم ربض بين يديه، ثم
انصرف عنه.
ولقد دخل ليلا البيت فأضاء ما حوله، ولم أر منه كذبة قط، ولا رأيته يضحك
في غير موضع الضحك، ولا وقف مع صبيان في لعب، ولا التفت إليهم، وكان



(1) بحار الأنوار: ج 15 ص 360 ذيل ح 16 بحذف الإسناد نقلا عن كتاب العدد للشيخ
الصدوق (مخطوط).
91
الوحدة أحب إليه والتواضع، ولقد كنت أرى أحيانا رجلا أحسن الناس وجها
يجئ حتى يمسح على رأسه ويدعو له ثم يغيب.
ولقد رأيت رؤيا في أمره ما رأيتها قط، رأيته وكأن الدنيا قد سيقت إليه
وجميع الناس يذكرونه، ورأيته وقد رفع فوق الناس كلهم وهو يدخل في السماء.
ولقد غاب عني يوما فذهبت في طلبه فإذا أنا به يجئ ومعه رجل لم أر مثله
قط، فقلت له: يا بني أليس قد نهيتك أن لا تفارقني؟
فقال الرجل: إذا فارقك كنت أنا معه أحفظه. فلم أر منه في كل يوم إلا ما أحب
حتى شب وخرج يدعو إلى الدين (1).
* * *
$ رسول الله (صلى الله عليه وآله) / مبعثه
فصل
في ذكر مبعثه (صلى الله عليه وآله)
روي عن ابن عباس وأنس بن مالك أنهما قالا: أوحى الله عز وجل إليه يوم
الاثنين السابع والعشرين من رجب، وله أربعون سنة (2).
ابن مسعود: أحد وأربعون سنة (3).
وقيل: بعث في شهر رمضان لقوله تعالى: * (شهر رمضان الذي انزل فيه
القرآن) * (4).
أي ابتدأ إنزاله للسابع عشر أو الثامن عشر (5).
وروي أن جبرئيل (عليه السلام) أخرج له قطعة ديباج فيها خط فقال: اقرأ. قلت:



(1) بحار الأنوار: ج 15 ص 360 - 361 ذيل ح 16 بحذف الإسناد نقلا عن كتاب العدد
للصدوق (مخطوط).
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 173.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 173.
(4) البقرة: 185.
(5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 173.
92
وكيف أقرأ ولست بقارئ؟ إلى ثلاث مرات، فقال في المرة الرابعة: * (اقرأ باسم
ربك الذي خلق) * إلى قوله: * (ما لم يعلم) *. ثم نزل جبرئيل وميكائيل (عليهما السلام) ومع
كل واحد منهما سبعون ألف ملك، واتي بالكراسي ووضع تاج على رأس
محمد (صلى الله عليه وآله)، وأعطي لواء الحمد بيده، فقالا له: اصعد على الكرسي واحمد الله.
فلما نزل من الكرسي توجه إلى خديجة، وكان كل شئ يراه يسجد له ويقول
بلسان فصيح: السلام عليك يا نبي الله، فلما دخل الدار صارت الدار منورة. فقالت
خديجة: ما هذا النور؟
قال: هذا نور النبوة، قولي: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
فقالت: طالما قد عرفت ذلك، ثم أسلمت.
فقال: يا خديجة إني لأجد بردا، فدثرت عليه فنام، فنودي: * (يا أيها
المدثر) * الآية، فقام وجعل إصبعه في اذنه وقال: الله أكبر الله أكبر، فكان كل
موجود يسمعه يوافقه (1).
وكان لبني عذرة صنم يقال له حمام، فلما بعث النبي (صلى الله عليه وآله) سمع من جوفه قائل
يقول:
يا بني هند بن حرام (2) $ $ ظهر الحق وأودى حمام $ $ رفع الشرك الاسلام
ثم نادى بعد أيام لطارق يقول: يا طارق يا طارق بعث النبي الصادق، جاء
بوحي ناطق، صدع صادع بتهامة، لناصريه السلامة، ولخاذليه الندامة، هذا الوداع
مني إلى القيامة.
ثم وقع الصنم لوجهه فتكسر.
قال زمل (3) بن ربيعة: فأتيت النبي (صلى الله عليه وآله) فأخبرته بذلك، فقال: كلام الجن
المؤمنين، فدعانا إلى الاسلام (4).



(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 196 - 197 ذيل ح 30.
(2) في نسخة المناقب: خرام.
(3) في نسخة المناقب: زيد.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 87.
93
تاريخ الطبري: إنه روى الزهري في حديث جبير بن مطعم عن أبيه قال: كنا
جلوسا قبل أن يبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) بشهر وقد نحرنا جزورا، فإذا صائح يصيح
من جوف الصنم: اسمعوا العجب، ذهب استراق الوحي، ويرمى بالشهب، لنبي
بمكة اسمه محمد، مهاجرته إلى يثرب (1).
ودخل العباس بن مرداس على وثن يقال له الضمير فكنس ما حوله ومسحه
وقبله، فإذا صائح يصيح: يا عباس بن مرداس:
قل للقبائل من سليم كلها * هلك الضمير وفاز رب المسجد
هلك الضمير وكان يعبد مرة * قبل الكتاب إلى النبي محمد
إن الذي جاء بالنبوة والهدى * بعد ابن مريم من قريش مهتدي
فخرج في ثلاثمائة راكب من قومه إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، فلما رآه النبي (صلى الله عليه وآله) تبسم
ثم قال: يا عباس بن مرداس كيف كان إسلامك؟ فقص عليه القصة.
فقال له: صدقت وسر بذلك (2).
وتكلم شيطان من جوف هبل بهذه الأبيات:
قاتل الله رهط كعب بن فهر * ما أضل العقول والأحلام (3)
جاءنا تائه يعيب علينا * رهط آبائنا الحماة الكراما (4)
فسجدوا كلهم له وتنقصوا النبي (صلى الله عليه وآله) وقالوا: هلموا غدا نسمع أيضا.
فحزن النبي (صلى الله عليه وآله) من ذلك، فأتاه جني مؤمن وقال: يا رسول الله أنا قتلت
مسعر الشيطان المتكلم في الأوثان فأحضر الجمع لأجيبهم.
فلما اجتمعوا ودخل النبي (صلى الله عليه وآله) خرت الأصنام على وجوهها فنصبوها
وقالوا: تكلمي، فقال:
أنا الذي سماني المطهرا * أنا قتلت ذا الفجور مسعرا
إذا طغى لما طغى واستكبرا * وأنكر الحق ورام المنكرا



(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 46.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 88.
(3) في نسخة الأصل: والأحلام.
(4) في نسخة الأصل: الكرام.
94
بشتمه نبينا المطهرا * قد أنزل الله عليه السورا
من بعد موسى فاتبعنا الأثرا
فقالوا: إن محمدا يخادع اللات كما خادعنا (1).
وقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): كنت أخرج مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى أسفل مكة
وأشجارها، فلا يمر بحجر ولا شجر إلا قالت: السلام عليك يا رسول الله، وأنا
اسمع (2).
وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) مارا في بطحاء مكة فرماه أبو جهل بحصاة فوقفت
الحصاة معلقة سبعة أيام ولياليها. فقالوا: من يرفعها؟ قال: يرفعها الذي رفع السماء
بغير عمد ترونها (3).
استغاثت قريش إلى معمر بن يزيد وكان أشجع الناس ومطاعا في بني كنانة،
فقال لقريش: أنا أريحكم منه فعندي عشرون ألف مدجج فلا أرى هذا الحي من
بني هاشم يقدرون على حربي، فإن سألوني الدية أعطيتهم عشر ديات، ففي مالي
سعة. وكان يتقلد بسيف طوله عشرة أشبار في عرض شبر. فأهوى إلى النبي (عليه السلام)
بسيفه وهو ساجد في الحجر، فلما قرب منه عثر بدرعه فوقع ثم قام وقد أدمى
وجهه بالحجارة وهو يعدو أشد العدو حتى بلغ البطحاء، فاجتمعوا إليه وغسلوا
الدم عن وجهه وقالوا: ماذا أصابك؟ فقال: والله المغرور من غررتموه.
قالوا: ما شأنك؟ قال: دعوني تعد إلي نفسي، ما رأيت كاليوم! قالوا: ماذا
أصابك؟ قال: لما دنوت منه وثب إلي من عند رأسه شجاعان أقرعان ينفخان
بالنيران (4).
وروى محمد بن كعب وعائشة أن أول ما بدأ به رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الوحي
الرؤيا الصادقة، وكان يرى الرؤيا فتأتيه مثل فلق الصبح، ثم حبب اليه الخلاء،
فكان يخلو بحراء في غار، فسمع نداء: يا محمد، فغشي عليه. فلما كان اليوم الثاني



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 89.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 90.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 72.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 76.
95
سمع مثله نداء: فرجع إلى خديجة، فقال: زملوني زملوني، فوالله لقد خشيت
على عقلي.
قالت: كلا والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب
المعدم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
فانطلقت خديجة حتى أتت ورقاء بن نوفل، وحكت له.
فقال ورقاء: هذا والله الناموس الذي أنزل الله على موسى وعيسى، وإني أرى
في المنام ثلاث ليال ان الله أرسل في مكة رسولا اسمه محمد، وقد قرب وقته،
ولست أرى في الناس رجلا أفضل منه.
فخرج (عليه السلام) إلى حراء فرأى كرسيا من ياقوتة حمراء مرقاة من زبرجد ومرقاة
من لؤلؤ، فلما رأى ذلك غشي عليه.
فقال ورقاء: يا خديجة إذا أتته الحالة فاكشفي عن رأسك، فإن خرج فهو
ملك، وإن بقي فهو شيطان.
فنزعت خمارها فخرج الجائي، فلما اختمرت عاد.
فسأله ورقاء عن صفة الجائي، فلما حكاه قام وقبل رأسه وقال: ذاك الناموس
الأكبر الذي نزل على موسى وعيسى.
ثم قال: أبشر إنك أنت النبي الذي بشر موسى وعيسى وإنك نبي مرسل ستؤمر
بالجهاد، ثم توجه نحوها وأنشأ يقول:
فإن يك حقا يا خديجة فاعلمي * حديثك إيانا فأحمد مرسل
وجبريل يأتيه وميكال معهما * من الله وحي يشرح الصدر منزل
يفوز به من فاز عزا لدينه * ويشقى به الغاوي الشقي المضلل
فريقان منهم فرقة في جنانه * وأخرى بأغلال الجحيم تغلل (1).
وقد كان قال خزيمة بن حكيم النهدي قبل ذلك:
ويعلو أمره حتى تراه * يشير اليه أعظم ما مشير



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 44 - 45.
96
وهذا عمه سيذب عنه * وينصره بمشحوذ بتور
ويخرجه قريش بعد هذا * إذا ما العم صار إلى القبور
وينصره بيثرب كل قوم * بنو أوس وخزرج الأثير
سيقتل من قريش كل قرم * وكبشهم سينحر كالجزور
وهو الذي قال له النبي (صلى الله عليه وآله): مرحبا بالمهاجر الأول (1).
ولبعثته (صلى الله عليه وآله) درجات:
أولها: الرؤيا الصادقة.
والثانية: ما رواه الشعبي وداود بن عامر أن الله تعالى قرن جبرئيل بنبوة
رسوله ثلاث سنين يسمع حسه ولا يرى شخصه، ويعلمه الشئ بعد الشئ
ولا ينزل عليه القرآن، فكان في هذه المدة مبشرا بالنبوة غير مبعوث إلى الأمة.
والثالثة: حديث خديجة وورقاء بن نوفل (2) فاذن له في ذكره دون إنذاره قوله
تعالى: * (واما بنعمة ربك فحدث) * (3) أي بما جاءك من النبوة.
والرابعة: حين نزل عليه القرآن بالأمر والنهي فصار به مبعوثا ولم يؤمر
بالجهر، ونزل: * (يا أيها المدثر) * (4) فأسلم علي وخديجة، ثم زيد، ثم جعفر.
والخامسة: امر بأن يعم بالإنذار بعد خصوصه، ويجهر بذلك، ونزل: * (فاصدع
بما تؤمر) * (5).
قال ابن إسحاق: وذلك بعد ثلاث سنين من مبعثه، ونزل قوله تعالى: * (وأنذر
عشيرتك الأقربين) * (6) فنادى يا صباحاه (7).



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 48.
(2) وفي نسخة المناقب: " والرابعة أمره بتحديث النعم فأذن له... " ويسرد الترتيب إلى الدرجة
السابعة.
(3) الضحى: 11.
(4) المدثر: 1.
(5) الحجر: 94.
(6) الشعراء: 214.
(7) وفي هامش الأصل: " يا صاحباه " نسخة بدل.
97
والسادسة: العبادات لم يشرع منها مدة مقامه بمكة إلا الطهارة والصلاة،
وكانت فرضا عليه وسنة لامته، ثم فرضت الصلوات الخمس بعد إسرائه، وذلك في
السنة التاسعة من نبوته (1).
وروي عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبان بن عثمان،
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): بينا أنا نائم بالأبطح، جعفر عن
يميني وعلي عن يساري وحمزة بين يدي إذا أنا بحفيف أجنحة الملائكة
وقائل يقول: إلى أيهم بعثت، فأشار إلي وقال: إلى هذا وهو سيد ولد آدم، وهذا
عمه سيد الشهداء، وهذا ابن عمه جعفر له جناحان يطير بهما في الجنة مع الملائكة
وحيث يشاء، وهذا أخوه ووزيره وخليفته في أمته علي، دعه فلتنم عيناه وتسمع
أذناه ويعي قلبه وأضربوا له مثلا: ملك بنى دارا واتخذ مأدبة وبعث داعيا. فقال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): الله: الملك، والدار: الدنيا، والمأدبة: الجنة، والداعي: أنا.
وفي رواية عبد الله بن عبدان بن محمد بن عبدان في الجزء الأول من كتاب
المعجزات عن أنس بن مالك أنه جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ليلة أسري به من مسجد
الكعبة ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم: أيهم
هو؟ فقال: أوسطهم هو خيرهم، فقال أحدهم: خذوا خيرهم. فكانت تلك، فلم
يرهم حتى جاءوا ليلة أخرى والنبي (صلى الله عليه وآله) نائمة عيناه ولا ينام قلبه - وكذلك
الأنبياء عليهم السلام تنام عيونهم ولا تنام قلوبهم - فلم يكلموه حتى احتملوه
فوضعوه عند زمزم.
وقيل: أسري به بعد النبوة بسنتين، وقالوا: بسنة وستة أشهر بعد رجوعه من
الطائف (2).
$ رسول الله (صلى الله عليه وآله) / الإسراء والمعراج
* * *



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 42 - 43.
(2) كتاب المعجزات: غير موجود.
98
فصل
في ذكر الإسراء والمعراج
روي أن النبي (صلى الله عليه وآله) أتاه جبرئيل بالبراق فحمله (عليه السلام) عليه بين يديه ثم جعل
يسير به، فإذا بلغ مكانا متطأطئا طالت يداه وقصرت رجلاه، وإذا بلغ مكانا مرتفعا
قصرت يداه وطالت رجلاه حتى يستوى، ثم عرض له رجل عن يمين الطريق
فجعل يناديه: يا محمد إلى الطريق إلى الطريق، فقال له جبرئيل (عليه السلام): امض
لا تكلمه. ثم عرض له رجل عن يسار الطريق فجعل ينادي: يا محمد إلى الطريق،
فقال له جبريل: امض لا تكلمه، ثم عرضت له امرأة حسناء جميلة.
فقال له جبرئيل: هل تدري ما الرجل الذي دعاك عن يمين الطريق؟ فقال
النبي (صلى الله عليه وآله): لا. قال: تلك اليهود دعتك إلى دينها.
ثم قال: هل تدري من الرجل الذي دعاك عن يسار الطريق؟ قال: لا. قال:
تلك النصارى دعتك إلى دينها.
ثم قال: هل تدري ما المرأة الحسناء؟ قال: لا. قال: تلك الدنيا تدعوك
إلى نفسها.
ثم انطلقا حتى أتيا البيت المقدس فإذا بنفر جلوس، فقال له جبريل حين
أبصروه: مرحبا بمحمد النبي (صلى الله عليه وآله)، وإذا في النفر الجلوس شيخ، فقال محمد:
من هذا يا جبريل؟ قال: هذا أبوك إبراهيم (عليه السلام)، ثم سأله عن آخر فقال: من هذا
يا جبريل؟ قال: هذا موسى (عليه السلام)، ثم سأله عن آخر فقال: من هذا يا جبرئيل؟ قال:
هذا عيسى (عليه السلام).
ثم أقيمت الصلاة تدافعوا حتى قدموا محمدا (صلى الله عليه وآله) فصلى بهم. ثم اتي بإناءين
فاختار محمد اللبن، فقال له جبرئيل: أصبت الفطرة.
فقام ثم جاء فقال له جبرئيل (عليه السلام): ماذا صنعت؟ قال: فرض علي خمسون
صلاة قال له موسى (عليه السلام): ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لامتك فإن أمتك لا تطيق

99
هذا. فرجع ثم جاء فقال له موسى (عليه السلام): ما صنعت؟ قال: ردها إلى خمسة وعشرين
صلاة. فقال له موسى (عليه السلام): ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لامتك لأن أمتك
لا تطيق هذا. فرجع ثم جاء، فقال له موسى (عليه السلام): ما صنعت؟ قال: ردها إلى اثنتي
عشرة. قال له موسى (عليه السلام): ارجع إلى ربك واسأله التخفيف لامتك لأن أمتك
لا تطيق هذا. فرجع ثم جاء، فقال له موسى: ما صنعت؟ قال: ردها إلى خمس.
فقال له موسى (عليه السلام): ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لامتك فإن أمتك لا تطيق هذا.
فقال: قد استحييت من ربي فما أراجعه وقد قال لي: إن لك بكل ردة رددتها
مسألة أعطيكها (1).
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: لما كان ليلة أسري
بي وأصبحت بمكة ضقت بأمري ذرعا وعرفت أن الناس مكذبي.
قال: فقعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) معتزلا حزينا، فمر به أبو جهل بن هشام لعنه الله
فجلس إليه كالمستهزئ به [فقال]: هل كان من شئ؟ قال: نعم. قال: ما هو؟ قال:
أسري بي الليلة. قال: إلى أين؟ قال إلى بيت المقدس. قال: ثم أصبحت بين
ظهرينا؟ قال: نعم. قال: فلم ير أن يكذبه مخافة أن يجحد الحديث إن دعا قومه
إليه، وقال: تحدث قومك ما حدثتني به إن دعوتهم إليك؟ قال: نعم.
قال: هيا يا معشر بني كعب بن لؤي هلموا. قال: فتنقضت المجالس فجاؤوا
حتى جلسوا إليهما. فقال: حدث قومك بما حدثتني فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إني
أسري بي الليلة. قالوا: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس قالوا: ثم أصبحت بين
ظهرينا؟ قال: نعم قال: فمن بين مصفق وبين واضع يده على رأسه متعجبا الكذب.
وقالوا: تستطيع أن تنعت لنا المسجد؟ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): فذهبت أنعت لهم،
فما زلت أنعت وأنعت حتى التبس علي بعض النعت. قال: فجئ بالمسجد وأنا
أنظر اليه حتى وضع دون دار عقيل أو دار عقال فنعته وانا أنعته. فقال القوم:
أما النعت والله قد أصاب.



(1) راجع بحار الأنوار: ج 18 ص 319 ح 34.
100
وفي رواية أبي جعفر بن بابويه: إن جبريل (عليه السلام) حمله على البراق فأتى به
بيت المقدس وعرض عليه محاريب الأنبياء وصلاتها ورده. قال: فمر بعير لقريش
وإذا لهم ماء في آنية وقد أضلوا بعيرا لهم وكانوا يطلبونه، فلما أصبح (صلى الله عليه وآله) قال
لقريش: إن الله جل جلاله قد أسرى بي إلى بيت المقدس وأراني آيات الأنبياء
ومنازلهم، وأني مررت بعير لقريش في موضع كذا كذا وقد أضلوا بعيرا لهم،
فشربت من مائهم وأهرقت باقيه.
فقال أبو جهل لعنه الله: قد أمكنتكم الفرصة منه، فاسألوه كم الأساطين فيها
والقناديل؟ فقالوا: يا محمد إن هاهنا من قد دخل بيت المقدس فصف لنا كم
أساطينه؟ وكم قناديله ومحاريبه؟ فجاء جبريل (عليه السلام) فعلق صورة بيت المقدس
تجاه وجهه، فجعل يخبرهم بما يسألونه عنه، فلما أخبرهم قالوا: حتى يجئ العير
ونسألهم عما قلت.
فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله): تصديق ذلك أن العير تطلع عليكم مع طلوع الشمس
يقدمها جمل أورق.
فلما كان من الغد أقبلوا ينظرون إلى العقبة ويقولون: هذه الشمس تطلع
الساعة، فبينما هو كذلك إذ طلعت عليهم العير حين طلع القرص يقدمها جمل
أورق، فسألوهم عما قال، فقالوا: قد كان ذلك. فلم يزدهم إلا عتوا (1).
وقد أنكر قوم حديث المعراج، وهو حق: أما من مكة إلى بيت المقدس فلقوله
تعالى: * (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد
الأقصى) * (2).
وأما إلى ما فوق السماوات فلقوله تعالى: * (لتركبن طبقا عن طبق) * (3)
وللحديث المشهور.
وأما استبعاد صعود شخص من البشر إلى ما فوق السماوات فهو غير بعيد لوجوه:



(1) أمالي الصدوق: ص 363 المجلس التاسع والستون ح 1.
(2) الانشقاق: 19.
(3) الإسراء: 1.
101
الأول: أنه كما يبعد في العادة صعود الجسم الأرضي إلى الهواء العالي فكذلك
يبعد نزول الجسم الهوائي إلى الأرض، فلو صح استبعاد صعود محمد (عليه السلام) لصح
استبعاد نزول جبريل (عليه السلام)، وذلك يوجب إنكار النبوة.
والثاني: وهو أنه لما لم يبعد انتقال إبليس في اللحظة الواحدة من المشرق إلى
المغرب وبالضد فكيف يستبعد ذلك من محمد (صلى الله عليه وآله)؟!
والثالث: وهو أنه قد صح في الهيئة أن الفرس في حال ركضه الشديد في
الوقت الذي يرفع يده إلى أن يضعها يتحرك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف (1) فرسخ،
فثبت أن الحركة السريعة إلى هذا الحد ممكنة، والله قادر على جميع الممكنات،
فكانت الشبهة زائلة، والله أعلم. هذا قول ابن الخطيب.
وقلنا: أي وقت يكون صعود الشخص البشري إلى ما فوق السماوات ممتنعا
إذا كان من قبل نفسه أو إذا كان من قبل غيره، أما إذا كان من قبل نفسه فمسلم،
وأما إذا كان من قبل غيره فممنوع، وقد قال الله عز وجل عن إدريس (عليه السلام):
* (ورفعناه مكانا عليا) * (2) وقال لعيسى (عليه السلام): * (إني متوفيك ورافعك إلي) * (3)
وما أراد إلا رفع الأجساد والأرواح، ولو أراد الأرواح وحدها لما حصل لهما
بهذا القول مدح، لأن جميع الأرواح عند خروجها من الأجساد تصعد إلى المكان
العلي، وقوله عز وجل عن محمد (صلى الله عليه وآله): * (ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو
أدنى) * (4) ما أراد بهذا إلا فوق السماوات، لأنها صفة مدح وتخصيص، ولو كان
المعنى غير ذلك لكان قد شاركه في هذا القرب كل العالم.
وإن قيل: إن جبريل (عليه السلام) هو الذي كان ينزل إلى محمد (عليه السلام) قاب قوسين
أو أدنى.
قلنا: قد أجمع المسلمون أن جبريل (عليه السلام) كان ينزل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) ويجالسه
ويحادثه، وفي كل ذلك كان اليه قاب قوسين أو أدنى.



(1) في الأصل: ألف.
(2) مريم: 57.
(3) آل عمران: 55.
(4) النجم: 8.
102
وقد روي صحة المعراج عن ابن عباس وابن مسعود وجابر وحذيفة وأنس
وعائشة وأم هاني، ولا يجوز إنكار ذلك إذا قامت الدلالة عليه (1).
وروى السدي والواقدي أن الإسراء كان قبل الهجرة بستة أشهر بمكة في
السابع عشر من شهر رمضان ليلة السبت بعد العتمة من دار أم هاني (2).
وقال الحسن وقتادة: كان من نفس المسجد (3).
وقال ابن عباس: هي ليلة الاثنين من شهر ربيع الأول بعد النبوة بسنتين.
فالأول معراج العجائب، والثاني معراج الكرامة (4).
قال ابن عباس: إن جبريل (عليه السلام) أتى النبي (صلى الله عليه وآله) وقال له: إن ربي بعثني إليك
وأمرني أن آتيه بك فقم فإن الله يكرمك كرامة لم يكرم بها أحدا قبلك ولا بعدك،
فأبشر وطب نفسا. فقام وصلى ركعتين، فإذا هو بميكائيل وإسرافيل، ومع كل
واحد منهما سبعون ألف ملك، فسلم عليهم فبشروه، فإذا معهم دابة فوق الحمار
ودون البغل خده كخد الانسان، وقوائمه كقوائم البعير، وعرفه كعرف الفرس،
وذنبه كذنب البقر، رجلاها أطول من يديها، ولها جناحان من فخذيها، خطوها مد
البصر، وإذا عليها لجام من ياقوتة حمراء، فلما أراد أن يركب امتنعت. فقال
جبريل: إنه محمد، فتواضعت حتى لصقت بالأرض، فأخذ جبريل (عليه السلام) بلجامها
وميكائيل بركابها فركب (صلى الله عليه وآله)، فإذا هبطت ارتفعت يداها، وإذا صعدت ارتفعت
رجلاها، حتى أتى بيت المقدس (5).
قال ابن عباس رضي الله عنهما في خبر: أنه هبط مع جبريل (عليه السلام) ملك لم يطأ
الأرض قط، معه مفاتيح خزائن الأرض، فقال: يا محمد إن ربك يقرؤك السلام



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 177.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 177.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 177.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 177.
(5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 177 - 178.
103
ويقول لك: هذه مفاتيح خزائن الأرض فإن شئت فكن نبيا عبدا، وإن شئت فكن
نبيا ملكا؟ فقال (صلى الله عليه وآله): بل أكون نبيا عبدا. فإذا بسلم من ذهب، قوائمه من فضة،
مركب باللؤلؤ والياقوت، يتلألأ نورا، وأسفله على صخرة بيت المقدس، ورأسه
في السماء، فقال: اصعد يا محمد.
فلما صعد السماء رأى شيخا قاعدا تحت شجرة وحوله أطفال، فقال جبريل:
هذا أبوك آدم إذا رأى من يدخل الجنة من ذريته ضحك، وإذا رأى من يدخل النار
من ذريته حزن وبكى.
ورأى ملكا باسرا وجهه وبيده لوح مكتوب بخط من النور وخط من الظلمة،
فقال: هذا ملك الموت.
ثم رأى ملكا قاعدا على كرسي فلم ير منه من البشر ما رأى من الملائكة،
فقال جبريل (عليه السلام): هذا ملك خازن النار كان طلقا بشرا، فلما اطلع على النار لم
يضحك بعد. فسأله أن يعرض عليه النار فرأى ما فيها. ثم دخل الجنة ورأى ما فيها
وسمع صوتا: آمنا برب العالمين، قال جبرئيل: هؤلاء سحرة فرعون، وسمع لبيك
اللهم لبيك، قال: هؤلاء الحجاج، وسمع التكبيرة قال: هؤلاء الغزاة، وسمع التسبيح،
قال: هؤلاء الأنبياء.
ثم بلغ إلى سدرة المنتهى فانتهى إلى الحجب، فقال جبريل: تقدم يا رسول الله
ليس لي أن أجوز هذا المكان ولو دنوت أنملة لاحترقت (1).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: رأى (صلى الله عليه وآله) ملائكة الحجب يقرؤن سورة
النور، وخزان الكرسي يقرؤن آية الكرسي، وحملة العرش يقرؤن حم المؤمن.
قال: فلما بلغت قاب قوسين أو أدنى نوديت بالقرب (2).
وفي رواية: أنه (صلى الله عليه وآله) نودي ألف مرة بالدنو، وفي كل مرة قضيت لي حاجة، ثم
قال الله عز وجل لي: سل تعط. فقلت: يا رب اتخذت إبراهيم خليلا، وكلمت



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 178 - 179.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 179.
104
موسى تكليما، وأعطيت سليمان ملكا عظيما، فماذا أعطيتني؟
فقال الله عز وجل: اتخذت إبراهيم خليلا واتخذتك حبيبا، وكلمت موسى
تكليما على بساط الطور وكلمتك على بساط النور، وأعطيت سليمان ملكا فانيا
وأعطيتك ملكا باقيا في الجنة (1).
وروي: أنا المحمود وأنت محمد، شققت اسمك من اسمي، فمن وصلك
وصلته، ومن قطعك بتلته، انزل إلى عبادي فأخبرهم بكرامتي إياك، وإني لم أبعث
نبيا إلا جعلت له وزيرا، وإنك رسولي وإن عليا وزيرك (2).
وقالوا: المعراج خمسة أحرف: فالميم: مقام الرسول عند الملك الأعلى.
والعين: عزه عند شاهد كل نجوى. والراء: رفعته عند خالق الورى. والألف:
انبساطه مع عالم السر وأخفى، والجيم: جاهه في ملكوت العلى (3).
وروي أن أبا طالب فقده في تلك الليلة فلم يزل يطلبه، ووجه إلى بني هاشم
وهو يقول: يا لها من عظيمة لم أر رسول الله (صلى الله عليه وآله). فبينما هو كذلك إذ تلقاه
رسول الله (عليه السلام) وقت الفجر وقد نزل من السماء على باب أم هاني، فقال له: انطلق
معي فادخل المسجد، فدخل بين يديه ودخل بنو هاشم، فسل أبو طالب السيف
عند الحجر ثم قال: أخرجوا ما معكم، ثم التفت إلى قريش فقال: والله لو لم أره
ما بقي منكم عين تطرف. فقالت قريش: لقد ركبت منه عظيما. وأصبح (عليه السلام)
يحدثهم حديث المعراج (4).
ومما رواه الشيخ أبو جعفر بن بابويه رحمه الله تعالى في كتابه الموسوم بمولد
النبي (صلى الله عليه وآله): إن الله تعالى أوصى نبيه (صلى الله عليه وآله) مائة وعشرين مرة، ما من مرة إلا وقد
أوصى الله تعالى فيها النبي (صلى الله عليه وآله) بولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) والأئمة أكثر مما



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 179.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 179.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 179.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 179 - 180.
105
أوصاه بالفرائض (1).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال لي ربي عز وجل: علي إمام المستضعفين، وربيع
قلوب المؤمنين، وقائد الغر المحجلين (2).
وقال: روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله) يكثر تقبيل فاطمة،
فقال لها: إنه لما عرج بي إلى السماء مر بي جبرئيل (عليه السلام) على شجرة طوبى فناولني
من ثمرها فأكلته، فحول الله تعالى ذلك ماء في ظهري، فلما أن هبطت الأرض
واقعت خديجة فحملت بفاطمة، فما قبلتها إلا وجدت رائحة شجرة طوبى منها (3).
وقال: روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لما عرج بي إلى
السماء سمعت صوتا تتبعه ريح، فسمعت السدرة وهي تقول: واشوقاه إلى علي بن
أبي طالب (عليه السلام).
قلت: يا جبريل ما هذا؟
قال: هذه سدرة المنتهى تشتاق إلى ابن عمك.
قال: وإذا أنا بجمع من الملائكة عليهم تيجان من ذهب وأكاليل من جوهر
وهم يقولون: محمد خير الأنبياء علي خير الأوصياء.
قلت: يا جبريل من هؤلاء؟
قال: هؤلاء الولاؤون الشفاعون لمن توالا (4) علي بن أبي طالب.
قال: وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله)
يقول: أعطاني الله تبارك وتعالى خمسا وأعطى عليا خمسا، أعطاني جوامع الكلم
وأعطى عليا جوامع العلم، وجعلني نبيا وجعله وصيا، وأعطاني الكوثر وأعطاه
السلسبيل، وأعطاني الوحي وأعطاه الإلهام، وأسري بي وفتح له أبواب السماوات
والحجب حتى نظر إلى ما نظرت اليه.



(1) كتاب مولد النبي للشيخ الصدوق: مفقود.
(2) بحار الأنوار: ج 18 ص 337 باب 3 ح 39 مع اختلاف يسير.
(3) بحار الأنوار: ج 18 ص 364 باب 3 ح 68.
(4) كذا، والظاهر: تولى.
106
قال: ثم بكى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقلت له: ما يبكيك فداك أبي وأمي؟ فقال:
يا ابن عباس إن أول ما كلمني به ربي أن قال: يا محمد انظر تحتك، فنظرت
إلى الحجب قد انخرقت وإلى أبواب السماء قد فتحت حتى نظرت إلى علي
وهو رافع رأسه إلى السماء فكلمني وكلمته.
فقلت: يا رسول الله حدثني بما كلمك به.
قال: قال لي ربي: يا محمد إني جعلت عليا وصيك ووزيرك وخليفتك من
بعدك، فأعلمته وأنا بين يدي ربي.
فقال لي: قد قبلت، فأمر الله عز وجل الملائكة أن تسلم عليه، ففعلت، فرد
عليهم السلام. ورأيت الملائكة يتباشرون، ثم ما مررت بصف من الملائكة إلا
وهم يهنوني ويقولون: يا محمد والذي بعثك بالحق نبيا لقد دخل السرور على
جميع الملائكة، ورأيت حملة العرش قد نكسوا رؤوسهم.
فقلت: يا جبريل لم نكسوا رؤوسهم؟
قال: يا محمد ما من ملك من الملائكة إلا وقد نظر إلى علي ما خلا حملة
العرش فإنهم استأذنوا الله في هذه الساعة أن ينظروا إلى علي (عليه السلام)، فأذن لهم، فلما
هبطت إلى الأرض جعلت أعلمه ذلك وهو يخبرني، فعلمت أني لم أطأ موطئا
إلا وقد كشف لعلي عنه حتى نظر اليه كما رأيت من أمره (1).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: قلت: يا رسول الله أوصني قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله): يا بن عباس والذي بعثني بالحق لا يقبل الله من عبد حسنة حتى يسأله
عن حب علي (عليه السلام)، وهو أعلم بذلك، فإن كان من أهل ولايته قبل عمله على
ما كان فيه، وإن لم يكن من أهل ولايته لم يسأله عن شئ حتى يأمر به إلى النار،
وأن النار لأشد غضبا على مبغضي علي منها على من زعم أن لله ولدا.
يا بن عباس لو أن الملائكة والأنبياء والمرسلين أجمعوا على بغضه لعذبهم الله
بالنار، وما كانوا ليفعلوا.



(1) بحار الأنوار: ج 18 ص 370 باب 3 ح 77.
107
قلت: يا رسول الله وكيف يبغضونه؟
قال: يا بن عباس يكون فيهم قوم يذكرون أنهم من أمتي لم يجعل الله لهم
نصيبا في الاسلام، يفضلون عليه غيره، والذي بعثني بالحق ما بعث الله نبيا أكرم
عليه مني، ولا وصيا أكرم عليه من علي.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: فلم أزل كما أمرني رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنه لأكبر
عملي.
فلما حضرت رسول الله (عليه السلام) الوفاة قلت له: فداك أبي وأمي يا رسول الله
ما تأمرني به؟
فقال (صلى الله عليه وآله): يا بن عباس خالف من خالف عليا ولا تكونن لهم ظهيرا ولا وليا.
فقلت: يا رسول الله فلم لا تأمر الناس بترك مخالفته؟
قال: فبكى حتى أغمي عليه، ثم أفاق فقال: يا بن عباس سبق فيهم علم ربي،
ولا يخرج الله أحدا من الدنيا ممن خالفه وأنكر حقه حتى يغير الله خلقته، يا بن
عباس إذا أردت أن تلقى الله عز وجل وهو عنك راض فاسلك طريقه، ومل معه
حيث مال، وارض به إماما، وعاد من عاداه، ووال من والاه، ولا يدخلنك فيه
شك، فإن اليسير من الشك فيه كفر.
وقال: روي عن علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، عن أبيه موسى (عليه السلام)، عن أبيه
جعفر بن محمد (عليه السلام)، عن أبيه محمد بن علي (عليه السلام)، عن أبيه علي بن الحسين (عليه السلام)،
عن أبيه الحسين بن علي (عليه السلام)، عن أبيه علي بن أبي طالب عليه الصلاة والسلام
قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما خلق الله عز وجل خلقا أفضل مني ولا أكرم عليه مني.
قال علي (عليه السلام) قلت: يا رسول الله أنت أفضل من جبريل؟ قال (عليه السلام): يا علي إن
الله تبارك وتعالى فضل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين، وفضلني على
جميع النبيين والمرسلين، والفضل بعدي لك يا علي وللأئمة من بعدك، وأن
الملائكة لخدامنا وخدام محبينا يا علي الذين يحملون العرش وما حوله يسبحون
بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا بولايتنا يا علي، لولا نحن ما خلق الله آدم

108
ولا حواء، ولا الجنة ولا النار، ولا السماء ولا الأرض، وكيف لا نكون أفضل
من الملائكة وقد سبقناهم إلى معرفة ربنا وتسبيحه وتهليله وتقديسه، لأن أول ما
خلق الله عز وجل خلق أرواحنا فأنطقنا بتوحيده وتمجيده، ثم خلق الملائكة فلما
شاهدوا أرواحنا نورا واحدا استعظمت أمرنا فسبحنا لتعلم الملائكة أنا خلق
مخلوقون وأنه منزه عن صفاتنا، فسبحت الملائكة تسبيحنا ونزهته عن صفاتنا،
فلما رأوا عظم شأننا هللنا لتعلم الملائكة أن لا إله إلا الله وإنا عبيد ولسنا بآلهة،
يجب أن نعبد معه أو دونه، فقالوا، لا إله إلا الله، فلما شاهدوا كنه محلنا كبرنا لتعلم
الملائكة أن الله أكبر [من] أن يناله عظم المحل إلا به، فلما شاهدوا ما جعل الله لنا
من العز والقوة قلنا: " لا حول ولا قوة إلا بالله " لتعلم الملائكة أن لا حول ولا قوة إلا
بالله، فلما شاهدوا ما أنعم الله به علينا وأوجبه لنا من فرض طاعتنا قلنا " الحمد لله "
لتعلم الملائكة ما يحق لله تعالى ذكره علينا من الحمد على نعمه، فقالت الملائكة:
الحمد لله، فبنا اهتدوا إلى معرفة توحيد الله وتسبيحه وتهليله وتمجيده وتحميده.
ثم إن الله تبارك وتعالى خلق آدم فأودعنا صلبه، وأمر الملائكة بالسجود له
تعظيما لنا وإكراما لكوننا في صلبه، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سجدوا
لآدم كلهم أجمعون.
ولما عرج بي إلى السماء أذن جبريل (عليه السلام) مثنى مثنى وأقام مثنى مثنى ثم قال
لي: تقدم يا محمد.
فقلت له: جبريل أتقدم عليك؟
فقال: نعم، لأن الله تعالى فضل أنبياءه على ملائكته أجمعين، وفضلك خاصة
فتقدمت فصليت بهم ولا فخر. فلما انتهيت إلى حجب النور قال لي جبريل: تقدم
يا محمد وتخلف عني.
فقلت: يا جبريل في مثل هذا الموضع تفارقني؟
فقال: يا محمد إن انتهاء حدي الذي وضعني الله عز وجل فيه إلى هذا المكان،
فإن تجاوزته احترقت أجنحتي لتعدي حدود ربي جل جلاله.

109
فزج بي في النور زجة حتى انتهيت إلى حيث ما شاء الله من علو ملكوته،
فنوديت: يا محمد. قلت: لبيك ربي تباركت وتعاليت. فنوديت: يا محمد أنت
عبدي وأنا ربك فإياي فاعبد وعلي فتوكل، فإنك نوري في عبادي، ورسولي إلى
خلقي، وحجتي على بريتي، لمن اتبعك خلقت جنتي، ولمن خالفك خلقت ناري،
ولأوصيائك أوجبت كرامتي، ولشيعتهم أوجبت ثوابي.
فقلت: يا رب ومن أوصيائي؟
فنوديت: يا محمد أوصياؤك المكتوبون على ساق عرشي. فنظرت وأنا بين
يدي ربي جل جلاله إلى ساق العرش فرأيت اثني عشر نورا، في كل نور سطر
أخضر عليه اسم وصي من أوصيائي، أولهم علي بن أبي طالب وآخرهم مهدي أمتي.
فقلت: يا رب أهؤلاء أوصيائي بعدي؟
فنوديت: يا محمد هؤلاء أوليائي وأصفيائي وحججي بعدك على بريتي، وهم
أوصياؤك وخلفاؤك وخير خلقي بعدك، وعزتي وجلالي لأظهرن بهم ديني، ولأعلين
بهم كلمتي، ولأطهرن الأرض بآخرهم من أعدائي، ولأملكنه مشارق الأرض
ومغاربها، ولاسخرن له الرياح، ولأذللن له السحاب الصعاب، ولأرقينه في
الأسباب ولأنصرنه بجندي، ولأمدنه بملائكتي حتى يعلن دعوتي ويجمع الخلق
على توحيدي، ثم لأديمن ملكه، ولأداولن الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة (1).
* * *
فصل
في ذكر أحواله (صلى الله عليه وآله)
من بعد الإسراء إلى حين الهجرة
$ رسول الله (صلى الله عليه وآله) / أحواله بعد الإسراء إلى حين الهجرة
ولما رأت قريش أن أمره (صلى الله عليه وآله) قد فشا في القبائل وأن عمه أبا طالب قائم



(1) علل الشرائع: ج 1 ص 5 باب 7 ح 1، عيون أخبار الرضا (ع): ج 1 ص 262 باب 26 ح 22.
110
في نصرته أجمعوا أمرهم على أن لا يبايعوا بني هاشم ولا يشاوروهم
ولا يناكحوهم، وكتبوا صحيفة بذلك، ودخل بنو هاشم شعب أبي طالب، وكانوا
أربعين رجلا مؤمنهم وكافرهم، وكان حصار الشعب وكتبة الصحيفة أربع سنين،
وقيل ثلاث سنين، وقيل سنتين.
وتوفي أبو طالب بعد نبوته بتسع سنين وثمانية أشهر، وذلك بعد خروجه من
الشعب بشهرين (1).
وزعم الواقدي أنهم خرجوا من الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين، وفي هذه
السنة توفي أبو طالب وتوفيت خديجة بعده بستة أشهر، وله ست وأربعون سنة
وثمانية أشهر وأربعة وعشرون يوما (2).
ويقال: وهو ابن سبع وأربعون سنة وستة أشهر وأيام (3).
أبو عبد الله بن مندة في كتاب المعرفة: إن وفاة خديجة بعد موت أبي طالب
بثلاثة أيام، وسمي ذلك العام عام الحزن (4).
ولبث عليه الصلاة والسلام بعدهما بمكة ثلاثة أشهر، وأمر أصحابه بالهجرة
إلى الحبشة، فخرج جماعة منهم بأهاليهم، وخرج النبي (صلى الله عليه وآله) إلى الطائف فأقام فيه
شهرا، وكان معه زيد بن الحارث، ثم انصرف إلى مكة ومكث فيها سنة وستة أشهر
في جوار مطعم بن عدي، وكان يدعو القبائل في المواسم، وكانت بيعة العقبة
الأولى بمنى فبايعه ستة نفر من الخزرج وواحد من الأوس في خفية من قومهم
ألا يشركوا بالله شيئا ولا يسرقوا.. إلى آخرها. وهم جابر بن عبد الله، وقطية (5)
بن عامر بن حزام، وعوف بن الحارث، وحارثة بن ثعلبة، ومرثد بن الأسد،



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 173.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 174.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 174.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 174 وفيه: (أبو عبد الله) مندة.
(5) في نسخة المناقب: فطنة.
111
وأبو امامة ثعلبة بن عمرو، ويقال هو أسعد بن زرارة. فلما انصرفوا إلى المدينة
وذكروا القصة وقرؤوا القرآن صدقوه.
وفي السنة القابلة وهي العقبة الثانية أنفذوا معهم ستة أخرى بالسلام والبيعة،
وهم أبو الهيثم بن التيهان، وعبادة بن الصامت، وذكوان بن عبد الله، ونافع بن
ملك بن العجلان، وعباس بن عبادة بن نصلة، ويزيد بن ثعلبة حليف لهم، ويقال
مسعود بن الحارث، وعويمر بن ساعدة حليف لهم. ثم أنفذ النبي (صلى الله عليه وآله) معهم ابن
عمه مصعب بن عمير بن هاشم، فنزل دار أسعد بن زرارة فاجتمعوا عليه وأسلم
أكثرهم إلا دار أمية بن يزيد وحطمة وحطيمة ووائل وواقف فإنهم أسلموا بعد بدر
واحد والخندق.
وفي السنة القابلة كانت بيعة الحرب (1)، كانوا من الأوس والخزرج سبعين
رجلا وامرأتين، واختار (عليه السلام) منهم اثني عشر نقيبا ليكونوا كفلاء على قومهم وعلى
أن يمنعوني ما يمنعون عنه نساءكم وأبناءكم، فبايعوه على ذلك تسعة من الخزرج
وثلاثة من الأوس. فمن الخزرج: أسعد، وجابر، والبراء بن معرور، وعبد الله بن
حزام، وسعد بن عبادة، والمنذر بن قمر، وعبد الله بن رواحة، وسعد بن الربيع.
ومن القوافل: عبادة بن الصامت. ومن الأوس: أبو الهيثم، وأسيد بن حضير، وسعيد
ابن خيثمة (2).
وقيل: أقبل رجل من أرأش بإبل له مكة فابتاعها منه أبو جهل بن هشام فمطله
بثمنها، وأقبل الأراشي حتى وقف على نادي قريش ورسول الله (صلى الله عليه وآله) جالس في
ناحية المسجد، فقال: يا معشر قريش من يعديني على أبي الحكم بن هشام فإني
غريب ابن سبيل وقد غلبني على حقي.



(1) في المناقب: الحارث، وفي هامش المناقب: وفي بعض النسخ الحرس بالسين المهملة بدل
حارث.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 174 - 175.
112
فقال له أهل المجلس: ترى ذلك الرجل - وهم يؤمون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)
لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة - اذهب إليه يعديك عليه.
فأقبل الأراشي حتى وقف على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا عبد الله إن أبا
الحكم بن هشام قد غلبني على حق لي قبله وأنا غريب ابن سبيل، وقد سألت
هؤلاء القوم عن رجل يعديني عليه ويأخذ لي حقي منه فأشاروا إليك، فخذ لي
حقي منه رحمك الله.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): اذهب بي إليه، وقام معه (صلى الله عليه وآله). فلما رأوه قام معه قالوا
لرجل ممن معهم: انطلق فانظر ماذا ترى يصنع.
فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى جاء فضرب عليه بابه، فقال: من هذا؟ فقال:
محمد اخرج إلي. فخرج إليه وما في وجهه رائحة وقد انتقع لونه، فقال له: أعط
هذا الرجل حقه.
قال: نعم، لا يبرح حتى أعطيه الذي له، فدخل وخرج اليه بحقه فدفعه إليه.
ثم انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقال للأراشي: إلحق بشأنك. فأقبل الأراشي
حتى وقف على نادي أولئك القوم فقال: جزاه الله خيرا فقد أخذ لي حقي.
وجاء الرجل الذي بعثوه معه فقالوا: ويحك ماذا رأيت؟ قال: عجبا من
العجب، والله إلا أن ضرب عليه بابه فخرج وما معه روحه، فقال له: أعط هذا
الرجل حقه. فقال: نعم لا يبرح حتى أخرج اليه حقه. فدخل فأخرج اليه حقه
فأعطاه إياه. ثم لم يلبث أن جاء أبو جهل فقالوا له: ويلك تبا لك والله ما رأينا مثل
ما صنعت. فقال: ويحكم والله إلا أن ضرب الباب وسمعت صوته فملئت رعبا ثم
خرجت إليه وإذا فوق رأسي فحل من الإبل ما رأيت مثل هامته ولا قصرته
ولا أنيابه لفحل قط، والله لو أبيت لأكلني (1).
* * *



(1) السيرة الحلبية: ج 1 ص 315.
113
فصل
في هجرته (صلى الله عليه وآله)
روي أنه لما مات عمه أبو طالب (رضي الله عنه) طالت قريش على المسلمين وكثر
عتوهم، فأمر (صلى الله عليه وآله) عند ذلك بالهجرة، فقال لأصحابه: إن الله قد جعل لكم دارا
وإخوانا تأمنون بها. فخرجوا إرسالا حتى لم يبق مع النبي (صلى الله عليه وآله) إلا علي (عليه السلام)
وأبو بكر. فحذرت قريش خروجه وعلموا أنه قد أجمع لحربهم، فاجتمعوا في دار
الندوة - وهي دار قصي بن كلاب - يتشاورون في أمره (عليه السلام)، فتمثل إبليس لعنه الله
في صورة شيخ من أهل نجد فقال: أنا ذو رأي حضرت لمؤازرتكم.
فقال عروة بن هشام: نتربص به ريب المنون.
فقال أبو البختري (1): أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه.
وقال العاص بن وائل وأمية وأبي ابنا خلف: نبني له علما (2) نستودعه فيه
ولا يخلص من الصباة [فيه] إليه أحد.
فقال عتبة وشيبة وأبو سفيان: نرحل بعيرا صعبا ونوثق محمدا عليه كتافا
وشدا ثم يصقع (3) البعير بأطراف الرماح فيوشك أن يقطعه بين الدكادك (4) إربا إربا.
$ رسول الله (صلى الله عليه وآله) / هجرته
فقال أبو جهل: أرى لكم أن تعمدوا إلى قبائلكم العشرة فينتدب من كل قبيلة
منها رجل نجد يأتونه بياتا فيذهب دمه في قبائل قريش جميعها فلا يستطيع
بنو هاشم وبنو عبد المطلب مناهضة قريش فيه، فيرضون بالعقل.



(1) وفي المناقب: ابن البختري.
(2) العلم: الجبل الطويل، وقال اللحياني: العلم الجبل فلم يخص الطويل. لسان العرب: ج 12
ص 420 مادة " علم ".
(3) الصقع: أصل الصقع: الضرب على الرأس، وقيل: الضرب ببطن الكف. النهاية لابن الأثير:
ج 3 ص 42 وفي نسخة المناقب: " نقصع " أي نجرحه بأطراف الرماح حتى يغضب.
(4) الدكداك: ما تلبد من الرمل بالأرض ولم يرتفع كثيرا، أي أن أرضهم ليست ذات حزونة،
ويجمع على دكادك. النهاية لابن الأثير: ج 2 ص 128.
114
فقال أبو مرة لعنه الله: يا أبا الحكم هذا هو الرأي فلا يعدلن به رأيا، فنزل
* (وإذ يمكر بك... الآية) * (1).
فجاء جبريل (عليه السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال له: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي
كنت تبيت عليه. فدعا النبي (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) وقال له: إن الله تعالى أوحى إلي أن
اهجر دار قومي وأن أنطلق إلى غار ثور طخا (2) ليلتي، وأنه أمرني أن آمرك
بالمبيت على فراشي وأن تلقى عليك شبهي.
فقال علي (عليه السلام): أو تسلم بمنيتي (3) هناك؟ قال: نعم. فتبسم علي ضاحكا،
وأهوى إلى الأرض ساجدا، فكان أول من سجد لله شكرا، وأول من وضع وجهه
على الأرض بعد سجدته، فلما رفع رأسه قال له: امض لما أمرت فداك سمعي
وبصري وسويداء قلبي.
قال له (عليه السلام): فارقد على فراشي واشتمل بردي الحضرمي، ثم إني أخبرك يا
علي أن الله يمتحن أولياءه على قدر إيمانهم ومنازلهم من دينه، فأشد الناس بلاء
الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، فقد امتحنك يا بن أم وامتحنني فيك بمثل ما امتحن به
خليله إبراهيم والذبيح إسماعيل، فصبرا صبرا فإن رحمة الله قريب من المحسنين،
ثم ضمه (صلى الله عليه وآله) إلى صدره.
واستتبع رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبا بكر وهند بن أبي هالة وعبد الله بن فهيرة، ودليلهم
ابن لقيط الليثي، فأمرهم بمكان ذكره لهم، ولبث هو (صلى الله عليه وآله) مع علي يوصيه، ثم خرج
في حمة العشاء والرصد من قريش قد أطافوا به ينتظرون انتصاف الليل وكان يقرأ
* (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا) * (4) وكانت بيده قبضة تراب فرمى
بها على رؤوسهم ومضى حتى انتهى إليهم، فنهضوا معه حتى وصلوا إلى الغار،



(1) الأنفال: 30.
(2) الطخاء: ثقل وغشى، وأصل الطخاء والطخية: الظلمة والغيم. النهاية لابن الأثير: ج 3 ص 116
وفي نسخة المناقب: " أطحل ليلتي " والطلحة بالضم لون بين الغبرة والسواد كلون الرماد.
(3) في المناقب: بمبيتي.
(4) يس: 8.
115
وانصرف هند وعبد الله وتخلف معه أبو بكر، والكفار يرصدون عليا وهو نائم على
الفراش وهم يظنون أنه النبي (صلى الله عليه وآله)، فجاءهم إبليس لعنه الله وقال لهم: إن محمدا
خرج ومضى وقد ألقى على رؤوسكم التراب. فضرب كل واحد منهم يده إلى
رأسه فوجد التراب عليه فهجموا على النائم فوجدوه عليا (عليه السلام)، فركبوا (1) في طلبه
الصعب والذلول فلم يجدوه.
فلما كانت العتمة من الليلة المقبلة انطلق علي (عليه السلام) وهند حتى دخلا على
النبي (صلى الله عليه وآله) في الغار، فأمر النبي (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) بأداء أمانته، حتى أدى الجميع،
فكان مقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الغار ثلاثا (2)، وقيل ستة. وكان علي يأتيه بالزاد في
كل ليلة. وكانت هجرته يوم الاثنين، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة.
وقال محمد بن إسحاق: لما خرج النبي (عليه السلام) مهاجرا تبعه سراقة بن جعشم مع
خيل له، فلما رآه النبي (صلى الله عليه وآله) دعا عليه، فكانت قوائم فرسه ساخت حتى تغيبت
فتضرع إلى النبي (صلى الله عليه وآله) حتى دعا له وصار إلى وجه الأرض، فقصد كذلك ثلاثا
والنبي (عليه السلام) يقول: [يا] أرض خذيه، فإذا تضرع يقول: دعيه، فحلف بعد الرابعة
أن لا يعود إلى ما يسوء (3).
وفي رواية: واتبعه دخان حتى استغاثه، فدعا له، فانطلقت الفرس، فعذله
أبو جهل، فقال سراقة:
أبا حكم واللات لو كنت شاهدا * لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه
عجبت ولم نشكك بأن محمدا * نبي وبرهان فمن ذا يكاتمه
عليك فكف الناس عنه فإنني * أرى أمره يوما ستبدو معالمه (4)
وذكر الطبري في أحاديث الهجرة: إن أبا بكر أحضر راحلتين ليركباهما
من الغار إلى المدينة، فلما قرب أبو بكر الراحلتين إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) قرب له



(1) وفي الأصل " فركب ".
(2) إلى هنا في المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 182 - 183.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 71.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 71.
116
أفضلهما، ثم قال له: اركب فداك أبي وأمي.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إني لا أركب بعيرا ليس لي.
قال: فهو لك يا رسول الله بأبي وأمي.
قال: لا ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به؟
قال: كذا وكذا.
قال: قد اخذتها بذلك.
قال: هي لك يا رسول الله، فركبا وانطلقا (1).
وهذا الخبر مما يدل على أنه (صلى الله عليه وآله) لم ينفق عليه أبو بكر شيئا، إذ لو كان قد
تقبل منه النفقة عليه لما رأى أنه لا يركب له راحلة على سبيل العارية أو الهبة،
ولكان ردها عليه قبيحا مستهجنا من الناقص فكيف من الكامل المسدد من قبل
الله سبحانه وتعالى.
ودخل المدينة يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول. وقيل: الحادي عشر،
وهي السنة الأولى من الهجرة، فرد التاريخ إلى المحرم، فكان نزل (عليه السلام) بقبا في دار
كلثوم بن الهدم، ثم بدار خيثمة الأوسي ثلاثة أيام ويقال: اثني عشر يوما، إلى
بلوغ علي (عليه السلام) وأهل البيت، وكان أهل المدينة يستقبلون كل يوم إلى قبا
وينصرفون، فأسس بقبا مسجدهم.
وخرج يوم الجمعة وقدم إلى المدينة، فتعلق الناس بزمام الناقة، فقال
النبي (صلى الله عليه وآله): يا قوم دعوا الناقة فهي مأمورة، فعلى باب من بركت فأنا عنده. فأطلقوا
زمامها وهي تهف في السير حتى دخلت المدينة، فبركت على باب دار أبي أيوب
الأنصاري، ولم يكن في المدينة أفقر منه، فانقطعت قلوب الناس حسرة على
مفارقة النبي (صلى الله عليه وآله). فنادى أبو أيوب: يا أماه افتحي الباب فقد قدم سيد البشر وأكرم
ربيعة ومضر محمد المصطفى والرسول المجتبى. فخرجت وفتحت الباب وكانت
عمياء، فقالت: وا حسرتاه ليت كان لي عين انظر بها إلى وجه سيدي رسول الله.



(1) تاريخ الطبري: ج 2 ص 104.
117
فكان أول معجزة النبي 6 في المدينة أنه وضع كفه على وجه أم أبو أيوب
فانفتحت عيناها (1).
وروى سلمان (رضي الله عنه) أنه لما نزل النبي (صلى الله عليه وآله) دار أبي أيوب لم يكن له سوى
جدي وصاع من شعير، فذبح الجدي وشواه وطحن الشعير وعجنه وخبزه وقدم
بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله)، فأمر أن ينادي: ألا من أراد الزاد فليأت إلى دار أبي أيوب،
فجعل أبو أيوب ينادي والناس يهرعون كالسيل حتى امتلأت الدار، فأكل الناس
بأجمعهم والطعام لم يتغير. فقال النبي (صلى الله عليه وآله): اجمعوا العظام، فجمعوها فوضعها في
إهابها ثم قال: قومي بإذن الله تعالى. فقام الجدي، فضج الناس بالشهادتين، وصلى
النبي (صلى الله عليه وآله) في المسجد الذي ببطن الوادي (2).
قال النسوي في تأريخه: إن أول صلاة صلى في المدينة صلاة العصر، ثم نزل
على أبي أيوب، فلما أتى لهجرته شهر وأيام تمت صلاة المقيم، وبعد ثمانية أشهر
آخى بين المؤمنين، وفيها شرع الأذان، فلما أتى لهجرته سنة وشهران واثنان
وعشرون يوما زوج عليا من فاطمة (عليهما السلام)، وروي أنها كانت بعد سنة من مقدمه
إليها، وفرض صيام شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة في شعبان، وحولت
القبلة وفرضت زكاة الفطر وفرض فيها صلاة العيد، وكان فرض الجمعة في أول
الهجرة بدلا من صلاة الظهر، ثم فرضت زكاة الأموال، ثم الحج والعمرة والتحليل
والتحريم والحظر والإباحة والاستحباب والكراهة، ثم فرض الجهاد (3).
وسئل الصادق (عليه السلام) متى حولت القبلة؟ قال (عليه السلام): بعد رجوعه من بدر (4).
قال أنس: وهم ركوع في الصلاة فاستدار (5).



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 133.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 131.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 175.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 175 - 176.
(5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 175 - 176.
118
والبخاري والواحدي: إن النبي (صلى الله عليه وآله) صلى عند قدومه المدينة ستة عشر شهرا
نحو بيت المقدس (1).
معاوية بن عمار، عن الصادق (عليه السلام): اعتمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثلاث عمر متفرقات،
ثم ذكر الحديبية والقضاء والجعرانة، وأقام بالمدينة عشر سنين ثم حج حجة
الوداع، ونصب علي (عليه السلام) إماما بغدير خم، ونزل * (اليوم أكملت لكم دينكم) * فلما
دخل المدينة بعث أسامة بن زيد وأمره أن يقصد حيث قتل أبوه، وجعل في جيشه
وتحت رايته أبا بكر وعمر وأبا عبيدة، وعسكر أسامة بالجرف فاشتكى النبي (عليه السلام)
شكواه التي توفي فيها، فكان يقول في مرضه: نفذوا جيش أسامة، ويكرر ذلك (2).
قال الحسن: نزل القرآن في ثمان عشرة سنة، بمكة ثمان سنين وبالمدينة
عشر سنين (3).
وقال الشعبي: نزل في عشرين سنة (4).
وقال أبو جعفر بن بابويه: نزل القرآن جملة واحدة إلى البيت المعمور، ثم نزل
منه في مدة عشرين سنة.
وقيل (5): نزل في شهر رمضان لقوله تعالى: * (شهر رمضان الذي انزل فيه
القرآن) * (6).
وسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن المربد الذي بنى فيه مسجده، والمربد مجلس الإبل،
فأخبر أنه لسهل وسهيل يتيمين لمعاذ بن عفراء، فأرضاهما معاذ، وأمر النبي (عليه السلام)
ببناء المسجد، وعمل فيه (صلى الله عليه وآله) بنفسه، فعمل فيه المهاجرون والأنصار، وأخذ
المسلمون يرتجزون ويقولون، فقال بعضهم:



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 176.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 176.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 175.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 175.
(5) انظر مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 276.
(6) البقرة: 185.
119
لأن قعدنا والنبي يعمل * لذاك منا العمل المضلل
والنبي (عليه السلام) يقول:
لا عيش إلا عيش الآخرة * اللهم ارحم الأنصار والمهاجرة
وعلي (عليه السلام) يقول:
لا يستوى من يعمر المساجد * يدأب فيها قائما وقاعدا
ومن يرى عن الغبار حائدا
ثم انتقل من بيت أبي أيوب إلى مساكنه التي بنيت له (1).
وقيل: كانت مدة مقامه بالمدينة إلى أن بنى المسجد وبيوته من شهر ربيع
الأول إلى صفر من السنة القابلة.
* * *
$ رسول الله (صلى الله عليه وآله) / معجزاته
فصل
في معجزاته (صلى الله عليه وآله)
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قدم ملوك حضرموت على
النبي (صلى الله عليه وآله) فقالوا: كيف نعلم أنك رسول الله؟ فأخذ كفا من حصى فقال: هذا يشهد
أني رسول الله، فسبح الحصى في يده وشهد أنه رسول الله (2).
جابر بن عبد الله الأنصاري وابن عباس وأبو هريرة وزين العابدين (عليه السلام):
ان النبي (صلى الله عليه وآله) كان يخطب بالمدينة إلى بعض الأجذاع، فلما كثر الناس اتخذوا له
منبرا وتحول اليه، حن الجذع كما تحن الناقة، فلما جاء إليه والتزمه وكان يأن
أنين الصبي الذي يسكت (3).



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 185 - 186.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 90.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 90.
120
وفي رواية: فاحتضنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: لو لم احتضنه لحن إلى يوم
القيامة (1).
وفي رواية: فدعاه النبي (عليه السلام) فأقبل يخد الأرض والتزمه وقال: عد إلى
مكانك، فمر كأحد أسرع الخيل (2).
وفي مسند الأنصار عن أحمد قال: قال أبي بن كعب: قال النبي (عليه السلام): اسكن إن
تشأ غرستك في الجنة فيأكل منك الصالحون، وإن تشأ أعيدك كما كنت رطبا،
فاختار الآخرة على الدنيا (3).
وفي سنن ابن ماجة: إنه لما هدم المسجد وغير أخذ أبي بن كعب الجذع
الحنانة، وكان عنده في بيته حتى بلي فأكلته الأرضة وعاد رفاتا (4).
خطيب منبح:
ومن أضحى عليه الجذع لما * تولى عنه مكتئبا حزينا
وحن إليه من كلف وشوق * فأظهر معلنا منه الحنينا (5).
تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): في قوله تعالى * (ثم قست قلوبكم) * (6).
قالت اليهود: زعمت أن الأحجار ألين من قلوبنا وأطوع منا لله فاستشهد هذه
الجبال على تصديقك فأمر (عليه السلام) فتحرك الجبل وتزلزل وفاض عنه الماء ونادى:
أشهد أنك رسول رب العالمين وسيد الخلق أجمعين. ثم أمره أن ينقطع بنصفين
وترتفع السفلى وتنخفض العليا، وتباعد (عليه السلام) إلى فضاء واسع. ثم نادى: أيها الجبل
بحق محمد وآله الطيبين في كلام له، فتزلزل الجبل وسار كالقارح الهملاج (7).



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 90.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 90.
(3) مسند أحمد بن حنبل: ج 5 ص 139، المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 90.
(4) سنن ابن ماجة: ج 1 ص 454 كتاب إقامة الصلاة باب 199، المناقب لابن شهرآشوب:
ج 1 ص 91.
(5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 91.
(6) البقرة: 74.
(7) القارح: ذو الحافر من الدواب الذي انتهى به السن. ودابة هملاج: حسنة السير في سرعة
وتبختر.
121
حتى وقف بين يديه. فقالوا: هذا رجل منحوت (1).
وفيه: إن قريشا رمت الأحجار على محمد وعلي (عليهما السلام) فرأوا كل حجر منها
يسلم عليهما فوجموا، فقال عشرة من مردتهم: ما هذه الأحجار تكلمهما ولكنهم
رجال في حفرة يحضره الأحجار قد خبأهم محمد تحت الأرض، فتحلق (2) عشرة
أحجار ورضت رؤوس المتكلمين بهذا الكلام. فجاء عشائرهم يبكون ويضجون
ويقولون: قتل أصحابنا محمد بسحره، فأنطق الله جنائزهم: صدق محمد وكذبتم،
واضطربت الجنائز وأسقطت من عليها، ونادت: ما كنا لنحمل أعداء الله. فقال أبو
جهل: إن ذلك سحر عظيم. ثم دعا الله تعالى فنشروا ثم نادى المحيون: إن لمحمد
ولعلي لشأنا عظيما في الممالك التي كنا فيها (3).
وفيه: في تفسير قوله تعالى: * (إن الذين كفروا سواء عليهم... الآية) * (4) أنه قال
مالك بن الصيف: أريد أن يشهد بساطي بنبوتك، وقال أبو لبابة بن عبد المنذر: أريد
أن يشهد سوطي بها، وقال كعب بن الأشرف: أريد أن يؤمن بك هذا الحمار.
فأنطق الله البساط فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك يا محمد عبده
ورسوله، وأشهد أن علي بن أبي طالب وصيك. فقالوا: ما هذا إلا سحر مبين.
فارتفع البساط ونكس مالكا وأصحابه.
ثم نطق سوط أبي لبابة بالنبوة والإمامة، ثم انجذب من يده وجذب أبا لبابة
فخر لوجهه، ثم قال له: لا أزال كذلك حتى أثخنك ثم أقتلك أو تسلم، فأسلم
أبو لبابة.
وجاء كعب يركب حماره فشب به وصرعه على رأسه، ثم قال: بئس العبد
أنت شاهدت آيات الله وكفرت بها. فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): حمارك خير منك قد أبى



(1) التفسير المنسوب للإمام العسكري (عليه السلام): ص 289، المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 92.
وفيهما بدل " منحوت " مبخوت.
(2) تحلق: أي تجمع.
(3) التفسير المنسوب للعسكري (ع): ص 374، المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 93.
(4) البقرة: 5.
122
أن تركبه أبدا. فاشتراه منه ثابت بن قيس (1).
وفيه: أنه أتاه الحارث بن كلدة الثقفي وسأل معجزة وقال: ادع لي تلك
الشجرة، فدعاها النبي (عليه السلام) فجعلت تخد في الأرض أخدودا عظيما كالنهر حتى
وقفت بين يديه ونادت: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنك
يا محمد عبده ورسوله، وأن عليا ابن عمك هو أخوك في دينك. فأسلم الحارث (2).
أبو هريرة وعائشة: جاء أعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وفي يده ضب فقال: يا محمد
لا أسلم بك حتى تسلم هذه الحية.
فقال لها النبي (عليه السلام): من ربك؟
فقالت: الذي في السماء ملكه، وفي الأرض سلطانه، وفي البحر عجائبه،
وفي البر بدائعه، وفي الأرحام علمه.
ثم قال: يا ضب من أنا؟
قال: أنت رسول رب العالمين، وزين الخلق يوم القيامة أجمعين، وقائد الغر
المحجلين، قد أفلح من آمن بك وسعد.
فقال الأعرابي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. ثم ضحك
وقال: دخلت عليك وكنت أبغض الخلق إلي، وأخرج وأنت أحبهم إلي وانصرف
الأعرابي.
فلما وصل منزله واجتمع بأصحابه وأخبرهم بما رأى، فقصدوا نحو النبي (عليه السلام)
بأجمعهم، فاستقبلهم (عليه السلام) فأنشأ الأعرابي يقول:
ألا يا رسول الله إنك صادق * فبوركت مهديا وبوركت هاديا
شرعت لنا الدين الحنيفي بعدما * عبدنا كأمثال الحمير الطواغيا
فيا خير مدعو ويا خير مرسل * إلى الجن ثم الإنس لبيك داعيا



(1) التفسير المنسوب للعسكري (عليه السلام): ص 92 - 93، المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 93.
(2) التفسير المنسوب للعسكري (عليه السلام): ص 168، المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 93.
123
أتيت ببرهان من الله واضح * فأصبحت فينا صادق القول راضيا
فبوركت في الأقوام حيا وميتا * وبوركت مولودا وبوركت ناشيا
فسر النبي (عليه السلام) وأمر الأعرابي عليهم. وروي: أن اسم الأعرابي سعد بن
معاد السلمي (1).
عروة بن الزبير: لما فتح خيبر كان في سهم النبي (عليه السلام) أربعة أزواج نعالا
وأربعة أزواج خفافا وعشرة أواقي ذهبا وفضة وحمار أقمر (2). فلما ركبه رسول
الله (صلى الله عليه وآله) نطق وقال: يا رسول الله أنا غفير ملكني ملك اليهود، وكنت جموحا
غير طائع.
فقال له: هل لك من إرب؟
قال: لا لأنه كان منا سبعون مركبا للأنبياء والآن نسلها منقطع لم يبق منها
غيري، ولم يبق من الأنبياء غيرك، وبشرنا بذلك زكريا (عليه السلام).
فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يبعثه إلى باب الرجل فيأتي الباب فيقرعه برأسه، فإذا
خرج اليه صاحب الدار أومى اليه أن أجب رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فلما قبض النبي (عليه السلام) أتلف نفسه في بئر لأبي الهيثم بن التيهان، فصار البئر
قبره (3).
وفي تفسير الإمام (عليه السلام): إن ذئبين كلما راعيا وحثاه على الاسلام، فأتى
الراعي إلى النبي (عليه السلام) وحكى له كلامهما، فأتى النبي (عليه السلام) إلى القطيع وقال: أحيطوا
بي حتى لا يراني الذئبان. فأحاطوا به (عليه السلام).
فقال (صلى الله عليه وآله) للراعي: قل للذئب من محمد؟ فجاءا يتفحصان عنه حتى دخلا
وسط القوم فرأيا النبي (عليه السلام) فقالا: السلام عليك يا رسول رب العالمين وسيد
الخلق أجمعين. ووضعا خدودهما على التراب وتمرغا بين يديه.



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 94 - 95.
(2) الأقمر: ما لونه القمرة بالضم وهو ما يميل إلى الخضرة أو بياض فيه كدرة.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 97.
124
فقال النبي (عليه السلام): أحيطوا بعلي، ففعلوا، فنادى (عليه السلام): يا أيها الذئبان عينا على
علي. فجاءا يتخللان القوم ويتأملان الوجوه والأقدام حتى بلغا عليا، فمرغا على
التراب أبدانهما، ووضعا بين يديه خدودهما، وقالا: السلام عليك يا حليف الندى،
ومعدن النهى، ومحل الحجى، عالما بما في الصحف الأولى، ووصي المصطفى (1).
ويقال اسم الراعي: عمير الطائي، ويقال: عقبة. فبقي له شرف يفتخرون به
على العرب، ويقول مفتخرهم: أنا ابن مكلم الذئب.
خطيب منيح:
وخبرنا بأن الذئب أمسى * بمبعثه من المتكلمينا (2).
محمد بن إسحاق: مرت امرأة من المشركين شديدة القول في النبي (عليه السلام)
ومعها صبي لها ابن شهرين فقال: السلام عليك يا رسول الله محمد بن عبد الله.
فأنكرت الأم ذلك من ابنها.
فقال له النبي (عليه السلام): من أين تعلم أني رسول الله وأني محمد بن عبد الله؟
قال: أعلمني ربي رب العالمين والروح الأمين.
فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): ما اسمك يا غلام؟
فقال: عبد العزى وأنا كافر به، فسمني ما شئت يا رسول الله.
قال: أنت عبد الله.
فقال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني من خدمك في الجنة. فدعا له (عليه السلام).
فقال الصبي: سعد من آمن بك وشقي من كفر بك. ثم شهق شهقة فمات (3).
البخاري، عن جابر الأنصاري في حديث حفر الخندق: فلما رأيت ضعف
النبي (عليه السلام) طبخت جديا وخبزت صاعا شعيرا وقلت: يا رسول الله تكرمني
بكذا وكذا.



(1) التفسير المنسوب للإمام العسكري (عليه السلام): ص 181، المناقب لابن شهرآشوب: ج 1
ص 99 - 100.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 100.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 101.
125
فقال: لا ترفع القدر من النار ولا الخبز من التنور، ثم قال: يا قوم قوموا بنا إلى
بيت جابر، فأتوا وهم سبعمائة رجل، وفي رواية ثمانمائة رجل، وفي رواية: ألف
رجل، فلم يكن موضع الجلوس يسعهم، فكان (عليه السلام) يشير إلى الحائط والحائط
يبعد حتى تمكنوا فجعل يطعمهم بنفسه حتى شبعوا، ولم نزل نأكل ونهدي لقومنا
أجمع، فلما خرجوا أتيت القدر فإذا هو مملوء والتنور محشو (1).
وروى أنس قال: أرسلني أبو طلحة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) لما رأى فيه أثر الجوع،
فلما رآني (عليه السلام) قال: أرسلك أبو طلحة؟ قلت: نعم. فقال لمن معه: قوموا.
فقال أبو طلحة: يا أم سليم هلمي بما عندك، فجاءت بأقراص من شعير،
فأمر به ففت، وعصرت أم سليم عكة سمن فأخذها النبي (عليه السلام)، ثم وضع يده على
رأس الثريد، وكان (عليه السلام) يدعو عشرة عشرة فأكلوا حتى شبعوا، فكانوا سبعين
رجلا أو ثمانين (2).
جابر بن عبد الله والبراء بن عازب وسلمة بن الأكوع والمسور ابن محرمة: لما
نزل النبي (صلى الله عليه وآله) بالحديبية في ألف وخمسمائة وذلك في حر شديد قالوا: يا رسول
الله ما بها من ماء والوادي يابس وقريش في بلدح (3) في ماء كثير.
فدعا (عليه السلام) بدلو من ماء فتوضأ من الدلو ومضمض فاه ثم مج فيه وأمر أن
يصب في البئر، فجاشت فسقينا وأسقينا (4).
وفي رواية: إنه نزع سهما من كنانته فألقاه في البئر ففارت بالماء حتى جعلوا
يغترفون منها بأيديهم وهم جلوس على شفتها (5).
أبو عوانه: إنه (صلى الله عليه وآله) أعطى ناجية بن عمرو نشابة وأمره أن يقعرها في البئر



(1) صحيح البخاري: ج 5 ص 138، المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 103.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 103.
(3) بلدح بفتح الباء والدال: اسم موضع بالحجاز قرب مكة. النهاية لابن الأثير: ج 1 ص 151.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 104.
(5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 104.
126
فامتلأ البئر ماء (1).
وفي رواية: انه (عليه السلام) دفعها إلى البراء بن عازب، فقال: أغرز هذا السهم في
بعض قلب الحديبية. فجاءت قريش ومعهم سهيل بن عمرو فأشرفوا على القليب
والعيون تنبع تحت السهم، فقال: ما رأينا كاليوم قط وهذا من سحر محمد قليل.
فلما أمر الناس بالرحيل قال: خذوا حاجتكم من الماء. ثم قال للبراء:
اذهب فرد السهم. فلما فرغوا وارتحلوا أخذ البراء السهم فجف الماء كأنه لم يكن
هناك ماء (2).
وشكا إليه أصحابه في غزاة تبوك من العطش، فدفع (عليه السلام) سهما إلى رجل فقال
له: انزل فاغرزه (3) في الركي (4)، ففعل ففار الماء فطمى (5) إلى أعلى الركي، فارتوى
منه ثلاثون ألف رجل في دوابهم (6).
ووضع (عليه السلام) يده تحت وشل (7) بوادي المشفق فجعل ينصب في يده، فانخرق
الماء حتى سمع له حس كحس الصواعق، فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لئن بقيتم وبقي منكم أحد ليسمعن بهذا الوادي وهو أخصب
ما بين يديه وما خلفه. قيل: وهو اليوم كما قاله (صلى الله عليه وآله) (8).
وفي حديث أبي ليلى: شكونا إلى النبي (عليه السلام) من العطش، فأمر بحفرة فحفرت،
فوضع عليها نطعا ووضع يده على النطع وقال: هل من ماء؟ فقال لصاحب
الإدواة (9): صب الماء على كفي واذكر اسم الله، ففعل فلقد رأيت الماء ينبع من بين



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 104. والنشابة: واحد النبل.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 104 - 105.
(3) أغرز - أمر من أغرز الإبرة في الشئ: أي أدخلها فيه.
(4) الركي - بتشديد الياء جميع الركية: البئر ذات الماء.
(5) طمى الماء: أي علا.
(6) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 105.
(7) الوشل: الماء القليل يتحلب من صخر أو جبل.
(8) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 105.
(9) الإدواة بالكسر: المطهرة.
127
أصابعه (عليه السلام) حتى روى القوم وسقوا ركابهم (1).
وشكا الجيش إليه في بعض غزواته فقدان الماء، فوضع (عليه السلام) يده في القدح
فضاق القدح عن يده، فقال للناس: اشربوا، فشرب الجيش وسقوا وتوضأوا
وملأ والمزاود (2). قال الشاعر:
ومن فاضت أنامله بماء سقاه * لواردين وصادرينا
وقرت جفنة صنعت لعشر * على قدر فأطعمها مئينا
وعادت بعد أكل القوم ملأى * تفور عليهم لحما سمينا (3)
أبو بكر القفال في دلائل النبوة: إن البراء ملاعب الأسنة كان به استسقاء،
فبعث إلى النبي (عليه السلام) لبيد بن أبي ربيعة وأهدى اليه فرسين ونجائب، فقال: لا أقبل
هدية مشرك. قال. فإنه يستشفيك من الاستسقاء. فأخذ بيده حثوة من الأرض فتفل
عليها وأعطاه، ثم قال: دفها بماء ثم اسقها إياه. فلما شربها البراء برأ من مرضه (4).
وقطعت يد أنصاري وهو عبد الله بن عتيك في حرب أحد، فألزقها رسول
الله (صلى الله عليه وآله) ونفخ عليها فصارت كما كانت (5).
لطائف القصص [في معجزاته (صلى الله عليه وآله)]: إن قوما شكوا اليه (عليه السلام) ملوحة مائهم،
فجاء معهم وتفل في بئرهم فانفجرت بالماء العذب الفرات، فها هي يتوارثها أهلها (6).
وكان مما أكد الله به صدقه (عليه السلام) أن قوم مسيلمة سألوه (7) مثلها، فتفل في بئر
فعادت ملحا أجاجا كبول الحمار، وهي إلى اليوم بحالها معروفة المكان (8).



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 105.
(2) المزاود جمع المزادة وهي الظرف الذي يحمل فيه الماء كالراوية والقربة (لسان العرب
ج 3 / 199).
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 105 - 106.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 115 - 116.
(5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 116.
(6) تاريخ الطبري: ج 2 ص 507.
(7) أي سألوا مسيلمة.
(8) تاريخ الطبري: ج 2 ص 507.
128
وروي أن عكاشة انقطع سيفه يوم بدر فناوله رسول الله (صلى الله عليه وآله) خشبة
وقال: قاتل بها الكفار، فصارت سيفا قاطعا، فقاتل به حتى قتل به طلحة
في الردة (1).
وأعطى (صلى الله عليه وآله) عبد الله بن جحش يوم أحد عسيبا (2) من نخل فرجع في يده
سيفا (3).
وروي في ذي الفقار مثله (4).
وأعطى (عليه السلام) يوم أحد أيضا لأبي دجانة سعفة نخل فصارت سيفا، فأنشأ
أبو دجانة يقول:
نصرنا النبي بسعف النخيل * فصار الجريد حساما صقيلا
وذا عجب من أمور الإله * ومن عجب الله ثم الرسولا (5)
هند بنت الجون وخنيس بن خالد وأبو معبد الخزاعي: أن النبي (صلى الله عليه وآله) عند
هجرته نزل على أم معبد الخزاعية وسألوها شيئا ليشتروه فلم يصيبوا شيئا،
فإذا شاة في كسر البيت جرباء ضعيفة، فدعا بها فمسح يده على ضرعها وقال:
اللهم بارك لها في شاتها. تفاحجت (6) ودرت فاجترت.
فدعا النبي (عليه السلام) بإناء لها يربض الرهط فحلبها فيه وشرب هو وأصحابه
والمرأة وأصحابها، ولم يشرب (عليه السلام) حتى شربوا بجمعهم، ثم قال: ساقي القوم
آخرهم شربا، ثم حلب لها عودا بعد بدء (7).



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 119.
(2) العسيب: جريدة من النخل والسعف أيضا بمعناه.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 119.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 119.
(5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 119.
(6) الفحج: تداني صدور القدمين وتباعد العقبين وفي المغرب الفحج تباعد ما بين أوساط
الساقين من الرجل والدابة.
(7) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 121.
129
خطيب منيح:
ومن حلب الضئيلة (1) وهو نضو (2) * فأسبل درها للحالبينا
وكانت حائلا (3) فغدت وراحت * بيمن المصطفى الهادي لبونا (4)
والشاة لما مسحت الكف منك * على جهد الهزال بأوصال (5) لها قحل (6)
سحت (7) بدرة شكر الضرع حافله (8) * فروت الركب بعد النهل بالعلل (9) (10)
ومسح ضرع شاة حائل لا لبن لها فدرت وكان ذلك سبب إسلام ابن مسعود (11).
أمالي الحاكم: إن النبي (صلى الله عليه وآله) كان قائظا، فلما انتبه من نومه دعا بماء فغسل
يديه ثم تمضمض بماء ومجه إلى عوسجة (12) فأصبحوا وقد غلظت العوسجة، ثم
أثمرت وأينعت بثمر أعظم ما يكون في لون الورس (13) ورائحة العنبر وطعم
الشهد (14)، والله ما أكل منها جائع إلا شبع، ولا ظمآن إلا روي، ولا سقيم إلا برئ،
ولا أكل من ورقها حيوان إلا در لبنها، وكان الناس يستشفون من ورقها، وكان
يقوم مقام الطعام والشراب، ورأينا النماء والبركة في أموالنا. فلم يزل كذلك حتى
أصبحنا ذات يوم وقد تساقط ثمرها وصغر ورقها، فإذا قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله).



(1) والضئيلة: مؤنث الضئيل: وهو بمعنى الحقير.
(2) والنضو: بالكسر المهزول من الإبل وغيرها
(3) والحائل من الناقة وغيرها التي لم تلقح سنة أو سنوات.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 121.
(5) والأوصال: جمع وصل بالكسر والضم كل عضو على حدة.
(6) والقحل: ما يبس جلده على عظمه.
(7) وسحت: بتشديد الحاء المهملة أي صبت وسالت غزيرا.
(8) شكر الضرع: امتلأ لبنا.
(9) والنهل: الشرب الأول، والعلل: الشرب الثاني.
(10) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 121.
(11) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 122.
(12) العوسج: شجر من شجر الشوك وله ثمر أحمر مدور كأنه خرز العقيق (لسان العرب
2 / 324).
(13) الورس: نبت أصفر (لسان العرب 6 / 254).
(14) الشهد: العسل ما دام لم يعصر من شمعه (لسان العرب 3 / 243).
130
فكانت بعد ذلك تثمر دونه في العظم والطعم والرائحة.
وأقامت على ذلك ثلاثين سنة، فأصبحنا يوما وقد ذهبت نضارة عيدانها، فإذا
قتل أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، فما أثمرت بعد ذلك قليلا ولا كثيرا. فأقامت بعد ذلك
مدة طويلة ثم أصبحنا وإذا بها قد نبع من ساقها دم عبيط، وورقها ذابل يقطر ماء
كماء اللحم، فإذا قتل الحسين (عليه السلام) (1).
أجمع المفسرون والمحدثون سوى عطاء والحسن والبلخي في قوله تعالى:
* (اقتربت الساعة وانشق القمر) * (2) أنه اجتمع المشركون ليلة بدر (3) إلى النبي (صلى الله عليه وآله)
فقالوا له: إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين. فقال (عليه السلام): إن فعلت تؤمنون؟ قالوا:
نعم فأشار إليه بإصبعه فانشق شقتين ورئي حراء (4) بين فلقيه. وفي رواية: نصفا
على أبي قبيس ونصفا على قعيقعان (5). وفي رواية: نصفا على الصفا ونصفا
على المروة.
فقال (عليه السلام): اشهدوا اشهدوا.
فقال الناس: سحرنا محمد.
فقال الرجل: إن كان سحركم فلم يسحر الخلق كلهم. وذلك قبل الهجرة، وبقي
قدر ما بين العصر إلى الليل وهم ينظرون اليه ويقولون: هذا سحر مستمر، فنزل:
* (وإن يروا آية يعرضوا... الآية) * (6).
وفي رواية: أنه قدم السفار من كل وجه، فما من أحد قدم إلا أخبرهم أنهم
رأوا مثل ما رأوا (7).



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 122.
(2) القمر: 1.
(3) أي والقمر في ليلة تمامه.
(4) أي جبل حراء بمكة.
(5) قعيقعان: كزعيفران جبل بمكة وجهه إلى أبي قبيس.
(6) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 122.
(7) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 122.
131
نصر بن المنتصر:
والقمر البدر المنير شقه * فقيل سحر عجب لمن أرى (1)
وغرس (عليه السلام) نوى فنبت نخلا وحملت الذهب الذي دفعه إلى سلمان (رضي الله عنه)،
وبارك الله فيه، فوفى بكل ما كان عليه وما نقص منه، وأرطبت في وقت واحد (2).
وكان عليه إذا مشى في ليلة ظلماء بدا له نور كأنه قمر (3).
عائشة: فقدت إبرة ليلة، فما كان في منزلي سراج، فدخل رسول الله (صلى الله عليه وآله)
فوجدت الإبرة بنور وجهه (4).
مسلم: كان النبي (عليه السلام) يقيل (5) عند أم سليم وكانت تجمع عرقه فتجعله في
الطيب (6).
عبد الجبار بن وائل، عن أبيه قال: اتي رسول الله (عليه السلام) بدلو من ماء فشرب ثم
توضأ، فتمضمض ثم مجه في الدلو مسكا أو أطيب من المسك (7).
وكان (عليه السلام) تظله سحابة من الشمس وتسير لمسيره وتركد لركوده، ولا يطير
الطير فوقه (8).
وكان يمج في الكوز والبئر فيجدون له رائحة أطيب من المسك (9).
وكان ينطق بلغات كثيرة (10).



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 122 - 123. وفيه " لما رأى " بدل " لمن أرى ".
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 123.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 123.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 123.
(5) أي ينام القيلولة قبيل الظهر.
(6) صحيح مسلم: ج 4 ص 1815 باب 22 من كتاب الفضائل ح 83 و 84 و 85، المناقب لابن
شهرآشوب: ج 1 ص 124.
(7) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 124.
(8) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 124.
(9) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 124.
(10) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 124.
132
وكان يسمع في منامه كما يسمع في انتباهه، ويسمع كلام جبريل (عليه السلام) عند
الناس ولا يسمعونه (1).
ربيع الأبرار: انه دخل أبو سفيان على النبي (عليه السلام) وهو يقاد، فأحس بتكاثر
الناس فقال في نفسه: واللات والعزى يا بن أبي كبشة لأملأنها عليك خيلا ورجلا
وإني لأرجو أن أرقى هذه الأعواد.
فقال النبي (عليه السلام): أو يكفينا الله شرك يا أبا سفيان (2).
وكان بين كتفيه خاتم النبوة كلما أبداه غطى نوره نور الشمس، مكتوب عليه:
لا إله إلا الله وحده لا شريك له توجه حيث شئت فأنت منصور (3).
ابن سمرة: رأيت خاتمه بين كتفيه مثل بيض الحمامة (4).
سئل الخدري عنه فقال: بضعة ناشزة (5).
أبو زيد الأنصاري: شعر مجتمع على كتفيه (عليه السلام) (6).
السائب بن يزيد: مثل زر الحجلة (7).
ولما شك في موت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وضعت أسماء بنت عميس يدها بين كتفيه
فقالت: قد توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قد رفع الخاتم (8).
وما احتلم قط، لأن ذلك من الشيطان، وكان له شهوة أربعين نبيا.
كل دابة ركبها النبي (صلى الله عليه وآله) بقيت على سنها لا تهرم قط.
أرسل رجليه في بئر ماؤه أجاج فعذب.



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 124.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 124.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 124.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 125.
(5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 125.
(6) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 125.
(7) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 125.
(8) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 125.
133
وكان (عليه السلام) لا يمر على شجرة إلا وسلمت عليه.
ولم يجلس عليه الذباب، ولم تدن منه (عليه السلام) هامة ولا سامة.
وكان إذا مشى على الأرض السهلة لا يتبين لقدمه أثر، وإذا مشى على الصلب
بان أثره.
وفي خطبة القاصعة عن أمير المؤمنين (عليه السلام): ان النبي (صلى الله عليه وآله) قال: أيتها الشجرة
إن كنت تؤمنين بالله واليوم الآخر وتعلمين أني رسول الله فانقلعي بعروقك حتى
تقفي بين يدي بإذن الله. فوالله الذي بعثه بالحق لقد انقلعت بعروقها وجاءت ولها
دوي شديد وقصيف كقصيف أجنحة الطيور حتى وقفت بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله)
مرفرفة، التف (1) بعضها الأعلى على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وببعض أغصانها على منكبي
وكنت عن يمينه.
فلما نظر القوم إلى ذلك قالوا علوا واستكبارا: فمرها فليأتك نصفها ويبقى
نصفها. فأمرها بذلك، فأقبل اليه نصفها كأعجب إقبال وأشده دويا، فكانت تلتف
برسول الله (صلى الله عليه وآله).
فقالوا كفرا وعتوا: فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه. فأمره (عليه السلام) فرجع. فقال
القوم: ساحر كذاب، عجيب السحر خفيف فيه (2).
ابن عباس، عن أبيه: قال أبو طالب للنبي: يا بن أخ الله أرسلك؟ قال: نعم.
قال: فأرني آية، ادع لي تلك الشجرة. فدعاها حتى سجدت بين يديه ثم
انصرفت.
فقال أبو طالب: أشهد أنك صادق رسول الله، يا علي صل جناح ابن عمك (3).
شاعر:
وفي دعائك للأشجار حين أتت * تمشي بأمرك في أغصانها الذلل



(1) كذا في الأصل، وفي نهج البلاغة، فألقت بغصنها.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 129.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 129.
134
وقلت عودي فعادت في منابتها * تلك العروق بإذن الله لم تمل (1)
الصادق (عليه السلام) في خبر أنه ذكر قوة اللحم عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: ما ذقته منذ
كذا. فتقرب إليه فقير بجدي كان له فشواه وأنفذ اليه. فقال النبي (عليه السلام): كلوا ولا
تكسروا له عظما. فلما فرغوا أشار اليه وقال: انهض بإذن الله. فأحياه فكان يمر
عند صاحبه كما يساق (2).
وأتى أبو أيوب الأنصاري بغنم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عرس فاطمة (عليها السلام)،
فنهاه جبريل (عليه السلام) عن ذبحها، فشق ذلك عليه، فأمر (عليه السلام) زيد بن جبير الأنصاري
بذبحها بعد يومين، فلما طبخت أمر أن لا يأكلوا إلا باسم الله وأن لا يكسروا
عظامه. ثم قال: إن أبا أيوب رجل فقير، إلهي أنت خلقتها وأنت أفنيتها وانك قادر
على إعادتها فأحيها يا حي لا إله إلا أنت، فأحياها الله وجعل فيها بركة لأبي
أيوب وشفى المرضى في لبنها، فسمتها أهل المدينة: المبعوثة.
وفيها قال عبد الرحمن بن عوف أبياتا:
ألم تبصروا شاة ابن زيد وحالها * وفي أمرها للطالبين مزيد
وقد ذبحت ثم أستجز (3) إهابها (4) * وفضلها فيما هناك يزيد
وانضج منها اللحم والعظم والكلى (5) * فهلهله (6) بالنار وهو هريد (7)
فأحيى له ذو العرش والله قادر * فعادت بحال ما تشاء يعود (8)
محمد بن إسحاق في خبر طويل، عن كثير بن عامر: أنه طلع من الأبطح
راكب ومن ورائه سبعة عشر ناقة محملة ثياب ديباج، على كل ناقة عبد أسود
يطلب النبي الكريم ليدفعها إليه بوصية من أبيه، فأومى ابن البختري إلى أبي جهل



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 129.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 131.
(3) أستجز: الجز: القطع.
(4) الاهاب: الجلد مطلقا أو ما لم يدبغ.
(5) الكلى: جمع الكلية بضم الكاف.
(6) هلهله: زجره.
(7) الهريد: المشقوق فاسدا، أو من هرد اللحم: طبخه، فهو فعيل بمعنى المفعول.
(8) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 131.
135
فقال: هذا صاحبك، فلما دنا منه قال له: ما أنت بصاحبي. فما زال يدور حتى أتى
النبي (صلى الله عليه وآله) فسعى إليه وقبل يديه ورجليه.
فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): أليس أنت يلجا ناجي ابن المنذر السكاسكي؟
قال: بلى يا رسول الله.
قال: فأين سبع عشرة ناقة محملة ذهبا وفضة ودرا وياقوتا وجوهرا ووشيا (1)
وملحما (2) وغير ذلك؟
قال: هاهي ورائي مقبلة.
فقال: هي سبع عشرة ناقة، على كل ناقة عبد أسود، عليهم أقبية الديباج
ومناطق (3) الذهب، وأسماؤهم محرز ومنعم وشهاب وبدر ومنهاج وفلان وفلان.
قال: بلى يا رسول الله.
قال: سلم المال وأنا محمد بن عبد الله، فأورد المال بجملته إلى النبي (عليه السلام).
فقال أبو جهل: يا آل غالب إن لم تنصفوني وتنصروني عليه لأضعن سيفي في
صدري، وهذا المال كله للكعبة، وركب فرسه وجرد سيفه ونفرت مكة أقصاها
وأدناها حتى أجاب أبا جهل سبعون ألف مقاتل.
وركب أبو طالب في بني هاشم وبني عبد المطلب وأحاطوا بالنبي (عليه السلام)، ثم
قال أبو طالب: ما الذي تريدون؟
قال أبو جهل: إن ابن أخيك قد جنى علينا جنايات عظيمة، ويحق للعرب أن
تعصب وتسفك الدماء وتسبي النساء.
قال أبو طالب: وما ذاك؟ فذكر قصة الغلام وأن محمدا سحره ورده إلى دينه
وأخذ منه المال، وهو شئ مبعوث للكعبة.
فقال له: قف حتى أمضي إليه وأسأله عن ذلك.
فلما أتى النبي (صلى الله عليه وآله) وسأله رد ذلك. قال (عليه السلام): لا أعطيه حبة واحدة. قال له:



(1) الوشي: نوع من الثياب معروف.
(2) الملحم: نوع من الثياب.
(3) المنطقة والنطاق: كل ما شد به الوسط (لسان العرب 10 / 354).
136
خذ عشرة وأعطه سبعة. فأبى. ثم أمر (عليه السلام) أن توقف الهدية بين يدي الكعبة
ويناديها سبع مرات فإن كلمتها فالهدية هديتها، وإن كلمتها أنا فأجابتني فالهدية
هديتي.
فأتى أبو طالب وقال: إن ابن أخي قد أجابك إلى النصفة، وذكر مقال النبي (عليه السلام)
والميعاد غدا عند طلوع الشمس.
فأتى أبو جهل إلى الكعبة وسجد لهبل ورفع رأسه وذكر القصة ثم قال:
أسألك أن تجعل النوق تخاطبني ولا يشمت بي محمد وأنا عبدك منذ أربعين سنة
وما سألتك حاجة، فإن أجبتني إلى هذه لأصنعن لك قبة من لؤلؤ أبيض، وسوارين
من الذهب، وخلخالين من الفضة، وتاجا مكللا بالجوهر، وقلادة من العقيان (1).
ثم إن النبي (صلى الله عليه وآله) حضر وكان من المعجزات إجابة كل ناقة سبع مرات،
وشهدت بنبوته بعد عجز أبي جهل، فأخذ النبي (عليه السلام) المال (2).
ومر (صلى الله عليه وآله) في غزوة الطائف في كثير من طلح وسدر وهو وسن. من النوم،
فاعترضته سدرة فانفرجت له نصفين، فمر بين نصفيها، وبقيت منفرجة ساقين إلى
زماننا هذا ينزل بها كل مار، ويسمونها سدرة النبي (عليه السلام) (3).
ونزل (عليه السلام) بالجحفة تحت شجرة قليلة الظل، ونزل أصحابه حوله، فتداخله
شئ من ذلك، فأذن الله تعالى لتلك الشجرة الصغيرة حتى ارتفعت وظللت
الجميع، فأنزل الله تعالى * (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله
ساكنا) * (4).
* * *
فصل



(1) العقيان بالكسر: الذهب الخالص.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 133 - 134.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 135.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 135.
137
يتصل بمعجزات النبي (عليه السلام)
معجزته في البساط:
حدث علي بن الحسن اللمعاني، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر بن
ثابت، عن أنس بن مالك أنه قال: أهدي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بساط، فقال لي:
أبسطه يا أنس، فبسطته. فقال: ادع لي أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وطلحة والزبير
وسعدا وسعيد بن زيد وعبد الرحمن بن عوف وسالما العشرة، فدعوتهم.
قال: فقام النبي (صلى الله عليه وآله) حامدا وأخذ بيد علي بعد أن جلسوا على البساط، فقال:
يا علي قل: يا ريح احملينا.
فقال: يا ريح احملينا، فحملتهم الريح. فقال علي للجماعة: أين أنتم؟ فقالوا:
لا ندري. فقال: نحن عند أصحاب الكهف.
فقال: يا ريح حطينا. فحطت بهم عند أصحاب الكهف. فسلم القوم فلم يردوا
عليهم، وسلم علي فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يا أصحاب الكهف
والرقيم.
قالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته يا وصي رسول الله. ولم يردوا شيئا
إلا على علي بن أبي طالب وقالوا: لا نقدر نكلم أحدا إلا نبيا أو وصي نبي،
وأنا نشهد أنك وصي نبي (1).
وبهذا الإسناد: انهم سألوا عليا (عليه السلام) - عندما ردوا عليه السلام ولم يردوه على
غير -: ما لهم ردوا عليك يا أبا الحسن ولم يردوا علينا؟
قال: فسألهم علي فقال: إن أصحابي سألوني مالكم لم تردوا عليهم السلام؟
فقالوا: إن محمدا سيد الأنبياء وإنك سيد الأوصياء وقد امرنا أن لا نرد جواب
السلام إلا على نبي أو وصي نبي (2).
وحدث أبو صادق الأودي بحذف الإسناد، عن أبي وقاص، عن سلمان



(1) بحار الأنوار: ج 39 ص 141 باب 80 ح 6.
(2) بحار الأنوار: ج 39 ص 137 باب 80 ح 4.
138
الفارسي (رضي الله عنه)، قال: كنا عند النبي (صلى الله عليه وآله) أربعة أبو بكر وعمر والمقداد وأنا،
فدعا (صلى الله عليه وآله) ببساط فبسط بين يديه، وقال (عليه السلام) لأبي بكر: اقعد على القرنة (1) من
البساط، وأمر عمر فقعد على القرنة الثانية، وأمر المقداد فقعد على القرنة الثالثة،
وأمرني أن أقعد على القرنة الرابعة، وأمر عليا فقعد في وسط البساط، وقام
النبي (صلى الله عليه وآله) ورفع يديه حتى يرى بياض أبطيه فقال: اللهم إن أخي سليمان بن داود
سألك ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وأنت الوهاب، وأنا نبيك وصفيك وخيرتك
من خلقك، اللهم وإني أسألك بحقي عليك أن ترفع هؤلاء النفر حتى تؤديهم إلى
أصحاب الكهف.
قال سلمان: فوالله ما استتم كلامه (عليه السلام) حتى هبت ريح سوداء فرفعتنا حتى
بلغنا أصحاب الكهف.
قال سلمان: وقد كان النبي (صلى الله عليه وآله) أمرني بأمر، فلما صرنا عندهم قلت لأبي بكر:
قم فسلم فسلم فلم يردوا عليه، ثم قلت لعمر: قم فسلم، فسلم فلم يردوا عليه، ثم
قام المقداد فسلم فلم يردوا عليه، ثم قمت فسلمت فلم يردوا علي، فقام علي (عليه السلام)
فقال: السلام عليكم يا أهل الكهف فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى. فسمعت
همهمة الصوت ولم نر أحدا وهم يقولون: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، إنا
أقوام في هذا الموضع منذ ألف سنة امرنا أن لا نرد السلام إلا على نبي أو وصي
نبي، ونحن نشهد أنك وصي النبي. ثم هبت لنا الريح فردتنا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) (2).
معجزة أخرى:
حدث محمد بن عبد الله بن الحسن بحذف الإسناد، عن أبيه، عن فاطمة بنت
الحسين، عن عمتها زينب بنت علي قالت: صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلاة الفجر ثم



(1) القرنة بالضم: الطرف الشاخص من كل شئ (لسان العرب 13 / 335).
(2) نقل حديث البساط ابن المغازلي في مناقبه: ص 232 ح 280، وابن البطريق: ص 372
ح 732، وابن شهرآشوب في مناقبه: ج 2 ص 327 والمجلسي في بحار الأنوار: ج 41
ص 217 باب 110 ح 31.
139
أقبل على علي (عليه السلام). فقال: هل عندكم طعام فإني لم آكل منذ ثلاث طعاما.
فقال: ما تركنا في منزلنا طعاما.
فقال: امض بنا إلى فاطمة، فدخلا عليها وهي تلتوي من الجوع وإبناها معا،
فقال لها: يا فاطمة فداك أبوك هل عندك طعام؟ فاستحيت وقالت: انظر، فدخلت
مخدعا لها فظلت ثم سمعت حفيفا فالتفتت فإذا صحفة مملوة ثريدا ولحما،
فاحتملتها فجاءت بها إلي، فوضعتها بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فجمعهم عليها: عليا
وفاطمة والحسن والحسين، وجعل علي (عليه السلام) يطيل النظر إلى فاطمة ويتعجب
ويقول: خرجت من عندها وليس عندها طعام فمن أين هذا؟ ثم أقبل عليها فقال:
يا بنت محمد أنى لك هذا الطعام؟
قالت: هو من رزق الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.
فضحك النبي (صلى الله عليه وآله) ثم قال: الحمد لله الذي جعل في أهلي نظير زكريا ومريم،
إذ قال لها * (أنى لك هذا قالت: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) *.
فبينا هم يأكلون إذا سائل بالباب يقول: السلام عليكم يا أهل بيت محمد
أطعموني مما تأكلون. فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): إخسأه. فقال: وفعل ذلك ثلاثا.
فقال علي: يا رسول الله أمرتنا أن لا نرد سائلا، وهذا أنت تخسئه!
قال: يا علي هذا إبليس علم أن هذا من طعام الجنة فتشبه بسائل لنطعمه منه.
فأكل النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين صلى الله عليهم حتى شبعوا، ثم
ارتفعت الصحفة (1).
معجزة أخرى:
قال زيد بن أرقم بحذف الإسناد: قال: كنت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بعض
سكك المدينة فمررنا بخباء فإذا ظبية مشدودة إلى الخباء، فقالت: يا رسول الله



(1) بحار الأنوار: ج 3 ص 27 ح 30 وص 29 ذيل ح 35 مع اختلاف.
140
إن هذا الأعرابي صادني ولي خشفان (1) في البرية، وقد تعقد اللبن في أخلا في
فلا هو يذبحني فأستريح ولا يدعني فأرجع إلى خشفي في البرية.
فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن تركتك ترجعين؟
قالت: نعم وإلا عذبني الله عذاب العشار.
فأطلقها رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلم تلبث أن جاءت تلمظ فشدها رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وأقبل الأعرابي ومعه قربة، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): تبيعها. فقال: هي لك يا رسول
الله. فأطلقها.
قال زيد بن أرقم: فأنا والله رأيتها تسبح في البرية وهي تقول: لا اله إلا الله
محمد رسول الله (2).
حدث ابن عباس قال: جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال له: ما هذا الذي
يقوله قومك؟
قال: وحول النبي (صلى الله عليه وآله) أعذاق قال: فقال له: هل أريك آية؟ قال: بلى.
قال: فدعا عذقا منها فأقبل يخد الأرض ويسجد ويرفع رأسه حتى وقف بين
يديه، ثم أمره فرجع.
قال: فخرج العامري وهو يقول: يا آل عامر بن صعصعة والله لا أكذبه بشئ
يقوله أبدا (3).
حدث عبد الله بن مسعود أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلى صلاة العشاء ثم انصرف
فأخذ بيدي فخرج بي إلى أبطح مكة وأجلسني وخط علي خطا ثم قال: لا تبرح
ويحك فإنه سينتهي إليك رجال فلا تكلمهم فإنهم لن يكلموك. ثم انطلق رسول
الله (عليه السلام) حتى لم أره، فبينا أنا كذلك إذا أنا برجال كأنهم الزط شعورهم وأجسامهم
لا أرى عورة ولا أرى بشرا.



(1) الخشف: ولد الغزال يطلق على الذكر والأنثى، والجمع: خشوف.
(2) بحار الأنوار: ج 17 ص 402 باب 5 ح 19.
(3) بحار الأنوار ج 17 ص 368 باب 3 ح 17.
141
قال: فجعلوا ينتهون إلى الخط فلا يجوزونه. قال: ثم يصدرون إلى رسول
الله (صلى الله عليه وآله)، حتى إذا كان في آخر الليل جاء رسول الله وأنا في خطي فقال: لقد آذاني
هؤلاء هذه الليلة. ثم دخل علي في خطي فتوسد فخذي ثم رقد، وكان رسول
الله (صلى الله عليه وآله) إذا نام ينفخ في النوم نفخا.
قال: فبينا أنا كذلك إذا برجال عليهم ثياب بيض، الله أعلم ما بهم من الجمال،
فقعد طائفة منهم عند رأسه، وقعد طائفة منهم عند رجليه، فقالوا بينهم: ما رأينا
عبدا أوتي ما أوتي هذا، إن عينيه لتناما وقلبه يقظان، اضربوا له مثلا سيدا بنى
قصرا ثم جعل مأدبة فدعا الناس إلى طعامه وشرابه، فمن أجابه أكل من طعامه
وشرب من شرابه، ومن لم يجبه عاقبه أو قال عذبه.
قال: ثم ارتفعوا. فاستيقظ النبي (صلى الله عليه وآله) عند ذلك، فقال: أما اني قد سمعت ما
قالوا فهل تدري من هم؟
قلت: الله ورسول أعلم.
قال: إنهم الملائكة، وقال: تدري المثل الذي ضربوه، هو الرحمن عز وجل بنى
الجنة فدعا إليها عباده، فمن أجابه دخل جنته، ومن لم يجبه عذبه أو قال عاقبه.
وقيل: مر أعرابي على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال له: أين تريد؟
قال: أهلي.
فقال له: هل لك في خير الدنيا والآخرة؟
قال: وما هو؟
قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. قال الأعرابي: من الشاهد على
ما تقول؟
قال: هذه، يعني السدرة. فدعاها النبي (صلى الله عليه وآله) وهي شطبا (1) لوادي، فجاءت
تخد الأرض حتى قامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثا، فشهدت له كما قال، ثم
أمرها فرجعت إلى منبتها.



(1) الشطب: الأخضر الرطب من جريد النخل.
142
ورجع الأعرابي فقال: آتي قومي فإن بايعوني أتيتك بهم، وإن لم يفعلوا
رجعت إليك وكنت معك (1).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا أراد حاجة أبعد
المشي، فأتى يوما واديا لحاجته ونزع خفيه فقضى حاجته ثم توضأ ولبس خفه
الأيمن، وجاء طائر أخضر فحمل الخف الآخر فارتفع به ثم طرحه فخرج منه
أسود سالخ، فلما رآه رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: هذه كرامة أكرمني الله بها، اللهم إني
أعوذ بك من شر من يمشي على بطنه ومن شر كل ذي شر ومن شر كل دابة أنت
آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم (2).
قال أنس بن مالك: أهدي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) طير، فقال: اللهم ائتني بأحب
خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر. فجاء علي (عليه السلام) فدق الباب، فرددته رجاء
أن يكون رجلا من الأنصار. ثم جاء الثالثة فقال: يا أنس افتح له ففتحت له، فقال
النبي (صلى الله عليه وآله): اللهم وإلي اللهم وإلي (3).
وفي رواية أخرى: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لأنس: يا أنس لم رددت عليا ثلاثا
عني وقد سمعتني أدعو ما أدعو؟
قال أنس: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما حملني على ذلك كفرا به ولا بغضا
له، لكني سمعتك تدعو فتمنيت أن يكون ذلك الرجل من قومي فأشرف به، فأبى
الله عز وجل إلا أن يجعله حيث أراد.
قال: فوالله ما سبني ولا هجرني ولا قطب في وجهي ولكنه تبسم ثم قال:
الرجل يحب قومه (4).
قال إبراهيم بن الحسن، عن فاطمة بنت علي، عن أسماء بنت عميس: قالت:



(1) الخرائج والجرائح: ج 1 ص 43 ح 52.
(2) بحار الأنوار: ج 95 ص 141 باب 103 ح 4.
(3) بحار الأنوار: ج 38 ص 356 - 357 باب 69 ح 9.
(4) لم نعثر عليه في مظانه.
143
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا نزل عليه الوحي يكاد أن يغشى عليه، فنزل عليه الوحي
يوما ورأسه في حجر علي (عليه السلام) فلم ينتبه إلا غروب الشمس، فقال له رسول
الله (صلى الله عليه وآله): صليت العصر يا علي؟ فقال: لا يا رسول الله.
قالت: فدعا الله جل جلاله فرد عليه الشمس حتى صلى العصر.
قالت: فرأيت الشمس بعد ما غابت ردت عليه حتى صلى العصر (1).
وفيه: وقال مطر الاسكيف (2) بحذف الإسناد، عن أنس بن مالك، قال: أنه لما
ردت الشمس على علي (عليه السلام) قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): الحمد لله الذي لم يخرجني
من الدنيا حتى شبهتك بيوشع بن نون وسليمان بن داود في رد الشمس عليهما،
والذي بعثني بالحق ليردنها عليك بعدي كما ردها في حياتي، فأبشر يا علي فإنك
كريم على ربك لكرامتي عليه، وأنت أخي ووصيي وخير الخلق بعدي.
حدث ثابت، عن عبد الرحمن بحذف الإسناد، عن سلمان الفارسي أنه قال:
كنت ذات يوم عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ أقبل أعرابي على ناقة له حتى أناخها بالقرب
منا، ثم نزل عنها وأخذ بخطامها وأقبل يقودها نحو رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم وقف وسلم
ثم قال: يا قوم أيكم محمد؟ فأومأنا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأصابعنا. فعقل ناقته وجثا
بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم قال: يا محمد أخبرني بما في بطن ناقتي هذه حتى
أعلم أن الذي جئت به حق وأؤمن بإلهك وأقر بك واتبعك، وإن لم تخبرني علمت
أن الذي جئت به باطل ولم أؤمن بإلهك ولم أقر بك ولم اتبعك.
قال سلمان: فالتفت النبي (صلى الله عليه وآله) إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: يا حبيبي
وصفيي أخبر الأعرابي بما في بطن ناقته بإذن الله تعالى.
قال سلمان: فوثب علي من بين يدي النبي فأخذ بخطام الناقة فأثارها ثم
مسح يده على نحرها وعلى خواصرها ثم رفع طرفه نحو السماء وهو يقول: اللهم
إني أسألك بأدنى علمك وأقصاه، وبحق أقربه وأعلاه، وبحق محمد وأهل بيت



(1) مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي: ص 96 ح 140.
(2) في البحار: قطرب بن عليف (عطيف خ ل).
144
محمد أسألك بهم وبأسمائك الحسنى وبكلماتك التامات العلى لما أنطقت هذه
الناقة حتى تخبر بما في بطنها.
قال سلمان: فإذا الناقة قد التفتت إلى علي (عليه السلام) وهي تقول: يا أمير المؤمنين
أنه قد ركبني ذات يوم وهو يريد زيارة ابن عم له، فلما انتهى بي إلى واد يقال له
وادي الحسك نزل عني وأبركني وواقعني وأنا حامل منه.
فقال الأعرابي: ويحكم أيكم النبي هذا أم هذا؟
فقيل له: هذا النبي وهذا أخوه وابن عمه. فقال الأعرابي: أشهد أن لا إله إلا الله
وأنك يا محمد رسول الله وأن هذا الفتى حقيق بمقامك من بعدك. فأسلم الأعرابي
وحسن إسلامه وسأل النبي (صلى الله عليه وآله) أن يسأل الله تعالى أن يكفيه ما في بطن ناقته،
فكفاه الله ذلك (1).
حدث عبد الملك بن المغيرة بن سعيد بحذف الإسناد، عن محمد بن علي بن
الحسين (عليهم السلام)، قال: حدثتني أم سلمة رضي الله عنها أنها كانت عند رسول الله (صلى الله عليه وآله)
في نصف النهار إذ أقبل ثلاثة من أصحابه، فقالوا: ندخل يا رسول الله، فصير ظهره
إلى ظهري ووجهه إليهم. فقال الأول منهم: يا محمد زعمت أنك خير من إبراهيم،
وإبراهيم اتخذه الله خليلا، فأي شئ اتخذك؟
فقال له: ويلك أكفر بعد إيمان! اتخذني صفيا، والصفي أقرب من الخليل.
فقام الثاني فقال: يا محمد زعمت أنك خير من موسى، وموسى كلمه الله
تكليما، فأنت متى كلمك؟
فقال له: ويلك موسى كلمه ربه في الأرض من وراء حجاب، وأنا كلمني من
تحت سرادق عرشه.
فقام إليه الثالث فقال: يا محمد زعمت أنك خير من عيسى، وعيسى أحيى
الموتى، فأي شئ أحييت ميتا؟



(1) بحار الأنوار: ج 41 ص 230 - 231، باب 111 ح 1.
145
قالت: فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى تصبب عرقا، فصفق بيديه وقال: يا علي
يا علي، فإذا علي (عليه السلام) مشتمل بشملة له وهو يقول: لبيك لبيك يا رسول الله.
فقال له: من أين أقبلت يا أمير المؤمنين؟
قال: كنت في بستان أنضح على نخلي إذ سمعت صوتك وتصفيقك.
فقال له: ادن مني، فوالذي نفس محمد بيده ما ألقى الصوت في مسامعك
إلا جبرئيل.
قالت: فأقبل علي يدنو إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ورسول الله يدنيه حتى أدخله في
قميصه، فأخرج رأسه من جيب رسول الله ثم كلمه بكلمات لم نسمعها، ثم قال له:
قم يا حبيبي فالبس قميصي هذا وانطلق بهم إلى قبر يوسف بن كعب فأحيه لهم
بإذن الله محيي الموتى.
قالت أم سلمة: فخرجوا أربعة معا، وأقبلت أتلوهم حتى انتهى إلى بقيع الغرقد،
فانتهى بهم إلى قبر دارس، فدنا منه وتكلم بكلمات وأمر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
فتصدع القبر، ثم أمره ثانيا فتصدع القبر، ثم أمره ثالثا وركله برجله وقال له: قم
بإذن الله محيي الموتى، فإذا شيخ ينفض التراب عن رأسه ولحيته وهو يقول: يا
أرحم الراحمين، ثم التفت إلى القوم كأنه عارف بهم وهو يقول: ويلكم أكفر بعد
إيمان، أنا يوسف بن كعب صاحب أصحاب الأخدود، أماتني الله منذ ثلاثمائة
وستين سنة حتى كان الساعة إذا أنا بهاتف قد هتف بي وهو يقول: قم فصدق سيد
ولد آدم فقد كذب.
فقال بعضهم لبعض: ارجعوا بنا لا يعلم بنا صبيان قريش يرجمونا بالحجارة.
وقالوا: ناشدناك الله يا أمير المؤمنين لما رددته.
قالت: فأمره عن رسول الله على جهة وتكلم بكلام لا أفهمه، فإذا الرجل
قد رجع إلى قبره، فرمى عليه التراب ورجع، ورجعت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله).
حدث أبو يعقوب يوسف بن القاسم الصفار وقال: حدثنا منصور الرمادي،
قال: دخلت صنعاء اليمن مع جماعة من أصحاب الحديث لتعذر علي أمر

146
عبد الرزاق، وجلست في مسجد جامعها أؤدب الصبيان سنة لا أرزأهم شيئا
ولا أقبل منهم برا، فمشى إلي آباؤهم فقالوا: وجب حقك علينا، تؤدب أولادنا
ولا تزرأنا شيئا ولا تقبل منا هدية.
فقلت: إني في كفاية، والذي خرجت له غير هذا.
قالوا: ولم خرجت؟
قلت: لعبد الرزاق.
فقالوا: علينا أن نأتيك به، فمضوا بأجمعهم إلى عبد الرزاق، فقالوا له: إن أردت
مكافأتنا يوما فاليوم رجل طوى علينا من العراق يؤدب أولادنا ويعلمهم كتاب
الله ولا يرزأنا شيئا ولا يقبل منا برا وقد أحببنا أن نكافئه.
فقال عبد الرزاق: قوموا بنا إليه، فقام عبد الرزاق مع القوم، فلما رأيته على
باب المسجد وثبت إليه حافيا حاسرا، فأخذ بيدي وقال: وجب حقك علي وعلى
القوم فامض معي، فمضيت معه إلى منزله، فقال لي: ترى ما هاهنا من العلم.
فقلت: نعم جعله الله حجة لك ولا جعله حجة عليك. فقال لي: قد ألحتك
فسل عما بدا لك.
فقلت: خصني بغرائبه.
فقال: لأحدثك بحديث كان عندي في التخت المخزون: حدثني معمر، عن
الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال: إن السماء طشت على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)
وسلم ليلا، فلما أصبح قال لعلي: يا علي امض بنا إلى العقيق ننظر إلى حسن الماء
في حفر الأرض.
قال علي (عليه السلام): على يدي، فمضينا فلما وصلنا إلى العقيق نظرنا إلى صفاء الماء
في حفر الأرض، فقلت: يا رسول الله لو أعلمتني من الليل اتخذت لك سفرة من
الطعام تصيب منها هاهنا.
فقال لي: يا علي إن الذي خرجنا إليه لا يضيعنا، فبينا نحن وقوف إذا نحن
بغمامة قد أظلتنا تبرق وترعد حتى قربت منا، فألقت بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله) سفرة

147
عليها رمان لم تر العيون مثله، على كل رمانه ثلاثة أقشار: قشر من اللؤلؤ، وقشر
من الذهب، وقشر من الفضة. فقال لي: بسم الله كل يا علي هذا أطيب من سفرتك.
فكسرنا عن الرمان فإذا فيه ثلاثة ألوان من الحب: حب كالياقوت الأحمر،
وحب كاللؤلؤ الأبيض، وحب كالزمرد الأخضر فيه طعم كل شئ من اللذة. فلما
أكلت ذكرت فاطمة والحسن والحسين فضربت بيدي إلى ثلاث رمانات
فوضعتهن في كمي ثم رفعت السفرة ثم انقلبنا إلى منازلنا، فلقينا أبا بكر وعمر،
فقال أبو بكر: من أين أقبلت يا رسول الله؟
قال: من العقيق.
قال: لو علمنا لأعددنا لك سفرة تصيب منها.
قال: إن الذي خرجنا إليه ما أضاعنا.
فقال عمر: يا أبا الحسن إني أجد رائحة طيبة منكما، فهل كان ثم من طعام،
فضربت بيدي إلى كمي لأعطي أبا بكر وعمر رمانة فلم أجد في كمي شيئا،
فاغتممت من ذلك، فلما افترقنا ومضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى منزله وقربت من باب
دار فاطمة عليها السلام استأذنت للدخول فأذنت لي، فرأيت في كمي، خشخشة،
فنظرت فإذا الرمان، فدخلت فألقيت رمانة إلى فاطمة وأخرى إلى الحسن والثالثة
إلى الحسين، ثم خرجت أريد النبي (عليه السلام)، فلما رآني قال: يا أبا الحسن تحدثني
أم أحدثك؟
قلت: حدثني يا رسول الله فإن حديثك أشفى لغليلي.
قال: سألك أبو بكر وعمر عن الرائحة التي وجداها منا فضربت بيدك إلى كمك
لتتحفهما برمانة فلم تر شيئا، فلما وصلت إلى منزلك أصبت رمانا فأتحفت فاطمة
برمانة والحسن والحسين برمانتين.
فقال علي: نعم يا رسول الله كأنك كنت معي.
$ رسول الله (صلى الله عليه وآله) / غزواته
قال: نعم يا أبا الحسن إن جبرئيل حدثني أن الله عز وجل أوحى اليه أن ينزل
علينا بالعقيق من رمان الجنة، وأمرني أن لا يأكل منه إلا نبي أو وصي أو ابنة نبي

148
أو سبطا نبي. فلما هممت أن تخص أبا بكر وعمر برمانة فاختطفها جبريل (عليه السلام)
من كمك، فلما وصلت إلى منزلك أعادها إليك، فهنيئا لك ولولدك يا أبا الحسن
ولزوجتك.
ثم ضرب عبد الرزاق على كتفي وقال لي: عراقي هذا من الجوهر المخزون
احتفظ به واعقل من تحدث به.
قال الرمادي: فكان هذا الحديث أحب إلي من الذهب والفضة لو أحرزتهما.
* * *
فصل
في غزواته (عليه السلام) التي باشرها بنفسه
وهي: بدر الكبرى، أحد، الخندق، بنو قريظة، بنو المصطلق، الحديبية، خيبر،
الفتح، حنين، الطائف.
غزاة بدر
وغزاة بدر هو يوم الفرقان (1).
وبدر موضع بين مكة والمدينة.
وقال الشعبي والثمالي: هي بئر منسوبة إلى بدر الغفاري (2).
وقال الواقدي: هو اسم لموضع (3).
وذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله) سمع بقدوم أبي سفيان من الشام في عير قريش
فندب (عليه السلام) المسلمين إليهم، وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها،
فانتدب الناس فخف بعض وثقل بعض، فخرج في سابع شهر رمضان أو ثالثه



(1) إشارة إلى قوله تعالى: * (وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان) *.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 187.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 187.
149
في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، فأخبر أبو سفيان بخروج النبي (صلى الله عليه وآله) فأخذ بالعير
على الساحل واستصرخوا أهل مكة على لسان أبي ضمضم بن عمرو الغفاري.
وقيل: وكانت عاتكة بنت عبد المطلب قد رأت قبل قدوم أبي ضمضم بثلاثة
أيام رؤيا أفزعتها، فبعثت إلى أخيها العباس فقالت له: والله يا أخي لقد رأيت الليلة
رؤيا أفزعتني وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر فاكتم علي أحدثك.
فقال: وما رأيت؟
قالت: راكبا أقبل على بعير له فوقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته أن انفروا
يا آل غدر لمصارعكم، ثم نادى على ظهر الكعبة، ثم نادى على أبي قبيس، ثم
أرسل صخرة فأرفضت فما بقي في مكة بيت إلا دخل منها فلذة (1).
ثم خرج العباس وقد ارتاع فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة وكان له صديقا
فذكرها له واستكتمه إياها، فذكرها الوليد لأبيه عتبة، فنما الحديث حتى تحدثت
به قريش.
قال العباس: فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام ورهط من قريش
قعود يتحدثون برؤيا عاتكة، فلما رآني أبو جهل قال: يا أبا الفضل إذا فرغت من
طوافك فأقبل إلينا. فلما حضرتهم قال أبو جهل: يا بني عبد مناف متى حدثت
فيكم هذه النبية؟
قلت: وما ذاك؟
قال: الرؤيا التي رأت عاتكة. وقال: يا بني عبد المطلب ما رضيتم أن يتنبأ
رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم، قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال انفروا إلى
مصارعكم ثلاثا فسنتربص بكم هذه الثلاث، فإن كان ما قالت حقا فسيكون، وإن
كان باطلا كتبنا عليكم كتابا أنكم أكذب بيتا في العرب.
قال العباس: فوالله ما كان مني إليه كثير غير أني جحدت وأنكرت أن تكون
رأت شيئا. ثم تفرقنا.



(1) الفلذة: القطعة (لسان العرب 3 / 502).
150
فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقالت: أقررتم لهذا
الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ثم يتناول النساء وأنت تسمع ولم يكن عندك
شئ غير ما سمعت.
قال العباس: فقلت: قد كان هذا وأيم الله لأتعرضن له، فإن عاد لأكفيتكموه.
قال: فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب أرى أن قد
فاتني أمرا أحب أن أدركه منه.
قال: فدخلت المسجد فرأيته، فوالله اني لأمشي نحوه ليعود لبعض ما قال فأقع
فيه، فإذا هو وقد خرج نحو باب المسجد يشتد، فقلت في نفسي: ما له لعنه الله أكل
هذا فرقا من أن اشتمه، فإذا هو قد سمع ما لم أسمعه صوت أبي ضمضم بن عمرو
وهو يقول ببطن الوادي: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة أموالكم أموالكم مع أبي
سفيان فقد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث، قال:
فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر. قال: فتجهز الناس سراعا (1).
وخرج تسعمائة وخمسون، ويقال: ألف ومائتان وخمسون، ويقال: ثلاثة
آلاف ومعهم مائتا فرس يقودونها، والقيان (2) يضربن بالدفوف ويتغنين بهجاء
المسلمين، ولم يبق من قريش بطن إلا خرج منها ناس إلا من بني زهرة وبني
عدي بن كعب، واخرج فيهم طالب كرها فلم يوجد في القتلى والأسرى.
وشاور النبي أصحابه في لقائهم أو الرجوع، فقال أبو بكر وعمر كلاما
فأجلسهما، ثم قال المقداد وسعد بن معاذ كلاما فدعا لهما وسر، ونزل: * (سنلقي
في قلوب الذين كفروا الرعب) * (3) وأصابهم المطر فبعثوا عمير بن وهب الجمحي
حتى طاف على عسكر النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: نواضح يثرب، فنزل: * (وإن جنحوا للسلم
فاجنح لها) * (4).



(1) البداية والنهاية: ج 3 ص 257 - 258.
(2) القيان: جمع قينة وهي المغنية.
(3) آل عمران: 144.
(4) الأنفال: 63.
151
فبعث النبي (صلى الله عليه وآله) وقال: يا معشر قريش إني أكره أن أبدأ بكم فخلوني والعرب
وارجعوا.
فقال عتبة: ما رد قوم هذا فأفلحوا.
فقال له أبو جهل: جبنت، وانتفخ سحرك (1).
فلبس عتبة درعه وتقدم هو وأخوه شيبة وابنه الوليد، وقال: يا محمد أخرج
إلينا أكفائنا من قريش.
فتطاولت الأبصار لمبارزتهم، فمنعهم النبي (صلى الله عليه وآله) وقال لهم: إن القوم دعوا
الأكفاء منهم. ثم أمر عليا (عليه السلام) بالبروز إليهم، ودعا حمزة بن عبد المطلب. وعبيدة
ابن الحارث (رحمهما الله) أن يبرزا معه.
فلما اصطفوا لهم لم يتبينهم القوم لأنهم كانوا قد تغفروا، فسألوهم: من أنتم؟
فانتسبوا لهم. فقالوا: أكفاء كرام. ونشبت الحرب بينهم، وبارز الوليد عليا (عليه السلام) فلم
يلبث حتى قتله، وبارز عتبة حمزة (رضي الله عنه) فقتله حمزة، وبارز شيبة عبيدة رحمه الله
فاختلفت بينهما ضربتان قطعت إحداهما فخذ عبيدة، فاستنقذه أمير المؤمنين
بضربة بدر بها شيبة فقتله وشركه في ذلك حمزة رحمه الله (2).
ثم بارز أمير المؤمنين (عليه السلام) العاص بن سعيد بن العاص بعد أن أحجم عنه من
سواه، فلم يلبث إلا أن قتله. وبرز إليه حنظلة بن أبي سفيان فقتله. وبرز بعده
طعيمة بن عدي فقتله. وقتل بعده نوفل بن خويلد وكان من شياطين قريش. ولم
يزل (عليه السلام) يقتل واحدا منهم بعد واحد حتى أتى على شطر المقتولين منهم وكانوا
سبعين قتيلا، وتولى كافة من حضر بدرا من المسلمين مع ثلاثة آلاف من الملائكة
المسومين الشطر الآخر، وكان قتل أمير المؤمنين للشطر بمعونة الله تعالى له
وتوفيقه وتأييده ونصره، وكان الفتح له بذلك وعلى يديه.



(1) السحر بفتح السين وسكون المهملة: الرية، وانتفخ سحره أي جبن، كأن الخوف ملأ جوفه
فانتفخ سحره.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 187 - 188.
152
وختم الأمر بمناولة النبي (صلى الله عليه وآله) كفا من الحصى فرمى بها في وجوههم وقال
لهم: شاهت الوجوه، فلم يبق أحد منهم إلا ولى الدبر لذلك منهمزما، وكفى الله
المؤمنين القتال بأمير المؤمنين (عليه السلام).
عن الكلبي وأبي جعفر وأبي عبد الله قالوا (1): كان إبليس لعنه الله في صف
المشركين آخذا بيد الحارث بن هشام فنكص على عقبيه، فقال له الحارث يا
سراقة: إلى أين أتخذلنا ونحن على هذه الحالة؟
فقال: إني أرى ما لا ترون.
فقال: والله ما ترى إلا جعاسيس (2) يثرب. فدفع في صدر الحارث وانهزم،
وانهزمت قريش.
فلما قدموا مكة قالوا: هزم الناس سراقة، فبلغ ذلك سراقة فقال: والله ما
شعرت بمسيركم حتى بلغني فراركم (3).
وقال علي بن عباس في قوله: * (مسومين) * (4) أنه كان عليهم عمائم بيض
قد أرسلوها بين أكتافهم (5).
وقال عروة: كانوا على خيل بلق وعليهم عمائم صفر (6).
وقال الحسن وقتادة: كانوا قد أعلموا الصوف في نواصي الخيل وأذنابها.
عن ابن عباس (رضي الله عنه) أنه سمع غفاري في سحابة حمحمة الخيل وقائل يقول:
أقدم حيزوم (7)، وحيزوم اسم فرس جبرئيل.
عن البخاري: قال النبي (صلى الله عليه وآله) يوم بدر: هذا جبريل أخذ برأس فرسه عليه أداة
الحرب (8).



(1) في نسخة الأصل: قال.
(2) الجعاسيس: جمع الجعسوس بضم الجيم وهو القصير أو قبيح المنظر.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 188.
(4) آل عمران: 125.
(5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 188.
(6) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 189.
(7) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 189.
(8) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 189.
153
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر، وإنما أتوا
بالمدد في غيرها (1).
وكانت الراية في يوم بدر مع علي (عليه السلام)، وكان لواؤه مع مصعب بن عمير،
وراية الأنصار مع سعد بن عبادة (2).
ولما أمسى يوم بدر والأسارى محبوسون في الوثاق بات رسول الله (صلى الله عليه وآله)
ساهرا أول ليله، فقال له أصحابه: مالك لا تنام؟ فقال: سمعت تضور العباس في
وثاقه. فقاموا إلى العباس فأطلقوه فنام رسول الله (صلى الله عليه وآله) (3).
وكان الذي أسر العباس أبا اليسر كعب بن عمرو أخا بني سلمة، وكان
مجموعا، وكان العباس رجلا جسيما فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا أبا اليسر كيف
أسرت العباس. فقال: يا رسول الله أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده،
هيئة كذا وهيئة كذا. فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): لقد أعانك عليه ملك كريم.
وقال النبي (صلى الله عليه وآله) للعباس حين انتهى به إلى المدينة: أفد نفسك وابني أخيك
عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث وحليفك عتبة بن عمر بن حجدم أخا بني
الحارث بن فهر فإنك ذو مال فأفد نفسك.
وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أخذ منه عشرين أوقية ذهبا. فقال العباس: يا رسول
الله أحسبها لي فداي.
قال: لا ذاك شئ أعطاناه الله عز وجل منك.
قال: فإنه ليس لي مال.
قال: وأين المال الذي وضعته بمكة حين خرجت عند أم الفضل بنت الحارث
ليس معكما أحد ثم قلت لها: إن أصبت في سفري هذا فللفضل كذا ولعبد الله كذا
ولقثم كذا ولعبيد الله كذا؟
قال: والذي بعثك بالحق ما علم هذا أحد غيري وغيرها وأني لأعلم أنك



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 189.
(2) بحار الأنوار: ج 19 ص 325.
(3) البداية والنهاية: ج 3 ص 299.
154
رسول الله. ففدى العباس نفسه وابني أخيه وحليفه (1).
عائشة: لما بعث أهل مكة في فداء اسرائهم بعثت زينب بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)
في فداء أبي العاص بن الربيع بمال وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة عليها
السلام أدخلتها بها إلى أبي العاص حتى بنى عليها. فلما رآها رسول الله (صلى الله عليه وآله) رق
لها رقة شديدة وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها فافعلوا.
فقالوا: نعم يا رسول الله، ففعلوا (2).
وناحت قريش على قتلاهم، ثم قالت: لا تفعلوا فيبلغ ذلك محمدا فيشمت
بكم (3).
وكان الأسود بن عبد يغوث قد أصيب بثلاثة من ولده: زمعة وعقيل والحارث
بني الأسود، وكان يحب أن يبكي عليهم، فبينا هو كذلك إذ سمع نائحة في الليل،
فقال لغلام له وقد ذهب بصره: انظر هل أحل النوح؟ هل بكت قريش على قتلاها
لعلي أبكي على أبي حكيمة يعني زمعة فإن جوفي قد احترق؟ فلما رجع الغلام
قال: إنما هي امرأة، تبكي على بعير لها أضلته، فذلك حين يقول:
أتبكي أن يضل لها بعير * ويمنعها من النوم السهود
ولا نبكي على بكر ولكن * على بدر تقاصرت الجدود (4)
وهتف من جبال مكة يوم بدر:
أذل الحنيفون بدرا بوقعة * سينقض منها ملك كسرى وقيصرا (5)
أصابت رجالا من لؤي وجردت * حرائر تضربن الجرائد حسرا
إلا ويح من أمسى عدو محمد * لقد ذاق خزيا في الحياة وخسرا
وأصبح في هام العجاج (6) معفرا * تناوله الطير الجياع وتنقرا (7)



(1) البداية والنهاية: ج 3 ص 299، بحار الأنوار: ج 19 ص 273 - 274 باب 10 ح 14.
(2) بحار الأنوار: ج 19 ص 241.
(3) السيرة النبوية لابن هشام: ج 2 ص 302.
(4) السيرة النبوية لابن هشام: ج 2 ص 302.
(5) في البداية والنهاية: " أزار " بدل " أذل " و " ركن " بدل " ملك ".
(6) العجاج: الغبار (لسان العرب 2 / 319).
(7) البداية والنهاية: ج 3 ص 308 مع اختلاف.
155
[غزوة] أحد
وكانت غزوة أحد في شوال، وهو يوم المهراس (1).
قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة والربيع والسدي وابن
إسحاق: نزل قوله تعالى: * (وإذ غدوت من أهلك) * (2) وهو المروي عن أبي
جعفر (عليه السلام) (3).
وعن زيد بن وهب * (ان الذين تولوا منكم) * (4). فقال: لم انهزمنا وقد وعدنا
بالنصر؟! فنزل: * (ولقد صدقكم الله وعده) * (5) (6).
وعن ابن مسعود والصادق (عليه السلام): لما قصد أبو سفيان في ثلاثة آلاف من
قريش إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، ويقال في ألفين، منهم مائتا فارس والباقون ركب، ولهم
سبعمائة درع، وهند ترتجز وتقول:
نحن بنات طارق * نمشي على النمارق (7)
والمسك في المفارق (8) * والدر في المخانق (9)
وكان قد استأجر أبو سفيان يوم أحد ألفين من الأحابيش (10) يقاتل بهم
النبي (صلى الله عليه وآله)، فنزل: * (ان الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله) * (11).
فرأى النبي (صلى الله عليه وآله) أن يقاتل الرجال على أفواه السكك (12) والضعفاء من فوق



(1) المهراس: حجر منقور يتوضأ منه، وماء بأحد.
(2) آل عمران: 117.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 191.
(4) آل عمران: 149.
(5) آل عمران: 145.
(6) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 191.
(7) النمرق والنمرقة: الوسادة الصغيرة يتكأ عليها.
(8) والمفارق: جمع مفرق وهو من الشعر موضع افتراقه.
(9) والمخانق: جمع المخنقة: القلادة وما يخنق به.
(10) الأحابيش جمع الأحبوش: الجماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة.
(11) الأنفال: 36.
(12) السكة: الطريقة المصطفة من النخل، ومنها قيل للأزقة سكك لاصطفاف الدور فيها. النهاية
لابن الأثير: ج 2 ص 384.
156
البيوت. فأبوا إلا الخروج، فلما صار على الطريق قالوا: نرجع. فقال (عليه السلام): ما كان
لنبي إذا قصد قوما أن يرجع عنهم. وكانوا ألف رجل، ويقال سبعمائة.
فانعزل عنهم عبد الله بن أبي السلول بثلث الناس، فهمت بنو حارثة وبنو سلمة
بالرجوع، وهو قوله تعالى: * (إذ همت طائفتان منكم) * (1) قال الجبائي: هما به
ولم تفعلاه.
فنزلوا دون بني حارثة، فأصبح وتجاوز يسيرا، وجعل (عليه السلام) على راية
المهاجرين عليا، وعلى راية الأنصار سعد بن عبادة، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
اخرجوا إليهم على اسم الله. فخرجنا فصففنا لهم صفا طويلا. وأقام على الشعب
خمسين رجلا من الأنصار وأمر عليهم رجلا منهم وقال: لا تبرحوا مكانكم هذا
وإن قتلنا عن آخرنا فإنما نؤتى من موضعكم.
فأقام أبو سفيان بإزائهم خالد بن الوليد، وكان لواء المشركين مع طلحة بن أبي
طلحة، وكان يدعى كبش الكتيبة.
ودفع رسول الله (صلى الله عليه وآله) لواء المهاجرين إلى علي (عليه السلام).
وتقدم طلحة وتقدم علي، فقال له علي: من أنت؟ قال: أنا طلحة بن أبي طلحة
كبش الكتيبة، فمن أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب. ثم تقاربا
فاختلف بينهما ضربتان، فضربه علي (عليه السلام) على مقدم رأسه فندرت عيناه وصاح
صيحة لم يسمع مثلها وسقط اللواء من يده، فأخذه أخ له يقال له مصعب، فرآه
عاصم بن ثابت فقتله. ثم أخذ اللواء أخ له يقال له عثمان، فرماه عاصم أيضا بسهم
فقتله. فأخذه عبد لهم يقال له صواب وكان من أشد الناس، فضربه علي (عليه السلام) فسقط
صريعا وانهزم القوم، وأكب المسلمون على الغنائم.
فلما رأى أصحاب الشعب ذلك قالوا لرئيسهم عمرو بن حرب: نريد أن نغنم
كما غنم الناس.
فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمرني أن لا أفارق موضعي هذا.



(1) آل عمران: 118.
157
فقالوا له: أنه أمرك وهو لا يدري أن الأمر يبلغ إلى حيث ترى. ومالوا إلى
الغنائم وتركوه، ولم يبرح هو من موضعه، فحمل عليه خالد بن الوليد فقتله.
وجاء من ظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله) يريده، فنظر إلى النبي (عليه السلام) في حف من
أصحابه فقال لمن معه: دونكم هذا الذي تطلبون. فحملوا عليه حملة رجل واحد
ضربا بالسيف وطعنا بالرمح ورميا بالنبل ورضخا بالحجارة.
وجعل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقاتلون عنه حتى قتل منهم سبعون رجلا،
وثبت منهم أمير المؤمنين وأبو دجانة وسهل بن حنيف للقوم يدفعون عن
النبي (صلى الله عليه وآله)، فكثر عليهم المشركون ففتح رسول الله (عليه السلام) عينه وكان قد أغمي عليه
مما ناله، فنظر إلى علي فقال: يا علي ما فعل الناس؟
قال: نقضوا العهد وولوا الدبر.
فقال له: اكفني هؤلاء الذين قصدوا قصدي. فحمل عليهم فكشفهم، ثم عاد اليه
وقد حملوا عليه من ناحية أخرى فكر عليهم فكشفهم. وأبو دجانة وسهل بن
حنيف قائمان على رأسه بيد كل واحد منهما سيفه ليذب عنه.
وثاب إليه من أصحابه المنهزمين أربعة عشر رجلا، منهم: طلحة بن عبيد الله،
وعاصم بن ثابت. وصعد الباقون الجبل، وصاح صائح بالمدينة: قتل رسول
الله (صلى الله عليه وآله)، فأخذ المنهزمون يمينا وشمالا.
وكانت هند بنت عتبة جعلت لوحشي جعلا على أن يقتل رسول الله (صلى الله عليه وآله)
وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أو حمزة (رضي الله عنه). فقال لها: أما محمد فلا حيلة
لنا فيه لأن أصحابه يطيفون به، وأما علي فإنه إذا قاتل كان أحذر من الذئب، وأما
حمزة فإنني أطمع فيه لأنه إذا غضب لم يبصر بين يديه. وكان حمزة قد أعلم يومئذ
بريشة النعام في صدره (1).
فكمن له وحشي في أصل شجرة، فرآه حمزة فبدر إليه بالسيف فضربه ضربة



(1) الإرشاد للمفيد: ص 44 - 45.
158
أخطأت رأسه، فزرقه وحشي بالحربة فوق الثدي فسقط، وشدوا عليه فقتلوه،
فأخذ وحشي الكبد فشد بها إلى هند، فأخذتها فطرحتها في فيها، فصارت مثل
الداعصة - وهي العظم المدور الذي يتحرك على رأس الركبة - فلفظتها، ويقال:
صارت حجرا. وأتت هند وجدعت أنف حمزة واذنه وجعلتها في مخنقتها
بالذريرة (1) مدة.
فلما رأى النبي (صلى الله عليه وآله) حمزة خنقته العبرة وقال: لأمثلن بسبعين من قريش.
فنزل: * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم) * (2). فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): بل
أصبر (3).
وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) مشغولا عنه لا يعلم ما انتهى إليه الأمر (4).
قال زيد بن وهب: قلت لابن مسعود: انهزم الناس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى
لم يبق معه إلا علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأبو دجانة وسهل بن حنيف.
قال ابن مسعود: انهزم الناس إلا علي بن أبي طالب وحده، وثاب إلى رسول
الله (صلى الله عليه وآله) نفر أولهم عاصم بن ثابت وأبو دجانة وسهل بن حنيف، ولحقهم طلحة بن
عبيد الله.
فقلت له: فأين كان أبو بكر وعمر؟
قال: كانا ممن تنحى.
قلت: فأين كان عثمان؟
قال: جاء بعد ثلاثة أيام من الوقعة، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): لقد ذهبت فيها
عريضة.
قال: قلت له: فأين كنت أنت؟
قال: كنت ممن تنحى.



(1) الذريرة: فتات من قصب الطيب الذي يجاء به من بلد الهند يشبه قصب النشاب (لسان
العرب 4 / 303).
(2) النحل: 126.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 193.
(4) الإرشاد للمفيد: ص 45.
159
قال: قلت له: فمن حدثك بهذا؟
قال: عاصم بن ثابت وسهل بن حنيف.
قال: قلت له: إن ثبوت علي في ذلك المقام لعجب.
فقال: إن تعجبت من ذلك لقد تعجبت منه الملائكة، أما علمت أن جبريل (عليه السلام)
قال في ذلك اليوم وهو يعرج إلى السماء: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي.
فقلت له: فمن أين علم ذلك من جبرئيل (عليه السلام)؟
قال: سمع الناس صائحا يصيح في السماء بذلك، فسألوا النبي (عليه السلام) عنه، فقال:
ذلك جبرئيل (1).
وفي حديث عمران بن حصين قال: لما تفرق الناس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في
يوم أحد جاء علي متقلدا بسيفه حتى وقف بين يديه، فرفع رسول الله (صلى الله عليه وآله) رأسه
اليه، فقال له: مالك ما تفر مع الناس؟ قال: يا رسول الله أرجع كافرا بعد إسلامي؟!
فأشار له إلى قوم انحدروا من الجبل، فحمل عليهم فهزمهم، ثم أشار إلى قوم
اخر فحمل عليهم فهزمهم ثم أشار له إلى قوم اخر فحمل عليهم فهزمهم.
فجاء جبريل (عليه السلام) إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله لقد عجبت الملائكة
وعجبنا معها من حسن مواساة علي لك بنفسه.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): وما يمنعه من ذلك، هو مني وأنا منه.
فقال جبريل (عليه السلام): وأنا منكما (2).
وقد روى محمد بن مروان، عن عمارة، عن عكرمة: قال: سمعت عليا (عليه السلام)
يقول: لما انهزم الناس يوم أحد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لحقني من الجزع عليه ما لم
أملك معه نفسي، وكنت أمامه أضرب بسيفي بين يديه فرجعت أطلبه فلم أجده.
فقلت: ما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليفر وما رأيته في القتلى فأظنه رفع من بيننا،
فكسرت جفن سيفي، وقلت في نفسي: لأقاتلن به عنه حتى اقتل، وحملت على



(1) الإرشاد للمفيد: ص 45.
(2) بحار الأنوار: ج 20 ص 129 باب 11 من تاريخ نبينا (صلى الله عليه وآله) ذيل ح 50.
160
القوم فأفرجوا فإذا أنا برسول الله (صلى الله عليه وآله) قد وقع على الأرض مغشيا عليه، فوقفت
على رأسه، فنظر إلي وقال: ما صنع الناس يا علي؟
فقلت: كفروا يا رسول الله وولوا الدبر من العدو وأسلموك.
فنظر النبي (عليه السلام) إلى كتيبة أقبلت إليه، فقال لي: رد عني يا علي هذه الكتيبة.
فحملت عليها بسيفي أضربها يمينا وشمالا حتى ولوا الأدبار.
فقال لي النبي (عليه السلام): ما تسمع يا علي مدحتك في السماء! إن ملكا يقال له
رضوان ينادي: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي. فبكيت سرورا وحمدت الله
على نعمته (1).
وروى الحسن بن محبوب، قال: حدثنا جميل بن صالح، عن أبي عبيدة، عن
أبي عبد الله جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهم السلام) قال: كان أصحاب اللواء يوم أحد
سبعة (2) قتلهم علي (عليه السلام) عن آخرهم وانهزم القوم، فلم يعد بعدها أحد منهم،
وتراجع المنهزمون من المسلمين إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وانصرف المشركون إلى مكة،
وانصرف النبي (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة فاستقبلته فاطمة (عليها السلام) معها إناء فيه ماء، فغسل به
وجهه، ولحقه أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد خضب الدم يده إلى كتفه ومعه ذو الفقار،
فناوله فاطمة (عليها السلام)، وقال لها: خذي هذا السيف فقد صدقني اليوم وأنشأ يقول:
أفاطم هاك السيف غير ذميم * فلست برعديد (3) ولا بمليم (4)
لعمري لقد أعذرت في نصر أحمد * وطاعة رب بالعباد رحيم (5)
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): خذيه يا فاطمة فقد أدى بعلك ما عليه، وقد قتل الله
بسيفه صناديد قريش.
وروي: أنه لما انتهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى فم الشعب خرج علي (عليه السلام) حتى ملأ



(1) الإرشاد للمفيد: ص 46 - 47.
(2) في الإرشاد: تسعة.
(3) الرعديد: الجبان (لسان العرب 3 / 179).
(4) المليم بمعنى الملوم (لسان العرب 12 / 558).
(5) في الإرشاد: " عليم " بدل " رحيم ".
161
درقته (1) من المهراس (2) ماء، فجاء به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليشرب منه فوجد له
ريحا فعافه، فغسل منه وجهه.
غزاة الأحزاب
وهي الخندق، وكانت هذه الغزاة في شوال سنة خمس من الهجرة.
قوله تعالى: * (إذ جاؤوكم من فوقكم) * أي من قبل المشرق * (ومن أسفل
منكم) * أي من الغرب، إلى قوله * (غرورا) * (3).
فخرج أبو سفيان بقريش، والحارث بن عوف في بني مرة، ووبرة بن طريف
ومسعود بن جبلة في أشجع، وطليحة بن خويلد في بني أسد، وعيينة بن حصين
الفزاري في غطفان، وبني فزارة وقيس بن غيلان وأبو الأعور السلمي في بني
سليم، ومن اليهود حي بن أخطب، وكنانة بن الربيع، وسلام بن أبي الحقيق، وهوذة
ابن قيس الوالبي في رجالهم، فكانوا ثمانية عشر ألفا، والمسلمون في ثلاثة آلاف.
فلما سمع النبي (صلى الله عليه وآله) باجتماعهم استشار أصحابه، فأجمعوا على المقام
بالمدينة وحربهم على إيقابها، وأشار سلمان بالخندق، فأقاموا بضعا وعشرين ليلة
لم يكن بينهم حرب إلا مراماة.
فلما رأى النبي (عليه السلام) إلى ضعف قومه استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة في
المصالحة على ثلث ثمار المدينة لعيينة بن حصين الفزاري والحارث بن عوف
المري، فأبيا. فقال (عليه السلام): إن الله تعالى لن يخذل نبيه ولن يسلمه حتى ينجز له
ما وعده فقام (عليه السلام) يدعوهم إلى الجهاد ويعدهم النصر (4).
وقد كان انتدب فوارس من قريش إلى البراز منهم عمرو بن عبد ود وعكرمة
ابن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان وضرار بن الخطاب ومرداس



(1) الدرق: ضرب من الترسة، الواحدة درقة تتخذ من الجلود (لسان العرب 10 / 95).
(2) المهراس: حجر مستطيل منقور يتوضأ منه ويدق فيه (لسان العرب 6 / 248).
(3) الأحزاب: 10.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 197 - 198.
162
الفهري، فلبسوا للقتال ثم خرجوا على خيلهم حتى مروا بمنازل بني كنانة، فقالوا:
تهيؤا يا بني كنانة للحرب ثم أقبلوا تعنق بهم خيلهم حتى وقفوا على الخندق،
فلما تأملوه قالوا: والله إن هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها، ثم تيمموا مكانا
من الخندق فيه ضيق فضربوا خيلهم فاقتحمته، وجاءت بهم في السبخة بين
الخندق وسلع (1).
وخرج أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في نفر معه من المسلمين حتى
أخذوا على الثغرة التي اقتحموها.
فتقدم عمرو بن عبد ود الجماعة الذين خرجوا معه، وقد أعلم ليرى مكانه.
فلما رأى المسلمين وقف هو والخيل التي معه وقال: هل من مبارز؟ فبرز إليه
أمير المؤمنين (عليه السلام).
فقال له عمرو بن عبد ود: ارجع يا ابن أخي فما أحب أن أقتلك.
فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): قد كنت عاهدت الله يا عمرو أن لا يدعوك أحد
من قريش إلى إحدى خصلتين إلا اخترتها منه.
قال: أجل فما ذاك؟
قال (عليه السلام): فإني أدعوك إلى الله ورسوله والإسلام.
قال: لا حاجة لي في ذلك.
قال: فإني أدعوك إلى النزال.
فقال: ارجع فقد كان بيني وبين أبيك خلة (2) وما أحب أن أقتلك.
فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): لكني والله أحب أن أقتلك ما دمت أبيا للحق.
فحمى عمرو من ذلك وقال: أتقتلني، ونزل عن فرسه فعقره وضرب وجهه
حتى نفر، وأقبل على علي (عليه السلام) مصلتا سيفه، وبدره بالسيف فنشب سيفه في ترس
علي (عليه السلام)، وضربه علي (عليه السلام) فقتله.



(1) سلع: موضع بقرب المدينة، وقيل: جبل بالمدينة (لسان العرب 8 / 161).
(2) الخلة: الصداقة المختصة التي ليس فيها خلل (لسان العرب 11 / 216).
163
فلما رأى عكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب وضرار بن الخطاب عمرا
صريعا ولوا بخيلهم منهزمين حتى اقتحموا الخندق لا يلوون على شئ، وانصرف
أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى مقامه الأول وهو يقول:
نصر الحجارة من سفاهة رأيه * ونصرت رب محمد بصواب
فضربته فتركته متجدلا * كالجذع بين دكادك وروابي
وعففت عن أثوابه ولو أنني * كنت المقطر بزني أثوابي (1)
وقد روي أن عمرا كان يدعو إلى البراز ويعرض بالمسلمين ويقول:
ولقد بححت من النداء * بجمعهم هل من مبارز
وفي كل ذلك يقوم علي (عليه السلام) فيأمره النبي (صلى الله عليه وآله) بالجلوس، فلما تتابع قيام
أمير المؤمنين (عليه السلام) قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): ادن مني يا علي. فدنا منه فنزع عمامته
من رأسه وعممه بها، وأعطاه سيفه، وقال له: امض لشأنك، ثم قال: اللهم أعنه،
فسعى نحو عمرو ومعه جابر لينظر ما يكون منه ومن عمرو.
فقال جابر (رضي الله عنه): فثارت بينهما قترة (2) فما رأيتهما وسمعت التكبير تحتها،
فعلمت أن عليا (عليه السلام) قد قتله، فانكشف أصحابه حتى طفرت خيولهم الخندق،
وتبادر المسلمون حين سمعوا التكبير ينظرون ما صنع القوم، فوجدوا نوفل بن
عبد الله في الخندق لم ينهض به فرسه، فجعلوا يرمونه بالحجارة فقال لهم: قتلة
أجمل من هذه، ينزل بعضكم إلي أقاتله. فنزل إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) فضربه حتى
قتله. ولحق هبيرة فأعجزه، فضرب قربوس سرجه وسقطت درع كانت له، وفر
عكرمة، وهرب ضرار بن الخطاب.
قال جابر: فما شبهت قتل علي عمرا إلا بما قص الله تعالى من قصة داود
وجالوت حيث يقول * (فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت) * (3) (4).



(1) الإرشاد للمفيد: ص 52 - 53.
(2) القترة: غبرة يعلوها سواد كالدخان (لسان العرب 5 / 71).
(3) البقرة: 251.
(4) الإرشاد للمفيد: ص 53 - 54.
164
قال ربيعة السعدي: أتيت حذيفة بن اليمان فقلت له: يا عبد الله إنا لنحدث
عن علي ومناقبه فيقول لنا أهل البصرة: إنكم تفرطون في علي، فهل أنت محدثي
بحديث فيه؟
فقال حذيفة: يا ربيعة ما تسألني عن علي، والذي نفسي بيده لو وضع جميع
أعمال أصحاب محمد في كفة الميزان منذ بعث الله محمدا إلى يوم الناس هذا
ووضع عمل علي في الكفة الأخرى لرجح عمل علي على جميع أعمالهم.
فقال ربيعة: هذا الذي لا يقام له ولا يقعد.
فقال حذيفة: يا لكع وكيف لا يحمل؟! وأين كان أبو بكر وعمر وحذيفة
وجميع أصحاب محمد يوم عمرو بن عبد ود وقد دعا إلى المبارزة فأحجم الناس
كلهم ما خلا عليا (عليه السلام)، فإنه برز إليه فقتله الله على يده؟! والذي نفس حذيفة بيده
لعمله ذلك اليوم أعظم أجرا من أصحاب محمد إلى يوم القيامة (1).
وعن عمرو بن عبيد، عن الحسن: ان عليا (عليه السلام) لما قتل عمرو بن عبد ود احتز
رأسه وحمله فألقاه بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقام أبو بكر وعمر فقبلا رأس
علي (عليه السلام) (2).
وروى علي بن الحكم الأودي قال: سمعت أبا بكر بن عباس يقول: لقد ضرب
علي (عليه السلام) ضربة ما كان في الاسلام أعز منها، يعني ضربة عمرو بن عبد ود، ولقد
ضرب علي (عليه السلام) ضربة ما كان في الاسلام أشأم منها، يعني ضربة ابن ملجم
لعلي (عليه السلام) (3).
وفي قتل عمرو بن عبد ود يقول حسان بن ثابت:
أمسى الفتى عمرو بن عبد يبتغي * بجنوب يثرب غارة لم ينظر
ولقد وجدت سيوفنا مشهورة * ولقد وجدت جيادنا لم تقصر



(1) الإرشاد للمفيد: ص 54 - 55.
(2) الإرشاد للمفيد: ص 55 وفيه: عمرو بن عبيد.
(3) الإرشاد للمفيد: ص 55.
165
فلقد رأيت غداة بدر عصبة * ضربوك ضربا غير ضرب المحشر
أصبحت لا تدعى ليوم عظيمة * يا عمرو أو لعظيم أمر منكر
ويقال: إنه لما بلغ شعر حسان بن ثابت بني عامر أجابه فتى منهم فقال يرد
عليه في افتخاره بالأنصار:
كذبتم وبيت الله لم تفتكوا بنا * ولكن بسيف الهاشميين فافخروا
بسيف ابن عبد الله أحمد في الوغى * بكف علي نلتم ذاك فاقصروا
فلم تقتلوا عمرو بن ود ببأسكم * ولكنه الكفؤ الهزبر (1) الغضنفر
علي الذي في الفخر طال بناؤه * فلا تكثروا الدعوى علينا فتحقروا
ببدر خرجتم للبراز فردكم * شيوخ قريش جهرة وتأخروا
فلما أتاهم حمزة وعبيدة * وجاء علي بالمهند يخطر
فقالوا نعم أكفاء صدق وأقبلوا * إليهم سراعا إذ بغوا وتجبروا
فجال علي جولة هاشمية * فدمرهم لما عتوا وتكبروا
فليس لكم فخر علينا بغيرنا * وليس لكم فخر يعد ويذكر (2)
وقيل: لما قتل علي (عليه السلام) عمرو بن عبد ود نعي إلى أخته، فقالت: من الذي
اجترى عليه؟ قالوا: ابن أبي طالب. فقالت: لو لم يعد يومه على يد كفو كريم
لأرقت عبرتي أن هرقتها عليه، قتل الأبطال وبارز الأقران وكانت منيته على يد
كفؤ كريم، وأنشأت تقول:
لو كان قاتل عمرو غير قاتله * لكنت أبكي عليه سالف الأبد
لكن قاتله من لا يعاب به * وكان يدعى قديما بيضة البلد (3)
وقالت أيضا، وقيل: إن هذه الأبيات لمشافع بن عبد مناف بن وهب:
عمرو بن عبد كان أول فارس * جزع المذاد وكان فارس يليل
يسأل النزال على فارس غالب * بجنوب سلع ليته لم ينزل



(1) الهزبر: من أسماء الأسد (لسان العرب 5 / 263).
(2) الإرشاد للمفيد: ص 56.
(3) الإرشاد للمفيد: ص 57.
166
فاذهب علي فما ظفرت بمثله * فخرا ولا لاقيت مثل المعضل (1)
وروي أن عليا (عليه السلام) قتل يوم الخندق أيضا حسلا ولد عمرو بن عبد ود (2).
وقالت أخت عمرو: والله لا ثأرت قريش بأخي ما حنت النيب (3) (4).
وقيل: كانت صفية بنت عبد المطلب في قارع حصن حسان بن ثابت في يوم
الخندق، قالت: وكان حسان معنا فيه مع النساء والصبيان، قالت: فمر بنا يهودي
فجعل يطيف بالحصن. قالت: فقلت: يا حسان إن هذا اليهودي ما آمنه أن يدل
على عوراتنا من ورائنا من يهود وقد شغل عنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأصحابه فانزل
اليه فاقتله.
فقال: يغفر الله لك يا بنت عبد المطلب لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا.
قالت: فلما قال ذلك ولم أر عنده شيئا احتجزت ثم أخذت عمودا ونزلت اليه
فضربته حتى قتلته، فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن قلت: يا حسان انزل إليه
فاسلبه فإنه لم يمنعني عن سلبه إلا أنه رجل.
فقال: ما لي بسلبه حاجة يا بنت عبد المطلب (5).
وقال عبد الله بن الزبير: كنا في قارع أطم (6) حسان مع النساء يوم الخندق،
ومعنا حسان قد ضرب وتدا في الأطم، فإذا حمل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على المشركين
حمل على الوتد فضربه بالسيف، وإذا أقبل المشركون انحاز عن الوتد حتى كأنه
يقاتل قرنا يريد التشبه بهم.
غزاة بني قريظة
ولما انهزم الأحزاب عمل النبي (صلى الله عليه وآله) على قصد بني قريظة في ذي القعدة،



(1) الروض الآنف: ج 3 ص 291.
(2) البداية والنهاية: ج 4 ص 116.
(3) النيب: المسنة من النوق (لسان العرب 1 / 777).
(4) الإرشاد للمفيد: ص 57.
(5) السيرة النبوية لابن هشام: ج 3 ص 136 - 137.
(6) الأطم: حصن مبني بحجارة (لسان العرب 12 / 19).
167
وكانوا نقضوا العهد مع النبي (صلى الله عليه وآله).
وعن الزهري وعروة: لما دخل النبي (صلى الله عليه وآله) المدينة وجعلت فاطمة (عليها السلام) تغسل
رأسه إن قال له جبريل (عليه السلام): رحمك ربك وضعت السلاح ولم يضعه أهل السماء،
ما زلت اتبعهم حتى بلغت الروحاء.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله): لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة، وسأل: هل مر بكم
الفارس آنفا؟
فقالوا: مر بنا دحية الكلبي على بغلة شهباء تحته قطيفة ديباج.
فقال (عليه السلام): ليس ذاك بدحية ولكنه جبريل (عليه السلام) أرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم
ويقذف في قلوبهم الرعب ثم أقدم عليا (عليه السلام) وقال له: سر على بركة الله فإن الله
قد وعدكم أرضهم وديارهم، ومعه المهاجرون والأنصار، وجعل يسرب (1) إليهم
الرجال (2).
فلما رأوا عليا (عليه السلام) صاح صائح منهم: قد جاءكم قاتل عمرو، وقال آخر:
قد أقبل إليكم قاتل عمرو. وجعل بعضهم يصيح ببعض ويقولون ذلك، وسمع
راجز يرتجز:
قتل علي عمرا * صاد علي صقرا
قصم علي ظهرا * أبرم علي أمرا
هتك علي سترا (3).
فقال علي (عليه السلام): فقلت: الحمد لله الذي أظهر الاسلام وقمع الشرك (4).
فحاصرهم النبي (عليه السلام) خمسا وعشرين ليلة حتى سألوه النزول على حكم
سعد بن معاذ، فحكم فيهم سعدا بقتل الرجال وسبي الذراري والنساء وقسمة
الأموال.



(1) يسرب بالتشديد: أي يوجه نحوه ويرسل إليه الرجال طائفة بعد طائفة.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 200.
(3) الإرشاد للمفيد: ص 58.
(4) الإرشاد للمفيد: ص 58.
168
فقال النبي (صلى الله عليه وآله): يا سعد لقد حكمت فيهم بحكم الله عز وجل من فوق سبعة
أرقعة. وأمر النبي (صلى الله عليه وآله) بإنزال الرجال منهم وكانوا تسعمائة رجل، فجئ بهم إلى
المدينة، وقسم الأموال واسترق الذراري والنسوان (1).
ولما جئ بالأسارى إلى المدينة حبسوا في دار من دور بني النجار، وخرج
رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى موضع السوق اليوم، فخندق فيه خنادق، وحضر أمير المؤمنين
ومعه المسلمون، فأمر بهم أن يخرجوا، وتقدم إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) بضرب
أعناقهم في الخندق.
فاخرجوا إرسالا وفيهم حي بن أخطب وكعب بن أسد، وهما إذ ذاك رئيسا
القوم، فقالوا للكعب بن أسد وهم يذهب بهم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا كعب ما تراه
يصنع بنا؟
فقال: في كل موطن لا تعقلون، ألا ترون أن الداعي لا ينزع ومن ذهب منكم
لا يرجع، هو والله القتل.
وجئ بحي بن أخطب مجموعة يداه إلى عنقه. فلما نظر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)
قال: أما والله تألمت نفسي على عداوتك ولكن من يخذل الله يخذل.
ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس أنه لا بد من أمر الله كتاب وقدر وملحمة
كتبت على بني إسرائيل. ثم أقيم بين يدي أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يقول: قتلة
شريفة بيد شريف.
فقال (عليه السلام): إن خيار الناس يقتلون شرارهم، وشرار الناس يقتلون خيارهم،
فالويل لمن قتله الأخيار الأشراف، والسعادة لمن قتله الأرذال الكفار.
فقال: صدقت، لا تسلبني حلتي.
قال: هي أهون علي من ذاك.
قال: سترتني سترك الله. ومد عنقه فضربها علي (عليه السلام) ولم يسلبه من بينهم.



(1) الإرشاد للمفيد: ص 58.
169
ثم قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لمن جاء به: ما كان يقول حي وهو يقاد إلى الموت؟
قالوا: كان يقول:
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه * ولكنه من يخذل الله يخذل
فجاهد حتى بلغ النفس جهدها * وحاول يبغي العز كل مقلل (1).
واصطفى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من نسائهم عمرة بنت خنافة. وقتل من نسائهم امرأة
واحدة كانت أرسلت عليه (صلى الله عليه وآله) حجرا (2).
ولم يقتل من المسلمين غير خلال.
غزاة بنو (3) المصطلق
هم من خزاعة، وهي غزوة المريسيع، ورأسهم الحارث بن أبي ضرار.
وأصيب يومئذ ناس من بني عبد المطلب، فقتل علي (عليه السلام) مالكا وابنه، فأصاب
النبي (عليه السلام) سبيا كبيرا، وكان سبا علي (عليه السلام) جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار،
فاصطفاها النبي (صلى الله عليه وآله)، فجاء أبوها إلى النبي (صلى الله عليه وآله) بفداء ابنته، فسأله النبي (صلى الله عليه وآله) عن
جملين خبأهما في شعب كذا. فقال الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله،
والله ما عرف بهما أحد سواي.
ثم قال: يا رسول الله إن ابنتي لا تسبى أنها امرأة كريمة.
قال: اذهب فخيرها.
قال: أحسنت وأجملت. وجاء إليها أبوها، فقال لها: يا بنية لا تفضحي قومك.
فقالت: قد اخترت الله ورسوله. فدعا عليها أبوها. فأعتقها رسول الله وجعلها
في جملة أزواجه.
فلما سمع قومها ذلك أرسلوا ما كان في أيديهم من بني المصطلق، فما علم
امرأة أعظم بركة على قومها منها.
وفي هذه الغزاة نزلت: * (إن الذين جاؤوا بالإفك) * (4) (5).
)



(1) في الإرشاد: " مقلقل " بدل " مقلل ".
(2) الإرشاد للمفيد: ص 58 - 59.
(3) كذا في الأصل، والقاعدة: بني المصطلق.
(4) النور: 11.
(5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 201.
170
وكان شعار المسلمين يومئذ: يا منصور أمت (1).
ثم تلا بني المصطلق الحديبية.
ثم اعتمر عمرة الحديبية في ألف ونيف رجل وسبعين بدنة، فهمت قريش في
صده وبعثوا إليه مكرز بن حفص وخالد بن الوليد وصدوا الهدي، فبعث النبي (صلى الله عليه وآله)
عثمان إليهم بزي (2) أنه معتمر، فلما أبطأ أخذ (عليه السلام) البيعة تحت شجرة السمرة على
أن لا يفروا.
قال الزهري: فلما صار بذي الحليفة قلد النبي (عليه السلام) الهدي وأشعره وأحرم
بالعمرة، فلما بلغ غدير الأشطاط عند عسفان أتاه عيينة الخزاعي فقال له: إن
كعب بن لؤي وعامر بن لؤي جمعوا لك الجموع وهم مقاتلوك وصادوك عن
البيت.
فقال (عليه السلام): إن خالد بن الوليد بالغميم (3) طليعة - وهو اسم جبل القرقيش -
فخذوا ذات اليمين. وسار حتى إذا كان بالثنية بركت ناقته فقال: ما خلأت (4)
القصوى ولكن حبسها حابس الفيل.
ثم قال: والله لا يسألونني خطة (5) يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها.
قال: فعدل فنزل بأقصى الحديبية على ثمد الفضة (6) - وهي بئر قليل الماء -
فأتاهم بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة وكانوا عيبة (7) نصح رسول الله
وقال كما قال العين.
فقال النبي (عليه السلام): إنا لم نأت لقتال أحد ولكن جئنا معتمرين، في كلام له فقال
بديل سأعلمهم ما يقول فأتى قريشا وقال إن هذا الرجل يقول لكم كذا وكذا.
فقال عروة بن مسعود الثقفي: إنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها له.



(1) الإرشاد للمفيد: ص 62.
(2) في المناقب: يرى.
(3) الغميم: كأمير واد بين الحرمين على مرحلتين من مكة.
(4) خلأت الناقة: أي بركت من غير علة.
(5) الخطة بالضم: الأمر والخطب.
(6) في المناقب: ثمد " القصة ".
(7) العيبة من الرجل: موضع سره.
171
فقالوا: آته. فأتى النبي (صلى الله عليه وآله) وسمع منه مثل مقاله لبديل، ورأى تعظيم الصحابة
له (صلى الله عليه وآله) فلما رجع قال: أي قوم والله لقد وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي فلم
أر قط ملكا تعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا، يقتتلون على وضوئه
ويتبادرون لأمره ويخفضون أصواتهم عنده وما يحدون إليه النظر تعظيما له، وأنه
قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوه.
فقال رجل من كنانة: آته. فلما أشرف عليهم قال النبي (عليه السلام): هذا فلان، وهو
من قوم يعظمون البدن فابعثوها. فبعثت، واستقبل القوم يلبون، فلما رأى ذلك قال:
سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت.
ثم جاء مكرز بن حفص فجعل يكلم النبي (صلى الله عليه وآله)، إذ جاء سهل بن عمرو فقال
النبي (عليه السلام): قد سهل عليكم أمركم. فجلس وضرع إلى النبي (صلى الله عليه وآله) في الصلح، ونزل
عليه الوحي بالإجابة إلى ذلك وأن يكتب علي (عليه السلام).
فقال النبي (صلى الله عليه وآله): اكتب بسم الله الرحمن الرحيم... القصة.
ثم كتب: باسمك اللهم، واصطلحا على وضع الحرب عن الناس سبع سنين،
يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، ويأمن المحتازون من الفريقين (1).
ولما تم الصلح نحر رسول الله (صلى الله عليه وآله) هديه في مكانه.
ولما نزل النبي (صلى الله عليه وآله) في هذه النوبة الجحفة فلم يجد بها ماء، فبعث سعد بن
مالك في الروايا (2) حتى إذا كان غير بعيد رجع سعد بالروايا فقال: يا رسول الله ما
أستطيع أن أمضي لقد وقفت قدماي رعبا من القوم.
فقال له النبي (عليه السلام): اجلس.
ثم بعث رجلا آخر فخرج بالروايا حتى إذا كان بالمكان الذي انتهى إليه
الأول رجع، فقال له النبي (عليه السلام)، لم رجعت؟



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 202 - 203. في الأصل، المختارون.
(2) الراوية: المزادة فيها الماء، ويسمى البعير راوية على تسمية الشئ باسم غيره لقربه منه
(لسان العرب 14 / 346).
172
فقال: والذي بعثك بالحق ما استطعت أن أمضي رعبا.
فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين (عليه السلام) فأرسله بالروايا، وخرج السقاة وهم
لا يشكون في رجوعه لما رأوه من جزع ممن تقدمه. فخرج علي (عليه السلام) بالروايا
حتى ورد الخرار (1) فاستقى، ثم أقبل إلى النبي (عليه السلام) فلها زجل (2)، فكبر النبي (صلى الله عليه وآله)
ودعا له بخير (3).
وفي هذه الغزاة أقبل سهيل بن عمرو إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال له: يا محمد إن
أرقاءنا لحقوا بك فارددهم علينا.
فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى تبين الغضب في وجهه ثم قال: لتنتهن يا معشر
قريش أو ليبعثن الله عليكم رجلا امتحن الله قلبه للإيمان يضرب رقابكم على
الدين.
قال بعض من حضر: يا رسول الله أبو بكر ذلك الرجل؟ قال: لا.
قيل: فعمر؟ قال: لا، ولكنه خاصف النعل في الحجرة. فبادر الناس إلى
الحجرة ينظرون إلى الرجل فإذا هو أمير المؤمنين (عليه السلام) (4).
وقد روى هذا الخبر جماعة عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وقالوا: إن عليا (عليه السلام)
قص هذه القصة ثم قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: من كذب علي متعمدا
فليتبوأ مقعده من النار (5).
وكان الذي أصلحه أمير المؤمنين (عليه السلام) من نعل النبي (صلى الله عليه وآله) شسعها، فإنه كان
قد انقطع فخصف موضعه وأصلحه.
وقيل: انقطع شسع نعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) فدفعها إلى علي (عليه السلام) يصلحها، ثم مشى
في نعل واحدة غلوة أو نحوها، وأقبل على أصحابه ثم قال: إن منكم من يقاتل
على التأويل كما قاتل معي على التنزيل.



(1) الخرار: موضع قرب الجحفة (لسان العرب 4 / 234).
(2) الزجل بالتحريك: اللعب والحلبة ورفع الصوت (لسان العرب 11 / 302).
(3) الإرشاد للمفيد: ص 64.
(4) الإرشاد للمفيد: ص 64.
(5) الإرشاد للمفيد: ص 64.
173
فقال أبو بكر: أنا ذاك يا رسول الله؟ فقال: لا.
فقال عمر: أنا يا رسول الله؟ فقال: لا.
فأمسك القوم ونظر بعضهم إلى بعض، فقال (عليه السلام): لكنه خاصف النعل، وأومأ
إلى علي (عليه السلام)، وأنه المقاتل على التأويل إذا تركت سنتي ونبذت وحرف كتاب الله
وتكلم في الدين من ليس له ذلك، فيقاتلهم علي على إحياء دين الله عز وجل (1).
وفي سنة سبع في المحرم كان فتح خيبر، لما دنا النبي (عليه السلام) منها رفع يده وقال:
اللهم رب السماوات السبع وما أظللن ورب الأرضين السبع وما أقللن، ورب
الشياطين وما أضللن، أسألك خير هذه القرية وخير ما فيها وأعوذ بك من شرها
وشر ما فيها (2).
ثم نزل (عليه السلام) تحت شجرة من المكان. ثم أقام وحاصرهم بضعا وعشرين ليلة.
وكانت الراية يومئذ لأمير المؤمنين (عليه السلام)، فلحقه رمد أعجزه عن الحرب، فكان
الناس يتناوشون واليهود من بين أيدي حصونهم وجنباتها.
فلما كان ذات يوم فتحوا الباب وقد كانوا خندقوا على أنفسهم، وخرج
مرحب برجله يتعرض للحرب.
فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبا بكر فقال له: خذ الراية، فأخذها في جمع من
المهاجرين والأنصار واجتهد فلم يغن شيئا، وعاد يؤنب القوم الذين معه ويؤنبونه.
فلما كان من الغد تعرض لها عمر فسار بها غير بعيد ثم رجع يجبن أصحابه
ويجبنونه.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ليست هذه الراية لمن حملها.
وقال: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح
الله على يديه، ليس بفرار.
قال سلمة: فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) وهو أرمد فتفل في عينيه ثم قال له:



(1) الإرشاد للمفيد: ص 65.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 204، الإرشاد للمفيد: ص 65.
174
خذ هذه الراية فامض بها حتى يفتح الله عليك.
قال سلمة: فخرج والله بها يهرول هرولة وإنا خلفه نتبع أثره حتى ركز رايته
في رضم (1) من حجارة تحت الحصن، فأطلع إليه يهودي من رأس الحصن فقال:
من أنت؟ قال: أنا علي بن أبي طالب. قال اليهودي: علوتم وما انزل على موسى.
فما رجع حتى فتح الله على يديه (2).
وروي عن أبي رافع مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: خرجنا مع علي (عليه السلام) حين
بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم، فضرب رجل من
اليهود فطرح ترس علي (عليه السلام) من يده، فتناول (عليه السلام) بابا كان عند الحصن فتترس به
عن نفسه، فلم تزل في يده وهو يقاتل حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده حين
فرغ، فلقد رأيتني في نفر سبعة معي أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب الباب فما نقلبه (3).
وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال له في دعائه: اللهم قه الحر والبرد. وقال له: خذ
الراية - وكانت بيضاء - وامض بها فجبريل معك، والنصر أمامك، والرعب مبثوث
في صدور القوم. واعلم يا علي إنهم يجدون في كتبهم أن الذي يدمر عليهم اسمه
إليا، فإذا لقيتهم فقل: أنا علي فإنهم يخذلون إن شاء الله.
قال علي (عليه السلام): فمضيت بها حتى أتيت إلى الحصن، فخرج مرحب عليه مغفر
وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب
فقلت:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة * ليث لغابات شديد قسورة (4)
أكيلكم بالسيف كيل السندرة (5)



(1) الرضم: الحجارة المجتمعة.
(2) السيرة النبوية لابن هشام: ج 3 ص 216.
(3) السيرة النبوية لابن هشام: ج 3 ص 216.
(4) القسورة: الأسد، والقسورة: الشجاع (لسان العرب 5 / 92).
(5) السندرة: مكيال كبير ضخم. ومعنى البيت: أقتلكم قتلا واسعا كبيرا ذريعا (لسان العرب
4 / 382).
175
واختلفنا ضربتين، فبدرته فضربته فقددت الحجر والمغفر ورأسه حتى وقع
السيف في أضراسه وخر صريعا، فرجع من كان مع مرحب وأغلقوا باب الحصن.
فصار أمير المؤمنين (عليه السلام) إليه فعالجه حتى فتحه، وأكثر الناس من جانب
الخندق لم يعبروا معه، فأخذ باب الحصن وجعله على الخندق جسرا لهم حتى
عبروا وظفروا بالحصن ونالوا الغنائم، فاستأذن حسان بن ثابت النبي (عليه السلام) أن يقول
شعرا، فقال له: قل، فأنشأ يقول:
وكان علي أرمد العين يبتغي * دواء فلما لم يحس مداويا
شفاه رسول الله منه بتفلة * فبورك مرقيا وبورك راقيا
وقال سأعطي الراية اليوم صارما * كميا محبا للرسول مواليا
يحب إلهي والإله له يحبه * به يفتح الله الحصون الأوابيا
فأصفى بها دون البرية كلها * عليا وسماه الوزير المؤاخيا (1)
[فتح مكة]
وتلت هذه الغزاة غزاة الفتح. قيل: كانت لليلتين مضتا من شهر رمضان. وقيل:
لثلاث عشرة خلت منه.
وذلك أنه خرج في نحو من عشرة آلاف رجل: وأربعمائة فارس، وكان نزل:
* (لتدخلن المسجد الحرام... الآية) * (2).
ثم نزل: * (إذا جاء نصر الله والفتح) * (3) إلى آخر السورة، ونزل: * (إنا فتحنا لك
فتحا مبينا) * (4). فعادت الأعين إليها ممتدة والرقاب إليها متطاولة.
ودبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) الأمر فيها بكتمان مسيره إلى مكة، وستر عزيمته على
مراده في أهلها، وسأل الله تعالى أن يطوي خبره عن أهل مكة حتى يبغتهم
بدخولها، فكان المؤتمن على هذا السر المودع له من بين الجماعة أمير المؤمنين



(1) الإرشاد: ص 66 - 67.
(2) الفتح: 27.
(3) النصر: 1.
(4) الفتح: 1.
176
علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فكان الشريك لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في الرأي، ثم نماه
النبي (صلى الله عليه وآله) إلى جماعة من بعد، واستتب الأمر فيه على المراد.
فسار (عليه السلام) حتى نزل من الظهران، فقال العباس (رضي الله عنه): هو والله هلاك قريش إن
دخلها عنوة، فركب بغلة النبي (عليه السلام) البيضاء ليطلب الحطابة أو صاحب لبن ليأمره
أن يأتي قريش ليركبوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يستأمنون إليه، إذ سمع أبا سفيان يقول
لحكيم وبديل: ما هذه النيران؟ قالا: هذه خزاعة. فعرف العباس صوت أبي سفيان،
فناداه وعرفه الحال، وقال: فما الحيلة؟ قال: تركب على عجز هذه البغلة فأستأمن
لك رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فكان يجتاز على نار بعد نار حتى أتى به النبي (عليه السلام) واستأذنه، فقال (عليه السلام):
أدخله. فدخل، فقام بين يديه، فقال له: ويحك يا أبا سفيان أما آن لك أن تشهد أن
لا إله إلا الله وأني رسول الله. فتلجلج لسانه وعلي (عليه السلام) يقصده بسيفه والنبي (صلى الله عليه وآله)
محدق بعلي (عليه السلام).
فقال له العباس: يضرب والله عنقك الساعة أو تشهد الشهادتين. فأسلم
اضطرارا.
فقال له النبي (عليه السلام): عند من تكون الليلة؟
قال: عند أبي الفضل. فسلمه اليه.
فلما أصبح سمع بلالا يؤذن. قال: ما هذا المنادي؟ ورأى النبي (عليه السلام) وهو
يتوضأ وأيدي المسلمين تحت شعره يستشفون بالقطرات، فقال: تالله ما رأيت
كاليوم قط.
فلما صلى النبي عليه وآله السلام قال: يا رسول الله أحب أن تأذن لي آتي
قومك فأنذرهم وأدعوهم إلى الحق. فأذن له.
فقال العباس: إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فلو خصصته بمعروف. فقال
النبي (عليه السلام): من دخل دار أبي سفيان كان آمنا، ثم قال: من أغلق بابه فهو آمن،
ومن دخل البيت فهو آمن.

177
فقال أبو سفيان: يا أبا الفضل إن ابن أخيك قد كنف ملكا عظيما.
فقال العباس: ويحك هذه نبوة.
وأقبل العباس وأبو سفيان من أسفل الوادي يركض، فاستقبلته قريش وقالوا
له: ما وراءك؟ وما هذا الغبار؟ قال: محمد في خلق كثير، ثم صاح: يا آل غالب
البيوت البيوت، من دخل داري فهو آمن. فعرفت هند زوجته فأخذت تطردهم،
ثم قالت: اقتلوا الشيخ الخبيث من وافد قوم وطليعة قوم.
فقال لها: ويلك إني رأيت ذات القرون، ورأيت فارس أبناء الكرام، ورأيت
ملوك بني كندة وفتيان حمير يسلمون آخر النهار، ويلك اسكتي لقد والله جاء
الحق وزهق الباطل وذهبت البلية.
وقد كان عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ألا يقتلوا منها إلا من قاتلهم سوى عشرة:
الحويرث بن نفيل بن كعب ومقيس بن صبابة وقرنية (1) المغنية قتلهم
أمير المؤمنين (عليه السلام)، وعبد الله بن خنطل قتله عمار وبريدة أو سعيد بن حبيب
المخزومي، وصفوان بن أمية هرب إلى جده فاستأمنه عبد الله بن وهب وأنفد إليه
عمامة النبي (عليه السلام) وأسلم، وعكرمة بن أبي جهل هرب إلى اليمن وأسلم، وعبد الله
ابن أبي السرج، عرف أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه في دار عثمان فأتى عثمان إلى
النبي (صلى الله عليه وآله) شافعا، وسارة مولاة بني عبد المطلب وجدت مقتولة، وهند دخلت دار
أبي سفيان، فتكلم أبو سفيان في بيعة النساء وعاونته أم الفضل وقرأت * (يا أيها
النبي إذا جاءك المؤمنات) * فاقبل منهن البيعة، وقرنبا (2) أفلتت واستؤمن لها
فرمحها فرس في إمارة عمر.
وكانت الراية يوم الفتح مع سعد بن عبادة، فغلظ على القوم وأظهر ما في نفسه
من الحنق عليهم ودخل وهو يقول:
اليوم يوم الملحمة * اليوم تسبى الحرمة



(1) كذا، وفي البحار (21: 131): وقينتين كانتا تغنيان بهجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله).
(2) كذا، وفي البحار: وقتل علي (عليه السلام) إحدى القينتين وأفلتت الأخرى.
178
فسمعها العباس فقال للنبي (عليه السلام): أما تسمع يا رسول الله ما يقول سعد بن
عبادة، وإني لا آمن أن يكون له في قريش صولة.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام): أدرك يا علي سعدا فخذ الراية منه
وكن أنت الذي تدخل بها مكة. فأدركه أمير المؤمنين (1) ولم ير رسول الله (صلى الله عليه وآله)
أحدا من المهاجرين والأنصار يصلح لأخذ الراية من سيد الأنصار سوى
أمير المؤمنين (عليه السلام)، وعلم أنه لو رام ذلك غيره لامتنع سعد عليه، وكان في امتناعه
فساد التدبير واختلاف الكلمة بين المهاجرين والأنصار (2).
قال أبو هريرة: رأى النبي (عليه السلام) أوباش قريش فأمر الأنصار بحصدهم، فقتلوا
منهم جماعة وانهزم الباقون، واستشهد من المسلمين ثلاثة نفر دخلوا من أسفل
مكة وأخطأوا الطريق فقتلوا (3).
عن بشير النبال مرفوعا، قال النبي (صلى الله عليه وآله): عند من المفتاح؟ قالوا: عند أم شيبة.
فدعا شيبة فقال له: اذهب إلى أمك فقل لها ترسل بالمفتاح. فقالت: قل له: قتلت
مقاتلينا وتريد أن تأخذ منا مكرمتنا. فقال: لترسلن به أو لأقتلنك. فوضعته في يد
الغلام، فأخذه ودعا عمرو وقال له: خذ هذا تأويل رؤياي من قبل، ثم قام ففتح
الباب وستره، فمن يومئذ يستر، ثم دعا الغلام فبسط رداءه وجعل فيه المفتاح،
وقال: رده إلى أمك. وأخذ (صلى الله عليه وآله) بعضادتي الباب ثم قال: لا إله إلا الله أنجز وعده
ونصر عبده وأعز جنده وغلب الأحزاب وحده (4).
وكان في مكة ثلاثمائة وستون صنما بعضها مشدود ببعض بالرصاص، فأنفذ
أبو سفيان من ليلته منها إلى الحبشة ومنها إلى الهند، فهيئ لها دارا من مغناطيس
فتعلقت في الهواء إلى أيام محمود بن سبكتكين، فلما غزاهم أخذها وكسرها



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 206 - 208.
(2) الإرشاد: ص 71.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 208 - 209.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 209.
179
ونقلها إلى إصبهان (1).
وبلغ عليا (عليه السلام) أن أخته أم هانئ قد آوت أناسا من بني مخزوم منهم:
الحارث بن هشام وقيس بن السائب، فقصد (عليه السلام) نحو دارها مقنعا بالحديد، فنادى:
اخرجوا من آويتم. فخرجت إليه أم هانئ وهي لا تعرفه فقالت: يا عبد الله أنا أم
هانئ بنت عم رسول الله واخت علي بن أبي طالب انصرف عن داري.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أخرجوهم.
فقالت: والله لأشكونك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله). فنزع المغفر عن رأسه فعرفته،
فجاءت تشد حتى التزمته فقالت: فديتك حلفت لأشكونك إلى رسول الله. قال لها:
اذهبي فأبري قسمك فإنه بأعلى الوادي.
قالت أم هانئ: فجئت اليه وهو في قبة يغتسل وفاطمة (عليها السلام) تستره، فلما سمع
كلامي قال: مرحبا بك يا أم هانئ وأهلا.
قلت: بأبي أنت وأمي أشكو إليك ما لقيت اليوم من علي.
فقال (عليه السلام): قد أجرت من أجرت.
فقالت فاطمة: إنما جئت يا أم هانئ تشكين عليا في أنه أخاف أعداء الله
وأعداء رسوله.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قد شكر الله لعلي سعيه وأجرت من أجارت أم هانئ
لمكانها من علي.
ولما دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) المسجد وجد ثلاثمائة وستين صنما، بعض مشدود
ببعض بالرصاص، فقال (عليه السلام) لأمير المؤمنين (عليه السلام): أعطني يا علي كفا من الحصى،
فقبض له كفا فناوله، فرماها به وهو يقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان
زهوقا، فما بقي منها صنم إلا خر لوجهه، ثم أمر بها فأخرجت من المسجد
فطرحت وكسرت (2).



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 209 - 210.
(2) الإرشاد: ص 72.
180
[غزاة حنين]
وتلا هذه الغزاة غزاة حنين، كانت هذه الغزاة في شوال لما أمر النبي (صلى الله عليه وآله)
عتاب بن أسيد على مكة فات الحج من فساد هوازن في وادي حنين، فخرج (عليه السلام)
في ألفين من مكة وعشرة آلاف كانوا معه، وكان النبي (عليه السلام) استعار من صفوان بن
أمية مائة درع وهو رئيس حشم فعانهم أبو بكر لعجبه بهم، فقال: لن يغلب القوم عن
قلة، فنزل * (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم.. الآية) * (1).
وأقبل مالك بن عوف النظري فيمن معه من قبائل قريش وثقيف، وسمع
عبد الله بن حدرد عين رسول الله (صلى الله عليه وآله) ابن عوف يقول: يا معشر هوازن إنكم أحداء
العرب وأعداها، وان هذا الرجل لم يلق قوما يصدقونه القتال، فإذا لقيتموه
فاكسروا أجفان سيوفكم واحملوا عليه حملة رجل واحد (2).
قال الصادق (عليه السلام): كان مع هوازن دريد بن الصمة قد خرجوا به شيخا كبيرا
لينتمونه، فلما نزلوا بأوطاس (3) قال: نعم مجال الخيل، لا حزن (4) ضرس (5) ولا سهل
دهس (6)، مالي اسمع رغاء البعير (7) ونهاق الحمير وبكاء الصغير وثغاء الشاة (8).
ورغاء البقر؟
فقال لابن مالك في ذلك، فقال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله
ليقاتل عنهم.
قال: ويحك لم تصنع شيئا قدمت ببيضة هوازن في نحور الخيل، وهل يرد
وجه المنهزم شئ، إنما إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت
عليك فضحت في أهلك ومالك، ثم قال:



(1) التوبة: 25.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 210.
(3) أوطاس: واد بديار هوازن.
(4) الحزن - فتح الحاء المهملة - من الأرض: ضد السهل.
(5) الضرس بكسر الضاد: الأكمة العسرة المرتقى.
(6) الدهس: المكان السهل ليس برمل ولا تراب.
(7) الرغاء بالضم: صوت البعير.
(8) الثغاء: صوت الشاة.
181
حرب عوان ليتني فيها جذع * أخب فيها تارة ثم أقع (1)
فقال له مالك: إنك كبرت وذهب علمك (2).
قال جابر: كان القوم قد كمنوا في شعاب الوادي ومضائقه، فما راعنا إلا
كتائب الرجال، فانهزم بنو سليم وكانوا على المقدمة، وانهزم من ورائهم، وبقي
علي (عليه السلام) ومعه الراية.
فقال مالك بن عوف: أروني محمدا، فأروه محمدا (عليه السلام)، فحمل عليه فلقيه ابن
عبيد وهو أيمن بن أم أيمن، فالتقيا فقتله مالك، وفي ذلك قال الشاعر:
وثوى امين الأمين من القوم * شهيدا فاعتاض قرة عين
فقال النبي (صلى الله عليه وآله) للعباس وكان جهوري الصوت: ناد في القوم وذكرهم العهد،
يعني قوله: * (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل) * (3).
فنادى يا أهل بيعة الشجرة إلى أين تفرون: اذكروا العهد. والقوم على
وجوههم، وذلك في أول ليلة من شوال.
قال: فنظر النبي (عليه السلام) إلى الناس ببعض وجهه في الظلماء فأضاء كأنه القمر ليلة
البدر، وكان علي بين الشعبين حتى لم يبق فيهما مقتول، وعاونه بعض الأنصار،
فقام النبي (صلى الله عليه وآله) في ركاب سرجه حتى أشرف عليهم وقال: الآن حمى الوطيس (4):
أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب
فما زال المسلمون يقتلون المشركين ويأسرون منهم حتى ارتفع النهار،
فأمر النبي (عليه السلام) بالكف (5).
قال الصادق (عليه السلام): سبى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم حنين أربعة آلاف من الذراري



(1) حرب عوان: أي أشد الحروب، والجذع بمعنى الشاب، وأخب بتشديد الباء: أي أسرع.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 210.
(3) الأحزاب: 15.
(4) الوطيس: المعركة، وحمى الوطيس: أي اشتدت الحرب.
(5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 211.
182
واثني عشر ألف ناقة سوى ما لا يعلم من الغنائم (1).
وقال الزهري: ستة آلاف من الذراري والنساء، ومن البهائم ما لا يحصى
ولا يدرى.
وروي أن المسلمين انهزموا ولم يبق منهم مع النبي (عليه السلام) إلا عشرة أنفس،
تسعة من بني هاشم خاصة، [و] عاشرهم أيمن ابن أم أيمن، وتاسعهم
أمير المؤمنين (عليه السلام) (2).
وبنو هاشم: العباس، والفضل بن العباس، وأبو سفيان بن الحارث، ونوفل بن
الحارث، وربيعة بن الحارث، وعبد الله بن الزبير بن عبد المطلب، وعتبة ومعتب
ابنا أبي لهب.
قيل: وأقبل رجل من هوازن على جمل أحمر بيده راية سوداء في رأس رمح
طويل أمام القوم، إذا أدرك ظفرا من المسلمين أكب عليهم، فإذا فاته الناس رفعه
لمن وراءه من المشركين فاتبعوه، وهو يرتجز ويقول:
أنا أبو جرول لا براح * حتى يبيح القوم أو يباح
فصمد له أمير المؤمنين (عليه السلام) فضرب عجز بعيره فطرحه، ثم ضربه فقطره
وقال (عليه السلام):
قد علم القوم لدى الصباح * إني في الهيجاء ذو نصاح
فكانت هزيمة المشركين بقتل أبي جرول (3).
وكان صخر بن حرب في هذه الغزاة فانهزم في جملة من انهزم من المسلمين،
فروي عن معاوية بن أبي سفيان قال: لقيت أبي - وهو صخر - منهزما مع بني أمية
من أهل مكة، فصحت به: يا بن حرب والله ما صبرت مع ابن عمك ولا قاتلت عن
دينك ولا كففت هؤلاء الأعراب عن حريمك. فقال: من أنت؟ فقلت: معاوية.
فقال: ابن هند؟ فقلت: نعم. فقال: بأبي وأمي، ثم وقف فاجتمع معه أناس من



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 211.
(2) الإرشاد: ص 74.
(3) الإرشاد: ص 75.
183
أهل مكة وانضممت إليهم ثم حملنا على القوم فضعضعناهم (1).
ولما قسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) غنائم حنين أقبل رجل أدم أجلى بين عينيه أثر
السجود فسلم ولم يخص النبي (صلى الله عليه وآله)، ثم قال: قد رأيت ما صنعت في هذه الغنائم.
فقال (عليه السلام): فكيف رأيت؟ فقال: لم أرك عدلت. فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال: ويلك
إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟ فقال المسلمون: ألا نقتله؟ فقال: دعوه
فإنه سيكون له أتباع يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية يقتلهم الله على
يد أحب الخلق إليه بعدي. فقتله أمير المؤمنين (عليه السلام) فيمن قتله يوم النهروان من
الخوارج (2).
[غزاة الطائف]
ثم تلت هذه الغزاة غزاة الطائف. ولما فض الله تعالى جمع المشركين بحنين
وتفرقوا فرقتين، فأخذت الأعراب ومن تبعهم إلى أوطاس، وأخذت ثقيف ومن
تبعها إلى الطائف.
فبعث النبي (صلى الله عليه وآله) أبا سفيان إلى الطائف فلقيته ثقيف فضربوه على وجهه فانهزم
ورجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال: بعثتني مع قوم لا يرفع بهم البلاء من هذيل والأعراب
فما أغنوا عني شيئا. فسكت النبي (عليه السلام).
ثم صار بنفسه إلى الطائف، فحاصرهم أياما، وأنفذ أمير المؤمنين (عليه السلام) في
خيل وأمره أن يطأ ماء جدة فيكسر كل صنم وجده. فخرج حتى لقيته خيل خثعم
في جمع كثير، فبرز لهم رجل من القوم يقال له شهاب في غبش الصبح فقال: هل
من مبارز؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): من له؟ فلم يقم أحد، فقام إليه
أمير المؤمنين (عليه السلام). فوثب أبو العاص بن الربيع زوج ابنة محمد (صلى الله عليه وآله) فقال: تكفاه
أيها الأمير. فقال: لا ولكن إن قتلت فأنت على الناس. فبرز إليه أمير المؤمنين
وهو يقول:
$ رسول الله (صلى الله عليه وآله) / أزواجه
إن على كل رئيس حقا * أن يروي الصعدة أو يدقا



(1) الإرشاد: ص 76.
(2) الإرشاد: ص 78.
184
ثم ضربه فقتله، ومضى في تلك الخيل حتى كسر الأصنام، وعاد إلى رسول
الله (صلى الله عليه وآله) وهو محاصر أهل الطائف، فلما رآه النبي (صلى الله عليه وآله) كبر للفتح وأخذ بيد علي
فخلا به وناجاه طويلا (1).
فروى عبد الرحمن بن سيابة والأخلج جميعا، عن أبي الزبير، عن جابر بن
عبد الله الأنصاري أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما خلا بعلي يوم الطائف أتاه عمر بن
الخطاب فقال: أتناجيه دوننا وتخلو به دوننا. فقال: يا عمر أنا ما انتجيته، بل الله
انتجاه. قال: فأعرض عمر وهو يقول: هذا كما قلت لنا يوم الحديبية * (لندخلن
المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) * فلم ندخله وصددنا عنه. فناداه النبي (صلى الله عليه وآله): لم
أقل لكم إنكم تدخلونه في ذلك (2) العام.
ثم خرج من حصن الطائف نافع بن غيلان بن معتب في خيل من ثقيف، فلقيه
أمير المؤمنين (عليه السلام) ببطن وج فقتله وانهزم المشركون، ولحق القوم الرعب، فنزل منهم
جماعة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فأسلموا، وكان حصار النبي للطائف بضعة عشر يوما (3).
* * *
فصل
في ذكر أزواجه (صلى الله عليه وآله)
أول نسائه (صلى الله عليه وآله) خديجة بنت خويلد (عليها السلام). تزوجها بمكة، وكانت قبله عند
عتيق بن عائد المخزومي، ثم عند أبي هالة زرارة بن بباش الأسيدي.
وروى أحمد البلاذري وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما، والمرتضى في
الشافي، وأبو جعفر في التلخيص: أن النبي (صلى الله عليه وآله) تزوج بها وكانت عذراء. ويشيد
ذلك ما ذكر في كتابي الأنوار والبدع: أن رقية وزينب كانتا ابنتي هالة بنت خويلد (4).



(1) الإرشاد: ص 81.
(2) في هامش النسخة: هذه (نسخة بدل).
(3) الإرشاد: ص 81.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 159.
185
وقد ذكرنا قصة الزواج والخطبة فيما تقدم.
وتزوج سودة بنت زمعة بعد موت خديجة بسنة، وكانت عند السكران بن
عمرو من مهاجري الحبشة فتنصر ومات بها (1).
وتزوج عائشة بنت أبي بكر، وهي ابنة سبع، قبل الهجرة بسنتين، ويقال: كانت
ابنة ست، ودخل بها بالمدينة في شوال وهي ابنة تسع. ولم يتزوج غيرها بكرا على
قول من قال إن خديجة كانت ثيبا وتوفي النبي (صلى الله عليه وآله) عنها وهي ابنة ثمان عشرة
سنة وبقيت إلى إمارة معاوية وقد قاربت السبعين.
أم سلمة: وروى السمعاني أنه تزوج في المدينة أم سلمة - واسمها هند بنت
أبي أمية بن أبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقطة بن مرة بن
كعب بن لؤي بن غالب المخزومية القرشية، وهي ابنة عمته عاتكة بنت عبد المطلب -
بعد أم حبيبة بنت أبي سفيان. وروى غيره: أن أم حبيبة بعدها بأربع سنين. وكانت
قبل النبي (صلى الله عليه وآله) عند أبي سلمة بن عبد الأسد بن هلال المخزومي، فهاجرت الهجرتين
إلى الحبشة والمدينة مع زوجها، فتوفي عنها وخلف عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله).
قال المطلب بن عبد الله عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: أتاني أبو سلمة يوما
من عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: سمعت من رسول الله قولا سررت به. قال: لا يصيب
أحدا من المسلمين مصيبة ثم يقول: " اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا
منها " إلا فعل الله ذلك به.
قالت: فحفظت ذلك. فلما توفي أبو سلمة استرجعت وقلت: اللهم آجرني
في مصيبتي واخلف لي خيرا منها. فقلت: من أين لي خير من أبي سلمة؟
فلما انقضت عدتي استأذن علي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنا أدبغ إهابا لي، فغسلت
يدي عن القرظ (2) وأذنت له، فوضعت له وسادة ادم حشوها ليف فقعد وخطبني
إلى نفسه.
فلما فرغ من مقالته قلت: يا رسول الله ما أنا بكفؤ وما بي إلا يكون لك الرغبة،



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 159.
(2) القرظ: شجر يدبغ به (لسان العرب 7 / 454).
186
ولكني امرأة في غيرة شديدة وأخاف أن ترى مني شيئا يعذبني الله به، وأنا امرأة
قد دخلت في الستين، وأنا ذات عيال.
فقال (صلى الله عليه وآله): أما ما ذكرت من الغيرة فسوف يذهبها الله عنك، وأما ما ذكرت
من الستين فقد أصابني مثل الذي أصابك، وأما ما ذكرت من العيال فإنما
عيالك عيالي.
فقالت: فقد سلمت يا رسول الله. فتزوجها فقالت: قد أبدلني الله بأبي سلمة
خيرا منه (1).
وعاشت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) عمرا طويلا حتى كانت آخر أزواجه موتا،
توفيت سنة اثني وستين في زمن يزيد بن معاوية بالمدينة، ودفنت بالبقيع.
وكان زواجه بها بعد وقعة بدر من سنة اثنتين من التاريخ.
وفي هذه السنة تزوج (صلى الله عليه وآله) بحفصة بنت عمر، وكانت قبله (عليه السلام) تحت خنيس
ابن عبد الله بن حذافة السهمي، فبقيت إلى آخر خلافة علي (عليه السلام) وتوفيت بالمدينة.
ثم تزوج (عليه السلام) زينب بنت جحش الأسدية، وهي بنت أديمة بنت عبد المطلب،
وكانت عند زيد بن حارثة، وهي أول من ماتت من نسائه بعده في أيام عمر (2).
ثم تزوج جويرية بنت الحارث بن ضرار المصطلقية، ويقال إنه اشتراها
فأعتقها وتزوجها، فماتت في سنة ست وخمسين، وكانت من قبل عند مالك بن
صفوان بن ذي الشفرتين (3).
وتزوج (صلى الله عليه وآله) أم حبيبة بنت أبي سفيان واسمها رملة - وكانت عند عبد الله بن
جحش - في سنة ست، وبقيت إلى إمارة معاوية (4). وفي رواية أنه تزوجها قبل
أم سلمة.
ثم تزوج (صلى الله عليه وآله) صفيه بنت حيي بن أخطب النظري، وكانت عند سلام بن



(1) بحار الأنوار: ج 22 ص 227 باب 3 ح 10، رواه مختصرا.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 160.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 160.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 160.
187
مشكم، ثم عند كنانة بن الربيع، وكان ابتنى بها في الحال، وأسر بها في سنة سبع (1).
ثم تزوج (صلى الله عليه وآله) ميمونة بنت الحارث الهلالية خالة ابن عباس، وكانت عند
عمير بن عمرو الثقفي، ثم عند أبي زيد بن عبد المطلب، خطبها للنبي (صلى الله عليه وآله) جعفر بن
أبي طالب، وكان تزويجها وزفافها وموتها وقبرها بشرف وهو على عشرة أميال
من مكة في سنة سبع، وماتت في سنة ست وثلاثين، وقد دخل (عليه السلام) بهن (2) (3).
والمطلقات ولم يدخل بهن أو من خطبها ولم يعقد عليها: فاطمة بنت شريح،
وقيل: بنت الضحاك، تزوجها وخيرها حين أنزلت آية التخيير، فاختارت الدنيا،
ففارقها، فكانت بعد ذلك تلقط البعر وتقول: أنا الشقية اخترت الدنيا (4).
وزينب بنت حزيمة بن الحارث أم المساكين من عبد مناف، وكانت عند
عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب (5).
وأسماء بنت النعمان بن الأسود الكندي، من أهل اليمن، ولما دخلت عليه
قالت: أعوذ بالله منك. فقال (صلى الله عليه وآله) لها: قد أعذتك، الحقي بأهلك. وكان بعض
أزواجه علمتها وقالت لها: إنك تحظين عنده (6).
وقتيلة أخت الأشعث بن قيس الكندي، مات النبي (عليه السلام) قبل أن يدخل بها.
ويقال: طلقها النبي (عليه السلام) فتزوجها عكرمة بن أبي جهل، وهو الصحيح (7).
وأم شريك، واسمها عزية بنت جابر من بني النجار (8).
وسنا بنت الصلت من بني سليم. ويقال: خولة بنت حكيم السلمي، ماتت قبل
أن تدخل عليه.



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 160، وفيه " سلام بن سلم " بدل " سلام بن مشكم ".
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 160.
(3) وفي نسخة الأصل: بهؤلاء.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 160.
(5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 160.
(6) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 160.
(7) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 161.
(8) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 161.
188
وكذلك شراف أخت دحية الكلبي (1).
ولم يدخل (عليه السلام) بعمرة الكلابية، وأميمة بنت النعمان الجونية، والعالية بنت
ظبيان الكلابية، ومليكة الليثية (2).
وأما عمرة بنت يزيد رأى (عليه السلام) بها بياضا فقال: دلستم علي، فردها (3).
وليلى ابنة الحطيم الأنصارية ضربت ظهره (عليه السلام) وقالت: أقلني، فأقالها (عليه السلام)،
فأكلها الذئب (4).
وعمرة من الفرطا وصفها أبوها حتى قال: إنها لم تمرض قط. فقال (عليه السلام): ما
لهذه عند الله من خير (5).
وأما التسع اللاتي قبض عنهن: أم سلمة، زينب بنت جحش، ميمونة، أم حبيبة،
صفية، جويرية، سودة، عائشة، حفصة (6).
مبسوط الطوسي: إنه (صلى الله عليه وآله) اتخذ من الإماء ثلاثا: عجميتين وعربية، فأعتق
العربية واستولد إحدى العجميتين.
وكان له سريتان يقسم لهما مع أزواجه، وهما مارية بنت شمعون القبطية
وريحانة بنت زيد القرظية أهدى بهما إليه المقوقس صاحب الإسكندرية، وكانت
لمارية أخت اسمها شيرين فأعطاها النبي (صلى الله عليه وآله) حسان بن ثابت، فولد له منها
عبد الرحمن، وتوفيت مارية بعد النبي (صلى الله عليه وآله) بخمس سنين (7).
ويقال: إنه (عليه السلام) أعتق ريحانة ثم تزوجها (8).



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 161 وفيه " صراف ". وفي نسخة " سراف " بدل " شراف ".
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 161.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 161.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 161.
(5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 161. وفيه: العرطا بدل الفرطا.
(6) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 161.
(7) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 161.
(8) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 161.
189
وقيل: انه اختار من سبي بني قريظة جارية اسمها تكانة بنت عمرو، وكانت
في مكة، فلما توفي عنها تزوجها العباس (1).
وكان مهر نسائه اثني عشرة أوقية وياسين (2).
* * *
فصل
في ذكر أولاده (صلى الله عليه وآله)
ولد له من خديجة (عليها السلام) القاسم وبه كني، وعبد الله، وهما الطاهر والطيب.
وأربع بنات وهن: فاطمة وزينب ورقية وأم كلثوم. ولم يكن له من غير خديجة ولد
إلا إبراهيم من مارية، ولد بعالية في قبيلة مازن في مشربة أم إبراهيم. ويقال: ولد
بالمدينة سنة ثمان من الهجرة، ومات بها، وله سنة وعشرة أشهر وثمانية أيام،
وقبره بالبقيع (3).
وفي الأنوار والكشف واللمع وكتاب البلاذري: أن رقية وزينب كانتا ربيبتيه
من جحش (4).
فأما القاسم والطيب فماتا بمكة صغيرين (5).
قال مجاهد: مكث القاسم سبع ليال ثم مات (6).
$ رسول الله (صلى الله عليه وآله) / وفاته
وأما زينب فكانت عند أبي العاص القاسم بن الربيع فولدت له أم كلثوم،



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 161.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 161، كذا في الأصل، وفي المناقب: ونش. والنش:
النصف من كل شئ.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 161 - 162.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 162.
(5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 162.
(6) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 162.
190
وتزوج بها علي (عليه السلام) بعد فاطمة (عليها السلام)، وكان العاص أسر يوم بدر فمن عليه
النبي (صلى الله عليه وآله) وأطلقه من غير فداء، وأتت زينب الطائف، ثم أتت النبي (صلى الله عليه وآله) بالمدينة،
فقدم أبو العاص المدينة فأسلم، وماتت زينب بالمدينة بعد مصير النبي (عليه السلام) بسبع
سنين وشهرين (1).
وأما رقية فتزوجها عتبة وأما أم كلثوم تزوجها عتيق، وهما ابنا أبي لهب،
فطلقاهما، فتزوج عثمان رقية بالمدينة وولدت له عبد الله فمات صبيا لم يجاوز
ست سنين، وكان ديك نقره على عينه فمات. وبعدها تزوج بأم كلثوم (2).
ولا عقب للنبي (صلى الله عليه وآله) إلا من ولد فاطمة عليها السلام (3).
* * *
فصل
في ذكر وفاته (عليه السلام)
ابن عباس والسدي: انه لما نزل قوله تعالى: * (إنك ميت وإنهم ميتون) * (4). قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): ليتني أعلم متى يكون ذلك؟ فنزلت سورة النصر، فكان يسكت
بين التكبير والقراءة بعد نزولها، فيقول: سبحان الله وبحمده استغفر الله وأتوب إليه.
فقيل له في ذلك، فقال (عليه السلام): أما أن نفسي نعيت إلي، ثم بكى بكاء شديدا.
فقيل: يا رسول الله أو تبكي من الموت وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك
وما تأخر؟!
قال: فقال (صلى الله عليه وآله): أين هول المطلع؟ وأين ضيق القبر وظلمة اللحد؟ وأين



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 162.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 162.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 162.
(4) الزمر: 30.
191
القيامة والأهوال؟ فعاش (صلى الله عليه وآله) بعد نزول هذه السورة عاما (1).
وقال السدي وابن عباس: ثم نزلت: * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم...
الآية) * (2) فعاش بعدها ستة أشهر.
ثم لما خرج إلى حجة الوداع نزلت عليه في الطريق: * (يستفتونك قل الله
يفتيكم في الكلالة) * (3) فسميت آية الصف.
ثم نزلت عليه (صلى الله عليه وآله) وهو واقف بعرفة: * (اليوم أكملت لكم دينكم) * (4) فعاش
بعدها أحدا وثمانين يوما.
ثم نزلت عليه آيات الربا، ثم نزلت بعدها: * (واتقوا يوما ترجعون فيه... إلى
آخر الآية) * (5) وهي آخر آية نزلت من السماء فعاش بعدها أحدا وعشرين يوما.
قال ابن جريح: تسع ليال. وقال مقاتل وابن جبير: سبع ليال.
وقال الله تعالى تسلية للنبي (عليه السلام): * (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت
فهم الخالدون) * (6).
لما مرض (عليه السلام) مرضه الذي توفي فيه، وذلك يوم السبت أو يوم الأحد من
صفر أخذ بيد علي (عليه السلام)، وتبعه جماعة من أصحابه، وتوجه إلى البقيع ثم قال:
السلام عليكم أهل القبور وليهنكم ما أصبحتم فيه مما فيه الناس، أقبلت الفتن
كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، إن جبريل كان يعرض علي القرآن في كل
سنة مرة، وقد عرضه علي في هذه العام مرتين، ولا أراه إلا لحضور أجلي.
ثم خرج (صلى الله عليه وآله) يوم الأربعاء معصوب الرأس متكئا على علي بيمنى يديه،
وعلى الفضل بن عباس باليد الأخرى، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أما بعد أيها الناس فإنه قدحان مني حقوق من بين أظهركم، فمن كانت له
عندي عدة فليأتني أعطه إياها، ومن كان له علي دين فليخبرني به.



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 234.
(2) التوبة: 129.
(3) النساء: 175.
(4) المائدة: 3.
(5) البقرة: 281.
(6) الأنبياء: 34.
192
فقام اليه رجل فقال: يا رسول الله لي عندك عدة إني تزوجت فوعدتني
تعطيني ثلاث أواق.
فقال: أنحله إياها يا فضل. ثم نزل (صلى الله عليه وآله).
فلما كان يوم الجمعة صعد المنبر فخطب، ثم قال: معاشر أصحابي أي نبي
كنت لكم؟ ألم أجاهد بين أظهركم؟ ألم تكسر رباعيتي؟ ألم يعفر جبيني؟ ألم تسل
الدماء على حر وجهي؟ ألم أكابد الشدة والجهد مع جهال قومي؟ ألم أربط حجر
المجاعة على بطني؟
قالوا: بلى يا رسول الله: قال: إن ربي حكم وأقسم أن لا يجوزه ظلم ظالم،
فأنشدكم بالله أي رجل كانت له قبل محمد مظلمة إلا قام، فالقصاص في دار الدنيا
أحب إلي من القصاص في الآخرة على رؤوس الملائكة والأنبياء.
فقام إليه رجل يقال له سوادة بن قيس فقال: إنك يا رسول الله لما أقبلت من
الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضباء وبيدك القضيب الممشوق، فرفعت
القضيب وأنت تريد الراحلة فأصاب بطني.
فقال لبلال: قم إلى منزل فاطمة فآتني بالقضيب الممشوق.
فلما مضى إليها سألت فاطمة (عليها السلام): وما يريد به؟
قال: أما علمت أنه يودع أهل الدين والدنيا. فصاحت وهي تقول: واغماه
لغمك يا أبتاه.
فلما أورد اليه، قال (عليه السلام): أين الشيخ؟
قال: ها أنا ذا يا رسول الله بأبي أنت وأمي.
فقال له: فاقض حتى ترضى.
فقال الشيخ: فاكشف لي عن بطنك. ثم قال: أتأذن لي أن أضع في على بطنك،
فأذن (عليه السلام) له. فقال: اللهم إني أعوذ بموضع القصاص من بطن رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فقال: اللهم اعف عن سوادة بن قيس كما عفى عن نبيك محمد (1).



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 234 - 235.
193
الطبري في الولاية، والدارقطني في الصحيح، والسمعاني في الفضائل،
وجماعة من رجال الشيعة، عن الحسين بن علي بن الحسين وعبد الله بن عباس
وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن الحارث، واللفظ الصحيح: إن عائشة قالت: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو في بيتها لما حضره الوفاة: ادعوا لي حبيبي فدعوت له أبا بكر،
فنظر إليه ثم وضع رأسه، ثم قال: ادعوا لي حبيبي. فدعوا له عمر، فلما نظر اليه
قال (عليه السلام): ادعوا لي حبيبي. قلت: ويلكم ادعوا له علي بن أبي طالب، فوالله ما يريد
غيره، فلما رآه أفرج الثوب الذي كان عليه ثم أدخله فيه، فلم يزل يحتضنه حتى
قبض ويده عليه (1).
ومن طريقة (2) أهل البيت (عليهم السلام) أن عائشة دعت أباها فأعرض عنه، وأن
حفصة دعت أباها فأعرض عنه، ودعت أم سلمة عليا فناجاه طويلا ثم أغمي
عليه، فجاء الحسن والحسين (عليهما السلام) يصيحان ويبكيان حتى وقعا على رسول
الله (صلى الله عليه وآله)، فأراد علي أن ينحيهما عنه، فأفاق رسول الله ثم قال: يا علي دعهما
أشمهما ويشماني وأتزود منهما ويتزودا مني، ثم جذب عليا تحت ثوبه ووضع فاه
على فيه وجعل يناجيه، فلما حضره الموت قال له: ضع رأسي يا علي في حجرك
فقد جاء أمر الله، فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وامسح بها وجهك، ثم وجهني
إلى القبلة وتول أمري وصل علي أول الناس ولا تفارقني حتى تواريني في
رمسي، واستعن بالله عز وجل.
فأخذ علي برأسه فوضعه في حجره، فأغمي عليه، فبكت فاطمة، فأومأ إليها
بالدنو منه، فأسر إليها شيئا تهلل وجهها... القصة (3).
ثم قضى ويد أمير المؤمنين (عليه السلام) اليمنى تحت حنكه (صلى الله عليه وآله)، ففاضت نفسه فيها،
فرفعها إلى وجهه فمسحه بها، ثم وجهه، ومد عليه إزاره، واستقل بالنظر في أمره (4).



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 236.
(2) كذا في الأصل ونسخة المناقب.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 236 - 237.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 237 وفيه: " واستقبل " بدل " واستقل ".
194
وروي أن عليا (عليه السلام) انسل من تحت ثيابه وقال: عظم الله أجوركم في نبيكم.
فقيل: ما الذي ناجاك به رسول الله (صلى الله عليه وآله) تحت ثيابه؟ فقال (عليه السلام): علمني ألف
باب من العلم، فتح لي كل باب ألف باب، وأوصاني بما أنا به قائم إن شاء الله
تعالى (1).
وفي حلية الأولياء وتاريخ الطبري: أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان يغسل
النبي (صلى الله عليه وآله)، والفضل بن العباس يصب عليه الماء، وجبرئيل (عليه السلام) يعينهما. وكان
علي (عليه السلام) يقول: ما أطيبك حيا وميتا (2).
ابن بطة، قال يزيد بن هلال: قال علي (عليه السلام): أوصى النبي (صلى الله عليه وآله) أن لا يغسله
غيري فإنه لا يرى أحد عورتي إلا طمست عيناه.
قال: فما تناولت عضوا إلا كأنما نقله معي ثلاثون رجلا حتى فرغت من
غسله (3).
وروي أنه لما أراد علي (عليه السلام) غسله استدعى الفضل بن عباس ليعينه، وكان
مشدود العينين، وقد أمره علي بذلك إشفاقا عليه من العمى (4).
قال أبو جعفر (عليه السلام): قال الناس: كيف الصلاة عليه؟
فقال علي (عليه السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) إمامنا حيا وميتا.
فدخل عليه عشرة عشرة فصلوا عليه (صلى الله عليه وآله) يوم الاثنين وليلة الثلاثاء حتى
الصباح ويوم الثلاثاء حتى صلى عليه الأقرباء والخواص. ولم يحضر أهل
السقيفة. وكان علي (عليه السلام) أنفذ إليهم بريدة، وإنما تمت بيعتهم بعد دفنه (5).
وروي أنه (عليه السلام) توفي يوم الاثنين الثاني من صفر (6).



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 237، واستل بالتشديد أي انتزع وأخرج برفق.
(2) تاريخ الطبري: ج 3 ص 212، المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 238 عنهما.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 239.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 239.
(5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 239.
(6) الإرشاد: ص 101.
195
ويقال: يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول.
وكان بين قدومه المدينة (صلى الله عليه وآله) ووفاته عشر سنين. وقبض (صلى الله عليه وآله) قبل أن تغيب
الشمس، وهو ابن ثلاث وستين سنة، فغسله علي بوصية منه.
وفي رواية: أنه نودي بذلك، وبقي غير مدفون ثلاثة أيام يصلي عليه الناس.
واختلف أصحابه أين يدفن. فقال بعضهم: في البقيع. وقال بعضهم: في صحن
المسجد. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن الله تعالى لم يقبض نبيه إلا في أطهر بقاع
الأرض فينبغي أن يدفن في البقعة التي قبض فيها. فاتفقت الجماعة على قوله،
ودفن في حجرته (عليه السلام) (1).
وحفر له اللحد أبو طلحة زيد بن سهل الأنصاري. ودفنه علي (عليه السلام)، وعاونه
العباس وابنه الفضل وأسامة بن زيد.
فنادت الأنصار: يا علي نذكرك الله وحقنا اليوم من رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يذهب،
أدخل منا رجلا فيه.
فقال: ليدخل أوس بن خولي. فلما دلاه في حفرته قال له: اخرج (2). وربع
قبره ولم يسنم.
وروي أن المغيرة بن شعبة قال: قد وقع خاتمي في قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقال
علي (عليه السلام) لرجل: انزل فأعطه خاتمه فإنما يريد أن يقول أنا أقرب الناس عهدا
برسول الله (صلى الله عليه وآله). وقد ادعى المغيرة ذلك (3).
روى مقسم مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل أن مولاه عبد الله بن الحارث
قال: اعتمرت مع علي (عليه السلام) في زمن عمر أو زمان عثمان فنزل على أخته أم هاني
ابنة أبي طالب، فلما فرغ من عمرته رجع فسكب له غسل فاغتسل، فلما فرغ من
غسله دخل عليه نفر من أهل العراق فقالوا: يا أبا الحسين جئناك نسألك عن أمر



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 240.
(2) الإرشاد: ص 101.
(3) راجع السيرة النبوية لابن هشام: ج 4 ص 230 - 231.
196
نحب أن تخبرنا عنه؟ قال (عليه السلام): إن المغيرة يخبركم أنه كان أحدث الناس عهدا
برسول الله (صلى الله عليه وآله).
قالوا: أجل عن ذلك جئنا نسألك.
قال (عليه السلام): كذب، أحدث الناس عهدا برسول الله (صلى الله عليه وآله) قثم بن العباس (1).
ولما فرغ أمير المؤمنين (عليه السلام) من دفن النبي (عليه السلام) أنشأ يقول:
الموت لا والدا يبقي ولا ولدا * هذا السبيل إلى أن لا يرى أحدا
هذا النبي ولم يخلد لامته * لو خلد الله خلقا قبله خلدا
للموت فينا سهام غير خاطئة * من فاته اليوم سهم لم يفته غدا (2)
وقال أيضا:
أمن بعد تكفين النبي ودفنه * بأثوابه آسى على هالك ثوى
رزينا رسول الله فينا فلم يرى * لذلك عدلا ما حيينا من الورى
وكان لنا كالحصن من دون أهله * لهم معقل فيه حريز من العدى
وكنا به شم الأنوف بنحوه * على موضع لا يستطاع ولا يرى
فيا خير من ضم الجوانح والحشى * ويا خير ميت ضمه الترب والثرى (3)
كأن أمور الناس بعدك ضمنت * سفينة موج البحر والبحر قد طمى
وضاق فضاء الأرض عنهم برحبه * لفقد رسول الله إذ قيل قد قضى
فيا حزنا انا رأينا نبينا * على حين تم الدين واشتدت القوى
كان الألى شبهنه سفر ليلة * أضل الهدى لا نجم فيها ولا ضوى (4)



(1) السيرة النبوية لابن هشام: ج 4 ص 231، تاريخ الطبري: ج 3 ص 214.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 238.
(3) الجوانح: الأضلاع، والحشا: ما احتوته الأضلاع. قيل: ضم الجوانح والحشا كناية عن
الموت، والمعنى: يا خير من مات. وقيل: المعنى يا خير جميع الناس فإن كل انسان له جوانح
وحشا منضمين.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 240 - 241.
197
وله أيضا:
ألا يا رسول الله كنت رجاءنا * وكنت بنا برا ولم تك جافيا
كأن على قلبي لذكر محمد * وما كنت من بعد النبي المكاويا (1)
أفاطم صلى الله رب محمد * على جدث (2) أمسى بيثرب ثاويا
فدى لرسول الله أمي وخالتي * وعمي وزوجي ثم نفسي وخاليا
فلو أن رب العرش أبقاك بيننا * سعدنا ولكن أمره كان ماضيا
عليك من الله السلام تحية * وادخلت جنات من العدن راضيا (3)
وقالت الزهراء (عليهما السلام):
قل للمغيب تحت أطباق الثرى * إن كنت تسمع صرختي وندائيا
صبت علي مصائب لو أنها * صبت على الأيام صرن لياليا
قد كنت ذات حمى بظل محمد * لا أخش من ضيم وكان جماليا
فاليوم أخضع للذليل وأتقي * ضيمي وأدفع ظالمي بردائيا
فإذا بكت قمرية في ليلها * شجنا على غصن بكيت صباحيا
فلأجعلن الحزن بعدك مؤنسي * ولأجعلن الدمع فيك وشاحيا
ماذا على من شم تربة أحمد * أن لا يشم مدى الزمان غواليا (4)
وقالت أم سلمة رضي الله عنها:
فجعنا بالنبي وكان فينا * إمام كرامة نعم الإمام
وكان قوامنا والرأس منا * فنحن اليوم ليس لنا قوام
ننوح ونشتكي ما قد لقينا * ويشكو فقدك البلد الحرام
فلا تبعد فكل فتى كريم * سيدركه ولو كره الحمام (5)



(1) المكاوي جمع مكواة: حديدة يكوى بها.
(2) الجدث: القبر.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 242.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 24.
(5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 243.
198
وقالت صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها:
يا عين جودي بدمع منك منحدر * ولا تملي وبكي سيد البشر
بكي الرسول فقد هدت مصيبته * جميع قومي وأهل البدو والحضر
ولا تملي بكاك الدهر معولة * عليه ما غرد القمري في السحر (1)
وجدت في كتاب مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) تأليف المعري: أن رسول الله (عليه السلام)
خرج في مرضه الذي مات فيه لينظر إلى الناس وهم يصلون، وهو يتوكأ على
رجلين أحدهما علي (عليه السلام)، فوجد أبا بكر يأم بالناس فأزاحه من القبلة، وأم هو
صلوات الله عليه وآله بالناس. وكان علي (عليه السلام) أقرب الناس إليه في الصحة
والمرض، وخرج علي (عليه السلام) من عند النبي (صلى الله عليه وآله) فقالوا له: كيف أصبح رسول الله؟
فقال: أصبح بارئا. فتوفي (صلى الله عليه وآله) حين اشتد الضحى من ذلك اليوم.
* * *
في ذكر مواليه (صلى الله عليه وآله)
زيد بن حارثة، بركة، أسلم، أبو كبشة، آنسة، ثوبان، شقران، يسار، فضالة،
أبو مويهبة، رافع، سفينة.
ومن النساء: أم أيمن كانت خاصته وزوجها (صلى الله عليه وآله) من زيد بن حارثة، سلمى،
رضوى، مارية القبطية، ريحانة.
* * *



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 243.
199
الباب الثاني
في ذكر أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب (عليه السلام)

201
$ أمير المؤمنين (عليه السلام) / نسبه، إيمان أبي طالب
فصل
في ذكر نسبه (عليه السلام)
علي بن أبي طالب - واسمه عبد مناف - بن عبد المطلب إلى آخر نسب
النبي (صلى الله عليه وآله).
وجدنا أبا طالب في الغرة القعساء (1)، والرتبة العلياء، والنجدة الغلباء، وبه صان
الله نبيه (صلى الله عليه وآله) قبل المبعث إلى أوانه، وحفظ دينه حتى أدى رسوله رسالته صادعا
بها، وأظهر دلالته بإيحائها، وضرب الاسلام رواقه (2)، واتقدت نيرانه، وبما كفل ابن
أخيه طفلا رضيعا، وحضنه ناشئا يافعا إلى أن اعتدلت ميعته (3) وبلغ مدى الرسالة
ونزا بين شطنيه (4)، ورمى عن عرضيه (5)، وأرمى على سنه، وعض على ناجذه، ونجل
من أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ابنه، أنار الله الحق، وأوضح للخلق منار النهج، وبين
سبيل الإيضاح بواضح الإفصاح ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيى عن بينة.



(1) رجل أقعس: ثابت عزيز منيع (لسان العرب 6 / 177).
(2) ألقى أرواقه: إذا أقام بالمكان واطمأن به (لسان العرب 10 / 132).
(3) ميعة الشباب والنهار وكل شئ: أوله وأصله، وميعة الفرس: أول جريه.
(4) ميعة الشباب: أوله وأنشطه (لسان العرب 8 / 345).
(5) يقال للفرس العزيز النفس: إنه لينزو بين شطنين، ويضرب مثلا للإنسان العزيز القوي،
وذلك أن الفرس إذا استعصى على صاحبه شده بحبلين من جانبين. والشطن هو الحبل الذي
يشطن به الدلو (لسان العرب 13 / 237).
203
ولولا أبا طالب وابنه * لما مثل الدين شخصا وقاما
فذاك بمكة آوى وحاما * وهذا بيثرب سام الحساما
تكفل عبد مناف بأمر * وأودى فكان علي تماما
فقل في ثبير مضى بعدما * قضى ما قضاه وأبقى شماما
فلله ذا فاتحا للهدى * ولله ذا للمعالي ختاما
وما ضر مجد أبي طالب * جهول لغا أو بصير تعامى
كما لا يضر أناي النهار * من ظن ضوء الصباح الظلاما
ولما بعث الله رسوله (عليه السلام) على رأس أربعين سنة من مولده وعمه أبو طالب
يومئذ ابن بضع وسبعين سنة عادته [قريش] وصدته عن إبلاغ الرسالة، فعضده الله
بعمه أبي طالب، وأيده بنصره، وحماه بعشيرته، ورمى فيه العرب عن قوس
واحدة، ورشقهم بالبواقر (1) ونابذ فيه الأباعد والقرابين حتى اخوته الأدنين، فكاد
من كاده، وصافا من صافاه، وواساه بنفسه وولده وماله.
وحدث عن حفص بن عائشة التيمي قال: حدثني أبي قال مر أبو طالب ومعه
ابنه جعفر على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يصلي وعلي (عليه السلام) يصلي عن يمينه، فقال
أبو طالب لجعفر: صل مع ابن عمك، فتأخر علي وقام معهما جعفر، فتقدمهما
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فكانت أقل جماعة صلت في الاسلام. وأنشأ أبو طالب يقول:
إن عليا وجعفرا ثقتي * عند ملم الزمان والكرب
أجعلهما عرضة العدى فإذا * راميت أو أنتمي إلى نسب
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما * أخي ابن أمي من بينهم وأبي
والله لا أخذل النبي ولا * يخذله من بني ذو حسب (2)
وحدث أبو إسحاق بن عيسى بن علي الهاشمي، قال: حدثنا أبي، قال: سمعت



(1) في هامش الأصل: البواقر: السهام الصائبة.
(2) روضة الواعظين: ص 140 مع اختلاف يسير، أمالي الصدوق: ص 410، بحار الأنوار:
ج 35 باب 3 ح 2 وفيهما عن الجرجاني مع اختلاف.
204
المهاجر مولى بني نوفل يقول: سمعت أبا رافع يقول: سمعت أبا طالب بن
عبد المطلب يقول: حدثني محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) أن ربه بعثه بصلة الأرحام، وأن
يعبد الله وحده ولا يعبد معه غيره، ومحمد عندي الصدوق الأمين (1).
ولما رجع من مهاجرة الحبشة إلى مكة من رجع بعد نزول سورة " والنجم "
عدا كل قوم من مشركة قريش على مسلمتهم بالعداوة والظلم أو يتركون دينهم،
فلجأ أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي وأمه برة بنت عبد المطلب إلى خاله أبي
طالب، فمنعه عن بني مخزوم، فقال بنو مخزوم لأبي طالب: هل منعت محمدا ابن
أخيك فمالك ولابن أخينا تحيزه علينا؟
فقال أبو طالب: سواء علي أحزت ابن أخي أو ابن أختي.
فغضب أبو لهب وقال: يا معشر قريش لقد أكثرتم على هذا الشيخ، ما تزالون
توثبون عليه في جواره وذمته من بين قومه، لتنتهن عنه أو لأقومن معه في كل ما
قام به حتى يبلغ مراده.
فقالوا: بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة. وكان من قبل آليا على الاسلام
وأهله، فطمع أبو طالب عند ذلك في نصرة أبي لهب ورجا أن يقوم في شأن
النبي (صلى الله عليه وآله) (2)، فبقي على ذلك أياما، وقال أبو طالب يمدح أبا لهب:
عجبت لحلم [الله] يا بن شيبة عازب * وأحلام أقوام لديك سخاف
يقولون شايع من أراد محمدا * بسوء وقم في أمره بخلاف
فلا تركبن الدهر منه زمامه * وأنت امرؤ من خير عبد مناف
ولا تتركنه ما حببت لمعظم * وكن رجلا ذا نجدة وعفاف
تذود العدى عن ذروة هاشمية * وإيلافهم في الناس خير آلاف
وراجم جميع الناس عنه وكن له * وزيرا على الأعداء غير محاف
فان له قربى لديك قريبة * وليس بذي حلف ولا بمضافي



(1) بحار الأنوار: ج 35 ص 116 باب 3 ح 56.
(2) السيرة النبوية لابن هشام: ج 2 ص 10 - 11.
205
ولكنه من هاشم في صميمها * إلى بحر فوق البحور صوافي
وإن غضبت منه قريش فقل لها * بني هاشم عمنا ما هاشم بضعاف
فما بال ما يغشون منا ظلامة * وما بال أرحام هناك جواف
فما قومنا بالقوم يغشون ظلمنا * وما نحن فيما ساءهم بخفاف
ولكننا أهل الحفائظ والنهى * وعز ببطحاء الحطائم وافي (1)
ولما اجتمعت قريش على ادخال بني هاشم وبني عبد المطلب شعب أبي
طالب اكتتبوا بينهم صحيفة، فدخل الشعب مؤمن هاشم والمطلب وكافرهم، ما خلا
أبا لهب وأبا سفيان بن الحارث، فبقي القوم في الشعب ثلاث سنين، فكان رسول
الله (صلى الله عليه وآله) إذا أخذ مضجعه وعرف مكانه ونامت العيون جاءه أبو طالب فأنهضه عن
فراشه وأضجع عليا مكان رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقال علي (عليه السلام) ذات ليلة: يا أبتاه إني
مقتول. فقال أبو طالب:
اصطبر يا علي فالصبر أحجى * كل حي مصيره لشعوب
قد بذلناك والبلاء عسير * لفدا النجيب وابن النجيب
لفداء الأعز ذي الحسب الثاقب * والباع والفناء الرحيب
إن تصبك المنون فالنبل تترى * فمصيب منها وغير مصيب
كل حي وان تملأ عيشا * آخذ من سهامها بذنوب (2)
الطبري والبلاذري والضحاك: لما رأت قريش حمية قومه وذب عمه أبو
طالب عنه جاؤوا إليه وقالوا: جئناك بفتى قريش جمالا وشهامة عمارة بن الوليد
ندفعه إليك يكون نصره وميراثه لك، ومع ذلك من عندنا مال عد، وتدفع إلينا ابن
أخيك الذي فرق جماعتنا وسفه أحلامنا فنقتله.
فقال: والله ما أنصفتموني، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وتأخذون ابني تقتلونه!



(1) منية الراغب في إيمان أبي طالب: ص 61 - 62.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 3 ص 314 مع اختلاف يسير، المناقب لابن
شهرآشوب: ج 1 ص 64 - 65.
206
هذا والله ما يكون لي أبدا، تعلمون أن الناقة إذا فقدت ولدها لا تحن إلى غيره،
ثم نهرهم، فهموا باغتياله، فمنعهم أبو طالب عن ذلك وقال فيه:
حميت الرسول رسول المليك * ببيض تلألأ مثل البروق
أذب وأحمي رسول الإله * حماية عم عليه شفيق (1)
وأنشد أيضا:
يقولون لي دع نصر من جاء بالهدى * وغالب لنا غلاب كل مغالب
وسلم إلينا أحمدا واكنفن لنا * بنينا ولا تحفل بقول المعاتب
فقلت لهم الله ربي وناصري * على كل باغ من لؤي بن غالب (2)
عكرمة وعروة بن الزبير في حديثيهما: لما رأت قريش أن أمره (صلى الله عليه وآله) يفشو
وأن حمزة أسلم، أجمعوا أمرهم ومكرهم على أن يقتلوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) علانية،
فلما رأى ذلك أبو طالب جمع بني عبد المطلب فأجمع لهم أمرهم على أن تدخلوا
رسول الله (صلى الله عليه وآله) شعبهم. فاجتمعت قريش في دار الندوة وكتبوا صحيفة على بني
هاشم على أن لا يكلموهم ولا يزوجوهم ولا يتزوجوا إليهم ولا يبايعوهم أو
يسلمون إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وختموا عليها أربعين خاتما، وعلقوها في جوف
الكعبة. وفي رواية عند زمعة بن الأسود.
فجمع أبو طالب بني هاشم وبني المطلب في شعبه، وكانوا أربعين رجلا
مؤمنهم وكافرهم، ما خلا أبا لهب وأبا سفيان، وظاهراهم عليه، فحلف أبو طالب
إن شاكت محمدا شوكة لآبتن (3) عليكم يا بني هاشم، وحصن الشعب، وكان
يحرسه بالليل والنهار، وفي ذلك يقول:
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا * نبيا كموسى خط في أول الكتب
أليس أبونا هاشم شد أزره * وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 60 - 61.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 61. وفيه " واكفلن " بدل " واكنفن ".
(3) في المناقب، لآتين.
207
وأن الذي علقتم من كتابكم * يكون لكم يوما كراغية السقب (1)
أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى * ويصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب (2)
وكان أبو العاص بن الربيع - وهو ختن الرسول الله (صلى الله عليه وآله) - يجئ بالعير بالليل،
والعير عليها البسر والتمر إلى باب الشعب ثم يصبح بها، فحمد النبي (صلى الله عليه وآله) فعله،
فمكثوا بذلك أربع سنين. وقال ابن سيرين: ثلاث سنين.
وفي كتاب شرف المصطفى: فبعث الله على صحيفتهم الأرضة فلحستها، فنزل
جبريل (عليه السلام) فأخبر النبي (صلى الله عليه وآله) بذلك، فأخبر النبي أبا طالب، فدخل أبو طالب على
قريش في المسجد فعظموه وقالوا له: أردت موافقتنا وأن تسلم ابن أخيك إلينا.
قال: والله ما جئت لهذا ولكن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني أن الله تعالى
قد أخبره بحال صحيفتكم، فابعثوا إلى صحيفتكم فإن كان حقا فاتقوا الله وارجعوا
عما أنتم عليه من الظلم وقطيعة الرحم، وإن كان باطلا دفعته إليكم.
فقال أبو جهل: ننظر في ذلك فإن كان كذبا كتبنا صحيفة أخرى انكم أكذب
بيت في العرب. فأتوا بها وفكوا الخواتيم عنها فإذا فيها باسمك اللهم واسم
محمد فقط.
فقال لهم أبو طالب: اتقوا الله وكفوا عما أنتم عليه.
فقال أبو لهب: انتهى إلى الصحيفة سحر محمد. فسلبوا (3) وتفرقوا، فنزل * (ادع
إلى سبيل ربك) * (4) قال: كيف أدعوهم وقد صالحوا على ترك الدعوة، فنزل:
* (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) * (5).
فسأل النبي (صلى الله عليه وآله) أبا طالب الخروج من الشعب، وقام جماعة بنصر بني هاشم
ومشوا إليهم حتى أخرجوهم من الشعب، وأمنوا ورجعوا إلى مساكنهم، وهم



(1) الراغية: من الرغاء وهو صوت الإبل، والسقب (بفتح السين): ولد الناقة ساعة الولادة،
وأراد به هنا ولد ناقة صالح.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 63.
(3) كذا في الأصل. وفي المناقب، فسكتوا.
(4) النحل: 126.
(5) الرعد: 39.
208
أبو البختري العاص بن هشام الأسدي ومطعم بن عدي النوفلي وزهير بن أبي أمية
المخزومي - وهو ابن عمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) - وزمعة بن الأسود الأسدي وهشام بن
عمرو العامري، وقالوا: أخرقها الله، وعزموا أن يقطعوا يمين كاتبها وهو منصور بن
عكرمة بن هشام بن عبد مناف بن عبد الدار فوجدوها شلاء، فقالوا: قطعها الله،
فأخذ النبي (صلى الله عليه وآله) في الدعوة. وفي ذلك يقول أبو طالب:
ألا هل أتى نجد بنا صنع ربنا * على نأيهم والله بالناس أرود
فيخبرهم أن الصحيفة مزقت * وأن كل ما لم يرضه الله يفسد
يراوحها إفك وسحر مجمع * ولم تلق سحرا آخر الدهر يصعد (1)
وقال يمدح هؤلاء الخمسة:
سقى الله رهطا هم بالحجون * بليل وقد هجع النوم
قضوا ما قضوا في دجى ليلهم * ومستوسن (2) القوم لا يعلم
بها ليل صيد لهم سورة * تداوى بها الأبلخ (3) المجرم
شبيه المقاول عند الحجون * بل هم أعز وهم أكرم
وكان أبو طالب (رضي الله عنه) قد كفل النبي (صلى الله عليه وآله) ورباه وحامى عنه وناضل كافة
قريش، ومات وهو مسلم، وفيما ذكرنا من أخباره دليل على صحة ذلك، ونحن
ذاكرون أيضا من أخباره وأشعاره ما يدل على إسلامه.
قيل: كانت السباع تهرب من أبي طالب (رضي الله عنه)، فاستقبله أسد في طريق الطائف
وتضعضع له وتمرغ قبله، فقال أبو طالب: بحق خالقك أن تبين لي حالك؟
فقال الأسد: إنما أنت أبو أسد الله، ناصر نبي الله ومربيه. فازداد أبو طالب
في حب النبي (صلى الله عليه وآله) والإيمان به (4).



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 65 - 66.
(2) مستوسن: من الوسن وهو ثقلة النوم (لسان العرب 13 / 449).
(3) الأبلخ: من البلخ وهو التكبر (لسان العرب 13 / 9).
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 27.
209
والأصل في ذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: خلقت أنا وعلي من نور واحد نسبح الله
يمنة العرش قبل أن يخلق الله عز وجل آدم (عليه السلام) بألفي عام (1).
وأنشد العباس بن عبد المطلب على النبي (عليه السلام):
من قبلها طبت في الظلال وفي * مستودع حيث يخصف الورق
ثم هبطت البلاد لا بشر * أنت ولا مضغة ولا علق
بل نطفة تركب السفين وقد * أنجم يسرا (2) وأهله الغرق
تنقل من صالب إلى رحم * إذا مضى عالم بدا طبق
حتى احتوى بيتك المهيمن من * خندف علياء تحتها النطق
وأنت لما ولدت أشرقت الأرض * وضاءت بنورك الأفق
فنحن في ذلك الضياء وفي النور * وسبل الرشاد نحترق
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا يفضض الله فاك (3).
وقال المفضل بن عمرو: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لما ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله)
فتح لآمنة بياض فارس وقصور الشام، فجاءت فاطمة بنت أسد إلى أبي طالب
ضاحكة مستبشرة فأعلمته ما قالته آمنة. فقال لها أبو طالب: وتتعجبين من ذلك!
وأعجب من هذا انك تحبلين وتلدين بوصيه ووزيره (4).
وفي رواية ابن مسكان: قال أبو طالب: اصبري لي سبتا آتيك بمثله إلا النبوة.
وقالوا: السبت ثلاثون سنة (5).
وقال الأوزاعي: كان النبي (صلى الله عليه وآله) في حجر عبد المطلب، فلما أتى عليه اثنان
ومائة سنة ورسول الله (صلى الله عليه وآله) ابن ثمان سنين جمع بنيه وقال: محمد يتيم فآووه،
وعائل فأغنوه، واحفظوا وصيتي فيه.
فقال أبو لهب: أنا له. فقال: كف شرك عنه.



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 27.
(2) في المناقب ألجم نسرا.
(3) مستدرك الحاكم: ج 3 ص 327، المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 27.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 32.
(5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 32.
210
فقال عباس: أنا له. فقال: أنت غضبان لعلك تؤذيه.
فقال أبو طالب: أنا له. فقال: أنت له، يا محمد أطع له.
فقال (صلى الله عليه وآله): يا أباه لا تحزن فإن لي ربا لا يضيعني.
فأمسكه أبو طالب في حجره وقام بأمره يحميه بنفسه وماله وجاهه في صغره
من اليهود المرصدة له بالعداوة ومن غيرهم من بني أعمامه ومن العرب قاطبة
الذين يحسدونه على ما آتاه الله به النبوة فيه. وأنشد عبد المطلب:
أوصيك يا عبد مناف بعدي * بموحد بعد أبيه فرد (1)
وقال:
وصيت من كنيته بطالب * عبد مناف وهو ذو تجارب
بابن الحبيب أكرم الأقارب * بابن الذي قد غاب غير آيب (2)
فتمثل أبو طالب وقد كان سمع من الراهب وصفه:
لا توصني بلازم وواجب * بان بحمد الله قول الراهب
إني سمعت أعجب العجائب * من كل حبر عالم وكاتب (3)
وفي كتاب الشيصان: روى أبو أيوب الأنصاري أن النبي (صلى الله عليه وآله) وقف بسوق
ذي المجاز فدعاهم إلى الله، والعباس قائم يسمع الكلام فقال: أشهد أنك كذاب،
ومضى إلى أبي لهب فذكر له ذلك، فأقبلا يناديان: أين ابن أخينا، هذا كذاب فلا
يغيرنكم عن دينكم. قال: واستقبل النبي (عليه السلام) أبو طالب فاكتنفه، وأقبل على أبي
لهب والعباس فقال لهما: ما تريدان تبت أيديكما، والله أنه لصادق القيل. ثم أنشد
أبو طالب يقول:
أنت الأمين أمين الله لا كذب * والصادق القيل لا لهو ولا لعب
أنت الرسول رسول الله يعلمه * عليك تنزل من ذي العزة الكتب (4)



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 35 - 36.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 35 - 36.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 35 - 36.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 56.
211
وقال ابن عباس (رضي الله عنه): دخل النبي (صلى الله عليه وآله) الكعبة وافتتح الصلاة، فقال أبو جهل:
من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته؟ فقام ابن الزبعري وتناول فرثا ودما
وألقى ذلك عليه. فجاء أبو طالب (رضي الله عنه) وقد سل سيفه، فلما رأوه جعلوا ينهضون،
فقال أبو طالب: والله لئن قام منكم أحد جللته بسيفي. ثم قال: يا بن أخي من الفاعل
بك هذا؟ قال: عبد الله بن الزبعري، فأخذ أبو طالب (رضي الله عنه) فرثا ودما وألقى عليه.
وفي روايات متواترة أنه أمر عبيده أن يلقوا السلا (1) عن ظهره ويغسلوه، ثم
أمرهم أن يأخذوه فيمروا به على أسبلة القوم (2).
وفي رواية البخاري: أن فاطمة (عليها السلام) أماطته عنه ثم أوسعتهم شتما وهم
يضحكون، فلما سلم النبي (عليه السلام) قال: اللهم الملأ من قريش، اللهم عليك أبا جهل
ابن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وعقبة بن أبي معيط وأمية بن خلف،
فوالله ما سمى النبي (صلى الله عليه وآله) يومئذ أحدا إلا وقد رئي يوم بدر، وقد أخذ برجله يجر
إلى القليب مقتولا إلا أمية فإنه كان منتفخا في درعه فتزايل الناس عن جره
فأقبروه موضعه وألقوا عليه الحجر (3).
وفي رواية أنه (صلى الله عليه وآله) مر بنفر من قريش يجزروا جزورا وكانت تسميها الفهيرة
وتجعلها على النصب، فلم يسلم عليهم حتى انتهى (صلى الله عليه وآله) إلى دار الندوة، فقالت
قريش: أيمر بنا ابن أبي كبشة ولا يسلم علينا، فأيكم يأتيه فيفسد عليه صلاته؟
فقال عبد الله بن الزبعري السهمي: أنا أفعل. فأخذ الفرث والدم فانتهى به إلى
النبي (صلى الله عليه وآله) وهو ساجد فملأ به ثيابه ورأسه ولحيته، فانصرف النبي (صلى الله عليه وآله) حتى أتى
عمه أبا طالب، فقال له: يا عم من أنا؟ فقال: ولم يا بن أخي؟ فقص عليه القصة.
فقال: وأين تركتهم؟ فقال: بالأبطح. فنادى في قومه يا آل عبد المطلب، يا آل
هاشم، يا آل عبد مناف. فأقبلوا إليه من كل مكان ملبين، فقال: كم أنتم؟ فقالوا:
نحن أربعون. فقال: خذوا سلاحكم، فأخذوا سلاحهم فانطلق بهم حتى انتهى



(1) السلا: جلدة فيها الجنين من الناس والمواشي.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 60.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 60.
212
إليهم، فلما رأت قريش أبا طالب أرادت أن تفترق فقال: ورب البنية ما يقوم منكم
أحد إلا جللته بالسيف، ثم أتى إلى صفاة كانت بالأبطح فضربها ثلاث ضربات
فقطع منها ثلاثة أفهار، ثم قال: يا محمد سألت من أنت، ثم أنشأ يقول:
أنت الأمين محمد * قرم (1) أغر مسود
لمسودين أطايب * كرموا فطاب المولد
شهم قماقمة (2) ليوث * غيوث حجل (3) ترعد
نعم الأرومة ساقها * عمرو الخضم الأوحد
هشم الربيكة (4) في الجفان * وعيش بكة أنكد
فجرت هنالك سنة * فيها الخبيزة تثرد
ولنا السقاية في الحجيج * يماث (5) فيه العنجد (6)
والمازمان وما حوى * عرفاتها والمشهد
وجميع من حج الحطيم * لهدينا يتلبد (7)
تبعا لنا في إرثنا * وسراطنا يا أحمد
نعم المورث فخرنا * نعم الجليل الأعيد
فلنا السناء بفضله * ومشاهد لا تجحد
أنى تضام ولم أمت * وأنا الشجاع العربد (8)
وبنو أبيك كأنهم * أسد العرين توقد
وبطاح مكة لا يرى * فيها نجيع (9) أسود



(1) القرم من الرجال: السيد المعظم (لسان العرب 12 / 473).
(2) القمقام والقماقم من الرجال: السيد الكثير الخير الواسع الفضل (لسان العرب 12 / 494).
(3) الحجل: العظيم من كل شئ (لسان العرب 11 / 101).
(4) الربيكة: الأقط والتمر والسمن يعمل رخوا (لسان العرب 10 / 431).
(5) ماث: أذاب (لسان العرب 2 / 192).
(6) العنجد: الزبيب (لسان العرب 3 / 310).
(7) يتلبد: من لبد بالمكان أقام به ولزق (لسان العرب 3 / 385).
(8) العربد: الذكر من الأفاعي (لسان العرب 3 / 289).
(9) النجعة: طلب الكلأ ومساقط الغيث (لسان العرب 8 / 347).
213
ويجر طائرها فلا * يزقوا ولا يتغرد
حسدوا النبوة أن ترى * في هاشم وتمردوا
جره عليها غيرة * فليرغمن الحسد
ولأملأن وجوههم * وهم عرين (1) ركدوا
فيها بصقر قماية * ووجوههم تتربد (2)
فعل الأعز بذي * المذلة والحسام مجرد
وأبيك لولا أن يقال * صأصأ (3) الهزبر المزبد (4)
لوجدتني مبد بما * يخلو عليك وعردوا (5)
فلقد عرفتك صادقا * بالقول لا تتفند
ما زلت تنطق بالصواب * وأنت طفل أمرد
مبدي النصيحة جاهدا * وبك الغمامة ترعد
يسقى بوجهك صوبها * وطراؤها والجد حد
فيك الوسيلة في * الشدائد والربيع المرفد (6) (7)
ثم قال: يا محمد أيهم الفاعل؟ فأشار النبي (عليه السلام) إلى ابن الزبعري، فدعاه
أبو طالب فوجأ أنفه حتى أدماها، ثم أمر بالفرث والدم فأمر على رؤوس الملأ،
ثم قال: يا بن أخي أرضيت. ثم قال: سألت من أنت، ثم نسبه إلى آدم (عليه السلام). ثم قال:
أنت والله أشرفهم حسبا وأرفعهم منصبا، يا معشر قريش من شاء منكم أن يتحرك
فليفعل، أنا الذي تعرفوني.



(1) العرين: اللحم (لسان العرب 13 / 281).
(2) تربد وجهه: أي تغير من الغضب (لسان العرب 3 / 170).
(3) صأصأ من الرجل: فرق منه واسترخى، وصأصأة مني أي خوفا وذلا (لسان العرب 1 / 107).
(4) رجل مزبد: إذ غضب وظهر على صماغيه زبدتان (لسان العرب 3 / 193).
(5) عرد: اشتد (لسان العرب 3 / 287).
(6) الرفد بالكسر: العطاء والصلة، والمرفد: المعونة (لسان العرب 3 / 181).
(7) روى معظمها ابن أبي الحديد في شرحه على نهج البلاغة: ج 3 ص 319.
214
فأنزل الله تعالى صدرا من سورة الأنعام في قوله: * (ومنهم من يستمع إليك
وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا) * (1) إلى رأس الثلاثين منها،
فلو كان أبو طالب كافرا كما ذكروا ما قال: " أنت الأمين " ولا قال: " حسدوا النبوة "
ولا وصفه بالصدق وأنه مبدي النصيحة وأنه يستسقى به الغمام. وقال أبو طالب:
تطاول ليلي بهم يصب * ودمعي كسح (2) السقاء السرب (3)
ولعب قصي بأحلامها * وهل يرجع الحلم بعد اللعب
ونفي قصي بني هاشم * كنفي الطهاة (4) لطاف الحطب
وقول لأحمد أنت امرؤ * خلوق الحديث ضعيف النسب
ألا أن أحمد قد جاء هم * بحق ولم يأتهم بالكذب
على أن إخواننا وازروا * بني هاشم وبني المطلب
هما إخوان لعظم اليمين * امرا علينا كعقد الكرب (5)
فيا آل قصي ألم تخبروا * بما قد خلا من شؤون العرب
فلا تمسكن بأيديكم * بعيد الأنوف بعجب الذنب (6)
ورمتم بأحمد ما رمتم * على الآصرات (7) وقرب النسب
فإنا وما حج من راكب * وكعبة مكة ذات الحجب
تنالون أحمد أو تصطلوا * بحد الرماح وحد القضب (8)
وتعترفوا بين أبياتكم * صدور العوالي وخيلا عصب (9)



(1) منية الراغب في إيمان أبي طالب: ص 80.
(2) كسح بالتشديد: السيلان من فوق.
(3) السرب بالتحريك: الماء السائل.
(4) الطاهي: الطباخ والشواء والخباز وكل معالج للطعام، والجمع طهاة.
(5) الكرب بالتحريك: الحبل الذي يشد في وسط الدلو ليلي الماء.
(6) في المصدر: بعيد الأنوق لعجب الذنب.
(7) الآصرة: الرحم أو القرابة.
(8) القضب: السيف القاطع.
(9) العوالي: جمع العالية وهي أعلى القناة أو رأسه أو النصف الذي يلي السنان. والعصب: جمع
عصبة بالضم: وهي من الرجال والخيل والطير ما بين العشرة إلى الأربعين.
215
وله أيضا:
وقالوا خطة (1) جورا وحمقا * وبعض القول أبلج مستقيم
ليخرج هاشم فيصير منها * بلاقع (2) بطن مكة والحطيم
فمهلا قومنا لا تركبونا * بمظلمة لها أمر وخيم
فيندم بعضكم ويذل بعض * وليس بمفلح أبدا ظلوم
فلا والراقصات بكل خرق (3) * إلى معمور مكة لا تريم (4)
طوال الدهر حتى تقتلونا * ونقتلكم وتلتقي الخصوم
ويعلم معشر قطعوا وعقوا * بأنهم هم الحد (5) الظليم
أرادوا قتل أحمد ظالميه * وليس لقتله فيهم زعيم
ودون محمد فتيان قوم * هم العرنين (6) والعظم الصميم (7)
وله أيضا:
فأمسى ابن عبد الله فينا مصدقا * على ساخط من قومنا غير معتب
فلا تحسبونا خاذلين محمدا * لذي غربة منا ولا متقرب
ستمنعه منا يد هاشمية * مركبها في الناس خير مركب
فلا والذي تخذى له كل نضوة * طليح نجى نخلة فالمحصب (8)



(1) الخطة بالضم: شبه القصة والأمر والجهل.
(2) البلاقع جمع بلقع: الأرض القفر.
(3) رقص الجمل: ركض، والخرق: الأرض الواسعة والقفر.
(4) تريم من رام الشئ: أراده.
(5) في المصدر: الجلد، وجلده على الأمر: أكرهه.
(6) العرنين: السيد الشريف.
(7) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 63 - 64.
(8) خذي كرضى: استرخى، والنضوة والطليح: الإبل المهزول، والنجى: السريع وناقة نجية أي
سريعة، والنجل بالموحدة الفوقانية ثم الجيم: السير الشديد، والمحصب من حصب
بالتشديد المسرع في الهرب، يقال حصب عنه أي تولى وأسرع في الهرب. بجنبي، وفي
المناقب نجى. في الأصل.
216
يمينا صدقنا الله فينا ولم نكن * لنحلف بطلا بالعتيق المحجب
نفارقه حتى نصرع حوله * وما بال تكذيب النبي المقرب (1)
وكل هذه الأشعار مما تدل على إيمانه، ولو اعتبر كل ما له من نظم أو نثر قاله
منذ ولد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لوجده دالا على إسلامه.
وبعثت قريش إلى أبي طالب: إدفع إلينا محمدا نقتله ونملكك علينا. فأنشأ أبو
طالب القصيدة اللامية التي أولها:
لما رأيت القوم لا ود فيهم * وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد صارحونا بالعداوة والأذى * وقد طاوعوا أمر العدو المزايل (2)
وفي هذه يقول:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل (3)
وهي قصيدة طويلة، فلما سمعوا هذه القصيدة أيسوا منه.
ولما رأت قريش أن أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلو قالوا: لا نرى محمدا يزداد إلا
كبرا وتكبرا وإن هو إلا ساحر أو مجنون، وتوعدوه وتعاقدوا لئن مات أبو طالب
لتجتمعن قبائل قريش كلها على قتله. وبلغ ذلك أبا طالب فجمع بني هاشم
وأحلافهم من قريش فوصاهم برسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقال: ابن أخي نبي كما يقول،
أخبرنا بذلك آباؤنا وعلماؤنا أن محمدا نبي صادق وأمين ناطق، وأن شأنه أعظم
شأن، ومكانه من ربه أعلى مكان، فأجيبوا دعوته، واجتمعوا على نصرته، وراموا
عدوه من وراء حوزته، فإنه الشرف الباقي لكم على الدهر. وأنشأ يقول:
أوصي بنصر النبي الخير مشهده * عليا ابني وعم الخير عباسا
وحمزة الأسد المخشي صولته * وجعفرا أن يذودا دونه الناسا (4)
وهاشما كلها أوصي بنصرته * أن يأخذوا دون حرب القوم أمراسا (5)



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 64.
(2) السيرة النبوية لابن هشام: ج 1 ص 291.
(3) شرح ابن أبي الحديد: ج 3 ص 320.
(4) في المصدر: تذودوا دونه الباسا.
(5) المرس: المجرب في الحروب، جمع أمراس.
217
كونوا فدى لكم نفسي وما ولدت * من دون أحمد عند الروع أتراسا (1)
بكل أبيض مصقول عوارضه * تخاله في سواد الليل مقباسا (2) (3)
وقد أجمع أهل البيت (عليهم السلام) على أن أبا طالب (رضي الله عنه) مات مسلما، وإجماعهم
حجة على ما ذكر في غير موضع وسبب الشبهة في ذلك أن أمير المؤمنين عليا (عليه السلام)
كان يعلن نفاق أبي سفيان، فشكى معاوية ذلك إلى عمرو ومروان وعبد الله بن
عامر فقالوا له: إن إسلام أبيه أخفى من نفاق أبيك فأظهر كفره، فجعل يقول: إن
أبا طالب مات كافرا، وأمر الناس بذلك، فصار سنة.
والقرآن المجيد يدل على إيمانه في قوله عز وجل * (إنما المشركون نجس) * (4)
فلو كان عبد الله وأبو طالب مشركين لكان محمد وعلي ابني نجسين، وهما الطيبان
الطاهران.
وقال الله تعالى: * (ولينصرن الله من ينصره) * (5) قسم بلام التأكيد لناصره، ولم
يكن له ناصر سوى أبي طالب، والله تعالى إنما ينصر المؤمنين لقوله: * (وكان حقا
علينا نصر المؤمنين) * (6).
واستفاض الخبر أن جبريل (عليه السلام) نزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال له: يا محمد إن
الله يقرؤك السلام ويقول لك: اخرج من مكة فقد مات ناصرك (7).
تاريخ الطبري: لما نثرت التراب على رأس رسول الله (صلى الله عليه وآله) جعل يقول: ما
نالت قريش مني ما أكرهه حتى مات أبو طالب (8) ثم لم يستقر حتى خرج [إلى]
الطائف.
ومما يدل على إسلامه أيضا ما رثاه به أمير المؤمنين (عليه السلام):
أبا طالب عصمة المستجير * وغيث المحول ونور الظلم



(1) الروع: الفزع، والأتراس: جمع الترس بالضم: الجنة.
(2) المقباس: ما قبست به النار.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 61.
(4) التوبة: 28.
(5) الحج: 40.
(6) الروم: 47.
(7) بحار الأنوار: ج 35 ص 158 باب 3.
(8) تاريخ الطبري: ج 2 ص 344.
218
لقد هد فقدك أهل الحفاظ * فصلى عليك ولي النعم
ولقاك ربك رضوانه * لقد كنت المطهر من خير عم (1)
وقد تواترت الأخبار (2) عن زين العابدين (عليه السلام) وأنه سئل عن أبي طالب أكان
مؤمنا؟ فقال: نعم.
فقيل: إن هاهنا قوم يزعمون أنه مات كافرا.
فقال: واعجباه! وكيف لا أعجب! أيطعنون على أبي طالب أو على رسول
الله (صلى الله عليه وآله) وقد نهاه الله عز وجل أن يقر مؤمنة مع كافر في غير آية من القرآن، بل
حرمهن على الكفار في مواضع كثيرة، ولا يشك أحد أن فاطمة بنت أسد رضي الله
عنها زوجة أبي طالب مؤمنة قديمة الإيمان بالنبي (صلى الله عليه وآله)، وقد روى قوم أنها أول
من آمن به قبل أن يبعث لما رأت من دلائله (عليه السلام)، وأن أبا طالب (رضي الله عنه) مات عنها
وورثته، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " لا توارث بين أهل ملتين " (3) أو كان رسول
الله (صلى الله عليه وآله) يدع مؤمنة مع كافر؟! ويدع مؤمنة ترث كافرا؟! ولكن القوم عادوا
عليا (عليه السلام) فلم يجدوا فيه مقالا فرموا أباه بالكفر عداوة لعلي (عليه السلام).
وعن أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام) أنه قال: كان أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب (عليه السلام) يعجبه أن يروى شعر أبي طالب (رضي الله عنه) وأن يدون، وقال (عليه السلام): تعلموه
وعلموا أولادكم فإنه كان على دين الله وفيه علم كثير (4).
وعن العسكري الحسن عن آبائه - عليه وعليهم السلام - في حديث طويل
يذكر أن الله تعالى أوحى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله): إني أيدتك بشيعتين: شيعة تنصرك
سرا، وشيعة تنصرك علانية. فأما التي تنصرك سرا فسيدهم وأفضلهم عمك أبو
طالب، وأما التي تنصرك علانية وتجهر جهرة فسيدهم وأفضلهم علي ابنه (5).



(1) تذكرة الخواص: ص 9.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 3 ص 316.
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 3 ص 316.
(4) بحار الأنوار: ج 35 ص 115 باب 3 ح 54.
(5) الغدير: ج 7 ص 395 ح 31 نقلا عن كتاب الحجة للسيد ابن سعد: ص 115.
219
قال: وقال: إن أبا طالب كمؤمن آل فرعون يكتم إيمانه (1).
وروى ابن بابويه أن عبد العظيم بن عبد الله الحسني المدفون بالري كان
مريضا فكتب إلى علي بن موسى الرضا (عليه السلام): عرفني يا ابن رسول الله عن الخبر
المروي " أن أبا طالب في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه ".
فكتب إليه الرضا (عليه السلام) بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد فإنك إن شككت في
إيمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار والسلام (2).
وقد تواترت الأخبار بضرب (3) النبي (عليه السلام) جنب أبي طالب (رضي الله عنه) بعد ما مات
وأدرج في كفنه، وقوله له (صلى الله عليه وآله) وهو يضرب على جنبه: يا عم يا عم كفلت وربيت
صغيرا وآويت كبيرا فجزاك الله عني خيرا (4).
وقد تجد لأبي طالب (رضي الله عنه) في الأخبار وفي شعره (5) ألفاظا تدل على إيمانه،
من ذلك قوله في رسول الله (صلى الله عليه وآله): انه الأمين، وانه صادق، وانه رسول الله، وانه أخو
موسى وعيسى، يذكر ذلك في شعره: ولم يكذب قط، وأن الذي يخبر به كائن
لا محالة. وقد شرح ذلك طوق (6) في تأريخه، ولولا التطويل لأوردنا ذلك بأسره.
وقال جابر بن عبد الله الأنصاري (رضي الله عنه) قال النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): يا علي
خرجت أنا وأنت من نكاح ولم نخرج من سفاح من لدن آدم إلى أبي عبد الله
وأبيك أبي طالب، ما خرجنا من أصلاب المشركين ولا استودعنا أرحام
المشركات من لدن آدم إلى أن ولدنا وأخرجنا إلى الدنيا، ولقد سبحنا بحمد ربنا
في أصلاب الطاهرين وأرحام الطاهرات، وما كان الله يودع النطفة التي خلقنا منها
مشركا ولا كافرا. أورد هذا الخبر أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن



(1) الغدير: ج 7 ص 395 ح 31 نقلا عن كتاب الحجة للسيد ابن سعد: ص 115.
(2) بحار الأنوار: ج 35 ص 110 باب 3 ح 41.
(3) في المصدر: مسح.
(4) تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 35 وفيه: " يمسح " بدل " يضرب ".
(5) في هامش الأصل: أشعاره خ ل.
(6) كذا، والظاهر أنه رمز ولم نتحقق المقصود منه.
220
موسى بن بابويه في كتابه المعروف بمولد النبي (صلى الله عليه وآله) (1).
وفي الكتاب المذكور: روى سليمان الديلمي، عن عبد الرحمن بن سالم، عن
أبيه: قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن الناس يزعمون أن أبا طالب في ضحضاح من
نار يغلي دماغه. فقال: كذبوا والله، لو أن إيمان أبي طالب وضع في كفة ميزان
وإيمان هذا الخلق في كفة لرجح إيمان أبي طالب على إيمانهم.
وفي الكتاب المذكور: عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام)
يقول: والله ما عبد أبي ولا جدي عبد المطلب ولا هاشم ولا عبد مناف صنما قط.
قيل: فما كانوا يعبدون؟ قال: كانوا يصلون إلى البيت الحرام على دين إبراهيم (عليه السلام)
متمسكين به.
وعن سلمة، عن محمد، عن الحسين بن موفق، عن أحمد بن الفضل: عن أبي
عبد الله (عليه السلام) قال: مثل أبي طالب (رضي الله عنه) في هذه الأمة مثل أصحاب الكهف. أسروا
الإيمان فأعطاهم الله أجورهم مرتين.
ولم يتمكن أبو طالب (رضي الله عنه) من نصر النبي (عليه السلام) والذب عنه إلا حيث تخيل
لقريش أنه لم يخالف دينهم ولم يرغب عن ملتهم، ولو ظهر منه الإيمان لعجز عن
القيام فيما قام فيه، ولجرى له مثل ما جرى لغيره ممن أسلم من الطرد والتشريد
والمهاجرة وغير ذلك.
قال عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، عن جده، عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) قال:
أخبرت رسول الله (صلى الله عليه وآله) بموت أبي طالب فبكى، ثم قال: إذهب فغسله وكفنه
وواره، غفر الله له ورحمه، ففعلت، ثم أمرني فاغتسلت ونزلت في قبره،
وجعل (صلى الله عليه وآله) يستغفر له، وبقي أياما لا يخرج من بيته.
وعن سلمة، عن الحسين بن حسين بن موفق، عن حسين محمد بن موسى بن
جعفر يرفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما مات أبو طالب (رضي الله عنه) وقف رسول الله (صلى الله عليه وآله)
على قبره فقال: جزاك الله من عم خيرا، فقد ربيتني يتيما، ونصرتني كبيرا.



(1) لم يصل إلينا ذلك السفر الشريف.
221
وأما أم أمير المؤمنين (عليه السلام) فهي فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن
قصي، وهي ابنة عم أبي طالب، وهي أول هاشمية ولدت بهاشمي، وكان عليا (عليه السلام)
أصغر ولدها، والعرب تقول أكرم قريش عجزتاها، وهما عبد الله أبو رسول
الله (صلى الله عليه وآله) وكان أصغر بني أمه المخزومية وأمير المؤمنين (عليه السلام) أصغر بني أمه فاطمة
بنت أسد الهاشمية.
والفواطم: فاطمة بنت سعد أم قصي، وفاطمة بنت عمرو جرول بن مالك أم
أسد بن هاشم، فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي وأمها فاطمة بنت رواحة، وفاطمة
بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله).
والعرب تقول لأكبر ولد الرجل بكرا، ولأصغر ولده عجزة.
ويقول العرب: محضا قريش لا قذى فيهما: فالأول ولد أبي طالب هم لأول
هاشمية ولدت لهاشمي، والثاني الشفاء بنت هاشم الأكبر بن عبد مناف بن قصي
كانت عند هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي فولدت له عبد يزيد، والشفاء
هذه أول منافية ولدت لمنافي، وعبد يزيد المحض جد محمد بن إدريس الشافعي
الفقيه المكي.
قال أبو الحسين النسابة: بلغ فاطمة بنت أسد رضي الله عنها عن عتبة بن
ربيعة بن عبد شمس إيعاد وتهديد لبني هاشم في أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالت لأخيه
شيبة:
$ أمير المؤمنين (عليه السلام) / نسبه
تقدم إليه وبين له * ألم تنه شيبة عنا عتب
تطيع هصيصا (1) وأتباعها * وتشتمنا سادرا (2) كاللعب
فإنكم والذي تزعمون * كاشفا ثمود وعاد ندب
يدب إلى ناقة للمليك * ليعقرها ويله ما حسب



(1) هصيص، مصغر: اسم رجل، وقيل: أبو بطن من قريش وهو هصيص بن كعب بن لؤي بن
غالب (لسان العرب 7 / 104).
(2) السادر: الذي لا يهتم لشئ ولا يبالي ما صنع (لسان العرب 4 / 355).
222
أيوعدنا هبلت أمه * لقد جن عتبة أو قد كذب
لنا البيت عالي على كل بيت * فهل مثله في جميع العرب
أتشتمنا خاليا لاهيا * فأولى فأولى فأعتب عتب
وأسلمت فاطمة بنت أسد رضي الله عنها وهاجرت وبايعت، وماتت بالمدينة.
حدث أحمد بن حماد، عن نوح بن صلاح، قال: حدثنا سفيان الثوري، عن
عاصم الأحول، عن أنس بن مالك، قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد دخل إليها
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فجلس عند رأسها وقال: رحمك الله يا أمي كنت أمي بعد أمي،
تجوعين وتشبعيني، وتعرين وتكسيني، وتمنعين نفسك طيب الطعام وتطعميني،
تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة. وغمضها، ثم أمر أن تغسل بالماء ثلاثا، فلما
بلغ الماء الذي فيه الكافور سكبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيده، ثم خلع قميصه فألبسه
إياها، وكفنت، ودعا لها أسامة بن زيد مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبا أيوب الأنصاري
وعمر بن الخطاب وغلاما أسود فحفروا قبرها، فلما بلغوا اللحد حفره رسول
الله (صلى الله عليه وآله) بيده وأخرج ترابه، ودخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبرها فاضطجع فيه ثم قال: الله
الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت، اللهم اغفر لأمي فاطمة بنت أسد بن هاشم،
ولقنها حجتها، ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء من قبلي فإنك أرحم
الراحمين. فأدخلها رسول الله (صلى الله عليه وآله) اللحد والعباس وأبو بكر (1).
وقال جابر بن عبد الله الأنصاري (رضي الله عنه): لما توفيت فاطمة بنت أسد رضي الله
عنها غمضها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخلع قميصا له فقال: اجعلوه شعارها دون كفنها،
ثم صلى عليها فرأيناه قد احمر وجهه، فقلت: يا رسول الله نفديك بآبائنا وأمهاتنا
رأيناك قد احمر وجهك. قال: نعم لازدحام الملائكة على جنازتها، ولقد صليت
بهم فما رأيت طرفهم، ثم نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قبرها وخلع ثيابه وتمرغ فيه
وقال: اللهم اجعله عليها روضة من رياض الجنة. ثم وضعها في لحدها ولقنها،



(1) المناقب للخوارزمي: ص 47.
223
ثم قال: اليوم ماتت أمي، اليوم مات أبي، اليوم مات عمي، جزاك الله عني خيرا،
ثم دمعت عيناه، وخرج من القبر وحثا عليها التراب.
ثم قال (صلى الله عليه وآله) لأصحابه: تفرقوا عني. ثم وقف على قبرها فقال: يا فاطمة هل
آمنك الله مما خفت؟ فسمعناه يقول: الحمد لله. ثم قال: يا فاطمة هل أنجز لك ربي
ما ضمنت أن ينجزه لك؟ فسمعناه يقول: الحمد الله. ثم قال: يا فاطمة هل كفيت ما
ضمنت لك أن يكفيك إياه؟ فسمعناه يقول: الحمد لله.
فقلنا: يا رسول الله سمعناك تقول كيت وكيت.
فقال: نعم كنت عندها فحدثتها بما أعطاني الله عز وجل في الجنة، فقالت: يا
رسول الله ادع الله أن يجعلني معك في دارك، فضمنت لها ذلك على الله عز وجل،
فقلت لها: هل أنجز الله لك ما ضمنت لك عنه؟ فقالت: نعم، فقلت: الحمد لله. وكنت
قد قلت لها يوما وحدثتها حديث منكر ونكير فقالت: يا رسول الله ادع الله أن
يثبتني بالقول الثابت وأن يكفينيهما، فقلت لها: هل آمنت مما خفت؟ فقالت: نعم،
فقلت: الحمد لله. وكنت قد قلت لها يوما وحدثتها بضغطة القبر وهول المطلع،
فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يكفيني هول المطلع ويقويني على ضغطة القبر،
فقلت لها: هل أنجز الله لك ما سألت؟ قالت: نعم، فقلت: الحمد لله (1).
وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله) وقف على شفير قبرها فقال: يا فاطمة قولي ابني ابني،
فقيل له في ذلك، فقال: يأتي القبر ملكان فأول ما يسألان عن شهادة أن لا إله إلا
الله وهي شهادة الحق التي قامت بها السماوات والأرض، ثم عن الإقرار بالشهادة
لي التي لا تفتح لشئ أبواب السماء إلا بها، ثم عن ولاية هذا - وأشار إلى علي بن
أبي طالب (عليه السلام) - ثم قال إن الملكين سألاها عن الشهادة فأدتها، وعن الإقرار بي
فأدته، وارتج عليها حين قيل لها فمن وليك، فقلت: قولي ابني ابني علي بن أبي
طالب، قال: ففتح لها باب من أبواب الجنة، ومهد لها مهاد من مهاد الجنة، وبعث
$ أمير المؤمنين (عليه السلام) / مولده
إليها بريحان من رياحين الجنة، وهي في روح وريحان وجنة نعيم، وقبرها روضة



(1) بحار الأنوار: ج 35 ص 179 مختصرا.
224
من رياض الجنة، ثم ما خرجت من قبرها حتى رأيت مصباحين من نور عند
يديها ومصباحين من نور عند رجليها، وملكاها الموكلان بها يستغفران لها إلى
يوم القيامة.
فصل
في مولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
قال محمد بن سعيد الدارمي: حدثني موسى بن جعفر، عن أبيه، عن محمد
ابن علي، عن أبيه، عن علي بن الحسين (عليه السلام): قال: كنت جالسا مع أبي ونحن
زائرون قبر النبي (صلى الله عليه وآله) وهناك نسوة كثيرة إذ أقبلت امرأة منهن، فقلت لها: من أنت
يرحمك الله؟
فقالت: زندة بنت قريبة بن العجلان من بني ساعد.
فقلت لها: هل عندك شئ تحدثينا؟
فقالت: اي والله، حدثتني أمي أم عمارة بنت عبادة بن نضلة بن مالك بن
العجلان الساعدي أنها كانت ذات يوم في نساء من العرب إذ أقبل أبو طالب كئيبا
حزينا، فقلت له: ما شأنك يا أبا طالب؟
فقال: إن فاطمة بنت أسد في شدة المخاض. ثم وضع يده على وجهه. فبينا هو
كذلك إذ أقبل محمد (صلى الله عليه وآله) فقال له: ما شأنك يا عم؟
فقال: إن فاطمة بنت أسد تشتكي المخاض. فأخذ بيده وقام وقمن معه، فجاء
بها إلى الكعبة فأجلسها فيها، ثم قال لها: اجلسي على اسم الله تعالى.
قالت: فطلقت طلقة فولدت غلاما مسرورا نظيفا منظفا لم أر كحسن وجهه،
فسماه أبو طالب عليا، وحمله النبي (صلى الله عليه وآله) حتى أداه إلى منزلها (1).
وقيل: كان أبو طالب كثيرا ما يهجع في الحجر، وكان لا يرقد حتى يطوف



(1) بحار الأنوار: ج 35 ص 30 باب 1 ح 26.
225
بالبيت، وأنه رقد ذات يوم فرأى في منامه كأن بابا انفتح عليه من السماء فنزل منه
نور فشمله، فانتبه لذلك مسرورا ومنه ذعرا. ثم نهض إلى منزله، فركب فرسه
وخرج في عدة من مواليه حتى أتى راهب الجحفة، فقص عليه رؤياه، فتأولها
الراهب له فقال: أما السماء التي رأيتها فهي زوجة تملكها من كرائم النساء، وأما
النور الذي شملك فهو ولد يفتح الله الأرض على يديه ويكون وصي نبيه وناموس
زمانه، ووصف له صفة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأنعته وعلامة ولادته فسر بذلك أبو
طالب وأمر له ببكرة وحلة يمانية ومائة درهم، وقفل راجعا إلى مكة.
فلما كان من الغد أقبل في رهطه وولد أبيه إلى الكعبة وطاف حولها، ثم عاد
إلى الحجر فرقد فيه، فرأى في منامه كأنه البس إكليلا من ياقوت وسربالا من
عبقر (1) وكأن قائلا يقول: أبا طالب قرت عيناك وظفرت يداك وحسنت رؤياك،
فأنا لك بالولد ومالك التلد وعظيم البلد على رغم الحسد. فانتبه فرحا وبرؤياه
معجبا، وخرج من الحجر فطاف حول الكعبة.
ثم عاد إلى الحجر فرقد فيه فرأى في منامه كأن رجالا غر الوجوه كالبروق
ينادونه: عبد مناف ما يثنيك عن ابنة عمك أسد بن هاشم، فعما قليل تحوي منها
شرفا طيبا وذكرا عاليا، أكرم به كنزا، ولك عزا يبلغ المشارق والمغارب، ويقمع
الجبت والطاغوت. فاستوى جالسا، وخرج من الحجر ماضيا لا يعرج على شئ
حتى أتى أهله فخبرهم بما رأى.
ثم أقبل وأخواه حمزة والزبير إلى منزل أسد، فلم يبرحوا حتى عقدوا النكاح
وأجمعوا على شهر يجتمعون فيه، ثم دلف القوم إلى منازلهم، وأقبل أبو طالب إلى
الكعبة فطاف حولها، ثم دلف إلى منزله وبعث إلى القوم بكل ما عقدوا من المهر
وغيره، وأعد في منزله الذبائح والطعام، فلما بلغ الوقت أقبل رهطه وولد أبيه إلى
الكعبة وقريش مجتمعة وجماجم العرب مختلفة فسلم وجلس.



(1) قال ابن سيدة: عبقر قرية باليمن توشى فيها الثياب والسبط، فثيابها أجود الثياب، فصارت
مثلا لكل منسوب إلى شئ رفيع. (لسان العرب: ج 4 ص 535 مادة " عبقر ").
226
فلما استقر بهم المجلس ابتدأ أبو طالب خطيبا وقال: الحمد لله رب البيت
العظيم، والمقام الكريم، والمشعر والحطيم، الذي اصطفانا أعلاما، وسدنة، وعربا
خلصا، وحجبة، وبهاليل أطهارا من الخناء والريب، والأذى والعيب، وأقام لنا
المشاعر، وفضلنا على العشائر، نجية آل إبراهيم، وصفوة زرع إسماعيل.
ثم قال: معاشر قريش إنني ممن طاب محتده (1)، وطهر مقعده، وعرف مولده،
وعزت جرثومته، وطابت أرومته وذؤابة الذوائب، وسيد الأعارب، وقد تزوجت
فاطمة بنت أسد، وسقت إليها المهر، وثبت الأمر، فيلوه (2) واشهدوا.
فقال أسد بن هاشم بن عبد مناف: أنت أبا طالب بحيث المنصب الذي ذكرت،
والفضل الذي وصفت، وقد زوجناك ورضيناك.
ثم زفت إليه، فما مضت أيام حتى اشتملت منه على حمل، فجعل أبو طالب
يتأمل الصفة ويطلب العلامة فلم يجدها، فوضعت بغلام فسماه طالبا.
ثم بقي على ذلك عشر سنين فاشتملت منه على حمل فتأمل أبو طالب العلامة
فلم يجدها، وتأمل الصفة فلم يرها، فوضعت غلاما سماه عقيلا.
ثم مضى على ذلك عشر سنين، فاشتملت منه على حمل، فتأمل أبو طالب
العلامة فلم يجدها، فوضعت غلاما سماه جعفرا.
ثم مضى على ذلك عشر سنين، فاشتملت على حمل، فتأمل أبو طالب العلامة
فوجدها، والصفة فرآها، فوضعت عليا (عليه السلام). وكان بين مولد طالب بن أبي طالب
ومولد أمير المؤمنين (عليه السلام) ثلاثون سنة.
وكانت فاطمة بنت أسد (عليها السلام) لما تبين حملها بأمير المؤمنين تزداد حسنا
وجمالا وبهاء، وكانت الهاشميات يتعجبن من حسنها وما تلبسها من البهاء
والجمال، إلى أن شغفن بها وعظم الثناء بحسنها، وأنها خرجت ذات يوم في نساء
أهلها وولائد عبد المطلب حتى وافت الحجر، وبسط لها تكاء، وأحدق النساء بها،
فتجللها بهاء راق العيون، ووجت منه القلوب، وقالت النساء: هنيئا لك ما حييت،



(1) كريم الأصل، المنجد: مادة حتد.
(2) كذا، وفي المناقب: فاسألوه.
227
لقد كرمك الله وفضلك علينا، فما ينقضي يوم إلا وأنت تزدادين فيه بهاء وجمالا.
ثم خرجن من الحجر وهي في وسطهن تزف، وانصرفن عنها وهن يتحدثن بحديثها.
فلما استكملت شهورها وقربت ولادتها، خفقت فرأت كأن قنديلا نزل من
السماء فوقع قبالها، ثم قال: يا فاطمة لقد طبت وطاب ولدك، وعظم رشدك. ثم
استيقظت فخبرت أبا طالب بذلك فسر بما نبأته به، وقال: يا فاطمة جاءك والله
الناموس الأكبر، وأخدود الجوهر.
فلما كان من الغد وضعته صلى الله عليه طاهرا نظيفا رافعا طرفه إلى السماء
يومي بسبابته ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده
ورسوله ونبيه المبعوث بالحق. فتعجبت النساء منه وقلن ما رأينا مثل هذا المولود
ولا سمعنا بمثله، إلا ما كان قبله من ابن عمه، يعنين محمدا (صلى الله عليه وآله)، وخبرت بذلك أبا
طالب فقال: صدق راهب الجحفة ولقيله ما صدق عبد المطلب حيث قال: منا نظير
موسى وهارون، بل اللذان منا أكرم منهما.
وأقبل الزبير بن عبد المطلب يوما إلى الكعبة فقال: يا معشر قريش علن
الخفاء، وباح السرار رأيت الليلة في المنام أخي عبد مناف قائما على الصفا قد
البس إكليلا، وإذا ولدا له كالشهاب المتوقد وصارخ من الطريق يقول: إن الله جل
وعز أطلع برأفته إلى العرب فاصطفى منها محمدا (صلى الله عليه وآله) على الرسل والأنبياء
رسولا نبيا، واختار له من أهله حبيبا وصفيا ووصيا، فبينا أنا لذلك جذل إذ رأيت
محمدا (صلى الله عليه وآله) والملك الذي يعرف بجبرائيل يعانقه على رفرف أخضر يختطف
نورهما البصر تحفهما جيش لهما وولد أبي طالب يؤم ذلك الجيش ويقدمه،
فاخترعت في النوم فانتبهت وأنا حافظها.
ثم قال:
رأيت في النوم أخا جميلا * عبد مناف لابسا إكليلا
فوق الصفا يكثر التهليلا * وابنا له مهذبا بهلولا
يقود جيشا هيضما نبيلا * امام من أكرم به وسيلا

228
محمدا منبعثا رسولا * ورفرفا تحتهما قنديلا
فلم أقل كذبا ولا تضليلا * ان الرسول عانق الرسولا
محمد معانق جبريلا * وابن أبي طالب نال السؤلا
فقالت قريش: يا بني عبد المطلب إنا من أساطيركم في أمر مختلف، واحد
يدعي النبوة، وآخر يتكهن، وآخر يتصدى للرئاسة، وهيهات هيهات، كثرت
أفانينكم، وتطاولت أمانيكم، وعما قليل كل يعلم مستقره.
فقال الزبير: أي والله ذلك على رغم الحسد، ورغم المعطس، وعند هبوط
روح القدس، تذوقون الوبال وتلبسون الجلباب، فتعاينوا الزلازل، ألا أنا النجباء
المصطفون من الأفانين، معادن النور وحكام الأمور.
فكان قول الزبير مما ارتجت [له] القلوب وضيق الصدور وهيج الكروب إلى
أن أظهر الله جل جلاله أمر نبيه (صلى الله عليه وآله)، فاختار الله جل وعز له عليا وليا وحبيبا
ووزيرا، فأنار الله بهما الحق وأخمد بهما الباطل.
وحدث جابر بن عبد الله (رضي الله عنه): سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ميلاد علي (عليه السلام)،
فقال: آه آه لقد سألتني عن خير مولود ولد بعدي على سنة المسيح (عليه السلام)، إن الله
عز وجل خلقني وعليا من نور واحد قبل أن يخلق الخلق بخمسمائة ألف عام،
وكنا نسبح الله ونقدسه ونمجده، فلما خلق الله تبارك وتعالى آدم (عليه السلام) قذف بنا في
صلبه، فاستقررت أنا في جنبه الأيمن وعلي في الأيسر، ثم نقلنا من صلبه في
الأصلاب الطاهرة والأرحام الطيبة، فلم نزل كذلك حتى أطلعني الله تبارك وتعالى
من ظهر طاهر وهو عبد الله بن عبد المطلب، فاستودعني خير رحم وهي آمنة ثم
أطلع الله جلت عظمته عليا من ظهر طاهر وهو أبو طالب، واستودعه خير رحم
وهي فاطمة بنت أسد.
ثم قال: يا جابر ومن قبل أن وقع علي في بطن أمه كان في زمانه رجل راهب
عابد يقال له المثرم بن دعيب بن الشيقبان، وكان مذكورا في العباد قد عبد الله جل
وعز مائة وسبعين سنة، ولم يسأله حاجة، فسأل ربه جل وعز أن يريه وليا له،

229
فبعث الله بأبي طالب إليه، فلما أن بصر به المثرم قام إليه فقبل رأسه وأجلسه بين
يديه، فقال له: من أنت يرحمك الله؟ فقال: رجل من تهامة. قال: من أي تهامة؟
قال: من مكة. قال: ممن؟ قال: من عبد مناف. قال: من أي عبد مناف؟ قال: من
بني هاشم. فوثب إليه العابد فقبل رأسه ثانية وقال: الحمد لله الذي أعطاني مسألتي
ولم يمتني حتى أراني وليه.
ثم قال: أبشر يا هذا فإن العلي الأعلى قد ألهمني إلهاما فيه بشارتك. قال أبو
طالب: وما هو؟ قال: ولد يخرج من صلبك هو ولي الله تعالى ذكره، وهو إمام
المتقين ووصي رسول رب العالمين، فإن أنت أدركت ذلك الولد فاقرئه مني
السلام وقل له: إن المثرم يقرؤك السلام وهو يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له وأن محمدا عبده ورسوله وأنك وصيه حقا، بمحمد تتم النبوة، وبك تتم الوصية.
قال: فبكى أبو طالب وقال: ما اسم هذا المولود؟ قال: اسمه علي.
قال أبو طالب: إني لا أعلم حقيقة ما تقول إلا ببرهان بين ودلالة واضحة. قال
المثرم: فما تريد أن اسأل الله تعالى لك ليعطيك في مكانك ما يكون دلالة لك؟
قال أبو طالب: أريد طعاما من الجنة في وقتي هذا.
فدعا الراهب بذلك، فما استتم دعاءه حتى اتي بطبق عليه من فاكهة الجنة
رطب وعنب ورمان، فتناول أبو طالب منه رمانة ونهض فرحا من ساعته حتى
رجع إلى منزله، فواقع فاطمة بنت أسد، فحملت بعلي، فارتجت الأرض وزلزلت
بهم أياما حتى لقيت قريش من ذلك شدة ففزعوا وقالوا: قوموا بآلهتكم التي في
ذروة جبل أبي قبيس حتى تسألوهم أن يسكنوا ما نزل بكم وحل بساحتكم.
فلما اجتمعوا على ذروة جبل أبي قبيس جعل يرتج ارتجاجا حتى تدكدكت
منه صم الصخور وتناثرت وتساقطت الآلهة على وجوههم، فلما بصروا بذلك
قالوا: لا طاقة لنا بما حل بنا. فصعد أبو طالب الجبل وهو غير مكترث بما هم فيه،
فقال: أيها الناس إن الله تبارك وتعالى أحدث في هذه الليلة حادثة وخلق فيها
خلقا إن لم تطيعوه وتقروا بولايته وتشهدوا بإمامته لم يسكن ما بكم فلا تكن لكم

230
تهامة مسكنا. وقالوا: يا أبا طالب إنا نقول بمقالتك.
فبكى أبو طالب ثم رفع يده إلى الله (1) جل جلاله وقال: إلهي وسيدي أسألك
بالمحمدية المحمودة وبالعلوية العالية وبالفاطمية البيضاء إلا تفضلت على تهامة
بالرأفة والرحمة. فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد كانت العرب تكتب هذه
الكلمات فتدعوا بها عند شدائدها في الجاهلية، وهي لا تعلمها ولا تعرف حقيقتها.
فلما كانت الليلة التي ولد فيها أمير المؤمنين (عليه السلام) أشرقت السماء بضيائها،
وتضاعف نور نجومها، وأبصرت قريش من ذلك عجبا عجيبا، فماج بعضها في
بعض وقالوا: قد حدث في السماء حادث. فخرج أبو طالب وهو يتخلل بسكك
مكة وأسواقها ويقول: يا أيها الناس تمت حجة الله. فأقبل الناس يسألونه عن علة
ما يرون من إشراق السماء وتضاعف نور النجوم.
فقال لهم: أبشروا فقد ظهر في هذه الليلة ولي من أولياء الله تعالى، يكمل الله
فيه جميع الخير، ويختم به الوصيين، وهو إمام المتقين، وأمير المؤمنين، وناصر
الدين، وقامع المشركين، وغيظ المنافقين، وزين العابدين، ووصي رسول رب
العالمين، إمام هدى، ونجم على، ومصباح دجى، يتجلبب بالجود، ويهجر الكفر،
ويجتنب الشرك والشبهات، فهو نفس اليقين، ورأس الدين. فلم يزل يكرر هذه
الكلمات والألفاظ إلى أن أصبح. فلما أصبح غاب عن قومه أربعين صباحا.
قال جابر: فقلت: يا رسول الله إلى أين غاب؟
قال: إنه مضى يطلب المثرم ليبشره بمولد أمير المؤمنين، وكان المثرم قد مات
في جبل لكام، فاكتم يا جابر ما تسمع فإنه من سرائر الله المكنونة وعلومه
المخزونة. إن المثرم كان وصف لأبي طالب كهفا في جبل لكام وقال له: إنك
تجدني هناك حيا أو ميتا. فلما مضى أبو طالب إلى ذلك الكهف ودخل اليه وجد
المثرم ميتا، جسدا ملفوفا في مدرعته، مسجى بها إلى قبلته، وإذا هناك حيتان



(1) السماء، خ ل.
231
إحداهما بيضاء والأخرى سوداء، وهما يدفعان عنه الأذى، فلما بصرتا بأبي
طالب غربتا في الكهف.
ودخل أبو طالب إليه وقال: السلام عليك يا ولي الله ورحمة الله وبركاته.
فأحيى الله جلت عظمته بقدرته المثرم. فقام قائما يمسح وجهه ويقول: أشهد
أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا رسول الله وأن عليا ولي الله والإمام
بعد نبي الله.
فقال أبو طالب: أبشر فإن عليا قد طلع إلى الأرض.
قال له المثرم: فما كان علامة الليلة التي طلع فيها؟
قال أبو طالب: لما مضى من الليل الثلث أخذ فاطمة ما يأخذ النساء عند
الولادة، فقلت لها: ما لك يا سيدة النساء؟ قالت: إني أجد وهجا، فقرأت عليه
الاسم الذي فيه النجاة، فسكنت. فقلت لها أني أنهض فآتيك بنسوة من صواحباتك
يعنك على أمرك في هذه الليلة. فقالت: رأيك يا أبا طالب.
فلما قمت لذلك فإذا أنا بهاتف قد هتف بي من زاوية البيت وهو يقول: أمسك
أبا طالب فأن ولي الله لا تمسه يد نجسة، فإذا أنا بأربع نسوة قد دخلن عليها،
عليهن ثياب بيض كهيئة الحرير الأبيض، وإذا رائحتهن أطيب من المسك الأذفر،
فقلن لها: السلام عليك يا ولية الله، فأجابتهن، ثم جلسن بين يديها ومعهن جونة
من فضة، فآنسنها حتى ولد علي. فلما ولد انتهيت إليه فإذا هو كالشمس الطالعة قد
سجد على الأرض وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن
محمدا رسول الله وأشهد أني علي وصي محمد رسول الله، بمحمد يختم الله النبوة
وبي تتم الوصية، وأنا أمير المؤمنين. فتقدمت إليه امرأة من تلك النسوة فأخذته من
الأرض فوضعته في حجرها، فلما نظر علي في وجهها ناداها بلسان طلق ذلق:
السلام عليك يا أماه.
فقالت: وعليك السلام يا بني.
فقال لها: ما خبر والدي؟

232
فقالت: في نعم الله يتقلب، وفي جنته يتنعم. فلما سمعت ذلك لم أتمالك أن
قلت: يا بني ألست بأبيك؟
قال: بلى ولكني وإياك من صلب آدم (عليه السلام)، هذه أمي حواء: فلما سمعت ذلك
غطيت رأسي بردائي وألقيت نفسي في زاوية البيت حياء منها. ثم دنت أخرى
ومعها الجونة فأخذت عليا، فلما نظر في وجهها قال: السلام عليك يا أختي.
قالت: وعليك السلام يا أخي.
ثم قال لها: ما خبر عمي؟
قالت: خير، وهو يقرأ عليك السلام.
فقلت: يا بني أي أخت هذه؟ وأي عم هذا؟
قال: هذه مريم بنت عمران، وعمي عيسى بن مريم، فضمخته بطيب كان
في الجونة. فأخذته أخرى منهن فأدرجته في ثوب كان معها.
قال أبو طالب: فقلت: لو طهرناه كان أخف عليه، وذلك أن العرب كانت تطهر
أولادها.
فقلن: يا أبا طالب فإنه ولد طاهر مطهر لا يذيقه الله حر الحديد في الدنيا إلا
على يد رجل يبغضه الله ورسوله وملائكته والسماوات والأرض والجبال والبحار
وتشتاق إليه النار.
فقلت: من هذا الرجل؟
فقلن: هو ابن ملجم المرادي لعنه الله، وهو قاتله بالكوفة سنة ثلاثين من وفاة
محمد.
قال أبو طالب: ثم غابت النسوة فلم أرهن، فقلت في نفسي: لو عرفت
المرأتين الأخريين، فألهم الله عليا فقال: يا أبي أما المرأة الأولى فكانت حواء
أمي، وأما التي احتضنتني فهي مريم بنت عمران التي أحصنت فرجها، وأما التي
أدرجتني في الثوب فهي آسية، وأما صاحبة الجونة فهي أم موسى بن عمران،
فالحق بالمثرم الآن وبشره وخبره بما رأيت، فإنه في كهف كذا في موضع كذا حتى

233
أنه وصف الحيتين فأتيتك وبشرتك بما عاينت وشاهدت من ابني علي.
قال: فبكى المثرم ثم سجد شكرا لله تعالى، ثم تمطى فقال: غطني بمدرعتي،
فغطيته، فإذا أنا به ميت كما كان، فأقمت عنده ثلاثا أكلم فلا أجاب، فاستوحشت
لذلك، وخرجت الحيتان فقالتا لي: السلام عليك يا أبا طالب، فأجبتهما، ثم قالتا
لي: الحق بولي الله فأنت أحق بصيانته وحفظه من غيرك. فقلت لهما: من أنتما؟
قالتا: نحن عمله الصالح خلقنا الله من ميراث عمله، فنحن نذب عنه الأذى إلى أن
تقوم الساعة، فإذا قامت الساعة كان أحدنا قائده والآخر سائقه ودليله إلى الجنة،
ثم انصرف أبو طالب إلى مكة.
قال جابر: فقلت: يا رسول الله، الله أكبر، إن الناس يقولون إن أبا طالب مات
كافرا.
قال: يا جابر ربك أعلم بالغيب، أنه لما كانت الليلة التي أسري بي فيها إلى
السماء انتهيت إلى العرش فرأيت أربعة أنوار فقلت: ما هذه الأنوار؟
فقيل: هذا عبد المطلب، وهذا عمك أبو طالب، وهذا أبوك عبد الله، وهذا أخوك
طالب.
فقلت: إلهي وسيدي فبما نالوا هذه الدرجة؟
قال: بكتمانهم الإيمان وإظهارهم الكفر وصبرهم على ذلك حتى ماتوا (1).
حدث محمد بن علي العباسي، قال: حدثنا علي بن علي البصري نزيل
شيراز، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن داود، قال: حدثنا الحسين بن أحمد بن
علي الرياحي، عن الحسين بن زيد، عن أبيه يزيد بن قعيب الرياحي، قال: كنت أنا
والعباس بن عبد المطلب يوما جلوسا بإزاء بيت الله الحرام إذ أتت فاطمة بنت أسد
أم أمير المؤمنين (عليه السلام) وكانت حاملة بعلي لتسعة أشهر إلا يوما، فأصابها الطلق
وكان يوم التمام، فوقعت (2) بإزاء بيت الله الحرام، ثم رمت بطرفها نحو السماء ثم
قالت: ربي إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك إلى رسول أو نبي وبكل كتاب أنزلته،



(1) روضة الواعظين: ج 1 ص 76 - 81.
(2) كذا، وفي البحار: وقفت.
234
وإني مصدقة بكلمات جدي إبراهيم الخليل، وأنه بنى بيتك العتيق، فبحق هذا
البيت ومن بناه إلا يسرت ولادتي، وبحق هذا المولود الذي في أحشائي.
قال العباس ويزيد بن قعيب: فانفتح البيت وغابت عن أبصارنا، فاجتهدنا أن
تصل إليها واحدة من النساء فما قدرنا عليه، فبقيت في هذا البيت ثلاثة أيام ثم
أخذت عليا (عليه السلام) على يديها، ثم قالت: معاشر الناس إن الله عز وجل اختارني من
نساء خلقه وفضلني على جميع المختارات اللواتي مضين من قبلي، اختار الله
تعالى آسية بنت مزاحم وأنها عبدت الله تعالى في موضع لم يحب أن يعبد إلا
اضطرارا، واختار الله عز وجل مريم بنت عمران في ولادة عيسى (عليهما السلام) فهزت إليها
بالجذع اليابس من النخلة في فلاة حتى تساقط رطبا جنيا، وأن الله عز وجل
اختارني وفضلني بابني، ولدت في بيته العتيق، وبقيت فيه ثلاثة أيام آكل من ثمار
الجنة، فلما خرجت ومعي ولدي هتف بي هاتف: يا فاطمة سميه عليا فهو علي
وأنا العلي الأعلى، خلقته من قدرتي وقسط عدلي وعزة جلالي، وشققت اسمه من
اسمي، وأدبته بأدبي، وفوضت إليه أمر ديني، ووقفته على غامض علمي، وولد في
بيتي، وهو أول من يؤذن فوق بيتي، ويكسر الأصنام ويرميها على وجوهها،
ويعظمني ويمجدني ويهللني ويقدسني، وهو الإمام بعد حبيبي ونبيي وخيرتي من
خلقي محمد رسولي، وهو وصيه، فطوبى لمن أطاعه، والويل لمن عصاه (1).
قال أبو وهب البختري القرشي: سألت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام)
عما قمطه به. فقال: إن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يعمد إلى الجلود الطائفية فيبشرها (2) ويقمط
بها عليا (عليه السلام)، وهي مبطنة بالحيش الأبيض مخروزة بخيوط الكتان، فكان يتمطى
في القمط فيقطعها، حتى أنه قطع في نفاسه ثلاثة وسبعين قماطا (3).
* * *



(1) معاني الأخبار: ص 62 ح 10، بحار الأنوار: ج 35 ص 8 باب 1 ح 11، روضة الواعظين:
ص 76 - 77.
(2) كذا، والصواب: فينترها.
(3) روى نظيره في بحار الأنوار: ج 35 ص 38 باب 1 قطعة من ح 37 وج 41 ص 274
باب 113 ح 1.
235
فصل
في صفة أمير المؤمنين (عليه السلام) ووصف أخلاقه الرضية
قال حكيم بن جبير، قال: قيل لحبة بن جوين العرني (رضي الله عنه): ألا تصف لنا
أخلاق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)؟
قال لهم: نعم، كان والله بشره في وجهه، وحزنه في قلبه، أوسع شئ صدرا،
وأذل شئ نفسا، لا حقود ولا حسود، ولا وثاب ولا سباب، ولا عياب ولا
مغتاب، يكره الوقيعة، طويل الغم، بعيد الهم، وقورا، ذكورا صبورا، شكورا،
مغمورا، مسرورا بفقره، سهل الخليقة، لين العريكة، رصين الوقار (1)، قليل الأذى،
لا متأفك ولا متهتك، إن ضحك لم يخرق، وإن غضب لم ينزق، كان ضحكه تبسما،
واستفهامه تعلما، ومراجعته تفهما، كثيرا علمه، عظيما حلمه، كثيرة رحمته،
لا يبخل، ولا يضجر، ولا يسخر، ولا يحيف في حكمه، ولا يحول في علمه، نفسه
أصلب من الصلد، ومكادحته أحلى من الشهد، لا جشع ولا هلع، ولا عنف ولا
صلف، ولا متعمق ولا متكلف، وصولا في غير عنف، وبذولا في غير سرف، جميل
المنازعة، كريم المراجعة، عدلا إن غضب، رفيقا إن طلب، خليص الود، وثيق
العهد، وفي الوعد، شفيقا، وصولا، حليما، حمولا، قليل الفضول، راضيا عن الله
عز وجل، مخالفا لهواه، لا يغلظ على من يؤدبه، ولا يخوض فيما لا يعنيه، كثير
الفضل، صدوق اللسان، عفيف الطعمة، خفيف المؤونة، قليلا شره، كثيرا خيره، إن
سئل أعطى، وإن ظلم عفا، إن قطع وصل، مستهترا بعلمه، مستأنسا بربه، يأنس إلى
$ أمير المؤمنين (عليه السلام) / أوصافه وأخلاقه
البلاء كما يستوحش منه أهل الدنيا، أمارا بالحق، لهجا بالصدق، مسارعا في أمر
الله، قد عرف قدر نفسه فثنى كبرها، ومقت فخرها، وألزمها كل ذلة، وبذلها لكل
مهينة، ناصر الله عز وجل، محاميا عن المؤمنين، كهفا للمسلمين، لا يخرق النبأ (2)
سمعه، ولا ينكأ الطمع قلبه، ولا يصرف الغيب حكمه، قوالا، عمالا، عالما، حازما،



(1) كذا، والصواب: الوفاء.
(2) في الكافي: الثناء.
236
ليس بفحاش ولا طياش، ولا يقتفي أثر شرار الناس، رفيقا بالحق، مسارعا في
عون الضعيف، غوثا للهيف، لا يهتك سترا، ولا يكشف سرا، كثير الهدى، قليل
الشكوى، إن رأى خيرا ذكره، وإن رأى شرا ستره، يحفظ الغيب، ويقيل العثرة،
ويقبل المعذرة، ويغتفر الزلة، لا يطلع على نصح فيذره، ولا يرى من عليه حيف إلا
أعانه، رضيا، تقيا، نقيا، رعيا، يقبل العذر، ويجمل الذكر، ويحسن بالناس ظنه،
ويتهم على الغيب نفسه، يحب في الله بفهم وعلم، ويقطع في الله عز وجل بحزم
وعذر، خلطته فرحة، ورويته حجة، صفاه العلم من كل كدر كما تصفي النار خبث
الحديد، مذاكرا للعالم، معلما للجاهل، كل سعي عنده أحمد من سعيه، وكل نفس
عنده أخلص من نفسه، عالما بالغيب، متشاغلا بالغم، لا يفيق لغير ربه، فريدا،
وحيدا، يحب الله ويجاهد في مرضاته، ولا ينتقم لنفسه، ولا يوالي أحدا في
مسخطة، مجالسا لأهل الفقر، مؤازرا لأهل الحق، عونا للغريب، أبا لليتيم، بعلا
للأرملة، حفيا بأهل المسكنة، مأمولا لكل كربة، مرجوا لكل شدة، هشاشا بشاشا،
ليس بعباس، ولا جساس، دقيق النظر، عظيم الحظر، لا يبخل، وإن بخل أعانه الله
على أمره، واستشعر الخوف، وغلبه الحزن، وأضمر اليقين، وتجنب الشك
والشبهات، وتوهم الزوال، مصابيح الهدى في قلبه، يقرب البعيد، ويهون عليه
الشديد، نظر فأبصر، وبكى فاستكثر، حتى إذا روى من عذب فرات وقد سهلت
موارده فشرب نهلا، وسلك سبيلا سهلا، لم ير مظلمة إلا أبصر خلالها، ولا مبهمة إلا
عرف مداها، قد خلع سرابيل الشهوات من قلبه، ورد كل فرع إلى أصله، فالأرض
التي هو فيها مشرقة بضيائه، ساكنة إلى قضائه، سراجا، مصباح ظلمات، دليل
فلوات، لم يجد إلى الخير مسلكا إلا سلكه، فالعلم ثمرة قلبه، يضع رجله حيث
تقله، والناس عن سراطهم ناكبون، وفي حيرتهم يعمهون، وهذه والله كانت أخلاق
أمير المؤمنين (عليه السلام).
قال مجاهد، عن ضرار بن الخطاب، قال: قال لي معاوية: صف عليا. فقال
ضرار: كان والله سيدي أمير المؤمنين بعيد المدى، قليل الهوى، يقول فصلا،

237
ويحكم عدلا يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من فيه، يستوحش من الدنيا
وزهراتها، ويستأنس بحنادس الليالي وظلماتها، وكان والله غزير الدمعة، كثير
الفكرة، يقلب كفه، ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما غلظ وقصر، ومن الطعام
ما خشن، كان والله كأحدنا وأفضل، يجيبنا إذا سألناه، ويبتدئنا إذا استحييناه،
ويعظم الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من
عدله، فاشهد بالله لقد أتيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، واشتبكت
نجومه، وقد مثل في محرابه قائما، قابضا على لحيته، يتململ تململ السليم،
ويبكي بكاء الحزين، وكأ ني أسمعه وهو يقول: يا دنيا إلي تعرضت أم إلي تشوقت،
هيهات هيهات، غري غيري، قد طلقتك ثلاثا لا رجعة عليك، لأن عمرك قصير،
وشأنك حقير، وخطرك يسير، وحسابك كثير، ثم بدا واجدا باكيا قائلا: آه من قلة
الزاد، وبعد السفر، وخشونة الطريق.
قال ضرار: فبكى معاوية حتى ابتلت لحيته من دموعه بما يملكها وهو يشهق
حتى انتحب الحاضرون بالبكاء، وقال معاوية: رحم الله أبا الحسن كان والله
كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟
قال: حزن والدة ذبح ولدها في حجرها، فما ترقى عبرتها، ولا تسكن
حرارتها (1).
حدث جابر الجعفي، عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام)، قال: خطب
أمير المؤمنين (عليه السلام) بالكوفة عند منصرفه من النهروان وبلغه أن معاوية يسبه ويعيبه
ويقتل أصحابه، فقام خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
وذكر ما أنعم الله عز وجل على نبيه وعليه. ثم قال: لولا آية في كتاب الله ما ذكرت
ما أنا ذاكر في مقامي هذا، يقول الله عز وجل: * (وأما بنعمة ربك فحدث) * (2) اللهم
لك الحمد على نعمك التي لا تحصى، وفضلك الذي لا ينسى.



(1) لم نقف على مصدره بالسند والمتن المذكورين، وقد ورد بعض عباراته في نهج البلاغة:
ص 480، قصار الحكم: 77. ورواه الصدوق مسندا عن أصبغ بن نباته باختلاف في المتن،
راجع الأمالي: 499، المجلس 91، ح 6.
(2) الضحى: 11.
238
يا أيها الناس إنه قد بلغني ما يعتمده معاوية وإني أراني قد اقترب أجلي،
وكأ ني بكم وقد جهلتم أمري، وإني تارك فيكم ما تركه رسول الله (صلى الله عليه وآله): كتاب الله
وعترتي، وهي عترة الهادي إلى النجاة خاتم الأنبياء وسيد النجباء والنبي
المصطفى.
يا أيها الناس لعلكم لا تسمعون قائلا يقول مثل قولي بعدي إلا مفتريا، أنا أخو
رسول الله، وابن عمه، وسيف نقمته، وعماد نصرته وبأسه وشدته. أنا رحى جهنم
الدائرة، وأضراسها الطاحنة. أنا مؤتم النبيين، أنا قابض الأرواح، وبأس الله الذي
لا يرده عن القوم المجرمين. أنا مجدل الأبطال، وقاتل الفرسان، ومبير من كفر
بالرحمن، وصهر خير الأنام. أنا سيد الأوصياء، ووصي خير الأنبياء. أنا باب
مدينة العلم، وخازن علم رسول الله ووارثه. أنا زوج البتول سيدة نساء العالمين،
فاطمة التقية الزكية، البرة المهدية، حبيبة حبيب الله وخير بناته، وسلالته، وريحانة
رسول الله، سبطاه خير الأسباط، وولدي خير الأولاد، هل أحد ينكر ما أقول؟!
أين مسلمو أهل الكتاب، أنا اسمي في الإنجيل " إليا "، وفي التوراة " بري "،
وفي الزبور " أري "، وعند الهند " كبكر "، وعند الروم " بطريسا "، وعند الفرس
" جبير "، وعند الترك " تبير " وعند الزنج " حبتر "، وعند الكهنة " بوي " وعند
الحبشة " بتريك "، وعند أمي " حيدرة "، وعند ظئري " ميمون "، وعند العرب
" علي "، وعند الأرمن " فريق "، وعند أبي " ظهير ".
ألا وإني مخصوص في القرآن بأسماء، احذروا أن تغلبوا عليها فتضلوا في
دينكم، يقول الله عز وجل: * (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) * (1) أنا ذلك الصادق.
وأنا المؤذن في الدنيا والآخرة، قال الله عز وجل: * (فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله
على الظالمين) * (2) أنا ذلك المؤذن. وأنا المحسن، يقول الله عز وجل: * (إن الله لمع
المحسنين) * (3) وأنا ذو القلب، يقول الله عز وجل: * (إن في ذلك لذكرى لمن كان له



(1) التوبة: 119.
(2) الأعراف: 43.
(3) العنكبوت: 69.
239
قلب) * (1) وأنا الذاكر، يقول الله عز وجل: * (الذين يذكرون الله قياما وقعودا) * (2)
ونحن أصحاب الأعراف أنا وعمي وأخي وابن عمي. والله فالق الحب والنوى
لا يلج النار لنا محب، ولا يدخل الجنة لنا مبغض، يقول الله عز وجل: * (وعلى
الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم) * (3) وأنا الصهر، يقول الله عز وجل: * (وهو
الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا) * (4) وأنا الاذن الواعية، يقول الله
عز وجل: * (وتعيها اذن واعية) * (5) وأنا السليم لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، يقول الله عز وجل:
* (ورجلا سلما لرجل) * (6) ومن ولدي مهدي هذه الأمة.
ألا وقد جعلت محنتكم، ببغضي يعرف المنافقون، وبمحبتي امتحن الله
المؤمنين، هذا عهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق،
وأنا صاحب لواء رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الدنيا والآخرة، ورسول الله فرطي وأنا فرط
شيعتي، والله لا عطش لمحبي، ولا خاف موالي، أنا ولي المؤمنين والله وليي
بحسب محبي أن يحبوا ما أحب الله، وبحسب مبغضي أن يبغضوا ما أحب الله.
ألا وأنه بلغني أن معاوية سبني ولعنني، اللهم اشدد وطأك عليه، وأنزل اللعنة
على المستحق، آمين رب العالمين، ورب إسماعيل، وباعث إبراهيم، إنك حميد
مجيد. ونزل عن أعواده، فما عاد إليها حتى قتله ابن ملجم لعنه الله تعالى (7).
وروي عن موسى بن المغيرة، عن الضحاك بن مزاحم، قال: ذكر علي (عليه السلام)
عند ابن عباس بعد وفاته فقال: وا أسفاه على أبي الحسن، مضى والله ما غير،
ولا بدل ولا قصر، ولا جمع، ولا ضيع، ولا آثر إلا الله. والله لقد كانت الدنيا أهون
عليه من شسع نعله، ليث في الوغى، بحر في المجالس، حكيم في الحكماء،
هيهات قد مضى إلى الدرجات العلى (8).



(1) ق: 36.
(2) آل عمران: 188.
(3) الأعراف: 44.
(4) الفرقان: 56.
(5) الحاقة: 12.
(6) الزمر: 30.
(7) معاني الأخبار: ص 58.
(8) بحار الأنوار: ج 41 ص 103 باب 107 ح 3.
240
قال القاسم، عن أبي سعيد، قال: أتت فاطمة (عليها السلام) النبي (صلى الله عليه وآله) فذكرت عنده
ضعف الحال. فقال لها: ما تدرين ما منزلة علي عندي؟! كفاني وهو ابن اثنتي
عشرة سنة، وضرب بين يدي بالسيف وهو ابن ست عشرة سنة، وقتل الأبطال
وهو ابن سبع عشرة سنة، وفرج الهموم عني وهو ابن عشرين سنة، ورفع باب
خيبر وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، وكان لا يرفعه خمسون رجلا.
قال: فأشرق لون فاطمة (عليها السلام) ولم تقر قدماها حتى أتت عليا (عليه السلام) فأخبرته.
فقال لها: كيف لو حدثك بفضل الله كله علي (1).
حدث محمد بن جرير الطبري، قال: حدثنا أحمد بن رشيد، قال: حدثنا أبي،
عن معمر، عن سعيد بن خيثم، قال: حدثني سعيد، عن الحسن البصري أنه بلغه أن
زاعما يزعم أنه ينتقص عليا (عليه السلام)، فقام في أصحابه يوما فقال: لقد هممت أن أغلق
بابي ثم لا أخرج من بيتي حتى يأتيني أجلي، بلغني أن زاعما منكم يزعم أنني
انتقص خير الناس بعد نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) وأنيسه وجليسه والمفرج الكرب عند
الزلازل، والقاتل الأقران يوم النزال، لقد فارقكم رجل قرأ القرآن فوقره، وأخذ
العلم فوفره، وحاز ربه (2)، ونصح لنبيه وابن عمه وأخيه، آخاه دون أصحابه،
وجعل عنده سره، وجاهد عنه صغيرا، وقاتل معه كبيرا، يقتل الأقران، وينازل
الفرسان دون دين الله حتى وضعت الحرب أوزارها، متمسكا بعهد نبيه،
مضى (صلى الله عليه وآله) وهو عنه راض، أعلم المسلمين علما وأفهمهم فهما، وأقدمهم في
الاسلام، لا نظير له في مناقبه، ولا شبيه له في ضرائبه، فطلق نفسه عن الشهوات،
وعمل لله في الغفلات، وأسبغ الطهور في السبرات، وخشع لله في الصلوات، وقطع
نفسه عن اللذات، مشمرا عن ساق، طيب الأخلاق، كريم الأعراق، واتبع سنن
نبيه، واقتفى آثار وليه، فكيف أقول فيه ما يوبقني، وما أحد أعلمه يجد فيه مقالا،
فكفوا عنا الأذى، وتجنبوا طرق الردى.
حدث محمد بن زياد، عن مغيرة، عن سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه



(1) دلائل الإمامة: ص 4.
(2) كذا في الأصل، ولعل الصحيح: وخاف ربه.
241
عروة بن الزبير، قال: كنا جلوسا في مجلس في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فتذاكرنا
أعمال أهل بدر وبيعة الرضوان. فقال أبو الدرداء: يا قوم ألا أخبركم بأقل القوم
مالا، وأكثرهم ورعا، وأشدهم اجتهادا في العبادة؟ قالوا: من؟ قال: علي بن أبي
طالب. قال: فوالله إن كان في جماعة أهل المسجد إلا معرض عنه بوجهه.
ثم انتدب له رجل من الأنصار فقال له: يا عويمر لقد تكلمت بكلمة ما وافقك
عليها أحد منذ أتيت بها.
فقال أبو الدرداء: يا قوم إني قائل ما رأيت، وليقل كل قوم منكم ما رأوا،
شهدت علي بن أبي طالب (عليه السلام) بشويحطات النجار وقد اعتزل عن مواليه، واختفى
ممن يليه، واستتر ببعيلات النخل، فافتقدته وبعد علي مكانه، فقلت ألحق بمنزله،
فإذا أنا بصوت حزين ونغمة شجي وهو يقول: " إلهي كم من موبقة حلمت عني
مقابلتها بنعمتك، وكم من جريرة تكرمت عن كشفها بكرمك، إلهي إن طال في
عصيانك عمري وعظم في الصحف ذنبي فما أنا مؤمل غير غفرانك، ولا أنا براج
غير رضوانك " فشغلني الصوت واقتفيت الأثر، فإذا هو علي بن أبي طالب (عليه السلام)
بعينه، فاستترت له وأخملت الحركة، فركع ركعات في جوف الليل الغابر، ثم فرغ
إلى الدعاء والبكاء والبث والشكوى، فكان مما به ناجى الله تعالى أن قال:
إلهي أفكر في عفوك فتهون علي خطيئتي، ثم أذكر العظيم من أخذك فتعظم
علي بليتي. ثم قال: آه إن أنا قرأت في الصحف سيئة أنا ناسيها وأنت محصيها،
فتقول خذوه، فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته، ولا تنفعه قبيلته، يرحمه الملأ إذا
اذن فيه بالنداء. ثم قال: آه من نار تنضج الأكباد والكلى، آه من نار نزاعة للشوى،
آه من غمرة من لهبات لظى.
قال: ثم أنعم (1) في البكاء فلم أسمع له حسا ولا حركة، فقلت: غلب عليه النوم
لطول السهر أوقظه لصلاة الفجر.



(1) أنعم الرجل: أفضل وزاد.
242
قال أبو الدرداء: فأتيته فإذا هو كالخشبة الملقاة، فحركته فلم يتحرك، وزويته
فلم ينزو، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون مات والله علي بن أبي طالب.
قال: فأتيت منزله مبادرا أنعاه إليهم، فقالت فاطمة (عليها السلام): يا أبا الدرداء هي
والله الغشية التي تأخذه من خشية الله.
ثم أتوه بماء فنضحوه على وجهه، فأفاق ونظر إلي وأنا أبكي، فقال: مم بكاؤك؟
فقلت: مما أراه تنزله بنفسك؟
فقال: يا أبا الدرداء فكيف لو رأيتني وقد دعي بي إلى الحساب، وأيقن
أهل الجرائم بالعذاب، واستوحشتني ملائكة غلاظ وزبانية أفظاظ، فوقفت بين
يدي الملك الجبار، قد أسلمني الأحباء ورحمني أهل الدنيا، لكنت أشد رحمة لي
بين يدي من لا يخفى عليه خافية.
فقال أبو الدرداء: فوالله ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) (1).
حدث أبو علي الحداد، قال: حدثنا أبو سعيد بن حسنويه كتابة، قال: حدثنا
أبو بكر بن الجعابي، قال: حدثني محمد بن الحسين بن حفص الخثعمي أملاه علي
بالكوفة، قال: حدثنا أحمد بن السري الطحان، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن
خالد، قال: حدثني أحمد بن أخي زرقان، عن عبد الملك بن عميرة، عن ربعي بن
حراش، قال: استأذن عبد الله بن عباس (رضي الله عنه) على معاوية وقد تعلق عنده بطون
قريش، وسعيد بن العاص جالس عن يمينه، فلما نظر معاوية إلى ابن عباس مقبلا
التفت إلى سعيد وقال له: لألقين على ابن عباس مسألة يعني بجوابها. فقال له
سعيد: ليس ابن عباس ممن يعني بجواب مسائلك.
فلما جلس ابن عباس قال له معاوية: يا ابن عباس ما تقول في علي بن
أبي طالب؟
قال: يرحم الله أبا الحسن، كان والله علم الهدى، وكهف التقى، ومحل الحجى،
وطود الندى، ونور السفر في ظلمة الدجى، وداعيا إلى المحجة العظمى، وعالما



(1) أمالي الصدوق: ص 72 المجلس الثامن عشر ح 9.
243
بما في الصحف الأولى، قائما بالتأويل والذكرى، معلقا بالأسباب الحسنى، تارك
الجور والأذى، حائدا عن طرقات الردى، خير من آمن واتقى، وسيد من تقمص
وارتدى، وأفضل من حج وسعى، وأخطب أهل الدنيا سوى الأنبياء والنبي
المصطفى، صاحب القبلتين، فهل يوازنه أحد من الورى؟! وزوج خير النساء، وأبا
السبطين، الزاهد في الدنيا، أنيس المصطفى، لم تر عيني مثله ولا ترى أحدا حتى
القيامة، على من يلعنه لعنة الله والعباد إلى يوم القيامة والتناد.
حدث محمد بن قيس، عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنه قال: والله أن كان
علي (عليه السلام) ليأكل أكل العبد، ويجلس جلسة العبد، وان كان ليشتري القميصين
السنبلانيين فيعطي غلامه خيرهما ثم يلبس الآخر، فإذا جاز أصابعه قطعه، وإذا
جاز كعبه حذفه. ولقد ولي خمس سنين ما وضع آجرة على آجرة، ولا لبنة على
لبنة، ولا قطع قطيعا، ولا أورث بيضاء ولا حمراء، وأن كان ليطعم الناس خبز البر
واللحم وينصرف إلى منزله ويأكل خبز الشعير والزيت والخل، وما ورد عليه
أمران كلاهما لله رضى إلا أخذ بأشدهما على بدنه، ولقد أعتق ألف مملوك من كد
يديه، تربت منه يداه (1) وعرق فيه وجهه، وما أطاق عمله أحد من الناس، وأن كان
ليصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، وأن كان أقرب الناس شبها به علي بن
الحسين (عليه السلام)، ما أطاق عمله أحد من الناس بعده (2).
وسمع رجل من التابعين أنس بن مالك يقول: أنزلت هذه الآية في علي بن
أبي طالب (عليه السلام) * (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو
رحمة ربه... الآية) * (3).
قال إسحاق بن أبي مروان: سألت أبا جعفر محمد بن علي (عليهما السلام): كم كانت سن
علي (عليه السلام) يوم قتل؟



(1) أي صار التراب في يده، وكأنه إشارة إلى عمله عليه السلام في البساتين.
(2) أمالي الصدوق: ص 232 باب 47 ح 14.
(3) بحار الأنوار: ج 35 ص 375 باب 17 ح 1.
244
قال: ثلاث وستين سنة.
قلت: ما كانت صفته؟
قال: كان رجلا أدم شديد الأدمة، ثقيل العينين، عظيمهما، ذا بطن، أصلع.
فقلت: طويلا أو قصيرا؟
قال: هو إلى القصر أقرب.
قلت: ما كانت كنيته؟
قال: أبو الحسن.
قلت: أين دفن؟
قال: بالكوفة ليلا، وقد عمي قبره (1).
وعن وهب بن وهب، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن بعض أهله (عليهم السلام) أنه
وصف له علي بن أبي طالب (عليه السلام).
فقال: كان ضخم الهامة، عريض ما بين المنكبين، إذا مشى لا يسرع، وهو
يقطع أصحابه، له إكليل من شعر، أشعر الجسد، أبيض الرأس واللحية، عظيم البطن،
أخشن من الحجر في الله عز وجل.
وعن جرير بن عبد الحميد الضبي، عن المغيرة قال: كان علي (عليه السلام) أحمر،
عظيم البطن، دقيق ما استدق منه، غليظ ما استغلظ منه.
قال جرير: قال المغيرة: وكذلك نعت أشداء الرجال (2).
وقال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: حدثنا جرير بن عبد الحميد، عن عبد
الملك بن عمير، عن أبيه، عن جده.
قال: رأيت عليا (عليه السلام) وكان طويلا أبيض، عظيم البطن.
قال جابر: أخبرني محمد بن علي (عليه السلام)، قال: كانت ظئر علي (عليه السلام) التي أرضعته
امرأة من بني هلال، خلفته في خبائها ومعه أخ له من الرضاعة وكان أكبر منه سنا



(1) بحار الأنوار: ج 42 ص 220 باب 127 ح 27.
(2) بحار الأنوار: ج 35 ص 2 باب 1 ح 1.
245
بسنة إلا أياما، وكان عند الخباء قليب، فمر الصبي نحو القليب ونكس رأسه فيه،
فحبا علي (عليه السلام) خلفه فتعلقت رجل علي (عليه السلام) بطنب الخيمة، فجر الحبل حتى أتى
على أخيه فتعلق بفرد قدميه وفرد يديه، فجاءت أمه فأدركته، فنادت: يا للحي يا
للحي يا للحي من غلام ميمون أمسك علي ولدي، فأخذوا الطفل من رأس القليب
وهم يعجبون من قوته على صباه، ولتعلق رجله بالطنب ولجره الطفل حتى
أدركوه، فسمته أمه ميمونا أي مباركا، وكان الغلام فتى من بني هلال يعرف بمعلق
ميمون، وولده إلى اليوم (1).
وكان أبو طالب يجمع ولده وولد اخوته ثم يأمرهم بالصراع، وذلك خلق في
العرب، فكان علي (عليه السلام) يحسر عن ساعدين غليظين قصيرين وهو طفل، ثم
يصارع كبار اخوته وصغارهم فيصرعهم. قال أبوه: ظهر علي، فسموه ظهيرا، وعند
العرب علي (2).
قال: اختلف الناس من أهل المعرفة لم سمي علي عليا: فقالت طائفة: لم يسم
أحد من ولد آدم قبله بهذا الاسم في العرب ولا في العجم، إلا أن يكون الرجل من
العرب يقول: ابني هذا علي يريد به العلو، لا أنه اسمه، وإنما تسمى الناس من بعده
وفي وقته.
وقالت طائفة: سمي علي عليا لعلوه على كل من قارنه.
وقالت طائفة: سمي عليا لأن داره في الجنان تعلو حتى تحاذي منازل
الأنبياء، وليس نبي يعلى منزله على منزله غيره.
$ أمير المؤمنين (عليه السلام) / منفعة وجود الإمام
وقالت طائفة: سمي عليا لأنه علا على ظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقدميه طاعة لله
عز وجل، ولم يعل أحد على ظهر نبي غيره عند حط الأصنام من سطح الكعبة.
وقالت طائفة: إنما سمي عليا لأنه تزوج في أعلى السماوات ولم يزوج أحد
من خلق الله في ذلك الموضع غيره.



(1) بحار الأنوار: ج 41 ص 275 باب 113 ح 1.
(2) بحار الأنوار: ج 41 ص 275 باب 113 ح 1.
246
وقالت طائفة: إنما سمي عليا لأنه كان أعلى الناس علما بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
وهو واخوته أول من ولده هاشم مرتين، ونشأ في حجر رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتأدب
بأخلاقه، وهو أول من آمن بالله تعالى وبرسوله من أهل البيت والأصحاب، وأول
ذكر دعاه النبي (صلى الله عليه وآله) إلى الاسلام فأجاب.
وكان له (عليه السلام) أربعة خواتيم يتختم بها: أحدها ياقوت لنبله، والآخر فيروزج
لنصره، والثالث حديد صيني لقوته، والرابع عقيق لحرزه.
وكان نقش الياقوت: لا إله إلا أنت الملك الحق المبين.
وكان نقش الفيروزج: لله الملك.
وكان نقش الحديد الصيني: العزة لله جميعا.
وكان نقش العقيق ثلاث أسطر: الأول: ما شاء الله، الثاني: لا قوة إلا بالله،
الثالث: استغفر الله.
* * *
فصل
[في ماهية الإمامة وأبحاثها]
إن قال قائل: ما معنى قولكم الإمامة؟
قيل: هي التقدم فيما يقتضي الطاعة لصاحبه فيما تقدم به على الإيضاح والبيان.
* * *
فصل
في منفعة وجود الإمام
وجود الإمام لطف من الله تعالى لعبيده، لأنه بكونه بينهم يجتمع شملهم،

247
ويتصل حبلهم، وينتصف الضعيف من القوي، والفقير من الغني، ويرتدع الجاهل،
ويتيقظ العاقل، فإذا عدم بطل الشرع وأحكام الدين كالحج والجهاد والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر وجميع أركان الاسلام، إلا أن يكون الإمام خائفا
على نفسه فقد ظهر عذره.
والعقل يوجب أن يكون الإمام أفضل الأمة، لأن عب ء الإمامة ثقيل، وخطبها
جليل، وأمرها عظيم، وخطرها جسيم، يجب أن يجتمع فيه خصال الخير المفرقة
في غيره، مثل العلم بكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله)، والفقه في دين الله، والجهاد في
سبيل الله، والرغبة فيما عند الله، والزهد فيما بيد خلق الله.
وليس يوصل إلى معرفة هذه الخلال المحمودة والخصال المعدودة إلا بوحي
الله تعالى إلى رسوله (صلى الله عليه وآله)، فإذا ظهر الوحي وجب على الرسول أن ينص على من
يخلفه بعد وفاته.
ويقتضي العقل أن يكون هذا النص منه (صلى الله عليه وآله) على معصوم، لأن الله عز وجل
عصم رسوله من الزيغ والزلل والخطأ في القول والعمل، ونزهه عن أن يحكم
بالهوى ويميل إلى الدنيا.
والنص على ضربين: قول وفعل. فالقول قول الرسول (صلى الله عليه وآله): " هذا علي
وزيري، وخليفتي على أمتي، وقاضي ديني، والمبلغ عني " (1) وأشباه ذلك.
وأما الفعل فكفعله (صلى الله عليه وآله) به (عليه السلام) أنه ولاه على سراياه وجيوشه ولم يول عليه
أحدا، بل ولاه على جميع أصحاب جيوشه وسيرهم تحت رايته، ولم يكن كمن
سار تحت راية عمرو بن العاص وأسامة بن زيد بن ثابت وغيرهم، وقد علم
أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه كان أميرا في جيوشه غير مؤمر عليه.
واختلف الناس في الإمامة بعد مضي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فكانوا فرقتين: فرقة
علوية، وفرقة بكرية.



(1) قريب منه ما في بحار الأنوار: ج 23 ص 153 ح 118.
248
فقالت الفرقة العلوية: إن الإمام بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب (عليه السلام) بنصه عليه وإشارته إليه، ثم بالعصمة.
ومعنى قولهم العصمة: إنه (عليه السلام) لم يهم بمعصية قط، ولا اختارها في حالتي كبر
وصغر، ولا عبد صنما ولا وثنا.
وقالت الفرقة البكرية: إن الإمام أبو بكر باختيار بعض الناس له واجتماعهم
عليه. وهذه الفرقة لا تنزه الأنبياء والأوصياء عن المعاصي، وتجوز عليهم الخطأ
والغلط.
وقولهم " إن أبا بكر هو الإمام باختيار الأمة واجتماعهم " فهو غلط باطل، لأن
الذي يختار الإمام يجب أن يكون أفضل منه ومن جميع الأمة، فإذا تساوى الإمام
والمأموم افتقروا إلى إمام، وهذا يفضي إلى ما لا نهاية له، فصار كل قبيلة تختار
لأنفسها إماما فتجتمع أئمة لا يحصون كثرة، وفي هذا بطلان ما ادعوه، لأن إمامين
لا يجتمعان بإجماع المسلمين.
ومعلوم أن من جاز له أن يختار إماما جاز له أن يختار نبيا، لأن الإمام خليفة
النبي، ولو أن عشرة نفر كانت بهم علة واحدة لم يجز لأحدهم أن يداوي الباقين،
لأن العلة التي فيهم موجودة فيه، فيحتاج طبيبهم إلى طبيب، ونعلم ضرورة
حاجتهم إلى طبيب ليس فيه ما فيهم حتى يداويهم، وهذا ما لا يخفى على ذي
فضل وعقل.
فلما انتهت مدة أبي بكر خالف الأمة وترك الاختيار ونص على عمر، ولما
انتهت مدة عمر خالف أبا بكر وجعل الأمر بعده شورى في ستة أحدهم
أمير المؤمنين، وقال عمر: " كانت بيعة أبي بكر فلتة من عاد إلى مثلها فاقتلوه " (1)
وفي بعض الروايات " اضربوه بالسيف ".
والكلام على الإمام من وجوه ثلاثة:
أحدها: من طريق العقل، وقد تقدم.



(1) شرح ابن أبي الحديد على نهج البلاغة: ج 1 ص 123.
249
والثاني: طريقة القرآن.
والثالث: طريقة الخبر.
فأما القرآن فإنا وجدنا الله تعالى يخبر عن نبيه (صلى الله عليه وآله) أنه لم يكن من المتكلفين
الذين يفعلون ما لا يؤمرون، قال الله سبحانه حاكيا عن نبيه محمد (صلى الله عليه وآله): * (وما أنا
من المتكلفين) * (1).
وقال عز وجل: * (إن أتبع إلا ما يوحى إلي) * (2) وقال تقدس اسمه: * (وما
ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) * (3). ثم قال تعالى في فرض طاعته
وتجنب معصيته: * (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) * (4).
قال أهل العدل وجدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما آخى بين أصحابه ضم كل شكل إلى
شكله، وكل انسان إلى مثله، وكل نظير إلى نظيره، فضم أبا بكر إلى عمر، وعثمان
إلى أبي عبيدة بن الجراح، وطلحة إلى الزبير، وسعد بن أبي وقاص إلى سعيد بن
نفيل، وآخى بينهم على هذا المثال، وآخى بينه وبين أمير المؤمنين (عليهما السلام).
ولما جاءه نصارى نجران وطال بينهم الخطاب أوحى الله تعالى إلى نبيه بأن
يباهل، فقال عز وجل: * (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع
أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على
الكاذبين) * (5) فقال للنصارى: إن ربي عز وجل أمرني بالمباهلة، وواعدهم إلى غد
ذلك اليوم. فظن النصارى ومن ارتاب بالنبي (صلى الله عليه وآله) من الصحابة أنه يباهل بهم
وبعدة النصارى وهم سبعون رجلا منهم المعروف بالسيد والعاقب. فلما غدوا
إليه (صلى الله عليه وآله) أمر عليا (عليه السلام) أن يدعو الحسن والحسين وأمهما (عليهم السلام)، فلما أحضرهم
أدخلهم تحت أغصان شجرة وجللهم بالعباءة التي كانت على فاطمة (عليها السلام)، وأدخل
منكبه الأيسر معهم، وقال للنصارى: إني مباهل. فقالوا: احتكم يا أبا القاسم



(1) ص: 86.
(2) الأنعام: 50.
(3) النجم: 4.
(4) الحشر: 7.
(5) آل عمران: 61.
250
ولا تباهل فإنا راضون بحكمك. فقرر عليهم (1) ما يؤدونه في كل سنة.
فلما خرجت الزهراء وولدها وبعلها (عليهم السلام) من تحت الشجرة قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله): " والذي نفس محمد بيده لو باهلوني لأضرم الوادي عليهم نارا " (2).
فكانت نفس أمير المؤمنين (عليه السلام) نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وولده: الحسن
والحسين ولداهما، ونساؤهم: فاطمة الزهراء (عليها السلام).
ولما نزلت سورة براءة سلمها رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى أبي بكر، فأوحى الله إليه بأن
لا يؤديها إلا أنت أو من هو منك، فدفعها إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)،
لأنه أفضل الأمة (3).
ومعنى قولنا أفضل الأمة: أي أكثر ثوابا وأعظم درجة عند الله سبحانه وتعالى،
وأنه لا فرق بينه وبين النبي (صلى الله عليه وآله) إلا درجة النبوة، والنبي الكامل لا يؤاخي ناقصا،
وهو منزه من أن يؤاخي جاهلا غير كامل.
ومعلوم أن الذي فعله من المؤاخاة والمباهلة وتسليم سورة براءة كان بأمر الله
تعالى، وأمره غير مردود. وما أحسن قول منصور النميري حيث يقول:
ما كان ولى أحمد واليا * على علي فتولوا عليه
بل كان أن وجه في عسكر * فالأمر والتدبير منهم اليه
قل لأبي القاسم أن الذي * وليت لن يترك ما في يديه (4)
وله أيضا:
هل في رسول الله من أسوة * لو يقتدي القوم بما سن فيه
أخوك قد خولف فيه * كما خالف موسى قومه في أخيه
أجمعت الطائفة الإمامية على أن النبي (صلى الله عليه وآله) نص على علي (عليه السلام) في مواقف
كثيرة.



(1) في هامش الأصل: " في ذمتهم " نسخة بدل.
(2) بحار الأنوار: ج 35 ص 262 باب 7.
(3) بحار الأنوار: ج 35 ص 284 باب 9.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 2 ص 143 ولم يذكر البيت الثاني.
251
منها: ما رواه أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال
رسول (صلى الله عليه وآله) يوما لأصحابه: معاشر أصحابي أن علي بن أبي طالب وصيي
وخليفتي عليكم في حياتي وبعد موتي، وهو الصديق الأكبر، والفاروق الذي
يفرق بين الحق والباطل، وهو باب الله الذي يؤتى منه، وهو السبيل إليه والدليل
عليه، من عرفه فقد عرفني، ومن أنكره فقد أنكرني، ومن تبعه فقد تبعني، سنة
جرت في من أبي إبراهيم (عليه السلام) (1).
ومنها: ما رواه أبو داود السبيعي عن زيد بن شراحيل الأنصاري أنه قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونحن بين يديه: أخبروني بأفضلكم فقلنا له: أنت يا رسول الله.
قال: صدقتم، ولكن أخبركم بأفضلكم، أفضلكم أقدمكم سلما، وأكثركم علما،
وأعظمكم حلما علي بن أبي طالب، ما استودعت شيئا إلا استودعته، ولا علمت
شيئا إلا وقد علمته، ولا أمرت بشئ إلا وقد أمرته، ولا وكلت بشئ إلا وقد وكلته
به، ألا وإني قد جعلت أمر نسائي بيده، وهو خليفتي عليكم بعدي، فإن استشهدكم
فاشهدوا له (2).
ومنها: ما رواه أنس بن مالك وأم سلمة وغيرهما أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: هذا علي
أمير المؤمنين وسيد الوصيين، أخي، ووزيري، وخليفتي في أمتي، وقاضي ديني،
ومنجز وعدي، من أطاعه فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني، ومن عصاني فقد
عصى الله تعالى، ومن عصى الله تعالى كانت النار مأواه (3).
وقال (عليه السلام): من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من
عاداه (4).
وقال (عليه السلام): علي مني وأنا من علي (5).



(1) لم نعثر عليه بلفظه، وهو بالمعنى مفرق في أحاديث كثيرة، راجع بحار الأنوار: ج 4 باب 91
من تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام).
(2) بحار الأنوار: ج 26 ص 66 باب 1 ح 149.
(3) قريب منه في بحار الأنوار: ج 40 ص 4 باب 91 ح 6.
(4) بحار الأنوار: ج 37 ص 111 باب 52 ح 3.
(5) بحار الأنوار: ج 37 ص 109 باب 52 ح 2.
252
وكان آخر قوله (صلى الله عليه وآله) في غدير خم [عند] مرجعه من حجة الوداع وقد نزل
جبرئيل (عليه السلام) عليه (صلى الله عليه وآله) بهذه الآية * (يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك) * (1)
وأوحى الله إليه: * (والله يعصمك من الناس) * (2) بعد أن قال له: * (وإن لم تفعل فما
بلغت رسالته) * (3) فلما أخبره ربه أنه قد عصمه من الناس قام خطيبا فيهم، وأخذ
بيد أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقال بعد كلام له في خطبته: " من كنت مولاه فهذا علي
مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " (4)، فاستأذنه حسان بن ثابت في ذلك
المقام، فأذن له فقال:
يناديهم يوم الغدير نبيهم * بخم فاسمع للنبي مناديا
يقول فمن مولاكم ووليكم * فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت ولينا * ولن تجدن منا لك اليوم عاصيا
فقال له قم يا علي فإنني * رضيتك من بعدي إماما وهاديا (5)
فقال له عمر بن الخطاب: بخ بخ أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة (6).
وفي رواية: ان عمر بن الخطاب قام إلى النبي (عليه السلام) فقال: يا رسول الله إنك لما
عقدت الولاية لعلي كان إلى جانبي شاب نظيف الثياب طيب الرائحة وضئ
الوجه، فقال لي: يا عمر لقد عقد اليوم محمد لابن عمه عقدا لا يحله إلا منافق.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله): يا عمر أتعرف ذلك الرجل؟ فقال: لا. فقال: ذلك جبرائيل (عليه السلام) (7).
وأما العلم بكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله) فهو من شرائط الإمام، وقد شهد
له المخالف والمؤالف والغالي والقالي أنه لم يستفت أحدا من أصحاب



(1) المائدة: 67.
(2) المائدة: 67.
(3) المائدة: 67.
(4) راجع المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 20 في قصة يوم الغدير، بحار الأنوار: ج 37
باب 52 في أخبار الغدير.
(5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 27 - 28.
(6) المناقب للخوارزمي: ص 156 ح 184، تاريخ بغداد: ج 8 ص 290.
(7) بحار الأنوار: ج 37 ص 120 باب 52 ح 12.
253
رسول الله (صلى الله عليه وآله) في شئ من الفقه والقرآن والتأويل في التنزيل، وكانت الصحابة
جميعها تستفتيه وترجع إليه في جميع المشكلات وفي إيضاح ما يغمض علمه
حتى قال عمر بن الخطاب: " لولا علي لهلك عمر " (1) ومن قبله أبو بكر حين قدم
عليه في إمارته نفر من اليهود.
حدث الشيخ الفاضل العلامة أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن
بابويه (رضي الله عنه)، قال: حدثني أبو الحسن علي بن المظفر العلامة البندنجي بها في سنة
اثنتين وعشرين وأربعمائة، قال: حدثني أبو أحمد الحسين بن عبد الله بن سعيد
العسكري بها في سنة تسع وسبعين وثلاثمائة، قال: حدثني أبو بكر بن دريد
الأزدي بالبصرة في سنة خمس عشرة وثلاثمائة، قال: حدثني العكلي، عن ابن
عائشة، عن حميد بن أنس بن مالك أنه قال: لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجلس أبو
بكر أقبل يهودي في نفر معه حتى دخل المسجد، فقال: أين وصي رسول الله؟
فأشار القوم إلى أبي بكر، فوقف عليه وقال: أريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلا
نبي أو وصي نبي.
فقال أبو بكر: سل عما بدا لك.
فقال اليهودي: أخبرني عما ليس لله، وعما ليس عند الله، وعما لا يعلمه الله؟
فقال أبو بكر لليهودي: هذه مسائل الزنادقة. وهم أبو بكر والمسلمون به.
فقال ابن عباس (رضي الله عنه): إن كان عندكم جوابه وإلا فاذهبوا إلى من يجيبه،
سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول لعلي: اللهم أهد قلبه وثبت لسانه.
فقام أبو بكر ومن حضره حتى أتوا عليا (عليه السلام)، فاستأذنوا عليه، فقال أبو بكر: يا
أبا الحسن إن هذا اليهودي سألني عن مسائل الزنادقة.
فقال علي (عليه السلام): يا يهودي ما تقول؟
فقال: أسألك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي أو وصي نبي.
فقال علي (عليه السلام): قل. فذكر المسائل.



(1) بحار الأنوار: ج 10 ص 231 باب 15 ذيل ح 1.
254
فقال (عليه السلام): أما ما لا يعلمه الله فذلك قولكم يا معاشر اليهود إن العزير بن الله،
والله لا يعلم له ولدا. وأما قولك أخبرني بما ليس عند الله: فليس عند الله ظلم
للعباد. وأما قولك بما ليس لله: فليس له شريك.
فقال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وأنك وصي
رسول الله.
فقال أبو بكر والمسلمون لعلي (عليه السلام): يا مفرج الكرب (1).
وقد عرف من عرف الجماعة أنهم لم يعرفوا قليلا ولا كثيرا مما علمه الله تعالى.
وأما الشجاعة التي هي من شروط الإمام وبها ينتظم أمر الأمة فلم تكن لأحد
من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فتيل في الاسلام، ولا موقف من جهاد يذكر ولا فعل
يحمد ولا يوصف بالشجاعة والفتك بأعداء الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) غير علي (عليه السلام)، قتل
بسيفه إحدى وعشرين رجلا من وجوه قريش وصناديدها وفرسانها من سائر
قبائلها من تيمها وعديها وأميتها ومخزومها وعبد دارها ومن بني عبد شمسها.
فمن ذلك اليوم تمالوا عليه وكتبوا صحيفة بينهم وأودعوها أبا عبيدة بن الجراح أنه
إن مات النبي (صلى الله عليه وآله) أو قتل لم يجعلوا الإمامة في أهل بيته (عليهم السلام) حتى لا يجتمع لهم
النبوة والخلافة. وقتل (عليه السلام) لما انهزم الجمع أربعة عشر فارسا مبارزة واحدا بعد
واحد أكثرهم أصحاب ألوية المشركين.
وحديثه في خيبر مشهور بعد انهزام من انهزم ورجع بالراية، وقول رسول
الله (صلى الله عليه وآله) في حقه: " لأعطين الراية غدا رجلا يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله،
كرارا غير فرار، لا يرجع حتى يفتح الله على يديه " (2) فتطاولت الأعناق إلى
أخذها، وقال بعضهم: أما علي فقد كفيتموه لأنه أرمد لا يبصر بين يديه، وبلغ قول
النبي (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) فقال: " اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت " فسمعت
امرأة عجوز قوله (عليه السلام) فقالت: أحرى أن يفوز بها علي (عليه السلام).
فلما أصبح رسول الله (صلى الله عليه وآله) دعاه فجاءه وهو لا يبصر بين يديه، فتفل في



(1) الارشاد: ص 108.
(2) بحار الأنوار: ج 39 ص 7 باب 71 ح 1.
255
عينيه، ودفع إليه الراية وقال: " اللهم اكفه الحر والبرد واشفه فإنه عبدك ووليك
وانصره " (1) فقيل انه لم يجد بعد ذلك حرا ولا بردا ولا رمدت عينه قط.
ونصب الإمام من الواجبات لقوله تعالى: * (إني جاعل في الأرض خليفة) * (2)
بدأ بالخليفة قبل الخليقة، والحكيم العليم يبدأ بالأهم دون الأعم، وذلك تصديق
قول جعفر بن محمد (عليهما السلام) حيث يقول: الحجة قبل الخلق، ومع الخلق، وبعد
الخلق (3). ولو خلق الله تعالى الخليقة خلوا من الخليفة لكان قد عرضهم للتلف.
وقال تعالى: * (فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين أولئك الذين هدى الله
فبهديهم اقتده) * (4) دليل على أنه لا يخلو كل زمان من حافظ للدين إما نبي أو إمام.
وقال تعالى: * (وان من أمة إلا خلا فيها نذير) * (5) وهذا عام في سائر الأمم،
وعمومه يقتضي أن في كل زمان حصلت فيه أمة مكلفة نذير ففي أزمنة
الأنبياء (عليهم السلام) هم النذر للأمم، وفي غيرها الأئمة (عليهم السلام).
وقال عز وجل: * (يوم نبعث من كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم) * (6).
وقال: * (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) * (7).
أخبر أنه يأتي من كل أمة بشهيد ويأتي به (عليه السلام) شهيدا عليهم.
وقال النبي (صلى الله عليه وآله): " في كل خلف من أمتي عدل من أهل بيتي ينفون عن الدين
تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين " (8).
ومن زعم أن الدنيا تخلو ساعة واحدة من إمام لزمه أن يصحح مذاهب
البراهمة في إبطال الرسالة، ولولا أن القرآن نزل بأن محمدا (صلى الله عليه وآله) خاتم النبيين
لوجب كون رسول في كل وقت.
فلما صح ذلك ارتفع معنى كون الرسول بعد رسل، وبقيت السورة المستدعية



(1) بحار الأنوار: ج 39 ص 13 باب 71 ح 2.
(2) البقرة: 30.
(3) الكافي: ج 1 ص 177 ح 4.
(4) الأنعام: 89.
(5) فاطر: 24.
(6) النحل: 89.
(7) النساء: 41.
(8) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 245.
256
للخليفة ثابتة في العقل، وذلك أن الله تعالى لا يدعو إلى سبب إلا بعد أن يصور
حقائقه في العقول، وإذا لم يتصور ذلك لم تتسق الدعوة ولم تثبت الحجة، وذلك أن
الأشياء تألف أشكالها وتنبو عن أضدادها، فلو كان في العقل إنكار الرسل لما بعث
الله نبيا قط.
حدث عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا ابن نمير،
قال: حدثنا عبد الملك، قال: حدثنا عطاء بن أبي رياح، قال: حدثني من سمع أم
سلمة رضي الله عنها تذكر أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان في بيتها فأتته فاطمة (عليها السلام) ببرمة فيها
حريرة، فدخلت بها عليه، فقال: ادع لي زوجك وابنيك.
قالت: فجاء علي والحسن والحسين (عليهم السلام) فدخلوا عليه، فجلسوا يأكلون من
تلك الحريرة وهو يهم على منام له (1) على دكان تحته كساء خيبري، قالت: وأنا في
الحجرة أصلي، فأنزل الله تعالى: * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت
ويطهركم تطهيرا) *.
قالت: فأخذ (صلى الله عليه وآله) فضل الكساء وكساهم به، ثم أخرج يده وألوى بها إلى
السماء وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم
تطهيرا.
قالت: فأدخلت رأسي البيت وقلت: وأنا معكم يا رسول الله؟
قال: إنك إلى خير، إنك إلى خير (2).
قال عبد الملك: وحدثني داود بن أبي عوف بن الحجاف، عن سهر بن
حوشب، عن أم سلمة بمثله سواء (3).
فقد ثبتت عصمتهم (عليهم السلام) لثبوت تنزيه الله تعالى لهم وإذهاب الرجس عنهم.
والطهر خلاف الدنس، والتطهير: التنزيه عن الإثم وكل قبح، وهذا معنى العصمة،
وهو ترك مواقعة الرجس بمقتضى لفظ القرآن العزيز.



(1) في المصدر: وهو على منامة له.
(2) مسند أحمد بن حنبل: ج 6 ص 292.
(3) مسند أحمد بن حنبل: ج 6 ص 292.
257
وإذا ثبت إذهاب الرجس عنهم وتطهيرهم بإرادة الله تعالى فلا يجوز ثبوت
خلاف ذلك فيهم بإرادة غير الله تعالى، وبذلك أمنا وقوع الخطأ منهم عاجلا وآجلا.
وإذا أمنا وقوع الخطأ منهم وجب الاقتداء بهم دون من لم نأمن منه وقوع
الخطأ وتطرق الرجس عليه وترك التطهير له، ومن تؤمن وقوع الخطأ منه ثبت أنه
يهدي إلى الحق لموضع تنزيه الله تعالى له وهدايته إياه، ومن كان كذلك كان أحق
بالاتباع لموضع قول الله تعالى: * (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي
إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) * (1) فقد أوجب الله سبحانه وتعالى الاقتداء
بمن يهدي إلى الحق، وليس ذلك إلا مع تطهيره له وإذهاب الرجس له، ووبخ من
لم يحكم بذلك، فصار ذلك حكم الله سبحانه وتعالى، ومن لم يحكم به كان من أهل
هذه الآية: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) * (2).
وبيت تقاصر عنه البيوت * طال علوا على الفرقد
تحوم الملائك من حوله * ويصبح للوحي دار الندي
وقال الفخر الرازي في كتاب الأربعين: إن الاثني عشرية قد احتجوا على أن
البيعة لا يمكن أن تكون سببا لحصول الإمامة بوجوه.
الشبهة الأولى: ان هؤلاء الذين يبايعون الإمام لا قدرة لهم البتة على التصرف
في آحاد الأمة وفي أقل مهم من مهماتهم ومن لا قدرة له على التصرف في أقل
الأمور لأقل الأشخاص، كيف يعقل أن يكون له قدرة على إقدار الغير على
التصرف في جميع أهل الشرق والغرب؟!
الشبهة الثانية: ان إثبات الإمامة بالعقد والبيعة يفضي إلى الفتنة، لأن أهل كل
بلد يقولون الإمام منا أولى والإمام الصادر منا أرجح، ولا يمكن ترجيح البعض
على البعض، فيفضي إلى الهرج والمرج وإثارة الفتنة، ومعلوم أن المقصود من
نصب الإمام إزالة الفتنة بقدر الإمكان، فنصب الإمام بطريق البيعة يفضي إلى
التناقض، فكان باطلا.



(1) يونس: 35.
(2) المائدة: 44.
258
الشبهة الثالثة: أن منصب الإمامة أعلى وأعظم من منصب القضاء والحسبة،
فأهل البيعة لما لم يتمكنوا من نصب القاضي والمحتسب، فبأن لا يتمكنوا من نصب
الإمام الأعظم أولى.
الشبهة الرابعة: الإمام نائب الله تعالى ونائب رسوله (صلى الله عليه وآله)، ونيابة الغير
لا تحصل إلا بإذن ذلك الغير، فوجب أن لا تثبت الإمامة إلا بنص الله ونص رسوله،
فثبت أن الإمامة لا تثبت إلا بالنص.
الشبهة الخامسة: إن الإمام يجب أن يكون واجب العصمة، وأن يكون أفضل
الخلق كلهم، وأن يكون أعلم الأمة كلهم، وأن يكون مسلما فيما بينه وبين الله
تعالى، ولا اطلاع لأحد من هذا الخلق على هذه الصفات، والله تعالى هو العالم بها،
وإذا كان الأمر كذلك وجب أن لا يصح نصب الإمام إلا بالنص (1).
وقال أيضا في الكتاب المذكور: الفصل الخامس في بيان أفضل الناس بعد
الرسول من هو؟ مذهب أصحابنا أن أفضل الناس بعد رسول الله هو أبو بكر،
وهو قول قدماء المعتزلة، ومذهب الشيعة أنه هو علي (عليه السلام)، وهو قول أكثر
المتأخرين من المعتزلة.
أما أصحابنا فقد تمسكوا بقوله تعالى: * (وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله
يتزكى) * (2) وبقوله (عليه السلام): " ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد النبيين
والمرسلين أفضل من أبي بكر " وكل ذلك قد مضى تقريره في الفصل المتقدم.
وأما الشيعة فقد احتجوا على أن عليا (عليه السلام) أفضل الصحابة بوجوه:
الحجة الأولى: التمسك بقوله تعالى: * (قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا
ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم) * (3) وثبت بالأخبار الصحيحة أن المراد من قوله
* (وأنفسنا) * هو علي (عليه السلام) (4).



(1) كتاب الأربعين للفخر الرازي: لا يوجد لدينا هذا الكتاب.
(2) الليل: 17 - 18.
(3) آل عمران: 61.
(4) مجمع البيان: ج 2 ص 453، تأويل الآيات الظاهرة: ص 118.
259
ومن المعلوم أنه يمتنع أن تكون نفس علي هي نفس محمد (عليه السلام) بعينه، فلا بد
وأن يكون المراد هو المساواة بين النفسين، وهذا يقتضي أن كل ما حصل لمحمد
من الفضائل والمناقب فقد حصل مثله لعلي (عليه السلام) ترك العمل بهذا في فضيلة النبوة،
فوجب أن تحصل المساواة بينهما فيما وراء هذه الصفة.
ثم لا شك أن محمدا (عليه السلام) كان أفضل الخلق في سائر الفضائل، فلما كان علي
مساويا له في تلك الصفات وجب أن يكون أفضل الخلق، لأن المساوي للأفضل
وجب أن يكون أفضل.
الحجة الثانية: التمسك بخبر الطير، وهو قوله (عليه السلام): " اللهم ائتني بأحب خلقك
إليك يأكل معي من هذا الطير " (1) والمحبة من الله تعالى عبارة عن كثرة الثواب
والتعظيم.
الحجة الثالثة: إن عليا كان أعلم الصحابة، والأعلم أفضل. إنما قلنا إنه كان
أعلم بالإجمال والتفصيل.
أما الاجمال فهو أنه لا نزاع أن عليا كان في أصل الخلقة في غاية الذكاء
والفطنة والاستعداد للعلم، وكان محمد (عليه السلام) أفضل الفضلاء وأعلم العلماء، وكان
علي في غاية الحرص في طلب العلم، وكان محمد في غاية الحرص في تربية
علي وفي إرشاده إلى اكتساب الفضائل.
ثم إن عليا بقي من أول صغره في حجر محمد (عليه السلام)، وفي كبره صار ختنا له،
وكان يدخل عليه في كل الأوقات، ومن المعلوم أن التلميذ إذا كان في غاية الذكاء
والحرص على التعلم وكان الأستاذ في غاية الفضل وفي غاية الحرص على
التعليم، ثم اتفق لمثل هذا التلميذ أن اتصل بخدمة هذا الأستاذ من زمان الصغر،
وكان ذلك الاتصال بخدمته حاصلا في كل الأوقات، فإنه يبلغ ذلك التلميذ في
العلم مبلغا عظيما. وهذا بيان إجمالي في أن عليا كان أعلم الصحابة.



(1) مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي: ص 156، أسد الغابة: ج 4 ص 30، بحار الأنوار:
ج 48 ص 3 باب 69.
260
وأما أبو بكر فإنه إنما اتصل بخدمته (عليه السلام) في زمن الكبر، وأيضا ما كان يصل
إلى خدمته في اليوم والليلة إلا زمانا يسيرا، أما علي فإنه اتصل بخدمته في زمان
الصغر، وقد قيل: العلم في الصغر كالنقش في الحجر، والعلم في الكبر كالنقش في
المدر. فثبت بما ذكرنا أن عليا كان أعلم من أبي بكر.
وأما التفصيل فدل عليه وجوه:
الأول: قوله (عليه السلام): " أقضاكم علي " (1) والقضاء يحتاج إلى جميع أنواع العلوم،
فلما رجحه على الكل في القضاء لزم أنه رجحه عليهم في كل العلوم. وأما سائر
الصحابة فقد رجح كل واحد منهم على غيره في علم واحد كقوله (صلى الله عليه وآله): " أفرضكم
زيد (2) و " أقرأكم أبي " (3).
الثاني: أكثر المفسرين سلموا أن قوله تعالى: * (وتعيها اذن واعية) * (4) نزل في
حق علي. وتخصيصه بزيادة الفهم تدل على اختصاصه بمزيد العلم.
الثالث: إن عمر أمر برجم امرأة ولدت لستة أشهر، فنبهه علي بقوله: * (وحمله
وفصاله ثلاثون شهرا) * (5) مع قوله: * (والوالدات يرضعن أولادهن حولين
كاملين) * (6) على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر. فقال عمر: " لولا علي لهلك عمر " (7).
وروي أن: امرأة أقرت بالزنا وكانت حاملا فأمر عمر برجمها. فقال علي: إن
كان لك سلطان عليها فما سلطانك على ما في بطنها؟ فترك عمر رجمها، فقال:
" لولا علي لهلك عمر ".
فإن قيل: لعل أمره برجمها من غير تفحص عن حالها فظن أنها ليست بحامل،
فلما نبهه علي ترك رجمها.



(1) الاستيعاب في معرفة الأصحاب: ج 3 ص 1102.
(2) الجامع الصغير: ص 48 وفيه " أفرض أمتي زيد بن ثابت ".
(3) صحيح البخاري: ج ص 23 باب 5 من تفسير سورة البقرة، وهو قول عمر: " أقرأنا أبي ".
(4) الحاقة: 12.
(5) الأحقاف: 15.
(6) البقرة: 233.
(7) الاستيعاب في معرفة الأصحاب: ج 3 ص 1103.
261
قلنا: هذا يقتضي أن عمر ما كان يحتاط في سفك الدماء، وهذا أشر من الأول.
وروي أيضا أن عمر قال يوما على المنبر: ألا لا تغالوا في مهور نسائكم، فمن
غالى في مهر امرأة جعلته في بيت المال. فقامت عجوز وقالت: يا أمير المؤمنين
أتمنع منا ما جعله الله لنا؟! قال تعالى: * (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج
وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) * (1) فقال: كل الناس أفقه من عمر
حتى المخدرات في البيوت " (2).
وهذه الوقائع وقعت لغير علي ولم يتفق مثلها لعلي.
الرابع: نقل عن علي أنه قال: " والله لو كسرت لي الوسادة ثم جلست عليها
لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الزبور
بزبورهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم، والله ما من آية نزلت في بحر ولا بر ولا سهل
ولا جبل ولا سماء ولا أرض ولا ليل ولا نهار إلا وأنا أعلم في من نزلت وفي أي
شئ نزلت " (3).
الخامس: انا نتفحص عن أحوال العلوم فأعظمها علم الأصول، وقد جاء في
خطب أمير المؤمنين من أسرار التوحيد والعدل والنبوة والقضاء والقدر وأحوال
المعاد ما لم يأت في كلام سائر الصحابة.
وأيضا فجميع فرق المتكلمين ينتهي آخر نسبهم في هذا العلم إليه. أما
المعتزلة فهم ينسبون أنفسهم إليه. وأما الأشعرية فكلهم منتسبون إلى الأشعري،
وهو كان تلميذ لأبي علي الجبائي المعتزلي، وهو منتسب إلى أمير المؤمنين. وأما
الشيعة فانتسابهم إليه ظاهر. وأما الخوارج فهم مع غاية بعدهم عنه كلهم منتسبون
إلى أكابرهم، وأولئك الأكابر كانوا تلاميذ علي بن أبي طالب (عليه السلام). فثبت أن جمهور
المتكلمين من فرق الاسلام كلهم تلامذة علي (عليه السلام). وأفضل فرق الأمة الأصوليون،



(1) النساء: 20.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 3 ص 96.
(3) بصائر الدرجات: ج 3 ص 132 باب 9 ح 2.
262
وكان هذا منصبا عظيما في الفضل.
ومنها: علم التفسير، وابن عباس رئيس المفسرين، وهو كان تلميذ علي (عليه السلام).
ومنها: علم الفقه، وكان فيه في الدرجة العالية، ولهذا قال (عليه السلام): " أقضاكم
علي " (1) وقال علي: " لو كسرت لي الوسادة لحكمت لأهل التوارة بتوراتهم " (2)
على ما نقلناه.
ومنها: علم الفصاحة، ومعلوم أن أحدا من الفصحاء الذين بعده لم يدركوا
درجته، ولا القليل من درجته.
ومنها: علم النحو، ومعلوم أنه إنما ظهر منه، وهو الذي أرشد أبا الأسود
الدؤلي إليه.
ومنها: علم تصفية الباطن، ومعلوم أن نسب جميع الصوفية ينتهي إليه.
ومنها: علم الشجاعة وممارسة الأسلحة، ومعلوم أن نسب هذا العلم انتهى إليه.
فثبت بما ذكرنا أنه صلوات الله عليه كان أستاذ العالمين بعد محمد صلوات الله
عليه وآله في جميع الخصال المرضية والمقامات الشريفة. وإذا ثبت أنه كان أعلم
الخلق بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجب أن يكون أفضل الخلق بعد رسول الله لقوله تعالى:
* (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون... الآية) * (3) وقوله تعالى: * (يرفع
الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) * (4).
الحجة الرابعة: في بيان أن عليا أفضل الصحابة، لأن عليا كان أكثر جهادا من
أبي بكر، فوجب أن يكون أفضل منه.
أما الأول فالأمر فيه ظاهر لمن قرأ كتاب السير. وأما أن من كان أكثر جهادا
كان أفضل فلقوله تعالى: * (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) * (5).



(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 3 ص 96.
(2) بحار الأنوار: ج 40 ص 136 باب 93 ح 28.
(3) الزمر: 9.
(4) المجادلة: 11.
(5) النساء: 95.
263
لا يقال: لم لا يجوز أن يكون المراد من هذا الجهاد مع النبيين كما قال تعالى:
* (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) * (1).
لأنا نقول: إن قوله * (على القاعدين) * يدل على أن المراد من ذلك الجهاد:
الجهاد مع أعداء الله.
الحجة الخامسة: التمسك بقصة فتح خيبر.
قالوا: روي عنه (عليه السلام) أنه بعث أبا بكر إلى خيبر فرجع منهزما، ثم بعث عمر
فرجع أيضا منهزما، وبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) فبات ليلته مغموما، فلما أصبح
خرج إلى الناس ومعه الراية، فقال: " لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله
ويحبه الله ورسوله، كرار غير فرار " فتعرض لها المهاجرون والأنصار، فقال
الرسول (عليه السلام): أين علي؟ فقالوا: إنه أرمد، فتفل في عينيه ثم دفع اليه الراية.
ثم قالوا: هذا الحديث وكيفية هذه الواقعة تدل على أن ما وصف به النبي (صلى الله عليه وآله)
عليا لم يكن ثابتا في أبي بكر وعمر لأنهما رجعا منهزمين، وغضب الرسول (عليه السلام)
من ذلك، وقال: لأعطين الراية رجلا من صفته كذا وكذا، وهذا يوجب أن شيئا
من هذه الصفات ما كان حاصلا لأولئك الذين غضب [الرسول] عليهم. ألا ترى
لو أن ملكا حصيفا أرسل رسولا إلى غيره في مهم ففرط الرسول في أداء
تلك الرسالة، فغضب الملك وقال: لأرسلن غدا رسولا حصيفا حسن القيام بأدائها
لكان يعلم كل عاقل أن الذي وصف به الرسول الثاني وأثبته له ليس موجودا
في الأول.
الحجة السادسة: إيمان علي كان قبل إيمان أبي بكر، وإذا كان كذلك كان
أفضل من أبي بكر.
أما المقدمة الأولى فيدل عليه وجوه:
أحدها: ما روي أن عليا قال على المنبر: " أنا الصديق الأكبر، آمنت قبل أن



(1) العنكبوت: 69.
264
آمن أبو بكر، وأسلمت قبل أن يسلم " (1) ثم قالوا: إنه ادعى ذلك في مجمع الناس
وما كذبوه فدل على أن هذا المعنى كان ظاهرا فيهم.
وثانيها: روى سلمان الفارسي أن النبي (عليه السلام) قال: " أولكم ورودا على الحوض
أولكم إسلاما علي بن أبي طالب " (2).
وثالثها: روى أنس بن مالك قال: بعث رسول (صلى الله عليه وآله) يوم الاثنين، وأسلم علي
يوم الثلاثاء (3).
وعن عبد الله بن الحسن قال: كان أمير المؤمنين يقول: أنا أول من صلى، وأول
من آمن بالله ورسوله، ولم يسبقني إلى الصلاة إلا نبي الله (4).
ورابعها: أن كون إيمان علي قبل إيمان أبي بكر أقرب إلى العقل، وذلك لأن
عليا كان ابن عم محمد، وفي داره، ومختصا به. وأما أبو بكر فإنه كان من
الأجانب، ويبعد غاية البعد أن يعرض الانسان هذه المهمات العظيمة على
الأجانب الأباعد قبل عرضها على الأقارب المختصين به غاية الاختصاص،
لا سيما والله تعالى يقول: * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * (5).
لا يقال: إن الدليل على أن اسلام أبي بكر كان قبل إسلام علي قوله (عليه السلام):
" ما عرضت الإيمان على أحد إلا وله كبوة غير أبي بكر فإنه لم يتلعثم " (6).
وجه الاستدلال به: أن النبي (عليه السلام) بين أن أبا بكر لم يتوقف في قبول الاسلام،
فلو تأخر إسلامه عن إسلام غيره لم يكن ذلك التأخر بسبب توقف أبي بكر، لأن
الحديث دل أنه لم يتوقف فوجب أن يكون ذلك لأجل أنه (عليه السلام) قصر في عرض
الاسلام عليه في ذلك يفضي إلى الطعن في الرسول (عليه السلام)، وأنه باطل، فعلمنا أن



(1) إرشاد المفيد: ص 21، بحار الأنوار: ج 38 ص 226 باب 65 ح 32، المناقب لابن
شهرآشوب: ح 2 ص 4.
(2) كنز العمال: ج 13 ص 144 ح 36452.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 2 ص 7.
(4) لم نعثر عليه بعينه ووجد بمعناه في أحاديث كثيرة، راجع بحار الأنوار: ج 38 ص 201
باب 65.
(5) الشعراء: 214.
(6) كنز العمال: ج 11 ص 555 ح 32612.
265
الرسول (صلى الله عليه وآله) ما توقف في عرض الاسلام عليه، وهو لم يتوقف في قبوله البتة.
أما علي فأن هذا الحديث يقتضي أنه كان له توقف في قبول الاسلام، فهذا يدل
على أن إسلام أبي بكر كان سابقا على إسلام علي.
سلمنا أن إسلام علي كان سابقا على إسلام أبي بكر.
إلا أنا نقول: إن عليا حين أسلم كان صبيا بدليل الشعر المنقول عن علي (عليه السلام)
أنه قال:
سبقتكم إلى الاسلام طرا * غلاما ما بلغت أوان حلمي (1)
وأبو بكر أسلم حين كان بالغا عاقلا، والناس قد اختلفوا في صحة إسلام
الصبي. وكيف كان فلا شك أن إسلام العاقل البالغ الصادر عن الاستدلال أفضل من
إسلام الصبي الذي لا يكون بالغا.
سلمنا أن عليا كان بالغا وقت ما أسلم إلا أنه لا شك أنه في ذلك الوقت ما كان
مشهورا بين الناس ولا محترما ولا مقبول القول، بل كان كالصبي الذي يكون في
البيت، فما كان يحصل بسبب إسلامه قوة وشوكة في الاسلام. وأما أبو بكر فإنه
كان شيخا محترما أجنبيا فحصل للإسلام بسبب إسلامه شوكة وقوة، فكان إسلام
أبي بكر أفضل من إسلام علي.
لأنا نقول: أما الخبر الذي تمسكتم به في إثبات أن إسلام أبي بكر سابق على
إسلام علي فهو من باب الآحاد، فلا يفيد العلم.
قوله: " إن عليا حين أسلم ما كان بالغا ".
قلنا: الجواب عنه من وجهين:
الأول: لا نسلم أنه أسلم قبل البلوغ، ويدل عليه أن سن علي كان بين خمس
وستين سنة وبين ست وستين سنة، والنبي (عليه السلام) كان قد بقي بعد الوحي ثلاثا
وعشرين سنة، وعلي بقي بعد النبي قريبا من ثلاثين سنة فإذا أسقطنا مدة
ثلاث وخمسين سنة من ست وستين سنة بقي ثلاث عشر سنة، فإذن كان علي



(1) روضة الواعظين: ص 87 في إسلام أمير المؤمنين (عليه السلام).
266
ابن أبي طالب وقت نزول الوحي على النبي (عليه السلام) فيما بين اثنتي عشر سنة وبين
ثلاث عشر سنة، وبلوغ الانسان في هذا السن ممكن، فعلمنا أن كون علي بالغا
وقت نزول الوحي على النبي (عليه السلام) أمر ممكن، وإذا ثبت الإمكان وجب الحكم
بوقوعه لما روي أن النبي (عليه السلام) قال لفاطمة: " زوجتك أقدمهم سلما، وأكثرهم
علما " (1) ولو قلنا إنه ما كان بالغا حال ما أسلم لم يصح هذا الكلام.
الوجه الثاني في الجواب عن هذا السؤال: هب أن عليا ما كان بالغا في ذلك
الوقت لكن لا امتناع في وجود صبي كامل العقل قبل سن البلوغ، ولهذا المعنى
حكم أبو حنيفة بصحة إسلام الصبي. وعلى هذا التقرير فصدور الاسلام عن علي
وقت الصبا يدل على فضله من وجهين:
أحدهما: أن الغالب على طبع الصبيان الميل إلى الأبوين، وأن عليا خالف
الأبوين وأسلم، فكان هذا من فضائله.
وثانيها: أن الغالب على الصبيان الميل إلى اللعب، فأما النظر والتفكر في
دلائل التوحيد وإعراضه عن اللعب في زمان الصبا من أعظم الدلائل على فضله،
فإنه كان في زمان صباه مساويا للعقلاء الكاملين.
قوله: " حصل للإسلام بسبب إسلام أبي بكر نوع من القوة ولم يحصل بسبب
إسلام علي البتة شئ من القوة ".
قلنا: هذا الفرق انما يظهر لو ثبت أن أبا بكر كان محترما موقرا فيما بين الخلق
قبل دخوله في الاسلام، وهذا ممنوع. وإذا كان كذلك لم يظهر الفرق الذي ذكرتم.
فثبت بما ذكرنا أن إسلام علي كان متقدما على إسلام أبي بكر.
وإذا ثبت هذا وجب أن يقال: إن عليا أفضل من أبي بكر لقوله تعالى:
* (السابقون السابقون * أولئك المقربون) * (2) ولقوله تعالى في مدح الأنبياء (عليهم السلام):
* (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات) * (3).



(1) بحار الأنوار: ج 15 ص 20 باب 56 ح 36.
(2) الواقعة: 10 - 11.
(3) الأنبياء: 90.
267
الحجة السابعة: لا شك أن عليا كان من أولي القربى لمحمد (صلى الله عليه وآله)، وحب أولي
القربى واجب لقوله تعالى: * (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) * (1)
وأما أبو بكر فإنه ليس كذلك، والذي وجب حبه على جميع المسلمين أفضل ممن
لا يكون كذلك.
الحجة الثامنة: قوله تعالى: * (فان الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين) * (2)
والمفسرون قالوا: أراد بصالح المؤمنين علي بن أبي طالب، والمراد من المولى
هاهنا الناصر، لأن المفهوم بالشرك من المولى بين الله وبين جبريل وبين صالح
المؤمنين ليس إلا هذا المعنى. وإذا ثبت هذا فنقول: هذا يدل على فضيلة علي
من وجهين:
الأول: أن لفظ " هو " في قوله: * (فان الله هو مولاه) * يفيد الحصر، فيكون
المعنى: أن محمدا (عليه السلام) لا ناصر له إلا الله وجبريل وعلي، ومعلوم أن نصرة
محمد (عليه السلام) أعظم مراتب الطاعات.
والثاني: أنه تعالى بدأ بذكر نفسه وثنى بجبريل وثلث بعلي، وهذا منصب عال.
الحجة التاسعة: أن عليا كان هاشميا، والهاشمي أفضل من غير الهاشمي.
والمقدمة الأولى متواترة، والثانية يدل على صحتها قوله (عليه السلام): " إن الله اصطفى من
ولد إسماعيل (عليه السلام) قريشا، واصطفى من قريش هاشما " (3).
الحجة العاشرة: قوله (عليه السلام): " من كنت مولاه فعلي مولاه " (4) ولفظ المولى في
حق محمد (عليه السلام) لاشك أنه يفيد أنه كان مخدوما للكل وصاحب الأمر فيهم. وإذا
كان الأمر كذلك وجب أن يقال في علي أنه أيضا مخدوم لكل الأمة ونافذ الحكم
فيهم، وهذا يوجب كونه أفضل الخلق.



(1) الشورى: 23.
(2) التحريم: 4.
(3) البداية والنهاية: ج 2 ص 256.
(4) مسند أحمد بن حنبل: ج 1 ص 84 و 119 و 152، ج 4 ص 281 و 368 و 370 و 372، ج 5
ص 347 و 366.
268
والذي يدل على أنه يفيد المعنى الذي ذكرناه ما نقل أن النبي (صلى الله عليه وآله) لما ذكر هذا
الكلام قال عمر لعلي: " بخ بخ لك يا علي أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة
إلى يوم القيامة " (1).
الحجة الحادية عشرة: قوله (عليه السلام): " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " (2)
وهارون كان أفضل من كل أمة موسى فوجب أن يكون علي أفضل من كل أمة
محمد (عليه السلام).
الحجة الثانية عشرة: أنه (عليه السلام) لما آخى بين الصحابة اتخذه أخا لنفسه، روي
أن عليا: قال في مواضع كثيرة: " أنا عبد الله وأخو رسول الله، لا يقولها أحد بعدي
إلا كذاب، أنا الصديق الأكبر، وأنا الفاروق الأعظم الذي يفرق بين الحق
والباطل " (3) وإنما قلنا إن المؤاخاة تدل على الأفضلية لأن المؤاخاة مظنة
المساواة في المنصب، وكون كل واحد منهما قائما مقام الآخر، فلما كان محمد
عليه الصلاة والسلام أفضل من الكل كان القائم مقامه كذلك.
الحجة الثالثة عشرة: ما روي أن النبي (عليه السلام) قال في ذي الثدية: " يقتله خير
الخلق " (4) وفي رواية أخرى: " يقتله خير الأمة " (5) وكان قاتله علي بن أبي طالب.
الحجة الرابعة عشرة: قال النبي (عليه السلام) لفاطمة: " إن الله أطلع على أهل الدنيا
فاختار منهم أباك فاتخذه نبيا، ثم أطلع ثانيا فاختار بعلك فاتخذه وصيا " (6).
الحجة الخامسة عشرة: قالت عائشة: كنت عند النبي (صلى الله عليه وآله) إذ أقبل علي فقال:
هذا سيد العرب. قالت: فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ألست سيد العرب؟



(1) المناقب للخوارزمي: ص 156 ح 184، تاريخ بغداد: ج 8 ص 290.
(2) المناقب للخوارزمي: ص 133 ح 148، مناقب ابن المغازلي: ص 28.
(3) بحار الأنوار: ج 38 ص 239 باب 65 ح 40.
(4) بحار الأنوار: ج 38 ص 1 - 16 باب 56 ح 25.
(5) بحار الأنوار: ج 38 ص 15 باب 56 ح 24.
(6) بحار الأنوار: ج 38 ص 11 باب 56 ذيل ح 17.
269
فقال: أنا سيد العالمين وهو سيد العرب (1).
الحجة السادسة عشرة: روى أنس أن النبي (عليه السلام) قال: إن أخي ووزيري وخير
من أتركه بعدي يقضي ديني وينجز وعدي علي بن أبي طالب (2).
الحجة السابعة عشرة: روى ابن مسعود أن النبي (عليه السلام) قال: علي خير البشر،
من أبى فقد كفر (3).
الحجة الثامنة عشرة: إن عليا لم يكفر بالله طرفة عين، وأن أبا بكر كان في
زمان الجاهلية كافرا. إذا ثبت هذا فنقول: إن عليا كان أكثر تقوى من أبي بكر، لأن
من كان مؤمنا أبد الآباد لابد وأن يكون أكثر تقوى ممن كان كافرا ثم صار مؤمنا،
والأتقى أفضل لقوله تعالى: * (ان أكرمكم عند الله أتقاكم) * (4).
الحجة التاسعة عشرة: روى أحمد [و] البيهقي في فضائل الصحابة أنه (عليه السلام)
قال: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، والى نوح في تقواه، وإلى إبراهيم في حلمه،
والى موسى في هيبته، والى عيسى في عبادته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب (5).
ظاهر هذا الحديث يدل على أن عليا كان مساويا لهؤلاء الأنبياء في هذه
الصفات، ولا شك أن هؤلاء الأنبياء كانوا أفضل من أبي بكر وسائر الصحابة،
والمساوي للأفضل أفضل، فوجب أن يكون علي أفضل منهم.
الحجة العشرون: اعلم أن الفضائل إما نفسانية، وإما بدنية، وإما خارجية.
أما الفضائل النفسانية فهي محصورة في نوعين: العلمية والعملية.
أما العلمية فقد دللنا على أن علم علي كان أكثر من علم سائر الصحابة، ومما
يقوي ذلك أنه (عليه السلام) قال: " علمني رسول الله (صلى الله عليه وآله) ألف باب من العلم، فانفتح لي من
كل باب ألف باب " (6).



(1) بحار الأنوار: ج 38 ص 15 باب 56 ح 22.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 57.
(3) بحار الأنوار: ج 38 ص 6 باب 56 ح 9.
(4) الحجرات: 13.
(5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 264.
(6) بحار الأنوار: ج 4 ص 131 باب 93 ح 10.
270
وأما الفضائل العملية فأقسام:
منها: العفة والزهد، وقد كان في الصحابة جمع من الزهاد كأبي ذر وسلمان
وأبي الدرداء، وكلهم كانوا فيه تلامذة علي.
ومنها: الشجاعة، وقد كان في الصحابة جماعة شجعان كأبي دجانة وخالد بن
الوليد، وكانت شجاعته أكثر نفعا من شجاعة الكل، ألا ترى أن النبي (عليه السلام) قال يوم
الأحزاب: " لضربة علي خير من عبادة الثقلين " (1) وقال علي بن أبي طالب:
" ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية لكن بقوة إلهية " (2).
ومنها: السخاوة، وقد كان في الصحابة جمع من الأسخياء، وقد بلغ إخلاصه
في سخاوته إلى أنه أعطى ثلاثة أقراص، فأنزل الله تعالى في حقه: * (ويطعمون
الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) * (3).
ومنها: حسن الخلق، وقد كان من شجاعته وبسالته حسن الخلق جدا،
وقد بلغ فيه إلى حيث نسبه أعداؤه إلى الدعابة.
ومنها: البعد عن الدنيا، وظاهر أنه (عليه السلام) مع انفتاح أبواب الدنيا عليه لم يظهر
التنعم والتلذذ، وكان مع غاية شجاعته إذا شرع في صلاة التهجد وشرع في
الدعوات والتضرعات إلى الله بلغ مبلغا لا يوازيه أحد ممن جاء بعده من الزهاد.
ولما ضربه ابن ملجم قال: " فزت ورب الكعبة ".
وأما الفضائل البدنية:
فمنها: القوة والشدة، وكان فيها عظيم الدرجة حتى قيل إنه كان يقط الهام
قط الأقلام.
ومنها: النسب العالي، ومعلوم أن شرف الأنساب هو القرب من رسول الله،
وهو كان أقرب الناس في النسب إلى رسول الله. وأما العباس فإنه كان عم



(1) بحار الأنوار: ج 39 ص 2 باب 70 ذيل ح 1.
(2) بحار الأنوار: ج 58 ص 47 باب 5 ذيل ح 13.
(3) الانسان: 8.
271
رسول الله إلا أن العباس كان أخا لعبد الله والد الرسول من الأب لا من الأم،
وأما أبو طالب فإنه كان أخا لعبد الله والد رسول الله من الأب والأم. وأيضا فأن
عليا كان هاشميا من الأب والأم، لأنه علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن
هاشم، وأيضا علي بن فاطمة بنت أسد بن هاشم.
ومنها المصاهرة، ولم يكن لأحد من الخلق مصاهرة مثل ما كانت له. وأما
عثمان فهو وإن شاركه في كونه ختنا للرسول (عليه السلام) إلا أن أشرف أولاد الرسول (عليه السلام)
فاطمة، ولذلك قال (عليه السلام): سيدة نساء العالمين أربع، وعد منهن فاطمة (1). ولم يحصل
مثل هذا الشرف للبنتين اللتين هما زوجتا عثمان.
ومنها: أنه لم يكن لأحد من الصحابة أولاد يشاركون أولاده في الفضيلة،
فالحسن والحسين فهما سيدا شباب أهل الجنة ولداه، ثم انظر إلى أولاد الحسن
مثل الحسن المثنى والمثلث وعبد الله بن المثنى والنفس الزكية، والى أولاد
الحسين مثل زين العابدين والباقر والصادق والكاظم والرضا، فأن هؤلاء الأكابر
يقر بفضلهم وعلو درجتهم كل مسلم.
ومما يدل على علو شأنهم أن أفضل المشايخ وأعلاهم درجة هو أبو يزيد
البسطامي كان سقاء في دار جعفر الصادق. وأما معروف الكرخي فإنه أسلم على
يدي علي بن موسى الرضا، وكان بواب داره، وبقي على هذه الحالة إلى آخر
عمره. ومعلوم أن أمثال هؤلاء الأولاد لم يتفق لأحد من الصحابة. ولو أخذنا
في الشرح والإطناب لطال الكلام. فهذا مجموع دلائل من قال بتفضيل علي بن
أبي طالب.
قال هشام بن الحكم: قلت لعمر بن عبيد: لي سؤال؟ قال: هات. قلت: ألك
عين؟ قال: نعم. قلت: فما تعمل بها؟ قال: أرى الألوان والأشخاص. قلت: ألك أنف؟
قال: نعم. قلت: ما تصنع به؟ قال: أشم الرائحة به. قلت ألك فم؟ قال: نعم. قلت: فما
تصنع به؟ قال: أذوق به الطعام. قلت: ألك قلب؟ قال: نعم قلت: فما تصنع به؟



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 322.
272
قال: أميز به كل ما ورد على هذه الجوارح حقيقته. قلت: ليس غناء عن
القلب؟ قال: لا. قلت: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة؟ قال: يا بني الجوارح إذا
شكت في شئ شمته أو رأته أو ذاقته ردته إلى القلب فيتبين اليقين ويبطل الشك.
قلت: فإنما أقام الله لشك الجوارح القلب؟ قال: نعم. قلت: فلا بد من القلب إذن وإلا
لم تستبن الجوارح شيئا؟ قال: نعم. قلت: يا أبا مروان إن الله تعالى لم يترك
جوارحك حتى جعل لها إماما يصحح لها الصحيح ويبين لها ما شكت فيه ويترك
هذا الخلق كلهم في حيرتهم وشكهم واختلافهم لا يقيم لهم إماما يردون إليه شكهم
وحيرتهم ويقيم لك إماما لجوارحك ترد إليه حيرتك وشكك (1).
وقال متكلم: لا يخلو القول في هذا عن أربعة أوجه: إما أن علم النبي (عليه السلام)
جميع أمته الأولين والآخرين ما يحتاجون إليه في حياته حتى استغنوا عنه
بعد وفاته، أو علمت الأمة كلها بعده مثل علمه، أو استغنت عن مؤدب يعلمهم
ويعلم عن الله عز وجل، أو رفع التكليف عن الأمة بعده كالبهائم. وكل ذلك باطل،
لأن التكليف لازم واللطف لازم والناس غير معصومين، فلا بد من حافظ للشرع
معصوم: * (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة) * (2).
الأودي الشاعر:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم * ولا سراة إذا جهالهم سادوا
البيت لا يبتنى إلا على عمد * ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
إذا تجمع أوتادا وأعمدة * وساكن بلغوا الأمر الذي كادوا
تهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت * فإن تولت فبالأشرار تنقاد (3)
قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) * (4) من غير



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 246.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 247.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 247.
(4) التوبة: 120.
273
تخصيص، وذلك يقتضي عصمتهم، لقبح الأمر على هذا الوجه باتباع من لا يؤمن
منه القبيح من حيث يؤدي ذلك إلى الأمر بالقبيح. فإذا ثبت ذلك في الآية ثبت
تخصيصها بأمير المؤمنين وأولاده المعصومين (عليهم السلام) بالإجماع أن ليس أحد من
الأمة مثل ذلك، ولأنه لو لم يثبت هذه الصفة لهم لادعيت لسواهم (1).
وقوله: * (ولو ردوه إلى الرسول والى أولي الأمر منهم لعلمه الذين
يستنبطونه منهم) * (2) يدل على عصمتهم لأنه أخبر أن العلم يحصل بالرد إلى
الرسول، والعلم لا يحصل ولا يصح حصوله يقينا ممن ليس بمعصوم، ولأنه تعالى
لا يجوز أن يأمر باستفتاء من لا يؤمن منه القبيح من حيث إن في ذلك أمره تعالى
بالقبيح. وإذا اقتضت الآية عصمة أولي الأمر ثبتت إمامتهم، لأن أحدا لم يفرق بين
الأمرين، وإذا ثبت ذلك توجه الأمر بالآية إلى آل محمد، وقد روي أنها نزلت في
الحجج الاثني عشر (3).
وقوله: * (إني جاعلك للناس إماما) * (4) فقال إبراهيم (عليه السلام) من عظيم خطر الأمر
عنده: * (ومن ذريتي؟ قال: لا ينال عهدي الظالمين) * (5).
وفي خبر: أنه قال: من الظالم من ولدي؟ قال: من سجد لصنم من دوني (6).
قال الفراء: أي لا يكون إماما من أشرك (7).
قال إبراهيم: * (اجنبني وبني أن نعبد الأصنام) * (8) وقد ثبت أن النبي والاثني
عشر (عليهم السلام) ما عبدوا الأصنام، فانتهت الدعوة إليهما، فصار محمد (صلى الله عليه وآله) نبيا
وعلي (عليه السلام) وصيا.



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 247.
(2) النساء: 85.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 247 - 248.
(4) البقرة: 124.
(5) البقرة: 124.
(6) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 248.
(7) معاني القرآن: ج 1 ص 76 في ذيل الآية 124 من سورة البقرة.
(8) الأنبياء: 35.
274
ولما قال: * (لا ينال عهدي الظالمين) * (1) صار العهد في الصفوة * (ووهبنا له
إسحاق ويعقوب) * إلى قوله * (عابدين) * (2) فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض
حتى ورثها النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال: * (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي
والذين آمنوا) * (3) فكانت له خاصة، فقلدها عليا (عليه السلام) بأمر الله تعالى على رسم ما
فرضها الله، فصارت ذريته الأصفياء الذين أوتوا الإيمان والعلم (4).
وقول إبراهيم (عليه السلام): * (ومن ذريتي) * " ومن " للتبعيض ليعلم أن فيهم من
يستحقها وفيهم من لا يستحقها، ومستحيل أن يدعو إلا لمن هو مثله في الطهارة
لقوله: * (لا ينال عهدي الظالمين) *.
وقال: * (فمن تبعني فإنه مني) * يجب أن يكونوا معصومين، ولما سأل الرزق
* (وارزق أهله من الثمرات) * سأل عاما، ولما سأل الإمامة سأل خاصا قال:
* (ومن ذريتي) * (5).
قال الصادق (عليه السلام) في قوله * (وجعلها كلمة باقية في عقبه) * (6): أي الإمامة إلى
يوم القيامة (7).
قال السدي: عقبه آل محمد (8).
ولما توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) اختلف الأمة في إمامة علي (عليه السلام)، فقالت شيعته
وبنو هاشم كافة وسلمان وعمار وأبو ذر والمقداد وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين
وأبو أيوب الأنصاري وجابر بن عبد الله الأنصاري وأبو سعيد الخدري وأمثالهم
من أجلة المهاجرين والأنصار أنه كان الخليفة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، الإمام لفضله
على كافة الناس بما اجتمع له من خصال الفضل والكمال:



(1) البقرة: 124.
(2) الأنبياء: 72 - 73.
(3) آل عمران: 68.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 248.
(5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 248.
(6) الزخرف: 28.
(7) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 248.
(8) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 248.
275
من سبقه الجماعة إلى الإيمان والتبريز عليهم في العلم والأحكام والتقدم لهم
في الجهاد، والبينونة منهم بالغاية في الورع والزهد والصلاح، واختصاصه من
النبي (صلى الله عليه وآله) في القربى بما لم يشركه فيه أحد من ذوي الأرحام.
ثم لنص الله عز وجل على ولايته في القرآن حيث يقول جل اسمه: * (إنما
وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم
راكعون) * (1) ومعلوم أنه لم يتصدق في حال ركوعه سواه (عليه السلام)، وبما ثبت في اللغة
أن الولي هو الأولى بلا خلاف، وإذا كان هو (عليه السلام) بحكم القرآن أولى بالناس من
أنفسهم لكونه وليهم بالنص في الكتاب العزيز وجبت طاعته (2) على كافتهم كما
وجبت طاعة الله وطاعة رسوله.
وبقول النبي (عليه السلام) يوم الدار وقد جمع بني عبد المطلب خاصة فيها للإنذار:
" من يؤازرني على هذا الأمر يكن أخي ووصيي ووزيري ووارثي وخليفتي
من بعدي؟
فقام أمير المؤمنين (عليه السلام) من بين جماعتهم وهو أصغرهم يومئذ سنا فقال: أنا
أؤازرك يا رسول الله. فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): اجلس فأنت أخي ووصيي ووزيري
ووارثي وخليفتي من بعدي " (3). وهذا صريح القول بالاستخلاف.
وبقوله أيضا يوم غدير خم: " ألست أولى بكم منكم بأنفسكم؟ فقالوا: اللهم
بلى. فقال لهم على النسق من غير الفصل بين الكلام: فمن كنت مولاه فعلي
مولاه " (4) فأوجب له عليهم من فرض الطاعة والولاية ما كان له عليهم بما قررهم
به من ذلك. وهذا أيضا ظاهر في النص عليه بالإمامة والاستخلاف.
وبقوله له (عليه السلام) عند توجهه إلى تبوك: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى
إلا أنه لا نبي بعدي " (5) فأوجب له الوزارة والتخصيص بالمودة والفضل على



(1) المائدة: 55.
(2) في الأصل: طاعتهم.
(3) تاريخ الطبري: ج 2 ص 63، بحار الأنوار: ج 18 ص 192 باب المبعث ح 27.
(4) بحار الأنوار: ج 37 ص 108 باب 52 ح 1.
(5) بحار الأنوار: ج 37 ص 254 باب 53 ح 1.
276
الكافة والخلافة عليهم في حياته وبعد وفاته لشهادة القرآن بذلك كله لهارون من
موسى (عليهما السلام)، قال الله عز وجل مخبرا عن موسى (عليه السلام): * (واجعل لي وزيرا من أهلي *
هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري * كي نسبحك كثيرا * ونذكرك
كثيرا * إنك كنت بنا بصيرا * قال قد أوتيت سؤلك يا موسى) * (1) فثبت لهارون
شركة موسى (عليهما السلام) في النبوة ووزارته على تأدية الرسالة وشد أزره به في النصرة.
وقال في استخلافه له: * (أخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل
المفسدين) * (2) فثبت له خلافته بمحكم التنزيل.
فلما جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام) جميع منازل هارون من موسى
في الحكم له منه إلا النبوة وجبت له وزارة الرسول (عليه السلام) وشد الأزر بالنصرة
والفضل والمحبة لما يقتضيه هذه الخصال من ذلك في الحقيقة. ثم الخلافة في
الحياة بالصريح وبعد الوفاة لتخصيص الاستثناء لما خرج معها بذكر البعدية.
وأمثال هذه الحجج كثيرة.
وما أحسن ما قال محمد بن نصر بن بسام الكاتب:
إن عليا لم يزل محنة * لرابح الدين ومغبون
أنزله من نفسه المصطفى * منزلة لم تك بالدون
صيره هارون في قومه * لعاجل الدنيا وللدين
فارجع إلى الأعراف حتى * ترى ما فعل القوم بهارون (3)
أجمعت الأمة على أن ليس لها تولية رجل بالاختيار والشورى إلا بعد أن
يجدوا في الكتاب والسنة ما يدل على رجل باسمه وفعله، فإذا وجدوه ولوه عليهم.
وأجمعت المعتزلة أن الخصال المستحقة لصاحبها التعظيم الديني في علي
أفضل مما في غيره، وهو العلم والجهاد والزهد والجود.



(1) طه: 29 - 36.
(2) الأعراف: 142.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 19.
277
وأما الدليل السمعي الذي يوجب كثرة ثوابه وفضله على غيره ففي حديث
الطائر وفي حديث خيبر وفي حديث تبوك ونحوهم. ومن افتقر البشر اليه كانت
العصمة ثابتة عليه.
ثم أجمع الكل على أن أفضل الفضائل السبق إلى الاسلام، ثم القرابة، ثم
العلم، ثم الهجرة، ثم الجهاد، ثم النفقة في سبيل الله، ثم الزهد، ثم الورع، ثم رضى
رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنه يوم مات. وقد سبق علي (عليه السلام) الكل في ذلك أجمع.
وإن قالوا: حمزة وجعفر والحسن والحسين والعباس وغيرهم ممن حرم الله
عليهم الصدقة لقرباهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكان علي (عليه السلام) أخص به بأشياء كثيرة.
وسئل الصادق (عليه السلام) عن فضيلة خاصة لأمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال: فضل
الأقربين بالسبق، وسبق الأبعدين بالقرابة (1).
ديك الجن:
قرابة ونصرة وسابقة * هذي المعالي والصفات الرائقة (2)
الحميري:
ما استبق الناس إلى غاية * إلا حوى السبق على سبقه (3)
ابن حماد:
أما أمير المؤمنين فإنه * سبق الهداة ولم يكن مسبوقا
اختاره رب العلى وأقامه * علما إلى نهج العلى وطريقا (4)
ثم وجدنا فضائل علي (عليه السلام) على ثلاثة أنواع: منها ما زاد فيه على الصحابة
فيما شاركهم فيها، ومنها: ما اجتمع فيه مما تفرق في الكل، ومنها: ما تفرد به.
قال جابر الأنصاري: كانت لأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثمان عشرة سابقة،
خص منها علي بثلاث عشرة، وشركنا في الخمس الاخر (5).



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 2 ص 2.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 2 ص 3.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 2 ص 3.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 2 ص 3 وفيه: علما إلى سبل الورى وطريقا.
(5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 2 ص 3.
278
عن العكبري أنه قال: قال عبد الله بن شداد بن الهاد، قال ابن عباس: كان لعلي
ثمان عشرة منقبة ما كانت لأحد في هذه الأمة (1).
ابن بطة في الإبانة، عن عبد الرزاق، عن أبيه، قال: فضل أمير المؤمنين (عليه السلام)
أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمائة منقبة وشاركهم في مناقبهم (2).
كتاب أبي بكر بن مردويه: قال نافع بن الأزرق لعبد الله بن عمر: إني أبغض
عليا. قال له: أبغضك الله أتبغض رجلا سابقة من سوابقه خير من الدنيا وما فيها (3).
تاريخ الطبري: إن عمر أسلم بعد خمسة وأربعين رجلا وإحدى وعشرين
امرأة (4).
أنساب الصحابة عن الطبري التاريخي والمعارف عن القتيبي: إن أول من
أسلم خديجة ثم علي ثم زيد ثم أبو بكر (5).
يعقوب الشامي في التاريخ: قال الحسن بن زيد: كان أبو بكر الرابع في
الاسلام (6).
وقال النوطي: أسلم علي قبل أبي بكر (7).
واعترف الجاحظ بذلك بعدما كر وفر أن زيدا وخبابا أسلما قبل أبي بكر، ولم
يقل أحد أنهما أسلما قبل علي. وقد شهد أبو بكر لعلي (عليه السلام) بالسبق إلى الاسلام (8).
قال أبو زرعة الدمشقي وأبو إسحاق الثعلبي في كتابيهما أنه قال أبو بكر:
أسفي على ساعة تقدمني فيها علي بن أبي طالب، فلو تقدمته لكان لي سابقة
الاسلام (9).



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 2 ص 3.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 2 ص 3.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 2 ص 3.
(4) تاريخ الطبري: ج 3 ص 270.
(5) تاريخ الطبري: ج 1 ص 60، المعارف لابن قتيبة: ص 98، المناقب لابن شهرآشوب: ج 2
ص 4.
(6) المناقب لابن شهرآشوب: ج 2 ص 4 وفيه: يعقوب النسوي.
(7) المناقب لابن شهرآشوب: ج 2 ص 4.
(8) المناقب لابن شهرآشوب: ج 2 ص 4.
(9) المناقب لابن شهرآشوب: ج 2 ص 4.
279
ومن كتاب الخصائص: حدث أبو الحسن بن أبي العباس، قال: حدثنا
أحمد بن عبد الله، قال: حدثنا إبراهيم بن محمد إجازة، قال: حدثنا الحسين بن
علي بن الحسين البلوي، قال: حدثنا محمد بن الحسن البلوي، قال: حدثنا عمر بن
سعد، عن ليث عن مجاهد في قوله تعالى: * (والذي جاء بالصدق) * محمد (صلى الله عليه وآله)
* (وصدق به) * علي بن أبي طالب (عليه السلام) (1).
وحدث عبد الواحد بن حمد بن محمد بن سندة، عن عبد الرزاق بن عمر
الطهراني وغيره، قال: حدثنا أحمد بن موسى الحافظ، قال: حدثنا محمد بن
علي بن دحيم، قال: حدثنا الفضل بن يوسف القصباني، قال: حدثنا إبراهيم بن
حبيب، قال: حدثنا عبد الله بن مسلم الملائي، قال: أخبرني أبي، عن أخيه، عن
علي (عليه السلام) أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): نزلت علي النبوة يوم الاثنين وصلى علي
يوم الثلاثاء (2).
يشيد هذا قول ابن عباس رضي الله عنهما في التفسير، حدث الحسن بن
أحمد بن الحسن، قال: حدثنا أحمد بن عبد الله، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن
مخلد، قال: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا منجاب بن الحارث،
قال: حدثنا الحسن بن أبي هاشم، قال: حدثنا حسان بن علي، عن محمد بن
السائب، عن أبي صالح، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: * (واركعوا مع
الراكعين) * (3) نزلت في رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي خاصة، وهما أول من صلى وركع (4).
يؤيد ذلك ما روى أنس بن مالك من رواية أبي معمر عباد بن عبد الصمد،



(1) ليس لدينا كتاب الخصائص للنطنزي، ونقله ابن المغازلي في مناقبه: ص 269.
(2) كشف الغمة: ج 1 ص 86 نقلا عن خصائص النطنزي ونقله ابن شهرآشوب في مناقبه: ج 2
ص 14، وعنه في بحار الأنوار: ج 38 ص 203 باب 65 ح 1.
(3) البقرة: 43.
(4) كشف الغمة: ج 1 ص 86 نقلا عن خصائص النطنزي، وفي بحار الأنوار ج 35 ص 347
باب 13 ح 24 بسند آخر نقلا عن تفسير فرات.
280
حدث أحمد بن محمد بن عثمان الواسطي، قال: حدثنا الحسين بن منصور
سجادة، قال: حدثنا سهل بن منصور، قال: سمعت أبا معمر يقول:
سمعت أنس بن مالك يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): صلت الملائكة علي وعلى
علي سبع سنين، وذلك أنه لم يرفع إلى السماء شهادة أن لا إله إلا الله إلا مني ومنه (1).
وحدث علي بن المبارك الربعي، قال: حدثنا إبراهيم بن سعيد، قال: حدثنا
المأمون، قال: حدثنا أبي الرشيد، عن أبيه المهدي، عن أبيه المنصور، عن أبيه، عن
جده، عن عبد الله بن عباس أنه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله) لعلي: يا علي أنت أول المسلمين إسلاما وأول المؤمنين إيمانا (2).
وحدث إسماعيل السدي، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا فضيل بن
مرزوق، عن أبي سخيلة، عن أبي ذر وسلمان رضي الله عنهما أنهما قالا: أخذ
رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيد علي (عليه السلام) وقال: إن هذا أول من آمن بي، وهذا فاروق لهذه
الأمة، وهذا يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الظالمين، هذا أول من يصافحني
يوم القيامة، وهذا الصديق الأكبر (3).
وحدث عن الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن حبة العرني، عن عليم الكندي
أنه قال: سمعت أبا عبد الله سلمان (رضي الله عنه) يقول: أول هذه الأمة ورودا على نبيها (صلى الله عليه وآله)
أولها إسلاما علي بن أبي طالب (عليه السلام) (4).
وحدث عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) أنه قال: أول شئ علمته من أمر رسول
الله (صلى الله عليه وآله) أن قدمت مع عمومة لي إلى مكة فأرشدونا على العباس بن
عبد المطلب (رضي الله عنه)، فانتهينا إليه وهو جالس في زمزم، فجلسنا إليه، فبينما نحن



(1) مناقب الخوارزمي: ص 54 ح 18، ومناقب ابن المغازلي: ص 14 ح 19 كلاهما بسند آخر.
(2) مناقب الخوارزمي: ص 54 ح 19 مع اختلاف في صدر السند.
(3) بحار الأنوار: ج 38 ص 210 باب 65 ح 10 بسند آخر.
(4) مناقب الخوارزمي: ص 52 ح 15، بحار الأنوار: ج 38 ص 211 باب 65 ح 11 مع
اختلاف في السند.
281
عنده إذ أقبل رجل من باب الصفا أبيض اللون، يعلوه حمرة، له وفرة جعدة إلى
أنصاف أذنيه، أقنى، أدلف، براق الثنايا، أدعج العينين، كث اللحية، دقيق المشربة،
شثن الكفين والقدمين، عليه ثوبان أبيضان، كأنه القمر ليلة البدر، يمشي على يمينه
غلام أمرد الوجه مراهق أو محتلم، يقفوهما امرأة قد سترت محاسنها، حتى قصد
نحو الحجر فاستلمه ثم استلم الغلام ثم استلمت المرأة، ثم طاف بالبيت سبعا
والمرأة والغلام يطوفان معه، ثم استقبل الركن ورفع يديه وكبر وقام الغلام ورفع
يديه وكبر وقامت المرأة خلفهما فرفعت يديها وكبرت، وأطال القنوت، ثم ركع
فأطال الركوع، ثم رفع رأسه من الركوع فقنت قنوتا ثم سجد، والغلام والمرأة
يصنعان مثل ما يصنع.
قال: فرأينا شيئا لم نكن نعرفه بمكة فأقبلنا على العباس فقلنا له: يا أبا الفضل
إن هذا الدين لم نكن نعرفه فيكم أو شئ قد حدث؟ قال: أجل هذا ابن أخي
محمد بن عبد الله، والغلام علي بن أبي طالب، والمرأة امرأته خديجة بنت خويلد،
أما والله ما على وجه الأرض أحد يعبد الله بهذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة (1).
حدث عن الأعمش، عن عباية، عن ربعي بن ربعي، عن أبي أيوب: أن
النبي (صلى الله عليه وآله) مرض مرضا فأتته فاطمة (عليها السلام) تعوده، فلما رأت ما به من الجهد
والضعف استعبرت فبكت حتى سالت الدموع على خديها، فقال لها: يا فاطمة إن
لكرامة الله تعالى إياك أن زوجتك من أقدمهم سلما وأكثرهم علما وأعظمهم حلما،
إن الله تعالى أطلع إلى أهل الأرض إطلاعة فاختارني منهم فبعثني نبيا مرسلا، ثم
اطلع إطلاعة فاختار منهم بعلك، فأوحى إلي أن أزوجك إياه واتخذه وصيا (2).
معارف القتيبي وفضائل السمعاني ومعرفة النسائي: قالت جنادة العدوية:
سمعت عليا (عليه السلام) يقول على منبر البصرة: أنا الصديق الأكبر، آمنت قبل أبي بكر،
وأسلمت قبل أن أسلم (3).



(1) كشف الغمة: ج 1 ص 83.
(2) بحار الأنوار: ج 28 ص 52 باب 2 ح 21.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 2 ص 4.
282
روى السدي عن أبي مالك، عن ابن عباس في قوله: * (والسابقون السابقون
* أولئك المقربون) * (1) قال: سابق هذه الأمة علي بن أبي طالب (عليه السلام) (2).
مالك وأنس، عن أبي صالح، عن ابن عباس: أنها نزلت في أمير المؤمنين،
سبق - والله - كل أهل الإيمان إلى الإيمان. ثم قال: والسابقون كذلك يسبق العباد
يوم القيامة إلى الجنة (3).
مالك بن أنس، عن سمي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، أنه قال
* (والسابقون الأولون) * نزلت في علي (عليه السلام)، لأنه سبق الناس كلهم بالإيمان (4).
وقد ذكر في أكثر التفاسير أنه ما أنزل الله تعالى في القرآن * (يا أيها الذين
آمنوا) * إلا وعلي أميرها، لأنه أول الناس إسلاما (5).
وقيل: إنه ما نزل في القرآن * (يا أيها الذين آمنوا) * إلا في علي خاصة (6).
أبو نعيم في حلية الأولياء والنطنزي في الخصائص بالإسناد عن الخدري:
ان النبي (صلى الله عليه وآله) قال لعلي (عليه السلام) وضرب بيده بين كتفيه: يا علي لك سبع خصال
لا يحاجك فيهن أحد يوم القيامة: أنت أول المؤمنين بالله إيمانا، وأوفاهم بعهد الله،
وأقومهم بأمر الله، وأرأفهم بالرعية، وأقسمهم بالسوية، وأعلمهم بالقضية،
وأعظمهم يوم القيامة مزية (7).
أربعين الخطيب بإسناده عن مجاهد، عن ابن عباس، وفضائل أحمد وكشف
الثعلبي بإسنادهم إلى عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه، قالا: قال النبي (صلى الله عليه وآله):
سباق الأمم يوم القيامة ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: علي بن أبي طالب،
وصاحب ياسين، ومؤمن آل فرعون، فهم الصديقون، وعلي أفضلهم (8).



(1) الواقعة: 10 - 11.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 2 ص 5.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 2 ص 5.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 2 ص 5.
(5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 2 ص 6.
(6) المناقب لابن شهرآشوب: ج 2 ص 9.
(7) حلية الأولياء: ج 1 ص 66، المناقب لابن شهرآشوب: ج 2 ص 6.
(8) المناقب لابن شهرآشوب: ج 2 ص 6 نقلا عن أربعين الخطيب وفضائل أحمد وكشف الثعلبي.
283
حدث النيشابوري بحذف الإسناد، قال حدثنا عبد الرزاق بن معمر، عن
الزهري، عن عبد الله بن عباس، قال: كان حسان بن ثابت واقفا بمنى والنبي (صلى الله عليه وآله)
وأصحابه مجتمعون، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): معاشر المسلمين هذا علي سيد العرب
والوصي الأكبر، منزلته مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، لا تقبل
توبة من تائب إلا بحبه، يا حسان قل فيه شيئا. فأنشأ يقول:
لا تقبل التوبة من تائب * إلا بحب ابن أبي طالب
أخا رسول الله، بل صهره * والصهر لا يعدل بالصاحب
وقال الله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي
الأمر منكم) * (1) فأتبع الله تعالى فرض طاعة أولي الأمر فرض طاعة الرسول، كما
أتبع فرض طاعة الرسول فرض طاعة نفسه، ثم لم يفسخ ذلك ولم يرخص في
تركه، فهو واجب أبدا لأولي الأمر، ولابد إذا أوجب الله تعالى هذا لهم من إبانتهم
وتمييزهم من سائر المؤمنين الذين وجبت عليهم طاعة الرسول وطاعة أولي
الأمر ليعلم المؤمنون بطاعة من امروا ومن هؤلاء الذين رفع الله اقتدارهم وأوجب
على الخلق طاعتهم وأضافها إلى طاعته وطاعة رسوله، ولأن لا يسوغ لغيرهم أن
ينازعهم ذلك أو يدعيه معهم، ولأن الله تعالى لا يعمي الفروض ولا يبهمها
ولا يلبس على خلقه أمر دينهم، وإبانتهم وتميزهم من سائر المؤمنين لا يعلم
إلا بالرسول في زمانه، ثم من أقامه الرسول مقامه من بعده.
وإذا كان تميزهم وإبانتهم من الناس لابد للأمة منه فقد علمنا أن الرسول قد
فعل ذلك، وقد كشفه وبينه لأنه (عليه السلام) لا يترك المأمورين به إلا مع تبيينه وكشفه،
وتبيين الرسول ذلك مغن للأمة عن أن يختاروا لأنفسهم أو يبايع غير من أقامه،
وكذلك القائم به بعد الرسول بين من ذلك ما التبس على رعيته إذا احتاجوا إلى
ذلك منه والتمسوا علمه من عنده، وكل ما لم يكن منه بد فالله تعالى غير تاركه
ولا رسوله ولا أولياء الأمر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله).



(1) النساء: 59.
284
قيل: اجتمع هشام بن الحكم وحفص بن سالم في مجلس، فقال هشام لحفص:
أخبرني هل يجوز أن يخرج الحق من الأمة حتى يكون الحق موجودا في غير الأمة؟
قال حفص: لا يجوز ذلك.
فقال هشام: أوليس إنما اختلفت الأمة في علي وأبي بكر والخلافة كانت
لأحدهما - لا محالة - بعد النبي (صلى الله عليه وآله)؟
قال حفص: بلى.
قال هشام: أفليس قد سقط العباس بقرابته ومعاذ بن جبل بعلمه؟
قال حفص: بلى.
قال هشام: وقد سقط الناس كلهم بعد هذين؟
قال: نعم.
قال: فلا يحتاج إذن إلى النظر في أمرهم وانما النظر في أبي بكر وعلي أيهما
يستحق الخلافة ممن لا يستحقها إذا كان الأمر بالاختيار على ما زعمتم؟
قال: نعم.
قال هشام: أفليس قد رويتم أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " علي أقضاكم " ورويتم أن
النبي (صلى الله عليه وآله) وجهه إلى اليمن قاضيا قال: يا رسول الله تبعثني ولا بصر لي بالقضاء،
فضرب بيده على صدره ثم قال: " اللهم اهد قلبه واشرح صدره " فقال علي (عليه السلام):
فما شككت في قضاء بعدها. ورويتم أنه قال: كنت إذا سألت أعطيت، وإذا سكت
ابتدأت، وبين الجوانح علم جم، وعلمني رسول الله (صلى الله عليه وآله) ألف باب من العلم كل
باب يفتح ألف باب، ولقد علمت المنايا والبلايا وفصل الخطاب، وقال النبي (عليه السلام):
" أنا مدينة العلم وعلي بابها " مع اتفاق المختلفين أنه كان أعلم أصحاب رسول
الله (صلى الله عليه وآله) حتى صار المأخوذ قوله في عامة أحكامهم؟
قال حفص: بلى، ولا ننكر فضل علي وبصره بالقضاء وبما حكى عن نفسه من
العلم وما ظهر منه، وأنهم كلهم قد سألوه واحتاجوا اليه، ولم يسأل هو أحدا منهم
ولا احتاج إليه.

285
قال هشام: فإذا أقررت بذلك فهل تعلمون أن الله تعالى قال في كتابه * (قل هل
يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون انما يتذكر أولو الألباب) * وقال * (يرفع
الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) * وقال * (إنما يخشى الله من
عباده العلماء) *؟
قال حفص: كذلك قال الله.
قال هشام: * (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى
فما لكم كيف تحكمون) * فإذا أخبر الله أنه قد رفع عليا على أبي بكر درجات فلم
صار أبو بكر أولى بها منه؟ ولم قدمتم أبا بكر عليه بعدما قد بين الله في كتابه ما بين؟
قال حفص: لأن أهل الفضل والعلم قدموه.
فقال هشام: فقد نفى الله عنهم ما أثبته أنت لهم!
قال حفص: من أين قلت؟
قال: ذلك لقول الله عز وجل: * (إنما يتذكر أولو الألباب) * وأولو الألباب أهل
العقل والفضل، فلو كانوا كذلك لتفكروا وقدموا عليا (عليه السلام). فسكت حفص.
* * *
$ أمير المؤمنين (عليه السلام) / تسميته بإمرة المؤمنين في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)
فصل
في ذكر تسميته صلى الله عليه بإمرة المؤمنين على عهد
رسول الله من طريق العامة
من ذلك: ما أورده الحافظ بن أحمد بن موسى بن مردويه في كتاب المناقب
الذي صنفه، وهو: حدثني عبد الله بن محمد بن زيد، قال: حدثنا محمد بن أبي
يعلى، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا زكريا بن يحيى أبو علي الخزاز،
قال: حدثنا مندل بن علي، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي
الله عنهما، قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) في صحن الدار وإذا رأسه في حجر دحية بن

286
خليفة الكلبي، فدخل علي (عليه السلام) فقال: السلام عليك، كيف أصبح رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟
فقال: بخير.
فقال له دحية: إني لأحبك وأن لك مدحة أزفها إليك، أنت أمير المؤمنين،
وقائد الغر المحجلين، أنت سيد ولد آدم ما خلا النبيين والمرسلين، لواء الحمد
بيدك يوم القيامة تزف به، أنت وشيعتك مع محمد وحزبه إلى الجنان زفا زفا،
قد أفلح من تولاك وخسر من تخلاك، محبو محمد محبوك، ومبغضو محمد
مبغضوك لن تنالهم شفاعة محمد (صلى الله عليه وآله)، ادن مني [يا] صفوة الله، فأخذ رأس
النبي (صلى الله عليه وآله) فوضعه في حجره، فقال (1): ما هذه الهمهمة؟ فأخبره الحديث.
قال (2): لم يكن دحية الكلبي، بل كان جبرائيل (عليه السلام)، سماك باسم سماك الله به،
وهو الذي ألقى محبتك في صدور المؤمنين ورهبتك في صدور الكافرين (3).
ومن الكتاب المذكور: حدثنا محمد بن علي بن دحيم، قال: حدثنا الحسن بن
الحكم الحبري، قال: حدثنا إسماعيل بن أبان، قال: حدثنا صباح بن يحيى
المزني، عن الحارث بن حصيرة، عن القاسم بن جندب، عن أنس، قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا أنس أسكب لي وضوء أو ماء، فتوضأ وصلى ثم انصرف. فقال:
يا أنس أول من يدخل علي اليوم أمير المؤمنين وسيد المسلمين وخاتم الوصيين
وإمام الغر المحجلين. فجاء علي حتى ضرب الباب، فقال: من هذا يا أنس؟ قلت:
هذا علي. قال: افتح له، فدخل (4).
ومن الكتاب المذكور: حدثنا أحمد بن محمد بن دارم، قال: حدثنا المنذر بن
محمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبان بن تغلب،
عن أبي غيلان، قال: حدثني أبو سعيد وهو رجل ممن شهد صفين: قال: حدثني
سالم المنتوف مولى علي، قال: كنت مع علي في أرض له وهو يحرثها حتى جاء



(1 و 2) أي: فقال رسول الله.
(3) بحار الأنوار: ج 37 ص 295 باب 54 ح 12.
(4) بحار الأنوار: ج 37 ص 296 باب 54 ح 13.
287
أبو بكر وعمر، فقالا: ننشدك الله سلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
فقيل لهم: تقولون في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله)! فقال عمر: هو أمرنا بذلك (1).
ومن الكتاب المذكور: حدثنا أحمد بن محمد بن السري، قال: حدثنا
المنذر بن محمد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن
أبان بن تغلب، عن جابر، عن إبراهيم، عن إسحاق، عن عبد الله، قال: دخل علي
على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعنده عائشة، فجلس بين عائشة وبين رسول الله. فقالت
عائشة: ما كان لك مجلس غير فخذي.
فضرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) على ظهرها فقال: مه لا تؤذيني في أخي فإنه
أمير المؤمنين وسيد المسلمين وقائد الغر المحجلين يوم القيامة، يقعد على
الصراط، يدخل الله أولياءه الجنة، ويدخل أعداءه النار (2).
ومن الكتاب المذكور: حدثنا أحمد بن محمد بن السري، قال: حدثنا
المنذر بن محمد بن المنذر، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا عمي الحسين بن سعيد بن
أبي الجهم، قال: حدثني أبان بن تغلب، عن نفيع بن الحارث، عن أنس، قال: كان
رسول الله (صلى الله عليه وآله) في بيت أم حبيبة بنت أبي سفيان، فقال: يا أم حبيبة اعتزلينا فإنا
على حاجة، ثم دعا بوضوء فأحسن الوضوء، ثم قال: إن أول من يدخل من هذا
الباب أمير المؤمنين وسيد العرب وخير الوصيين وأولى الناس بالناس.
قال أنس: فجعلت أقول: اللهم اجعله رجلا من الأنصار.
قال: فدخل علي فجاء يمشي حتى جلس إلى جنب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فجعل
رسول الله يمسح وجهه بيده ثم يمسح بها وجه علي بن أبي طالب.
فقال علي: وما ذاك يا رسول الله؟
قال: إنك تبلغ رسالتي من بعدي، وتؤدي عني، وتسمع الناس صوتي، وتعلم
الناس من كتاب الله ما لا يعلمون (3).



(1) بحار الأنوار: ج 37 ص 297 باب 54 ح 14.
(2) بحار الأنوار: ج 37 ص 297 باب 54 ح 15.
(3) بحار الأنوار: ج 37 ص 297 باب 54 ح 16.
288
ومن الكتاب المذكور: قال: حدثنا المنذر بن محمد بن المنذر، قال: حدثنا
أحمد بن موسى الخزاز، قال: حدثنا تلميذ بن سليمان أبو إدريس، عن جابر، عن
محمد بن علي، عن أنس بن مالك، قال: بينا أنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ قال: الآن
يدخل سيد المسلمين وأمير المؤمنين وخير الوصيين وأولى الناس بالنبيين.
إذ طلع علي بن أبي طالب. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): اللهم والي والي.
قال: فجلس بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يمسح العرق من
جبهته ووجهه ويمسح به وجه علي بن أبي طالب، ويمسح العرق من وجه علي
ويمسح به وجهه.
فقال له علي: يا رسول الله نزل في شئ؟
قال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي،
أنت أخي، ووزيري، وخير من أخلف بعدي، تقضي ديني، وتنجز موعدتي، وتبين
لهم ما اختلفوا فيه من بعدي، وتعلمهم من تأويل القرآن ما لم يعلموا، وتجاهدهم
على التأويل كما جاهدتهم على التنزيل (1).
ومن الكتاب المذكور: حدثنا أحمد بن محمد الخياط المقرئ الكوفي، قال:
حدثنا الخضر بن أبان الهاشمي، قال: حدثنا أبو هدية إبراهيم، قال: حدثني
أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " الجنة مشتاقة إلى أربعة من أمتي " فهبت
أن أسأله من هم.
فأتيت أبا بكر فقلت له: إن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " إن الجنة تشتاق إلى أربعة من
أمتي " فسله من هم؟
فقال: أخاف ألا أكون منهم فيعيرني به بنو تيم.
فأتيت عمر فقلت له مثل ذلك. فقال: أخاف ألا أكون منهم فيعيرني به بنو عدي.
فأتيت عثمان فقلت له مثل ذلك. فقال: أخاف ألا أكون منهم فيعيرني به
بنو أمية.



(1) اليقين: ص 13 الباب الثامن، بحار الأنوار: ج 37 ص 297 باب 54 ح 16.
289
فأتيت عليا (عليه السلام) وهو في ناضح له فقلت له: إن النبي (صلى الله عليه وآله) قال " إن الجنة
مشتاقة إلى أربعة من أمتي " فسله من هم؟
فقال: والله لأسألنه فإن كنت منهم فلا حمد إلا لله عز وجل، وإن لم أكن منهم
لأسألن الله أن يجعلني منهم وأودهم.
فجاء وجئت معه إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فدخل عليه ورأسه في حجر دحية الكلبي،
فلما رآه دحية قام إليه وسلم وقال: خذ برأس ابن عمك يا أمير المؤمنين، فأنت
أحق به.
فاستيقظ النبي (صلى الله عليه وآله) ورأسه في حجر علي، فقال: يا أبا الحسن ما جئتنا
إلا في حاجة؟
قال: بأبي وأمي يا رسول الله دخلت ورأيتك في حجر دحية الكلبي فقام إلي
وسلم علي وقال: خذ برأس ابن عمك إليك فأنت أحق به مني يا أمير المؤمنين.
فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): فهل عرفته؟
فقال: هو دحية الكلبي.
فقال له: ذاك جبرائيل.
فقال: بأبي وأمي يا رسول الله أعلمني أنس أنك قلت " إن الجنة مشتاقة
إلى أربعة من أمتي " فمن هم؟
فأومأ إليه بيده فقال: أنت والله أولهم، أنت والله أولهم ثلاثا.
فقال له: بأبي وأمي فمن الثلاثة؟
فقال: المقداد وسلمان وأبو ذر (1).
ومن روايات عثمان بن أحمد بن السماك: حدثنا الحسين، قال: حدثني
أحمد بن الحسن، قال: حدثني محمد بن علي الكوفي، قال: حدثني عبيد بن يحيى
الثوري، عن محمد بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عن أبيه،



(1) اليقين: ص 17 الباب الخامس عشر.
290
عن جده، عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: في اللوح المحفوظ تحت العرش. علي بن أبي
طالب أمير المؤمنين (1).
ومن رواياته: حدثنا الحسين، قال: حدثني أحمد بن الحسن، قال: وحدثني
محمد بن علي، قال: وحدثنا عبيد بن يحيى، عن محمد بن الحسن، عن أبيه: عن
جده قال: قال عمر بن الخطاب ذات يوم لعلي: أنت والله أمير المؤمنين حقا.
قلت: عندك أو عند الله؟
قال: عندي وعند الله تبارك وتعالى (2).
ومن روايات أبي بكر الخوارزمي قال: ذكر الإمام محمد بن أحمد بن
شاذان هذا.
حدثنا طلحة بن أحمد بن محمد أبو زكريا النيشابوري، عن سابور بن عبد
الرحمن، عن علي بن عبد الله بن عبد الحميد، عن هيثم بن بشير، عن شعبة، عن
الحجاج، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير. عن ابن عباس، قال: سمعت
رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: ليلة أسري بي إلى السماء دخلت الجنة فرأيت نورا ضرب به
وجهي، فقلت لجبرائيل: ما هذا النور الذي رأيته؟ قال: يا محمد ليس هذا نور
الشمس ولا نور القمر ولكن جارية من جواري علي بن أبي طالب أطلعت من
قصورها فنظرت إليك وضحكت، فهذا النور خرج من فيها، وهي تدور في الجنة
إلى أن يدخلها أمير المؤمنين (3).
ومن روايات موفق بن أحمد المكي الخوارزمي أخطب خطباء خوارزم،
قال: ذكر محمد بن أحمد بن شاذان هذا: حدثني أبو عبد الله أحمد بن محمد بن
أيوب، عن علي بن محمد بن عنبسة بن رويدة، عن بكر بن أحمد: وحدثنا
أحمد بن محمد الجراح، قال: حدثنا أحمد بن الفضل الأهوازي، حدثنا بكر بن



(1) اليقين: ص 20 الباب السابع عشر، بحار الأنوار: ج 37 ص 299 باب 54 ح 17.
(2) اليقين: ص 20 الباب الثامن عشر، بحار الأنوار: ج 37 ص 299 باب 54 ح 18.
(3) اليقين: ص 164 الباب السادس والستون بعد المائة.
291
أحمد، عن محمد بن علي عن فاطمة بنت الحسين، عن أبيها وعمها الحسن بن
علي (عليهما السلام)، قال (1): أخبرنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال: قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله): لما دخلت الجنة رأيت فيها شجرة تحمل الحلي والحلل أسفلها خيل بلق
وأوسطها حور العين وفي أعلاها الرضوان، قلت: يا جبرائيل لمن هذه الشجرة؟
قال: هذه لابن عمك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، إذا أمر الله الخليقة بالدخول
إلى الجنة يؤتى بشيعة علي حتى ينتهي بهم إلى هذه الشجرة فيلبسون الحلي
والحلل ويركبون الخيل البلق، وينادي مناد: هؤلاء شيعة علي صبروا في الدنيا
على الأذى فحبوا (2) هذا اليوم (3).
ومن روايات الخوارزمي أيضا: أنبأني مهذب الأئمة أبو المظفر عبد الملك بن
علي بن محمد الهمداني نزيل بغداد، أخبرنا أبو القاسم بن أحمد بن عمر المقرئ،
أخبرنا عاصم بن الحسين بن محمد، أخبرنا عبد الواحد بن محمد بن عبد الله،
أخبرنا أحمد بن سعيد، حدثنا محمد بن أحمد بن الحسين، حدثنا خزيمة بن
ماهان المروزي، حدثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش عن سعيد بن جبير، عن
ابن عباس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يأتي على الناس يوم القيامة وقت ما فيه
راكب إلا نحن أربعة.
فقال العباس بن عبد المطلب: فداك أبي وأمي ومن هؤلاء الأربعة؟
قال: أنا على البراق، وأخي صالح على ناقة الله التي عقرها قومه، وعمي
حمزة أسد الله على ناقتي العضباء، وأخي علي بن أبي طالب على ناقة من نوق
الجنة مدبجة (4) الجنبين، عليه حلتان خضراوتان من كسوة الرحمن، على رأسه
تاج من نور، لذلك التاج سبعون ألف ركن، على كل ركن ياقوتة حمراء تضئ
للراكب مسير ثلاثة أيام، وبيده لواء الحمد ينادي: لا إله إلا الله محمد رسول الله،



(1) كذا في الأصل، والظاهر: قالا.
(2) يقال: حباه كذا وكذا: إذا أعطاه، والحباء، العطية.
(3) مناقب الخوارزمي: ص 73 ح 52.
(4) المدبج: ما زين أطرافه بالديباج.
292
فيقول الخلائق: من هذا ملك مقرب، نبي مرسل، حامل عرش؟ فينادي مناد
من بطنان العرش: ليس ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا حامل عرش، هذا علي بن
أبي طالب وصي رسول رب العالمين وأمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين في
جنة النعيم (1).
ومن روايات موفق بن أحمد المكي الخوارزمي من كتاب المناقب ما هذا
لفظه: وأنبأني مهذب الأئمة هذا، أنبأنا أبو بكر محمد بن الحسين بن علي أخو
محمد بن محمد بن عبد العزيز أبو منصور العدل، أخبرنا هلال بن محمد بن جعفر
الحفار، حدثنا محمد بن عمر، حدثنا أبو إسحاق محمد بن هارون الهاشمي، حدثنا
محمد بن زياد النخعي، حدثنا محمد بن فضيل بن غزوان، حدثنا غالب الجهني،
عن أبي جعفر محمد بن علي، عن أبيه، عن جده قال: قال علي (عليه السلام): قال
النبي (صلى الله عليه وآله) لما أسري بي إلى السماء، ثم من السماء إلى سدرة المنتهى، وقفت بين
يدي ربي عز وجل فقال لي: يا محمد.
قلت: لبيك وسعديك.
قال: قد بلوت خلقي فأيهم رأيت أطوع لك؟
قال: قلت: ربي عليا.
قال: صدقت يا محمد، فهل اتخذت لنفسك خليفة يؤدي عنك ويعلم عبادي
من كتابي ما لا يعلمون؟
قال: قلت: اختر لي، فإن جبريل خيرني.
قال: قد اخترت لك عليا فاتخذه لنفسك خليفة ووصيا، ونحلته علمي
وحلمي، وهو أمير المؤمنين حقا، لم ينلها أحد قبله، وليست لأحد بعده. يا محمد
علي راية الهدى، وإمام من أطاعني، ونور أوليائي، وهو الكلمة التي ألزمتها
المتقين، من أحبه فقد أحبني ومن أبغضه فقد أبغضني، فبشره بذلك يا محمد.



(1) مناقب الخوارزمي: ص 359 ح 372.
293
فقال النبي (صلى الله عليه وآله): قلت: ربي فقد بشرته.
فقال علي: أنا عبد الله وفي قبضته، إن يعاقبني فبذنوبي، لم يظلمني شيئا،
وإن تمم لي وعدي فالله مولاي.
قال: أجل.
[قال: قلت] (1): واجعل ربيعة الإيمان بك.
قال: قد فعلت ذلك به يا محمد، غير أني محضته بشئ من البلاء لم أحض (2)
به أحدا من أوليائي.
قال: قلت: ربي أخي وصاحبي.
قال: قد سبق في علمي أنه مبتلى، لولا علي لم يعرف حزبي ولا أوليائي
ولا أولياء رسلي (3).
ومن روايات الحافظ موفق بن أحمد المكي أخطب خطباء خوارزم، فقال:
أخبرنا شهرداز هذا إجازة، أخبرنا عبدوس هذا كتابة، حدثنا الشيخ أبو الفرج
حمد بن سهل، حدثنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن بركان، حدثنا زكريا الغلاتي،
حدثنا إسحاق بن موسى بن محمد بن عباد الحراز، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم
الهمداني، حدثنا أبو حازم محمد بن محمد الطالقاني أبو مسلم، عن الخالص
الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن
الحسين بن علي بن أبي طالب، عن المصطفى الأمين سيد الأولين والآخرين
صلى الله عليهم أجمعين أنه قال لعلي بن أبي طالب: يا أبا الحسن كلم الشمس
فإنها تكلمك.
فقال علي (عليه السلام): السلام عليك أيها العبد المطيع لله.
فقالت الشمس: وعليك السلام يا أمير المؤمنين وإمام المتقين وقائد الغر



(1) ما بين المعقوفتين سقط في نسخة الأصل.
(2) كذا في الأصل، والظاهر: محصته بشئ من البلاء لم أمحص.
(3) مناقب الخوارزمي: ص 303 ح 299.
294
المحجلين، يا علي أنت وشيعتك في الجنة، يا علي أول من ينشق عنه الأرض
محمد ثم أنت، وأول من يحيى محمد ثم أنت، وأول من يكسى محمد ثم أنت.
ثم انكب ساجدا وعيناه تذرفان بالدموع. فانكب عليه النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا
أخي وحبيبي ارفع رأسك فقد باهى الله بك أهل سبع سماوات.
وهذا الحديث في الكتاب الذي صنفه موفق بن أحمد المكي أخطب خطباء
خوارزم في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) (1).
ومن روايات الشيخ العالم أبي سعيد مسعود بن الناصر بن أبي زيد الحافظ
السجستاني في كتاب الولاية عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: أخبرنا أبو الحسين أحمد بن
محمد بن أحمد البزاز فيما جرى عليه من أصله ببغداد، قال: حدثنا القاضي أبو
عبد الله الحسين بن هارون بن محمد الضبي إملاء في سنة ثلاث وتسعين
وثلاثمائة، قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي الحافظ سنه
ثلاثين وثلاثمائة، وأخبرنا أبو الحسين محمد بن محمد بن علي الشروطي، قال:
أخبرنا أبو الحسن محمد بن عمر بن بهتة وأبو عبد الله الحسين بن هارون بن محمد
القاضي الضبي وأبو محمد عبد الله بن محمد بن الأكفاني القاضي، قالوا: أخبرنا
أحمد بن محمد بن سعيد، قال: حدثنا محمد بن الفضل بن إبراهيم الأشعري، قال:
حدثنا أبي، قال: حدثنا المثنى بن القاسم الحضرمي، عن هلال بن أبي أيوب
الصيرفي، عن أبي كبير الأنصاري، عن عبد الله أبي أسعد بن زرارة، عن أبيه، قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " من كنت مولاه فعلي مولاه " هذا آخر حديث البزاز (2).
وزاد الشروطي في رواياته: وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أوحي إلي في علي ثلاث:
أنه أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وقائد الغر المحجلين (3).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما عرف الله غير أنا وعلي، ولا عرفني غير الله وعلي،
ولا عرف عليا غير الله وأنا. صدق رسول الله (صلى الله عليه وآله) (4).



(1) مناقب الخوارزمي: ص 113 ح 123.
(2) اليقين: ص 28 الباب السابع والعشرون.
(3) اليقين: ص 28 الباب السابع والعشرون.
(4) روي صدر الحديث في بحار الأنوار: ج 40 ص 96 باب 91 قطعة من ح 116.
295
وقد روي أنه (عليه السلام) خوطب بإمرة المؤمنين على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) من مائة
وخمسين طريقا من طرق العامة وغيرهم، اختصرنا منه على هذه الطرق المذكورة
مخافة التطويل، فمن أراد الوقوف على ذلك فليقف عليه في كتاب الأنوار الباهرة
في انتصار العترة الطاهرة تصنيف السيد العلامة ذي المناقب والمناسب نقيب نقباء
الطالبين رضي الدين أبي القاسم علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن محمد بن
الطاوس العلوي الفاطمي أمتع الله المتقين ببهائه (1).
* * *
$ أمير المؤمنين (عليه السلام) / معجزاته
فصل
في معجزاته (عليه السلام)
من كتاب الأربعين الذي جمعه الشيخ العالم الصالح أبو عبد الله محمد بن
مسلم بن أبي الفوارس الرازي، وأصل هذه النسخة في الخزانة النظامية العتيقة،
فقال ما هذا لفظه:
الحديث الثالث والثلاثون: أحمد بن محمد بن محمود، قال: أخبرنا القاضي
شرف الدين الحسن بن أبي بكر النيشابوري ببغداد، قال: حدثنا الحسن بن أبي
الحسن العلوي، قال: حدثنا جبير بن الرجاء، عن عبد مسهر، عن سلمة بن
الأصهب، عن كيسان بن أبي عاصم، عن مرة بن سعد، عن أبي محمد بن جعديان،
عن القايدي أبي نصر بن منصور التستري، عن أبي عبد الله المهاطي، عن أبي
القاسم القواس، عن سليم النجار، عن حامد بن سعيد، عن خالص بن ثعلبة، عن
عبد الله بن خالد بن سعيد بن العاص، قال: كنت مع أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد خرج
من الكوفة إذ عبر بالصعيد الذي يقال له النخلة على فرسخين من الكوفة، فخرج
منها خمسون رجلا من اليهود وقالوا: أنت علي بن أبي طالب الإمام؟



(1) الأنوار الباهرة في انتصار العترة الطاهرة ذكره في كتاب اليقين: ص 6.
296
فقال: أنا ذاك.
فقالوا: لنا صخرة مذكورة في كتبنا عليها اسم ستة من الأنبياء، وهو ذا نطلب
الصخرة فلا نجدها، فإن كنت إماما وجدنا (1) الصخرة.
فقال علي (عليه السلام): اتبعوني.
قال عبد الله بن خالد: فسار القوم خلف أمير المؤمنين إلى أن استبطن بهم البر،
وإذا بجبل من رمل عظيم، فقال (عليه السلام): أيتها الريح أسفي الرمل عن الصخرة بحق
اسم الله الأعظم، فما كان إلا ساعة حتى نسفت الرمل وظهرت الصخرة. فقال
علي (عليه السلام): فهذه صخرتكم.
فقالوا: عليها اسم ستة من الأنبياء على ما سمعنا وقرأنا في كتبنا، ولسنا نرى
عليها الأسماء!
فقال (عليه السلام): الأسماء التي عليها هي على وجهها الذي على الأرض فاقلبوها،
فاعصوصبت عليها ألف رجل حضروا في هذا المكان فما قدروا على قلبها.
فقال (عليه السلام): تنحوا عنها، فمد يده إليها فقلبها، فوجدوا عليها اسم ستة أنبياء
أصحاب الشرائع: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم أفضل
الصلاة والسلام.
فقال النفر اليهود: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأنك
أمير المؤمنين وسيد الوصيين وحجة الله في أرضه، من عرفك سعد ونجا، ومن
خالفك ضل وغوى والى الجحيم هوى، جلت مناقبك عن التحديد وكثرت آثار
نعتك عن التعديد (2).
ومن الكتاب المذكور: الحديث الثامن والثلاثون: حدثني الصدر الإمام
الكبير العالم صدر الدين نظام الاسلام سلطان العلماء أبو بكر محمد بن عبد اللطيف



(1) كذا، والظاهر: أوجدنا.
(2) اليقين: ص 63 الباب السابع والثمانون نقلا عن كتاب الأربعين.
297
الخجندي (1) قدس الله روحه العزيزة بشيراز في مدرسة الخاتون الزاهدة، قال:
أخبرني الكيادار بن يوسف بن دار الديلمي في قلعة إصطخر، قال: حدثني الشيخ
الأديب محمود بن محمد التبريزي في تبريز، قال: أخبرنا الشيخ المقري دانيال بن
إبراهيم التبريزي، قال: أخبرنا أبو البركات بن أحمد البزاز الغندجاني، قال:
أخبرنا أبو عبد الله السيرافي، عن أبي عبد الله المهروقاي المؤدب، عن سيب بن
سليمان الغنوي، عن العاموت بن محمد الضبي، عن مسلم بن أحمد بن أبي مسلم
السمان، عن حبة بنت زريق من بعض حشم الحنفية، قالت: حدثني زوجي منقذ
بن الأبقع الأسدي أحد خواص علي (عليه السلام)، قال: كنت مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في
النصف من شعبان وهو يريد موضع له كان يأوي فيه بالليل وأنا معه حتى أتى
الموضع، فنزل عن بغلته، فرفعت أذنيها وجذبتني، فحس بذلك أمير المؤمنين (عليه السلام)
فقال: ما وراءك؟
فقلت: فداك أبي وأمي البغلة تنظر شيئا وقد شخصت إليه وتحمحم ولا أدري
ماذا دهاها.
فنظر أمير المؤمنين (عليه السلام) سوادا فقال: سبع ورب الكعبة. فقام من محرابه متقلدا
سيفه فجعل يخطو نحو السبع، ثم قال صائحا به: قف، فجف السبع ووقف، فعندها
استقرت البغلة، فقال أمير المؤمنين: يا ليث ما علمت أني الليث وأني الضرغام
والقسور والحيدر. ثم قال له: ما جاء بك أيها الليث. ثم قال: اللهم انطق لسانه.
فقال السبع: يا أمير المؤمنين ويا خير الوصيين ويا وارث علم النبيين ويا
مفرقا بين الحق والباطل ما افترست منذ سبع شيئا وقد أضر بي الجوع ورأيتكم
من مسافة فرسخين فدنوت منكم وقلت: اذهب وانظر ما هؤلاء القوم؟ ومن هم؟
فإن كان لي بهم مقدرة يكون لي فيهم فريسة.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) مجيبا له: أيها الليث أما علمت أني علي أبو الأشبال
الأحد عشر براثني أمثل من مخالبك، وإن أحببت أريتك. ثم امتد السبع بين يديه،



(1) في المصدر: الجحدني.
298
وجعل يمسح يده على هامته ويقول: ما جاء بك يا ليث أنت كلب الله في أرضه.
قال: يا أمير المؤمنين الجوع الجوع.
فقال: اللهم آته برزق بقدر محمد وأهل بيته.
قال: فالتفت وإذا بالأسد يأكل شيئا كهيئة الجمل حتى أتى عليه. ثم قال: والله
يا أمير المؤمنين ما نأكل نحن معاشر السباع رجلا يحبك ويحب عترتك فإن خالي
أكل فلانا ونحن أهل بيت ننتحل محبة الهاشمي وعترته.
ثم قال أمير المؤمنين: أيها السبع أين تأوي؟ وأين تكون؟
فقال: يا أمير المؤمنين اني مسلط على كلاب أهل الشام، وكذلك أهل بيتي،
وهم فريستنا، ونحن نأوي النيل.
قال: فما جاء بك إلى الكوفة؟
قال: يا أمير المؤمنين أتيت الحجاز فلم أصادف شيئا، وأنا في هذه البرية
والفيافي التي لا مأوى فيها ولا خير في موضعي هذا، وأني لمنصرف من ليلتي
هذه إلى رجل يقال له سنان بن وائل ممن أفلت من حرب صفين فنزل القادسية
وهو رزقي في ليلتي هذه، وأنه من أهل الشام، وأنا إليه متوجه. ثم قام بين يدي
أمير المؤمنين.
فقال لي: مما تعجبت؟ أهذا أعجب أم الشمس أم العين أم الكوكب أم سائر
ذلك؟ فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو أحببت أن أري الناس مما علمني رسول
الله (صلى الله عليه وآله) من الآيات والعجائب لكان يرجعون كفارا.
ثم رجع أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إلى مستقره ووجهني إلى القادسية قبل أن
يقيم المؤذن الإقامة، فسمعت الناس يقولون افترس سنان السبع، فأتيته فيمن أتاه
ننظر إليه، فما ترك الأسد إلا رأسه وبعض أعضائه مثل أطراف الأصابع، واني لعلى
بابه إذ حمل رأسه إلى الكوفة إلى أمير المؤمنين فبقي متعجبا.
فحدثت الناس ما كان من حديث أمير المؤمنين والسبع فجعل الناس يتبركون
بتراب تحت قدمي أمير المؤمنين (عليه السلام) ويستشفون به. فقام (عليه السلام) خطيبا فحمد الله

299
وأثنى عليه ثم قال: معاشر الناس ما أحبنا رجل فدخل النار، وما أبغضنا رجل
فدخل الجنة. وأنا قسيم الجنة والنار، هذه إلى الجنة يمينا، وهذه إلى النار شمالا،
أقول لجهنم يوم القيامة: هذا لي وهذا لك حتى تجوز شيعتي على الصراط كالبرق
الخاطف والرعد القاصف وكالطير المسرع وكالجواد السابق. فقام الناس اليه
بأجمعهم عنقا واحدا وهم يقولون: الحمد لله الذي فضلك على كثير من خلقه.
قال: ثم تلا أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه الآية: * (الذين قال لهم الناس إن الناس قد
جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل فانقلبوا بنعمة
من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم) * (1).
ومن كتاب الأربعين المذكور، وهو الحديث الرابع والثلاثون: أخبرنا الشيخ
الإمام مجاهد الدين أبو الفرج علي بن أحمد البغدادي بمدينة السلام، قال: أخبرنا
القاضي ركن الدين أبو الفضل بن محمد بن علي بدمشق، قال: أخبرنا أبو نصر بن
اسفنديار الحلبي، قال: حدثنا داود بن سليمان العسقلاني، قال: حدثنا محمد بن
الحسن الصفار، عن علي بن محمد بن جمهور، عن أبيه، عن جعفر بن بشير، عن
أبيه، عن موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) قال: إن أمير المؤمنين عليا (عليه السلام) كان يسعى
على الصفا بمكة، فإذا هو بدراج يدرج على وجه الأرض، فوقع بإزاء
أمير المؤمنين، فقال له: السلام عليك أيها الدراج.
فقال الدراج: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته يا أمير المؤمنين.
فقال له أمير المؤمنين: أيها الدراج ما تصنع في هذا المكان؟
فقال: يا أمير المؤمنين إني في هذا المكان منذ كذا وكذا عام أسبح الله تعالى
وأقدسه وأمجده وأعبده حق عبادته (2).
ومن كتاب الأربعين أيضا: رواية منتجب الدين محمد بن أبي مسلم بن أبي
الفوارس، قال: حدثني الشيخ الأجل الإمام العالم منتجب الدين مرشد الاسلام



(1) اليقين: ص 65 الباب الثامن والثلاثون نقلا عن كتاب الأربعين. الآية 173 - آل عمران.
(2) اليقين: ص 71 - 72 الباب الثاني والتسعون نقلا عن كتاب الأربعين.
300
جمال العلماء أبو جعفر محمد بن أبي مسلم بن أبي الفوارس الرازي رحمة الله
عليه بمدينة السلام في داره بدرب البصريين في منتصف ربيع الأول سنة إحدى
وثمانين وخمسمائة، قال: حدثنا الإمام الكبير السيد الأمير جمال الدين عز
الاسلام فخر العشيرة علم الهدى شرف آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبو محمد إبراهيم بن
علي بن محمد العلوي الحسيني الموسوي بكازرون في التاسع عشر من رجب
سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، قال: حدثنا الشيخ العارف شهريار بن تاج
الفارسي، قال: حدثني القاضي أبو القاسم أحمد بن طاهر الثوري، قال: حدثنا
شيخ الاسلام شرف العارفين أبو المختار الحسن بن عبد الوهاب، قال: حدثني أبو
النجيب علي بن محمد بن إبراهيم، عن الأشعث بن مرة، عن البتي بن (1) سعيد، عن
هلال بن كيسان، عن الطيب القواصري، عن عبد الله بن سلمة المنتجي، عن
سفارة بن الأصيمد البغدادي، عن ابن حريز، عن أبي الفتح المغازلي، عن عمار بن
ياسر، قال: كنت بين يدي مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) وإذا بصوت قد أخذ جامع
الكوفة، فقال لي: يا عمار ائت بذي الفقار الباتر الأعمار، فجئته بذي الفقار.
فقال: اخرج يا عمار وامنع الرجل عن ظلامة هذه المرأة فإن انتهى وإلا منعته
بذي الفقار.
قال عمار: فخرجت فإذا أنا برجل وامرأة قد تعلقا بزمام جمل والمرأة تقول
الجمل لي والرجل يقول الجمل لي، فقلت: إن أمير المؤمنين ينهاك عن ظلم هذه
المرأة.
فقال: يشتغل علي بشغله ويغسل يده من دماء المسلمين الذين قتلهم بالبصرة
ويريد أن يأخذ جملي ويدفعه إلى هذه المرأة الكاذبة.
فقال عمار (رضي الله عنه): فرجعت لأخبر مولاي وإذا به قد خرج وقد لاح الغضب في
وجهه وقال له: ويلك خل جمل المرأة.
فقال: هو لي.



(1) في " اليقين " للعلامة الحلي الليثي عن سعيد.
301
فقال: أمير المؤمنين: كذبت يا لعين.
قال: فمن يشهد أنه للمرأة يا علي؟
فقال: الشاهد الذي لا يكذبه أحد من أهل الكوفة.
فقال الرجل: إذا شهد شاهد وكان صادقا سلمته إلى المرأة.
فقال علي (عليه السلام): تكلم أيها الجمل لمن أنت؟
فقال بلسان فصيح: يا أمير المؤمنين وخير الوصيين أنا لهذه المرأة منذ بضع
عشرة سنة.
فقال علي (عليه السلام): خذي جملك، وعارض الرجل بضربة قسمه نصفين (1).
وقيل: قدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) حبر من أحبار اليهود، فقال: يا رسول الله إن
قومي أرسلوني إليك وقالوا إن نبيهم موسى بن عمران (عليه السلام) عهد إليهم أنه يبعث
بعده نبي من العرب، فإذا بعث فامضوا إليه وسلوه أن يخرج لكم من الجبل سبع
نوق سود الحدق حمراء الوبر، فإن أخرجها فآمنوا به واتبعوه وصدقوه.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله): الله أكبر الله أكبر قم بنا يا أخا اليهود، فخرج إلى ظاهر المدينة
وجاء إلى جبل فصلى عنده ركعتين وتكلم بكلام خفي فانصدع الجبل وسمعنا
حنين النوق.
فقال اليهودي: صبرا يا محمد حتى أمضي إلى قومي وأحضرهم ليقضوا
عدتهم ويؤمنوا بك. فمضى ولم يعد.
فلما قبض النبي (صلى الله عليه وآله) وجلس أبو بكر وصل اليهودي مع قومه، فدخلوا عليه
وطلبوا عدتهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقال لهم: عليكم بعلي (عليه السلام)، ونهض ومعه الصحابة
واليهود إلى أمير المؤمنين (عليه السلام). فلما نظر إليهم سار أمامهم قاصدا إلى الجبل فصلى
عنده ركعتين وتكلم بكلام خفي فانصدع الجبل وانشق وخرجت النوق السبعة،
فقال: دونكم يا جماعة اليهود عدتكم. فقالوا: نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا



(1) أوردها العلامة الحلي في اليقين: ص 72 الباب الثالث والتسعون وص 144 الباب الرابع
والأربعون بعد المائة، نقلا عن كتاب الأربعين.
302
شريك له وأن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأن ما جاء به هو الحق من عند ربنا
وأنك وصيه وخليفته وأحق بالأمر بعده. وعادوا إلى بلادهم مسلمين موحدين (1).
وقيل: إن الماء طغى في فرات الكوفة حتى أشفق أهل الكوفة من الغرق،
ففزعوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فركب بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخرج والناس معه
حتى أتى شاطئ الفرات، فنزل عليه فأسبغ الوضوء وصلى منفردا بنفسه والناس
يرونه، ثم دعا الله بدعوات سمعها أكثرهم، ثم تقدم نحو الفرات متوكئا على قضيب
بيده حتى ضرب به صفحة الماء وقال: انقص بإذن الله ومشيئته، فغاض الماء حتى
بدت الحيتان في قعر الفرات، فنطق كثير منها بالسلام عليك يا أمير المؤمنين ولم
ينطق منها أصناف من السمك وهي الجري والمارماهي والزمير، فتعجب الناس
لذلك وسألوه عن علة نطق ما نطق وصموت ما صمت. فقال: أنطق الله تعالى لي
منها ما طهر من السمك وأصمت عني ما حرمه ونجسه وبعده (2).
وذكر المفيد رحمه الله تعالى في كتاب الإرشاد أن هذا الخبر مشتهر بالنقل
والرواية كشهرة كلام الذئب للنبي (صلى الله عليه وآله) وتسبيح الحصى في كفه وحنين الجذع إليه
وإطعام الخلق الكثير من الطعام القليل وغير ذلك (3).
وقال المفيد رحمه الله تعالى في كتاب الإرشاد أنه روى حملة الآثار ورواة
الأخبار من حديث الثعبان والآية فيه والأعجوبة مثل ما رووه من حديث كلام
الحيتان ونقصان ماء الفرات، فرووا أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان ذات يوم يخطب
على منبر الكوفة إذ ظهر ثعبان من جانب المنبر فجعل يرقى حتى دنا من
أمير المؤمنين (عليه السلام)، فارتاع الناس لذلك وهموا بقصده ودفعه عن
أمير المؤمنين (عليه السلام)، فأومى إليهم بالكف عنه.
فلما صار على المرقاة التي عليها أمير المؤمنين (عليه السلام) قائم انحنى إلى الثعبان،



(1) بحار الأنوار: ج 41 ص 270 باب 112 ح 24.
(2) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 824 الباب السادس عشر ح 38، الإرشاد: ص 183.
(3) الإرشاد: ص 183 في تكلم الحيتان معه عليه السلام.
303
فتطاول الثعبان اليه حتى التقم اذنه، وسكت الناس وتحيروا لذلك، فنق نقيقا سمعه
كثير منهم، ثم إنه زال عن مكانه وأمير المؤمنين (عليه السلام) يحرك شفتيه والثعبان
كالمصغي إليه ثم انساب وكأن الأرض ابتلعته، وعاد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى خطبته
فتممها.
فلما فرغ منها ونزل اجتمع الناس إليه فسألوه عن حال الثعبان والأعجوبة
فيه، فقال لهم: ليس ذلك كما ظننتم وإنما هو حاكم من حكام الجن التبس عليه
قضية فصار إلي يستفهمني عنها فأفهمته إياها ودعا لي بخير وانصرف (1).
وربما استبعد كثير من الناس ظهور الجن في صور الحيوان، وذلك معروف
عند العرب قبل البعثة وبعدها. وقد أجمع اهل القبلة أن إبليس ظهر لأهل الندوة في
صورة شيخ نجدي وشاركهم في الرأي على المكر برسول الله (صلى الله عليه وآله) (2). وما ظهور
الجن في صور الحيوان بأبعد من هذا.
قيل: لما توجه أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى صفين لحق أصحابه عطش فأخذوا
يمينا وشمالا يلتمسون الماء فلم يجدوا له أثرا، فعدل بهم أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى
الجادة وسار قليلا فلاح لهم دير في صدر البرية، فسار بهم نحوه حتى إذا صار في
فنائه أمر من ينادي ساكنه بالإطلاع إليهم، فنادوه فأطلع عليهم، فقال له
أمير المؤمنين (عليه السلام): هل قرب قائمك هذا ماء يتغوث به هؤلاء القوم؟
فقال: هيهات بيني وبين الماء أكثر من فرسخين وما بالقرب مني شئ من
الماء، ولولا أنني أوتي بما يكفيني في كل شهر على التقتير لتلفت عطشا.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أسمعتم ما قال الراهب؟
قالوا: نعم فتأمرنا بالمسير إلى حيث أومى إليه لعلنا ندرك الماء وبنا قوة.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا حاجة لكم إلى ذلك، ولوى عنق بغلته نحو القبلة
وأشار إلى مكان بالقرب من الدير فقال لهم: اكشفوا الأرض في هذا المكان، فعدل



(1) الإرشاد: ص 183 - 184 في تكلم الحيتان معه عليه السلام.
(2) الإرشاد: ص 184.
304
جماعة منهم إلى الموضع فكشفوه بالمساحي فظهر لهم صخرة عظيمة تلمع، قالوا:
يا أمير المؤمنين هاهنا صخرة، لا تعمل فيها المساحي.
فقال لهم: إن هذه الصخرة على الماء فإن زالت عن موضعها وجدتم الماء
فاجتهدوا في قلبها. واجتمع القوم وراموا تحريكها فلم يجدوا إلى ذلك سبيلا.
واستصعبت عليهم، فلوى رجله عن سرجه حتى صار على الأرض ثم حسر عن
ذراعه ووضع أصابعه تحت جانب الصخرة فحركها ثم قلعها بيده ودحى بها أذرعا
كثيرة. فلما زالت عن مكانها ظهر لهم بياض الماء فبادروا إليه، وكان أعذب ماء
شربوا منه في سفرهم وأبرده وأصفاه.
فقال لهم: تزودوا وارتووا. ففعلوا. ثم جاء إلى الصخرة فتناولها بيده ووضعها
حيث كانت وأمر أن يعفى أثرها بالتراب، والراهب ينظر من فوق ديره، فلما
استوفى علم ما جرى نادى: يا معشر الناس أنزلوني. فاحتالوا في إنزاله، فوقف
بين يدي أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له: يا هذا أنت نبي مرسل؟ قال: لا. قال: فملك
مقرب؟ قال: لا. قال: فمن أنت: قال: أنا وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله) محمد بن عبد الله
خاتم النبيين. قال: ابسط يدك أسلم لله تعالى على يدك. فبسط أمير المؤمنين (عليه السلام)
يده وقال له: اشهد الشهادتين. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول
الله وأشهد أنك وصي رسول الله وأحق الناس من بعده بالأمر. فأخذ (عليه السلام) عليه
شرائط الاسلام.
ثم قال له: ما الذي دعاك الآن إلى الاسلام بعد طول مقامك على الخلاف في
هذا الدين (1)؟
قال: أخبرك يا أمير المؤمنين، هذا الدير بني على طلب قالع هذه الصخرة
ومخرج الماء من تحتها، وقد مضى عالم قبلي لم يدركوا ذلك، وقد رزقنيه الله
عز وجل.
* * *



(1) والعبارة في الارشاد هكذا: بعد طول مقامك في هذا الدير على الخلاف: ص 176 - 177.
305
فصل
في ذكر فضائله (عليه السلام)
حدث عن عطية بن أبي زيد الباهلي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) آخى بين المسلمين
ثم قال: يا علي أنت أخي، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي
بعدي. يا علي إن أول من يدعى يوم القيامة يدعى بي فأقوم عن يمين العرش في
ظله فأكسى حلة خضراء من حلل الجنة، ثم يدعى بالنبيين فيقومون سماطين عن
يمين العرش فيكسون حللا من حلل الجنة، وإني أخبرك يا علي ان أمتي أول
الأمم يحاسبون، وأول من يدعى بك (1) لقرابتك مني ومنزلتك عندي، ويدفع إليك
لوائي، وهو لواء الحمد، فتسير به بين السماطين، آدم وجميع خلق الله يستظلون
بظل لوائي يوم القيامة، طوله مسيرة ألف سنة، سنانه ياقوتة بيضاء، وزجه درة
خضراء، قصبته فضة بيضاء، له ثلاث ذوائب من نور مكتوب عليها ثلاثة أسطر،
الأول: بسم الله الرحمن الرحيم، الثاني: الحمد لله رب العالمين، والثالث: لا إله إلا
الله محمد رسول الله. فتسير باللواء والحسن عن يمينك والحسين عن شمالك حتى
تقف بين يدي إبراهيم (عليه السلام) في ظل العرش ثم تكسى حلة من الجنة، ثم ينادي مناد
من تحت العرش: نعم الأب أبوك إبراهيم، ونعم الأخ أخوك علي، إبشر يا علي إنك
تكسى إذا كسيت وتدعى إذا دعيت، وتحيى إذا حييت (2).
وحدث سعيد بن الحجاج، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد العلم فليأت الباب. ثم قال: يا
علي أنا المدينة وأنت الباب، كذب من زعم أنه يصل إلى المدينة إلا من الباب (3).
$ أمير المؤمنين (عليه السلام) / فضائله
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا كان يوم القيامة أمر



(1) كذا، وفي البحار: أنت أول من يدعى لقرابتك.
(2) بحار الأنوار: ج 38 ص 341 باب 68 ح 17.
(3) مناقب ابن المغازلي: ص 85 ح 106 بسند آخر.
306
الله عز وجل جبريل (عليه السلام) أن يجلس على باب الجنة فلا يدخلها إلا من معه براءة
من علي (عليه السلام) (1).
وحدث قيس بن حفص، عن عبيدة، عن ابن مسعود، قال: خرج رسول
الله (صلى الله عليه وآله) من منزل عائشة ويده في يد علي (عليه السلام) وهو يقول: معاشر الناس حبوا
عليا فإن لحمه من لحمي ودمه مختلط بدمي، ألا ويل لأقوام من أمتي يضيعون فيه
وصيتي، وينقضون فيه عهدي، ويقطعون فيه صلتي، لا أنالهم الله شفاعتي يوم
القيامة (2).
وحدث إسماعيل بن محمد، عن إبراهيم بن محمد، عن نافع، عن ابن عمر أنه
قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: علي بن أبي طالب صاحب لوائي، وأميني على
الحوض، ومعيني على مفاتيح خزائن الجنة يوم القيامة.
وحدث أبو الهندي عن أنس بن مالك أنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول:
خير من أخلف بعدي علي بن أبي طالب، إن الله عز وجل لما أنزل القرآن جعل
لعلي فيه حظا ونصيبا، فمن أحبه أحبه الله، ومن أبغضه أبغضه الله، ومن أحبني
وأحبه أسكنه الله الفردوس الأعلى، وجمع بينه وبين القرآن صباحا ومساء في
الجنة كهاتين، وأشار بإصبعيه.
وقيل: لما فتح النبي (صلى الله عليه وآله) مكة قال له العباس بن عبد المطلب: يا رسول الله
أليس أنا عمك وصنو أبيك؟
قال له: بلى فما حاجتك يا عم؟
قال: تعطيني مفتاح الكعبة.
فقال: هاك يا عم، فهبط جبريل (عليه السلام) وقال: إن الله عز وجل يقرؤك السلام
وقال لك: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) * فاستعاد المفتاح من
العباس وأعاده إلى شيبة. ودخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى الكعبة فإذا هو بصورة



(1) مناقب الخوارزمي: ص 319 - 320 ح 324.
(2) بحار الأنوار: ج 39 ص 265 باب 87 ح 38.
307
إبراهيم (عليه السلام) فقال: لا تعبدوا إلى الصورة والتماثيل فإن الله يبغضها ويبغض
صانعها، وجعل يحكها بطرف ردائه.
فلما خرج قال لشيبة: اغلق، ثم رفع رأسه فإذا هو بصنم على ظهر الكعبة فقال
لعلي (عليه السلام): يا علي كيف لي بهذا الصنم؟
فقال: يا رسول الله أنكب لك على أربع فارق على ظهري فتناوله.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله): يا علي لو جهدت أمتي من أولها إلى آخرها أن يحملوا
عضوا مني ما قدروا على ذلك، ولكن ادن مني يا علي.
قال: فدنوت منه فضرب بيده إلى ساقي فاقتلعني من الأرض وانتصب بي،
فإذا أنا على كتفيه، وقال: يا علي سم وخذه. فأخذت الصنم فضربت به الأرض،
فبقيت ثلاثا.
فقال النبي (عليه السلام): يا علي ما ترى وأنت على كتفي؟
قلت: خيرا فداك أبي وأمي يا رسول الله، لو أردت أن أمس السماء بيدي
لقدرت.
فقال: يا علي زادك الله شرفا، ثم انحسر؟ (صلى الله عليه وآله) من تحتي، فوقعت على
الأرض، فضحكت، فقال لي: ما يضحكك يا علي؟
قلت: فداك أبي وأمي يا رسول الله وقعت من أعلى الكعبة إلى الأرض فلم آلم.
فقال: يا علي كيف تألم وقد حملك محمد وأنزلك جبريل (1).
وقال جابر بن عبد الله: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله جعل ذرية كل نبي من
صلبه، وأن الله جعل ذرية محمد من صلب علي بن أبي طالب (2).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أتاني جبريل (عليه السلام)
بدرنوك (3) من الجنة فجلست عليه، فلما صرت بين يدي ربي علمني وناجاني،



(1) بحار الأنوار: ج 38 ص 86 باب 60 ح 6 ولم يرو صدر الحديث.
(2) مناقب المغازلي: ص 49 ح 72.
(3) الدرنوك: ستر له خمل وجمعه درانك: النهاية الأثيرية: ج 1 ص 115.
308
فما علمني شيئا إلا علمته علي بن أبي طالب، فهو باب مدينة علمي. ثم دعاه إليه
وقال له: يا علي سلمك سلمي، وحربك حربي، وأنت العالم العلم فيما بيني وبين
أمتي بعدي (1).
وقال أنس بن مالك: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوما لأبي بكر وعمر: أمضيا إلى
علي بن أبي طالب حتى يحدثكما ما كان منه في ليلته. وجاء النبي (عليه السلام) على أثرنا.
قال أنس: فمضيا ومضيت معهما، فاستأذنا على علي (عليه السلام)، فخرج إليهما،
فقال: يا أبا بكر حدث شئ؟
قال: لا، بل قال لنا النبي (صلى الله عليه وآله) أمضيا إلى علي حتى يحدثكما ما كان منه في
ليلته. وجاء النبي (عليه السلام) فقال: يا علي حدثهما ما كان منك في ليلتك.
فقال: استحي يا رسول الله.
فقال: حدثهما ان الله لا يستحي من الحق.
فقال علي (عليه السلام): أردت الماء للطهارة فأصبحت وخفت أن تفوتني الصلاة،
فوجهت الحسن في طريق والحسين في طريق في طلب الماء، فأبطيا علي،
فأحزنني ذلك، فرأيت السقف وقد انشق ونزل علي منه سطل مغطى بمنديل، فلما
صار في الأرض نحيت المنديل عنه وإذا فيه ماء، فتطهرت للصلاة واغتسلت
وصليت، ثم ارتفع السطل والمنديل، والتأم السقف.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): أما السطل فمن الجنة، والماء من نهر الكوثر،
والمنديل فمن استبرق الجنة، من مثلك يا علي في ليلته وجبريل (عليه السلام) يخدمه (2).
وقال أنس بن مالك: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن علي بن أبي طالب يضئ في
الجنة لأهل الجنة كما يظهر كوكب الصبح لأهل الدنيا (3).
وحدث عكرمة عن ابن عباس (رضي الله عنه) أنه قال: أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيد علي بن
أبي طالب (عليه السلام) وصلى أربع ركعات ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم سألك



(1) مناقب المغازلي: ص 50 ح 73.
(2) مناقب ابن المغازلي: ص 94 ح 139.
(3) بحار الأنوار: ج 40 ص 76 باب 91 ح 113.
309
موسى بن عمران بأن تشرح له صدره وتيسر له أمره وتحلل عقدة من لسانه وأن
تجعل له وزيرا من أهله، وأن محمدا يسألك بأن تشرح لي صدري وتيسر لي
أمري وتحلل عقدة من لساني ليفقه قولي واجعل لي وزيرا من أهلي عليا اشدد به
أزري وأشركه في أمري.
قال ابن عباس: فسمعت مناديا ينادي: يا أحمد قد أوتيت ما سألت. فقال
النبي (صلى الله عليه وآله): يا أبا الحسن ارفع يديك إلى السماء وادع ربك وسل يعطك. فرفع يده
إلى السماء وقال: اللهم اجعل لي عندك عهدا، واجعل لي عندك ودا. فأنزل الله
تعالى على نبيه (صلى الله عليه وآله): * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن
ودا) * (1) فتلاها النبي (صلى الله عليه وآله) على أصحابه فتعجبوا من ذلك. فقال النبي (صلى الله عليه وآله): ممن
تتعجبون! إن القرآن أربعة أرباع: ربع فينا أهل البيت خاصة، وربع حلال وحرام،
وربع قصص، وربع فرائض وأحكام، وقد أنزل الله تعالى في علي كرائم القرآن (2).
وحدث سعيد بن جبير، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كنا مع
رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومعنا علي بن أبي طالب (عليه السلام) إذ جاء أعرابي فقال: يا رسول الله
سمعتك تقول: * (واعتصموا بحبل الله) * [من] الذي يعتصم به؟ فضرب النبي (صلى الله عليه وآله)
يده على يد علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقال: بهذا تمسكوا (3).
وقال علي بن حوشب، عن مكحول أنه قال: لما نزلت هذه الآية: * (وتعيها
اذن واعية) * (4) قال النبي (صلى الله عليه وآله): اللهم اجعلها اذن علي. قال أمير المؤمنين (عليه السلام): فما
سمعت باذني شيئا فنسيته قط (5).
وقال الأشج أبو عمرو عثمان: سمعت علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول: لما نزلت
* (وتعيها اذن واعية) * قال لي النبي (صلى الله عليه وآله): جعلها الله اذنك يا علي (6).



(1) مريم: 96.
(2) بحار الأنوار: ج 35 ص 355 باب 14 ح 6.
(3) قريب منه ما رواه النعماني في كتاب الغيبة: الباب الثاني ص 42.
(4) الحاقة: 12.
(5) بحار الأنوار: ج 35 ص 329 باب 11 ح 8.
(6) بحار الأنوار: ج 35 ص 326 باب 11 ح 2 وص 327 ح 4 بأسانيد أخرى.
310
وقال مجاهد عن ابن عباس (رضي الله عنه) في قوله عز وجل: * (والسابقون
السابقون) * (1) قال: سبق يوشع بن نون إلى موسى (عليهما السلام)، وسبق شمعون الصفا إلى
عيسى بن مريم (عليهما السلام)، وسبق علي بن أبي طالب إلى محمد صلى الله عليهما (2).
حدث الشيخ الواعظ أبو المجدين رشادة، قال: حدثني شيخي الإمام الغزالي
رحمة الله عليه، قال: لما انتهى إلى النجاشي ملك الحبشة خبر النبي (صلى الله عليه وآله) قال
لأصحابه: إني مختبر هذا الرجل بهدايا أرسلها إليه. فأعد له تحفا فيها فصوص
ياقوت وفصوص عقيق، فلما وصلت الهدايا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) قسمها على
أصحابه ولم يأخذ لنفسه سوى فص عقيق أحمر وأعطاه لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)،
وقال له: يا علي امض فاكتب لي عليه ما أحب سطرا واحدا: لا إله إلا الله. فمضى
أمير المؤمنين (عليه السلام) وأعطاه للنقاش وقال له: اكتب عليه ما يحب رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا
إله إلا الله، وما أحب أنا: محمد رسول الله سطرين. فلما جاء بالفص إلى النبي (صلى الله عليه وآله)
وجده عليه ثلاث أسطر. فقال: يا علي أمرتك أن تكتب عليه سطرا واحدا كتبت
عليه ثلاثة أسطر! فقال: وحقك يا رسول الله ما أمرته أن يكتب عليه إلا ما أحببت:
لا إله إلا الله، وما أحببت أنا: محمد رسول الله سطرين. فهبط جبرئيل (عليه السلام) وقال: يا
محمد رب العزة يقرئ عليك السلام ويقول لك: أنت أمرت عليا أن يكتب ما
تحب، وعلي كتب ما يحب، وأنا كتبت ما أحب: علي ولي الله (3).
حدث الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أحب أن يتمسك بالقضيب الياقوت الأحمر الذي غرسه الله
عز وجل في جنة عدن فليتمسك بحب علي بن أبي طالب (4).
وقال محمد بن إسحاق: حدثنا عبد الرحمن بن سهل، عن أبي خيثمة، عن أبيه
أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا كان يوم القيامة ضرب الله تعالى لي عن يمين



(1) الواقعة: 10.
(2) بحار الأنوار: ج 35 ص 333 باب 12 ح 5.
(3) قريب منه ما رواه المجلسي في بحار الأنوار: ج 40 ص 37 باب 91 ح 72.
(4) كشف الغمة: ج 1 ص 90 - 91 مع اختلاف يسير.
311
العرش قبة من ذهب حمراء، وضرب لإبراهيم (عليه السلام) قبة من ذهب، وضرب لعلي بن
أبي طالب قبة من زبرجد خضراء، فما ظنك بحبيب بين خليلين (1)؟
وحدث عدي بن ثابت قال: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) من المسجد وقال: إن الله
عز وجل أوحى إلى نبيه موسى (عليه السلام) أن ابن لي مسجدا طاهرا لا يسكنه إلا موسى
وهارون، وإن الله قد أوحى إلي أن أبني مسجدا طاهرا لا يسكنه إلا أنا وعلي وابنا
علي (عليهما السلام) (2) وسد أبواب الصحابة التي كانت إلى المسجد وترك باب علي (عليه السلام).
وحدث جعفر بن محمد، عن أبيه: عن نافع مولى ابن عمر قال: قلت لابن
عمر: من خير الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقال: ما أنت وذاك لا أم لك. ثم قال:
أستغفر الله خيرهم بعده من كان يحل له ما كان يحل له ويحرم عليه ما يحرم عليه.
قلت: من هو؟ قال: علي بن أبي طالب، سد باب الصحابة وترك بابه، وقال له: لك
في هذا المسجد ما لي وعليك فيه ما علي، وأنت وارثي ووصيي، تقضي ديني،
وتنجز عدتي، وتقتل على سنتي، كذب من زعم أنه يبغضك يا علي ويحبني (3).
وقال عبد الكريم، عن سعيد بن جبير: عن ابن عباس قال: جاع رسول
الله (صلى الله عليه وآله) جوعا شديدا فأتى الكعبة فأخذها بأشطرها وقال: اللهم لا تجع محمدا
أكثر مما أجعته قال: فهبط جبريل (عليه السلام) ومعه لوزة، فقال له: إن الله تعالى يقرئ
عليك السلام ويقول لك: فك عنها، وإذا فيها ورقة خضراء مكتوب فيها: لا إله إلا
الله محمد رسول الله أيدته بعلي ونصرته به، ما أنصف من نفسه من اتهمه في قضائه
واستبطأه في رزقه (4).
وحدث سعيد بن طهمان القفرائي، قال: سمعت أبا معاوية هشيما يقول:



(1) مناقب ابن المغازلي: ص 220 ح 266.
(2) مناقب ابن المغازلي: ص 252 ح 301، ص 299، ح 343.
(3) بحار الأنوار: ج 39 ص 33 باب 72 ح 12.
(4) مناقب ابن المغازلي: ص 201 ح 240، ميزان الاعتدال: ج 3 ص 549 رقم 7533، ينابيع
المودة: ج 1 ص 136 الباب السادس والأربعون.
312
أدركت خطباء أهل الشام بواسط في زمن بني أمية، وكان إذا مات لهم ملك
وقام مقامه آخر قام خطيبهم فذكر القائم فيهم ثم ذكر علي بن أبي طالب فسبه،
فحضرت يوما في المسجد الجامع وقد قام خطيبهم فحمد الله وذكر القائم فيهم
وذكر طاعتهم له وذكر علي بن أبي طالب (عليه السلام) فسبه، فدخل ثور من باب المسجد
فشق الصفوف حتى صعد المنبر فوضع قرنيه في صدر الخطيب وألزقه بالحائط
وعصره فقتله، ثم نزل فشق راجعا شقا وخرج لا يهيج أحدا، فتبعوه إلى دجلة،
فنزلها وعبر، فنزلوا في السفن وعبروا خلفه ليعاينوه أين يمضي، فصعد من الماء
وفقدوه (1).
وقال حريث، عن داود بن الشليلي، عن أنس بن مالك أنه قال: قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله): يدخل من أمتي سبعون ألفا لا حساب عليهم، ثم التفت إلى علي بن أبي
طالب (عليه السلام) فقال له: هم من شيعتك وأنت إمامهم (2).
وحدث عبد الكريم، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن عباس رضي الله
عنهما أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ليلة عرج بي إلى ربي عز وجل وصرت إلى
السماء الرابعة رأيت فيها قبة مجوفة من لؤلؤة بيضاء يرى باطنها من ظاهرها
وظاهرها من باطنها، ذات شرف، بين كل شرفتين مكتوب: لا إله إلا الله محمد
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فدنوت من القبة فرأيت فيها سريرا من نور مرصعا بأنواع
الجواهر، وإذا علي بن أبي طالب على ذلك السرير، فقلت: يا جبرائيل هذا علي قد
سبقني! قال: لا، هذا ملك خلقه الله تعالى على صورة علي (عليه السلام)، فإذا اشتاقت
الملائكة إلى علي (عليه السلام) نظرت إلى هذا الملك، فوالذي بعثك بالحق لو اجتمع أهل
الأرض على محبته كما اجتمع أهل السماء لما عذب الله تعالى أحدهم بالنار.
وقيل: لما بلغ الحارث بن النعمان الفهري قيام النبي (صلى الله عليه وآله) بغدير خم وأخذه بيد
علي (عليه السلام) وقوله فيه: " من كنت مولاه فعلي مولاه " أتى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو في



(1) مناقب ابن المغازلي: ص 391 ح 445.
(2) مناقب ابن المغازلي: ص 293 ح 335 وفيه " داود بن سليك " بدل " داود بن الشليلي ".
313
ملأ من أصحابه فقال: يا رسول الله أمرتنا عن الله تعالى بأن نشهد أن لا إله إلا الله
وأنك محمد رسول الله فقبلنا، وأمرتنا بالحج فقبلنا، ثم لم ترض حتى رفعت بضبع
ابن عمك ففضلته علينا وقلت " من كنت مولاه فعلي مولاه " فهذا شئ منك أو من
الله عز وجل؟
فقال (صلى الله عليه وآله): والذي لا إله غيره أنه أمر من الله تعالى. فولى الحارث يريد
راحلته وهو يقول: * (إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من
السماء أو ائتنا بعذاب أليم) *، فلما ركب راحلته وخرج إلى ظاهر المدينة رماه الله
بحجر من السماء فسقط على هامته فخرج من دبره، فوقع يفحص الأرض برجله.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله) لجماعة من الصحابة: اخرجوا انظروا إلى الحارث ما صنع الله
به. فخرجوا إليه فوجدوه مطروحا يفحص الأرض برجله، فقال واحد من الجماعة
وقد رأى ضبا: والله لولاية هذا الضب علينا أجود من ولاية علي بن أبي طالب، ثم
رجعوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخبروه خبر الحارث. فقال لهم: إنه يأتي يوم القيامة
قوم وإمامهم ضب (1).
حدث أبو عمر عمر بن عبد الله بن شوذب، قال: حدثنا محمد بن أحمد
العسكري الدقاق، قال: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا عبادة،
قال: حدث عمر بن ثابت، عن محمد بن السائب، عن أبي صالح، عن ابن عباس
أنه قال: كان علي بن أبي طالب (عليه السلام) راكعا فجاءه مسكين فأعطاه خاتمه، فقال له
رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أعطاك هذا الخاتم؟ فقال له: أعطاني هذا الراكع. فأنزلت هذه
الآية: * (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة
وهم راكعون) * في علي بن أبي طالب (عليه السلام) (2).
وحدث يحيى بن كثير، عن أبي عوانة، عن أبي الجارود، عن زيد بن علي بن
الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنه قال: أمرني



(1) انظر موسوعة الغدير: ج 1 ص 239 - 246 ح 1 - 24 رواه بطرق مختلفة وهي قريبة مما
ذكر في المتن.
(2) مناقب ابن المغازلي: ص 313 ح 357.
314
رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، فقال زيد: وأيم الله لو أمره
بقتال الرابعة لقاتلها (1).
وقال أبو علي بن هاشم، عن عبد الله بن عمران أنه قال: لما اتصل
بأمير المؤمنين (عليه السلام) أن الناس قالوا ماله لم ينازع أبا بكر وعمر وعثمان كما كان
نازع طلحة والزبير وعائشة، فخرج مغضبا ثم نادى الصلاة جامعة، فلما اجتمع
الناس قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وذكر النبي فصلى عليه وآله، ثم قال:
معاشر الناس بلغني عن قوم أنهم قالوا ما له لم ينازع أبا بكر وعمر وعثمان كما
نازع طلحة والزبير وعائشة؟ اعلموا أن لي في سبعة من أنبياء الله عز وجل أسوة:
أولهم: نوح (عليه السلام) حيث قال: * (ربي اني مغلوب فانتصر) * (2) فإن قلتم انه ما كان
مغلوبا فقد كذبتم القرآن، وإن كان ذلك كذلك فعلي أعذر.
والثاني: إبراهيم (عليه السلام) حيث قال: * (وأعتزلكم وما تدعون من دون الله) * (3) فإن
قلتم إنه اعتزلهم من غير مكروه فقد كذبتم القرآن، وإن قلتم بل رأى المكروه منهم
فعلي أعذر.
والثالث: لوط (عليه السلام) حيث قال لقومه: * (لو كان لي بكم قوة أو آوي إلى ركن
شديد) * (4) فإن قلتم قد كانت له قوة فقد كذبتم القرآن، وإن قلتم لم يكن له بهم قوة
فاعتزلهم فعلي أعذر.
والرابع: يوسف (عليه السلام) حيث قال: * (رب السجن أحب إلي مما يدعونني
إليه) * (5) فإن قلتم إنه دعي من غير مكروه يسخط الله فقد كذبتم القرآن [وإن قلتم
أنه دعي إلى مكروه يسخط الله] فعلي أعذر.
والخامس: موسى بن عمران (عليه السلام) حيث يقول: * (ففررت منكم لما خفتكم



(1) لم نعثر عليه في مظانه ومذكور بالمعنى، راجع مناقب الخوارزمي: ص 189 - 194.
(2) القمر: 10. الآية هكذا، فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر.
(3) مريم: 48.
(4) هود: 113.
(5) يوسف: 33.
315
فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين) * (1) فإن قلتم إنه فر منهم من غير
خوف على نفسه فقد كذبتم القرآن، وإن قلتم إنه فر منهم خوفا فعلي أعذر.
والسادس: هارون (عليه السلام) حيث قال: * (يا بن أم إن القوم استضعفوني وكادوا
يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء) * (2) فإن قلتم إنه لم يستضعفوه ولم يشرفوا على
قتله فقد كذبتم القرآن، وإن قلتم بل استضعفوه وأشرفوا على قتله فعلي أعذر.
والسابع: محمد (صلى الله عليه وآله) حيث هرب إلى الغار، بل إن قلتم إنه هرب من غير خوف
أخافوه به فقد كذبتم القرآن، وإن قلتم بل أخافوه فلم يسعه إلا الهرب فعلي أعذر.
فقال الناس بأجمعهم: صدق أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذا هو الحق، والعذر واضح.
حدث القاضي الأمير أبو عبد الله محمد بن علي الجلابي المغازلي بواسط سنة
أربعين وخمسمائة، قال: حدثني أبي، قال: أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن
الحسن بن يعقوب الدياس، قال: حدثنا علي بن محمد بن مخلد، قال: حدثنا
جعفر بن حفص، قال: حدثنا سوادة بن محمد، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، عن
محمد بن مسلم الأنطاعي، قال: حدثنا محمد بن يحيى الأنصاري، عن عمه
حارثة بن زيد أنه قال: شهدت مع عمر بن الخطاب حجته في خلافته فسمعته
يقول: اللهم قد عرفت محبتي لنبيك وكنت تطلعه من سرك (3) ما صدقناه عنك، اللهم
فحببني إلى وصيه وصاحب سره. فلما رآني أمسك، وحفظت الكلام منه.
فلما انقضى الحج وانصرفنا إلى المدينة تعمدت الخلوة به، فرأيته يوما على
راحلته يسير وحده، فقلت له: يا أمير المؤمنين بالذي هو إليك أقرب من حبل
الوريد إلا أخبرتني عما أريد أن أسألك عنه.
فقال: سل عما شئت.
فقلت له: سمعتك تقول كذا وتقول كذا، فكأنما فت في وجهه الرمان.
فقلت له: لا تغضب فوالذي استنقذني من الجهالة وأدخلني في الاسلام ما



(1) الشعراء: 21.
(2) الأعراف: 150.
(3) كذا، في البحار: اللهم قد تعلم جيئتي لبيتك وكنت مطلعا من سترك.
316
أردت بما سألتك عنه إلا الله وحده لا شريك له.
فضحك وقال: يا حارثة دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد اشتد وجعه فأحببت
الخلوة به، وكان عنده العباس، فجلست حتى نهض وتبين لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ما
أردت، فالتفت إلي وقال: يا عمر أردت أن تسألني لمن يصير هذا الأمر بعدي.
قلت: نعم يا رسول الله. فقال: هذا وصيي من بعدي، وهو خليفتي وكاتم سري، من
أطاعه فقد أطاعني ومن عصاه فقد عصاني، ومن عصاني فقد عصى الله عز وجل،
ألا ومبغضه مبغضي، ومبغضي مبغض الله، يا علي والى الله من والاك وخذل من
يخذلك. ثم علا بكاؤه، فانهملت عبرته، فجعلت آخذها بيدي وهي تنهدر على
لحيته وعلى خده (عليه السلام) وأنا أمسح بيدي وجهه، ثم التفت إلي (صلى الله عليه وآله) وقال: يا عمر إذا
نكث الناكثون وقسط القاسطون ومرق المارقون قام هذا مقامي حتى يفتح الله
عليه وهو خير الفاتحين.
قال حارثة: فتعاظمني ذلك، فقلت: يا عمر فقد فقدتموه وقد سمعت هذا من
رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فقال: يا حارثة بأمر كان ذلك.
قلت: بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو بأمر علي (عليه السلام)؟
قال: بأمر علي (1).
حدث الأعمش، عن عتابة الأسدي أنه قال: كان عبد الله بن عباس رضي الله
عنهما جالسا بمكة يحدث الناس على شفير زمزم، فلما انقضى حديثه نهض إليه
رجل فسلم عليه وقال: يا بن عباس إني رجل من أهل الشام.
فقال ابن عباس: أعوان كل ظالم إلا من عصم الله منهم، سل عما بدا لك.
قال: يا بن عباس أسألك عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقتله أهل لا إله إلا الله.
قال له ابن عباس: ثكلتك أمك سل عما يعنيك ودع ما لا يعنيك.



(1) بحار الأنوار: ج 40 ص 121 باب 92 ح 11.
317
فقال الرجل: يا عبد الله ما جئت أضرب إليك من حمص لحجة ولا لعمرة
ولكن جئت لتشرح لي أمر علي بن أبي طالب.
فقال له: ويحك ان علم العالم صعب لا يحتمل ولا تقربه القلوب، أخبرك أن
علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان في هذه الأمة كمثل موسى (عليه السلام) والعالم، وذاك أن الله
عز وجل قال في كتابه لموسى (عليه السلام): * (إني اصطفيتك على الناس برسالاتي
وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين) * وقال عز وجل: * (وكتبنا له في
الألواح من كل شئ موعظة وتفصيلا لكل شئ) * فكان موسى (عليه السلام) يرى أن قد
جمعت له الأشياء، فلما انتهى موسى إلى شاطئ البحر لقي العالم فاستنطقه، فأقر
له بفضل علمه ولم يحسده كما حسدتم أنتم عليا (عليه السلام). فقال له موسى ورغب إليه:
* (هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا) * فعلم العالم أن موسى لا يطيق
صحبته ولا يصبر على علمه، فقال له * (انك لن تستطيع معي صبرا، وكيف تصبر
على ما لم تحط به خبرا) * قال له موسى (عليه السلام) واعتذر إليه: * (ستجدني إن شاء الله
صابرا ولا أعصي لك أمرا) * فعلم العالم أن موسى لا يستطيع ولا يصبر على
علمه، فقال له: * (فإن اتبعتني فلا تسألني عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا) *
فركبا السفينة فخرقها العالم، وكان خرقها لله رضى، وأسخط ذلك موسى، ووكز
الغلام فقتله، وكان قتله لله رضى، وأسخط ذلك موسى، وأقام الجدار، وكانت
إقامته لله رضى، وأسخط ذلك موسى، ولم يقتل علي (عليه السلام) إلا من كان قتله لله رضى
وعند الناس من الجهال خطأ.
ثم قال له: اجلس حتى أخبرك بالذي سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله) تزوج
النبي (عليه السلام) زينب بنت جحش وأولم، وكان يدعو الناس عشرة عشرة من المؤمنين،
وكانوا إذا أصابوا من الطعام استأنسوا إلى حديث النبي (عليه السلام) واشتهوا النظر إلى
وجهه، وكان النبي (عليه السلام) يشتهي أن يخففوا ليخلو منزله لأنه كان قريب عهد بعرس،
وكان يحب زينب ويكره أذى المسلمين، فأنزل الله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا لا
تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم

318
فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي
فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق) * فكان الناس إذا أصابوا من طعام
النبي (صلى الله عليه وآله) صدروا عنه ولم يلبثوا أن يخرجوا، فمكث النبي (صلى الله عليه وآله) عند زينب سبعة
أيام بلياليها، ثم تحول إلى أم سلمة رضي الله عنها بنت أبي أمية، وكانت ليلتها
وصبيحتها من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلما تعالى النهار جاء علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى
الباب فدقه، فأنكرته أم سلمة، فقال لها النبي (صلى الله عليه وآله): يا أم سلمة قومي فافتحي الباب.
فقالت: يا رسول الله من هذا الذي قد بلغ من جده إلى أن ينظر إلي فقال لها
النبي (صلى الله عليه وآله) وهو كهيئة المغضب: قومي وافتحي الباب فإن على الباب رجلا ليس
بالنزق ولا بالعجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يا أم سلمة إنه آخذ
بعضادتي الباب ولا يدخل حتى يختفي عليه الوطأ. فقامت أم سلمة وهي لا تدري
من بالباب إلا أنها قد حفظت النعت والمدح فمشيت نحو الباب وهي تقول: بخ بخ
لرجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، وفتحت الباب فلم يدخل حتى
رجعت إلى خدرها، ففتح الباب ودخل، فسلم على رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقال النبي: يا
أم سلمة أتعرفينه؟ قالت: نعم هنيئا له هذا علي بن أبي طالب. قال: نعم لحمه من
لحمي، ودمه من دمي، وهو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي. يا أم
سلمة اسمعي واشهدي هذا علي أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وعيبة علمي،
ونائبي الذي ما أحد أولى منه، وخليفتي من بعدي، وقريني في الآخرة، ومعيني
في السنام الأعلى، اشهدي يا أم سلمة أنه يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.
فقال الرجل: فرجت عني يا بن عباس أشهد أن علي بن أبي طالب مولاي
ومولى كل مؤمن ومؤمنة ومسلم ومسلمة، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه (1).
قال أبو بكر: خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: أيها الناس إن الاسلام ستقطع عراة
فلا يبقى منه إلا عروة واحدة كتاب الله المنزل وعترة نبيه المرسل، ألا وإنه
لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأن هذه أيام أكل وشرب وذكر الله.



(1) اليقين: ص 105 - 108 الباب الخامس والعشرون بعد المائة.
319
فقام إليه أبو ذر الغفاري (رضي الله عنه) فقال: يا رسول الله وما الإيمان؟
فقال (صلى الله عليه وآله): الإيمان عريان لباسه التقوى، وزينته الحياء، ورأس ماله العفة،
وعموده العمل الصالح، ألا وإن للأشياء أساسا وأساس الاسلام أهل بيتي، ألا
أدلكم على أمر إن تمسكتم به لم تضلوا بعدي؟
فقالوا: بلى يا رسول الله صلى الله عليك.
قال: فأخذ بيدي علي (عليه السلام) وقال: هذا أخي، وهو صاحبي، والمؤدي عني
ديني، وأكرم من أتركه بعدي، فأحبوه لحبي وأكرموه لكرامتي، فان جبرائيل
أمرني بما أمرتكم به.
وقال عمار بن ياسر (رضي الله عنه): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من آمن بي وصدقني
فليتمسك بولاية علي بن أبي طالب (1)، ومن تولاه فقد تولاني، ومن أحبه فقد
أحبني، ومن أبغضه فقد أبغضني، ومن أبغضني فقد أبغض الله، ومن أبغض الله فقد
ادخل النار (2).
وذكر صاحب كتاب الأجواد (3): أن الليلة التي بات فيها علي بن أبي
طالب (عليه السلام) على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله) أوحى الله عز وجل إلى جبرائيل
وميكائيل (عليهما السلام): إني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر
فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كلاهما الحياة وأحباها. فأوحى الله تعالى
إليهما: أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين محمد نبيي فبات على
فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة، إهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه. فكان
جبرائيل عند رأسه وميكائيل عند رجليه، وجبرائيل ينادي: بخ بخ من مثلك يا بن



(1) في الأصل زيادة: فقد تولاه.
(2) بحار الأنوار: ج 38 ص 139 باب 61 ح 100.
(3) " كتاب الأجواد " لابي عبد الله محمد بن زكريا بن دينار البصري الغلابي مولى بني غلاب
قبيلة بالبصرة إمام اهل السير والتاريخ بها وكان أخباريا واسع العلم توفي بها سنة 398 ذكره
النجاشي. الذريعة ج 1 ص 275.
320
أبي طالب يباهي الله عز وجل بك الملائكة، فأنزل الله تعالى: * (ومن الناس من
يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد) * (1).
وقال صالح بن ميثم، عن زاذان بن سلمان الفارسي (رضي الله عنه) أنه قال: كنا جلوسا
عند النبي (صلى الله عليه وآله) في مسجده بعد قدومه من حجة الوداع، إذ جاءه أعرابي فحياه
بتحية الاسلام، ثم قال: وأيم الله لقد آمنا بك يا رسول الله قبل أن نلقاك، واتبعناك
قبل أن نراك، جاءتنا رسلك فدعتنا إلى أن نعبد الله وحده ونذر ما ألفينا عليه آباءنا
من عبادة أوثانها وطواغيتها، فعرفنا حق ذلك فآمنا، وأمرتنا عنك بالصلاة فصلينا،
وبالزكاة فزكينا، وبالصيام فصمنا، واستنهضتنا إلى جهاد من يلينا من قومنا فسمعنا
وأطعنا، ثم نبأتنا أن الله كتب علينا الحج إلى بيته الحرام، فأردت أن أقبل إليك مع
من أقبل إليك من قومي فمرضت فلم أستطع مسيرا، فلما ذهب عني ما كنت أجد
أقبلت إليك فتوجه معي من شهد المنسك معك، فنبئني بأبي أنت وأمي من الحج
هل هو في كل عام أم نقطع بحجتك هذه يا نبي الله؟
قال: بل هو قائم أجرها في كل عام.
قال: فهل كتب على الناس ذلك أم تجزيهم حجة واحدة؟
قال: الله أرحم بخلقه في ذلك، لا بل تجزيهم حجة واحدة.
قال: فأنا منطلق لوجهي هذا فحاج إلى بيت الله الحرام.
قال له: لا بل أقم ببلاد قومك أو حيث شئت من بلاد الله حتى تأتي أشهر
الحج، فإذا جاءت فسر حتى تشهد الإفاضتين من عرفة ومزدلفة في شهر ذي
الحجة، فأن الله جعل للحج ميقاتا.
قال: فإذا دنا الشهر فإني قادم فمطلعك يا نبي الله على ما أحدثه في حجتي
فإني امرؤ نسي.
فقال (صلى الله عليه وآله): كيف قد نعيت إلي نفسي وأوحي إلي اني غير لابث في الناس



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 2 ص 65.
321
إلا قليلا، فإن قدمت فلم تجدني فاسأل هذا، وأخذ بكتف (1) علي (عليه السلام) فاشتالها
وكان إلى جانبه.
فقال الأعرابي: ومن هذا بأبي أنت وأمي؟
فقال: هذا علي بن أبي طالب، لحمه من لحمي، ودمه من دمي، فهو مني ومن
شجرتي، ومن قد آتاه الله حلمي وعلمي، وجعل منزلته مني بمنزلتي من ربي، وهو
ولي المؤمنين بعدي.
قال: فنحنح الأعرابي ثم قال عن علي (عليه السلام): والله أردت أن أسأل عنه مع الذي
سألت فإن حجيج قومي ممن شهد ذلك أخبرونا أنك أقمت عليا بعد قفولك من
الحج بالشجرات من خم، فافترضت على المسلمين محبته وطاعته وأوجبت
عليهم جميعا ولايته، وقد أكبروا علينا في ذلك فبين لنا يا نبي الله فذلك فريضة
علينا من الأرض لما أدنته الرحم منك أم الله افترض ولايته على أهل السماوات
والأرض جميعا، فاني راض مسلم لله ولرسوله؟
قال: أفلا أخبرك عن فضل علي؟
قال: بلى بأبي أنت وأمي.
قال: إنه لما كان يوم أحد وانقضت علينا قريش فيمن أجلبت به علينا من
حلفائها وانهزم المسلمون بعد ما أصيب منهم وقتل عمي حمزة، فاني وعلي على
الصخرة من سلع ولم يبق معي غيره الا من صعد الجبل، وقد قتل الله بيده يومئذ من
المشركين من قتل ورد به منهم من رد، إذ هبط علي جبرائيل (عليه السلام) فقال: يا أحمد
إن الله يقرئ عليك السلام ويقول لك: إني عن علي راض واني آليت على نفسي
أن لا يحبه عبد إلا أحببته، ومن أحببته لم أعذبه بناري، وأن لا يبغضه عبد إلا
أبغضته، ومن أبغضته لم يكن له في الجنة نصيب. وكان الأعرابي قد اعتزى إلى بني
عامر، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): ألا أخبرك يا أخا بني عامر عن فضل علي بفضيلة ثانية؟



(1) كذا في ظاهر الأصل.
322
قال: بلى يا نبي الله اني أحب أن أسمع ذلك في من أحبه الله ورسوله.
قال له: غزتنا الأحزاب من قريش ومن ظاهرهم علينا من قبائل العرب،
والمشركون يومئذ كما قال الله تعالى: * (إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم
وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر) * فتلا (عليه السلام) إلى قوله عز وجل:
* (وزلزلوا زلزالا شديدا) * ففض الله بيد علي (عليه السلام) المشركين وحصد شوكتهم وقتل
عمرا فارسهم، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان لله يومئذ جندان علي والريح،
فضرب بهما وجوه المشركين وردهم على أعقابهم ما نالوا خيرا، وهبط علي بقية
اليوم جبرائيل (عليه السلام) فقال: يا أحمد إن الله تعالى يقرئ عليك السلام ويقول لك: إني
افترضت الصلاة على عبادي فوضعتها عن العليل الذي لا يستطيعها، وافترضت
الزكاة فوضعتها عن المقل، وافترضت الصوم فوضعته عن المريض والمسافر،
وافترضت الحج فوضعته عن المعدم وعن من لم يجد السبيل إليه، وافترضت حب
علي بن أبي طالب ومودته على أهل السماوات والأرض فلم أعذر في حبه أحدا
من أمتك، فمن أحبه فبحبي وحبك أحبه، ومن أبغضه فببغضي وبغضك أبغضه. ثم
قال (صلى الله عليه وآله): أولا أخبرك له بمنقبة ثالثة؟
قال: بلى فداك أبي وأمي.
قال: أما أنه ما أنزل الله كتابا ولا خلق خلقا إلا وجعل له سيدا، فالقرآن سيد
الكتب، وآية الكرسي سيدة آي القرآن، وشهر رمضان سيد الشهور، وليلة القدر
سيدة الليالي، والفردوس سيد الجنان، وبيت الله الحرام سيد البقاع، وجبرائيل (عليه السلام)
سيد الملائكة، وأنا سيد الأنبياء، وعلي سيد الأوصياء، والحسن والحسين سيدا
شباب أهل الجنة، ولكل امرء من عمله سيد، وحبي وحب علي بن أبي طالب سيد
الأعمال مما يتقرب به المتقربون من طاعة ربهم. يا أخا بني عامر ألا أنبئك بالرابعة؟
قال: بلى يا رسول الله.
قال: إذا كان يوم القيامة نصب لأبي إبراهيم (عليه السلام) منبر عن يمين العرش،
ونصب لي منبر عن شمال العرش، ثم يدعى بكرسي يزهو نورا فينصب بين

323
المنبرين فيكون أبي إبراهيم (عليه السلام) على منبره وأكون أنا على منبري ويكون أخي
علي بن أبي طالب (عليه السلام) على ذلك الكرسي، فما رأيت أحسن منه حبيبا بين خليلين.
ثم قال (صلى الله عليه وآله): ألا أنبئك بالخامسة؟
قال: بلى يا نبي الله.
قال: إن حب علي بن أبي طالب إيمان وبغضه نفاق، حبه شجرة أصلها في
الجنة وأغصانها في الدنيا، فمن تعلق بغصن منها أخذته إلى الجنة، وبغضه شجرة
في النار وأغصانها في الدنيا، فمن تعلق بغصن منها أخذته إلى النار. يا أخا بني
عامر ما هبط علي جبرائيل (عليه السلام) إلا سألني عن علي، ولا عرج إلى السماء إلا قال:
اقرأ عليا مني السلام (1).
وفضائله (عليه السلام) أكثر من أن تحصى كثيرا، إنما اقتصرنا منها على ما لا يطول بها
الكتاب. ومن ذلك: سبقه إلى الاسلام، وقرباه من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وفي الكتاب
العزيز: * (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) * (2) وعناؤه في صدر
الاسلام الذي شرف عن كل ملام، وقول النبي (صلى الله عليه وآله) لما أمره ان يخلفه في المدينة
لما خرج إلى تبوك: " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى " (3) وإنما
أراد قول الله تعالى: * (وقال موسى لأخيه هارون أخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع
سبيل المفسدين) * (4)، ونومه على الفراش، وقول النبي (صلى الله عليه وآله): " من كنت مولاه فعلي
مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " (5) وقوله عنه يوم أحد وأعطاه الراية (6)،
وحديث الطائر (7) وزواجه بفاطمة (عليها السلام)، وولداه الحسن والحسين سيدا شباب
أهل الجنة، وأخذ النبي (صلى الله عليه وآله) له وتربيته على قدر أخلاقه، وآمن به قبل كل أحد،



(1) الفضائل لابن شاذان: ص 147 - 148، بحار الأنوار: ج 40 ص 46 باب 91 ح 83. مع
اختلاف.
(2) الشورى: 23.
(3) بحار الأنوار: ج 37 ص 254 باب 53.
(4) الأعراف: 142.
(5) بحار الأنوار: ج 37 ص 108 باب 52.
(6) مناقب ابن المغازلي: ص 441 ح 27.
(7) مناقب ابن المغازلي: ص 156 ح 189.
324
وصلى معه سبع سنين قبل أن يصلي أحد من الرجال. قال النبي (صلى الله عليه وآله): " إن الله
تعالى جعل لأخي علي بن أبي طالب فضائل لا تحصى كثرة، فمن ذكر فضيلة من
فضائله مقرا بها غفر الله له ما تقدم من ذنوبه التي اكتسبها بلسانه، ومن كتب فضيلة
من فضائله لم تزل الملائكة تستغفر له ما بقي لتلك الكتابة أثر، ومن استمع إلى
فضيلة من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالاستماع، ومن نظر إلى كتاب
فيه فضيلة من فضائله غفر الله له الذنوب التي اكتسبها بالنظر، والنظر إلى علي
عبادة، وذكره عبادة، ولا يقبل الله إيمان عبد إلا بولايته والبراءة من أعدائه " (1).
قال عبد الله بن العباس رضي الله عنهما: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: أيها
الناس نحن في القيامة ركبان أربعة ليس غيرنا. فقال له قائل: بأبي أنت وأمي
يا رسول الله من الركبان؟
قال: أنا على البراق، وأخي صالح على ناقة الله التي عقرها قومه، وابنتي
فاطمة على ناقتي العضباء، وعلي بن أبي طالب على ناقة من نوق الجنة، خطمها
من اللؤلؤ الرطب، وعيناها من ياقوتتين حمراوتين، وبطنها من زبرجد أخضر،
عليها قبة من لؤلؤة بيضاء يرى باطنها من ظاهرها وظاهرها من باطنها، ظاهرها
من رحمة الله وباطنها من عفو الله، إذا أقبلت رفت، وإذا أدبرت زفت، وهو أمامي،
على رأسه تاج من نور يضئ لأهل الجمع، ذلك التاج له سبعون ركنا، كل ركن
يضئ كالكوكب الدري في أفق السماء، وبيده لواء الحمد وهو ينادي في القيامة:
لا إله إلا الله محمد رسول الله، فلا يمر بملأ من الملائكة إلا قالوا نبي مرسل، ولا
يمر بنبي إلا يقول: ملك مقرب. فينادي مناد من بطنان العرش: يا أيها الناس ليس
هذا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا حامل عرش، هذا علي بن أبي طالب (2)،
وتجئ شيعته من بعده فينادي مناد لشيعته، من أنتم؟ فيقولون: نحن العلويون.



(1) بحار الأنوار: ج 38 ص 196 باب 64 ح 4.
(2) اليقين: ص 184 - 185 الباب التاسع والثمانون بعد المائة، بحار الأنوار: ج 4 ص 23
باب 91 ح 43.
325
فيأتيهم النداء: يا أيها العلويون أنتم آمنون ادخلوا الجنة مع من كنتم توالون.
وقال جابر بن عبد الله: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أيها الناس اتقوا الله واسمعوا.
قالوا: لمن السمع والطاعة بعدك يا رسول الله؟
قال: لأخي وابن عمي ووصيي علي بن أبي طالب.
قال جابر بن عبد الله: فعصوه والله وخالفوه وحملوا عليه بالسيوف (1).
وقال هاشم بن عروة، عن أبيه أنه قال: قالت عائشة: كنت جالسة عند
النبي (صلى الله عليه وآله) إذ أقبل علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: يا عائشة أيسرك أن تنظري إلى
سيد العرب فانظري إلى علي بن أبي طالب.
فقالت: يا رسول الله ألست سيد العرب؟
قال: أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب (2).
وقال مجاهد: قال ابن عباس (رضي الله عنه): سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول لعلي بن أبي
طالب (عليه السلام): يا علي إن الله عز وجل كان ولا شئ، فخلقني وخلقك من نور جلاله،
فكنا أمام عرش رب العالمين نسبح الله ونقدسه، وذلك قبل أن يخلق الله السماوات
والأرض. فلما أراد الله أن يخلق آدم (عليه السلام) خلقني وإياك من طينة واحدة، من طينة
عليين، وعجنت بذلك النور وغمست في جميع الأنوار وأنهار الجنة، ثم خلق آدم
واستودع صلبه تلك الطينة والنور، فلما خلقه استخرج ذريته من ظهره واستنطقهم
وقررهم بربوبيته، فأول خلق أقر له بالربوبية والتوحيد أنا، ثم أنت، ثم النبيون على
قدر منازلهم وقربهم من الله تعالى، فقال الله تبارك وتعالى: قد صدقتما وأقررتما يا
محمد ويا علي وسبقتما خلقي إلى طاعتي فكذلك كنتما في سابق علمي فيكما،
وأنتما صفوتي من خلقي وذريتكما وشيعتكما، ولذلك خلقتكما. يا علي فكانت
الطينة في آدم (عليه السلام) ونوري ونورك بين عينيه، تنتقل بين أعين النبيين والمنتجبين
حتى وصل النور والطينة إلى صلب عبد المطلب، فافرق نصفين، فخلقني الله من



(1) بحار الأنوار: ج 38 ص 110 باب 61 ح 43.
(2) مناقب ابن المغازلي: ص 213 ح 257.
326
نصفه فاتخذني نبيا ورسولا وخلقك من النصف الآخر فاتخذك خليفة على خلقه
ووليا، فلما كنت من ربي قاب قوسين أو أدنى قال: يا محمد، علي أطوع خلقي لك
فاتخذه خليفة ووصيا فقد اتخذته صفيا ووليا، يا محمد كتبت اسمك واسم علي
على عرشي من قبل أن أخلق خلقي محبة لكما مني ولمن أحبكما ووالاكما
وأطاعكما، فمن أحبكما وتولاكما كان عندي من المقربين، ومن جحد حقكما
وولايتكما وعدل عنكما كان عندي من الكافرين الضالين.
يا علي فمن ذا يلج بيني وبينك وأنا وأنت من نور واحد ومن طينة واحدة،
وأنت أحق الناس بي في الدنيا والآخرة، ولدك ولدي، وشيعتك شيعتي، وأولياؤك
أوليائي وهم معك غدا في الجنة جيراني (1).
وحدث في كتاب الشرواني من كتب العامة ما هذا صورته: روي أن
النبي (صلى الله عليه وآله) قال لعلي (عليه السلام): يا علي قف اليوم على الباب ولا تمكن أحدا يدخل
علي فإن عندي زوارا من الملائكة استأذنوا ربهم أن يزوروني.
فوقف علي (عليه السلام) على الباب، فجاء عمر بن الخطاب فقال: يا علي استأذن لي
على رسول الله. فقال: ما عليه إذن، فرجع كئيبا محزونا. ثم إنه عاد وقال: يا علي
استأذن لي على رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فقال: ما عليه إذن.
فقال: ولم ذلك؟
فقال: لأن عنده زوارا من الملائكة استأذنوا ربهم أن يزورون.
قال: وكم هم؟
قال: ثلاثمائة وستون ملكا.
قال: فطابت نفس عمر عند ذلك. ثم أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بفتح الباب، فدخل
علي (عليه السلام) وعمر، فأخبره عمر بما قال له علي (عليه السلام)، ثم قال: يا رسول الله وأخبرني
أيضا بعددهم.



(1) بحار الأنوار: ج 25 ص 3 باب 1 ح 5.
327
فقال (صلى الله عليه وآله): بكم أخبرك يا عمر؟
قال: ثلاثمائة وستين ملكا.
فقال (صلى الله عليه وآله): يا علي أنت أخبرت عمر بعدد الملائكة.
قال: نعم.
قال: وما علمك بهذا؟
قال: يا رسول الله سمعت ثلاثمائة وستين نغمة، فعرفت أن كل نغمة ملكا.
قال: فضرب النبي (صلى الله عليه وآله) على صدر علي (عليه السلام) وقال له: زادك علما ويقينا (1).
وقال الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أنه قال: كنت عند النبي (صلى الله عليه وآله)
إذ أقبل علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال لي النبي (عليه السلام): تدري من هذا؟
قلت: هذا علي بن أبي طالب.
فقال النبي (عليه السلام): هذا البحر الزاخر، هذا الشمس الطالعة، أسخى من الفرات
كفا، وأوسع من الدنيا قلبا، فمن بغضه فعليه لعنة الله (2).
وروى النطنزي في كتاب الخصائص ما ذكره بحذف الإسناد، قال: حدث
أبو حسين التيمي إسماعيل بن إبراهيم، عن سيف بن هارون، عن أبي الطفيل عامر
ابن واثلة، قال: أصاب رجلا منا صداع كثير فأتى به أبوه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)
فأجلسه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومد جلدة ما بين عينيه حتى سمع لها صوت وسكن عن
الرجل الصداع، ونبت مكان أصابع رسول الله (صلى الله عليه وآله) شعرات مثل شعرات القنفذ،
فلما كان من أمر علي (عليه السلام) ما كان من أمر صفين والخوارج هم الرجل بالخروج
على علي (عليه السلام) فسقطت الشعرات من بين عينيه.
$ أمير المؤمنين (عليه السلام) / مناشداته
قال: فجزع من ذلك جزعا شديدا وجزع أهله، فقيل له: إن هذا مما هممت
بالخروج على علي (عليه السلام)، فاستغفروا (3) الله وتاب وجلس. قال: فرجعت الشعرات
إلى بين عينيه ونبتت.



(1) لم نقف على هذا الكتاب.
(2) بحار الأنوار: ج 39 ص 310 باب 87 ذيل ح 123، نقلا عن كنز الفوائد للكراجكي.
(3) كذا في الأصل، والظاهر: فاستغفر.
328
قال أبو الطفيل: رأيتها حين سقطت ورأيتها حين رجعت.
ومن الكتاب المذكور بحذف الإسناد: حدث إبراهيم بن محمد بن يوسف
الفرياني، عن محمد بن أيوب بن سويد، عن أبيه، عن الضحاك بن عثمان، عن أمه
ستته (1)، قالت: قدمت فاطمة بنت عبد الملك بن مروان المدينة فدخلت عليها
عاتكة بنت الحسين، فأدنتها وأجلستها معها وذرفت عيناها وقالت: (رحمه الله) - يعني
عمر بن عبد العزيز - سمعته على المنبر يقول: حدثني عراك بن مالك، عن أم سلمة
قالت: دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله): فقال: دخل علي جبريل (عليه السلام) فقال: إني مررت
بعلي (عليه السلام) وهو نائم في النخل قد انكشف بعضه فسترته بجناحي (2).
وحدث يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن
يزيد بن نتيع قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن تستخلفوا أبا بكر تجدوه ضعيفا في بدنه
قويا في أمره، وإن تستخلفوا عمر تجدوه قويا في بدنه قويا في أمره، وإن
تستخلفوا عليا تجدوه هاديا مهديا يسلك بكم الطريق المستقيم، ولن يفعلوا.
وقد أورد هذا الحديث أبو الفرج بن الخوري في جامع الأسانيد الذي جمعه (3).
* * *
فصل
في مناشداته (عليه السلام)
حدث أبو المظفر عبد الواحد بن حمد بن محمد بن شيدة المقرئ، قال:
حدثنا عبد الرزاق بن عمر الطهراني، قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن موسى الحافظ،
قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن أبي دارم، قال: حدثنا المنذر بن محمد،



(1) كذا.
(2) رواه ابن شهرآشوب في المناقب نقلا عن كتاب الخصائص: ج 2 ص 236.
(3) لا يوجد لدينا كتاب جامع الأسانيد.
329
قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبان بن تغلب، عن
عامر بن واثلة، قال: كنت على الباب يوم الشورى وعلي (عليه السلام) في البيت فسمعته
يقول: استخلف أبو بكر وأنا في نفسي أحق بها منه فسمعت وأطعت، وأنتم تريدون
أن تستخلفوا عثمان إذن لا أسمع ولا أطيع، جعلني عمر في خمسة أنا سادسهم ولا
يعرف لهم علي فضل، أفنحن سواء؟ أما والله لأحاجنهم بخصال لا تستطيع عربهم
ولا عجمهم المعاهد منهم والمشرك أن ينكر منها خصلة واحدة.
ثم قال: أنشدكم بالله أيها النفر جميعا أمنكم من أمنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) غيري؟
قالوا: اللهم لا.
قال: أنشدكم بالله أيها النفر جميعا أمنكم أحد وحد الله عز وجل قبلي؟ قالوا:
اللهم لا.
قال: أنشدكم بالله أيها النفر جميعا أمنكم أحد هو المصلي القبلتين قبلي؟
قالوا: اللهم لا.
قال: أنشدكم بالله أيها النفر جميعا أمنكم أحد له عم مثل عمي حمزة بن
عبد المطلب أسد الله وأسد رسول الله غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: أمنكم من سيد الشهداء عمه غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: أنشدكم بالله هل فيكم من له ابن عم مثل ابن عمي رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قالوا:
اللهم لا.
قال: أنشدكم بالله أمنكم أحد له زوجة مثل زوجتي فاطمة بنت رسول الله
سيدة نساء هذه الأمة غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: أنشدكم بالله أمنكم أحد له سبطان مثل الحسن والحسين سبطي هذه
الأمة ابني رسول الله (صلى الله عليه وآله) غيري؟
قالوا: اللهم لا.
قال: أنشدكم بالله أمنكم أحد غسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: أنشدكم بالله أمنكم أحد أمر الله بمودته غيري؟ قالوا: اللهم لا.

330
قال: أنشدكم بالله أمنكم أحد سكن المسجد يمر فيه جنبا غيري؟ قالوا:
اللهم لا.
قال: أنشدكم بالله أمنكم أحد ردت عليه الشمس بعد غروبها غيري؟ قالوا:
اللهم لا.
قال: أمنكم أحد قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين قرب إليه الطائر المشوي
فأعجبه: اللهم آتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير غيري؟ قالوا:
اللهم لا.
قال: أمنكم أحد كان أقتل للمشركين عند كل شديدة نزلت برسول الله (صلى الله عليه وآله)
مني؟ قالوا: اللهم لا.
قال: أمنكم أحد له مثل الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة غيري؟
قالوا: اللهم لا.
قال: أمنكم أحد كان أعظم غناء مني عن رسول الله حتى اضطجعت على
فراشه ووقيته بنفسي وبذلت له دمي؟ قالوا: اللهم لا.
قال: أنشدكم بالله أمنكم أحد كان يأخذ الخمس غيري وغير فاطمة؟ قالوا:
اللهم لا.
قال: أنشدكم بالله أمنكم من كان له سهم في الخاص وسهم في العام غيري؟
قالوا: اللهم لا.
قال: أنشدكم بالله أمنكم أحد تطهر بآية غيري حين سد النبي (صلى الله عليه وآله) أبواب
المهاجرين جميعا وفتح بابي حتى قام إليه عماه حمزة والعباس فقالا: يا رسول
الله سددت أبوابنا وفتحت باب علي فقال (صلى الله عليه وآله): " ما أنا فتحت بابه ولا أنا سددت
أبوابكم بل الله فتح بابه وسد أبوابكم "؟ قالوا: اللهم لا.
قال: أنشدكم بالله أمنكم أحد تمم الله تعالى نوره من السماء حتى قال * (فآت
ذي القربى حقه) * غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: أنشدكم بالله أمنكم أحد ناجى الله ست عشرة مرة غيري حين قال:

331
* (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة) *؟
قالوا: اللهم لا.
قال: أنشدكم بالله أمنكم أحد ولى تغميض رسول الله (صلى الله عليه وآله) غيري؟ قالوا:
اللهم لا.
قال: أنشدكم بالله أمنكم أحد تولى دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى وضعه في
روضته غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: أنشدكم بالله أمنكم من نصبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم غدير خم للولاية
غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: أنشدكم بالله أمنكم من جعله رسول الله (صلى الله عليه وآله) من نفسه كهارون من موسى
غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: أنشدكم بالله أمنكم أحد من أعطاه النبي (صلى الله عليه وآله) الراية ففتح الله على يده
خيبر غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: أمنكم أحد نادى عليه جبرائيل (عليه السلام) أن لا فتى إلا علي ولا سيف إلا
ذو الفقار غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: أمنكم أحد كان أخا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ووزيره غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: أمنكم أحد قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) " هو مني وأنا منه " غيري؟ قالوا:
اللهم لا.
قال: أمنكم أحد أنزل الله تعالى فيه * (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا
الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) * غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: أمنكم أحد هو قسيم الجنة والنار غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: أمنكم أول وارد على رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الحوض غيري؟ قالوا:
اللهم لا.
$ أمير المؤمنين (عليه السلام) / حروبه
قال: أنشدكم بالله أمنكم أحد يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله غيري؟ قالوا:
اللهم لا.

332
قال: أنشدكم بالله أمنكم المؤدي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: أنشدكم بالله أمنكم من نزل فيه * (والسابقون السابقون * أولئك
المقربون) * فكنت سابق هذه الأمة تدرون غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: أنشدكم بالله أمنكم من يقضي دين رسول الله (صلى الله عليه وآله) غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: أنشدكم بالله أمنكم من نزل فيه: * (وكفى الله المؤمنين القتال) * بعلي بن
أبي طالب هل تدرون ذلك غيري؟ قالوا: اللهم لا.
قال: أنشدكم بالله هل تعلمون تفسير هذه الآية: * (أفمن كان مؤمنا كمن كان
فاسقا) * فالفاسق الوليد بن عتبة والمؤمن أنا غيري؟ قالوا: اللهم لا (1).
وقد أورد النطنزي لكل منقبة من هذه المناقب في كتابه المعروف بالخصائص
إسنادا وسببا تركنا إيراده هاهنا مخافة التطويل، فمن أراد ذلك فليأخذه من
الكتاب المذكور.
* * *
فصل
في حروبه وقتل الناكثين والقاسطين والمارقين
حدث أبو منصور بن مندوية المعدل، قال: حدثنا أبو نعيم الحافظ، قال:
حدثني أبو بكر أحمد بن يوسف بن خلاد، قال: حدثنا محمد بن يونس بن موسى
القرشي، قال: حدثنا عبد العزيز بن الخطاب، قال: حدثنا علي بن غراب، عن
علي بن أبي فاطمة الغنوي، عن الأصبغ بن نباتة، عن أبي أيوب الأنصاري، قال:
سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: ليقاتلن بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين
بالطرقات والسعفات والنهروانات.
قال أبو أيوب: فقلت: يا رسول الله مع من يقاتل هؤلاء القوم؟



(1) رواه الطبرسي في الاحتجاج: ج 1 ص 124 بسند آخر وباختلاف في المتن.
333
قال: مع علي بن أبي طالب (1).
وحدث أبو علي الحسن بن أحمد بن الحسن، قال: حدثنا أبو نعيم الحافظ،
قال: حدثنا أحمد بن القاسم الريان، قال: حدثنا أحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن
نبيط بن شريط الأشجعي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، قال: لما فرغ
علي بن أبي طالب (عليه السلام) من قتال أهل النهر أقبل أبو قتادة الأنصاري ومعه ستون أو
سبعون من الأنصار، قال: فبدأ بعائشة، فقال أبو قتادة: لما دخلت عليها قالت: ما
وراءك؟ فأخبرتها أنه لما تفرقت المحكمة من عسكر المؤمنين لحقناهم فقتلناهم.
فقالت: أما كان معك غيرك من الوفد؟ قلت: بلى ستون أو سبعون.
قالت: أو كلهم يقولون مثل الذي تقول؟ قلت: نعم.
فقالت: قص علي القصة.
فقلت: يا أم المؤمنين تفرقت الفرقة وهم نحو اثني عشر ألفا ينادون لا حكم
إلا لله، فقال علي (عليه السلام): كلمة حق يراد بها باطل، فقاتلناهم بعد أن ناشدناهم بالله
وكتابه، وقالوا: كفر عثمان وعلي وعائشة ومعاوية، فلم نزل نحاربهم وهم يتلون
القرآن، فقاتلناهم وقاتلونا وولى منهم من ولى، فقال علي (عليه السلام): لا تتبعون موليا،
فأقمنا ندور على القتلى حتى وقفت بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) راكبها، فقال:
اقلبوا القتلى، فأتينا وهو على نهر فيه قتلى فقلبناهم حتى خرج في آخرهم رجل
أسود على كتفيه مثل حلمة الثدي، فقال علي (عليه السلام): الله أكبر والله ما كذبت ولا
كذبت، كنت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد قسم فيئا فجاء هذا فقال: يا محمد أعدل، فوالله
ما عدلت منذ اليوم. فقال النبي (صلى الله عليه وآله): ثكلتك أمك ومن يعدل عليك إذا لم أعدل أنا.
فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ألا أقتله؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله): لا دعه فإن له من
يقتله. فقال: صدق الله ورسوله.
فقالت عائشة: ما يمنعني ما بيني وبين علي أن أقول الحق: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله)



(1) ذكر الخوارزمي نظيره في المعنى بسند آخر: ص 189 - 190 ح 224.
334
يقول: تفترق أمتي على فرقتين، تمرق بينهما فرقة محلقون رؤوسهم، محفون
شواربهم،... (1) إلى أنصاف سوقهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يقتلهم أحبهم
إلى الله ورسوله.
قال: فقلت يا أم المؤمنين فأنت تعلمين هذا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم كان الذي
كان منك؟
فقالت: يا أبا قتادة * (وكان أمر الله قدرا مقدورا) * وللقدر سبب، إن الناس
قالوا في قصة الإفك ما قالوا، وكان أكثر المهاجرين والأنصار لما يرون من قلق
رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحزنه يقولون له: أمسك عليك زوجك حتى يأتيك أمر ربك،
وعلي (عليه السلام) يقول: لك يا رسول الله في نساء قريش من هي أبهى منها وأجل نسبا،
وكنت امرأة لي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) حظ ومنزلة، وجدت لذلك كما يجد النساء،
فكانت أشياء استغفر الله من اعتقادها.
وقال محمد بن علي العسقلاني عن بشر بن بكر، عن الأوزاعي، عن الزهري،
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري، قال بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله)
يقسم قسما ذات يوم فقال له ذو الخويصرة رجل من بني تميم: يا رسول الله أعدل.
فقال (صلى الله عليه وآله): ويحك إذا لم أعدل فمن يعدل؟
فقال عمر: أتأذن لي فأضرب عنقه.
فقال: لا إن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاته وصيامه مع صيامه
يمرقون من الدين كما تمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نضله فلا يوجد فيه شئ،
ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيها شئ، وقد شق الفرث والدم، يخرجون على خير
فرقة من الناس، بينهم رجل أدعج على أحد كتفيه مثل ثدي المرأة ومثل البضعة
تدر قيرا.
قال أبو سعيد: أشهد لسمعت هذا من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأشهد أني كنت



(1) كلمة غير واضحة، والظاهر مئزرهم.
335
مع علي (عليه السلام) حين قتلهم فالتمس في القتلى، فأوتي به على النعت الذي نعت
رسول الله (صلى الله عليه وآله) (1).
وفي رواية أنه (صلى الله عليه وآله) قال: صاحب اليد المخدوجة شر [البرية] يقتله خير
البرية، أو قال: أبو الثدية (2).
وقال أبو بكر بن أبي قحافة: دخلت أنا وعمر بن الخطاب على رسول
الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: أن منكم من يقاتل على تأويل القرآن مثلما قاتلت على تنزيله؟
فقلت: أنا هو يا رسول الله؟
فقال: لا.
فقال عمر: أنا هو يا رسول الله؟
فقال: لا، لكنه خاصف النعل وراء الحجرة. فلما خرجنا وجدناه علي بن
أبي طالب (عليه السلام) (3).
وسئل أبو المجدين رشادة الواعظ بواسط في ذي الحجة سنة ستة وأربعين
وخمسمائة عن قول النبي (صلى الله عليه وآله): " إنك يا علي تقضي ديني وتنجز عدتي " أكان
على النبي (صلى الله عليه وآله) دين قضاه علي (عليه السلام) عنه والأمر في يد غيره؟ قال: نعم. حدثني
شيخي الزاهد العالم الغزالي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): بعثني ربي بقتل المشركين
والناكثين والقاسطين والمارقين بعهد عهده إلي فقتلت المشركين وبقي قتل
الناكثين والقاسطين والمارقين دينا علي يقضيه عني ابن عمي ووصيي علي بن
أبي طالب عهدا معهودا.
$ أمير المؤمنين (عليه السلام) / وقعة الجمل
وقعة الجمل
وهم الناكثون، وقيل: لما قتل عثمان بن عفان مر الأحنف بن قيس بعائشة



(1) مناقب الخوارزمي: ص 259 ح 242، صحيح البخاري: ج 4 ص 200، كنز العمال: ج 11
ص 307.
(2) بحار الأنوار: ج 38 ص 16 ذيل باب 56 ح 24 نقلا بالمعنى.
(3) مناقب ابن المغازلي: ص 54 ح 78 بسند آخر، مستدرك الحاكم: ج 3 ص 123.
336
فقالت له: ما صنع الناس يا أحنف؟
قال: قتلوا عثمان.
قالت: بذنبه. ثم قالت: فمن بايعوا؟
قال: بايعوا عليا.
قالت: قتل عثمان مظلوما رحمه الله. فأنشأ الأحنف يقول:
فمنك البداة ومنك الغير * ومنك الرياح ومنك المطر
وأنت أمرت بقتل الإمام * وقلت لنا أنه قد كفر
فهبنا أطعناك فيما مضى * وقاتله عندنا من أمر
فقد ولى الأمر ذو مرة * يرد الشنا ويقيم الصغر
ويلبس للحرب أثوابها * وفى من وفى وطغى من فجر
فلم يسقط السقف من فوقنا * ولم تنكسف شمسنا والقمر (1)
وكان طلحة يرجو أن يوليه علي (عليه السلام) اليمن، وكان الزبير يرجو أن يوليه
العراق، فلما أبى أن يوليهما سألاه الإذن في العمرة. فقال لهما: ما العمرة تريدان
لكن تريدان الغدر.
فلما صارا إلى مكة واستغويا عائشة بلغ ذلك سعيد بن العاص ابن أمية وأن
عائشة قد أزمعت على الخروج معهما، فكتب إليها بهذه الأبيات:
يا أمتي لا تطيعي أمر من سلفت * منه الظلامة في قتل ابن عفان
صبا عليه من المكشوح بائقة * شنعاء قاصمة أودت بعثمان
لم يعلقا من علي بعد بيعته * شبحي العدو له شأن من الشأن
وبايعاه منافيا له خطر * مثل الفتيل ولا ما جره الجان
أما الزبير فمنته سفاهته * ملك العراق كذاك الهادم الباني
والمرء طلحة ممدود أعنته * تجري إلى ملك صنعاء جري وسنان



(1) تاريخ الطبري: ج 3 ص 477 مع اختلاف في رواية الأبيات، وهي منسوبة إلى عبد بن
أم كلاب.
337
ولم يشهد سعيد بن العاص يوم الجمل، وصد عائشة بجهده فلم تقبل.
ولما حصل طلحة والزبير في البصرة تناقشا (1) في الصلاة بالناس، فخاف
كل واحد منهما أن يصلي خلف صاحبه فيصير ذلك له حجة عليه، فأصلحت بينهما
على أن يصلي بالناس مرة محمد بن طلحة ومرة عبد الله بن الزبير.
فقال العوام بن مالك الأزدي: تالله ما رأيت كاليوم قط شيخان يصلي بهما
غلامان، وفارقهما الأزدي ولحق بعلي (عليه السلام)، وأنشأ يقول:
تبارى الغلامان إذ صليا * وشح على الملك محياهما
فصال ابن طلحة وابن الزبير * لقد الشراك هما ما هما
فكل يرتضيها لابنه * ولم يضبط الأمر ابناهما
فهذا الإمام وهذا الإمام * ويعلى بن منية دلاهما
يعلى بن منية هو الذي اشتري منه جمل عائشة، وكان جملا منكرا، وكان
يلقب عسكرا لشدته.
قالت امرأة من ضبة قبل أيمها يوم الجمل.
شهدت الحروب فشيبنني * فلم أر يوما كيوم الجمل
أشد على مؤمن فتنة * وأقتل منه لخرق بطل
فليت الظعينة في بيتها * وليتك عسكر لم ترتحل
وقال بعض الشعراء:
ألا أيها الناس عندي الخبر * بأن أخاكم زبيرا غدر
وطلحة أيضا حذا نعله * ويعلى بن منية فيمن أمر (2)
وبعض الناس يصحف فيقول: نعلي بن منية (3) والصحيح ما ثبت في هذا الشعر.
وقال أبو الأسود الدؤلي: لما استقامت البصرة لطلحة والزبير أرسلا إلى ناس
من وجوه البصرة وأنا فيهم، فدخلا بيت مال البصرة فدخلت معهما، فلما رأوا



(1) كذا، والظاهر: تنافسا.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 149. في المناقب، نفر بدل " أمر ".
(3) كذا في ظاهر الأصل، وما أثبته في الشعر أيضا غير واضح، وفي المناقب: يعلى بن منبه.
338
ما فيه من الأموال قالا: وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه فنحن
أحق بها منكم يا أهل البصرة، فأخذا ذلك المال. فلما غلب علي (عليه السلام) على البصرة
أمر برد تلك الأموال إلى بيت المال. وقال: أصفر وأبيض.
وفي غير رواية أبي الأسود أنه قال: يا صفراء اصفري ويا بيضاء ابيضي
وغري غيري.
وفي رواية أخرى، وهي الصحيحة أنه قال: ابيضي واصفري وغري غيري،
صلصلي صلصالك لست من أشكالك:
هذا جناي وخياره فيه * إذ كل جان يده إلى فيه
وقسم علي (عليه السلام) تلك الأموال كلها على المساكين حتى لم يبق شئ.
وبعث طلحة والزبير إلى الأحنف بن قيس فأتاهما، فقال له: اخلع عليا وبايعنا.
فقال لهما: لا أخلع عليا ولا أبايعكما، ألم آتكما فسألتكما عن عثمان
فزعمتما أن الله قتله بذنبه وأقاده بعمله، وسألتكما عن علي فقلتما بايعه فإنه أحق
الناس بها اليوم وفيما قبل اليوم. وأنا قد بايعته وبايعه المهاجرون والأنصار.
قالا: بلى قد كان ذلك.
قال الأحنف: فما رد اللبن في الضرع.
وقال عبد الله بن جنادة: أقبلت مع علي (عليه السلام) من المدينة حتى انتهينا إلى الربذة
ونزلنا بها، فلما خرج علي (عليه السلام) منها متوجها إلى ذي قار، قلت في نفسي: ألا أمضي
مع هذا الرجل القريب القرابة من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، الفقيه في دين الله الحسن البلاء
لعل الله أن يأجرني، فخرجت معه على غير طمع ولا ديوان، فما سرت يوما واحدا
حتى لحق بنا المحاربي فسألته عما جاء به فحدثني أنه جاء به الذي جاء بي.
فقلت له: هل لك في الصحبة والمرافقة؟ قال: نعم، فوالله ما صحبت من الناس أحدا
قط كان خير صحبة منه ولا مرافقة، فانتهينا إلى ماء من مياه العرب فعرضت علينا
غنم نشتريها، فاشتريت أنا وصاحبي في رجال معنا كبشا سمينا، واشترى طائفة
أخرى من تلك الغنم، فوقع لي ولصاحبي كبش ساج، واشترى آخرون من
أصحابنا كبشا سمينا.

339
فقال قائل من القوم لم أعرفه: إن كبشنا هذا طلحة وكبشكم الزبير فاذبحوهما
يرح الله منهما الأمة، ثم وثب على كبشه فذبحه، ووثب بعض أصحابنا على
كبشنا فذبحه.
فقال المحاربي: بالله ما رأيت عجبا كاليوم قط أي أخي، اسمع مني ما أقول
لك، والله ما نرجع من وجهنا هذا حتى يقتل الرجلان. فقال رجل من ناحية القوم:
صدق قولك وسعد طائرك قتلا ثم لا عذرا.
ولما نزل أمير المؤمنين (عليه السلام) بذي قار وجه محمد بن جعفر بن أبي طالب
ومحمد بن أبي بكر إلى أهل الكوفة يدعوهم إلى مظاهرته، فلما وصل إليهم
المحمدان ووالي الكوفة يومئذ أبو موسى الأشعري، فدخل عليه الكوفيون فقالوا:
له: يا أبا موسى أشر علينا برأيك في الخروج مع هذين الرجلين إلى علي بن أبي
طالب (عليه السلام). قال: أما سبيل علي فسبيل الآخرة وأما سبيل طلحة والزبير فسبيل
الدنيا، فشيموا (1) سيوفكم، والزموا بيوتكم، وخلوا بين قريش وبين ما جنت.
فمنع الناس من الشخوص إلى علي (عليه السلام)، فبلغ ذلك المحمدين فأغلظا
الحديث لأبي موسى، فقال لهما أبو موسى: والله إن بيعة عثمان في عنق علي
وعنقي وأعناقكما، ولو أردنا قتالا ما كنا لنبدأ بأحد قبل قتلة عثمان. فخرجا من
عنده ولحقا بعلي (عليه السلام) فأخبراه الخبر، فبعث علي (عليه السلام) هاشم بن عتبة بن أبي وقاص
إلى أبي موسى، وكتب إليه كتابا نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس،
السلام عليك. أما بعد فإني قد بعثت إليك هاشم بن عتبة لينهض إلي من قبلك من
المؤمنين والمسلمين لنتوجه إلى قوم نكثوا بيعتي وقتلوا شيعتي وأحدثوا في هذه
الأمة الحدث العظيم، فأشخص إلي بالناس معه حين يقدم إليك، ولا تحبسه فإني
لم أولك المصر الذي أنت فيه ولم أقرك على عملك إلا لتكون من أعواني على
الحق ومن أنصاري على هذا الأمر والسلام (2).



(1) شام السيف: أغمده (لسان العرب).
(2) مصنفات الشيخ المفيد ج 1 ص 248.
340
فلما قدم هاشم بالكتاب على أبي موسى دعا أبو موسى السائب بن مالك
الأشعري فقال له: ما ترى؟ وأقرأه الكتاب إليه.
فقال له السائب: اتبع ما كتب به إليك أمير المؤمنين. فأبى وعصى، وبعث
إلى هاشم يخوفه ويتوعده.
قال السائب: فأتيت هاشما فأخبرته برأي أبي موسى، فكتب هاشم إلى
علي (عليه السلام) كتابا هذه نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم، إلى عبد الله علي أمير المؤمنين من هاشم بن عتبة،
سلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، أما بعد فإني قدمت يا
أمير المؤمنين بكتابك على امرء شاق عاق بعيد الرحم ظاهر الغل والشنآن (1)،
يهددني بالسجن مرة وبالقتل مرة، وقد بعثت بكتابي إليك مع المحل بن خليفة
الطائي، وهو من شيعتك وأنصارك وعنده علم نبأ ما قلت (2)، فاسأله عما بدا لك
واكتب إلي برأيك والسلام (3).
فلما قدم المحل بكتاب هاشم إلى علي (عليه السلام) سلم عليه ثم قال: الحمد لله الذي
أدى الحق إلى أهله، ووضعه موضعه، وإن كان ذلك قد كرهه قوم يسير، فقد والله
كرهوا نبوة محمد (صلى الله عليه وآله) ثم نابذوه وبارزوه وجاهدوه، فرد الله كيدهم في نحورهم،
وجعل دائرة السوء عليهم، والله يا أمير المؤمنين لنجاهدنهم معك في كل موطن
حفظا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في أهل بيته إذ صاروا أعدى الخلق لآل رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعده.
فرحب به علي (عليه السلام) وقال له خيرا، وقرأ كتاب هاشم، ثم سأله عن الناس وعن
أبي موسى، فقال له المحل: والله ما أثق به ولا آمنه على خلافك إن وجد من
يساعده على ذلك.
فقال علي (عليه السلام): والله ما كان عندي بمؤتمن ولا ناصح، ولقد كان أصحابي
الذين كانوا قبلي استولوا على مودته وتأميره، وأني أردت عزله فأتاني الأشتر



(1) في الجمل: الشقاق.
(2) في الجمل: وعنده علم ما قبلنا.
(3) مصنفات الشيخ المفيد ج 1 ص 243.
341
وسألني أن أقره وذكر أن الناس راضون به فأقررته.
وقال المحل بن خليفة: والله إني لجالس مع علي (عليه السلام) إذ أقبل سواد كثير
وغبار ساطع، فقال علي (عليه السلام): انظروا ما هذا السواد؟ فذهبت الخيل تركض ثم لم
تلبث أن جاءت فقالت: هذه طي قد جاءتك تسوق الغنم وفيهم من جاءك بهداياه
وكرامته وفيهم من يريد أن ينفذ معك إلى عدوك.
فقال علي (عليه السلام): جزى الله طيا خيرا، وقد فضل الله المجاهدين على القاعدين
أجرا عظيما، فلما انتهوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) سلموا عليه، فسرني والله ما رأيت
من جماعتهم وحسن هيئتهم، ثم تكلموا بأحسن كلام وأفصحه وأبلغه، والله ما
رأيت خطباء قط أبلغ في قول منهم، ثم أنشأ رجل منهم يقول:
ونحن نصرنا الدين من قبل هذه * وأما بحق ما حيينا سننصر
سنصفيك دون الناس طرا بنصرنا * وأنت به من سائر الناس أجدر
فقال لهم علي (عليه السلام): جزاكم الله من حي عن الاسلام خير الجزاء، فقد والله
أسلمتم طائعين، وقاتلتم المرتدين، ووفيتم بصدقاتكم المسلمين.
قال: ثم إن رجلا من همدان يقال له عبد خير أتى أبا موسى فقال له: يا أبا
موسى هل بايع الناس عليا؟
قال: نعم.
قال: فهل هذان الرجلان ممن بايعه؟
قال: نعم.
قال: وهل كان من علي (عليه السلام) حدث يحل به نقض بيعته؟
قال: لا.
قال: فأي القوم أحق أن نقاتل، أهما [إلى] أن يرجعا إلى ما خرجا منه أم علي
حتى نرد بيعته؟
قال: لا أدري.
قال له: فإنا تاركوك ومفعول ما لا تدري.

342
فأنشأ رفاعة بن شداد البجلي يقول:
أبا موسى أجابك عبد خير * فأنت اليوم كالشاة الربيض
فلا حقا تبعت ولا ضلالا * تركت، فأنت تهوي في الحضيض
أبا موسى نظرت برأي سوء * يؤول به إلى قلب مريض
ونمت فليس تفرق بين خمس * ولا ست ولا سود وبيض
وتذكر فتنة شملت وفيها * سقطت وأنت تهوي في الحريض (1)
قال: وأقام علي (عليه السلام) بذي قار ينتظر من يقدم عليه، فأشاع طلحة والزبير أنه
إنما أقام للذي بلغه من جدنا وعددنا وعدتنا، وتباشروا بذلك، فكتبت عائشة
إلى حفصة بنت عمر كتابا هذه نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم، من عائشة بنت أبي بكر زوج رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى
حفصة بنت عمر زوج رسول الله (صلى الله عليه وآله)، سلام عليك، أما بعد فإني أخبرك أن علي بن
أبي طالب نزل بالدقاقة، والله داقه بها، فهو بمنزله الأشقر إن تقدم نحر وإن تأخر
عقر والسلام (2).
فلما وصل الكتاب إلى حفصة استفزها الفرح والسرور، فدعت جواريها
فأمرتهن أن يغنين ويضربن بالدفوف، فجعلن يغنين ويقلن: شبهت الحميراء عليا
في السفر بالفرس الأشقر إن تقدم نحر وإن تأخر عقر. وجعل أبناء الطلقاء وسفهاء
العامة يدخلون على حفصة وجواريها يغنين والكتاب يقرأ، فبلغ ذلك أم كلثوم
بنت علي (عليه السلام) فقامت ولبست جلبابيها وخرجت في نسوة من حفدتها متنكرات،
فدخلن على حفصة وجواريها يغنين والكتاب يقرأ، فأسفرت أم كلثوم عن وجهها
فلما رأتها حفصة أخذت الكتاب فحشيته واسترجعت وأمرت جواريها بالكف
والخروج عنها.
فقالت أم كلثوم رضي الله عنها: يا حفصة إن كنت تظاهرين علي بن أبي طالب



(1) مصنفات الشيخ المفيد ج 1 ص 250.
(2) مصنفات الشيخ المفيد ج 1 ص 276.
343
اليوم فقد ظاهرت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل اليوم، فأنزل الله فيهما قرآنا:
* (فكان الله مولاه وجبريل وصالح المؤمنين) * (1).
قالت حفصة: أعوذ بالله من نكرك.
قالت: كيف يعيذك الله من شري وقد ظلمتيني ميراثي من أمي من رسول
الله (صلى الله عليه وآله) وميراثي من أبيك وقد شهدت أنت وصاحبتك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
لا يورث فمنعتمونا ميراثنا ودفعتمونا عن حقنا الذي جعله الله لنا.
وأقبلت النساء على حفصة يلمنها وأمرت حفصة بتخريق الكتاب.
وقال في ذلك سهل بن حنيف:
عذرنا الرجال بحرب الرجال * فما للنساء وما للشعاب
أما حسبنا ما ابتلينا به * لك الخير من هتك ذات الحجاب
ومخرجها اليوم من بيتها * تعرفها الحوب بنبح الكلاب
إلى أن أتانا كتاب لها * فيا قبح الله فحش الكتاب
ولما نزل (عليه السلام) بذي قار في قلة من الناس صعد الزبير منبر البصرة وقال:
ألا ألف فارس أو خمسمائة فارس أسيرهم إلى علي لعلي آتيه بياتا أو أصبحه
صباحا قبل أن يأتيه مدده من الكوفة. فلم يجبه أحد، فنزل وهو يقول: هذه والله
الفتنة التي كنا نتحدث بها.
فقال له مولى: رحمك الله أبا عبد الله تسميها الفتنة ثم تقاتل فيها!
فقال له الزبير: ويحك والله انا لنبصر ولكنا لا نبصر (2). فاسترجع المولى. فلما
كان من الليل لحق بعلي (عليه السلام) بذي قار فأخبره الخبر، فضحك (عليه السلام) وقال: اللهم
عليك به.
ثم إن طلحة أتى الزبير في منزله وعنده مروان بن الحكم، فقال له: يا أبا عبد الله
إن عليا رجل مستخف، وهو لأمرنا محتقر، فلو أصبت ستمائة فارس تلقاه فيهم.
فضحك مروان وطمع فيها، فقال: والله يا أبا محمد لقد استطاب هذا منك،



(1) الجمل: ص 149 مع اختلاف.
(2) تاريخ الطبري: ج 3 ص 491.
344
ولو كان علي مكانك لم يبدها حتى ينتهزها منك.
قال الزبير: أخرجتم والله الرأي، أمن ابن أبي طالب تصاب الفرصة؟! أو مثلك
يصبح مفقودا يقال فيه الأقاويل؟! القه كما يلقاك.
قال طلحة: ما الرأي إلا رأي مروان.
فخرج طلحة ليلا، فإذا غلام من بني تميم إلى جانب منزله وهو يقول:
يا طلح يا بن عبيد الله ما ظفرت كفاك * إن رمت في عرينه أسدا
لا تطمع اليوم مروانا وصحبته * في تلك منك ولا تندب لها أحدا
أو قل لمروان رمها من أبي حسن * إن كنت تطلب منه عزة أبدا
فإن أجاب فقد تمت نصيحته * أو لا يجبك فقد أبدى لك الحسدا
إني رأيت عليا من يبارزه * عين اليقين تزايل روحه الجسدا
ليثا متى ما يزر يوما بغيطلة * تلق الأسود له من زأره بددا
قد جاش في الليل من قوم مجاهرة * والأوس والخزرج البحران قد حشدا
فالبد بأرضك حتى تستحيلهم * إن الخمول لهذا الأمر من لبدا
وقال الأصبغ بن نباتة: إن عليا (عليه السلام) وجه مالك الأشتر ومحمد بن أبي بكر
رضي الله عنهما إلى الكوفة بعد هاشم وكتب معهما كتابا هذه نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من
المؤمنين والمسلمين، سلام عليكم، أما بعد فإني قد خرجت مخرجي هذا إما
ظالما أو مظلوما، وإما باغيا وإما مبغيا علي، فادكروا الله رجلا بلغه كتابي هذا إلا
نفر إلي، فإن كنت مظلوما أعانني، وإن كنت ظالما استعتبني والسلام.
وكتب إلى أبي موسى كتابا هذه نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس،
سلام عليك، أما بعد فوالله إني كنت أرى أن أبعدك من هذا الأمر الذي لم يجعلك
الله له أهلا، ولم يجعل لك فيه نصيبا، ينفعك من رد أمري والابتزاز علي، وقد
وجهت إليك مالك الأشتر ومحمد بن أبي بكر فخلهما والمصر وأهله واعتزل عملنا

345
مذموما مدحورا، فإن فعلت وإلا فقد أمرتهما أن ينابذاك على سواء، إن الله
لا يهدي كيد الخائنين، فإن ظفرا بك قطعاك إربا إربا.
فلما وصلا إلى الكوفة خلى بينهما وبين الناس، فخرجت العساكر ولحقت
بأمير المؤمنين (عليه السلام) (1).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزلنا بذي قار مع أمير المؤمنين (عليه السلام) قلت
له: يا أمير المؤمنين ما أقل من يأتيك من أهل الكوفة فما أظن.
فقال: والذي بعث محمدا بالحق لتأتيني منهم ستة آلاف وخمسمائة وستون
رجلا لا يزيدون ولا ينقصون رجلا.
قال: فدخلني من ذلك شك شديد وعظم علي. فقلت في نفسي: والله لئن
قدموا لأعدنهم. فلما وردوا قعدت على الجسر لاعتبار ما قاله علي (عليه السلام)،
فوجدتهم كما قال ستة آلاف وخمسمائة وستين رجلا لا يزيدون ولا ينقصون،
فعجبت من ذلك وذكرته لعلي (عليه السلام)، وسألته من أين علم ذلك؟ فذكر أن النبي (صلى الله عليه وآله)
أخبره بذلك (2).
وأكثر علي (عليه السلام) مراسلة طلحة والزبير وعائشة مرارا كثيرة ويدعوهم إلى
التوبة ويأمرهم بالرجوع إلى الطاعة. وتكلم الزبير بكلام يدل على أنه ينصرف
عن القتال، فأنكره عليه ابنه عبد الله، وقال له كلاما معناه: قد جبنت لما رأيت
رايات علي وهبت سيوف بني عبد المطلب. فحمل الزبير فرسه على العسكر مرارا
ليعلم الناس أنه ليس بجبان ثم انصرف، فقتله عمر بن جرموز بوادي السباع، وإنما
انصرف لأن عليا (عليه السلام) ذكره بأن النبي (صلى الله عليه وآله) قال له: إنك تقاتله وأنت ظالم، فاعترف
الزبير بذلك وذكر أنه نسي.
ولما تصاف الناس للقتال يوم الجمل قام الحسين بن علي (عليهما السلام) إلى أبيه
فقال: يا أمير المؤمنين أتأمرني أن أسل سيفي وأفوق سهمي وأطعن برمحي في
أعراض القوم.



(1) مصنفات الشيخ المفيد: ج 1 ص 243.
(2) الجمل: 157.
346
قال: كأنك في شك من أمرهم؟ والذي لا إله إلا هو الذي يحيي ويميت وإليه
النشور لقد وصف لي جدك محمد (صلى الله عليه وآله) هذا الموقف وهذا المقام حتى لا أنقل منقلة
ولا أخطو خطوة إلا كأني أنظر إلى ما وصفه لي، ولقد أخبرني صلوات الله عليه
بعدة من يقتل منا ومنهم.
وخرج علي (عليه السلام) وعليه عمامة رسول الله (صلى الله عليه وآله) السحاب وتحته بغلته الدلدل،
وعليها كان يشهد المشاهد، وقال لها يوم حنين اربضي فربضت، ومعه سيفه
ذو الفقار.
ثم إن عليا (عليه السلام) نادى في أصحابه فقال: ألا لا تقاتلوا القوم حتى يبدؤوكم
فإنكم بحمد الله على حجة فكفكم عنهم حتى يبدؤوكم حجة ثانية، فإذا قاتلتموهم
لا تجهزوا على جريح، وإذا هزمتموهم لا تتبعن مدبرا، ولا تكشفوا عورة، ولا
تمثلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا، ولا تدخلوا دارا إلا
بإذن ولا تأخذوا شيئا من أموالهم إلا ما وجدتموه في عسكرهم، ولا تهيجوا امرأة
بأذى وأن هن شتمن أعراضكم وأمراءكم فإنهن ضعاف.
ودعا (عليه السلام) بمصحف وقال: من يأخذ هذا ويدعوهم إلى ما فيه؟ وله الجنة.
فقام غلام شاب يقال له مسلم بن عبد الله بن جندل التميمي عليه قباء أبيض
وعليه عمامة بيضاء فقال: أنا أحمله يا أمير المؤمنين.
فنظر إليه علي (عليه السلام) وقال له: يا فتى إن يدك اليمنى تقطع فتأخذه باليسرى
فتقطع ثم تضرب بالسيف حتى تقتل.
قال: لا صبر لي على هذا وانصرف.
فنادى علي (عليه السلام) ثانية فقام إليه الفتى فأعاد علي (عليه السلام) عليه القول، فقال الفتى:
لا صبر لي على هذا.
فنادى (عليه السلام) ثالثة، فقام الفتى إليه، وأعاد علي (عليه السلام) عليه القول مثل قوله الأول،
فقال الفتى: هذا في الله قليل: فأخذ المصحف وانطلق حتى توسط القوم فناداهم:
هذا كتاب بيننا وبينكم من فاتحته إلى خاتمته. فضرب رجل من أصحاب الجمل

347
على يده اليمنى فقطعها، فأخذ المصحف بيده اليسرى فقطعت، فاحتضن المصحف
إلى صدره وناداهم. فضرب بالسيف على هامته حتى قتل (1).
ثم إن عليا (عليه السلام) لما رأى القوم قد حادوه القتال وصمدوا للحرب بعث إلى
محمد بن الحنفية وكانت الراية بيده أن أقدم يا بن خولة واقتحم على القوم. قال:
نعم. فأرسل إليه ثانية أن أقحم يا بن خولة قال: نعم، وكان بإزاء محمد قوم من
الرماة فرموه وحادوه، فتأخر محمد وقال لأصحابه: إن القوم قد رموكم فجرحوكم
وأنهم يبددون نبلهم في رشق آخر ثم احملوا عليهم. فبعث علي (عليه السلام) إليه ثالثة
فقال له: يا بن خولة أقحم لا أم لك. قال: نعم. فلما أبطأ عليه تحول من بغلته إلى
فرسه وسل سيفه وركض نحوه فأتاه من خلفه فوضع يده اليسرى على منكبه
اليمنى ثم رفعه حتى أشاله من سرجه وقال: لا أم لك.
قال محمد: والذي لا إله إلا هو ما ذكرت ذلك منه قط إلا كأني أجد ريح نفسه
فيأخذ الراية من يديه، ثم حمل على القوم وذلك عند زوال الشمس من يوم
الأحد، فأنشأ وهو يطعنهم ويقول:
اطعن بها طعن أبيك تحمد * لا خير في الحرب إذا لم توقد
بالمشرفي والقنا المبدد * والضرب بالخطى والمهند (2).
ثم حمل عليهم حتى توسطهم وغاص فيهم، فاقتتل الناس قتالا شديدا، ثم
خرج من ناحية القوم وقد انحنى سيفه، فأقامه بركبته، واجتمع حوله أصحابه
فقالوا: نحن نكفيك يا أمير المؤمنين، فما يجيب أحدا منا، فإنه لطافح ببصره
نحوهم ثم حمل الثانية حتى توسطهم وغاب فيهم، فسمعنا له تكبيرة بعد حين وله
همهمة كزئير الأسد ثم تكشف الناس عنه وانقشعوا حوله، فوصلنا إليه وأنه لواقف
قد أزبد كالجمل الهائج والأسد الحامي وقد وقعت الرؤوس والسواعد والجيف



(1) الجمل: ص 181، تاريخ الطبري: ج 3 ص 520 مع اختلاف.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 155.
348
حوله أعكاما. فقلنا: يا أمير المؤمنين نحن نكفيك. فقال: والله ما أريد بما ترون
إلا وجه الله والدار الآخرة. ثم انصرف وأعطى محمدا الراية وقال: هكذا فاصنع
يا بن خولة. فقال له محمد: والله يا أمير المؤمنين ما تأخرت عنهم من جبن ولكن
القوم نضحونا بالنبل وعلمت أنهم سيبقون بلا نبل فعندها أحمل عليهم.
وفي رواية أخرى أنه أخذ الراية من محمد بن الحنفية وقال له: نشبت فيك
عروق من أمك، ودفعها إلى الحسن بن علي (عليهما السلام)، ثم إن الناس كلموه في محمد بن
الحنفية فرد إليه الراية ثم تقدم وهي بيده ومعه أصحابه من المهاجرين والأنصار
من أهل المدينة.
وبرز أصحاب الجمل يتقدمهم عبد الرحمن بن عامر بن كريز وقد أحمى
أصحابه وحثهم على القتال.
قال محمد بن الحنفية: بينما أنا حامل الراية أسير بين الصفين وآمر أصحابي
بالجد والاجتهاد إذ أتاني أمير المؤمنين (عليه السلام) من خلفي فقال: أين مثوى القوم يا بن
خولة يعني عددهم. فقلت: هاهنا يا أمير المؤمنين نحو الجمل. فدفع في ظهري
وقال: قدم رايتك واحمل عليهم. فحملت وحمل أصحابي معي، فما زلت أطعنهم
برمحي وأضربهم بسيفي حتى انقشع الناس من حولي، فانتهيت إلى رجل لأطعنه
فلما برزت له بالرمح قال: فأنشدك الله فإني على دين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
فعرفت أنه إنما يرد بذلك عن نفسه، فرفعت عنه الرمح حتى نجا، فنظرت فإذا
هو محمد بن طلحة.
وخرج محمد بن خلف الخزاعي فأخذ بخطام الجمل ونادى بعلي (عليه السلام)، فبرز
إليه وشد علي (عليه السلام) عليه فضربه بذي الفقار ضربة على بيضته ففلق به البيضة
والهامة والعنق والصدر حتى وصلت ظبة السيف إلى قربوس سرجه لم ينهنه سلاح
ولم تثبت عليه جنة
وحمل شريح بن هاني القابصي وعلى مقدمته الحارث بن قيس بن ذي عين
على فرس له جواد.
وتقدم عمار بن ياسر (رضي الله عنه) على فرس له ذنوب ويخب عليها أمام الكتيبة،

349
ولما دنا عمار في كتيبته نظر إليها الزبير فقال: كتيبة من هذه؟ قالوا: كتيبة عمار.
فدعا الزبير فتى من الأزد يقال له الضحاك بن عدس على فرس له جواد فقال
له: ادن من القوم فانظر هل ترى فيهم عمارا. فدنا الفتى ونادى: ألا كفوا فإني
رسول. فكفوا عنه حتى دنا، فنظر إلى عمار ثم رجع. فقال: يا أبا عبد الله هذا عمار
صاحب الفرس الأدهم قد استثبته. فقال له الزبير: هل رأيت بأنفه خرما؟ فعاد
الفتى إليهم، وعرف عمارا أنه رسول، فهدر عن لثامه وحسر عن رأسه، فنظر الفتى
إلى خرمه، ثم رجع إلى الزبير فأخبره، فأهوى الزبير إلى حقوه وجعل يقول:
وا جليل مصيبتاه، واقطع ظهراه، وا سوءتاه من الوقوف بين يدي الله عز وجل غدا.
فقال له الفتى: مالك يا أبا عبد الله؟ فقال: خير يا بن عم. فقلب الفتى ترسه
وركض على فرسه حتى لحق بعلي (عليه السلام) فأخبره بذلك، ثم أنشأ يقول:
قال الزبير ولم أعلم بفتنته * لله درك هل في القوم عمار
فانظر فدى لك نفسي هل ترى خرما * في الأنف منه وفي الحوباء إضمار
فاعتمت جمعهم حتى وقعت به * ثم استبنت وللخيلين اعصار
خرم بأنف أبي اليقظان فانكشفت * عنه الغمامة إذ مخ الفتى رار (1)
لما رأيت الفتى أبدت ندامته * حولت ترسي وفي تركيه اعذار
قالوا لبست بها عارا فقلت لهم * سيان ذا العار بعد الموت والنار
وحمل مالك بن الحارث الأشتر، ثم تقدم عدي بن حاتم الطائي رضي الله
عنهما، وتقدم شريح بن هاني (رضي الله عنه) في بني الحارث بن كعب، وكان إذا قاتل قاتل
بهم وبأهل نجران، فجعل يتقلب كالفحل المزبد وهو يرتجز ويقول:
قدما بني الحارث قدما لا شلل * لا عيش إلا ضرب أصحاب الجمل
بالبيض والطعن بأطراف الأسل * إن التراخي في الوغى من الفشل
والقول لا ينفع إلا بالعمل * والغزو لا ينفع إلا بالفعل
خوضوا سريعا تدركوا عظم الأمل * مالكم بعد علي من بدل



(1) مخ رار: ذائب فاسد من الهزال (لسان العرب 4 / 313).
350
إذا قضيتم ما عليكم فبجل (1) * شدوا عليهم شدة الليث الأزل
ثم تقدم زجر بن قيس الجعفي في جعف وقضاعة وهو يقول:
أضربكم حتى تقروا لعلي * خير قريش كلها بعد النبي
من عز بالعلم وسماه الوصي * نبدأ بالأزدي ونثني بعدي
وتقدم هاني (رضي الله عنه) بأصحابه على فرس له يدعى السابق أمام الكتيبة.
وتقدم سعيد بن قيس الهمداني ونادى في همدان: يا معشر همدان لئن كان
أمير المؤمنين فضلنا على قومنا ثم لم نأت أمرا يحقق به ظنه ونصدق به رأيه فينا
ما نحن إذن كما قال.
قال: فأجابته همدان من كل ناحية بما أحب وتأهبوا للحرب، وكان سعيد من
فرسان العرب فتقدم أمام القوم فهو يقول:
قل للوصي اجتمعت قحطانها * انا لما قلنا لها أعيانها
لم تك حرب ضرمت نيرانها * وكسرت يوم الوغى مرانها
هم بنوها وهم إخوانها * وهم مثيروها وهم فتيانها
وتقدم زياد بن كعب بن مرحب وله نصف رئاسة همدان.
وحمل جندب بن زهير رضي الله عنهما وهو يرتجز ويقول:
يا رب إن الحرب قد تفرت * وأبرزت عن نابها وهرت (2)
وبادرت جلبابها ودرت * وأرؤس منا ومنهم خرت
وأذرع منا ومنهم برت * تلهبها أم لنا قد غرت
جهرا فلم تنفع ولكن ضرت * يخدعها شيخان حين مرت
بالحوب قبل الصبح فاقشعرت * ونادت الرجعة ثم ولت
حين رأت كلابها قد هرت * ثم أعادوا خدعها فقرت
وحملت الأنصار وكانوا مع علي (عليه السلام)، وكانوا من الأزد، فقاتلوا قومهم الذين
كانوا من أصحاب الجمل.



(1) بجل الرجل: حسنت حاله، وقيل: فرح، وأبجله الشئ إذا فرح به (لسان العرب 11 / 44).
(2) الهرت: سعة الشدق (لسان العرب 2 / 103) وهو كناية عن توسع الحرب.
351
وحمل عمرو بن الحمق الخزاعي. وتقدم رفاعة بن شداد البجلي ثم رجع
إلى موقفه، وتبين في أصحاب الجمل اختلالا فرجع وهو يرتجز ويقول:
إني إذا ما كثر الصياح * والتفت الرماح بالرماح
وأبرز المناطح المنطاح * ناديت في الفتية الأبراح
هذا علي في الدجى مصباح * وخير من تضمه البطاح
وخير من تطلب له الرياح * وخير من قاربه القداح
نحن بدا من فضله فصاح * نقوله جهرا هو الصراح.
وحمل عبد الرحمن الكندي وهو من أولاد الملوك، وكانت الراية مع حجر بن
عدي، وعبد الرحمن يرتجز ويقول:
قد حمل الراية خير كندة * حجر وحجر لعلي عدة
متوج في قومه بالنجدة * قد قاتل الشرك وأهل الردة
وخرج رجل من الأزد من أصحاب الجمل يضرب بسيفه بين الصفين ويقول:
أقتلهم ولا أرى أبا الحسن * ضربته بصارم مثل اللبن
ذاك الذي في الحادثات قد قرن * ذاك الذي يطلب فينا بالإحن
فحمل عليه حجر بن عدي وهو يقول:
يا أيها السائل ما علي * أثبت فأنت رجل شقي
هذا علي وهو الوصي * آخاه يوم الحرة النبي
وقال هذا بعدي الولي * وعاه واع ونسي الشقي
ثم شد عليه حجر بن عدي فضربه ضربة خر منها منكسا.
ثم تقدم يزيد بن محنفة الجعفي، وتقدم عبد الله بن الحارث أخو الأشتر،
وحمل الأفوه بن قدامة الأزدي وهو يقول:
إني إذا الحرب تعالى أمرها * لم يعدني ضحضاحها وغمرها
باشرتها حتى يبوخ (1) جمرها



(1) بأخت النار والحرب تبوخ بوخا: سكنت فخترت (لسان العرب 3 / 9).
352
إلى علي حلبها ودرها * إلى علي نفعها وضرها
إلى علي خيرها وشرها * حتى تقروا أنه أبرها
وتقدم أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري ثم تقدم عقبة بن عامر الأنصاري وكان
بدريا عقبيا ثم تقدم خزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين (رضي الله عنه) فتكلم بكلام
طويل يحض فيه على قتال الفئة الباغية، وتقدم الحجاج بن غزية الأنصاري،
وحمل زياد بن لبيد الأنصاري، ثم تقدم زيد بن أرقم الأنصاري، وتقدم خالد بن
أبي خالد وتقدم الحارث بن حسان الذهلي فنادى: يا بني ثعلبة أشيفوا نحوي
واسمعوا قولي. فاجتمع إليه بكر بن وائل وأهل الكوفة فقال: يا قوم إني لما قدمت
على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ورأيت أصحابه لم أر أحدا من الناس عنده بمنزلة
صاحبكم أعني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، كان أدنى إليه منهم مجلسا،
وأمسهم به رحما، وأفضلهم عنده مكانا، وكان وزيره وأمينه ووصيه، فمن كان
ناصرا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته فلينصر هذا الرجل اليوم، فوالله إن ناصر هذا
اليوم كناصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل اليوم.
وتقدم أبو أمية الأصم وهو يقول:
هذا علي قائد يرضى به * مولى رسول الله من أصحابه
من عوده الباقي ومن نصابه (1) * ومن مواسيه ومن إينابه.
وتقدم عامر بن شداد الأزدي، فأسره الأشتر ومضى به إلى علي (عليه السلام) فبايعه.
وحمل فروة بن نوفل الأشجعي صاحب النخيلة وكان للأشتر - وهو مالك بن
الحارث - غناء عظيم.
ويقال ان عبد الله بن الزبير أخذ بخطام الجمل فقبله وأراد أن يخرج إلى
الأشتر، فسألته عائشة من هو، فعرفها أنه عبد الله بن الزبير، فكرهت خروجه إليه
وحذرته من الأشتر، فلم يقبل منها. فقيل: إن الأشتر صرع ابن الزبير فجعل ينادي:
اقتلوني ومالكا واقتلوا مالكا معي، فأقبل الناس إليهما، وشغل الأشتر عن ابن



(1) النصب والنصب: العلم المنصوب (لسان العرب 1 / 759).
353
الزبير فانصرف وفيه جراحة كثيرة. ويقال: إن الأشتر قال في ذلك:
أعائش لولا انني كنت طاويا ثلاثا * لألفيت ابن أختك هالكا
عشية يدعو الرماح تنوشه * بآخر صوت اقتلوني ومالكا (1)
فنجاه مني أكله وشبابه * وخلوة جوف لم يكن متناهكا
وقد روي عن ابن الزبير أنه قال: كان الأشتر طاويا ثلاثا، وكذلك كانت تفعل
فرسان العرب إذا أرادوا القتال، لأنهم كانوا يكرهون الشبع في الحرب كراهة أن
يطعن أحدهم في بطنه فيظهر منه شئ يكرهه.
وانفلق عمود الصبح ليلة الاثنين فصلى علي (عليه السلام) بأصحابه ثم قال: يا قنبر
علي بدرعي. فأتاه بها، فصبها عليه، وهي درع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات الفضول.
وتقلد ذا الفقار. وتعمم بعمامة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) السحاب، ثم خرج من فسطاطه،
وركب بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الدلدل ثم سل سيفه وهزه ونادى: يا معشر
المهاجرين والأنصار ابرزوا لله وجدوا في قتال عدوكم رحمكم الله.
ثم دعا محمد ابنه وقال له: اركب فرسك، فركبها، ودفع إليه الراية من يده،
وهي العقاب راية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم بدر، وقال له: يا محمد تقدم أمام الكتيبة.
فتقدم محمد والراية بيده تخفق فوق رأسه، وكانت سوداء.
ثم سار علي (عليه السلام) بالناس والحسن عن يمينه، والحسين عن يساره،
وعبد الله بن جعفر الطيار في الجنة أمامه، ومحمد وعون ابنا جعفر من ورائه،
وعبد الله والفضل وعبيد الله وقثم بنو العباس بن عبد المطلب بعضهم عن يمينه
وبعضهم عن يساره، والمهاجرون والأنصار قد احتولوه وأحدقوا به. وأمرهم ألا
يبدؤوهم بقتال حتى يبدؤوهم به.
وأنشأ عدي بن حاتم يقول:
يا ربنا سلم لنا عليا * سلم لنا المبارك التقيا
المؤمن المسترشد الرضيا * واجعله هادي أمة مهديا



(1) مصنفات الشيخ المفيد: ج 1 ص 350.
354
لا خطل الرأي ولا غويا * واحفظه ربي واحفظ البنيا
فيه فقد كان لنا وليا * ثم ارتضاه بعده وصيا
وقال هذا لكم وليا * من بعد إذ كان بكم حفيا
وأرسل علي (عليه السلام) إلى الأشتر فقال له: يا مالك لا تبدأ القوم بقتال حتى
يبدؤوك، واعذر إليهم، واجعل الحجة عليهم. فوقفوا ساعة من النهار يهللون
ويكبرون وينظرون أي الفريقين يكون البادئ، فتقدم محمد بن طلحة فأخذ
الخطام فقبله فقالت له عائشة: من أنت؟
قال: أنا محمد بن طلحة، فما تأمريني يا أمه؟ قالت: آمرك أن تكون خير
بني آدم. فخرج بسيفه يدعو للبراز، فخرج إليه المعكر بن حدير، فاختلفا ضربتين،
فضربه محمد بن طلحة على هامته فقتله، وعاد إلى الخطام فقبله، ثم تقدم فدعا
للبراز، فثار إليه الأشتر مسرعا كأنه أسد حل من رباطه، فلما نظر طلحة أن الأشتر
قد أقبل نحو ابنه دنا منه وأخذه بيده وقال: ارجع يا بني عن هذا الأسد الضاري أما
سمعت قول الله: * (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) * (1) فلم يطعه،
وبرز إلى الأشتر، فلما غشيه الأشتر بالرمح ولى هاربا، فتبعه الأشتر حتى لحقه
فطعنه في صلبه طعنة أكبه بها لوجهه، ونزل إليه ليضرب عنقه، فقال له محمد:
أذكرك الله يا مالك، فرفع عنه السيف وحمله على دابته ووجهه إلى أبيه إلى
عسكره، فمات من يومه، ورجع الأشتر إلى موقفه وهو يقول:
وأشعث قوام بآيات ربه * قليل الكرى فما ترى العين مسلم
يذكرني حميم والرمح شاجر (2) * فهلا تلا " حاميم " قبل التقدم
هتكت له بالرمح جيب قميصه * فخر صريعا لليدين وللفم
على غير شئ غير أن ليس تابعا * عليا ومن لا يتبع الحق يندم
ولما رأى علي (عليه السلام) القوم يقتلون صبرا وتقطع أيديهم على خطام الجمل



(1) الأنفال: 25.
(2) رماح شواجر: مختلفة متداخلة (لسان العرب 4 / 396).
355
أمر بعقره، فقصد الأشتر نحوه أول الناس فضربه على عرقوبيه وعنقه سبع ضربات
ولم يصنع شيئا، فانصرف وقال: إن الله قد أعد لقتل هذا غيري ثم حمل عمار بن
ياسر على الجمل فلم يصنع شيئا، وجعل الناس يضربونه فلا يصنعون شيئا، حتى
حمل عمر بن عبد الله المرادي فضربه على عرقوبه الأيمن فأبانه ثم ضرب عرقوبه
الأيسر فأقعى وقام على يديه وله رغاء وعجيج شديد، ثم ضرب يديه فأبانهما
حتى صرعه لجنبه وله عجيج ورغاء، فضربه على عنقه ورأسه وعينيه حتى قتله.
وحمل عبد الله بن عوف بن الأحمر الأزدي على طلحة والزبير لا يريد
غيرهما وأنشأ يقول:
يا أيها الشيخان قولا واعلما * أن عليا خير من تكلما
ممن بقي منا ومن تقدما * غير النبي المصطفى لما سما
وقال عبد الرحمن بن عبيد الثقفي مر بنا الزبير منصرفا حتى صار بوادي
السباع، وتبعه عمرو بن جرموز ومعه رجلان فركضوا في أثره، وقد كان الزبير لقيه
رجل من بني تميم يقال له عمرو بن تميم وكان شجاعا نجدا فقال للزبير: هل لك
أن أجيرك؟ فقال له الزبير ومن أنت؟ فأخبره فلم يعجبه أن يجيره وكره صحبته، ثم
لقيه رجلان أحدهما من مجاشع والآخر من سعد بن زيد مناة فأجاراه، ولحقه ابن
جرموز وصاحباه، فحرك الدارمي والسعدي فرسيهما فقال: أين تذهبان نحن
ثلاثة وهم ثلاثة؟ ومضيا وتركاه، وحمل عليه ابن جرموز فوقف له الزبير ونصب
رايته، فانصرف عنه ابن جرموز، فطعنه في حربان درعه فصرعه عن فرسه،
فاعتوروه وقتلوه، فأخذ ابن جرموز فرسه وخاتمه وسيفه وحثا عليه التراب،
وهرب غلامه.
ورجع ابن جرموز إلى الأحنف ممسيا فأخبره الخبر، فقال له الأحنف: والله
ما أدري أحسنت أم أسأت، انطلق بنا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فأتياه فإذا هو جالس
في ملأ من أصحابه، فأخبره الأحنف خبر الزبير وابن جرموز فقال علي (عليه السلام): بابن
جرموز أنت قاتل ابن صفية؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، هذا سيفه وهذا خاتمه

356
وعندي فرسه فأعاد علي (عليه السلام) عليه القول، فلم يزده على قوله الأول، فتناول
علي (عليه السلام) سيف الزبير ونظر فيه ثم قال: طالما جلى الكرب عن وجه رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بشر قاتل ابن صفية بالنار.
فخرج ابن جرموز مغضبا فأتى طلحة فقاتل عليا وأصحابه ليخرج من قتلة
الزبير.
فلما قتل الجمل أمر عليا (عليه السلام) مناديا فنادى: ألا تجهزوا على جريح، ولا
تقتلوا أسيرا، ولا تتبعوا مدبرا، ولا تفتحوا بابا، ولا تهتكوا سترا، ولكم ما في
عسكر إلا أم ولد وغير خارج من العسكر، وعلى نسائهم العدة أربعة أشهر وعشرا،
وما كان لهم من مال فهو بينهم ميراث على كتاب الله، وهذه السنة في أهل القبلة.
واتي بمروان بن الحكم أسيرا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فأرسل مروان إلى
الحسن والحسين يسألهما أن يكلما عليا (عليه السلام) فيه، فكلماه فأطلقه، فقال مروان:
أبايعك يا أمير المؤمنين. فقال له: ألم تبايعني بعد قتل عثمان؟ قال: بلى.
وحدث أبو الأسود الدؤلي أنه دخل مع أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى بيت المال
بالبصرة فجعل ينظر إلى ما فيه من المال والذهب والفضة كالذي يريد أن يحرزه،
وقال: اقسموه بين أصحابي لكل رجل خمسمائة درهم، فقسمت كذلك، فوالذي لا
إله إلا هو ما بقيت درهما ولا زادت درهما، فكأنها كانت عنده، فكان المال ستة
آلاف ألف درهم والناس اثنا عشر ألف رجل، وأخذ علي لنفسه خمسمائة، فجاءه
رجل فقال: يا أمير المؤمنين أعطني من الفئ، فأعطاه الخمسمائة (1).
ولما أراد أمير المؤمنين (عليه السلام) المسير عن البصرة استخلف عليها عبد الله بن
عباس رضي الله عنهما، وجعل زياد بن عبيد - المعروف بزياد بن أبيه وهو الذي
ادعى معاوية أنه أخوه لأبيه - كاتب عبد الله بن عباس، وجعل أبا الأسود الدؤلي
على الشرطة.



(1) الجمل: ص 214 - 215 باسناد آخر.
357
وكان مقام علي (عليه السلام) في البصرة شهرا، وأمر مالك بن الحارث الأشتر أن
يتقدمه في الخيل إلى الكوفة.
قال: فقدم علي (عليه السلام) إلى الكوفة يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من
رجب سنة ست وثلاثين من الهجرة.
وخرج قوم من أشياخ الكوفة مع قرظة بن كعب الأنصاري يتلقون علي (عليه السلام)
في يوم ذي قر وهو يتصبب عرقا وكسوته خفيفة وقد روي أن النبي (صلى الله عليه وآله) دعا له
ألا يصيبه حر ولا قر.
وكان مقام علي في حرب الجمل خمسة عشر يوما، وكان عدة من قتل
في يوم الجمل على ما روى أبو مخنف ثمانية عشر ألفا وثمانمائة وخمسة
وخمسين رجلا.
وذكر المسعودي أن الذي قتل من أصحاب الجمل ثلاث عشر ألف رجل،
ومن أصحاب علي (عليه السلام) ألفا رجل (1).
وكان بين خلافة علي (عليه السلام) وبين وقعة الجمل خمسة أشهر وأحد وعشرون
يوما وأقام بالكوفة ستة أشهر ثم خرج إلى صفين.
$ أمير المؤمنين (عليه السلام) / وقعة صفين
وقعة صفين
وهم القاسطون:
روي أنه أشير على أمير المؤمنين علي (عليه السلام) أن يقر معاوية بن أبي سفيان في
عمله وعمرو بن العاص ومن يجري مجراهما، وقيل له: إذا بايعوك فاعزل من
شئت منهم. فقال: والله لا ادهن في ديني، ولا أعطي الرياء في أمري.
ثم أشار عليه ابن عباس رضي الله عنهما بأن يقر معاوية، فقال علي (عليه السلام): والله
لا أعطيه إلا السيف، ثم تمثل بقول القائل:
وما ميتة إن متها غير عاجز * بعار إذا ما غالت النفس غولها (2)



(1) التنبيه والأشراف: ص 255 - 256.
(2) غاله الشئ غولا واغتاله: أهلكه وأخذه من حيث لم يدر (لسان العرب 11 / 507).
358
فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: الحرب
خدعة، ثم قال ابن عباس: والله لئن أطعتني لأصدرن بهم بعد ورود ولأتركنهم
ينظرون في دبر الأمور لا يعرفون وجهها في غير نقصان عليك ولا إثم لك. فقال:
يا بن عباس لست من هنياتك ولا هنيات معاوية في شئ، تشير علي فأرى رأيي،
فإذا عصيتك فأطعني. فقال: افعل فأن أيسر ما لك عندي الطاعة.
وكان مسير أمير المؤمنين (عليه السلام) من الكوفة إلى صفين لخمس خلون من شوال
سنة ست وثلاثين، واستخلف على الكوفة أبا مسعود الأنصاري فاجتاز في مسيره
بالأنبار، ثم نزل الرقة فعقد جسرا وعبر عليه إلى الشام، ومعه تسعون ألف فارس.
وكان معاوية قد نزل في موضع أفيح (1) منهل إلى الشريعة، ونزل أمير
المؤمنين (عليه السلام) ما سوى ذلك من الأجراف العالية والأماكن الوعرة ووكل معاوية
الأعور السلمي بالشريعة في أربعين ألف، وكان على مقدمته وبات علي (عليه السلام) في
البر وبات جيشه عطاشى قد حيل بينهم وبين الورود.
فقال عمرو لمعاوية: إن عليا لا يموت عطشا هو وتسعون ألف وسيوفهم على
عواتقهم، ولكن يشربون ونشرب. فقال معاوية: قد مات عثمان عطشانا.
وخرج علي (عليه السلام) يدور في عسكره ليلا فسمع قائلا يقول:
أيمنعنا القوم ماء الفرات * وفينا المناجون تحت الدجى
وفينا الصلاة وفينا الصيام * وفينا عليا وفينا الهدى
وسمع آخر يقول:
أيمنعنا القوم ماء الفرات * وفينا الرماح وفينا الحجف (2)
وفينا علي له سورة * إذا خوفه الردى لم يخف
ونحن غداة لقينا الزبير * وطلحة خصنا غمار التلف



(1) الأفيح: الواسع.
(2) الحجف، جمع حجفة، وهي الترس من جلود الإبل يطارق بعضها ببعض. (انظر مقاييس
اللغة مادة " حجف ").
359
فما بالنا أمس أسد العرين * وما بالنا اليوم شياء عجف (1)
والقي في فسطاط الأشعث بن قيس الكندي رقعة فيها المكتوب:
لئن لم يجل الأشعث اليوم كربة * من الموت عنا للنفوس تفلت
ونشرب من ماء الفرات بسيفه * فهبنا أناسا قبل ذلك موتوا (2)
فقرأها وأتى بها علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال له: اخرج في أربعة آلاف من
الخيل حتى تهجم بهم وسط عسكر معاوية فتشرب وتسقي أصحابك أو تموتوا
عن آخركم وأنا مسير الأشتر في خيل ورجالة وراءك.
فسار الأشعث في أربع آلاف وهو يقول:
لأوردن خيلي الفراتا * شعث النواصي أو يقال ماتا (3).
ثم سار الأشتر في أربعة آلاف وصاحب رايته يقول:
يا أشتر الخير ويا خير النخع * وصاحب النصر إذا غم الفزع
قد جزع القوم وغالوا بالجزع * إن تسقنا اليوم فما هي باليدع (4)
ثم سار علي (عليه السلام) في باقي الجيش، ومضى الأشعث فما رد وجه شئ حتى
هجم على عسكر معاوية، فزال أبا الأعور عن الشريعة وأورد خيله الفرات،
فارتحل معاوية عن الموضع، وورد الأشتر وقد كشف الأشعث القوم عن الماء،
وورد أمير المؤمنين (عليه السلام) فنزل مكان معاوية.
فقال معاوية لعمرو بن العاص: ما ظنك بالقوم أيمنعون الماء كما منعناهم؟
فقال له عمرو: إن الرجل قد جاء لغير الماء.
فبعث إليه معاوية يستأذنه في ورود الشريعة والاستقاء منها، فأذن له في
جميع ذلك.



(1) وقعة صفين: ص 164 - 165، مروج الذهب: ج 2 ص 375.
(2) وقعة صفين: ص 166، مروج الذهب: ج 2 ص 376. وفي وقعة صفين: " تعنت " بدل
" تفلت " و " شاء النجف " بدل " شيآء عجف ".
(3) وقعة صفين: ص 179 مع اختلاف، المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 168.
(4) وقعة صفين: ص 173.
360
وخرج علي (عليه السلام) في البدريين وعيناه كأنهما سراجا سليط، وعليه عمامة
بيضاء، وجعل يطوف على الناس ويحضهم حتى انتهى إلى الأشتر وهو في كثيف
من الناس فقال: معاشر الناس عموا الأصوات وأكملوا اللامة (1)، واستشعروا
الخشية، وأقلقوا السيوف في الأجفان قبل السل، والحظوا الشزر، واطعنوا الوخز،
وناجوا بالظبا (2)، وصلوا السيوف بالخطى، والنبال بالرمي، وطيبوا نفسا فإنكم
بعين الله ومع ابن عم نبيه، وعاودوا الكر، واستقبحوا الفر فإنه عار في الأعقاب
ونار يوم الحساب، ودونكم هذا السواد الأعظم والرواق المطنب (3) فاضربوا
نفحه (4) فأن الشيطان قد ركب صعداء وبسط ذراعيه وقدم للوثبة يدا وأخر
للنكوص رجلا فصمدا صمدا حتى يتجلى عن الحق، وأنتم الأعلون، والله معكم.
وخرج معاوية في عدد من أهل الشام، وانصرفوا عند المساء، وكل غير ظافر.
ثم خرج علي (عليه السلام) ومعاوية يوم الخميس واقتتل القوم إلى الضحى، وبرز أمام
الناس عبيد الله بن عمر بن الخطاب في أربعة آلاف معلمين، فناداه علي (عليه السلام):
ويحك يا بن عمر علام تقاتلني؟ قال: أطلب بدم عثمان. فقال علي (عليه السلام): تطلب بدم
عثمان والله تطلب بدم الهرمزان.
ثم إن عليا (عليه السلام) أمر الأشتر بالخروج، فخرج وهو يقول:
إني أنا الأشتر معروف السير * إني أنا الأفعى العراقي الذكر
لست من الحي ربيع أو مضر * لكنني من مذحج البيض الغرر
فانصرف عبيد الله ولم يبارزه.
وقال عمار: إني لأرى وجوه قوم لا يزالون يضاربوننا، والله لو هزمونا حتى
يبلغونا سعفات هجر لكنا على الحق (5).



(1) اللامة: الدرع، وإكمالها أن يزاد عليها البيضة والسواعد ونحوها.
(2) الظبا جمع ظبة: طرف السيف وحده.
(3) الرواق: الفسطاط، والمطنب: المشدود بالأطناب جمع طنب وهو الحبل.
(4) نفحت الناقة: ضربت برجلها (لسان العرب 2 / 622) وفي " نهج البلاغة ": فاضربوا بثجه
وهو الوسط.
(5) وقعة صفين: ص 322.
361
وتقدم عمار رحمة الله عليه وقاتل ثم رجع إلى موضعه فاستسقى امرأة من
مصافهم من بني شيبان بعس (1) فيه لبن فقال الله أكبر، الله أكبر، اليوم ألقى الأحبة
تحت الأسنة، صدق الصادق، وبذلك خبر الناطق، هذا اليوم الذي وعدت به ثم
قال: أيها الناس هل من رايح إلى الله تحت العوالي، فتقدم وهو يقول:
نحن ضربناكم على تنزيله * فاليوم نضربكم على تأويله
ضربا يزيل الهام عن مقيله * ويذهل الخليل عن خليله
أو يرجع الحق إلى سبيله (2).
فاشتبكت عليه الأسنة، وقتله أبو العادية العاملي وابن حوى السكسكي،
واختلفا في سلبه، وارتفعا إلى عبيد الله بن عمرو بن العاص فقال: قوموا عني
سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: أولعت قريش بعمار، مالهم ولعمار؟! يدعوهم إلى
الجنة ويدعونه إلى النار، عمار جلدة بين عيني، تقتله الفئة الباغية، لا أنالها الله
شفاعتي يوم القيامة (3).
وخرج هاشم المرقال، وحمل ذو الكلاع، ومع هاشم جماعة من أسلم قد آلوا
أن لا يرجعوا أو يفتحوا، أو يقتلوا واجتلد الناس، وقتل هاشم وذو الكلاع جميعا،
فتناول ابن المرقال اللواء وحمل وهو يقول:
يا هاشم بن عتبة بن مالك * أعزز بشيخ من قريش هالك
تخبطه الخيلات بالسنابك * أبشر بحور العين في الأرائك
والروح والريحان عند ذلك (4)
فوقف أمير المؤمنين (عليه السلام) على مصرع هاشم ومن صرع حوله فقال:
جزى الله خيرا عصبة أسلمية * صباح الوجوه صرعوا حول هاشم
يزيد وعبد الله بشر بن معبد * وسفيان وابنا هاشم ذي المكارم



(1) العس: القدح الضخم (لسان العرب 6 / 140).
(2) وقعة صفين: ص 341.
(3) وقعة صفين: ص 342 - 343.
(4) وقعة صفين: ص 348 مع زيادة في رواية الشعر.
362
وعروة لا يبعد ثناه وذكره * إذا سل للبيض الخفاف الصوارم (1)
واستشهد في هذا اليوم صفوان وسعد ابنا حذيفة بن اليمان، وكان حذيفة
عليلا بالكوفة قبل دخول علي إليها ومات قبل أن يراه خليفة.
واستشهد عبد الله بن الحارث أخو الأشتر، واستشهد عبد الله وعبد الرحمن ابنا
بديل بن ورقاء الخزاعي في خلق من خزاعة، وكان في ميسرة علي (عليه السلام).
ولما رأى معاوية القتل في أهل الشام وكلب أهل العراق عليهم تجهم
النعمان بن جبلة التنوخي وكان صاحب راية قومه من تنوخ، وقال له: لقد هممت
أن أولي قومك غيرك من هو خير منك مقدما وأنصح جيبا (2).
فقال: إنا لو كنا نغدوا إلى جيش مصنوع لكان في قطع الرجال بعض الأناة
فكيف ونحن ندعوهم إلى سيوف قاطعة وردينية شارعة وقوم ذوي بصائر نافعة،
فوالله لقد نصحتك على نفسي وقد بذلنا لك أمرا لا بد من إتمامه. وصمد للقتال.
وكان عبيد الله بن عمر إذا خرج للقتال قام إليه نساؤه يشددن سلاحه إلا
الشيبانية، فخرج هذا اليوم وأقبل على الشيبانية وقال لها قد عبأت لقومك صدرا،
وأيم الله إني لأرجو أن أربط بكل طنب من أطناب فسطاطي سيدا منهم. فقالت
الشيبانية: ما أبغض إلي أن تقاتلهم. قال: ولم؟ قالت: لأنه لم يتوجه إليهم صنديد
في جاهلية ولا إسلام وبرأسه صعر (3) إلا أقاموه، وأخاف أن يقتلوك، وكأ ني بك
قتيلا وقد أتيتهم فأسألهم أن يهبوا لي جيفتك. فرمى بسهم فشجها وقال لها:
ستعلمين من آتيك به من زعماء قومك.
فحمل عليه حريث بن جابر الحنفي فطعنه فقتله. وقيل: إن الأشتر قتله. وقيل:
إن أمير المؤمنين (عليه السلام) ضربه فقطع ما عليه من الحديد والحشو حتى خالط السيف
حشوة جوفه، وأن عليا (عليه السلام) قال حين هرب وطلبه ليقيد منه الهرمزان: لئن فاتني



(1) وقعة صفين: ص 356 مع اختلاف يسير.
(2) كذا في ظاهر الأصل، وفي مروج الذهب: انصح منك دينا.
(3) الصعر: الميل في الخد خاصة وهو كناية عن التكبر (انظر لسان العرب 4 / 456).
363
في هذا اليوم لن يفوتني في غيره.
فلما قتل عبيد الله كلم نساؤه معاوية في جيفته، فأمرهن أن يأتين ربيعة
فيبدلن لهم في جيفته عشرة آلاف، ففعلن ذلك، فاستأمرت ربيعة عليا (عليه السلام) في
ذلك فقال لهم: اجعلوا جيفته لبنت هاني بن قبيصة الشيباني وأتتهم الشيبانية فألقت
إليهم مطرف خز فلفوه فيه ودفعوه إليها، فمضت به.
ولما قتل عمار بن ياسر (رضي الله عنه) ومن ذكرنا من الناس حرض علي (عليه السلام) ربيعة
وقال لهم: أنتم درعي ورمحي، فانتدب عشرة آلاف جادوا بأنفسهم لله تعالى،
وعلي (عليه السلام) على بغلته الشهباء يقول:
من أي يومي من الموت أفر * من يوم لم يقدر أو يوم قدر
وحمل وحملوا معه حملة واحدة ولم يبق صف من صفوف أهل الشام إلا
انفض، وعلي (عليه السلام) يقول:
أضربهم ولا أرى معاوية * لا حرز العين العظيم الحاوية
ثم قال: يا معاوية علام يقتل الناس بيني وبينك، هلم أحاكمك إلى الله عز
وجل، فأينا قتل صاحبه استقامت له الأمور. فقال له عمرو: يا معاوية قد أنصفك
والله الرجل، ولا تحسن بك إلا مبارزته. فقال له معاوية: أطمعت فيها بعدي وأقسم
معاوية لا يخرج إليه غير عمرو وأن عمرا برز إليه وكشف عن سوءته.
وكان في هذا اليوم ما لم يكن في غيره قبله، وانصرف القوم يحملون قتلاهم.
ومر معاوية في خواصه بالموضع الذي كانت فيه ميمنته، فنظر إلى عبد الله بن
بديل بن ورقاء الخزاعي معفرا بدمائه، وقد كان في ميسرة علي (عليه السلام)، فسأله فيه
ابن عامر وكان صديقا له فوهبه له فغطاه بعمامته وحمله وواراه.
ثم نظر علي (عليه السلام) إلى غسان على مصافهم، فنادى أين أهل الصبر وطلاب
الأجر؟ ثم دعا ابنه محمد بن الحنفية فدفع إليه الراية، ثم قال له، امش بها فإذا
شرعت في صدورهم فأمسك حتى يأتيك رأيي. ففعل، وأتاه علي (عليه السلام) ومعه
الحسن والحسين (عليهما السلام) وشيوخ بدر وغيرهم قد كردسهم (1) على غسان، وعادت



(1) كردس القائد خيله أي جعلها كتيبة كتيبة (لسان العرب 6 / 195).
364
الحرب كما كانت، فاختلط الناس وأجنهم الليل، وكان الفارس يعتنق الفارس
فيقعان إلى الأرض جميعا، وكانت ليلة الجمعة وهي ليلة الهرير، وأصبح القوم على
قتالهم، فكشفت الشمس وارتفع القتام وتقطعت الألوية ولم يعرفوا أوقات الصلاة،
فقال معاوية لعمرو بن العاص: هلم مخبآتك يا بن العاص؟ فقال له عمرو: تأمر
الناس من كان معه مصحف فليرفعه على رمحه. ففعل ذلك، وارتفعت الضجة: من
لثغور الشام بعد أهله؟ من لثغور العراق بعد أهله؟ من للروم؟ من للترك؟ من لجهاد
الكفرة؟ وفي ذلك قال النجاشي:
فأصبح أهل الشام قد رفعوا القنا * عليها كتاب الله خير قرآن
ونادوا عليا يا بن عم محمدا * أما تتقي أن يهلك الثقلان
فلما رأى أهل العراق ذلك أحبوا الموادعة، وقال كثير من أصحاب علي (عليه السلام):
قد أعطاك معاوية الحق ودعاك إلى كتاب الله عز وجل فاقبله منه. وكان أشدهم
في ذلك الأحنف بن قيس (1). فقال علي (عليه السلام): أيها الناس إنه لم يزل لي من أمركم
ما أحب حتى قدحتم (2) الحرب، وقد والله أخذت منكم وتركت، وإني كنت
بالأمس أميرا فأصبحت اليوم مأمورا، وقد أحببتم البقاء.
فقال الأشتر: إن معاوية لا خلف له من رجاله، ولو كان له مثل رجالك لم يكن
له مثل صبرك ولا نصرك، فاقرع الحديد بالحديد واستعن بالله. وقال الأشعث بن
قيس: إنا لك اليوم على ما كنا لك أمس، وليس ندري ما يكون غدا، وقد والله كل
الحديد وقل الناصر.
فقال علي (عليه السلام): ويحكم ما رفعوها إلا خدعة. فقال الأشعث: إن شئت أتيت
معاوية فسألته ما يريد. فقال له: افعل. فسأله، فقال: نرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله
تعالى به في كتابه، تبعثون رجلا تختارونه وترضون به ونبعث رجلا، ونأخذ عليهما
العهد والميثاق أن يعملا بما في الكتاب ولا يخرجا عنه، وننقاد جميعا إلى ما اتفقا
عليه من حكم الكتاب. فصوب الأشعث رأيه، وانصرف إلى علي (عليه السلام) فأخبره



(1) كذا، والظاهر: الأشعث بن قيس.
(2) في مروج الذهب: قرحتكم الحرب ج 2 ص 390.
365
بذلك. فقال أكثر الناس: قبلنا ورضينا وسمعنا وأطعنا. فاختار أهل الشام عمرو بن
العاص، واختار الأشعث ومن رأى رأيه أبا موسى الأشعري.
فقال لهم علي (عليه السلام): إذ قد عصيتموني في أول هذا الأمر فلا تعصوني الآن، إني
لا أرى لكم أن تولوا أبا موسى. فقال الأشعث ومن معه: لا نرضى إلا به.
قال: ويحكم إنه وإنه وذكر عنه أمورا، ولكن هذا عبد الله بن عباس أوليه ذلك.
قالوا: والله لا نحكم فينا مضريان.
قال: فالأشتر. قالوا: وهل هاج هذا الأمر إلا الأشتر.
فقال لهم علي (عليه السلام): فاصنعوا الآن ما أردتم.
فبعثوا إلى أبي موسى وكتبوا القضية. وقيل لأبي موسى: إن الناس قد
اصطلحوا عليك. فقال: الحمد لله رب العالمين. قيل: وقد رضوا بك حكما. قال: إنا
لله وإنا إليه راجعون.
وكتبت الصحيفة لأيام بقيت من صفر سنة سبع وثلاثين، على أن يكون
اجتماع الحكمين في موضع عدل بين الكوفة والشام. ومر الأشعث بالصحيفة
يقرأها على الناس فرحا مسرورا حتى انتهى إلى مجلس بني تميم فقرأها عليهم،
فقال له عروة بن أذينة: أتحكمون في دين الله وأمره ونهيه، لا حكم إلا لله وكان
أول من قال وشد بسيفه على الأشعث فأصابت الضربة كفل الفرس. وكادت
العصبية تقع بين اليمانية والنزارية، وتباغض القوم وتبرأ بعضهم من بعض، الأخ
من أخيه والابن من أبيه، فأمر علي (عليه السلام) بالرحيل لعلمه باختلاف الكلمة وعدم
النظام وتضارب القوم بالمقارع، ولام بعضهم بعضا.
وسار أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الكوفة، ولحق معاوية بالشام، وفرق عساكره
فيه، والتقى الحكمان سنة ثمان وثلاثين بدومة الجندل.
وبعث أمير المؤمنين (عليه السلام) بعبد الله بن عباس وشريح بن هاني في أربعمائة
رجل فيهم أبو موسى، وبعث معاوية عمرو بن العاص معه شرحبيل بن السمط في
أربعمائة رجل. فلما تدانى القوم من الموضع قال ابن عباس لأبي موسى: إن عليا

366
لم يرض بك حكما والمتقدمون عليك كثير، ولكن القوم أبوا غيرك، وقد ضموا
داهية العرب معك، وما نسيت فلا تنس أن عليا (عليه السلام) بايعه الذين بايعوا أبا بكر
وعمر وعثمان، وليست فيه خصلة تباعده من الخلافة.
وكان من أمر الحكمين ما كان، وحيث انفصلا على ما انفصلا عليه وتسابا،
ركب أبو موسى راحلته ولحق بمكة ولم يعد إلى الكوفة وآلى أن لا ينظر في وجه
علي (عليه السلام) حتى يموت. ومضى ابن عمر وسعد إلى بيت المقدس فأحرما.
وفي فعل الحكمين يقول أيمن بن حريم بن قاتل الأسدي:
لو كان للقوم أمر يعصمون به * عند الخطوب رموكم بابن عباس
لكن رموكم بوغد من ذوي يمن * لم يدر ما ضرب أخماس بأسداس
وقال آخر:
رضينا بحكم الله لا حكم غيره * وبالله ربا والنبي وبالذكر
وبالأصلع الهادي علي إمامنا * رضينا بذاك الشيخ في العسر واليسر
رضينا به حيا وميتا وأنه * إمام الهدى في الوقف والنهي والأمر
ولأبي موسى يقول ابن أعين:
أبا موسى بليت وكنت شيخا * قريب القعر مخروق اللسان
رمى عمرو صفاتك بابن قيس * فيا لله من سفح يماني
فأمسيت العشية ذا اعتذار * ضعيف العذر منكوب العياني
تعض الكف من ندم وماذا * يرد عليك عضك بالبنان
وانصرف عمرو إلى منزله ولم يأت معاوية، فأرسل معاوية إليه يدعوه، فقال
له: إنما كنت آتيك إذا كانت إليك حاجة فأما إذا كانت الحاجة إلينا فأنت أحق أن
تأتينا فعلم معاوية ما قد دفع إليه، فخمر الرأي وأعمل الحيلة في أمر عمرو، وغدا
معاوية إليه وعمرو جالس على فراشه فلم يقم له عنها ولم يدعه إليها، فجلس
معاوية على الأرض واتكأ على ناحية الفراش، وجرى بين معاوية وبين عمرو
كلام كثير، فقال عمرو: هذا الأمر إلي أستخلف فيه من أريد وقد أعطاني أهل الشام

367
عهودهم ومواثيقهم بذلك. فحادثه معاوية ساعة وأخرجه عما كانوا عليه
وضاحكه وداعبه. ثم قال: يا أبا عبد الله هل من غداء؟.
فقال: أما والله شئ يشبع من ترى فلا.
فقال معاوية: يا غلام هلم غداك. فآتوه بالطعام المستعد فوضع، فقال له: ادع
مواليك وأهلك يا أبا عبد الله. فدعاهم.
فقال له عمرو: ادع أصحابك ثم يجلس هؤلاء بعدهم. فجعلوا كلما قام رجل
من حاشية عمرو قعد مكانه رجل من حاشية معاوية حتى خرج أصحاب عمرو
وجلس أصحاب معاوية، وقام الذي وكله معاوية بغلق فأغلقه، فقال معاوية
لعمرو: والله بيني وبينك أمران اختر أيهما شئت: البيعة لي أو قتلك، وليس والله غير
ذلك. قال عمرو: فإذن لورد غلامي حتى أستشيره وانظر ماذا رأيه. قال: والله
لا يراك ولا تراه إلا قتيلا أو على ما قلت لك. قال: فالوفاء إذن بطعمة مصر. قال:
هي لك ما عشت.
فاستوثق كل واحد منهما من صاحبه، وأحضر الخواص من أهل الشام، ومنع
أن يدخل معهم أحد من حاشية عمرو، فقال لهم عمرو: قد رأيت أن أبايع معاوية
فلم أر أحدا أقوى على هذا الأمر منه. فبايعه أهل الشام، وانصرف إلى منزله.
وذكر عن يحيى بن معين أن عدة من قتل من أهل الشام وأهل العراق - في
مائة يوم وعشرة أيام - مائة ألف وعشرة آلاف، من أهل الشام تسعون ألفا، ومن
أهل العراق عشرون ألفا. ويحيى يذهب أن عدد أهل الشام ممن حضر الحرب
بصفين مائة وخمسين ألف مقاتل دون الخدم والأتباع، وأهل العراق مائة
وعشرون ألف مقاتل دون الخدم والأتباع، والله أعلم.
$ أمير المؤمنين (عليه السلام) / وقعة النهروان
وقعة النهروان
وهم المارقون.
قيل: لما دخل علي (عليه السلام) الكوفة بعد عوده من صفين انحاز عنه اثنا عشر ألفا
من أهل العراق، فنزلوا حروراء قرية بالكوفة، وجعلوا عليهم شبث بن ربعي

368
التميمي، وعلى صلاتهم عبد الله بن الكواء اليشكري من بكر بن وائل، فخرج
علي (عليه السلام) إليهم فكانت له معهم مناظرات، ودخلوا جميعا الكوفة وسموا الحرورية
باجتماعهم في هذه القرية.
وقيل: إنهم كانوا ينادونه وهو على المنبر: جزعت من البلية ورضيت بالقضية
وقبلت الدنية لا حكم إلا لله.
فيقول لهم (عليه السلام): حكم الله أنتظر فيكم.
فقال المسعودي: اجتمع الخوارج في أربعة ألف وبايعوا عبد الله بن وهب
الراسبي، ولحقوا بالمدائن فقتلوا عاملا من عمال علي (عليه السلام) ذبحا وبقروا بطن
امرأته وكانت حاملا (1).
وقد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) انفصل عن الكوفة في خمسة وستين ألفا، وأتاه
ابن عباس من البصرة في ثلاثة آلاف فيهم الأحنف بن قيس وحارثة بن قدامة
السعدي وذلك في سنة ثمان وثلاثين.
فنزل علي (عليه السلام) الأنبار، فخطب الناس وحضهم على الجهاد وقال لهم: سيروا
إلى قتلة المهاجرين والأنصار، ألا إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرني بقتل القاسطين وهم
هؤلاء الذين سيرنا إليهم، والناكثين وهم الذين فرغنا منهم، والمارقين ولم نلقهم
بعد، فسيروا إلى القاسطين فهم أهم من الخوارج، سيروا إلى قوم يقاتلونكم كما
يكونوا جبارين، يتخذهم الناس أربابا ويتخذون عباد الله خولا.
فأبوا أن يسيروا إلا إلى الخوارج، فسار علي (عليه السلام) حتى أتى النهروان، فبعث
إليهم الحارث بن مرة العبدي يدعوهم إلى الرجوع فقتلوه، وبعثوا إلى علي (عليه السلام): إن
تبت من حكومتك وشهدت على نفسك بالكفر بايعناك، وإن أبيت اعتزلنا عنك
حتى نختار لأنفسنا إماما فإنا منك برآء.
فبعث إليهم علي (عليه السلام) أن ادفعوا إلي قتلة إخواني فأقتلهم ثم أنازلكم إلى
أن أفرغ من قتال أهل المغرب لعل الله تعالى يقلب بقلوبكم.



(1) مروج الذهب: ج 2 ص 404.
369
فبعثوا إليه: كلنا قتلة أصحابك، وكلنا مستحل لدمائهم مشتركون في قتلهم.
وأخبره الرسول - وكان من يهود السواد - أن القوم قد عبروا نهر طبرستان.
فقال علي (عليه السلام): هيهات ما عبروه ولا قطعوه حتى نقتلهم بالرميلة دونه.
فتواترت إليه الأخبار بقطعهم هذا النهر وعبورهم الجسر، وهو يأبى ذلك ويحلف
أنهم لا يعبرونه وأن مصارعهم دونه. ثم قال: سيروا إلى القوم فما يفلت منهم إلا
عشرة ولا يقتل منكم عشرة.
وسار (عليه السلام) فأشرف عليهم وقد عسكروا بالرميلة على حسب ما قال، فلما
رآهم قال: الله أكبر الله أكبر.
فتصاف القوم، ووقف (عليه السلام) بنفسه ودعاهم إلى الرجوع والتوبة، فرموا
أصحابه، فقال لأصحابه: كفوا حتى نكرر القول عليهم ثلاثا. وهو يأمرهم بالكف
حتى اتي برجل مشحط بدمائه، فقال (عليه السلام) لأصحابه: الآن فاحملوا. فحمل رجل
من الخوارج على أصحاب علي (عليه السلام) وجعل يقول:
أضربهم ولو أرى عليا * جللته أبيض مشرفيا
فخرج علي (عليه السلام) إليه فقتله. ثم خرج آخر وهو يقول:
أضربهم ولو أرى أبا الحسن * ذاك الذي إلى هوى الدنيا ركن.
اذن فهدا حزن من الحزن
فنادى علي (عليه السلام):
يا أيها المستنزل المعلى الفتن * والمتمني أن يرى أبا حسن
أتاك فانظر أينا يلقى الغبن.
وحمل عليه فقتله بالرمح وتركه فيه وانصرف وهو يقول: قد رأيت أبا الحسن
فرأيت ما تكره.
وحمل أبو أيوب الأنصاري على زيد بن حصين فقتله، وقيل عبد الله بن وهب
الراسبي قتله هاني بن خاطب الأزدي وزياد بن حفصة، وقيل حرقوص بن
زهير السعدي.

370
وكان جملة من قتل من أصحاب علي (عليه السلام) تسعة، ولم يفلت من الخوارج
إلا عشرة.
وأمر علي (عليه السلام) بطلب المخدج، فطلبوه فلم يجدوا عليه. فقام علي (عليه السلام) فانتهى
إلى قتلى بعضهم على بعض فقال: اخرجوا، فاخرجوا يمينا وشمالا فاستخرجوه
من تحتهم، فقال علي (عليه السلام): والله ما كذبت على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنه لناقص اليد
ليس فيها عظم، طرفها حلمة مثل ثدي المرأة، عليها خمس شعرات أو سبع
رؤوسها معقفة. ثم قال: ائتوني به، فأتوه به، فنظر إلى عضده فإذا لحمة مجتمع على
كتفيه مثل ثدي المرأة عليها شعرات سود إذا مدت امتدت حتى تحاذي بطن يده
الأخرى ثم تترك فتعود إلى منكبه. فثنى (صلى الله عليه وآله) (1) رحله ونزل، فخر ساجدا، ثم ركب
ومر بهم وهم صرعى فقال: لقد صرعكم من غركم. قالوا: يا أمير المؤمنين من
غرهم؟ فقال: الشيطان وأنفس السوء. فقيل: قد قطع الله دابرهم إلى آخر الدهر.
فقال: كلا والذي نفس علي بيده أنهم لفي أصلاب الرجال وأرحام النساء لا تخرج
خارجة إلا خرج بعدها مثلها حتى يخرج خارجة بين الفرات ودجلة مع رجل
يقال له الأشمط - يخرج إليه رجل منا أهل البيت فيقتلهم، فلا تخرج بعدها
خارجة إلى يوم القيامة.
وجمع (عليه السلام) ما كان في عسكر الخوارج، فقسم السلاح والدواب بين
المسلمين، ورد المتاع والعبيد والإماء على أهلها. وخطب الناس فقال: إن الله قد
أحسن إليكم وأعز نصركم فتوجهوا من فوركم هذا إلى عدوكم. فقالوا: يا أمير
المؤمنين قد كلت سيوفنا، ونفذت نبالنا، ونصلت أسنة رماحنا، فدعنا نستعد
عدتنا. وكان الذي كلمه بهذا الأشعث بن قيس.
فعسكر علي (عليه السلام) بالنخيلة، فجعل أصحابه يتسللون ويلحقون بأوطانهم، فلم
يبق منهم إلا نفر يسير. ومضى الحارث بن راشد التاجي في ثلاثمائة من الناس



(1) كذا في الأصل.
371
فارتد إلى دين النصرانية، وهو من ولد سامة بن لؤي بن غالب ودخل (عليه السلام) الكوفة (1).
تم الجزء الأول من كتاب الدر النظيم في مناقب الأئمة اللهاميم، ويتلوه في
الجزء الثاني فصل في ذكر بعض حكم أمير المؤمنين (عليه السلام) وخطبه ووصاياه
ومواعظه، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله
الطاهرين سنة 434 (2).
* * *
رب أنعمت فزد
فصل
في ذكر بعض حكم أمير المؤمنين (عليه السلام)
وخطبه ووصاياه ومواعظه
قال الأصبغ بن نباتة: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) خطب ذات يوم فحمد الله وأثنى
عليه، وصلى على النبي (عليه السلام) ثم قال: أيها الناس اسمعوا مقالتي وعوا كلامي، إن
الخيلاء من التحير، والنخوة من التكبر، وإن الشيطان عدو حاضر يعدكم الباطل.
ألا إن المسلم أخو المسلم فلا تنابزوا ولا تخاذلوا فان شرائع الدين واحدة وسبله
قاصدة، من أخذ بها لحق، ومن تركها مرق، ومن فارقها محق. ليس المسلم
بالخائن إذا أؤتمن، ولا بالمخلف إذا وعد، ولا بالكذوب إذا نطق. نحن أهل بيت
الرحمة، وقولنا الحق، وفعلنا القسط، ومنا خاتم النبيين، وفينا قادة الاسلام وامناء
الكتاب، ندعوكم إلى الله ورسوله، والى جهاد عدوه، والشدة في أمره، وابتغاء
$ أمير المؤمنين (عليه السلام) / خطبه ووصاياه ومواعظه
رضوانه، وإلى إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصيام شهر رمضان،



(1) مروج الذهب: ج 2 ص 406 - 407.
(2) كذا في الأصل وهو تصحيف.
372
وتوفير الفئ لأهله. ألا وأن أعجب العجب أن معاوية بن أبي سفيان الأموي
وعمرو بن العاص السهمي يحرضان الناس على طلب الدين بزعمهما، وإني والله
لا أخالف رسول الله قط، ولم أعصه في أمر قط، أقيه بنفسي في المواطن التي تنكص
فيها الأبطال وترعد فيها الفرائص بقوة أكرمني الله بها فله الحمد، ولقد قبض
النبي (صلى الله عليه وآله) ورأسه في حجري، ولقد وليت غسله بيدي يقلبه معي الملائكة المقربون،
وأيم الله ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا نصر باطلها على حقها إلا ما شاء الله.
وحدث المعافة بن إسرائيل، عن المقدام بن شريح بن هاني، عن أبيه
شريح بن هاني، قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): العلم وراثة كريمة، والأدب خلال
حسان، والفكر مرآة صافية (1)، والاعتبار منذر ناصح.
قد أزرى بنفسه من استشعر الطمع، ورضي بالذل من كشف ضره (2)، وأهان
نفسه من اطلع على سره سواه.
فلا كرم أعز من التقوى، ولا معقل أحرز من الورع، ولا شفيع أنجح من التوبة،
ولا لباس أجمل من العافية، ولا وقاية أمنع من السلامة، ولا كنز أغنى من القنوع،
ولا شئ أذهب للفاقة من الرضا بالقوت (3).
والحسد آفة الدين، والتقوى سابق إلى الخير، وكفى بك أدبا لنفسك ما كرهته
لغيرك.
قد خاطر بنفسه من استغنى برأيه.
التدبير قبل العمل يؤمنك من الندم.
إعجاب المرء بنفسه فساد عقله.
من غلب لسانه أمره قومه.
من لم يصلح خلائفه (4) كثرت بوائقه (5).



(1) إلى هنا في نهج البلاغة: ص 469 حكمة 5.
(2) إلى هنا في نهج البلاغة: ص 469 حكمة 2.
(3) نهج البلاغة: ص 540 حكمة 371.
(4) الخلائق جمع خليقة: الطبيعة والسجية.
(5) البوائق جمع بائقة: الشر والغائلة والداهية.
373
من ساء خلقه مله أهله.
رب كلمة سلبت نعمة.
شفيع المذنب خضوعه.
أصل الدين الوقوف عند الشبهة.
في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق (1).
لا تيأس لذنبك وباب التوبة مفتوح.
الرشد في خلاف الشهوة.
تاريخ المنى الموت.
النظر إلى البخيل يقسي القلب، والنظر إلى الأحمق يسخن العين.
السخاء فطنة واللؤم تغافل (2).
من عرف المعاد لم يغفل عن الاستعداد.
الحرص علامة الفقر (3).
الفقر هو الموت الأكبر.
قلة العيال أحد اليسارين (4).
التدبير نصف العيش.
الهم نصف الهرم.
ما عال امرء اقتصد.
ما عطب امرء استشار.
الصنيعة لا تصلح إلا عند ذي حسب أو دين.
السعيد من وعظ بغيره.
المغبون لا محمود ولا مأجور (5).



(1) بحار الأنوار: ج 78 ص 53 ح 86 وأوله: اعجاب المرء بنفسه...
(2) بحار الأنوار: ج 78 ص 53 ح 87 وأوله: لا تيأس لذنبك...
(3) بحار الأنوار: ج 78 ص 54 ح 91.
(4) كذا في البحار، وفي الأصل أحد الدينارين.
(5) بحار الأنوار: ج 78 ص 53 ح 88 وأوله: الفقر الموت الأكبر...
374
رحم الله أمرء سمع فوعى، ودعي إلى رشاد فدنا، وأخذ بحجزة هاد فنجا، قدم
صالحا واكتسب مذخورا، آثر هداه وكذب مناه، وجعل الصبر مطية نجاته،
والتقوى عدة وفاته، لزم الطريقة الغراء والمحجة البيضاء واغتنم المهل، وبادر
الأجل، وتزود من العمل (1).
قال أبو العباس أحمد بن الخضر بإسناده يرفعه إلى محمد بن واسع، قال:
حدثني أويس القرني، قال: سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول
يوما لابنه الحسن بن علي (عليهم السلام): يا بني من قال إني مؤمن فليخضع لله عز وجل في
دينه، وليسع لنفسه في حياته، وليخشع في صلاته ولا يجزع من زكاته.
يا بني لا إيمان أطيب من الأمانة، ولا طغيان أخبث من الخيانة، ولا زهادة
أفضل من التدبير، ولا عبادة أفضل من التفكر، ولا مهابة أعز من العلم، ولا أمارة
أرفق من الحلم، ولا كياسة أوفق من السماحة، ولا بشاشة أبقى من النصيحة، ولا
أخ أعون من الحمد والشكر، ولا مروءة أكرم من الفصاحة واللب، ولا رزانة أنجب
من الألفة والحب، ولا شين أشين من السفاهة والعجب، ولا صديق أزين من العقل،
ولا قرين أشين من الجهل، ولا شرف أعز من التقوى، ولا كرم أجود من ترك الهوى،
ولا عمل أفضل من التفكر، ولا حسنة أعلى من الصبر، ولا سيئة أسوء من الكبر،
ولا دواء ألين من الرفق، ولا داء أوجع من الحزن، ولا رسول أعدل من الحق، ولا
دليل أفصح من الصدق، ولا غنى أشفى من القنوع، ولا فقر أذل من الطمع، ولا
عبادة أحسن من الورع، ولا زهادة أنبل من الخشوع، ولا حياة أطيب من الصحة،
ولا حشمة أهنأ من العفة، ولا حارس أحفظ من الصمت، ولا آت أقرب من الموت.
واعلم يا بني إن هلاك المرء في ثلاثة: في الكبر والحرص والحسد. أما الكبر
فهلاك الدين، وبه لعن اللعين وصار من أهل النار. وأما الحرص فهو عدو النفس،
وبالحرص اخرج آدم من الجنة. وأما الحسد فهو دليل الشر، وبه قتل قابيل هابيل
حتى صار شقيا.



(1) بحار الأنوار: ج 78 ص 51 ح 81 وأوله: رحم الله امراء...
375
يا بني النجاة في ثلاث: في الهدى، والتقى، وترك الهوى والردى.
يا بني الاستقامة في ثلاث: في الجماعة، والطاعة، والسنة.
يا بني السعادة في ثلاث: في العلم والعقل، وصدق النية.
يا بني والحتف في ثلاث: في الجمع، والمنع، والطمع.
يا بني والرئاسة في ثلاث: في الصدق، والحلم، وحسن المداراة.
يا بني والجهل في ثلاث: في الكذب، والسفاهة، والغضب.
يا بني والكرم في ثلاث: في حسن العطية، وحفظ الجار، وصلة الرحم.
يا بني واللؤم في ثلاثة: في الشح، والبخل، والجفاء بالاخوان.
يا بني وحسن الخلق في ثلاثة: في اجتناب المحارم، والطلب للحلال، والسعة
على العيال.
يا بني وسوء الخلق في ثلاثة: في ارتكاب المعاصي، وذكر أعراض الناس،
والتكلف لما لا يعنيك.
يا بني والاخوة في ثلاثة: في المودة، والنصيحة، والمواساة.
يا بني والفرقة في ثلاثة: في خلاف العلماء، وامارة السفهاء، وكثرة العجز
والتواني.
يا بني والبركة في ثلاثة: في الاقتصاد، والمشاورة، والرزق بالكفاية.
يا بني والسلامة في ثلاثة: في الوفاء بالعهد، وأداء الأمانة، وترك الخيانة.
يا بني والعافية في ثلاثة: في حفظ اللسان، وترك الغيبة، وترك النميمة.
يا بني والراحة في ثلاثة: في احتمال المؤنة، وحسن المعونة، والأخذ بالفضل.
يا بني والانسانية في ثلاثة: في التواضع عند القول، والعفو عند القدرة،
والعطية بغير منة.
واعلم يا بني إن الدنيا بحذافيرها فانية، والأموال لأهلها عارية، وأن حلالها
وإن كثر منها حساب، وأن حرامها وإن قل منها عذاب، وفيها بكل فرحة بعدها
ترحة، ولكل جماعة فرقة، ولكل شهوة غم وكربة، ولكل لذاذة شدة، ولكل سيئة

376
حسرة، ولكل سعة مضرة، ولكل حلاوة بعدها مرارة، ولكل إبرام بعده نقض، ولكل
لين بعده صعوبة، ولكل سرور بعده حزن، ولكل طرب بعده سجن.
فكل هذا يا بني في الدنيا، ولا ينجو إلا من عصمه الله منها وأكرمه برحمته،
والناس فيها غافلون، ومن فنائها آمنون، والموت أمامهم ينتظر آجالهم، وهم فيها
بين ذلك مجتهدون يكدون أنفسهم ومن الحلال والحرام يكتسبون، أملهم طويل
وأجلهم قصير، عموا في الدنيا واستأنسوا بأهلها، فهم عن آخرها آمنون مطمئنون،
يبنون القصور وما لا يسكنون، ويعمرون ما لا يدخلون، ويأمنون مالا يخافون.
يا بني لا الدنيا يطلبون ولا الآخرة يرجون، لو طلبوا للدنيا لعملوا بما امروا
فيها، ولو رجوا الآخرة لاشتغلوا فيما رجوا منها.
يا بني كيف تجمعون؟ ومن أين تأكلون؟ ومم تلبسون؟
يا بني المال والبنون حرث الدنيا، والدين والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد
يجمعها الله لأقوام يحبهم ويحبونه.
يا بني فمن أحب الله أحبه الله وحببه إلى خلقه، ومن أبغض الله أبغضه الله
وبغضه إلى خلقه. ولا قوة إلا بالله.
حدث الأصبغ بن نباتة قال: دعا أمير المؤمنين (عليه السلام) الحسن والحسين (عليهما السلام)
لما ضربه ابن ملجم لعنه الله فقال لهما: إني مقبوض في ليلتي هذه ولا حق برسول
الله (صلى الله عليه وآله) فاسمعا قولي وعياه. أنت يا حسن وصيي والقائم بالأمر بعدي، وأنت
يا حسين شريكه في الوصية فأنصت ما نطق، وكن لأمره تابعا ما بقي، فإذا خرج
من الدنيا فأنت الناطق بعده والقائم بالأمر، وعليكما بتقوى الله الذي لا ينجو إلا
من أطاعه ولا يهلك إلا من عصاه، واعتصما بحبله، وهو الكتاب العزيز الذي
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
ثم قال للحسن (عليه السلام): إنك ولي الأمر بعدي، فإن عفوت عن قاتلي فلك،
وإن قتلت فضربة مكان ضربة، وإياك والمثلة فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى عنها
ولو بكلب عقور.

377
واعلم أن الحسين ولي الدم معك، تجري فيه مجراك، وقد جعل الله تبارك
وتعالى له على قاتلي سلطانا كما جعل لك، وأن ابن ملجم ضربني ضربة فلم تعمل
فثناها فعملت، فإن عملت فيه ضربتك فذاك، وإن لم تعمل فمر أخاك الحسين
فليضربه أخرى بحق ولايته فإنها ستعمل فيه، فإن الإمامة له بعدك، وجارية
في ولده إلى يوم القيامة، وإياك أن تقتل في غير قاتلي فإن الله عز وجل يقول:
* (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * (1).
واعلم أن معاوية سيخالفك كما خالفني، فإن وادعته وصالحته كنت مقتديا
بجدك (صلى الله عليه وآله) في موادعته بني ضمرة وبني أشجع وفي مصالحته أهل مكة يوم
الحديبية وكانت لك بي أسوة في الصبر خمس وعشرين سنة، فإن أردت مجاهدة
عدوك فلن يصلح لك من شيعتك من لم يصلح لأبيك فإنهم قوم لا وفاء لهم،
يوردونك ثم لا يصدرونك، ويخذلونك ثم لا ينصرونك، ويعاهدونك ثم لا يفون
لك، وسيقتلك معاوية بالسم ظلما وعدوانا وذلك سابق في علم ربك تقدس ذكره،
فاحقن دماء شيعتك بموادعته، وابتغ لهم السلامة بمصالحته.
ثم قال للحسين (عليه السلام): وأنت يا حسين ستخرج لمجاهدة ابنه يزيد فيقتلك من
قومه أبرص ملعون لا يراقب فيك إلا ولا ذمة، وسيقتل معك سبعة عشر من أهل
بيتك تحت أديم السماء مالهم شبيهون، وكأ ني بك تستسقي الماء فلا تسقى، وتنادي
فلا تجاب، وتستغيث فلا تغاث، وكأ ني بأهل بيتك قد سبوا وبثقلك قد نهب، وكأ ني
بالسماء قد أمطرت لقتلك دما ورمادا، وكأ ني بالجن قد ناحت عليك، وكأ ني
بموضع تربتك قد صار مختلف زوارك من الملائكة والمؤمنين. ثم قطع كلامه.
وصية أخرى:
حدث عبد الرحمن بن الحجاج، عن أبي عبد الله (عليه السلام) وعمن رواه، عن
عمرو بن شمر، عن جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: هذه وصية علي



(1) الأنعام: 164.
378
بن أبي طالب (عليه السلام) إلى ابنه الحسن (عليه السلام)، وهي نسخة كتاب سليم بن قيس الهلالي
دفعه إلى أبان وقرأها عليه، وقال أبان: قرأتها على علي بن الحسين (عليهما السلام).
قال سليم: شهدت وصية علي بن أبي طالب (عليه السلام) حين أوصى إلى ابنه
الحسن (عليه السلام)، وأشهد على وصيته الحسين (عليه السلام) ومحمدا وجميع ولده ورؤساء أهل
بيته وشيعته، ثم دفع إليه الكتاب والسلاح ثم قال: يا بني أمرني رسول الله (صلى الله عليه وآله)
أن أوصي إليك وأن أدفع إليك كتبي وسلاحي، كما أوصى إلي رسول الله (صلى الله عليه وآله)
ودفع إلي كتبه وسلاحه، وأمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفعها إلى أخيك
الحسين (عليه السلام).
قال: ثم أقبل على ابنه الحسين (عليه السلام) وقال له: وأمرك رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن تدفعه
إلى ابنك علي بن الحسين.
ثم أقبل على علي بن الحسين فقال له: وأمرك رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن تدفعه إلى
ابنك محمد بن علي فأقرأه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومني السلام.
ثم أقبل على ابنه الحسن (عليه السلام) وقال له: يا بني أنت ولي الأمر وولي الدم فإن
عفوت فلك، وإن قتلت فضربة مكان ضربة ولا تأثم.
ثم قال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به علي بن أبي طالب:
أوصى أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله
أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ثم إن
صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا
من المسلمين.
ثم إني أوصيك يا حسن وجميع ولدي وأهل بيتي ومن بلغه كتابي من
المؤمنين بتقوى الله ربكم، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعتصموا بحبل الله
جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم. سمعت
رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام، وان
البغض خالعة الدين وفساد ذات البين، ولا قوة إلا بالله. انظروا ذوي أرحامكم

379
فصلوهم يهون الله عليكم الحساب. والله الله في الأيتام فلا تعر (1) أفواههم ولا
يضيعوا بحضرتكم، فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: من عال يتيما حتى يستغني
أوجب الله له الجنة كما أوجب لآكل مال اليتيم النار. والله الله في القرآن فلا
يسبقنكم إلى العمل فيه غيركم. والله الله في جيرانكم، فإن الله عز وجل ورسوله
أوصى بهم. والله الله في بيت ربكم فلا يخلون منكم ما بقيتم، فإنه إن يترك لم
تناظروا فإن أدنى ما يرجع به من أمه أن يغفر له ما سلف من ذنبه. والله الله في
الصلاة فإنها خير العمل، وإنها عمود دينكم. والله الله في الزكاة فإنها تطفئ غضب
ربكم. والله الله في شهر رمضان فإن صيامه جنة من النار. والله الله في الفقراء
والمساكين فشاركوهم في معيشتكم. والله الله في الجهاد في سبيل الله بأموالكم
وأنفسكم، فإنما يجاهد في سبيل الله رجلان: إمام هدى، ومطيع له مقتد بهداه. والله
الله في ذرية (2) نبيكم فلا يظلمن بين أظهركم وأنتم تقدرون على الدفع عنهم. والله
الله في أصحاب نبيكم الذين لم يحدثوا حدثا ولم يأووا محدثا، فإن رسول
الله (صلى الله عليه وآله) أوصى بهم ولعن المحدث منهم ومن غيرهم والمؤوي للمحدث. والله الله
في النساء وما ملكت أيمانكم. لا تخافن في الله لومة لائم، يكفيكم الله من أرادكم
وبغى عليكم. قولوا للناس حسنا كما أمركم الله، ولا تتركن الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر فيولي الله الأمر شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم. عليكم يا بني
بالتواصل والتباذل والتبار، وإياكم والتقاطع والتدابر والتفرق، تعاونوا على البر
والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله إن الله شديد العقاب. حفظكم
الله من أهل بيت، وحفظ فيكم نبيكم، وأستودعكم الله وأقرأ عليكم السلام.
ثم لم يزل يقول: لا إله إلا الله حتى قبض صلوات الله عليه في أول ليلة من
العشر الأواخر، ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان، ليلة الجمعة لأربعين سنة
مضت من الهجرة (3).



(1) كذا في النسخة، وفي البحار: فلا تغيروا، وفي الكافي: فلا تغبوا، أي لا تجيعوهم، والمعنى
واحد لأن الجائع يتغير فمه.
(2) وفي الأصل: ذمة.
(3) الكافي: ج 7 ص 51 ح 7، بحار الأنوار: ج 42 ص 250 باب 127 كيفية شهادته ووصيته ح 52.
380
حدث الحسين بن الحسن بن أبان، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن
الحسن الكناني، عن جده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى أنزل على
نبيه (صلى الله عليه وآله) كتابا قبل أن يأتيه الموت فقال: يا محمد هذا الكتاب وصيتك إلى النجيب
من أهلك. قال: ومن النجيب من أهلي يا جبرائيل؟ فقال: علي بن أبي طالب. وكان
على الكتاب خواتيم من ذهب، فدفعه النبي (صلى الله عليه وآله) إلى علي (عليه السلام) وأمره أن يفك
خاتما ويعمل بما فيه. ففك (عليه السلام) خاتما وعمل بما فيه. ثم دفعه إلى ابنه الحسن (عليه السلام)
ففك خاتما وعمل بما فيه. ثم دفعه إلى الحسين (عليه السلام) ففك خاتما وعمل بما فيه،
فوجد فيه أن اخرج بقوم إلى الشهادة فلا شهادة لهم إلا معك واشتر نفسك لله تعالى
ذكره، ففعل. ثم دفعه إلى علي بن الحسين (عليه السلام) ففك خاتما فوجد فيه: اصمت والزم
منزلك حتى يأتيك اليقين، ففعل. ثم دفعه إلى محمد بن علي (عليه السلام) ففك خاتما
فوجد فيه: حدث الناس وأفتهم ولا تخافن إلا الله جل وعز فإنه لا سبيل لأحد
عليك. ثم دفعه إلي، ففككت خاتما فوجدت فيه: حدث الناس وأفتهم وانشر
العلوم علوم أهل بيتك وصدق آباءك الصالحين ولا تخافن أحدا إلا الله فأنت في
حرز وأمان، ففعلت. ثم ادفعه إلى موسى بن جعفر، وكذلك موسى يدفعه إلى من
بعده، ثم كذلك أبدا إلى قيام المهدي (1).
وقال (عليه السلام) لنوف الشامي مولاه وهو معه على سطح: يا نوف أنائم أم نبهان؟
فقال: نبهان أرمقك يا أمير المؤمنين. قال: تدري من شيعتي؟ قال: لا والله. قال:
شيعتي إن شهدوا لم يعرفوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، وإن خطبوا لم يزوجوا، وإن
مرضوا لم يعادوا. شيعتي من لم يهر هرير الكلب، ولم يطمع طمع الغراب، ولم
يسأل الناس وإن مات جوعا، إن رأى مؤمنا أكرمه، وإن رأى فاسقا هجره. شيعتي
الذين هم في قبورهم يتزاورون، وفي أموالهم يتواسون، وفي الله يتباذلون، خفيفة
أنفسهم، عفيفة قلوبهم.



(1) علل الشرائع: ص 171 باب 135 ح 1.
381
قال: قلت: يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك فأين أطلب هؤلاء؟ قال لي: في
أطراف الأرض، هؤلاء والله يا نوف شيعتي، يجئ النبي (صلى الله عليه وآله) وهو آخذ بحجزة
ربه، وأنا آخذ بحجزته، وأهل بيتي آخذون بحجزتي، وشيعتي آخذون بحجزنا،
فإلى أين يا نوف؟ فإلى الجنة ورب الكعبة - ثلاثا -.
يا نوف أما الليل فصافون أقدامهم، يفترشون جباههم، تجري دموعهم على
خدودهم، يتناجون في فكاك رقابهم. وأما النهار فحكماء، نجباء، كرام، أتقياء.
يا نوف بشر الزاهدين، نعم ساعة الزاهدين، أما انها ساعة لا يسأل الله فيها عبد
إلا أعطاه الله ما لم يكن حاشرا أو عاشرا أو ساحرا أو صاحب كوبة (1) أو صاحب
عرطبة (2).
يا نوف شيعتي الذين اتخذوا الأرض بساطا، والماء طيبا، والقرآن شعارا،
قرضوا الدنيا قرضا قرضا على منهاج المسيح عيسى بن مريم (عليهما السلام) (3).
وقيل له: يا أمير المؤمنين من خيار الناس؟ قال: الذين إذا أحسنوا استبشروا،
وإذا أساؤوا استغفروا، وإذا أعطوا شكروا، وإذا ابتلوا صبروا، وإذا أغضبوا غفروا.
وقال (عليه السلام): الدنيا صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غناء لمن
تزود منها، مسجد أنبياء الله، ومصلى ملائكته، ومهبط وحيه، ومتجر أوليائه،
اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة، فمن ذا يذمها وقد آذنت ببينها، ونادت
بفراقها، ونعت نفسها وأهلها، ومثلت لهم ببلاياها البلاء، وسوقت بسرورها إلى
السرور، وراحت بفجيعة، وابتكرت بعافية تحذيرا وترغيبا وتخويفا، فذمها رجال
غداة الندامة، وحمدها آخرون ذكرتهم فذكروا وصدقتهم فصدقوا. فيا أيها الذام
الدنيا المغتر بغرورها متى استذمت لك الدنيا؟ بل متى غرتك من نفسها بمضاجع
آبائك من البلى، أم بمصارع أمهاتك من الثرى؟ كم قد عللت بنفسك ومرضت
بيدك تبغي له الشفاء وتستوصف له الأطباء، لم تنفعه بشفائك، ولم تسعف له



(1) الكوبة: الطبل.
(2) العرطبة: الطنبور. في الأصل: العربطة.
(3) نهج البلاغة: ص 486 حكمة 104 ط. صبحي الصالح.
382
بطلبتك، قد مثلت لك الدنيا به نفسك، وبمصرعه مصرعك، غداة لا ينفعك بكاؤك،
ولا يغني عنك أحباؤك (1).
ولم يسمع في مدح الدنيا أحسن من هذا المدح.
وقال (عليه السلام): ألا أن الدنيا قد ارتحلت مدبرة وأن الآخرة قد ارتحلت مقبلة،
ولهذه أبناء ولهذه أبناء، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا.
ألا وكونوا الزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة، لأن الزاهدين في الدنيا
اتخذوا الأرض بساطا والتراب فراشا والماء طيبا وقرضوا الدنيا قرضا.
ألا ومن اشتاق إلى جنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن
المحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ومن راقب الخير سارع في
الخيرات. ألا وأن لله عبادا كأنهم يرون أهل الجنة في الجنة منعمين مخلدين،
ويرون أهل النار في النار معذبين مخلدين، قلوبهم مخمونة (2)، وشرورهم مأمونة،
أنفسهم عفيفة وحاجاتهم خفيفة، صبروا أياما قليلة فصارت العقبى لهم راحة
طويلة. أما الليل فصافوا أقدامهم، تجري دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى
ربهم، ويسعون في فكاك رقابهم من النار. وأما النهار فحلماء علماء، بررة أتقياء،
كأنهم القداح، قد براهم الخوف والعبادة، ينظر إليهم الناظر فيقول مرضى وما
بالقوم من مرض، أم خولطوا فقد خالط القوم أمر عظيم من ذكر النار ومن فيها (3).
ودخل عليه رجل فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته،
كيف أصبحت يا أمير المؤمنين؟ قال: أصبحت ضعيفا مذنبا: آكل رزقي وأنتظر
أجلي. قال: فما تقول في الدنيا؟
قال: أولها غم وآخرها موت، من استغنى فيها فتن، ومن افتقر فيها حزن،
حلالها حساب، وحرامها عقاب.
قال: وأي الخلق أنعم؟ قال: أجساد تحت التراب قد أمنت العقاب،



(1) أمالي الطوسي: ج 2 ص 207.
(2) كذا في الأصل، وفي نهج البلاغة: محزونة.
(3) نهج البلاغة: ص 486 حكمة 104 وأولها: يا نوف طوبى للزاهدين.
383
وهي تنتظر الثواب (1).
وقال ضرار: كأني بأمير المؤمنين (عليه السلام) وقد أرخى الليل سدوله، وغارت
نجومه، وهو في محرابه، قابض على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء
الحزين وهو يقول: يا دنيا إلي تعرضت أم إلي تشوقت، هيهات هيهات لا حان
حينك، قد أبنتك ثلاثا لا رجعة لي فيك: فعمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك
يسير. آوه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق (2).
وقال ضرار أيضا: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: أعجب ما في الانسان قلبه،
وله مواد من الحكمة وأضداد من خلافها فإن سنح له الرجاء أذله الطمع، وإن مال
به الطمع أهل له الحرص، وإن ملكه القنوط قتله الأسف، وإن عرض له الأسف
اشتد به الغيظ، وإن سعد بالرضا نسي التحفظ، وإن ناله الخوف فضحه الجزع، وإن
أفاد مالا أطغاه الغنى، وإن عضته فاقة فضحه الفقر، وإن جهده الجوع أقعده الضعف،
وإن أفرط به الشبع كظته البطنة. فكل مقصر به مضر، وكل إفراط له مفسد (3).
قال: وسمعته ذات يوم يوصي كميل بن زياد فقال له: يا كميل ذب عن المؤمن
فان ظهره حمى الله، ونفسه كريمة عليه، وظالمه خصم الله، فأحذركم ممن ليس له
ناصر غير الله.
وقال (عليه السلام) في الليلة التي ضربه فيها ابن ملجم لعنه الله بعد حمد الله عز وجل
والثناء عليه والصلاة على نبيه (صلى الله عليه وآله): كل امرء لاق ما يفر منه، والأجل تساق
النفس إليه، والهرب منه موافاة، كم أطردت الأيام أبحثها عن مكنون هذا الأمر
فأبى الله جل ذكره إلا إخفاءه، هيهات علم مكنون.
أما وصيتي: فالله لا تشركوا به، ومحمد لا تضيعوا سنته، أقيموا هذين
العمودين، حمل كل امرء منكم مجهوده، وخفف عنكم الحملة رب رحيم ودين



(1) قريب منه في المعنى ما في نهج البلاغة: ص 106 خطبة 82.
(2) نهج البلاغة: ص 480 حكمة 77 مع اختلاف في بعض ألفاظها.
(3) نهج البلاغة: ص 487 حكمة 108 مع اختلاف يسير.
384
قويم وإمام عليم، كنا في أعصار وذرى رياح تحت ظل غمامة اضمحل راكدها
فمحطها من الأرض غباء وبقي من بعدي جاءوا بساكنة بعد حركة، كاظمة بعد
نطق، لتعظيم هدوي وخفوت أطرافي، أنه واعظ لكم من نطق البليغ، ودعتكم
وداع امرء مرصد لتلاق، وغدا ترون وتكشف لكم عن سرائري، عليكم السلام
إلى يوم المرام، كنت بالأمس صاحبكم واليوم عظة لكم وعدا أفارقكم، إن أبق فأنا
ولي دمي، وإن مت فالقيامة ميعادي والعفو أقرب للتقوى ألا تحبون أن يغفر الله
لكم والله غفور رحيم (1).
وقال (عليه السلام): إن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وأن الآخرة قد أشرفت وأقبلت
باطلاع، وأن المضمار اليوم وغدا السباق، فمن عمل في أيام أمله قبل حضور
أجله فقد حسن عمله، ومن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله،
ألا فاعملوا لله في الرغبة كما تعملون في الرهبة، ألا وإني لم أر كالجنة نام طالبها،
ولا كالنار نام هاربها، ومن لا ينفعه الحق يضره الباطل، ومن لا يستقيم له الهدى
يخزيه الضلال، وأنكم قد أمرتم بالظعن ودللتم على الزاد، وأخوف ما أخاف
عليكم اتباع الهوى وطول الأمل (2).
وقال (عليه السلام): لا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة لطول الأمل،
ويقول في الدنيا قول الزاهدين ويعمل فيها عمل الراغبين، إن أعطي منها لم يشبع،
وإن منع لم يقنع ويعجز عن شكر ما أوتي، ويبتغي الزيادة فيما بقي، ينهى ولا
ينتهي، ويأمر ولا يأتمر، يحب الصالحين ولا يعمل عملهم، ويبغض الطالحين وهو
منهم، يكره الموت لكثرة ذنوبه، ويقيم على ما يكره، إن سقم ظل نادما، وإن صح
أمن لاهيا، يعجب بنفسه إذا عوفي، ويقنط إذا ابتلي، تغلبه نفسه على ما بطن، ولا
يغلبها على ما يستيقن، لا يثق من الرزق بما ضمن له، ولا يعمل من العمل بما
فرض عليه، إن استغنى بطر وفتن، وإن افتقر قنط ووهن، فهو من الذنب والنعمة



(1) نهج البلاغة: ص 207 خطبة 149 مع اختلاف في بعض ألفاظها.
(2) نهج البلاغة: ص 71 خطبة 28.
385
موقر يبتغي الزيادة ولا يشكر، يحكم على غيره لنفسه، ولا يحكم عليها لغيره،
فهو يطاع ويعصي، ويستوفي ولا يوفي (1).
وقال (عليه السلام): مثل الدنيا كمثل الحية لين لمسها وفي جوفها السم الناقع، يهوى
إليها الصبي الجاهل ويحذرها ذو اللب الحاذر (2).
وقال عبد الرحمن السلمي: كنت عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
إذ أتاه سلمان الفارسي (رضي الله عنه) فقال: كيف أصبحت يا أمير المؤمنين؟
قال: أصبحت ولي ثمانية مطالبين.
قال: من هم؟
قال: الله عز وجل يطالبني بفرائضه، ورسوله (صلى الله عليه وآله) يطالبني بسنته، والملكان
يطالباني بلفظي، ونفسي تطالبني باللذة، والشيطان بالهوى، وعيالي بالقوت، وملك
الموت يطالبني بنفسي (3).
وقال (عليه السلام): يجب للمسلم على المسلم سبع خصال: يسلم عليه إذا لقيه،
ويجيبه إذا دعاه، ويعوده إذا مرض، ويتبع جنازته إذا مات، ويحب له ما يحب
لنفسه، ويكره له ما يكره لها، ويواسيه بماله.
وقال (عليه السلام): قصم ظهري اثنان: عالم فاسق وجاهل ناسك، هذا يدعو الناس
إلى فسقه بعلمه، وهذا يدعو الناس إلى جهله بنسكه.
وقال جابر بن عبد الله الأنصاري: قام رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فسأله عن
الإيمان، فقام (عليه السلام) خطيبا فقال: الحمد لله الذي شرع الاسلام فسهل شرائعه لمن
ورده، وأعز أركانه على من حاربه، وجعله عزا لمن والاه، وسلما لمن دخله،
وهدى لمن ائتم به، وزينة لمن تحلى به، وعصمة لمن اعتصم به، وحبلا لمن تمسك
به، وبرهانا لمن تكلم به، ونورا لمن استضاء به، وشاهدا لمن خاصم به، وفلجا لمن
حاج به، وعلما لمن وعاه، وحديثا لمن رواه، وحكما لمن قضى به، وحلما لمن



(1) نهج البلاغة: ص 497 حكمة 150.
(2) نهج البلاغة: ص 489 الحكمة 119.
(3) نهج البلاغة: 489 الخطبة 117.
386
حرب، ولبا لمن تدبر، وفهما لمن فطن، ويقينا لمن عقل، وتبصرة لمن عزم، وآية
لمن توسم، وعبرة لمن اتعظ، ونجاة لمن صدق، ومودة من الله لمن أصلح، وزلفا
لمن ارتقب، وثقة لمن توكل، وراحة لمن فوض، وجنة لمن صبر. الحق سبيله،
والهدى صفته، والحسنى مأثرته، فهو أبلج المنهاج، مشرق المنار، مضئ
المصابيح، رفيع الغاية، يسير المضمار، جامع الحيلة، متنافس السبقة، كريم
الفرسان. التصديق منهاجه، والصالحات مناره، والفقه مصابيحه، والموت غايته،
والدنيا مضماره، والقيامة جلبته، والجنة سبقته، والنار نقمته، والتقوى عدته،
والمحسنون فرسانه. فبالإيمان يستدل على الصالحات، وبالصالحات يعمر الفقه،
وبالفقه يرهب الموت، وبالموت تختم الدنيا، وبالقيامة تزلف الجنة للمتقين وتبرز
الجحيم للغاوين.
فالإيمان على أربع دعائم: الصبر، واليقين، والعدل، والجهاد. فالصبر من ذلك
على أربع شعب: الشوق، والشفق، والزهادة، والترقب.
ألا من اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار رجع عن
المحرمات، ومن زهد في الدنيا هانت عليه المصيبات، ومن ارتقب الموت سارع
إلى الخيرات. واليقين على أربع شعب: على تبصرة الفطنة، وتأول الحكمة، وموعظة
العبرة، وسنة الأولين. فمن تبصر في الفطنة تبين الحكمة، ومن تبين الحكمة عرف
العبرة، ومن عرف العبرة عرف السنة، ومن عرف السنة فكأنما كان في الأولين.
والعدل على أربع شعب: على غامض الفهم، وغمارة العلم، وزهرة الحكم، وروضة
الحلم. فمن فهم نشر جميل العلم، ومن علم عرف شرائع الحكم، ومن عرف شرائع
الحكم لم يضل، ومن حكم لم يفرط امره وعاش في الناس حميدا. والجهاد على
أربع شعب: على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدق في المواطن،
وشنآن الفاسقين. فمن أمر بالمعروف شد ظهر المؤمن، ومن نهى عن المنكر أرغم
أنف الكافر، ومن صدق في المواطن قضى ما عليه، ومن شنأ الفاسقين غضب لله،
ومن غضب لله تعالى فهو مؤمن حقا. فهذه صفة الإيمان ودعائمه.

387
فقال له السائل: لقد هذبت يا أمير المؤمنين وأرشدت فجزاك الله عن
الدين خيرا (1).
$ أمير المؤمنين (عليه السلام) / أجوبته وقضاياه
فصل
في مسائل سئل عنها أمير المؤمنين (عليه السلام) وأجاب وفي قضاياه
حدث أحمد بن أبي عبد الله البرقي ويعقوب بن يزيد وإبراهيم بن هاشم
جميعا، عن ابن فضال، عن أيمن بن محرز الحضرمي، عن محمد بن سماعة
الكندي، عن إبراهيم بن أبي يحيى المدني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما بايع الناس
عمر بعد موت أبي بكر أتاه رجل من شباب اليهود وهو في المسجد الحرام فسلم
عليه والناس حوله، فقال: يا أمير المؤمنين دلني على أعلمكم بالله وبرسوله
وبكتابه وسنته؟ فأومأ بيده إلى علي (عليه السلام)، فقال: هذا.
فتحول الرجل إلى عند علي فسأله: أنت كذلك؟ فقال: نعم. فقال: إني أسألك
عن ثلاث وثلاث وواحدة. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أفلا قلت عن سبع؟ فقال
اليهودي: لا إنما أسألك عن ثلاث، فإن أصبت فيهن سألتك عن ثلاث بعدها، وإن
لم تصب لم أسألك. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أخبرني إن أجبتك بالصواب والحق
تعرف ذلك؟ وكان الفتى من علماء اليهود وأحبارها يرون أنه من ولد هارون بن
عمران أخي موسى (عليهما السلام). فقال: نعم فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): بالله الذي لا إله إلا
هو لئن أجبتك بالحق والصواب لتسلمن ولتدعن اليهودية؟ فحلف اليهودي وقال:
ما جئتك إلا مرتادا أريد الاسلام. فقال: يا هاروني سل عما بدا لك تخبر إن شاء
الله تعالى. قال: أخبرني عن أول شجرة وضعت على وجه الأرض. وأول عين
نبعت في الأرض، وأول حجر وضع على وجه الأرض. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام):
أما سؤالك عن أول شجرة وضعت على وجه الأرض فإن اليهود يزعمون أنها



(1) نهج البلاغة: 153 الخطبة 106 مع اختلاف في بعض الألفاظ.
388
الزيتونة وكذبوا إنما هي النخلة، وهي العجوة هبط بها آدم (عليه السلام) معه من الجنة
فغرسها، وأصل النخل كله منها. وأما قولك أول عين نبعت على وجه الأرض فإن
اليهود يزعمون أنها العين التي ببيت المقدس تحت الحجر وكذبوا، بل هي عين
الحيوان التي انتهى موسى وفتاه إليها فغسلا فيها السمكة المالحة فحييت، وليس
من ميت يصيبه ذلك الماء إلا حيي، وكان الخضر على مقدمة ذي القرنين يطلب
عين الحياة فوجدها الخضر (عليه السلام) وشرب منها ولم يجدها ذو القرنين.
وأما قولك أول حجر وضع على وجه الأرض فإن اليهود يزعمون أنه الحجر
الذي في بيت المقدس وكذبوا، إنما هو الحجر الأسود هبط به آدم (عليه السلام) فوضعه
على الركن والناس يستلمونه، وكان أشد بياضا من الثلج فاسود من خطايا بني
آدم قال: فأخبرني كم لهذه الأمة إمام هدى هادين مهديين لا يضرهم من خذلهم؟
وأخبرني أين منزل محمد في الجنة؟ ومن معه من أمته في الجنة؟
قال: أما قولك كم لهذه الأمة من إمام هدى هادين مهديين لا يضرهم من
خذلهم فإن لهذه الأمة اثنا عشر إماما.
وأما قولك أين منزل محمد (صلى الله عليه وآله) في الجنة ففي أشرفها وأفضلها جنة عدن.
وأما قولك من مع محمد في الجنة من أمته فهؤلاء الاثنا عشر أئمة الهدى. قال
الفتى: صدقت، فوالله الذي لا إله إلا هو انه مكتوب عندي بإملاء موسى وخط
هارون بيده قال: فأخبرني كم يعيش وصي محمد بعده؟ وهل يموت موتا أو يقتل
قتلا؟ فقال له علي (عليه السلام): ويحك يا يهودي أنا وصي محمد بعده، أعيش بعده ثلاثين
سنة لا أزيد يوما ولا أنقص يوما، ثم ينبعث أشقاها شقيق عاقر ناقة ثمود فيضربني
ضربة هاهنا في قرني فيخضب مني لحيتي. ثم بكى علي بكاء شديدا، فصرخ الفتى
وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (1).
وحدث عبد الله بن الحسين، عن أبيه، عن جده قال: شهدنا مجلس
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأتاه نفر من العجم فسلموا عليه وقالوا:



(1) بحار الأنوار: ج 36 ص 220 باب 40 ح 20 نقلا عن كتاب مقتضب الأثر: ص 17.
389
يا أمير المؤمنين جئناك نسألك عن ست خصال فإن أنت أجبتنا آمنا وصدقنا
وإلا كذبنا وجحدنا.
فقال (عليه السلام): سلوا متفقهين ولا تسألوا متعنتين.
قالوا: أخبرنا ما يقول الفرس في صهيله، والحمار في نهيقه، والديك في
سقيعه، والضفدع في نقيقه، والدراج في صياحه، والقمري في صفيره؟ فقال
علي (عليه السلام): إذا التقى الزحفان ومشى الرجال إلى الرجال بالسيوف رفع الفرس
رأسه إلى السماء فقال: سبحان الملك القدوس، ويقول الحمار في نهيقه: اللهم العن
الظلمة، ويقول الديك بالأسحار: اذكروا الله يا غافلين، ويقول الضفدع في نقيقه:
سبحان المعبود في لجج البحار، ويقول الدراج في صياحه: الرحمن على العرش
استوى، ويقول القمري في صفيره: اللهم العن مبغضي آل محمد. قالوا: آمنا
وصدقناك وما على الأرض أعلم منك. فقال لهم (عليه السلام): ألا أفيدكم عن الفرس؟
قالوا: بلى يا أمير المؤمنين. قال: إن للفرس في كل يوم ثلاث دعوات مستجابات.
يقول في أول النهار: اللهم وسع على سيدي الرزق، ويقول في وسط النهار: اللهم
اجعلني إلى سيدي أحب اليه من أهله، ويقول في آخر النهار: اللهم ارزق سيدي
علي الشهادة (1).
وروي أن عمر استدعى امرأة كان يتحدث عندها الرجال، ففزعت وارتاعت
وخرجت معهم، فأملصت فوقع ولدها إلى الأرض يستهل ثم مات فبلغ عمر ذلك
فجمع أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسألهم عن الحكم في ذلك. فقالوا بأجمعهم: نراك
مؤدبا ولم ترد إلا خيرا ولا شئ عليك في ذلك. وأمير المؤمنين (عليه السلام) جالس
لا يتكلم، فقال له عمر: ما عندك في هذا يا أبا الحسن؟
قال: قد سمعت ما قالوا. قال: فما تقول أنت؟ قال: قد قال القوم ما سمعت.
قال: أقسمت عليك لتقولن ما عندك في ذلك. قال: إن كان القوم راقبوك فقد



(1) الاختصاص: ص 136.
390
غشوك، وإن كانوا ارتأوا فقد قصروا، الدية على عاقلتك لأن قتل الصبي خطأ
تعلق بك. فقال: أنت والله نصحتني من بينهم، والله لا تبرح حتى تجري الدية على
بني عدي. ففعل ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) (1).
وروي أن امرأتين تنازعتا على عهد عمر في طفل ادعته كل واحدة منهما
ولدا لها بغير بينة، فالتبس الحكم في ذلك على عمر وفزع فيه إلى علي (عليه السلام)،
فاستدعى المرأتين ووعظهما وخوفهما فأقامتا على النزاع والاختلاف. فقال (عليه السلام)
عند ذلك: ائتوني بمنشار.
فقالت له الإمرأتان ما تصنع به؟ فقال: أقده نصفين لكل واحدة منكما نصفه.
فسكتت إحداهما وقالت الأخرى: الله الله يا بالحسن إن كان لا بد من ذلك فقد
سمحت به لها.
فقال: الله أكبر هذا ابنك دونها، ولو كان ابنها لرقت عليه وأشفقت. فاعترفت
المرأة الأخرى بأن الحق مع صاحبتها والولد لها دونها. فسر عمر ودعا لأمير
المؤمنين (عليه السلام) بما فرج عنه في القضاء (2).
وروي عن يونس عن الحسن أن عمر اتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر فهم
برجمها.
فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): إن خاصمتك بكتاب الله عز وجل خصمتك،
إن الله تعالى يقول: * (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) * ويقول: * (والوالدات يرضعن
أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة) * وإذا تممت المرأة الرضاع
سنتين وكان حمله وفصاله ثلاثين شهرا كان الحمل ستة أشهر.
فخلى عمر سبيل المرأة وقال: لولا علي لهلك عمر، وثبت الحكم بذلك. فعمل
به الصحابة والتابعون ومن أخذ عنهم إلى يومنا هذا (3).
ومن ذلك أن امرأة نكحها شيخ كبير فحملت، وزعم الشيخ أنه لم يصل إليها



(1) الإرشاد: ص 109 ط بصيرتي قم.
(2) الإرشاد: ص 110.
(3) الإرشاد: ص 110.
391
وأنكر حملها، والتبس الأمر على عثمان، وسأل المرأة: هل افتضك الشيخ؟
- وكانت بكرا - فقالت: لا. فقال عثمان: أقيموا الحد عليها.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) للمرأة: سمين: سم المحيض وسم البول، فلعل الشيخ
كان ينال منها فسال ماؤه في سم المحيض فحملت منه، فسلوا الشيخ عن ذلك.
فسئل فقال: قد كنت انزل الماء في قبلها من غير وصول إليها بالافتضاض.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): الحمل له والولد ولده وأرى عقوبته على الانكار له.
فصار عثمان إلى قضائه بذلك (1).
وروي أن رجلا كانت له سرية فأولدها، ثم اعتزلها وأنكحها عبدا له، ثم توفي
السيد فعتقت بملك ابنها لها، وورث ولدها زوجها، ثم توفي الابن فورثت من
ولدها زوجها، فارتفعا إلى عثمان يختصمان تقول: هذا عبدي، ويقول: هي امرأتي
ولست مفرجا عنها.
فقال عثمان: هذه مشكلة، وأمير المؤمنين علي (عليه السلام) حاضر فقال: سلوها هل
جامعها بعد ميراثها له. فقالت: لا. فقال: لو أعلم أنه فعل ذلك لعذبته، اذهبي
فإنه عبدك ليس له عليك سبيل إن شئت أن تسترقيه أو شئت أن تعتقيه أو تبيعه
فذلك لك (2).
وقيل: إن امرأة ولدت على فراش زوجها ولدا له بدنان ورأسان على حقو
واحد، فالتبس الأمر على أهله أهو واحد أم اثنان؟ فصاروا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)
يسألونه عن ذلك ليعرف (3) الحكم فيه. فقال لهم أمير المؤمنين (عليه السلام): اعتبروه إذا نام
ثم أنبهوا إحدى البدنين والرأسين فإن انتبها جميعا معا في حالة واحدة فهما
انسان واحد، وإن استيقظ أحدهما والآخر نائم فهما اثنان وحقهما من الميراث
حق اثنين (4).
وقيل: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) دخل ذات يوم المسجد فوجد شابا حدثا يبكي



(1) الإرشاد: ص 112 - 113.
(2) الإرشاد: ص 113.
(3) كذا، وفي الإرشاد: ليعرفوا.
(4) الإرشاد: ص 113 - 114.
392
وحوله قوم، فسألهم عنه فقال: إن شريحا قضى علي قضية لم ينصفني فيها.
قال: وما شأنك؟ قال: إن هؤلاء النفر - وأومأ إلى نفر حضور - أخرجوا أبي
معهم في سفر فرجعوا ولم يرجع، فسألتهم عنه، فقالوا: مات، فسألتهم عن ماله
الذي استصحبه، قالوا: ما نعرف له مالا، فاستحلفهم شريح وتقدم إلي بترك
التعرض لهم.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) لقنبر: اجمع القوم وادع لي شرطة الخميس، ثم جلس
ودعا النفر والحدث معهم، فسأله عما قال، فادعى الدعوى وجعل يبكي ويقول:
أنا والله أتهمهم على أبي يا أمير المؤمنين فإنهم احتالوا عليه حتى أخرجوه معهم
وطمعوا في ماله.
فسأل أمير المؤمنين (عليه السلام) القوم، فقالوا كما قالوا لشريح: مات الرجل ولم
نعرف له مالا فنظر أمير المؤمنين (عليه السلام) في وجوههم ثم قال لهم: ماذا تظنون؟
أتظنون اني لا أعلم ماذا صنعتم بأبي هذا الفتى؟! إني إذا لقليل العلم. ثم أمر بهم أن
يفرقوا، ففرقوا إلى سطح المسجد وأقيم كل واحد منهم إلى جانب أسطوانة من
أساطين المسجد، ثم دعا عبيد الله بن أبي رافع كاتبه يومئذ فقال له: اجلس، ثم
دعا واحدا منهم فقال له: أخبرني ولا ترفع صوتك في أي يوم خرجتم من
منازلكم وأبو هذا الغلام معكم؟ فقال: في يوم كذا وكذا.
فقال لعبيد الله: اكتب. ثم قال له: في أي شهر كان؟ فقال: في شهر كذا.
قال: اكتب. قال: في أي سنة؟
قال: في سنة كذا.
قال: فكتب عبيد الله ذلك كله.
قال: فبأي مرض مات؟
قال: بمرض كذا.
قال: ففي أي منزل مات.
قال: في موضع كذا.

393
قال: من غسله وكفنه؟
قال: فلان.
قال: فيم كفنتموه؟
قال: بكذا.
قال: فمن صلى عليه؟
قال: فلان.
قال: فمن أدخله القبر؟
قال: فلان. وعبيد الله بن أبي رافع يكتب.
فلما انتهى إلى دفنه كبر أمير المؤمنين (عليه السلام) تكبيرة وسمعها أهل المسجد. ثم
أمر بالرجل فرد إلى مكانه. ودعا آخر من القوم فأجلسه بالقرب منه، ثم سأله عما
سأل الأول عنه، فأجاب بما خالف الأول بالكلام كله، وعبيد الله بن أبي رافع
يكتب. فلما فرغ من سؤاله كبر تكبيرة سمعها أهل المسجد. ثم أمر بالرجلين
جميعا أن يخرجا عن المسجد نحو السجن فيوقف بهما على بابه. ثم دعا بالثالث
فسأله عما سأل الرجلين، فحكى خلاف ما قالا، وكتب ذلك عنه، ثم كبر وأمر
باخراجه نحو صاحبيه. ودعا برابع من القوم فاضطرب قوله وتلجلج، فوعظه
وخوفه فاعترف أنه وأصحابه قتلوا الرجل وأخذوا ماله وأنهم دفنوه في موضع
كذا بالقرب من الكوفة، فكبر أمير المؤمنين (عليه السلام) وأمر به إلى السجن.
واستدعى واحدا من القوم فقال له: زعمت أن الرجل مات حتف أنفه وقد
قتلته: أصدقني عن حالك وإلا نكلت بك فقد وضح لي الحق في قضيتكم. فاعترف
الرجل بما اعترف به صاحبه. ثم دعا الباقين فاعترفوا عنده بالقتل وسقطوا في
أيديهم واتفقت كلمتهم على قتل الرجل وأخذ ماله. فأمر من مضى مع بعضهم إلى
موضع المال الذي دفنوه فاستخرجه منه وسلمه إلى الغلام ابن الرجل المقتول.
ثم قال له: ما الذي تريد قد عرفت ما صنع القوم بأبيك؟ قال: أريد أن يكون
القضاء بيني وبينهم بين يدي الله عز وجل، وقد عفوت عن دمائهم في الدنيا. فدرأ
أمير المؤمنين (عليه السلام) عنهم حد القتل وأنهكهم عقوبة.

394
فقال شريح: يا أمير المؤمنين كيف هذا الحكم؟ فقال له: إن داود (عليه السلام) مر
بصبيان يلعبون وينادون بواحد منهم يا مات الدين والغلام يجيبهم، فدنا داود (عليه السلام)
منهم فقال له: يا غلام ما اسمك؟ قال: اسمي مات الدين. قال له: من سماك بهذا
الاسم؟ قال: أمي. قال داود (عليه السلام): وأين أمك؟ فقال: في منزلها. فقال داود (عليه السلام):
إنطلق بنا إلى أمك. فانطلق به إليها فاستخرجها من منزلها فخرجت.
فقال لها: يا أمة الله ما اسم ابنك هذا؟ قالت: اسمه مات الدين. قال لها
داود (عليه السلام): ومن سماه بهذا الاسم؟ قالت: أبوه. قال: وما كان سبب ذلك؟ قالت: إنه
خرج في سفر له ومعه قوم وأنا حامل بهذا الغلام فانصرف القوم ولم ينصرف
زوجي، فسألتهم عنه فقالوا مات، فسألتهم عن ماله فقالوا ما ترك مالا، فقلت لهم:
هل أوصاكم بوصية؟ قالوا: نعم زعم انك حبلى وإن ولدت جارية أو غلاما فسميه
مات الدين، فسميته كما أوصى ولم أحب خلافه. فقال لها داود (عليه السلام): هل تعرفين
القوم؟ قالت: نعم. فقال لها: انطلقي مع هؤلاء - يعني قوما بين يديه - فاستخرجهم
من منازلهم. فلما حضروا حكم فيهم بهذه الحكومة، فثبت عليهم الدم واستخرج
منهم المال، ثم قال لها: يا أمة الله سمي ابنك هذا عاش الدين (1).
وروى الحسن بن محبوب قال: حدثني عبد الرحمن بن الحجاج، قال:
سمعت ابن أبي ليلى يقول: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) بقضية ما سبقه إليها أحد،
وذلك أن رجلين اصطحبا في طريق فجلسا يتغديان، فأخرج أحدهما خمسة
أرغفة وأخرج الآخر ثلاثة، فمر بهما رجل فسلم عليهما، فقالا له: الغداء، فجلس
معهما يأكل، فلما فرغ من أكله رمى إليهما ثمانية دراهم وقال إليهما: هذه عوض
عما أكلت من طعامكما، فاختصما وقال صاحب الثلاثة: هذه نصفان بيننا. فقال
صاحب الخمسة: بل لي خمسة ولك ثلاثة. فارتفعا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وقصا
عليه القصة.
فقال (عليه السلام): هذا أمر فيه دناءة، والخصومة فيه غير جميلة والصلح أحسن.



(1) الإرشاد: ص 115.
395
فقال صاحب الثلاثة: لست أرضى إلا بمر القضاء. قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
فإذا كنت لا ترضى إلا بمر القضاء فإن لك واحدا من ثمانية ولصاحبك سبعة. فقال:
سبحان الله وكيف صار هذا؟ فقال له: أخبرك أليس كان معك ثلاثة أرغفة؟ قال:
بلى. قال: هي تسعة أثلاث، ولصاحبك خمسة؟ قال: بلى قال: هي خمسة عشر
ثلثا، الجميع أربعة وعشرون ثلثا، أكلت أنت ثمانية وبقي لك واحد، وأكل صاحبك
ثمانية وبقي له سبعة، وأكل الضيف ثمانية، فلما أعطاكم الثمانية الدراهم كان
لصاحبك سبعة ولك واحد. فانصرف الرجلان على بصيرة من أمرهما في القضية (1).
وقضى (عليه السلام) في رجل ضرب امرأة فألقت علقة أن عليه ديتها أربعين دينارا،
وتلا قوله عز وجل: * (ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة
في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما
فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) *.
ثم قال: في النطفة عشرون دينارا، وفي المضغة ستون دينارا، وفي العظم قبل
أن يستوي خلقا ثمانون دينارا، وفي الصورة قبل أن تلجها الروح مائة دينار،
فإذا ولجتها الروح كان فيها ألف دينار (2).
$ أمير المؤمنين (عليه السلام) / الأشعار التي تدل على فضله
فصل
في الأشعار التي تدل على فضل أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب (عليه السلام)
قال حسان بن ثابت في ذكر المقام بغدير خم:
يناديهم يوم الغدير نبيهم * بخم فاسمع للنبي مناديا
يقول فمن مولاكم ووليكم * فقالوا ولم يبدو هناك التعاميا
إلهك مولانا وأنت نبينا * ولن تجدن منا لك اليوم عاصيا



(1) الإرشاد: ص 117.
(2) الإرشاد: ص 119.
396
فقال له قم يا علي فإنني * رضيتك من بعدي إماما وهاديا (1)
وقالت أم الحكم بنت الزبير ترد على هند يوم بدر وتذكر عليا:
إن كنت غير خبيرة فاستخبري * يا هند عن أبويك حين علاهما
وسلي أبا حسنا علي عنهما * وعن الوليد فسائلي لما هما
وقال علي بن الحسين (عليهما السلام) يذكر يوم بدر والغدير:
من شرف الأقوام يوما برأيه * فإن عليا شرفته المناقب
وقول رسول الله والحق قوله * وإن رغمت منهم أنوف كواذب
فإنك مني يا علي مواليا * كهارون من موسى أخ لي وصاحب
دعاه ببدر فاستجاب لأمره * وسارع في ذات الإله يضارب
فما زال يعلوهم به وكأنه * شهاب تلقاه القوابس ثاقب
وقال الحجاج بن غلاظ في يوم أحد:
لله أي مذبب عن حرمة (2) * أعني ابن فاطمة المعم المخولا (3)
ظفرت يداك بضربة مشهورة * تركت أمية للجبين مجدلا (4)
وعللت سيفك بالنخيع ولم تكن * لترده عطشان حتى ينهلا (5)
فشددت شدة ماجد وكشفتهم * بالجراذ يهوون أخول أخولا (6)



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 27 - 28.
(2) في المصدر: حزبه.
(3) الذب: الدفع والمنع، والمراد بفاطمة هي فاطمة بنت أسد، والمعم المخول: أي كريم
الأعمال والأخوال.
(4) في المصدر:
جادت يداك له بعاجل طعنة * تركت طليحة للجبين مجدلا.
والمجدل: المصروع المقتول.
(5) في المصدر " بالدماء " بدل " بالنخيع " و " حران " بدل " عطشان " وهما بمعنى واحد،
والعلل: الشرب الثاني، والنهل: الشرب الأول.
(6) كشف الغمة: ج 1 ص 196 - 197 وفيه " باسل " بدل " ماجد "، و " بالسفح " بدل " بالجراذ "،
و " أسفل أسفلا " بدل " أخول أخولا ".
397
وقال المعروف بابن رميم يحرض قريشا على قتله (عليه السلام):
في كل مجمع غاية أجزاكم جذع * أبر على المذاكي الفرح
لله دركم الما تأنفوا * قد يدفع الضيم الكريم ويستحي
هذا ابن فاطمة الذي أفناكم * قتلا وحد غراره لم يصفح
أين الكهول وأين كل دعامة * في المعضلات وأين زين الأبطح
وقال مالك بن عبادة الغافقي يمدح أمير المؤمنين (عليه السلام):
رأيت عليا لا تلبث قرنه * إذا ما دعاه حاسرا ومسربلا
وكم قد أذاق الموت من ذي حفيظة * رئيسا معما في العشيرة مخولا
فأصبح تقتات الضباع عظامه * وآخر بين العسكرين مجدلا
ولما قتل (عليه السلام) في بني قريظة رجالهم قال حسان:
لله أي كريهة أبليتها * ببني قريظة والنفوس تطلع (1)
أردى رئيسهم وآب بتسعة * طورا يشلهم وطورا يدفع (2) (3)
وقال حسان أيضا لما دفع النبي (عليه السلام) يوم خيبر الراية إلى علي (عليه السلام):
وكان علي أرمد العين يبتغي * دواء فلما لم يحس مداويا
شفاه رسول الله منه بتفلة * فبورك مرقيا وبورك راقيا
وقال سأعطي الراية اليوم صارما * كميا محبا للرسول مواليا
يحب الإله والإله يحبه * به يفتح الله الحصون الأوابيا
وأصفى بها دون البرية كلها * عليا وسماه الوزير المؤاخيا
وخرج النابغة الجعدي من منزله وسأل عن حال الناس يوم موت رسول
الله (صلى الله عليه وآله)، فلقيه عمران بن حصين وقيس بن صرمة وقد عادا من السقيفة، فقال:
ما وراءكما؟ فقال عمران بن حصين:



(1) التطلع: الانتظار.
(2) أراده: أهلكه، وآب: رجع، والشل والشلل: الطرد.
(3) كشف الغمة: ج 1 ص 201.
398
إن كنت أدري فعلي بدنة * من كثرة التخليط أدري من انه.
وقال قيس بن صرمة:
أصبحت الأمة في أمر عجب * والملك فيهم قد عدا لمن غلب.
قد قلت قولا صادقا غير كذب * إن غدا يهلك أعلام العرب
فقال النابغة: ما فعل أبو حسن علي؟ فقيل له: مشغول بتجهيز النبي (صلى الله عليه وآله). فقال:
قولا لأصلع هاشم إن أنتما * لاقيتماه لقد حللت أرومها
وإذا قريش بالفخار تساجلت * كنت الجدير به وكنت زعيمها
وعليك سلمت الغداة بإمرة * للمؤمنين فما رعت تسليمها
نكثت بنو تيم ابن مرة عهده * فتبوأت نيرانها وجحيمها
وتخاصمت يوم السقيفة والذي * فيه الخصام غدا يكون خصيمها
وقال النعمان بن زيد صاحب راية الأنصار في هذا اليوم:
يا ناعي الاسلام قم فانعه * قد مات عرف وأتى منكر
ما لقريش لا علا كعبها * من قدموا اليوم ومن أخروا
مثل علي من خفي أمره * عليهم والشمس لا تنكر
وليس يطوى علم باهر * سام يد الله له تنشر
حتى يزيلوا صدع ملمومة * والصدع في الصخرة لا يجبر
كبش قريش في وغى حربها * صديقها فاروقها الأكبر
وكاشف الكرب إذا خطه * أعيا على واردها المصدر
كبر لله وصلى وما * صلى ذوو الغيث ولا كبروا
تدبيرهم أدى إلى ما أتوا * تبا لهم يا بئس ما دبروا
وقال العباس بن عبد المطلب رضي الله عنهما:
عجبت لقوم أمروا غير هاشم * على هاشم رهط النبي محمد
وليسوا بأكفاء لهم في عظيمة * ولا نظراء في عفاف وسؤدد
وقال عتبة بن أبي سفيان بن عبد المطلب:

399
فكان ولي الأمر من بعد أحمد * علي وفي كل المواطن صاحبه
وصي رسول الله حقا وصهره * وأول من صلى ومن لان جانبه
وقال عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب:
تولت بنو تيم على هاشم ظلما * وذادوا عليا من إمارته قدما
ولم يحفظوا قربى بني قريبه * ولم ينفسوا فيمن تولاه علما
وقال عبادة بن الصامت في يوم السقيفة:
يا للرجال أخروا عليا * عن رتبة كان لها مرضيا
وقال عبد الرحمن بن حنبل حليف بني جمح:
لعمري لئن بايعتم ذا حفيظة * على الدين معروف العفاف موفقا
عفيفا عن الفحشاء أبيض ماجدا * صدوقا وللجبار قدما مصدقا
أبا حسن فارضوا به وتتابعوا (1) * فليس كمن فيه لدى العيب مرتقا (2)
علي وصي المصطفى ووزيره * وأول من صلى لدى العرش واتقى (3)
رجعتم إلى نهج الهدى بعد زيغكم * وجمعتم من ثلمه ما تفرقا
وكان أمير المؤمنين بن فاطم * بكم إن عرى خطب أبر وأرفقا
وقال زفر بن الحارث (4) بن خذيفة الأسدي:
فحوطوا عليا وانصروه فإنه * وصي وفي الاسلام أول أول
فإن تخذلوه فالحوادث جمة * فليس لكم في الأرض من متحول (5)
وقال أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية يوم السقيفة:
بني هاشم ما بال ميراث أحمد * تنقل عنكم في لقيط وحامل



(1) في المصدر وتمسكوا، وفي نسخة: وتبايعوا.
(2) في المصدر: يرى العيب منطقا.
(3) إلى هنا في كفاية الطالب للكنجي: ص 127، وكذا الغدير: ج 3 ص 233.
(4) في الغدير: يزيد، وفي هامشه: في بعض المصادر زفير بن زيد.
(5) الغدير: ج 3 ص 232 - 233 مع اختلاف يسير.
400
أعبد مناف كيف ترضون ما أرى * وفيكم صدور المرهفات الأواصل
فدى لكم أمي اثبتوا وثقوا بنا * وبالنضر منا اقبل فوت المحامل
متى كانت الأحساب تعدوا ثبابكم (1) * متى قرنت تيم بكم في المحافل
يجازي بها تيم عدي وأنتم * أحق وأولى بالأمور الأوائل
وقال أيضا
أضحت قريش بعد عز ومنعة * خضوعا ليتم لا لضرب القواضب
فيا لهف نفسي للذي ظفرت به * وما زال فيها فائز بالرغائب
وقال أيضا:
بني هاشم لا تطمع الناس فيكم * ولا سيما تيم بن مرة أو عدي
فما الأمر إلا فيكم وإليكم * وليس لها إلا أبو حسن علي
أبا حسن فاشدد لها كف جازم * فإنك بالأمر الذي يرتجى ملي
وقال خزيمة بن ثابت (رضي الله عنه) يوم السقيفة:
ما كنت أحسب هذا الأمر منتقلا * عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتكم * وأعلم الناس بالقرآن والسنن
وآخر الناس عهدا بالنبي * ومن جبريل عون له بالغسل والكفن
فما الذي ردكم عنه فنعرفه * ها أن بيعتكم من أغبن الغبن (2)
وقال خزيمة بن ثابت أيضا يخاطب عائشة:
أعائش خلي عن علي وعتبة * بما ليس فيه إنما أنت والدة
وصي رسول الله من دون أهله * وأنت على ما كان من ذاك شاهدة
وقال نعمان بن عجلان الأنصاري في يوم السقيفة يذكر عمرو بن العاص:
وقلتم حرام نصب سعد ونصبكم * عتيق بن عمر وكان خلا أبا بكر



(1) كذا في النسخة.
(2) كشف الغمة: ج 1 ص 67 مع اختلاف يسير، ومنه الأبيات منسوبة إلى العباس بن عبد
المطلب.
401
فأهل أبا بكر لها خير قائم * وأن عليا كان أجدر بالأمر
وكان هوانا في علي وأنه * لأهل لها يا عمرو من حيث لا تدري
قيل: تكلم عمرو بن العاص قادحا في الأنصار، فبلغ ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام)،
فدخل المسجد وصعد المنبر وذكر فضل الأنصار وما أنزل الله تعالى من القرآن
وما يجب على المسلمين من إكرامهم ومعرفة حقوقهم.
فقالوا لحسان بن ثابت: يجب أن يذكر فضل علي وسبقه ويذموا على ما كان
منهم يوم السقيفة، فقال حسان:
جزى الله خيرا والجزاء بكفه * أبا حسن عنا ومن كأبي حسن!
سبقت قريشا بالذي أنت أهله * فصدرك مشروح وقلبك ممتحن
تمنت رجال من قريش أعزة * مكانك هيهات الهزال من السمن
وأنت من الاسلام في كل موطن * بمنزلة الدلو البطين من الرسن (1)
عصبت لنا إذا قام عمرو بخصلة * أمات بها التقوى وأحيا بها الإحن
وكنت الرجا من لؤي بن غالب * لما كان فيه والذي بعد لم يكن
حفظت رسول الله فينا وعهده * إليك ومن أولى بها منك من ومن
ألست أخاه في الهدى ووصيه * واعلم فهر بالكتاب وبالسنن
وقال قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري في يوم صفين:
قلت لما بغى العدو علينا * حسبنا ربنا ونعم الوكيل
حسبنا ربنا الذي فتح البصرة * بالأمس والحديث طويل
وعلي إمامنا وإمام * لسوانا أتى به التنزيل
حين قال النبي من كنت مولاه * فهذا مولاه خطب (2) جليل
إن ما قاله النبي على الأمة * حتم ما فيه قال وقيل (3)



(1) الرسن: الحبل (لسان العرب 13 / 180).
(2) الخطب: الشأن والأمر العظيم.
(3) بحار الأنوار: ج 37 ص 150 باب 52 ذيل ح 36، وليس فيه البيت الثاني.
402
وقال الكميت بن يزيد:
ويوم الدوح دوح غدير خم * أبان له الولاية لو أطيعا
ولكن الرجال تبايعوها * ولم أر مثلها خطرا منيعا (1)
وقال السيد محمد الحميري رحمة الله عليه:
قالوا له لو شئت أعلمتنا * إلى من الغاية والمفزع
وقال في خم النبي الذي * كان بما قيل له يصدع
فقال مأمورا وفي كفه * كف علي لهم تلمع
من كنت مولاه فهذا علي * مولى فلم يرضوا ولم يسمعوا (2)
وقال ابن أخت جرير بن عبد الله البجلي لجرير وهو مقيم بثغر همدان من قبل
عثمان بن عفان:
جرير بن عبد الله لا تردد الهدى * ولا تأب قولي إنني لك ناصح
فإن عليا خير من وطئ الثرى * سوى أحمد والموت غاد ورائح
ودع عنك قول الناكثين فإنما * إلاك أبا عمرو كلاب نوائح
فإن قلت لا نرضى عليا إمامنا * فدع عنك فيه قول من هو كاشح
أبى الله إلا أنه خير خلقه * وأفضل من ضمت عليه الجوانح
فأجابه جرير بأبيات منها:
فصلى المليك على أحمد * رسول المليك تمام النعم
وصلى على الطهر من بعده * خليفته القائم المدعم
عليا عنيت وصي النبي * تخاذل عنه غواة الأمم
وكتب رجل من السكون إلى الأشعث بن قيس وكان مقيما بثغر آذربيجان
يحثه على بيعة أمير المؤمنين (عليه السلام):
أبلغ الأشعث المعصب بالتاج * غلاما وقد علاه القبير



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 68.
(2) روى ابن شهرآشوب في مناقبه: ج 3 ص 33 بيتين منها فقط.
403
يا بن ذي التاج والمبجل من * كندة ترضى بأن يقال أمير
فأقبل اليوم ما يقول علي * ليس فيما يقوله تخيير
وأقبل البيعة التي ليس للناس * سواها من أمرهم قطمير
وله الفضل في الجهاد وفي الهجرة * والدين ذاك فضل كبير
وكتب الأشعث بن قيس إلى أمير المؤمنين (عليه السلام):
أتانا الرسول الوصي * علي المهذب من هاشم
وزير النبي وذي صهره * وخير البرية والعالم.
وقاله له أيضا (عليه السلام):
أتانا الرسول رسول الوصي * فسر بمقدمه المسلمونا
رسول الوصي وصي النبي * له الفضل والسبق في المؤمنينا
فكم بطل ماجد قد أذاق * ميتة حنف من الكافرينا
وفي هذه الأشعار أدل (1) دليل على فضل أمير المؤمنين (عليه السلام) وأنه أحق
بالخلافة والإمامة ممن تقدم عليه، فهؤلاء الذين لهم هذا الشعر أعيان الصحابة
والتابعين، وشهادتهم بالنظم في ذلك الوقت أقوى وآكد من شهادة المتأخرين
بالنثر، لكن القوم مالوا إلى الدنيا فأحبوها ودفعوا عنها أهلها وتقمصوها.
$ أمير المؤمنين (عليه السلام) / زوجاته
فصل
في ذكر زوجاته (صلى الله عليه وآله)
أولهن: فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وعليها:
تزوجها بعد وفاة أختها رقية زوجة عثمان بستة عشر يوما، وذلك بعد رجوعه
من بدر، وذلك لأيام خلت من شوال.



(1) في الأصل: دل.
404
وروي أنه دخل بها يوم السبت لست خلون من ذي الحجة (1). والله أعلم
وقال الضحاك بن مزاحم: سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول:
أتاني أبو بكر وعمر فقالا: لو أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فذكرت له فاطمة.
قال: فأتيته، فلما رآني ضحك، ثم قال: ما جاء بك يا علي [غير] حاجتك.
قال: فذكرت له قرابتي وقدمي في الاسلام ونصرتي له وجهادي. فقال:
يا علي صدقت وأنت أفضل مما تذكر. فقلت: يا رسول الله فاطمة تزوجنيها
فقال: يا علي إنه قد ذكرها قبلك رجال فذكرت ذلك لها فرأيت الكراهة في وجهها،
ولكن على رسلك حتى أخرج إليك. فدخل عليها فقال: يا فاطمة. قالت: لبيك،
حاجتك يا رسول الله. قال: إن علي بن أبي طالب ممن عرفت قرابته وفضله
وإسلامه وإني قد سألت ربي أن يزوجك خير خلقه وأحبهم إليه وقد ذكر من أمرك
شئ فما ترين؟
فسكتت ولم تول وجهها، ولم ير فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) كراهة.
فقام وهو يقول: الله أكبر سكوتها إقرارها. وأتاه جبرائيل (عليه السلام) فقال: يا محمد
زوجها من علي فإن الله قد رضيها له ورضيه لها.
قال علي (عليه السلام): فزوجني رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم أخذ بيدي فقال: قم باسم الله وقل:
على بركة الله وما شاء الله لا قوة إلا بالله توكلت على الله. ثم جاءني حتى أقعدني
عندها (عليها السلام)، ثم قال: اللهم انهما أحب خلقك إلي فأحبهما، وبارك في ذريتهما،
واجعل عليهما منك حافظا، وإني أعيذهما بك وذريتهما من الشيطان الرجيم (2).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: لما زوج رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة (عليهما السلام) دخل عليها
وهي تبكي فقال لها: ما يبكيك؟! فوالله لو كان في أهل بيتي خير منه زوجتك، وما
أنا زوجتك ولكن الله زوجك وأصدق عنك الخمس وما دامت السماوات والأرض.
قال علي (عليه السلام): ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي قم فبع الدرع. فقمت فبعته



(1) مصباح المتهجد: ص 613.
(2) أمالي الطوسي: ص 39 ح 44 / 11 ط. مؤسسة البعثة.
405
وأخذت الثمن ودخلت عليه فسكبت الدراهم في حجره، فلم يسألني كم هي
ولا أنا أخبرته.
ثم قبض قبضة ودعا بلالا وأعطاه وقال: ابتع لفاطمة طيبا. ثم قبض بكلتي
يديه وأعطاه أبا بكر وقال: ابتع لفاطمة ما يصلحها من ثياب وأثاث البيت، وأردفه
بعمار بن ياسر وبعدة من أصحابه فحضروا السوق فكانوا يعترضون الشئ مما
يصلح فلا يشترونه حتى يعرضوه على أبي بكر فإن استصلحه اشتروه، فكان مما
اشتروه قميص بسبعة دراهم، وخمار بأربعة دراهم، وقطيفة سوداء حبرية، وشريط
مزمل بالشرط، وفراشين من جنس مصر حشو أحدهما ليف وحشو الآخر من جز
الغنم، وأربعة مرافق من أدم حشوها أذخر (1)، وستر من صوف، وحصير هجري،
ورحا اليد، ومخضب (2) من نحاس، وسقاء من أدم، وقعب (3) اللبن، وشن للماء،
ومطهرة مزفتة (4)، وجرة خضراء، وكيزان خزف حتى استكمل الشراء، وحمل أبو
بكر بعض المتاع وحمل أصحاب الرسول (صلى الله عليه وآله) الذين كانوا معه الباقي، فلما عرض
المتاع على رسول الله (صلى الله عليه وآله) جعل يقلبه بيده ويقول: بارك الله تعالى لأهل البيت.
قال علي (عليه السلام): فأقمت بعد ذلك شهرا أصلي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وارجع إلى
منزلي ولا أذكر له شيئا من أمر فاطمة (عليها السلام)، ثم قلن أزواج النبي (صلى الله عليه وآله): ألا نطلب لك
من رسول الله دخول فاطمة عليك؟ فقلت: افعلن.
فدخلن عليه، فقالت أم أيمن: يا رسول الله لو أن خديجة باقية لقرت عينها
بزفاف ابنتها فاطمة وأن عليا يريد أهله فقر عين فاطمة ببعلها واجمع شملها وقر
عيوننا بذلك.
قال: فما بال علي لا يطلب مني زوجته فقد كنا نتوقع ذلك منه؟! قال علي:
فقلت: الحياء يمنعني يا رسول الله. فألتفت إلى النساء فقال: من هاهنا: فقالت



(1) الأذخر: حشيش طيب الرائحة أطول من الثيل.
(2) المخضب: إناء تغسل فيه الثياب.
(3) القعب: القدح الضخم الغليظ.
(4) المزفت: المطلي بالزفت.
406
أم سلمة: أنا أم سلمة وهذه زينب وهذه فلانة وهذه فلانة. فقال رسول الله: هيئوا
لابنتي وابن عمي في حجرتي بيتا. فقالت أم سلمة: في أي حجرة يا رسول الله؟
قال: في حجرتك. وأمر نساءه أن يزين فاطمة ويصلحن من شأنها.
قالت أم سلمة: فسألت فاطمة هل عندك طيب ادخرته لنفسك؟ قالت: نعم.
فأتت بقارورة فسكبت منها في راحتي فشممت منها رائحة ما شممت مثلها قط.
فقلت: ما هذا؟ قالت: كان دحية الكلبي يدخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيقول لي:
يا فاطمة هاتي الوسادة فاطرحيها لعمك، فأطرح له الوسادة فيجلس عليها، فإذا
نهض سقط من بين ثيابه شئ فيأمرني بجمعه، فسأل علي رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن
ذلك، فقال: هو عنبر يسقط من أجنحة جبرائيل.
قال علي: ثم قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي اصنع لأهلك طعاما فاضلا، ثم
قال: من عندنا اللحم والخبز وعليك التمر والسمن. فاشتريت تمرا وسمنا فحسر
رسول (صلى الله عليه وآله) عن ذراعه وجعل يشدخ التمر في السمن حتى اتخذه خبيصا (1)، وبعث
إلينا كبشا سمينا فذبح وخبز لنا خبز كثير.
ثم قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): ادع من أحببت. فأتيت المسجد وهو مشحون
بالصحابة، فأحييت أن أشخص قوما وأدع قوما ثم صعدت على ربوة وناديت:
أجيبوا إلى وليمة فاطمة فأقبل الناس إرسالا فاستحييت من كثرة الناس وقلة
الطعام، فعلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما تداخلني، فقال لي: يا علي إني سأدعو الله بالبركة.
قال علي: فأكل القوم عن آخرهم طعامي وشربوا من شرابي ودعوا لي بالبركة
وصدروا وهم أكثر من أربعة آلاف رجل ولم ينقص من الطعام شئ.
ثم دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالصحاف (2) فملئت ووجه بها إلى منازل أزواجه،
ثم أخذ صحيفة وجعل فيها طعاما وقال: هذا لفاطمة وبعلها. فانطلقت فأتت بها
وهي تسحب أذيالها وقد تصببت عرقا حياء من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فعثرت، فقال



(1) الخبيص: الحلواء المخبوصة من التمر والسمن.
(2) الصحاف: جمع صحفة، القصعة الكبيرة.
407
رسول الله (صلى الله عليه وآله): أقالك الله العثرة في الدنيا والآخرة. فلما وقفت بين يديه كشف
الرداء عن وجهها حتى رآها علي، ثم أخذ يدها فوضعها في يد علي فقال: بارك
الله لك في ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يا علي نعم الزوجة فاطمة، ويا فاطمة نعم الزوج
علي، انطلقا إلى منزلكما ولا تحدثا أمرا حتى آتيكما. فأخذت بيد فاطمة وانطلقت
بها حتى جلست في جانب الصفة وجلست في جانبها، وهي مطرقة إلى الأرض
حياء مني وأنا مطرق إلى الأرض حياء منها. ثم جاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: من
هاهنا؟ فقلت: ادخل يا رسول الله مرحبا بك زائرا وداخلا. فدخل فأجلس فاطمة
من جانبه وأنا من جانبه ثم قال: يا فاطمة آتيني بماء. فقامت إلى قعب في البيت
فملأته ماء ثم أتته به، فأخذ منه جرعة فتمضمض بها ثم مجها في القعب، ثم صب
منه على رأسها ثم قال لها: أقبلي، فلما أقبلت نضح منه بين يديها ثم قال لها ادبري،
فلما أدبرت نضح منه بين كتفيها. ثم قال: اللهم هذه ابنتي أحب الخلق إلي، وهذا
أخي أحب الخلق إلي، اللهم اجعله لك وليا وبك حفيا فبارك له في أهله. ثم قال:
يا علي ادخل بأهلك بارك الله لك ورحمة الله وبركاته عليكم إنه حميد مجيد (1).
وقال موسى بن جعفر، عن أبيه، عن جده (عليهم السلام)، عن جابر بن عبد الله (رحمه الله): لما
زوج رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاطمة من علي أتاه ناس من قريش فقالوا له: زوجت عليا
بمهر خسيس؟!
فقال: ما أنا زوجت عليا ولكن الله عز وجل زوجه ليلة أسري بي عند سدرة
المنتهى أوحى الله تعالى إلى سدرة المنتهى أن انثري ما عليك، فنثرت الدر
والجواهر والمرجان، فابتدر [ت] الحور العين فالتقطن، فهن يتهادينه [و] يتفاخرن
ويقلن هذا من نثار فاطمة بنت محمد.
فلما كانت ليلة الزفاف أتى النبي (صلى الله عليه وآله) ببغلته الشهباء وثنى عليها قطيفة وقال
لفاطمة: اركبي، وأمر سلمان أن يقودها، والنبي (عليه السلام) يسوقها. فبينما هو في بعض



(1) أمالي الطوسي: ص 40 ح 45 / 14.
408
الطريق إذ سمع دحية، فإذا هو بجبرائيل في سبعين ألفا وميكائيل (عليه السلام) في سبعين
ألفا، فقال (عليه السلام): ما أهبطكم إلى الأرض؟ قالوا: جئنا نزف فاطمة إلى زوجها علي
بن أبي طالب (عليه السلام). فكبر جبرئيل وكبر ميكائيل وكبر الملائكة وكبر محمد، فوقع
التكبير على العروس من تلك الليلة.
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): تبنيت بابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فما قليت ولا قليت،
ولا عضلت بولد، ولا ولدت إلا طاهرا (1).
ثم تزوج بعد فاطمة (عليها السلام) خولة الحنفية.
روى جابر بن عبد الله الأنصاري قال: كنت إلى جنب أبي بكر وقد طلع سبي
بني حنيفة، وكانت فيه جارية مرهقة، فلما دخلت المسجد قالت: يا أيها الناس
ما فعل محمد؟ قالوا: قبض. قالت: فهل له بيت يقصد إليه؟ قالوا: نعم هذا قبره (صلى الله عليه وآله).
فنادت: السلام عليك يا أحمد يا محمد يا رسول الله، أشهد أنك تسمع كلامي وتقدر
على جوابي وإنا سبينا من بعدك، وإنا نقول لا إله إلا الله وإنك رسول الله، وجلست.
فوثب إليها رجلان من المهاجرين أحدهما طلحة والآخر الزبير فطرحا ثوبيهما
عليها. فقالت: ما بالكم معشر العرب تصونون حلائلكم وتهتكون حلائل الغير؟
فقالوا: لمخالفتكم حين تقولون نزكي ولا نصلي أو نصلي ولا نزكي، وقد طرحنا
ثوبينا عليك لنتغالا في ثمنك. فقالت: أقسمت بالله ربا وبمحمد بنيا لا يملك رقبتي
إلا بما رأت أمي وهي حامل بي؟ وما قالت عند الولادة؟ وما العلامة التي بيني
وبينها؟ وإلا إن ملكني أحدكما بقرت جوفي بيدي فيذهب ماله ويذهب نفسي
فيكون المطالب بهذا. فقالا: يا أيتها المرأة أبدي رؤياك التي رأت أمك وهي حامل
بك حتى نبدي لك العبارة. وأخذ طلحة والزبير ثوبيهما وعادا جالسين، إذ دخل
أمير المؤمنين (عليه السلام) [وقال: ما] (2) هذا الرجف في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟
فقالوا له: يا علي امرأة من بني حنيفة حرمت ثمنها على المسلمين، فقالت



(1) أمالي الطوسي: ص 257 ح 464 / 2.
(2) بياض في الأصل بمقدار كلمتين وما في المعقوفتين أضفناه من كتاب الفضائل.
409
ثمني حرام إلا على من يخبرني بالرؤيا التي رأت أمي والعبارة لها.
فقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): ما دعت إلى باطل أخبروها
تملكوها.
قالوا: يا علي من فينا يعلم علم الغيب، أما علمت أن ابن عمك الرسول (صلى الله عليه وآله)
قبض وأن أخبار السماء وديناها كان جبرئيل (عليه السلام) يهبط عليه بخبر ساعة فساعة.
فقال أبو بكر: يا علي أخبرها.
فقال (عليه السلام): أخبرها أملكها بلا اعتراض أحد منكم. قالوا: نعم.
قال علي: يا حنيفية أخبرك أملكك. فقالت: من أنت الجرئ دون أصحابك
فقال: أنا علي فقالت: لعلك الرجل الذي نصبك محمد (صلى الله عليه وآله) صبحة الجمعة بغدير
خم علما للناس. قال: أنا ذلك الرجل. فقالت: إنا من أسبابك أصبنا ومن نحوك
اتينا، لأن رجالنا قالوا لا نسلم صدقات أموالنا ولا طاعة نفوسنا إلا للذي نصبه
محمد فينا وفيكم علما. فقال لها أمير المؤمنين (عليه السلام): وإن أجركم غير ضائع، إن الله
يوفي كل نفس ما عملت من خير. ثم قال: يا حنيفية ألم تحمل بك أمك في زمان
قحط منعت السماء قطرها والأرض نباتها وغارت العيون حتى أن البهائم لم تجد
رعيا ترعى، وكانت أمك تقول: انك حمل مشؤوم في زمان غير مبارك، فلما كان
بعد سبعة أشهر كملا أريت في نومها كأن قد وضعتك وكأنها تقول: إنك حمل
مشؤوم في زمان غير مبارك، وكأ نك تقولين لها: يا أمه لا تشأمي بي إني ولد
مبارك أنشأ نشوء حسنا، يملكني سيد يولدني ولدا يكون لحنيفية عزا. قالت:
صدقت أنى لك هذا؟ قال: هو إخبار النبي (صلى الله عليه وآله) لي. قالت: وما العلامة بيني وبين
أمي؟ فقال (عليه السلام): إنها لما وضعتك كتبت كلامك والرؤيا في لوح من النحاس
وأودعته يمنة الباب، فلما كان بعد حولين عرضت عليك فأقررت، فلما كان بعد
أربع سنين عرضت عليك فأقررت، فلما كان بعد ست سنين عرضت عليك
فأقررت، فلما كان بعد ثمان عرضت عليك فأقررت، فلما كان بعد عشر سنين
جمعت بينك وبين اللوح وقالت: يا بنية إذا نزل بساحتكم سافك دمائكم وناهب
$ أمير المؤمنين (عليه السلام) / مقتله
أموالكم وسابي ذراريكم وسقت فيمن سبي فخذي هذا اللوح معك واجتهدي أن

410
لا يملكك من الجماعة إلا من يخبرك بالرؤيا وهذا اللوح. فقالت: صدقت، فأين
اللوح؟ فقال: في عقصتك فدفعت اللوح إلى علي (عليه السلام) فملكها دون غيره بما ثبت
من حجته وإظهار بينته فأقامها (عليه السلام) عند أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر، فلما
مضى على ذلك مدة جاء إخوتها فدخلوا المسجد وقالوا: يا معاشر أصحاب
رسول الله بم تستحلون أخذ أختنا ونحن قوم مسلمون؟ فقال أبو بكر: اختكم عند
علي أخذها. فقال عمر: هيهات أن تكون اختكم ثيبا وهي عند علي. فجاء
علي (عليه السلام) فقال له أبو بكر: هؤلاء إخوة خولة وذكروا أنهم مسلمون. فقال له
علي (عليه السلام): ان أختهم عند أسماء بنت عميس فأنفذ إليها. فأنفذ فجاؤوا بخولة فسلمها
علي (عليه السلام) إلى إخوتها. فقالوا: يا علي قد رضينا أن تكون أختنا زوجتك. فعقد عليها
العقد مع إخوتها بأملاك (1).
ثم تزوج أم البنين الكلابية
ثم تزوج أم حبيب الثعلبية
ثم تزوج أسماء بنت عميس الخثعمية
ثم تزوج أم شعيب المخزومية
ثم تزوج امامة بنت زينب بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)
ثم تزوج ليلى التميمية
وقتل وخلف أربع حرائر منهن: امامة وليلى وأسماء وأم البنين، وثمان عشر
أم ولد، ولد له من إحداهن خديجة وأم هاني وميمونة وفاطمة.
فصل
في ذكر مقتل أمير المؤمنين (عليه السلام)
حدث ثابت بن أبي صفية، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة، قال:



(1) ذكرت هذه القصة في مصادر متعددة وبألفاظ مختلفة كالخرائج والجرائح ج 2
ص 563 - 565 ح 21، الفضائل لابن شاذان: ص 99، بحار الأنوار ج 24 ص 84 ح 14.
411
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لما خضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) لحيته بسواد قلت: يا رسول الله
ما أحسن هذا الخضاب، أفلا أخضب لحيتي اقتداء بك؟ فقال: لا يا علي دعها
فسيبعث بعدي أشقى الأولين والآخرين شقيق عاقر ناقة صالح فيضربك على
رأسك ضربة يخضب منها لحيتك وأنت في السجود بين يدي الله عز وجل. فقلت:
يا رسول الله في سلامة من ديني؟ قال: في سلامة من دينك.
قيل: لما قتل أمير المؤمنين (عليه السلام) الخوارج لم يبق منهم إلا اثنين وأنهما تابا
ورجعا وصارا من أصحاب علي (عليه السلام) يقال لأحدهما البرك وللآخر عبيد. فلما قدم
أمير المؤمنين (عليه السلام) الكوفة أمر لعبد الرحمن بن ملجم لعنه الله بفرس عربي، فخرج
يجول عليه في أزقة الكوفة، فإذا هو بامرأة ذات جمال ومنصب في قومها، فلما
نظر إليها شغف بها حتى اشتد وجده بها، فدنا منها فقال لها: أيم أنت ذات بعل؟
قالت: بل أيم.
قال لها: فمن ينكحك؟ قالت: أوليائي، قال: فما صداقك؟ قالت: ثلاثة آلاف
درهم وعبد وقينة وقتل علي بن أبي طالب. فقال لها عبد الرحمن: ويلك أما علمت
أن عليا أصلع قريش فمن يقدم عليه. قال: وذلك أنها كانت لا تزوج نفسها إلا بقتل
علي (عليه السلام) لأن عليا (عليه السلام) كان قد قتل أباها وأخاها وزوجها وابنا لها مبارزة يوم
النهروان، فلم تزل به تخدعه حتى صالحها على ثلاثة آلاف وعبد وقينة وضربة
يضربها عليا (عليه السلام) بالسيف حيا منها أو مات، وذلك في شعبان.
قال: فانطلق من عندها حتى أتى البرك وعبيدا فتذكروا النهروان، فقال
عبد الرحمن: لا يصلح الناس إلا على قتل ثلاثة، فعلى كل رجل منا قتل رجل
منهم. فقال البرك: علي قتل معاوية بن أبي سفيان. وقال عبيد: علي قتل عمرو بن
العاص. وقال عبد الرحمن: علي قتل علي بن أبي طالب.
قال: ثم تواعدوا على قتل القوم في شهر رمضان. فلما كانت أول ليلة منه أتى
البرك معاوية فضربه مدبرا فوقعت الضربة في أليته في لحم كثير ففلق أليته، فأخذه
الناس فالتفت إليه معاوية، فقال له البرك: قتلتك يا عدو الله. قال: كلا يا بن أخي

412
إن عمك أوفر ألية من ذاك. ثم أمر به أن تقطع يداه ورجلاه ولسانه، وأراد قتله فقام
إليه رجل من بني تيم فاستوهبه.
ثم أتى عبيدا عمرا وكان يشتكي بطنه وقد أمر خارجة أن يصلي بالناس
فقتله وهو يظن أنه عمرو بن العاص.
ثم دخل عبد الرحمن حتى أتى عليا (عليه السلام) فلما نظر إليه تأمله أمير
المؤمنين (عليه السلام) وأنشأ يقول:
أريد حياته ويريد قتلي * غديرك من خليلك من مرادي.
ثم قال له علي (عليه السلام): يا عبد الرحمن هل كان لك لقب في صغرك؟ قال:
لا يا أمير المؤمنين. قال: نشدتك بالله هل لقيتك حاضنتك شاقر عاقر ناقة ثمود
- وكانت حاضنته يهودية -؟ فقال: أتعلم الغيب يا أمير المؤمنين؟!
قال: والله ما أعلم من الغيب إلا ما أطلعني الله عليه بوصف رسول الله (صلى الله عليه وآله).
ثم أنشأ أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول:
اشدد حيازيمك للموت * فإن الموت لاقيك
ولا تجزع من الموت * إذا حل بواديك
فقال عبد الرحمن: ما جزعت من الموت ساعة قط ولا أخالني أجزع منه ما
بقيت.
قال: فلما كان النصف من شهر رمضان دخل (عليه السلام) على إبنيه الحسن
والحسين (عليهما السلام) فقال: يا أبا محمد كم مضى من شهرنا هذا؟ قال: خمسة عشر يوما.
فنكس رأسه ساعة ثم رفعه فقال: ستفقدون أباكم فيما بينكم وبين عشرين من شهر
رمضان، هكذا خبرني حبيبي رسول الله (صلى الله عليه وآله).
قال: فلما جنه الليل وكان فيما كان فيه من العبادة والصلاة حتى إذا كان نصف
من الليل حرج يريد المسجد، فلما خرج من الدار سمع صوت البط فقال (عليه السلام):
صوارخ يتبعها نوائح، ثم خرج (عليه السلام) وهو يقول:
خلوا سبيل المؤمن المجاهد * في الله ذي الكتب وذي المراشد

413
فبينما هو ينشد هذا الشعر إذ سمعته قطام فسلت سيف عبد الرحمن من غمده
ثم سقته سما وأعادته في غمده، ثم أتى عبد الرحمن لعنه الله المسجد وكمن في
طاق من طاقات المسجد قال: ثم نزل من الطاق وغلبه النوم، ثم دخل أمير
المؤمنين (عليه السلام) المسجد فأذن، فلما فرغ من أذانه والمسجد مظلم ولا يدري من
النائم من ظلمة الليل وظلمة المسجد، فرفسه أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال له: يا نائم قم
صل، فانتبه عبد الرحمن، ودنا أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الصلاة فحمل عدو الله في
ظلمة الليل وظلمة المسجد فضربه على هامته فخر صريعا، وأقبل المسلمون
وقالوا قتل أمير المؤمنين.
وخرج أبو ذر العبدي - وليس بالغفاري - وهو من عبد القيس فلقيه
عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله مذعورا، فقال له: أخا مراد لعلك قتلت أمير
المؤمنين؟ فأراد أن يقول لا فحول الله عز وجل لسانه فقال نعم، فلببه العبدي
وجلد به الأرض وأقبل حتى أدخله على أمير المؤمنين (عليه السلام) فلما نظر إليه قال: إن
أعيش فأنا ولي ثاري، وإن أمت فضربة بضربة فنعم العون كان لنا على عدونا.
قال: فلما كانت ليلة تسع عشرة من شهر رمضان دخلت أم كلثوم على أبيها
وهي باكية فقالت: يا أبتاه على من تخلف اليتامى الصغار والضعفاء فبكى (عليه السلام)
وقال: أخلفكم على من خلفني حبيبي رسول الله (صلى الله عليه وآله). ثم قال لها: يا أم كلثوم
أخرجي وأجفي الباب.
قالت أم كلثوم: ففعلت ذلك ونحن مجتمعون وليس في البيت آدمي غيره،
فسمعنا قائل يقول من داخل البيت: أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم
القيامة! وقال آخر: اليوم تضعضعت أركان الإيمان، وذهب نور الاسلام، وقبض
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومات علي بن أبي طالب، إنا لله وإنا إليه راجعون.
قالت أم كلثوم: فلما سمعت الصوت أفزعنا، فدخلنا على علي (عليه السلام) فإذا هو
فارق الدنيا وهو مسجى بثوبه، فدفن أمير المؤمنين، وهم الحسن والحسين (عليهما السلام)
بإمضاء وصيته في ابن ملجم لعنه الله.

414
قال: وحضر يومئذ من الشيعة ألفان أو أكثر فقدموا عبد الرحمن بن ملجم لعنه
الله، فقام الحسن (عليه السلام) فضربه ضربة فاتقاها فلم تعمل شئ: فقالوا: ضربة بضربة.
فضربه الحسين (عليه السلام) والناس مجتمعون فأبان رأسه، فقالوا: ضربة بضربة. وقد كان
أمير المؤمنين أوصاهما بذلك وقال لهما: إن ابن ملجم ضربني ضربة فلم تصنع
شيئا ثم ضربني ضربة ثانية، فإذا أنا مت فيضربه الحسن فما تصنع شيئا فيضربه
الحسين فيقتله. فعند ذلك يقول العبدي:
فلم أر مهرا ساقه ذو سماحة * كمهر قطام بين غير مبهم (1)
ثلاثة آلاف وعبد وقينة (2) * وضرب علي بالحسام المسمم
فلا مهر أغلى من علي وإن غلا * ولا فتك إلا دون فتك (3) ابن ملجم (4)
قال: فلما دفن أمير المؤمنين (عليه السلام) [وقف] صعصعة بن صوحان على قبره
واضعا إحدى يديه على فؤاده والأخرى قد أخذ بها من التراب وهو يضرب به
رأسه [و] يقول:
ألا من لي بنشرك (5) يا أخيا * ومن لي أن أبثك ما لديا
طوتك منون دهرك بعد نشر * كذاك (6) خطوبه نشرا وطيا
فلو نشرت طواك (7) إلى المنايا * شكوت إليك ما صنعت إليا
بكيتك يا علي بدر عيني * فلم يغن البكاء عليك شيئا
كفى حزنا بفقدك (8) ثم إني * نفضت تراب قبرك عن يديا
وكانت في حياتك لي عظات * فأنت اليوم أوعظ منك حيا (9)



(1) في المصدر: من فصيح وأعجم.
(2) في المصدر: وفتية.
(3) في المصدر: ولا قتل إلا دون قتل.
(4) رواه ابن شهرآشوب في مناقبه: ج 3 ص 311 باختلاف في بعض الألفاظ.
(5) في المصدر: بانسك.
(6) في المصدر: طوتك منون دهر قد توالى... لذاك...
(7) في المصدر: قواك.
(8) في المصدر: بدفنك.
(9) المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 314.
415
وقال صعصعة (رضي الله عنه):
هل خبر القبر سائليه * أم قر عينا بساكنيه (1)
أم هل ثراه أحاط علما * بالجسد المستكن فيه
لو علم القبر من يواري * تاه على كل من يليه
يا موت لو تقبل افتداء * لكنت بالروح أفتديه
يا موت ماذا أردت مني * حققت ما كنت أتقيه
دهر رماني (2) بفقد إلفي * أذم دهري وأشتكيه (3)
تحلو أنعم عنده سماحا * ولم يقل قط إلا يفيه
يا جبلا كان ذا امتناع * وركن عز لا مثليه
ونخلة طلعها نضيد * يقرب من كف مجتنيه
ويا صبورا على بلاء * كان به الله مبتليه
ويا مريضا على فراش * توديه أيدي ممرضيه
آمنك الله كل روع * وكلما أنت تتقيه
وقيل: إن عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله تعالى دخل الكوفة ولم يمر بحي من
أحياء الكوفة إلا قالوا هذا عبد الرحمن صاحب أمير المؤمنين، حتى مر بحي يقال
له النخع وفيه جوار منها يتهادين وبينهن سيدة لهن تدعى قطام بنت الأصبغ لعنها
الله، وكان أمير المؤمنين قد قتل أخاها وأباها وزوجها وابن عمها يوم النهروان،
فوقف عبد الرحمن عليها فلما أن نظر إلى حسنها وجمالها قال لها: يا جارية أنت
ذات بعل؟ فقالت له: بل أيم، فقال لها: ينكحك أهلك؟ فقالت له: نعم، فقال لها: على
ماذا؟ فقالت له: على ثلاثة آلاف وعبد وقينة، فقال لها: ذاك لك ومثله أضعافا
فأتمي أمرنا فقالت له: حتى أستأذن أهلي ثم إن قطام لعنها الله دخلت إلى قصرها



(1) في المصدر: بزائريه.
(2) في المصدر: زماني.
(3) إلى هنا رواه ابن شهرآشوب في مناقبه: ج 3 ص 314 - 315.
416
ودعت جواريها ونادت: ويلكم عجلوا ألبسوني غلائلي (1) الرقاق فإذا دخل
عبد الرحمن فارفعوا الحجاب بيني وبينه حتى ينظر إلى حسني وجمالي فيكون
أقضى لحاجتي ففعلن بها ذلك.
فلما دخل عبد الرحمن لعنه الله رفعن الحجاب، فلما نظر إليها قال لها:
يا سيدتاه أتمي أمرنا. قالت: إن أهلي أبوا أن يزوجوني إلا على ثلاثة آلاف دينار
وعبد وقينة وضرب علي بالحسام. فقال لها عبد الرحمن: ثكلتك أمك من الذي
يستطيع عليا أمير المؤمنين وقاتل المشركين قاتل الأقران وهاشم الهام والأسد
الضرغام فلما سمعت كلامه قالت له: يا هذا أما ما سألت عن المال فلا حاجة لي
فيه وعندنا من المال ما يكفيك، ولا أسألك شيئا بعد أن قررت عيني بقتل علي، فلم
تزال تراود المرادي ويراودها حتى اشترط لها على نفسه ليضربنه ضربة بسيفه
مات منها أو عاش ثم إن قطام لعنها الله رضيت منه بذلك، وأحضرت الطعام
والشراب فأكثرت منه حتى قام وهو سكران. فلما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) الله أكبر
الله أكبر وسمعت قطام ذلك قامت إلى عبد الرحمن وهو راقد فقالت له: يا سيدي
هذا علي يجهر بالأذان فقم حتى تقضي حاجتي وارجع إلي قرير العين مسرورا
بأهلك. فقال: ثكلتك أمك أقتل أمير المؤمنين وأرجع قرير العين! بل أرجع سخين
العين وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أشقى الأولين عاقر الناقة وأشقى الآخرين قاتل
علي. فحمله العشق والشقاوة، وقام فتقلد السيف من تحت أثوابه وتلثم بعمامته
وأقبل إلى المسجد، فلما فرغ علي (عليه السلام) من الأذان ودخل المسجد وصف
قدميه (عليه السلام) ليصلي وكان إذا سجد أطال سجوده، فعمد عبد الرحمن لعنه الله إلى
السيف فاستخرجه من غمده وهزه وعلا به هامته (عليه السلام) وهو ساجد، فاستوى (عليه السلام)
قائما ثم نادى بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله
ورسوله وصدق المرسلون وأقبل بخضيب شيبته بدمه ويقول: بهذا أخبرني حبيبي



(1) الغلائل: الدروع، وقيل: بطائن تلبس تحت الدروع، وقيل: هي مسامير الدروع التي تجمع
بين رؤوس الحلق لأنها تغل فيها أي تدخل، واحدتها غليلة (لسان العرب 11 / 502).
417
رسول الله (صلى الله عليه وآله) قتلني المرادي ورب الكعبة، هكذا ألقى حبيبي رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
هكذا ألقى فاطمة، هكذا ألقى أخي جعفر الطيار في الجنة، هكذا ألقى حمزة سيد
الشهداء. وارتفعت الضجة والرنة بالكوفة، وخرج الناس ودخلوا مسجد الكوفة
ونظروا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يجود بنفسه.
فلما نظر الحسن (عليه السلام) إلى أبيه وما نزل به عط ثوبه وقال: يا أبتاه نفسي لنفسك
الفداء، وخدي لخدك الفداء، ليتني لم أشهد هذا اليوم ولم أره. فلما أن سمع أمير
المؤمنين (عليه السلام) مقالة الحسن والحسين نادى: أسندوني أجلسوني. ثم قال (عليه السلام): أدن
يا حسن مني، ادن يا حسين مني. فضمهما إلى صدره وأقبل يقبل بين عينيهما
ويقول: لا بأس عليكما وأبوكما أكرم على الله من أن يفوتكما قاتله، وسيؤتى به
من هذا الباب، وأومأ بيده نحو باب كندة.
وركب رجل من عبد القيس واستقبل عبد الرحمن لعنه الله وهو شاهر سيفه
وهو يقطر دما، فصاح به صيحة فقال: ثكلتك أمك لعلك قاتل أمير المؤمنين.
فذهب يقول " لا " فقلب الله لسانه وفاه فقال: " نعم ". فأخرج عمامته من رأسه
فوضعها في عنقه وجعل يقوده خاضعا ذليلا حتى أوقفه بين يدي أمير المؤمنين.
فلما نظر إليه قال له: يا عبد الرحمن. فأجابه: لبيك وسعديك. فقال له أمير
المؤمنين (عليه السلام) لا لبيك ولا سعديك شر أمير كنت لك؟! ألم أكن أطعمك وألبسك مما
ألبس وأفضلك في عطائك من مال بيت المسلمين على جميع أصحابي؟! فقال:
بلى والله يا أمير المؤمنين، ها أنا ذا واقف بين يديك فافعل ما شئت.
ثم إن عليا (عليه السلام) رجع إلى نفسه الطاهرة فتلا هذه الآية: * (وكان أمر الله قدرا
مقدورا) * ثم أمر بعبد الرحمن إلى السجن، ثم التفت إلى الحسن (عليه السلام) فقال: يا أبا
محمدكم مضى من شهركم؟ - قال: وكان شهر رمضان - قال: ثمانية عشر يوما.
فقال (عليه السلام): ستفقدون أباكم في العشر الأواخر منه. وودع (عليه السلام) أهل الكوفة،
واتكأ على أولاده الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية والعباس بن علي حتى
دخل منزله فلما نظرت اليه أم كلثوم عطت ثوبها ونتفت شعرها ولطمت خدها وهي

418
تنادي: عز على رسول الله (صلى الله عليه وآله) عز على فاطمة عز علي يا أباه على من خلفتنا (1)
حيارى كالغنم لا راعي لنا.
فقال علي (عليه السلام): على خير خلقه الحسن والحسين بعد جدهما رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وأقبلت تقبل بين عينيه وعلي (عليه السلام) نائم مشغول بما هو فيه فضمها إلى صدره
وقال لها: يا بنية يا أم كلثوم قد دنا اللحوق بجدك رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمك فاطمة (عليها السلام)
فاحتسبي صبرك وعزاك بالله. ثم مد له فراشه ومكث الناس يعودونه.
قال الحسن (عليه السلام): فأحفت الباب - أي دق - وأقبلت أستمع، فسمعت هاتفا من
عند رأسه يتلو: * (أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة) * (2) ثم
هتف هاتف ثان من رجليه وهو يقول: اليوم والله تضعضع ركن الاسلام، اليوم والله
انثلمت حصون الاسلام، اليوم قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لقد انقضت اليوم خلافة
النبوة. قال الحسن (عليه السلام): ففتحت عيني فإذا أنا بأمير المؤمنين قد غمض عيناه وشد
حنكه، وإذا أنا بكفنه عند رأسه وحنوطه عند رجليه ووجهه كدارة القمر ليلة البدر،
فقمنا والله إليه فغسلناه وكفناه وحنطناه وصلينا عليه ليلا وأوردناه حفرته.
ثم تقدم الحسن (عليه السلام) فصلى بالناس صلاة الفجر، ثم علا على المنبر فحمد الله
وأثنى عليه وصلى على نبيه ثم خطب الناس وقال: أيها الناس من عرفني فقد
عرفني ومن لم يعرفني فأنا أنبئه بحسبي، أنا ابن خديجة الكبرى، أنا ابن من صلى
بملائكة السماء، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن خير الناس جدا وجدة، أنا ابن خير
الناس عما وعمة، أنا ابن خير الناس خالا وخالة، أنا ابن خير الناس أبا واما.
ثم قال (عليه السلام): لقد قبض والله في هذه الليلة رجل لم يدركه الأولون ولا يدركه
الآخرون في علم ولا في حلم، ولا خلف صفراء ولا بيضاء إلا أربعمائة درهم
فضلت من عطائه أراد أن يشتري بها خادما لام كلثوم لتعينها على طحن الشعير،



(1) في الأصل: " خلفنا ".
(2) فصلت: 40.
419
وقد أمرنا (عليه السلام) أن نرد ذلك إلى بيت مال المسلمين، فأنا منفذ في يومي هذا وصيته
في عبد الرحمن لعنه الله.
ثم إن الحسن (عليه السلام) نزل من المنبر وبعث من ساعته إلى السجن، فاتي
بعبد الرحمن لعنه الله فأقاموه بين يديه، وأخذ الحسن (عليه السلام) السيف وعلا به ناصية
عبد الرحمن فاتقاه يساعده فلم تعمل فيه الضربة، فوثب الحسين (عليه السلام) وأتى إلى
سيف جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهزه وعلا به هامة عبد الرحمن فقطعه، ووثب
أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) بأسيافهم فقطعوه إربا إربا.
حدث الحسن بن علي بن محمد الخزاز، عن المفضل بن عمر، قال: قال أبو
عبد الله (عليه السلام): إنه لما كانت الليلة التي قبض فيها أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لابنيه
الحسن والحسين (عليهما السلام): إني مفارقكم في ليلتي هذه، فإذا أنا مت فحطا موضع
فراشي من الأرض ثم احملاني وغسلاني مع من يعينكما على غسلي، وكفناني
وحنطاني وضعاني على السرير وخذا المؤخر واتبعا مقدمه حتى يأتيا به موضع
الخطة، فاحفرا لي قعر الأرض فإنه ستبدو لكما خشبة من ساج محفورة، حفرها
لي أبي نوح (عليه السلام)، فضعاني فيها وأطبقا علي اللبن، وتمهلا علي قليلا، ثم خذا اللبن
فإنه سيبين لكما أمري. قال أبو عبد الله (عليه السلام): ففعلا ذلك، فلما حفرا موضع الخطة
بدت لهما خشبة من ساج محفورة فوضعاه فيها ثم أطبقا عليه اللبن وتمهلا قليلا
واخذ اللبن فلم يريا شيئا، فهتف بهما هاتف: إن الله تعالى قد رفع وليه إلى نبيه.
قال: فبكى الحسين (عليه السلام) ثم قال: أشهد والله لقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
يقول: لو أن نبيا توفي بالمشرق وتوفي وصيه بالمغرب لحمل الله ذلك الوصي إلى
ذلك النبي (1).
حدث جعفر بن محمد الأرمني، عن موسى بن سنان الجرجاني، عن أحمد بن
عباس المقري عن أم كلثوم بنت علي (عليهما السلام)، قالت: كان آخر كلام عهده أبي (عليه السلام)
إلى أخوي الحسن والحسين (عليهما السلام) أن قال: يا بني إذا أنا مت فغسلاني، ثم نشفاني



(1) فرحة الغري: ص 31، بحار الأنوار: ج 42 ص 213 باب 127 ح 14، مع اختلاف السند.
420
بالبردة التي نشفت بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفاطمة، وحنطاني وسجياني على سريري،
ثم انظرا حتى إذا ارتفع لكما مقدم السرير فاحملا مؤخره.
قالت: ففعلا كما أمرهما، فلما ارتفع المقدم حملا المؤخر قالت: فخرجت أشيع
جنازة أبي حتى إذا كنا بظهر الغري ركز المقدم فوضعا المؤخر، ثم اتزر
الحسن (عليه السلام) بالبردة التي نشف بها النبي (صلى الله عليه وآله) وفاطمة وأمير المؤمنين (عليه السلام)، ثم أخذ
المعول فضر به ضربة فانشق القبر عن ضريح فإذا هو بساجة مكتوب عليها سطران
بالسريانية: بسم الله الرحمن الرحيم هذا قبر حفره نوح (عليه السلام) لعلي وصي
محمد (صلى الله عليه وآله) قبل الطوفان بسبعمائة عام.
قالت أم كلثوم: فانشق القبر ولا أدري انبس (1) سيدي في الأرض أم أسري به
إلى السماء، إذ سمعت ناطقا يقول لنا بالعربية: أحسن الله لكم العزاء في سيدكم
وحجة الله على خلقه (2).
حدث عبد الله بن محمد بن نهيك، عن زياد بن مروان، عن عبد الله بن سنان
ومفضل بن عمر، جميعا عن أبي عبد الله، عن أبيه (عليهما السلام)، قال: قال علي بن
الحسين (عليهما السلام) إن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال للحسن والحسين (عليهما السلام): إذا انا مت
فكفنوني في أثوابي التي أدميت فيها، ثم ضعوني على سريري، وخذوا بمؤخر
السرير تكفوا مقدمه، فامضوا ما مضى السرير، فإذا وضع مقدم السرير فضعوا
مؤخره، ثم علموا موضع قوائمه ثم نحوه واحتفروا تجدوا ساجة أو خشبة وضعها
نوح (عليه السلام) علامة لقبري، فكان الذين قدام السرير يقولون: سبحانك اللهم أنت عزيز
في سلطانك وأنت لا إله إلا الله، فصلى عليه الحسن (عليه السلام).
وحدث موسى بن سنان الجرجاني، عن أحمد بن عياش المقري، قال:
سمعت أم كلثوم بنت علي (عليهما السلام) تقول: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) لما ضربه ابن ملجم



(1) انبس: أسرع، يقال نبس إذا أسرع. انظر لسان العرب: (6 / 225) وفي فرحة الغري " أغار "
وفي البحار " انبش " أي غار بدل " انبس ".
(2) فرحة الغري: ص 34 - 35، بحار الأنوار: ج 42 ص 216 باب 127 ح 17.
421
لعنه الله دعا ابنيه الحسن والحسين (عليهما السلام) وأوصى إليهما، وسلم إلى الحسن
خاتمه (عليه السلام)، وسلم إليه سيفه ذا الفقار، وسلم إليه الجفرين الأبيض والأحمر، وسلم
إليه الجامعة، وسلم إليه مصحف فاطمة (عليها السلام)، ودفع إليه صحيفة مختومة فيها عهد
إليه، وأمره أن يقوم بالأمر بعده، وأن يوصي عند موته إلى أخيه الحسين (عليه السلام)، وأن
يسلم ذلك كله إليه. فقبل الحسن ذلك كله منه. ثم استأذن عليه الناس وخرجت
فلا أدري ما أوصاه به بعد ذلك.
حدث عمرو بن اليسع، عن صفوان، قال: جاءني سعيد الإسكاف فقال: يا بني
تحمل الحديث؟ فقلت له: نعم. فقال: حدثني أبو عبد الله (عليه السلام) أنه لما أصيب أمير
المؤمنين (عليه السلام) قال للحسن والحسين (عليهما السلام): غسلاني وكفناني وحنطاني واجعلاني
على سريري واحملا مؤخره تكفيا مقدمه فإنكما تنتهيان إلى قبر محفور ولحد
ملحود ولبن موضوع فألحداني وأشرجا (1) اللبن علي وارفعا لبنة مما يلي رأسي
وانظرا ما تسمعان.
قال: فأخذا اللبنة من عند الرأس بعد ما شرجا عليه اللبن فإذا ليس في القبر
شئ وإذا هاتف يهتف: إن أمير المؤمنين كان عبدا صالحا فألحقه الله بنبيه وكذلك
يفعل بالأوصياء بعد الأنبياء حتى لو أن نبيا مات في المشرق ومات وصيه في
المغرب لألحق الوصي بالنبي (2).
حدث محمد بن عيسى، عن علي بن الحكم، عن زياد بن أبي الحلال، عن أبي
عبد الله (عليه السلام) قال: مامن نبي أو وصي يبقى في الأرض أكثر من ثلاثة أيام حتى
يرفع بروجه وعظمه ولحمه إلى السماء، وإنما يؤتى مواضع آثارهم ويبلغونهم من
بعيد السلام ويسمعونهم في موضع آثارهم من قريب (3).
قال الحسن بن علي الوشاء، قال الرضا (عليه السلام): من زار قبر أمير المؤمنين (صلى الله عليه وآله)



(1) شرج الحجارة واللبن: نضدها وضم بعضها على بعض.
(2) بحار الأنوار: ج 42 ص 213 باب 127 ح 14.
(3) بصائر الدرجات: ص 445 الجزء التاسع باب 13 ح 9.
422
فليصل عند رأسه ست ركعات، لأن في قبره عظام آدم وجسد نوح وأمير
المؤمنين (عليه السلام)، فمن زار قبر أمير المؤمنين فقد زار آدم ونوحا وأمير المؤمنين
صلى الله عليهم (1).
حدث محمد بن عيسى، عن ابن أبي عمير، عن هشام، عمن رواه قال: قال
أبو عبد الله (عليه السلام): إذا بعدت لأحدكم الشقة ونأت به الدار فليعل أعلى منزله وليصل
ركعتين وليوم بالسلام إلى قبورنا فأن ذلك يصل إلينا (2).
وقال عبد الله محمد اليماني، عن متبع بن الحجاج، عن يونس، عن أبي وهب
البصري قال: دخلت المدينة فأتيت أبا عبد الله (عليه السلام) فقلت له: جعلت فداك أتيت ولم
أزر قبر أمير المؤمنين (عليه السلام). قال: بئس ما صنعت، لولا أنك من شيعتنا ما نظرت إليك
إلا تزور من يزوره الله عز وجل مع الملائكة ويزوره الأنبياء ويزوره المؤمنون
قلت: جعلت فداك ما علمت ذلك. قال: فاعلم أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أفضل عند الله
عز وجل من الأمم كلهم وله ثواب أعمالهم، فعلى قدر أعمالهم فضلوا (3).
قال ابن بابويه (رضي الله عنه): معنى زيارة الله عز وجل هو النظر اليه والى زواره
بالرحمة.
حدث خلف بن حماد، عن أبي الحسن العبدي، عن سليمان بن مهران، عن
الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنا سيد النبيين
والمرسلين وعلي بن أبي طالب سيد الوصيين، وهو إمام المسلمين، وأمير
المؤمنين، وقائد الغر المحجلين، ويعسوب المؤمنين، قاتله أشقى الأولين
والآخرين شقيق قذار عاقر ناقة ثمود.
ثم قال (عليه السلام): معاشر الناس إن عليا مني، روحه من روحي، وطينته من طينتي،
من تبعه فقد تبعني، ومن خالفه فقد خالفني، ومن حاربه فقد حاربني، ومن قاتله
فقد قاتلني، ومن بره فقد برني، ومن جفاه فقد جفاني، ومن وصله فقد وصلني،



(1) انظر من لا يحضره الفقيه: ج 2 ص 594 قطعة من ح 3199.
(2) كامل الزيارات: ص 286.
(3) كامل الزيارات: ص 38.
423
ومن قطعه فقد قطعني، ومن ظلمه فقد ظلمني، ومن أنصفه فقد أنصفني، ومن أطاعه
فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني.
وروي أن عليا (عليه السلام) كان يفطر ليلة عند الحسن وليلة عند الحسين وليلة عند
عبد الله بن جعفر، لا يزيد على ثلاث لقم، ثم يقول: يأتيني أمر الله عز وجل وأنا
خميص، إنما هي ليلة أو ليلتان (1).
حدث أحمد بن النظر الحرار، عن عمرو بن شمر، عن جابر قال: سألت أبا
جعفر (عليه السلام) عن دلدل بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى من صارت بعد أمير المؤمنين فاني لم
أسمع لها بذكر؟ فقال (عليه السلام): إنه لما انصرف الحسن والحسين (عليهما السلام) من دفن أمير
المؤمنين لم يجداها وأنها فقدت مع وفاة أمير المؤمنين (عليه السلام). قلت: جعلت فداك
فهل يدرى أين توجهت؟ قال: هي في روضة من رياض الجنة مع ناقة رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العضباء يرعيان حتى توافيا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام).
وكان عمره (عليه السلام) يوم قتل ثلاثا وستين سنة، وكان مقامه مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة
ثلاثا وعشرين سنة، منها في ظهور رسالته ثلاث عشر سنة، وأقام معه في المدينة
عشر سنين، وعاش بعده ثلاثين سنة، قتله عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله، وقبره
بالغري من أرض النجف بظهر الكوفة.
وكناه النبي (صلى الله عليه وآله) أبا الحسن، وأبا الحسين، وأبا شبر، وأبا شبير، وأبا تراب،
وأبا النورين، وأبا الريحانتين.
حدث المأمون، قال: حدثني هارون الرشيد، عن أبيه المهدي، عن أبيه
الهادي، عن أبيه المنصور، عن أبيه، عن عكرمة مولى عبد الله بن عباس، عن
عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال - لما قتل أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب (عليه السلام): اليوم مات رباني هذه الأمة.
وحدث أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن خالد البرقي، عن أحمد
ابن يزيد النيسابوري، قال: حدثنا عمر بن إبراهيم الهاشمي، عن عبد الملك



(1) بحار الأنوار: ج 41 ص 300 باب 114 من تأريخ أمير المؤمنين (عليه السلام) ذيل ح 31.
424
ابن عمير، عن أسيد بن صفوان صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: لما كان اليوم الذي
قبض فيه أمير المؤمنين (عليه السلام) ارتج الموضع بالبكاء ودهش الناس كيوم قبض فيه
النبي (صلى الله عليه وآله). وجاء رجل باك وهو مسرع مسترجع وهو يقول: اليوم انقطعت خلافة
النبوة حتى وقف على باب البيت الذي فيه أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال: رحمك الله أبا
حسن كنت أول القوم إسلاما، وأخلصهم إيمانا، وأشدهم يقينا، وأحوطهم على
رسول الله، وآمنهم على أصحابه، وأفضلهم مناقب، وأكرمهم سوابق، وأرفعهم
درجة، وأقربهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأشبههم به هديا وخلقا وسمتا وفعلا وأشرفهم
منزلة، فجزاك الله عن الاسلام وعن رسوله وعن المسلمين خيرا. قويت حين
ضعف أصحابه، وبرزت حين استكانوا، ونهضت حين وهنوا، وألزمت منهاج
رسوله إذ هم أصحابه. كنت خليفة حقا لم تنازع ولم تضرع (1) برغم المنافقين
وغيظ الكافرين وكره الحاسدين وضغن الفاسقين، فقمت بالأمر حين فشلوا،
ونطقت حين تتعتعوا، ومضيت بنور الله إذا وقفوا، فاتبعوك فهدوا. وكنت أخفضهم
صوتا وفرقا، وأقلهم كلاما، وأصوبهم منطقا، وأكثرهم رأيا، وأشجعهم قلبا،
وأشدهم نفسا، وأحسنهم عملا، وأعرفهم بالأمور. وكنت والله للدين يعسوبا، أولا
حين تفرق (2) الناس وآخرا حين فشلوا. كنت للمؤمنين أبا رحيما إذ صاروا عليك
عيالا، فحملت أثقال ما عنه ضعفوا، وحفظت ما أضاعوا، ورعيت ما أهملوا،
وشمرت إذ (3) اختضعوا، وعلوت إذ هلعوا، وصبرت إذ جزعوا، وأدركت إذ تخلفوا،
ونالوا بك ما لم يحتسبوا. كنت للكافرين عذابا صبا وللمؤمنين غيثا وخصبا،
فطرت والله نعماها، وفزت بجناها، وأحرزت سوابقها، وذهبت بفضائها، لم يقلل
حجتك، ولم يزغ قلبك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجش نفسك، ولم تجر. كنت
كالجبل لا تحركه العواصف ولا يزيله العواصف، وكنت كما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)
ضعيفا في بدنك، قويا في أمر الله، متواضعا في نفسك، عظيما عند الله عز وجل،



(1) في الأصل: لم ينازع ولم يضرع.
(2) في الأصل: يفرق.
(3) في الأصل: إذا.
425
كبيرا في الأرض، جليلا عند المؤمنين. لم يكن لأحد فيك مهمز، ولا لقائل فيك
مغمز، ولا لأحد فيك مطمع، ولا لأحد عندك هوادة. الضعيف الذليل عندك قوي
عزيز حتى تأخذ له بحقه، والقوي العزيز عندك ضعيف ذليل حتى تأخذ منه الحق،
والقريب والبعيد عندك سواء، شأنك الحق والصدق والرفق، وقولك حكم وحتم،
وأمرك حكم وحزم، ورأيك علم وعزم، فأفلقت وقد نهج السبيل، وسهل العسير،
واطفأت النيران، واعتدل بك الدين، وقوى بك الإيمان، وثبتت بك الاسلام
والمؤمنون، وسبقت سبقا بعيدا، وأتعبت من بعدك تعبا شديدا، فحللت عن البكاء،
وعظمت رزيتك في السماء، وهدت مصيبتك الأنام، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
رضينا عن الله قضاء، فوالله لن يصاب المسلمون بمثلك أبدا كنت للمؤمنين
كهفا وحصنا، وعلى الكافرين غلظة وغيظا، فألحقك الله بنبيه، ولا يحرمنا أجرك،
ولا أضلنا بعدك.
وسكت القوم حتى انقضى كلامه، وبكي وأبكى أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
ثم طلبوه ولم يصادفوه (1).
ثعلبة الحماني قال: سمعت عليا (عليه السلام) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من كذب
علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، وأشهد أنه كان مما يشير إلي أن قال: ليخضبن
هذه من دم هذا، يعني لحيته من دم رأسه.
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي بن أبي طالب (عليه السلام): من أشقى الأولين؟ قال: عاقر
الناقة. قال: فمن أشقى الآخرين؟ قال: الذي يضربك على هذا، وأشار إلى رأسه (2).
فكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: يا أهل العراق لوددت لو قد انبعث أشقاها
فخضب هذا من هذا، ويشير إلى لحيته ورأسه.
وقالت أروى بنت الحارث بن عبد المطلب ترثي عليا (عليه السلام)، وقيل: إنها
لأبي الأسود:



(1) الكافي: ج 1 ص 454 باب مولد أمير المؤمنين ح 4.
(2) تذكرة الخواص: ص 172.
426
ألا يا عين ويحك أسعدينا * ألا فابكي أمير المؤمنينا
رزينا خير من ركب المطايا * فارسها (1) ومن ركب السفينا
ومن لبس النعال ومن حذاها * ومن قرأ المثاني والمبينا
فلا والله لا أنسى عليا * وحسن صلاته في الراكعينا
إذا استقبلت وجه أبي حسين * رأيت البدر داع (2) الناظرينا
وفي شهر الصيام (3) فجعتمونا * بخير الناس طرا أجمعينا
فلا تشمت معاوية بن حرب (4) * فلا قرت عيون الشامتينا
مضى بعد النبي فدته نفسي (5) * أبو حسن وخير الصالحينا
كأن الناس إذ فقدوا عليا * نعام ظل (6) في بلد سنينا
لقد علمت قريش حيث كانت * بأنك خيرها حسبا ودينا (7)
وقالت البراء أخرى ابنة صفوان ترثيه:
يا للرجال العظم هول مصيبة * فدحت فليس مصابها بالباطل
الشمس كاسفة لفقد إمامنا * خير الخلائق والإمام العادل
يا خير من ركب المطي ومن مشى * فوق التراب بحافي أو ناعل
جاش النبي لقد هددت قوانا * فالحق أصبح خاضعا للباطل
وقالت أم سنان بنت خيثمة ترثيه:
أما هلكت أبا الحسين فلم تزل * بالحق تعرف هاديا مهديا
فلأبكينك ما حييت وما دعت * فوق الغصون حمامة قمريا
قد كنت بعد محمد خلفا لنا * وأوصى إليك بنا فكنت حفيا



(1) في المصدر: وحثحثها.
(2) في المصدر: راق.
(3) في المصدر: أفي الشهر الحرام.
(4) في المصدر: ألا أبلغ معاوية بن حرب، والصدر الموجود في المتن مذكور في آخر القصيدة
وعجزه: فان بقية الخلفاء فينا.
(5) في المصدر: ومن بعد النبي فخير نفس.
(6) في المصدر: جال.
(7) المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 315 مع تقديم وتأخير وزيادة بيت، وهي لأبي الأسود
الدؤلي.
427
فاليوم لا خلف يؤمل بعده * هيهات يمدح بعده إنسيا
وقالت الدارمية الحجونية ترثيه أيضا:
صلى الإله على جسم تضمنه * قبر فأصبح فيه العدل مدفونا
قد حالف الحق لا يبغي به بدلا * فصار بالحق والإيمان مقرونا
فصل
في موضع قبره (عليه السلام)
روى عبيد الله بن محمد، عن ابن عائشة، قال: حدثني عبد الله بن حازم، قال:
خرجنا مع الرشيد من الكوفة نتصيد فصرنا إلى ناحية الغريين والثوية، فرأينا ظباء
فرمينا عليها الصقور والكلاب فحاولوها ساعة، ثم لجأت الظباء إلى أكمة فوقفت
عليها فسقطت الصقور ناحية ورجعت الكلاب، فعجب الرشيد من ذلك. ثم إن
الظباء هبطن من الأكمة فعطفت الصقور والكلاب عليها، فرجعت الظباء إلى الأكمة
فرجعت عنها الصقور والكلاب، ففعلت ذلك ثلاثا.
فقال الرشيد: اركضوا فمن وجدتم آتوني به. فأتيناه بشيخ من بني أسد.
فقال له هارون: أخبرني ما هذه الأكمة؟ قال: إن جعلت لي الأمان أخبرتك
فقال له: لك عهد الله وميثاقه أن لا أهيجك ولا أوذيك. فقال: حدثني أبي عن آبائه
أنهم كانوا يقولون في هذه الأكمة قبر علي بن أبي طالب (عليه السلام)، جعله الله حرما
لا يأوي إليه شئ إلا أمن. فنزل الرشيد ودعا بماء فتوضأ وصلى عند الأكمة
وتمرغ عليها وجعل يبكي، ثم انصرفنا. قال محمد بن عائشة: وكان قلبي لم يقبل
ذلك، فلما كان بعد مدة حججت إلى مكة فرأيت بها ياسرا من أصحاب الرشيد،
$ أمير المؤمنين (عليه السلام) / أولاده عليه وعليهم السلام
فكان يجلس معنا إذا طفنا، فجرى الحديث يوما إلى أن قال: (1) قال لي الرشيد ليلة
من الليالي وقد قدمنا من مكة فنزلنا الكوفة: يا ياسر قل لعيسى بن جعفر فليركب.



(1) " قال " ليس في لأصل.
428
فركبنا جميعا وركبت معهما حتى إذا صرنا إلى الغريين، فأما عيسى فطرح نفسه
فنام، وأما الرشيد فجاء إلى الأكمة وصلى عندها، فكلما صلى ركعتين دعا وبكى
وتمرغ على الأكمة فيقول: يا عم يا عم أنا والله أعرف فضلك وسابقتك، بك والله
جلست مجلسي الذي أنا فيه، وأنت قلت، ولكن ولدك يؤذونني ويخرجون علي،
ثم يقوم فيصلي ثم يعيد هذا الكلام ويدعو ويبكي، حتى إذا كان وقت السحر قال
لي: يا ياسر أقم عيسى فأقمته. فقال له: يا عيسى قم صل عند قبر عمك.
قال: وأي عمومتي هو؟ قال: هذا قبر علي بن أبي طالب (عليه السلام). فتوضأ عيسى
وقام يصلي، فلم يزالا كذلك حتى طلع الفجر فقلت: يا أمير المؤمنين أدركك
الصبح. فركبا ورجعا إلى الكوفة (1).
وروى منصور بن عمار قال: سبحت على شط البحر فأتيت على دير، وفي
الدير صومعة، وفيها راهب، فناديته فأشرف علي، فقلت له: من أين يأتيك
طعامك؟ قال: من مسيرة شهر. قلت: حدثني بأعجب ما رأيت من هذا البحر؟ قال:
ترى تلك الصخرة، وأومأ بيده إلى صخرة في وسط البحر. قلت: نعم. قال: يخرج
من البحر في كل يوم طير مثل النعامة فيقع عليها، فإذا استوى واقفا قاء رأسا ثم
يدا ثم رجلا ثم يلتم الأعضاء بعضها إلى بعض، ثم يستوي إنسانا قاعدا، ثم يهم
بالقيام، فإذا هم بالقيام نقر نقرة فأخذ رأسه ثم أخذ عضوا عضوا كما كان، فلما إن
طال علي ذلك ناديته يوما وقد استوى جالسا: من أنت؟ فالتفت وقال: هذا عبد
الرحمن بن ملجم قاتل علي بن أبي طالب وكل الله تعالى به هذا الطير فهو يعذبه
إلى يوم القيامة (2).
فصل
في ذكر أولاده عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام
ولد له (عليه السلام) من فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله): الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم.



(1) الإرشاد: ص 19 - 20.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 2 ص 346.
429
وكان له من خولة الحنفية: محمد.
وكان له من أم البنين الكلابية: العباس وعبد الله وجعفر وعثمان.
وكان له من ليلى بنت مسعود الدارمية: محمد الأصغر المكنى أبا بكر،
وعبد الله.
وكان له من أم حبيب التغلبية: عمر ورقية.
وكان له من أسماء بنت عميس الخثعمية: يحيى وعون.
وكان له خديجة وأم هاني وميمونة وفاطمة لام ولد.
وكان له من أم شعيب المخزومية: أم الحسن، ورملة.
وأعقب لأمير المؤمنين (عليه السلام) من البنين خمسة: الحسن والحسين ومحمد
والعباس وعمر.
فأما الحسن والحسين (عليهما السلام) فيأتي ذكر كل واحد منهما منفردا في بابه، ويذكر
في هذا الموضوع محمد والعباس وعمر.
ذكر محمد بن الحنفية.
لما رأى عبد الله بن الزبير أنه قد صفا له العراقان البصرة والكوفة بقتل
المختار بن أبي عبيد وعبيد الله بن الحر أرسل إلى محمد بن الحنفية بأخيه عروة بن
الزبير أن هلم فبايع فقد قتل الله الكذاب وابن الحر المرتاب والأمة قد استوسقت
والبلاد قد افتتحت فادخل فيما دخل فيه الناس من أمر البيعة فالأمناء قد بدأوك.
قال: فغضب محمد بن الحنفية من ذلك، ثم أقبل على عروة بن الزبير فقال له:
بؤسا لأخيك ما ألحه في إسخاط الله تعالى وأغفله عن طاعة الله تعالى (1)، أنا أبايع
أخاك وعبد الملك بن مروان بالشام يرعد ويبرق.
قال: ثم وثب رجل من أصحابه إليه فقال له: جعلت فداك يا بن أمير المؤمنين
علي الرضي وابن عم النبي والله ما الرأي عندنا إلا أن نوثق هذا هذه الساعة



(1) إلى هنا في أنساب الأشراف للبلاذري: ج 3 ص 288.
430
في الحديد ونحبسه عندك فإن أمسك عنك أخوه وبعث إليك بالرضى وإلا قدمت
هذا وضربت عنقه.
فقال محمد: سبحان الله أو يكون الذي ذكرت إلا من أعمال الجبارين وأهل
الغدر، معاذ الله أن نقتل من لم يقتلنا أو أن نبدأ بقتال من لم يقاتلنا. ثم قال لعروة:
قل لأخيك عني إنك قد ذكرت أنه قد استوسق لك الناس وفتحت لك البلاد وهذا
عبد الملك بن مروان حي قائم يدعى له بالشامات كلها وأرض مصر وفي يده
مفاتيح الخلافة، ولست أدري ما يكون من الحدثان، فإذا علمت أنه ليس أحد
يناوئك في سلطانك بايعتك ودخلت في طاعتك والسلام.
قال: فرجع عروة إلى أخيه عبد الله وأخبره بذلك.
قال: ثم قام محمد بن الحنفية في أصحابه خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وقال:
أيها الناس إن هذه الأمة قد ضلت عن رسول ربها (صلى الله عليه وآله)، وتاهت عن معالم دينها
إلا قليلا منها، منهم يرتعون في هذه الدنيا حتى كأنهم لها خلقوا، وقد نسوا الآخرة
حتى كأنهم بها لم يؤمروا، فهم يقتلون على الدنيا أنفسهم، ويقطعون فيها أرحامهم،
ويفرطون بها عن سنة نبيكم، ولا يبالون ما أتوه فيها من نقص دينهم إذا سلمت لهم
دنياهم. اللهم فلا تنسنا ذكرك، ولا تؤمنا مكرك، ولا تجعل الدنيا لنا هما،
ولا تحرمنا مصاحبة الصالحين في دار السلام.
قال: ثم أقبل على أصحابه فقال لهم: إني أرى ما بكم من الجهد ولو كان عندي
فضل لم أدخره عنكم، وقد تعلمون ما ألقى من هذا الرجل، الذي قرب داره وأساء
جواره، وظهرت عداوته، واشتدت صعدته، يريد أن يثور إلينا في مكاننا هذا، وقد
أذنت لمن أحب منكم أن ينصرف إلى بلاده فإنه لا لوم عليه مني، وأنا مقيم في هذا
الحرم أبدا حتى يفتح الله لي وهو خير الفاتحين.
قال: فقام إليه أبو عبد الله الجدلي وكان من خيار أصحابه وقال: سبحان الله
يا أبا القاسم نحن نفارقك على هذه الحالة وننصرف عنك، لا والله ما سمعنا إذن
ولا أبصرنا، ولسنا مفارقيك ما نقلتنا أقدامنا وثبتت قوائم سيوفنا في أكفنا وعقلنا
عن الله أمرنا ونهينا.

431
قال: ثم وثب عبد الله بن سامع الهمداني فقال: ثكلتني أمي وعدمتني إن أنا
فارقتك أو انصرفت عنك إلى أحد من الناس هو خير منك أو شبيه بك، والله ما
نعلم مكان أحد أصلح منك في وقتنا هذا، ولكن نصبر معك فإن نمت فسعداء وإن
نقتل فشهداء، والله لئن اقتل معك على بصيرة محتسبا لنفسي أحب إلي من أن
أوتى أجر عشرين شهيدا مع غيرك.
قال: ثم وثب محمد بن يسير الشاكري فقال: يا بن خير الأخيار وابن أبر
الأبرار ما خلى النبيين والمرسلين، والله لئن آكل العظام المحرقة والجلود البالية
والميتة والدم على حال الضرورة أحب إلي من أن أبقى مع القوم الظالمين، لأنه قد
ابتلى الصالحين من قبلنا فكانت تقطع أيديهم وأرجلهم وتسمل أعينهم ويصلبون
على جذوع النخل أحيانا، كما فعل ابن سمية زياد ابن أبيه وابن مرجانة عبيد
الله بن زياد الفاجر الفاسق اللعين بشيعتكم فكانوا يقتلون صبرا كما قتل حجر بن
عدي وأصحابه، مثل ذلك كانوا يقتلون وعلى ذلك كانوا يصبرون.
قال: فقال محمد بن الحنفية (رضي الله عنه): جزاكم الله من صحابة خير جزاء الصالحين
الصابرين.
قال: وجد عبد الله بن الزبير بعداوة محمد بن الحنفية كل ذلك ليبايع، وهو
يأبى عليه.
قال: وبلغ الخبر عبد الملك بن مروان فكتب إلى محمد بن الحنفية: أما بعد فقد
بلغني ما به ابن الزبير مما ليس له بأهل وأنا عن قليل سائر إليه إن شاء الله، ولا قوة
إلا بالله العظيم، فانظر إذا قرأت كتابي هذا فسر إلى ما قبلي، أنت ومن معك من
شيعتك، وانزل من حيث أحببت من أرض الشام آمنا مطمئنا إلى أن يستقيم أمر
الناس فتختار أي الخصال أحببت والسلام.
قال: فعندها عزم محمد بن الحنفية على المسير إلى الشام.
وكتب عبد الله بن عباس إلى عبد الملك بن مروان: أما بعد فإنه قد توجه إلى
بلادك رجل منا لا يبدأ بالسوء ولا يكافئ على الظلم، لا بعجول ولا بجهول، سميع

432
إلى الحق، أضم (1) عن الباطل، ينوي العدل ويعاف الحيف، ومعه نفر من أهل بيته
وعدة رجال من شيعته، لا يدخلون دارا إلا بإذن، ولا يأكلون شيئا إلا بثمن،
رهبان الليل ليوث بالنهار، فاحفظنا فيهم رحمك الله، فإن ابن الزبير قد نابذنا
بالعداوة ونابذناه. والسلام.
قال: فكتب إليه عبد الملك بن مروان: أما بعد فقد أتاني كتابك توصني فيه
بمن توجه إلي ما قبلي من أهل بيتك، فما أسرني بصلة رحمك وحفظ وصيتك،
وكلما هويت من ذلك فمفعول ومتبع، فانزل بي حوائجك رحمك الله كيف أحببت،
فلن أعرج عن حاجة عرضت لك قبلي فإنك قد أصبحت عظيم الحق علي مكينا
لدي، وفقنا الله وإياك لأفضل الأمور، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
قال: فعندها تجهز محمد بن الحنفية (رضي الله عنه) وخرج من مكة فيمن اتبعه من أهل
بيته وأصحابه، وسار حتى صار إلى مدينة مدين، وبها يومئذ عامل من قبل عبد
الملك بن مروان يقال له مطهر بن يحيى العتكي، فلما نظر إلى هؤلاء القوم أمر بباب
المدينة فأغلق واتقى من ناحيتهم. فناداهم أصحاب محمد: يا أهل مدين
لا تخافون فإنكم آمنون، انما نريد منكم أن تقيموا لنا السوق حتى نتسوق منها
ما نريد، ونحن أصحاب محمد بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام)، لسنا نزري (2) أحدا
شيئا، ولا نأكل شيئا إلا بثمن.
قال: ففتح أهل مدين باب مدينتهم وأخرجوا لهم الأنزال (3).
فقال محمد لأصحابه: أيها الناس إني قد وطئت بكم آثار الأولين وأريتكم ما
فيه معتبر وبصيرة لكم إن كنتم تعقلون. ألم تروا إلى ديار عاد وثمود وقوم لوط
وأصحاب مدين كانوا عمار الأرض من قبلكم وسكانها، أعطوا من الأموال ما لم
تعطوا وأوتوا من الأعمار ما لم تؤتوا، فأصبحوا في القبور رميما كأنهم لم يعمروا



(1) كذا في الأصل.
(2) أزرى به إزراء: قصد به وحقره وهونه (لسان العرب 14 / 356).
(3) أنزال القوم: أرزاقهم (لسان العرب 11 / 658).
433
في الأرض طرفة عين ولم تكن الدنيا لهم بدار.
قال: ثم سار محمد بن الحنفية بأصحابه حتى نزلوا مدينة إيلة فجعلوا
يصومون النهار ويقومون الليل، وجعل كل من قربهم وقدم إلى دمشق يحدث عنهم
ويقول: ما رأينا قط قوما خيرا من هؤلاء الذين قد دخلوا أرض الشام، إنما هم
صيام قيام، لا يظلمون أحدا ولا يؤذون مسلما ولا معاهدا، يأمرون بالمعروف
وينهون عن المنكر.
قال: فبلغ ذلك عبد الملك بن مروان فندم على كتابه إلى محمد وسؤاله إياه أن
يقدم إلى بلاد الشام لما شاع في الناس من خيره وحسن الثناء عليه وعلى
أصحابه، وخشي أن يتداعى إليه الناس. فكتب إليه من دمشق: أما بعد فإنك قدمت
إلى بلادنا بإذن منا، وقد رأيت أن لا يكون في سلطاني رجل لم يبايعني، فإن أنت
بايعتني فهذه مراكب قد أقبلت من أرض مصر إلى إيلة فيها من الأطعمة والأمتعة
والأشياء كذا وكذا فخذ ما فيها لك، ومع ذلك ألف ألف درهم، أعجل لك منها مائتي
ألف درهم، ونؤخر بقيتها إلى أن أفرغ من أمر ابن الزبير ويجتمع الناس على إمام
واحد، وإن أنت أبيت ولم تبايع فانصرف إلى بلد لا سلطان لنا بها والسلام.
قال: فكتب إليه محمد بن الحنفية: أما بعد فإنا قدمنا هذه البلاد بإذنك إذ كان
موافقا لك، ونحن راحلون عنها بأمرك إذ كنت كارها لجوارنا، والسلام عليك
ورحمة الله وبركاته.
قال: ثم خرج محمد بن الحنفية من إيلة راجعا إلى مكة ومعه أهل بيته
وأصحابه وهم يتلون هذه الآية: * (قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك
يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أولو كنا كارهين *
قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن
نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شئ علما على الله توكلنا ربنا افتح
بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين) * (1).



(1) الأعراف: 88 - 89.
434
قال: ثم سار محمد حتى إذا صار إلى مدين أقبل على أصحابه فقال: يا هؤلاء
أنتم نعم الاخوان والأنصار ولو كان عندي ما يسعكم لأحببت ألا تفارقوني أبدا
حتى تنجلي هذه الغمرات، فإن أحببتم فانصرفوا إلى مصركم محمودين فإنكم
تتقدمون على الناس وبهم إليكم حاجة وأنا سأقدم إلى مكة إلى معاندة ابن الزبير
ولا أحب أن تكونوا مجهودين.
قال: فعندها ودع أصحابه وانصرفوا إلى الكوفة وفيها يومئذ مصعب بن الزبير.
ومضى ابن الحنفية بمن تخلف معه من أهل بيته ومواليه حتى نزل بشعب أبي
طالب بمكة. وبلغ ذلك عبد الله بن الزبير فأرسل إليه أن ارتحل من هذا الشعب أنت
وأصحابك هؤلاء الذين معك وإلا فهلم فبايع.
فقال ابن الحنفية لرسوله: ارجع إليه وقل له: إن الله تعالى قد جعل هذا البلد
آمنا وأنت تخيفني فيه ولست بشاخص عن مكاني هذا أبدا إلا أن يأذن الله لي في
ذلك فاصنع ما أنت صانع.
قال: وجرى بينهما اختلاف شديد، وبلغ ذلك من كان بالكوفة من أصحابه
الذين فارقوه، فرجعوا بأجمعهم حتى نزلوا في الشعب وقالوا: والله لا نفارقك أبدا
أو لنموتن بين يديك.
قال: وأمسك ابن الزبير عن ابن الحنفية وكف عنه إلى أن حج الناس، فلما كان
يوم النفر أرسل إليه بأخيه عروة بن الزبير وعبد الله بن مطيع العدوي في رجال من
قريش، فأقبل القوم حتى دخلوا الشعب إلى ابن الحنفية فقالوا: إن أمير المؤمنين
يأمرك أن تتنحى عن هذا الموضع الذي أنت نازل فيه فإنه قد عزم إنك إن لم تفعل
ولم تنتقل إلى موضع غيره أن يسير إليك حتى يناجزك، فإن أردت الشخوص فهذا
يوم النفر فقم فانفر مع الناس وامض إلى حيث شئت من البلاد.
قال: فسكت ابن الحنفية. وقام رجل من أصحابه يقال له معاذ بن هاني فقال
له: أيها المهدي إن هذا البلد قد جعله الله عز وجل للناس سواء العاكف فيه والباد،
وليس أحد أحق به من أحد، وهذا الرجل قد ألحد في هذا الحرم وسفك فيه الدم

435
وقد بعث إليك مرة بعد أخرى يأمرك بالتنحي عنه، فإن هو أبى إلا إشخاصك عنه
تركا لأمر الله وجرأة عليه فقد بدأك بالظلم وبما لم تكن يستحله منه، وقد اضطرك
وإيانا إلى ما لا صبر لك عليه فخل بيننا وبينه، والله إني لأرجو أن آتيك به سالما
أو يقتل هؤلاء أصحابه الفساق عبيد الجبارين وأعداء الصالحين، وإنما هو أعراب
باليمامة وجهال أهل مكة، ولو قد قاتلهم قوم ينوون بقتالهم رضوان الله وثواب
الآخرة لما ثبتوا للطعان والضراب ولا يذعروا أولاد الحجل.
قال: فغضب عبد الله بن مطيع من ذلك، ثم أقبل على ابن الحنفية فقال له: يا أبا
القاسم لا يغرنك عن نفسك قبيلة جاءتك من أهل اليمن هذا وأشباهه واني أعلم
نفسه خير منك وبعده فرماه الله بك إن كان شرا منك في الدين والدنيا.
قال: ثم خرج ابن عباس من عند ابن الزبير مغضبا وأقبل حتى جلس في
الحجر واجتمع إليه قوم من أهل بيته ومواليه فقالوا: ما شأنك يا بن العباس؟ فقال:
ما شأني أيظن ابن الزبير أني مساعده على بني عبد المطلب، والله إن الموت معهم
أحب إلي من الحياة معه، أما والله إن كان ابن الحنفية شخصا ضعيفا كما يقول
لكانت أنملته عندي أحب إلي من ابن الزبير وآل الزبير، وانه والله عندي لأوفر
عقلا من ابن الزبير، وأفضل منه دينا، وأصدق منه حياء وورعا.
قال: فقال له رجل من جلسائه: يا ابن العباس إنه قد ندم على ما كان من
كلامه لك، وهو الذي بعثنا اعتذارا.
فقال ابن عباس: ليكف عن أهل بيتي فقد قال القائل: غثك خير من سمين
غيرك، أما والله لو فتح لي من بصري لكان لي ولابن الزبير ولبني أمية يوم عظيم.
قال: وبلغ ابن الزبير ان ابن عباس يقول فيه ما يقول، فخرج من منزله في
عدة من أصحابه حتى وقف في الناس خطيبا فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها
الناس إن فيكم رجلا أعمى الله قلبه كما أعمى بصره، يزري على عائشة
أم المؤمنين ويعيب طلحة والزبير حواري رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويحل المتعة فاجتنبوه
جنبه الله السداد.

436
قال: وكان ابن عباس حاضرا يومئذ فلما سمع ذلك وثب قائما على قدميه ثم
قال: يا ابن الزبير أما ما ذكرت من أم المؤمنين عائشة فإن أول من هتك عنها
الحجاب أنت وأبوك وخالك، وقد أمر الله تعالى أن تقر في بيتها ولم تفعل. وأما
أبوك وأنت وخالك وطلحة وأشياعكم فلقد لقيناكم يوم الجمل وقاتلناكم فإن كنا
مؤمنين فقد كفرتم بقتالكم المؤمنين، وإن كنا كافرين فقد كفرتم بفراركم من
الزحف. وأما ذكرك المتعة التي أحلها فإني إنما كنت أفتيت الناس في خلافة
عثمان وقلت إنما هي كالميتة والدم ولحم الخنزير لمن اضطر إليها حتى نهاني عن
ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقال: إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين
رخص فيها على حد الضرورة. وبعد فإنه قد كان يجب عليك أن لا تذكر المتعة
فإنك إنما ولدت من المتعة، وإذا نزلت عن منبرك هذا فصر إلى أمك فسلها عن
بردي عوسجة.
قال: فقال له ابن الزبير: اخرج عني لا تجاورني.
قال: إني والله لأخرجن خروج من يقلاك ويذمك ثم قال ابن عباس: اللهم
إنك قادر على خلقك، وقائم على كل نفس بما كسبت، اللهم إن هذا قد أبدى لنا
العداوة والبغضاء فارمه منك بحاصب وسلط عليه من لا يرحمه.
قال: ثم خرج ابن عباس من مكة إلى الطائف ومحمد بن الحنفية في أصحابه،
وجعل ابن عباس يقول لمن معه: أيها الناس إن الله تبارك وتعالى حرم هذا الحرم
منذ خلق السماوات والأرض، وهؤلاء القوم قد أحلوه، ولكن انظروا متى يقمصهم
الله تعالى ويغير ما بهم.
قال: فقيل له: يا ابن عباس أتعني ابن الزبير أم الحصين بن نمير السكوني؟
قال: بلى أعنيهما جميعا وأعني الأمير الشامي يزيد بن معاوية الذي بتر الله عمره
وقبضه على سوء عمله.
قال: وسار القوم حتى نزلوا الطائف وأخلوا مكة لعبد الله بن الزبير.
قال: وكان عبد الله بن عباس يقوم في أهل الطائف خطيبا فيذكر ابن الزبير

437
بالقبيح ويذكر فعله بمحمد بن الحنفية وسائر بني هاشم، فلم يزل كذلك إلى أن
أدركته الوفاة، فتوفي بالطائف، وصلى عليه محمد بن الحنفية ودفنه هنالك، فقبره
بالطائف بوادي يقال له وادي وج، رحمة الله عليه.
قال: وأقام محمد بن الحنفية بالطائف لا يرى ابن الزبير ولا يذكره إلى أن
خرج إلى اليمن، فذكر شيعته الذين يقولون بالرجعة أنه دخل شعبا يقال له رضوى
في أربعين من أصحابه فلم ير له إلى اليوم أثر.
وقيل: إن الحجاج أخذ محمد بن الحنفية (رضي الله عنه) بمبايعة عبد الملك بن مروان.
فقال له محمد: إذا اجتمع الناس كنت كأحدهم. قال: لأقتلنك. قال له محمد:
أو لا تدري؟
قال: وما لا أدري؟ قال: حدثني أبي أن لله في كل يوم ثلاثمائة وستين لحظة،
له في كل لحظة ثلاثمائة وستون قضية، فلعله يكفينيك في قضية من قضاياه،
فارتعد الحجاج وانتفض وقال: لقد لحظك الله فاذهب حيث شئت. فكتب الحجاج
بحديثه إلى عبد الملك بن مروان، ووافى ذلك وصول كتاب ملك الروم إليه يتهدده
فيه، فكتب عبد الملك إلى قيصر بحديث محمد. فكتب إليه قيصر: هيهات هيهات
هذا كلام ما أنت بأبي عذرته، هذا كلام لم يخرج إلا من نبي أو من أهل بيت نبوة (1).
وأظن هذا الخبر غلط، لأن محمدا مات قبل أخذ عبد الملك مكة وقتل ابن
الزبير. وربما كان هذا الحديث عن ولده أبي هاشم، والله أعلم.
وقد روي هذا الحديث عن زين العابدين (عليه السلام) (2).
وقال المنافقون لمحمد بن الحنفية (رضي الله عنه): لم يغرر بك أمير المؤمنين (عليه السلام) في
الحرب ولا يغرر بالحسن والحسين؟
قال: لأنهما عيناه وأنا يمينه، فهو يدفع بيمينه عن عينيه (3).



(1) تذكرة الخواص: ص 295 - 296.
(2) العقد الفريد: ج 2 ص 203، المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 161.
(3) بحار الأنوار: ج 42 ص 99 باب 120 ذيل ح 31.
438
وقيل له: من أشد الناس زهدا؟
قال: من لا يبالي الدنيا في يد من كانت.
وقيل له: من أخسر الناس صفقة؟
قال: من باع الباقي بالفاني.
وقيل له: من أعظم الناس قدرا؟
قال: من لا يرى الدنيا قدر نفسه.
وكان قويا شديد الأيد، وله في ذلك أحاديث:
منها: ان أباه (عليه السلام) اشترى درعا فاستطالها، فقبض محمد بيده اليمنى على ذيلها
وبالأخرى على فضلتها ثم جذبها فقطعها من الموضع الذي حده له (عليه السلام).
وكان عبد الله بن الزبير إذا حدث بذلك اعتراه أفكل (1) وغضب، وكان يحسده.
وفي سنة ستة وستين من الهجرة حبس عبد الله بن الزبير محمد بن الحنفية
ومن كان معه من أهل بيته ووجوه أهل الكوفة بزمزم لكراهتهم بيعته وأعطى الله
عهدا إن لم يبايعوه أن يقتلهم ويحرقهم. فوجه ابن الحنفية إلى المختار يعلمه ذلك،
فوجه اليه المختار مددا جماعة في أثر جماعة فدخلوا المسجد الحرام وهم
ينادون يا لثارات الحسين حتى انتهوا إلى زمزم، وقد أعد ابن الزبير الحطب
ليحرق محمد بن علي (عليه السلام) وأصحابه، وكان قد بقي من الأجل يومان، ووجه
المختار إلى محمد بن علي (عليه السلام) بمال، فخرج محمد بن علي إلى شعب علي (عليه السلام)
وأصحابه يسبون ابن الزبير ويستأذنونه في محاربته، فأبى عليهم ذلك وكره القتال،
فاجتمع معه في الشعب أربعة آلاف، فقسم ذلك المال وتفرق الناس عنه، وكان
من أمره مع ابن الزبير ما تقدم ذكره، ودخل رضوى وتوفي فيه رحمة الله عليه.
وخلف من الولد: الحسن وعبد الله - وهو أبو هاشم - وجعفر الأكبر وحمزة
وعليا لام ولد، وجعفر الأصغر وعونا أمهما أم جعفر، والقاسم وإبراهيم.



(1) الأفكل: الرعدة من برد أو خوف (لسان العرب 11 / 19).
439
فأما أبو هاشم عبد الله فإنه كان عظيم القدر، وكانت الشيعة تعظمه وترى
طاعته ويترددون إليه. وفي سنة ثمان وتسعين قدم أبو هاشم عبد الله بن محمد بن
الحنفية على سليمان بن عبد الملك، فأعجب به وقضى حوائجه وصرفه وضم إليه
من يسمه، فلما سار إلى السراة سم فلما علم بذلك قال لأصحابه: ميلوا بي إلى ابن
عمي محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، وهو يومئذ بكراد من السراة من أرض
دمشق. فلما صار إليه أوصى اليه وأعلمه أن الخلافة صائرة إلى ولده، وأفشى إليه
سائر أخبار الدعوة، وعرف بينه وبين دعاته، وقال له: إذا مضت مائة سنة فوجه
دعاتك واعلم أن الأمر يتم لابن الحارثية من ولدك.
وابتدأ الإمام محمد بن علي في دعاء الناس، فكان أول من استجاب له أربعة
رهط من أهل الكوفة، وهم: أبو رياح ميسرة النبال، وأبو عمرو راذان البزاز،
والمنذر الهمداني، ومصقلة الطحان، فأمرهم أن يدعوا إلى إمامته، فاستجابوا له.
وتوفي أبو هاشم وليس له عقب، والعقب من ولد محمد بن الحنفية من جعفر وعلي
وعون وإبراهيم شعرة.
وأما العباس بن علي (عليه السلام) فخلف من الولد: عبيد الله وأمه لبانة بنت عبيد الله بن
العباس، وحسن لام ولد. وقتل العباس مع أخيه الحسين بن علي (عليهم السلام) بطف
كربلاء.
والعقب من ولد العباس في رجل واحد وهو عبيد الله بن العباس، ومنه في
الحسن بن عبيد الله، ومنه في خمسة رجال وهم: عبيد الله وفيه العدد والبيت،
والفضل، وحمزة، وإبراهيم، والعباس.
$ أمير المؤمنين (عليه السلام) / الاثنا عشر الذين أنكروا على أبي بكر
وأما عمر بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقد حمل الحديث وكان يرويه عن
عمر بن الخطاب، وولد محمد وأم موسى أمهما أسماء بنت عقيل بن أبي طالب.
والعقب من ولد عمر بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) في رجل واحد وهو محمد بن
عمر، ومنه في أربعة نفر وهم: عبد الله بن محمد وفيه العدد، وعبيد الله بن محمد،
وعمر بن محمد، وجعفر بن محمد.

440
فصل
في ذكر رجال أمير المؤمنين (عليه السلام) الاثني عشر
الذين قاموا إلى أبي بكر وهو على المنبر
وهم ستة من المهاجرين وستة من الأنصار.
فأما الذين من المهاجرين فهم: خالد بن سعيد بن العاص الأموي، وسلمان
الفارسي، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، والمقداد بن الأسود الكندي،
وأبو بريدة الأسلمي (1).
وأما الذين من الأنصار فهم: قيس بن سعد بن عبادة، وخزيمة بن ثابت ذو
الشهادتين، وسهل بن حنيف، وأبو الهيثم بن تيهان، وأبي بن كعب، وأبي أيوب
الأنصاري رضي الله عنهم أجمعين.
هؤلاء أجمعوا وتشاوروا وقالوا: والله لنأتينه وننزله عن منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فقال بعضهم: إن فعلتم ذلك أخطأتم على أنفسكم، والله عز وجل قال وهو
أصدق القائلين: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * (2) ولكن انطلقوا إلى صاحب
الأمر فاستشيروه وخذوا رأيه.
فدخلوا على أمير المؤمنين (عليه السلام) فقالوا له: قد عيل الصبر وضعف اليقين،
وهذا أبو بكر قد علا منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولقد أردنا أن نهجم عليه وننزله عنه،
فكرهنا أن نعمل أمرا دون مشاورتك فيه، فمرنا فإن الحق معك وأنت صاحب
هذا الأمر، وقد سمعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: " علي مع الحق والحق مع علي يميل
معه كيف مال ".
فقال لهم علي (عليه السلام): وأيم الله لو فعلتم ذلك ما كنتم إلا كالحجر المالح في الماء
أو الحجر في البحر، ولو اتيتموني شاهرين أسيافكم مستعدين للجهاد إذ أتوني



(1) كذا، والصحيح: وبريدة الأسلمي.
(2) البقرة: 195.
441
وقالوا لي تبايع (1) وإلا قتلناك فما كنت أرى بدا من دفعهم عن نفسي، وذاك أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) أوعز إلي قبل وفاته وقال: إن الأمة ستغدر بك من بعدي وتنقض
عهدي فيك، وإنك مني بمنزلة هارون من موسى ومن اتبعه، وهم كالسامري ومن
اتبعه، ولي في أخي هارون أسوة إذ قال: * (يا بن أم إن القوم استضعفوني وكادوا
يقتلونني) * (2) ولقد شاورت في هذا الأمر أهل بيتي فأبوا علي إلا السكوت لما
علموا من وغر صدورهم، فانطلقوا إلى الرجل الآن بأجمعكم فعرفوه قول رسول
الله (صلى الله عليه وآله) ليكن أوكد للحجة.
فانطلق القوم حتى أحدقوا بالمنبر وكان يوم الجمعة، فلما صعد أبو بكر المنبر
قال المهاجرون للأنصار: قوموا وتكلموا. فقال الأنصار: بل أنتم قوموا وتكلموا
فإن الله عز وجل قدمكم في كتابه وهو قوله تعالى: * (لقد تاب الله على النبي
والمهاجرين والأنصار) * (3) فعند ذلك قام من المهاجرين خالد بن سعيد بن العاص
الأموي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أبا بكر اتق الله تعالى وانظر ما تقدم
لعلي بن أبي طالب، أما علمت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لنا ونحن محدقون به وأنت
معنا في غزوة بني قريضة وقد قتل علي (عليه السلام) عدة من رجالهم: " يا معاشر قريش
إني موصيكم فاحفظوها عني ومودعكم أمرا فلا تضيعوه، إن علي بن أبي طالب
إمامكم من بعدي وخليفتي فيكم، وبذلك أوصاني جبرئيل (عليه السلام) عن الله عز وجل،
فإن لم تقبلوا وصيتي ولم توادوه ولم تنصروه اختلفتم في أحكامكم واضطرب
عليكم دينكم ودنياكم وولي عليكم شراركم، بذلك خبرني جبرئيل (عليه السلام) عن الله
عز وجل، ألا وإن أهل بيتي الوارثون لأمري القائمون بأمر أمتي، اللهم من
أطاعني في أهل بيتي وحفظ فيهم وصيتي اللهم احشره في زمرتي، ومن عصاني
فيهم وضيع وصيتي اللهم أحرمه الجنة ".



(1) كذا في الأصل.
(2) الأعراف: 150.
(3) التوبة: 117.
442
فقام إليه عمر بن الخطاب وقال له: اسكت يا خالد فلست من أهل المشورة
ولا ممن يقتدى برأيه. فجلس.
وقام سلمان الفارسي (رضي الله عنه) فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أبا بكر إلى من
تسلم أمرك إذا نزل بك الأمر؟ وإلى من ترجع إذا سألوك عما لا تعلم؟ ووصي
رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعلم منك، قدمه النبي (صلى الله عليه وآله) في حياته وأوعز إليه عند وفاته،
فتركتم قوله، وتناسيتم وصيته، وعما قليل تنتقل من دنياك وتصير إلى آخرتك،
فلو رجعت إلى الحق وأنصفت أهل الحق لكان لك في ذلك النجاة، على أنك قد
سمعت كما سمعنا ورأيت كما رأينا، وقد محضت لك نصيحتي، وبذلت لك ما
عندي، فإن قبلت رشدت وكنت الناجي. ثم جلس.
وقام أبو ذر رحمة الله عليه فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا معاشر قريش قد
علمتم وعلم أخياركم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: الأمر بعدي لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)
ثم الأئمة من ولد الحسين (عليهم السلام)، فتركتم قوله، وتناسيتم وصيته، واتبعتم أمر الدنيا
الفانية، وتركتم أمر الآخرة الباقية، وكذلك الأمم كفرت بعد إيمانها، وجحدت بعد
عرفانها حذو النعل بالنعل، وعما قليل تذوقون وبال أمركم بما قدمت أيديكم، وما
ربك بظلام للعبيد. ثم جلس.
وقام المقداد بن الأسود الكندي رحمة الله عليه فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
يا أبا بكر أربع على ضلعك، وقس شبرك بفترك، ولا يغرنك أوغاد قريش فعما
قليل تنتقل عن دنياك وتصير إلى آخرتك وقد علمت أن علي بن أبي طالب (عليه السلام)
صاحب هذا الأمر، فسلم إليه ما جعله الله [و] رسوله له. ثم جلس.
وقام عمار بن ياسر (رضي الله عنه) فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا معاشر قريش قد
علمتم وكل الملأ أن أهل بيت نبيكم (صلى الله عليه وآله) أقرب إليه قرابة، فإن ادعيتم القرابة
والسابقة مع الفضل لكم فالله تعالى يقول: * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس
أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * (1) وقوله تعالى للنبي (صلى الله عليه وآله): * (وأنذر عشيرتك



(1) الأحزاب: 33.
443
الأقربين) * (1) فالسبق والفضل لهم، فأعطوهم ما جعله الله لهم ولا ترتدوا على
أعقابكم فتنقلبوا خاسرين. ثم جلس.
وقام بريدة الأسلمي رحمه الله تعالى فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أبا بكر
نسيت أم تناسيت! أما علمت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أقام عليا (عليه السلام) إماما وعلما يرفعه
لما افترض عليه حيث قال جل من قائل * (يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من
ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) * (2) فخشي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلما وعده الله عز
وجل بالعصمة منا فقال: * (والله يعصمك من الناس) * (3) حينئذ أقبل عليا وقال:
" من كنت مولاه فعلي مولاه " فقبلنا ذلك من الله ورسوله، وأخذ النبي (صلى الله عليه وآله) بعضد
علي فقال: " اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من
خذله " فقام إليه سيد آل عدي وقال: بخ بخ من مثلك يا بن أبي طالب أصبحت
مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. ولما أن سلم عليه بإمرة المؤمنين تهلل وجه
رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما رأى من طاعتنا لابن عمه، ولو أطعتموه بعد وفاته لكان لكم
في ذلك النجاة والجنة، فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) [يقول]: بينا أنا واقف على
حوض أسقي أمتي إذ تأتيني طائفة من أمتي وهم ذات الشمال فأقول: أصحابي.
فيقول جبرئيل (عليه السلام): إنك ما تدري ما أحدثوا بعدك، فتنوا أمتك وظلموا أهل بيتك،
فأقول بعدا وسحقا ". ثم جلس.
وقام قيس بن سعد بن عبادة رحمة الله عليه فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أبا
بكر اتق الله ولا تكن أول من ظلم آل محمد (صلى الله عليه وآله)، ولا تظلم محمدا في أهل بيته
ورد هذا الأمر إلى من هو أحق به منك، وتلقى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو عنك راض
أصلح لك من أن تلقاه يوم حاجتك إليه ساخطا عليك. ثم جلس.
وقام خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين (رحمه الله) فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أبا
بكر ألست تعلم ويعلم جميع المهاجرين والأنصار أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقبل



(1) الشعراء: 214.
(2) المائدة: 67.
(3) المائدة: 67.
444
شهادتي وحدي لا يريد معي غيري، وإني أشهد بما أشهد وأنتم معاشر قريش
تشهدون على انني أشهد على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال ونحن متواخون لم يغادر
صغيرا ولا كبيرا وأومأ بيده (صلى الله عليه وآله) إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وقال: هذا
إمامكم من بعدي وخليفتي فيكم فقدموه ولا تبعدوه، فإن قدمتموه سلكتم سبيل
النجاة والهدى، وإن أبعدتموه سلكتم سبيل الضلال والردى، وهو باب حطة
المسلمين، مثله فيكم كمثل سفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلف عنها هوى.
ثم جلس.
وقام سهل بن حنيف (رضي الله عنه) فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا معاشر قريش ألستم
تعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج من دار فاطمة (عليها السلام) ويده في يد علي (عليه السلام) وهو
يقول: هذا أخي وابن عمي ووزيري وخليفتي من بعدي اختيارا من الله عز وجل،
فالشاك في علي كالشاك في الله، والتابع لعلي كالتابع لله فاتبعوه يهدكم إلى الحق.
ثم جلس.
وقام أبو الهيثم بن التيهان (رحمه الله) فحمد وأثنى عليه ثم قال: يا معاشر قريش
أتجحدون ما كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو في هذا الموضع - يعني الروضة -
وهو آخذ بيد علي (عليه السلام) وهو يقول: هذا علي إمامكم من بعدي، ومنجز وعدي،
وقاضي ديني، ومستخلفي فيكم، وأول من يصافحني يوم القيامة ويقوم على
الحوض واللواء بيده، طوبى لمن تبعه وحسن مآب، والويل لمن تخلف عنه وطول
عذاب وعقاب. ثم جلس.
وقام أبي بن كعب (رحمه الله) فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا معاشر قريش إني
لا أعظكم بأكثر مما وعظكم به رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا أقول أكثر مما قال، على أنا
رأينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أقام عليا وليا ومولى وقال: " من كنت مولاه فعلي مولاه "
فقالت طائفة منا: إنما أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يعلم من هو من مواليه وعبيده أن
عليا مولاه. وقالت طائفة أخرى: ما أقامه إلا إماما عالما. فبلغ ذلك رسول
الله (صلى الله عليه وآله)، فخرج إلينا كهيئة المغضب ويده في يد علي ويقول: " من كنت مولاه فهذا

445
مولاه وإمامه وحجة الله عليه " ثم قال: " يا أيها الناس إن الله عز وجل خلق
السماوات وخلق لها سكانا وحرسا وهي النجوم، وخلق الأرض وجعل لها سكانا
وحرسا وهم أهل بيتي، وإذا أقبض الله أهل بيتي هلك من في الأرض ". ثم جلس.
وقام أبو أيوب الأنصاري (رحمه الله) فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا معاشر قريش
أما سمعتم إن الله تعالى قال: * (الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما انما يأكلون في
بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) * (1) وقال جل من قائل: * (انا اعتدنا للظالمين نارا
أحاط بهم سرادقها) * (2) فإياكم وقول الناس في غد: بالأمس سمعوا قول نبيهم
واليوم غصبوا أهل بيته. ثم جلس.
فعند ذلك قال أبو بكر بعد أن حمد الله وأثنى عليه: أقيلوني أقيلوني وليتكم
ولست بخيركم.
فقام إليه عمر بن الخطاب وقال له: والله لا أقلناك ولا استقلناك ولا يقوم (3)
بحجج قريش، والله لقد هممت أن أجعلها في [أبي] سالم مولى حذيفة، وأخذ بيد
أبي بكر وانطلق به إلى منزله.
فبقوا ثلاثا لا يدخلون إلى المسجد كل ذلك يمتنع عليه أبو بكر، فلما كان في
اليوم الرابع جاءهم معاذ بن جبل في ألف رجل وقال: والله لقد طمع فيها بنو هاشم،
وجاءهم مولى أبي حذيفة في ألف رجل، وجاءهم عثمان بن عفان في ألف رجل،
وجاؤوا شاكين سالين سيوفهم يقدمهم عمر بن الخطاب حتى توسط مسجد رسول
الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) في نفر من أصحابه، فقال عمر: يا أصحاب علي إن
تكلم فيكم أحد بالذي تكلم به بالأمس لآخذن ما فيه عيناه.
فقام إليه خالد بن سعيد بن العاص الأموي فقال له: يا بن الخطاب بأسيافكم
تهددنا أم بجمعكم؟ إن أسيافنا أحد من أسيافكم، وفينا ذو الفقار سيف الله
وسيف رسوله، وإن كنا قليلين ففينا من كثرتكم عنده قلة، حجة الله ووصي



(1) النساء: 10.
(2) الكهف: 29.
(3) كذا، وفي الاحتجاج: إذا كنت لا تقوم بحجج قريش لم أقمت نفسك هذا المقام؟
446
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولولا أني أؤمر بطاعة إمامي لشهرت سيفي وجاهدت في الله
حتى أبلغ عذري.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): شكر لك مقامك، وعرف ذلك لك.
وقام سلمان الفارسي (رضي الله عنه) وقال: الله أكبر الله أكبر سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله)
يقول: " بينما أخي وابن عمي في مسجدي هذا في جماعة من أصحابي إذ يكبسهم
جماعة يريدون قتله وقتل من معه ".
فهم به عمر بن الخطاب فتناول أمير المؤمنين بمجامع ثوبه وكاد أن يجلد به
الأرض ثم قال: يا بن الخطاب لولا كتاب سبق من الله عز وجل وعهد من رسول
الله (صلى الله عليه وآله) لأرهقنك، لكنت أقل ناصر وأضعف معين.
ثم أقبل على أصحابه وقال لهم: انصرفوا رحمكم الله، فوالله لا دخلت إلى هذا
المسجد إلا كما دخل أخواي موسى وهارون (عليهما السلام) إذ قال له: * (اذهب أنت وربك
فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) * (1) ووالله لا دخلته إلا لزيارة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو لقضية
أقضيها فإنه لا يجوز لحجة الله ومن أقامه رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يترك من يسترشده.
قال الإمام الصادق (عليه السلام): فما دخله (عليه السلام) إلا كما قال (2).
مواليه (عليه السلام): يحيى بن أبي كثير الذي روى عنه الأوزاعي.
وقال أبو أيوب السجستاني: ما بقي على الأرض مثل يحيى بن أبي كثير.
وكان ابنه عبد الله بن يحيى يروي عن أبيه أبو أسامة حماد بن أسامة مولى
الحسن بن سعد مولى الحسن بن علي (عليه السلام)، فهو مولى مولى. توفي بالكوفة سنة
إحدى وثمانين، وهو ابن ثمانين سنة.
خواتيمه:
حدث أبو نصر الحسن بن محمد بن إبراهيم الحافظ، قال: حدثنا أبو بكر



(1) المائدة: 24.
(2) الاحتجاج: ج 1 ص 70 - 80، بحار الأنوار: ج 28 ص 189 باب 4 ح 2.
447
أحمد بن علي بن خلف، قال: حدثنا الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله، قال:
حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن سعيد الرازي، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن
مسلم بن وارة (1) الرازي، قال: حدثنا محمد بن يوسف الفرياني، قال: حدثنا
سفيان بن سعيد الثوري، عن إسماعيل السندي، عن عبد خير، قال: كان لعلي (عليه السلام)
أربعة خواتيم يتختم بها: ياقوت لنبله، وفيروزج لنصره، والحديد الصيني لقوته،
وعقيق لحرزه.
وكان نقش الياقوت: لا إله إلا الله الملك الحق المبين. ونقش الفيروزج: الله
الملك. ونقش الحديد الصيني: العزة لله جميعا. ونقش العقيق ثلاثة أسطر: ما شاء
الله، لا قوة إلا بالله، استغفر الله (2).
وروى عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عكرمة: عن ابن عباس رضي
الله عنهما أنه قال: هبط جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا محمد ربي يقرئك
السلام ويقول لك: البس خاتمك بيمينك واجعل فصه عقيقا، وقل لابن عمك يلبس
خاتمه بيمينه واجعل فصه عقيقا. فقال علي (عليه السلام): وما العقيق؟ قال: العقيق جبل في
الجنة أقر لله بالوحدانية وأقر لي بالنبوة وأقر لك بالوصية ولأولادك بالإمامة
ولشيعتك بالجنة (3).
* * *



(1) كذا في ظاهر الأصل.
(2) وفي هامش النسخة: وقيل: خاتم صلاته (عليه السلام): لا إله إلا الله عدد طلقاء الله. وعلى
الفيروزج في الحروب: نصر من الله وفتح قريب. وعلى [بياض في الأصل] للتضاد: الله
الملك وعلي عبده. وعلى الحديد الصيني: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 302، بحار الأنوار: ج 42 ص 61 باب 118 ذيل ح 1.
448
الباب الثالث
في ذكر فاطمة (عليها السلام)

449
$ فاطمة الزهراء (عليها السلام) / مولدها
فصل
في ذكر مولدها
قد اختلف في مولدها (عليها السلام)، فذكر الشيخ أبو علي محمد بن همام الكاتب
في كتاب الأنوار في إسناده إلى الباقر (عليه السلام) أن فاطمة (عليها السلام) ولدت بعدما أظهر الله
نبوة أبيها (صلى الله عليه وآله) بخمس سنين وقريش تبني البيت (1).
وقال الشيخ المفيد في كتاب مختصر التواريخ الشرعية: إنها ولدت يوم
العشرين من جمادي الآخرة سنة اثنتين من المبعث (2).
وقال محمد بن جرير بن رستم الطبري في كتاب الدلائل: إنها ولدت في
جمادي الآخرة يوم العشرين منه سنة خمس وأربعين من مولد النبي (عليه السلام) (3).
وقال ابن شهرآشوب في الجزء الخامس من كتاب المناقب: إن فاطمة (عليها السلام)
ولدت بمكة بعد المبعث بخمس سنين وبعد الإسراء بثلاث سنين في العشرين من
جمادي الآخرة، وولدت الحسن (عليهما السلام) ولها اثنتا عشرة سنة، وكان بين ولادتها
الحسن وبين حملها بالحسين (عليهما السلام) خمسون يوما (4).
والعامة تروي أن مولدها قبل المبعث بخمس سنين (5).



(1) كشف الغمة: ج 1 ص 449. $ $ (2) مسار الشيعة (مصنفات الشيخ المفيد: ج 7 ص 54.
(3) دلائل الإمامة: ص 10.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 357.
(5) الإصابة في تمييز الصحابة: ج 4 ص 377.
451
وروي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله
عز وجل خلق فاطمة من نور العظمة الممزوج بنور الرحمة.
وقيل: بينا النبي (صلى الله عليه وآله) جالس بالأبطح ومعه عمار بن ياسر والمنذر بن
الضحضاح وأبو بكر وعمر وعلي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب إذ هبط
عليه جبرائيل (عليه السلام) في صورته العظمى وقد نشر أجنحته حتى أخذت من المشرق
إلى المغرب فناداه: يا محمد العلي الأعلى يقرأ عليك السلام وهو يأمرك أن تعتزل
عن خديجة أربعين صباحا. فشق ذلك على النبي (صلى الله عليه وآله) وكان لها محبا وبها وامقا (1).
قال: فأقام النبي (صلى الله عليه وآله) أربعين يوما يصوم النهار ويقوم الليل حتى إذا كان في
آخر أيامه تلك بعث إلى خديجة بعمار بن ياسر وقال: قل لها يا خديجة لا تظني أن
انقطاعي عنك هجرة ولا قلى (2) ولكن ربي عز وجل أمرني بذلك لينفذ أمره، فلا
تظني يا خديجة إلا خيرا، فإن الله عز وجل ليباهي بك كرام ملائكته كل يوم مرارا،
فإذا جنك الليل فأجفي الباب (3) وخذي مضجعك من فراشك فإني في منزل فاطمة
بنت أسد.
فجعلت خديجة تحزن في كل يوم مرارا لفقد رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فلما كان في كمال الأربعين هبط جبرائيل (عليه السلام) فقال: يا محمد العلي الأعلى
يقرأ عليك السلام وهو يأمرك أن تتأهب لتحيته وتحفته. قال النبي (عليه السلام): يا
جبرائيل وما تحفة رب العالمين وما تحيته؟ قال: لا علم لي قال: فبينا النبي (عليه السلام)
كذلك إذ هبط ميكائيل ومعه طبق مغطى بمنديل سندس أو قال إستبرق فوضعه بين
يدي النبي (عليه السلام)، وأقبل جبرائيل (عليه السلام) على النبي (صلى الله عليه وآله) وقال: يا محمد يأمرك ربك
أن تجعل إفطارك الليلة على هذا الطعام.
فقال علي بن أبي طالب (عليه السلام): وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أراد أن يفطر أمرني أن
أفتح الباب لمن يرد إلى الإفطار. فلما كان في تلك الليلة أقعدني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على



(1) الوامق: المحب.
(2) ولا قلى: أي ولا غضب.
(3) أجفت الباب: رددته.
452
باب المنزل وقال يا بن أبي طالب إنه طعام محرم إلا علي.
قال علي (عليه السلام): فجلست على الباب وخلا النبي (صلى الله عليه وآله) بالطعام، وكشف الطبق
وإذ عذق من رطب وعنقود من عنب، فأكل النبي (عليه السلام) منه شبعا وشرب من الماء
ريا، ومد يده للغسل فأفاض الماء عليه جبرائيل وغسل يديه ميكائيل ومندله
إسرافيل وارتفع فاضل الطعام مع الإناء إلى السماء.
ثم قام النبي (صلى الله عليه وآله) ليصلي فأقبل عليه جبرائيل وقال: الصلاة محرمة عليك في
وقتك حتى تأتي إلى منزل خديجة فتواقعها فإن الله عز وجل آلى على نفسه أن
يخلق من صلبك في هذه الليلة ذرية طيبة. فوثب رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى منزل
خديجة.
قالت خديجة رضوان الله عليها: وقد ألفت الوحدة فكان إذا جنني الليل
غطيت رأسي وأسجفت ستري (1) وغلقت بابي وصليت وردي وأطفأت مصباحي
وأويت إلى فراشي. فلما كان في تلك الليلة لم أكن بالنائمة ولا بالمنتبهة إذ جاء
النبي (صلى الله عليه وآله) فقرع الباب، فناديت: من هذا الذي يقرع حلقة لا يقرعها إلا
محمد (صلى الله عليه وآله)؟ قالت خديجة: فنادى النبي (صلى الله عليه وآله) بهذوبة كلامه وحلاوة منطقه افتحي
يا خديجة فإني محمد. قالت خديجة: فقمت فرحة مستبشرة بالنبي وفتحت الباب
ودخل النبي المنزل، وكان من أخلاقه إذا دخل المنزل دعا بالإناء فتطهر للصلاة
ثم يقوم فيصلي ركعتين يوجز فيها ثم يأوي إلى فراشه، فلما كان في تلك الليلة لم
يدع بالإناء ولم يتأهب للصلاة غير أنه أخذ بعضدي وأقعدني على فراشه وداعبني
ومازحني وكان بيني وبينه ما يكون بين المرأة وبعلها، فلا والذي سمك السماء
وأنبع الماء ما تباعد عني النبي (صلى الله عليه وآله) حتى حسست بثقل فاطمة في بطني (2).
وحدث يعقوب بن زيد الأنباري، عن همام بن عيسى (3) عن زرعة بن عبد الله،



(1) أسجفت الستر: أرسلته.
(2) بحار الأنوار: ج 16 ص 78 باب 5 ذيل ح 20 نقلا عن كتاب العدد.
(3) في المصدر: حماد بن عيسى.
453
عن المفضل بن عمر، قال: قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام): كيف كانت
ولادة فاطمة (عليها السلام)؟ قال: نعم ان خديجة رضوان الله عليها لما تزوج بها رسول
الله (صلى الله عليه وآله) هجرها نسوة مكة فكن لا يدخلن عليها ولا يسلمن عليها ولا يتركن
امرأة تدخل عليها. فاستوحشت خديجة من ذلك، فلما حملت بفاطمة (عليها السلام)
صارت تحدثها من بطنها وتصبرها، وكانت خديجة تكتم ذلك عن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فدخل يوما فسمع خديجة تحدث فاطمة، فقال لها: يا خديجة من
تحدثك؟ قالت: الجنين الذي في بطني يحدثني ويؤنسني فقال لها: يا خديجة هذا
جبرائيل بشرني إنها أنثى، وأنها النسمة الطاهرة الميمونة، فإن الله تبارك وتعالى
سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة في الأمة يجعلهم خلفاءه في أرضه
بعد انقضاء وحيه.
فلم تزل خديجة على ذلك إلى أن حضرت ولادتها فوجهت إلى نساء قريش
ونساء بني هاشم بحيث يلين منها ما يلي النساء من النساء فأرسلن إليها عصيتنا
ولم تقبلي قولنا وتزوجت محمدا يتيم أبي طالب فقيرا لا مال له فلسنا نجئ
ولا نلي من أمرك شيئا. فاغتمت خديجة لذلك، فبينا هي كذلك إذ دخل عليها
أربعة نسوة طوال كأنهن من نساء بني هاشم ففزعت منهن. فقالت لها إحداهن:
لا تحزني يا خديجة فإنا رسل ربك إليك ونحن أخواتك، أنا سارة، وهذه آسية
بنت مزاحم وهي رفيقتك في الجنة، وهذه مريم بنت عمران، وهذه صفراء بنت
شعيب، بعثنا الله تعالى إليك لنلي من أمرك ما يلي النساء من النساء.
فجلست واحدة عن يمينها، والأخرى عن يسارها، والثالثة من بين يديها،
والرابعة من خلفها. فوضعت خديجة فاطمة (عليها السلام) طاهرة مطهرة. فلما سقطت إلى
الأرض أشرق منها النور حتى دخل بيوتات مكة، ولم يبق في شرق الأرض ولا
غربها موضع إلا أشرق فيه ذلك النور، فتناولتها المرأة التي كانت بين يديها.
$ فاطمة الزهراء (عليها السلام) / أسماؤها
ودخل عشرة من الحور العين، [في يد] كل واحدة منهن طشت من الجنة
وإبريق، وفي الإبريق ماء من الكوثر، فتناولتها المرأة التي كانت بين يديها

454
فغسلتها بماء الكوثر، وأخرجت خرقتين بيضاويتين أشد بياضا من اللبن وأطيب
رائحة من المسك ومن العنبر فلفتها بواحدة وقنعتها بالأخرى، ثم استنطقتها
فنطقت فاطمة (عليها السلام) بشهادة أن لا إله إلا الله وأن أبي رسول الله سيد الأنبياء وأن
بعلي سيد الأوصياء وأن ولدي سيدا الأسباط، ثم سلمت عليهن وسمت كل واحدة
منهن باسمها، وضحكن إليها وتباشرن الحور العين، وبشر أهل الجنة بعضهم بعضا
بولادة فاطمة (عليها السلام)، وحدث في السماء نور زاهر لم تره الملائكة قبل ذلك اليوم،
فلذلك سميت الزهراء (عليها السلام)، وقالت: خذيها يا خديجة طاهرة مطهرة زكية ميمونة
بورك فيها وفي نسلها. فتناولتها خديجة (عليها السلام) فرحة مستبشرة، فألقمتها ثديها
فشربت فدر عليها.
وكانت (عليها السلام) تنمى في كل يوم كما ينمي الصبي في شهر، وفي شهر كما ينمي
الصبي في سنة (1). صلوات الله عليها وعلى أبيها وعلى بعلها وبنيها.
فصل
في ذكر أسمائها (عليها السلام)
حدث الحسن بن عبد الله بن يونس [عن يونس] بن ظبيان، قال: قال أبو
عبد الله (عليه السلام): لفاطمة (عليها السلام) تسعة أسماء عند الله عز وجل، منها: فاطمة، والمدونة (2)،
والمباركة، والطاهرة، والرضية (3)، والزكية، والمحدثة، والزهراء، والبتول (4).
ثم قال: تدري أي شئ تفسير فاطمة (عليها السلام)؟ قلت: أخبرني يا سيدي. قال:
فطمت من الشرك (5).
ثم قال: لولا أن أمير المؤمنين تزوجها لما كان لها كفؤ إلى يوم القيامة



(1) أمالي الصدوق: ص 475 المجلس 87 ح 1، بحار الأنوار: ج 43 ص 2 باب 1 ح 1 مع
اختلاف في السند.
(2) في المصدر: الصديقة.
(3) في المصدر: والراضية والمرضية.
(4) " البتول " ليس في المصدر.
(5) في المصدر: الشر.
455
على وجه الأرض من آدم فمن دونه (1).
وحدث يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): وإنما سميت فاطمة لأن الله عز وجل فطم من أحبها من النار (2).
وحدث عيسى بن زيد بن علي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: سميت
فاطمة (عليها السلام) محدثة لأن الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما كانت تنادي
مريم بنت عمران، فتقول: يا فاطمة إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء
العالمين، يا فاطمة اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين، وتحدثهم
ويحدثونها.
فقالت لهم ذات ليلة: أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران؟
فقالوا: إن مريم بنت عمران كانت سيدة نساء عالمها، وأن الله عز وجل جعلك
سيدة نساء عالمك وسيدة نساء الأولين والآخرين (3).
وحدث حماد، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت
له: لم سميت فاطمة الزهراء (عليها السلام) زهراء؟
قال: لأن الله عز وجل خلقها من نور عظمته، فلما أشرقت أضاءت السماوات
والأرض بضوء نورها، وغشت أبصار الملائكة وخروا ساجدين وقالوا: إلهنا
وسيدنا ما هذا النور؟ فأوحى الله إليهم: هذا نور من نوري أسكنته في سمائي
وخلقته من عظمتي، أخرجته من صلب نبي من أنبيائي أفضله على جميع الأنبياء،
واخرج من ذلك النور أئمة يقومون بأمري ويهدون إلي خلقي وأجعلهم خلفائي
في أرضي بعد انقضاء وعدي (4).
$ فاطمة الزهراء (عليها السلام) / مناقبها
وحدث معبد، عن ابن عباس، قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): ابنتي فاطمة حوراء
آدمية، لم تطمث ولم تحض، فإنما سماها فاطمة لأن الله فطمها ومحبيها من النار.



(1) الخصال للصدوق: ص 414 باب التسعة ح 3.
(2) علل الشرائع: ص 178 باب 142 ح 1 وفيه " عن أبيه " بدل " عن أبي سلمة ".
(3) علل الشرائع: ص 182 باب 146 ح 1.
(4) علل الشرايع: ص 180 باب 143 ح 1.
456
فصل
في ذكر مناقبها (عليها السلام)
حدث زيد بن موسى، قال: حدثنا أبي، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه،
عن عمه زيد بن علي، عن أبيه، عن سكينة وزينب ابنتي علي (عليه السلام)، عن علي (عليه السلام)،
قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن فاطمة خلقت حورية في صورة إنسية، وإن بنات
الأنبياء لا يحضن (1).
وحدث موسى بن إسماعيل، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن جده جعفر بن
محمد، عن أبيه، عن جده علي بن الحسين (عليه السلام): إن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)
استأذن عليها أعمى فحجبته، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): يا فاطمة لم حجبتيه وهو لا يراك؟
فقالت: يا رسول الله إن لم يكن يراني فأنا أراه وهو يشم الريح.
فقال لها النبي (صلى الله عليه وآله): أشهد أنك بضعة مني (2).
وبالإسناد عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن فاطمة (عليها السلام) قالت: دخل علي
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وبه كآبة شديدة فقلت له: ما هذه الكآبة؟
فقال: سألنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن مسألة لم يكن عندنا لها جواب. فقالت: وما هي
المسألة؟ قال: سألنا عن المرأة ما هي، فقلنا: عورة، فقال: متى تكون أدنى من ربها
فلم ندر. قالت: ارجع إليه فاعلمه أن أدنى ما تكون من ربها أن تلزم قعود بيتها.
فانطلق فأخبره. فقال له: ماذا من تلقاء نفسك. فأخبره أن فاطمة (عليها السلام) أخبرته
فقال (عليه السلام): صدقت إن فاطمة بضعة مني (3).
وفي رواية أن أمير المؤمنين سألها ما خير النساء؟ قالت: أن لا يرين الرجال



(1) دلائل الإمامة: ص 52.
(2) نوادر الراوندي: ص 13 - 14، بحار الأنوار: ج 43 ص 91 باب 4 ح 16.
(3) نوادر الراوندي: ص 14، بحار الأنوار: ج 43 ص 92 ذيل ح 16، وج 43 ص 54 باب 3
قطعة من ح 48.
457
ولا يروهن فسمع النبي (صلى الله عليه وآله) ذلك فقال: إنها بضعة مني (1).
وقال يونس: قال لي الصادق (عليه السلام): يا يونس قال جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله):
ملعون ملعون من يظلم بعدي فاطمة ابنتي ويغصبها حقها ويقتلها.
ثم قال: يا فاطمة البشرى فلك عند الله مقام محمود وتشفعين فيه لمحبيك
وشيعتك فتشفعين، يا فاطمة لو أن كل نبي بعثه الله وكل ملك قربه الله شفعوا في
مبغض لك غاصب لك ما أخرجه الله من النار أبدا (2).
وقال عبد الله بن الحارث بن نوفل: سمعت سعد بن مالك - يعني ابن أبي
وقاص - يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: فاطمة بضعة مني، من سرها فقد
سرني، ومن ساءها فقد ساءني، فاطمة أعز البرية علي (3).
وحدث في الجزء الأول من أجزاء ثلاثة من أمالي السمعاني من طرق العامة
ما هذه صورته قال الشعبي، عن مسروق، عن عائشة أنها قالت: أقبلت فاطمة (عليها السلام)
وهي تمشي، وكان مشيتها مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): مرحبا
يا بنتي، ثم استضحكها وأجلسها عن يمينه وأنا عن يساره، ثم أسر إليها حديثا
فبكت فقلت: استضحك رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحديثه ثم تبكين. ثم أسر إليها حديثا
فضحكت. فقلت: ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن. فسألتها فقالت: ما كنت
لأفشي سر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، حتى إذا قبض سألتها عما قال لها. قالت: إنه أسر إلي
فقال: إن جبرائيل (عليه السلام) كان يعارضني بالقرآن في كل عام مرة واحدة وأنه
يعارضني العام مرتين ولا أراه إلا وقد حضر أجلي فأنت أول أهل بيتي لحاقا بي
ونعم السلف أنا لك، فبكيت لذلك، ثم قال: ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذا
العالم، فضحكت لذلك (4).
وقال سليمان الأنصاري: كنا جلوسا في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) إذ أقبل علي (عليه السلام)



(1) بحار الأنوار: ج 103 ص 238 باب 60 ح 43 نقلا عن كتاب مصباح الأنوار.
(2) كنز الفوائد للكراجكي: ص 63 - 64.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 332.
(4) كشف الغمة: ج 1 ص 453.
458
فتحفز له النبي (عليه السلام) وضمه إلى صدره وقبل ما بين عينيه، وكان له عشره أيام منذ
دخل بفاطمة (عليها السلام)، فقال له: ألا أخبرك في عرسك شيئا. قال: إن شئت فافعل صلى
الله عليك قال: هذا أخي جبرائيل (عليه السلام) قال: تشاجر آدم وحواء (عليهما السلام) في الجنة،
فقال آدم (عليه السلام): يا حواء ما هذه المشاجرة؟ فقالت: يقع لي أن ما خلق الله تعالى
خلقا أحسن مني ومنك. فأوحى الله تعالى إليه بأن يا آدم طف الجنة فانظر ماذا
ترى؟ قال: فبينا آدم (عليه السلام) يطوف في الجنة إذ نظر إلى قبة بلا علاقة من فوقها
ولا دعامة من تحتها، داخل القبة شخص على رأسه تاج، في عنقه خناق، في أذنيه
قرطان، فخر آدم ساجدا لله تعالى. فأوحى الله إليه: يا آدم ما هذا السجود وليس
موضعك موضع سجود ولا عبادة؟ فقال آدم: يا جبرائيل ما هذه القبة التي ما رأيت
أحسن منها؟ فقال: إن الله عز وجل قال لها كوني فكانت. قال: فمن هذا الشخص
الذي داخلها؟ قال: شخص جارية حوراء إنسية تخرج من ظهر نبي يقال له محمد.
قال: فما هذا التاج الذي على رأسها. قال: هو أبوها محمد. قال: فما هذا الخناق
الذي في عنقها؟ قال: بعلها علي بن أبي طالب. قال: فما هذان القرطان اللذان في
أذنيها؟ قال: هما قرطا العرش وريحانتا الجنة ولداها الحسن والحسين. قال:
فكيف ترد يوم القيامة هذه الجارية؟ قال: إن الله تعالى يقول: ترد على ناقة ليست
من نوق دار الدنيا، رأسها من بهاء الله، ومؤخرها من عظمة الله، وعظامها من رحمة
الله، وقوائمها من خشية الله، ولحمها وجلدها معجونان بماء الحيوان، قال الله
تعالى له " كن " فكان، يقود زمام الناقة سبعون ألف صف من الملائكة، كلهم ينادون:
غضوا أبصاركم يا أهل الموقف حتى تجوز الصديقة سيدة النساء فاطمة الزهراء (1).
وذكر الغزالي في آخر الجزء السادس من إحياء العلوم في باب ذم البخل
وحب المال، قال: روي عن عمران بن الحصين أنه قال: كانت لي من رسول
الله (صلى الله عليه وآله) منزلة وجاه فقال لي يوما: يا عمران إن لك عندنا منزلة وجاها فهل لك



(1) قريب منه ما في كشف الغمة: ج 1 ص 456.
459
في عيادة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليها فقلت: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول
الله فقام وقمت معه حتى وقف بباب منزل فاطمة (عليها السلام)، فقرع الباب وقال: السلام
عليكم، أدخل؟ فقالت: ادخل بأبي أنت وأمي يا رسول الله. قال لها: ومن معي؟
قالت: ومن معك يا رسول الله. ثم قالت: والذي بعثك بالحق يا رسول الله ما علي إلا
عباءة قال: اصنعي بها هكذا وهكذا، وأشار بيده. فقالت: هذا جسدي قد واريته
فكيف برأسي؟ فألقى إليها ملاءة كانت عليه خلقة فقال لها: شدي بها على رأسك. ثم
أذنت له فدخل، فقال: السلام عليك يا ابنتاه كيف أصبحت؟ فقالت: أصبحت والله
وجعة وزادني وجعا على ما بي إني لست أقدر على طعام آكله فقد أجهدني الجوع
فبكى النبي (صلى الله عليه وآله) وقال لها: لا تجزعي يا ابنتي فوالله ما ذقت طعاما منذ ثلاث،
وإني لأكرم على الله تعالى منك، ولو سألت الله ربي لأطعمني ولكن آثرت الآخرة
على الدنيا، ثم ضرب بيده على منكبها وقال لها: أبشري فوالله إنك لسيدة نساء
أهل الجنة. فقالت: أين آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ومريم بنت عمران؟ فقال:
آسية سيدة نساء عالمها، ومريم سيدة نساء عالمها، وخديجة سيدة نساء عالمها
وأنت سيدة نساء عالمك، إنكن في بيوت من قضب لا أذى فيها ولا صخب. ثم قال
لها: اقنعي بابن عمك فوالله لقد زوجتك سيدا في الدنيا وسيدا في الآخرة (1).
وحدث إبراهيم بن عبد الله، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد بن سلمة،
عن علي بن زيد: عن أنس: إن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج
إلى صلاة الصبح ويقول: الصلاة يا أهل البيت * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس
أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * (2).
وحدث إبراهيم بن عبد الله، قال: حدثنا عبد المجيد بن بحر، عن خالد، عن
بنان، عن الشعبي، عن أبي حجيفة: عن علي، عن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: إذا كان يوم
القيامة قيل: يا أهل الجمع غضوا أبصاركم حتى تمر فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله).



(1) إحياء علوم الدين: الجزء السادس، باب ذم البخل وحب المال.
(2) كشف الغمة: ج 2 ص 457 بسند آخر.
460
فتمر وعليها ريطتان (1) خضراوان.
قال أبو مسلم: قال لي أبو قلابة وكان معنا عند عبد الحميد: إنه قال حمراوان (2).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): تحشر ابنتي فاطمة وعليها حلة الكرامة قد عجنت بماء
الحيوان، فينظر إليها الخلائق فيتعجبون منها، ثم تكسى حللا من حلل الجنة،
مكتوب على كل حلة بخط أخضر: أدخلوا بنت النبي الجنة على أحسن الصورة
وأحسن الكرامة وأحسن منظر، تزف إلى الجنة على أحسن الصور كما تزف
العروس، تتوج بتاج العز ويوكل بها سبعون ألف جارية، في يد كل جارية منديل
من استبرق، تلك الجواري لها منذ خلق الله تعالى الدنيا (3).
وروي عن جابر بن عبد الله الأنصاري (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أقام أياما لم
يطعم طعاما حتى شق ذلك عليه، فطاف في منازل أزواجه فلم يصب عند واحدة
منهن شيئا، فأتى فاطمة فقال لها: يا بنية هل عندك من شئ آكله فإني جائع؟
فقالت: لا والله بأبي أنت وأمي. فلما خرج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين
وبضعة لحم فأخذته منها ووضعته في جفنة لها وغطت رأسها وقالت: والله لأوثرن
بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) على نفسي وعلى من عندي، وكانوا جميعا محتاجين إلى شبعة
طعام. فبعثت حسنا أو حسينا (عليهما السلام) إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فرجع النبي (عليه السلام)، فقالت:
بأبي أنت وأمي يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أتانا الله بشئ فخبأته لك. فقال لها: هلمي
فأتيني به. فكشفت عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبز ولحم، فلما نظرت إليها بهتت
وعلمت أنها بركة من الله تعالى، فحمدت الله تعالى وصلت على نبيه (صلى الله عليه وآله). فقال
لها (عليها السلام): من أين لك هذا يا بنية؟ قالت: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير
حساب. فجمد الله تعالى وقال: الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني
إسرائيل، فإنها كانت إذا رزقها الله شيئا فسئلت عنه قالت: * (هو من عند الله إن الله



(1) الريطة: الملاءة وهو ثوب رقيق لين إذا كانت قطعة واحدة ونسجا واحدا.
(2) كشف الغمة: ج 1 ص 450 من غير ذكر الإسناد.
(3) عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 30 ح 38.
461
يرزق من يشاء بغير حساب) * فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى عند علي فحضر، ثم أكل
رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفاطمة وعلي والحسن والحسين عليهم أفضل الصلاة والسلام
وجميع أزواج النبي (عليه السلام) وأهل بيته جميعا حتى شبعوا. قالت فاطمة (عليها السلام): وبقيت
الجفنة كما هي، وأوسعت منها على جميع جيراني وجعل الله تعالى فيها بركة
وخيرا (1).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها (2).
وقال (عليه السلام): إن الله يغضب لغضبها ويرضى لرضاها (3).
وحدث الحكيم بن سليمان، عن علي بن القاسم، عن علي بن صالح، بن
عبد الملك، عن أبي عتبة، عن النباتي، عن جميع بن عمير، عن عائشة أنها قالت:
سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله): أي الناس أحب إليك؟ قال: فاطمة. قلت: ومن الرجال؟
قال: بعلها (4).
وحدث عبد الله بن محمد بن أبي مريم القبائي من أهل قبا، قال: حدثنا القاسم
ابن محمد، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن
الحسين، عن أبيه الحسين بن علي: عن أمه فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أجمعين
أنها قالت: لما نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله): * (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء
بعضكم بعضا) * (5) هبت النبي (صلى الله عليه وآله) أن أقول له يا أباه، فجعلت أقول له يا رسول الله،
فأقبل علي وقال لي: يا بنية لم تنزل فيك ولا في أهلك من قبل، أنت مني وأنا منك،
وانما نزلت في أهل الجفاء والمدح والكبر، قولي يا أباه أحب إلى القلب وأرضى
للرب. ثم قبل النبي (عليه السلام) جبهتي ومسحني من ريقه، فما احتجت إلى طيب بعده (6).
وحدث عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا عبد الرزاق،



(1) بحار الأنوار: ج 43 ص 68 باب 3 من تاريخ الزهراء (عليها السلام) ح 60 نقلا عن بعض كتب
المناقب.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 332.
(3) كشف الغمة: ج 1 ص 467.
(4) كشف الغمة: ج 1 ص 462.
(5) النور: 63.
(6) المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 320.
462
قال: حدثنا معمر، عن قتادة: عن أنس: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: حسبك من نساء
العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة
فرعون (1).
وحدث عبد الله أيضا، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عثمان بن محمد
وسمعته أنا من عثمان، حدثنا جرير، عن يزيد، عن عبد الرحمن بن أبي نعيم، عن
أبي سعيد، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا ما كان (2) من
مريم بنت عمران (3).
وحدث عبد الله أيضا، قال: حدثني أبي، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن
الزهري، عن أنس بن مالك أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: حسبك من نساء العالمين مريم بنت
عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد (عليهما السلام) (4).
وقال عبد الله أيضا: وجدت في كتاب أبي بخط يده، حدثنا سعد بن إبراهيم بن
سعد ويعقوب بن إبراهيم، قالا: حدثنا أبي: عن صالح قال: قالت عائشة لفاطمة
بنت محمد (صلى الله عليه وآله): ألا أبشرك، إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: سيدات نساء
العالمين أهل الجنة أربع: مريم بنت عمران، وفاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله)، وخديجة
بنت خويلد، وآسية امرأة فرعون. وقال يعقوب: ابنة مزاحم (5).
وحدث عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: يا معشر
الخلائق غضوا أبصاركم ونكسوا رؤوسكم حتى تمر فاطمة بنت محمد، فتكون
أول من يكسي، وتستقبلها من الفردوس اثنى عشر ألف حوراء وخمسون ألف
ملك على نجائب من الياقوت أجنحتها وأزمتها اللؤلؤ الرطب، ركبها من الزبرجد،
عليها الحلل من الدر، على كل واحد نمرقة على سندس، حتى يجوزوا بها الصراط
ويأتوا بها الفردوس، ويتباشر بمجيئها أهل الجنان، وتجلس على كرسي من نور



(1) مسند أحمد: ج 3 ص 135، المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 322.
(2) في الأصل: " كانت ".
(3) مسند أحمد: ج 3 ص 80.
(4) مسند أحمد: ج 3 ص 135.
(5) كشف الغمة: ج 1 ص 450.
463
ويجلسون حولها، وهي جنة الفردوس التي سقفها عرش الرحمن، وبها قصران:
قصر أبيض وقصر أصفر من لؤلؤة على عرق واحد، في القصر الأبيض سبعون ألف
دار مساكن محمد وآل محمد، وأن في القصر الأصفر سبعين ألف دار مساكن
إبراهيم وآل إبراهيم، ثم يبعث الله عز وجل ملكا لم يبعث إلى أحد قبلها ولا يبعث
إلى أحد بعدها فتقول لها: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول: سليني فتقول: هو
السلام ومنه السلام وقد أتم علي نعمته وهنأني كرامته وأباحني جنته، وفضلني
على سائر خلقه، أسألك ولدي وذريتي ومن ودهم بعدي وحفظهم في قال: فيومي
الله إلى ذلك الملك من غير أن يزول من مكانه أخبرها إني قد شفعتها في ولدها
وذريتها ومن يودهم فيها وتحفظهم بعدها. قال: فتقول: الحمد لله الذي أذهب عنا
الحزن وأقر عيني. فيقر الله بذلك عين محمد (صلى الله عليه وآله) (1).
وحدث أبو هارون العبدي، عن ربيعة السعدي، قال: حدثني حذيفة بن
اليمان، قال: لما خرج جعفر بن أبي طالب من أرض الحبشة إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وأرسل
معه النجاشي بقدح من غالية وقطيفة منسوجة بالذهب هدية إلى النبي (عليه السلام)، فقدم
جعفر والنبي (صلى الله عليه وآله) بأرض خيبر، فأتاه بالقدح من الغالية والقطيفة.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله): لأدفعن هذه القطيفة إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله
ورسوله. فمد أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) أعناقهم إليها. فقال النبي (صلى الله عليه وآله): أين علي؟ فلما
جاء قال له النبي: يا علي خذ هذه القطيفة إليك فأخذها علي (عليه السلام) وأمهل حتى قدم
المدينة فانطلق بها إلى البقيع وهي سوق المدينة فأمر صانعا ففصل القطيفة سلكا
سلكا، فباع الذهب وكان ألف مثقال، ففرقه علي (عليه السلام) في فقراء المهاجرين
والأنصار، ثم رجع إلى منزله ولم يبق له من الذهب قليل ولا كثير.
$ فاطمة الزهراء (عليها السلام) / كلامها من أجل فدك
فلقيه النبي (صلى الله عليه وآله) من الغد في نفر من أصحابه فيهم حذيفة وعمار فقال له:
يا علي إنك أفدت بالأمس ألف مثقال فاجعل غداي اليوم وأصحابي هؤلاء عندك.
ولم يكن علي (عليه السلام) يومئذ يرجع إلى شئ من العروض ذهب أو فضة وقال حياء



(1) تفسير فرات: ص 169 - 170.
464
منه وتكرما: نعم يا رسول الله وفي الرحب والسعة ادخل يا نبي الله أنت ومن معك.
قال: فدخل النبي (صلى الله عليه وآله)، ثم قال لنا: ادخلوا.
قال حذيفة: وكنا خمسة نفر: أنا وعمار وسلمان وأبو ذر والمقداد رضوان الله
عليهم. فدخلنا، ودخل علي على فاطمة (عليهما السلام) يبتغي عندها شيئا من زاد، فوجد
في وسط البيت جفنة من ثريد تفور وعليها عراق كثير وكأن رائحتها المسك،
فحملها علي (عليه السلام) حتى وضعها بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله) ومن حضر، فأكلنا منها حتى
تملأنا ولم ينقص منها قليل ولا كثير.
فقام النبي (صلى الله عليه وآله) حتى دخل على فاطمة (عليها السلام) فقال: أنى لك هذا الطعام
يا فاطمة؟ فردت عليه ونحن نسمع قولها فقالت: * (هو من عند الله إن الله يرزق من
يشاء بغير حساب) * فخرج النبي (صلى الله عليه وآله) وسلم مستعبرا وهو يقول: الحمد لله الذي لم
يميتني (1) حتى رأيت لابنتي ما رأى زكريا لمريم، كان إذا دخل عليها المحراب
وجد عندها رزقا فيقول لها: يا مريم أنى لك هذا؟ فتقول: من عند الله إن الله يرزق
من يشاء بغير حساب (2).
وحدث عمر بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، عن أبيه علي بن أبي طالب (عليه السلام)
أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن البتول فإنا سمعناك يا رسول الله تقول: إن مريم بتول
وفاطمة بتول؟
فقال: البتول التي لم تر حمرة قط، أي لم تحض فإن الحيض مكروه في
بنات الأنبياء (3).
فصل
في ذكر كلام فاطمة (عليها السلام) من أجل فدك
روى عبد الله بن علي بن عباس، عن أبيه علي بن عباس، عن زينب بنت



(1) كذا، والصحيح لم يمتني.
(2) دلائل الإمامة: ص 51، سعد السعود: ص 90.
(3) علل الشرائع: ص 181 باب 144 ح 1.
465
علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قالت: لما أجمع أبو بكر على منع فاطمة فدك بلغها ذلك
فلاثت خمارها على رأسها (1) ثم أقبلت في لمة (2) من حفدتها (3) ونساء قومها تطأ
ذيلها (4) لا تخرم مشيتها مشية (5) رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى دخلت المسجد على أبي
بكر وهو في حشد (6) من المهاجرين والأنصار فنيطت دونهم ملاءة (7)، ثم أنت أنة
ارتجت (8) لها القلوب وذرفت لها العيون وأجهش (9) لها القوم بالبكاء، ثم أمهلتهم
حتى هدأت فورتهم (10) وقالت:
الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدم من عموم
نعم ابتدأها (11)، وسبوغ آلاء أسداها (12)، وتظاهر منن أولاها، وكمال مواهب
والاها (13)، أحمده بمحامد جل عن الإحصاء عددها، ونأى عن المجازات
أمدها (14)، وتفاوت عن الإدراك أبدها (15)، واستثنى الشكر بإفضالها، واستحمد



(1) أي عصبته وجمعته يقال: لاث العمامة على رأسه يلوثها لوثا أي شدها وربطها.
(2) اللمة بضم اللام وتخفيف الميم: الجماعة.
(3) الحفدة بالتحريك: الأعوان والخدم.
(4) أي كانت أثوابها طويلة تستر قدميها وتضع عليها قدمها عند المشي.
(5) الخرم: الترك والنقص والعدم، والمشية بالكسر: الاسم من مشي يمشي مشيا رأي لم
تنقصن مشيتها من مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئا كأنه هو بعينه.
(6) الحشد بالفتح وقد يحرك: الجماعة.
(7) نيطت: علقت، والملاءة بالضم والمد: الريطة والإزار، أي ضربوا بينها (عليها السلام) وبين القوم سترا
وحجابا.
(8) ارتجت: اضطربت.
(9) الجهش أن يفزع الانسان إلى غيره وهو مع ذلك يريد البكاء كالصبي يفزع إلى أمه وقد
يتهيأ للبكاء.
(10) هدأت: سكنت، وفورة الشئ: شدته، وفار القدر أي جاشت.
(11) اي بنعم أعطاها العباد قبل أن يستحقوها.
(12) السبوغ: الكمال، والآلاء: النعماء جمع ألى بالفتح والقصر وقد يكسر بالهمزة، وأسدى
وأولى وأعطى بمعنى واحد.
(13) والاها: أي تابعها بإعطاء نعمة بعد أخرى بلا فصل.
(14) الأمد بالتحريك: الغاية والمنتهى، أي بعد عن الجزاء بالشكر غايتها.
(15) التفاوت: البعد، والأبد: الدهر والدائم والقديم الأزلي، وبعده عن الإدراك لعدم الانتهاء.
466
إلى الخلائق بأجزالها (1)، وآمن (2) بالندب إلى أمثالها.
وأشهد أن لا إله إلا الله، كلمة جعل الإخلاص تأويلها (3)، وضمن القلوب
موصولها (4)، وأبان في الفكر محصولها، وأظهر فيها معقولها (5)، الممتنعة من الأبصار
رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوهام الإحاطة به، ابتدع الأشياء لامن شئ
كان قبله، وأنشأها بلا احتذاء امتثله (6)، وفطرها لغير فائدة زادته إلا إظهارا لقدرته،
وتعبدا لبريته، وإعزازا لأهل دعوته، ثم جعل الثواب لأهل طاعته، وجعل العقاب
لأهل معصيته، زيادة (7) لأوليائه عن نقمته، وحياشة لهم إلى جنته (8).
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، واختاره قبل أن ينتجبه، واصطفاه قبل أن
يبعثه، إذ الخلائق تحت الغيوب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة (9)، وبنهاية العدم
مقرونة، علما من الله تعالى بمآيل الأمور (10)، وإحاطة منه بحوادث الدهر، ومعرفة



(1) يقال أجزلت له من العطاء أي أكثرت، أي طلب منهم الحمد بسبب إجزال النعم وإكمالها عليهم.
(2) وفي نسخة البحار: " وثنى " بدل " وآمن " والمعنى: أي بعد أن أكمل لهم النعم الدنيوية ندبهم
إلى تحصيل أمثالها من النعم الأخروية.
(3) المراد بالإخلاص جعل الأعمال كلها خالصة لله تعالى، وعدم شوب الرياء والأغراض
الفاسدة، وعدم التوسل بغيره تعالى في شئ من الأمور، فهذا تأويل كلمة التوحيد.
(4) لعل المراد أن الله تعالى ألزم وأوجب على القلوب ما تستلزمه هذه الكلمة من عدم تركيبه
تعالى وعدم زيادة صفاته الكمالية الموجودة وأشباه ذلك مما يؤول إلى التوحيد.
(5) أي أوضح في الأذهان ما يتعقل من تلك الكلمة بالتفكر في الدلائل والبراهين.
(6) احتذى مثاله: اقتدى به.
(7) الذود والذياد: السوق والطرد والدفع والإبعاد.
(8) حشت الصيد أحوشه: إذا جئته من حواليه لتصرفه إلى الحبالة، ولعل التعبير بذلك لنفور
الناس بطباعهم عما يوجب دخول الجنة.
(9) لعل المراد بالستر ستر العدم أو حجب الأصلاب والأرحام، ونسبته إلى الأهاويل لما يلحق
الأشياء في تلك الأحوال من موانع الوجود وعوائقه، ويحتمل أن يكون المراد أنها كانت
مصونة عن الأهاويل بستر العدم إذ هي إنما تلحقها بعد الوجود. وقيل: التعبير بالأهاويل من
قبيل التعبير عن درجات العدم بالظلمات.
(10) على صيغة الجمع أي عواقبها.
467
منه بمواضع المقدور (1)، ابتعثه إتماما لعلمه، وعزيمة على إمضاء حكمه، وإنفادا
لمقادير حتمه.
فرأى (عليه السلام) الأمم فرقا في أديانها، عابدة لنيرانها، عاكفة على أوثانها، منكرة لله
عز وجل مع عرفانها (2)، فأنار الله به ظلمها، وجلى عن الأبصار غممها (3)، وفرج
عن القلوب بهمها (4)، وقام في الناس بالهداية، وأنقذهم من الغواية، وهداهم إلى
الدين القويم، ودعاهم إلى الطريق المستقيم.
ثم قبضه الله عز وجل إليه قبض رأفة واختيار (5)، وتكرمة وهب، ونقله عن
تعب هذه الدار، موضوعا عن عنقه الأوزار، مخلدا في دار القرار، محتفا به
الملائكة الأبرار، في مجاورة الملك الجبار، رضوانه عليه وعلى أهل بيته الأخيار،
وصلى الله على نبيه وأمينه على وحيه وصفيه من الخلائق وسلم كثيرا.
ثم التفتت إلى أهل المجلس وقالت: وأنتم عباد الله نصب أمره ونهيه (6)،
وحملة معالم علمه ووحيه، وأمناؤه على أنفسكم، وبلغاؤه إلى الأمم (7)، خولكم
عهده الذي قدمه إليكم، وبقيته التي استخلفها فيكم (8) كتاب الله، بصائره نيرة لذوي
الألباب (9)، وآي كاشفة سرائره وبرهانه، وحججه النيرة، ومواعظه المكررة،
ومحارمه المحذرة، ورخصه (10) الموهوبة، وشرائعه المكتوبة، وفضائله المندوبة.



(1) أي لمعرفته تعالى بما يصلح وينبغي من أزمنة الأمور الممكنة المقدورة وأمكنتها، ويحتمل
أن يكون المراد بالمقدور المقدر.
(2) لكون معرفته تعالى فطرية، أو لقيام الدلائل الواضحة الدالة على وجوده سبحانه.
(3) جلوت الأمر: أوضحته وكشفته. والغمم: جمع غمة، يقال: أمر غمة أي مبهم ملتبس.
(4) البهم: جمع بهمة وهي مشكلات الأمور.
(5) أي من الله له ما هو خير له، أو باختيار منه (صلى الله عليه وآله) ورضا.
(6) أي نصبكم الله لأوامره ونواهيه.
(7) أي تبلغون الأحكام إلى سائر الناس.
(8) العهد: الوصية، وبقية الرجل: ما يخلفه في أهله، والمراد بها القرآن، أو بالأول ما أوصاهم به
في أهل بيته وعترته وبالثاني القرآن.
(9) البصائر: جمع بصيرة وهي الحجة، ونيرة أي واضحة.
(10) الرخص: المباحات.
468
ففرض لكم الإيمان تطهيرا من الشرك، والصلاة تنزيها عن الكبر، والزكاة تحصينا
للأموال وزيادة في الأرزاق، والصيام تثبيتا للإخلاص وتنسكا للقلوب وتنبيها
لماسة الشعب لها على مواساة ذوي الإملاق والإقتار والمسكنة والافتقار، والحج
تشييدا للدين وإحياء للسنن وإعلانا للشريعة، والعدل في الحكم متناشا (1) للرعية
وتمسكا للقلوب، وطاعتنا أهل البيت نظاما للملة، وإمامتنا لما للفرقة، والجهاد
عزا للإسلام، والصبر معونة في الاستيجاب، والقصاص حقنا للدماء، والأمر
بالمعروف مصلحة للعامة، والوفاء بالنذر تعريضا للمغفرة، وتوفية المكاييل
والموازين تغييرا للبخسة (2)، واجتناب قذف المحصنات حجابا من اللعنة (3)،
والنهي عن أكل أموال الأيتام حماية من الآثام وكشفا للظلام، وبر الوالدين وقاية
من السخط، وصلة الأرحام مبقاة للعدد (4) وإنساء في العمر، وتحريم الشرك
إخلاصا للربوبية، والانتهاء عن شرب الخمور صونا عن الرجس، والنهي عن
المنكر جمعا للكلمة، ومجانبة السرقة نشرا للعفة، فاتقوا الله حق تقاته وأطيعوه
فيما أمركم به، وانتهوا عما نهاكم عنه، واتبعوا العلم وتمسكوا به فإنما يخشى الله
من عباده العلماء.
ألا وإني فاطمة بنت محمد أقولها عودا على بداء، ولا أقول إذ أقول سرفا ولا
شططا (5) وها أنا قائلة فاسمعوا ما أقول بأسماع واعية وقلوب ناهية: * (لقد جاءكم
رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) * (6)



(1) كذا في الأصل، وفي البحار: إيناسا.
(2) أي لئلا ينقص مال من ينقص المكيال والميزان إذ التوفية موجبة للبركة وكثرة المال،
أو لئلا ينقصوا أموال الناس، فيكون المقصود أن هذا أمر يحكم العقل بقبحه. وفي بلاغات
النساء: تعبيرا للنحسة.
(3) أي لعنة الله إشارة إلى قوله تعالى * (لعنوا في الدنيا والآخرة) *.
(4) في نسخة البحار: منماة للعدد.
(5) الشطط: البعد عن الحق ومجاوزة الحد في كل شئ.
(6) التوبة: 128.
469
فإن تعزوه (1) تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم، فبلغ بالنذارة (2)،
وصدع بالرسالة، مائلا عن مدرجة (3) الناكثين، ناكبا عن سنن المشركين، ضاربا
لأثباجهم (4)، آخذا بأكضامهم (5)، يجذ الأصنام، وينكت الهام (6)، داعيا إلى سبيل
ربه بالحكمة والموعظة الحسنة حتى انهزم الجمع وولى الدبر، وحتى تولى (7) الليل
عن صبحه، وأسفر الحق (8) عن محضه، ونطق زعيم الدين (9)، وخرست شقاشق
الشياطين (10)، وفهتم بكلمة الإخلاص (11)، وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقة
الشارب، ونهزة الطاعن (12)، وقبسة العجلان (13)، وموطئ الأقدام (14)، تشربون الرنق (15)،



(1) يقال: " عزوته إلى أبيه " إذا نسبته إليه، أي إن ذكرتم نسبه وعرفتموه تجدوه أبي وأخا
ابن عمي.
(2) النذارة بالكسر: الإنذار وهو الإعلام على وجه التخويف.
(3) المدرجة: المذهب والمسلك.
(4) الثبج بالتحريك: وسط الشئ ومعظمه.
(5) الكظم بالتحريك: مخرج النفس من الحلق. والمعنى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان لا يبالي بكثرة
المشركين واجتماعهم ولا يداريهم في الدعوة.
(6) النكت: إلقاء الرجل على رأسه، يقال: طعنه فنكته. والهام جمع الهامة وهي الرأس والمراد
قتل رؤساء المشركين وقمعهم وإذلالهم أو المشركين مطلقا.
(7) في نسخة البحار: تضرى. والمعنى: انشق حتى ظهر ضوء الصباح.
(8) يقال: " أسفر الصبح " أي أضاء.
(9) زعيم القوم: سيدهم والمتكلم عنهم، والزعيم أيضا الكفيل.
(10) الشقاشق جمع شقشقة بالكسر وهي شئ كالرية يخرجها البعير من فيه إذا هاج، وإذا قالوا
للخطيب ذو شقشقة فإنما يشبه بالفحل.
(11) يقال: فاه فلان بالكلام - كقال - أي لفظ به، كتفوه. وكلمة الإخلاص كلمة التوحيد. وفيه
تعريض بأنه لم يكن إيمانهم عن قلوبهم.
(12) مذقة الشارب: شربته. والنهزة بالضم: الفرصة، أي محل نهزته. أي كنتم قليلين أذلاء
يتخطفكم الناس بسهولة.
(13) القبسة بالضم: شعلة من نار يقتبس من معظمها. والإضافة إلى العجلان لبيان القلة والحقارة.
(14) وطي الأقدام مثل مشهور في المغلوبية والمذلة.
(15) الرنق: تراب في الماء من القذى ونحوه. ورنق الماء: كدر.
470
وتقتاتون القد (1)، أذلة خاشعين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم.
فأنقذكم الله بنبيه (صلى الله عليه وآله) بعد اللتيا والتي (2)، وبعد أن مني ببهم الرجال وذؤبان
العرب (3) * (كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله) *، وكلما نجم (4) ناجم بالضلال أو
فغرت فاغرة للمشركين (5) قذف أخاه في لهواتها (6)، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها
بأخمصه (7)، ويخمد لهبها بحد سيفه، مكدودا دؤوبا في ذات الله عز وجل (8)، وأنتم
وادعون في رفاهية آمنون، تتوكفون الأخبار (9)، وتنكصون عن النزال (10)،
وترمقون ما يصير إليه الحال حتى إذا اختار الله لنبيه (صلى الله عليه وآله) دار أنبيائه ومحل
أصفيائه ظهرت حسكة النفاق (11)، وسمل جلباب الدين (12)، ونطق كاظم (13)،



(1) القد بكسر القاف وتشديد الدال: القديد وهو اللحم المملوح المجفف بالشمس.
(2) اللتيا بفتح اللام وتشديد الياء: تصغير التي، وجوز بعضهم فيه ضم اللام، وهما كنايتان عن
الداهية الصغيرة والكبيرة.
(3) يقال مني بكذا - على صيغة المجهول - أي ابتلي. وبهم الرجال: الشجعان منهم لأنهم من
شدة بأسهم لا يدرى من أين يؤتون. وذؤبان العرب: لصوصهم وصعاليكهم.
(4) نجم الشئ نجوما: ظهر وطلع.
(5) فغر فاه: أي فتحه، والفاغرة من المشركين: الطائفة العادية منهم تشبيها بالحية أو السبع.
(6) القذف: الرمي. واللهوات بالتحريك: جمع لهاة وهي اللحمة في أقصى سقف الفم. والمعنى:
أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كلما أراده طائفة من المشركين أو عرضت له داهية عظيمة بعث عليا (عليه السلام) لدفعها
وعرضه للمهالك.
(7) انكفأ بالهمزة: أي رجع، والصماخ بالكسر: ثقب الاذن والاذن نفسها، والأخمص: ما لا
يصيب الأرض من باطن القدم عند المشي. ووطي الصماخ بالأخمص عبارة عن القهر
والغلبة على أبلغ وجه.
(8) المكدود: من بلغه التعب والأذى، وذات الله: أمره ودينه وكل ما يتعلق به سبحانه.
(9) التوكف: التوقع. والمراد أخبار المصائب والفتن.
(10) النكوص: الإحجام والرجوع عن الشئ، والنزال بالكسر: أن ينزل القرنان عن إبلهما إلى
خيلهما فيتضاربا.
(11) الحسكة: العداوة.
(12) سمل الثوب: صار خلقا، والجلباب بالكسر: الملحفة.
(13) الكظوم: السكوت.
471
ونبغ خامل (1)، وهدر فنيق الباطل (2) يخطر في عرصاتكم (3)، فأطلع الشيطان
رأسه من مغرسه (4) صارخا بكم، فوجدكم لدعوته مستجيبين، وللغرة ملاحظين (5)،
واستنهضكم فوجدكم إليه سراعا، وأحمشكم فألفاكم لدعوته غضابا (6)، فوسمتم
غير إبلكم (7)، وأوردتم غير شربكم (8)، هذا والعهد قريب، والكلم رحيب (9)،
والجرح لما يندمل (10)، والرسول لما يقبر (11)، إنذارا (12) زعمتم خوف الفتنة (13)
* (ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) * (14).
فهيهات منكم، وأين بكم؟ وأنى تؤفكون (15)؟ وكتاب الله بين



(1) نبغ: ظهر، ونبغ الرجل: إذا لم يكن في إرث الشعر ثم قال وأجاد. والخامل: من خفي ذكره
وصوته وكان ساقطا لا نباهة له.
(2) الهدير: ترديد البعير صوته في حنجرته. والفنيق: الفحل المكوم من الإبل الذي لا يركب
ولا يهان لكرامته على أهله.
(3) يقال: خطر البعير بذنبه إذا رفعه مرة بعد أخرى وضرب به فخذيه.
(4) في بلاغات النساء والاحتجاج: مغرزه.
(5) الغرة بالكسر: الاغترار والانخداع. وملاحظة الشئ: مراعاته، وأصله من اللحظ وهو
النظر بمؤخر العين، وهو إنما يكون عند تعلق القلب بشئ، أي وجدكم الشيطان لشدة
قبولكم للانخداع كالذي كان مطمح نظره أن يغتر بأباطيله.
(6) أحمشت الرجل: أغضبته، وأحمشت النار: ألهبتها، أي حملكم الشيطان على الغضب
فوجدكم مغضبين لغضبه، أو من عند أنفسكم.
(7) الوسم: أثر الكي، أي علمتم بأثر الكي غير إبلكم.
(8) الورود: حضور الماء للشرب، والإيراد: الإحضار. والشرب بالكسر: الحط من الماء. وهما
كنايتان عن أخذ ما ليس لهم بحق من الخلافة والإمامة وميراث النبوة.
(9) الكلم: الجرح، والرحب بالضم: السعة.
(10) الجرح بالضم الاسم، وبالفتح المصدر. و " لما يندمل " أي لم يصلح بعد.
(11) يقبر: يدفن.
(12) في الاحتجاج: ابتدارا.
(13) أي ادعيتم وأظهرتم للناس كذبا وخديعة إنا إنما اجتمعنا في السقيفة دفعا للفتنة مع أن
الغرض كان غصب الخلافة عن أهلها وهو عين الفتنة.
(14) التوبة: 49.
(15) " هيهات " للتبعيد، وفيه معنى التعجب، وكذلك " كيف " و " أنى " تستعملان في
التعجب. وأفكه: صرفه عن الشئ وقلبه، أي إلى أين يصرفكم الشيطان وأنفسكم والحال أن
كتاب الله بينكم!
472
أظهركم (1)، شرائعه واضحة، وزواجره وأوامره لائحة، رغبة عنه إلى ما سواه (2)
* (بئس للظالمين بدلا) * (3) * (ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في
الآخرة من الخاسرين) * (4). هذا ولم تلبثوا بعد أختها إلا ريث سكوتي حتى نفر
نهادها (5)، وسلس قيادها (6)، يسرون حسوا في ارتغاء (7)، ونصبر منكم على مثل
حز المدى (8)، وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا، كأنكم لم تسمعوا الله يقول:
* (وورث سليمان داود) * (9) وبعض خبر زكريا حيث يقول: * (فهب لي من لدنك
وليا * يرثني) * (10) ويزعم زعيمكم أن النبوة والخلافة لا تجتمع لأحد خلافا على
الله تعالى إذ يقول لنبيه داود (عليه السلام): * (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض) * (11) ثم
جعل ابنه وارثه وجمع فيهما النبوة والخلافة، وقال تعالى: * (يوصيكم الله في
أولادكم) * (12) وقال عز وجل: * (إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين) * (13)
وقال تعالى: * (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) * (14) وأنت تزعم أن لا إرث



(1) فلان بين أظهر قوم وبين ظهرانيهم أي مقيم بينهم محفوف من جانبيه أو من جوانبه بهم.
(2) في نسخة البحار: أرغبه عنه تريدون.
(3) الكهف: 50.
(4) آل عمران: 85.
(5) وفي نسخة البحار: ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها والمعنى: لم تصبروا إلى ذهاب
أثر تلك المصيبة. ونفرت الدابة: ذهابها وعدم انقيادها.
(6) السلس بكسر اللام: السهل اللين المنقاد. والقياد بالكسر: ما يقاد به الدابة من خيل وغيره.
(7) الإسرار: ضد الإعلان. والحسو بفتح الحاء وسكون السين المهملتين: شرب المرق وغيره
شيئا بعد شئ. والارتغاء: شرب الرغوة وهو زبد اللبن. وفي المثل: " يسر حسوا في ارتغاء "
يضرب لمن يظهر أمرا ويريد غيره.
(8) الحز بفتح الحاء المهملة: القطع أو قطع الشئ من غير إبانة. والمدى بالضم: جمع مدية
وهي السكين والشفرة.
(9) النمل: 16.
(10) مريم: 5 و 6.
(11) ص: 26.
(12) النساء: 11.
(13) البقرة: 180.
(14) النساء: 1.
473
لي مع أبي! وتحتج بقول لم يقله ولا سمعه أحد منه، ونحن حضنة علمه، وعارفو
سره وعلانيته، أفخصكم الله بآية دوننا أخرجنا الله منها؟! أم تقولون إنا أهل ملتين
لا نتوارث؟! أم أنت أعلم بمخصوص القرآن منا؟! أبى الله ذلك ورسوله وصالح
المؤمنين، قد علمنا أن نبوة محمد لا تورث وانما يورث ما دونها.
إن النبي (صلى الله عليه وآله) قد ملكني فدك في حياته تمليكا صحيحا شرعيا لا شرط فيه
ولا رجعة ولا مثنوية، ولم تزل في يدي أحكم فيها برأيي، وعلي وكيلي فيها، والله
شاهد بذلك علي، فإن كنت لا تسمع قولي ولا تحفل بمقامي فالله حسبي وكهفي
ورجاي، وأقول كما قال نبي الله يعقوب: * (بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر
جميل والله المستعان على ما تصفون) * (1) * (أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من
الله حكما لقوم يوقنون) * (2).
إيه يا معاشر المسلمين أأبتز إرثيه من أبيه (3)، أفي كتاب الله يا بن أبي قحافة أن
ترث أباك ولا أرث أبي؟! لقد جئت شيئا فريا (4) فدونكها مخطومة (5) مزمومة
تلقاك يوم حشرك ونشرك، ونعم الحكم الله، ونعم الزعيم محمد، والموعد القيامة،
وعند الساعة يخسر المبطلون، ولكل نبأ مستقر، وسوف تعلمون.
ثم صمتت (عليها السلام) لاستماع الجواب، فقال أبو بكر: لقد صدقت كان بالمؤمنين
رؤوفا رحيما، وعلى الكافرين عذابا أليما، فإذا عزوناه وجدناه أباك وأخا خليلك
دون الأخلاء، آثره على كل حميم، وساعده على الأمر الجسيم، لا يحبهم إلا
عظيم السعادة، ولا يبغضهم إلا ردي الولادة، أنتم آل رسول الله الطيبون، وأهل
بيته المنتجبون، وخيرة الله المصطفون، أما ما ذكرت من الميراث فقد دفعت إليكم
ما خلفه رسول الله (صلى الله عليه وآله) من آلة وأثاث وكراع ومنعتك ما سواه اتباعا لقوله حيث



(1) يوسف: 18.
(2) المائدة: 50.
(3) الهاء في " إرثيه " و " أبيه " للسكت كما جاء في سورة الحاقة " كتابيه وحسابيه وماليه
وسلطانيه " تثبت في الوقف وتسقط في الوصل.
(4) اقتباس من سورة مريم: 27، أي أمرا منكرا قبيحا، وهو مأخوذ من الافتراء بمعنى الكذب.
(5) الخطام: كل ما يوضع في أنف البعير ليقاد به.
474
يقول: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث " والرائد لا يكذب أهله، وكفى بالله شهيدا.
ثم إنها صلوات الله عليها نهضت فعطفت على قبر أبيها صلى الله عليهما
وطافت به، وتمثلت بشعر هند ابنة إبانة، وقد يقال إنها القائلة له:
قد كان بعدك أنباء وهنبثة * لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب (1)
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها * فاختل لأهلك واحضرهم فقد نكبوا (2)
تجهمتنا رجال واستخف بنا * أهل النفاق ونحن اليوم نغتصب (3)
أبدت رجال لنا نجوى صدورهم * لما مضيت وحالت دونك الترب (4)
فكنت بدرا ونورا يستضاء به * عليك تنزل من ذي العزة الكتب
وكان جبريل بالآيات يؤنسنا * فغبت عنا فكل الخير محتجب
فقد رزينا بما لم يرزه أحد * من البرية لا عجم ولا عرب (5)
فسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت * منا العيون بتهمال لها سكب
ووصلت ذلك بأن قالت:
قد كنت ذات حمية ما عشت لي * أمشي البراح وأنت كنت جناحي
فاليوم أخضع للذليل وأتقي * منه وادفع ظالمي بالزاح
وإذا بكت قمرية شجنا لها ليلا * على غصن بكيت صباحي
ثم انحرفت إلى مجلس الأنصار وقالت: معاشر البقية وأعضاد الملة (6) وحضنة



(1) الهنبثة: واحدة الهنابث، وهي الأمور الشداد المختلفة. والهنبثة: الاختلاط في القول.
والخطب بالفتح: الأمر الذي تقع فيه المخاطبة، والشأن والحال.
(2) الوابل: المطر الشديد. ونكب فلان عن الطريق: أي عدل ومال.
(3) التجهم: الاستقبال بالوجه الكريه.
(4) بدا الأمر بدوا: ظهر، وأبداه: أظهره. والنجوى: الاسم من نجوته إذا ساررته، ونجوى
صدورهم: ما أضمروه في نفوسهم من العدواة ولم يتمكنوا من إظهاره في حياته (صلى الله عليه وآله وسلم).
وحال الشئ بيني وبينك: أي منعني من الوصول إليك.
(5) الرزء بالضم مهموزا: المصيبة بفقد الأعزة.
(6) الأعضاد: جمع عضد بالفتح: الأعوان، يقال: عضدته كنصرته لفظا ومعنى.
475
الاسلام ما هذه الفترة عن نصرتي؟! والسنة في ظلامتي (1)؟! والونية عن معونتي؟!
والغميزة (2) في حقي؟! أما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبي والمرء يحفظ في ولده؟! ما
أسرع ما أخذتم وأعجل ما بدلتم؟ تقولون أن محمدا مات، فخطب جليل استوسع
وهيه (3)، واستنهر فتقه، وفقد راتقه (4)، وأظلمت الأرض لغيبته، واكتأبت خيرة الله
لمصيبته (5)، وخشعت الجبال، وأكدت الآمال (6)، وأضيع الحريم (7)، ونبذت الحرمة (8)،
وفتنت الأمة، وغشيت الظلمة، ومات الحق، فتلك نازلة (9) أعلن بها كتاب الله في
أفنيتكم (10)، ممساكم ومصبحكم، هتافا هتافا (11) لقبله ما حلت بأنبياء الله ورسله
* (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على
أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين) * (12).
ابني قيلة (13) أأهتضم (14) إرثي بمرأى منكم ومسمع، تشملكم الدعوة وينالكم
الخبر، وفيكم العدة والعدد، ولكم الدار والإيمان، وأنتم والله نخبة الله التي انتخب،



(1) السنة بالكسر: أول النوم، أو النوم الخفيف. والظلامة بالضم: ما أخذه الظالم منك فتطلبه عنده.
(2) قال الخليل في كتاب العين: الغميزة بفتح الغين المعجمة والزاي: ضعفة في العمل وجهلة
في العقل. ويقال: سمعت كلمة فاغتمزتها في عقله أي علمت أنه أحمق.
(3) الخطب بالفتح: الشأن والأمر. والوهي: الشق والخرق، يقال: وهي الثوب: إذا بلي وتخرق
واستوسع.
(4) استنهر: استفعل من النهر - بالتحريك - بمعنى السعة اي اتسع. والفتق: الشق. والرتق ضده.
(5) الاكتئاب: افتعال من الكآبة بمعنى الحزن.
(6) يقال أكدى فلان أي بخل أو قل خيره.
(7) حريم الرجل: ما يحميه ويقاتل عنه.
(8) الحرمة: ما لا يحل انتهاكه.
(9) النازلة: الشديدة.
(10) فناء الدار: العرصة المتسعة أمامها.
(11) الهتاف بالكسر: الصياح.
(12) آل عمران: 144.
(13) بنو قيلة: الأوس والخزرج قبيلتا الأنصار. وقيلة بالفتح: اسم أم لهم قديمة وهي قيلة بنت
كاهل.
(14) الهضم بالكسر، يقال هضمت الشئ أي كسرته، وهضمه حقه واهتضمه: إذا ظلمه وكسر
عليه حقه.
476
وخيرته التي انتجب لنا أهل البيت، فكافحتم إليهم (1)، ينهاكم فتنتهون، ويأمركم
فتأتمرون حتى دارت لكم بنا رحى الاسلام (2)، ودر حلب الاسلام (3)، وسكنت
ثغرة الشرك (4)، وهدأت دعوة الهرج (5)، واستوسق نظام الدين (6)، فحرتم بعد
البيان (7)، وخمتم بعد البرهان (8)، ونكصتم (9) بعد ثبوت الاقدام، اتباعا لقوم نكثوا
أيمانهم * (أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين) * (10).
ألا وقد والله أراكم قد أخلدتم إلى الخفض (11)، وركنتم إلى الدعة (12)، وعجتم
عن الدين (13) * (فإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد) * (14).
ألا وقد قلت الذي قلت على معرفة بالخذلة التي خامرتكم (15)، والفتنة التي



(1) الكفاح: استقبال العدو في الحرب بلا ترس ولا جنة، ويقال: فلان يكافح الأمور أي
يباشرها بنفسه.
(2) دوران الرحى كناية عن انتظام أمرها. والباء في " بنا " للسببية.
(3) در اللبن: جريانه وكثرته. والحلب بالفتح: استخراج ما في الضرع من اللبن، وبالتحريك:
اللبن المحلوب، والثاني أظهر للزوم ارتكاب تجوز في الإسناد أو في المسند إليه على الأول.
(4) الثغرة: هي نقرة النحر بين الترقوتين. و " سكنت ثغرة الشرك " كناية عن محقه وسقوطه
كالحيوان الساقط على الأرض.
(5) هدأت: سكنت. والهرج: الفتنة والاختلاط.
(6) استوسق: اجتمع وانضم، من الوسق بالفتح وهو ضم الشئ إلي الشئ، واتساق الشئ:
انتظامه.
(7) حرتم إما بالحاء المهملة المضمومة من الحور بمعنى الرجوع أو النقصان. وإما بكسرها من
الحيرة.
(8) خم اللحم يخم بالكسر: أنتن أو تغيرت رائحته.
(9) النكوص: الرجوع إلى الخلف.
(10) التوبة: 13.
(11) الرؤية هنا بمعنى العلم أو النظر بالعين. وأخلد إليه: ركن ومال. والخفض بالفتح: سعة
العيش.
(12) الدعة: الراحة والسكون.
(13) قال الجوهري: عجت بالمكان اعوج أي أقمت به. وعجت غيري، يتعدى ولا يتعدى.
وعجت البعير: عطفت رأسه بالزمام. والعايج: الواقف. وذكر ابن الأعرابي: فلان ما يعوج عن
شئ أي ما يرجع عنه.
(14) إبراهيم: 8.
(15) الخذلة: ترك النصر. وخامرتكم: أي خالطتكم.
477
غمرتكم، ولكنها فيضة النفس (1)، ونفثة الغيض (2)، وبثة الصدر (3)، ومعذرة الحجة.
فدونكم فاعنقوا بها، دبرة الظهر (4)، نقبة الخف (5)، موسومة بالعار (6)، باقية
الشنار (7)، موصولة بنار الله الموقدة (8) التي تطلع على الأفئدة (9)، فبعين الله ما
تفعلون بنا * (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) * (10) وأنا ابنة نذير لكم بين
يدي عذاب شديد، وانتظروا إنا منتظرون.
ثم ولت منصرفة. فقال أبو بكر لعمر: تبت يداك لو تركتني لرفيت الخرق،
ورتقت الفتق، وراجعت الحق، وأكففت عني غرب هذه الألسنة برد فدك على أهلها.
فقال عمر: إذا يكون في ذلك وهن أركانك، وانهباط بنيانك، وزوال سلطانك،
وحدوث ما أشفقت منه عليك. فقال له: كيف لك بابنة محمد وقد علم الناس ما
دعت إليه وما نحن لها عليه؟ فقال: هل هي إلا غمرة انجلت، وساعة انقضت، وكأن
ما قد فات لم يكن ثم قال:
ما قد مضى مما مضى كما مضى * وما مضى فما مضى قد انقضى
ثم إن فاطمة (عليها السلام) لقيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في فورتها
وهي مغضبة فقالت: يا بن أبي طالب اشتملت شملة الجنين (11)، وقعدت حجرة



(1) الفيض في الأصل كثرة الماء وسيلانه، يقال: فاض الخبر أي شاع، والمراد هنا إظهار
المضمر في النفس لاستيلاء الهم وغلبة الحزن.
(2) النفث بالضم شبيه بالنفخ، وقد يكون للمغتاظ تنفس عال تسكينا لحر القلب وإطفاء لنائرة
الغضب.
(3) البث: النشر والإظهار، والهم الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثه أي يفرقه.
(4) الدبر بالتحريك: الجرح في ظهر البعير، وقيل: جرح الدابة مطلقا.
(5) النقب بالتحريك: رقة خف البعير.
(6) وسمته وسما وسمة: إذا أثرت فيه بسمة وكي.
(7) الشنار: العيب والعار.
(8) نار الله الموقدة: المؤججة على الدوام.
(9) الإطلاع على الأفئدة: إشرافها على القلوب بحيث يبلغها ألمها كما يبلغ ظواهر البدن.
(10) الشعراء: 227.
(11) اشتمل بالثوب أي أداره على جسده كله. وفي الأصل مشيمة، ومشيمة الجنين: محل الولد
في الرحم.
478
الظنين (1)، نقضت قادمة الأجدل (2)، وخانك ريش الأعزل (3)، هذا ابن أبي قحافة
يبتزني (4) نحلة أبي وبلغة ابني، لقد أجهر في ظلامتي، وألد في خصامتي حين
خلستني (5) بنو فيلة (6) نصرها، والمهاجرة وصلها (7)، وغضت (8) الجماعة دوني
طرفها، فلا مانع ولا دافع، خرجت مخاصمة ورجعت راغمة، افترشت الدنآة،
وآنست بالهنات (9)، ما كففت) قائلا، ولا أغنيت (11) طائلا (12)، يا ليتني ولا خيار
لي [ليتني] مت قبل ذلتي ودون هينتي، عذيري (13) الله منهم ماحيا، ومن عتيق
عاديا (14)، ويل ويل لي في كل شارق (15)، ويل لي في كل غارب (16)، مات العمد (17)
واسترذل العضد، شكواي إلى أبي، وعدواي (18) إلى ربي، اللهم أنت أشد قوة.



(1) الحجرة بالضم: حظيرة الإبل، ومنه حجرة الدار. والظنين: المتهم. والمعنى: اختفيت عن
الناس كالجنين، وقعدت عن طلب الحق ونزلت منزلة الخائف المتهم.
(2) قوادم الطير: مقاديم ريشه، وهي عشر في كل جناح، واحدتها: قادمة. والأجدل: الصقر.
(3) الأعزل: الذي لا سلاح معه. قيل: لعلها صلوات الله عليها شبهت الصقر الذي نقضت قوادمه
بمن لا سلاح له. والمعنى: تركت طلب الخلافة في أول الأمر قبل أن يتمكنوا منها ويشيدوا
أركانها، وظننت أن الناس لا يرون غيرك أهلا للخلافة ولا يقدمون عليك أحدا فكنت كمن
يتوقع الطيران من صقر منقوضة القوادم.
(4) الابتزاز: الاستلاب وأخذ الشئ بقهر وغلبة.
(5) كذا، وفي البحار الاحتجاج: حبستني.
(6) وبنو قيلة: اسم أم قديمة لقبيلتي الأنصار.
(7) وصلها: عونها.
(8) غضت: حفظت. والطرف بالفتح: العين.
(9) كذا، وفي الاحتجاج والبحار: افترست الذئاب وافترشت التراب.
(10) الكف: المنع.
(11) الإغناء: الصرف والكف إذا لم يكن فيه غناء ومزية.
(12) والطائل: قال الجوهري: هذا أمر لا طائل فيه.
(13) العذير بمعنى العاذر كالسميع، أو بمعنى العذر كالأليم.
(14) عتيق هو أبو بكر بن أبي قحافة، وعاديا: من العدوان بمعنى تجاوز الحد.
(15) الشارق: الشمس، أي عند شروق شارق وطلوع صباح كل يوم.
(16) الغارب: غروب الشمس.
(17) العمد بالتحريك وبضمتين: جمع العمود. ولعل المراد هنا ما يعتمد عليه في الأمور.
(18) العدوي: طلبك إلى وال لينتقم لك ممن ظلمك.
479
فقال لها علي (عليه السلام): لا ويل لك، الويل لمن ساءك، فنهنهي عن وجدك يا ابنة الصفوة
وبقية النبوة (1)، ما ونيت (2) عن ديني، ولا أخطأت مقدوري، فإن كنت تريدين
البلغة (3) فرزقك مقدور، وكفيلك مأمون، وما أعد لك خير مما قطع عنك، فاحتسبي (4).
فقالت: حسبي الله. وسكتت (5).
قال: فقالت أم سلمة رضي الله عنها حيث سمعت ما جرى لفاطمة (عليها السلام): ألمثل
فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقال هذا القول، هي والله الحوراء بين الإنس، والنفس
للنفس، ربيت في حجور الأتقياء، وتناولتها أيدي الملائكة، ونمت في حجور
الطاهرات، ونشأت خير نشاء، وربيت خير مربى، أتزعمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
حرم عليها ميراثه ولم يعلمها وقد قال الله تعالى: * (وانذر عشيرتك الأقربين) * (6)
أفأنذرها وخالفت متطلبة وهي خيرة النسوان، وأم سادة الشبان، وعديلة ابنة
عمران، تمت بأبيها رسالات ربه، فوالله لقد كان شفق عليها من الحر والقر،
ويوسدها يمينه، ويلحفها بشماله، رويدا ورسول الله (صلى الله عليه وآله) بمرأى منكم، وعلى الله
تردون، واها لكم فسوف تعلمون.
$ فاطمة الزهراء (عليها السلام) / وفاتها
قال: فحرمت أم سلمة عطاءها في تلك السنة.



(1) نهنهت الرجل عن الشئ فتنهنه أي كففته وزجرته فكف. والوجد: الغضب، أي امنعي
نفسك عن غضبك. والصفوة مثلثة: خلاصة الشئ وخياره.
(2) الونى: الضعف والفتور والكلال، والفعل كوقى يقي، أي ما عجزت عن القيام بما أمرني به
ربي، وما تركت ما دخل تحت قدرتي.
(3) البلغة بالضم: ما يتبلغ به من العيش، والمقدر والكفيل هو الله سبحانه.
(4) الاحتساب: الاعتداد. ويقال لمن ينوي بعمله وجه الله تعالى: احتسبه، أي اصبري
وادخري ثوابه عند الله تعالى.
(5) إلى هنا ذكر من خطبة الزهراء (عليها السلام) في بحار الأنوار: ج 8 ص 109 - 112 ط. الكمباني
وأوردها الأربلي في كشف الغمة: ج 1 ص 480، والطبرسي في الاحتجاج: ج 1 ص 146
ناقصة أيضا. وما ذكر هنا يختلف مع ما ذكر في المصادر السابقة زيادة ونقيصة وتقديما
وتأخيرا واختلافا في كثير من الألفاظ. وقد نقلنا شرح ألفاظها عن العلامة المجلسي قدس
سره في البحار.
(6) الشعراء: 214.
480
فصل
في ذكر وفاتها (عليها السلام)
قيل: لما مرضت فاطمة (عليها السلام) دخل عليها نساء المهاجرين والأنصار يعدنها
فقلن: كيف أصبحت من علتك يا بنت رسول الله؟
فقالت: أصبحت والله عائفة (1) لدنياكن، قالية (2) لرجالكن، لفظتهم (3) بعد أن
عرفتهم، وشنأتهم بعد أن سبرتهم (4)، فقبحا لفلول الحد (5) وخطل الرأي وخور
القناة (6)، لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم (7)، لقد قلدتهم ربقتها (8)،
وشنت عليهم غارتها (9)، فجدعا وعقرا (10) وبعدا للقوم الظالمين.



(1) عائفة: أي كارهة، يقال: عاف الرجل الطعام يعافه عيافا إذا كرهه.
(2) القالية: المبغضة، قال تعالى: * (ما ودعك ربك وما قلى) *.
(3) لفظت الشئ من فمي: أي رميته وطرحته.
(4) شنأه: أبغضه. وسبرتهم: أي اختبرتهم. والمعنى: إني كنت عالمة بقبح سيرتهم وسوء
سريرتهم فطرحتهم، ثم لما اختبرتهم شنأتهم وأبغضتهم، أي تأكد إنكاري بعد الاختبار.
(5) قبحا بالضم: مصدر حذف فعله، إما من قولهم: قبحه الله قبحا، أو من قبح - بالضم - قباحة.
والفلول بالضم: جمع فل بالفتح، وهو الثلمة والكسر في حد السيف. وحد الشئ: شباته،
وحد الرجل: بأسه.
(6) الخور بالفتح وبالتحريك: الضعف. والقناة: الرمح.
(7) إشارة إلى قوله تعالى * (بئس ما قدمت..) * المائدة: 80.
(8) الربقة في الأصل: عروة في حبل تجعل في عنق البهيمة أو يدها تمسكها، ويقال للحبل
الذي تكون فيه الربقة: ربق. والضمير في " ربقتها " راجع إلى الخلافة المدلول عليها بالمقام،
أو إلى فدك، أو حقوق أهل البيت (عليهم السلام)، أي جعلها إثمها لازمة لرقابهم كالقلائد.
(9) الشن: رش الماء رشا متفرقا، والسن بالمهملة: الصب المتصل، ومنه قولهم: شنت عليهم
الغارة إذا فرقت عليهم من كل وجه.
(10) الجدع: قطع الأنف أو الأذن أو الشفة، وهو بالأنف أخص، ويكون بمعنى الحبس. والعقر
بالفتح: الجرح، ويقال في الدعاء على الانسان: عقرا له وحلقا، أي عقر الله جسده وأصابه
بوجع في حلقه، وأصل العقر: ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف ثم اتسع فيه فاستعمل في
القتل والهلاك.
481
ويحهم أنى زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة (1) ومهبط الروح
الأمين، ما الذي نقموا (2) من أبي حسن؟ نقموا والله شدة وطئته (3)، ونكال وقعته (4)،
ونكير سيفه (5)، وتنمره في ذات الله (6).
وأيم الله لو تكافوا (7) على زمام نبذه (8) إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) لسار بهم سيرا
سجحا (9) لا يكلم خشاشة (10)، ولا يتعتع راكبه (11)، ولأوردهم منهلا نميرا
فضفاضا (12)، تطفح وضفتاه (13)، ولأصدرهم بطانا (14)، قد يحترق بهم الري غير
منجلي منه بطائل (15)، ولفتحت عليهم بركات من السماء والأرض.
ألا هلم فأعجب وما عشت أراك الدهر عجبا، فرغما لمعاطس قوم يحسبون



(1) ويح كلمة تستعمل في الترحم والتوجع والتعجب. والزحزحة: التنحية والتبعيد.
والزعزعة: التحريك. والرواسي من الجبال: الثوابت الرواسخ. وقواعد البيت: أساسه.
(2) يقال: نقمت على الرجل: أي عتبت عليه وكرهت شيئا منه.
(3) الوطأة: الأخذة الشديدة والضغطة، وأصل الوطئ: الدوس بالقدم ويطلق على الغزو والقتل
لأن من يطأ الشئ برجليه فقد استقصى في هلاكه وإهانته.
(4) النكال: العقوبة التي تنكل الناس. والوقعة: صدمة الحرب.
(5) التنكير: الانكار، أي إنكار سيفه فإنه (عليه السلام) كان لا يسل سيفه إلا لتغيير المنكرات.
(6) تنمر فلان: أي تغير وتنكر وأوعد، لأن النمر لا تلقاه أبدا إلا متنكرا غضبان. والمراد
بقولها (عليها السلام) في ذات الله أي في الله ولله.
(7) التكاف تفاعل من الكف: وهو الدفع والصرف. والزمام ككتاب: الخيط الذي يشد في البرة
والخشاش ثم يشد في طرفه المقود، وقد يسمى المقود زماما.
(8) نبذه: طرحه.
(9) السجح بضمتين: اللين السهل.
(10) الكلم: الجرح. والخشاش بكسر الخاء المعجمة: ما يجعل في أنف البعير من خشب ويشد
به الزمام ليكون أسرع لانقياده.
(11) تعتعت الرجل: أي أقلقته وأزعجته.
(12) المنهل: المورد، وهو عين ماء ترده الإبل في المراعي، وتسمى المنازل التي في المفاوز
على طرق السفار مناهل لأن فيها ماء. قاله الجوهري. وقال: ماء نمير: أي ناجع، عذبا كان
أو غيره. والفضفاض: الواسع، يقال عيش فضفاض وثوب فضفاض.
(13) تطفح: تمتلئ حتى تفيض. وضفتا النهر: جانباه.
(14) بطن كعلم: عظم بطنه من الشبع، ومنه الحديث: تغدو خماصا وتروح بطانا، والمراد عظم
بطنهم من الشرب.
(15) الطائل: الغناء والمزية والسعة والفضل.
482
أنهم يحسنون صنعا (1) ولعمر الله لقد لقحت (2)، فنظرة ريثما تنتج (3)، ثم احتلبوا
طلاع القعب دما عبيطا (4)، وذعافا ممقرا (5)، فهنالك يخسر المبطلون، ويعرف
التالون غب (6) ما أسس الأولون، فطيبوا عن أنفسكم نفسا (7)، وطأمنوا الفتنة
جأشا (8)، وابشروا بسيف صارم (9)، وهرج شامل (10)، يدع فيئكم زهيدا (11)، وجمعكم
فيكم حصيدا (12)، فيا حسرة عليكم، فأنى بكم (13) وقد عميت عليكم (14)
* (أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) * (15).
قال ابن عباس: فلما اشتدت علتها (عليها السلام) قال عمر لأبي بكر: اذهب بنا حتى
نعود فاطمة بنت محمد (عليها السلام). فجاءا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فسلما عليه وقالا له:



(1) رغما مثلثة: مصدر رغم أنفه أي لصق بالرغام وهو التراب، ورغم الأنف يستعمل في الذل
والعجز عن الانتصار والانقياد على كره. والمعاطس جمع معطس بالكسر والفتح وهو الأنف.
(2) لقحت: حملت، والفاعل فعلتهم أو فعالهم، أو الفتنة أو الأزمنة.
(3) النظرة بفتح النون وكسر الظاء: التأخير. وريثما تنتج: أي قدر ما تنتج.
(4) القعب: قدح من خشب يروي الرجل واحتلاب طلاع القعب: هو أن يمتلئ من اللبن حتى
يطلع عنه ويسيل. العبيط: الطري.
(5) الذعاف: السم. والمقر بكسر والقاف: الصبر، وأمقر: أي صار مرا.
(6) غب كل شئ: عاقبته.
(7) طاب نفس فلان بكذا: أي رضي به من دون أن يكرهه عليه أحد، وطابت نفسه عن كذا أي
رضي ببذله.
(8) طمأنته: سكنته فاطمأن. والجأش مهموزا: النفس والقلب، أي اجعلوا قلوبكم مطمئنة
لنزول الفتنة.
(9) الصارم: القاطع.
(10) الهرج: الفتنة والاختلاط.
(11) الفئ: الغنيمة والخراج وما حصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب. والزهيد:
القليل.
(12) الحصيد: المحصود، ويدع جمعكم حصيدا كناية عن قتلهم واستئصالهم.
(13) أي وأنى تلحق الهداية بكم.
(14) عميت عليكم بالتخفيف: أي خفيت والتبست، وبالتشديد على صيغة المجهول أي لبست.
(15) كشف الغمة: ج 1 ص 492 - 494، بحار الأنوار: ج 43 ص 158 - 159 باب 7 ح 8 وقد
أخذنا شرح الألفاظ منه.
483
استأذن لنا على بنت محمد.
قال: افعل. ودخل إليها فقال لها: يا بنت عمي هذا أبو بكر وعمر قد جاءا
يعودانك.
فقالت: لا والله لا آذن لهما قال: فإني قد ضمنت لهما ذلك عليك. قالت: أما أنا
فلا آذن لهما والبيت بيتك، والنساء مع الرجال، فابدر من أحببت. فأذن لهما
فدخلا، فسلما عليها فلم ترد عليهما السلام، وقالت: أنشدكما الله هل سمعتما
رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: " فاطمة بضعة مني فمن آذاها فقد آذاني " قالا: نعم. قالت:
فأنشدكما الله هل سمعتما رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: " فاطمة بضعة مني فمن أسخطها
فقد أسخطني " قالا: نعم. فقالت: أنشدكما الله هل سمعتما رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول:
" فاطمة بضعة مني من أرضاها فقد أرضاني " قالا: نعم. قالت: فإني اشهد الله تعالى
أنكما قد آذيتماني وأسخطتماني وما أرضيتماني، والله لا أنازعكما الفضيع من
فعلكما حتى ألقى ربي وألقى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأشكوكما إليهما فإنه أخبرني
أبي (صلى الله عليه وآله) إني أول لاحق به من أهله (1).
وقبضت من ليلتها صلى الله عليها. وتولى أمير المؤمنين (عليه السلام) غسلها ودفنها
في بيتها بعد أن صلى عليها فأصبحا عائدين لها والناس معهما ليحضروا جنازتها
والصلاة عليها. فلما طال عليهما الجلوس قال عمر: يا أبا الحسن قد حبست
الناس.
فقال له: إنا قد دفناها البارحة فقال عمر: والله لولا أنها تصير سنة لنبشناها
وصلينا عليها، هذا أيضا كاستيثارك علينا في رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقال علي: والله
يا عمر لو رمت ذاك لقلعت أثرك. ثم أخذهما غير بعيد وقال لهما: أتراكما إن حلفت
لكما تصدقاني؟ قالا: نعم. قال: والله إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمرني بغسلها وأمرني أن
لا يبصرها أحد غيري، وهي أمرتني أن لا تصليا عليها، وقبضت وهي ساخطة
عليكما، فكنتما تريان أن أخالف رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفاطمة (عليها السلام).



(1) كتاب سليم بن قيس الهلالي: ص 254 - 255.
484
فانصرفا وانصرف الناس معهما، وجزع أبو بكر من ذلك جزعا شديدا وقال:
يا ليت أمي لم تلدني. فقال له عمر: عجبا للناس كيف ولوك أمرهم وأنت تجزع
لغضب امرأة وتفرح لرضاها! وما الذي بلغ من سخط امرأة (1).
قال الشيخ المفيد (رضي الله عنه): إنها توفيت اليوم الثالث من ذي الحجة سنة إحدى
عشر من الهجرة.
وقال الشيخ أبو علي محمد بن همام الكاتب: إنها توفيت (عليها السلام) ولها ثماني
عشر سنة وخمس وثمانون يوما.
وقال الشيخ أبو جعفر محمد بن رستم بن جرير الطبري: إنها توفيت يوم
الثالث لثلاث خلون من جماد الآخر سنة إحدى عشرة من الهجرة (2).
وقال عبد الله بن الخشاب: إنها توفيت (عليها السلام) ولها ثماني عشر سنة وخمس
وسبعون يوما.
وفي رواية صدقة: ثمانية عشرة سنة وشهر وخمسة عشر يوما.
وقال ابن شهرآشوب: إنها (عليها السلام) توفيت ليلة الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من
شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة من الهجرة وقبرها بالبقيع. وقالوا: إنها دفنت في
بيتها وقيل: بين قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبين منبره (3).



(1) علل الشرائع: ص 187 باب 149 ح 2.
(2) دلائل الإمامة: ص 45.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 357.
485
الباب الرابع
في ذكر مولانا الحسن بن علي (عليهما السلام)

487
$ الإمام المجتبى (عليه السلام) / بعض فضائله وأخباره
وأمه: فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فصل
في ذكر مولده (عليه السلام)
قال أبو جعفر محمد بن رستم بن جرير الطبري في كتاب دلائل الإمامة: ولد أبو
محمد الحسن بن علي (عليهما السلام) يوم النصف من شهر رمضان سنه ثلاث من الهجرة (1).
وقال محمد بن يعقوب الكليني في كتاب الحجة: ولد الحسن بن علي (عليهما السلام)
في شهر رمضان في سنة اثنتين من الهجرة. وروي أنه ولد في سنة ثلاث (2).
وقال الشيخ المفيد: إنه ولد بالمدينة ليلة النصف من شهر رمضان سنة ثلاث
من الهجرة. وجاءت به أمه فاطمة بنت محمد (عليهما السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله) يوم السابع من
مولده في خرقة من حرير الجنة كان نزل بها جبرئيل (عليه السلام) إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
فسماه حسنا، وعق عنه كبشا. وكان أشبه الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله) خلقا وهيئة
وسؤددا (3).
وحدث يحيى بن عبد الحميد، قال: حدثنا شريك، عن شمال بن حرب، عن
قابوس بن مخارق: عن أم الفضل زوجة العباس أنها قالت: قلت: يا رسول الله
صلى الله عليك رأيت في المنام كأن عضوا من أعضائك في حجري. فقال (صلى الله عليه وآله)



(1) دلائل الإمامة: ص 60.
(2) الكافي: ج 1 ص 461.
(3) الإرشاد: ص 187.
489
تلد فاطمة غلاما إن شاء الله تعالى فتكفليه. فولدت فاطمة (عليها السلام) الحسن (عليه السلام) فدفعه
إليها النبي (صلى الله عليه وآله) فرضعته بلبن قثم بن العباس (1).
وحدث عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا وكيع،
عن إسماعيل، قال: سمعت وهبا أبا جحيفة، قال: رأيت النبي (صلى الله عليه وآله) وكان الحسن
ابن علي يشبهه (2).
وحدث أيضا عبد الله، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن
الزبير، قال: حدثنا عمر بن سعيد، عن أبي مليكة، قال: أخبرني عقبة بن الحارث،
قال: خرجت مع أبي بكر من صلاة العصر بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) بليال وعلي (عليه السلام)
يمشي إلى جنبه، فمر بحسن بن علي يلعب مع غلمان، فاحتمله أبو بكر على رقبته
وهو يقول:
وآبائي شبيه النبي * ليس شبيها بعلي.
قال: وعلي (عليه السلام) يضحك (3).
فصل
في ذكر بعض فضائله وأخباره
وحدث عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا سفيان، قال:
حدثني عبد الله بن أبي بريدة، عن نافع، عن ابن جبير، عن أبي هريرة، عن
النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال لحسن: اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه (4).
وحدث عبد الله أيضا، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا وكيع، حدثنا حماد
ابن سالم، عن محمد، عن أبي هريره، قال: رأيت النبي (صلى الله عليه وآله) حاملا الحسن



(1) بحار الأنوار: ج 43 ص 242 باب 11 ح 14 نقلا عن كتاب العدد.
(2) مسند أحمد بن حنبل: ج 4 ص 307.
(3) مسند أحمد بن حنبل: ج 1 ص 8.
(4) مسند أحمد بن حنبل: ج 2 ص 249.
490
ابن علي (عليهما السلام) ولعابه يسيل عليه (عليهما السلام) (1).
وحدث عبد الله، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا ابن أبي غدي، عن ابن عون
عن عمير بن إسحاق، قال: كنت مع الحسن بن علي (عليه السلام) فلقينا أبو هريرة فقال:
أرني اقبل منك حيث رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقبل. قال: فقال بقميصه كذا فكشفه،
فقبل سرته (2).
وحدث عبد الله، قال حدثني أبي، قال: حدثنا وكيع بن أبي ليلى، عن أخيه
عيسى بن عبد الله، عن أبيه عبد الرحمن، عن جده، قال: كنا عند النبي فجاء
الحسن بن علي يحبو حتى صعد على صدره فبال عليه، فابتدرناه لنأخذه، فقال
النبي: ابني ابني، ثم دعا بماء فصبه عليه (3).
وحدث الزبير بن بكار، قال: حدثني عمي مصعب بن عبد الله، قال: ذكر عن
البهي مولى الزبير قال: تذاكرنا من أشبه النبي (صلى الله عليه وآله) من أهله، فدخل علينا
عبد الله بن الزبير فقال: أنا أحدثكم بأشبه أهله إليه الحسن بن علي، رأيته
يجئ وهو ساجد فيركب ظهره فما ينزله حتى يكون هو الذي ينزل. ولقد رأيته
يجئ وهو راكع فيفرج له بين رجليه حتى يخرج من الجانب الآخر. وقال فيه
رسول الله (صلى الله عليه وآله): هو ريحاني من الدنيا وأن ابني هذا سيد يصلح الله به بين فئتين من
المسلمين، وقال: اللهم إني أحبه فأحبه وأحب من يحبه (4).
وحدث الزبير، قال: حدثني عمي، قال: وروى ابن عون، عن عمير بن إسحاق،
قال: ما تكلم أحد كان أحب إلي إذا تكلم أن لا يسكت من الحسن بن علي،
وما سمعت منه كلمة فحش قط، فإنه كان بين الحسين بن علي وعمر بن عثمان
خصومة في أرض، فعرض الحسين (عليه السلام) أمرا لم يرضه عمر، فقال الحسن (عليه السلام):
ليس له عندنا إلا ما أرغم أنفه، فإن هذه أشد كلمة فحش سمعتها منه قط (5).



(1) مسند أحمد بن حنبل: ج 2 ص 447.
(2) مسند أحمد بن حنبل: ج 2 ص 255.
(3) مسند أحمد بن حنبل: ج 4 ص 348.
(4) بحار الأنوار: ج 43 ص 317 باب 12 ذيل ح 74 نقلا عن كتاب العدد.
(5) بحار الأنوار: ج 43 ص 345 باب 16 ذيل ح 17 مختصرا.
491
حدث قاضي المدينة الرضي القرشي وهب بن عبد الرحمن: عن جعفر بن
محمد، عن أبيه: ان الحسن بن علي (عليهما السلام) دخل المتوضأ فأصاب كسرة (1) أو قال:
لقمة في مجرى الغائط والبول، فأخذها وغسلها غسلا نعما، ثم قال: يا غلام
اذكرني بها إذا توضأت. فلما توضأ قال: يا غلام ناولني اللقمة أو الكسرة. فقال
الغلام: يا مولاي أكلتها. قال له: اذهب فأنت حر لوجه الله تعالى. قال: فقال الغلام:
يا مولاي لأي شئ عتقتني؟ قال: لأني سمعت فاطمة (عليها السلام) أمي بنت رسول
الله (صلى الله عليه وآله) تروي عن أبيها (عليه السلام) قال: من أخذ كسرة أو لقمة من مجرى الغائط
أو البول فأماط عنها الأذى وغسلها غسلا نعما فأكلها لم تستقر في بطنه حتى
يغفر له، فما كنت استخدم رجلا من أهل الجنة (2).
وحدث الزبير، قال: حدثني عمي، قال: ذكر عن علي بن زياد بن جذعان
التيمي قال: حج الحسن (عليه السلام) خمس عشر حجة ماشيا، وخرج من ماله مرتين،
وقاسم الله ثلاث مرات حتى أن كان ليعطي نعلا ويمسك نعلا ويعطي خفا
ويمسك خفا (3).
وحدث أبو يعقوب يوسف بن الجراح، قال: حدثني أبي وعبد الله بن سعيد،
قال: أخبرني سعد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن شهاب الزهري، قال: كنت مع
حذيفة بن اليمان (رضي الله عنه) قال: وأظن أبي حدث بهذا الحديث، عن ابن سبرة وعن
جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السلام)، قال: بينما رسول الله (صلى الله عليه وآله) في جبل أظنه ذكر حراء
أو غيره ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي (عليه السلام) وجماعة من المهاجرين
والأنصار، وأنس حاضرا لهذا الحديث وحذيفة يحدث به إذ أقبل الحسن بن
علي (عليهما السلام) يمشي على هدو ووقار، فنظر إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورمقناه معه، فقال
بلال: يا رسول الله أما ترى مأخذه؟



(1) كسرة: قطعة صغيرة من الخبز.
(2) عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 2 ص 23 ح 154، رواه عن الإمام الحسين (عليه السلام).
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 14.
492
فقال (عليه السلام): إن جبرئيل يهديه، وميكائيل يهديه، وهو ولدي، والطاهر من
نفسي، وضلع من أضلاعي، هذا سبطي، وقرة عيني، بأبي هو.
وقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقمنا معه وهو يقول له: أنت تفاحتي وأنت حبيبي
ومهجة قلبي، وأخذ بيده فمشى معه ونحن نمشي حتى جلس وجلسنا حوله ننظر
إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو لا يرفع بصره عنه، ثم قال: إنه سيكون بعدي هاديا مهديا،
هذا هدية من رب العالمين لي ينبئ عني، ويعرف الناس آثاري، ويحيي سنتي،
ويتولى أمري في فعله، ينظر الله إليه فيرحمه، رحم الله من عرف له ذلك، وبرني
فيه، وأكرمني فيه. فما قطع رسول الله (صلى الله عليه وآله) كلامه حتى أقبل إلينا أعرابيا يجر هراوة
له، فلما نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: قد جاءكم رجل يكلمكم بكلام غليظ تقشعر منه
جلودكم، وأنه ليسألكم عن أمور، ألا أن لكلامه جفوة.
فجاء الأعرابي فلم يسلم فقال: أيكم محمد؟
قلنا: وما تريد؟
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): مهلا. فقال: يا محمد لقد كنت أبغضك ولم أرك والآن فقد
ازددت لك بغضا. قال: فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وغضبنا لذلك وأردنا بالأعرابي
إرادة. فأومأ إلينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن اسكتوا. فقال الأعرابي: يا محمد إنك تزعم
أنك نبي وأنك قد كذبت على الأنبياء وما معك من (1) شئ قال له: يا أعرابي
وما يدريك؟ قال الأعرابي: فخبرني ببرهانك. قال: إن أحببت أخبرك عضو من
أعضائي فيكون ذلك أوكد لبرهاني. قال الأعرابي: أو يكلم العضو؟ قال: نعم،
يا حسن قم.
فازدرى الأعرابي نفسه (2) وقال: هو يأباني ويقيم صبيا ليكلمني. قال: إنك
ستجده عالما بما تريد. فابتدره الحسن (عليه السلام) وقال: مهلا يا أعرابي تنظر هذا الشعر:



(1) في الأصل كلمة غير مقروءة، وفي البحار: من برهانك شئ.
(2) أي احتقر الأعرابي نفسه.
493
ما غبيا سألت وابن غبي * بل فقيها إذن وأنت الجهول
فإن تك قد جهلت فإن عندي * شفاء الجهل ما سأل السؤول
وبحرا لا تقسمه الدوالي * تراثا كان أورثه الرسول
لقد بسطت لسانك، وعدوت طورك، وخادعتك نفسك، غير أنك لا تبرح
حتى تؤمن إن شاء الله تعالى. فتبسم الأعرابي وقال: هيه (1). فقال له الحسن (عليه السلام):
نعم اجتمعتم في نادي قومك، وتذاكرتم ما جرى بينكم على جهل وخرق منكم،
فزعمتم أن محمدا (صلى الله عليه وآله) صنبور (2) والعرب قاطبة تبغضه، ولا طالب له بثأره،
وزعمت أنك قاتله وكافي قومك مؤنته، فحملت نفسك على ذلك، وقد أخذت
قناتك بيدك تؤمه تريد قتله، فعسر عليك مسلكك، وعمي عليك بصرك، وأبيت إلا
ذلك، فأتيتنا خوفا من أن يستهزئوا بك، وإنما جئت لخير يراد بك أنبئك عن
سفرك: خرجت في ليلة ضحياء إذ عصفت ريح شديدة واشتد منها ظلماؤها،
وأطبقت سماؤها، وأعصر سحابها، فبقيت محرنجما كالأشقر إن يقدم نحر (3) وإن
تأخر عقر، لا تسمع لواطئ حسا، ولا لنافخ نار جرسا، تداكت عليك غيومها،
وتوارت عنك نجومها، فلا تهتدي بنجم طالع، ولا بعلم لامع، تقطع محجة وتهبط
لجة في ديمومة قفرة، بعيدة القعر، مجحفة بالسفر، إذا علوت مصعدا ازددت بعدا،
الريح تخطفك، والشوك يخبطك، في ريح عاصف، وبرق خاطف قد أوحشتك
آكامها، وقطعتك سلامها، فأبصرت فإذا أنت عندنا، وقرت عينك، فطهر رينك
وذهب أنينك. قال: من أين قلت يا غلام هذا كأنك كشفت عن سويداء قلبي،



(1) هيه: كلمة تقال لشئ يطرد، وهي أيضا كلمة استزاده.
(2) قال الجزري: إن قريشا كانوا يقولون أن محمدا صنبور، أي أبتر لا عقب له وأصل الصنبور
سعفة تنبت في جذع النخلة لا في الأرض. وقيل: هي النخلة المنفردة التي يدق أسفلها أرادوا
أنه إذا قطع انقطع ذكره كما يذهب أثر الصنبور لأنه لا عقب له.
(3) من كلام لقيط بن زرارة يوم جبلة وكان على فرس أشقر، يقول: إن جريت على طبعك
فتقدمت إلى العدو قتلوك وإن أسرعت فتأخرت منهزما أتوك من ورائك فعقروك، فاثبت
والزم الوقار. مجمع الأمثال: ج 2 ص 140.
494
ولقد كنت كأنك شاهدتني وما خفي عليك شئ من أمري، وكأنه علم الغيب
عندك، يا غلام لقني الاسلام. فقال الحسن (عليه السلام): الله أكبر قل: أشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له وأشهد وأن محمدا عبده ورسوله. فأسلم وحسن إسلامه، وعلمه
رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئا من القرآن. فقال: يا رسول الله أرجع إلى قومي فأعرفهم ذلك.
فأذن له، فانصرف، ورجع ومعه جماعة من قومه فدخلوا في الاسلام.
فكان الناس إذا نظروا إلى الحسن (عليه السلام) قالوا: لقد أعطي ما لم يعط أحد من
الناس (1).
وقيل: جرى بين الحسن بن علي وأخيه محمد بن الحنفية (عليهم السلام) كلام ثم
انصرفا، فلما وصل محمد إلى منزله أخذ رقعة وكتب فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد بن علي بن أبي طالب إلى أخيه الحسن بن
علي بن أبي طالب. أما بعد فإن لك شرفا لا أبلغه وفضلا لا أدركه، فإذا قرأت
رقعتي هذه فصر إلي فترضني، وإياك أن أسبقك إلى الفضل الذي أنت أولى به
مني والسلام.
فلما قرأ الحسن (عليه السلام) الرقعة قال: يا غلام ردائي ونعلي، ثم جاء إلى أخيه
فترضاه وصالحه.
قال: وكان بين الحسن والحسين (عليهما السلام) كلام، فقيل للحسين (عليه السلام): لو أتيت
أخاك متفضلا. فقال: إن الفضل للمبتدئ بالتفضل، ولست أرى أن يكون لي على
أخي فضل. فبلغ ذلك الحسن فأتاه.
وقيل: سأل رجل الحسن بن علي (عليهما السلام) حاجة، فقال له: يا هذا حق سؤالك
إياي يعظم لدي، ومعرفتي بما يجب لك يكبر علي، ويدي تعجز عن نيلك ما أنت
أهله، والكثير في ذات الله تعالى قليل، وما في ملكي وفاء لشكرك، فإن قبلت
الميسور ورفعت عني مؤنة الاحتيال والاهتمام لما أتكلف من واجبك فعلت. قال:
يا بن رسول الله أقبل القليل وأشكر العطية واعذر [على] المنع.



(1) بحار الأنوار: ج 43 ص 333 باب 16 ح 5 نقلا عن كتاب العدد.
495
فدعا الحسن (عليه السلام) بوكيله وجعل يحاسبه على نفقاته حتى استقصاها فكانت
ثلاثمائة ألف درهم، ثم قال له: هات الفاضل عن الثلاثمائة ألف: فأحضر خمسين
ألفا. ثم قال: فما فعلت بالخمسمائة دينار؟ قال: هي عندي. قال: فأحضرها.
فأحضرها، ودفع الدراهم والدنانير إلى الرجل وقال: هات من يحملها. فأتاه
بحمالين، فدفع إليهما الحسن (عليه السلام) رداءه باجرة الحمل.
فقال له مواليه: والله ما بقي عندنا درهم. فقال: لكني أرجو أن يكون لي عند
الله أجر عظيم (1).
وقيل: إن الحسن بن علي (عليهما السلام) كان يخرج كل ليلة إذا انتصف الليل حتى يأتي
المسجد فيصلي ويدعو ويتضرع إلى الله تعالى، فتبعه بعض شيعته ليلة من الليالي،
قال: فلما بلغ الحسن (عليه السلام) باب المسجد رمى بطرفه نحو السماء ثم قال: اللهم
غلقت الملوك أبوابها، وقام عليها حراسها، وبابك مفتوح لمن دعاك. ثم دخل
المسجد وصلى ركعتين، ورفع رأسه إلى السماء وقال:
يا ذا المعالي عليك معتمدي * طوبى لمن كنت أنت مولاه
طوبى لمن كان خائفا وجلا * يشكو إلى ذي الجلال بلواه
وما به علة ولا سقم * أكثر من حبه لمولاه
إذا خلا في الظلام مبتهلا * أكرمه الله ثم أدناه
إذا شكا بثه وحاجته * أجابه الله ثم لباه
قال: فسمع صوتا وهو يقول:
سلني عبدي وأنت في كنفي * فكلما قلت قد علمناه
صوتك تشتاقه ملائكتي * فحسبك الصوت قد سمعناه
لو هبت الريح من جوانبه * خر صريعا لما تغشاه
دعاءك عبدي (2) في حجبي * وذنبك اليوم قد غفرناه
وقال سليم بن قيس الهلالي: سمعت عبد الله بن جعفر يقول: قال لي معاوية:



(1) كشف الغمة: ج 1 ص 558 - 559.
(2) كلمة غير مقروءة.
496
ما أكثر تعظيمك للحسن والحسين وما هما (1) بخير منك، ولا أبوهما خير من أبيك،
ولولا أن أمهما فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) لقلت ما أمك أسماء بنت عميس
بدون منها؟
قال: فغضبت من مقالته وأخذني مالا أملك معه نفسي فقلت: إنك لقليل المعرفة
بهما وبأبيهما وأمهما، والله لهما خير مني وأبوهما خير من أبي، وأمهما خير من أمي،
ولقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول فيهما وفي أبيهما وأنا غلام فحفظته منه ووعيته.
فقال معاوية وليس في المجلس غير الحسن والحسين (عليهما السلام) وأنا وابن عباس
وأخوه الفضل (رضي الله عنه): هات ما سمعت فوالله ما أنت بكذاب. قلت له: إنه أعظم مما في
نفسك. قال: ولئن كان أعظم من أحد وحراء ما لم يكن أحد من أهل الشام فاذكره،
وأما إذ قتل الله طاغيتكم وفرق جمعكم وصار الأمر في أهله ما نبالي ما قلتم ولا
يضرنا ما ادعيتم. قلت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: أنا أولى بالمؤمنين من
أنفسهم، فمن كنت أولى به من نفسه (2) - وعلي بين يديه (عليهما السلام) والحسن والحسين
وعمرو بن أم سلمة وأسامة بن زيد وفي البيت فاطمة وأم أيمن وأبو ذر والمقداد
والزبير بن العوام - وضرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) على عضد علي وأعادها ثلاثا ثم نص
بالإمامة على الأئمة تمام الاثنى عشر (عليهم السلام). ثم قال: لامتي اثنا عشر إمام ضلالة
كلهم ضال مضل، عشرة من بني أمية ورجلان من قريش، وزر جميع الاثنى عشر
وما أضلوا في أعناقهما، ثم سماهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسمى العشرة معهما. قال:
فسم لنا. فقلت: فلان وفلان وصاحب السلسلة وابنه من آل أبي سفيان وسبعة من
ولد الحكم بن أبي العاص أولهم مروان. فقال معاوية: لئن كان ما قلت حقا لقد
هلكت وهلك الثلاثة قبلي ومن تولاهم من هذه الأمة، ولقد هلك أصحاب
رسول الله (صلى الله عليه وآله) من المهاجرين والأنصار والتابعين غيركم أهل البيت وشيعتكم.
قلت: فإن الذي قلته والله حق سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقال معاوية: للحسن



(1) في الأصل: " هو ".
(2) لا يخفى أن في العبارة نقص يختل المعنى بدونها وتقديرها: فهذا أولى به من نفسه.
497
والحسين وابن عباس: أحق ما يقول ابن جعفر؟ قال ابن عباس وكان معاوية
بالمدينة أول سنة اجتمع عليه الناس بعد قتل علي (عليه السلام): أرسل إلى الذين قد سماهم
عبد الله. فأرسل إلى عمرو بن أم سلمة ومن معه جميعا فشهدوا أن الذي قال ابن
جعفر قد سمعوه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما سمعه ابن جعفر. ثم أقبل معاوية على
الحسن والحسين وابن عباس والفضل وابن أم سلمة فقال لهم: كلكم على ما قال
ابن جعفر؟ قالوا: نعم. فقال معاوية: فإنكم يا بني عبد المطلب تدعون أمرا عظيما
وتحتجون بحجة قوية وإنكم تصرون على أمر وتسترونه والناس في غفلة وغمار،
لئن كان ما تقولون حقا لقد هلكت الأمة ورجعت عن دينها وكفرت بربها وجحدت
نبيها إلا أنتم أهل البيت ومن قال بقولكم، وأولئك قليل في الناس.
فأقبل ابن عباس رضي الله عنهما على معاوية وقال: قال الله تعالى: * (وقليل
من عبادي الشكور) * (1) وقال: * (وقليل ما هم) * (2) وما تعجب منا يا معاوية أعجب
من بني إسرائيل ان السحرة قالوا لفرعون * (فاقض ما أنت قاض) * (3) وآمنوا
بموسى (عليه السلام) وصدقوه، ثم سار بهم وبمن اتبعهم من بني إسرائيل فأقطعهم البحر
وأراهم العجائب وهم مصدقون بموسى والتوراة يقرون له بدينه، ثم مروا بأصنام
تعبد فقالوا: * (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون) * (4) وعكفوا على
العجل غير هارون * (فقالوا: هذا إلهكم وإله موسى) * (5) وبعد ذلك دخلوا الأرض
المقدسة فكان من جوابهم ما قص الله عنهم، فقال موسى * (رب إني لا أملك إلا
نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) * (6) فأما اتباع هذه الأمة رجالا
سودوهم وأطاعوهم لهم سوابق مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومنازل قريبة منه، واظهار
مقرون بدين محمد وبالقرآن، حملهم الكبر والحسد أن خالفوا إمامهم ووليهم.
يا عجبا من قوم صاغوا من حليهم عجلا عكفوا عليه يعبدونه ويسجدون له



(1) سبأ: 13.
(2) ص: 24.
(3) طه: 72.
(4) الأعراف: 138.
(5) طه: 88.
(6) المائدة: 25.
498
ويزعمون أنه رب العالمين غير هارون وحده، وقد بقي مع صاحبنا - الذي هو من
نبينا بمنزلة هارون من موسى - أناس منهم سلمان وأبو ذر والمقداد والزبير، ثم
رجع الزبير وثبت هؤلاء الثلاثة مع إمامهم حتى لقوا الله. وتعجب يا معاوية من
الأمة واحدا بعد واحد وقد نص عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) بغدير خم وفي غير موطن
وأمر بطاعتهم وأخبر أن أولهم علي بن أبي طالب ولي كل مؤمن ومؤمنة من بعده
وأنه خليفته فيهم ووصيه، وقد بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جيشا يوم مؤتة فقال:
عليكم بجعفر، فإن هلك فزيد، فإن هلك فعبد الله بن رواحة، فقتلوا جميعا، وتراه
ترك الأمة جميعا ولم يبين لهم الخليفة من بعده ليختاروا هم لأنفسهم الخليفة، كأن
رأيهم لأنفسهم أهدى لهم وأشد من رأيه واختياره! وما ركب القوم ما ركبوا إلا بعد
ما بينه لهم ولم يتركهم في غماء ولا في شبهة. فأما ما قال الرهط الأربعة الذين
تظاهروا على علي (عليه السلام) وكذبوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " إن الله تعالى لا
يجمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة " فقد لبسوا على الناس بشهادتهم بكذبهم
ومكرهم. قال معاوية: ما تقول يا حسن؟ فقال: يا معاوية قد سمعت ما قال ابن
عباس، ثم العجب منك يا معاوية ومن قلة حياءك ومن جرأتك على الله حين قلت:
" قد قتل الله طاغيتكم ورد الأمر إلى معدنه " فأنت يا معاوية معدن الخلافة من
دوننا؟! ويل لك يا معاوية وللثلاثة الذين أجلسوك هذا المجلس وسنوا لك هذه
السنة، لأقولن كلاما ما أنت أهله ولكن أقول يسمع بنو أبي هؤلاء الذين حولي: إن
الناس قد اجتمعوا على أمور كثيرة ليس بينهم اختلاف فيها ولا تنازع ولا فرق
على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله عبده والصلوات الخمس والزكاة
المفروضة وصوم شهر رمضان وحج بيت الله الحرام ثم أشياء كثيرة لا تحصى ولا
يعدها إلا الله، واجتمعوا على تحريم الزنا والسرق والكذب والقطيعة والخيانة
وأشياء كثيرة من معاصي الله عز وجل، واختلفوا في سنة كبيرة - اقتتلوا فيها
وصاروا فيها فرقا يلعن بعضهم بعضا وهي الولاية ويبرأ بعضهم من بعض ويقتل
بعضهم بعضا - أنهم أحق بها وأولى إلا فرقة تتبع كتاب الله وسنة نبيه (عليه السلام)، فمن

499
أخذ بما عليه أهل القبلة الذي ليس فيه اختلاف ورد علم ما اختلفوا فيه إلى الله
سلم ونجا من النار وادخل الجنة، ومن وفقه الله ومن عليه واحتج عليه بأن نور
قلبه بمعرفة ولاة الأمر من أئمتهم ومعدن العلم أين هو فهو عند الله سعيد، وقد قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): " رحم الله امرء عرف حقا فقال، أو سكت فسلم ".
نحن نقول أهل البيت: إن الأئمة منا، وان الخلافة لا تصلح أن تكون إلا فينا،
وان الله جعلنا أهلها في كتابه وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله)، فإن العلم فينا ونحن أهله وهو عندنا
مجموع، وأنه لا يحدث شئ إلى يوم القيامة حتى أرش الخدش إلا وهو عندنا
مكتوب إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخط علي بن أبي طالب (عليه السلام) بيده وزعم قوم أنهم
أولى بذلك منا حتى أنت يا بن هند تدعي ذلك، وزعم كل صنف من مخالفينا من
أهل هذه القبلة أنهم معدن الخلافة والعلم دوننا فلنستعن بالله على من ظلمنا
وجحدنا حقنا وركب رقابنا وسن للناس علينا ما يحتج به مثلك، وحسبنا الله
ونعم الوكيل.
إنما الناس ثلاثة: مؤمن يعرف حقنا ومسلم لنا ومؤتم بنا فذاك ناج يحب الله
ورسوله، وناصب لنا العداوة يتبرأ منا ويلعننا ويستحل دماءنا ويجحد حقنا ويدين
لله بالبراءة منا فهذا كافر مشرك وإنما كفر وأشرك من حيث لا يعلم كما يسبوا الله
تعالى عدوا بغير علم، ورجل أخذ بما لم يختلف فيه ورد علم ما أشكل عليه إلى
الله مع ولايتنا والائتمام بنا ولا يعادينا ولا يعرف حقنا فنحن نرجوا أن يغفر الله له
ويدخله الجنة فهذا مسلم ضعيف.
وقال الحسين بن قيس: قال: قام الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) على
المنبر حين اجتمع الناس مع معاوية فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
أيها الناس إن معاوية زعم أني رأيته للخلافة أهلا ولم أر نفسي لها أهلا،
وكذب معاوية، أنا أولى الناس في كتاب الله عز وجل وعلى لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
اقسم بالله لو أن الناس بايعوني وأطاعوني ونصروني لأعطتهم السماء قطرها
والأرض بركتها ولما طمعت فيها يا معاوية، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " ما ولت

500
الأمة رجلا وفيهم من هو أعلم منه إلا لم يزل أمرهم في سفال حتى يرجعوا إلى
ملة عبدة العجل " فقد ترك بنو إسرائيل هارون وعكفوا على العجل وهم يعلمون
أن هارون خليفة موسى (عليهما السلام)، وقد تركت الأمة عليا (عليه السلام) وقد سمعوا رسول
الله (صلى الله عليه وآله) يقول لعلي (عليه السلام): " أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير النبوة فلا نبي
بعدي " وقد هرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من قومه وهو يدعوهم إلى الله تعالى حتى فر
إلى الغار، ولو وجد عليهم أعوانا ما هرب، ولو وجدت أعوانا ما بايعتك يا معاوية،
وقد جعل الله تعالى هارون في سعة حين استضعفوه وكادوا يقتلوه ولم يجد أعوانا
عليهم، وقد جعل الله النبي (صلى الله عليه وآله) في سعة حين فر من قريش ولم يجد أعوانا عليهم،
وكذلك أنا فإني في سعة من الله تعالى حين تركتني الأمة وبايعت غيري ولم أجد
أعوانا، وإنما هي الئيض. (1) والأمثال يتبع بعضها بعضا. أيها الناس إنكم لو التمستم
فيما بين المشرق والمغرب أن تجدوا ولد نبي غيري وغير أخي الحسين لن تجدوا (2).
سئل (عليه السلام) ماذا سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟
قال: سمعته يقول لرجل: دع ما يريبك إلى مالا يريبك، فإن الشر ريبة وإن
الخير طمأنينة (3).
وعقلت عنه (عليه السلام) أني بينما أنا أمشي إلى جنب جرن (4) من الصدقة، فتناولت
تمرة فألقيتها في فمي، فأدخل إصبعه فأخرجها بلعابها وقال: إنا آل محمد لا تحل
علينا صدقة (5).
وعقلت عنه الصلوات الخمس. وعلمني كلمات أقولهن عند انقضائهن وهي:
اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما



(1) وآض يئيض أي رجع (لسان العرب 7 / 116).
(2) أمالي الطوسي: ج 2 ص 174 نقلا بالمضمون.
(3) عوالي اللئالي: ج 1 ص 394 ح 40، وج 3 ص 330 ح 214 وليس فيهما عن الحسن (عليه السلام).
(4) جرن: موضع التمر الذي يجفف فيه (لسان العرب 13 / 87).
(5) تاريخ اليعقوبي: ج 1 ص 226، مسند أحمد بن حنبل: ج 1 ص 200.
501
أعطيت، وقنا شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت،
تباركت وتعاليت (1).
وقال أبو عبد الله الزبير بن بكار: المنهزمين الذين بالبصرة كان أبوهم بالمدينة
يشتم علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال له الحسن (عليه السلام): اسكت عن هذا وأعطيك داري
التي بالمصلى. فقال: نعم فهي دارهم اليوم بالمصلى. فترفض أولاده ليدفعوا ما كان
من أبيهم، فهم اليوم بالبصرة على ذلك.
$ الإمام المجتبى (عليه السلام) / معجزاته
فصل
في معجزات الحسن (عليه السلام)
روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: رأيت الحسن بن علي (عليهما السلام) وهو طفل
والطير تظله، ورأيته يدعو الطير فتجيبه.
وقال ثقيف البكاء: رأيت الحسن بن علي (عليهما السلام) عند منصرفه من معاوية وقد
دخل عليه حجر بن عدي فقال: السلام عليك يا مذل المؤمنين. فقال له: ما كنت
مذلهم، بل أنا معز المؤمنين، وإنما أردت البقيا عليهم. ثم ضرب برجله في
فسطاطه فأرانا في ظهر الكوفة وقد خرج إلى دمشق ومضى حتى رأينا عمرو بن
العاص بمصر ومعاوية بدمشق، فقال: لو شئت لنزعتهما ولكن هاه هاه مضى محمد
على منهاج وعلي على منهاج وأنا أخالفهما، لا يكون ذلك مني (2).
وحدث الأعمش بن مسروق، عن جابر، قال: قلت للحسن بن علي (عليهما السلام):
أحب أن تريني معجزة نتحدث بها عنك ونحن في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فضرب
برجله الأرض حتى أراني البحور وما يجري فيها من السفن، ثم أخرج منها سمكا
فأعطانيه فقلت لابني محمد: احمل إلى المنزل، فحمل وأكلنا منه ثلاثا (3).



(1) مسند أحمد بن حنبل: ج 1 ص 199.
(2) دلائل الإمامة: ص 64.
(3) دلائل الإمامة: ص 65.
502
وحدث إبراهيم بن كثير بن محمد بن جبرئيل الشيباني، قال: رأيت الحسن بن
علي (عليهما السلام) وقد استسقى ماء فأبطأ عليه الرسول، فاستخرج من سارية المسجد ماء
فشرب وسقى أصحابه. ثم قال: لو شئت لسقيتكم لبنا وعسلا. قلنا: فاسقنا. فسقانا
لبنا وعسلا من سارية مقابلة الروضة التي فيها قبر فاطمة (عليها السلام) (1).
وقال إبراهيم بن سعيد: سمعت محمد بن إسحاق يقول: كان الحسن
والحسين (عليهما السلام) طفلين يلعبان فرأيت الحسن وقد صاح بنخلة فأجابته بالتلبية،
وسعت إليه كما يسعى الولد إلى والده (2).
وحدث الأعمش عن كثير بن سلمة، قال: رأيت الحسن (عليه السلام) في حياة رسول
الله (صلى الله عليه وآله) وقد أخرج من صخرة عسلا ماذيا، فأتينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخبرناه. فقال:
أتنكرون لابني هذا أنه سيد وابن سيد يصلح الله به بين فئتين ويطيعه أهل السماء
في سمائهم وأهل الأرض في أرضهم (3).
وحدث مجاهد، عن الأشعث أنه قال: كنت مع الحسن بن علي (عليهما السلام) حين
حوصر عثمان في الدار، فأرسله أبوه ليدخل عليه الماء، فقال لي: يا أشعث الساعة
يدخل عليه من يقتله وأنه لا يمسي. فكان كذلك ما أمسى يومه ذلك (4).
وروى أبو أسامة زيد الشحام، عن أبي عبد الله، قال: خرج الحسن بن
علي (عليهما السلام) إلى مكة سنة من السنين فورمت قدماه، فقال له بعض مواليه: لو ركبت
لسكن عنك هذا الورم الذي برجليك فقال: كلا إذا أتينا المنزل يستقبلك أسود معه
دهن لهذا الورم فاشتره منه ولا تماكسه. فقال مولاه: بأبي أنت وأمي ليس قدامنا
منزل فيه أحد يبيع هذا الدواء. قال: بلى أنه أمامك دون المنزل، فسار أميالا فإذا
الأسود، فأتاه الغلام، فقال الأسود: يا غلام لمن تريد هذا الدهن؟ قال: للحسن بن
علي (عليهما السلام). فقال: انطلق بي إليه. فأخذ بيده حتى أدخله عليه، فقال: بأبي أنت وأمي
لم أعلم أنك تحتاج إليه، ولا أنه دواء لك، ولست آخذ له ثمنا إنما أنا مولاك،



(1) دلائل الإمامة: ص 66.
(2) دلائل الإمامة: ص 63.
(3) دلائل الإمامة: ص 64.
(4) دلائل الإمامة: ص 65.
503
ولكن ادع أن يرزقني ذكرا سويا يحبكم أهل البيت فإني خلفت امرأتي وقد
أخذها الطلق فقال: انطلق إلى منزلك فإن الله قد وهب لك ذكرا سويا وهو لنا شيعة.
فرجع الأسود من فوره فإذا أهله قد وضعت غلاما، فرجع إلى الحسن فأخبره
بذلك، ومسح الحسن رجليه بذلك الدهن فسكن ما به (1).
$ الإمام المجتبى (عليه السلام) / كلامه
فصل
في كلام الحسن (عليه السلام)
حدث عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، قال: حدثنا أحمد بن الفضل، قال:
حدثنا عيسى الهمداني، قال: حدثنا مسلم الثقفي: عن حية العرني، قال: طعن أقوام
من أهل الكوفة في الحسن بن علي (عليه السلام) فقالوا إنه لا يقوم بحجة. فبلغ ذلك أمير
المؤمنين (عليه السلام) فدعا الحسن (عليه السلام) فقال له: يا بن رسول الله إن أهل الكوفة قد قالوا
فيك مقالة أكرهها. قال: وما يقولون يا أمير المؤمنين؟ قال: يقولون إن الحسن بن
علي عي اللسان لا يقوم بحجة، فاعل هذه الأعواد وأخبر الناس. فقال: يا أمير
المؤمنين لا أستطيع الكلام وأنا أنظر إليك. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): إني متخلف
عنك فناد أن الصلاة جامعة، فاجتمع المسلمون، فصعد (عليه السلام) المنبر فخطب خطبة
بليغة وجيزة، فضج المسلمون بالبكاء ثم قال: أيها الناس اعقلوا عن ربكم، إن الله
عز وجل اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها
من بعض والله سميع عليم، فنحن الذرية من آدم، والأسرة من نوح، والصفوة من
إبراهيم، والسلالة من إسماعيل، والآل من محمد (صلى الله عليه وآله)، ونحن فيكم كالسماء
المرفوعة والأرض المدحوة، وكالشمس الضاحية، وكالشجرة الزيتونة لا شرقية
ولا غربية التي بورك زيتها، النبي أصلها، وعلي فرعها، ونحن والله ثمر تلك
الشجرة، فمن تعلق بغصن من أغصانها نجا، ومن تخلف عنا فإلى النار هوى.



(1) دلائل الإمامة: ص 68.
504
فقام أمير المؤمنين (عليه السلام) من أقصى الناس يسحب رداءه من خلفه حتى علا
المنبر مع الحسن (عليه السلام) فقبل بين عينيه ثم قال: يا بن رسول الله أثبت على القوم
حجتك، وأوجبت عليهم طاعتك، فويل لمن خالفك (1).
وقيل: سأل أمير المؤمنين (عليه السلام) ابنه الحسن (عليه السلام) فقال: يا بني ما العقل؟ قال:
حفظ قلبك ما استودعته. قال: فما الحزم؟ قال: أن تنتظر فرصتك وتعاجل ما
أمكنك. قال: فما المجد؟ قال: حمل المغارم وإيتاء المكارم. قال: فما السماحة؟
قال: إجابة السائل وبذل النائل. قال: فما الشح؟ قال: أن ترى القليل سرفا وما
أنفقت تلفا. قال: فما الرقة؟ قال: طلب اليسير ومنع الحقير. قال: فما الكلفة؟ قال:
التمسك بمن لا يؤاتيك والنظر فيما لا يعنيك. قال: فما الجهل؟ قال: سرعة الوثوب
على الفرصة قبل الاستمكان منها، والامتناع عن الجواب، ونعم العون الصمت في
مواطن كثيرة وإن كنت فصيحا (2).
وقال (عليه السلام): ما فتح الله عز وجل على أحد باب مسألة فخزن عنه باب الإجابة،
ولا فتح لعبد باب عمل فخزن عنه باب القبول، ولا فتح لعبد باب شكر فخزن عنه
باب المزيد (3).
وقال (عليه السلام): إن الله تعالى أدب نبيه (صلى الله عليه وآله) أحسن الأدب فقال: * (خذ العفو وأمر
بالعرف وأعرض عن الجاهلين) * (4) فلما وعى الذي أمره قال تعالى: * (ما آتاكم
الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) * (5).
فقال لجبرائيل (عليه السلام): وما العفو؟
قال: أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك، وتعف عمن ظلمك. فلما فعل



(1) بحار الأنوار: ج 43 ص 358 باب 17 من تاريخ الإمام الحسن (عليه السلام) ح 37 نقلا عن كتاب
العدد (مخطوط).
(2) معاني الأخبار: ص 401 باب نوادر المعاني ح 62.
(3) بحار الأنوار: ج 78 ص 113 باب 19 ح 7 نقلا عن كتاب العدد (مخطوط).
(4) الأعراف: 199.
(5) الحشر: 7.
505
ذلك أوحى الله تعالى له: * (إنك لعلى خلق عظيم) * (1) (2).
وقال الحارث الأعور: إن عليا (عليه السلام) سأل ابنه الحسن (عليه السلام) عن أشياء من أمر
المروة. فقال: يا بني ما السداد؟ قال: السداد دفع المنكر بالمعروف. قال: فما
الشرف؟ قال: اصطناع العشيرة (3) وحمل الجريرة (4). قال: فما المروة؟ قال: العفاف
وإصلاح المرء حاله. قال: فما الرقة؟ قال: النظر في اليسير ومنع الحقير. قال: فما
اللؤم (5)؟ قال: إحراز المرء نفسه وبذل عرسه. قال: فما السماحة؟ قال: البذل في
اليسر والعسر. قال: فما الشح؟ قال: أن ترى ما في يدك سرفا وما أنفقته تلفا. قال:
فما الإخاء؟ قال: الوفاء في الشدة والرخاء. قال: فما الجبن؟ قال: الجرأة على
الصديق والنكول عن العدو. قال: فما الغنيمة؟ قال: المرغبة في التقوى والزهادة
في الدنيا هي الغنيمة الباردة. قال: فما الحلم؟ قال: كظم الغيظ وملك النفس. قال:
فما الغنى؟ قال: رضى النفس بما قسم الله عز وجل لها وإن قل. فإنما الغنى غنى
النفس. قال: فما الفقر؟ قال: شره النفس في كل شئ. قال: فما المنعة (6)؟ قال: شدة
البأس ومنازعة أشد الناس. قال: فما الذل؟ قال: الفزع عند الصدوقة (7). قال: فما
الجرأة؟ قال: موافقة الأقران قال: فما الكلفة؟ قال: كلامك فيما لا يعنيك. قال: فما
المجد؟ قال: تعطي في العدم وأن تعفو عن الجرم. قال: فما العقل؟ قال: حفظ القلب
كلما استرعيته. قال: فما الخرق؟ قال: معاداتك لإمامك ورفعك عليه كلامك. قال:
فما السناء (8)؟ قال: إتيان الجميل وترك القبيح قال: فما الحزم؟ قال: طول الأناة،
والرفق بالولاة، والاحتراس من الناس بسوء الظن هي الحزم. قال: فما السترة (9)؟
قال: مرافقة الإخوان، وحفظ الجيران. قال: فما السفه؟ قال: اتباع الدناءة



(1) القلم: 4.
(2) بحار الأنوار: ج 78 ص 114 باب 19 ح 10 نقلا عن كتاب العدد.
(3) اصطناع العشيرة: الإحسان إليهم.
(4) الجريرة: الذنب والجناية.
(5) اللؤم: مصدر من لؤم الرجل لؤما وملامة: ومن كان دني الأصل شحيح النفس فهو لئيم.
(6) المنعة: العز والقوة.
(7) المصدوقة خ ل. والمصدوقة: الصدق.
(8) السناء: الرفعة.
(9) كذا، وفي تحف العقول: فما الشرف.
506
ومصاحبة الغواة. قال: فما الغفلة؟ قال: تركك المسجد وطاعتك المفسد. قال:
فما الحرمان؟ قال: تركك حظك وقد عرض عليك قال: فما السيد (1)؟ قال: السيد
الأحمق في ماله المتهاون في عرضه، يشتم فلا يجيب، المتحزم بأمر عشيرته هو
السيد (2).
قال: ثم قال علي (عليه السلام): يا بني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: لا فقر أشد من
الجهل، ولا مال أعود من العقل، ولا وحدة أوحش من العجب، ولا مظاهرة أوثق
من المشاورة، ولا عقل كالتدبير، ولا حسب كحسن الخلق، ولا ورع كالكف عن
محارم الله، ولا عبادة كالتفكر، ولا إيمان كالحياء والصبر، آفة الحديث الكذب،
وآفة العلم النسيان، وآفة الحلم السفه، وآفة العبادة الفترة، وآفة الظرف الصلف (3)،
وآفة الشجاعة البغي، وآفة السماحة المن، وآفة الجمال الخيلاء، وآفة الحسب
الفخر (4).
يا بني لا تستخفن برجل تراه أبدا، فإن كان أكبر منك فعد أنه أبوك، وإن كان
مثلك فهو أخوك، وإن كان أصغر منك فاحسب أنه ابنك والسلام.
وحدث أبو الطفيل عامر بن واثلة، قال: خطبنا الحسن بن علي (عليهما السلام) بعد وفاة
أمير المؤمنين (عليه السلام) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: من عرفني فقد عرفني، ومن لم
يعرفني فأنا الحسن بن محمد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم تلا: * (واتبعت ملة آبائي إبراهيم
وإسحاق ويعقوب) * (5) ثم أخذ في كتاب الله عز وجل ثم قال: أيها الناس أنا ابن
البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه، أنا ابن السراج المنير، أنا ابن
الذي أرسله الله تعالى رحمة للعالمين، أنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم
الرجس وطهرهم تطهيرا، أنا من أهل البيت الذي كان جبرائيل ينزل فيهم ويعرج



(1) كذا، وفي تحف العقول: ما السفاه؟ قال: الأحمق في ماله المتهاون في عرضه.
(2) تحف العقول: ص 225 مع اختلاف وتقديم وتأخير.
(3) الظرف - بفتح الظاء المعجمة وكسر الراء ككتف - أي البليغ. والصلف - بفتح الصاد واللام -
هو الغلو في الظرف والزيادة على المقدار مع تكبر.
(4) إلى هنا في تحف العقول: ص 6.
(5) يوسف: 38.
507
منهم، أنا من أهل البيت الذين افترض الله عز وجل ولايتهم ومودتهم فقال عز
وجل فيما انزل على محمد (صلى الله عليه وآله): * (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى
ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا) * (1) فالحسنة مودتنا أهل البيت. ثم جلس (2).
وكتب الحسن بن علي (عليهما السلام) إلى معاوية: أما بعد فإنك دسست الرجال
للاحتيال والاغتيال، وأرصدت العيون كأنك تحب اللقاء، وما أوشك ذلك، فتوقعه
إن شاء الله تعالى، وبلغني أنك تشمت بما لا يشمت به ذوو الحجى، وإنما مثلك في
ذلك كما قال الأول:
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى * تجهز لأخرى مثلها فكان قد
فإنا ومن قد مات منا لكالذي * يروح ويمسي في المبيت ويغتدي (3).
كتب الحسن البصري إلى الحسن بن علي (عليهما السلام): أما بعد فأنتم أهل بيت النبوة،
ومعدن الحكمة، وأن الله تعالى جعلكم الفلك الجارية في اللجج الغامرة، يلجأ
إليكم اللاجئ، ويعتصم بحبلكم القالي، من اقتدى بكم اهتدى ونجا، ومن تخلف
عنكم هلك وغوى، وأني كتبت إليك عند الحيرة واختلاف من الأمة في القدر،
فتقضي إلينا ما أقضاه الله إليكم أهل البيت فنأخذ به.
فكتب إليه الحسن بن علي (عليهما السلام): أما بعد فإنا أهل بيت كما ذكرت عند الله
وعند أوليائه، فأما عندك وعند أصحابك فلو كنا كما ذكرت ما تقدمتمونا
ولا استبدلتم بنا غيرنا، ولعمري لقد ضرب الله مثلكم في كتابه حيث يقول:
* (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) * (4) هذا لأولئك فيما سألوا ولكم فيما
استبدلتم، ولولا ما أريده من الاحتجاج عليك وعلى أصحابك ما كتبت إليك
بشئ مما نحن عليه، ولئن وصل كتابي إليك لتجدن الحجة عليك وعلى أصحابك
مؤكدة حيث يقول الله عز وجل: * (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن
لا يهدي إلا أن يهدى فمالكم كيف تحكمون) * (5) فاتبع ما كتبت إليك في القدر،



(1) الشورى: 23.
(2) تفسير فرات: ص 72.
(3) الإرشاد: ص 188 - 189.
(4) البقرة: 61.
(5) يونس: 35.
508
فإنه من لم يؤمن بالقدر خيره وشره فقد كفر، ومن حمل المعاصي على الله فقد
فجر، إن الله عز وجل لا يطاع بإكراه، ولا يعصى بغلبة، ولا يهمل العباد من الملكة،
ولكنه المالك لما ملكهم، والقادر على ما أقدرهم، فإن ائتمروا بالطاعة لم يكن
عنهم صادا مثبطا، وإن ائتمروا بالمعصية فشاء أن يحول بينهم وبين ما ائتمروا به
فعل وإن لم يفعل فليس هو جبلهم عليها ولا كلفهم إياها جبرا، بل تمكينه إياهم
وإعذاره إليهم طرقهم ومكنهم، فجعل لهم السبيل إلى أخذ ما أمرهم وترك ما نهاهم
عنه، ووضع التكليف عن أهل النقصان والزمانة والسلام (1).
وقيل: لما فرغ علي (عليه السلام) من الجمل عرض له مرض وحضرت الجمعة فتأخر
عنها وقال لابنه الحسن (عليهما السلام): انطلق يا بني فجمع بالناس.
فأقبل الحسن (عليه السلام) إلى المسجد فلما استقل على المنبر حمد الله وأثنى عليه
وتشهد وصلى على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم قال: أيها الناس إن الله اختارنا بالنبوة،
واصطفانا على خلقه، وأنزل علينا كتابه ووحيه، وأيم الله لا ينتقصنا أحد من حقنا
شيئا إلا ينقصه الله في عاجل دنياه وآجل آخرته، ولا يكون علينا دولة إلا كانت
لنا العاقبة، ولتعلمن نبأه بعد حين (2).
قال محمد بن مسلم: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: كتب إلى الحسن بن علي (عليهما السلام)
قوم من أصحابه يعزونه عن ابنة له، فكتب إليهم: أما بعد فقد بلغني كتابكم تعزونني
بفلانة، فعند الله احتسبها تسليما بقضائه، وصبرا على بلائه، فإن أوجعتنا
المصائب (3)، وفجعتنا النوائب بالأحبة المألوفة التي كانت بنا حفية (4)، والإخوان
المحبين الذين كان يسر بهم الناظرون، وتقر بهم العيون، أضحوا قد اخترمتهم (5)



(1) بحار الأنوار: ج 10 ص 136 باب 9 ح 3 نقلا عن كتاب الغدد.
(2) أمالي الطوسي: ج 1 ص 80 - 81.
(3) فجعته المصيبة: أي أوجعته، وكذلك التفجع.
(4) الحفاوة: المبالغة في السؤال عن الرجل والعناية في أمره.
(5) اخترمهم الدهر: أي اقتطعهم واستأصلهم.
509
الأيام ونزل بهم الحمام (1)، فخلفوا الخلوف (2)، وأودت بهم الحتوف (3)، فهم صرعى
في عساكر الموتى، متجاورون في غير محلة (4) التجاور، ولا صلة بينهم ولا تزاور،
ولا يتلاقون عن قرب جوارهم (5)، وأجسامهم نائية من أهلها، خالية من أربابها،
قد أخشعها (6) إخوانها، فلم أر مثل دارها دارا، ولا مثل قرارها قرارا، في بيوت
موحشة، وحلول (7) مخضعة، قد صارت في تلك الديار الموحشة، وخرجت عن
الدار المؤنسة، فارقتها عن غير قلى (8)، فاستودعتها البلاء، فكانت أمة مملوكة،
سلكت سبيلا مسلوكة، صار إليها الأولون، وسيصير إليها الآخرون، والسلام (9).
وقال (عليه السلام) وقد خطب الناس بعد البيعة له بالأمر، فقال: نحن حزب الله
الغالبون، وعترة رسوله الأقربون، وأهل بيته الطيبون الطاهرون، وأحد الثقلين
$ الإمام المجتبى (عليه السلام) / وفاته
اللذين خلفهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أمته، والثاني كتاب الله فيه تفصيل كل شئ
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالمعول علينا في تفسيره لانتظنا (10)
تأويله بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا فإن طاعتنا مفروضة، إذ كانت بطاعة الله
ورسوله مقرونة، قال الله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول



(1) الحمام: بالكسر قدر الموت.
(2) الخلف: بالتحريك والسكون كل من يجئ بعد من مضى إلا أنه بالتحريك في الخير
وبالتسكين في الشر. والخلوف: جمع خلف.
(3) أودى به الموت: ذهب به. والحتوف: بالضم جمع الحتف وهو الموت.
(4) كذا، والظاهر: غير محل التجاور.
(5) " عن قرب جوارهم " لعلها للتعليل، أي لا يقع منهم الملاقاة الناشئة عن قرب الجوار، بل
أرواحهم يتزاورون بحسب درجاتهم وكمالاتهم.
(6) كذا في النسخة وفي أكثر نسخ المصدر، وهو لا يناسب المقام، وفي بعض نسخ البحار
بالجيم، والجشع: الجزع لفراق الأحبة.
(7) الحلول: بالضم جمع حال، من قولهم حل بالمكان أي نزل فيه.
(8) القلى: بالكسر البغض.
(9) أمالي الطوسي: ج 1 ص 205 المجلس السابع ح 47.
(10) لانتظرنا (خ ل).
510
وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) * (1) * (ولو ردوه
إلى الرسول وأولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) * (2) وأحذركم
الإصغاء لهتاف الشيطان فإنه لكم عدو مبين، ولا تكونوا كأوليائه الذين قال لهم:
* (لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على
عقبيه وقال إني برئ منكم إني أرى مالا ترون) * (3) فيلقون إلى الرماح وزرا،
وإلى السيوف جزرا، وللعمد حطما، وللسهام عرضا، ثم لا ينفع نفسا إيمانها لم
تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا (4).
فصل
في ذكر وفاة الحسن بن علي (عليهما السلام)
وكان سبب وفاته أن معاوية سمه مرارا فلم يعمل فيه السم، فأرسل إلى امرأته
جعدة ابنة محمد (5) بن الأشعث بن قيس الكندي وبذل لها عشرين ألف دينار
وإقطاع عشر ضياع من شعب سوراء وسواد الكوفة وضمن لها أن يزوجها يزيد
ابنه، فسقت الحسن (عليه السلام) السم في برادة الذهب في السويق المقند، فلما استحكم
فيه السم قاء كبده في الطشت.
ودخل عليه أخوه الحسين (عليهما السلام) فقال: كيف أنت يا أخي؟ فقال: كيف يكون
من قاء (6) كبده في الطشت، ولقد سقيت السم مرارا ما سقيته مثل هذه المرة. فقال له
أخوه الحسين (عليه السلام): ومن سقاكه؟ فقال: وما تريد منه؟ أتريد قتله؟! إن يك هو هو
فالله أشد نقمة منك، وإن لم يكن هو فما أحب أن يؤخذ بي برئ (7).



(1) النساء: 59.
(2) النساء: 83.
(3) الأنفال: 48.
(4) أمالي الطوسي: ج 1 ص 121 المجلس الخامس ح 1.
(5) كذا والمعروف بنت الأشعث.
(6) في الأصل: قلب.
(7) الإرشاد: ص 192.
511
قال: فلما حضرته الوفاة قال (عليه السلام) لأخيه الحسين (عليهما السلام): إذا قضيت فغمضني،
وغسلني، وكفني، واحملني على سريري إلى قبر جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأجدد به
عهدا، ثم ردني إلى قبر جدتي فاطمة بنت أسد رحمة الله عليها فادفني هناك،
وستعلم يا بن أم إن القوم يظنون أنكم تريدون دفني عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيجلبون
في منعكم عن ذلك، وبالله اقسم عليك أن تهرق في أمري محجمة دم (1).
ثم وصى (عليه السلام) إليه بأهله وولده وتركاته وبما كان وصى به أمير المؤمنين (عليه السلام)
حين استخلفه وأهله بالإمامة، ودل شيعته على استخلافه ونصبه لهم علما من بعده.
فلما مضى (عليه السلام) لسبيله غسله الحسين (عليه السلام) وكفنه وحمله على سريره ولم
يشك مروان بن الحكم طريد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأصحابه في أنه يريد دفنه عند
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فوافى مسرعا على بغلة حتى دخل على عائشة وقال لها: يا أم
المؤمنين إن الحسين يريد أن يدفن أخاه الحسن عند قبر جده، ولئن دفنه عنده
ليذهبن فخر أبيك وصاحبه إلى يوم القيامة. فقالت له: فما أصنع يا مروان؟ قال:
تلحقين به وتمنعينه من الدخول إليه. قالت: فكيف ألحقه؟ قال: هذا بغلي فاركبيه
والحقي القوم. فنزل لها عن بغله وركبته وأسرعت إلى القوم، وكانت أول امرأة
ركبت السرج هي، فلحقتهم وقد صاروا إلى حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فرمت بنفسها
بين القوم والقبر وقالت: والله لا يدفن الحسن هاهنا أو يحلق هذه وأخرجت
ناصيتها بيدها.
وكان مروان لما ركبت بغلته جمع كل من كان عنده من بني أمية وحشمهم
وأقبل هو وأصحابه وهو يقول: يا رب هيجاء هي خير من دعة، أيدفن عثمان
في أقصى البقيع ويدفن الحسن مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والله لا يكون ذلك أبدا وأنا
أحمل السلاح.
وكادت الفتنة تقع بين بني هاشم وبني أمية، وعائشة تقول: والله لا يدخل



(1) الخرائج والجرائح: ج 1 ص 242 ح 8.
512
داري من أكره. فقال لها الحسين (عليه السلام): هذه دار رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنت حشية من
تسع حشايا خلفهن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإنما نصيبك من الدار موضع قدميك. ثم بادر
ابن عباس رضي الله عنهما إلى مروان فقال: ارجع يا مروان من حيث جئت فإنا
ما نريد دفن صاحبنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) لكنا نريد أن يجدد به عهدا بزيارته ثم
نرده إلى جدته فاطمة بنت أسد فندفنه عندها بوصيته بذلك، ولو كان وصى بدفنه
مع النبي (صلى الله عليه وآله) لعلمت أنك أقصر باعا من ردنا عن ذلك، لكنه (عليه السلام) كان أعلم بالله
ورسوله وبحرمة قبره من أن يطرق عليه هدما كما طرق ذلك غيره ودخل بيته بغير
إذنه. ثم أقبل على عائشة فقال لها: وا سوءتاه يوما على بغل ويوما على جمل،
تريدين أن تطفئي نور الله وتقاتلي أولياء الله، إرجعي فقد كفيت الذي تخافين،
وبلغت الذي تحبين، والله تعالى منتصر لأهل هذا البيت ولو بعد حين.
قال الحسين (عليه السلام): والله لولا عهد الحسن إلي بحقن الدماء وأن لا أهرق في
أمره محجمة من دم لعلمتم كيف تأخذ سيوف الله منكم مأخذها، وقد نقضتم العهد
بيننا وبينكم، وأبطلتم ما اشترطنا عليكم لأنفسنا.
ومضوا بالحسن (عليه السلام) حتى دفنوه بالبقيع عند جدته فاطمة بنت أسد بن هاشم
بن عبد مناف رضي الله عنها (1).
وكانت مدة مرض الحسن (عليه السلام) أربعين يوما.
وقال الأعمش، عن سالم بن الجعد، قال: حدثني رجل منا، قال: أتيت
الحسن بن علي (عليهما السلام) فقلت له: يا بن رسول الله أذللت رقابنا وجعلتنا بعد الشيعة (2):
عبيدا ما بقي معك رجل. قال: ومم ذلك؟ قلت: بتسليمك الأمر لهذا الطاغية. قال:
والله ما سلمت الأمر إليه إلا لأني لم أجد ناصرا، ولو أجد ناصرا لقاتلته ليلي
ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه، ولكني عرفت أهل الكوفة وبلوتهم وأنه لا
يصلح منهم ما كان فاسدا وأنهم لا وفاء لهم ولا ذمة في قول ولا فعل، أنهم
لمختلفون، وتقولون لنا إن قلوبهم معنا وإن سيوفهم لمشهورة علينا.



(1) الإرشاد: ص 192 - 193.
(2) كذا، وفي الاحتجاج: معشر الشيعة.
513
قال: وهم أن يكلمني إذ تنخع الدم، فدعا بطشت فحمل بين يديه وهو ملآن
مما خرج من جوفه من الدم. فقلت له: ما هذا يا بن رسول الله إني أراك وجعا؟
قال: أجل دس علي هذا الطاغية من سقاني سما، وقد وقع على كبدي فهي تخرج
قطعا كما ترى. فقلت: ألا تتداوى له؟ فقال: قد سقاني مرتين وهذه الثالثة لا أجد
لها دواء، ولقد أومأ إلي أنه أرسل إلى ملك الروم يسأله أن يوجه له من السم القاتل
شربة. فكتب إليه أنه لا يسوغ لنا في ديننا أن نعين على قتل من لا يقاتلنا. فكتب
إليه: إن ابن الرجل الذي خرج بأرض تهامة قد خرج بطلب ملك أبيه وأنا أريد أن
أدس عليه من يسقيه ذلك فأريح العباد والبلاد منه. ووجه إليه بهدايا وألطاف.
فوجه إليه ملك الروم بهذه الشربة التي دس بها فسقيتها (1).
وروي أن قثم بن عباس رضي الله عنهما وفد على معاوية فأطال عنده
المكث، ثم دخل عليه يوما فرأى وجه معاوية يتهلل بالسرور والبشرى ووجوه
أهله وهو ظاهر عليهم، فلما جلس ابن عباس رضي الله عنهما قال له معاوية:
أتدري يا بن عباس ما حدث في أهلك؟ قال: الله العالم غير أني أرى السرور في
وجهك ووجوه جلسائك وأهلك، فما هو؟ فقال: مات الحسن بن علي فقال له ابن
عباس: ما زاد ما نقص من أجله في عمرك، ولا سد حفرتك، ولقد رزيناه بأعظم
رزية بالنبي (صلى الله عليه وآله) فما ضيعنا الله بعده، ووالله لا دخلت المدينة بعده أبدا. وقام
فخرج كئيبا محزونا. ثم دخل بعد ذلك إلى معاوية فقال له: تدري ما حدث في
أهلك. قال: الله أعلم.
$ الإمام المجتبى (عليه السلام) / زوجاته وولده
قال: مات أسامة. فنهض من عنده وهو يقول:
أصبح اليوم ابن هند شامتا * يظهر الفرحة إذ مات الحسن
لست بالباقي فلا تشمت به * كل حي للمنايا مرتهن
سوف يبدو في الموازين غدا * منكم من فاز منها بالغين



(1) الاحتجاج: ص 291 - 292.
514
رحم الله عليا انه * طالما أشجى ابن هند وأرن (1).
فاربع اليوم ابن هند انما * انما نغمض بالعين السمن
ثم أتى منزله وقال: والله لئن جلست لهذا المنافق لينعى إلي في كل يوم رجلا
من أهلي وأهل بيتي ويظهر شماتته، ثم استأذن في الانصراف، فأحضره معاوية
وأكرمه وقربه وأجلسه معه على السرير وقضى حوائجه وأحسن جائزته وصلته
وألحقه بأهله. وكانت وفاته سنة تسع وأربعين.
[صفة الحسن (عليه السلام)]:
وحدث عن أحمد بن محمد بن أيوب المغيري أنه قال: كان الحسن (عليه السلام)
أبيض مشربا حمرة، أدعج العينين (2)، سهل الخدين، دقيق المسربة (3)، كث اللحية،
ذا وفرة، وكأن عنقه إبريق فضة، عظيم الكراديس (4)، بعيد ما بين المنكبين، ربعة
ليس بالطويل ولا القصير، مليحا، من أحسن الناس وجها، وكان يخضب بالسواد،
جعر الشعر، حسن البدن. وتوفي وهو ابن خمس وأربعين سنة (5).
فصل
في ذكر زوجاته وولده (عليه السلام)
روي أنه (عليه السلام) تزوج سبعين حرة، وملك مائة وستين أمة في سائر عمره (6).
وأما أولاده عليه وعليهم السلام فهم خمسة عشر ولدا ذكرا وأنثى.
منهم: زيد بن الحسن، وأختاه أم الحسن وأم الحسين، أمهم أم بشير بنت



(1) أرن فلان لكذا: ألهاه (لسان العرب 13 / 187).
(2) الدعج: شدة السواد مع سعتها.
(3) المسربة: بضم الراء الشعر المستدق الذي يأخذ من الصدر إلى السرة.
(4) الكردوس: كل عظمين التقيا في مفصل مثل المنكبين والركبتين.
(5) كشف الغمة: ج 1 ص 525.
(6) بحار الأنوار: ج 44 ص 173 باب 23 ح 10 نقلا عن كتاب العدد.
515
أبي مسعود عقبة بن عمرو بن ثعلبة الخزرجية.
والحسن بن الحسن، أمه خولة بنت منظور بن زيان الفزارية.
وعمرو بن الحسن، وأخواه القاسم وعبد الله ابنا الحسن، أمهم أم ولد.
وعبد الرحمن بن الحسن، أمه أم ولد.
والحسين بن الحسن الملقب بالأثرم لام ولد، وأخوه طلحة بن الحسن،
وأختهما فاطمة بنت الحسن، أمهم أم إسحاق بنت طلحة بن عبد الله التيمي.
وأم عبد الله وفاطمة وأم سلمة ورقية بنات الحسن (عليهم السلام) لأمهات أولاد شتى.
فصل
في ذكر زيد بن الحسن (عليه السلام)
أما زيد فكان جليل القدر، كريم الطبع، كثير البر، مدحه الشعراء، وقصده
الناس من الآفاق لطلب فضله.
وذكر أصحاب السير أن زيد بن الحسن كان يلي صدقات رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
فلما ولي سليمان بن عبد الملك كتب إلى عامله بالمدينة: أما بعد فإذا جاءك كتابي
هذا فاعزل زيدا عن صدقات رسول الله (صلى الله عليه وآله) وادفعها إلى فلان بن فلان - رجلا
من قومه - وأعنه على ما استعانك عليه، والسلام.
فلما استخلف عمر بن عبد العزيز إذا كتاب قد جاء منه: أما بعد فإن زيد بن
الحسن شريف بني هاشم وذو سنهم فإذا جاءك كتابي هذا فاردد إليه صدقات
رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأعنه على ما استعانك عليه، والسلام (1).
$ الإمام المجتبى (عليه السلام) / حسن بن الحسن
وفي زيد بن الحسن يقول محمد بن بشير الخارجي:
إذا نزل ابن المصطفى بطن تلعة * نفى جدبها واخضر بالنبت عودها
وزيد ربيع الناس في كل شتوة * إذا أخلفت أنواؤها ورعودها



(1) الإرشاد: ص 194.
516
حمول لأشناق الديات (1) كأنه * سراج الدجى إذ قارنتها سعودها (2)
ومات زيد بن الحسن وله تسعون سنة. ورثاه جماعة من الشعراء وذكروا
مآثره وبكوا فضله، فممن رثاه قدامة بن موسى الجمحي حيث يقول:
فإن يك زيد غالت الأرض شخصه * فقد بان معروف هناك وجود
وأن يك أمسى رهن رمس فقد ثوى * به، وهو محمود الفعال فقيد
سميع إلى المعتر يعلم أنه * سيطلبه المعروف ثم يعود
وليس بقوال وقد حط رحله * لملتمس المعروف أين تريد
إذا قصر الوعد الدني نمى به * إلى المجد آباء له وجدود
مناكيد (3) للمولى محاشيد للقرى * وفي الروع عند النائبات اسود
إذا انتحل العز الطريف فإنهم * لهم إرث مجد ما يرام تليد
إذا مات منهم سيد قام سيد * كريم يبني بعده ويشيد (4)
والعقب من ولد زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) من رجل واحد
وهو الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام).
والعقب من ولد الحسن بن زيد بن الحسن في سبعة رجال، أسماؤهم:
القاسم بن الحسن بن زيد، وعلي بن الحسن بن زيد، وإسماعيل بن الحسن بن زيد،
وإبراهيم بن الحسن بن زيد، وزيد بن الحسن بن زيد، وعبد الله بن الحسن بن زيد،
وإسحاق بن الحسن بن زيد.
فصل
في ذكر الحسن بن الحسن
وأما الحسن بن الحسن فكان جليلا رئيسا فاضلا ورعا، وكان يلي صدقات



(1) قال الجوهري: الشنق: ما دون الدية وذلك أن يسوق ذو الحمالة الدية كامله، فإذا كانت معها
ديات جراحات فتلك هي الأشناق كأنها متعلقة بالدية العظمى.
(2) الإرشاد: ص 195.
(3) في الإرشاد: مباذيل.
(4) الإرشاد: ص 195.
517
أمير المؤمنين (عليه السلام) في وقته.
روى الزبير بن بكار قال: كان الحسن بن الحسن واليا صدقات أمير
المؤمنين (عليه السلام)، فسائر يوما الحجاج في موكبه وهو إذ ذاك أمير المدينة فقال له
الحجاج: أدخل عمر بن علي معك في صدقات أبيه فإنه عمك وبقية أهلك. فقال له
الحسن: لا أغير شرط علي ولا ادخل فيه من لم يدخله. فقال الحجاج: إذا ادخله
أنا معك. فنكص الحسن بن الحسن عنه، ثم توجه إلى عبد الملك حتى قدم عليه
فوقف ببابه يطلب الإذن، فمر به يحيى بن أم الحكم، فلما رآه يحيى مال إليه وسلم
عليه وسأله عن مقدمه، فخبره، فقال له: إني سأنفعك عند أمير المؤمنين - يعني
عبد الملك -.
فلما دخل الحسن بن الحسن على عبد الملك رحب به وأحسن مسائلته،
وكان الحسن قد أسرع إليه الشيب ويحيى بن أم الحكم في المجلس، فقال عبد
الملك: لقد أسرع إليك الشيب يا أبا محمد. فقال يحيي: وما يمنعه من شيبه أماني
أهل العراق تفد عليه يمنونه الخلافة. فأقبل عليه الحسن بن الحسن وقال له: بئس
والله الرفد رفدت، ليس كما قلت، ولكنا أهل بيت يسرع إلينا الشيب. وعبد الملك
يسمع، فأقبل عليه وقال: هلم ما قدمت له. فأخبره بقول الحجاج.
فقال: له ليس ذلك أكتب إليه كتابا لا يجاوره. فكتب إليه ووصل الحسن بن
الحسن فأحسن صلته.
فلما خرج من عنده لقيه يحيى بن أم الحكم فعاتبه الحسن على سوء محضره
وقال له: ما هذا الذي وعدتني به؟
فقال له يحيى: إيها عنك، فوالله إنه لا يزال يهابك، ولولا هيبتك ما قضى لك
حاجة، وما أنا لك رفدا (1).
وكان الحسن بن الحسن مع عمه الحسين بن علي (عليهم السلام) يوم الطف، فلما قتل
الحسين (عليه السلام) واسر الباقون من أهله جاءه أسماء بن خارجة فانتزعه من بين



(1) الإرشاد: ص 196.
518
الأسارى وقال: والله لا يوصل إلى ابن خولة أبدا.
فقال عمر بن سعد: دعوا لأبي حسان ابن أخته.
ويقال: أنه أسر وكان به جراح قد اشفي منها.
وروي أن الحسن بن الحسن خطب إلى عمه الحسين (عليهم السلام) إحدى ابنتيه، فقال
له الحسين (عليهم السلام): اختر يا بني أحبهما إليك. فاستحى الحسن ولم يحر جوابا. فقال
له الحسين (عليه السلام): فإني قد اخترت لك ابنتي فاطمة وهي أكثر شبها بأمي فاطمة بنت
محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) (1).
وقبض الحسن بن الحسن وله خمس وثلاثون سنة، وأخوه زيد بن الحسن
حي، ووصى إلى أخيه من أمه إبراهيم بن محمد بن طلحة.
ولما مات الحسن بن الحسن ضربت زوجته فاطمة بنت الحسين بن علي (عليهم السلام)
على قبره فسطاطا وكانت تقوم الليل وتصوم النهار، فلما كان رأس السنة قالت
لمواليها: إذا أظلم الليل قوضوا هذا الفسطاط فلما أظلم الليل سمعت قائلا يقول:
هل وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه آخر: بل يئسوا فانقلبوا (2).
وخلف الحسن بن الحسن: عبد الله والحسن المثلث وإبراهيم الغمر وأمهم
فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام)، ومحمدا وجعفرا وداود لام
ولد له.
وكان عبد الله بن الحسن بن الحسن مع أبي العباس السفاح، وكان مكرما له وله
به انس. وأخرج أبو العباس يوما سفط جوهر فقاسمه إياه وأراه بناء قد بناه وقال
له: كيف ترى هذا؟ فقال عبد الله:
ألم تر حوشبا أمسى يبني * قصورا نفعها لبني بقيلة (3)
يؤمل أن يعمر عمر نوح * وأمر الله يحدث كل ليلة
فقال له السفاح: تتمثل بهذا وقد رأيت صنعي بك.



(1) الإرشاد: ص 197.
(2) الإرشاد: ص 197.
(3) في المصدر: نفيلة.
519
قال: والله ما أردت سوء لكنها أبيات حضرت، فإن رأى أمير المؤمنين أن
يحتمل ما كان مني. قال: قد فعلت. ثم رده إلى المدينة (1).
فلما ولي أبو جعفر المنصور لح في طلب ابنيه محمد وإبراهيم ابني عبد الله
فتغيبا بالبادية، فأمر أبو جعفر أن يؤخذ أبوهما عبد الله وأخوته حسن وداود
وإبراهيم ويشدون وثاقا، وبعث بهم إليه فوافوه في طريق مكة بالربذة مكتفين،
فسأله عبد الله أن يأذن له عليه فأبى أبو جعفر ذلك، فلم يره حتى فارق الدنيا،
ومات في الحبس وماتوا.
وخرج ابناه محمد وإبراهيم وغلبا على المدينة ومكة والبصرة، فبعث إليهما
المنصور بعثا فقتل محمد بالمدينة، وقتل إبراهيم بعد ذلك بياخمرا على ستة عشر
فرسخا من الكوفة.
وإدريس بن عبد الله أخوهما هو الذي صار إلى الأندلس والبربر وغلب
عليهما، وكان معه أخوه سليمان بن عبد الله بن الحسن. وأمهما عاتكة بنت عبد
الملك بن الحارث بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم،
وعقبهما بالغرب.
والعقب من ولد عبد الله بن الحسن بن الحسن في ستة من: محمد بن عبد الله بن
الحسن بن الحسن النفس الزكية القتيل بالمدينة، وإبراهيم بن عبد الله قتيل بياخمرا،
وموسى الجون صاحب سويقة وأمهم هند بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة،
ويحيى صاحب الديلم مات في حبس الرشيد، وسليمان وإدريس عقبهما بالغرب.
والعقب من محمد النفس الزكية من رجل واحد وهو عبد الله الأشتر وحده،
قتل بكابل، وأمه أم سلمة بنت أبي محمد بن الحسن بن الحسن المثنى.
والعقب من عبد الله الأشتر بن محمد بن عبد الله وحده.
والعقب من ولد إبراهيم قتيل بياخمرا من الحسن بن إبراهيم وحده.



(1) قريب منه ما في مقاتل الطالبيين: ص 119.
520
والعقب من ولد الحسن بن إبراهيم من عبيد الله بن الحسن وحده. ومنه انتشر
ولد إبراهيم.
والعقب من ولد موسى بن عبد الله الجون من رجلين: عبد الله بن موسى
وإبراهيم بن موسى، وأمهما من بني تيم بن مرة.
والعقب من ولد يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي
طالب (عليهم السلام) من رجل واحد وهو محمد بن يحيى الأيبثي، ومنه في رجلين:
عبد الله بن محمد وأحمد بن محمد.
والعقب من ولد داود بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب من رجلين:
سليمان بن داود وعبد الله بن داود.

521
الباب الخامس
في ذكر الحسين بن علي
ابن أبي طالب (عليهما السلام)

523
فصل
في ذكر مولده (عليه السلام) وبعض صفاته وأخلاقه
قال أبو جعفر محمد بن رستم بن جرير الطبري في دلائل الإمامة: إنه (عليه السلام) ولد
بالمدينة يوم الثلاثاء لخمس خلون من جمادي الأولى سنة أربع من الهجرة.
وعلقت به أمه بعد ما ولدت الحسن أخاه لخمسين ليلة، وحملت به ستة أشهر،
وولدته ولم يولد مولود لستة أشهر غير الحسين وعيسى بن مريم، وقيل يحيى بن
زكريا (عليهم السلام) (1).
وقال الشيخ المفيد أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رحمه الله تعالى: إنه
ولد بالمدينة لخمس ليال خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة، وجاءت به أمه
فاطمة (عليهما السلام) إلى جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاستبشر به وسماه حسينا وعق عنه كبشا.
وكان أشبه الناس بالنبي (صلى الله عليه وآله) فيما بين الصدر إلى الرجلين (2).
وروى أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني في كتاب المصابيح، عن
الزبير بن بكار أنه قال: ولد الحسين بن علي (عليهما السلام) لخمس ليال خلون من شعبان
سنة أربع من الهجرة (3).



(1) دلائل الإمامة: ص 71.
(2) الإرشاد: ص 198.
(3) بحار الأنوار: ج 43 ص 260 باب 11 ح 48 مع اختلاف السند.
525
$ الإمام سيد الشهداء (عليه السلام) / بعض فضائله وأخباره
فصل
في ذكر شئ من فضائله (عليه السلام) وبعض أخباره
روى ابن بابويه بإسناده عن الحسين (عليه السلام) أنه قال: دخلت على رسول
الله (صلى الله عليه وآله) وعنده أبي بن كعب فقال لي رسول الله: مرحبا بك يا با عبد الله يا زين
السماوات والأرض.
فقال أبي: وكيف يكون غيرك يا رسول الله زين السماوات والأرض؟
فقال (عليه السلام): إن الحسين في السماء أكبر منه في الأرض، وأنه لمكتوب على يمين
عرش الله. ثم ذكر المهدي من ولده (1).
وروى عن وكيع أنه قال: حدثنا ابن أبي ليلى، عن أخيه عيسى بن عبد
الرحمن، عن أبيه، عن جده أنه قال: كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) فجاء الحسين بن
علي (عليهما السلام) يحبو حتى صعد على صدره فبال، قال: فابتدرناه لنأخذه، فقال
النبي (صلى الله عليه وآله): ابني ابني، ثم دعا بماء فصبه عليه (2).
وقيل: اصطرع الحسن والحسين عند رسول الله صلى الله عليهم، فجعل رسول
الله (صلى الله عليه وآله) يقول: هي يا حسن. قالت له فاطمة: أراك يا رسول الله تعين من الحسن
كأنه أحب إليك من الحسين؟ فقال: إن جبرائيل (عليه السلام) يعين الحسين وأنا أعين
الحسن (3).
وحدث سفيان الثوري، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه عن ابن عباس أنه
قال: كنت عند النبي (صلى الله عليه وآله) وعلى فخذه الأيسر ابنه إبراهيم وعلى فخذه الأيمن
الحسين بن علي (عليهما السلام)، تارة يقبل هذا وتارة يقبل هذا، إذ هبط عليه جبرائيل (عليه السلام)



(1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 1 ص 48 باب 29.
(2) بحار الأنوار: ج 43 ص 317 باب 12 ذيل ح 74 نقلا عن كتاب العدد، وفيه: جاء
الحسن بن علي يحبو.
(3) بحار الأنوار: ج 43 ص 262 - 263 باب 12 ح 7 مع اختلاف يسير.
526
بوحي من رب العالمين. فلما سرى عنه قال: أتاني جبرائيل عن ربي عز وجل
فقال لي: يا محمد إن الله يقرأ عليك السلام ويقول لك: لست أجمعهما لك فافد
أحدهما بصاحبه. فنظر النبي (صلى الله عليه وآله) إلى إبراهيم وبكى، ونظر إلى الحسين فبكى
وقال: إن إبراهيم أمه أمة ومتى مات لم يحزن عليه غيري، وأم الحسين فاطمة
وأبوه علي ابن عمي لحمي ودمي ومتى مات حزنت عليه ابنتي وحزن ابن عمي
وحزنت أنا عليه، وأنا أؤثر حزني على حزنهما يا جبرئيل بقبض إبراهيم فقد فديته
للحسين به. قال: فقبض بعد ثلاث.
وكان النبي (صلى الله عليه وآله) إذا رأى الحسين مقبلا قبله وضمه إلى صدره ورشف ثناياه
وقال: فديت من فديته بابني إبراهيم (عليهم السلام) (1).
حدث أبو علي الحسن بن دخيم، قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم، قال: سمعت
عبد الله بن عبد الله المديني، يذكر عن أبيه، عن جده وكان مولى الحسين بن
علي (عليهما السلام) أن سائلا خرج ذات ليلة فتخطى أزقة المدينة حتى أتى باب الحسين
ابن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) وقرع الباب وأنشأ يقول:
لم يخب الآن من رجاك ومن * حرك من خلف بابك الحلقة
وكان الحسين (عليه السلام) واقفا في محرابه يصلي، فأوجز في صلواته وأقبل إلى
الباب فإذا هو بسائل عريان، فقال له: أيها السائل مكانك حتى أعود إليك. ودعا
مولى له فقال له: يا غلام أمعك شئ؟ قال: معي ألفا درهم أعطيتنيها بالأمس أفرقها
على أهلك ومواليك. قال: ائتني بها يا غلام فقد جاء من هو أحق من أهلي وموالي.
وكان عليه بردتان يمانيتان، فشد الألفين في إحدى البردتين ودفعها إلى السائل
وأنشأ يقول:
خذها فإني إليك معتذر * واعلم بأني عليك ذو شفقة (2)
فأخذها السائل وأنشأ يقول:
مطهرين نقيات ثيابهم * تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 81.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 66.
527
وأنتم السادة الأعلون عندكم * علم الكتاب وما جاءت به السور
من لم يكن علويا حين تنسبه * فماله في قديم الدهر مفتخر
وحدث أبو جعفر محمد بن علي بن سمعان، عن جدته، عن أبي جعفر (عليه السلام)
قال: لما ولد الحسين (عليه السلام) هبط جبرائيل (عليه السلام) في ألف ملك يهنئون النبي (صلى الله عليه وآله)
بولادته وكان ملك يقال له فطرس في جزيرة من جزائر البحر بعثه الله عز وجل
في أمر من الأمور فأبطأ عليه فكسر جناحه، فأزيل عن مقامه واهبط إلى تلك
الجزيرة، فمكث فيها خمسمائة عام، وكان صديقا لجبرائيل (عليه السلام)، فلما مضى قال
له: أين تريد؟ قال: ولد للنبي (صلى الله عليه وآله) مولود في هذه الليلة فبعثني الله في ألف ملك
لأهنئنه. قال: احملني إليه فلعله يشفع لي. فحمله، فلما أدى جبرائيل الرسالة ونظر
النبي (صلى الله عليه وآله) إلى فطرس قال له: يا جبرائيل ما هذا؟ فأخبره بقصته. فالتفت إليه رسول
الله (صلى الله عليه وآله) فقال: امسح جناحك على المولود - يعني الحسين (عليه السلام) - فمسح جناحه
فعاد إلى حالته. فلما نهض قال له النبي (صلى الله عليه وآله): الزم أرض كربلاء وأخبرني بكل من
رأيته زائرا إلى يوم القيامة.
قال: فذلك الملك يسمى عتيق الحسين (عليه السلام) (1).
وحدث عن صالح بن كيسان أنه قال: لما قتل معاوية حجر بن عدي
وأصحابه حج ذلك العام فلقي الحسين بن علي (عليهما السلام) فقال له: يا أبا عبد الله هل
بلغك ما صنعنا بحجر بن عدي وأصحابه وأشياعه وشيعة أبيك؟ فقال: ما صنعت
بهم؟ قال: قتلناهم وكفناهم وصلينا عليهم. فضحك الحسين (عليه السلام) فقال له: خصمك
القوم يا معاوية، ولكنا لو قتلنا شيعتك ما كفناهم ولا صلينا عليهم ولا دبرناهم، ولقد
بلغني وقيعتك في علي وقيامك بنقصنا واعتراضك بني هاشم بالعيوب، فإذا فعلت
ذلك فارجع إلى نفسك وسلها الحق عليها ولها فإنك تجدها أصغر عيبا، فما أصغر
عيبك فيك فقد ظلمناك به يا معاوية، لا توترن قوسك، ولا ترمين عرضك، ولا ترمنا
بالعداوة من مكان قريب، فإنك والله قد أطعت فينا رجلا ما قدم إسلامه ولا حدث



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 74.
528
نفاقه ولا نظر لك، فانظر لنفسك ودعه - يعني عمرو بن العاص - (1).
وروى محمد بن السائب قال: قال مروان بن الحكم يوما للحسين (عليه السلام): لولا
فخركم بفاطمة بم كنتم تفخرون علينا؟ فوثب الحسين (عليه السلام) وكان شديد القبضة
وقبض على حلقه وعصره ولوى عمامته على عنقه حتى غشي عليه، ثم تركه،
وأقبل الحسين (عليه السلام) على جماعة قريش وقال: أنشدكم بالله إلا صدقتموني إن
صدقت، أتعلمون أن في الأرض حبيبين كانا أحب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) مني ومن
أخي، أو على ظهر الأرض ابن بنت نبي غيري وغير أخي الحسن؟ قالوا: لا.
فقال: وإني لا أعلم أن في الأرض ملعون ابن ملعون أكثر من هذا وأبيه طريد
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وما بين جابلقا وجابلصا رجلان ممن ينتحل الاسلام أعدى لله
ولرسوله ولأهل بيته منك ومن أبيك إن كان، وعلامة قولي فيك إنك إذا غضبت
سقط رداؤك عن منكبيك. فوالله ما قام مروان من مجلسه حتى غضب فانتفض
وسقط رداؤه عن عاتقه (2).
وقال يعلى بن مرة: إن النبي (صلى الله عليه وآله) خرج من منزله فإذا الحسين بن علي يلعب
مع صبيان، فاستفتل رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمام القوم فبسط يده فطفق الغلام يفر هاهنا
وهاهنا ورسول الله (صلى الله عليه وآله) يضاحكه، حتى أخذه فجعل إحدى يديه تحت ذقنه
والأخرى على فأس رأسه ثم أقنعه فقبله (3).
وحدث عبد الله بن عون، عن عمر بن إسحاق، قال: كنت أمشي مع الحسين بن
علي (عليهما السلام) في بعض طرق المدينة فلقيه أبو هريره فقال: أرني اقبل منك حيث
رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقبل. قال: فأخذ قميصه فكشف عن سرته فقبلها (4).



(1) الاحتجاج: ص 296.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 51 وفيه: " جابرس وجابلق أحدهما بباب المشرق
والآخر بباب المغرب " بدل " جابلقا وجابلصا ".
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 71، وفأس الرأس: هو طرف مؤخره المشرف على القفا.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 25 وفيه: الحسن بن علي بدل الحسين بن علي.
529
وحدث أشعث بن عثمان، عن أبيه، عن أنس بن سحيم (1)، قال: سمعت رسول
الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إن ابني هذا يقتل بأرض العراق فمن أدركه منكم فلينصره.
قال: فقتل أنس بن سحيم مع الحسين (عليه السلام) (2).
وحدث إسماعيل بن عياش بن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن
راشد، عن يعلى بن مرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): حسين مني وأنا من حسين،
أحب الله من أحب حسينا، حسين سبط من الأسباط (3).
$ الإمام سيد الشهداء (عليه السلام) / معجزاته
فصل
في ذكر معجزات الحسين (عليه السلام)
قال أبو مخنف لوط بن يحيى، قال: حدثنا عياش بن عبد الله، عن عبد الله بن
عباس أنه قال: لقيت الحسين بن علي (عليهما السلام) وهو يخرج إلى العراق فقلت له: يا بن
رسول الله لا تخرج قال: فقال لي: يا بن عباس أما علمت أن مبعثي من هناك، وأن
مصارع أصحابي هناك.
فقلت له: فأنى لك ذلك؟
قال بسر سر لي ولمن أعطيته (4).
وروي عن الأعمش أنه قال: قال لي أبو محمد الواقدي وزرارة بن خلج:
لقيت الحسين بن علي (عليهما السلام) قبل أن يخرج إلى العراق بثلاث، فأخبرناه ضعف
الناس بالكوفة وأن قلوبهم معه وسيوفهم عليه. فأومأ بيده نحو السماء ففتحت
أبواب السماء ونزلت الملائكة عددا لا يحصيهم إلا الله عز وجل، فقال: لولا
تقارب الأشياء وهبوط الأجر لقاتلتهم بهؤلاء، ولكن أعلم علما أن من هناك
مصعدي وهناك مصارع أصحابي لا ينجو منهم إلا ولدي علي (5).



(1) في المصدر: ابن أبي سحيم.
(2) مثير الأحزان: ص 17.
(3) كشف الغمة: ج 2 ص 6.
(4) دلائل الإمامة: ص 74.
(5) دلائل الإمامة: ص 74.
530
وحدث زفر بن يحيى، عن كثير بن شاذان، قال: شهدت الحسين بن علي (عليهما السلام)
وقد اشتهى عليه ابنه علي الأكبر عنبا في غير أوانه، فضرب يده إلى سارية المسجد
فأخرج له عنبا وموزا فأطعمه، فقال: ما عند الله لأوليائه أكثر (1).
وروى الهيثم النهدي، عن إسماعيل بن مهران، عن محمد الكناني، عن أبي
عبد الله (عليه السلام)، قال: خرج الحسين بن علي (عليهما السلام) في بعض أسفاره ومعه رجل من
ولد الزبير بن العوام يقول بإمامته، فنزلوا من تلك المنازل تحت نخل يابس قد
يبس من العطش، ففرش الحسين (عليه السلام) تحتها وبإزائه نخل عليه رطب، فرفع يده
ودعا بكلام لم أفهمه، فاخضرت النخلة وصارت إلى حالها وأورقت وحملت
رطبا. فقال الجمال الذي اكترى منه: سحر والله فقال له الحسين: ويلك ليس هو
بسحر، ولكن دعوة ابن نبي مستجابة. قال: فصعدوا إلى النخلة حتى صرموها
وأكلوها، فكفاهم (2).
وروى محمد بن الحسين، عن موسى بن سعدان، عن عبد الله بن القاسم، عن
صباح المزني، عن صالح بن ميثم الأسدي، قال: دخلت أنا وعتابة (3) بن ربعي على
المرأة (4) في بني والبة وقد احترق وجهها من السجود، فقال لها عتابة (5): يا حبابة
هذا ابن أخيك. قالت: وأي أخ؟ قال: صالح بن ميثم. قالت: ابن أخي والله حقا،
يا بن أخ ألا أحدثك بحديث رأيته من الحسين بن علي (عليهما السلام)؟ قال: قلت: بلى
يا عمة. قالت: كنت ظئر (6) الحسين بن علي (عليهما السلام)، فحدث بين عيني وضح، فشق
ذلك علي فاحتبست عليه أياما، فسأل عني: ما فعلت حبابة الوالبية؟ فقالوا: حدث
بها حدث بين عينيها. فقال لأصحابه: قوموا حتى ندخل عليها فدخل علي في
مسجدي هذا فقال: يا حبابة ما أبطأ بك عنا؟ قلت: يا بن رسول الله حدث هذا بي،
وكشفت القناع. فتفل عليه الحسين (عليه السلام)، فقال: يا حبابة أحدثي لله شكرا فإن الله



(1) دلائل الإمامة: ص 75.
(2) دلائل الإمامة: ص 76 - 77.
(3) في دلائل الإمامة: عباية.
(4) في دلائل الإمامة: امرأة.
(5) في دلائل الإمامة: عباية.
(6) في دلائل الإمامة: زوارة.
531
قد زواه عنك. فخررت ساجدة. فقال: يا حبابة ارفعي رأسك وانظري في مرأتك.
قالت: فرفعت رأسي فلم أجد منه شيئا، فحمدت الله تعالى. وقال لي: يا حبابة نحن
وشيعتنا على الفطرة وسائر الناس منها برآء (1).
وقال الأعمش: [سمعت] أبا صالح التمار، عن حذيفة يقول: سمعت
الحسين بن علي (عليهما السلام) يقول: والله ليجمعن على قتلي طغاة بني أمية ويقدمهم
عمر بن سعد، وذلك في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) فقلت له: أنبأك بهذا رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقال:
لا. فأتيت النبي فأخبرته، فقال: علمي علمه وعلمه علمي، وأنه ليعلم بالكائن قبل
كينونته (2).
وحدث عبد الله بن مكحول، عن الأوزاعي أنه قال: بلغني خروج الحسين بن
علي (عليهما السلام) إلى العراق فقصدت مكة فصادفته بها، فلما رآني رحب بي وقال:
مرحبا بك يا أوزاعي، جئت تنهاني عن المسير وأبى الله عز وجل إلا ذلك، إن من
هاهنا يوم الاثنين مبعثي. فنظرت في عدد الأيام فكان كما قال (3).
وحدث عن أبي حمزة بن حيران أنه قال: ذكرنا خروج الحسين (عليه السلام) وتخلف
ابن الحنفية عنه عند أبي جعفر (عليه السلام). فقال: يا أبا حمزة إني سأحدثك من هذا
الحديث بما لا تشك فيه بعد مجلسنا هذا، إن الحسين (عليه السلام) لما خرج متوجها دعا
بقرطاس فكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى بني هاشم، أما بعد فإنه
من لحق بي استشهد ومن تخلف عني لم يبلغ الفتح والسلام (4).
$ الإمام سيد الشهداء (عليه السلام) / كلامه
فصل
في كلام الحسين (عليه السلام)
قيل: سأل أمير المؤمنين (عليه السلام) ابنه الحسين (عليه السلام) فقال له: يا بني ما السؤدد؟



(1) دلائل الإمامة: ص 77.
(2) دلائل الإمامة: ص 75.
(3) دلائل الإمامة: ص 75.
(4) دلائل الإمامة: ص 77.
532
قال: اصطناع العشيرة واحتمال الجريرة. قال: فما الغنى؟ قال: قلة أمانيك
والرضا بما يكفيك؟ قال: فما الفقر؟ قال: الطمع وشدة القنوط. قال: فما اللؤم؟ قال:
إحراز المرء نفسه وإسلامه عرسه. قال: فما الخروق؟ قال: معاداتك أميرك ومن
يقدر على ضرك ونفعك.
ثم التفت إلى الحارث الأعور فقال: يا حارث علموا أولادكم هذه الحكم
فإنها زيادة في العقل والحزم والرأي (1). يعني هذا الكلام وكلام الحسن (عليه السلام) الذي
سأله عنه أمير المؤمنين (عليه السلام) في هذا الأسلوب، وهو في كلام الحسن (عليه السلام) قبل هذا.
ومن كتاب كتبه الحسين بن علي (عليهما السلام) إلى معاوية: أما بعد، فقد بلغني عنك
أمور وأن بي عنها غناء، وزعمت أني راغب فيها وأنا بغيرها عنك جدير. أما ما
رقى إليك عني فإنه انما رقاه إليك الكاذبون والملاقون المشاؤون بالنمائم،
المفرقون بين الجمع، كذب الساعون الواشون، ما أردت حربك ولا خلافا عليك
وأيم الله إني لأخاف الله عز وجل في ترك ذلك، وما أظن الله تبارك وتعالى براض
عني بتركه، ولا عاذري بدون الإعذار إليه فيك وفي أوليائك القاسطين المجلبين
حزب الظالمين وأولياء الشياطين ألست قاتل حجر بن عدي أخي كندة وأصحابه
المطيعين الصالحين العابدين، ولقد كانوا ينكرون الظلم، ويستعظمون المنكر
والبدع، ويؤثرون حكم الكتاب، ولا يخافون في الله لومة لائم، فقتلتهم ظلما
وعدوانا من بعد ما كنت أعطيتهم الأيمان المغلظة والمواثيق المؤكدة أن
لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم ولا بأحنة تجدها في صدرك عليهم؟ أولست
قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) العبد الصالح الذي أبلته العبادة
فصفرت لونه وانحلت جسمه بعد أن آمنته وأعطيته من عهود الله عز وجل
ومواثيقه ما لو أعطيته العضم (2) وفهمته نزلت إليك من شعف الجبال، ثم قتلته جرأة
على الله تعالى واستخفافا بذلك العهد؟ أو لست المدعي زياد بن سمية المولود



(1) معاني الأخبار: ص 401 ذيل ح 62.
(2) الأعصم: الوعل (لسان العرب 12 / 405).
533
على فراش عبد ثقيف وزعمت أنه ابن أبيك، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" الولد للفراش وللعاهر الحجر " فتركت سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) واتبعت هواك بغير
هدى من الله، ثم سلطته على أهل العراق يقطع أيدي المسلمين وأرجلهم ويسمل
أعينهم ويصلبهم في جذوع النخل، كأنك لست من هذه الأمة وليسوا منك؟
أولست صاحب الحضرمية الذي كتب إليك فيهم ابن سميه أنهم على دين علي
ورأيه. فكتبت إليه أن اقتل من كان على دين علي ورأيه، فقتلهم؟ ودين علي والله
وأولاد علي الذي ضرب عليه أبوك، وهو الذي أجلسك هذا المجلس الذي أنت
فيه، لولا ذاك لكان أفضل شرفك وشرف أبيك تجشم الرحلتين اللتين بنا من الله
عليكم فوضعها عنكم. وقلت فيما تقول: " انظر لنفسك ولذريتك ولأمة محمد (صلى الله عليه وآله)
واتق شق عصا هذه الأمة وأن تردهم في فتنة ". [فلا أعرف فتنة] أعظم من ولايتك
عليهم. ولا أعلم نظرا لنفسي وولدي وأمة محمد (صلى الله عليه وآله) أفضل من جهادك، فإن فعلته
فهو قربة إلى الله تعالى، وإن تركته فأستغفر الله لذنبي وترك توفيقي وإرشاد
أموري. وقلت فيما تقول: " إن أمكر بك تمكر بي، وإن أكدك تكدني " وهل رأيك
إلا كيد الصالحين منذ خلقت؟! فكدني ما بدا لك إن شئت، فإني لأرجو أن
لا يضرني كيدك وأن لا يكون أضر منه لأحد كضرره على نفسك، على أنك تكيد
فتوقظ عدوك وتوبق نفسك، كفعلك بهؤلاء القوم الذين قتلتهم ومثلت بهم بعد
الصلح والأيمان والعهد والميثاق، فقتلتهم من غير أن يكونوا قد قتلوا إلا لذكرهم
فضلنا وتعظيم حقنا ولما به شرقت وغربت ومخافة أمر لعلك لو لم تقتلهم مت قبل
$ الإمام سيد الشهداء (عليه السلام) / مقتله
أن يقتلوا أو ماتوا قبل أن يذكروا. أبشر يا معاوية بالقصاص، واستعد للحساب،
واعلم أن لله عز وجل كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وليس الله
تعالى بناس أخذك بالظنة، وقتلك أولياءه بالتهمة، ونقلك إياهم من دار الهجرة إلى
دار الغربة، وأخذك الناس ببيعة ابنك غلام من الغلمان يشرب الشراب ويلعب
بالكعاب. لا أعلمك إلا قد خسرت نفسك، وبعت دينك، وغششت رعيتك، وأكلت

534
أمانيك، وسمعت مقالة السفيه الجاهل، وأخفت التقي الورع الحليم (1).
وحدث حمزة الزيات، عن عبد الله بن شريك، عن بشر بن غالب، عن
الحسين بن علي (عليهما السلام)، قال: من أحبنا لله عز وجل وردنا نحن وهو على نبينا (صلى الله عليه وآله)
هكذا، وضم إصبعيه. ومن أحبنا للدنيا فإن الدنيا تسع البر والفاجر (2).
وكتب إليه رجل: عظني بحرفين فيهما الدنيا والآخرة. فكتب إليه: من حاول
أمرا بمعصية الله تعالى كان أفوت لما يرجو وأسرع لمجئ ما يحذر (3).
وكتب أيضا إلى محمد بن علي ومن قبله من بني هاشم: أما بعد، فكأن الدنيا
لم تكن، والآخرة لم تزل، والسلام (4).
فصل
في ذكر مقتل الحسين بن علي (عليهما السلام)
قال عبد الله بن وهب بن زمعة: أخبرتني أم سلمة رضي الله عنها أن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اضطجع ذات يوم للنوم فاستيقظ وهو خاثر (5)، ثم اضطجع ورقد ثم
استيقظ وهو خاثر دون ما رأيت به في المرة الأولى، ثم اضطجع واستيقظ وفي يده
تربة حمراء يقلبها. فقلت: ما هذه التربة يا رسول الله؟ قال: أخبرني جبرائيل إن هذا
ولدي - يعني الحسين (عليه السلام) - يقتل بأرض العراق. فقلت: يا جبرائيل أرني تربة
الأرض التي يقتل بها. فجاءني بهذه وقال: هذه تربتها (6).
وعن ثابت، عن أنس بن مالك، قال: استأذن ملك القطر ربه عز وجل أن يزور



(1) الاحتجاج: ص 297.
(2) بحار الأنوار: ج 27 ص 84 باب 4 ح 26 نقلا عن أمالي ابن الشيخ المفيد.
(3) الكافي: ج 2 ص 373 ح 3.
(4) كامل الزيارات: ص 75.
(5) الخاثر: في الحديث: أصبح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو خاثر النفس، أي ثقيلها غير طيب
ولا نشيط: لسان العرب: ج 4 ص 230 مادة " خثر ".
(6) إعلام الورى: ص 43 - 44.
535
النبي (صلى الله عليه وآله)، فأذن له وكان يوم أم سلمة، فقال لها النبي (صلى الله عليه وآله): احفظي علينا الباب
لا يدخل علينا أحد. فبينا هي على الباب إذ دخل الحسين بن علي (عليهما السلام) فاقتحم
ودخل يتوثب على النبي (صلى الله عليه وآله) وجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) يلثمه ويقبله. فقال له الملك:
أتحبه؟ قال: نعم. قال: أما ان أمتك ستقتله، وإن شئت أريتك المكان الذي يقتل فيه.
قال: نعم. فجاءه بسهلة أو تراب أحمر، فأخذته أم سلمة وجعلته في ثوبها. فقال
ثابت: يقال إنها من أرض كربلاء (1).
وعن عمرو بن أبي عمرو، وعن المطلب بن حنطب، عن أم سلمة رضي الله
عنها أنها قالت: دخل جبرائيل (عليه السلام) على النبي (صلى الله عليه وآله) فقال لي: احفظي علينا الباب
لا يدخل علي أحد. فسمعت نحيبه فدخلت فإذا الحسين (عليه السلام) بين يديه، فقلت:
والله يا رسول الله ما رأيته حين دخل. فقال: كان جبرائيل عندي آنفا فقال لي:
يا محمد أتحبه؟ فقلت: يا جبرائيل: أما من حب الدنيا فنعم. قال: فإن أمتك ستقتله
بعدك، تريد أن أريك تربته يا محمد؟ فدفع إلي هذا التراب. قالت أم سلمة رضي الله
عنها: فأخذته فجعلته في قارورة فأصبته يوم قتل الحسين (عليه السلام) وقد صار دما (2).
وعن شهر بن حوشب، عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان جبرائيل (عليه السلام)
عند النبي (صلى الله عليه وآله) والحسين (عليه السلام) معي، فبكى فتركته فدنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقمت
فأخذته فبكى فتركته، فدخل يعني على النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال جبرائيل (عليه السلام): أتحبه
يا محمد؟ قال: نعم. قال: إن أمتك ستقتله وإن شئت أريتك من تربة الأرض التي (3)
يقتل بها. فأراه إياها، فإذا الأرض يقال لها كربلاء (4).
ومنهم أبو عبد الله الجدلي، رواه عن أم سلمة رضي الله عنها أن ملكا استأذن
ربه عز وجل أن يأتي النبي (صلى الله عليه وآله) وهو في بيت أم سلمة، فسلم عليه فخلا له
النبي (صلى الله عليه وآله) ينتجيه، قال: يا أم سلمة احفظي علينا الباب. قالت: وكان الحسين (عليه السلام)



(1) الأمالي للشيخ الطوسي: ج 1 ص 338 المجلس الحادي عشر ح 105.
(2) أمالي الشيخ الطوسي: ج 1 ص 321 المجلس الحادي عشر ح 86.
(3) في الأصل: الذي.
(4) كامل الزيارات: ص 60 بسند آخر.
536
عندها فأغفلت عنه فدخل علي النبي (صلى الله عليه وآله) فاتبعته فإذا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقلب شيئا
في يده وعيناه مغرورقتان بالدموع. فقلت: أعوذ بالله من غضب الله وغضب
رسوله. قال: ما غضب الله عليك ولا رسوله. قلت: رأيتك تقلب شيئا في يدك
وعيناك مغرورقتان بالدموع. قال: أرأيت هذا لما دخل علي قال إن ابنك مقتول.
قلت: ومن يقتله؟ قال: أمتك. قلت: وهم يدينون الصلاة. قال: وهم يدينون الصلاة.
قلت: فأي مكان؟ قال: فسمى لي المكان الذي يقتل فيه وأراني قبضة من تراب
اقلبه في يدي فاغرورقت عيناي بالدموع قالت أم سلمة رضي الله عنها: فأخذت
ذلك التراب فرفعته عندي، فلما قتل الحسين (عليه السلام) سمعت الجن تنوح عليه ولم
أسمعهم ينوحون عليه قبل ذلك، وصار التراب دما عبيطا، فقلت: لقد قتل ابني،
فأمرت بذلك اليوم أن يؤرخ فوجدوه قد قتل في ذلك اليوم.
وعن كثير بن زيد، عن المطلب بن عبد الله بن حنطب، عن أم سلمة رضي الله
عنها قالت: كان النبي (صلى الله عليه وآله) جالسا ذات يوم في بيتي فقال: لا يدخل علي أحد،
فانتظرت فدخل الحسين بن علي (عليهما السلام)، فسمعت نشيج النبي (صلى الله عليه وآله) يبكي، فأطلعت
فإذا الحسين (عليه السلام) في حجره أو إلى جانبه يمسح رأسه وهو يبكي. فقلت: والله
ما علمت به حتى دخل. فقال النبي (صلى الله عليه وآله): إن جبرائيل كان معنا في البيت فقال:
أتحبه؟ فقلت: من حب الدنيا فنعم. قال: إن أمتك ستقتل هذا بأرض يقال لها
كربلاء. فتناول جبرائيل (عليه السلام) من ترابها فأراه النبي (صلى الله عليه وآله).
فلما أحيط بالحسين (عليه السلام) حين قتل قال: ما اسم هذه الأرض؟ قالوا: أرض
كربلاء. قال: صدق رسول الله (صلى الله عليه وآله) أرض كرب وبلاء.
وإنما أخبر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله) بما يكون من قتل الحسين (عليه السلام) بعياله إليه
ليدرك أجر المصاب ويحوز أجزل الثواب بما يجده من الألم بقتل ولده، ولذلك
أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) بذلك لينال أجر الصابرين.
وعن عبد الله بن يحيى، عن أبيه أنه خرج مع أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب (عليه السلام) إلى صفين وكان صاحب مطهرته، فلما حاذى نينوى قال: صبرا أبا

537
عبد الله بشط الفرات. قال: قلت: ما هذا يا أمير المؤمنين؟ قال: دخلت على
النبي (صلى الله عليه وآله) ذات يوم وعيناه تفيضان فقلت: من أغضبك يا رسول الله، ما لعينيك؟
قال: بل قام من عندي جبرائيل (عليه السلام) آنفا فأخبرني أن الحسين (عليه السلام) يقتل بشط
الفرات، وهل لك أن أشمك من تربته، فمد يده فقبض قبضة من تراب فأعطانيها،
فلم أملك عيني أن فاضتا (1).
وروي أن عيسى (عليه السلام) مر بأرض كربلاء فرأى عدة من الظباء هناك مجتمعة،
فأقبلت واحدة منهن إليه وهي تبكي، فجلس وجلس الحواريون وبكى وهم
لا يدرون لم جلس ولم بكى.
فقالوا: يا روح الله ما يبكيك؟ قال: أتعلمون أي أرض هذه؟ قالوا: لا. قال: هذه
أرض يقتل فيها فرخ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحمد، وفرخ الحرة الطاهرة البتول شبيهة أمي
ويلحد فيها، وهي أطيب رائحة من المسك لأنها طينة الفرخ المستشهد، وهكذا
يكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء (عليهم السلام)، وهذه الظباء تكلمني وتقول إنها ترعى
في هذه الأرض شوقا إلى تربة الفرخ المبارك. ثم ضرب بيده إلى بعر تلك الظباء
فشمها وقال: اللهم أبقها أبدا حتى يشمها أبوه فيكون له عزاء وسلوة. وبكى (2).
وروى مشيخة المخالفين، عن شيخ لأصحاب الحديث بالري يعرف بأبي
علي بن عبدويه، ويروون عن شيخ لهم بإصفهان يعرق بأبي بكر بن مردويه
بإسناده عن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: كنت مع علي بن أبي طالب (عليه السلام) في خرجته إلى
صفين، فلما نزل نينوى قال بأعلى صوته: يا بن عباس أتعرف هذا الموضع؟ قلت:
ما أعرفه. قال: لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتى تبكي كبكائي. قال: فبكى
طويلا حتى اخضلت لحيته وسالت الدموع على صدره وهو يقول: آوه آوه مالي
ولآل أبي سفيان، ومالي ولآل حرب حزب الشيطان وأولياء الكفر، صبرا يا أبا
عبد الله فقد لقي أبوك مثل الذي تلقى منهم. ثم دعا بماء فتوضأ وضوء الصلاة



(1) مثير الأحزان: ص 18.
(2) الأمالي للشيخ الصدوق: ص 479 المجلس 87 جزء من ح 5.
538
فصلى ما شاء الله أن يصلي، ثم ذكر نحو كلامه الأول إلا أنه نعس عن انقضاء كلامه
ساعة ثم انتبه فقال: يا بن عباس. فقلت: ها أنذا يا أمير المؤمنين. قال: ألا أحدثك
بما رأيت في منامي آنفا عند رقدتي؟ قلت: نامت عيناك ورأيت خيرا. فقال:
رأيت كأني برجال نزلوا من السماء معهم أعلام بيض قد تقلدوا سيوفهم وهي
بيض تلمع وقد خطوا حول هذه الأرض خطة، ثم رأيت كأن هذه النخيل قد
ضربت بأغصانها الأرض فرأيتها تضطرب بدم عبيط، وكأ ني بالحسين سخلي
وفرخي ومضغتي ومخي قد غرق فيه يستغيث ولا يغاث، وكأن الرجال البيض
الذين نزلوا من السماء ينادونه ويقولون: صبرا آل الرسول فإنكم تقتلون على
أيدي شرار الناس، وهذه الجنة إليك يا أبا عبد الله مشتاقة، ثم يعزونني ويقولون:
يا أبا الحسن إبشر فقد أقر الله عينك به يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين،
ثم انتبهت هكذا، والذي نفسي بيده لقد حدثني الصادق المصدق أبو القاسم (صلى الله عليه وآله)
قال: وإني سأراها في خروجي إلى أهل البغي علينا، وهذه أرض كرب وبلاء،
وستذكر كما تذكر بقعة الحرمين وبقعة بيت المقدس.
ثم قال: يا بن عباس اطلب لي حولنا بعر الظباء فوالله ما كذبت ولا كذبت،
وهي مصفرة لونها لون الزعفران.
قال ابن عباس: فطلبتها فوجدتها مجتمعة، فناديته: يا أمير المؤمنين قد أصبتها
على الصفة التي وصفتها لي. فقال علي: صدق الله ورسوله. ثم قام يهرول إليها
فحملها وشمها وقال: هي هي بعينها يا بن عباس، تعلم ما هذه البعرات؟ هذه قد
شمها عيسى بن مريم (عليه السلام). ثم قال علي (عليه السلام): يا رب عيسى بن مريم (عليه السلام) لا تبارك
في قتلته والحامل عليه والمعين عليه والخاذل له. ثم بكى طويلا وبكينا معه
حتى سقط لوجهه مغشيا عليه، ثم أفاق فأخذ البعر وصره في ردائه وأمرني أن
أصرها كذلك.
ثم قال لي: إذا رأيتها تنفجر دما عبيطا فاعلم أن أبا عبد الله قد قتل بها ودفن.
وقال ابن عباس: لقد كنت أحفظها ولا أحلها من طرف كمي، فبينا أنا في

539
البيت نائم وقد دخل عشر المحرم إذ انتبهت فإذا هي تسيل دما، فجلست وأنا باك
وقلت: قتل الحسين، وذلك عند الفجر، ورأيت المدينة كأنها ضباب، ثم طلعت
الشمس وكأنها منكسفة وكأن على الجدران دما، فسمعت صوتا يقول وأنا أبكي:
اصبروا آل الرسول * قتل الفرخ النجول
نزل الروح الأمين * ببكاء وعويل
ثم بكى وبكيت. ثم حدثت الذين كانوا مع الحسين (عليه السلام)، قالوا: لقد سمعنا
ما سمعت ونحن في المعركة، فكنا نرى أنه الخضر (عليه السلام) (1).
فصل
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما اشتد برسول الله (صلى الله عليه وآله) مرضه الذي مات
فيه حضرته وقد ضم الحسين (عليه السلام) إلى صدره يسيل من عرقه عليه وهو يجود
بنفسه ويقول: مالي وليزيد، لا بارك الله فيه، اللهم العن يزيد. ثم غشي عليه طويلا
وأفاق وجعل يقبل الحسين وعيناه تذرفان ويقول: أما أن لي ولقاتلك مقاما بين
يدي الله (2).
فلما مات معاوية وذلك في النصف من رجب سنة ستين من الهجرة كتب يزيد
إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان - وكان واليا على المدينة من قبل معاوية - يأمره
بأخذ البيعة ليزيد من أهل الحجاز وأن يدعو الحسين بن علي (عليهما السلام) وعبد الله بن
عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر وأن لا يفارقهم دون البيعة، ومن
أبى منهم قتله.
فدعا الوليد مروان بن الحكم فاستشاره، فقال له: أحضرهم الساعة قبل أن
ينتشر الخبر بموت معاوية، فمن أبى البيعة فاضرب عنقه. فقال الوليد: والله لا أفعل



(1) الأمالي للشيخ الصدوق: ص 478 المجلس 87 جزء من ح 5.
(2) مثير الأحزان: ص 22.
540
ولا أقتل الحسين. فقال له مروان كالمستهزئ به: أصبت. ودعا الوليد الحسين (عليه السلام)
وابن الزبير، فقال ابن الزبير للحسين (عليه السلام): فيم تراه بعث إلينا في هذه الساعة؟
فقال له: إني أظن أن طاغيتهم قد هلك فيريد معاجلتنا بالبيعة ليزيد الخمير قبل أن
يدعو الناس، فقد رأيت البارحة فيما يرى النائم أن منبر معاوية منكوسا وداره
تشتعل بالنيران.
ثم عاودهما رسول الوليد، فدخل الحسين (عليه السلام) منزله واغتسل وتطهر وصلى
أربعا وعشرين ركعة ودعا واستخار الله تعالى، ثم أقبل نحو الوليد حتى انتهى إلى
الباب، فأذن له، فدخل وسلم، فرد الوليد عليه وقال له: هذا كتاب أمير المؤمنين
يزيد بن معاوية. فنظر فيه الحسين (عليه السلام) وقال: إلى غد وننظر. فقال له: انصرف حتى
تأتينا مع الناس. فقال له مروان: والله لئن فارقك ولم يبايع الآن لم تقدر عليه أبدا،
احبسه حتى يبايع أو تضرب عنقه. فقال له الحسين (عليه السلام): يا بن الزرقاء هذا يقتلني
وأنت معه. فقال الوليد: ويحك يا مروان ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بقتل
الحسين (1).
وصرفهما مروان، ثم ندم على صرفهما وأرسل إليهما. فأما ابن الزبير فبعث
بأخيه جعفر حتى لين الوليد على إتيانه من الغد، فلما جنه الليل هرب مع أخويه
مصعب والمنذر.
وأتى الحسين (عليه السلام) أهل بيته فقالوا له: نحن معك حيث أخذت. فخرج من
عندهم فاستقبله مروان. فقال له: يا أبا عبد الله أطعني وبايع أمير المؤمنين يزيد.
فاسترجع الحسين (عليه السلام) وقال له: ويلك يا مروان أمثلك يأمرني بطاعته وأنت
اللعين بن اللعين على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فراده مروان، فخرج مغضبا (2).
ثم دخل على ابن الحنفية فودعه وبكيا حتى اخضلت لحاهما، وتهيأ ابن
الحنفية للخروج معه، فأمره بالتخلف ينتظر ما يرد عليه من أمره.



(1) راجع الإرشاد: ص 200، واللهوف في قتلى الطفوف: ص 9.
(2) راجع الإرشاد: ص 201، والمناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 88.
541
فلما كان في بعض الليل أتى قبر النبي (صلى الله عليه وآله) يودعه، وصلى ما شاء الله أن
يصلي، وغلبته عيناه فرأى كأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ملائكة محتوشين به، فاحتضنه
وقبل بين عينيه وقال له: يا بني العجل العجل إلى جدك وأبيك وأمك وأخيك.
فانتبه (عليه السلام) فأخبر به أهل بيته، فما رأى أكثر باكيا وباكية من ليلته. ثم ودعهم
وخرج فيمن خرج معه من ولده وأخوته وبني أخوته وبني عمه نحو مكة فقدمها
وأقام بها خمسة أشهر أو أربعة، فورد عليه نحو ثمانمائة كتاب من أهل العراقين
ببيعة أربعة وعشرين ألفا.
فبعث مسلم بن عقيل رحمة الله عليه، وكان شجاعا قويا، وكان يأخذ الرجل
فيرمي به فوق البيت. فخرج مسلم حتى أتى المدينة فاكترى أعرابيين دليلين،
فأخذا به البرية، فمات أحدهما عطشا، وكتب إلى الحسين (عليه السلام) يستأذنه في
الرجوع، فأجابه أن امض لما أمرتك. فخرج حتى قدم الكوفة، ونزل دار
المختار بن أبي عبيد الثقفي، وبايعه من أهلها ثمانية عشر ألفا سوى اهل البصرة
فكتب مسلم (رضي الله عنه) إلى الحسين (عليه السلام) يستقدمه.
فدخل عبد الله (1) بن مسلم بن أبي ربيعة الحضرمي حليف بني أمية على
النعمان بن بشير وكان والي الكوفة فأخبره خبره وقال له: لا يصلح [ما ترى
إلا الغشم، و] هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوك رأي المستضعفين. فقال له
النعمان: لئن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إلي من أن أكون من
الأعزين في معصية الله.
ثم خرج عبد الله بن مسلم وكتب إلى يزيد بن معاوية يخبره، ثم كتب اليه
عمارة بن عقبة بمثل كتابه، ثم كتب إليه عمر بن سعد بن أبي وقاص بمثل ذلك.
فلما وصلت الكتب إلى يزيد دعا سرجون مولى معاوية فقال له: ما رأيك؟
إن حسينا قد وجه إلى الكوفة مسلم بن عقيل يبايع له وقد بلغني عن النعمان ضعف
وقول سيئ فمن ترى أن أستعمل على الكوفة؟ وكان يزيد عاتبا على عبيد الله



(1) في الأصل: عبيد الله.
542
ابن زياد. فقال له سرجون: أرأيت معاوية لو نشر لك أكنت آخذا برأيه؟ قال: نعم.
قال: فأخرج سرجون عهد عبيد الله بن زياد على الكوفة وقال: هذا رأي معاوية،
فضم المصرين إلى عبيد الله بن زياد. فقال يزيد: أفعل. وكتب إليه بولايته على
الكوفة مع البصرة (1)، وأمره أن يدس إلى مسلم حتى يأخذه.
وخرج عبيد الله بن زياد حتى أتى الكوفة فدخلها متلثما، فجعل يمر
بمجالسهم ويسلم عليهم فيردون عليه: وعليك السلام يا ابن رسول الله، وهم
يظنون أنه الحسين (عليه السلام). فنزل القصر ودفع إلى مولى له يقال له معقل أربعة آلاف
درهم وقال له: تعرف موضع مسلم بن عقيل، فإذا لقيته فادفع إليه المال وقل له:
تستعين به على أمرك. فخرج وفعل ذلك ثم رجع إلى ابن زياد فأخبره بتحول
مسلم إلى منزل هاني بن عروة.
ودخل على ابن زياد وجوه أهل الكوفة ومعهم عمرو بن حريث ومحمد بن
الأشعث وشريح بن هانئ، فقال لهم: أين هانئ بن عروة؟
فخرج حريث حتى أتى هانئا وقال له: إن الأمير ذكرك. فقال: مالي وللأمير.
ولم يزل به حتى ركب إليه. فلما رآه عبيد الله قال له: أين مسلم بن عقيل؟ قال:
والله ما أنا دعوته، ولو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه. فرماه بعمود كان معه فشجه.
وبلغ إلى مسلم خبره فخرج بمن عنده من الرجال فرأوا قومهم وأشرافهم عند
ابن زياد فانصرفوا عنه حتى ما أمسى معه إلا أربعمائة، فجاء أصحاب ابن زياد
فقاتلهم مسلم قتالا شديدا حتى اختلط الظلام، فتركوه وحده، فخرج متوجها نحو
أبواب كندة، فالتفت فإذا هو لا يحس أحدا يدله على الطريق، فمضى على وجهه
لا يدري أين يذهب حتى خرج إلى دور بني جبلة من كندة، فمضى حتى انتهى إلى
باب امرأة يقال لها طوعة، وهي واقفة تنتظر ولدها بلالا، فسلم عليها واستسقاها
ماء، فسقته وجلس، وأدخلت الإناء ثم خرجت وقالت: يا عبد الله ألم تشرب ماء؟
قال: بلى. قالت: فاذهب إلى أهلك. فقام وقال لها: يا أمة الله مالي في هذا المصر



(1) الإرشاد: ص 204 - 205، بحار الأنوار: ج 44 ص 335 - 337 باب 37 جزء من ح 2.
543
منزل ولا عشيرة أنا مسلم بن عقيل. قالت: ادخل. فدخل بيتا في دارها غير البيت
الذي تكون فيه، وعرضت عليه العشاء فلم يتعش.
وجاء ولدها فرآها تكثر دخول البيت فرابه ذلك، فسألها وشدد عليها في
السؤال فعرفته بخبر مسلم بن عقيل بعد أن أخذت عليه العهود والمواثيق أن
لا يشعر بذلك أحدا.
فلما أصبح مضى إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وأخبره بمكان
مسلم بن عقيل عند أمه، فأخبر عبد الرحمن أباه وهو عند ابن زياد، فعرف ابن
زياد سرارة. فقال له: قم فاتني به الساعة.
فقام وبعث معه قومه مع عبد الله بن عباس السلمي وكانوا سبعين رجلا من
قيس حتى أتوا الدار التي فيها مسلم بن عقيل.
فلما سمع وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال علم أنه قد اتي، فخرج إليهم
بسيفه، واقتحموا عليه الدار، فشد عليهم وضربهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار،
ثم عادوا فشد عليهم كذلك، فاختلف هو وبكر بن حمران الأحمري بضربتين،
فضرب بكر فم مسلم فقطع شفته العليا وأسرع السيف في السفلى وفصلت ثنيتاه،
وضربه مسلم في رأسه ضربة منكرة وثناه بأخرى على حبل العاتق كادت تطلع
على جوفه. فلما رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق البيت وأخذوا يرمونه بالحجارة
ويلهبون النار في أطنان القصب ثم يلقونها عليه من فوق البيت. فلما رأى ذلك
خرج عليهم مصلتا بسيفه في السكة. فقال له محمد بن الأشعث: لك الأمان لا تقتل
نفسك. وهو يقاتلهم ويقول:
أقسمت لا اقتل إلا حرا * وإن رأيت الموت شيئا نكرا
ويخلط البارد سخنا مرا * رد شعاع الشمس فاستقرا
كل امرئ يوما يلاقي شرا * أخاف أن أكذب أو أغرا
فقال له محمد بن الأشعث: إنك لا تكذب ولا تغر ولا تخدع، إن القوم بنو عمك
وليسوا بقاتليك. وكان قد أثخن بالحجارة وعجز عن القتال، فانتهز وأسند ظهره

544
إلى حائط تلك الدار، فأعاد ابن الأشعث عليه القول: لك الأمان. قال: آمن؟ قال:
نعم. فقال للقوم الذين معه: لي الأمان؟ قال القوم له: نعم، إلا عبد الله (1) بن العباس
فإنه قال: لا ناقة لي في هذا ولا جمل، وتنحى. فقال له مسلم: أما والله لو لم
تؤمنوني ما وضعت يدي في أيديكم. واتي ببغلة فحمل عليها، واجتمعوا حوله
وانتزعوا سيفه، فكأنه عند ذلك يئس من نفسه فدمعت عيناه ثم قال: هذا أول
الغدر (2).
وأقبل ابن الأشعث بابن عقيل إلى باب القصر، واستأذن فاذن له، فدخل على
ابن زياد فأخبره بخبر ابن عقيل وما كان من أمانه له. فقال له عبيد الله: وما أنت
والأمان. فسكت ابن الأشعث.
وخرج رسول ابن زياد فأمر بإدخال ابن عقيل، فلما دخل لم يسلم على ابن
زياد بالامرة، فقال له بعض الحرس: ألا تسلم على الأمير. فقال: إن كان يريد قتلي
فما سلامي عليه، وإن كان لا يريد قتلي ليكثر سلامي عليه. فقال له ابن زياد:
لعمري لتقتلن. قال: دعني أوصي إلى بعض قومي. فنظر مسلم إلى بعض جلساء
عبيد الله فيهم عمر بن سعد بن أبي وقاص، فقال له: يا عمر إن بيني وبينك قرابة ولي
إليك حاجة وقد يجب عليك نجح حاجتي، وهي سر.
فامتنع عمر أن يسمع منه، فقال له عبيد الله: لم تمتنع أن تنظر في حاجة ابن
عمك. فقام معه وجلسا حيث ينظر إليهما ابن زياد، فقال له: علي بالكوفة دين
استدنته منذ قدمتها سبعمائة درهم فبع سيفي ودرعي واقضها عني، وإذا قتلت
فاستوهب جثتي فوارها، وابعث إلى الحسين من يرده.
فقال عمر بن سعد لابن زياد: إنه قال كذا وكذا. فقال ابن زياد: إنه لا يخونك
الأمين ولكن قد يؤتمن الخائن، أما ماله فهو لك ولسنا نمنعك منه، وأما جثته فإنا
لا نبالي إذا قتلناه ما صنع بها، وأما الحسين فإن هو لم يردنا لم نرده.
ثم أمر به فاصعد فوق القصر فقال: اضربوا عنقه ثم أتبعوه جسده. ودعا



(1) كذا، والصواب: عبيد الله.
(2) الإرشاد: ص 206 - 214، بحار الأنوار: ج 44 ص 352 - 353 باب 37 جزء من ح 2.
545
بكر بن حمران الأحمري الذي ضرب مسلم بن عقيل رأسه بالسيف وقال له:
تكون أنت الذي تضرب عنقه. فصعد به وهو يكبر ويستغفر الله ويصلي على
رسوله، فأشرف به على موضع الحدادين فضرب عنقه واتبع جسده رأسه (1).
فصل
وكان خروج مسلم بن عقيل رحمة الله عليهما بالكوفة يوم الثلاثاء لثمان
مضين من ذي الحجة سنة ستين. وقتل رحمة الله يوم الأربعاء لتسع خلون منه يوم
عرفة. وكان توجه الحسين (عليه السلام) من مكة إلى العراق يوم خروج مسلم بالكوفة،
وهو يوم التروية بعد مقامه في مكة بقية شعبان وشهر رمضان وشوالا وذا القعدة
وثمان ليال خلون من ذي الحجة سنة ستين (2).
من أمالي السمعاني: قال الشعبي، عن ابن عمر أنه كان بماء له فبلغه أن
الحسين بن علي (عليهما السلام) قد توجه إلى العراق، فلحقه على مسير ثلاث ليال، فقال له:
أين تريد؟ قال: العراق، وإذا معه طوامير وكتب فقال: هذه كتبهم وبيعتهم. فقال:
لا تأتهم فخيره فقال: هذه بيعتهم. قال: لا تأتهم. فأبى، فقال: إني محدثك حديثا:
إن جبرائيل (عليه السلام) أتى النبي (صلى الله عليه وآله) فخيره بين الدنيا والآخرة، فاختار الآخرة ولم
يرد الدنيا، وأنكم بضعة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا ينالها منكم رجل أبدا، وما صرفها
الله تعالى عنكم إلا للذي هو خير لكم.
قال: فأبى أن يرجع، فاعتنقه ابن عمر وبكى، قال: استودعك الله من قتيل.
وقال إبراهيم بن ميسرة: سمعت طاووسا يقول: سمعت ابن عباس رضي الله
عنهما يقول: استشارني الحسين بن علي (عليهما السلام) في الخروج إلى العراق، فقلت:
لولا أن يزري بي وبك لنشبت يدي في رأسك. فكان الذي رد علي أن قال:
لئن اقتل في مكان كذا وكذا أحب إلي أن يستحل في بمكة قال ابن عباس:



(1) الإرشاد: ص 214 - 216، بحار الأنوار: ج 44 ص 355 - 357 باب 37 من تاريخ
الحسين (عليه السلام) ضمن ح 2.
(2) الإرشاد: ص 218.
546
فكان ذلك الذي سلا نفسي عنه (1).
وحدث جعفر بن سليمان، قال: حدثني من شافه الحسين (عليه السلام) بهذا الكلام،
قال: حججت فأخذت ناحية الطريق أتعسف الطريق، فوقعت إلى أبنية وأخبية،
فأتيت أدناها فسطاطا فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: للحسين بن علي صلوات الله
عليهما. فقلت: ابن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قالوا: نعم. قلت: فأيها هو؟
فأشاروا إلى فسطاط. فأتيته، فإذا هو قاعد عند عمود الفسطاط، وإذا بين يديه
كتب كثيرة يقرأها. فقلت: بأبي أنت وأمي ما أجلسك في هذا الموضع الذي ليس
فيه أنيس ولا منفعة. قال: إن هؤلاء - يعني السلطان وأتباعه - أخافوني، وهذه
كتب أهل الكوفة إلي، وهم قاتلي لا محالة، فإذا فعلوا ذلك لم يتركوا حرمة إلا
انتهكوها، فيسلط الله عليهم من يذلهم حتى يتركهم أذل من فرم الأمة (2) الفرمة
بالتسكين والفرم: ما تعالج به المرأة قبلها ليضيق (3).
وقال بعض فزارة: نزلنا مع زهير بن القين منزلا لم نجد بدا عن مقاربة
الحسين بن علي (عليهما السلام)، فبينا نحن نتغدى إذ أقبل رسول الحسين (عليه السلام) حتى سلم
وقال: يا زهير بن القين إن أبا عبد الله بعثني إليك لتأتيه. فطرح كل انسان منا ما في
يده حتى كأنما على رؤوسنا الطير فقالت له امرأته: سبحان الله يبعث إليك ابن
رسول الله ثم لا تأتيه، لو أتيته فسمعت من كلامه ثم انصرفت فأتاه زهير بن القين
فما لبث أن جاء مستبشرا قد أشرق وجهه، فأمر بفسطاطه وثقله فقوض وحمل
إلى الحسين (عليه السلام)، ثم قال لامرأته: أنت طالق، إلحقي بأهلك فإني لا أحب أن
يصيبك بسببي إلا خير. ثم قال لأصحابه: من أحب منكم أن يتبعني وإلا فهو آخر
العهد، إني سأحدثكم حديثا: غزونا البحر ففتح الله علينا وأصبنا غنائم، فقال لنا
سلمان الفارسي رحمة الله عليه: أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم؟



(1) قريب منه ما في تاريخ الطبري: ج 4 ص 288.
(2) بحار الأنوار: ج 44 ص 368 باب 37 من تاريخ الحسين (عليه السلام). وفيه بدل " فرم الأمة ": قوم الأمة.
(3) في الأصل: ليذيق. وهو سهو، راجع القاموس (فرم).
547
قلنا: نعم. فقال: إذا أدركتم شباب آل محمد فكونوا أشد فرحا بقتالكم معهم مما
أصبتم اليوم من الغنائم. فأما أنا فأستودعكم الله. ثم لم يزل مع الحسين (عليه السلام)
حتى قتل رحمة الله عليه (1).
وروى عبد الله بن سليمان والمنذر بن المشمعل الأسديان، قالا: صحبنا
الحسين (عليه السلام) فلما وصلنا زرودا إذا نحن برجل من أهل الكوفة قد عدل عن
الطريق حين رأى الحسين (عليه السلام)، فوقف الحسين (عليه السلام) كأنه يريده ثم تركه ومضى،
ومضينا نحوه لنسأله، فلما انتهينا إليه قلنا: السلام عليك. قال وعليكما. قلنا: ممن
الرجل؟ قال: أسدي. قلنا: ونحن أسديان. ثم قلنا له: أخبرنا عن الناس وراءك.
قال: نعم لم أخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة، ورأيتهما
يجران بأرجلهما في السوق. فأقبلنا حتى وصلنا الحسين (عليه السلام) فقلنا له: رحمك الله
إن عندنا خبرا إن شئت حدثناك به سرا أو علانية. فنظر إلينا والى أصحابه وقال: ما
دون هؤلاء سر. فقلنا: رأيت الراكب الذي استقبلته عشية أمس؟ قال: نعم قد
أردت مسألته. فقلنا: قد والله كفيناك مسألته، وهو امرؤ منا ذو رأي وصدق وعقل،
وأنه حدثنا أنه لم يخرج من الكوفة حتى قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة
ورآهما يجران بأرجلهما في السوق.
فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، رحمة الله عليهما. يردد ذلك مرارا، ونظر إلى
بني عقيل وقال لهم: ما ترون فقد قتل مسلم؟ فقالوا: والله لا نرجع حتى نصيب
ثأرنا أو نذوق ما ذاق. فأقبل علينا الحسين (عليه السلام) وقال: لا خير في العيش بعد
هؤلاء. فعلمنا أنه قد عزم على المسير. فقلنا له: خار الله لك. فقال: رحمكما الله،
وسكت (2).
وقيل: إنه لما أتاه قتل مسلم بن عقيل وهاني هم بالرجوع إلى المدينة ثم عزم
فقال متمثلا:



(1) الإرشاد: ص 221.
(2) الإرشاد: ص 222.
548
سأمضي وما بالموت عار على امرء * إذا ما نوى حقا ولم يلف محرما
فإن مت لم أندم وإن عشت لم الم * كفى لك موتا أن تذل وترغما.
وقال أبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي: لما أقبل الحسين بن علي (عليهما السلام) أتى
قصر بني مقاتل ونزل، فرأى فسطاطا مضروبا، فقال: لمن هذا الفسطاط؟ فقيل:
لعبيد الله بن الحر الجعفي. ومع الحسين (عليه السلام) يومئذ الحجاج بن مسروق وزيد بن
معقل الجعفيان، فبعث إليه الحسين (عليه السلام) الحجاج بن مسروق، فلما أتاه قال له: يا بن
الحر أجب الحسين بن علي (عليهما السلام). فقال له: أبلغ الحسين أنه أنما دعاني إلى
الخروج من الكوفة حين بلغني أنك تريدها فرارا من دمك ودماء أهل بيتك، ولئلا
أعين عليك وقلت: إن قاتلته كان علي كبيرا وعند الله عظيما، وإن قاتلت معه ولم
اقتل بين يديه كنت قد ضيعت قتلته، وأنا رجل أحمى أنفا من أن أمكن عدوي
فيقتلني ضيعة، والحسين ليس له ناصر بالكوفة ولا شيعة يقاتل بهم.
فأبلغ الحجاج الحسين (عليه السلام) قول عبيد الله فعظم ذلك عليه، ودعا بنعليه فانتعل،
ثم أقبل يمشي حتى دخل على عبيد الله بن الحر الفسطاط، فأوسع له ابن الحر عن
صدر مجلسه وقام إليه حتى أجلسه، فلما جلس قال يزيد بن مرة: حدثني ابن
الحر قال: دخل علي الحسين (عليه السلام) ولحيته كأنها جناح غراب وما رأيت أحدا قط
أحسن ولا أملا للعين من الحسين، ولا رققت على أحد قط رقتي عليه حين رأيته
يمشي والصبيان حوله.
فقال له الحسين (عليه السلام): ما يمنعك يا بن الحر أن تخرج معي؟ فقال: لو كنت كائنا
مع أحد من الفريقين لكنت معك، ثم كنت من أشد أصحابك على عدوك، فأنا أحب
أن تعفيني من الخروج معك، ولكن هذه خيل لي معدة وأدلاء من أصحابي، وهذه
فرسي المحلقة فاركبها فوالله ما طلبت عليها شيئا إلا أدركته ولا طلبني أحد إلا فته
فدونكها فاركبها حتى تلحق بمأمنك، وأنا لك بالعيالات حتى أؤديهم إليك وأموت
وأصحابي عن آخرهم، وأنا كما تعلم إذا دخلت في أمر لم يضمني فيه أحد.
قال الحسين (عليه السلام) لابن الحر: فهذه نصيحة لنا منك؟ قال: نعم والله الذي لا فوقه

549
شئ. فقال له الحسين (عليه السلام): إني أنصح لك كما نصحت لي، إن استطعت أن لا تسمع
صراخنا ولا تشهد وقفتنا أو وقعة إن كانت بيننا فافعل، فوالله لا يسمع داعيتنا أحد
لا ينصرنا إلا أكبه الله في نار جهنم. ثم خرج الحسين (عليه السلام) من عنده وعليه جبة خز
دكناء وقلنسوة موردة ونعلان.
قال: ثم أعدت النظر إلى لحيته فقلت: أسواد ما أرى أم خضاب؟ فقال: يا بن
الحر عجل الشيب فعرفت أنه خضاب. قال: وخرج ابن الحر حتى أتى منزله على
شاطئ الفرات فنزله، وخرج الحسين (عليه السلام) فأصيب بكربلاء. فقال ابن الحر في
قتل الحسين (عليه السلام):
يقول أمير غادر وابن غادر * ألا كنت قاتلت الشهيد ابن فاطمة
ونفسي على خذلانه واعتزاله * وبيعة هذا الناكث العهد لائمة
فيا ندما أن لا أكون نصرته * ألا كل نفس لا تسدد نادمة
وإني لأني (1) لم أكن من حماته * لذو حسرة ما أن تفارق لازمة
سقى الله أرواح الذين تآزروا * على نصره سقيا من الغيث دائمة
وقفت على أجداثهم ومحالهم * فكاد الحشا ينفض والعين ساجمة
لعمري لقد كانوا مصاليت في الوغى * سراعا إلى الهيجا حماة ضيارمة
تأسوا على نصر ابن بنت نبيهم * بأسيافهم آساد غيل ضراغمة (2)
وقال عمر بن شمر: لما أقبل الحسين بن علي (عليهما السلام)، وعبيد الله بن زياد لعنه الله
أمير العراق، بعث الحصين بن تميم في أربعة آلاف فارس ومعه الحر بن يزيد
الرياحي يتلقى الحسين بن علي (عليهما السلام) ويمنعه الدخول إلى الكوفة.
قال: فساروا حتى انتهوا إلى القادسية، فأقام الحصين هناك وبعث الحر بن
يزيد في ألف فارس، فلقى الحسين (عليه السلام) ثم سايره حتى انتهى إلى كربلاء، فأحاط
به الحر وأصحابه ومنعوه الماء. فقال الحسين (عليه السلام): أي مكان هذا؟ قالوا: كربلاء.
قال: كرب وبلاء.



(1) في تذكرة الخواص: على أن.
(2) تذكرة الخواص: ص 270 - 271.
550
قال: وصبحه من الغد الحصين بن تميم في أربعة آلاف فارس، وحجار بن
أبجر في أربعة آلاف فارس، ومحمد بن الأشعث في ألف فارس، ومن بعد الغد
عمر بن سعد لعنه الله في أربعة آلاف فارس، وخرج عبيد الله بن زياد لعنه الله فنزل
النخيلة، وعهد إلى عمر بن سعد أن لا يمهله وأن يقتله، وجعل يسرب إليه الجيش
بعد الجيش [من] أهل الشجاعة والقوة حتى وافاه باثني عشر ألف مقاتل.
وقال عبد الله بن أبي الهذيل، عن أبيه، عن جده: وجه عبيد الله بن زياد لعنه الله
ستة عشر ألف فارس مع أربعة قواد، مع شبث بن ربعي لعنه الله أربعة آلاف، ومع
الشمر بن ذي الجوشن لعنه الله أربعة آلاف، ومع سنان بن أنس لعنه الله أربعة آلاف
ومع الحر بن يزيد أربعة آلاف، وولى عليهم عمر بن سعد لعنه الله.
فلما كان يوم الوقعة مضى عمر بن سعد إلى الفرات فاستقطع هو وصاحب له،
فلما سمع الأصوات والقتال أقبل على فرسه وقد أصاب الحسين (عليه السلام) جرح في
حلقه وهو يضع يده عليه فإذا امتلأت الدم قال: اللهم إنك ترى، ثم يعيدها فإذا
امتلأت قال: اللهم إن هذا فيك قليل.
فقال عمر بن سعد لعنه الله لشبث بن ربعي لعنة الله عليه: انزل فجئني برأسه.
قال: أنا بايعته ثم غدرت به ثم أنزل فاحتز رأسه؟ لا والله لا أفعل.
قال: إذن أكتب إلى عبيد الله بن زياد. قال: اكتب.
ثم قال لسنان بن أنس: احتز رأسه، فنزل ومشى إليه وهو يقول: أمشي إليك
ونفسي تعلم أنك السيد المقدم وأنك من خير الناس أبا واما. فاحتز رأسه ثم دفعه
إلى عمر بن سعد لعنه الله، وجعله في لبب (1) فرسه.
فلما قدموا الكوفة جاء سنان بن أنس لعنه الله فقال:
املأ ركابي فضة وذهبا * أنا قتلت السيد المهذبا
من خير خير الناس اما وأبا.



(1) اللبب: ما يشد على صدر الدابة أو الناقة (لسان العرب 1 / 732).
551
قال: اسكت لا يبلغ ذا عبيد الله بن زياد فيقطع لسانك من قفاك. فلم يعطه
درهما فما فوقه (1).
وروي عن زين العابدين (عليه السلام) أنه قال: لما صبحت الخيل أبي (عليه السلام) - وكان يوم
الجمعة وقيل يوم السبت - دعا براحلته فركبها، ونادى بأعلى صوته: يا أهل العراق
- وكلهم يسمعون - وقال: يا أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما
يحق لكم علي حتى أعذر إليكم، فإن أعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد، وإن لم
تعطوني النصف من أنفسكم فاجمعوا أمركم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة، ثم
انصتوا إلي ولا تنظرون، إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين. ثم
حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي (صلى الله عليه وآله). ثم قال:
أما بعد فانسبوني فانظروا من أنا ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها فانظروا
هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم وابن وصيه وابن عمه
وأول المؤمنين المصدق لله ولرسوله (صلى الله عليه وآله) بما جاء به من عند ربه؟ أوليس حمزة
سيد الشهداء عمي؟ أوليس جعفر الطيار في الجنة بجناحين عمي؟ أولم يبلغكم
ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لي ولأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة، فإن صدقتموني
بما أقول وهو الحق والله ما تعمدت كذبا منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله، وإن
كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم، اسألوا جابر بن عبد الله
الأنصاري وأبا سعيد الخدري وسهل بن سعد الساعدي وزيد بن الأرقم وأنس بن
مالك يخبرونكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لي ولأخي، أما في
هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟
فقال له شمر بن ذي الجوشن لعنه الله: هو يعبد الله على حرف إن كان يدري
ما يقول.
فقال له حبيب بن مطاهر: والله إني لأراك تعبد الله على سبعين حرفا، وأنا
أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول، قد طبع الله على قلبك.



(1) أنساب الأشراف: ج 3 ص 410 قريب منه.
552
ثم قال لهم الحسين (عليه السلام): فإن كنتم في شك من هذا أو تشكون أني ابن بنت
نبيكم فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم،
ويحكم أتطلبوني بقتيل منكم قتلته، أو مال لكم استهلكته، أو بقصاص من جراحة.
فأخذوا لا يكلمونه.
فنادى: يا شبث بن ربعي، يا حجار بن أبجر، يا قيس بن الأشعث، يا يزيد بن
الحارث، ألم تكتبوا إلي أن قد أينعت الثمار واخضر الجنان وإنما تقدم على جند
لك مجندة.
فقال له قيس بن الأشعث: ما ندري ما تقول ولكن انزل على حكم بني عمك
فإنهم لن يروك إلا ما تحب.
فقال له الحسين (عليه السلام): لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار
العبيد. ثم نادى: يا عباد الله إني عذت بربي وربكم أن ترجمون، أعوذ بربي وربكم
من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب.
ثم إنه (عليه السلام) أناخ راحلته، وأمر عطية بن سمعان (1) فعقلها، وأقبلوا يزحفون
نحوه، فلما رأى الحر بن يزيد أن القوم قد صمموا على قتال الحسين (عليه السلام) قال
لعمر بن سعد: أي عمر أتقاتل أنت هذا الرجل؟ قال: أي والله قتالا أيسره أن تسقط
الرؤوس وتطيح الأيدي.
فأقبل الحر حتى وقف من الناس موقفا، ومعه رجل من قومه يقال له قرة بن
قيس، فقال له: يا قرة هل سقيت فرسك اليوم؟ قال: لا. قال: فما تريد أن تسقيه؟
قال قرة: فظننت والله أنه يريد أن يتنحى فلا يشهد القتال، فكره أن أراه حين
يصنع ذلك، فقلت له: لم أسقه وأنا منطلق أسقيه. فاعتزل ذلك المكان الذي كان فيه
وأخذ يدنو إلى الحسين (عليه السلام) قليلا قليلا، فقال له المهاجر بن أوس: ما تريد يا بن
يزيد، أتريد أن تحمل؟ فلم يجبه وأخذه مثل الأفكل وهي الرعدة.



(1) في الإرشاد: عقبة بن سمعان.
553
فقال له: إن أمرك لمريب، والله ما رأيت منك في موقف قط مثل هذا، ولو قيل
لي من أشجع أهل الكوفة ما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك؟ فقال له الحر: والله
أخير نفسي بين الجنة والنار، فوالله لا أختار على الجنة شيئا ولو قطعت وحرقت.
ثم ضرب فرسه فلحق الحسين (عليه السلام)، فقال له: جعلت فداك يا بن رسول الله أنا
صاحبك الذي حبستك عن الرجوع وسايرك في الطريق وجعجع بك في هذا
المكان، وما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضته عليهم، ولا يبلغون منك هذه
المنزلة، والله لو علمت أنهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت منك الذي ركبت، وإني
تائب إلى الله مما صنعت، فترى لي من ذلك توبة؟
فقال له الحسين (عليه السلام): نعم يتوب الله عليك فانزل. فقال: أنا لك فارس خير
مني راجل أقاتلهم على فرسي ساعة والى النزول ما يصير أمري. فقال له الحسين:
اصنع ما بدا لك رحمك الله.
فاستقدم أمام الحسين (عليه السلام) فقال: يا أهل الكوفة لامكم الهبل والعبر إذ دعوتم
هذا العبد الصالح، حتى إذا أتاكم أسلمتموه، ثم عدوتم عليه لتقتلوه، أمسكتم
بنفسه، وأخذتم بكظمه، وأحطتم به من كل جانب لتمنعوه عن التوجه إلى بلاد الله
العريضة، فصار كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضرا،
وحددتموه ونساءه وصبيته وأهله عن ماء الفرات الجاري الذي تشرب به اليهود
والنصارى والمجوس وتمرغ فيه خنازير أهل السواد وكلابهم وهامهم، قد
صرعهم العطش، بئس ما خلفتم محمدا في ذريته، لا سقاكم الله يوم العطش الأكبر.
فحمل عليه رجال يرمون بالنبل، فأقبل حتى وقف أمام الحسين (عليه السلام).
ونادى عمر بن سعد: يا دريد أدن برايتك. فأدناها، ثم وضع سهمه في كبد
قوسه، ثم رمى وقال: اشهدوا أني أول من رمى، ثم ارتمى الناس، وتبارزوا،
وقاتل أصحاب الحسين (عليه السلام) أشد القتال حتى انتصف النهار. فتقدم الحصين بن
تميم إلى أصحابه وكانوا خمسمائة نابل أن يرشقوا أصحاب الحسين (عليه السلام) بالنبل،
فرشقوهم فعقروا خيولهم وجرحوا الرجال وأرجلوهم، فاشتد القتال وكثر القتل

554
والجراح في أصحاب الحسين (عليه السلام) إلى أن زالت الشمس، فصلى الحسين (عليه السلام)
بأصحابه صلاة الخوف.
وتقدم حنظلة بن سعد الساعدي بين يدي الحسين عليه فنادى: يا أهل
الكوفة، يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب، يا قوم إني أخاف عليكم يوم
التناد، يا قوم لا تقتلوا حسينا فيسحتكم الله بعذاب وقد خاب من افترى. ثم تقدم
فقاتل حتى قتل رحمه الله.
وتقدم بعده شوذب مولى شاكر، فقال: السلام عليك يا با عبد الله ورحمة الله
وبركاته، أستودعك الله، ثم قاتل حتى قتل (رحمه الله).
ولم يزل يتقدم رجل من أصحابه فيقتل، حتى لم يبق مع الحسين (عليه السلام) إلا أهل
بيته خاصة.
فتقدم ابنه علي بن الحسين (عليه السلام) وأمه ليلى بنت أبي قرة بن عروة بن مسعود
الثقفي، وكان من أصبح الناس وجها، وله يومئذ تسع عشرة سنة، فشد على الناس
وفعل ذلك مرارا، وأهل الكوفة يتقون قتله، فبصر به مرة بن منقذ العبدي فقال:
علي آثام العرب إن مر بي بفعل مثل ذلك إن لم أثكله أباه. فمر يشتد على الناس
كما مر في الأول، فاعترضه مرة بن منقذ فطعنه فصرعه، واحتواه القوم فقطعوه
بأسيافهم. فجاء الحسين (عليه السلام) حتى وقف عليه فقال: قتل الله قوما قتلوك يا بني،
ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وانهملت عيناه
بالدموع، ثم قال: على الدنيا بعدك العفا. وأمر فتيانه فقال: احملوا أخاكم، فحملوه
حتى وضعوه بين يدي الفسطاط.
ثم رمى رجل من أصحاب عمر بن سعد يقال له عمر بن صبيح عبد الله بن
مسلم بن عقيل بسهم فاتقاه بكفه، فسمره على جبهته، فلم يستطع تحريكه، ثم
انتحى عليه آخر برمحه فطعنه في قلبه فقتله رحمة الله عليه.
وحمل عبد الله بن قطبة الطائي على عون بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب
فقتله.

555
قال حميد بن مسلم: فأنا كذلك إذ خرج علينا غلام كأن وجهه شقة قمر وفي
يده سيف وعليه قميص وإزار ونعلان قد انقطع شسع أحدهما، فقال لي عمر بن
سعد بن نفيل الأزدي: والله لأشدن عليه فقلت: سبحان الله وما تريد بذلك، دعه
يكفيكه الناس. قال: والله لأشدن عليه. فشد عليه فما ولى حتى ضرب رأسه
بالسيف ففلقه، ووقع الغلام لوجهه فقال: ياعماه، فجلى الحسين (عليه السلام) كما يجلي
الصقر ثم شد شدة ليث اغضب، فضرب عمر بن سعد بن نفيل بالسيف فاتقاها
بالساعد، فأطنها من لدن المرفق، فصاح صيحة سمعها أهل العسكر. ثم تنحى عنه
الحسين (عليه السلام). وحملت خيل أهل الكوفة لتستنقذه فتوطأته بأرجلها حتى مات.
وانحلت الغيرة فرأيت الحسين (عليه السلام) قائما على رأس الغلام وهو يفحص برجليه،
والحسين (عليه السلام) يقول: بعدا لقوم قتلوك ومن خصمهم فيك يوم القيامة جدك.
ثم قال: عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك أو يجيبك فلا ينفعك صوت
والله كثر واتره وقل ناصره. ثم حمله على صدره، فكأني أنظر إلى رجلي الغلام
تخطان الأرض، فجاء به حتى ألقاه مع ابنه علي بن الحسين (عليهما السلام) والقتلى من أهل
بيته. فسألت عنه فقيل لي: هو القاسم بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام).
ثم جلس الحسين (عليه السلام) أمام الفسطاط فاتي بإبنه عبد الله بن الحسين وهو
طفل، فأجلسه في حجره، فرماه رجل من بني أسد بسهم فذبحه، فتلقى
الحسين (عليه السلام) دمه، فلما ملأ كفه صبه في الأرض ثم قال: رب إن تكن حبست عنا
النصر من السماء فاجعل ذلك لما هو خير، وانتقم لنا من هؤلاء القوم الظالمين.
ثم حمله حتى وضعه مع القتلى من أهله.
ورمى عبد الله بن عقبة أبا بكر بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) فقتله.
فلما رأى العباس بن علي كثرة القتل في أهله قال لإخوته من أمه وهم عبد الله
وجعفر وعثمان: يا بني أمي تقدموا حتى أراكم قد نصحتم لله ولرسوله فإنه
لا ولد لكم.
فتقدم عبد الله فقاتل قتالا شديدا، واختلف هو وهاني الحضرمي ضربتين،
فقتله هاني.

556
وتقدم بعده جعفر بن علي، فقتله هاني أيضا.
وتعمد خولي بن يزيد الأصبحي عثمان بن علي، وقد قام مقام إخوته، فرماه
فصرعه. وشد عليه رجل من بني دارم فاحتز رأسه.
وحملت الجماعة على الحسين (عليه السلام) فغلبوه على عسكره، واشتد به العطش،
فركب المسناة يريد الفرات وبين يديه أخوه العباس، فاعترضه خيل ابن سعد لعنه
الله وفيهم رجل من بني دارم، فقال لهم: ويلكم حولوا بينه وبين الماء ولا تمكنوه
منه. فقال الحسين (عليه السلام): اللهم أضمه. فغضب الدارمي ورماه بسهم فأثبته في حنكه،
فانتزع الحسين (عليه السلام) السهم وبسط يديه تحت حنكه فامتلأت راحتاه بالدم فرمى
به ثم قال: اللهم إني أشكو إليك ما يفعل بابن بنت نبيك. ثم رجع إلى مكانه وقد
اشتد به العطش.
وأحاط القوم بالعباس فاقتطعوه عنه، فجعل يقاتلهم وحده حتى قتل رحمة
الله عليه.
ولما رجع الحسين (عليه السلام) من المسناة إلى فسطاطه تقدم إليه شمر بن ذي
الجوشن لعنه الله في جماعة من أصحابه وأحاط به، فأسرع منهم رجل يقال له
مالك بن اليسر الكندي فشتم الحسين (عليه السلام) وضربه على رأسه بالسيف، وكان عليه
قلنسوة فقطعها حتى وصل إلى رأسه فأدماه، فامتلأت القلنسوة دما، فقال له
الحسين (عليه السلام): لا أكلت بيمينك ولا شربت بها وحشرك الله مع الظالمين. ثم ألقى
القلنسوة، ودعا بخرقة فشد بها رأسه، واستدعى قلنسوة أخرى فلبسها واعتم
عليها. ورجع عنه شمر ومن كان معه إلى مواضعهم.
فمكثوا هنيئة ثم عادوا إليه وأحاطوا به، فخرج إليهم عبد الله بن الحسن بن
علي (عليه السلام)، وهو غلام لم يراهق من عند النساء حتى وقف إلى جنب الحسين (عليه السلام)،
وأهوى الحر بن كعب إلى الحسين (عليه السلام) بالسيف، فقال له الغلام: ويلك يا بن الخبيثة
أتقتل عمي، فضربه بالسيف فاتقاه الغلام بيده فأطنها إلى الجلدة، فنادى الغلام:
يا أمتاه، فأخذه الحسين (عليه السلام) وضمه إليه وقال: يا بن أخي اصبر على ما نزل بك

557
واحتسب في ذلك الخير فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين. ثم رفع الحسين يده
وقال: اللهم إن متعتهم إلى حين ففرقهم فرقا، واجعلهم طرائق قددا، ولا ترض
الولاة عنهم أبدا فإنهم دعونا لينصرونا فعدوا علينا فقتلونا.
فحملت الرجالة يمينا وشمالا على من كان بقي مع الحسين (عليه السلام) فقتلوهم
حتى لم يبق معه إلا ثلاثة نفر أو أربعة.
فلما رأى الحسين (عليه السلام) ذلك دعا بسراويل يلمع فيها البصر ففزرها ثم لبسها.
فلما قتل (صلى الله عليه وآله) عمد الحر بن كعب لعنه الله إليه فسلبه السراويل وتركه مجردا،
وكانت يد الحر بعد ذلك تيبسان في الصيف حتى كأنهما عودان ويرطبان في
الشتاء فينضحان دما وقيحا إلى أن أهلكه الله.
فلما لم يبق مع الحسين (عليه السلام) إلا ثلاثة رهط من أهل بيته أقبل على القوم
يدفعهم عن نفسه والثلاثة يحمونه حتى قتل الثلاثة، وبقي وحده (صلى الله عليه وآله) وقد أثخن
بالجراح في رأسه وبدنه، وجعل يضاربهم بسيفه وهم يتفرقون عنه يمينا وشمالا.
فلما رأى ذلك شمر لعنه الله استدعى الفرسان فصاروا في ظهر الرجالة، وأمر
الرماة أن يرموه، فرشقوه بالسهام حتى صار كالقنفذ، فأحجم عنهم، فوقفوا بإزائه،
فنادى شمر بن ذي الجوشن لعنه الله الفرسان والرجالة فقال: ويحكم ما تنتظرون
بالرجل، ثكلتكم أمهاتكم. فحمل عليه من كل جانب، فضربه زرعة بن شريك على
كتفه اليسرى فقطعها، وضربه آخر منهم على عاتقه فكبا منها لوجهه، وطعنه
سنان بن أنس بالرمح فصرعه، وبدر إليه خولي بن يزيد الأصبحي فنزل ليحتز
رأسه فأرعد، فقال له شمر: فت الله في عضدك مالك ترعد؟ ونزل شمر إليه فذبحه،
ثم دفع رأسه إلى خولي بن يزيد وأمره بحمله إلى عمر بن سعد.
ونادى عمر بن سعد في أصحابه من ينتدب للحسين فيوطئه فرسه. فانتدب
عشرة، منهم إسحاق بن حبوه واحينس بن مرثد فداسوا الحسين (عليه السلام) بخيولهم
حتى رضوا ظهره.
$ الإمام سيد الشهداء (عليه السلام) / الوقائع المتأخرة عن قتله
وسرح عمر بن سعد من يومه ذلك - وهو يوم عاشوراء - برأس الحسين (عليه السلام)

558
مع خولي بن يزيد الأصبحي وحميد بن مسلم الأزدي إلى عبيد الله بن زياد لعنه
الله. وأمر برؤوس الباقين من أصحابه وأهل بيته فقطعت، فكانت اثنين وسبعين
رأسا، وسرح بها مع شمر بن ذي الجوشن وقيس بن الأشعث وعمرو بن الحجاج،
فأقبلوا حتى قدموا على ابن زياد لعنه الله.
وأقام عمر بن سعد بقية يومه واليوم الثاني إلى زوال الشمس ثم نادى في
الناس بالرحيل، وتوجه إلى الكوفة ومعه بنات الحسين وأخواته ومن كان معه من
النساء والصبيان، وعلي بن الحسين فيهم وهو مريض، فأنشد لسان الحال:
لما دنا الوقت لم يخلف له عده * وكل شئ لميقات وميعاد
حط القناع فلم تستر مخدرة * ومزقت أوجه تمزيق إيراد
حان الوداع فضجت كل صارخة * وصارخ من مفداة ومن فادي
سارت حمولهم والنوح يصحبها * كأنها إبل يحدوا بها الحادي
كم سال في الحال من دمع وكم حملت * تلك الظعائن من قطعات أكباد
ولما رحل ابن سعد خرج قوم من بني أسد كانوا نزولا بالغاضرية، فصلوا على
الحسين وأصحابه، ودفنوا الحسين حيث قبره الآن، ودفنوا علي بن الحسين
الأصغر عند رجليه، وحفروا للشهداء من أهل بيته وأصحابه الذين صرعوا حوله
مما يلي رجلي الحسين (عليه السلام) وجمعوهم فدفنوهم جميعا، ودفنوا العباس بن
علي (عليهما السلام) في موضعه الذي قتل فيه على طريق الغاضرية حيث قبره الآن.
فصل
ولما وصل رأس الحسين (عليه السلام) ووصل ابن سعد من غد يوم وصوله ومعه بنات
الحسين وأهله، قال أبو إسحاق السبيعي، عن حذيم الأسدي، قال: دخلت الكوفة
سنة إحدى وستين ورأيت نساء أهل الكوفة يلتدمن قائمات، مهتكات الجيوب،
وسمعت عليا - يعني علي بن الحسين (عليهما السلام) - وهو يقول بصوت ضئيل قد أنحله

559
المرض: وإنكم لتبكون علينا فمن قتلنا غيركم؟! ورأيت زينب بنت علي (عليهما السلام) فلم
أر والله خفرة أنطق منها كأنما تنزع عن لسان أبيها، فأومأت إلى الناس أن اسكتوا،
فسكتت الأنفاس وهدأت الأجراس فقالت:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد خاتم المرسلين، أما بعد يا أهل
الكوفة، يا أهل الختل والخذل، أتبكون فلا سكتت العبرة، ولا هدأت الرنة، إنما
مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم،
وأن فيكم الصلف للضيف، وذل العبد للسيف، وملق الإماء، وغمز الأعداء، أو
كمرعى على دمنة، وكقصبة على ملحودة، ألا ساء ما تزرون، اي والله فابكوا كثيرا
واضحكوا قليلا، ذهبتم وبؤتم بشنارها، فلن ترحضوها عنكم بغسل، وأنى
ترحضون قتل من كان سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، ومدرة حجتكم، ومنار
محجتكم، وسيد شباب أهل الجنة. يا أهل الكوفة ألا ساء ما سولت لكم أنفسكم أن
سخط الله عليكم وأنتم في العذاب خالدون. أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم؟
وأي دم سفكتم؟ وأي كريمة له أبرزتم؟ * (لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات
يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا) * ولقد أتيتم بها شوهاء خرقاء طلاع
الأرض والسماء، أفعجبتم أن مطرت السماء دما؟ فلعذاب الآخرة أخزى وأنتم
لا تبصرون. فلا يستخفنكم المهل، فإنه لا يخفره البدار، ولا يخاف عليه فوت النار،
كلا إنه لبالمرصاد. فما سمعها أحد إلا بكى.
ولما دخل رأس الحسين (عليه السلام) الكوفة جلس ابن زياد لعنه الله للناس في قصر
الأمارة، وأذن للناس إذنا عاما وأمر بإحضار الرأس فوضع بين يديه، فجعل ينظر
إليه ويتبسم، وفي يده قضيب يضرب به ثناياه، وكان إلى جانبه زيد بن أرقم
صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو شيخ كبير، فلما رآه يضرب بالقضيب ثناياه قال له:
ارفع قضيبك عن هاتين الشفتين، فوالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت شفتي رسول
الله (صلى الله عليه وآله) عليهما ما لا أحصيه. وانتحب باكيا.
فقال له ابن زياد: أبكى الله عينيك، أتبكي لفتح الله، والله لولا أنك شيخ قد

560
خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك. ونهض زيد بن أرقم من بين يديه وصار
إلى منزله.
وادخل عيال الحسين (عليه السلام) على ابن زياد لعنه الله وفيهم علي بن
الحسين (عليهما السلام)، فقال له: من أنت؟
قال: أنا علي بن الحسين قال: أليس قتل الله علي بن الحسين؟ فقال له
علي (عليه السلام): قد كان لي أخ يسمى عليا قتله الناس. فقال ابن زياد: بل الله قتله. فقال
علي (عليه السلام): الله يتوفى الأنفس حين موتها. فغضب ابن زياد وقال: وبك حراك
لجوابي، وفيك بقية للرد علي؟! اذهبوا به فاضربوا عنقه فتعلقت به زينب عمته
وقالت: يا بن زياد حسبك من دمائنا واعتنقته، وقالت: لا والله لا أفارقه فإن قتلته
فاقتلني معه. فنظر ابن زياد لعنه الله إليها وإليه ساعة ثم قال: عجبا للرحم، والله إني
لأظنها ودت إني قتلتها معه، دعوه فإني أراه لما به.
ولما أصبح ابن زياد لعنه الله بعث برأس الحسين (عليه السلام) فدير به في سكك
الكوفة كلها وقبائلها، فروي عن زيد بن أرقم أنه قال: مروا به علي وهو على رأس
رمح وأنا في غرفة لي، فلما حاذاني سمعته يقرأ: * (أم حسبت أن أصحاب الكهف
والرقيم كانوا من آياتنا عجبا) * فقف والله شعري علي، وناديت: رأسك والله يا بن
رسول الله أعجب وأعجب (1).
فصل
ولما فرغ القوم من التطواف برأس الحسين (عليه السلام) بالكوفة ردوا إلى باب القصر،
فدفعه ابن زياد إلى زجر بن قيس، ودفع اليه رؤوس أصحابه، وسرحه إلى يزيد بن
معاوية، وأنفذ معه جماعة (2).
وروى النظنزي في كتاب الخصائص، عن جماعة، عن سليمان بن مهران



(1) الإرشاد: ص 233 - 245.
(2) الإرشاد: ص 245.
561
الأعمش، قال: بينا أنا في الطواف أطوف بالبيت وكنا بالموسم إذ رأيت رجلا
يدعو ويقول في دعائه: اللهم اغفر لي وأنا أعلم أنك لا تغفر لي قال.. فارتعت لذلك،
ثم ونوت إلى الرجل فقلت: يا هذا أنت في حرم الله عز وجل وهذه أيام حرم
في شهر عظيم، فلم تأيس من المغفرة؟
فقال: يا هذا إن ذنبي عظيم. فقلت: أعظم من تهامة؟ قال: نعم. قلت أعظم من
الجبال الرواسي؟ قال: نعم وإن شئت أخبرتك. فقلت: أخبرني: قال: اخرج بنا عن
الحرم إلى الحل. فخرجنا من الحرم حتى أتينا شعب أبي طالب، فقلت له: يا هذا
حدثني بحديثك فقد كادت نفسي تتلف شوقا. فقال: اخرج عن شعب أبي طالب
فإني ما كنت لأقعد في شعب رجل سعيت في قتل ولده. فخرجنا عن الشعب
وجلسنا في ظاهر مكة، فقال لي: أنا أحد من كان في العسكر المشؤوم عسكر
عمر بن سعد حين قتل الحسين (عليه السلام)، وكنت أحد الأربعين الذين حملوا الرأس إلى
يزيد قبح الله وجهه، وكان السبب في ذلك إنا فارقنا الكوفة وحملناه على طريق
الشام فنزلنا على دير النصارى، وكان الرأس معنا مركوز على رمح ومعه
الأحراس، فوضعنا الطعام وجلسنا لنأكل، وإذا بكف تكتب على حائط الدير:
أترجو أمة قتلت حسينا * شفاعة جده يوم الحساب
قال: فجزعنا لذلك جزعا شديدا، وأهوى بعضنا إلى الكف ليأخذها فغابت. ثم
عاد أصحابي إلى الطعام ليأكلوا فإذا الكف قد عادت تكتب مثل الأول، فقام
أصحابنا إليها فغابت، فامتنعت من الطعام وما هنأني أكله.
ثم أشرف علينا راهب من الدير فرأى نورا ساطعا من فوق الرأس، فأشرف
فرأى عسكرا، فقال الراهب للحرس: من أين جئتم؟ قالوا: من العراق حاربنا
الحسين بن علي (عليه السلام). فقال الراهب: ابن فاطمة الزهراء ابن بنت رسولكم وابن عم
نبيكم. قالوا: نعم. قال: تبا لكم يا معاشر القوم، والله لو كان لعيسى ابن لحملناه على
أحداقنا، ولكن لي إليكم حاجة. قالوا: وما هي؟ قال: قولوا لرئيسكم عندي عشرة
آلاف دينار ورثتها عن أبي وورثها أبي عن جدي ليأخذها ويعطيني الرأس يكون

562
عندي إلى وقت الرحيل، فإذا رحل رددته إليه.
فأخبروا عمر بن سعد بذلك فقال: خذوا منه الدنانير وأعطوه الرأس إلى وقت
الرحيل.
فجاؤوا إلى الراهب فقالوا: هات المال حتى نعطيك الرأس. فأدلى الراهب
جرابين في كل جراب خمسة آلاف دينار. فدعا عمر بالناقد والوزان فانتقدا
ووزنا ودفعها إلى جارية له، وأمر أن يعطى الرأس. فأخذ الراهب الرأس فغسله
ونظفه وحشاه بمسك وكافور كان عنده ثم جعله في حرير ووضعه في حجره، ولم
يزل ينوح ويبكي عليه حتى نادوه وطلبوا منه الرأس، وقال: يا رأس والله ما أملك
إلا نفسي فإذا كان غدا فاشهد لي عند جدك محمد (صلى الله عليه وآله) إني أشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله أسلمت على يديك وأنا مولاك. ثم
قال لهم: إني أحتاج أن أكلم رئيسكم بكلمة وأعطيكم الرأس.
فدنا عمر بن سعد منه فقال له: سألتك بالله وبحق محمد أن لا تعود إلى ما كنت
تفعله بهذا الرأس، ولا يخرج هذا الرأس من هذا الصندوق.
فقال له: أفعل. فأعطاهم الرأس ونزل من ديره، ولحق ببعض الجبال يعبد الله
تعالى.
ومضى عمر بن سعد لعنة الله عليه ففعل بالرأس مثل ما كان يفعل في الأول،
فلما دنا من دمشق قال لأصحابه: انزلوا هذه الليلة حتى ندخل غدا دمشق. قال:
ففعلوا، فلما نزل عمر بن سعد لعنه الله قال للجارية: علي بالجرابين، فأحضرا بين
يديه، فنظر إلى خاتمه، ثم أمر أن يفتحهما فإذا الدنانير قد تحولت خرقا، فنظروا
إلى سكتها فإذا على جانب مكتوب: * (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) * (1)
وعلى الوجه الآخر مكتوب: * (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) * (2) فقال:
إنا لله وإنا إليه راجعون خسرت الدنيا والآخرة. ثم قال لغلمانه: اطرحوها في النهر،



(1) إبراهيم: 42.
(2) الشعراء: 227.
563
فطرحوها. ودخل دمشق من الغد، وأدخل الرأس إلى يزيد اللعين، ودخل عليه
رأس اليهود فرأى الرأس بين يديه، فقال: يا أمير المؤمنين ما هذا الرأس؟ فقال:
رأس خارجي خرج علينا بالعراق. قال: من هو؟ قال: الحسين. قال: ابن من؟ قال:
ابن علي بن أبي طالب. قال: ومن أمه؟ قال: فاطمة. قال: ومن فاطمة؟ قال: بنت
محمد. قال: نبيكم؟ قال: نعم. قال: لا جزاكم الله خيرا، بالأمس كان نبيكم واليوم
قتلتم ابن ابنته، ويحك أن بيني وبين داود (عليه السلام) نيفا وثلاثين أبا فإذا رأتني اليهود
سجدوا لي. ثم مال إلى الطشت فأخذ الرأس فقبله وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن
محمدا رسول الله، وخرج. فأمر به يزيد اللعين فضربت عنقه.
واستفظع ذلك يزيد فأمر بالرأس فادخل القبة التي بإزاء مجلسه الذي كان
يأكل فيه ويشرب، ووكل بالرأس، وكنا تسعة وثلاثين رجلا ما خلا عمر بن سعد،
وأخذ عمر في قصف واكل وشرب وفي قلبي ما رأيت من أمر الكف والدنانير، ولم
يحملني النوم في تلك الليلة. فلما كان الليل سمعت دويا من السماء وقعقعة الخيل
وصهيلها، وإذا مناد ينادي: يا آدم اهبط، فهبط آدم (عليه السلام) ومعه خلق كثير من
الملائكة، فجلس وأحدقت الملائكة بالقبة ثم سمعت دويا كدوي الأول فإذا مناد
ينادي: يا إبراهيم اهبط فهبط إبراهيم (عليه السلام) ومعه خلق كثير من الملائكة، فأحدقت
الملائكة بالقبة. ثم سمعت دويا فإذا مناد ينادي: يا موسى اهبط فهبط موسى (عليه السلام)
ومعه خلق كثير من الملائكة، فأحدقت الملائكة بالقبة. ثم سمعت دويا آخر فإذا
مناد ينادي: يا عيسى اهبط، قال: فهبط عيسى (عليه السلام) ومعه خلق كثير من الملائكة،
فأحدقت الملائكة بالقبة. ثم سمعت دويا عظيما فإذا بقعقعة اللجم وصهيل الخيل
ومناد ينادي: يا محمد اهبط، قال: فهبط النبي (صلى الله عليه وآله) ومعه خلق كثير من الملائكة،
فأحدقت الملائكة بالقبة.
ثم إن النبي (صلى الله عليه وآله) دخل القبة فأخذ الرأس منها وجمع بين البدن والرأس،
وأخذه (صلى الله عليه وآله) وجاء به إلى آدم (عليه السلام)، وقال: يا أبي يا آدم ما ترى ما فعلت أمتي بولدي
بعدي. فاقشعر لذلك جلدي.
ثم قام جبرائيل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال له: يا محمد أنا صاحب الزلازل مرني

564
لأزلزل بهم الأرض فأصيح بهم صيحة يهلكون فيها. فقال: لا. فقال: يا محمد
فدعني وهؤلاء الأربعين الموكلين بالرأس. قال: دونك وإياهم. فجاء
جبرائيل (عليه السلام) فجعل ينفخ في واحد واحد منا نفخة فيهلك. فدنا مني فجلست،
فقال: قبحك الله وأنت جالس تسمع وترى؟ فقلت: نعم، يا محمد أدركني. فقال
النبي (صلى الله عليه وآله) دعوه دعوه والله لا يغفر الله له، فتركني. فأخذوا الرأس وافتقدوا الرأس
من تلك الليلة فما يعرف له خبر.
ولحق عمر بن سعد بالري، فلما لحق سلطانه محق الله عمره فتوفي فلم يدخلها.
فقال الأعمش: فقلت للرجل: تنح عني لا تحرقني بنارك. فوليت منصرفا
ولا أدري ما كان من خبره (1).
وقال المنهال بن عمرو: أنا والله رأيت الحسين (عليه السلام) حين حمل وأنا بدمشق
وبين يديه رجل يقرأ الكهف حتى بلغ قوله: * (أم حسبت أن أصحاب الكهف
والرقيم كانوا من آياتنا عجبا) * (2) فأنطق الله الرأس بلسان ذلق ذرب وقال: أعجب
من أصحاب الكهف قتلي وحملي (3).
قيل: ولما وضعت الرؤوس بين يدي يزيد لعنه الله وفيها رأس الحسين (عليه السلام)
قال:
يفلق هاما من رجال أعزة * علينا وهم كانوا أعق وأظلما
ثم قال لعلي بن الحسين (عليه السلام): يا بن حسين أبوك قطع رحمي وجهل حقي
ونازعني سلطاني فصنع الله به ما قد رأيت. فقال علي بن الحسين (عليهما السلام): * (ما
أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن
ذلك على الله يسير) * (4).
فقال يزيد لابنه خالد: أردد عليه. فلم يدر خالد ما يرد. عليه فقال له يزيد:



(1) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 578 - 582 ح 2 مع اختلاف يسير.
(2) الكهف: 9.
(3) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 577 ح 1.
(4) الحديد: 22.
565
قل له: * (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) * (1).
ثم دخل بالنساء والصبيان واجلسوا بين يديه، فرأى هيئة قبيحة، فقال: قبح
الله ابن مرجانة لو كانت بينكم وبينه قرابة ورحم ما فعل هذا بكم ولا بعث بكم على
هذا. ثم أمر بالنسوة أن ينزلن في منزل على حدة معهن أخوهن علي بن
الحسين (عليهم السلام)، فأفرد لهم دار تتصل بدار يزيد، وأقاموا أياما.
ثم ندب يزيد النعمان بن بشير وقال له: تجهز لتخرج بهؤلاء النسوة إلى
المدينة، وتقدم بكسوتهم، وأنفذ معهم في جملة النعمان بن بشير رسولا تقدم إليه
أن يسير بهم في الليل ويكونون أمامه، فإذا نزلوا تنحى عنهم. وفرق أصحابه
حولهم كهيئة الحرس لهم، فسار معهم في جملة النعمان بن بشير ولم يزل ينازلهم
في الطريق كما وصاه يزيد وترفق بهم حتى دخلوا المدينة (2).
$ الإمام سيد الشهداء (عليه السلام) / الحوادث التي حدثت عند قتله
فصل
في الحوادث التي حدثت عند قتل الحسين (عليه السلام)
مما رواه السمعاني في أماليه والنطنزي في الخصائص: روى علي بن عاصم،
عن حصين، قال: كنت بالكوفة فجاءنا قتل الحسين (عليه السلام)، فمكثنا ثلاثا كأن
وجوهها وجدرانها طليت رمادا. قلت: مثل من كنت يومئذ؟ قال: رجل متأهل (3).
وحدث رزين، قال: حدثتني سلمى، قالت: دخلت على أم سلمة رضي الله عنها
وهي تبكي، فقلت: ما يبكيك؟ قالت: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المنام وعلى رأسه
ولحيته التراب. فقلت: مالك يا رسول الله؟ قال: شهدت قتل الحسين (عليه السلام) آنفا (4).
ومن ذلك: ما رواه حماد عن عمار بن أبي عمار: أن ابن عباس رأى



(1) الشورى: 30.
(2) الإرشاد: ص 247.
(3) روي هذا المعنى في الفصول المهمة: ص 197.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 55.
566
النبي (صلى الله عليه وآله) في منامه يوما بنصف النهار وهو أشعث أغبر وفي يده قارورة فيها دم.
قلت: يا رسول الله ما هذا الدم؟ قال: دم الحسين لم أزل ألتقطه منذ اليوم. فاحصي
ذلك اليوم فوجد قتل فيه (1).
حدث علي بن زيد بن جذعان، قال: استيقظ ابن عباس من نومه فاسترجع
وقال: قتل الحسين والله. فقال له أصحابه: حلاء يا بن عباس. قال: حلاء، رأيت
رسول الله (صلى الله عليه وآله) في النوم ومعه زجاجة من دم فقال: ألا تعلم ما صنعت أمتي من
بعدي، قتلوا ابني الحسين، وهذا دمه ودماء أصحابه أرفعه إلى الله تعالى.
قال: فكتب ذلك اليوم والذي قال فيه وتلك الساعة، فما لبثوا إلا أربعة
وعشرين يوما حتى جاءهم الخبر بالمدينة أنه قتل ذلك اليوم وتلك الساعة (2).
ومن ذلك: ما رواه عامر بن سعد البجلي، قال: لما قتل الحسين (عليه السلام) رأيت
النبي (صلى الله عليه وآله) في المنام فقال لي: ائت البراء بن عازب فاقرأه مني السلام، وأخبره أن
قتلة الحسين في النار، وإن كاد الله تبارك وتعالى أن يسحت الناس كلهم بعذاب.
فأتيت البراء، قال: خيرا رأيت، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من رآني في المنام فقد
رآني فإن الشيطان لا يتصور بصورتي.
ومن ذلك: عن أبي قبيل قال: لما قتل الحسين (عليه السلام) انكسفت الشمس كسفة
حتى بدت الكواكب نصف النهار، حتى ظننا أنها هي، يعني القيامة (3).
حدث سفيان بن عيينة، قال: حدثتني جدتي أم عيينة أن جمالا كان يحمل
ورسا وهو في قتلة الحسين (عليه السلام)، فصار ورسه رمادا (4).
ومن ذلك: ان آفاق السماء احمرت، فالحمرة التي ترى إلى الآن منه.
حدث هشام، عن محمد - يعني ابن سيرين - قال: لم تر هذه الحمرة في آفاق
السماء حتى قتل الحسين (عليه السلام) (5).



(1) أسد الغابة: ج 2 ص 22.
(2) روي هذا المعنى في تذكرة الخواص: ص 268، وأسد الغابة: ج 2 ص 22.
(3 و 4 و 5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 54.
567
ومن ذلك: إنهم رأوا النيران في لحم الجزور.
حدث جرير، عن يزيد بن أبي زياد، قال: قتل الحسين (عليه السلام) ولي أربع عشرة
سنة، فصار الورس رمادا الذي كان في عسكرهم، واحمرت آفاق السماء،
ونحروا ناقة في عسكرهم فكانوا يرون في لحمها النيران (1).
ومن ذلك: إن السماء مطرت دما.
قالت نضرة الأزدية: لما قتل الحسين (عليه السلام) مطرت السماء دما، فأصبحنا
وحبابنا وجرارنا مملوءة دما (2).
قال سليم القاص: لما قتل الحسين (عليه السلام) لم نرفع حجرا إلا وجدنا تحته دما
عبيطا، وصار الورس رمادا (3).
حدث محمد بن سباع، عن أبيه قال: لما انتهب متاع الحسين (عليه السلام) كان فيما
انتهبوا ورس، فما امتشطت به امرأة إلا برصت (4).
وقال عمرو الكندي: حدثتني أم حيان، قالت: يوم قتل الحسين (عليه السلام) أظلمت
علينا ثلاثا، ولم يمس أحد شيئا من زعفرانهم فجعله على وجهه إلا احترق،
ولم تقلب حجر ببيت المقدس إلا أصبح تحته دما عبيطا (5).
وقال عبد الملك بن كردوس: حدثني حاجب ابن زياد، قال لعنه الله: لما قتل
الحسين (عليه السلام) صلى المغرب ثم دخل فإذا نار في وجهه، فقال: هكذا واتقى بيده
عن وجهه، ثم التفت فقال: هل رأيت الذي رأيت؟ قلت: نعم. قال: لا تحدث به
أحدا (6).



(1) روى أخطب خوارزم هذا المعنى سندا آخر في مقتل الحسين: ج 2 ص 91.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 54. والحباب جمع الحب، والجرار جمع الجرة: إناء
من خزف له بطن كبير وعروتان وفم واسع.
(3) روى أخطب خوارزم هذا المعنى بسند آخر في مقتل الحسين: ج 2 ص 90.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 56 مع اختلاف السند.
(5) بحار الأنوار: ج 45 ص 216 ذيل ح 39 نقلا عن بعض كتب المناقب.
(6) بحار الأنوار: ج 45 ص 308 باب 46 ح 11 عن بعض كتب المناقب.
568
وقال داود بن سرحان: حدثني عبيدة المكتب، قال: كان لنا جار في بني
سعيدة جسده أبيض لا ينكره، ورأسه رأس زنجي، فقلت له ذات يوم: يا عبد الله ما
هذا الذي أرى بك؟ فقال: أما أني ما أخبرت به أحدا وسأخبرك، أني كنت في
عسكر عمر بن سعد لعنه الله، وإني أخذت رأسا من رؤوس أصحاب الحسين (عليه السلام)
فأصبحت وبي ما ترى، ثم لست أنام إلا رأيت ذلك الرأس في النوم يأخذني
فيكبني على وجهي في النار، وقد عرف أهلي ذلك، فإذا نمت أيقظوني وأنبهوني.
وقال قرة بن خالد، عن أبي رجاء العطاردي، قال: لا تسبوا أهل هذا البيت
فإن خالي من بني الهجيم حين قتل الحسين (عليه السلام) قال: ألم تروا إلى هذا الفاسق ابن
الفاسق، فرماه الله تعالى بكوكبين من السماء فطمسا بصره (1).
حدث أبو حباب الكلبي، قال: أتيت كربلاء فقلت لرجل من أشراف العرب
بها: بلغنا أنكم تسمعون نوح الجن. فقال: ما تلقى حرا ولا عبدا إلا أخبرك أنه سمع
ذاك. قلت: فأخبرني ما سمعت أنت؟
قال: سمعتهم يقولون:
مسح الرسول جبينه * فله بريق في الخدود
أبواه من عليا قريش * وجده خير الجدود (2)
وحدث ابن جابر الحضرمي، عن أمه، قالت: سمعت الجن تنوح على
الحسين (عليه السلام) فتقول:
أنعي حسينا هبلا * كان حسين جبلا
وقال السدي: أتيت كربلاء أبيع البر بها، فعمل لنا شيخ من طي طعاما فتعشينا
عنده، فذكرنا قتل الحسين (عليه السلام) فقلنا: ما شرك في قتله أحد إلا مات بأسوأ ميتة.
فقال: ما أكذبكم يا أهل العراق فأنا ممن شرك في ذلك. فلم نبرح حتى دنا من
المصباح وهو يتقد بنفط فذهب يخرج الفتيلة بإصبعه فأخذت النار فيها، فذهب



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 58 مع اختلاف.
(2) كامل الزيارات: ص 94.
569
يطفئها بريقه فأخذت النار في لحيته، فعدا فألقى نفسه في الماء فرأيته كأنه حمهة (1).
وحدث عبد الرحمن بن مسلم، عن أبيه، قال: غزونا بلاد الروم فأتينا كنيسة
من كنائسهم قريبة من القسطنطنية وعليها شئ مكتوب، فسألنا أناسا من أهل
الشام يقرؤون بالرومية فإذا فيها مكتوب:
أترجو أمة قتلت حسينا * شفاعة جده يوم الحساب.
فسألنا من في أيدينا من الروم، فقالوا: هذا مكتوب قبل أن يبعث نبيكم
بزمان طويل (2).
وقال ابن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: أوحى الله تعالى إلى
محمد (صلى الله عليه وآله): إني قد قتلت بيحيى بن زكريا سبعين ألفا، وأني قاتل بابن بنتك
سبعين ألفا (3).
ومن ذلك: ما انفرد به النطنزي في كتاب الخصائص: روي عن ابن لهيعة، عن
أبي قبيل، قال: لما قتل الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) بعث برأسه إلى يزيد،
وشربوا في أول مرحلة فجعلوا يشربون ويتحيون بالرأس فيما بينهم، فخرجت
عليهم كف من حائط معها قلم من حديد وكتبت سطرا بدم:
أترجو أمة قتلت حسينا * شفاعة جده يوم الحساب (4).
وفي رواية أخرى كذلك: إلا أن يزيدا كان يشرب إذ خرجت إليه يد من
حائط وهو في شرب له مكتوب فيها بدم:
أترجو أمة قتلت حسينا * شفاعة جده يوم الحساب.
وقيل: سمع خاطب في المدينة في الهواء يقول:
يامن يقول بفضل آل محمد * بلغ رسالتنا بغير توان



(1) يعني: رمادا.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 61 قريب منه.
(3) بحار الأنوار: ج 45 ص 314 باب 46 ذيل ح 14 نقلا عن بعض كتب الأصحاب، مقتل
الخوازرمي: ج 2 ص 96.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 61.
570
قتلت شرار بني أمية سيدا * خير البرية ماجدا ذا شأن
ابن المفضل في السماء وأرضها * سبط النبي وهادم الأوثان
بكت المشارق والمغارب بعدما * بكت الأنام له بكل مكان
فابكوا الغريب بكربلا ورماله * ابن النبي وخيرة النسوان
فجاء فأخبروا به أم سلمة، فأبصرت القارورة صارت دما.
حدث علي بن محمد بن مهرويه وإسماعيل بن عبد الوهاب، قالا: حدثنا أبو
أحمد داود بن سليمان بن يوسف بن عبد الله الرازي، قال: سمعت علي بن موسى
الرضا، عن أبيه، عن جعفر الصادق (عليهم السلام)، قال: لما قتل الحسين بن علي (عليهما السلام) مر
بقبره أربعة آلاف (1) ملك فصعدوا إلى السماء، فأوحى الله عز وجل إليهم:
يا ملائكتي مررتم بأهل بيت نبيي ولم تنصروه! اهبطوا إلى قبره فقوموا عليه شعثا
غبرا إلى أن تقوم الساعة (2).
وحدث يحيى بن سالم، عن أبي أسامة، عن جعفر بن محمد (عليهما السلام)، قال: هبط
على قبر الحسين (عليه السلام) يوم أصيب - يعني يوم عاشوراء - سبعون ألف ملك يبكون
عليه إلى يوم القيامة (3).
وحدث علي بن مسهر، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، قال: لما قتل
عبيد الله بن زياد لعنه الله اتي المختار برأسه ورؤوس أصحابه فألقيت في الرحبة،
فقام الناس إليها، فبينا هم كذلك إذ جاءت حية عظيمة فتفرق الناس من فزعها،
فجاءت تتخلل الرؤوس حتى دخلت في منخر عبيد الله بن زياد لعنه الله ثم
خرجت من فيه، ثم دخلت في فيه وخرجت من أنفه، ففعلت به ذلك مرارا، ثم
ذهبت، ثم عادت وفعلت مثل ذلك، فجعلوا يقولون: قد جاءت قد جاءت قد
ذهبت قد ذهبت، لا يدرى من أين جاءت ولا أين ذهبت (4).



(1) في الأصل: ألف.
(2) كامل الزيارات: ص 119.
(3) كامل الزيارات: ص 84.
(4) ثواب الأعمال: ص 260 ح 9، تذكرة الخواص: ص 286 مختصرا.
571
وحدث محمد بن زكريا، قال: حدثنا عبد الله بن الضحاك، قال: حدثنا
هشام بن محمد، قال: لما أجري الماء على قبر الحسين (عليه السلام) نضب بعد أربعين
يوما وامتحى أثر القبر، فجاء أعرابي من بني أسد فجعل يأخذ قبضة قبضة ويشمه
حتى وقع على قبر الحسين (عليه السلام)، فبكى حين شمه وقال: بأبي وأمي ما كان أطيبك
وأطيب قبرك وتربتك، ثم أنشأ يقول:
أرادوا ليخفوا قبره عن وليه * فطيب تراب القبر دل على القبر.
وهذا القتل أفظع وأشنع ما وقع في الاسلام. قيل للحسن البصري: يا با سعد
قتل الحسين بن علي (عليهما السلام). فبكى حتى اختلج جبناه (1) ثم قال: واويلاه قتل ابن
دعيها ابن نبيها (2).
وروي أن الله تعالى أهبط إليه أربعة ألف ملك، وخير النصر على أعدائه أو
لقاء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فاختار لقاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأمرهم عز وجل بالمقام عند
قبره، فهم شعث غبر ينتظرون قيام القائم (عليه السلام) (3).
وقال أبو عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام): وجد بالحسين (عليه السلام) ثلاث وثلاثون
طعنة، وأربع وعشرون ضربة (4). ووجد في جبة خز دكناء كانت عليه مائة خرق
وبضعة عشر خرقا ما بين طعنة وضربة ورمية. وروي: مائة وعشرون.
وصار إلى كرامة الله تعالى يوم السبت العاشر من المحرم. وقيل: الاثنين سنة
إحدى وستين من الهجرة. وسنه يومئذ ثمان وخمسون سنة.
$ الإمام سيد الشهداء (عليه السلام) / بعض ما رثي به
وقد جاءت روايات كثيرة في فضل زيارته، بل في وجوبها، قال الصادق (عليه السلام):
زيارة الحسين (عليه السلام) واجبة على كل من يقر للحسين بالإمامة من الله عز وجل (5).



(1) كذا في أنساب الأشراف، وفي الأصل: أجبناه - أو - اجبتاه.
(2) أنساب الأشراف: ج 3 ص 227.
(3) ورد هذا المضمون في روايتين ملفقا: انظر اللهوف: ص 44، وكامل الزيارات: ص 84.
(4) اللهوف: ص 56 وفيه: وأربع وثلاثون ضربة.
(5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 128.
572
فصل
في بعض ما رثي به الحسين (عليه السلام)
قيل: وقف سليمان بن قبة بمصارع الحسين (عليه السلام) وأصحابه بكربلاء، فاتكأ
على قوسه وجعل يبكي ويقول:
وإن قتيل الطف من آل هاشم * أذل رقابا من قريش فذلت (1)
مررت على أبيات آل محمد * فلم أرها أمثالها يوم حلت
فلا يبعد الله الديار وأهلها * وان أصبحت منهم برغمي تخلت (2).
ألم تر أن الأرض أضحت مريضة * لفقد حسين والبلاد اقشعرت
وكانوا رجاء ثم عادوا رزية * لقد عظمت تلك الرزايا وجلت (3)
وهو أول من رثى الحسين (عليه السلام).
وقال احمد الصنوبري في مثل ذلك:
هل أصاخ كما عهدنا أصاخا * حبذا ذلك المناخ مناخا
ذكر يوم الشهيد بالطف أودى * بصماخي فلم يدع لي صماخا
ذي الدماء التي تطيل مواليه * اختضابا بطيبها والتطاخا
متبعات نساؤه النوح نوحا * رافعات اثر الصراخ صراخا
منعوه ماء الفرات وظلوا * يتعاطونه زلالا نقاخا
ابن بنت النبي أكرم به ابنا * واسناخ جده أسناخا
ابن من وازر النبي ووالى * ابن من خادن النبي وواخا
ابن من كان للكريهة ركابا * وفي وجه هولها رساخا
للطلي تحت قسطل الحرب ضرابا * وللهام في الوغى شداخا
بأبي عترة النبي وأمي * صدعني معاندا وأصاخا



(1) في المناقب: أذل رقاب المسلمين فذلت.
(2) هذا البيت غير موجود في المناقب.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 117.
573
خير ذا الخلق صبية وشبابا * وكهولا وخيرهم أشياخا
أخذوا صدر مفخر العز مذ كانوا * وخلوا للعالمين المخاخا
التقيين حيث كانوا جيوبا * حين لا تأمن الجيوب اتساخا
يألفون الطوى إذا ألف الناس * استواء من فيئهم وأطباخا
بهواهم يزهو ويشمخ من قد * كان في الناس زاهيا شماخا
خلقوا أسخياء لا متساخين * وليس السخي من يتساخا
أهل فضل تناسخوا الفضل شيبا * وشبابا أكرم بذاك انتساخا
ما عليهم أناخ كلكله الدهر * ولكن على الأنام أناخا
وعليك السلام يا بن رسول الله * ما لاح ضوء نجم وباخا.
وقال أبو السعادات: اجتمعت بالمعري فجرى بيننا كلام، فقال أبو العلاء:
ما سمعت في مراثي الحسين بن علي (عليهما السلام) مرثية تكتب.
قال: فقلت له: قد قال رجل من فلاحي بلدنا أبياتا يعجز عنها شيخ تنوخ.
فقال لي: أنشد. فأنشدته:
رأس ابن بنت محمد ووصيه * للمسلمين على قناة ترفع (1)
والمسلمون بمنظر وبمسمع * لا جازع فيهم ولا متوجع (2)
كحلت بمنضرك العيون عماية * وأصم رزؤك كل اذن تسمع
أيقظت أجفانا وكنت لها كرى * وأنمت عينا لم يكن بك تهجع
ما روضة إلا تمنت أنها * لك تربة (3) ولخط قبرك مضجع (4)
وقيل: إن أول من رثى الحسين (عليه السلام) عقبة بن عميق السهمي من بني سهم بن
عوف بن غالب، وهو قوله:
$ الإمام سيد الشهداء (عليه السلام) / أولاده
إذا العين قرت في الحياة وأنتم * تخافون في الدنيا فأظلم نورها



(1) في المناقب: للناظرين على قناة يرفع.
(2) في المناقب: لا منكر منهم ولا متفجع.
(3) في المناقب: منزل.
(4) لابن شهرآشوب: ج 4 ص 126 والأبيات منسوبة إلى دعبل.
574
مررت على قبر الحسين بكربلا * ففاض عليه من دموعي غزيرها
فما زلت أبكيه وأرثي لشجوه (1) * ويسعد عيني دمعها وزفيرها
وبكيت من بعد الحسين عصائبا * أطافت به من جانبيها قبورها
سلام على أهل القبور بكربلا * وقل لها مني سلام يزورها
سلام بآصال العشي وبالضحى * تؤديه نكباء الرياح ومورها (2)
ولا يبرح الوفاد زوار قبره * يفوح عليهم مسكها وعبيرها (3)
فصل
في ذكر ولد الحسين (عليهم السلام)
وكان للحسين (عليه السلام) ستة أولاد: علي بن الحسين الأكبر، كنيته: أبو محمد، وأمه:
شاه زنان بنت كسرى يزدجرد.
وعلي بن الحسين الأصغر قتل مع أبيه بالطف، وقد تقدم ذكره، وأمه: ليلى بنت
أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفية.
وجعفر بن الحسين، وأمه: قضاعية، وكانت وفاته في حياة الحسين (عليه السلام).
وعبد الله بن الحسين قتل مع أبيه صغيرا، جاءه سهم وهو في حجر أبيه فذبحه.
وسكينة بنت الحسين، وأمها: الرباب بنت امرؤ القيس بن عدي، وهي أم
عبد الله أيضا.
وفاطمة بنت الحسين، وأمها: أم إسحاق بن طلحة بنت عبيد الله تيمية.



(1) في المناقب: فما زلت أرثيه وأبكي لشجوه. والشجو: الهم والحزن.
(2) في المصدر: نكباء الصبا ودبورها.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 123.
575
الباب السادس
في ذكر أبي محمد
علي بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام)
وذكر مولده وشئ من أخباره
ومعجزاته ووقت وفاته وسببها
وموضع قبره وعدد أولاده
وشئ من أخبارهم

577
$ الإمام زين العابدين (عليه السلام) / مولده وبعض صفاته
فصل
في ذكر مولده وبعض صفاته (عليه السلام)
هو علي بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام).
وكنيته: أبو محمد، وكان يكنى أيضا أبا الحسن.
وكان مولده بالمدينة سنة ثمان وثلاثين من الهجرة.
أمه: شاه زنان بنت كسرى يزدجرد بن شهريار. ويقال: إن اسمها شهربانويه.
وفيها روايتان.
أما المفيد (رضي الله عنه) فإنه قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) ولى حريث بن جابر جانبا
من المشرق، فبعث إليه ببنتي يزدجرد بن شهريار، فنحل ابنه الحسين بن
علي (عليهما السلام) شاه زنان منهما، فأولدها زين العابدين، ونحل الأخرى محمد بن أبي
بكر فولدت له القاسم بن محمد بن أبي بكر، فهما ابنا خالة (1).
وأما أبو جعفر محمد بن جرير بن رستم الطبري - ليس التاريخي - فإنه قال:
لما ورد سبي الفرس إلى المدينة أراد عمر بن الخطاب بيع النساء وأن يجعل
الرجال عبيدا. فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد قال: " أكرموا
كريم كل قوم " فقال عمر: قد سمعته يقول: " إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه وإن
خالفكم " فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): هؤلاء قوم قد ألقوا إليكم السلم ورغبوا



(1) الإرشاد: ص 253.
579
في الاسلام، ولا بد من أن يكون لي منهم ذرية، وأنا اشهد الله وأشهدكم إني
قد عتقت نصيبي منهم لوجه الله تعالى. فقال جميع بني هاشم: قد وهبنا حقنا أيضا
لك. فقال: اللهم اشهد إني قد عتقت ما وهبوني لوجه الله. فقال المهاجرون
والأنصار: وقد وهبنا حقنا لك يا أخا رسول الله. فقال: اشهد أنهم قد وهبوا لي
حقهم وقبلته، وأشهدك أني قد عتقتهم لوجهك. فقال عمر: لم نقضت علي عزمي
في الأعاجم؟ وما الذي رغبك عن رأيي فيهم؟ فأعاد عليه ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)
في إكرام الكرماء. فقال عمر: فقد وهبت لله ولك يا با الحسن ما يخصني وسائر ما لم
يوهب لك. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): اللهم اشهد على ما قالوه وعلى عتقي إياهم.
فرغب جماعة من قريش في أن يستنكحوا النساء، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام):
هؤلاء لا يكرهن على ذلك ولكن يخيرن فما اخترنه عمل به.
فأشار جماعة إلى شهربانويه بنت كسرى، فخيرت وخوطبت من وراء
حجاب والجمع حضور، فقيل لها: من تختارين من خطابك؟ وهل أنت ممن
تريدين بعلا؟ فسكتت. فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): قد أرادت وبقي الاختيار.
فقال عمر: وما علمك بإرادتها البعل؟ فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
كان إذا أتته كريمة قوم لأولي لها وقد خطبت يأمر أن يقال لها: أنت راضية بالبعل،
فإن استحيت وسكتت جعل إذنها صماتها وأمر بتزويجها، فإن قالت " لا " لم تكره
على ما تختاره. وإن شهربانويه أريت الخطاب فأومت بيدها فاختارت الحسين
بن علي (عليهما السلام)، فأعيد القول عليها في التخيير فأشارت بيدها وقالت بلغتها: هذا إن
كنت مخيرة، وجعلت أمير المؤمنين وليها. وتكلم حذيفة بالخطبة.
فقال لها أمير المؤمنين (عليه السلام): ما اسمك؟ قالت: شاه زنان بنت كسرى.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): نه شاه زنان نيست مگر دختر محمد (صلى الله عليه وآله) (1)، وهي
سيدة النساء، أنت شهربانويه، وأختك مرواريد بنت كسرى.



(1) في الأصل: نه شاه زنان بنت بر امر محمد (صلى الله عليه وآله).
580
قالت: أريه (1).
وقال المبرد في الكامل: كان اسم أم علي بن الحسين سلافة من ولد يزدجرد،
معروفة النسب، وكانت من خيرات النساء (2).
ولقبه: ذو الثفنات، والمتهجد، والرهباني، وزين العابدين، وسيد العابدين،
والسجاد.
وبابه: يحيى بن أم الطويل المدفون بواسط، قتله الحجاج لعنه الله. ويروى أنه
أبو خالد الكابلي (3). والله أعلم.
وقال علي الرفاعي: كان لعلي بن الحسين (عليهما السلام) ناقة حج عليها ثلاثين حجة
أو أربعا وعشرين حجة ما قرعها قرعة قط (4).
قيل: وقال إبليس لعنه الله: يا رب إني قد رأيت العابدين لك من عبادك من
أول الدهر إلى عهد علي بن الحسين لم أر فيهم أعبد لك ولا أخشع منه، فأذن لي
إلهي أن أكيده لأعلم صبره. فنهاه الله جل اسمه عن ذلك، فلم ينته، فتصور لعلي بن
الحسين وهو قائم في صلاته في صورة أفعى له عشرة أرؤس محدودة الأنياب
مقلبة الأعين بالجمرة، وطلع عليه من جوف الأرض من مكان سجوده، ثم تطول،
فلم يرعد لذلك ولا نظر بطرفه إليه، فانخفض إلى الأرض في صورة الأفعى وقيض
على عشرة أصابع علي بن الحسين وأقبل يكدمها بأنيابه وينفخ عليها من نار
جوفه، وهو لا ينكسر طرفه إليه ولا يحرك قدميه عن مكانها ولا يختلجه شك
ولا وهم في صلاته، فلم يلبث إبليس حتى انقض عليه شهاب محرق من السماء،
فلما أحس به إبليس صرخ وقام إلى جانب علي بن الحسين (عليهما السلام) في صورته
الأولى، ثم قال: يا علي أنت سيد العابدين كما سميت وأنا إبليس والله لقد شاهدت
من عبادة النبيين والمرسلين من لدن آدم أبيك وإليك فما رأيت مثل عبادتك،



(1) دلائل الإمامة: ص 82.
(2) الكامل للمبرد: ج 2 ص 93 ط مصر.
(3) دلائل الإمامة: ص 80.
(4) شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار: ج 3 ص 272 - 273 ح 1179.
581
فلوددت أنك استغفرت لي، فإن الله كان يغفر لي. ثم تركه وولى وهو في صلاته
لا يشغله كلامه حتى قضى صلاته على تمامها (1).
وروي عنه (عليه السلام) أنه كان قائما يصلي حتى زحف ابنه محمد وهو طفل إلى بئر
كانت في داره بعيدة القعر فسقط فيها، فنظرت إليه أمه وأقبلت تضرب بنفسها من
حوالي البئر وتستغيث به وتقول: يا بن رسول الله غرق والله ابنك محمد، وكل ذلك
لا يسمع قولها ولا ينثني عن صلاته، وهي تسمع اضطراب ولدها في قعر البئر في
الماء فلما طال عليها ذلك قالت له جزعا على ابنها: ما أقسى قلوبكم يا أهل بيت
النبوة. فأقبل على صلاته ولم يخرج عنها إلا بعد كمالها وتمامها ثم أقبل عليها
فجلس على رأس البئر ومد يده إلى قعرها، وكانت لا تنال إلا برشاء طويل،
فأخرج ابنه محمدا بيده وهو يناغيه ويضحك ولم يبتل له ثوب ولا جسد بالماء،
فقال لها: هاك هو ولدك يا قليلة اليقين بالله. فضحكت بسلامة ولدها وبكت لقوله
يا قليلة اليقين بالله. فقال لها: لا تثريب عليك لو علمت أنني كنت بين يدي جبار
لو ملت بوجهي عنه لمال بوجهه عني أفمن ترى أرحم بعبده منه (2).
وقال أبو يونس القشيري، قال: حدثنا عمر بن دينار: إن زيد بن أسامة بن زيد
لما حضرته الوفاة جعل يبكي، فقال له زين العابدين (عليه السلام): ما يبكيك؟ قال: أبكي
على أن علي خمسة عشر ألف دينار. فقال له علي: لا تبك فهي علي وأنت منها
برئ (3).
وحدث عن سفيان قال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) يحمل معه جرابا من خبز
فيتصدق به فيقول: بلغني أن الصدقة تطفئ غضب الرب (4).
وقال الحافظ بن ناصر: إذا خرج للصلاة (5).
وقال عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا القرشي، قال: حدثني محمد بن أبي



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 134، بحار الأنوار: ج 46 ص 58 باب 5 من تاريخ
السجاد (عليه السلام) ح 11.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 135.
(3) الإرشاد: ص 274.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 294.
(5) كذا في نسخة الأصل.
582
معشر، قال: حدثني أبو نوح الأنصاري، قال: وقع حريق في بيت فيه علي بن
الحسين (عليه السلام) وهو ساجد فجعلوا يقولون له: يا بن رسول الله النار النار يا بن رسول
الله، فما رفع رأسه حتى أطفئت، فقيل له: ما الذي ألهاك عنها؟ فقال: ألهتني عنها
النار الأخرى (1).
وقيل: إن ناقته (عليه السلام) تلكأت عليه بين جبال رضوى، فأناخها ثم أراها السوط
والقضيب، ثم قال: لتنطلقن أو لأفعلن، فانطلقت (2).
وقال (عليه السلام): إن موت الفجاءة تخفيف على المؤمن وأسف على الكافر، وإن
المؤمن ليعرف غاسله وحامله، فإن كان له عند ربه خير ناشد حملته أن يعجلوا به،
وإن كان غير ذلك ناشدهم أن يقصروا به.
فقال ضمرة بن سمرة: إن كان كما تقول أقفز من السرير وضحك وأضحك
فقال (عليه السلام): اللهم إن ضمرة ضحك وأضحك لحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) فخذه أخذ
أسف. فمات فجأة فأتى بعد ذلك مولى لضمرة زين العابدين (عليه السلام) فقال: أصلحك
الله إن ضمرة مات فجأة وإني لأقسم لك والله إني لسمعت صوته وأنا أعرفه كما
كنت أعرف صورته في حياته وهو يقول: الويل لضمرة بن سمرة، خلا مني كل
حميم، وحللت بنار الجحيم، وبها مبيتي والمقيل. فقال علي بن الحسين (عليه السلام):
الله أكبر هذا جزاء من ضحك وأضحك بحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) (3).
وقيل: دخل أبو جعفر ولده فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، فرآه
قد اصفر لونه من السهر، ورمضت عيناه من البكاء، ودبرت جبهته، وانخرم أنفه من
السجود، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة. فقال أبو جعفر (عليه السلام): فلم
أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء، فبكيت رحمة له، فإذا هو يفكر، فالتفت إلي
بعد هنيهة من دخولي فقال: يا بني أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة
علي بن أبي طالب (عليه السلام). فأعطيته فقرأ فيها شيئا يسيرا ثم تركها من يده ضجرا



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 150.
(2) كشف الغمة: ج 2 ص 109.
(3) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 586 ح 8.
583
وقال: من يقوى على عبادة علي بن أبي طالب (1).
وقيل: كان علي بن الحسين (عليه السلام) إذا توضأ اصفر لونه، فيقول اهله: ما هذا الذي
يغشاك؟ فيقول: أتدرون لمن أتأهب للقيام بين يديه (2)؟!
وقال زرارة بن أعين: سمع قائل في جوف الليل يقول: أين الزاهدون في
الدنيا الراغبون في الآخرة؟ فهتف هاتف من ناحية البقيع يسمع صوته ولا يرى
شخصه: ذاك علي بن الحسين (عليهما السلام) (3).
وحدث عبد الله بن محمد، قال: سمعت عبد الرزاق يقول: جعلت جارية لعلي
ابن الحسين (عليهما السلام) تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة، فنعست فسقط الإبريق من يد
الجارية فشجه، فرفع (عليه السلام) رأسه إليها، فقالت الجارية: إن الله يقول: * (والكاظمين
الغيظ) * قال: كظمت غيظي. قالت: * (والعافين عن الناس) * قال لها: عفا الله عنك
قالت: * (والله يحب المحسنين) * قال: اذهبي أنت حرة لوجه الله (4).
ويروى أنه قيل له (عليه السلام): إنك من أبر الناس ولست تأكل مع أمك في صفحة؟!
فقال: أكره أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها فأكون قد عققتها (5).
وقال أبو حفص الأعشى، عن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين (عليهما السلام)،
قال: خرجت حتى انتهيت إلى هذا الحائط فاتكيت عليه، فإذا رجل عليه ثوبان
أبيضان ينظر في تجاه وجهي، ثم قال: يا علي بن الحسين مالي أراك كئيبا حزينا،
أعلى الدنيا حزنك فرزق الله حاضر للبر والفاجر؟ فقلت: ما على هذا أحزن، وأنه
$ الإمام زين العابدين (عليه السلام) / كلامه
لكما تقول. قال: فعلى الآخرة فهو وعد صادق يحكم فيه ملك قاهر، فعلام خوفك؟
قال: قلت: أتخوف من فتنة ابن الزبير. فضحك ثم قال: يا علي بن الحسين هل
رأيت أحدا قط توكل على الله فلم يكفه؟ قلت: لا. قال: يا علي بن الحسين هل
رأيت أحدا قط خاف الله فلم ينجه؟ قلت: لا. قال: يا علي بن الحسين هل رأيت



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 149.
(2 و 3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 148.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 157 - 158.
(5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 162.
584
أحدا قط سأل الله فلم يجبه؟ قلت: لا. ثم نظرت إليه فإذا ليس قدامي أحد (1).
وقال يوسف بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: كان بالمدينة كذا وكذا أهل بيت
يأتيهم رزقهم وما يحتاجون إليه لا يدرون من أين يأتيهم، فلما مات علي بن
الحسين (عليهما السلام) فقدوا ذلك (2).
وقيل: حج هشام بن عبد الملك فاجتهد أن يستلم الحجر فلم يتمكن، وجاء
علي بن الحسين (عليهما السلام) فوقف له الناس وتنحوا له حتى استلم الحجر. فقال أهل
الشام: من هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا أعرفه. فقال الفرزدق: لكني أعرفه،
هذا علي بن الحسين (عليهما السلام)، وقال:
هذا ابن خير عباد الله كلهم * هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته * والبيت يعرفه والحل والحرم
يكاد يمسكه عرفان راحته * ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
إذا رأته قريش قال قائلها * إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم * أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله * بجده أنبياء الله قد ختموا
وليس قولك من هذا بضائره * العرب تعرف من أنكرت والعجم
يغضي حياء ويغضى من مهابته * ولا يكلم إلا حين يبتسم
ما قال لا قط إلا في تشهده * لولا التشهد كانت لاؤه نعم (3)
فصل
في ذكر نبذ من كلام زين العابدين (عليه السلام)
روي عنه (عليه السلام) أنه كان يقول: إن بين الليل والنهار روضة يرتعي في رياضها



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 137.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 153.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 169 مع اختلاف.
585
الأبرار، ويتنعم في حدائقها المتقون. فأدبوا رحمكم الله في سهر هذا الليل بتلاوة
القرآن في صدره، وبالتضرع والاستغفار في آخره، وإذا ورد النهار فأحسنوا قراه
بترك التعرض لما يرد بكم من محقرات الذنوب فإنها مشرفة بكم على قباح
العيوب، وكأن الرحلة قد أظلتكم، وكأن الحادي قد حدا بكم، جعلنا الله وإياكم
ممن أغبطه فهمه ونفعه علمه.
وقال (عليه السلام): ابن آدم لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وما كانت
المحاسنة (1) من همك، وما كان الخوف لك شعارا، والحزن لك دثارا. ابن آدم إنك
ميت ومبعوث وموقوف بين يدي الله عز وجل ومسؤول فأعد جوابا (2).
وقال (عليه السلام) لأبي حمزة الثمالي: أي البقاع أفضل؟ فقلنا: الله ورسوله وابن
رسوله أعلم؟ فقال: إن أفضل البقاع ما بين الركن والمقام، ولو أن رجلا عمر ما عمر
نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يصوم النهار ويقوم الليل في ذلك الموضع
ثم لقي الله بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئا (3).
وقال (عليه السلام): أربع من كن فيه كمل إيمانه ومحصت ذنوبه ولقي ربه وهو عنه
راض: من وفى الله بما جعل على نفسه للناس، وصدق لسانه مع الناس، واستحيى
من كل قبيح عند الله وعند الناس، وحسن خلقه مع أهله (4).
وقال (عليه السلام): لا تمتنع من ترك القبيح وإن كنت قد عرفت به، ولا تزهد في
مراجعة الجميل وإن كنت قد شهرت بتركه، وإياك والابتهاج بالذنب فإن الابتهاج
بالذنب أعظم من ركوبه (5).
وقال (عليه السلام): ما يسرني أن لي بنفسي من الذل حمر النعم (6).



(1) كذا، وفي الأمالي: المحاسبة.
(2) أمالي الطوسي: ج 1 ص 114.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 169.
(4) أمالي الطوسي: ج 1 ص 71 المجلس الثالث ح 106.
(5) بحار الأنوار: ج 78 ص 161 باب 21 كتاب الروضة جزء من ح 21 نقلا عن كتاب اعلام
الدين (مخطوط).
(6) الكافي: ج 2 ص 109 ح 1 قريب منه.
586
وقال (عليه السلام): الصبر من الغنائم، والجزع من الضعف.
وقال أبو جعفر محمد الباقر (عليه السلام): كان أبي زين العابدين (عليه السلام) إذا نظر إلى
الشباب الذين يطلبون العلم أدناهم اليه وقال: مرحبا بكم أنتم ودائع العلم،
ويوشك إذ أنتم صغار قوم أن تكونوا كبار آخرين.
وقال (عليه السلام): أبلغ شيعتنا أنه لن يغني عنهم من الله شيئا، وأن ولايتنا لن تنال
إلا بالورع.
وقال (عليه السلام):
أهوى هوى الدين واللذات تعجبني * فكيف لي بهوى اللذات والدين
نفسي تزين للدنيا وبهجتها * وحاجز من حذار الدين يثنيني.
وقال (عليه السلام): لا تكذب وإن نفعك، وأصدق ولو أضرك.
وقال (عليه السلام): إن الجسد إذا لم يمرض أشر، ولا خير في جسد يأشر (1).
وقال: فقد الأحبة غربة (2).
وكان (عليه السلام) يقول في مناجاته: اللهم إني أعوذ بك أن تحسن في لوامع العيون
علانيتي، وتقبح في خفيات العيون سريرتي. اللهم كما أسأت وأحسنت إلي، فإذا
عدت فعد علي (3).
وكان يقول: إن قوما عبدوا الله تعالى رهبة فتلك عبادة العبيد، وآخرين
عبدوه رغبة فتلك عبادة التجار، وقوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار (4).
وقال (عليه السلام) لابنه: يا بني اصبر على النوائب، ولا تتعرض للحقوق، ولا تجب (5)
أخاك إلى الأمر الذي مضرته عليك أكثر من منفعته له (6).



(1) كشف الغمة: ج 2 ص 102، وأشر يأشر أي بطر ومرح.
(2) كشف الغمة: ج 2 ص 102.
(3) كشف الغمة: ج 2 ص 75.
(4) تذكرة الخواص: ص 326.
(5) كذا في حلية الأولياء، وفي الأصل: لاتجنب، وكتب على فوقه: تحسب.
(6) حلية الأولياء: ج 3 ص 138.
587
وقال (عليه السلام): لا تقومن إلا لأحد أربعة: مأمول خيره، ومرجو عونه، ومقتبس
علمه، ومرهوب شره.
وقال (عليه السلام): ثلاث منجيات للمؤمن: كف لسانه عن الناس وعن اغتيابهم،
وشغله بما ينفعه لدنياه وآخرته، وطول بكائه على خطيئته (1).
وقال (عليه السلام): لكل أمر سبب، فأجملوا في الطلب، فكم من حريص خاب
ومجمل لم يخب.
وقال (عليه السلام): مجالس الصالحين داعية إلى الصلاح، وأدب العلماء زيادة في
العقل، وطاعة ولاة العدل تمام العز، واستتمام (2) المال تمام العقل، وإرشاد
المستشير قضاء لحق النعمة، وكف الأذى من كمال العقل وفيه راحة البدن عاجلا
وآجلا (3).
يا هشام إن العاقل لا يحدث من يخاف تكذيبه، ولا يسأل من يخاف منعه،
ولا يعد ما لا يقدر عليه، ولا يرجو ما يعنف برجائه، ولا يقدم على ما يخاف بفوته
العجز عنه.
فصل
في ذكر معجزات زين العابدين (عليه السلام)
$ الإمام زين العابدين (عليه السلام) / معجزاته
حدث سفيان بن وكيع، عن أبيه وكيع، عن الأعمش، قال: قال إبراهيم بن الأسود
التيمي: رأيت علي بن الحسين (عليه السلام) وقد أوتي بطفل مكفوف فمسح عينيه فاستوى
بصره، وجاؤوا إليه بأبكم فكلمه فأجابه، وجاؤوا إليه بمقعد فمسحه فسعى ومشى (4).



(1) تحف العقول: ص 204 مع اختلاف يسير.
(2) كذا وفي التحف: استنماء.
(3) بحار الأنوار: ج 78 ص 141 باب 19 ح 35 مع اختلاف يسير.
(4) دلائل الإمامة: ص 85.
588
وروى حسين بن أبي العلاء وأبو المغراء حميد بن المثنى جميعا، عن أبي
بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: جاء محمد بن الحنفية إلى علي بن الحسين (عليهما السلام)
فقال: يا علي ألست تقر بأني إمام عليك؟ فقال: يا عم لو علمت ذلك ما خالفتك،
وأن طاعتي عليك وعلى الخلائق مفروضة، يا عم أما علمت أني وصي وابن
وصي. وتشاجرا ساعة فقال علي بن الحسين (عليهما السلام): بمن ترضى يكون بيننا
حكما؟ فقال محمد: بمن شئت. فقال: أترضى أن يكون بيننا الحجر الأسود؟ فقال
محمد: سبحان الله أدعوك إلى الناس وتدعوني إلى حجر لا يتكلم. فقال علي: بلى
يتكلم، أما علمت أنه يأتي يوم القيامة وله عينان ولسان وشفتان يشهد لمن أتاه
بالموافاة، فندنوا أنا وأنت فندعوا الله عز وجل أن ينطقه لنا أينا حجة الله على
خلقه. فانطلقا وصليا عند مقام إبراهيم (عليه السلام) ودنوا من الحجر الأسود وقد كان ابن
الحنفية قال: لئن لم أجبك إلى ما دعوتني إليه إني إذا لمن الظالمين. فقال علي بن
الحسين لمحمد: تقدم يا عم إليه فإنك أسن مني. فقال محمد للحجر: أسألك بحرمة
الله وبحرمة رسوله وبحرمة كل مؤمن إن كنت تعلم أن حجة الله علي علي بن
الحسين إلا نطقت بالحق وبينت لنا ذلك. فلم تجبه. ثم قال محمد لعلي: تقدم
فاسأله. فتقدم علي فتكلم بكلام خفي لا يفهم، ثم قال: أسألك بحرمة الله وبحرمة
رسوله وبحرمة علي أمير المؤمنين وبحرمة الحسن والحسين وفاطمة بنت محمد
إن كنت تعلم أني حجه الله على عمي إلا نطقت بذلك وبينته لنا حتى يرجع عن
رأيه فقال الحجر بلسان عربي: يا محمد بن علي اسمع وأطع لعلي بن الحسين فإنه
حجة الله على خلقه. فقال ابن الحنفية عند ذلك: سمعت وأطعت وسلمت (1).
وحدث أبو علي بن همام، عن محمد بن مثنى، عن أبيه، عن عثمان بن زيد،
عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: دخلت حبابة الوالبية ذات يوم على علي
ابن الحسين (عليهما السلام) وهي تبكي، فقال لها: ما يبكيك؟ قالت: جعلني الله فداك يا بن



(1) دلائل الإمامة: ص 87.
589
رسول الله، أهل الكوفة يقولون: لو كان علي بن الحسين إمام عدل من الله كما
تقولين لدعا الله أن يذهب هذا الذي في وجهك. فقال لها: يا حبابة ادني مني.
فدنوت منه، فمسح بيده على وجهي ثلاث مرات ثم تكلم بكلام خفي، ثم قال:
يا حبابة قومي فأدخلي على النساء فسلمي عليهن وانظري في المرآة هل ترى
بوجهك شيئا؟ قالت: فدخلت على النساء فسلمت عليهن ونظرت في المرآة فكأن
الله لم يخلق في وجهي شيئا مما كان. وكان بوجهها برص (1).
وحدث خليفة بن هلال، قال: حدثنا أبو النمير علي بن يزيد، قال: كنت مع
علي بن الحسين (عليهما السلام) عندما انصرف من الشام إلى المدينة وكنت أحسن إلى
نسائه، فلما نزلوا المدينة بعثوا إلي بشئ من حليهن فلم آخذه وقلت: فعلت الذي
فعلت لله عز وجل فأخذ علي بن الحسين (عليهما السلام) حجرا أسود أصم فطبعه بخاتمه
وقال: خذه وسل كل حاجة لك منه. فوالذي بعث محمدا بالحق لقد كنت اسأله
الضوء في البيت فيسرج في الظلماء، وأضعه على الأقفال فتنفتح، وآخذه بيدي
وأقف بين يدي السلاطين فلا أرى (2).
وقال عبد الله بن عطاء: كنت قاعدا مع علي بن الحسين (عليهما السلام) إذ مر بنا عمر بن
عبد العزيز وفي رجله نعل شراكها فضة، وكان إذ ذاك شابا من أمجن الناس، فنظر
إليه زين العابدين (عليه السلام) فقال: يا بن عطاء أترى هذا المترف أنه لا يموت حتى يلي
أمر الناس، ولا يلبث في ملكه كثيرا، فإذا مات لعنه أهل السماوات واستغفر له
أهل الأرض (3).
$ الإمام زين العابدين (عليه السلام) / أولاده
وقيل: إن يد رجل وامرأة التصقتا على الحجر وهما في الطواف، فجهد كل
واحد منهما أن ينتزعاها فلم يقدرا، وقال الناس: اقطعوها، فبيناهم كذلك إذ دخل
زين العابدين وقد ازدحم الناس فأفرجوا له، فتقدم فوضع يده عليهما فانحلتا
وتفرقتا (4).



(1) دلائل الإمامة: ص 93.
(2) دلائل الإمامة: ص 85 - 86.
(3) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 584 ح 4.
(4) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 585 ح 5.
590
فصل
في ذكر وفاة زين العابدين (عليه السلام)
قبض (عليه السلام) بالمدينة في المحرم سنة خمس وتسعين من الهجرة، وقد كمل
عمره سبعا وخمسين سنة. ودفن بالبقيع مع عمه الحسن (عليهما السلام).
وكان سبب وفاته أن الوليد بن عبد الملك سمه.
ولما دفن ضربت امرأته على قبره فسطاطا (1).
وروي أنه لما توفي جاءت راحلته - التي حج عليها عشرين حجة وما قرعها
بسوط قط - إلى قبره وضربت بجرانها الأرض وذرفت عيناها وجعلت تحفص (2)
عند قبره (3).
وفي رواية: وجعلت تحن، فجاء غلام لهم فأخذ بمشفرها فاقتادها، فلما
كانت عشية دفن خرجت حتى صارت إلى القبر. فأخبر أبو جعفر (عليه السلام) فقال:
خذوها لا يراها الناس. وخرج أبو جعفر (عليه السلام) فردها إلى موضعها. ففعلت ذلك
ثلاث مرات. ثم إن الناس أقاموها فلم تقم، فقال أبو جعفر (عليه السلام): دعوها فإنها
تودعه، فلم تلبث إلا هنيئة ونفقت، فأمر أبو جعفر (عليه السلام) فحفر لها ودفنت (4).
فصل
في ذكر أولاد زين العابدين (عليه السلام)
وولد علي بن الحسين (عليهما السلام) خمسة عشر ولدا:
محمد المكنى أبا جعفر الباقر (عليه السلام)، أمه: أم الحسن بنت الحسن بن علي بن أبي
طالب (عليه السلام). وعبد الله والحسن والحسين أمهم أم ولد. وزيد وعمر لام ولد.



(1) دلائل الإمامة: ص 81.
(2) كذا، والظاهر تفحص.
(3) الكافي: ج 1 ص 467 ح 2 فريب منه.
(4) دلائل الإمامة: ص 81.
591
والحسين الأصغر وعبد الرحمن وسليمان لام ولد وعلي وكان أصغر ولد علي
ابن الحسين (عليهما السلام) وخديجة، أمهما أم ولد.
ومحمد الأصغر، أمه أم ولد. وفاطمة وعلية وأم كلثوم، أمهم أم ولد.
والعقب من ولد زين العابدين (عليه السلام) في ستة رجال: محمد بن علي الباقر،
وعبد الله الأرقط، وعمر بن علي، وزيد بن علي، والحسين الأصغر، وعلي بن علي.
والعقب من ولد عبد الله بن علي بن الحسين زين العابدين من محمد الأرقط
المجدر. ومنه في إسماعيل بن محمد، ومن إسماعيل بن محمد في رجلين
محمد بن إسماعيل، والحسين بن إسماعيل.
والعقب من ولد عمر بن علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) من علي بن عمر
وفيه العدد ومحمد بن عمر ومن علي بن عمر، في الحسن بن علي بن عمر الأشرف
والقاسم بن علي وعمر بن علي، ومحمد بن علي.
ومن محمد بن عمر أخي علي بن عمر من رجلين، من أبي عبد الله الحسين
بالكوفة والقاسم بن محمد بطبرستان، وعمر وجعفر لهما عقب بخراسان.
والعقب من ولد زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) من ثلاثة
نفر: الحسين وعيسى ومحمد.
ومن الحسين بن زيد في يحيى بن الحسين وفيه البيت، وعلي بن الحسين،
والحسين بن الحسين، والقاسم بن الحسين في صح، ومحمد بن الحسين في صح،
وفي إسحاق بن الحسين في صح، وعبد الله في صح.
ومن ولد محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) في
رجل واحد وهو جعفر بن محمد بن زيد، ومنه في ثلاثة: محمد وأحمد والقاسم.
والعقب من ولد الحسين بن علي بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) في خمسة رجال
منهم: عبيد الله وعبد الله وعلي وسليمان والحسن.
$ الإمام زين العابدين (عليه السلام) / زيد بن علي بن الحسين
ومن ولد عبد الله بن الحسين الأصغر في خمسة رجال منهم علي بن عبيد الله
ومحمد بن عبيد الله وجعفر بن عبيد الله وحمزة بن عبيد الله ويحيى بن عبيد الله.

592
ومن ولد عبد الله بن الحسين الأصغر ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي
طالب (عليهم السلام) في جعفر وحده.
ومنه في محمد العقيقي أعقب، وإسماعيل المنقذي أعقب، وأحمد المنقذي
أعقب.
ومن ولد علي بن الحسين الأصغر ابن علي بن الحسين بن علي بن
أبي طالب (عليهم السلام) في عيسى بن علي أعقب، وأحمد بن علي أعقب وهو المعروف
بجفينة، وموسى بن علي يعرف بحمصة أعقب، ومحمد بن علي بعض ولده بطبرستان.
فصل
في خروج زيد بن علي بن الحسين (عليهما السلام)
وذكر مقتله
وكان سبب خروجه أن خالد بن عبد الله القشيري ادعى عليه وعلى داود بن
علي بن عبد الله بن عباس وعلى سعيد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف بمال
وذلك حين عزل هشام خالدا عن العراق وولى يوسف بن عمر بن أبي عقيل الثقفي
وأمره باستخراج الأموال منه وأن يبسط عليه العذاب.
فكتب يوسف بن عمر في ذلك إلى هشام بن عبد الملك، وزيد يومئذ
بالرصافة، فدعاه هشام بن عبد الملك وذكر له ذلك وأمره ليوسف بن عمر إن أقام
خالد على زيد بينة فخذه، وإلا فاستحلف زيدا أنه ما أودعه شيئا ثم خل سبيله.
فقدم زيد على يوسف فأبرق له وأرعد، فقال له زيد: دعني من إبراقك
وإرعادك، فلست من الذين في يديك تعذبهم، اجمع بيني وبين خصمي واحملني
على كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله)، لا سنتك. فاستحيى يوسف فدعا خالدا وجمع
بينهما، فأبرأه خالد، فخلى سبيل زيد. وقال زيد بن علي بن الحسين (عليهم السلام): لما لم
يكن ليوسف علينا حجة أمرني بالشخوص إلى الحجاز. وكان هشام كتب إلى

593
يوسف بذلك، وقال: إني أتخوفه، وكنت أحب المقام بالكوفة للقاء الإخوان وكثرة
شيعتنا، وكان يوسف يبعث إلي يستحثني على الخروج، وأتعلل وأقول: إني وجع،
فيمكث أوقاتا ثم يسأل عني فيقال له هو مقيم بالكوفة.
فلما رأيت جده في شخوصي تهيأت وأتينا القادسية، فلما بلغه خروجي وجه
معي رسولا حتى بلغ بي العذيب، فلحقت الشيعة بي وقالوا: أين تخرج ومعك مائة
ألف سيف من أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الشام وخراسان وأهل الجبال
وليس قبلنا من أهل الشام إلا عدة يسيرة. فأبيت عليهم. فقالوا: ننشدك الله
إلا رجعت ولا تمضي. فأبيت وقلت: لست آمن غدركم لفعلكم بجدي
الحسين (عليه السلام) وغدركم بعمي الحسن قالوا: لن نفعل وأنفسنا دون نفسك. فلم يزالوا
بي حتى رجعت معهم إلى الكوفة.
قال: فأقبلت الشيعة تختلف إليه يبايعونه حتى أحصى ديوانه خمسة عشر
ألف رجل من أهل الكوفة خاصة سوى غيرهم.
قال أبو معمر: بايعه ثمانون ألفا.
قال: وكان دعاته نصر بن معاوية بن شداد العبسي، ومعمر بن حكم العامري،
وعبد الله بن الزبير الأسدي، ومعاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري،
وكان معمر بن خيثم وفضيل بن الزبير يدخلان الناس عليه وعليهم براقع
لا يعرفون موضع زيد فيأتيان بهم من مكان لا يبصرون حتى يدخلوا عليه
فيبايعوه وأقام بالكوفة ثلاثة عشر شهرا إلا أنه كان بالبصرة نحو شهر.
قال: وكانت بيعته التي يبايع الناس عليها أنه يبدأ فيقول: إنا ندعوكم أيها
الناس إلى كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله)، وإلى جهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين،
وقسم الفئ بين أهله، ورد المظالم، ونصرتنا أهل البيت على من نصب لنا الحرب،
أتبايعون على هذا؟ فإذا قالوا: نعم، وضع يد الرجل على يده ويقول: عليك عهد
الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله لتفين ببيعتي ولتقاتلن عدونا ولتنصحن لنا في السر
والعلانية، فإذا قال نعم مسح يده على يده، ثم يقول: اللهم اشهد.

594
قال: فلبث بضع عشر شهرا يدعو ويبايع، وخرج يوم الأربعاء غرة صفر سنة
اثنتي وعشرين ومائة، وعلى العراقين يوسف بن عمر بن أبي عقيل الثقفي من قبل
هشام بن عبد الملك، فخرج على أصحابه وهو على برذون أشهب في قباء أبيض
تحته درع وبين يدي قربوسه مصحف منشور وقال: سلوني فوالله ما تسألوني عن
حلال وحرام ومتشابه وناسخ ومنسوخ وأمثال وقصص إلا أنبأتكم به، والله
ما وقفت هذا الموقف إلا وأنا اعلم أهل بيتي بما يحتاج إليه هذه الأمة.
ولما خفقت راياته رفع يديه إلى السماء ثم قال: الحمد لله الذي أكمل لي
ديني، والله ما يسرني أنى لقيت محمدا (صلى الله عليه وآله) ولم آمر أمته بالمعروف ولم أنههم عن
المنكر، والله ما أبالي إذا أقمت كتاب الله وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) أنه أججت لي نار ثم
قذفت فيها ثم صرت بعد ذلك إلى رحمة الله، والله لا ينصرني أحد إلا كان في
الرفيق الأعلى مع محمد (صلى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، والله ما
كذبت كذبة منذ عرفت يميني من شمالي، ولا انتهكت محرما منذ عرفت أن الله
يؤاخذني عليه، هلموا فسلوني.
قال: ثم سار حتى انتهى إلى الكناسة فحمل على جماعة من أهل الشام كانوا
بها، ثم سار إلى الجبانة ويوسف بن عمر بن أبي عقيل مع أصحابه على التل، فشد
بالجمع الذي معه على زيد وأصحابه.
فقال أبو معمر: فرأيت زيدا قد شد عليهم كأنه الليث حتى قتلنا منهم أكثر من
ألفي رجل ما بين الحيرة والكوفة وتفرقنا فرقتين، وكنا من أهل الكوفة أشد منا
لأهل الشام.
قال أبو معمر: فلما كان يوم الخميس فارقنا جماعة من أصحابنا فتبعناهم
فقتلنا منهم أكثر من مائتي رجل. فلما جن عليه الليل وكانت ليلة الجمعة كثر فينا
الجراح واستبان فينا القتل، وجعل زيد يدعو وقال: اللهم هؤلاء يقاتلون عدوك
وعدو رسولك ودينك الذي ارتضيته لعبادك فاجزهم أفضل ما جزيت به أحدا من
عبادك المؤمنين.

595
ثم قال لنا: أحيوا ليلتكم هذه بقراءة القرآن والدعاء والتهجد والتضرع إلى الله
والله لا أعلم أنه أمسى على الأرض عصابة أنصح لله ولرسوله وللإسلام منكم.
قال أبو مخنف: فلما كان يوم الجمعة دعا يوسف بن عمر الريان بن سلمة فأتاه
بغير سلاح، فقال له: قبحك الله من صاحب حرب، ثم دعا العباس بن سعد المزني
فبعثه في أهل الشام إلى زيد بن علي، وخرج زيد في أصحابه فلما رآهم
العباس بن سعد نادى: يا أهل الشام الأرض الأرض، لأنه لم يكن له رجاله فنزل
كثير منهم واقتتلوا قتالا شديدا.
فقال أبو معمر: فشددنا على الصف الأول فغضضناه، ثم على الثاني، ثم على
الثالث وهزمناهم، وجعل زيد يقول: * (ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون) * (1)
وجعلوا يرمونه، فأصابه ثلاثة عشر نشابة.
وقال: فبينا نحن نكاثرهم إذ رمي زيد بسهم في جبينه الأيسر فخالط دماغه
حتى خرج من قفاه فقال: الشهادة في الله والحمد لله الذي رزقنيها، فحملناه على
حمار إلى بيت امرأة همدانية. فقال وهو في كرب الموت: ادعوا لي ابني يحيى،
فدعوناه.
فلما دخل عليه جمع قميصه في كفه وجعل يمسح ذلك الكرب عن وجهه،
وقال: أبشر يا بن رسول الله، تقدم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي والحسن والحسين
وخديجة وفاطمة (عليهم السلام) وهم عنك راضون. قال: صدقت يا بني، فما في نفسك؟
قال: أن أجاهد القوم والله إلا أن لا أجد أحدا يعينني. قال: نعم يا بني جاهدهم،
فوالله إنك على الحق وانهم لعلى الباطل، وإن قتلاك في الجنة وقتلاهم في النار.
وقال سلمة بن ثابت - وكان مع زيد بن علي -: إنه دخل عليه وجاءه بطبيب
يقال له سفين فانتزع النصل من جبينه وأنا أنظر إليه، فما انتزعه حتى قضى نحبه:
فقال له أصحابه: أين ندفنه؟ فقال بعضهم: نحز رأسه ونجعله بين القتلى فلا يعرف
فقال ابنه: والله لا أجعل جسد أبي طعام الكلاب. فقال بعضهم: ندفنه بالعباسية.



(1) آل عمران: 158.
596
فأشرت عليهم أن ينطلقوا به إلى موضع قد احتفر فيدفنوه فيه ويجروا عليه الماء.
فأخذوا برأيي، فانطلقنا به ودفناه وأجرينا عليه الماء، ومعنا سندي فذهب إلى
الحكم بن الصلت من الغد، فبعث إلى ذلك الموضع واستخرجه وحز رأسه وسرح
به إلى يوسف بن عمر وأمر بجثته فصلبت بالكناسة هو ونصر بن خزيمة بن
معاوية بن إسحاق الأنصاري.
وكان ممن بايع زيدا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، ومنصور بن المعتمر،
وهلال بن خباب بن الأرت وكان قاضي المدينة، ودعا أبا حنيفة فأجابه وكان
مريضا، وكان رسوله إليه زياد بن المنذر والفضيل بن الزبير، وأنفذ أبو حنيفة إليه
ثلاثين ألف درهم وقال: استعن بها على حرب عدوك، وحث الناس على الخروج
معه، وقال: إن شفيت لأخرجن معه. وقد روى أبو حنيفة عن زيد بن علي شيئا
كثيرا. وبايعه ابن شبرمة، ومسعر بن كرام، والأعمش، والحسن بن عمارة، وأبو
حصين، وقيس بن الربيع، وسلمة بن كهيل، وهاشم بن البرير، والحجاج بن دينار،
وهارون بن سعد.
وحضر معه من أهل الوقعة: محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن النفس
الزكية، وعبد الله بن علي بن الحسين وأمه أم عبد الله بن الحسين بن علي بن أبي
طالب (عليهم السلام)، وابنه يحيى بن زيد، والعباس بن ربيعة من بني عبد المطلب، فخرج
محمد بن عبد الله وعبد الله بن علي.
وقال زيد بن المعدل: قتل زيد وهو ابن اثنتين وأربعين سنة. وقيل: سبعة
وأربعين سنة.
وكان زيد أبيض اللون، أعين، مقرون الحاجبين، تام الخلق، طويل القامة،
كث اللحية قد خالطه الشيب، عريض الصدر، أقنى الأنف.
وقال سلمة: فبقيت مع يحيى في رهط لا يكون عشرة، فقلت له: هذا الصبح
قد غشيك أين تريد؟ ومعه الصياد العبدي.
قال: أريد النهرين.

597
فقلت له: إن كنت إنما تريد النهرين، وظننت أنه يريد أن يتشطط الفرات.
فقال: أريد نهري كربلاء.
قلت: فالنجاء قبل الصبح. فخرجت أنا وهو وأبو الصياد ورهط معنا، فلما
خرجنا من الكوفة سمعنا أذان المؤذنين فصلينا الغداة بالنخيلة ثم توجهنا سراعا
قبل نينوى. فقال: إني أريد سابقا مولى بشر بن عبد الملك. فأسرع السير فانتهينا
إلى نينوى وقد أظلمنا فأتينا منزل سابق، فاستفتحت الباب فخرج إلينا، فقلت
ليحيى: أما أنا فآتي الفيوم فأكون به، فإذا بدا لك أن ترسل إلي فأرسل. ثم مضيت
وجعلته عند سابق، فكان آخر عهدي به (1).
فصل
في ذكر يحيى بن زيد بن علي بن الحسين (عليهما السلام)
وأم يحيى ريطة بنت أبي هاشم عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)،
وأمها ريطة بنت أبي نوفل بن الحرث بن عبد المطلب.
قيل: وخرج يحيى بن زيد إلى خراسان في عدة من أصحاب أبيه، فلم يزل
ينتقل في كورها حتى خرج في زمن الوليد بن يزيد، وكان أقام بمرو حينا
وبسرخس حينا، وأقام عند الجريش بن عمر بن داود البكري حتى هلك هشام بن
عبد الملك وولي الوليد بن يزيد.
$ الإمام زين العابدين (عليه السلام) / يحيى بن زيد بن علي بن الحسين
قال: وكتب عمر بن عمر إلى نصر بن سيار وهو يومئذ على خراسان يخبره
بمسير يحيى بن زيد إلى خراسان، فبعث نصر بن سيار إلى عقيل بن معقل الليثي
يأمره بأخذ الجريش فيزهق نفسه أو يدفع إليه يحيى بن زيد. قال: فبعث عقيل
إلى الجريش فسأله عن يحيى فقال: لا علم لي به فجلده ستمائة سوط.



(1) راجع مقاتل الطالبيين: ص 86 - 100، وتاريخ الطبري: ج 5 ص 482 - 492، وأنساب
الأشراف للبلاذري: ج 3 ص 427 - 451.
598
فقال له الجريش: والله لو كان تحت قدمي ما رفعتها لك عنه فاقض ما أنت
قاض.
فقام قريش بن الجريش لما رأى ما فعل عقيل بأبيه وخاف عليه القتل فقال:
لا تقتل أبي فأنا أدلك على طلبتك. فأرسل معه أقواما فدلهم على يحيى بن زيد
وهو في جوف بيت، فأخذوه وأخذوا معه يزيد بن عمرو والفضل مولى عبد القين
كان أقبل معه من الكوفة، فأتى به نصر بن سيار فحبسه، وكتب له يوسف بن عمر
يخبره الخبر، فكتب يوسف إلى الوليد بن يزيد يخبره الخبر، وكتب الوليد إلى
نصر بن سيار يأمره أن يؤمن يحيى ويخلي سبيله وسبيل من معه.
فدعا نصر بن سيار بيحيى بن زيد فأمره بتقوى الله وحذره الفتنة ووصله بألفي
ودرهم وحمله على بغلين وأمره أن يلحق بالوليد بن يزيد التميمي وكان من
أشراف تميم وكان عامله على طوس، وأمره إذا مر به يحيى بن زيد أن يشخصه
ولا يذره يقيم بطوس وأن لا يفارقه حتى يؤديه إلى عمرو بن زرارة عامله على
أبر شهر، فأشخصه عبد الله بن قيس من سرخس، فأقبل حتى نزل بطوس، فأمره
الجريش بن زيد بالارتحال منها، ووكل به سرحان بن مجاهد بن بلعاء العنبري
وكان على مسلحته، وأمره أن لا يفارقه حتى يدفعه إلى عمرو بن زرارة.
فلما بلغ عمرو بن زرارة خبره كتب إلى نصر بن سيار فخبره الخبر، وكتب
نصر بن سيار إلى عبد الله بن قيس والى الجريش بن زيد يأمرهما أن يلتحقا
بعمرو بن زرارة. فلما اجتمعوا نصبوا الحرب ليحيى بن زيد وهم عشرة آلاف
مقاتل ويحيى بن زيد في سبعين رجلا، وقاتلهم فهزمهم وقتل عمرو بن زرارة،
وأصاب يحيى وأصحابه دوابا كثيرة.
قال: ثم أقبل يحيى حتى مر بهراة وعليها معلس بن زياد العامري، فلم يعرض
واحد منهما لصاحبه، وسار يحيى فقطع الهراة.
قال: وبلغ الخبر نصر بن سيار فأنفذ إلى سالم بن أخون (1)، فلما واقف سالم



(1) كذا في الأصل، وفي تاريخ الطبري: ج 5 ص 537، ومقاتل الطالبيين: ص 107، وأنساب
الأشراف ج 3 ص 458: سلم بن أحوز.
599
ابن أخون يحيى بن زيد أقبل يحيى على أصحابه فقال: يا عباد الله إن الأجل
محضر الموت، وإن الموت طالب حثيث، لا يفوته الهارب ولا يعجزه المقيم،
فاقدموا رحمكم الله إلى عدوكم وألحقوا سلفكم، الجنة الجنة، أقدموا ولا تنكلوا،
فإنه لا شرف أشرف من الشهادة، وأن أشرف الموت قتل في سبيل الله، ولتقر
بالشهادة عيونكم، ولتشرح للقاء الله صدوركم. ثم نهد إلى القوم، وكان والله أرغب
أصحابه في القتل في سبيل الله جل ثناؤه.
وقتل يحيى بالجوزجان يوم الجمعة بعد الصلاة، فاخذ رأسه فانفذ إلى نصر بن
سيار، وبعثه نصر إلى الوليد بن يزيد، وصلب يحيى بن زيد على باب مدينة
الجوزجان بقرية يقال لها ارغوني، وذلك في سنة خمس وعشرين ومائة.
قال جابر: فلم يزل يحيى مصلوبا حتى ظهرت المسودة بخراسان، فأتوه
فأنزلوه من خشبته وغسلوه وحنطوه وكفنوه ودفنوه. وولي ذلك خالد بن
إبراهيم بن داود البكري وحارث بن خزيمة التميمي وعيسى بن هامان.
قال: وكان أبو مسلم يتتبع قتلة يحيى بن زيد. فقيل له: إن أردت ذلك فعليك
بالديوان. فدعا أبو مسلم بالجرائد فنظر من شهد قتل يحيى بن زيد فلم يدع أحدا
منهم إلا قتله (1).



(1) راجع تاريخ الطبري: ج 5 ص 536 - 538، ومقاتل الطالبيين: ص 104 - 108، وأنساب
الأشراف للبلاذري: ج 3 ص 453 - 458.
600
الباب السابع
في ذكر أبي جعفر
محمد بن علي الباقر (عليهما السلام)

601
$ الإمام الباقر (عليه السلام) / بعض صفاته وأخباره
فصل
في ذكر مولده (عليه السلام)
ولد (عليه السلام) في المدينة، في يوم الجمعة غرة رجب، سنة سبع وخمسين من
الهجرة قبل قتل الحسين (عليه السلام) بثلاث سنين.
وأمه: أم الحسن بنت الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) وهو هاشمي من
هاشميين، علوي من علويين.
ولقبه: الباقر بحديث رواه جابر بن عبد الله (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال له:
" يوشك أن تبقى حتى تلقى لي ولدا من الحسين يقال له محمد، يبقر علم الدين
بقرا، فإذا لقيته فأقرأه مني السلام " (1). والشاكر، والهادي، والأمين، ويدعى بالشبيه
لأنه كان يشبه برسول الله (صلى الله عليه وآله).
وكان بابه جابر بن يزيد الجعفي (رحمه الله).
وكانت أمه أم الحسن يسميها أبوه الصديقة.
ويقال انه لم يدرك في الحسن مثلها (2).
ويروى أنها كانت عند جدار، فتصدع الجدار، فقالت بيدها: لا وحق
المصطفى ما أذن الله لك في السقوط علي، فوقف معلقا حتى جازت. فتصدق عنها
علي بن الحسين (عليهما السلام) بمائة دينار.



(1) الإرشاد: ص 280.
(2) الكافي: ج 1 ص 469.
603
فصل
في ذكر شئ من صفاته وأخباره (عليه السلام)
حدث أبو علي محمد بن همام، عمن رواه، عن الصادق (عليه السلام) قال: جاء علي
ابن الحسين بابنه محمد الإمام إلى جابر بن عبد الله الأنصاري (رحمه الله)، فقال له: سلم
على عمك جابر. فأخذه جابر فقبل بين عينيه وضمه إلى صدره وقال: هكذا
أوصاني رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال لي: يا جابر يولد لعلي بن الحسين زين العابدين
ولد يقال له محمد، فإذا رأيته يا جابر فأقرأه مني السلام واعلم يا جابر إن مقامك
بعد رؤيته قليل.
قال: فعاش جابر بعد أن رآه أياما يسيرة ومات (رضي الله عنه) (1).
وروى الحسن بن معاذ الرضوي، قال: حدثنا لوط بن يحيى الأزدي، عن
عمارة بن زيد الواقدي، قال: حج هشام بن عبد الملك بن مروان سنة من السنين
وكان قد حج في تلك السنة محمد بن علي الباقر وابنه جعفر بن محمد (عليهما السلام)، فقال
جعفر بن محمد (عليهما السلام): الحمد لله الذي بعث محمدا بالحق نبيا، وأكرمنا به، فنحن
صفوة الله على خلقه وخيرته من عباده، فالسعيد من اتبعنا، والشقي من عادانا
وخالفنا. ومسلمة يسمع ولم يعلم به.
قال أبو عبد الله (عليه السلام): فأخبر مسلمة أخاه بما سمع. فلم يعرض لنا حتى انصرف
إلى دمشق وانصرفنا إلى المدينة، فأنفذ هشام إلى عامل المدينة بإشخاص أبي
وإشخاصي معه. فأشخصنا، فلما وصلنا دمشق حجبنا ثلاثا ثم أذن لنا في اليوم
الرابع، فدخلنا وقد نصب حذاه برجاسا (2) وأشياخ قومه يرمون، فلما دخلنا وأبي
أمامي وأنا خلفه فلما حاذيناه نادى أبي: يا محمد ارم مع مشايخ قومك الغرض.
فقال له: إني قد كبرت عن الرمي، فإن رأيت أن تعفيني. فقال: وحق من أعزنا



(1) كشف الغمة: ج 2 ص 321 قريب منه.
(2) قال في القاموس: البرجاس: بالضم غرض في الهواء على رأس رمح.
604
بدينه ونبيه محمد (صلى الله عليه وآله) لا أعفيك. ثم أومأ إلى شيخ من بني أمية أن أعطيه قوسك،
فتناول أبي عند ذلك قوس الشيخ، ثم تناول منه سهما فوضعه في كبد القوس، ثم
رمى وسط الغرض، ثم رمى فيه الثانية فشق فوق سهمه إلى نصله، ثم تابع الرمي
حتى شق تسعة أسهم بعضها في جوف بعض، وهشام يضطرب في مجلسه، فلم
يتمالك أن قال: أجدت يا با جعفر وأنت أرمى العرب والعجم وزعمت أنك قد
كبرت عن الرمي. ثم أدركته ندامة على ما قال، وكان هشام لم يكد أحدا قبل أبي
ولا بعده، فهم به وأطرق إطراقة يتروى فيه، وإني وأبي واقف حذاه مواجها له وأنا
وراء أبي. فلما طال وقوفنا بين يديه غضب أبي فهم به، وكان أبي (عليه السلام) إذا غضب
نظر إلى السماء نظر غضبان، فلما نظر هشام إلى ذلك من أبي قال له: إلي يا محمد،
فصعد أبي إلى السرير وأنا أتبعه، فلما دنا من هشام قام إليه فاعتنقه وأقعده عن
يمينه، ثم اعتنقني وأقعدني عن يمين أبي، ثم أقبل على أبي بوجهه فقال له:
يا محمد لا تزال العرب والعجم تسودها قريش ما دام فيهم مثلك، لله درك من
علمك هذا الرمي؟ وفي كم تعلمته؟ أيرمي جعفر مثل رميك؟ فقال: إنا نحن
نتوارث الكمال والتمام.
قال: فلما سمع ذلك من أبي انقلبت عينه اليمنى فاحولت واحمر وجهه، وكان
ذلك علامة غضبه إذا غضب، ثم أطرق هنيهة ثم رفع رأسه فقال لأبي: ألسنا بنو عبد
مناف نسبنا ونسبكم واحد؟ فقال أبي: نحن كذلك، ولكن الله جل ثناؤه اختصنا من
مكنون سره وخالص علمه بما لم يخص به أحدا غيرنا.
فقال هشام: أليس الله جل ثناؤه بعث محمدا (صلى الله عليه وآله) من شجرة عبد مناف إلى
الناس كافة أبيضها وأسودها وأحمرها، من أين ورثتم ما ليس لغيركم ورسول
الله (صلى الله عليه وآله) مبعوث إلى الناس كافة، وذلك قول الله تعالى: * (ولله ميراث السماوات
والأرض) * (1) إلى آخر الآية فمن أين ورثتم هذا العلم وليس بعد محمد (عليه السلام)
نبي ولا أنتم أنبياء؟ فقال له أبي: من قوله تبارك وتعالى لنبيه (عليه السلام): * (لا تحرك به



(1) آل عمران: 180.
605
لسانك لتعجل به) * (1) الذي لم يحرك به لسانه لغيرنا أمره الله تعالى أن يخصنا به من
دون غيرنا، فكذلك كان يناجي أخاه عليا (عليه السلام) من دون أصحابه، وأنزل الله تعالى
بذلك قرآنا في قوله: * (وتعيها اذن واعية) * (2) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأصحابه:
" سألت الله أن يجعلها اذنك يا علي " فلذلك قال علي (عليه السلام) بالكوفة: " علمني رسول
الله (صلى الله عليه وآله) ألف باب من العلم يفتح كل باب ألف باب " خصه به رسول الله (صلى الله عليه وآله) من
مكنون سره كما خص الله نبيه (عليه السلام) وعلمه ما لم يخص به أحدا من قومه حتى
صار إلينا، فتوارثناه من دون أهلنا.
فقال هشام: إن عليا كان يدري علم الغيب والله لم يطلع على غيبه أحدا، فمن
أين ادعى ذلك؟ فقال أبي: إن الله جل ذكره أنزل على نبيه (صلى الله عليه وآله) كتابا بين فيه ما كان
وما يكون إلى يوم القيامة في قوله: * (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى
ورحمة وبشرى للمسلمين) * (3) وفي قوله: * (وكل شئ أحصيناه في إمام مبين) * (4)
وفي قوله: * (ما فرطنا في الكتاب من شئ) * (5) وفي قوله: * (وما من غائبة في
السماء والأرض إلا في كتاب مبين) * (6) وأوحى الله إلى نبيه (عليه السلام) أن لا يبقى في
عيبة سره ومكنون علمه شيئا إلا يناجي به عليا (عليه السلام)، فأمره أن يؤلف القرآن من
بعده ويتولى غسله وتكفينه وتحنيطه من دون قومه، وقال لأصحابه: " حرام على
أصحابي وقومي أن ينظروا إلى عورتي غير أخي علي فإنه مني وأنا منه، له ما لي
وعليه ما علي، وهو قاضي ديني ومنجز موعدتي " ثم قال لأصحابه: " علي بن أبي
طالب يقاتل على تأويل القرآن كما قاتل على تنزيله " ولم يكن عند أحد تأويل
القرآن بكماله وتمامه إلا عند علي (عليه السلام)، ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " أقضاكم
علي " أي: هو قاضيكم، وقال عمر بن الخطاب: " لولا علي لهلك عمر " يشهد له
عمر ويجحده غيره.



(1) القيامة: 16.
(2) الحاقة: 12.
(3) النحل: 89.
(4) يس: 12.
(5) الأنعام: 38.
(6) النمل: 75.
606
فأطرق هشام طويلا ثم رفع رأسه فقال: سل حاجتك. فقال: خلفت أهلي
وعيالي مستوحشين لخروجي. فقال: قد آنس الله وحشتهم برجوعك إليهم،
ولا تقم، سر من يومك. فاعتنقه أبي ودعا له وودعه، وفعلت أنا كفعل أبي، ثم نهض
ونهضت معه، وخرجنا وانصرفنا إلى المنزل الذي كنا فيه، فوافانا رسول هشام
بالجائزة وأمرنا أن ننصرف إلى المدينة من ساعتنا ولا نحتبس. وكتب إلى عامل
المدينة أن يحتال في سم أبي في طعام أو شراب، فمضى هشام ولم يتهيأ له في أبي
من ذلك شئ (1).
وقال عبد الله بن عطاء المكي: ما رأيت العلماء عند أحد قط أصغر منهم عند
أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام). ولقد رأيت الحكم بن عيينة - مع جلالته
في القوم - بين يديه كأنه صبي بين يدي معلمه (2).
وكان جابر بن يزيد الجعفي إذا روى عنه شيئا قال: حدثني وصي الأوصياء
ووارث علم الأنبياء محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) (3).
وروى أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان زيد بن الحسن بن زيد يخاصم
أبي في ميراث رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويقول: أنا من ولد الحسن وأولى بهذا منك لأني من
الولد الأكبر فقاسمني ميراث رسول الله (صلى الله عليه وآله) وادفعه إلي. فأبى أبي، فخاصمه إلى
القاضي، وكان يختلف معه إليه زيد بن علي، فبيناهم ذات يوم كذلك في خصومتهم
إذ قال زيد بن الحسن لزيد بن علي: اسكت يا بن السندية. فقال زيد: أف لخصومة
تذكر فيها الأمهات، والله لا كلمتك بالفصيح من رأسي أبدا حتى أموت. وانصرف
إلى أبي فقال: يا أخي حلفت بيمين ثقة بك، وعلمت أنك لا تكرهني، حلفت أن لا
أكلم زيد بن الحسن ولا أخاصمه. وذكر ما كان بينهما. فأعفاه أبي، واغتنمها زيد بن
الحسن وقال: يلي خصومتي محمد بن علي فأعنته وأؤذيه. فعدا على أبي فقال:
بيني وبينك القاضي. فقال: انطلق بنا.



(1) دلائل الإمامة: ص 104 - 109.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 334.
(3) الإرشاد: ص 280.
607
فلما أخرجه قال أبي: يا زيد إن معك سكينا قد أخفيتها، أرأيتك إن نطقت
هذه السكين التي تسترها مني فشهدت أني أولى منك بالحق فتكف عني؟ قال:
نعم، وحلف له على ذلك.
فقال أبي: أيتها السكين انطقي بإذن الله. فوثبت السكين من يد زيد بن الحسن
على الأرض ثم قالت: يا زيد أنت ظالم ومحمد بن علي أحق بالأمر منك وأولى،
ولئن لم تكف لألين قتلك.
فخر زيد بن الحسن مغشيا عليه، وأخذ أبي بيده فأقامه ثم قال: يا زيد إن
نطقت هذه الصخرة التي نحن عليها أتقبل؟
قال: نعم، وحلف له على ذلك. فزحفت الصخرة ثم قالت: يا زيد أنت ظالم
ومحمد أولى بالأمر منك فكف عنه وإلا وليت قتلك.
فخر زيد مغشيا عليه، فأخذ أبي بيده وأقامه، فحلف زيد أن لا يعارض أبي
ولا يخاصمه. وخرج زيد من يومه إلى عبد الملك بن مروان فدخل عليه وقال له:
أتيتك من عند ساحر كذاب لا يحل لك تركه. وقص عليه ما رأى.
فكتب عبد الملك إلى عامل المدينة أن ابعث إلي محمد بن علي مقيدا.
فلما انتهى الكتاب إلى العامل أجاب عبد الملك: ليس كتابي هذا خلافا عليك
يا أمير المؤمنين ولا ردا لأمرك، ولكن رأيت أن أراجعك في الكتاب نصيحة
وشفقة عليك فإن الرجل الذي أردته ليس على وجه الأرض اليوم أعف منه
ولا أزهد ولا أورع منه، وأنه ليقرأ في محرابه فتجتمع الطير والسباع إليه تعجبا
لصوته، وأن قراءته لتشبه مزامير آل داود، وأنه من أعلم الناس، وأرأف الناس،
وأشد الناس اجتهادا وعبادة، وكرهت لأمير المؤمنين التعرض له، فإن الله لا يغير
ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
فلما ورد الكتاب على عبد الملك بن مروان سر بما أنهى اليه الوالي وعلم أنه
نصحه، فدعا زيد بن الحسن فأقرأه الكتاب. فقال زيد: أعطاه وأرضاه فقال
عبد الملك: فهل تعرف أمرا غير هذا. قال: نعم عنده سلاح رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسيفه

608
ودرعه وخاتمه وعصاه وتركته، فاكتب إليه فيه فإن هو لم يبعث به فقد وجدت
السبيل إلى قتله.
فكتب عبد الملك إلى العامل أن احمل إلى أبي جعفر محمد بن علي ألف ألف
درهم وليعطك ما عنده من ميراث رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فأتى العامل منزل أبي جعفر بالمال وأقرأه الكتاب. فقال له: أجلني أياما.
قال: نعم.
فهيأ أبي متاعا مكان كل شئ مثله ثم حمله ودفعه إلى العامل، فبعث به إلى
عبد الملك فسر به سرورا شديدا، فأرسل إلى زيد فعرضه عليه. فقال زيد: والله
ما بعث إليك من متاع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقليل ولا كثير.
فكتب عبد الملك إلى أبي: إنك أخذت مالنا ولم ترسل إلينا بما طلبنا.
فكتب إليه أبي: قد بعثت إليك بما قد رأيت، فإن شئت كان، وإن شئت لم يكن.
فصدقه عبد الملك. وجمع أهل الشام وقال: هذا متاع رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أتيت به،
ثم أخذ زيدا وقيده وبعث به إلى أبي، وقال له: لولا أني لا أريد أن أبتلي بدم أحد
منكم لقتلتك. وبعث إلى أبي: إني بعثت إليك بابن عمك فأحسن أدبه.
فلما اتي به أطلق عنه وكساه. ثم إن زيدا ذهب إلى سرج فسمه، ثم أتى به
أبي، فناشده ألا ركبت هذا السرج. فقال له أبي: ويحك يا زيد ما أعظم ما تأتي به
وما يجري على يديك! إني لأعرف الشجرة التي نحت منها، ولكن هكذا قدر،
فويل لمن أجرى الله على يديه الشر.
فأسرج له به، وركب أبي ونزل وهو متورم، فأمر بأكفان له فأحضرت، وكان
فيها ثوب أبيض قد أحرم فيه وقال: " اجعلوه في أكفاني " وعاش ثلاثا، ثم
مضى (عليه السلام) لسبيله. وذلك السرج عند آل محمد معلق.
ثم إن زيد بن الحسن بقي بعده أياما، فعرض له داء، فلم يزل يخبط به ويهوي
حتى مات.

609
هذا أورده الراوندي في المجلد الثاني من الجرائح والخرائج (1) والشيخ المفيد
رحمه الله تعالى أثنى على زيد وعظم أمره ولم يذكر عنه شيئا من هذا، وذكر أنه
مضى على خير (2). والله أعلم بالخبرين.
وقيل: كان أبو جعفر (عليه السلام) يدعو نفرا من إخوانه كل جمعة فيطعمهم الطعام
الطيب ويطيبهم ويروحون إلى المسجد من منزله.
وقال عبد الرحمن بن عبيد الله الزهري: حج هشام بن عبد الملك فدخل
المسجد الحرام متكئا على يد سالم مولاه، ومحمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام)
جالس في المسجد، فقال له سالم: يا أمير المؤمنين هذا محمد بن علي بن
الحسين (عليهم السلام).
قال هشام: المفتون به أهل العراق؟ قال: نعم. قال: اذهب إليه فقل له: يقول لك
أمير المؤمنين ما الذي يأكل الناس ويشربون إلى أن يفصل بينهم يوم القيامة؟ فقال
له أبو جعفر: يحشر الناس على مثل [قرص النقي] فيها أنهار مشجرة (3) يأكلون
ويشربون حتى يفرغ من الحساب. فقال هشام: الله أكبر اذهب إليه فقل له: يقول
لك ما أشغلهم عن الأكل والشرب يومئذ! فقال له أبو جعفر (عليه السلام): هم في النار أشغل
ولم يشغلوا عن أن قالوا: * (أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله) * فسكت
هشام لا يرجع كلاما.
$ الإمام الباقر (عليه السلام) / معجزاته
وحدث الحسين بن كثير قال: شكوت إلى أبي جعفر محمد بن علي (عليهم السلام)
الحاجة وجفاء الاخوان. فقال: بئس الأخ أخا يرعاك غنيا ويقطعك فقيرا.
ثم أمر غلامه فأخرج كيسا فيه سبعمائة درهم فقال: استنفق هذه وإذا نفدت
فاعلمني (4).



(1) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 600 - 604 ح 11.
(2) الإرشاد: ص 268 - 269.
(3) في الإرشاد: متفجرة.
(4) الإرشاد: ص 264 - 265.
610
فصل
في ذكر معجزات الباقر (عليه السلام)
قال أبو بصير: قال أبو جعفر (عليه السلام) لرجل من أهل خراسان: كيف أبوك؟ قال:
صالح. قال: قد مات أبوك بعدما خرجت حيث سرت إلى جرجان. ثم قال: كيف
أخوك؟ قال: تركته صالحا. قال: قد قتله جار له يقال له صالح في يوم كذا في
ساعة كذا. فبكى الرجل، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون فيما أصبت.
قال أبو جعفر: اسكت فقد صارا إلى الجنة، والجنة خير لهما مما كانا فيه. فقال
له الرجل: إني خلفت ابني وجعا شديد الوجع ولم تسألني عنه. قال: قد برأ وقد
زوجه عمه ابنته، وأنت تقدم عليه وقد ولد له غلام واسمه علي وهو لنا شيعة، وأما
ابنك فليس لنا شيعة، بل هو لنا عدو. فقال له الرجل: هل من حيلة؟ قال: إنه لنا
عدو. فقام الرجل من عنده وهو وقيذ.
قلت: من هذا؟ قال: هو رجل من أهل خراسان، وهو لنا شيعة، وهو مؤمن (1).
وقال عبد الله بن عطاء المكي: اشتقت إلى أبي جعفر الباقر (عليه السلام) وأنا بمكة،
فقدمت المدينة، وما قدمتها إلا شوقا إليه، فأصابني تلك الليلة مطر وبرد شديد،
فانتهيت إلى بابه (عليه السلام) نصف الليل. فقلت: أطرقه هذه الساعة أو أنتظر حتى أصبح،
فإني لافكر في ذلك إذ سمعته يقول: يا جارية افتحي الباب لابن عطاء فقد أصابه
برد في هذه الليلة. ففتحت ودخلت (2).
وقال الحلبي عن الصادق (عليه السلام)، قال: دخل ناس على أبي (عليه السلام) فقالوا: ما حد
الإمام؟ قال: حده عظيم، إذا دخلتم عليه فوقروه وعظموه وآمنوا بما جاء به من
شئ، وعليه أن يهديكم، وفيه خصلة إذا دخلتم عليه لم يقدر أحد أن يملأ عينيه
منه اجلالا وهيبة لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كذلك كان، وكذلك يكون الإمام. قالوا:
فيعرف شيعته؟ قال: نعم، ساعة يراهم. قالوا: فنحن شيعتك؟ قال: نعم، كلكم. قالوا:



(1) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 595 ح 6.
(2) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 594 ح 3.
611
أخبرنا بعلامة. قال: أخبركم بأسمائكم وأسماء آبائكم وقبائلكم؟ قالوا: أخبرنا.
فأخبرهم. قالوا: صدقت. قال: وأخبركم عما أردتم أن تسألوا عنه عن قوله تعالى:
* (أصلها ثابت وفرعها في السماء) *؟ (1) قالوا: صدقت. قال: نحن الشجرة التي قال
الله: * (أصلها ثابت وفرعها في السماء) * نحن نعطي شيعتنا ما نشاء من علمنا. ثم
قال: يقنعكم. قلنا: في دون هذا مقنع (2).
وحدث عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نزل أبو جعفر
الباقر (عليه السلام) بواد فضرب خباءه فيه، ثم خرج يمشي حتى انتهى إلى نخلة يابسة،
فحمد الله ثم تكلم بكلام لم أسمع بمثله، ثم قال: أيتها النخلة أطعمينا مما جعل الله
فيك. فتساقط منها رطب. فأكل ومعه أبو أمية الأنصاري فقال: يا أبا أمية هذه الآية
فينا كالآية في مريم إذ هزت إليها النخلة فتساقط عليها رطبا جنيا (3).
وقال جابر الجعفي: خرجت مع أبي جعفر (عليه السلام) إلى الحج وأنا زميله، إذ أقبل
ورشان فوقع على عضادتي محمله فترنم، فذهبت لآخذه فصاح بي: مه يا جابر
فإنه استجار بنا أهل البيت. فقلت: وما الذي شكا إليك؟ قال: شكا إلي أنه يفرخ في
هذا الجبل منذ ثلاث سنين وأن حية تأتيه فتأكل فراخه، فسألني أن ادعو الله عليها
ليقتلها ففعلت وقد قتلها الله. ثم سرنا حتى إذا كان وجه السحر قال لي: انزل
يا جابر. فنزلت، فأخذت بزمام الجمل، ونزل فتنحى يمنة عن الطريق، ثم عمد إلى
روضة من الأرض ذات رمل فأقبل يكشف الرمل عنها وهو يقول: اللهم اسقنا
وطهرنا، وإذا قد بدا حجر أبيض مربع فاقتلعه ونبع له عين ماء صاف فتوضأ وشربنا،
ثم ارتحلنا فأصبحنا دون قريات ونخل. فعمد أبو جعفر إلى نخلة يابسة فيها فدنا
منها وقال: أيتها النخلة أطعمينا مما خلق الله فيك. فلقد رأيت النخلة تنحني
حتى جعلنا نتناول من ثمرها ونأكل. وإذا أعرابي يقول: ما رأيت ساحرا كاليوم.



(1) إبراهيم: 24.
(2) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 596 - 597 ح 8.
(3) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 593 ح 2.
612
فقال أبو جعفر (عليه السلام) يا أعرابي لا تكذبن علينا أهل البيت فإنه ليس منا ساحر ولا
كاهن، ولكنا علمنا أسماء من أسماء الله تعالى نسأل بها فنعطى وندعو فنجاب (1).
وحدث سفيان، عن وكيع، عن الأعمش، قال: قال لي المنصور: كنت هاربا
من بني أمية وأخي أبو العباس، فمررنا بمسجد المدينة ومحمد بن علي (عليهما السلام)
جالس، فقال لرجل إلى جانبه: كأني بهذا الأمر وقد صار إلى هذين. فأتى الرجل
فبشرنا به، فملنا إليه فقلنا: يا بن رسول الله ما الذي قلت؟ قال: هذا الأمر صائر
إليكما عن قريب، ولكنكما تسيئون إلى ذريتي وعترتي، فالويل لكما عن قريب.
فما مضت الأيام حتى ملك أخي وملكتها (2).
وقال جابر بن يزيد الجعفي: شكوت إلى أبي جعفر (عليه السلام) الحاجة. فقال: يا جابر
ما عندنا درهم.
قال: فما ألبث أن دخل الكميت بن يزيد الشاعر فقال له: جعلني الله فداك
أريد أن تأذن لي أنشدك قصيدة قلتها فيكم؟ فقال له: هاتها. فأنشده: من لقلب
متيم.
فلما فرغ منها قال: يا غلام ادخل ذلك البيت وأخرج للكميت بدرة فادفعها
إليه. فأخرجها ووضعها عنده. فقال له: جعلت فداك إن رأيت أن تأذن لي في
أخرى. قال له: هاتها. فأنشده أخرى، وأمر له ببدرة أخرى فأخرجت من البيت.
فقال له: جعلت فداك إن رأيت أن تأذن لي في أخرى. فأذن له، فأنشده أخرى،
فأمر له ببدرة أخرى، فأخرجت من البيت.
فقال له الكميت: يا سيدي ما أنشدتك طلبا لعرض من الدنيا، وما أردت بذلك
إلا صلة لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وما أوجبه الله عز وجل علي من حقكم.
فدعا له أبو جعفر (عليه السلام) ثم قال: يا غلام رد هذه البدر إلى مكانها. فأخذها
الغلام فردها.



(1) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 604 ح 12.
(2) دلائل الإمامة: ص 96.
613
فقال جابر: فقلت في نفسي: شكوت إليه الحاجة فقال ما عندي شئ،
وأمر للكميت بثلاثين ألف درهم! وخرج الكميت.
فقال: يا جابر قم فادخل ذلك البيت.
قال: فدخلته فلم أجد فيه شيئا، فخرجت فأخبرته فقال: يا جابر ما سترنا عنك
أكثر مما أظهرناه لك. ثم قام فأخذ بيدي فأدخلني البيت وضرب برجله الأرض
فإذا شبيه عنق البعير قد خرج من ذهب فقال: يا جابر انظر إلى هذا ولا تخبر به إلا
من تثق به من إخوانك، يا جابر إن جبرائيل (عليه السلام) أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) غير مرة
بمفاتيح خزائن الأرض وكنوزها وخيره من غير أن ينقصه الله مما أعد له شيئا
فاختار التواضع لله عز وجل، ونحن نختاره يا جابر، إن الله أقدرنا على ما نريد من
خزائن الأرض، ولو شئنا أن نسوق الأرض بأزمتها لسقناها (1).
وقال عطية أخو أبي العوام: كنت مع أبي جعفر (عليه السلام) في مسجد الرسول (صلى الله عليه وآله) إذ
أقبل أعرابي على جمل له فعقله، ثم دخل فضرب بيده يمينا وشمالا كأنه طائر
العقل، فهتف به أبو جعفر (عليه السلام) فلم يسمعه، فأخذ كفا من حصى فحصبه به، فأقبل
الأعرابي حتى برك بين يديه، فقال له: يا أعرابي من أين أقبلت؟ قال: من أقصى
الأرض وما خلفي من شئ، أقبلت من الأحقاف. قال: أي الأحقاف؟ قال:
أحقاف عاد. قال: يا أعرابي فما مررت به في طريقك؟ قال: مررت بكذا.
قال: فقال أبو جعفر: ومررت بكذا؟ فقال الأعرابي: نعم ومررت بكذا. قال
أبو جعفر (عليه السلام): ومررت بكذا.
فلم يزل يقول الأعرابي: مررت بكذا، ويقول له أبو جعفر (عليه السلام): ومررت بكذا،
إلى أن قال له أبو جعفر: فمررت بشجرة يقال لها شجرة الرفاف. قال: فوثب
الأعرابي على رجليه ثم صفق بيده وقال: تالله ما رأيت رجلا أعلم بالبلاد منك،
أوطئتها؟ قال: لا يا أعرابي ولكنها عندي في كتاب، يا أعرابي إن من ورائكم لواد



(1) الاختصاص: ص 271 - 272.
614
يقال له البرهوت يسكنه البوم والهام تعذب فيه أرواح المشركين إلى يوم القيامة (1).
وقال أبو بصير: قال أبو جعفر (عليه السلام): مررت بالشام وأنا متوجه إلى بعض خلفاء
بني أمية فإذا قوم يمرون، فقلت: أين تريدون؟ قالوا: إلى عالم لنا لم نر مثله يخبرنا
بمصلحة شأننا. قال: فاتبعتهم حتى دخلوا بهوا عظيما فيه خلق كثير، فلم ألبث أن
خرج شيخ كبير متوكئ على رجلين قد سقط حاجباه على عينيه وقد شدهما حتى
بدت عيناه، فنظر إلي وقال: أمنا أنت أم من الأمة المرحومة؟ قال: قلت: من الأمة
المرحومة. قال: فقال: أمن علمائهم أم من جهالهم؟ قال: قلت: لا من علمائهم
ولا من جهالهم. فقال: أنتم الذين تزعمون أنكم تذهبون إلى الجنة فتأكلون
وتشربون ولا تحدثون قلت: نعم قال: فهات على هذا برهانا؟ قال... (2) شهيدا.
وقال أبو الربيع الشامي: كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) جالسا فرأيت أنه قد نام،



(1) بصائر الدرجات: ص 508 ج 10 ب 18 ح 9.
(2) سقط في الأصل مقدار صفحة كاملة. وتتمة الرواية من بحار الأنوار:
فقال أبو جعفر (عليه السلام): هذا الجنين في بطن أمه يأكل مما تأكل أمه ولا يتغوط. قال النصراني:
أصبت ألم تقل ما أنا من علمائهم؟ قال أبو جعفر: إنما قلت لك: ما أنا من جهالهم. قال
النصراني: فأسألك أو تسألني؟
[قال أبو جعفر (عليه السلام): تسألني] قال: يا معشر النصارى والله لأسألنه مسألة يرتطم فيها كما
يرتطم الحمار في الوحل. فقال: سل.
قال: أخبرني عن رجل دنا من امرأة فحملت بابنين جميعا، حملتهما في ساعة واحدة، وماتا
في ساعة واحدة، ودفنا في ساعة واحدة في قبر واحد، فعاش أحدهما خمسين ومائة سنة،
وعاش الآخر خمسين سنة، من هما؟
فقال أبو جعفر (عليه السلام): هما عزير وعزرة، كان حمل أمهما على ما وصفت، ووضعتهما على ما
وصفت وعاش عزرة وعزير، فعاش عزرة مع عزير ثلاثين سنة، ثم أمات الله عزيرا مائة
سنة، وبقي عزرة يحيى، ثم بعث الله عزيرا فعاش مع عزرة عشرين سنة.
قال النصراني: يا معشر النصارى ما رأيت أحدا قط أعلم من هذا الرجل، لا تسألوني عن
حرف وهذا بالشام، ردوني. فردوه إلى كهفه، ورجع النصارى مع أبي جعفر صلوات الله عليه.
بحار الأنوار: ج 46 ص 313 باب 18 ح 2 وذكرت القصة أيضا في الخرائج والجرائح: ج 1
ص 290 - 293 ح 24 مع اختلاف.
615
فرفع رأسه وهو يقول: يا أبا الربيع حديث تمضغه الشيعة بألسنتها لا تدري ما كنهه.
قلت: ما هو؟ قال: قول علي بن أبي طالب (عليه السلام) " أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله
إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان " يا أبا الربيع ألا
ترى أنه يكون ملك ولا يكون مقربا ولا يحتمله إلا المقرب، وقد يكون نبي وليس
بمرسل فلا يحتمله الا المرسل، وقد يكون مؤمن وليس بممتحن فلا يحمله إلا
مؤمن قد امتحن الله قلبه للإيمان (1).
وقال (عليه السلام): لقد سأل موسى العالم مسألة لم يكن عنده جواب، ولو كنت
شاهدهما لأخبرت كل واحد منهما بجوابه، ولسألتهما مسألة لم يكن عندهما
جواب (2).
فصل
في ذكر وفاة أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليهما السلام)
وموضع قبره
توفي (عليه السلام) في شهر ربيع الآخر سنة أربع عشرة ومائة من الهجرة، وسنه يومئذ
سبع وخمسون سنة، وقبره بالبقيع مع أبيه علي وعم أبيه الحسن (عليهم السلام).
وكان سبب وفاته أن إبراهيم بن الوليد سمه (3) وفي رواية بطريق السرج الذي
أعطاه زيد بن الحسن.
$ الإمام الباقر (عليه السلام) / أولاده
وقال محمد بن عبد الجبار، عن محمد بن إسماعيل، قال: سمعت أبا
عبد الله (عليه السلام) يقول: إن أبي مرض مرضا شديدا حتى خفنا عليه، فبكى بعض
أصحابنا عند رأسه، فنظر إليه فقال له: إني لست بميت من وجعي هذا. فبرأ، فمكث



(1) بصائر الدرجات: ص 26 ج 1 ب 12 ح 1.
(2) بحار الأنوار: ج 26 ص 200 ب 15 ح 13.
(3) دلائل الإمامة: ص 94.
616
ما شاء الله أن يمكث فبينا هو صحيح ليس به علة حتى قال لي: يا بني إن اللذين
أتياني في شكايتي التي قمت منها أتياني فخبراني أنني ميت من وجعي هذا يوم
كذا وكذا. قال: فمات في ذلك اليوم (1).
فصل
في ذكر ولد أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) وعددهم
وكان له سبعة ولد: أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق وبه كان يكنى،
وعبد الله، ومحمد، أمهم أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر.
وإبراهيم وعبد الله، أمهم أم حكيم بنت أسيد بن المغيرة الثقفية، ورجا صغيرين.
وعلي وأم سلمة لام ولد.
والعقب من ولد محمد بن علي الباقر (عليه السلام) من رجل واحد وهو جعفر بن محمد
الصادق (عليهما السلام).
وكان أخوه عبد الله معروفا بالفضل والصلاة، وروي أنه دخل على بعض بني أمية
فأراد قتله، فقال له عبد الله: لا تقتلني أكن لله عليك، واتركني أشفع لك إلى الله
فيشفعني. فقال له الأموي: لست هناك، وسقاه السم فقتله.



(1) بصائر الدرجات: ص 481 ج 10 ب 9 ح 2.
617
الباب الثامن
في ذكر مولانا الصادق
جعفر بن محمد (عليهما السلام)
وتاريخ مولده ومختصر من أخباره
ومعجزاته ونبذ من كلامه
وذكر موته وأولاده

619
$ الإمام الصادق (عليه السلام) / بعض أخباره
فصل
في ذكر مولده (عليه السلام) وبعض صفاته
وكان مولده (عليه السلام) في المدينة سنة ثلاث وثمانين من الهجرة، فأقام مع جده
علي بن الحسين اثنتي عشرة سنة، ومع أبيه بعد جده تسع عشرة سنة. وعاش بعد
أبيه ملك إبراهيم بن الوليد وأيام مروان بن محمد الحمار، ثم سارت المسودة من
أرض خراسان مع أبي مسلم سنة ثلاثين ومائة من الهجرة، وملك أبو العباس
السفاح أربع سنين وأربعة أشهر وأياما، ثم ملك أخوه أبو جعفر المنصور إحدى
وعشرين سنة وأحد عشر شهرا وأياما (1).
وأم الصادق (عليه السلام): أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر.
وكان بابه: المفضل بن عمر.
وكان له خاتم نقشه: الله ربي عصمني من خلقه.
وكان يكنى أبا عبد الله.
ولقبه: الصادق، والفاطر، والظاهر.
وإليه ينسب الجعافرة والشيعة.



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 280.
621
وأم فاطمة أم الصادق (عليه السلام) التي هي أم فروة: أسماء بنت عبد الرحمن بن
أبي بكر.
وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " إذا ولد جعفر بن محمد بن علي بن
الحسين ابني فسموه بالصادق، فإنه يولد من ولد ابنه ولد يقال له جعفر الكذاب،
ويل له من جرأته على الله تعالى وتعديه على ابن أخيه صاحب الحق وإمام زمانه
وأهل بيتي " (1) فلأجل ذلك سمي الصادق.
فصل
في بعض أخباره
روى النطنزي في كتاب الخصائص بحذف الإسناد، قال خلاد بن يحيى، عن
قيس بن الربيع، قال: حدثنا أبي الربيع، قال: دعاني المنصور يوما وقال: أما ترى
ما هو ذا يبلغني عن هذا الحبشي؟ قلت: ومن هو يا سيدي؟ قال: جعفر بن محمد،
والله لأستأصلن شأفته. ثم دعا بقائد من قواده فقال له: انطلق إلى المدينة في ألف
رجل فاهجم على جعفر بن محمد وخذ رأسه ورأس ابنه موسى بن جعفر.
فخرج القائد من ساعته حتى قدم المدينة وأخبر جعفر بن محمد، فأمر فاتي
بناقتين فأوثقهما على باب البيت، ودعا بأولاده موسى وإسماعيل ومحمد وعبيد
الله فجمعهم وقعد في المحراب وجعل يهمهم.
قال أبو نصر: فحدثني سيدي موسى بن جعفر أن القائد هجم عليه فرأيت أبي
وقد همهم بالدعاء، فأقبل القائد وكل من كان معه وقال: خذوا رأس هذين القائمين،
ففعلوا وانطلقوا إلى المنصور، فلما دخلوا عليه أطلع المنصور في المخلاة التي كان
فيها الرأسان فإذا هما رأسا ناقتين، فقال المنصور: وأي شئ هذا؟ قال: يا سيدي
ما كان أسرع من أن دخلت البيت الذي فيه جعفر بن محمد فدار رأسي ولم أنظر



(1) علل الشرائع: ص 234 ب 169 ح 1.
622
ما بين يدي فرأيت شخصين قائمين خيل إلي أنهما جعفر بن محمد وموسى ابنه
فأخذت رأسيهما. فقال المنصور: اكتم علي. فقال: ما حدثت به أحدا حتى مات.
قال الربيع: فسألت موسى بن جعفر (عليهما السلام) عن الدعاء.
فقال: سألت أبي عن الدعاء فقال: هو دعاء الحجاب، وهو: بسم الله الرحمن
الرحيم * (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا
مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في
القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا) * اللهم إني أسألك بالاسم الذي به تحيي
وتميت وترزق وتعطي وتمنع، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم من أرادنا بسوء من
جميع خلقك فأعم عنا عينه، وأصمم عنا سمعه، وأشغل عنا قلبه، وأغلل عنا يده،
وأصرف عنا كيده، وخذه من بين يديه وعن يمينه وعن شماله ومن تحته ومن
فوقه يا ذا الجلال والإكرام.
قال موسى: قال أبي (عليه السلام): إنه دعاء الحجاب من جميع الأعداء (1).
وعنه في الكتاب المذكور بحذف الإسناد قال: حدث أبو عبد الرحمن
السلمي، قال: حدثنا محمد بن أحمد القيسي، قال: حدثنا موسى بن سهل، عن
الربيع صاحب المنصور، قال: لما استوت الخلافة له قال: يا ربيع ابعث إلى جعفر بن
محمد من يأتيني به. ثم قال بعد ساعة: ألم أقل لك أن تبعث إلى جعفر بن محمد؟!
فوالله لتأتيني به وإلا قتلتك.
فلم أجد بدا، فذهبت إليه فقلت له: يا أبا عبد الله أجب أمير المؤمنين. فقام
معي، فلما دنونا من الباب رأيته يحرك شفتيه، ثم دخل فسلم عليه فلم يرد عليه،
فوقف فلم يجلسه.
قال: ثم رفع إليه رأسه فقال: يا جعفر أنت الذي ألبت علي وكثرت، فقد
حدثني أبي عن أبيه عن جده أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " ينصب لكل غادر لواء يوم
القيامة يعرف به ".



(1) مهج الدعوات: ص 213 - 215.
623
فقال جعفر بن محمد (عليهما السلام): وحدثني أبي عن أبيه عن جده أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال:
" ينادي مناد يوم القيامة من بطنان العرش: ألا فليقم كل من أجره علي، فلا يقوم
إلا من عفا عن أخيه " فما زال يقول حتى سكن ما به ولان له.
فقال: اجلس يا أبا عبد الله، ارتفع أبا عبد الله ثم دعا بمدهن من غالية، فجعل
يغلفه بيده والغالية تقطر من بين أنامل أمير المؤمنين. ثم قال: انصرف أبا عبد الله
في حفظ الله.
وقال لي: يا ربيع أتبع أبا عبد الله جائزته وأضعفها له.
قال: فخرجت فقلت: يا أبا عبد الله تعلم محبتي لك؟ قال: نعم يا ربيع أنت منا،
حدثني أبي عن أبيه عن جده أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " مولى القوم من أنفسهم "
فأنت منا.
قلت: يا أبا عبد الله شهدت ما لم تشهد وسمعت ما لم تسمع وقد دخلت عليه
ورأيتك تحرك شفتيك عند الدخول عليه.
قال: نعم دعاء كنت أدعو به. فقلت: أدعاء كنت تلقيه عند الدخول أو شئ
تأثره عن آبائك الطيبين. قال: بلى حدثني أبي عن أبيه عن جده أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان
إذا حزنه أمر دعا بهذا الدعاء وكان يقال له دعاء الفرج، وهو: اللهم احرسني بعينك
التي لا تنام، وأكفني بركنك الذي لا يرام، وارحمني بقدرتك علي، ولا أهلك وأنت
رجائي، فكم من نعمة أنعمت بها علي قل لك بها شكري! وكم من بلية ابتليتني قل
لك بها صبري! فيا من قل عند نعمته شكري فلم يحرمني، ويا من قل عند بليته
صبري فلم يخذلني، ويا من رآني على الخطايا فلم يفضحني، أسألك أن تصلي
على محمد وآل محمد، اللهم أعني على ديني بالدنيا، وعلى آخرتي بالتقوى،
واحفظني فيما غبت عنه، ولا تكلني إلى نفسي فيما حضرته، يا من لا تضره
الذنوب، ولا تنقصه المغفرة، هب لي مالا ينقصك، واغفر لي مالا يضرك، إنك
وهاب، رب أسألك فرجا قريبا، وصبرا جميلا، ورزقا واسعا، والعافية من جميع
البلاء، وشكرا على العافية.

624
وفي رواية: وأسألك تمام العافية، وأسألك دوام العافية، وأسألك الشكر على
العافية، وأسألك الغنى عن الناس، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
قال الربيع: فكتبته من جعفر بن محمد في رقعة، فهاهو ذا في جيبي.
وقال موسى بن سهل: كتبته من الربيع في رقعة وهاهو ذا في جيبي.
وقال محمد بن هارون: كتبته من القيسي في رقعة وهاهو ذا في جيبي.
وقال علي بن أحمد المحتسب: كتبته من محمد بن هارون في رقعة وهاهو ذا
في جيبي.
وقال علي بن الحسن: كتبته عن علي بن أحمد في رقعة وهاهو ذا في جيبي.
وقال السلمي مثله، وقال أبو صالح مثله، وقال وفاء ومحمد مثله، وقال أبو
منصور مثله، وأنا أقول مثله (1).
وقالت عبادة بنت مالك الشيباني، عن صاحبها حماد بن الوليد الثقفي أنه سمع
من جعفر بن محمد (عليهما السلام) وهو يقول حين سئل عن كنز الغلامين اليتيمين وصلاح
أبيهما، فقال جعفر: إنه كان أبوهما صالحا دونه سبعة آباء، فحفظ الغلامان بصلاح
أبيهما الأكبر، وإنما كان كنز الغلامين سطرين ونصفا ولم يتم الثالث فيهم مكتوب:
يا عجبا من الموقن بالموت كيف يفرح. ويا عجبا من الموقن بالرزق كيف يتعب
ويا عجبا من الموقن بالحساب كيف يغفل! (2).
وقتل داود بن علي المعلى بن خنيس فقال له أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): قتلت
قيمي في مالي وعيالي، ثم قال: لأدعون الله عليك.
فقال داود: اصنع ما شئت.
فلما جن الليل قال (عليه السلام): اللهم ارمه بسهم من سهامك يفلق به قلبه. فأصبح
وقد مات داود والناس يهنئونه بموته.
فقال (عليه السلام): لقد مات على دين أبي لهب، ولقد دعوت الله فأجاب فيه الدعوة،



(1) بحار الأنوار: ج 94 ص 315 باب 44 ح 3 نقلا عن كتاب " العدد القوية " مخطوط.
(2) بحار الأنوار: ج 70 ص 152 - 153 باب 52 من كتاب الإيمان والكفر ح 11 نقلا بالمعنى.
625
وبعث إليه ملكا معه مرزبة من حديد فضربه ضربة فما كانت إلا صيحة، فسألنا
الخدم فقالوا: صاح في فراشه صيحة، فدنونا منه فإذا هو ميت (1).
وقال الوليد بن صبيح: كنا عند أبي عبد الله (عليه السلام) ليلة إذ طرق الباب طارق،
فقال للجارية: انظري من هذا؟ فخرجت ثم دخلت، فقالت: هذا عمك عبد الله بن
عبد الله بن علي. فقال: ادخليه. وقال لنا: ادخلوا البيت. فدخلنا فسمعنا منه حسا
ظننا أن الداخل بعض نسائه، فلصق بعضنا ببعض.
فلما دخل أقبل على أبي عبد الله فلم يدع شيئا من القبيح إلا قاله في أبي
عبد الله (عليه السلام)، ثم خرج وخرجنا، فأقبل يحدثنا من الموضع الذي قطع كلامه.
فقال بعضنا: لقد استقبلك هذا بشئ ما ظننا أن أحدا يستقبل أحدا مثله، حتى
لقد هم بعضنا أن يخرج إليه فيوقع به. فقال: مه لا تدخلوا فيما بيننا.
فلما مضى من الليل ما مضى طرق الباب طارق فقال للجارية انظري من
هذا؟ فخرجت ثم عادت فقالت: هذا عمك عبد الله بن علي: فقال لنا: عودوا إلى
موضعكم. ثم أذن له، فدخل بشهيق ونحيب وبكاء وهو يقول: يا بن أخي اغفر لي
غفر الله لك اصفح عني صفح الله عنك، وهو يقول له: غفر الله لك ما أحوجك إلى
هذا يا عم.
قال: إني لما آويت إلى فراشي أتاني رجلان أسودان غليظان فشداني وثاقا،
ثم قال أحدهما للآخر: انطلق به إلى النار، فانطلق بي فمررت برسول الله (صلى الله عليه وآله)
فقلت: يا رسول الله أما ترى ما يفعل بي؟ قال: أولست الذي أسمعت ابني ما
أسمعت! فقلت: يا رسول الله لا أعود، فأمره فخلى عني، وأنى لأجد ألم الوثاق.
فقال أبو عبد الله: أوص فقال: بما أوصي فما لي من مال، وأن لي عيالا وعلي
دين. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): دينك علي وعيالك إلي فأوصى، فما خرجنا من المدينة
حتى مات، وضم أبو عبد الله (عليه السلام) عياله إليه، وقضى دينه، وزوج ابنه بابنته (2).



(1) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 611 ح 7.
(2) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 619 ح 19.
626
وقال صفوان الجمال: كنت بالحيرة مع أبي عبد الله (عليه السلام) إذ أقبل إليه الربيع
وقال له: أجب أمير المؤمنين، فلم يلبث أن عاد. فقلت: لقد أسرعت الانصراف؟
فقال: إنه سألني عن شئ فسأل الربيع عنه. قال صفوان: وكان بيني وبين الربيع
لطف، فخرجت إلى الربيع وسألته. فقال: أخبرك بالعجب ان الأعراب خرجوا
يجنون الكمأة فأصابوا في البر خلقا ملقى فأتوني به، فأدخلته على الخليفة، فلما
رآه قال: نحه وادع جعفرا، فدعوته، فقال له: يا أبا عبد الله أخبرني عن الهواء
ما فيه؟ قال: في الهواء موج مكفوف. قال: ففيه سكان؟ قال: نعم. قال: وما سكانه؟
قال: خلق أبدانهم أبدان الحيتان ورؤوسهم رؤوس الطير، ولهم أعرف كأعرفة
الديكة ونغانغ كنغانغ الديكة وأجنحة كأجنحة الطير من ألوان أشد بياضا من الفضة
المجلوة. فقال الخليفة: هلم الطست. فجئت بها وفيها ذلك الخلق، وإذا هو والله كما
وصف جعفر.
فلما خرج جعفر قال المنصور: يا ربيع هذا الشجى المعترض في حلقي من
أعلم الناس (1).
وقال المهاجر بن عمار الخزاعي: بعثني أبو الدوانيق إلى المدينة وبعث معي
بمال كثير وأمرني أن أتضرع لأهل هذا البيت وأتحفظ مقالتهم. قال: فلزمت
الزاوية التي تلي القبر، فلم أكن أتنحى منها في وقت صلاة في ليل ولا نهار.
قال: وأقبلت أطرح إلى السؤال الذين حول القبر الدراهم ومن هو فوقهم
الشئ بعد الشئ حتى ناولت شبانا من بني الحسن ومشيخة حتى ألفوني وألفتهم
في السر.
قال: وكنت كلما دنوت من أبي عبد الله يلاطفني ويكرمني حتى إذا كان يوما
من الأيام بعدما نلت حاجتي ممن كنت أريد من بني الحسن وغيرهم دنوت من
أبي عبد الله وهو يصلي، فلما فرغ وقضى صلاته التفت إلي وقال: تعال يا مهاجر،
ولم أكن أتسمى باسمي ولا أتكنى بكنيتي. فقال: قل لصاحبك يقول لك جعفر: كان



(1) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 640 ح 47.
627
أهل بيتك إلى غير هذا أحوج منهم إلى هذا، تجئ إلى قوم شباب محتاجين
فتدس إليهم، فلعل أحدهم أن يتكلم بكلمة يستحل بها سفك دمه، فلو بررتهم
ووصلتهم وأقلتهم وأعنتهم كانوا إلى هذا أحوج مما تريد منهم.
قال: فلما أتيت أبا الدوانيق قلت له: جئتك من عند ساحر كان من أمره
كذا وكذا. فقال: صدق والله، لقد كانوا إلى غير هذا أحوج، إياك أن يسمع هذا
الكلام انسان (1).
ولقد قال أبو بصير: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): ما فعل أبو حمزة؟ قلت: خلفته
صالحا. قال: إذا رجعت إليه فاقرأه السلام وأعلمه أنه يموت يوم كذا من شهر كذا.
فقلت: كان فيه انس وكان من شيعتكم فقال: نعم إن الرجل من شيعتنا إذا خاف الله
وراقبه وتوقى الذنوب كان معنا في درجتنا.
قال أبو بصير: فرجعت، فما لبث أبو حمزة أن مات في تلك الساعة في
ذلك اليوم (2).
قال أبو الخير المبارك بن سرور بن نجا الواعظ، قال: أخبرنا القاضي أبو
عبد الله محمد بن علي بن محمد المعروف بن المغازلي، قال: حدثنا أبو الحسن
علي بن عبد الصمد بن القاسم الهاشمي، قال: حدثنا أبو الحسين بن محمد المعروف
بابن الكاتب البغدادي، قال: حدثنا علي بن محمد البصري، عن أبي علامة
الفارض بمصر، قال: حدثني عبد الله بن وهب، قال: سمعت الليث بن سعد يقول:
حججت سنة عشر ومائة، فطفت بالبيت وسعيت بين الصفا والمروة، وأتيت أبا
قبيس فوجدت رجلا يدعو وهو يقول: يا رب يا رب حتى انطفأ نفسه، ثم قال:
يا الله يا الله حتى انطفأ نفسه، ثم قال: يا حي يا قيوم حتى انطفأ نفسه، ثم قال: اللهم
إن بردي قد أخلقا فألبسني واكسني وإني جائع فأطعمني. فما شعرت إلا بسلة فيها
عنب لا عجم فيه وبرداوان ملقاوان، فخرجت وجلست لآكل معه فقال: من تكون؟



(1) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 646 ح 55.
(2) دلائل الإمامة: ص 117.
628
قلت: أنا شريكك في هذا الخبر. قال: بماذا؟ قلت: كنت تدعو وأنا أؤمن على
دعائك. فقال لي: كل واكتم ولا تذكر شيئا. وما كان أوان العنب، فأكلنا حتى
امتلينا، ثم افترقنا ولم تنقص من السلة شئ. ثم قال: خذ إحدى البردين إليك.
فقلت: أنا غني عنها. فقال لي: توار عني لألبسهما. فتواريت فلبسهما وأخذ الثياب
التي كانت عليه بيده ونزل، فاتبعته لأعرفه، فلقيه سائل فقال له: أكسني كساك الله
يا بن رسول الله. فأعطاه الثياب. فتبعت السائل فقلت له: من هذا؟ فقال: هذا
جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) (1).
وقال الرضا (عليه السلام): إنه جاء رجل إلى جعفر بن محمد (عليهما السلام) فقال له: انج بنفسك
فهذا فلان بن فلان قد وشى بك إلى المنصور وذكر أنك تأخذ البيعة لنفسك على
الناس لتخرج إليهم. فتبسم وقال: يا عبد الله لا تفزع فإن الله إذا أراد إظهار فضيلة
كتمت أو جحدت أثار عليها حاسدا باغيا يحركها حتى يبينها، اقعد معي حتى
يأتيني الطلب فتمضي معي إلى هناك حتى تشاهد ما يجري من قدرة الله تعالى
التي لا معدل عنها لمؤمن.
فجاء وقال: أجب أمير المؤمنين. فخرج الصادق (عليه السلام) ودخل عليه وقد امتلأ
المنصور غيظا وغضبا فقال له: أنت الذي تأخذ البيعة لنفسك على المسلمين تريد
أن تفرق جماعتهم وتسعى في هلكتهم وتفسد ذات بينهم؟
فقال الصادق (عليه السلام): ما فعلت شيئا من هذا. قال المنصور: فهذا فلان يذكر أنك
قد فعلت ذلك وأنه أحد من دعوته إليك. فقال: إنه كاذب. قال المنصور: إني أحلفه
فإن حلف كفيت نفسي مؤونتك. فقال الصادق (عليه السلام): إنه إذا حلف كاذبا باء بإثم.
فقال المنصور لحاجبه: حلف هذا الرجل على ما حكاه عن هذا، يعني الصادق
فقال الحاجب: قل: والله الذي لا إله إلا هو جعل يغلظ عليه اليمين.
فقال الصادق (عليه السلام): لا تحلفه هكذا فإني سمعت أبي يذكر عن جدي رسول
الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إن من الناس من يحلف كاذبا فيعظم الله في عينيه ويصفه بصفاته



(1) كشف الغمة: ج 2 ص 160.
629
الحسنى، فيأتي تعظيمه لله على إثم كذبه ويمينه ولكن دعني أحلفه باليمين التي
حدثني أبي عن جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه لا يحلف بها كاذب إلا باء بإثمه. فقال
المنصور: فحلفه إذن يا جعفر.
فقال الصادق للرجل: قل إن كنت كاذبا عليك فقد برئت من حول الله وقوته
ولجأت إلى حولي وقوتي. فقالها الرجل، فقال الصادق (عليه السلام): اللهم إن كان كاذبا
فأمته فما استتم الكلام حتى سقط الرجل ميتا، واحتمل ومضي به، وسرى عن
المنصور وسأله حوائجه.
فقال (عليه السلام): ليس لي حاجة إلا الإسراع إلى أهلي فإن قلوبهم معلقة بي فقال:
ذلك إليك. فخرج من عنده مكرما قد تحير فيه المنصور ومن يليه (1).
وقال الصادق (عليه السلام): دعاني المنصور ومعي عبد الله بن الحسن وهو يومئذ نازل
بالحيرة قبل أن يبتني بغداد، يريد قتلنا، لا يشك فيه الناس.
فلما دخلت عليه دعوت الله بكلام، وقد قال لابن نهيك وهو القائم على رأسه:
إذا ضربت بإحدى يدي على الأخرى فلا تناظره حتى تضرب عنقه.
فلما كلمته بما أريد نزع الله من قلب أبي جعفر الغيظ. فلما دخلت أجلسني
مجلسه وأمر لي بجائزة وخرجنا من عنده.
فقال له أبو بصير وكان حضر ذلك المجلس: ما كان الكلام؟
قال: دعوت بدعاء يوسف فاستجاب الله لي ولأهل بيتي (2).
وقال سالم بن أبي حفصة: لما هلك الباقر (عليه السلام) قلت لأصحابي: انتظروني حتى
أدخل على أبي عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام) فأعزيه به. فدخلت عليه فعزيته،
ثم قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب والله من كان يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)
فلا يسأل عن من بينه وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لا والله لا يرى مثله أبدا.
$ الإمام الصادق (عليه السلام) / معجزاته
قال: فسكت أبو عبد الله ساعة، ثم قال: قال الله تعالى: " إن من عبادي من



(1) بحار الأنوار: ج 47 ص 172 ب 28 ح 19.
(2) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 36.
630
يتصدق بشق تمرة فأربيها له كما يربي أحدكم فلوة (1) حتى أجعلها له مثل أحد ".
فخرجت إلى أصحابي فقلت: ما رأيت أعجب من هذا، كنا نستعظم قول أبي
جعفر قال رسول الله بلا واسطة، فقد قال لي أبو عبد الله قال الله تعالى بلا واسطة (2).
فصل
في ذكر معجزات جعفر بن محمد (عليه السلام)
روي أن بعض أصحابه حمل إلى أبي عبد الله (عليه السلام) مالا قال: فاستكثرته في
نفسي. فلما دخلت عليه دعا بغلام وإذا طست في آخر الدار فأمره أن يأتيه به،
ثم تكلم بكلام لما اتي بالطست فانحدرت الدنانير من الطست حتى حالت بيني
وبين الغلام.
قال: فالتفت إلي وقال: أترى نحتاج ما في أيديكم؟ إنما آخذ منكم ما آخذ
لأطهركم بذلك (3).
وقال داود بن كثير الرقي: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فدخل موسى ابنه عليه
وهو يتنفض، فقال له أبو عبد الله: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت في كنف الله، متقلبا
في نعم الله، أشتهي عنقود عنب جرشي ورمانة خضراء.
قال داود: قلت: سبحان الله هذا الشتاء! فقال: يا داود إن الله تعالى قادر على كل
شئ، ادخل البستان، فإذا شجرة عليها عنقود من عنب جرشي ورمانة خضراء.
فقلت: آمنت بسركم وعلانيتكم، فقطفتهما وأخرجتهما إلى موسى فقعد يأكل.
فقال: يا داود لهو أفضل من رزق قديم خص الله به مريم بنت عمران من
الأفق الأعلى (4).



(1) الفلو - بالفتح ثم الضم وتشديد الواو -: العظيم من أولاد ذوات الحافر.
(2) أمالي المفيد: ص 354 المجلس 42 ح 7.
(3) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 614 ح 12.
(4) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 617 ح 16.
631
قال بختريا الخياط (1): كنت قاعدا مع قطري بن خليفة (2) فجاء ابن الملاح
فجلس ينظر إلي، فقال لي قطري: تحدث إن أردت فليس عليك بأس.
فقال ابن الملاح: أخبرك بأعجوبة رأيتها من ابن البكرية - يعني الصادق (عليه السلام) -
قال ما هو؟ قال: كنت قاعدا وحدي أحدثه ويحدثني إذ ضرب بيده إلى ناحبة
المسجد شبه المتفكر ثم استرجع فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. قلت: مالك؟ قال:
قتل عمي زيد الساعة. ثم نهض فذهب.
فكتبت قوله في تلك الساعة وفي ذلك اليوم وفي ذلك الشهر، ثم أقبلت إلى
العراق فلما كنت في الطريق استقبلني راكب فقال: قتل زيد بن علي في يوم كذا
في ساعة كذا، على ما قال أبو عبد الله (عليه السلام).
فقال قطري بن خليفة: إن عند هذا الرجل علما جما (3).
وقال بشير النبال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) إذ استأذن عليه رجل ثم دخل
فجلس، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): ما أنقى ثيابك هذه وألينها! قال: هي لباس بلادنا.
ثم قال: جئتك بهدية، فدخل غلام ومعه جراب فيه ثياب فوضعه، ثم تحدث
ساعة، ثم قام.
فقال أبو عبد الله: إن بلغ الوقت وصدق الوصف فهو صاحب الرايات السود
من خراسان يتقعقع (4).
ثم قال لغلام قائم على رأسه: ألحقه فسله ما اسمك؟
فقال: عبد الرحمن.
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): عبد الرحمن والله - ثلاث مرات - هو هو ورب الكعبة.
قال بشير: فلما قدم أبو مسلم جئت حتى دخلت عليه، فإذا هو الرجل الذي
دخل علينا (5).



(1) في المصدر: بحر الخياط.
(2) في المصدر: فطر بن خليفة.
(3) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 642 ح 50.
(4) التقعقع: هو من القعقعة وهي صوت السلاح.
(5) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 645 ح 54.
632
وقال محرمة الكندي: إن أبا الدوانيق نزل بالربذة وجعفر الصادق (عليه السلام) بها،
فقال: من يعذرني من جعفر والله لأقتلنه، فدعاه.
فلما دخل عليه جعفر قال: يا أمير المؤمنين إرفق بي فوالله لقلما أصحبك.
فقال أبو الدوانيق: انصرف. ثم قال لعيسى: يا بن علي إلحقه فسله أبي! أم به؟
فخرج يشتد حتى لحقه فقال: يا با عبد الله إن أمير المؤمنين يقول لك أبك
أم به؟ قال: لا بل بي (1).
وقيل: إن ابن أبي العوجاء وثلاثة نفر اخر من الدهرية اتفقوا على أن يعارض
كل واحد منهم ربع القرآن، وكانوا بمكة، وتعاهدوا على أن يجيئوا بمعارضته في
العام القابل.
فلما حال الحول واجتمعوا في مقام إبراهيم (عليه السلام)، قال أحدهم: إني لما رأيت
قوله تعالى: * (يا أرض إبلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء) * (2) كففت عن
المعارضة.
وقال الآخر: وكذا أنا لما وجدت قوله: * (فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا) * (3)
أيست من المعارضة وكانوا يسرون ذلك.
فمر عليهم الصادق (عليه السلام) فالتفت إليهم وقرأ عليهم: * (قل لئن اجتمعت الإنس
والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله) * (4) فبهتوا (5).
وقال إبراهيم بن مهزم، عن أبيه أنه قال: خرجت من أبي عبد الله (عليه السلام) ممسيا
فأتيت منزلي بالمدينة وكانت أمي معي، فوقع بيني وبينها كلام فأغلظت لها.
فلما كان من الغد صليت الغداة وأتيت أبا عبد الله (عليه السلام) فدخلت عليه، فقال لي:
يا مهزم مالك ولخالدة (6) أغلظت لها البارحة، أفما علمت أن بطنها لك منزل قد



(1) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 647 ح 56.
(2) هود: 44.
(3) يوسف: 80.
(4) الإسراء: 88.
(5) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 710 ح 5.
(6) في المصدر: والوالدة.
633
سكنته! وأن حجرها مهد قد عمرته (1)! وأن ثديها سقاء (2) قد شربته! قلت: بلى. قال:
فلا تغلظ لها (3).
وقال جماعة: كنا عند أبي عبد الله (عليه السلام) - منهم يونس بن ظبيان، والمفضل بن
عمر، وأبو سلمة السراج، والحسين بن أبي فاختة - فقال لنا: فيما جرى عندنا
خزائن الأرض ومفاتيحها، ولو أشاء أن أقول بإحدى رجلي: أخرجي ما فيك من
الذهب والفضة لكان. ثم خط بإحدى رجليه في الأرض خطا فانفجرت الأرض
عن كنز فيه سبائك، فقال بيده هكذا فأخرج سبيكة ذهب قدر شبر فتناولها، ثم
قال: انظروا فيها حسنا حتى لا تشكوا فنظرنا، ثم قال: انظروا في الأرض فإذا
سبائك كثيرة بعضها على بعض تلألأ.
فقال بعضنا: جعلت فداك أعطيتم ما نرى وشيعتكم محتاجون! فقال: إن الله
سيجمع لنا ولشيعتنا الدنيا والآخرة، ويدخلهم جنات النعيم، ويدخل عدونا نار
الجحيم (4).
وقال محمد بن الحسين بن شمون: كتبت إليه (عليه السلام) (5) أشكو الفقر، ثم قلت
في نفسي: أليس قال أبو عبد الله (عليه السلام): " الفقر معنا خير من الغنى مع غيرنا، والقتل
معنا خير من الحياة مع غيرنا ".
فوقع الجواب: إن الله تعالى محص أولياءنا إذا تكاثفت ذنوبهم بالفقر، وقد
يعفو عن كثير، وهو كما حدثت نفسك: الفقر معنا خير من الغنى مع عدونا، ونحن
كهف لمن التجأ الينا، ونور لمن استضاء بنا، وعصمة لمن اعتصم بنا، من أحبنا كان
معنا في السنام الأعلى، ومن انحرف عنا فإلى النار (6).
وقال أبو عبد الله (عليه السلام): تشهدون على عدوكم بالنار ولا تشهدون لوليكم



(1) في المصدر: غمزته.
(2) في المصدر: وعاء.
(3) بصائر الدرجات: ص 243 ج 5 ب 11 ح 3.
(4) الاختصاص: ص 269.
(5) يعني أبا محمد العسكري (عليه السلام).
(6) إلى هنا في كشف الغمة: ج 2 ص 421.
634
بالجنة، ما يمنعكم من ذلك إلا الضعف (1).
وقيل: إن جماعة من بني هاشم اجتمعوا بالأبواء منهم إبراهيم بن محمد بن علي
بن عبد الله بن عباس وأبو جعفر المنصور وعبد الله بن الحسن وابناه محمد
وإبراهيم وأرادوا أن يعقدوا لرجل منهم، فقال عبد الله: هذا محمد ابني هو المهدي.
فأرسلوا إلى جعفر بن محمد، فجاء وقال: لماذا اجتمعتم؟ قالوا: لنبايع محمد بن
عبد الله فهو المهدي.
فقال جعفر: لا تفعلوا فإن هذا الأمر لم يأت بعد، وليس هو بالمهدي.
فقال عبد الله: إنما يحملك على هذا الحسد لابني.
فقال: والله ما يحملني ذلك، ولكن هذا وأخوه وأبناؤهما دونكم وضرب بيده
على ظهر أبي العباس السفاح.
ثم قال لعبد الله: ما هي إليك ولا إلى ابنيك ولكنها لبني العباس، وإن ابنيك
لمقتولان. ثم نهض وقال: إن صاحب الرداء الأصفر - يعني أبا جعفر المنصور -
يقتلهما.
فقال عبد العزيز بن علي: والله ما خرجت من الدنيا حتى رأيته قتلهما.
وانفض القوم، فقال المنصور للصادق (عليه السلام): تتم الخلافة لي؟ فقال: نعم أقوله
[حقا] (2).
وقال عبد الرزاق: حدثنا مهلب بن قيس، قال: قلت للصادق (عليه السلام): بأي شئ
يعرف العبد إمامه؟ قال: بفعل هكذا، ووضع يده على حائط فإذا الحائط هباء،
ثم وضع يده على أسطوانة فأورقت من ساعتها، فقال: هنا معرفة الإمام (3).
وقال إبراهيم بن سعيد: كنت عند الصادق (عليه السلام) وقد أظلتنا هاجرة شديدة
فأظهر لنا ثلجا وعسلا ونهرا يجري في داره من غير حفر، وذلك بالمدينة حيث



(1) بحار الأنوار: ج 72 ص 44 ب 94 ذيل ح 53.
(2) بحار الأنوار: ج 47 ص 120 باب 27 ح 166.
(3) دلائل الإمامة: ص 114.
635
لا ثلج ولا عسل ولا ماء جاري (1).
وقال إسماعيل بن زيد، عن شعيب بن ميثم، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام):
يا شعيب ما أحسن بالرجل يموت وهو لنا ولي، يوالي ولينا ويعادي عدونا.
قلت: والله إني لأعلم أن من مات على هذا إنه لعلى حال حسنة.
قال: يا شعيب أحسن إلى نفسك، وصل قرابتك، وتعاهد إخوانك، ولا تستبدل
بالتي هي أحسن، تقول: أدخر لنفسي وعيالي، إن الذي خلقهم هو الذي رزقهم.
قلت في نفسي: نعى والله إلي نفسي.
قال إسماعيل: فرجع شعيب بن ميثم فما لبث شهرا حتى مات (2).
وقال جميل بن دراج: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فدخلت عليه امرأة فذكرت
أنها تركت ابنها وقد ألقت الملحفة على وجهه وهو ميت.
فقال لها: لعله لم يمت فقومي واذهبي إلى بيتك فاغتسلي وصلي ركعتين
واجزعي وقولي: يامن وهبه لي ولم يكن شيئا جدد هبته ثم حركيه ولا تخبري
بذلك أحدا. ففعلت، وجاءت فحركته فإذا هو يبكي (3).
وقال أبو حمزة: كنت مع أبي عبد الله (عليه السلام) فيما بين مكة والمدينة فالتفت عن
يساره فإذا كلب أسود فقال: مالك قبحك الله؟ ما أشد مسارعتك؟ فإذا هو شبيه
بالطائر. فقلت: ما هذا جعلني الله فداك؟ فقال: هذا عثم بريد الجن، مات هشام
الساعة ومر يطير يسعى به في كل بلد (4).
$ الإمام الصادق (عليه السلام) / نبذ من كلامه
وقال داود بن كثير الرقي: خرجت مع أبي عبد الله (عليه السلام) إلى الحج فلما كان
وقت الظهر قال لي: يا داود قد صارت الظهر فأعدل بنا عن الطريق حتى نأخذ أهبة
الظهر. فعدلنا عن الطريق، فنزل في أرض قفر لا ماء فيها، فركضها برجله فنبعت لنا
عين ماء وكأنها قطع الثلج، فتوضأ وتوضأت وصلينا، فلما هممنا بالمسير التفت



(1) دلائل الإمامة: ص 113 - 114.
(2) الناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 323.
(3) بصائر الدرجات: ص 272 ج 6 ب 4 ح 1.
(4) كشف الغمة: ج 2 ص 192، وفيه: ينعاه في كل بلد.
636
فإذا بجذع نخلة، فقال: يا داود أتحب أن أطعمك منه رطبا؟ فقلت: نعم، فضرب
بيده إليه ثم هزه فاخضر، ثم جذبه الثانية فأطعمني منه رطبا، ثم مسح بيده عليه
وقال: عد نخرا بإذن الله، فعاد كسيرته الأولى (1).
وقال محمد بن سنان: وجه المنصور إلي سبعين رجلا من أهل كابل فدعاهم
وقال لهم: ويحكم أنتم تزعمون أنكم ورثتم السحر عن آبائكم في أيام
موسى (عليه السلام)، وأنكم تفرقون بين المرء وزوجه، وأن أبا عبد الله جعفر بن محمد
الصادق ساحر مثلكم فاعملوا شيئا من السحر فإنكم إن بهتموه أعطيكم الجائزة
العظيمة والمال الجزيل.
فقاموا إلى المجلس الذي فيه المنصور وصوروا له سبعين صورة من صور
السباع، وجلس كل واحد منهم تحت صورته، وجلس المنصور على سريره ثم
قال لحاجبه: إبعث إلى أبي عبد الله.
فقام فدخل إليه، فلما نظر إليه وإليهم وما قد استعدوا له رفع يده إلى السماء ثم
تكلم بكلام بعضه جهرا وبعضه خفيا ثم قال: ويلكم أنا الذي أبطل سحركم، ثم
نادى برفيع صوته: قسورة خذهم، فوثب كل سبع منها على صاحبه فافترسه في
مكانه، ووقع المنصور من سريره وهو يقول: يا أبا عبد الله أقلني فوالله لا عدت إلى
مثلها أبدا.
فقال له: قد أقلتك.
فقال: يا سيدي رد السباع إلى ما كانوا.
قال: هيهات إن عادت عصا موسى فستعود السباع (2).
فصل
في نبذ من كلام مولانا الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام)
قوله: أحسن من الصدق قائله، وخير من الخير فاعله.



(1) كشف الغمة: ج 2 ص 241.
(2) دلائل الإمامة: ص 114.
637
وقال: إذا أحسن العبد المؤمن ضاعف الله عمله بكل حسنة سبعمائة ضعف،
وذلك قوله عز وجل: * (والله يضاعف لمن يشاء) * (1).
وقال (عليه السلام): ليس لبحر جار، ولا لملك صديق، ولا للعافية ثمن، وكم من ناعم
لا يعلم (2).
وقال علي بن يوسف المدائني: سمعت سفيان الثوري يقول: دخلت على أبي
عبد الله جعفر بن محمد بن علي (عليهم السلام) فقلت: يا بن رسول الله أوصني.
فقال: يا سفيان لا مروءة لكذوب، ولا راحة لحسود، ولا خلة لبخيل، ولا أخا
لملول، ولا سؤدد لسيئ الخلق.
قلت: يا بن رسول الله زدني.
قال: يا سفيان كف عن محارم الله تكن عابدا، وارض بما قسم الله لك تكن
مسلما، واصحب الناس بما تحب أن يصحبوك به تكن مؤمنا، ولا تصحب الفاجر
فيعلمك من فجوره، وشاور في أمرك الذين يخشون الله عز وجل.
قلت: يا بن رسول الله زدني. قال: يا سفيان من أراد عزا بلا عشيرة وهيبة
بلا سلطان فليخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعة الله عز وجل.
قلت: يا بن رسول الله زدني. قال: يا سفيان أدبني أبي بثلاث وأتبعني بثلاث.
قلت: يا بن رسول الله ما الثلاث التي أدبك بهن أبوك؟ قال: قال لي أبي: من يصحب
صاحب السوء لا يسلم، ومن يدخل مدخل السوء يتهم، ومن لا يملك لسانه يندم.
ثم أنشدني جعفر (عليه السلام):
عود لسانك قول الخير تحظ به * إن اللسان لما عودت معتاد
موكل بتقاضي ما سننت له * في الخير والشر فانظر كيف تزداد
قال: قلت: فما الثلاث الاخر؟ قال: قال لي أبي: إنما تتقي حاسد نعمة
أو شامت بمصيبة أو حامل نميمة (3).



(1) البقرة: 261.
(2) الخصال: ج 1 ص 223 ح 51.
(3) الخصال: ص 169 ح 222، بحار الأنوار: ج 78 ص 261 ب 23 ح 160.
638
وقال (عليه السلام): ثلاث لا يضر معهن شئ: الدعاء عند الكربات، والاستغفار
عند الذنب، والشكر عند النعمة (1).
وقال (عليه السلام): والله لا يهلك هالك على حب علي (عليه السلام) إلا رآه في أحب
المواطن إليه (2).
وقال (عليه السلام): وجدت علم الناس في أربع: أولها أن تعرف ربك، والثاني أن
تعرف ما صنع بك، والثالث أن تعرف ما أراد منك، والرابع أن تعرف ما يخرجك
عن دينك (3).
وقال (عليه السلام) لهشام بن الحكم: إن الله لا يشبه شيئا ولا يشبهه شئ، فكلما وقع
في الوهم فهو بخلافه (4).
وقال (عليه السلام) لزرارة بن أعين: أعطيك جملة في القضاء والقدر. قال له زرارة:
نعم جعلت فداك. قال له: إذا كان يوم القيامة وجمع الله الخلائق سألهم عما عهد
إليهم، ولم يسألهم عما قضى عليهم (5).
وقال (عليه السلام): ماكل من نوى شيئا قدر عليه، ولا كل من قدر على شئ وفق له،
ولا كل من وفق له أصاب له موضعا، فإذا اجتمعت النية والقدرة والتوفيق
والإصابة فهنالك تمت السعادة (6).
وقال (عليه السلام): أحسنوا النظر فيما لا يسعكم جهله، وانصحوا لأنفسكم وجاهدوا
في طلب معرفة مالا عذر لكم في جهله، فإن لدين الله أركانا لا ينفع من جهلها
شدة إجتهاده في طلب ظاهر عبادته ولا يضر من عرفها وكان بها حسن اقتصاده
ولا سبيل لأحد إلى ذلك إلا بعون الله تعالى (7).
وقال (عليه السلام): تأخير التوبة اغترار، وطول التسويف حيرة، والاعتلال على الله
هلكة، والإصرار على الذنب أمن لمكر الله، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون (8).



(1) الكافي: ج 2 ص 95.
(2) الأمالي للطوسي: ج 1 ص 207 ح 349.
(3 و 4 و 5) الإرشاد: ص 282.
(6) الإرشاد: ص 282.
(7) الإرشاد: ص 283.
(8) الإرشاد: ص 283.
639
وقال (عليه السلام): من صدق لسانه زكى عمله، ومن حسنت نيته زيد في رزقه، ومن
حسن بره بأهل بيته زيد في عمره (1).
وقال (عليه السلام): أحسنوا جوار النعم واحذروا أن تنتقل منكم إلى غيركم، أما أنها
لم تنتقل عن أحد قط فكادت أن ترجع إليه. قال: وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول:
قلما أدبر شئ فأقبل (2).
وقال (عليه السلام): إن نوحا (عليه السلام) ركب السفينة أول يوم من رجب فأمر من معه أن
يصوموا ذلك اليوم، وقال: من صام ذلك اليوم تباعدت عنه النار مسيرة سنة، ومن
صام سبعة أيام منه غلقت عنه أبواب النار السبعة، ومن صام ثمانية أيام فتحت له
أبواب الجنة الثمانية، ومن صام خمسة عشر يوما أعطي مسألته، ومن زاد على
ذلك زاده الله تعالى.
قال: وفي اليوم السابع والعشرين منه نزلت النبوة فيه على رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
ومن صام هذا اليوم كان ثوابه ثواب من صام ستين شهرا (3).
وقال (عليه السلام) لجميل بن دراج: خياركم سمحاؤكم، وشراركم بخلاؤكم، ومن
صالح الأعمال البر بالإخوان والسعي في حوائجهم، وفي ذلك مرغمة للشيطان
وتزحزح عن النيران ودخول الجنان، يا جميل أخبر بهذا الحديث غرر أصحابك
قلت: من غرر أصحابي؟ قال: هم البريون بالإخوان في العسر واليسر، أما أن
صاحب الكثير يهون عليه ذلك وقد مدح الله صاحب القليل فقال: * (والمؤثرون
على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) * (4).
وقال (عليه السلام): كان فيما وعظ لقمان ابنه أن قال له: يا بني إجعل في أيامك
ولياليك وساعاتك نصيبا لك في طلب العلم فإنك لن تجد له تضيعا مثل تركه (5).
وقال كليب بن معاوية: سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد يقول: أم والله إنكم



(1) كشف الغمة: ج 2 ص 208.
(2) الأمالي للطوسي: ج 1 ص 250 ح 425.
(3) الأمالي للطوسي ج 1 ص 43 - 44 ح 19.
(4) الخصال: ص 96 ح 42.
(5) الأمالي للطوسي: ج 1 ص 66 ح 8.
640
لعلى دين الله وملائكته، فأعينونا على ذلك بورع واجتهاد، عليكم بالصلاة
والعبادة، عليكم بالورع (1).
وقال حفص بن غياث: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إذا أراد أحدكم أن لا يسأل الله
شيئا إلا أعطاه فلييأس من الناس كلهم، ولا يكون له رجاء إلا من عند الله عز
وجل، فإذا علم الله ذلك من قلبه لم يسأل شيئا إلا أعطاه، فحاسبوا أنفسكم قبل أن
تحاسبوا فإن في القيامة خمسين موقفا كل موقف مثل ألف سنة مما تعدون، ثم
تلا هذه الآية: * (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) * (2).
وقال يونس بن يعقوب: سمعت الصادق (عليه السلام) يقول: ملعون ملعون كل بدن
لا يصاب في كل أربعين يوما. قلت: ملعون؟ قال: ملعون. فلما رأى عظم ذلك علي
قال لي: يا يونس من البلية: الخدشة، واللطمة، والنكبة، والعثرة، والقفزة، وانقطاع
الشسع، وأشباه ذلك. يا يونس إن المؤمن أكرم على الله تعالى من أن تمر عليه
أربعون يوما لا يمحص فيها من ذنوبه ولو بغم يصيبه لا يدري ما وجهه، والله أن
أحدكم ليضع الدراهم بين يديه فيزنها فيجدها ناقصة فيغتم بذلك فيجدها سواء
فيكون ذلك حطا لبعض ذنوبه. يا يونس ملعون ملعون من آذى جاره. ملعون
ملعون رجل يبدأه أخوه بالصلح فلم يصالحه. ملعون ملعون حامل القرآن مصر
على شرب الخمر. ملعون ملعون عالم يؤم سلطانا جائرا معينا له على جوره.
ملعون ملعون مبغض علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فإنه ما أبغضه حتى أبغض رسول
الله (صلى الله عليه وآله)، ومن أبغض رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعنه الله في الدنيا والآخرة. ملعون ملعون من
رمى مؤمنا بكفر، ومن رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله. ملعونة ملعونة امرأة تؤذي
زوجها وتغمه، وسعيدة سعيدة امرأة تكرم زوجها ولا تؤذيه وتطيعه في جميع
أحواله. يا يونس قال جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله): ملعون ملعون من يظلم بعدي فاطمة
ابنتي ويغصبها حقها ويقتلها. ثم قال: يا فاطمة البشرى فلك عند الله مقام محمود
تشفعين فيه لمحبيك وشيعتك فتشفعين. يا فاطمة لو أن كل نبي بعثه الله وكل ملك



(1) رجال الكشي: ج 2 ص 631 ح 628.
(2) الأمالي للطوسي: ج 1 ص 34 ح 7.
641
قربه الله شفعوا في مبغض لك غاصب لك ما أخرجه الله من النار أبدا. ملعون
ملعون قاطع رحم. ملعون ملعون مصدق بسحر. ملعون ملعون من قال: الإيمان
قول بلا عمل. ملعون ملعون من وهب الله له مالا فلم يتصدق منه بشئ، أما سمعت
قول النبي (عليه السلام): صدقة درهم أفضل من صلاة عشر ليال. ملعون ملعون من ضرب
والده أو والدته. ملعون ملعون من عق والديه. ملعون ملعون من لم يوقر المسجد،
أتدري يا يونس لم عظم الله تعالى حق المساجد وأنزل هذه الآية * (وان المساجد
لله فلا تدعو مع الله أحدا) * (1) كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم أشركوا
بالله تعالى فأمر الله سبحانه نبيه أن يوحد الله فيها ويمجده (2).
وقال (عليه السلام): إن لله وجوها من خلقه خلقهم لقضاء حوائج عباده، يرون الجود
مجدا، والإفضال مغنما، والله يحب مكارم الأخلاق (3).
وقال (عليه السلام): ما كان عبد ليحبس نفسه على الله إلا أدخله الله الجنة (4).
وقال عمر بن يزيد، عنه (عليه السلام): إن لله في كل ليلة من شهر رمضان عتقاء من
النار إلا من أفطر على مسكر أو مشاحن أو صاحب شاهين، قال: قلت: وأي
صاحب شاهين؟ قال: الشطرنج (5).
وقال (عليه السلام): نفس المهموم لظلمنا تسبيح، وهمه لنا عبادة، وكتمان سرنا جهاد
في سبيل الله (6).
وقال (عليه السلام): كم من صبر ساعة قد أورثت فرحا طويلا، وكم من لذة ساعة
قد أورثت حزنا طويلا (7).
$ الإمام الصادق (عليه السلام) / أولاده
وقال (عليه السلام): لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون كامل العقل، ولن يكون كامل
العقل حتى تكون فيه عشر خصال: الخير منه مأمول، والشر منه مأمون، يستقل



(1) الجن: 18.
(2) كنز الكراجكي: ج 1 ص 149 - 151.
(3) الأمالي للطوسي: ج 1 ص 309 ح 46.
(4) بحار الأنوار: ج 70 ص 71 باب 45 ح 19.
(5) ثواب الأعمال: ص 90 ح 6.
(6) الأمالي للطوسي: ج 1 ص 114 - 115 ح 32.
(7) الأمالي للطوسي: ج 1 ص 152 ح 3.
642
كثير الخير من نفسه، ويستكثر قليل الخير من غيره، ويستكثر قليل الشر من نفسه،
ويستقل كثير الشر من غيره، لا يتبرم بطلب الحوائج قبله، ولا يسأم من طلب العلم
عمره، الذل أحب إليه من العز، والفقر أحب إليه من الغنى، حسبه من الدنيا قوت،
والعاشرة وما العاشرة لا يلقى أحدا إلا قال هو خير مني وأتقى، إنما الناس
رجلان: رجل خير منه وأتقى وآخر شر منه وأدنى، فإذا لقي الذي هو خير منه
تواضع له ليلحق له، وإذا لقي الذي هو شر منه وأدنى قال: لعل شر هذا ظاهر
وخيره باطن، فإذا فعل ذلك فقد علا وساد أهل زمانه (1).
فصل
في ذكر وفاة الصادق (عليه السلام) وموضع قبره ومبلغ سنه
مضى (عليه السلام) في شوال سنة ثمان وأربعين ومائة، وله خمس وستون سنة (2).
ودفن بالبقيع مع أبيه وجده (3) وعمه الحسن (عليهم السلام).
وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر كما تقدم.
سمه المنصور فقتله (4).
وروى أبو الحسين يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبد الله إنه قبض وهو ابن
ثمان وستين سنة، ويروى سبع وستين (5) والأول أصح.
فصل
في ذكر ولد الصادق (عليه السلام) وعددهم
وكان لأبي عبد الله الصادق (عليه السلام) عشرة أولاد: إسماعيل، وعبد الله، وأم فروة،



(1) الأمالي للطوسي: ج 1 ص 152 - 153 ح 5.
(2 - 5) دلائل الإمامة: ص 111.
643
أمهم: فاطمة بنت الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام).
وموسى، وعيسى، وإسحاق، ومحمد، لام ولد.
والعباس، وعلي، وفاطمة، وأسماء، لأمهات أولاد شتى (1).
وكان إسماعيل أكبر اخوته، وكان أبو عبد الله (عليه السلام) شديد المحبة له، والبر به،
والإشفاق عليه، كان قوم من الشيعة يظنون أنه القائم بعد أبيه والخليفة له. فمات
في حياة أبيه بالعريض، وحمل على رقاب الرجال إلى أبيه بالمدينة حتى دفن
بالبقيع (2).
وقال مفضل بن مرثد (3): قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إسماعيل ابنك جعل الله له
علينا من الطاعة ما جعل لآبائه، وإسماعيل يومئذ حي. فقال: تكفى ذلك. فما لبث
إن مات إسماعيل (4).
وقال الوليد بن صبيح: جاءني رجل فقال: تعال حتى أريك أين إلهك؟ فذهبت
معه إلى قوم يشربون فيهم إسماعيل، فخرجت مغموما، فجئت الحجر فإذا
إسماعيل متعلق بالبيت يبكي قد بل أستار الكعبة، فذكرت ذلك لأبي عبد الله (عليه السلام)،
فقال: قد ابتلي إسماعيل بشيطان يتمثل في صورته (5).
وحيث توفي إسماعيل صار عبد الله بن جعفر أكبر اخوته بعد إسماعيل،
ولم يكن منزلته عند أبيه منزلة غيره من ولده (6).
وقيل: إنه كان يخالط الحشوية ويميل إلى مذاهب المرجئة. وأدعى بعد أبيه
الإمامة، فاتبعه على قوله جماعة من أصحاب أبي عبد الله (عليه السلام)، وهم الطائفة
الملقبة بالفطحية، وإنما لزمهم هذا اللقب لأن عبد الله كان أفطح الرجلين. وقيل: إن
داعيتهم إلى إمامة عبد الله يقال له عبد الله بن أفطح (7).
وأما إسحاق بن جعفر فإنه كان من أهل الفضل والصلاح والورع.



(1) الإرشاد: ص 284.
(2) الإرشاد: ص 284 - 285.
(3) في المصدر: المفضل بن مزيد.
(4) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 637 ح 39.
(5) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 637 ح 40.
(6 و 7) الإرشاد: ص 285.
644
وروى عنه الناس الحديث والآثار. وكان إسحاق يقول بإمامة أخيه موسى
ابن جعفر (عليهما السلام) (1).
وأما محمد بن جعفر وكان سخيا شجاعا، وكان يصوم يوما ويفطر يوما، وكان
يرى رأي الزيدية بالخروج بالسيف (2).
وروي عن زوجته خديجة بنت عبد الله بن الحسين إنها قالت: ما خرج من
عندنا محمد يوما قط في ثوب فرجع حتى يكسوه غيره، وكان يذبح كل يوم كبشا
للضيافة (3).
وخرج على المأمون في سنة تسع وتسعين ومائة بمكة واتبعه الزيدية
الجارودية، فخرج لقتاله عيسى الجلودي ففرق جمعه وأخذه وأنفذه إلى المأمون،
فلما وصل إليه أكرمه المأمون وأدنى مجلسه ووصله وأحسن إليه، وكان مقيما معه
بخراسان يركب إليه في موكب من بني عمه (4).
وتوفي محمد بن جعفر بخراسان مع المأمون فمشى المأمون في جنازته
راجلا ودخل بين عمودي السرير الذي حمل عليه وصلى عليه ودخل قبره، فلم
يزل فيه حتى بنى عليه. وقال المأمون: إن هذه رحم قطعت من مائتي سنة (5).
وأما علي بن جعفر فكان راوية للحديث، سديد الطريق، شديد الورع، كثير
الفضل، ولزم أخاه موسى (عليه السلام)، وروى عنه شيئا كثيرا (6).
وأما العباس بن جعفر (رضي الله عنه) فكان فاضلا نبيلا (7).
والعقب من ولد جعفر بن محمد الصادق في خمسة رجال: إسماعيل بن جعفر،
موسى بن جعفر، إسحاق بن جعفر، محمد بن جعفر، علي بن جعفر، عبد الله بن جعفر
الأفطح وانقرض.



(1) الإرشاد: ص 286.
(2 و 3) الإرشاد: ص 286.
(4) الإرشاد: ص 286.
(5 و 6 و 7) الإرشاد: ص 287.
645
الباب التاسع
في ذكر مولانا موسى بن جعفر (عليهما السلام)

647
$ الإمام الكاظم (عليه السلام) / بعض أخباره
فصل
في ذكر مولده (عليه السلام)
ولد (عليه السلام) بالأبواء سنة ثمان وعشرين ومائة (1).
وروى جرير بن رستم أنه ولد في ذي الحجة بالأبواء سنة سبع وعشرين
ومائة من الهجرة (2).
ويكنى: أبا الحسن، وأبا إبراهيم (3).
ولقبه: العبد الصالح، وهو: الوفي، والصابر، والكاظم، والأمين (4).
وأمه: حميدة بنت صاعد البربري (5).
قيل: عن جابر بن يزيد الجعفي، قال لي أبو جعفر (عليه السلام): قد قدم رجل من
المغرب معه رقيق، ووصف لي صفة جارية معه، وأمرني بابتياعها بصرة دفعها إلي.
فمضيت إلى الرجل، فعرض علي من كان عنده من الرقيق، فقلت: [بقي عندك
غير ما عرضت علي؟
فقال: بقيت جارية عليلة].
فقلت: اعرضها.
فعرض حميدة، فقلت له: بكم تبيعها؟



(1) الإرشاد: ص 288.
(2) دلائل الإمامة: ص 146.
(3 و 4 و 5) دلائل الإمامة: ص 148.
649
فقال: بسبعين دينارا. فأخرجت الصرة إليه.
فقال النخاس: لا إله إلا الله، رأيت البارحة في النوم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد ابتاع
مني هذه الجارية بهذه الصرة بعينها.
فتسلمت الجارية وصرت بها إلى أبي جعفر (عليه السلام). فسألها عن اسمها.
فقالت: حميدة. فقال: حميدة في الدنيا، محمودة في الآخرة. ثم سألها عن
خبرها. فعرفته أنها بكر. فقال لها: أنى يكون ذلك وأنت جارية كبيرة؟ فقالت: كان
مولاي إذا أراد أن يقرب مني أتاه رجل في صورة حسنة فمنعه أن يصل إلي.
فدفعها أبو جعفر (عليه السلام) إلى أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) وقال: حميدة سيدة الإماء،
مصفاة من الأرجاس كسبيكة الذهب، ما زالت الأملاك تحرسها حتى أدنيت إلى
كرامة الله عز وجل (1).
وبابه: محمد بن الفضل (2).
وقال أبو بصير: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) في السنة التي ولد فيها موسى بن
جعفر (عليهما السلام) بالأبواء، فبينا نحن نأكل معه إذا أتاه الرسول أن حميدة قد أخذها
الطلق، فقام فرحا مسرورا ومضى، فلم يلبث أن عاد إلينا حاسرا عن ذراعيه
ضاحكا مستبشرا، فقلنا: أضحك الله سنك وأقر عينك ما فعلت حميدة؟ قال: وهب
الله لي غلاما وهو خير أهل زمانه، ولقد خبرتني أمه عنه بما كنت أعلم به منها.
فقلت: جعلت فداك فما الذي خبرتك به؟ فقال: ذكرت أنه لما خرج من أحشائها
ووقع إلى الأرض رأته رافعا رأسه إلى السماء قد اتقى الأرض بيده يشهد أن لا إله
إلا الله، فقلت لها: ذلك امارة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمارة الأئمة من بعده. قال أبو بصير:
فقلت: جعلت فداك وما الأمارة؟ فقال: العلامة يا با بصير، أنه لما كان في الليلة
التي علق فيها أتاني آت بكأس فيه شربة من الماء أبيض من اللبن وأحلى من
العسل وأبرد من الثلج فسقانيه فشربته، وأمرني بالجماع فرحا مسرورا وكذلك



(1) دلائل الإمامة: ص 148 - 149، وفيه: " اذنت " بدل " أدنيت ".
(2) دلائل الإمامة: ص 149.
650
يفعل بكل راقد منا، فهو والله صاحبكم، إن نطفة الإمام تكون في الرحم أربعين
يوما وليلة نصب لها عمود من نور في بطن أمه ينظر فيه مد بصره فإذا تمت له في
بطن أمه أربعة أشهر أتاه ملك يقال له الخير فيكتب على عضده الأيمن: * (وتمت
كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم) * (1) فإذا وضعته أمه
اتقى الأرض بيده رافعا رأسه إلى السماء ويشهد أن لا إله إلا الله، وينادي مناد من
قبل العرش باسمه واسم أبيه: يا فلان بن فلان يقول لك الجليل: أبشر فإنك صفوتي
وخيرتي من خلقي وموضع سري وعيبة علمي، لك ولمن تولاك أوجب رحمتي
واسكنه جنتي واحلله جواري، ثم وعزتي لأصلين من عاداك ناري وأشد عذابي
وإن وسعت عليه في دنياه. فإذا انقطع المنادي أجابه الإمام: * (شهد الله أنه لا إله
إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) * (2) فإذا
قالها أعطاه الله علم الأولين وعلم الآخرين واستوجب الزيادة من الجليل ليلة
القدر. فقلت: جعلت فداك أليس الروح هو جبريل؟ فقال: جبريل من الملائكة
والروح خلق أعظم منه، وهو مع الإمام حيث كان (3).
فصل
في ذكر بعض أخبار موسى (عليه السلام)
وكان أبوه يحبه ويميل إليه، ووهب له البشيرة تفضيلا (4)، وكان شراؤها بستة
وعشرين ألف دينار.
وكان (عليه السلام) كريما، بهيا، وعتق ألف مملوك. وكان يدعى العبد الصالح من
عبادته واجتهاده (5).



(1) الأنعام: 115.
(2) آل عمران: 18.
(3) المحاسن: ج 2 ص 314 ح 32.
(4) في المصدر: البسيرية تفضلا.
(5) دلائل الإمامة: ص 149 - 150.
651
وقيل: إنه دخل مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسجد سجدة في أول الليل، وسمع
وهو يقول في سجوده: " عظم الذنب من عبدك فليحسن العفو من عندك، يا أهل
التقوى ويا أهل المغفرة " فجعل يرددها حتى أصبح (1).
وكان يبلغه عن الرجل أنه يؤذيه فيبعث إليه بصرة فيها ألف دينار.
وكان يصر الصرر بثلاثمائة دينار وأربعمائة دينار ومائتي دينار ثم يقسمها
بالمدينة. وكانت صرة موسى (عليه السلام) إذا جاءت الانسان فقد استغنى (2).
وقال محمد بن عبد الله البكري: قدمت المدينة أطلب بها دينا فأعياني ذلك،
فقلت: لو ذهبت إلى أبي الحسن موسى شكوت إليه ذلك. فأتيته يسقى (3) في
ضيعته، فخرج إلي ومعه غلامه معه منسف (4) فيه قديد مجزع (5) ليس معه غيره،
فأكل وأكلت معه، ثم سألني عن حاجتي، فذكرت له قصتي، فدخل فلم يقر إلا
يسيرا حتى خرج إلي فقال لغلامه: اذهب، ثم مد يده إلي فدفع صرة فيها ثلاثمائة
دينار، ثم قام فولى، وقمت فركبت دابتي وانصرفت (6).
وقيل: إن أبا حنيفة صار إلى أبي عبد الله (عليه السلام) ليسأله عن مسألة فلم يأذن له،
فجلس ينتظر الإذن، فخرج أبو الحسن (عليه السلام) وسنه يومئذ خمس سنين، فدعاه
وقال: يا غلام أين يضع المسافر خلاه في بلدكم هذا؟ فاستند أبو الحسن (عليه السلام) إلى
الحائط وقال له: يا شيخ يتوقى شطوط الأنهار، ومساقط الثمار، ومنازل النزال،
وأفنية المساجد، ولا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها، ويتوارى خلف جدار، ويضعه
حيث شاء. فانصرف أبو حنيفة تلك السنة ولم يدخل على أبي عبد الله (عليه السلام) (7).
وقال الحسين بن عيسى (8): دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) أريد أن أسأله عن



(1) و 4) دلائل الإمامة: ص 150.
(3) كذا في الأصل ولعله نقمى بالتحريك والقصر: موضع من أعراض المدينة كان لآل أبي
طالب. وفي دلائل الإمامة: بنعمى.
(4) المنسف: كمنبر، ما ينفض به الحب، شئ طويل منصوب الصدر أعلاه مرتفع.
(5) المجزع: المقطع.
(6) دلائل الإمامة: ص 150.
(7) الكافي: ج 3 ص 16 ح 5.
(8) في دلائل الإمامة: الحسن بن عيسى.
652
أبي الخطاب، فقال مبتدئا: ما يمنعك أن تلقى ابني فتسأله عن جميع ما تريد.
قال: فذهبت إليه وهو قاعد في الكتاب وعلى شفتيه أثر مداد، فقال لي:
يا با عيسى إن الله تبارك وتعالى أخذ ميثاق النبيين على النبوة فلن يتحولوا عنها
إلى غيرها أبدا، وأخذ ميثاق الوصيين على الوصية فلن يتحولوا عنها إلى غيرها
أبدا، وأعار قوما الإيمان زمانا ثم سلبهم إياه، وأن الخطاب ممن أعير الإيمان
ثم سلبه الله إياه.
قال: فضممته إلى صدري، وقبلت بين عينيه، وقلت: بأبي وأمي ذرية بعضها
من بعض، أتيته فأخبرني مبتدئا من غير أن أسأله عن شئ بجميع ما أردت.
قال: يا عيسى إن ابني الذي رأيته لو سألته عن ما بين دفتي المصحف لأجابك
فيه بعلم.
قال عيسى: ثم أخرجه ذلك اليوم من الكتاب فعلمت عند ذلك أنه صاحب
هذا الأمر (1).
وقال صفوان الجمال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) من صاحب هذا الأمر؟ فقال:
صاحب هذا الأمر لا يلهو ولا يلعب.
فأقبل أبو الحسن وهو صغير ومعه عناق مكية (2)، وهو يقول لها: اسجدي
لربك. فأخذه أبو عبد الله وضمه إليه وقال: بأبي من لا يلهو ولا يلعب (3).
وقيل: إنه لما خرج الرشيد إلى الحج وقرب من المدينة استقبله الوجوه من
أهلها يقدمهم موسى بن جعفر (عليهما السلام) على بغلة. فقال له الربيع: ما هذه الدابة التي
تلقيت عليها أمير المؤمنين وأنت إن طلبت لم تدرك، وإن طلبت لم تفت؟ فقال:
إنها تطأطأت عن خيلاء الخيل، وارتفعت عن ذلة العير، وخير الأمور أوسطها (4).
ولما دخل هارون الرشيد المدينة توجه لزيارة النبي (صلى الله عليه وآله) ومعه الناس، فتقدم



(1) دلائل الإمامة: ص 164.
(2) العناق: كسحاب، الأنثى من أولاد المعز ما لم يتم لها سنة.
(3) الإرشاد: ص 290.
(4) الإرشاد: ص 297.
653
الرشيد إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا بن
عم، مفتخرا بذلك على غيره.
فتقدم أبو الحسن موسى (عليه السلام) فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك
يا أبه. فتغير وجه الرشيد وتبين الغيظ فيه (1).
وقال السندي بن شاهك: وافى خادم من قبل الرشيد إلى أبي الحسن (عليه السلام)
وهو محبوس عندي، فدخلت معه وقد كان قال له تعرف خبره. فوقف الخادم،
فقال: مالك؟ فقال: بعثني الخليفة لأعرف خبرك. قال: فقال: قل له: يا هارون مامن
يوم ضراء انقضى عني إلا انقضى عنك من السراء مثله حتى نجتمع أنا وأنت في
دار يخسر فيها المبطلون (2).
وقال الفضل بن الربيع، عن أبيه قال: بعثني هارون إلى أبي الحسن (عليه السلام) برسالة
وهو في حبس السندي بن شاهك، فدخلت عليه وهو يصلي فهبته أن أجلس،
فوقفت متكئا على سيفي، فكان (عليه السلام) إذا صلى ركعتين وسلم واصل بركعتين
أخراوتين. فلما طال وقوفي وخفت أن يسأل عني هارون وحانت منه تسليمة
فشرعت في الكلام، فأمسك وقد كان قال لي هارون: لا تقول بعثني أمير المؤمنين
إليك ولكن قل: بعثني أخوك وهو يقرؤك السلام ويقول لك: إنه بلغني عنك أشياء
أقلقتني فأقدمتك إلي فحصت عن ذلك فوجدتك نقي الجيب بريئا من العيب
مكذوبا عليك فيما رميت به، ففكرت بين إصرافك إلى منزلك ومقامك ببابي،
فوجدت مقامك ببابي أبرئ لصدري وأكذب لقول المسرعين فيك، ولكل انسان
غذاء قد اغتذاه وألفت عليه طبيعته، ولعلك اغتذيت بالمدينة أغذية لا تجد من
يصنعها لك هاهنا، وقد أمرت الفضل أن يقيم لك من ذلك ما شئت، فمره بما أحببت
وانبسط فيما تريده.
قال: فجعل (عليه السلام) الجواب في كلمتين من غير أن يلتفت إلي، فقال: لا حاضر



(1) الاحتجاج: ص 393.
(2) بحار الأنوار: ج 48 ص 148 باب 6 من تاريخ الإمام الكاظم (عليه السلام) ذيل ح 22.
654
مالي فينفعني ولم أخلق مسؤولا، الله أكبر ودخل في الصلاة.
قال: فرجعت إلى هارون فأخبرته، فقال لي: فما ترى في أمره فقلت:
يا سيدي لو خططت في الأرض خطة فدخل فيها ثم قال لا أخرج منها ما خرج
منها. قال: هو كما قلت ولكن مقامه عندي أحب إلي.
وروى غيره قال: قال هارون: إياك أن تخبر بهذا أحدا. قال: فما أخبرت به
أحدا حتى مات هارون.
وقال المأمون لقومه: أتدرون من علمني التشيع؟ فقال القوم: والله ما نعلم
ذلك. فقال: علمنيه الرشيد. فقيل له: كيف ذلك والرشيد كان يقتل أهل هذا البيت؟!
قال: كان يقتلهم على الملك، إن الملك لعقيم (1).
ثم قال: إنه دخل موسى بن جعفر على الرشيد يوما فقام الرشيد إليه واستقبله
وأجلسه في الصدر وقعد بين يديه وجرت بينهما أشياء، ثم قال موسى بن جعفر
لأبي: يا أمير المؤمنين إن الله قد فرض على ولاة عهده أن ينعشوا فقراء الأمة
ويقضوا عن الغارمين ويخففوا عن المثقل ويكسوا العاري ويحسنوا إلى العاني،
وأنت أولى من فعل ذلك. فقال: أفعل يا أبا الحسن ثم قام فقام الرشيد لقيامه وقبل
عينيه ووجهه، ثم أقبل علي وعلى الأمين والمؤتمن فقال: يا عبد الله ويا محمد
ويا إبراهيم بين يدي ابن عمكم (2) وسيدكم، خذوا بركابه، وسووا عليه ثيابه،
وشيعوه إلى منزله.
فأقبل علي أبو الحسن موسى بن جعفر سرا بيني وبينه فبشرني بالخلافة،
وقال لي: إذا ملكت هذا الأمر فأحسن إلى ولدي [ثم انصرفنا] (3)، وكنت أجرأ ولد
أبي عليه، فلما خلا المجلس قلت: يا أمير المؤمنين من هذا الرجل الذي أعظمته
وأجللته، وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته، وأقعدته في صدر المجلس، وقعدت
دونه، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟ فقال: هذا إمام الناس، وحجة الله على خلقه



(1) عيون أخبار الرضا: ج 1 ص 72 ب 7 ح 11.
(2) في المصدر: بين يدي عمكم.
(3) ليس في الأصل.
655
وعباده. فقلت: يا أمير المؤمنين أوليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟! فقال: أنا
إمام الجماعة بالغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق، والله يا بني إنه لأحق بمقام
رسول الله (صلى الله عليه وآله) مني ومن الخلق جميعا. فقلت: يا أبه أنت تعلم هذا وتنازعهم حقهم (1)؟
فقال: يا بني والله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، إن الملك عقيم.
فلما أراد الرحيل من المدينة إلى مكة أمر بصرة سوداء فيها مائتا دينار، ثم
أقبل على الفضل وقال: اذهب إلى موسى بن جعفر وقل له: نحن في ضيقة
وسيأتيك برنا بعد هذا الوقت. فقمت في وجهه وقلت: يا أمير المؤمنين تعطي أبناء
المهاجرين والأنصار وسائر قريش وبني هاشم ومن لا تعرف نسبه خمسة آلاف
دينار إلى ما دونها، وتعطي موسى بن جعفر وقد أعظمته وأجللته مائتي دينار؟!
أخس عطية أعطيتها أحدا من الناس؟ فقال: اسكت لا أم لك، فإني لو أعطيته هذا
من ضمنه (2) لك، والله ما كنت آمنه أن يضرب وجهي غدا بمائة ألف سيف من
شيعته ومواليه، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم (3).
وروى الفضل بن الربيع وغيره من أهل النقل قالوا: دخل موسى بن
جعفر (عليهما السلام) على الرشيد وقد كان هم به سوء، فلما رآه وثب إليه وعانقه وخلع عليه
ووصله، فلما ولى قال الفضل بن الربيع: يا أمير المؤمنين أردت أن تضربه وتعاقبه
فخلعت عليه وأجزته؟
فقال: يا فضل إني أبلغت عنه شيئا عظيما فهممت به فرأيته عند الله وجيها
عظيما، إنك [لما ذهبت] لتجئ به فرأيت أقواما قد أحدقوا بداري بأيديهم حراب
قد غرزوها في أصل الدار وهم يقولون: إن آذى ابن رسول الله خسفنا به وإن
أحسن إليه انصرفنا عنه.
قال الفضل: فتبعته وقلت: يا بن رسول الله ما الذي قلته حتى كفيت أمر



(1) قوله: " فقلت: يا أبه... " إلى قوله: " حقهم " ليس في المصدر.
(2) في المصدر: ما ضمنه.
(3) عيون أخبار الرضا: ج 1 ص 72 ب 7 ح 11.
656
الرشيد؟ فقال (عليه السلام): دعاء جدي علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ما دعا به وبرز إلى عسكر
إلا هزمه ولا إلى فارس إلا قهره، وهو دعاء كفاية البلاء. قلت: وما هو؟ فقال (عليه السلام):
قل اللهم بك أساور وبك أحاول، وبك أصول، وبك أنتصر، وبك أموت وبك أحيا،
أسلمت نفسي إليك وفوضت أمري إليك، لاحول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم،
اللهم إنك خلقتني ورزقتني وسورتني وسترتني من بين العباد بطاعتك وخولتني
إذا هربت رددتني وإذا عثرت أقلتني وإذا دعوتك أجبتني، يا سيدي أرض عني
فقد أرضيتني (1).
وروي عن موسى بن جعفر (عليهما السلام) أنه قال: لما دخلت على هارون الرشيد سلمت
عليه فرد علي السلام وقال: يا موسى بن جعفر خليفتان هاهنا يجبى إليهما الخراج.
فقلت: يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن تبوء بإثمي وإثمك وتقبل الباطل من
أعدائنا علينا، وقد علمت بأنه قد كذب علينا عند قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) بما علم
ذلك عندك، فإن رأيت بقرابتك من رسول الله أن تأذن لي أن أحدثك بحديث.
فقال: قد أذنت لك. فقلت: أخبرني أبي عن آبائه عن جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال:
" إن الرحم إذا مست الرحم تحركت واضطربت " فناولني يدك جعلني الله فداك.
فقال: ادن، فدنوت فأخذ بيدي ثم جذبني إلى نفسه وعانقني طويلا ثم تركني
وقال: إجلس يا موسى فليس عليك بأس، فنظرت إليه وإذا به قد دمعت عيناه
فرجعت إلي نفسي وقال: صدقت وصدق رسول الله جدك (صلى الله عليه وآله) لقد تحرك دمي
واضطربت عروقي حتى غلبت علي الرقة وفاضت عيناي وأنا أريد أن أسألك عن
أشياء تلجلج في صدري منذ حين لم أسأل عنها أحدا، فإن أنت أجبتني عنها
خليت عنك ولم أقبل قول أحد فيك، وقد بلغني أنك لم تكذب قط فاصدقني فيما
أسألك عنه مما في قلبي. فقلت: ما كان علمه عندي فإني مخبرك به إن كنت آمنتني
فقال: لك الأمان إن أنت صدقتني وتركت التقية التي تعرفون بها يا بني فاطمة.
فقلت: ليسأل أمير المؤمنين عما شاء. فقال: أخبرني بم فضلتم علينا، ونحن وأنتم



(1) عيون أخبار الرضا: ج 1 ص 62 - 64 ب 7 ح 5.
657
من شجرة واحدة، وبنو عبد المطلب ونحن وأنتم واحد، نحن بنو العباس وأنتم بنو
أبي طالب، وهما عما رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقرابتهما منه سواء؟ فقلت: نحن أقرب فقال:
وكيف ذلك؟ فقلت: لأن عبد الله وأبا طالب لأب وأم وأبوكم العباس ليس هو من أم
عبد الله ولا من أبي طالب. قال: فلم ادعيتم أنكم ورثتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) والعم
يحجب ابن العم، وقبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد توفي أبو طالب قبله والعباس عمه
حي؟ فقلت له: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني عن هذه الأسئلة ويسألني عن كل
باب سواه فقال: لا أو تجيب. فقلت: آمني. فقال: قد آمنتك قبل الكلام. فقلت:
في قول علي (عليه السلام) أنه ليس مع ولد الصلب ذكرا كان أو أنثى لأحد سهم إلا الأبوين
والزوج والزوجة، والعم لم يثبت له مع ولد الصلب ميراث ولم ينطق به الكتاب،
إلا أن تيما وعديا وبني أمية قالوا: العم والد رأيا منهم بلا حقيقة ولا أثر عن رسول
الله (صلى الله عليه وآله). قال: فمن قال بقول علي من العلماء وقضاياهم خلاف قضاياه؟ فقلت:
هذا نوح بن دراج يقول في هذه المسألة بقول علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وقد حكم
به، وقد ولاه أمير المؤمنين المصرين الكوفة والبصرة، وقد قضى به. فانتهى إلى
أمير المؤمنين وأمر بإحضاره وإحضار من يقول بخلاف قوله، منهم سفيان الثوري
وإبراهيم المدني والفضيل بن عياض، فشهدوا أنه قول علي (عليه السلام) في هذه المسألة.
فقال لهم: فيما بلغني بعض العلماء من أهل الحجاز لم لا يقضون بما قضى به نوح
ابن دراج؟ فقالوا: خسرا وجبنا (1) وقد أمضى أمير المؤمنين قضيته (2) يقول قدماء
العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " أقضاكم علي "، وكذلك قال عمر بن الخطاب:
" علي أقضانا "، وهو اسم جامع، لأن جميع ما خص به النبي (صلى الله عليه وآله) أصحابه من
القراءة والفرائض والعلم داخل في القضاء. قال: زدني يا موسى. فقلت: المجالس
بالأمانة وخاصة مجلسك فقال: لا بأس عليك. فقلت: إن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يورث من
لم يهاجر ولا أثبت له ولاية حتى يهاجر. فقال: وما حجتك فيه. فقلت: قول الله
تعالى: * (والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا) * (3)



(1) كذا، وفي العيون: جسر وجبنا.
(2) كذا، والظاهر: قضية، كما في العيون.
(3) الأنفال: 72.
658
وأن عمي العباس لم يهاجر. فقال لي: أسألك يا موسى هل أفتيت بذلك أحدا من
أعدائنا أم أخبرت أحدا من الفقهاء في هذه المسألة بشئ؟ فقلت: اللهم لا، وما
سألني عنها إلا أمير المؤمنين. ثم قال: جوزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم إلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويقولوا لكم يا بني رسول الله وأنتم. بنو علي وإنما ينسب الرجل
إلى أبيه وفاطمة إنما هي وعاء، والنبي (صلى الله عليه وآله) جدكم من قبل أمكم. فقلت: يا أمير
المؤمنين لو أن النبي (صلى الله عليه وآله) نشر فخطب إليك كريمتك هل كنت تجيبه؟ فقال: سبحان
الله ولم لا أجيبه وأفخر على العرب والعجم وقريش بذلك فقلت له: لكنه لو خطب
إلي لم أزوجه. قال: ولم؟ قلت: لأنه ولدني ولم يلدك. فقال: أحسنت يا موسى ثم
قال: كيف قلتم إنا ورثة النبي (صلى الله عليه وآله) والنبي لم يعقب، والعقب للذكر لا للأنثى، وأنتم
ولد الإبنة، والابنة لا يكون لها حق؟ فقلت له: بحق القرابة والقبر (1) إلا أعفيتني عن
هذه المسألة. فقال: لا أو تخبرني عن حجتكم فيها يا ولد علي، وأنت موسى
يعسوبهم، وإمام زمانهم، كذا أنهي إلي ولست أعفيك عن كل ما سألتك عنه حتى
تأتيني بحجة من كتاب الله تعالى، فأنتم تدعون معشر ولد علي أنه لا يسقط منه
عنكم شئ ألف ولا واو إلا وتأويله عندكم وأحججتم بقول الله عز وجل
* (ما فرطنا في الكتاب من شئ) * (2) واستغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم. فقلت:
يأذن أمير المؤمنين في الجواب. فقال: هات فقلت: بسم الله الرحيم الرحيم * (ومن
ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي
المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى والياس كل من الصالحين) * (3) من أبو عيسى
يا أمير المؤمنين؟ فقال: ليس لعيسى أب. قلت: إنما ألحقناه بذراري الأنبياء (عليهم السلام)
من طريق مريم (عليها السلام)، وكذلك ألحقنا بذراري النبي (صلى الله عليه وآله) من قبل امنا فاطمة (عليها السلام).
أزيدك يا أمير المؤمنين. فقال: هات قلت: قول الله تعالى: * (فقل تعالوا ندع أبناءنا
وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على
الكاذبين) * (4) ولم يدع أحد أنه أدخله تحت الكساء إلا علي وفاطمة والحسن



(1) في المصدر: والقبر ومن فيه.
(2) الأنعام: 38.
(3) الأنعام: 84 و 85.
(4) آل عمران: 61.
659
والحسين، فأبناؤنا: الحسن والحسين، ونساؤنا: فاطمة، وأنفسنا: علي بن أبي
طالب، على أن العلماء قد أجمعوا أن جبرئيل قال يوم أحد: يا محمد إن هذا لهو
المواساة من علي قال: إنه مني وأنا منه. فقال جبريل: وأنا منكما يا رسول الله. ثم
قال: " لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي " وكان فيما مدح الله عز وجل
خليله (عليه السلام) إذ يقول: * (فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) * (1) وإنا نفتخر بقول جبريل إنه
منا. فقال: أحسنت يا موسى، ارفع الينا حوائجك فقلت: أول حاجة لي أن تأذن
لابن عمك يرجع إلى حرم جده (عليه السلام) إلى عياله فقال: ننظر إن شاء الله (2).
قال: جلس المأمون ذات يوم وعنده ندماؤه يتذاكرون فضائل أهل
البيت (عليهم السلام) إذ دخل عبد الحميد بن بكار فقال: يا أمير المؤمنين إن لبعضهم عندي
حديثا حسنا. قال المأمون: حدثني قال عبد الحميد: حدثني أبي بكار أنه دخل
ذات يوم على الرشيد فقال له: يا بكار إني قد عزمت على الحج في سنتي هذه
فتنشط. قلت: نعم. قال: فأخذنا في عداد آلة الحج ثم سرنا، فلما وردنا مكة أراد
الرشيد أن يطوف وحده وأقام أمامه حجابه، إذ سبقه أعرابي إلى الطواف فانتدب
له بعض حجابه فقال له: تنح يا أيها الرجل أما ترى أمير المؤمنين يريد أن يطوف
وحده. فانتهره الأعرابي وقال له: مه أما علمت أن الله تعالى وضع هذا البيت لخلقه
وقال في محكم كتابه على لسان نبيه محمد (صلى الله عليه وآله): * (سواء العاكف فيه والباد) * (3).
فسمع الرشيد فقال لحاجبه: خل عنه، وجعل يطوف والأعرابي يطوف معه، ثم مال
الرشيد إلى الركن اليماني فصلى عنده ركعتين والأعرابي يفعل مثل فعله، ثم عاج
إلى الحجر الأسود فقبله والتزمه والأعرابي يفعل مثل فعله، ثم انثنى إلى المقام
وصلى ركعتين والأعرابي كذلك، وهو في خلال ذلك يزاحمه.
فلما فرغ من جميع ما عليه جلس الأعرابي في موضع يسمع فيه كلام الرشيد



(1) الأنبياء: 60.
(2) عيون أخبار الرضا: ج 1 ص 66 - 70 ب 7 ح 9.
(3) الحج: 25.
660
والرشيد يسمع كلامه، فأقبل الرشيد على بعض أصحابه وقال: علي بالأعرابي.
فجاء الحاجب فسلم عليه وقال: أجب أمير المؤمنين فقال الأعرابي: مالي إليه
حاجة فأقوم إليه، فإن تكن الحاجة له إلي فهو أولى بقصدي. فقال الرشيد: صدق.
ثم إنه وثب وجاء فقال: يا أعرابي أأجلس؟
فقال: والله ما الموضع لي فتستأذنني، إنما هو بيت وضعه الله لخلقه، لي فيه
مثل مالك فيه، فإن شئت أن تجلس فاجلس، وإن شئت أن تنصرف فانصرف.
فجلس الرشيد وقد امتلأ غيظا وقال له: إني مسائل عن فرضك فإن قمت به
فإنك لعمري بغيره أقوم، وإن عجزت عنه كنت عما سواه أعجز. فقال الأعرابي:
سل عما شئت. فقال له الرشيد: ما فرضك؟ قال الأعرابي: فرضي واحد، وخمس،
وسبع عشرة، وأربع وثلاثون، وأربع وتسعون، ومائة وثلاثة وخمسون، وسبعة (1)،
ومن اثنى عشر واحدة، وفي طول عمري واحدة، ومن مائتين خمسة، ومن
أربعين واحدة. فقال له الرشيد: أسألك عن فرضك تأتيني بحساب! فقال
الأعرابي: إن الدين الحساب، أما أخذ الله به الخلائق، وقرأ: * (ونضع الموازين
القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها
وكفى بنا حاسبين) * (2) فقال الرشيد: بين ما قلت وإلا ضربت عنقك بين الصفا
والمروة. فقال الأعرابي: يا هذا لقد زهوت بأعوانك. قال له الرشيد: أبن عما قلت،
وقد امتلأ غيظا.
قال: أما قولي لك فرض واحد فهو دين الاسلام، وأما قولي خمس فهي
الصلوات الخمس، وأما قولي سبع عشرة فهي ركعات فرض الصلاة، وأما قولي
أربع وثلاثون ففيها أربع وثلاثون سجدة، وأما قولي أربع وتسعون ففيها أربع
وتسعون تكبيرة، وأما قولي مائة وثلاث وخمسون فمائة وثلاث وخمسون
تسبيحة، وأما قولي سبعة فإن الله لا يقبل الصلاة إلا على سبعة أعضاء وذلك قوله



(1) في المصدر: على سبعة عشر.
(2) الأنبياء: 47.
661
تعالى: * (وان المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) * (1) ليس من المساجد المبنية
بالحجارة بل هي القدمان والركبتان واليدان والجبين (2)، وأما قولي من اثني عشر
واحد فالسنة اثنا عشر شهرا الفرض منها واحد وهو صوم شهر رمضان، وأما قولي
من مائتين خمسة فإن من ملك مائتي درهم وجب عليه زكاتها إذا حالت خمسة
دراهم، وأما قولي من أربعين واحد ففي كل أربعين من الغنم شاة، وأما قولي في
دهري واحدة فحجة الاسلام تجب في العمر مرة واحدة. قال الرشيد: مثلك يا هذا
يزاحم الملوك. ثم أمر له ببدرتين عينا. فقام الأعرابي وأخذ المال وتصدق به في
موضعه وانصرف، فاتبعه قوما فسألوه عن اسمه فإذا هو موسى بن جعفر (عليهما السلام)،
فأخبر بذلك الرشيد فقال: أنكرت أن يكون هذا الفضل والكرم إلا في رجل من
ولد علي بن أبي طالب (عليه السلام) (3).
وحدث عيسى بن محمد بن مغيث القرطي، قال: زرعت بطيخا وقثاء، فلما
استوى رعى الجراد فبينا أنا جالس إذ طلع موسى بن جعفر (عليهما السلام) فسلم ثم قال:
أيش حالك؟ فقلت: أصبحت كالصريم. قال: وكم غرمت فيه؟ قلت: مائة وعشرين
دينارا مع ثمن الجملين. فقال: يا عرفة زن له مائة وخمسين دينارا نربحك ثلاثين
دينارا والجملين. فقلت: يا مبارك ادخل وادع لي فيها. فدخل ودعا وجلس،
وجعل الله فيها البركة وزكت، فبعت منها بعشرة آلاف (4).
$ الإمام الكاظم (عليه السلام) / معجزاته
فصل
في ذكر معجزات موسى بن جعفر (عليهما السلام)
روي عن أحمد بن عمر الخلال (5) قال: سمعت الأخرس يذكر موسى



(1) الجن: 18.
(2) من قوله: " وأما قولي سبعة " إلى قوله: " والجبين " ليس في المصدر.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 312 - 313.
(4) كشف الغمة: ج 2 ص 217.
(5) في المصدر: أحمد بن عمر الحلال.
662
ابن جعفر (عليهما السلام) بسوء، فاشتريت سكينا وقلت في نفسي: والله لأقتلنه إذا خرج
من المسجد، فأقمت على ذلك وجلست فما شعرت إلا برقعة أبي الحسن (عليه السلام)
قد طلعت علي فيها: بحقي عليك إلا ما كففت عن الأخرس فإن الله تعالى يقضي،
وهو حسبي (1).
وحدث أبو الفضل محمد بن عبد الله الشيباني أن علي بن محمد بن الزبير
البلخي حدثني، قال: حدثنا خشنام بن حاتم الأصم، قال: حدثني أبي، قال:
قال لي شقيق بن إبراهيم البلخي: خرجت حاجا في سنة تسع وأربعين ومائة،
فنزلت القادسية (2)، فبينا أنا أنظر إلى الناس في رتبتهم وكثرتهم إذ نظرت إلى فتى
حسن الوجه شديد السمرة تعلوا فوق ثيابه بثوب من صوف مشتمل بشملة في
رجليه نعلان وقد جلس منفردا، فقلت في نفسي: هذا الفتى من الصوفية يريد أن
يكون كلا على الناس في طريقهم، والله لأمضين إليه ولأوبخنه فدنوت منه فلما
رآني مقبلا قال: يا شقيق * (اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم) * (3) ثم
تركني ومضى.
فقلت في نفسي: إن هذا لأمر عظيم قد تكلم على ما في نفسي ونطق باسمي،
وما هذا إلا عبد صالح، لألحقنه ولأسألنه أن يحالني. فأسرعت في أثره فلم ألحقه
وغاب عن عيني.
فلما نزلنا واقصة (4) إذا به يصلي وأعضاؤه تضطرب ودموعه تجري،
فقلت: هذا صاحبي أمضي إليه وأستحله. فصبرت حتى جلس وأقبلت نحوه فلما
رآني مقبلا قال لي: يا شقيق أتل: * (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا



(1) المناقب: ج 4 ص 289 وفيه: فان الله ثقتي.
(2) قرية قرب الكوفة، من جهة البر، بينها وبين الكوفة خمسة عشر فرسخا.
(3) الحجرات: 12.
(4) واقصة: بكسر القاف والصاد المهملة، موضعان: منزل في طريق مكة بعد القرعاء نحو مكة،
وواقصة أيضا بأرض اليمامة.
663
ثم اهتدى) * (1) ثم تركني ومضى.
فقلت في نفسي: إن هذا الفتى لمن الأبدال قد تكلم على سري مرتين.
فلما نزلنا زبالة (2) إذا أنا بالفتى قائم على البئر وبيده ركوة (3) يريد أن يستقي
ماء، فسقطت الركوة من يده في البئر وأنا أنظر إليه، فرأيته قد رمق إلى السماء
وسمعته يقول:
أنت ربي إذا ظمئت من الماء * وقوتي إذا أردت الطعاما
اللهم سيدي مالي سواها فلا تعدمنيها.
قال شقيق: فوالله لقد رأيت البئر قد ارتفع ماؤها، فمد يده فأخذ الركوة وملأها
وتوضأ وصلى أربع ركعات ثم مال إلى كثيب (4) رمل، فجعل يقبض بيده ويطرحه
في الركوة ويحركه ويشربه، فأقبلت إليه وسلمت عليه فرد علي السلام. فقلت:
أطعمني من فضل ما أنعم الله به عليك. فقال: يا شقيق لم تزل نعمه علينا ظاهرة
وباطنة فأحسن ظنك بربك. ثم ناولني الركوة فشربت منها وإذا سويق وسكر.
فوالله ما شربت قط ألذ منه ولا أطيب ريحا، فشبعت ورويت وأقمت أياما لا
أشتهي طعاما ولا شرابا، ثم لم أره حتى دخلنا مكة فرأيته ليلة إلى جنب قبة
الشراب في نصف الليل يصلي بخشوع وأنين وبكاء، فلم يزل كذلك حتى ذهب
الليل، فلما طلع الفجر جلس في مصلاه يسبح الله، ثم قام فصلى الغداة، ثم طاف
بالبيت سبعا وخرج فاتبعته فإذا له غاشية وموال وهو خلاف ما رأيته في الطريق
ودار به الناس من حوله يسلمون عليه، فقلت لبعض من يقرب منه: من هذا الفتى؟
فقال: هذا موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي
طالب (عليهم السلام) فقلت: قد عجبت أن تكون هذه العجائب إلا لمثل هذا السيد (5).



(1) طه: 82.
(2) زبالة: بضم أوله: موضع معروف بطريق مكة بين واقصة والثعلبية، بها بركتان.
(3) الركوة: مثلثة: إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء، جمع ركاء وركوات.
(4) الكثيب: التل من الرمل، جمع كثب وكثبان وأكثبة.
(5) كشف الغمة: ج 2 ص 212 - 215.
664
وقال أحمد بن حنبل: دخلت في بعض الأيام على الإمام موسى بن
جعفر (عليهما السلام) حتى أقرأ عليه، إذا ثعبان قد وضع فمه على اذن موسى بن جعفر (عليه السلام)
كالمحدث له، فلما فرغ حدثه موسى بن جعفر (عليه السلام) حديثا لم أفهمه، ثم انساب
الثعبان، فقال: يا أحمد هذا رسول من الجن قد اختلفوا في مسألة جاءني يسألني
فأخبرته بها، بالله عليك يا أحمد لا تخبر بهذا أحدا إلا بعد موتي. فما أخبرت به
أحدا حتى مات (عليه السلام).
وحدث عمر الرافعي قال: كان لي ابن عم فقال له الحسن بن عبد الله، وكان
زاهدا، من أعبد أهل زمانه، يتقيه السلطان لجده في الدين واجتهاده، وربما
استقبل السلطان في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما يغضبه وكان يحتمل
لصلاحه. فدخل يوما المسجد وفيه موسى بن جعفر (عليهما السلام)، فأتاه فقال له: يا أبا علي
ما أحب إلي ما أنت عليه، إلا أنه ليس لك معرفة، فاطلب المعرفة. فقال: وما
المعرفة؟ قال: اذهب وتفقه. قال: عمن؟ قال: عن فقهاء المدينة. فذهب وكتب
الحديث ثم جاءه وقرأه عليه. قال: اذهب وتفقه واطلب العلم. فذهب وكتب
الخلاف، فجاءه فعرض عليه، فأسقطه كله وقال: اذهب فاعرف.
وكان الرجل معتنيا بدينه، فلم يزل يترصد أبا الحسن حتى خرج إلى ضيعة له
فلقيه في الطريق فقال له: يا ابن رسول الله إني أحتج عليك بين يدي الله عز وجل
فدلني على ما يجب علي معرفته. فأخبره أبو الحسن بأمر أمير المؤمنين وأمر
الحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد ثم سكت.
قال: جعلت فداك فمن الإمام اليوم؟ قال: إن أخبرتك تقبل. قال: نعم. قال: أنا.
قال: فشئ أستدل به. قال: اذهب إلى تلك الشجرة - وأشار إلى شجرة هناك -
وقل لها: يقول لك موسى بن جعفر أقبلي. قال: فرأيتها تخد الأرض خدا حتى
وقفت بين يديه. ثم أشار إليها بالرجوع فرجعت، فأقر به ثم لزم الصمت والعبادة.
وكان من قبل يرى الرؤيا الصالحة الحسنة وترى له ثم انقطعت عنه الرؤيا، فرأى
أبا عبد الله في النوم فشكى إليه انقطاع الرؤيا. فقال له (عليه السلام): لا تغتم فإن المؤمن

665
إذا رسخ في الإيمان رفعت عنه الرؤيا (1).
وقيل: إن المهدي أمر بحفر بئر يقرب " قبر العبادي " (2) لعطش الحاج هناك،
فحفرت أكثر من مائة قامة، فبينا هم يحفرون إذ خرقوا خرقا فإذا تحته هواء
لا يدرى ما قعره، وإذا هو مظلم، للريح فيه دوي، فأدلوا رجلين إلى مستقره. فلما
خرجا تغيرت ألوانهما وقالا: رأينا هواء واسعا ورأينا بيوتا قائمة ورجالا ونساء
وإبلا وبقرا وغنما، كلما مسسنا شيئا منها رأيناه هباء.
فسئل الفقهاء عن ذلك فلم يدر أحد ما هو. فقدم أبو الحسن موسى بن
جعفر (عليه السلام) على المهدي فسأله عنه فقال: أولئك أصحاب الأحقاف هم بقية من عاد
ساخت بهم منازلهم، فذكر على مثل ما قال الرجلان (3).
وقال الأعمش: رأيت كاظم الغيض (عليه السلام) عند الرشيد وقد خضع له، فقال له
عيسى ابن هامان: يا أمير المؤمنين لم تخضع له؟ قال: رأيت من ورائي أفعى
يضرب نيابها وتقول: أجبه بالطاعة وإلا بلعتك، ففزعت منها فأجبته (4).
وحدث إبراهيم بن الحسن بن راشد، عن علي بن يقطين قال: كنت واقفا بين
يدي الرشيد إذ جاءته هدايا من ملك الروم كانت فيها دراعة ديباج سوداء مذهبة
لم أر شيئا أحسن منها، فنظر إلي وأنا أحد إليها النظر فقال: يا علي أعجبتك؟ قلت:
اي والله يا أمير المؤمنين. قال: خذها. فأخذتها وانصرفت بها إلى منزلي، وشددتها
في منديل ووجهتها إلى المدينة. فمكثت ستة أشهر، ثم انصرفت يوما من عند
هارون وقد تغديت بين يديه [فلما دخلت داري] فقام إلي خادمي الذي يأخذ
ثيابي بمنديل على يديه وكتاب مختوم وختمه (5) رطب، فقال: جاء بهذه الساعة
رجل فقال: ادفع هذا إلى مولاك ساعة يدخل. ففضضت الكتاب فإذا فيه: يا علي



(1) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 650 ح 2.
(2) قبر العبادي: منزل في طريق مكة من القادسية إلى العذيب (معجم البلدان: 4 / 304).
(3) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 655 ح 8.
(4) دلائل الإمامة: ص 157.
(5) في الأصل: وطية.
666
هذا وقت حاجتك إلى الدراعة. فكشفت طرف المنديل عنها، ودخل علي خادم
هارون فقال: أجب أمير المؤمنين. فقلت: أي شئ حدث؟ قال: لا أدري. ومضيت
فدخلت عليه وعنده عمر بن بزيع واقفا بين يديه، فقال: يا علي ما فعلت الدراعة
التي وهبتها لك؟ قلت: ما كساني به أمير المؤمنين أكثر من ذلك، فعن أي دراعة
تسألني يا أمير المؤمنين؟ قال: الدراعة الديباج السوداء المذهبة. قلت: وما عسى
أن يصنع مثلي بمثلها، إذا انصرفت من دار أمير المؤمنين دعوت بها فلبستها
وصليت فيها ركعتين أو أربع ركعات، ولقد دخل علي الرسول وقد دعوت بها
لأفعل ذلك. فنظر إلى عمر بن بزيع وقال: أرسل من يجيئني بها. فأرسلت خادمي
فجاءني بها. فلما رآها قال: يا عمر ما ينبغي لنا أن نقبل قول أحد على علي بعد
هذا، وأمر لي بخمسين ألف درهم، فحملت مع الدراعة، فبعثت بها وبالمال إليه من
يومي ذلك (1).
وقال سيف بن عمير، عن إسحاق بن عمار: سمعت العبد الصالح ينعى إلى
رجل نفسه. فقلت في نفسي: وأنه ليعلم متى يموت الرجل من شيعته. فالتفت إلي
شبه المغضب وقال: يا إسحاق كان رشيد الهجري من المستضعفين وكان يعلم علم
البلايا والمنايا، والحجة أولى بعلم ذلك.
ثم قال: يا إسحاق اصنع ما أنت صانع عمرك قد فنى وأنت تموت بعد قليل
وأخوك وأهل بيتك لا يلبثون إلا يسيرا حتى تفترق كلمتهم ويخون بعضهم بعضا
قال إسحاق: فإني استغفر الله مما عرض في صدري. قال سيف: فلم يلبث
إسحاق بن عمار إلا يسيرا حتى مات، وما ذهبت الأيام حتى أفلس ولد عمار
وقاموا بأموال الناس (2).
وقال علي بن شعيب العقرقوفي: بعثت مولاي إلى أبي الحسن (عليه السلام) ومعه مائتا
دينار وكتبت معه كتابا، كان من الدنانير خمسون دينارا من دنانير أختي فاطمة



(1) الخرائج الجرائح: ج 2 ص 656 ح 9.
(2) بصائر الدرجات: ج 6 باب 1 ص 265 ح 13 مختصرا.
667
أخذتها منها سرا لتمام المائتين دينار، وكنت سألتها ذلك ولم تعطني وقالت: إني
أريد أن أشتري بها قراح فلان بن فلان. فذكر مولاي أنه قدم المدينة فسأل عن أبي
الحسن فقيل له انه قد خرج إلى مكة، فأسرع في السير، فقال: والله إني لأسير من
المدينة إلى مكة في ليلة مظلمة لهاتف يهتف بي: يا مبارك يا مبارك مولى شعيب
العقرقوفي. قلت: أيش أنت؟ قال: أنا معتب، يقول لك أبو الحسن: هات الكتاب
الذي معك ووافني بما معك إلى منى.
قال: فنزلت من محملي فدفعت إليه الكتاب، وصرت إلى منى فدخلت عليه
وصببت الدنانير عنده، فجر بعضها إليه ودفع بعضها بيده ثم قال لي: يا مبارك ادفع
هذه الدنانير إلى شعيب وقل له: يقول لك أبو الحسن ردها إلى موضعها الذي
أخذتها منه فإن صاحبتها تحتاج إليها.
قال: فخرجت من عنده وقدمت على شعيب وقلت له: قد رد عليك من
الدنانير التي بعثت بها خمسين دينارا وهو يقول لك: ردها إلى موضعها الذي
أخذتها منه، فما قصة هذه الدنانير فقد دخلني من أمرها ما الله به عليم؟ فقال: يا
مبارك إني طلبت من أختي فاطمة خمسين دينارا لتمام هذه الدنانير فامتنعت
وقالت أريد أشتري قراح (1) فلان بن فلان، فأخذتها سرا ولم ألتفت إلى كلامها. قال
شعيب: فدعوت بالميزان فوزنتها فإذا هي خمسون دينارا لا تزيد ولا تنقص.
فقال: والله لو حلفت عليها أنها دنانير فاطمة لكنت صادقا. قال شعيب: فقلت: هو
والله لتمام فرض الله لطاعته وهكذا صنع والله بي أبو عبد الله (عليه السلام) (2).
$ الإمام الكاظم (عليه السلام) / نبذ من كلامه
وقال علي بن أبي حمزة: قال لي أبو الحسن (عليه السلام) مبتدئا من غير أن أسأله عن
شئ: يا علي يلقاك غدا رجل من أهل المغرب يسألك عني فقل له هو والله الإمام
الذي قال لنا أبو عبد الله عنه، وإذا سأل عن الحلال والحرام فأجبه عني. قلت:
ما علامته؟ قال: رجل طوال جسيم اسمه يعقوب، وهو رائد قومه، وإن أحببت أن



(1) القراح: الأرض لا ماء فيها ولا شجر، جمع أقرحة.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 294.
668
تدخله علي فأدخله. قال: فوالله إني لفي الطواف إذ أقبل إلي رجل طوال جسيم
فقال لي: أريد أن أسألك عن صاحبك قلت: عن أي أصحابي؟ قال: عن فلان بن
فلان. قلت: ما اسمك؟ قال: يعقوب. قلت: من أين أنت؟ قال: من المغرب قلت: من
أين عرفتني. قال: أتاني آت في منامي فقال لي ألق عليا فاسأله عن جميع ما
تحتاج إليه، فسألت عنك حتى دللت عليك. فقلت: اقعد في هذا الموضع حتى
أفرغ من طوافي وآتيك إن شاء الله. فطفت ثم أتيته فكلمت رجلا عاقلا، وطلب
إلي أن أدخله على أبي الحسن، فأخذت بيده واستأذنت، فاذن لي، فلما رآه أبو
الحسن قال: يا يعقوب قدمت أمس ووقع بك وبين أخيك شئ في موضع كذا وكذا
حتى شتم بعضكم بعضا، وليس هذا من ديني ولا دين آبائي ولا امر بهذا أحد من
شيعتنا فاتق الله وحده فإنكما ستعاقبان بموت، أما أخوك فيموت في سفره قبل أن
يصل إلى أهله، وستندم أنت على ما كان، وذلك أنكما تقاطعتما فبتر الله أعماركما.
قال الرجل: جعلت فداك فأنا متى أجلي. قال: كان قد حضر أجلك فوصلت عمتك
في منزل كذا وكذا فأنسأ الله في أجلك عشرين سنة. قال: فلقيت الرجل قابل بمكة
فأخبرني أن أخاه توفي في ذلك الوجه ودفنه قبل أن يصل إلى أهله (1).
فصل
في ذكر شئ من كلام الكاظم (عليه السلام)
قال (عليه السلام): كفى بالتجارب تأديبا، وبممر الأيام عظة، وبأخلاق من عاشرت
معرفة، وبذكر الموت حاجزا من الذنوب والمعاصي. والعجب كل العجب
للمحتمين من الطعام والشراب مخافة الداء أن ينزل بهم كيف لا يحتمون من
الذنوب مخافة النار إذا اشتعلت في أبدانهم (2).



(1) رجال الكشي: ج 2 ص 741 ح 831.
(2) الأمالي للطوسي: ج 1 ص 206 المجلس السابع ح 49.
669
وقال (عليه السلام) لبعض أصحابه: يا فلان اتق الله وقل الحق ولو كان فيه هلاكك فإن
فيه نجاتك، يا فلان اتق الله ودع الباطل ولو كان فيه نجاتك فإن فيه هلاكك (1).
وقال (عليه السلام) لعلي بن يقطين وكان يتولى أمر الرشيد: يا علي اضمن لي خصلة
أضمن لك ثلاث خصال، اضمن لنا أن لا ترى مواليا لنا إلا أكرمته فأضمن لك
ثلاثا: لا يصيبك حر حديد أبدا، ولا غم سجن، ولا ذل فقر أبدا، قال: فكان لا يرى
أحدا من محبي آل محمد (عليهم السلام) إلا وصعر خده له (2).
وقال (عليه السلام): من استشار لا يعدم عند الصواب مادحا وعند الخطاء عاذرا (3).
وقال سماعة بن مهران: كتبت إلى أبي الحسن موسى (عليه السلام) أشكو الدين
وتغير الحال، فكتب إلي (عليه السلام): اصبر تؤجر، فإنك إن لم تصبر لم تؤجر ولم ترد
قضاء الله بجزعك.
وقال الرضا (عليه السلام): أوصى إلي أبي (عليه السلام) فلما فرغ من وصيته ضمني إليه ثم قال:
الحمد لله الذي جعلك يا بني خلفا من الآباء وسرورا من الأبناء (4).
$ الإمام الكاظم (عليه السلام) / وفاته
وقال (عليه السلام): يا هشام إن لكل شئ دليلا، ودليل العقل التفكر، ودليل التفكر
الصمت، ولكل شئ مطية ومطية العقل التواضع، وكفى بك جهلا أن تركب ما نهيت
عنه. يا هشام ما بعث الله عز وجل أنبياءه ورسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله عز
وجل، فأحسنهم استجابة أحسنهم معرفة، وأعلمهم بأمر الله عز وجل أحسنهم
عقلا، وأكملهم عقلا أرفعهم درجة في الدنيا والآخرة. يا هشام إن العاقل الذي
لا يشغل الحلال شكره، ولا يغلب الحرام صبره. يا هشام من سلط ثلاثا على ثلاث
فكأنما أعان على هدم عقله، من أظلم نور تفكره بطول أمله، ومحا طرائف حكمته
بفضول كلامه، وأطفأ نار عبرته بشهوات نفسه. يا هشام الصبر على الوحدة علامة
قوة العقل، فمن عقل عن الله عز وجل اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها ورغب



(1) تحف العقول: ص 408.
(2) رجال الكشي: ج 2 ص 731 ح 818.
(3) بحار الأنوار: ج 75 ص 104 ب 49 ح 37 نقلا عن كتاب " الدرة الباهرة ".
(4) عيون أخبار الرضا: ج 1 ص 127 ب 35 ح 4.
670
فيما عند الله عز وجل، وكان الله سبحانه وتعالى آنسه في الوحشة، وصاحبه في
الوحدة، وغناه في العيلة، ومعزه من غير عشيرة. يا هشام إن العقلاء زهدوا في
الدنيا ورغبوا في الآخرة لأنهم علموا أن الدنيا طالبة مطلوبة، فمن طلب الآخرة
طلبته الدنيا حتى يستوفي منها رزقه، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة فيأتيه الموت
فيفسد عليه دنياه وآخرته (1).
فصل
في ذكر وفاة الكاظم (عليه السلام) وسببها وموضع قبره
وكان سبب وفاته (عليه السلام) ان يحيى بن خالد سمه في رطب وريحان أرسل بهما
إليه مسمومين بأمر الرشيد.
ولما سم وجه إليه الرشيد بشهود حتى يشهدوا عليه بخروجه عن أملاكه. فلما
دخلوا عليه قال: يا فلان بن فلان سقيت السم في يومي هذا، وفي غد يصفار بدني
ويحمار، وبعد غد يسود وأموت. فانصرف الشهود من عنده، فكان كما قال.
وتولى أمره ابنه علي الرضا (عليه السلام). ودفن ببغداد في مقابر قريش في بقعة كان قبل
وفاته ابتاعها لنفسه (2).
وكانت وفاته في حبس السندي بن شاهك لست خلون من رجب سنة ثلاث
وثمانين ومائة وعمره يومئذ خمس وخمسون سنة (3).
وحدث أبو المفضل محمد عبد الله، قال: حدثنا جعفر بن مالك الفزاري، قال:
حدثني محمد بن إسماعيل الحسني، عن أبي محمد الحسن بن علي الثاني (عليه السلام)،
قال: إن موسى (عليه السلام) قبل وفاته بثلاثة أيام دعا المسيب وقال له: إني ظاعن عنك
في هذه الليلة إلى مدينة جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأعهد إلى من بها عهدا يعمل به



(1) تحف العقول: ص 386 - 388.
(2) دلائل الإمامة: ص 148.
(3) الكافي: ج 1 ص 476.
671
من بعدي. قال المسيب: فقلت: مولاي كيف تأمرني؟ وكيف أفتح لك الأبواب
والحرس معي على الأبواب وأقفالها؟ فقال: يا مسيب ضعفت نفسك في الله وفينا
فقلت: يا سيدي بين لي. فقال: يا مسيب إذا مضى من هذه الليلة المقبلة ثلثها قف
فانظر. قال المسيب: فحرمت علي النوم في تلك الليلة، فلم أزل راكعا وساجدا
وناظرا ما وعدنيه، فلما مضى من الليل ثلثه تغشاني النعاس وأنا جالس فإذا أنا
بسيدي موسى (عليه السلام) يحركني برجله ففزعت وقمت قائما، فإذا سلك الجدران
المشيدة والأبنية المعلاة وما حولنا من القصور قد صارت كلها أرضا، فظننت
بمولاي أنه أخرجني من المجلس الذي كان فيه. قلت: مولاي خذ بيدي من
ظالمك وظالمي. فقال: يا مسيب تخاف القتل؟ قلت: مولاي معك لا. فقال:
يا مسيب فاهدأ على جملتك، فإني راجع إليك بعد ساعة وإذا وليت عنك فسيعود
المجلس إلى شأنه. قلت: مولاي فالحديد الذي عليك كيف تصنع به؟ فقال: ويحك
يا مسيب بنا والله ألان الله الحديد لنبيه داود (عليه السلام)، فكيف يصعب علينا؟! قال: ثم
خطا من بين يدي خطوة فغاب عن بصري، ثم ارتفع البنيان وعادت القصور إلى
ما كانت عليه، واشتد اهتمامي بنفسي وعلمت أن وعده الحق، فلم أزل قائما على
قدمي فلم ينقضي إلا ساعة حتى رأيت الجدران والأبنية قد خرت إلى الأرض
وإذا أنا بسيدي (عليه السلام) وقد عاد إلى حبسه وعاد الحديد إلى رجليه، فخررت ساجدا
لوجهي بين يديه. فقال: ارفع رأسك يا مسيب واعلم أن سيدك راحل عنك إلى الله
في ثالث هذا اليوم. قلت: مولاي فأين سيدي علي؟
$ الإمام الكاظم (عليه السلام) / أولاده
فقال: شاهد غير غائب يا مسيب، وحاضر غير بعيد. قلت: سيدي فإليه
قصدت. قال: قصدت والله يا مسيب كل منتجب لله على وجه الأرض شرقا وغربا
قال: فبكيت. فقال: لا تبك يا مسيب، فإنا نور لا يطفأ، إن غبت عنك فهذا علي ابني
يقوم مقامي بعدي. فقلت: الحمد لله. قال: ثم إن سيدي دعاني فقال لي: يا مسيب
إذا أنا دعوت بشربة ماء فشربتها فرأيتني قد انتفخت بطني يا مسيب واصفر لوني
واحمر واخضر وتلون ألوانا فخبر الظالم بوفاتي، وإياك إذا رأيت بي هذا الحدث
أن تظهر عليه أحد من عندي إلا بعد وفاتي. قال المسيب: فلم أزل أترقب وعده

672
حتى دعا بالشربة الماء فشربها، ثم دعاني فقال: إن هذا الرجس السندي بن
شاهك سيقول إنه يتولى أمري ودفني، وهيهات هيهات أن يكون ذلك أبدا، فإذا
حملت نعشي إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحدوني بها ولا تأخذوا من
تربتي ليتبركوا بها فإن كل تربة لنا محرمة إلا تربة جدي الحسين بن علي (عليهما السلام)
فإن الله جعلها شفاء لشيعتنا وأوليائنا.
قال: فلما رأيته تختلف ألوانه وينتفخ بطنه رأيت شخصا أشبه الأشخاص به
قد شخص جالسا إلى جانبه في مثل شبهه، وكان عهدي بسيدي الرضا (عليه السلام) في
ذلك الوقت غلاما، فأقبلت أريد سؤاله فصاح بي موسى (عليه السلام) قد نهيتك يا مسيب
فتوليت عنهم ولم أزل صابرا حتى قضى، وعاد ذلك الشخص، ثم أوصلت الخبر
إلى الرشيد، فوافى الرشيد ووافى ابن شاهك، فوالله لقد رأيتهم بعيني وهم يظنون
أنهم يغسلونه ويكفنونه وكل ذلك أراهم لا يصنعون به شيئا ولا تصل أيديهم إلى
شئ منه ولا إليه وهو مغسول مكفن محنط، ثم حمل ودفن في مقابر قريش (1).
فصل
في ذكر عدد أولاد موسى (عليه السلام) وطرف من أخبارهم
وكان لأبي الحسن (عليه السلام) سبعة وثلاثون ولدا ذكرا وأنثى.
منهم: علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، وإبراهيم، والعباس، والقاسم لأمهات أولاد
شتى.
وإسماعيل، وجعفر، وهارون، والحسن لام ولد.
وأحمد، ومحمد، وحمزة لام ولد.
وعبد الله، وإسحاق، وعبيد الله، وزيد، والحسين، وهارون، والفضل لأمهات
أولاد.



(1) دلائل الإمامة: ص 152 - 154.
673
وفاطمة الكبرى، وفاطمة الصغرى، ورقية، وحكيمة، وأم فروة، ورقية
الصغرى، وكلثوم، وأم جعفر، ولبانة، وزينب، وخديجة، وعلية، وآمنة، وحسينة،
وتويمة، وعائشة، وأم سلمة، وميمونة، وأم كلثوم (1).
والعقب من ولد موسى بن جعفر (عليهما السلام) وهم الموسويون في أربعة عشر رجلا:
علي بن موسى الرضا، وكان أفضل ولد أبي الحسن موسى (عليه السلام).
إبراهيم بن موسى، وكان سخيا كريما، وتقلد الأمر على اليمن في أيام المأمون
من قبل محمد بن زيد بن علي بن الحسين الذي بايعه أبو السرايا بالكوفة، ومضى
إليها ففتحها وأقام بها مدة إلى أن كان من أمر أبي السرايا ما كان، وأخذ له الأمان
من المأمون ولكل واحد من ولد أبي الحسن موسى (عليه السلام) [فضل ومنقبة مشهورة] (2).
العباس بن موسى، إسماعيل بن موسى، محمد بن موسى وكان من أهل الفضل
والصلاح.
حدث أبو محمد الحسن بن محمد بن يحيى، قال: حدثني جدي، قال: حدثتني
هاشمية مولاة رقية بنت موسى، قالت: كان محمد بن موسى صاحب وضوء
وصلاة، وكان ليله كله يتوضأ ويصلي، فيسمع سكب الماء ثم يصلي ليلا ثم يهدي
ساعة فيرقد ويقوم فيسمع سكب الماء والوضوء ثم يصلي فلا يزال ليله كذلك حتى
يصبح، وما رأيته إلا ذكرت قول الله عز وجل: * (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) * (3) (4).
عبد الله بن موسى، عبيد الله بن موسى، جعفر بن موسى، حمزة بن موسى،
زيد بن موسى، هارون بن موسى، إسحاق بن موسى، الحسين بن موسى، الحسن
ابن موسى.



(1) الإرشاد: ص 302.
(2) الإرشاد: ص 303.
(3) الذاريات: 17.
(4) الإرشاد: ص 303.
674
الباب العاشر
في ذكر مولانا علي بن موسى الرضا (عليه السلام)

675
$ الإمام الرضا (عليه السلام) / بعض أخباره
فصل
في ذكر مولده (عليه السلام) وشئ من صفاته
ولد بالمدينة سنة ثلاث وخمسين ومائة من الهجرة - ويروى سنة ست -
بعد وفاة جده الصادق (عليه السلام) بخمس سنين.
فأقام مع أبيه تسعا وعشرين سنة وأشهرا، وأقام بعد أبيه بقية ملك الرشيد، ثم
محمد بن هارون الأمين ثلاث سنين وثمانية عشر يوما، ثم ملك المأمون عشرين
سنة، ووجه إلى أبي الحسن (عليه السلام) فحمله إلى خراسان (1).
وأمه أم ولد يقال لها قليم.
قال أبو الحسن موسى (عليه السلام) لما ابتاع هذه الجارية لجماعة من أصحابه:
والله ما اشتريت هذه الجارية إلا بأمر الله ووحيه، فسئل عن ذلك، فقال: بينا أنا نائم
إذ أتاني جدي وأبي ومعهما شقة حرير فنشراها فإذا قميص وفيه صورة هذه
الجارية، فقالا: يا موسى ليكونن لك من هذه الجارية خير أهل الأرض بعدك، ثم
أمراني إذا ولدته أن اسميه عليا وقالا: إن الله عز وجل سيظهر به العدل والرأفة
والرحمة، طوبى لمن صدقه وويل لمن عاداه وجحده (2)
وقيل: اسم أمه سكن النوبية، ويقال: الخيزران، ويقال: صفرا وتسمى أروى
أم البنين (3).



(1) دلائل الإمامة: ص 175.
(2) دلائل الإمامة: ص 176.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 367، وفيه " صقر " بدل " صفرا ".
677
وكان يكنى أبا الحسن، والخاص أبا محمد (1).
وكان يلقب بالرضا، والصابر، والوفي، ونور الهدى، وسراج الله، والفاضل،
وقرة عين المؤمنين، ومكيد الملحدين (2).
وكانت نقش خاتمه: العزة لله (3).
وبابه: عمر بن الفرات
وقيل: كان الرضا (عليه السلام) أشبه الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكل من رأى رسول الله
في المنام رآه على صورته.
فصل
في ذكر شئ من أخبار الرضا (عليه السلام)
$ الإمام الرضا (عليه السلام) / بعض أخباره
روى جماعة من أصحاب الرضا (عليه السلام) أنه قال: لما أردت الخروج من المدينة
إلى خراسان جمعت عيالي فأمرتهم أن يبكوا علي حتى أسمع بكاءهم، ثم فرقت
فيهم اثنى عشر ألف دينار، ثم قلت لهم: إني لا أرجع إلى عيالي أبدا، ثم أخذت
أبا جعفر فأدخلته المسجد ووضعت يده على حافة القبر وألصقته به واستحفظته
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فالتفت إلي أبو جعفر فقال لي: بأبي أنت والله تذهب إلى الله.
وأمرت جميع وكلائي وحشمي له بالسمع والطاعة وترك مخالفته وعرفتهم أنه
القيم مقامي (4).
وشخص على طريق البصرة إلى خراسان، واستقبله المأمون وأعظمه وأكرمه
وقال له: ما عزم عليه في أمره. فقال له: إن هذا أمر ليس بكائن إلا بعد خروج
السفياني فألح عليه فامتنع، ثم أقسم عليه، فأبر قسمه، وعقد له الأمر، وجلس مع



(1) دلائل الإمامة: ص 183.
(2) دلائل الإمامة: ص 183.
(3) دلائل الإمامة: ص 184.
(4) إلى هنا في عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 219.
678
المأمون للبيعة. ثم سأله المأمون أن يخرج فيصلي بالناس، فقال له: هذا ليس
بكائن، فأقسم عليه، وأمر القواد بالركوب معه، فاجتمع الناس على بابه، فخرج
وعليه قميصان ورداء وعمامة كما كان يخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلما خرج من باب
داره ضج الناس بالبكاء وكاد أهل البلدان أن يفتنوا، واتصل الخبر بالمأمون، فبعث
إليه: كنت أعلم مني بما قلت ارجع، فرجع ولم يصل بالناس (1).
وذكر جماعة من أصحاب الأخبار ورواة السير من أيام الخلفاء: أن المأمون
لما أراد العقد للرضا علي بن موسى (عليهما السلام) أحضر الفضل بن سهل فأعلمه بما قد عزم
عليه وأمره بالاجتماع مع أخيه الحسن بن سهل على ذلك، ففعل واجتمعا بحضرته،
وجعل الحسن يعظم ذلك عليه ويعرفه ما في اخراج الأمر من أهله عليه.
فقال له المأمون: إني عاهدت الله على أنني إن ظفرت بالمخلوع أخرجت
الخلافة إلى أفضل آل أبي طالب، وما أعلم أحدا أفضل من هذا الرجل على وجه
الأرض.
فلما رأى الحسن والفضل عزيمته على ذلك أمسكا عن معارضته فيه،
فأرسلهما إلى الرضا (عليه السلام) فعرضا ذلك عليه، فامتنع فيه، فلم يزالا به حتى أجاب،
ورجعا إلى المأمون فعرفاه إجابته، فسر بذلك، وجلس للخاصة في يوم خميس،
وخرج الفضل بن سهل فأعلم الناس برأي المأمون في علي بن موسى وأنه قد ولاه
العهد وسماه الرضا وأمرهم بلبس الخضرة والعود لبيعته في الخميس الآخر على
أن يأخذوا أرزاق سنة.
فلما كان ذلك اليوم ركب الناس على طبقاتهم من القواد والحجاب والقضاة
وغيرهم في الخضرة، وجلس المأمون ووضع للرضا وسادتان حتى لحقا بمجلسه
وفرشه، وأجلس الرضا (عليه السلام) عليهما في الخضرة، وعليه عمامة وسيف، ثم أمر ابنه
العباس بن المأمون فبايع له أول الناس، وبايعه الناس ويده فوق أيديهم، ووضعت



(1) دلائل الإمامة: ص 176 - 177.
679
البدر وقامت الخطباء والشعراء وجعلوا يذكرون فضل الرضا (عليه السلام) وما كان من
المأمون في أمره.
ثم دعا أبو عباد بالعباس بن المأمون فوثب ندبا من أبيه فقبل يده وأمره
بالجلوس، ثم نودي محمد بن جعفر فقام فمشى حتى قرب من المأمون فوقف ولم
يقبل يده، فقيل له: امض فخذ جائزتك. ثم جعل أبو عباد يدعو بعلوي وعباسي
فيقبضان جوائزهما حتى نفدت الأموال.
ثم قال المأمون للرضا (عليه السلام): اخطب الناس وتكلم فيهم، فحمد الله وأثنى عليه
وقال: " إن لنا حقا عليكم برسول الله (صلى الله عليه وآله) ولكم علينا حق به، فإذا أنتم أديتم إلينا
ذلك وجب علينا الحق لكم ". ولم يذكر عنه غير هذا في ذلك المسجد.
وأمر المأمون فضرب اسم الرضا على الدراهم، وخطب له في كل بلدة
بولاية العهد.
فقال من سمع عبد الحميد بن سعيد يخطب في تلك السنة على منبر رسول
الله (صلى الله عليه وآله) بالمدينة فقال في الدعاء له: ولي عهد المسلمين علي بن موسى بن
جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام):
ستة آباؤهم ما هم * أفضل من يشرب صوب الغمام (1).
قال: وكتب الحسين بن سهل إلى أخيه الفضل بن سهل: إني نظرت في تحويل
السنة فوجدت فيه أنك تذوق في شهر كذا وكذا في يوم الأربعاء حر الحديد وحر
النار، وأرى أن تدخل أنت وأمير المؤمنين والرضا الحمام في هذا اليوم وتحتجم
فيه وتصب على بدنك الدم ليزول عنه نحسه.
فكتب ذو الرئاستين إلى المأمون بذلك وسأله أن يسأل أبا الحسن (عليه السلام) ذلك،
وكتب المأمون إلى أبي الحسن يسأله فيه، فأجابه أبو الحسن (عليه السلام): لست
بداخل الحمام غدا، فأعاد عليه الرقعة مرتين، فكتب إليه أبو الحسن (عليه السلام):



(1) الإرشاد: ص 310 - 312.
680
لست بداخل الحمام فإني رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذه الليلة فقال: يا علي
لا تدخل الحمام غدا.
فكتب إليه المأمون: صدقت يا أبا الحسن وصدق رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولست
بداخل الحمام غدا، والفضل أعلم.
قال ياسر: فلما أمسينا وغابت الشمس قال لنا الرضا (عليه السلام): قولوا: نعوذ بالله
من شر ما ينزل في هذه الليلة. فلم نزل نقول ذلك. فلما صلى الرضا (عليه السلام) الصبح قال
لي: اصعد السطح واسمع هل تجد شيئا. فلما صعدت سمعت ضجة وكثرت فلم
نشعر بشئ فإذا نحن بالمأمون قد دخل من الباب الذي كان من داره إلى دار أبي
الحسن (عليه السلام) وهو يقول: يا سيدي يا أبا الحسن آجرك الله في الفضل فإنه دخل
الحمام ودخل عليه قوم بالسيوف فقتلوه، وأخذ من دخل عليه ثلاثة نفر أحدهم
ابن خالة الفضل بن ذي العلمين.
وقال الفضل بن الربيع: إن الرشيد استدعاه يوما وقال له: امض إلى علي بن
موسى العلوي وأخرجه من الحبس وألقه في بركة السباع فقال الفضل بن الربيع:
فما زلت ألطف له وأرفق به لعله يرجع عن ذلك، فاشتد غضبه وقال: والله لئن
لم تلقه لهم لألقينك بدله. قال: فمضيت إلى علي بن موسى (عليهما السلام) فقلت له: إن
أمير المؤمنين الرشيد قد أمرني بكذا وكذا. فقال: إفعل ما أمرت به فإني مستعين
بالله تعالى. وأقبل يمشي معي إلى أن انتهينا إلى البركة ففتحت بابها وأدخلته، وكان
فيها أربعون سبعا، وأنزلته وأطبقت عليه الباب، وعندي من الغم والقلق إن يكن
قتل مثله على يدي، وعدت إلى موضعي.
فلما انتصف الليل وافاني خادم فقال: إن أمير المؤمنين يدعوك، فصرت إليه،
فقال: لعلي أخطأت البارحة خطيئة وأتيت منكرا فإني رأيت البارحة مناما هالني،
وذلك إنني رأيت جماعة من الرجال وقد دخلوا علي الدار وبأيديهم من سائر
السلاح وكان في وسطهم رجل كأنه القمر أو كأن وجهه نور الشمس حسنا وجمالا
فأعظمته ودخل قلبي من هيبته أمر عظيم، فقال لي قائل: هذا أمير المؤمنين علي

681
ابن أبي طالب (عليه السلام)، فتقدمت لأقبل قدميه فرفسني في وجهي وقال: * (فهل عسيتم
إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) * (1) ثم حول وجهه ودخل بابا
فانتبهت مذعورا.
فقلت: يا أمير المؤمنين أمرتني أن القي علي بن موسى الرضا (عليه السلام) للسباع.
فقال: ويلك ألقيته؟ قلت: إي والله. قال: امض فانظر الذي فعلت فأخذت
الشمع بين يدي إلى أن وصلت إلى الموضع، فطالعت إليه فإذا هو قائم يصلي
والسباع حوله يلحسون قدميه، فعدت إليه فأخبرته بذلك فلم يصدقني. وقام
وأخذ الفراشين والشمع بين يديه وأطلع فشاهده على تلك الحال فقال: السلام
عليك يا بن عم، فلم يلتفت إليه حتى فرغ من صلاته ودعائه ورد عليه، ثم قال:
وعليك السلام، قد كنت أرجو أن لا تسلم علي في هذا الموضع فقال: المعذرة إلى
الله تعالى وإليك يا بن العم فإن السكر حملني وأنطقني ذلك فأمرت بما لا يحل ولا
يحمل. فقال: قد نجاني الله تعالى وله الحمد والشكر كثيرا من كيد كل كائد. ثم قال:
قم يا بن العم. فقال: نعم، ففتحت الباب وأقبل نحونا، فوالله ما تبعه سبع ولا نظر إليه
ولا هاله شئ من ذلك، فخرج فعانقه الرشيد ثم حمله إلى مجلسه ورفعه فوق
سريره وقال له: يا بن عم إن أردت المقام معنا فبالرحب والسعة وقد أمرنا لك
ولأهلك بمال وثياب وأنا أسأل قبول ذلك، وإن أردت الرجوع إلى بلدك فامض
مصاحبا. فقال: أما أنا فلا حاجة لي في المال والثياب، ولكن في قريش ضعفاء
ففرق ذلك فيهم، وذكر له أقواما أمر لهم بصلة وكسوة.
وما زال يسأل له أن يركب بغال البريد إلى الموضع الذي يريد فأجابه إلى ذلك
وقال لي الرشيد: شيعه وسر معه وودعه. فمضيت معه إلى بعض الطريق
ورجعت عنه (2).
وذكر ابن جرير الطبري: إن عيسى بن محمد بن أبي خالد بينا هو في عرض



(1) محمد: 22.
(2) مهج الدعوات: ص 248 - 249.
682
أصحابه عند منصرفه من معسكره إلى بغداد، إذ ورد عليه كتاب من الحسن بن سهل
يعلمه فيه أن المأمون قد جعل علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) ولي عهده من بعده،
ولقبه الرضا من آل محمد، وذلك أنه نظر في بني العباس وبني علي فلم يجد أحدا
أفضل ولا أورع ولا أعلم منه، وقد أمره بطرح لبس السواد ولبس ثياب الخضرة،
وذلك في يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر رمضان من سنة إحدى ومائتين،
ويأمره أن يأمر من قبله من أصحابه والجند والقواد وبني هاشم بالبيعة له،
وأن يأخذهم بلبس الخضرة في أقبيتهم وقلانسهم وأعلامهم، ويأخذ أهل بغداد
جميعا بذلك.
فلما أتى عيسى الكتاب دعا الأعيان من أهل بغداد إلى ذلك وجمع القواد
وأمرهم بذلك على أن يعجل لهم رزق شهر والباقي إذا أدركت الغلة، فامتنع بعضهم
ونسبوا هذا إلى الفضل بن سهل، وغضب بني العباس من ذلك واجتمعوا وقالوا:
نولي بعضنا ونخلع المأمون، وكان المتكلم في ذلك عماه إبراهيم ومنصور ابنا
المهدي.
وفي هذه السنة أجاب جماعة من أهل بغداد إلى بيعة إبراهيم بن المهدي
فبايعوه بالخلافة وخلعوا المأمون (1).
وقال أبو سعيد ابن المعلم: سمعت الفضل بن فضالة النسوي يقول: قال قاضي
القضاة يحيى بن أكثم: كنت يوما عند المأمون وعنده علي بن موسى الرضا (عليه السلام)
فدخل الفضل بن سهل ذو الرئاستين فقال للمأمون: قد وليت الثغر الفلاني فلانا
التركي. فسكت المأمون. فقال الرضا (عليه السلام): ما جعل الله لإمام المسلمين وخليفة
رب العالمين القائم بأمور الدين أن يولي شيئا من ثغور المسلمين أحدا من سني (2)
ذلك الثغر، لأن الأنفس تحن إلى أوطانها وتشفق على أجناسها وتحب مصالحها
وإن كانت مخالفة لأديانها. فقال المأمون: اكتبوا هذا الكلام بماء الذهب.



(1) تاريخ الطبري: ج 8 ص 554 - 555.
(2) السناء من الرفعة والسني: الرفيع (لسان العرب 14 / 403).
683
وروى أبو الحسين كاتب الفياض، عن أبيه، قال: حضرنا مجلس الرضا (عليه السلام)
فشكا رجل إليه أخاه، فأنشأ يقول:
أعذر اخاك على ذنوبه * واستر وغط على عيوبه
واصبر على بهت السفيه * وللزمان على خطوبه
ودع الجواب تفضلا * وكل الظلوم إلى حسيبه (1)
فصل
في ذكر شئ من معجزات الرضا (عليه السلام)
قال هرثمة: كان في بعض ثقات خدم المأمون غلام يقال له صبيح الديلمي،
وكان يتوالى مولانا الرضا (عليه السلام) حق ولايته، فقال لي يوما: يا هرثمة ألست تعلم
أني ثقة المأمون على سره وعلانيته؟
قال: قلت: نعم.
فقال: اعلم يا هرثمة إن المأمون دعاني وثلاثين غلاما من ثقاته على سره
وعلانيته في الثلث الأول من الليل فدخلنا عليه وقد صار ليله نهارا بالشموع،
وبين يديه سيوف مسلولة مشحوذة، فدعا بنا غلاما غلاما فأخذ علينا العهود
والمواثيق بكتمانه، وليس بحضرته أحد من خلق الله تعالى، وقال لنا: هذا العهد
لازم لكم أنكم تفعلون ما آمركم به ولا تخالفون منه شيئا. قال: فحلفنا له قال:
يأخذ كل رجل منكم سيفا من هذه السيوف بيده وامضوا إلى علي بن موسى
الرضا (عليه السلام) في حجرته فإن وجدتموه قائما أو قاعدا أو نائما فضعوا عليه أسيافكم
ثم اقلبوا عليه بساطه وامسحوا أسيافكم وصيروا إلي فقد جعلت لكل واحد منكم
$ الإمام الرضا (عليه السلام) / معجزاته
على هذا الفعل وكتمانه عشر بدر دراهم وعشر ضياع والحضوة عندي ما عشت
وبقيت. قال: فأخذنا الأسياف وصرنا إلى حجرته فدخلنا عليه وهو مضطجع ويده



(1) عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 176 ب 43 ح 4.
684
تحت رأسه وهو يتكلم كلاما لا نعقله. قال: فبادرت الغلمان بالأسياف إليه
ووضعت سيفي في الأرض وأنا قائم عليه أنظر إليه حتى فعل به ما حد المأمون،
ثم طووا عليه بساطه ومسحوا أسيافهم وخرجوا حتى دخلوا على المأمون. فقال:
ما الذي صنعتم؟ فقالوا: ما أمرتنا به يا أمير المؤمنين وأنا أظنهم يقولون ما ضربت
بسيفي ولا تقدمت إليه. فقال المأمون: أيكم كان أسرع إليه؟ فقالوا: صبيح الديلمي
يا أمير المؤمنين. ثم قال: لا تعيدوا شيئا مما فعلتم فتعجلوا العقوبة وتخسروا
الآخرة والأولى.
فلما كان وقت الفجر خرج المأمون فجلس في مجلسه مكشوف الرأس
محلول الأزرار وأظهر وفاته وقعد للتعزية، وقام حافيا قبل أن يصل إليه الناس
يمشي إلى الدار لينظر إليه، فلما دخل عليه في حجرته سمع همهمة فأرعد، ثم قال
لي: من عنده؟ فقلت: لا أعلم يا أمير المؤمنين. فقال: أسرع فانظر إلى من عنده.
قال صبيح: فأسرعت إلى البيت فإذا أنا بسيدي الرضا (عليه السلام) جالسا في محرابه
مواصلا تسبيحه. فقلت: يا أمير المؤمنين هو ذا أرى شخصا جالسا في محرابه
يصلي ويسبح، فانتفض المأمون وارتعد ثم قال: غررتموني لعنكم الله. قال: ثم
التفت إلي من بين الجماعة وقال: أنت تعرفه فانظر من المصلي عنده؟ قال صبيح:
فمضيت راجعا فلما صرت بعتبة الباب قال لي: يا صبيح. قلت: لبيك يا مولاي،
وسقطت لوجهي. قال لي: قم رحمك الله فارجع فقل له: يريدوا ليطفئوا نور الله
بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون.
قال: فرجعت إلى المأمون ووجدت كقطع الليل المظلم فقال: يا صبيح ما
وراءك؟ قلت: يا أمير المؤمنين هو جالس في محرابه، وقد ناداني باسمى، وقد قال
لي كيت وكيت. قال: فشد أزراره وأمر برد أبوابه وقال: قولوا انه كان قد غشي
عليه وقد أفاق من غشيته. قال هرثمة: فأكثرت لله حمدا وشكرا، ثم دخلت على
مولاي الرضا (عليه السلام)، فلما رآني قال: يا هرثمة لا تحدث بما حدثك به صبيح إلا لمن
امتحن الله قلبه بمحبتنا وولايتنا. قلت: نعم يا سيدي. قال لي: يا هرثمة والله لن

685
يضرنا كيدهم شيئا حتى يبلغ الكتاب أجله (1).
ومنها: إن المأمون قال له يوما: إن آباءك كان عندهم علم بما كان ويكون إلى
يوم القيامة وأنت وصيهم، وهذه الزاهرة حظتني (2) لا اقدم عليها أحدا من جواري
وقد حملت غير مرة وهي تسقط، وهي حبلى.
فأطرق ساعة ثم قال: لا تخف من اسقاطها فإنها تستسلم وتلد لك غلاما أشبه
الناس بأمه، وقد زاد الله في خلقه مرتبتين، في يده اليمنى خنصر زائدة ليست
بالمدلاة، وفي رجله اليمنى خنصر زائدة ليست بالمدلاة. فولدت غلاما، وعاش
الولد وكان كذلك (3).
وقال وكيع: رأيت علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في آخر أيامه فقلت: يا بن
رسول الله أريد أن أحدث عنك بمعجزة فأرنيها. فرأيته أخرج لنا ماء من صخرة
وسقانا وشرب (4).
وقال عمارة بن زيد: صحبت علي بن موسى الرضا (عليه السلام) إلى مكة ومعي غلام
لي فاعتل في الطريق، فاشتهى عنبا ونحن في مفازة، فوجه إلي الرضا (عليه السلام) فقال:
إن غلامك قد اشتهى العنب فانظروا، وإذا أنا بكرم لم أر أحسن منه وأشجار
الرمان، فقطعت عنبا ورمانا وأتيت به الغلام فأكل، وتزودنا إلى مكة ورجعنا منه
إلى بغداد. فحدثت الليث بن سعيد وإبراهيم بن سعيد الجوهري فأتيا الرضا (عليه السلام)
فأخبراه، فقال لهما: وما هي ببعيد منكما، هاهو ذا، فإذا هما ببستان فيه من كل نوع،
فأكلنا وادخرنا (5).
وقال الحسن بن علي الوشاء: وجه إلي أبو الحسن علي بن موسى الرضا (عليهما السلام)
ونحن بخراسان ذات يوم بعد صلاة العصر، فلما دخلت إليه قال لي: يا حسن توفي



(1) عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 214 - 216 ب 47 ح 22.
(2) حظيت المرأة عند زوجها: دنت من قلبه.
(3) عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 223 - 224 ب 47 ح 44.
(4) دلائل الإمامة: ص 186.
(5) دلائل الإمامة: ص 187.
686
علي بن أبي حمزة البطائني في هذا اليوم وادخل قبره في هذه الساعة، فأتاه ملكا
القبر فقالا له: من ربك؟ قال: الله ربي. قالا: فمن نبيك؟ قال: محمد (صلى الله عليه وآله). قالا: فمن
ذينك؟ قال: الاسلام ديني. قالا: فما كتابك؟ قال: القرآن. قالا: فمن وليك؟ فقال:
علي. قالا: ثم من؟ قال: الحسن. قالا: ثم من؟ قال: الحسين. قالا: ثم من؟ قال:
علي بن الحسين. قالا: ثم من؟ قال: محمد بن علي. قالا: ثم من؟ قال: جعفر بن
محمد. قالا: ثم من؟ قال: موسى بن جعفر. قالا: ثم من؟ فتلجلج، فأعادا عليه
فسكت، فقالا له: أفموسى بن جعفر أمرك بهذا! ثم ضرباه بأرزبة فألقياه على قبره
فهو يلتهب إلى يوم القيامة.
قال الحسن بن علي: فلما خرجت كتبت اليوم ومنزلته من الشهر، فما مضت
الأيام حتى ورد علينا كتب الكوفيين بأن قد مات علي بن حمزة في ذلك اليوم
وادخل قبره في الساعة التي قال أبو الحسن (عليه السلام) (1).
وروى الحسن بن علي الوشاء المعروف بابن ابنة الياس، قال: شخصت إلى
خراسان ومعي حلل وشئ للتجارة، فوردت مرو ليلا، وكنت أقول بالوقف،
فوافق موضع نزولي غلام أسود كأنه من اهل المدينة، فقال لي: سيدي يقول لك
وجه إلي بالحبرة التي معك لأكفن بها مولى لنا توفي. فقلت: ومن سيدك؟ فقال:
علي بن موسى الرضا قلت: ما بقي معي حبرة ولا حلة إلا وقد بعتها في الطريق.
فعاد إلي فقال: بلى قد بقيت الحبرة قبلك. فحلفت له أني لا أعلمها معي، فمضى
وعاد الثالثة فقال: هي في عرض السفط الفلاني. فقلت في نفسي: إن صح هذا فهي
دلالة. وكانت ابنتي دفعت إلي الحبرة وقالت: بعها وابتع بثمنها فيروزجا وسبجا (2)
من خراسان. فقلت لغلامي: هات السفط، فلما أخرجه وجدتها في عرضه،
فدفعتها إليه وقلت: هذه لا آخذ لها ثمنا. فقال: هذه دفعتها إليك ابنتك فلانة



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 337.
(2) الفيروزج: حجر كريم معروف، وفتح فائه أشهر من كسرها. والسبج: معرب " شبه " محركة،
خرز أسود شديد السواد.
687
وسألتك أن تبتاع لها بثمنها فيروزجا وسبجا فابتع لها بهذا. فعجبت مما ورد علي
وقلت: والله لأكتبن له مسائل أشهد فيها ولأمتحننه في مسائل سئل أبوه عنها.
فاثبت ذلك في درج وغدوت إلى بابه والدرج في كمي ومعي صديق لي لا يعلم
بشرح هذا الأمر. فلما صرت إلى بابه رأيت القواد والعرب والجند والموالي
يدخلون إليه، فجلست ناحية وقلت في نفسي: متى أصل أنا إلى هذا، فأنا أفكر في
ذلك إذ خرج خارج يتصفح الناس ويقول: أين ابن ابنة الياس؟ فقلت: ها أنذا.
فأخرج من كمه درجا وقال: هذا تفسير مسائلك. ففتحته فإذا فيه تفسير ما معي
في كمي، فقلت: اشهد الله ورسوله أنك حجة وقمت. فقال لي رفيقي: أين أسرعت؟
فقلت: قضيت حاجتي (1).
وحدث الحاكم بخراسان صاحب كتاب المنتقى، قال: رأيت في منامي وأنا
في مشهد الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) وكأن ملكا نزل من السماء وعليه ثياب
خضر وكتب على شاذروان القبر ببيتين حفظتهما وهما:
من سره أن يرى قبرا برؤيته * يفرج الله عمن زاره كربه
فليأت ذا القبر إن الله أسكنه * سلالة من رسول الله منتجبه (2)
فصل
في ذكر نبذ من كلام الرضا (عليه السلام)
$ الإمام الرضا (عليه السلام) / نبذ من كلامه
قال محمد بن زيد الطبري: سمعت الرضا (عليه السلام) يتكلم في التوحيد فقال: أول
عبادة الله عز وجل معرفته، وأصل معرفة الله جل اسمه توحيده، ونظام توحيده
نفي التحديد عنه، لشهادة العقول أن كل محدود مخلوق، وشهادة كل مخلوق أن له
خالقا ليس بمخلوق، الممتنع من الحدث هو القديم في الأزل، فليس الله عبد من



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 341.
(2) عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 280 - 281 ب 69 ح 4.
688
نعت ذاته، ولا إياه وحد من اكتنهه، ولا حقيقته أصاب من مثله، ولا به صدق من
نهاه، ولا صمد صمده من أشار إليه بشئ من الحواس، ولا إياه عنى من شبهه،
ولا له عرف من بعضه، ولا إياه أراد من توهمه، كل معروف بنفسه مصنوع، وكل
قائم في سواه معلول، بصنع الله يستدل عليه، وبالعقول يعتقد معرفته، وبالفطرة
تثبت حجته، خلق الله تعالى الخلق حجابا بينه وبينهم، ومباينته إياهم مفارقته
أينيتهم، وابتداؤه لهم دليل على أن الابتداء له، لعجز كل مبتدأ منهم عن ابتداء مثله،
فأسماؤه تعالى تعبير، وأفعاله سبحانه تفهيم، قد جهل الله من حده، وقد تعداه من
اشتمله، وقد أخطأه من اكتنهه، ومن قال: " كيف هو؟ " فقد شبهه، ومن قال فيه:
" لم؟ " فقد علله، ومن قال: " متى؟ " فقد وقته، ومن قال: " فيم؟ " فقد ضمنه، ومن
قال: " إلى م؟ " فقد نهاه، ومن قال: " حتى م؟ " فقد غياه، ومن غياه فقد جزأه، ومن
جزاه فقد ألحد فيه، لا يتغير الله تعالى بتغاير المخلوق، ولا يتحدد بتحدد المحدود،
واحد لا بتأويل عدد، ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجل لا باستهلال (1) رؤية، باطن
لا بمزايلة، مباين لا بمسافة، قريب لا بمداناة، لطيف لا بتجسيم، موجود لا عن
عدم، فاعل لا باضطرار، مقدر لا بفكرة، مدبر لا بحركة، مريد لا بعزيمة، شاء
لا بهمة، مدرك لا بحاسة، سميع لا بآلة، بصير لا بأداة، لا تصحبه الأوقات،
ولا تضمه الأماكن، ولا تأخذه السنات، ولا تحده الصفات، ولا تقيده الأدوات،
سبق الأوقات كونه، والعدم وجوده، والابتداء أزله، بخلقه الأشباه علم أن لا شبيه
له، وبمضادته بين الأشياء علم أن لا ضد له، وبمقارنته بين الأمور علم أن لا قرين
له، ضاد النور بالظلمة، والصر (2) بالحرور، مؤلف بين متعاقباتها، مفرق بين
متدانياتها، بتفريقها دل على مفرقها، وبتأليفها دل على مؤلفها، قال الله تعالى:
* (ومن كل شئ خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) * (3) له معنى الربوبية إذ لا مربوب،
وحقيقة الإلهية إذ لا مألوه، ومعنى العالم ولا معلوم، ليس منذ خلق استحق معنى



(1) في العيون: باستقلال.
(2) الصر: شدة البرد.
(3) الذاريات: 49.
689
الخالق، ولا من حيث أحدث استفاد معنى المحدث، لا يعينه منذ، ولا يدنيه قد،
ولا يحجبه لعل، ولا يؤقته متى، ولا يشتمله حين، ولا يقارنه مع، كلما في الخلق
من أثر غير موجود في خالقه، فكلما أمكن فيه ممتنع من صانعه، لا يجري عليه
الحركة والسكون، وكيف يجري عليه ما هو أجراه أو يعود فيه ما هو ابتداه، إذن
لتفاوتت دلالته، ولامتنع من الأزل معناه، ولا كان للباري معنى غير المبراء، لو حد
له وراء لحد له أمام، ولو التمس له التمام للزمه النقصان، كيف يستحق الأزل من
لا يمتنع من الحدث، وكيف ينشئ الأشياء من لا يمتنع من الانشاء، لو تعلقت به
المعاني أقامت فيه آية المصنوع، ولتحول من كونه دالا إلى كونه مدلولا عليه، ليس
في محال القول حجة، ولا في المسألة عنه جواب، لا إله إلا هو العلي العظيم (1).
وقال الريان بن الصلت: سمعت الرضا (عليه السلام) يدعو بكلمات فحفظتها عنه،
فما دعوت بها في شدة إلا فرج الله عني، فهي:
اللهم أنت ثقتي في كل كرب، وأنت رجائي في كل شديدة، وأنت لي في كل
أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من كرب يضعف عنه الفؤاد وتقل فيه الحيلة وتعيأ فيه
الأمور ويخذل فيه القريب والبعيد والصديق ويشمت فيه العدو وأنزلته بك،
وشكوته إليك، راغبا إليك فيه عمن سواك، ففرجته وكشفته وكفيتنيه، فأنت ولي كل
نعمة، وصاحب كل حاجة، ومنتهى كل رغبة، فلك الحمد كثيرا، ولك المن فاضلا،
بنعمتك تتم الصالحات، يا معروفا بالمعروف معروف، ويا من هو بالمعروف
موصوف، أنلني من معروفك معروفا تغنيني به عن معروف من سواك، برحمتك
يا أرحم الراحمين (2).
وقال (عليه السلام): اتقوا الله أيها الناس في نعم الله عليكم فلا تنفروها عنكم بمعاصيه،
بل استديموها بطاعته وشكره على نعمه وأياديه، واعلموا أنكم لا تشكرون الله
بشئ بعد الإيمان بالله ورسوله بعد الاعتراف بحقوق أولياء الله من آل محمد



(1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج 1 ص 150 - 153 ب 11 ح 51.
(2) بحار الأنوار: ج 94 ص 282 - 283 ب 44 ذيل ح 2.
690
أحب إليكم من معاونتكم لإخوانكم المؤمنين على دنياهم التي هي معبر لكم إلى
جنان ربهم (1)، فإن من فعل ذلك كان من خاصة الله (2).
وقال (عليه السلام): من حاسب نفسه ربح، ومن غفل عنها خسر، ومن خاف أمن، ومن
اعتبر أبصر، ومن أبصر فهم، ومن فهم علم، وصديق الجاهل في تعب، وأفضل
المال ما وقى به العرض، وأفضل العقل معرفة الانسان نفسه، والمؤمن إذا غضب لم
يخرجه غضبه عن حق، وإذا رضي لم يدخله رضاه في باطل، وإذا قدر لم يأخذ
أكثر من حقه (3).
وقال (عليه السلام): الغوغاء قتلة الأنبياء، والعامة اسم مشتق من العمى، ما رضي الله
لهم أن شبههم بالأنعام حتى قال: * (بل هم أضل سبيلا) * (4) (5)
وقال (عليه السلام): صديق كل امرئ عقله، وعدوه جهله (6)
وقال (عليه السلام): يا أبا هاشم العقل حباء من الله عز وجل، والأدب كلفة، فمن تكلف
الأدب قدر عليه، ومن تكلف العقل لم يزده بذلك إلا جهلا (7).
وقال مقاتل بن مقاتل: كنت بخراسان فورد على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) كتاب
من المأمون يسأله أن يكتب إليه بخطبة ليصلي بالناس فكتب إليه أبو الحسن (عليه السلام):
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي لامن شئ كان، ولا على صنع شئ
استعان، ولا من شئ خلق ما كون منه الأشياء، بل قال له كن فكان. وأشهد أن
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الجليل عن منابذة الأنداد، ومكايدة الأضداد،
واتخاذ الصواحب والأولاد. وأشهد أن محمدا عبده المصطفى، وأمينه المجتبى،
أرسله بالقرآن المفصل، ووحيه الموصل، وفرقانه المحصل، فبشر بثوابه وحذر
من عقابه (صلى الله عليه وآله).



(1) في نسخة البحار: التي هي معبر لهم إلى جنات ربهم.
(2) و 4) بحار الأنوار: ج 78 ص 355 ب 26 ذيل ح 9 نقلا عن هذا الكتاب " الدر النظيم ".
(4) و 2) بحار الأنوار: ج 78 ص 355 ب 26 ذيل ح 9 نقلا عن هذا الكتاب.
(5) الفرقان: 44.
(7) تحف العقول: ص 448.
691
أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكتمون، فإن
الله لم يترككم سدى، ولم يخلقكم عبثا، ولم يكتمكم هدى.
الحذر الحذر عباد الله، فقد حذركم الله نفسه، فلا تعرضوا للندم، واستجلاب
النقم، والمصير إلى عذاب جهنم * (إن عذابها كان غراما * انها ساءت مستقرا
ومقاما) * (1) نار لا تطفى، وعيون لا ترقى، ونفوس لا تموت ولا تحيى، في
السلاسل والأغلال، والمثلات والنكال * (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا
غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما) * (2) نار أحاط بهم سرادقها
واكتنفتهم بوائقها فلا يسمع لهم ندا ولا يجاب لهم دعاء ولا يرحم لهم بكاء.
ففروا عباد الله إلى الله بهذه الأنفس الفانية، في الصحة المتوالية، في الأيام
الخالية، من قبل أن ينزل بكم الموت فيغصبكم أنفسكم، ويفجعكم بمهجكم،
ويحول بينكم وبين الرجعة.
هيهات حضرت آجالكم، وختمت أعمالكم، وجفت أقلامكم، فلا إلى الرجعة
من سبيل، ولا إلى الإقالة من وصول، عصمنا الله وإياكم بما عصم به أولياءه
الأبرار، وأرشدنا وإياكم لما أرشد له عباده الأخيار.
$ الإمام الرضا (عليه السلام) / وفاته
وكتب إلى ولده الجواد (عليهما السلام): فدتك نفسي بلغني أن الموالي إذا ركبت
أخرجوك من باب البستان الصغير، وإنما ذاك من بخل بهم لئلا ينال أحد منك
خيرا، فأسألك بحقي عليك لا يكون مدخلك ومخرجك إلا من الباب الكبير، وإذا
ركبت إن شاء الله فليكن معك ذهب وفضة ثم لا يسألك أحد شيئا إلا أعطيته، ومن
سألك من عمومتك أن تبره فلا تعطه أقل من خمسين دينارا والكثير إليك، ومن
سألك من عماتك فلا تعطها أقل من خمسين دينارا والكثير إليك، ومن سألك من
قريش فلا تعطه أقل من خمسة وعشرين دينارا والكثير إليك، إني انما أريد أن
يوفقك الله، فاتق الله وأعط ولا تخف من ذي العرش إقتارا (3).



(1) الفرقان: 65 - 66.
(2) النساء: 56.
(3) عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 8 ب 30 ح 20.
692
وقال محمد بن عبدة (1): كتبت إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أسأله عن الرؤية
وما ترويه العامة والخاصة، وسألته أن يشرح لي ذلك. فكتب بخطه: اتفق الجميع
لا تنازع بينهم أن المعرفة من جهة الرؤية ضرورة، فإذا جاز أن يرى الله بالعين
وقعت المعرفة ضرورة، ثم لم يخل تلك المعرفة من أن تكون إيمانا أو ليست
بإيمان، فإن كانت تلك المعرفة من جهة الرؤية إيمانا فالمعرفة التي في دار الدنيا
من جهة الاكتساب ليست بإيمان، لأنها ضدها، فلا يكون في دار الدنيا مؤمن
لأنهم لم يروا الله عز وجل، وإن تكن المعرفة التي من جهة الرؤية إيمانا لم تخل
هذه المعرفة التي من جهة الاكتساب من أن تزول أو لا تزول في المعاد، فهذا دليل
على أن الله تعالى لا يرى بالعين، إذ العين تؤدي إلى ما وصفناه (2).
وقال محمد بن سنان: كتب إلي الرضا (عليه السلام): التواضع درجات: منها أن يعرف
المرء قدر نفسه فينزلها منزلتها بقلب سليم، لا يحب أن يأتي إلى أحد إلا مثل
ما يؤتى إليه، إن أوتي إليه سيئة درأها بالحسنة، كاظم الغيظ، عاف عن الناس،
والله يحب المحسنين (3).
فصل
في ذكر وفاة الرضا (عليه السلام) وسببها وموضع قبره ومبلغ سنه
كانت وفاته (عليه السلام) بطوس في يوم الجمعة غرة شهر رمضان من سنة اثنتي
ومائتين من الهجرة (4).
وقال الطبري: في آخر صفر من سنة ثلاث ومائتين (5). وقد كمل عمره تسعا
وأربعين سنة وستة أشهر. وقيل: ستا وأربعين سنة.



(1) في المصدر: محمد بن عبيدة.
(2) التوحيد: ص 109 ب 8 ح 8.
(3) بحار الأنوار: ج 78 ص 355 - 356 باب 26 ذيل ح 9 نقلا عن كتاب " العدد القوية ".
(4) روضة الواعظين: ج 1 ص 236.
(5) دلائل الإمامة: ص 177.
693
وذكر المفيد في الإرشاد: خمسا وخمسين سنة (1).
وكان سبب وفاته ما حدث به هرثمة، قال: كنت بين يدي المأمون إلى أن
مضى من الليل أربع ساعات ثم انصرفت إلى منزلي، فلما مضى من الليل ساعات
قرع قارع بابي، فكلمه بعض غلماني، فقال له: قل لهرثمة أجب سيدك، فقمت
مسرعا وأخذت علي أثوابي وأسرعت إلى سيدي، ودخل الغلام بين يدي
ودخلت وراءه وإذا سيدي في صحن داره جالس، فقال لي: يا هرثمة. قلت: لبيك
يا مولاي. فقال لي: اجلس، فجلست. فقال لي: اسمع وع يا هرثمة، هذا أوان
رحيلي إلى الله عز وجل ولحوقي بآبائي وجدي (عليهم السلام)، وقد بلغ الكتاب أجله، وقد
عزم هذا الطاغي على سمي في عنب ورمان مفروك، فأما العنب فإنه يغمس
السلك في السم ويجريه بالخيط في العنب ليخفى، وأما الرمان فإنه يطرح السم في
كف بعض غلمانه ويفرك الرمان بيده ليلطخ حبه في ذلك السم. وإنه سيعودني في
يومنا هذا المقبل ويقرب إلي الرمان والعنب ويسألني أن آكله، فآكله فينفذ الحكم
ويحضر القضاء، فإذا أنا مت فسيقول: أنا اغسله بيدي، فإذا قال ذلك فقل له عني
بينك وبينه: إنه قال لي: قل له لا يتعرض لغسلي ولا لكفني ولا لدفني فإنه إن فعل
ذلك عاجله من العذاب ما أعجزه عنه وحل به أليم العقاب فإنه سينتهي. فقلت: نعم
يا سيدي. قال لي: فإذا خلى بينك وبين غسلي، فيجلس في علو من أبنيته هذه
مشرفا على موضع غسلي لينظر إلي، فلا تعرض لشئ من غسلي حتى ترى
فسطاطا قد ضرب في جانب الدار أبيض، فإذا رأيت ذلك فاحملني في أثوابي
التي أنا فيها فضعني من وراء الفسطاط وقف من ورائه ويكون من معك دونك
ولا تكشف الفسطاط وتراني فتهلك، فإنه سيشرف عليك ويقول لك: يا هرثمة
أليس زعمتم أن الإمام لا يغسله إلا إمام مثله فمن يغسل أبا الحسن علي بن موسى
ومحمد بالمدينة ونحن بطوس؟! فإذا قال لك ذلك فأجبه وقل له: ما يغسله غير
من ذكرته، فإذا ارتفع الفسطاط فسوف تراني مندرجا في أكفاني محنطا، فضعني



(1) الإرشاد: ص 304.
694
على نعشي واحملني وصل علي، واعلم أن صاحب الصلاة ابني محمد فإذا أرادوا
أن يحفروا قبري فإنه سيجعل قبر أبيه هارون الرشيد قبلة لقبري، ولن يكون ذلك
أبدا، فإذا ضربوا بالمعاول ستنبو عن الأرض ولا تنحفر لهم فيها ولا قلامة الظفر،
فإذا اجتهدوا في ذلك فقل لهم: إني أمرتك أن تضرب معولا واحدا في قبلة أبيك
الرشيد، فإذا ضربت معولا فانفذ في الأرض فترى قبرا محفورا وضريحا قائما،
فإذا انفرج ذلك القبر فلا تنزلني فيه حتى تقرب منه فترى ماء أبيض فيمتلئ به ذلك
القبر مع وجه الأرض، ثم يضطرب فيه حوت بطوله، فإذا اضطرب فلا تنزلني في
القبر حتى إذا غاب الحوت منه وغار الماء فانزلني في القبر ولحدني ذلك الضريح،
ولا تتركهم يأتوا بتراب ليلقوه في قبري فإن القبر ينطبق من نفسه ويمتلئ ويرتفع.
فقلت: نعم يا سيدي. قال: ثم قال لي: احفظ ما عهدت به إليك واعمل به ولا تخالف.
قلت: أعوذ بالله أن أخالف لك أمرا. قال هرثمة: ثم خرجت من عنده باكيا حزينا،
فلم أزل كالحبة على المقلى (1) لا يعلم أحد ما في نفسي إلا الله عز وجل. ثم دعاني
المأمون فلم أزل قائما إلى أن أضاء النهار. ثم قال لي المأمون: امض يا هرثمة إلى
أبي الحسن الرضا فأقرأه عني السلام وقل له: تصير الينا أو نصير إليك، فإن قال
لك: بل يصير إلينا فسله أن يقدم ذلك. قال: فجئته، فلما طلعت على مولاي
الرضا (عليه السلام) قال لي: يا هرثمة أليس قد حفظت ما وصيتك به؟ قلت: بلى. قال:
قدموا نعلي فقد علمت ما أرسلك به. فقدمت نعله ومشى إليه، فلما دخل عليه قام
المأمون إليه قائما معانقا له وقبل بين عينيه وأجلسه إلى جانبه على سريره وأقبل
عليه يحادثه ساعة من النهار، ثم قال لبعض غلمانه: آتني بعنب ورمان قال هرثمة:
فلما سمعت ذلك لم أستطع الصبر ورأيت النفضة قد عرضت في جسدي، فكرهت
أن يتبين ذلك في وجهي فتراجعت القهقري حتى خرجت فرميت بنفسي في
موضع من الدار، فلما قرب زوال الشمس أحسست بسيدي (عليه السلام) قد خرج من



(1) في المصدر: مقلاة، وهي وعاء من نحاس أو خزف يقلى فيه الطعام، يقال: " هو على
المقلاة " من الجزع.
695
عند المأمون ورجع إلى داره، ثم رأيت الأمر قد خرج من عند المأمون بإحضار
الأطباء، فقلت: ما هذا؟ فقيل لي: غمة عرضت لأبي الحسن علي بن موسى
الرضا (عليهما السلام) فكان الناس في شك، وكنت أنا في يقين، لما علمت من سيدي (عليه السلام).
فلما كان في بعض الليل علا الصياح وسمعت الرجة من الدار فأسرعت فيمن
أسرع فإذا نحن بالمأمون مكشوف الرأس محلل الأزرار قائما على قدميه، فقلت:
ما القصة؟ فقالوا: توفي والله أبو الحسن الرضا (عليه السلام). ثم إن الناس كتموا أمره يوما
وليلة، ثم أنفد إلى محمد بن جعفر الصادق وجماعة من آل أبي طالب الذين كانوا
عنده، فلما حضروا نعاه إليهم وبكى وأظهر حزنا شديدا وتوجعا وأراهم أنه
صحيح الجسم وقال: يعز علي يا أخي أن أراك في هذه الحال وقد كنت أؤمل أن
أتقدم قبلك، فأبى الله إلا ما أراد.
قال هرثمة: فلما أصبحنا جلس المأمون للتعزية، ثم قام يمشي إلى الموضع
الذي فيه سيدنا الرضا (عليه السلام) فقال: أصلحوا لنا موضعا فإني أريد أن اغسله. فدنوت
منه فقلت: خلوة يا أمير المؤمنين. فأخلا نفسه، فأعدت عليه ما قاله سيدي بسبب
الغسل والكفن والدفن فقال لي: لست أعرض لك في ذلك شأنك يا هرثمة. قال:
فلم أزل قائما حتى رأيت الفسطاط الأبيض قد نصب في جانب الدار فحملته
ووضعته في جانب الفسطاط ووقفت من ظاهره وكل من في الدار دوني وأنا أسمع
التكبير والتهليل والتسبيح وتردد الأواني وصوت صب الماء وتضوع رائحة
الطيب لم أشم مثله. قال: فإذا أنا بالمأمون قد أشرف علي من بعض داره فصاح:
يا هرثمة أليس زعمتم أن الإمام لا يغسله إلا إمام مثله وأين ابنه عنه وهو بمدينة
الرسول ونحن بطوس من ارض خراسان؟ قال: فقلت له: يا أمير المؤمنين إن
الإمام لا يجب أن يغسله إلا إمام مثله، فإن تعدى متعد ومنع عن ذلك فغسل الإمام
لم يبطل إمامة الإمام لتعدي غاسله ولا بطلت إمامة الإمام الذي هو بعده إن غلب
على غسل أبيه، ولو توفي أبو الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) بالمدينة لغسله
ابنه محمد ظاهرا، ولا يغسله الآن إلا هو من حيث يختفي. قال: فسكت عني ثم

696
ارتفع الفسطاط، فإذا أنا بسيدي مدرج في أكفانه فوضعته على نعشه ثم حملناه،
فصلى عليه المأمون وجميع من حضر، ثم جئنا إلى موضع القبر فوجدتهم يضربون
المعاول من فوق قبر هارون الرشيد ليجعلوه قبلة لقبره، والمعاول تنبو.
فقال: ويحك يا هرثمة ما ترى كيف تمتنع من حفر قبر له؟ فقلت: لم يا أمير
المؤمنين إنه قد أمرني أن أضرب معولا واحدا في قبلة قبر أبيك الرشيد لا أضرب
غيره.
قال: إذا ضربت يا هرثمة تكون ماذا؟ فقلت: أخبرني أنه لا يجوز أن يكون
قبر أبيك قبلة لقبره، وأنني إذا ضربت هذا المعول الواحد يصير القبر محفورا من
غير يد تحفره ويأتي ضريح في وسطه. قال المأمون: سبحان الله ما أعجب هذا
الكلام، ولا عجب من أمر أبي الحسن، فاضرب حتى نرى.
قال هرثمة: فأخذت المعول بيدي فضربت في قبلة قبر هارون، قال: فانفرج
القبر محفورا وان الضريح في وسطه قائم، والناس ينظرون إليه قال: أنزله
يا هرثمة. فقلت: يا سيدي أنه قد أمرني ألا أنزله حتى ينفجر من أرض هذا القبر ماء
أبيض فيمتلئ به القبر مع وجه الأرض، ثم تظهر فيه حوت بطول القبر، فإذا غاب
الحوت وغار الماء وضعته على جانب قبره وخليت بينه وبين ملحده. قال: فافعل
يا هرثمة ما أمرت. وقال: فانتظرت حتى ظهر الماء والحوت، وانتظرت الحوت
حتى غاب وغار الماء، والناس ينظرون، ثم جعلت النعش إلى جانب القبر،
وتسجف من فوقه سجف أبيض لم أبسطه، ثم انزل إلى القبر بغير يدي ولا أحد
ممن حضر. فأشار المأمون إلى الناس أن هاتوا بأيديكم فاطرحوا فيه التراب
فقلت: لا تفعل يا أمير المؤمنين. فقال: ويحك فيما يملأ؟ فقلت: قد أمرني أن لا
يطرح عليه التراب وأن القبر يمتلئ من نفسه ويطبق ويرتفع على وجه الأرض.
قال: فأشار إلى الناس أن كفوا. قال: فرموا ما في أيديهم من التراب، ثم امتلأ القبر
وانطبق وتربع على وجه الأرض. وانصرف المأمون وانصرفنا.
قال: فدعاني المأمون وأخلى مجلسه، ثم قال: والله يا هرثمة لتصدقني بجميع

697
ما سمعته من أبي الحسن علي بن موسى (عليه السلام). قال: قلت: أخبرت أمير المؤمنين بما
قال لي. قال: لا والله، لتصدقني بما أخبرك به مما قلته له (1). قال: قلت له: يا أمير
المؤمنين فعما تسألني؟ فقال: بالله يا هرثمة أسر إليك شيئا غير هذا. فقلت: نعم.
قال: فما هو؟ قلت: خبر العنب والرمان. فأقبل يتلون ألوانا بصفرة وحمرة وسواد،
ثم مد نفسه كالمغشي عليه وسمعته في غشيته وهو يقول: ويل للمأمون من رسول
الله، ويل للمأمون من علي بن أبي طالب، ويل للمأمون من فاطمة، ويل للمأمون
من الحسن والحسين، ويل للمأمون من علي بن موسى، ويل لأبيه هارون من
موسى بن جعفر، هذا والله الخسران حقا، يقول هذا القول ويكرره. فلما رأيته قد
أطال ذلك وليت عنه فجلست في بعض الدار. قال: فجلس ودعاني، فدخلت إليه
وهو كالسكران، فقال لي: والله ما أنت أعز علي منه ولا جميع من في الأرض،
فوالله لئن بلغني أنك أعدت ما سمعت ورأيت ليكونن هلاكك أهون علي مما لم
يكن. قال: فقلت: يا أمير المؤمنين إن ظهر علي ذلك فأنت في حل من دمي. قال:
لا والله إلا أن تعطيني عهدا وميثاقا أنك تكتم هذا ولا نعيده. قال: فأخذ مني العهد
والميثاق وأكثره علي، فلما وليت عنه صفق بيده وسمعته يقول: * (يستخفون من
الناس ولا يستخفون من الله) * (2) إلى آخر الآية (3).
ودفن الرضا (عليه السلام) في دار حميد بن قحطبة في قرية يقال لها سناباذ بأرض
طوس، وفيها قبر الرشيد وقبر الرضا (عليه السلام).
فصل
في ذكر أولاد الرضا (عليه السلام)
$ الإمام الرضا (عليه السلام) / أولاده
مضى الرضا (عليه السلام) ولم يترك ولدا إلا أبا جعفر محمد بن علي (عليهما السلام)، وهو الإمام



(1) كذا في الأصل، وفي دلائل الإمامة: " مما قلت له ".
(2) النساء: 108 وتتمة الآية: * (وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما
يعملون محيطا) *.
(3) دلائل الإمامة: ص 177 - 182.
698
بعده، وكان سنه يوم وفاة أبيه سبع سنين وأشهر. قال الحسن بن نشار الواسطي:
سألني الحسين بن همام الصيرفي أن أستأذن له الرضا (عليه السلام) ففعلت، فلما صار بين
يديه قال له: أنت إمام؟ قال: نعم. قال: فإني اشهد الله أنك لست بإمام. فقال له:
وما علمك بذلك؟ قال: لأني رويت عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: " الإمام لا يكون
عقيما " وقد بلغت هذه السن وليس لك ولد. فرفع الرضا (عليه السلام) رأسه إلى السماء
ثم قال: " اللهم إني أشهدك أنه لا تمضي الأيام والليالي حتى ارزق ولدا يملأ
الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ". فعددنا الوقت فكان بينه وبين
ولادة أبي جعفر (عليه السلام) شهور (1).



(1) عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 209 ب 47 ح 13.
699
الباب الحادي عشر
في ذكر سيدنا أبي جعفر
محمد بن علي الجواد عليه وعلى آبائه
أفضل الصلاة والسلام

701
$ الإمام الجواد (عليه السلام) / بعض أخباره
فصل
في ذكر مولد الجواد (عليه السلام)
ولد (عليه السلام) بالمدينة ليلة الجمعة، النصف من رمضان، سنة مائة وخمس وتسعين
من الهجرة (1).
وأمه أم ولد يقال لها أم سكنة، نوبية.
حدث أبو المفضل محمد بن عبد الله، قال: حدثني أبو النجم بدر بن عمار (2)،
قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن علي، قال: حدثني عبد الله بن أحمد، عن صفوان،
عن حكيمة بنت أبي الحسن موسى (عليه السلام)، قالت: كتبت لما علقت أم أبي جعفر (عليه السلام)
به إلى أبي الحسن الرضا (عليه السلام): خادمتك قد علقت.
فكتب إلي: علقت يوم كذا من شهر كذا، فإذا هي ولدت فالزميها سبعة أيام.
قالت: فلما ولدته قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فلما كان يوم الثالث عطس فقال:
الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى الأئمة الراشدين (3).
وكان (عليه السلام) شديد الأدمة (4).



(1) دلائل الإمامة: ص 201.
(2) في المصدر: بدر بن عمارة.
(3 و 4) دلائل الإمامة: ص 201.
703
فصل
في بعض أخبار الجواد (عليه السلام)
روى محمد المحمودي، عن أبيه، قال: كنت واقفا على رأس الرضا (عليه السلام)
بطوس، فقال له بعض أصحابه: إن حدث حدث فإلى من؟ قال: إلى ابني أبي جعفر.
قال: فإن استصغر سنه. فقال له أبو الحسن الرضا (عليه السلام): إن الله بعث عيسى بن
مريم (عليه السلام) قائما بشريعته في دون السن التي يقوم فيها أبو جعفر (1).
فلما مضى الرضا (عليه السلام)، وذلك في سنة اثنتي ومائتين، وسن أبي جعفر (عليه السلام) سبع
سنين وشهور، واختلف الناس في جميع الأمصار، فاجتمع الريان بن الصلت
وصفوان بن يحيى ومحمد بن حكيم وعبد الرحمن بن الحجاج ويونس بن
عبد الرحمن وجماعة من وجوه العصابة في دار عبد الرحمن بن الحجاج في بركة
زلزل يبكون ويتوجعون من المصيبة، فقال لهم يونس: دعوا البكاء، من لهذا الأمر
ينشئ المسائل إلى هذا الصبي، يعني أبا جعفر (عليه السلام)، وكان له سبع سنين وشهور.
ثم قال: أنا ومن مثلي.
فقام إليه الريان بن الصلت فوضع يده في حلقه ولم يزل يلطم وجهه ويضرب
رأسه ثم قال له: يا بن الفاعلة إن كان أمر من الله جل وعلا فابن يومين مثل ابن
مائة سنة، وإن لم يكن من عند الله فلو عمر الواحد من الناس خمس ألف سنة (2) ما
كان ليأتي بمثل ما يأتي به السادة (عليهم السلام) أو بعضه أو هذا ممن يتعلق به أو ينظر فيه.
وأقبلت العصابة على يونس تعذله. وقرب الحاج، واجتمع من فقهاء بغداد
والأمصار وعلمائهم ثمانون رجلا، وخرجوا إلى المدينة وأتوا دار أبي عبد الله (عليه السلام)
فأدخلوها وبسط لهم بساط، وخرج عبد الله بن موسى فجلس في صدر المجلس،
وقام مناد فنادى: هذا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فمن أراد السؤال فليسأل.



(1) الكافي: ج 1 ص 322 ب 73 ح 13.
(2) كذا في الأصل، وفي المصدر: فلو عمر ألف سنة.
704
فقام إليه رجل من القوم، فقال له: ما تقول في رجل قال لامرأته: أنت طالق
عدد نجوم السماء؟ قال: طلقت ثلاثا دون الجوزاء. فورد على الشيعة ما زاد في
غمهم وحزنهم. ثم قام إليه رجل آخر فقال: ما تقول في رجل أتى بهيمة. فقال:
تقطع يده ويجلد مائة جلدة وينفى. فضج الناس بالبكاء وكان قد اجتمع فقهاء
الأمصار، فبيناهم في ذلك إذ فتح باب من صدر المجلس وخرج موفق، ثم خرج
أبو جعفر (عليه السلام) وعليه قميصان وإزار وعمامة بذؤابتين إحداهما من قدام والأخرى
من خلف، فجلس وأمسك الناس كلهم، ثم قام إليه صاحب المسألة الأولى فقال
له: يا بن رسول الله ما تقول فيمن قال لامرأته أنت طالق عدد نجوم السماء؟ فقال
له: يا هذا اقرأ كتاب الله تبارك وتعالى، قال الله: * (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف
أو تسريح بإحسان) * في الثالثة قال: فإن عمك أفتاني بكيت وكيت فقال له: يا عم
اتق الله ولا تفت وفي الأمة من هو أعلم منك.
فقام إليه صاحب المسألة الثانية فقال: يا بن رسول الله رجل أتى بهيمة. فقال:
يعزر ويحمى ظهر البهيمة وتخرج من البلد لئلا يبقى على الرجل عارها. فقال له:
إن عمك أفتاني بكيت وكيت. فالتفت وقال بأعلى صوته: لا إله إلا الله يا عبد الله إنه
عظيم عند الله أن تقف غدا بين يدي الله فيقول لك لم أفتيت عبادي بما لا تعلم
وفي الأمة من هو أعلم منك. فقال له عبد الله بن موسى: رأيت أخي الرضا وقد
أجاب في هذه المسألة بهذا الجواب. فقال له أبو جعفر (عليه السلام): إنما سئل الرضا (عليه السلام)
عن نباش نبش امرأة ففجر بها وأخذ ثيابها فأمر بقطعه للسرقة وجلده للزنا ونفيه
للمثلة بالميت (1).
قال أبو خراش النهدي (2): وكنت قد حضرت مجلس الرضا علي بن
موسى (عليه السلام) فأتاه رجل فقال له: جعلت فداك أم ولد لي هي صدوق أرضعت جارية
لي بلبن ابني أتحرم علي نكاحها؟ قال أبو الحسن (عليه السلام): لا رضاع بعد فطام. فسأله
عن الصلاة في الحرمين، فقال: إن شئت قصرت وإن شئت أتممت قلت: فالخصي



(1) دلائل الإمامة: ص 204 - 206.
(2) في المصدر: أبو خداش المهري.
705
يدخل على النسوان، فأعرض بوجهه قال: فحججت بعد ذلك فدخلت على
أبي جعفر (عليه السلام)، فسألته عن المسائل، فأجابني بالجواب (1).
ومكث أبو جعفر (عليه السلام) مستخفيا بالإمامة، فلما صار له ست عشرة سنة وجه
المأمون حمله وأنزله بالقرب من داره، وعزم على تزويجه ابنته أم الفضل،
فاجتمعت بنو هاشم (2) وسألوه أن لا يفعل ذلك فقال لهم: هو والله لأعلم بالله
ورسوله وسنته وأحكامه من جميعكم. فخرجوا من عنده وبعثوا إلى يحيى بن أكثم
يسألونه الاحتيال على أبي جعفر بمسألة في الفقه. فلما اجتمعوا وحضر أبو جعفر (عليه السلام)
قالوا: يا أمير المؤمنين هذا يحيى بن أكثم إن أذنت له أن يسأل أبا جعفر عن مسألة
في الفقه فننظر كيف فهمه. فأذن المأمون في ذلك. فقال يحيى لأبي جعفر (عليه السلام):
ما تقول في محرم قتل صيدا؟ قال أبو جعفر: في حل قتله أم في حرم؟ عالما أم
جاهلا؟ عمدا أم خطأ؟ صغيرا كان الصيد أم كبيرا؟ حرا كان القاتل أم عبدا؟ مبدئا
أو معيدا؟ من ذوات الطير كان الصيد أو غيرها؟ من كبارها أو صغارها؟ مصرا
أو نادما؟ بالليل في وكرها أو بالنهار عيانا؟ محرما للعمرة أو للحج؟
فانقطع يحيى انقطاعا لم يخف على أهل المجلس، وتحير الناس تعجبا من
جوابه، ونشط المأمون فقال: أتخطب أبا جعفر لنفسك؟ فقال (عليه السلام): الحمد لله إقرارا
بنعمته، ولا إله إلا الله إخلاصا لوحدانيته، وصلى الله على محمد سيد بريته، وعلى
الأصفياء من عترته. أما بعد فقد كان من فضل الله على الأنام أن أغناهم بالحلال
عن الحرام فقال سبحانه: * (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم
وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم) * (3) ثم إن محمد
ابن علي بن موسى يخطب أم الفضل بنت عبد الله المأمون، وقد بذل لها من الصداق
مهر جدته فاطمة بنت محمد (عليهما السلام) وهو خمس مائة درهم جيادا، فهل زوجتموه



(1) دلائل الإمامة: ص 206.
(2) كذا في الأصل ودلائل الإمامة: والصحيح كما في الاحتجاج وكشف الغمة فبلغ ذلك
العباسيين.
(3) النور: 32.
706
يا أمير المؤمنين بها على الصداق المذكور؟ قال: نعم قد زوجتك يا أبا جعفر
أم الفضل ابنتي على الصداق المذكور، فهل قبلت النكاح؟ قال أبو جعفر: قد قبلت
ذلك ورضيت به.
ثم أولم عليه المأمون، وجلس الناس على مراتبهم، فبينا نحن كذلك إذ سمعنا
كلاما كأنه كلام الملاحين، وإذا نحن بالخدم يجرون سفينة من فضة مملؤة غالية
فخضبوا بها لحى الخاصة ثم مدوها إلى دار العامة فطيبوهم. فلما تفرق الناس قال
المأمون: يا أبا جعفر إن رأيت أن تبين ما الفقه في ما فصلته من وجوه قتل المحرم
للصيد لنعلمه ونستفيده.
فقال أبو جعفر: نعم إن المحرم إذا قتل صيدا في الحل وكان الصيد من ذوات
الطير وكان من كبارها فعليه شاة، فإن كان أصابه في الحرم فعليه الجزاء مضاعفا،
وإذا قتل فرخا في الحل فعليه حمل قد فطم من اللبن، وإذا قتله في الحرم فعليه
الحمل وقيمة الفرخ، وإن كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة، وإن كان
نعامة فعليه بدنة، وإن كان ظبيا فعليه شاة، فإن قتل شيئا من ذلك في الحرم فعليه
الجزاء مضاعفا هديا بالغ الكعبة.
فإذا أصاب المحرم ما يجب عليه الهدي فيه وكان إحرامه للحج نحره بمنى،
وإن كان إحرامه للعمرة نحره بمكة، وجزاء الصيد على العالم والجاهل سواء، وفي
العمد له المأثم وهو موضوع عنه في الخطاء، والكفارة على الحر في نفسه، وعلى
العبد في سيده، والصغير لا كفارة عليه، وهي على الكبير واجبة، والنادم يسقط عنه
بندمه عقاب الآخرة، والمصر يجب عليه العقاب في الآخرة. فقال له المأمون:
أحسنت يا أبا جعفر أحسن الله إليك. ثم أقبل المأمون على من حضره من أهل بيته
فقال لهم: هل فيكم أحد يجيب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب؟ قالوا: لا والله
وأن أمير المؤمنين أعلم بما رأى (1).
فقال لهم: ويحكم أن أهل هذا البيت خصوا من دون الخلق بما ترون من



(1) إلى هنا في دلائل الإمامة مع اختلاف: ص 206 - 208.
707
الفضل وأن صغر السن فيهم لا يخرجهم عن الكمال، أما علمتم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو ابن عشر سنين
وقبل منه الاسلام وحكم له به، ولم يدع أحدا في سنه غيره، وبايع الحسن
والحسين وهما ابنا دون ست سنين ولم يبايع صبيا غيرهما، أفلا تعلمون الآن
ما خص الله به هؤلاء القوم وأنهم ذرية بعضها من بعض يجري لآخرهم ما يجري
لأولهم؟ قالوا: صدقت يا أمير المؤمنين، ثم نهض القوم (1).
وقيل: إن بعد وفاة الرضا (عليه السلام) بسنة قدم المأمون إلى بغداد وخرج يتصيد،
واجتاز يطوف البلد في طريقه والصبيان يلعبون، ومحمد واقف معهم، وكان عمره
يومئذ تسع سنين، فلما أقبل الخليفة المأمون انصرف الصبيان هاربين فوقف
أبو جعفر محمد فلم يبرح مكانه، فقرب منه الخليفة فنظر إليه، وكان الله عز وعلا
قد ألقى عليه مسحة من قبول، فوقف الخليفة وقال له: يا غلام ما منعك من
الانصراف مع الصبيان؟
فقال له مسرعا: يا أمير المؤمنين لم يكن بالطريق ضيق لا وسعه عليك
بذهابي، ولم يكن لي جريمة فأخشاها، وظني بك حسن أنك لا تضر من لا ذنب
له فوقفت.
فأعجبه كلامه ووجهه فقال له: ما اسمك؟ فقال: محمد. قال: ابن من؟ قال:
ابن علي الرضا. فترحم على أبيه ومضى إلى وجهته، وكان معه بزاة.
فلما بعد عن العمارة أخذ بازيا فأرسله على دراجة فغاب عن عينه غيبة
طويلة ثم عاد من الجو ومعه سمكة صغيرة وبها بقايا الحياة، فأعجب الخليفة من
ذلك غاية العجب، ثم أخذها في يده وعاد إلى داره في الطريق الذي أقبل منه،
فلما وصل إلى ذلك المكان وجد الصبيان على حالهم، فانصرفوا كما فعلوا أول
مرة وأبو جعفر معهم لم ينصرف ووقف كما وقف أولا. فلما دنا منه الخليفة قال له:
يا محمد. قال له: لبيك يا أمير المؤمنين. قال له: ما في يدي؟ فألهمه الله عز وعلا



(1) الاحتجاج: ص 443 - 446، كشف الغمة: ج 2 ص 353 - 357.
708
أن قال: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى خلق بمشيته في بحر قدرته سمكا صغارا
تصيدها بزاة الملوك والخلفاء، فيختبرون بها سلالة أهل النبوة.
فلما سمع المأمون كلامه عجب منه وجعل يطيل نظره إليه وقال: أنت ابن
الرضا حقا، وضاعف إحسانه إليه (1).
وقال صفوان بن يحيى: حدثني أبو نصر الهمداني، [قال]: حدثتني حكيمة
بنت أبي الحسن موسى (عليه السلام) وهي عمة أبي جعفر (عليه السلام) قالت: لما مات أبو جعفر
الجواد أتيت زوجته. أم الفضل بنت المأمون أعزيها فوجدتها شديدة الجزع
والحزن تقتل نفسها عليه بالبكاء والعويل، فخفت عليها أن يتصدع قلبها فبينا نحن
في حديث كرمه إذ قالت أم الفضل: ألا أخبرك بأمر جليل الوصف والمقدار؟ قلت:
وما ذاك؟ قالت: كنت أغار عليه كثيرا وارقبه أبدا، وكان ربما أسمعني الكلام
فاشكو ذلك إلى أبي فيقول: يا بنية احتمليه فإنه بضعة من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فبينما أنا
جالسة ذات يوم إذ دخلت علي جارية فسلمت. فقلت: من أنت؟
فقالت: أنا جارية من ولد عمار بن ياسر، وأنا زوجة محمد بن علي. فدخلني
من الغيرة مالا أقدر عليه، وهممت أن أخرج وأسيح في البلاد، وكاد الشيطان أن
يحملني على الإساءة إليها، فكظمت غيظي وأحسنت رفدها وكسوتها، فلما
خرجت عني لم أتمالك أن نهضت فدخلت على أبي فأخبرته وكان سكرانا
لا يعقل، فقال: علي بالسيف، فاتي به، ثم ركب وقال: والله لأقطعنه إربا إربا. فلما
رأيت ذلك قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون ماذا صنعت بزوجي، وجعلت ألطم
وجهي، فدخل عليه والدي وما زال يضربه بالسيف حتى قطعه ثم خرج وخرجت
هاربة خلفه ولم أرقد ليلتي، فلما أصبحت أنبت أبي فقلت له: أتدري ما صنعت
البارحة؟ فقال: وما صنعت؟ قلت: قتلت ابن الرضا محمدا. فذرفت عيناه وغشي
عليه ثم أفاق بعد حين فقال: ويلك ما تقولين أصحيح هو؟ فقلت: نعم والله يا أبه،
دخلت عليه ولم تزل تضربه بالسيف حتى قتلته. فاضطرب من ذلك اضطرابا



(1) كشف الغمة: ج 2 ص 344.
709
شديدا، ثم قال: علي بياسر الخادم. فلما اتي به قال له: ما هذا الذي تقول هذه؟
فقال: صدقت يا أمير المؤمنين. فضرب بيده على صدره وفخذه فقال: إنا لله وإنا
إليه راجعون هلكنا والله وعطبنا وافتضحنا إلى آخر الدهر، اذهب ويلك فانظر ما
القصة وعجل إلي بالخبر فإن نفسي تكاد أن تخرج الساعة.
$ الإمام الجواد (عليه السلام) / معجزاته
فخرج ياسر وأنا ألطم خدي ووجهي، فما كان بأسرع من أن رجع فقال:
البشرى يا أمير المؤمنين. فقال: لك البشرى، ما عندك؟ فقال: دخلت عليه وعليه
قميص وهو يستاك فسلمت عليه وقلت: يا بن رسول الله أحب أن تهب لي قميصك
هذا أصلي فيه وأتبرك به وانما أردت أن انظر إلى جسده، وهل به أثر جراحة وأثر
سيف. فقال: بل أكسوك ما هو خير من هذا القميص [فقلت: لست أريد غير هذا
القميص الذي عليك؟] (1) فخلعه ونظرت إلى جسده كأنه العاج ما به أثر. فبكى
المأمون بكاء شديدا وقال: ما بقي بعد هذا شئ أن في ذلك لعبرة والله للأولين
والآخرين. فقال: يا ياسر أما ركوبي إليه وأخذي للسيف والدخول عليه فإني
ذاكره، وأما خروجي عنه فإني لست ذاكره ولا أذكر منه شيئا ولا أذكر انصرافي
إلى مجلسي وكيف كان امري وذهابي عنه، لعن الله هذه الابنة لعنا وبيلا، تقدم إليها
وقل لها: يقول لك والدك: والله لئن جئتيني بعد هذا اليوم وشكوت منه أو خرجت
بغير إذنه لأنتقمن له منك، ثم صر إليه وأبلغه مني السلام واحمل اليه عشرين ألف
دينار وقد له الشهري الذي ركبته البارحة ومر الهاشميين والقواد أن يركبوا إليه
ويسلموا عليه. فخرجت إلى الهاشميين والقواد وأمرتهم أن يركبوا إليه، وحملت
إليه المال، وقدت إليه الشهري، وصرت إليه مع القوم، ودخلت عليه وأبلغته
السلام، ووضعت المال بين يديه، وعرضت عليه الشهري، فنظر إليه ساعة ثم تبسم
فقال: يا ياسر هكذا كان العهد بينه وبين أبي وبينه. وبيني حتى يسل علي السيف،
أوما علم أن لي ناصرا وحاجزا يحجز بيني وبينه فقلت: يا سيدي دع عنك العتاب
فوالله وحق جدك (صلى الله عليه وآله) ما كان يعقل من أمره شيئا وما علم أين هو من أرض الله



(1) ليس في الأصل.
710
وقد نذر لله تعالى نذورا كثيرة وحلف أن لا يسكر أبدا، فلا تذكر له شيئا ولا تعاتبه
على ما كان منه. فقال (عليه السلام): هكذا كان عزمي ورأيي. فقلت: إن جماعة من بني
هاشم والقواد ما خلا عبد الرحمن وحمزة بعث بهم يسلمون عليك ويكونون معك.
فقال: أدخل بني هاشم والقواد ما خلا عبد الرحمن وحمزة بن الحسين.
فخرجت إليهم فأدخلتهم، فدعا بثيابه فلبسها ونهض فركب وركب معه الناس
حتى دخل على المأمون، فلما رآه قام إليه وضمه إلى صدره ورحب به ولم يأذن
لأحد في الدخول إليه، فلم يزل يحدثه ويسامره، فلما انقضى ذلك قال له أبو
جعفر (عليه السلام): يا أمير المؤمنين. فقال المأمون: لبيك. قال: لك عندي نصيحة. فقال
المأمون: بحمد وشكر. فقال: أحب أن لا تخرج بالليل فإني لست آمن عليك هذا
الخلق المنكوس. فقال: أقبل قولك. وعاد أبو جعفر (عليه السلام) إلى داره (1).
وقال ابن أرومة: إن المعتصم دعا بجماعة من وزرائه فقال لهم: اشهدوا لي
على محمد بن علي بن موسى زورا واكتبوا أنه أراد أن يخرج علي. ثم دعا به فقال
له: إنك أردت أن تخرج علي فقال: والله ما فعلت شيئا من ذلك. قال: إن فلانا
وفلانا شهدوا عليك. واحضروا فقالوا: نعم هذه الكتب أخذناها من بعض غلمانك
قال: وكان جالسا في بهوة (2)، فرفع أبو جعفر (عليه السلام) يده فقال: اللهم إن كانوا قد كذبوا
علي فخذهم. قال: فنظرنا إلى ذلك البهو كيف يرجف ويذهب ويجئ وكلما قام
واحد وقع. فقال المعتصم: يا بن رسول الله أني تائب مما قلت فادع ربك أن
يسكنه. فقال: اللهم سكنه فإنك تعلم انهم أعداؤك وأعدائي، فسكن (3).
فصل
في ذكر معجزات الجواد (عليه السلام)
قال أبو هاشم الجعفري: جاء رجل إلى محمد بن علي بن موسى فقال:



(1) الخرائج والجرائح: ج 1 ص 372 - 375 ب 10 ح 1.
(2) البهو: البيت المقدم أمام البيوت.
(3) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 670 - 671 ح 18.
711
يا بن رسول الله إن أبي مات، وكان له مال، ففاجأه الموت، ولست أقف على ماله،
ولي عيال كثير، وأنا من مواليكم، فأغثني. فقال أبو جعفر (عليه السلام): إذا صليت العشاء
الآخرة فصل على محمد وآل محمد فإن أباك يأتيك في النوم ويخبرك بأمر المال.
ففعل الرجل ذلك، فرأى أباه في النوم. فقال: يا بني مالي في موضع كذا فخذه
واذهب إلى ابن رسول الله وأخبره أني دللتك على المال. فذهب الرجل وأخذ
المال وأخبر الإمام بأمر المال وقال: الحمد لله الذي أكرمك واصطفاك (1).
وقال عمران بن محمد الأشعري: دخلت على أبي جعفر الثاني فقضيت
حوائجي وقلت له: إن أم الحسن تقرئك السلام وتسألك ثوبا من ثيابك تجعله كفنا
لها. قال: قد استغنت عن ذلك. فخرجت ولست أدري ما معنى ذلك، فأتاني الخبر
بأنها قد ماتت قبل ذلك بثلاثة عشر يوما أو أربعة عشر يوما (2).
وقال محمد بن العلاء: رأيت محمد بن علي (عليه السلام) يحج بلا زاد ولا راحلة من
ليلته ويرجع، وكان لي أخ بمكة لي معه خاتم فقلت له يأخذ لي منه علامة، فرجع
من ليلته ومعه الخاتم (3).
وقال أمية بن علي: كنت بالمدينة وكنت أختلف إلى أبي جعفر (عليه السلام) وأبوه
بخراسان، فدعا يوما بالجارية فقال لها: قولي لهم يتهيئون للمأتم. فلما تفرقنا من
مجلسه أنا وجماعة قلنا: ألا سألناه مأتم من؟
فلما كان الغد أعاد القول فقلنا له: مأتم من؟
فقال: مأتم خير من صلى على وجه الأرض. فورد الخبر بمضي أبي
الحسن (عليه السلام) بعد أيام (4).
وقال إسحاق بن إسماعيل: حججت في السنة التي خرجت الجماعة فيها إلى
أبي جعفر (عليه السلام) فأعددت له في رقعة عشر مسائل لأسأله عنها، وكان لي حمل
فقلت: إذا أجابني عن مسائلي سألته أن يدعو الله تعالى أن يجعله ذكرا. فلما سأله



(1) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 665 ح 5.
(2) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 667 ح 9.
(3) دلائل الإمامة: ص 211.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 389.
712
الناس قمت والرقعة معي لأسأله عن مسائلي، فلما نظر إلي قال لي: يا يعقوب سمه
أحمد، فولد لي ذكر فسميته أحمد، فعاش مدة ومات (1).
وقال محمد بن علي بن حمزة الهاشمي: دخلت على أبي جعفر محمد بن علي
الرضا (عليهما السلام) صبيحة عرسه بابنة المأمون، وكنت تناولت دواء فأصابني العطش
وكرهت أن أدعو بالماء، فقال لي: أظنك عطشان؟ فقلت: نعم. فقال: يا غلام أو
يا جارية اسقينا ماء.
فقلت في نفسي: الساعة يأتونه بماء يسمونه فيه، فاغتممت لذلك.
فأقبل الغلام ومعه الماء، فتبسم في وجهي ثم قال: يا غلام ناولني الكوز،
فشرب منه، ثم ناولني فشربت. ثم عطشت أيضا، فكرهت أن أدعو بالماء، ففعل
ما فعل في الأولى، فلما جاء الماء قال: يا غلام [ناولني الماء] فأخذ القدح وشرب
منه، ثم ناولني وتبسم (2).
وقال إبراهيم بن سعيد: كنت جالسا عند محمد بن علي (عليهما السلام) إذ مرت بنا فرس
أنثى فقال: هذه تلد الليلة فلوا (3) أبيض الناصية في وجهه غرة، فاستأذنته ثم
انصرفت مع صاحبها، فلم أزل أحدثه إلى الليل حتى أتت فلوا كما وصف فأتيته
فقال: يا بن سعيد شككت فيما قلت لك أمس أن التي في منزلك حبلى بابن أعور،
فولد لي والله محمد وكان أعور (4).
وقال إبراهيم بن سعيد أيضا: رأيت محمد بن علي (عليهما السلام) يضرب بيده إلى ورق
الزيتون فتصير في كفه ورقا، فأخذت منه وأنفقته في الأسواق فلم يتغير (5).
وقال محمد بن يحيى: لقيت محمد بن علي الرضا (عليه السلام) على دجلة فالتقى له
طرفاها حتى عبر، ورأيته بالأنبار على الفرات فعل مثل ذلك (6).



(1) دلائل الإمامة: ص 212.
(2) الإرشاد: ص 325.
(3) الفلو: بالكسر -: الجحش والمهر، والأنثى فلوة.
(4) بحار الأنوار: ج 50 ص 58 ب 26 ح 32 نقلا عن كتاب النجوم.
(5) دلائل الإمامة: ص 210.
(6) دلائل الإمامة: ص 210.
713
وقال حكيم بن حماد: رأيت سيدي محمد بن علي (عليهما السلام) وقد ألقى في دجلة
خاتما فوقفت كل سفينة صاعدة وهابطة، ثم قال لغلامه: أخرج الخاتم، فسارت
الزوارق (1).
فصل
في ذكر بعض كلام الجواد (عليه السلام)
$ الإمام الجواد (عليه السلام) / بعض كلامه
قال (عليه السلام): من استفاد أخا في الله فقد استفاد بيتا في الجنة (2).
وقال (عليه السلام): القصد إلى الله تعالى بالقلوب أبلغ من إتعاب الجوارح بالأعمال (3)
وقال (عليه السلام): من أطاع هواه أعطى عدوه مناه (4).
وقال (عليه السلام): راكب الشهوات لا تقال عثرته (5).
وقال (عليه السلام): عز المؤمن غناه عن الناس (6).
وقال (عليه السلام): لا تكن ولي الله في العلانية، عدوا له في السر (7).
وقال (عليه السلام): اصبر على ما تكره فيما يلزمك الحق، واصبر عما تحب فيما
يدعوك إلى الهوى.
وقال بشير الدهان: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): جعلت فداك أي الفصوص أفضل
اركبه على خاتمي؟ فقال: يا بشير أين أنت من العقيق الأحمر والعقيق الأصفر
والعقيق الأبيض، فإنها ثلاثة جبال في الجنة. فأما الأحمر فمطل على دار رسول
الله (صلى الله عليه وآله)، وأما الأصفر فمطل على دار فاطمة (عليها السلام)، وأما الأبيض فمطل على دار
أمير المؤمنين (عليه السلام). والدور كلها واحدة تخرج منها ثلاثة أنهار، من تحت كل جبل
نهر أشد بردا من الثلج، وأحلى من العسل، وأشد بياضا من اللبن، لا يشرب منها



(1) دلائل الإمامة: ص 210 - 211.
(2) كشف الغمة: ج 2 ص 346.
(3) بحار الأنوار: ج 78 ص 364 باب 28 جزء من ح 4 نقلا عن كتاب الدرة الباهرة (مخطوط).
(4 - 7) أعلام الدين: ص 309.
714
إلا محمد وآله وشيعتهم، ومصبها كلها واحد، ومجراها من الكوثر، وأن هذه الثلاثة
الجبال تسبح الله وتقدسه وتمجده وتستغفر لمحبي آل محمد (عليهم السلام)، فمن تختم
بشئ منها من شيعة آل محمد لم ير إلا الخير والحسنى والسعة في رزقه
والسلامة من جميع أنواع البلاء، وهو أمان من السلطان الجائر ومن كل ما يخافه
الانسان ويحذره (1).
وكتب إلى رجل من أهل الحيرة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي انتجب من خلقه واختار من عباده واصطفى من النبيين
محمدا (صلى الله عليه وآله)، فبعثه بشيرا ونذيرا ودليلا على سبيله، الذي من سلكه لحق، ومن
تقدمه مرق، ومن عدل عنه محق، فصلى الله على محمد وآله.
أما بعد فإني أوصي أهل الإجابة بتقوى الله الذي جعل لمن اتقاه المخرج من
مكروهه، إن الله عز وجل أوجب لوليه ما أوجبه لنفسه ونبيه في محكم كتابه
بلسان عربي مبين، وقد بلغني عن أقوام انتحلوا المودة وتحلوا بدين الله ودين
ملائكته شكوا في النعمة، وحملوا أوزارهم وأوزار المقتدين بهم، واستحوذ عليهم
الشيطان فأنساهم ذكر الله وما ورثوه من أسلاف صالحين، ابصروا فلزموا ولم
يؤثروا دنيا حقيرة على آخرة مؤبدة، فأين يذهب المبطلون؟ سوف يأتي عليهم
يوم يضمحل عنهم فيه الباطل وتنقطع أسباب الخدائع، وذلك يوم الحسرة، إذ
القلوب لدى الحناجر. والحمد لله الذي يفعل ما يشاء وهو العليم الخبير.
وكتب (عليه السلام) إلى محمد بن الفرج: إذا غضب الله على خلقه نجانا من جوارهم.
وقال محمد بن الوليد الكرماني: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): ما تقول في المسك؟
قال: إن أبي أمر فعمل له مسك في بان سبعمائة درهم.
فكتب إليه الفضل بن سهل يخبره أن الناس يعيبون ذلك. فكتب إليه: يا فضل
أما علمت أن يوسف (عليه السلام) كان يلبس الديباج مزررا بالذهب، ويجلس على



(1) الأمالي للطوسي: ج 1 ص 36 المجلس الثاني ح 41.
715
كراسي الذهب، فلم ينقص ذلك من حكمته شيئا. ثم أمر فعملت له غالية بأربعة
ألف درهم (1).
وقال (عليه السلام): كيف يضيع من الله كافله؟ وكيف ينجو من الله طالبه؟ ومن انقطع
إلى غير الله وكله الله إليه، ومن عمل على غير علم أفسد أكثر مما يصلح (2).
وقال (عليه السلام): من استغنى كرم على أهله. فقيل له: وعلى غير أهله؟ قال: لا،
إلا أن يكون يجدي (3) عليهم نفعا. ثم قال للذي قال له: من أين قلت ذلك؟ قال:
لأن رجلا قال في مجلس بعض الصالحين: إن الناس يكرمون الغني وإن كانوا
لا ينتفعون بغناه. فقال: لأن معشوقهم عنده.
وقال (عليه السلام): من هجر المداراة قارنه المكروه، ومن لم يعرف الموارد أعيته
المصادر (4).
وقال (عليه السلام): قد عاداك من ستر عنك الرشد اتباعا لما يهواه (5).
وقال (عليه السلام): إياك ومصاحبة الشرير فإنه كالسيف المسلول يحسن منظره
ويقبح أثره (6).
وقال (عليه السلام): الحوائج تطلب بالرجاء، وهي تنزل بالقضاء، والعافية أحسن
عطاء (7).
وقال (عليه السلام): إذا نزل القضاء ضاق الفضاء (8).
وقال (عليه السلام): لا تعادين أحدا حتى تعرف الذي بينه وبين الله، فإن كان محسنا
لم يسلمه إليك فلا تعاده، وإن كان مسيئا فعلمك به يكفيك فلا تعاده (9).
$ الإمام الجواد (عليه السلام) / وفاته
وقال (عليه السلام): التحفظ على قدر الخوف، والطمع على قدر النيل (10).



(1) الكافي: ج 6 ص 516 - 517 ح 4.
(2) بحار الأنوار: ج 78 ص 363 باب 28 جزء من ح 4 نقلا عن كتاب الدرة الباهرة (مخطوط).
(3) كذا، والظاهر يجري.
(4 - 8) أعلام الدين: ص 309 وفيه: " لما تهواه " بدل " لما يهواه ".
(9) أعلام الدين: ص 309.
(10) أعلام الدين: ص 309 وليس فيه " والطمع على قدر النيل ".
716
وقال (عليه السلام): سوء العاقبة أمين لا يؤمن. وأحسن من العجب القول ألا يقول.
وكفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا للخونة (1).
وقال (عليه السلام): عز المؤمن غناه عن الناس (2).
وقال (عليه السلام): من لم يرض من أخيه بحسن النية لم يرض بالعطية (3).
وقال (عليه السلام): ما شكر الله أحد على نعمة أنعمها عليه إلا استوجب بذلك المزيد
قبل أن يظهر على لسانه.
وقال (عليه السلام): تعز عن الشئ إذا منعته لقلة صحبته إذا أعطيته (4).
فصل
في ذكر وفاة الجواد (عليه السلام) وموضع قبره ومدة عمره
توفي ولي الله في ملك الواثق سنة عشرين ومائتين من الهجرة، وقد كمل
عمره خمسا وعشرين سنة وثلاثة أشهر واثنتين وعشرين يوما، ويقال: اثنا عشر
يوما (5). وكانت وفاته يوم الثلاثاء على ساعتين من النهار لخمس خلون من ذي
الحجة. ويقال: لثلاث خلون منه (6). ويقال: لست خلون منه. وتوفي (عليه السلام) ببغداد في
رحبة أسوار بن ميمون، ودفن في مقابر قريش إلى جنب جده موسى (عليهما السلام).
وحملت امرأته أم الفضل بنت المأمون إلى قصر المعتصم فجعلت مع الحرم.
وقيل: إن سبب وفاته (عليه السلام) أن أم الفضل بنت المأمون لما رزق ابنه أبا الحسن
من غيرها انحرفت عنه، وأنها سمته في عنب، وكان يحب العنب، فلما أكله بكت،
فقال لها: مم بكاؤك والله ليضربنك الله بفقر لا ينجبر وبلاء لا ينستر، فبليت بعده
بعلة في أغمض المواضع، فأنفقت عليها جميع ملكها حتى احتاجت إلى رفد
الناس (7).



(1 و 2 و 3) أعلام الدين: ص 309.
(4) أعلام الدين: ص 310.
(5 و 6) دلائل الإمامة: ص 208.
(7) دلائل الإمامة: ص 209.
717
ويقال: إنها سمته في فرجه بمنديل، فلما أحس بذلك قال لها: أبلاك الله بداء لا
دواء له، فوقعت الآكلة في فرجها، فكانت تنكشف للطبيب فينظر إليها ويشير
عليها بالدواء فلا ينفع ذلك شيئا حتى ماتت في علتها (1).
فصل
في ذكر ولده (عليه السلام)
أبو الحسن علي بن محمد، وموسى بن محمد، وفاطمة، وامامة، وأم كلثوم.
والعقب منه في رجلين: في علي بن محمد الهادي، وموسى بن محمد



(1) دلائل الإمامة: ص 209.
718
الباب الثاني عشر
في ذكر الامام أبي الحسن
علي بن محمد الهادي (عليهم السلام)

719
$ الإمام الهادي (عليه السلام) / بعض مناقبه
فصل
في ذكر مولده (عليه السلام) وبعض صفاته
ولد بالمدينة يوم الاثنين ثالث رجب من سنة أربع عشرة ومائتين. وقيل: ليلة
النصف من ذي الحجة سنة اثنتي عشرة ومائتين (1).
أمه: أم ولد يقال لها سمانة، وتعرف بالسيدة (2). وتكنى أم الفضل، مغربية.
قال محمد بن الفرخ بن إبراهيم بن عبد الله بن جعفر: دعاني أبو جعفر
الجواد (عليه السلام) فأعلمني أن قافلة قد قدمت فيها نحاس معه جواري، ودفع إلي ستين
دينارا وأمرني بابتياع جارية وصفها، فمضيت فعملت بما أمرني به، فكانت تلك
الجارية أم أبي الحسن (عليه السلام) (3).
وروى محمد بن الفرخ وعلي بن مهزيار عن السيد (عليه السلام) أنه قال: أمي
عارفة بحقي، وهي من أهل الجنة، لا يقربها شيطان مارد، ولا ينالها كيد جبار
عنيد، وهي مكلوة بعين الله التي لا تنام ولا تتخلف عن أمهات الصديقين
والصالحين (4).
وبابه: عثمان بن سعيد العمري (5).



(1) دلائل الإمامة: ص 216.
(2) دلائل الإمامة: ص 217.
(3) دلائل الإمامة: ص 216.
(4) دلائل الإمامة: ص 216 - 217.
(5) دلائل الإمامة: ص 217.
721
فصل
في ذكر شئ من مناقب الهادي (عليه السلام)
قال محمد بن يحيى، قال يحيى بن أكثم في مجلس الواثق والفقهاء بحضرته:
من حلق رأس آدم حين حج؟ فتعايا القوم (1) عن الجواب، فقال الواثق: أنا
أحضركم من ينبئكم بالخبر، فبعث إلى علي بن محمد الهادي فأحضره، فقال: يا أبا
الحسن من حلق رأس آدم حين حج؟ فقال: سألتك يا أمير المؤمنين ألا أعفيتني.
قال: أقسمت لتقولن. قال: أما إذ أبيت فإن أبي حدثني عن جدي عن أبيه عن جده
قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): امر جبرئيل أن ينزل بياقوتة من الجنة، فهبط بها فمسح
بها رأس آدم (عليه السلام)، فتناثر الشعر منه، فحيث بلغ نورها صار حرما (2).
وقال محمد بن يحيى النديم، حدثنا الحسن بن يحيى، قال: اعتل المتوكل في
أول خلافته فقال: لئن برأت لأتصدقن بدنانير كثيرة. فلما برأ جمع الفقهاء فسألهم
عن ذلك فاختلفوا، فبعث إلى علي بن محمد الهادي فسأله، فقال: تصدق بثلاثة
وثمانين دينارا، فعجب قوم من ذلك وتعصب قوم عليه وقالوا: تسأله يا أمير
المؤمنين من أين له هذا؟ فرد الرسول إليه، فقال: قل لأمير المؤمنين في هذا الوفاء
بالنذر، لأن الله تعالى قال: * (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) * (3) فروى أهلنا
جميعا أن المواطن في الوقائع والسرايا والغزوات كانت ثلاثة وثمانين موطنا،
وأن يوم حنين كان الرابع والثمانين، وكلما زاد أمير المؤمنين في فعل الخير أنفع له
وأجدى عليه في الدنيا والآخرة (4).
وقيل: إن أبا الحسن الهادي (عليه السلام) كان يوما قد خرج من سر من رأى إلى قرية
لمهم عرض له، فجاء رجل من الأعراب يطلبه، فقيل له قد ذهب إلى الموضع



(1) تعايا القوم: أعياهم بيان الحكم فبان عجزهم فلم يمكنهم الاهتداء لوجه الصواب في
الجواب.
(2) تاريخ بغداد: ج 12 ص 56.
(3) التوبة: 25.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 402.
722
الفلاني، فقصده فلما وصل إليه قال له: ما حاجتك؟ فقال: أنا رجل من أعراب
الكوفة المتمسكين بولاية جدك علي بن أبي طالب، وقد ركبني دين فادح أثقلني
حمله، ولم أر من أقصده لقضائه سواك. فقال له أبو الحسن: طب نفسا وقر عينا، ثم
أنزله، فلما أصبح ذلك اليوم قال أبو الحسن: أريد منك حالة الله الله أن تخالفني
فيها. فقال له الأعرابي: لا أخالفك. فكتب أبو الحسن ورقة بخطه معترفا فيها أن
عليه للأعرابي مالا عينه فيها يرجح على دينه، فقال: خذ هذا الخط فإذا وصلت
إلى سر من رأى أحضر إلي وعندي جماعة فطالبني به وأغلظ القول علي في ترك
إيفائك إياه، الله الله في مخالفتي. فقال: أفعل. وأخذ الخط فلما وصل أبو الحسن
إلى سر من رأى وحضر عنده جماعة كثيرون من أصحاب الخليفة وغيرهم حضر
ذلك الرجل وأخرج الخط وطالبه وقال كما أوصاه. فألان أبو الحسن له القول
ورققه له وجعل يعتذر إليه ووعده بوفائه وطيبه نفسه، فنقل ذلك إلى الخليفة
المتوكل فأمر أن يحمل إلى أبي الحسن ثلاثون ألف درهم، فلما حملت إليه تركها
إلى أن جاء الأعرابي فقال له: خذ هذا المال فاقض منه دينك وأنفق الباقي على
عيالك وأهلك واعذرنا. فقال له الأعرابي: يا بن رسول الله والله إن أملي كان يقصر
عن ثلث هذا المال، ولكن الله أعلم حيث يجعل رسالته. وأخذ المال وانصرف (1).
وكان السبب في شخوص أبي الحسن علي بن محمد (عليه السلام) من المدينة إلى سر
من رأى أن عبد الله بن محمد كان يتولى الحرب والصلاة بمدينة الرسول (صلى الله عليه وآله)،
فسعى بأبي الحسن (عليه السلام) إلى المتوكل، وكان يقصده بالأذى، وبلغ أبا الحسن سعايته
فيه، فكتب إلى المتوكل يذكر تحامل عبد الله بن محمد عليه ويذكر تكذيبه فيما
سعى به، فتقدم المتوكل بإجابته عن كتابه ودعاه فيه إلى حضور العسكري على
جميل من الفعل والقول.
فلما وصل الكتاب إلى أبي الحسن (عليه السلام) تجهز للرحيل، وخرج معه يحيى بن
هرثمة حتى وصل إلى سر من رأى، فلما وصل إليها تقدم المتوكل بأن يحجب عنه



(1) الفصول المهمة: ص 278 - 279.
723
في يومه، فنزل خان الصعاليك فأقام فيه يوما، ثم تقدم المتوكل بإفراد دار
انتقل إليها (1).
وروي عن صالح بن سعيد قال: دخلت على أبي الحسن (عليه السلام) يوم وروده
فقلت له: جعلت فداك في كل الأمور أرادوا إطفاء نورك والتقصير بك حتى أنزلوك
هذا الخان الأشنع خان الصعاليك فقال: هاهنا أنت يا بن سعيد؟ ثم أومأ بيده فإذا أنا
بروضات أنفات، وأنهار جاريات، وجنان فيها خيرات عطرات، وولدان كأنهن
اللؤلؤ المكنون، فحار بصري وكثر تعجبي، فقال لي: حيث كنا فهذا لنا يا بن سعيد،
لسنا في خان الصعاليك (2).
وأقام أبو الحسن (عليه السلام) مدة مقامه سر من رأى مكرما في ظاهر حاله، يجتهد
المتوكل بإيقاع حيلة فما تمكن من ذلك.
وقال مسلمة الكاتب: كان المتوكل يركب إلى الجامع ومعه عدد ممن يصلح
للخطابة، وكان فيهم رجل من ولد العباس بن محمد يلقب ب‍ " هريسة "، وكان
المتوكل يحقره، فتقدم إليه أن خطب يوما فأحسن. فتقدم المتوكل يصلي فسابقه
ونزل من المنبر عاجلا وجذب منطقته من ورائه وقال: يا أمير المؤمنين من خطب
يصلي. فقال المتوكل: أردنا أن نخجله فأخجلنا
وكان أحد الأشرار فقال يوما للمتوكل: ما يعمل أحد بنفسه ما تعمله بنفسك
في علي بن محمد ما يبقى في الدار إلا من يخدمه وتعينه بشيل الستر وفتح
الأبواب، وهذا شئ إذا علمه الناس قالوا: لو لم يعلم استحقاقه الأمر ما فعل هذا
به، دعه إذا دخل يشيل الستر لنفسه ويمشي كما يمشي غيره فتمسه بعض الحفوة.
فتقدم المتوكل أن لا يخدم ولا يشال بين يديه ستر، فكتب صاحب الخبر إليه أن
علي بن محمد دخل الدار فلم يخدم ولم يرفع له ستر فهب هواء فرفع الستر
$ الإمام الهادي (عليه السلام) / معجزاته
ودخل. فقال: اعرفوا خبر خروجه، فذكر صاحب الخبر أن هواء خالف ذلك الهواء
فشال ذلك الستر فخرج (3).



(1) الفصول المهمة: ص 279 - 281.
(2) الكافي: ج 1 ص 498 ح 2.
(3) الأمالي للطوسي: ج 1 ص 292 - 293 المجلس الحادي عشر ح 3.
724
وقال: ودخل يوما إلى المتوكل وعنده علي بن الجهم، فقال له: من أشعر
الناس يا بن الجهم؟ فذكر شعراء الجاهلية والإسلام. والتفت إلى الإمام أبي
الحسن (عليه السلام) فسأله، فقال: فلان بن فلان العلوي قال ابن الفحام: وأحسبه الحماني
حيث يقول:
لقد فاخرتنا من قريش عصابة * بمط خدود وامتداد أصابع
فلما تنازعنا القضاء قضى لنا * عليهم بما نهوى نداء الصوامع
قال: وما نداء الصوامع يا أبا الحسن؟ فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن
محمدا رسول الله جدي أم جدك؟ فضحك المتوكل وقال: بل جدك لا ندفعك
عنه (1).
فصل
في ذكر شئ من معجزات الهادي (عليه السلام)
قال أبو طالب وهو ما حدثني به مقبل الديلمي، قال: كان رجل بالكوفة له
صاحب يقول بإمامة عبد الله بن جعفر بن محمد (عليهما السلام)، فقال له صاحب كان يميل
إلى ناحيتنا ويقول بأمرنا: لا تقل بإمامة عبد الله فإنها باطلة وقل بالحق. قال: وما
الحق لأتبعه؟ قال: الإمامة في موسى بن جعفر (عليهما السلام) ومن بعده. قال له الفطحي:
ومن الإمام اليوم منهم؟ قال: علي بن محمد بن علي الرضا (عليهم السلام). قال له: فهل من
دليل استدل به على ما قلت؟ قال: نعم. قال: ما هو؟ قال: أضمر في نفسك ما تشاء
وألقه بسر من رأى فإنه يخبرك به. قال: نعم. فخرجا إلى العسكر وقصدا شارع أبي
أحمد، فأخبرا أن أبا الحسن علي بن محمد مولانا راكب في دار المتوكل، فجلسا
ينتظران عوده. فقال الفطحي لصاحبه: إن كان صاحبك هذا إماما فإنه حين يرجع
ويراني يعلم ما قصدت له فخبرني به من غير أن أخبره. قال: فوقفنا إلى أن عاد



(1) الأمالي للطوسي: ج 1 ص 293 المجلس الحادي عشر ذيل ح 3.
725
أبو الحسن (عليه السلام) من موكب المتوكل وبين يديه الشاكرية ومن ورائه الركبية
يشيعونه إلى داره.
قال: فلما بلغ إلى الموضع الذي فيه الرجلان التفت إلى الرجل الفطحي فتفل
بشئ من فيه في صدر الفطحي كأنه عرق البيض فالتصق في صدر الرجل كمثل
دارة الدرهم وفيه سطر مكتوب بخضرة: ما كان عبد الله هناك ولا كذلك.
قال: فقرأه الناس وقالوا له: ما هذا؟ فأخبرهم وصاحبه بقصتهما، فأخذ
الفطحي التراب من الأرض بيده فوضعه على رأسه وقال: تبا لما كنت عليه قبل
يومي هذا والحمد لله على حسن هدايته، وقال بإمامته (1).
وقال أبو الحسن محمد بن إسماعيل بن أحمد الفهقلي الكاتب بسر من رأى
سنة ثمان وثلاثين ومائتين، قال: حدثني أبي، قال: كنت بسر من رأى أسير في
درب الحصى فرأيت يزداد الطبيب النصراني تلميذ يخنشوع وهو منصرف من دار
موسى بن بغا فسايرني وأفضى بنا الحديث إلى أن قال لي: أترى تدري من
صاحب هذا الجدار؟ قلت: ومن صاحبه؟ قال: هذا الفتى العلوي الحجازي، يعني
علي بن محمد بن الرضا (عليهم السلام)، وكنا نسير في فناء داره. قلت ليزداد: نعم فما شأنه؟
قال: إن كان مخلوق يعلم الغيب فهو. قلت: وكيف ذلك؟ قال: أخبرك عنه بأعجوبة
لن تسمع مثلها أبدا ولا غيرك من الناس، ولكن لي الله عليك كفيل وراع، أنك
لا تحدث به عني أحدا فإني رجل طبيب ولي معيشة أرعاها عند هذا السلطان،
وبلغني أن الخليفة استقدمه من الحجاز فرقا منه لئلا ينصرف إليه وجوه الناس
فيخرج هذا الأمر عنهم يعني بني العباس قلت: لك علي ذلك فحدثني به، وليس
عليك بأس إنما أنت رجل نصراني لا يتهمك أحد فيما تحدث به عن هؤلاء القوم.
قال: نعم أعلمك أني لقيته منذ أيام وهو على فرس أدهم وعليه ثياب سواد
وعمامة سواد وهو أسود اللون، فلما بصرت به وقفت إعظاما له وقلت في نفسي:
لا وحق المسيح ما خرجت من فمي إلى أحد من الناس قلت في نفسي: ثياب



(1) دلائل الإمامة: ص 220.
726
سواد ودابة سوداء ورجل أسود، سواد في سواد في سواد. فلما بلغ إلي نظر إلي
وأحد النظر وقال: قلبك أسود كما ترى عيناك من سواد في سواد في سواد. قال
أبي (رحمه الله): فقلت له: أجل لا أحدث به أحدا، فما صنعت وما قلت له؟ قال: أسقطت
في يدي فلم أحر جوابا. قلت له: أفما أبيض قلبك لما شاهدت؟ قال: الله أعلم. قال
أبي: فلما اعتل يزداد بعث إلي فحضرت عنده فقال: إن قلبي قد ابيض بعد سواده
فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن علي بن محمد حجة الله على
خلقه وناموسه الأعظم، ثم مات في مرضه ذلك، وحضرت الصلاة عليه (1).
وقال أحمد بن علي: دعانا عيسى بن حسن القمي لي ولأبي علي فقال لنا:
أدخلني ابن عمي أحمد بن إسحاق على أبي الحسن (عليه السلام) فرأيته وكلمه بكلام لم
أفهمه، فقال له: جعلني الله فداك هذا ابن عمي عيسى بن حسن وبه بياض في
ذراعه وشئ قد تكيل كأمثال الجوز. قال: فقال لي: تقدم يا عيسى فتقدمت. قال:
فقال: أخرج ذراعك فأخرجت ذراعي فمسح عليها وتكلم بكلام خفي طول فيه،
ثم قال ثلاث مرات: بسم الله الرحمن الرحيم ثم التفت إلى أحمد بن إسحاق فقال
له: يا أحمد بن إسحاق كان علي بن موسى يقول بسم الله الرحمن الرحيم أقرب إلى
الاسم الأعظم من بياض العين إلى سوادها، ثم قال: يا عيسى. قلت: لبيك. قال:
أدخل يدك كمك ثم أخرجها. فأدخلتها ثم أخرجتها وليس في يدي قليل ولا كثير
[من ذلك البياض بحمد الله ومنه] (2).
وقال أبو هاشم الجعفري: خرجت مع أبي الحسن (عليه السلام) إلى ظاهر سر من رأى
يتلقى بعض القادمين فأبطأوا، وطرح لأبي الحسن غاشية السرج فجلس عليها.
فشكوت إليه قصور يدي وضيق حالي، فأهوى يده إلى رمل فناولني منه أكفا
وقال: اتسع بهذا يا أبا هاشم واكتم ما رأيت فخبأته معي ورجعنا فأبصرته فإذا
هو يتقد كالنيران ذهبا أحمر، فدعوت صائغا إلى منزلي وقلت له: اسبك لي سبيكة.



(1) دلائل الإمامة: ص 221 - 222.
(2) دلائل الإمامة: ص 222 مع اختلاف يسير.
727
فقال لي: ما رأيت ذهبا أجود منه وهو كهيئة الرمل، فمن أين هذا؟ فقلت: هذا شئ
عندنا قديما (1).
وقال أبو هاشم: كنت بالمدينة حين مر بغا (2) أيام الواثق في طلب الأعراب
فقال أبو الحسن (عليه السلام): أخرجوا بنا ننظر إلى تعبئة هذا التركي. فخرجنا فوقفنا،
فمرت بنا تعبئته، فمر بنا تركي فكلمه أبو الحسن بالتركية، فنزل عن فرسه وقبل
حافر دابته. فلحقت التركي فقلت له: ما قال الرجل لك؟ قال: هذا نبي؟ قلت: لا.
قال: دعاني باسم سميت به في صغري في بلاد الترك، ما علمه أحد إلى الساعة (3).
وحدث سفيان، عن أبيه، قال: رأيت علي بن محمد (عليهما السلام) ومعه جراب ليس
فيه شئ، فقلت: أتراك ما تصنع بهذا؟ فقال أدخل يدك. فأدخلت يدي وليس فيه
شئ، ثم قال لي: عد، فعدت فإذا هو مملوء دنانير (4).
وقال علي بن محمد النوفلي، قال علي بن محمد (عليه السلام): لما بدأ الموسوم
بالمتوكل بعمارة سر من رأى قال: يا علي إن هذا الطاغية يبتلى ببناء مدينة لا تتم،
يكون حتفه فيها قبل تمامها، على يد فرعون من فراعنة الأتراك. ثم قال: يا علي
إن الله عز وجل اصطفى محمدا (صلى الله عليه وآله) بالنبوة والبرهان، واصطفانا بالمحبة والبيان،
وجعل كرامة الصفوة لمن ترى - يعني نفسه (عليه السلام) (5).
$ الإمام الهادي (عليه السلام) / نبذ من كلامه
قال: وسمعته يقول: اسم الله الأعظم ثلاث وسبعون حرفا، فإنما كان عند
آصف منه حرف واحد فتكلم به فانخرقت له الأرض فيما بينه وبين سبأ، فتناول
عرش بلقيس حتى صيره إلى سليمان (عليه السلام)، ثم بسطت الأرض في أقل من طرفة
العين، وعندنا منه اثنان وسبعون حرفا، وحرف عند الله تعالى استأثر به في علم
الغيب (6).



(1) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 673 - 674 ح 3.
(2) بغا من الأسماء التركية، كان اسم رجل من قواد المتوكل.
(3) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 674 - 675 ح 4.
(4) دلائل الإمامة: ص 217.
(5) دلائل الإمامة: ص 218 - 219.
(6) دلائل الإمامة: ص 219.
728
فصل
في ذكر شئ من كلام الهادي (عليه السلام)
من سأل فوق قدر الحق كان أولى بالحرمان.
وقال: صلاح من جهل الكرامة هوانه.
وكان (عليه السلام) يقول: الحلم أن تملك نفسك، وتكظم غيظك مع القدرة.
وقال: الناس في الدنيا بالأموال، وفي الآخرة بالأعمال (1).
وكان يقول في مناجاته في الليل: إلهي مشتت قد ورد، وفقير قد قصد،
لا تخيب مسعاه، وارحمه واغفر له خطاه.
وقال (عليه السلام): من رضي عن نفسه كثر الساخطون عليه (2).
وقال: المقادير تريك ما لا يخطر ببالك (3).
وقال: شر الرزية سوء الخلق.
وسئل (عليه السلام) عن الحزم فقال: هو أن تنتظر فرصتك وتعاجل ما أمكنك.
وقال (عليه السلام): الغنى: قلة تمنيك والرضا بما يكفيك، والفقر: شره النفس وشدة
القنوط (4) والمذلة: اتباع اليسير والنظر في الحقير.
وقال (عليه السلام): راكب الحرون أسير نفسه، والجاهل أسير لسانه (5).
وقال (عليه السلام): المراء يفسد الصداقة القديمة، ويحلل العقد الوثيقة، وأقل ما فيه أن
تكون [فيه] المغالبة، والمغالبة أس أسباب القطيعة (6).
وقال (عليه السلام): العتاب مفتاح المقال، والعتاب خير من الحقد (7).
وقال لبعض الثقات عنده وقد أكثر في تقريظه: أقبل على ما بك، فإن كثرة



(1) أعلام الدين: ص 313.
(2 و 3) أعلام الدين: ص 311.
(4) بحار الأنوار: ج 78 ص 368 ب 28 ح 3.
(5) بحار الأنوار: ج 78 ص 368 ب 28 ح 3.
(6 و 7) أعلام الدين: ص 311.
729
الملق يهجم على الفطنة، فإذا حللت من أخيك في [محل] الثقة فاعدل عن الملق
إلى حسن النية (1).
وقال (عليه السلام): المصيبة للصابر واحدة وللجازع اثنتان (2).
وقال يحيى بن عبد الحميد الحماني: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول لرجل ذم
اليه ولدا له فقال له: العقوق ثكل من لم يثكل (3).
وقال (عليه السلام): الحسد ماحق الحسنات. والزهو جالب المقت. والعجب صارف
عن طلب العلم، داع إلى التخبط (4) في الجهل، والبخل أذم الأخلاق، والطمع سجية
سيئة (5).
وقال (عليه السلام): مخالطة الأشرار يدل على شر مخالطهم، والكفر للنعم أمارة البطر
وسبب للتغير، واللجاجة مسلبة للسلامة ومؤذنة بالندامة، والهمز فكاهة السفهاء،
والنزق صناعة الجهال، ومعصية الاخوان يورث النسيان، والعقوق يعقب القلة
ويؤدي إلى الذلة (6).
وقال (عليه السلام) لبعض أصحابه: السهر ألذ للمنام، والجوع أزيد في طيب الطعام (7).
وقال (عليه السلام): اذكر مصرعك بين يدي أهلك فلا طبيب يمنعك ولا حبيب ينفعك (8).
وقال علي بن أحمد الصيمري الكاتب: تزوجت ابنة جعفر بن محمد الكاتب
فأحببتها حبا لم يحب أحد أحدا مثله، فأبطأ علي الولد فصرت إلى أبي الحسن
الهادي فذكرت له ذلك فتبسم وقال: اتخذ خاتما فصه فيروزج واكتب عليه:
* (رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين) * (9).
قال: ففعلت ذلك، فما أتى علي حول حتى رزقت منها ولدا ذكرا (10).



(1) بحار الأنوار: ج 78 ص 369 ب 28 ح 3 نقلا عن كتاب الدرة الباهرة.
(2 و 3) أعلام الدين: ص 311.
(4) في المصدر: الغمط وهو احتقار الناس.
(5 و 6) بحار الأنوار: ج 78 ص 369 ب 28 ذيل ح 3 نقلا عن كتاب الدرة الباهرة.
(7) أعلام الدين: ص 311.
(8) أعلام الدين: ص 311.
(9) الأنبياء: 89.
(10) الأمالي للطوسي: ج 1 ص 47 - 48 المجلس الثاني ح 30.
730
وكتب (عليه السلام) إلى أحمد بن إسماعيل بن يقطين في سنة سبع وعشرين ومائتين:
بسم الله الرحمن الرحيم
عصمنا الله وإياك من الفتنة، فإن يفعل فأعظم بها منة، وألا يفعل فهي الهلكة.
نحن نرى أن الكلام في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب، فيعاطى السائل
ما ليس له وتكلف المجيب ما ليس عليه وليس خالق إلا الله، وكل ما دون الله
مخلوق، والقرآن كلام الله، فانبذ بنفسك وبالمخالفين في القرآن إلى أسمائه التي
سماه الله بها، وذر الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون، ولا تجعل
له اسما من عندك فتكون من الضالين، جعلنا الله وإياك من الذين يخشون ربهم
وهم من الساعة مشفقون (1).
وكتب إلى بعض أهل همدان: ليس مع سوء الظن بنا إيمان.
وقيل: قدم إلى المتوكل رجل نصراني قد فجر بامرأة مسلمة فأراد أن يقيم
عليه الحد فأسلم، فقال يحيى بن أكثم: قد هدم إيمانه بشركه وفعله، وقال بعضهم:
يضرب ثلاثة حدود، وقال بعضهم: يفعل به كذا وكذا، واختلفوا عليه: فأمر المتوكل
بالكتاب إلى أبي الحسن (عليه السلام) وسؤاله عن ذلك. قال: فلما قرأ الكتاب كتب (عليه السلام):
يضرب حتى يموت.
فأنكر يحيى بن أكثم ذلك، وأنكر فقهاء العسكر، فقالوا: يا أمير المؤمنين سل
عن هذا فإنه شئ لم ينطق به كتاب ولم تجئ به سنة. وكتب إليه المتوكل: إن
فقهاء المسلمين قد أنكروا هذا وقالوا لم تجئ به سنة ولا نطق به كتاب، ففسر لنا
لم أوجبت عليه الضرب حتى يموت؟ فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم * (فلما رأوا
بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما
رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون) * (2) (3).
وقال (عليه السلام): إن الله تعالى جعل أشبه شئ بالحق الباطل فسماه الشبهة، ثم بثهما



(1) التوحيد: ص 224 ب 30 ح 4.
(2) غافر: 83 - 84.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 405 - 406.
731
في الخلق جميعا لامتحان الخلق، فمن ميز الحق من الباطل وعرفه كان الفائز،
وقد سماهم الله جل وعز: أولو النهى وأولو الألباب وأولو الأبصار، فقال: فاعتبروا
يا أولي الألباب ويا أولي النهى ويا أولي الأبصار، وعمى قوم آخرون فلزم الشبهة،
فألزم قلوبهم الزيغ بما اتبعوا من الباطل * (وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق) * (1)
ففضحهم في كتابه، فهم الأكثرون عددا عند الناس، والأولون وزنا عند الله، جل
وعز، وهؤلاء الأقلون عددا عند الناس والأكثرون وزنا عند الله جل وعز هم
أولياؤه فقال: " يا أيها الذين آمنوا أنتم أولياء الله لا خوف عليكم ولا أنتم
تحزنون " " والذين اتبعوا الشهوات أولياء الطاغوت ".
وكتب السبري بن سلامة إلى أبي الحسن (عليه السلام) سأله عن الغالية ومذاهبهم
وما يدعون إليه وما يتخوف من معرتهم على ضعف إخوانه، ويسأله الدعاء له
ولإخوانه في ذلك. فأجاب (عليه السلام): عدل الله عنكم ما سلكوا فيه من الغلو، فحسبهم
أن يبرأ الله جل وعز وأولياؤه منهم، وجعل الله ما أنتم عليه مستقرا ولا جعله
مستودعا، وثبتكم بالقول الثابت في الدنيا والآخرة، ولا أضلكم بعد إذ هداكم،
وأحمد الله كثيرا وأشكره.
وقال سهل بن زياد: كتب إليه بعض أصحابنا يسأله أن يعلمه دعوة جامعة للدنيا
والآخرة، فكتب إليه: أكثر من الاستغفار والحمد فإنك تدرك بذلك الخير كله (2).
وقال الحميري: كتبت إليه يختلف إلينا أخباركم فكيف العمل بها؟ قال: فكتب
إلي: من لزم رأس العين لم يختلف عليه أمره، إنها تخرج من مخرجها وهي بيضاء
صافية نقية فتخالطها الأكدار في طريقها.
قال: فكتبت إليه: كيف لنا برأس العين وقد حيل بيننا وبينه؟ قال: فكتب إلي
هي مبذولة لمن طلبها إلا لمن أرادها بإلحاد.
$ الإمام الهادي (عليه السلام) / وفاته
وقال أحمد بن إسحاق: كتبت إلى أبي الحسن (عليه السلام) أسأله عن الرؤية وما



(1) غافر: 5.
(2) الكافي: ج 5 ص 316 - 317 ح 51.
732
اختلف فيه الناس. فكتب: لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء
ينفذه البصر، فإذا انقطع الهواء عن الرائي والمرئي لم تصح الرؤية وكان في ذلك
الاشتباه وكان في ذلك التشبيه، لأن الأسباب لا بد من اتصالها بالمسببات (1).
وقال (عليه السلام): ما استراح ذوو الحرص.
وقال: صناعة الأيام السلب، وشرط الزمان الإفاتة، والحكمة لا تنجع في
الطباع الفاسدة.
وقال (عليه السلام): الأخلاق يتصفحها المجالسة.
وقال: من لم يحسن أن يمنع لم يحسن أن يعطي.
وقال (عليه السلام): إذا كان زمان العدل فيه أغلب من الجور فحرام أن يظن بأحد سوء
حتى يعلم ذلك منه، وإذا كان زمان الجور فيه أغلب من العدل فليس لأحد أن يظن
بأحد خيرا حتى يرى ذلك منه (2).
وقال (عليه السلام) للمتوكل في كلام دار بينهما: لا تطلب الصفاء ممن كدرت عليه،
ولا النصيحة ممن صرفت سوطك إليه، فإنما قلب غيرك لك كقلبك له (3).
وقال لبعض مواليه: ألفوا النعم بحسن مجاورتها، والتمسوا الزيادة منها
بالشكر عليها، واعلموا أن النفس أقبل شئ لما أعطيت، وأمنع شئ لما سلبت،
فاحملوها على مطية لا تبطئ إذا ركبت ولا تسبق إذا تقدمت، أدرك من سبق إلى
الجنة، ونجا من هرب من النار.
فصل
في ذكر وفاة أبي الحسن علي بن محمد الهادي (عليهما السلام)
توفي (عليه السلام) في آخر ملك المعتز، وقد كمل عمره أربعين سنة، وقيل: إحدى
وأربعين سنة، يوم الاثنين لثلاث خلون من رجب، وقيل: لخمس بقين من جمادي



(1) التوحيد: ص 109 ب 8 ح 7.
(2) و 2) أعلام الدين: ص 312.
733
الآخرة سنة أربع وخمسين ومائتين من الهجرة.
ودفن في داره بسر من رأى.
وكان نقش خاتمه: أفلح من تمسك بالحق.
فصل
في ذكر ولده عليه وعليهم السلام
وخلف من الولد: أبا محمد الحسن العسكري وهو الإمام بعده، والحسين،
ومحمدا، وجعفرا، وابنته عائشة.
والعقب من ولد علي بن محمد الهادي (عليه السلام) في أبي محمد الحسن بن علي
العسكري وأبي عبد الله جعفر بن علي الزكي.
والعقب من جعفر بن علي في علي بن جعفر، من ولده: أبو جعفر محمد بن
عبد الله بن علي الأشقر، وعقب علي في ثلاثة: عبد الله، وجعفر، وإسماعيل.

734
الباب الثالث عشر
في ذكر الإمام أبي محمد
الحسن بن علي العسكري
وذكر مولده وشئ من مناقبه
ومعجزاته ووفاته وموضع قبره
وذكر ولده

735
$ الإمام العسكري (عليه السلام) / بعض أخباره
فصل
في ذكر مولده (عليه السلام)
ولد بالمدينة في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين ومائتين (1). وروي
أنه (عليه السلام) ولد بسر من رأى سنة إحدى وثلاثين ومائتين (2).
وأمه أم ولد يقال لها حديث (3). وقيل: شكل النوبية. ويقال: سوسن المغربية (4).
ولما اتصل خبر وفاته (عليه السلام) بها وهي بالمدينة خرجت حتى قدمت سر من
رأى، وجرى بينها وبين أخيه جعفر أقاصيص، وسعى بها إلى السلطان، وكشف ما
ستره الله، وادعت صقيل عند ذلك أنها حامل، وحملت إلى دار المعتمد، فجعل
نساؤه وخدمه ونساء الموفق ونساء القاضي ابن أبي الشوارب يتعاهدون أمرها
إلى أن دهمهم أمر الصفار وموت عبد الله بن يحيى بن خاقان وأمر صاحب الزنج
وخروجهم من سر من رأى، فأشغلهم عنها وعن ذكر من أعيقت من أجله، ويشاء
الله ستره وحسن رعايته (5).
وبابه: عمر بن سعيد العمري (6).



(1) و 2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 422.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 421.
(4) كشف الغمة: ج 2 ص 402.
(5) بحار الأنوار: ج 50 ص 331 ب 5 ذيل ح 3.
(6) دلائل الإمامة: ص 224، وفيه " عمرو " بدل " عمر ".
737
فصل
في ذكر شئ من أخبار العسكري (عليه السلام)
قال أبو الحسن محمد بن هارون بن موسى، حدثني أبي (رضي الله عنه)، قال: كنت في
دهليز لأبي علي محمد بن همام رحمه الله تعالى على دكة وضعها، إذ مر بنا شيخ
كبير عليه دراعة، فسلم على أبي علي محمد بن همام، فرد عليه السلام ومضى.
فقال لي: تدري من هو هذا؟ فقلت: لا. فقال: شاكري لمولانا أبي محمد الحسن بن
علي (عليهما السلام)، أفتشتهي أن تسمع من أحاديثه عنه شيئا؟ قلت: نعم فقال لي: معك شئ
تعطيه؟ فقلت: معي درهمان صحيحان. فقال: هما يكفيانه. فمضيت خلفه فلقيته
بموضع كذا فقلت: أبو علي يقول لك تنشط للمصير إلينا. فقال: نعم. فجاء إلى أبي
علي فجلس إليه، فغمزني أبو علي أن أسلم إليه الدرهمين، فسلمتهما إليه، فقال:
ما يحتاج إلى هذا، ثم أخذهما. فقال له أبو علي: يا أبا عبد الله حدثنا عن أبي
محمد (عليه السلام) مما رأيت. فقال: كان أستاذي صالحا من بين العلويين لم أر مثله، وكان
يركب إلى دار الخلافة بسر من رأى في كل اثنين وخميس.
قال أبو عبد الله محمد الشاكري: وكان يوم النوبة يحضر من الناس خلق عظيم
ويغص المشارع بالدواب والبغال والحمير والضجة فلا يكون لأحد من موضع
يمشي ولا يدخل بينهم. قال: فإذا جاء أستاذي سكتت الضجة وهدأ صهيل الخيل
ونهاق الحمير وتفرق الناس حتى يصير الطريق واسعا لا يحتاج ان يتوقى من
الدواب تحفه ليزحمها، ثم يدخل فيجلس في مرتبته التي جعلت له، فإذا أراد
الخروج وقال البوابون: هاتوا دابة أبي محمد سكن صياح الناس وصهيل الخيل
وتفرقت الدواب حتى يركب ويمشي.
وقال الشاكري أيضا: واستدعاه يوما الخليفة فشق ذلك عليه وخاف أن
يكون قد سعي إليه به بعض من يحسده من العلويين والهاشميين على مرتبته،
فركب ومضى إليه، فلما حصل في الدار قيل له أن الخليفة قد قام ولكن اجلس
في مرتبتك وانصرف.

738
قال: فانصرف وجاء في سوق الدواب وفيها من الضجة والمصادمة واختلاف
الناس شئ كثير. قال: فلما دخل إليها سكتت الضجة وهدأت الدواب. قال:
وجلس إلى نخاس كان يشتري له الدواب قال: فجئ له بفرس كبوس لا يقدر
أحد أن يدنو منه. قال: فباعوه إياه بوكس، فقال لي: يا محمد قم فاطرح السرج
عليه. قال: فقمت وعلمت أنه لا يقول لي إلا ما لا يؤذيني، فحللت الحزام
وطرحت السرج عليه، هذا ولم يتحرك، وجئت لأمضي به فجاء النخاس فقال:
ليس يباع. فقال: سلمه إليه. قال: فجاء النخاس ليأخذه، فالتفت إليه إلتفاتة ذهب
منه منهزما. قال: وركب ومضينا فلحقنا النخاس فقال: صاحبه يقول: أشفقت من
أن يرده فإن كان قد علم ما فيه من الكبس فليشتره. فقال له أستاذي: قد علمت.
فقال: قد بعتك. فقال لي: خذه، فأخذته وجئت به إلى الإصطبل، فما تحرك ولا
آذاني، فركبه أستاذي فلما نزل جاء إليه فأخذ باذنه اليمنى فرقاه، ثم أخذ باذنه
اليسرى فرقاه. قال: فوالله لقد كنت أطرح الشعير له وأفرقه من يديه فلا يتحرك
هذا ببركة أستاذي، وكان هذا الفرس يقال له الصؤول (1) يزحم بصاحبه حتى يزحم
به الحيطان، يقوم على رجليه ويلطم صاحبه (2).
وقيل: كان أحمد بن عبد الله بن خاقان على الضياع والخراج بقم. فجرى يوما
في مجلسه ذكر العلوية ومذاهبهم، وكان كثير التعصب والانحراف عن أهل
البيت (عليهم السلام)، فقال: ما رأيت ولا عرفت بسر من رأى من العلوية مثل الحسن بن
علي بن محمد بن الرضا في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه وكثرته عند أهل
بيته وبني هاشم كافة وتقديمهم إياه على ذوي السن منهم والخطر، وكذلك كانت
حاله للناس.
فكنت يوما عند أبي إذ دخل حجابه فقالوا: أبو محمد ابن الرضا بالباب. فقال
بصوت عال: ائذنوا له، فتعجبت مما سمعت منهم ومن جسارتهم أن يكنوا أحدا



(1) قال أبو زيد: صؤل البعير - بالهمز - يصؤل صآلة: إذا صار يقتل الناس ويعدو عليهم، فهو
جمل صؤول. (الصحاح: ص 1747).
(2) الغيبة للطوسي: ص 128 - 130.
739
بحضرة أبي، ولم يكن يكنى عنده إلا خليفة أو ولي عهد أو من أمر السلطان أن
يكنى، فدخل رجل أسمر حسن القامة جميل الوجه جيد البدن، حديث السن،
له جلالة وهيبة حسنة.
فلما نظر إليه أبي قام ومشى إليه خطا، ولم أعلمه فعل هذا بأحد من بني
هاشم، فلما دنا منه عانقه وقبل وجهه وصدره وأخذ بيده وأجلسه على مصلاه
الذي يجلس عليه، وجلس أبي إلى جنبه مقبلا عليه بوجهه يكلمه ويفديه بنفسه،
وأنا متعجب مما أرى، إذ دخل حاجب فقال: الموفق قد جاء. وكان الموفق إذا
جاء ودخل على أبي تقدمه حجابه وخاصته وقواده فيقومون بين مجلس أبي
وبين باب الدار سماطين إلى أن يدخل ويخرج، فلم يزل أبي مقبلا على أبي محمد
يحدثه حتى نظر إلى غلمان الخاصة، فقال حينئذ: إذا شئت جعلني الله فداك. ثم
قال لحجابه: خذوا به خلف السماطين لا يراه هذا، يعني الموفق، فقام وقام أبي
فعانقه ومضى فقلت للحجاب وغلمانه: من هذا الذي كنيتموه بحضرة أبي وفعل
أبي معه هذا الفعل؟ فقالوا: هذا علوي يقال له الحسن بن علي ويعرف بابن الرضا،
فازددت تعجبا، ولم أزل يومي ذلك قلقا مفكرا في أمره وأمر أبي وما رأيته منه.
فلما كان الليل وكانت عادته أن يصلي العتمة ثم يجلس فينظر فيما يحتاج إليه من
المؤامرات وما يرفعه إلى السلطان، فلما صلى العتمة وجلس جئت فجلست بين
يديه وليس عنده أحد، فقال لي: يا أحمد ألك حاجة؟
فقلت: نعم يا أبه، فإن أذنت سألتك عنها.
قال: قد أذنت. فقلت: يا أبه من الرجل الذي رأيته بالغداة وقد فعلت به ما
فعلت من الإجلال والإكرام والتبجيل وفديته بنفسك وأبويك. فقال: يا بني ذاك
إمام الرافضة المعروف بالحسن بن علي المعروف بابن الرضا. ثم سكت ساعة وأنا
ساكت، ثم قال: يا بني لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العباس لم يستحقها أحد
غيره لفضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وجميل أخلاقه، ولو رأيت أباه رأيت
رجلا نبيلا فاضلا. فازددت قلقا وتفكرا، وما سألت بعد ذلك أحدا من بني هاشم
والقواد والكتاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس إلا وجدته عنده في غاية

740
الإجلال والإعظام، فعظم قدره عندي إذ لم أر له وليا ولا عدوا إلا وهو يحسن
القول فيه والثناء عليه (1).
وقال محمد بن الحسن بن ميمون: كتبت إلى مولاي العسكري (عليه السلام) أشكو
الفقر، ثم قلت في نفسي: أليس قال أبو عبد الله (عليه السلام): " الفقر معنا خير من الغنى مع
عدونا، والقتل معنا خير من الحياة مع عدونا ".
فرجع الجواب: إن الله جل وعز يمحص ذنوب أوليائنا إذا تكاثفت بالفقر،
وقد يعفو عن كثير، وهو كما حدثتك نفسك: الفقر معنا خير من الغنى مع عدونا،
ونحن كنف لمن التجأ إلينا، ونور لمن استبصر بنا، وعصمة لمن اعتصم بنا، من
أحبنا كان معنا في السنام الأعلى، ومن انحرف عنا فإلى النار هوى (2).
وقال علي بن محمد بن إبراهيم المعروف بابن الكردي، عن محمد بن علي بن
إبراهيم بن موسى بن جعفر، قال: ضاق بنا الأمر فقال لي أبي: امض بنا حتى نصير
إلى هذا الرجل - يعني أبا محمد (عليه السلام) - فإنه قد وصف عنه سماحة فقلت: تعرفه؟
فقال: ما أعرفه ولا رأيته قط.
قال: فقصدناه، فقال أبي وهو في طريقه: ما أحوجنا إلى أن يأمر لنا بخمسمائة
درهم: مائتي درهم للكسوة، ومائتي درهم للدقيق، ومائة درهم للنفقة: وقلت في
نفسي: ليته أمر لي بثلاثمائة درهم: مائة اشتري بها حمارا، ومائة للنفقة، ومائة
اشتري بها كسوة فأخرج إلى الجبل.
قال: فلما وافينا الباب خرج إلينا غلامه وقال: يدخل علي بن إبراهيم ومحمد
ابنه، فلما دخلنا عليه وسلمنا قال لأبي: يا علي ما خلفك عنا إلى هذا الوقت؟ قال:
يا سيدي استحييت أن ألقاك على هذه الحال. فلما خرجنا من عنده جاءنا غلامه
فناول أبي صرة وقال: هذه خمسمائة: مائتان للكسوة ومائتان للدقيق ومائة
للنفقة، وأعطاني صرة وقال: هذه ثلاثمائة درهم فاجعل مائة في ثمن حمار ومائة
للكسوة ومائة للنفقة ولا تخرج إلى الجبل وصر إلى سوراء.



(1) الكافي: ج 1 ص 503 - 506 ح 1.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 435.
741
قال: فصار إلى سوراء وتزوج امرأة منها فصار دخله أربعة ألاف درهم،
ومع هذا يقول بالوقف.
وقال أحمد بن الحارث القزويني: كنت مع أبي بسر من رأى، وكان أبي
يتعاطى البيطار في مربط أبي محمد (عليه السلام)، قال: وكان عند المستعين بغل لم ير مثله
حسنا وكبرا، وكان يمنع ظهره واللجام، وقد كان جمع عليه الرواض فلم يكن لهم
حيلة في ركوبه.
قال: فقال له بعض ندمائه: يا أمير المؤمنين ألا تبعث إلى الحسن بن الرضا
حتى يجئ فإما أن يركبه وإما أن يقتله. قال: فبعث إلى أبي محمد (عليه السلام) ومضى معه
أبي، قال: فلما دخل أبو محمد الدار كنت مع أبي فنظر أبو محمد البغل واقفا في
صحن الدار فعدل إليه فوضع يده على كفله، قال: فنظرت إلى البغل وقد عرق حتى
سال العرق منه ثم صار إلى المستعين فسلم عليه، فرحب به وقرب مجلسه، وقال:
يا أبا محمد ألجم هذا البغل. فقال أبو محمد لأبي: ألجمه يا غلام. فقال له المستعين:
ألجمه أنت. فوضع طيلسانه، ثم قام فألجمه، ثم رجع إلى مجلسه. فقال له: يا أبا
محمد أسرجه أنت. فقام ثانية فأسرجه ورجع. فقال له: ترى أن تركبه. فقال أبو
محمد: نعم. فركبه من غير أن يمتنع عليه، فمشى تحته أحسن مشي يكون، ثم رجع
فنزل، فقال له المستعين: يا أبا محمد كيف رأيته؟ فقال: ما رأيت مثله حسنا
وفراهة. فقال له المستعين: فإن أمير المؤمنين قد حملك عليه. فقال أبو محمد
لأبي: يا غلام خذه، فأخذه أبي فقاده (1).
$ الإمام العسكري (عليه السلام) / معجزاته
فصل
في ذكر شئ من معجزات الحسن العسكري (عليه السلام)
قال أبو جعفر الهاشمي (2): كنت في الحبس مع جماعة، فجلس أبو محمد



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 438.
(2) في المصدر: أبو هاشم الجعفري.
742
وأخوه جعفر، فخففنا له، وقبلت وجه الحسن وأجلسته على مضربة كانت تحتي،
وجلس جعفر قريبا منه، وكان المتولي لحبسه صالح بن وصيف، وكان معنا في
الحبس رجل جمحي يقول أنه علوي، فالتفت أبو محمد (عليه السلام) وقال: لولا أن فيكم
من ليس منكم لأعلمتكم متى يفرج الله عنكم. وأومأ إلى الجمحي، فخرج فقال أبو
محمد: هذا الرجل ليس منكم فاحذروه وأن في ثيابه قصة قد كتبها إلى السلطان
يخبره بما تقولون فيه. فقام بعضهم ففتش ثيابه، فوجد فيها القصة قد ذكرنا فيها
بكل عظيمة ويعلمه أننا نريد ننقب ونهرب (1).
وقال أبو هاشم: كان أبو محمد (عليه السلام) يصوم، فإذا أفطر أكلنا معه ما كان يحمله
إليه غلامه في خونة مختومة، وكنت أصوم معه، فلما كان بعض الأيام ضعفت
فأفطرت في بيت آخر على كعكة وما شعر بي أحد، ثم جئت فجلست معه، فقال
لغلامه: أطعم أبا هاشم شيئا فإنه مفطر، فتبسمت، فقال: ما يضحكك يا با هاشم، إذا
أردت القوة فكل اللحم فإن الكعك لا قوة فيه. فقلت: صدق الله ورسوله وأنتم
عليكم السلام، فأكلت. فقال: أفطر ثلاثا فإن المنة لا ترجع إذا نهكه الصوم في أقل
من ثلاث.
فلما كان في اليوم الذي أراد الله أن يفرج عنا جاءه الغلام فقال: يا سيدي
احمل. فقال: أحمل وما أحسبنا نأكل منه. فحمل الطعام الظهر وأطلق عنه عند
العصر وهو صائم، فقال: كلوا هداكم الله (2).
وقال يوسف بن محمد بن زياد وعلي بن سيار، قالا: حضرنا ليلة على عرفة
لأبي محمد الحسن بن علي الزكي، وقد كان الوالي في ذلك الوقت معظما له،
إذ جاء إلى البلد ومعه رجل مكتوف فقال: يا بن رسول الله أخذت هذا على باب
حانوت صيرفي فلما هممت بضربه قال: إني من شيعة علي وشيعتك فكففت عنه،
فهل هو كذلك؟ فقال (عليه السلام): معاذ الله ما هذا من شيعة علي؟ فنحاه وقال: ابطحوه،
فبطحوه فأقام عليه جلادين وقال: أوجعاه، فأهويا بعصيهما، فكان لا يصيبانه



(1) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 682 ح 1.
(2) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 683 ح 2.
743
وإنما يصيبان الأرض. قال: فرده الوالي إلى الإمام أبي محمد (عليه السلام) فقال: عجبا لقد
رأيت له من المعجزات مالا يكون إلا للأنبياء فقال الحسن بن علي: أو للأوصياء.
فقال: خل عنه إنما هي لنا وهو لنا محب. فقال الوالي: ما الفرق بين الشيعة
والمحبين؟ فقال: شيعتنا هم الذين يتبعون آثارنا ويطيعوننا في جميع أمورنا
وأوامرنا ونواهينا، ومن خالفنا في كثير مما فرض الله فليس من شيعتنا (1).
وقال أبو هاشم: إني قلت في نفسي: أشتهي أن أعلم ما يقول أبو محمد في
القرآن مخلوق أو غير مخلوق؟ والقرآن سوى الله؟ فأقبل علي فقال: أما بلغك
ما روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: لما نزلت * (قل هو الله أحد) * خلق الله لها
أربعة آلاف جناح، فما كانت تمر بملأ من الملائكة إلا خشعوا لها، وقال: هذه نسبة
الرب تبارك وتعالى (2).
وقال أبو هاشم: سمعت أبا محمد (عليه السلام) يقول: إن الله ليعفو يوم القيامة عفوا
لا يخطر على بال العباد حتى يقول أهل الشرك: * (والله ربنا ما كنا مشركين) * (3)
فذكرت في نفسي حديثا حدثني به رجل من أصحابنا من أهل مكة أن رسول
الله (صلى الله عليه وآله) قرأ * (إن الله يغفر الذنوب جميعا) * (4) فقال رجل: ومن أشرك، فأنكرت
ذلك وتنمرت في قلبي وأنا أقوله في نفسي، إذ أقبل علي فقال: * (إن الله لا يغفر أن
يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (5) بئس ما قال هذا وبئس ما روى (6).
وقال أبو هاشم: سأل محمد بن صالح الأرمني أبا محمد (عليه السلام) عن قوله تعالى:
* (لله الأمر من قبل ومن بعد) * (7).
قال: له الأمر من قبل أن يأمر به، وله الأمر من بعد أن يأمر به بما شاء. فقلت
في نفسي: هذا مثل قول الله: * (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين) * (8)



(1) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 683 - 684 ح 3.
(2) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 686 ح 6.
(3) الأنعام: 23.
(4) الزمر: 53.
(5) النساء: 48.
(6) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 686 ح 7.
(7) الروم: 4.
(8) الأعراف: 54.
744
وأقبل علي فقال: هو كما أسررت في نفسك * (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب
العالمين) * قلت: أشهد أنك حجة الله وابن حججه في عباده (1).
وقال أبو هاشم أنه سأله عن قوله تعالى: * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا
من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات) * (2) قال: كلهم
من آل محمد، الظالم لنفسه: الذي لا يقر بالإمام، والمقتصد: العارف بالإمام،
والسابق بالخيرات: الإمام.
فجعلت أفكر في نفسي عظم ما أعطى الله آل محمد وبكيت. فنظر إلي فقال:
الأمر أعظم مما حدثتك به نفسك من عظم شأن آل محمد، فاحمد الله فقد جعلك
متمسكا بحبلهم، تدعى يوم القيامة بهم إذا دعي كل أناس بإمامهم، إنك على خير (3).
وقال أبو هاشم: سأله محمد بن صالح الأرمني عن قوله تعالى: * (يمحوا الله
ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) * (4)
فقال: هل يمحو إلا ما كان؟ وهل يثبت إلا ما لم يكن؟ فقلت في نفسي:
هذا خلاف قول هشام بن الحكم أنه لا يعلم بالشئ حتى يكون. فنظر إلي وقال:
تعالى الجبار العالم بالأشياء قبل كونها. قلت: أشهد أنك حجة الله (5).
وقال أبو هاشم: سمعته يقول: الذنوب التي لا تغفر قول الرجل ليتني لا أؤاخذ
إلا بهذا. فقلت في نفسي: إن هذا لهو التدقيق، وينبغي للرجل أن يتفقد من نفسه كل
شئ. فقال: صدقت يا با هاشم إلزم ما حدثتك به نفسك، فإن الشرك في الناس
أخفى من دبيب الذر على الصفاء في الليلة الظلماء (6).
وقال أبو جعفر: دخل على الحسن بن علي (عليهما السلام) قوم من سواد العراق يشكون
قلة الأمطار، فكتب لهم كتابا فأمطروا. ثم جاؤوا يشكون كثرته، فختم في الأرض
فأمسك المطر.



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 436.
(2) فاطر: 32.
(3) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 687 ح 10.
(4) الرعد: 39.
(5) الخرائج والجرائح: ج 2 ص 687 ح 10.
(6) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 439.
745
وقال علي بن محمد الصيمري: كتب إلي أبو محمد (عليه السلام): فتنة تظلكم فكونوا
على هبة (1) منها. قال: فلما كان بعد ثلاثة أيام وقع بين بني هاشم ما وقع وكانت
فتنة، فكتبت إليه: هي هي. قال: لا ولكن غير هذه، فاحترسوا. فلما كان بعد ثلاثة
أيام كان من أمر المعتز ما كان (2).
$ الإمام العسكري (عليه السلام) / نبذ من كلامه
فصل
في ذكر شئ من كلام العسكري (عليه السلام)
لو عقل أهل الدنيا خربت (3).
من مدح غير المستحق للمدح قام مقام المتهم (4).
الخبائث بيت مفتاحه الكذب (5).
ومن مناجاته (عليه السلام): اللهم إن كان وجهي قد أخلق عندك بكثرة ذنوبي فبجدة
وجهك اعف عني.
وقال (عليه السلام): ادفع المسألة ما وجدت التحمل يمكنك، فإن لكل يوم خيرا
جديدا. والإلحاح في المطالب يسلب البهاء، إلا أن يفتح لك باب يحسن الدخول
فيه، واعلم أن للجود مقدارا، فإذا زاد عليه فهو سرف، وللحزم مقدارا فإذا زاد
عليه فهو جبن. وللاقتصاد مقدارا، فإذا زاد فهو بخل، وللشجاعة مقدارا، فإذا زاد
عليه فهو التهور (6).
وقال (عليه السلام): الشهوات خواطر من الهوى، والعقول تزجر وتروي، وفي
التجارب علم مستأنف، والاعتبار يفيدك الرشاد، وكفاك أدبا لنفسك تجنبك
ما تكره من غيرك.
وقال (عليه السلام): احذر كل ذكي ساكن الطرف (7).



(1) كذا، والظاهر: أهبة
(2) كشف الغمة: ج 2 ص 417.
(3 و 3 و 4) أعلام الدين: ص 313.
(6) أعلام الدين: ص 313.
(7) أعلام الدين: ص 313.
746
وقال العمري: سمعت مولانا العسكري (عليه السلام) يقول: خير إخوانك من نسي
ذنبك إليه (1).
وقال: أضعف الأعداء كيدا من أظهر عداوته (2).
وقال (عليه السلام): حسن الصورة جمال ظاهر، وحسن العقل جمال باطن (3).
وقال: أولى الناس بالمحبة من أملوه (4).
وقال: من آنس بالله استوحش من الناس (5).
وقال: من لم يتق الناس لم يتق الله (6).
وقال (عليه السلام): إذا نشطت القلوب فأودعوها، وإذا نفرت فودعوها (7).
وقال: اللحاق بمن ترجو خيره خير من المقام مع من لا تأمن شره (8).
وقال (عليه السلام): من أكثر المنام رأى الأحلام (9) يعني أن طالب الدنيا كالنائم وما
يظفر به كالحلم.
وقال: الجهل خصم، والحلم حكم، ولم يعرف راحة القلب من لم يجرعه
الحلم غصص الغيظ (10).
وقال (عليه السلام): ما أدري ما خوف أمرء ورجاؤه ما لم يمنعاه من ركوب شهوة إن
عرضت له ولم يصبر على مصيبة إن نزلت به.
وقال: من ركب ظهر الباطل نزل به دار الندامة (11).
وقال: المقادير الغالبة لا تدفع بالمغالبة، والأرزاق المكتوبة لا تنال بالشره
والمطالبة، تذلل للمقادير نفسك، واعلم انك غير نائل بالحرص إلا ما كتب لك (12).
وقال: إذا كان المقضي كائنا فالضراعة لماذا؟
وقال: نائل الكريم يحببك إليه، ونائل البخيل يبغضك إليه (13).
وقال (عليه السلام): من كان الورع سجيته والأفعال الحسنة خبيته انتصر من أعدائه



(1 - 5) أعلام الدين: ص 313.
(6 - 10) بحار الأنوار: ج 78 ص 377 ب 29 جزء من ح 3 نقلا عن كتاب " الدرة الباهرة ".
(11 و 12) أعلام الدين: ص 314.
(13) بحار الأنوار: ج 78 ص 378 ب 29 جزء من ح 3 نقلا عن كتاب " الدرة الباهرة ".
747
بحسن الثناء عليه، وتحصن بالذكر الجميل من وصول نقص إليه (1).
وكتب إلى مواليه:
بسم الله الرحمن الرحيم
$ الإمام العسكري (عليه السلام) / وفاته
استوهب الله لكم زهادة في الدنيا، وتوفيقا لما يرضى، ومعونة على طاعته،
وعصمة عن معصيته، وهداية من الزيغ وكفاية، فجمع لنا ولأوليائنا خير الدارين.
أما بعد فقد بلغني ما أنتم عليه من اختلاف قلوبكم، وتشتت أهوائكم، ونزغ
الشيطان بينكم حتى أحدث لكم الفرقة والإلحاد في الدين، والسعي في هدم ما
مضى عليه أولكم من إشادة دين الله وإثبات حق أوليائه، وأمالكم إلى سبيل
الضلالة، وصدق بكم عن قصد الحق، فرجع أكثركم القهقري على أعقابكم
تنكصون، كأنكم لم تقرؤا كتاب الله جل وعز، ولم تعنوا بشئ من أمره ونهيه.
ولعمري لئن كان الأمر في اتكال سفهائكم على أساطيرهم لأنفسهم وتأليفهم
روايات الزور بينهم لقد حقت كلمة العذاب عليهم. ولئن رضيتم بذلك منهم ولم
تنكروه بأيديكم وألسنتكم وقلوبكم ونياتكم إنكم لشركائهم فيما اجترحوه من
الافتراء على الله تعالى وعلى رسوله وعلى ولاة الأمر من بعده. ولئن كان الأمر
كذلك لما كذب أهل التزيد في دعواهم، ولا المغيرة في اختلافهم، ولا الكيسانية
في صاحبهم، ولا من سواهم من المنتحلين ودنا والمنحرفين عنا، بل أنتم شر منهم
قليلا، وما شئ يمنعني من وسم الباطل فيكم بدعوة تكونوا فيها شامتا لأهل الحق
إلا انتظار فيهم، وسيفئ أكثرهم إلى أمر الله إلا طائفة لو شئت لأسميتها، ونسبتها
استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، ومن نسي ذكر الله تبرأ منه، فسيصليه
جهنم وساءت مصيرا، وكتابي هذا حجة عليهم، وحجة لغائبكم على شاهدكم
إلا من بلغه فأدى الأمانة، وأنا أسأل الله أن يجمع قلوبكم على الهدى، ويعصمكم
بالتقوى، ويوفقكم للقول بما يرضى، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.



(1) بحار الأنوار: ج 78 ص 378 ب 29 جزء من ح 3 نقلا عن كتاب " الدرة الباهرة " وفيه
" والإفضال حليته " بدل " والأفعال الحسنة خبيته ".
748
ومن كتاب له إلى بعض مواليه: كل مقدور كائن، فتوكل على الله جل وعز
يكفيك، وثق به لا يخيبك، وشكوت أخاك فاعلم يقينا أن الله جل وعز لا يعين
على قطيعة رحم، وهو جل ثناؤه من وراء ظلم كل ظالم، ومن بغي عليه لينصرنه
الله، إن الله قوي عزيز. وسألت الدعاء إن الله جل وعز لك حافظ وناصر وساتر،
وأرجو من الله الكريم الذي عرفك من حقه وحق أوليائه ما أعمى عنه غيرك أن
لا يزيل عنك نعمة أنعم بها عليك إنه ولي حميد.
وقال (عليه السلام): ونحن نستكفي الله جل وعز في هذا اليوم مؤونة كل ظالم وكل باغ
وحاسد، وويل لمن قال ما يعلم الله جل وعز خلافه ماذا يلقى من ديان يوم الدين،
فإن الله جل وعز للمظلومين ناصر وكافي وعضد فثق به جل ثناؤه، وتوكل عليه،
واستغن به يريك محبتك ويبلغك أملك ويكفيك شر كل ذي شر، فعل الله جل وعز
ذلك بك، ومن به علينا فيك، إنه على كل شئ قدير، واستدرك الله كل ظالم في
هذه الساعة، ما أحد ظلم وبغى فأفلح، الويل لمن أخذته أصابع المظلومين،
فلا تغتم وثق بالله وتوكل عليه، فما أسرع فرحك، إن الله عز وجل مع الذين صبروا
والذين هم محسنون.
وقال (عليه السلام) وقد سئل لم فرض الله الصوم، فقال: ليجد الغني مس الجوع فيحنو
على الفقير (1).
وقال (عليه السلام): إن في الجنة بابا يقال له المعروف، لا يدخله إلا أهل المعروف،
فإن أهل المعروف في دنياهم هم أهل المعروف في آخرتهم (2).
فصل
في ذكر وفاة العسكري (عليه السلام) ومقدار عمره وموضع قبره
توفي (عليه السلام) أيام المعتمد بسر من رأى يوم الجمعة لثمان ليال خلون من



(1) الأمالي للصدوق: ص 44 ح 2.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 4 ص 432.
749
شهر ربيع الأول (1).
وقال بعض الرواة: في يوم الأربعاء لثلاث خلون من ربيع الأول من سنة
ستين ومائتين، وله ثمان وعشرون سنة. وقيل: تسع وعشرون سنة.
ودفن في داره بسر من رأى إلى جنب أبيه (عليه السلام).
ولم يترك من الولد سوى الخلف الصالح القائم صاحب الزمان الإمام المنتظر
لأمر الله صلوات الله عليه وعلى آبائه وسلامه.
وكان نقش خاتمه: * (قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن
ذكر ربهم معرضون) * (2)



(1) الكافي: ج 1 ص 503.
(2) الأنبياء: 42.
750
الباب الرابع عشر
في ذكر الحجة صاحب الزمان
صلوات الله عليه
وذكر مولده وشئ من دلائله

751
$ الإمام المهدي (عليه السلام) / مولده
فصل
في ذكر مولد الحجة (عليه السلام) وغير ذلك
وكان مولده (عليه السلام) بسر من رأى ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين
ومائتين. وقيل: لثمان خلون من شعبان. وقيل: من ربيع الأول. وقيل: من شهر
رمضان. وقيل: سنة ثمان وخمسين ومائتين.
وأمه أم ولد يقال لها نرجس، وقيل: سوسن.
وكان سنه عند وفاة أبيه (عليهما السلام) خمس سنين، وقيل: سنتين وأربعة أشهر.
وأما نسبه فأبوه أبو محمد الحسن الخالص بن علي المتوكل بن محمد القانع بن
علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين
العابدين بن الحسين الزكي بن علي المرتضى أمير المؤمنين.
وأما ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) في المهدي من الأحاديث الصحيحة:
فمنها: ما نقله أبو داود والترمذي كل واحد منهما بسنده في صحيحه يرفعه
إلى أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: المهدي مني، أجلى
الجبهة، أقنى الأنف، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما، ويملك
سبع سنين (1).
ومنها: ما أخرجه أبو داود بسنده في صحيحه يرفعه إلى علي (عليه السلام)، قال:



(1) سنن أبي داود: ج 4 ص 107 ح 4286.
753
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلا من أهل بيتي
يملأها عدلا كما ملئت جورا (1).
ومنها: ما رواه القاضي أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي في كتابه المسمى
بشرح السنة، وأخرجه البخاري ومسلم، وكل واحد منهما بسنده في صحيحه
يرفعه إلى أبي هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم
وإمامكم منكم (2).
ومنها: ما أخرجه أبو داود والترمذي بسنديهما في صحيحيهما يرفعه كل
واحد منهما بسنده إلى عبد الله بن مسعود أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لو لم يبق
من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث الله رجلا مني أومن أهل
بيتي، يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت
ظلما وجورا (3).
وفي رواية أخرى: لا تنقضي الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي
يواطئ اسمه اسمي (4)
وفي رواية أخرى: إن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: يلي رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه
اسمي (5).
هذه الروايات عن أبي داود والترمذي.



(1) سنن أبي داود: ج 4 ص 107 ح 4283.
(2) صحيح البخاري: ج 4 ص 205 كتاب بدء الخلق باب 63 نزول عيسى بن مريم (عليهما السلام) ح 2،
صحيح مسلم: ج 1 ص 136 باب 71 ح 245.
(3) سنن أبي داود: ج 4 ص 106 ح 4282، صحيح الترمذي: ج 4 ص 505 باب 52 من
كتاب الفتن ذيل ح 2231.
(4) سنن أبي داود: ج 4 ص 107 ذيل ح 4282، صحيح الترمذي: ج 4 ص 505 باب 52 من
كتاب الفتن ح 2230.
(5) سنن أبي داود: ج 4 ص 107 ذيل ح 4282، صحيح الترمذي: ج 4 ص 505 باب 52 من
كتاب الفتن ح 2231.
754
ومنها: ما نقله أبو إسحاق أحمد بن محمد الثعلبي في تفسيره يرفعه بإسناده
إلى أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): نحن ولد عبد المطلب سادة أهل
الجنة، أنا وحمزة وجعفر وعلي والحسن والحسين والمهدي (1).
ومنها: ما رواه أبو داود أيضا في صحيحه يرفعه بسنده إلى أم سلمة زوج
النبي (صلى الله عليه وآله) ورضي عنها، قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: المهدي من عترتي
من ولد فاطمة (2).
فإن قال معترض: هذه الأحاديث النبوية متفق على صحتها ومجمع على نقلها
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهي صحيحة صريحة في كون المهدي (عليه السلام) من ولد
فاطمة (عليها السلام)، وأنه من رسول الله، وأنه من عترته، وأنه من أهل بيته، وأن اسمه
يواطئ اسمه، وأنه يملأ الأرض قسطا وعدلا، وأنه من ولد عبد المطلب، وأنه من
سادات الجنة، وذلك مما لا نزاع فيه، غير أن ذلك لا يدل على أن المهدي
الموصوف بما ذكره (صلى الله عليه وآله) من الصفات والعلامات هو هذا أبو القاسم محمد بن
الحسن الحجة الخلف الصالح (عليه السلام)، فإن ولد فاطمة كثير، وكل من يولد من ذريتها
إلى يوم القيامة يصدق عليه أنه من ولد فاطمة وأنه من العترة الطاهرة وأنه من
أهل البيت (عليهم السلام)، فتحتاجون مع هذه الأحاديث المذكورة إلى زيادة دليل يدل
على أن المهدي المراد هو الحجة المذكور ليتم مرامكم.
فجوابه: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما وصف المهدي (عليه السلام) بصفات متعددة من ذكر
اسمه ونسبه ومرجعه إلى فاطمة (عليها السلام) وإلى عبد المطلب وأنه أجلى الجبهة أقنى
الأنف وعدد من الأوصاف الكثيرة التي جمعته الأحاديث المذكورة آنفا وجعلها
علامة ودلالة على أن الشخص الذي يسمى بالمهدي وثبتت له الأحكام المذكورة
هو الشخص الذي اجتمعت تلك الصفات فيه، ثم وجدنا تلك الصفات المجعولة
علامة ودلالة مجتمعة في أبي القاسم محمد الخلف الصالح دون غيره، فلزم القول



(1) تفسير الثعلبي (مخطوط).
(2) سنن أبي داود: ج 4 ص 107 ح 4284.
755
بثبوت تلك الأحكام له وأنه صاحبها، وإلا فلو جاز وجود ما هو علامة ودليل ولا
يثبت ما هو مدلوله قدح ذلك في تعينها (نصبها) علامة ودلالة من رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
وذلك ممتنع.
وأما ولده فلم يكن له ولد يذكر.
وأما عمره فإنه في أيام المعتمد على الله تعالى خاف فاختفى إلى الآن، فلم
يمكن ذكر ذلك، إذ من غاب فانقطع خبره لا يوجب غيبته وانقطاع خبره الحكم
بمقدار عمره ولا انقضاء حياته وليس ببدع ولا مستغرب تعمير بعض عباد الله
الصالحين ولا امتداد عمره، فقد مد الله سبحانه وتعالى في أعمار جمع كثير من
خلقه من أصفيائه وأوليائه ومن مطروديه وأعدائه، فمن الأصفياء عيسى (عليه السلام)
والخضر ولقمان وخلق آخرون من الأنبياء (عليهم السلام) طالت أعمارهم حتى جاز كل
واحد منهم ألف سنة أو قاربها كنوح (عليه السلام) وغيره، وأما من الأعداء المطرودين
فإبليس والدجال ومن غيرهم كعاد الأولى كان فيهم من عمره ما يقارب الألف،
وكل ذلك لبيان اتساع القدرة الربانية في تعمير بعض خلقه، فأي مانع يمنع من
امتداد عمر الخلف الصالح إلى أن يظهر فيعمل ما حكم الله له به.
$ الإمام المهدي (عليه السلام) / علائم ظهوره
فصل
قال أبو الجارود، قال أبو جعفر (عليه السلام): يقوم قائمنا بالحق بعد إياس من الشيعة،
يدعو الناس ثلاثا فلا يجيبه أحد، فإذا كان اليوم الرابع تعلق بأستار الكعبة فقال:
يا رب انصرني، ودعوته لا تسقط، فيقول الله تبارك وتعالى للملائكة الذين نصروا
رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم بدر [بايعوه]، فيبايعونه، ثم يبايعه من الناس ثلاثمائة وثلاث
عشر رجلا، ثم يسير إلى المدينة فيقتل ألف وخمسمائة قرشي ليس فيهم إلا فرخ
زنية، ثم يدخل المسجد فينقض الحائط حتى يضعه إلى الأرض.
وقال عبد الله بن أبي يعفور: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ويل لطغاة العرب من

756
أمر قد اقترب. قلت: جعلت فداك كم مع القائم من العرب؟ قال: نفر يسير. فقلت:
والله إن من تصف هذا الأمر فيهم لكثير. قال: لابد للناس أن يمحصوا ويميزوا
ويغربلوا، وسيخرج الغربال خلقا كثيرا (1).
وقال عبد الله بن عمر وبن أبان الكلبي بن تغلب، قال أبو عبد الله (عليه السلام): كأني
بالقائم على ظهر النجف لابس درع رسول الله (صلى الله عليه وآله) فتقلص عليه، ثم ينتفض لها
فتستدير عليه، ثم يغشي الدرع بثوب إستبرق، ثم يركب فرسا له أبلق بين عينيه
شمراخ، ينتفض به، لا يبقى أهل بلد إلا أتاهم نور ذلك الشمراخ حتى تكون آية
له، ثم ينشر راية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إذا نشرها أضاء لها ما بين المشرق والمغرب (2).
وقال أحمد بن جعفر، حدثني علي بن محمد يرفعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام):
كأنني به قد عبر من وادي السلام إلى سبيل السهلة على فرس محجل له شمراخ
يزهر، ويدعو ويقول في دعائه: لا إله إلا الله حقا حقا، لا إله إلا الله إيمانا وصدقا،
لا إله إلا الله تعبدا ورقا، اللهم معز كل مؤمن وحيد، ومذل كل جبار عنيد، أنت
كهفي حين تعييني المذاهب، وتضيق علي الأرض بما رحبت، اللهم خلقتني وكنت
غنيا عن خلقي، ولولا نصرك إياي لكنت من المغلوبين، يا منشر الرحمة من
مواضعها، ومخرج البركات من معادنها، ويا من خص نفسه بشموخ الرفعة،
وأولياؤه بعزه يتعززون، يامن وضعت له الملوك نير المذلة على أعناقها فهم من
سطوته خائفون، أسألك باسمك الذي فطرت به خلقك، فكل لك مذعنون، أسألك
أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن تنجز لي أمري، وتعجل لي في الفرج،
وتكفيني وتعافيني وتقضي حوائجي، الساعة الساعة، الليلة الليلة، إنك على
كل شئ قدير (3).
وقال أبو جعفر العرجي، عن محمد بن يزيد، عن سعيد بن عيانة، قال: قال



(1) بحار الأنوار: ج 52 ص 114 ب 21 ح 31.
(2) بحار الأنوار: ج 52 ص 391 ب 27 ح 214 نقلا عن كتاب " العدد القوية ".
(3) بحار الأنوار: ج 52 ص 391 ب 27 ح 214 نقلا عن كتاب " العدد القوية ".
757
سلمان الفارسي (رضي الله عنه): أتيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) خاليا فقلت:
يا أمير المؤمنين متى يظهر القائم من ولدك؟ فتنفس الصعداء وقال: لا يظهر القائم
حتى تكون أمور الصبيان وتضيع حقوق الرحمن، ويتغنى بالقرآن، فإذا قتلت
ملوك بني العباس أولى العمى والالتباس، أصحاب الرمي عن الأقواس بوجوه
كالتراس، وخربت البصرة، هناك يقوم القائم من ولد الحسين.
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): إذا اختلف رمحان بالشام. فهو آية من آيات الله
قيل: ثم ماذا؟ قال: ثم رجفة تكون بالشام يهلك فيها مائة ألف يجعلها الله رحمة
للمؤمنين وعذابا للكافرين، فإذا كان ذلك فانظروا إلى أصحاب البراذين الشهب
والرايات الصفر تقبل من المغرب حتى تحل بالشام، فإذا كان ذلك فانتظروا خسفا
بقرية من قرى الشام يقال لها حرستا، فإذا كان ذلك فانتظروا ابن آكلة الأكباد
بالوادي اليابس، ثم تظلكم فتنة مظلمة عمياء منكشفة لا ينجو منها إلا النومة. قيل:
وما النومة؟ قال: الذي لا يعرف الناس ما في نفسه.
وقال (عليه السلام): يكون بين يدي القائم موت أحمر، وموت أبيض، وجراد في
حينه، وجراد في غير حينه، أحمر كألوان الدم. وأما الموت الأحمر فالسيف، وأما
الموت الأبيض فالطاعون (1).
وقال الصادق (عليه السلام): لا يخرج القائم إلا في وتر من السنين: تسع وثلاث
وخمس وإحدى (2).
وقال: إذا هدم حائط مسجد الكوفة مؤخره مما يلي دار عبد الله بن مسعود
فعند ذلك زوال ملك بني العباس، أما أن هادمه لا يبنيه (3).
وقال (عليه السلام): من يضمن لي موت عبد الله أضمن له قيام القائم، لا يجتمع الناس
بعده على أحد (5).



(1) الغيبة للنعماني: ص 185، الغيبة للطوسي: ص 267.
(2) الإرشاد: ص 361 وفيه: " سنة إحدى أو ثلاث أو خمس أو سبع أو تسع ".
(3 و 5) الغيبة للطوسي: ص 271.
758
وقال: إن قدام القائم لستة غيداقة تفسد الثمر في النخل فلا تشكوا في ذلك (1).
وقال: عام الفتح ينشق الفرات حتى يدخل على أزقة الكوفة (2).
وقال الحسن العسكري (عليه السلام) لأحمد بن إسحاق وقد أتاه يسأله عن الخلف
بعده، فأراه ثم قال مبتدئا: مثله مثل الخضر، ومثله مثل ذو القرنين، إن الخضر شرب
من ماء الحياة فهو حي لا يموت حتى ينفخ في الصور، وأنه ليحضر الموسم في كل
سنة ويقف بعرفة فيؤمن على دعاء المؤمنين، وسيؤنس الله به وحشة قائمنا في
غيبته، ويصل به وحدته، فله البقاء في الدنيا مع الغيبة عن الأبصار (3).
حدثني بعض أصحابنا، قال: حدثني بعض مشايخي: إن ظهور القائم في سنة
أربعين وستمائة من فروردين ماه. وأمثال هذه العلامات لا تعد كثرة.
وقد ظهر من العلامات عدة كثيرة مثل: خراب حائط مسجد الكوفة، وقتل
أهل مصر أميرهم، وزوال ملك بني العباس على يد رجل خرج عليهم من حيث
بدأ ملكهم، وموت عبد الله آخر ملوك بني العباس، وخراب الشامات، ومد الجسر
مما يلي الكرخ ببغداد، كل ذلك في مدة يسيرة، وغير ذلك مما لم تذكره واختصرنا
أخباره، وأهملنا ذكر من شاهده (عليه السلام) وذكر وكلائه ورجاله وتوقيعاته لئلا يطول به
الكتاب.
والحمد لله رب العالمين.
* * *



(1) الغيبة للطوسي: ص 272.
(2) الغيبة للطوسي: ص 273 - 274.
(3) كمال الدين: ص 390 ب 38 ح 4.
759
الباب الخامس عشر
في عدة فصول

761
$ في ذكر الخمسة صلوات الله عليهم
فصل
في ذكر الخمسة صلوات الله عليهم
حدث أبان عن أنس أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لما خلق الله عز وجل
آدم (عليه السلام) نظر إلى سرادق العرش فرأى عليه مكتوبا: لا إله إلا الله محمد رسول الله
وأسماء أربعة. فقال آدم: خلقت إلهي خلقا من الإنس قبلي؟ فقال: لا. فقال: يا رب
فما هذه الأسماء التي أراها؟ قال: يا آدم هؤلاء خيرتي من خلقي، هؤلاء صفوتي
من خلقي، يا آدم لولا هؤلاء ما خلقتك، يا آدم لولا هؤلاء ما خلقت الجنة والنار،
إياك أن تنظر إليهم بعين الحسد.
فلما أكل آدم (عليه السلام) من الشجرة واخرج من الجنة ونال الخطيئة قال في توبته
وتضرعه إلى ربه: إلهي بحق الخمسة الذين رأيتهم ورأيت أسماءهم على سرادق
العرش إلا غفرت لي. فأوحى الله عز وجل إليه: يا آدم قد غفرت لك ذلك، وقد كان
ذلك في سابق علمي فيك. فقال آدم: بحق المغفرة إلا ما عرفتني من هؤلاء؟ قال:
يا آدم هؤلاء الخمسة شققت لهم خمسة أسماء من أسمائي العظام، فأنا المحمود
وهذا أحمد، وأنا العالي وهذا علي، وأنا الفاطر وهذه فاطمة، وأنا المحسن وهذا
الحسن، وأنا الحسان وهذا الحسين (1).
وقال أبو هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، قال: سئل ابن عباس (رضي الله عنه)



(1) قصص الأنبياء للراوندي: ص 44 - 45 ح 10.
763
عن قوله عز وجل: * (مرج البحرين يلتقيان) * (1) قال: علي وفاطمة (عليهما السلام) * (بينهما
برزخ لا يبغيان) * (2) رسول الله (صلى الله عليه وآله) * (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) * (3) الحسن
والحسين (عليهما السلام) (4).
وقال الحارث، عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن في الجنة
درجة تسمى الوسيلة هي لنبي، وأرجو أن أكون أنا، فإذا سألتموها فسلوها لي
فقالوا: من يسكن معك فيها يا رسول الله؟ قال فاطمة وبعلها والحسن والحسين (عليهم السلام).
منقول عن المجلد الثاني عشر من تاريخ محمد بن النجار شيخ المحدثين
بالمستنصرية بإسناده إلى أنس بن مالك، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: لما أراد الله عز
وجل أن يهلك قوم نوح (عليه السلام) أوحى الله إليه أن شق ألواح الساج، فلما شقها لم يدر
ما يصنع بها، فهبط جبرئيل فأراه هيئة السفينة، ومعه تابوت فيه مائة ألف مسمار
وتسع وعشرون ألف مسمار، فسمر بالمسامير كلها السفينة إلى أن بقيت خمسة
مسامير، فضرب بيده إلى مسمار فأشرق في يده وأضاء كما يضئ الكوكب
الدري في أفق السماء، فتحير من ذلك نوح، فأنطق الله ذلك المسمار بلسان طلق
ذلق (5) فقال: على اسم خير الأنبياء محمد بن عبد الله، فهبط عليه جبرئيل، فقال:
يا جبرئيل ما هذا المسمار الذي ما رأيت مثله؟ قال: هذا باسم خير الأولين محمد
ابن عبد الله، أسمره (6) على أولها على جانب السفينة اليمين. ثم ضرب بيده على
مسمار ثان فأشرق وأنار، فقال نوح: وما هذا المسمار؟ قال: مسمار أخيه وابن
عمه علي بن أبي طالب، فأسمره على جانب السفينة اليسار في أولها. ثم ضرب
بيده إلى مسمار ثالث فزهر وأشرق وأنار، فقال: هذا مسمار فاطمة فأسمره إلى
جانب مسمار أبيها ثم ضرب بيده إلى مسمار رابع فزهر وأنار، فقال: هذا مسمار
الحسن فأسمره إلى جانب مسمار أبيه ثم ضرب بيده إلى مسمار خامس فأشرق



(1) الرحمن: 19.
(2) الرحمن: 19.
(3) الرحمن: 20.
(4) بحار الأنوار: ج 37 ص 96 ب 50 ح 62.
(5) الذلق: اللسان الفصيح ذي الحدة.
(6) أسمره: أي شده بالمسمار.
764
وأنار وبكى، فقال: يا جبرئيل ما هذه النداوة؟ فقال: هذا مسمار الحسين بن علي
سيد الشهداء، فأسمره إلى جانب مسمار أخيه. ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله): * (وحملناه على
ذات ألواح ودسر) * قال النبي (صلى الله عليه وآله): الألواح خشب السفينة، ونحن الدسر، لولانا
ما سارت السفينة بأهلها (1).
وقال عبد الله بن مسعود: دخلت يوما على رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقلت له: يا رسول
الله أرني الحق أنظر إليه؟ فقال: يا بن مسعود ألج المخدع (2)، فولجت فرأيت
أمير المؤمنين عليا (عليه السلام) راكعا وساجدا وهو يقول عقيب صلاته: اللهم بحرمة
محمد عبدك ورسولك اغفر للخاطئين من شيعتي. قال ابن مسعود: فخرجت حتى
أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذلك فرأيته راكعا وساجدا وهو يقول: اللهم بحرمة عبدك
علي اغفر للعاصين من أمتي. قال: فأخذني الهلع حتى غشي علي، فرفع النبي (عليه السلام)
رأسه وقال: يا بن مسعود أكفر بعد إيمان؟ فقلت: معاذ الله ولكني رأيت عليا يسأل
الله تعالى بك وأنت تسأل الله تعالى به، ولا أدري أيكما أفضل؟ فقال رسول
الله (صلى الله عليه وآله): يا بن مسعود إن الله عز وجل خلقني وعليا والحسن والحسين من نور
عظمته قبل الخلق بألفي عام حين لا تسبيح ولا تقديس، ففتق نوري فخلق منه
السماوات والأرض، وأنا أفضل من السماوات والأرض وفتق نور علي فخلق منه
العرش والكرسي، وعلي أجل من العرش والكرسي. وفتق نور الحسن فخلق منه
اللوح والقلم، والحسن أفضل من اللوح والقلم. وفتق نور الحسين فخلق منه
الجنان والحور، والحسين أفضل منهما، فأظلمت المشارق والمغارب فشكت
الملائكة إلى الله تعالى الظلمة وقالت: اللهم بحرمة هؤلاء الأشباح الذين خلقت إلا
فرجت من هذه الظلمة، فخلق الله عز وجل روحا وقرنها بأخرى فخلق منها نورا،
ثم أضاف النور بالروح فخلق منها الزهراء فاطمة، فمن ذلك سميت الزهراء فأضاء
منها المشرق والمغرب. يا ابن مسعود إذا كان يوم القيامة يقول الله عز وجل لي



(1) بحار الأنوار: ج 11 ص 328 ب 3 ح 49.
(2) ولج البيت: دخل فيه: والمخدع: بيت داخل البيت الكبير.
765
ولعلي: أدخلا الجنة من شئتما وأدخلا النار من شئتما، وذلك قوله تعالى: * (ألقيا
في جهنم كل جبار عنيد) * (1) والجبار من جحد نبوتي، والعنيد من عاند عليا وأهل
بيته وشيعته (2).
وقال سعيد بن عبد الله الأشعري: سألت مولاي أبا محمد الحسن بن علي بن
محمد بن علي بن موسى بن جعفر (عليهم السلام) عن تأويل قول الله تعالى: * (كهيعص) *.
فقال: هذه الأحرف من أنباء الغيب أطلع الله عليها عبده زكريا (عليه السلام) ثم قصها على
نبيه محمد (صلى الله عليه وآله)، وذلك أن زكريا (عليه السلام) سأل ربه أن يعلمه أسماء الخمسة فأهبط عليه
جبرئيل (عليه السلام) وعلمه إياها، فكان زكريا (عليه السلام) إذا ذكر محمدا وعليا وفاطمة
والحسن والحسين صلى الله عليهم سرى عنه همه وانجلى كربه، وإذا ذكر
الحسين (عليه السلام) خنقته عبرته ووقعت عليه الكآبة، فقال ذات يوم: إلهي مالي إذا
ذكرت الأربعة تسليت بذكرهم همومي وإذا ذكرت الحسين تدمع عيني وتعود
زفرتي؟ فأنبأه الله عز وجل عن قصته، فقال: كهيعص: فالكاف من كربلاء، والهاء
من هلاك العترة، والياء من اسم يزيد، والعين من عطش الحسين، والصاد من
صبره. فلما سمع ذلك زكريا (عليه السلام) لم يفارق مسجده ثلاثة أيام ومنع فيها الناس من
الدخول إليه، وأقبل على البكاء والنحيب، وكانت مناجاته في ساعته بهذه
الكلمات: إلهي أتفجع خير خلقك بولده، إلهي أتنزل بلوى هذه الرزية بفنائه، إلهي
أتلبس عليا وفاطمة أثواب هذه المصيبة، إلهي أتحل كرب هذه الفجيعة بساحتها.
ثم قال: إلهي ارزقني ولدا تقر به عيني على الكبر واجعله زكيا رضيا يوازي محله
عندي محل الحسين عند جده، فإذا رزقتنيه فافتني بحبه، ثم افجعني به كما يفجع
حبيبك محمدا بولده. فرزقه الله يحيى وفجعه به، وكان حمل يحيى (عليه السلام) ستة أشهر
وكذلك حمل الحسين (عليه السلام) (3).
وحدث عبد الله بن محمد البلوي، عن إبراهيم بن عبد الله بن العلاء، عن أبيه،



(1) ق: 24.
(2) بحار الأنوار: ج 40 ص 43 ب 91 ح 81.
(3) كمال الدين: ج 2 ص 454.
766
قال: سمعت زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) يقول: قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله): والذي نفسي بيده لا تفارق روح جسد صاحبها حتى يأكل من ثمار
الجنة أو من شجرة الزقوم، وحتى يرى ملك الموت ويراني ويرى عليا وفاطمة
وحسنا وحسينا، فإن كان يحبنا قلت: يا ملك الموت ارفق به فإنه كان يحبني وأهل
بيتي، وإن كان يبغضني ويبغض أهل بيتي قلت: يا ملك الموت شدد عليه فإنه كان
يبغضني ويبغض أهل بيتي، لا يحبنا إلا مؤمن تقي، ولا يبغضنا إلا منافق شقي (1).
وحدث حرب، عن يحيى بن مساور، عن مالك الهمداني، عن أبي جعفر قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا فاطمة يا بنية إن الله أشرف على الدنيا فاختارني على
رجال العالمين واصطفاني بالنبوة وجعل أمتي خير الأمم، ثم أشرف الثانية فاختار
زوجك على رجال العالمين وجعله أخي ووزيري وخليفتي في أهلي، ثم أشرف
الثالثة فاختارك على نساء العالمين وأمك الثانية، ثم أشرف الرابعة فاختار ابنيك
على رجال العالمين، فاهتز العرش وقال: السبطان وابنا رسولك وابنا وصي
رسولك زيني بهما.
قال أبو جعفر: هما يوم القيامة جنبي العرش كأنهما شنفا ذهب. قال: وأخذ
أبو جعفر بأذنيه يحركهما (2).
وقال منية بن عثمان الدمشقي، قال: حدثنا إسماعيل بن عياش، قال: سمعت
أبي يقول: سمعت أبا هريرة يقول: لما أسري بالنبي (صلى الله عليه وآله) ثم هبط إلى الأرض مضى
لذلك زمان. ثم إن فاطمة (عليها السلام) أتت النبي (صلى الله عليه وآله) فقالت: بأبي أنت يا رسول الله
ما الذي رأيت لي؟
فقال: يا فاطمة أنت خير نساء البرية وسيدة نساء أهل الجنة.
فقالت: يا أبه فما لبعلي؟ فقال: بعلك رجل من أهل الجنة قالت: فما للحسن
والحسين؟ فقال: سبطاي وولداي وسيدا شباب أهل الجنة قالت: ثم إن عليا (عليه السلام)



(1) بحار الأنوار: ج 6 ص 194 ب 7 ح 43.
(2) قريب منه في المعنى ما في بحار الأنوار: ج 18 ص 389 ب 3 ح 97.
767
أتى التبي (صلى الله عليه وآله) فقال: ما الذي رأيت لي؟ قال: أنا وأنت وحسن وحسين وفاطمة
في قبة من در أساسها من رحمة الله، وأطرافها من نور الله، وهي تحت عرش الله.
يا بن أبي طالب وبينك وبين كرامة الله بابا تسمع صوتا وهنيمة وقد ألجم الناس
العرق، وعلى رأسك تاج من نور قد أضاء منه للحشر، ترفل في حليتين: حلة
خضراء وحلة وردانية، وخلقت وخلقتم من طينة واحدة.
$ في ذكر فاطمة وعلي والحسن والحسين (عليهم السلام)
فصل
في ذكر فاطمة وعلي والحسن والحسين
عليهم أفضل الصلاة والسلام
قال ابن عباس رضي الله عنهما: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد سجد خمس
سجدات بلا ركوع، فقلت: يا رسول الله سجود بلا ركوع؟ فقال: نعم أتاني
جبرئيل (عليه السلام) فقال لي: يا محمد إن الله عز وجل يحب عليا فسجدت، ورفعت
رأسي فقال لي: إن الله عز وجل يحب فاطمة فسجدت، ورفعت رأسي فقال: إن الله
يحب الحسن، فسجدت، ورفعت رأسي فقال لي: إن الله يحب الحسين، فسجدت
ورفعت رأسي فقال لي: إن الله يحب من أحبهم، فسجدت ورفعت رأسي (1).
وروى أبو نعيم الحافظ في كتابه الذي سماه ذكر منقبة المطهرين ومرتبة
المطيبين أهل بيت محمد سيد الأولين والآخرين صلى الله عليهم أجمعين، قال:
حدث أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران أبو نعيم الحافظ
سبط محمد بن يوسف البنا الزاهد من أهل إصبهان تاج المحدثين وأحد أعلام
الدين ومن جمع الله له العلو في الرواية والحفظ والفهم والدراية وكانت تشد إليه
الرحال ويهاجر إلى بابه الرجال، ذكر فقال: حدثنا أبو أحمد محمد بن محمد بن
يوسف الجرجاني، قال: حدثنا محمد بن إبراهيم الرازي، قال: حدثنا محمد بن



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 2 ص 90.
768
حميد، قال: حدثنا هارون بن عيسى، قال: حدثنا إبراهيم بن الحكم، حدثنا
أبو حكيم الخياط، عن جابر بن يزيد، عن أبي جعفر محمد بن علي، عن أبيه،
عن جابر بن عبد الله، قال: خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومعه علي والحسن
والحسين (عليهم السلام) فخطبنا ثم قال: أيها الناس إن هؤلاء أهل بيت نبيكم قد شرفهم الله
بكرامته، واستحفظهم سرهم، واستودعهم علمه، عماد الدين، شهداء على أمته، برأهم
قبل خلقه، إذ هم أظلة تحت عرشه، نجباء في علمه، اختارهم وارتضاهم واصطفاهم
فجعلهم علماء فقهاء لعباده، ودلهم على صراطه، فهم الأئمة المهدية، والقادة
الداعية، والأمة الوسطى، والرحم الموصولة، هم الكهف الحصين للمؤمنين، ونور
أبصار المهتدين، وعصمة لمن لجأ إليهم، ونجاة لمن احترز بهم، يغتبط من والاهم،
ويهلك من عاداهم، ويفوز من تمسك بهم، الراغب عنهم مارق من الدين، والمقصر
عنهم زاهق، واللازم لهم لاحق، فهم الباب المبتلى بهم، من أتاهم نجا، ومن أباهم
هوى، هم حطة لمن دخله، وحجة على من جهله، إلى الله يدعون، وبأمر الله
يعملون، وبآياته يرشدون، فيهم نزلت الرسالة، وعليهم هبطت ملائكة الرحمة،
وإليهم بعث الروح الأمين تفضلا من الله ورحمة، وآتاهم ما لم يؤت أحدا من
العالمين، فعندهم بحمد الله ما يلتمس ويحتاج إليه من العلم والهدى في الدين،
وهم النور من الضلالة عند دخول الظلم، وهم الفروع الطيبة من الشجرة المباركة،
وهم معدن العلم، وأهل بيت الرحمة، وموضع الرسالة ومختلف الملائكة، الذين
أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا (1).
وقال محمد بن راشد، عن إسحاق الأزرق، عن إسماعيل بن أبي خالد،
عن قيس بن أبي حارثة، عن جابر بن عبد الله الأنصاري: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال
لأمير المؤمنين علي (عليه السلام): يا علي مالي أراك مغضبا؟ فقلت: بأبي أنت وأمي
يا رسول الله من أقوام من قريش.



(1) ذكر منقبة المطهرين لأبي نعيم الحافظ: لا يوجد لدينا هذا الكتاب.
769
وفي رواية أخرى: ما بال أقوام من قريش إذا ذكر عندهم آل محمد اشمأزت
قلوبهم وتغيرت وجوههم، فإذا ذكر آل إبراهيم وآل عمران رقت قلوبهم وتهللت
وجوههم ودمعت أعينهم؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): والذي بعثني بالحق يا علي لو أن
عبدا من أمتي عبد الله عبادة سبعين نبيا ثم لقي الله عز وجل يوم القيامة ولم يؤد
مودتي ومودة أهل بيتي لأكبه الله تعالى في النار على وجهه يوم القيامة (1).
وقال محمد بن المثنى، عن إبراهيم بن أبي نجيح، عن صفوان: إن رسول
الله (صلى الله عليه وآله) قال: نحن أهل البيت لا نقاس بأحد، ولا يقاس بنا أحد (2).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تزول قدم عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن
عمره فيم أفناه، وعن جسده فيم أبلاه، وعن ماله فيم أنفقه، وعن حب أهل البيت (3).
وقال بشر بن المفضل: سمعت الرشيد يقول: سمعت المهدي يقول: سمعت
المنصور يقول: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها هلك (4).
وقال الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال: لما نزلت * (قل
لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) * (5) قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين
أمر الله تعالى بمودتهم؟ قال: علي وفاطمة وولداهما (6).
وقال علي بن جعفر بن محمد: حدثني أخي موسى بن جعفر، قال: حدثني أبي
جعفر، قال: حدثني أبي محمد بن علي، قال: حدثني أبي علي بن الحسين، قال:
حدثني أبي الحسين بن علي، قال: حدثني أبي علي بن أبي طالب صلى الله عليهم



(1) الأمالي للطوسي: ج 1 ص 139 - 140 المجلس الخامس ح 42.
(2) صدر الرواية في بحار الأنوار: ج 26 ص 153 باب 9 من كتاب الإمامة ذيل ح 40، وذيل
الرواية في بحار الأنوار: ج 68 باب 15 من كتاب الإيمان والكفر ذيل ح 90.
(3) الأمالي للطوسي: ج 2 ص 206 المجلس السادس والعشرون ح 1.
(4) بحار الأنوار: ج 109 ص 106 بسند آخر.
(5) الشورى: 23.
(6) بحار الأنوار: ج 36 ص 166 ب 39 ح 151.
770
أجمعين، قال: أخذ النبي (صلى الله عليه وآله) بيد الحسن والحسين (عليهما السلام) وقال: من أحبني وأحب
هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة (1).
وقال أبو الطفيل: رأيت أبا ذر (رضي الله عنه) وقد لزم حلقة باب الكعبة وهو ينادي
ويقول: أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا اعرفه نفسي،
أنا جندب صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبو ذر الغفاري، إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله)
يقول: مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلف عنها
هلك، وإن مثل أهل بيتي كمثل باب حطة * (وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد
المحسنين) * (2) (3).
وقال أنس بن مالك: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنا وعلي شجرة أصلها في داري
وفرعها في دار علي، والحسن والحسين ثمرها، وفاطمة ورقها، فمن تعلق بأصلها
تحلل عليه فرعها، وكانت قائدته وسائقته إلى الجنة (4).
وقال النبي (صلى الله عليه وآله): النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لامتي (5).
وقال محمد بن محمد بن الأشعث بمصر: حدثنا موسى بن إسماعيل، عن أبيه،
قال: حدثني موسى بن جعفر، عن أبيه، عن محمد بن علي، عن أبيه، عن
الحسين بن علي (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): دخلت الجنة فرأيت على بابها
مكتوبا بالذهب: لا إله إلا الله، محمد حبيب الله، علي بن أبي طالب ولي الله، فاطمة
أمة الله، الحسن والحسين صفوة الله، على مبغضيهم لعنة الله (6).
وقال عبد الملك بن عمير: قال حدثنا سالم البزاز، قال: حدثني أبو هريرة،



(1) الأمالي للصدوق: ص 190 المجلس الأربعون ح 11.
(2) البقرة: 58.
(3) الأمالي للطوسي: ج 2 ص 73 - 74 المجلس السادس عشر ح 29.
(4) صدر الرواية في بحار الأنوار: ج 8 ص 88 باب الجنة ونعيمها بسند آخر، ورواه
الحسكاني في شواهد التنزيل ج 1 ص 396 ح 417.
(5) الأمالي للطوسي: ج 1 ص 265 المجلس العاشر ح 8.
(6) الخصال: ج 1 ص 323 - 324 باب الستة ح 10.
771
قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): خير هذه الأمة من بعدي علي بن أبي طالب وفاطمة
والحسن والحسين، فمن قال غير هذا فعليه لعنة الله (1).
وقال النبي (صلى الله عليه وآله): يا علي الاسلام عريان لباسه الحياء، وزينته الوفاء، ومروءته
العمل الصالح، وعماده الورع، ولكل شئ أساس وأساس الاسلام حبنا أهل البيت (2).
وقال أبو حاتم، عن أبي هريرة، قال: نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى علي وفاطمة
والحسن والحسين فقال: أنا حرب لمن حاربكم، وسلم لمن سالمكم (3).
وقال قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله البجلي، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
من مات على حب آل محمد مات شهيدا، ألا ومن مات على حب آل محمد مات
مغفورا له، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائبا، ألا ومن مات على حب
آل محمد مات مستكمل الإيمان، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك
الموت بالجنة ثم منكر ونكير، ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة
كما تزف العروس إلى بيت زوجها، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله
زوار قبره الملائكة بالرحمة (4).
وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال حدثني أبي، حدثنا عفان، حدثنا
خالد بن عبد الله، حدثنا يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي نعيم، عن أبي
سعيد، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وفاطمة
سيدة نسائهم إلا ما كان من مريم بنت عمران (5).
$ في ذكر الحسن والحسين (عليهما السلام)
وقال الباقر (عليه السلام): كان النبي (صلى الله عليه وآله) جالسا في مسجده فجاء علي (عليه السلام) فسلم
وجلس، ثم جاء الحسن بن علي فأخذه النبي (صلى الله عليه وآله) وأجلسه في حجره وضمه إليه
وقبله، ثم قال له: اذهب فاجلس مع أبيك، ثم جاء الحسين ففعل النبي (عليه السلام) معه
مثل ذلك، وقال له: اجلس مع أبيك، إذ دخل رجل المسجد فسلم على النبي (عليه السلام)



(1) كنز الكراجكي: ج 1 ص 149.
(2) كنز العمال: ج 13 ص 645 ح 37631.
(3) كنز العمال: ج 13 ص 640 ح 37618.
(4) بحار الأنوار: ج 23 ص 233 باب أن مودتهم أجر الرسالة، نقلا عن صاحب الكشاف.
(5) كنز العمال: ج 12 ص 115 ح 34260.
772
خاصة وأعرض عن علي والحسن والحسين فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): ما منعك أن تسلم
على علي وولديه، فوالذي بعثني بالهدى ودين الحق لقد رأيت الرحمة تنزل عليه
وعلى ولديه (1).
وقال العباس بن إبراهيم: حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عمر العبدي، قال:
حدثنا إسرائيل، عن ميسرة بن حبيب، عن المنهال بن عمرو، عن زر بن حبيش،
عن حذيفة، قال: قالت لي أمي: متى عهدك بالنبي (صلى الله عليه وآله)؟
[فقلت: مالي به عهد منذ كذا وكذا. فنالت مني] فقلت: سآتي رسول الله (عليه السلام)
فيستغفر لي ولك. فأتيت رسول الله فصليت معه المغرب. قال: فصلى ما بينهما
- يعني بين المغرب والعشاء - ثم انصرف فاتبعته قال: فبينما هو يمشي إذ عرض له
عارض فناجاه، ثم مضى فاتبعته، فقال: من هذا؟ قلت: حذيفة. قال: ما جاء بك
يا حذيفة؟ فأخبرته بالذي قالت أمي فقال: غفر الله لك يا حذيفة ولأمك أما رأيت
العارض الذي عرض لي؟ قلت: بلى بأبي أنت وأمي. قال: فإنه ملك من الملائكة
لم يهبط إلى الأرض قبل ليلته هذه، استأذن ربه فبشرني - أو فأخبرني - على أن
الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة وأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة (2).
وقال الحسن بن علي (عليهما السلام): قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أهل بيتي نظام أمتي، فإذا
انقرضوا سال عليهم العذاب سيلا.
فصل
في ذكر الحسن والحسين (عليهما السلام)
قال أبو غالب محمد بن أحمد بن سهل النحوي (3) قال: حدثنا أبو عبد الله



(1) الأمالي للطوسي: ج 1 ص 227 المجلس الثامن ح 37.
(2) سنن الترمذي: ج 5 ص 660 ح 3781.
(3) عنوه السيوطي في بغية الوعاة (ص: 11) وقال، قال ياقوت: أحد الأئمة المعروفين، جامع
أشتات العلوم، قرن بن الدراية والفهم والرواية وشدة العناية... الخ
773
محمد بن أحمد السقطي، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن الحسين الزعفراني،
قال: حدثنا هارون بن عبد الله الأنصاري، قال: حدثنا أحمد بن محمد الحجاج بن
روشد المصري، قال: حدثنا حميد بن علي البجلي، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
لما سيق أهل الجنة إلى الجنة قالت الجنة: يا رب أليس وعدتني أن تزينني بركنين
من أركانك؟ فقال: لها أليس قد زينتك بالحسن والحسين، فتميس كما تميس
العروس (1).
وقال محمد بن مروان الذهلي بإسقاط الإسناد، قال: سمعت أبا حارثة
الأشجعي، قال: حدثني أبو هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: إن ملكا استأذن الله عز
وجل في زيارتي فبشرني فيما بشرني وأخبرني فيما أخبرني أن فاطمة سيدة
نساء العالمين وأن ابني الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة (2).
وقال زين العابدين (عليه السلام): إن الحسن والحسين (عليهما السلام) كانا يلعبان عند
النبي (صلى الله عليه وآله) ذات ليلة شاتية وظلمة، فمكثا عنده حتى ذهب عليه الليل، فقال لهما:
انصرفا إلى أمكما، فخرجا وخرج معهما فبرقت لهما برقة، فما زالت حتى دخلا
على أمهما (عليها السلام) ورسول الله (صلى الله عليه وآله) قائم ينظر، فقال: الحمد لله الذي أكرم أهل بيتي (3).
وقال المنصور: حدثني أبي، عن جدي، عن أبيه، قال: كنا ذات يوم عند
رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ أقبلت فاطمة (عليها السلام) وهي تبكي فقال لها رسول الله: ما يبكيك
يا فاطمة؟ قالت: يا أباه إن الحسن والحسن خرجا البارحة وما أعلم أين باتا، وأن
عليا مشى إلى الدالية ليسقي البستان منذ خمسة أيام. فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله):
لا تبكين يا فاطمة إن الذي خلقهما ألطف بهما مني ومنك، ورفع يده إلى السماء
وقال: اللهم إن كانا أخذا برا أو بحرا فاحفظهما وسلمهما. فهبط جبرئيل (عليه السلام) وقال:
يا محمد لا تهتم ولا تحزن هما فاضلان في الدنيا فاضلان في الآخرة، وأنهما



(1) بحار الأنوار: ج 43 ص 304 ب 12 جزء من ح 65 من غير ذكر السند.
(2) كنز العمال: ج 12 ص 102 ح 34192، عن حذيفة أيضا.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 390.
774
في حظيرة بني النجار نائمان، وقد وكل الله عز وجل بهما ملكا يحفظهما فقام
رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومعه جماعة من الصحابة حتى أتوا الحظيرة، وإذا الحسن معانق
الحسين (عليهما السلام) والملك الموكل بهما أحد جناحيه تحتهما وقد أظلهما بالجناح
الآخر، فأكب النبي (صلى الله عليه وآله) عليهما يقبلهما، فأنبههما من نومهما، فحمل الحسن على
كتفه الأيمن والحسين على كتفه الأيسر حتى خرج من الحظيرة وهو يقول:
لأشرفهما اليوم كما أكرمهما الله عز وجل فاستقبله أبو بكر وقال: يا رسول الله
ناولني أحدهما أحمله عنك. فقال النبي (صلى الله عليه وآله): نعم الحامل ونعم المحمول وأبوهما
خير منهما، حتى أتى المسجد فقال لبلال: هلم إلى الناس، فاجتمعوا، فقام (عليه السلام)
على قدميه وقال: معاشر الناس ألا أدلكم على خير الناس جدا وجدة؟ قالوا:
بلى يا رسول الله قال: الحسن والحسين، جدهما محمد رسول الله وجدتهما
خديجة بنت خويلد سيدة نساء أهل الجنة. ألا أدلكم على خير الناس أبا واما؟
قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الحسن والحسين، أبوهما علي بن أبي طالب أخو
رسول الله وابن عمه وأمهما فاطمة ابنة رسول الله سيدة نساء العالمين. ألا أدلكم
على خير الناس خالا وخالة؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الحسن والحسين،
خالهما القاسم بن رسول الله وخالتهما زينب بنت رسول الله. ألا أدلكم على خير
الناس عما وعمة؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: الحسن والحسين، عمهما جعفر
الطيار في الجنة وعمتهما أم هانئ بنت أبي طالب. ثم قال: اللهم إنك تعلم أن
الحسن والحسين في الجنة، وجدهما في الجنة، وجدتهما في الجنة، وأبوهما
وأمهما في الجنة، وخالهما وخالتهما في الجنة، وعمهما وعمتهما في الجنة، اللهم
إنك تعلم أن من يحبهما في الجنة ومن يبغضهما في النار (1).
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني أبي، حدثنا وهيب، حدثنا
عبد الله بن عثمان بن خيثم، عن سعيد بن أبي راشد، عن يعلى أنه جاء حسن



(1) قريب منه ما في بحار الأنوار: ج 43 ص 266 ب 12 ح 25.
775
وحسين يستبقان إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فضمهما إليه وقال: إن الولد منحلة محبته (1).
وقال عبد الله أيضا، قال: حدثني أبي، حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن
سالم بن أبي الجعد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): سميت ابني هذين حسنا وحسينا
باسم ابني هارون شبر وشبير (2).
وقال عبد الله: قال حدثني أبي، حدثنا ابن نمير، قال: حدثنا الحجاج يعني ابن
دينار الواسطي، عن جعفر بن أياس، عن عبد الرحمن بن مسعود، عن أبي هريرة،
قال: خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه حسن وحسين، هذا على عاتقه وهذا
على عاتقه، وهو يلثم (3) هذا مرة وهذا مرة حتى انتهى إلينا، فقال له رجل: يا رسول
الله إنك لتحبهما فقال: من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني (4).
وقال عبد الله، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: حدثني
حسين بن واقد، قال: حدثني عبد الله بن بريدة، قال: سمعت أبي بريدة يقول: كان
رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخطبنا فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يمشيان
ويعثران، فنزل النبي (صلى الله عليه وآله) من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال: صدق الله
* (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) * (5) نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران فلم
أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما (6).
وقال عبد الله بن محمد الهاشمي، قال: حدثنا يعقوب بن جعفر، قال: حدثني
أبي، عن أبيه سليمان، عن جده، عن عبد الله بن عباس أنه قال: جاءت فاطمة (عليها السلام)
إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بابنيها الحسن والحسين (عليهما السلام) فقالت: يا رسول الله انحلهما شيئا
فقال لها: فداك أبوك. ثم أخذ الحسن فقبله وقال لها: أما ابني هذا فقد نحلته نفسي



(1) مسند أحمد بن حنبل: ج 4 ص 172 وفيه: جاء الحسن والحسين رضي الله عنهما يستبقان
إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فضمهما إليه وقال: إن الولد مبخلة مجبنة.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 397.
(3) لثمه: أي قبله.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 382.
(5) الأنفال: 28.
(6) المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 385.
776
وخلقي، ثم أخذ الحسين فقبله وقال: أما ابني هذا فقد نحلته شجاعتي وجودي (1).
ومن كتاب الذرية الطاهرة المطهرة لأبي بشر محمد بن أحمد بن حماد
الدولابي: وروى الحسن بن الحكم، عن الشمال بنت موسى، عن أم عثمان أم ولد
علي بن أبي طالب، قالت: كان لآل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسادة يجلس عليها
جبرئيل (عليه السلام) لا يجلس عليها غيره، فإذا عرج طويت، وكان إذا عرج انتفض فسقط
من زغب (2) ريشه، فتقوم فاطمة (عليها السلام) فتجمعه فتجعله في تمائم الحسن والحسين (3).
وروى النطنزي في كتاب الخصائص، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن عبد
الواحد بن محمد بن أحمد الحافظ إملاء، قال: أخبرني أبو بكر أحمد بن الفضل
بقراءتي عليه، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو سعيد بن زياد، قال:
حدثنا إبراهيم بن سليمان، قال: حدثنا خلاد بن عيسى، قال: حدثنا قيس بن
الربيع، عن أبي حصين، عن يحيى بن وثاب، عن ابن عمر، قال: كان على الحسن
والحسين تعويذان من زغب جناح جبرئيل (عليه السلام) (4).
وقال زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب، قال: رأيت الحسن
والحسين على عاتق النبي (صلى الله عليه وآله) فوجدت عليهما نفاسة لمكانهما، فقلت: نعم
الفرس تحتكما فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ونعم الفارسان هما (5).
وقال الحسن بن أسامة بن زيد، قال: أخبرني أبي أسامة بن زيد، قال: طرقت
النبي (صلى الله عليه وآله) ليلة في بعض الحاجة فخرج النبي (صلى الله عليه وآله) وهو مشتمل على شئ لا أدري
ما هو. فلما فرغت من حاجتي فقلت: ما هو الذي أنت مشتمل عليه؟ فكشفه فإذا
حسن وحسين على وركيه، فقال: هذان ابناي وابنا ابنتي، اللهم إني أحبهما
فأحبهما وأحب من يحبهما (6).



(1) المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 396.
(2) الزغب: صغار الريش.
(3) الذرية الطاهرة: ص 123، الحديث 143.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 392.
(5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 387.
(6) المناقب لابن شهرآشوب: ج 3 ص 382.
777
وقال عقبة بن خالد، عن يوسف بن إبراهيم أنه سمع أنس بن مالك يقول: سئل
رسول الله (صلى الله عليه وآله) أي أهل بيتك أحب إليك؟ قال: الحسن والحسين.
وكان يقول لفاطمة (عليها السلام): ادعي لي ابني فيشمهما ويضمهما إليه (1).
وقال إسماعيل بن عياش، قال: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن
سعيد بن راشد، عن يعلى، قال: جاء الحسن والحسين (عليهما السلام) يسعيان إلى رسول
الله (صلى الله عليه وآله) فأخذ أحدهما فضمه إلى إبطه، وأخذ الآخر فضمه إلى إبطه، وقال: هذان
ريحانتي من الدنيا، ومن أحبني فليحبهما. ثم قال: الولد منحلة محبته مجهلة (2).
ومما يدل على أن الحسن والحسين (عليهما السلام) ذرية النبي (صلى الله عليه وآله) وولداه قوله تعالى:
* (ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود
وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا
ويحيى وعيسى والياس كل من الصالحين) * (3) فعيسى (عليه السلام) دخل في الذرية من
قبل أمه، وكذلك الحسن والحسين (عليهما السلام).
$ في العترة وفي " قوله اني مخلف فيكم الثقلين... "
فصل
في العترة وفي قوله " إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله
وعترتي أهل بيتي "
قال أبو القاسم الكوفي: روي في قوله تعالى: * (وما يعلم تأويله إلا الله
والراسخون في العلم) * (4) أن الراسخين في العلم من قرنهم الرسول (صلى الله عليه وآله) بالكتاب
وأخبر أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض (5).



(1) كشف الغمة: ج 1 ص 520.
(2) بحار الأنوار: ج 37 ص 75 ب 50 ذيل ح 40 نقلا عن فضائل السمعاني، وليس فيه " ثم
قال: الولد منحلة محبته مجهلة ".
(3) الأنعام: 84 - 85.
(4) آل عمران: 7.
(5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 285.
778
وقال علي (عليه السلام): أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا كذبا وبغيا
علينا وحسدا لنا أن رفعنا الله سبحانه ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وأدخلنا
وأخرجهم، بنا يستعطى الهدى ويجلى العمى لا بهم (1).
أبو الصباح الكناني وأبو نصر كلاهما عن الصادق (عليه السلام)، وروى الفضل بن
يسار وبريد بن معاوية العجلي كلاهما عن الباقر (عليه السلام)، واللفظ للكناني: نحن قوم
فرض الله طاعتنا، لنا الأنفال ولنا صفو المال، ونحن الراسخون في العلم، ونحن
المحسودون في الدين قال الله تعالى: * (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله
من فضله) * (2).
والراسخ في اللغة هو اللازم الذي لا يزول عن حاله، ولا يكون كذلك إلا من
طبعه الله تعالى على العلم في ابتداء نشوئه كعيسى (عليه السلام) في وقت ولادته قال: * (إني
عبد الله آتاني الكتاب (3)... الآية) * (4) فأما من بقي السنين الكثيرة لا يعلم ثم يطلب
العلم فيناله من جهة غيره على قدر ما يجوز أن يناله منه فليس ذلك من الراسخين.
يقال: رسخت عروق الشجر في الأرض، ولا يرسخ إلا صغيرا (5).
والأئمة الاثنا عشر (عليهم السلام) ما نقل عن واحد منهم أنه قعد عند معلم، ولا تردد
إلى فقيه ولا إلى محدث فعلم الله تعالى أن المبطل يقول: كل واحد منهم تعلم
من أبيه فقبض الله تعالى الرضا (عليه السلام) ولولده الجواد ثمان سنين، وقبض الجواد
ولولده الهادي ثمان سنين، ومع هذا لم يقصرا عن علم آبائهما (عليهم السلام)، ولا ترددا
إلى معلم ولا فقيه ولا أخذا عن أحد شيئا من العلم، بل كان علمهم (عليهم السلام) إفاضة
من الله تعالى.
وكذلك علم أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ما يخلو من أن يكون إفاضة من الله
تعالى بدعاء الرسول (صلى الله عليه وآله) له بذلك فسرى ذلك في ولده (عليهم السلام)، أو أن النبي (صلى الله عليه وآله)



(1 و 2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 285.
(3) في الأصل زيادة: " والحكمة " وهو من سهو القلم.
(4) مريم: 30.
(5) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 285.
779
أطلعه على أسرار وعلوم ما اطلع عليها غيره من القرابة والصحابة، وكلا الوجهين
يدلان على فضل عظيم وخطر جسيم.
ذكر الحافظ أحمد بن مردويه حديث قول النبي (صلى الله عليه وآله) " إني مخلف فيكم
الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي " من تسعة وثمانين طريقا، نحن ذاكرون منها
ما يتهيأ لئلا يطول بذلك الكتاب.
قال: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن عثمان، حدثنا النضر بن سعيد
أبو صهيب، قال: وحدثنا الحضرمي، حدثنا جعفر بن حميد، حدثنا عبد الله بن
بكير، عن حكيم بن جبير، عن أبي الطفيل، عن زيد بن أرقم، قال: نزل النبي (صلى الله عليه وآله)
يوما الجحفة ثم أقبل على الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إني لا أجد لنبي
إلا نصف عمر الذي كان قبله، واني أوشك أن ادعى فأجيب، فما أنتم قائلون؟
قالوا: نصحت فقال: أليس تشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله،
وأن الجنة حق؟ وأن النار حق قالوا: نشهد. قال: وأن البعث بعد الموت حق؟ قالوا:
نشهد قال: فرفع يده فوضعها على صدره ثم قال: وأنا أشهد معكم. ثم قال: ألا هل
تسمعون؟ قالوا: نعم. قال: فإني فرطكم على الحوض، وإنكم واردون على الحوض،
وإن عرضه أبعد ما بين صنعاء وبصرى، فيه أقداح عدد النجوم من فضة فانظروا
كيف تخلفوني في الثقلين. فنادى مناد: وما الثقلان يا رسول الله؟ قال: كتاب الله
طرف بيد الله وطرف بأيديكم فاستمسكوا به لا تضلوا، والآخر عترتي، وأن
اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، وسألت ذلك لهما فلا
تتقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم (1).
ونقله الحافظ لهذا الحديث عن شريك وزاد فيه: وهما الخليفتان من بعدي.
ورواه أيضا محمد بن علي النطنزي الذي قال محمد بن النجاري عنه أنه



(1) راجع الغدير للعلامة الأميني: ج 1 ص 33 فقد ذكر كثيرا من طرق هذا الحديث. منها
ما رواه ابن طلحة الشافعي في مطالب السؤول: ص 16، والهيثمي في مجمع الزوائد: ج 9
ص 104 وص 163 ومحب الدين الطبري في الرياض النضرة: ج 2 ص 169، والذهبي في
تلخيصه ج 3 ص 553، وميزان الاعتدال: ج 3 ص 224.
780
نادرة الفلك وكان (1) أهل زمانه في بعض فضائله في كتابه الذي سماه بالخصائص:
أخبرنا أبو الفتح إسماعيل بن الفضل المقري، قال: أخبرنا أبو طاهر الكاتب، قال:
أخبرنا عبد الله بن جعفر، حدثنا عبد الله بن محمد بن زكريا، حدثنا إسحاق بن
الفيض، قال: حدثنا سلمة بن حفص، قال: حدثنا عبد الله بن حكيم بن جبير، عن
أبيه، عن أبي الطفيل، عن زيد بن أرقم، قال: نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم الجمعة غدير
خم فأمر بدوم وهو شجر عظام، فنظف ما تحتهن ثم جلس تحتهن، فأقبل على
الناس بوجهه فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إني لا أجد لنبي إلا نصف عمر الذي
كان قبله، وإني أوشك أن ادعى فأجيب، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: بلغت ونصحت.
فقال: أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني عبد الله ورسوله وأن الجنة حق وأن
النار حق وأن البعث حق؟ قالوا: نشهد. قال: فرفع يده فوضعها على صدره ثم قال:
وأنا أشهد معكم. ثم قال: ألا تسمعون؟ قالوا: نعم. قال: فإني فرطكم وأنتم واردون
علي الحوض، وأن عرضه أبعد ما بين صنعاء وبصرى، فيه أقداح عدد الكواكب،
فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين. فنادى مناد وما الثقلان يا رسول الله؟ قال:
كتاب الله وهو الثقل الأكبر طرف بيد الله وطرف بأيديكم لا تزلوا ولا تضلوا،
والأصغر عترتي. فإن اللطيف الخبير أنبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي
الحوض، وسألت ذلك لهما ربي عز وجل، فلا تتقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا
عنهما فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم ثم قال: ألا هل تسمعون؟ قالوا: نعم.
قال: تشهدون أني أولى بالناس من أنفسهم؟ قالوا: نعم. قال: فأخذ بيد علي (عليه السلام)
ثم رفع يده ثم قال: من كنت أولى به من نفسه فعلي وليه، ثم أرسل يد علي وقال:
اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. قال زيد بن أرقم: والله ما بقي تحت الدوح
يومئذ من أحد يسمع ويبصر إلا سمع ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ورآه بعينه (2).



(1) كذا في الأصل.
(2) راجع كتاب الغدير للعلامة الأميني ج 1 ص 14 - 151 فقد ذكر " 360 " راويا من رواة هذا
الحديث.
781
قد روى الحافظ أحمد بن مردويه في تفسير آية الطهارة أن العترة علي
وفاطمة والحسن والحسين من مائة وثلاثين طريقا بأسانيدها في كتاب المناقب
الذي له. وما أظن أن في الفرق الأربع من تمسك بالعترة يوما واحدا، ولا أخذوا
عنهم خبرا واحدا، ولا أظن أنهم يعرفون أسماءهم ولا مساكنهم.
وفي الخبر دلالة أنه ما يخلو زمان إلا وفيه أحد من العترة، لأنه (صلى الله عليه وآله) قرنهم
بالكتاب، فمهما الكتاب موجود هم موجودون، فما عذر من تخلف عن العترة
والتمسك بهم مع كتاب الله عز وجل غدا في الموقف إذا سئل كيف تلزمك بالعترة
الذين أوصيت بالتلزم بهم؟ وأي شئ أخذت عنهم؟ ولم تركتهم وعدلت عنهم إلى
غيرهم ممن لم توص باتباعه والتمسك به؟
ولا ريب أنهم يردون يوم القيامة كما ذكر عباد بن يعقوب المذكور أنه من
رجال المذاهب الأربعة في كتاب المعرفة، قال ما هذا لفظه: حدثنا أبو عبد الرحمن
المسعودي، قال: حدثنا الحارث بن حصيرة، عن صخر بن الحكم القزواني، عن
حنان بن الحارث الأزدي، عن الربيع بن جميل الضبي، عن مالك بن ضمرة
الرواسي، عن أبي ذر (رضي الله عنه)، قال: لما أن سير أبو ذر (رضي الله عنه) اجتمع هو وعلي (عليه السلام)
والمقداد بن الأسود، قال: ألستم تشهدون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال " أمتي ترد علي
الحوض على خمس رايات: أولها راية العجل، فأقوم فآخذ بيده، فإذا أخذت بيده
اسود وجهه وجفت قدماه وخفقت أحشاؤه وفعل ذلك تبعه، فأقول لهم: ماذا
خلفتموني في الثقلين بعدي؟ فيقولون: كذبنا الأكبر ومزقناه واضطهدنا الأصغر
وابتززناه حقه، فأقول: اسلكوا ذات الشمال، فينصرفون ظماء مظمئين مسودة
وجوههم لا يطعمون منه قطرة. ثم ترد علي راية فرعون أمتي وهم المبهرجون.
قلت: يا رسول الله وما المبهرجون؟ بهرجوا الطريق؟ قال: لا، ولكنهم بهرجوا
دينهم، وهم الذين يغضبون للدنيا، ولها يرضون، ولها يسخطون، ولها ينصبون،
فآخذ بيد صاحبهم، فإذا أخذت بيده اسود وجهه ورجفت قدماه وخفقت أحشاؤه
وفعل ذلك تبعه، فأقول لهم: ماذا خلفتموني في الثقلين بعدي؟ فيقولون كذبنا الأكبر

782
ومزقناه وقاتلنا الأصغر وقتلناه. فأقول: اسلكوا طريق أصحابكم، فينصرفون
ظماء مظمئين مسودة وجوههم لا يطعمون منه قطرة. ثم يرد علي راية فلان وهو
إمام خمسين ألفا من أمتي فأقوم فآخذ بيده، فإذا أخذت بيده اسود وجهه ورجفت
قدماه وخفقت أحشاؤه وفعل ذلك تبعه، فأقول لهم: ماذا خلفتموني في الثقلين
بعدي؟ فيقولون: كذبنا الأكبر وعصيناه وخذلنا الأصغر وخذلنا عنه. فأقول:
اسلكوا سبيل أصحابكم، فينصرفون ظماء مظمئين مسودة وجوههم لا يطعمون
منه قطرة. ثم يرد علي المخدج برايته وهو إمام سبعين ألفا من أمتي، فإذا أخذت
بيده اسود وجهه ورجفت قدماه وخفقت أحشاؤه وفعل ذلك تبعه، فأقول: ماذا
خلفتموني في الثقلين بعدي؟ فيقولون: كذبنا الأكبر وعصيناه وقاتلنا الأصغر
وقتلناه فأقول: اسلكوا سبيل أصحابكم، فينصرفون ظماء مظمئين مسودة وجوههم
لا يطعمون منه قطرة ثم يرد علي أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين فأقوم فآخذ
بيده، فيبيض وجهه ووجوه أصحابه، فأقول: ماذا خلفتموني في الثقلين بعدي؟
فيقولون: تبعنا الأكبر وصدقناه ووازرنا الأصغر ونصرناه وقتلنا معه. فأقول لهم:
رووا (1)، فيشربون شربة لا يظمئون بعدها أبدا وينصرفون رواء مرويين، وجه
إمامهم كالشمس الطالعة ووجوههم كالقمر ليلة البدر وكأضواء نجم في السماء.
قال: ألستم تشهدون على ذلك؟ قالوا: بلى. قال: وانا على ذلكم من الشاهدين (2).
قال الحارث: اشهدوا علي عند الله أن صخر بن الحكم حدثني به، وقال صخر:
اشهدوا علي بهذا عند الله أن حيان بن الحارث حدثني به، وقال حيان: اشهدوا علي
بهذا عند الله أن الربيع بن جميل حدثني به، وقال الربيع: اشهدوا علي بهذا عند الله أن
مالك بن ضمرة حدثني به، وقال مالك: اشهدوا علي بهذا عند الله أن أبا ذر حدثني
به، وقال أبو ذر (رضي الله عنه): اشهدوا علي عند الله أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حدثني به، وقال
رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأبي ذر: اشهد أن جبرئيل (عليه السلام) حدثني به عن الله تعالى.



(1) في الأصل اردوا.
(2) بحار الأنوار: ج 8 ص 14 - 15 ب 19 ح 19 نقلا عن كتاب " كشف اليقين ".
783
وفي مسند ابن حنبل: قال الأوزاعي، عن شداد بن عمارة، قال: دخلت على
الأسقع وعنده قوم فذكروا عليا (عليه السلام) فشتموه، فشتمته معهم، فقال: ألا أخبرك بما
رأيت من رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قلت: بلى. قال: أتيت فاطمة (عليها السلام) أسألها عن علي (عليه السلام)
فقالت: قد توجه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله). فجلست أنتظره، إذ جاء رسول الله (صلى الله عليه وآله)
فجلس ومعه علي والحسن والحسين، فأخذ كل واحد منهما بيده حتى دخل،
فأدنى عليا وفاطمة فأجلسهما بين يديه، وأجلس حسنا وحسينا كل واحد منهما
على فخذيه ثم لف عليهم ثوبه أو قال: كساء، ثم تلا هذه الآية: * (إنما يريد الله
ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * ثم قال: هؤلاء أهل بيتي،
وأهل بيتي أحق (1).
وقال واثلة وقد رأى رجلا من الشام قد أظهر سرورا لما جئ برأس
الحسين (عليه السلام): لو رأيتني ذات يوم وقد جئت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو في منزل أم سلمة
- رضي الله عنها - إذ جاء الحسن فأجلسه على فخذه اليمنى وقبله، وجاء الحسين
فأجلسه على فخذه اليسرى وقبله، ثم جاءت فاطمة فأجلسها بين يديه، ثم دعا
بعلي فجاء، ثم أردف عليهم كساء خيبريا كأني أنظر إليه ثم قال: * (إنما يريد الله
ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * فقيل لواثلة: ما الرجس؟ قال:
الشك في الله (2).
$ ذكر الأئمة الاثنا عشر وما جاء في ذلك عن النبي (صلى الله عليه وآله)
فصل
في ذكر الأئمة الاثني عشر وما جاء في ذلك عن النبي (صلى الله عليه وآله)
نبدأ في شرح المعاني التي ذكر اختصاصهم بها، وهي الإمامة الثابتة لكل
واحد منهم، وكون عددهم منحصرا في اثنا عشر إماما.
فأما ثبوت الإمامة لكل واحد منهم فإنه حصل ذلك لكل واحد من الذي قبله،



(1) مسند أحمد بن حنبل: ج 4 ص 107.
(2) مسند أحمد بن حنبل: ج 4 ص 107.
784
فحصلت للحسن التقي من أبيه علي بن أبي طالب (عليهما السلام)، وحصلت بعده لأخيه
الحسين الزكي منه، وحصلت بعد الحسين لابنه علي زين العابدين منه، وحصلت
بعد زين العابدين لولده محمد الباقر منه، وحصلت بعد الباقر لولده جعفر الصادق
منه، وحصلت بعد الصادق لولده موسى الكاظم منه، وحصلت بعد الكاظم لولده
علي الرضا منه، وحصلت بعد الرضا لولده محمد القانع منه، وحصلت بعد القانع
لولده علي المتوكل منه، وحصلت بعد المتوكل لولده الحسن الخالص منه،
وحصلت بعد الخالص لولده الحجة المهدي منه.
وأما ثبوتها لأمير المؤمنين (عليه السلام) فمستقصى في كتب الأصول على أكمل
الوجوه، وقد ذكرنا طرفا من ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب، فلا حاجة إلى
بسط القول فيه في هذا الباب.
وأما كون عدد الأئمة اثنا عشر فقد قال العلماء فيهم، فمنهم من طول فأفرط
إفراط المليم، ومنهم من قلل فقصر ففرط فزل عن السنن القويم، وقد ذكر بعضهم
في ذلك طريقة متوسطة نحن ذاكرون بعضها ونذكر بعد ذلك ما ورد من الأخبار
والأحاديث في هذا الباب، فقال: إن الإيمان والإسلام مبني على أصلين:
أحدهما: لا إله إلا الله، والثاني: محمد رسول الله، وكل واحد من هذين الأصلين
مركب من اثني عشر حرفا، والإمامة فرع الإيمان المتأصل والإسلام المقرر،
فيكون عدة القائمين بها اثنا عشر كعدد كل واحد من الأصلين المذكورين.
الثاني: أن الله تعالى أنزل في كتابه العزيز * (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل
وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا) * (1) فجعل عدة القائمين بهذه الفضيلة والتقدمة والنقبية
التي هي النقابة مجتمعة بهذا العدد، فيكون عدة القائمين بفضيلة الإمامة والتقدمة
بها مختصة به، ولهذا لما بايع رسول الله (صلى الله عليه وآله) الأنصار ليلة العقبة قال لهم: اخرجوا
لي منكم اثنا عشر نقيبا كنقباء بني إسرائيل، ففعلوا فصار ذلك طريقا متبعا
وعددا مطلوبا.



(1) المائدة: 12.
785
الثالث: قال الله تعالى * (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون *
وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا) * (1) فجعل الأسباط الهداة إلى الحق في بني
إسرائيل اثنا عشر، فيكون الأئمة الهداة في الاسلام اثنا عشر.
الرابع: أن مصالح العالم في تصرفاتهم لما كانت في حصولها مفتقرة إلى
الزمان لاستحالة انتظام مصالح الأعمال وإدخالها في الوجود الدنياوي بغير
الزمان، وكان الزمان عبارة عن الليل والنهار، وكل واحد منهما حال الاعتدال
مركب من اثنى عشر جزء تسمى ساعات، فكانت مصالح العالم مفتقرة على ما هو
بهذا العدد، وكانت مصالح الأنام مفتقرة إلى الأئمة وإرشادها، فجعل عددهم كعدد
أجزاء كل واحد من جزء الزمان للافتقار إليه كما تقدم.
الخامس: أن نور الإمامة يهدي القلوب والعقول إلى سلوك طريق الحق
ويوضح لها المقاصد في سلوك سبيل النجاة كما تهدي نور الشمس والقمر أبصار
الخلائق إلى السلوك الطرق ويوضح لهم المنائح السهلة ليسلكوها والمسالك
الوعرة ليتركوها، فهما نوران هاديان أحدهما يهدي البصائر وهو نور الإمامة،
والآخر يهدي الأبصار وهو نور الشمس والقمر، ولكل واحد من هذين النورين
محال تتناقلها، فمحل ذلك النور الهادي الأبصار البروج الاثنا عشر التي أولها
الحمل وآخرها المنتهى إليه الحوت، فينتقل من واحد إلى آخر، فيكون محال
النور الثاني الهادي للبصائر وهو نور الإمامة منحصرا في اثني عشر أيضا.
تنبيه: قد ورد في الحديث النبوي " إن الأرض بما عليها محمولة على الحوت "
وفي هذا إشارة لطيفة وحكمة شريفة وهو أن محال ذلك النور لما كان آخرها
الحوت، والحوت حامل لأثقال هذا الوجود ومقر العالم في الدنيا، فآخر محال
هذا النور وهو نور الإمامة أيضا حامل أثقال مصالح أديانهم وهو المهدي (عليه السلام).
السادس: أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: " الأئمة من قريش " (2) فلا يجوز أن تكون



(1) الأعراف: 159 و 160.
(2) مسند أحمد بن حنبل: ج 4 ص 421، ج 3 ص 129، ج 3 ص 183.
786
الإمامة في غير قريش وإن كان عربيا. والذي عليه محققو علماء النسب أن كل من
ولده النضر بن كنانة فهو قرشي، فمرد كل قرشي إلى النضر بن كنانة، والنضر هو
دوحة يتفرع صفة الشرف عليها وتنبعث منها وترجع إليها، وهذه القبيلة الشريفة
كمل شرفها وعظم قدرها واشتهر ذكرها واستحقت التقدم على بقية القبائل وسائر
البطون من العرب وغيرها برسول الله (صلى الله عليه وآله)، فنسب قريش انحدر من النضر بن
كنانة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فرسول الله في الشرف بمنزلة مركز الدائرة بالنسبة إلى
محيطها، فمنه يرقى الشرف، فإذا فرضت الشرف خطا متصاعدا متراقيا متصلا إلى
المحيط مركبا من نقط هي آباؤه أبا فأبا وجدته (صلى الله عليه وآله) محمد بن عبد الله بن عبد
المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن
غالب بن فهر بن مالك بن النضر، فالمركز الذي انبعث منه الشرف متصاعدا هو
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ووجدت المحيط الذي ينتهي الصفة الشريفة القرشية إليه هو
النضر بن كنانة، فالخط المتصاعد الذي بين المركز وبين المنتهى المحيط أجزاؤه
اثنا عشر جزء، فإذا كانت درجات الشرف المعدودة متصاعدا اثنا عشر لاستحالة
أن يكون الخطان الخارجان من المركز إلى المحيط متفاوتين، في النبي (صلى الله عليه وآله) (1)
منبع الشرف الذي الإمامة منه بنفسه متصاعدا وهو منبع الشرف الذي هو محل
الإمامة متنازلا فيلزم أن يكون الأئمة اثنا عشر، وكما أن الخط المتصاعد اثنا عشر
فالخط المتنازل اثنا عشر، وهم: علي، الحسن، الحسين، علي، محمد، جعفر،
موسى، علي، محمد، علي، الحسن، محمد. فأول من ثبت له الصفة بأنه قرشي
مالك بن النضر ولا يتعداه صاعدا وهو الثاني عشر، فكذلك منتهى من ثبتت له
الإمامة ولا يتعداه نازلا واستقرت فيه محمد بن الحسن المهدي وهو الثاني عشر
صلى الله عليهم أجمعين.
وتذكر ما جاء في ذلك من الأخبار والأحاديث إن شاء الله تعالى، للشيعة
في ذلك طريقان معروفان: أحدهما من رواية العامة، والأخرى من رواية الخاصة.



(1) كذا، والظاهر: فالنبي.
787
فأما طريق العامة فمن ذلك ما رووه عن مسروق أنه قال: كنا عند ابن مسعود
في المسجد بين المغرب والعشاء الآخرة فقرأنا القرآن وقلنا له: يا با عبد الرحمن
هل سألتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) كم الخلفاء بعده؟ فقال: بلى قد سألناه فقال: إنهم اثنا
عشر عدد نقباء بني إسرائيل (1).
ومثله ما رووه عن جابر بن سمرة أنه قال: كنت مع والدي عند رسول الله (صلى الله عليه وآله)
فقال: يملك هذا الأمر بعدي اثنا عشر كل منهم هاد مهدي (2).
وقال أبو الحسن علي بن إبراهيم بن حماد الأزدي، قال: حدثني أبي، حدثني
محمد بن مروان، حدثني عبد الله بن أبي أمية مولى بن مجاشع، عن يزيد الرقاشي،
عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لن يزال الدين إلى اثني عشر رجلا
من قريش، فإذا هلكوا ماجت الأرض بأهلها (3).
وقال أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني، قال: حدثنا عبد الله بن
أحمد بن مسترد، حدثنا محول، قال: أخبرنا محمد بن بكر، عن زياد بن المنذر،
قال: حدثنا عبد العزيز بن حصين، قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): يكون بعدي اثنا عشر خليفة من قريش ثم تكون فتنة دوارة.
قال: قلت: أنت سمعته من رسول الله؟ قال: وإن على عبد الله بن أبي أوفى يومئذ
برنس خز (4).
وقال أبو المفضل محمد بن عبد الله بن المطلب الشيباني، حدثنا أحمد بن
مطرف بن سواد أبو الحسين القاضي البستي بمكة، قال: أخبرني أبو حاتم المهلبي
المغيرة بن محمد بن مهلب، حدثنا عبد الغفار بن كثير الكوفي، عن هيثم بن حميد،
عن أبي هاشم، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: قدم يهودي على رسول الله (صلى الله عليه وآله)



(1) مسند أحمد بن حنبل: ج 1 ص 398.
(2) مسند أحمد بن حنبل: ج 5 ص 93.
(3) كنز العمال: ج 12 ص 34 ح 33861.
(4) لم نعثر عليه بلفظه. والأحاديث بهذا المعنى كثيرة راجع بحار الأنوار: ج 36 ص
226 - 373 باب 41 من تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام).
788
يقال له نعثل فقال: يا محمد إني سائلك عن أشياء تلجلج في صدري منذ حين فإن
أنت أجبتني عنها أسلمت على يديك. قال: سل يا أبا عمارة. قال: يا محمد صف لي
ربك؟ فقال (عليه السلام): إن الخالق لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، وكيف يوصف الخالق
الذي تعجز الحواس أن تدركه، والأوهام أن تناله، والخطرات أن تحده، والأبصار
أن تحيط به، جل عما يصفه الواصفون، ناء في قربه، وقرب في نائه، كيف الكيف
فلا يقال كيف، وأين الأين فلا يقال أين، هو منقطع الكيفية فيه، والأينونية، فهو
الأحد الصمد كما وصف نفسه، والواصفون لا يبلغون نعته، لم يلد ولم يولد ولم
يكن له كفوا أحد. قال: صدقت يا محمد، فأخبرني عن قولك أنه واحد لا شبيه له،
أليس الله واحدا والإنسان واحدا، ووحدانيته قد استوت ووحدانية الانسان؟
فقال (عليه السلام): الله واحد واحدي المعنى والإنسان واحد ثنوي المعنى، جسم وعرض
وبدن وروح، وإنما التشبيه في المعاني لا غير. قال: صدقت يا محمد، فأخبرني عن
وصيك من هو، فما من نبي إلا وله وصي، وأن نبينا موسى بن عمران (عليه السلام) أوصى
إلى يوشع بن نون؟ فقال: نعم إن وصيي والخليفة بعدي علي بن أبي طالب، وبعده
سبطاي الحسن والحسين، يتلوه تسعة من صلب الحسين، أئمة أبرار. فقال:
يا محمد فسمهم لي؟ قال: نعم، إذا مضى الحسين فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه
محمد، فإذا مضى محمد فابنه جعفر، فإذا مضى جعفر فابنه موسى، وبعد موسى
على ابنه، وبعد علي محمد ابنه، وبعد محمد علي ابنه، وبعد علي الحسن ابنه، وبعد
الحسن الحجة بن الحسن بن علي، فهؤلاء اثنا عشر أئمة عدد نقباء بني إسرائيل.
قال: فأين مكانهم في الجنة؟ قال: معي في درجتي. قال: أشهد أن لا إله إلا الله
وأنك رسول الله، وأشهد أنهم الأوصياء بعدك، ولقد وجدت هذا في الكتب
المتقدمة، وفيما عهد إلينا موسى بن عمران (عليه السلام) أنه إذا كان آخر الزمان يخرج نبي
يقال له أحمد، خاتم الأنبياء، لا نبي بعده، يخرج من صلبه أئمة أبرار عدد
الأسباط. قال: فقال النبي (عليه السلام): يا أبا عمارة أتعرف الأسباط؟ قال: نعم يا رسول
الله، إنهم كانوا اثنا عشر قال: فمنهم لاي بن أرحبا قال: أعرفه يا رسول الله،

789
وهو الذي غاب عن بني إسرائيل سنين ثم عاد فأظهر شريعة بعد دراستها، وقاتل
مع قرسطيا الملك حتى قتله. فقال (عليه السلام): كائن في أمتي ما كان في بني إسرائيل
حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة، فإن الثاني عشر من ولدي يغيب حتى لا يرى
ويأتي على أمتي زمن لا يبقى من الاسلام إلا رسمه ومن القرآن إلا وسمه، فحينئذ
يأذن الله له بالخروج فيظهر الاسلام ويجدد الدين. ثم قال (عليه السلام): طوبى لمن أحبهم،
وطوبى لمن تمسك بهم، والويل لمبغضيهم. فانتفض نعثل وقام بين يدي رسول
الله (صلى الله عليه وآله) وأنشأ يقول:
صلى العلي ذو العلا * عليك يا خير البشر
أنت النبي المصطفى * والهاشمي المفتخر
بك قد هدانا ربنا * وفيك نرجو ما أمر
ومعشر سميتهم * أئمة اثنا عشر
حباهم رب العلى * ثم صفاهم من كدر
قد فاز من والاهم * وخاب من عادى الزمر
آخرهم يشفي الظمأ * وهو الإمام المنتظر
عترتك الأخيار لي * والتابعون ما أمر
من كان عنهم معرضا * فسوف يصلاه سقر (1)
وقال أبو علي الحسن بن أحمد بن سعيد المالكي الحزني، قال: حدثنا
أحمد بن عبد الجبار الصوفي، قال: حدثنا يحيى بن معين، حدثنا عبد الله بن
صالح، حدثنا ليث بن سعيد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن ربيعة
ابن سيف، قال: كنا عند سيف الأشقى، قال سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص
السهمي يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: يكون خلفي اثنا عشر خليفة (2).
وقال بعض الرواة: هم مسمون كتبنا عن أسمائهم. وهذه العدة لم توجد في



(1) كفاية الأثر: ص 11 - 16.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 289 - 293 بأسانيد أخرى.
790
الذين كانوا بعد النبي (عليه السلام)، ولا في بني أمية، ولا في بني العباس، ولم تدع فرقة
من فرق المسلمين هذه العدة في أئمتها غير الإمامية، فدل ذلك على أن أئمتهم هم
المعنون في هذه الأحاديث.
وأما روايات الخاصة وهم الإمامية فالمجمع عليه خبر اللوح، وهو ما روي
عن جابر بن عبد الله الأنصاري (رضي الله عنه) مع علي بن الحسين (عليهما السلام) أنه رأى في يد
فاطمة الزهراء (عليها السلام) لوحا أخضر من زمردة خضراء فيه كتابة بيضاء، فقال جابر:
قلت لها (عليها السلام): ما هذا اللوح يا بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟
قالت: لوح أهداه الله عز وجل إلى أبي، وأهداه أبي إلي، فيه اسم أبي واسم
بعلي والأئمة من ولدي.
قال جابر: فنظرت في اللوح فرأيت فيهم ثلاثة عشر اسما كان فيه محمد
في أربعة مواضع (1).
ومثله خبر سلمان (رضي الله عنه)، قال: دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) والحسين بن
علي (عليهما السلام) على فخذه فقال لي: يا سلمان إن ابني هذا سيد ابن سيد أبو سادة، حجة
ابن حجة أبو حجج، إمام وابن إمام أبو أئمة تسعة من ولده، تاسعهم قائمهم (2).
وقال يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، قال: صلى بنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) الفجر،
فلما انفتل من الصلاة أقبل علينا بوجهه الكريم فقال: معاشر الناس من افتقد
الشمس فليتمسك بالقمر، ومن افتقد القمر فليتمسك بالزهرة، ومن افتقد الزهرة
فليتمسك بالفرقدين. فسئل عن ذلك فقال: أنا الشمس، وعلي القمر، وفاطمة
الزهرة، والحسن والحسين الفرقدان. ذكره النطنزي في الخصائص (3).
وفي روايتنا: روى القاسم عن سلمان (رضي الله عنه): فإذا افتقدتم الفرقدين فتمسكوا
بالنجوم الزاهرة. ثم قال: وأما النجوم الزاهرة فهم الأئمة التسعة من صلب



(1) كمال الدين: ج 1 ص 269 ب 24 ح 13.
(2) الاختصاص: ص 207 - 208.
(3) معاني الأخبار: ص 114 ح 1، المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 281.
791
الحسين، والتاسع مهديهم (1).
وقال جابر الجعفي في تفسيره، عن جابر الأنصاري: سألت النبي (صلى الله عليه وآله) عن
قوله: * (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول... الآية) * (2) قد عرفنا الله
ورسوله فمن أولو الأمر؟
قال: هم خلفائي يا جابر، وأئمة المسلمين بعدي، أولهم علي بن أبي طالب، ثم
الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي المعروف في التوراة
بالباقر، وستدركه يا جابر، فإذا لقيته فاقرأه عني السلام، ثم الصادق جعفر بن محمد،
ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي، ثم علي بن محمد، ثم
الحسن بن علي، ثم سميي وكنيي، حجة الله في أرضه وبقيته في عباده ابن الحسن
ابن علي الذي يفتح الله على يده مشارق الأرض ومغاربها، ذلك الذي يغيب عن
شيعته غيبة لا يثبت فيها على القول بإمامته إلا من امتحن الله قلبه للإيمان (3).
كتاب كشف الخيرة (4): قال أمير المؤمنين (عليه السلام): أنشدكم الله أتعلمون أن الله
تعالى أنزل في سورة الحج: * (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا
ربكم... السورة) * (5) فقام سلمان فقال: يا رسول الله من هؤلاء الذين أنت عليهم
شهيد وهم الشهداء على الناس، الذين اجتباهم الله ولم يجعل عليهم في الدين من
حرج ملة أبيهم إبراهيم؟ قال: عنى بذلك ثلاثة عشر رجلا خاصة دون هذه الأمة.
قال سلمان: بينهم لنا يا رسول الله. فقال: أنا وأخي علي وأحد عشر من ولده قالوا:
اللهم نعم (6).
وروى الشيخ المفيد (رضي الله عنه) حديث الخضر (عليه السلام) ومجيئه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)
وسؤاله عن مسائل وأمره لولده الحسن (عليه السلام) بالإجابة عنها، فلما أجاب أعلن



(1) كفاية الأثر: ص 19، المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 281.
(2) النساء: 59.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 282.
(4) كذا: والظاهر: الحيرة.
(5) الحج: 77.
(6) ليس لدينا هذا الكتاب، ولم يذكره صاحب الذريعة.
792
الخضر (عليه السلام) بحضرة الجماعة فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، ولم أزل أشهد بها،
وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا رسول الله، ولم أزل أشهد بها، وأشهد أنك
وصي رسول الله والقائم بحجته بعده - وأشار بيده إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) - ولم
أزل أشهد بها، وأشهد أنك وصيه والقائم بحجته، وأشار بيده إلى الحسن (عليه السلام)،
وأشهد أن الحسين بن علي وصي أخيه والقائم بحجته بعده، وأشهد أن علي بن
الحسين هو القائم بأمر الحسين، وأشهد على محمد بن علي أنه الإمام القائم
بأمر علي بن الحسين، وأشهد على جعفر بن محمد أنه القائم بأمر محمد بن علي،
وأشهد على موسى بن جعفر أنه القائم بأمر جعفر بن محمد، وأشهد على علي
ابن موسى أنه القائم بأمر موسى بن جعفر، وأشهد على محمد بن علي أنه
القائم بأمر علي بن موسى، وأشهد على علي بن محمد أنه القائم بأمر محمد بن
علي، وأشهد على الحسن بن علي أنه القائم بأمر علي بن محمد، وأشهد أن
رجلا من ولد الحسين، لا يكنى ولا يسمى حتى يظهر الله أمره فيملأها عدلا
وقسطا كما ملئت جورا وظلما، والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله
وبركاته (1).
وروى الكلبي، عن الشرقي بن القطامي، عن تميم بن وعلة المري، عن
الجارود بن المنذر العبدي وكان نصرانيا فأسلم عام الحديبية، وأنشد في
رسول الله (صلى الله عليه وآله):
أنبأنا الأولون باسمك فينا * وبأسماء أوصياء كرام (2)
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أفيكم من يعرف قس بن ساعدة الأيادي. فقال الجارود:
كلنا يا رسول الله نعرفه غير أني من بينهم عارف بخبره واقف على أثره. فقال
سلمان: أخبرنا. فقال: يا رسول الله لقد شهدت قسا وقد خرج من ناد من أندية



(1) كمال الدين: ج 1 ص 313 ب 29 ح 1.
(2) في المصدر:
أنبأ الأولون باسمك فينا * وبأسماء بعده تتلألأ.
793
أياد، إلى ضحضح (1) ذي قتاد (2) وسمر (3) وعناد، وهو مشتمل ببجاد، فوقف في
أضحيان (4) ليل كالشمس رافعا في السماء وجهه وأصبعه، فدنوت منه فسمعته يقول:
اللهم رب السماوات الأرفعة، والأرضين الممرعة (5)، بحق محمد والثلاثة
المحاميد معه، والعليين الأربعة، وفاطم والحسنين الأبرعة، وجعفر وموسى التبعة،
وسمي الكليم الضرعة، أولئك النقباء الشفعة، والطريق المهيعة، ودرسة الأناجيل،
ونفاة الأباطيل، والصادقو القيل، عدد النقباء من بني إسرائيل، فهم أول البداية،
وعليهم تقوم الساعة وبهم تنال الشفاعة، ولهم من الله فرض الطاعة اسقنا غيثا
مغيثا. ثم قال: ليتني أدركهم ولو بعد لأي من عمري ومحياي. ثم أنشأ يقول:
أقسم قس قسما ليس به مكتتما * لو عاش ألفي سنة لم يلق منها سأما
حتى يلاقي أحمدا والنجباء الحكما * هم أوصياء أحمد أفضل من تحت السما
يعمى الأنام عنهم وهم ضياء للعمى * لست بناس ذكرهم حتى أحل الرجما (6).
قال الجارود: فقلت يا رسول الله: أنبئني أنبأك الله بخبر هذه الأسماء التي لم
نشهدها وأشهدنا قس ذكرها. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا جارود ليلة أسري بي إلى
السماء أوحى الله عز وجل إلي أن سل من أرسلنا قبلك من رسلنا على ما بعثوا
قلت: على ما بعثوا؟ قال: بعثتهم على نبوتك وولاية علي بن أبي طالب والأئمة
منكما، ثم عرفني الله تعالى بهم وبأسمائهم، ثم ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله) للجارود



(1) في المصدر: صحصح، وهو ما استوى من الأرض وكان أجرد. والضحضاح في الأصل:
مارق من الماء على وجه الأرض.
(2) القتاد: شجرة صلب له شوك كالأبر.
(3) السمر: شجر من العضاة، وليس في العضاة أجود خشبا منه. والعضاة: كل شجر يعظم وله
شوك.
(4) ليلة أضحيانة وأضحية: مضيئة.
(5) أمرع المكان: أخصب.
(6) الرجم: القبر.
794
أسماءهم واحدا واحدا إلى المهدي (عليه السلام). ثم قال: قال لي الرب: هؤلاء
أوليائي، وهذا المنتقم من أعدائي - يعني المهدي - (1).
وقد ذكر صاحب الروضة (2) أن هذا الاستسقاء كان قبل النبوة بعشر سنين،
وشهادة سلمان بمثل ذلك مشهورة.
وقال عبد الله بن محمد البغوي، عن علي بن الجعد، عن أحمد بن وهب بن
منصور، عن أبي قبيصة شريح بن محمد العنبري، عن نافع، عن عبد الله بن عمر،
قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): يا علي أنا نذير أمتي، وأنت هاديها، والحسن قائدها،
والحسين سائقها، وعلي بن الحسين جامعها، ومحمد بن علي عارفها، وجعفر بن
محمد كاتبها، وموسى بن جعفر محصيها، وعلي بن موسى مضرها ومنجيها وطارد
مبغضها ومدني مؤمنها، ومحمد بن علي قائدها وساقيها، وعلي بن محمد سايرها
وعالمها، والحسن بن علي ناديها ومعطيها، والقائم الخلف ساقيها وناشرها
وشاهدها، إن في ذلك لآيات للمتوسمين (3).
وقد روى ذلك جماعة عن جابر بن عبد الله الأنصاري، عن النبي (عليه السلام).
وقال الأعمش، عن أبي إسحاق، عن الحارث وسعيد بن قيس، كلاهما
عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: أنا واردكم على الحوض، وأنت يا علي الساقي، والحسن
الوالي الرائد، والحسين الآمر، وعلي بن الحسين الفارط، ومحمد بن علي الناشر،
وجعفر بن محمد السائق، وموسى بن جعفر محصي المحبين والمبغضين وقامع
المنافقين، وعلي بن موسى مزين المؤمنين، ومحمد بن علي منزل أهل الجنة في
درجاتهم، وعلي بن محمد خطيب شيعتهم ومزوجهم الحور العين، والحسن بن
علي سراج أهل الجنة ويستضيئون به، والهادي المهدي شفيعهم يوم القيامة حيث
لا يأذن الله إلا لمن يشاء ويرضى (4).



(1) كنز الفوائد للكراجكي: ج 1 ص 138 - 139.
(2) لم نتحقق أي " روضة " أراد بها.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 292.
(4) المناقب لابن شهرآشوب: ج ص 292.
795
وروى محمد بن زكريا الغلابي (1)، عن سليمان بن إسحاق بن سليمان بن
علي بن عبد الله بن عباس، قال: حدثني أبي، قال: كنت عند الرشيد فذكر المهدي
وعدله، فقال الرشيد: إني أحسبكم تحسبونه أبي، إن أبي المهدي حدثني عن أبيه،
عن جده، عن ابن عباس، عن أبيه العباس بن عبد المطلب أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال له: يا
عم يملك من ولدي اثنا عشر خليفة، ثم تكون أمور كريهة وشدة عظيمة، ثم يخرج
المهدي من ولدي، يصلح الله أمره في ليلة، فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا،
ويمكث في الأرض ما شاء الله، ثم يخرج الدجال (2).
وروى محمد بن أحمد بن عبد الله الهاشمي، عن أبي موسى عيسى بن
أحمد بن [عيسى، عن] المنصور، قال: حدثني أبو الحسن علي محمد العسكري،
عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من سره أن يلقى الله عز وجل آمنا
مطهرا لا يحزنه الفزع الأكبر فليتولك وليتول بنيك الحسن والحسين وعلي بن
الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى
ومحمد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي ثم المهدي وهو خاتمهم (3).
$ في ذكر بني عبد المطلب
وقال سعيد بن المسيب، عن عبد الرحمن بن سمرة، قال: كنا عند رسول
الله (صلى الله عليه وآله) فقال: من فسر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب، ومن أفتى الناس
بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة سبيلها إلى
النار. قال ابن سمرة: فقلت: يا رسول الله أرشدني إلى النجاة. قال: يا ابن سمرة إذا
اختلفت الأهواء وتفرقت الآراء فعليك بعلي بن أبي طالب إمام أمتي وخليفتي
عليها من بعدي، وهو الفاروق الأعظم الذي يفرق بين الحق والباطل، من سأله
أجابه، ومن استرشده أرشده، ومن طلب الحق عنده وجده، ومن التمس الهدى
لديه صادقه، ومن لجأ إليه آمنه، ومن استمسك به نجاه، ومن اهتدى به هداه، سلم



(1) في المصدر: محمد بن زكريا العلاني.
(2) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 292 - 293.
(3) المناقب لابن شهرآشوب: ج 1 ص 293.
796
من سلم له ووالاه، وهلك من رد عليه وعاداه، يا ابن سمرة إن عليا مني، روحه من
روحي، وطينته من طينتي، وهو أخي وأنا أخوه، وهو زوح ابنتي فاطمة سيدة نساء
العالمين، وأن منه إمامي أمتي وسيدي شباب أهل الجنة الحسن والحسين، وتسعة
من ولد الحسين تاسعهم قائمهم يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما (1).
فصل
في ذكر بني عبد المطلب
وقد تقدم ذكر شئ من ذلك في المجلد الأول في نسب رسول الله (صلى الله عليه وآله).
قال أبو سعيد الخركوشي في اللوامع وفي شرف المصطفى، قال ابن عباس،
قال النبي (صلى الله عليه وآله): يا بني عبد المطلب إني سألت الله أن يثبت مائلكم وأن يهدي
ضالكم وأن يعلم جاهلكم، وسألت الله أن يجعلكم رحماء نجداء جوداء نجباء،
فلو أن امرء صف قدميه بين الركن والمقام فصلى وصام ثم لقي الله عز وجل
وهو لأهل بيت محمد مبغض دخل النار (2).
وفي اللوامع أيضا: قال النبي (صلى الله عليه وآله): أتروني يا بني عبد المطلب إذا أخذت
حلقة باب الجنة مؤثرا عليكم أحدا (3)؟
وقال (عليه السلام): من أولى رجلا من بني عبد المطلب معروفا في الدنيا لم يقدر أن
يكافئه كافأته عنه يوم القيامة (4).
وفي كتاب مدينة العلم: قال الصادق (عليه السلام): يحشر عبد المطلب يوم القيامة أمة
واحدة عليه سيماء الأنبياء وهيبة الملوك (5).



(1) الأمالي للصدوق: ص 31 المجلس السابع ح 3.
(2) الأمالي للطوسي: ج 1 ص 21 المجلس الأول ح 26.
(3) تفسير العياشي: ج 2 ص 93 ح 75.
(4) كنز العمال: ج 12 ص 42 ح 33913.
(5) الكافي: ج 1 ص 446 - 447 ح 22.
797
وقال (عليه السلام): إن عبد المطلب حجة، وأبو طالب وصيه.
وقال النبي (صلى الله عليه وآله): يا علي إن عبد المطلب سن خمسا من السنن في الجاهلية
أجراها الله له في الاسلام: حرم نساء الآباء على الأبناء، ووجد مالا ما أخرج منه
الخمس فتصدق به، وهو أول من تحنث، والتحنث: التأله، وكان يدخل فيه إذا أهل
شهر رمضان في جبل حراء، وجعل الدية في القتل مائة من الإبل، ولم يكن
للطواف عدد عند قريش فسن لهم عبد المطلب سبعة أشواط (1).
وقال (عليه السلام): يا علي إن عبد المطلب كان لا يستقسم بالأزلام، ولا يعبد الأصنام،
ولا يأكل مما ذبح على النصب، وكان يقول: أنا على دين أبي إبراهيم (عليه السلام) (2).
وقال أنس بن مالك: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): نحن بنو عبد المطلب سادة أهل
الجنة: رسول الله وحمزة سيد الشهداء وذو الجناحين وعلي وفاطمة والحسن
والحسين والمهدي (3).
وقال قتادة، عن أنس بن مالك، عن النبي (صلى الله عليه وآله): نحن بنو عبد المطلب سادات
أهل الجنة (4).
وفي رواية: نحن ولد عبد المطلب سادة أهل الجنة، أنا وأخي علي وعمي
حمزة وجعفر والحسن والحسين والمهدي (5).
$ في ذكر بني هاشم
فصل
في ذكر بني هاشم
قال علي بن الحسين بن محمد الكاتب: حدثنا جعفر بن محمد بن مروان،
قال: حدثنا أبي، حدثنا إبراهيم بن هراسة، عن حمزة، عن الجزري، عن زيد



(1) الخصال: ص 312 باب الخمسة ح 90.
(2) مكارم الأخلاق: ص 440.
(3) بحار الأنوار: ج 51 ص 65 ب 1 ح 1 نقلا عن غيبة النعماني ولا يوجد في النسخة
المطبوعة.
(4) و 5) كشف الغمة: ج 2 ص 438.
798
ابن رفيع، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن عباس، قال: بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) جالس إذ
مر فتية من بني هاشم كأن وجوههم المصابيح فبكى، فقلنا: يا رسول الله ما يبكيك؟
قال: إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وأن أهل بيتي سيلقون من بعدي
قتلا وتطريدا وتشريدا في البلاد، حتى يفتح الله لهم راية تخرج من قبل المشرق،
فيها رجل مني، اسمه كاسمي، وخلقه كخلقي، يؤوب الناس إليه كما تؤوب الطير
إلى أوكارها وكما تؤوب النحل إلى يعسوبها، يملأها عدلا كما ملئت جورا.
وقال أبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم، قال: حدثنا علي بن أحمد بن
الحسين العجلي، حدثنا عباد بن يعقوب، قال: حدثنا حنان بن سدير، قال: كنت
أختلف إلى عمرو بن قيس أتعلم منه القرآن وكان الناس يجيئونه ويسألونه عن
هذا الحديث حتى حفظته، قال: فحدثني عمرو بن قيس الملاتي، عن الحكم بن
عيينة، عن عبيدة السلماني، عن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) (1)، قال: أتينا رسول
الله (صلى الله عليه وآله) فخرج إلينا مستبشرا نعرف السرور في وجهه، فما سألناه عن شئ إلا
أخبرنا به، ولا سكتنا إلا ابتدأنا حتى مر به فتية من بني هاشم فيهم حسن وحسين.
قال: فلما رآهم خثر لممرهم وانهملت عيناه. فقلنا: يا رسول الله خرجت إلينا
مستبشرا نعرف السرور في وجهك فما سألناك عن شئ إلا أخبرتنا به ولا سكتنا
إلا ابتدأتنا حتى مرت بك الفتية فخثرت لممرهم وانهملت عيناك. فقال: إنا أهل
بيت اختار لنا الله الآخرة على الدنيا، وأنه سيلقى أهل بيتي من بعدي قتلا وتطريدا
وتشريدا في البلاد حتى ترفع رايات سود من المشرق فيسألون الحق فلا يعطونه،
ثم يسألون فلا يعطونه، فيقاتلون فينصرون فيعطون الذي سألوا فلا يقبلونه، فمن
أدركهم منكم أو من أبنائكم أو من أبناء أبنائكم أو من أبناء أبناء أبنائكم أو من
أبناء أبناء أبناء أبنائكم فليأتهم ولو حبوا على الثلج، وأنها رايات هدى يدفعونها
إلى رجل من أهل بيتي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما (2).



(1) في هامش النسخة: عبد الله بن عباس.
(2) قريب منه ما في كشف الغمة: ج 2 ص 472.
799
وقال أحمد بن محمد السري، قال: حدثنا يحيى بن إسماعيل الحريري، قال:
حدثنا جعفر بن علي الحريري، قال: حدثنا يحيى بن يعلى الأسلمي، قال: حدثنا
شريك، عن جابر، عن تميم بن حذلم، وعن عبد الواحد ذكره عن ابن عباس،
وذكره جابر، عن زيد بن حسن بنو محمد بن عبد المطلب، وكلهم ذكر أن
النبي (صلى الله عليه وآله) بينما هو جالس إذ مر به فتية من بني هاشم فتغير لونه واغرورقت عيناه
بالدموع، فقال له بعض أصحابه: يا رسول الله ما تراك نرى في وجهك تغيرا
يسوؤنا؟ فقال: إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وأن أهل بيتي
سيلقون بعدي بلاء شديدا وتشريدا، ثم يبعث الله قوما في آخر الزمان من أطراف
الأرض يجتمعون كما يجتمع قزع السحاب خريفا، فيبايعون رجلا مني، فيملأ الله
به الأرض عدلا كما ملئت جورا (1).
وكان هاشم يفتي على دين المسيح (عليه السلام)، وكانوا يدعونه حواري الهادي،
وجسر الصارم، ولذلك قيل بنو [...] (2) واصطفى من قريش هاشما. وقال: [...] (3).
عائشة قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال جبرئيل (عليه السلام): [لم أجد] (4) أفضل
من محمد، وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني
[هاشم] (5).
عمر بن الخطاب يقول: إن لله عز وجل بساطا من در لا يقعد عليه يوم القيامة
إلا هاشمي.
وقال أنس بن [مالك]: (6) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كلوا الطعام مع بني هاشم فإن
موائدهم تحضرها الملائكة.
قال أبو امامة: قال النبي (صلى الله عليه وآله): لا يقوم الرجل من مجلسه إلا لبني هاشم (7).
وقال الصادق (عليه السلام) في قوله [تعالى]: * (من ذريتنا أمة مسلمة لك) * (8) المراد



(1) كشف الغمة: ج 2 ص 478.
(2) بياض بمقدار ثلاث أسطر.
(3 و 4 و 5) بياض بمقدار نصف سطر.
(6) بياض في الأصل.
(7) كنز العمال: ج 12 ص 43 ح 33914.
(8) البقرة: 128.
800
بالأمة بنو هاشم خاصة (1).
الكلبي والزجاج وأبو مسلم في قوله تعالى: * (وأنه لذكر لك ولقومك) * (2)
أي العرب، لأن القرآن نزل بلغتهم، وأخصهم إليه قريش (3).
وقد خص الله تعالى قريشا بخصال: منها أنهم عبدوا الله عز وجل عشر سنين
لا يعبد الله فيها إلا قريش، وأنه نصرهم يوم الفيل وهم مشركون، وهم يسمون آل
الله بعد أصحاب الفيل، وكانوا سدنة الكعبة، ونزلت فيهم سورة من القرآن خاصة (4).
وتزكية النبي (صلى الله عليه وآله) لهم في قوله: " أرقبوني في قريش "، وقوله: " أبرارها أئمة
أبرارها، وفجارها أئمة فجارها " (5)، وقوله: " لا تسبوا قريش " (6)، وقوله: " إن
للقرشي قوة رجلين من غيره " (7)، وقوله: " من أبغض قريشا أبغضه الله " (8).
وقال عمرو بن عتبة في أمر وقع بين بني أمية وبين غيرهم: إن لقريش درجا
تزلق عنها أقدام الرجال، وأفعالا يخضع لها رقاب الأموال، وألسنا تكل عنها
السفار المحددة، وغايات تقصر عنها الجياد المسومة.
وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): قدموا قريشا ولا تتقدموها (9).
روى عبد السلام الواسطي بإسناده يرفعه إلى أحمد بن حنبل قال: وجدت
رجلا متعلقا بأستار الكعبة يستغيث وهو يبكي ويتضرع إلى الله سبحانه في جوف
الليل، فتقدمت إليه فقلت: يا أخي ما شأنك؟ فقال: أنا رجل من البنائين الذين كانوا
بين يدي المنصور، وإني أحدثك بأمر عجيب على أنك تكتمه علي. فقلت: لك الله
بذلك شهيد علي أنني لا أذيعه ما دمت حيا. قال: دعاني المنصور غداة ليلة



(1) مجمع البيان: ج 1 - 2 ص 210.
(2) الزخرف: 44.
(3) مجمع البيان: ج 9 - 10 ص 49.
(4) انظر كنز العمال: ج 12 ص 27 ح 33819 و ح 33820.
(5) كنز العمال: ج 12 ص 26 ح 33812.
(6) كنز العمال: ج 12 ص 37 ح 33876.
(7) كنز العمال: ج 12 ص 34 ح 33865.
(8) كنز العمال: ج 12 ص 35 ح 33872 وفيه: " ومن أبغض قريشا فقد أبغضني ".
(9) كنز العمال: ج 12 ص 22 ح 33789.
801
وأخرج إلي ستين علويا وقال: إياك أن يأتي الصباح إلا وقد بنيت عليهم
وواريتهم. قال: فبنيت على تسعة وخمسين رجلا وأنا على وجل من ذلك، وبقي
غلام لا نبات بعارضيه... (1) له فتأملت وانسللت فخرجت فالتقاني... (2) السلطان
وأخذوني ولا يشعر بي ولا إلى ما صار أمري فلذلك أبكي كيف خالفت أمرها
وأزعجت قلبها، وأنا أسأل الله تعالى أن لا يؤاخذني بذلك وأن يحسن الخلافة
ويربط على قلبها بالصبر ويعظم لها الثواب والأجر.
فقلت: فهل لها من الولد غيرك؟
قال: لا والله إنها لم تملك سواي. فلم أملك من نفسي شيئا، وقلت: ويلك
يا نفس ماذا طلبت حطام الدنيا بعذاب الآخرة الأبدي (3)، والله لأصنعن به معروفا
لوجه الله تعالى. ثم إني أتيت إلى ولدي فقصصت عليه القصة فقلت: يا بني هل لك
في نعيم لا يفنى؟ قال: وما هو؟ قلت: أقعدك مكانه وأبني عليك ما لا يضرك، وإذا
جاء الليل أتيتك وأخرجتك وتصنع مع هذا الغلام معروفا. فقال: يا أبتي إفعل
ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين. قال: فأخذت الغلام فقطعت ذؤابتيه
وأتيت به إلى قدر هناك ألطخه بالسواد إلى أن عاد أسود، ثم ألبسته ثيابا خلقة
كهيئة غلمان البناء بعد ما أخذت عليه المواثيق أن لا يشعر بذلك أحدا، وبنيت
على ولدي وانفجر الصبح وقد بنينا على الجميع وانصرفنا من العمل، وأخذت
الغلام معي وقلت: تقعد عندي إلى الليل وإذا كان الليل أخرجتك فامض حيث
شئت فتكتمه لي. فلما كان الليل وأنا مفكر في أمري خائف مما صنعت من الخليفة
إن علم بي ومن زوجتي إن علمت بالبناء على ولدها، فأغمي علي، فلم أشعر إلا
بالجارية تنبهني وقالت: إن الباب يطرق. فأوجست في نفسي خيفة فوق ما بي
وقلت هو الهلاك لا محالة إن كان قد علم بي، ثم قلت للجارية: قولي من هذا؟
فقالت الجارية: من بالباب؟ فقالت: أنا فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قولي لمولاك



(1) بياض في نسخة الأصل بمقدار أربعة أسطر.
(2) بياض في نسخة الأصل بمقدار كلمة.
(3) في نسخة الأصل: الأبد.
802
ادفع إلينا ولدنا وخذ ولدك، فأقبلت الجارية فقصت الكلام، فلم أملك نفسي دون
أن خرجت فقلت: أيتها الامرأة ما شأنك؟ فقالت: أيها الشيخ صنعت معروفا لوجه
الله وأن الله لا يضيع أجر المحسنين، سعيك قد عرفناه، ومعروفك قد شكرناه،
تسلم ولدك وادفع إلينا ولدنا. وإذا والله ولدي لم يمسه ألم ودفعت إليها الغلام.... (1).
أخبرني أبو سعيد بن أبي الجار بقراءتي عليه من أصل... (2) بن سلمة، قال:
حدثنا جعفر بن سعيد أبو العباس، قال: حدثني أبو جعفر الخواص... (3).
قال ابن المبارك: أردت الحج فمررت ببعض طرقات الكوفة فإذا أنا بامرأة
تجر شاة، فقلت لعلها تلقيها في بعض الخراب، مرت بخربة وخربتين فلم تلقها
حتى جاءت بها إلى دار فدقت الباب، فخرج إليها أربع نسوة [فقالت]: شأنكم بهذه
الشاة قد جئتكم بها. فدنوت منهن فقلت: فما تصنعن بها؟ قلن: نأكلها. فقلت: لا
يحل لكن؟ فقلن: ما أخذناها حتى حلت لنا، ما طعمنا طعاما منذ أربعة أيام ونحن
أولاد لا تحل لنا الصدقة. فقلت: لا تحدثوا فيها حادثة حتى آتيكم، ثم أتيت
الرحل وأخذت ما كنت أريد أن انفقه في الحج، فأتيتهم به حتى خذوا هذه
وأنفقوها، ثم أقمت حتى قدم الحاج، فلما قدموا جئت إلى جماعة منهم أسلم
عليهم فقالوا: يا أبا عبد الرحمن أي طريق أخذت فعهدنا بك في الموقف وأنت
رافع يديك تدعو إلى الله عز وجل، فكثر تعجبي من ذلك. ثم أتيت قوما أخذوا
على طريق المدينة فقالوا: يا أبا عبد الرحمن أي طريق أخذت فعهدنا بك على
الروضة وأنت قائم تصلي. فطال علي يومي، فلما كان الليل رأيت النبي (صلى الله عليه وآله) فيما
يرى النائم كأنه داخل علي فقال: يا بن المبارك تعجبت مما قال لك الحاج؟ فقلت:
يا رسول الله إني لم أحجج. فقال: إن الله عز وجل لما رآك قد دفعت المال إلى
ولدي خلق الله تعالى على صورتك ملكا وأمره أن يحج عنك، وقد حج وقضى
المناسك، وأمره أن يحج عنك إلى يوم القيامة ويكتب ثواب ذلك لك (4).



(1) بياض في النسخة بمقدار أربعة أسطر.
(2) بياض في النسخة بمقدار نصف سطر.
(3) بياض في النسخة بمقدار خمس كلمات.
(4) تذكرة الخواص: ص 367 - 368.
803
حدثني السيد بهاء الدين داود بن أبي الفتوح الحسيني، حدثني الشيخ الفقيه
العالم الفاضل العلامة نجيب الدين يحيى بن سعيد قدس الله روحه في شهر ربيع
الأول سنة ست وسبعين وستمائة بالحلة، قال: حدثني الشيخ الفقيه أحمد بن
عبد الكريم الدمشقي، قال: حدثني شرف الدين هلال بن عيسى، قال: لما حججت
مررت بوادي الصفر أطلع على جماعة من بني داود العلوي وانتهبوا ما كان معي
بعد أن أخرجوني وضربوني ضربا مؤلما، فوصلت إلى مكة شرفها الله تعالى مريضا،
فكتبت إلى الملك المعظم ملك دمشق أبياتا أحرضه فيها على بني حسن أولها:
أعنيت صفات بذاك المصقع اللسنا * وحزت في الجود حد الحسن والحسنا
طهر بسيفك بيت الله من [...] (1)
فقالت: يا هلال قد سمعنا ما قلته فهل سمعت ما قلناه [...] (2)
جاءتني بني فاطمة كلهم * من خسة تعرض أرضنا
وإنما الأيام في غدرها * وفعلها السواسات بنا
أئن جنى من ولدي واحد * جعلت كل السب عمدا لنا
فتب إلى الله فمن يقترف * ذنبا بنا يغفر له ما جنى
وأكرم لنفس المصطفى أحمد * ولا تثر من آله أعينا
فكلما لا قيت منهم أذى * تلقى به في الحشر منا هنا
فأنشدتها (عليها السلام):
عذرا إلى بنت نبي الهدى * تصفح عن ذنب محب جنى
وتوبة تقبلها من أخي * مقالة توقعه في العنا
والله لو قطعني واحد * منكم بسيف البغي أو بالقنا
لم أره في فعاله ظالما * بل قلت أن الفعل قد أحسنا
قال: فكتبت إلى الملك المعظم أخبره بما رأيت، فسير إلي بمال وأمرني أن



(1) بياض في النسخة بمقدار ثلاثة أسطر.
(2) بياض في النسخة بمقدار ثلاث كلمات.
804
أفرقه وما تخلف علي أكثر مما فعلت، والحمد لله رب العالمين.
وكتب في رمضان سنة ست وتسعين وستمائة، حدثني العدل عز الدين عمر بن
أحمد بن محمد الميدلي، قال: حدثني نظام الدين إمام الروضة على مشرفها أفضل
الصلاة والسلام أن والده القرطبي حمل على يده من بلاد المغرب اثنا عشر ألف
يوسفية ليفرقها على علويي (1) الحرمين، فلما رأى السادة علويي (2) المدينة على
غير قاعدة الزهاد وزيهم ينافي زي أمثالهم امتنع أن يفرق فيهم شيئا من المال،
وأخذ يفرقه على أولاد المهاجرين والأنصار والمجاورين ولا يعطي العلويين
شيئا من ذلك، فرأى في منامه تلك الليلة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام)
بنت محمد عليه الصلاة والسلام فسلم عليها فأعرضت عنه، فقال لها: مولاتي ما
ذنبي حتى تعرضين؟ فقالت له بوجه غضب: بيدك شئ من السحت بخلت به على
أولادي. فقال لها: يا سيدتي ما ترين حالهم وما هم عليه من هذا الذي المخالف
للكتاب والسنة؟ فقالت له (عليها السلام): أنفك منك ولو كان أجدع. فأصبح يستغفر الله عز
وجل ويمضي إلى أبوابهم يفرق عليهم المال ويعتذر إليهم.
قال سعيد بن خيثم من هذا الموضع المذكور حديث ذكر الشيعة وصفاتهم،
عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن مجاهد قال: شيعة علي الحلماء،
العلماء، الذبل الشفاه، الأخيار، الذين يعرفون بالرهبانية من العبادة.
وقال أبو جعفر (عليه السلام): حدثني أبي، عن جدي، أن عليا (عليه السلام) قال: يا رسول
الله (صلى الله عليه وآله) ما آخذ عليهم؟ قال: تأخذ عليهم أن يبايعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أن
يطاع الله فلا يعصى، وعلى أن يمنعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وذريته ما يمنعون منه
أنفسهم وذراريهم (3).



(1 و 2) في الأصل: علويين.
(3) بحار الأنوار: ج 38 ص 220 - 221 باب 65 من تاريخ أمير المؤمنين (عليه السلام) ح 33 وصدر
الحديث هكذا: لما جاءت الأنصار تبايع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على العقبة قال: قم يا علي. فقال
علي.... الخ.
805
وقال سالم الصيرفي، عن الحسن بن عمرو، عن معاوية، عن ثعلبة، عن أبي
ذر (رضي الله عنه)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام): من أطاعني فقد أطاع الله، ومن
أطاعك أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصاك فقد عصاني (1).
وقال عبد الله بن عبد ربه العجلي، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن
جذعان، عن سعيد بن المسيب، قال: قال لي عمر بن الخطاب: أحبوا الأشراف
وتوددوا إليهم، واعلموا أنه لا يتم شرف إلا بولاية علي بن أبي طالب ومودته.
وقال بكار بن أحمد، عن حسن بن حسين، عن محمد بن عيسى بن زيد، عن
أبيه، عن جده، عن علي بن الحسين (عليهما السلام)، قال: شيعتنا ذبل الشفاه، والإمام منا من
دعا إلى طاعة الله.
قال يحيى بن يعلى، عن محمد بن عبيد، عن أبي رافع، عن أبيه، عن جده،
قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا علي أول من يدخل الجنة أربعة: أنا وأنت والحسن
والحسين، وذرارينا خلف ظهورنا، وأزواجنا خلف ذرارينا، وشيعتنا عن أيماننا
وعن شمائلنا (2).
وقال محمد بن جبلة، عن حفص، عن عاصم، عن فضل بن الزبير، عن أبي
داود، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): * (الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم
بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب) * (3) أتدري من هم يا بن سليمان؟ قلت: من
هم يا رسول الله؟ قال: نحن أهل البيت وشيعتنا (4).
وقال عيسى بن عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)،
قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن خاله، عن علي، قال: قال سلمان: [ما] أطلعت على
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا ضرب بين كتفي علي (عليه السلام) [و] قال: هذا وحزبه المفلحون (5).



(1) الأمالي للطوسي: ج 2 ص 165 المجلس العشرون جزء من ح 4.
(2) الخصال: ج 1 ص 254 باب الأربعة ح 128.
(3) الرعد: 28.
(4) تأويل الآيات الطاهرة: ص 239.
(5) كشف الغمة: ج 2 ص 93 قريب منه.
806
وقال الحسن بن إبراهيم الغفاري، قال: حدثنا الحسن بن زيد، عن جعفر بن
محمد، عن آبائه، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد
من قبل العرش: يا معشر الخلائق إن الله عز وجل يقول: أنصتوا فطال ما انصتوا
لكم، أنا وعزتي وجلالي وارتفاعي على عرشي لا يجاوز أحد منكم إلا بجواز
مني، والجواز مني محبة أهل البيت المستضعفين فيكم، المقهورين على حقهم،
المظلومين، والذين صبروا على الأذى، واستخفوا بحق رسولي فيهم، فمن أتاني
لمحبتهم أسكنته جنتي، ومن يبغضهم أنزلته مع أهل النفاق.
وقال أحمد بن عمر بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن جده، عن أبيه علي بن
الحسين، قال: إن الله تعالى أخذ ميثاق من محبينا وهم في أصلاب آبائهم فلا
يقدرون على ترك ولايتنا، لأن الله حسن رأيهم على ذلك.
وقال جعفر بن محمد بن عمارة، قال: حدثني أبي، عن عبد الله بن محمد
الجعفي وأبي حمزة الثمالي، عن محمد بن علي، عن جابر بن عبد الله الأنصاري،
قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي بن أبي طالب (عليه السلام): ألا أبشرك؟ قال: بلى يا رسول
الله. قال: إن الله تعالى خلقني وإياك من طينة واحدة، ففضلت فضلة فخلق
منها محبينا وهم شيعتنا، فإذا كان يوم القيامة دعا الناس بأسمائهم وأسماء أمهاتهم
ما خلا نحن وشيعتنا فإنهم يدعون بأسمائهم وأسماء آبائهم (1).
وقال عبد الرحمن بن قيس الرحبي: كنت جالسا مع علي بن أبي طالب (عليه السلام)
على باب القصر حتى أن جاءته الشمس إلى حائط القصر فوثب ليدخل، فقام
رجل من همدان فتعلق بثوبه وقال: يا أمير المؤمنين حدثني حديثا جامعا ينفعني
الله به. قال: أولم نكن في حديث كثير؟! قال: بلى، ولكن حدثني حديثا ينفعني الله
به. قال: حدثني خليلي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أني أرد أنا وشيعتي الحوض رواء
مرويين مبيضة وجوههم، ويرد عدونا ظماء مظمئين مسودة وجوههم، إليك خذها



(1) الأمالي للطوسي: ج 1 ص 77 المجلس الثالث ح 27.
807
قصيرة من طويلة، أنت مع من أحببت ولك ما اكتسبت، أرسلني يا أخا همدان.
ثم دخل القصر (1).
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قول الله عز
وجل * (والسابقون السابقون * أولئك المقربون * في جنات النعيم) * (2)
فقال: قال لي جبرئيل (عليه السلام): ذاك علي وشيعته هم السابقون إلى الجنة، المقربون
إلى الله بكرامتهم (3).
وقال محمد بن مسلم الثقفي: سألت أبا جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) عن قول الله
عز وجل * (فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما) * (4)
فقال (عليه السلام): يؤتى بالمؤمن المذنب يوم القيامة حتى يقام موقف الحساب، فيكون
الله عز وجل هو الذي يتولى حسابه، لا يطلع على حسابه أحدا من الناس، فيعرفه
ذنوبه، حتى إذا أقر بسيئاته، قال الله عز وجل للكتبة: بدلوها حسنات وأظهروها
للناس، فيقول الناس حينئذ: أما كان لهذا العبد سيئة واحدة. ثم يأمر الله تعالى به
إلى الجنة، فهي تأويل الآية، وهي في المذنبين من شيعتنا خاصة (5).
* * *
تم الجزء الثالث من كتاب الدر النظيم في مناقب الأئمة اللهاميم
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين، وسلم تسليما كثيرا أبدا
برحمتك يا أرحم الراحمين.



(1) الأمالي للطوسي: ج 1 ص 115 المجلس الرابع ح 33.
(2) الواقعة: 10 - 12.
(3) الأمالي للطوسي: ج 1 ص 70 المجلس الثالث ح 13.
(4) الفرقان: 70.
(5) بحار الأنوار: ج 68 ص 100 باب 18 من كتاب الكفر والإيمان ح 4.
808
/ 1