خصائص الفاطمية (جزء 1) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

خصائص الفاطمية (جزء 1) - نسخه متنی

محمد باقر کجوری؛ مترجم: علی جمال اشرف

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: الخصائص الفاطمية
المؤلف: الشيخ محمد باقر الكجوري
الجزء: 1
الوفاة: 1255
المجموعة: مصادر سيرة النبي والائمة
تحقيق: ترجمة : سيد علي جمال أشرف
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: 1380 ش
المطبعة: شريعت
الناشر: انتشارات الشريف الرضي
ردمك: 964-6046-41-1
ملاحظات: 964-6046-41-x : الدورة
الخصائص الفاطمية
تأليف:
الشيخ الواعظ محمد باقر الكجوري
1255 - 1313
ترجمة:
سيد علي جمال أشرف
الجزء الأول
انتشارات الشريف الرضي

1
بسم الله الرحمن الرحيم
شابك: 1 _ 40 _ 46 _ 6046 _ 964
ISBN: 964 - 6046 - 46 - 40 - 1
شابك الدورة: × _ 41 _ 46 _ 6046 _ 964
ISBN: 964 - 6046 - 46 - 41 - X
الكتاب: الخصائص الفاطمية سلام الله عليها - ج 1
المؤلف: الشيخ الواعظ محمد باقر كجوري
المترجم: السيد علي جمال أشرف
الناشر: انتشارات الشريف الرضي
عدد المطبوع: 1000 دورة، مجلدين
سنة الطبع: 1380
الطبعة: الأولى
عدد الصفحات 1264 صفحة وزيري
المطبعة: شريعت
السعر: 5000 تومان ثمن الدورة (المجلدين)

2
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين
قبل أن يهبط آدم (عليه السلام) إلى الأرض، احتدم الصراع - بنحو ما - بين آدم
المناقب والفضائل، وإبليس المثالب والرذائل، وكانت نتيجة الصراع أن هبط آدم
وعدوه إلى الأرض (قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو) (1)، وحكم على
إبليس بالطرد والخلود في جهنم، وإن كان من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم،
وحكم على آدم (عليه السلام) وذريته أن يجاهدوا في الله ليهدينهم سبله، ثم ليعودوا إلى
جنات الخلود.
فهبط آدم وانطلق التاريخ يلاحق خطوات «هابيل» و «قابيل» ليسجل لنا
أحداث معركة ملأت الحياة.. معركة الحق والباطل.. معركة الفضيلة والرذيلة..
معركة المناقب والمثالب.. معركة المثل والقيم وأضدادها.. معركة كان لها في كل يوم
من يمثلها ويرفع رايتها في خطي الهدى والضلال، فكان رافعوا راية الهدى الأنبياء



(1) طه: 123.
3
والأوصياء وأتباعهم، وكان رافعوا راية الضلال الطواغيت والظلمة وعبيد
الشيطان وزبانيتهم..
بيد أن المأساة التي شهدها التاريخ تعمقت حتى بلغت الأعماق منذ أن
ارتفعت راية النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث كان الحق - قبلها - صريحا، كما كان الضلال
صريحا، وليس لحركة النفاق دور مؤثر غاية الأثر كما كان له دور في تاريخ
الإسلام، فخلطوا - والنبي بين ظهرانيهم - بين الحق والباطل، واستفادوا من
تجارب أسلافهم فخافوا أن تكتسحهم جيوش الهدى، وتأكل رؤوسهم سيوف
رجال التوحيد، فلم يولوا أدبارهم صوب معسكر الإسلام; لئلا يبادوا، وإنما
هربوا باتجاه الدين، ودخلوا صفوف الموحدين، ورفعوا رايات بيض ركزوها في
أرض هيأوها لتغرق بدماء أبناء الأنبياء والمرسلين، وجنود الحق من ذرية
«هابيل»; فوضعوا ودلسوا وأخذوا ينضرون الدين من الداخل، ويغيروا معانيه،
ويفرغوا مصطلحاته من محتوياتها، ويصوغوا لها محتويات جديدة مع الإحتفاظ
بصورة المصطلح ظاهريا.
فالبغي مصطلح مقرر في القرآن، والبغاة هم من خرجوا على الإمام العادل;
إلا أنهم استفرغوه ثم جعلوه مصطلحا يطبقوه على «الحسين بن علي (عليهما السلام)» وجعلوا
«الغنائم» رحل رسول الله!!، والسلب «ما أخذ من عقائله وبناته»، والامتناع عن
مساعدة الظالم الغاصب وعدم الإعتراف به والتحرز عن دفع الزكاة إليه «ردة»!!
تجب محاربتها واستئصال من اعتقدها!!..
وهكذا دلسوا ودسوا الباطل في الحق، والرذيلة في الفضيلة، والمثالب في
المناقب.. فصار التمييز على غير ذي البصيرة صعبا، وصارت الفتنة عمياء ظلماء،

4
لا ينجو فيها إلا من طاب مولده، وأخذ الله بيده..
فالمعركة ليست جديدة، وإن كانت بعد النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر تعقيدا
وأعمق جذورا.
ولعل من أهم أسباب هذه المعركة، بل لربما كان هو السبب الرئيسي أن
الإنسان يغفل أو يطبع على قلبه فيعمى عن إدراك مسيرته، فيظنها تبتدأ بالولادة
وتنتهي حينما يرتطم رأسه بأحجار اللحد، وهو لا يدري أنه مخلوق «كرمه الله»
فنفخ فيه من روحه، وعاش ما شاء الله في عالم الأنوار قبل أن يقحم في هذه الدار،
حيث كان في عامل «ألست» ثم جاء إلى حيث ادخر فيه الله نوره، وهو راجع إلى
ربه عبر هذه الدنيا، وليست هي إلا «مكدحا» يوصله إلى ذلك الكمال المطلق (يا
أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه)..
غير أنه إذا غفل عن هذا خلد إلى التراب، وغرق في طينه النتن المسنون،
وحصر عقله بين جدران هذه النشأة العنصرية الضيقة، فلا يرقى إلى ما قبلها، ولا
ينال فهم ما بعدها، ومن ثم يقيس كل شئ إلى عقله المحصور المحدود «والدين لا
يقاس بالعقول» و «لو قيست السنة محقت»، وكيف يمكن أن يحيط هذا العقل الذي
أنهكته قيود الزمان والمكان والمادة والتراب والشهوات والنزوات و... بالدين
والشريعة التي جعلها من «أحاط بكل شئ» لكل شئ؟!
ولنا أن نتساءل: لماذا نقيس الدين ومقدساته وشرائعه بالعقل المحدود
- فنحددها بالضرورة - ولا ننطلق بالعقل ليجتاز حدود الزمان والمكان، ويرتفع
إلى آفاق الدين، ونحثه على التدبر وفق المنهج المشروع ليمشي قدما في طريق
الكمال فيدرك تلك الحقائق التي يعجز عن إدراكها وهو في حضيض «الطين».

5
وقد ذكر القرآن الكريم في مواضع عديدة معاناة الأنبياء والصالحين مع اممهم
لأنهم «لا يفقهون».. «لا يعقلون» أو أنهم لا يريدون ذلك.
وكم وكم حذرنا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) من تحكيم العقل المحدود في قضايا
الدين، وكم عانى الأنبياء والأوصياء من الناس.. من ذوي العقول الغاطسة في
الطين، لأنهم كلما أرادوا أن ينطلقوا بعقولهم ليخلصوها من الأوحال والقيود
لتتجاوز التراب وتصل إلى رب الأرباب رفض الناس إلا الخلود إلى الثقل
والاستسلام إلى اللذات.
ولا زالت هذه المعاناة تتعب الإنسان في جميع شؤونه، وتحرمه من
استشراف عالم الأنوار، واستطلاع الآفاق، ولو أنه صعد بعقله - بدلا من تحجيم
المطلق - لما استكثر ولا استكبر ولا استنكر الكثير مما روي في فضائل أهل
البيت (عليهم السلام) ومناقبهم، بل لوجدها قليلة ضئيلة في حقهم، ولأدرك جيدا كيف كان
أهل البيت (عليهم السلام) يخفون الكثير من «حقيقتهم» عن عقول العباد المحجوبة المقيدة.
وأما ما نسمعه أحيانا من تشكيك قد يلقى قبولا متهافتا، أو حتى ترويجا
خاويا من هنا أو هناك لربما عاد إلى هذه المأساة التي يعاني منها الإنسان منذ
انطلاقة تاريخه حيث إنه يريد أن ينزل بكل شئ إلى مستواه، ويأبى أن يصعد
بعقله إلى أعلى عليين، ويريد لكل شئ أن يدخل دائرة «التحجيم» التي صنعها
لنفسه، ولربما احتج لذلك بضعف السند، وعدم سلامة الطريق، وارتباك النص،
وما شابه ذلك، وهو يتخبط ويخلط بين ما قد يكون محققا عنده - كما يزعم -
للوصول إلى نتائج في حقل خاص من حقول العلم فيسريه إلى حقل آخر.
وهكذا هو الإنسان كان وسيبقى «ظلوما جهولا».

6
فالأحرى بنا - إذن - أن نسلم بما لا تحيط به عقولنا، لأنها أكبر من عقولنا،
ولا نردها لهذا السبب محضا، وندعو الله أن يفتح علينا بما يجعلنا أوسع من قيودنا
لندرك الحقائق مهما كانت عالية (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك
فبصرك اليوم حديد) (1)، فتستقبلها القلوب مفعمة بالإيمان، وتدركها العقول
المتسعة باتساع النور، وقد قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): «لو علم الناس متى سمي عليا
«أمير المؤمنين» ما أنكروا فضله.. سمي وآدم بين الروح والجسد» (2).
وليس ثمة من يشك في أن للسيدة فاطمة نشأة خاصة ميزتها - كسائر أهل
البيت (عليهم السلام) - عمن سواها، قبل دخولها هذه الدنيا وفيها وبعدها، ولا نريد الدخول
في التفاصيل لأن الكتاب تولى ذلك.
فإذا كانت لها نشأة خاصة جعلتها «حوراء إنسية» في آن واحد، فلماذا لا
تكون لها مناقب خاصة، وفضائل خاصة، وكرامة خاصة، وعبادة خاصة، وأب
خاص، وزوج خاص، وذرية خاصة، وحقوق خاصة، ومواقف خاصة؟
ولماذا نستكبر أو نستكثر أو نستنكر - والعياذ بالله - منقبة لمجرد أن عقولنا
- المحدودة - لا تتسع لها؟!! ثم نرمي من اعتقد بها بل حتى من رواها بالغلو!!
غلو.. مغالي.. لقد لعن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) المغالين وتبرؤوا منهم.. لا شك
في ذلك، وأي مؤمن موالي لأمير المؤمنين (عليه السلام) ولفاطمة سيدة نساء العالمين وذريتها
المعصومين (عليهم السلام) ثم لا يتبرء ممن تبرؤوا منه، ولا يلعن من لعنوا؟ وهل ديننا إلا
البراءة والموالاة؟



(1) ق: 22.
(2) مودة القربى، المودة الرابعة.
7
بيد أن الغلو مصطلح له معناه وأبعاده وخلفياته عبر التاريخ، ولا بد من
ضبطه بدقة أولا ليعرف الداخل فيه والخارج عنه، لئلا يرمى البريء.
* * *
لقد دأب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) طيلة فترة حياته الشريفة - قبل البعثة وبعدها -
على إبراز فضائل علي وفاطمة وذريتهما، وكان يجيب إذا سئل عن ذلك، ويبتدأ إذا
لم يسئل، حتى جعل ذكرهم عبادة، وأكد على أنها لا ولن تنتهي على كر العصور
والدهور، وخص كل واحد منهم بالذكر، وهو ينادي المرة تلو الأخرى أن ما يقوله
إنما هو عن الله، والله يقول: (لا ينطق عن الهوى).
وبالرغم من ذلك فقد تنكرت الأمة له ولذريته، فاضطهدوهم، وقهروهم،
وقتلوهم، ولاحقوهم، «فخالفوا أمره، وأنكروا وحيه، وجحدوا إنعامه، وعصوا
رسول الله، وقلبوا دينه، وحرفوا كتابه، وعطلوا أحكامه، وأبطلوا فرائضه،
وألحدوا في آياته، وعادوا أولياءه، ووالوا أعداءه، وخربوا بلاده، وأفسدوا
عباده، وأخربوا بيت النبوة، وردموا بابه، ونقضوا سقفه، وألحقوا سماءه بأرضه،
وعاليه بسافله، وظاهره بباطنه، واستأصلوا أهله، وأبادوا أنصاره، وقتلوا
أطفاله، وأخلوا منبره من وصيه ووارث علمه، وجحدوا إمامته».
وكم «من منكر أتوه، وحق أخفوه، ومنبر علوه، ومؤمن أرجوه، ومنافق
ولوه، وولي آذوه، وطريد آووه، وصادق طردوه، وكافر نصروه، وإمام قهروه،
وفرض غيروه، وأثر أنكروه، وشر آثروه، ودم أراقوه، وخبر بدلوه، وحكم
قلبوه، وكفر أبدعوه، وكذب دلسوه، وإرث غصبوه، وفيء اقتطعوه، وسحت
أكلوه، وخمس استحلوه، وباطل أسسوه، وجور بسطوه، وظلم نشروه، ووعد

8
أخلفوه، وعهد نقضوه، وحلال حرموه، وحرام حللوه، ونفاق أسروه، وغدر
أضمروه، وبطن فتقوه، وضلع كسروه، وجنين أسقطوه، وصك مزقوه، وشمل
بددوه، وعزيز أذلوه، وذليل أعزوه، وحق منعوه، وإمام خالفوه...».
وكم من «آية حرفوها، وفريضة تركوها، وسنة غيروها، وأحكام
عطلوها، ورسوم منعوها، وأرحام قطعوها، وشهادات كتموها، ووصية
ضيعوها، وأيمان نكثوهاه، ودعوى أبطلوها، وبينة أنكروها، وحيلة أحدثوها،
وخيانة أوردوها، وأمانات خانوها» (1)..
فعلوا ما فعلوا، ومزقوا الأمة شر تمزيق، وبالرغم من اختلاف الأمة كل
الإختلاف، بقيت متفقة مجمعة على «العروة الوثقى» لا تختلف - بتاتا - في
«فاطمة»، فليس للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كوثرا سواها، ولا حبيبة إلاها، وقد أسمعهم
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرارا طيلة حياته «أنها بضعة منه; يؤذيه ما يؤذيها، ويريبه ما يريبها»
و «أنها روحه التي بين جنبيه»، وأراهم من حبه لها وعطفه عليها ما لا تمحوه الأيام
من العيون والقلوب، حيث كان «لا ينام حتى يقبل عرض وجهها» و «يقبل -
أمامهم - يدها»، ولا يقوم لأحدهم ويقوم لها، ويجلسها مجلسه، ولا يسافر إلا أن
تكون «فاطمة» آخر من يودعها، ولا يرجع من سفر إلا أن تكون فاطمة أول من
يلقاها، ويدأب على المرور ببابها والنداء عليها «الصلاة.. الصلاة.. السلام عليكم
أهل البيت.. إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا»،
فيخصها بنداء الصلاة دون الأمة.. ولا تجد في الأمة - إطلاقا - من يشكك في أنها
المصداق الصريح البين الواضح لآية التطهير.



(1) المحتضر: 61 - 62; المصباح للكفعمي 738 - 735 في أعمال ليلة النصف من شعبان.
9
وإذا كان للأمة ضغائن وأحقاد وترات مع أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث وتر في الله
«صناديد العرب، وقتل أبطالهم، وناوش ذؤبانهم، فأودع قلوبهم أحقادا بدرية
وخيبرية وحنينية وغيرهن، فأضبت على عداوته، وأكبت على منابذته، حتى
قتل الناكثين والقاسطين والمارقين»، فقاتلوه وحاربوه وعبأوا كل طاقاتهم،
وأعدوا واستعدوا على كل الأصعدة الثقافية والمادية والعسكرية و.. من أجل
الوقوف بوجه الحق وتضليل الناس عنه، وحاولوا من خلال تفعيل حركة الوضع
والإغراء والإرهاب إقناع الناس أنهم على الحق، وأنهم على السنة والجماعة; وأن
عليا وذريته شقوا - والعياذ بالله - عصا الأمة، وكان عملهم بمستوى من الضخامة
حتى نسي الناس صلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهم جديدوا عهد بأيامه، فلما صلى بهم
علي - بعد البيعة - خرجوا من المسجد وهم يصفقون بأيديهم ويقولون: لقد والله
ذكرنا بصلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثم نادوا على الحسين (عليه السلام) أنه خارجي!! خرج على إمام زمانه يزيد!!!
وبرروا لعائشة خروجها على إمام زمانها!! وقالوا: أنها تابت!! ثم أدخلوا
زينب (عليها السلام) إلى الكوفة سبية أسيرة ترمى بالخروج، وهي بنت سيد المرسلين
وأمير المؤمنين وسيدة نساء العالمين. ولم يتأثموا بذلك، فيما نراهم يعترفون صراحة
بأنهم خالفوا الله ورسوله وآذوهما; لأنهم آذوا فاطمة، فجاءوا إليها يعتذرون
اعتذارا رسميا أمام الملأ، وإن كانت هذه الخطوة محاولة باردة لكسب رأي الجمهور
والالتفاف على التاريخ في موقف مموه لربما خدع بعض السذج، المهم أنهم أقروا
- ولو ظاهرا - بأنهم تأثموا مما فعلوا، وخافوا وبال صنيعهم بفاطم، وهزهم هتك
حرمة بيتها الذي حرمه الله، فلم يدخله النبي إلا بعد الاستئذان; لأنه من البيوت

10
التي (أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه) وقد قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا
تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) وقال تعالى: (وإن
قيل لكم ارجعوا فارجعوا) (1)، بيد أن خطاب الآية للمؤمنين، ومتى آمنوا حتى
يسمعوا كلام الله ويفقهوا خطابه؟!!
ولهذا كانت فاطمة «العروة الوثقى» التي لا يختلف فيها اثنان من المسلمين
- بل وغير المسلمين - وقد اتفقوا عليها كما اتفقوا على القرآن الكريم، بل أكثر; لأن
القرآن «حمال ذو وجوه» وفاطمة حق صريح، وآية محكمة، تفسر كل متشابه،
وتكشف زيغ الذين في قلوبهم مرض، وهي سر الله في السماوات و الأرض.
ومن هذا المنطلق راحت سيدة نساء العالمين تجالد الغاصبين والظالمين دفاعا
عن شريعة سيد المرسلين، وحق أمير المؤمنين، فوظفت حياتها لهذا الدفاع
المقدس، فلو أن أحدا ختم الله على قلبه وأعمى الشيطان بصيرته، فشكك - ظلما
وعدوانا - في أمير المؤمنين (عليه السلام) تشفيا وثأرا لضغائنه، ثم استطاع أن يضلل غيره
موظفا ترات الناس عنده، فليس له شئ من ذلك مع فاطمة (عليها السلام) لأنها لا تنازع في
الرأي العام، وكيف تنازع وليس في الناس من يتردد في كونها أبرز وأوضح
مصداق لقوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) (2)؟
* * *
ولو تصفحنا كتب التاريخ والمناقب وجدناها تسجل المناقب للكثير من
النساء، قبل الإسلام وبعده، إلا أنها - جميعا - لا يمكن أن ترقى إلى مناقب السيدة



(1) النور: 27 - 28.
(2) الشورى: 34.
11
الكبرى فاطمة الزهراء (عليها السلام)، ولا يمكن أن تقاس بها بتاتا.
فالمناقب إما أن تكون ذاتية موهوبة تكريما من الله عز وجل، وإما أن تكون
مكتسبة تنتج عن السلوك الحسن الذي يستدعي المدح والثناء ممن يكون مدحه
شرفا وثناؤه منقبة.
أما النوع الأول فلا يمكن أن يقاس بفاطمة أحد من نساء العالمين، كيف
وهي سيدتهن؟ وهل يقاس السيد بالمسود، والمولى بالعبد؟!
خذ من شئت من النساء فهل تجدها إلا مسودة لسيدة نساء العالمين فاطمة
الزهراء (عليها السلام)، وسيتضح لك ذلك - إن شاء الله من خلال بحوث الكتاب -.
ثم إن الذات الفاطمية المقدسة امتازت عن سائر الذوات - نساء ورجالا -
منذ النشأة الأولى، وقد خلقها الله «حوراء إنسية» وطهرها من الرجس، وجعلها
امتداد النبوة ووعاء الإمامة وصنوا للولاية حتى لم يجعل لها كفوءا «آدم فمن دونه»
من الأنبياء والمرسلين إلا أمير المؤمنين (عليه السلام).
فلا يمكن والحال هذه أن نبحث في الفرق بين مناقبها ومناقب غيرها من
النساء على هذا الصعيد.
وأما النوع الآخر: فإن فاطمة (عليها السلام) الميزان الذي تقاس به المناقب; فمن كانت
من النساء أكثر طاعة وخدمة وتسليما لفاطمة كانت ذات منقبة; لأن الله ورسوله
جعلوا رضاهم في رضاها، وسخطهم في سخطها.
فإذا كانت ثمة امرأة تتطاول إلى نيل وسام من أوسمتهم فلا بد لها أن تتقرب
إلى فاطمة وتطيعها وتقتدي بها وتخدمها، وحينئذ تمدح ويثنى عليها وتصبح ذات
منقبة; لأنها دخلت في الدائرة الفاطمية المقدسة.

12
على أن السيدة الصديقة كانت الذروة في كل شئ.. في العصمة، والعبادة،
والطاعة لله ولرسوله ولولية، وكانت البنت النموذجية، والزوجة النموذجية، والأم
النموذجية، والعابدة النموذجية، والمضحية النموذجية، وكانت - ولا زالت - معدن
الرحمة والرأفة والعطاء وجميع ما يتصوره الإنسان في الإنسان الكامل.
ومع كل ذلك تبقى مناقب السيدة الصديقة الشهيدة مميزة عن غيرها حتى في
نوع الأوسمة التي نالتها - باستحقاق - ولنذكر لذلك مثلا واحدا:
فقد روى الترمذي وغيره في عائشة - لو صحت الرواية - أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
قال: فضل عائشة على سائر النساء كفضل الثريد على سائر الطعام!!! تأمل في
التشبيه - على فرض أنه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - ثريد.. طعام.. شهوة. وقال في فاطمة:
أنها سيدة نساء العالمين، وقال: أنها روحي التي بين جنبي، وقال: الحوراء
الإنسية، وقال وقال ما شاء الله له أن يقول..
* * *
هذا; وقد اتفق المسلمون جميعا على رواية مناقب أهل البيت (عليهم السلام) عامة
ومناقب فاطمة الزهراء (عليها السلام) خاصة، ولا أدري لماذا يلتزم الكثير برواية ما رواه
العامة - فحسب -، ولعله من باب «من فمك أدينك» أو «ألزموهم بما ألزموا به
أنفسهم»، فإن الحديث عن المناقب قد يكون لامتناع الخصم فلربما صح هذا المنهج
وارتضي هذا المنطق، على أن العامة والخاصة متفقون - في الجملة - على وثاقة رواة
الشيعة، وليس عند خصومهم أي دليل على إسقاط رواتهم سوى أنهم «يتشيعون»;
وإلا فليس ثمة من يشكك في وثاقتهم - على العموم - بينما لا يرتضي الشيعة وثاقة
أحد من رواة الفريق الآخر إلا نادرا، فلنا أن نحتج عليهم بروايتنا أيضا.

13
ولا يخفى أن الكثير من المناقب سجلها رواة الشيعة نظرا لملازمتهم لأئمة أهل
البيت (عليهم السلام) وانفتاح الأئمة عليهم وابتعادهم - أكثر - عن أجواء التقية فيما حجب
رواة السنة عنها، فلماذا نحرم أنفسنا مما حرموا منه ونبقى وراء الحجب التي حالت
دون اتصالهم بالنور واستقبالهم للفيض؟!
ولكن الأمر لا ينتهي بامتناع الخصم! لأننا أمام مسؤولية عظيمة ومهمة
جسيمة; ألا وهي تركيز عقائدنا وعقائد أبنائنا وتشييدها وتدعيمها حتى نكون
من ذوي البصيرة في دينهم. ونحن لسنا مضطرين - في هذا المقام - بأن نلتزم برواية
السنة - بل على العكس - علينا أن نعلم أنفسنا وأبناءنا على الانتهال من المعين
الصافي القريب من خلال الإلتزام بما ألزمنا به الله وأمرنا أن نأخذ منهم، ورد كل
دين سوى دينهم، ولم يرض من أحد عبادة أو تقربا إلا أن يكون قد سلك سبيلهم،
وتمسك بهداهم; «فمن أراد الله بدأ بهم، ومن وحده قبل عنهم، ومن قصده توجه
بهم» ومن ابتغى غير الإسلام دينا فلن يقبل الله منه وهو في الآخرة من الخاسرين.
فلماذا نأخذ من غيرهم ونغذي أبناءنا من حديث خصومهم ما دام حديثهم
الغذاء السالم الذي ارتضاه الله ورسوله ووليه لنا؟ فلنتوجه إلى ما ورد عنهم أولا
وقبل كل شئ لنبني عقائدنا وسلوكنا وحياتنا وعلاقاتنا وحبنا وبغضنا ودنيانا
وآخرتنا وفق هذا المنهج القويم.
* * *

14
المؤلف
لقد ترجم المؤلف لنفسه في مقدمة الكتاب، ثم ترجم له أخوه بعد وفاته في
رسالة ألحقها بالكتاب، ونحن نكتفي بما قاله المؤلف عن نفسه، وننقل شيئا مما ورد
في رسالة أخيه رحمهما الله وحشرهما مع فاطمة الزهراء (عليها السلام).
قال الشيخ محمد سلطان المتكلمين:
الحمد لله الذي خلق الخلق من غير روية، والصلاة والسلام على سر
الهوية، وستر الربوبية، وغاية الوجودية، ونقطة العبودية، واسطة التنزل من
السماء الأزلية إلى الأرض الأبدية، محمد أكمل البرية، وعلى آله أفضل الرعية،
خصوصا على الجوهرة القدسية في تعين الإنسية، وحقيقة النفس الكلية في
تشخيص البشرية، بضعة العالم العقلية، بضعة الخاتم النبوية، التي خصها الله
بالخصائص الجلية، وفطمها عن النقائص السلفية، الراضية الزاكية فاطمة
المرضية، واللعنة على أعدائها ما بقيت الدقيقة والثانية.
وبعد: فقد طلب مني بعض العلماء الأعلام والفقهاء الفخام أن أكتب وجيزة
في حياة المؤلف بناء على الإخوة التي بيننا، ومن باب «أهل البيت أدرى بما في
البيت، وأهل مكة أعرف بشعابها» لتكون باعثا على تكريم المرحوم والترحم
عليه والدعاء له وذكره بالخيرات. فاستجبت لذلك حبا وطاعة، ليس إلا، «وما
أنا إلا قطرة من سحابة، ولو أنني ألفت ألف كتاب».
أيا ذا المعالي والعز والشرف الجم * بأي لسان صرت أثنيك لا أدري

15
ثم قال:
أما مؤلف هذه الأرقام، ومصنف ذلك الكلام; فهو الواعظ للأنام، والمتعظ
من الأحكام، مروج الإسلام، والمؤيد بتأييد الإمام، ذخر الشريعة، وفخر
الشيعة، قبلة الخليقة، وقدوتهم في الحقيقة، المفسر الكريم، والمحدث العليم، البحر
الزاخر، والحبر الماهر، نقطة دائرة المفاخر، مولانا الحاج ملا محمد باقر الواعظ
الطهراني مولدا، والمازندراني أصلا، ابن العالم النبيل والمجتهد الجليل المرحوم
المبرور ملا محمد إسماعيل - طاب ثراهما وجعل الجنة مثواهما -.
وأما عمره الشريف; فولد في سنة 1255 من الهجرة النبوية، وتوفي بمرض
الإستسقاء عند طلوع الفجر يوم الجمعة إحدى وعشرين من شهر ربيع المولد
1313 في المشهد الرضوية - على ساكنها ألف سلام وتحية - ودفن حسب الوصية
في البقعة البهائية على صاحبها ترحيمات بهية، فكانت مدة حياته ثمان وخمسين
سنة.
قد كان صاحب هذا الفضل جوهرة * مصونة صاغها الرحمان من شرف
أتى فلم تعرف الأيام قيمته * فرده قيمة منه إلى الصدف
يبكى عليه فما استقر قراره * في اللحد حتى صافحته الحورا
والعجب كل العجب أنه قرر السفر إلى خراسان في السابع عشر من محرم
الحرام بالرغم من أنها أيام عزاء ومصيبة، وبالرغم من إصرار الكثير من رجال
الدولة والدين والتماسهم البقاء معهم، ولكثر ما حاولوا أن يثنوه عن عزمه هذا إلا
أنه كان يسمع بآذان روحه نداء ربه (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك

16
راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي)، ويشده إلى الرحيل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
«حب الوطن من الإيمان»، فكيف ينثني عن أرض خراسان وهي روضة من
رياض الجنان؟ سيما وقد جاءت الاستخارة من الرحمن - كما قال (رحمه الله) -: قوله تعالى:
(جنات تجري من تحتها الأنهار)، فلا بد أن يكون مدفني بين الجبلين، وهي بقعة
من بقاع الجنان ف‍ (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى).
رحمه الله.. لقد عاش سعيدا، ومات سعيدا، وكان دائبا في التعلم والتعليم
والوعظ والإتعاظ، دائبا لا يفتر في التخلق بأخلاق الأئمة الطاهرين، وإيقاظ
المخلوقين، والحث على التمسك بالحبل المتين، والسير على نهج أمير المؤمنين،
واتباع أوامر ونواهي سيد المرسلين، فكان من حيث الظاهر والباطن كالبدر
الشريف، والهيكل المنيف، وكانت عاقبة أمره أنه جعل نفسه مصداقا لقوله تعالى:
(ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على
الله) فاستنزل الرحمة والأجر والغفران من الغفور الرحمن.
أقم ماتما للمجد قد ذهب المجد * وحل بقلبي السوء والحزن والوجد
وبانت عن الدنيا المحاسن كلها * وحال بها لون الضحى فهو مسود
وسائله ما الخطب راعك وقعة * وكادت له شم الشوامخ تنهد
وما للبحار الزاخرات تلاطمت * وأمواجها أيد وساحلها خد
فقلت نع الناعي إلينا بباقر * فذاب أسى من نعيه الجمر الصلد

17
... وأما كيفية تحصيله العلوم
لقد أخذ المقدمات من والدنا المرحوم، لأنه كان مدرسا في المدرسة المعروفة
بالصدر الطهراني، وكان أديبا أريبا ورعا زاهدا جامعا لجم من العلوم، حاويا
للمنقول والمعقول، مجازا عن أستاذه أستاذ الكل في الكل، العالم الكريم، والمجد
العظيم، والمجتهد الفخيم، السيد إبراهيم القزويني صاحب الضوابط.
ثم بعد تكميل مقدماته في عنفوان شبابه ارتحل بإجازة الوالد الماجد من بلدة
الناصرة إلى المشاهد المشرفة والأماكن المتبركة مستمدا من قرب قبور الأئمة،
ومستنصرا من مجاورتهم وزيارتهم (عليهم السلام)، حتى كملت مؤخراته من السطوح
والشروح، فرجع من البقاع المنيعة إلى طهران لزيارة الوالد العظيم الشأن،
فبواسطة المنامات الصادقة وتواتر رؤياه الأئمة، قامت له به حجة دعته إلى
الموعظة والنصيحة وتفسير الآيات الإلهية والتحديث بالأحاديث النبوية، وذكر
المصائب العظيمة، وكان بليغا فصيحا طلقا ذلقا متكلما متألها محدثا شاعرا جامعا،
مطاعا بين الأنام، منيعا أمينا في إبلاغ الأحكام وإعلان كلمة الإسلام، مقبول
الكلام ومحبوبا عند الخواص والعوام، وحيدا في الزمان والأيام، فجزاه الله عن
مساعيه الجميلة في الشرع الجزاء التام، وكانت مدة صعوده على المنابر إلى نزوله في
المقابر تقرب نحوا من أربعين سنة.
لهفي لرهن ضريح كان كالعلم * للنصح والوعظ والمعروف والكرم
قد كان للدين شمعا يستضاء به * الباقر......................

18
وأما آثاره الباقية الثلاثة
كما ورد في الرواية: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة
جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له»، فله في كل واحدة منها الحظ الأولى
والفوز بالقدح المعلى.
أما صدقته الجارية فمستمرة ومخصوصة للصديقة الطاهرة عليها صلوات
متكاثرة.
أما أولاده الموهوبة الموعودة فمخدرتان متزوجتان من الذرية الباهرة
الفاطمية:
الأول: العالم الكامل والنحرير الفاضل السند النبيل جناب الحاج سيد
عبد الجليل ابن المرحوم المغفور العالم التقي السيد علي نقى (رحمه الله) من أجلة السادات
الأخوي.
والثاني: جناب سلالة الأنجاب ونقاوة الأطياب السيد المؤتمن آقا ميرزا
حسن ابن المرحوم المبرور الحاج مير محمد علي المعروف بالشيرازي (رحمه الله).
واما علمه المنتفع به من رسائله المرسلة وكتبه المعتبرة فكثيرة.
أما الرسائل:
فمنها: رسالة في زيارة السادات الفخام والعلماء العظام.
منها: رسالة في ايقاظ القوم من آداب الصوم.
منها: رسالة ارائة الطريق فيمن يؤم البيت العتيق.
منها: رسالة منير القلب ومبير الكرب.

19
منها: رسالة نوروزية.
منها: رسالة الأسرار في كيفية الأسفار.
منها: رسالة سبل الفجاج في المنازل ومواقف الحاج.
منها: رسالة المنظومة السامية في الحجة الحامية.
منها: عريضة التوسل وذريعة الترسل.
وأما الكتب:
فمنها: كتاب جنة النعيم في أحوال عبد العظيم.
منها: كتاب سراج الوهاج في العروج والمعراج.
منها: كتاب برهان العباد في إثبات المعاد.
منها: كتاب برهان التجارة في تبيان الزيارة.
منها: كتاب المنتجب في شرح دعاء الرجب.
منها: كتاب هداية المرتاب في تحريف الكتاب.
منها: كتاب الثمرات الجنية من الحديقة الحسينية.
منها: كتاب شرح توحيد المفضل بالطريق المفصل.
منها: كتاب الإصرار في الاستغفار.
منها: كتاب خطوات الشيطان في خطرات الإنسان.
منها: كتاب الشمائل العلوية والخصائل المرتضوية.
منها: كتاب نهج الحجج في مناسك الحج.
منها: كتاب الخصائص الفاطمية لتشييد قلوب الإمامية.
وكانت الخصائص الفاطمية بمثابة الفصل الأخير في مؤلفاته وقد جاء جامعا

20
كفاطمة (عليها السلام)، وقد جمع فيه حصيلة أربعين سنة من عمره في التفسير والأخبار
وطلب العلم والحكمة، فكان كما قال الشاعر:
ألفاظه درر وأغنت بحليتها * أهل الفضائل عن حل وعن حلل
كم فيه من حكم بالحق محكمة * تحي القلوب ومن حكم ومن مثل
والحق يقال: أنه كان كنز العرفان، ومخزن الإيقان، ومجمعا لمناقب سيدة
النسوان، ومنبعا لآداب نبي آخر الزمان.
ولربما قيل: أنه لم يؤلف مثله أحد من العلماء المتقدمين، ولم يأتي بمثله
المتأخرين، وهذه منقبة إلهية لا تكتسب بجهد، ولا تنال بعهد.
وهب إني أقول الصبح ليلا * أيعمى الناظرون عن الضياء
فلو نظر إليه الأجلة من أهل العلم والفن، والنبلاء من أهل المنبر والوعظ،
والخبراء من ذوي الرأي بعين الرضا، وقديما قيل: «وعين الرضا عن كل عيب
كليلة» لوجدوه كمثل جنات وعيون، لكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما
تدعون، وفاكهة كثيرة مما تأكلون، ومنها تشربون، وفي مثل ذلك فليتنافس
المتنافسون.
فاسلكه تهدى إلى دار السلام غنا * وتحط فيها بما ترجو من العمل
ولكن أسفا وألف أسف أن الأجل لم يمهله حتى يتم تأليف هذا الكتاب،
فاكتفى بقوله «إنما الأعمال بالنيات»، وعمل ب‍ «الإمتثال فوق الأدب»، فرحل إلى
ربه وأحال الباقي إلى ذمة الآخرين.
قد صنف للعلم المكرم في الورى * مجموعة يروي القلوب غمامها

21
الكتاب وعملنا فيه (1)
قال المرحوم الآغا بزرگ في الذريعة: 7 / 174:
الخصائص الفاطمية: بالفارسية، للشيخ الواعظ المولى باقر ابن المولى
إسماعيل بن المولى عبد العظيم بن محمد باقر الكجوري، المولود بطهران (1255)
والمتوفي بمشهد خراسان (1313)، ودفن بها في مقبرة الشيخ البهائي.



(1) رحم الله السلف الصالح من آباءنا حيث غذونا ولاية أهل البيت (عليهم السلام)، وعلمونا حبهم في كل
تفاصيل الحياة وجزئياتها، وشجعونا على تعظيم الشعائر وإقامة المآتم... فمات السيد جمال وترك
في وصيته لأولاده أن يقيموا مجلس العزاء على أبي عبد الله الحسين في العشرة الأخيرة من شهر
صفر، وأكد أن لا تترك هذه «العادة» التي ورثها هو بدوره عبر وصية أبيه آية الله العارف العابد
الزاهد السيد عبد الغفار أشرف المازندراني (انظر ترجمته في نقباء البشر للاغا بزرگ الطهراني)
فالتزم أولاده - حفظهم الله - بإقامة هذا المأتم سنويا في بيت أحدهم، حتى استقر أخيرا في بيت
السيد رضا أشرف، فأقام المجلس - كالعادة - سنة 1419 ليبدأ ليلة الأربعين وينفض ليلة وفاة
الرسول الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبعد أن انتهى المجلس بقي جماعة يتجاذبون أطراف الحديث عن المجالس
الحسينية وثوابها ودورها وأثرها وفوائدها، واستمروا في حديث جميل شيق علمي حتى انتقل
الكلام إلى السيدة الصديقة الكبرى وما كتب فيها، فانبرى الأستاذ الماجد صاحب «الأيادي
البيضاء» على المكتبة الشيعية الحاج محمد صادق الكتبي - حفظه الله وأباه - فقال - وهو الخبير في
ذلك -: إن في مكتبة المدرسة الفيضيه كتابا رائعا مفصلا عن السيدة الصديقة الطاهرة لمؤلفه
الشيخ محمد باقر الطهراني، فلماذا لا يستخرج الكتاب ويترجم إلى العربية، وأنا مستعد لطبعه
فورا».
سبحان الله.. انقطع الحديث عن كل شئ إلا عن هذا الكتاب، وأخيرا تبنى الفاضل الماجد السيد
جلال أشرف العمل على إعداد النسخة والسعي للحصول عليها من المكتبة الفيضية فطلب ذلك
من فضيلة الأستاذ محمد حسين حشمت پور - جزاهم الله خيرا جميعا -.
وبالفعل فقد استخرجت النسخة حيث قدمتها مكتبة الفيضية بسخاء مشكور ووصلت بيد
المترجم في أوائل شهر ربيع الأول من نفس السنة. فكان هذا الكتاب نتاج تلك الجلسة المباركة،
وعطاء لذلك «المأتم» الحسيني المبارك، والحمد لله أولا وآخرا.
22
شرع في تأليفه سنة 1310، وشرع في طبعه 1311، وتوفي قبل طبعه، بل
قبل إتمامه، فألحق بآخر المطبوع منه أخوه الشيخ محمد سلطان المتكلمين، رسالة
في ترجمة المؤلف سماها «زبدة المآثر في ترجمة الحاج المولى الباقر».
وقد رتبه المؤلف حسب ما ذكر في أوله على مائة وخمس وثلاثين خصيصة،
المطابق لجمل اسمها «فاطمة»، منها ثلاث خصائص في المقدمة، وخصيصتان في
الخاتمة، بينهما المائة والثلاثون خصيصة، منها ثلاثون خصيصة لها قبل ولادتها،
وخمسون لما بعد الولادة وقبل الوفاة، وخمسون لما بعد الوفاة.
وبما أنه آخر تصانيفه فأدرج فيه ما التقطه من الفوائد طول عمره، لكن لم
يتمكن من إتمام تلك الخصائص على ما سطر في الفهرس إجمالا، بل وقع نقص في
وسطه وفي آخره على ما رأيته في عدة نسخ من مطبوعه، فإن الموجود في المطبوع
من أوله إلى صفحة (256) فيها الخصائص الثلاث في المقدمة والثلاثون لما قبل
الولادة، ويوجد من الخمسين لما بعد الولادة وقبل الوفاة إلى أوائل الخصيصة
الثالث والعشرين والمنتهية إلى الصفحة المذكورة، ثم يشرع في الصفحة (311) من
أوائل الخصيصة الحادية والثلاثين إلى تمام الخمسين المذكور، فسقط من هذا
الخمسين سبع خصائص، وأما الخمسون لما بعد الوفاة وكذا الخصيصتان في الخاتمة
فالظاهر أنها لم تخرج من قلم المؤلف وإلا لكانت تقدم للطبع كما طبع مقدار منه بعد
وفاة المؤلف بمباشرة صهره على بنته السيد عبد الجليل بن علي النقي من السادة
المشهورين بالأخوي.
وتم طبعه في 473 صفحة في سنة 1318.

23
وفي الخصيصة الأربعين أورد خمسين آية منزلة في فاطمة الزهراء (عليها السلام) لكنها
من غير تفسير وبيان...
* * *
لقد امتاز الكتاب بلغته الخاصة وأسلوبه الذي يعكس سعة اطلاع المؤلف
وكثرة الاستطراد والاسترسال، ولربما غلب عليه - أحيانا - الاسلوب الخطابي
باعتبار أن المؤلف (رحمه الله) كان خطيبا بارعا في عصره، فهو يستخدم نفس الاسلوب
المنبري في الكتاب.
ومن الطبيعي - حينئذ - أن تكون الترجمة عسيرة صعبة سيما وأن فارسيته
أيضا فارسية قديمة.
ثم إن طريقته في الترجمة من العربية متميزة حيث أنه يترجم النص بنفس
الاسلوب الخطابي مما يعقد عملية ارجاع النصوص إلى العربية ومراجعتها في
المصادر.
وكيف كان فإنا لم نتعامل مع النصوص الواردة في الكتاب معاملة تحقيقية
دقيقة، ولم ندقق فيها ونطبقها على المصادر تطبيقا علميا يسجل كل إضافة أو
نقص، كما لم نتابع الشعر الوارد في الكتاب من أجل التثبت من الرواية والمصدر،
لأن الغرض الأساسي هو تعريب الكتاب وليكن التحقيق خطوة ثانية مرجوة
للمستقبل إن وفقنا لذلك أو وفق غيرنا إن شاء الله.
ولما كان الاستطراد مخلا أحيانا بالنص العربي، اضطررنا إلى إنزاله إلى
الهامش وأشرنا إلى ذلك في المواضع كلها، كما أضفنا بعض العناوين وجعلناها بين
معقوفتين تمييزا لها عن العناوين الأصلية.

24
أما ما ورد في الكتاب من نصوص الشعر الفارسي فقد تولى ترجمتها في
الهامش أخي الفاضل الأستاذ المحقق الحاج عبد الرحيم المبارك حفظه الله وتغمد
والديه بالرحمة والرضوان وتقبل منه إنه سميع الدعاء.
ومما يؤسف له أن المؤلف لم يستوعب كل البحوث التي وعد بها; لأن الأجل
وافاه (رحمه الله) من قبيل: الشفاعة، الخمس، التوسل، ظليمتها (عليها السلام)، مصحف فاطمة
وغيرها.
وفي الختام: فهذه بضاعتي المزجاة أتقدم بها إلى رحاب سيدتي ومولاتي
وجدتي سيدة نساء العالمين بنت النبي وزوج الولي الوصي وأم النجباء فاطمة
الزهراء راجيا منها القبول بكرمها ورأفتها، ومتوسلا بها إلى الله - تبارك وتعالى -
أن يجعلها شفيعتي ويشفعها في أبي وأمي ووالديهما ومن ولدا، وصلى الله على محمد
وآله أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
18 / 12 / 1421
سيد علي جمال أشرف الحسيني
قم المقدسة

25
الديباجة (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
سبحانك اللهم يا فاطر السماوات العلى، وفالق الحب والنوى، أنت الذي
فطرت اسما من اسمك، واشتققت نورا من نورك، فوهبت اسمك بنورك، حتى يكون
هو المظهر لظهورك، فجعلت ذلك الاسم جرثومة (2) لجملة أسمائك، وذلك النور
أرومة (3) لسيدة إمائك، وناديت في الملأ الأعلى: أنا الفاطر وهي فاطمة، وبنورها
ظهر الوجود من الفاتحة إلى الخاتمة، فاسمها اسمك، ونورها نورك، وظهورها
ظهورك، ولا إله غيرك، وكل كمال ظل كمالك، وكل وجود ظل وجودك.
فلما فطرتها فطمتها عن الكدورات البشرية، واختصصتها بالخصائص
الفاطمية، وهذبتها مفطومة عن الرعونات العنصرية، ونزهتها عن جميع النقائص،
مجموعة من الخصائل المرضية، بحيث عجز ما سواها عن إداركها، وفطم الناس
عن كنه معرفتها، فدعاها الأملاك في الأفلاك: ب‍ «النورية السماوية» وب‍ «فاطمة



(1) للمؤلف ديباجة أخرى بالفارسية أعرضنا عن ترجمتها لأنها قريبة المضمون من الديباجة العربية، غير
أنها تزيد عليها بشئ من الإشادة بسلطان الزمان ومدح للملك المعاصر له آنذاك.
(2) الجرثومة: الأصل; وجرثومة كل شئ أصله ومجتمعه. (انظر: لسان العرب 2 / 232 مادة «جرثم»)
(3) الأرومة: الأصل. (انظر: لسان العرب 1 / 123 مادة «أرم»)
27
المنصورة» بعد ما أظهرت نورها زاهرا، وصورتها بأحسن صورة، تعالى جلالك
وتلألأ جمالك، وتجليت بها في سبحات الجبروت، وتحليتها بصفاتك في سترات
الملكوت، فسبحان من تجلى لها فأشرقت وطالعها فتلألأت، وألقى في هويتها مثاله
فأظهر عنها أفعاله، فلا تزال تتقلب بين يدي الجلال والجمال، ولم تزل تتنزل من
مبدأ الكمال إلى منتهى الكمال.
ولقد أجاد الشيخ [في قوله]:
هبطت إليك من المحل الأرفع * ورقاء ذات تعزز وتمنع
محجوبة عن كل مقلة عارف * وهي التي سفرت ولم تتبرقع (1)
فكفلها [ال‍] عقل الأول، وزكاها بالعلم والعمل، واحتضنها في كلاءته،
واختصها بكفالته، وربتها يد الرحمة، وغذتها ثدي العصمة، وأوحى إليها ما
أوحى إليه، وآتاها ما أوتي من قربه لديه; فأشهد الله أنها حبيبة الحق وربيبة
الرب، وأن محمدا ((صلى الله عليه وآله وسلم)) أباها - مع النبوة وعظيم الزلفة - يفتخر بهذه الأبوة،
ويباهي بأن هذه الثمرة من تلك الشجرة، كما أن الواحد من العشرة، وأن عليا بعلها
علا اسمه بها، وهو يقول في وحدته معها:
وإن فاطمة سكني وعرسي * منوط لحمها بدمي ولحمي (2)



(1) من القصيدة العينية المشهورة للشيخ الرئيس ابن سينا.
(2) الصواعق المحرقة الباب التاسع من فضائل الإمام علي (عليه السلام) الفصل الرابع، ينابيع المودة 2 / 420 الباب
التاسع والخمسون، 3 / 143 الباب الخامس والستون.
والأبيات منسوبة للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام):
محمد النبي أخي وصهري * وحمزة سيد الشهداء عمي
وجعفر الذي يمسي ويضحي * يطير مع الملائكة ابن امي
وبنت محمد سكني وعرسي * منوط لحمها بدمي ولحمي
وسبطا أحمد ابناي منها * فأيكم له سهم كسهمي
سبقتكم إلى الإسلام طرا * غلاما ما بلغت أوان حلمي
وأوجب لي ولاية عليكم * رسول الله يوم غدير خم
فويل ثم ويل ثم ويل * لمن يلقى الإله غدا بظلمي
قال البيهقي: إن هذا الشعر مما يجب على كل مؤمن أن يحفظه ليعلم مفاخر علي (عليه السلام) في الإسلام.
28
فيالله من شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، المغروسة في الحرم من
كرم، فشمخت أغصانها، وسمت أفنانها، واخضرت أوراقها، وأينعت ثمارها،
فأظلت الورى، وأحاطت بما في الثرى. فيالله من أصل زكي وفرع سمي، نمى
(كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) (1).
وهي في البداية نقطة الوحدة، وفي النهاية كوثر الكثرة، فصدرت منها
المعارف والحكم; لأنها أم الكتاب، وعلمها ربها من العلوم ما لم تعلم، (فلا تعلم
نفس ما أخفي لها من قرة أعين) (2) وإنها الجنة التي (تؤتي أكلها كل حين) (3)
والنحلة التي (اتخذت لها بيوتا من الشجر ومما يعرشون) (4)، فعم الورى نفعها،
وجعلها «في بيوت أذن الله رفعها» (5)، فهي النعمة التامة، والرحمة العامة، وعيبة
المعرفة، ووعاء المشية، أخت النبوة، وعصمة المروة، الصحيفة المتلوة، والمرأة



(1) البقرة: 261.
(2) السجدة: 17.
(3) إبراهيم: 25.
(4) اقتباس من قوله تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما
يعرشون); النحل: 68.
(5) اقتباس من قوله تعالى: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو
والآصال); النور: 36.
29
المجلوة، دليل الهداية، وزميل الولاية، نور السماوات السبع، وزين الفواطم
التسعة، الكريمة الجليلة، والسماء الظليلة، والعين الغزيرة، والروضة المطيرة،
والأمانة المعروضة، والمودة المفروضة، والساعة المستجابة، والبضاعة المرجوة،
والطاهرة المطهرة، والممتحنة الصابرة، والليلة المباركة، والقدر التي خير من ألف
شهر، باب الإيمان، ووسيلة الرضوان، أم الكتاب، وفصل الخطاب، صدف
الفخار، وغرة شمس النهار، صاحب القبة الحمراء في حضيرة القدس، وتفاحة
الخلد، والمصباح المنير في مشكاة الوجود، والزجاجة المضيئة في عالمي الغيب
والشهود، وليدة الإسلام، والمعصومة من الآثام، قرار القلب، وقدوة الرب،
وشرف الأم، والشريفة من الأب، خاصة الرسول، والحصان البتول، بضعة
المصطفى، وزوجة المرتضى، ولن تشذ عن رسول الله لحمته; لأنها شجنته (1)
ومهجته وروحه وحقيقته ونفسه وكريمته، عين الحياة، وسفينة النجاة، وذريعة
الهداة، وشفيعة العصاة، خامسة أصحاب الكساء، وإحدى الكبر، زهرة الزهراء
بين الشمس والقمر، التي برها خير العمل، والأعمال منه تقبل، أمة الله الزكية،
وآنية الله النقية، ونفس الله القائمة في حقيقة العلوية، أم القرى الإمكانية، والقوة
القاهرة في قوى الإنسانية، سماء الكواكب الدرية من الأئمة المهدية، والرجال
الإلهية، ثمال الشيعة الإثنا عشرية، ورجاء الفرقة الإمامية، المكية المدنية،
والحجازية التهامية، والهاشمية القرشية، قرة العين، وإحدى المخلفتين، أم السبطين،
وأكبر حجج الله على الخافقين، ريحانة سدرة المنتهى، وكلمة التقوى، والعروة
الوثقى، وستر الله المرخى، والسيدة العظمى، ومريم الكبرى، والصلاة الوسطى،



(1) الشجن; محركة: الغصن المشتبك والشعبة من كل شئ. (منه)
30
والإنسية الحوراء، التي بمعرفتها دارت القرون الأولى، وكيف أحصي ثناءها، وإن
فضائلها لا تحصى، وفواضلها لا تقضى، البتول العذراء، والحرة البيضاء، أم أبيها
وسيدة شيعتها وبنيها، ملكة الأنبياء، الصديقة فاطمة الزهراء.
[و] نعم ما قيل:
خجلا من نور بهجتها * تتوارى الشمس في الأفق
وحياء من شمائلها * يتغطى الغصن في الورق
صلوات الله وسلامه عليها وعلى والدها وبعلها وولديها.
ثم نسألك اللهم يا رب الدنيا والآخرة، صل وسلم على صفوتك وحبيبتك
وأمتك التي اختصت بهذه المواهب الباهرة والمناقب الزاهرة، أم الحجج القاهرة
والأئمة البررة الطاهرة، بصلوات متواترة وتسليمات متوافرة متكاثرة، وترحم
عليها برحمات نامية سامية تكرم بها وجه أبيها، وتفرح منها قلوب شيعتها وبنيها،
وتزيد لها شرفا فوق شرف، وزلفة فوق زلفة، وفضيلة فوق فضيلة، ووسيلة فوق
وسيلة، بعدد ما طلع طالع، ولمع لامع، وبعدد ما في علمك من الثريا إلى الثرى وما
في الآخرة والأولى.
يا رب لا تسلبني حبها أبدا * ويرحم الله عبدا قال آمينا
اللهم ثبتنا على حبها، واملأ قلوبنا من ودها، وأجرنا من عذاب النار في يوم
تتقلب فيه القلوب وتشخص فيه الأبصار.
ثم صل وسلم وترحم وتحنن من لسان نبيك المعظم ووليك المكرم وألسنة
أنبيائك المرسلين وسفرائك المقربين على ذريتها المعصومين وعترتها المصطفين
الممدوحين في الملأ الأعلى، والمخصوصين بتحف البلاء والعناء، الذين ركضوا من

31
بطنها، وافتخروا بأمومتها، واستزادوا ملكا لا ينبغي لأحد.
مطهرون نقيات ثيابهم * تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا (1)
وهم سنام العالم، وصفوة الأمم، ومضاض (2) بني آدم، ومفاتيح الظلم،
وينابيع الحكم، وشآبيب الهمم، وأقلام الأقدار، وألواح الأسرار، ومقاليد العفو،
وأعلام العلم، وأيمان الإيمان، وغرة العرب ولباب البشر.
وهم حجج الإله على البرايا * بهم وبجدهم لا يستراب (3)
الذين وجدهم لا ينسى، ورزؤهم لا يحصى، ومنهم في كل عين قذى، وفي
الحلق شجى، وجرحهم لم يندمل، ومرارتهم لم تزل، وغصصهم تجري من
الحناجر إلى الصدور إلى يوم ينفخ في الصور، وإني (أشكوا بثي وحزني إلى الله) (4)
مما جرى عليهم من أعاديهم، ومن خطل آرائهم، وزلل أهوائهم، وما كسبت
أيديهم (فبئس ماقدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وهم في العذاب خالدون) (5)،
ويكفيهم ما قال الله فيهم: (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) (6).
ودارهم هجر وحبهم قلى * ووصلهم صرم وسلمهم حرب
وبعد:
يا خيرة الإخوان، وصفوة الخلان; إن أعظم الوسائل وأقوم الدلائل،



(1) فرائد السمطين: 1 / 14 في مقدمة المؤلف.
(2) المضض: وجع المصيبة وحرقتها، والمضاض كسحاب: الإحتراق.
(3) المناقب لابن شهر آشوب 4 / 301 وفيه: «بهم وبحكمهم لا يستراب».
(4) يوسف: 86.
(5) اقتباس من قوله تعالى: (ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن
سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون); المائدة: 80.
(6) الشعراء: 227.
32
وأوضح المناهج، وأنهج المسالك، لحصول الغفران والوصول إلى الرضوان، محبة
فاطمة البتول، ومودة ذوي القربى من آل الرسول، فهي الذخيرة والخلاص ليوم
(لات حين مناص) (1)، فمن تمسك بهم نجا وهدي، ومن تخلف عنهم هلك وهوى،
ومن اعتلق بهم فاز قداحه، ومن تعلق بأذيالهم أسفر صباحه، فطوبى لمن سلك في
هذه المحجة البيضاء والطريقة الحسناء، فويل لمن نكب عن هذا الصراط السوي،
والمنهج العلي، وصبا عن ولائهم، وخرج عن تحت لوائهم.
والشكر لله الذي أولاني، وعلى ذلك هداني بأني ولدت على الفطرة،
ورزقت هذه الصبرة، أعني: بولاء هؤلاء من الفئة الفاطمية، والفتية المصطفوية.
وأسأل الله ربي - وهو حسبي - أن أقوم يوم معادي من مقامي ورقادي مع
صحيفتي الحاضرة، وهي حجتي الباهرة، ووسيلتي في الدنيا والآخرة، فيقال لي
حين (ترى كل أمة جاثية) (2) وحين تطاير الكتب وشخوص الأبصار ووجل
القلوب: (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) (3)، فأخرج من يدي
بيضاي وألقي عصاي، وأنا قائل بما قال المعري:
وإني وإن كنت الأخير زمانه * لآت بما لم تستطعه الأوائل (4)
وأنشر هذا الكتاب وهو خلاصة الحساب، وما خصني الله وأوتيت من
فضل الله وعون عنايته، وما أسهرني في أغلب الليالي، وأخبرني عن أمهات
المعاني ومهمات المعالي، والاستقصاء في السير والأثر، وإمعان النظر في المفاخر



(1) ص: 3.
(2) الجاثية: 28.
(3) الإسراء: 14.
(4) ديوان أبي العلاء المعري 193; وفي المتن: «الزمان أخيره».
33
المأثورة والمآثر المعتبرة من أحوال سيدة النساء وأم الأئمة النجباء، وأفعالها
وأقوالها - صلوات الله وسلامه عليها - من أول الخلقة إلى يوم البعثة، مع تصحيح
الروايات والأحاديث، وتنقيح الأخبار والآثار، وتزكية الرواة من الضعاف
والثقات، وتصفح السين والشين، ومعرفة الغث والسمين، وامتياز حسان مؤلفات
الخاصة وصحاح مصنفات العامة مع حسن الطلب، والجد الكامل في إيضاح
الدقائق وكشف الحقائق، وبيان العويصات، وحل الرموز، وإن عميت عين الزمان
فصار الجهل شائعا بين الأتراب والأقران، فأسعدتني ميامن الأنفاس القدسية من
هؤلاء السادة على هذه السعادة، ووفقني الله تعالى من منه وإحسانه في برهة من
الزمان بقدر الوسع والطاقة، والمرء مسؤول على ما ساقه لجمع ما يراد، وادخرتها
ليوم المعاد، وكأن روحا نفث في روعي وقذف في قلبي فسميت هذه الوجيزة
الغريزة والصحيفة العزيزة ب‍
«الخصائص الفاطمية لتشييد قلوب الإمامية»
وما أنا إلا قطرة من سحابة * ولو أنني ألفت ألف كتاب
راجيا من الله أن لا يخيب أملي ولا يضيع عملي، وأن لا يكون شفعائي
خصمائي، ولا أوليائي أعدائي، وأن لا يفرق بيني وبين سيدتي ومولاتي وذراريها
من الهداة البررة طرفة عين أبدا، وأن يهيأ لي في أمري رشدا، وأرجو من أفضاله
وألطافه تحديث هذه النعمة، وتشييد قلوب الأمة من نشر آثارها وذكر أخبارها
بمقدار ما بقي من عمري وحشاشة من حياتي، وأرجو أن يجلو من بصري الغشاوة
وعن قلبي القساوة.
فيا دهر ساعدني على بغيتي * ويا عمر كن بعض أسبابها

34
إلهي; ما أنا وما خطري وما قدري وما قدري، وأنا أقل من لا شئ، وأذل
من النعل، الرق المملوك لحبيبتك، والقن المفلوك في خليقتك، ابن العالم الجليل
المولى محمد إسماعيل العبد الذليل محمد المدعو بالباقر الشهير بالواعظ، والحليف
لأهل الإيقاظ، المنسوب إلى مازندران والساكن في قاعدة الري بطهران، صانها
الله عن الحدثان، وإني ذاكر باللسان ومعتقد بالجنان:
وإذا الرجال توسلوا بوسيلة * فوسيلتي حبي لآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (1)
رب اشرح لي صدري بصدورهم، ويسر لي أمري بأمورهم، واحلل عقدة
من لساني بألسنتهم حتى يفقهوا قولي، وأنت مالك قوتي وحولي، ولا حول ولا
قوة إلا بالله العلي العظيم، ومن الله الاستعانة في بداية كل شئ إلى نهايته، وبفاطمة
الإعتصام في فاتحة هذا الكتاب إلى خاتمته، وكل ذلك بتوفيق الله وتأييده وتعليمه
وتسديده، وإنه في المبدأ خير موفق وفي المنال خير معين.
* * *
الوصية برعاية بني فاطمة (عليها السلام)
ثم أوصيكم يا عباد الله وأمة محمد وشيعة علي ومحبي فاطمة بإعانة ذريتهم -
صلوات الله عليهم - لأن إعانتهم يدا ولسانا وقلبا منة عظيمة على فاطمة وأبيها
وبعلها، ويد كريمة عليهم لاشك أنها تصل إليهم وتفرح نفوسهم و [أنهم] يسألون
الله الجزاء لكم في الدنيا والآخرة.
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من اصطنع إلى أحد من أهل بيتي يدا، كافيته عليها



(1) المناقب لابن شهر آشوب 4 / 301.
35
يوم القيامة» (1).
وفي طريق آخر: «فعجز عن مكافاته، فأنا المكافي له يوم القيامة» (2).
والأخبار في مساعدتهم بقضاء حوائجهم والإحسان إلى هؤلاء الكرام
والسادة الفخام مشحونة في كتب الفريقين، وإنها من أفضل القربات وأجل
الطاعات، وأشرف الخيرات والعبادات، وإن مودتهم فريضة إلهية وموهبة سماوية
على كل إنسان من أهل الإسلام والإيمان، والشاهد في ذلك نص القرآن المجيد
والفرقان الحميد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، عز قائله وجل
متكلمه، حيث قال:
(قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) (3).
بل حبهم إيمان وبغضهم كفران، فمن تقرب إليهم بالإحسان ضوعفت
حسناته ورفعت درجاته.
وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «من أسدى إلى أحد من ذريتي معروفا فهو في درجتنا في
الجنة».
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «أربعة أنا شافع لهم يوم القيامة ولو جاءوا بذنوب أهل
الأرض: المكرم لذريتي، والساعي إليهم في أمورهم، والقاضي لهم في حوائجهم،
والمحب لهم بقلبه ولسانه» (4).



(1) ذخائر العقبى 19 وقال: أخرجه أبو سعد، ينابيع المودة 2 / 379 الباب 76، جواهر العقدين 2 / 282
الباب الثاني عشر وقال: أخرجه الجعابي في الطالبين وأبو ذر الهروي في كتابه «السنة».
(2) المصدر السابق.
(3) الشورى: 23.
(4) جواهر العقدين 2 / 283 الباب الثاني عشر، ينابيع المودة 2 / 115 باب 56، و 380 باب 58، و 464
باب 59 عن الفردوس للديلمي والصواعق المحرقة ومودة القربى للهمداني.
36
فحينئذ; كيف يرد على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند الحوض من أبغضها وأبغض
ذريتها، وعادى ذريتها وعاداها مع رجاء الشفاعة وطلب السقاية؟! ولا ريب أنه
آيس من رحمة الله وممقوت عند رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي الحديث:
«ثمانية لا تقبل لهم صلاة ولا تجاب لهم دعوة...» وعد منها: «من جاهد حق
أهل البيت».
فتوجب على كل نفس زكية ومؤمن ذي همة أن ينافس في تحصيل ثواب
مودتهم; لأن الحسنة الواحدة في ذلك مائة ألف حسنة.
فيا إخواني! تقربوا بهذه الموالاة إلى خالق البريات حتى ينجيكم من
الهلكات، وينجز لكم الطلبات.
وفي بعض كتب العامة: إن الشريف يجب محبته وإن كان رافضيا; لأن
الشيخين لا يؤاخذانه بذلك وفي آخر الأمر يرجع إلى الحق، وإن سرق الشريف
قطعت يده وتقبل اليد المقطوعة (1).
فوالله إنكم ما ترجون الخير من أعمالكم في الدنيا والآخرة إلا بفضل الله
ورحمته ومحبة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعترته (عليهم السلام)، فهؤلاء شفعاؤنا عند الله «فويل لمن
شفعاؤه خصماؤه».
وفي مناقب ابن شهر آشوب:
واخجلة الإسلام في أضداده * ظفروا له بمعايب ومعاير (2)



(1) انظر: جواهر العقدين 2 / 249 - 280 الباب الحادي عشر في ذكر التحذير من بغضهم وعداوتهم...
وقد ذكر فيه أحاديث وأخبار وقصص كثيرة للدلالة على ما ذكره المؤلف (رحمه الله).
(2) في المناقب: «ومعاثر».
37
آل العزير يعظمون حماره * ويرون فوز الههم للحافر (1)
وسيوفكم بدم ابن بنت نبيكم * مخضوبة لرضى يزيد الفاجر (2)
فمن أراد أن يعلم ما ينفع له في الدارين من محبة بني فاطمة (عليهم السلام) فليكثر النظر
في هذا الكتاب بتأمل وتوغل - أيم الله - وكثرة النظر إلى آثارهم وأخبارهم تزيد
إيمانا، وهو «القول الثابت» وبه يشيد إيمانه ويرفع بنيانه، ويعبد ربه، ويتبع نبيه،
وإكثار ذكرهم والنظر في أمرهم يدل على محبهم وتشييده وودهم وتسديده، و «من
أحب شيئا أكثر ذكره». وأيضا «المرء مع من أحب» (3) وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «فمن
تبعني فإنه مني» (4).
وإن هذا الكتاب أجمع وأنفع وأحوى وأهدى من غيره من كتب علماء
السلف من أهل الحل والعقد; لكثرة بسطه وإطناب القول فيه، فضلا عن توضيح
الدقائق وكشف الحقائق. وإني ترجمته بالفارسية لكثرة انتفاع عامة الناس، ولا
يحتاجون إلى كتاب آخر لأنه مجموعة فضائلهم ووجيزة فواضلهم.
والأمر الأهم والقصد الأتم في هذا التذييل وتلك الوصية إعانة سادات



(1) في المناقب: «ويرون فوزا لثمهم للحافر».
(2) المناقب لابن شهر آشوب 4 / 134.
(3) البخاري 7 / 112 (كتاب الأدب - باب 96)، صحيح مسلم 2 / 546 (كتاب البر والآداب - باب 50)
حديث 161 - 165، سنن الدارمي 2 / 321 باب 71، الترمذي 4 (كتاب الزهد - باب 38) حديث
2492 وما بعده، مسند أحمد 1 / 392 و 3 / 104، 110، 159، 165، 167، 168، 172، 173،
178، 192، 198، 200، 202، 207، 208، 213، 222، 226، 227، 228، 255، 268، 276،
283، 288، 336، 394، 4 / 107، 239 - 441، 392، 395، 398، 405، سنن أبي داود 2 / 503
(كتاب الأدب - باب 122)، ينابيع المودة 1 / 32.
(4) إبراهيم 36.
38
زماننا الذين ينتمون [في] أنسابهم إلى فاطمة الزهراء من بني الحسن وبني
الحسين (عليهما السلام) صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم بأي نحو تستطيعون وتمكنون،
ولو بدرهم أو بشاشة وجه أو تسليمة واحدة حرمة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومسرة
لفاطمة (عليها السلام)، فمن رغب إليهم هدي ومن رغب عنهم هوى، فعليك بحفظ مقاماتهم
وأداء حقوقهم، فنعم الزاد ليوم المعاد محبة النبي وآله، فواعجبا من قوم أغنياء
ينظرون إلى فقراء هذه الزمرة الجليلة والفرقة الكريمة النبيلة مع اشتغالهم بما فرض
الله من حقوق الذين أكرمهم وعظمهم بها وهم لا يؤدون ما لهم ولا يقضون ما
وجب عليهم; فمنهم حبس المطر ويبس العشب وهلكت الماشية ورفعت البركة من
أعمار الناس وأرزاقهم وتنزل النقمة عليهم وهم في العذاب لخالدون، وهم بثناء
الناس مفتونون، وبما أنعم الله عليهم مغرورون، وبستر الله مستدرجون «إنا لله وإنا
إليه راجعون».

39
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول هذا الحقير الفقير، عبد الله، وتراب أقدام الطاهرين، أذل خدام بنت
نبي آخر الزمان، وأقل ربيب من أبناء خدام هؤلاء الآل، الداعي لأهالي مملكة
إيران العزيزة، والساكن في قبة الإسلام المنصورة طهران - صانها الله عن الآفات
والحدثان - محمد باقر المعروف ب‍ (الواعظ الطهراني) ابن المرحوم الملا محمد
إسماعيل كجوري المازندراني - بلغهما الله ما سألاه من الآمال والأماني -:
منذ أمد بعيد وأنا أسأل الباري - جل بره وعظم منه - في غاية التضرع
والعجز والرجاء، وأكرر بإلحاح وإصرار و (من أحب شيئا أكثر ذكره) في كل
محضر وعلى كل منبر بلساني الكليل وخاطري العليل:
يا إلهي، يا خالق كل شئ، يا رؤوفا بالعباد! هل يمكن أن تعود على هذا
العبد النادم المذنب الميت القلب مرة أخرى وتمن عليه برحمتك منة، وترزقه
برأفتك همة، لينزوي في آخر العمر وخاتمة العمل وهو فارغ البال مرفه الحال،
ويجلس في زاوية من زوايا الخلوة مختفيا بالوحدة ويقبل عليه إقبال التوفيق،
وتساعده السعادة على ترويح النفوس القدسية للفاطميين - كثر الله أمثالهم -،
وتفريح القلوب الزكية للفرقة الناجية الإمامية - نضر الله أحوالهم - بكتابة كتاب
نافع وديوان جامع في علو المناقب وسمو المراتب والمفاخرة المأثورة والمآثر
المنصورة لنقطة دائرة الإمكان وروح سكان العوالم وسيدة نساء العالمين فاطمة

40
الطاهرة - عليها صلوات الملك المنان - مستفرغا في ذلك الوسع وجهد الاستقصاء،
حتى أسطر وأحرر في الدفاتر ما نقشته على لوح الخاطر الفاتر وخزنته في صفحة
الضمير منذ أمد بعيد وسنين طوال، ليكون صدقة جارية - على مر الأيام - لهذا
المذنب الطويل الأمل، والعاصي القريب الأجل، فيذكر هذا الفقير الغارق في
التقصير بالذكر الجميل والدعاء النبيل كافة عبيد الله وعامة خدام أئمة الهدى الذين
يلاحظونه ويطالعونه. ف‍ «الخير أبقى وإن طال الزمان به».
گر بماند نام نيك از آدمي * به كز أو ماند سراى زرنگار (1)
وفي هذا الزمان المبشر بالسعادة أي سنة ألف وثلاثمائة وعشر للهجرة
النبوية والثاني عشر من جمادي الأولى أيام الوفاة وإقامة العزاء على أم الأئمة
النجباء - عليها الآلاف التحية والثناء - وفي هذا المكان المقدس والبناء الجديد الذي
سمي ب‍ «الفاطمية» ساعد فيض وعاضد فضل من المبادئ العالية والإفاضات
الغيبية، فقارنت دعوة الراجي الإجابة وقبل مراد هذا الحقير وأعطى سؤله.
عن هوى كل صاحب وخليل * شغلتني نوائب وخطوب
ثم إن رقة القلب والخاطر المحزون والحال المشتت والعين الباكية والدمعة
الساكبة التي اقتضاها الزمان جعل هذا الفراغ وصلاح البال المفاجئ الذي لم
يرتقب هائجا مائجا، فاغتنمت الفرصة وسارعت للاستفادة من هذا الوقت
الذهبي والحظ السعيد.
حلفت برب مكة إن هذا * نهاية مطلبي ومدى مرامي
فأغمضت عن كل أمر وعمل، وأعرضت عن معاشرة أبناء النوع، ووطنت



(1) يقول: لو خلف المرء ذكرا حسنا، كان خيرا له من أن يخلف ثروة وقصرا منقوشا بالذهب.
41
الهمم على الهمة الواحدة، وجالست كتب أحاديث آل طه ودواوين أخبار آل
يس، وصرت مأنوسا بها، واستنجدت بكل مؤلفات العلماء القدماء الأوائل
ومصنفات المحدثين الفضلاء الأواخر فاستشهدت بها، واستطلعت مجاميع أهل
الخلاف وذكرت منها الشواهد الكافية، وها أنا ذا أشرع في المقصود وأرد الحوض
المورود، راجيا من الله المنان أن يكون لهذا الشروع ختام إن شاء الله الرحمن ببركة
ألطاف تلك العصمة الكبرى ومظاهر محبتها، وببركة الباطن القدسي الميمون
الأقدس لحجة الله أرواح العالمين له الفداء.
في تسمية الكتاب
والأفضل أن يوسم هذا الكتاب المستطاب ويسمى
ب‍ «الخصائص الفاطمية»
ويقدم لساحة بني فاطمة والفرقة الإمامية.
ويرتب ويبوب على عدد اسم صاحبة هذا الديوان - وهو مائة وخمسة
وثلاثون (1).
في المقدمة ثلاث خصائص.
في الخاتمة خصيصتان.
قبل ولادتها الميمونة ثلاثون خصيصة.
من ولادتها إلى رحلتها خمسون خصيصة.



(1) عدد اسم سيدتنا ومولاتنا فاطمة (عليها السلام) بحساب الأبجد يساوي مائة وخمسة وثلاثون; الفاء = 80،
الف = 1، الطاء = 9، الميم = 40، الهاء = 5; 80 + 40 + 9 + 5 + 1 = 135.
42
من رحلتها إلى دخولها الجنة خمسون خصيصة.
وهي مشروحة في فهرس خاص مستقل.
وزينت كل خصيصة وبين في ذيل كل كلام فروع على الخصائص المذكورة
والخصائل المسطورة بما يناسب المقام بألفاظ خاصة وعبارات مخصوصة، والأمل
في ألطاف الرب أن يتغاضى قراء هذه الرسالة عن سقطاتي الساذجة، ويجعلوني في
مقام العفو والصفح بملكة التوفيق بعد التأمل والتحقيق ويفتشوا عن الأعذار لا عن
العيوب.
قيل:
به طرف بوستانش گفت سعدى * دو پندم داد شيخ سهروردى
يكى بر عيب مردم ديده مگشا * دوم پرهيز كند از خودپسندى (1)
فلا يبعد عن الهمة العالية لعظماء العصر والنفوس السخية لأطهار الدهر أن
يجعلوا الأعمى بصيرا والنملة قديرة; بل القطرة يما والذرة ساطعة بيضاء، فيعتبروا
هذه الصحيفة الفاطمية من شرائف الصحف ويسجلها الكرام الكاتبين في كتبهم
المطبوعة.
فيض روح القدس أر باز مدد فرمايد * ديگران هم بكنند آنچه مسيحا مى كرد (2)



(1) يقول:
قال سعدي في ديوانه «بوستان سعدي»: وعظني الشيخ السهروردي بخصلتين قال: لا تفتش عن
عيوب الناس; واحذر العجب!
(2) يقول:
إن أعان فيض روح القدس من جديد، لاجترح الآخرون فعل المسيح!
43
أجل لا يليق هذا المذنب المسود الوجه لارتقاء المنبر، ولا يليق بالتحرير في
الدفتر، إلا أن حسن ظن علماء الزمان والعقلاء من ذوي الشأن جعل من هذا
المغمور المجهول آية بين أهل الحديث والبيان، ومخبرا صادقا وناصحا مشفقا بهم،
وحسن الظن هذا والرجاء الواثق ناشئان من التفقد الشامل والألطاف العظيمة
والعنايات اللامتناهية لحضرة فاطمة الزهراء وذريتها الطيبة الطاهرة عليهم سلام
الله، حيث اختصوني بخدمتهم وإقامة العزاء عليهم منذ بداية البلوغ وعنفوان
الشباب إلى الآن وأنا أعيش بحبوحة الشيخوخة، وشرفوني بهذه الخدمة ولم
يحولوا عني أنظار محبة أنوارهم إلى يومي هذا.
والحمد لله تعالى أني أحمل برهان محبتي بين جنبي وأنا باسط ذراعي على
تراب أعتابهم كالكلب الحارس.
كل من يدعي بما ليس فيه * كذبته شواهد الإمتحان
وشهد الله أن لساني لهج وسيلهج دائما ليعرض بين يدي شفيعة يوم الجزاء
مضمون البيت التالي:
من نيستم سگى كه روم زآستان تو * مرگم زآستان تو سازد مگر جدا (1)
بل هناك في خاطري بيت آخر يقرب من مضمون هذا البيت:
روم به جلد سگ پاسبان كه گاه به گاهى * مگر به مغلطه يابم بر آستان تو راهى (2)



(1) يقول:
لست بالكلب الذي يفارق أعتابك، إلا إذا فارق الموت بيني وبينك.
(2) يقول:
سأرتدي جلد كلب للحراسة، فلعلي أجد - بالتنكر - سبيلي إلى أعتابك.
44
فاز كلب بحب أصحاب كهف * كيف يشقى بحب بنت النبي
* * *
حاشاه أن يحرم الراجي مكارمه * أو يرجع الجار عنه غير محترم
* * *
حاشا كه دلم از تو جدا گردد * يا با كس ديگر آشنا گردد
از مهر تو بگسلد كه را گيرد دوست * وز كوى تو بگذرد كه را گردد (1)



(1) يقول:
حاشا أن يفارقك قلبي، أو يعرف حب سواك.
فمن عساه يحب إن هو فارق حبك; وأي سبيل سينهج إن فارق دربك ونهجك؟
45
(أما المقدمة)
ففيها ثلاث خصائص:
الخصيصة الأولى (في المقدمة)
في بيان أسماء الكتب التي سميت ب‍ «الخصائص»
وعلة تسمية هذا الكتاب ب‍ «الخصائص الفاطمية»
فليعلم سادة هذا الحقير وملجأ هذا العبد الغارق في التقصير، يعني السادات
من بني فاطمة - كثر الله نظراءهم - وكافة الشيعة:
الأول: إن أول من ألف في الخصائص وسماه بهذا الاسم هو المرحوم ثقة
الإسلام محمد بن يعقوب الكليني - طاب رمسه وطهر مضجعه - حيث ألف كتاب
«خصائص الغدير» جمع فيه فضائل ذلك اليوم وجملة من وقائعه وخصائصه
ومميزاته بطرق مستوفية، وصار مرجعا للعلماء الأعلام في مسألة الإمامة،
فاعتمدوا على هذا الكتاب المستطاب واستشهدوا بأخباره وتمسكوا بها.
الثاني: أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي النحوي المعروف، المتوفى سنة
ثلاثمائة وتسع في بغداد، وزمانه قريب من زمان المرحوم ثقة الإسلام، ألف كتاب

47
«الخصائص» في النحو «وكل إناء بالذي فيه يرشح».
الثالث: النسائي صاحب كتاب السنن; المعروف ب‍ «الحافظ»، المكنى بأبي
عبد الرحمن، الموسوم بأحمد بن علي، الساكن في القاهرة من مصر، وكان معاصرا
للمسعودي - عليه الرحمة - وأبو نصر الفارابي محمد بن طرحان الحكيم
والفيلسوف المعروف.
ألف كتاب «الخصائص في فضائل أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام».
قال ابن خلكان: «نساء - بفتح النون والسين المهملة بعدها والهمزة - وهي
مدينة معروفة بخراسان خرج منه جماعة من الأعيان» (1) منهم النسائي; ولد سنة
مائتين وأربعة عشر في نساء، هاجر من موطنه وأقام في القاهرة من مصر، وكان
يصوم يوما ويفطر يوما، وذكر باختصار علة تصنيفه لهذا الكتاب وفقا لما هو مدون
في أغلب مؤلفات المؤرخين من أهل السنة والجماعة: هاجر النسائي سنة ثلاثمائة
واثنتين من مصر إلى الشام فسأله أهل الشام أن يروي لهم شيئا في فضائل معاوية
فقال النسائي: ما أعرف له فضيلة ودعا عليه (2)، وكان أهل الشام يتعصبون
لمعاوية وقد شبوا على محبته، فآذوا النسائي وضربوه بأرجلهم حتى أغمي عليه
فلم يستطع المقام في الشام، فخرج إلى الرملة على حدود فلسطين، ثم حمل إلى
مكة، وكانت وفاته في شعبان من سنة ثلاثمائة وثلاث ودفن بين الصفا والمروة.
قال ابن خلكان: توفي يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر (3).



(1) وفيات الأعيان 1 / 99 ترجمة رقم 29.
(2) كان دعاؤه عليه هو دعاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحقيقة، حيث أجابهم النسائي - كما ذكر في مقدمة
سننه -: «ما أعرف له فضيلة إلا «لا أشبع الله بطنه».
(3) وفيات الأعيان 1 / 98.
48
قال أبو نعيم الإصفهاني: له كتاب «الخصائص» في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام)
وأكثر روايته فيه عن أحمد بن حنبل، فلما صنفه قيل له: لم لا صنفت في فضائل
الأصحاب الأطياب؟ قال: رأيت أهل الشام منحرفين عن ولاية علي، فصنفت
ذلك رجاء أن يهديهم الله بهذا الكتاب (1).
فلا يخفى على المؤمنين العقلاء المنصفين العدلاء; أن النسائي كان شيعيا
إماميا، ودليل تشيعه بديهي صريح، والعاقبة أنه فاز بنيل الشهادة في سبيل محبة
ذلك المولى (2).
الرابع: ذكر في تاريخ مصر كتاب موسوم ب‍ «خصائص يوم الجمعة» لأحد
علماء العامة فيه فضائل ذلك اليوم الشريف.
وقد ألف علماء الإمامية رسائل عديدة في فضل يوم الجمعة وليلتها، وكانت
لهم في الزمان السالف بحوث في حرمة صلاة الجمعة وجوازها.
الخامس: أبو الحسن، شمس الدين يحيى بن محمد بن بطريق الحلي الشيعي
- عليه الرحمة - صاحب كتاب «نهج العلوم إلى نفي المعدوم» وكتاب «صحاح الأثر
في إمامة الأئمة الاثني عشر» وكتاب «تصفح الصحيحين في تحليل المتعتين» وكتاب
«العمدة في عيون صحاح الأخبار في مناقب إمام الأبرار» يشتمل على تسعمائة
وثلاثة عشر حديثا. وقد طبع هذا الكتاب الشريف أخيرا، وجميع أخباره
وأحاديثه أخذت من الكتب المعتبرة عند أهل السنة وما رووه في مناقب سلطان
الولاية (عليه السلام).



(1) انظر «تهذيب التهذيب» 1 / 38.
(2) لا يعد مجرد تصنيفه كتابا في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) دليلا على تشيعه; انظر مؤلفاته الأخرى على فقه
أهل السنة.
49
وألف كتابا سماه «خصائص الوحي المبين في مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام)» جمع
فيه الآيات النازلة في شأن أمير المؤمنين (عليه السلام) من كتب أهل الخلاف. وكم كان هذا
العلم متتبعا ومتبحرا وجامعا وفاضلا. وكان عصره قريبا من عصر المرحوم شيخ
الطائفة الشيخ الطوسي عليه الرحمة.
السادس:
كتاب «الخصائص النبوية» للسيوطي.
كتاب «الخصائص العلوية» لأبي عبد الله النطنزي.
كتاب «خصائص النبي» لابن الجوزي.
ولابن الملقن كتاب بهذا العنوان.
وذكر المرحوم الكفعمي كتاب «الخصائص» للأصفهاني.
وذكر المرحوم المجلسي عليه الرحمة في بحار الأنوار كتاب «الدر الثمين في
خصائص النبي الأمين» ولا أعرف مؤلفه ولعله الحافظ أبو نعيم الأصفهاني نفسه.
وللسيوطي كتاب معروف اسمه «أنموذج اللبيب في خصائص الحبيب»
ولعله نفس كتاب «الخصائص النبوية».
السابع: كتاب «خصائص الأئمة» للمرحوم محمد بن الحسن الموسوي
المعروف ب‍ «السيد الرضي» (قدس سره) المعاصر للقادر بالله العباسي، المتوفى سنة أربعمائة
وأربعة في بغداد، وهو مؤلف وجامع كتاب «نهج البلاغة».
وكتب في المقدمة سبب تأليفه هذا الكتاب المبارك قائلا:
«ابتدأت بتأليف كتاب في خصائص الأئمة (عليهم السلام) يشتمل على محاسن
أخبارهم وجواهر كلامهم... وفرغت من الخصائص التي تخص أمير المؤمنين

50
عليا (عليه السلام)، وعاقت عن إتمام بقية الكتاب محاجزات الأيام ومماطلات الزمان،
وكنت قد بوبت ما خرج من ذلك أبوابا وفصلته فصولا، فجاء في آخرها فصل
يتضمن محاسن ما نقل عنه - من الكلام القصير في المواعظ والحكم والأمثال
والآداب... فاستحسن جماعة من الأصدقاء ما اشتمل عليه الفصل المقدم ذكره...
وسألوني عند ذلك أن أبتدئ بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام مولانا
أمير المؤمنين (عليه السلام) في جميع فنونه.. من خطب وكتب ومواعظ وأدب، علما أن ذلك
يتضمن من عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة... فأجبتهم إلى الابتداء بذلك عالما
بما فيه من عظيم النفع ومنشور ومذخور الأجر».
بناءا على ذلك، تبين أن تأليف كتاب «نهج البلاغة» الشريف من بركات
كتاب «خصائص الأئمة».
وكثيرا ما تجد في كتب الفضائل والمناقب عند الشيعة الإمامية عنوان
«خصائص الأئمة»، لكني لم أوفق لمطالعتها لحد الآن.
الثامن: من العلماء المعاصرين:
المرحوم العالم الكامل الورع البصير الخبير الناصح الفريد الحاج الشيخ
جعفر الشوشتري المجتهد المعروف رحمة الله عليه، ألف كتاب «الخصائص
الحسينية» وهو مطبوع، فيه مجموعة موجزة من المناقب المختصة بالإمام
الحسين (عليه السلام) وفيه تطبيقات جيدة مبتكرة لم يسبق إليها، ولا زال أهل العلم والخبر
ينتفعون به دائما لحسن الأسلوب والطرز المرغوب الذي امتاز به.
التاسع: ذكر الچلبي كتاب «خصائص الطرب» لأبي الفتح محمود بن حسين
المعروف ب‍ «كشاجم» المتوفى سنة ثلاثمائة وخمسون.

51
العاشر: «خصائص السواك» لأبي الخير أحمد بن إسماعيل القزويني
الطالقاني يشتمل على اثنى عشر فصلا مختصرة جدا.
تذييل جميل: في سبب تسمية الكتاب
تصفح هذا الحقير الفقير وتفحص مدة في كتب الشيعة ومدونات ومؤلفات
الفريقين من العامة والخاصة، فلم أعثر على كتاب في خصائص الصديقة
الطاهرة (عليها السلام) ومميزاتها المختصة بها، مع أن الإهتمام بهذا العنوان كان أهم وألزم،
والانتفاع من هذا النوع من التأليف كان أعم وأتم، وعلى ما هو المعلوم فإن شرح
الخصائص الشريفة والخصائل المنيفة لسيدة النسوان كان مسطورا في كل كتب
المناقب منذ سنة ثلاثمائة وثلاثين، إلا أن النقل والرواية كانت جهتها جامعة
بإرجاعها إلى الساحات المقدسة للنبوة والولاية والأئمة المعصومين (عليهم السلام)، وكان
الجمع والتأليف في هذا النوع من التصنيف موجبا لسرور أولئك الأعلام مدة من
الزمان.
فتأسفت كثيرا وحزنت لهذا التسامح و التغافل، وكان يشق علي - وأنا الكثير
الإسائة وقليل البضاعة - خروج هذه المخدرة العظمى والمستورة الكبرى من هذه
الدائرة الباهرة، كيف ولماذا لم يتسابق العلماء المحدثون من القدماء والمتأخرين لنيل
هذا الشرف النبيل والاختصاص بهذا الفضل الجليل؟ فلم يؤلفوا كتابا مستقلا في
خصائص الزهراء (عليها السلام).
لرب توجهات إمام العصر وباطن ميامن إمام العصر أرواحنا فداه ألهمني
وأمرني - أنا الحقير الفقير - بهذا الأمر والشروع بهذا العنوان. فرضي - (عليه السلام) -

52
بترتيب هذا الكتاب وتبويب هذه المجموعة بهذه الخصائص المطبوعة.
فإعلاءا لكلمة الله وإعظاما لرسول الله ولولده المعصومين (عليهم السلام) وإكمالا
لخصائصهم الباهرة الزاهرة سميت هذا الكتاب
«الخصائص الفاطمية»
وأهدي ثواب هذه الخدمة - وهي خدمة كبيرة - إلى عموم أهل العلم وكافة
الفرقة الاثني عشرية.
وأملي أن يكون هذا الاسم المبارك مرطب اللسان ومنور الوجدان
للمسلمين والشيعة وأهل المحبة والولاء، وأن تكون إشاعة أحاديثه وأخباره
المأخوذة من المصادر الصحيحة المعتمدة باعثا على تشييد قلوب المؤمنين وتحكيم
ولاء المحبين والمخلصين.
تكميل نبيل
لقد ألف فحول العلماء والمحدثين والفضلاء المتقدمين كثيرا من الكتب
والمصنفات في مناقب فاطمة الزهراء (عليها السلام) ومصائبها، وذلك منذ بداية عصر
التدوين في المناقب وانطلاق الأقلام في تقييد وضبط فضائل الأئمة البررة
وفواضلهم، ولم ينحصر الأمر على علماء الشيعة بل تعداهم إلى المتتبعين والمؤرخين
من علماء السنة أيضا، حيث سجلت لهم تأليفات كثيرة في هذا الموضوع فقدت في
هذا الزمان ولا يوجد منها في المكتبات إلا النزر القليل، وقد ضاع هذا القليل
نتيجة الكتمان والإهمال:
فقد ألف المرحوم ثقة الإسلام محمد بن بابويه القمي المعروف ب‍ «الصدوق»

53
- نور الله حفرته وتربته - عدة رسائل وكتب في أحوال تلك المخدرة الكبرى لم يصل
إلينا منها سوى الاسم، أما نفس الكتب والرسائل فلا يمكن الحصول عليها.
منها: كتاب في «مولد فاطمة (عليها السلام)».
وكتاب في «زهد فاطمة (عليها السلام)».
وكتاب «من روى من النبي من النساء».
وكتاب «في أخبار وألقاب فاطمة (عليها السلام)». نقل عنه العلامة المجلسي (رحمه الله) كثيرا.
وكتاب في النساء اللواتي روين عن فاطمة (عليها السلام) وفي الأحاديث المروية
عنها (عليها السلام).
وكتاب «عشرة النساء».
وكتاب «النساء والولاء» لأبي النضر محمد بن مسعود العياشي المعروف
وهو جليل القدر واسع الأخبار، ألف مائتي مجلد.
وكتاب «مناقب فاطمة» للحاكم النيشابوري.
وألف المرحوم محمد بن شهر آشوب المازندراني كتابا سماه «الأربعين في
مناقب سيدة نساء العالمين». ذكر الكتاب في عداد مؤلفاته.
وكتاب «الفاطميات».
وكتاب «الذين يؤذون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)» لأبي علي محمد أبو الحسن المدائني
الأخباري، عاش سنة مائتين وخمسة وعشرين قبل الغيبة الصغرى. ذكر اسمه في
كتب الإمامية.
ومن علماء العامة:
ألف أبو صالح المؤذن «كتاب الأربعين في فضائل فاطمة (عليها السلام)».

54
وشرح أبو عبد الله المعروف ب‍ «ابن عبدون» خطبة الزهراء الغراء شرحا
وافيا.
وشرحها أحد العلماء المعاصرين في أذربيجان.
وألف أبو علي أحمد بن محمد الصوفي البصري - عاش سنة ثلاثمائة
وخمسون، أي بعد الغيبة الصغرى بقليل - كتابا كبيرا في أخبار وأحوال تلك
العظيمة - جزاه الله خيرا - روى عنه الشيخ المفيد - عليه الرحمة - كثيرا.
وألف أبو العباس، أحمد بن محمد الحافظ المعروف ب‍ «ابن عقدة» كتابا اسمه
«من روى عن فاطمة من أولادها» وهو يجمع الأحاديث التي رواها أولادها (عليها السلام)
عنها، وموضوعه خاص بالنسبة إلى كتاب «رواة فاطمة».
وكتاب «من روى الحديث من بني هاشم ومواليهم» لمحمد بن عمر بن محمد
بن مسلم، وهو من الإماميين.
وألف أبو علي الكاتب، محمد بن أحمد المعروف ب‍ «الإسكافي» و «شيخ
الإمامية» - وهو صاحب تصانيف جيدة - كتاب «ظلامة فاطمة».
وألف محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن إسماعيل الكاتب المعروف
ب‍ «ابن أبي بلخ» كتاب «أخبار النساء المحمودات».
وكتاب «أخبار فاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)».
وكتاب «مودة ذوي القربى في فضائل الزهراء» للمرحوم سيد خلف بن سيد
عبد المطلب بن فلاح الموسوي الحويزي المشعشعي من معاصري المرحوم البهائي.
وألف المرحوم السيد هاشم بن السيد سليمان التوبلي البحراني صاحب كتاب
«مدينة المعاجز» كتابا في وفاة الزهراء (عليها السلام) فيه مجموعة من الأخبار المفجعة
المبكية.

55
وألف الشيخ الجليل أبو الحسن أحمد بن عبد الله البكري صاحب كتاب
«الأنوار في مولد النبي المختار» كتابا في وفاة الزهراء (عليها السلام)، وهو أستاذ الشهيد الثاني
عليه الرحمة.
ومن المؤرخين المعاصرين:
المرحوم سپهر ميرزا تقي - لسان الملك - أحيا كتاب ناسخ التواريخ بكتاب
ألفه في بيان أحوال المخدرة الكبرى (عليها السلام) - رحم الله من استرحم له -.
وأفضلها وأوسعها المجلد العاشر من «بحار الأنوار»، حيث جمع فيه كل
فضيلة ومصيبة وردت عن طريق الشيعة والسنة، ولم ير أفضل منه في أحوال
الصديقة الكبرى.
واقتدى صاحب كتاب «عوالم العلوم» بأستاذه السند وكتب كتابا مفصلا في
أحوال الزهراء (عليها السلام).
في كثرة مؤلفات العلماء السالفين
لا يخفى أن جملة من الأصحاب الأطياب للأئمة الأطهار (عليهم السلام) وعلماء الزمان
في الغيبة الصغرى وأوائل الغيبة الكبرى كانوا كثيري التصنيف والتأليف، ذكرت
لهم مؤلفات ومصنفات عديدة لا تحصى وبقي منها الكثير، ولو أراد أحد إحصاءها
وجمع عناوينها في كتاب، لصار عناوين كتب الإمامية الاثني عشرية منها سفرا
كبيرا، بل لتعذر جمعها في كتاب - من قبيل كتاب كشف الظنون للكاتب الچلبي
الإسلامبولي (1) -.



(1) وقد جمع الآغا بزرك الطهراني (رحمه الله)... عنوانا في كتابه الذريعة إلى تصانيف الشيعة فجزاه الله خير جزاء
المحسنين وتغمده برحمته اله الحق آمين.
56
سيما المحمدين الأوائل والمحمدين الأواخر - رضوان الله عليهم أجمعين -
حيث تحملوا الكثير بنية حسنة خلدتهم وأبرزتهم، حتى استفاد من مؤلفاتهم
الشريفة كافة المسلمين استفادة عظيمة، وذكرت أسماؤهم أكثر من غيرهم من
العلماء الأعلام، وكانت همومهم وهممهم منصبة على ترويج أحكام الله ونشر
السنن النبوية والمعالم الدينية ومناقب الأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، فشيدوا بغض
المعاندين في القلوب الصافية للشيعة الناجية، وأشاعوا قبائح المخالفين ومساويهم
على نهج الحقيقة، أي إثبات حقيقة جملة منهم وأبطلوا دعاوي جماعة، متحرين في
ذلك الإنصاف والحقيقة.
فالمقصود من شرح أحوال الصديقة الكبرى - صلوات الله عليها - إنما هو
تثبيت الأولوية والمولوية والأحقية لهذه الأسرة، وإثبات بطلان دعاوي
الآخرين، وإثبات إختصاص أمر الخلافة والولاية العامة الإلهية بأمير المؤمنين (عليه السلام)
وأبنائه المعصومين.
وهذا الأمر العظيم من اللوازم والأسس الكاملة لإيمان أهل الإيمان.
والنظر في هذا النوع من الأحاديث والأخبار يوجب تقوية الإسلام والإيمان في
قلب كل مؤمن ومسلم، والإيمان الكامل سبب كلي لدخول الجنان وبلوغ الرضوان.
ولما كانت أحوال سيدة نساء العالمين شاملة جامعة تستتبع الاطلاع على
مقامات الأنبياء ودرجات الأولياء، كان تدوين كتاب مستقل وترتيبه يعود بفوائد
وعوائد دنيوية وأخروية جمة على القراء.
لهذا سجلت في هذه الخصيصة أسماء بعض الكتب المجملة والمفصلة لعلماء
السلف; ليعلم القراء أن أعلام الأمة وأئمة الدين كانوا يعتقدون ويستندون

57
ويعتمدون هذا النهج المبين، وأنهم اهتموا غاية الإهتمام بإيقاظ العامة وتنبيه العوام
وكافة الأنام لئلا تصاب عقائد الأمة بالفتور والقصور بمرور الأعصار والدهور،
فتبتلى باستيلاء الخوارج والأشرار، ولئلا ينحرفوا عن الطريقة الحقة.
ونرى في هذا الزمان شرذمة من الشباب الساذج يبثون الشبهات الواهية
- التي يلقيها إليهم من لا دراية له ولا عقل - في أوساط «العوام كالأنعام»،
ويتصدون لإنكار القبائح والفضائح والأعمال الشنيعة التي صدرت من أولياء
الشيطان، ويردون كتاب الله وسنة نبيه بالإستحسانات العقلية، ويؤولون -
تؤويلات ركيكة - الظلامات التي لحقت أهل بيت العصمة والطهارة من بعض
الأشخاص المعروفين، وليس هذا الإشتباه والارتباك كما أحتمل إلا نتيجة لأنسهم
بكبار رؤساء أهل السنة وكتبهم التاريخية والإعراض عن كتب الشيعة.
وأملي في ألطاف الله ورحمته أن تندفع شبهات هذه الشرذمة القليلة من
ناقصي العقول والإيمان وترتفع إشكالاتهم وتستقر تزلزلاتهم بسلام ووئام وصفاء
وإنصاف من خلال المواظبة على مطالعة هذا الكتاب وإمعان النظر في أخباره
وأحاديثه.
موجز عن حياة المؤلف
إعلم أن هذا الفقير المحروم قد عاش الفقر والحرمان والفاقة وقلة ذات اليد
منذ إبان بلوغي وأوان تكليفي، وقضيت في ذلك عمرا سيما في عنفوان الشباب،
حيث قضيتها في البلاد النائية والأعتاب العالية فلا عرفت أيامي هناك خبزا، ولا
غطى جسمي ملابس جيدة سنوات عديدة; فشوقي الفطري وميلي القلبي

58
للتحصيل ساقني بعيدا عن وطني ودفعني إلى الهجرة في سبيل خدمة العلماء
والفضلاء المجدين المجاهدين، وأبي المرحوم - رفع الله قدره - ما رفع قدميه من
السجادة ليطأ وسادة المنبر قط، مع أنه كان ماهرا في العلوم الحقة ومتبحرا ومن
أهل الدرس والتحصيل وأئمة الجماعة; بل كان يرى ارتقاء المنبر منكرا لشدة
احتياطه.
وكنت في بداية أيام الإشتغال وأوائل الأمر غافلا عن قضية المنبر وحائدا
عن السير في هذا الصراط، وبعد عودتي من المشاهد المشرفة مكثت قليلا في
إصفهان وكاشان ثم تشرفت بزيارة العتبات المقدسة عن طريق يزد وكرمان،
وأكملت مقصودي في هذه المدة - ما استطعت إلى ذلك سبيلا - فتعلمت المقدمات
اللازمة للعلم من أهل العلم.
وبعد عودتي إلى طهران كنت ألقي في الليل - في مسجد والدي - بعد صلاة
الجماعة بعض المسائل والأحكام على مسامع المأمومين والعوام، وفي ليالي الجمعة
كنت أذكر شيئا من المصيبة في الجملة، وكنت أراجع كتب الأخبار والحديث;
فشجعني بعض الفضلاء والمؤمنين على سلوك هذا النهج، حتى صار عندي بصيرة
واطلاع في معرفة الحديث.
فلما لبى المرحوم أبي دعوة الحق، خلف لهذا الحقير كتبا موقوفة وأثاثا
مختصرا لا يستحق الذكر، وكان معي ورثة آخرون يشاركوني فيها، وما كان
يخصني من تركته كان عبارة عن مبلغ من الديون وجماعة من العيال وقلة المؤنة
دون معونة من أحد وبيت خربة رهن الدائنين، آيسا من كل أحد ومحروما من كل
عمل، فانقطعت بي السبل وجفت الموارد، فاضطررت للتشرف لزيارة بيت الله

59
الحرام - زاده الله شرفا وفخرا - نيابة، فتركت مبلغا لمعاش العيال، وانصرفت إلى
النظر في كتب الأخبار والحديث في طريق الحج حيث الفراغ وهدوء البال والراحة
من هم العيال. وكنت أرتقي المنبر إحيانا كلما توقفنا في المنازل إجابة لإصرار بعض
الحجاج ثم أختم بالمصيبة، فرأيت النفوس والقلوب مشتاقة متطلعة لسماع حديثي
واستماعه.
وبعد العودة استحسن بعض رفقاء السفر أن أرتقي المنبر في المسجد الأعظم
السلطاني، وأحدث بما اختزنته في طريق سفري، فامتثلت لهم واشتغلت في الأمر
مدة من الزمن بهمة واهتمام تامين ووطنت نفسي على هذا العمل فوصلني - ولله
الشكر - مدد غيبي. ونبعت عين الإقبال فتبدلت الوحدة رويدا رويدا بالكثرة،
وتبدل العسر باليسر وراج هذا العمل من حيث لا أحتسب، ورأيت فرجا بعد
الشدة ومضت علل الأيام السالفة والأعوام السابقة، وانسلخت الذكريات
المشوشة لتدخل حيز النسيان.
والآن; أقولها لاظهار الحمد والتحديث بالنعمة وشكر أولياء النعم صرت
- وأنا القليل العاجز - في مدة وجيزة من الزمان موردا للألطاف السامية والأفضال
الظاهرة النامية لعلماء الأمة وعظماء الدولة، وصار لقولي وفعلي وقعا ووقرا في
القلوب الصافية للعامة، وصارت المساجد والمحافل مزدحمة وعامرة بالخواص
والعوام لاستماع مواعظي.
فلما انقضت أيام شبابي وذرف عمري على الأربعين، وكللتني عمامة
الشيخوخة، تشرفت خلال عدة سنوات في فترات متقاربة بزيارة الأئمة
البررة (عليهم السلام) فتذكرت - وأنا في غاية الغنى والتمكن - الذكريات القديمة والمنازل

60
المعهودة، فشكرت الله وتوسلت بالنفوس القدسية لأولئك العظماء، واستغثت بهم
استغاثة كاملة، واسترشدت بهم استرشادا كاملا، بوسيلة المنبر الذي توجه إليه
الأعلام من العلماء ونال اهتمام عامة العوام في النجف وكربلاء والكاظمين
وسامراء، فكنت في كل يوم وليلة استطرف واستنطق - حسب العهد المؤكد
والميثاق المشيد - كتب المحمدين الأوائل والأواخر - قدس الله أرواحهم - سيما كتاب
«بحار الأنوار الجامع لأخبار آل العصمة الأطهار» للمرحوم المجلسي (قدس سره) حيث
استفدت منه في الغالب.
وبعد حسن التحصيل والطلب عدت إلى طهران وداومت على الإشتغال
بالتأليف والتصنيف، وكل ما سطره هذا البنان المكسور وبقي باسمه الباقي كان حول
آل العصمة وقد أخذته بكله من الكتاب والسنة.
لذا رأيت أن أذكر ذلك في هذه الخصيصة، فقد يكون بعد حلول الأجل
ونزول الموت ورقة أو حديثا يحتاجها محتاج، فتجعل المجهول معلوما وتدخل
السرور عليه لوجدان ضالة مؤمن أو محدث، فتسبب المغفرة والرحمة لهذا الغريق
في بحار الآثام.
اعتذار باختصار
لما كنت أقدم اعتذاري في مقدمة كل رسالة أو كتاب، وأعلن عن عجزي
وقلة بضاعتي للفضلاء والمحدثين والعلماء المتقين، أتقدم في هذه المقدمة أيضا على
وجه الإيجاز والاختصار بالاعتذار عن كل كلماتي ومستطرفاتي سوى ما ورد فيها
من نصوص الأخبار ومضامين الآثار الواردة عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، وأعترف

61
بكل خطأ وخطل وعثرة وخلل وفهم غير صائب.
فليحمل القراء في الحال والاستقبال ما يجدونه في هذه الأوراق المجموعة
والصحائف المطبوعة من مخالفة الصواب على الذهول والغفلة واضطراب الخاطر
الفاتر واختلال الخيال والمشاعر، وليمسكوا عن هذا الحقير لسان اللعن والسباب،
ولا يدعوا علي ليجعلوا روحي - أنا المحروم المهجور - في القبر معذبا معاقبا، حيث
كان مذهبي وعقيدتي دائما الإقتداء بفقهاء آل محمد (عليهم السلام) ونواب الشريعة المطهرة
للأئمة واقتفاء آثارهم والسير على نهجهم دائما وأبدا.
علم دين فقه است وتفسير وحديث * هركه خواند غير از أين گردد خبيث (1)
ومن البديهي: أن العمر القليل وضعف قابلية هذا العبد الذليل لا يستوعب
فهم مطالب أخرى بتفصيل أكثر:
ولو أن لي في كل منبت شعرة * لسانا يطيل الشكر كان مقصرا
ولا ريب في ذلك بأني أحقر خدام ذراري الأئمة (عليهم السلام) وأقل المادحين لمواليهم
في هذه الأمة:
أسماء كتب المؤلف
وهذا فهرس بمؤلفات الحقير:
1 - كتاب جنة النعيم في أحوال مولانا حضرة عبد العظيم - عليه السلام



(1) يقول:
علم الدين فقه وتفسير وحديث * كل من يقرأ سوى ذاك خبيث
62
والتعظيم - يربو على العشرين ألف بيت (1)، خرج من الطبع قبل مدة.
2 - رسالة مختصرة في زيارة أبناء الأئمة والعلماء ذوي الشأن والعزة،
مطبوع.
3 - رسالة في آداب الصوم، بالفارسية، ألفي بيت، مطبوعة.
4 - كتاب السراج الوهاج في المعراج، بالفارسية، خمس عشرة ألف بيت،
استدلال على المعراج بمراتبه الثلاث الجسماني والروحاني والعقلاني عن طريق
الحكمة والكلام والبرهان العقلي والنقلي.
5 - كتاب برهان العباد في اثبات المعاد، خمس عشرة ألف بيت، فارسي،
فيه معاد كل شئ إلى المبدأ، وما منه المعاد وإليه المعاد، وفيه شواهد من آيات
القرآن ودلائل الأخبار وأقوال الحكماء وعقائد المتكلمين.
6 - كتاب تبيان الزيارة، عشرة آلاف بيت، فارسي، في شرح إحدى
الجوامع، وفيه زيارة تنفع العوام.
7 - كتاب المنتخب في شرح دعاء رجب، خمسون ألف بيت، عربي، أعجب
به الفضلاء واستنسخوه.
8 - كتاب هداية المرتاب في تحريف الكتاب لمن أخطأ وأصاب، ستة آلاف
بيت، عربي. وفيه مكملات بعد لم تتم.
9 - كتاب الثمرات الجنية من الحديقة الحسينية، مجلدين، في آداب زيارة
خامس آل العباء (عليهم السلام) وثواب إقامة العزاء عليه، المجلد الأول عشرة آلاف بيت،
استنسخ المجلد الأول منه وبقي الثاني وثمراته كاملة.



(1) البيت هو السطر الذي يحتوي على خمسين حرفا.
63
10 - رسالة إرائة الطريق فيمن يؤم البيت العتيق، في معنى الحج والعقيدة
الصحيحة، ألفان وخمسمائة بيت، عربي.
11 - كتاب شرح توحيد المفضل بطريق مفصل، ثلاثون مجلسا تحت عنوان
«يا مفضل»، عشرون ألف بيت، جامع نافع جدا جدا.
12 - رسالة منير القلب ومبير الكرب في معنى الوسواس وبطلانه والدعاء
لمعالجته، ألفا بيت، فارسي.
13 - كتاب الإصرار في الاستغفار، مبوب في أبواب ومفتتح بآيات من
الوعد والوعيد والخوف والرجاء، وفيه حكايات صحيحة عن التائبين
والمستغفرين، اثني عشر ألف بيت، فارسي.
14 - كتاب خطوات الشيطان في خطرات الإنسان في فصول وأبواب في
إثبات وجود الجن والشيطان وتسويلات الشيطان وشبهاته، ثمانية عشر ألف
بيت، فارسي، لم يتم بعد.
15 - كتاب الشمائل العلوية والخصائل المرتضوية: في شمائل سلطان الولاية
وصفاته وأخلاقه وصفة وجهه. ثمانية آلاف بيت، فارسي، فيه مجموعة من أشعار
العرب والعجم في صفاته عليه من الرأس إلى القدم.
16 - رسالة نوروزية في الرد على صاحب كتاب «نواقص الروافض» حيث
أنكر الغدير والنوروز، وفيه فضل فصل الربيع وأحاديث وأدعية وآداب النوروز
وحكايات ظريفة، زهاء ثمانية آلاف بيت، خرج من الإستنساخ، فارسي، لم يتم.
17 - رسالة شجرية صابرية في نسب القاضي صابر (رحمه الله) المدفون في «ونك»
حررت بطلب من المرحوم مستوفي الممالك في إثبات صحة نسب القاضي صابر

64
عليه الرحمة، ثلاثة آلاف بيت، خرجت من النسخ وضبطت، فارسي.
18 - كتاب نهج الحج، أربعون ألف بيت، فارسي، مجلدين، المجلد الأول في
آداب خروج الحاج إلى دخول مكة، والمجلد الآخر في مناسك الحج وأحكامه من
الكتب الفقهية، وفيه أسرار أعمال الحجاج وعدد المنازل والبقاع في المدينة، وبيت
المقدس وفلسطين، استقصاء كامل دون استثناء لأي منزل من المنازل والبلاد
البحرية والبرية.
19 - رسالة في شرح الأسفار التي سافرتها وما واجهت فيها من خير وشر
ومحنة وراحة وما رأيت فيها من عجائب وغرائب، خمسة عشر ألف بيت متفرقة
ومشتتة.
20 - رسالة وجيزة [في] الحج رتبت فيه منازل الحاج ومواقفه حسب
حروف الأبجد وذكر فيه ما يحتاجه الحاج، أربعة آلاف بيت، فارسي، لم ينسخ
لوحده.
21 - منظومة سامية في الحجة الحامية، ألف وخمسمائة بيت، عربي، في
طريق الحج وأحكامه.
22 - رسالة «عريضة التوسل وذريعة الترسل» في آداب كتابة العريضة
(الرقعة) لحجة الله الأعظم - أرواحنا له الفداء - وفيه شرح مبسوط لأحوال مجتهد
العصر الأعلم الموحد الميرزا الشيرازي مد ظله العالي، فارسي، ستة آلاف بيت،
طبع منه قسم وبقي القسم الآخر.
23 - وهناك مجاميع أخرى في المواعظ والنصائح منظومة ومنثورة، متفرقة
ومجموعة، وديوان شعر بالفارسية والعربية يحتوي قصائد في ستة آلاف بيت بعد لم

65
يأت عليها الفناء بل اطلع عليها بعض الأصدقاء الفضلاء واستفادوا منها.
24 - ولكن يمكن أن يقال في حق هذا المؤلف الشريف والتصنيف المستطرف
اللطيف «كل الصيد في جوف الفرا» ببركة الصديقة الزهراء عليها السلام والثناء.

66
الخصيصة الثانية (في المقدمة)
في مدح الوعاظ
لا يخفى أن العناوين التي يتناولها المنبريون في هذا العصر المبشر بالسعادة
والنصر تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الوعظ
القسم الثاني: بيان الأحكام
القسم الثالث: قراءة التعزية وذكر المصيبة.
والأقسام الثلاثة بأجمعها مندوبة شرعا ومرضية لدى الله ورسوله، وبها يتم
ترويج الدين وبقاء شريعة سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم)، سيما إذا كان الواعظ كاملا
موسوعيا جامعا.
ولو أردت إحصاء كل ما سمعته في مدح الوعاظ من مجتهدي العراق عربا
وعجما في هذه الخصيصة، لخرجنا عن المقصود، ولكن ما دخلنا بلدا من البلدان إلا
ورأينا وسمعنا الفقهاء العظام يكرمون الوعاظ ويعظمونهم غاية الإعظام ويقولون:
إن نتائج وثمار زحمات أئمة الدين وأعاظم المجتهدين إنما تشيع وتنتشر من خلال
هذه الفرقة الجليلة، والغرض من الوضع الإلهي والشرع المحمدي والمذهب
الجعفري إنما هو إرشاد الناس وهداية النساء والرجال وإبلاغ أحكام الله إلى

67
الجهال، وقد قدر وقرر أن تكون هذه المهمة الكبيرة على عاتق هذه الطائفة. فلا بد
إذن أن يتوفر الواعظ الكامل على ما يلي:
أولا: لا بد أن يكون مرتبطا بمولاه، ومتصلا بالمبدأ.
ثانيا: لا بد له من الإطلاع على التفسير والحديث وما يتعلق بهذين العلمين
الشريفين.
والواعظ محدث كامل، يعني أن على هذا الشخص الشريف أن يلم بعلم
الأخلاق ومعرفة المنجيات والمهلكات، وأخبار المناقب والمصائب مضافا إلى
المسائل الدينية والمعالم الشرعية والأحكام، ثم يرتقي المنبر من بعد ويجعل فعله
ناصحا واعظا كقوله.
ومع أن هذا العبد الذليل غير لائق بهذا الاسم، إذ لا أجد نفسي مستحقا
للدخول في عداد أرباب الوعظ والإرشاد، إلا أن عبيد الله - لحسن ظنهم - عرفوا
هذا المذنب الجاني والفقير الفاني بهذا العنوان من باب التغليب وتشبيه المتشابه
بالمحكم، فانطلقت الأفواه والألسن تدعوني بهذا الاسم باعتبار اشتغالي في هذا
الأمر الخطير، والأفضل أن أخاطب في هذه الورقة نفسي دون التعريض
بالآخرين، وأخبر عن الحاضر «والحاضر يرى ما لا يرى الغائب» وإني أعلم
بنفسي من غيري، وربي أعلم بنفسي مني...
مهلا، مهلا، أيها الجاهل الغافل، يقول الله سبحانه في فرقانه المجيد:
(أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) (1)؟!
وهذا التحذير والتقريع والاستنكار موجه للعالم بلا عمل، والواعظ غير المتعظ.



(1) البقرة: 44.
68
وحكم العقل والنقل يقتضي أن الإحسان للنفس ألزم وأهم من الإحسان لنفوس
الآخرين، وقد ورد في الحديث القدسي:
«يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، ولم تنهون بما لا تنتهون، ولم
تأمرون بما لا تعلمون، ولم تجمعون ما لا تأكلون، والتوبة يوما بعد يوم تؤخرون،
وعاما بعد عام تنظرون... الخ».
وأنت تعلم أن أحسن المواعظ هي كلام الملك العلام، والله أحسن الوعاظ
وخير الواعظين بمفاد قوله (يعظكم الله) (1) وكان الأنبياء والأوصياء - وهم لسان
الحق وترجمانه - يشتغلون في ميدان الوعد والوعيد والتحذير والتهديد والإنذار
والتبشير.
ثم يكفيكم من العظة ذكر الموت ويكفيكم من التفكر ذكر الآخرة، و «كفى
بالموت واعظا» (2).
نعم; فرق بين العالم والجاهل، وللواعظ امتيازات على المتعظ. فغاية
الوقاحة وقلة الحياء أن يقول الواعظ قولا عن الله ثم لا يعمل به مع شمول التكليف
له، قال الله تعالى: «يا عيسى عظ نفسك [بحكمتي] فإن اتعظت فعظ الناس، وإلا
فاستحي مني» (3).
عجبا وأي عجب ممن يغط في نوم الغفلة ولم ينتفع طول عمره باليقظة ثم
يريد أن يوقظ النائمين، ومتى يوقظ النائم النائم؟!



(1) النور: 17. وفي الأصل: «والله يعظكم».
(2) أمالي المفيد 264; شرح نهج البلاغة 6 / 69; مصباح الشريعة 113.
(3) كنز العمال 15 / 795 ح 43156.
69
قال الصادق (عليه السلام): «الواعظ والمستيقظ كالراقد واليقظان» (1)، فمن استيقظ
عن رقدة الغفلة انتبه إلى مخالفاته ومعاصيه، صلح أن يوقظ غيره من الرقاد. ونعم
ما قيل:
يا واعظ الناس غير متعظ * ثوبك طهر أولا فلا تلم
وقال علي (عليه السلام): «العاقل يتعظ بالآداب، والبهائم لا تتعظ إلا بالضرب» (2).
أيها المسكين انظر ماذا قدمت نفسك لغد؟! وماذا فعلت مما قلت؟! ماذا
ينفعك وعظ الآخرين وما حصلت من ذلك؟ وأي مزية لك وأنت ترتقي منبر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ من كان قالبه محشوا بحب الدنيا وقلبه وكرا للهوى لا يليق به أن يضع
أقدامه على مراقي المنبر.
إذا كان الغراب دليل قوم * سيهديهم إلى أرض الجياف
قال الله تعالى: (أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون) (3).
وهذا الحديث قرأته ونقلته مرارا لكني لم أجد له أثرا في قلبي القاسي، وهو
قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قال: «مررت ليلة أسري بي على أناس في جهنم
تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل؟ فقال: هؤلاء
خطباء من أهل النار كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم» (4) الويل ثم الويل
لي من أعمالي وأفعالي وسيرتي، واخجلتاه وواحياءاه بين يدي ربي.
فإن أمارتي بالسوء مااتعظت * لجهلها بنذير الشيب والهرم



(1) شرح نهج البلاغة 16 / 112 باب 31.
(2) شرح نهج البلاغة 16 / 112 باب 31، البحار 71 / 327 ح 25 باب 80.
(3) الأنبياء: 67.
(4) بحار الأنوار 72 / 223 وفيه: «من أهل الدنيا» بدل «من أهل النار».
70
أتصور الشيطان كلما ارتقيت المنبر وهو يضحك من حديثي ويفرح لترهاتي
وكلماتي، لأنه يراني مذكرا غير متذكر وناصحا غير مستبصر، فيجمع أعوانه
وأولاده حول منبري فيستهزئون ويسخرون خلافا لبني النوع الإنساني، فيقرأ
قسمه الأول (لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين) (1) أعدائي
يضحكون وأحبائي - حبا وودا - يبكون، وأنا المسود الوجه تائه بين المحظورين
ومتحير بين الحدين. وغدا يوم القيامة - فضيحتي أكبر وشناعتي أكثر، وإذا كشفت
حقائق أعمالي وظهرت شقاوة باطني، وجدتني أذل أهل المحشر ولا أحد أسوء
حالا مني وقد قال الله تعالى: (إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا) (2). «ومن
كان له من نفسه واعظ كان عليه من الله حافظ» (3). وقال ذلك الشاعر البصير:
وراعي الشاة يحمي الذئب عنها * فكيف إذا الرعاة لها الذئاب
ولا ذئب أسوء من النفس الأمارة والشيطان المكار، الحي دائما، والثابت
على عهده القديم وقسمه الأكيد، والنافذ الحكم في أعماق بدن الإنسان، يجري منه
مجرى الدم النجس.. فمن ذا الذي ينجو من كيده وحبائله ويحفظ نفسه من شروره
ومكائده؟ قال علي (عليه السلام): «كل ما ألهى عن ذكر الله فهو من إبليس».
والأهم من كل شئ للخطباء والمنبريين رعاية قول الله ورسوله، فلا
يكذب فعله قوله، ولا يظهر ما ليس فيه ويبدي ما ليس عليه، فاللباس ولقلقة
اللسان وتلفيق الألفاظ وتزويق العبارات وتركيب المطالب المهيجة لا يكون سببا



(1) ص: 82 - 83.
(2) فاطر: 6.
(3) البحار 68 / 367 ح 17 باب 60 عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
71
للنجاة من أهوال القيامة ودركاتها، وليس له منها سوى ما يقال عنه أنه «قاص
حلو البيان ومتحدث حلو اللسان»، ويبقى القول نفس القول، والقالب نفس
القالب الفارغ، أما القلب والروح فلا يتأثران ولا ينتفعان ولا يتحذران.
«إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلت موعظته عن القلوب كما يزل المطر عن
الصفا».
ونعم ما قيل:
حديث توبه در أين بزمگه مگو حافظ * كه ساقيان كمان ابرويت زنند به تير (1)
والأفضل أن أقول: ولا تجعلني عظة لمن اتعظ، وعبرة لمن اعتبر، ولا
تتخذني هزوا لخلقك، ولا تتخذني سخريا، ولا تبعا لمرضاتك، قلت كل ذلك
تلويحا وكناية ولم أرد بهذا العتاب والخطاب - علم الله - سوى نفسي إلا أن الخواجة
قالها صراحة:
واعظان كاين جلوه در محراب و منبر مى كنند * چون به خلوت مى رسند آن كار ديگر مى كنند (2)
ومن يدري فلعل هذا المسود الوجه، الغارق في التقصير هو مصداق هذا
البيت وهو يرى في نفسه شيئا يختلف عن البعض الذين وصفهم بالذلة والحقارة
والخفة.
وأذكر نفسي أيضا بهذه الأبيات:



(1) لا تتحدث حديث التوبة - يا حافظ - في هذا الحفل; فقد رمى الساقي بسهامه قوس حاجبيك.
(2) إن الوعاظ الذين يتظاهرون على المنبر وفي المحراب، إذا ما خلوا بأنفسهم فعلوا غير ما وعظوا به.
72
يا واعظ الناس قد أصبحت متهما * إذ عبت منهم أمورا أنت تأتيها
أصبحت تنصحهم بالوعظ مجتهدا * فالموبقات لعمري أنت جانيها
وفي بالي أن المرحوم صاحب الرضوان الحاج ملا علي (قدس سره) ذكر في إحدى
مؤلفاته «إن الله يؤيد [يجدد] هذا الدين بالرجل الفاسق، والعالم بلا عمل كالشمعة
تحترق لتضيء للآخرين». وأنا أقول: لماذا يحرق الإنسان نفسه من أجل
الآخرين، فالأحرى به أن لا يحترق وفي نفس الوقت يبني الآخرين ويقوم أفعالهم.
وباختصار: لا بد من التمسك بأذيال محمد وآل محمد (عليهم السلام) والتوسل بهم
لإزالة هذه الغفلة والجهل والحيرة، لأننا ننتسب لهم ظاهرا، وهم كل واحد منا
ينصب على نشر مناقبهم وذكر مصائبهم، فلعلهم لا يرضون عنا فتنفصم عرى
النسبة بيننا وتغرق هذه الفرقة المعروفة (1) ولا شك أن فضيحة العبيد المخطئين تعود
على الموالي.
ألا ليت لي عقيدة صاحبي الشيخ العجوز الذي رافقته في سفر الحج، حيث
كان يسليني أبان رحيله قائلا: لو أن الشيطان اختطف مني إيماني هذه اللحظات
وأخذ مني ذخيرتي التي إدخرتها خلال تسعين سنة، لطالبت المولى غدا يوم القيامة
بالضعف على أجري أيام البرزخ، وليس من ينكر أن محبي الأئمة الأطهار لا يخلون
من ذنب، وأن المعصية لا يمكنها أن تخلع ربقة محبتهم (عليهم السلام)، هيهات هيهات ما هكذا
الظن بك ولا المعروف من فضلك.
حاشاه أن يحرم الراجي مكارمه * أو يرجع الجار عنه غير محترم



(1) يقصد بهم الخطباء والمنبريين.
73
في مدح شراح المسائل
أما النوع الثاني من المنبريين الأتقياء والصالحين، فهم الذين يشرحون
المسائل الشرعية ويبينون الأحكام للناس، من قبيل مسائل التقليد والقراءة
والأحكام، بل يصححون لهم أصول الدين وفروعه. وفيهم من لا بضاعة له ولا
معرفة باللغة العربية ولا يعرف سوى مسائل الصوم والصلاة والخمس والزكاة،
ولا دراية له بغيرها، ولكنه يبقى عند الله مثابا ومأجورا، وهو واسطة بين المجتهد
الأعلم ومقلديه، بل هو لسانه فيهم.
شهد الله أن هذا النوع من المنبريين لهم يد عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فما أجل
قدرهم، بشرط أن يراعوا الإحتياط ويدققوا في فهم المسائل ويدركوها على
الوجه الصحيح، فإن كانوا بعيدين عن المجتهد الأعلم وقصرت أيديهم عنه،
فليسألوا العلماء الآخرين من ذوي الخبرة بفتاوى الفقهاء العظام والانس
بإصطلاحاتهم، ولا يكونوا سببا لاقتحام المقلدين دركات النيران والعدول من
قول الحق إلى الباطل، ولا يغررون ببعض السفلة من «العوام كالأنعام» فإن هذا
العمل من أقبح الأعمال، وعقوبته عند الله من أشد العقوبات، فلو حصل اشتباه،
فعلى المقلد أن يسأل عن فتوى المجتهد من الآخرين حتى يحصل له بها اليقين ومن
ثم يعمل بها حتى يطمئن بأداء التكليف.
في مدح القراء
النوع الثالث من المنبريين هم طائفة الذاكرين (1) ويسميهم بعض العرب



(1) وهم الذين يذكرون مصائب أهل البيت (عليهم السلام) على المنابر.
74
ب‍ «القراء»، وبعض الأتراك ب‍ «مرثيه خوان»، ويعرفهم الفرس باسم «روضه
خوان»، وهم الذين كانوا يحملون كتاب «روضة الشهداء» ويقرأون ما فيه على
مسامع الجالسين ويبكونهم.
وهذا النوع من المنبريين معروفون بحسن الصوت، ولهم معرفة وإلمام
بالترجيع والتحرير وعلم الموسيقى، وهم اليوم أكثر من الواعظين ويحظون باهتمام
أهل الإسلام والمحبين، وهم يتواجدون في المجالس الخاصة والعامة للرجال
والنساء أسبوعيا وشهريا على مدار السنة، يقرأون الأشعار والمراثي، ويذكرون
المصائب، وهم بركة كل بيت ومحفل وزينة كل تجمع، والناس يسمون ذلك
ب‍ «التعزية»، فبهم يستفيض الناس من حديث «من أحيا» (1) وحديث «من
أبكى» (2) وحديث «من ذكر مصائبنا» (3) وحديث «من أنشد بيتا» (4)، وعملهم من
أعمال الخير الممدوحة المثمرة، وبه يصلحون أمورهم الدنيوية والأخروية كما هو
الملاحظ من السيرة الحالية.



(1) البحار 71 / 351 ح 18 باب 21 من قرب الإسناد قال: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لفضيل:
تجلسون وتحدثون؟ قال: نعم جعلت فداك. قال: إن تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا. يا فضيل فرحم
الله من أحيا أمرنا. يا فضيل من ذكرنا أو ذكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح الذباب، غفر الله له ذنوبه
ولو كانت أكثر من زبد البحر.
(2) البحار 1 / 200 ح 6 باب 4 قال: قال الرضا (عليه السلام): من تذكر مصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي
العيون، ومن جلس مجلسا يحيى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب.
(3) البحار 44 / 278 ح 1 باب 34 عن الرضا (عليه السلام) قال: من تذكر مصابنا وبكى لما ارتكب منا، كان معنا في
درجتنا يوم القيامة ومن ذكر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون...
(4) البحار 44 / 289 ح 29 باب 34 من أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أنشد في الحسين بيتا من شعر فبكى
وأبكى عشرة، فله ولهم الجنة; ومن أنشد في الحسين بيتا فبكى - وأظنه قال: أو تباكى - فله الجنة.
75
ولهؤلاء خطئان فاحشان، فاحش وأفحش:
أما الخطأ الأول: فهو التجاوز عن الحد المشروع وقراءة الحديث الموضوع،
إذ لا يصح منهم الإعتماد على أي كتاب، بل عليهم بالكتب العربية للمرحوم
المجلسي طاب ثراه ان استطاعوا، وإلا فبكتبه الفارسية; وذلك لأن أكثر هؤلاء
القراء لا علم لهم بالأخبار ولا يعرفون الحديث، فالأفضل الإكتفاء بأخبار
مصائب الإمام الحسين (عليه السلام) التي لخصها المرحوم المجلسي ودراستها جيدا ليفهمها
ويفهمها بحيث يجعل ذلك المرحوم دليله ومرشده، وعليهم اجتناب نقل الأقوال.
أما الخطأ الثاني: وما هو أفحش، فهو تحرير وترجيع الصوت والتغني
والتطويح بالصوت في الحلق حتى يعجب المستمع بصوته، وهذا النوع من القراءة
يقول عنه أهل الشرع انه معنى «قول الزور» و «لهو الحديث» وانه لحن مطرب،
فبعض أهل الهوى واللهو يثيرون الناس وينشطونهم بالأصوات المطربة وألحان
أهل الفسوق، وهؤلاء الذين يرتقون المنبر بهذه الصورة يشابهون هذه الجماعة،
والويل ثم الويل لهم، لأنهم بعيدون عن قواعد السداد والرشاد. وقد ذهب
المرحوم الشيخ نور الله مرقده وطيب مضجعه إلى أن الغناء في المصيبة وقراءة
القرآن أشد عقوبة (1).
فإن كان الأمر كذلك وكانت القراءة بهذا الشكل فسوف لن يترتب على هذا



(1) قال الشيخ مرتضى الأنصاري (1214 - 1281 ه‍) في كتاب المكاسب - المكاسب المحرمة - في بحث
الغناء: «... وظهر مما ذكرنا أنه لا فرق بين استعمال هذه الكيفية في كلام حق أو باطل فقراءة القرآن
والدعاء والمراثي بصوت يرجع فيه على سبيل اللهو لا اشكال في حرمتها ولا في تضاعف عقابها لكونها
معصية في مقام الطاعة واستخفافا بالمقروء والمدعو والمرثي...» كتاب المكاسب 1 / 101 (مؤسسة
الأعلمي للمطبوعات - بيروت).
76
العمل المستحب ثواب، بل ستكون قراءته منهيا عنها وعمله محرما، سيما إذا اتفق
العرف والشرع، واعتبرنا للعرف أثرا مؤكدا للمراد.
قال الله تعالى: (ومن الناس من يشري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير
علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين) (1).
فالقارئ الغافل يصدر منه عملان محرمان ضمن عمله المستحب:
أحدهما: اللامبالاة في ذكر الحديث النبوي وعدم رعايته.
والآخر: إشاعة الفعل الحرام.
والقارئ من يذكر الله ويذكر الناس به، ويشاركه في هذه الصفة الوعاظ وإلا
فكلا الفريقين في العذاب خالدان، وسيكون شفعاؤهم خصماءهم.
وفي هذا الزمان يقصد المنبر للأجرة والسمعة وغيرها من النتائج التي أعلم
أن ذكرها يورث الملل ويؤدي إلى الانزعاج.
وأما أولئك الذين يقيمون مجالس العزاء فيتجشمون العناء ويبذلون المال
ويدعون القراء، فليس لوعظهم وقراءتهم من أثر إلا زيادة المعاصي والملاهي، سيما
عند اجتماع النسوان واختلاطهن بالرجال.
ومنذ سنوات والحقير يتحدث للناس عن هذا الأمر، غير أن الأفضل عقد
اللسان وكسر البنان والله العالم بالسرائر.



(1) لقمان: 6.
77
تعريض عريض
حول كتاب «زند وپازند» وبطلانه
تذكرت في هذا المقام ما ذكره المسعودي في مروج الذهب عن كتاب زند
وپازند ومعنى الزنديق، وذكره لا يخلو من فائدة: «زرادشت بن اسبيمان وكان من
أهل أذربيجان وهو نبي المجوس الذي أتاهم بالكتاب المعروف ب‍ «الزمزمة» (1)
عند عوام الناس واسمه عند المجوس بستاه، وأتى زرادشت عندهم بالمعجزات
الباهراة للعقول، وأخبر عن الكائنات من المغيبات قبل حدوثها من الكليات
والجزئيات، والكليات: هي الأشياء العامة، والجزئيات هي الأشياء الخاصة، مثل
زيد يموت يوم كذا، وفلان يمرض في وقت كذا وأشباه ذلك، ومعجم هذا الكتاب
يدور على ستين حرفا من أحرف المعجم، وليس في سائر اللغات أكثر حروفا من
هذا، وقد أتى زرادشت بكتابهم هذا بلغة يعجزون عن ايراد مثلها ولا يدركون كنه
مرادها، وجعل له تفسيرا وتفسير التفسير، وكتب هذا الكتاب في اثني عشر ألف
مجلد بالذهب، فلم تزل الملوك تعمل بما في هذا الكتاب إلى عهد الإسكندر وما كان
من قتله لدارا بن دارا، فأحرق الإسكندر بعض هذا الكتاب.
ثم صار الملك بعد الطوائف إلى أردشير بن بابك، فجمع الفرس على قراءة
سورة منه يقال لها «استا» (2).. فالمجوس إلى هذا الوقت لا يقرأون غيرها. ثم عمل
زرادشت تفسيرا عند عجزهم عن فهمه وسموا التفسير زندا، ثم عمل للتفسير



(1) انظر البحار 10 / 179 - 193.
(2) في المروج «اسناد».
78
تفسيرا وسماه «پازند» ثم عمل علماؤهم بعد وفاة زرادشت تفسيرا لتفسير التفسير
وشرحا لسائر ما ذكرنا، وسموا هذا التفسير «بارده»، فالمجوس إلى هذا الوقت
يعجزون عن حفظ كتابهم المنزه... لعجز الواحد منهم عن حفظه على الكمال، وقد
كانوا يقولون: إن رجلا منهم بسجستان بعد الثلاثمائة مستظهر بحفظ هذا الكتاب
على الكمال» (1).
ثم «إن بهرام بن هرمز أتاه ماني فعرض عليه مذهب الثنوية، فأجابه
احتيالا منه عليه، إلى أن أحضر رعيته المتفرقين في البلاد من أصحابه الذين
يدعون الناس إلى مذاهب الثنوية فقتله وقتل الرؤساء من أصحابه، وفي أيام ماني
ظهر اسم الزندقة الذي أضيف إلى الزنادقة; وذلك أن الفرس حين أتاهم زرادشت
بكتابهم المعروف بالبستاه باللغة الأولى من الفارسية وعمل له تفسيرا وهو
«الزند»، وعمل لهذا التفسير شرحا سماه «الپازند» وكان «الزند» بيانا لتأويل
المتقدم المنزل، وكان من أورد في شريعتهم شيئا بخلاف المنزل الذي هو «البستاه»
وعدل إلى التأويل الذي هو «الزند» قالوا: هذا زندي، فأضافوه إلى التأويل وأنه
منحرف عن الظواهر من المنزل إلى تأويل هو بخلاف التنزيل، فلما أن جاءت
العرب أخذت هذا المعنى من الفرس وقالوا: «زنديق» وعربوه، والثنوية هم
الزنادقة...» (2) فكل من خرج عن ظاهر الشرع سمي زنديقا.
وقد قرأت في كتاب أن الزنديق سمي زنديقا لأن إيمانه كإيمان النساء (3)
وجمعه زنادقة.



(1) مروج الذهب 1 / 252 - 253.
(2) مروج الذهب 1 / 275.
(3) زن بالفارسية تعني المرأة.
79
والخلاصة: أن هذا الكتاب قد أضل الناس وأخرجهم من طريق الحق،
حيث انشعب من الثنوية والزندقة مذاهب فاسدة كثيرة، ولا زال المجوس ينظرون
إليه ويعتقدون أنه من زرادشت النبي.
وعجيب ما قال أبو الهول الشاعر في هجاء الفضل بن يحيى البرمكي:
إذا ذكر الشرك في مجلس * أضاءت وجوه بني برمك
وإن تليت عندهم سورة * أتوا بالأحاديث من مزدك
واعلم أن المجوسية أسوأ المذاهب وأردأها وأخسها، وقانونهم وشريعتهم
أقبح شريعة، ولا كلام في فساد أصولهم وفروعهم وقبح فعالهم وخصالهم، وقد
ذكرهم علماء الإمامية - تغليبا - في عداد أهل الكتاب، وإن كان الكلام في كتابهم
هو كلام المسعودي عليه الرحمة وغيره.
وإن - الحقير - يرى أغلب الكتب والدواوين الخارجية المطبوعة التي يؤلفها
الأغيار مختلطة ومزخرفة ومشبوهة لم تؤخذ من مصادر صحيحة، وأن قراءة كل
واحد منها كقراءة كتاب «الزند» يؤدي إلى الخذلان والبعد عن الرحمن والإعتياد
تدريجيا على المطالب الغريبة والأقاصيص العجيبة المنمقة والمزخرفات الفعلية
والقياسات النظرية والتصورات البدعية، وهذا يؤدي إلى خروج الإنسان من
جادة الصواب والطريقة المستقيمة، ويجعله يرغب في الإقتداء بالأمم السالفة
ويميل إلى العمل بأعمالهم، وحينئذ يرى أهل الشريعة لزاما عليهم أن يسموا هذا
الشخص زنديقا ويعدونه في الزنادقة والثنوية. وعلى كل فرد فرض وحتم أن
يرجع في كل وقت حسب المقدور إلى الأخبار النبوية والسنة المصطفوية السنية،
وإن هي إلا إيحاءات غيبية ربانية.

80
فملاحظة تلك الكتب والتأمل فيها، بل مطالعة كتب المنحرفين يعد حراما
غير جائز وسما مهلكا لبعض السذج. ونعم ما قيل:
إليكم وإلا لا تشد الركائب * ومنكم وإلا لا تنال الرغائب
وعنكم وإلا فالحديث مزخرف * وفيكم وإلا فالمحدث كاذب
وبذلك ولدت وبذلك أموت وبذلك أبعث إن شاء الله.
تشويق رشيق
الإحتياط في رواية الحديث ودرايته
كثرت في هذه الأيام الكتب والمؤلفات طبعا ونشرا، واختلطت مؤلفات
أهل الخلاف بكتب الشيعة، مما أدى إلى ضياع آداب الرواية والدراية التي كانت
متعارفة في السابق، فبعض احترف نقل الأحاديث والأخبار، فنقلها بالمعنى
مترجمة إلى الفارسية لعجزه عن حفظ العبارات وألفاظ المتون، ولسهولة النقل
بالمعنى. وهذا الأسلوب وإن كان جائزا مرخصا فيه، إلا أن فهم معاني الأخبار
وإدراك الأفكار يختلف من شخص إلى شخص، إلا أن يعتمد القائل في هذا الزمان
على تراجم الأحاديث والأخبار الواردة في كتب العلامة المجلسي عليه الرحمة
وغيره من العلماء ذوي المناهج المستقيمة في فهم الحديث والأنس بطرقه
ونصوصه، غير أنه توجد جماعة لا تقنع بحفظ الأحاديث المترجمة من قبل العلماء
السابقين، فينقل أحدهم ما يحلو له على المنبر وغيره، ولا يراعي صحة الحديث
ولا ينقله كما ينبغي متنا وترجمة، ولا يدقق في المضمون فقد يزيد وقد ينقص، ولهذا
دأب العلماء الأعلام على أخذ الإجازة من المشايخ في رواية الحديث، ولا زالت

81
الإستجازة إلى يومنا هذا من باب التشريف والتيمن، حيث يجيز الأستاذ تلميذه أو
من هو بمستواه بعد أن يطلع على حسن حاله، ويطمئن لاستنباطاته واستدراكاته،
ولا تكون الإجازة إلا بعد الإمتحان والاختبار، فيمنحه مثلا إجازة الرواية لكتب
الشيخ الصدوق أو الشيخ الطوسي - طاب ثراهما - وكتب الشيخ نفسه، ويشترط
عليه تحري الدقة والاحتياط وعدم الخروج عن دائرتهما. ولكن هذا العمل صار في
زماننا متروكا مهجورا باعتبار انتفاء السالبة الكلية، فلا تجد عينا ولا أثرا لعلم
الدراية والرجال والتجريح والتعديل والتوثيق والتضعيف، بل حلت الرسوم
والتقاليد الجديدة محل الرسوم القديمة، وانحصرت المحفوظات في شئ من الفضائل
والمواعظ وشئ من مصائب الأئمة المعصومين (عليهم السلام) وما ينسب إليهم دونما اعتناء
بالزيادة والنقصان، وأما أخبار الأحكام المنقولة في كتب الفقهاء العظام، فغائبة
عن الأوساط وموكولة إلى عهدة الفقيه، مع أن فهمها وروايتها لا يختلف كثيرا عن
سائر الأخبار وهي صادرة من عين واحدة. نعم في موارد الإختلاف على الفقيه
استنباط المعنى من بين الخبرين واختيار أحدهما بملكته القاهرة وفق الأخبار
العلاجية الواردة.
فالمحدث الجامع الكامل هو من يعرف الحديث ويروي ما صدر عن
المعصوم، ويميز - ما استطاع - بين الصحيح والسقيم. أو هو من إذا راجع فهم وعلم
وأفهم وعلم.
وعلى أي حال، فمنذ بداية التأليف في الحديث وشروع الحفظ والتقييد
بالكتابة والرواية والنقل وبث الأخبار ونشر الحديث كان هناك شرط كلي عام،
وهو العلم بالصحة والاحتراز عن الزيادة والنقصان والتحريف والتصحيف.

82
والأحاديث المخرجة في الأصول وكتب أصحاب الأئمة وعلماء السلف وما خرجه
المتأخرون من المحدثين من الأحاديث التي فقدت بأجمعها محصورة ومعينة، وهناك
جماعة كانت تعرفها بأسانيدها بالحفظ الصحيح والضبط الدقيق والنظر الصائب.
فمثلا: حفظ ابن عقدة - وكان آية في الحفظ - ثلاثمائة ألف حديث عن أهل
البيت بأسانيدها، ولم يخلط بين سندين، وكان يروي كل حديث بسنده الخاص
دون تداخل، وله كتاب أسماء الرجال ذكر فيه أربعة آلاف رجل سمع الإمام
الصادق وروى عنه وذكر رواياتهم، وهذا لا يكون إلا بالممارسة الدائمة والشوق
المفرط، فلا ينبغي للمرء أن يقصر همه على حفظ عدة أحاديث معدودة، بل
الأفضل أن يتبع الحسنة بالحسنة، وينمي السنة بالسنة، حتى يحصل له تتبع وتبحر
واستئناس كامل بأقوال الأئمة الأطهار (عليهم السلام) وينال بذلك الأجر الجميل والثناء
الجزيل.. وبهذا التدريب والممارسة يتمكن - ممدودا من الغيب - من اقتناص
الفروع من الأصول، واستخراج المنقول من المعقول.
وكانت كتب ابن عقدة - المذكور - المتوفى سنة 333 ه‍ في الكوفة - ستمائة
حمل بعير، وكان زيديا وجاروديا ومات على ذلك، ولكن ابنه محمد بن أحمد بن
عقدة كان من أجلاء الشيعة الإمامية; المهم إنه عمل بما وعى (1) ولم يقصر في بلوغ
الغاية من موهبته - الحفظ -.
أجل; يطلق لفظ الماء على القطرة وعلى البحر على حد سواء، كما يطلق
المحدث على من حفظ عشر أحاديث وعلى من حفظ أربعين على حد سواء، غير



(1) لم يعمل بما وعى إن كان قد مات وهو زيدي المذهب وكيف يعي ثلاثمائة ألف حديث من أحاديث أهل
البيت (عليهم السلام) ولم يهتد إلى الحق؟!!
83
أنهم قالوا: «خبر تدريه خير من ألف ترويه» (1) ومعنى الدراية تصحيح الحديث
وتحسين السند والعمل بالمضمون، وهو أحد المعاني المقصودة من «حفظ أربعين
حديثا» أي العمل بها، وبعبارة أخرى العمل بقول المعصوم (عليه السلام) وإلا فلا يسمى
حفظا واقعيا. وقد أشرت إلى ذلك في كتاب «جنة النعيم» وذكرت فيه شروط
المحدث.
في معنى الحافظ وحفاظ السلف
وقد سمي جماعة من المحدثين في السابق ب‍ «الحفاظ» لحفظهم ما يربو على
المائة ألف حديث، ولم يطلق هذا اللقب على كل محدث مهما كان، وكان النخبة منهم
يهجرون أوطانهم سنين طويلة ويجوبون الحواضر الإسلامية طلبا للحديث
واستماعه من المشايخ، فينتفعون بالأخبار والنوادر ويجمعون الشارد والوارد.
وكان اسم «الحافظ» يطلق في صدر الإسلام على من حفظ القرآن كاملا،
وقد ألف أحد العلماء كتابا سماه «جامع الحفاظ في قراء الألفاظ»، ثم أطلق اسم
الحافظ على من حفظ مائة ألف حديث مثل:
الحافظ أبي الفتوح،
الحافظ محمد بن موسى،
الحافظ الزرندي،
الحافظ أبي القاسم،
الحافظ أبي نعيم،



(1) منية المريد 370 المطلب الأول في الخاتمة، والحديث عن مولانا الصادق (عليه السلام).
84
الحافظ أبي بكر صاحب تاريخ بغداد،
الحافظ ابن عقدة،
الحافظ أبي بكر زكريا،
الحافظ الدارقطني،
الحافظ محمد بن طلحة الشافعي صاحب كتاب «مطالب السؤول»،
الحافظ ابن عبد البر صاحب «الإستيعاب»،
الحافظ أبي بكر البيهقي.
والخلاصة: إن الأطياب لا يقصرون في هذه المعاملة الرابحة.
في آداب الرواية ووظيفة الراوي
سبق أن ذكرنا أن في الإسلام ركنين هما كتاب الله والسنة النبوية السنية
والأحاديث المروية عن الأئمة الهداة، وكلها تعود إلى مصدر واحد وتنتهي إلى الله
ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولنعم ما قيل:
إذا شئت أن تختر لنفسك مذهبا * وتعلم أن الناس في نقل أخبار
فدع عنك قول الشافعي ومالك * وأحمد والمروي عن كعب الأحبار
ووال أناسا قولهم وحديثهم * روى جدنا عن جبرئيل عن الباري (1)
غير أن الخلط والتحريف والإضافة والحذف وقعت في طرق الأحاديث



(1) في البحار 105 / 117 قال:
إذا شئت أن ترضى لنفسك مذهبا * ينجيك يوم البعث من ألم النار
فدع عنك قول الشافعي ومالك * وأحمد والنعمان أو كعب الأحبار
ووال أناسا قولهم وحديثهم * روى جدنا عن جبرئيل عن الباري
85
والروايات من قبل الرواة، حتى صار تمييزها بالكلية أمرا غير مقدور لأحد في هذه
الزمان، واستحال فهم بعض الأخبار وجمعها، سواء كانت في الأصول والعقائد أو
في الفروع والقواعد إذا أردنا استيعاب ذلك بعد الإحاطة التامة بكل الأخبار
المأثورة. ولا أقصد في ذلك عمل الفقيه ورأيه، وإنما أردت من هذا التوضيح
والبيان الإشارة إلى حال المحدث وأفعاله ووظيفته الشخصية وتكليفه اللازم
وغيرها من الآداب التي هجرت في هذا الزمان، بل كأنها لم تكن شيئا مذكورا، وإن
كان المحدث في لسان الشرع هو العالم الفقيه، إذ يعد العارف بالحديث في الفقهاء.
فعلينا أن نبذل الوسع ولا نغفل عن مقتضيات الرواية ونؤكد الهمة، ليتنور
هذا العصر بوجود أمثال هؤلاء الكاملين والراشدين، ولا تندرس آثار الشريعة
المطهرة، ويهتدي أهل الإيمان إلى الصراط المستقيم والدين القويم بشيوع الأخبار
الصحيحة ونشر الأحاديث المعتبرة عن الأئمة البررة (عليهم السلام)، ويعالجوا آلامهم الخفية
في هذا المشفى العظيم، ويجلو القلوب المكدرة ويضيئوا الأفئدة المظلمة لكي ينالوا
الدرجات العليا ويفوزوا بالحظ الأوفى.
وإن هذا الحقير، وإن كان جاهلا - عالما بجهله - إلا أنني أعرف زملائي
وأقراني المحدثين المعاصرين، حتى لكأننا درسنا معا في مدرسة واحدة وشربنا معا
من مشرب واحد.
إن سوء الزمان وتقلب القلوب واختلاط الأفكار الفاسدة والآراء الكاسدة
والغزو الفكري الخارجي والترهات والشبهات الداخلية ساهمت بأجمعها في رفع
الوضع القديم ونشر الأسلوب الجديد «والناس أشبه بزمانهم من آبائهم».
فياله من زمان فاسد وأهله مفسدون حيث ابتعدوا عن هذين المصدرين

86
الأصيلين والأساسين النبيلين - أي علم التفسير وعلم الحديث - فهم بهما
جاهلون، وعن فهمهما غافلون، ومع علمهم بأن التوغل والتعمق في هذين
المسلكين الشريفين والمصدرين المنيفين نجاة من الهلكات في الدنيا والآخرة، إلا
أنهم هجروا النهج المبين لميل نفوس جماعة من المنحرفين، فتباهوا وتفاخروا بحفظ
اللغات الغريبة وضبط القوانين المنطقية والفلسفية والإستنباطات الخيالية
والنظرات الوهمية; ولقد أجاد القائل:
كاف كفر أي دل بحق المعرفة * خوشترم آيد زفاى فلسفه (1)
إن الكتب الإسلامية هي مجموعة القوانين العامة الإلهية والذخيرة التي
تتضمن آداب ورسوم الأمم الأخرى المنسوخة، لذا فالكتاب والسنة فيهما كل
علم وحكمة وتبيان لكل شئ، وإن الذين سلكوا هذا الطريق وحازوا مراتب
الكمال في هذين العلمين الواسعين العظيمين ألفوا الكتب في التحريض والترغيب
في اكتساب هذين العلمين المباركين، وأخبرونا عن مصدر الوحي الإلهي ولسان
النبي الصادق (صلى الله عليه وآله وسلم) ليعلم الجاهل ويتنبه الغافل ويفهم العاقل، ولكن - وللأسف - لم
نجد في هذا الزمان - مع وجود الإمكانات وكثرة الكتب - مميزا قادرا ومتكلما ماهرا
يمد الناس المستعدين للتقبل، ويشد قلوبهم ويقيم لهم عمودي التوحيد، ويشيد
هذين الركنين، ويروج علوم آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) المأخوذة من الكتاب الكريم والقرآن
العظيم والوحي السماوي والإلهامات الرحمانية.
قال الصادق (عليه السلام): «أحاديثنا يعطف بعضهم (2) على بعض، فإن أخذتم بها



(1) يقول: أقسم بحق المعرفة - يا قلبي - أن كاف الكفر هي أحلى عندي من فاء الفلسفة.
(2) في البحار: «تعطف بعضكم على بعض».
87
رشدتم ونجوتم، وإن تركتموها ضللتم وهلكتم، فخذوا بها وأنا بنجاتكم زعيم» (1).
فإذا كانت أحاديث الرسول وأئمة الهدى توجب الرشد والنجاة من الضلالة
والهلاك بضمان الإمام (عليه السلام)، فلماذا لا ننبري لحفظها وروايتها وتصحيح أعمالنا على
أساسها والنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول:
«من تعلم حديثين اثنين ينفع بها نفسه أو يعلمها غيره فينتفع بهما، كان خيرا
من عبادة ستين سنة» (2).
بل ورد عن ابن عباس: «من أدى إلى أمتي حديثا، فله أجر سبعين نبيا» (3).
وعن الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام): «إعرفوا منازل الناس على قدر
روايتهم» (4) فمن كانت روايته أكثر فمقامه أرفع وقدره أعلى.
وقد وسع الباقر (عليه السلام) توسعة جليلة حيث قال (عليه السلام): «من بلغه ثواب من الله
على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب، أوتيه وإن لم يكن الحديث كما
بلغه» (5).
وقد جعل العلماء هذا الحديث وما في معناه دليلا لنقل الأخبار الضعاف،



(1) البحار 71 / 258 ح 56 باب 15 حقوق الإخوان عن الكافي عن الصادق (عليه السلام) قال: «تزاوروا فإن في
زيارتكم إحياءا لقلوبكم وذكرا لأحاديثنا وأحاديثنا تعطف بعضكم على بعض...».
(2) البحار 2 / 152 ح 44 باب 19 فضل كتابة الحديث وروايته، منية المريد 372 في الخاتمة.
(3) وجدته في البحار 2 / 152 ح 43 باب 19 عن منية المريد 371 والجامع الصغير 2 / 161 حرف الميم
وحلية الأولياء 10 / 44 في الترجمة 468 ومصادر أخرى بلفظ: «من أدى إلى أمتي حديثا يقام به سنة أو
يثلم به بدعة فله الجنة».
(4) الكافي 1 / 50 كتاب فضل العلم باب النوادر ح 13، منية المريد 372، البحار 2 / 148 ح 20 باب 19
وفيها جميعا «روايتهم عنا».
(5) البحار 2 / 256 ح 4 باب 30.
88
وصنفوا في ذلك شروحا جيدة وفرعوا عليها فروعا عديدة.
والغرض من نقل هذا الخبر الإعتناء بأقوال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين
عليهم الصلاة والسلام، والاعتماد عليها ومراعاة الإحتياط في عدم إغفال ما ينسب
إليهم (1)، سيما الخبر المحفوف بالقرائن، والخالي عن المعارض الخارجي الظاهر، فلا
ينبغي حينئذ تعدي مضمونه، والتجاوز عن مفاده، وتركه في زوايا الإهمال.
ثم إن الركون إلى الكتب المعتمدة عند أهل السنة والاعتماد عليها وحفظها
والعمل بها ابتغاء للأجر والثواب بعيد عن رضا الرب، وأما إذا كانت معارضة
للآثار والأخبار الواردة عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، فيجب ردها والطعن فيها.
أجل; إن كانت أخبار العامة - العمياء - في فضائل الأئمة المعصومين (عليهم السلام) أو
كانت مؤيدة لمصادر الشيعة في الأحكام الشرعية فهي مفيدة جدا للشيعة
وللمحدث الخبير للاستدلال على المطلوب والاستشهاد على المراد وإظهار
الإجماع بين الفريقين في ذلك المورد الكاشف عن الحقيقة الشرعية ومراد الشارع،
فيؤيد بها دينه وينصر مذهبه ويقطع الحجة على الخصم ويفند مزاعمه ويلزمه بما
ألزم به نفسه.
ولكن يجب التمييز بين أخبار الفريقين ورواة الطرفين وأسانيدها وما هو
مروي عن النبي وما هو مروي عن غيره، مع التيقن من مصادر كل حديث،



(1) ذكر العلامة المجلسي (رحمه الله) تعليقة على الخبر المذكور سابقا عن الباقر (عليه السلام)، ثم قال في آخر تعليقته في
البحار 2 / 257:... «ثم اعلم إن بعض الأصحاب يرجعون في المندوبات إلى أخبار المخالفين وروايتهم
ويذكرونها في كتبهم، وهو لا يخلو من إشكال لورود النهي في كثير من الأخبار عن الرجوع إليهم والعمل
بأخبارهم، لاسيما إذا كان ما ورد في أخبارهم هيئة مخترعة وعبادة مبتدعة لم يعهد مثلها في الأخبار
المعتبرة. والله تعالى يعلم».
89
ومعرفة الصحيح من السقيم، والقوي من الضعيف، والغث من السمين، فقد
تداخلت أخبار العامة وأخبار الخاصة تداخلا عظيما، فصارت تحتاج إلى بصير
خبير يصرف العمر في تصفيتها وتنقيتها كما تصفى الحنطة من قشورها وأشواكها،
فلا بد من تمييز الأخبار الجارية على لسان الصدق والكذب والحق والباطل، وهذا
الأمر مهم جدا ولازم وواجب للمحدث، إذ يحفظه من خطوات الشيطان وخطراته.

90
الخصيصة الثالثة (في المقدمة)
في التحريض على كتابة الحديث ومتابعة السند
والإعراض عن كتب الآخرين
إعلم أن مصدر العلوم الدينية والأحكام الشرعية والأخروية بعد كتاب الله
المجيد هو الأحاديث النبوية والسنن المصطفوية السنية، وهذا العلم الشريف منتزع
ومستنبط من القرآن، وكل ما جرى على غير لسان أئمة الدين ولم يوافق كتاب الله
وعلوم آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو أباطيل وأساطير وزخرف، وكل ما أخذ عن غير الآل
فهو من لهو الحديث.
وفوائد هذا العلم الأخروي وفيوضاته السماوية للطالبين والراغبين في
المثوبات الأبدية الأخروية تفوق حد الإحصاء والحصر، لا تسعها هذه الوجيزة
ولا يمكن تحريرها في هذه الخصيصة; فالأحرى بالمسلمين أن يسعوا في حفظ
الحديث وتقييده وكتابته وفي دراية الروايات، وأن لا يغفلوا عنها ليسعوا فيه بمقدار
ما يسعون في كنز الذهب والفضة، وليهتموا به بمقدار اهتمامهم في التحفظ عليها;
فكل حديث من الأحاديث النبوية جوهرة من الجواهر النفيسة، بل أفضل من
كنوز الذهب وذخائر الفضة، وصرفها وربحها خير من الدنيا وما فيها.

91
لكن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «عليكم بالدرايات لا بالروايات» (1).
وقال (عليه السلام): «همة السفهاء الرواية، وهمة العلماء الدراية» (2).
وروي هذا المضمون عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وروي أيضا بطرق مختلفة وأسناد صحيحة عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «اعقلوا
الخبر إذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية، فإن رواة العلم كثير ورعاته
قليل» (3).
قال المجلسي (رحمه الله): «أي ينبغي أن يكون مقصودكم الفهم للعمل لا محض
الرواية، ففيه شيئان; الأول: فهمه وعدم الإقتصار على لفظه. والثاني: العمل
به» (4). وهو أحد المعاني المرادة من حفظ الأربعين حديثا، والأمر بالدراية والتعقل
والرعاية إشارة إلى ما استفدناه.
وقد ذكرت في كتاب «جنة النعيم في أحوال مولانا عبد العظيم - عليه السلام
والتكريم -» مفصلا الأحاديث والأخبار الواردة في المقام.
قال رسول الله الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم): «نضر الله عبدا سمع مقالتي وحفظها ووعاها
وأداها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه» (5).
قال المرحوم المجلسي (رحمه الله): «إذا لم يكن المحدث عالما بحقائق الألفاظ ومجازاتها



(1) البحار 2 / 160 ح 12 باب 21، كنز الفوائد 2 / 31 من كلام لأمير المؤمنين (عليه السلام).
(2) البحار 2 / 160 ح 13 باب 21، كنز الفوائد 2 / 31.
(3) البحار 2 / 161 ح 21 باب 21.
(4) انظر الهامش السابق.
(5) البحار 2 / 160 ح 11 باب 21.
92
ومنطوقها ومفهومها ومقاصدها، لم تجز له الرواية بالمعنى» (1) وجوز بعضهم ذلك
لصعوبة الحفظ، فذهبوا «إلى جواز الرواية بالمعنى إذا قطع بأداء المعنى بعينه، لأنه
من المعلوم أن الصحابة وأصحاب الأئمة (عليهم السلام) لم يكونوا يكتبون الأحاديث عند
سماعها، ويبعد بل يستحيل عادة حفظهم جميع الألفاظ على ما هي عليه وقد
سمعوها مرة واحدة، خصوصا في الأحاديث الطويلة مع تطاول الأزمنة، ولهذا
كثيرا ما يروى عنهم المعنى الواحد بألفاظ مختلفة» (2)...
ويدل عليه أيضا ما رواه محمد بن مسلم عن الصادق (عليه السلام); بأنه قال: «إن
كنت تريد معانيه فلا بأس» (3).
* * *
وبعد هذه المقدمة الموجزة نذكر في هذه الخصيصة بعض الأخبار الواردة في
مدح كتابة الحديث النبوي (صلى الله عليه وآله وسلم):
ففي المجلد الأول من بحار الأنوار عن جريح عن عطا عن عبد الله بن عمر
قال: «قلت: يا رسول الله أقيد العلم؟ قال: نعم. وقيل: ما تقييده؟ قال:
كتابته» (4).
أيضا «عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله
أكتب كلما أسمع منك؟ قال: نعم. قلت: في الرضا والغضب؟ قال: نعم، فإني لا



(1) البحار 2 / 164 ح 24 وفيه: «عن الكافي... عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أسمع
الحديث منك فأزيد وأنقص قال: إن كنت تريد معانيه فلا بأس».
(2) انظر الهامش السابق.
(3) انظر الهامش السابق.
(4) البحار 2 / 147 ح 18 باب 19.
93
أقول في ذلك كله إلا الحق» (1).
أيضا عن حمزة بن عبد المطلب بن عبد الله الجعفي قال: دخلت على الرضا (عليه السلام)
ومعي صحيفة أو قرطاس فيه: عن جعفر (عليه السلام): إن الدنيا مثلت لصاحب هذا الأمر
في مثل فلقة الجوزة فقال: يا حمزة ذا والله حق فانقلوه إلى أديم» (2).
أمره بالكتابة على الأديم لأنه أكثر دواما من الصحيفة والقرطاس.
عن الصادق (عليه السلام): نفس المهموم لظلمنا تسبيح، وهمه لنا عبادة، وكتمان سرنا
جهاد في سبيل الله، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): يجب أن يكتب هذا الحديث بماء
الذهب (3).
وعنه أيضا في فضل زيارة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): يا ابن مارد والله ما يطعم
الله النار قدما تغبرت في زيارة أمير المؤمنين (عليه السلام) ماشيا كان أو راكبا، يا ابن مارد
أكتب هذا الحديث بماء الذهب (4).
يستفاد منه استحباب كتابة الحديث، و «يمكن الاستدلال بهما على جواز
كتابة الحديث بماء الذهب» (5) لرفعة شأن الخبر ونفاسته.
أيضا عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: أكتبوا فإنكم لا
تحفظون حتى تكتبوا (6).



(1) البحار 2 / 147 ح 19 باب 19.
(2) البحار 2 / 145 ح 11 باب 19.
(3) البحار 2 / 64 ح 1 باب 13.
(4) البحار 2 / 147 ح 17 باب 19 وفيه (... كنت عند الصادق (عليه السلام) وقد ذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا ابن
مارد من زار جدي عارفا بحقه كتب الله له بكل خطوة حجة مقبولة وعمرة مبرورة، يا ابن مارد... الخ».
(5) انظر الهامش السابق.
(6) البحار 2 / 152 ح 38 باب 19.
94
وعنه (عليه السلام) قال: القلب يتكل على الكتابة (1).
وقال (عليه السلام) أيضا: احتفظوا بكتبكم فإنكم سوف تحتاجون إليها (2).
وروي أن رجلا من الأنصار كان يجلس إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيسمع منه الحديث
فيعجبه ولا يحفظه، فشكى ذلك إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): استعن
بيمينك، وأومأ بيده، أي خط (3).
فجودة الكتابة توجب رفع الحاجة والحفظ وانتفاع الأجيال القادمة وإكرام
أشرف الأنام وتعظيم الأئمة الكرام عليهم الصلاة والسلام، بل تسبب المغفرة
والرحمة واستغفار الملائكة المقربين وترحمهم، كما روي في الأمالي عن أنس أن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «المؤمن إذا مات وترك ورقة واحدة عليها علم، تكون تلك
الورقة يوم القيامة فيما بينه وبين النار حجابا، وأعطاه الله تبارك وتعالى بكل حرف
مكتوب عليها مدينة أوسع من الدنيا سبع مرات (4).
وعن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اللهم ارحم خلفائي، اللهم ارحم
خلفائي، اللهم ارحم خلفائي، قيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون
من بعدي يروون حديثي وسنتي (5).
فسماهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خلفاءه وترحم عليهم ثلاثا، وهم الذين يروون حديثه
وسنته، ويحيون القلوب الميتة، ويبلغون تلك الجواهر النفيسة والأمانات الكريمة
إلى أهلها.



(1) البحار 2 / 152 ح 39 باب 19.
(2) البحار 2 / 152 ح 40 باب 19.
(3) البحار 2 / 152 ح 36 باب 19.
(4) البحار 2 / 144 ح 1 باب 19 وفيه «سترا» بدل «حجاب».
(5) البحار 2 / 140 ح 7 باب 19.
95
والشرط الأساسي في إكمال التحديث وإبلاغ الأحاديث ونشر الأخبار
والآثار هو حفظها في دفاتر، لأن حالات الإنسان تختلف وتتغير من الصبا إلى
الهرم في بيان مضامين الأحاديث المأثورة، ولأن المحدث يتكل ويثق بكتابته
وتقييده أكثر من الآخرين، ويحصل له بها الإستئناس التام والإهتمام الكامل في
الفهم والضبط لكل حديث يرويه.
روي عن الصادق (عليه السلام) قال: «راوية لحديثنا يبث في الناس ويشدد في قلوب
شيعتنا أفضل من ألف عابد» (1).
والراوية صيغة مبالغة: أي كثير الرواية.
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ذكرنا أهل البيت شفاء من الوعك والأسقام
ووسواس الريب، وحبنا رضا الرب تعالى» (2) إي والله.
وقال (عليه السلام) أيضا لجابر: «لحديث واحد تأخذه من صادق خير لك من الدنيا
وما فيها» (3).
وقال الصادق (عليه السلام) في حديث للمفضل: «أكتب وبث علمك في إخوانك، فإن
مت فورث كتبك بنيك، فإنه يأتي على الناس زمان هرج ما يأتون فيه إلا
بكتبكم» (4).
ونعم ما قيل:
ما تنسج الأيدي يبيد وإنما * يبقى لنا ما تنسج الأقلام



(1) البحار 2 / 145 ح 8 باب 19.
(2) البحار 2 / 145 ح 10 باب 19.
(3) البحار 2 / 148 ح 21 باب 19.
(4) البحار 2 / 150 ح 27 باب 19 وفيه: «... ما يأنسون إلا بكتبهم».
96
وقد ذكرنا سابقا: إن مراتب الرجال ومنازلهم على قدر روايتهم، وعليه فإن
المحدث المتفقه الكثير الرواية، الضابط، الدقيق، العامل، الكامل، المستأنس بكلام
الله ورسوله وأئمة الهدى (عليهم السلام) قليل جدا ونادر الوجود، وسبب فقدانه اندراس هذا
العلم المبارك والالتفات إلى العلوم الدنيوية المزخرفة الموهومة.
وكثيرا ما نجد في مؤلفات العلماء الراشدين وكتب المحدثين شكوى شديدة
من هجران هذا العلم الشريف وتركه، والالتفات إلى الأعراض الواهية التي شغلت
أبناء الزمان بالرغم من كثرة العلماء، والسبب الرئيسي لهذا الهجران يعود إلى الميل
إلى الدنيا والابتعاد عن العقبى والاختلاط بأهل الهوى والإعراض عن ذكر الله
وكراهة ذكر المولى، ولكن ليعلموا أن كتابة الحديث وشرف التأليف في الأخبار فيه
فائدة تقييد خواطر أولي الأبصار وما تنتجه وتثمره، وضبط الأفكار الأبكار
للعلماء الأبرار، حتى لا تبقى مخفية مغيبة في خزائن الأسرار. فلولا هذه الكتب
المؤلفة من المحدثين السابقين لضاع وأهمل هذا العلم من أوله إلى آخره «كم ترك
الأول للآخر والفضل للمتقدم».
روى المسعودي في مروج الذهب قال: «وقد كان عبد العزيز (1) لا يجالس
الناس ونزل المقبرة وكان لا يرى إلا وفي يده كتاب يقرؤه، فسئل عن ذلك فقال: لم
أر واعظا أوعظ من القبر، ولا متعا أمتع من الكتاب، ولا شئ أسلم من الوحدة (2).
ونعم ما قيل:
لما علمت بأني لست أعجزهم * فوتا ولا هربا قد مت أحتجب



(1) في مروج الذهب «عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب».
(2) مروج الذهب 2 / 42.
97
فصرت بالبيت مسرورا به جذلا * حاوي البراءة لا شكوى ولا شغب
فردا يحدثني حقا وينطق لي * عن علم ما غاب عني منهم الكتب
المؤنسون هم اللائي غنيت بهم * فليس لي في جليس غيرهم أرب (1)
فالكتاب خير جيران وأوفى صديق أو أكفأ صاحب، خال من الخيانة،
رقيق شفيق، ومعاشر منصف، ومعلم متواضع، وأنيس ناصح، وناطق صادق،
ومترجم فصيح، أليف في السفر والحضر، ونديم في الليل والنهار، فما رأيت أحمد
أخلاقا ولا أدوم سرورا ولا أسكت غيبة ولا أحسن مؤافاة ولا أعجل مكافاة ولا
أبدى نفعا ولا أخف مؤنة من الكتاب، وقد قال الله تعالى (إقرأ باسم ربك الذي
خلق * خلق الإنسان من علق * إقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم
الإنسان ما لم يعلم) (2) (3).



(1) مروج الذهب 2 / 42 وفيه: «للسوء» بدل «للموت».
(2) العلق: 1 - 5.
(3) مروج الذهب 2 / 41 - 42. قال المسعودي: «وقد قالت الحكماء: الكتاب نعم الجليس، ونعم الذخر،
إن شئت ألهتك نوادره وأضحكتك بوادره، وإن شئت أشجتك مواعظه، وإن شئت تعجبت من غرائب
فوائده، وهو يجمع لك الأول والآخر، والغائب والحاضر، والناقص والوافر، والشاهد والغائب،
والبادي والحاضر، والشكل وخلافه، والحسن وضده، وهو ميت ينطق عن الموتى، ويترجم عن
الأحياء، وهو مؤنس ينشط بنشاطك، وينام بنومك، ولا ينطق معك إلا بما تهوى، ولا تعلم جارا أبر،
ولا خليطا أنصف، ولا رفيقا أطوع، ولا معلما أخضع، ولا صاحبا أظهر كفاية، وأقل خيانة، ولا أجدى
نفعا، ولا أحمد أخلاقا، ولا أقل خلافا، ولا أدوم سرورا، ولا أسكت غيبة، ولا أحسن موافاة، ولا
أعجل مكافاة، ولا أخف مؤنة منه، إن نظرت إليه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وأيد فهمك، وأكثر
علمك، وتعرف منه في شهر ما لا تأخذه من أفواه الرجال في دهر، ويغنيك عن كد الطلب، وعن الخضوع
لمن أنت أثبت منه أصلا، وأسمح فرعا، وهو المعلم الذي لا يجفوك، وإن قطعت عنه المائدة لم يقطع منك
الفائدة، وهو الذي يعطيك بالليل طاعته لك بالنهار، ويعطيك في السفر كطاعته لك في الحضر...».
98
في مدح قراءة الكتب الصحيحة وذم كتب الضلال
ولكن لا يمكن أن يشتغل الإنسان بأي كتاب باطل قد يعد من «لهو
الحديث» و «زخرف القول» فيبقى عمره عاطلا ونفسه غافلا وروحه مهملا:
چند خوانى حكمت يونانيان * حكمت ايمانيان را هم بخوان
دل منور كن به أنوار جلى * چند باشى كاسه ليس بوعلى (1)
أي كرده به علم مجازى خوى * نشنيده أي زعلم حقيقي بوى
سر گرم به حكمت يوناني * دل سرد زحكمت ايمانى
تا كي زشفا شفا طلبي * در كاسه زهر دوا طلبي
اندر پى أين كتب افتاده * پشتى به كتاب خدا داده
تا چند زنى زرياضى لاف * تا كي افتى به هزار گزاف
از علم رسوم چه مى جوئى * اندر طلبش چه مى پوئى
علمي بطلب كه تو را فانى * سازد ز علايق جسماني
رو كن به شريعت مصطفوي * دل ده به طريقت مرتضوي (2)



(1) يقول: اقرأ شيئا من حكمة اليونان، وشيئا من حكمة أهل الإيمان. وأنر قلبك بالأنوار الجلية، والحس
قصاع أبي علي (يقصد: تعلم شيئا من حكمة الشيخ الرئيس ابن سينا).
(2) يا من أنس بالعلم المجازي، ولم يعرف عن العلم الحقيقي شيئا. فهو مشغول بالحكمة اليونانية، غير
راغب بالحكمة الإيمانية إلى م تطلب من «الشفاء» شفاءك؟ وتبتغي الدواء في كأس مسمومة؟! فأنت
تهرع خلف هذه الكتب، معرضا عن كتاب الله تعالى. إلى م تتشدق بالحديث عن الرياضيات، وتتحدث
بالحدس والتخمين؟ ماذا تبتغي من علم الرسوم؟ وعن ماذا تفتش في سعيك هذا؟ اطلب علما يجعلك عن
العلائق الجسمانية فانيا. ويمم صوب الشريعة المصطفوية، واعشق الطريقة المرتضوية.
99
وقد بينت ذلك بيانا وافيا في رسالة «إرائة الطريق لمن يؤم البيت العتيق»
وذكرت الكتب الممدوحة.
قال أردشير بن بابك: «كما أن النفس تصلح على مخالطة الشريف الأريب
الحسيب، كذلك تفسد بمعاشرة الخسيس... وكما أن الريح إذا مرت بالطيب حملت
طيبا تحيا به النفوس وتتقوى به جوارحها كذلك إذا مرت بالنتن فحملته ألمت به
النفس وأضر بأخلاقها إضرارا تاما» (1).
وكذلك قراءة الكتب منها ما يصلح ومنها ما يفسد العقيدة «والفساد أسرع
إليها من الصلاح إذ كان الهدم أسرع من البناء» (2).
وفي هذا المضمون قيل:
عاشر أخا ثقة تحظى بصحبته * فالطبع مكتسب من كل مصحوب
فالريح آخذة مما تمر به * نتنا من النتن أو طيبا من الطيب
فكل مجلد كتاب ولكن قد لا يمكن قراءته لأن مطالعته خطأ بعيد عن جادة
الصواب وحفظه يوجب الضلال ويوهم الخيال.
قال أردشير بن بابك - أيضا -: «وقد يجد ذو المعرفة في نفسه عند معاشرة
السفلة الوضعاء شهرا فساد عقله دهرا» (3).
وكذلك مطالعة الكتب الموضوعة والمؤلفات غير المشروعة قد يكون ضرر
يوم من مطالعتها يدوم اسبوعا وسنة وعمرا ودهرا وقد يبدل العقائد الحقة إلى
عقائد فاسدة.



(1) مروج الذهب 1 / 268.
(2) مروج الذهب 1 / 268.
(3) مروج الذهب 1 / 268.
100
با بدان يار گشت همسر لوط * خاندان نبوتش گم شد
سگ أصحاب كهف روزى چند * پى مردم گرفت و مردم شد (1)
ويجد - الحقير - بالرغم من شوقي الشديد في المطالعة - في نفسي قساوة إذا
نظرت ساعة في كتب المخالفين، وذلك لأنسي بأخبار الأئمة الأطهار (عليهم السلام) والفرار
من أي كلام غير كلامهم.. أرجو الله أن يجعل لساني بذكرهم لهجا وبولايتهم ناطقا
«وعلى ذلك أموت».
نصروا الضلالة من سفاهة رأيهم * ونصرت دين محمد بصواب
چشمم آندم كه زشوق تو نهد سر به لحد * تا دم صبح قيامت نگران خواهد بود
ترتيب فيه ترغيب
اعلم; إن المصادر الحديثية التي يعتمدها علماء العامة تسمى بالصحاح
الستة من قبيل: صحيح البخاري، صحيح الترمذي، صحيح النسائي، صحيح أبي
داود السجستاني، صحيح مسلم، الموطأ لمالك. وألحقوا بهذه الصحاح جملة من
الصحاح الأخرى من قبيل: الجمع بين الصحيحين للحميدي، الجمع بين الصحاح
الستة لرزين بن عبد الله، صحيح الذهبي، صحيح البيهقي، شرح صحيح مسلم
للنووي الشافعي، صحيح ابن ماجة، صحيح الدارمي.
وتحظى هذه الكتب باهتمام أهل السنة والجماعة وتعد مصدرا لأحكامهم.



(1) يقول: لقد عاشرت امرأة لوط قوم السوء، فأضاعت انتماءها إلى بيت النبوة. وعاشر كلب أصحاب
الكهف الناس أياما، فالتحق بهم.
101
وأغلب أحاديث هذه الفرقة وأخبارها من مسند أحمد بن حنبل وهو مقدم
على الصحاح عندهم، ومؤلفه إمام المذهب الحنبلي - أحد المذاهب الأربعة -،
أصله من مرو، توفي سنة 240 ودفن في بغداد في باب الحرب عند رأس أبي
حنيفة، وكان من خاصة أصحاب الشافعي، وكان كلاهما من أصحاب مالك،
وكان - بالرغم من ذلك - يحفظ ثلاثين ألف حديث في مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام)،
وقيل: إنه كان يحفظ ألف ألف حديث، حضر جنازته ثمانمائة ألف من المسلمين
واليهود والنصارى من الرجال والنساء، وروي فيه الكثير من المبالغات والجزاف.
ثم يأتي من بعده إمام المحدثين عندهم محمد بن إسماعيل البخاري، قالوا:
روى عنه سبعون ألف محدث، وألفوا في شرح صحيحه «صحيح البخاري»
شروحا عديدة منها كتاب «منهاج المحدثين» للنووي الشافعي. وروى عنه
الترمذي والنسائي، وكان يدعونه ب‍ «ناصر الأحاديث المصطفوية وناشر
المواريث المحمدية وأمير المؤمنين». وكان مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح
يقول له: «يا طبيب الأحاديث وأستاذ الأساتيذ وسيد المحدثين». كتب صحيحه في
ستة عشر عاما، جمع فيه تسعة آلاف ومائتين حديث، ثلاثة آلاف منها مكررة -
حذفها مسلم فيما بعد -. وكان يقول إنه استخرج ما رواه في كتابه من بين ستمائة ألف
حديث، وإن كتابه هذا حجة بينه وبين ربه.
والبخاري أحد الحفاظ الأربعة عندهم، وهم: مسلم في نيشابور،
والبخاري في بخارا، وأبو زرعة في الري، وعبيد الله بن عبد الله الدارمي في سمرقند.
وكتاب «الموطأ» لمالك بن أنس الأصبحي، رئيس المذهب المالكي، وأول
أئمة أهل الحديث، كتب الموطأ ورتب فيه أبواب الفقه، وحرر أصول الأحكام

102
وطرق أحاديث الحجازيين في الرد والقبول، وكان يرجع إليه أهل الشام ومصر
والكوفة مدة من الزمان.
قيل عنه: إنه كان لا يجلس للحديث إلا متوضأ على سكينة ووقار، وكان
يرى لمجلس الحديث النبوي شأنا خاصا وتكريما وتعظيما خاصين، توفي في المدينة
سنة 179 ودفن في البقيع، وكان أبو حنيفة من تلاميذه.
وقس على ذلك جماعة أخرى من المحدثين وطبقات التابعين، والتابعين
عندهم ممن اهتم اهتماما خاصا واجتهد - ما استطاع - في حفظ الحديث وضبطه
وروايته ونشره، وقد ألفوا في ذلك الكتب، إلا أن هذا النوع من الإهتمام والحفظ
والنشر لا يجدي اطمئنانا ولا يزيد اعتبارا، وذلك لما هو المعروف من أن «حديث
تدريه خير من ألف ترويه» والفهم الطولي سريع الزوال وسريع الإضمحلال
وبعيد عن الإعتبار والوثوق، وعلى حسب التجربة فإن غالب أقوال هؤلاء
الأشخاص الكثيري الحفظ والرواية منسوبة إلى مجاهيل ومراسيل، بل أكاذيب
وأباطيل مشوبة بالأغراض الفاسدة والخيالات الكاسدة.
فمثلا كتبوا عن أحمد بن حنبل أنه كان من ذرية «ذو الثدية» وكان شديد
العداوة لأمير المؤمنين، وكان حائكا، وكان لا يرى جواز لعن يزيد، وغالب ما
يرويه من أخبار يرويها عن الخوارج والنواصب، وهو القائل: «لا يكون الرجل
سنيا حتى يبغض عليا ولو قليلا»، وهو القائل: إن لله سبحانه أعضاء وجوارح،
وهو الذي يرى وجوب الترحم على معاوية، ويرى أن مخالفة ذلك بدعة وضلالة،
ويرى جواز المسح على العمامة، وجواز مسح يد الغير، وهو الذي أمر المعتصم
بضربه وحبسه، وأمر بتفريق الحنابلة، ومنع من قراءة أساطيره والنظر في كتبه،

103
ومع كل هذا فكيف يصح الركون إلى أقوال مثل هذا الرجل الذي شحنته البغضاء
لأمير المؤمنين من رأسه حتى قدميه، وكان لا يروي إلا عن أعداء آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
وكذا هو إمام محدثيهم، حيث روى عن ألف ومائتين من الخوارج
الملعونين، حتى حبسه قاضي بخارا لروايته عن الخوارج الكذابين، والبخاري لم
يرو حديث الغدير على اشتهاره بين الملأ، وكتم حديث الطائر المشوي، وأنكر
نزول آية التطهير في الخمسة الطاهرة، وكتم حديث سد الأبواب الذي رواه
ثلاثون من الصحابة، من بينهم سعد بن أبي وقاص وابن عباس وابن الأرقم
وجابر الأنصاري وحذيفة والخدري ومعاذ وأبو عمرو وأبو رافع وأم سلمة
وبريدة وغيرهم، ورواه بطرق عديدة وأسانيد كثيرة كثيرون من قبيل أبي نعيم في
الحلية، وأبي يعلى في المسند، والخطيب البغدادي في تاريخه، والترمذي في جامعه،
وابن بطة في الإبانة، وأحمد في الفضائل، والطبري في الخصائص، والبيهقي في كتابه،
والخرگوشي في شرف النبوة وغيرهم. وهو الذي نسب الكذب للأنبياء (عليهم السلام)، وقد
ذم محمد بن يوسف الكنجي الشافعي في كتاب «بغية الطالبين في مناقب الخلفاء
الراشدين» في الجزء الثامن البخاري ومسلم أيما ذم. وقد روى جماعة من علماء
أهل السنة القدماء الأخبار الواردة في مناقب أهل البيت (عليهم السلام) وقالوا عنها أنها
صحيحة الإسناد، ولم يروها هذان الشخصان (يعني البخاري ومسلم).
أخرج الترمذي وأبو حاتم وابن حنبل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «علي مني
وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي» (1) وقال في المسند: «هذا صحيح الإسناد على
شرط مسلم ولم يخرجه».



(1) سنن الترمذي 5 / 296 ح 3796، مسند أحمد 4 / 164 و 165.
104
وفي حديث الغدير قالوا: «هذا صحيح الإسناد على شرطهما ولم يخرجاه».
وهذا النوع من الكذب والتحريف معروف عند البخاري ومسلم، ولا يشك
فيه أحد، وقد دأبوا في كتبهم المعتبرة على أن يطعن بعضهم على بعض، ويقدح
ويجرح بعضهم بعضا، ويفضح كل منهم مساوئ ومخازي الآخر، وكل هذه
الفضائح ناشئة من الإعراض عن محبة العترة النبوية، وكتمان فضائلها ومناقبها.
ولو شئت أن أكتب عن تمويهاتهم وأغراضهم الفاسدة ومجانباتهم للإنصاف
في صدر الإسلام، والأبحاث والإشكالات التي أوردها محدثو العامة على الصحاح
الستة وصحاحهم الأخرى وفساد أصولهم وفروعهم لطال بنا المقام، وأخاف أن
يتهرب المخالف من هذا الكتاب فيقتنع بصواب بعض ما فيه ثم لا يقبل الحق ولا
يلتزم الإنصاف وإن كان كذلك فإنه «ليس أول قارورة كسرت في الإسلام»،
ولكني سأكتفي بحديث واحد من أحاديثهم أخرجه الحميدي في الجزء الرابع
والأربعين من الجمع بين الصحيحين. عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه سب اثنين من الصحابة
وقال: إني شرطت على ربي أن يجعل لي أجرا بسب كل مسلم أو لعنه (1).
فإن صح هذا الحديث جاز لكل مسلم أن يدعو لرسول الله بالتوفيق للعن
المسلمين جميعا لينال بكل واحد منهم أجرا، وعلى المسلمين أن يرضوا بسب نبيهم
لأن في ذلك أجر للساب، ولا حرج على لاعن أبدا بمفاد (لقد كان لكم في رسول
الله أسوة حسنة) (2) فيجلب بذلك نفعا، ويكسب أجرا.



(1) ورد في المصادر الحديثية: «إني سألت أيما إنسان من أمتي دعوت الله عليه أن يجعلها له مغفرة» وما يشبه
هذا المعنى.
(2) الأحزاب: 21.
105
وهذا الحديث الموضوع يرفع ويدفع أغلب الإشكالات التي يوردها أهل
السنة على جماعة الشيعة، وعلى هذا فقس الأحاديث الأخرى.
وما أشبه هذه المذاهب بمذهب زردشت، وقد ألفوا سابقا في صدر الإسلام
أمثال كتاب «زند و پازند» واعتقد به خلق كثير (أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم
وأعمى أبصارهم) (1).
علومكم وإن كثرت هباء * بلا فصل وفضلكم فضول
ودينكم القياس فهل بهذا * متى أنصفتم تقضي العقول
فلا تغرك كثرة العامة وكثرة كتبهم وحفاظهم ومحدثيهم فتضطرب، فإن
أغلب الآيات وردت في ذم الكثرة ومدح القلة، وأغلب الأحاديث تجعل طعن
الناس بعضهم على بعض وقدحهم ونقضهم على بعضهم البعض دليلا على بطلان
قولهم وفساد عملهم، وأنت تراهم غالبا يخرجون في تدينهم عن جادة الإيمان وعن
الشريعة المطهرة ولا يتمسكوا بالجادة الوسطى في الإسلام.
قال النسائي: أربعة كانوا يضعون الحديث: ابن أبي يحيى في بغداد،
والواقدي في خراسان، ومقاتل في الشام، وابن سعيد في الحجاز.
وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «قد كثرت علي الكذابة [وستكثر] فمن كذب علي متعمدا
فليتبوأ مقعده من النار» (2).
فلا بد إذن من سلوك الطريق الذي سلكه أبناء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والانضمام



(1) محمد: 23.
(2) البحار 2 / 225 ح 2. قال العلامة المجلسي (رحمه الله): «وهذا الخبر على تقديري صدقه وكذبه يدل على وقوع
الكذب عليه (صلى الله عليه وآله وسلم)» وذلك لأنه إن كان صادقا فهو يثبت الكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن كان كاذبا
فالخبر بنفس كذب عليه.
106
إلى الجماعة التي يكون فيها أبناؤه المعصومين (عليهم السلام)، وكما قال جدهم عنهم: فإنهم
الحماة والذادة عن الكذب والاستحسانات والقياس والعمل بالرأي والاجتهاد في
مقابل النص، وإن حركاتهم وسكناتهم وأفعالهم وأقوالهم جميعا مستمدة من نبي
آخر الزمان دونما زيادة أو نقصان، وإن أعمالهم في الأحكام ومعالم الإسلام كلها
منزلة عن طريق جبرئيل من السماء، وإن نظرهم واهتمامهم في الإتباع وأخذهم
الأمر والنهي عائد بأجمعه إلى القرآن المجيد.
ونشكر الله على أن هذه الفرقة الناجية على قلة العدد تتمسك بأهل البيت
وستبقى تلازمهم، وإنهم لا يسمون أنفسهم شيعة إلا إذا والوا من والى آل البيت
وعادوا من عاداهم، وإنهم يعتقدون أن «الشيعي لا يكون شيعيا إلا أن يبغض
الجبت والطاغوت، لأن حب آل الرسول وزوج البتول فرض الله ورسوله علينا،
وكذلك فرض من الله ورسوله علينا أن نبغض الجبت والطاغوت وأن نعادي من
عادى هؤلاء من أتباعهم وأشياعهم، وهذه البراءة صدرت من الولاية الصادرة
من الله تعالى ومن أولياء الحق وأئمة الدين الذين بأمر الله ورسوله يعملون ولا
يعدلون.
وهم حجج الإله على البرايا * بهم وبجدهم لا يستراب (1)
وفي المثل السائر «وعند جهينة الخبر اليقين» (2).



(1) المناقب لابن شهر آشوب 4 / 301.
(2) قال أبو هلال العسكري في كتاب جمهرة الأمثال 2 / 44 في المثل رقم 1194: يضرب مثلا لمعرفة الخبر
والسؤال عنه. وفيه «جفينة» بدل «جهينة» قال: كان أصل هذا المثل أن بطنا من قضاعة يقال لهم بنو
سلامان كانوا حلفاء لبني صرمة وكانوا نزولا فيهم، وكان بطن من جهينة آخر يقال لهم بنو حميس حلفاء
لبني سهم بن مرة، وكانوا نزولا فيهم، وكان في بني صرمة يهودي تاجر من أهل تيماء يقال له: جفينة بن
أبي حمل، وكان في بني سهم بن مرة يهودي آخر يقال له: عمير بن حنى، وكانا تاجرين في الخمر، وكان
بنو جوشن جيرانا لبني صرمة ففقد منهم رجل يقال له «حصين»، وكان أخوه يسأل عنه الناس فشرب
يوما في بيت عمير بن حنى، فقال عمير:
يسائل عن حصين كل ركب * وعند جفينة الخبر اليقين
فحفظ أخوه ذلك، فأتاه من الغد فقال: نشدتك بدينك هل تعلم من أخي خبرا؟ فقال لا. ثم قال:
لعمرك من ضلت ضلال ابن جوشن * حصاة بليل ألقيت وسط جندل
فتركه فلما أمسى جاء فقتله وقال:
طعنت وقد كان الظلام يجنني * عمير بن حنى في جوار بني سهم
فقيل لحصين بن حمام وهو من بني سهم: قد قتل جارك، قتله ابن جوشن جار لبني صرمة فقال: إن لهم
جارا يهوديا فاقتلوه، فأتوا إلى أبي حمل فقتلوه... فقال لهم حصين: مكنا من جيرانكم مثل ما قتلتم من
جيراننا، فمروا جيراننا وجيرانكم فليرحلوا عنا، فأبوا فاقتتلوا وذلك يوم ودارة موضوع فقال الحصين
بن همام فيها:
فيا أخوينا من أبينا وأمنا * ذروا موليينا من قضاعة يذهبا
107
ومع كل ما مر فإني قرأت ما عند هذه الفرقة في مناقب أم الأئمة البررة
وارتفاع مقامها وعلو مراتبها، واستقصيته استقصاءا سليما جيدا - وحصلته عينا
ونقلا - واستشهدت به في ذيل كل خصيصة حسب المناسبة، وبينت ما يحتاج إليه
من بيان، فيكون ما كتبوه ورووه حجة عليهم يوم القيامة لا على غيرهم من
الغافلين.
في الوضع والوضاعين
لقد كان أئمة المذاهب الأربعة وتلاميذهم من المقربين جدا لدى خلفاء
الجور، وكان خلفاء بني العباس يقربونهم ويحمونهم لحاجتهم إليهم وللحاظات

108
أخرى خاصة، بينما كان الحق وأولياء الحق يتسترون بأستار الخفاء، فكان لدولة
الباطل صورة خاصة، وكان فن الرواية والتحديث ممدوحا ومرغوبا في ذلك
الزمان، وكان أغلب علماء العامة في ذلك العصر قد جوزوا وضع الحديث على
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
قال الغزالي: «أجاز أبو حنيفة وضع الحديث على وفق رأيه».
وقال ابن وكيع: «كان سفيان الثوري يضع الحديث لبني مروان».
وكان ابن سيرين لا يتحرج من لعن أمير المؤمنين ويقول: لا أطيق سماع لعن
الحجاج!!
وهؤلاء كانوا رواة حديثهم، ولهذا كانوا ينبرون جهارا وصراحة لمعارضة
أولياء الحق إرضاءا لميول خلفاء الجور، ويضعون لهم ما يشتهون من الحديث
عامدين عالمين، ويستشهدون له بأشباههم وأذنابهم من أهل الهوى وطلاب
الدنيا، فيصدقهم هؤلاء إرضاءا للحكام وطمعا في المال، فيماشونهم ظاهرا وباطنا.
ومن ذا الذي يعارض بني العباس وهم أصحاب الحكم العريض والملك
الواسع؟ ومن الذي يخالفهم أو يتفوه بكلمة لا ترضيهم، أو يتكلم بما لا يشتهون؟!
ولقد عاش الأئمة المعصومون في عصر بيعة الخلفاء وفي بحبوحة شيوع
التقية، فلم يجرؤ أحد على بيان فضيلة من فضائلهم أو رواية منقبة من مناقبهم،
كيف وهم يعيشون في دولة بني العباس العظيمة التي قامت على أنقاض سلطان بني
أمية القوي، والجميع يعرف موقف بني العباس من أهل البيت (عليهم السلام).

109
الخلاصة
إن كثرة حفظ هؤلاء الأشخاص للحديث لا يعني صحة أسانيده ونسبته
لمقام الرسالة، ويدل على بطلان أخبارهم وضعفها اختلاط خيالات الأصحاب
واختلاف آرائهم وتضاربهم في زمان معاوية.
وقد ذكر المرحوم علي بن محمد بن يونس البياضي المعاصر للشهيد الثاني في
أول كتاب «الصراط المستقيم» هذه الأبيات في الطعن على المخالفين وكتبهم:
لولا التنافس في الدنيا لما قرئت * كتب الخلاف ولا المغني ولا العهد
موتى الخواطر يفنون الدجى سهرا * يمارسون قياسا ليس يطرد
يحللون بزعم منهم عقدا * وبالذي حللوه زادت العقد
نعوذ بالله من قوم إذا غضبوا * فاه الضلال وإن حاققتهم حقدوا (1)



(1) الصراط المستقيم: 12، مقدمة الكتاب.
110
ثلاثون خصيصة
من خصائص فاطمة الزهراء (عليها السلام)
ثلاثون خصيصة قبل ولادة المستورة الكبرى
فاطمة الزهراء صلوات الله عليها في
الكنية، اللقب، الاسم، وخلقتها النورية
? خصيصتان في الكنية
? وعشرون خصيصة في الألقاب الشريفة
? وثلاث خصائص في اسمها الشريف
? وخمس خصائص في خلقة نور شمس ظهورها
أما الخصيصة الأولى:

111
الخصيصة الأولى
في معنى «الكنية» وعموم كنى تلك المخدرة
إعلم; أن الكنية من «الكناية» (1)، والكنية تقوم مقام الاسم فيعرف صاحبها
بها كما يعرف باسمه، والكنية من مفاخر العرب وعاداتهم، ولم تكن معروفة عند
غيرهم من الأمم، وهم يستعملونها توقيرا وتعظيما وتكريما للمكنى، ثم صارت
متداولة عند العجم، حيث صاروا يكنون بعبارات وإشارات خاصة عندهم، بل
إن العرب يفضلون الكنية على اللقب.
قال الشاعر:
أكنيه حين أناديه لأكرمه * ولا ألقبه واسوءة اللقبا
كذاك أدبت حتى صار من خلقي * إني وجدت ملاك الشيمة الأدبا
وظاهر معنى البيتين أن الكنية ممدوحة واللقب مقدوح.
وروي عن أمير المؤمنين: «إن الأطفال كانوا يكنون منذ الولادة في صدر
الإسلام (2).



(1) قال الفيروزآبادي في القاموس: كنى به كذا يكنى ويكنو كناية تكلم بما يستدل به عليه أو تتكلم بشئ
وأنت تريد غيره أو بلفظ يجاذبه جانبا حقيقة ومجاز وكنى زيدا أبا عمرو ويكنى به كنية بالكسر والضم
سماه به كأكناه وكناه وأبو فلان: كنيته وكنوته ويكسران وهو كنيته أي كنيته كنيته وتكنى بالضم امرأة.
(2) انظر البحار 43 / 195 ح 23 باب 7.
112
وقال العلامة المجلسي: الكنية للمولود في المهد علامة الشرف، بل هي
مستحبة.
وفي الحديث المعتبر: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كنى سيد الشهداء (عليه السلام) يوم ولادته
بأبي عبد الله (1).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام):
نحن الكرام [بنو الكرا * م] على وطفلنا في المهد يكنى
إنا إذا قعد اللئا * م على بساط العز قمنا (2)
ومنه يعرف ما ذهب إليه العلامة المجلسي وما هو المشهور.
وعرفوا الكنية بأنه ما كان مصدرا بأب وأم وابن، مثل «أبو الحسن، وأم
كلثوم، وابن عباس، وابن الحاجب» بل ما كان مصدرا ب‍ «بنت» أيضا مثل «بنت
العنب، وبنت الكرم» وغيرها.
وكان العرب يكنون الرجل باسم ابنته توهينا له، فيقال «أبو كريمة وأبو
رقية وأبو عائشة وأبو أمامة وأبو أسامة» وكان يكنى عثمان ب‍ «أبي ليلى» وكذا
معاوية بن يزيد بن معاوية، وكان المخالفون يكنون أمير المؤمنين (عليه السلام) ب‍ «أبي
زينب».
وقد يكنون بلحاظ وصف شائع، مثل «أبو اليقظان» كنية الديك بلحاظ
إستيقاظه، ومثل «أبو وذحة» كنية الحجاج بن يوسف الثقفي، والوذحة الخنفساء -



(1) المشهور أن كنيته «أبو عبد الله»، ولم أعثر على تكنية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) له، انظر: مطالب السؤول 70
والفصول المهمة 170 ف 3.
(2) ديوان الإمام علي (جمع حسين الأعلمي): 146.
113
ولهذه الكنية قصة - وكني يزيد بن معاوية ب‍ «أبي زنه» وزنه اسم قرد.
ومن أقبح كنى العرب: أبو الحمراء وأبو النتن وأبو البعرة وأبو لهب كني بذلك
لحمرة شديدة في وجهه.
قال أحد المفسرين في تفسير قوله تعالى (فقولا له قولا لينا) (1): المراد من
القول اللين مخاطبة فرعون بالكنية (2).
وخاطب موسى (عليه السلام) البحر قائلا «يا أبا خالد انفلق» (3)، ودعيت الحمى
ب‍ «أم ملدم» (4) وفي ذلك أسرار.
وقد وضع العرب للحيوانات كنى تجدها كثيرا في «حياة الحيوان»;
والخلاصة:
يجب تعظيم الأسرة المحترمة وإكرام الآل العظماء وذوي البيوتات، ومن
أقسام الإحترام والتكريم الشائعة الدعوة بالكنية.
وقد تسقط كلمة الأب بمقتضى الحال ومتطلبات المقام ويكتفى بذكر الاسم
فقط دون سبقه «بأب» أو «أم»، كما قال عبد المطلب (عليه السلام):



(1) طه: 44.
(2) قال الطبرسي في مجمع البيان 7 / 23 في تفسير الآية الكريمة:.. «وقيل: معناه كنياه عن السدي وعكرمة
وكنيته أبو الوليد وقيل: أبو العباس وقيل: أبو مرة...».
(3) روى العلامة المجلسي في البحار 13 / 153 في حديث طويل: «... فأوحى الله سبحانه إلى موسى: (أن
اضرب بعصاك البحر) فضرب فلم يطعه فأوحى الله إليه: أن كنه فضرب موسى بعصاه ثانيا وقال:
انفلق أبا خالد (وهي كنية للبحر) فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم...».
(4) قال الفيروزآبادي في القاموس: أم ملدم: الحمى. وقال ابن منظور في لسان العرب 12 / 265 مادة
«لدم»: أم ملدم: كنية الحمى والعرب تقول: قالت الحمى: أنا أم ملدم آكل اللحم وأمص الدم...
114
وصيت من كنيته بطالب * عبد مناف وهو ذو تجارب (1)
والمراد من «طالب» «أبي طالب» واسمه «عبد مناف» وهو من الأعلام
المشتركة.
وروي نظير ذلك في حق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المكنى بقاسم يعني «أبو القاسم»،
ونظيره ما ورد في كتاب الغيبة في حق إمام العصر - أرواحنا له الفداء - حيث روي
أنه كني بجعفر والمراد «أبو جعفر». وكنى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين (عليه السلام) -
بمقتضى الحال لا الماضي ولا الاستقبال - لما رآه نائما على التراب ب‍ «أبي تراب»
وقال: «قم يا أبا تراب» (2)، وكانت أحب الكنى إليه (عليه السلام)، وكان يفتخر بها. ولنعم ما
قاله الصاحب بن عباد:
أنا وجميع من فوق التراب * فداء تراب نعل أبي تراب (3)
كنى سيدة النساء (عليها السلام)
بعد هذه المقدمة الموجزة ومعرفة معنى الكنية وأقسام استعمالها ووضعها،
على القراء أن يعلموا أن للصديقة الطاهرة صلوات الله عليها عدة كنى، بعضها في
كتب الأخبار مذكور مشهور، وبعضها مخفي غير مشهور، وبعضها قد يتحد مع
بعض في المعنى وإن اختلفت لفظا ومادة. ومنها:



(1) البحار 35 / 85 ح 29 باب 3 عن المناقب: 1 / 62 في منشأ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهما بيتان:
وصيت من كنيته بطالب * عبد مناف وهو ذو تجارب
بابن الحبيب أكرم الأقارب * بابن الذي قد غاب غير آيب
(2) انظر البحار 43 / 202 ح 31 باب 7.
(3) روضة الواعظين 1 / 131.
115
أم أسماء
وهي كنية قليلة الاستعمال بين أهل الحديث، إلا أن المرحوم المجلسي روى
عن كتاب معرفة الصحابة: «... و [كانت] فيما [قيل] تكنى أم أسماء» (1). ويستفاد
منه أنها كانت تكنى بذلك أوائل أيام ولادتها وقبل الهجرة.
وكان عرب الجاهلية يكنون أبناءهم وبناتهم بأحسن الكنى تفألا بالخير،
فلعلهم يرزقون من بعد ولدا أو بنتا فيسمونهم ب‍ «أسماء» خاصة، كما صدق هذا
التفأل في حق سيد الشهداء حيث رزق ولدا سماه «عبد الله». ولعل هذه الكنية
أطلقت على فاطمة الزهراء (عليها السلام) تفائلا لترزق بنتا تسميها «أسماء»، وهي في نفس
الوقت تشريف وإكرام، ومر أن التكنية إكرام للمولود.
ويحتمل أنها كنيت بهذه الكنية باعتبار أن الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) هم أسماء الله
الحسنى كما قالوا «نحن أسماء الله الحسنى» (2) وإن تلك المستورة الكبرى والدتهم،
فلذا قيل لها «أم الأسماء» بالألف واللام أو بدونها، وهذا الإحتمال وإن كان يبدو
خلاف الظاهر، إلا أنه لا يضر باطنا.
وهذه الكنية لم تشتهر - إذا قيست إلى كناها الأخرى - وذلك لقلة المدح
وضعف الوصف الذي تتضمنه، إلا أن نذهب إلى المعنى المعنوي الذي ذكرناه لها،
فتوصف بالوصف الكامل وتنال نهاية التعظيم وكمال التكريم.



(1) البحار 43 / 8 ح 12 باب 1.
(2) البحار 25 / 4 ح 7 باب 1 والبحار 27 / 37 ح 5 باب 14.
116
أم الهناء
ومنها! أم الهناء. وهي كنية غير مشهورة ولا أستحضر مصدرها من
الروايات المعتبرة إلا ما قاله المرحوم الشيخ الحر العاملي في منظومته:
وقد رووا كنيتها أم الهناء * أم الأئمة الهداة الأمناء
أم الحسين المجتبى أم الحسن * فاسمع إلى جمع ومقداد حسن
والهناء: بفتح الهاء والنون من الهنى والعيش الهنيء والحياة الطيبة الهنيئة،
ومنه التهنأة بالأعياد والمسرات والأفراح، ومنه ما يقال لمن شرب الماء:
«هنيئا» (1)، ومنه حديث نزول القدح وشرب الخمسة الطيبة (عليهم السلام) منه، ومنه ما
يذكر كثيرا في كتب المناقب من خطاب الله سبحانه «هنيئا مريئا لك يا علي بن أبي
طالب» (2)، وهو من قوله تعالى (فكلوه هنيئا مريئا) (3) (4)، وهو كل أمر لم تكن
فيه مشقة يقال له «هنيء» ومنه «هناني الطعام» و «لك المهنا» (5).
وهذه الكنية أطلقت على الزهراء (عليها السلام) تفألا ليكون عيشها هنيئا، وقد تكون
هناك معان أخرى ملحوظة لا تبعد عن الذوق السائد آنذاك. ولما كانت هذه
الكنية من مختصات الزهراء وملحوظا فيها شؤوناتها الذاتية وملكاتها القدسية



(1) لسان العرب «هنأ».
(2) البحار 43 / 311 ح 73 باب 12 وسيأتي الحديث بطوله في الخصيصة:
(3) النساء: 4.
(4) قال صاحب مجمع البيان 3 / 12: «هنيئا» مأخوذ من هنأت البعير بالقطران، فالهنيء شفاء من المرض
كما أن الهناء الذي هو القطران شفاء من الجرب.. يقال: منه هنأني الطعام ومرأني، أي صار لي دواء
وعلاجا شافيا...
(5) قال الفيروزآبادي في القاموس 54: الهنيء والمهنأ: ما أتاك بلا مشقة.
117
صلوات الله عليها، لذا يمكن استنباط معان حقة واستخراج مرادات صحيحة لا
تضر الصورة الظاهرية والاستعمال الأولى لهذه الكنية.
وبعبارة أخرى، فإن هذه الكنية لم تزد فاطمة الزهراء (عليها السلام) شرفا، بل
تشرفت بها، وقد زانت فاطمة الكنية ولم تزنها; لأن فاطمة الزهراء (عليها السلام) هي
بنفسها العيشة الراضية المرضية في الدنيا والآخرة، بل هي منشأ الهناء ومصدره،
وكان أمير المؤمنين - بعلها - يشكر الله على هذه النعمة الموهوبة في دار الدنيا، حيث
عاشا في غاية التلاؤم والانسجام، ونالا غاية الكمال من اللذائد الروحانية
والحظوظ المعنوية الربانية التي كانا يتمتعان بها.
على أي حال; فهي أم الهناء باعتبارها الأصل الأصيل والمصدر النبيل
للهناء بغض النظر عن الآخرين، بل بالنظر إلى ذاتها فقط.
وهي أم الهنا لأبيها، إذ أن الحظ الأوفر والنفع الأكبر للإنسان في دار الدنيا
إنما هو الولد الصالح، وكانت له ابنته الطيبة، وقد قال لها النبي: «لك حلاوة
الولد» (1)، «قولي يا أبة» (2) فإني أفتخر بها و «إنها أحيى للقلب وأرضى للرب» (3)
ويشهد لذلك تقبيل النبي لها وشمها شما خاصا ينتعش به، ويجدد الروح في شامته
الطاهرة والباطنة، فما كان يراه ويذوقه ويناله من ابنته لم ينله من المأكولات



(1) المناقب لابن شهر آشوب 3 / 379 في حب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إياها (عليها السلام).
(2) المناقب لابن شهر آشوب 3 / 367 في مناقب فاطمة (عليها السلام) وفيه عن الصادق (عليه السلام): قالت فاطمة: لما
نزلت (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا) [النور: 63] هبت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن
أقول له يا أبة فكنت أقوله: يا رسول الله، فأعرض عني مرة واثنتين أو ثلاثا ثم أقبل علي فقال: «يا
فاطمة إنها لم تنزل فيك ولا في أهلك ولا في نسلك، أنت مني وأنا منك، إنما نزلت في أهل الجفاء والغلظة
من قريش أصحاب البذخ والكبر; قولي يا أبة فإنها أحيا للقلب وأرضى للرب».
(3) انظر الهامش السابق.
118
والمشروبات الجسمانية، بل حتى من الأغذية والأطعمة الروحانية، ولذا كناها
ب‍ «أم الهناء».
وهي أم الهناء لزوجها أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث قال (عليه السلام): ما رأيت من فاطمة (عليها السلام)
مكروها وما أغضبتني قط.
وكل ما تراه من مفاسد بين الرجال والنساء إنما ينشأ من التباين والاختلاف
فيما بينهما، أما لو توافقا فما أحلى الحياة وأهنأها; في الفقر والغنى، وسيأتي الحديث
«لولا علي لما كان لفاطمة كفؤ» (1) وهذا الحديث شاهد على المقصود.
ومنها:
أم العلوم:
وهذه الكنية تحكي كثرة علومها (عليها السلام)، ولا شك أن استفاضة العلوم إنما تقصد
لمعرفة الحضرة الربوبية والتوصل إلى ذلة العبودية، وهما أمران توفرت عليها آية
الله العظمى فاطمة الزهراء (عليها السلام) في حد الكمال (2).
وهذه الكنية تدل على أن تلك المخدرة لها إحاطة كاملة وتبحرا تاما في جميع
العلوم النقلية والعقلية، وهذه الإحاطة خاصة بها دون نساء العالمين جميعا، وليس
في النساء امرأة نالت هذا الشرف لا سابقا ولا لاحقا إلا فاطمة، وقد اغترف
الجميع من منبع علومها ومعين معارفها الحقة.
والمعنى الآكد والأشد من هذا المعنى - كما ذكرنا ذلك في أم الأسماء وأم الهناء -



(1) انظر البحار 43 / 58 ح 50 باب 3.
(2) وقد تكلمت عن علمها (عليها السلام) في خصيصة مستقلة في هذا الكتاب، حيث أني وجدت أن علومها الحقة
مهجورة في هذا الزمان وليس لها ذكر وعنوان في كتب المناقب، ولهذا أفردت لها بحثا وذكرت فيه ما
يناسبه من أخبار. (من المتن)
119
أنها من قبيل «زيد عدل» فهي عين العلم، يتفجر العلم من جوانبها من رأسها حتى
قدميها، كما ورد في وصف أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث ضرار «يتفجر العلم من
جوانبه» (1)، وقال (عليه السلام) في الخطبة الشقشقية: «ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي
الطير» (2) إشارة إلى الإحاطة الكلية بتمام العلوم - وسيأتي شرح معنى كلمة «أم» في
الكلام عن «أم أبيها» إن شاء الله -.
وقد ذكر صاحب كتاب «جنات الخلود» هذه الكنية ضمن كناها (عليها السلام).
ويكفي في هذا المقام ذكر حديث «عيون المعجزات» وفيه أنها قالت (عليها السلام)
لأمير المؤمنين (عليه السلام): «ولو أردت حدثتك عن علوم الأولين والآخرين» (3)... الخ.
أم الفضائل
ومنها: ما ورد في الكتاب المذكور (4) أنها كنيت ب‍ «أم الفضائل» وهي أعم
من الكنية السابقة، حيث أن العلم والمعرفة أحد الفضائل النفسانية لفاطمة
الطاهرة المرضية. وأما فضائلها وفواضلها الأخرى فلا يحصيها محص ولا يعدها
عاد.
والفضائل جمع فضيلة وضدها النقيصة (5)، وقال تعالى: (وفضل الله



(1) ينابيع المودة 2 / 188 ح 548 باب 56 عن ذخائر العقبى: 100.
(2) نهج البلاغة 48 خ 3.
(3) سيأتي الحديث مفصلا إن شاء الله.
(4) يعني كتاب «جنات الخلود».
(5) قال الفيروزآبادي في القاموس «مادة الفضل»: الفضل ضد النقص... والفضيلة: الدرجة الرفيعة في
الفضل.
120
المجاهدين على القاعدين) (1) وقال تعالى: (يتفضل عليكم) (2) ويقال: «امرأة
مفضالة على قومها إذا كانت لها فضائل زائدة».
وفضائلها (عليها السلام) نوعان: ذاتية وخارجية.
أما الخارجية، فمثل الأصالة وشرف النسب، فهي بنت الخاتم، سلطان
العالم، وفخر أولاد آدم، وأمها خديجة الطاهرة سيدة النسوان، وزوجها
أمير المؤمنين قطب عالم الإمكان، وأولادها الطاهرين الأئمة المعصومين - صلوات
الله عليهم أجمعين -.
أضف إلى ذلك كيفية انعقاد نطفتها الزكية في رحم خديجة، وولادتها في
الإسلام وتزويجها - برواية الفريقين - في السماء، وخصائصها ومزاياها التي ستذكر
فيما بعد، التي ستدخل السرور على قلوب القراء وتنعش أرواحهم وتقر عيونهم.
وأما الفضائل الذاتية للذات الملكوتية الصفات لمرآة الآيات الربانية فاطمة
المطهرة الزكية، فهي - كما ذكرنا - لا يمكن أن تدخل حيز الإحصاء والإستقصاء.
«فحسر عن إدراكها إنسان كل عارف، وقصر عن وصفها وإحصائها لسان
كل محص وواصف، والكل بضروب فضائلها معترفون، وعلى باب كعبة فواضلها
معتكفون، وخصها الله من وظائف فضله وشرائف نبله بأكمل ما أعده لغيرها من
ذوي النفوس القدسية والأعراق الزكية والأخلاق الرضية والحكم الإلهية، وسطع
صبح النبوة بطلعتها الحميدة وغرتها الرشيدة، فلها الكمالات الإنسانية وملكات
الفضائل النفسانية، كأن طينتها قد عجنت بماء الحياة وعين الفضل في حظيرة



(1) النساء: 95.
(2) المؤمنون: 24.
121
القدس، فهي نور الحق وحقيقة الصدق وآية العدل، فتعالى مجدها وتوالى
إحسانها».
وأعظم الفضائل النفسانية لحضرة الزهراء المرضية والحوراء الإنسية: العفة
والعصمة والمعارف الحقة والحقائق النظرية التي بلغت الكمال فيها بالملكة التامة،
وقد قام الإجماع على أنها كانت الكلمة الرحمانية الكلية الجامعة «وفضلها على
غيرها كفضل الشمس على النجوم، والبحر على الغدران».
أم الكتاب
ومنها: أم الكتاب: وقد ذكر هذه الكنية الكريمة المحدثون في كتبهم، وهي
عند المفسرين السنة والشيعة من الأسماء المباركة لسورة الفاتحة; والوجه في
تسمية الفاتحة بذلك لأنها أصل القرآن، بل هي أصل جميع الكتب السماوية. وقال
البيضاوي (1) إنها تتضمن التوحيد والمبدأ والمعاد والقضاء والقدر والنبوات والثناء
والاشتغال بالخدمة والطاعة وطلب المكاشفات والمشاهدات.
أو أنها سميت بأم الكتاب لأن هذه السورة هي أشرف السور القرآنية، كما
سميت مكة «أم القرى» لأنها أشرف البلدان، وكلا المعنيين يصدقان في حق
الصديقة الطاهرة - سلام الله عليها - حيث أنها أفضل وأشرف كل من سواها،
وأنها جامعة شاملة لكل العلوم والمعارف.
وقيل في معنى «أم القرآن» أن القرآن يعدل كل شئ ولا شئ يعدله قط،
وكذا هي فاطمة الزهراء (عليها السلام) حيث أنها جوهرة يتيمة فريدة لا ند لها ولا نظير في



(1) انظر تفسير البيضاوي 1 / 7 و 8.
122
سلسلة النساء ذوات الشأن الرفيع والمقام العالي البديع، فهي عديلة الكل ولا
يعدلها أحد.
وسميت هذه السورة «الأساس»، إما لأنها أول سورة في القرآن، أو أنها
مشتملة على الطاعات والعبادات. وفي الحديث «أساس القرآن فاتحة الكتاب
وأساس الفاتحة بسم الله الرحمن الرحيم» (1) فإن أصابتك علة إقرء أساس القرآن
لتشفى بإذن الله. وفاطمة الزهراء (عليها السلام) أساس الدين وبنيان الإيمان وصدف الدرر
الشعشعانية الإلهية، وبولاءها تشفى الأمراض الباطنية والأوجاع الظاهرية،
وتحت أمرها «أم ملدم» - وفيها معظم الأوجاع - وخبرها معروف في باب الأذكار
والأدعية الخاصة بفاطمة الزهراء (عليها السلام) (2).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): والذي نفس محمد بيده ما أنزل الله في التوراة ولا في
الإنجيل ولا في الزبور سورة مثلها (يعني الفاتحة) وهي السبع المثاني والقرآن
العظيم (3).
وفي حديث أخرجه الشيخ أبو الفتوح الرازي في تفسيره: «نزل من السماء
مائة وأربعة كتب جمعت كلها في أربعة: التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، وجمعت
الأربعة في المفصل، وجمع ما في المفصل في الفاتحة، فمن قرأها فكأنما قرأ مائة
وأربعة كتب (4).
أقول: أيم رب العالمين ورسوله الأمين ما جاءت ولم تأت أمة بمثل فاطمة
الزهراء (عليها السلام).



(1) مجمع البيان 1 / 47.
(2) بحار الأنوار 43 / 67 و 68.
(3) مجمع البيان 1 / 48.
(4) انظر تفسير أبي الفتوح 1 / 23.
123
اختصاص فاطمة بهذه الكنية
وفي هذه الكنية شرف أثيل وامتياز نبيل لتلك المخدرة الكبرى، لأنها اسم
من أسماء هذه السورة الشريفة، وكان للقرآن احترام خاص منذ فجر الإسلام، ولم
أجد في كتب التاريخ والسير امرأة تسمت بهذه الكنية الشريفة، أو ادعت أنها تليق
بها احتراما للقرآن وإعظاما لهذا الاسم، فلم يجرؤ عليها أحد، ولم تتجاسر امرأة
على انتحالها، ولعل الله، صرف قلوبهن عنها لتبقى خاصة بموردها الحقيقي،
وتصدق على مصداقها الواقعي.
قال الله تعالى: (وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) (1) والمنصف البصير
يذعن لتأويلها بأمير المؤمنين (عليه السلام) وفاطمة الزهراء (عليها السلام) (2)، ويستنبط وجوه العلاقة
والارتباط فيها بأدنى تأمل وإمعان.
أما إذا كان المراد بأم الكتاب «اللوح المحفوظ» (3) فإن الترابط والعلاقة تبقى
واضحة بالمقصود، ولا إشكال في ذلك، وآيات القرآن كلها نزلت في أهل
البيت (عليهم السلام) وأولت في شأنهم حسب ما ورد في الأحاديث كما سيأتي فلا يبعد إذن
أن تكون حقيقة فاتحة الكتاب وأم الكتاب هي فاطمة الزهراء (عليها السلام).
* * *
ولا يخفى أن سائر كناها الأخرى تعود إلى أحد أبناءها أو إلى ابنيها الإمام



(1) الزخرف: 4.
(2) انظر تفسير البرهان 7 / 106 ح 1 وما بعده.
(3) قال الفيروزآبادي في القاموس 971:... «وأم الكتاب: أصله أو اللوح المحفوظ...».
124
الحسن والإمام الحسين (عليهما السلام) معا، من قبيل «أم المحسن» و «أم الحسن» و «أم
الحسين» و «أم السبطين» و «أم الريحانتين» و «أم الخيرة» و «أم البررة» و «أم
الأزهار» و «أم الأخيار» و «أم النجباء» و «أم الأئمة المعصومين» و «أم النجباء»،
ووجه استعمالها جميعا وتناسبها مع الخارج في غاية الوضوح، وهي مستعملة
شائعة ذائعة، وقد تداول استعمالها في الزيارات والأدعية وفي السنة الشيعة الاثني
عشرية.
قال العلامة المجلسي طاب ثراه: «يمكن خطابهم بالأوصاف والألقاب التي
يخاطبهم بها المحبون في مقام الإكرام والتعظيم إلا أن تكون مخالفة للنصوص الخاصة
الواردة عنهم، كأن يدعو فاطمة الزهراء (عليها السلام) في الزيارة أو في مقام المدح والثناء
ب‍ «أم الأبرار» و «أم الأطهار» و «أم المطهرين» و «أم النجباء» أو «أم الأنوار» كل
ذلك جائز لا منافاة فيه. وبناءا على ذلك يمكن أن تصاغ بالإضافة إلى الكنى
المذكورة آلاف الكنى، حيث تصب أوصافها الخاصة بها في قالب الكنية وتستعمل
في مقام الخطاب.

125
الخصيصة الثانية (من الخصائص الثلاثين)
في معنى كنيتها «أم أبيها»
إعلم; أن من الكنى الخاصة المأثورة لآية الله العظمى، والعصمة الكبرى
فاطمة الزهراء صلوات الله عليها: «أم أبيها».
ففي مقاتل الطالبين عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: «إن فاطمة تكنى بأم أبيها» (1).
وفي كشف الغمة «إن النبي كان يحبها ويكنيها بأم أبيها» (2).
وفي هذا اللفظ أمران: أحدهما: حب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لفاطمة (عليها السلام)، والآخر
تسميتها بأم أبيها حبا لها. وصاحب الطبع اللطيف والذوق المنيف إذا أمعن النظر في
العبارة علم أن إطلاق هذه الكنية على المخدرة الكبرى بعد قوله «يحبها» فيه دلالة
واضحة على شدة الحب وكثرة الود.
وقد اختلف العلماء في معنى هذه الكنية العظيمة، وذهبوا فيها إلى مذهب
تشعبت فيها آراء الفضلاء الصائبة، وتفرقت أنظار العلماء المستطابة، وكنت مطالبا
منذ أمد بالحديث عنها وتوثيق ورودها في الأخبار المسندة لذا قدمت ذكر السند



(1) مقاتل الطالبيين 57 ترجمة الإمام الحسن بن علي (عليه السلام)، عنه البحار 43 / 19 ح 19 باب 2.
(2) كشف الغمة 2 / 88. قال: «... كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعظم شأنها ويرفع مكانها، كان يكنيها بأم أبيها،
ويحلها من محبته محلا لا يقاربها فيه أحدا ولا يوازيها...».
126
كما ذكره المجلسي (رحمه الله) وزيادة، وها أنا ذا مجد مجتهد في بيان معناها وتوضيحها
للأفهام ورفع ما حصل من الإبهام في فهمها مستمدا المدد الوافي من البواطن
الشريفة لتلك العصمة الكبرى فأقول:
أولا: كيف تكون فاطمة أم أبيها؟
ومن الواضح أن المراد من هذا اللفظ هو الاستعمال المجازي وليس المعنى
الحقيقي، وعليه كيف نجد المعنى المجازي المناسب دون التورط بمعارض؟
ثانيا: «أم» لغة بمعنى القصد (1)، كما في «اللهم»، قال تعالى: (ولا آمين البيت
الحرام) (2) ويقال «أم فلان فلانا» أي قصده، وبالفارسية «أم» بضم الهمزة أصل
كل شئ وجمعه امات وأصل «أم» «أمهة» وجمعه «أمهات»، وتستعمل غالبا
«أمهات» للإنسان و «أمات» للبهائم (3)، وتصغيرها: «أميمة» وهو اسم امرأة (4)،
وقد تضاف التاء إلى «الأب» أو «أم» بدلا عن الياء، فيقال «يا أبت افعل ويا أمت
لا تفعلي». وقولهم «لا أم لك» ذم ودعاء (5)، وإمام مشتقة من نفس المادة، وهو من



(1) يلاحظ أن المؤلف يخلط هنا بين «أم» بمعنى القصد، وبين «أم» بمعنى الأصل، وبحثنا في لفظ «أم» في «أم
أبيها».
(2) المائدة: 2.
(3) قال الفيروزآبادي في القاموس: أمه: قصده... والأم من الوجه والطريق معظمه.. والأم الوالدة..
ويقال للأم الأمة والأمهة وجمعها أمات وأمهات أو هذه لمن يعقل وأمات لمن لا يعقل وأم كل شئ أصله
وعماده والأم للقوم رئيسهم والأم من القرآن: الفاتحة.. والأم للرأس الدماغ أو الجلدة الرقيقة التي
عليها... وأم القرى مكة لأنها توسطت الأرض فيما زعموا أو لأنها قبلة الناس يؤمونها أو لأنها أعظم
القرى شأنا، وأم الكتاب: أصله أو اللوح المحفوظ...
(4) ذكر الفيروزآبادي في القاموس أنه اسم لاثنتي عشرة صحابية.
(5) في القاموس: «... ولا أم لك: ربما وضع موضع المدح».
127
قصده الخلق وتقدمهم; وفي التفسير (وكل شئ أحصيناه في إمام مبين) (1) قال:
هو الكتاب (2) وفي قوله (وإنهما لبإمام مبين) (3) قال: هو الطريق (4). والأمام
بالفتح هو القدام.
والغالب استعمالها بمعنى «الأصل» يقال: «أم الجيش» وهي كما قال الفخر
الرازي: الراية العظمى في قلب الجيش وهي ملاذ الجيش وملجأ العسكر (5).
قال قيس بن الحطيم:
عصبنا أمنا حتى ابذعروا * وصار القوم بعد ألفتهم شلالا (6)
و «أم الكتاب» مر معناه، و «أم الطريق»: الطريق الأعظم، و «أم الدماغ» -
كما في مجمع البيان (7) - المقدم من كل شئ، والجامع منه يقال له «أم الرأس»،
وقيل «أم الدماغ» لأنه مجمع الحواس والمشاعر، ويقال للأرض «أم» لأنها أصل
الإنسان منها خرج وإليها يعود، قال تعالى جل شأنه: (ألم نجعل الأرض كفاتا *
أحياء وأمواتا) (8). وقال أمية بن الصلت:
فالأرض معقلنا وكانت أمنا * فيها مقابرنا وفيها نولد (9)



(1) يس: 12.
(2) تفسير الصافي 4 / 247.
(3) الحجر: 79.
(4) تفسير الصافي 3 / 119.
(5) التفسير الكبير 1 / 175.
(6) الهامش السابق.
(7) مجمع البيان 1 / 47.
(8) المرسلات: 25 - 26.
(9) تفسير أبي الفتوح الرازي 1 / 19.
128
وكذا «أم القرى» لانتشار القرى والمدن منها (1)، ويقال لرئيس القوم «أم
القوم»، ويقال للماهية «أم الوجود» لأنها مظهر الوجود، ويقال للعناصر الأربعة
«الأمهات» لتوليد المواليد الثلاثة، وقال الإمام المعصوم للخمر «أم الخبائث» (2)
لأنها سبب لكل الذنوب الأخرى، ونظائره كثير.
وكذا يقال للمجرة «أم النجوم» ولإمام الجماعة «أم القوم» (3).
ثالثا: تبين مما مر أن «الأم» بمعنى «القصد».
ورأيت في كتاب - لا يحضرني الآن - أن الأم تعني أيضا الثمرة، لأنها القصد
والمقصود من الشجرة.
الوجوه المذكورة في معنى «أم أبيها»
وبناء على ما مر تلوح لنا عدة وجوه في معنى «أم أبيها»:
الوجه الأول
إن فاطمة الزهراء (عليها السلام) ثمرة شجرة النبوة وحاصل عمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصدف
درر العصمة ولئاليها، وقد استقرت بها السماوات العلوية والأرضون السفلية.
وبعبارة أخرى: إن الولد هو المقصود للأب والأم، وفاطمة الزهراء (عليها السلام)
خاصة هي المقصود الأصلي والأصل الكلي من بين بنات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فمعنى «أم



(1) قال في مجمع البيان 1 / 47:... وأم القرى لأن الأرض دحيت من تحت مكة.
(2) البحار 76 / 148 ح 63 باب 68.
(3) انظر القاموس المحيط مادة «أمم».
129
أبيها» أن فاطمة الزهراء (عليها السلام) أصل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي الولد الذي كان يقصده ويريده
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويريد نتائجها الكريمة وفوائدها العظيمة المترتبة عليها من جهة البنوة،
ومن فضائلها النفسانية المطلوبة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وعليه يكون معنى «أم» أي القصد والأصل والمقصود والمراد. وهذا المعنى
ينسجم مع مذهب اللغويين، بل والمحدثين أيضا.
وإذا أردنا تطبيق الكنية على الاستعمالات التي ذكرناها آنفا لكلمة الأم،
نراها صحيحة منسجمة بأجمعها.
فيصح أن نسمي فاطمة الزهراء (عليها السلام): أم النجوم بلحاظ أبنائها.
ويصح أن نسميها «أم القرى» بلحاظ الأئمة المعصومين (عليهم السلام).
ويصح أن نسميها «أم الرأس» بلحاظ التقدم وتناسل ذريتها الطيبة.
وأم الجيش لأنها ملجأ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمته، وانكسارها يعني الانكسار
الفاحش للإسلام والمسلمين.
وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «فاطمة روحي ومهجة قلبي، وفاطمة مني وأنا من
فاطمة»، فهي أصل وجود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وحقيقته، ومجمع الأنوار ومنبع الأسرار
للرسالة، وكأن النبي فاطمة وفاطمة هي النبي، واتحاد نورهما ظاهر وبديهي.
وعلى أي حال، فإن ما ذكر كان جملة من الشواهد على إثبات مرادي، لتعلم
أن فاطمة الزهراء (عليها السلام) كانت مقصود النبي وثمرة فؤاده ورايته العظمى وظل الرحمة
الوارفة وأصل وجود صاحب المقام المحمود، وقد مدحها الله وذريتها.

130
الوجه الثاني
أتذكر إني حضرت يوما بين جماعة من الفقهاء والمجتهدين، وكان المرحوم
الفقيه الفريد والمجتهد الوحيد الحاج ملا ميرزا محمد الأندرماني (رحمه الله) حاضرا،
فسألني عن معنى هذه الكنية الشريفة وطلب مني جوابا يصح عليه السكوت،
فانبرى له المرحوم المغفور فحل المحققين الحاج الآغا محمد نجل المرحوم ساكن
الرضوان الآغا محمود الكرمانشاهاني عليهما المغفرة والرضوان وأجابه ببيان
ظريف، فاستحسنه السائل وأذعن لجوابه المليح، واستفدت منه استفادة جمة
وسوف لن أنسى حظي الوافر الذي نلته في ذلك المحضر الشريف.
قال: إن من الشائع على الألسن أن يخاطب الأب ابنه في مقام النصيحة بلغة
الرأفة والترحم فيقول له: أبي العزيز.. بابا.. أبتا، ويخاطب ابنته فيقول لها: أمي
العزيزة.. أماه.. ماما، وهذا النمط من الاستعمال شائع بين العرب والعجم من قبيل..
أخي.. أخي.. يا أخاه.. ونظائرها، وهذا النوع من العبارات والإستعمالات تعبر
عن فرط المودة والمحبة والشفقة والمبالغة في التعبير عن ذلك في مقام التخاطب بين
الأب وأبنائه.
فيكون الاستعمال في «أم أبيها» إستعمالا مجازيا لا حقيقيا، وهو عبارة عن
أسلوب للتعبير المتداول بين الآباء والأبناء للإعراب عن المحبة والعطف، وبذلك
أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخاطب ابنته العزيزة فاطمة الزهراء (عليها السلام) كأنه قال «يا
أمي» ليحكي عن شدة حبه لابنته، ويشهد له قوله في الحديث «يحبها ويكنيها بأم
أبيها».
والحق: إنه جواب يستقر في القلب ومعنى مليح صحيح.

131
الوجه الثالث
لما توفيت الوالدة الماجدة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان النبي صغيرا، فكفلته فاطمة
بنت أسد (عليها السلام) أم أمير المؤمنين (عليه السلام) وخدمته - بإخلاص - غاية الخدمة، وكانت
تتعبد الله في ذلك، حتى أنها كانت تقدمه على أبنائها: أمير المؤمنين (عليه السلام) وطالب
وعقيل وجعفر، وقد شهد بذلك التاريخ والأثر الصحيح، وكان النبي يخاطبها
«أمي»، ولما توفيت قال النبي لعلي (عليه السلام): «إنها كانت أمي» (1)، فكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
يناديها وينادي فاطمة الزهراء - وهي سميت أم خديجة الطاهرة (2) - حبا لهما
ب‍ «أمي» وبذلك كان يتذكر خديجة المطهرة وفاطمة المكرمة التي رعته في طفولته.
وكلا الإستعمالين من باب التجوز لا الحقيقة، غير أنه كان يخاطب فاطمة
بنت أسد «أمي»، ويخاطب فاطمة الزهراء (عليها السلام) ب‍ «أم أبيها»، وفي الخطاب الأخير
إحترام وتعظيم وتكريم إضافة إلى إبراز المحبة والوداد.
الوجه الرابع
لما توفيت آمنة بنت وهب (عليها السلام) - أم النبي - ودفنت في الأبواء قرب المدينة
على طريق الفرع - على المشهور - كان عمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يومها ثمان سنوات أو أقل،
فكفلته وحضنته فاطمة بنت أسد (عليها السلام)، إلا أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) شهد علاقة خاصة ومحبة



(1) انظر البحار 6 / 232 ح 44 باب 8.
(2) خديجة بنت خويلد وأمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم بن هرم بن رواحة بن حجر بن عبيد بن معيص
ابن عامر بن لؤي. انظر مقاتل الطالبيين: 57.
132
مخصوصة من الصديقة الكبرى (عليها السلام) منذ ولادتها وحتى وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم)، سواء كان في
مكة أو في المدينة، علاقة كانت تفوق علاقة البنوة والأبوة، بل كانت علاقة
استثنائية، ولأن أي محبة لا تبلغ محبة الأم، فكأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول لفاطمة: أمي لم
تمت.. أنت أمي.
بمعنى أن للنبي ثلاث أمهات: الأم الأصلية، والأم التشريفية وأم المحبة (1).
وبديهي أن محبة الأمهات تختلف باختلاف مراتب أنسهن بأبنائهن، وآمنة
بنت وهب (عليها السلام) قضت ثمان سنوات - أو أقل - في خدمة النبي في فترة لم تعش فيها
مضايقات قريش للمولى (صلى الله عليه وآله وسلم)، بينما وفقت الصديقة الطاهرة لملازمة النبي
والتشرف بخدمته وسعادة مرافقته لمدة ثمان سنوات في مكة المكرمة وعشر
سنوات في المدينة الطيبة، وشاهدت مضايقات أعداء الدين لخاتم المرسلين،
وعاشت معه بصدق وإخلاص كل المصاعب والمصائب، ورافقته في ازدحام البلايا
واقتحام الشدائد، وتجلببت بالصبر والشكيمة والتحمل صلوات الله عليها وعلى
أبيها وبعلها وبنيها.
الوجه الخامس
تظافر الشيعة والسنة على تخريج هذا الحديث في كتبهم. قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
«كل بني أنثى فإن عصبتهم لأبيهم، ما خلا ولد فاطمة فإني أنا عصبتهم وأنا
أبوهم» (2) «وأنا وليهم» (3) فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) عصبتهم وأصلهم وأبوهم، تنتهي إليه هذه



(1) سنذكر في خصيصة مستقلة مراتب محبة الزهراء إن شاء الله. (من المتن)
(2) ينابيع المودة 2 / 98 باب 56 و 59 عن الطبراني في المعجم الكبير.
(3) انظر الهامش السابق.
133
الفروع النابتة والغصون النامية، فصار جد بني فاطمة لأمهم أباهم، وصارت
فاطمة الزهراء (عليها السلام) أبا وأما لأبنائها وللسادات والذرية الطيبة النازلة منها (عليها السلام).
وهذا المعنى لطيف ومناسب للمعنى السابق، ونظائر هذا الاستعمال موجودة
بكثرة كما روي «كل بني آدم من التراب، وعلي أمير المؤمنين (عليه السلام) أبو التراب».
ولما صار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - بهذا المعنى - أبا، وهو جدهم لأمهم، صارت فاطمة
الزهراء (عليها السلام) أم أبيها.
وأراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا القول أن يظهر شرف فاطمة ويعطي شرفا آخر
لأبنائها من حيث نسبتهم إليه، وبعبارة أخرى أراد أن يقول تشريفا إني لست أبتر
من الأب والولد، فأمي فاطمة وأبنائي أبناؤها.
وبناء على ذلك وبمفاد قوله (أبناءنا وأبناءكم) (1) يقول ولد ابنتي ولدي،
وأصلهم متصل بأصل العصمة والطهارة وشجرة النبوة والرسالة المباركة، وشرف
البنوة للنبوة شرف خاص، والأئمة المعصومين (عليهم السلام) - وإن كانوا أبناء
أمير المؤمنين (عليه السلام) من فاطمة - إلا أنهم كانوا يفتخرون ببنوتهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو
شرف فوق شرف وفضيلة فوق فضيلة.
وهذا المعنى لا يخلو من التكلف والتعقيد.
الوجه السادس
لما نزل قوله تعالى (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم) (2)



(1) آل عمران: 61.
(2) الأحزاب: 6.
134
في المدينة، وتكنت كل واحدة من أزواج سيد الكائنات ب‍ «أم المؤمنين» وافتخرن
بأنهن صرن أمهات المؤمنين والمؤمنات، فسألت فاطمة الزهراء (عليها السلام) لنفسها
تشريفا ومزية عليهن، فضمها النبي المختار إلى صدره كما يضم روحه العزيزة
الحلوة، وقبلها وشمها وكناها ب‍ «أم أبيها» يعني إن كن نسائي أمهات أمتي، فأنت
أعلى قدرا وأجل رتبة لأنك «أمي».
ويؤيد ذلك قوله تعالى في تحريم نكاح زوجات النبي المطهر (ولا أن
تنكحوا أزواجه من بعده أبدا) (1) حيث أن الواضح من هذه الآية الكريمة أن أمومة
زوجات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الطاهرات للمسلمين أمومة من جهة التشريف والتعظيم،
وليست أمومة حقيقة. وذهب العامة إلى أن نساء النبي أمهات رجال المسلمين
دون نسائهم. روي أن امرأة من نساء المسلمين دعت عائشة قائلة «أمي» فقالت
عائشة: إني أم رجالكم دون النساء، لأن الحرمة وردت بخصوص الزوجات ولا
تتعدى إلى بناتهن، بل يمكن خطبتهن والزواج بهن، وكيف يمكن الزواج ببنت الأم
- إذا كانت أما حقيقة -؟
والخلاصة: كان النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعو فاطمة (عليها السلام) ب‍ «أم أبيها»، ومن جهة
أخرى كان ينفى أبوته لأحد (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) (2) ويسمي
الحسنين (عليهما السلام) ولده كما في الآية المباهلة (3) من جهة أخرى، لئلا يدعي أحد غيرهم
هذه النسبة وهذا الشرف، ويسمي أمير المؤمنين - في نفس هذه الآية - نفسه



(1) الأحزاب: 53.
(2) الأحزاب: 40.
(3) آل عمران: 61. قال تعالى: (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم
ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين).
135
النفيسة ليثبت له الأولوية على النفوس الثابتة له بجميع مراتبها التي كانت له، فهو
أولى بالمؤمنين من أنفسهم كما أن النبي كان كذلك إلا ما خرج بالدليل.
وهذه الآيات الشريفة تدل على غاية الإتحاد والوحدة بينهم ولا تبقى لأحد
مقاما وفضلا مما ثبت في حق هؤلاء الأبرار الكرام والسادات العظام.
وبهذا الوجه الوجيه المذكور للعالم الثقة النابه نقطع الكلام، حيث تبين شأن
النزول وعلة التسمية والتكنية وابتداء استعمالها ورواجها.
وقد تكون هناك احتمالات ووجوه أخرى يمكن الإشارة إليها (1) في هذه
الخصيصة، ولكنا تركناها خوفا من إطالة الحديث في هذا الكتاب وأحلناها إلى
الأذهان السليمة والآراء الصائبة لأهل الفضل والصواب، راجيا الإغماض عن
الزلل عما توصل إليه الخاطر القاصر.
ونشرع الآن ببيان الألقاب الشريفة لتلك المخدرة الكبرى صلوات الله
عليها:



(1) كما قيل من: أن فاطمة (عليها السلام) من بين الأنوار الإلهية بمنزلة الماهية وكل الأنوار في مرتبة الوجود، فهي
الماهية الكلية والخزانة التي فيها الصور العلمية، فهي أم لجميع الموجودات من البدايات والنهايات.
136
في ألقابها المباركة
وهي في عشرين خصيصة
الخصيصة الأولى:
في شرف اللقب وفضله
في معنى اللقب
اللقب: جمعه ألقاب، قال تعالى: (ولا تنابزوا بالألقاب) (1).
وقال في مجمع البحرين: «قد يكون اللقب علما من غير نبز، فلا يكون
حراما» (2). واللقب ممدوح بعد الكنية، وهو إما مشعر بالمدح أو بالذم، والنهي في
الآية للألقاب المذمومة التي يكرهها المدعو بها لما فيها من الذم، والتنابز هو
التلقيب بالمذموم.
والمؤمن لا يدعى باسمه إكراما وتعظيما واحتراما، بل يدعى باللقب
الممدوح، ولو لم يكن التلقيب مستحسنا لما نزل لقب «أمير المؤمنين» من السماء
لسلطان الولاية علي بن أبي طالب (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولما أظهر جبرائيل الأمين (عليه السلام) كل ذلك



(1) الحجرات: 11.
(2) مجمع البحرين 2 / 167 مادة «لقب».
137
السرور والفرح لما نزل به، ولما انبسط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وابتهج لهذه الموهبة
العظمى (1). ولما أعطى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لقب أسد الله وأسد رسوله لعمه الأكرم
حمزة (عليه السلام) (2) وجعل هذا اللقب المبارك فخرا له.
وفي الحديث: «حق المؤمن على أخيه أن يسميه بأحب أسمائه» (3).
تبين أن كثرة الأسماء والألقاب دليل الشرف وعلو القدر ورفعة المقام، وكل
لقب يكون - عادة - إشارة إلى صفة خاصة يتصف بها الملقب، وذكر الصفة يدل
على الموصوف، بل يدخل السرور والابتهاج عليه.
وقد ذكرت الصديقة الطاهرة (عليها السلام) على لسان الله وملائكته والأئمة المعصومين
في موارد عديدة بأسماء مباركة وألقاب شريفة تحكي شرف صفاتها الخاصة التي
اتصفت بها ذاتها المقدسة.
وقد عبر - أحيانا - عن معنى واحد بألفاظ عديدة وعبارات شتى و «كثرة
الأسماء تدل على شرف المسمى».
وفي كتاب المناقب وبحار الأنوار: «وأسماؤها على ما ذكره أبو جعفر القمي:
فاطمة، البتول، الحصان، الحرة، السيدة، العذراء، الزهراء، الحوراء، المباركة،
الطاهرة، الزكية، الراضية، المرضية، المحدثة، مريم الكبرى، الصديقة الكبرى.
ويقال لها في السماء: النورية، السماوية، الحانية» (4).



(1) انظر كشف الغمة 1 / 341 في ذكر مخاطبته بأمير المؤمنين (عليه السلام).
(2) انظر البحار 7 / 233 ح 4 باب 8.
(3) سيأتي حسن هذا المدح والاحترام والإكرام في ذيل قوله تعالى: (ولا تجعلوا دعاء الرسول كدعاء
بعضكم بعضا) في الخصيصة الآتية إنشاء الله. (منه)
(4) المناقب لابن شهر آشوب 3 / 406 في حليتها وتواريخها، البحار 43 / 16 ح 15 باب 2.
138
ولها أسماء أخرى غير الألقاب المذكورة تجدها في كتب المناقب، ولكني
أحببت أن أتيمن بذكر (135) لقبا على عدد حروف اسمها المبارك، وأشرح منها
عشرين لقبا من سادات ألقابها، واستشهد لذلك بما يناسبه من الأحاديث الواردة
في الكتب المعتبرة، لتقر به عيون الشيعة وتتنور أبصارهم.
والألقاب المشعرة بالكمالات الذاتية والفضائل الخارجية لفاطمة الزكية
المرضية هي كالتالي:
الأول: أمة الله (1)
الثاني: آية الله
الثالث: بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
الرابع: زوجة ولي الله
الخامس: كلمة الله التامة
السادس: حجاب الله المرخى
السابع: نخبة أبيها
الثامن: ستر الله الكبرى
التاسع: كلمة التقوى
العاشر: المزوجة في الملأ الأعلى
الحادي عشر: الغرة الغراء



(1) ورد هذا اللقب في كثير من المصادر والأحاديث وأنه مكتوب على باب الجنة. عن علي بن أبي
طالب (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أدخلت الجنة فرأيت على بابها مكتوبا بالذهب: لا إله إلا الله،
محمد حبيب الله، علي ولي الله، فاطمة أمة الله، الحسن والحسين صفوة الله، على مبغضيهم لعنة الله». انظر
البحار 8 / 191 ح 167 باب 23.
139
الثاني عشر: الزهرة الزهراء
الثالث عشر: العارفة بالأشياء
الرابع عشر: المعروفة في السماء
الخامس عشر: سيدة الإماء
السادس عشر: حاملة البلوى
السابع عشر: مبشرة الأولياء
الثامن عشر: عديلة مريم
التاسع عشر: زجاجة الوحي
العشرون: مشكاة الأنوار
الحادي والعشرون: ثمرة النبوة
الثاني والعشرون: بقية النبوة
الثالث والعشرون: ابنة الصفوة
الرابع والعشرون: عقيلة الرسالة
الخامس والعشرون: والدة الحجج
السادس والعشرون: صاحبة الجنة السامية
السابع والعشرون: فلذة الكبد
الثامن والعشرون: تفاحة الفردوس
التاسع والعشرون: الفاضلة المحدثة
الثلاثون: جمال الآباء
الواحد والثلاثون: شرف الأبناء

140
الثاني والثلاثون: صفوة الشرف
الثالث والثلاثون: معدن الحكمة
الرابع والثلاثون: موطن الرحمة
الخامس والثلاثون: ريحانة النبي
السادس والثلاثون: الروح بين جنبي المصطفى
السابع والثلاثون: المشرقة الرباعية
الثامن والثلاثون: البيضاء البضة
التاسع والثلاثون: وديعة الرسول
الأربعون: الناطقة بالشهادتين
الحادي والأربعون: الوليدة في الإسلام
الثاني والأربعون: شفيعة الأمة
الثالث والأربعون: قلادة الوجود
الرابع والأربعون: ركن الدين
الخامس والأربعون: الدعوة المستجابة
السادس والأربعون: الطاهرة الميلاد
السابع والأربعون: مقتولة الولد
الثامن والأربعون: إحدى الكبر
التاسع والأربعون: صاحبة المصحف
الخمسون: صاحبة الأحزان الطويلة
الواحد والخمسون: سيدة نساء الجنة

141
الثاني والخمسون: سيدة الأئمة
الثالث والخمسون: سيدة نساء هذه الأمة
الرابع والخمسون: سيدة بنات آدم
الخامس والخمسون: سيدة نساء الأولين والآخرين
السادس والخمسون: الكوكب الدري
السابع والخمسون: أعز البرية
الثامن والخمسون: الخيرة من الخير
التاسع والخمسون: المنعوتة في الإنجيل
الستون: درة التوحيد
الحادي والستون: قرة عين الخلائق
الثاني والستون: ليلة القدر
الثالث والستون: الصلاة الوسطى
الرابع والستون: من برها خير العمل
الخامس والستون: العالمة
السادس والستون: الصابرة
السابع والستون: الصادقة
الثامن والستون: المتهجدة
التاسع والستون: القانعة
السبعون: القانية
الواحد والسبعون: الحبة النابتة

142
الثاني والسبعون: الذروة الشامخة
الثالث والسبعون: العابدة
الرابع والسبعون: الشهيدة
الخامس والسبعون: الرشيدة
السادس والسبعون: المضطهدة
السابع والسبعون: صاحبة القبة الفاطمية
الثامن والسبعون: منهدة الركن
التاسع والسبعون: الممتحنة
الثمانون: المغصوبة حقها
الحادي والثمانون: الممنوعة حقها
الثاني والثمانون: الكريمة
الثالث والثمانون: المظلومة
الرابع والثمانون: التقية
الخامس والثمانون: النقية
السادس والثمانون: المتعوبة
السابع والثمانون: عين المحجة
الثامن والثمانون: ناحلة الجسم
التاسع والثمانون: وديعة المصطفى
التسعون: بضعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
الواحد والتسعون: ثالثة الشمس والقمر

143
الثاني والتسعون: صدف الفخار
الثالث والتسعون: الحبيبة
الرابع والتسعون: الكئيبة
الخامس والتسعون: الصفية
السادس والتسعون: الميمونة النسل
السابع والتسعون: الكلمة الطيبة
الثامن والتسعون: الدرة المنضدة
التاسع والتسعون: القدوة المسددة
المائة: خامسة أهل العبا
الواحد بعد المائة: النبيلة
الثاني بعد المائة: الجميلة الجليلة
الثالث بعد المائة: المعصومة
الرابع بعد المائة: العفيفة
الخامس بعد المائة: الوحيدة
السادس بعد المائة: الوالهة
السابع بعد المائة: باكية العين
الثامن بعد المائة: محترقة القلب
التاسع بعد المائة: معصبة الرأس
العاشر بعد المائة: وسيلة الرضوان
الحادي عشر بعد المائة: المصباح المنير

144
الثاني عشر بعد المائة: العروة الوثقى
الثالث عشر بعد المائة: سفينة النجاة
الرابع عشر بعد المائة: عين الحياة
الخامس عشر بعد المائة: قرار القلب
السادس عشر بعد المائة: زين الفواطم
السابع عشر بعد المائة: نور الأنوار
الثامن عشر بعد المائة: ذريعة الشيعة
التاسع عشر بعد المائة: عيبة العلم
العشرون بعد المائة: وعاء المعرفة
الحادي والعشرون بعد المائة: حظيرة القدس
الثاني والعشرون بعد المائة: سماء الكواكب الدرية
الثالث والعشرون بعد المائة: سلالة الفخر
الرابع والعشرون بعد المائة: فخر الأئمة
الخامس والعشرون بعد المائة: برزخ النبوة والولاية
السادس والعشرون بعد المائة: بهجة الفؤاد
السابع والعشرون بعد المائة: حجة الله الكبرى
الثامن والعشرون بعد المائة: مهجة العالم
التاسع والعشرون بعد المائة: آية الله العظمى
الثلاثون بعد المائة: أرومة العناصر
الحادي والثلاثون بعد المائة: جرثومة المفاخر

145
الثاني والثلاثون بعد المائة: ربيبة المكرمة
الثالث والثلاثون بعد المائة: عالية الهمة
الرابع والثلاثون بعد المائة: القائمة في الليل
الخامس والثلاثون بعد المائة: الصائمة في النهار (1).



(1) قال ابن شهر آشوب في المناقب 3 / 406:... وأسماؤها على ما ذكره أبو جعفر القمي: فاطمة، البتول،
الحصان، الحرة، السيدة، العذراء، الزهراء، الحوراء، المباركة، الطاهرة، الزكية، الراضية، المرضية،
المحدثة، مريم الكبرى، الصديقة الكبرى، ويقال لها في السماء: النورية، السماوية، الحانية.
وقلنا:
الصديقة بالأقوال
والمباركة بالأحوال
والطاهرة بالأفعال
الزكية بالعدالة
والرضية بالمقالة
والمرضية بالدلالة
والمحدثة بالشفقة
والحرة بالنفقة
والسيدة بالصدقة
الحصان بالمكان
والبتولة في الزمان
والزهراء بالإحسان
مريم الكبرى في الستر
وفاطم بالسر
وفاطمة بالبر
النورية بالشهادة
السماوية بالعبادة
والحانية بالزهادة
والعذراء بالولادة
والزاهدة
الصفية
العابدة
الرضية
الراضية
المرضية
المتهجدة
الشريفة
القانتة
العفيفة
سيدة النسوان
وحبيبة حبيب الرحمن
المنتجبة عن خزائن الجنان
وصفية الرحمن
ابنة خير المرسلين
وقرة عين سيد الخلائق أجمعين
وواسطة العقد بين سيدات نساء العالمين
والمتظلمة بين يدي العرش يوم الدين
ثمرة النبوة
وأم الأئمة
وزهرة فؤاد شفيع الأمة
والزهراء المحترمة
والغراء المحتشمة
المكرمة ما تحت القبة الخضراء
والإنسية الحوراء
والبتول العذراء
ست النساء
وارثة سيد الأنبياء
وقرينة سيد الأوصياء
فاطمة الزهراء
الصديقة الكبرى
راحة روح المصطفى
حاملة البلوى من غير فزع ولا شكوى
وصاحبة شجرة طوبى
ومن أنزل في شأنها وشأن زوجها سورة «هل أتى»
ابنة النبي
وصاحبة الوصي
وأم السبطين
وجدة الأئمة
وسيدة نساء الدنيا والآخرة
زوجة المرتضى
والدة المجتبى
وابنة المصطفى
السيدة المفقودة
الكريمة
المظلومة
الشهيدة
السيدة الرشيدة
شقيقة مريم
وابنة محمد الأكرم
المفطومة من كل شر
المعلومة بكل خير
المنعوتة في الإنجيل
الموصوفة بالبر والتبجيل
درة صاحب الوحي والتنزيل
جدها الخليل
ومادحها الجليل
وخاطبها المرتضى بأمر المولى جبرئيل.
146
سيدتنا فاطمة أم الأئمة الأطهار، حليلة علي بن أبي طالب صلوات الله
عليها وعلى والدها وبعلها وولديها.
اللهم املأ قلوبنا من ولائها، وأجر ألسنتنا بثنائها، ولا تجعلها خصيمة لنا،
ولا مغضبة علينا في يوم ننتظر شفاعتها ونرجو أن نلتجئ بكلائتها، وأنت أعلم
بعواقب الأمور، وأرحم بمن ربيته في توالي الدهور، فويل عند ظهور الساعة لمن
خصمته عند الشفاعة.
وبالجملة: فإن الألقاب الشريفة التي مر ذكرها بالعدد المبارك استخرجت
من الأدعية والروايات وكلمات العلماء الأعلام.
وإن كل لقب منها يشير إلى معنى معين. ويفيد كرامة خاصة، ويحكي رواية
لأهل الدراية، ولكن متى تقاس القطرة بالبحر، والبيضاء بالذر؟ ومتى تنتهي
ألقابها الشريفة وأوصافها المنيفة؟ ولنعم ما قيل:
إن شيئا كله لا يدرك * اعلموا أن كله لا يترك (1)



(1) انظر البحار 59 / 283 باب 25.
149
ومن هنا تبين أن جميع الألقاب والأوصاف مندرجة في اسمها المبارك
«فاطمة»، وقد رأيت - أنا المذنب - أثرا خاصا في هذا الاسم السامي، ولطالما
ذكرت ذلك على المنبر وبإصرار شديد وقد كتبت آثاره في باب التوسل
بفاطمة (عليها السلام).
في شرف النسبة
لكن المنتخب من ألقابها ما كانت فيه نسبة للخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبيل «بضعة
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)» وأمثاله، لأنه يتضمن الإشارة إلى المنسوب والمنسوب إليه. فأنت
تلاحظ السرور والبشر على السيد، إذا خوطب ب‍ «يابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)» أو
«يابن علي وفاطمة (عليهما السلام)» والمقصود من ذكر نسبة الداني إلى العالي، إظهار الشرف
وإثبات فخامة النسب.
وبعبارة أخرى: إن هذا أيضا نحو من التكريم والتعظيم كما هو المرسوم في
العوائل الملكية والأسر العلمائية.
ومن ألقابها المنتخبة أيضا: اللقب الذي يتضمن اتصافها بالعبودية للرب،
من قبيل اثبات اتصالها بالوجود المبارك لسيد الأبرار.
فكما أن النبي يفتخر بفاطمة كابنة له، كذلك تفتخر فاطمة الزهراء (عليها السلام)
- بأضعاف مضاعفة - بانتسابها إليه.
وكذا يثبت الفخر والشرف أيضا لمن يخاطب أولئك العظام الكرام بتلك
الألقاب العالية الشأن ويذكرهم بالذكر الجميل في الأدعية والزيارات، حتى لو
كانت الألقاب بألفاظ ومواد متشابهة متماثلة أو مختلفة لفظا متحدة معنى، ما دامت

150
قد جرت على ألسنة أولاد الطاهرة المعصومين (عليهم السلام)، فلا بد أن يكون لها أثر
خاص، وكل لقب يبين اللقب الآخر ويدل عليه:
وصف رخساره خورشيد زخفاش مپرس * كه در أين آينه صاحب نظران حيرانند (1)
أين الثريا من الثرى، والنعامة من الكرى...
* * *
والأفضل أن نبادر إلى شرح الألقاب المأثورة المنصورة لتلك المخدرة
المستورة إنجازا لما وعدنا سابقا، ووفاء لما عهدناه في ذمتنا ووكلناه إلى همتنا.
روى مروج الشريعة النبوية ومشيد الملة المصطفوية المرحوم المجلسي في
«بحار الأنوار» عن الصدوق محمد بن بابويه عليه الرحمة: إن في مصنفاته شرحا
وافيا لعشرين لقبا من ألقاب فاطمة الزهراء (عليها السلام)، حتى أفرد لكل لقب عنوانا
مستقلا وبين معناه مفصلا.
مع أن هذا الجاني الفاني لم يدرك الفيض من مطالعة ذلك الكتاب المهجور
لكني - على ما هو المقدور - لاحظت الأخبار والأحاديث المروية عن أولئك
البدور، وأفردت لها خصائص وأدرجتها في محلها المناسب.
أي آنكه به هر غمى پناهى ما را * در قسمت از أين نمد كلاهى ما را (2)



(1) يقول: لا تسل عن وصف طلعة الشمس من الخفاش، فقد تحير أصحاب النظر في هذا الشأن.
(2) يقول: يا من نلجأ إليه في كل محنة، وأنت في هذا الشأن تاجنا وفخرنا.
151
الخصيصة الثانية (من الخصائص العشرين)
في معنى «البتول»
«البتول»: من الألقاب الباهرة للصديقة الطاهرة (عليها السلام) وهي من ألقاب مريم
بنت عمران (عليها السلام) أيضا.
والبتل (1): القطع والإبانة، يقال: طلقتها بتة بتلة. والبتول جمعها بتائل. وهي
المرأة المنقطعة عن النساء. والبتول: الفسيلة التي انفردت واستغنت عن أمها،
والبتيلة: التي لم يركب بعض لحمها بعضا. والمبتلة بتشديد التاء المرأة الجميلة تامة
الخلق وفي قوله تعالى: (وتبتل إليه تبتيلا) (2) أي الانقطاع عن الدنيا إلى الله
عز وجل.
وقال في الصراح: البتول هي العذراء المنقطعة من الأزواج. ويقال: هي



(1) قال الفيروزآبادي في القاموس مادة «بتل»: بتله: قطعه، وبتل الشئ ميزه عن غيره، والبتول:
المنقطعة عن الرجال ومريم العذراء كالبتيل وفاطمة بنت سيد المرسلين عليها الصلاة والسلام لانقطاعها
من نساء زمانها ونساء الأمة فضلا ودينا وحسبا والمنقطعة عن الدنيا إلى الله تعالى والفسيلة من النخلة
المنقطعة عن أمها المستغنية بنفسها.. والمبتلة: الجميلة كأنها بتل حسنها على أعضائها إلا قطع، والتي لم
يركب بعض لحمها بعضا أو في أعضائها استرسال...
(2) المزمل: 8.
152
المنقطعة إلى الله من الدنيا، وهي نعت فاطمة بنت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (1).
وقال ابن الأثير في النهاية: امرأة بتول منقطعة عن الرجال لا شهوة لها
فيهم، وبها سميت مريم أم عيسى (عليه السلام)، وسميت فاطمة (عليها السلام) البتول لانقطاعها عن
نساء زمانها فضلا ودينا وحسبا. وقيل: لانقطاعها عن الدنيا إلى الله (2).
وقال عبيد الهروي في الغريبين: سميت مريم بتولا لأنها بتلت عن الرجال،
وسميت فاطمة بتولا لأنها بتلت عن النظير (3).
وفي كتاب معاني الأخبار وعلل الشرائع ومصباح الأنوار والبحار «عن
علي (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل ما البتول؟ فإنا سمعناك يا رسول الله تقول: إن مريم
بتول وفاطمة (عليها السلام) بتول، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): البتول التي لم تر حمرة قط - أي لم تحض - فإن
الحيض مكروه في بنات الأنبياء» (4)...
قال المجلسي (رحمه الله): «إنها منقطعة عن نساء زمانها بعدم رؤية الدم» (5).
وروى علماء السنة هذا المضمون من قبيل أحمد بن حنبل في الفضائل (6)
والحافظ أبو نعيم في كتاب منقبة المطهرين، وأبو صالح المؤذن في الأربعين (7)، وابن



(1) انظر مجمع البحرين 1 / 152.
(2) البحار 43 / 15 ذيل ح 13 باب 2.
(3) البحار 43 / 16.
(4) معاني الأخبار 64 ح 17 باب معاني أسماء محمد وعلي وفاطمة والأئمة (عليهم السلام)، علل الشرائع 1 / 215 ح 1
باب 144.
(5) بحار الأنوار 43 / 15 ذيل ح 13 باب 2.
(6) لم أعثر عليه في الفضائل المطبوع.
(7) البحار 43 / 16 ح 14 باب 2 وفيه: «أبو صالح المؤذن في الأربعين: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما البتول؟
قال: التي لم تر حمرة قط ولم تحض فإن الحيض مكروه في بنات الأنبياء وقال (عليه السلام) لعائشة: يا حميرا! إن
فاطمة ليست كنساء الآدميين لا تعتل كما تعتلين».
153
حجر في الصواعق في الفصل الحادي عشر في فضل أهل البيت (عليهم السلام) في ذيل قوله
تعالى (ولسوف يعطيك ربك فترضى) (1) عن صحيح النسائي (2)، والسيد علي
الشافعي في مودة القربى في الباب الحادي عشر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: إنما
سميت فاطمة البتول لأنها تبتلت من الحيض والنفاس، لأن ذلك يحسب في بنات
الأنبياء نقصانا (3).
وفي صحيح النسائي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن بنتي فاطمة حوراء آدمية لم
تحض ولم تطمث» (4).
وكذا روى علماء السنة عن عائشة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: يا حميرا! إن
فاطمة ليست كنساء الآدميين، لا تغتسل كما تغتسلين (5).
أما علة الكراهة والنقصان فواضحة، ويمكن أن يقال أن الأخبار الواردة في
هذا المعنى بلغت حد الإستفاضة، بل قاربت التواتر عند الفريقين ولا مجال
للإنكار، ويشهد لذلك ما روي من «أن الله حرم النساء على علي ما دامت فاطمة



(1) الضحى: 5.
(2) الصواعق المحرقة: 160 «قال: وأخرج النسائي: إن ابنتي فاطمة حوراء آدمية لم تحض ولم تطمث إنما
سماها فاطمة لأن الله فطمها ومحبيها عن النار».
(3) ينابيع المودة 2 / 322 ح 930 باب 56 عن مودة القربى وفيه: «لأن ذلك عيب في بنات الأنبياء أو قال:
نقصان».
(4) ذخائر العقبى: 26. وقال: أخرجه النسائي، كنز العمال 12 / 109 ح 34226.
(5) البحار 43 / 16 وفيه: «لا تعتل كما تعتلين» بدل «لا تغتسل كما تغتسلين».
154
حية لأنها لم تحض» (1).
بناء على ذلك يكون معنى «فاطمة البتول» أي:
المنقطعة عن رؤية الدم.
أو منقطعة عن النساء فضلا ودينا وحسبا.
أو منقطعة عن الرجال شهوة.
أو منقطعة عن الدنيا.
أو منقطعة عن النظير.
والقول السادس: لأنها بتلت كل ليلة، أي إنها ترجع بكرا كل ليلة، وسميت
مريم بتولا لأنها ولدت عيسى بكرا وبهذا انقطعت عن النساء، وسيأتي بيانه في
الكلام عن معنى «العذراء».
تفريع رفيع
إن الوجوه التي ذكرها العامة والخاصة في انقطاع فاطمة الطاهرة وانفطامها
كلها وجوه جائزة وفي غاية الصحة، وكون هذا اللقب ومعانيه مختص بالسيدتين
مريم وفاطمة (عليها السلام) دون غيرهما حقيقة واقعة لا شك فيها.
ويستفاد علاوة على مر طهارتهما من الأرجاس والأدناس المعنوية
الروحانية - والظاهر عنوان الباطن - ولما كانت مريم وفاطمة الطاهرة (عليها السلام) منزهتين
عن الأرجاس الظاهرة بمفاد قوله تعالى (إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على



(1) البحار 43 / 16 ح 14 باب 2.
155
نساء العالمين) (1) ومفاد حديث عائشة المذكور «ليست فاطمة كنساء الآدميين»
فهذا دليل أيضا على طهارة تلك المخدرة الكبرى طهارة معنوية ودليل على
عصمتها أيضا.
وبعد هذه المقدمة نقول:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: إن النساء نواقص العقول ونواقص
الإيمان ونواقص الحظوظ; أما نقصان إيمانهن فقعودهن عن الصلاة والصيام» (2).
فهذه العلة الخاصة عقوبة في العبودية تؤدي إلى النقصان في الإيمان.
وروي أن حواء عوقبت بالعادة بعد أن أكلت من الحنطة (3)، فكانت أول من
رأت الدم «وأول قطرة من الطمث ظهرت من حواء، وإن هذا أمر كتبه الله على
بنات آدم (عليه السلام)».
وقال بعض المحدثين: إن الطمث أول ما بدأ كان في بنات قوم لوط لأنهن كن
يحضرن مجالس الرجال سرا وبدون إذن ليستمعن إلى حديثهم.
وقال بعض آخر: أول ما بدأ في نساء بني إسرائيل لأنهن كن يخرجن إلى
المساجد وفي أقدامهن نعال من خشب، فظهرت هذه العادة عندهن وحرم عليهن
دخول المجالس والمحافل والمساجد (4).
* * *



(1) آل عمران: 42.
(2) نهج البلاغة: 105 خ 80 وفيه: «معاشر الناس إن النساء نواقص الإيمان، نواقص الحظوظ، نواقص
العقول; فأما نقصان إيمانهن فقعودهن عن الصلاة الصيام..».
(3) تاريخ الخميس 1 / 52، دار صادر - بيروت.
(4) انظر بحار الأنوار 43 / 55 ح 21.
156
وكان أهل الجاهلية يهجرون نساءهم أيام الحيض فلا يضاجعوهن ولا
يؤاكلوهن، ويخرجوهن من بيوتهم صيفا وشتاء، وكذلك المجوس - وإن كانوا أسوأ
من اليهود والنصارى - إلا أنهم لا يضاجعون نساءهم أيام الحيض، فلما نزل قوله
تعالى: (فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن
من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) (1). قال اليهود: أخذ
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عنا وتعلم منا، لأننا نعتزل النساء في المحيض ولا نضاجعهن، فقال
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إني ما أمرت بإخراجهن من البيوت، وإنما نهيت عن مباشرتهن.
وقوله تعالى (لا تقربوهن) يدل على حرمة الوطء قبلا حتى يطهرهن
بالغسل، وكفارة الوطء أول العادة دينار، ووسطها نصف دينار، وآخرها ربع
دينار (2); والدينار مثقال شرعي من الذهب المسكوك بسكة المعاملة.
والنهي عن الوطء أيام العادة للمنع من اختلاط النطفة وعلوقها بدم
الحيض، وهو يسبب الحصاة في المثانة، وفيه أذى، قال تعالى: (يسألونك عن
المحيض قل هو أذى) (3) وتفصيل الكلام في الآية ليس هذا محله (4).
وورد في الحديث: أعداءنا أبناء حيض أو أبناء زنا.
* * *
وعلى أية حال: أراد الله رب العالمين أن تأتي هاتان السيدتان إلى الدنيا



(1) البقرة: 222.
(2) انظر البحار 78 / 117 ح 39 باب 41.
(3) البقرة: 222.
(4) روى العلامة المجلسي (رحمه الله) في السماء والعالم: «لو وقع هذا الوطء فعلاجه أن يقوم ويتكأ على اليمين ويبول
ويأكل الموميا بماء العسل ليأمن من توليد الحصاة. (من المتن).
157
مطهرتين من الأقذار والأكدار والخبائث وخساسة الأرجاس والأدناس، وأن
يخرجن منها مطهرتين منزهتين، فلا دماء ولا فضلات طبيعية تنشأ منها الدماء،
ولا قذر يدفعه الرحم مما لو بقي كان أذى وسبب الأمراض، بل قد يسبب الهلاك،
وقد نزههن الله من هذه الأقذار ولم يخلقها فيهن وجعل أرحامهن مطهرة، وجعل
طهارتهن آية لنساء العالمين وعلامة على عصمتهن.
أنصف أحد العلماء المخالفين للحق وكتب عن فاطمة (عليها السلام) قائلا: إن فاطمة
الزهراء (عليها السلام) مطهرة من الرجس والدنس والأقذار الدنيوية ولم تر حمرة كما تراها
سائر النساء، وذلك لأن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لأصحابه: «فاطمة سيدة نساء أهل
الجنة» ومعلوم أن الحور العين ونساء أهل الجنة لا يطمثن ولا يرين دما، وهن
مطهرات من القذر الدنيوي فكيف تكون نساء الجنة مطهرات من عادة نساء الدنيا
وتبتلى بها سيدتهن؟! ومعلوم أن دخول الجنة فرع صفاء الروح والجسد، فمتى ما
صفا الروح والجسد استحق مجاورة الواحد الأحد - جل سلطانه - ومجاورة الأنبياء
العظام، وفاطمة الزهراء دخلت بصفاء وعاشت فيها بصفاء وأقبلت على دار
الصفاء وجنة الخلد بصفاء والتحقت بالطاهرين من عباد الله الصالحين.
أقول: بناء على ما سيأتي من الأخبار والأحاديث، فإن فاطمة الزكية كانت
كاملة مبرأة من كل عيب ونقص يعرض على نساء الدنيا، وكانت طاهرة مطهرة
من العادة ولم تر حمرة قط، لأن رؤية الدم غاية في النقصان ومناف لكمال الإيمان
الذي اتصفت به سيدة نساء العالمين أرواحنا وأرواح العالمين لها الفداء (1).
وما أهجن وأقبح ما أخرجه الترمذي في جامعه عن عائشة أنها قالت



(1) سنبين هذا المطلب بيانا وافيا في الكلام عن أحوال السيدة مريم (عليها السلام) إن شاء الله. (من المتن)
158
«[كنت] أرجل رأس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنا حائض» (1) فما أشنع إظهارها وإعلانها
عن هذا الأمر، وإن كان ما أخرجه الترمذي لا يخلو من فائدة لمعاشر الشيعة،
حيث أنهم يريدون تفضيل مثل هذه على المطهرين والمطهرات!!



(1) سنن النسائي 1 / 148 باب غسل الحائض رأس زوجها.
159
الخصيصة الثالثة (من الخصائص العشرين)
في معنى «الطاهرة»
من الألقاب الشريفة للصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) «الطاهرة»، وهذا اللقب
من الأوصاف الذاتية للزهراء عليها السلام والتحية والإكرام.
وهو مشتق من «الطهر» بالضم، وهو النزاهة والنظافة كما في المجمع;
«والمطهر المنزه، والطهورين الماء والتراب، وجمعه طهارى من دون قياس، وأهل
اللغة يقولون: امرأة طاهر من الحيض وطاهرة من النجاسة والعيوب، والطهور:
المطهر، قال تعالى: (وأنزلنا من السماء ماءا طهورا) (1) قال تغلب: الطهور الطاهر
في نفسه المطهر لغيره، وقوله تعالى: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب
المطهرين) (2) قيل: المراد الطهارة من الذنوب، والأكثر أنها الطهارة من
النجاسات. وقوله تعالى: (وأزواج مطهرة) (3) أي نساء مطهرة من الحيض
والحدث ودنس الطبع وسوء الخلق. وقوله تعالى: (صحفا مطهرة) (4) أي لا



(1) الفرقان: 48.
(2) التوبة: 108.
(3) آل عمران: 15.
(4) البينة: 2.
160
يمسها إلا الملائكة المطهرون، وقيل: مطهرة عن الباطل والكذب والزور، وفي
الحديث: «الطهور شطر الإيمان». والطهر بالضم: نقيض الحيض، والإطهار أيام
طهر المرأة» (1).
والآن فليعلم محبي الذرية الطاهرة أن الزبير بن بكار قال في حديثه عن
أحوال خديجة الكبرى (عليها السلام) «وكانت تدعى في الجاهلية الطاهرة» وفي إسعاف
الراغبين «وكانت تدعى سيدة قريش»، فهذا اللقب موروث لفاطمة (عليها السلام) من أمها
إضافة إلى استحقاقها الذاتي.
روى الشيخ الصدوق في علل الشرائع والأمالي عن الصادق (عليه السلام) قال:
«لفاطمة تسعة أسماء»... وعد منها «الطاهرة» ثم فسر معنى فاطمة (2).
قال الكفعمي (رحمه الله): الطاهر من أسماء الله، أي المنزه عن الأشباه والأمثال
والأضداد والأنداد وعن صفات الممكنات وحالات المخلوقات من الحدوث
والزوال والسكون والانتقال. والتطهر: التنزه عما لا يحل (3).
ولما كان لأسماء الله مظاهر في هذا العالم، كانت فاطمة الطاهرة مظهر اسم
«الطاهر»، ولم يكن لها مثال في المخلوقات ولا نظير في النساء.
روى المجلسي نور الله تربته عن كتاب مصباح الأنوار عن الباقر (عليه السلام) قال: إنما



(1) انظر مجمع البحرين 2 / 378 مادة «طهر».
(2) البحار 43 / 10 ح 1 باب 2 عن الأمالي والعلل ودلائل الإمامة للطبري والخصال بالسند: قال أبو
عبد الله (عليه السلام) لفاطمة تسعة أسماء عند الله عز وجل: فاطمة والصديقة والمباركة والطاهرة والزكية
والراضية والمرضية والمحدثة والزهراء ثم قال (عليه السلام): أتدري أي شئ تفسير فاطمة؟ قلت: أخبرني يا
سيدي. قال: فطمت من الشر. قال: ثم قال: لولا أمير المؤمنين (عليه السلام) تزوجها لما كان لها كفو إلى يوم
القيامة على وجه الأرض، آدم فمن دونه.
(3) المصباح للكفعمي: 457 في أسماء الحسنى وشرحها.
161
سميت فاطمة بنت محمد الطاهرة لطهارتها من كل دنس، وطهارتها من كل رفث،
وما رأت قط يوما حمرة ولا نفاسا» (1).
والرفث كما في قوله تعالى (فلا رفث ولا فسوق) (2): الفحش في الكلام.
وفي هذا الحديث إشارة إلى أن فاطمة (عليها السلام) مطهرة من الأخلاق الذميمة
والقبائح الباطنية علاوة على طهارتها من الأدناس والأرجاس البدنية والظاهرية.
وفي حديث المناقب المذكور عد الطاهرة من ألقابها الخاصة (3) وقال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنا أهل البيت أذهب الله عنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن» (4).
وستعرف في ذيل آية التطهير أن التطهير بمعنى التنزيه عن أي عمل قبيح.
ومتعلق الطهارة: إما الطهارة الظاهرية من الأخباث،
أو طهارة الجوارح عن الجرائم والمعاصي،
أو طهارة النفس من الأخلاق الردية الرذيلة،
أو طهارة السر عما سوى الله.
وهي موجودة بمراتبها الأربعة في تلك الطاهرة المطهرة، سيما المرتبة الرابعة
حيث أنها إقبال قلبي وتوجه كلي إلى الله وانقطاع صرف تام عن الخلق واتصال
كامل بالخالق. ولنعم ما قيل:
موانع چون در أين عالم چهار است * طهارت كردن از وى هم چهار است



(1) البحار 43 / 19 ح 20 باب 2.
(2) البقرة: 197.
(3) المناقب لابن شهر آشوب 3 / 406 في حليتها وتواريخها.
(4) البحار 23 / 116 ح 29 باب 7 وفيه: «وروى ابن البطريق أيضا في المستدرك من كتاب الفردوس عن
أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنا أهل...».
162
نخسيتن پاكى از احداث و أنجاس * دوم از شر نفس و شر وسواس
سوم پاكى زاخلاق ذميمه است * كه با وى آدمي همچون بهيمه است
چهارم پاكى سر است از غير * كه آنجا منتهى گردد بدان سير
هر آنكو كرد حاصل آن طهارت * شود بي شك سزاوار بصارت (1)
وفي الأمالي عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه دعا لأمير المؤمنين (عليه السلام)
وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) فقال:... «واجعلهم مطهرين من [كل] دنس (2)،
معصومين من كل ذنب، وأيدهم بروح القدس منك» (3)... الخ أفاد أن روح القدس



(1) يقول:
لما كانت الموانع في هذا العالم أربعة، كانت الطهارة منها على أربعة أقسام:
فالأولى الطهارة من الحدث والنجاسات، والثانية من شر النفس وشر الوسواس.
والثالثة الطهارة من الأخلاق الذميمة التي تجعل المرء أشبه بالبهيمة.
والرابعة طهارة السر من غير الله تعالى، وهو غاية السير ومنتهاه.
فمن وصل على تلك الطهارة، استحق أن ينعم عليه بالبصيرة.
(2) في المصدر: «من كل رجس» بدل «دنس».
(3) البحار 43 / 240 ح 20 باب 3 عن أمالي الصدوق: 393 ح 18 المجلس الثالث والسبعون وفيه: عن ابن
عباس: «إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان جالسا ذات يوم وعنده علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) فقال:
اللهم إنك تعلم أن هؤلاء أهل بيتي وأكرم الناس علي، فأحبب من أحبهم وأبغض من أبغضهم، ووال من
والاهم وعاد من عاداهم، وأعن من أعانهم واجعلهم مطهرين من كل رجس معصومين من كل ذنب
وأيدهم بروح القدس منك.
ثم قال (عليه السلام): يا علي أنت إمام أمتي وخليفتي عليها بعدي وأنت قائد المؤمنين إلى الجنة، وكأني أنظر إلى
ابنتي فاطمة قد أقبلت يوم القيامة على نجيب من نور عن يمينها سبعون ألف ملك وعن يسارها سبعون
ألف ملك وبين يديها سبعون ألف ملك وخلفها سبعون ألف ملك تقود مؤمنات أمتي إلى الجنة، فأيما امرأة
صلت في اليوم والليلة خمس صلوات وصامت شهر رمضان وحجت بيت الله الحرام وزكت مالها
وأطاعت زوجها ووالت عليا بعدي، دخلت الجنة بشفاعة ابنتي وإنها لسيدة نساء العالمين.
فقيل: يا رسول الله أهي سيدة نساء عالمها؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): ذاك لمريم بنت عمران، فأما ابنتي فاطمة فهي
سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين وإنها لتقوم في محرابها فيسلم عليها سبعون ألف ملك من
الملائكة المقربين وينادونها بما نادت به الملائكة مريم فيقولون: يا فاطمة (إن الله اصطفاك وطهرك
واصطفاك على نساء العالمين) [آل عمران: 37].
ثم التفت إلى علي (عليه السلام) فقال: يا علي إن فاطمة بضعة مني وهي نور عيني وثمرة فؤادي يسوءني ما ساءها
ويسرني ما سرها وإنها أول من يلحقني من أهل بيتي فأحسن إليها بعدي، وأما الحسن والحسين فهما
ابناي وريحانتاي وهما سيدا شباب أهل الجنة فليكرما عليك كسمعك وبصرك.
ثم رفع يده إلى السماء فقال: اللهم إني أشهدك إني محب لمن أحبهم ومبغض لمن أبغضهم وسلم لمن سالمهم
وحرب لمن حاربهم وعدو لمن عاداهم وولي لمن والاهم».
163
يلازم الصديقة الكبرى، فكيف يمكن - والحال هذه - أن تكون مدنسة بالدنس
والأرجاس؟! ومن كان مع الله كان بعيدا عن التدنس بما سواه.
وأشهد الله أن فاطمة طاهرة من الكدورات العنصرية والرعونات
البشرية، منزهة مقدسة، وجوهرها الذاتي وقلبها الملكوتي أقوى من كل الذوات
المقدسة، وقلبها المبارك أصفى من كل القلوب الصافية.
«وبعبارة أخرى: طاب ما طهر منها، وطهر ما طاب منها من العلل
والعادات على حسب الفطرة الأولى وعن الأقذار والأدناس والغواشي».
تبين لنا:
أولا: يقال للمرأة طاهر وطاهرة، والطهارة تعم الطهارة من الأدناس
الظاهرة والباطنة، وهي آكد في الاستعمال.
ثانيا: هذا اللقب يختص بالمرأة التي تكون أفضل نساء زمانها وأعلاهن
شأنا والتي تنقطع عنهن قداسة وزهدا وعلما وفضلا وحسبا ونسبا وأصالة ونبلا
وعصمة وعفة، كما عرفت خديجة المكرمة بهذا اللقب في زمانها واشتهرت بسيدة
قريش.

164
وإذا دقق الخبير الفطن المتتبع للآثار والسير، وأمعن في الأحاديث النظر،
علم جيدا أن أئمة الدين (عليهم السلام) إذا ذكروا الطهارة الصورية الظاهرية لفاطمة الزكية،
بينوا معها الطهارة المعنوية الباطنية أيضا، وهي المدار والمناط، والطهارة الظاهرية
تعود إليها، وهذا النحو من البيان ورد في الوحي الإلهي والتعليم السماوي في آية
التطهير (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (1).
مطهرون نقيات ثيابهم * تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا (2)
والبيت اقتباس من مضمون قوله تعالى: (وثيابك فطهر) (3).



(1) الأحزاب: 33.
(2) فرائد السمطين 1 / 14.
(3) المدثر: 4.
165
الخصيصة الرابعة (من الخصائص العشرين)
في معنى «السيدة»
السيدة: من الألقاب المباركة لحضرة الصديقة الكبرى (عليها السلام)، وهو لقب
جامع للمكارم والمحامد الحميدة والمعاني العديدة.
والسيدة: يعني الرب والمالك والشريف والقاضي والكريم، الحليم،
الرئيس، المقدم، المطاع، الصابر، المتحمل أذية القوم، وهي مشتقة من «ساد يسود
سيادة وأسادد وسيايد من غير قياس» (1).
وتستعمل غالبا بالإضافة والقيد، من قبيل: سيد القوم، وسيد السادات،
وسيد النبيين، وسيد الأوصياء، وسيدة النساء، وسيد شباب أهل الجنة.. وهكذا.
قال شارح الصحيفة: «والسيد الساجد الشريف والسؤدد والمجد والشرف،
وشاع استعماله عند العرف في الشرفاء أولاد الحسين بن علي (عليهما السلام)، ونقل أصله: إن
الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة».
وقال صاحب مجمع البيان في معنى السيد: «مأخوذ من السواد، سيد القوم
أي مالك السواد الأعظم، وهو الشخص الذي يجب طاعته لمالكه، هذا إذا استعمل



(1) انظر لسان العرب 6 / 422 سود.
166
مضافا، فأما إذا أطلق فلا ينبغي إلا لله تعالى» (1).
وفي صفة يحيى (عليه السلام) (إنه كان سيدا وحصورا ونبيا من الصالحين) (2) أي
مطاعا ومقدما على الناس.
ويطلق هذا اللقب في هذا الزمان على كل هاشمي وعلوي وفاطمي وهو
استعمال بالوضع الثانوي، ويمكن تطبيق أغلب المعاني المذكورة على هذه الأسرة
وإطلاق اسم «السيد» على أفرادها.
ويطلق أيضا على كل رجل أو امرأة لها الرئاسة والمطاعية في العائلة أو
القبيلة، فيقال: «سيد» أو «سيدة»، وهو ما يعبر عنه بالفارسية ب‍ «آقا» و «خانم»،
وبلغة أهل الحجاز ومصر - اليوم - يقال «الست»، وربما كان مخففا من «السيدة»
يقال في مصر «الست زينب»، «والست نفيسة» و «الست سكينة».
وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينهى (3) عن أن يدعى بهذا اللقب: «أدعوني نبيا ورسولا
ولا تسموني سيدا»، ولكنه قال لفاطمة (عليها السلام) «قولي: «أبة» ولا تقولي: يا رسول الله
فإنها أحيى للقلب...» (4).
ومن ألقاب الإمام الحسن (عليه السلام): السبط، والسيد، والمراد بالسيادة هنا أنه
فرد من أفراد النبوة والرسالة وجزء من أجزائها المنضمة تحتها والداخلة في طولها.
فكل رسول سيد، وليس كل سيد رسولا ونبيا، لأن أعلى درجات السيادة
- فرضا - هي الرئاسة والسلطنة، وهي الحكومة الدنيوية، وأين هذه من الحكومة



(1) مجمع البيان 2 / 285.
(2) آل عمران: 39.
(3) ولكنه (صلى الله عليه وآله وسلم) سمى نفسه سيدا في روايات متظافرة «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» أخرجها الفريقان.
(4) البحار 43 / 33 ح 39 باب 3.
167
والسلطنة الإلهية؟! كما بين ذلك المفسرون في تفسير قوله تعالى (قل اللهم مالك
الملك) (1).
فأقول: كانت فاطمة (عليها السلام) مالكة، شريفة، فاضلة، كريمة، صابرة، حليمة،
مطاعة، مقدسة، سيدة نساء الأولين والآخرين، وبهذه الصفات سادت وفاقت
الجميع.
ثم إنه روي عن الصادق (عليه السلام): «السيد من كان مع الحق صدقا، وباين الخلق
وصفا».
وعن ابن عباس: «السيد الصبور».
وعن سعيد بن جبير: «المطيع لربه».
وعن قتادة: «العالم العامل صاحب الورع».
وعن عكرمة: «من لا يغلبه الغضب».
وعن الضحاك: «من لا يحسد ولا يعاند».
وقال الزمخشري: «أي يسودهم ويفوقهم في الشرف» (2).
وهذه المعاني - جميعا - لا تنافي ولا اختلاف بينها، وهي كاختلاف البصريين
والكوفيين في وزنها وأصلها.
تأييد سديد
ذكر صاحب مجمع البيان في معنى السيد ووجوب إطاعته أمرين:



(1) آل عمران: 26.
(2) الكشاف 1 / 550 ذيل آية 39 من سورة آل عمران.
168
الأول: إن السيد من كان مطاعا في قومه.
الثاني: أن يعتقد القوم وجوب طاعته.
والأول: خاص والثاني عام.
والسيد هو من جعل الله وجوب طاعته واتباع أمره وحكمه على الخلق
أجمعين، وأوجب عليهم الإعتقاد بوجوب طاعته، وهذا هو معنى الولاية والإمامة.
والإمام هو من جمع العلم والعمل والحلم وإطاعة الله والورع والتقى، وباين
الخلق وصفا وحالا، وارتبط بالخالق شخصا وحقيقة، وجمع الملكات الأخرى
التي تعد من لوازم وجوده.
ومن المعلوم أن أية واحدة من هذه الملكات لا يمكن نفيها أو سلبها عن
فاطمة الزهراء (عليها السلام) أو اثبات صفة فيها على نحو النقصان وعدم الكمال. فالأمر
الأول متحقق في فاطمة بلا نقاش، كما قال لها أبو بكر «أنت سيدة أمة أبيك
والشجرة الطيبة لبنيك» ولكن كلامي في الأمر الثاني يعني وجوب إطاعة أمرها
عموما دون منصب الإمامة، فلو أمرت فاطمة (عليها السلام) أمرا أو حكمت حكما، فعلى
جميع الأفراد والآحاد أن يطيعوها ويعتقدوا فرض طاعتها.
وليست سيادتها ومطاعيتها راشحة من نسبتها إلى الرسول وحرمة بيته،
وإنما هي ثابتة لها شخصا دون ملاحظة الإنتساب إلى الرسول، فلها سيادتها
الخاصة، التي توجب على الجميع إطاعتها، وقولها قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسنذكر
أخبارا في هذا الكتاب تدل على وجوب العمل بأقوال فاطمة الزهراء (عليها السلام) عموما،
إلا ما خرج بالدليل.
وفي كتاب الصراط المستقيم: أمر رسول الله عليا بطاعة فاطمة (عليها السلام)، ومن

169
البديهي أن صاحب هذه المقامات والملكات لا ينطق عن الهوى، بل هو قول الله
وكلام الرسول الإمام الصادق الناطق، وسلسلة مباركة تتصل بمعدن الوحي
والتنزيل وتنحدر عنه.

170
الخصيصة الخامسة (من الخصائص العشرين)
في معنى «سيدة النسوان»
إعلم أن هذا اللقب العظيم مأخوذ من الحديث الشريف المتفق عليه بين
الفريقين «فاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين» (1)، وهو حديث لا
ينكره أهل السنة والجماعة، بل يستندون عليه في تفضيل هذه المخدرة الكبرى على
جميع النساء، وقد ورد في أغلب الأخبار بلفظ «سيدة النساء»، وورد في بعضها
بلفظ «سيدة النسوان» (2) والمعنى واحد.
والسيدة من ألقاب فاطمة الزهراء، وقد تبين معناها فيما مضى، والفرق بين
«السيدة» و «سيدة النسوان» في العموم والخصوص.
فلفظ «السيدة» مطلق لا قيد فيه، والظاهر أن سيادتها حينئذ لا تختص
بالنسوان، بل تعم الرجال وهي أفضل منهم، بينما «سيدة النساء» لقب يختص
بالنساء.
ومن تتبع أخبار الأئمة الأطهار وجد أن الغالب استعمال هذا اللقب
لفاطمة (عليها السلام) خاصة، إلا أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أطلق هذا اللقب الشريف على خديجة



(1) البحار 43 / 24 ح 20 باب 3.
(2) ورد هذا اللفظ في أحاديث عديدة منها ما في البحار 36 / 328 ح 184 باب 41.
171
الكبرى (عليها السلام) أيضا في مرثيته، ومن الواضح أن خديجة كانت تستحق هذا اللقب في
زمانها دون غيرها من النساء. ولقبت بالطاهرة أيضا، وكأنها ورثته لابنتها فاطمة
الزهراء (عليها السلام) بالاستحقاق. ويدل على ثبوت هذين اللقبين لخديجة (عليها السلام) قول
أمير المؤمنين (عليه السلام):
أعيني جودا بارك الله منهما * على هالكين لا ترى لهما مثلا
على سيد البطحاء وابن زعيمها * وسيدة النسوان أول من صلى
مهذبة قد طيب الله خيمها (1) * مباركة والله ساق لها فضلا (2)
قال أبو بكر تعقيبا على خطبة الصديقة الطاهرة التي خطبتها في المسجد في
قصة فدك فأبكت الحاضرين وفضحت الأدعياء وكشفت النقاب عن ظلمهم:
«وأنت سيدة أمة أبيك والشجرة الطيبة لبنيك» (3).
وفي كتاب الأمالي وغيره قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - في عدة مواضع -: «فاطمة
سيدة النساء» و «سيدة النسوان» وهذا كلام سيد الأنام حيث قال: «أما ابنتي
فاطمة سيدة نساء العالمين والأولين والآخرين وهي بضعة مني» (4).
ولا بأس بذكر بعض مضامين الأخبار الدالة على المراد في الباب من كتب
الخاصة والعامة:
روى السيد علي الهمداني الشافعي في «مودة القربى» عن ابن عباس قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أفضل رجال العالمين في زماني هذا علي (عليه السلام)، وأفضل نساء



(1) الخيم: الطبع والشيمة والخلق.
(2) البحار 35 / 143 ح 85 باب 3.
(3) البحار 29 / 113.
(4) البحار 43 / 240 ح 20 باب 3.
172
الأولين والآخرين فاطمة (عليها السلام)» (1).
ولا تنافي بين هذا الخبر الناص على أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أفضل رجال
العالمين في زمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبين الخبر الذي يقول [بأنه] «خير رجال العالمين في
كل زمان ومكان».
أيضا في الكتاب المذكور عن ابن عمر: خير رجالكم علي بن أبي طالب،
وخير شبانكم الحسن والحسين، وخير نسائكم فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (2).
وفي خصائص النسائي، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا فاطمة [أما ترضين إنك] تكوني
سيدة نساء هذه الأمة وسيدة نساء العالمين، فضحكت (3).
وفيه أيضا: يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء أمتي وسيدة نساء
المؤمنين (4).
وفيه أيضا: إن فاطمة بنتي سيدة نساء أمتي، وإن حسنا وحسينا سيدا
شباب أهل الجنة، وأبوهما خير منهما (5).
وعن مقاتل والضحاك عن ابن عباس: حسبك من نساء العالمين: مريم بنت
عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وأفضلهن عالما فاطمة (6).



(1) ينابيع المودة 2 / 298 ح 852 عن مودة القربى - المودة السابعة.
(2) ينابيع المودة 2 / 275 ح 788 عن مودة القربى - المودة الثالثة.
(3) الخصائص للنسائي 119.
(4) الخصائص للنسائي 118 وفيه «أو نساء المؤمنين».
(5) الخصائص للنسائي 118.
(6) البحار 43 / 36 ح 39 باب 3 وفيه «وأفضلهن فاطمة».
173
على أى حال (1) ففاطمة (عليها السلام) سيدة نساء هذه الأمة وسيدة نساء عالمها،
وسيدة نساء المؤمنين، وسيدة نساء الأولين والآخرين، وسيدة نساء أهل الجنة،
وسيدة نساء المسلمين، وسيدة النساء يوم القيامة، وسيدة النساء عموما دون
استثناء أو تخصيص. وقد وردت في ذلك أخبار كثيرة متظافرة.
ولما كانت فاطمة (عليها السلام) سيدة نساء أهل الجنة، صارت أفضل نساء الأولين
والآخرين، ولما كانت هذه الأمة خير الأمم بمفاد قوله تعالى: (كنتم خير أمة
أخرجت للناس) (2) وكانت الزهراء الصديقة خير نساء هذه الأمة، فهي - بطريق
أولى - خير نساء الأمم جميعا.
تفصيل فيه تفضيل
لا بأس بذكر مراتب فضل نساء العالمين بعد السيدة الصديقة الطاهرة (عليها السلام)،
وبيانه لا يخلو من فائدة إن شاء الله تعالى.
لا يخفى أن المعصومات من نساء العالمين من الأولين والآخرين هما امرأتان
فقط:
الأولى مريم (عليها السلام) بصريح الآية الكريمة (إن الله اصطفاك) (3).
والأخرى: فاطمة الزهراء (عليها السلام) بظاهر آية التطهير.
ولم يكن في سائر النساء معصومة سواهن، فلا تصل إليهن امرأة لعصمتهن،



(1) سنورد إن شاء الله تعالى أخبار وافية بالمقصود في خصائصها (عليها السلام) الأخرى وإن كان تفضيل تلك
المخدرة الكبرى على نساء العالمين من المتواترات. (من المتن)
(2) آل عمران: 110.
(3) آل عمران: 37.
174
وإن وصلت إلى الكمال في مرتبة الأنوثة، ويشهد لذلك الحديث الشريف «ما كمل
من النساء إلا أربعة» (1).
نعم; ذهب جماعة إلى تفضيل خديجة على مريم، وقالوا: إن فضائل خديجة
لا تقل عن فضائل مريم، واستشهدوا لذلك بحديث «فضلت خديجة على نساء
أمتي، كما فضلت مريم على نساء العالمين» ونظائره، واستدلوا أيضا بأدلة قوية
أخرى.
أقول: هذا الحديث يفيد المثلية والتساوي، ولا يفيد الأفضلية.
ثم إن قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا كان في وقت لم تكن فيه فاطمة (عليها السلام)، فلما
ولدت (عليها السلام) خصها به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإن كانت خديجة أفضل، فهي أفضل نساء
زمانها كمريم بنت عمران، ولكنها نالت شرف التلقيب ب‍ «أم المؤمنين» حتى بعد
وجود العصمة الكبرى فاطمة الزهراء (عليها السلام).
وقد ذكرنا سابقا أن خديجة كانت معروفة ب‍ «سيدة النسوان» كما نعتها بذلك
أمير المؤمنين (عليه السلام) في شعره. ففاطمة (عليها السلام) أفضل نساء العالمين بما فيهم خديجة (عليها السلام).
ولما كانت مريم مخصوصة بموهبة العصمة، كانت أفضل من خديجة أيضا
بهذا اللحاظ أما في غيرها من الصفات المتعلقة بالنساء، فقد بلغت خديجة فيها
كمال الكمال، فلا تكون دون مرتبة مريم في تلك الصفات والأوصاف.
وإن كانت مريم قد ولدت نبيا، فقد ولدت خديجة الطاهرة فاطمة المطهرة،
وبناء على القول بتفضيل الخمسة الطيبة على أولي العزم، تكون فاطمة الزهراء
بنت خديجة أفضل من كلمة الله عيسى ابن مريم.



(1) كنز العمال ج 12 ح 34408.
175
أجل... هذا طريق مظلم ودقيق.
أي پسر گوش دگر بهر سماعش بگشاى * كان سخن نيز مؤدى به زبان دگر است (1)
وولدت مريم عيسى وهي بكر، وولدت خديجة بنتا كانت بكرا دائما - كما
سيأتي في معنى العذراء -.
الخلاصة: تأتي خديجة بعد مريم، ومن بعد خديجة سارة خاتون، ثم آسية
امرأة فرعون، ثم النساء اللواتي ذكرهن الله في القرآن المجيد تلويحا وتصريحا، مثل
حواء وأم مريم وبلقيس وأمثالهن من أمهات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الطاهرات المطهرات
العفائف، وأمهات الأئمة الطاهرين أيضا، اللواتي كن من العقائل الكريمات
والعفائف المطهرات والمخدرات المكرمات ونظائرهن، وأفضل الجميع آمنة بنت
وهب أم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) التي نقلت من الأبواء ودفنت إلى جوار خديجة الكبرى (عليها السلام).
ثم البنات الطاهرات لبعض الأئمة الأطهار كن خيار النسوان، مثل السيدة
زينب (عليها السلام) وأم كلثوم والسيدة سكينة وفاطمة المعصومة والسيدة حكيمة، وقد
ذكرهن رجاليو الإمامية والعامة بالفضل والشرف والحسب والنسب.
ثم بعض أمهات المؤمنين وزوجات خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم)، مثل أم سلمة
وغيرها من ذوات الفضل العظيم، اللواتي نزل في حقهن الذكر الحكيم في آية سورة
الأحزاب (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن فلا تخضعن بالقول...) (2)
الخ.



(1) يقول: يا بني أصغ بأذن أخرى، فهذا الحديث مؤدى بلسان مختلف.
(2) الأحزاب: 32.
176
ثم النساء الأخريات ممن اتصفن بالصفات العشرة التي أخبر عنها الله تبارك
وتعالى (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات
والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين
والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله
كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا كبيرا) (1).
وهكذا تتفاضل باقي النساء بمقدار توفرهن على هذه الصفات الحميدة،
وترسخهن في الملكات السديدة.



(1) الأحزاب: 35.
177
الخصيصة السادسة (من الخصائص العشرين)
في معنى «الحوراء»
الحوراء: من ألقاب الطيبة فاطمة الزكية.
وجمعه «الحور» بالضم، وحور حوران. والحور - كما في المجمع - جمع حوراء
- بالفتح والمد - وهي الشديدة بياض العين في شدة سوادها، قال تعالى (حور
مقصورات في الخيام) (1) وقال تعالى: (حور عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون *
جزاء بما كانوا يعملون) (2).
والعين: جمع عيناء، وهي الواسعة الحسنة العين، وإنهن خلقن من تسبيح
الملائكة.
والحوراء سوداء العين كلها مثل أعين الظباء.
والحور: أي الرجوع إلى النقصان والبياض، والمصدر أحور.
ويلاحظ في صفة هذه المخدرة غالبا تعبير ب‍ «الحوراء الإنسية»، يعني أن
فاطمة حورية بصورة الإنس، كما ورد في البحار عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «فاطمة حوراء



(1) الرحمن: 72.
(2) الواقعة: 22 - 24.
178
إنسية» أو «حوراء آدمية لم تطمث ولم تحض» (1).
وأيضا في الكتاب المذكور عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث طويل:
«ففاطمة بضعة مني وهي نور عيني وثمرة فؤادي وروحي التي بين جنبي وهي
الحوراء الإنسية» (2).
وروى المرحوم ثقة المحدثين في كتاب مولد فاطمة عن أسماء بنت عميس،
عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إن فاطمة خلقت حورية في صورة إنسية» (3).
وفي الأخبار المعراجية قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «ثم تقدمت أمامي فإذا أنا برطب
ألين من الزبد، وأطيب رائحة من المسك، وأحلى من العسل، فأخذت رطبة
فأكلتها، فتحولت الرطبة نطفة في صلبي، فلما أن هبطت إلى الأرض واقعت
خديجة فحملت بفاطمة، ففاطمة حوراء إنسية، فإذا اشتقت إلى الجنة شممت
رائحة فاطمة (عليها السلام)» (4).
وفي عيون الأخبار عن عبد السلام بن صالح الهروي قريب منه.
وروي عن أهل البيت (عليهم السلام) وتبعهم المفسرون من الشيعة الإمامية في ذيل
الآية المباركة (وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد) (5) قال: فيها
أزواج مطهرة لا يحضن ولا يحدثن (6). وقد اتفق الفريقان أن فاطمة (عليها السلام) سيدة



(1) البحار 43 / 4 ح 3 باب 1.
(2) البحار 43 / 172 ح 13 باب 7.
(3) البحار 43 / 7 ح 8 باب 1.
(4) البحار 43 / 6 ح 5 باب 1.
(5) آل عمران: 15.
(6) تفسير القمي 1 / 106، تفسير نور الثقلين 1 / 321 ح 57.
179
الأزواج المطهرة من الحور العين ونساء الجنان، وطهارتهن في الجنة من الأخباث
الصورية ناشئ من طهارتهن المعنوية.
وروي في حديث آخر في صفة الحور العين أنهن خلقن من تربة الجنة
النورانية، وأن مخ ساقهن ليرى من وراء سبعين حلة (1). وحقا قيل: «أين التراب
ورب الأرباب».
ولنعم ما قيل:
وما عهدي تحب تراب أرض * ولكن من يكون بها حبيب
روي في أحاديث أهل بيت العصمة (عليهم السلام) أن الحور العين خلقن من نور
الوجود الفاطمي المقدس، وخلقت هي في صورتها الإنسية من رطب الجنة،
وشتان بين المنشأين؟
وفي حديث الإحتجاج على الزنديق من كتاب الإحتجاج (2) «أن الحوراء
خلقت من الطيب لا تعتريها عاهة ولا يخالط جسمها آفة (3)... الخ
وروي: لو أن حوراء بزقت في بحر لعذب ذلك البحر.
ولقد أجاد:
على نفسه فليبك من ضاع عمره * وليس له منها نصيب ولا سهم
وفي الخبر: إذا مشت الحورية سمع من خلخالها التسبيح، وضحك عقدها
وهو من ياقوت، ومجد شراك نعلها وهو من ذهب، وعليها سبعون حلة بسبعين



(1) البحار 8 / 121 ج 11 باب الجنة ونعيمها.
(2) وسيأتي ذكره في الكلام عن معنى «العذراء». (من المتن)
(3) البحار 8 / 136 ح 48 باب الجنة ونعيمها.
180
لون وسبعين نوع من الطيب، كل طيب له رائحة غير الأخرى... الخ.
وأسكر القوم دور كأس * وكان سكارى من المدير
وفي معنى قوله تعالى (لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا) (1).
قال ابن عباس: «بينا أهل الجنة في الجنة بعد ما سكنوا رأوا نورا أضاء
الجنان، فيقول أهل الجنة: يا رب إنك قد قلت في كتابك المنزل على نبيك المرسل
(لا يرون فيها شمسا) فينادي رضوان: ليس هذا نور الشمس ولا نور القمر، وإن
عليا وفاطمة ضحكا فأشرقت الجنان من نور ضحكهما» (2) وفيهم نزلت سورة
«هل أتى».



(1) الإنسان: 13.
(2) أمالي الصدوق 333 ج 11 المجلس 44، عنه البحار 35 / 241، البرهان 4 / 412 ح 6، مناقب ابن شهر
آشوب 3 / 376، القطرة للمستنبط 1 / 263 الباب الثالث ح 252.
181
الخصيصة السابعة (من الخصائص العشرين)
في معنى «العذراء»
العذراء: لقب شريف من الألقاب الكريمة لفاطمة (عليها السلام).
في مجمع البحرين: عذراء مثل حمراء: البكر، لأن عذرتها - وهي جلدة
البكارة - باقية، وجمعها عذارى بفتح الراء وكسرها. يقال أبو عذرتها أي هو الذي
افتضها، وفي الحديث «دفن في الحجر مما يلي الركن الثالث عذارى بنات
إسماعيل (عليه السلام)».
والعذار بالكسر: الختان، ومنه الخبر المعروف «لا وليمة إلا في عذار».
وقال في معنى البكر: والبكارة أيضا عذرة المرأة، وفي تفسير قوله تعالى
(فجعلناهن أبكارا) (1) قال: وهي العذراء من النساء التي لم تمس.
وفي قوله تعالى (لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان) (2) في مدح الحور العين
أي لم يمسهن إنس ولا جان، والطمث المس.
والبكر هي العذراء من النساء، والبكارة عذرة المرأة.
فإن كان المراد أن فاطمة كانت باكرا في وقت ما، فليس في ذلك فضيلة



(1) الواقعة: 36.
(2) الرحمن: 56 و 74.
182
وصفة خاصة; فالأغلب على ذاك بل المراد دوام البكارة مع الزوجية والإيلاد،
فتكون كرامة لفاطمة وفضيلة خاصة من خصائص الزهراء (عليها السلام). وهو من معاني
البتول كما مضى في قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة بتول لأنها ترجع بكرا كل ليلة، ومريم
بتول لأنها ولدت عيسى بكرا.
قال المرحوم الفيض في الصافي ذيل قوله تعالى (فجعلناهن أبكارا) (1) يعني
دائما (2).
وفي كتاب الإحتجاج سئل الصادق (عليه السلام): فكيف تكون الحوراء في كل ما
آتاها زوجها عذراء؟ قال: إنها خلقت من الطيب - وفي حديث من تربة الجنة
النورانية - لا تعتريها عاهة، ولا تخالط جسمها آفة (3).
وهذا من فضل الله تعالى عليها ومن مزاياها الخاصة في الآخرة والأولى.
وقد مر في الكلام عن الألقاب السابقة قوله (عليه السلام): «فما كمل أحد من النساء
إلا أربعة، خيرهن فاطمة (عليها السلام)» فلا بد أن تكون فاطمة كاملة في أنوثتها لا يعتريها
نقص، ومن الكمالات الممدوحة في النساء غاية المدح دوام البكارة مع المباشرة
وهكذا كانت فاطمة (عليها السلام).
وبعبارة أخرى كانت صفات الحور العين من عدم الحيض ودوام البكارة
ظاهرة في تلك المخدرة العظمى.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أعطاني الله فاطمة العذراء ترجع كل ليلة بكرا، ولم



(1) الواقعة: 36.
(2) تفسير الصافي 7 / 92.
(3) البحار 8 / 136 ح 8; وقد أورد المؤلف (قدس سره) تمام الرواية، إلا أننا أوردنا محل الشاهد وأعرضنا عن نقل
باقي الرواية مما لا علاقة له بموضوع الشاهد».
183
يعط ذلك أحد من النبيين، والحسن والحسين (عليهما السلام) ولم يعط أحد مثلهما، وأعطاني
صهرا مثلي، وأعطاني الحوض وقسمة الجنة والنار ولم يعط الملائكة، وجعل
شيعته في الجنة، وأعطاني أخا مثلي وليس لأحد أخ مثلي» (1).
هذا ما أخبرنا به السيد المختار والأئمة الأطهار (عليهم السلام)، وقد أخبرونا حقا
وقالوا صدقا.



(1) بحار الأنوار 39 / 89 ح 1 و 2 باختلاف بعض الألفاظ.
184
الخصيصة الثامنة (من الخصائص العشرين)
في معنى «التقية»
التقية: وهو أشرف ألقاب أم الأئمة الأطياب (عليهم السلام)، وهو مشتق من وقى يقي
وتقوى وتقاة وتقية، والمعنى وقاية، قال أهل اللغة: تقي في الأصل «وقى»، أبدلت
الواو تاء، وتقوى أصلها وقوى، على وزن نجوى وتقاة وقاة، فقلبت الواو تاء، من
وقيته أي منعته، والوقاية الإمتناع، وإنما قلبت الواو تاء، لأنه كان في الأصل أوتقى
على افتعل، فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وأبدلت منها التاء وأدغمت، فلما
كثر استعماله على لفظ الافتعال، توهموا أن التاء من نفس الحرف فجعلوه اتقى يتقي
بفتح التاء فيهما مخففة، ثم لم يجدوا له مثالا في كلامهم يلحقونه به، فقالوا تقي يتقي
مثل قضى يقضي، والأمر فيه للرجل «ق» وللمرأة تقي، بني الأمر على المخفف،
فاستغنى عن الألف فيه بحركة الحرف الثاني في المستقبل، وق على ظلعك أي
ألزمه، وفي الذكر الحكيم (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا) (1).
والوقاية بالكسر التي للنساء، والوقاء بالفتح ما وقيت به شيئا.
والإتقاء بمعنى الخوف والحذر، وقوله تعالى (واتقوا الله حق تقاته) (2)،



(1) التحريم: 6.
(2) آل عمران: 102.
185
وقوله تعالى (أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) (1) أي تخاف الله على أي حال.
والتقي هو من يخاف الله ويرى حضوره ويجتنب المعاصي ويتورع، قال
الطبرسي (رحمه الله): المتقي من أطاع الله ولم يعصه، وشكر نعمته ولم يكفرها، وذكر الله ولم
ينسه، وهو المروي عن الصادق (عليه السلام) (2).
وذكر المفسرون وعلماء الأخلاق معان ومراتب للتقوى لا تنتهي بمقام إلا بما
قاله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «اللهم اجعلنا من أهل التقوى والمغفرة»، وقد ذكرت تمام مراتب
التقوى في قوله تعالى (ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم
الفائزون) (3).
فمن اتصف بهذه الصفات فهو تقي إن كان رجلا، وتقية إن كان امرأة، والمعنى
واحد فيهما.
روي في علة تلقيب الجواد (عليه السلام) بالتقي: إنه اتقى الله فوقاه الله شر المأمون لما
دخل عليه بالليل وهو سكران فضربه بسيفه حتى ظن أنه قتله، فوقاه الله شره» (4).
والآن يلاحظ القارئ المتأمل أن الزهراء لم تلقب بالتقية النقية لمجرد التلقيب
والاشتهار بهذا اللقب، وإنما كانت هي كلمة التقوى، وليس في نساء العالمين امرأة
مثلها في الخوف والخشية والطاعة والامتثال.
وأهل الحق والأولياء يزورونها بهذه الصفة ويعرفون أنها حقيقة التقوى
وتمامها.



(1) مريم: 18.
(2) مجمع البحرين 6 / 448.
(3) النور: 52.
(4) البحار 50 / 16 ح 23 باب 1.
186
قال بعض العارفين: إن خيرات الدنيا والآخرة جمعت في كلمة واحدة وهي
«التقوى»، وقد ذكر الله تبارك وتعالى خصال التقوى في اثنى عشر موضعا من
كتابه، منها ما كان في مقام الإكرام والتفضيل كما في قوله تعالى (إن أكرمكم عند الله
أتقاكم) (1).
وفي الصحيفة السجادية: «اللهم وأنطقني بالهدى والمداومة على التقوى،
ووفقني للتي هي أزكى، واستعملني بما هو أرضى، اللهم اسلك بي الطريقة المثلى
واجعلني على ملتك أموت وأحيى» (2).



(1) الحجرات: 13.
(2) دعاء مكارم الأخلاق.
187
الخصيصة التاسعة (من الخصائص العشرين)
في معنى «الحرة»
الحرة: وهو لقب مأثور من الألقاب النبيلة للعصمة الكبرى فاطمة
الزهراء (عليها السلام): يقال للمرأة «حرة» خلاف الأمة، وللرجل «حر» وخلافه العبد، قال
في المجمع: «الحرة خلاف الأمة» (1).
وقيل: «العبد يقرع بالعصا والحر تكفيه الإشارة».
وقيل: «الحر حر وإن مسه الضر، والعبد عبد وإن ألبسته الدر».
وقيل:
تمسك إن ظفرت بود حر * لأن الحر في الدنيا قليل
والحرة جمعها حرائر على غير قياس، لأن القياس حرر، كغرفة وغرف.
و (تحرير رقبة) (2) أي عتق رقبة.
والحر من الطين والرمل ما خلص من الإختلاط بغيره.
والحرير من الثياب الإبريسم، ولعله سمي بذلك لخلوصه، قال تعالى:



(1) مجمع البحرين 3 / 264.
(2) النساء: 92.
188
(جزاهم بما صبروا جنة وحريرا) (1).
وسمي المحرر محررا لتخليصه الصحاح من الأغلاط، يقال: حررت الكتاب
تحريرا، أي خلصته من الغلط.
وورد في التفسير عن أهل البيت (عليهم السلام) في قوله تعالى: (إني نذرت لك ما في
بطني محررا) (2) أي مخلصا لك ومفردا لعبادتك، ومنه تحرير الولد وهو أن تفرده
لطاعة الله وخدمة المسجد (3).
وورد الحث في أخبار الأئمة الأطهار على التزويج بالحرائر دون الإماء «لأن
الأمة مبتذلة غير مؤدبة، فلم تحسن تأديب أولادها بخلاف الحرة» (4) ونعم ما قيل:
إذا لم يكن في منزل المرء حرة * رأى خللا في ما تولى الولائد
فلا تتخذ من بينهن قعيدة * فهن لعمر الله بئس القعائد
وفي نسخة «فلا تتخذ منهن حر قعيدة».
قال تعالى: (والقواعد من النساء) (5) اللواتي يئسن من المحيض والولد ولا
يطمعن في نكاح ولا يستطعن القيام لكبر سنهن، فقد قعدن عن التزويج لعدم
الرغبة فيهن; واحدتهن «قاعد» بغير هاء كما في المجمع (6).
والقعيد هو الجليس، والقعيدات السروج والرحال.



(1) الإنسان: 12.
(2) آل عمران: 35.
(3) مجمع البحرين 3 / 264.
(4) مجمع البحرين 3 / 264.
(5) النور: 60.
(6) مجمع البحرين 3 / 128.
189
وحرائر بيض وصف للنساء.
ومن معاني الحرة الكريمة (1).
وفاطمة الزهراء (عليها السلام) سيدة الحرائر وكريمة الأطياب والأنساب.
ومعنى هذا الوصف أنها خلصت من العبودية وصارت أمة خالصة للحق
تعالى، وبه سادت نساء العالمين وتشرفت عليهن.
وفي البحار في حديث عبادة فاطمة (عليها السلام) أن الحق تعالى قال «فاطمة سيدة
إمائي» (2) أي إن كل النساء إماء وهذه سيدتهن، فهي الحرة من بينهن ولها اختيار
من تشاء منهن لتكون أمة، ولها الحكم عليهن.
وإنما حصلت فاطمة هذا المقام بعبوديتها لله وكمال فخرها في كونها أمة لله،
فلها الشرف في هذه النسبة كما سأل ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من ربه الواحد أن يجعله «عبدا
لله» وقال: «كفى بي فخرا أن أكون لك عبدا» (3).
ولهذا صدرت ذكر هذا اللقب في أول القائمة عند تعداد ألقابها باعتبار أن
مفاخر كل الألقاب راشحة منه، وكل شرف يأتي تلو هذا الشرف، وبمقتضى الآية
الكريمة (ليعبدوا الله مخلصين) (4) فإن الإخلاص في العبادة شرط أساس، بل
العبادة بلا خلوص فاسدة.
والحرة: هي المرأة التي تكون عبادتها خالصة، فإذا اتصفت بهذه الصفة
وتطابق الاسم والمسمى، يأتي هذا اللقب الشريف من مصدر الوحي ومبدأ



(1) مجمع البحرين 3 / 264.
(2) البحار 43 / 172 ح 13 باب 7.
(3) البحار 38 / 340 ح 14 باب 68.
(4) البينة: 5.
190
التنزيل ليوشح العابدة المخلصة.
وسنكتفي بذكر حديث واحد في هذا الباب:
روى المجلسي (رحمه الله) عن كتاب سليم بن قيس في مرض الزهراء (عليها السلام) وعيادة
عمر وأبي بكر لها واعتذارهما من ذنبهما «فقاما فجلسا بالباب ودخل علي (عليه السلام) على
فاطمة (عليها السلام) فقال لها: أيتها الحرة فلان وفلان بالباب يريدان أن يسلما عليك، فما
ترين؟
قالت (عليها السلام): البيت بيتك والحرة زوجتك، فافعل ما تشاء.
فدخلا وسلما وقالا: إرضي عنا رضي الله عنك.
فقالت: ما دعاكما إلى هذا؟
فقالا: اعترفنا بالإسائة ورجونا أن تعفي عنا وتخرجي سخيمتك.
فقالت: فإن كنتما صادقين فأخبراني عما أسألكما عنه، فإني لا أسألكما عن
أمر إلا وأنا عارفة بأنكما تعلمانه، فإن صدقتما علمت أنكما صادقان في مجيئكما.
قالا: سلي عما بدا لك.
قالت: نشدتكما بالله هل سمعتما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: فاطمة بضعة مني فمن
آذاها فقد آذاني؟
قالا: نعم.
فرفعت يدها إلى السماء، فقالت: «اللهم إنهما قد آذياني فأنا أشكوهما إليك
وإلى رسولك، لا والله لا أرضى عنكما أبدا حتى ألقى أبي رسول الله وأخبره بما
صنعتما فيكون هو الحاكم فيكما» (1).



(1) كتاب سليم بن قيس 254. وسيأتي هذا الحديث في الخصيصة الآتية.
191
الغرض من ذكر هذا الخبر خطاب أمير المؤمنين لفاطمة المخدرة بهذا اللقب
النبيل الجليل; والسبب في ذلك قد يعود إلى وجهين:
الأول: كأنه (عليه السلام) يريد أن يقول لها: يا فاطمة إني لا ألزمك بالإذن لهما فأنت
«حرة» مختارة مطاعة، لك أن تأذني لهما ولك أن تمنعيهما، والأمر موكول لرضاك،
فإن شئت وإلا فلا. فأجابته (عليها السلام) بكمال الأدب: إني وإن كنت «حرة»، إلا أني
مطيعة لك لا أتخلف عن أمرك.
وفي خبر «الحرة أمتك» أي إني وإن كنت حرة، إلا أن البيت بيتك وأنا أمتك
أطيعك فيما تأمر.
الوجه الثاني: مبني على أن معنى الحرة هي الكريمة، وعادة الكرام أن يقدم
مدحهم وذكر كرمهم وجودهم قبل الحاجة ليكون سببا في استدرار عطفهم
واستدراج كرمهم لإنجاح الطلب والوصول إلى المسؤول، فكأنه (عليه السلام) قال: يا
فاطمة هذان استأذناني في الدخول، فلو أذنت لهما بكرمك وعطفك، فأجابت
بأدب: أنا لست الحاكمة في هذا البيت، وليس لي فيه شئ معك، فأنت الآمر
الناهي.
وإن كان معنى الحرة «الخالصة»، فكأنه (عليه السلام) قال: عملك خالص ليس فيه
شئ من التعلقات الدنيوية والميولات النفسانية، وليس في طينتك وسجيتك
غلظة ولا فظاظة، فلا تؤذي نفسك وأغضي عما طلبا مني وأذني لهما بالدخول
والإعتذار فإن هذا الإعتذار إقرار منهما وتأكيد لشناعة فعلهما، وطلبهما الإعتذار
دليل على أنهما ظلما وجاءا يطلبان الصفح بكرمك ويريدان العفو منك. فأذنت (عليها السلام)
لهما وحاججتهما وأسكتتهما فأذعنا، ثم طردتهما من عندها وأجلت الخصومة

192
والحكم إلى يوم القيامة حتى يقضي بينهم أحكم الحاكمين وشخص النبي الأمين
خاتم المرسلين، ونعم الحكم الله والخصيم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولا يخلو ما ذكر من مناسبة مع «تحرير رقبة» فلا يبعد منها عليها - لو عفت
- أن تعفو عنهما، والمقام مقام العفو والصفح، سيما لو كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يشير
عليها بذلك، ولكن تبقى ظلامتها هي الظلامة الأولى التي سيسأل عنها يوم
القيامة، لأنها إن عفت فإن الله لا يعفو!!
بنت من؟ أم من؟ حليلة من؟ * ويل لمن سن ظلمها وأذاها

193
الخصيصة العاشرة (من الخصائص العشرين)
في معنى «الحصان»
الحصان: وهو لقب من ألقابها الشريفة سلام الله عليها.
والإحصان: طلب الرجل الزوجة، فهو محصن، بالفتح، والمحصنة المرأة
المتزوجة.
والحصان بالفتح والحصناء: المتعففة الظاهرة بالتقوى، الكريمة الحرة.
والحصان: النجيب من الخيل لأن ظهره كالحصن لراكبه، أو لأنه حصين
بمائه إلا على كريمة.
ويقال: حصنت المرأة حصنا أي عفت فهي حاصن. قال صخر أخو
الخنساء:
والله لا أمنحها شرارها * وهي حصان قد كفتني عارها
ولو أموت فرقت خمارها * وجعلت من شعرها صدارها
وروى علماء العامة بيتا عن حسان بن ثابت في مدح عائشة قال:
حصان رزان ما تزن بريبة * وتصبح غرثى من لحوم الغوافل (1)
الحصان: العفيفة، والرزان: الوقار; وما تزن بريبة: لم تتهم، ومعنى الشطر



(1) مجمع البحرين 6 / 236.
194
الثاني: أنها تصبح جائعة غير أنها لا تطعم لحوم الغافلين بالغيبة.
قال في مجمع البحرين: المحصنات المؤمنات: أي الحرائر العفيفات; قال
تعالى: (فمن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات) (1) قيل: أي من لم يستطع
ماليا أن ينكح حرة، فلينكح أمة، لأنها أخف مؤنة وأقل نفقة.
قال المرحوم المحقق الفيض الكاشاني: الطول: الغنى، والإحصان: العفاف،
والنكاح في مقابل الزنا والسفاح، ويشهد له قوله تعالى: (وآتوهن أجورهن
بالمعروف محصنات غير مسافحات) (2) فقابل المحصنات بالمسافحات، وهن
النساء الزواني (3).
وفي كتاب ثواب الأعمال عد قذف المحصنة من الذنوب الكبيرة (4).
والمحصنة بفتح الصاد المعروفة بالعفة كانت ذات زوج أو لم تكن. فتبين أن
غير ذات الزوج يقال لها عفيفة إذا عفت.
قال تعالى في مريم (عليها السلام): (والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا
وجعلناها وابنها آية للعالمين) (5).



(1) النساء: 24.
(2) النساء: 25.
(3) انظر تفسير الصافي 2 / 216.
(4) بحار الأنوار 79 / 12 ح 14 باب 68 عن ثواب الأعمال: عن أحمد بن عمير الحلبي قال: سألت أبا
عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) قال: من
اجتنب ما أوعد الله عليه النار إذا كان مؤمنا كفر عنه سيئاته. والكبائر السبع الموجبات النار: قتل النفس
الحرام، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، والتعرب بعد الهجرة وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، والفرار
من الزحف.
(5) الأنبياء: 91.
195
وقال تعالى: (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا لتبتغوا عرض
الحياة الدنيا) (1) أي تعففا.
روى المجلسي (رحمه الله) بيتين عن حسان بن ثابت في مدح الصديقة الكبرى، وقد
اقتبسها من كلام الملك العلام:
وإن مريم أحصنت فرجها * فجائت بعيسى كبدر الدجى
فقد أحصنت فاطم بعدها * فجائت بسبطي نبي الهدى (2)
وروى في كتاب المناقب لمحمد بن شهر آشوب (رحمه الله) والخرايج والجرايح، قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن فاطمة أحصنت فرجها، فحرم الله ذريتها على النار» (3).
وتختص الذرية الطيبة لفاطمة الطاهرة (عليها السلام) - كما في بعض الأخبار المعتبرة -
بالحسنين (عليهما السلام) وزينب وأم كلثوم. قال الصادق (عليه السلام): «المعتقون من النار هم ولد
بطنها: الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم» (4).
تبين مما مر أن تحصين سيدة نساء العالمين عاد عليها بعدة أمور:
أحدها: أن الله وهبها هذين الإمامين الهمامين، وجعل لكل واحد منهما نسلا
كثيرا وذرية مباركة، بحيث يكون عيسى ابن مريم (عليه السلام) تابعا ولازما لأحد أولادهم
في آخر الزمان، وكفى بذلك شرفا وفخرا.
والآخر: أن النار حرمت على ذريتها الطاهرة، كما في معاني الأخبار (5)،



(1) النور: 33.
(2) البحار 43 / 50 ح 46 باب 3.
(3) البحار 43 / 232، ح 7 باب 9 عن المناقب:
(4) البحار 43 / 231 ح 4 باب 9.
(5) معاني الأخبار 106 ح 2 و 3.
196
والعيون (1)، والمناقب (2)، والبحار (3).
وقد فسر الإحصان في القرآن بأربعة معان:
الأول: العصمة، كقوله تعالى: (أحصنت فرجها) (4).
الثاني: الأزواج، كقوله تعالى: (والمحصنات من النساء) (5).
الثالث: الحرية، كقوله تعالى: (من لم يستطع منكم طولا أن ينكح
المحصنات) (6).
الرابع: الإسلام، كقوله تعالى: (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة) (7).
وهذه المراتب كلها موجودة بمستوى الكمال في فاطمة الزهراء (عليها السلام) حيث أن
نفسها القدسية اتصفت من بين نساء العالمين جميعا بالملكات، واختصت بأعلى
درجات الفضائل والكمالات، وكذلك اتصف بنوها المطهرون وبناتها الطاهرات
بكمال الكمال.
وقد قيل في أبناءها:
لقد علمت قريش غير فخر * بأنا نحن أجودهم حصانا
وأكثرهم دروعا سابغات * وأمضاهم إذا طعنوا سنانا
وأرفعهم عن الضراء فيهم * وأبينهم إذا نطقوا لسانا



(1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2 / 31 ح 46; و 2 / 58 ح 234 و 235.
(2) مناقب ابن شهر آشوب 3 / 325.
(3) بحار الأنوار 43 / 20 ح 6.
(4) الأنبياء: 91.
(5) النساء: 25.
(6) النساء: 25.
(7) النساء: 25.
197
الخصيصة الحادي عشر (من الخصائص العشرين)
في معنى «الحانية»
الحانية: وهو لقب مبارك من ألقاب الشمس الساطعة الصديقة الطاهرة (عليها السلام)،
ذكره في بحار الأنوار.
الحانية: من حنى يحنو بمعنى العطف والشفقة; يقال: حنت المرأة على ولدها
أي عطفت وأشفقت فلم تتزوج بعد أبيهم.
قال في المجمع: ومنه المرأة الحانية (1)، وكذا قال المجلسي عن الجزيري.
روي في مدح نساء قريش: أحناه على ولد وأرعاه على زوج (2).
وفي الكافي في فضل نساء قريش في باب النكاح: روي عن الصادق (عليه السلام):
خير نساء ركبن الرحال نساء قريش، أحناه على ولد وخيرهن لزوج (3).
وفيه أيضا: خطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أم هانئ بنت أبي طالب فقالت: يا رسول الله
إني مصابة في حجري أيتام، ولا يصلح لك إلا امرأة فارغة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):



(1) مجمع البحرين 1 / 111.
(2) البحار 43 / 17 ح 15 باب 2.
(3) فروع الكافي 5 / 326 باب فضل نساء قريش.
198
ما ركب الإبل مثل نساء قريش; أحناه على ولد، ولا أرعى على زوج في ذات
يديه (1).
وروي مثله في النهاية لابن الأثير.
فالمراد من «أحناه» هو المراد من «الحانية».
وحنوت عليه أي أشفقت، وأحنا الناس ضلوعا عليك، أي أشفقهم.
وحنى مقصور يائي، وهو غير حناي المهموز الممدود فالمقصور بمعنى
التحنن. حنت الشاة إذا أرادت الفحل فهي حان.
والحنواء: المرأة محنية الظهر وهي التي في ظهرها احديداب.
على أي حال: إن تعطف النساء وتحننهن على أزواجهن وعلى أولادهن
باعتزال الرجال بعد موت الزوج ترحما عليه واحتراما له وصونا لولده ممدوح
مستحسن.
وسنتحدث في هذه الخصيصة حول مطلبين:
أحدهما: عطف فاطمة الطاهرة ورأفتها بزوجها العظيم أمير المؤمنين (عليه السلام)
وهو ما يعجز البنان والبيان عن وصفه، ويقصر الإنسان عن شرحه، وهوما يحتاج
إلى خصيصة مستقلة بذاتها ومقدمة خاصة بها.
والآخر: رأفتها ومحبتها لأبنائها الكرام (2) علاوة على المحبة الفطرية والمودة
الذاتية التي تكون بين كل أم وأبنائها.
وبديهي أن الرأفة والعطف تتفرع على المحبة والمودة، وهي متفرعة عن



(1) فروع الكافي 5 / 327 باب فضل نساء قريش.
(2) ثم رأفتها ومحبتها بشيعتها ومحبيها في الدنيا والآخرة.
199
معرفة المحبوب والمتحنن عليه، فكلما كان المحبوب عظيما كان الحب عظيما، وكان
التحنن والعطف كذلك.
وبناء على ذلك فإن أعرف الخلق بحق سلطان الولاية وعظمة قدره وجلالة
شأنه سيدة نساء العالمين، ولهذا تجلت آثار المحبة بأجلى صورها وأعلى درجاتها
وغاية كمالها فيهما، وكأن طينتهم وفطرتهم عجنت من طين المحبة بماء الرأفة. وكيف
يمكن أن يتصور وجود زوجين متحابين أكثر منهما مع اتحاد معنوياتهما
وروحانياتهما ونورانياتهما؟!
ومن محامد النساء ومحاسنهن مودتهن للزوج ومحبتهن للبعل; وتلك المخدرة
الحرة والحصان البتول والولود الودود والكريمة النجيبة كانت منزهة من جميع
النقائص النسائية، ومتصفة بكمال الخصائص الممدوحة، ومن مكارم أخلاقها ما
روي في حديث طويل أنها (عليها السلام) قالت لعلي (عليه السلام): لو كنت وأولادي جياعا وحصلت
على كفاف، لقدمتك على نفسي وأولادي وآثرتك على من سواك.
ولو أردت استقصاء الأخبار والأحاديث الواردة في موادتهما ومحبتهما لضاق
بنا المجال ولما وسعنا الحديث عن باقي الخصائص.

200
تتمة وهي مهمة
في رأفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالحسنين (عليهما السلام)
ذكرنا أن المرأة الحانية هي التي ترأف بزوجها وأولادها، والغالب استعمالها
في الأطفال الصغار كما ورد في أوصاف المؤمن: «هو الذي يحنو على الصغير ويوقر
الكبير».
وورد في معنى «الحانية»: حنت المرأة على ولدها ولم تتزوج بعد أبيهم شفقة
وعطفا (1).
تبين أن الحانية وإن كانت تحنو على زوجها، إلا أن الفائز الأول برأفتها
أطفالها بعد موت أبيهم، حيث تمتنع عن الأزواج حتى تكفل الأيتام وتحضنهم ولا
تقصر في حقهم.
ونقرأ في الدعاء: «وتحنن على أيتام المؤمنين بالرأفة والرحمة».
والحنين: صوت الناقة إذا اشتاقت إلى ولدها، وحنان بالتخفيف الرحمة،
وبالتشديد: ذو الرحمة، والحنان من أسماء الله، وهو إقبال على من أعرض عنه،
وهي صفة ظهرت - من بين المخلوقين - في الأمهات، فمهما أعرض عنها الولد أقبلت
عليه وحنت إليه بدافع الحب والرأفة.
وقد نظرت في أفعال وأقوال السيدة الصديقة الطاهرة بعد وفاة رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفهمت من مراثيها ونياحتها وتعازيها وحزنها ولوعتها واصطحابها
الحسنين إلى المسجد وملازمتها وغيرها من المواقف، أن تلك المخدرة الجليلة كانت



(1) بحار الأنوار 43 / 17.
201
ترى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أرأف وأحنى وأشفق على ولدها حتى من أمير المؤمنين (عليه السلام)،
وكانت تتعامل معهما وكأن أبوهما رحل من الدنيا، وقد قالت على قبره في رثائه
وهي تخاطب الحسنين (عليهما السلام): «أين أبوكما الذي يكرمكما، وكان أشد الناس شفقة
عليكما (1)؟».
أجل لقد دفن الجسد الطاهر وأصبحت الدنيا بفقده مظلمة، والعقبى بنور
قدومه مشرقة.
وقالت في مورد آخر: من ذا يكون لولدي؟ ومن ذا يجلسهم في حجره
ويقبلهم (2).
ولا مانع من أن يحب الجد للأم أولاد ابنته كما يحبهم أبوهم بل أكثر، بل
كانت محبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ووده بالإصالة والنيابة. بل كان من الأدب أن لا يبدي
سلطان الولاية أمير المؤمنين حبه لولديه ما دام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الخاتم يظهر حبه.
وهكذا كان الحسنان يبديان التعلق برسول الله ويقبلان عليه أكثر من إقبالهما على
أبيهما.
وإذا دقق المتأمل في ألطاف النبي وأفضاله على الحسنين، أذعن أن محبة
فاطمة الزهراء للحسنين لا تعادل عشر ما كان يلقيانه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
لذا حق لفاطمة أن تذكر محبة أبيها وشفقته دائما، وأن تبكي أبيها كل هذا
البكاء، فيبكي بعلها أمير المؤمنين (عليه السلام) - بل كل أهل المدينة - لبكائها. وكأن هذه
الرأفة الإستثنائية من خواص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) التي لا تتعداه إلى غيره. كيف لا وهو



(1) البحار 43 / 181 ح 16 باب 7.
(2) انظر البحار 22 / 484 ح 31 باب 1.
202
رحمة للعالمين، وكانت له علاوة على ذلك رحمة خاصة بولد فاطمة (عليها السلام).
وقد قال لأمير المؤمنين (عليه السلام) لما حضرته الوفاة: سلام الله عليك يا أبا
الريحانتين; أوصيك بريحانتي من الدنيا، فعن قليل ينهد ركناك والله خليفتي
عليك (1)... إلى آخر الحديث.
وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): الولد ريحانة وريحانتاي الحسن والحسين (عليهما السلام) (2).
وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يضمهما ويرشف ثناياهما (3).
وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من أحب الحسن والحسين فقد أحبني ومن أبغضهما فقد
أبغضني وهما سيدا شباب أهل الجنة (4).
وقال أيضا: إن ربي أمرني أن أحبهما وأحب من يحبهما (5).
وهذا النوع من المحبة وإظهار الود حير الخلق وأدهش الجميع; والأفضل أن
نعطف زمام الحديث ونقف عند هذا الحد.
أخذ النبي يد الحسين وصنوه * يوما وقال وصحبه في مجمع
من ودني يا قوم أو هذين أو * أبويهما فالخلد مسكنه معي (6)



(1) البحار 43 / 173 ح 14 باب 7 عن الأمالي.
(2) البحار 43 / 264 ح 12 باب 12 عن عيون أخبار الرضا (عليه السلام).
(3) انظر البحار 45 / 133 ح 1 باب 39.
(4) البحار 43 / 303 ح 65 باب 12.
(5) البحار 26 / 269 باب 12.
(6) البحار 43 / 280 ح 48 باب 12 عن المناقب: قال:... جامع الترمذي وفضائل أحمد وشرف المصطفى
وفضائل السمعاني وأمالي ابن شريح وإبانة ابن بطة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ بيد الحسن والحسين فقال: من
أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي في الجنة يوم القيامة، وقد نظمه أبو الحسين في نظم
الأخبار فقال:... ثم ذكر البيتين.
203
الخصيصة الثانية عشر (من الخصائص العشرين)
في معنى «الزهراء»
الزهراء: وهو من الألقاب المشهور للسيدة فاطمة (عليها السلام)، وقد شاع وذاع على
ألسنة الشيعة الإمامية، واشتهر في كتب الأخبار عن الأئمة الأطهار، وهو لقب
ممدوح، حتى عد في أسمائها (عليها السلام)، ويا له من لقب شريف مبارك.
وأصله من زهر وزهور: اتقاد النار واشتعالها، والزهرة بتحريك الوسط
نجم، والزهرة بضم وفتح الأول والثاني: نور كل نبات، وبالسكون بمعنى البياض،
ومنه رجل أزهر أي أبيض مشرق الوجه. وأم الأزهار كنية الزهراء (عليها السلام) والمراد
من الأزهار الأئمة الأطهار صلوات الله عليهم.
والزهرة بفتح الزاي وسكون الهاء بمعنى الزينة والبهجة، قال تعالى: (ولا
تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا زهرة الحياة الدنيا) (1).
فالزهر والزهور بمعنى النور والسطوع والإشراق وصفاء اللون والتلألؤ،
وعلى ما في المصباح: الأبيض المشرق، زهر الرجل أي أبيض وجهه، مفرده زهرة
وجمعه زهر مثل تمر وتمرة، واليوم الأزهر يوم الجمعة (2).



(1) الحجر: 88.
(2) انظر لسان العرب مادة «زهر».
204
وبالجملة فهذا اللقب النبيل والوصف الجميل غالبا ما يلازم اسم العصمة
الكبرى، حتى في الدعوات والزيارات، وهذا يعني أن أئمة الهدى (عليهم السلام) كانوا يحبون
أن تدعى أمهم المخدرة باسم فاطمة الزهراء من بين كل ألقابها وأوصافها الكثيرة
الأخرى، وذلك لأن هذا الاسم الشريف قارن الكثير من الوقائع والأحداث، وله
أسباب وعلل كثيرة نذكر شمة منها في هذه الخصيصة لتقر به عيون الأحبة الذين
يطالعون هذا الكتاب:
العلة الأولى:
روى المرحوم الصدوق (رحمه الله) في كتاب علل الشرائع عن جابر عن الصادق (عليه السلام)
قال: قلت له: لم سميت فاطمة الزهراء زهراء؟
فقال: لأن الله عز وجل خلقها من نور عظمته، فلما أشرقت أضاءت
السماوات والأرض بنورها وغشيت أبصار الملائكة وخرت الملائكة لله ساجدين،
وقالوا: إلهنا وسيدنا ما لهذا النور؟ فأوحى الله إليهم هذا نور من نوري أسكنته في
سمائي، خلقته من عظمتي، أخرجه من صلب نبي من أنبيائي، أفضله على جميع
الأنبياء، وأخرج من ذلك النور أئمة يقومون بأمري يهدون إلى حقي، وأجعلهم
خلفائي في أرضي بعد انقضاء وحيي» (1).
العلة الثانية:
وفي علل الشرائع أيضا: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن فاطمة لم سميت الزهراء؟
فقال: لأنها كانت إذا قامت في محرابها زهر نورها لأهل السماء كما تزهر نور
الكواكب لأهل الأرض (2).



(1) علل الشرائع 1 / 213 باب 143 ج 1.
(2) المصدر السابق ح 3.
205
العلة الثالثة:
في كتاب بحار الأنوار: عن أبي هاشم العسكري: سألت صاحب
العسكري (عليه السلام): لم سميت فاطمة الزهراء؟
فقال: كان وجهها يزهر لأمير المؤمنين (عليه السلام) من أول النهار كالشمس
الضاحية وعند الزوال كالقمر المنير، وعند غروب الشمس كالكوكب الدري (1).
العلة الرابعة:
في البحار أيضا عن الحسن بن يزيد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): لم سميت
فاطمة الزهراء (عليها السلام)؟
قال: لأن لها في الجنة قبة من ياقوت حمراء، ارتفاعها في الهواء مسيرة سنة،
معلقة بقدرة الجبار، لا علاقة لها من فوقها فتمسكها، ولا دعامة لها من تحتها
فتلزمها، لها مأئة ألف باب، على كل باب ألف من الملائكة، يراها أهل الجنة كما
يرى أحدكم الكوكب الدري الزاهر في أفق السماء، فيقولون: هذه الزهراء
لفاطمة (عليها السلام) (2).
العلة الخامسة:
في البحار وغيره من كتب المناقب عن سلمان في حديث طويل: «... فخلق
نور فاطمة الزهراء (عليها السلام) يومئذ كالقنديل، وعلقه في قرط العرش، فزهرت
السماوات السبع والأرضون السبع; من أجل ذلك سميت فاطمة الزهراء. وكانت
الملائكة تسبح الله وتقدسه، فقال الله: وعزتي وجلالي لأجعلن ثواب تسبيحكم



(1) بحار الأنوار 43 / 16 ح 15 باب 2.
(2) البحار 43 / 16 ح 15 باب 2.
206
وتقديسكم إلى يوم القيامة لمحبي هذه المرأة وأبيها وبعلها وبنيها...» (1).
العلة السادسة:
روي في علل الشرائع عن أبان بن تغلب قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): يابن
رسول الله لم سميت الزهراء (عليها السلام) زهراء؟
فقال: لأنها كانت تزهر لأمير المؤمنين (عليه السلام) في النهار ثلاث مرات بالنور:
كان يزهر نور وجهها صلاة الغداة والناس في فرشهم، فيدخل بياض ذلك
النور إلى حجراتهم بالمدينة، فتبيض حيطانهم فيعجبون من ذلك، فيأتون
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيسألونه عما رأوا، فيرسلهم إلى منزل فاطمة (عليها السلام)، فيأتون منزلها
فيرونها قاعدة في محرابها تصلي والنور يسطع من محرابها ومن وجهها فيعلمون،
أن الذي رأوه كان من نور فاطمة.
فإذا نصف النهار وترتبت للصلاة، زهر وجهها (عليها السلام) بالصفرة فتدخل الصفرة
حجرات الناس فتصفر ثيابهم وألوانهم، فيأتون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيسألونه عما رأوا،
فيرسلهم إلى منزل فاطمة (عليها السلام)، فيرونها قائمة في محرابها وقد زهر نور وجهها (عليها السلام)
بالصفرة، فيعلمون أن الذي رأوا كان نور وجهها.
فإذا كان آخر النهار وغربت الشمس، احمر وجه فاطمة (عليها السلام) فأشرق وجهها
بالحمرة فرحا وشكرا لله عز وجل، فكان يدخل حمرة وجهها حجرات القوم
وتحمر حيطانهم، فيعجبون من ذلك ويأتون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويسألونه عن ذلك،
فيرسلهم إلى منزل فاطمة (عليها السلام)، فيرونها جالسة تسبح الله وتمجده ونور وجهها
يزهر بالحمرة، فيعلمون أن الذي رأوا كان من نور وجه فاطمة (عليها السلام).



(1) البحار 43 / 17 ج 16 باب 2. وسيأتي ذكر الحديث بطوله في خصائص عديدة.
207
فلم يزل ذلك النور في وجهها حتى ولد الحسين (عليه السلام)، فهو يتقلب في وجوهنا
إلى يوم القيامة في الأئمة منا أهل البيت إمام بعد إمام (1).
نكتة زاهرة
لا تعارض بين العلل المذكورة والأحاديث المسطورة في تسمية فاطمة (عليها السلام)
بالزهراء، بل كلها صحيحة ويمكن الجمع بينها بأن يقال:
إن من كانت في بدو إيجاد نورها المبارك تزهر لأهل السماوات والأرضين وما
بينهما، وخلق من نورها المشرق الموفور بالسرور القبة الزهرائية بتلك الأوصاف،
لا يبعد أن تسطع أنوارها الوجودية في عالم الملك صبحا وظهرا وغروبا على أهل
المدينة عموما، وتزهر لأمير المؤمنين على وجه الخصوص شمسا وقمرا وكوكبا دريا.
ومن البديهي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يراها بعين الولاية والمحبة، وينظر
إليها بعين الباطن والظاهر، فهو يرى ما لا يراه غيره، فتتجلى له على وجه
الخصوص بشكل يختلف عما تتجلى به إلى أهل المدينة عامة.
وبعبارة أخرى: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يرى الشمس والقمر والكوكب
الدري بحقائقها، أما الآخرون فيشاهدون شعاع الشمس وضوء القمر، وهكذا قد
يحجب البعض حتى عن رؤية أنوارها، ويحرم من مشاهدة شعاعها لعدم توفر
الاستعداد والقابلية فيهم لتلقي الأنوار الفاطمية (ولهم أعين لا يبصرون بها) (2)



(1) علل الشرائع 1 / 214 ح 2 باب 143.
(2) الأعراف: 179.
208
و (إنهم عن لقاء ربهم لمحجوبون) (1).
وباختصار (2): أتذكر حديث أحد فضلاء العصر في محضر من العلماء حيث
أجاب عن سبب اختلاف الألوان الباهرة الساطعة من فاطمة الصديقة الطاهرة،
فمرة البياض، ومرة الصفرة، وثالثة الحمرة، والأنوار، ولا شك أن لهذه التجليات
والظهورات أسرارا وحكما مكنونة في أخبار أهل البيت (عليهم السلام) والأئمة الأطهار (عليهم السلام).
لقد كان هذا الأمر مطروحا للبحث والنقاش مدة من زمان، وجالت فيه
الأنظار والأفكار، وقد اخترت وجهين فقط من جملة الوجوه الصائبة طلبا
للاختصار:
الوجه الأول:
إن التنور بالألوان الثلاثة في الأوقات الثلاثة إشارة إلى اختلاف حالات
تلك المطهرة الطاهرة حين العبادة وبعد الفراغ من أداء الفريضة في محرابها:
أما الصبح: فهو أول طلوع النبي الأعظم وابتداء إشراق الشمس من الأفق،
فبياض محيا السيدة الطاهرة يحكي الرحمات الإلهية الخاصة التي أفيضت عليها
طيلة الليل من مصدر الرحمة الحقة، والبياض علامة الرحمة.
وهذه الصفة تشير إلى رجاءها وأملها بقبول العبادات والطاعات السابقة
واللاحقة.
أما وقت الظهر: فهو زمان نزول البركات العامة وهبوط ملائكة الرحمة،
والحد الوسط بين الصباح والمساء، وفيه الصلاة الوسطى، فكانت آثار الخوف



(1) المطففين: 15.
(2) سيأتي الكلام مفصلا عن إبداع أنوارها إن شاء الله تعالى في خصيصة خاصة. (من المتن)
209
تسطع في جبين سيدة نساء العالمين وتظهر لعيون الملأ المشاهدين، وهذا الخوف
يعني الحذر من الغفلة عن العبادات والذهول عن الطاعات، لئلا تكون قد قصرت
في أداء حق من له الحق، فلم تؤده كما يستحقه، فهل من رجاء في العفو؟ وهل من
توفيق للطاعات في الزمن اللاحق؟
والأثر الطبيعي للخوف والخشية هو الإرتعاش والاضطراب واصفرار
الوجه، خصوصا في محضر الرب القاهر القادر الحاضر الناظر، إن مناجاته وطلب
الحاجة منه مخوف موحش حقا، كما روي عن نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنهن كن لا يعرفن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا دخل وقت الصلاة، بل هكذا كان كل أئمة الدين والأوصياء
المرضيين (عليهم السلام)، خصوصا الإمام السجاد (عليه السلام)، حيث روي أنه إذا حضرت الفريضة
ارتعدت فرائصه واصفر لونه (1).
أما وقت الغروب: فهو آخر زمان أداء التكاليف والوظائف اليومية، ووقت
إقبال الليل والمناجاة مع قاضي الحاجات، للنشاط والانبساط والسرور الذي
يعتريها من قبول الطاعات والتوفيق للعبادات لحضرة ذي الجلال، يعني أنها
كانت ترى وتلمس بالحس والعيان محبة الله تبارك وتعالى لها، فكانت تتوهج
وتهيج في أعماقها المحبة الباطنية التي تلمسها وتعيشها، فتتحرك إلى الله، وآية المحبة
والشوق احمرار الوجه وإشراق المحيا، فشرط المحبة الحرارة والإشتعال والتوهج.
وهذه الحالات الثلاثة جميعها من لوازم العبودية وآثارها، ولهذا كانت
تتجلى (عليها السلام) في محرابها بهذه الأنوار وتسطع بهذه الألوان المختلفة.
تو و طوبى و ما و قامت يار * فكر هركس بقدر همت اوست (2)



(1) انظر البحار 46 / 55 ح 4 باب 5.
(2) يقول: أنت وشجرة طوبى; ونحن وقامة الحبيب، إذ فكر كل امرئ على قدر همته.
210
وهذه خلاصة الأفكار الأبكار وزبدة الآراء والأنظار لمولى البصائر
والأبصار.
الوجه الثاني:
ورد في الحديث أن العقيق الأبيض من نور وجه النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم)، والعقيق
الأحمر من نور وجه أمير المؤمنين (عليه السلام)، والعقيق الأصفر من نور وجه الزهراء (عليها السلام) (1).
بناء على ذلك فهذه الأنوار الثلاثة بالألوان الثلاثة تحكي أنوار النبوة
والولاية والعصمة.
أما نور النبوة فهو عين الرحمة، وعلامته البياض.
وأما الحمرة فأثر نور الولاية، وهي مظهر الغضب.
وأما الصفرة: فحققة العصمة، وهي الواسطة بين الرحمة والغضب ومشعرة
بالبرزخية والجامعية.
وتلك المخدرة هي الصلاة الوسطى الواقفة بين مبادئ مشرق النبوة ومنتهى
مغرب الولاية. وهي الشمس المضيئة من جهة النبوة والأبوة، والقمر المنير من
جهة الولاية والإمامة، والكوكب الدري الذي يوقد من شجرة مباركة زيتونة،
يكاد زيت علمها يضيء الأملاك والأفلاك من الثريا إلى الثرى (ولو لم تمسسه نار
نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء) (2).
وهذه الجلوة الرفيعة والرتبة المنيعة تدل على أن سيدة العالم فاطمة
الزهراء (عليها السلام) مرآة مجلوة في عالم الإمكان لخاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم) وجناب



(1) انظر البحار 8 / 187 ح 156 باب 23.
(2) النور: 35.
211
أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكان المدد الغيبي من مفيض الخير والبر ومنزل البركات
والرحمات يمدها من يمين الرسالة ويسار الولاية بإفاضات غير متناهية في كل
صباح ومساء، فتنزل على الذات الأقدس والجسد المجرد للعصمة الكبرى، ومنها
تترشح على الآخرين ليظهر للعالمين علو قدرها وسمو مقامها ورفعة شأنها وفخامة
مكانتها ومكانها.
هذا فضلا عن استفاضتها من فيوضات أبيها وبعلها التي كان أبوها وبعلها
يفيضونها على خلق الله أجمعين بطرق شتى، فتقودهم إلى ساحات السعادة بنور
الهداية، فالإفاضة بالواسطة طريق من طرق الهداية والإرشاد أيضا.
وأما علة جعل فاطمة الزهراء (عليها السلام) طريقا من طرق الهداية بالمعنى المذكور،
فللكشف عن أنها هي الآية العظمى للنبوة بمفاد آية المباهلة، وهي بمستوى
الكفاءة في هاتين المرتبتين، ويمكنها أن تقوم بمهام مهمة في مرتبة النبوة ومقام
الولاية.
وهذه جملة من مكنوناتي الخاصة - أنا الحقير - وشاركني فيها جملة من
أرباب الفكر والذكاء، ولا يسعني بيان أكثر من ذلك، لأن الأكثر يقصر عنه
اللسان ويعجز عن بيانه البنان، وها أنذا أعترف بجهلي وقصوري وعجزي
وحيراني في إدراكهم.
ولعل مبدأ الفيض الفاطمي يجري قلمي فيما بعد بما هو خير.

212
الخصيصة الثالثة عشر (من الخصائص العشرين)
في معنى «المنصورة»
المنصورة: وهو لقب تدعى به فاطمة الزهراء (عليها السلام) في السماء كما ورد في
الأحاديث الشريفة.
والنصر يعني الإعانة، يقال: نصره على عدوه أي أعانه، والانتصار يعني
الإنتقام والأخذ بالثار.
والنصر: المنع والغلبة.
والمنصورة: المعانة، وناصرها ومعينها هو الله تبارك وتعالى.
والمنصورة: الممنوعة حقها أيضا، ولكن القرائن تدل على أن المراد هو المعنى
الأول أي «المعانة».
وسمى القرآن المجيد حجة الله الأعظم إمام العصر - أرواحنا له الفداء -
ب‍ «المنصور» في قوله تعالى: (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف
في القتل إنه كان منصورا) (1) إشارة إلى زمان ظهوره ورجعته، ونصره بملائكة
السماء، وسفك دماء الكفار، وبسط العدل والقسط بعد انتشار الظلم والجور.
وفي معاني الأخبار عن الصادق (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث المعراج



(1) الإسراء: 33.
213
- ننقل منه موضع الحاجة -:... قال [جبرائيل]: يا محمد! إن هذه تفاحة أهداها الله
- عز وجل - إليك من الجنة فأخذتها وضممتها إلى صدري. قال: يا محمد! يقول الله
جل جلاله: كلها، ففلقتها فرأيت نورا ساطعا، ففزعت منه فقال: يا محمد! مالك
لا تأكل؟ كلها ولا تخف، فإن ذلك النور المنصورة في السماء، وهي في الأرض
فاطمة. قلت: حبيبي جبرئيل ولم سميت في السماء «المنصورة» وفي الأرض
«فاطمة»؟ قال: سميت في الأرض «فاطمة»، لأنها فطمت شيعتها من النار وفطم
أعداءها عن حبها، وهي في السماء «المنصورة»، وذلك قول الله - عز وجل -
(يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء) (1) يعني نصر فاطمة لمحبيها (2).
وربما كان المقصود من نصر فاطمة في هذا الحديث، نصر محبيها، لأن نصر
محبيها نصر لها، فيكون معنى المنصورة من لوازم اسمها «فاطمة»، وهو النجاة من
النار، وإنما سميت فاطمة لأنها فطمت شيعتها من النار، وأي نصر وإعانة أعظم من
أن ينجو المحب لحبها من النار الأبدية؟ وأي نصر أعظم من الغلبة على عدوها؟
والاستشهاد بالآية من باب التأويل، والظاهر أنها (عليها السلام) «نصر الله»، وسميت
«منصورة» لذلك، فهي تنصر من تشاء وتعينه وتذل من تشاء وتقهره. وقد ورد في
تعليل الرواية «لنصر فاطمة لمحبيها»، فحبها سبب النجاة والخلاص، وهي نصرة
الله، ونصر الله، وهذا المعنى أدق في الجملة، وقد استعمل المصدر بمعنى اسم المفعول
كثيرا.
ويكون ظهور هذه النصرة الحقة وبروزها يوم القيامة وعند موقف الشفاعة،



(1) الآية في سورة الروم: 5 وهي بشارة بغلبة الروم على الفرس ولأصحاب النبي حكاية معها. (منه (رحمه الله)).
(2) معاني الأخبار 396 ح 53 باب نوادر المعاني.
214
كما أن الفرج لحجة الله الأعظم في هذا العالم سيكون بعد ظهوره إن شاء الله.
وأما إخبار جبرئيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الجنة: أن اسم فاطمة الزهراء في السماء
المنصورة، ففيه بشارة روحانية وتكريم رحماني، وإظهار لجلالة قدر المستورة
الكبرى، وتسلية لها بالانتقام من أعدائها وشانئيها.
نهج لأهل الفرج
لقد سمى الله سبحانه إمام العصر - عجل الله فرجه الشريف - ب‍ «المنصور»،
ويعتقد الشيعة الإمامية أن الإمام يكون منصورا بعد ظهور الفرج الأعظم في هذا
العالم، فينتقم (عليه السلام) من الأعداء ويسفك دماء أعداء الله، أما فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فهي
منصورة في الآخرة، فلا إنتقام إلا بعد قيام القيامة، فما هي الحكمة في التأجيل
والتأخير؟!
الجواب: بديهي أن ولي الأمر إذا خرج سيقتل أعداء فاطمة وأبناءها،
ويطهر الأرض من وجودهم القذر، وبهذا يثأر لها (عليها السلام) وينتقم من خصومها، وهي
مكافأة دنيوية عاجلة. أما المكافأة الأخروية، فهي آجلة باقية سرمدية دائمة،
ونشر لواء الشفاعة موهبة عظيمة لإحباء فاطمة وذريتها الطيبة، وبهذا يكون
حجة الله الأعظم منصورا للانتقام والثأر لأمه الزهراء (عليها السلام)، وقيامه أيضا بنصر الله
وبه ينصر من يشاء.
وفي يوم القيامة يفرح أحباء فاطمة بمفاد قوله تعالى: (ويومئذ يفرح
المؤمنون) ويعمهم السرور في يوم الله يوم العرض الأكبر، فتدركهم النصرة الحقة
وينالون جزاء محبتهم وهي «خير العمل» ويصلون إلى «رضوان الله».

215
وببيان آخر: إن إمام العصر مظهر القهر والغضب الإلهي، وإنما يقوم ويخرج
للانتقام من أعداء فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وفاطمة الزهراء (عليها السلام) مظهر الرأفة والرحمة
والشفقة الربانية، وإنما تقوم يوم الحشر لنجاة محبيها وإنقاذهم من النار.
وتجلي هيكل العصمة يوم القيامة هو ميزان المحبة والعداوة عند أولياء الله
وأعداء الله، وهو مميز أهل الثواب وأهل العقاب.
فالنتيجة أن الفرج الأعظم والمنصور بأمر الله هو خيرة الصديقة الكبرى
صاحب الزمان، والمأمول من رجال الله القيام بالسيف، كما أن المأمول من النساء -
وهن في موقع الرحمة والشفقة - الإنطلاق بلسان الترحم والشفاعة.
فإن قيل: إن الآية المباركة (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا
يسرف في القتل إنه كان منصورا) (1) مأولة في حق سيد المظلومين وسيد الشهداء
الحسين (عليه السلام) وخاتم الخلفاء إمام العصر صلوات الله عليهما، وهو منصور في الإنتقام
من قاتلي جده العظيم؟
الجواب: إن أعداء جده الحسين (عليه السلام) هم أعداء فاطمة (عليها السلام)، ومن آذى
ذريتها فقد آذاها، ومن آذاها فقد آذى رسول الله، ومن آذى رسول الله فقد آذى
الله تبارك وتعالى.
والخلاصة: إن هذا الاسم السامي الشريف يبشر محبي فاطمة (عليها السلام) بحسن
العاقبة، والنجاة من مهالك الدنيا والآخرة.
يعني أن الله سبحانه هو المنتقم الحقيقي من الظالمين والراد الحقيقي على كيد
المعاندين، وهو الجازي الذي لا يهمل، وسيأتي اليوم الذي ينشر فيه لواء العدل



(1) الإسراء: 23.
216
والنصر ويفتح بساط القسط (وإنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار) (1).
فليفرح شيعة فاطمة بهذا الاسم الذي يبشرهم بالشفاعة لهم والانتقام من
أعدائهم المعاندين.
نرجو أن نرى هذه الفرقة القليلة الناجية ضاحكة مستبشرة تحت لواء
(نصر من الله وفتح قريب) (2) ونرى زمرة الظلمة الضالين في حسرتهم باكين
مغمومين.



(1) إبراهيم: 42.
(2) الصف: 13.
217
الخصيصة الرابعة عشر (من الخصائص العشرين)
في معنى «الصديقة الكبرى»
الصديقة الكبرى: وهو لقب شريف عظيم مدح الله تبارك وتعالى به
مريم (عليها السلام) في القرآن المجيد قال تعالى: (ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من
قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام أنظر كيف نبين الآيات ثم انظر أنى
يؤفكون) (1).
ولقب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة الطاهرة ب‍ «الصديقة الكبرى» قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
«وهي الصديقة الكبرى وعلى معرفتها دارت القرون الأولى» (2).
والصديق على وزن فعيل من أبنية المبالغة كما
يقال: وهو كثير الصدق، والصدق نقيض الكذب، ومنه قوله
تعالى: (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) (3).
والصديق والصديقة بالتخفيف: الخل والمحب، رجلا أو امرأة، والصديق
يطلق على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث.



(1) المائدة: 75.
(2) البحار 43 / 105 ح 19 باب 5.
(3) الشعراء: 84.
218
وبديهي أن مقام الصدق والاستقامة في القول والفعل يأتي تلو مقام النبوة
ومنه قوله تعالى: (ومن يطع الله ورسوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من
النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) (1).
وقال أيضا: (والذين آمنوا بالله ورسوله أولئك هم الصديقون) (2).
وقال أيضا: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) (3).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مدح أمير المؤمنين (عليه السلام): «هذا خير الأولين وخير
الآخرين من أهل السماوات وأهل الأرضين، وهذا سيد الصديقين وسيد
الوصيين» (4).
وقد مدح القرآن الكريم يحيى بن زكريا ونعته بالتصديق فقال: (إن الله
يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله) (5).
روي أنه لما دخلت مريم على أم يحيى لم تقم، لها فأذن الله تعالى ليحيى وهو
في بطن أمه فناداها: يا أمة تدخل إليك سيدة نساء العالمين مشتملة على سيد رجال
العالمين فلا تقومين لها، فانزعجت وقامت إليها وسجد يحيى وهو في بطن أمه
لعيسى ابن مريم، فذلك كان أول تصديقه له» (6).
وإنما مدحت مريم ووصفت ب‍ «الصديقة» لصدقها في دعواها أن عيسى منها



(1) النساء: 69.
(2) الحديد: 19.
(3) التوبة: 119.
(4) البحار 26 / 309 ح 75 باب 6 و 26 / 316 ح 81 باب 6 و 27 / 315 ح 14 باب 9.
(5) آل عمران: 39.
(6) تفسير الصافي 1 / 334 ذيل الآية 39 من سورة آل عمران، والحديث طويل اقتطع منه المؤلف (رحمه الله)
موضع الحاجة.
219
ولم يمسسها بشر، فشهد الله لها بالصدق، فصارت صديقة لأن الله صدقها.
وسميت فاطمة الزهراء (عليها السلام): الصديقة الكبرى (عليها السلام) لأنها صدقت بوحدانية
الحق تعالى ونبوة أبيها وإمامة بعلها وإمامة أبناءها المعصومين واحدا بعد واحد
وهي في رحم أمها وعند ولادتها.
ثم إنها كانت - وهي طفلة صغيرة - أول من سبق إلى التصديق بنبوة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أمها، وعاشت في كنف الرسالة، واقتدت في جميع أحوالها وأفعالها
وأقوالها بمربيها العظيم، وأكملت منذ طفولتها ملكاتها القدسية النفسانية، وعاشت
مع الصادقين والصديقين، وقد وصفها أبوها - وهو أصدق القائلين وأفضل
الصديقين - بأنها «الصديقة الكبرى» وفضلها بذلك على مريم العذراء، وقد قال:
«فاطمة مريم الكبرى» (1).
وشهد لها بذلك - أيضا - عائشة بنت أبي بكر على ما رواه المشاهير
والنحارير من العلماء أنها قالت مرارا «ما رأيت امرأة أصدق منها إلا أباها» (2).
وهذا الخبر صحيح ومعتبر عندهم، ومع ذلك فقد آذاها أبو عائشة وأعوانه
حينما طالبت بحقها الثابت، وغمها وخذلها المهاجرون والأنصار وهي تشكو
وتتظلم بينهم وتستنصرهم لإحقاق حقهم، فلم تجد منهم ناصرا ولا من مغيث،
ولم يصدقوا قول تلك الصادقة المصدقة، وكانت العاقبة أن عاشت أياما قليلة
تكابد الهم والألم، وفارقت الدنيا لتقف لهم غدا يوم القيامة بين يدي المنتقم الحق،
وتحاسب الرجال والنساء القساة الجفاة الذين صدقوا قولها وأذعنوا أن الحق معها



(1) انظر البحار 22 / 484 ح 31 باب 1.
(2) البحار 43 / 53 ح 48 باب 3.
220
ولها، فدعواها حق وقولها الصدق، ولكنهم ما تبعوا تصديقهم القولي بالعمل،
فكذبت أفعالهم أقوالهم وناقضوا أنفسهم، وستحاجهم وتخاصمهم وتتظلم إلى الله،
فينصرها الله المنتقم نصرا عزيزا ويجازيهم بما كسبوا.
قال الطبرسي (رحمه الله) في مجمع البيان في ذيل الآية المذكورة (ومن يطع الله
ورسوله... الخ) (1) الصديق المداوم على التصديق - أي دائم الصدق - بما يوجبه
الحق. وقيل: الصديق الذي عادته الصدق، وهذا البناء يكون لمن غلب على عادته
فعل، يقال لملازم الشرب شريب (ولملازم الشكر شكير) وقيل في معنى الصديق:
إنه المصدق بكل ما أمر الله به وأنبيائه، لا يدخله في ذلك شك، ويؤيده (2) قوله:
(والذين آمنوا بالله ورسوله أولئك هم الصديقون) (3).
وسيأتي في غسل فاطمة الزهراء (عليها السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «والصديقة
لا يغسلها إلا صديق» (4).
وبناء على ما مر، فقد اتفق المخالف والمؤالف على أن فاطمة الزهراء هي
الصديقة الكبرى قولا وقلبا وفعلا، لم تكذب قط كذبة واحدة، وكانت تفعل ما
تقول، ولم تتخلف قط في أداء أي تكليف أو امتثال أي أمر، وكان لها في ذلك صدق
نية وعزم وثبات ومداومة ومراقبة تامة.
قال أهل التحقيق: إن التصديق يلازمه التبعية في الأقوال والأفعال، كما
صنع يحيى (عليه السلام) حين صدق بنبوة عيسى (عليه السلام) وتابعه متابعة كاملة من المهد إلى اللحد.



(1) النساء: 69.
(2) مجمع البيان 3 / 126.
(3) الحديد: 19.
(4) البحار 43 / 206 ح 32 باب 7.
221
وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (1): (فمن تبعني فإنه مني) (2).
وقد صدقت فاطمة (عليها السلام) بما أمر الله وبما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واتبعته، ولا شك
أن التابع يعد من المتبوع، فهي من النبي والنبي منها لاتحاد التابع والمتبوع المذكور
في قوله (فمن تبعني فإنه مني)، إضافة إلى جهة النسب والقرابة، والأبوة والنبوة،
وأما حديث «فاطمة مني وأنا من فاطمة» فشرف آخر وفضيلة خاصة.
فإن قال المخالف: إن أبا بكر صديق أيضا، لما ورد في حديث المعراج من أنه
صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
نقول: إن تصديقه بالمعراج لا يدل على ثبوت الصدق والدوام عليه، ثم إنه
صدق بما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قصة المعراج - على ما هو المفروض - وتصديق قول
من أقوال النبي لا يدل على تصديق جميع أقواله، لأن التصديق بالفرد لا يلازم
التصديق بالكل سيما في صيغة المبالغة، والحال أن «صدق» صيغة مبالغة دالة على
الدوام والاستقامة، إلا أن يقال أنه أكثر من التصديق في قصة المعراج فصحت
المبالغة!!!
ويمكن للشيعي أن يقول: لما طالبت فاطمة الزهراء (عليها السلام) بفدك كذب أبو بكر
قولا وفعلا، والحال أن ابنته عائشة شهدت بصدق فاطمة وكذا صدقها سيد
الصديقين أمير المؤمنين وثلة من الصحابة من محبي أهل البيت (عليهم السلام)، فتكون أن
عائشة شهدت على أبيها بالكذب.
أمور يضحك السفهاء منها * ويبكي من عواقبها اللبيب
* * *



(1) الآية المذكورة على لسان إبراهيم (عليه السلام) وليست على لسان النبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم).
(2)
222
أرى تحت الرماد وميض حجر * ويوشك أن يكون له ضرام
واستحضر الآن ما ورد في البحار في حديث طويل: أن فاطمة (عليها السلام) وعدت
الحسن والحسين (عليهما السلام) بثوب جديد يأتي به إليهما الخياط، فأمر الله جبرئيل أن ينزل
بثوبين إلى فاطمة (عليها السلام)، فصدق الله قول تلك الصادقة المصدقة.
معرفة دائرة لفاطمة الطاهرة
لقد رأيت قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «فاطمة هي الصديقة الكبرى وعلى معرفتها
دارت القرون الأولى» (1) كثيرا في كتب المناقب، ولكني لم أجد أي إشارة إلى ما فيه
من رموز وأسرار، ولذا ارتأيت أن أشير إليه في هذا المقام إشارة إجمالية، فكيف
دارت على معرفتها القرون الأولى مع أنها لم تكن من زمرة الأنبياء أو الخلفاء؟!
أولا: يطلق القرن: على كل ثمانين سنة، أو سبعين، أو ثلاثين، أو أهل كل
زمان، أي من يعيشون في جيل واحد وفي فترة زمانية واحدة ويبعث فيهم نبي، أو
أنه غالب عمر الناس، أي المعدل الذي يعمر فيه الإنسان (2).
قيل:
إذا ذهب القرن الذي أنت فيه * وخلفت في قرن فأنت غريب (3)
وقال تعالى: (فما بال القرون الأولى) (4) أي سعادة الأمم السابقة
وشقاوتها، والمراد بالقرن «الزمان» فذكر الزمان وأراد الحال.



(1) انظر البحار 43 / 288 ح 52 باب 12.
(2) انظر مجمع البحرين 6 / 298 مادة «قرن».
(3) مجمع البحرين 6 / 298.
(4) طه: 51.
223
وفي الحديث: «أولي العزم من الرسل سادة المرسلين والنبيين، عليهم دارت
الرحى» (1).
ثانيا: إن في الحديث إشارة صريحة إلى عظمة أولئك النفر الذين دارت
الأرض والسماوات على وجودهم، كما في الحديث إشارة صريحة إلى عظمتهم
لمطاعيتهم في جميع الأملاك وسكان الأرض دون استثناء أحد.
وقد عبر الإمام أمير المؤمنين عن هذا المضمون بتعبير أدق حيث قال: «إن
محلي منها محل القطب من الرحى» (2)، وإن كان المراد هنا رحى الخلافة، ولكن
يكشف - أيضا - لان دوران العالم كله قائم بوجود خليفة الله والأنبياء من خلفاء الله
أيضا.
بناء على ذلك، تبين من الحديث النبوي السابق أن جميع الأنبياء والمرسلين
أمروا أممهم بمعرفة الصديقة الكبرى، وكلفوهم عرفان المقامات الفاطمية، أي أن
أحكام جميع الأمم وتكاليفهم الشرعية منوطة بمعرفة الزهراء (عليها السلام) قطب فلك الجاه
والعصمة، فلو أن أية أمة من الأمم وأي قرن من القرون لم يعرفا حقيقة العصمة
وتلك الذات المقدسة، لكان أداءهم لجميع الواجبات باطلا غير مقبول، بل كان
عملهم كله هباء منثورا.
وبعبارة واضحة: إن السعادة والشقاء لأهل كل زمان تدور مدار «التولي
والتبري» لجناب الصديقة الكبرى، وإن دين الأنبياء جميعا منوط بحبها، فكيف
- والحال هذه - لا تدور هذه الشريعة على معرفتها وحبها؟! وكيف لا تدور



(1) البحار 16 / 357 ح 47 باب 11.
(2) نهج البلاغة 48 خطبة 3 (الشقشقية).
224
بوجودها المقدس رحى الإسلام والدين المبين؟!!
فأسال الله الذي أكرمني بمعرفتها ومعرفة عترتها، ورزقني البراءة من
أعدائها، أن يجعلني من موالي مواليها، ومن محبي محبي ذريتها وبنيها، وأن يثبت لي
عندها قدم صدق في الدنيا والآخرة، وأن يجري لساني فيما بقي من عمري بمناقب
المعصومين من العترة الطاهرة، والحمد لله على وضوح الحجة وكشف المحجة.
ولقد قلت آنفا في حقها (عليها السلام) نظما واسترسل القلم في ذكر بعض الأبيات فقلت:
هي والله آية لرسول الله * بل رحمة بها أهداها
هي عند الإله أعظم خلقا * وبها دار في القرون رحاها
هي مشكاة عصمة علقت * من سماء الوجود مثل ركاها
أم آل الرسول عصبتهم * هي لولاها لم يكن آل طه
بأبي ثم اسرتي ثم أهلي * ثم مالي ومن سواها فداها
بأبي فاطما وقد فطمت * باسمها نار حشرها ولظاها
بأبي فاطما شفيعة حشر * بأبي من بحكمها شفعاها
بأبي من تكون خالصة * عن ميولات نفسها وهواها
شمس أم القرى وأم أبيها * بأبي أمها وأمي أباها
ولقد قلت أنها علمت * آخر الكاينات من مبداها
كل من يجتني ثمار علوم * هي والله أمها ومناها
كيف أحصي ثنائها ولعمري * عجز الناس عن أداء ثناها

225
الخصيصة الخامسة عشر (من الخصائص العشرين)
في معنى «الزكية»
هذا اللقب المبارك يدل على طهارة الذات المباركة لفاطمة الزهراء صلوات
الله عليها وهي من صفات المعصومين (عليهم السلام).
وفي بعض النسخ «زاكية» بدل «زكية» والجمع أولى.
قال تعالى في القرآن المجيد عن لسان الروح الأمين في قصة مريم (عليها السلام) (لأهب
لك غلاما زكيا) (1) أي تصدر منه أعمال البر وأفعال الخير دون تقصير في إتيانها
وأدائها.
والتزكية في اللغة بمعنى التطهير، وإنما سميت الزكاة زكاة لأنها تطهر الأموال.
قال المفسرون في قوله تعالى: (قد أفلح من زكاها) (2): التزكية التطهير من
الأخلاق الذميمة الناشئة من الغضب والحسد والبخل وحب الجاه وحب الدنيا
والكبر والعجب; فمن عالج هذه الأمراض بالأعمال الصالحة صارت نفسه مطهرة
مزكاة (3).



(1) مريم: 19.
(2) الشمس: 9.
(3) انظر مجمع البيان 10 / 370.
226
وقد ورد لفظ «زكية» في القرآن بالوصف المذكور في خطاب موسى (عليه السلام)
للخضر (عليه السلام) قال تعالى: (أقتلت نفسا زكية) (1) أي طاهرة لم ترتكب جناية
توجب القتل.
وقرأ البعض «زاكية».
وفرقوا بين معنى «الزاكية» و «زكية»، فالأول من لم يرتكب ذنبا من رأس،
والثاني من ارتكب ذنبا ثم غفر له.
والزكاة في اللغة النماء، يقال: زكى الزرع أي نمى وحصل فيه نمو كثير وبركة،
ومنه تزكية القاضي الشاهد. وكذا الصلوات الزاكية، وكذا قوله (ذلك أزكى لكم
وأطهر) (2).
على أي حال من معاني الزكية: الطاهرة، وقد مر معنى الطاهر.
ولعل الفرق بين الطاهرة والزكية في أن الزكية تعني المزكاة، والطاهرة ليست
كذلك، وإنما هي طاهرة مهما بقيت حتى لو لم تزك، فهي منزهة من الأخلاق
الرذيلة، بينما الزكية تحتاج إلى تزكية لتكون كذلك.
وبعبارة أخرى: إن نتيجة التزكية الطهارة، والطاهرة هي نفس الطهارة،
فتكون الطاهرة أوفى وأقوى.
فيكون معنى تسمية الزهراء الطاهرة بالزكية، أنها فازت وأفلحت بالزكاة
والطهارة الفطرية الذاتية، وكانت بعيدة عن الأخلاق الدنية الردية، وفازت بكل
موجبات النجاة يوم القيامة.



(1) الكهف: 74.
(2) البقرة: 223.
227
قال تعالى: (قد أفلح من زكاها) (1) أي تزكية النفس.
ولكن التزكية على قسمين:
الأول: من جانب الحق تعالى.
والثاني: من جانب الخلق.
أما الأول: فهو هبة وقذف وخلق وفطرة (فطرة الله التي فطر الناس
عليها) (2) وهو معنى الطاهر.
وأما الثاني: فهو سعي واجتهاد وكسب، أي أن الملكة الإلهية والقوة العقلية
تتغلب مع وجود الملكات المتضادة والقوى الأخرى المنازعة - فتقهر القوى
بالأعمال الصالحة والأفعال القوية القاهرة، فهو تصد لتنمية قوى الخير وتقويتها
بالمثابرة والاجتهاد.
قال علماء الأخلاق: إن النفس تحتاج إلى التزكية من الأهواء الفاسدة
والميولات الكاسدة كما تحتاج الأرض المزروعة إلى التطهير من الحشائش
والأوغال لتصفو التربة للبذرة، وكما تحتاج الحنطة إلى التصفية والغربلة لتنقى من
القش.
والتزكية بمعنى إظهار الأفعال الصالحة، والإقبال على الطاعات المفروضة لا
تنافي الطهارة الأصلية، بل هي ثمرة لذلك، أي أن كل من جاء بالطهارة الذاتية لا بد
أن يكون موصوفا بالتزكية ولا بد أن تظهر منه هذه الآثار.
والفرق الآخر بين الطاهرة والزكية: أن العصمة الكبرى ولدت طاهرة من



(1) الشمس: 9.
(2) الروم: 30.
228
الأرجاس الأخباث الظاهرية، فقد ورد في حديث طويل: «فوضعت فاطمة
طاهرة مطهرة» (1)، وقالت سادات الجنان لخديجة: «خذيها طاهرة مطهرة زكية
ميمونة» (2).
فهذا الوصف خاص بالأخباث الظاهرية بشهادة القرائن الحالية، ولكنه إذا
استعمل مطلقا بدون قرائن، دل على العموم وشمل الطهارة المعنوية أيضا. أما لفظ
الزكية فيدل على الطهارة وتزكية الأخلاق بالنحور المذكور.
وبناء على ذلك يكون لقب «زكية» أقوى من «الطاهرة»، وهذا البيان لا
يحتاج إلى برهان، فالأفضل الإمساك عن الكلام.
تلميح: ذكرنا سابقا أن الزكاة في اللغة بمعنى النماء، ولربما سميت فاطمة (عليها السلام)
بالزكية لنماء جسدها العنصري وجثتها الحسية، على خلاف العادة المألوفة في بقية
الأجساد، فقد روى في حديث المفضل «فكانت فاطمة تنمى في اليوم كما ينمى
الصبي في الشهر، وتنمى في الشهر كما ينمى الصبي في السنة» (3).
وفي مصباح الأنوار مثله (4).
وفي بحار الأنوار عن دلائل الإمامة لمحمد بن جرير الطبري الإمامي عن ابن
عباس: لم تزل فاطمة تشب في اليوم كالجمعة، وفي الجمعة كالشهر، وفي الشهر
كالسنة (5)... إلى آخر الحديث.



(1) البحار 43 / 3 ح 1 باب 1.
(2) نفس المصدر.
(3) البحار 43 / 3 ح 1 باب 1 عن الأمالي.
(4) المصدر السابق.
(5) البحار 43 / 10 ح 16 عن دلائل الإمامة.
229
وهذا جواب شاف لمن ينكر حمل فاطمة في سن الحادي عشر، فكأنه لم يقرأ
هذا الحديث، أو أنه قاس فاطمة على غيرها من النساء.
والغرض من رواية هذه الأخبار وبيان هذه الآثار أن يعلم أن هيكل
العصمة الفاطمية على خلاف الهياكل الأخرى، فيكون ما ذكرناه حينئذ موافقا
لاصطلاح اللغويين ومطابقا للأحاديث.
وإذا كان المراد من «زكية» كثيرة الخير كما ورد في معنى (غلاما زكيا)،
يكون ما ذكرناه صحيحا أيضا، بل الجمع على العموم أوفى وأصفى.
وسيأتي - في خصيصة من الخصائص - بيان كيفية نمو المستورة الكبرى،
ونحل هناك الإشكال العويص الذي يبدو ظاهرا أنه غير منحل، وأرجو من الله أن
تنحل عقدة لساني، وأن يشرح صدري وجناني.

230
الخصيصة السادسة عشر (من الخصائص العشرين)
في معنى «الراضية والمرضية»
أما الراضية: فهذا اللقب الشريف يحكي رضا تلك المقدسة، ويحكي عالم
الرضوان الأكبر، وهو عالم لا يكون إلا للمعصومين (عليهم السلام)، كما أخبر الحق تعالى في
سورة الغاشية: (وجوه يومئذ ناعمة * لسعيها راضية * في جنة عالية) (1).
قال بعض العرفاء في تفسير هذه الفقرة من الدعاء: «وخذ لنفسك رضاء من
نفسي» (2) أي أرضي نفسي بكل ما ينزل منك ويرد عليها، فإذا صارت النفس
راضية، صارت يوم القيامة إلى عيشة مرضية.
وعلامة النفس الراضية أنها لا تسخط على ما قدره الله لها، ولا ترضى من
نفسها بالقليل من العمل.
روى في المجمع: «من رضي بالقليل من الرزق، قبل الله منه اليسير من
العمل، ومن رضي باليسير من الحلال، خفت مؤنته وتنعم أهله، وبصره الله داء
الدنيا ودوائها، وأخرجه منها سالما إلى دار السلام» (3).



(1) الغاشية: 8 - 10.
(2) مجمع البحرين: 186 مادة «رضا»، وفي البحار 83 / 120 ح 3 باب 42: «رضاها» بدل «رضاء».
(3) البحار 75 / 343 ح 1 باب 26، مجمع البحرين 187 ومادة: رضا.
231
والراضي: الذي لا يسخط بما قدر عليه ويرضى لنفسه بالقليل.
وهذا الحديث غاية في الشرف والجلال.
واعلم أن النفس إذا صارت مطمئنة، بلغت زمان الرجوع إلى الحق والخروج
من علائق البدن والتوجه إلى عالم القدس، فهي حينئذ راضية ومرضية. وهذا
الإرضاء ناشئ من الإطمئنان المودع في النفس والاطمئنان يلي مقام الإيقان وهو
راشح من ترقي الملكات الحقة.
ومعنى الإطمئنان أن العناية التي تحفه في الآخرة يراها بالمشاهدة والعيان في
دار الدنيا، أي إن عالم الشهود والكشف لديه في الدنيا والآخرة على نهج واحد،
وهو معنى «لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا» (1).
قال في المجمع: «النفس المطمئنة الآمنة من الخوف والحزن أو المطمئنة للحق
تعالى» (2)، قال تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية
مرضية) (3).
في التفسير عن أهل البيت (عليهم السلام) عن الصادق: «النفس المطمئنة إلى
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والراضية بالولاية والمرضية بالثواب، وادخلي في عبادي أي محمد
وأهل بيته (عليهم السلام)» (4).
والخلاصة: إن هذا اللقب غاية في تمجيد فاطمة الصديقة الطاهرة (عليها السلام)، وقد
ظهرت صفة الرضا بنحو الكمال في حبيبة ذي الجلال، بل اتحد رضاها برضا الله



(1) البحار 40 / 153 ح 54 باب 93.
(2) انظر مجمع البيان 10 / 355.
(3) الفجر: 27 - 28.
(4) تفسير البرهان 8 / 284 ح 3.
232
ورسوله وارتفعت المغايرة، وإلا لما قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «رضا فاطمة رضاي وسخط
لفاطمة سخطي» (1). وقد استفاد المرحوم المجلسي من هذا الحديث ونظائره عصمة
الزهراء (عليها السلام) (2).
وقد نزل في رضا فاطمة آي الذكر الحكيم في قوله: (ولسوف يعطيك ربك
فترضى) (3). روي في سبب نزولها أنه دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على فاطمة وعليها
كساء من ثلة الإبل وهي تطحن بيدها وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
لما أبصرها، فقال: يا بنتاه! تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة، فقد أنزل الله علي
(ولسوف يعطيك ربك فترضى) (4).
وأما المرضية: وهذا اللقب المبارك يأتي في الذكر الحكيم وفي الروايات ضمن
أوصاف النفس المطمئنة، ويذكر بعد الراضية، إلا أنه أشرف وأقوى من حيث ما
قاله النيسابوري في تفسيره: إن الراضية هي النفس الراضية والمسلمة لكل
المقدرات الكائنة والأحكام الجارية التي تصلها من الله. أما المرضية: فهي التي
رضى الله عنها فصارت مرضية للحق تعالى. ففي الأولى الرضا من العبد، وفي
الثانية الرضا من الله، والمناط رضا الحق عن العبد، لأن العبد إذا رضي عن الله
رضي الله عنه، كما يقال: «رضي الله عنه ورضي عنه».
وفي مجمع البحرين: الراضية وهي التي رضيت بما أوتيت، والمرضية هي التي
رضى عنها (5).



(1) البحار 28 / 357 ح 66 باب 4 وفيه: «رضا فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي».
(2) وستسمع فيما بعد كلاما جديدا ومطالب مفيدة عن عصمة الزهراء (عليها السلام). (من المتن)
(3) الضحى: 5.
(4) مجمع البيان 10 / 382، تفسير الصافي 5 / 341، المناقب
(5) انظر مجمع البحرين 1 / 185 مادة «رضا».
233
وببيان آخر: إن للنفس خمس مراتب:
الأولى: النفس الأمارة.
الثانية: النفس اللوامة.
قال تعالى: (إن النفس لأمارة بالسوء) (1) وقال: (ولا أقسم بالنفس
اللوامة) (2). الأولى تتبع الهوى وتأمر بالسوء، والثانية تلوم على المخالفة وتذعن
بالتقصير في الطاعة والإحسان.
الثالثة: النفس المطمئنة وهي الآمنة.
الرابعة: الراضية.
الخامسة: المرضية.
وذهب بعض إلى القول بالنفس الملهمة التي تنزل عليها الخيرات من الله أو
تلهم بواسطة الملك، ولربما أخذت من قوله تعالى: (فألهمها فجورها وتقواها) (3).
والنفس المطمئنة للسيدة لو لم تكن راضية من الله، لما كانت مرضية عند الله،
ولما حازت هذا اللقب، ومثلها أيضا نفوس الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، خصوصا نفس
سيد الشهداء (عليه السلام) الذي أولوا فيه قوله تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي
إلى ربك راضية مرضية) (4)، وهذه الثمرة من تلك الشجرة كما أن الواحد من
العشرة.
والنفس - باصطلاح المتصوفين - لها حقيقة واحدة تتصف بثلاث صفات



(1) يوسف: 53.
(2) القيامة: 2.
(3) الشمس: 7.
(4) الفجر: 27 - 28.
234
«وإن النفس أمارة ولوامة ونفس مطمئنة»، ومنهم من عد النفس الملهمة شيئا
رابعا، وعبارتهم كالتالي:
«فإن حقيقة النفس المطلقة من غير اعتبار حكم معها إذا توجهت إلى الله
تعالى توجها كليا سميت مطمئنة، وإذا توجهت إلى الطبيعة توجها كليا سميت
أمارة، وإذا توجهت تارة إلى الحق بالتقوى وتارة أخرى إلى الطبيعة البشرية
بالفجور سميت لوامة».

235
الخصيصة السابعة عشر (من الخصائص العشرين)
في معنى «المباركة»
المباركة: وهي ذات البركة في العلوم الربانية والفضائل النفسانية
والكمالات الشريفة والكرامات المنيفة.
واعلم أن هذا اللقب المعظم يبين الخيرات الكثيرة والبركات الوفيرة
الواصلة من منبع العصمة الكبرى والرحمة العظمى إلى الجميع بما سوى الله.
وقد أخبر الله عيسى ابن مريم في الإنجيل عن السيدة المخدرة فاطمة الزهراء
ووصفها بهذا الوصف، ففي «الأمالي» و «إكمال الدين وإتمام النعمة» عن عبد الله بن
سليمان قال: قرأت الإنجيل في وصف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): نكاح النساء ذو النسل القليل،
إنما نسله من مباركة لها بيت في الجنة لا صخب فيه ولا نصب، يكفلها في آخر
الزمان كما كفل زكريا أمك، لها فرخان مستشهدان» (1) إنتهى موضع الحاجة.
ففاطمة الزهراء (عليها السلام) أم البركات، والأصل الأصيل للخيرات، وكل بركات
عالم الإمكان من حسيات وعقليات من وجودها الجواد وذاتها المباركة.
وجاء في خبر ولادتها قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لخديجة وللنساء اللاتي حضرن



(1) البحار 43 / 22 ج 14 باب 3 عن الأمالي.
236
ولادتها من الجنة: خذيها طاهرة مطهرة زكية ميمونة النقيبة بورك فيها وفي
نسلها (1).
نقل الجوهري عن أبي عبيدة في معنى «النقيبة النفس»: يقال: فلان ميمون
النقيبة أي مبارك النفس (2).
قال ابن السكيت: إذا كان ميمون المشورة (3).
فالمباركة من البركة بمعنى الزيادة. والبركات على قسمين: منها ظاهري
ومنها باطني، وكلاهما ظهرا بنحو الكمال والتمام في مرآة صفات الجلال والجمال
الإلهي فاطمة الميمونة.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تزويجها: «لم تزل ميمون النقيبة مبارك الطائر رشيد
الأمر» (4).
ومعنى مبارك الطائر - ظاهرا - أي عمل الخير وهو من الأمثال السائرة (5).
قال تعالى: (وألزمناه طائره في عنقه) (6) قيل: أي عمله.
وفي المثل عن كثيرة الخير وزيادة الخصب: «هم في شئ لا يطير غرابه» (7).



(1) البحار 16 / 81 ح 20 باب 5 والكلام منسوب للنسوة.
(2) البحار 49 / 162 ح 1 باب 14.
(3) انظر الهامش السابق.
(4) بحار الأنوار 43 / 127 ح 32 باب 5 والكلام لأمير المؤمنين (عليه السلام) يخاطب فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
(5) لسان العرب «طير».
(6) الإسراء: 13.
(7) مجمع الأمثال للميداني 2 / 465 رقم 4534 قال: «هم في خير لا يطير غرابه» أصله أن الغراب إذا وقع
في موضع لم يجتح أن يتحول إلى غيره. قيل: يضرب في كثيرة الخصب والخير عن أبي عبيدة وقد يضرب
في الشدة أيضا عن أبي عبيد وقال ومنه قول الدبياني:
ولرهط حراب وقد سورة * وفي المجد ليس غرابها بمطار
237
والتبريك من نفس الجذر، وهو دعاء للزيادة وبركة الطعام، يقال «بارك
فيك ولك وعليك»، تقال للتيمن، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة زفاف المخدرة الكبرى
في دعاء لها ولأمير المؤمنين (عليه السلام): «بارك الله لكما وبارك فيكما وأخرج منكما النسل
الكثير» (1).
ومر سابقا أن خديجة كانت معروفة بين نساء قريش بلقب «سيدة
النسوان» و «الطاهرة» و «الكريمة» و «المباركة». ولكن معنى كثرة النسل وغيره
تحقق فيها من خلال هذه الكريمة الزكية والمباركة السماوية فاطمة النورية.
وقد ورد في تفسير أهل البيت (عليهم السلام) في معنى «الكوثر» أنه الذرية الطيبة
والنسل الكثير، وإنها كرامة لخاتم النبيين عليه وعليهم صلوات الله وسلامه وبركاته.
وفي قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) (2) قالوا: الليلة المباركة هي
الذات المقدسة لأم البركات ومباركة الخيرات فاطمة الزهراء (عليها السلام).
وقد رشحت منها المنافع الخيرية وكليات الأمور الدنيوية والأخروية التي
شملت العالمين.
وقال تعالى: (وهذا كتاب أنزلناه مباركا) (3) قيل: تنزيلها وتأويلها في
فاطمة (عليها السلام) الجامعة لعلوم الأولين والآخرين، وقد استفاض منها العلماء في كل
عصر ونهلوا من خيراتها في كل زمان.



(1) الصواعق المحرقة 162 ب 11 ف 1; بحار الأنوار 43 / 112 ح 24 و 43 / 117.
(2) الدخان: 3.
(3) الأنعام: 15.
238
والشاهد الآخر على المراد قول عيسى (عليه السلام): (وجعلني مباركا) (1) وهو
صريح في أن وجوده المقدس كان معدن الخيرات ومنبع البركات.
فالسيدة الصديقة الطاهرة سادت في هذا اللقب والوصف عيسى ويحيى (2)،
فهما مباركان وفاطمة (عليها السلام) مباركة.
تبريك
إنما نعت هذان النبيان بالبركة بلحاظ ما يناسب الأنبياء من الإفاضات
العلمية وغيرها من الإفاضات التي تناسب مهمتهم، أما المستورة الكبرى
فالمطلوب منها - بغض النظر عن بركاتها وفيوضاتها الأخرى - كثرة النسل
وازدياد الذرية، وهو أمر ممدوح في النساء «الولود وكثيرة الخلف»، والحمد لله
على ذلك، فهذه ذريتها الطاهرة تملأ الآفاق وتنشر في أطراف الأرض بعدد ذرات
الهواء (كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) (3).
صد هزاران آفرين بر جان أو * بر قدوم و دور و فرزندان أو
آن خليفه زادگان مقبلش * زاده اند از عنصر جان و دلش
گرز بغداد وهري يا ازرى اند * بي مزاج آب و گل نسل وى اند (4)
صلوات الله عليها وعليهم.



(1) مريم: 31.
(2) باعتبار أن يحيى (عليه السلام) بشر بهذه العبارة.
(3) البقرة: 261.
(4) يقول: ألف مرحى لرحها ولقدومها وأبنائها ومتعلقيها. أولئك نسل خليفة الله، ولدوا من نفسها
وروحها سواء كانوا من بغداد أو هراة أو الري، فهم جميعا خلقوا من طينتها.
239
الخصيصة الثامنة عشر (من الخصائص العشرين)
في معنى «النورية»
النورية: هذا اللقب الشريف النوراني معروف مشهور بين الملائكة وسكان
السماوات مثل «المنصورة» كما ذكرنا سالفا.
وقد عده العلامة المجلسي (رحمه الله) في ألقابها المكرمة المفخمة، وقال «ويقال لها في
السماء النورية السماوية» (1).
وبديهي أن الأنوار الإلهية - بكلياتها - تتجلى لسكان السماوات من العالم
الأعلى، ومع ذلك عرفت عندهم هذه المرأة - وهي من جنس البشر - بهذا اللقب
واشتهرت بهذه الصفة، وفي هذا دليل على عظمة هذه الذات المقدسة ونورانية هذه
الحقيقة وشرافتها.
والنور من أسماء الله الحسنى ومن إشراقات جلال الحق وسبحات جماله.
وفي الدعاء: «أنت نور السماوات والأرض» أي منورها ومدبرها بحكمة
بالغة.
وقيل في تعريف النور: «والنور كيفية ظاهرة بنفسها، مظهرة لغيرها».
وقيل أيضا: «كيفية تدركها الباصرة وبها تدرك المبصرات، مثل فيضان



(1) البحار 43 / 16 ح 15 باب 2.
240
وإشراق الشمس والقمر على الأجرام الكثيفة المحاذرة لها، والنور نقيض الظلمة،
وجمعه أنوار، ومصدره على وزن تفعيل «تنوير».
وقد عبر غالبا عن الوجود الشريف للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والولي (عليه السلام) في القرآن وفي
الحديث ب‍ «النور» بلحاظ آياتهم الباهرة ودلالاتهم الظاهرة.
وغالبا ما يكون المراد من التعبير بالنور الهداية والدلالة، كما ورد في تفسير
آية النور، وهو معنى جامع واضح، لأن كافة البريات تبحث عن النور في الظلمات
وتطلب الهداية، فإذا أدركوا النور وشملتهم الهداية وصلوا إلى الهدف ونالوا
المقصود وفازوا بالمراد، ويشهد لذلك قوله تعالى (يهدي الله لنوره من يشاء) (1).
وهو معنى «أن النور مظهر لغيره» أي أنه الهداية والدلالة، ويشهد له
الحديث الذي سيأتي في خصيصة أخرى وفي خلق القنديل وتعليقه في ذروة السماء
وكشف الظلمة به وهدايته الملائكة بنوره، ومنه يعرف علة تسمية المخدرة الكبرى
بالنورية السماوية.
وعلى ما هو المعلوم، فإن أئمة الدين (عليهم السلام) كانوا ينشرحون ويسرون لهذا
اللقب، ويفرحون بهذه النسبة التي تصدق في الحقيقة في حق كل واحد منهم.
* * *
ولقد اشتهر على ألسنة فضلاء العصر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لكعب بن زهير
الشاعر لما مدحه بقصيدته التي اعتذر إليه فيها:
إن النبي لسيف يستضاء به * مهند من سيوف الله مسلول (2)



(1) النور: 35.
(2) البحار 22 / 252 ح 1 باب 5.
241
قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): قل: «إن النبي لنور يستضاء به».
وقيل إن كعبا قال: «مهند من سيوف الهند مسلول» فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
«من سيوف الله مسلول».
والسيف الهندواني أفضل السيوف بترا وقطعا ولمعانا وبريقا، فإن صح ذلك
فهو أفضل مما قاله كعب وأكثر معنوية، فالسيف مشتق من «ساف» بمعنى الهلاك،
يقال: ساف ماله أي هلك، والسيف سبب الهلاك، فكأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إني لم آت
للهلاك، ولست من أهل الغضب والقهر، بل بعثت رحمة وهدى كباقي الأنبياء، فهم
أيضا أنوار إلهية مضيئة.
وقيل: التعبير بالسيف إستعارة، ووصفه بالمهند لبريقه ولمعانه النافع في
الإستضائة والهداية بنور الحق، فإن كان كذلك، فالتعبير ب‍ «النور» أقوى وأجلى،
وإذا قيل: أن البيت يجمع الغضب والرحمة بتقدير ضمير محذوف، فيكون «هو
المهند من سيوف الله» كان أملح، ولكن الحذف خلاف الأصل كما قيل.
وإني لم أجد خلال بحثي في شروح القصيدة وترجمتها تغيرا في المصرع الأول
بالنحو المشهور، وإنما وجدته في المصرع الثاني، والإستضائة بالنور أولى من
الإستضائة بالسيف، ثم إن استعمال «سيف الله» في النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) غير شائع، بل
المعروف أن «سيف الله المسلول» من الألقاب الشريفة لسلطان الأولياء صلوات
الله عليه، وسبب تلقيبه بذلك معلوم.
* * *
وعلى أية حال فنورانية الزهراء (عليها السلام) كانت بأنحاء متعددة، فهي لأهل
السماوات بنحو، ولأهل الأرض بنحو يختلف باختلاف الأوقات، ولأمير المؤمنين (عليه السلام)
بنحو آخر.

242
أما لأهل السماوات فستأتي - إن شاء الله - عند الكلام عن أول خلقتها
روايات معتبرة تنص على أنها كانت تزهر في محراب عبادتها كالكوكب الدري
وكالنجم الساطع و...
وقد ورد في تفسير أهل البيت (عليهم السلام) في قوله تعالى: (كأنها كوكب دري) (1)
أنها مأولة في فاطمة (2)، ولهذا سميت عند الملائكة بالنورية، يشهد لذلك الأخبار.
وأما لأهل الأرض، فقد مر بيانه من أنها كانت تزهر لأهل المدينة بنور
أبيض وأصفر وأحمر، بل كانت الأنوار الساطعة من خواص تلك المحجوبة
الكبرى، حتى أن جماعة من اليهود اهتدوا وأسلموا لما رأوا نورها (عليها السلام)، وهذا مما
ثبت بالتحقيق.
أما ما كان لأمير المؤمنين (عليه السلام) فهو مما لا يمكن إنكاره، وقد ورد في كتب
الفريقين «أنها لعلي (عليه السلام) في أول النهار كالشمس الضاحية، وفي وسط النهار كالقمر
المنير، وفي آخر النهار كالكوكب الدري» (3).
ويمكن أن يقال في هذا المقام أن أهل السماوات لم يكن عندهم الاستعداد
لمشاهدة نور تلك المخدرة بنحو الكمال، فلم يروها من أول العمر إلى آخره إلا
كوكبا دريا لا شمسا ولا قمرا، أما أمير المؤمنين (عليه السلام) فكان يراها بنحو أكمل وأتم
بالبصيرة الكاملة حسب الولاية الحقة والإتحاد الواقعي، فكان يراها شمسا وقمرا
وكوكبا دريا.



(1) النور: 35.
(2) انظر تفسير البرهان 5 / 386 ح 2.
(3) انظر البحار 43 / 15 ح 14 باب 2.
243
وقد روى الفريقان في حديث التزويج أن جبرئيل هبط إلى خاتم المرسلين
وقال: زوج النور من النور، قال: من ممن؟ قال: بنتك فاطمة من ابن عمك علي
ابن أبي طالب (عليه السلام) (1).
ومنه يعلم أن النور يطلق على المرأة بدون الحاق تاء التأنيث، والمروي في
كتب المناقب «النورية السماوية»، ويقال للمرأة التقية الورعة «النور» أيضا.
تنوير
النور - في الحقيقة - ما ينور غيره ويظهره، وإلا لم يدع نورا، كالشمس
والقمر والنجم والمصباح، أما المرأة والماء والجواهر وأمثالها فلا يقال لها نور وإن
كانت ظاهرة بذاتها.
والله سبحانه نور يضيء السماوات والأرض بملائكته وعباده الصالحين.
والنور على قسمين: ظاهر وباطن; أما الظاهر: فمثل نور الشمس وغيرها،
وأما الباطن: فنور التوحيد ونور المعرفة (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على
نور من ربه) (2)، ونور الباطن أقوى وأبقى.
ولذا قيل: إنهم - أي أهل البيت (عليهم السلام) - نور السماوات والأرض; لأن نور
غيرهم إلى الزوال والاضمحلال، ونورهم باق لا يزول، وقلوبهم تضيء وتتقد
دائما وأبدا، وهو السبب في بقاءهم; ولأنهم باقون فالنور يلازمهم في الوجود
ملازمة الظل.



(1) انظر البحار 43 / 111 ح 23 و 123 ح 3.
(2) الزمر: 22.
244
روى علي بن إبراهيم (رحمه الله) في المؤمن «فالمؤمن مدخله نور، ومخرجه نور،
وكلامه نور، وهو يوم القيامة نور على نور» (1).
فنقول: أصل منشأ هذه الأنوار هو نور التوحيد والإيمان والإسلام، وهي
الشجرة الطيبة التي (أصلها ثابت وفرعها في السماء) (2).
وتلك هي الحضرة الفاطمية والمحمدية، والبضعة الأحمدية، خلقتها نور،
وطلعتها نور، وولادتها نور، ونسبتها نور، بل منشأها ومبدأها من الأنوار
الإلهية، منتزعة من نور حقيقة الحقائق المحمدية، ومنها نور الحفظ، ونور الخوف،
ونور الرجاء، ونور الحب، ونور اليقين، ونور الفكر، ونور الذكر، ونور العلم،
ونور الحياء، ونور الإيمان، ونور الإحسان، ونور العطف، ونور الهيبة، ونور
الحيرة، ونور الحياة، ونور الاستقامة، ونور الإستكانة، ونور الطمأنينة، ونور
الجلال، ونور الجمال، ونور الوحدانية، ونور الفردانية، ونور الأبدية، ونور
السرمدية، ونور الديمومية، ونور البقاء، ونور الهوية.
وهو جامع جميع الكمالات، وواضع سمة مراتب الإعتدال الملكي
والإنساني، والعالم كله وآدم وبنيه صور وأجزاء وتفصيل لوجوده; لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم)
«آدم ومن دونه تحت لوائي» (3) وإنه القائم بشرائط العبودية، وهو من ربه على نور
وهو نور على نور.
وهو كعبة الجلال، ونقطة الكمال، والإنسان الكامل، ومظهر الاسم الجامع



(1) تفسير القمي 2 / 79 وعنه البحار 4 / 17 ح 5 باب 3.
(2) إبراهيم: 24.
(3) البحار 16 / 402 ح 1 باب 12.
245
الشامل، ومقصود الخلق، والموحد في قصر التوحيد، وغياث المضطرين، تنتهي
إلى نقطة وجوده الخطوط والدوائر الإمكانية.
وهو مجمع الأنوار، ومطلع الأسرار، وهو مع الله قلبا ومع الخلق شخصا.
وهو المنقطع عما سواه، وليس له مؤنس إلا الله، ولا نطق ولا إشارة له إلا
بالله وفي الله ومع الله، وقد قال الله في حقه (ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من
عبادنا) (1).
وهو الظاهر بنفسه والمظهر لغيره، بل هو نفس الظهور، وأجل يالموجودات
وأظهرها (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين) (2).
والصديقة الطاهرة خلاصة ذلك الوجود المسعود وخاصته وبضعته وثمرة
صاحب المقام المحمود.
وهي أشبه الناس برسول الله خلقا وخلقا وكلاما وحديثا وهديا وسمتا
وقولا وفعلا وعلما وعملا ويقينا ومعرفة، فورثت أباها، وما آتاه الله آتاها، فإذا
هي النورية «السماوية»، بل هي نور في العوالم الشهودية والغيبية.
ولقد قلت نظما:
مشكاة نور الله جل جلاله * زيتونة عم الورى بركاتها
هي قطب دائرة الوجود ونقطة * لما تنزلت أكثرت كثراتها
هي أحمد الثاني وأحمد عصرها * هي عنصر التوحيد في عرصاتها
وأرجو من عناياتها.



(1) الشورى: 52.
(2) المائدة: 15.
246
وسنذكر - إن شاء الله تعالى - في خصيصة إبداع نور فيض ظهورها أخبارا
سارة، ونقتصر هنا على ذكر حديث واحد - وفاء بالوعد - رواه المرحوم المجلسي
عليه الرحمة في المجلد السابع من بحار الأنوار عن تفسير علي بن إبراهيم القمي:
عن الصادق (عليه السلام) قال في قول الله: (الله نور السماوات والأرض مثل نوره
كمشكاة) (1) المشكاة فاطمة (عليها السلام) (فيها مصباح المصباح) الحسن والحسين (في
زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري) كأن فاطمة (عليها السلام) كوكب دري بين نساء أهل
الأرض (يوقد من شجرة مباركة) يوقد من إبراهيم «عليه وعلى نبينا وآله
السلام» (لا شرقية ولا غربية) يعني لا يهودية ولا نصرانية (يكاد زيتها يضيء)
يكاد العلم يتفجر منها (ولو لم تمسسه نار نور على نور) إمام منها بعد إمام.
[(يهدي الله لنوره من يشاء) يهدي الله للأئمة من يشاء أن يدخله في نور ولايتهم
مخلصا (ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شئ عليم)] (2).
وفي تفسير فرات عنه (عليه السلام) قال: (كأنها كوكب دري) فاطمة من نساء
العالمين (يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية) قال لا يهودية ولا
نصرانية (يكاد زيتها يضيء) يكاد العلم ينبع منها سلام الله عليها (3).
وروى مثله في كتاب الطرائف عن ابن المغازلي الشافعي، عن الإمام
الحسن (عليه السلام)، والعلامة في كشف الحق عن الحسن البصري، وابن البطريق عن
المناقب لابن المغازلي.



(1) النور: 35. قال تعالى: (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في
زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها
يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء والله بكل شئ عليم).
(2) تفسير علي بن إبراهيم القمي 2 / 78 وعنه البحار:
(3) البحار 23 / 312 ح 18 باب 18 عن تفسر فرات:
247
وبهذا التفسير تبين أن علم الأئمة المعصومين (عليهم السلام) من علم فاطمة
الزهراء (عليها السلام)، كالزيت يعصر من الزيتونة، حيث يفاض العلم من أعلى مراقي النبوة
على فاطمة الطاهرة مباشرة بدون نزول ملك مقرب، والأئمة الطاهرين (عليهم السلام)
يتكلمون عنها، فكما كان وجودها المقدس سببا لوجود كل واحد من الأئمة،
فكذلك كان علمهم يفاض عليهم بواسطتها.
ويظهر من قوله تعالى: (يوقد من شجرة مباركة) أن علم فاطمة من
الرسول وأن علوم الأئمة الأطهار (عليهم السلام) من فاطمة (عليها السلام). وفي هذا كمال الشرف لتلك
المخدرة وغاية التمجيد في العلم الموهوب لها (عليها السلام).
ولما كان علم فاطمة (عليها السلام) منسيا في هذا الزمان، أفردت له خصيصة خاصة
للكلام عنه، وذكرت الأخبار الدالة على إحاطتها بالعلوم الدينية والمعارف الحقة،
وأنها عالمة بما في الأرض والسماء.
ففاطمة الزهراء مشكاة علوم آل محمد (عليهم السلام)، فكما يستفيد الناس من ضوء
النجوم (وبالنجم هم يهتدون) (1) فكذلك بعلوم فاطمة يهتدون، فتأمل.



(1) النحل: 16.
248
الخصيصة التاسعة عشر (من الخصائص العشرين)
في معنى «مريم الكبرى»
مريم الكبرى: لقد أقسم النبي مرارا أيمانا مغلظة، وقال في فاطمة الزهراء
سلام الله عليها «والله هي مريم الكبرى» (1).
هذا; مع أن النساء العابدات المطيعات الزاهدات كثيرات في الأمم السابقة،
وقد ذكر القرآن الكريم جملة منهن ومدحهن وأثنى عليهن; إلا أن النبي
الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يجعل الزهراء (عليها السلام) قرينة لواحدة منهن، إلا ما كان من مريم (عليها السلام);
لأنها منتخبة منتجبة مصطفاة من نساء العالمين، ثم إنها موصوفة بالعصمة، وإنها
سيدة نساء العالمين وأفضلهن، وقد أثنى عليها الله بعفة النفس والصفاء
والاصطفاء، وجعلها فردا كاملا في النوع النسواني في العالمين.
وقد جعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الخاتم فاطمة أكبر وأكرم من مريم، ولم يقل: أنها
مريم، بل قال: إنها مريم وزيادة، فهي أكبر وأشرف وأفضل وأجلى وأقوى من
مريم، وسيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهذه الأفضلية والأشرفية
لجامعيتها، ولأنها أكمل في الملكات المحمودة والملكات المسعودة.
ويشهد لما ندعيه قسم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المؤكد علاوة على إذعان المخالفين



(1) البحار 22 / 484 ح 31 باب 1 وفيه «هذه والله مريم الكبرى».
249
واتفاقهم على ذلك، حيث رووا هذا اللقب الشريف والألقاب الأخرى، وأكدوا
على صحة الدعوى.
* * *
والخلاصة: مريم بنت عمران بن ماثان، وهو غير عمران بن أشهم
المنسوب إلى إسحاق بن إبراهيم الخليل (عليه السلام)، وأمها حنة، قال تعالى: (وإذ قالت
امرأة عمران) (1) أي حنة، وأم حنة كما في الكافي مرتار، وبالعربية وهيبة. وحنة
وإيشاع أم يحيى (عليه السلام) أختان كما ذكر العياشي (2)، وكان بين عمران بن ماثان وعمران
أبي موسى أكثر من ثمانمائة سنة.
ومريم باللغة القديمة تعني العابدة، وقال السيوطي في الإتقان (3): تعني
«الخادمة»، وقيل: المرأة التي تعادل الفتيان، وهو اسم وضعته حنة أمها بعد أن
وضعتها، قال الله تعالى: (وإني سميتها مريم) (4).
وفي معنى الاسم دليل على نيتها الحسنة وسريرتها الصادقة حيث أرادت أن
تجعل ولدها الذكر محمودا، أي مقيما وخادما في القدس الشريف ليتفرغ إلى عبادة
ربه، فلما وضعتها أنثى وتبين لها أن الوليد يحقق المقصود و (ليس الذكر كالأنثى) (5)
قال الله: (فتقبلها ربها بقبول حسن) (6) فرفع عنها المانع وكشف العلة وأعفاها



(1) آل عمران: 35.
(2) انظر البحار 14 / 194 ح 2 باب 16.
(3) انظر البحار 14 / 194 ح 2 باب 16.
(4) آل عمران: 36.
(5) آل عمران: 36.
(6) آل عمران: 37.
250
عن العادة لتبقى مقيمة في بيت المقدس وتتفرغ لخدمته، فلما اطمئنت حنة شكرت
ربها وسمتها حسب ما سيؤول إليه أمرها «مريم»، أي البنت التي صارت منذ بدو
تكليفها محررة لخدمة البيت.
وبعبارة أخرى: إن المقصود من الولد الذكر هو ملازمة بيت المقدس
والإقامة فيه، فلما ارتفع المانع من البنت جرى عليها التكليف فتحقق الغرض
وحصل المقصود.
ويدل قوله تعالى: (إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت
السميع العليم) (1) دلالة واضحة على أن أم مريم كانت قد نذرت أنها إن رزقت
ولدا جعلته محررا. وسبب نذرها كما في كتب التفاسير المعتبرة: أن حنة كانت عقيما،
فآيست من الولد، غير أنها كانت تدعو الله دائما أن يرزقها ولدا ذكرا، ورأت يوما
طائرا على غصن يزق فرخه فرقت وتضرعت إلى الله وتوسلت إلى الرب القادر
وعرضت حاجتها على رب القضاء، وتوسلت بلسان الدعاء: أن يا رب يا قدير
ألا تتفضل على هذه الضعيفة العاجزة وتمن عليها وترزقها ولدا يعبدك ويكون
محررا لك، فاستجاب الله دعاءها وأعطيت سؤلها وحملت بمريم المقدسة، وقبل الله
منها هذه الأنثى بدل الذكر (2).
ثم إن زوجها عمران كان موعودا بذكر، فكانت مريم للأم وعيسى للأب كما
ورد في الأخبار المذكورة في محلها.



(1) آل عمران: 35.
(2) تفسير الكشاف للزمخشري 1 / 355 ذيل الآية.
251
لطيفة صغرى
روي أن ثقة المحدثين الصدوق - عليه الرحمة - قارن في بعض مؤلفاته
ورسائله الشريفة بين مريم (عليها السلام) والصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء صلوات الله
عليها، غير أنها لم تصل إلينا، ولكن العلامة المجلسي أشار إليها في المجلد العاشر من
بحار الأنوار.
لقد أراد هذا الحقير الغارق في التقصير أن يكون له نصيب في هذا الموضوع
فأقدمت - معترفا بالجهل والعجز الكاملين - على استنطاق الكتاب والسنة
للمقارنة بين هاتين السيدتين المعصومتين وتقرير صفات الكمال الموجودة في كل
واحدة منهن، وذلك في ذيل الخصيصة التي استعرضت فيها النساء المذكورات في
الذكر الحكيم، ولكني ارتأيت الإشارة في هذه الخصيصة إلى لطيفة أخرى، وقد
أشار إليها - بإيجاز - العامة والخاصة في كتبهم التفسيرية، وهي:
لماذا أعرض القرآن الكريم عن التصريح بأسماء النساء واكتفى بالوصف
والإشارة، بينما صرح باسم السيدة مريم (عليها السلام) في عشرين موضعا بصيغة الخطاب
وبغيرها من قبيل:
(واذكر في الكتاب مريم إذا انتبذت من أهلها مكانا شرقيا) (1).
(يا مريم إن الله اصطفاك) (2).



(1) مريم: 16.
(2) آل عمران: 42.
252
وقوله تعالى: (يا مريم اقنتي لربك) (1).
وقوله تعالى: (وقالت الملائكة إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى
ابن مريم) (2).
وقوله تعالى: (ما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) (3).
وقوله تعالى: (يا مريم لقد جئت شيئا فريا) (4).
وقوله تعالى: (إني سميتها مريم) (5) ونظائرها من الآيات الكريمة؟!
الجواب:
لقد عثرت على وجهين في كتب الفريقين في مقام الجواب على ذلك، أذكرهما
على نحو الإيجاز:
الوجه الأول:
أن الملوك والسلاطين لا يدعون الحرائر والعقائل من ذوات البيوتات
بأسمائهن في الملأ العام والمحافل، وإنما يدعونهن بالألقاب والكنى إعظاما وإكراما -
كما ذكرنا ذلك في الحديث عن سبب الخطاب بالكنية - فينبغي أن يبقى اسم الحرة
المحترمة محجوبا مستورا كشخصها، خلافا للإماء والجواري حيث لا يتضايق
السادة من ذكر أسمائهن على رؤوس الأشهاد، ولما كان النصارى يعتقدون بعيسى
وأمه مريم أنهما ابن الله وزوجته، وينسبونهما للحق تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا،



(1) آل عمران: 43.
(2) آل عمران: 45.
(3) آل عمران: 44.
(4) مريم: 27.
(5) آل عمران: 36.
253
فقد وصف الله سبحانه عيسى (عليه السلام) في القرآن الكريم بصفة العبودية، وأجرى ذلك
على لسانه حيث قال (عليه السلام): (إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا) (1)، وكذلك
وصف مريم بالعبودية وخاطبها بهذه السمة، ليعلم النصارى أن تلك المستورة
العظمى كباقي النساء أمة من إماء الله وابنها عبد من عبيده، ونسبتهما إلى الله ذي
المنن نسبة العبودية لا نسبة البنوة ولا الزوجية، وهذا لا يعني أن الله حقر مريم في
القرآن، بل ذكرها وصرح باسمها وأمرها بالطاعة والعبادة تعظيما لها.
والغرض من تكرار اسمها والتأكيد عليها بالامتثال والإطاعة لإثبات
العبودية والإئتمار; ليعلم النصارى أن مريم امتازت في العبادة ولم تتميز في
العبودية، وإنما هي من عبيد الله، ولا نسبة بينها وبين الساحة المقدسة لحضرة ملك
الملوك ورب الأرباب، خلافا لما توهمه النصارى حينما جعلوها أقنونا من الأقانيم
الثلاثة، حتى عرف بعضهم ب‍ «المريمية»، ولا تزال بقايا منهم في المغرب إلى يومنا
هذا.
الوجه الثاني:
قال السهيلي في تعريف الأعلام من كتاب «أسئلة الحكم»: إن السبب في
تكرار اسم مريم في القرآن الكريم أن الله أكرم مريم بكرامات باهرة وآيات زاهرة،
ونزهها من النقائص والكدورات النسوية، وهذبها وقبلها قبول الذكر المحرر،
وجعلها في عداد الأنبياء العظام، وخاطبها خطابات صريحة مباشرة; ليعلم أن
القدرة الربانية الكاملة يمكن أن تجعل المرأة في عداد الأنبياء بعد رفع الموانع
وطهارة الذيل وكثرة التقوى وشدة الإيمان، فتكون مثل إبراهيم وعيسى وموسى



(1) مريم: 30.
254
وداود (عليهم السلام) يتوجه إليها الخطاب: (يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع
الراكعين) (1).
وهذا الوجه قريب من مشرب بعض العلماء العامة الذين ذهبوا إلى القول
بنبوة مريم، وأنها من الأنبياء العظام، واستدلوا لذلك بالخطابات القرآنية.
وهذا الرأي على خلاف مذهب الإمامية، وبطلان دعوى أولئكم بين
واضح، قام عليه الدليل والبرهان، حيث أن النساء مهما بلغن من الكمال في الإيمان
لا يكلفن بتكاليف الرجال، ولا يمكن أن يأتين بشريعة، فللرجال تكاليفهم
وأحكامهم ومهامهم، وللنساء تكاليفهن وأحكامهن ومهامهن.
والأفضل الإعراض عن هذا الحديث والعودة إلى صلب الموضوع.
نقول: إن مريم أفضل من جميع النساء، وفاطمة الزهراء (عليها السلام) أفضل من مريم
ومن جميع نساء العالمين، وكثرة التصريح باسم مريم في القرآن لا يدل على أنها
أفضل من فاطمة (عليها السلام) التي لم يصرح باسمها في القرآن، واحتجاب اسمها المبارك
واختفاؤه دليل على عظمة ذاتها وشرف حالاتها، وهي المستورة الكبرى، كما أن
ثبوت هذه الفضيلة لفاطمة (عليها السلام) لا تنفى علو مرتبة مريم (عليها السلام)، وقد ذكرنا علة ذكر
اسمها.
ولا يخفى على القراء الكرام أن القرآن ذكر الزهراء (عليها السلام) في آيات عديدة -
مفردة ومنضمة إلى آخرين - وصفها الخلاق العليم بأوصاف كمالية وأثنى عليها.
وقد استوفى المفسرون من الفريقين البحث في هذه الآيات: وذكروا أدلتهم
وشواهدهم على ذلك، كما في آية التطهير وآية المباهلة وآيات سورة هل أتى،



(1) آل عمران: 43.
255
وسنستوفى البحث فيها كلا في محله إن شاء الله تعالى.
ولا يخفى أيضا أن قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «فاطمة مريم الكبرى» مدح واضح
لمريم (عليها السلام) حيث جعل الفضل محصورا عليها، وكأنه قال: إن كان شرف أمة
عيسى (عليه السلام) في مريم، فإن لهذه الأمة المرحومة مريم أيضا إلا أنها أشرف وأفضل،
أما أفضليتها من الجهة الذاتية فواضح لا غبار عليه وأما أفضليتها من الجهة
الخارجية فيكفيها شرف البنوة والانتساب إلى خاتم الأنبياء والمرسلين، والزواج
بخاتم الأوصياء المرضيين وملازمته، وأمومة الأئمة المعصومين صلوات الله عليهم
أجمعين، وكثرة ذريتها الطيبة إلى يوم الدين.
فكلام سيد الأنام يتضمن أمرين:
أحدهما: شرف مريم وفضيلتها وتفردها.
والآخر: تميز مريم هذه الأمة عليها.
وكأنه قال: إن ابنتي فاطمة الزهراء (عليها السلام) أفضل وأشرف من مريم الموصوفة
بالصفات الخاصة والمفضلة على من سواها من النساء. وقد صدق الرسول
الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم).

256
الخصيصة العشرين (من الخصائص العشرين)
في معنى «المحدثة» - بفتح الدال -
وهو من أعظم وأفضل الألقاب الطيبة لأم الأئمة النجباء فاطمة الزهراء
صلوات الله عليها.
وهذه الدرجة السامية والرتبة النامية التي تلي مقام النبوة والإمامة خاصة
بالزهراء (عليها السلام). وهي تعني أن صاحب هذا اللقب والمقام يكون ملهما ومؤيدا
بالإفاضات الغيبية والعنايات الربانية، حيث تحدثه الملائكة فيسمع أصواتها.
والظاهر من أخبار الكافي أن من مراتب النبوة قبل البعثة سماع صوت الملك
ومعاينة الروح الأمين.
والمحدثة: اسم مفعول أي التي حدثت، ولا بد للمحدثة من محدث، وكان
جبرئيل وغيره من الملائكة يحدثون النبي والوصي وفاطمة الزكية، وكانت لفاطمة
الزهراء (عليها السلام) لقاءات لا تحصى مع الملائكة. وفي حديث مصحف جبرئيل، كانت
فاطمة تلتقي جبرئيل خمسة وسبعين يوما أوقات الصلاة المفروضة، وتشاهده
عيانا بالحاسة الباصرة الظاهرية والرؤية البشرية، وتسمع منه الأحاديث
والأخبار في ما كان وما هو كائن، وكانت تلتقيه من قبل في زمان أبيها كما جاء في
مرثيتها:

257
وكان جبرئيل بالآيات يؤنسنا * فقد فقدت فكل الخير محتجب (1)
وقد ورد في أوصافها «المحدثة العليمة».
ولما كان الحديث عن هذا المطلب الأسنى والمقصد الأعلى بنحو الإطناب
مهما في هذا الكتاب، لذا سننقل أقوال العلماء أولا، ثم نذكر علائم وصفات المحدثة
من الأخبار المعتبرة ثانيا ليثمر البحث نتيجة مفيدة إن شاء الله.
قال المحدث المرحوم الفيض في الوافي: المحدث - بفتح الدال وتشديده - هو
الذي يحدثه الملك في باطن قلبه، ويلهمه معرفة الأشياء، ويفهم وربما يسمع صوت
الملك وإن لم ير شخصه (2).
وقال في مجمع البحرين في معنى «المحدثين»: أي يحدثهم الملائكة وفيهم
جبرئيل من غير معاينة (3).
وقال شارح أصول الكافي الفاضل المحدث المازندراني: هو الذي يلقى في
قلبه شئ من الملأ الأعلى.
وقال بعض الأفاضل: هو الذي يحدث ما في ضميره بأمور صحيحة، وهو
نوع من الغيب، فتظهر على نحو ما وقع له، وهي كرامة من الله يكرم بها من شاء من
صالح عباده وهو من صفاء القلب فيتجلى فيه من اللوح المحفوظ عند المقابلة بينه
وبين القلب.
ومن كلماتهم أيضا: هو الذي يخلق الله في قلبه الصافي الأمور الكائنة بواسطة



(1) بحار الأنوار 43 / 196 ح 27.
(2) الوافي 3 / 624 ذيل ح 1208 باب 61.
(3) مجمع البحرين 2 / 245 مادة «حدث» في معنى قوله (عليه السلام): «إن أوصياء محمد عليه وعليهم السلام
محدثون» عن الكافي 1 / 270.
258
الملك الموكل به وقد ينتهي به الاستعداد إلى أن يسمع الصوت ويرى الملك.
وهذه العبارات الشيقة والمقالات المنيفة مأخوذة من العبارات الباهرة
الآيات للأئمة المعصومين (عليهم السلام) المذكورة في الكافي والبصائر، منها:
ما روي عن الصادق (عليه السلام) في وصف المحدث قال: إنه يسمع الصوت ولا يرى
الشخص.
فقلت له: جعلت فداك كيف يعلم أنه كلام الملك؟
قال: إنه يعطى السكينة والوقار حتى يعلم أنه كلام ملك (1).
ومنها: ما عن سليم بن قيس الهلالي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إني
وأوصيائي من ولدي كلنا محدثون.
قال سليم: قلت لمحمد بن أبي بكر: وهل تحدث الملائكة إلا الأنبياء؟
قال: أما تقرأ القرآن: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي) (2) ولا
محدث؟
قال: قلت له: أمير المؤمنين (عليه السلام) محدث هو؟
قال: نعم وكانت فاطمة محدثة ولم تكن نبية (3).
وفي حديث أبي جعفر الباقر (عليه السلام): «فقال نعم وجدنا علم علي (عليه السلام) في آية من
كتاب الله (وما أرسلنا من قبلك من رسول...) (4).



(1) أصول الكافي 1 / 271 ح 4 كتاب الحجة باب أن الأئمة محدثون مفهمون.
(2) الحج: 52.
(3) كتاب سليم بن قيس (رحمه الله) 2 / 824 الحديث السابع والثلاثون. انظر بصائر الدرجات 270 الجزء السابع
في أن الأئمة محدثون.
(4) الحج: 52.
259
قلت: وأي شئ المحدث؟
فقال: ينكت في أذنه فيسمع طنينا كطنين الطست أو يقرع على قلبه فيسمع
وقعا كوقع السلسلة على الطست (1).
وروى هذا المعني في الكافي، ومنتخب البصائر عن الأئمة المعصومين، إلا أننا
أعرضنا عن ذكرها طلبا للاختصار، ويعلم مضانها أهل الإستبصار.
وفي كتاب تأويل الآيات عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال للحكم بن عيينة: هل
تدري الآية التي كان علي بن أبي طالب (عليه السلام) يعرف قاتله بها ويعرف بها الأمور
العظام التي كان يحدث بها الناس؟...
قال: فقلت: لا والله لا أعلم.. قال: هو والله قول الله عز ذكره: (وما أرسلنا
من قبلك من رسول ولا نبي) ولا محدث.
ثم قال: وكل إمام منا محدث (2).
ونظيره الحديث المشهور «في كل أمة محدثون ومفهمون وإن أوصياء
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) محدثون في هذه الأمة» (3).
وعقد في الكافي بابا خاصا لذلك (4).
والتأمل في هذه الأخبار يوضح لنا الفرق بين الرسول والنبي والمحدث،
فالمحدث لا رسول ولا نبي، والنبي والرسول محدثان، أي أن مرتبة المحدث تلي
المرتبتين، أو أنها رتبة من رتب النبوة والرسالة.



(1) بصائر الدرجات 324 ح 13 باب 6 من الجزء السابع.
(2) أصول الكافي 1 / 270 ح 2، بصائر الدرجات 320 باب 5 ح 2.
(3) المصدر السابق.
(4) المصدر السابق.
260
روى ثقة المحدثين وناشر آثار الأئمة المعصومين (عليهم السلام) الحاجي دام ظله في
كتاب نفس الرحمن جملة من الأخبار في حق سلمان الفارسي، منها ما عن علل
الشرائع للصدوق (رحمه الله): إن فاطمة كانت محدثة، وروي أن سلمان كان محدثا، فسئل
الصادق (عليه السلام) عن ذلك وقيل له: من كان يحدثه؟ فقال: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
وأمير المؤمنين، وإنما صار محدثا دون غيره ممن كان يحدثانه، لأنهما كانا يحدثانه بما
لا يحتمله غيره من مخزون علم الله ومكنونه (1).
ويلاحظ في ذيل الحديث الفرق الفاصل بين سلمان وغيره، حيث كان
سلمان يحدث عن إمامه، والإمام يحدث عن الله سبحانه لأنه حجة الله «ولا يحدث
عن الله إلا الحجة» (2). وقد يستبعد هذا البيان مع ما مر سابقا، ولكن يمكن الجمع
بينهما بأن يقال أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان يؤكد ما يحدث به جبرئيل أو الملك.
وروى شيخ الطائفة في الأمالي عن الصادق (عليه السلام) قال: كان علي (عليه السلام) محدثا،
وكان سلمان محدثا. قال: قلت: فما آية المحدث؟ قال: يأتيه ملك فينكت في قلبه
كيت وكيت (3).
والواضح من هذه الأخبار أن تحديث الملك فيض خاص وعلم مخصوص
للمحدث دون سواه، وهذه الإفاضة - أي النكت بالسمع والقذف في القلب -
تكون للاستعداد والقابلية الكاملة الموجودة في المحدث خاصة، وهذا الاستعداد
والقابلية موهبة رحمانية ومكرمة ربانية، ولذا قيل في سلمان: «سلمان منا أهل



(1) علل الشرائع 1 / 217 باب 146 ح 2.
(2) البحار 22 / 349 ح 70 باب 10.
(3) أمالي الطوسي ح 914 المجلس الرابع عشر، بصائر الدرجات 322 الجز السابع باب 6 ح 4.
261
البيت»، فإذا كان سلمان كذلك فلماذا لا تكون فاطمة الزهراء من أهل
البيت (عليهم السلام)؟! والحال أنهم قالوا إن آية التطهير تشمل زوجات النبي عامة،
وأصروا على هذه العقيدة السخيفة في مؤلفاتهم مع أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال مرارا
«فاطمة مني وأنا من فاطمة» (1).
وعلى أية حال فإن هذا القلب النبيل والوصف الجميل من شرائف أوصاف
السيدة الكريمة وأفضل ألقابها، وكثيرا ما كان يجري على لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة
الطاهرين (عليهم السلام) وهو يحكي كمال المخدرة الكبرى في العلم.
وروي في بصائر الدرجات في الجزء السابع أن الأئمة يخاطبهم الملائكة
المقربون ويسمعون الصوت ويعاينون خلقا أعظم من جبرئيل وميكائيل (2).
وعن علي بن حمزة عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن منا
لمن ينكت في قلبه، وإن منا لمن يؤت في منامه، وإن منا لمن يسمع الصوت مثل
صوت السلسلة في الطست، وإن منا لمن تأتيه صورة أعظم من جبرئيل
وميكائيل (3).
بل إن علوم الأئمة (عليهم السلام) تزداد ليل نهار من خلال الإفاضات والنكتات
والتقريعات والتوقيرات والقذفات والإلهامات المستمرة بلا نفاد ولا انقطاع،
كذرات الشمس وأشعتها، تمدهم بالمدد الغيبي، وهم يخبرون الناس ويبلغونهم ما
يتعلمون. وسنذكر في خصيصة مستقلة حضور الملائكة بطبقاتهم من جبرئيل



(1) انظر البحار 28 / 76 ح 34 باب 2 وفيه: «لأنك مني وأنا منك...».
(2) بصائر الدرجات 5 / 232 باب 7 في أنهم يخاطبو ويسمعون الصوت ويأتيهم أعظم من جبرئيل
وميكائيل، عنه البحار 18 / 270 ح 33 باب 2.
(3) أمالي الطوسي 407 ج 915 المجلس 14.
262
وغيره، ليعلم القراء كيف أن فاطمة كانت تتجلى فيها آثار الولاية والمعرفة الكاملة
والعلوم الحقة، وتأنس بالكرام من الملائكة المقربين، وتتلقى العلوم الغيبية
وتستفيض وتفيض من خطاباتهم، مع أنها ليست في رتبة الإمامة ولم تكلف بهذا
التكليف.
ويكفينا في هذا الباب الاستشهاد بحديث مصحف فاطمة، ولا حاجة إلى
شاهد آخر.
ففي الكافي في باب المصحف عن حماد بن عثمان عن الصادق (عليه السلام) في حديث:..
فأرسل إليها ملكا يسلي غمها ويحدثها، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال
لها: إذا أحسست بذلك وسمعت الصوت قولي لي، فأعلمته بذلك، فجعل
أمير المؤمنين (عليه السلام) يكتب كلما سمع، حتى أثبت من ذلك مصحفا. قال: ثم قال: أما إنه
ليس فيه شئ من الحلال والحرام، ولكن فيه علم ما يكون (1).
وفي الحديث أسرار يأتي شرحها إن شاء الله تعالى.
أما حديث بصائر الدرجات، ففيه بعد ذكر الجامعة والجفر معنى المصحف،
وفيه تصريح باسم جبرئيل، قال: وكان جبرئيل يأتيها فيحسن عزائها على أبيها،
ويطيب نفسها ويخبرها عن أبيها ومكانه، ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها،
وكان علي (عليه السلام) يكتب ذلك، فهذا مصحف فاطمة (عليها السلام) (2).
وروى الصدوق عليه الرحمة في علل الشرائع في ذيل الآية المذكورة قال:
مريم لم تكن نبية وكانت محدثة، وأم موسى بن عمران كانت محدثة ولم تكن نبية،



(1) الكافي 1 / 240 ح 2.
(2) بصائر الدرجات 3 / 153 ح 6 باب 14؟؟
263
وسارة امرأة إبراهيم قد عاينت الملائكة فبشروها بإسحاق ومن وراء إسحاق
يعقوب ولم تكن نبية، وفاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت محدثة ولم تكن نبية.
ثم قال الصدوق (رحمه الله): قد أخبر الله عز وجل في كتابه: بأنه ما أرسل من النساء
أحدا إلى الناس في قوله تبارك وتعالى (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم) (1)
ولم يقل نساء، المحدثون ليسوا برسل ولا أنبياء (2).
وفي علل الشرائع أيضا عن الصادق (عليه السلام): إنما سميت فاطمة (عليها السلام) محدثة، لأن
الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران، فتقول: يا
فاطمة إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين، يا فاطمة اقنتي لربك
واسجدي واركعي مع الراكعين، فتحدثهم ويحدثونها.
فقالت لهم ذات ليلة: أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران؟
فقالوا: إن مريم كانت سيدة نساء عالمها، وإن الله - عز وجل - جعلك سيدة
نساء عالمك وعالمها وسيدة نساء الأولين والآخرين (3). وروى مثله في دلائل
الإمامة عن محمد بن هارون بن موسى التلعكبري وقد روي هذا التعليل في كتب
الإمامية كثيرا.
والعجب من ابن كثير العامي، وهو مؤرخ منصف، حيث قال في النهاية: قد
كان في الأمم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر بن الخطاب»!!
إن مقصود ابن كثير - كما اعتقد - «المحدث» بالكسر لا بالفتح، أي إن عمر



(1) الأنبياء: 7.
(2) علل الشرائع 1 / 217 باب 146 ح 2.
(3) المصدر السابق ح 1.
264
كان محدثا وراوية، ولكن هذا أيضا يحتاج إلى دليل من الخارج حتى يخصص عمر
دون غيره بالرواية والتحديث، ولو ثبت لأزعج أبا بكر، فكيف يكون ذلك لعمر
مع كل ما كان لأبي بكر من سابقة في الإسلام؟!! إضافة إلى ما في ذلك من تناقض
وتهافت لا يخفى على المنصفين من أهل النظر والبصيرة. ثم إن الإمامية ذهبوا إلى
استحالة وجود المحدث بالفتح في غير أهل البيت (عليهم السلام) وخواصهم الذين ورد النص
فيهم.
أما فاطمة الزهراء (عليها السلام) فكانت محدثة - بالفتح - ومحدثة - بالكسر - كاملة في
غاية الكمال. حيث كانت المستورة الكبرى تحدث أمها وهي في بطنها، وسنذكر
أخبار الشيعة الإمامية في ذلك مفصلا في باب ولادتها، ونقتصر هنا على ذكر ما
قاله الشيخ عز الدين عبد السلام الشافعي في كتاب «مدائح الخلفاء» بعد أن ذهب
إلى تفضيل فاطمة على مريم لأنها تكلمت في بطن أمها; قال - وعبارته قريبة من
روايات الإمامية -:
فلما حملت خديجة بفاطمة كانت تحدثها من بطنها وتحدثها وتؤنسها في
وحدتها، وكانت تكتم ذلك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فدخل النبي يوما فسمع خديجة
تحدث، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): يا خديجة! لمن تحدثين؟ قالت: احدث الجنين الذي في بطني
فإنه يحدثني ويؤنسني. قال (صلى الله عليه وآله وسلم): يا خديجة! أبشري فإنها أنثى، وإنها النسلة
الطاهرة الميمونة، فإن الله جعلها من نسلي، وسيجعل من نسلها خلفاء في أرضه
بعد انقضاء وحيه (1)، فما برح ذلك النور يعلو وأشعته في الآفاق ينمو حتى جاء



(1) البحار 43 / 2 ج 1 باب 1.
265
الملك فقال: يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)! أنا محمود إن الله بعثني أن أزوج النور من النور (1)... إلى
آخر الخبر.
ولا يخفى أن المحدثة - بالفتح - لا بد أن تكون ذات قدر ومقام ومنزلة بحيث
تحدث أمها وهي في بطنها، وسمو المقام هذا ناتج عن ذاك الاستعداد الفطري الأولي
المودع فيها والمعطى لها منذ اليوم الأول الذي اصطفيت فيه على نساء العالمين،
تعالى جلالها وتلألأ جمالها وعم نوالها من كثرة ذرياتها، وعز مآلها، فضلا عما
خصها الله تعالى بأفضال السجايا، وأفردها بكرائم المزايا، بحيث لا يحصيها أحد
ويعجز عن أدائها كل مستسعد مع طول الزمان وبذل الجهد، وإني كنت والله مقصرا
في جنب ما أولاني ربي من نشر معالي فضائلها ونثر لآلي فواضلها; لأنها
مستخرجة من علوم لا تدرك وبحار لا تنزف.
بيان
الحديث والخبر والنبأ مترادفات كما فصلنا في مكاتيبنا وأوضحنا الفرق بين
الحديث وأخويه، ولكن ليعلم هنا أن الحديث: هو الكلمات والعبارات والحروف
المتتالية تفيد كلاما جديدا، والحادث خلاف القديم.
قال في الصراح: الحديث يقال بالفارسية للجديد وجمعه أحاديث
وأحدوثة (2).



(1) البحار 43 / 111 ح 23 باب 5.
(2) انظر البحار 71 / 207 ح 43 باب 14.
266
وقيل في ذيل الآية الشريفة (فليأتوا بحديث مثله) (1): إنما قيل للحديث
حديث لأنه يحدث في القلوب العلوم والمعاني والمعارف الجديدة، فتكشف الحقائق
والدقائق الجديدة في العلوم والحكم، وهي من الحظ، قال تعالى: (وقل رب
زدني علما) (2) فكانت إفاضات الآيات المباركة بمفاد قوله (نزل به الروح الأمين
على قلبك) (3) تنزل منجمة ومندرجة على القلب المبارك للحضرة النبوية المقدسة.
هذا; ولا ينقضي العجب مما رواه ابن الأثير نقلا عن يوسف سبط ابن
الجوزي في «تذكرة الخواص» عمن يرويه عن جماعتهم، قال: قالوا: وقد روت
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثمانية عشر حديثا، وقيل: ثمانين حديثا..» (4).
ولا أدري لماذا يقال في فاطمة (عليها السلام) أنها تروي هذا العدد الضئيل من
الأحاديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، بينما يقال في عائشة - ويا له من عجب لا ينقضي - أنها
حفظت عدة آلاف حديث - على اختلاف الأقوال في العدد -؟!
قال الأزري:
حفظت أربعين ألف حديثا * ومن الذكر آية تنساها
والعجيب أنهم يرون أن أحاديث عائشة - جميعا - في غاية الصحة
والاعتبار، فكيف روت عائشة أكثر من فاطمة الطاهرة (عليها السلام)، والحال أنها عاشت
مع النبي ثماني وعشرين سنة بناء على ما ذهبوا في سنها (عليها السلام)؟! وكما قال سبط ابن
الجوزي «وإنها يسيرة بالنسبة إليها» (5)؟!



(1) الطور: 34.
(2) طه: 114.
(3) الشعراء: 193 - 194.
(4) تذكرة الخواص 278 عن ابن الأثير.
(5) تذكرة الخواص 278.
267
فإن كان المناط قوة الحفظ والذكاء والفطنة والشوق المفرط، فليس لتلك
العالمة الربانية ند ولا عديل ولا نظير، وإن كان السبب في أنها كانت في وثاق
سلطان الولاية عشر سنين بعيدا عن حجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - كما يزعم أهل السنة - فإنها
لم تنقطع عن أبيها معنويا، بل كانت مرتبطة به قريبة منه متصلة به اتصالا حقيقيا،
وكانت ملازمة له حاضرة في خدمته، إضافة إلى أنها كانت تسمع كل خبر وجديد
عن طريق زوجها وأبنائها.
والظاهر أن هذا العدد الهائل من الأحاديث الذي روتها عائشة كانت عبارة
عن تسجيل ليومياتها، ثم نسبت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصارت مصدرا للأحكام
الشرعية، فهي كانت تروي أفعالها وأقوالها وتصرفاتها الشخصية وما تقوم به آناء
الليل وأطراف النهار فأخذوه منها ونسبوه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وافترضوه حديثا، ثم
صار فيما بعد خبرا صحيحا.
كيف امتازت عائشة على باقي أزواجه (صلى الله عليه وآله وسلم) اللواتي عشن معه وحظين
بشرف صحبته ومضاجعته ولم يروين عنه إلا أحاديث قليلة؟!
لا أدري; لعل طول عمرها وضغائنها الدفينة - التي اتفق عليها الفريقان
وذكر جملة منها ابن أبي الحديد - وأعلام خلفاء الجور هو السبب في ذلك.
ولكن أهل البصيرة والإنصاف يعلمون جيدا أنه لا يمكن الإعتماد على أقوال
المغرضة التي تروي ولا تتحرج، ولا الاستناد إلى روايات أصحاب الجمل
والخوارج أرباب الحيل والنواصب، فكلها مجعولات موضوعات صدرت من
منشأ الفساد ومنبع العناد بدافع الهوى والأغراض الدنيوية، إلا ما كان من
رواياتهم في فضل أهل بيت العصمة، ومناقبهم التي اضطروا إلى إظهارها ولم يجدوا

268
محيصا عن روايتها والتحديث بها (إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن
بيوم الحساب) (1)، وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «ستكثر بعدي القالة: علي; وقال
الصادق (عليه السلام): إن لكل رجل منا رجلا يكذب عليه».
فحمدا له ثم حمدا له أن وفقني أن أكتب شيئا موجزا بمقدار القدرة عن عدة
ألقاب ممدوحة شريفة من الميامن القدسية للحضرة المقدسة الفاطمية،
واستقصيت ما استطعت الأخبار والآثار، وذكرتها ضمن الخصيصة المناسبة،
بحيث كان لكل خصيصة ولقب حديثا وخبرا.
لكني أقول: أين فاطمة وهذه الألقاب، وأين التراب ورب الأرباب; وكل
من يعتقد وجوب القيام بحقها كيف يرقى في معراج فضائلها، وكيف يستضيء بنور
أفقها؟ وكيف يصعد من هذه الأسباب إلى ذروة جلالها وطرقها؟ إلا من استبان
فضلها، وعرف قدرها ونلها، وعلم فرعها وأصلها، ومن أحاط بها أحق من
عرفانها، وهو أهلها; وصفاتها أشتات لا يجمعها إلا من تنسك بشعارها وتمسك
بعطف دثارها، فويل ثم ويل لأئمة الجور وطغاة هذه الأمة الذين لعناهم كلعن
أصحاب السبت، فكيف يرقعون ما خرقوا؟ وكيف يطلبون سبيل الرشاد فيما
طرقوا؟ وأنى لهم التناوش من مكان بعيد (2)؟ ولعمري إنهم من ذرية النفاق وحشو
النار وحصب جهنم، فأقول ما قيل متمثلا في أوصافها:
هذي المكارم لا قعبان من لبن * شيبا فعادا بعد أبوالا (3)



(1) غافر: 27.
(2) سبأ: 52.
(3) تاريخ الخميس 1 / 240.
269
تسمية سامية
في الاسم السامي لفاطمة الزهراء (عليها السلام)
في معنى «الاسم» واشتقاقه
كنا قد تحدثنا سابقا عن معنى «الكنية» و «اللقب»; واقتضى أن نتحدث الآن
عن معنى «الاسم» واشتقاقاته، فنقول:
الاسم جمعه أسماء، وتصغيره سمي وهو مشتق من سموت، لأنه تنويه ورفعة
أو من وسم بمعنى العلامة، ومنه سمات جمع سمة، والمتوسمين ذوو العلامات، كذا في
المجمع (1); والاسم علامة لمعرفة المسمى كذا قيل في تعريفه، وهو غير الكنية
واللقب.
وكل ما ذكرناه سابقا كان من ألقاب السيدة المستورة، أما اسمها ففي الأخبار
المعتبرة أنها سميت منذ بدو الإيجاد ب‍ «النورية السماوية» و «المنصورة في السماوات»
وسميت «بفاطمة» في الأرض.
أما «فاطمة» فهو الاسم السامي الجامع للمعاني والألقاب الأخرى، وقد
لحظ في معناه ما يعود على نفس السيدة، أو ما يعود على الآخرين ومبدأه ومصدره
منها (عليها السلام)، وعلى كلا الإحتمالين يكون معنى «فاطمة» موهبة إلهية خاصة وصفها الله
تعالى بها.



(1) انظر مجمع البحرين 1 / 230 مادة «سما».
270
ولا يقال: أن بعض ما سنذكره في معنى فاطمة لا يدخل تحت هذا الاسم أو
أنه غير ملحوظ فيه، فإنه ينطبق على كل واحد من المعاني التي سيذكرها
الإمام (عليه السلام) كل حسب المورد الخاص به، فيكون الاستعمال صحيحا في الجميع.
ولا يقال أيضا: إن هذا اللفظ لم يوضع - منذ البداية - لمعنى خاص معقود من
هذه المعاني، لأنها كانت معروفة به قبل ولادتها بآلاف السنين، وكان الأنبياء
العظام يعرفون اسم «فاطمة» (1) ويدعون الله به في الشدائد ويتوسلون إليه به (2)،



(1) وإن كان الأنبياء العظام (عليهم السلام) كان يدعوها ببعض ألقابها الخاصة ولكنهم كانوا يعرفون اسم
فاطمة (عليها السلام). (من المتن)
(2) ولنذكر لتوسل الأنبياء (عليهم السلام) بالصديقة الكبرى في الشدائد نموذجين:
الأول: اللوحة السليمانية
في الحرب العالمية الأولى (1916 م) عندما كان بعض الجنود البريطانيين يحفرون مواقع لهم للحرب في
قرية (اونتره) الصغيرة التي تبعد بضعة كيلومترات عن مدينة القدس عثروا على لوحة فضية مرصعة
حواشيها بالمجوهرات الثمينة قد رسمت في وسطها حروف مذهبة فأخذ الجنود تلك اللوحة إلى قائدهم
(ميجراي - أين - جريندل) وكلما حاول هذا القائد فهم تلك الخطوط فلم يتمكن ولكنه أدرك بأن اللوحة
كتبت بلغة قديمة جدا.
ثم تناقلت هذه اللوحة أيد كثيرة إلى أن وصلت بيد قائد الجيش البريطاني (ليفتونات) و (جلد ستون) ثم
أوصل هذه اللوحة إلى علماء الآثار في بريطانيا، وبعد انتهاء الحرب العالمية (1918 م) أخذ البريطانيون
في تحقيق الأمر وحاولوا فهم تلك الخطوط ولكنهم حينما لم يتمكنوا من ذلك شكلوا لجنة تضم علماء في
اللغات من بريطانيا وأمريكا وفرانسا وألمانيا وبقية الدول الاروبية وبعد مضي أشهر من المطالعة
والتحقيق وفي اليوم الثالث من شهر كانون الثاني بالتحديد انكشف لديهم بأن هذه اللوحة هي لوحة
مقدسة تسمى (اللوحة السليمانية) وما رسم فيها هو كلام للنبي سليمان (عليه السلام) وقد كتبت باللغة العبرية
القديمة ونحن الآن نضع أمام أنظار المطالع الكريم نفس رسوم تلك اللوحة ثم نذكر ترجمتها بعد ذلك.
تقرء من اليمين إلى اليسار:
محل التصاوير
إن اللغة العبرية كسائر اللغات قد تبدلت وتغيرت بمرور الزمن ويذهب المحققون وأساتيذ اللغات القديمة
إلى أن الحروف الهجائية في اللغة العبرية كانت على عهد سليمان (عليه السلام) من اليمين إلى اليسار هكذا:
وأما في زماننا الحاضر فإنها تكتب من اليسار إلى اليمين هكذا:
وهذه ترجمة اللوحة المذكورة:
الله
أحمد ايلي
باهتول
حاسن حاسين
ياه أحمد: مقذا = يا أحمد أغثني
ياه ايلي: انصطاه = يا علي أعني
ياه باهتول: أكاشئي = يا بتول اعطفي علي
ياه حاسن: اضومظع = يا حسن أكرمني
ياه حاسين: بارفو = يا حسين سرني
امو سليمان صوه عثخب زالهلاد افتا = هذا سليمان يستغيث الآن بهذه العظماء الخمسة.
بذت الله كم ايلي = وعلي هو قدرة الله.
ثم إن أعضاء هذه اللجنة لما اطلعوا على مضمون هذه اللوحة المقدسة نظر كل منهم إلى صاحبه بتعجب له
معناه وعضوا على أنامل الحيرة ثم بعد تبادل وجهات النظر قرروا إرسال هذه اللوحة إلى المتحف الملكي
البريطاني، ولكن حينما بلغ الخبر كبير أساقفة بريطانيا Lord Rishop أصدر أمرا إلى تلك اللجنة هذه
خلاصته:
(إذا وضعت هذه اللوحة في المتحف وصارت أمام أنظار الناس فسوف يتضعضع أساس المسيحية
وبالنتيجة سوف يشيع المسيحيون أنفسهم جنازة المسيحية ويدفنونها في مقبرة النسيان فالأولى أن
توضع هذه اللوحة في مخزن أسرار الكنيسة البريطانية ولا يطلع عليها إلا الأسقف وبعض الأفراد
المعينين).
وللمزيد من الإطلاع في هذا الأمر يرجع إلى كتاب Wnder Fulstories of Islam طبعة لندن ص 249:
إن الذين اطلعوا على هذه اللوحة ورأوها قد مالوا بشكل عجيب إلى الإسلام وأعلنوا إسلامهم في الحال.
كما حدث ذلك العالمين (وليم) و (تامس) الذين اطلعا على اللوحة فتبادلا الكلام حولها فأسلما في نفس
الوقت وقد بدل (وليم) اسمه إلى (كرم حسين) و (تامس) إلى (فضل حسين).
وللمزيد من الإطلاع راجع مجلة (الإسلام) دلهي، شباط سنة 1927 م، ومجلة (كرانيكل) لندن 30
ديسمبر سنة 1926 م. [الإمام الحسين (عليه السلام) في أحاديث الفريقين 1 / 204 - 208 نقلا عن علي والأنبياء
تأليف الحكيم السيد محمود سيالكوتي، الترجمة إلى العربية لسماحة السيد علي العدناني، ص 27 - 33].
الثاني: لوحة سفينة نوح (عليه السلام)
في شهر حزيران عام 1951 م حينما كانت مجموعة من خبراء المناجم الروس تبحث عن منجم فاشتغلوا
بحفر الأرض عثروا على بعض الألواح الخشبية القديمة التي قد نخرتها الأرض وأثرت أثرها فيها. وبعد
ما حفروا أكثر وجدوا قطعا كثيرة تحت الأرض قد أصبحت خاوية بسبب مرور الزمن عليها، ومن
العلامات الموجودة عليها أدركوا بأنها لا بد أن تكون من الخشب غير العادي وتشتمل على بعض الرموز
لذا أخذوا ينبشون الأرض بدقة كاملة فرأوا قطعا من الخشب البالي وأشياء أخرى ثم رأوا خشبة
مستطيلة الشكل قد حيرتهم جميعا لأنها كانت صحيحة سالمة لم تؤثر الأرض فيها بخلاف سائر الخشب،
ويبلغ طولها 14 اينجا وعرضها 10 اينجات وقد رسم عليها بعض الحروف.
ثم إن الدولة الروسية لما علمت بهذا الحادث شكلت لجنة في اليوم 27 من شهر شباط عام 1953 م
للتحقيق حول هذه الخشبة، وقد تشكلت اللجنة بعضوية جملة من خبراء الآثار وأساتذة اللغات
القديمة. ونحن نذكر أسماء وعناوين أعضاء اللجنة وهم:
1 - سولي نوف - أستاذ جامعة موسكو (قسم اللغات).
2 - ايفاهان خينو - أستاذ اللغات القديمة في كلية رجاينا.
3 - ميثانن، لوفارتك - رئيس قسم الآثار القديمة.
4 - تانمول جورت - أستاذ اللغات في كلية كيفزو.
5 - دي - راكن - عالم الآثار وأستاذ جامعة لينين.
6 - أيم - أحمد كولاد - الناظم في دائرة التحقيق في زتكومن.
7 - ميجر كولتوف [لأجل سقوط بعض الحروف لم أجزم بأني قد كتبت هذه الأسامي صحيحة، أضف
إلى ذاك إن الذين يتكلمون بلغة الأردو يستعملون بعض الألفاظ على شكل مختلف مع استعمالنا لها مثلا:
بأنك وسانسكريت يستعملونهما على نحو: بينك وسنسكريت. (المترجم السيد علي العدناني)] الناظر
في قسم التحقيقات بكلية استالين.
وبالنتيجة وبعد ثمانية أشهر من التحقيق والمطالعة انكشفت لدى اللجنة المذكورة أسرار هذه الخشبة
وتبين لها أن هذه الخشبة هي قطعة من سفينة نوح (عليه السلام) قد كتب (عليه السلام) عليها بعض الأشياء للإستنجاد
والتيمن وكان قد علقها على صدر السفينة.
في وسط هذه الخشبة نقش رسم بشكل الكف وقد كتب عليها عدة جمل باللغة السامانية ونحن الآن نضع
صورة تلك الخشبة والنقوش التي عليها أمام أنظار المطالع الكريم ليشاهد نمط الكتابة على عهد النبي
نوح (عليه السلام):
تقرء من اليمين إلى اليسار:
محل التصاوير
كما ذكرنا سالفا بعد ثمانية أشهر من المطالعة والتفكير تمكنوا من قرائة الكتابة المذكورة وكتبوها بحروف
روسية [المجلة الشهرية - TAOAIIEH 306 موسكو نوفمبر 1953 ومجلة -] Weekly mirror ديسمبر
1953 وجريدة الهدى القاهرة - 31 أذار 1954 بهذا النحو:
الحروف التي فوق الكف:
الحروف التي وسط الكف:
الحروف التي تحت الكف:
ثم إن السيد Mr. N. F. MAKS الأستاذ البريطاني في معرفة اللغات القديمة قد ترجم تلك الألفاظ
الروسية إلى الألفاظ الإنجليزية وهي هذه:
[شباط، 1945] You can Reform To Right
وأما ترجمتها باللغة العربية فهي هذه:
يا ربي، يا معيني:
بلطفك ورحمتك وبالذوات المقدسة محمد، إيليا، شبر، شبير وفاطمة (عليهم السلام) خذ بيدي. هذه الذوات
الخمسة المقدسة هي أعظم من كل أحد ويجب إحترامها وخلق كل العالم لأجلها.
إلهي بواسطة أسماءهم أسعفني.
إنك قادر على أن تهدي الناس إلى الصراط المستقيم. [الإمام الحسين (عليه السلام) في أحاديث الفريقين 1 / 208
- 212 نقلا عن علي والأنبياء تأليف الحكيم السيد محمود سيالكوتي - الترجمة السيد علي العدناني،
ص 34 - 41، وراجع أهل البيت في سفينة نوح 22 - 24 - ونشرية البذرة النجفية في عدديها الثاني
والثالث تاريخ شوال، ذي القعدة عام 1385 هجرية نقلا عما نشرته الجمعية الخيرية الإسلامية في كربلا
المقدسة بحثا مترجما عن كتاب «اليا» والذي نشرته دار المعارف الإسلامية بلاهور باكستان تحت عنوان
أسماء مباركة توسل بها نوح].
271
وعلاوة على مكاشفات الأنبياء، فقد ورد في استسقاء أبي طالب (عليه السلام) أنه قال:
«اللهم بالمحمدية المحمودية والعلوية العالية والفاطمية البيضاء إلا أن تفضلت على
تهامة بالرأفة». وكان أهل مكة يتوسلون بهذه الكلمات في جميع الشدائد وينالون
مرادهم ويحققون آمالهم، وهكذا كان منذ زمن آدم (عليه السلام)، بل قبل زمانه.
وقد رتبنا لبيان معنى هذا الاسم المبارك ثلاث خصائص مبوبة من
الخصائص الثلاثين من خصائصها قبل الولادة.

277
الخصيصة الأولى من الخصائص الثلاث
في بيان معنى الاسم المبارك
لا يخفى أن تسعة من أمهات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجداته سمين بفاطمة، وتسع سمين
بعاتكة، وفي إصطلاح أهل الحديث والسير «الفواطم التسع» و «العواتك التسع».
قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنا ابن العواتك من سليم (1).
وقال الشاعر:
يابن الطواهر والزواكي * يابن الفواطم والعواتك (2)
وقال الجوهري في الصحاح: «والعواتك في جدات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تسع، ثالث
من سليم: بنت هلال أم جد هاشم، وبنت مرة بن هلال أم هاشم، وبنت الأوقص
بن مرة بن هلال أم وهب بن عبد مناف، والبواقي من غير بني سليم. وعاتكة بنت
أسد وبنت خاله، وبنت زيد بن عمرو، وبنت عبد الله، وبنت عوف، وبنت نعيم،
وبنت وليد كان لهن صحبة.
وقال الجوهري (3): العاتكة المرأة المخمرة من الطيب، وأيضا النخلة التي لا



(1) البحار 19 / 171 ح 16 باب 8; لسان العرب «عتك».
(2) صحاح الجوهري 2 / 140 «عتك» ط مصر 1992 ه‍.
(3) نسب ابن منظور في لسان العرب هذا الكلام إلى ابن الأثير، ويغلب على الظن أنه ذكر «الجوهري»
اشتباها.
278
تأتبر، وعتكت المرأة: ارتفعت وتعالت وعظمت (1).
وقال بعض علماء الأنساب والمؤرخين: العواتك هن: عاتكة أم هاشم بن
عبد مناف، عاتكة بنت مرة بن هلال أم جد هاشم، عاتكة بنت هلال أم وهب بن
عبد مناف، عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال، عاتكة بنت أزد بن غوث،
عاتكة بنت عامر بن، عاتكة بنت سعد بن سيل، عاتكة بنت رشيد بن
قيس، عاتكة بنت عدوان المعروفة بالحصان، عاتكة بنت غالب بن فهر، عاتكة
بنت يخلد بن نضر بن كنانة.
وعد ابن الأثير العواتك اثني عشر من سليم وغيرها (2) وقد ذكرت - أنا
الحقير - القدر المتيقن.
أما الفواطم التسع: فخمس قرشيات ويمانيتان وقيسيتان.
فاطمة بنت عمرو بن عائذ المخزومي أم عبد الله بن عبد المطلب
فاطمة بنت زراح بن ربيعة
فاطمة بنت سعد بن سيل، وهي الجدة الخامسة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأم جده
قصي، وسمي جدها «سيل» لطول قامته، وهو اسم جبل، وكان سعد أبوها أول
من رصع السيف بالفضة والذهب وذلك أنه زوج ابنته من كلاب، فلما خرجت إلى
مكة بعث معها سيفين مرصعين هدية للبيت الحرام، وهي غير عاتكة بنت سعد.
فاطمة بنت النضر بن عوف، وفاطمة بنت قصي التي عرفت باسم أمها.
هذا ما حضرني منهن.



(1) لسان العرب «عتك».
(2) لسان العرب 9 / 39 «عتك».
279
وأما الفواطم الأخرى من غير أمهات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيربو عددهن على
عشرين امرأة ممن تسمين بهذا الاسم تيمنا وتبركا، مثل:
فاطمة أم خديجة، فاطمة بنت أسد، فاطمة بنت الزبير، فاطمة بنت حمزة
سلام الله عليه.
والغرض من نقل أسماء أمهات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وغيرهن أن يعلم القراء أن هذا
الاسم الشريف كان متداولا قبل أن تسمى به الزهراء (عليها السلام).
ويبدو لي - أنا الحقير - أن سبب انتشار هذا الاسم في هذه الأسرة النبيلة
ذات الأنساب الجليلة: أن آباء الزهراء المطهرين وأمهاتها الطاهرات كانت لهم
معرفة خاصة بحق المستورة الكبرى وعلو مقاماتها، وقد روينا سابقا (1): «وعلى
معرفتها دارت القرون الأولى» حيث كان الأنبياء العظام يوصون أمهم بحبها
ومعرفتها، ويأمرونهم بالتوسل بشفيعة يوم الجزاء في البلايا والشدائد، فإذا كان
هذا هو دأب الجميع، فلا بد أن يكون أهلها أعرف بها، بل إنهم كانوا يفتخرون
لأنهم وقعوا في سلسلة آبائها وأمهاتها، وكانوا يسمون أغلب بناتهم باسمها تشريفا
وافتخارا، ولو راجع البصير الشجرة النبوية الطاهرة وفروعها الباهرة الزاهرة إلى
النضر بن كنانة، لعلم جيدا ما أقول.
والعجيب أن اسم فاطمة كان شائعا ذائعا قبل الإسلام، بخلاف الأسماء
المباركة «محمد» و «علي» و «حسن» و «حسين» فإنها لم تكن شائعة متداولة
حينذاك، فلم يسموا بها أبناءهم، نعم ربما استعملوا «عليا» و «حسنا» وصفا لا
إسما، ولا بد أن تكون في هذا الإختفاء مصلحة وحكمة لم تعرف لحد الآن. وأحتمل



(1) في البحث عن معنى «الصديقة الكبرى».
280
- وأنا الجاهل - أن الاسم المقدس للنبي ووصيه وابنيه كان مذكورا في الكتب
السماوية والصحف الربانية، غير أن علماء السلف من اليهود والنصارى والمذاهب
الأخرى كتموها عنادا وحسدا، وكتموا صفاته لئلا ينصرف عنهم الناس
ويتحولوا إلى الطريقة القويمة ويرغبوا في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله.
ولو أن أحد علمائهم سمي «محمد»، لظن الناس أنه النبي الموعود، فيأمر
السحرة والكهنة والمتمردين المترصدين لإطفاء نور الله وتكذيب الكتب السماوية
المستضعفين والجهال بمتابعته وإطاعته.
وأفضل الإحتمالات، أن يقال إن الله سبحانه صرف هذه الأسماء عن الأذهان
ومحاها عن الخواطر احتراما للإسم المبارك وذاته المقدسة، لئلا يتعرض إلى
جسارة في زمن ما من قبل الجاهلين أو الغافلين، فأبقاه في الخفاء كما أخفى الاسم
الأعظم بين الأسماء الحسن.
وروى الدياربكري في تاريخ الخميس عن سيرة مغلطاي: إن اسم النبي
الخاتم شاع وذاع قبيل ولادته لأنهم علموا بقرب ظهوره، فكانوا يسمون
مواليدهم باسمه رجاءا أن يكون وليدهم هو النبي الموعود، حتى سمي في تلك
الفترة خمسة عشر نفرا باسم (محمد).
1 - محمد بن سفيان بن مجاشع
2 - محمد بن أجنحة بن حلاج
3 - محمد بن حمران
4 - محمد بن سلمة الأنصاري
5 - محمد بن براء البكري

281
6 - محمد بن خزاعي السلمي
7 - محمد بن عدي بن ربيعة بن المنقري
8 - محمد بن عثمان بن ربيعة المكاري
9 - محمد الأسدي
10 - محمد الفقيمي
11 - محمد بن عتواره الليثي
12 - محمد بن حرمان العمري
13 - محمد بن خولي الهمداني
14 - محمد بن يزيد بن ربيعة
15 - محمد بن أسامة بن مالك.
ولكني لا أعتمد كلام الدياربكري وأمثاله إلا أن يكون صادرا عن أبواب
الأئمة ونوابهم في هذه الأمة.
والغرض; إن فاطمة الزهراء كانت أول امرأة ولدت في الإسلام، وأول
امرأة سميت بفاطمة في الإسلام، وأول امرأة هاجرت وهي صغيرة إلى المدينة،
بصحبة أمير المؤمنين (عليه السلام) وفاطمة بنت أسد وفاطمة بنت الزبير.
والحمد لله الذي جعل اسم هذه المكرمة المعظمة زينة وشرفا لأسماء
ومسميات العواتك والفواطم السابقات، وبثبوت عصمتها أثبتت عفاف أمهاتها.
والحمد لله الذي جعل اسم فاطمة في كل بيت من بيوت هذه الأمة سببا
للبركة ونزول الرحمة، وستبعث الفواطم - غدا يوم القيامة - من التراب رافعات
الرؤوس فخرا ومباهاة; لأنهن أمهات السيد المختار (صلى الله عليه وآله وسلم) وسميات فاطمة

282
الزهراء (عليها السلام)، فيقلن فاطمة أفضل منا ونحن أفضل من باقي النساء لشبه إسمنا
باسمها، وفي هذا الاشتراك الاسمي مزية فوق المزايا ورتبة فوق الرتب.
بل إني أعتقد أن الآباء والأمهات اللذين يسمون بناتهم باسم فاطمة
يدخلون السرور بذلك على قلب النبي، ولهم حق على فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فإذا
نودي يوم القيامة «فاطمة» قام ما لا يحصى عددا من النساء. ولما كان الاسم
الشريف «فاطمة» يتضمن معنى الشفاعة، فكيف ترضى السيدة أن تحترق المرأة
وهي في عصمتها وسميتها، فتكرم لاسمها وتنال الشفاعة وتنجو من أهوال المحشر.
والأفضل أن نعرف - في هذا المقام - الجهة التي من أجلها سميت المخدرة
الكبرى بفاطمة الزهراء (عليها السلام); ليتضح فيما بعد معاني هذا الاسم للقراء.
قال البعض: لما ولدت خديجة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، بعد رقية
وزينب وأم كلثوم، سألت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسميها باسم أمها - وكان اسمها فاطمة -
بناءا على الأدب الذي كان ولا زال شائعا بين نساء العرب والعجم، حيث تسمي
المرأة إحدى بناتها باسم أمها، ويسمي الرجل أحد أولاده باسم أبيه; تخليدا
لذكراهم في تلك الأسرة، فإذا كان الأبوان من النجباء المؤمنين وممن يؤدون
الحقوق، كان ذكر الاسم سببا لسرورهم وانشراح صدورهم.
وقال آخرون: لما توفيت آمنة بنت وهب (عليها السلام) أم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كفلته فاطمة
بنت أسد - أم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) - ونالت بذلك شرف حضانة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وهو مقام عظيم، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعوها «أمي»، فلما ولدت الصديقة الطاهرة
أراد النبي تعظيم كافلته وتكريمها وتطييب خاطرها الشريف وإدخال السرور
عليها، فسمى ابنته باسمها، والكل يرغب في أن يسمي أحب أحبائه وأقرب

283
أقربائه باسمه، بل المشاركة في الاسم يوجب الألفة والأنس.
ولكن المعلوم من الطريقة القويمة لخاتم الأنبياء أنه (ما ينطق عن الهوى *
إن هو إلا وحي يوحى) (1) والمشهور أن «الأسماء تنزل من السماء» (2)، لذا روي في
بحار الأنوار أنه «لما ولدت فاطمة (عليها السلام) أوحى الله عز وجل إلى ملك فانطلق به لسان
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فسماها فاطمة...» (3).
وفي معاني الأخبار عن سدير الصيرفي عن الصادق (عليه السلام) في حديث المعراج:
«قال [جبرئيل:] يا محمد! هذه تفاحة أهداها الله عز وجل إليك من الجنة،
فأخذتها وضممتها إلى صدري. قال: يا محمد! يقول الله جل جلاله كلها، ففلقتها
فرأيت نورا ساطعا وفزعت منه فقال: يا محمد! مالك لا تأكل؟ كلها ولا تخف، فإن
ذلك النور للمنصورة في السماء وهي في الأرض فاطمة...» (4).
ففاطمة كانت معروفة بهذا الاسم قبل ولادتها وكان اسمها في السماوات
معروفا.
ويمكن الجمع بين الوجهين المذكورين والروايات المعتبرة بأن يقال: أن الله
أجرى هذا الاسم على لسان نبيه تحقيقا لرغبة خديجة واحتراما لفاطمة بنت أسد،
تمييزا وتشريفا لهذا الاسم، وبهذا فقد جعلت تلك الوجوه السابقة والاحتمالات
المظنونة تفريعا مترتبا على الحديث المذكور، واكتفيت به دونها، لأني أعتمد أولا
على الروايات المأثورة والأحاديث المنصوصة.



(1) النجم: 3 - 4.
(2) البحار 43 / 13 ح 9 باب 2، علل الشرائع 1 / 212 ح 4 باب 142.
(3) بحار الأنوار 43 / 13 ح 9 باب 2، علل الشرائع 1 / 212 ح 4 باب 142.
(4) بحار الأنوار 43 / 4 ح 3 باب 1 عن معاني الأخبار:
284
[دعوة]
وقبل الشروع في المقصود أدعو أحباء الآل وفدائيي فاطمة أن يكثروا من
تسمية بناتهم بهذا الاسم الشريف ويدعوهن به، وإلا فليسموا بألقابها الشريفة
الواردة في روايات الأئمة البررة ولا يغفلوا عن ذلك، فالتسمي ببعض الأسماء غير
المروية فيه قبح وسوء عاقبة، بل خسران في الدنيا والآخرة، ومتى ما دعي أحد
باسم غير مأثور فرح الشيطان وسخط الرحمن.

285
الخصيصة الثانية من الخصائص الثلاث
في معاني الاسم الشريف «فاطمة»
أرى لزاما على أن أحرر في هذه الخصيصة معنى الاسم المبارك «فاطمة»
وعلة التسمية، وستنكشف بذلك علوم ومطالب عالية، والأفضل أن أبدأ بمقدمة
فأقول:
فاطمة مشتق من فطم، قال صاحب مجمع البحرين: الفطيم ككريم هو الذي
انتهت مدة رضاعه، يقال: فطمت الرضيع فصلته عن الرضاع، ويجمع الفطيم على
فطم - بضمتين - وهو قليل الاستعمال في العربية.
قال البوصيري:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على * حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ستحرصون على الإمارة ثم تكون حسرة وندامة،
فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة» (1) أي المفطومة.
وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا: «خير أمتي من هدم شبابه في طاعة الله وفطم لذاته
عن لذات الدنيا».



(1) وهو مثل للراحة والرئاسة وللأموات الذين يرتاحون، والبؤس يقابل النعمة، وفي الحديث: يا أقرب
البؤس إلى النعيم: أي الفقر والضرر والشدة، وبئس كلمة ذم ونعم كلمة مرح. (من المتن)
286
وقد اقتبس البوصيري هذا المعنى من الحديث الشريف ونظمه في شعره
المذكور.
قال الفيروزآبادي في القاموس: «أفطم السخلة: حان أن تفطم، فإذا
فطمت فهي فاطم ومفطومة وفطيم، قال العرب: فطمت الأم صبيها أي قطعته عن
اللبن وتم رضاعه، وفطم يأتي لازما ومتعدي فالفطم والفطام: القطع، وغالبا ما
استعملت في أخبار الأئمة الأطهار وآثارهم بمعنى الانقطاع عن الدنيا ولذاتها.
وفي تفسير العسكري في معنى «فاطمة»: قال إن الله سبحانه سمى نفسه
الفاطم، يعني الفاطم أولياءه عن أعدائه في دخول الجنة والنار (1).
وفي حديث العلل: لما سأل الأعرابي الحسنين (عليهما السلام) وعبد الله وتحير الأعرابي
من جودهما وعلو همتهما قال له عثمان: ومن لك بمثل هؤلاء الفتية؟ أولئك فطموا
العلم فطما وحازوا الخير والحكمة.
قال الصدوق (رحمه الله): فطموا العلم أي قطعوه عن غيرهم قطعا، وجمعوا
لأنفسهم جمعا (2).
ولما كان اعتمادي في كتب اللغة على الصحاح والقاموس، فسأنقل عبارة
القاموس وفيها ما سبق وزيادة، قال:
فطمه يفطمه: قطعه، والصبي فصله عن الرضاعة، مفطوم وفطيم جمع
ككتب والاسم ككتاب، وناقة فاطم بلغ حوارها سنة، وأفطم السخلة حان أن
تفطم، فإذا فطمت فهي فاطم، ومفطومة، وفطيمة، وفاطمة عشرون صحابية،



(1) بحار الأنوار 11 / 149 ح 25.
(2) البحار 43 / 332 ح 4 باب 16 عن العلل:
287
والفواطم التي في الحديث: سيدة النساء فاطمة الزهراء وبنت أسد أم علي بن أبي
طالب (عليه السلام)، وبنت حمزة عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والثالثة بنت عتبة بنت ربيعة، ولعل المراد
بالثالثة غير فاطمة الزهراء (عليها السلام) وفيه نظر، والفواطم اللاتي ولدن النبي: قرشية
وقيسيتان وخزاعية وأزدية. انتهى (1) ملخصا.
* * *
قال صاحب جنات الخلود: عدد الحرفين الأخرين من اسم فاطمة يساوي
خمسة وأربعين ونصف الحروف الثلاثة الأول أيضا تساوي خمسة وأربعين، وفي
عدد النصف أثر ثابت كما أن في جمعه أثرا مقررا.
أقول: في عدد الحروف الثلاثة الأولى (فاء ألف وطاء) أيضا أثر خاص، بل
إن بعض أهل الخلوص والرياضة يواظبون مواظبة خاصة على العدد 45 و 90
و 135 في توسلاتهم بفاطمة الطاهرة (عليها السلام)، وقد أثبتت لهم التجربة حصول المقصود.
ومنهم من قنع في الأدعية والصلوات المنسوبة للمحجوبة الكبرى بعدد
حرف الطاء، وهو تسعة - الواقع في وسط الاسم الشريف، بل سمعت من بعض
المرتاضين المخلصين من ذوي المحبة الشديدة أنهم يقسمون على الله بفقر فاطمة
وآلها وطهارتها ومحبتها وهدايتها، ويلحون بإصرار بهذه الحروف الخمسة مع
التركيز لاستحضار ملكات السيدة وكمالاتها.
يوصي هذا الحقير - بدوره - بالمواظبة قدر الإمكان على الأعداد المذكور في
الشدائد والبلايا، على أمل أن أكتب - فيما بعد - مفصلا كل ما تعلمته وعملت به
وجربته ورأيت فائدته وأثره في باب التوسل بفاطمة (عليها السلام) إن شاء الله تعالى.



(1) انظر القاموس 1032 مادة «فطم».
288
عشرة وجوه في معنى فاطمة
وسأذكر - عجالة - في هذا المقام عشرة وجوه لمعنى اسم «فاطمة» مما اتخذته
من الأخبار المروية من كتب الخاصة والعامة.
الوجه الأول
روى العلامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار عن الصادق (عليه السلام)، قال: «سميت
فاطمة لانقطاعها عن نساء زمانها فضلا ودينا وحسبا وقيل: لانقطاعها عن الدنيا
إلى الله» (1).
وقد اتضح من هذا البيان أن الفخر بالنسب ليس فيه كثير فائدة للإنسان،
وإن الذي ينفعه حقا هو الفضل في الدين والشرف في الحسب وعلى ذلك كثير من
الشواهد العقلية والنقلية.
منها: ومن قصر به علمه لم ينفعه حسبه (2).
وأيضا: لا حسب أبلغ من الأدب (3).
وايضا: حسب المرء دينه (4).
وأيضا: المؤمن يتبع على حسب دينه (5).



(1) البحار 43 / 15 ح 13 باب 2.
(2) البحار 21 / 137 ح 31 باب 26 عن الكافي.
(3) البحار 72 / 67 ح 3 باب 44 عن الأمالي.
(4) البحار 1 / 89 ح 14 باب 1 عن أمالي المفيد.
(5) البحار 64 / 210 ح 12 باب 12 عن الكافي، وقد ورد في مواضع عدة من البحار وفي جميعها «إنما يبتلى
المؤمن في الدنيا على قدر دينه أو قال: على حسب دينه».
289
وقال النبي لقريش: ستأتون غدا يوم القيامة بأحسابكم لا بأنسابكم (1).
ونعم ما قيل: شرف المرء بالعلم والأدب لا بالأصل والنسب.
نعم، إذا اجتمعت الأصالة والنبالة في الأنساب مع الشرف والفخامة في
الأحساب، فهو شرف على شرف وفضيلة على فضيلة.
والمهم في الحديث التأكيد على دين فاطمة (عليها السلام) الذي كان في غاية الكمال
وحسبها وفضلها في الحسب ثابت لا كلام فيه، ومعنى الحديث أن فاطمة لا تقاس
بسواها من النساء في الفضل والدين والحسب، ولها فضل وشرف على الجميع
كافة، كما أن قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) «إنها ليست كالآدميين» فيه دلالة على عموم الأفضلية.
الوجه الثاني
روى في البحار - أيضا - قال: «سميت فاطمة لانقطاعها عن الفواطم
التسعة» لأنهن ولدن في الكفر، وولدت فاطمة في الإسلام، ولها بذلك الفخر.
وهذا الخبر خاص بتفضيلها على الفواطم التسع، بينما كان الخبر السابق عاما
يشمل نساء زمانها أيضا، وسيأتي في حديث معتبر أن أربعة كن سيدات عالمهن
وأفضلهن عالما فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
الوجه الثالث
روى الصدوق طاب ثراه في علل الشرائع عن الباقر (عليه السلام) مسندا، قال: لما



(1) البحار 93 / 221 ح 12 باب 27 عن عيون أخبار الرضا (عليه السلام) في حديث طويل قال (عليه السلام):.. «ولقد قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لبني عبد المطلب: ايتوني بأعمالكم لا بأحسابكم وأنسابكم...».
290
ولدت فاطمة (عليها السلام) أوحى الله عز وجل إلى ملك فانطلق به لسان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فسماها
فاطمة، ثم قال: إني فطمتك بالعلم وفطمتك عن الطمث.
ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): والله لقد فطمها الله تبارك وتعالى بالعلم وعن الطمث
بالميثاق (1).
وإذا تأملت الحديث وجدت فيه مطالب أربعة:
الأول: إن الملك أجرى اسم فاطمة على لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
الثاني: كان فطام فاطمة بالعلم.
الثالث: إنها فطمت عن الطمث.
الرابع: يمين الإمام (عليه السلام) والميثاق يؤكدان وقوع ما أخبر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
أما المطلب الأول فقد تعرضنا له في الخصيصة السابقة.
وأما المطلب الثاني: فيدل صراحة على علم فاطمة، والأفضل أن ننقل كلام
المرحوم المجلسي في ذيل هذا الحديث، قال:
فطمتك بالعلم أي أرضعتك بالعلم حتى استغنيت، وفطمت أو قطعتك عن
الجهل بسبب العلم، أو جعلت فطامك من اللبن مقرونا بالعلم، كناية عن كونها في
بدو فطرتها عالمة بالعلوم الربانية، وعلى التقادير كان الفاعل بمعنى المفعول (2)
كالدافق بمعنى المدفوق، أو يقرء على بناء التفعيل، أي جعلتك قاطعة الناس من
الجهل، أو المعنى: لما فطمها من الجهل فهي تفطم الناس منه، والوجهان الأخيران
يشكل إجراؤهما في قوله: فطمتك عن الطمث إلا بتكلف، بأن يجعل الطمث كناية



(1) علل الشرائع 1 / 212 ح 4 باب 142.
(2) سيأتي بيان قوله «كان الفاعل بمعنى المفعول». (في المتن)
291
عن الأخلاق والأفعال الذميمة، أو يقال على الثالث: لما فطمتك عن الأدناس
الروحانية والجسمانية فأنت تفطم الناس عن الأدناس المعنوية (1)، انتهى كلامه (رحمه الله).
أقول: بعد التشبث بذيل عنايات المرحوم المجلسي طاب ثراه فإن لي وجها
آخر قد يكون وجيها في نظر أهل الخبر.
أولا: إن قوله «فسماها» و «ثم» متفرع على نزول الملك وإجراء اسم فاطمة
على لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فسماها (صلى الله عليه وآله وسلم) على حسب ما جرى من الملك على لسانه،
ومن ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «فطمتك بالعلم» أي بالعلم الأزلي الإلهي، أو بعلمي
السابق فطمتك عن سائر النساء بهذا الاسم، يعني إني أعلم أنك فاطمة وأنك
قطعت عن سائر النساء في كل شئ، ولكني تريثت أنتظر الوحي لئلا يكون قد
حصل بداء; لأن هذا الملك قد أجرى الاسم على لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعلم القديم،
فالتفت وقال: إنك أنت فاطمة المقطوعة والمصطفاة على الفواطم التسعة ونساء
عالمك بل نساء الأولين والآخرين، وكان هذا في علمي فطمتك بما كنت أعلم.
ويفهم من عبارة «فطمتك عن الطمث» وتذييل الإمام ب‍ «الميثاق»، أن
العهد والميثاق كان من اليوم الأول على طهارتك من كل الأدناس والأرجاس
الظاهرة والباطنة.
وقوله: «بالعلم» قد يكون متعلقا بالعلم الإلهي أو بالعلم النبوي، ولا
مشاحة لإمكان الجمع بينهما.
ولا يمكن أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فاطم الطمث ولا فاطم فاطمة عن الفواطم
وعن النساء، بل كلاهما راجعان إلى الله تبارك وتعالى وهو الفاطر والفاطم،



(1) البحار 43 / 14 ح 9 باب 2.
292
وفاطمة الطاهرة (عليها السلام) هي المفطومة عن نساء العالمين وعن الطمث خاصة.
وذكر الطمث بعد الفطم عن النساء ذكر الخاص بعد العام، فالفطام عن
الطمث خاص والفطام بالعلم عن النساء عام، والفطام عن الطمث أحد أفراد
العام، والعلم أحد أفراد العام، وبعبارة أخرى فطمت فاطمة بالعلم الإلهي في جميع
الكمالات خصوصا العلم، وكان في علم الله أن فاطمة عالمة وجامعة لكل
الكمالات الممدوحة، وقد جعلها الله كذلك منذ يوم «ألست» يوم العهد والميثاق;
لتأتي منزهة عن كل الخبائث الظاهرية والباطنية، ولما كانت عقوبة الطمث في
النساء لها خصوصية اهتم بذكر رفعها والنص عليها، وهذا المعنى يدل على علم
فاطمة بالصفات الأخرى أيضا.
وقوله: «بالعلم» و «بالميثاق» إشارة إلى عدم الجهل وإلى الطهارة الأصلية
لفاطمة الزكية. وقوله: «بالميثاق» مفسر ومبين لقوله «بالعلم»، وقد ذكره الإمام
الباقر (عليه السلام) في كلامه توضيحا وتفسيرا.
والباء في «بالعلم» و «بالميثاق» سببية ومتعلقها «اسم فاطمة»، وطريق
الإنفطام معلوم وفيه قرينة مفيدة.
ففاطمة موسومة «بفاطمة» بالعلم القديم والميثاق المأخوذ، ويشهد لذلك
الأمر الذي حمله ذلك الملك العظيم ويؤيده ويؤكده قوله «بالميثاق»; فقوله
«بالعلم» لا يرجع - ولو بالكناية - إلى علم فاطمة، بل يرجع إلى علم الله ورسوله،
وهذا النوع من التعبير كثير في الآيات وكلمات الأئمة الطاهرين مع ملاحظة
الإختصار والإيجاز في كلامهم (عليهم السلام)، فتأمل.

293
لطيفة ظريفة
خطرت في بالي لطيفة طريفة في المقام: قيل في حديث «لا رضاع بعد فطام»
أن الطفل إذا رضع اللبن من الغير بعد الفطام وإتمام الرضاع، فرضاعه هذا لا ينشر
الحرمة، فيقال في هذا المقام إذا كانت فاطمة قد فطمت عن الجهل منذ بدو الخلقة
ومنذ يوم «ألست» فهي لا تحتاج إلى استرضاع، بل جاءت إلى هذا العالم وهي في
غاية الإستغناء، وما قاله عنها كان بيانا للواقع ليس إلا، ومقارنة التسمية مع
الولادة دليل على أن «لا رضاع بعد فطام».
الوجه الرابع
روى في البحار عن الصادق (عليه السلام): تدري أي شئ تفسير فاطمة؟ قال:
فطمت من الشر. ويقال: إنما سميت فاطمة لأنها فطمت عن الطمث (1).
وفي الأمالي والعلل عن عبد العظيم الحسني (عليه السلام) قال: حدثني الحسن بن
عبد الله بن يونس بن ظبيان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لفاطمة (عليها السلام) تسعة أسماء عند
الله عز وجل - وذكر الأسماء - ثم قال: أتدري أي شئ تفسير فاطمة (عليها السلام)؟ قلت:
أخبرني يا سيدي. قال: فطمت من الشر..» (2).
فإذا قلنا: إن الفعل هنا لازم، فيكون المعنى أن فاطمة (عليها السلام) هي التي فطمت
نفسها من الشر وتباعدت عنه.



(1) البحار 43 / 16 ح 14 باب 2.
(2) علل الشرائع 1 / 212 ح 3 باب 142.
294
اختيار للخيار: مختصر في معنى الخير والشر
إن غرضي الأساسي هو إظهار وإثبات فضل المخدرة الكبرى ما استطعت
إلى ذلك سبيلا، وقد بلغ بنا الكلام إلى فطام فاطمة الزهراء (عليها السلام) عن الشرور، لذا
أحببت أن أطلع القراء عما يدور في خلدي حول معنى الخير والشر، فأقول بإيجاز:
إن إجراء الخير والشر منحصر في يد القدرة الإلهية، بل إن الله تبارك وتعالى
هو خالق الخير والشر كما في رواية الكافي عن معاوية بن وهب عن الصادق (عليه السلام):
إن مما أوحى الله إلى موسى (عليه السلام)...: «إني أنا الله خلقت الخلق وخلقت الخير
وأجريته على يدي من أحب، فطوبى لمن أجريته على يديه، وأنا الله لا إله إلا أنا
خلقت الخلق وخلقت الشر وأجريته على يدي من أريده، فويل لمن أجريته على
يديه» (1).
قال بعض المحققين: إن هذا الحديث يعارض قوله «والخير في يديك والشر
ليس إليك»، فلا بد أن يقال: إن معنى الخير والشر مقدر بالتقديرات الإلهية، أو أن
الخير والشر هي الجنة والنار والمراد من إجراء الخير والشر إقبال التوفيق وإدباره
المستتبع للغفران والخسران.
وقالوا أيضا: إن الخير ذاتي والشر عرضي، وتركيب العالم قائم على الخير
والشر حسب ما تقتضيه الحكمة، فكل قهر تقابله رحمة، وكل شر يقابله خير، إلا
أن مراتب الخير والشر متفاوتة، فخلق النار - إذن - خير وشرها نادر، ولأن في
خلقها مصالح وحكم، وأما شرها فلا ينسب إلى الحق جل وعلا (ما أصابك من



(1) أصول الكافي 1 / 154 كتاب التوحيد باب الخير والشر ح 1.
295
حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك) (1).
وعلى أي حال فالأشياء لا تخرج عن أحد الأمور الخمسة التالية:
إما أن يكون الشئ خيرا محضا، أو يكون شرا محضا، أو يكون الخير والشر
معا بالتساوي ولكن الخير غالب، أو يكون الشر غالبا أو يكونان متساويين.
أما القسم الأول: أي يكون الشئ خيرا محضا، فمثل عالم الروحانيات التي
لم يلحظ فيها الشر أصلا، ومنه الأنبياء والأولياء ومنهم الصديقة الكبرى والعصمة
العظمى، فهي مبرأة وعارية بالحقيقة من الشرور والمفاسد منذ اليوم الأول; لأن
الله خلقها خيرا محضا وصلاحا صرفا، فليس للشر والفساد إليها سبيلا، ولهذا
فالأفضل أن تستعمل لها صيغة البناء للمجهول فيقال «فطمت عن الشر»، أي أنها
قطعت عن كل شر وفساد ظاهرا وباطنا، وكانت تلك المخدرة منبع الخيرات
ومصدر البركات، ولم يكن في وجودها المبارك شئ من الشرور والمعاصي
والملكات الذميمة، ولا يتصور ذلك في حقها، بل لا يتصور احتمال ارتكاب المخالفة
في حقها، وكانت كذلك منذ الأزل لمقتضى الصلاح والحكمة.
أما إذا قيل فطمت بالبناء للمعلوم، فيعني أن فاطمة (عليها السلام) هي التي أبعدت
نفسها عن الشرور، وهذا الإبتعاد يحتاج إلى تأييد من الله جل وعلا.
قال العلامة المجلسي (رحمه الله): ويمكن أن يقال: إنها فطمت نفسها وشيعتها من
النار وعن الشرور، وفطمت نفسها عن الطمث، ولكون السبب في ذلك ما علم الله
من محاسن أخلاقها ومكارم خصالها فالإسناد مجازي» (2).



(1) النساء: 79.
(2) البحار 43 / 14 ذيل ح 10 باب 2.
296
الوجه الخامس
عن البحار، قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «سميت فاطمة فاطمة لفطمها عن الدنيا
ولذاتها وشهوتها»، فلما نزل الملك وأجرى اسمها على لسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كانت
فاطمة عازفة عن الدنيا، معرضة عما سوى الله، موجهة قلبها من المهد إلى اللحد
نحو الآخرة ونحو الله; لأن حب الدنيا قطع عنها قطعا واستغرقت في محبة الحق
تعالى، ولهذا عاشت في هذه الدنيا فترة قصيرة وكابدت فيها المصائب مكابدة وهي
في غاية القدرة وكمال الكرامة، ومن قرأ كتاب «زهد فاطمة» علم أنها «ليست
كالآدميين».
فتكون التسمية بيان لما ستأول إليها (عليها السلام) كما قاله المجلسي طاب ثراه إن شاء
الله تعالى.
الوجه السادس
في كتاب علل الشرائع، عن عبد الله المحض بن الحسن المثنى عن أبي الحسن
السجاد (عليه السلام) قال: قال لي أبو الحسن (عليه السلام): لم سميت فاطمة فاطمة؟ قلت: فرقا بينه
وبين الأسماء. قال: «إن ذلك لمن الأسماء، ولكن الاسم الذي سميت به إن الله تبارك
وتعالى علم ما كان قبل كونه، فعلم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتزوج في الأحياء وأنهم
يطمعون في وراثة هذا الأمر فيهم من قبله، فلما ولدت فاطمة سماها الله تبارك
وتعالى فاطمة لما أخرج منها وجعل في ولدها فقطعهم عما طمعوا، فبهذا سميت

297
فاطمة لأنها فطمت طمعهم، ومعنى فطمت: قطعت» (1).
قال العلامة المجلسي في ذيل هذا الخبر: «قوله «فرقا بينه وبين الأسماء» لعله
توهم (أي عبد الله المحض) أن هذا الاسم مما لم يسبقها إليه أحد، فلذا سميت به لئلا
يشاركها فيه امرأة ممن مضى، فأجاب (عليه السلام) بأنه كان من الأسماء التي كان يسمون بها
قبل. وقوله «إن الله» أي «لأن الله» (2).
قد يقال: إنه قال «فلما ولدت فاطمة سماها الله تعالى فاطمة» أي إن الله هو
الذي سماها بهذا الاسم، ثم قال «لما أخرج منها جعل في ولدها فقطعهم عما طمعوا»
أي إن الله هو الذي جعل الوراثة والخلافة في ولدها، وهو الذي قطع طمع الناس
فهو الفاعل والجاعل تماما; وقوله «فقطعهم» يفيد أن الله هو القاطع والفاطم، وهو
يعارض قوله «لأنها فطمت» أي أن فاطمة هي فاطمة.
والجواب: إن الجمع بين الفقرتين من قبيل الجمع بين الآيات الكريمة في قوله
تعالى: (الله يتوفى الأنس) (3) و (يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم) (4)
و (تتوفاهم الملائكة) (5).
فالآية الأول صريحة في أن القابض للأرواح هو الله جل شأنه، وفي الثانية:
ملك الموت، وفي الثالثة: الملائكة.
ومثله إذا قطع السكين شيئا فهو منسوب إلى السكين وإلى اليد وإلى الروح



(1) علل الشرائع 1 / 212 ح 2 باب 142.
(2) البحار 43 / 13 ح 7 باب 2.
(3) الزمر: 42.
(4) السجدة: 11.
(5) النحل: 28.
298
معا، لكن الأصل هو الروح والقطع حاصل ظاهرا من اليد بواسطة السكين.
فالله سبحانه اختار فاطمة منذ الأزل بإرادته الحتمية وسماها بهذا الاسم
وجعل الوراثة والخلافة في أولادها وقطع طمع الآخرين بفاطمة، فلما ولدت
فاطمة الطاهرة آيس الآخرين بوجودها الشخصي وقطع طمعهم.
وبعبارة أخرى: إن وجودها قطع الطمع لوجود تلك المقدمات جميعا،
ولكنه كان بإرادة الله وجعله.
ونظير قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): فطمتك بالعلم، وفطمتك عن الطمث (1)، وفطمتك عن
الشر (2)، فعلى كل التقدير يكون الفاعل هو الله العلام لا سيد الأنام (صلى الله عليه وآله وسلم)، أي لأن
الله العالم أراد ذلك فأنا - أيضا - أردته، وإني فطمتها كما فطمها الله عن الجهل وعن
الطمث.
الوجه السابع
في البحار معنعنا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «من عرفها حق معرفتها أدرك
ليلة القدر، وإنما سميت فاطمة لأن الخلق فطموا عن كنه معرفتها» (3).
وفي حديث آخر قال: إنما سميت فاطمة لأن أعدائها فطموا عن حبها.
وفي الحديث وجه آخر سيأتي بيانه ضمن بيان تأويل ليلة القدر بفاطمة
الزهراء (عليها السلام).



(1) البحار 43 / 13 ح 9 باب 2.
(2) البحار 43 / 16 ح 14 باب 2. وفيه عن الصادق (عليه السلام): تدري أي شئ تفسير فاطمة؟ قال: فطمت من
الشر.
(3) البحار 43 / 65 ح 58 باب 3، تفسير فرات
299
تعريف لطيف
يظهر من الحديث الأول أمران:
الأول: إن معرفة فاطمة حق المعرفة يعني إدراك ليلة القدر.
الثاني: انقطاع الناس عن حقيقة معرفتها.
فالأول تعليق، والثاني إخبار عن المحال لاستحالة معرفة فاطمة.
ويستفاد من الأمر الثاني إستحالة إدراك ليلة القدر لاستحالة معرفة فاطمة
حق المعرفة.
ونظيره بوجه قوله (عليه السلام) «من عرف نفسه فقد عرف ربه» (1) حيث يفيد
استحالة معرفة النفس لاستحالة معرفة الرب سبحانه.
ومعرفة فاطمة الزهراء تكون على نحوين:
الأول: معرفة اسمها ونسبها وجملة من حالاتها، كما فعل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما
أخذ بيدها (عليها السلام) وقال: من عرفها فقد عرفها ومن لم يعرفها فهي فاطمة بضعة مني
وروحي التي بين جنبي.. إلى آخر الحديث (2).
أراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا التعريف أن يخبر عن إتحاده بفاطمة الزهراء الدال على
كمال فضلها وشرفها، وأراد أن يقول للناس إعرفوا فاطمة بهذه المعرفة فإنها
روحي وقلبي، ونتيجة هذه المعرفة أن يتعامل الناس مع روح النبي وقلبه وفؤاده
وبضعته كما يتعاملون معه تماما، وحرمة روح النبي كحرمة النبي، واحترام الجزء
الأعظم احترام للكل.



(1) البحار 2 / 34 ح 22 باب 9.
(2) انظر بحار الأنوار 27 / 62 ح 16 و 43 / 54 ح 48.
300
والثاني: معرفة كنهها وحقيقتها، والإحاطة التامة بتمام مقاماتها وكمالاتها
وفضائلها وفواضلها إضافة إلى اسمها ورسمها ونسبها وحسبها، فهذا ما لا يبلغه
أحد، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «وهي الصديقة الكبرى وعلى معرفتها دارت القرون
الأولى» (1) المراد به المعرفة الإجمالية، لأن فاقد المقامات العالية يعيش دائما في
المرتبة الدانية، فلا يصل إلى المقام العالي ولا يستطيع معرفته وإدراكه.
وإنما يعجز الإنسان عن إدراك الشئ أو الشخص لكثرة أوصافه وآياته
فكلما ازدادت أوصاف الموصوف عظم قدره وعلا شأنه في الأعين.
فكيف يمكننا إدراك حقيقة النبوة ومعرفة كنهها؟
إن الحديث السابق يدل على أن معرفة فاطمة و «ليلة القدر» أشد وأعظم
من معرفة الإمام (عليه السلام)، حيث قالوا في معرفة الإمام حق المعرفة: أن تعرف أنه إمام
مفترض الطاعة، وأن معرفته معرفة الله - أي به يعرف الله -، بينما قالوا في فاطمة:
إنها لا يمكن معرفتها بحال، فهي كالاسم الأعظم والساعة المستجابة وليلة القدر.
وهذا البيان بنفسه نقوله في النبي والوصي والإمام، حيث لا يمكن الوصول
إلى معرفة كنههم بحال.
لا يقال: إن معرفة الإمام واجبة لازمة بناء على قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من مات ولم
يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» (2) وغيره، أما معرفة فاطمة فغير واجبة ولا
لازمة لأنها ليست إماما ولا تكون إماما يوما ما.
كيف نقول ذلك ونعتقد صحته ونؤمن به، مع أن الإمام قال غير ذلك وأمر



(1) بحار الأنوار 43 / 105 ح 19.
(2) بحار الأنوار 8 / 362 ح 39; 23 / 76 ح 1.
301
الناس عن لسان النبي الأكرم والسلطان الأعظم بمعرفة فاطمة، واعتبر معرفة تلك
المستورة الكبرى من الإيمان بل جزءه المقوم «وأنها أعرف بالأشياء كلها».
والبرهان العقلي يقول: لا بد للمحب أن يحب محبوب الحبيب، وفاطمة
الزهراء حبيبة الله ورسوله، ومودتها ومحبتها محبة الرسول، والمحبة فرع المعرفة،
فمن أحب فاطمة عليه أن يعرفها، ولما كانت معرفة كنهها مستحيلة وجب أن
يعرفها قدر الوسع والإمكان، ومقتضى الفرض والحتم.
هذا الإجمال، وسيأتيك التفصيل في خصائص أخرى إن شاء الله تعالى.
وقد تبين من الحديث الآخر أن أعداء فاطمة فطموا عن محبتها، أي أن من
كان يحب الله ورسوله أحب فاطمة، ومن أحب فاطمة أحب الله ورسوله.
فالحديث الأول عام في عدم إدراك معرفة فاطمة، والحديث الثاني خاص
في عدم محبة أعداء فاطمة لفاطمة (عليها السلام).
الوجه الثامن
في البحار عن مصباح الأنوار عن الإمام محمد الباقر (عليه السلام) قال: إنما سميت
فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الطاهرة لطهارتها عن كل دنس، وطهارتها من كل رفث،
وما رأت يوما قط حمرة ولا نفاسا (1).
وقد روى هذا الحديث في معنى الطاهرة والبتول، والتعليل في معنى الحديث
ظاهر، ولكنه مأخوذ من «فطمت عن الطمث»، وهاتان الطهارتان إشارة إلى
نزاهة فاطمة الزهراء عن الدنس ظاهرا وباطنا، وتكرار ذكر الطهارة باعتبار تعدد



(1) البحار 43 / 19 ح 20 باب 2.
302
المتعلق من قبيل تكرار ذكر الاصطفاء في حق مريم (عليها السلام)، فالدنس والرفث صريح
في الأدناس الظاهرة والأرجاس الباطنة، والدنس هو الوسخ حقيقة، ولكنه
يستعمل في غير مجاز وكناية، فيقال: فلان دنس الثياب إذا كان خبيث الفعل
والمذهب. وفي وصف الأئمة (عليهم السلام): «لم تدنسكم الجاهلية الجهلاء» كذا في مجمع
البحرين (1).
والرفث أصلا الفحش، وفي الحديث «ويكره للصائم الرفث» (2)، وقال
تعالى: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) (3).
وقد يكون قوله «وما رأت يوما» بيانا للفقرة الأولى من الحديث، وقد
يكون غير ذلك، بأن يكون لكل تعبير معنى غير المعنى الآخر، فالمراد من «الطهارة
من الدنس» غير المراد من «الطهارة من الرفث» ورؤية دم النفاس وغيره.
ومضمون هذا الحديث متواتر عند الشيعة والسنة، ولكني اكتفيت بذكر
حديث واحد في المقام ومؤداه: فطام فاطمة وتنزيهها وتهذيبها من أدناس النساء
خاصة، ومن الخصال الرذيلة في البشر عامة، وهذه موهبة من مواهب الرحمن
ومكرمة من مكارم الملك المنان، وذلك فضل الله لها ورحمته عليها.
الوجه التاسع
في علل الشرائع للمرحوم الصدوق طاب ثراه، عن محمد بن مسلم الثقفي



(1) مجمع البحرين 4 / 71 مادة «دنس».
(2) مجمع البحرين 2 / 255 مادة «رفث».
(3) البقرة: 197.
303
قال: سمعت أبا جعفر (الباقر) (عليه السلام) يقول: لفاطمة وقفة على باب جهنم، فإذا كان
يوم القيامة كتب بين عيني كل رجل مؤمن أو كافر، فيؤمر بمحب قد كثرت ذنوبه
إلى النار، فتقرأ بين عينيه محبا فتقول: إلهي وسيدي سميتني فاطمة وفطمت بي من
تولاني وتولى ذريتي من النار، ووعدك الحق وأنت لا تخلف الميعاد. فيقول الله
عز وجل: صدقت يا فاطمة إني سميتك فاطمة وفطمت بك من أحبك وتولاك
وأحب ذريتك وتولاهم من النار، ووعدي الحق وأنا لا أخلف الميعاد، وإنما أمرت
بعبدي هذا إلى النار لتشفعي فيه، ليتبين لملائكتي وأنبيائي ورسلي وأهل الموقف
موقفك مني ومكانتك عندي، فمن قرأت بين عينيه مؤمنا فجذبت بيده وأدخلته
الجنة (1).
وفي عيون أخبار الرضا (عليه السلام) عن الرضا (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني
سميت ابنتي فاطمة لأن الله عز وجل فطمها وفطم من أحبها عن النار (2).
وعن أبي هريرة مثله (3).
والخركوشي في شرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وابن بطة في الإبانة عن الكلبي عن جعفر
بن محمد (الصادق) (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي: هل تدري لم سميت
فاطمة؟ قال علي: لم سميت فاطمة يا رسول الله؟ قال: لأنها فطمت هي وشيعتها
من النار (4).
وفي العيون: بالإسناد إلى دارم قال: حدثنا علي بن موسى الرضا ومحمد بن



(1) البحار 8 / 50 ح 58 باب 21 عن علل الشرائع.
(2) البحار 43 / 12 ح 4 باب 2 عن العيون:
(3) البحار 43 / 15 ح 14 باب 2 عن المناقب:
(4) البحار 43 / 15 ح 14 باب 2 عن المناقب:
304
علي قالا: سمعنا المأمون يحدث عن الرشيد، عن المهدي، عن المنصور، عن أبيه
عن جده قال: قال ابن عباس لمعاوية: أتدري لم سميت فاطمة فاطمة؟ قال: لا.
قال: لأنها فطمت هي وشيعتها من النار; سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقوله.
ومر في الحديث عن معنى المنصورة حديثا بهذا المضمون.
وسيأتي في خصائص الزهراء (عليها السلام) حديث ابن أبي جمهور الإحسائي من أن
نار الدنيا لا تحرق بدن فاطمة وذريتها وشيعتها، وهو من أعجب الأحاديث،
ويحتاج إلى خصيصة مستقلة.
والخلاصة: إن ظهور هذا الوجه سيكون في الآخرة، وإنه أعظم معاني اسم
فاطمة، وهو حديث متفق عليه لا تجد من ينكره، والمخالفون جميعا يذعنون
بصحته، وكأن اسم فاطمة وضع للدلالة على الشفاعة، ونجاة الشيعة من النار،
والوجوه السابقة المتعلقة بالدنيا كلها أوصاف يتصف بها من صاحب الشفاعة
العظمى، ولا تعارض بينها.
الوجه العاشر
في البحار وغيره في معنى فاطمة والبتول «لأنها فطمت وبتلت عن
النظير» (1) يعني أن فاطمة الزهراء (عليها السلام) مفطومة منقطعة عن المثيل، أي لا ند لها ولا
نظير في الدنيا، وهو معنى كونها سيدة نساء الأولين والآخرين، ومن كانت عديمة
النظير من أول الخلقة إلى يوم القيامة لا بد أن تجمع كل الخصائص الحسنة، وتتنزه
عن كل النقائص والمعايب، وتكون مفطومة معصومة عن كل الذنوب، وإن كل



(1) البحار 43 / 16 ح 14 باب 2.
305
هذه الأخبار والآثار المتظافرة الواردة عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) في أوصاف المخدرة
الكبرى وفي إثبات عصمتها وطهارتها تدل جميعا على أنها لا نظير لها.
أجل: كانت مريم المعصومة الطاهرة نظير فاطمة في هذا العالم من حيث
العصمة، أما في غيرها فكيف يمكن أن تناظر فاطمة في المقامات والمراتب
والفضائل الذاتية والخارجية وتصل إلى مقامها الشامخ، ففاطمة حجبت القلب عما
سوى الله وقطعت عرى المحبة عن كل فرد فرد من أجزاء هذا العالم، ولم تر شيئا
سوى الله، ولم تفكر إلا به وبرضاه. ونعم ما قيل:
«جمالك في عيني وذكرك في فمي * وحبك في قلبي فأين تغيب»
وقال الشاعر:
طلب الحبيب من الحبيب رضاه * ومنى الحبيب من الحبيب لقاه
فسبحان من خصها بأعظم الفضائل، وميزها عن خلقه بأكرم الخصال،
وشرفها، ورفع قدرها، وأكرمها، وأكثر نسلها، وجعل كل حال من أحوالها آية
باهرة، وكل طور من أطوارها معجزة ظاهرة وكرامة زاهرة، ونعم ما قيل:
ولو كان النساء بمثل هذي * لفضلت النساء على الرجال
والهدف الأول هو الله لا الدنيا ولا الآخرة، والمطلوب والمقصود المحبوب هو
الله وحده لا سواه، ولهذا اصطفاها الله وانتجبها وفضلها على نساء العالمين وأعطاها
السيادة.
وسيتضح للقراء من خلال حديثنا عن الملكات الشريفة للعصمة الكبرى،
كيف كانت سيدة نساء العالمين تتعبد الله في عالم الإمكان وفي هذا الزمان المحدود من
عمرها المبارك، وكيف أنها لازمت التقوى وطلبت رضا الله وتمحضت في العبودية،

306
وأفنت إنيتها في جنب الربوبية، ولم تطلب لنفسها شيئا من نقير أو قطمير في أي
حالة من حالاتها، بل لم تر نفسها مالكة لأمر أو شئ ما، تماما كأبيها رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي قال الله في مدحه: (ما كذب الفؤاد ما رأى) (1) يعني أنه كان في
مقام التسليم والرضا فؤادا من رأسه حتى قدميه، حيث أنه لم ير سوى الله ولم يسمع
إلا من الله ولم يقل إلا من الله وبأمر الله (ما زاغ البصر وما طغى) (2) وأن عينه
الظاهرية لم تزغ ليلة المعراج إلى شئ من الأفلاك، والأملاك وهو حكاية عن
بصيرته الباطنية ورؤيته الفؤادية، وفاطمة الزهراء (عليها السلام) ثمرة فؤاد نبي الرحمة، وقرة
عين هذه الذات المقدسة، وقد اتفقت روايات المخالف والمؤالف على أن العصمة
الكبرى فاطمة الزهراء شابهته وماثلته في الصورة والسيرة والكمالات
اللامتناهية.
وقد يقال: إن المراد من قوله «بضعة مني» القلب الروحاني، والمضغة
الرحمانية المحمدية، ولطالما كرر النبي قوله: «إن فاطمة روحي وقلبي» (3) وقال
أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته «إن فاطمة المرضية آنية الله الزكية» (4) وآنية الله أي
قلب الله، وأحب القلوب إلى الله أرقها وأصفاها.
وإن شئت فقل - بناء على الرواية المعتبرة -: إن فاطمة الزهراء (عليها السلام) مهجة
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمهجة سبب حياة القلب والجسد العنصري الإنساني، وإلا فقل
ما قاله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باختصار «فاطمة مني وأنا من فاطمة).



(1) النجم: 11.
(2) النجم: 17.
(3) البحار 43 / 54 ح 48 باب 3.
(4) انظر البحار 36 / 356 ح 225 باب 41.
307
والخلاصة: إن لازم الإنفصال والانقطاع عن الخلق الإتصال والإلتحاق
بالخالق، وقد ظهر معنى الاسم والمسمى وتجلى الإنفطام والإنفصال عما سوى الله
والاتصال بالمولى في وجودها الحق سلام الله عليها.
وقد قلت مرة على المنبر: إن فطام فاطمة الزهراء (عليها السلام) عام وخاص.
أما العام: فانقطاع المحبة عن كل ما سوى الله.
وأما الخاص: فتسليمها ورضاها بشهادة ولديها، تلك الشهادة التي كانت
تسمع نبأها من مصدر الوحي ومعدن الصدق منذ يوم الأزل حتى انعقاد النطفة
الزكية وإلى الولادة. فتقطع قلبها عن محبتها وتبكي لتلك الأخبار الموحشة للطبيعة
البشرية، مع أن دعوتها كانت مجابة إلا أنها رجحت رضا الحبيب على رضاها
وعاشت على ذلك وبكت له، ولم تنم عنها كلمة تخالف الإرادة الإلهية مع أنها كانت
مجابة الدعوة. وأما قوله تعالى: (فحملته كرها ووضعته كرها) (1) فإشارة إلى
طبيعتها البشرية، وهي من المقتضيات الكاملة لوجودها الإنساني.
وما أصعب أن ترضع الأم وليدها وتفطمه وتربيه وتكبره وهي تعلم بالقطع
واليقين كيف سيذوقن الشهادة.
فالأشد والأصعب من ذلك كله شهادة ولدها وعزيزها المحسن صلوات الله
عليها وعلى والدها وبعلها وبنيها.
أين سخن پايان ندارد أي جواد * ختم كن والله اعلم بالرشاد (2)



(1) الأحقاف: 15.
(2) يقول: هذا الكلام - يا جواد - لا نهاية له، فاختتمه فإن الله أعلم بالرشاد.
308
الخصيصة الثالثة من الخصائص الثلاث
سنتعرض في هذا المقام إلى مطلبين كبيرين يتعلقان باسم فاطمة (عليها السلام) لم أجد
لها تفصيل وتوضيح في كتب المناقب:
المطلب الأول: إن من المواهب الإلهية للخمسة الطاهرة (عليهم السلام) اشتقاق أسمائهم
الشريفة من اسمه، فمحمد مشتق من المحمود، وعلي من العالي، وفاطمة من الفاطر،
والحسن والحسين من المحسن، وهذا الإشتقاق مزية لهم وخصيصة خاصة
بهم (عليهم السلام) لأن هذا الفخر الفاضل والفضل الكامل لم يثبت لأي واحد من الأنبياء.
وهكذا اشتق اسم المؤمن من اسم الله، والرحم من الرحمن، كما في تفسير
الإمام (عليه السلام) قال الله عز وجل: أنا الرحمن وهي الرحم، اشتقت لها اسما من اسمي، من
وصلها وصلته ومن قطعها قطعته (1)... الخ.
والاشتقاق من الشق، قال أبو طالب:
وشق له من اسمه ليجله * فذو العرش محمود وذاك محمد (2)
وقيل: إن البيت لحسان من قصيدة مطلعها:
ألم تر أن الله أرسل عبده * وبرهانه والله أعلى وأمجد (3)



(1) تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) 34 ح 12 في تفسير سورة الحمد وعنه البحار 23 / 266 ح 12 باب 15.
(2) البحار 35 / 128 ح 73 باب 3 وفيه «هذا» بدل «ذاك».
(3) البحار 16 / 120 ح 44 باب 6.
309
وقيل في معنى الإشتقاق: إنه انتظام صيغتين على معنى واحد، مثل الله
وإله (1)، ومحمد ومحمود، وعلي وعالي، بشرط أن تكون مادة الصيغتين وحروفها
من مصدر واحد.
وقد ورد كثيرا في أخبار أهل البيت (عليهم السلام) أن «فاطمة» مشتق من اسم الله
«الفاطر».
ففي البحار عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله شق لك يا فاطمة اسما من أسمائه، فهو
الفاطر وأنت فاطمة (2).
وفي تفسير العسكري (عليه السلام) أيضا في حديث آدم: «وهذه فاطمة وأنا فاطر
السماوات والأرض، وفاطم أعدائي عن رحمتي يوم فصل قضائي، وفاطم أوليائي
عما يعريهم ويشينهم، فشققت لها إسما من اسمي» (3).
غير أن المشتق والمشتق منه (فاطر وفاطمة) متغايران حرفا ولفظا في
الصيغتين، فكيف يصح الإشتقاق؟
الجواب: يوجد في المقام ثلاث وجوه محتملة:
الوجه الأول
قال علماء النحو والصرف في باب الإشتقاق والقلب والتبديل: يجوز تبديل
حرف بحرف في اسم ما لمناسبة ما، وهو نوع شائع من الإشتقاق، مثل نعق ونهق،



(1) مجمع البحرين 5 / 196 مادة «شقق».
(2) البحار 43 / 15 ح 13 باب 2.
(3) تفسير الإمام العسكري 220 ح 102 في سجود الملائكة لآدم ومعناه وعنه البحار 11 / 150 ح 25 باب 2.
310
أمليت وأمللت، ومثل اشتقاق طبيب من طيب، وبكه من بكاء، وشيعه من
الشعاع، بل قد يحذف حرف من المشتق منه بواسطة النقل.
فيقال فيما نحن فيه: إن لفظ فاطمة مؤلف من خمس حروف، وفاطر من أربع
حروف، وثلاثي فاطمة فطم، وثلاثي فاطر فطر، فأبدلت الراء بالميم وحذف منه
حرف، وحروف كلا الإسمين متقاربة، فالله فاطم وفاطر، ويشهد له الحديث
المذكور وقوله تعالى (يتفطرن) (1) و (فاطر السماوات) (2) و (إذا السماء
انفطرت) (3) من فطر إذا انشق وانفتق، والله سبحانه فاتق السماوات والأرضين.
أو الفاطر بمعنى الخالق، كقوله (عليه السلام): فطرهم على المعرفة أي خلقهم. قال ابن
عباس: ما كنت أدري «فاطر السماوات والأرض» حتى احتكم إلي أعرابيان في بئر
فقال أحدهما «أنا فطرتها» أي ابتدأت حفرها (4) فعرفت معنى الفاطر.
فالفاطم والفاطر معناهما متقارب، أي القاطع والشاق والفاتق، ولذا قال
الله في الحديث المذكور «وفاطم أعدائي عن رحمتي يوم فصل قضائي، وفاطم
أوليائي عما يعيرهم ويشينهم» (5).
والخلاصة: إن في الإسمين المقدسين قلب وتبديل، وهو شائع ومعروف عند
أساتذة هذا الفن.



(1) مريم: 90.
(2) الأنعام: 14.
(3) الإنفطار: 1.
(4) البحار 81 / 369 ح 21 باب 22.
(5) البحار 11 / 150 ح 25 ب 2.
311
الوجه الثاني
إن الإشتقاق في الإسمين حسب المعنى لا اللفظ، والاشتقاق المعنوي من
وجوه الإشتقاق، بل ذهب بعض إلى ترجيحه، وفي الحديث: إن الله خلق السماوات
والأرض من نور فاطمة (1); ويشهد له ما في الحديث المذكور «وهذه فاطمة وأنا
فاطر السماوات والأرض»، ثم سمى نفسه في الفقرة التالية «فاطم»، وكأن المعنيان
متحدان، وهما صيغتان لمعنى واحد. وحينئذ يكون الإشتقاق صحيحا.
وإنما سمى الله نفسه «فاطر السماوات والأرضين» لأنه فطرهما من نور
فاطمة، ولا شك أن ظهور قدرته الكاملة كان بواسطة وجود فاطمة، فاقتضى أن
يشتق لها اسما من اسمه هذا.
فبناء على رأي أصحاب هذا المسلك، لا اعتبار بالحروف الأصلية
والأصول المادية والهيئآت اللفظية المركبة، لأن اللفظ قالب المعنى.
ورجحان قولهم من هذا الوجه واضح بين.
الوجه الثالث
لو دقق أهل الأخبار في قوله (عليه السلام) من: «أن الله شق اسم فاطمة من اسمه»
على الإطلاق وفي بعضها «من أسمائه»، لاتضح أن الإشتقاق من مطلق الاسم أو
الأسماء، وتخصيص الفاطر بالذكر لإظهار القدرة والعظمة، أي إني أنا فاطر
السماوات والأرضين وقد اشتققت لفاطمة اسما من أسمائي، وإنما ذكر فاطمة والفاطر



(1) انظر البحار 15 / 10 ح 11 باب 1.
312
في القدسي وغيره للتشابه الصوري وتقارب الحروف والألفاظ.
وهذا الوجه لا يخلو من ملاحة، والتعبير عن الإسمين بهذا الطرز المليح
والطور الفصيح فيه حلاوة، خاصة وإن كان الحديث «وشق لك إسما من أسمائه»
ظاهرا في «الفاطر» لا مطلق الاسم أو الأسماء الأخرى غير الفاطر (1).
ولعل ما سأذكره الآن يوافق الواقع ويلقى قبول السامع، فأقول: كما أن لفظ
الجلالة «الله» جامع لكافة أسماء الله وصفاته وكمالاته، فإن أسماء تمام المسميات
وأسماء الله مشتقة بنحو العموم من اسم الفاطر، وكأن هذا الاسم «رب النوع»
للأسماء من حيث الإنشقاق والانفطار، ومنه اشتق اسم فاطمة ومعناه، فكل
المسميات والحقائق السماوية العلوية والأرضين السفلية اشتقت وفتقت ورتقت
وظهرت باسمه، ومن الأسماء الظاهرة اسم فاطمة الطاهرة.
فكما أن الله تعالى خالق الإصباح وفالق الحب والنوى، فهو أيضا فاطر
السماوات وفاطر الأسماء، وكما أنه تعالى عن الخلق فردا أحدا لا ند له ولا عديل في
ألوهيته ذاتا وصفة وفعلا وإسما، فكذلك فاطمة في عبوديتها انقطعت عن الند
والمثيل، وتفردت في العبودية عن نوع الممكنات وكافة البريات ذاتا وصفة وفعلا
وإسما ورسما وحسبا ونسبا.
واسمها المقدس جامع لأسمائها وصفاتها الأخرى، تماما كما قلنا في اسم الله
تعالى.
وأستطيع - أنا الحقير - أن أستخرج وأستنبط جميع معاني ألقاب الصديقة
الطاهرة وأسمائها من معنى اسم فاطمة، ولي على ذلك أدلة وبراهين واضحة، مثل



(1) سيأتي حديث كتاب مقتضب الأثر في إبداع نور المستورة الكبرى. (من المتن)
313
الزكية والزاكية والطاهرة والمطهرة والتقية والنقية والبتول والحصان والزهراء وما
شاكل، وهذا من كراماتها العظمى.
ويمكن إستخراج تمام الألقاب واسم فاطمة أيضا من كنية «أم أبيها»، وكل
اسم أو لقب يبين الاسم واللقب الآخر، تماما كالآيات القرآنية التي يمكن حملها على
أي مشرب ومحمل من المحامل الصحيحة، حيث يستخرج كل مفسر منها معنى
جديدا غير ما استخرجه غيره، وتبقى كل المعاني والمحامل صحيحة صائبة.
نعم; لا بد أن يكون الاسم الذي اشتقه الرب المنان من اسمه وأجراه الملك
الأعظم بأمر الله على لسان نبيه جامعا لمثل هذه الآثار.
قال في الحديث القدسي: «فاطمة بقية رسولي» ومن كانت الكلمة الباقية
ومشكاة الأنوار الإلهية وخلاصة المحمدية لا يبلغها وصف الواصفين من سكان
العوالم العلوية والسفلية.
نعم; يصفها أبوها وبعلها، لأنهم أحاطوا بكل كمالاتها الوجودية وبكنهها
وحقيقتها وأوصافها، أما غيرهم فتعجز العقول وتضل الأوهام وتتحير الأفهام
وتتكسر الأقلام، ومن ذا يدرك كنهها وهي المستورة الكبرى وسر الملك العلام.
المطلب الثاني: في أن «فاطمة» اسم فاعل أو اسم مفعول؟
وهل هو متعد أو لازم؟
عرفنا (1) في الخصيصة الأولى من هذه الخصائص الثلاث أن فاطمة من
«الفطام» وهو فطم الصبي عن الرضاع، ففاطمة تعنى المفطومة، فيكون اسم



(1) وجد إشارة إلى هذا المطلب في كتب الأخبار خصوصا في البحار. (من المتن)
314
الفاعل هنا بمعنى اسم المفعول، وهو استعمال شائع كثيرا بين النحويين من قبيل: ماء
دافق أي مدفوق، وعيشة راضية أي مرضية، وهكذا كاتم أي مكتوم، وعامر أي
معمور.
وإذا كان فاطمة بمعنى اسم الفاعل، أي أن الطفل إذا بلغ حد الفطام وحصل
على آلات التغذي كالأسنان وغيرها، فهو يعرض طبعا عن الرضاع، فكأنه فطم
نفسه بنفسه.
قال صاحب القاموس: «أفطم السخلة إذا حان أن تفطم، فإذا فطمت فهي
فاطم ومفطومة وفطيم».
ونحن نرى فصيل الناقطة والسخال تنفصل قليلا قليلا عن الأمهات وتتعود
على التغذي بالأشياء الأخرى بدافع الفطرة وحسب التعليم والتربية، والناقة
الفاطم: التي تنفك عن فصيلها إذا بلغ السنة.
وأما التعدي واللزوم: فالأخبار المأثورة والآثار المذكورة تفيدهما معا، وإن
كانت موارد استعمال التعدي أكثر، كقوله «وفطم من أحبها من النار; وفطمت
شيعتها من النار» ويقال: «فطمت الأم صبيها».
والمعول هنا على الإحتمالات الصائبة التي ذهب إليها العلامة المجلسي عليه
الرحمة لأنسه الشديد بلسان آل العصمة، وقد ذهب إلى أن القسمين مستعملان.
وأعتقد بالوجدان أنه متعد غير لازم، لأن نتيجة معنى هذا الاسم يرجع إلى
محبي فاطمة الزهراء وشفيعة يوم الجزاء، وهي نجاتهم واستخلاصهم من دركات
النيران، فضلا عما يرجع إلى ذاتها المقدسة، فإذا قلنا باللزوم انتفت هذه النتيجة
وصارت كل تلك الأخبار المتظافرة الدالة على المقصود عقيمة لا فائدة فيها، في

315
حين أن هذا الاسم وضع منذ اليوم الأول للشفاعة والإنقاذ (بما علم الله)، ليعلم
الفرق والامتياز بينها وبين الفواطم الأخرى.
وإنما صار لهذا الاسم مزية خاصة لملاحظة هذا المعنى; وفي الحديث: «سميت
فاطمة فاطمة لأنها تلتقط شيعتها ومحبيها من النار كما يلتقط الطير الحب الجيد من
الحب الردئ» (1).
وقال العلامة المجلسي (رحمه الله) بعد ذكر احتمال اللزوم: «يمكن أن يقال: إنها فطمت
نفسها وشيعتها عن النار وعن الشرور، وفطمت نفسها عن الطمث، لكون السبب
في ذلك ما علم الله من محاسن أفعالها ومكارم خصالها، فالإسناد مجازي» (2).
وبناء على ذلك، لما علم الله من فاطمة الزهراء (عليها السلام) أنها ستتصف بالخصائل
المرضية والخصائص الزكية، كافأها بقبول شفاعتها، وبشرها وذريتها الطيبة
وشيعتها الفاطمية، وجعل بشارتهم في محصل معنى اسمها - بكل ما يعنيه -.
چون روز رستاخيز مرا جستجو كنند * نبود بغير مهر تو عضوى كه بو كنند
مهرت چنان گداخت كه موران به تربتم * عضوى نيافتند كه نيشى فرو كنند (3)
وقال الشيخ عبد الوهاب الشعراني:
بمحمد وببنته وببعلها * وابنيهما السبطين أعلام الهدى
فرج عن المكروب واكشف غمه * يا خير من رفع العباد له يدا



(1) انظر البحار 43 / 65 ح 57 باب 3.
(2) البحار 43 / 14 ح 10 باب 2.
(3) يقول: إن فتشوني يوم القيامة لما شموا لدي إلا حبك. فقد صهرني حبك بحيث إذا هجم النمل على تربتي،
لم يجد مني شيئا يقظمه.
316
خمس خصائص من الخصائص الثلاثين
في إبداع نور فيض ظهور فاطمة الزهراء (عليها السلام)
الخصيصة الأولى
ابتداء خلقها وإبداع نور المخدرة الطاهرة (عليها السلام)
ذكرنا فيما سبق معنى النورية السماوية، ونذكر في هذه الخصيصة - إن شاء الله
تعالى - الأخبار الدالة على خلقتها النورانية، وما ذهب إليه الفريقان من العقيدة
الراسخة الثابتة للشيعة الإمامية، وما ذهب إليه العامة العمياء.
وقد اتفق الفريقان على أن نور الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الموفور السرور كان في أول
الإيجاد، لم يسبقه سابق ولا تقدمه متقدم.
واتفق الفريقان على رواية حديث «أول ما خلق الله نوري» (1); ومن نوره
المقدس انسلت بقية الأنوار وظهرت في عرصة الوجود، فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) أنور الأنوار.
وفي الحديث «خلق الله الأشياء بالمشيئة» (2)، والمشيئة بنفسها تعني أن
وجوده لم يكون مسبوقا بوجود آخر، وأن كل الموجودات معلولة لوجوده المبارك



(1) البحار 1 / 97 ح 7 باب 2.
(2) البحار 4 / 145 ح 19 باب 4.
317
«لولاك لما خلقت الأفلاك» (1) والذات المقدسة علة لها والعله أسبق وأشرف من
المعلول.
وفي حديث «أول ما خلق الله نوري» إشارة إلى أن وجودي من الحق
تعالى، ونوري مشتق من مبدأ الربوبية، ولي خالق أوجدني من العدم (2) وألبسني
خلعت الوجود وأفاض علي الحياة.
در ظلمت عدم همه بوديم بي خبر * نور وجود سر حياة از تو يافتيم (3)
وقد تبين من الأخبار المتواترة والآثار المتكاثرة أن عالم الأنوار يختلف عن
العوالم الأخرى، فهو أفضل وأعلى رتبة، كما أن اختلاف مراتب الأنوار أيضا
مطلب في غاية الوضوح، ولا ضير في اختلاف الأخبار في ابتداء الخلقة في ذكر
الأعوام والسنين، مثل الأربعة آلاف سنة، ومائة وأربعة وعشرين، وألف ألف
دهر، وأربعين ألف، وألفي عام وغيرها، لإمكان الجمع بينها.
ونبدأ في إثبات المراد وصحة المقصود بحديث أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي
أخرجه أبو الحسن البكري شيخ الشهيد الثاني في كتاب الأنوار، وفيه كفاية، قال
في أول الحديث: «كان الله ولا شئ معه، فأول ما خلق الله نور حبيبه محمد قبل
خلق العرش والكرسي والسماوات والأرض واللوح والقلم والجنة والنار
والملائكة وآدم وحواء بأربعة وعشرين وأربعمائة ألف عام» وكانت له تسبيحات
الخاصة» (4).



(1) البحار 16 / 406 ح 1 باب 12.
(2) في عبارة المصنف (رحمه الله) نفسه شاهد على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يخلق من العدم.
(3) يقول: كنا جميعا مجهولين في ظلام العدم، فوجدنا منك - يا نور الوجود - سر الحياة.
(4) البحار 57 / 198 ح 145 باب 1.
318
فأول ما خلق، وأول ما صدر، وأول ما ظهر نور نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم).
آنچه اول شد پديد از جيب غيب * بود نار جان أو بي هيچ ريب
بعد از آن از نور مطلق شد علم * گشت عرش و كرسي و لوح و قلم
يك علم از نور پاكش عالم است * يك علم ذرية است و آدم است
نور أو چون أصل موجودات شد * ذات أو چون معطى هر ذات شد
واجب آمد دعوت هر دو جهانش * دعوت ذرات پيدا و نهانش (1)
وحديث جابر «أول شئ خلق الله نور نبيك يا جابر ثم خلق منه كل
خير» (2).
وأيضا عن جابر بن عبد الله [قال:] قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «أول ما خلق الله
نوري، ففتق منه نور علي (عليه السلام).. الخ» (3).
وفي حديث جابر بن يزيد الجعفي عن الباقر (عليه السلام): كان الله ولا شئ غيره،
ولا معلوم ولا مجهول، فأول ما ابتدأ من خلقه أن خلق محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) وخلفاءه من
أهل بيته معه من نوره وعظمته» (4).
وأما إيجاد نور فاطمة الزهراء (عليها السلام) بالإنفراد، مع قدم نور النبوة والولاية،



(1) يقول: أول ما ظهر من كتم الغيب نور روحه بلا ريب ولا شك.
ثم ظهر من ذلك النور المطلق العرش والكرسي واللوح والقلم.
وظهر من نوره المنزه الطاهر العالم، وظهرت الذرية وآدم.
ولما كان نوره أصل الموجودات كلها، وكانت ذاته مانحة لكل ذات.
فقد وجبت دعوته في كلا العالمين، ووجبت دعوة ذراته الظاهرة والباطنة.
(2) البحار 15 / 24 ح 43 باب 1.
(3) انظر البحار 25 / 22 ح 38 باب 8 و 54 / 170 ح 117 باب 1 والحديث طويل.
(4) البحار 15 / 23 ح 41 باب 1 وفيه «وخلقنا أهل البيت معه» بدل «وخلفائه من أهل البيت».
319
فالمستفاد من بعض الأخبار والآثار أن نورها مقدم ومخلوق بالاستقلال، ومن
بعضها أنها خلقت من نور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويظهر من بعض الأخبار المعتبرة أنها
خلقت من نور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونور أمير المؤمنين (عليه السلام).
وفي حديث الخصال ومعاني الأخبار والعلل عن معاذ بن جبل، أن نور
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأمير (عليه السلام) والحسنين (عليهما السلام) خلق جميعا (1) قبل سبعة آلاف سنة، وليس
فيه ترتب بين أنوارهم (عليهم السلام).
وعليه ففي إبداع النور الفاطمي أربعة طوائف من الأخبار (2)، أرجحها
وأوضحها حديث جابر وأبي الحسن البكري.
وروي اتحاد نور النبوة والولاية بمفاد «أنا وعلي من نور واحد» (3). ثم انقسم
هذا النور إلى جزئين، النور النبوي، والنور العلوي، فخلق النور الفاطمي من نور
النبوة، ونور الحسنين (عليهما السلام) من نور فاطمة أو من نور الولاية.
نعم; يستفاد من الحديث الذي أخرجه المجلسي (رحمه الله) في المجلد السابع والعاشر
من البحار، عن كتاب رياض الجنان لفضل الله بن محمود الفارسي بحذف الاسناد،
عن أنس بن مالك، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذيل قوله تعالى (4) (أولئك مع الذين أنعم
الله عليهم من النبيين والصديقين) (5): أن نور فاطمة خلق في أول الإيجاد والإبداع
بالإنفراد دون الاشتراك; قال (صلى الله عليه وآله وسلم) في آخر الحديث:



(1) بحار 15 / 7 ح 1 باب 1.
(2) ونقلها جميعا متعذر ومبعد عن المقصود. (من المتن)
(3) البحار 33 / 480 ح 686 باب 29.
(4) ذكرنا الحديث في الكلام من معنى الصديقة. (من المتن)
(5) النساء: 69.
320
ثم إن الله خلق الظلمة بالقدرة، فأرسلها في سحائب البصر، فقالت
الملائكة: سبوح قدوس ربنا، مذ عرفنا هذه الأشباح ما رأينا سوء; فبحرمتهم إلا
كشفت ما نزل بنا، فهنالك خلق الله تعالى قناديل الرحمة وعلقها على سرادق
العرش، فقالت الملائكة: إلهنا لمن هذه الفضيلة وهذه الأنوار؟! فقال: هذا نور أمتي
فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فلذلك سميت أمتي الزهراء لأن السماوات والأرضين بنورها
زهرت، وهي آنية نبيي وزوجة وصيه (1).
ولا تعارض بين ظهور نور تلك المخدرة في السماوات وبين سبق النور النبوي
المقدس وقدمه، فهذا الإظهار والأزهار جلوة من جلوات سيدة الكائنات، كما أن
الوجود الفاطمي المقدس جلوة من الجلوات المحمدية (صلى الله عليه وآله وسلم).
روى الشيخ المفيد والشيخ الطوسي والطبرسي وصاحب كشف الغمة
رضوان الله عليهم عن الفضل بن شاذان معنعنا عن الإمام موسى بن جعفر، قال:
«إن الله تبارك وتعالى خلق نور محمد من اختراعه من نور عظمته وجلاله، وهو
نور لاهوتيته الذي تبدى وتجلى لموسى (عليه السلام) في طور سيناء، فما استقر له ولا أطاق
موسى لرؤيته ولا ثبت له حتى خر صعقا مغشيا عليه، وكان ذلك النور نور
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما أراد أن يخلق محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) منه، قسم ذلك النور شطرين: فخلق
من الشطر الأول محمدا، ومن الشطر الآخر علي بن أبي طالب، ولم يخلق من ذلك
النور غيرهما، خلقهما بيده، ونفخ فيهما بنفسه لنفسه، وصورهما على صورتهما،
وجعلهما أمناء له وشهداء على خلقه، وخلفاء على خليقته، وعينا له عليهم،
ولسانا له إليهم، قد استودع فيهما علمه، وعلمهما البيان، واستطلعهما على غيبه،



(1) البحار 25 / 16 ح 30 باب 1.
321
وبهما فتح بدء الخلائق، وبهما يختم الملك المقادير [فجعل أحدهم بمنزلة النفس
والآخر بمنزلة الروح، فلا يقوم أحدهم إلا بالآخر، ظاهرهم بشري وباطنهم
لاهوتي، فجعل ظاهرهم بري، ليطيق الناس النظر إلى شمسهم المشرقة وبدرهم
الساطع] ثم اقتبس من نور محمد فاطمة ابنته كما اقتبس نوره من المصابيح، هم
خلقوا من الأنوار وانتقلوا من ظهر إلى ظهر، ومن صلب إلى صلب، ومن رحم إلى
رحم في الطبقة العليا من غير نجاسة، بل نقل بعد نقل، لا من ماء مهين ولا نطفة
خشرة (1) كسائر خلقه، بل أنوار انتقلوا من أصلاب الطاهرين إلى أرحام
الطاهرات، لأنهم صفوة الصفوة...» (2) صلوات الله عليهم أجمعين.
وفي كتاب مقتضب الأثر في النص على الأئمة الإثنا عشر، عن سلمان، عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث طويل: «.. خلقني الله من صفوة نوره، ودعاني فأطعت،
وخلق من نوري عليا فدعاه فأطاعه، وخلق من نوري ونور علي فاطمة،
فدعاها فأطاعته، وخلق مني ومن علي وفاطمة الحسن والحسين، فدعاهما
فأطاعاه، فسمانا بالخمسة الأسماء من أسمائه: الله المحمود وأنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والله
العلي وهذا علي، والله الفاطر وهذه فاطمة، والله ذو الإحسان وهذا الحسن، والله
المحسن وهذا الحسين، ثم خلق منا من صلب الحسين تسعة أئمة، فدعاهم فأطاعوه
قبل أن يخلق الله سماء مبنية وأرضا مدحية أو هواء أو ماء أو ملكا أو بشرا، وكنا
بعلمه نورا نسبحه ونسمع ونطيع (3).. الخبر.



(1) الخشارة: الردئ من كل شئ.
(2) البحار 35 / 28 ح 24 باب 1.
(3) البحار 15 / 9 ح 9 باب 1.
322
فنور النبي ونور الأمير (عليهما السلام) كان واحدا وفي درجة ومقام واحد، ونور
الحسنين أدنى منهما، ونور فاطمة منفردا بين الدرجة الأولى والأخرى، نقطة
واحدة بين الخطين، ينتهي إليها الخط العالي وينتمي إليها الداني، قال تعالى:
(مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان * يخرج منهما اللؤلؤ
والمرجان) (1).
وبعبارة أخرى: إن فاطمة الزهراء بمنزلة القلب من الأركان الأربعة لعالم
الإمكان، والقطب والقلب واحد في مملكة البدن.
وقال العرفاء: أغلب أعضاء البدن زوجية إلا القلب واللسان فهي فرد فرد،
واللسان ترجمان القلب، يعني عليك أن تنظر إلى أحدهما وتمكن الآخر في القلب،
وتقرأ أحدهما وتجري الآخر على اللسان.
خانه چو يك بيش نيست * دوست يكى بس بود
و آن يك بي اشتراك * ذات مقدس بود (2)
فإذا كان الأربعة في مقامهم يمثلون الأركان العظمى في هذا العالم، ففاطمة
الزهراء (عليها السلام) بمثابة القلب والفؤاد والروح لهم، وذاتها المقدسة مجهولة بلا عنوان.
وبعبارة أخرى: إن اسمها وذاتها وأصلها وفرعها وزوجها وذريتها الطاهرة
وشيعتها الباهرة كلهم جاؤوا من عالم النور، واستغرقوا في النور، بل هم نور على
نور. وإذا كان أبوها نور الأنوار، فهي أم الأنوار، وهذا هو المراد من قوله تعالى
(واتبعوا الرسول والنور الذي أنزل معه) (3).



(1) الرحمن: 19 و 20 و 22.
(2) يقول: لما كان البيت واحدا، كان الحبيب واحدا لا غير.
وذلك الحبيب هو الذات المقدسة التي لا شريك لها.
(3) الأعراف: 157.
323
الخصيصة الثانية من الخصائص الخمسة
سواء كان نور فاطمة (عليها السلام) مخلوقا بالإنفراد، أو من نور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونور
أمير المؤمنين (عليه السلام)، أو من نور الرب، فهو على كل حال من نوع واحد ومن مصدر
واحد ومن مبدأ ومنشأ واحد، ولكنه كان يختلف في تجلياته حسب الوقت والزمان
والحكمة المعلومة واستعداد القبول في تلك المستورة، أم الفضائل، فهي بذاتها
وحقيقتها تتجلى في الملكوت الأعلى تجليات خاصة، وتتسمى في كل تجل باسم
ولقب خاص، كما ذكرنا ذلك في الكلام عن معنى الزهراء والمنصورة والنورية.
وكان آخر تجليات أم الأنوار وعيبة الأسرار في عالم الشهود، حيث تجلت
وهي في الكسوة البشرية الحسية.
ومن المعلوم أن العوالم العلوية أفسح وأوسع من العوالم السفلية، ويختلف
الاستعداد والقابلية في كل واحد منهما بالنسبة إلى الآخر حسب العلو والدنو، ولذا
تكون الجلوة الوجودية والأنوار الحقة لفاطمة الزهراء هناك أظهر وأجلى.
أما في هذا الفضاء الضيق الدنيوي، فكانت تبدو لسلطان الولاية شمسا مرة
وقمرا مرة وكوكبا دريا مرة أخرى، وتتجلى له بأنوار وأطوار أخرى أحيانا،
وتتجلى للآخرين حسب قابلياتهم ولياقاتهم، وتتجلى لأهل السماء كلما وقفت في
محراب عبادتها بنحو خاص، وتتجلى لقلوب شيعتها الصافية بنور إيمانها إلى يوم

324
القيامة.. فإذا كان يوم القيامة كشف حقائق الأعيان والأشخاص يوم الحاقة، أمر
الله بإظهار أنوارها تامة، فتتجلى بنورها البهيج فتحيط كل من في المحشر من
الأولين والآخرين، بل تعم به الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين والأولياء
الكاملين والشهداء والصالحين والصديقين من المؤمنين، فتدهش الأبصار وتوله
القلوب، حتى يتمنى كل واحد أن يكون فاطميا وأن يحسب في الفاطميين، وكأن
قبة القيامة فاطمية، وجميع الشرائع والملل منضوية تحت الراية الإسلامية، فلا
يبقى ذكر ولا فكر ولا همة إلا انحصر في النظر إلى أنوارها الجمالية وآثارها
الجلالية، ولتشبت الجميع بالأذيال الفاطمية.
ولا يبعد أن يتوسل بها حتى الأنبياء العظام، وكل منهم قطرة من قطرات
بحار أنوار أبيها، فيمدون يد الحاجة إلى شفيعة يوم الجزاء، ويلتجأون إليها ليأمنوا
من أهوال القيامة وفزعها.
ولذا ينادى في أهل المحشر أن «غضوا أبصاركم ونكسوا رؤوسكم» (1)
وطأطئوا رؤوسكم، فلا أحد يقوى على مشاهدة جلوات أنوارها في عالم
الملكوت وعرصات القيامة، وغضوا أبصاركم لأن أهل المحشر لا قابلية لهم
لمشاهدة الأنوار الزاهرة الباهرة، فغضوا الأبصار لئلا يفنى الناظرين.
ولا يدري أحد كيف ستشرق أنوارها وكيف تتجلى سيدة نساء الأولين
والآخرين في أعلى عليين وفي الخلد وهي (في مقعد صدق عند مليك مقتدر) (2)
فتلك الأنوار كانت منذ اليوم الأول، وظهرت وتلألأت في اليوم الآخر، فمنذ مبدأ



(1) انظر البحار 43 / 53 ح 48 باب 3.
(2) القمر: 55.
325
المبادي إلى يوم ينادي المنادي تتقلب أنوارها من عالم إلى عالم، وكلما دخلت عالما
نشرت فيه النور والسرور، حتى تسطع في يوم المعاد والميقات، وسيأتي بيانه في
بحث القيامة في خصيصة الشفاعة إن شاء الله تعالى.
وبعد هذه المقدمة الموجزة أرى لزاما أن أتعرض في هذه الخصيصة إلى ما
خلق الله من نور فاطمة (عليها السلام).
ففي رياض الجنان والبحار عن أنس بن مالك والعباس بن عبد المطلب في
حديث، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مخاطبا عمه العباس: «يا عم! لما أراد الله أن يخلقنا
تكلم بكلمة خلق منها نورا، ثم تكلم بكلمة أخرى فخلق منها روحا، ثم مزج
النور بالروح فخلقني وخلق عليا وفاطمة والحسن والحسين، فكنا نسبحه حين لا
تسبيح، ونقدسه حين لا تقديس.
فلما أراد الله تعالى أن ينشئ خلقه فتق نوري فخلق منه العرش، فالعرش
من نوري، ونوري من نور الله، ونوري أفضل من العرش.
ثم فتق نور أخي علي فخلق منه الملائكة، فالملائكة من نور علي، ونور علي
من نور الله، وعلي أفضل من الملائكة.
ثم فتق نور ابنتي فخلق منه السماوات والأرض، فالسماوات والأرض من
نور ابنتي فاطمة، ونور ابنتي فاطمة من نور الله، وابنتي فاطمة أفضل من السماوات
والأرض.
ثم فتق نور ولدي الحسن فخلق منه الشمس والقمر، فالشمس والقمر من
نور ولدي الحسن، ونور الحسن من نور الله، والحسن أفضل من الشمس والقمر.
ثم فتق نور ولدي الحسين فخلق منه الجنة والحور العين، فالجنة والحور

326
العين من نور ولدي الحسين، ونور ولدي الحسين من نور الله، وولدي الحسين
أفضل من الجنة والحور العين...» (1).
ثم ذكر ظهور الظلمة وخلق قنديل الرحمة وتعليقه على سرادقات العرش
وظهور نور الزهراء (عليها السلام) في السماوات والأرضين، وقد مر ذكره في ما مضى.
فتبين أن العرش والسماوات والأرضين والشمس والقمر والجنة وما فيها
والملائكة جميعا خلقت من الوجود المقدس للخمسة الطيبة الطاهرة (عليهم السلام).
ولنعم ما قيل:
أقول وروح القدس ينفث في نفسي * فإن وجود الحق في عدد الخمس
وفي إرشاد القلوب عن سلمان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال للعباس: إن السماوات
والأرضين خلقت من نور أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فهو أفضل من السماوات
والأرضين، ثم ذكر قنديل النور وخلق نور الزهراء. والحديث السابق أصح.
نكتة شريفة
والآن فلنعلم لماذا خلقت المخلوقات من أنوار الخمسة الطاهرة بهذا
الترتيب؟ ولماذا خلقت السماوات والأرضين من نور فاطمة (عليها السلام)؟
[معنى العرش]
لقد عبروا عن العرش الأعظم تعابير عديدة في ذيل قوله تعالى (لا إله إلا



(1) البحار 15 / 10 ح 11 باب 1.
327
هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) (1).
منها: إن العرش جسم أعظم وأكبر من جميع الأجسام العلوية والسفلية،
والعالم كله العالي والسافل كحصاة في فلاة، أو كقطرة في بحر لا متناه بالقياس إلى
العرش.
والعرش مجمع ومخزن لعالم الغيب والشهود بمفاد قوله (وإن من شئ إلا
عندنا خزائنه) (2) وفيه تمثال كل شئ من البر والبحر. وهو مرآة الملائكة يرتسم
فيه كل عمل، ويسمى فلك الأفلاك وفلك الكل وفلك الأطلس أيضا، وهو منتهى
الجسمانيات ومطاف الملائكة الحافين في قوله (وترى الملائكة حافين من حول
العرش يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض) (3).
ويحمله ثمانية من الأولين والآخرين، كما قال الله تعالى: (ويحمل عرش
ربك يومئذ ثمانية) (4).
وهو محيط بكل ما خلق، ومظهر لتجلي واستواء الحضرة الأزلية (إن الله
على العرش استوى) (5).
ولما كانت الذات النبوية المقدسة أشرف الذوات وأفضل الموجودات
وأعظم المخلوقات، خلق الله منها العرش وهو أعظم الأجرام والأجسام. وقد



(1) التوبة: 129.
(2) الحجر: 21.
(3) الزمر: 75.
(4) الحاقة: 17.
(5) لعله اقتباس من قوله تعالى في سورة طه: 5: (الرحمن على العرش استوى).
328
نسب العلي الأعلى العرش إليه، فقال: (وهو رب العرش العظيم) (1).
ويمكن أن يقال: أن العرش كما في قوله: (ولها عرش عظيم) (2) هو كسرير
الربوبية الأعظم ومقر السلطنة الإلهية الحقة، وأن استيلاء الله سبحانه عليه بمعنى
استوائه واستيلائه على عالم الإمكان، أي (بيده ملكوت كل شئ) (3).
ويمكن أن يقال: أن العرش هو السقف الرفيع المحيط بعالم الملك والملكوت
والجنات الثمانية.
وعلى كل تقدير يثبت المطلوب من حيث الإحاطة.
فنقول: إن شرف المعلول يعرف من شرف العلة، وخلق العرش بتلك
العظمة يدل على عظمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي خلق العرش من نوره، وكل تلك
الإفاضات والبركات والخيرات والسعادات صدرت وظهرت من المعلول الأول
ليعلم أشرفيته وأفضليته وسبق وجوده على ما سواه، فالعرش محيط بالكرسي وما
دونه، وقد أعطى الله خاتم النبيين الإحاطة التامة، ودعاه إلى المقام المحمود (عسى
أن يبعثك ربك مقاما محمودا) (4) الذي يلي العرش، واستضافه ثلث ليلة في مقام
الأبرار (إن الأبرار لفي عليين) (5)، وأراه كل شئ «وأرني حقائق الأشياء كما
هي»، وكل ما خلقه لأجله بالباصرة الظاهرة، حتى لكأن العرش كل ما سوى الله.
والتعبير عن العرش بالسرير الذي يتربع عليه الملوك والسلاطين لإبراز



(1) التوبة: 129.
(2) النحل: 23.
(3) المؤمنون: 88.
(4) الإسراء: 79.
(5) المطففين: 18.
329
قدرتهم وإظهار سلطنتهم يشهد له قوله تعالى: (الرحمن على العرش استوى) (1).
فالله تعالى يتجلى أولا بالتجليات الحقة للعرش، وهو مظهر رحمانيته ثم
يتجلى ثانيا للكرسي وهو مظهر رحيميته.
وفي الحديث يغش العرش في كل يوم سبعون ألف ألف نور بألوان مختلفة (2)
والمقصود بالأنوار هي الإفاضات الإلهية التي تفاض عليه في كل آن لكمال
استعداده (صلى الله عليه وآله وسلم).
وبديهي أن ما خلق لأجل أمير المؤمنين وفاطمة والحسنين لا يبلغ في الشأن
والشرف حد العرش الأعظم، حتى الملائكة الذين يعتبرون الأفضل والأشرف في
عالم الجسمانيات، فهم بتمام طبقاتهم ودرجاتهم خلقوا من نور أمير المؤمنين، وهم
سكان عالم الملك والملكوت، والسماوات السبعة مساكنهم ومعابدهم كما أن
الأرض خلقت للنوع الإنساني، وشرف المحل من شرف الحال.
والملائكة رسل الله; لهذا اشتق اسمهم من «ألوكه» أي الرسالة، ويشهد
لذلك القرآن الكريم (جاعل الملائكة رسلا) (3) وبعضهم تمحض للعبادة فقط فلا
دخل لهم في التدبير والتصرف، ولا تعلق لهم بعالم آخر، لم يؤمروا بأمر سوى ما هم
فيه من الهيمان والنظر بوجل إلى العرش وما فوقه.
والإيمان بوجود الملائكة عامة في أي مرتبة ودرجة واجب، وعددهم غير
معلوم، والإحاطة بهم جميعا غير مقدورة، وشرف وجودهم من وجود



(1) طه: 5.
(2)
(3) فاطر: 1.
330
أمير المؤمنين ظاهر، ولم يخلق الله بعد العرش خلقا أشرف من الملائكة الذين زين
بهم السماوات.
فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل وأشرف من العرش، ونوره من نور الله، والعرش
أشرف الموجودات مما سوى الله، ونور سلطان الولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) من نور
الله، والملائكة من نوره، فهو أشرف من الملائكة، والملائكة أشرف من غيرهم.
وبعبارة أخرى: خلق العرش من نور النبوة فهو معلول لوجوده، وخلق
الملائكة من نور الولاية فهم معلولون لوجوده المسعود، والولاية باطن النبوة،
والنبي والولي من نور واحد، فالملائكة خلقوا من نور النبي أصلا ومصدرا.
ولهذا عبر أهل الاصطلاح عن وجود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعرش، وعن وجود
الولي بالكرسي، وجعلوا الكرسي تلو العرش، فشرف العرش والملائكة من
شرف وجودهما، ووجودهم من نور وجودهما.
ثم بعد مرتبة النبوة والولاية مرتبة الصديقين، وفاطمة الزهراء هي الصديقة
الكبرى، وهي منشأ كل بركة، ومنبع كل سعادة، ومصدر كل خير، ومحل كل
فيض، وأفضل قابل لإفاضات النبوة وإشراقات الولاية.
ولما كان وجود التناسب بين العلة والمعلول والمشتق والمشتق منه واجبا،
وكانت فاطمة الزهراء (عليها السلام) في الإستفاضة من المبدأ وامتثال الأمر والتسليم في محل
القبول; لذا صارت معلولات وجودها أيضا محال البركات ومعادن الطاعات
ومعابد الأملاك ومساجد سكان الأرض.
ولذا جعل الله السماوات والأرضين في ذيل ذينك المقامين مباشرة، أي بعد
العرش والكرسي - وهما رتبة النبوة ودرجة الولاية - بلا فصل ولا حائل، ثم جعل

331
الشمس والقمر الآيتين الساطعتين في قلب السماوات من نور المجتبى، ثم جعل
السماوات السبع فوق الجنان الثمانية - وهي مظاهر الرحمة الأحدية - من النور
الساطع لسيد المظلومين والرحمة الإلهية الواسعة، كل ذلك ليرتبط كل معلول بعلته
ولا ينفك أحدهما عن الآخر.
أما حديث إرشاد القلوب الذي يقول: إن السماوات خلقت من نور
أمير المؤمنين (عليه السلام)، فهو يحكي اتحادهما مع الملائكة مع أن الملائكة أشرف وأفضل
من السماوات، وإنما خلقت السماوات مستقرا وقرارا لها، والملائكة أجسام لطيفة
نورانية منسوبة لأحد الأنوار الخمسة لا للسماوات.
نعم; المهم بل الضروري أن يقال: أن الملائكة خلقت من نور سلطان
الولاية، وأن السماوات والأرض خلقت من نور سيدة نساء الأولين والآخرين مع
ملاحظة أشرفية الحال على المحل، وأفضلية الأمير (عليه السلام) على بضعة النبي المختار،
وهو أولى وأقوى.
كانت هذه إشارة إجمالية وعبارات كلامية موجزة في علة خلق هذه
الأقسام الخمسة من المخلوقات من العالي إلى الداني من الأنوار المقدسة للخمسة
الطيبة الطاهرة عليهم السلام. ولطالما بحثت في كتب الأحاديث والأخبار فلم أجد
عللا وحكما منصوصة في هذا الباب.
كلمة طريفة
ورد في خبر «إرشاد القلوب» و «البحار» و «مصباح الأنوار»: إن الملائكة
فزعت - من الظلمة - ودعت الله أن يكشفها عنهم، فخلق الله قنديل أو قناديل من

332
نور الزهراء الزاهر، وعلقها بالعرش فانكشفت الظلمة، ولذا سميت فاطمة الزهراء
بالزهراء.
فما هي علة إيجاد الظلمة؟ ولماذا فزع الملائكة من مشاهدتها؟ وما هي
الغشاوة التي اعترتهم منها؟
الجواب:
ذكروا في علة ذلك وجهين:
الوجه الأول: إن الجلوة الزهرائية حصلت في السماوات العلوية ليعرفها
سكان الأفلاك، ويعرفوا حقيقة معدن العصمة والطهارة، ويعلم الملائكة مفزعهم
في المهالك الموحشة والمخاوف المفزعة، فيتمسكوا بأذيالها ويتشبثوا بها، ويعلموا
أن فاطمة وسيلتهم في رفع الحاجات والقوة على الطاعات وقبول العبادات.
إن السماوات معلولة لوجود فاطمة، وتلك المساكن الرفيعة مخلوقة من
نورها، فلا بد للمستورة الكبرى أن تعرف نفسها لهم وتظهر نفسها لأنظار سكان
السماوات بنورانيتها.
الوجه الثاني: إن هذا التجلي الخاص خاص بشيعة فاطمة (عليها السلام)، ليعرف
الشيعة أن نجاتهم في الدنيا والآخرة من كل ورطة، وخلاصهم من كل بلاء
وشديدة، وهدايتهم في كل تيه وظلمة بمحبتها، فالطريق منحصر، والدليل
موصل، وشفاعة المحبوبة فاطمة الزهراء (عليها السلام) مقبولة بلا شك...
وهذه الإفاضات تنزل علينا من العالم الأعلى، بواسطة الملائكة فنفوز بهذه
الهداية وهذا الرشاد والسداد.
نرجو الله أن يزيد - يوما فيوما - في ولايتنا - معاشر الشيعة - ومراتب محبتنا
ومودتنا، وأن يرفع غشاوة ظلمة الذنوب عن أبصارنا إن شاء الله تعالى.

333
الخصيصة الثالثة من الخصائص الخمسة
من أي شئ خلقت النطفة الطاهرة الطيبة
لفاطمة الزكية؟
إعلم (1) إن للإنسان وجهتين: وجهة إلى عالم الأمر ووجهة إلى عالم الخلق،
وهما متغايرتان تمام المغايرة.
فعالم الأمر آني وعالم الخلق تدريجي، وعالم الأمر لا مادة فيه ولا مدة، وعالم
الخلق لا يكون بدونهما، وعالم الخلق عالم الجسمانيات وعالم الأمر ليس كذلك.
أي أن لكل إنسان روحا وبدنا، والروح من عالم الأمر والبدن من عالم
الخلق، والأول من عالم الطهارة والثاني من عالم التراب، والترابي مركب
ومحسوس، وما كان من عالم الطهارة لا مركب ولا محسوس، والترابي ظلماني
والثاني نوراني، والأول معروف والثاني لا يمكن معرفته، والأول فاني والثاني باقي.
وعلى أية حال، فلكل حرف ظرف ولكل روح قالب. وفي الكافي وغيره روايات
معتبرة تقول: إن أرواح الأنبياء والأئمة الأبرار من عباد الله تختلف تمام الإختلاف



(1) في هذه الخصيصة أخبار وروايات كثيرة أعتذر عن نقلها جميعا وأقتصر على العمومات المستفادة من
الآيات. (من المتن)
334
عن الآخرين من الرعايا بنورانيتها وطهارتها، وهي خارجة عن حدنا ووصفنا
نحن الجهلة، وكيف نعرف حقيقة أرواحهم ونحن عاجزون عن معرفة حقيقة
أرواحنا مع أن روح القدس روح من أرواحهم؟!
وفي الحديث الصحيح أن أرواح أئمة الهدى خلقت من فوق العرش وأبدانهم
خلقت من العرش (1).
وفي كتاب بصائر الدرجات عن الصادق (عليه السلام): خلقنا من عليين وخلق
أرواحنا من فوق ذلك، وخلق أرواح شيعتنا من عليين، وخلق أجسادهم من
دون ذلك، فمن أجل تلك القرابة بيننا وبينهم قلوبهم تحن إلينا (2).
وفيه عنه (عليه السلام): «خلقنا الله من نور عظمته، ثم صور خلقنا من طينة مخزونة
مكنونة من تحت العرش، فأسكن ذلك النور فيه، فكنا نحن خلقنا نورانيين لم يجعل
لأحد في مثل الذي خلقنا منه نصيبا، وخلق أرواح شيعتنا من أبداننا، وأبدانهم
من طينة مخزونة مكنونة أسفل من ذلك الطينة، ولم يجعل الله لأحد في مثل ذلك
الذي خلقهم منه نصيبا إلا الأنبياء والمرسلين، فلذلك حدنا نحن وهم الناس،
وصار سائر الناس همجا في النار وإلى النار» (3).
والخلاصة: إن من نظر في أخبار الطينة وما يتعلق بعليين وسجين والأبرار
والفجار، علم أن الأرواح المقدسة والأبدان المطهرة للأنبياء والمعصومين والأئمة
الطاهرين تختلف تماما عن غيرهم، وأن قوالبهم الجسمانية أسفل من نورهم، وأن



(1) بحار الأنوار 25 / 13 ح 26 ب 1; و 61 / 43 ح 20 ب 42.
(2) بصائر الدرجات 19 جزء 1 ح 1.
(3) بصائر الدرجات 20 جزء 1 ح 3.
335
أرواحهم أعلى من عالي الجسمانيات، وأبدانهم أفضل وأعلى من كل الأبدان.
فبدن الإمام من عالم الملك والخلق والجسمانيات، وهو بخلاف عالم الأمر
والنور، حيث يحتاج إلى مادة ويتطلب طينة أصلية، ويحكم بالتدرج، مثله مثل
الحبة التي تزرع في التراب فتبلغ القدر المقدور بمرور الأيام والأعوام والدهور،
فتشق الأرض وتنتشر إلى داخل التربة جذرا، وإلى فوقها ساقا وجذعا، ثم تتفرع
منها الغصون والأوراق وتزهر ثم تثمر، كما هو الحال في خلقة الإنسان حيث
يتدرج من رتبة إلى رتبة، وينقل من صورة إلى صورة ومن شكل إلى شكل، من
نطفة وعلقة ومضغة، ثم تكتمل الصورة فينبت العظم ويكسى اللحم وتلجه الروح
من عالم الأمر، ويخرج في الوقت المعلوم من مشيمة الرحم إلى هذا العالم.
فلا بد أن نقول بوجود الطينة الأصلية لتلك الأجساد الملكية والأبدان
السماوية، ونستشهد لذلك بما ورد عنهم، وأغلب ما ورد عنهم تجده في الكافي
وبصائر الدرجات ومنها ما في البصائر - وسننقل موضع الحاجة -:
أنزل الله قطرة من ماء تحت العرش إلى الأرض فيلقيها على ثمرة أو على بقلة
فيأكل الإمام (عليه السلام) تلك الثمرة أو تلك البقلة ويخلق الله منه نطفة الإمام الذي يقوم من
بعده قال: فيخلق الله من تلك القطرة نطفة في الصلب، ثم يصير إلى الرحم فيمكث
فيها أربعين ليلة... إلى آخر الحديث (1).
أيضا: إذا أراد أن يحبل بإمام، أوتي بسبع ورقات من الجنة فأكلهن قبل أن
يقع فإذا وقع في الرحم سمع الكلام في بطن أمه.. الخ (2).



(1) البحار 25 / 39 ح 8 باب 2 عن بصائر الدرجات عن الصادق (عليه السلام).
(2) البحار 25 / 41 ح 15 باب 2 عن بصائر الدرجات عن الصادق (عليه السلام).
336
وأيضا في البصائر قال: إنه لما كان في الليلة التي علق بجدي فيها أتى آت جد
أبي وهو راقد، فأتاه بكأس فيها شربة أرق من الماء، وأبيض من اللبن، وألين من
الزبد، وأحلى من الشهد، وأبرد من الثلج فسقاه إياه وأمره بالجماع، فقام فرحا
مسرورا.. الخ (1)
والأخبار في انعقاد نطفة الأئمة الأطهار متواترة، ولا يجوز إنكارها مع صحة
أسانيدها ورواتها.
والآن نعود إلى المقصود في بيان نطفة الطاهرة الزكية المطهرة أم الأئمه البررة
فاطمة الزهراء صلوات الله عليهم أجمعين:
فهل هي قطرة ماء من تحت العرش؟
أو شربة شربها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من أعالي الجنان؟
أو فاكهة تناولها من فاكهة الجنة؟
وفي البحار ستة أمور تصلح للجواب:
الأول:
روي بطريق معتبر أن نطفتها الطاهرة خلقت من تفاح الجنة، وهذه الأخبار
تنقسم إلى طائفتين:
الطائفة الأولى: الأحاديث التي تفيد أن النبي أكل التفاحة في السماء، كما في
حديث المعراج المروي في علل الشرائع للصدوق (رحمه الله) (2).
الطائفة الثانية: الأحاديث التي تفيد أن جبرئيل هبط على النبي وأهدى إليه



(1) البحار 25 / 43 ح 17 باب 2 عن بصائر الدرجات عن الصادق (عليه السلام) والحديث طويل.
(2) علل الشرائع 1 / 183 ح 1 ب 147.
337
تفاحة فأكلها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في الأرض، كما في معاني الأخبار والعلل - وننقلها
تيمنا وتبركا -:
عن سدير الصيرفي، عن أبي عبد الله، عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خلق نور فاطمة (عليها السلام) قبل أن يخلق الأرض والسماء.
فقال بعض الناس: يا نبي الله! فليست هي إنسية؟
فقال: فاطمة حوراء إنسية.
قالوا: يا نبي الله! وكيف هي حوراء إنسية؟
قال: خلقها الله - عز وجل - من نوره قبل أن يخلق آدم إذ كانت الأرواح،
فلما خلق الله عز وجل آدم عرضت على آدم.
قيل: يا نبي الله! وأين كانت فاطمة؟
قال: كانت في حقة تحت ساق العرش.
قالوا: يا نبي الله فما كان طعامها؟
قال: التسبيح والتقديس والتهليل والتحميد، فلما خلق الله عز وجل آدم
وأخرجني من صلبه وأحب الله - عز وجل - أن يخرجها من صلبي، جعلها تفاحة
في الجنة وأتاني بها جبرائيل (عليه السلام) فقال لي: السلام عليك ورحمة الله وبركاته يا محمد!
قلت: وعليك السلام ورحمة الله حبيبي جبرئيل.
فقال: يا محمد! إن ربك يقرئك السلام.
قلت: منه السلام وإليه يعود السلام.
قال: يا محمد! إن هذه تفاحة أهداها الله عز وجل إليك من الجنة، فأخذتها
وضممتها إلى صدري.

338
قال: يا محمد! يقول الله جل جلاله: كلها، ففلقتها فرأيت نورا ساطعا
وفزعت منه.
فقال: يا محمد! مالك لا تأكل؟ كلها ولا تخف، فإن ذلك النور للمنصورة في
السماء وهي في الأرض فاطمة.
قلت: حبيبي جبرئيل ولم سميت في السماء المنصورة وفي الأرض فاطمة؟
قال: سميت في الأرض فاطمة لأنها فطمت شيعتها من النار وفطم أعداؤها
عن حبها، وهي في السماء المنصورة; وذلك قول الله عز وجل (ويومئذ يفرح
المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء) (1) يعني نصر فاطمة لمحبيها (2).
وفي هذا المضمون رواية أخرى في العلل عن جابر بن عبد الله عن الباقر (عليه السلام);
قال: «قيل: يا رسول الله! إنك تلثم فاطمة وتلزمها وتدنيها منك وتفعل بها ما لا
تفعله بأحد من بناتك؟ فقال: إن جبرئيل (عليه السلام) أتاني بتفاحة من تفاح الجنة فأكلتها
فتحولت ماء في صلبي، ثم واقعت خديجة فحملت بفاطمة، فأنا أشم منها رائحة
الجنة» (3).
الثاني:
في البحار عن تفسير فرات بن إبراهيم معنعنا عن الصادق (عليه السلام) قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): معاشر الناس! تدرون لما خلقت فاطمة؟
قالوا: الله ورسوله أعلم.



(1) الروم: 4 - 5.
(2) البحار 43 / 4 ح 3 باب 1 عن معاني الأخبار:
(3) البحار 43 / 5 ح 4 باب 1 عن علل الشرائع: 1 / 217 ح 1 باب 147.
339
قال: خلقت فاطمة حوراء إنسية لا إنسية. وقال: خلقت من عرق جبرئيل
ومن زغبه.
قالوا: يا رسول الله! استشكل ذلك علينا، تقول: حوراء إنسية لا إنسية ثم
تقول: من عرق جبرئيل ومن زغبه؟
قال: إذا أونبئكم: أهدى إلي ربي تفاحة من الجنة أتاني بها جبرئيل (عليه السلام)،
فضمها إلى صدره، فعرق جبرئيل (عليه السلام) وعرقت التفاحة، فصار عرقهما شيئا واحدا
ثم قال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. قلت: وعليك السلام يا
جبرئيل. فقال: إن الله أهدى إليك تفاحة من الجنة، فأخذتها وقبلتها ووضعتها
على عيني وضممتها إلى صدري، ثم قال: يا محمد! كلها. قلت: يا حبيبي يا
جبرئيل! هدية ربي تؤكل؟ قال: نعم قد أمرت بأكلها، فأفلقتها فرأيت منها نورا
ساطعا ففزعت من ذلك النور; قال: كل فإن ذلك نور المنصورة فاطمة. قلت: يا
جبرئيل! ومن المنصورة؟ قال: جارية تخرج من صلبك، واسمها في السماء
المنصورة وفي الأرض فاطمة... إلى آخر الحديث (1).
قال العلامة المجلسي (رحمه الله): الزغب: الشعيرات الصغرى على ريش الفرخ
وكونها من زغب جبرئيل، إما لكون التفاحة فيها وعرقت من بينها، أو لأنه
التصق بها بعض ذلك الزغب فأكله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (2).
الثالث:
في البحار عن تفسير علي بن إبراهيم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «كان رسول



(1) البحار 43 / 18 ج 17 باب 2 عن تفسير فرات الكوفي:
(2) البحار 43 / 18 ح 17 باب 2.
340
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يكثر تقبيل فاطمة (عليها السلام) فأنكرت ذلك عائشة. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا
عائشة! إني لما أسري بي إلى السماء دخلت الجنة فأدناني جبرئيل من شجرة طوبى
وناولني من ثمارها، فأكلته فحول الله ذلك ماء في ظهري، فلما هبطت إلى الأرض
واقعت خديجة فحملت بفاطمة فما قبلتها قط إلا وجدت رائحة شجرة طوبى
منها» (1).
ولم يحدد في هذا الحديث ما هي شجرة طوبى؟
الرابع:
في علل الشرائع عن ابن عباس قال: دخلت عائشة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
وهو يقبل فاطمة فقالت له: أتحبها يا رسول الله؟ قال: «أما والله لو علمت حبي لها
لازددت لها حبا; إنه لما عرج بي إلى السماء الرابعة أذن جبرئيل وأقام ميكائيل ثم
قيل لي: أدن يا محمد! فقلت: أتقدم وأنت بحضرتي يا جبرئيل؟ قال: نعم إن الله
عز وجل فضل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين، وفضلك أنت خاصة،
فدنوت فصليت بأهل السماء الرابعة، ثم التفت عن يميني فإذا أنا بإبراهيم (عليه السلام) في
روضة من رياض الجنة وقد اكتنفها جماعة من الملائكة.
ثم إني صرت إلى السماء الخامسة ومنها إلى السادسة، فنوديت: يا محمد! نعم
الأب أبوك إبراهيم، ونعم الأخ أخوك علي، فلما صرت إلى الحجب أخذ
جبرئيل (عليه السلام) بيدي فأدخلني الجنة، فإذا أنا بشجرة من نور في أصلها ملكان يطويان
الحلل والحلي، فقلت: حبيبي جبرئيل لمن هذه الشجرة؟ فقال: هذه لأخيك علي
بن أبي طالب (عليه السلام) وهذا الملكان يطويان له الحلي والحلل إلى يوم القيامة.



(1) البحار 43 / 6 ح 6 باب 1 عن تفسير علي بن إبراهيم:
341
ثم تقدمت أمامي، فإذا أنا برطب ألين من الزبد وأطيب رائحة من المسك
وأحلى من العسل، فأخذت رطبة فأكلتها، فتحولت الرطبة نطفة في صلبي، فلما
أن هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة، ففاطمة حوراء إنسية، فإذا
اشتقت إلى الجنة شممت رائحة فاطمة (عليها السلام)» (1).
وروى بهذا المضمون في الأمالي والعيون مختصرا.
وفي كتاب فضائل السادات عن الفصل الخامس من مناقب الخوارزمي في
فضائل فاطمة عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لما أن مات ولدي من خديجة، أوحى الله إلي أن أمسك عن خديجة،
وكنت لها عاشقا، فسألت ألله أن يجمع بيني وبينها، فأتاني جبرئيل في شهر رمضان
ليلة جمعة لأربع وعشرين ومعه طبق من رطب الجنة فقال لي: يا محمد! كل هذا
وواقع خديجة الليلة، ففعلت فحملت بفاطمة، فما لثمت فاطمة إلا وجدت ريح ذلك
الرطب، وهو في عترتها إلى يوم القيامة (2). وهذه منقبة عظيمة لفاطمة الطاهرة
وذريتها المطهرة.
وفي الحديث تعيين ليلة انعقاد نطفتها، وهي ليلة أربع وعشرين من شهر
رمضان، ولهذه الليلة شرف عظيم، وعليه تكون ولادتها في جمادي الآخرة، ولم
أجد هذه الإشارة في حديث آخر.
الخامس:
في عيون المعجزات عن حارثة بن قدامة عن سلمان عن عمار في حديث



(1) البحار 43 / 5 ح 5 باب 1 عن علل الشرائع: 1 / 218 ح 2 باب 147.
(2) مقتل الحسين 1 / 68 الفصل الخامس.
342
يأتي في باب علم فاطمة، وننقل الآن منه موضع الحاجة:
قالت فاطمة: إعلم يا أبا الحسن أن الله تعالى خلق نوري وكان يسبح الله
جل جلاله، ثم أودعه شجرة من شجر الجنة فأضاءت، فلما دخل أبي الجنة أوحى
الله تعالى إليه إلهاما، أن اقتطف الثمرة من تلك الشجرة وأدرها في لهواتك، ففعل
فأودعني الله سبحانه صلب أبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم أودعني خديجة بنت خويلد فوضعتني،
وأنا من ذلك النور، أعلم ما كان وما يكون وما لم يكن. يا أبا الحسن! المؤمن ينظر
بنور الله تعالى (1).
وليس في الحديث الشريف ذكر لثمرة أو شجرة معينة كما أن حديث شجرة
طوبى لم يعين الثمرة.
السادس:
حديث الرطب والعنب: روى المرحوم المجلسي - غفر الله له وأعطاه ما ناله -
في المجلد السادس من بحار الأنوار مرسلا، وفي كتاب حياة القلوب، وهو حديث
شريف ذو أسرار، أنقله بعينه ليؤجر عليه القارئ المحب ويثاب:
روي: بينا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جالس بالأبطح ومعه عمار بن ياسر والمنذر بن
الضحضاح وأبو بكر وعمر وعلي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وحمزة بن
عبد المطلب، إذ هبط عليه جبرئيل (عليه السلام) في صورته العظمى قد نشر أجنحته حتى
أخذت من المشرق إلى المغرب، فناداه: يا محمد! العلي الأعلى يقرأ عليك السلام
وهو يأمرك أن تعتزل عن خديجة أربعين صباحا، فشق ذلك على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وكان لها محبا وبها وامقا.



(1) البحار 43 / 8 ح 11 باب 1 عن عيون المعجزات.
343
قال: فأقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعين يوما يصوم النهار ويقوم الليل، حتى إذا كان
في آخر أيامه تلك بعث إلى خديجة بعمار بن ياسر وقال: قل لها: يا خديجة! لا
تظني أن إنقطاعي عنك هجرة ولا قلى، ولكن ربي عز وجل أمرني بذلك لتنفذ
أمره، فلا تظني يا خديجة إلا خيرا فإن الله عز وجل ليباهي بك كرام ملائكته كل
يوم مرارا، فإذا جنك الليل فأجيفي الباب وخذي مضجعك من فراشك، فإني في
منزل فاطمة بنت أسد، فجعلت خديجة تحزن في كل يوم مرارا لفقد رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما كان في كمال الأربعين هبط جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا محمد! العلي الأعلى
يقرئك السلام وهو يأمرك أن تتأهب لتحيته وتحفته.
قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا جبرئيل! وما تحفة رب العالمين؟ وما تحيته؟
قال: لا علم لي.
قال: فبينا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك إذ هبط ميكائيل ومعه طبق مغطى بمنديل
سندس، أو قال: استبرق، فوضعه بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأقبل جبرئيل (عليه السلام) وقال:
يا محمد! يأمرك ربك أن تجعل الليلة إفطارك على هذا الطعام.
فقال علي بن أبي طالب (عليه السلام): كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أراد أن يفطر أمرني أن أفتح
الباب لمن يرد إلى الإفطار، فلما كان في تلك الليلة أقعدني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على باب
المنزل وقال: يابن أبي طالب، إنه طعام محرم إلا علي. قال علي (عليه السلام): فجلست على
الباب وخلا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالطعام وكشف الطبق، فإذا عذق من رطب وعنقود من
عنب، فأكل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منه شبعا، وشرب من الماء ريا، ومد يده للغسل فأفاض
الماء عليه جبرئيل وغسل يده ميكائيل وتمندله إسرافيل، وارتفع فاضل الطعام مع
الإناء إلى السماء، ثم قام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليصلي فأقبل عليه جبرئيل وقال: الصلاة

344
محرمة عليك في وقتك حتى تأتي إلى منزل خديجة فتواقعها، فإن الله عز وجل آلى
على نفسه أن يخلق من صلبك في هذه الليلة ذرية طيبة، فوثب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى
منزل خديجة.
قالت خديجة رضوان الله عليها: وكنت قد ألفت الوحدة، فكان إذا جنني
الليل غطيت رأسي، وأسجفت ستري، وغلقت بابي، وصليت وردي، وأطفأت
مصباحي، وآويت إلى فراشي، فلما كان في تلك الليلة لم أكن بالنائمة ولا بالمنتبهة،
إذ جاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقرع الباب، فناديت: من هذا الذي يقرع حلقة لا يقرعها إلا
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
قالت خديجة: فنادى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعذوبة كلامه وحلاوة منطقه: إفتحي يا
خديجة فإني محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
قالت خديجة: فقمت فرحة مستبشرة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفتحت الباب ودخل
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المنزل، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا دخل المنزل دعا بالإناء فتطهر للصلاة ثم يقوم
فيصلي ركعتين يوجز فيهما ثم يأوي إلى فراشه، فلما كان في تلك الليلة لم يدع بالإناء
ولم يتأهب للصلاة، غير أنه أخذ بعضدي وأقعدني على فراشه وداعبني ومازحني
وكان بيني وبينه ما يكون بين المرأة وبعلها، فلا والذي سمك السماء وأنبع الماء ما
تباعد عني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى حسست بثقل فاطمة في بطني.
إنظر ما أعذب كلامها وأحلى منطقها وأرق عاطفها ومحبتها سيما في العبارة
الأخيرة من قولها «إنه أخذ بعضدي...».

345
بيان لأهل البيان
بين (عليه السلام) أن النطفة الطاهرة للمخدرة الكبرى خلقت من تفاح الجنة، ومن
تفاحها المتعرق الممزوج بعرق جبرئيل وزغبه، ومن رطب الجنة، ومن ثمار الجنة،
ومن ثمار شجرة طوبى، ومن الرطب والعنب والماء الذي جيء به من الجنة، ولا
تعارض بين هذه الأخبار، حيث أن السيدة فاطمة (عليها السلام) ولدت بعد المعراج بثلاث
سنين، ولا يبعد أن يكون النبي قد تناول التفاح والرطب وثمارا أخرى ليلة
المعراج، ولما عاد إلى الأرض أكرم بتحفة الرب إكراما وإعظاما وتلبية لرغبة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تناول ثمار الجنة، فأهدى له منها بعد المعراج أيضا.
وعدم التنافي بين الأخبار واضح جدا لمن كان له ممارسة في أخبار أهل بيت
العصمة (عليهم السلام).
وينبغي التوقف عند الخبر الأخير، لما فيه من دلالة على عظمة الزهراء
وعلو شأنها ومكانتها حيث سيتضح للمتأمل:
أولا: تجلي جبرئيل بصورته الأصلية، وقد تجلى للنبي في موضعين آخرين:
أحدهما في غار حراء يوم المبعث، على ما روي، والآخر ليلة المعراج بمفاد قوله
(ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى) (1). وفي هذا دليل على عظمة مهمته
وجلالة الأمر الذي جاء به، وهو انعقاد النطفة الطاهرة لفاطمة المطهرة.
ثانيا: التعبد بصيام وقيام أربعين يوم وليلة، وإعتزال الخلق، وهجران
فراش خديجة، وفي هذا دليل على شرف عدد الأربعين، وتشديد الشوق والميل



(1) النجم: 13 - 14.
346
الطبيعي للسيدة خديجة والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وبعبارة أخرى: إن من لوازم مقتضيات الطبيعة البشرية أن يكون البعد
والإعتزال مقويا لانعقاد النطفة الزكية، خصوصا مع ملاحظة ارتياض المولى
رياضة تكسر الشهوات وتكدر اللذات، حتى حصل الاستعداد لقبول الهدية
السماوية والعطية العلوية، لئلا يقع القصور والفتور بعد الرياضة النفسانية في عملية
توديع تلك الوديعة الإلهية.
ثالثا: إن هذا النوع من الرياضة والإعتزال كرامة وتكريم للحامل
والمحمول، وإبراز لانتظار الوصول للمأمول، وأي مقصود ومأمول أشرف
وأفضل عند الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من القدوم البهيج لفاطمة البتول التي كان يتمنى رؤيتها
ويتطلع إلى إيناع هذه الثمرة عن هذه الشجرة، ويفوز بلقاءها الحبيب.
رابعا: نزول الملائكة المقربين الثلاثة، خصوصا إسرافيل، حيث لم ينزل قط
سوى تلك المرة مصحوبا بالتشريفات الخاصة من السندس والإبريق والمنديل
وعنقود العنب والتمر والماء في طبق من الجنة، كل ذلك كرامة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإكراما
لفاطمة، حيث أنزلت تلك العطايا والهدايا يحملها كبار سكان الملأ الأعلى وهم
يفتخرون ويتباهون بإبلاغ البشارة العظمى.
خامسا: ترك الصلاة تلك الليلة والتعجيل بالمضاجعة إشارة إلى أهمية الأمر
وفوريته، فأمر بالتعجيل لئلا يقع قصور أو خلل في إنجاح المهمة وإنجاز المرام، أو
يقع التعلل والمسامحة في أمر الله، وكأن التعجيل بهذا العمل من أجل تنجيز الأمر
الإلهي.
سادسا: إن تعدد ثمار الجنة من تفاح، ورطب، وعنب وغيرها، إشارة

347
للآثار الخاصة التي أودعها الله في كل واحدة منها، فأكل كل ثمرة يؤثر أثرا خاصا
في الملكات الكريمة في النطفة الإنسانية المودعة، وإن كانت ثمار الجنة تحتوي على
جميع اللذات والنعم في آن واحد، ويمكن أن تنال ما تشاء في الثمرة الواحدة، يعني
أنك تجد في التفاح حلاوة الرطب.
ويمكن أن يقال أن التفاح والعنب والرمان والرطب من الجنة هو نفس نور
فاطمة الزهراء، ولكنه تلبس بهذا اللباس في عالم الملك، كما في الخبر المعتبر في
البحار، وهذا يعني أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) تناول النور الفاطمي مجسما، فصار مظهرا للنور على
النور، وهو الذي مدخله نور ومخرجه نور وطعامه نور، وكلامه نور، وهو على
نور من ربه (1)، ولذا قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إن هذا الطعام حرام على غيري، وشاهد النور في
بطن خديجة بعد المواقعة مباشرة، وعلى ما هو المعلوم فإن ما ينزل من عالم
الملكوت إلى عالم الملك يلبس لباسا آخرا يناسب عالم الملك لضيقه وصغره وعدم
استعداده، وإثبات هذا الأمر واضح بين.
سابعا: إحساس خديجة (عليها السلام) بالحمل فورا خلافا للمعتاد بين النساء، وفي
ذلك خصيصة عظمى وعلى حياة تلك النطفة المباركة في البداية والنهاية، لأنها
نطفة قادمة من دار الحيوان. وفي الحديث أنها كانت كالإمام تسمع وترى بعد يوم
واحد من انعقاد نطفتها في رحم الأم خديجة (عليها السلام).
بيان آخر
والآن; لا بأس أن تعرف ما معنى أكل الرسول عرق جبرئيل وزغبه؟!



(1) انظر البحار 4 / 17 ح 5 باب 3.
348
إعلم: أن الجنة دار الحيوان ودار الله ومحل الرضوان، وكل ما فيها من
أشجار وأثمار وأنهار وغيرها منسوب إلى الله، وجميع سكانها هم أهل الله وخيرته
من خلقه وزبدة عبيده، كما أن الثمرة خلاصة الشجرة وعصارتها، وجبرئيل خير
أهل الملكوت وخلاصتهم وعصارتهم، وعرق كل شئ أصفى منه، وكأنه عصارة
ذلك الشئ وخلاصته وجوهره.
وفي الحديث إشارة إلى أن فاطمة (عليها السلام) خلقت من خلاصة دار الله وعصارة
دار الحيوان، حيث أفيضت عليها الحياة الأبدية التي لا ممات فيها ولا فناء، بل هي
حياة خالدة سرمدية، وقد ذكرت كتب الأخبار حديث وداعها للحسنين حينما
ألقوا بنفسيهما على بدنها فمدت باعها وأخرجت يديها من الكفن واحتضنتهما.
والخلاصة: إن هذا النحو من التكوين خاص بوجودها المقدس وليس
لأحد هذا الشرف منذ أن أسكن آدم وحواء في هذه الدار.
أنبياء از جنس روحند و ملك * مر ملك را جذب كردند از فلك (1)
وخير لنا أن نبسط البيان فنقول: لم ير أحد جبرئيل بالعين الظاهرة في زمن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سواه، وإنما كان رسول الله يراه بعينه النبوية لتجانسهما وتسانخهما وعدم
مغايرتهما في صفاء الجسمانية ومقتضى النورانية، ولأنهما من مبدأ واحد ومشتقان
من مادة واحدة، ولا خلاف في اتصال نورهما وارتباط وجودهما.
وكذلك كان نور فاطمة الزهراء (عليها السلام)، الذي تجسد في صورة التفاحة من
الجنة، متحدا مع الذات النبوية المقدسة، وكان الحامل والمحمول والآكل والمأكول
في غاية التلائم والتناسب.



(1) يقول: الأنبياء خلقوا من جنس الروح، والملك متجاذب مع الملك في هذا الكون.
349
وجبرئيل الأمين (عليه السلام) هو خلاصة سكان الملكوت الأعلى، وجسمه اللطيف
غير الأجسام الترابية الظلمانية، وهو رشحة من رشحات الذات المقدسة النبوية،
غير أنه كان إذا توجه إلى هذا العالم لبس كسوة تناسب هذا العالم، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
يراه بهذا الكسوة، فإذا أبلغ الوحي ورجع إلى مقره الأصلي خلع عنه تلك الكسوة
وعاد إلى ما كان عليه.
والآن نسأل: من أين كان عرق جبرئيل؟ هل كان من بدنه الأصلي أم من
بدنه المستعار؟
من المعلوم أن التعرق من لوازم هذا العالم وهذا البدن العنصري، فلا يبعد أن
يقال: أن عرق جبرئيل كان من بدنه الملكي مع بقاء كون بدنه غير الأبدان
العنصرية الظلمانية.
وإن قيل: إن عرقه كان من بدنه الأصلي، فقد يقال: أن ذاك البدن لا يعرق،
وكل عاقل يعلم أن إدراك حقيقة جبرئيل لا تسعها عقولنا، فكيف نتصور عرقه؟
وكذلك القول في زغبه وجناحه، حيث أن عالم البدن الأصلي لجبرئيل لا زغب فيه
ولا جناح.
ومن هنا يعلم أن نور فاطمة كان في صورة تفاحة الجنة حقيقة، وإنما
تصورت بهذه الصورة لتناسب مذاق روح روح العالمين، وتكون مادة لتلك النطفة
الزكية.
والتعرق من مقتضيات الحركة والحرارة، والمحرك هنا المحبة، حيث ضمها
جبرئيل كما تضم الروح العزيزة، وألصق تلك العطية السماوية والهدية العلية بصدره
حتى امتزج بها عرقه وزغبه اللطيف، وناولها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فوضعها على عينه

350
وضمها إلى صدره إعظاما لهدية الله ومحبة لكرامة الله، ثم استئذن جبرئيل وتناولها.
ولا يقدر أحد قط على تصور حالة النشاط والسرور والانبساط التي
عاشها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجبرئيل في تلك اللحظة.
أما جبرئيل: فلأنه كان حاملا لذلك النور الموفور السرور، وأنه رد الوديعة
الإلهية وأدى الأمانة، ويشهد لبالغ سروره شدة التزامه وضمه إياها إلى صدره،
وهو تعبير عن شدة الحب.
وأما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): فقد سر لهذا العطاء والكوثر الكثير، لما امتن به الله عليه
وأراه ثمرة شجرة وجوده وحاصل عمره، واسترد وديعته المنيفة حيث تناولها من
يد الحق، فعاد النور إلى النور ورجعت تلك اللطيفة الإلهية إلى مقرها الأصلي،
وصار صلب النبي الأطهر (صلى الله عليه وآله وسلم) مقرا لذلك النور المطهر.
وأما زغب جبرئيل فكأنه تعويذ وحرز لحفظ روح قدوة آل الخليل (عليه السلام)،
وقد ورد نظيره في البصائر والبحار من تعويذ فاطمة (عليها السلام) الحسن والحسين (عليهما السلام)
بزغب جبرئيل حيث جمعته وشدته بساعديهما (1).
وأيضا عن الصادق (عليه السلام) أنه كان يجمع بيده المبارك من حجرته الشريفة ما
يتناثر فيها من زغب الملائكة (2).
وأما إذا قلنا: أن زغب جبرائيل كان من جسده الأصلي، فلا يسعنا إلا أن
نقول: إنها الإفاضات والبركات الخاصة.



(1) البحار 43 / 263 ح 9 باب 12.
(2) انظر البحار 26 / 353 ح 8 باب 9 وفيه: عن الثمالي قال: دخلت على علي بن الحسين (عليه السلام) فاحتبس في
الدار ساعة، ثم دخلت عليه البيت وهو يلتقط شيئا وأدخل يده في وراء الستر فناوله من كان في البيت،
فقلت: جعلت فداك هذا الذي أراك تلتقط أي شئ؟ فقال: فضلة من زغب الملائكة نجمعه إذا جاؤنا....
351
ويعد نزول الملائكة إلى الأرض رحمة وبركة للعالمين، ونزولهم على بيت، أو
أهل بيت، بركة على بركة، سيما إذا كان النازل جبرئيل الأمين إمام الملائكة وحامل
الوحي شديد القوى، الذي كان ينزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بآلاف الفيوضات المعنوية
والفواضل الروحانية البهيجة، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يغتنم رحمة قدومه ويتلطف إليه تلطفا خاصا.
وعليه: فالمراد من زغبه وعرقه الألطاف الخاصة والأفضال المختصة التي
كان يفيضها مفيض الخير والجود على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الجليل بواسطة جبرئيل (عليه السلام).
وبعبارة أخرى: إن قسما من أقسام نور وجود جبرئيل (عليه السلام) ألحق - حينئذ -
بأمر الملك العلام بتلك النطفة الزكية، فأشرق فيها وصار جزء متمما ومكملا لها في
هذا العالم العنصري، وعبر عن ذلك بالزغب والعرق لضيق عالم الملك والشهود
عن استيعاب جزئيات الملكوت الأعلى.
ولعل الصفرة التي تعتري وجه فاطمة الطاهرة وقت الظهر إشارة إلى صفرة
زغب جبرئيل (عليه السلام).
ولعله بقي هذا اللون - وهو برزخ بين البياض والحمرة - في وجهها الوضاء
من إفاضات نور جبرئيل (عليه السلام).
وسبق وأن ذكرنا حديثا في هذا المعنى في الحديث عن معنى «الزهراء»
وخلق العقيق الأصفر من النور الزهرائي.
وأما إذا ذهبنا إلى أن العرق والزغب كان من ذاك البدن اللطيف الحسي
المستعار لجبرئيل، كما ورد في الأخبار، فلا يعدو ذلك أن يكون خصيصة من
خصائص فاطمة (عليها السلام)، حيث امتزجت صورتها الحسية وقالبها الملكي - أي تفاحة

352
الجنة - بذاك العرق والزغب. وليس في رجال الأبرار ولا نساء العالمين الأطهار من
فاز بمثل هذا الفخر والمنزلة، وليس من النطف الزكية للأنبياء والأولياء نطفة
واحدة كان جبرئيل وسيطا في إقرارها في مستقرها. وهذا دليل على حرمتها
وشرفها الذاتي، وهو إكرام وإعظام لسيد الأنام عليه الصلاة والسلام.
أضف إلى ذلك أن عرق جبرئيل كان قوة لذاك الروح المجسم والجسم المجرد
للإقبال على الطاعات والاشتغال بالعبادات عونا على القيام بوظائف العبودية.
فهذه القوالب النوارنية الثلاث، والصور الجسمانية جاءت من الذروة العليا
والمقصد الأسنى، ومزجوا بها العرق من كل بدن لإخفاء حالة من الحالات،
وصبوا الغذاء في قالب من القوالب تصويرا لنور من الأنوار.
وأهل الحق إذا أرادوا التعبير بتعبير واضح يستسيغه سمع هذا البدن، عبروا
عنه بالعرق، وإذا أرادوا إسماع الروح، عبروا عنه بالفيض واللطف أو البركة
والرحمة، لأن الأولياء الكاملين يعربون عن معلوماتهم على حسب الإدراكات
المختلفة للسامعين «إنا أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم لا عقولنا» (1).
ومن هنا يمكن أن يقال: إن مدركات الأذن الباطنية مسموعات مستورة
سرية على آذان الأبدان الحسية، ولما كان أهل إدراك المعاني والأسرار قليلون، قل
الحديث من هذا النوع وتوجه الحديث للسامعة الحسية.
ولي حديث آخر يتطلب أذنا خاصة، حيث أن عالم الخلق مادي وتدريجي
الوجود، وثمراته تدريجية الحصول، وقد اقتضت الحكمة الإلهية البالغة في الإنماء
والإنشاء منذ يوم الأزل أن يكون لكل موجود أسبابا ووسائط مقدرة تترتب



(1) انظر البحار 1 / 85 ح 7 باب 1.
353
عليها مسببات منتظمة إلى يوم القيامة، وجميع الأصول والكليات التي يدور عليها
هذا العالم تدور مدار الخلق والرزق والإماتة والإحياء بمفاد قوله (خلقكم ثم
رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم) (1).
ولهذا; جعل الروح الأمين واسطة في أمر الخلق لإفاضة الحياة في خلق
الإيجاد، فصار دخيلا في حياة كل ذي حياة، كما صار عزرائيل دخيلا في قبض
روح كل ذي روح، وميكائيل دخيلا في رزق كل مرزوق، وإسرافيل في إحياء كل
النفوس في الوقت المعلوم بالنهج المعلوم.
وبناء على هذا، فإن الروح الأمين هو السبب الأقوى في إفاضة الروح ومنح
الحياة لكل الكائنات، وكان عليه - حسب التكليف - أن يفيض في هذا الموقع
الشريف والمورد المنيف إفاضة خاصة ويوصل مددا خاصا في حياة تلك النطفة
الطيبة; لذا أفاض عرقه على تلك التحفة السنية والتفاحة العلية.
ولما كانت هذه الموهبة الكبرى أمرا عظيما وقضاءا مقدرا وحكما مبرما،
ترتب على عقد هذا الجوهر الثمين نتائج عظمى وآثار جسام. ولهذا أرسل جبرئيل
الأمين إعظاما في بدو انعقاد نطفتها الشريفة إلى الأبطح، فبدا في صورته الأصلية
مع جمع من الملائكة العظام للتبشير بوجودها، وهناك أيضا مزجوا نطفتها بالجوهر
الصافي لخلاصة سكان الملكوت الأعلى، لتبلغ آثار إفاضات منبع الفيض والحياة
كافة البريات.
قيل: إن الخضر النبي (عليه السلام) كان إذا جلس في مكان اخضر ذاك المكان
واعشوشب لأنه شرب جرعة من ماء الحياة، وكان موكب جبرئيل القادم من دار



(1) الروم: 40.
354
الحيوان إذا أصاب تراب قدمه الجماد الصامت نطق، كما صار لعجل السامري
خوار، إذ أن جميع الجسمانيات تتأثر بالروح الأمين وتظهر عليها علامات الحياة.
فعرق جبرئيل أفاض الحياة الخالدة على تلك النطفة الطيبة، وعلامة تلك
الفيوضات والألطاف الربانية الخاصة التي أودعت فيها قبل التوديع وجبلت في
سجيتها الزكية أنها تكلمت في رحم أمها قبل الولادة خلافا للعادة، وأنها أقرت
بالشهادتين وذكرت أسماء أبنائها المعصومين جميعا; وسيأتي الحديث عن ذلك
مفصلا ضمن الكلام عن ولادتها إن شاء الله تعالى.
في بيان معنى الحديث: «فاطمة خير نساء أمتي إلا ما ولدته مريم (عليها السلام)»
مقارنة بين فاطمة (عليها السلام) ومريم
ويمكن استنتاج المعنى المذكور من الحديث المشهور على الألسن، قال
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «فاطمة خير نساء أمتي إلا ما ولدته مريم».
فإذا قلنا أن «إلا» للاستثناء يعترضنا إشكال عضال إنبرى أهل التحقيق
لبيانه والإجابة عليه تفصيلا، وليس الآن محل بيانه.
ولكن الكلام في قوله «إلا ما ولدته مريم» فالظاهر من مقصود سيد الأنام
أفضلية مريم على نساء الأمة بمولودها عيسى (عليه السلام)، حيث أنها ولدته ولم يمسسها
بشر وليس لفاطمة هذه المكرمة فتكون مريم أفضل نساء الأمة من هذه الجهة!
والذي خطر على بالي حين التحرير أن هذا الحديث يؤكد مضمون الحديث
السابق، من أن فاطمة خلقت من عرق جبرئيل وزغبه، وبيانه يحتاج إلى مدد من
الروح الأمين، فنقول:

355
لما كان المركوز في الأذهان في ذاك الزمان أن مريم أفضل من هذه الجهة، فقد
أجاب عنه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الحديث تلويحا حيث قال: إن سبب فضيلة مريم في
ولادتها كان موجودا في ولادة فاطمة (عليها السلام) أيضا، والفيض النازل عليها من روح
القدس نازل على فاطمة (عليها السلام) أيضا في تلك التفاحة وفي ما أفاضه عليها الروح
الأمين.
فالمراد من الحديث بيان الواقع والمماثلة من هذه الجهة بين فاطمة ومريم (عليها السلام)
مما لم تسبق إليه الأذهان.
فتكون فاطمة كمريم تماما، ويدل عليه الحديث السابق (حديث العرق
والزغب).
وقيل: «إلا» في الحديث بمعنى «حتى» - كما في مجمع البيان - فمراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
بيان أفضلية فاطمة على نساء الأمة وتماثلها مع مريم (عليها السلام) في إفاضة حياة روح
القدس، فما ثبت لمريم ثبت لفاطمة (عليها السلام)، ولا امتياز حينئذ لمريم على الصديقة
الكبرى (عليها السلام)، بل هو - في الحقيقة - اثبات لمزية فاطمة (عليها السلام) وأفضليتها على
مريم (عليها السلام).
نعم; يبقى فرق وهو أن ما جادت به مريم كان من عالم الأمر وما اختصت به
فاطمة كان من عالم الخلق، والنطفة العيسوية كانت نفحة الحق من الروح الرحماني
كما قال الله تعالى (فنفخنا فيه من روحنا) (1)، والنطفة الفاطمية المباركة من عالم
الأنوار، وقالبها الجسماني من مواد أشجار دار القرار، وهو في الحقيقة يعود أيضا
إلى عالم الأمر.



(1) الأنبياء: 91، التحريم: 12.
356
ووجود عيسى آية لوجود آدم أبو البشر المشعر بالقدرة الربانية الكاملة
(إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب) (1)، ولكن وجود آدم آية
عظمى من آيات الوجود الشريف لأم الأئمة الأطهار.
وقد يتوهم أحد من ظاهر قوله تعالى (لأهب لك غلاما زكيا) (2) أن مريم
من جبرئيل، وهو كذلك ولكن بالواسطة من حيث إفاضة الحياة، لا بالإصالة
وبالذات.
وعلى أي حال; فإن للروح الأمين مدخلية في إنشاء الحياة في عالمي الأمر
والخلق، وهما مختصان بالله تبارك وتعالى (ولله الأمر والخلق) (3).
وخير لي - أنا الجاهل الغافل العاجز العاطل - أن أكم فمي وأكف يدي عن
تحرير مثل هذه المقالات، والحال أن أسرار أخبار آل الرسول في نهاية الأفول
والخمول، ووا أسفاه لسوء الحظ، وجمود الذهن، وخمول الفكر، وقصور النظر،
والابتعاد عن المبدأ، وعدم الأنس بكلام أئمة الدين، والتغافل عن ملازمة
المحدثين، والحضور في مجالس الرواة لأخبار آل طه ويس.
ثم إن حديث إن أمرنا، أو إن سرنا، أو إن أحاديثنا أو حديثنا صعب
مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو مؤمن امتحن الله قلبه بنور
الإيمان (4) يبعدني ويلقنني كل آن، ويذكرني بفقدان القابلية وعدم الاستعداد
ويطرق مسامعي دائما، كما قيل: «أين الثريا من الثرى؟»، وكيف تشاهد الحوراء
بعين عوراء؟!



(1) آل عمران: 59.
(2) مريم: 19.
(3) الأعراف: 54 (ألا له الأمر والخلق).
(4) البحار 2 / 183 ح 30 باب 13.
357
خيال حوصله بحر مى پزم هيهات * چهاست در سراين قطره محال انديش
فالقلب الذي امتحنه الله بالإيمان يحتمل أسرارهم (عليهم السلام)، أما من لا يعرف
أسرار آل العصمة فلا حظ له ولا نصيب، وفهم أسرار آل الرسول وأسرارهم
يتأتى للمؤمن على قدر إيمانه، والمؤمن الكامل كالكيمياء والعنقاء مستور وراء
حجب الخفاء.
ولذا تقدمت إلى الأعتاب الرفيعة المنيعة لفاطمة الطاهرة (عليها السلام) مؤملا وأنا
أقول: «وفي الزمان سابق الخيل يرى، وعند الصباح يحمد القوم السرى» (1).
ولا حول ولا قوة إلا بالله.



(1) مثل يضرب للرجل يحتمل المشقة رجاء الراحة، انظر مجمع الأمثال للميداني 2 / 3 رقم 2382.
358
الخصيصة الرابعة من الخصائص الخمسة
ذكرت الأخبار المعتبرة أن النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل ليلة المعراج إلى الجنة
وأكل من ثمارها، خصوصا من ثمار شجرة طوبى، ورطب جنة المأوى وتفاحها، ثم
عاد إلى الأرض وواقع خديجة سلام الله عليها، فانعقدت النطفة الطاهرة لفاطمة
الزهراء (عليها السلام).
وهناك أخبار أخرجها المجلسي في بحار الأنوار، وهي توافق مذهب
الشيعة، تدل على أن ولادة تلك المخدرة كانت بعد الإسراء والمعراج بثلاث
سنين (1)، وهذا يعني أن الفاصلة بين المعراج وانعقاد النطفة دامت سنتين وثلاث
شهور تقريبا بعد حذف مدة الحمل (تسعة شهور)، وهو يعارض مضمون الأخبار
المعراجية التي ذكرت أن النبي واقع بعد الإسراء والمعراج مباشرة، وقد ذكرنا أيضا
أخبارا في نزول جبرئيل إلى الأرض حاملا التحفة السماوية التي أكلها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وواقع خديجة فانعقدت منها النطفة الطاهرة. وقد مر بيان ذلك بالتفصيل، ولكن
فيما يخص انعقاد النطفة بعد المعراج مباشرة فان المروي - كما ذكره المجلسي - أن
معراج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن مرة واحدة، بل كان مائة وعشرين مرة، وإن كان
الواجب عند الإمامية الإعتقاد بمعراج جسماني واحد حدث بعد الإسراء، فبلغ فيه



(1) سيأتي ذكرها إن شاء الله في خصيصة أخرى.
359
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مقام قاب قوسين أو أدنى (1).
فالمعراج السير من الأرض إلى السماء، والمعراج آلة العروج والصعود،
والثابت في الأخبار أنه عرج عدة مرات، وكان أحدها عروجا في ليلة من الليالي
إلى ما دون السماء السابعة، حيث دخل الجنات وأكل من فاكهتها لتنعقد منها النطفة
المباركة، وكانت هذه المرة عروجا خاصا لإنجاز هذا العمل، وكان مقارنا لهبوط
الروح الأمين (عليه السلام) بالفواكه من الجنة ليقدمها إلى النبي، فكان شرفا فوق شرف.
فنقول: إن الغرض - في هذه الدفعة المعراجية - دخول الجنة والتناول من
فاكهتها من أجل انعقاد النطفة الفاطمية، ولما كان هذا الأمر من الأمور المهمة وفيه
غاية الآمال وتحقق المقصود في المآل، كلف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مباشرة وبدون واسطة
للقيام بهذه المهمة إكراما وإعظاما لفاطمة الزهراء (عليها السلام)، فعرج إلى السماء، ولا ينافيه
نزول الطبق، حيث أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أظهر إشتياقا لفاكهة الجنة، فنزل جبرئيل
بالعنب والرطب والتفاح. ولا تعارض في تعدد الفاكهة - أيضا - فنور فاطمة تجلى
في الجنة وظهر في كل تلك الأنواع، وكل نوع كان ظرفا وقالبا ومظهرا ومجلى
لنورها، وقد جعل الله في كل ثمرة - كما مر بيانه - أثرا، بحيث تكون بمجموعها
مكملات ومتممات لتلك النطفة الزكية. وكان عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأكل كل واحدة



(1) الإسراء هو سير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس في جزء من الليل
كما هو الظاهر من سورة الإسراء.
قال البوصيري:
سريت من حرم ليلا إلى حرم * كما سرى البدر في داج من الظلم
وآية الإسراء ليس فيها دلالة واضحة على المعراج إلا ما يستدل به من آيات سوره النجم، وعلى الخبير
البصير أن يتأمل. (من المتن)
360
حسب الأمور المقرر والحكمة الكاملة ليترتب أثرها.
وفي المقام أخبار عديدة بمضامين مختلفة (1) يشكل طرحها ويسهل جمعها
بالنحو المذكور فيسقط التعارض.
في أن نطفتها (عليها السلام) لم تستقر إلا في صلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ورحم خديجة (عليها السلام)
أما أنا فلي قول آخر يثبت خصيصة خاصة لفاطمة الطاهرة: بمعنى أن النور
الأنور لفاطمة لما خلق فقد كان له تجليات عديدة في عالم الأنوار، وتجليات خاصة
في عالم الجسمانيات، حيث تجلت مرة في ساق العرش، ومرة في السماوات بنحو
خاص، وتجلت مرة في الجنة لآدم وحواء (عليهما السلام) في صورة جارية حسناء، ومرة في
حقة النور، ومرة حجبت في القنديل، ومرة في التفاح والرطب والعنب، وهكذا
حتى عرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واسترد الوديعة بلا واسطة، وتناول الفاكهة المعهودة.
وبناء على هذه الأخبار، لم يستقر النور المطهر لأم الأنوار في صلب آبائها
الكرام وأرحام أمهاتها المكرمات، ولم يمسها صلب أو رحم إلا ما كان من صلب
أبيها الطاهر ورحم أمها خديجة المطهر، وهذه خصيصة من شرائف خصائص تلك
المخدرة.
وقد تبين بالبيان السابق أن فواكه الجنة كانت ظروفا لنور فاطمة، وأنها
تنورت بطريقين: أحدهما بالأصالة وبالذات، حيث أنها منسوبة لدار الحيوان،
والآخر بالعرض باعتبارها ظرفا لذلك النور، فأصبح الظرف والمظروف مادة



(1) لم يرد في انعقاد نطفة الأئمة البررة إلا «قطرة الماء» وما شاكلها، ولا أعرف تفصيلا آخر في الروايات عن
طريق تكون نطفهم (عليهم السلام). (من المتن)
361
لتلك النطفة الطيبة، وقد تناولهما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معا وتوأما.
انظروا أيها الأحبة إلى هذا الشرف الرفيع والفضل العظيم! وكيف أن الرب
العطوف من على حبيبته فاطمة وجعلها في حجاب الحياء، وحفظها في ستار
العصمة!
فإن قيل: إن الأخبار ذكرت أن جبرئيل اقتطف التفاحة وناولها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
في الجنة، أو أنه حملها معه إلى الأرض وضمها إلى صدره ثم قدمها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وعلى كلا الخبرين فقد مس جبرئيل تلك التفاحة، فكيف قلت: إن نطفتها المباركة
لم يمسها أحد أليس، هذا تعارض وتناقض؟!
قلت:
أولا: إن مس الظرف غير مس المظروف.
وثانيا: إن المراد من عدم المس، نفي مس البشر وأصلاب الآباء وأرحام
الأمهات، لا مس الملائكة.
وثالثا: لا يمكن أن ينعقد هذا العقد بدون توسط جبرئيل، وهو الواسطة في
إفاضة الحياة كما تقدم.
ورابعا: إن إيصال جبرئيل، الملك الجليل المقرب من الساحة الأحدية،
المتعلق بالكمال والتمام بالعرى الربانية، المنسوب إلى سيد الأنام بصفة الخدمة
والأخوة، المحسوب في عداد هذه الأسرة الطيبة، المفتخر بالكون منها، خارج عن
هذا العنوان ولا يدخل ضمن هذا الكلام، بل يعد شرفا لهذه الأسرة حيث صار
بيتهم مهبطا لجبرئيل ومحلا لنزوله.
قالت فاطمة (عليها السلام) في مرثيتها:

362
وكان جبريل روح القدس يؤنسنا * فغاب عنا وكل الخير محتجب (1)
فكان لأهل بيت الرسالة كرامتان من نزول جبرئيل: أحدهما نزوله
بالوحي، والثاني نزوله بدون وحي، ونزوله مطلقا وإن كان بدون وحي دليل على
نزول البركات وإفاضة الفيوضات، ومن مفاخر الآل أن بيوتهم كانت مختلف
الملائكة.
وإني أعتقد: أن جبرئيل انقطع عن النزول لتبليغ الوحي حيث انقطع الوحي
بموت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكنه كان ينزل خمس مرات في اليوم على فاطمة بعد أداء
الفرائض، ويزورها ويحدثها بما يشبه الوحي، ويخبرها بما هو كائن وما يكون،
ويسليها، ومنه تجمع مصحف فاطمة (عليها السلام)، وبعد وفاة فاطمة انقطع جبرئيل عن
النزول إلى الأرض، ومراد الزهراء (عليها السلام) من انقطاع روح القدس وغيابه - في
مرثيتها - انقطاع الوحي بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولجبرئيل خصوصية من بين
مفردات السلسلة الملكوتية في حفظ الأسرار والمحرمية المعنوية مع السيد المختار،
فله موقع خاص من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من بين سكان السماوات، وكما كان
لأمير المؤمنين (عليه السلام) موقع خاص منه في الأرض; ولذا استأذن جبرئيل في الدخول
تحت الكساء - في حديث الكساء - مع وجود فاطمة، ثم أذن له فدخل ونال ذاك
الشرف العظيم. وفي رواية أنه باهى بهذا الإذن ملائكة السماء (2).
وعلى ما هو المعلوم أن الجهة المانعة من دخول جبرئيل كانت وجود
فاطمة (عليها السلام) بينهم، والإستئذان كان رعاية للأدب معها (عليها السلام)، فلما أذن له افتخر



(1) البحار 43 / 196 ح 27 باب 7 عن المناقب وفيه «زائرنا» بدل «يؤنسنا».
(2) انظر البحار 43 / 48 ح 46 باب 3.
363
وتباهى لأنه صار محرما وموضعا لأسرارهم (عليهم السلام)، وعلم اتصاله وانتسابه المعنوي
إلى آل العصمة، وكأن الاستئذان كان اختبارا ليعرف ما إذا كان له قابلية الحضور
في هذا الجمع. ثم عاد من بعد الإذن إلى سدرة المنتهى مسرورا محبورا مختبطا بما لا
يصفه بيان، ولا يسعه التصور في جنان، وفي ذلك قال ابن أبي الحديد المعتزلي
شعرا:
يزاحمهم جبريل تحت كسائهم * لها قيل: كل الصيد في جانب الفرا (1)
وقد جعلت في شرحي لحديث الكساء، هذه القضية دليلا على عصمة
فاطمة الزهراء (عليها السلام)، حيث أن جماعة معصومة كهذه لا يمكن أن يحضرها ويدخل
فيها إلا من كان معصوما، أما غير المعصوم فلا يؤذن له بالدخول كما فعل بأم سلمة
حينما سألت الدخول معهم، فأجابها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنك على خير» (2)، فلم يؤذن لها
بالدخول لعدم عصمتها، أو لوجود أمير المؤمنين (عليه السلام) معهم.
وهذه الدقائق واللطائف لم يذكرها أحد من أهل الحديث، ولو ذكروها لم
يقيدوها بالكتابة ويحصروها في كتاب، وإني ذكرتها على سبيل الإختصار
اضطرارا وأشرت إليها إجمالا لأطوي صفحات هذا الدفتر الفاطمي بسرعة،
خوفا من أن تحول إطالة الحديث دون إتمامه لحلول الأجل، فالحديث طويل
والعمر غايته في القصر.



(1) في ديوان «القصائد السبع العلويات» المخطوط: يزاحمه جبريل تحت عباءة - لها قيل: كل الصيد في
جانب الفرا.
(2) البحار 25 / 214 ح 6 باب 7. عن أم سلمة قالت: نزلت هذه الآية في بيتي وفي البيت سبعة: جبرئيل
وميكائيل ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم، وقالت: وكنت على
الباب فقلت: يا رسول الله! ألست من أهل البيت؟ قال: إنك على خير، إنك من أزواج النبي، وما قال
إنك من أهل البيت.
364
تأييد فيه تسديد
إعلم; أن من المفاخر المشهورة لفاطمة الطاهرة المنصورة أن العلماء الأعلام
قالوا: إنها أول وليدة في الإسلام (1).
والمحقق أنها أصغر أخواتها وكانت أكبرهن زينب وكانت في حبائل
أبو العاص بن الربيع.
قال محمد بن إسحاق (2) - من علماء العامة -: ولدت زينب من خديجة بعد
ثلاثين سنة من ولادة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: تزوجها أبو العاص قبل البعثة ونزول
الوحي، وكان أبو العاص من تجار مكة المكرمة المرموقين، فإن كان كذلك يكون
عمرها يوم دخلت بيت أبي العاص تسع سنين، ولا يبعد أن تكون فاطمة
الزهراء (عليها السلام) في نفس هذا السن يوم دخلت بيت أمير المؤمنين (عليه السلام).
وولدت رقية بعد زينب بثلاث سنين، وتزوجها عتبة ابن أبي لهب، وكانت
ذات جمال رائع، ثم تزوجها عثمان.
وولدت أم كلثوم بعد رقية، وهي أكبر سنا من فاطمة (عليها السلام)، وتوفين جميعا إلا
فاطمة (عليها السلام) قبل وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بفترة وجيزة (3).
والحاصل: أن لم تلد في الإسلام إلا فاطمة (عليها السلام) وذلك لأن أداء التكليف



(1) يقصد أنها أول من ولد في الإسلام من بنات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
(2) ولد بالمدينة حوالي عام 85 ه‍ ونشأ بها; وتوفي عام 151 ه‍.
(3) سيأتي الحديث عن كل واحدة من بنات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ضمن الكلام على أحوال أخوات الزهراء (عليها السلام)،
ولي - أنا الحقير - رأي خاص فيهن اعتمدت فيه على المصادر المعتبرة وسأذكره إن شاء الله بأدلته في هذا
الكتاب ليطلع عليه القراء. (من المتن)
365
الإلهي ابتدأ بمجيء الإسلام وبعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم إعتزل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاث سنين بعد
البعثة ولم يصدع بالأمر ولم يكن من أهل الإيمان يومها إلا نفران، رجل وامرأة، هما
أمير المؤمنين وخديجة الطاهرة وثالثهما فاطمة حيث أن خديجة ولدت فاطمة (عليها السلام)
لخمس سنين بعد النبوة، أي في بدو ظهور الإسلام، أما باقي بناتها فقد دخلن
الإسلام بعد الهجرة أو مقارنا لها، بينما ولدت المعصومة الكبرى ونزلت من رحم
أمها مسلمة مؤمنة إلى حين وفاتها، وكم يشابه قبول إسلام فاطمة (عليها السلام) وهي
صغيرة إسلام أمير المؤمنين (عليه السلام) واستكماله الخصال المحمودة منذ نعومة أظفاره،
وهذا خير دليل على التأييد السبحاني والتسديد الرباني لهما.
وعادة المرتاضين أنهم يرتاضون أربعين سنة أو أربعين يوما، ثم لا بد أن
يجنوا ثمرة رياضتهم بالوصول إلى مطلوبهم وتحقيق مقصودهم، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تعبد
بالعبادات الخاصة وصبر فظفر بالثمرة، وأفاد خير فائدة، وهي الوجود المقدس
لسيدة النسوان وروح العالمين، حيث كانت دائما وأبدا تشاهد وهي في كنف
الحضرة النبوية الإشراقات والإلهامات والإفاضات والإيحاءات التي كان ينزل
بها روح القدس جبرئيل الروح الأمين (عليه السلام)، فتستفيض منها في كل آن وزمان.
نعم، لقد ولدت فاطمة فتجلى نور جديد، وانجلت نورانية خاصة، وصار
لدعوة سيد الأنام قوام جديد من بزوغ ذاك النور وطلوع ذاك الوجود المقدس،
ودبت حياة جديدة في الكيان الإسلامي، وقد قيل: إن البنت بركة وقدومها ينزل
الرحمة، فكانت بشارة خير وتفأل حسن صدق الخبر اليقين، حيث أضحت سوق
الإسلام تزدهر بعد ولادتها يوما فيوما، وصارت حصون الشرك والكفر تندك
رويدا رويدا، وأخذت الأصنام وعبادها والملل وأصحابها والديانات القديمة
وأتباعها تتزلزل، فذهلوا وتخبطوا وحاولوا وتشبثوا بكل صغير وكبير، والتجؤا

366
إلى سلاطين الأرض لعلهم يكسروا شوكة الإسلام ويحدوا صولته وينجوا من
سطوته.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): يا معشر العرب! أنتم في شر دار وفي شر دين، بين
حجارة خشن وحيات صم تشربون الكدر وتأكلون الجشب، تسفكون دماءكم
وتقطعون أرحامكم، والآثام بكم معصوبة والأصنام فيكم منصوبة (1)... إلى آخر
ما قال (عليه السلام).
فيمكن أن يقال: إن من معاني فاطمة أن وجودها الجواد فطم وقطع
الإسلام عن الكفر «فطمت عن الشرك وعن الشر (2)، وعن الدنيا وشهواتها (3)».
وهذا وجه وجيه وبيان مليح، فالشجرة إذا قطع منها مائة غصن وبقي فيها
غصن واحد اشتدت وقوت وقامت بذاك الغصن، وشجرة النبوة الطيبة لا غصن
لها في بدء الإسلام إلا ذاك الغصن الرفيع والفرع المنيع; ولذا ظهرت منها جميع قوى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) متدرجة من القوة إلى الفعل، وأمير المؤمنين صنو تلك الشجرة وشبيهها
وعديلها، وهما من أصل واحد، فهما شقيق وزميل.
ويصح أيضا أن نقول: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غصن منيع من الأغصان الباقية
لشجرة إبراهيم الخليل المباركة، وثمرته الوجود الأقدس لفاطمة الزهراء (عليها السلام).
أو نقول: إن نبي الرحمة (صلى الله عليه وآله وسلم) ثمرة شجرة عالم الإمكان، وفاطمة الزهراء (عليها السلام)
جوهر تلك الثمرة وحقيقتها، وكمال الشجرة أوان ظهور ثمرتها وزمان نضوج حملها.



(1) البحار 18 / 226 ح 68 باب 1 عن نهج البلاغة 68 الخطبة 26 وفيه: «وأنتم معشر العرب على شر دين
وفي شر دار...».
(2) انظر البحار 43 / 10 ح 1 باب 2.
(3) انظر البحار 43 / 13 ح 9 باب 2.
367
وبالبداهة وشهادة الوجدان: إن الثمرة الواحدة من الشجرة تعطي أشجارا
وثمارا تنسب جميعها إلى تلك الثمرة، وتلك الثمرة هي خلاصة الشجرة..
ولذا صح أن يقال لفاطمة (عليها السلام): أم أبيها، وأم العلوم، وأم الفضائل، وأم
الأزهار، وأم الكتاب، وأم القرى، وفي هذا دليل على صحة ما أسلفنا من أقوال في
الخصائص السابقة.
وعلى أي حال; فإن وجود فاطمة كان برهانا قاطعا على حقيقة نبوة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولربما عرف الأب بالولد، وإن كان بنتا، فكما كان لفاطمة شرف النبوة
من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كان للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فخر الأبوة لفاطمة، وقد جعلها الله مساوية
لأمير المؤمنين في آية المباهلة.
والخلاصة: لا يمكن أن يعذلني أحد أو يلومني على كلماتي المكررة وفقراتي
المقررة المسطرة، فأنا العبد الذليل العليل، أرى نفسي تالي الغالي في تحرير وتقرير
فضائل تلك المخدرة وفواضلها، وإني أعتقد بما يدل على علو قدرها وسمو مقامها بما
هو فوق ما يتصور ويدور في الخلد، إلا ما كان من مرتبة النبوة والولاية المرتبطتين
والمتحدتين ببعضهما، ولكل منهما مقامه ومزيته، فلا أجد مرتبة أعلى وأجلى من
مرتبة الريحانة المصطفوية وشمس الفلك المحمدية.
وأملي أني استطعت أن أخرج ما في كوامني، وأبدي ما في خلدي، وأكتب
في هذه الصحيفة الفاطمية ليبقى ذكري، أودعها في هذه الأوراق لعلي أزرع في
قلوب محبي فاطمة وذريتها الطاهرة بذور الود والمحبة، فأجد بذلك طريقا إلى
دعائهم، فقد تشملني دعواتهم وتوجب لي الغفران والبعد عن الخذلان والخسران.
اللهم أنت ولي نعمتي، والقادر على طلبتي، وتعلم حاجتي، فأسألك بك
وبحق فاطمة عليك; لا بل بحقك عليها، أن تجعلني من محبي محبيها، ولا تفرق بيني
وبينهم طرفة عين أبدا.

368
الخصيصة الخامسة من الخصائص الخمسة
والآن; وقبل الورود في صلب الموضوع، نتناول بنحو الإختصار ما قرأناه
ورأيناه في الصحف السماوية والكتب المنزلة السالفة من أوصاف فاطمة
الزهراء (عليها السلام); لتعمر به قلوب أهل الإيمان والوداد، فإني وإن لم أجدها مبوبة في
باب، أو مجموعة في كتاب; إلا أني استقصيتها ما استطعت، وذكرتها في هذه
الخصيصة; ليعلم محبي أهل البيت (عليهم السلام) أن محبتها كانت منذ الأعصار السالفة
والقرون القديمة في كل قلب، وذكرها جار على كل لسان، ومزين به كل محفل، وأن
الله سبحانه علم أنبياءه ورسله أوصافها وأخلاقها الكريمة فردا وجمعا، وجعلها
تالية لمرتبة خاتم الأنبياء والمرسلين منذ يوم الميثاق «يوم السبت» في عالم الأنوار
والأرواح، قبل إيجاد العرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار والسماء
والأرض.
والأفضل أن نفتتح الكلام بالحديث المروي في تفسير العياشي عن
عبد الرحمن عن الصادق (عليه السلام) قال: إن الله تبارك وتعالى عرض على آدم في الميثاق
ذريته، فمر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو متكئ على علي (عليه السلام) وفاطمة صلوات الله عليها
تتلوهما، والحسن والحسين (عليهم السلام) يتلوان فاطمة، فقال الله: يا آدم! إياك أن تنظر
إليهم بحسد أهبطك من جواري، فلما أسكنه الله الجنة مثل له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي

369
وفاطمة والحسن والحسين - صلوات الله عليهم - فنظر إليهم بحسد، ثم عرضت
عليه الولاية فأنكرها، فرمته الجنة بأوراقها، فلما تاب إلى الله من حسده وأقر
بالولاية ودعا بحق الخمسة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) غفر الله له
وذلك قوله (فتلقى آدم من ربه كلمات) (1) (2).
والكلمات التي لقنها إياه جبرئيل هي «يا حميد بحق محمد، يا عالي بحق علي،
يا فاطر بحق فاطمة، يا محسن بحق الحسن والحسين ومنك الإحسان» (3).
وروى في الدر الثمين أن آدم توسل بالخمسة الطيبة فاستجيب له (4) (وستأتي
في أخبار التوسل).
وفي كتاب تفضيل الأئمة على الأنبياء للحسن بن سليمان قال: ذكر السيد
حسن بن كبش بإسناده مرفوعا إلى عدة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم جابر
بن عبد الله الأنصاري وأبو سعيد الخدري وعبد الصمد بن أبي أمية وعمر بن أبي
سلمة وغيرهم قالوا: لما فتح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة أرسل إلى كسرى وقيصر يدعوهما
إلى الإسلام أو الجزية وإلا آذنا بالحرب، وكتب أيضا إلى نصارى نجران بمثل ذلك.
فلما أتتهم رسله (صلى الله عليه وآله وسلم) فزعوا إلى بيعتهم العظمى، وكان قد حضرهم
أبو الحارثة أسقفهم الأول وقد بلغ يومئذ مائة وعشرين سنة، وكان يؤمن بالنبي
والمسيح (عليهما السلام) ويكتم ذلك عن كفرة قومه، فقام على عصاه وخطبهم ووعظهم
وألجأهم بعد مشاجرات كثيرة إلى إحضار الجامعة الكبرى التي ورثها شيث، ففتح



(1) البقرة: 37.
(2) تفسير العياشي 1 / 59 ح 27.
(3) انظر البحار 44 / 245 ح 44 باب 30.
(4) انظر البحار 44 / 245 ح 44 باب 30 عن الدر الثمين.
370
طرفها واستخرج صحيفة شيث التي ورثها من أبيه آدم (عليه السلام)، فألفوا في المسباح
الثاني من فواصلها:
«بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا أنا الحي القيوم معقب الدهور وفاصل
الأمور، سببت بمشيئتي الأسباب، وذللت بقدرتي الصعاب، وأنا العزيز الحكيم
الرحمن الرحيم، أرحم ترحم، وسبقت رحمتي غضبي وعفوي عقوبتي، خلقت
عبادي لعبادتي وألزمتهم حجتي، ألا إني باعث فيهم رسلي، ومنزل عليهم كتبي
أبرم ذلك من لدن أول مذكور من البشر إلى أحمد نبيي وخاتم رسلي، ذلك الذي
أجعل عليه صلواتي ورحمتي، وأسلك في قلبه بركاتي، وبه أكمل أنبيائي ونذري.
قال آدم: من هؤلاء الرسل؟ ومن أحمد هذا الذي رفعت وشرفت؟
قال: كل من ذريتك، وأحمد عاقبهم ووارثهم.
قال: يا رب بما أنت باعثهم ومرسلهم؟
قال: بتوحيدي، ثم أقفي ذلك بثلاثمائة وثلاثين شريعة أنظمها وأكملها
لأحمد جميعا، فأذنت لمن جاءني بشريعة منها مع الإيمان بي وبرسلي أن أدخله
الجنة.
قال: قال آدم (عليه السلام): حق لمن عرفك يا إلهي بنعمتك أن لا يعصيك بها، ولمن
علم سعة رحمتك ومغفرتك أن لا ييئس منها.
قال: يا آدم! أتحب أن أريك أبناءك هؤلاء الذين كرمتهم واصطفيتهم على
العالمين؟
قال: نعم أي رب، فمثلهم الله تبارك وتعالى قدر منازلهم ومكانتهم من فضله
عليهم ونعمته، ثم عرضهم عليه أشباحا في ذرياتهم وخاص أتباعهم من أممهم،

371
فنظر إليهم آدم وبعضهم أعظم نورا من بعض، وإذا فضل أنوار الخمسة أصحاب
المقامات والشرائع من الأنبياء كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وفضل
العاقب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في عظم نوره على الخمسة كفضل الخمسة على الأنبياء جميعا.
فنظر فإذا حامة كل نبي وخاصته من قومه ورهطه آخذون بحجزة ذلك
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وشماله، تتلألأ وجوههم وتشرق
جباههم نورا; وذلك بحسب منزلة ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من ربه وبقدر منزلة كل واحد
من بنيه.
ثم نظر آدم (عليه السلام) إلى نور قد لمع فسد الجو المنخرق، وأخذ بالمطالع من
المشارق، ثم سرى حتى طبق المغارب، ثم سما حتى بلغ ملكوت السماء، فإذا
الأكناف قد تضوعت طيبا، وإذا أنوار أربعة قد اكتنفته عن يمينه وشماله ومن خلفه
وأمامه، أشبه به أرجا ونورا، يتلوها أنوار من بعدها يستمد منها، وإذا هي شبيه
بها في ضيائها وعظمها ونشرها، ثم دنت منها فتكللت عليها وحفت بها، ونظر فإذا
أنوار من بعد ذلك في مثل عدد الكواكب ودون منازل الأوائل جدا جدا، ثم طلع
عليه سواد كالليل وكالسيل، ينسلون من كل وجه وأوب، فأقبلوا حتى ملأوا
البقاع والأكم، وإذا هم أقبح شئ هيئة وصورا وأنتنه ريحا. فبهر آدم (عليه السلام) ما رأى
من ذلك فقال: يا عالم الغيوب ويا غافر الذنوب ويا ذا القدرة الباهرة والمشيئة
الغالبة، من هذا السعيد الذي كرمت ورفعت على العالمين؟ ومن هذه الأنوار المنيفة
المكتنفة له؟
فأوحى الله عز وجل إليه: يا آدم! هؤلاء وسيلتك ووسيلة من أسعدت من
خلقي، هؤلاء السابقون المقربون والشافعون المشفعون، وهذا أحمد سيدهم وسيد

372
بريتي، اخترته بعلمي، واشتققت اسمه من اسمي، فأنا المحمود وهذا أحمد، وهذا
صنوه ووصيه ووارثه وجعلت بركاتي وتطهيري في عقبه، وهي سيدة إمائي والبقية
في علمي من أحمد نبيي، وهذا السبطان والمخلفان لهم، وهذه الأعيان المضارع
نورها أنوارهم بقية عنهم، إلا أن كلا اصطفيت وطهرت، وعلى كل باركت
وترحمت، وكلا بعلمي جعلت قدوة عبادي ونور بلادي... إلى آخر الحديث وهو
طويل وفي غاية الشرف.
والغرض من ذكر الحديث ما ورد فيه من ذكر اسم فاطمة ونعتها بأنها
«سيدة إمائي والبقية في علمي...»، ثم ذكر في آخر الحديث توسل آدم (عليه السلام) بالخمسة
الطيبة وقبول توبته بهم; قال: «فلما قارف آدم الخطيئة وأخرج من الجنة، توسل
إلى الله وهو ساجد بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وحامته وأهل بيته هؤلاء، فغفر له خطيئته وجعله
الخليفة في أرضه».
ثم قال: فلما أتى القوم على باقي المسباح الثاني من ذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذكر أهل
بيته (عليهم السلام)، أمرهم أبو حارثة أن يصيروا إلى صحيفة شيث الكبرى التي ميراثها إلى
إدريس (عليه السلام)، وكان كتابتها بالقلم السرياني القديم، وهو الذي كتب به من بعد
نوح (عليه السلام) ملوك الهياطلة المتماردة، فافتض القوم الصحيفة فأفضوا منها إلى هذا
الرسم.
قالوا: اجتمع إلى إدريس (عليه السلام) قومه وصحابته، وهم يومئذ في بيت عبادته
من أرض كوفان، فخبرهم بما اقتص عليهم من فضل وشرف محمد وآل
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فألزمهم أبو حارثة وأتم الحجة على النصارى. والحديث بتمامه في
المجلد السابع من البحار.

373
وفي تفسير العياشي وتفسير الإمام (عليه السلام) وكتاب كشف اليقين وكتاب الروضة
في باب مكاشفات آدم أبو البشر، ذكرت فاطمة الزهراء (عليها السلام) في موارد متعددة
بأوصاف حسنة جيدة، وجعلها مفخرا لآل طه ويس.
وفي البحار حديث رؤية آدم وحواء لفاطمة الزهراء (عليها السلام) في الجنة وهي
جالسة على سرير، وعلى رأسها تاج، وفي جيدها قلادة، وفي أذنيها قرطان، وما
قاله جبرئيل (عليه السلام) مما يفهم علو المكانة وسمو الرتبة ورفعة القدر لمقام النبوة والولاية
وإمامة الحسنين وجامعية تلك المخدرة الكبرى، ثم ذكر أسماء الخمسة الطيبة وقول
آدم (عليه السلام): مالي إذا ذكرت أربعة منهم تسليت بأسمائهم من همومي، وإذا ذكرت
الحسين (عليه السلام) تدمع عيني وتثور زفرتي (1)؟ وفي ذلك دليل واضح وبرهان لائح على
توسل آدم (عليه السلام) بفاطمة الطاهرة (عليها السلام).
وفي فضائل ابن شاذان والبحار وأمان الأخطار للسيد ابن طاووس - طاب
رمسه - عن أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: لما أراد الله عز وجل أن يهلك
قوم نوح (عليه السلام) أوحى الله إليه: أن شق ألواح الساج، فلما شقها لم يدر ما يصنع بها،
فهبط جبرئيل فأراه هيئة السفينة ومعه تابوت فيه مائة ألف مسمار وتسعة
وعشرون ألف مسمار، فسمر المسامير كلها السفينة، إلى أن بقيت خمسة مسامير.
فسمر المسمار الذي كان باسم خير الأولين والآخرين (محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم)) في
أولها على جانب السفينة اليمين. وسمر مسمار أخيه وابن عمه علي بن أبي طالب على
جانب السفينة اليسار في أولها، وأشرق وأضاء كل منهما.
ثم ضرب بيده إلى مسمار ثالث فزهر وأشرق وأنار، فقال: هذا مسمار



(1) انظر البحار 44 / 223 ح 1 باب 30.
374
فاطمة، فأسمره إلى جانب مسمار أبيها، فلما أشرق نورها وأضاء العالم قال
جبرئيل: يا نوح! هذا نور فاطمة الطاهرة بنت خير الأولين والآخرين وخاتم
الأنبياء والمرسلين.
وسمر مسمارين آخرين باسم الحسن والحسين (عليهما السلام) في طرفي السفينة،
فأزهرا وأشرقا وأنارا، وكان في مسمار الحسين علاوة على النور نداوة ظهرت
وبكاء بدا من المسمار (1).
والحديث طويل فيه تفصيل والمراد ذكر مكاشفة نوح (عليه السلام).
وروي من طريق الفريقين كثير في الأحاديث القدسية في إرائة ملكوت
السماوات لإبراهيم الخليل (عليه السلام)، ومشاهدة الأنوار الخمسة الطيبة، وتجلي نور
فاطمة الزهراء (عليها السلام) في نظر الخليل; ففي بعضها:
لما خلق الله إبراهيم الخليل كشف الله عن بصره، فنظر إلى جانب العرش
فرأى نورا ساطعا فقال: إلهي وسيدي! ما هذا النور؟
قال: يا إبراهيم! هذا محمد صفيي.
فقال: إلهي وسيدي! أرى في جانبه نورا آخر؟
فقال: يا إبراهيم! هذا علي ناصري.
فقال: يا إلهي وسيدي! أرى في جانبيهما نورا ثالثا؟
فقال: يا إبراهيم! هذه فاطمة تلي أباها وبعلها، فطمت محبيها عن النار.
قال: إلهي وسيدي! أرى نورين بميامن الأنوار الثلاثة.
قال الله تعالى: هذان الحسن والحسين يليان أباهما وجدهما وأمهما.



(1) البحار 26 / 332 ح 14 باب أن دعاء الأنبياء استجيب بالتوسل بهم (عليهم السلام).
375
قال: إلهي وسيدي! أرى تسعة أنوار أحدقوا بالخمسة الأنوار.
قال: يا إبراهيم! هؤلاء الأئمة من ولدهم... إلى آخر الحديث (1).
وفي أمالي الصدوق (قدس سره) عن الإمام الحسن (عليه السلام): أن يهوديا سأل النبي عن
خمسة أشياء مكتوبات في التوراة أمر الله بني إسرائيل أن يقتدوا بموسى فيها من
بعده.. قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): فأنشدتك بالله إن أنا أخبرتك تقر لي؟
قال اليهودي: نعم يا محمد.
فقال النبي: أول ما في التوراة مكتوب محمد رسول الله، وهي بالعبرانية
«طاب»، ثم تلا رسول الله هذه الآية (يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل
ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) (2)، وفي السطر الثاني اسم وصيي علي
بن أبي طالب (عليه السلام)، والثالث والرابع سبطيي الحسن والحسين، وفي الخامس أمهما
فاطمة سيدة نساء العالمين صلوات الله عليها، وفي التوراة اسم وصيي «إيليا» واسم
سبطيي «شبر» و «شبير»، وهما نورا فاطمة (عليها السلام) (3) ثم ذكر فضائلهم ومناقبهم.
وروى عن كعب الأحبار اليهودي في وصف ولادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وما دار بينه
وبين ليث بن سعد في مجلس معاوية، فقال كعب: إني قرأت اثنين وسبعين كتابا
كلها أنزلت من السماء، وقرأت صحف دانيال كلها، وودت في كلها ذكر مولده
ومولد عترته، وإن اسمه لمعروف، وأنه لم يولد نبي قط فنزلت عليه الملائكة، ما خلا
عيسى وأحمد صلوات الله عليهما، وما ضرب على آدمية حجب الجنه غير مريم



(1) البحار 36 / 213 ح 15 باب 45 عن الفضائل.
(2) الصف: 6.
(3) أمالي الصدوق 161 ج 1 المجلس 35، والحديث طويل.
376
وآمنة أم أحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما وكلت الملائكة بأنثى حملت غير مريم أم المسيح (عليه السلام)
وآمنة أم أحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)... ونجد في الكتب أن عترته خير الناس بعده، وأنه لا يزال
الناس في أمان من العذاب ما دام من عترته في دار الدنيا خلق يمشي.
فقال معاوية: يا أبا إسحاق! ومن عترته؟
قال كعب: ولد فاطمة، فعبس وجهه وعض على شفتيه وأخذ يعبث بلحيته.
فقال كعب: وإنا نجد صفة الفرخين المستشهدين، وهما فرخا فاطمة (عليها السلام)،
يقتلهما شر البرية.
قال: فمن يقتلهما؟
قال: رجل من قريش، فقام معاوية وقال: قوموا إن شئتم، فقمنا (1).
وفي معاني الأخبار للصدوق عليه السلام والرضوان، عن المفضل بن عمر
الجعفي، عن الصادق (عليه السلام) قال: إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، فجعل
أعلاها وأشرفها أرواح محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من بعدهم،
فعرضها على السماوات والأرض والجبال فغشيها نورهم، فقال الله تعالى للسماوات
والأرض والجبال: هؤلاء أحبائي وأوليائي وحججي على خلقي وأئمة بريتي، ما
خلقت خلقا هو أحب إلي منهم، ولمن تولاهم خلقت جنتي، ولمن خالفهم خلقت
ناري (2).
وهذا الحديث النوراني طويل، وفي آخره توسل آدم وحواء بالأنوار



(1) البحار 15 / 261 ح 12 باب تاريخ ولادته وما يتعلق بها عن الأمالي: والحديث طويل أخذ منه موضع
الحاجة.
(2) معاني الأخبار 108 ح 1 باب الأمانة التي عرضت.
377
الخمسة الطيبة، قال: اللهم إني أسألك بحق الأكرمين عليك محمد وعلي وفاطمة
والحسن والحسين والأئمة إلا تبت علينا ورحمتنا، فتاب الله عليه وهو التواب
الرحيم (1).
وفي كتاب جاماسب المنجم في وصف نبي آخر الزمان، ذكر كلاما طويلا ثم
ذكر بقية الخلفاء إلى الحجة بن الحسن صلوات الله وسلامه عليه، وقال: إذا ظهر
بهرام - وهو اسم الإمام الغائب عجل الله تعالى فرجه - أباد أتباع إهرمن، وهو من
شمس العالم وسيدة النساء وهي بنت المبين، والمبين باللغة الپهلوية تعني
«محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)».
وقال: إنه يظهر في آخر الدنيا ويعيش مدة بمقدار عمر سبعة كراكس،
ويخرج وقد مضى من عمره ثلاثين قرنا. وله كلام آخر طويل اكتفينا بموضع
الحاجة حيث ذكر اسم فاطمة الشريف.
فاسمها الشريف ووصفها المنيف مذكور في كل صحف الأنبياء وكتبهم، من
آدم وشيث وإدريس ونوح وهود وإبراهيم (عليهم السلام)، وفي التوراة والزبور والإنجيل،
وكان للأنبياء توجها خاصا للأنوار الأربعة، وكان لهم توجها قلبيا وتوسلا مخلصا
خاصا بنور فاطمة (عليها السلام).
وفي كتاب الغيبة (إكمال الدين) لثقة المحدثين الصدوق، وقديما قيل «وعند
جهينة الخبر اليقين» و «إن القول ما قالت حذام»، روى عن عبد الله بن سليمان قال:
قرأت في الإنجيل في وصف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نكاح النساء ذو النسل القليل: إنما نسله من
مباركة لها بيت في الجنة لا صخب فيه ولا نصب، يكفلها في آخر الزمان كما كفل



(1) المصدر السابق.
378
زكريا أمك، لها فرخان مستشهدان (1).
والأفضل لطلاب هذه الأخبار مراجعة المجلد السادس من بحار الأنوار في
أحوال سيد الأبرار، حيث سيجد أوصاف الصديقة الكبرى مفصلة بالكمال
والتمام.
وهذه الصفات من أعظم المناقب وأعلاها وأقوم المواهب إلى ذروة الشرف
وأسناها.
تود نفوس الفاخرين لو سمعت * بواحدة منها تتمناها
لها شرف فوق شرف، وكمال فوق كمال، ونور على نور، وقال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هؤلاء الذين أمر الله تعالى بمودتهم: علي وفاطمة والحسن
والحسين (عليهم السلام) (2).
وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): فاطمة مهجة قلبي، وزوجها قرة عيني وولداها ثمرة
فؤادي، والأئمة من ولدها أمناء ربي وحبله الممدود بين الناس وبين ربي، فمن
تمسك بهم نجى، ومن تخلف عنهم فقد هلك وإلى جهنم سلك، كذا في ربيع الأبرار
للزمخشري.
ويكفي في شرف قدر فاطمة الطاهرة توسل الآباء المكرمين والأجداد
الميامين لخاتم المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم) بها، كلما نزلت بهم الشدائد والأهوال وأرادوا النجاة
من البلايا والمهالك، كما كان الناس يتوسلون بها وبالخمسة الطيبة، وفي كل شديدة
وضراء، فقد ورد أن في ليلة انعقاد النطفة المباركة لأمير المؤمنين (عليه السلام) ضرب مكة



(1) البحار 14 / 284 ح 6 باب 21.
(2) بحار الأنوار 23 / 230 ح 1 باب 13; و 32 / 166 ح 151 باب 39.
379
المكرمة زلزال عظيم حتى تهاوت الصخور من على أبي قبيس، فخرج
أبو طالب (عليه السلام) فعلا مرتفعا وقال: «إلهي وسيدي أسألك بالمحمدية المحمودة،
وبالعلوية العالية، وبالفاطمية البيضاء إلا تفضلت على تهامة بالرحمة والرأفة»
فسكنت الأرض، وحفظ الناس هذه الكلمات وأخذوا يدعون بها في الشدائد
والبلايا دون أن يعرفوا المقصود منها.
لا يخفى
ولا يخفى; أن أعظم وأقوم وأجلى وأظهر مكاشفات وتجليات شفيعة
العرصات وسيدة الكائنات ما كان في مكة المكرمة من دعاء أشرف البريات
صلوات الله وسلامه عليه أمام أنظار الملأ من المنافقين والمشركين من أهل مكة
الوارد في الحديث الآتي، وهذا الحديث الشريف لوحده كاف لبيان جلالة قدرها
وعلو مقامها ورفعة رتبتها، وهو من المعاجز الباهرة للحضرة النبوية المقدسة.
وقد ورد الحديث في المجلد السادس من بحار الأنوار عن كتاب تفسير
الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، ننقل منه موضع الحاجة لطول الحديث:
لما سأل مشركو مكة وأبو جهل من النبي معاجز نوح وإبراهيم وموسى
وعيسى، وقالوا: «فإن كنت نبيا فأتنا بآية كما تذكر عن الأنبياء قبلك مثال نوح
الذي جاء بالغرق ونجا في سفينته مع المؤمنين، وإبراهيم الذي ذكرت أن النار
جعلت عليه بردا وسلاما، وموسى الذي زعمت أن الجبل رفع فوق رؤوس
أصحابه حتى انقادوا لما دعاهم إليه صاغرين داخرين، وعيسى الذي كان ينبئهم
بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم»...
فقسمهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أربع فرق، وقال للفريق الرابع ورئيسهم أبو جهل:
وأنت يا أبا جهل فأثبت عندي...

380
وقال للفريق الثاني المقترحين لآية إبراهيم (عليه السلام): امضوا إلى حيث تريدون
من ظاهر مكة، فسترون آية إبراهيم (عليه السلام) في النار، فإذا غشيكم البلاء فسترون في
الهواء امرأة قد أرسلت طرف خمارها، فتعلقوا به لتنجيكم من الهلكة وترد عنكم
النار...
... فجاءت الفرقة الثانية يبكون ويقولون: نشهد إنك رسول رب العالمين
وسيد الخلق أجمعين، مضينا إلى صحراء ملساء ونحن نتذاكر بيننا قولك، فنظرنا
السماء قد تشققت بجمر النيران تتناثر عنها، ورأينا الأرض قد تصدعت ولهب
النيران يخرج منها، فما زالت كذلك حتى طبقت الأرض وملأتها ومسنا من شدة
حرها حتى سمعنا لجلودنا نشيثا من شدة حرها، وأيقنا بالإشتواء والإحتراق بتلك
النيران، فبينما نحن كذلك إذ رفع لنا في الهواء شخص امرأة قد أرخت خمارها فتدلى
طرفه إلينا بحيث تناله أيدينا وإذا مناد من السماء ينادينا: إن أردتم النجاة فتمسكوا
ببعض أهداب (1) هذا الخمار، فتعلق كل واحد منا بهدبة من أهداب ذلك الخمار،
فرفعنا في الهواء ونحن نشق جمر النيران ولهبها لا يمسنا شررها، ولا يؤذينا حرها
ولا نثقل على الهدبة التي تعلقنا بها، ولا تنقطع الأهداب في أيدينا على دقتها، فما
زالت كذلك حتى جازت بنا تلك النيران، ثم وضع كل واحد منا في صحن داره
سالما معافا، ثم خرجنا فالتقينا فجئناك عالمين بأنه لا محيص عن دينك ولا معدل
عنك، وأنت أفضل من لجىء إليه، واعتمد بعد الله إليه، صادق في أقوالك، حكيم
في أفعالك.



(1) الأهداب في اللغة ما يخرج من أطراف القماش من خيوط كأنها الأهداب وفي المجمع الأهداب الأشفار.
(منه)
381
كل ذلك كان يسمعه أبو جهل فلا يزداد إلا حسدا وعنادا.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لهذه الفرقة الثانية لما آمنوا: يا عباد الله إن الله أغاثكم
بتلك المرأة أتدرون من هي؟
قالوا: لا.
قال: تلك تكون ابنتي فاطمة وهي سيدة النساء، إن الله تعالى إذا بعث
الخلائق من الأولين والآخرين نادى منادي ربنا من تحت عرشه: يا معشر
الخلائق غضوا أبصاركم لتجوز فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) سيدة نساء العالمين على
الصراط، فتغض الخلائق كلهم أبصارهم، فتجوز فاطمة على الصراط، لا يبقى
أحد في القيامة إلا غض بصره عنها إلا محمد وعلي والحسن والحسين والطاهرون
من أولادهم فإنهم محارمها، فإذا دخلت الجنة وطرف في عرصات القيامة،
فينادي منادي ربنا: يا أيها المحبون لفاطمة، تعلقوا بأهداب مرط فاطمة سيدة
نساء العالمين، فلا يبقى محب لفاطمة إلا تعلق بهدبة من أهداب مرطها، حتى يتعلق
بها أكثر من ألف فئام وألف فئام.
قالوا: وكم فئام واحد يا رسول الله؟
قال: ألف ألف وينجون بها من النار (1).
هذه تمام الخصائص الثلاثين وتأتي بعدها الخصائص المتعلقة بولادة
الصديقة الكبرى صلوات الله عليها وعلى أبيها وعلى بعلها وبنيها وذريتها.



(1) بحار الأنوار 17 / 242 ح 2 باب جوامع معجزاتها ونوادرها، والحديث طويل جدا.
382
الخصائص الخمسون من ولادتها سلام الله عليها
الخصيصة الأولى في ولادتها
في تعيين اليوم والشهر والسنة التي ولدت فيها
فاطمة الزهراء (عليها السلام)
إعلم أن هناك اختلافا بين الإمامية وبين أهل السنة والجماعة في تعيين اليوم
والشهر والسنة التي ولدت فيها فاطمة الزهراء (عليها السلام).
سنة ولادتها:
أما سنة ولادتها فأغلب علماء العامة قالوا: إنها ولدت لخمس سنوات قبل
البعثة، وقال بعضهم: ولدت بعد سنة من البعثة.
وروى الدياربكري صاحب تاريخ الخميس عن ابن إسحاق أنه قال:
«فولدت له - أي خديجة - قبل أن ينزل عليه الوحي ولده كلهم...» (1) إلا إبراهيم
من مارية القبطية، ولد بعد النبوة.



(1) سيرة ابن إسحاق 82 في حديث خديجة.
383
وعن أبي عمرو الدياربكري أيضا: ولدت فاطمة سنة إحدى وأربعين من
مولده (1) (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو مغاير لما زعمه ابن إسحاق ونسبه المجلسي إلى بعض المخالفين.
وقال أبو الفرج الأصفهاني في كتاب مقاتل الطالبيين: كان مولد فاطمة (عليها السلام)
قبل النبوة وقريش حينئذ تبني الكعبة (2).
وإليه ذهب أبو نعيم في كتاب معرفة الصحابة (3).
وفي تاريخ الخميس عن أبي جعفر: دخل العباس على علي بن أبي طالب
وفاطمة بنت رسول الله (عليهم السلام) وأحدهما يقول لصاحبه: أينا أكبر؟ فقال العباس (رضي الله عنه):
ولدت يا علي قبل بناء قريش البيت بسنوات، وولدت فاطمة وقريش تبني
البيت (4).
وهذا القول سخيف وضعيف لعدة وجوه، فلا يعتنى به ولا يعتمد عليه.
وروى الدياربكري أخبار انعقاد نطفة فاطمة (عليها السلام) عن «ذخائر العقبى»، ثم
قال: وهذه الروايات تقتضي كون ولادة فاطمة بعد البعثة، لأن الإسراء كان بعد
البعثة، ثم رجح قول أبي عمرو (5).
فتبين أن علماء السنة مختلفون أيضا في سنة ولادتها، ولهم أقوال متعارضة
تعارضا ظاهرا، ولكنهم جعلوا تحديد سنة ولادتها دليلا على طول عمرها، كما
سيأتي بيانه في محله.



(1) بحار 43 / 8 ح 12 قال: «من بعض كتب المخالفين».
(2) مقاتل الطالبيين 59، ترجمة الإمام الحسن بن علي (عليهما السلام)، بحار الأنوار 43 / 8.
(3) بحار 43 / 8 - 9.
(4) كشف الغمة 2 / 129 (في وفاتها (عليها السلام)).
(5) تاريخ الخميس 1 / 277 في ذكر فاطمة (عليها السلام).
384
وأما الإمامية فذهبوا إلى أن ولادتها كانت بعد البعثة بخمس سنين، كما في
الكافي: ولدت فاطمة بعد مبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بخمس سنين (1)، وبعد الإسراء
بثلاث سنين.
وروى محمد بن جرير بن رستم الطبري في «دلائل الإمامة» عن أبي بصير،
عن الصادق (عليه السلام) قال: ولدت فاطمة... سنة خمس وأربعين من مولد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (2).
وكذا قال صاحب «المناقب» محمد بن شهرآشوب.
وقال صاحب «كشف الغمة» علي بن عيسى الأربلي: ولدت فاطمة بعد ما
أظهر الله نبوة نبيه وأنزل عليه الوحي بخمس سنين وقريش تبني البيت. وروى في
موضع آخر أنها ولدت لسنتين قبل النبوة (3).
ويستفاد من العبارة الأخيرة أن في سنة بناء البيت اختلافا أيضا، وفيه
قولان: قبل النبوة وبعدها.
وقال في المصباح: ولدت سنة اثنتين من البعثة. وفي رواية أخرى: سنة
خمس من المبعث، والعامة تروي أن مولدها قبل المبعث بخمس سنين (4).
وقال الشيخ المفيد في الحدائق: كان مولد السيدة فاطمة الزهراء سنة اثنتين
من المبعث (5).



(1) الكافي 1 / 457 ح 10.
(2) دلائل الإمامة 10.
(3) كشف الغمة 2 / 75.
(4) البحار 43 / 9 ح 15 باب 1 عن المصباح.
(5) البحار 43 / 8 ح 12 باب 1 عن الحدائق للمفيد.
385
وقد ذهب إلى هذا القول هذين العلمين من الإمامية، وكذا روي في كشف
الغمة.
وعلى أية حال، فإن أغلب علماء أهل الخلاف ذهبوا إلى أن مولد فاطمة (عليها السلام)
كان قبل البعثة بخمس سنين، ولكنهم تورطوا بالأخبار المعراجية التي لا يمكن
العدول عنها، لذا مال المتأخرون منهم إلى قول الإمامية وقالوا أن عمرها كان أكثر
من ستة عشر عاما بقليل.
وذكر صاحب كتاب جنات الخلود أقوالا أخرى.
شهر ولادتها:
أما شهر ولادتها (عليها السلام) فقد وقع الخلاف فيه بين شهر رمضان، ورجب،
وربيع الأول، وجمادى الأولى، وجمادى الآخرة، ولكن الأغلب والأكثر والأشهر
بين الفريقين أنه في العشرين من جمادى الآخرة.
وأما الطائفة الإمامية المحقة - وخصوصا قدماؤهم - فقد اتفقوا على شهر
ولادتها بلا خلاف - أي جمادى الثاني - كصاحب الكافي والدلائل والحدائق
والمناقب والمصباح وغيرهم من المتأخرين، حيث أجمعوا على هذا اليوم، وعليه
عمل العلماء والمعاصرين في هذا الزمان (1).
واختاره أيضا المرحوم الشيخ الحر العاملي صاحب الوسائل، كما ذكره في
منظومته:



(1) وهذا الاتفاق بين السلف والخلف يجعلنا نحرص أكثر على معرفة قدر هذا اليوم المبارك ومنزلته. (من
المتن).
386
قد ولدت فاطمة الزهراء * البضعة الزكية الحوراء
بمكة الغراء يوم الجمعة * في ملك يزدجرد مبدي السمعة
وذاك قبل رجب بعشر * وقيل قبله بنصف شهر
لخمسة من مبعث النبي * المصطفى المكرم الزكي
وقد روى مخالف ما قبله * بخمسة ومن رواه أبله
والمراد العشرون من جمادى الآخرة; لأنها قبل رجب بعشرة أيام، وعين
سنة الولادة بخمسة سنين بعد البعثة ووصف المخالف لهذا القول بالأبله.
أما يوم الولادة:
أما يوم ولادتها (عليها السلام) ففيه اختلاف أيضا.
ففي كشف الغمة والمصباح: إنه يوم الجمعة (1)، وذهب بعض العامة والخاصة
إلى أنه الثلاثاء، والحق القول الأول.
وأغلب الأخبار لم تعين يوم الولادة، لأن المناط والمهم تعيين سنة ولادة
حبيبة ذي الجلال، لا اليوم والشهر.
وبناء على القول المشهور: «أهل البيت أدرى بالذي فيه» وقول عبد الله بن
الحسن لما دخل على هشام بن عبد الملك وعنده الكلبي النسابة، فسألهما عن سن
فاطمة فاختلفا، فقال عبد الله بن الحسن: سلني عن أمي فأنا أعلم بها، وسل
الكلبي عن أمه فهو أعلم بها (2); لا بد من الرجوع إلى أنباء فاطمة وأهل البيت (عليهم السلام)
لمعرفة مذهبهم.



(1) البحار 43 / 9 ح 15 باب 1 عن المصباح.
(2) بحار الأنوار 43 / 213 ح 44 باب 7.
387
وقد ذهب الأئمة المعصومون (عليهم السلام) والسلسلة المتصلة بالعصمة الكبرى
فاطمة الزهراء (عليها السلام) إلى ما ذكرناه، وأخبروا مرارا أن عمر فاطمة ثمانية عشر عاما
وبضعة أشهر، ولو خالف أحد علماء الشيعة في ذلك فلأسباب، ويبقى إجماع أهل
البيت دليلا متينا على سنة ولادتها، وسيأتي تحقيقه في خصيصة أخرى إن شاء الله.
ويكفي الطائفة المحقة والطريقة الحقة ما ورد عن الإمامين الهمامين
الصادقين (عليهما السلام) وهم صراط الهداية وسبل النجاة; والأفضل لأهل الخلاف أن
ينصفوا في مثل هذه الموارد ويقبلوا بما خرج عن بني فاطمة (عليهم السلام) وهو ما يوافق
مذهبهم كما أنهم مختلفون في أقوالهم اختلافا شديدا لا يوصف.
وقبول قول الإمام الحسن والإمام الحسين في تاريخ ولادتها (عليها السلام) أولى من
التمسك بأقوال الحسن البصري وسفيان الثوري وفلان وعلان ممن لا يعرفون
أعمار آبائهم وأمهاتهم.
وقد اعتاد هذا الحقير على التيمن في كل عام بإنشاء أبيات بالعربية
والفارسية بمناسبة العشرين من جمادى الآخرة، يوم ولادة السيدة فاطمة
الزهراء (عليها السلام) أحببت إنشادها للقراء وإن كانت لا تلائم الطبع:
ماه جمادى درآمد از در شادى * شاد شود هر دلى زماه جمادى
ليك نه أول كه هست يكسره ماتم * بلكه مرا آخر است يكسره شادى
بهتر از أول بود جمادى آخر * حاضر البتة بهتر است زبادى
مبدأ اگر بر معاد گشت مقدم * قصد زغايات بود نى زمبادى
عالم امكان مگر بهشت برين شد * ماه جمادى مگر بهشت بزادى
رحمت حق بر تو باد و زاده پاكت * بهتر از أين زاده نيست پاك نهادى

388
ماه نخستين نهاد بر دل ما غم * ليك تو غم برده أي و عيش نهادى
معدن هر گوهرى و كان زرى تو * آرى گوهر برون شود زجمادى
گوهر تو اختريست زهره زهراء * آنكه بپايش هزار زهره فتادى
نور جمالش برون شد از دل ظلمت * همچو بياض مهى زتيره سوادي
گرنه توئى آيتي زآيه والليل * ازچه رخ از صبح والضحى بگشادى
فاطمة آمد برون زپرده عصمت * آنكه از أو احمد است بر همه هادي
جوهر پاكش زجان پاك پيمبر * آينه حق و رحمت متمادى
آنكه بدى پيشتر زعالم وآدم * بود و نبود از وجود ايشان يادى
آنكه زلطفش بهشت بأشد خندان * همه شده از مهر وى بشادى عادى
آنكه زقهرش بسوى آتش دوزخ * تا به قيامت روند جمله أعادي
گشت ز وى بر خليل آزر گلشن * هم ز وى هستى عاد رفت ببادى
مژده كه دنياست بعد ازاين همه رحمت * هم پس ازاين رحمتستوعيش ارادى
خوان عطاى خداست بيحد و بيمر * در خور هر خوان هزار گونه آبادي
از علل أربعة است علت غائى * هين بهل از فأعلى و صوري و مادي
مريم كبرى كنيز درگه قدرت * نامه آزاديش زلطف تو دادى
فخر كند مريم أر تو با پسر أو * گوئى اگر گوئى انه من عبادي
در شب معراج نور تو به خديجة * داد پيمبر كه إن هذا زادي
مريم كبرى كجا و مادر گيتى * كآورد از نفحه محمد رادى
آن پسر آورد و أين زجان پيمبر * عيسى أنثى نماى نيك نژادى
بهر تو كفوى نيافريد خداوند * جز على مرتضى كه آن به تو دادى

389
حق به سزاى ظلامه كه تو ديدى * كرد بپا محشري و عدلى دادى
فاطميم من بغير تو نشناسم * هم تو شناسى مرا كه نور فؤادي
مبدأ ما از تو بود و رو به تو داريم * روز قيامت كه حكمران معادى (1)



(1) يقول:
لقد ورد شهر جمادى وورد معه الفرح، فغمر السرور كل القلوب.
ولا أعني أول جمادى، فهو مأتم بأجمعه، بل أعني آخره الذي هو عيد بأجمعه.
وجمادى الآخر أفضل من الأول، والحاضر - بالطبع - أفضل من السابق.
ومع أن المبدأ قد تقدم على المعاد، لكن القصد للغايات وليس للمبادئ.
أولم يصبح عالم الإمكان جنة الخلد، أولم تولد في شهر جمادي الجنة.
فعليك سلام الحق ورحمته وعلى أولادك الطاهرين الذين لم يولد كمثلهم.
ولقد ملأ جمادى الأول قلوبنا حزنا، أما أنت - يا جمادى الثاني - فقد أزلت الهم وجئت بالسرور.
أنت معدن كل جوهر وذهب، فقد ولد الجوهر في جمادى.
معدنك - أيتها الزهراء الزاهرة - كوكب يتهاوى عند قدميه ألف كوكب زهرة.
ولقد ظهر نور جمالها من قلب الظلمة، أشبه ببياض البدر في غياهب الليل.
أنت آية من آية «والليل»، مع أن وجهك يحكي صبح «والضحى».
لقد خرجت فاطمة من ستار العصمة، تلك العصمة التي انتمى إليها أحمد هادي البشر.
روحها من روح النبي الطاهر، فهي مرآة الحق والرحمة المتمادية.
وقد سبق وجودها وجود العالم وخلق آدم، فكل الكون ذكرى منها.
الجنة ضحكت من لطفها، والجميع غرق - من محبتها - في البهجة.
وساق غضبها إلى نار جهنم كل من عاداها منذ الأزل إلى يوم القيامة.
وصارت النار بسببها سلاما على الخليل، وفنى بسببها قوم عاد بالريح العاتية.
وبشارة بأن الدنيا لا يزال فيها - بعد كل هذه الرحمة - رحمة وعيش قرير.
والداعية إلى عطاء الله الواسع بلا حد، الذي يعطي لداعيه ألف بيت في الجنة.
فهي من العلل الأربعة العلة الغائية، ودعك من الفاعلية والصورية والمادية.
لقد كانت مريم الكبرى جارية في فناء القدرة، فمنحتها بلطفك صك تحررها.
ولو فخرت عليك مريم بولدها، لرددت عليها - لو رددت - إنه من عبادي.
ولقد وهب النبي نورك لخديجة ليلة المعراج قائلا: إن هذا [من الحنان] زادي.
فأين مريم الكبرى من أم الوجود، التي جاءت بصديقة من نفحة محمد.
فتلك ولدت ابنا، أما هذه فولدت أنثى شبيهة بعيسى، ذات نسب أصيل.
لم يخلق الله لك كفوا، إلا علي المرتضى، فزوجك منه.
ولقد خلق الله الحشر والمعاد من أجل جزاء الظلامة التي لحقت بك.
أنا فاطمي ولا أعرف سواك أحدا، وأنت تعرفيني لأنك نور فؤادي.
كان مبدأنا منك، ومقصدنا إليك، لأنك يوم القيامة حاكمة المعاد.
390
الخصيصة الثانية من الخصائص الخمسين
قال الله تعالى:
(ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء)
تبين أن اليوم السعيد لولادة العصمة الكبرى سلام الله عليها هو العشرين
من جمادى الآخرة، وقد ألف المرحوم الصدوق كتابا في مولد فاطمة وذهب فيه إلى
تعيين هذا اليوم، وكذلك ذهب آخرون في الكتب المؤلفة في مواليد أهل البيت (عليهم السلام)،
حتى صار هذا القول ثابتا تحقيقا، بل متواترا، وعليه عمل علماء الإمامية - كما
ذكرنا - وهم يعظمون هذا اليوم ويجلونه.
ولا أدري هل من الإنصاف أن يمر يوم عظيم كهذا اليوم ونحن غافلون عنه

391
وجاهلون به تماما، ولا نحسبه عيدا كريما ويوما مشهورا نراعي آدابه ونبتهج به؟!
لماذا كل هذه الغفلة؟
إن هذه الغفلة ناتجة عن إغفال بعض الخواص وإهمالهم بالرغم من معرفتهم
فضل هذا اليوم السعيد وشرفه، فإنهم لا يرغبون الناس فيه ولا يحرضونهم على
إحيائه.
ولا شك أن فرح الشيعة وسرورهم في هذا اليوم وإحياءهم لذكرى ولادة
سيدة النساء يدخل السرور على خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) ويرضي رب العالمين ويوجب
دخول الجنة.
أما يوم ولادة الرسول الأكرم ووصيه أمير المؤمنين صلوات الله عليهما - فهي
ولله الحمد - من الأيام المشهورة في بلاد إيران العلية، وهي من الأيام العظيمة عند
الشيعة، حيث تحيي الذكرى بإجلال واحترام، غير أنهم لا يعرفون في الغالب اليوم
السعيد والولادة المباركة والعيد العظيم لولادة الزهراء (عليها السلام)، ولا يعملون بما يلزم فيه
ولا يقدرونه حق قدره (1). وعليهم أن يغتنموا هذه الموهبة الكبرى والنعمة العظمى



(1) أجل، وفقت منذ سنوات امرأة من محجبات حرم المحبة والشيم، المحترمة الفريدة، والمرأة الجليلة
الباسلة، فاحتفلت بهذا اليوم البهيج وأخذت بالبذل والإحسان، ودعت العلويات المحترمات
والفاطميات المكرمات إلى ضيافة كريمة دعت فيها أقرانهن وأترابهن من بنات الملوك وعقائل السلطنة،
وقدمت لهن ألوان الأطعمة والأغذية والحلويات والفاكهة والمشروبات الحلوة، وأعلنت خارج منزلها
ليطلع الأكابر والأكارم والأعاظم والأفاخم من العلويين والفاطميين بكل طبقاتهم ودرجاتهم علماء
وغيرهم، أغنياء وفقراء، كبارا وصغارا، بل حتى الصبيان وقدمت لكل فرد منهم هدايا وعطايا خاصة.
وقد زين هذا العمل - وهو من خير الأعمال - بيت السلطنة أيما زينة، وسجل لهذه الدولة عزة أبدية، وكم
ذاع صيتهم وصار عملهم هذا محبوبا ممدوحا في الخارج والداخل، وأعتقد أن جملة من الأعيان والتجار
اتبعوا هذه السنة في هذه الأعوام وتعلموا من بيت السلطان، ودعوا - وهم ممنونون - السادة بني فاطمة
وخدموهم أيما خدمة، وكم هو رائع وممدوح أن يستن عموم رعايا الدولة القاهرة العلية بناء على «الناس
على دين ملوكهم» بهذه السنة، ليغتنموا هذه الموهبة الكبرى والنعمة العظمى... (من المتن)
392
ويقبلوا على هذه الطاعة المقبولة، فيجعلوا الفرح والسرور في ذلك اليوم شعارا
لهم، ففي ذلك طول العمر وسعة الرزق وقوة الإيمان ورواج الإسلام وتعظيم
الشعائر وتعليم الخير والدلالة على الثواب وإحياء النفوس وابتهاج الخواطر
وتقرب إلى قلوب آل العصمة وأداء لحقوقهم، وإرغام لأنوف أعداء الدين
وإجلال مقام السادات والفاطميين، بل العلماء الأعلام والأعاظم من المجتهدين.
وأفضل الأعمال في هذا اليوم إقامة المجالس ودعوة الناس عامة، لا سيما بني
فاطمة، وتبادل التهاني والتبريكات، وبيان مناقب فاطمة الطاهرة ومآثرها بكل
اللغات نظما ونثرا، لتعمر قلوب المستمعين وتتنور بما تسمع، وتزداد معارفهم،
ويزداد خلوصهم وتشتد محبتهم، وفتنشر هذه الظاهرة، وتعظم هذه الشعيرة.
والأفضل منه إعانة الفقراء من السادة والفاطميات ورعايتهم، خصوصا
الشيوخ والنساء والأطفال منهم، فدعوة هؤلاء الأطهار الأبرار من أبناء آدم
أبو البشر سريعة الإجابة، وبذا ندخل السرور على الروح الفاتحة لفاطمة الزهراء
من خلال محبة ذريتها الطيبة (1).
وقد بذلت ما في وسعي لتفريغ ذمتي وإنجاز ما في عهدتي فيما يخص هذا العيد
السعيد، فحاولت - حد المقدور - أن أجانب القصور والتقصير وأسعى في إشاعة



(1) ويا ليت كان من بذمته شئ من حقوق السادة والأخماس الواجبة يدفعه في مثل هذا اليوم ويقضي ما
فاته فإن المال المختلط بالحرام لا عليه شئ سوى أداء الخمس وسيأتي الحديث عن الخمس وإعانة بني
فاطمة (عليها السلام) في خصيصة خاصة إن شاء الله. (من المتن)
393
هذا الشعار ونشر هذا العمل بإصرار، وأتمنى لو يؤدي المخلصون لأهل البيت ما في
ذمتهم لله ولرسوله في أيام الحزن والسرور وأداء حقها كما ينبغي، لكي لا يتخلفوا
عن إخوانهم المؤمنين غدا يوم القيامة، ويسلكوا في عداد الفاطميين والمحبين، فلا
يحرمون من شفاعة شفيعة يوم الجزاء.
وسأضرب في هذا المقام لأحبتي ذوي البصائر مثالا يكون لهم ميزانا
لحزنهم وسرورهم وفرحهم وترحهم:
فرح من دون ترح
إذا كان عند المرء جوهرة ثمينة للغاية يحتفظ بها منذ سنين ويحملها معه حيثما
يذهب، لا يفارقها في ليل ولا نهار ويحبها حبا جما ولا يقبل الدنيا لها عوضا أو
بدلا، وفي ذات يوم غفل عنها فضاعت أو نسي مكانها الذي وضعها فيه، فهل
يمكن أن نتصور له قرارا؟ وهل يمكن تصور الحالة التي سيعيشها ومدى الأذى
والاضطراب والقلق والانزعاج الذي سينتابه ومقدار الجهد الذي سيبذله في
البحث والفحص عنها، وكم سيبذل من الأموال ويعطي من الوعود في سبيل
الوصول إليها، وسيتهدد ويتوعد ويغري ويرغب ويعطي كل شئ عله يسترجعها
أو يسمع أي خبر عنها، وبعد اللتيا والتي يبشر أنها وجدت، فيأخذها بين يديه
والشوق يغمره والفرح يملأ كيانه ولا يمكن وصف حاله وهو في تلك الحالة لفرط
اغتباطه وسروره.
وهكذا ينبغي أن يكون حال الشيعة الإمامية في ذكرى ولادتها ووفاتها
فرحا وحزنا.

394
وفي الحديث: إن الله أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحلته فوجدها
في ليلة الظلماء (1).
والمثال الذي ذكرته فيه غمط لحق المخدرة الكبرى وتقصير واضح تجاهها
ولكني أعلم أن شيئا من سرور أو شيئا من حزن يدخل السرور عليهم، وأنهم
يعرفون ذلك لمن حزن أو فرح من أجلهم.
مثال آخر: لو أن أحدا زرع بيده بذرة أترج أو ليمون أو نارنج وسقاها
ورعاها وحماها من الحر والبرد وقام عليها ليل نهار حتى أثمرت وأينعت ثمارها،
ولو ثمرة واحدة، كم سيسعد بها ويفرح. ولو انعكس الأمر فسقطت الثمرة أو
اقتطفها متطفل، فكم سيحزن ويغتم؟ فلو أن الناس فرحوا لفرح فاطمة (عليها السلام)
وحزنوا لحزنها بهذا المقدار لكفى.
وكم شاهدنا رجالا بشروهم بمولود ففرحوا وابتهجوا حتى انجروا إلى
الملاهي تعبيرا عن فرحهم (ذلك بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق) (2) وليس
ذلك إلا لفرح الأب بالإبن توخيا للفوائد التي ستعود عليه من تلك الولادة،
وفوائد ولادة فاطمة في الدنيا والآخرة أكثر من فائدة الولد آلاف المرات; منها أن
فرحك وسعادتك في هذا اليوم يعد خدمة لفاطمة (عليها السلام) ونصرا لله ولرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)،
فإذا كان يوم الحشر كان لواء النصر بيد فاطمة (عليها السلام)، وهي «المنصورة» في قوله
تعالى (يومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء) (3) يعني أن نصرك لها



(1) البحار 6 / 40 ح 73 باب 20.
(2) غافر: 75.
(3) الروم: 4.
395
يكون يوم القيامة نجاة لك من نار جهنم.
ولكن شرط الفرح الإيمان بفاطمة في الآية (فيومئذ يفرح المؤمنون)
والإيمان هو الولاية والمحبة فكلما كان أثر المحبة أكثر، كان فرحك - وهو فرع
الإيمان - أكثر، وكلما كان هذا الأصل والفرع فيك أقوى، كان محبتها ونصرتها لك
يوم القيامة أقوى; فالجزاء يقابل العمل والسنة الحسنة.
وقد جمعت - وأنا الكلب الباسط ذراعيه على أعتاب فاطمة الزهراء (عليها السلام) -
ديوانا يتضمن قصائد بالعربية والفارسية كتبتها في مناقب ومصائب ذوي القربى
والعترة الطاهرة آل يس وطه فاجتمعت بمرور الأيام وصارت ديوانا.
منها قصيدة عربية كتبتها قبل سنوات في ولادة المخدرة الكبرى (عليها السلام)، وهي
مجموعة موجزة من أخبار ولادة أم الأئمة الأطهار (عليهم السلام) وأخص خصائصها،
فأنشأتها إكراما لهذا اليوم وتعظيما له، لعلي أشارك فيه بتقديم التهاني وإقامة
الشعائر، فأنال من الموائد التي تعطى للمستطعمين فيه. والمعروف بقدر المعرفة:
أشرقت شمس أحمد بضياها * فأضاءت بنورها ما سواها
طلع الصبح بعد ما طلعت * شمس آل الرسول من بطحاها
شمس أم القرى وأم أبيها * بأبي امها وأمي أباها
يا لشمس إذا تجلت بأرض * بدل الله بالنجوم حصاها
يا لشمس إذا أفاضت قبورا * قامت أمواتها على أحياها
يا لشمس إذا تجلت لأعمت * عين كل الورى بأن لا تراها
يا لشمس تمنيت كل يوم * شمس أفلاكها للثم ثراها
يا لشمس لأسفرت من حجاب * واختفت في حجابها عن حياها

396
قد تجلى الإله فيها بنور * مثل ضوء النهار بل أجلياها
أحمد الله أن شهر الجمادي * قد مضى ما مضى وها آخراها
ولدت فاطم بمكة طهرا * يا لنفس زكية زكاها
ماست أرض الحجاز من شرف * كعروس تزف في مثواها
فأنارت بيوت مكة بل * فوق سبع الطباق نارت سناها
إن فيها مسرة تبدت * في سماء الوجود حتى هباها
كيف اهتز الأخشبان سرورا * وثبير لأجلها وحراها
ضحك المشعران والركن * والحطيم لميلادها وما قد تلاها
وتلألأ لأجمالها فوق عرش * وتعالى جلالها في ذراها
يا لبشرى بمثل ما ولدت * يا لذات تقدست أسماها
يا لبشرى لأمها من وليد * عوضا للذكور من انثاها
هي والله قد تقبلها * ربها بالقبول ثم اصطفاها
آنست امها لوحدتها * حدثتها ببطنها من فاها
حدثتها ببطنها كلمات * ما ينالنها على تقواها
طاب من طيبها المشاعر جمعا * وإلى الآن طاب فيه شذاها
جمع الله امهات بتول * عند ميلادها إلى حواها
وأتحفن من الطرايف ما * لا ترى ولا تحصاها
فتبادرن مشفقات عليها * مع سطل وكوثر في إناها
ثم حفت بحولها باسمات * مثل حف النجوم من جوزاها
وحدت ربها بحسن ثناء * عجز الناس عن أداء ثناها

397
شهدت بالنبوة لأبيها * وعلى بعلها إمام هداها
فتسمت بكل واحدة * من بنيها ومنهم سبطاها
شجر أثمرت بواحدة * واكتفت من ثمارها إحداها
ثمر واحد وفيه ثمار * إنما الصيد كلها في فرآها
أم آل الرسول عصبتهم * هي لولاها لم يكن آل طه
بضعة المصطفى عقيلة وحي * كأبيها الهها أوحاها
أنزل الله في زمان قليل * مصحفا كاملا بروح حواها
زقت من أول الرضاع علوما * من أبيها وزقها من شفاها
ولقد قلت أنها علمت * آخر الكائنات من مبداها
كيف قالت لبعلها فاسئلن * كل ما قد يرى وما لا يراها
كل من يجتني ثمار علوم * أنا ها امها وها مجتناها
أدب الله أربعين سنينا * أحمد المصطفى بكلتا يداها
ولقد كان قد يؤدبها * بصفات حميد قد حواها
فوعى قلبها بعلم جديد * كل يوم بخير ما أوعياها
بأبي من تكون خالصة * عن ميولات نفسها وهواها
بأبي من بكل مشتهيات * أقلعت كالجبال عن مرساها
بأبي ثم اسرتي ثم أهلي * ثم مالي وما سواها فداها
بأبي فاطما شفيعة حشر * بأبي من بحكمها شفعاها
بأبي فاطما وقد فطمت * باسمها نار حشرها ولظاها
بأبي كفوها علي تعالى * هو لو لم يكن ومن أكفاها
هي عين الحياة في ظلمات * وحياة القلوب من جدواها

398
هي والله آية لرسول الله * بل رحمة له أهداها
هي والله كوثر قد أعدت * لبنيها وكل من والاها
هي عند الإله أعظم خلقا * وبها دار في القرون رحاها
هي مشكاة عصمة علقت * من سماء الوجود مثل زكاها
هي بعد النبي أقرب من * ينتميه على ذوي قرباها
هي عين الإله كيف لها * أعين في غطائها يغشاها
هل يكن في الوجود منها شبيه * قل أبوها وبعلها ولداها
إنها خيرة النساء جميعا * ولها الفضل من جميع نساها
ما أرادت من الدنية شيئا * فأبى الله عاجلا في عطاها
أثبتت نفسها بزهد وقالت * في الصباح ليحمدن سراها
إنما الحور أشرفت من قصور * بعيون حوراء حتى تراها
وحسان الجنان مشرفة * حين تضحك بهن من حسناها
أهل بيت النبي سفينة نوح * من أتى أهل بيته لنجاها
هي بنت النبي وبضعتها * وعلى بيته يكن ساكناها
فأتى قومها إليها بظلم * يا لها من ظلامة قد أتاها
ما رعوا حرمة النبي ورهطه * ونسوا ما لهم من الله جاها
منعوا من حقوقها من عناد * من عوالي وحائط وزواها
يا لقوم طغوا لسيدهم * مثل قوم الثمود في طغواها
عقروا ناقة فيا لله * من خطب ما جنى أشقاها
فرقى التيم منبرا لم يكن * جبرئيل الأمين أن يرقاها
وعدي قد اعتدى بعلي * وأنار العدى بها واصطلاها

399
كسروا ضلعها برفس فيا * لله من كسرة على أعضاها
ثم قامت ونادت صارخة * بعويل ورنة وبكاها
هكذا يفعلن قومك بي * ابتا قد لقيت ما أشجاها
وشكت ربها بسقط جنين * قد يطولن في غد شكواها
دملجوها بسوطهم عضدا * كان أعضاد دونها من قواها
وعلي أتى إليها مغيثا * حين نادت لأجل ما قد جناها
شزرا مغضبا كليث * يهرول ويخاف الإله ما قد دهاها
هرب القوم منه لولا * العهد ضاق الفضا على أشلاها
وتلبب بابن حنتمة * وتذكر لما به ووقاها
أين من ذي الفقار مرهف حد * سل عن غمده وعنهم براها
كف عن غرمه بعزمة صدق * وعلى ما قضى به امضاها
كفه عهده ولولاه * مثل طي السجل يطوي طواها
ليت كان النبي ينظر ما * بعده من وليمة أهناها
يا لها من وليمة نزلت * يوم ميلادها كما في سماها
ما رأت أعين الزمان وإن * رئيت مثلها تكن في ذراها
أرغد الله عيشها بنشاط * بارك الله صبحها ومساها
هذه من مواهب * وهب الله في الورى إياها
شهد الله أنها بلغت * بين أترابها بأقصى مناها
كثر الله أجرها يوم أجر * عند مولاتها وكانت جزاها
فدعت نسوة المدينة جمعا * وأعدت لهن من نعماها
فأضافت حرائرا كضباء * يبعثن بها على مرعاها

400
فأعدت لهن متكئا * في قصور ترفعت أعلاها
بذلت دون فضة ذهبا * فأجادت بفقرهن غناها
ذهب أنفقت بعترتها * كشفت عن قلوبهن صداها
يا بنات البتول قلن لها * يا لواها بعيش ما في لواها
ولها حرمة لأصل وفرع * أصلها مالها وفر فتاها
يا لها من فتى وأصل زكي * الذي باسمه الوجود نداها
نفسها روحها حقيقتها * عينها سمعها وأقوى قواها
هي ذلت لابنها مثل أرض * هو ظل لأمها كسماها
ولدت واحدا وضنت عليه * أن تلد ما يلدن من شركاها
ابن سلطاننا وسلطان جيش * وهو كالليث جاثيا في شراها
ومدير الحروب عند نزال * ومبير الكروب يوم وغاها
ولد كان مثل والده * غير سلطانه فقل ما عداها
فأجزه وأجزها لحبهما * يا إلهي لكل من والاها
يا لزهراء لقد أخاف ليوم * تختشي لي ولم أكن أخشاها
يا لزهراء إذا فطمت بأسا * من لهيب اللظى ومن في حداها
أنا ممن فطمتهم من عذاب * ومن الفرقة التي ترضاها
أو من الفرقة الذين تراهم * مع غيظ وما تريد تراها
فتقولي خذي وهذا معادي * خانني في مقالتي بخباها
يا لزهراء فهل لمثلك أن * تعرضن بعترة أخطاها
إنما الويل لي ليوم شديد * كشفت عن حقيقتي وشقاها
إن تعرضت عن عبيدك من * يحتميني وإنني في حماها

401
الخصيصة الثالثة من الخصائص الخمسين
الحمد لله الذي أكمل نوره، وأتم سروره، وقال في كتابه العزيز: (وتمت
كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته) (1) فيا معشر السادة ويا فرقة الشيعة
القادة; أبشروا في هذا اليوم الشريف بالمواهب الإلهية، والرغائب الرحمانية لولادة
أم الأئمة النجباء، وسيدة النساء، والبتول العذراء، والإنسية الحوراء، وشرف
الأرض والسماء، وذبالة مشكاة الضياء، فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه
عليها، وبارك الله لكم من هذه الطلعة الرشيدة، والغرة الحميدة، في هذا العيد
السعيد، مع العيش الرعيد، كما بورك للنبي والأئمة الأطياب الذين هم ورثة النبوة
والحكمة وفصل الخطاب، وقد جعل الله شرق الأرض وغربها بغرة ناصيتها
مستنيرة، وسكانها بأشعة جبهتها مستضيئة، فانظروا (إلى آثار رحمة الله كيف
يحيي الأرض بعد موتها) (2)، وكأنها من وجدها وسرورها بنيت قواعدها على
الابود، وألقت الشمس عليها ردائها، وأرخت النجوم أضوائها سلام الله عليها ما
طلعت الشمس وظلعت الأقمار ما دارت الأفلاك وسارت الليل والنهار، وفوق ما
قيل:



(1) الأنعام: 115.
(2) الروم: 50.
402
إن أباها وأبا أباها * قد بلغا في المجد غايتاها
واها لهذا العيش واها واها
أي گروه مؤمنان شادى كنيد * همچو سرو و سوسن آزادى كنيد
در شكر غلطيد أي حلوائيان * كورى چشم دل صفرائيان
شهر ما امروز پر شكر شود * شكر ارزانست ارزانتر شود (1)
ونعم ما قيل:
جاء السرور مع الفرح * ومضى النحوس مع الترح
أولا: أتقدم في مقدمة هذه الخصيصة - وأنا أضعف العباد وأقلهم قابلية -
لسادتي من ذرية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكافة محبيهم بالتهاني والتبريك بمناسبة ولادة أمهم
الزهراء (عليها السلام).
وثانيا: أقول لكم أيها السادة الأجلاء من بني فاطمة الزهراء (عليها السلام) وسائر
الشيعة الإمامية: أشكروا الله تبارك وتعالى مخلصين - قلبا ولسانا - على هذه
الموهبة الكبرى والنعمة العظمى التي من عليكم العلي الأعلى في هذا الشهر وفي هذا
اليوم السعيد، واعرفوا لهذا اليوم قدره، وانظروا كيف ملأ الله قلب نبي الرحمة
وخلاصة الموجودات محمد المصطفى بالنور، وجعله مفعما بالبهجة والسرور في هذا
اليوم؟! وفتح فيه أبواب رأفته ورحمته وامتن على أنبياءه وملائكته العظام منة لا
غاية لها، فأخرج لهم بنتا خيرا من مريم، وأخرج منها أولادا جعلهم أركان
الوجود وأعيان الجود.



(1) يقول: ابتهجوا أيها المؤمنون، وامرحوا كالسرو والسوسن.
وتقلبوا في الحلوى يا من تحبون الحلوى، وليمت ذوي الصفراء كمدا.
فقد امتلأت مدينتنا بالحلوى، فصارت الحلوى الزهيدة المتوفرة، أكثر توفرا.
403
أم الأئمة أم جمة الولد * بمثلها لم يكن تحبل ولم تلد
سماء الصدق والصفاء، ولمع در ثمين من صدف العفة والحياء، وتنور عالم
الإمكان بنورها الموفور السرور.
فيا أيها الإخوان; لا يفوتنكم شرف هذا اليوم ولا تغفلوا عنه لئلا تصنفوا في
الغرباء والأجانب، بل كونوا من الأولياء والمعارف; فغدا - في يوم الجزاء - ستشد
فاطمة الزهراء عصابة الشفاعة على جبينها النوراني الأغر، فتدفع أعداءها بالقهر
إلى جهنم، وتدخل أحباءها بالرحمة إلى الجنة، فلا تكن يومها حيران تدير طرفك
تتوسل إلى هذا وذاك، تبحث عن من يؤويك لتلجأ إليه، فلا تجد إلا فاطمة العالمة
العارفة بأعدائها ومحبيها، فتطردك فلا يكون لك ملجأ ولا منجى.
وللحب علامات: منها معرفة الحبيب ومعرفة أحواله ومعرفة حزنه
وفرحه. إلا أن تعرض عن محبة فاطمة ولا ترى حاجة إلى شفاعتها، وهذا بنفسه
ذنب كبير لا يغتفر. فمن ذا الذي يستغني عن الساحة الفاطمية المقدسة سواء كان
مذنبا أو غير مذنب؟ ومن ذا الذي يرى نفسه مستغنيا عن شفاعتها؟
أرجو أن تتحقق أمنيتي ويسمع الناس إشارتي فتعمهم البشرى والمسرات،
فنصير بفرحنا في هذا اليوم في عداد أحباء أبناء أهل البيت (عليهم السلام) وأوليائهم.
وأمر من هنا على عجل طالبا الرحمة للمسترحمين وأقول:
ولدت فاطمة الزهراء (عليها السلام) يوم الجمعة - على الرواية الصحيحة - لخمس
وأربعين سنة بعد عام الفيل، وبعد ولادة أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) في عهد يزدجرد بن شهريار
ملك العجم، في مكة المعظمة - زادها الله شرفا وتكريما - في الموضع المبارك الذي
صار في هذه الأعوام مزارا للسنة والشيعة جميعا. ولدت من سيدة النسوان خديجة

404
الطاهرة (عليها السلام) بنت خويلد، فأشرقت بنورها البهيج على مكة والمدينة وتهامة
والحجاز، بل على سائر من في الأرض والأفلاك، فأراحت النبي المختار بقدومها
من عناء الانتظار.
وكان عمر أمير المؤمنين (عليه السلام) يومها خمسة عشر عاما، لأنه ولد (عليه السلام) - على
الرواية المشهورة - بعد مضي ثلاثين سنة من مولد النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم).
فكانت ولادتها (عليها السلام) بعد مضي ستة آلاف ومائتين عاما من هبوط آدم أبي
البشر (عليه السلام)، وأربعمائة وخمسين عاما أو ما يقرب من ذلك من عهد الإسكندر، وبعد
خمسة وعشرين عاما من عام الفجار (1).
وروى بعضهم: كان بين ولادة فاطمة (عليها السلام) وعهد الإسكندر ذي القرنين
تسعمائة وخمسة وعشرين عاما. ولعل الإختلاف ناشئ من اختلاف عهدي
الإسكندرين، أحدهما ذو القرنين الذي ملك الأرض والآخر غيره.
عقم النساء فما يلدن بمثلها * إن النساء بمثلها عقم
* * *
سالها بايدت كه مادر دهر * زايد از صلب تو چو وى فرزند (2)
والخلاصة: كانت فاطمة الطاهرة (عليها السلام) ترى قرنها وعالمها من مقام الأشرف
فالأشرف، وتسير في الحجب، حتى حبست في هذه المرتبة الأدنى فصارت روح
العالمين - فدى العالمين قدومها السعيد -.



(1) قال الجوهري: الفجار من أيام العرب، وفجار بالكسر جمعها أفجرة كان أهل الجاهلية إذا قاتلوا في
الشهر الحرام قالوا «قد أفجرنا». قال المسعودي في مروج الذهب: الفجار حرب عظيمة بين قيس وكنانة
وقعت في الأشهر الحرم التي كان العرب يحرمون القتال فيها. (من المتن)
(2) كان ينبغي للدهر - منذ سنين طويلة - أن يلد من صلبك مثلها ولدا.
405
والآن فليتأمل الأولياء والمحبون ويسروا ويسعدوا بالنظر في الحديث
المروي في أول المجلد العاشر من بحار الأنوار في ولادة أم الأئمة الأطهار، وهو
مجموعة من أسرارها ومناقبها، وقد ذكر في كثير من كتب الشيعة دون اختلاف،
كما روي في أمالي الصدوق (قدس سره) دون زيادة أو نقصان، وكذا في مصباح الأنوار عن
أبي المفضل الشيباني عن الصادق (عليه السلام)، واللفظ من بحار الأنوار:
عن المفضل بن عمر قال: قلت لأبي عبد الله الصادق (عليه السلام): كيف كان ولادة
فاطمة (عليها السلام)؟
فقال: نعم; إن خديجة (عليها السلام) لما تزوج بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هجرتها نسوة مكة،
فكن لا يدخلن عليها ولا يسلمن عليها ولا يتركن امرأة تدخل عليها،
فاستوحشت خديجة لذلك، وكان جزعها وغمها حذرا عليه (صلى الله عليه وآله وسلم).
فلما حملت بفاطمة كانت فاطمة (عليها السلام) تحدثها من بطنها وتصبرها، وكانت
تكتم ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فدخل رسول الله يوما فسمع خديجة تحدث
فاطمة (عليها السلام)، فقال لها: يا خديجة من تحدثين؟ قالت: الجنين الذي في بطني يحدثني
ويؤنسني، قال: يا خديجة هذا جبرئيل يبشرني يخبرني أنها أنثى، وأنها النسلة
الطاهرة الميمونة، وأن الله تبارك وتعالى، سيجعل نسلي منها وسيجعل من نسلها
أئمة ويجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه.
فلم تزل خديجة (عليها السلام) على ذلك إلى أن حضرت ولادتها، فوجهت إلى نساء
قريش وبني هاشم أن تعالين لتلين مني ما تلي النساء من النساء، فأرسلن إليها:
أنت عصيتنا ولم تقبلي قولنا وتزوجت محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) يتيم أبي طالب فقيرا لا مال له،
فلسنا نجيء ولا نلي من أمرك شيئا، فاغتمت خديجة (عليها السلام) لذلك، فبينا هي كذلك إذ

406
دخل عليها أربع نسوة سمر طوال كأنهن من نساء بني هاشم، ففزعت منهن لما
رأتهن، فقالت إحداهن: لا تحزني يا خديجة فإنا رسل ربك إليك ونحن أخواتك:
أنا سارة، وهذه آسية بنت مزاحم وهي رفيقتك في الجنة، وهذه مريم بنت عمران
وهذه كلثم أخت موسى بن عمران، بعثنا الله إليك لنلي منك ما تلي النساء من
النساء، فجلست واحدة عن يمينها، وأخرى عن يسارها، والثالثة بين يديها،
والرابعة من خلفها، فوضعت فاطمة (عليها السلام) طاهرة مطهرة.
فلما سقطت إلى الأرض أشرق منها النور حتى دخل بيوتات مكة، ولم يبق
في شرق الأرض ولا غربها موضع إلا أشرق فيه ذلك النور، ودخل عشر من
الحور العين كل واحدة منهن معها طست من الجنة وإبريق من الجنة، وفي الإبريق
ماء من الكوثر، فتناولتها المرأة التي كانت بين يديها فغسلتها بماء الكوثر،
وأخرجت خرقتين بيضاوين أشد بياضا من اللبن وأطيب ريحا من المسك والعنبر،
فلفتها بواحدة وقنعتها بالثانية، ثم استنطقتها فنطقت فاطمة (عليها السلام) بالشهادتين
وقالت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن أبي رسول الله سيد الأنبياء، وأن بعلي سيد
الأوصياء وولدي سادة الأسباط، ثم سلمت عليهن وسمت كل واحدة منهن
باسمها، وأقبلن يضحكن إليها، وتباشرت الحور العين، وبشر أهل السماء بعضهم
بعضا بولادة فاطمة (عليها السلام)، وحدث في السماء نور زاهر لم تره الملائكة قبل ذلك،
وقالت النسوة: خذيها يا خديجة طاهرة مطهرة ميمونة، بورك فيها وفي نسلها،
فتناولتها فرحة مستبشرة وألقمتها ثديها فدر عليها.
فكانت فاطمة (عليها السلام) تنمى في اليوم كما ينمى الصبي في الشهر، وتنمى في

407
الشهر كما ينمى الصبي في السنة (1).
وفي الحديث عشر بشائر كبرى:
الأولى: تكلم الزهراء (عليها السلام) في رحم أمها في أيام الحمل عدة مرات.
الثانية: حضور جبرئيل وتبشير النبي بأنها أنثى، وأن نسل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
سيكون منها.
الثالثة: مجيء النساء الأربعة المحترمات وتبشير خديجة بأنهن رسل الله.
الرابعة: إشراق الأنوار الفاطمية في بيوت مكة وشرق العالم وغربه.
الخامسة: مجيء الحوريات العشرة مع الطست والإبريق وماء الكوثر
والخرقتين البيضاوين بالصفة المذكورة.
السادسة: نطق المخدرة الكبرى بالشهادتين وذكر أسماء الأئمة
المعصومين (عليهم السلام)، واستبشارها بذكر كل واحد منهم.
السابعة: ظهور ذلك النور البديع في السماوات.
الثامنة: تبشير الملائكة بعضهم بعضا بولادتها (عليها السلام).
التاسعة: الإخبار عن طهارة الذات ويمن القدوم.
العاشرة: نمو فاطمة (عليها السلام) بالصفة المذكورة، لا كبقية الصبيان.
والآن فلينصف المحب ولينظر أن أكثر ما روي في كتب المناقب والكافي
والفقيه والعيون من خصوصيات في ولادة الأئمة جميعا، قد ذكر في هذه الرواية في
حق فاطمة (عليها السلام)، بل أكثر.
وقد ورد في هذا الحديث ما يقبله أهل السنة والجماعة ويروونه أيضا،



(1) بحار الأنوار 43 / 2 ح 1 باب 1 عن الأمالي:
408
كتكلمها وهي في رحم خديجة (1).
وما ذكر في حق فاطمة (عليها السلام) من أوصاف وعلائم خاص بالمعصوم
والمعصومة فقط.
والحديث دليل على أفضلية فاطمة (عليها السلام) على النساء الأربعة سيدات نساء
العالمين، لأنهن أمرن بخدمتها، والمخدوم أفضل من الخادم، وسيأتي حديث آخر في
خدمة مريم لفاطمة وتمريضها أيام علتها، والحديث صحيح.
وكذا سعدت الحور العين بخدمتها في مواقع أخرى.
وكل ذلك يدل على كمال إنسانيتها - وهي منبع العفاف ومعدن العصمة
والشرف - وأفضليتها على سائر نساء الأولين والآخرين، وإحاطة علمها بكل
شئ كان أو هو كائن، وكمال توحيدها ويقينها وعرفانها وإيمانها.
ويدل الخبر أيضا على ولادتها بعد البعثة ونزول الوحي - خلافا للمخالف -
لأنه نص على حضور جبرئيل وتبليغه البشارة.
وانقدح في ذهني نكتة - وأنا أقرأ الحديث - وكأنها من إيحاءات الحديث،
وهو أن فاطمة الزهراء (عليها السلام) هي المولود الأول لخديجة، بل هي المولود الوحيد لها،
أن بناتها الأخريات من الأزواج الآخرين.
والعجيب أن التاريخ لا يروي لنا استعانة خديجة بنساء بني هاشم في ولادة
بناتها الاخريات، مع أنهن سبقن فاطمة (عليها السلام) بالولادة، وكانت خديجة في الولادة
الأولى وما بعدها أحوج إلى من يعينها من الولادة الأخيرة، فإن كانت قد
استدعتهن من قبل ولم يجبنها، فكيف تستعين بهن مرة أخرى؟ إلا أن يقال أنها لما



(1) سيأتي الكلام عنه في الحديث عن أحوال مريم (عليها السلام). (من المتن)
409
ولدت فاطمة (عليها السلام) لم يكن عندها جارية ولا خادمة!! بينما كانت في السابق مستغنية
عن النساء بجواريها وخدمها.
وإذا كان عمر خديجة يوم دخولها بيت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) خمسة وأربعين سنة
- على الرواية المشهورة - وكان عمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يومها خمسا وعشرين سنة، يعني
أنها لازمت خدمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثين عاما، وكان هجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في عام الحزن;
العام الذي رحلت فيه خديجة وأبو طالب، وقد ذكرت التواريخ والسير أبناء ذكورا
لخديجة (عليها السلام) توفوا جميعا في حياة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، منهم القاسم والطاهر والمطهر،
ولم نجد في ولادة أي واحد من ذكورها إناثها أثرا لما ذكر لولادة فاطمة من أحداث
اكتنفت الولادة (1). فإذا كانت خديجة بالعمر المذكور، وكانت فاطمة أصغر بناتها -
ونحن لا نعرف بالضبط متى رزقت بناتها وأبناءها، وفي أي سنة من عمرها
الشريف -. فإن كان كذلك أي كان عمر خديجة يوم دخولها بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خمسة
وأربعين سنة، وكانت زينب كبرى بناتها أكبر من فاطمة بخمسة عشر عاما، يلزم
أن يكون عمرها عند ولادة فاطمة (عليها السلام) ستين سنة، وهو بعيد إلا أن يقال أن خديجة
دخلت بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل الخمس والأربعين.
على أي حال لا بد من النظر في الأخبار وجمعها عن طريق أهل البيت (عليهم السلام)
ولي - أنا الحقير - مشرب مأخوذ من الأقوال الصحيحة والعقائد المعتبرة للعلامة
المجلسي (عليه الرحمة) وأمثاله من علماء السلف المتوغلين في هذه الطريقة،
والمأنوسين بأقوال الأئمة الطاهرين، وسيأتي في خصيصة آتية بعون الله تعالى ما
نحل به المشكلة ونسأل الله التوفيق.



(1) ومنهم من ذهب إلى أن بنات خديجة الطاهرات لم يكن من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذكروا لذلك أدلة صحيحة.
(من المتن)
410
تعليق فيه تحقيق: في سؤال خديجة ما سألته أم مريم (عليها السلام)
نذكر في هذا المورد بعض الأخبار المعتبرة، وستخلص منها النتائج المفيدة إن
شاء الله، منها ثلاثة أخبار لا محيص من ذكرها، وكل واحد منها يدل دلالة صريحة
واضحة على جلالة شأن خديجة الطاهرة وفاطمة المطهرة (عليهما السلام).
الأول: روى عن طريق الشيعة في تفسير أهل البيت وتفسير منهج الصادقين:
لما حملت خديجة (عليها السلام) بفاطمة دعت الله كما دعته امرأة عمران بن ماثان أم مريم،
فقالت: يا رب إنك سميع عليم تعلم أني أفضل من امرأة عمران، وبعلي أفضل من
عمران، وقد نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني، فهبط الأمين جبرئيل وقال:
قل يا رسول الله لخديجة أن الله يقول «لا إعتاق قبل الملك، خلي بيني وبين صفوتي
فإني أملكها هي أم الأئمة وعتيقتي من النار» فقالت خديجة: فرحت بهذه
البشارة (1).
وفي الحديث نكات ينبغي توضيحها:
أولا: إن هذا النذر كان مشروعا في سالف الأزمان حيث كان الأب ينذر
ابنه ليكون خالصا للعبادة والخدمة في بيت المقدس، وكان متعلق النذر هم الأولاد
الذكور، لما للإناث من موانع تمنعهن من المكث دائما في المسجد كالحيض وغيره،
وكان يومها أولاد وغلمان كثيرون محررون لبيت المقدس، حتى قيل أنهم بلغوا
أربعة آلاف، وأم مريم نذرت ما في بطنها على وجه العموم، ولم تحدد ما إذا كان
ذكرا أو أنثى، كما أخبر عنها القرآن الكريم (إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت



(1) تفسير منهج الصادقين 2 / 217.
411
لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم) (1).
ثانيا: أرادت خديجة أن تعمل بالنذر المشروع سابقا، بنية أن يكون
مشروعا في الشريعة الجديدة، فنذرت ما في بطنها على وجه العموم ليكون محررا
لخدمة المسجد الحرام خالصا لوجه الله، فلا يشتغل بخدمة من الخدمات الدنيوية.
ثالثا: هبط جبرئيل ليقول «لا إعتاق قبل الملك»، والعتق تحرير العبد
وتخليصه من الرقية، ولذا سميت الكعبة «البيت العتيق» لأنها لا تملك، فالعبارة
تعني أن فاطمة مملوكتي، فأنى لك عتقها؟!
رابعا: قال «هي أم الأئمة»، وهذه البشارة أفرحت خديجة، فأي علاقة بين
هذه البشارة وبين مقصودها؟!
خامسا: قال «وعتيقتي من النار»، فأي جواب هذا لخديجة الطاهرة؟!
والجواب الصواب لهذه المقالات الخمسة تجده في الحديث الشريف المروي في
أصول الكافي، وأحاديث أهل البيت يبين بعضها بعضا.
الثاني: روى في الكافي عن الصادق (عليه السلام) قال: إن الله تعالى أوحى إلى عمران
«إني واهب لك ذكرا سويا مباركا يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله،
وجاعله رسولا إلى بني إسرائيل» فحدث عمران امرأته حنة بذلك، وهي أم
مريم، فلما حملت كان حملها بها عند نفسها غلام (فلما وضعتها قالت رب إني
وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى) (2) أي لا يكون البنت رسولا... (3)



(1) آل عمران: 35.
(2) آل عمران: 36.
(3) أصول الكافي 1 / 535 ح 1.
412
الثالث: في معاني الأخبار وتفسير علي بن إبراهيم القمي: دخل ابن
أبي أسعد (1) على الرضا - صلوات الله عليه - فقال له: أبلغ الله من قدرك أن تدعي
ما ادعى أبوك؟ فقال له: مالك أطفأ الله نورك وأدخل الفقر بيتك، أما علمت أن الله
تبارك وتعالى أوحى إلى عمران: إني واهب لك ذكرا فوهب له مريم، ووهب لمريم
عيسى، فعيسى من مريم، ومريم من عيسى، ومريم وعيسى شئ واحد، وأنا من
أبي وأبي مني، وأنا وأبي شئ واحد (2).
والمراد أن الله أوحى إلى عمران «بشارة الولد» وهو دليل على نبوته، وذكر
المجلسي قولا في نبوته، وذكر في موضع آخر أنه كان إمام بني إسرائيل وصاحب
قربانهم - وكانت حنة جدة عيسى اعتقدت بالوحي الإلهي والبشارة السماوية التي
بشرها بها زوجها، وكانت تنتظر الولد الوعود، فلما حملت نذرت ما في بطنها محررا
لما اعتقدتها من كونه ذكرا، فلما وضعتها أنثى (قالت إني وضعتها أنثى وليس الذكر
كالأنثى) أي إنك وعدتني بذكر يكون رسولا وهذه أنثى.
قال المفسرون: كان حق العبارة أن تقول «ليس الأنثى كالذكر» فعكست.
قال البيضاوي: جعلت الأصل فرعا والفرع أصلا لإثبات المراد كما يقال: القمر
كوجه زيد مع أن القمر هو الأصل وزيد هو الفرع، وهو استعمال جار في الأعم
الأغلب في المبالغات في نفي التشبيه والجنسية.
قال علي بن الحسين المسعودي: «مراد حنة أن الولد الموعود في الفضل
والعمل والإخلاص ليس كمثل هذه البنت، والرسالة خاصة بالذكور وليس



(1) في البحار: «ابن أبي سعيد المكاري».
(2) البحار 25 / 1 ح 1 من أبواب خلقهم وطينتهم... عن المعاني.
413
للإناث نصيب فيها» وهو الحق لأن الله أعطى مريم (عليها السلام) عيسى فعرفت حنة أنه
الولد الموعود، وابن البنت ابن.
أما خديجة فإنها كانت تعلم بأن وليدها أنثى، للبشرى التي سمعتها من
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيام حملها، فكان دعاؤها أن يرزق الله بنتها ما رزقه مريم، فأجابها الله
الرؤوف المنان أن فاطمة الزهراء «مملوكتي» مكان قوله (فتقبلها ربها بقبول
حسن)، وبشرها بالتحرير وعاقبة التحرير والفائدة المتوخاة منه إنما هي العتق
من النار، فبشرها الله بذلك وحقق مرادها ومطلوبها.
وقال: إذا كنت أعطيت مريم ولدا واحدا، فإني معط فاطمة (عليها السلام) أولادا
عديدين. وإذا كان عيسى مباركا، فأولاد فاطمة (عليها السلام) مباركون وهم أئمة العباد في
الأرض إلى يوم القيامة، وكل منهم حجة لله على الخلق أيام حياته.
ويستفاد من حديث الإمام الرضا (عليه السلام) أن الأئمة المعصومين كلهم نور وحد
وسبيلهم واحد لا تغاير بينهم.
ثم قال الله في حديث خديجة إن فاطمة «صفوتي» بإزاء اصطفاء مريم، حيث
قال: (إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين) (1) فمريم اصطفيت
من نساء عالمها وفاطمة «صفوة» الله من نساء العالمين.
ولربما تكلمت فاطمة الزهراء (عليها السلام) عند الولادة لتنبأ أمها خديجة بإنجاز
الوعد الموعود، فذكرت أسماء الأئمة المعصومين (عليهم السلام) لتعلم خديجة وتتيقن أن
المولود هي أم الأئمة الذين سينورون فيما بعد عرصات الوجود والشهود.
وعليه فإن حنة حررت ما في بطنها وكانت النتيجة الخالصة لهذا التحرير



(1) آل عمران: 42.
414
عيسى (عليه السلام)، وخديجة الطاهرة حررت ما في بطنها أيضا فكانت النتيجة أحد عشر
إماما معصوما (عليهم السلام) يقتدى عيسى النبي العظيم بآخرهم.
فخديجة أفضل من حنة، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل من عمران، وأبناء فاطمة (عليها السلام)
أفضل من عيسى (عليه السلام)، وهو ما قاله حسان بن ثابت في شعره:
وإن أحصنت مريم فرجها (1) * فجاءت بعيسى كبدر الدجى
فقد أحصنت فاطم بعدها * فجاءت بسبطي نبي الهدى (2)
ولا يخفى أن عتق فاطمة الزهراء (عليها السلام) من النار المذكور في الحديث يعني
التحرير واقعا، ويعني الحرية، وكونها «الحرة» كما مر في الحديث عن معنى
«الحرة»، وهو معنى اسم «فاطمة»، أي إن الله فطمها وأعتقها وذريتها وشيعتها من
النار، كذا في كتب العامة فضلا عن الخاصة.
تشريف شريف
إعلم; إن فاطمة (عليها السلام) ولدت في مكة المكرمة في بيت خديجة الطاهرة، وكان
ملكا خاصا لها، وهو معروف بدار خزيمة، وعرف في هذا الزمان بمولد فاطمة (عليها السلام)،
يزوره أهل مكة وغيرهم، والمطوفون والخدام يعلمون مدى محبة الحجاج العجم
لفاطمة، لذا يبادرون إلى إرشاد الخاص والعام منهم ممن لا يعرف المكان، ليزوروا
ويتبركوا فينالون منهم شيئا من العطاء.
وقد زرت ذلك المحل المبارك ووجدت فيه صفاءا وروحانية ونورانية



(1) في البحار: «وإن مريم أحصنت فرجها».
(2) البحار 43 / 50 ح 46 باب 3.
415
خاصة، ومهما طال المقام بمحب آل العصمة في تلك الحجرة الشريفة، فإنه لا يتعب
ولا يتضايق، بل يود لو يبقى الدهر كله هناك. وشهد الله وعلم أنك ترى نزول
البركات وإفاضة الرحمات محسوسة مشهودة هناك في كل آن; كيف لا وهو موضع
إجابة الدعوات وقضاء الحاجات، وقد سعد به أهل مكة.
وفي كتاب الدر الثمين في فضائل البلد الأمين للشيخ أحمد الحضراوي: إن
العرصات المنيفة والأماكن الشريفة في مكة التي لا يرد فيها الدعاء هي: عند
الحجر الأسود، والحطيم، والمستجار، وزمزم، والملتزم، وتحت الميزاب، وداخل
الكعبة، وخلف المقام، وبيت خديجة، ولكنه قيد الحضور فيه بليلة الجمعة، وقيد
الحضور في مولد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بيوم الاثنين.
وقال أهل السنة: إن مولد فاطمة أشرف البقاع المباركة في مكة المكرمة،
لأنها موضع ولادة بنات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الطاهرات.
وقال الدياربكري: دار خديجة امتلكها عقيل بن أبي طالب وباعها لمعاوية
بن أبي سفيان فجعلها في المسجد (1) مع أنه مولد فاطمة (عليها السلام)، وهو معارض لما قيل.
ومن مفاخر الإنسان أن يكون محل ولادته معلوما محددا.
نعم إن ولادة فاطمة الزهراء (عليها السلام) كانت في أفضل الأمكنة وأشرف البقاع
وأقدس المواضع على وجه الأرض، كانت في الموضع الشريف المبارك الذي كان
مختلفا لجبرئيل الأمين والملائكة الكروبين ومهبط الوحي والتنزيل.
ويكفي في جلالة فاطمة وعلو قدرها أنك لا تسمع ذكرا لبنات خديجة
الطاهرات في هذا البيت منذ أول البعثة وإلى يومنا هذا، وإنما يزوره المجاور والزائر



(1)
416
لأنه مولد فاطمة فقط، فيضع وجهه متذللا متضرعا على تلك الأعتاب، ويرفع
يديه مبتهلا في غاية الرقة، ويتحسس لهيب الأشواق، وفي مكة بيوت أخرى
ولدت فيها بعض أمهات المؤمنين وغيرهن من مشاهير النساء، غير أنك لا تجد
من يعبأ بها أو يقبل عليها مخالفا كان أو مؤالفا.
أراد الله لهذا الاسم المبارك أن يشيع ويذيع بين أهل مكة، وجعل محل
ولادتها - وهي المستورة الكبرى - موضعا لإجابة الدعاء وموطنا لنزول
البركات، وكيف لا يكون كذلك؟ وهي شجرة طاب أصلها، وبسق فرعها،
وعذب ثمرها، وبورك في الذر قدرها، وقدست في الزبر وضعها.
* * *
[حكاية زيارة المستنصر لسر من رأى]
ورأيت في مصدر معتبر أن المستنصر العباسي لما وصل سر من رأى سأل
عن قبور آبائه، فدلوه على موضع جمعت فيه القاذورات وصار مزبلة يغطيها ذرق
الطيور والخفافيش، فلما تشرف بزيارة الإمامين العسكريين (عليهما السلام) رأى القناديل
الثمينة معلقة، والسجاد الغالي مبسوط، والشموع الكافورية مشتعلة، والمجامر
والبخور والطيب منتشر، وشذى العطور يملأ الأجواء، والروضة الشريفة مزدحمة
بالزوار، رجالا ونساءا، شيبا وشبانا، يطوفون حول القبر المقدس ويطلبون
الحاجات.
فقال أحد الحاضرين للمستنصر: كانت الدنيا بأيديكم تحكمون البلاد
وتتسلطون على رقاب الناس، ما خدمت الدنيا أحدا كما خدمتكم، ولا سلطت

417
أحدا كما سلطتكم وألقت بمقاليدها إليكم، وهذه قبوركم خربة ومزابل ترمى فيها
قاذورات الناس والبهائم، بينما كان العلويون والفاطميون مقهورين ومغلوبين،
انزوت الدنيا عنهم، فلم تمكن منهم أحدا، فلا سلطان ولا حكم ولا اقتدار دنيوي،
عاشوا فقراء وماتوا غرباء، وهذه قبورهم عامرة يقصدها الناس من أقاصي البلاد
ويطوفون حولها ويزورونها ويتبركون بها وينذرون لها ويستشفعون بتربتها
ويشعلون الشموع والقناديل عندها كل ليل، فما أعجب هذا الأمر وما أغربه؟!
فقال المستنصر: هذا أمر سماوي وتأييد إلهي لا يحصل باجتهادنا، ولو أمرنا
الناس به ما قبلوا، ولو بضرب الرقاب وسفك الدماء.
والأعجب أن أحد علماء العامة روى هذه القصة وعلق عليها مؤيدا قول
المستنصر فقال: «هذا لا يحصل بالقهر ولا يمكن بالإكرام».
الحاصل: إن أمر السلطنة وأمر النبوة متباينان متغايران، والمناط مدى
الإتصال بساحة القدس الربوبي والتقرب إلى الحق تبارك وتعالى. وهما في فاطمة
وأولاد فاطمة (عليها السلام) بمستوى الكمال، ومن آثاره توجه النفوس وإقبال القلوب على
مراقدهم المطهرة ومشاهدهم المقدسة ومواليدهم المتبركة إلى يوم القيامة.
والعجيب أن هذا التعظيم والتكريم لا يفتر ولا يقل على مدى الدهور وكر
العصور، بل يزداد يوما بعد يوم، وما سمعنا - قط - أن رجلا شد الرحال لزيارة
أحد الخلفاء العباسيين أو أحد الأكاسرة أو القياصرة، وإذا كانت للسلاطين حرمة
أيام حكمهم، فلما عندهم من أموال ودنيا دنية وزخارف فانية، وفي هذا دليل على
أن الناس يتهافتون على السلطان في حياته طمعا في دنانيره ودراهمه ولا يهمهم
شخصه، وهو دليل أيضا على بطلان دعوى الأحقية التي كانوا يدعونها اعتمادا على
اتباع الناس لهم.

418
والأمر يعود إلى صدر الإسلام، إلى الذين أسسوا هذا الأساس الباطل
الفاسد وسببوا بقاء الخلافة وولاية الأمر في خلفاء الجور وأرباب الدنيا وأهل
القهر والتسلط، فصارت وراثة النبوة بالسلطنة والاستيلاء والغلبة.
وعلم الله أن معاوية ابن أبي سفيان - خال المسلمين - وعصابته اللقيطة التي
لا ايمان لها هم الذين أقاموا هذا البنيان. وأشاعوا هذا الإنحراف الفضيع، وأسسوا
هذا الأساس الشنيع.
وعلى هذا فقس الدواعي والأغراض المكنونة لأهل الخلاف والمتعصبين بلا
إنصاف.
* * *
[عودة إلى الموضوع]
ولقد خرجت عن صلب الموضوع، والغرض بيان وجوب إقامة شعائر آل
العصمة والطهارة على كل شيعي حسب القدرة والاستطاعة، لأنها إعلاء لكلمات
الله، وترويج لشعائر الشريعة المطهرة الغراء، وهي فرض حتم كباقي الفروض.
ومن الشعائر التي يقيمها الزوار الشيعة والسنة بالإتفاق زيارة مولد فاطمة
في بيت خديجة الطاهرة في مكة المكرمة، فإقامة هذه الشعائر وبقاء هذه الآثار لها
وقع خاص في القلوب والأنظار، وهي برهان واضح لنا - معاشر الشيعة - على
صدق تلك التشريفات المباركة التي قام بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجبرئيل وخيار النسوان
وحوريات الجنان في هذا المكان، وتشريف هذا البنيان الذي شيد لفاطمة الزهراء
سلام الله عليها.

419
والحمد لله الذي جعل أعداءنا يذعنون ويقرون بما نعتقد ونعمل، وما دام
الأمر كذلك فلا يغفل الحجاج عن الحضور في ذلك المولد المكرم والمكان المعظم،
فلا يحسبونه أقل شأنا من «بيت لحم» الذي ولد فيه عيسى ابن مريم (عليهما السلام) الذي
صار مزارا للنصارى، فليزوروا مولد فاطمة (عليها السلام) كل يوم مدة إقامتهم هناك لينالوا
السعادة، ولا يفوتهم الفوز بالزيارة.
في بيان المواليد في مكة المكرمة ومحال استجابة الدعاء
واعلم أن من مواليد المعصومين (عليهم السلام) المشهورة في مكة ثلاث موالد:
أحدها: مولد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وثانيها: مولد أمير المؤمنين (عليه السلام) في الكعبة في الركن اليماني على الرخامة
الحمراء على رأي الشيعة وجماعة من أهل السنة.
وثالثها: مولد فاطمة الزهراء صلوات الله عليها.
ومولد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في زقاق مكة المعروف ب‍ «زقاق المولد» في الشعب
المعروف بشعب بني هاشم في الطرف الشرقي من مكة، وهو مزار معروف يزدحم
فيه أهل مكة في الثاني عشر من ربيع الأول يوم ولادة الرسول عند السنة،
ويحتفلون ويظهرون السرور والفرح والابتهاج ويلبسون أفخر ثيابهم ويتطيبون
وينشدون الشعر، ثم يتوجهون منه إلى مولد فاطمة (عليها السلام).
أما مولد عيسى (عليه السلام) المعروف في «بيت اللحم» بالقرب من بيت المقدس فهو
مزار معروف في هذه الأيام، وقد تشرفت بعد زيارة مدينة الخليل بزيارة قدس
الخليل، ورأيت النصارى يقدسون ذاك المكان ويعظمونه أشد تعظيم، والظاهر من

420
حديث المعراج أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى في ذلك الموضع، ولكن كثيرا من الأخبار تدل
على أن مولد عيسى (عليه السلام) كان في أطراف الفرات والكوفة وكربلاء، بل على رواية
الشيخ الطوسي عن السيد السجاد (عليه السلام) أنها كانت في كربلاء، وهي المراد من قوله
(فانتبذت به مكانا قصيا) (1) أي كربلاء (2).
نعم قد يكون لحم هو المكان الذي أجلست فيه عيسى عند رجوعها من
كربلاء.
وأنكر العلامة المجلسي على من استبعد ولادة السيد المسيح في كربلاء،
وقال: «لعلها محمولة على التقية لاشتهارها بين المخالفين» (3) أو أنها اشتهرت على
ألسنة أهل الكتاب لتكون حجة عليهم.
الخلاصة: كما أن الساعة واليوم والشهر والسنة التي ولدت فيها فاطمة
الطاهرة صارت شريفة مباركة وصار الزمن سعيدا بها، فكذلك مكان ولادتها،
إضافة إلى أن منزل خديجة كان مختلف الملائكة ومهبط الوحي والتنزيل مدة من
الزمان، ثم جاءت ولادة السيدة المخدرة (عليها السلام) هناك تزيد المكان مزية على مزية،
وخصوصية فوق خصوصية.
والآن نحن بعيدون عن ذاك المكان، فحق علينا أن نؤدي حق زمان ولادتها
في العام مرة، وكما أن مكان ولادتها من محال إجابة الدعاء فكذلك يوم ولادتها.



(1) مريم: 22.
(2) روى في البحار 14 / 212 ح 8 باب ولادة عيسى (عليه السلام) عن التهذيب 6 / 73 ح 8 في حد حرم
الحسين (عليه السلام) عن علي بن الحسين (عليهما السلام) في قوله تعالى (فحملته فانتبذت به مكانا قصيا) قال: خرجت
من دمشق حتى أتت كربلاء فوضعته في موضع قبر الحسين (عليه السلام) ثم رجعت من ليلتها.
(3) البحار 14 / 215 ح 13 باب ولادة عيسى (عليه السلام).
421
والأفضل أن ننشر فضائلها ونروي مناقبها ونذكر كراماتها وآياتها الباهرة
من المبدأ إلى المعاد، ولا يكون ذلك إلا في المحافل والجوامع والمساجد والمجامع
العامة والبيوت الرفيعة للأعاظم من بني فاطمة وأكابر السادات، سيما العلماء منهم.
وينبغي أن يشجع شعراء العرب والعجم، ويرغبون في إنشاد الشعر ونظم
القصائد، والإكثار من المديح وإكرام المادحين والذاكرين وإتحافهم بالهدايا، وشد
قلوب المحبين وشحذ هممهم وإجراء الدموع من أعينهم، وتهييج العوام فهذه
الأعمال ممدوحة أيما مديح ومستحسنة أيما استحسان.
لهذا تقدمت - أنا الحقير - مع طبعي الجامد الخامد بقصيدة تضمنت أبياتا
بالفارسية أقدمها لأعتاب أبيها العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) أشرف المخلوقات وأفضل سكان
الملكوت الأعلى وسيد البشر، لأبارك له هذا اليوم، فلعل بيتا من أبياتها ينطلق من
القلب الصافي ويسجل في سجلي، فيرحمني الباري وينقذني من ذلتي ومسكنتي إن
شاء الله تعالى.
أي ماه دو هفته اختر آوردى * أي در يتيم گوهر آوردى
أي نور خدا زجيب عصمت * يعنى زخديجه دختر آوردى
گويا كه نبود بهتر از دختر * گر بود پسر تو بهتر آوردى
بخ بخ زين دختر پسرزاى * كز وى چو شبير شبر آوردى
از مركز آسمان رفعت * تابنده چو ماه انور آوردى
أي قطب وجود و أصل ايجاد * بهتر تو زمهر خاور آوردى
از نافه ناف خطه خاك * يك توده زمشك و عنبر آوردى
هستى دادى به كشتى امكان * أي كشتى هستى لنگر آوردى

422
خود صادر اولى وز اول * يك صادر ديگر مصدر آوردى
از گلشن غيب عالم قدس * يك گلبن گل معطر آوردى
از شاخ درخت آفرينش * از كشته خويشتن برآوردى
هم تلخى كأم ما از امروز * بيرون كردى و شكر آوردى
عالم عرض است و اندر أين عالم * از جوهر خويش جوهر آوردى
هم از پس پرده سر پنهان * پيدا كردى و يكسر آوردى
جانى به جهان دوباره دادى * يك باره روان ديگر آوردى
أي آينه خدا نمائى * أين آينه را تو مظهر آوردى
أين تاج شفاعتست كامروز * در قوس نزول باسر آوردى
بالاتر از آن مقام محمود * بيت الحمدى تو برتر آوردى
مستوره خلق و اسم أعظم * بر لوح قضا مقدر آوردى
هم نور وجود فاطمى را * در أين عالم بپيكر آوردى
از ميوه جنت أين وديعت را * در مخزن صلب أطهر آوردى
از بهر محك نقد ايجاد * صراف وجودى و زر آوردى
هم جنت خلد را به دنيا * بر أين صورت مصور آوردى
سهل است هزار حور و غلمان * رضوان خداى أكبر آوردى
أي پادشه سرير لولاك * بر فرق وجود أفسر آوردى
هم سايه فكندى بر سر خلق * أي طاير قدس شهپر آوردى
برهان پيمبرى است با تو * يا آنكه چو خود پيمبر آوردى
هم نور مقدس الوهيت را * بر ديده پاك حيدر آوردى

423
يكتاست علي و نيست همتايش * أو را به على برابر آوردى
نه سالش پروردى به ريشه جان * تا جوجه عصمتش پر آوردى
مهرى كه خداى داد آن را * با دل داري و دلبر آوردى
از مهر ابوت مهر ديگر * افزودى و مهر مادر آوردى
هر دم كه به خواب آرميدى * بوسيدن وى مكرر آوردى
دادى به على امانتش را * آن را كه زحى داور آوردى
در حرمت ذات أقدس وى * افزون زهزار منبر آوردى
رفتى تو به خاك و رفت از ياد * گويا كه زيادشان برآوردى
دانى كه چه كرد از فراقت * عوديست كه خودبه مجمر آوردى
هفتاد و دو روز بيش نگذشت * چون جان لطيف در برآوردى
تنها بودى تو در دل خاك * بيت الاحزانى زازر آوردى
أي فاطمة چون شود قيامت * بر كوى سگى تو بر در آوردى (1)



(1) يقول: يا من ولدت كوكبا وبدرا كاملا، وأتيت بالدرة اليتيمة الفريده.
يا نور الله الخارج من أكمام العصمة، لقد جئت من خديجة بفاطمة.
ولو كان الذكر أفضل لجئت به، بيد أن الأنثى أفضل، فجئت بها.
فبخ بخ لك على هذه الأنثى المنجبة للأولاد، التي ستنجب أمثال شبر وشبير.
لقد أتيت لنا من مركز سماء الرفعة المشعة بمثل البدر المنير.
فيا قطب الوجود وأصل الايجاد، لقد أنجبت خيرا من الشمس المشرقة.
لقد ولدت من التراب المعطر حفنة من المسك والعنبر.
لقد منحت سفينة الإمكان وجودها، ويا سفينة الوجود لقد ولدت مرساة الوجود.
لقد كنت الصادر الأول، فولدت صادرا جديدا أزليا.
ولقد جنت من بستان غيب العالم القدسي، بوردة معطرة في أكمامها.
ولقد ولدت من أغصان شجرة الوجود بغصن زرعتيه بنفسك.
فأزلت أحزاننا اليوم، وبدلت غصصنا أفراحا وسرورا.
العالم عرض، وقد ولدت من جوهرك جوهرة جديدة.
وطلعت علينا من وراء ستار عالم السر، وأطلعت لنا سرا جديدا.
ومنحت العالم روحا جديدة، ونفخت فيه روحا أخرى.
يا أيتها المرآة التي يتجلى فيها الله، لقد أظهرت لنا هذه المرآة.
ونزلت اليوم في قوس النزول وتاج الشفاعة يزين جبينك.
ولقد أنجبت أعلى وأسمى من المقام المحمود ومن بيت الحمد.
لقد أتيت بالمستورة عن الخلق، والاسم الأعظم، ولقد قدرت في لوح القضاء ما قدرت.
وولدت نور الوجود الفاطمي وجئت به إلى هذا العالم.
وجئت من فاكهة الجنة في صلبك الطاهر بهذه الوديعة والأمانة من أجل أن تكون محك امتحان الايجاد،
وتمييز نقاوة الذهب والوجود.
فجئت بجنة الخلد إلى الدنيا مصورة بهذه الصورة والمثال.
وليس الحور والغلمان شيئا، فقد أتيت برضوان من الله أكبر.
يا ملك عرش «لولاك»، لقد أتيت بتاج وضعته على جبين الوجود.
ويا طائر القدس الذي يظلك بجناحيه على الخلائق، لقد نبتت له أكبر قوادم جناحك.
لقد جئت معك ببرهان نبوتك، أو جئت معك بنبي مثلك.
وجئت بنور الالوهية المقدس، فأقررت به نواظر حيدر الطاهرة.
ولقد كان علي فريدا بلا نظير، فجئت له بمثل ونظير.
وربيتها تسع سنين في حجرك حتى ترعرعت هذه المعصومة.
ولقد رعيت هذه الشمس التي من بها الله عليك بالمحبة والعطف.
وزدت على عطف الأبوة، فعوضتها عن حنان الأم.
وفكنت كلما أويت إلى فراشك تقبلها كرارا.
ثم أودعتها عند علي، تلك الوديعة التي أتيت بها من الحاكم الحي.
وأوصيت أكثر من ألف مرة من على منبرك برعاية حرمتها المقدسة.
وما إن أخفاك عنهم التراب حتى نسوك، وكأنهم لم يعرفوا لك ذكرا.
أفتعلم ماذا فعلت في فراقك، العود الذي وضعته بيده على المجمر؟
لم تبق خلافك إلا اثنين وسبعين يوما، بعد أن فارقت روحك الدنيا.
ورقدت أنت في قبرك، وجعلت الزهراء ملاءتها بيت الأحزان.
فيا فاطمة إذا حل يوم القيامة، فسيأتي ببابك كلبك هذا الذي آويتيه.
424
اللهم إني أتقرب إليك بحبها وحب من يحبها وأبرء من كل وليجة دونها
وأتقرب إليك باللعنة على أعاديها والبراءة من ظالميها في الدنيا والآخرة.

426
الخصيصة الرابعة من الخصائص الخمسين
قال الله تعالى في سورة آل عمران: (وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا) (1).
لا بأس بذكر إجمالي لمعنى الكفالة وما ينبغي على زكريا فعله لحفظها والقيام
بشؤونها.
إعلم; إن الكفالة بمعنى الضمان في المؤنة والقيام بالأمر; يقال: كفلته كفلا
وكفولا فأنا كافل، إذا تكفلت مؤنته; والمكفول عنه في الفقه من كان في ذمته دين،
والمكفول له والمكفول به الدين، والكفيل من ثبت الدين في ذمته. وذو الكفل
بكسر الكاف نبي من الأنبياء بعد سليمان (عليه السلام)، قال البعض أنه إلياس، وقال
آخرون: إنه اليسع، وسمي ذا الكفل لأنه كفل مؤنة الفقراء، أو لأنه كفل سبعين نبيا
في زمن عيسى (عليه السلام) وأنجاهم من العذاب وتحمل عنهم أذى الظالمين.
قال بعض المفسرين أن الله كفل زكريا بمريم، أو أن زكريا ضم مريم إليه لجهة
القرابة التي كانت بينهما.
وخلاصة قصة الآية: بعد أن ولدت حنة ابنتها مريم (عليها السلام) لفتها بخرقة وحملتها
إلى بيت المقدس، وكان خدامه تسعة وعشرين نفرا يرأسهم زكريا (عليه السلام)، وكانوا
يكتبون التوراة، فقالت حنة: اكفلوا هذه البنت لتبقى في هذا البيت.



(1) آل عمران: 37.
427
فتبادروا إليها لمعرفتهم بمكانة حنة وزوجها الذي كان صاحب قربانهم،
وحاول كل منهم أن ينال هذا الشرف ويباهي بهذا الفخر، فتخاصموا بينهم
ورضوا بالقرعة، فأخرجوا أقلامهم التي كانوا يكتبون التوراة بها وكتبوا عليها
أسماءهم وألقوها في الماء، فمن طفا قلمه على الماء فهي نصيبه، فألقوا أقلامهم في نهر
الأردن (1) دفعة واحدة فخرج قلم زكريا وانتهت الخصومة واعتذر الخدم والأحبار
من زكريا. فلما كفلها زكريا ضمها إلى أهله حنانة أو ايشاع، وهي خالة مريم على
الرواية المشهورة - أي أخت حنة - وهو معنى قوله تعالى (وما كنت لديهم إذ
يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون) (2) فجعلتها ايشاع
وزوجها الذي كفلها في غرفة في بيت المقدس حتى نشأت وبلغت تسع سنين.
قال تعالى: (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى
لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) (3) المحراب هو
المكان العالي أو الغرفة أو المسجد وكان يسمى يومها بالمحراب، ويطلق في هذا
الزمان على المصلى وهو المكان الذي تقام فيه الصلاة، وسمي بالمحراب لأن المصلي
يحارب فيه أهواءه ويحارب الشيطان في أوقات أداء الفريضة.
وقال الشيخ الجليل الصدوق محمد بن بابويه في مقارنته بين مريم وفاطمة
الزهراء (عليها السلام): قال الله تعالى: (وكفلها زكريا) (4) وكفل فاطمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)،



(1) كما روى الثعلبي والسيوطي.
(2) آل عمران: 44.
(3) آل عمران: 37.
(4) آل عمران: 37.
428
ورسول الله أفضل من زكريا وفاطمة أفضل من مريم (عليها السلام) (1).
وقالت خديجة (عليها السلام) - كما مر في حديث سابق -: إني أفضل من حنة أم مريم،
وبعلي أفضل من بعلها.
هذا; وقد كفل زكريا مريم بالقوت والخبز والحماية الكاملة حتى نشأت
وبلغت، وكذا كفل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مريم الكبرى فاطمة الزهراء حتى بلغت.
أقول: إن الخالة بمنزلة الأم، ولكنها لا تصير أما، وزوج الخالة قد يحل محل
الأب ولا يكون أبا، وعليه فإن كفالة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخديجة (عليها السلام) أفضل وأقوى
من كفالة حنة وزكريا.
بل إن كفالة الأب والأم من الواجبات المفروضة والتكاليف الإلهية،
والإنفاق على الأولاد وتوفير مؤونتهم وتربيتهم من مقتضيات الطبيعة البشرية
وآثار الحب الفطري الطبيعي.
والتربية تكون حسب الاستعداد والقابلية والكمال الذاتي النفساني للمربي،
ولا بد من التماثل والتشابه والسنخية بين المربي والمربى، فجوهر الذات القدسية
الفاطمية مأخوذ من جوهر الذات المقدسة المصطفوية، ونورها مستل من نور
الأنوار، وبناء على ما ذكر تظهر صفات المربي في المربى بالملازمة وكثرة المجاورة.
يعني إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ربى فاطمة (عليها السلام) على النعمة الظاهرة والحضانة الصورية
التكليفية، كما أنه غذاها في تلك المدة القليلة بالخصال الحسنة والصفات الممدوحة
من النعم المعنوية والأغذية الروحانية، واصطفاها على نساء العالمين، وزقها
الملكات الكاملة كما يزق الطائر فرخه، فقوى نبي الرحمة قوى الوجود المقدس



(1) انظر البحار 43 / 48 ح 46 باب 3.
429
لفاطمة (عليها السلام) بالأنوار الإلهية والفيوضات الغيبية القوية، فلما بلغت وفرغ عن كفالتها
الظاهرة والباطنة، وجد فاطمة الزهراء (عليها السلام) كاملة جامعة مبرءة من كل نقص،
ولذا كانت فاطمة أشبه الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خلقا وخلقا، ذاتا وصفة، هديا
وسمتا، قولا وفعلا. وهو معنى قوله تعالى (وأنبتها نباتا حسنا) (1) وكفلها
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ومن الواضح المبرهن عليه - أيضا - أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث للإرشاد والهداية
وتكميل العباد، وكانت دعوته بمستويين: دعوة عامة ودعوة خاصة. أما الخاصة
فكانت لعشيرته والأقربين، وأما العامة فللعامة. ولا شك في أن ابنته فاطمة
الزهراء (عليها السلام) كانت ألصق الموجودين به (صلى الله عليه وآله وسلم) وأقرب المقربين إليه من عشيرته
الأقربين بحسب القرب الصوري والمعنوي، وكان لها استعدادا فطريا خاصا،
فكيف يقصر والحال هذه في إكمال بضعته؟!
قال الشيخ السعدي:
چون بود أصل جوهري قابل * تربيت را در أو اثر بأشد
هيچ صيقل نكو نتاند كرد * آهنى را كه بد گهر بأشد (2)
وإن الأب ليعطي - بدافع المحبة الفطرية التي جبله الله عليها - كل ما يدخر
وكل ما يحسبه الأفضل لولده، ويدخر له كل ما يحتاجه لوقت الحاجة، ويسلمه
قطائعه ونفائسه، ولم يكن لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولدا أعز من فاطمة (عليها السلام)، لذا فإنه كان



(1) آل عمران: 37.
(2) يقول: إذا كان الأصل جوهرا قابلا، أثرت فيه التربية والصقل.
فالصقل الجيد لا يمكن جعله حديدا رديئا ذا جوهر رديء.
430
منذ ابتداء الوحي والبعثة وإبلاغ الأحكام يودع أنفس جواهر الإيمان في مخزن
الوجود المقدس لعزيزته، ويعلمها المعارف والعلوم، فكان أمير المؤمنين (عليه السلام) الفرد
الكامل من الأقربين في استعداده الفطري - على صغر سنه - ومن بعده فاطمة (عليها السلام)،
ولذا انصب اهتمام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في السنوات التسع على إكمال التربية فقط، ولهذا قالت
أسماء عن فاطمة (عليها السلام) وهي في الثامنة من عمرها: «ما رأيت امرأة أأدب منها»
وقال الراوي متعجبا من اجتهادها في العبادة: ما رأيت امرأة أعبد منها» (1) لقد
تورمت قدماها من العبادة. وكمال الإنسان في هاتين القوتين العاقلة والعاملة. وقد
تميزت فاطمة الزهراء (عليها السلام) عن جميع النساء في جوهر العقل والعمل، فلما دخلت في
كفالة أمير المؤمنين (عليه السلام) واستترت في حجلة العصمة كشفت الذخائر العلوية
المكتومة والخزائن المكنونة، فلم يخفى عنها شئ ولم يبقى دونها سر سلام الله
عليها، وكان مولى الأولياء يخبرها بما يسمعه عن سيد الأنبياء، فكانت تستفيض
من كلام أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم).
ففاطمة الزهراء (عليها السلام) تلقت التربية المباشرة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تسع سنين
قضتها في كنفه، ثم انتقلت إلى حمى الولاية فكانت تستفيد الأحكام والمعارف
الجديدة بالواسطة.
والآن هل يمكن أن تقاس هذه المرأة بنساء الأولين والآخرين، أو بمريم
وغيرها من نساء العالمين؟!
وتربية هذا الإنسان الكامل في القابلية يقتضي قابلا من جنسه، ويمكن
الاستدلال على أن فاطمة الزهراء (عليها السلام) كانت أول من آمن من النساء بالله ورسوله



(1) بحار الأنوار 43 / 75 ح 62 باب 3; 43 / 84 ح 7 باب 4.
431
بعد أمها خديجة بنفس البرهان الذي ألزم به المأمون علماء العامة بقبول إيمان
أمير المؤمنين في الصغر قبل البلوغ، من دعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والوحي الإيماني «فهو أول
من آمن بالله ورسوله». ولكن كما كان إيمان أمير المؤمنين في الصغر يعدل، بل
يفضل إيمان الأولين والآخرين، فكذلك إيمان فاطمة يفضل إيمان خديجة ونساء
العالمين; لما تلقته من اهتمامات وإفاضات وتربية خاصة من أبيها، واختلاف
مراتب المؤمنين بالإيمان واضح في الأخبار المعتبرة.
الحاصل: لا يمكن أن يقال أن نمو فاطمة الزهراء نماء جسمانيا كان خارجا
عن الحد الطبيعي وخلافا للعادة المعهودة، وإلا لزم أن نقول إنها كانت تنمو نموا
مخالفا للاعتدال ومنافيا لكمال الأجزاء الأعضاء الإنسانية، ويعارض أيضا
الأحاديث والأخبار الواردة في شمائلها الصورية وخصائلها المعنوية الناصة على
شبهها الشديد للغاية مع شخص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وأما تكلمها في رحم أمها خديجة، فقد تكرر عدة مرات، وأما تكلمها بعد
الولادة مباشرة، فلم أعثر على رواية تدل على تكرر ذلك، فبعد أن شهدت
الشهادتين وأقرت بإمامة الأئمه المعصومين (عليهم السلام) بعد الولادة مباشرة وفي حضور
النسوة الأربع والحوريات، وانقطع كلامها لم تتكرر الحادثة مرة أخرى; وإذا كانت
قد تكررت ولم تصلنا ففي إخفاء ذلك حكمة; لأننا لم نجد رواية تنقل لنا ذلك. كما
أننا لم نجد روايات تدل على استمرار عيسى أو بعض الأئمة المعصومين (عليهم السلام) في
التكلم أيام الرضاع سوى ما ثبت من كلامهم في بدو التولد; وكأن الدوام ينافي
الحال الطبيعي لعموم العبيد.
وأما ما سمعته خديجة، فهي الوحيدة التي سمعته ثم أخبرت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) به،

432
ولم يكن في ذلك الزمان مستمع قابل من الآخرين يمكن أن يسمع حديث فاطمة
ويروي لنا ما سمع، وليس في الأخبار شئ من ذلك.
وأما عيسى ابن مريم، فقد تكلم في المهد إسكاتا لخصوم مريم (عليها السلام) فقال:
(إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا) (1); وكان قد تكلم عند الولادة مسليا أمه
كما قال الله تعالى: (فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا * وهزي
إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا * فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين
من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا) (2). وقد ورد
في الرواية الصحيحة أن عيسى (عليه السلام) لم يتكلم بعد ذلك إلى أن حان أوان تكلمه
كسائر الأطفال حين يبلغون ذلك السن المعين، وإذا وردت وردت رواية في تكلمه
فالمقصود وقوعه بعد الرضاع.
وفي كتاب «حياة القلوب» أن مريم تكلمت في رحم أمها حنة، بل روى
ذلك أهل الخلاف أيضا.
روي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لأمه فاطمة بنت أسد: «يا أماه لا تقمطيني
إني أريد أن أتضرع إلى الله وأبتهل وأتبصبص» وإنه تكلم مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتلي
الكتب السماوية وقرأ القرآن الكريم كما ورد في كتب المناقب والفضائل مفصلا،
وهذا التكلم - في غير الوقت المعهود - فيه إظهار لقدرة الحق، ودليل وبرهان على
شرف وجلالة قدر المتكلم، وهو من أعظم الكرامات للمولود.
ونعم ما قيل:



(1) مريم: 30.
(2) مريم: 24 - 26.
433
عيسى اندر مهد دارد صد نفير * كه جوان ناگشته ما گشتيم پير
أقول: ولا يبعد أن الله قد أكمل عقلها في صغرها، وهي العاقلة في بدو الخلقة
والساجدة بعد الولادة، كما أكمل عقل عيسى ابن مريم في صغره، وجعلها مباركة
لنماء الخير ومباركة لدوامها على الإيمان والتوحيد والعبادة والطاعة، كما قال
المسيح: (وجعلني مباركا أينما كنت) (1). وما كان إقرارها بالعبودية في أول الولادة
إلا لإبطال الشرك وإرغام عبدة الأصنام في مكة المعظمة، مثل ما قال عيسى ابن
مريم (عليهما السلام): (إني عبد الله) لإبطال قول من يدعي له الربوبية، فأنطقه الله بعلمه بما
يقول الغافلون فيه.
وأما إقرارها بنبوة أبيها وإمامة بعلها وبنيها، فهو للبر بالوالدين وأداء
الشكر لنعمة التربية كما هو الحق، وللإعلان بأنها على دين أبيها وبعلها، وبأن
ولدها المعصومين هم خلفاء الله في الأرضين إلى يوم الدين. قال الله تعالى حكاية
عن عيسى ابن مريم (وبرا بوالدتي) (2). ولعمري إنها البارة بالوالدين والمشفقة
عليهما بما لا أذن سمعت ولا عين رأت.
وقال عيسى ابن مريم (عليهما السلام): (وآتاني الكتاب وجعلني نبيا) (3) وإنها (عليها السلام)
صاحبة المصحف المكرم (4)، الذي آتاها وأوحى إليها به الروح الأمين، وهو
المخزون عند الأئمة وهم ينظرون فيه ويستنبئون من أخباره وآثاره، وهو الآن عند



(1) مريم: 31.
(2) مريم: 32.
(3) مريم: 31.
(4) قال الإمام الصادق (عليه السلام):... وأما مصحف فاطمة (عليها السلام)، ففيه ما يكون من حادث، وأسماء من يملك إلى
أن تقوم الساعة. بحار الأنوار 26 / 18 ح 1 باب 1.
434
الإمام صاحب العصر، أقر الله عيوننا بطلعته، وهو من أعظم البراهين على إمامته.
قال الله في عيسى بن مريم (عليهما السلام): (ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا
مقضيا) (1) وفاطمة هي الآية العظيمة والرحمة الموصولة لهذه الأمة.
وقال أيضا: (فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين) (2)
وكذلك أبناؤها الطاهرون وأولادها المعصومون آيات بينات على الخلق أجمعين،
والسلام عليها يوم ولدت ويوم ماتت ويوم تبعث من تربتها وتقوم من رقدتها
وتسعى النفوس إليها في يوم الساعة لأجل الشفاعة.
وسيأتي إن شاء الله تعالى في خصيصة آتية أخبار في إثبات عصمتها وعلمها
اللدني وكمال إيمانها، وهي روح العالمين وسيدة النساء أجمعين.
نصيحة موجزة
ينبغي على محبي أهل البيت (عليهم السلام) أن يهتموا اهتماما بالغا بتربية أولادهم منذ
ولادتهم، ذكورا وإناثا، ويلتزموا بالآداب المأثورة عن الشريعة المطهرة، ليقيموا
بنيانهم منذ الطفولة على أساس متين وبنيان رصين، فتعاليم الأئمة (عليهم السلام) تنشأهم
خير منشأ فتعود ثمارها على الأطفال أنفسهم وأبويهم والناس أجمعين.
ففي مجموعة ورام عن الباقر (عليه السلام) قال: «وإذا بلغ الغلام ثلاث سنين يقال له
سبع مرات قل: «لا إله إلا الله»، ثم يترك حتى تتم له ثلاث سنين وسبعة أشهر
وعشرون يوما، فيقال له: قل: «محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)» سبع مرات، ثم يترك حتى



(1) مريم: 21.
(2) الأنبياء: 91.
435
تتم له خمس سنين ثم يقال له: قل: «صلى الله على محمد وعلى آله»، ثم يترك حتى
تتم له خمس سنين، ثم يقال له: أيهما يمينك وأيهما شمالك؟ فإن عرف ذلك حول
وجهه إلى القبلة ويقال له: اسجد، ثم يترك حتى يتم له سبع سنين فإذا تم له سبع
سنين قيل له: اغسل وجهك وكفيك، فإذا غسلهما قيل له: صل، ثم يترك حتى يتم
له تسع سنين، فإذا تم له تسع سنين علم الصوم وضرب عليه وأمر بالصلاة
وضرب عليها، فإذا تعلم الوضوء والصلاة غفر الله لوالديه» (1).
ولا شك أن المولود يولد على فطرة التوحيد; وغاية كل وجود الإقرار
بوحدة واجب الوجود، فعلى الوالدين أن يؤدبوا هذه الطينة الحسنة والفطرة
السليمة بالآداب والأخلاق الحسنة، لينمو منذ الطفولة ويشب على تلك الفطرة
الأصلية كما يرعى الفلاح الأشجار والرياحين لتبلغ حد الكمال، وإلا فعاقبة الغفلة
الندامة.
قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا) (2) والأعظم
من كل شئ إقامة قواعد التوحيد والنبوة، وترسيخ روح الشهادتين، وتكميل
الولاية ومحبة أمير المؤمنين (عليه السلام) والأئمة المعصومين الأحد عشر، وتكميل الولاية
فرع معرفة فاطمة الطاهرة وعترتها المطهرة ومحبة أهل هذا البيت ومحبة نبيهم.
فمن تربى على هذه الطريقة المستقيمة وتأدب بآدابها وتخلق بأخلاق أهلها،
وصل إلى الكعبة المقصودة عاجلا سريعا.



(1) البحار 85 / 131 ج 2 باب 2 عن أمالي الشيخ مجموعة ورام:
(2) التحريم: 6.
436
الخصيصة الخامسة من الخصائص الخمسين
في فضائل خديجة الطاهرة (عليها السلام)
قال أصحاب الحديث والسير: إن فاطمة (عليها السلام) لم تعش مع أمها خديجة
الطاهرة أكثر من خمس سنين (1) وهذه الفترة الوجيزة لم تقع لها الفرصة الكافية
للبقاء واللقاء معها، ولعلها تأست في ذلك بأبيها الذي حرم من لقاء أبيه عبد الله،
والبنات يشعرون باليتم من موت الأمهات كما يشعر الأولاد باليتم من موت الآباء،
ففاطمة (عليها السلام) شابهت أباها من هذه الجهة أيضا، وسنذكر في هذه الخصيصة الخاصة
بخديجة الطاهرة من الصحيفة الفاطمية شيئا عن علو قدرها وجلالة مقامها، ففي
ذكرنا لسيدة النسوان سرور زوجها وبنتها وأولادها الطاهرين، وإني أعلم أن
سرورهم ورضاهم يوجب مغفرة الذنوب ويجلب رضا الله سبحانه.
فأقول: اللهم صل وسلم على هذه المرأة الجليلة، النبيلة، الأصيلة، العقيلة،
الكاملة، العاقلة، الباذلة، العالمة، الفاضلة، العابدة، الزاهدة، المجاهدة، الحازمة،
والحبيبة لله ولرسوله ولوليه، المختارة من النساء، والصفية البيضاء، حليلة
الرسول، وأم البتول، صفوة النسوة الطاهرات، وسيدة العفائف المطهرات، أفضل



(1) فقد ذكروا أن خديجة (عليها السلام) توفيت سنة عشرة من النبوة، وأن فاطمة (عليها السلام) ولدت سنة خمس من
المبعث. انظر البحار 16 / 13 ح 12 باب 5 و 43 / 6 ح 7 باب 1.
437
أمهات المؤمنين، وأشرف زوجات الرسول الأمين، وأول من آمنت من النساء،
وأسبقهن إلى عبادة رب الأرض والسماء، سيدة النسوان، وخاصة الرسول،
وخلاصة الإيمان، أصل العز والمجد، وشجرة الفخر والنجد، السابقة إلى الإسلام
والدين في العاجلة والأخرى، مولاتنا وسيدتنا أم المؤمنين خديجة الكبرى (عليها السلام).
إعلم; إن السيدة المحترمة خديجة هي بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن
قصي بن كلاب القرشية الأسدية، وأمها من الفواطم التسع، وهي فاطمة بنت
زائدة بن الأصم ينتهي نسبها إلى عامر بن لؤي (1).
قال الشيخ صاحب الوسائل في منظومته:
زوجاته خديجة وفضلها * أبان عنه بذلها وفعلها
بنت خويلد الفتى المكرم * الماجد المؤيد المعظم
لها من الجنة بيت من قصب * لا صخب فيه لها ولا نصب
وهذه صورة لفظ الخبر * عن النبي المصطفى المطهر
والحق أن الخديجة (عليها السلام) بذلت من همتها واهتمامها في خدمة الرسول في صدر
الإسلام ما يعجز عنه الوصف، ويقصر عن بيانه اللسان والبنان. وهي أول امرأة
تزوجها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة المعظمة، ولم يتزوج بأخرى ما داحت حية، وتزوج
بعد وفاتها باثنتي عشرة امرأة، وتوفي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن تسع من أمهات المؤمنين،
أفضلهن بعد خديجة أم سلمة، ثم ميمونة بنت الحارث، وهي المبشرة بالجنة - كما
في الحديث المعتبر -، وأربع نسوة من بني هلال، وأسماء بنت عميس الخثعمية
زوجة جعفر بن أبي طالب، وأختها سلمى زوجة حمزة بن عبد المطلب، وأم الفضل



(1) انظر بحار الأنوار 44 / 144 ح 9 باب 22.
438
زوجة العباس بن عبد المطلب المعروفة ب‍ «هند»، والغميصاء أم خالد بن الوليد،
وعز الثقفية، وحميدة.
وروى الشيخ الطوسي والشيخ المفيد عليهما الرحمة: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
تزوج خديجة بكرا (1)، والمشهور أنها عرفت زوجين قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
أحدهما: عتيق بن عائذ المخزومي، والآخر: أبو هالة الأسدي، أنجبت للأول بنتا،
وللثاني ولدا اسمه «هند» رباه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (2)، ثم تزوجها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو ابن خمس
وعشرين سنة، وبقيت في خدمته أربع وعشرين سنة وشهرا، وأمهرها اثنتي
عشرة أوقية ونصفا (3) وهو مهر باقي نساءه، أم سلمة، وميمونة، وزينب، وصفية،
وجويرية، وأم حبيب، وسودة، وعائشة، وحفصة (4).
أما بنات خديجة ففيهن ثلاثة أقوال:
الأول: إنهن بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (5).
الثاني: إنهن من زوجيها السابقين (6).
الثالث: إنهن بنات أختها هالة، توفيت وهن صغار، فكفلتهن خديجة حتى
كبرن ونسبن إليها (7). وهذا القول خير دليل على بكارة خديجة عند زواجها



(1) انظر البحار 22 / 191 ح 5 باب 2.
(2) البحار 2 / 200 ح 20 باب 2.
(3) والأوقية أربعون درهما وقال العلامة المجلسي: وفي هذا الزمان تعادل واحد وثلاثين ألف وخمسمائة
دينار. (من المتن)
(4) البحار 2 / 200 ح 20 باب 2 عن مبسوط الطوسي.
(5) انظر البحار 22 / 191 ح 5 باب 2.
(6) البحار 16 / 10 ح 12 باب 5.
(7) البحار 16 / 171 ح 4 باب 8.
439
برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد ذهب إليه أعلام الشيعة المذكورين وجماعة من علماء
السنة، والقول به يرفع الكثير من الإشكالات والمحاذير، وهو لا يعارض المذهب
الحق.
ويمكن أن يقال: إن خديجة ولدت في هذه الفترة ستة أبناء أو أربعة، وقد
ذكرت أسماؤهم في كتب التاريخ والسير وكانت فاطمة الزهراء (عليها السلام) آخرهم، ماتوا
كلهم ودفنوا في مكة إلا تلك المخدرة، ولا يستبعد أن تكون خديجة أكبر من رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سنا، وأنها عاشت أربعا وستين عاما، وإن كان المشهور خلاف ذلك.
ولكن طرح قول الشيخين العلمين المعتمدين بعيد عن الإحتياط ومفارق
لنهج الصواب.
وعلى أية حال، فمن نظر في كتب أهل السنة رأى أنهم يروون الكثير في
فضل عائشة ومناقبها، ومع ذلك فإنهم يقولون بأن خديجة أفضل منها ومن سائر
زوجات النبي، بل يفضلونها على نساء العالم، بل يروون أحاديث عن عائشة عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في جلالة قدرها وعلو شأنها، مع ما كانت عليه عائشة من الحسد
والغيرة والخصومة لخديجة (عليها السلام).
والأفضل أن نروي ما رواه المخالف لإثبات قول المؤالف وصدق دعاويه:
الخبر الأول: روى أحمد بن حنبل والطبراني عن أنس أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
«خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت
محمد، وآسية امرأة فرعون (1).
الثاني: أخرج الترمذي في صحيحه أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: سمعت رسول



(1) انظر مسند أحمد 1 / 116.
440
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: خير نسائها خديجة بنت خويلد، وخير نسائها مريم بنت
عمران (1).
الثالث: روى أحمد والطبراني والحاكم عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
أفضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت
عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون (2).
الرابع: روى الحاكم عن عائشة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: سيدات أهل
الجنة أربع: مريم وفاطمة وخديجة وآسية (3).
الخامس: روى عن حذيفة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: خديجة سابقة نساء
العالمين إلى الإيمان بالله وبمحمد (4).
السادس: روى في الصحيحين عن أبي هريرة قال: أتى جبرئيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد أتتك معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا
هي أتتك فاقرء عليها السلام من ربها عز وجل ومني، وبشرها ببيت في الجنة من
قصب لا صخب فيه ولا نصب (5).
والصخب: رفع الصوت، والنصب: التعب، والقصب: قصب الذهب.



(1) سنن الترمذي 5 / 702 ح 3877، صحيح مسلم 2 / 459 ح 69 باب 12 فضائل خديجة (عليها السلام) وفيه:
«قال: سمعت عبد الله بن جعفر يقول: سمعت عليا بالكوفة يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول:...»،
صحيح البخاري 4 / 230 باب تزويج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خديجة وفضلها.
(2) مسند أحمد 1 / 316.
(3) المستدرك للحاكم 3 / 185 كتاب معرفة الصحابة - فضائل خديجة (عليها السلام).
(4) انظر البحار 23 / 112 ح 19 باب 7.
(5) صحيح مسلم 2 / 459 ح 71 باب 12 فضائل خديجة، صحيح البخاري 4 / 231 باب تزويج
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خديجة وفضلها.
441
وقال الجوهري: القصب: بيت من جوهر.
وقال صاحب النهاية في غريب الحديث: القصب لؤلؤ مجوف واسع كالقصر
المنيف.
السابع: روى البخاري في صحيحه عن عائشة قالت: استأذنت هالة بنت
خويلد أخت خديجة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فعرف استئذان خديجة، فارتاع لذلك
فقال: اللهم هالة؟! قالت: فغرت فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش
حمراء الشدقين هلكت في الدهر قد أبدلك الله خيرا منها؟! فقال: والله ما رزقت
خيرا من خديجة، آمنت بي حيث كذبني الناس، وأعطتني حيث منعني الناس،
وكانت من أحسن النساء حجالا، وأكملهن عقلا، وأتمهن رأيا، وأكثرهن عفة
ودينا وحبا ومروة ومالا (1).
وكانت عائشة غالبا ما تذكر خديجة بسوء وتنال منها.
الثامن: روى عن محمد بن إسحاق - وهو من أهل الخلاف - قال: كانت
خديجة أول من آمن بالله ورسوله وصدقت بما جاء من الله ووازرته على أمره،
فخفف الله بذلك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه
وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله ذلك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بها، إذا رجع إليها
تثبته وتخفف عنه وتهون عليه أمر الناس، حتى ماتت رحمها الله (2).
التاسع: روى في «نزهة المجالس ومنتخب النفائس» للشيخ عبد الرحمن
الشافعي: إن جبرئيل أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد! ما نزلت من عند سدرة



(1) انظر صحيح البخاري 4 / 231 في فضائل خديجة (عليها السلام) وقد بتر البخاري ذيل الحديث.
(2) كشف الغمة 2 / 137، بحار الأنوار 16 / 10.
442
المنتهى إلا ويقول الله تعالى: سلم على خديجة. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الله السلام
ومنه السلام وإليه يعود السلام وعلى جبرئيل السلام (1).
العاشر: وفي الكتاب المذكور عن معاذ بن جبل: لما مرضت خديجة مرضها
الذي توفيت فيه، دخل عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لها: بالكره مني ما أرى منك يا
خديجة، وقد يجعل الله في الكره خيرا كثيرا. أما علمت أن الله قد زوجني معك في
الجنة مريم بنت عمران وكلثم أخت موسى وآسية امرأة فرعون. قالت: وقد فعل
الله ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم، قالت: بالرفاء والبنين (2) (3).
وقد ذكر أحد علماء العامة عبارة فيها الكثير من المدح، قال: ويكفي خديجة
فضلا أن فاطمة كانت في بطنها.
وذكر البوصيري صاحب قصيدة البردة في قصيدته الهمزية - التي شرحها
ابن حجر وطبعت هذه الأيام في القاهرة قصة لم أرها في كتب الشيعة:
ورأته خديجة والتقى والزهد * فيه سجية والحياء
وأتاها أن الغمامة والصرح * أظلته منهما أفياء
وأحاديث أن وعد رسول الله * بالبعث حان منهما الوفاء
فدعته إلى الزواج وما أحسن * ما يبلغ المنى الأذكياء
وأتاها في بيتها جبريل * ولذي اللب في الامور ارتياء



(1) انظر نزهة المجالس 2 / 517 فضائل أمهات المؤمنين عليهن السلام.
(2) انظر نزهة المجالس 2 / 518 فضائل أمهات المؤمنين عليهن السلام.
(3) «بالرفاء والبنين»: كلمة معروفة في الجاهلية تقال للعرسين عند الزواج، وقد نهى عنها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في
زواج فاطمة الزهراء (عليها السلام) وقال: «بارك الله لكما وطيب نسلكما وجمع بينكما في خير» ولعله نهى عنها
لأنها ناظرة إلى العيش الدنيوي فقط. (من المتن)
443
فأماطت عنهما الخمار لتدري * لهو الوحي أم هو الإغماء
فاختفى عند كشفها الرأس * جبرئيل فيما عدا أعيد الغطاء
واستبانت خديجة أنه الكنز الذي * حاولته والكيمياء
وروى العامة أن خديجة قالت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أتستطيع أن تخبرني
بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟! قال: نعم، قالت: فإذا جاء فأخبرني، فجاء
جبرئيل (عليه السلام) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لخديجة: يا خديجة هذا جبرئيل قد جاءني،
قالت: قم يابن عم فاجلس على فخذي اليسرى، فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجلس
عليها، قالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحول فاقعد على فخذي اليمنى فتحول،
فقالت: هل تراه، قال: نعم، قالت: فاجلس في حجري ففعل، قالت: هل تراه؟
قال: لا، قالت: يابن عم أثبت وابشر، فوالله إنه لملك وما هو بشيطان (1).
فانطلقت خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل - ابن عمها - فقال ورقة: يا
خديجة لقد جاء الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى ثم قام وقبل رأس
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (2).
ويستفاد من أحاديث الشيعة وأخبار السنة أن خديجة كانت عالمة بكتب
الرواية المعروفة، وأنها كانت معروفة - من بين نساء قريش - بالعقل والكياسة
إضافة إلى كثرة المال والثراء والضياع والعقار والتجارة التي عرفت بها، وكانت
تدعى منذ ذلك الحين ب‍ «الطاهرة» و «المباركة» و «سيدة النسوان»، بل إنها كانت
ممن ينتظر خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويعد له عدته، ولطالما سألت «ورقة» وغيره من



(1) البحار 16 / 11 يناقش الخبر.
(2) انظر البحار 18 / 195 ج 30 يناقش الخبر.
444
العلماء عن علائم النبوة. وكان أول ما طلبته من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما التقت به الكشف
عن خاتم النبوة.
وقد تبين - في الجملة - في حديث حنة أم مريم مدى الجمال والجلال والكمال
والإفضال التي كانت لخديجة (عليها السلام).
ولقد كانت خديجة مؤمنة راسخة الإيمان، ثابتة الجنان، مستعدة لقبول
الإيمان، وقد روي أنها آمنت بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في عصر اليوم الذي بعث فيه وصلت
معه، وروى الشيعة أن النبي بعث يوم الاثنين فآمن به علي (عليه السلام) نفس ذلك اليوم،
وأظهرت خديجة الإيمان يوم الثلاثاء (1).
وفي الخبر: إنها أول من آمن بالله ورسوله وصدقت بما جاء به (2).
قال أبو عمرو والحاكم بن عتبة: هي أول من آمن وعلي أول من صلى إلى
القبلة (3).
وفي النهج: وقال علي (عليه السلام): «ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير
رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة، ولقد
سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه فقلت: يا رسول الله! ما هذه الرنة؟
فقال: هذا الشيطان قد آيس من عبادتك; إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا
أنك لست بنبي، ولكنك وزيري، وإنك لعلى خير» (4).



(1) البحار 16 / 20 ح 19 باب 5 و 17 / 239 ح 2 باب 2 وفيهما أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث يوم الاثنين وأن
عليا (عليه السلام) صلى معه يوم الثلاثاء. ولا تعارض بين الخبرين.
(2) البحار 16 / 10 ح 12 باب 5.
(3) انظر البحار 38 / 258 ح 49 باب 65.
(4) نهج البلاغة 301 خ 192.
445
فصل فيه فضل
إن من مفاخر خديجة (عليها السلام) ومناقبها المخفية على أغلب الخواص والعوام
قبولها ولاية أمير المؤمنين وإمامة أولاده الأمجاد المعصومين (عليهم السلام)، مع أنها لم تكن
يومها مكلفة بقبول الولاية، بمعنى أن هذا التكليف لم يكن فرضا واجبا إلا بعد وفاة
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وذلك إنها سمعت - بأذنها - بإمامة الأئمة الطاهرين من أبناءها
المعصومين يوم ولادة فاطمة حينما ذكرتهم واحدا بعد واحد، فعرفت بذلك مقام
أمير المؤمنين (عليه السلام) ومنزلته، وكانت تسعى جاهدة من أجل تنفيذ ما سمعت وإنجازه
وإنجاحه، والأفضل أن نروي هنا حديثا سارا ورد عن طرق الشيعة الإمامية;
لتتضح - لبعض الغافلين - كمال الكمالات التي تمتعت بها خديجة سلام الله عليها.
روي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دعى خديجة (عليها السلام) وقال لها: «إن جبرئيل عندي
يقول لك إن للإسلام شروطا وعهودا ومواثيق:
الأول: الإقرار بوحدانية الله جل وعلا.
الثاني: الإقرار برسالة الرسول.
الثالث: الإقرار بالمعاد والعمل بأحكام هذه الشريعة.
الرابع: إطاعة أولي الأمر والأئمة الطاهرين واحدا بعد واحد، والبراءة من
أعدائهم، فصدقت خديجة بهم واحد بعد واحد وآمنت بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فأشار إلى
علي ثم قال: «يا خديجة! هذا علي مولاك ومولى المؤمنين وإمامهم بعدي» (1). ثم



(1) تجد تفصيل الخبر في المجلد السادس من بحار الأنوار عن السيد بن طاووس عن كتاب الوصية لعيسى
بن المستفاد عن موسى بن جعفر (عليه السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا عليا وخديجة وذكر لهم أصول الدين
وفروعه الواحد تلو الآخر حتى آداب الوضوء والصلاة والصيام والحج والجهاد وبر الوالدين وصلة
الرحم وغيرها من الواجبات والمحرمات ثم أخذ العهد منهما... (من المتن)
446
أخذ العهد منهما، ثم وضع علي يده فوق يد رسول الله، ووضعت خديجة يدها فوق
يد علي فبايع لعلي (1).
وكذا روي عن الصادقين الباقرين (عليهما السلام) في حمزة سيد الشهداء: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
دعاه عشية شهادته في أحد إلى بيعة أمير المؤمنين وأبناءه الغر الميامين من أولهم إلى
قائمهم (عج) أرواحنا له الفداء، فقال حمزة: آمنت وصدقت ورضيت بذلك كله،
وكان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد دعا عليا وحمزة وفاطمة في حديث طويل أخرجه
السيد (رحمه الله) (2).
وبهذا يتضح معنى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما كمل من النساء إلا أربعة أولهن خديجة»
لأن تلك المخدرة آمنت بأصول الدين وفروعه وأحكامه واحدة واحدة، وآمنت
بروح الأصول والفروع كلها، وآمنت بالميزان الذي به تقبل وترد الأعمال
والعقائد، حيث أنها آمنت بإمامة الأئمة (عليهم السلام) في وقت لم تك خديجة بعد مكلفة بها،
نظير إيمان فاطمة بنت أسد حينما جلس الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على شفير قبرها وقال لها:
«ابنك ابنك علي، لا جعفر ولا عقيل» (3) مع أنها لم تكن مكلفة بعد بقبول الإمامة.
ونظيره ما روي في البحار أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إذا سأل نكير ومنكر في القبر
من فاطمة الزهراء (عليها السلام) عن إمامها فإنها تقول: «هذا الجالس على شفير قبري بعلي



(1) البحار 18 / 232 ح 75 عن الطرف للسيد ابن طاووس... ينقل الحديث كاملا.
(2) البحار 22 / 278 ح 32 باب أحوال عشائره وأقربائه والحديث:
(3) البحار 6 / 241 ح 60 باب البرزخ والقبر وعذابه وسؤاله والحديث:
447
إمامي: علي بن أبي طالب (عليه السلام)» (1).
وهذه المقامات خاصة بالأولياء الكاملين من أهل هذا البيت، حيث تكون
الولاية فرض وحتم على فواصلهم، وإن كانت متأخرة عنهم; لأنها شرط كمال
الإيمان، وبدونها تكون الشريعة قالبا خاويا لا روح فيه وكلاما فارغا لا معنى له.
ولهذا نزل يوم الغدير - عند تنصيب أمير المؤمنين (عليه السلام) للخلافة - قوله تعالى (اليوم
أكملت لكم دينكم) (2) وقوله تعالى: (فإن لم تفعل فما بلغت رسالته) (3) والآيتان
تشهدان لنا نحن الشيعة الإمامية.
الحاصل: لقد أودع الله في تلك الذات القدسية - يعني ذات خديجة
المقدسة (عليها السلام) - ودائع نفيسة وذخائر شريفة لم يودعها - في ذلك الزمان - في ايحاءات
أخرى من سكان السماوات والأرض; وأعظم تلك الودائع الجوهر الثمين لولاية
أمير المؤمنين (عليه السلام) حيث أنها آمنت وصدقت بها قبل الإعلان عنها وقبل خروجها
من القوة إلى الفعل، وبذلك سبقت خديجة إلى الإيمان بجميع مراتبه ومقاماته
وتفصيلاته، وهذا المستوى من الإيمان الكامل لم يتيسر لعموم الناس، لأن أمر
الإمامة كان مخفيا على أهل ذاك الزمان إلى يوم غدير خم، حيث رفع عنها الستار
بعد نزول قوله تعالى: (والله يعصمك من الناس) (4) فبشرت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) برفع



(1) البحار 43 / 58 ح 50 باب 3 والحديث:
(2) المائدة: 3.
(3) المائدة: 67.
(4) المائدة: 67.
448
الخوف ودفع أذية القوم، وعندها صار قوله تعالى: (فإذا فرغت فانصب) (1) عليا
حكما منجزا.
ويكفي خديجة شرفا أنها عاشت مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعا وعشرين سنة، فلم
يختر عليها امرأة حتى ماتت، فلما هاجر (صلى الله عليه وآله وسلم) تزوج في فترة وجيزة عدة زوجات
وظل يلهج باسم «خديجة» ويترحم عليها ويستغفر لها ويحترم أرحامها ويقربهم
ولم يغفل عن ذكرها أبدا، وكان يرى في فاطمة حنان أمها وحبها وودها وإحسانها
فيلزمها ويحبها ويقبلها ويتذكر فيها أمها.
وفي الخبر أن فاطمة امتنعت يوما عن الطعام وقالت لا آكل حتى اعلم أين
أمي خديجة، فنزل جبرئيل الأمين وقال: إن خديجة في الجنة بين آسية وسارة (2).
الخلاصة: لقد وفقت خديجة لخدمة ابنتها فاطمة الزهراء، وتزودت من
تلك الروح الغالية مدة خمس سنين، ثم توفيت في السنة العاشرة من البعثة، على
الرواية المشهورة (3)، وقارنت وفاتها وفاة أبي طالب، فسمى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ذاك
العام ب‍ «عام الحزن» ثم هاجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ثلاث سنوات من وفاتها إلى المدينة
المنورة.
وكان عمر خديجة عند وفاتها خمسة وستون عاما - على ما ذكر - وكان عمر
فاطمة الزهراء (عليها السلام) عند الهجرة ثمان سنوات حيث بقيت في مكة ثلاث سنين بعد
وفاة أمها.



(1) الشرح: 7; وقد وردت قراءة بلفظ (وانصب) بالكسر في تفسير الكشاف وتفسير البحر المحيط. انظر
معجم القراءات القرآنية 8 / 188 إعداد الدكتور أحمد مختار عمر وعبد العال سالم مكرم.
(2) البحار 16 / 1 ح 1 باب 5 والحديث:
(3) البحار 16 / 13 ح 12 باب 5.
449
وروى في ذيل قوله تعالى (ووجدك عائلا فأغنى) (1) أن الله من على نبيه
وأغناه بأموال خديجة (عليها السلام).
وقد وردت الأخبار عن العامة والخاصة في كثرة أموال خديجة، حتى قال
العلامة المجلسي في المجلد السادس من بحار الأنوار أنه «كان لخديجة في كل ناحية
عبيد ومواش، حتى قيل: إن لها أزيد من ثمانين ألف جمل متفرقة في كل مكان» (2)
وكانت خديجة أميرة عشيرتها وسيدة قومها ووزيرة صدق لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)،
فكانت كأنها الملكة في الحجاز وأطرافها، لكثرة ما كانت تملكه من المواشي والخدم
والحشم والضياع والعقار والأملاك والأموال والتجارة والعبيد والإماء والجواهر
الغالية والذهب والفضة، وقد قدمتها جميعا - وهي في غاية الرضا والإمتنان - إلى
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خصوصا خلال فترة الحصار في شعب مكة، حيث استمر ثلاث
سنوات منعت قريش القوت والإمداد عن بني هاشم، فكانت خديجة تغدق عليهم
بكل سخاء، وتنفق على تلك الجماعة من الرجال والنساء من بني هاشم ومن
الحراس والحفظة الذين كانوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان الربيع بن العاص صهر
خديجة على بنتها يحمل الحنطة والتمر على الإبل ويبعث بها إليهم تحت جنح الظلام،
حتى نفذت ذخائرهم ولم يبق لهم شئ، وآل أمرهم إلى أن قنعوا بثوب واحد يستر
عوراتهم.
وهكذا كانت خديجة (عليها السلام) مؤمنة حقا، آمنت بنبي آخر الزمان بالقلب
واللسان والمال والجنان.



(1) الضحى: 8.
(2) البحار 16 / 22 ح 19.
450
نعم; لقد ساوى بذل خديجة (عليها السلام) سيف علي (عليه السلام) في الإسلام، وتساويا من
قبل في السبق إلى الإسلام، وفي هذا من الشرف ما يكفي خديجة (عليها السلام)، علاوة على
أنها قامت عن بنت كفاطمة (عليها السلام)، وبها تشرفت على نساء العالمين.
وقبل نزول الأجل وحلول زمن الفراق والتوجه إلى العالم الأعلى ظهرت
لخديجة الطاهرة من مبدأ المراحم الإلهية الخاصة، من الألطاف والمراحم ما لا يعد
ولا يحصى حتى كانت مسلية لخاطر النبي الرؤوف. ومنذ البعثة والنبوة لم يقبض
عزرائيل وعماله روح أحد له تلك الألطاف المتواترة والأفضال المتكاثرة، ولم يكن
يومها على وجه الأرض امرأة بل حتى رجل بصلابة الإيمان وحسن الإسلام الذي
كانت عليه خديجة. حيث كان في ذلك الزمان أربعة نفر; رجلان وامرأتان من كل
ما أظلته السماء من شيوخ وشبان ورجال ونسوان، كانوا أركان العالم وقوام
الشرع، أما الرجلان فأمير المؤمنين علي (عليه السلام) وأبوه أبو طالب الذي توفي في عام
الحزن، وأما النساء فخديجة الطاهرة وبنتها فاطمة المطهرة.
والآن انظر إلى ما داخل السيد المختار من فقدان هذين الركنين.
والرواية المشهورة على أن ملائكة الرحمة جاءت بالكفن لخديجة، وأن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج في جنازتها وهو في غاية الحزن، ونزل في قبرها ووسدها بيده
الشريفة في لحدها، وقبرها المطهر في الحجون من مكة في مقبرة المعلى قبالة قبر
آمنة بنت وهب أم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد بني على قبرها قبة سنة سبعمائة وسبع
وعشرين، ولا زال أهل مكة يزورون تلك التربة الزاكية والبقعة السامية لإظهار
الخلوص والمحبة، فينشدون الأشعار وينظمون القصائد ويعلقونها هناك،
ويخرجون يوم ولادة الرسول من بيت خديجة إلى مزارها، يحتفلون ويبتهجون،

451
وقد أثبتت التجربة أن زيارتها ترفع الهم وتكشف الغم وتدفع المصائب والنوائب
الدنيوية والأخروية، رزقنا الله محبتها، وثبتنا على مودتها، وجعلنا من خيار
زائريها، وخاصة مواليهم إن شاء الله تعالى.
لا يخفى: أن هناك اختلافا شديدا في سنة وفاة أبي طالب وخديجة، وأيهما
المتقدم؟
فقد ذكر صاحب المناقب أن أبا طالب عاش إلى تسع سنين وثمانية شهور بعد
النبوة.
وروى في كتاب المعرفة: أن خديجة ماتت بعد أبي طالب بثلاثة أيام.
وقيل: مات أبو طالب قبل خديجة بشهر وخمسة أيام.
فلما ماتا (عليهما السلام) حزن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حزنا شديدا، وجلس في بيته إلى أن هاجر
إلى الطائف فبقي فيها شهرا ثم عاد إلى مكة، وكان غالبا ما يعتزل في شعب مكة
المعروف بمقبرة المعلى (شعب أبي طالب)، ثم أنه أمر جماعة بالهجرة إلى الحبشة.
فنزل قوله تعالى: (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك) (1) (فإن تولوا فقل حسبي
الله) (2).
وفي الحديث: اجتمعت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مصيبتان واشتد عليه البلاء
ولزم بيته وأقل الخروج... (3) الخ.
هذا; وقد استطرفت من أشعار خديجة المروية في المجلد السادس من البحار



(1) الرعد: 38، غافر: 78.
(2) التوبة: 129.
(3) البحار 19 / 21 ح 11 باب 5.
452
جملة من الأبيات أحببت ذكرها هنا، ليطلع (1) القراء على أشعارها المليحة
الفصيحة ويعرفوا كمالاتها.
قالت (عليها السلام):
ولو أنني أمسيت في كل نعمة * ودامت لي الدنيا وملك الأكاسرة
فما سويت عندي جناح بعوضة * إذا لم تكن عيني بعينك ناظرة
ومنها:
وقى فرمى من قوس حاجبه سهما * تصادفني حتى قتلت به ظلما
وأسفر عن وجه وأسبل شعره * فبات يباهي البدر في ليلة ظلما
ومنها:
جاء الحبيب الذي أهواه من سفر * والشمس قد أثرت في وجهه أثرا
عجبت للشمس من تقبيل وجنته * والشمس لا ينبغي أن تدرك القمرا
وكانت أشعار خديجة بأجمعها في مدح سيد الأنام والتعبير عن حبها
وأشواقها، بل كانت تحكي عشقها له كما في الأبيات الآتية:
قلب المحب إلى الأحباب مجذوب * وجسمه بلهيب النار ملهوب
وقائل كيف طعم الحب قلت له * الحب عذب ولكن فيه تعذيب
كأنما يوسف في كل راحلة * والحي في كل بيت فيه يعقوب
ومنها:
نطق البعير بفضل أحمد مخبرا * هذا الذي شرفت به أم القرى
هذا محمد خير مبعوث أتى * فهو الشفيع وخير من وطأ الثرى
يا حاسديه تمزقوا من غيظكم * فهو الحبيب وما سواه في الورى



(1) وأكون - في نفس الوقت - قد أشرت إلى جميع أحوالها وأقوالها ولو إشارة عابرة. (من المتن)
453
ومنها:
ألذ حياتي وصلكم ولقاؤكم * ولست ألذ العيش حتى أراكم
على الرأس والعينين جملة سعيكم * فمن ذا الذي في فعلكم قد عصاكم
وما غيركم في الحب يسكن مهجتي * فإن شئتم تفتيش قلبي فهاكم
ومنها:
كم أستر الوجد والأجفان تهتكه * وأطلق الشوق والأعضاء تمسكه
جفاني القلب لما أن تملكه * غيري فوا أسفا لو كنت املكه (1)
ملاحظة: طالعت كتاب منتهى المقال للمرحوم الأسترابادي، فرأيت فيه
«علي بن منعم بن هارون الخديجي، نسبته إلى أولاد أبي هالة الأسدي زوج
خديجة قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأبو الحسن علي بن عبد الله بن محمد عاصم بن زيد بن
عمرو بن عوف بن الحارث بن خالد بن أبي هالة النباش الأسدي المعروف
بالخديجي، وذاك الخديجي الأصغر في مقابل الخديجي الأكبر، وقد ضعفوه».



(1) انظر أشعار السيدة خديجة (عليها السلام) في الجزء 16 من بحار الأنوار.
454
الخصيصة السادسة من الخصائص الخمسين
ذكرنا في الخصيصة السابقة أولاد خديجة الطاهرة (عليها السلام)، ولكني أرى لزاما
علي أن أتعرض لهم هنا بالترتيب ذكورا وإناثا لنتعرف إلى إخوان فاطمة (عليها السلام)
وأخواتها.
روى صاحب كتاب قرب الإسناد عن الصادق (عليه السلام)، قال: «ولد لرسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من خديجة: القاسم والطاهر وأم كلثوم ورقية وفاطمة وزينب... ثم ولد
لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - من أم إبراهيم - إبراهيم وهي مارية القبطية...» (1).
وقال في الخصال: «... ولدت مني طاهرا وهو عبد الله...» (2).
وفي المناقب لابن شهرآشوب: «ولد من خديجة القاسم وعبد الله وهما
الطاهر والطيب وأربع بنات... فأما القاسم والطيب فماتا بمكة صغيرين» (3).
وأما زينب فقد تزوجها ابن خالتها أبو العباس بن الربيع بن العزى بن عبد
شمس بن عبد مناف، وأمه هند بنت خويلد أخت خديجة (عليها السلام)، واسم أبو العاص
«لقيط» أو «مقسم» بكسر الميم أو «ياسر» (4)، أسر يوم بدر ففدته زينب فأطلقه
النبي.



(1) قرب الإسناد 9 ح 29، الخصال: 2 / 404 ح 115.
(2) الخصال 2 / 405 ح 116.
(3) المناقب لابن شهرآشوب 1 / 209 ح 116.
(4) انظر أسد الغابة 6 / 196 ترجمة 6035.
455
هاجرت زينب إلى المدينة مع زيد بن حارثة الأنصاري، فاعترضهم
المشركون وهجم عليها هبار وروعها، وقصتها معروفة في كتب الأخبار (1).
ولدت لأبي العاص ولدا وبنتا، أما الولد فقد مات صغيرا، وأما البنت فاسمها
«أمامة» تزوجها أمير المؤمنين (عليه السلام) تنفيذا لوصية فاطمة الزهراء (عليها السلام) - حسب رواية
العوالم (2) - بعد تسع ليال من وفاة السيدة المخدرة الكبرى، وخلى سبيلها بعد وفاته،
فقال لها أن تتزوج من تختار إلا معاوية بن أبي سفيان.
ولدت أمامة لعلي ولدا، وتوفيت سنة خمسين للهجرة (3).
وقيل: إنها كانت قبل أمير المؤمنين (عليه السلام) عند المغيرة بن نوفل (4).
توفيت زينب في السنة الثامنة للهجرة في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (5).
وقيل: توفيت في الشهر الثاني من السنة السابعة في المدينة، وغسلتها أم
سلمة وأم أيمن (6).
أما رقية: فإنها ولدت بعد زينب بثلاث سنين، وبعد عام الفيل بثلاث
وثلاثين سنة، تزوجها عتبة بن أبي لهب، وتزوج أختها أم كلثوم عتيق بن أبي
لهب، فطلقاهما بإصرار من قريش وأبي لهب، وقيل: إن النبي أمرهما بمفارقة
زوجيهما بعد البعثة.



(1) انظر القصة في شرح نهج البلاغة 14 / 192 باب 9 وستأتي في هامش فيما بعد.
(2) العوالم 11 / 1082 ح 14.
(3) انظر البحار 21 / 183 ح 21 باب 28.
(4) البحار 22 / 162 ح 22 باب 1.
(5) أسد الغابة 7 / 144 ترجمة 6957.
(6) انظر البحار 22 / 201 ح 20 باب 2.
456
قال المفيد طاب ثراه: مات عتبة على الكفر ولعنه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: «اللهم
سلط على عتبة كلبا من كلابك» فداهمه سبع في طريق الشام ومزقه (1).
فلما هلك عتبة تزوجها عثمان بن عفان في مكة وهاجر معها إلى الحبشة، ثم
عاد إلى المدينة في السنة الثانية للهجرة، وتوفيت ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزوة بدر،
كان لها ولد صغير اسمه عبد الله نقره ديك في عينه فمات وعمره ست سنوات.
وبعد وفاة رقية خطب أم كلثوم فتزوجها في السنة الثالثة للهجرة، وتوفيت
في السنة السابعة في شعبان.
وأما فاطمة الزهراء (عليها السلام):
فقد خطبها أمير المؤمنين (عليه السلام) في السنة الثانية للهجرة بعد رجوعه من بدر،
فولدت له خمسة ذكورا وإناثا، فانتشر منها نور النبوة والعصمة في ذريتها الطيبة
على ما سيأتي ذكره.
وبناء على هذا، فإن بنات خديجة - جميعا - لم يعمرن في هذه الدنيا إلا قليلا.
وكانت فاطمة (عليها السلام) أصغرهن سنا وأقصرهن عمرا.
وقد دفنت بنات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الطاهرات بأجمعهن في البقيع.
وكذا دفن إبراهيم (وكان له سنة وستة شهور) في البقيع أيضا، وله قبر
معروف يزار، وسيأتي الحديث عن مارية القبطية وابنها إبراهيم ووفاته في بيان
مستقل.
عجالة: لقد نصت أخبار الفريقين على أن البنات الطاهرات جميعا تشرفن
بالإسلام، وخرجن من هذه الدنيا بإيمان راسخ وكمالات محمودة، وكن في موقع



(1) البحار 16 / 309 باب 11 و 18 / 57 ح 14 باب 8 و 22 / 202 ح 20 باب 2.
457
مميز على أغلب نساء زمانهن، وأفضل دليل على حسن حالهن اهتمام رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفاطمة الزهراء بهن وحبهما لهن وترحمهما عليهن:
أما زينب: فقد لاقت ما لاقت في طريق مكة مما أحزن النبي وآسفه، بحيث
أهدر دم هبار الذي طعن هودجها بالرمح فأرعبها حتى أسقطت جنينها.
قال ابن أبي الحديد في حوار له مع أستاذه: ومن هنا تبين حال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما ارتكب أهل الجور من جنايات في حق ابنته فاطمة الصديقة
الطاهرة (1).
والغرض: بيان محبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وشفقته على بنات خديجة ليعرف بذلك
حسن حالهن.
وأما رقية فمصابها يفجع القلب ويبكي العين، وقد جرى لها ما جرى على يد
عثمان حتى أودى بها إلى الشهادة.
ففي الكافي عن الصادق (عليه السلام): لما قتلها عثمان وقف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على قبرها
فرفع رأسه إلى السماء فدمعت عيناه.
أيضا في الكافي: وقف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على قبرها وقال: اللهم فهب لي رقية



(1) قال ابن أبي الحديد في شرح النهج 14 / 192 باب 9:
«... فخرجوا في طلبها سراعا حتى أدركوها بذي طوى، فكان أول من سبق إليها هبار بن الأسود بن
عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي ونافع بن عبد القيس الفهري، فروعها هبار بالرمح وهي في
الهودج، وكانت حاملا فلما رجعت طرحت ما في بطنها وقد كانت من خوفها رأت دما وهي في الهودج،
فلذلك أباح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم فتح مكة دم هبار بن الأسود.
قلت: وهذا الخبر قرأته على النقيب أبي جعفر (رحمه الله) فقال: إذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أباح دم هبار بن
الأسود لأنه روع زينب فألقت ذا بطنها، فظهر الحال لو كان حيا لأباح دم من روع فاطمة حتى ألقت
ذا بطنها...».
458
من ضمة القبر: فوهبها الله له (1).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاتها: «إلحقي بسلفنا الصالح عثمان بن مظعون وأصحابه»
وكانت «فاطمة (عليها السلام) على شفى القبر تنحدر دموعها في القبر، ورسول الله يتلقاه
بثوبه قائما يدعو، قال: إني لأعرف ضعفها وسألت الله عز وجل أن يجيرها من ضمة
القبر» (2).
وفي الكافي: «... وأقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كالواله من منزله... فلما أن رأى ما
بظهرها قال ثلاث مرات: ماله قتلك قتله الله، وكان ذلك يوم الأحد... فمكثت
الاثنين والثلاثاء وماتت في اليوم الرابع... وخرجت فاطمة (عليها السلام) ونساء المؤمنين
والمهاجرين فصلين على الجنازة» (3).
وهذا الترحم والعطف النبوي (صلى الله عليه وآله وسلم) على زينب ورقية أقوى دليل على علو
قدرهن وجلالة شأنهن. أجل; قد يكون فضلهما نشأ من انتسابهما إلى خديجة (عليها السلام)
- على القول بأنهما كانتا بنتين لخديجة (عليها السلام) - أما فاطمة الزهراء (عليها السلام)، بنت سلطان
العالمين وخاتم النبيين، ففضائلها ذاتية بالأصالة، فضلا عن فضائلها الخارجية،
وكان لها من الفضائل النفسانية والجسمانية والخارجية ما لا يعد ولا يحصى، بل
يصعب على العقل حصر كل واحد منها فضلا عن إحصائها.



(1) الكافي 3 / 236 ح 6 كتاب الجنائز - باب المسألة في القبر:
عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أيفلت من ضغطة القبر أحد؟ قال: فقال: «نعوذ بالله منها ما
أقل من يفلت من ضغطة القبر، إن رقية لما قتلها عثمان وقف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على قبرها فرفع رأسه إلى
السماء فدمعت عيناه وقال للناس: إني قد ذكرت هذه وما لقيت فرققت لها واستوهبتها من ضمة القبر
قال: فقال: اللهم هب لي رقية من ضمة القبر فوهبها الله له...».
(2) الكافي 3 / 241 ح 18 باب المسألة في القبر كتاب الجنائز.
(3) الكافي 3 / 253 ح 8 كتاب الجنائز باب النوادر والحديث طويل:
459
وقد ذكر عالم من علماء السنة أدلة كثيرة على أفضلية فاطمة على أخواتها،
منها ثواب صبرها وتحملها للمصائب والنوائب التي لا تقاس بالبنات الطاهرات،
وسيأتي الحديث عن ذلك في باب صبر فاطمة (عليها السلام).
وفي العلل عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: قلت له: لأي علة
لم يبق لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولد؟ قال: لأن الله - عز وجل - خلق محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) نبيا،
وعليا (عليه السلام) وصيا، فلو كان لرسول الله ولد من بعده، لكان أولى برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من
أمير المؤمنين، فكانت لا تثبت وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) (1).
وهذا الجواب إقناعي يرجع الأمر إلى مشيئة الله، أي إن الله أراد ذلك، وهو
يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
والجواب الآخر ما في الرضوي (عليه السلام): «إن مريم من عيسى، وعيسى من مريم
وهما شئ واحد، والحسنان (عليهما السلام) أبناء رسول الله من فاطمة، وفاطمة منهما،
والثلاثة وأمير المؤمنين (عليه السلام) من رسول الله، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم، ولذا قال: علي
مني وأنا من علي، وفاطمة مني وأنا من فاطمة، والحسن والحسين مني وأنا
منهما» (2).
ولو فرضنا للنبي ولدا وكان وصيا وكان الأوصياء منه، لما كان لهم شرف
كشرف الأئمة المعصومين (عليهم السلام) لأن ابن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس له أم كفاطمة لها شرف ذاتي
سرى إلى أبنائها وبعلها.



(1) علل الشرائع 1 / 159 ح 1 باب 111.
(2) الظاهر أنه مجموع عدد من الأحاديث; فالمشهور أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: علي مني وأنا منه; وقال: فاطمة
بضعة مني; وقال: حسين مني وأنا من حسين; وقال:... ولكنكم مني وأنا منكم، والأحاديث الأولى
مشهورة، أما الأخيرة فقد ورد في حديث رواه المحب الطبري في الرياض النضرة 2 / 172 - 173.
460
ففاطمة الزهراء (عليها السلام) لها جهة جامعة من الشرف والفضائل العديدة التي لا
تحصر.
رفع إعضال ودفع إشكال
لقد تردد على ألسنة الخواص والعوام منذ صدر الإسلام إشكال عضال
وأجاب عليه العلماء الأعلام منذ قديم الزمان; ويتلخص الإشكال في السؤال
التالي: كيف يرضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بتزويج بنات خديجة زينب ورقية - سواء
كانت منه أو من غيره - من أبي العاص بن الربيع وعثمان بن عفان وهما مشركان
كافران؟!
وكان ممن أجاب على هذا السؤال الشيخ الأجل السديد الشيخ المفيد
والسيد الأيد السيد المرتضى نور الله مضجعهما.
قال الشيخ المفيد في «أجوبة المسائل السروية» من جملة أجوبته على
الإشكال: «.. وليس ذلك بأعجب من قول لوط (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) (1)
فدعاهم إلى العقد عليهم لبناته وهم كفار ضلال قد أذن الله تعالى في هلاكهم، وقد
زوج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ابنتيه قبل البعثة كافرين كانا يعبدان الأصنام، أحدهما عتبة
ابن أبي لهب والآخر أبو العاص بن الربيع، فلما بعث فرق بينهما وبين ابنتيه» (2)
وأرجع زينب بالنكاح الأول بعد أن أسلم أبو العاص ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يوالي
كافرا، بل تبرء منهم على كل حال، ثم إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) زوج ابنتيه من عثمان في الإسلام;



(1) هود: 87.
(2) البحار 42 / 170 ح 34 باب 120.
461
إما عملا بظاهر الإسلام، ولم يكن (صلى الله عليه وآله وسلم) مكلفا حينئذ بالنظر في عاقبة أمرهما،
وهذا على قولنا وقول أصحابنا وعلى قول فريق آخر.
فالنكاح على ظاهر الإسلام والباطن مستور، وقد يستر الله ذلك على نبيه
من جهة إخفاء إنفاق المنافقين، كما قال تعالى: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق
لا تعلمهم نحن نعلمهم) (1)، وهكذا كان المكيون.
وإما أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عالما بباطنهم ونفاقهم، ولكن الله أباح هذا النكاح
إجراء على إباحة المناكحة على ظاهر الإسلام، وهذا الترخيص والإباحة من
خصائص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وذهب الشيخ المجلسي إلى هذا القول وجعله من خصائص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، تماما
كالزواج بأكثر من أربعة بالعقد الدائم، والزواج بدون مهر، وصيام الوصلة،
والصلاة بعد النوم بغير وضوء، وأشباه ذلك مما حرم على غيره (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثم قال الشيخ: هذه وجوه ثلاثة في تزويج عثمان من البنات الطاهرات وكل
واحد منها كاف بنفسه مستغن عما سواه، والله الموفق للصواب (2). (إنتهى كلامه
طوبى له وحسن مآب).
وقلت - أنا الحقير - كلاما في دفع الإشكال، قريبا من التقرير المذكور:
أولا: قال تعالى: (إن الدين عند الله الإسلام) (3) وقال تعالى أيضا: (ومن
يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) (4).



(1) التوبة: 101.
(2) البحار 42 / 107 ح 34 باب 120.
(3) آل عمران: 19.
(4) آل عمران: 85.
462
قانيا: إن الإسلام على مستويين: ظاهر وباطن. أما ظاهر الإسلام فهو
الإقرار بالشهادتين، وبه يحقن الدم وتجوز المناكحة، وأما باطنه فهو الإيمان، قال
تعالى: (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان) (1)، والإيمان هو الدين الذي بعث به
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصدع بإظهاره، قال تعالى: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين
الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) (2).
والدين: هو الصراط المستقيم وهو مسلك العقل الذي يرشد إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
ويدل عليه، وهو ما عبر القرآن بقوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما
فاتبعوه) (3) فدل عليه وأمر باتباعه، والدين يعني - إجمالا - كل ما جاء به
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأصول والفروع الإلهية والنواميس السماوية.
وقد بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بداية أمر النبوة ليدعو الناس إلى الإسلام الظاهري
قبل أن تنزل تفاصيل الدين فروعا وأصولا، فمن أظهر الشهادتين حينئذ فهو
مسلم تجري عليه أحكام الإسلام، فلما وصلت الأحكام إلى سائر الأنام تدريجا،
وبلغ النبي الأصول والفروع كاملة، جرى على الناس اسم الإسلام الواقعي - أي
الإيمان - بمفاد قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم) (4).
وهكذا كان نبي الرحمة يبلغ - تدريجيا - أحكام الله - أصولا وفروعا -
حسب ما تقتضيه الحكمة والأمر الإلهي، ويجر الناس من ظاهر الإسلام إلى باطن
الإيمان، مثل الطبيب الذي يعالج مريضه بمرور الأيام وتناوب الأوقات، فيعطيه



(1) المجادلة: 22.
(2) الصف: 9.
(3) الأنعام: 153.
(4) المائدة: 3.
463
الجرعة تلو الجرعة حتى يقوى مزاجه الضعيف رويدا رويدا.
وكل ما ذكرناه متعلق ببداية الدعوة، أما في آخر عصر النبوة فقد اكتمل
إيمان الناس، والتكليف المقرر لمن كان قبل النبوة هو تكليف الناقصين لا الكاملين.
وتزويج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ابنته من أبي العاص الكافر كان قبل البعثة والنبوة،
وهو يعلم عاقبة أبي العاص وإسلامه، كما كان عالما بحال عثمان وبقائه على الإسلام
الظاهري، وفي كلا الموردين كان التكليف على الجواز وإباحة النكاح، وكان
النكاح رائجا قبل البعثة، وطرقه محددة ومعروفة، وكان نكاح بني هاشم من أرقى
المناكح شرعية آنذاك، وكان أبو العاص ينتمي إلى قبيلة خديجة، وعتبة من بني
هاشم أيضا، ومع أن أبا لهب كان كافرا بما جاء به النبي إلا أنه لا محيص له من
الالتزام بالنكاح المعهود عند بني هاشم، ولا يمكنه العدول عنه بحال، ولما كان
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عالما بعاقبة عتبة وبقائه على الكفر فقد دعا عليه فلزمته دعوة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهوى في دركات العذاب.
وبعبارة أخرى: لقد بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أربعين سنة من عمره الشريف
وكان الوحي ينزل عليه طيلة فترة نبوته حتى اكتمل الكتاب واكتملت الشريعة
والأحكام، لأنها لم تنزل عليه دفعة واحدة في اليوم الأول من البعثة، فبلغ الأحكام
الإلهية المأخوذة من الكتاب تدريجا إلى العباد، وعليه فالتكليف قبل البعثة وبعدها
وفي أوائلها وفي أواخرها يختلف تماما من مرحلة إلى مرحلة، والتكليف بعد إبلاغ
الأحكام وإكمال الشريعة من كليات وجزئيات يختلف عما كان عليه أوائل الدعوة.
فأي مشكلة إذن في تزويج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ابنته من كافر يومئذ إذا حصل ذلك حسب
التكليف الظاهري، فلما بعث بالنبوة فرق بينهما بمقتضى التكليف الجديد في الآن

464
الجديد، فيكون الإسلام ناسخا لجواز النكاح في الكفر، وكل ما في الشريعة من
ناسخ ومنسوخ قائم على المصالح والنظر إلى الأشخاص المعاصرين لزمن النص
حيث يكلفون بتكليف خاص في زمن خاص، ثم يكلفون بتكليف آخر في زمن
آخر بمقتضى إقبال القلوب وقوة الإسلام وتوجه النفوس.
الحاصل: إن ما ذكرته يرجع في الحقيقة إلى ما ذكره الشيخ المفيد (رحمه الله)، فكما أن
لوط (عليه السلام) دعا القوم إلى نكاح بناته على ما نص عليه الذكر الحكيم، فلا ضير أن
يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أباح مناكحة هؤلاء الأشخاص، ومن أقرب إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) آنذاك من
ابن عمه، سيما إذا نوى (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه الوصلة رفع العداوة واستمالة قلب عمه وتألفه
والتحبب إليه من أجل إعلاء كلمة الله وترويج الشرع المقدس، وكذلك أقدمت
خديجة على تزويج أبي العاص باعتباره أقرب الأقربين إليها.
وعلى أي حال: كان لازما أن نحرر هذه الوجوه المفيدة المذكورة في هذه
المسألة عن الشيخ المفيد; وللسيد المرتضى (رحمه الله) بيان كاف في الشافي، ومن أراد
فليراجع، ومن طلبه وجده.
رب ارحم قصوري، واهدني سبيلا إلى مطالعة آثارك الباهرة بحق حبيبتك
فاطمة الطاهرة سلام الله عليها.

465
الخصيصة السابعة من الخصائص الخمسين
في هجرة فاطمة (عليها السلام) من مكة إلى المدينة
قلنا: لقد التحقت خديجة بالرفيق الأعلى وفاطمة في الخامسة من عمرها،
فكانت فاطمة بنت أسد وبقية أخواتها وجماعة من نساء بني هاشم يتعاهدن
فاطمة، ولازمنها ملازمة الظل، وما زال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوصيهن بها ويأمرهن
بتسليتها من فراق أمها، إلا أن فاطمة كانت مشغول عنهن; لأنها لا تأنس بأحد
سوى أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكانت تلوذ به وتنتهل من عذب معينه مكارم
الأخلاق ومحاسن الصفات النبوية وتتأدب بها، وكانت لها مراقبات ومواظبات
خاصة في صيام الأيام وقيام الليالي بما يعجز عنه الغير، فأقبلت على العبادات
والطاعات، وأقدمت عليها إقداما أحجم عنه نساء زمانها، مع أنها كانت في تلك
السن الصغيرة، فكانت تصبر على المشاق الصعبة وتتحمل ما يخرج عن العادات
البشرية ويحير العقول الإنسانية، فوجد فيها النساء خير قدوة بعد أمها خديجة
«كالمرآة المجلوة يحاذي بها شطر الحق».
أجل: لقد قضت من قبل آلاف الدهور في كنف الحق مشغولة بالتقديس
والتسبيح، وأظهرت العبودية في عالم غيب الغيوب بأطوار عديدة، فلما نزلت إلى
عالم الشهود واستقرت في دار الخمود كفلها النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وزاملها الولي

466
الأعظم، وخدمها روح القدس والملائكة الكرام، ومن كانت كذلك حق لها أن تأتي
في صغرها بما يعجز عنه كبار العباد، وذلك لأن قواها العاقلة وملكاتها الإلهية
تختلف عن قوى الآخرين، وتختلف عن ملكات الرجال والنساء من العالمين.
لقد كفل زكريا مريم ورأى منها - قبل البلوغ - خوارق العادات، وكانت
تنمي - كفاطمة الزهراء - خلافا للعادة المرسومة بين النسوان، كما نص على ذلك
كتب الأخبار والتفاسير، ولكن يبقى ثمة فرق بينهما حيث الشرف الذاتي النفساني
لفاطمة على مريم، وفضل الذات المقدسة النبوية على زكريا، وشرف مكة المكرمة
على بيت المقدس. فتربية فاطمة وكفالتها وقابليتها شئ آخر يختلف تماما عن
حالات مريم والنساء الأخريات.
نعم; قد تكون مثالا لفاطمة، كالخضر لصاحب الزمان (عليه السلام)، فقد ورد في
أخبار أهل البيت (عليهم السلام) أن طول عمر الخضر وبقاء حياته آية ودليل على طول عمر
آية الله في العالمين إمام العصر، وهكذا هي عبادة مريم (عليها السلام) وخدمتها وعصمتها
وملكاتها الحسنة آية ودليل ومثال للصديقة الكبرى سلام الله عليها.
الحاصل: عاشت حبيبة ذي الجلال على هذا المنوال ثلاث سنين أخرى في
كنف أبيها وهي تتزود بالفضائل في كل ساعة وآن، وتشتد في العبادات البدنية في
ساعات الليل والنهار، وكان النبي يتلقى الوحي من المبادئ العالية، وكلما نزل عليه
شئ شمت ريحه فاطمة (عليها السلام). وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يلقنها الوحي ويعلمها وهي تأخذه
كاملا تاما كما نزل، فاكتسبت في السنوات الثمان تمام معارف الدين ومعالم شريعة
سيد المرسلين أصولا وفروعا، حتى لم يكن حينئذ أحد من العالمين له يقين كيقينها
أو عرفان كعرفانها أو كمال إيمان يماثل كمال إيمانها، فلما هاجرت إلى المدينة كانت -

467
كما قالت سلمى - أكثر نساء العالمين علما وأدبا، ولا حول ولا قوة إلا بالله (وما
النصر إلا من عند الله) (1). وكيف لا تكون فاطمة كذلك؟! وأنى لنساء العالمين أن
يكن مثلها؟ فالزجاجة لا تكون ياقوتا وجواهر مهما صقلت، والحديد لا يداني
الذهب والفضة مهما انجلى، فالجوهر المقدس لمعدن العصمة والحياء غير الجواهر
والأعيان الأخرى، وذاتها الطاهرة المطهرة أطهر من أن تنالها شوائب النساء
وأقذارها، والله الموفق لكل خير وكمال والإيصال إلى الآمال.
ولنعم ما قيل:
فلم يستتم أمر النبي بمكة * فهاجر منها فاستقام بطيبة
لقد مات أبو طالب - كما في المصباح - في السادس والعشرين من شهر
رجب (2) وماتت خديجة في شهر شعبان في السنة العاشرة من المبعث، فسمى
رسول الله ذلك العام: «عام الحزن» وقال: «ما زالت قريش قاعدة عني حتى مات
أبو طالب» (3)، فكانت قريش تواجهه بالمكائد والأذى، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعرض
نفسه على قبائل العرب في الموسم، ويذكر اليهود والنصارى بأوصافه المذكورة في
التوراة والإنجيل، حتى شاعت دعوته، وكان ستة نفر من أهل المدينة آمنوا
وانصرفوا راجعين، فلما قدموا المدينة على قومهم ذكروا لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلم
يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى إذا كان العام المقبل أتى
الموسم من الأنصار إثنا عشر رجلا، فلقوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فبايعوه، وبعث معهم



(1) آل عمران 126; الأنفال 10.
(2) بحار الأنوار 19 / 25 ح 13 باب 5.
(3) البحار 19 / 26 ح 14 باب 5.
468
مصعب بن عمير، وكان بينهم بالمدينة يسمى المقرئ، وخرج من خرج من
الأنصار إلى الموسم مع حجاج قومهم، فاجتمعوا في الشعب عند العقبة ثلاثة
وسبعون رجلا وامرأتان في أيام التشريق بالليل، وكان فيهم البراء بن معرور،
فبايعوا البيعة المعروفة، ثم رجعوا إلى المدينة وأفشوا الخبر هناك.
ثم إن الله أمر نبيه بالهجرة إلى المدينة في قوله تعالى (يا عبادي الذين آمنوا
إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون) (1) وقوله (قالوا ألم تكن أرض الله واسعة
فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا * إلا المستضعفين من الرجال
والنساء) (2) وقوله (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا) (3).
وهكذا جاء الأمر الإلهي أن يترك عليا يبات في مكانه ويخرج إلى غار ثور،
ومن ثم إلى المدينة الطيبة، فخرج مع أبي بكر بن أبي قحافة وغلامه عامر بن
فهيرة، ودليلهم عبد الله بن الأريقط.
فأصبح صوت بمكة عاليا يسمعون الصوت ولا يدرون من صاحبه يردد
أبياتا، فلما سمع بذلك حسان بن ثابت (4) نشب يجاوب الهاتف:
لقد خاب قوم زال منهم نبيهم * وقدس من يسري إليهم ويقتدي
ترحل عن قوم فزالت عقولهم * وحل على قوم بنور مجدد
هداهم به بعد الضلالة ربهم * وأرشدهم من يتبع الحق يرشد



(1) العنكبوت: 56.
(2) النساء: 97 - 98.
(3) المزمل: 10.
(4) وللأبيات قصة أعرضنا عن ذكرها لئلا يخرج بنا الكلام عن المقصود من هذه الخصيصة. (من المتن)
469
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله * ويتلو كتاب الله في كل مشهد (1)
وكان خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - حسب رواية المصباح - من مكة في أول يوم من
ربيع الأول، وذلك يوم الخميس من سنة ثلاث عشرة من المبعث، وقدم المدينة
لاثنتي عشر ليلة خلت من شهر ربيع الأول بعد أن بات ثلاث ليال في غار ثور،
ودخل المدينة عن طريق ذي الحليفة، فخرج الرجال والنساء والصبيان واليهود
من بني قريضة وبني النضير وبنيى القينقاع ورؤساؤهم وعظماؤهم وأعيان القبائل
وأشراف العشائر مستبشرين لقدومه الميمون، يتعادون لرؤية النور الباهر على
تفصيل سنذكره في محله.
وكان أول بيت نزل فيه في المدينة الطيبة - كما في روضة الكافي - في قبا في
بيت كلثوم بن هدم، ثم بيت خيثمة الأوسي، ثم خط لهم مسجد قبا وهو الذي قال
فيه تعالى: (لمسجد أسس على التقوى) (2) وصلى فيه ثم انتقل إلى بيت عمرو بن
عوف، ثم لم يزل مقيما ينتظر عليا (عليه السلام) فيقولون له: أدخل المدينة، فيقول: لا، إني
أنتظر علي بن أبي طالب، وقد أمرته أن يلحقني، ولست مستوطنا منزلا حتى يقدم
علي، وما أسرعه إن شاء الله.
ثم إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما قدم علي (عليه السلام) تحول من قبا إلى بني سالم بن عوف، ثم
راح إلى المدينة على ناقته التي كان قدم عليها وعلي معه لا يفارقه يمشي بمشيه،
وليس يمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ببطن من بطون الأنصار إلا قاموا إليه يسألونه أن ينزل
عليهم، فيقول لهم: خلوا سبيل الناقة فإنها مأمورة، فانطلقت به إلى باب مسجد



(1) البحار 19 / 43 باب الهجرة ومباديها.
(2) التوبة: 108.
470
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فوقفت عنده وبركت ووضعت جرانها على الأرض، فنزل رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأقبل أبو أيوب مبادرا حتى احتمل رحله فأدخله منزله.
قال سعيد بن المسيب لعلي بن الحسين (عليهما السلام): جعلت فداك كان أبو بكر مع
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين أقبل إلى المدينة، فأين فارقه؟
فقال: إن أبا بكر لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى قباء فنزل بهم ينتظر قدوم
علي (عليه السلام)، فقال أبو بكر: انهض بنا إلى المدينة فإن القوم قد فرحوا بقدومك وهم
يستريثون إقبالك إليهم، فانطلق بنا ولا تقم هاهنا تنتظر عليا، فما أظنه يقدم إليك
إلى شهر، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كلا ما أسرعه، ولست أريم حتى يقدم ابن
عمي وأخي في الله - عز وجل - وأحب أهل بيتي إلي، فقد وقاني بنفسه من
المشركين - وفي أمالي الشيخ: ابن عمي وبنتي فاطمة -.
قال: فغضب عند ذلك أبو بكر واشمأز وداخله من ذلك حسد لعلي (عليه السلام)،
وكان ذلك أول عداوة بدت منه لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في علي، وأول خلاف على رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فانطلق حتى دخل المدينة، وتخلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقباء حتى ينتظر
عليا (1).
وفي كامل التواريخ: ونزل أبو بكر على خبيب بن أساف بالسنح، وقيل نزل
على خارجة بن زيد أخي الحرث بن الخزرج (2).
قال سعيد بن المسيب: فقلت لعلي بن الحسين (عليهما السلام): فمتى زوج رسول



(1) البحار 19 / 116 ح 2 باب 7 عن روضة الكافي.
(2) الكامل في التاريخ 2 / 75.
471
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة (عليها السلام) من علي (عليه السلام)؟ فقال: بالمدينة بعد الهجرة بسنة، وكان لها يومئذ
تسع سنين (1).
قال علي بن الحسين (عليهما السلام): ولم يولد لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من خديجة على فطرة
الإسلام إلا فاطمة (عليها السلام)، وقد كانت خديجة ماتت قبل الهجرة بسنة، ومات
أبو طالب (رضي الله عنه) بعد موت خديجة رضي الله عنها بسنة، فلما فقدهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
سئم المقام بمكة، ودخله حزن شديد، وأشفق على نفسه من كفار قريش، فشكى
إلى جبرئيل (عليه السلام) ذلك، فأوحى الله عز وجل إليه: أخرج من القرية الظالم أهلها
وهاجر إلى المدينة، فليس لك اليوم بمكة ناصر (2)...
وقد وقع الإختلاف في الفترة التي مكث فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة بعد وفاة
أبي طالب (عليه السلام) (3).
[أما هجرة فاطمة (عليها السلام)]
هاجرت فاطمة الزهراء (عليها السلام) إلى المدينة ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقبا. وقد اختلف
الشيعة وأهل الخلاف فيمن هاجر بها (عليها السلام):
فمنهم من قال: بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى فاطمة وزوجته سودة بنت زمعة
وأم أيمن وابنها أسامة بن زيد وزيد بن حارثة وأبا رافع مع بعيرين وخمسمائة
درهم، فحملاهن من مكة إلى المدينة، وخرج عبد الله بن أبي بكر بعيال أبيه إليه،



(1) البحار 19 / 116 ح 2 باب 7 عن روضة الكافي.
(2) البحار 19 / 115 وما بعدها - باب نزوله المدينة وبناؤه المسجد والبيوت.
(3) في كتاب المنتقى في حوادث السنة الأولى للهجرة إشارة إلى أحداث كثيرة ذكرها باختصار. (من المتن)
472
وهن أم رومان وأم عبد الله وأختيه أسماء ذات النطاقين وعائشة، وصحبهم طلحة
بن عبيد الله (1).
وهذا الخبر لا يذكر أمير المؤمنين وخروج فاطمة (عليها السلام) معه.
وقال ابن الأثير في الكامل: «وأما علي فإنه لما فرغ من الذي أمره به رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هاجر إلى المدينة، فكان يسير الليل ويكمن النهار حتى قدم المدينة وقد
تفطرت قدماه، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أدعو لي عليا، قيل: لا يقدر أن يمشي، فأتاه
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واعتنقه وبكى رحمة لما بقدميه من الورم، وتفل في يديه وأمرها على
قدميه فلم يشتكهما بعد حتى قتل...» (2).
والحق هو ما سنذكره من هجرة فاطمة مع علي (عليه السلام)، ويمكن الجمع بين
الأخبار بأن يكون أمير المؤمنين وصل إلى المدينة وأمره الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعودة
ثانية لحمل فاطمة (عليها السلام).
والحق: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كتب إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) كتابا يأمره فيه
بالمسير إليه وقلة التلوم، وكان الرسول إليه أبا واقد الليثي، فلما أتاه كتاب رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تهيأ للخروج والهجرة، فآذن من كان معه من ضعفاء المؤمنين، فأمرهم
أن يتسللوا ويتخففوا - إذا ملأ الليل بطن كل واد - إلى ذي طوى، وخرج علي (عليه السلام)
بفاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم (عليها السلام) وفاطمة بنت
الزبير بن عبد المطلب، وتبعهم أيمن بن أم أيمن مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأبو واقد
رسول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فجعل يسوق بالرواحل فأعنف بهن، فقال علي (عليه السلام):



(1) وولد عبد الله بمن الزبير من أسماء في قبا. (من المتن) وكان أول مولود من المهاجرين بعد الهجرة.
(2) الكامل في التاريخ 2 / 75.
473
أرفق بالنسوة أبا واقد إنهن من الضعائف، قال: إني أخاف أن يدركنا الطالب،
فقال علي (عليه السلام): أربع عليك، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لي: يا علي! إنهم لن يصلوا
من الآن إليك بأمر تكرهه، ثم جعل - يعني عليا - يسوق بهن سوقا رفيقا وهو
يرتجز ويقول:
لا شئ إلا الله فارفع ظنكا * يكفيك رب الناس ما أهمكا
وسار فلما شارف ضجنان (1) أدركه الطلب سبع فوارس من قريش متلثمين
وثامنهم مولى الحارث بن أمية يدعى جناحا... ودنا القوم فاستقبلهم علي (عليه السلام)
منتضيا سيفه، فأقبلوا عليه فقالوا: ظننت أنك - يا غدار!!! - ناج بالنسوة، إرجع
لا أبا لك، قال: فإن لم أفعل؟ قالوا: لترجعن راغما أو لنرجعن بأكثرك شعرا
وأهون بك من هالك، ودنا الفوارس من النسوة والمطايا ليثوروها، فحال علي
بينهم وبينها فأهوى له جناح بسيفه فراغ علي (عليه السلام) عن ضربته وتختله علي (عليه السلام)
فضربه على عاتقه فأسرع السيف مضيا فيه حتى حس كاثبة فرسه، فكان علي (عليه السلام)
يشد على قدمه شد الفرس أو الفارس على فرسه، فشد عليهم بسيفه وهو يقول:
خلوا سبيل الجاهد المجاهد * آليت لا أعبد غير الواحد
فتصدع القوم عنه فقالوا: أغن عنا نفسك يابن أبي طالب، قال: فإني منطلق
إلى ابن عمي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيثرب، فمن سره أن أفري لحمه وأهريق دمه
فليتبعني أو فليدن مني، ثم أقبل على صاحبيه أيمن وأبي واقد فقال لهما: أطلقا
مطاياكما، ثم سار ظاهرا قاهرا حتى نزل ضجنان، فتلوم بها قدر يومه وليلته،



(1) قال ياقوت الحموي في مراصد الاطلاع: ضجنان على خمسة وعشرين ميلا عن مكة وهي لأسلم
وهذيل وعامرة. (من المتن)
474
ولحق به نفر من المستضعفين من المؤمنين.. فصلى ليلته تلك هو والفواطم...
يصلون لله ليلتهم ويذكرونه قياما وقعودا وعلى جنوبهم... وقد نزل الوحي بما كان
من شأنهم قبل قدومهم: (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم
ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا) إلى قوله:
(فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى) (1) الذكر
علي (عليه السلام) والأنثى فاطمة (بعضكم من بعض) يقول: علي من فاطمة، وفاطمة من
علي. (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا
لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله
والله عنده حسن الثواب) (2). وتلا (صلى الله عليه وآله وسلم): (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء
مرضات الله والله رؤوف بالعباد) (3). نزلت في علي ليلة المبيت، وقال له: يا علي
أنت أول هذه الأمة إيمانا بالله ورسوله، وأولهم هجرة إلى الله ورسوله، وآخرهم
عهدا برسوله، لا يحبك - والذي نفسي بيده - إلا مؤمن قد امتحن الله قلبه للإيمان،
ولا يبغضك إلا منافق أو كافر (4).
ثم آخى بين المهاجرين واختار أمير المؤمنين أخا لنفسه، ولطالما كان يشكره
ويثني عليه ويعتذر إليه مما يلقاه من أذى ويتحمله من مشاق.



(1) آل عمران: 191 - 195.
(2) آل عمران: 195.
(3) البقرة: 207.
(4) انظر البحار 19 / 65 وما بعدها.
475
إنصاف بلا اعتساف
ألا ليت شعري هل ينظر بعض أهل الخلاف بعين الإنصاف إلى ما صدر من
سلطان الولاية في عام الهجرة من مواقف عظيمة من قبيل:
أولا: كيف بات على فراش النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفداه بنفسه الشريفة وهو في ريعان
الشباب وحداثة السن.
ثانيا: كيف أدى أمانات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونفذ وصيته وحمل الفواطم الثلاث إلى
رسول الله في المدينة، فبشره رسول الله بالآيات الكريمة النازلة فيه، ولم يكن ثم من
بذل روحه سرا وعلانية، ليلا ونهارا حضرا وسفرا سوى أمير المؤمنين (عليه السلام).
وقد حكى قوله تعالى (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك
بعضهم أولياء بعض) (1) حسن إيمانه وهجرته وجهاده وأولويته في الولاية على
الآخرين.
ونزل فيه قوله تعالى: (فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في
سبيلي وقاتلوا وقتلوا لاكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها
الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب) (2) فذكر هجرته وإخراجه من
مكة وصبره على أذى أهلها ومقاتلتهم، وما كتبه الله له من الأجر في جواره، فهو
أول من ذب عن نبيه بالسيف، وأول من أخرج بعد نبيه عن بيت ربه، وأول من
أوذي مع فتيانه وعيالاته، وأول من اقتدى برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأول من صلى معه،



(1) البقرة: 218.
(2) آل عمران: 195.
476
وأول من استحق الثواب والدخول في جوار الله ورضوانه وجنانه. ومن نظر في
الآيات النازلة في فضل الهجرة والسابقين والمهاجرين، عرف بالقطع واليقين أنها
جميعا تحكي حالاته ومجاهداته (عليه السلام) حيث لا يسبقه سابق ولا يلحقه لاحق.
الحاصل: تبين أن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) هاجرت إلى المدينة ولما تبلغ
حد البلوغ، وكان عمرها يومئذ ثمان سنين، فأراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبني لها منزلا
وحجرة، فاشترى مربدا كان لصغيرين يتيمين وبنى عليه مسجده، وهو يجاور
قبره المنور وضريحه المطهر اليوم، ثم بنى حوله حجرا، وكان كلما تزوج امرأة بنى
لها حجرة، وكانت أول من تزوج بها - على رواية الشيعة - سودة بنت زمعة،
وذهب بعض أهل السنة والجماعة إلى أنها «عائشة» التي هاجرت بأمر أبيها مع
أخيها، فخطبها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في شوال، وكان لها تسع سنين، وكانت حجرة عائشة
ملاصقة لحجرة السيدة فاطمة (عليها السلام)، وكان بينهما كوة تسهل عليهما الإتصال
والتعاون، ولكن سرعان ماانقلب الأمر حيث بدأت عائشة - تدريجيا - بتسرير
كلمات سخيفة وعبارات ركيكة ضعيفة، وصارت تبدي العداوة والبغضاء المكنونة
فيها بالفطرة والوراثة، فأخذت تذم خديجة وتعير فاطمة بأمها وتفتخر على
خديجة بالجمال والشباب!! فشق ذلك على الصديقة المطهرة وشكت إلى رسول
الله، فأمر النبي بسد تلك الكوة. ونعم ما قيل:
أقلب الطرف لا أرى من أحبه * وفي الدار ممن لا أحب كثير
ثم اختار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بين النساء العاقلات الكاملات المخلصات
امرأة - اختلفوا في اسمها - لخدمة فاطمة وملازمتها ليل نهار ورد الوحدة عنها،
فقالت: «والله ما رأيت امرأة أأدب منها». إنها على صغر سنها لا تحتاج إلى مربية،

477
بل كانت بذاتها الشريفة تربي النفوس الناقصة، وتأدب أرباب العقول الكاملة،
فجوهر ذاتها المقدسة منزه مؤدب منذ اليوم الأول، كما ذكرنا سابقا.
وسنذكر في هذا المقام مجملا عن آداب معدن الكمال والأدب; ليكون شاهد
صدق ينتفع به القراء.
وقبل الدخول في ذلك نود أن نشرح معنى الأدب أولا:
فالأدب كما في كتب الأخلاق: تهذيب الأقوال والأفعال وتحسين الأخلاق،
بحيث يكون الظاهر عنوان الباطن، والباطن موافقا للظاهر.
يعني: أن يحكي ظاهره باطنه، ويظهر باطنه على ظاهره.
يعني: أن يكون القلب متحليا بحلية الذكر، والأعضاء والجوارح متزينة
بزينة الأعمال الصالحة في آداب الشريعة المطهرة.
وببيان آخر: الأدب ضربان: أدب مع الخلق، وأدب مع الخالق.
أما الأدب مع الخلق فقد ورد ذكره في كثير من آيات القرآن في موارد
عديدة حسب حالات الأشخاص والمكلفين، كقوله تعالى: (خذ العفو وأمر
بالمعروف وأعرض عن الجاهلين) (1).
وقوله تعالى: (فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السائل فلا تنهر * وأما بنعمة
ربك فحدث) (2).
وقوله تعالى: (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر
كريم) (3).



(1) الأعراف: 199.
(2) الضحى: 9 - 11.
(3) الحديد: 11.
478
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم
ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا
فكرهتموه) (1) ونظائرها من الآيات التي تتحدث عن الآداب مع خلق الله سبحانه
وتعالى.
قال أحد الأخيار: من تهاون وتغافل في الأدب مع الخلق يعاقب بالحرمان
من السنن، ومن حرم السنن حرم أداء الفرائض، ومن حرم الفرائض حرم المعرفة
الحقة وعوقب بالعقوبات الصعبة، ونستجير بالله من حرمان العرفان وهجران
آداب الإيمان، وبالله الاستعانة وعليه التكلان.
أما الأب مع الخالق، فقد صرح به الكتاب العزيز في موارد عديدة، وأكد
عليه تأكيدا شديدا باعتباره السبب القوي للآداب الأخرى، وإليه أشارت الآية
التالية: (ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا) (2).
أما الأدب مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة، فهو إطاعة الأمر السماوي والحكم
المحكم القرآني في قوله تعالى: (ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه
فانتهوا) (3) وقوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (4)
فالأدب مع النبي امتثال أمره وإطاعته.
فكلما ازداد تمسك الفرد بهذه الآداب ازداد قربه من الحق سبحانه، وزادت
محبته من الله جل وعلا، والأدب ثمرة المحبة، ولذا قيل: «شرف المرء بعلم وأدب لا



(1) الحجرات: 12.
(2) الإسراء: 39.
(3) الحشر: 7.
(4) آل عمران: 32.
479
بأصل ونسب»، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام):
ليس اليتيم الذي قد مات والده * إن اليتيم يتيم العلم والأدب (1)
والآن لاحظ الآداب عند الأنبياء والمرسلين والأولياء الكاملين لتعلم أن
معنى الأدب ليس هو القيام والقعود ووضع اليد على الصدر للاحترام وأمثال ذلك،
وإنما هو الانقطاع عن عباد الله والإقبال القلبي الكلي على الله (وأما من خاف مقام
ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى) (2).
ومن علائم الأدب: حب الله والمداومة على ذكره «ومن أحب شيئا أكثر
ذكره» وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وسمعي وبصري
وأهلي ومالي ومن الماء البارد».
وقال أيضا (صلى الله عليه وآله وسلم): «اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد
الموت، ولذة النظر إلى وجهك الكريم، وشوقا إلى لقائك» (3).
الحاصل: قال الحكماء - ونعم ما قالوا -: إن البعض يجتنب الملكات الردية
الرذيلة بنجابته الأصلية وطهارته الفطرية، وبعض يحترز عنها بعد أن يفكر
ويتأمل ويعرف رداءتها ورذالتها، وبعض يتحاشاها خوفا من الوعيد والتهديد
والعقاب ورجاء للأجر والثواب، وهذه الطائفة هي الأكثر دائما، والطائفة الوسطى
تتبع التعليم، والطائفة السفلى تمشي بدلالة الشرع، ومثل الشرع فيها مثل من يأكل
طعاما ويغص به، فلا يجد حيلة إلا أن يشرب الماء ليدفعه بالقوة وإلا هلك.



(1) ديوان الإمام (عليه السلام) 18.
(2) النازعات: 40 - 41.
(3) البحار 83 / 2 ح 2 باب 38.
480
والغرض من هذا البيان أن نقول أن الطائفة الأولى في الدرجة العليا مؤيدة
بالتأييدات الإلهية ومجردة من التعلقات الطبيعية، وهي جواهر مخلوقة من
إشعاعات العقل الأول المعبر عنه بالقلم الأعلى، والمسمى عند أهل الكشف
بالحقيقة المحمدية، فجواهر حقائقهم تستولي استيلاء خاصا على أفراد الموجودات
وآحاد الكائنات، وهكذا كانوا وسيكونون.
وبعبارة الحكماء: إن حقائق الأشياء جميعا منطوية فيهم إنطواء علميا،
ومندرجة ومندمجة في حقيقة كل واحد منهم كالبذرة المستورة بالتراب تنطوي
فيها الأغصان والثمار الكثيرة، حتى تخرج من مكمن الغيب إلى عالم الفعل والشهود.
أقول: خلقت فاطمة الزهراء (عليها السلام) حسب الأخبار المذكورة والأحاديث
المأطورة من النور المجرد والعقل المؤيد، وترعرعت في كنفه وحماه، يربيها
ويؤدبها، ثم كفلها في هذا العالم، فكيف لا تلتزم أفعاله وأقواله ولا تقتدي بآثاره
اقتداء كاملا؟ ولا ترضى - حق الرضا - برضا وليه وهي محيطة إحاطة كاملة بكل
تلك البيانات؟!!
ففاطمة الزهراء (عليها السلام) من الطائفة الأولى، وهي مهذبة منذ صغرها، وقد أدبها
العلي الأعلى، صلوات الله عليها وعلى من تولاها.
إلى هنا ينبغي أن نعقل اللسان في هذه الخصيصة لنذكر فضائل تلك المخدرة
من خلال عبارات الأئمة الأطهار (عليهم السلام) لئلا يحرم العوام.

481
الخصيصة الثامنة من الخصائص الخمسين
في حالات «حميراء» بنت أبي بكر بن أبي قحافة
لقد ورد في أخبارنا وأخبار العامة أن الدين هو الحب في الله والبغض في
الله (1)، وقال علي (عليه السلام) - كما في نهج البلاغة -: لا يكمل إيمان المرء حتى يحب من أحب
الله ويبغض من أبغض الله، لذا اعتقدنا نحن الشيعة أن الدين يقوم على الولاء
والبراءة، وأن الإسلام بني على الولاية لأولياء فاطمة والبراءة من أعدائها، ولا
ولاية إلا ببراءة، بل البراءة مقدمة على الولاء، كما قال بقراط الحكيم: «البدن
الذي ليس بالنقي كلما غذوته فقد زدته شرا».
ومن البديهي أن النفس إذا لم تنق من الأخلاق الذميمة فإن العلوم الحكمية
لا تزيدها إلا فسادا، فلا بد من تهذيب الأخلاق أولا قبل تعلم العلوم «كن مرآة ثم
انتظر رؤية الوجوه الملائكية، ونظف البيت ثم انتظر قدوم الضيوف».
ولما كان من الضروري لكتابنا هذا - وأمثاله من الكتب - التعرض لبيان
حال الموالي والمعادي لفاطمة (عليها السلام) وبني فاطمة (عليها السلام)، وتحقيق طريق المعاداة
لأعدائها والموالاة لأوليائها.
لهذا أردنا في هذه الخصيصة التعرض إلى أهم المقاصد وأعظم المفاسد التي



(1) انظر البحار 27 / 56 ح 13 باب 1.
482
صدرت وبرزت عن هذه الأسرة; لنعرف بالتدريج المصدر الأصلي والمبدأ الأولي
الذي انطلقت منه، ونحاول التمسك بالإنصاف لمعرفة أسباب ذلك من كتب الشيعة
وكتب أهل الخلاف ومعرفة مفاسد أفرادها لنعرف من أين وممن؟ ولأجل ماذا؟
ومنذ متى ظهرت كل هذه الآثار منهم؟!
فنقول: إن العناد الفطري والعداوة الأصلية مترسخة في طينة أعداء آل
العصمة، ولكن مناشئ العناد والفساد بدأت تظهر آثارها بالتدريج في هذا العالم.
ففي السنة الأولى من الهجرة سجل أمير المؤمنين كل تلك المواقف المخلصة،
فنزلت في كل واحدة منها آية، ولم تنزل في حق ذاك ولا آية واحدة سوى ما نزل في
المهاجرين عامة من آيات معدودات. وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يشمل عليا (عليه السلام) بعناياته
الخاصة دائما ويجلله بألطافه ويشكر له مواقفه، كمبيته على فراش النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وحمله بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة، ومقاتلته دونها، ومجاهداته في الطريق،
وكان انتظار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قدوم أمير المؤمنين (عليه السلام) في قبا، وسد الأبواب الشارعة في
المسجد كلها إلا بابه، وتزويجه ابنته، ومؤاخاته، ونزول الآيات المباركات في
شأنه، والإشارة بمواقفه وخدماته العظمى في السنين الأولى من الهجرة، كل هذا
وغيره كان يزيد - يوما بعد يوم - في عناد الأعداء وحسدهم.
ومن جهة أخرى كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يشكو عائشة إلى أبي بكر وأنها
تؤذي فاطمة وتقول لها كيت وكيت ليمنعها أبوها، وهي لا تمتنع، بل كانت تقيس
نفسها بخديجة وترى أنها خير منها، فلما زوج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة من علي (عليهما السلام)
وولد الحسنان، كانت ترى اهتمام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) البالغ وعنايته الخاصة بهما، فاشتعلت

483
فيها نيران الحسد، فغلت مراجل العناد وطغت عفاريت الغيرة (1).
والآن انظروا بعين الإنصاف إلى أبي بكر الذي كان يلازم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في
سفره، وقد عقد لابنته - على مذهب العامة - على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة وقدمها
له في المدينة، وكان أكبر سنا من أمير المؤمنين (عليه السلام)، ومع ذلك لم ينل ما ناله
أمير المؤمنين (عليه السلام) من الإحترام والعناية اللامتناهية من الحضرة الأحدية والمحبة
النبوية، ووجد نفسه خلوا من كل تلك المفاخر، فكيف لا يحسد ولا يبدي العداوة
ظاهرة وباطنة؟ سيما وأنه كان يسمع من محارم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يجري في الداخل،
حيث كانت عائشة تصب الزيت على النار المشتعلة في داخله، وكانت نساء
أخريات يعاضدن عائشة في وشايتها وسعايتها فيؤججن كوامنه.
وعلى ما هو المعلوم فإن أبا بكر دخل الإسلام طلبا للرئاسة، يبذل قصارى
جهده لنيل للخلافة، غير أنه وجد الأمر خلافا لهواه، ووجد الرياح تجري بما لا
تشتهيه نفسه; لذا شرع باتخاذ التدبيرات اللازمة لمواجهة التطورات دون أن يبدي
خوفا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
والآن نسأل أهل السنة: هل كان أبو بكر معصوما؟
الجواب: لا.
فنسألهم ثانية: ألم تقع أغلب هذه الأحداث؟ أولم أمير المؤمنين (عليه السلام) مورد
اهتمام وألطاف السيد المختار (صلى الله عليه وآله وسلم)؟
الجواب: نعم.
فنقول: كيف لا يدب الحسد إلى أبي بكر وهو غير معصوم وكان يلازم



(1) وسيأتي كلام ابن أبي الحديد البغدادي فيما فعلته عائشة وفي علة حسدها. (من المتن)
484
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا ينال تلك الألطاف، في حين كان يرى نفسه شيخا كبيرا مستحقا
لنيل اهتمام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وألطافه؟!
وليس في المخالف والمؤالف من يقول أن أبا بكر كان يتميز بملكة قاهرة
استثنائية تنزهه عن الحسد!!
وبهذا تبين أن الحسد هو منشأ العداوة في الصدر الأول من الخارج والداخل
من الرجال والنساء، والحسد من أصول الكفر وأركانه (1)، وسنشرح هذا في في
هذه الخصيصة بشكل مستوفي إن شاء الله. إن تلك المفاسد نشأت جميعا من
الحسد، بمفاد قوله تعالى: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله) (2)
وكان مصدره ومظهره إبتداء أبا بكر وعائشة.
وقد ذكرنا شيئا من حسد أبي بكر، وسنذكر الآن شيئا من حسد عائشة
لنقترب من المقصود:
قال ابن أبي الحديد المعتزلي: سألت شيخي أبا يعقوب يوسف بن إسماعيل
اللمعاني عن قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «وأما فلانة - ويعني (عليه السلام) عائشة - فأدركها
رأي النساء وضغن غلا في صدرها كمرجل القين، ولو دعيت لتنال من غيري ما
أتت إلي لم تفعل، ولها بعد حرمتها الأولى والحساب على الله». فقال: أول بدء
الضغن كان بينها وبين فاطمة (عليها السلام); وذلك لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تزوجها عقيب موت
خديجة فأقامت نفسها مقامها وكلمت فاطمة كلاما بعيدا عن الصواب، ثم إنها



(1) قال أبو عبد الله (عليه السلام): أصول الكفر ثلاثة: الحرص والاستكبار والحسد. (هداية الأمة 1 / 12 المقدمة
الثامنة ح 20)
(2) النساء: 54.
485
كانت لا ترضى بما تراه من إكرام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لفاطمة (عليها السلام) إكراما عظيما أكثر مما كان
الناس يظنونه، وأكثر من إكرام الرجال لبناتهم، حتى خرج عن حد الآباء
والأولاد فقال بمحضر الخاص والعام مرارا لا مرة واحدة، وفي مختلف المقامات لا
في مقام واحد: إنها سيدة نساء العالمين، وإنها عديلة مريم بنت عمران، وإنها إذا
مرت في الموقف نادى مناد من جهة العرش: يا أهل الموقف غضوا أبصاركم لتعبر
فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) - وهذا من الأخبار الصحيحة وليس من الأخبار
المستضعفة - وإن إنكاحه عليا إياها ما كان إلا بعد أن أنكحه الله تعالى إياها في
السماء بشهادة الملائكة، وكم قال لا مرة: «يؤذيني ما يؤذيها ويغضبني ما يغضبها»
و «إنها بضعة مني يريبني ما رابها» فكان هذا وأمثاله يوجب زيادة الضغن عند
الزوجة حسب زيادة هذا التعظيم والتبجيل، وكانت فاطمة تكثر الشكوى لبعلها
من عائشة، ويغشاها نساء المدينة وجيران بيتها فينقلن إليها كلمات عن عائشة،
وكما كانت فاطمة تشكو إلى بعلها كانت عائشة تشكو إلى أبيها لعلمها أن بعلها لا
يشكيها (1) على ابنته، فحصل في نفس أبي بكر من ذلك أثر ما، ثم تزايد تقريظ
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام) وتقريبه واختصاصه، فأحدث ذلك حسدا له في نفس
أبي بكر، وهو أبوها، وفي نفس طلحة، وهو ابن عمها، فصار طلحة ثالث ثلاثة،
وهي تجلس إليهما وتسمع كلامهما، وهما يجلسان إليها ويحادثانها، فأعدى إليها
منهما كما أعدتهما.
ثم كان من أمر القذف ما كان، ولم يكن علي (عليه السلام) من القاذفين، ولكنه كان من
المشيرين على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بطلاقها، تنزيها لعرضه عن أقوال الشنأة



(1) أشكى فلانا: قبل شكواه.
486
والمنافقين، قال له لما استشاره: إن هي إلا شسع نعلك، وقال له: سل الخادم
وخوفها، فلما نزلت آيات البراءة بسطت لسانها وأظهرت فلتات القول وأضمرت
العداوة والبغضاء.
ثم كان بينها وبين علي (عليه السلام) في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحوال وأقوال، كلها
تقتضي تهييج ما في النفوس، نحو قولها له، وقد استدناه رسول الله فجاء حتى قعد
بينه وبينها وهما متلاصقان: أما وجدت مقعدا لكذا - لما تكنى عنه - إلا فخذي،
ونحو ما روي أنه سايره يوما وأطال مناجاته، فجاءت وهي سائرة خلفهما حتى
دخلت بينهما وقالت: فيم أنتما فقد أطلتما، فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك اليوم...
ثم اتفق أن فاطمة ولدت أولادا كثيرة بنين وبنات ولم تلد هي ولدا، وأن
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقيم ابني فاطمة مقام بنيه، ويسمي الواحد منهما «ابني»
ويقول: «دعوا لي ابني ولا ترزموا على ابني» و «ما فعل ابني» فما ظنك بالزوجة إذا
حرمت الولد من البعل، ثم رأت البعل يتبنى بني ابنته من غيرها ويحنو عليهم حنو
الوالد المشفق، هل تكون محبة لأولئك البنين ولأمهم ولأبيهم أم مبغضة؟ وهل تود
دوام ذلك واستمراره أم زواله وانقضاءه؟!!
ثم اتفق أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سد باب أبيها إلى المسجد وفتح باب صهره، ثم
بعث أباها ببراءة إلى مكة ثم عزله عنها بصهره، فقدح ذلك أيضا في نفسها، وولد
لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إبراهيم من مارية، فأظهر علي بذلك سرورا كثيرا، وكان يتعصب
لمارية ويقوم بأمرها عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجرت لمارية نكبة مناسبة لنكبة
عائشة، فبرأها علي منها وكشف بطلانها أو كشفه الله تعالى على يده، وكان ذلك مما

487
كان يوغر (1) صدر عائشة عليه ويؤكد ما في نفسها منه.
ثم مات إبراهيم فأبطنت شماتة وإن أظهرت كآبة، ووجم علي (عليه السلام) من ذلك
وكذلك فاطمة...
حتى مرض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما ثقل في مرضه أنفذ جيش أسامة وجعل
فيه أبا بكر وعمر وغيرهما من أعلام المهاجرين والأنصار، فكان علي (عليه السلام) حينئذ
بوصوله إلى الأمر - إن حدث برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حدث - أوثق، وتغلب على ظنه أن
المدينة لو مات لخلت من منازع ينازعه الأمر بالكلية، فيأخذه صفوا عفوا، وتتم
له البيعة فلا يتهيأ فسخها لو رام ضد منازعته عليها، فكان من عود أبي بكر من
جيش أسامة - بإرسالها إليه وإعلامه بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يموت - ما كان، ومن
حديث الصلاة بالناس ما عرف، فنسب علي (عليه السلام) عائشة أنها أمرت بلالا مولى
أبيها أن يأمره فليصل بالناس; لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما روي قال: «ليصل بهم
أحدهم» ولم يعين، وكانت صلاة الصبح فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في آخر رمق
يتهادى بين علي والفضل بن العباس حتى قام في المحراب كما ورد في الخبر، ثم دخل
فمات ارتفاع الضحى، فجعل يوم صلاته حجة في صرف الأمر إليه، وقال: أيكم
يطيب نفسا أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الصلاة؟ ولم يحملوا خروج
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الصلاة لصرفه عنها، بل لمحافظته على الصلاة مهما أمكن،
فبويع على هذه النكتة التي اتهمها علي (عليه السلام) على أنها ابتدأت منها.
وكان علي (عليه السلام) يذكر لأصحابه في خلواته كثيرا ويقول: إنه لم يقل (صلى الله عليه وآله وسلم)
«إنكن لصويحبات يوسف» إلا إنكارا لهذه الحالة وغضبا منها، لأنها وحفصة



(1) الوغر: الحقد والضغن.
488
تبادرتا إلى تعيين أبويهما، وأنه استدركها بخروجه وصرفه عن المحراب، فلم يجد
ذلك ولا أثر مع قوة الداعي الذي كان يدعو إلى أبي بكر ويمهد له قاعدة الأمر...
فكانت هذه الحال عند علي (عليه السلام) (1) أعظم من كل عظيم، وهي الطامة الكبرى
والمصيبة العظمى، ولم ينسبها إلا إلى عائشة وحدها.
... وكان يبلغه وفاطمة عنها كل ما يكرهانه منذ مات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن
توفيت فاطمة (عليها السلام)، وهما صابران على مضض ورمض، واستظهرت بولاية أبيها
واستطالت، وانخذل علي وفاطمة وقهرا، وأخذت فدك وخرجت فاطمة تجادل في
ذلك مرارا فلم تظفر بشئ، وفي ذلك تبلغها النساء والداخلات والخارجات عن
عائشة كل كلام يسوءها...
فقلت له: أفتقول أنت: إن عائشة عينت أباها للصلاة ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم
يعينه؟!
فقال: أما أنا فلا أقول ذلك ولكن عليا كان يقوله; وتكليفي غير تكليفه!!!
كان حاضرا ولم أكن حاضرا، فأنا محجوج بالأخبار التي اتصلت بي، وهي تتضمن
تعيين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي بكر في الصلاة، وهو محجوج بما كان قد علمه!!!
قال: ثم ماتت فاطمة فجاء نساء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلهن إلى بني هاشم في
العزاء إلا عائشة فإنها لم تأت، وأظهرت مرضا، ونقل إلى علي (عليه السلام) عنها كلام يدل
على السرور...
إلى أن قتل عثمان، وقد كانت عائشة أشد الناس عليه تأليبا وتحريضا،
فقالت: أبعده الله، لما سمعت قتله وأملت أن تكون الخلافة في طلحة، فتعود تيمية



(1) وهو إمام زمانه يومها.
489
كما كانت أولا، فعدل الناس عنه إلى علي بن أبي طالب، فلما سمعت ذلك صرخت:
واعثماناه قتل مظلوما، وثار ما في الأنفس حتى تولد من ذلك يوم الجمل وما بعده.
هذه خلاصة كلام الشيخ أبي يعقوب، ولم يكن يتشيع، وكان شديدا في
الإعتزال، إلا أنه في التفضيل كان بغداديا (1).
ويحضرني الآن ما نقله ابن أبي الحديد أيضا عن يحيى بن سعيد بن علي
الحنبلي المعروف بابن عالية; قال: كنت حاضرا مجلس الفخر إسماعيل بن علي
الحنبلي الفقيه، وكان الفخر إسماعيل بن علي هذا مقدم الحنابلة ببغداد...
قال ابن عالية: ونحن عنده نتحدث إذ دخل عليه شخص من الحنابلة...
واتفق أن حضرت زيارة يوم الغدير والحنبلي المذكور بالكوفة.. فجعل الشيخ
الفخر يسائل ذلك الشيخ... وذلك يجاوبه، حتى قال له: يا سيدي لو شاهدت يوم
الزيارة يوم الغدير وما يجري عند قبر علي بن أبي طالب من الفضائح والأقوال
الشنيعة وسب الصحابة جهارا بأصوات مرتفعه من غير مراقبة ولا خيفة!
فقال إسماعيل: أي ذنب لهم، والله ما جرأهم على ذلك ولا فتح لهم هذا
الباب إلا صاحب ذلك القبر.
فقال ذلك الشخص: ومن صاحب القبر؟
قال: علي بن أبي طالب.
قال: يا سيدي هو الذي سن لهم ذلك وعلمهم إياه وطرقهم إليه؟
قال: نعم والله.



(1) شرح نهج البلاغة 9 / 130 وما بعدها شرح الخطبة 156 «ومن كلام له (عليه السلام) خاطب به أهل البصرة
على جهة اختصاص الملاحم»، البحار 22 / 236 باب أحوال عائشة وحفصة.
490
قال: يا سيدي فإن كان محقا فما لنا أن نتولى فلانا وفلانا، وإن كان مبطلا فما
لنا نتولاه؟ ينبغي أن نبرأ إما منه أو منهما.
قال ابن عالية: فقام إسماعيل مسرعا فلبس نعليه وقال: لعن الله إسماعيل
الفاعل (1) إن كان يعرف جواب هذه المسألة ودخل دار حرمه... (2)
الحاصل: شئ من الإنصاف، والإعراض عن التقليد، والابتعاد عن
التعصب، وملاحظة الآخرة، ورعاية الحق يكشف ما كتبه أبو يعقوب العالم السني
وغيره من علماء السنة عن أسباب الحسد والعناد التي ظهرت في أبي بكر وعايشة
مما يكشف أن هذه الفرقة الناجية لا تتكلم عن الهوى ولا تتحرك عن العبث، بل
قد جحد القوم أمرا بديهيا وأغمضوا عنه، وأعرضوا عن الحق بدافع الحسد فولدوا
بذلك مفاسد، وسنوا بذلك سنة فاسدة ستستمر إلى يوم القيامة حتى يدركهم
الموت وهم في العذاب لخالدون.
ومن هنا تبين: أن الشيعة والسنة يعتقدون أن ما جرى على فاطمة وعلى آل
العصمة إنما كان من «الرجل» و «المرأة»، وما فعله ابن الخطاب إنما كان من
تدبيرات «الرجل» وتحريضات «عائشة»، وكل ذلك منشأه الحسد والغيرة من
تفضيل أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء (عليهما السلام).
وعلى هذا، فما ضرنا معاشر الشيعة وأي إشكال يرد علينا لو قلنا: أن
أمير المؤمنين كان يبين واقع عائشة في كلامه ويخبر عن شأنها وحالها على وجه
الحقيقة؟! وهل من إشكال لو قلنا: إنها وراء غصب فدك وغصب حق الخلافة؟



(1) قال المؤلف: «... فاعل ابن فاعلة من عرف جواب هذه المسألة..» وما أثبتناه من المصدر.
(2) شرح نهج البلاغة 9 / 202 الخطبة 173 في من رجاه بالحرص.
491
وإنها السبب الأعظم في هذين الظالمين الفاحشين؟ بل الأول فاحش والثاني
أفحش. ولدينا على ذلك شواهد كثيرة من الطريقين وأدلة محرزة من الفريقين لا
يمكن إنكارها.
والأفضل أن نروي - في هذه الخصيصة - شيئا مما روته عائشة خاصة في
فضل أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، وروته العامة عنها إضافة
إلى ما مر معنا ليعلم القراء ويكون أثبت لحجتهم.
منها: فضائل العشرة عن أبي السعادات، وفضائل الصحابة عن السمعاني،
وفي روايات وطرق عديدة عن عائشة: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أي النساء أحب
إليك؟ قال: فاطمة. قلت: من الرجال؟ قال: زوجها (1).
ومنها: جامع الترمذي، قال بريدة: كان أحب النساء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
فاطمة، ومن الرجال علي (2).
ومنها: قوت القلوب عن أبي طالب المكي، والأربعين عن أبي صالح المؤذن،
وفضائل الصحابة عن أحمد، بالإسناد عن عائشة أنه قال علي للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما
جلس بينه وبين فاطمة وهما مضطجعان: أينا أحب إليك أنا أو هي؟ فقال: هي
أحب إلي، وأنت أعز علي منها (3).
قال الشيخ عبد الرحمن صفوري الشافعي في «نزهة المجالس»: إنما قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «فاطمة أحب إلي» لأن الطبيعة مجبولة على حب الولد، وكل أب



(1) البحار 43 / 38 ح 40.
(2) سنن الترمذي 5 / 360 ح 3960 أبواب المناقب «ما جاء في فضل فاطمة (عليها السلام)»، البحار 43 / 38 ح 40.
(3) البحار 43 / 38 ح 40.
492
مفطور على حب أولاده مجبور لا خيار له في ذلك، أما العزة فمن الله، فعلي أعلى
قدرا من فاطمة لأن الطبائع لم تجبل على الإعزاز (1).
وفي الكتاب المذكور عن «خصائص بن الملقن» عن القاضي، أن فاطمة
قالت لعائشة: أنا أفضل منك لأني بضعة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فقالت عائشة: أما
في الدنيا فكما تقولين، وأما في الآخرة فأكون من النبي في درجة... فسكتت
فاطمة (عليها السلام) عجزا عن الجواب!!! فقامت عائشة وقبلت رأسها قالت: يا ليتني
شعرة في رأسك.
قال ابن الملقن: وهذا لا يوجب التفضيل (2). ثم قال: إن فاطمة بضعة
الرسول إلا أنها ليست أفضل من عائشة، فالتساوي يحتاج إلى جهة تناسب ولا
تناسب بين المرأتين!!!
وإذا كانت فاطمة بضعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجزء منه، فالجزء له حكم الكل ولا
يمكن أن ينفك عنه في الجنة، وقوله تعالى: (والنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) (3)
دليل على أولوية النبي بالمؤمنين، وفاطمة هي البضعة النبوية والنفس المقدسة
المصطفوية لها نفس الحكم.
وحديث «فاطمة مني» ونظائره دليل آخر على المراد من أن فاطمة كأبيها
أفضل من كل أحد وأولى به.



(1) قال الصفوري في نزهة المجالس 2 / 569 في مناقب فاطمة الزهراء (عليها السلام) قال الكلاباذي: «معناه إني أرق
لها لأن الطبع له في المحبة أثر والعزة من الله تعالى، فعلي (رضي الله عنه) أجل قدرا منها عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس
للطبع في العزة أثر».
(2) نزهة المجالس 2 / 577 في مناقب فاطمة (عليها السلام).
(3) الأحزاب: 6.
493
والظاهر أن فاطمة المعصومة (عليها السلام) لا تتكلم بمثل هذا الكلام مع امرأة من مثل
عائشة، بل نسب هذا القول إلى عائشة نفسها أنها قالت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لها
«أنت زوجتي في الدنيا والآخرة».
وفي كتاب «أنس النفوس» لأبي الحسن الحافظ الدمشقي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال
لعائشة: إني لا أخاف الموت إذا كانت زوجتي عائشة معي في الجنة.
هكذا تريد أن تقول عائشة إني زوجة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الدنيا، وزوجته في
الآخرة!!
ومنها: الترمذي عن عائشة قالت: «ما رأيت أحدا أشبه سمتا ودلا وهديا
برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (1).
ومنها: عن عائشة قالت: وكانت إذا دخلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قام إليها فقبلها
وأجلسها في مجلسه، وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته
وأجلسته في مجلسها (2).
ومنها: حديث تقبيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة (عليها السلام) واعتراض عائشة رواه العامة
كثيرا، وسيأتي إن شاء الله.
منها: في مودة القربى عن عائشة، قالت: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا قدم من سفر
قبل غرة فاطمة وقال: منها أشم رائحة الجنة (3).
منها: عن عائشة وذكرت فاطمة (عليها السلام): ما رأيت أصدق منها إلا أباها (4).



(1) سنن الترمذي 5 / 361 ح 3964 باب فضائل فاطمة (عليها السلام).
(2) الهامش السابق.
(3) ينابيع المودة 2 / 322 ح 934 الباب السادس والخمسون عن مودة القربى.
(4) كشف الغمة 2 / 89 في فضائل فاطمة (عليها السلام).
494
وما أكثر ما رواه العامة عن عائشة في فضل فاطمة الزهراء (عليها السلام)، مع ذلك
نرى أن أمير المؤمنين (عليه السلام) وفاطمة الزهراء (عليها السلام) ينسبون كل ظلم وجور إليها،
ويبثون ما لديهم من شكوى مما لقوه منها.
والحق كما قرره أبو يعقوب ولا شئ سواه: فقد أسسوا أساس العناد
والعداوة وزرعوا جذور الحسد وإثارة الفتنة.
وهكذا كان طموح الآمال البعيدة، والتخطيط للرئاسة، وحب الزعامة،
وطلب الخلافة، وانتهاز الفرص، والعمل من أجل تحقيق المصالح وجلب المنافع،
كلها مجموعة في آل أبي قحافة.
لقد اختصت هذه الأسرة، شجرة وثمرة، أحدهما من الداخل والأخرى من
الخارج، فقلبوا هذا الأمر ظاهرا وباطنا، كما قال أمير المؤمنين في ما بثه من شكواه
إلى ربه «اللهم إني أستعديك من قريش، لأنهم قطعوا رحمي وأكفؤا إنائي» (1).
وقد اضطرت عائشة إلى الإقرار بفضائل فاطمة (عليها السلام) وعدم كتمانها; فلا
محيص لها من إظهارها ونشرها لأن نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الأخريات يروين ما يرين
ويسمعن، فكيف تكتم ما ينشره غيرها؟! ثم إنها تحاول أن تبدو في أعين الناس
أنها وأباها محايدان، ثم إنها تحاول مجاملة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم); لأنها تعلم أنه يسر بما يسمع
منها في حق فاطمة (عليها السلام); لذا تجد أغلب هذه الأخبار صادرة عنها على عهد
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثم شاء الله أن يتم حجته على الخلق، حيث أجرى الحق على لسان عدو كهذا
العدو، حيث كانوا يرون ويسمعون ولا يعون.



(1) ستأتي الإشارة إلى شكواه في خصيصة أخرى.
495
وهناك وجوه أخرى سيأتي الحديث عنها في محلها إن شاء الله تعالى.
أما الأحاديث التي وضعتها عائشة، فلا تعد ولا تحصى، وهي غالبا في ذم
أمير المؤمنين (عليه السلام)، ويكفي أن نذكر منها نموذجا واحدا; فقد روت عن النبي أنه قال:
«يموت العباس وعلي على غير ملتي» نستجير بالله من أكاذيبها وأباطيلها.
الخلاصة:
إن عداوة عائشة الشديدة لا تخفى على أهل الإيمان، سيما إساءتها إلى حبيبة
الرحمن خديجة الكبرى وجسارتها عليها بما لا يصفه بيان، سواء في محضر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو في غيابه، مع أن كتب أهل السنة مشحونة بالأخبار الكثيرة عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) التي تنص على أفضلية خديجة الطاهرة.
ففي تفسير قوله تعالى: (إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء
العالمين) (1) روى أبو نعيم في الحلية، والخطيب في تاريخ بغداد، والسلامي في تاريخ
خراسان، وابن بطة في الإبانة، وأبو صاح المؤذن في الأربعين، والثعلبي في تفسيره،
والسمعاني في الفضائل، عن أبي هريرة وابن عباس ومقاتل والضحاك بطرق
مختلفة، أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: خير نساء أمتي أربع: مريم بنت عمران وخديجة بنت
خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية بنت مزاحم (2).
وفي بعض الأخبار «سيدة نساء أهل الجنة» (3).
وفي بعضها: حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت



(1) آل عمران: 42.
(2) البحار 43 / 36 ح 39 باب 3.
(3) البحار 43 / 21 ح 10 باب 3.
496
خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية امرأة فرعون (1).
مع ذلك روي أنه دخل النبي على فاطمة فرآها منزعجة، فقال مالك؟
فقالت: الحميراء افتخرت على أمي أنها لم تعرف رجلا وأن هي عرفتها مسنة،
فقال: إن بطن أمك كان للإمامة وعاء (2).
ولم يذكر في الحديث أنها تزوجت بغير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا ما كان من كبر
سنها (3) وافتخار عائشة بشبابها، فبشرها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن خديجة (عليها السلام) وعاء لحمل
الأئمة الطاهرين، لأنها ولدت فاطمة (عليها السلام)، وولدت فاطمة (عليها السلام) الحسنين (عليهما السلام)،
وأقبح صفات النساء العقم، وقد عاشت الشابة مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عمرا، ولم تلد له،
والحمد لله على ذلك.
وقد مر أن فاطمة المخدرة (عليها السلام) شكت مرارا عائشة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
وتفاخرها على أمها، فقال لها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): قولي لها: إن أبي تزوج أمي بكرا ولم
يتزوج معها غيرها، ولطالما كررت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «إن خديجة كانت عجوزا
شمطاء»!! وتعرضت لها وذكرتها بسوء، فيغضب منها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكل ذلك ورد
في كتب أحبائها المخلصين التيميين، وليس فيهم من ينكر جرأة عائشة على
خديجة (عليها السلام) وذكرها بسوء.
فكيف يمكن أن يقال أن عائشة لم تمتلك نفسها ولم تسيطر على لسانها، وأنها
أطلقته تشنيعا وملامة وتفاخرا، مع ما رأيت من الميل القلبي التام الظاهر في رسول



(1) البحار 16 / 7 ح 12 باب 5.
(2) البحار 43 / 42 ح 42 باب 3 والحديث طويل.
(3) في قولها «لم تعرف رجلا» تعريض على أن خديجة عرفت رجلا قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتزوجت به!!
497
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لفاطمة الزهراء وأبنائها؟ وهي تعلم أن غضب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غضب
الله، وغضب فاطمة (عليها السلام) غضب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بصريح الكلام النبوي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن
الله تبارك وتعالى يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها (1).
وأيضا قال: يا فاطمة إياك وغضب علي، فإن الله يغضب لغضبه ويرضى
لرضاه. ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أبا الحسن إياك وغضب فاطمة، فإن الملائكة تغضب
لغضبها وترضى لرضاها (2).
وكانت النساء يظهرن الفرح ويبدين السرور في زواج فاطمة الزهراء (عليها السلام)،
وكن ينشدن الأراجيز ويقلن «أبوها سيد الناس»، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قلن:
«وبعلها ذو الشدة والباس» فمنعت عائشة النسوة من تكرار المصرع الثاني الذي
قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مدح أمير المؤمنين (عليه السلام)، فسألهن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك،
قلن: إن عائشة منعتهن، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): عائشة لا تترك عداوتها لنا.
ومن هذا الخبر يعلم عداوتها لأمير المؤمنين (عليه السلام).
وفي أمالي الشيخ عن أم سلمة، قالت: حج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأزواجه، فكان
يأوي في كل يوم وليلة إلى امرأة منهن وهو حرام (3)، يبتغي بذلك العدل بينهن.
قالت: فلما أن كانت ليلة عائشة ويومها خلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعلي بن أبي طالب
(صلوات الله عليه) يناجيه وهما يسيران، فأطال مناجاته فشق ذلك على عائشة
فقالت: إني أريد أن أذهب إلى علي فأناله - أو قالت: أتناوله - بلساني في حبسه



(1) البحار 21 / 279 باب 32.
(2) البحار 43 / 42 ح 42 باب 3.
(3) أي محرم.
498
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عني، فنهيتها، فنصت (1) ناقتها في السير، ثم إنها رجعت إلي وهي
تبكي، فقلت: مالك؟ قالت: إني أتيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت: يابن أبي طالب ما تزال
تحبس عني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تحولي بيني وبين علي، إنه
لا يحاقه في أحد، وإنه لا يبغضه - والذي نفسي بيده - مؤمن ولا يحبه كافر، ألا إن
الحق بعدي مع علي، يميل معه حيثما مال، لا يفترقان جميعا حتى يردا علي الحوض،
قالت أم سلمة: فقلت لها: قد نهيتك فأبيت إلا ما صنعت (2).
وفي كشف الغمة: دخل علي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعنده عائشة، فجلس
بين رسول الله وبين عائشة، فقالت: أمط عني، تنح يابن أبي طالب ما وجدت
مكانا لأستك غير فخذي؟! فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): ما تريدين من أمير المؤمنين وسيد
الوصيين وقائد الغر المحجلين (3).
وبهذا المضمون في كتاب سليم بن قيس الهلالي، قال: سمعت سلمان وأبا ذر
والمقداد، وسألت علي بن أبي طالب عن ذلك فقال: صدقوا، قالوا: دخل علي (عليه السلام)
على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعائشة قاعدة خلفه والبيت غاص بأهله، فيهم الخمسة
أصحاب الكساء، والخمسة أصحاب الشورى، فلم يجد مكانا، فأشار إليه رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هاهنا، يعني خلفه، وعائشة قاعدة خلفه وعليها كساء، فجاء علي (عليه السلام)
فقعد بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين عائشة، فغضبت عائشة وأقعت كما يقعي
الأعرابي.. وقالت: ما وجدت لأستك موضعا غير حجري؟! فغضب رسول



(1) نص ناقته: استحثها واستقصى آخر ما عندها من السير.
(2) أمالي الشيخ (رحمه الله): 475 المجلس السابع عشر ح 1038.
(3) البحار 22 / 244 ح 11 باب أحوال عائشة وحفصة.
499
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: مه يا حميراء لا تؤذيني في أخي علي، فإنه أمير المؤمنين، وسيد
المسلمين، وصاحب الغر المحجلين يوم القيامة، يجعله الله على الصراط فيقاسم النار
فيدخل أولياءه الجنة، ويدخل أعداءه النار (1).
وهكذا كانت تؤذي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دائما أبدا، بحيث لم يمر عليها زمان دون
أن تعكر صفوه وتدخل عليه ما يحزنه.
وقد نزل القرآن الكريم في جسارتها وجرأتها وسخريتها بنساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
الصالحات، وكتب التفاسير مشحونة بذلك.
منها: قوله تعالى: (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات
أزواجك والله غفور رحيم) (2) (3).
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا
خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن) (4) قال الطبرسي - طيب الله
رمسه -: (ولا نساء من نساء) نزل في نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، سخرن من أم سلمة،
وذلك أنها ربطت حقويها بسبية - وهي ثوب أبيض - وسدلت طرفيها خلفها
فكانت تجره، فقالت عائشة لحفصة: انظري ماذا تجر خلفها كأنه لسان كلب،
فلهذا كانت سخريتها. وقيل: إنها عيرتها بالقصر وأشارت بيدها أنها قصيرة (5).
لا يخفى أن عائشة كانت تكن عداء خاصا لأم سلمة، وكانت تنازعها



(1) البحار 22 / 245 ح 15 باب أحوال عائشة وحفصة.
(2) التحريم: 1.
(3) انظر تفاسير أهل البيت (عليهم السلام) في بيان الآية الكريمة.
(4) الحجرات: 11.
(5) مجمع البيان 9 / 224.
500
وتخاصمها، ولطالما نصحتها أم سلمة سيما بعد زواج سودة بنت زمعة، حيث خطب
النبي أم سلمة وفوض أمر فاطمة (عليها السلام) إليها، فقالت أم سلمة: تزوجني رسول الله
وفوض أمر ابنته إلي فكنت أؤدبها، فكانت والله أأدب مني وأعرف بالأشياء
كلها (1). فصارت هذه الخدمة باعثا لعناد عائشة وحسدها أن كيف صارت أم
سلمة مؤدبة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وحلت محل أمها؟!!
أيضا قوله تعالى: (وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه) (2)... إلى آخرها.
أيضا قوله تعالى: (إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما) (3) خطاب لعائشة
وحفصة وإشارة إلى نفاقهما.
وقوله تعالى: (عسى ربه أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات
قانتات عابدات سائحات) (4).
وقوله تعالى: (ضرب الله مثلا) (5).
ولا يخفى على الناقد البصير الفطن الخبير ما في تلك الآيات من التعريض،
بل التصريح بنفاقها وحسدها، ويكفي للإذعان بذلك مراجعة بسيطة لكتب
التفسير من الفريقين.
وهل يحتمل أن يكون التمثيل بامرأتي نوح ولوط لغيرهما في تلك السورة
التي سيقت أكثرها في معاتبة زوجتي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وما صدر عنهما باتفاق



(1) البحار 43 / 9 ح 16 باب 1.
(2) التحريم: 3.
(3) التحريم: 4.
(4) التحريم: 5.
(5) التحريم: 10.
501
المفسرين... والعجب من أكثر المفسرين كيف طووا كشحا عن مثل ذلك، مع
تعرضهم لأدنى إيحاء وأخف إشارة في سائر الآيات!!... ولما رأى الزمخشري أن
الإعراض عن ذلك رأسا ليس إلا كتطيين الشمس وإخفاء الأحس (1)... تمسك في
«الكشاف» بمعاذير ضعيفة وعبارات سخيفة ليس هنا محل نقلها.
وقد أومأ الفخر الرازي أيضا في تفسيره إلى ذلك إيماء لطيفا حيث قال:
«وأما ضرب المثل بامرأة نوح وامرأة لوط فمشتمل على فوائد متعددة لا يعرفها
بتمامها إلا الله تعالى، والظاهر منها تنبيه الرجال والنساء على الثواب العظيم
والعذاب الأليم، ومنها العلم بأن صلاح الغير لا ينفع المفسد، وفساد الغير لا يضر
المصلح» (2).
فماذا ينفع المرأة الفاسدة إذا دخلت بيت النبي؟! كما أن امرأتي نوح (عليه السلام)
ولوط (عليه السلام) لم يصلحا ولم ينتفعا مع فسادهما الفطري.
والعجب من ابن عبد البر في «الإستيعاب»، حيث روى في باب عائشة
باسناده عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لنسائه: أيتكن صاحبة الجمل
الأدبب، يقتل حولها قتلى كثير وتنجو بعد ما كادت؟
وصاحبة الجمل هي عائشة التي سببت قتل عدد غفير من أبنائها في واقعة
الجمل في البصرة. ثم قال: هذا من أعلام نبوته (صلى الله عليه وآله وسلم) (3).
وأقول كما قال أبو يعقوب: إن ما ذكرته من الأخبار صحاح وليس



(1) انظر بحار الأنوار 22 / 233 باب 4 الآيات.
(2) البحار 22 / 234 باب 4 الآيات.
(3) البحار 22 / 235 باب 4 أحوال عائشة وحفصة. الإستيعاب:
502
مستضعفة، ولكل خبر منها سند ومصدر معتبر.
قال ابن أبي الحديد في شرح كلام الإمام (عليه السلام) «أما فلانة» وفلانة كناية عن
عائشة، أبوها أبو بكر وأمها أم رومان ابنة عامر بن عويمر بن عبد شمس، تزوجها
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل الهجرة بسنتين بعد وفاة خديجة (رضي الله عنها) وهي بنت
سبع سنين، وبنى عليها بالمدينة وهي بنت تسع سنين وعشرة أشهر، وكانت قبله
تذكر لجبير بن مطعم، وكان نكاحه إياها في شوال، وبناؤه عليها في شوال، وتوفي
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها وهي بنت عشرين سنة، وكانت ذات حظ من رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وميل ظاهر إليها، وكانت لها جرأة وإدلال، حتى كان منها في أمره قصة
مارية ما كان من الحديث الذي أسره الأخرى وأدى إلى تظاهرهما عليه، وأنزل
فيهما قرآن يتلى في المحاريب يتضمن وعيدا غليظا عقيب تصريح بوقوع الذنب
وصغو القلب وأعقبتها تلك الجرأة (1)...
انظر ما يكتبه السنة أنفسهم، فهذا الرجل معتزلي سني كتب ما قرأته في حق
عائشة، مع أنهم يروون فيها أنها حفظت ألفي حديث، بل يرون أنها ركن من
أركان الإسلام في الفقه.
أجل; إن ابن أبي الحديد وأمثاله تكلموا هكذا، ولكن بعض المغرضين
وأهل الهوى تعصبوا وكتموا الحق وأظهروا الباطل، وليس لهم دافع في ذلك إلا
الإغماض والإعراض عن أمير المؤمنين (عليه السلام) والحفاظ على الأمر المغصوب والملك
المنهوب المأخوذ دون دليل أو برهان، فضيعوا بذلك حقوق آل العصمة، فقال
علي (عليه السلام):



(1) البحار 22 / 235 باب 4 أحوال عائشة وحفصة. شرح النهج:
503
فويل ثم ويل ثم ويل * لمن يلقى الإله غدا بظلمي (1)
روى الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه خرج من حجرة
عائشة وأشار نحو مسكن عائشة، فقال: رأس الكفر [الفتنة] هاهنا من حيث
يطلع قرن الشيطان (2).
وفي جامع الترمذي وإبانة العكبري وأخبار فاطمة عن أبي علي الصولي،
وتاريخ خراسان عن السلامي مسندا أن جميعا التيمي قال: دخلت مع عمتي على
عائشة، فقالت لها عمتي: ما حملك على الخروج على علي؟ فقالت عائشة: دعينا
فوالله ما كان أحد من الرجال أحب إلى رسول الله من علي، ولا من النساء أحب
إليه من فاطمة (3).
والمنصف يقول أن معنى كلامها: لما كان هذا الرجل وهذه المرأة مقربين
محبوبين عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حسدتهما وأبغضتهما فلم أرض دون الحرب مع علي
بن أبي طالب (عليه السلام).
وهذه هي الفتنة التي أشار إليها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنها تطلع من قرن الشيطان،
وهي صاحبة الجمل الأدبب التي نبحتها كلاب الحوأب، وهي التي تبرجت تبرج
الجاهلية الأولى وخالفت القرآن، وقتلت آلاف المسلمين، ولا فرق بين خروجها
هذا وخروجها في دفن الإمام الحسن (عليه السلام)، ولم تكن مكلفة بالمنع من دفنه (4)،
وروي عن ابن عباس أنه أنشد قائلا:



(1) البحار 33 / 132 ح 418 باب 16.
(2) انظر البحار 32 / 287 ح 241.
(3) سنن الترمذي 5 / 362 ح 3965 أبواب المناقب، البحار 43 / 38 ح 40 باب 3 عن المصادر المذكورة.
(4) انظر البحار 44 / 154 ح 24 باب 22.
504
تجملت تبغلت وإن عشت تفيلت * لك التسع من الثمن وفي الكل تصرفت (1)
قيل لبهلول: قالت عائشة: إن أدركت ليلة القدر «ما سألت ربي إلا العفو
والعافية» فقال بهلول: وسؤالها الثاني الغلبة على علي بن أبي طالب.
فإن كان حقا قول عائشة: إن أمير المؤمنين أفضل الرجال، وأهله أفضل
النساء، فلماذا حاربتهما وخاصمتهما ونصبت لهما العداء، وقادت الجيوش من بلد
إلى بلد، وأهلكت المسلمين وأشاعت فيهم القتل؟! ثم بعد أن غلبت أظهرت الندم.
قال رجل من بني ضبة - قتل في تلك الواقعة - وهو يحتضر ويذكر عائشة
بسوء:
لقد أوردتنا حومة الموت أمنا * فلم تنصرف إلا ونحن رواء
أطعنا بني تيم بشقوة جدنا * وما التيم إلا أعبد وإماء
واعلم، أن عائشة ندمت ظاهرا لا باطنا كما قال بهلول، إلا أن نقول أن
طبيعتها تغيرت وتبدلت، وهو محال بالبرهان الأمري، فلا يكن تغيرها بحال، وإلا
لما أظهرت السرور والفرح في مصيبة سيدة نساء العالمين، ولما أنشدت هذا البيت
بعد وفاة أمير المؤمنين (عليه السلام):
فألقت عصاها واستقرت بها النوى * كما قر عينا بالإياب المسافر (2)
ولما قسمت أربعين دينارا من الذخائر المدفونة بين فقراء بني تيم شكرا
وابتهاجا بمقتل علي (عليه السلام).



(1) البحار 44 / 155 ح 24 باب 22.
(2) البحار 32 / 340 ح 324 باب 8; الطبقات الكبرى لابن سعد 3 / 40.
505
ولما فرغ الحسن من أمر معاوية وعاد إلى المدينة أخبر عائشة بكل شئ، ثم
قال لها: سيبتليك الله بالدبيلة ويعذبك بها أشد العذاب، ولو أنفقت ما في الأرض
جميعا لما رفعت عنك.
الحاصل: عاشت عائشة خمسا أو ستا وستين سنة، ثم ماتت في السنة
الثامنة والخمسين من الهجرة في المدينة (1).
قيل: صلى عليها أبو هريرة بأمر مروان بن الحكم والي معاوية على المدينة،
ودفنت في البقيع، وروى المقدس الأردبيلي غير ذلك.
وكانت عائشة عقيما بأي لحاظ لحظتها، وقد عقم الدهر أن يأتي بمثلها، غاية
ما في الأمر أن فاطمة الزهراء (عليها السلام) كان للنساء شرفا وعزا، وكانت عائشة لهن ذلا
ونذالة ودنائة.
از دررهائى كه پيغمبر بسفت * تعرف الأشياء بالأضداد گفت (2)
ولابد أن يعرف الضد بضده، والأشياء تعرف بأضدادها، ولمعرفة «العليين»
لا بد من معرفة «السجين».
وأما معنى عائشة:
فاعلم; أن عائشة من العيش، والعيش الحياة; يقال: أعاشه الله عيشة
راضية، والمعايش جمع معيشة ومعيش; والمتعيش: من له بلغة من العيش.
ومنهم من قال: عيشة أصح وأفصح من عائشة.
وعائشة اسم فاعل كان اسما مشهورا في الجاهلية وصدر الإسلام، فانصرف



(1) نزهة المجالس 2 / 525 مناقب عائشة.
(2) من الدرر التي نظمها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): تعرف الأشياء بأضدادها.
506
عنه الناس لما فعلته عائشة بنت أبي بكر من شؤم وأعمال رديئة، وقد نهي عنه عند
الطائفة المحقة الإمامية نهيا مؤكدا، ويقال أن أهل السنة أيضا لا يتسمون به.
وفي المجمع عن يعقوب السراج، قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) وهو
واقف على رأس أبي الحسن موسى وهو في المهد، فجعل يساره طويلا، فجلست
حتى فرغ، فقمت إليه فقال: أدن إلى مولاك فسلم عليه، فدنوت فسلمت عليه،
فرد علي بلسان فصيح، ثم قال لي: إذهب فغير اسم ابنتك التي سميتها أمس، فإنه
اسم يبغضه الله، وكانت ولدت لي بنت وسميتها بالحميراء، فقال أبو عبد الله (عليه السلام):
إنته إلى أمره ترشد، فغيرت اسمها (1).
وقال الإمام الحسن (عليه السلام) لأخيه الحسين (عليه السلام):... واعلم إنه سيصيبني من
الحميراء ما يعلم الناس من صنيعها وعداوتها لله ولرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعداوتها لنا أهل
البيت (عليهم السلام) (2).
كأنه (عليه السلام) يشير إلى ما صنعته في دفنه (عليه السلام).
قيل: كان للصادق (عليه السلام) بنتا اسمها عائشة عرفت بعائشة النبوية، نظير عمر
الأشرف وعمر الأطرف، وعلة التسمية له شرح يطول.
ومن النساء المسميات بعائشة في صدر الإسلام: عائشة بنت سعد بن أبي
وقاص، وعائشة بنت طلحة الخير - من العشرة المبشرة بالجنة!! -.
قال عنها أبو هريرة: كأنها من الحور العين. وهي بنت أخت عائشة بنت أبي
بكر، تزوجها مصعب بن الزبير، وكانت تخاصم ضرتها سكينة خاتون. وكانت



(1) البحار 48 / 19 ح 24 باب 37.
(2) البحار 44 / 142 ح 9 باب 22 عن روضة الكافي 8 / 167.
507
تحج كل سنة وتنفق في سبيل الحج مالا كثيرا، وكان منادي سكينة خاتون يناديها
دائما:
عايش يا ذات البغال الستين * إن عشت تحجين كذا تحجين
ولا أدري ما هو السر في هذا الاسم، فكل امرأة سميت به ظهرت فيها آثار
الشقاء والخسران والبعد عن الرحمن!
* * *
أما معنى الحميراء:
قال في ربيع الأبرار: شر النساء الحميراء المحياض والسوداء الممراض.
وقال الفيروزآبادي: سميت حميراء لبياضها.
ومعلوم أن الحمرة من الأضداد وردت بمعنى البياض، مثل الشراء بمعنى
البيع، ولعل حمرتها الصورية كانت مشربة بالبياض.
وقال الزمخشري: الحميراء ضد البتول لأنها لم تر دما، ولا شك أنها كانت
غارقة بالأرجاس الظاهرية، ناهيك عن الأرجاس الباطنية ليكون الظاهر دليلا
على الباطن، وتكون شر النسوان في مقابل خير النسوان.
وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يناديها أحيانا «كلميني» أو «اشغليني» ليشغل ذاته
المقدسة حسب المقتضيات البشرية والجهات النفسانية النبوية، وإن كانت نفسه
مغلوبة مملوكة له. ولم تكن لعائشة من هذه الجهة غلبة أو مجال في الأبعاد العقلانية
الرحمانية، بل كانت مسخرة مقهورة لمكانها في النفس المغلوبة المقهورة; فقد قالت
عائشة: «كان رسول الله نحدثه ويحدثنا، فإذا حضرت الصلاة فكأنه يعرفنا ولم

508
نعرفه» (1) وهذا دليل على غلبة قوته وملكته الربانية المحمدية على جهاته وقواه
الأخرى، ولنعم ما قيل:
هين بيا كه من رسولم دعوتي * چون اجل شهوت كشم نى شهوتي
فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينظر عائشة نظرة نفسانية - وهي أيضا من الكمالات لذلك
العقل الكامل المجرد - أما رأفته ورحمته لذريته الأقربين فكانت بنظرة العقلاني
الرحماني.
وبعبارة أخرى: كان نظره إلى آله الأقربين نظرا إلهيا متمحضا في العناية
والرحمة.
وكانت عائشة تنظر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحسب الاستعداد الفطري والجوهر
الأصلي، وهو نظر يختلف كثيرا عن نظرات الناظرين، فنظرة أبي جهل ونظرة
سلمان شيئان مختلفان تمام الإختلاف. ونور البصر يكشف عن نور البصيرة، لأن
نور البصيرة من الإيمان والآخر من فرط الكفران.
على أي حال سرح القلم وجرنا الكلام إلى ما وصلنا إليه.
والعجيب أن عثمان كان يسمي الحميراء «زعراء» بالزاي أخت الراء،
ويسميها «عدوة الله».
والزعراء المرأة سيئة الخلق، والشريرة الطبع، والرجل الأصلع أو القليل
الشعر أزعر، والمرأة زعراء.
وسبب تسميتها بهذا الاسم، أنه لما ولي عثمان قالت له عائشة: أعطني ما كان
يعطيني أبي وعمر. فقال: لا أجد له موضعا في الكتاب والسنة، ولكن كان أبوك



(1) البحار 70 / 299 ح 72 باب 59.
509
وعمر يعطيانك عن طيبة أنفسهما وأنا لا أفعل. قالت: فأعطني ميراثي من رسول
الله. فقال: أليس جئت فشهدت أنت ومالك بن أوس النضري أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
قال: لا نورث، فأبطلت حق فاطمة وجئت تطلبينه؟! لا أفعل. قال: فكان إذا
خرج إلى الصلاة نادت وترفع القميص وتقول: أنه قد خالف صاحب هذا
القميص، فلما آذته صعد المنبر فقال: إن هذه الزعراء عدوة الله ضرب الله مثلها
ومثل صاحبتها حفصة في الكتاب: (امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من
عبادنا صالحين فخانتاهما - إلى قوله - وقيل ادخلا النار مع الداخلين) (1).
فقالت له: يا نعثل! يا عدو الله! إنما سماك رسول الله باسم نعثل اليهودي
الذي باليمن، فلاعنته ولاعنها (2).
وقد نقل ابن أعثم صاحب الفتوح: إنها قالت: اقتلوا نعثلا، قتل الله نعثلا،
فلقد أبلى سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذه ثيابه لم تبل; وخرجت إلى مكة. فلما قتل
جاءت إلى المدينة.. فقالت: والله لأطالبن بدمه، فقيل لها: فأنت صرخت على
قتله؟! قالت: إنهم لم يقتلوه حيث قلت، ولكن تركوه حتى تاب ونقى من ذنوبه
وصار كالسبيكة وقتلوه (3)!!!
وهكذا نالت عائشة في فترة وجيزة شيئا وبال أعمالها السالفة، حتى يأذن
الله بالفرج الأعظم فيظهر آية الله في الأرضين أرواحنا له الفداء، فتنال يومئذ
جزاءها الأوفى. نسأل الله أن يشفي صدور بني فاطمة والشيعة جميعا.



(1) التحريم: 10.
(2) كشف الغمة 2 / 105 في قصة فدك.
(3) الهامش السابق.
510
أذكر في هذا المقام ما رواه ابن عبد ربه في العقد الفريد في باب «قولهم في
أصحاب الجمل» قال:
وماتت عائشة في أيام معاوية وقد قاربت السبعين، وقيل لها: تدفنين مع
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قالت: لا إني أحدثت بعده حدثا فادفنوني مع إخوتي بالبقيع.
وقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لها: يا حميراء! كأني بك تنبحك كلاب الحوأب،
تقاتلين عليا وأنت له ظالمة، والحوب بضم الحاء وتثقيل الواو، وقد زعموا أن
الحوب ماء في طريق البصرة.
وقال في ذلك بعض الشيعة:
إني ادين بحب آل محمد * وبني الوصي شهودهم والغيب
وأنا البريء من الزبير وطلحة * ومن التي نبحت كلاب الحوئب
وقال: والمعروف أن الحوأب ماء في طريق البصرة، وقد نبحت كلابه
عائشة.
وقد رأيت عدة أحاديث عن طرق الشيعة والسنة تدل بصراحة على
طغيانها ومخالفتها لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) «حربك حربي، وسلمك سلمي» والله نعم الحكم
وهو خير الحاكمين.

511
الخصيصة التاسعة
من الخصائص الخمسين قبل وفاتها (عليها السلام)
يقع الكلام في هذه الخصيصة عن كفاءة السيدة فاطمة الزهراء، وهل كان
من السائغ أن تدخل بيت أي عبد من عباد الله كائنا، ما كان مع ما لها من جلالة
القدر والشرف وعلو الشأن؟ ولما كان تكليف النساء وجوب الطاعة للزوج، فهل
يسوغ لمثل فاطمة المعصومة أن تدخل تحت ولاية (أوامر ونواهي) رجل غير
معصوم؟
للجواب على هذه الأسئلة نتعرض في المقام إلى مطلبين:
الأول: بيان الكفاءة.
والثاني: هل يجوز لغير المعصوم أن يتزوج المعصومة؟
* * *
قال في مجمع البحرين: «الكفاءة بالفتح والمد: تساوي الزوجين في الإسلام
والإيمان، وقيل: يعتبر مع ذلك يسار الزوج بالنفقة قوة وفعلا، وقيل: بالإسلام،
والأول أشهر عند فقهاء الإمامية» (1).
وذهب السنة إلى اشتراط ستة أشياء في الكفاءة جمعوها في بيتين:



(1) مجمع البحرين 1 / 360 مادة «كفا».
512
شرط الكفاءة ستة قد حررت * ينبيك عنها بيت شعر مفرد
نسب ودين حرفة حرية * فقد العيوب وفي اليسار تردد
وفي «أنس النفوس» عن علماء السنة: قيل: الكفاءة التساوي في النسب;
فغير الشريف لا يجوز أن يتزوج الشريفة من بني المطلب أو بني هاشم، وأجاز
الشافعي تزويج الشريفة بغير الشريف.
فالتكافؤ التساوي; قال تعالى: (كفوا أحد) (1) أي نظيرا ومساويا، قولهم
«تكافأ القوم» إذا تساووا وتماثلوا، وكان أهل الجاهلية لا يرون دم الوضيع سواء
لدم الشريف، فإذا قتل الوضيع الشريف قتلوا العدد الكثير، حتى جاء الإسلام
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «المسلمون تتكافأ دماؤهم» (2) أي تتساوى في الديات
والقصاص، من التكافؤ وهو الاستواء.
وبعد هذه المقدمة الموجزة نقول: لقد وردت أخبار كثيرة تنص على أنه لولا
أمير المؤمنين لما كان لفاطمة كفء، كما روي في كتاب الأمالي والعلل ومعاني
الأخبار وعيون أخبار الرضا وفي كتب أهل السنة مثل الفردوس وغيره.
ففي العيون عن الحسين بن خالد عن المولى الرضا (عليه السلام) مسندا إلى
أمير المؤمنين، قال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا علي! لقد عاتبني رجال من قريش
في أمر فاطمة وقالوا: خطبناها إليك فمنعتنا وزوجت عليا؟ فقلت لهم: والله ما أنا
منعتكم وزوجته، بل الله منعكم وزوجه، فهبط علي جبرئيل فقال: يا محمد! إن الله



(1) الإخلاص: 4.
(2) البحار 27 / 67 ح 3 باب 3.
513
جل جلاله يقول: «لو لم أخلق عليا لما كان لفاطمة ابنتك كفء على وجه الأرض،
من آدم فمن دونه (1)».
وفي الأمالي قال الصادق (عليه السلام) في حديث: «لولا أن أمير المؤمنين (عليه السلام) تزوجها
لما كان لها كفء إلى يوم القيامة على وجه الأرض آدم ومن دونه» (2).
وفي معاني الأخبار عن يونس بن ظبيان عن الصادق (عليه السلام): «يا علي! لولاك
لما كان لها كفء على وجه الأرض» (3).
وجاء في حديث الأمالي عن يونس بن ظبيان بلفظ «إلى يوم القيامة على
وجه الأرض آدم ومن دونه» (4).
وروي في كتب المخالفين: إنه «لولا علي لم يكن لها كفء» (5).
وقيل في معنى البتول: «إن فاطمة تبتلت عن النظير وعن الرجال» (6).
وروى محمد بن جرير الطبري الشيعي في كتاب «دلائل الإمامة» كلا
المضمونين (7).
ولما كان هذا العنوان في بيان شرائط الكفاءة ومراتبها، فإننا نقسم الكلام
فيها إلى قسمين:
القسم الأول: في الفرد الكامل الجامع لجميع الشرائط.



(1) بحار الأنوار 43 / 92 ح 3 باب 5 عن العيون:
(2) بحار الأنوار 43 / 10 ح 1 باب 2.
(3) البحار 43 / 107 ج 22 باب 5.
(4) البحار 43 / 10 ح 6 باب 2، أمالي الطوسي 43 ح 46 المجلس الثاني.
(5) فردوس الأخبار للديلمي 3 / 373 ح 5130.
(6) انظر مجمع البحرين 5 / 316 مادة «بتل».
(7) انظر دلائل الإمامة 10 و 55.
514
والقسم الثاني: في الفرد الناقص الذي يجمع البعض ويفقد البعض.
وقد اعتاد الناس في كل قرن وزمان - ولا زالوا هكذا إلى الآن - أن يستنكف
الكامل في الكفاءة عن الزواج بمن هو دونه، بل يجفلون ويستوحشون من ذلك.
ولا زالت هذه التقاليد والعادات المشؤومة شائعة بين العالي والداني من آحاد الأمة
المعاصرة، بل بين الأمم الأخرى أيضا، سيما بين السلاطين والوزراء والأعيان
والأشراف والتجار والأغنياء والحرائر والعبيد، فالحظ حليفهم في كل شئ إلا في
هذا الأمر، حيث يفرون منه فرارا شديدا، مع أن المناط الأصلي إنما هو الإيمان
والإسلام والقدرة على النفقة، ويكفي قول المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم): «المؤمنون بعضهم أكفاء
بعض» (1) وأيضا: «المؤمن كفء المؤمنة والمسلم كفء المسلمة» (2).
وقال علي أمير المؤمنين (عليه السلام):
الناس في حسب التمثال أكفاء * أبوهم آدم والأم حواء (3)
وقال تعالى: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) (4).
ولا مناص من التأسي بأقوال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأفعاله بمفاد قوله تعالى: (ولكم
في رسول الله أسوة حسنة) (5) وعلى الأمة المرحومة أن تأخذ أحكامها وتعاليمها
المباركة منه (صلى الله عليه وآله وسلم).
فغير الهاشمي يتزوج الهاشمية، والأعجمي يتزوج العربية والقرشية، لأن



(1) البحار 16 / 223 ح 22 باب 9.
(2) البحار 22 / 119 ح 89 باب 37.
(3) ديوان الإمام علي (عليه السلام): 5 وفيه «من جهة التمثال» بدل «في حسب التمثال».
(4) الحجرات: 13.
(5) الأحزاب: 21.
515
القانون السماوي والأمر الإلهي يجمع الأسود والأبيض، والوضيع والشريف،
والفقير والغني، ويجعل الجميع في مستو واحد، بغض النظر عن صورهم، ما دام
قيد الإسلام والإيمان متوفرا، وما دام الميزان هو الإمتثال والطاعة والالتزام بمعايير
الشريعة الغراء، فالإيمان كالجبال الرواسي لا تحركه العواصف ولا تزعزعه الرياح،
ولا ينبغي الاغترار بالمال والجمال، إذ المال يسلب في ليلة، والجمال يزوى بحمى.
وكل ما سوى الإيمان في معرض الزوال والفناء، وهو عارية عارضة، وأي
نعيم لا يكدره الدهر; لذا قيل: لا تطلب المرأة لجمالها ومالها، فسرعان ما يزولا (1).
إن افتخرت بآباء مضوا سلفا * قلنا صدقت ولكن بئس ما ولدوا (2)
وفي الحديث النبوي (صلى الله عليه وآله وسلم) الصحيح: «لا تأتوني بأنسابكم، بل ائتوني
بأعمالكم» (3).
وبناء على هذا، فقد رفع الإسلام النخوة والمفاخرة بالأنساب والتكاثر
بالأموال والأولاد والعشائر، وجعل الميزان الإيمان بالله ورسوله، فلا فضل لأحد
على أحد إلا بالتقوى (4).
وعلة النهي عن طلب المرأة لمالها وجمالها، أن الراغب في الجميلة كثير
والراغب في غيرها قليل، فلو رغب في الجميلة فقط للزم الفساد، والعقل يمنع عن



(1) انظر البحار 100 / 235 ح 19 باب 3.
(2) البحار 70 / 226 ح 19 باب 130 وفيه:
لئن فخرت بآباء ذوي شرف * فقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا
(3) انظر البحار 7 / 241 ح 12 باب 9 وفيه: «ائتوني بأعمالكم لا بأنسابكم..».
(4) قال تعالى في سورة الحجرات: (يا أيها الناس إنا خلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله
أتقاكم).
516
القبائح والفساد. وأما المرأة ذات النسب والمال، فغالبا ما يأخذها العجب فتتكبر
على الرجل وتفلت عن الإنقياد له، بل تتعامل مع زوجها كما تتعامل مع الخدام
والعبيد، ولا شك أن هذا التعامل يؤدي إلى الإختلاف وإلى إرتباك الحياة وتفويت
الأغراض، وبمرور الأيام تكثر القبائح والفضائح وينتشر الفساد.
وقد روى الشيخ الحر العاملي (قدس سره) في كتاب الوسائل في باب النكاح أحاديث
معتبرة في الترغيب والحث على تزويج المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات
بدرجاتهم، وروى أخبارا في تزاوج عامة المسلمين من العرب والعجم، والأبيض
والأسود، والوضيع والشريف، منها قصة نكاح ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب
بالمقداد بن الأسود رحمة الله عليه، مع أن المقداد واطئ النسب فقير معدم،
وضباعة بنت الزبير، وهو أخو عبد الله وأبو طالب سلام الله عليهما لأمهما وأبيهما.
وإنما فعل النبي ذلك ليكون قدوة تحتذي به الأمة المحقة والفرقة الناجية،
ويقتلع بذلك جذور الكبر والعجب من القلوب، وتتلاشى النخوة من الرؤوس.
فعن أبي عبد الله (عليه السلام): إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) زوج المقداد بن الأسود ضباعة
بنت الزبير بن عبد المطلب، ثم قال: «إنما زوجها المقداد لتتضع المناكح ولتتأسوا
برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولتعلموا (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وكان الزبير أخا عبد الله
وأبي طالب لأبيهما وأمهما» (1).
وعن أبي عبد الله (عليه السلام) أيضا قال: «أتت الموالي أمير المؤمنين (عليه السلام) فقالوا:
نشكو إليك هؤلاء العرب، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعطينا معهم العطايا بالسوية،
وزوج سلمان وبلالا وصهيبا، وأبوا علينا هؤلاء وقالوا: لا نفعل، فذهب إليهم



(1) وسائل الشيعة 20 / 70 ح 25058 باب 26 كتاب النكاح.
517
أمير المؤمنين (عليه السلام) فكلمهم فيهم، فصاح الأعاريب: أبينا ذلك يا أبا الحسن، أبينا
ذلك، فخرج وهو مغضب يجر رداءه وهو يقول: يا معشر الموالي! إن هؤلاء قد
صيروكم بمنزلة اليهود والنصارى، يتزوجون إليكم ولا يزوجونكم ولا يعطونكم
مثل ما يأخذون، فاتجروا بارك الله لكم فإني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: الرزق
عشرة أجزاء، تسعة أجزاء في التجارة وواحدة في غيرها» (1).
أراد (عليه السلام) أن يفتح لهم طريقا حلالا في العمل وجمع المال ليرغب فيهم أهل
المدينة (2).
وفي الكافي حديث طويل نأخذ منه موضع الحاجة:
... قال أبو جعفر (عليه السلام): «إن رجلا كان من أهل اليمامة يقال له: جويبر أتى
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منتجعا للإسلام فأسلم وحسن إسلامه، وكان رجلا قصيرا دميما
محتاجا عاريا، وكان من قباح السودان... وإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نظر إلى جويبر
ذات يوم برحمة له ورقة عليه فقال له: يا جويبر! لو تزوجت امرأة فعففت بها
فرجك وأعانتك على دنياك وآخرتك، فقال له جويبر: يا رسول الله! بأبي أنت
وأمي من يرغب في، فوالله ما من حسب ولا نسب ولا مال ولا جمال، فأية امرأة
ترغب في؟ فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا جويبر! إن الله قد وضع بالإسلام من كان
في الجاهلية شريفا، وشرف بالإسلام من كان في الجاهلية وضيعا، وأعز بالإسلام
من كان في الجاهلية ذليلا، وأذهب بالإسلام ما كان من نخوة الجاهلية وتفاخرها
بعشايرها وباسق أنسابها، فالناس اليوم كلهم أبيضهم وأسودهم وقرشيهم



(1) وسائل الشيعة 20 / 71 ح 25059 باب 26 كتاب النكاح.
(2) وفي الحديث فوائد جليلة سيأتي بيانها في الخصائص الآتية.
518
وعربيهم وعجميهم من آدم، وإن آدم خلقه الله من طين، وإن أحب الناس إلى الله
أطوعهم له وأتقاهم، وما أعلم يا جويبر لأحد من المسلمين عليك اليوم فضلا إلا
لمن كان أتقى لله منك وأطوع. ثم قال له: انطلق يا جويبر إلى زياد بن لبيد فإنه من
أشرف بني بياضة حسبا فيهم، فقل له: إني رسول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إليك، وهو
يقول لك: زوج جويبرا بنتك الدلفاء، فانطلق جويبر برسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى
زياد بن لبيد وهو في منزله وجماعة من قومه عنده فاستأذن... وبلغ الرسالة واثقا
مطمئنا، فقال له زياد: إنا لا نزوج فتياتنا إلا أكفاءنا فانصرف يا جويبر...
فسمعت مقالته الدلفاء بنت زياد وهي في خدرها، فأرسلت إلى أبيها: أدخل إلي
فدخل إليها فقالت له: ما هذا الكلام الذي سمعته منك تحاور به جويبر؟... والله ما
كان جويبر ليكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحضرته، فابعث الآن رسولا يرد عليك
جويبرا; فبعث زياد رسولا فلحق جويبرا فقال له زياد: يا جويبر! مرحبا بك
اطمئن حتى أعود إليك، ثم انطلق زياد إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)... وسأله عن رسالة
جويبر فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا زياد! جويبر مؤمن، والمؤمن كفو المؤمنة،
والمسلم كفو المسلمة; فزوجه يا زياد ولا ترغب عنه... فرجع زياد إلى منزله...
فأخذ بيد جويبر ثم أخرجه إلى قومه فزوجه على سنة الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)
وضمن صداقه...» (1).
والحديث طويل وفيه ما يثلج الصدر ويدخل السرور على القلب، ولكني
اضطررت إلى اختصاره.



(1) فروع الكافي 5 / 340 ح 1 كتاب النكاح باب إن المؤمن كفو المؤمنة، وسائل الشيعة 20 / 68 ح 25055
كتاب النكاح باب 26 مقدمات النكاح وآدابه.
519
وفي الكافي أيضا: كان لعبد الملك بن مروان عين بالمدينة يكتب إليه بأخبار
ما يحدث فيها، وإن علي بن الحسين (عليهما السلام) أعتق جارية ثم تزوجها، فكتب العين إلى
عبد الملك، فكتب عبد الملك إلى علي بن الحسين (عليهما السلام): أما بعد: فقد بلغني تزويجك
مولاتك، وقد علمت أنه كان في أكفائك من قريش من تمجد به في الصهر،
وتستنجبه في الولد، فلا لنفسك نظرت ولا على ولدك أبقيت. والسلام.
فكتب إليه علي بن الحسين (عليهما السلام): «أما بعد: فقد بلغني كتابك تعنفني بتزويجي
مولاتي، وتزعم أنه كان في نساء قريش من أتمجد به في الصهر، وأستنجبه في
الولد، وأنه ليس فوق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مرتقا في المجد، ولا مستزادا في كرم، وإنما
كانت ملك يميني خرجت مني، أراد الله عز وجل مني بأمر ألتمس به ثوابه، ثم
أرتجعتها على سنة، ومن كان زكيا في دين الله فليس يخل به شئ من أمره، وقد
رفع الله بالإسلام الخسيسة، وتمم به النقيصة، وأذهب اللؤم، فلا لؤم على امرء
مسلم إنما اللؤم لؤم الجاهلية. والسلام» (1).
والآن; لا بد من العودة إلى صلب الموضوع لنشرح الأحاديث المارة، ونبين
كيف كان أمير المؤمنين (عليه السلام) كفء فاطمة الزهراء (عليها السلام)، ولولاه لما كان لها كفء على
وجه الأرض آدم (عليه السلام) فمن دونه إلى يوم القيامة، بل إن أمير المؤمنين (عليه السلام) خلق
لفاطمة (عليها السلام).



(1) فروع الكافي 5 / 344 ح 4 كتاب النكاح، وسائل الشيعة 20 / 72 ح 25063 كتاب النكاح باب 27 من
مقدمات النكاح وآدابه.
520
تفريع رفيع
إعلم; أن هذا العنوان يحتاج إلى مقدمة نشير إليها إجمالا:
من المعلوم أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بصريح آية المباهلة،
ولكن لا على نحو الحقيقة; كيف والاتحاد بين اثنين غير معقول، بل محال، فالإتحاد
كان إتحادا مجازيا، وأقرب المجازات الاشتراك، بمعنى أن النبي أولى بالمؤمنين من
أنفسهم بمفاد قوله تعالى (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) (1) وأمير المؤمنين (عليه السلام)
نفس النبي، فتثبت له الأولوية أيضا ببرهان العقل والنقل والكتاب والسنة.
فما كانت من كمالات نفسانية وملكات رحمانية في الوجود النبوي المقدس،
فقد توفرت بالكمال والتمام في ذات أمير المؤمنين (عليه السلام) إلا ما خرج بالدليل.
فإذا قلنا باتحاد صاحب منزلة النبوة وصاحب مرتبة الإمامة، واعتقدنا
مساواتهما، نقول: إن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) اتصفت أيضا بجميع الكمالات
والملكات النبوية والمرتضوية الحسنة، وكانت تتلقى الإفاضات المعنوية من جهة
النبوة والولاية دائما.
فكما كان أمير المؤمنين مساويا للنبي في كل شئ إلا النبوة، فكذلك كانت
فاطمة الزهراء (عليها السلام) مساوية وكفوا لأمير المؤمنين (عليه السلام) في كل شئ إلا الإمامة
والإطاعة بلحاظ الزوجية، قال تعالى: (الرجال قوامون على النساء) (2) وقال



(1) الأحزاب: 6.
(2) النساء: 34.
521
تعالى: (وللرجال عليهن درجة) (1) أما في غير هذين الموردين، فقد قال
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حق فاطمة ما قاله في حق أمير المؤمنين (عليه السلام)، من قبيل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم)
«إنها روحي ونفسي وقلبي وبضعتي وثمرة فؤادي ونور بصري وفلذة كبدي
وشجنتي، وإنها مني وأنا منها» (2) وغيرها مما ورد في كتب الفريقين مما لا يعد ولا
يحصى.
فالإتحاد المعنوي النبوي والعلوي جار في وجود سيدة العصمة فاطمة
الزهراء (عليها السلام)، (ولا شك أن فاطمة خلقت لأجل علي، وأن عليا خلق لأجلها،
وأنهما كفوان ومتحدان لا يفترقان في عالم الأبدية بلا شائبة وريبة).
فمقام فاطمة (عليها السلام) تالي المرتبتين، والنقطة بين الخطين، والواقفة بين الحدين،
ولازمة بالمعية التامة منذ المبدأ في عالم الأنوار، مشاركة دون انفكاك، وهكذا
تنزلت من حيث الذات إلى عالم الملكوت والملك، وتجلت في بعض المحال تجليات
خاصة بالانفراد.
آب از دريا به دريا مى رود * از همانجا كآمد آنجا مى رود (3)
وفي الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «يا علي أنت نفسي التي بين جنبي، وفاطمة
روحي التي بين جنبي».
فأمير المؤمنين (عليه السلام) نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفاطمة روح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد يقال:
أن الروح أرفع وأعلى منزلة من منزلة النفس، ولكن الروح والنفس متحدان في



(1) البقرة: 228.
(2) انظر البحار 43 / 54 ح 48 باب 3.
(3) يقول: الماء يأتي من البحر ويعود إلى البحر، إذ يعود من حيث أتى.
522
بعض الجهات ويحملان على معنى واحد، أو أن هذه المقالات من الأمور
الإعتبارية الإضافية، فتطلق كما هي حسب الموارد إعظاما للمقام.
قال أحد العلماء المعاصرين: عيسى (عليه السلام) روح الله، وفاطمة (عليها السلام) روح
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذه النسبة إلى الساحة الإلهية دليل الأفضلية، فيكون عيسى (عليه السلام)
أفضل من فاطمة (عليها السلام)، ثم إن مقام الذكورة أفضل من مقام الأنوثة، والرجال أفضل
من النساء!!
ولكن هذه المرأة أفضل من رجال العالمين، تفوقهم جميعا شرفا وفضلا
وأولوية، وليس في عالم الأرواح والأنوار والعقول والنفوس عنوان الأنوثة،
وأشباح هذه الهياكل المقدسة تمتاز عن الأشباح الملكية الحسية الأخرى.
دان كه از تأنيث جان را باك نيست * روح را با مرد و زن اشراك نيست
از مؤنث وز مذكر برتر است * أين نه آن جانست كز خشك و تر است (1)
ولنعم ما قيل:
فلو كان النساء بمثل هذي * لفضلت النساء على الرجال
ولا التأنيث لاسم الشمس عيب * ولا التذكير فخر للرجال
على أي حال فإن لهذين العظيمين وحدة حقة وواقعية بالحقيقة المحمدية،
ولا مشاحة في الاصطلاح:



(1) يقول: إعلم أن ليس من مشكل في تذكير الروح أو تأنيثها، لأن الروح ليست مما فيه ذكورة أو أنوثة.
فهي أسمى من المؤنث والمذكر، وهي ليست مما هو رطب أو يابس.
523
عبارتنا شتى وحسنك واحد * وكل إلى ذاك الجمال يشير
بناء على ذلك يمكن أن نثبت لفاطمة المرضية (عليها السلام) نفس الأولوية النبوية
والمرتضوية بالنسبة إلى عموم البرية إضافة إلى العصمة والكفاءة الكاملة، بل
نقول بأفضليتها على الأنبياء من أولي العزم عدا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والولي (عليه السلام)، ولنا على
ذلك أوضح برهان.
وتجد بيان ما ذكرنا في العبارات الشريفة المنيفة التي سطرها العلامة المجلسي
في ذيل الحديث «لولا علي ما كان لفاطمة على وجه الأرض كفء» قال (رحمه الله):
«بيان: يمكن أن يستدل به على كون علي وفاطمة (عليهما السلام) أشرف من سائر أولي
العزم سوى نبينا صلى الله عليهم أجمعين، لا يقال: لا يدل على فضلهما على نوح
وإبراهيم (عليهما السلام)، لاحتمال كون عدم كونهما كفوين، لكونهما من أجدادهما (عليهم السلام)، لأنا
نقول ذكر آدم (عليه السلام) يدل على أن المراد عدم كونهما أكفاءها، مع قطع النظر عن الموانع
الأخر، على أنه يمكن أن يتشبث بعدم القول بالفصل، نعم يمكن أن يناقش في
دلالته على فضل فاطمة عليهم بأنهم يمكن أن يشترط في الكفاءة كون الزوج
أفضل، ولا يبعد ذلك من متفاهم العرف، والله العالم» (1).
ولا ينقضي عجبي من الملا علي القوشجي - عليه ما عليه - حيث قال في حق
الشيعة: «هذه الفرقة العليلة القليلة الذليلة قالت بعصمة امرأة، مع أن جمهور أهل
السنة والجماعة لا يقولون بعصمة كافة الأنبياء».
وروى عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي عن المفضلة البغداديين تفضيل
فاطمة الزهراء على أمير المؤمنين (عليه السلام) وغيره من الخلفاء، وقال: هلك في علي



(1) البحار 43 / 10 ذيل ح 1 باب 2.
524
اثنان: غال ومفرط، ومحب ومبغض، وقال: المنهج القويم والطريق المستقيم
وسلوك الإعتدال ما ذهب إليه المفضلة من أن علي بن أبي طالب أفضل الخلق بعد
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (1).
ومع ذلك قال: «الحمد لله الذي فضل المفضول على الفاضل لحكمة اقتضاها
التكليف (2).
وأي منصف عاقل إذا قرأ هذه العبارات السخيفة والإعتقادات الواهية علم
أحقية عقيدة الفرقة الناجية والشيعة الإمامية.
وإنما فضلوا فاطمة (عليها السلام) على سلطان الولاية علي ليعتموا على شرفه
ومنزلته، ثم عطفوا الجميع عليه بواو العطف، فرغما لمعاطس قوم يحسبون أنهم
يحسنون صنعا، ألا إنهم هم المفسدون، وهنالك يخسر المبطلون ويهلك البطالون.
وأنشد ابن أبي الحديد أبياتا في تفضيل فاطمة الزهراء (عليها السلام) على
أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال:
وخير خلق الله بعد المصطفى * أعظمهم يوم الفخار شرفا
السيد المعظم الوصي * بعد البتول المرتضى علي
وابناه ثم حمزة وجعفر * ثم عتيق بعدهم لا ينكر
المخلص الصديق ثم عمر * فاروق دين الله ذاك القسور
وبعده عثمان ذو النورين * هذا هو الحق بغير مين



(1) انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16 / 12 خ 29.
(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 1 / 9 مقدمة المؤلف، وفي نسختي: «الحمد لله الذي قدم المفضول على
الأفضل لمصلحة اقتضاها التكليف».
525
وذكر في كتاب «أنس النفوس» وغيره أدلة سخيفة أقامها أهل السنة على
تفضيل فاطمة (عليها السلام) على أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكلها ناشئة من الأغراض الفاسدة
والخيالات الكاسدة، والأمر بيد الله تعالى يفضل بعض عباده من أولياءه على
بعض، وهو المعز والمذل، وقال عز مجده: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على
بعض) (1) أي الأنبياء والأولياء، لكن الذين خالفوهم أضدادهم في الدين
وأعداءهم في الآخرة والأولى على نحو اليقين، وإنهم من الفرقة الطاغية والفئة
الباغية، والشيعة من هؤلاء برآء، فويل لمن شفعاؤه خصماؤه.
طريقة رشيقة
ثبت في مذهبنا أن المعصومة لا يتزوجها إلا معصوم، ولو جاز للزم القول
بجعل السبيل للفاسق على المعصومة، وهو خلاف رضا الله تعالى، ويأبى الله المنان
أن يجعل أمته المطيعة في حكم الرجل العاصي.
نعم; يجوز العكس، فللأنبياء والأئمة (عليهم السلام) أن يتزوجوا غير المعصومات.
والمعصومات من النساء اثنتين لا ثالث لهما، وهما السيدة مريم (عليها السلام) وفاطمة
الزهراء (عليها السلام).
وإنما قلنا أن المعصومة لا يتزوجها إلا معصوم، لأن المعصومة مصيبة وغير
المعصوم مخطئ، وذو العصمة أشرف من غيره، ولا يجوز لأهل الصواب أن يدخلوا
في حبائل أهل الخطأ، وفرض إطاعة المخطئ ينافي رضا الحق، كما مر سابقا.
وقالوا: «المرأة تأخذ من دين بعلها» فكيف يكون ذلك والمرأة مصيبة
والرجل مخطأ؟!



(1) البقرة: 253.
526
ولكن ما ذكرناه يتعارض مع قوله تعالى: (وللرجال عليهن درجة والله
عزيز حكيم) (1) وقوله: (الرجال قوامون على النساء) (2) وقوله: (فضل الله
بعضهم على بعض) (3) فالآيات لا تفيد ما استفدناه; ولذا ينبغي الإشارة إلى معنى
الدرجة وتفضيل الرجال على النساء إجمالا ليتضح الأمر:
أولا: إن «الدرجة» في الآية المذكورة تعني فضل الرجال على النساء بلحاظ
الإنفاق الواجب على الرجال، أو بلحاظ ما يأخذه الرجال في الإرث (فللذكر
مثل حظ الأنثيين) (4)، أو بلحاظ ثبوت حق الطلاق للرجال; ف‍ «الطلاق بيد من
أخذ بالساق»، أو بلحاظ كمال العقل والقابلية للنبوة وكمال الولاية، وهو ما
أبعدت عنه النساء.
وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): حق الرجل على المرأة كحقي عليكم، ومن ضيع حقي
ضيع حق الله، ومن ضيع حق الله غضب الله عليه.
وقال أيضا: «خير الرجال من أمتي خيرهم لنسائهم، وخير النساء من
أمتي خيرهن لأزواجهن».
ثانيا: لقد فضل الله ورسوله أمير المؤمنين (عليه السلام) على فاطمة، وعلى هذا عقيدة
كل مسلم، عالما كان أو جاهلا، وهو المذهب الحق.
ولكن لا يخفى أن الله لم يجعل أي امرأة مساوية لرجل إلا فاطمة الزهراء (عليها السلام)



(1) البقرة: 228.
(2) النساء: 34.
(3)
(4) النساء: 176.
527
- كما في رواية العوالم - حيث ساوت (عليها السلام) أمير المؤمنين (عليه السلام) (1) في آية المباهلة (2)
فخصص العموم لخصوصية خاصة بها (عليه السلام).
ويشهد لذلك الأحاديث المعتبرة المتواترة عن الأئمة البررة (عليهم السلام); منها ما
روي في البحار: «كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يطيعها في جميع ما تأمره» (3) وكان رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يأمر أمير المؤمنين (عليه السلام) أحيانا فيقول: «يا علي أطع فاطمة (عليها السلام)» ويأمر
فاطمة (عليها السلام) فيقول: «أطيعي عليا».
وإنما يأمر عليا بطاعتها لعصمتها وصواب رأيها ولأنها لا تخطأ، وكأن رأي
فاطمة رأي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذا قال (عليه السلام): «عاشرت فاطمة تسع سنين، فلم
تسخطني ولم أسخطها».
فإذا كان علي كفء فاطمة وفاطمة كفء علي، حرم على علي أن يتزوج
بغيرها ما دامت حية، وإن كانت الموانع مرفوعة.
ففي البحار: «إن الله حرم النساء على علي ما دامت فاطمة حية، لأنها لم
تحض» (4) وهي في كل ليلة عذراء باكرة - كما مر في خصائصها -.
وهذا الحكم من خصائصها (عليها السلام)، كما أن الإطاعة المتبادلة بينهما (عليهما السلام) من
خصائصها (عليها السلام).
فنقول: إن معنى الكفاءة تعين في هذا المورد خاصة العصمة، يعني أن فاطمة



(1) يقصد أنها دعيت كما دعي (عليه السلام)، وأنها كانت مصداق «نساءنا» وكان علي (عليه السلام) مصداق «أنفسنا».
(2) في قوله تعالى في سورة آل عمران الآية 61: (قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم
وأنفسنا وأنفسكم...).
(3) البحار 43 / 200 ح 30 باب 7 عن مصباح الأنوار.
(4) البحار 43 / 15 ح 14 باب 2.
528
معصومة يجب أن يتزوجها معصوم، فلو لم يخلق أمير المؤمنين (عليه السلام)، لم يكن لأحد أن
يتزوجها; لذا قيل في الحديث: «لو لم يكن علي لما كان لفاطمة (عليها السلام) كفء».
وهذا البيان برهان واضح على عصمة فاطمة الزهراء (عليها السلام).
وسيأتي - إن شاء الله تعالى - في خصيصة مستقلة الكلام في إثبات
عصمتها (عليها السلام) رغما لأرباب الخلاف والاعتساف; وسننكب الملا علي القوشجي
الذي صرح بعدم عصمتها وندمغه بالأدلة الساطعة والبراهين القاطعة، وسيمدنا
باطن العصمة إن شاء الله تعالى ليبقى هذا الكلام الحق ذكرى في الخواطر.
تبين مما مر: أن العصمة في النساء انحصرت في السيدة مريم (عليها السلام) والسيدة
فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وأن غير المعصوم لا سبيل له على المعصومة، وأن فاطمة
الزهراء، زوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالأمر الإلهي من أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو دليل
على عصمة سلطان الولاية علي أمير المؤمنين (عليه السلام)، لأن المعصومة لا ينكحها إلا
المعصوم، والصديقة لا يغسلها إلا الصديق.
* * *
أما معنى قوله (عليه السلام) «آدم فمن دونه» فله عدة وجوه:
أحدها: أن يكون المراد ب‍ «من دونه» بني آدم عموما، معصومين وغير
معصومين.
والآخر: أن يكون المراد بهذا التعبير المعصومين من الأنبياء، خصوصا إلا
من خرج بالدليل، وآدم أبو البشر له نسبة الأبوة مع جميع البشر، فهو خارج
للنسبة، فلا كفء لفاطمة (عليها السلام) إلى آدم، وإذا خصصنا «من دونه» بالمعصومين،
فآدم أول الأنبياء خارج أيضا بالدليل كآباءها الكرام وأجدادها العظام.

529
فالمراد ب‍ «من دونه» الأنبياء فردا فردا، أي لمن يكن فيهم كفء لفاطمة
الزهراء، لا من حيث نسبها الفخيم ولا حسبها العظيم، إذ لم فيهم من كان له أب
كأب فاطمة، ولا ارتباط وعلقة بالحقيقة المحمدية مثل الصديقة، وأنى يحصل
لفاطمة الزهراء (عليها السلام) زوجا كعلي في قرابته ورحمه الماسة، وهو نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وأولى بالمؤمنين من أنفسهم.
فكما كانت عصمة فاطمة دليلا على عصمة بعلها، كانت أولوية النفس
القدسية العلوية دليلا على أولوية النفس المقدسة الفاطمية، لأنهما كفوان وفي عالم
الأنوار متحدان.
نعم، لو نظرنا إلى رتبة التنزلات الوجودية والنزول من العوالم الغيبية إلى
العوالم الشهودية، فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل من أمير المؤمنين (عليه السلام) لمقام النبوة،
وأمير المؤمنين (عليه السلام) أفضل من فاطمة (عليها السلام) لمقام الولاية والإمامة، ولكن فاطمة
الزهراء (عليها السلام) أقرب إلى رسول الله، والنقطة الوجودية لوجودها أقرب لخط النبوة (1);



(1) ويلي فاطمة الزهراء (عليها السلام) بهذا اللحاظ سيد الشهداء (عليه السلام)، لأنه مجمع أنوار الأنبياء والأوصياء، لذا
كانت فاطمة الزهراء (عليها السلام) تخاطب الحسين (عليه السلام) وتقول: «أنت شبيه بأبي لست شبيها بعلي» وخط
الأنبياء يبدأ بآدم وينتهي بالخاتم، وخط الأوصياء يمتد من أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى شيث وصي آدم (عليه السلام)،
ولأجل امتداد الزمان وشرف نبوة آخر الزمان الذي لا نبي بعده، واتصال دولته الحقة بالقيامة الكبرى،
انحصر الأوصياء في أبناء خاتم الرسل وسيد الأوصياء، ليبقوا في الدنيا ويحموا الشريعة العظمى ويهدوا
الخلق إلى الله ويختموا بالوجود المسعود للحادي عشر من أبناء فاطمة المعصومة، وهو آخر الأوصياء
الاثني عشر. وقد أيد الله سبحانه كل واحد من الأنبياء أولي العزم بهذا العدد من الأوصياء، وجعل مدة
بقاء كل شريعة بمقدار شرف النبوة ومقامها، فلما وصلت النبوة إلى الخاتم صار زمانه أكثر، وكتابه
أفضل، وأمته خير الأمم، وأوصياءه هم الحجج الإلهية والخلفاء الربانيين، وهم أشرف من الأوصياء
الماضين لشرف مستخلفهم، فقد كانوا الأوائل وجاءوا في الآخر، وصاروا مظاهر لكمالات أنبياء السلف
ومجالي لملكاتهم. (من المتن)
530
ففاطمة الزهراء (عليها السلام) كانت جامعة وبرزخ بين النبوة والولاية، تنتسب من العلو إلى
خاتم النبوة ومن دون ذلك إلى مرتبة الولاية، وقد احتضنت في كنف العصمة أحد
عشر كوكبا من أولادها المعصومين، وغذتهم بثدي الرحمة وشرفت الجميع
بشرف ذاتها المقدسة، وشهد الله - بأنهم يفتخرون بهذه النسبة في الدنيا والآخرة،
فكما يفخر عيسى (عليه السلام) أنه ابن مريم، يفخر ذوو الذوات المقدسة أنهم من بطن
الطهارة ورحم العصمة لفاطمة المعصومة المطهرة، مع ما لهم من شرف الإنتساب
إلى الأبوة العلوية المرتضوية العالية. وأعظم ما في هذه النسبة من شرف اتصال
الخطوط الوجودية لهذه الذوات المقدسة بواسطة فاطمة الزهراء أمهم بالوجود
المبارك للعقل الأول وأول الموجودات، سيد الكائنات وسيد الأوصياء صلوات
الله عليهما.
لذا قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «لكل بني أنثى عصبة ينتمون، إليه إلا ولد فاطمة فأنا
وليهم وأنا عصبتهم وأنا أبوهم» (1).
وهذه من الخصائص الفاطمية والمزايا النبوية، وسيأتي شرح الحديث في
باب العترة الزكية إن شاء الله تعالى.
ولذا كان أمير المؤمنين (عليه السلام) - وهو أعظم الأولياء الكاملين والنفس المقدسة
لحضرة خاتم المرسلين وسلطان العالمين - يباهي ويفتخر بزواجه بفاطمة الزكية،
وقد حرم الله عليه الزواج بغيرها ما دامت حية، وجعلها كفوا لا كفو لها إلا علي،
فيكفي في جلالة قدر فاطمة أنها كفو أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأن النساء حرمت عليه مع
وجودها. ويكفي في جلالة قدر علي أن تكون كفوه امرأة كفاطمة في فخامة النسب



(1) ينابيع المودة 2 / 476 باب 59، الصواعق المحرقة 187 الباب الحادي عشر الفصل الثاني.
531
وعظمة الحسب، كفو لا ند له ولا نظير، فهي الكاملة من جهات الإنسانية،
والمنزهة من النواقص، صلوات الله عليها وعلى أبيها وعلى بعلها وعلى ولديها.
ولما جرى الحديث في التساوي والكفاءة، رأينا أن نكتب شيئا عن بعض
حالات تلك المخدرة بالقياس إلى الأنبياء وأئمة الهدى (عليهم السلام) وخيار نساء العالمين كما
سيأتي في الخصيصة الآتية:

532
الخصيصة العاشرة من الخصائص الخمسين
في تساوي السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) مع بعض الأنبياء
العظام وما يدل على أفضليتها على نحو الإجمال
في تساويها مع آدم (عليه السلام)
لئن كان آدم أبو البشر، صفي الله، خلق من التراب، وسجدت له الملائكة،
واصطفاه الله وجعله رأس السلسلة للنوع الإنساني، وقال الله عنه (إن الله اصطفى
آدم ونوحا وآل إبراهيم) (1) وذكر في الزيارات بصفة «صفوة الله» وخلعت عليه
خلعة الاصطفاء على جبل الصفا.
فإن السيدة الصديقة الكبرى كانت صافية مصطفاة منذ اليوم الأول، بل
رشح الاصطفاء عليها (عليها السلام) من منبع العصمة والطهارة والحياء، وقد نادتها ملائكة
الملأ الأعلى في أوقات الصلوات: (إن الله اصطفاك) (2) يا فاطمة، وبشروها
بصفاء النفس وطهارة الذيل، وهي أم الأئمة والذرية المصطفوية.
ولئن كان آدم (عليه السلام) علم في بدء الخلق الأسماء (وعلم آدم الأسماء كلها) (3)



(1) آل عمران: 33.
(2) آل عمران: 42.
(3) البقرة: 31.
533
ففاطمة الزهراء (عليها السلام) أم الأسماء، والعالمة بالحقائق والمسميات، من أول الأنبياء إلى
آخرهم، وهي بذاتها اسم من الأسماء الحسنى توسل به آدم (عليه السلام) فنجى.
ولئن كان آدم مخلوقا من التراب، فطينة فاطمة الزهراء ونطفتها الزكية من
فواكه الجنة، وشتان بين من خلق من تراب ومن خلق من النور المحمدي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وشتان بين الإنتساب إلى التراب والانتساب إلى صاحب مقام «لولاك»، هذا
وعلي أمير المؤمنين (عليه السلام) بعلها رب الأرض وأبو التراب.
ولئن كان لآدم (عليه السلام) شرف الأبوة على أبناءه وهو أبو الآدميين، فلفاطمة (عليها السلام)
شرف الأمومة على الأئمة المعصومين والذرية الفاطمية الطيبين، وهي أم الأئمة
الخيرة البررة، والذرية الطيبة الطاهرة، هذا وقد أكرمها الله كرامة خاصة بتكثير
نسلها إلى يوم القيامة.
ولئن أكل آدم (عليه السلام) من حنطة الجنة فأخرج منها وأهبط إلى الأرض، فلقد
نالت فاطمة الزهراء الجنان الثمانية بأقراص آثرت بها وبذلتها في سبيل الله، ونزلت
فيها الآيات المباركات من سورة «هل أتى» وغيرها، بل بنيت لها جنة خاصة
ترتفع على تمام القصور العالية والأبنية الرفيعة والقباب والبقاع في الجنان.
ولئن قام آدم أبو البشر (عليه السلام) بعد تمام الخلقة ونفخة الروح فعطس وحمد الله،
ففاطمة الزهراء (عليها السلام) أقرت بالشهادتين بعد ولادتها وذكرت أبناءها المعصومين (عليهم السلام)
واحدا واحدا بأسمائهم.
ولئن تمنى آدم (عليه السلام) - بناء على إحدى الروايات - مقام الخمسة الطيبة، وتمنت
حواء المنزلة الرفيعة لتلك المخدرة، فحرموا بذلك من نعم الجنة الدائمة، وكان عاقبة
أمنيتها الحرمان والهجر والانتقال من دار السرور إلى دار الغرور، والفرار من دار

534
القرار إلى دار البوار، فلقد توسلا بفاطمة (عليها السلام) وتشبثا بأذيالها فعادا إلى منزلتهما
الأولى السامية، واستجيبت دعوتهما وقبلت توبتهما.
ولئن أخذ الله هابيل من آدم (عليه السلام) وعوضه عنه بشيث، هبة الله، الأب الثاني
للأنبياء والمرسلين والأولياء الكاملين، وكان شيث أفضل من هابيل وكان نبيا،
وبه يفتخر آدم يوم القيامة، أراد الله أن يكون امتداد ذرية آدم (عليه السلام) منه، فإن الله
أخذ إبراهيم من مارية القبطية وفدا به الحسين (عليه السلام) - وهو أفضل من إبراهيم -
فجعله الأب الثاني للأئمة البررة، وأخرج منه النسل الكثير لآل الرسالة، وبه
يفتخر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم القيامة، وهو من مواهب الله على هذه الأمة، وبناء على
الرواية المعتبرة فإن الله أبقى سيد المظلومين ليخرج منه الذرية الطيبة ويطيب خاطر
فاطمة الزكية (عليها السلام) علاوة على ما كان من قبول شهادته ليكون منجي العصاة
ومنقذهم.
ولئن بكى آدم (عليه السلام) أكثر من مائة عام على ما صدر منه من ترك الأولى، أو
على الإبتعاد من الجنة، أو على فراق حواء، حتى ارتوت من دموع عينيه الطيور،
وحارت في أمره الوحوش، ورقت له; فإن الصديقة الطاهرة أيضا بكت من خوف
الله، وفراق خاتم الأنبياء، وضلال هذه الأمة، وظليمة بعلها، حتى عدت في
الأنبياء العظام البكائين. وكانت تبكي من خوف الله وفراق سيد الأبرار قبل وبعد
وفاة أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى فزع وجزع سكان المدينة، بل سكان السماوات والأرض،
وحديث البكائين الخمسة معتبر ومشهور في كتب المناقب والمصائب.
ولئن كان آدم (عليه السلام) يدعو الله ليعود إلى المكانة الأولى والمنزلة المسلوبة،
ويسأل ربه الجنة، فقد سألت فاطمة (عليها السلام) ربها رضاه - وسيأتي الحديث الوارد في

535
ذلك - فنزل في شأن سيدة نساء العالمين عليها صلوات الله قوله تعالى: (ولسوف
يعطيك ربك فترضى) (1).
أما نوح (عليه السلام):
فلئن بكى (عليه السلام) على هلاك قومه وسوء عاقبتهم حتى سمي نوحا (2)، فقد بكت
فاطمة الزهراء (عليها السلام) أيضا على ضلالة هذه الأمة المرحومة وغوايتها وسوء عاقبتها،
حتى صار لها عالم الإمكان «بيت الأحزان».
ولئن سمي نوح «شيخ الأنبياء» لطول عمره، ونال بذاك تقديرا خاصا إلى
يوم القيامة وبقى لقبه على الألسن وفي الأفواه، فإن فاطمة الزهراء (عليها السلام) عاشت في
الدنيا مدة قليلة، ونالت عند الله وعند الرسول رحمة لا متناهية وفضيلة لا حدود
لها، حتى فاقت ذاك الشيخ الكبير - وهو من أولي العزم - مع صغر سنها.
ولئن صنع «نوح» لنفسه ولمن آمن معه سفينة النجاة لينجو من الطوفان،
فإن نجاة سفينته كانت بالتمسك بولاية فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها، ويشهد لذلك
حديث المسمار والأحاديث الأخرى المروية في كتب الشيعة والسنة في توسل
نوح (عليه السلام) بهم.
ولئن استجيبت دعوة نوح (عليه السلام) كما بشر بذلك في القرآن المجيد، فإن دعوات
فاطمة الزهراء (عليها السلام) قارنت الإجابة مرات عديدة، كما تحقق ما قالته في حق ابن
حنتمة.



(1) الضحى: 5.
(2) النوح من النياحة. (من المتن)
536
ولئن ذكر نوح في القرآن مرارا تصريحا، فلقد ذكرت العصمة الكبرى في
أغلب الآيات تلويحا، بل إن ثلث القرآن نزل في الخمسة الطيبة والعترة العصمة.
ولئن دعا نوح على قومه بالهلاك فألقى بالجميع في طوفان البلاء، ففاطمة
الزهراء (عليها السلام) صبرت على الأذى الذي لقته من هذه الأمة، وما فاهت ثغرها بدعوة
عليهم.
ولئن دعا نوح (عليه السلام) لينجي ابنه - وهو غير صالح - فلم يجب ل‍ (إنه ليس من
أهلك) (1) فلا أدري ماذا ستفعل الشفيعة الكبرى يوم الجزاء مع بعض السادة؟!
وكيف ستفصل نسبتهم إليها؟! وكيف تغطي فضائحهم وهم خلف لم يرعوا حرمة
السلف، وسيأتي حديث شفاعتها لذريتها في باب الشفاعة.
أما إبراهيم الخليل (عليه السلام):
لئن شرف إبراهيم (عليه السلام) بشرف الاصطفاء لآله في قوله تعالى: (إن الله اصطفى
آدم ونوحا وآل إبراهيم) (2) فخلاصة آل إبراهيم ولبهم فاطمة الزهراء (عليها السلام); وقوله
تعالى (إن الله اصطفاك) (3) نزل ظاهرا في مريم (عليها السلام)، ونزل ظاهرا وباطنا في حق
فاطمة (عليها السلام).
ولئن سلم الله على إبراهيم في القرآن، فلقد سلم على آل يس (4)، ويس هو



(1) هود: 46.
(2) آل عمران: 33.
(3) آل عمران: 42.
(4) قال تعالى: (سلام على آل ياسين); وهي قراءة منسوبة للإمام الرضا (عليه السلام) ونافع وابن عامر
ويعقوب والأعرج وشيبة وزيد بن علي وعبد الله. انظر معجم القراءات القرآنية 5 / 246 رقم 7456.
537
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأقرب آل الله فاطمة (عليها السلام).
ولئن أوتي إبراهيم (عليه السلام) حسنة واحدة في قوله (وآتيناه في الدنيا حسنة) (1)،
فلقد أوتيت فاطمة (عليها السلام) حسنات في قوله تعالى (آتينا في الدنيا حسنة وفي الآخرة
حسنة) (2) وقوله تعالى (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) (3) وقوله تعالى
(ومن يقترف حسنة...) (4) فهذه الآيات نازلة ومؤولة فيها (عليها السلام).
ولئن انحدر ملوك الروم من ذرية إسحاق النبي ومن نسل إبراهيم الخليل (عليه السلام)،
فقد صار أحد عشر إماما معصوما من ذرية فاطمة (عليها السلام) من الأوصياء المرضيين.
ولئن نزل في إبراهيم قوله تعالى (أن طهرا بيتي للطائفين) (5) فلقد نزل في
فاطمة الطاهرة آية التطهير (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت
ويطهركم تطهيرا) (6).
ولئن كانت النار بردا وسلاما على إبراهيم (عليه السلام)، فإن نار الدنيا - فضلا عن نار
الآخرة - لا تؤثر في فاطمة الزهراء (عليها السلام).
ولئن قدم إبراهيم ابنه للذبح بمحض إرادته ففداه الله، فإن فاطمة الزهراء (عليها السلام)
كانت تعلم بشهادة ابنيها منذ الحمل والرضاع، وكانت تقدر على دفع ذلك، ولكنها
قدمتهما فداء.



(1) البقرة: 201؟؟
(2) البقرة: 201.
(3) الأنعام: 160.
(4) الشورى: 23.
(5) الحج: 26.
(6) الأحزاب: 33.
538
ولئن نزل في حق إبراهيم قوله تعالى (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه
وهذا النبي والذين آمنوا معه) (1)، فإن فاطمة الزهراء (عليها السلام) أقرب التابعين وأشرف
المؤمنات برسول رب العالمين بنص قوله تعالى (فمن تبعني فإنه مني) (2) وقد
تابعته غاية المتابعة حتى صارت لب النبوة وخلاصتها، ووصلت إلى مقام «فاطمة
مني وأنا من فاطمة».
ولئن ذكر إبراهيم ربه بالشكر، فقد ذكرت فاطمة الزهراء (عليها السلام) ربها بالذكر
(الذين يذكرون الله قياما وقعودا) (3).
ولئن أري إبراهيم ملكوت السماوات في قوله تعالى (نري إبراهيم ملكوت
السماوات) (4) فإن في بيت فاطمة (عليها السلام) فرجة كانت ترى منها كل شئ إلى العرش
الأعظم، وتخبر من ذلك.
ولئن هاجر إبراهيم (عليه السلام) إلى مكة المكرمة، فلقد هاجرت المخدرة الطاهرة من
مكة المكرمة إلى المدينة الطيبة، وكلاهما هاجرا امتثالا للأمر الإلهي.
أما موسى (عليه السلام):
لئن كان لموسى (عليه السلام) معجزات زاهرة، فلقد كان لتلك المخدرة كرامات باهرة.
ولئن نزل على موسى (عليه السلام) المن والسلوى، فلقد نزل على فاطمة - إجابة
لدعوتها - مائدة من السماء وفواكه من الجنة.



(1) آل عمران: 68.
(2) إبراهيم: 26.
(3) آل عمران: 191.
(4) الأنعام: 75.
539
ولئن أنزلت التوراة على موسى في مدة مديدة، فلقد أنزل على فاطمة (عليها السلام)
ثلاثة أضعاف القرآن في فترة وجيزة.
ولئن أعطي موسى عصا من شجرة اللوز المر، فلقد أعطيت فاطمة (عليها السلام)
شجرة طوبى.
ولئن اختار الله موسى على رجال عالمه بمفاد قوله تعالى (وأنا اخترتك) (1)
فلقد اصطفى فاطمة الزهراء (عليها السلام) على نساء العالمين بمفاد قوله تعالى (إن الله
اصطفاك) (2).
ولئن ذهب موسى (عليه السلام) إلى طور سيناء ليناجي قاضي الحاجات ويبتهل إلى
العلي الأعلى، فلقد كانت فاطمة (عليها السلام) تذهب إلى محرابها تتعبد فيه وتناجي ربها،
وتقوم حتى تتورم قدماها كما في الخبر «وتورمت قدماها من كثرة العبادة» (3).
ولئن تجلى الحق لموسى (عليه السلام) في طور سيناء فاستبان في جبينه نورا ساطعا
لامعا، فلقد كان محيا الصديقة الطاهرة يزهر صباحا وظهرا وعصرا بأنوار خاصة
وألوان مختلفة، وقد مرت الأخبار في ذلك.
ولئن ظهرت لموسى (عليه السلام) في أيام الحمل وبعد الولادة وأيام الرضاع معجزات
وخوارق للعادات، من خفاء الحمل، والدخول في التنور، والعوم في البحر،
ودخول بيت فرعون، فإن لفاطمة الزهراء (عليها السلام) أيضا في أيام الحمل والولادة
والرضاع كرامات وخوارق للعادات اتفق عليها الطرفان; وقد أشرنا سابقا إلى بعضها.



(1) طه: 13.
(2) آل عمران: 42.
(3) انظر بحار الأنوار 43 / 75 ح 62 باب 3.
540
ولئن أحضر فرعون الأقباط والسحرة وغيرهم، ودعا موسى ليغلبوه،
فنصره الله بالعصا وجعلهم هم المغلوبين; فإن نساء اليهود دعون فاطمة
الزهراء (عليها السلام) مرارا إلى مجالسهن العامة وأفراحهن وأعراسهن ليستعرضن حليهن
وزينتهن أمامهم ويجرحن بذلك قلبها!! فأشفق عليها العلي الأعلى وخلع عليها
من خلع الجنان حللا خلبت ألبابهن وخطفت أبصارهن، فآمن أكثرهن ودخلن
في الإسلام.
ولئن أوتي موسى العصا واليد البيضاء وتسع آيات إضافة إلى مقام الرسالة،
فإن فاطمة أوتيت أمير المؤمنين (عليه السلام) والإمام الحسن وتسع آيات إلهية هم الأئمة
المعصومون من صلب ولدها الحسين (عليه السلام)، إضافة إلى ارتباطها وانتسابها إلى شجرة
النبوة المحمدية.
ولئن فلق موسى (عليه السلام) البحر وأغرق ضلال أمته، فإن الأنبياء من أولي العزم
وغيرهم لطالما التجأوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وفاطمة وتوسلوا بهم فنجوا من
المهالك، كما ورد في كتب الإمامية أخبار كثيرة عن الحالات الموسوية والإلتجاء
إلى هذه الأسرة الزكية.
أما عيسى (عليه السلام):
لئن خلق عيسى (عليه السلام) من نفخة روح الأمين، فلقد خلقت فاطمة الزهراء (عليها السلام)
من نور الرب وفاكهة الجنة وعرق جبرئيل وزغبه.
ولئن تكلم عيسى (عليه السلام) في بطن أمه وقال بعد ولادته (إني عبد الله آتاني

541
الكتاب وجعلني نبيا) (1) فإن فاطمة الزهراء (عليها السلام) تكلمت أيضا في بطن أمها
خديجة، وتكلمت بعد الولادة ووحدت الله سبحانه.
ولئن خاطب الله عيسى (عليه السلام) في القرآن الكريم، فقد ذكر فاطمة (عليها السلام) في أسفار
الإنجيل وبشرها بكثرة النسل وأخبر عن شهادة فرخيها.
ولئن كان لمريم - أم عيسى (عليه السلام) - من الشرف والعظمة والشأن ما لم يكن لأي
واحدة من أمهات الأنبياء العظام، فإن لأم فاطمة (عليها السلام) - خديجة سيدة النسوان -
من الشرف والفضل وعلو القدر وسمو المقام ما لم يكن لأية واحدة من النساء،
وحق لمثل هذه المرأة المعصومة بما لها من عصمة ذاتية وجلالة قدر أن تكون أمها
كريمة الأحساب ومفخرة تفتخر بها على أمهات سيد الكائنات.
ولئن كان بعض النصارى يقدسون مريم ويعتقدون نبوتها ويتسمون بها
«المريميون»، فإن هذه الأمة المرحومة كلها «فاطمية». ولئن كانوا لا يعتقدون
بنبوتها فإنهم يعتقدون أنها أفضل من الأنبياء السابقين. وإن عيسى (عليه السلام) سينزل في
آخر الزمان ويتبع آخر أبنائها القائم المهدي (عج).
ولئن نزل في عيسى (عليه السلام) (وأيدناه بروح القدس) (2) فلقد قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مرارا أن عليا وفاطمة والحسنين (عليهم السلام) مؤيدون بروح القدس (3).
ولئن كان جبرئيل وملائكة الرحمة ينزلون على عيسى (عليه السلام) يعلمونه الكتاب
ويبشرونه، فإن جبرئيل والملائكة الكرام نزلوا على الصديقة الطاهرة وبشروها



(1) مريم: 30.
(2) البقرة: 87.
(3) بصائر الدرجات 480 - 483 باب 18 ح 1 - 12.
542
بالعنايات الرحمانية والإفاضات السبحانية.
ولئن عد عيسى (عليه السلام) في زمرة الأنبياء الذين عاشوا في الدنيا قليلا، حيث لم
يعمر أكثر من ثلاثة وثلاثين سنة، ثم خلع عن نفسه رداء التراب وهجر عالم
الأملاك، وتسنم ذروة الأفلاك; فإن فاطمة الزهراء (عليها السلام) عاشت في هذه الدنيا زمنا
قليلا وامتازت من بين حسان نساء العالمين بسرعة الرحيل، حيث عاشت ثمانية
عشر عاما، ورحلت عن دار الزوال متوجهة إلى حظيرة القدس وأعلى عليين،
واختارت جوار أبيها سيد المرسلين وجوار رب العالمين، وارتاحت من المحن
والفتن والشدائد صلوات الله عليها.

543
الخصيصة الحادي عشر من الخصائص الخمسين
في تساوي بعض حالات فاطمة (عليها السلام) مع رسول الله
وأمير المؤمنين وأبنائها (عليهم السلام)
لقد ساوت فاطمة الزهراء (عليها السلام) رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) وأبناءها
المعصومين (عليهم السلام) في بعض الصفات الكريمة والأوصاف الخاصة بهم، وسنقتصر على
ذكر خمسين موردا منها في هذه الخصيصة، وهي غالبا من الموارد التي يعترف بها
جمهور أهل السنة:
المورد الأول: مساواتها في الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنها (عليها السلام) أخص وأقرب
آله بالإتفاق.
ولأهل السنة في الصلوات ثلاث صور:
الأولى: اللهم صل على محمد وسلم
الثانية: صلى الله عليه وسلم
الثالثة: صل على محمد وعلى آل محمد
وغالبا ما يذكرون الصلوات بدون ذكر الآل، وإذا ذكروهم فصلوهم
ب‍ «وعلى»، مع أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا تصلوا علي الصلاة البتراء. قالوا: وما الصلاة

544
البتراء؟ قال: تقولون: اللهم صلى على محمد وتسكتون (1).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «من فصل بيني وبين آلي ب‍ «على» فقد جفاني».
والغرض من الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تعظيمه وتوقيره، وفصل فاطمة والآل
عنه ينافي قصد التعظيم، بل فيه إساءة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم). ولا أدري كيف يطمع بالشفاعة
يوم القيامة أولئك الذين يؤدون الصلاة ويصلون على سيد الكائنات ولا يذكرون
آله؟! أو أنهم لا يعدون فاطمة (عليها السلام) في آله؟ وكيف سيواجهون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
أو كيف يزورونه؟!
قال الشافعي:
يا أهل بيت رسول الله حبكم * فرض من الله في القرآن أنزله
كفاكم من عظيم الشأن أنكم * من لم يصل عليكم لا صلاة له (2)
وروي أن أحمد بن حنبل وجماعة - عادوا أبا نعيم - وهو من أعاظم المشايخ
وكبار علماء أهل السنة، فاستوى أبو نعيم جالسا واعتذر قائلا: آجركم الله فإني
محموم لا طاقة لي على الحديث. فسأله أحدهم: ما تقول في من شهد الشهادتين
وعمل بأحكام رب العالمين ولكنه مات ولم يعرف أبا بكر، فهل يضر ذلك في دينه؟
قال: لا، قال: شهد الشهادتين ولم يعرف عمر، فهل يضره ذلك؟ قال: لا، قال -
ولم يسأل عن عثمان -: فما تقول في من لا يعرف علي بن أبي طالب، فهل يضره
ذلك؟ قال: نعم، فعلي من آل رسول الله، وقبول الصلاة وكمالها بالصلاة على محمد
وآله فلا بد من معرفته ليقصد دخوله في الآل.



(1) الصواعق المحرقة 146 الباب 11 الفصل 1 الآية الثانية.
(2) نظم درر السمطين للزرندي 18; إسعاف الراغبين للصبان 121.
545
وعليه فالولد أولى من الأقارب مهما قربوا، سيما إذا كان الولد مثل
فاطمة (عليها السلام)، وهي أشرف وأفضل الآل، وهل يجرؤ أحد أن يخرج فاطمة من آل
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!! معاذ الله!!
ثم إن الآل - إضافة إلى ملاحظة النسبة ومعنى الأهلية - تعني المآل
والرجوع، وأول من رجع إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) وألحق به فاطمة الزهراء (عليها السلام).
المورد الثاني: التسليم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الصلاة، حيث يقول المصلي
«السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته» وفاطمة الزهراء (عليها السلام) ساوت
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله تعالى (سلام على آل يس) (1) ويس اسم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وآله
فاطمة والعترة الطاهرة، وفي قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا
تسليما) (2) التسليم يعود - كما في التفسير - إلى آل العصمة والطهارة، وأمير المؤمنين
أولهم وفاطمة الزهراء (عليها السلام) خاصتهم وخلاصتهم ولبهم، ولها قرب معنوي واتصال
روحاني وجسماني.
المورد الثالث: طه في القرآن الكريم اسم للرسول، وفسر بالطاهرة، وقوله
تعالى (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (3) نزل في
آل طه، وأخبر عن طهارة ذواتهم المقدسة، وأقرب أهل البيت (عليهم السلام) وأولهم
فاطمة (عليها السلام)، فهي من هذه الجهة تساوي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعلها وبنيها بنص الذكر
الحكيم.



(1) الصافات: 130.
(2) الأحزاب: 56.
(3) الأحزاب: 33.
546
المورد الرابع: في حرمة أكل الدقة - وهي أوساخ ما في أيدي الناس (1) -
حيث أنها حرمت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله، وفاطمة أقرب المقربين من الآل.
المورد الخامس: في وجوب محبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الخلق أجمعين، والمحبة
لازمها الإتباع، قال تعالى: (فاتبعوني يحببكم الله) (2) ولا اتباع بدون محبة، وقال
تعالى في آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) (3)
فالمحبة المفروضة على الأمة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مفروضة أيضا لفاطمة وبني فاطمة، بل هي
من أهم الفرائض وأعظمها. ومن من ذوي القربى أقرب إلى سيد الأنبياء من
فاطمة (عليها السلام) وبنيها؟
هذه الموارد الخمسة ذكرها ابن حجر الهيثمي المتعصب في كتاب الصواعق
المحرقة، ولكنه ذكرها كموارد لمساواة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وآله (عليهم السلام)، وذكرتها هنا
كخصائص لفاطمة (عليها السلام) باعتبار الأهمية والأولوية، وباعتبار أنها محل الكلام (4).
ونذكر هنا الموارد التي شاركت فيها فاطمة (عليها السلام) أبيها وبعلها (عليهما السلام).
المورد السادس: في قصة المباهلة: قال في تفسير الإمام الحسن
العسكري (عليه السلام)، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «ما ساوى الله قط امرأة برجل، إلا ما كان من
تسوية الله فاطمة بعلي وألحقها بأفضل رجال العالمين، فألحق الله فاطمة بمحمد
وعلي في الشهادة، وألحق الحسن والحسين بهم في قوله تعالى (فقل تعالوا ندع
أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على



(1) الدقاق: فتات كل شئ، والدقة: ما تسهك به الريح من الأرض. (لسان العرب: دقق)
(2) آل عمران: 31.
(3) الشورى: 23.
(4) الصواعق المحرقة 143 الباب 11 الفصل 1.
547
الكاذبين) (1). ولا خلاف في أن المراد من «نساءنا» فاطمة (عليها السلام) و «أبناءنا» الحسن
والحسين «وأنفسنا» أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).
المورد السابع: في قوله تعالى (مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا
يبغيان * يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) (2) المراد بالبحرين الحضرة المقدسة النبوية
والذات المقدسة العلوية، ففي التفسير أن المراد بالبحرين بحر الولاية وبحر
العصمة، والمراد بالبرزخ فاطمة (عليها السلام)، واللؤلؤ والمرجان الإمامان الحسن والحسين
صلوات الله عليهما.
المورد الثامن: التساوي في العصمة وفق مذهب الإمامية الاثني عشرية،
فكما أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين والحسنين معصومون، ففاطمة (عليها السلام) أيضا
معصومة - وقد مر بيان ذلك سابقا - والعصمة من أقوم وأعظم صفات النبوة
والرسالة، وكل الصفات الكمالية الإنسانية ترجع إليها، ومنها قوله تعالى (تلك
الرسل فضلنا بعضهم على بعض...) (3).
المورد التاسع: قلنا سابقا أن نطف الأئمة المعصومين ورسول الله
وأمير المؤمنين من فواكه الجنة والثمار الصافية من العوالم العلية العالية، وكذلك
كانت النطفة الزكية لفاطمة المرضية من تفاحة الخلد والفواكه السماوية النازلة من
الجنة، وقد ذكرنا ذلك سابقا.
المورد العاشر: امتاز النبي والولي والأئمة المعصومون الطاهرون بأن نموهم



(1) آل عمران: 61.
(2) الرحمان: 19 و 20 و 22.
(3) البقرة: 253.
548
كان يختلف عن الآخرين منذ الولادة والرضاع والفطام، وكذلك كانت فاطمة
الزهراء (عليها السلام) مساوية لهم في هذا الفضل والشرف العظيم.
المورد الحادي عشر: ذكرنا فيما مضى أحاديث إبداع أنوار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة
الأطهار واتحاد نور فاطمة (عليها السلام) معهم، وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أبو الأنوار، وفاطمة
الزهراء (عليها السلام) أم الأنوار، فهي تشاركهم وتساويهم من هذه الجهة.
المورد الثاني عشر: قارنت ولادة فاطمة إكرامات رحمانية، كما قارنت ولادة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين، فجميعهم شهدوا الشهادتين، وأقروا بوحدانية الله
ونبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد مر حديث المفضل الجعفي في تكلم فاطمة وإقرارها
بالشهادتين وتسليمها على سيدات نساء الجنان وتسميتهن بأسمائهن.
المورد الثالث عشر: سيأتي في خصيصة مستقلة أن الملائكة كانت تحدث
فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فهي كالأئمة الطاهرين محدثة يلازمها ملك يحدثها وينكت في
قلبها وينقر في أذنيها (1)، فهي شريكتهم في هذا الفضل.
المورد الرابع عشر: مر سابقا أن العرش خلق من نور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن
الملائكة خلقوا من نور أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأن الشمس والقمر من نور الحسن (عليه السلام)،
وأن الجنة من نور خامس أصحاب الكسا، وأن السماوات والأرض من نور
فاطمة الزهراء (عليها السلام)، ففاطمة (عليها السلام) ساوت أبيها وبعلها وبنيها في شرف العلية بالنسبة
للمخلوقات؟؟
المورد الخامس عشر: كما أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين والأوصياء المرضيين
لهم أولوية على جميع النفوس البشرية وتمام الأفلاك العلوية والأرضين السفلية،



(1) بحار الأنوار 43 / 78 ح 65 باب 3.
549
فإن فاطمة الزهراء (عليها السلام) فاقت الجميع أيضا، ونفسها القدسية أشرف وأفضل
النفوس، وقد جعل الله لوجودها المقدس حرمة خاصة، ولو وزنت بجميع
المخلوقات لرجحت عليها، حيث وجعل الله لكل النفوس البشرية - من آدم (عليه السلام)
إلى يوم القيامة - ارتباطا واتصالا خاصا بنقطة الكمال وكعبة الجلال فاطمة
الزهراء (عليها السلام)، فهم يحتاجونها ويتمسكون بأذيالها، ولم يكن ذلك للأنبياء والمرسلين
والأولياء الكاملين.
المورد السادس عشر: في علم فاطمة الزهراء (عليها السلام) بما كان وما يكون وما هو
كائن، وإحاطتها الكاملة بذلك كأبيها وبعلها وبنيها، ومحال أن تسأل فاطمة عن
العلويات والسفليات والمجرات والماديات - فضلا عن الأحكام - فلا تجيب، فهي
عالمة بكل شئ مما دون العرش كما ورد في الحديث الصحيح.
المورد السابع عشر: لكل واحد من الأئمة المعصومين تكليف خاص في
الصحائف السماوية المذخورة، وكان يزاد في علمهم، وكانوا ينظرون في الجفر
والجامع ونظائرها. ولفاطمة (عليها السلام) - فضلا عن الإفاضات التي كانت تصلها من
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين - مصحف كريم أكبر من المصحف (القرآن) ثلاث
مرات، كان جبرئيل يميله عليها وهي تملي على أمير المؤمنين وهو الآن موجود
بإملاء فاطمة (عليها السلام) وخط علي (عليه السلام) بيد صاحب الزمان (عج)، وفيه أخبار السماء
وملك الملوك والسلاطين وغيرها من العلوم، وهو مصدر من مصادر علوم آل
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونحن الشيعة نفتخر بهذا الفخر والشرف الثابت لفاطمة وذريتها،
ونشكر الله على هذه الألطاف وهذا التشريف الخاص الذي يعد امتيازا في
الخصائص الفاطمية والمزايا الزهرائية، وسيأتي الكلام في المصحف.

550
المورد الثامن عشر: كان جبرئيل الروح الأمين ينزل على سلطان العالمين
بالكسوة البشرية فيراه صاحب المقام الأقدس النبوي والسيد المقدس المرتضوي
بالحس الظاهري ويحدثونه، وكذلك - كما في حديث المصحف - كان جبرئيل
والملائكة المقربين يحدثون السيدة فاطمة الزهراء وتحدثهم، فهي وهم سواء في
هذه المشاهدة.
المورد التاسع عشر: واتفق الفريقان على أنها ساوت الأنوار الأربعة من
حيث اقتداء الخلق بأنوارهم، وقد أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كافة البرايا بالاقتداء بفاطمة
الزهراء (عليها السلام)، والأمر بالاقتداء عام إلا ما خصص، ولا يخصصه إلا أولياء الدين
وأولي الأمر.
المورد العشرون: روي أن المراد من «أهل الذكر» هم علي وفاطمة والحسن
والحسين (عليهم السلام)، و «الذكر» هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والقرآن، ففاطمة الزهراء من آل الرسول
ومن أهل القرآن، ومنه يعلم أن تلك المخدرة كانت عالمة بالعلوم التي تفاض على
أبيها وبعلها، وإلا فكيف يكن أن يسأل الجاهل بالأحكام؟!
وفي ذلك كمال الشرف، وهو أقوى دليل على مطاعية فاطمة (عليها السلام)، وخير
برهان على وجوب الإقتداء بها.
المورد الحادي والعشرون: من الواضح جدا تساويها (عليها السلام) في أخبار توسل
آدم أبي البشر (عليه السلام) - وغيره من الأنبياء - بالخمسة الطيبة، بل لهم توسلات خاصة
بفاطمة الصديقة الطاهرة.
وسيأتي الحديث عن ذلك في باب «التوسل» علاوة على ما مر.
المورد الثاني والعشرون: ورد في حديث المناقب أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن الله

551
خلق الجنة من نور وجهه، ثم قسم ذلك النور أثلاثا ثلاثة: فثلث لي، وثلث
لفاطمة، وثلث لعلي وأهل بيته. فمن انتفع بذلك النور فقد هدي إلى ولاية أهل
البيت (عليهم السلام)، ومن لم ينتفع ضل وهوى...
وقد أثبت هذا الحديث شيئا أكثر من التساوي لفاطمة (عليها السلام)، حيث جعل
أمير المؤمنين (عليه السلام) وأولاده المعصومين في جزء، وفاطمة الزهراء لوحدها في جزء (1)
آخر.
المورد الثالث والعشرون: جمعت عشرة أحاديث في أن فاطمة الزهراء (عليها السلام)
والأنوار الأربعة تحضر ساعة الإحتضار عند جميع الموتى.
المورد الرابع والعشرون: روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتقلب - بعد وفاته - يمينا
وشمالا على المغتسل، وكانت له معاجز أخرى روتها كتب السير مفصلا، وكذا
روي في الصحيح المعتبر لأمير المؤمنين (عليه السلام) بعد وفاته، من قبيل حمل مقدم السرير
ووجود القبر المطهر جاهزا (2) وغيرها; وكذلك كانت لفاطمة الزهراء صلوات الله
عليها معاجز بعد وفاتها، كاحتضانها الحسنان وغيرها، وفي رواية ورقة بن
عبد الله (3) دليل على أنها كانت في مماتها كما كانت في حياتها، فهي وأبوها وحيدر
الكرار متساوون في هذا الشرف العظيم والفضل الجسيم.
المورد الخامس والعشرون: كان كل واحد من الأئمة الطاهرين - من
أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الإمام العسكري - يرى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل وفاته في المنام فيخبره



(1) يحتاج المقطع الأخير من الحديث إلى بيان وشرح مستقل. (من المتن)
(2) فرحة الغري للسيد عبد الكريم بن طاووس: 34 و 35.
(3) انظر بحار الأنوار 43 / 174 ح 15 باب 7.
552
بقدومه عليه (1)، حتى صار هذا الأمر من علائم الإمامة عند البعض، وكذا كانت
الصديقة الطاهرة، حيث رأت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبيل وفاتها وبشرها بقرب اللقاء.
وستأتي أخبار ذلك.
المورد السادس والعشرون: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين والأئمة
المعصومون يعلمون بشهادتهم وزمان وفاتهم ويخبرون بذلك، وكذا كانت فاطمة
الزهراء - كما في الخبر المعتبر - حيث أخبرت الأمير (عليه السلام) بوفاتها (2) وبدا عليها
السرور والإستبشار.
المورد السابع والعشرون: أنها ساوت بعلها وأمها خديجة في الإيمان
بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واتباعه، فسبقت (عليها السلام) نساء العالمين وسادتهن في كمال الإيمان.
المورد الثامن والعشرون: أن فاطمة الزهراء الجنة تدخل مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
والأمير والحسنين (عليهم السلام) سوية، وسيأتي الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن أول من يدخل
الجنة فاطمة (عليها السلام).
وروى ابن حجر في الصواعق المحرقة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «يا علي! أما
ترضى أن تكون رابع أربعة أول من يدخل الجنة، أنا وأنت والحسن والحسين
وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا وذرياتنا خلف أزواجنا» (3). وهو حديث صحيح
عند أهل السنة، ففاطمة (عليها السلام) وفق الرواية السابقة تساوي الأنوار الأربعة في
دخول الجنة.



(1) بصائر الدرجات 502 ح 7 و 9 باب 9.
(2) بحار الأنوار 43 / 207 - 209 ح 36 عن كتاب دلائل الإمامة للطبري.
(3) الصواعق المحرقة 160 و 161 باب 11 ف 1 (في الآيات الواردة فيهم).
553
المورد التاسع والعشرون: روى في البحار عن عمر بن الخطاب عن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «فاطمة وعلي والحسن والحسين في حظيرة القدس في قبة بيضاء
سقفها عرش الرحمن» (1) ففاطمة في حظيرة القدس مساوية لأمير المؤمنين
والحسنين (عليهم السلام).
المورد الثلاثون: لقد اشتق اسم السيد فاطمة الزهراء من الاسم المبارك
للحق جل وعلا، فالله فاطر السماوات والأرض وهي فاطمة، وأبوها محمد والله
المحمود، وبعلها العلي والله العالي، وابناها الحسن والحسين والله المحسن.
ففاطمة (عليها السلام) مساوية لهم من حيث الإشتقاق الإسمي، ولم تكن هذه الدرجة
العظمى من الشرف لأحد من الأنبياء والأولياء إلا ما كان لهؤلاء الخمسة (عليهم السلام).
المورد الحادي والثلاثون: يحشر يوم القيامة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام)
والنبي صالح (عليه السلام) ركبانا ورابعهم الصديقة الكبرى (عليها السلام) (2)، وفي حديث آخر:
الركبان يوم القيامة أربعة: رسول الله وأمير المؤمنين (عليهما السلام) وصالح وحمزة (عليهما السلام) (3).
وسنذكر الحديث مفصلا في الكلام عن مواقف القيامة.
المورد الثاني والثلاثون: إن منزل فاطمة الزهراء (عليها السلام) في جنات عدن مساو
لمنازل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي والحسن والحسين (عليهم السلام)، ومقامها في أعالي الجنان مساو
لمقامهم.
المورد الثالث والثلاثون: ساوت فاطمة (عليها السلام) رسول الله وأمير المؤمنين



(1) مناقب الخوارزمي 303 ح 298.
(2) بحار الأنوار 43 / 19 ح 1 باب 3.
(3) مناقب الخوارزمي 295 ح 286.
554
وأبنائها المعصومين (عليهم السلام) في نيل درجة الشهادة وثوابها، حيث مات رسول الله
شهيدا مسموما، كما في الأخبار الصحيحة، وكذا فارقت فاطمة (عليها السلام) الدنيا شهيدة.
وستأتي الإشارة إلى أحاديثها إن شاء الله.
المورد الرابع والثلاثون: ساوت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والولي والسبطين في الحضور
تحت الكساء، فشاركت الأنوار الأربعة في هذه السعادة الباهرة الزاهرة، ودخلت
في عداد الزبدة المجتباة من رجال عالم المعمورة.
المورد الخامس والثلاثون: لقد ساوى العلي الأعلى - عز وجل - بين فاطمة
الزهراء (عليها السلام) وأمير المؤمنين (عليه السلام) ووعدهما بالثواب معا في قوله تعالى: (إن الله لا
يضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى) (1).
وكذلك ساوى بينهما في قوله تعالى: (هو الذي خلق من الماء بشرا فجعله
نسبا وصهرا) (2) فقدم فاطمة (عليها السلام) لأنها النسب وهي أقرب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن
ثم ذكر الصهر وهو أمير المؤمنين (عليه السلام).
المورد السادس والثلاثون: إنها شارت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كل مائدة من الموائد
أو موهبة من المواهب التي نزل بها جبرئيل على النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى في
حديث القدح وغيره، وليس ثمة مكرمة أو مرحمة إلهية فاضت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا
وكانت تلك المخدرة العظمى هي الركن الأعظم المميز فيها.
المورد السابع والثلاثون: روى في إرشاد القلوب والبحار: إن ثواب تسبيح
الملائكة وتقديسهم إلى يوم القيامة يكتب لمحبي فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها. يعني



(1) آل عمران: 195.
(2) الفرقان: 54.
555
أن فاطمة تساوي الرسول الأكرم وبعلها المكرم وأبنائها الطاهرين في هذا الفضل
العظيم، فكل ما يكتب لمحبيهم يكتب لمحبيها.
المورد الثامن والثلاثون: ورد في الحديث أن «خير أهل الأرض محمد وعلي
وفاطمة والحسن والحسين» (1) ففاطمة مساوية للأنوار الأربعة من حيث أنها
«خير أهل الأرض».
المورد التاسع والثلاثون: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا لفاطمة (عليها السلام) في كل موطن
وموضع دعا فيه لأمير المؤمنين (عليه السلام)، أو أنه دعا لهما معا في موضع واحد كما في قوله
«ألف بينهما واجمع شملهما واجعلهما وذريتهما ورثة جنة النعيم» (2).
ولما نزل جبرئيل بالتفاحة والسفرجلة من الجنة، قسمها بينهما بالمناصفة
وقال للأمير: أطع فاطمة، ثم قال لفاطمة: أطيعي عليا.
ولما جاؤوا بقدح اللبن قال لفاطمة: «إشربي فداك أبوك» ثم قال للأمير:
«اشرب فداك ابن عمك» (3).
وفي حديث النكاح أن الملك المقرب قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «زوج النور
بالنور» (4) كما في كتب الفريقين.
وكل هذه الأخبار تدل على مساواتها (عليها السلام) مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض
المراتب.
المورد الأربعون: ساوت فاطمة الزهراء (عليها السلام) رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسيف الله



(1) بحار الأنوار 43 / 19 ح 5 باب 3.
(2) بحار الأنوار 43 / 116 ح 24 باب 5.
(3) بحار الأنوار 43 / 116 ح 24 باب 5.
(4) بحار الأنوار 43 / 109 ح 22 باب 5.
556
المسلول في الحنوط الذي نزل به جبرئيل من الجنة (1).
المورد الحادي والأربعون: كان للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) مكاشفات
عند الإحتضار، من قبيل رفع الحجب ورؤية مواكب الملائكة ونزول جبرئيل
وميكائيل، وكذا كانت فاطمة (عليها السلام)، وسيأتي حديث مصباح الأنوار ورواية عبد الله
بن الحسن.
المورد الثاني والأربعون: لقد دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين
وسيد الشهداء (عليهما السلام) ليلا (2)، وكذا دفنت السيدة فاطمة الزهراء ليلا (3). وفي ذلك
أسرار وحكم.
المورد الثالث والأربعون: يقول الحق تعالى يوم القيامة في حديث طويل:
«جعلت الكرم لمحمد وعلي والحسن والحسين وفاطمة» فهي مساوية للأنوار
الأربعة من جهة الكرامة.
المورد الرابع والأربعون: ساوت فاطمة الزهراء (عليها السلام) نبي الرحمة وسلطان
الولاية وآله الطاهرين في حديث «من فرح لفرحنا وحزن لحزننا» (4) لعموم
الحديث.
المورد الخامس والأربعون: أن الصلوات الخمسة تتعلق - بناء على الخبر
المشهور - بالخمسة الطاهرة، فصلاة الظهر باسم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والعصر باسم
أمير المؤمنين (عليه السلام)، والعشاء باسم الإمام الحسن (عليه السلام)، وفريضة الصبح باسم الإمام



(1) بحار الأنوار 42 / 291 ح 58 باب 127.
(2) انظر بحار الأنوار 42 / 220 ح 26 باب 127.
(3) بحار الأنوار 43 / 183 ح 16 باب 7.
(4) بحار الأنوار 10 / 114 ح 1 باب 7.
557
الحسين (عليه السلام)، والمغرب باسم فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وهي برزخ بين الأربع ركعات
والركعتين، ومساواتها للأربعة في هذا الشرف العظيم بديهي وواضح.
المورد السادس والأربعون: أن ثواب زيارة السيدة فاطمة (عليها السلام) يساوي
ثواب زيارة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وثواب زيارة الأمير (عليه السلام) يساوي ثواب زيارة
فاطمة (عليها السلام); فزيارة فاطمة الطاهرة تساوي زيارة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
المورد السابع والأربعون: لقد تكلمت فاطمة الزهراء وهي في بطن أمها
وبعد ولادتها مباشرة، كما تكلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين (عليه السلام) وبعض الأئمة
وهم في أرحام أمهاتهم وبعد الولادة مباشرة. فهم متساوون من هذه الجهة.
المورد الثامن والأربعون: أن فاطمة الزهراء (عليها السلام) وأمير المؤمنين متساويان
من حيث فخامة النسب، فأمير المؤمنين ابن أبي طالب، وأبو طالب ابن
عبد المطلب، وفاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ورسول الله بن عبد الله، وعبد الله بن
عبد المطلب، غير أن نسب فاطمة أعلى من جهت الإتصال بالرسالة.
المورد التاسع والأربعون: تساويها (عليها السلام) مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين
والأئمة المعصومين (عليهم السلام) في الشفاعة، بل لها زيادة.
المورد الخمسون: تساويها (عليها السلام) مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في رأفتها بهذه الأمة،
وتساويها مع أمير المؤمنين (عليه السلام) وسائر أبنائها الميامين (عليهم السلام) في رأفتهم بشيعتهم.
كان هذا مختصرا فيما ساوت به فاطمة الطاهرة خاتم النبيين وسلطان الولاية
أمير المؤمنين في بعض حالاتهم وصفاتهم.
والغرض من ذكر ذلك; أن نقول: لا يمكن إخراج الزهراء (عليها السلام) من كنف
النبوة وحمى الولاية; فرجال الأسرة ونساؤها وصغارها وكبارها - وهم

558
الأطهرون من عباد الله - لا يقاسون بأحد، إلا أن يقاس بعضهم ببعض لاتحاد
أصولهم العظيمة وأرومتهم الكريمة، وهل يقاس الأصل بما سواه؟! كيف والأوهام
والأفهام قاصرة بل عاجزة عن إدراك مقامهم، سيما مريم الكبرى فاطمة
الزهراء (عليها السلام) التي يدخل رجال العالمين تحت لواء محبتها وولايتها يوم القيامة،
فتنجي من حظي بشئ من محبتها وهدي إلى ولايتها، فتفيض عليهم الفيض
الكامل والفضل العاجل، فهي ملكة عالم القيامة، والحاكمة في محكمة العدل.
اللهم بحقها وبحق مقاماتها وبينات آياتها، وبحق ذاتها وصفاتها أن لا تردنا
عن بابها وأعتابها خائبين، ولا عن حضرتها وساحتها آيسين ولا محرومين يا
أرحم الراحمين.

559
الخصيصة الثانية عشر من الخصائص الخمسين
في أن فاطمة (عليها السلام) أفضل من الحسنين (عليهما السلام)،
والاختلاف في ذلك
بعد أو أوضحنا تساوي فاطمة الطاهرة مع الأنبياء العظام وسيد الأنام
وأمير المؤمنين والحسنين عليهم الصلاة والسلام، فالأفضل أن ننقح مسألة أخرى
وهي:
هل أن فاطمة الزهراء أفضل من الحسنين، أو مساوية لهما، أو أنهما والأئمة
المعصومين أفضل منها؟!
ذهب إلى القول الأخير جماعة من المتأخرين وقليل من المحدثين
المعاصرين، فيهم الميرزا القمي صاحب القوانين في جوابه على سؤال سئل به
ضمن عدة مسائل; والسؤال هو: لقد اختلف العوام فيما بينهم، فمنهم من قال أن
فاطمة أفضل من الحسنين، ومنهم من قال أن الحسنين أفضل من فاطمة، فما هو
قولكم في المسألة؟
الجواب: إن ظواهر الآيات والأخبار والقواعد العامة لدى الإمامية تفيد أن
الحسنين أفضل، وذلك لأنهما يشاركانها في العصمة ويفضلانها بالإمامة، فهما
إمامان لهما الرئاسة العامة على كافة الخلائق; والإمامة - وحدها - كافية للقول

560
بأفضليتهما، إضافة إلى أنهما كانا أطول عمرا، وبالتالي أكثر عملا وعبادة بسبب
طول العمر، وطول العمر يلزم تحمل الشدائد والمحن والإبتلاءات أكثر، سيما ثاني
سيدي شباب أهل الجنة. وقصر عمر البضعة الأحمدية يعني قصر مدة العبادة
والمعاناة!! والأفضلية تتبع كثرة العمل وصعوبته!!! والمقام لا يقتضي أكثر من هذا
البيان والوقت لا يسع (1).
وصرح المحدث الأوحد الشيخ أحمد الإحسائي في عدة مواضع من شرح
الزيارة الجامعة بأفضلية الحسنين والأئمة المعصومين (عليهم السلام). وكذا قال شارح خطبة
الزهراء (عليها السلام).
وعبارة الشيخ الإحسائي في ذيل قوله (عليه السلام): «حيث لا يلحقه لاحق، ولا
يفوقه فائق، ولا يسبقه سابق، ولا يطمع في إداركه طامع» قريبة من بيان المرحوم
المجلسي الأول حيث قال: من كان دون الأئمة لا يلحقهم بحال، ومن كان أفضل فهو
أفضل من غيرهم وليس أفضل منهم، والنبي وأمير المؤمنين صلوات الله عليهما
أفضل منهم لأنهما مستثنيان بالأخبار، فلا يسبقهم سابق، ولا يطمع في إدراكهم
طامع، لأنه يعلم أنهم مخصوصون بمواهب إلهية خاصة لا تنال بالسعي والاجتهاد.
ثم تعرض إلى كلام المجلسي فقال: قوله (رحمه الله) «والنبي وأمير المؤمنين مستثنيان
بالأخبار، غير جيد»; لأنهم (عليهم السلام) لهم حالتان:
الحالة الأولى: من حيث احتياج الخلق إليهم، فالمعصومون الأربعة عشر في
ذلك سواء، ولا تفاضل بينهم.
الحالة الثانية: من حيث لحاظ كل واحد منهم على انفراد، فهو موجب



(1) جامع الشتات: 2 / 785 الطبعة القديمة.
561
للتفاضل، ولا يستثنى منهم أحد، ولا اختصاص فيه للنبي والولي، فمقاماتهم
متفاوتة، والنبي سابق، ومن ثم أمير المؤمنين، ومن ثم الحسنان واحدا بعد
واحد، ومن ثم تسعة من الأئمة الطاهرين تاسعهم قائمهم، ثم الصديقة الطاهرة
صلوات الله عليها.
كان هذا تقرير المرحوم المجلسي والشيخ طاب ثراهما.
وقد تبين أن الشيخ قائل بالتفصيل; فهم متحدون بلحاظ، وكلهم في درجة
واحدة، ومتفاوتون بلحاظ آخر، ولكن تأخير رتبة فاطمة العالية عن الأئمة
الأبرار يحتاج إلى دليل. نعم لا كلام في أفضلية الخمسة الطاهرة، أما تفضيل
الحسنين على الزهراء (عليها السلام) فظاهر من كلام الميرزا.
وقال السيد عبد الله شبر في شرحه على المفاتيح على حاشية شرح السيد
نعمة الله الجزائري على تهذيب شيخ الطائفة عليه الرحمة، في باب تفضيل بعض
الأئمة على بعض:
لم لم يتعرض لأفضلية فاطمة (عليها السلام) على الحسنين أو تساويها أو تفضيلهما
عليها؟ لعله لم يطلع على النص الصريح الوارد في الباب، وقد أخرجه المجلسي في
البحار في تفضيل فاطمة على أبنائها، وهو حديث صريح لا يقبل التأويل: سأل
سلمان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: من أفضل خلق الله؟ فأشار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الحسنين
وقال: جد هذين.
قال سلمان: فمن بعد جدهما؟
قال: أبو هذين.
قال سلمان: فمن بعد أبيهما؟

562
قال: أم هذين.
قال سلمان: فمن بعد أمهما؟
قال: هذان.
وفي إكمال الدين في نص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على القائم (عليه السلام) في حديث طويل «قالت
[أي فاطمة (عليها السلام)]: وأي هؤلاء الذين سميتهم أفضل؟ قال: علي بعدي أفضل
أمتي، وحمزة وجعفر أفضل أهل بيتي بعد علي وبعدك وبعد ابني وسبطي حسين
وحسين وبعد الأوصياء من ولد ابني هذا - وأشار إلى الحسين - منهم المهدي» (1).
ورأيت في عوالم العلوم: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «خير هذه الأمة من بعدي علي
بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين، من قال غير هذا فعليه لعنة الله» (2).
والذي استفدته من سياق الأخبار سيما الخبرين الأخيرين - بدلالتهما
الصريحة - أفضلية فاطمة على الحسنين، وبطريق أولى تكون أفضل من الأئمة
الآخرين، ويمكن إثبات ذلك بعدة وجوه:
أولا: قالت الفرقة الإمامية الناجية بتفضيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على جميع خيار
خلق الله من الأنبياء والملائكة كافة، وجعلت هذا القول في صميم عقيدتها وجزء
من مذهبها، ويتلوه أمير المؤمنين (عليه السلام)، فهو أفضل حتى من أولي العزم، وخالفهم في
ذلك المخالفون وشرذمة من الإمامية كما حكى ذلك السيد المرتضى. والصحيح
الذي وردت فيه أحاديث متواترة وأخبار متكاثرة في الكتب المعتبرة ما ذكرناه من
أفضلية أمير المؤمنين (عليه السلام).



(1) إكمال الدين 251 ح 10 باب 54.
(2) البحار 27 / 228 ح 31 باب 10.
563
وفي البحار: «إن أفضل الأئمة أمير المؤمنين، وإن أفضل الأئمة بعد
أمير المؤمنين الحسن والحسين، وأفضل الباقين بعد الحسين (عليه السلام) إمام الزمان
المهدي (عليه السلام) ثم بقية الأئمة من بعده على ما جاء به الأثر وثبت به النظر» (1).
وحديث محمد بن سنان عن المفضل الجعفي، عن الثمالي، عن الباقر (عليه السلام) يفيد
تساويهم في الفضل «عند الله» (2).
والأخبار كثيرة في تفضيل الحجة (عج) «تاسعهم أفضلهم» (3) وتساوي
الآخرين في المنزلة منها قوله (عليه السلام): «علم آخرهم عند أولهم، ولا يكون آخرهم
أعلم من أولهم» (4).
وبعد ثبوت أفضلية سلطان الولاية، وورود الأخبار الصريحة الناصة على
أفضلية فاطمة (عليها السلام) على الحسنين، فإن تأخيرها وتنزيل مرتبتها ومقامها خارج
عن الصواب والسداد، وكيف يقدم عليها من لا يرضى بالتقدم والتفضيل عليها؟!



(1) البحار 25 / 362 ذيل ح 21 باب 12.
(2) ففي البحار 25 / 356 ح 4 باب 12 عن إكمال الدين... عن محمد بن سنان عن المفضل عن الثمالي عن أبي
جعفر عن أبيه عن جده الحسين صلوات الله عليهم قال: دخلت أنا وأخي على جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
فأجلسني على فخذه وأجلس أخي الحسن على فخذه الآخر، ثم قبلنا وقال: بأبي أنتما من إمامين سبطين
اختاركما الله مني ومن أبيكما ومن أمكما، واختار من صلبك يا حسين تسعة أئمة، تاسعهم قائمهم، وكلهم
في الفضل والمنزلة سواء عند الله تعالى.
(3) في البحار 25 / 363 ح 22 باب 12: روى الشيخ حسن بن سليمان في كتاب المحتضر.. عن الصادق (عليه السلام)
عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الله تعالى اختار من الأيام يوم الجمعة، ومن الشهور شهر
رمضان، ومن الليالي ليلة القدر، واختار من الناس الأنبياء والرسل، واختارني من الرسل، واختار مني
عليا، واختار من علي الحسن والحسين، واختار من الحسين الأوصياء يمنعون عن التنزيل تحريف الغالين
وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، تاسعهم باطنهم ظاهرهم قائمهم، وهو أفضلهم.
(4) البحار 25 / 359 ح 13 باب 12.
564
وهذا هو ما ذهب إليه السيد عبد الله شبر، ولكن شارح التهذيب لم ير هذا الحديث
«وعدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود، ولعمري إنهم ما أحاطوا بصفاتها، وما
اهتدوا بحقيقة معرفتها وذاتها، وما ذلك إلا من قصور عقولهم وفتور أصولهم».
وقال علي بن عيسى الأربلي في كشف الغمة: «ولولا أن فاطمة سرا إلهيا
ومعنى لاهوتيا، لكان لها أسوة بسائر أولادها (عليهم السلام)، ولقاربوا منزلتها، ولكن الله
يصطفي من يشاء» (1).
وروى في المناقب أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «... وإن عليا ختني (2)، ولو وجدت
خيرا من علي لم أزوجها منه» (3).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) مفتخرا:
ولي الفضل على الناس بفاطم وبنيها * ثم فخري برسول الله إذ زوجنيها (4)
ثانيا: إن المرحوم الميرزا القمي تمسك بظواهر الآيات والقواعد الكلية
والأخبار المروية والرئاسة العامة وطول العمر وكثرة العمل والعبادة والعصمة
المشتركة، وجعل هذه الأمور دليلا على التفضيل.
أما ظواهر الآيات القرآنية - التي أعرفها - فلا دلالة فيها على التفضيل، ولا
أدري أي آية كريمة تدل بظاهرها على أفضلية الحسنين (عليهما السلام) على فاطمة، وليته
ذكر الآيات الظاهرة الدالات لإسكات العوام؟



(1) كشف الغمة 2 / 88 في فضائل فاطمة (عليها السلام).
(2) الختن: زوج الإبنة.
(3) البحار 25 / 360 ح 18 باب 12 عن المناقب.
(4) البحار 39 / 349 ح 22 باب 90.
565
نعم ظاهر الآية الكريمة (1) يدل على تفضيل الرجال على النساء، وقد مر
الكلام في ذلك، وقوله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)
يفيد إطاعة أولي الأمر، وهم الأئمة واحدا بعد واحد، والمطاع أفضل من المطيع،
والمتبوع أفضل من التابع، فأمير المؤمنين أفضل من فاطمة (عليها السلام) بلا كلام، لكن
الآية غير ظاهرة في أفضلية الحسنين (عليهما السلام)، ونظائر هذه الآية كثير.
وأما الأخبار: فما ذكره خلاف المشهور.
وأما القاعدة الكلية في تفضيل الرجل على المرأة فصحيحة، ولكن لا على
وجه الإطلاق; لأنها بعيدة عن القانون الكلي الإلهي، فكم من رجل أدون درجة
من آلاف النساء؟! وكم من مرأة أقرب إلى الله - جل شأنه - لطهارة ذاتها وامتياز
حالاتها وصفاتها؟! ولعل المراد من القواعد الكلية مطالبا أخرى لا ألتفت إليها في
هذه العجالة.
أما العمل والرئاسة العامة والإمامة فهو مطلب عظيم وطريق وعر، ففي
صورة انحصار الإمام في شخص وتفويض الرئاسة الإلهية للوجود المبارك
بالإنفراد دون الاشتراك، فيكون الإمام الناطق هو الحجة الإلهية الظاهرة الباهرة
على الخلق، وهو الغوث والقطب الذي تدور عليه رحى الإمكان، فإذا رحل عن
الدنيا حل محله حجة أخرى ونصب إمام آخر، وإذا اجتمع إمامان فلا بد أن يكون
أحدهما صامتا لا يتصرف في العالم بدون إذن الإمام الناطق.
أما فاطمة الزهراء والحسنان فإنهم عاشوا بعد النبي خمسة وسبعين يوما



(1) يعني قوله تعالى (الرجال قوامون على النساء) [النساء: 59] وقوله تعالى: (للرجال عليهن
درجة) [البقرة: 228].
566
كانت الإمامة فيها لأمير المؤمنين (عليه السلام) (1). وكان هؤلاء الثلاثة هم أقرب المقربين
وأكمل المكملين من رعايا أمير المؤمنين، كانوا مأمورين بطاعته وامتثال أمره،
فكيف يكون الحسنان أفضل من أمهما في هذه الفترة التي كان فيها أمير المؤمنين (عليه السلام)
جليس داره والحسنان صغيران؟! والأفضل أن نتكلم عن هذه الفترة بالخصوص
ونترك الكلام عن فترة إمامتهما (عليهما السلام)، لأننا لا ندري ما هو التكليف الإلهي لو كانت
فاطمة في عهد إمامة الحسنين (عليهما السلام)؟! أما في الفترة المذكورة، فهل من قائل
بأفضليتهما عليها؟! وكيف يمكن أن يتحدث أحد عن الحال فيجاب بالمستقبل
والمآل (2)؟!
وظاهر الحديث الإشارة إلى زمان ترتب إنشاء وجودهم منذ اليوم الأول
بلحاظ الإخبار عن الحال والاستقبال، يعني أن فاطمة تلي أمير المؤمنين في
الفضل، وهي أفضل من الحسنين، ويليها الحسن ثم الحسين (عليهما السلام).
وقد روى الفريقان حديث التمسك بالقمر بعد الشمس، وبالزهرة بعد القمر
وبالفرقدين بعد الزهرة، وهو صريح في تفضيل العصمة الكبرى فاطمة



(1) بالرغم من غلبة الدولة الباطلة الضالة، لأن أمير المؤمنين (عليه السلام) عزل عن الحكومة الظاهرية ولم يعزل
عن منصبه الإلهي والأمر السماوي، فهو الإمام والحجة على الأنام إن قام أو قعد. (من المتن)
(2) والمذهب الحق في صورة انحصار الحجة: أن الواجب على عموم الرعية من العالي والداني والفاضل
والمفضول طاعته وامتثال أمره، ويكون الحجة غيره صامتا. (من المتن)
أقول: إن كلام المؤلف في الفترة التي كان فيها أمير المؤمنين (عليه السلام) حجة ناطقا، وكان الحسنان وفاطمة
الزهراء (عليهم السلام) بهذا اللحاظ سواء، حيث يجب عليهم جميعا إطاعة إمام واحد وهو أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلا
يصح أن نتحدث عن هذه الفترة ثم يحتج علينا بافتراض ما لو كان الحسنان إمامين مفترضي الطاعة
وحجتين ناطقين. (المعرب)
567
الزهراء (عليها السلام). وقد عاشت (عليها السلام) في زمن فقد فيه الناس الشمس ووجدوا القمر (1) ولو
أنها عاشت بعد أمير المؤمنين لكان لها فضيلة ومزية خاصة، ولكنها لا تكون نبيا
ولا إماما.
إذن ففي تلك الفترة المشتركة كانت فاطمة (عليها السلام) أكبر سنا من الحسنين، وهذا
يعني أنها عمرت أكثر منهما وكانت عبادتها أكثر، وكان جهادها ونصرها - حسب
معرفتها - لأمير المؤمنين خارج عن حد الوصف والحصر، أضف إلى ذلك كل ما
تحملته مخدرة الزمان وسيدة النسوان - في تلك الفترة القليلة - من النوائب
العظيمة والمصائب الفادحة، وما تجرعته من مرارة الشدائد والمحن الدنيوية وما «لو
أنها صبت على الأيام صرن لياليا».
وبعبارة أخرى: إن هؤلاء الأربعة كانوا حججا إلهية بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان
على الثلاثة اتباع الحجة الأعظم أمير المؤمنين في أوامره ونواهيه، وكانت
فاطمة (عليها السلام) مطيعة مخلصة في الطاعة، ولكن هذا لا يعني أنها لم تكن حجة، فإن كل
واحد منهم كان - في نفسه - حجة إلهية كبرى بلحاظ العصمة، وقد أمر رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين بإطاعة فاطمة، فقال: يا علي! أطع فاطمة (عليها السلام)، وأمر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس مقصورا على زمان حياته، وإنما أمره بذلك في حياته وبعد
وفاته. وإنما أمره بطاعتها باعتبار أنها معصومة، ومن كان معصوما كان وجوده
المبارك حجة، والمعصوم لا يؤمر بإطاعة غير المعصوم، سيما إذا كان المأمور
معصوما والمطاع امرأة!! هذا; وقد وردت أخبار كثيرة - لا تسعها هذه الخصيصة -
في تفضيل فاطمة الطاهرة، وأن مقامها بعد مقام النبوة ومقام الإمامة وفوق مقام



(1) المراد بالشمسين والقمرين: الوجود المبارك والذات المقدسة للنبي والولي. (من المتن)
568
سائر الأئمة (عليهم السلام)، ولكن أكثرها على سبيل التلويح لا التصريح، فهي ليست صريحة
كالحديثين المذكورين.
ومنها: ما رواه الصدوق عليه الرحمة في إكمال الدين عن الباقر (عليه السلام) عن أبيه
علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي (عليهم السلام) قال: «دخلت أنا وأخي على جدي
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأجلسني على فخده، وأجلس أخي الحسن على فخذه
الأخرى، ثم قبلنا وقال: بأبي أنتما من إمامين صالحين اختاركما الله مني ومن أبيكما
وأمكما، واختار من صلبك يا حسين تسعة أئمة، تاسعهم قائمهم، وكلكم في الفضل
والمنزلة عند الله تعالى سواء» (1).
والكلام في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «اختاركما الله مني ومن أبيكما وأمكما»; والاختيار -
كما في الأخبار المعتبرة - يعني أن نوركما من نوري ونور علي وفاطمة (عليهم السلام)، وهذا
الإختيار دليل على سبق نور فاطمة منذ اليوم الأول على نور الحسنين، والسبق
دليل الأفضلية.
وفي رواية الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) المارة الذكر أن نور الإمام الحسن
والإمام الحسين (عليهما السلام) خلقا من نور فاطمة.
فنورها السعيد مقدم في أول الإيجاد، فكيف يؤخر في ما بعد ويخرج من هذه
المنزلة الحقة، أو يزحزح عن موضعه في السلسلة.
ففاطمة الزهراء (عليها السلام) - إذن - ثابتة في منزلتها وحالتها الأولى، مستقرة في
مرتبتها حسب ترتيب الإيجاد الأول، وليست في مقامها دون مقامات الأئمة
المعصومين، بل تبقى كما كانت، وقد تحقق وانجلى واتضح لكل ذي عينين عصمتها



(1) إكمال الدين 255 ح 12 باب 24 نص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على القائم (عج).
569
الموهوبة، وعلومها المبذولة، وطهارتها الذاتية، وسيادتها على رجال العالم ونساء
العالمين، وقد روي بطرق معتبرة توسل الأنبياء العظام والملائكة الكرام بذيل
عناياتها، وإن لم تدخل دائرة الإمامة والرئاسة العامة، وكلف بها أبناؤها بلحاظ
الذكورة، إلا أنها كانت أما للأئمة العظام ووعاء للمعصومين الكرام، وقد أدركت
الصحبة، ولازمت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة ومكة، ونشأت في ظله، وعاشت في حماه
وسمعت الوحي، وفي ذلك كله من الفضل والشرف ما اختصت به دون الآخرين.
فضلا عن ارتوائها من حقيقة الولاية، وما حازته جراء صبرها على المحن
والصعاب في وقوفها إلى جانب أبيها وبعلها.
«وإني أقول: إن كل شجرة ومدرة على وجه الأرض بذكر مناقبها ناطقة.
وأيم الله; إنها الطاهرة المطهرة، والصديقة الصادقة، وإنها أجل من أن تحيط بها
الأفكار، وتصل إليها الأنظار، وقد ملئت من مفاخرها المشهورة صحائف
الإمكان، وزينت من مآثرها المشكورة أوراق كتب الإيجاد، من الكمالات
النفسانية والملكات العقلانية. وإن فضائلها المروية يرويها الجميع كابرا عن كابر،
وفواضلها الرحمانية يهديها الأول إلى الآخر; فلها العز الأعلى عند أهل الآخرة
والأولى، لعلم الله تعالى من شرف محلها وعلو قدرها قضى ما قضى، وقدر ما قدر،
مما لا تناله العقول والفكر، ولها كرائم ليست لأحد من النسوة، وشرائف قد
اكتنفتها قبل الفطرة، فحازت قصبات السبق، واستولت على عرائش الفضل،
فاختارها الله تعالى من الأنبياء والمرسلين، وجعلها ولية الله وآيته الكبرى على
العالمين، فعجز الخائضون في كنه معرفتها، وأبعد الناس كلهم عن أقطارها وإدراك
مقدارها، وإنها نور على نور من ربها، وزاد على طيب فرعها طيب أصلها».

570
الخصيصة الثالثة عشر من الخصائص الخمسين
في حالات مريم بنت عمران
إعلم أن من البديهي الذي لا يحتاج إلى برهان، أن صفوة النسوان من نوع
بني الإنسان إنما هما مريم ابنة عمران وفاطمة الزهراء (عليهما السلام) بنت نبي آخر الزمان.
وإن مريم هي أول من دعيت بالبتول والعذراء، فطابق اسمها المسمى،
فاشتغلت بالعبادة وخدمة بيت المقدس، فذاع صيتها، وطبق الخافقين خبر
حسنها وجمالها، فاستغنى المحراب عن السراج بنور وجهها، وحدثتها الملائكة
تحديثا، وهي زوجة رسول الله في الآخرة، وقد اصطفاها الله وخاطبها، وفي
النصارى (1) من جعلها أحد الأقانيم الثلاثة - يعني الأب (الله)، والإبن (عيسى)،
وروح القدس (مريم) - فجعلها جزءا من علة العلل، والسبب الأول الذي وجدت
به الموجودات، فردهم الله جل وعلا في قوله تعالى (والذين قالوا إن الله ثالث
ثلاثة) (2).
وكانت مريم محترمة غاية الإحترام عند قومها لأنها كانت بنت إمامهم
وصاحب فرقانهم، وأحد رؤساء بني إسرائيل في قدس الخليل ومن أبناء ملوكهم



(1) وهم طائفتي النسطورية والملكانية. (من المتن)
(2) المائدة: 73.
571
من بني ماثان، لذا فقد اهتموا بها، وتخاصموا في كفالتها، وتنازعوا في أمرها
(أيهم يكفل مريم) (1).
وكانت مريم ذات ملكات كريمة ميزتها عن الآخرين، وكان أعظم تلك
الملكات وأقومها: العصمة والعفة والاصطفاء والعفاف، ولم يكن ثمة امرأة معصومة
قبل مريم، وكأن اصطفاءها وعصمتها كان دليلا وبرهانا مقدما على عصمة
العصمة الكبرى فاطمة الزهراء (عليها السلام)، كما أن بقاء النبي الخضر (عليه السلام) كان آية عظمى
على إثبات وجود آية الله العظمى المهدي أرواحنا له الفداء.
وإنا وإن كنا قد تحدثنا في ما مضى عن هذا الموضوع - أثناء الحديث عن
معنى «مريم الكبرى» ضمن ألقاب السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) - إلا أننا سنتحدث
هنا أيضا بمقتضى المقام عما ورد في الكتاب والسنة، وسنسلك طريق الإيجاز
والإجمال لئلا يحصل الملل.
والأفضل أن نبدأ الكلام بقوله تعالى في سورة آل عمران: (إن الله
اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين * يا مريم اقنتي لربك واسجدي
واركعي مع الراكعين) (2).
ففي علل الشرائع عن الصادق (عليه السلام) قال: «سميت فاطمة محدثة لأن الملائكة
كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران، فتقول يا فاطمة (إن
الله اصطفاك... إلى آخر الآية) فتحدثهم ويحدثونها، فقالت لهم ذات ليلة: أليست
المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران؟ فقالوا: إن مريم كانت سيدة



(1) آل عمران: 44.
(2) آل عمران: 42 - 43.
572
عالمها، وإن الله جعلك سيدة عالمك وعالمها وسيدة نساء الأولين والآخرين» (1).
وقد مر الكلام عن هذا الحديث في معنى «المحدثة»، ولكننا ذكرناه هنا تبركا
وتيمنا، وسنقصر الكلام هنا على تكرار كلمة «اصطفاك» ومعنى «التطهير».
فنقول بعون الله وعصمته:
ذكر المفسرون في سبب تكرار الاصطفاء كلاما مفصلا نذكره على نحو
الإجمال:
ففي تفسير الصافي: «... الاصطفاء الأول: تقبلها من أمها، ويشهد له قوله
تعالى: (فتقبلها ربها بقبول) (2) ولم تقبل قبلها أنثى وتفرغ للعبادة وتغني برزق
الجنة عن الكسب، وتطهر عما يستقذر من النساء. والثاني: هدايتها وإرسال
الملائكة إليها وتخصيصها بالكرامات السنية، كالولد من غير أب، وتبرأتها عما
قذفته اليهود بإنطاق الطفل، وجعلها وابنها آية للعالمين (3).
وفي المجمع عن الباقر (عليه السلام) معنى الآية: «اصطفاك من ذرية الأنبياء، وطهرك
من السفاح، واصطفاك لولادة عيسى من غير فحل» (4).
وذكر الفخر الرازي - خطيب الري - في التفسير الكبير في ذيل الآية من
سورة آل عمران وجوها في سبب تكرار الاصطفاء قال: «... ولا يجوز أن يكون
الاصطفاء أولا من الاصطفاء الثاني، كما أن التصريح بالتكرار غير لائق...» وقال:
«أما النوع الأول من الاصطفاء فهو أمور:



(1) بحار الأنوار 14 / 206 ح 23 باب 16.
(2) آل عمران: 37.
(3) تفسير الصافي 1 / 335.
(4) بحار الأنوار 14 / 193 ح 2 باب 16.
573
أحدها: أنه تعالى قبل تحريرها مع أنها كانت أنثى، ولم يحصل مثل هذا المعنى
لغيرها من الإناث.
وثانيها: قال الحسن: إن أمها لما وضعتها ما غذتها طرفة عين، بل ألقتها إلى
زكريا، وكان رزقها يأتيها من الجنة.
وثالثها: إنه تعالى فرغها لعبادته، وخصها في هذا المعنى بأنواع اللطف
والهداية والعصمة.
ورابعها: إنه كفاها أمر معيشتها، فكان يأتيها رزقها من عند الله تعالى على
ما قال الله تعالى (أنى لك هذا قالت هو من عند الله) (1).
وخامسها: إنه تعالى أسمعها كلام الملائكة شفاها، ولم يتفق ذلك لأنثى
غيرها.
فهذا هو المراد من الاصطفاء الأول.
وأما التطهير ففيه وجوه:
أحدها: إنه تعالى طهرها عن الكفر والمعصية، فهو كقوله تعالى في أزواج
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (ويطهركم تطهيرا) (2). «ولا يعتمد على كلام الفخر هذا (3) لأن بطلانه
بديهي واضح».
وثانيها: إنه تعالى طهرها عن مسيس الرجال.



(1) آل عمران: 37.
(2) تظافرت أقوال علماء العامة والخاصة على أن الآية نزلت في الخمسة أصحاب الكساء وليس في أزواج
النبي، ولم يدع هذا القول أحد إلا عكرمة الناصبي المبغض لأمير المؤمنين. وقد ألف بعض علماء الشيعة في
حديث الكساء وطرق روايته نقلا عن علماء العامة والخاصة.
(3) أي قوله بنزول آية التطهير في أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
574
وثالثها: طهرها عن الحيض. قالوا: كانت مريم لا تحيض.
ورابعها: وطهرها من الأفعال الذميمة والعادات القبيحة.
وخامسها: وطهرها عن مقالة اليهود وتهمتهم وكذبهم.
وأما الاصطفاء الثاني: فالمراد إنه تعالى وهب لها عيسى (عليه السلام) من غير أب،
وأنطق عيسى حال انفصاله منها، حتى شهد بما يدل على براءتها عن التهمة،
وجعلها وابنها آية للعالمين، فهذا هو المراد من هذه الألفاظ الثلاثة» (1).
ثم ذكر كلاما سخيفا نرجح عدم التعرض له، فهو خرافات فخرية ومموهات
خيالية رازية.
وقال حسن بن محمد النيشابوري في تفسير «غرائب القرآن»: الاصطفاء
ثلاثة: اصطفاء على غير الجنس، واصطفاء على الجنس، واصطفاء على غير
الجنس وعلى الجنس.
أما الأول فمثل اصطفاء آدم (عليه السلام)، قال تعالى: (إن الله اصطفى آدم) (2) فإن
آدم خلق ولم يكن غيره حتى يصطفى عليه.
أما الثاني فمثل قوله تعالى (يا موسى إني اصطفيتك على الناس) (3) حيث
اصطفاه على الناس، وقوله تعالى (اصطفاك على نساء العالمين) (4) حيث
اصطفاها من نساء العالمين.
أما الثالث: فمثل اصطفاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، حيث اصطفاه على البشر وغيرهم



(1) التفسير الكبير 8 / 43.
(2) آل عمران: 33.
(3) الأعراف: 144.
(4) آل عمران: 42.
575
بمفاد «لولاك لما خلقت الأفلاك» (1)، وقوله «آدم ومن دونه تحت لوائي» (2)، فهو
أفضل وأشرف المخلوقات.
وقال الفخر الرازي في تفسيره المذكور: «وهذه الآية - أي قوله تعالى
(اصطفاك على نساء العالمين) - دلت على أن مريم (عليها السلام) أفضل من الكل، وقول
من قال: المراد أنها مصطفاة على عالمي زمانها فهذا ترك الظاهر» (3).
أما اصطفاء فاطمة الزهراء (عليها السلام) فإني أرجع فيه إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام)
وأخبارهم «وأهل البيت أدرى بالذي فيه».
وقد اتفق الفريقان شيعة وسنة على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل من العالمين طرا من
الملك إلى الملكوت، ومن عالم الغيب والشهود، من البشر وغيرهم، وكذا
أمير المؤمنين (عليه السلام) بدليل آية المباهلة والأخبار المعتبرة، أما فاطمة الزهراء -
صلوات الله عليها - فهي مشمولة بالأحاديث والأخبار الواردة عموما في اصطفاء
الخمسة الطيبة، إضافة إلى ما ورد في إصطفاءها خاصة على العالمين، وظواهر
الأخبار والآثار، وخصوصا الحديث المتفق عليه عند الفريقين أن «فاطمة بضعة
مني» (4)، وأيضا «فاطمة مني» (5) وأيضا «فاطمة روحي ونفسي وفؤادي» (6)
ونظائرها من الأخبار النبوية والآثار المصطفوية المشحونة في كتب الخاصة
والعامة.



(1) بحار الأنوار 16 / 406 ح 1 باب 12.
(2) بحار الأنوار 16 / 402 ح 1 باب 12.
(3) التفسير الكبير 8 / 43.
(4) بحار الأنوار 21 / 279 باب 32، و 23 / 143 ح 97 باب 7.
(5) انظر بحار الأنوار 28 / 76 ح 34 باب 2; و 43 / 54 ح 48 باب 3.
(6) نفسه.
576
ففاطمة الزهراء (عليها السلام) هي الجزء الأعظم والركن الأقوم في الوجود النبوي
الشريف، وللجزء حكم الكل البتة، فإذا كان العقل الكل أشرف المخلوقات،
ففاطمة أيضا كذلك; لأنها الجزء الأقرب والبضعة الألصق، بل هي الجزء الأشرف
في الوجود النبوي المقدس، ففاطمة ليست أفضل من نساء العالمين من الأولين
والآخرين فقط، وإنما هي أفضل من رجال العالمين، بل أفضل من الكمل
والمرسلين والملائكة المقربين.
وأما ما ذكره الرازي من أن ظاهر قوله تعالى (واصطفاك على نساء
العالمين) يدل على اصطفائها على نساء العالمين من الأولين والآخرين، فإنما أراد
بذلك تفضيل مريم (عليها السلام) على فاطمة وغيرها من نساء العالمين، وهو قول متروك،
ولم يذكره غيره من مفسري السنة كالزمخشري والبيضاوي والنيشابوري وغيرهم
في كتبهم في تفضيل فاطمة (عليها السلام) على نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي
كثيرة منها:
عن ابن عباس في حديث طويل في ذكر فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
«فأما ابنتي فاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين... إن فاطمة بضعة
مني، وهي نور عيني وثمرة فؤادي وروحي التي بين جنبي، وهي حوراء
إنسية...» (1) إلى آخر الحديث.
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «مريم سيدة نساء عالمها، وفاطمة (عليها السلام) سيدة نساء ا لعالمين من
الأولين والآخرين، وإنها عديلة مريم» (2).



(1) البحار 43 / 24 ح 20 باب 3، العوالم - عوالم السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) 1 / 128 ح 23.
(2) انظر بحار الأنوار 22 / 236 ح 2 عن شرح النهج لابن أبي الحديد.
577
ولما كان نبينا أفضل الأنبياء، ووصي نبينا أفضل الأوصياء، وأسباطه أفضل
الأسباط، وكتابه أشرف الكتب السماوية، ودينه وشريعته أفضل الأديان
والشرائع، وزمانه أفضل الأزمنة، وأمته أشرف الأمم; فلا بد أن تكون سيدة
نساء عالمه أيضا أفضل نساء العالمين طرا.
وعلى ما هو المعلوم، فإن اصطفاء مريم (عليها السلام) كان لخصائص معدودة
ومحصورة - كما بينا ذلك في معنى الاصطفاء - بينما اصطفاء الزهراء على نساء العالمين
عامة، وعلى مريم خاصة كان لصفات وخصائص خارجة عن حد الحصر
والإحصاء. بل إن فاطمة (عليها السلام) جمعت ما كان عند مريم من خصال وزيادة، فإذا
فضلت على مريم، فتفضيلها على الآخرين - رجالا ونساء - أولى بالبيان الذي مر.
ويرد قول الفخر الرازي أيضا في تفضيل مريم على نساء العالمين وعلى
فاطمة بظاهر الآية المباركة (اصطفاك على نساء العالمين) بقوله تعالى (إن الله
اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم على العالمين) (1)، فلا شك أن آدم ونوح لم يكونا
مصطفيين على العالمين مع وجود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقال صاحب تفسير روح البيان: «المراد من العالمين إصفاء كل واحد على
عالمه وفي زمانه، أي اصطفى كل واحد منهم على عالمي زمانه من عالم البر والبحر،
والأرض والسماء».
ومن المناسب أن نقارن بين حالات مريم (عليها السلام) وحالات فاطمة الزهراء (عليها السلام)
ونذكر ما اتفقتا فيه، وما فاقت فيه فاطمة (عليها السلام) مريم (عليها السلام).



(1) آل عمران: 33.
578
خمسون موردا من موارد التساوي بين فاطمة (عليها السلام) ومريم (عليها السلام)
الأول: كان عمران أبو مريم نبيا (1)، وفاطمة الزهراء (عليها السلام) بنت خاتم الأنبياء
وأفضلهم.
الثاني: خلق الله مريم (عليها السلام) من النفخة وروح القدس، وخلق فاطمة
الزهراء (عليها السلام) من فواكه الجنة والعرق المطهر لجبرائيل وما انتزعه من الصلب الطاهر
المقدس لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
الثالث: تحدثت مريم (عليها السلام) في رحم أمها حنة - كما في روايات العامة وبعض
روايات الخاصة - وكذلك كانت فاطمة تتحدث دائما في رحم أمها خديجة الطاهرة.
الرابع: كانت مريم عابدة حقا وخادمة لبيت الله، وكانت فاطمة الزهراء
عابدة تقوم في محرابها فتؤدي حق العبودية كما ينبغي.
الخامس: نذرت أم مريم ما في بطنها محررا، وكذا فعلت خديجة الطاهرة كما
مر في الحديث سابقا.
السادس: أنجى الله مريم من مكائد نساء اليهود، كما أنجى فاطمة (عليها السلام) من
مكائد نساء اليهود وغيرهن.
السابع: طهر الله مريم، كما طهر فاطمة وآتاها العصمة.
الثامن: عد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مريم في النساء الكمل، وسمى فاطمة الزهراء (عليها السلام)
«الكاملة».



(1) ومنهم من فسر قوله تعالى (آل عمران) بعمران أبي مريم، وقد وردت الأخبار عن الباقر (عليه السلام) تنص
على نبوته كما في البحار. [البحار 14 / 202 ح 14] (من المتن)
579
التاسع: قال صاحب روح البيان: الظاهر أن مريم ولدت وأبوها ميت، لذا
سمتها أمها (إني سميتها مريم)، وإلا فالأولوية في تسمية الأولاد لأشرف الأبوين
وهو الأب، أما فاطمة الزهراء فأبوها (1) الذي سماها وهذا شرف فوق شرف.
العاشر: دعت أم مريم أن يتقبل الله منها «الأنثى» بدل الذكر، فتقبلها ربها
بقبول حسن، كما تقبل فاطمة الزهراء (عليها السلام) - بناء على الآيات والأخبار - بقبول حسن.
الحادي عشر: كافل مريم زكريا النبي، وكافل فاطمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
الثاني عشر: روى أهل السنة في ذيل قوله تعالى (وإني أعيذها بك وذريتها
من الشيطان الرجيم) (2) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «ما من مولود يولد إلا والشيطان
يمسه حين يولد فيستهل (أي يصرخ) من مسه إلا مريم وابنها» (3). وقد ولدت
فاطمة (عليها السلام) ضاحكة مستبشرة في محضر الخيرات الحسان ومع هذه المنح الإلهية
العميمة كيف يجرؤ الشيطان على الإقتراب من المولود الشريف ذي المحتد المنيف؟!
الثالث عشر: ولدت مريم في بيت المقدس، وولدت فاطمة (عليها السلام) في مكة
المعظمة.
الرابع عشر: سكنت مريم في غرفة من غرف بيت المقدس، وسكنت
فاطمة (عليها السلام) في حجرة من حجر النبوة ومهد الرسالة والطهارة (4).
الخامس عشر: قال تعالى في حق مريم (عليها السلام) (وأنبتها نباتا حسنا). قال



(1) بل إن مريم سمتها أمها، وفاطمة سمها رب العزة كما مر في الحديث.
(2) آل عمران: 36.
(3) البحار 60 / 145 باب 3 باب ذكر إبليس وقصته عن تفسير البيضاوي.
(4) المورد التاسع والثاني عشر والرابع عشر ليست من موارد المساواة، بل هي من الموارد التي فضلت فيها
فاطمة (عليها السلام) على مريم (عليها السلام).
580
بعضهم: النبات الحسن النمو السريع أكثر من المعتاد في غيرها، كما في تفسير
النيشابوري: «تنبت في اليوم مثل ما ينبت المولود في عام; وقيل: المراد نماؤها في
الطاعة والعفة والصلاح والسداد». ومر في نمو فاطمة (عليها السلام) أنها كانت تنمو في اليوم
ما ينمو غيرها في أسبوع أو في شهر.
السادس عشر: كان رزق مريم يأتيها من الجنة (كلما دخل عليها زكريا
المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق
من يشاء بغير حساب) (1). وجاءت الروايات الصحيحة بنزول المائدة من السماء
بألوان الطعام في عدة مرات على فاطمة (عليها السلام)، حتى قال لها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «الحمد لله
الذي جعلك شبيهة مريم بنت عمران» (2).
وفي تفسير النيشابوري: «كما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه جاع في زمن
قحط، فأهدت فاطمة رغيفين وبضعة لحم آثرته بها فرجع إليها، وقال الراوي:
فكشف عن الطبق فإذا هو مملو خبزا ولحما، فبهتت وعلم أنها نزلت من عند الله،
فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنى لك هذا؟ فقالت: (هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير
حساب) فقال: «الحمد لله الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل». ثم جمع
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب والحسن والحسين وجمع أهل بيته حتى
شبعوا، وبقي الطعام كما هو فأوسعت فاطمة على جيرانها» (3).
السابع عشر: كانت الملائكة تحضر عند مريم وتكلمها مشافهة كما هو



(1) آل عمران: 37.
(2) بحار الأنوار 14 / 197 ح 4 باب 16; 35 / 251 ح 7 باب 6; و 41 / 30 ح 1 باب 102.
(3) بحار الأنوار 43 / 29 ح 35 باب 3.
581
المعلوم من ظاهر الآية; وروي في فاطمة (عليها السلام) أن الملائكة كانت تناديها «يا فاطمة
إن الله اصطفاك... إلى آخرها».
الثامن عشر: عبدت مريم حتى تورمت قدماها، وورد في فاطمة أيضا
«فتورمت قدماها من كثرة العبادة».
التاسع عشر: كانت مريم بتولا من بين النساء، واتفق الفريقان على أن
فاطمة أيضا كانت بتولا.
العشرون: بشر الله مريم بعيسى (عليه السلام) وسماه «كلمة»; قال تعالى: (إذ قالت
الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا
والآخرة ومن المقربين) (1); كما أنه بشر فاطمة الزهراء (عليها السلام) بالكلمات الحقة
والحقائق المقدسة للمعصومين (عليهم السلام)، كذا في التفاسير والأخبار المعتبرة المعتمدة.
الحادي والعشرون: مريم لم يمسها بشر بمفاد قوله تعالى (ولم يمسسني بشر
كذلك الله يخلق ما يشاء) (2); وكذلك نطفة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ونورها الأنور لم
يمس صلبا ولا رحما، خلا الصلب المقدس لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ورحم خديجة الكبرى.
الثاني والعشرون: كان عمر مريم قصيرا بالنسبة إلى النساء الأخريات،
وكذلك كانت فاطمة (عليها السلام) حيث لم تعش طويلا في هذه الدنيا; ورواية حياة القلوب
وجنات الخلود في طول عمر مريم مرسلة.
الثالث والعشرون: صبرت مريم على أذى النساء اللائمات واللاغيات;
وكذا صبرت الزهراء (عليها السلام) على أذى بعض أمهات المؤمنين وغيرهن.



(1) آل عمران: 45.
(2) آل عمران: 47.
582
الرابع والعشرون: كانت مريم معصومة; وكذا كانت الزهراء معصومة
أيضا.
الخامس والعشرون: رأت مريم جبرئيل بالحاسة الباصرة (فتمثل لها بشرا
سويا) (1)، وفاطمة الزهراء (عليها السلام) أذنت له بالدخول تحت الكساء، إضافة إلى
مشاهدتها له في المرات الأخرى.
السادس والعشرون: خرجت مريم من البيت المقدس إلى كربلاء
(فأجائها المخاض إلى جذع النخلة) (2)، وفاطمة الزهراء (عليها السلام) خرجت من مكة
المكرمة إلى المدينة الطيبة.
السابع والعشرون: مريم (عليها السلام) غسلها عيسى (عليه السلام)، وفاطمة الزهراء (عليها السلام)
غسلها أمير المؤمنين (عليه السلام); وقال الإمام (عليه السلام): «المعصومة لا يغسلها إلا معصوم
والصديقة لا يغسلها إلا صديق» (3).
الثامن والعشرون: عن ابن عباس: إن مريم لما بلغت تسع سنين لم يكن
مثلها قط في العبادة والزهد وترك الدنيا (4); وكذلك كانت فاطمة (عليها السلام) لم يدانيها أحدا
من النساء في العبادة وهي في تلك السن.
التاسع والعشرون: كانت مريم مستجابة الدعوة، وكانت فاطمة (عليها السلام)
معصومة مستجابة الدعوة.
الثلاثون: لا توجد امرأة تحترم بين النصارى كما تحترم مريم (عليها السلام)، وكذا لا



(1) مريم: 17.
(2) مريم: 23.
(3) بحار الأنوار 14 / 197 ح 3 باب 16.
(4) بحار الأنوار 14 / 196 ح 2 باب 16.
583
توجد امرأة كفاطمة الزهراء (عليها السلام) محترمة عند الأمة المرحومة وعند أهل السنة.
أما ما فضلت فيه فاطمة الزهراء (عليها السلام) وتميزت به على مريم فهو كثير; ونشير
إجمالا إلى جملة منه. وفضائلها (عليها السلام) نوعان ذاتية وخارجية:
الأول: إبداع نور فاطمة (عليها السلام) في بدو الإيجاد، وليست لمريم هذه الفضيلة.
الثاني: تجليات فاطمة (عليها السلام) في الملكوت الأعلى ومكاشفات الأنبياء.
الثالث: ما خلق الله لفاطمة (عليها السلام) من السماوات وغيرها.
الرابع: فخامة نسبها الذي لم يكن لأحد قط، حتى لمريم (عليها السلام).
الخامس: كفالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لها، وهو أفضل وأشرف من زكريا.
السادس: حضرت في ولادتها (عليها السلام) مريم ومعها النساء الأخريات، ولم
يحضرن في ولادة مريم (عليها السلام).
السابع: إقرارها بالشهادتين وتكلمها بعد الولادة.
الثامن: ملأ نورها عند الولادة مكة والحجاز والمشرق والمغرب والسماوات.
التاسع: ولدت مريم ولدا شرفت به، وولدت فاطمة ولدين شرفا بها،
وسيقتدي ولد مريم بآخر أولاد فاطمة الزهراء (عليها السلام).
العاشر: تبعل فاطمة (عليها السلام) أفضل من عدم تبعل مريم (عليها السلام) (وإن مثل عيسى
عند الله كمثل آدم) فليس لمريم بعلا كأمير المؤمنين (عليه السلام).
الحادي عشر: كانت فاطمة (عليها السلام) عالمة بما كان وما يكون، ولم تكن مريم
كذلك.
الثاني عشر: أمرت مريم بتمريض فاطمة (عليها السلام) عند احتضارها.
الثالث عشر: حضر عند فاطمة (عليها السلام) جبرئيل وميكائيل ومواكب الملائكة.

584
الرابع عشر: الذرية النبوية التي صارت أوتادا للأرض من فاطمة
الزهراء (عليها السلام)، ولم يكن لمريم (عليها السلام) ذرية على وجه الأرض بعد عيسى (عليه السلام).
الخامس عشر: كان لفاطمة (عليها السلام) مصحف، ولم يكن لمريم (عليها السلام) مصحف.
السادس عشر: لفاطمة (عليها السلام) الرجعة، ولم يرو ذلك لمريم (عليها السلام).
السابع عشر: لفاطمة (عليها السلام) الشفاعة وهي أعظم الفضائل وأشرف الوسائل،
وليس ذلك لمريم ولا حتى للأنبياء.
الثامن عشر: مقام فاطمة الزهراء (عليها السلام) في حظيرة القدس، وهو مقام خاص
بالخمسة الطاهرة.
التاسع عشر: فاطمة الزهراء (عليها السلام) هي التي تختار المواهب والعطايا لنساء
الجنة.
العشرون: لفاطمة (عليها السلام) وأبناءها جنة خاصة ومقام خاص لا يشاركها فيه
أحد من نساء العالمين.
وهناك خصائص ومزايا أخرى لتلك المخدرة الكبرى سنذكرها إن شاء الله
تعالى.

585
الخصيصة الرابعة عشر من الخصائص الخمسين
في حالات السيدة حواء وسارة
وآسية ومقارنتهن بفاطمة (عليها السلام)
أولا: حواء أم البشر وأول امرأة من النساء الطاهرات في العالم، وقد عجن
الله طينتها الطيبة بيده كما عجن طينة آدم (عليه السلام)، وكانت لزوجها أمة ونعم القرين،
والحكمة من خلقها أن تكون أنسا وسكنا لآدم (عليه السلام)، ترد عنه الوحشة، وكان بقاء
الذرية ودوام النسل منوطا بها، حيث انتشر منها النوع البشري، فبعث الأنبياء
العظام، وشرعت الشرائع، وأشيع المعروف، وانتشرت الأحكام، وكثرة المعرفة
الحقة، وأظهرت العبودية الخالصة. ألبسها الله خلعة الوجود بنحو خاص، وأخذ
الله طينتها من فاضل طينة آدم مما يلي الركبة، فصارت النساء يتبعن أمر الرجال،
وأما ما ذكر من المرويات القائلة إنها خلقت من ضلع آدم الأيسر، فغاية في
الضعف.
وفي كتاب العلل: «إنما سميت حواء لأنها خلقت من الحيوان أو من
الحي» (1).



(1) علل الشرائع 1 / 28 باب 15 ح 1.
586
وفي مجمع البيان: قيل: لأنها أم كل حي (1).
وقوله تعالى: (خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا
كثيرا ونساء) (2) صريحة في أن حواء خلقت من آدم (عليه السلام)، وفي خبر آخر قال أبو
عبد الله (عليه السلام): «إن الله خلق آدم من الماء والطين، فهمة الرجال في الماء والطين، وإن
الله خلق حواء من آدم، فهمة النساء في الرجال; فحصنوهن في البيوت» (3).
ثانيا: إن لآدم وحواء حق الأبوة والأمومة علينا، ولو أن أبناءهم أرادوا
إحصاء حقوقهما ومفاخرهما ومآثرهما ما استطاعوا القيام بذلك إلى يوم القيامة،
سيما أن آدم (عليه السلام) كان أول من اطلع على أنوار الفيض المحمدي في أول الإيجاد، ثم
سطع النور في الناصية العلية الجلية لحواء، فأنارت به جنة الخلد، «فعليها من
التسليمات أزكاها، ومن التكريمات أسناها».
والأفضل أن نبدأ الكلام بذكر جملة من حالاتها المختصة بها (عليها السلام):
منها: أن طينتها كانت من طينة آدم الطاهرة ولم تكن من طينة أخرى.
ومنها: إنها لم تر صلب أب ولا رحم أم، فبقيت بعيدة مطهرة عن أصلاب
الآباء وأرحام الأمهات الطوامث.
ومنها: إنها خوطبت بالخطاب الذي خوطب به آدم (عليه السلام) في قوله تعالى:
(يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة) (4). وفي الحديث «قال الله تعالى: يا آدم ويا



(1) بحار الأنوار 60 / 265 ح 4 باب 38 عن الدر المنثور; و 60 / 265 ح 5 باب 38 عن العلل لمحمد بن علي
بن إبراهيم.
(2) النساء: 1.
(3) البحار 11 / 116 ح 45 باب فصل آدم وحواء.
(4) البقرة: 35.
587
حواء اسكنا جنتي وكلا ثمرتي ولا تقربا شجرتي، والسلام عليكما ورحمتي
وبركتي».
ومنها: إنها أذن لها بدخول دار الكرامة وموطن الراحة.
ومنها: إنها رعاها خالق البرايا في جميع المقامات في الجنات العاليات،
وشملها بالعنايات اللامتناهية، وغذاها غذاء الروح والبدن بالنعم الظاهرة والباطنة
وجعل الجنة بعرضها منزلها، وأنعم بها عليها نعمة غير ممنونة.
ومنها: في رواية الثعلبي والكسائي: كانت حواء في حسن سبعين حورية،
فصارت حواء بين الحور العين كالقمر بين الكواكب.
ومنها: إن الله جعل الملائكة والحور العين والولدان خداما لها في الجنان.
ومنها: أنهم كانوا يطوفون بها غرف الجنة وقصورها وأعالي جنة عدن
والفردوس، ويزفونها بالتهاني على نياق الجنة مرة، وعلى مراكب من المسك
والكافور والزعفران بالحلي والحلل على رفارف السندس والإستبرق مرة
أخرى، فيعرضون عليها النعم الإلهية العظيمة.
ومنها: إنها كانت تجلس أحيانا على سرير مرصع بالجواهر النفيسة، وله
سبعمائة قائمة من الدر الأبيض، وعليه أربع قباب: قبة الرحمة، وقبة الكرم، وقبة
الرضوان، وقبة الغفران.
ومنها: هبوطها مع زوجها آدم (عليه السلام)، وذلك من فضل الله عليها وليس عقوبة
لها، بل كان وسيلة للوصول إلى النتيجة وإجراء القدرة وإمضاء المشية في جعل
الخليفة، وإنما يدفع البلاء قبل الإبتلاء، لأن أهل البلاء لا تخلو عن الإبتلاء.
وهيهات هيهات الصفاء لعاشق * وجنة عدن بالمكاره حفت

588
فبعد أن استغرق آدم وحواء (عليهما السلام) في نعم العلي الأعلى وعناياته الروحانية
والجسمانية، إلتفتا إلى نفسيهما لحظة وغفلا - آنا - عن مبدأ المبادى بمقتضى الطبيعة
البشرية، فظنا أن ما عندهما من فضل ومزايا وعطايا ونعم إلهية لا متناهية نالاها
بالاستحقاق الذاتي والاستعداد الفطري، فتحادثا في ما خصهما الله به من الحسن
وشروق أنوار الجمال الموهوبة من حضرة ذي الجلال، فقالا: لم يخلق الله في عالم
الملك والملكوت خلقا أفضل ولا أشرف منا، ولم ير سكان الملأ الأعلى مخلوقا
أجمل ولا أحسن منا، فنبههم الله بمشاهدة الأنوار المقدسة الخمسة الطيبة.
ولا بأس أن أنقل - في المقام - خبرين رواهما المؤالف والمخالف، وبهما يثبت
المقصود، ولا نحتاج إلى بحث المساواة والمقارنة بين الزهراء (عليها السلام) وحواء.
أما الخبر الأول: فعن طرق الإمامية في البحار: عن الإمام الحسن
العسكري (عليه السلام) عن آبائه الكرام، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
«لما خلق الله تعالى آدم وحواء تبخترا في الجنة، فقال آدم (عليه السلام) لحواء: ما
خلق الله خلقا هو أحسن منا، فأوحى الله - عز وجل - إلى جبرئيل أن ائتني بعبدتي
التي في الجنة الفردوس الأعلى، فلما دخلا الفردوس نظرا إلى جارية على درنوك
من درانيك الجنة، على رأسها تاج من نور، وفي أذنيها قرطان من نور قد أشرقت
الجنان من حسن وجهها، قال آدم (عليه السلام): حبيبي جبرئيل، من هذه الجارية التي قد
أشرقت الجنان من حسن وجهها؟ فقال: هذه فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) نبي من
ولدك يكون في آخر الزمان قال: من هذا التاج الذي على رأسها؟ قال: بعلها
علي بن أبي طالب. قال: من القرطان اللذان في أذنيها؟ قال: ولداها الحسن
والحسين. قال آدم (عليه السلام): حبيبي جبرئيل! أخلقوا قبلي؟ قال: هم موجودون في

589
غامض علم الله عز وجل قبل أن تخلق بأربعة آلاف سنة» (1) انتهى الحديث.
أما الخبر الثاني: فقد روي عن طريق المخالفين:
روي أن آدم نظر إلى حواء ونظرت إليه فدهشا من جمالهما، فقالا: سبحانك
يا الله، أخلقت خلقا أفضل منا؟ فأوحى الله إلى جبرئيل أن خذ آدم وحواء إلى
الفردوس الأعلى وافتح باب قصر من قصوره لهما، فأراهما جبرئيل قصرا من
ياقوت أحمر، فيه عرش من الذهب، قوائمه من الدر الأبيض، وعليه جارية لم يرد
آدم وحواء مثلها، قد أضاء نور حسنها وبهائها ذلك القصر، بل أضاء نورها
الفردوس; وعلى رأسها تاج مرصع بجواهر. فقال آدم: من هذه الجارية؟ فقال
جبرئيل: هذه فاطمة الزهراء بنت محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم). قال: ومن زوجها؟
فجاء النداء: افتح القصر الآخر من الياقوت، ففتحه فكان فيه قبة من كافور،
وعرش من الذهب، عليه فتى يفوق حسن وجهه حسن يوسف الصديق. قال:
هذا زوجها: علي بن أبي طالب (عليه السلام). فسأل آدم (عليه السلام): أله ولد؟ فاوحي إلى
جبرئيل: افتح له قصر اللؤلؤ، ففتحه فإذا فيه قبة من زبرجد وعرش من عنبر
أشهب، وعليه غلامان هما الإمام الحسن والإمام الحسين (عليهما السلام). فندم آدم على
كلامه.
وهذا الخبر منقول في كتاب «نزهة المجالس ومنتخب النفايس» للشيخ
عبد الرحمن الصفوري الشافعي.
وهكذا ترى الحديثين يختلفان في المضمون من حيث تعدد القصور والصور
الشريفة التي تمثلوا بها.



(1) بحار الأنوار 25 / 5 ح 8 باب 1.
590
وقد اتضحت أفضلية فاطمة الزهراء (عليها السلام) على حواء وغيرها بعد هذين
الخبرين، ولا حاجة إلى المقارنة والمطابقة بين حالاتهما كما ذكرنا سابقا.
مقالة بلا ملالة
روي (1) في عيون أخبار الرضا (عليه السلام) ومعاني الأخبار لثقة المحدثين طاب ثراه
مسندا عن محمد بن سليمان، عن أبي الصلت الهروي، عن علي بن موسى الرضا
صلوات الله عليه قال: قلت للرضا (عليه السلام): يابن رسول الله! أخبرني عن الشجرة التي
أكل منها آدم وحواء ما كانت; فقد اختلف الناس فيها، فمنهم من يروي أنها
الحنطة، ومنهم من يروي أنها العنب، ومنهم من يروي أنها شجرة الحسد؟
فقال: كل ذلك حق.
قلت: فما معنى هذه الوجوه على اختلافها؟
فقال: يا أبا الصلت! إن شجرة الجنة تحمل أنواعا; فكانت شجرة الحنطة
وفيها عنب، وليست كشجرة الدنيا، وإن آدم (عليه السلام) لما أكرمه الله - تعالى ذكره -
بإسجاد ملائكته له وبإدخاله الجنة، قال في نفسه: هل خلق الله بشرا أفضل مني؟
فعلم الله - عز وجل - ما وقع في نفسه فناداه: ارفع رأسك يا آدم فانظر إلى ساق
عرشي، فرفع آدم رأسه فنظر إلى ساق العرش فوجد عليه مكتوبا «لا إله إلا الله
محمد رسول الله، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه السلام)، وزوجته فاطمة سيدة نساء
العالمين، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة». فقال آدم: يا رب من
هؤلاء؟ فقال عز وجل: يا آدم! هؤلاء ذريتك، وهم خير منك ومن جميع خلقي،



(1) ننقل هذا الحديث هنا تبركا، ولما له من ارتباط بهذه الخصيصة. (من المتن)
591
ولولاهم ما خلقك ولا خلقت الجنة والنار ولا السماء ولا الأرض، فإياك أن تنظر
إليهم بعين الحسد فأخرجك عن جواري، فنظر إليهم بعين الحسد وتمنى منزلتهم،
فتسلط عليه الشيطان حتى أكل من الشجرة التي نهي عنها، وتسلط على حواء
لنظرها إلى فاطمة بعين الحسد، حتى أكلت من الشجرة كما أكل آدم، فأخرجهما الله
عن جنته وأهبطهما عن جواره إلى الأرض (1).
ونظائره في الأخبار المعتبرة كثير، منها ما في معاني الأخبار عن المفضل بن
عمر الجعفي، عن الصادق (عليه السلام) في حديث طويل - يأتي في باب التوسل بالصديقة
المخدرة - وفيه تصريح أن الشجرة هي الحنطة، وفيه أسرار جليلة (2).
وفي كتاب تأويل الآيات الباهرة في العترة الطاهرة: إنها شجرة علم آل
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي «لمحمد وآل محمد خاصة دون غيرهم، ولا يتناول منها بأمر الله
إلا هم، ومنها ما كان يتناوله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) بعد
إطعامهم اليتيم والمسكين والأسير، حتى لم يمسوا بعد بجوع ولا عطش ولا تعب ولا
نصب» (3).
وتجد فضل العلم الموهوب لفاطمة الطاهرة ظاهرا، ولذا ذكرها الله في القرآن
ضمن النساء الممدوحات بصفة العلم، وهي أشرف صفات الإنسان.



(1) معاني الأخبار 124 باب معنى الشجرة التي أكل منها آدم وحواء ح 1، عيون أخبار الرضا، البحار
11 / 164 ح 9 باب ارتكاب ترك الأولى ومعناه.
(2) معاني الأخبار 108 باب معنى الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض... ح 1، البحار 26 / 320
ح 2 باب 1 باب دعاء الأنبياء استجيب به لتوسلهم بهم (عليهم السلام). وفيه: «... (ولا تقربا هذه الشجرة)
يعني شجرة الحنطة».
(3) تفسير الإمام العسكري: 221، تفسير البرهان 1 / 178 ح 1 ذيل الآية الكريمة 35 سورة البقرة.
592
وفي حديث آخر: إن آدم كان مستغرقا في النعم الظاهرة والباطنة في
الجنة، ولم يمنع إلا عن تمني درجة محمد وآل محمد، فإن الله خصهم بهذه الدرجة
دون غيرهم (1)، وإلا فماذا في الحنطة حتى يسعى ذاك النبي المعظم إلى أكلها؟! فلا بد
أن يكون الأمر المنهي عنه أعظم وأشرف من أكل هذه الثمرة، فالأنسب أن يكون
تمني منزلة أولئك المقربين.
أما الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه، بها فقد اختلف فيها
المفسرون من الفريقين، وروي عن الحسن وعكرمة وقتادة وسعيد بن جبير أقوال
مختلفة، والأصح ما عن ابن عباس أنه قال: سألت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الكلمات التي
تلقى آدم من ربه فتاب عليه؟ قال: سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن
والحسين إلا تبت علي، فتاب عليه (2).
واختلفوا - أيضا - في الشجرة التي نهي عنها، آدم فقيل: هي السنبلة عن ابن
عباس، وقيل: هي الكرمة عن ابن مسعود والسدي، وقيل: هي التينة عن ابن
جريج، وقيل: هي شجرة الكافور يروى عن علي، وقيل: هي شجرة العلم: علم
الخير والشكر عن الكلبي، وقيل: هي شجرة الخلد التي كانت تأكل منها الملائكة
عن ابن جذعان (3)، وروي: إنها شجرة الحسد، وقيل: هي شجرة الهوى والطبيعة
وهي محركان وداعيان إلى صفة الحسد (4).



(1) انظر تفسير العسكري 222.
(2) معاني الأخبار 125 ح 1 باب معنى الكلمات التي تلقاها آدم، البحار 11 / 176 ح 22 باب ارتكاب ترك
الأولى.
(3) مجمع البيان 1 / 169 ذيل الآية 35 من سورة البقرة.
(4) انظر البحار 11 / 165 ذيل ح 9 باب ارتكاب ترك الأولى.
593
ونذكر فيما يلي الآيات الشريفة من سورة البقرة تبركا وتيمنا بتلاوتها،
واستنطاقا لمضامينها ومعانيها وما فيها من الوعد والوعيد، قال الله تعالى في سورة
البقرة: (وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا
تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه
وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين * فتلقى
آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) (1).
وقال تعالى في سورة الأعراف: (... يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة
فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فوسوس لهما
الشيطان ليبدي لهما ما وري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه
الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين * وقاسمهما إني لكما من
الناصحين * فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان
عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن
الشيطان لكما عدو مبين * قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من
الخاسرين) (2). بيان إجمالي للآيات مستطرف من تفسير مجمع البيان:
(يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة) أي: اتخذ أنت وامرأتك الجنة مسكنا
ومأوى لتأوي إليه وتسكن فيه أنت وامرأتك، واختلف في هذا الأمر، فقيل: إنه
أمر تعبد، وقيل: هو إباحة لأنه ليس فيه مشقة فلا يتعلق به تكليف... والنهي في
«لا تقربا» نهي التنزيه دون التحريم، كمن يقول لغيره: لا تجلس على الطرق; وهو



(1) البقرة: 35 - 37.
(2) الأعراف: 19 - 23.
594
قريب من مذهبنا فإن عندنا أن آدم كان مندوبا إلى ترك التناول من الشجرة، وكان
بالتناول منها تاركا نفلا فضلا، ولم يكن فاعلا لقبيح، فإن الأنبياء (عليهم السلام) لا يجوز
عليهم القبائح لا صغيرها ولا كبيرها; وسيأتي الكلام في ذلك في باب عصمتها (عليها السلام).
وقوله (ولا تقربا هذه الشجرة) أي لا تأكلوا منها وهو المروي عن
الباقر (عليه السلام) فمعناه لا تقرباها بالأكل، ويدل عليه أن المخالفة وقعت بالأكل بلا خلاف
لا بالدنو منها; ولذلك قال تعالى: (فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما) قيل: النهي
عن موجب الشئ موجب لاجتناب ذلك الشئ. وتعلق النهي بالإقتراب - وهو
من مقدمات الأكل - للمبالغة، فالقرب يدعو إلى الميل والأكل.
واختلف في الجنة التي أسكن فيها آدم:
فقال أبو هاشم: هي جنة من جنان السماء غير جنة الخلد، لأن جنة الخلد
أكلها دائم ولا تكليف فيها.
وقال أبو مسلم: هي جنة من جنات الدنيا في الأرض، وقال: إن قوله
(اهبطوا منها) لا يقتضي كونها في السماء، لأنه مثل قوله: (اهبطوا مصرا).
واستدل بعضهم على أنها لم تكن جنة الخلد بقوله حكاية عن إبليس (هل
أدلك على شجرة الخلد) فلو كانت جنة الخلد لكان آدم عالما بذلك ولم يحتج إلى
دلالة.
وقال الحسن البصري وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وكثير من المعتزلة
كالجبائي والرماني وابن الأخشيد: إنها كانت جنة الخلد، لأن الألف واللام
للتعريف وصار كالعلم عليها، قالوا: وقول من يزعم أن جنة الخلد من يدخلها لا
يخرج منها غير صحيح..» (1).



(1) مجمع البيان 1 / 168.
595
وقوله تعالى: (فأزلهما الشيطان)، أي بالخطيئة وهي والمعصية والسيئة
مترادفات بمعنى واحد، وهو الزوال عن الحق، و «الوسوسة» إغواء الشيطان
وإغرائه.
والهبوط بمعنى النزول والحركة من العلو إلى السفل، وكل واحدة من هذه
العبارات لها ظاهر مستعمل في الحقيقة والمجاز، ولكل ظاهر بطون وتخوم لا يعلمهما
إلا الله والراسخون في العلم.
والآن ينبغي أن نعرف ما هو معنى الشجرة المنهية التي ذكرتها الأخبار باسم
العلم أو الحسد أو الشهوة أو الهوى؟!
فنقول:
أولا: لقد أطلق على الشجرة أسماء الرذائل، مع أن الجنة محل الفضائل لا
الرذائل، والحسد صفة من الصفات الذميمة في الحاسد ذي الوجود الخارجي، لا
في الشجرة؟
وثانيا: لقد نسب الحسد في الحديث السابق إلى آدم (عليه السلام)، فكيف يصح ذلك
عند علماء الإمامية؟! وبعبارة أخرى: نسب التبختر إليه (عليه السلام) وهو مناف لمذهب
الحق؟!
الجواب: قال المرحوم العلامة المجلسي طاب ثراه في المجلد السابع من
البحار: لعل المراد منها ترك الأولى، لأنه مع العلم بأن الله تعالى فضلهم عليهما كان
ينبغي لهما أن يكونا في مقام الرضا والتسليم، وأن لا يتمنيا درجاتهم صلوات الله
عليهم (1).



(1) البحار 26 / 273 ح 15 باب تفضيلهم على الأنبياء (عليهم السلام).
596
وقال المحقق الوحيد والمحدث الفريد الفيض الكاشاني عليه الرحمة: «كما أن
لبدن الإنسان غذاء من الحبوب والفواكه، كذلك لروحه غذاء من العلوم
والمعارف، وكما أن لغذاء بدنه أشجارا تثمرها، فكذلك لروحه أشجار تثمرها،
ولكل صنف منه ما يليق به من الغذاء; فإن من الإنسان من يغلب فيه حكم البدن
على حكم الروح، ومنه من هو بالعكس، ولهم في ذلك درجات يتفاضل بها
بعضهم على بعض، ولأهل الدرجة العليا كل ما لأهل الدرجة السفلى وزيادة،
ولكل فاكهة في العالم الجسماني مثال في العالم الروحاني مناسب لها، ولهذا فسرت
الشجرة تارة بشجرة الفواكه، وأخرى بشجرة العلوم، وكان شجرة علم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
إشارة إلى المحبوبية الكاملة المثمرة لجميع الكمالات الإنسانية المقتضية للتوحيد
المحمدي الذي هو الغناء في الله والبقاء بالله، المشار إليه بقوله (عليه السلام) «لي مع الله وقت لا
يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل» فإن فيها من ثمار المعارف كلها، وشجرة
الكافور إشارة إلى برد اليقين الموجب للطمأنينة الكاملة المستلزمة للخلق العظيم
الذي كان نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) ودونه لأهل بيته (عليهم السلام)، فلا منافاة بين الروايات، ولا بينها
وبين ما قاله أهل التأويل إنها شجرة الهوى والطبيعة، لأن قربها إنما يكون بالهوى
والشهوة الطبيعية، وهذا معنى ما ورد إنها شجرة الحسد، فإن الحسد إنما ينشأ
منها» (1).
وفي بصائر الدرجات رواية أرويها هنا تأكيدا لهذا التقرير:
عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر الباقر (عليه السلام) يقول: نزل جبرئيل (عليه السلام)
على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) برمانتين من الجنة، فلقيه علي (عليه السلام) فقال له: ما هاتان الرمانتان في



(1) تفسير الصافي 1 / 117 ذيل الآية 35 (من سورة البقرة).
597
يديك؟ قال: أما هذه فالنبوة ليس لك فيها نصيب، وأما هذه فالعلم، ثم فلقها
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأعطاه نصفها وأخذ نصفها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم قال: أنت
شريكي فيه وأنا شريكك فيه، قال: فلم يعلم - والله - رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حرفا مما
علمه الله إلا علمه عليا (عليه السلام) (1) الخبر.
وهكذا هي شجرة «سدرة المنتهى» التي ينتهي إليها سير الأنبياء، ولم يتجاوزها
سوى خاتم المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي تعبير عن إحاطته الكلية بما فوق وما دون.
وهكذا هي شجرة «الطوبى» المعبرة بذات الولاية.
فالمراد بتمثيل الثمرات المعرفة النبوية في عالم الملك لينتقل الناس من
المحسوس إلى المعقول فيعرفونه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا يتمنون تلك المرتبة العلوية بدافع الهوى
والشهوة الطبيعية، ولا يحسدونه على ما آتاه الله، وإلا فكيف يمكن أن تكون
الرمانة نبوة وعلما؟! فلا بد أن تكون كل رمانة تمثيلا عن شجرة العلم وشجرة
النبوة في الملكوت الأعلى، وتلك الشجرة بمالها من جامعية تحكي في محلها الشجرة
الزكية للحقيقة النبوية الجامعة الحاوية لتمام الكمالات والملكات الإنسانية.
وببيان آخر: كان في بدء الخلقة مظهران للعلم والحسد: أحدهما آدم والآخر
الشيطان.
وكان الشيطان يرى أنه الأول في الملك والملكوت، فلما رأى الملائكة تسجد
لآدم (عليه السلام)، حسده وأبى عن السجود له.
وكان آدم (عليه السلام) يظن أنه الوحيد الذي عنده العلم بالأسماء والمسميات، وأنه
الأفضل والأشرف ولا أحد فوقه.



(1) بصائر الدرجات 293 الجزء 6 باب 11 ح 4، بحار الأنوار 26 / 173 ح 44.
598
ولذا سميت الشجرة الجامعة بشجرة العلم، ومثلت لآدم ليراها، ثم نهي عن
أكل ثمارها; لأنها خاصة للحضرة المقدسة النبوية والعلوية والفاطمية للأئمة
المعصومين (عليهم السلام)، ليس لغيرهم التناول منها، فأراد الشيطان الذي حسد آدم (عليه السلام) أن
يدفع آدم ليحسد صاحب الشجرة أيضا، وبذلك ينزل عن درجته «والإنسان
حريص على ما منع». يعني أن الشيطان تورط بالحسد فنزل عن درجته. فأراد أن
يورط آدم (عليه السلام) بالحسد أيضا لينزله عن درجته.
وبعبارة أخرى: سميت تلك الشجرة بشجرة الحسد بلحاظ تمني آدم (عليه السلام)
لمنزلة صاحبها من حيث الإحاطة الكاملة والجامعية، وهي شجرة العلم بلحاظ
الإختصاص والإمتياز الذي فيها على علم آدم وانتسابها إلى علوم آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
أما تسميتها بالتينة والكرمة والكافور والحنطة، فبحسب استعداد عقول
الناس، وكل واحدة تشير إلى صفة كمالية من صفاتهم حسب المزاج والطبيعة كما
قال الفيض الكاشاني في الكافور.
وكما أن الهوى والشهوة الطبيعية من موجبات الحسد، فكذلك أيضا المعرفة
والمحبة منتزعة من العلم، ومن ثمرات تلك الشجرة المباركة الكريمة الأصل.
تشجير في ذيل هذا التقرير
قال تعالى: (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت
وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم
يتذكرون) (1).



(1) إبراهيم: 25.
599
روى المرحوم المجلسي (رحمه الله) في تفسير الآية عن الأئمة الأطهار - عليهم
صلوات الملك الجبار - وجوها عديدة في معنى الشجرة الطيبة، منها إنها النخلة،
ومنها: إنها شجرة في الجنة، ومنها: إن الشجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). والوجه الأخير
هو المعنى الأصح والوجه الوجيه، وكتب الفريقين مشحونة بالأخبار المعتبرة
المؤيدة له، منها ما روي عن ابن عباس قال: قال جبرئيل (عليه السلام) للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنت
الشجرة، وعلي غصنها، وفاطمة ورقها، والحسن والحسين ثمارها.
والمراد بالكلمة الطيبة كلمة التوحيد، أو الإيمان، أو كل كلام أمر الله
بإطاعته.
وقيل: أراد بذلك شجرة هذه صفتها، وإن لم يكن لها وجود في الدنيا، لكن
الصفة معلومة (1).
وبناء على ذلك، فشجرة الجنة الموصوفة بالجامعة إنما هي شجرة النبوة
المحمدية المتجلية في كل تلك الكمالات والملكات، فكأن تلك الشجرة كلمة طيبة
كشجرة زاكية نامية نبوية، أصلها ثابت راسخ وفرعها عال رفيع، تفيض علمها في
كل آن على الخلق، وترشح عليهم الإفاضات، فكل فاكهة أفيضت من العلويات
إلى السفليات فهي من خيرات وبركات وإفاضات تلك الشجرة الكريمة الأصل
وفروعها.
وكل ما ظهر في هذا العالم من الشرور والمفاسد من شؤم الصفات الخبيثة
الخسيسة للشجرة الخبيثة لظالمي أهل البيت ومنكري حقوقهم والمتنكرين لهم.



(1) البحار 24 / 137 باب 44.
600
(مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار) (1) أي ما
لها من ثبات وقرار في الأرض لقلع جثتها منها.
وقال تعالى في وصف طعام هؤلاء: (إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم *
طلعها كأنه رؤوس الشياطين) (2).
قال المرحوم العارف المحقق صدر الدين الشيرازي (رحمه الله): المراد بالشجرة
الطبيعة الدنيوية، والمراد بالطلع مبدأ وجود الأشجار ومنشأ حصول الأثمار وقت
ظهورها، أي أن مبدأ الإعتقادات الباطلة والأخلاق السيئة، تترسخ في النفس
قليلا قليلا، فإذا قويت فصورتها جوهر شيطاني، فتتعدى بعد غلبة الآمال
والأماني المشؤمة والشهوات المذمومة، وتملأ النفس من نار الجحيم والعذاب
الأليم.
كما قال الله تعالى: (ثم إنكم أيها الضالون المكذبون * لآكلون من شجر من
زقوم * فمالئون منها البطون) (3)، وكذلك شجرة طوبى التي أصلها في دار علي بن
أبي طالب (عليه السلام)، وليس مؤمن إلا في داره غصن من أغصانها; وذلك قوله تعالى:
(طوبى لهم وحسن مآب) (4) فتأويل ذلك من جهة العلم والمعارف الإلهية، سيما ما
يتعلق بأمر الآخرة» إلى آخر ما قال.
وقال في الفتوحات: «إن شجرة طوبى أصل لجميع شجرات الدنيا كآدم (عليه السلام)
لما ظهر من النبيين، فإن الله لما غرسها بيده وسواها نفخ فيها من روحه، ولما تولى



(1) إبراهيم: 26.
(2) الصافات: 64 - 65.
(3) الواقعة: 51 - 53.
(4) الرعد: 29.
601
الحق غرس شجرة طوبى بيده ونفخ فيها من روحه، فإذا شجرة طوبى مبدأ
أصول المعارف الحقيقية والأخلاق الحسنة التي هي زينة وغذاء لها ولأهلها».
وهذا الوجه يناسب المعاني والوجوه السابقة.
واعلم أن حديث معاني الأخبار جعل فاطمة الزهراء بمثابة الغصن، وعليا
بمثابة الفرع والحسنين بمثابة الثمار (1).
وفي بصائر الدرجات جعلها الغصن في رواية، وفي رواية أخرى جعل
أمير المؤمنين (عليه السلام) الفرع وفاطمة عنصر تلك الشجرة وأصلها.
وفي البصائر أيضا «أنا جذرها - أي أصلها - وعلي ذروها وفاطمة فرعها،
والأئمة أغصانها، وشيعتهم أوراقها» (2). والحديث في معنى سدرة المنتهى.
وفي تفسير فرات بن إبراهيم وتفسير العياشي مثله.
وكذا في الكافي برواية عمرو بن حريث، وفي إكمال الدين للصدوق برواية
عمرو بن يزيد بياع السابري، عن الصادق (عليه السلام)، إلا أنه لم يذكر اسم فاطمة
الزهراء (عليها السلام).
وقيل: أصل الشجرة النبوة وفرعها الولاية.
وروى في المستدرك عن كتاب الفردوس وكتاب السمعاني بإسنادهما عن
ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أنا الشجرة، وفاطمة حملها، وعلي
لقاحها، والحسن والحسين ثمرها، والمحبون لأهل البيت ورقها من الجنة حقا
حقا» (3).



(1) بحار الأنوار 23 / 230 باب 13، عن شواهد التنزيل.
(2) بحار الأنوار 24 / 139 ح 5 باب 44.
(3) انظر الحديث وما قبله في البحار 24 / 143 ح 13.
602
وقد قدموا اسم فاطمة (عليها السلام) في هذا الخبر بناء على مشربهم ومذهبهم.
والخلاصة: فإن المنصف البصير إذا غاص في بحار هذه الأخبار، علم عدم
جواز التفكيك بين فاطمة الزهراء (عليها السلام) وبين الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين، وعلم
اتحادهم في كل العوالم، وعلم أن كل ما قاله الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في حقها قاله في حق
الأمير (عليه السلام) أيضا في موضع آخر، وأن أهل المعنى إذا لاحظوها بأي منظار، فهي لا
تخرج عن تلك الشجرة التي كانت في الجنة، وأن حواء تابعت آدم (عليه السلام) وبعد أن
نظرت إلى فاطمة بعين الحسد كوشفت بالمقامات العلية لفاطمة الزكية فأكلت من
تلك الشجرة المنهية، أو أنها رأت مقام فاطمة العالي عند رؤية تلك الشجرة
فتناولت منها لعلها تنال ذلك المقام، أو الأفضل منه، والله العالم بحقائق السرائر
وأفعال العباد، والسلام على من نظر إلي بعين الرشاد والسداد.
آدم و حواء هم از وجود تو زادند * گر تو نبودى نبود آدم و حوا
تا به قيامت فتد بدام طبيعت * هركه تمناى قدر تو كند أنشأ
زهره زهرا كجا و آدم خاكى * آدم خاكى كجا و زهرء زهرا (1)
أما سارة رضي الله عنها فهي من بنات الأنبياء وابنة خالة إبراهيم خليل
الرحمن - عليه صلوات الله الملك المنان - وهي من النساء الممدوحات في القرآن،
وكان لها جمال في حد الكمال بعد حواء (عليها السلام)، قال الإمام (عليه السلام): كان لسارة جمال كأنها
حورية الجنان، بل كانت حوراء في صورة إنسية، وقد مر هذا المضمون في حق
الصديقة الطاهرة (عليها السلام).



(1) يقول: لقد ولد آدم وحواء من وجودك، فلو لم تكن لم يكونا.
وسيهوى في شراك الطبيعة - وإلى يوم القيامة - كل من تمنى قدرك.
فأين الزهرة الزهراء من آدم الترابي; وأين آدم الترابي من الزهرة الزهراء.
603
ولم يكن لها في زمانها من النساء قرين في حسن السيرة وجمال المنظر،
وكانت آية من الآيات الإلهية في الحسن والجمال، وكان خليل الرحمن يحبها حبا
جما، وكان إبراهيم (عليه السلام) يراها إذا خرجت حتى تعود، وترتفع الحجب عن عينه
فيرعاها بنظره ذهابا وإيابا، وكان إذا خرج من البيت أقفل عليها الباب.
وجاء في رواية معتبرة: إن إبراهيم حينما خرج إلى مصر عمل تابوتا وجعل
فيه سارة وشد عليها الأغلاق غيرة منه عليها، ومضى حتى خرج من سلطان
نمرود وسار إلى سلطان رجل من القبط يقال له «عرارة»، فمر بعاشر (1) فاعترضه
العاشر ليعشر ما معه، فلما انتهى إلى العاشر ومعه التابوت، قال العاشر
لإبراهيم (عليه السلام): إفتح هذا التابوت حتى نعشر ما فيه، فقال له إبراهيم (عليه السلام): قل ما
شئت فيه من ذهب أو فضلة حتى نعطي عشره ولا نفتحه، قال: فأبى العاشر إلا
فتحه، قال: وغصب إبراهيم (عليه السلام) على فتحه، فلما بدت له سارة وكانت موصوفة
بالحسن والجمال، قال له العاشر: ما هذه المرأة منك؟! قال إبراهيم: هي حرمتي
وابنة خالتي، فقال له العاشر: فما دعاك إلى أن خبيتها في هذا التابوت؟! فقال
إبراهيم (عليه السلام): الغيرة عليها أن يراها أحد، فقال له العاشر: لست أدعك تبرح حتى
أعلم الملك حالها وحالك، قال: فبعث رسولا إلى الملك فأعلمه، فبعث الملك
رسولا من قبله ليأتوه بالتابوت، فأتوا ليذهبوا به فقال لهم إبراهيم (عليه السلام): إني لست
أفارق التابوت حتى يفارق روحي جسدي... فحملوا إبراهيم (عليه السلام) والتابوت
وجميع ما كان معه حتى أدخل على الملك، فقال هل الملك: إفتح التابوت، فقال له
إبراهيم (عليه السلام): أيها الملك إن فيه حرمتي وبنت خالتي، وأنا مفتد فتحه بجميع ما معي،



(1) العاشر والعشار: هو الذي يقبض العشر.
604
قال: فغصب الملك إبراهيم على فتحه، فلما رأى سارة لم يملك حلمه سفهه أن مد
يده إليها، فأعرض إبراهيم (عليه السلام) وجهه عنها وعنه غيرة منه وقال: اللهم احبس يده
عن حرمتي وابنة خالتي، فلم تصل يده إليها ولم ترجع إليه.. فيبست يده، فاعتذر
إليه الملك واستغفر وطلب منه أن يدعو ربه ليطلق يده، ففعل إبراهيم، وعاد الملك
إلى فعله ثلاث مرات، وإبراهيم (عليه السلام) يدعو فتيبس يده ويستغفر فتطلق، فلما رأى
منه الملك ما رأى عظمه وهابه ووهبه جارية قبطية لخدمة سارة، وقال له: أحب
أن تأذن لي أن أخذمها قبطية عندي جميلة عاقلة تكون لها خادما، وهي هاجر أم
إسماعيل... والحديث طويل (1).
والغيرة من الخصال الممدوحة في الرجال، ومعنى الغيرة: الحمية وكراهة
شراكة الغير في الحق الثابت للإنسان، ومن لا غيرة له فهو منكوس القلب، وفي
الحديث «لا أحد أغير من الله تعالى» (2) وروي أيضا: «إن الله يغار والمؤمن يغار»
روي أيضا: «المؤمن غيور».
وفي الحديث المذكور آنفا: قال إبراهيم (عليه السلام) للملك: «إن إلهي غيور يكره
الحرام، وهو الذي حال بينك وبين ما أردت من الحرام».
فسارة لها نسبة قرابة مع إبراهيم (عليه السلام)، ويكفي في جلالها أن إبراهيم (عليه السلام) كان
مأمورا باسترضاءها وتطييب خاطرها، وهو دليل على حسن حالها ومكارم
أخلاقها ومحاسن أفعالها، بل يتبين من بعض الأخبار الصحيحة أنها مجابة الدعوة،
إستجاب لها خالق البريات، وهذا دليل على شأنها العظيم ومقامها الرفيع.



(1) البحار 12 / 44 ح 38.
(2) بحار الأنوار 6 / 110 ح 4 باب 23.
605
ومن خصائصها الرائعة أنها بشرت بقوله تعالى: (فبشرناها بإسحاق ومن
وراء إسحاق يعقوب) (1)، فبعد مضي خمس وسبعون سنة من عمرها الشريف
ووهن قواها واندكاك أعضاءها، بعث الله إليها الملائكة الكرام يبشرونها بمولود من
مثل إسحاق، وجعل من ذريته أنبياء.
وكانت ولادتها غير متوقعة - عادة - لذا قالت (أألد وأنا عجوز وهذا بعلي
شيخا)؟! ولكنها الدعوة المستجابة تماما، كما وهب يحيى (عليه السلام) بتلك الموهبة
الكبرى.
وقد ذكرها الله عز وجل وذكر ضيافتها ومحبتها للضيوف واتباعها لإبراهيم
أبي الأضياف، فقال تعالى: (هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين) (2).
وخاطبها جبرئيل والملائكة الكرام، واعتنى بها قاضي الحاجات عناية خاصة
يطول شرحها. منها على سبيل المثال:
أن إبراهيم (عليه السلام) كان له يوما ضيف، ولم يكن عنده ما يمون ضيفه فقال في
نفسه: أقوم إلى سقفي فأستخرج من جذوعه فأبيعه من النجار فيعمل صنما؟! فلم
يفعل، وخرج ومعه إزار إلى موضع وصلى ركعتين، فلما فرغ ولم يجد الإزار علم أن
الله هيأ أسبابه، فلما دخل داره رأى سارة تطبخ شيئا فقال لها: أنى لك هذا؟ قالت:
هذا الذي بعثته على يد الرجل، وكان الله سبحانه أمر جبرئيل أن يأخذ الرمل
الذي كان في الموضع الذي صلى فيه إبراهيم ويجعله في إزاره والحجارة الملقاة هناك
أيضا، ففعل جبرئيل ذلك وقد جعل الله الرمل جاورسا مقشرا - وفي رواية ذرة -



(1) هود: 71.
(2) الذاريات: 24.
606
والحجارة المدورة شلجما والمستطيل جزرا» (1).
وروي أيضا عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: «إذا سافر أحدكم فقدم من سفره
فليأت أهله بما تيسر ولو بحجر، فإن إبراهيم (عليه السلام) كان إذا ضاق أتى قومه، وإنه ضاق
ضيقة فأتى قومه فوافق منهم إزمة فرجع كما ذهب، فلما قرب من منزله نزل عن
حماره فملأ خرجه رملا إرادة أن يسكن به من روح سارة، فلما دخل منزله حط
الخرج عن الحمار وافتتح الصلاة، فجاءت سارة ففتحت الخرج فوجدته مملوء
دقيقا، فأعجنت منه وأخبزت، ثم قالت لإبراهيم (عليه السلام): انفتل من صلاتك وكل!
فقال لها: أنى لك هذا؟ قالت: من الدقيق الذي في الخرج، فرفع رأسه إلى السماء
وقال: أشهد أنك الخليل» (2).
وكانت سارة صابرة لأنها صبرت على ضيافة إبراهيم الخليل مع ما كانوا
عليه من الفقر والفاقة، وروي أنه كان قد لا يتغذى ثلاثة أيام حتى يجد ضيفا
فيأكل معه (3)، ولذا كني ب‍ «أبو الضيفان» و «أبو الأضياف».
ولذا قال (عليه السلام): «من أكرم ضيفه فهو مع إبراهيم في الجنة».
وروي أن الضيف إذا دخل فتح لصاحب الدار ألف باب من أبواب الرحمة،
وغفر الله له ذنوبه، وكتب له بكل لقمة يأكلها ضيفه ثواب حجة وعمرة مقبولة،
وبنى له مدينة في الجنة.



(1) البحار 63 / 219 ح 4 باب 6 الجزر.
(2) البحار 73 / 282 ح 1 باب 52 في آداب الرجوع عن السفر عن تفسير العياشي: ذيل قوله تعالى
(واتخذ الله إبراهيم خليلا).
(3) انظر بحار الأنوار 12 / 4.
607
ومن أكرم ضيفه فكأنما أكرم سبعين نبيا، وكتب له ثواب ألف شهيد (1).
وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» (2).
وفي الخبر: «لذة الكرام في الإطعام ولذة اللئام في الطعام».
وقال علي (عليه السلام): «إني أحب من دنياكم ثلاثة: إكرام الضيف، والصوم في
الصيف، والضرب بالسيف».
فالإكرام فرع من فروع السخاء، وقد قال الله تعالى: «يابن آدم كن سخيا،
فإن السخاء من حسن اليقين، والسخاء من الإيمان، والإيمان في الجنة. يابن آدم!
إياك والبخل، فإن البخل من الكفر، والكفر في النار».
وفي كتاب عوالم العلوم: رئي أمير المؤمنين (عليه السلام) حزينا، فقيل له: مما حزنك؟
قال: لسبع أتت لم يضف إلينا ضيف (3).
وقد نزلت آيات كثيرة في مدح أمير المؤمنين (عليه السلام) وفاطمة (عليها السلام) في إطعام
الطعام وقرى الضيف والإنفاق على الفقراء وقد ضبطت في كتب الفريقين،
خصوصا سورة هل أتى النازلة فيهم (عليهم السلام).
على أي حال، فإن أجلى وأعلى الصفات الكريمة في سارة إنما هي الحسن
والجمال وشدة العفاف وصبرها على خدمة ضيوف إبراهيم الخليل (عليه السلام) ورضاه عنها
وامتثالها أمر الله سبحانه واقترانها لزوج عظيم يأتي في الفضل بعد رسول الله في
سلسلة الأنبياء والمرسلين.



(1) قرب الاسناد 50.
(2) البحار 72 / 460 ح 14 باب 93.
(3) البحار 41 / 28 ح 1 باب 102.
608
نعم، إن ما روي في كتب التفاسير والمناقب عن غيرة سارة وحسدها فهو
من مقتضيات الطبيعة البشرية، وهي ليست معصومة، وقد ابتلي نظائرها وأترابها
أيضا بهذا البلاء، كحواء حينما حسدت فاطمة الزهراء (عليها السلام) وما فعلته سارة مع
هاجر كان من هذا الباب!!!
ولكن لا يخفى على القارئ أن كل ما أذكره من خصائص في مثل هذه
الموارد، فهو مقدمة لبيان المقامات الرفيعة المنيعة للصديقة الكبرى (عليها السلام)، وكل ما
فيه من شرح لسير هؤلاء النساء المكرمات واستكشاف لكمالاتهن، فهو لمعرفة
علو قدرها وسمو مقامها، فكل واحدة منهن كانت آية من آياتها الباهرات ليس
أكثر.
ففاطمة الطاهرة المرضية تزوجت من أمير المؤمنين، وكان الخليل من شيعته
المخلصين كما في قوله تعالى (وإن من شيعته لإبراهيم) (1) ولطالما توسل به وبعترته
الطاهرين في الشدائد، فاطمئن قلبه، وخصوصا حينما ألقي في النار.
وقد مر سابقا مقارنتها بفاطمة (عليها السلام) في بعض الموارد، وسنذكر هنا موارد
أخرى فنقول:
لقد كانت سارة بنت نبي ولها قرابة قريبة من إبراهيم (عليه السلام)، وفي ذلك فضل
كبير، وفاطمة (عليها السلام) أيضا من بنات الأنبياء، ولكن لم يكن فيهن من كان لها نسب
فاطمة في الفخامة، حيث أنها بنت نبي آخر الزمان، وكانت قرابتها من
أمير المؤمنين أقرب من قرابة سارة من إبراهيم.
وأما في الحسن والجمال، فإن في الروايات دلالة صريحة على أن نساء



(1) الصافات: 83.
609
العالمين طرا لا يدانين تلك المحجوبة الكبرى في المحاسن الصورية والمعنوية، ولا في
مكارم الأخلاق الظاهرية والباطنية، وسنبسط الكلام - فيما بعد - في شمائل مشكاة
الأنوار وخصائل أم الأئمة الأطهار.
وأما بشارة سارة بولادة إسحاق (عليه السلام)، كما بشرت إيشاع أم يحيى بيحيى،
وبشرت مريم بعيسى، فإن فاطمة الزهراء (عليها السلام) - أيضا - بشرت بالحسنين، وفي
الحديث «إن النبي بشرها عند ولادة كل منهما»، فقال لها «ليهنئك أن ولدت إماما
يسود أهل الجنة» وأكمل الله ذلك في عقبها (1).
وقد ولد من صلب إسحاق أنبياء عظام، وولد من صلب سيد الشهداء - ابن
فاطمة الزهراء - أئمة الهدى (عليهم السلام)، وهم المقصودون ب‍ «الكلمة الباقية» صلوات الله
وسلامه عليهم.
وأما حسن معاشرتها وصبرها على خدمة ضيوف الخليل وحبها لهم
واسترضاءها لإبراهيم الحاكي عن رضا الله سبحانه، فكل ذلك لا يبلغ عشر من
أعشار ما كان لفاطمة.
وعلى ما هو المعلوم فإن أعلى درجات السخاء الإيثار، وهو بذل الشئ
المحبوب للغير مع شدة الحاجة إليه، وبعبارة أخرى: أن تجوع أنت وتشبع جائعا،
وهو معنى قوله تعالى (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) (2) النازلة
فيها (عليها السلام).
روى الكراجكي في كنز الفوائد، والشيخ عبد الله بن نور الله في عوالم العلوم



(1) بحار الأنوار 43 / 48 ح 46 باب 3.
(2) الحشر: 9.
610
عن أبي هريرة قال: إن رجلا جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فشكا إليه الجوع، فبعث رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بيوت أزواجه، فقلن: ما عندنا إلا الماء، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): من لهذا الرجل
الليلة؟ فقال علي بن أبي طالب: أنا يا رسول الله، فأتى فاطمة (عليها السلام) فأعلمها،
فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبية، ولكنا نؤثر به ضيفنا، فقال (عليه السلام): نومي الصبية
وأطفئي السراج، فلما أصبح غدا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزل قوله تعالى:
(ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) (1).
وفي كنز الفوائد أيضا في سبب نزول هذه الآية قال (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث: «... يا
علي! إن الله جعلك سباقا للخير سخاء بنفسك عن المال، أنت يعسوب المؤمنين
والمال يعسوب الظلمة، والظلمة هم الذين يحسدونك ويبغون عليك ويمنعون حقك
بعدي» (2).
ونقل صاحب العوالم عن محمد بن شهر آشوب صاحب المناقب أنه قال:
«وأنفق - يعني أمير المؤمنين (عليه السلام) - على ثلاث ضيفان من الطعام قوت ثلاث ليال،
فنزل فيه ثلاثين آية، ونص على عصمته وستره ومراده وقبول صدقته» (3).
أضف إلى ذلك حضور سارة عند ولادة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وفي أوقات
أخرى لخدمتها.
هذا في الدنيا، وستلتزم تلك السيدة المكرمة مع عدة آلاف من الحور العين
والملائكة المقربين خدمة سيدة نساء العالمين يوم القيامة منذ زمن الشفاعة حتى
دخول الجنة.



(1) البحار 36 / 59 ح 1 باب 36 عن كنز الفوائد:
(2) البحار 36 / 60 ح 3 باب 36 عن كنز الفوائد:
(3) البحار 41 / 27 ح 1 باب 102 عن المناقب:
611
وروي في أخبار كثيرة أنها تشارك فاطمة الزهراء (عليها السلام) في تربية أطفال هذه
الأمة في الجنة. وكل تلك الأخبار تدل على علو قدرها وعظمة مقامها.
وإن في نسبتها إلى أهل بيت العصمة والطهارة وقبولها لخدمتهم وإدراكها
لصحبتهم كفاية، وهذا شرف فوق شرف وفضل فوق فضل، فلها غاية المنى
والدرجة العليا في الآخرة والأولى، فعليها وعلى سيدتها ومولاتها شرائف
التسليمات أزكاها، ونوامي البركات والتحيات أسناها.
أما خاتون بنت مزاحم امرأة فرعون
أما آسية بنت مزاحم، فهي سيدة من سيدات نساء الجنان، وامرأة فريدة
بين النسوان، وكانت غاية في قوة الجنان وصلابة الإيمان، وهي من النساء
الممدوحات في القرآن، وقد أعطاها الله الحرمة بين نساء العالمين، وذكرها
النبي مرارا مترحما عليها برأفة، وذكر حسن عقيدتها واستقامة إيمانها، ومعرفتها
وثباتها في الدين، وإعراضها عن الكفرة والمشركين.
ولم يكن - منذ بدء الخليقة وزمان آدم أبو البشر - في أسرة الكفر امرأة
كآسية في إطمئنانها ويقينها وثباتها في محبة الله ورسوله.
روى الشعبي عن جابر وسعيد بن المسيب، وروى كريب عن ابن عباس،
وروى مقاتل عن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس، ورواه أبو مسعود
وعبد الرزاق وأحمد وإسحاق، والثعلبي في تفسيره والسلامي في تاريخ خراسان،
وأبو صالح المؤذن في الأربعين بأسانيدهم عن أبي هريرة أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «حسبك
من نساء العالمين مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد،

612
وآسية امرأة فرعون (1).
قال المجلسي: وفي رواية مقاتل والضحاك وعكرمة عن ابن عباس:
«وأفضلهن فاطمة» (2).
أيضا في الفضائل عن عبد الملك العكبري ومسند أحمد بإسنادهما عن كريب،
عن ابن عباس، أنه قال (صلى الله عليه وآله وسلم): سيدة نساء أهل الجنة مريم (3)... الخبر سواء.
وفي تاريخ بغداد بإسناد الخطيب عن حميد الطويل، عن أنس قال: قال
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): خير نساء العالمين (4)... الخبر سواء.
وفي كتاب أبي بكر الشيرازي: وروى أبو الهذيل عن مقاتل عن محمد بن
الحنفية عن أبيه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ (إن الله اصطفاك وطهرك) (5) الآية فقال
لي: يا علي! خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد،
وفاطمة بنت محمد، وآسية بنت مزاحم (6).
وفي حديث آخر قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لقد كمل من الرجال كثير، وما
كمل من النساء أحد إلا مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت
محمد، وآسية بنت مزاحم» وسيأتي شرح الحديث.
وفي بعض الكتب «ما كمل من النساء إلا أربعة... إلى آخر الخبر.



(1) بحار الأنوار 14 / 195 ح 2 باب 16 عن الثعلبي.
(2) بحار الأنوار 43 / 36 ح 39 باب 3.
(3) بحار الأنوار 43 / 36 ح 39 باب 3.
(4) بحار الأنوار 43 / 36 ح 39 باب 3.
(5) آل عمران: 42.
(6) البحار 43 / 36 ح 39 باب 3 عن المناقب:
613
وفي البحار قال في حديث طويل: «إن آسية بنت مزاحم، ومريم بنت
عمران، وخديجة بنت خويلد يمشين أمام فاطمة كالحجاب لها إلى الجنة» (1).
وفي حديث طويل يأتي في باب الشفاعة وخصائص القيامة: إن حواء معها
سبعون ألف حوراء، وآسية ومن معها يستقبلن فاطمة ويسرن عن يسارها،
وكذلك مريم وخديجة يسرن عن يمينها، لأنها أفضل من حواء وآسية.
ويعرف من هذه الأخبار قرب آسية من فاطمة أم الأطهار، وما لها من
المزية والشرف في هذا الجوار، فالأفضل أن نتعرض إلى شئ من صفات الكمال
فيها، وإلى صلابتها في إيمانها المقبول، وتميزها في ذلك بين نساء آل فرعون (2)
فنقول:
إن بداية ظهور آثار الإيمان والإسلام على آسية كان من التأيدات
السبحانية، لأنها تشرفت بخدمة موسى بن عمران (عليه السلام) حينما رأته في بحر «قلزم»
فتراكضت هي وجواريها، والتقطته من بين الشجر والماء، ولذا سمته «موسى»،
وهو مركب من اسمين بالقبطية، ف‍ «مو» هو الماء، و «سى» الشجر (3)، فلما فتحت
التابوت رأت رضيعا وجهه كالبدر أجمل الناس وأصبحهم، فوقعت عليها منه محبة
في قلبها فوضعته في حجرها وقالت: هذا ابني، فصدقتها جواريها على ما رأت من
بهاء طلعته والنور الذي في جبهته، وقلن: أي والله أي سيدتنا مالك ولد ولا
للملك، فاتخذي هذا ولدا، وكانت قد حرمت من الأولاد الذكور، فقالت: هو



(1) البحار 43 / 37 ح 39 باب 3 عن المناقب:
(2) تميزت آسية بين نساء آل فرعون كما تميز حزبيل بين رجالهم، وحزبيل هو ابن عم فرعون كما قال بعض
المؤرخين. (من المتن)
(3) البحار 13 / 4 باب 1.
614
ابني، فغسلته وألبسته أفخر الثياب وحملته بحفاوة وشغف إلى بعلها فرعون،
وشرحت له حاله.
فقال الغواة من قوم فرعون: أيها الملك! إنا نظن أن ذلك المولود الذي تحذر
منه من بني إسرائيل رمي به في البحر فرقا منك، فهم فرعون - واسمه قابوس بن
مصعب - بقتله، فتوسلت به آسية وتشفعت فيه، فاستوهبته منه (وقالت امرأة
فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا
يشعرون) (1) فوهبه لها، فطلبت له المراضع، فلما امتنع أن يأخذ من المراضع ثديا،
قالت أخته «كلثمة» أو «كلثوم» (هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه وهم له
ناصحون) (2) فلما أتت بأمه ثار إلى ثديها، فشرب كما يشرب العسل حتى امتلأ
جنباه (فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن) (3).
قال بعض أهل السير: عينوا لأم موسى راتبا يدفع لها في كل يوم كمؤونة
لها، وصنعوا له مهدا من ذهب، وبقي الكليم ثلاثون سنة عند آسية، وظهرت له
آيات باهرة ومعجزات متواترة، وهو يعيش في وفور النعم والراحة التامة، في
منتهى الإحترام والعزة، حتى ظن الناس أنه ابن فرعون وآسية.
وكان موسى (عليه السلام) يحب آسية ويحترمها ويداريها، على العكس من فرعون،
فكم من مرة - في صغره وكبره - ضرب فرعون وشتمه ولطمه، وقد قبض - مرة -
على لحيته وهو صغير ثم جرها ونتف بعضها، وهكذا هي يد القدرة الإلهية وحكمة



(1) القصص: 9.
(2) القصص: 12.
(3) القصص: 13.
615
الحضرة الأحدية، حيث جعل أفضل أحباءه يكبر عند أسوأ أعداءه، ولذا لما
ظهرت الآية العظمى وتجلت اليد البيضاء، قال فرعون لموسى: (ألم نربك فينا
وليدا وفعلت فعلتك التي فعلت...) فبلغه موسى (عليه السلام) بالأمر الإلهي، ودعاه للإقرار
بربوبية خلاق السماوات والأرض فلم ينفعه البلاغ، فحزن موسى لخسران ذاك
الجهول الجحود وخذلانه، فعوقب في الدنيا وله في الآخرة عذاب أليم.
الحاصل: كانت آسية خاتون مثالا في ثبات الإيمان وحسن المآل، وقد
منعت من قتل ذاك النبي المعظم، ورعته وربته في بيت الشرك والكفر، وبعد أن
ظهرت الآيات التسعة والكرامات المتتالية سوى الآيتين العظيمتين، العصا واليد
البيضاء، آمنت به سبعون قبيلة من الأقباط، وأذعنوا بعبوديتهم لرب الأرباب،
فغضب فرعون فعذبهم عذابا شديدا، رجالا ونساء، وسمر أيديهم وأرجلهم
بمسامير وأوتاد من حديد، ولذا سمي (فرعون ذي الأوتاد) (1) وحكم على النساء
أن تكبل أرجلهن بالقيود ويساق بهن ليصعدن على سلم مبني بالطين والحجر
والآجر إلى أعالي القصر، فمنهن من تسقط فتموت، ومنهن من يعذبن بعذاب مثل
هذا العذاب، ولو راجعت التفاسير وكتب السير لعرفت ما فعله هذا المخلوق العاجز
الطاغي الباغي على الله!!
وكان مما فعله هذا الطاغي أيضا أنه قتل سبعين من السحرة الذين هددهم
(لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم أجمعين) (2) ولهؤلاء المؤمنين



(1) الفجر: 10.
(2) الشعراء: 49.
616
الراسخين في الإيمان قصة مملوءة بالغصص (1).
وله حكاية آخري مع الماشطة التي كانت تمشط بنته، حيث جعل على
رأسها طشتا وأشعل فيه النار، ورمى بطفلها في تنور من نحاس فحمى والطفل
يأمر أمه بالصبر وهو في لهيب النار، ويقول لها: ليس بينك وبين الجنة إلا خطوة أو
خطوتين... وبقي هكذا حتى مات... إلى آخر الخبر.
والعجيب في أمر آسية أنها كانت تكتم إيمانها في هذه المدة المديدة، وهي عند
فرعون، تعيش معه كزوجة تألفه وتؤانسه، فلما علم بإيمانها استشاط غضبا وأخذ
يصرخ كالمجانين ويتلوى، وكلما أصر عليها أن تقر بربوبيته رفضت وبقيت ثابتة
على إيمانها بالله، وتمسكها بالشريعة الموسوية، فدعى قصابا - كما في بعض التواريخ
المعتبرة - وأمره أن يقطع رأسها أمامه ويسلخ جلدها، فلما شرع القصاب فزع
سكان العالم الأعلى ورقوا لآسية وسألوا الله لها النجاة، فجاءهم النداء من ذي
الجلال: إن آسية أمتي وقد اشتاقت لمولاها، انظروا ماذا تقول في ساعة
احتضارها، فلما استمع الملأ الأعلى وإذا بها تقول (رب ابن لي عندك بيتا في الجنة
ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين) (2).
روى الثعلبي في العرائس: عن ابن عباس قال: أخذ فرعون امرأته آسية
حين ابتدأ بها يعذبها لتدخل في دينه، فمر بها موسى وهو يعذبها، فشكت إليه
بأصبعها، فدعا الله موسى أن يخفف عنها من العذاب، فبعد ذلك لم تجد للعذاب ألما
إلى أن ماتت في عذاب فرعون، فقالت وهي في العذاب: (رب ابن لي عندك بيتا في



(1) بحار الأنوار 13 / 78 باب 4.
(2) التحريم: 11.
617
الجنة ونجني...) الآية، فأوحى الله إليها أن ارفعي رأسك، ففعلت فرأت البيت في
الجنة من در، فضحكت فقال فرعون: انظروا إلى الجنون الذي بها، تضحك وهي
في العذاب (1).
فماتت آسية وكانت وفاتها سببا لهلاك ألف ألف وستمائة ألف من جنود
فرعون، هلكوا بأجمعهم.
ثم قال الملائكة مرة أخرى: عجبا من آسية، تطلب «بيتا» من الله ولا تطلب
شيئا آخر وهي في ساحة المجد الكبريائي الرباني، تطلب بيتا فقط أجرا لصبرها؟!
فقال الله تعالى: إنها طلبت شيئا عظيما، لأنها قالت (رب ابن لي عندك بيتا) فهي
تطلب جواري، وقد بنيته لها.
قال بعض أهل الفطنة وأرباب الذوق: لماذا طلبت آسية «بيتا» ولم تطلب
«دارا»؟ قالوا: لأن البيت محل لخلوة الحبيب يجيبه، البيت موضع أمين لعرض
الحال وكشف الأسرار، وهو أولى من الدار لرعايته مع ملاحظة الأدب والحشمة
والحياء والحجاب، ثم إن آسية أرادت الجوار أولا ثم الدار، وكان لها عند ربها قدم
صدق وكفى.
وقدم صدقها وثبات قدمها وسابقتها الحسنى في الإيمان بالله وبكليم الله خير
شاهد على حالها الذي أدى بها إلى ورود الساحة القدسية، والقعود على بساط
العزة الإلهية، ومجاورة الحضرة الرحمانية.
والحق أن هذه المرأة كانت فريدة في إيمانها الراسخ، وإسلامها القويم،
وثباتها في الدين، وصبرها في البلاد، ومحبتها لحبيب الله، لذا سنعرض في هذا المقام



(1) قصص الأنبياء للثعلبي: 188، البحار 13 / 164 ح 6 باب 5 عن العرائس.
618
موجزا لا يخلو من فائدة، لبيان صلابة آسية وكمال يقينها وإيمانها الذي أوصلها إلى
كعبة المراد. وفي الحديث: إن فرعون كان راضيا بأن يعطي كل ما يملك على أن
يصرف آسية عن الطريق القويم والنهج المستقيم، فلم يفلح لأنها رفضته
وأعرضت عن الدنيا بتمامها، وفدت نفسها لموسى (عليه السلام)، وأرجعت نفسها المطمئنة
راضية مرضية إلى عالم الأنس وحضيرة القدس بإيمانها بالله ورسوله، هذا الإيمان
الذي صرفها عن الدنيا ومنعها عما سوى الله.
إيمان وإيقان
إعلم أن ما يوجب النجاة من المهلكات في الدنيا والآخرة إنما هو الإيمان:
(ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا
ربنا إنك رؤوف رحيم) (1).
وقد أكد القرآن تأكيدا شديدا على الايمان، ولم يذكر شئ في القرآن أكثر من
الأمر بالإيمان والتوجه إلى الآخرة; لذا صار الإهتمام بالإيمان أهم وآكد من أي
عمل آخر; والعبادات والطاعات بأجمعها منوطة بالإيمان قبولا وردا، والشريعة
النبوية متفرعة عليه وقائمة به.
وكما أن القلب أشرف الأعضاء، فكذلك الإيمان - وهو مظروف القلب -
أشرف الصفات والخصال والأصل الأصيل للكمال، لذا قالوا في معنى الإيمان:
«الإيمان هو العقد بالجنان والإقرار باللسان والعمل بالأركان» (2).



(1) الحشر: 10.
(2) بحار الأنوار 10 / 228 ح 1 باب 14.
619
هذا هو التعريف الظاهري للإيمان.
والإيمان كشجرة تنبت في القلب، وتنتشر أغصانها في جميع أجزاء البدن
الإنساني (كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء) (1). فليس في المؤمن
عضو إلا وله حظ من الإيمان.
روى الشهيد الثاني في رسالته «في الإيمان والكفر» (2): من قال بعد صلاة
المغرب مائة مرة «لا إله إلا الله محمد رسول الله» نفعته ثلاث فوائد:
الأولى: لا يضر إيمانه ذنب.
الثانية: يرضى الله عنه.
الثالثة: يرفع عنه عذاب القبر.
وظاهر الحديث أن معنى الإيمان هو الإقرار بالشهادتين بشرط أن يعقد
عليه قلبه.
والإيمان لغة: التصديق بالقلب واللسان، والتصديق بالقلب هو العلم، فإذا
قوي العلم في القلب سمي «يقينا»، وشرط الإيمان توافق القلب واللسان، وعلامته
العمل بالأركان، فإذا توافق العضوان، وتبعهما بقية جوارح الإنسان ولم يعطل
الأمر الإلهي، فهذا هو الإيمان.
وقال بعض المرجئة: الإيمان هو القول دون العمل (3); لأن القول مقدم على
العمل، قال الله تعالى: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما



(1) إبراهيم: 24.
(2) وهي رسالة نافعة ومفيدة للخواص والعوام. (من المتن)
(3) المقالات والفرق للأشعري 5 و 6.
620
يدخل الإيمان في قلوبكم) (1).
والإيمان قد يقوى وقد يضعف; لذا تختلف مراتب المؤمنين.
والإيمان إما أن يكون تحقيقيا أو تقليديا. وبعبارة أخرى: إما أن يكون
بالاستدلال أو بالمكاشفة، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله
والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله
وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا) (2).
والإيمان إما أن يكون بالاستقلال، أو عارية وبالعرض، والممدوح هو
الإيمان الإستقلالي الراسخ الثابت دائما الذي تحصل منه المكاشفات.
والإيمان الإستقلالي الثابت هو أساس العبادات، ومدار الطاعات، والركن
الركين والأصل الأصيل في وجود المؤمن المسلم، والفرائض والسنن كمالات
وفروع، ولا نجاة - البتة - من مهالك النيران إلا بالإيمان.
وأما ما قاله المعتزلة والخوارج والكرامية والمرجئة في المعنى الشرعي
للإيمان فكله ترهات ومزخرفات وركام من الرطب واليابس الذي ينزعج السامع
ويتعب الناظر فيها; والبيان الصحيح ما قاله صاحب مجمع البيان الطبرسي
طاب ثراه قال:
قال الأزهري: اتفق العلماء على أن الإيمان هو التصديق، قال الله تعالى:
(وما أنت بمؤمن لنا) (3) أي ما أنت بمصدق لنا.



(1) الحجرات: 14.
(2) النساء: 136.
(3) يوسف: 17.
621
وقال ابن الأنباري:
ومن قبل آمنا وقد كان قومنا * يصلون للأوثان قبل محمدا
معناه آمنا محمدا أي صدقناه.
والإيمان من آمن من باب الإفعال، وقال أهل الشريعة: «فالإيمان التصديق
به من الله وأنبيائه وملائكته وكتبه ورسله والبعث والنشور والجنة والنار».
وقال المعتزلة: إذا تعدى الإيمان بالباء، فمعنى تصديقي يتضمن الإقرار
والوثوق، وإذا لم يتعدى بحرف فله معنى آخر، فمن فسد اعتقاده وأقر بالشهادتين
لفظا فهو منافق، ومن أنكر لفظا وفسد اعتقاده فهو كافر، ومن أخل بالعمل ولم
يخل بالقلب واللسان فهو فاسق.
وعلى أي حال; لا ينبغي للمؤمن أن يقصر في الإتيان بالطاعات الواجبة
والمندوبة والإعتقادات الحقة وكل ما يتعلق بالأقوال والأحوال الممدوحة،
والاجتناب عن الكبائر والاحتراز عن المحظورات، ولا بد له من التصديق
والإذعان بالتعريف المعروف: «إن الإيمان هو عقد بالجنان وإقرار باللسان وعمل
بالأركان».
وقيل: إن الإيمان الكامل هو معرفة الله، وجعلوا ذلك أصلا لكل الطاعات،
بل جعلوا كل طاعة إيمانا.
وقيل: إن الإيمان اسم جامع للفرائض والنوافل، ومنهم من أضاف غير
النوافل أيضا.
أما المرجئة الذين قالوا: إن الإيمان قول بلا عمل، فقد غفلوا عن قوله تعالى:

622
(ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين) (1) وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
«من قال شيئا واعتقد خلافه فهو كاذب».
والمذهب الحق أن يقترن الإيمان بالعمل، كما قال الله تعالى: (إن الذين آمنوا
وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنه هم فيها خالدون) (2).
وقال تعالى أيضا: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير
ممنون) (3).
وقال تعالى أيضا: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق
وتواصوا بالصبر) (4).
وقال تعالى أيضا: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير
البرية) (5).
ونظائر هذه الآيات كثيرة في القرآن.
ويحضرني في المقام بيان مفيد لعلماء التفسير وعظام أهل التحقيق لا بأس
بذكره هنا:
قالوا: إن لكل شئ ثلاث وجودات: وجود عيني، ووجود ذهني، ووجود
لفظي، والإيمان كذلك له وجودات ثلاثة.
وعلى ما هو المعلوم، فإن الوجود العيني لكل شئ هو الأصل، وباقي
الوجودات فروع وتوابع.



(1) البقرة: 8.
(2) البقرة: 82.
(3) فصلت: 8.
(4) العصر: 3.
(5) البينة: 7.
623
فالوجود العيني الإيماني نور يسطع في القلب بعد رفع الحجاب بينه وبين
الحق تعالى. قال تعالى: (مثل نوره كمشكاة فيها مصباح) (1) وقال تعالى: (الله
ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور) (2).
والإيمان الثابت يقبل الشدة والضعف مثل الأنوار الأخرى. ويشهد لذلك
قوله تعالى: (فإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا) (3).
فكلما ارتفع حجاب من الحجب، ازداد نور الإيمان في الإنسان وانشرح
صدره بذلك النور، وعرف حقائق الأشياء كما هي، وبمقدار انشراح الصدر يقدم
على الأوامر ويجتنب النواهي، بحيث تحيط أنوار الأخلاق الفاضلة والملكات
الحميدة بتمام أعضائه وقواه. قال تعالى: (نور على نور يهدي الله لنوره من
يشاء) (4) وقال تعالى: (نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم) (5).
فهذا الإيمان تحفة نورانية في ظلمات الطبيعة الإنسانية تجعل أنوار المعارف
الجلية وتجليات العلوم الربانية وجدانية للمؤمن.
أما الإيمان اللفظي، فهو على العكس تماما، لأنه إقرار بالشهادتين باللسان
دون التحقق من حقيقتها، فهذا الإيمان لا فائدة فيه، ومثله مثل من ينطق بلفظ
الخبز والماء، فلفظ الماء لا يروي عطشانا، ولفظ الخبز لا يشبع جائعا، وهو الإيمان
التقليدي، ويقابله الإيمان التحقيقي.



(1) النور: 35.
(2) البقرة: 257.
(3) الأنفال: 2.
(4) النور: 35.
(5) التحريم: 8.
624
أجل من تلفظ الشهادتين لحقه حكم المسلم ظاهرا، وحرم دمه وماله
وعرضه، ولكنه لا ينال شيئا من المثوبات الأخروية البتة، وهو إيمان العوام عموما
والسفلة منهم خصوصا.
والخلاصة: إن القلب للإيمان، والبدن للعبادة، واللسان للشهادة، واللسان
ترجمان القلب، والقلب ترجمان الحق، فالإيمان التحقيقي يتضمن الإسلام،
والإسلام قد يكون فاقدا للإيمان.
ففي الكافي: «الإيمان إقرار وعمل، والإسلام إقرار بلا عمل» (1).
والإيمان كعين غزيرة تجري منها الأنهار والسواقي والجداول حسب
غزارتها، أو كمشكاة في الروح الحيواني كلما ازداد زيتها أنارت زوايا البدن
الإنساني أكثر، أو أن الإيمان كجوهر ثمين في صندوق الوجود الإنساني،
والشياطين يترصدونه يمينا وشمالا ليسرقوا منه، فإذا عصى الإنسان سلب منه
النور وروح الإيمان، فإذا تاب عادت إليه، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):... لو لم يكن في
الأرض إلا مؤمن واحد لاكتفيت به عن جميع خلقي، وجعلت له من إيمانه أنسا لا
يحتاج معه إلى أحد (2)، فلا بد أن يكون المؤمن غريبا في الدنيا وطوبى للغرباء.
بود گبرى در زمان بايزيد * گفت أو را يك مسلمان سعيد
كه چه بأشد گر تو اسلام آورى * تا بيابى صد نجات و سروري
گفت أين ايمان اگر هست أي مريد * آنكه دارد شيخ عالم بايزيد
مؤمن ايمان آنم در نهان * گرچه مهرم هست محكم بر دهان



(1) بحار الأنوار 68 / 245 ح 4 باب 24 عن الكافي.
(2) البحار 6 / 160 ح 24، 25 باب 6 سكرات الموت وشدائده.
625
باز ايمان گر خود ايمان شماست * نى بدان ميل استم و نى مشتهاست
آنكه صد ميلش سوى ايمان بود * چون شما را ديد فاتر مى شود (1)
فلا ينبغي - إذن - التفريق بين الإيمان والعمل، لأن العمل جزء من الإيمان،
والإيمان سلطان على العمل، وله حكومة على الأفعال المتعلقة بالأعضاء
الإنسانية، فإذا قصرت في أعمالها صارت كالعضو المشلول، قال تعالى: (وما
يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) (2)، وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا آمنوا
بالله ورسوله) (3) الآية أي الإعتقاد بما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مما يجب على المؤمن أن
يعلمه ويعمله ويقوله، وضده الكفر والجحود قال تعالى: (إن الذين كفروا سواء
عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) (4).
فويل لمن آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه.
نعم; قد يتمسك البعض بالقول بزيادة الإيمان ونقصه واختلاف القوابل، ففي
الخبر المعتبر: «... فقلت: جعلت فداك إنا نبرأ منهم أنهم لا يقولون ما نقول. فقال
الصادق (عليه السلام): يتولونا ولا يقولون ما تقولون تبرؤون منهم؟ قال: قلت: نعم. قال:
فهو ذا عندنا ما ليس عندكم، فينبغي لنا أن نبرأ منكم؟ قال: قلت: لا، جعلت



(1) يقول: كان هناك يهودي في زمان بايزيد البسطامي، فقال له مسلم سعيد باسلامه: لماذا لا تصبح مسلما
فتنجو وتحصل على الرفعة والفلاح؟
قال: إن كان هناك إيمان - يا أيها المريد - فهو الذي عند شيخ العالم بايزيد وأنا مؤمن بذلك الإيمان في
الخفاء، ولكن فمي مقفل مطبق، فلا أبوح بإيماني، أما إن كان الإيمان إيمانك أنت، فلست أرغب فيه أبدا.
لأن من كان راغبا في الإيمان، إذا شاهد إيمانك فترت رغبته وبرد عزمه.
(2) يوسف: 106.
(3) النساء: 136.
(4) البقرة: 6.
626
فداك قال: وهو ذا عند الله ما ليس عندنا، أفتراه إطرحنا؟ قال: قلت: لا، جعلت
فداك، ما نفعل؟ قال: فتولوهم ولا تبرؤا منهم، إن من المسلمين من له سهم،
ومنهم من له سهمان، ومنهم من له ثلاثة أسهم، ومنهم من له أربعة أسهم (1)... إلى
آخر الحديث.
وسأل شخص فاضلا: هل الإيمان يزيد وينقص؟ قال: لا. قال السائل:
فإيماني وإيمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سواء؟ فقال الفاضل: إن الشمس إذا دخلت برج الأسد
بلغت حرارتها الذروة في الأقاليم السبعة، ولربما ذاب الذهب في بعض الأودية،
فإذا نزلت في برج الجدي يبرد الجو إلى حد يتعذر معه الوقوف في بعض النقاط
المرتفعة، والشمس هي الشمس لا اختلاف فيها إن كانت في برج الأسد أو في برج
الدلو، ولكن الإختلاف في مواقف البروج والمنازل.
ثم إن الإيمان قسمان: تقليدي وتحقيقي، والتحقيقي أيضا قسمان: استدلالي
وكشفي، وكل واحد منهما ينقسم إلى ما له نهاية وما ليس له نهاية، فما كان له نهاية
سمي ب‍ «علم اليقين»، وما ليس له نهاية سمي ب‍ «عين اليقين»، وما كان بالمشاهدة
والمكاشفة سمي ب‍ «حق اليقين».
* * *
نرجع الآن إلى صلب الموضوع نستخلص النتائج من هذه المستطرفات
والمفردات المرقومة:
أولا: في بحار الأنوار عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «اشتاقت الجنة إلى أربع من
النساء: مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم زوجة فرعون، وهي زوجة



(1) البحار 69 / 161 ح 2 باب 32 عن الكافي.
627
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الجنة، وخديجة بنت خويلد زوجة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الدنيا والآخرة،
وفاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)» (1).
ونحن نعلم أن الجنة خاصة بأهل الإيمان، وأنها لا تشتاق إلا الكمل من
المؤمنين، فينتج من هذا الحديث النبوي (صلى الله عليه وآله وسلم) الشريف أن آسية كانت ذات إيمان
كامل، وسيأتي قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لقد كمل من الرجال كثير وما كمل من النساء إلا
أربعة».
ويمكن أن يقال: إن تلك المكرمة المحترمة انتقلت من مرتبة «علم اليقين» إلى
مرتبة «عين اليقين» فأكملت إيمانها هنا، ثم انتقلت إلى عالم الشهود وسارت في هذا
المقام إلى منتهاه، ويكفيها فخرا أنها كانت سباقة إلى التوحيد في مدة مديدة من
زمان موسى (عليه السلام)، حيث وحدت الخلاق ولا موحد غيرها في الرجال والنساء،
والأعجب من ذلك كتمانها إيمانها عن فرعون، حتى اقتضت الحكمة كشف الحجاب
ورفع النقاب وإفشاء السر المكنون. فدعيت - عند ذلك - إلى العالم الأعلى بدعوة
(إن إلى ربك الرجعي) (2).
أما المرتبة الأخيرة فهي عالم حق اليقين، وهو بحر لا ينزف، وعالم مجهول لا
يعرف، وهو معنى الفناء في الله، الخاص بالصديقة الكبرى فاطمة الزهراء سلام الله
عليها، وهو مقام لم يحصل، ولن يحصل لسواها من النساء، وعلامة هذا المقام المنيع
والقدر الرفيع إعراضها عن الدنيا والعقبى، وتوجهها التام إلى ساحة حضرة العلي
الأعلى. ولو أنعمنا النظر بعين البصيرة لانكشف لنا حقيقة هذا المعنى من قوله



(1) البحار 43 / 53 ح 48 باب 3.
(2) العلق: 8.
628
تعالى: (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض) (1).
وقال علي بن الحسين (عليهما السلام): «إني أقبلت بكلي إليك».
ونعم ما قيل:
إذا اشتغل اللاهون عنك بشغلهم * جعلت اشتغالي فيك يا منتهى شغلي
وكيف لا تكون فاطمة الزهراء كذلك وأبوها يقول: «إن ابنتي فاطمة ملأ الله
قلبها وجوارحها إيمانا إلى مشاشها» كما في الحديث عن الباقر (عليه السلام) قال: بعث رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سلمان إلى فاطمة قال: فوقفت بالباب وقفة حتى سلمت، فسمعت فاطمة
تقرأ القرآن من جوا والرحى يدور من برا، وما عندها أنيس.
وقال في آخر الخبر.. فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: يا سلمان! إن ابنتي
فاطمة ملأ الله قلبها وجوارحها إيمانا إلى مشاشها، تفرغت لطاعة الله، فبعث الله
ملكا اسمه زوقابيل - وفي خبر آخر: جبرئيل - فأدار لها الرحى، وكفاها الله مؤنة
الدنيا مع مؤنة الآخرة (2).
قال في النهاية: في صفته (صلى الله عليه وآله وسلم): جليل المشاش، ومنه الحديث: «ملئ عمار
إيمانا إلى مشاشه» (3) وفي رواية: «أخمص قدميه» (4).
وفي الشمائل المرتضوية في حديث طويل: «إنه رجل دحداح البطن، طويل
الذراعين، ضخم الكراديس، أنزع، عظيم العينين، لسكنه مشاشار كمشاشير



(1) الأنعام: 79.
(2) البحار: 43 / 46 ح 44 باب 3 عن المناقب.
(3) البحار 43 / 46 ح 44 باب 3 و 22 / 319 ح 4 باب 10.
(4) انظر البحار 19 / 35 باب 6.
629
البعير، ضاحك السن» (1).
قال المجلسي (رحمه الله): «ولم أجد لمشاشار معنى في اللغة: ولعله كان في الأصل: له
مشاش كمشاش البعير، والمشاش رؤوس العظام، ولم تكن تلك الفقرة في بعض
النسخ» (2) إنتهى.
ومعنى المشاش كما في الصحاح والقاموس عن الجوهري والفيروزآبادي:
رؤوس العظام، كالمرفقين والكعبين والركبتين. قال الجوهري: هي رؤوس العظام
اللينة التي يمكن مضغها (3).
مثل الكردوس وجمعه الكراديس، وهو كل عظمين التقيا في مفصل نحو
المنكبين والركبتين والوركين (4).
والهاء في «مشاشها» تعود على فاطمة (عليها السلام)، أو على جوارحها; والمعنى
واحد، والعبارة تدل على قوة إيمانها، والمقصود من شدة الحمل وصلابته قوة الحال
واستحكامها، وهو الإيمان، وإشارة إلى رسوخه وثباته وسريانه في تمام أعضاء
فاطمة (عليها السلام) من الرأس إلى القدم، سواء في الأعضاء الصلبة العظيمة أو في الأعضاء
الرخوة اللينة الرقيقة.
وفي الحديث ثلاث فضائل لفاطمة (عليها السلام):
الأولى: إن الله كفاها أمر دنياها وآخرتها، وهو الكافي.
الثانية: أمر جبرئيل بخدمتها.



(1) البحار 43 / 99 ح 11 باب 5.
(2) البحار 43 / 18 ح 11 باب 5.
(3) البحار 43 / 46 ح 44 باب 3.
(4) البحار 43 / 101 ح 11 باب 5.
630
الثالثة: إحاطة الإيمان بتمام أعضاء بدنها الشريف من أصول العظام وغيرها
بنحو الهاجم والتراكم، بحيث تمر من القلب والجوارح وتترسخ في عظام بدنها
وتنفذ فيها، عكس باقي النساء حيث قيل في حقهن: «إنهن نواقص العقول» (1).
وببيان آخر: قلنا أن علامة الإيمان في المؤمن اقترانه بالعمل، وقد عبر
الحديث بقوله: «العمل بالأركان» ولهذه العظام العظيمة مدخلية في التذلل والعبادة
وإطاعة الرب، خصوصا في أداء الفرائض والأعمال البدنية الأخرى. وقد أدت
فاطمة الزهراء (عليها السلام) حق كل عضو من أعضاءها بنحو الكمال، خلافا لأهل المعصية
الذين يمكنهم أن يقولوا «إلهي عصيتك بجميع جوارحي التي أنعمت بها علي» (2).
وكانت تلك المخدرة مستغرقة في الطاعات والتوجه إلى الحضرة الإلهية، لا
تفرغ جوارحها من العبادة كما قال علي بن الحسين (عليهما السلام): «شهد بها شعري وبشري
ومخي وعظامي ولحمي...» (3) ولذا كانت تزداد في كمالاتها الإيمانية آنا بعد آن،
وزمانا بعد زمان، فإذا صار العبد كذلك وارتبط بمولاه الحقيقي ارتباطا معنويا
واتصل به اتصالا روحانيا، صدق حينئذ في حقه الحديث القدسي: «إذا تقرب
عبدي إلي بالنوافل، أحببته فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي
يبصر به ويده التي يبطش بها...» (4).
فنقول: إن الإيمان الكامل للفرد يتحقق بالإتيان بتمام ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وهو الدين الخالص، والكامل في هذا الإيمان الخالص ينال مقام حق اليقين،



(1) البحار 32 / 247 ح 195 باب 4.
(2) البحار 98 / 284 ح 4 باب 2.
(3) البحار 97 / 209 ح 5 باب 1.
(4) البحار 75 / 155 ح 25 باب 57 باختلاف يسير.
631
ويتمحض في إطاعة أوامر وأحكام الخلاق المبين، وليس هذا الشخص الكامل في
الإيمان إلا فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها
وبنيها أجمعين.
ونظير هذا الحديث قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الشريف في حق الولي الأعظم حينما برز
إلى عمرو بن عبد ود، فقال: «لقد برز الإيمان كله إلى الشرك كله» (1) وهو نظير قوله
تعالى: (ما كذب الفؤاد ما رأى) (2) يعني أن أمير المؤمنين صار هو الإيمان لشدة
اعتقاده الصحيح ورياضاته البدنية وعباداته، بل إن معنى الإيمان وحقيقته لا
يتحقق إلا بولايته، أو أن الإيمان بمراتبه المختلفة لا يكمل إلا بولايته. ويشهد لذلك
قول عمر بن الخطاب - كما في المناقب -: إني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: «لو أن
السماوات والأرض وضعت في كفة ووضع إيمان علي في كفة، لرجح إيمان
علي (عليه السلام)» (3). و (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) (4) من عباده.
وفي حديث آخر: قال الله تعالى: «فإني آليت على نفسي قسما حقا لا أتقبل
من أحد إيمانا ولا عملا إلا مع الإيمان به» (5).
وفي تفسير العياشي وكتاب «ما نزل من القرآن في علي (عليه السلام)» عن عكرمة،
عن ابن عباس قال: ما نزلت آية (يا أيها الذين آمنوا) إلا وعلي شريفها
وأميرها (6).



(1) البحار 70 / 22 ح 21 باب 43.
(2) النجم: 11.
(3) البحار 38 / 249 ح 42 باب 65 عن المناقب:
(4) المائدة: 54.
(5) البحار 13 / 233 ح 43 باب 7 في حديث طويل.
(6) البحار 36 / 99 ح 40 باب 39 عن تفسير العياشي.
632
وفي تفسير فرات عن أبي مريم قال: سألت جعفر بن محمد عن قول الله
تعالى: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون) (1)
قال: «يا أبا مريم هذه والله لعلي بن أبي طالب خاصة، ما لبس إيمانه بشرك ولا ظلم
ولا كذب ولا سرقة ولا خيانة» (2).
«وإن عليا أول من آمن بالله ورسوله، وقالت بنته زينب الكبرى (عليها السلام) في
وصفه عليه صلوات الله وسلامه:
إمامي وحد الرحمن طفلا * وآمن قبل تشديد الخطاب (3)
والأخبار والآثار في إيمان أمير المؤمنين كثيرة في كتب الفريقين.
أقول: إن مثال العصمة الكبرى هي فاطمة الزهراء بنت نبي الرحمة، وقرينة
سلطان الولاية، ولازم الإيمان الكامل الثبات والدوام على العقيدة.
وقد مر سابقا أن آسية اجتهدت في سبيل الإسلام والإيمان غاية الاجتهاد،
وتحملت الصعاب، وقدمت روحها فداء واستشهدت في سبيل الله، والعاقبة أنها
نالت أجر همتها العالية، فرفع ا لله عن نظرها الحجاب، فرأت منزلها في الجنة،
وهذا معنى (ما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله) (4)، ولكن تبقى الدرجة
الرفيعة لفاطمة الشفيعة أعلى وأفضل من مقام آسية لأنها أدركت سعادة الشهادة،
قال الإمام (عليه السلام) «إنها ماتت شهيدة» (5)، ولأنها لم تتمن على الله عند رحلتها في اليوم



(1) الأنعام: 82.
(2) البحار 35 / 348 ح 30 باب 13 عن تفسير فرات:
(3) البحار 45 / 285 ح 16 باب 44 والقصيدة طويلة.
(4) البقرة: 110; المزمل: 20.
(5) انظر البحار: 43 / 198 ح 29 باب 7.
633
الأخير من عمرها حورا وقصورا وولدانا وغلمانا وجنانا، ما تمنت شيئا من ذلك،
وإنما تمنت جوار أبيها سيد الرسل.
وحينما وهبت ثوبها ليلة الزفاف إلى الفقير السائل نزل جبرئيل وقال: فلتسأل
فاطمة من العلي الأعلى ما تشاء، حتى لو كان ما في الخضراء والغبراء، فقالت (عليها السلام):
«شغلتني لذة خدمتي عن مسألتي إياه، وما أريد إلا النظر إلى وجهه الكريم».
انظر إلى علو همتها وبعد نظرها (عليها السلام)، حيث لم ترد من الله إلا الله، فأظهرت
الشوق للقاء الرب، وحصرت رجاءها الواثق بلقاء جمال ذي الجلال والحضرة
النبوية المقدسة، «فعليك بالله ودع ما سواه».
وقد دعت للأمة المرحومة دعاء الخير، فأجابها الرب الودود أن (كتب
ربكم على نفسه الرحمة) (1) والحديث طويل سيأتي في خصيصة وفاتها (عليها السلام).
* * *
وعجبا، فلم أكن أحسب أنني سأطيل كلا هذه الإطالة، وذلك لأني كنت
أحفظ بعض الأخبار فذكرتها ولم أرد إبقاءها في الذهن، فأشرت إلى كل واحدة
منها إشارة عابرة، والأفضل أن نعود إلى الموضوع فنذكر النسوان الأخريات ذكرا
إجماليا بما يقتضيه هذا الكتاب - الذي يبحث في حالات أم الأطياب صلوات الله
وسلامه عليها - لئلا يخلو من الإشارة إلى خادمات تلك المخدومة التي يخدمها أهل
الأرضين والسماوات!



(1) الأنعام: 54.
634
المحتويات
المقدمة... 3
الديباجة... 27
الخصيصة الأولى (في المقدمة)
في بيان أسماء الكتب التي سميت ب‍ «الخصائص» و...... 47
الخصيصة الثانية (في المقدمة)... 67
الخصيصة الثالثة (في المقدمة)
في التحريض على كتابة الحديث ومتابعة السند والإعراض عن كتب الآخرين... 91
ثلاثون خصيصة من خصائص فاطمة الزهراء (عليها السلام)
الكنية، اللقب، الاسم، وخلقتها النورية
الخصيصة الأولى
في معنى «الكنية» وعموم كنى تلك المخدرة... 112
الخصيصة الثانية (من الخصائص الثلاثين)
في معنى كنيتها «أم أبيها»... 126

635
الخصيصة الأولى
في شرف اللقب وفضله... 137
الخصيصة الثانية (من الخصائص العشرين)
في معنى «البتول»... 152
الخصيصة الثالثة (من الخصائص العشرين)
في معنى «الطاهرة»... 160
الخصيصة الرابعة (من الخصائص العشرين)
في معنى «السيدة»... 166
الخصيصة الخامسة (من الخصائص العشرين)
في معنى «سيدة النسوان»... 171
الخصيصة السادسة (من الخصائص العشرين)
في معنى «الحوراء»... 178
الخصيصة السابعة (من الخصائص العشرين)
في معنى «العذراء»... 182
الخصيصة الثامنة (من الخصائص العشرين)
في معنى «التقية»... 185
الخصيصة التاسعة (من الخصائص العشرين)
في معنى «الحرة»... 188
الخصيصة العاشرة (من الخصائص العشرين)
في معنى «الحصان»... 194

636
الخصيصة الحادي عشر (من الخصائص العشرين)
في معنى «الحانية»... 198
الخصيصة الثانية عشر (من الخصائص العشرين)
في معنى «الزهراء»... 204
الخصيصة الثالثة عشر (من الخصائص العشرين)
في معنى «المنصورة»... 213
الخصيصة الرابعة عشر (من الخصائص العشرين)
في معنى «الصديقة الكبرى»... 218
الخصيصة الخامسة عشر (من الخصائص العشرين)
في معنى «الزكية»... 226
الخصيصة السادسة عشر (من الخصائص العشرين)
في معنى «الراضية والمرضية»... 231
الخصيصة السابعة عشر (من الخصائص العشرين)
في معنى «المباركة»... 236
الخصيصة الثامنة عشر (من الخصائص العشرين)
في معنى «النورية»... 240
الخصيصة التاسعة عشر (من الخصائص العشرين)
في معنى «مريم الكبرى»... 249
الخصيصة العشرين (من الخصائص العشرين)
في معنى «المحدثة» - بفتح الدال -... 257

637
تسمية سامية
في الاسم السامي لفاطمة الزهراء (عليها السلام)... 270
الخصيصة الأولى من الخصائص الثلاث
في بيان معنى الاسم المبارك... 278
الخصيصة الثانية من الخصائص الثلاث
في معاني الاسم الشريف «فاطمة»... 286
الخصيصة الثالثة من الخصائص الثلاث... 309
خمس خصائص من الخصائص الثلاثين
في إبداع نور فيض ظهور فاطمة الزهراء 3
الخصيصة الأولى
ابتداء خلقها وإبداع نور المخدرة الطاهرة (عليها السلام)... 317
الخصيصة الثانية من الخصائص الخمسة... 324
الخصيصة الثالثة من الخصائص الخمسة
من أي شئ خلقت النطفة الطاهرة الطيبة لفاطمة الزكية؟... 334
الخصيصة الرابعة من الخصائص الخمسة... 359
الخصيصة الخامسة من الخصائص الخمسة... 369

638
الخصائص الخمسون من ولادتها سلام الله عليها
الخصيصة الأولى في ولادتها
في تعيين اليوم والشهر والسنة التي ولدت فيها فاطمة الزهراء (عليها السلام)... 383
الخصيصة الثانية من الخصائص الخمسين
(ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء)... 391
الخصيصة الثالثة من الخصائص الخمسين... 402
الخصيصة الرابعة من الخصائص الخمسين... 427
الخصيصة الخامسة من الخصائص الخمسين
في فضائل خديجة الطاهرة (عليها السلام)... 437
الخصيصة السادسة من الخصائص الخمسين... 455
الخصيصة السابعة من الخصائص الخمسين
في هجرة فاطمة (عليها السلام) من مكة إلى المدينة... 466
الخصيصة الثامنة من الخصائص الخمسين
في حالات «حميراء» بنت أبي بكر بن أبي قحافة... 482
الخصيصة التاسعة من الخصائص الخمسين قبل وفاتها (عليها السلام)... 512
الخصيصة العاشرة من الخصائص الخمسين
في تساوي السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) مع بعض الأنبياء العظام و...... 533
الخصيصة الحادي عشر من الخصائص الخمسين
في تساوي بعض حالات فاطمة (عليها السلام) مع رسول الله وأمير المؤمنين وأبنائها (عليهم السلام)... 544

639
الخصيصة الثانية عشر من الخصائص الخمسين
في أن فاطمة (عليها السلام) أفضل من الحسنين (عليهما السلام)، والاختلاف في ذلك... 560
الخصيصة الثالثة عشر من الخصائص الخمسين
في حالات مريم بنت عمران... 571
الخصيصة الرابعة عشر من الخصائص الخمسين
في حالات السيدة حواء وسارة وآسية ومقارنتهن بفاطمة (عليها السلام)... 586

640
/ 1