أخلاق أهل البيت (ع) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

أخلاق أهل البيت (ع) - نسخه متنی

محمد مهدی صدر

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: أخلاق أهل البيت (ع)
المؤلف: السيد محمد مهدي الصدر
الجزء:
الوفاة: 1358
المجموعة: مصادر سيرة النبي والائمة
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:
أخلاق أهل البيت عليهم السلام
تأليف
السيد محمد مهدي الصدر

1
أخلاق أهل البيت
تأليف:
السيد مهدي الصدر
القسم الأول - الأخلاق العامة

2
إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن
الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون.
(القرآن الكريم)
الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم
الله وأولئك هم أولو الألباب.
(القرآن الكريم)

3
إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى
الأرض، وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني
فيهما.
(الرسول الأعظم)
أفاضلكم أحسنكم أخلاقا الموطئون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون وتوطأ رحالهم.
(الرسول الأعظم)

4
مقدمة الكتاب

5
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين. وبعد:
فإن علم الأخلاق هو: العلم الباحث في محاسن الأخلاق ومساوئها، والحث على التحلي
بالأولى والتخلي عن الثانية.
ويحتل هذا العلم مكانة مرموقة، ومحلا رفيعا بين العلوم، لشرف موضوعه، وسمو غايته.
فهو نظامها، وواسطة عقدها، ورمز فضائلها، ومظهر جمالها، إذ العلوم بأسرها منوطة
بالخلق الكريم، تزدان بجماله، وتحلو بآدابه، فإن خلت منه غدت هزيلة شوهاء، تثير
السخط والتقزز.
ولا بدع فالأخلاق الفاضلة هي التي تحقق في الانسان معاني الانسانية الرفيعة، وتحيطه
بهالة وضاءة من الجمال والكمال، وشرف النفس والضمير، وسمو العزة والكرامة، كما
تمسخه الأخلاق الذميمة، وتحطه إلى سوي الهمج والوحوش.
وليس أثر الأخلاق مقصورا على الأفراد فحسب، بل يسري إلى الأمم والشعوب، حيث تعكس
الأخلاق حياتها وخصائصها ومبلغ رقيها، أو تخلفها في مضمار الأمم.
وقد زخر التاريخ بأحداث وعبر دلت على أن فساد الأخلاق وتفسخها كان معولا هداما
في تقويض صروح الحضارات، وانهيار كثير من الدول والممالك:

6
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم * فأقم عليهم مأتما وعويلا
وناهيك في عظمة الأخلاق، أن النبي صلى الله عليه وآله أولاها عناية كبرى، وجعلها
الهدف والغاية من بعثته ورسالته، فقال:
(بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
وهذا هو ما يهدف إليه علم الأخلاق، بما يرسمه من نظم وآداب، تهذب ضمائر الناس
وتقوم أخلاقهم، وتوجههم إلى السيرة الحميدة، والسلوك الأمثل.
وتختلف مناهج الأبحاث الخلقية وأساليبها باختلاف المعنيين بدراستها من القدامى
والمحدثين: بين متزمت غال في فلسفته الخلقية، يجعلها جافة مرهقة عسرة التطبيق
والتنفيذ. وبين متحكم فيها بأهوائه، يرسمها كما اقتضت تقاليده الخاصة، ومحيطه
المحدود، ونزعاته وطباعه، مما يجردها من صفة الأصالة والكمال. وهذا ما يجعل تلك
المناهج مختلفة متباينة، لا تصلح أن تكون دستورا أخلاقيا خالدا للبشرية.
والملحوظ للباحث المقارن بين تلك المناهج أن أفضلها وأكملها هو: النهج الاسلامي،
المستمد من القرآن الكريم، وأخلاق أهل البيت عليهم السلام، الذي ازدان بالقصد
والاعتدال، وأصالة المبدأ، وسمو الغاية، وحكمة التوجيه، وحسن الملائمة لمختلف
العصور والأفكار.
وهو النهج الفريد الأمثل الذي يستطيع بفضل خصائصه وميزاته أن يسمو بالناس فردا
ومجتمعا، نحو التكامل الخلقي، والمثل الأخلاقية العليا، بأسلوب شيق محبب، يستهوي
العقول والقلوب، ويحقق لهم ذلك بأقرب

7
وقت، وأيسر طريق.
هو منهج يمثل سمو آداب الوحي الإلهي، وبلاغة أهل البيت عليهم السلام، وحكمتهم، وهم
يسيرون على ضوئه، ويستلهمون مفاهيمه، ويستقون من معينه، ليحيلوها إلى الناس حكمة
بالغة، وأدبا رفيعا، ودروسا أخلاقية فذة، تشع بنورها وطهورها على النفس،
فتزكيها وتنيرها بمفاهيمها الخيرة وتوجيهها الهادف البناء.
من أجل ذلك تعشقت هذا النهج، وصبوت إليه، وآثرت تخطيط هذه الرسالة ورسم أبحاثها
على ضوئه وهداه.
ولئن اهتدى به أناس وقصر عنه آخرون، فليس ذلك بقادح في حكمته وسمو تعاليمه، وإنما
هو لاختلاف طباع الناس، ونزعاتهم في تقبل مفاهيم التوجيه والتأديب، وانتفاعهم بها،
كاختلاف المرضى في انتفاعهم بالأدوية الشافية، والعقاقير الناجعة: فمنهم المنتفع
بها، ومنهم من لا تجديه نفعا.
ومما يحز في النفس، ويبعث على الأسى والأسف البالغين، أن المسلمين بعد أن كانوا
قادة الأمم، وروادها إلى الفضائل، ومكارم الأخلاق، قد خسروا مثاليتهم لانحرافهم عن
آداب الاسلام، وأخلاقه الفذة، ما جعلهم في حالة مزرية من التخلف والتسيب الخلقيين.
لذلك كان لزاما عليهم - إذا ما ابتغوا العزة والكرامة وطيب السمعة - أن يستعيدوا
ما أغفلوه من تراثهم الأخلاقي الضخم، وينتفعوا برصيده المذخور، ليكسبوا ثقة الناس
وإعجابهم من جديد، وليكونوا كما أراد الله تعالى لهم: (خير أمة

8
أخرجت للناس).
وتلك أمنية غالية، لا تنال إلا بتظافر جهود المخلصين من أعلام الأمة الإسلامية
وموجهيها، على توعية المسلمين، وحثهم على التمسك بالأخلاق الإسلامية، ونشر مفاهيمها
البناءة والإهتمام بعرضها عرضا شيقا جذابا، يغري الناس بدراستها والإفادة منها.
وهذا ما حداني إلى تأليف هذا الكتاب، وتخطيطه على ضوء الخصائص التالية:
(1) إن هذا الكتاب لم يستوعب علم الأخلاق، وإنما ضم أهم أبحاثه، وأبلغها أثرا
في حياة الناس. وقد جهدت ما استطعت في تجنب المصطلحات العلمية وألفاظها الغامضة،
وعرضتها بأسلوب واضح مركز، يمتع القارئ، ولا يرهقه بالغموض والإطناب، الباعثين
على الملل والسأم.
(2) اختيار الأحاديث والأخبار الواردة فيه من الكتب المعتبرة والمصادر الوثيقة لدى
المحدثين والرواة.
(3) الاهتمام بذكر محاسن الخلق الكريم، ومساوئ الخلق الذميم، وبيان آثارهما الروحية
والمادية في حياة الفرد أو المجتمع.
والجدير بالذكر: أن المقياس الخلقي في تقييم الفضائل الخلقية، وتحديد واقعها هو:
التوسط والاعتدال، المبرأ من الإفراط والتفريط.
فالخلق الرضي هو: ما كان وسطا بين المغالاة والإهمال، كنقطة الدائرة من محيطها،
فإذا انحرف عن الوسط إلى طرف الافراط أو التفريط غدى خلقا ذميما.

9
فالعفة فضيلة بين رذيلتي الشر والجمود: فإن أفرط الانسان بها كان جامدا خاملا،
معرضا عن ضرورات الحياة ولذائذها المشروعة، وإن فرط فيها وقصر، كان شرها جشعا،
منهمكا على اللذائذ والشهوات.
والشجاعة فضيلة بين رذيلتي التهور والجبن: فإن أفرط الشجاع فيها كان متهورا
مجازفا فيما يحسن الاحجام عنه، وإن فرط وقصر كان جبانا هيابا محجما عما
يحسن الاقدام عليه.
والسخاء فضيلة بين رذيلتي التبذير والبخل: فإن أفرط فيها كان مسرفا مبذرا سخيا
على من لا يستحق البذل والسخاء، وإن فرط فيها وقصر كان شحيحا بخيلا فيما يجدر
الجود والسخاء فيه... وهكذا دواليك.
من أجل ذلك كان كسب الفضائل، والتحلي بها، والثبات عليها، من الأهداف السامية التي
يتبارى فيها، ويتنافس عليها، ذوو النفوس الكبيرة، والهمم العالية، ولا ينالها إلا ذو
خظ عظيم.
ولم أر أمثال الرجال تفاوتا * لدى المجد حتى عد ألف بواحد
وإني لأرجو الله عز وجل أن يتقبل مني هذا المجهود المتواضع ويثيبني عليه، بلطفه
الواسع، وكرمه الجزيل، وأن يوفقني وإخواني المؤمنين للانتفاع به، والسير على ضوئه،
إنه ولي الهداية والتوفيق.
الكاظمية مهدي السيد علي الصدر

10
حسن الخلق
حسن الخلق هو: حالة تبعث على حسن معاشرة الناس، ومجاملتهم بالبشاشة، وطيب القول،
ولطف المداراة، كما عرفه الإمام الصادق عليه السلام حينما سئل عن حده فقال:
تلين جناحك، وتطيب كلامك، وتلقى أخاك ببشر حسن (1).
من الأماني والآمال التي يطمح إليها كل عاقل حصيف، ويسعى جاهدا في كسبها وتحقيقها،
أن يكون ذا شخصية جذابة، ومكانة مرموقة، محببا لدى الناس، عزيزا عليهم.
وإنها لأمنية غالية، وهدف سامي، لا يناله إلا ذوو الفضائل والخصائص التي تؤهلهم
كفاءاتهم لبلوغها، ونيل أهدافها، كالعلم والأريحية والشجاعة ونحوها من الخلال
الكريمة.
بيد أن جميع تلك القيم والفضائل، لا تكون مدعاة للإعجاب والاكبار، وسمو المنزلة،
ورفعة الشأن، الا إذا اقترنت بحسن الخلق، وازدانت بجماله الزاهر، ونوره الوضاء.
فإذا ما تجردت منه فقدت قيمها الأصيلة، وغدت صورا شوهاء تثير السأم والتذمر.



(1) الكافي للكليني.
11
لذلك كان حسن الخلق ملاك الفضائل ونظام عقدها، ومحور فلكها، وأكثرها إعدادا
وتأهيلا لكسب المحامد والأمجاد، ونيل المحبة والاعزاز.
أنظر كيف يمجد أهل البيت عليهم السلام هذا الخلق الكريم، ويطرون المتحلين به
إطراءا رائعا، ويحثون على التمسك به بمختلف الأساليب التوجيهية المشوقة، كما
تصوره النصوص التالية:
قال النبي صلى الله عليه وآله: أفاضلكم أحسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافا، الذين
يألفون ويؤلفون وتوطأ رحالهم (1).
وقال الباقر عليه السلام: إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا (2).
وقال الصادق عليه السلام: ما يقدم المؤمن على الله تعالى بعمل بعد الفرائض، أحب
إلى الله تعالى من أن يسع الناس بخلقه (3).
وقال عليه السلام: إن الله تعالى ليعطي العبد من الثواب على حسن الخلق، كما يعطي
المجاهد في سبيل الله، يغدو عليه ويروح (4).
وقال النبي صلى الله عليه وآله: إن صاحب الخلق الحسن له مثل أجر الصائم
القائم (5).
وقال الصادق عليه السلام: إن الخلق الحسن يميت الخطيئة، كما تميت الشمس
الجليد (6).
وقال عليه السلام: البر وحسن الخلق يعمران الديار، ويزيدان



(1) الكافي. والأكناف جمع كنف، وهو: الناحية والجانب، ويقال رجل موطأ الأكناف أي
كريم مضياف.
(2) عن الكافي.
(3) عن الكافي.
(4) عن الكافي.
(5) عن الكافي.
(6) عن الكافي.
12
في الأعمار (1).
وقال عليه السلام: إن شئت أن تكرم فلن، وإن شئت أن تهان فاخشن (2).
وقال النبي صلى الله عليه وآله: إنكم لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم
بأخلاقكم (3).
وكفى بحسن الخلق شرفا وفضلا، أن الله عز وجل لم يبعث رسله وأنبياءه إلى الناس
إلا بعد أن حلاهم بهذه السجية الكريمة، وزانهم بها، فهي رمز فضائلهم، وعنوان
شخصياتهم.
ولقد كان سيد المرسلين صلى الله عليه وآله المثل الأعلى في حسن الخلق، وغيره من
كرائم الفضائل والخلال. واستطاع بأخلاقه المثالية أن يملك القلوب والعقول، واستحق
بذلك ثناء الله تعالى عليه بقوله عز من قائل: (وإنك لعلى خلق عظيم).
قال أمير المؤمنين علي عليه السلام وهو يصور أخلاق رسول الله صلى الله عليه
وآله: كان أجود الناس كفا، وأجرأ الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة،
وألينهم عريكة، وأكرمهم عشرة. من رآه بديهة هابه. ومن خالطه فعرفه أحبه، لم أر
مثله قبله ولا بعده (4).



(1) عن الكافي.
(2) تحف العقول.
(3) من لا يحضره الفقيه.
(4) سفينة البحار - مادة خلق -.
13
وحسبنا أن نذكر ما أصابه من قريش، فقد تألبت عليه، وجرعته ألوان الغصص، حتى اضطرته
إلى مغادرة أهله وبلاده، فلما نصره الله عليهم، وأظفره بهم، لم يشكوا أنه سيثأر
منهم، وينكل بهم، فما زاد أن قال لهم: ما تقولون إني فاعل بكم؟! قالوا: خيرا، أخ
كريم وابن أخ كريم. فقال: أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم، اذهبوا فأنتم
الطلقاء.
وجاء عن أنس قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وآله، وعليه برد غليظ الحاشية، فجذبه
أعرابي بردائه جذبة شديدة، حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه، ثم قال: يا محمد
إحمل لي علي بعيري هذين من مال الله الذي عندك، فإنك لا تحمل لي من مالك، ولا مال
أبيك. فكست النبي صلى الله عليه وآله ثم قال: المال مال الله، وأنا عبده. ثم قال:
ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي؟! قال: لا. قال: لم؟ قال: لأنك لا تكافئ بالسيئة
السيئة. فضحك النبي، ثم أمر أن يحمل له على بعير شعيرا، وعلى الآخر تمرا (1).
وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: إن يهوديا كان له على رسول الله صلى الله
عليه وآله دنانير، فتقاضاه، فقال له: يا يهودي ما عندي ما أعطيك. فقال: فإني لا
أفارقك يا محمد حتى تقضيني. فقال: إذن أجلس معك، فجلس معه حتى صلى في ذلك الموضع
الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة والغداة، وكان أصحاب رسول الله يتهددونه
_



(1) سفينة البحار - مادة خلق -.
14
ويتواعدونه، فنظر رسول الله إليهم فقال: ما الذي تصنعون به؟! فقالوا: يا رسول
الله يهودي يحبسك! فقال: لم يبعثني ربي عز وجل بأن أظلم معاهدا ولا غيره. فلما
علا النهار قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،
وشطر مالي في سبيل الله، أما والله ما فعلت بك الذي فعلت، إلا لأنظر إلى نعتك في
التوراة، فاني قرأت نعتك في التوراة: محمد بن عبد الله، مولده بمكة، ومهاجره
بطيبة، وليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب، ولا متزين بالفحش، ولاقول الخنا، وأنا أشهد
أن لا إله الا الله، وأنك رسول الله، وهذا مالي فاحكم فيه بما أنزل الله، وكان
اليهودي كثير المال (1).
وهكذا كان الأئمة المعصومون من أهل البيت عليهم السلام في مكارم أخلاقهم، وسمو
آدابهم. وقد حمل الرواة إلينا صورا رائعة ودروسا خالدة من سيرتهم المثالية،
وأخلاقهم الفذة:
من ذلك ما ورد عن أبي محمد العسكري عليه السلام قال: ورد على أمير المؤمنين عليه
السلام أخوان له مؤمنان، أب وابن، فقام إليهما وأكرمهما وأجلسهما في صدر مجلسه،
وجلس بين يديهما، ثم أمر بطعام فأحضر فأكلا منه، ثم جاء قنبر بطست وابريق خشب
ومنديل، فأخذ أمير المؤمنين عليه السلام الإبريق فغسل يد الرجل بعد أن كان الرجل
يمتنع من ذلك، وتمرغ في التراب، وأقسمه أمير المؤمنين عليه السلام أن يغسل مطمئنا،
كما كان يغسل لو كان الصاب عليه قنبر ففعل، ثمن ناول الإبريق محمد بن



(1) البحار م 6 في مكارم أخلاق النبي صلى الله عليه وآله.
15
الحنفية وقال: يا بني لو كان هذا الابن حضرني دون أبيه لصببت على يده، ولكن الله
عز وجل يأبى أن يسوي بين ابن وأبيه، إذا جمعهما مكان، ولكن قد صب الأب على الأب،
فليصب الابن على الابن، فصب محمد بن الحنفية على الابن.
ثم قال العسكري عليه السلام: فمن اتبع عليا على ذلك فهو الشيعي حقا (1).
وورد أن الحسن والحسين مرا على شيخ يتوضأ ولا يحسن، فأخذا في التنازع، يقول كل
واحد منهما أنت لا تحسن الوضوء، فقالا: أيها الشيخ كن حكما بيننا، يتوضأ كل
واحد منا، فتوضئا ثم قالا: أينا يحسن؟ قال: كلاكما تحسنان الوضوء، ولكن هذا الشيخ
الجاهل هو الذي لم يكن يحسن، وقد تعلم الآن منكما، وتاب على يديكما ببركتكما
وشفقتكما على أمة جدكما (2).
وجنى غلام للحسين عليه السلام جناية توجب العقاب عليه، فأمر به أن يضرب، فقال: يا
مولاي والكاظمين الغيظ. قال: خلوا عنه. فقال: يا مولاي والعافين عن الناس. قال: قد
عفوت عنك. قال: يا مولاي والله يحب المحسنين. قال: أنت حر لوجه الله، ولك ضعف ما
كنت أعطيك (3).



(1) سفينة البحار - مادة وضع -.
(2) البحار م 10 عن عيون المحاسن ص 89.
(3) البحار م 10 ص 145 عن كشف الغمة.
16
وحدث الصولي: أنه جري بين الحسين وبين محمد بن الحنفية كلام، فكتب ابن الحنفية إلى
الحسين: أما بعد يا أخي فإن أبي وأباك علي لا تفضلني فيه ولا أفضلك، وأمك فاطمة
بنت رسول الله، لو كان ملء الأرض ذهبا ملك أمي ما وفت بأمك، فإذا قرأت كتابي
هذا فصر إلي
حتى تترضاني، فإنك أحق بالفضل مني، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته ففعل الحسين
فلم يجر بعد ذلك بينهما شئ (1).
وعن محمد بن جعفر وغيره قالوا: وقف على علي بن الحسين عليه السلام رجل من أهل بيته
فأسمعه وشتمه، فلم يكلمه، فلما انصرف قال لجلسائه: لقد سمعتم ما قال هذا الرجل،
وأنا أحب أن تبلغوا معي إليه حتى تسمعوا مني ردي عليه.
فقالوا له: نفعل، ولقد كنا نحب أن يقول له ويقول. فأخذ نعليه ومشى وهو يقول:
والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين، فعلمنا أنه لا يقول له
شيئا.
قال: فخرج حتى أتى منزل الرجل، فصرخ به، فقال: قولوا له هذا علي بن الحسين. قال:
فخرج متوثبا للشر، وهو لا يشك أنه إنما جاء مكافئا له على بعض ما كان منه.
فقال له علي بن الحسين: يا أخي إنك وقفت علي آنفا وقلت وقلت فإن كنت قلت ما في
فأستغفر الله منه، وإن كنت قلت ما ليس في فغفر الله لك. قال: فقبل الرجل بين
عينيه، وقال: بل قلت فيك



(1) البحار م 10 ص 144 عن مناقب ابن شهرآشوب.
17
ما ليس فيك وأنا أحق به (1).
وليس شئ أدل على شرف حسن الخلق، وعظيم أثره في سمو الانسان واسعاده، من الحديث
التالي:
عن علي بن الحسين عليه السلام قال: ثلاثة نفر آلوا باللات والعزى ليقتلوا محمدا
صلى الله عليه وآله، فذهب أمير المؤمنين وحده إليهم وقتل واحدا منهم وجاء بآخرين،
فقال النبي: قدم إلي أحد الرجلين، فقدمه فقال: قل لا إله الا الله، واشهد أني
رسول الله. فقال: لنقل جبل أبي قبيس أحب إلي من أن أقول هذه الكلمة،. قال: يا علي
أخره واضرب عنقه. ثم قال: قدم الآخر، فقال: قل لا إله إلا الله، واشهد أني رسول
الله. قال: ألحقني بصاحبي. قال: يا علي أخره واضرب عنقه. فأخره وقام أمير المؤمنين
ليضرب عنقه فنزل جبرئيل على النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا محمد إن ربك يقرئك
السلام، ويقول لا تقتله فإنه حسن الخلق سخي في قومه. فقال النبي صلى الله عليه
وآله: يا علي أمسك، فان هذا رسول ربي يخبرني أنه حسن الخلق سخي في قومه. فقال
المشرك تحت السيف: هذا رسول ربك يخبرك؟ قال: نعم. قال: والله ما ملكت درهما مع أخ
لي قط، ولا قطبت وجهي في الحرب، فأنا أشهد أن لا اله إلا الله، وأنك رسول الله.
فقال رسول الله: هذا ممن جره حسن خلقه وسخائه إلى جنات النعيم (2).



(1) البحار م 11 ص 17 عن إعلام الورى وإرشاد المفيد.
(2) البحار م 15 ج 2 ص 210 في حسن الخلق.
18
سوء الخلق:
وهو: انحراف نفساني، يسبب انقباض الانسان وغلظته وشراسته، ونقيض حسن الخلق.
من الثابت أن لسوء الخلق آثارا سيئة، ونتائج خطيرة، في تشويه المتصف به، وحط
كرامته، ما يجعله عرضة للمقت والازدراء، وهدفا للنقد والذم.
وربما تفاقمت أعراضه ومضاعفاته، فيكون حينذاك سببا لمختلف المآسي والأزمات الجسمية
والنفسية المادية والروحية.
وحسبك في خسة هذا الخلق وسوء آثاره، أن الله تعالى خاطب سيد رسله، وخاتم أنبيائه،
وهو المثل الأعلى في جميع الفضائل والمكرمات قائلا: ولو كنت فظا غليظ القلب
لانفضوا من حولك.
من أجل ذلك فقد تساند العقل والنقل على ذمه والتحذير منه، وإليك طرفا من ذلك:
قال النبي صلى الله عليه وآله: عليكم بحسن الخلق، فان حسن الخلق في الجنة
لا محالة، وإياكم وسوء الخلق، فان سوء الخلق في النار لا محالة (1).
وقال الصادق عليه السلام: إن شئت أن تكرم فلن، وأن شئت



(1) عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق (ره).
19
أن تهان فاخشن (1).
وقال النبي صلى الله عليه وآله: أبى الله لصاحب الخلق السيئ بالتوبة، قيل: فكيف
ذلك يا رسول الله؟ قال: لأنه إذا تاب من ذنب وقع في ذنب أعظم منه (2).
وقال الصادق عليه السلام: إن سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل (3).
وقال عليه السلام: من ساء خلقه عذب نفسه (4).
الأخلاق بين الاستقامة والانحراف:
كما نمرض الأجساد وتعروها أعراض المرض من شحوب وهزال وضعف، كذلك تمرض الأخلاق،
وتبدو عليها سمات الاعتدال ومضاعفاته، في صور من الهزال الخلقي، والانهيار النفسي،
على اختلاف في أبعاد المرض ودرجات أعراضه الطارئة على الأجسام والأخلاق.
وكما تعالج الأجسام المريضة، وتسترد صحتها ونشاطها، كذلك تعالج الأخلاق المريضة
وتستأنف اعتدالها واستقامتها، متفاوتة في ذلك حسب اعراضها، وطباع ذويها، كالأجسام
سواء بسواء.
ولولا إمكان معالجة الأخلاق وتقويمها، لحبطت جهود الأنبياء في تهذيب الناس،
وتوجيههم وجهة الخير والصلاح، وغدا البشر من جراء



(1) تحف العقول.
(2) عن الكافي.
(3) عن الكافي.
(4) عن الكافي.
20
ذلك كالحيوان وأخس قيمة، وأسوأ حالا منه، حيث أمكن ترويضه، وتطوير أخلاقه، فالفرس
الجموح يغدو بالترويض سلس المقاد، والبهائم الوحشية تعود داجنة أليفة.
فكيف لا يجدي ذلك في تهذيب الانسان، وتقويم أخلاقه، وهو أشرف الخلق، وأسماهم كفاءة
وعقلا؟؟
من أجل ذلك فقد تمرض أخلاق الوادع الخلوق، ويغدو عبوسا شرسا منحرفا عن مثاليته
الخلقية، لحدوث إحدى الأسباب التالية:
(1) - الوهن والضعف الناجمان عن مرض الانسان واعتدال صحته، أو طرو أعراض الهرم
والشيخوخة عليه، مما يجعله مرهف الأعصاب عاجزا عن التصبر، واحتمال مؤون الناس
ومداراتهم.
(2) - الهموم: فإنها تذهل اللبيب الخلوق، وتحرفه عن أخلاقه الكريمة، وطبعه الوادع.
(3) - الفقر: فإنه قد يسبب تجهم الفقير وغلظته، أنفة من هوان الفقر وألم
الحرمان، أو حزنا على زوال نعمته السالفة، وفقد غناه.
(4) - الغنى: فكثيرا ما يجمح بصاحبه نحو الزهو والتيه والكبر والطغيان، كما قال
الشاعر:
لقد كشف الإثراء عنك خلائقا * من اللؤم كانت تحت ثوب من الفقر
(5) - المنصب: فقد يحدث تنمرا في الخلق، وتطاولا على الناس، منبعثا عن ضعة
النفس وضعفها، أو لؤم الطبع وخسته.
(6) - العزلة والتزمت: فإنه قد يسبب شعورا بالخيبة والهوان، مما يجعل المعزول
عبوسا متجهما.

21
علاج سوء الخلق:
وحيث كان سوء الخلق من أسوأ الخصال وأخس الصفات، فجدير بمن يرغب في تهذيب نفسه،
وتطهير أخلاقه، من هذا الخلق الذميم، أن يتبع النصائح التالية:
(1) - أن يتذكر مساوئ سوء الخلق وأضراره الفادحة، وأنه باعث على سخط الله تعالى،
وازدراء الناس ونفرتهم، على ما شرحناه في مطلع هذا البحث.
(2) - أن يستعرض ما أسلفناه من فضائل حسن الخلق، ومآثره الجليلة، وما ورد في مدحه،
والحث عليه، من آثار أهل البيت عليهم السلام.
(3) - التريض على ضبط الأعصاب، وقمع نزوات الخلق السيئ وبوادره، وذلك بالتريث في
كل ما يصدر عنه من قول أو فعل، مستهديا بقول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله:
أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه. يتبع تلك النصائح من اعتلت أخلاقه،
ومرضت بدوافع نفسية، أو خلقية. أما من ساء خلقه بأسباب مرضية جسمية، فعلاجه
بالوسائل الطيبة، وتقوية الصحة العامة، وتوفير دواعي الراحة والطمأنينة، وهدوء
الأعصاب.

22
الصدق
وهو: مطابقة القول للواقع، وهو أشرف الفضائل النفسية، والمزايا الخلقية، لخصائصه
الجليلة، وآثاره الهامة في حياة الفرد والمجتمع.
فهو زينة الحديث ورواؤه، ورمز الاستقامة والصلاح، وسبب النجاح والنجاة، لذلك مجدته
الشريعة الاسلامية، وحرضت عليه، قرآنا وسنة.
قال تعالى: والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون، لهم ما يشاؤن عند ربهم
ذلك جزاء المحسنين. (الزمر: 33 - 34)
وقال تعالى: هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم، لهم جنات تجري من تحتها الأنهار،
خالدين فيها أبدا. (المائدة: 119)
وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، وكونوا مع الصادقين.
(التوبة: 119)
وهكذا كرم أهل البيت عليهم السلام هذا الخلق الرفيع، ودعوا إليه بأساليبهم
البليغة الحكيمة:
قال الصادق عليه السلام: لا تغتروا بصلاتهم، ولا بصيامهم، فإن الرجل ربما لهج
بالصلاة والصوم حتى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق الحديث، وأداء
الأمانة (1).



(1) الكافي.
23
وقال النبي صلى الله عليه وآله: زينة الحديث الصدق (1).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: إلزموا الصدق فإنه منجاة (2).
وقال الصادق عليه السلام: من صدق لسانه زكى عمله (3).
أي صار عمله ببركة الصدق زاكيا ناميا في الثواب، لأن الله تعالى إنما يقبل من
المتقين والصدق من أبرز خصائص التقوى وأهم شرائطه.
مآثر الصدق:
من ضرورات الحياة الاجتماعية، ومقوماتها الأصلية هي:
شيوع التفاهم والتآزر بين عناصر المجتمع وأفراده، ليستطيعوا بذلك النهوض بأعباء
الحياة، وتحقيق غاياتها وأهدافها، ومن تم ليسعدوا بحياة كريمة هانئة، وتعايش سلمي.
وتلك غايات سامية، لا تتحقق إلا بالتفاهم الصحيح، والتعاون الوثيق، وتبادل الثقة
والائتمان بين أولئك الأفراد.
وبديهي أن اللسان هو أداة التفاهم، ومنطلق المعاني والأفكار، والترجمان المفسر
عما يدور في خلد الناس من مختلف المفاهيم والغايات، فهو يلعب دورا خطيرا في
حياة المجتمع، وتجاوب مشاعره وأفكاره.



(1) الإمامة والتبصرة.
(2) كمال الدين للصدوق.
(3) الكافي.
24
وعلى صدقه أو كذبه ترتكز سعادة المجتمع أو شقاؤه، فإن كان اللسان صادق اللهجة،
أمينا في ترجمة خوالج النفس وأغراضها، أدى رسالة التفاهم والتواثق، وكان زائد
خير، ورسول محبة وسلام.
وإن كان متصفا بالخداع والتزوير، وخيانة الترجمة والاعراب، غدا رائد شر، ومدعاة
تناكر وتباغض بين أفراد المجتمع، ومعول هدم في كيانه.
من أجل ذلك كان الصدق من ضرورات المجتمع، وحاجاته الملحة، وكانت له آثاره
وانعكاساته في حياة الناس.
فهو نظام المجتمع السعيد، ورمز خلقه الرفيع، ودليل استقامة أفراده ونبلهم، والباعث
القوي على طيب السمعة، وحسن الثناء والتقدير، وكسب الثقة والائتمان من الناس.
كما له آثاره ومعطياته في توفير الوقت الثمين، وكسب الراحة الجسمية والنفسية.
فإذا صدق المتبايعون في مبايعاتهم، ارتاحوا جميعا من عناء المماكسة، وضياع الوقت
الثمين في نشدان الواقع، وتحري الصدق.
وإذا تواطأ أرباب الأعمال والوظائف على التزام الصدق، كان ذلك ضمانا لصيانة حقوق
الناس، واستتباب أمنهم ورخائهم.
وإذا تحلى كافة الناس بالصدق، ودرجوا عليه، أحرزوا منافعه الجمة، ومغانمه الجليلة.
وإذا شاع الكذب في المجتمع، وهت قيمه الأخلاقية، وساد التبرم

25
والسخط بين أفراده، وعز فيه التفاهم والتعاون، وغدا عرضة للتبعثر والانهيار.
أقسام الصدق:
للصدق صور وأقسام تتجلى في الأقوال والأفعال، واليك أبرزها:
(1) - الصدق في الأقوال، وهو: الإخبار عن الشئ على حقيقته من غير تزوير وتمويه.
(2) - الصدق في الأفعال، وهو: مطابقة القول للفعل، كالبر بالقسم، والوفاء بالعهد
والوعد.
(3) - الصدق في العزم، وهو: التصميم على أفعال الخير، فإن أنجزها كان صادق العزم،
وإلا كان كاذبه.
(4) - الصدق في النية، وهو: تطهيرها من شوائب الرياء، والاخلاص بها إلى الله
تعالى وحده.

26
الكذب
وهو: مخالفة القول للواقع. وهو من أبشع العيوب والجرائم، ومصدر الآثام والشرور،
وداعية الفضيحة والسقوط. لذلك حرمته الشريعة الإسلامية، ونعت على المتصفين به،
وتوعدتهم في الكتاب والسنة:
قال تعالى: إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب
(غافر: 28)
وقال تعالى: ويل لكل أفاك أثيم
(الجاثية: 7)
وقال تعالى: إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله، وأولئك هم
الكاذبون)
(النحل: 105)
وقال الباقر عليه السلام: إن الله جعل للشر أقفالا، وجعل مفاتيح تلك الأقفال
الشراب، والكذب شر من الشراب (1).
وقال عليه السلام: كان علي بن الحسين يقول لولده: اتقوا الكذب، الصغير منه
والكبير، في كل جد وهزل، فإن الرجل إذا كذب في الصغير، اجترأ على الكبير، أما
علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ما يزال العبد يصدق حتى يكتبه
الله صديقا، وما يزال العبد يكذب حتى يكتبه الله كذابا (2).



(1) الكافي.
(2) الكافي.
27
وقال الباقر عليه السلام: إن الكذب هو خراب الايمان (1).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: اعتياد الكذب يورث الفقر (2).
وقال عيسى بن مريم عليه السلام: من كثر كذبه ذهب بهاؤه (3).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله في حجة الوداع: قد كثرت علي الكذابة
وستكثر، فمن كذب علي متعمدا، فليتبوأ مقعده من النار، فإذا أتاكم الحديث فاعرضوه
على كتاب الله وسنتي، فما وافق كتاب الله فخذوا به، وما خالف كتاب الله وسنتي فلا
تأخذوا به (4).
مساوئ الكذب:
وإنما حرمت الشريعة الاسلامية (الكذب) وأنذرت عليه بالهوان والعقاب، لما ينطوي عليه
من أضرار خطيرة، ومساوئ جمة، فهو:
(1) - باعث على سوء السمعة، وسقوط الكرامة، وانعدام الوثاقة، فلا يصدق الكذاب وإن
نطق بالصدق، ولا تقبل شهادته، ولا يوثق بمواعيده وعهوده.
ومن خصائصه أنه ينسى أكاذيبه ويختلق ما يخالفها، وربما لفق



(1) الكافي.
(2) الخصال للصدوق.
(3) الكافي.
(4) احتجاج الطبرسي.
28
الأكاذيب العديدة المتناقضة، دعما لكذبة افتراها، فتغدو أحاديثه هذرا مقيتا،
ولغوا فاضحا.
(2) - إنه يضعف ثقة الناس بعضهم ببعض، ويشيع فيهم أحاسيس التوجس والتناكر.
(3) - إنه باعث على تضييع الوقت والجهد الثمينين، لتمييز الواقع من المزيف، والصدق
من الكذب.
(4) - وله فوق ذلك آثار روحية سيئة، ومغبة خطيرة، نوهت عنها النصوص السالفة.
دواعي الكذب:
الكذب انحراف خلقي له أسبابه ودواعيه، أهمها:
(1) - العادة: فقد يعتاد المرء على ممارسة الكذب بدافع الجهل، أو التأثر بالمحيط
المتخلف، أو لضعف الوازع الديني، فيشب على هذه العادة السيئة، وتمتد جذورها في
نفسه، لذلك قال بعض الحكماء: من استحلى رضاع الكذب عسر فطامه.
(2) - الطمع: وهو من أقوى الدوافع على الكذب والتزوير، تحقيقا لأطماع الكذاب،
وإشباعا لنهمه.
(3) - العداء والحسد: فطالما سولا لأربابهما تلفيق التهم، وتزويق الافتراءات
والأكاذيب، على من يعادونه أو يحسدونه. وقد عانى الصلحاء

29
والنبلاء الذين يترفعون عن الخوض في الباطل، ومقابلة الإساءة بمثلها - كثيرا من
مآسي التهم والافتراءات والأراجيف.
أنواع الكذب:
للكذب صور شوهاء، تتفاوت بشاعتها باختلاف أضرارها وآثارها السيئة، وهي:
(الأولى - اليمين الكاذبة)
وهي من أبشع صور الكذب، وأشدها خطرا وإثما، فإنها جناية مزدوجة: جرأة صارخة على
المولى عز وجل بالحلف به كذبا وبهتانا، وجريمة نكراء تمحق الحقوق وتهدر الكرامات.
من أجل ذلك جاءت النصوص في ذمها والتحذير منها:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إياكم واليمين الفاجرة، فإنها تدع الديار
من أهلها بلاقع (1).
وقال الصادق عليه السلام: اليمين الصبر الكاذبة، تورث العقب الفقر (2).
(الثانية - شهادة الزور)
وهي كسابقتها جريمة خطيرة، وظلم سافر هدام، تبعث على غمط الحقوق، واستلاب
الأموال، وإشاعة الفوضى في المجتمع، بمساندة



(1) الكافي.
(2) الكافي.
30
المجرمين على جرائم التدليس والابتزاز.
أنظر كيف تنذر النصوص شهود الزور بالعقاب الأليم:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا ينقضي كلام شاهد الزور من بين يدي الحاكم
حتى يتبوأ مقعده من الناس، وكذلك من كتم الشهادة (1).
ونهى القرآن الكريم عنها فقال تعالى: واجتنبوا قول الزور
(الحج: 30)
اضرار اليمين الكاذبة وشهادة الزور:
وإنما حرمت الشريعة الاسلامية اليمين الكاذبة، وشهادة الزور، وتوعدت عليهما بصنوف
الوعيد والارهاب، لآثارهما السيئة، وأضرارهما الماحقة، في دين الانسان ودنياه، من
ذلك:
(1) - أن مقترف اليمين الكاذبة، وشهادة الزور، يسئ إلى نفسه إساءة كبرى بتعريضها
إلى سخط الله تعالى، وعقوباته التي صورتها النصوص السالفة.
(2) - ويسئ كذلك إلى من سانده ومالأه، بالحلف كذبا، والشهادة زورا، حيث شجعه
على بخس حقوق الناس، وابتزاز أموالهم، وهدر كراماتهم.



(1) الكافي ومن لا يحضره الفقيه.
31
(3) - ويسئ كذلك إلى من اختلق عليه اليمين والشهادة المزورتين، بخذلانه وإضاعة
حقوقه، وإسقاط معنوياته.
(4) - ويسئ إلى المجتمع عامة بإشاعة الفوضى والفساد فيه، وتحطيم قيمه الدينية
والأخلاقية.
(5) - ويسئ إلى الشريعة الاسلامية بتحديها، ومخالفة دستورها المقدس، الذي يجب
اتباعه وتطبيقه على كل مسلم.
(الثالثة - خلف الوعد)
الوفاء بالوعد من الخلال الكريمة التي يزدان بها العقلاء، ويتحلى بها النبلاء، وقد
نوه الله عنها في كتابه الكريم فقال: واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد
وكان رسولا نبيا (مريم: 54)
ذلك أن إسماعيل عليه السلام وعد رجلا، فمكث في انتظاره سنة كاملة، في مكان لا
يبارحه، وفاءا بوعده.
وإنه لمن المؤسف أن يشيع خلف الوعد بين المسلمين اليوم، متجاهلين نتائجه السيئة في
إضعاف الثقة المتبادلة بينهم، وإفساد العلاقات الاجتماعية، والاضرار بالمصالح
العامة.
قال الصادق عليه السلام: عدة المؤمن أخاه نذر لا كفارة له، فمن أخلف فبخلف الله
تعالى بدأ، ولمقته تعرض، وذلك قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا
تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون (1).



(1) الكافي.
32
وقال عليه السلام: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وعد رجلا إلى صخرة فقال:
أنا لك هاهنا حتى تأتي. قال: فاشتدت الشمس عليه، فقال أصحابه: يا رسول الله لو
أنك تحولت إلى الظل. فقال: قد وعدته إلى هاهنا، وإن لم يجئ كان منه إلى
المحشر (1).
(الرابعة - الكذب الساخر)
فقد يستحلي البعض تلفيق الأكاذيب الساخرة، للتندر على الناس، والسخرية بهم، وهو
لهو عابث خطير، ينتج الأحقاد والآثام.
قال الصادق عليه السلام، من روى على مؤمن رواية، يريد بها شينه، وهدم مروته ليسقط
من أعين الناس، أخرجه الله تعالى من ولايته إلى ولاية الشيطان، فلا يقبله
الشيطان (2).
علاج الكذب:
فجدير بالعاقل أن يعالج نفسه من هذا المرض الأخلاقي الخطير، والخلق الذميم،
مستهديا بالنصائح التالية:
(1) - أن يتدبر ما أسلفناه من مساوئ الكذب، وسوء آثاره المادية والأدبية على
الانسان.
(2) - أن يستعرض فضائل الصدق ومآثره الجليلة، التي نوهنا



(1) علل الشرائع.
(2) الكافي.
33
عنها في بحث الصدق.
(3) - أن يرتاض على التزام الصدق، ومجانبة الكذب، والدأب المتواصل على ممارسة هذه
الرياضة النفسية، حتى يبرأ من هذا الخلق الماحق الذميم.
مسوغات الكذب:
لا شك أن الكذب رذيلة مقيتة حرمها الشرع، لمساوئها الجمة، بيد أن هناك ظروفا
طارئة تبيح الكذب وتسوغه، وذلك فيما إذا توقفت عليه مصلحة هامة، لا تتحقق إلا به،
فقد أجازته الشريعة الاسلامية حينذاك، كانقاذ المسلم، وتخليصه من القتل أو الأسر،
أو صيانة عرضه وكرامته، أو حفظ ماله المحترم، فان الكذب والحالة هذه واجب اسلامي
محتم.
وهكذا إذا كان الكذب وسيلة لتحقيق غاية راجحة، وهدف إصلاحي، فإنه آنذاك راجح أو
مباح، كالاصلاح بين الناس، أو استرضاء الزوجة واستمالتها، أو مخادعة الأعداء في
الحروب.
وقد صرحت النصوص بتسويغ الكذب للأغراض السالفة.
قال الصادق عليه السلام: كل كذب مسؤول عنه صاحبه يوما إلا في ثلاثة: رجل كايد في
حربه فهو موضوع عنه، أو رجل أصلح بين اثنين يلقى هذا بغير ما يلقى هذا يريد بذلك
الاصلاح فيما بينهما، أو رجل وعد أهله شيئا وهو لا يريد أن يتم لهم (1).



(1) الكافي.
34
الحلم وكظم الغيظ
وهما: ضبط النفس أزاء مثيرات الغصب، وهما من أشرف السجايا، وأعز الخصال، ودليلا سمو
النفس، وكرم الأخلاق، وسببا المودة والاعزاز.
وقد مدح الله الحلماء والكاظمين الغيظ، وأثنى عليهم في محكم كتابه الكريم.
فقال تعالى: وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما (الفرقان: 63)
وقال تعالى: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك
وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقاها الا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ
عظيم (فصلت: 34 - 35)
وقال تعالى: والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين (آل عمران:
134)
وعلى هذا النسق جاءت توجيهات أهل البيت عليهم السلام:
قال الباقر عليه السلام: إن الله عز وجل يحب الحيي الحليم (1).
وسمع أمير المؤمنين عليه السلام رجلا يشتم قنبرا، وقد رام قنبر أن يرد عليه،
فناداه أمير المؤمنين عليه السلام: مهلا يا قنبر، دع شاتمك، مهانا، ترضي الرحمن،
وتسخط الشيطان، وتعاقب عودك، فوالذي فلق



(1) الكافي.
35
الحبة وبرأ النسمة، ما أرضى المؤمن ربه بمثل الحلم، ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت،
ولا عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه (1).
وقال عليه السلام: أول عوض الحليم من حلمه، أن الناس أنصاره على الجاهل (2).
وقال الصادق عليه السلام: إذا وقع بين رجلين منازعة نزل ملكان، فيقولان للسفيه
منهما: قلت وقلت، وأنت أهل لما قلت، ستجزى بما قلت. ويقولان للحليم منهما: صبرت
وحلمت، سيغفر الله لك، إن أتممت ذلك. قال: فإن رد عليه ارتفع الملكان (3).
وقال الصادق عليه السلام: ما من عبد كظم غيظا، إلا زاده الله عز وجل عزا في
الدنيا والآخرة، وقد قال الله عز وجل: والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس،
والله يحب المحسنين وأثابه مكانه غيظه ذلك (4).
وقال الإمام موسى بن جعفر عليه السلام: إصبر على أعداء النعم، فإنك لن تكافئ من
عصى الله فيك، بأفضل من أن تطيع الله فيه (5).
وأحضر عليه السلام ولده يوما فقال لهم: يا بني إني موصيكم بوصية، فمن حفظها لم
يضع معها، إن أتاكم آت فأسمعكم في الاذن اليمنى مكروها، ثم تحول إلى الاذن اليسرى
فاعتذر وقال: لم أقل شيئا



(1) مجالس الشيخ المفيد.
(2) نهج البلاغة.
(3) الكافي.
(4) الكافي.
(5) الكافي.
36
فاقبلوا عذره (1).
وقد يحسب السفهاء أن الحلم من دلائل الضعف، ودواعي الهوان، ولكن العقلاء يرونه من
سمات النبل، وسمو الخلق، ودواعي العزة والكرامة.
فكلما عظم الإنسان قدرا، كرمت أخلاقه، وسمت نفسه، عن مجاراة السفهاء في جهالتهم
وطيشهم، معتصما بالحلم وكرم الاغضاء، وحسن العفو، ما يجعله مثار الاكبار والثناء.
كما قيل:
وذي سفه يخاطبني بجهل * فآنف أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة وأزيد حلما * كعود زاده الاحراق طيبا
ويقال: إن رجلا شتم أحد الحكماء، فأمسك عنه، فقيل له في ذلك قال: لا أدخل حربا
الغالب فيها أشر من المغلوب.
ومن أروع ما نظمه الشعراء في مدح الحلم، ما رواه الإمام الرضا عليه السلام، حين قال
له المأمون: أنشدني أحسن ما رويت في الحلم، فقال عليه السلام:
إذا كان دوني من بليت بجهله * أبيت لنفسي أن تقابل بالجهل
وإن كان مثلي في محلي من النهى * أخذت بحلمي كي أجل عن المثل
وإن كنت أدنى منه في الفضل والحجى * عرفت له حق التقدم والفضل
فقال له المأمون: ما أحسن هذا، هذا من قاله؟ فقال: بعض فتياننا (2).



(1) كشف الغمة للأربلي.
(2) معاني الأخبار، وعيون اخبار الرضا للشيخ الصدوق.
37
ولقد كان الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله والأئمة الطاهرون من أهل بيته، المثل
الأعلى في الحلم، وجميل الصفح، وحسن التجاوز.
وقد زجزت أسفار السير والمناقب، بالفيض الغمر منها، واليك نموذجا من ذلك:
قال الباقر عليه السلام: إن رسول الله صلى الله عليه وآله أتى باليهودية التي
سمت الشاة للنبي، فقال لها: ما حملك على ما صنعت؟ فقالت: قلت إن كان نبيا لم يضره،
وإن كان ملكا أرحت الناس منه، فعفى رسول الله عنها (1).
وعفى صلى الله عليه وآله عن جماعة كثيرة، بعد أن أباح دمهم، وأمر بقتلهم.
منهم: هبار بن الأسود بن المطلب، وهو الذي روع زينب بنت رسول الله، فألقت ذا
بطنها، فأباح رسول الله دمه لذلك، فروي أنه اعتذر إلى النبي صلى الله عليه وآله
من سوء فعله، وقال: وكنا يا نبي الله أهل شرك، فهدانا الله بك، وأنقذنا بك من
الهلكة، فاصفح عن جهلي، وعما كان يبلغك عني، فاني مقر بسوء فعلي، معترف بذنبي.
فقال صلى الله عليه وآله: قد عفوت عنك، وقد أحسن الله إليك، حيث هداك إلى
الإسلام، والاسلام يجب ما قبله.
ومنهم: عبد الله بن الربعري، وكان يهجو النبي صلى الله عليه وآله بمكة، ويعظم
القول فيه، فهرب يوم الفتح، ثم رجع إلى رسول الله



(1) الكافي.
38
واعتذر، فقبل صلى الله عليه وآله عذره.
ومنهم: وحشي قاتل حمزة سلام الله عليه، روي أنه أسلم، قال له النبي: أوحشي؟ قال:
نعم. قال: أخبرني كيف قتلت عمي؟ فأخبره، فبكى صلى الله عليه وآله وقال: غيب وجهك
عني (1).
وهكذا كان أمير المؤمنين علي عليه السلام أحلم الناس وأصفحهم عن المسئ:
ظفر بعبد الله بن الزبير، ومروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، وهم ألد أعدائه،
والمؤلبين عليه، فعفا عنهم، ولم يتعقبهم بسوء.
وظفر بعمرو بن العاص، وهو أخطر عليه من جيش ذي عدة، فأعرض عنه، وتركه ينجو بحياته
حين كشف عن سوأته اتقاءا لضربته.
وحال جند معاوية بينه وبين الماء، في معركة صفين، وهم يقولون له ولا قطرة حتى تموت
عطشا، فلما حمل عليهم، وأجلاهم عنه، سوغ لهم أن يشربوا منه كما يشرب جنده.
وزار السيدة عائشة بعد وقعة الجمل، وودعها أكرم وداع، وسار في ركابها أميالا،
وأرسل معها من يخدمها ويحف بها (2).
وكان الحسن بن علي عليه السلام على سر أبيه وجده صلوات الله عليهم أجمعين:
فمن حلمه ما رواه المبرد، وابن عائشة: أن شاميا رآه راكبا،



(1) سفينة البحار ج 1.
(2) عبقرية الامام للعقاد بتصرف.
39
فجعل يلعنه، والحسن لا يرد، فلما فرغ، أقبل الحسن عليه السلام فسلم عليه، وضحك،
فقال: أيها الشيخ أظنك غريبا، ولعلك شبهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا
أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإن كنت جائعا أشبعناك،
وإن كنت عريانا كسوناك، وإن كنت محتاجا أغنيناك، وإن كنت طريدا آويناك، وإن كان
لك حاجة قضيناها لك، فلو حركت رحلك إلينا، وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك، كان أعود
عليك، لأن لنا موضعا رحبا، وجاها عريضا، ومالا كثيرا. فلما سمع الرجل كلامه
بكى، ثم قال: أشهد أنك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته، وكنت أنت
وأبوك أبغض خلق الله إلي، والآن أنت أحب خلق الله إلي، وحول رحله إليه، وكان
ضيفه إلى أن ارتحل وصار معتقدا لمحبتهم (1).
وهكذا كان الحسين بن علي عليهما السلام: جنى غلام للحسين عليه السلام جناية توجب
العقاب عليه، فأمر به أن يضرب، فقال: يا مولاي والكاظمين الغيظ. قال: خلوا عنه.
قال: يا مولاي والعافين عن الناس. قال: قد عفوت عنك. قال: والله يحب المحسنين،
قال: أنت حر لوجه الله، ولك ضعف ما كنت أعطيك (2).
وإني استقرأت سيرة أهل البيت عليهم السلام فوجدتها نمطا فريدا، ومثلا عاليا، في
دنيا السير والأخلاق:



(1) البحار مجلد 9 ص 95.
(2) كشف الغمة للأربلي.
40
من ذلك ما قصه الرواة من حلم الإمام زين العابدين عليه السلام، فقد كان عنده
أضياف، فاستعجل خادما له بشواء كان في التنور، فأقبل به الخادم مسرعا، فسقط منه
على رأس بني لعلي بن الحسين عليه السلام تحت الدرجة، فأصاب رأسه فقتله، فقال علي
للغلام وقد تحير الغلام واضطرب: أنت حر، فإنك لم تتعمده، وأخذ في جهاز ابنه
ودفنه (1).
ولقب الإمام موسى بن جعفر عليه السلام (بالكاظم) لوفرة حلمه، وتجرعه الغيظ، في
مرضاة الله تعالى.
يحدث الراوي عن ذلك، فيقول: كان في المدينة رجل من أولاد بعض الصحابة يؤذي أبا
الحسن موسى عليه السلام ويسبه إذا رآه، ويشتم عليا، فقال له بعض حاشيته يوما:
دعنا نقتل هذا الفاجر. فنهاهم عن ذلك أشد النهي، وزجرهم، وسأل عنه فذكر أنه يزرع
بناحية من نواحي المدينة، فركب إليه فوجده في مزرعة له، فدخل المزرعة بحماره، فصاح
به لا توطئ زرعنا، فوطأه عليه السلام بالحمار حتى وصل إليه، ونزل وجلس عنده، وباسطه
وضاحكه، وقال له: كم غرمت على زرعك هذا؟ قال: مائة دينار. قال: فكم ترجو أن تصيب؟
قال: لست أعلم الغيب. قال له: إنما قلت كم ترجو أن يجيئك فيه. قال: أرجو أن يجئ
مائتا دينار. قال: فأخرج له أبو الحسن صرة فيها ثلاثمائة دينار وقال: هذا زرعك على
حاله، والله يرزقك فيه ما ترجو. قال:



(1) كشف الغمة للأربلي.
41
فقام الرجل فقبل رأسه، وسأله أن يصفح عن فارطه، فتبسم إليه أبو الحسن وانصرف. قال:
وراح إلى المسجد، فوجد الرجل جالسا، فلما نظر إليه، قال: الله أعلم حيث يجعل
رسالته. قال: فوثب أصحابه إليه فقالوا: ما قضيتك؟! قد كنت تقول غير هذا. قال: فقال
لهم: قد سمعتم ما قلت الآن، وجعل يدعو لأبي الحسن عليه السلام، فخاصموه وخاصمهم،
فلما رجع أبو الحسن إلى داره، قال لجلسائه الذين سألوه في قتله: أيما كان خيرا، ما
أردتم أم ما أردت، إنني أصلحت أمره بالمقدار الذي عرفتم وكفيت شره (1).
وقد أحسن الفرزدق حيث يقول في مدحهم:
من معشر حبهم دين وبغضهم * كفر وقربهم منجى ومعتصم
إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم * أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم



(1) البحار مجلد 11 نقلا عن إعلام الورى للطبرسي وارشاد المفيد.
42
الغضب
وهو: حالة نفسية، تبعث على هياج الانسان، وثورته قولا أو عملا. وهو مفتاح الشرور،
ورأس الآثام، وداعية الأزمات والاخطار. وقد تكاثرت الآثار في ذمه والتحذير منه:
قال الصادق عليه السلام: الغضب مفتاح كل شر (1).
وإنما صار الغضب مفتاحا للشرور، لما ينجم عنه من أخطار وآثام، كالاستهزاء،
والتعيير، والفحش، والضرب، والقتل، ونحو ذلك من المساوئ.
وقال الباقر عليه السلام: إن الرجل ليغضب فيما يرضى أبدا حتى يدخل النار (2).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: واحذر الغضب، فإنه جند عظيم من جنود إبليس (3).
وقال عليه السلام: الحدة ضرب من الجنون، لأن صاحبها يندم، فإن لم يندم فجنونه
مستحكم (4).



(1) الكافي.
(2) الكافي.
(3) نهج البلاغة.
(4) نهج البلاغة.
43
وقال الصادق عليه السلام: سمعت أبي يقول: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله رجل
بدوي، فقال: إني أسكن البادية، فعلمني جوامع الكلام. فقال: آمرك أن لا تغضب.
فأعاد الأعرابي عليه المسألة ثلاث مرات، حتى رجع إلى نفسه، فقال: لا أسأل عن شئ
بعد هذا، ما أمرني رسول الله إلا بالخير.... (1).
بواعث الغضب:
لا يحدث الغضب عفوا واعتباطا، وإنما ينشأ عن أسباب وبواعث تجعل الانسان مرهف
الاحساس، سريع التأثر.
ولو تأملنا تلك البواعث، وجدناها مجملة على الوجه التالي:
(1) قد يكون منشأ الغضب انحرافا صحيا، كاعتلال الصحة العامة، أو ضعف الجهاز
العصبي، مما يسبب سرعة التهيج.
(2) وقد يكون المنشأ نفسيا، منبعثا عن الاجهاد العقلي، أو المغالاة في الأنانية،
أو الشعور بالإهانة، والاستنقاص، ونحوها من الحالات النفسية، التي سرعان ما تستفز
الانسان، وتستثير غضبه.
(3) وقد يكون المنشأ أخلاقيا، كتعود الشراسة، وسرعة التهيج، مما يوجب رسوخ عادة
الغضب في صاحبه.



(1) الكافي.
44
أضرار الغضب:
للغضب أضرار جسيمة، وغوائل فادحة، تضر بالانسان فردا ومجتمعا، جسميا ونفسيا،
ماديا وأدبيا. فكم غضبة جرحت العواطف، وشحنت النفوس بالاضغان، وفصمت عرى التحابب
والتآلف بين الناس. وكم غضبة زجت أناسا في السجون، وعرضتهم للمهالك، وكم غضبة
أثارت الحروب: وسفكت الدماء، فراح ضحيتها الآلاف من الأبرياء.
كل ذلك سوى ما ينجم عنه من المآسي والأزمات النفسية، التي قد تؤدي إلى موت الفجأة.
والغضب بعد هذا يحيل الانسان بركانا ثائرا، يتفجر غيطا وشرا، فإذا هو إنسان في
واقع وحش، ووحش في صورة إنسان.
فإذا بلسانه ينطلق بالفحش والبذاء، وهتك الأعراض، وإذا بيديه تنبعثان بالضرب
والتنكيل، وربما أفضى إلى القتل، هذا مع سطوة الغاضب وسيطرته على خصمه، والا انعكست
غوائل الغضب على صاحبه، فينبعث في تمزيق ثوبه، ولطم رأسه، وربما تعاطى أعمالا
جنونية، كسب البهائم وضرب الجمادات.
الغضب بين المدح والذم:
الغضب غريزة هامة، تلهب في الانسان روح الحمية والاباء، وتبعثه

45
على التضحية والفداء، في سبيل أهدافه الرفيعة، ومثله العليا، كالذود عن العقيدة،
وصيانة الأرواح، والأموال، والكرامات. ومتى تجرد الانسان من هذه الغريزة صار عرضة
للهوان والاستعباد، كما قيل من استغضب فلم يغضب فهو حمار.
فيستنتج من ذلك: أن الغضب المذموم ما أفرط فيه الانسان، وخرج به عن الاعتدال،
متحديا ضوابط العقل والشرع. أما المعتدل فهو كما عرفت، من الفضائل المشرفة، التي
تعزز الانسان، وترفع معنوياته، كالغضب على المنكرات، والتنمر في ذات الله تعالى.
علاج الغضب:
عرفنا من مطاوي هذا البحث، طرفا من بواعث الغضب ومساوئه وآثامه، والآن أود أن
أعرض وصفة علاجية لهذا الخلق الخطير، وهي مؤلفة من عناصر الحكمة النفسية، والتوجيه
الخلقي، عسى أن يجد فيها صرعى الغضب ما يساعدهم على مكافحته وعلاجه.
وإليك العناصر الآتية:
(1) - إذا كان منشأ الغضب اعتلالا صحيا، أو هبوطا عصبيا كالمرضى والشيوخ ونحاف
البنية، فعلاجهم - والحالة هذه - بالوسائل الطبية، وتقوية صحتهم العامة، وتوفير
دواعي الراحة النفسية والجسمية لهم، كتنظيم الغذاء، والتزام النظافة، وممارسة
الرياضة الملائمة،

46
واستنشاق الهواء الطلق، وتعاطي الاسترخاء العضلي بالتمدد على الفراش.
كل ذلك مع الابتعاد والاجتناب عن مرهقات النفس والجسم، كالاجهاد الفكري، والسهر
المضني، والاستسلام للكآبة، ونحو ذلك من دواعي التهيج.
(2) - لا يحدث الغضب عفوا، وإنما ينشأ عن أسباب تستثيره، أهمها: المغالاة في
الأنانية، الجدل والمراء، الاستهزاء والتعيير، المزاح الجارح. وعلاجه في هذه الصور
باجتناب أسبابه، والابتعاد عن مثيراته جهد المستطاع.
(3) - تذكر مساوئ الغضب وأخطاره وآثامه، وأنها تحيق بالغاضب، وتضر به أكثر من
المغضوب عليه، فرب أمر تافه أثار غضبة عارمة، أودت بصحة الانسان وسعادته.
يقول بعض باحثي علم النفس: دع محاولة الاقتصاص من أعدائك، فإنك بمحاولتك هذه تؤذي
نفسك أكثر مما تؤذيهم... إننا حين نمقت أعداءنا نتيح لهم فرصة الغلبة علينا، وإن
أعداءنا ليرقصون طربا لو علموا كم يسببون لنا ممن القلق وكم يقتصون منا، إن
مقتنا لا يؤذيهم، وإنما يؤذينا نحن، ويحيل أيامنا وليالينا إلى جحيم (1).
وهكذا يجدر تذكر فضائل الحلم، وآثاره الجليلة، وأنه باعث على اعجاب الناس وثنائهم،
وكسب عواطفهم.
وخير محفز على الحلم قول الله عز وجل: إدفع بالتي هي أحسن



(1) دع القلق وابدأ الحياة.
47
فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما
يلقاها إلا ذو حظ عظيم (فصلت: 34 - 35)
(4) - إن سطوة الغضب ودوافعه الاجرامية، تعرض الغاضب لسخط الله تعالى وعقابه،
وربما عرضته لسطوة من أغضبه واقتصاصه منه في نفسه أو في ماله أو عزيز عليه. قال
الصادق عليه السلام: أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه: ابن آدم أذكرني في غضبك
أذكرك في غضبي، لا أمحقك فيمن أمحق، وارض بي منتصرا، فان انتصاري لك خير من
انتصارك لنفسك (1).
(5) - من الخير للغاضب إرجاء نزوات الغضب وبوادره، ريثما تخف سورته، والتروي في
أقواله وأفعاله عند احتدام الغضب، فذلك مما يخفف حدة التوتر والتهيج، ويعيده إلى
الرشد والصواب، ولا ينال ذلك إلا بضبط النفس، والسيطرة على الأعصاب.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: إن لم تكن حليما فتحلم، فإنه قل من تشبه بقوم
إلا أوشك أن يكون منهم (2).
(6) - ومن علاج الغضب: الاستعاذة من الشيطان الرجيم، وجلوس الغاضب إذا كان قائما،
واضطجاعه إن كان جالسا، والوضوء أو الغسل بالماء البارد، ومس يد الرحم إن كان
مغضوبا عليه، فإنه من مهدئات الغضب.



(1) الكافي.
(2) نهج البلاغة.
48
التواضع
وهو: احترام الناس حسب أقدارهم، وعدم الترفع عليهم.
وهو خلق كريم، وخلة جذابة، تستهوي القلوب، وتستثير الاعجاب والتقدير، وناهيك في
فضله أن الله تعالى أمر حبيبه، وسيد رسله صلى الله عليه وآله بالتواضع، فقال
تعالى: واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين
(الشعراء: 215)
وقد أشاد أهل البيت عليهم السلام بشرف هذا الخلق، وشوقوا إليه بأقوالهم الحكيمة،
وسيرتهم المثالية، وكانوا رواد الفضائل، ومنار الخلق الرفيع.
قال الصادق عليه السلام: إن في السماء ملكين موكلين بالعباد، فمن تواضع لله
رفعاه، ومن تكبر وضعاه (1).
وقال النبي صلى الله عليه وآله: إن أحبكم إلي، وأقربكم مني يوم القيامة
مجلسا، أحسنكم خلقا، وأشدكم تواضعا، وإن أبعدكم مني يوم القيامة، الثرثارون
وهم المستكبرون (2).



(1) الكافي.
(2) كتاب قرب الاسناد، وقريب من هذا الخبر ما في علل الشرائع للشيخ الصدوق.
49
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: ما أحسن تواضع الأغنياء للفقراء، طلبا لما عند
الله، وأحسن منه تيه الفقراء على الأغنياء اتكالا على الله (1).
وقال الصادق عليه السلام: من التواضع ان ترضى بالمجلس دون المجلس، وأن تسلم على
من تلقى. وأن تترك المراء وإن كنت محقا، ولا تحب أن تحمد على التقوى (2).
وجدير بالذكر أن التواضع الممدوح، هو المتسم بالقصد والاعتدال الذي لا إفراط فيه
ولا تفريط، فالاسراف في التواضع داع إلى الخسة والمهانة، والتفريط فيه باعث على
الكبر والأنانية.
وعلى العاقل أن يختار النهج الأوسط، المبرأ من الخسة والأنانية، وذلك: باعطاء كل
فرد ما يستحقه من الحفاوة والتقدير، حسب منزلته ومؤهلاته.
لذلك لا يحسن التواضع للأنانيين والمتعالين على الناس بزهوهم وصلفهم. إن التواضع
والحالة هذه مدعاة للذل والهوان، وتشجيع لهم على الأنانية والكبر، كما يقول
المتنبي:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته * وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ومما قيل في التواضع قول المعري:
يا والي المصر لا تظلمن * فكم جاء مثلك ثم انصرف
تواضع إذا ما رزقت العلا * فذلك مما يزيد الشرف



(1) نهج البلاغة.
(2) الكافي.
50
وفي المثل:
تواضع الرجل في مرتبته، ذب للشماتة عند سقطته.
وقال الطغرائي:
ذريني على أخلاقي الشوس إنني * عليم بإبرام العزائم والنقض
أزيد إذا أيسرت فضل تواضع * ويزهى إذا أعسرت بعضي على بعضي
فذلك عند اليسر أكسب للثنا * وهذاك عند العسر أصون للعرض
أرى الغصن يعرى وهو يسمو بنفسه * ويوقر حملا حين يدنو من الأرض
واليك طرفا من فضائل أهل البيت، وتواضعهم المثالي الفريد:
كان النبي صلى الله عليه وآله أشد الناس تواضعا، وكان إذا دخل منزلا قعد في
أدنى المجلس حين يدخل، وكان في بيته في مهنة أهله، يحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف
نعله، ويخدم نفسه، ويحمل بضاعته من السوق، ويجالس الفقراء، ويواكل المساكين.
وكان صلى الله عليه وآله إذا ساره أحد، لا ينحي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي
ينحي رأسه، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر، وما قعد إليه رجل قط
فقام صلى الله عليه وآله حتى يقوم، وكان يبدأ من لقيه بالسلام، ويبادئ أصحابه
بالمصافحة، ولم ير قط مادا رجليه بين أصحابه، يكرم من يدخل عليه، وربما بسط له
ثوبه، ويؤثره بالوسادة التي تحته، ويكني أصحابه، ويدعوهم بأحب أسمائهم تكرمة لهم،
ولا يقطع على أحد حديثه، وكان يقسم لحظاته بين أصحابه، وكان

51
أكثر الناس تبسما، وأطيبهم نفسا (1).
وعن أبي ذر الغفاري: كان رسول الله صلى الله عليه وآله يجلس بين ظهراني أصحابه،
فيجئ الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل، فطلبنا إليه أن يجعل مجلسا يعرفه الغريب
إذا أتاه، فبنينا له دكانا من طين فكان يجلس عليها، ونجلس بجانبه.
وروي أنه صلى الله عليه وآله كان في سفر، فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل: يا رسول
الله علي ذبحها، وقال آخر: علي سلخها، وقال آخر: علي طبخها، فقال صلى الله
عليه وآله: وعلي جمع الحطب. فقالوا: يا رسول الله نحن نكفيك. فقال: قد علمت أنكم
تكفوني، ولكن أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزا بين
أصحابه، وقام فجمع الحطب (2).
وروي أنه خرج رسول الله صلى الله عليه وآله إلى بئر يغتسل، فأمسك حذيفة بن
اليمان بالثوب على رسول الله وستره به حتى اغتسل، ثم جلس حذيفة ليغتسل، فتناول
رسول الله صلى الله عليه وآله الثوب، وقام يستر حذيفة، فأبى حذيفة، وقال: بأبي
وأمي أنت يا رسول الله لا تفعل، فأبى رسول الله إلا أن يستره بالثوب حتى اغتسل،
وقال: ما اصطحب اثنان قط، إلا وكان أحبهما إلى الله أرفقهما بصاحبه (3).



(1) سفينة البحار المجلد الأول ص 415 بتصرف وتلخيص.
(2) سفينة البحار ج 1 ص 415.
(3) سفينة البحار ج 1 ص 416.
52
وهكذا كان أمير المؤمنين عليه السلام في سمو أخلاقه وتواضعه، قال ضرار وهو يصفه
عليه السلام:
كان فينا كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه،
وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه إيانا، وقربه منا، لا نكاد نكلمه
هيبة له، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويقرب المساكين، لا
يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله.
وقال الصادق عليه السلام: خرج أمير المؤمنين عليه السلام على أصحابه، فمشوا خلفه،
فالتفت إليهم فقال: لكم حاجة؟ فقالوا: لا يا أمير المؤمنين، ولكنا نحب أن نمشي
معك. فقال لهم: انصرفوا، فإن مشي الماشي مع الراكب، مفسدة للراكب، ومذلة
للماشي (1).
وهكذا يقص الرواة طرفا ممتعا رائعا من تواضع الأئمة الهداة عليهم السلام، وكريم
أخلاقهم.
فمن تواضع الحسين عليه السلام: أنه مر بمساكين وهم يأكلون كسعرا لهم على كساء،
فسلم عليهم، فدعوه إلى طعامهم، فجلس معهم وقال: لولا أنه صدقة لأكلت معكم. ثم
قال: قوموا إلى منزلي، فأطعمهم وكساهم وأمر لهم بدراهم (2).
ومن تواضع الرضا عليه السلام:



(1) محاسن البرقي.
(2) مناقب ابن شهرآشوب.
53
قال الراوي: كنت مع الرضا عليه السلام في سفره إلى خراسان، فدعا يوما بمائدة، فجمع
عليها مواليه من السودان وغيرهم، فقلت: جعلت فداك لو عزلت لهؤلاء مائدة، فقال: مه،
إن الرب تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال (1).



(1) الكافي.
54
التكبر
وهو حالة تدعو إلى الاعجاب بالنفس، والتعاظم على الغير، بالقول أو الفعل، وهو: من
أخطر الأمراض الخلقية، وأشدها فتكا بالانسان، وأدعاها إلى مقت الناس له وازدرائهم
به، ونفرتهم منه.
لذلك تواتر ذمه في الكتاب والسنة:
قال تعالى: ولا تصعر خدك للناس، ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل
مختال فخور (لقمان: 18)
وقال تعالى: ولا تمش في الأرض مرحا، إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا
(الاسراء: 37)
وقال تعالى: إنه لا يحب المستكبرين
(لقمان: 23)
وقال تعالى: أليس في جهنم مثوى للمتكبرين
(الزمر: 60)
وقال الصادق عليه السلام: إن في السماء ملكين موكلين بالعباد، فمن تواضع لله
رفعاه. ومن تكبر وضعاه (1).
وقال عليه السلام: ما من رجل تكبر أو تجبر، إلا لذلة وجدها في نفسه (2).



(1) الوافي ج 3 ص 87 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 150 عن الكافي.
55
وقال النبي صلى الله عليه وآله: إن أحبكم إلي، وأقربكم مني يوم القيامة مجلسا،
أحسنكم خلقا، وأشدكم تواضعا، وإن أبعدكم مني يوم القيامة، الثرثارون، وهم
المستكبرون (1).
وعن الصادق عن آبائه عليهم السلام: قال مر رسول الله صلى الله عليه وآله على
جماعة فقال: على ما اجتمعتم؟ فقالوا: يا رسول الله هذا مجنون يصرع، فاجتمعنا
عليه. فقال: ليس هذا بمجنون، ولكنه المبتلى. ثم قال: ألا أخبركم بالمجنون حق
المجنون؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: المتبختر في مشيه، الناظر في عطفيه،
المحرك جنبيه بمكنبيه، يتمنى على الله جنته، وهو يعصيه، الذي لا يؤمن شره، ولا
يرجى خيره، فذلك المجنون وهذا المبتلى (2).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة له: فاعتبروا بما كان من فعل الله
بإبليس، إذ أحبط عمله الطويل، وجهده الجهيد؟ وكان قد عبد الله ستة آلاف سنة، لا
يدرى أمن سني الدنيا، أم من سني الآخرة، عن كبر ساعة واحدة، فمن بعد إبليس يسلم
على الله بمثل معصيته، كلا ما كان الله سبحانه ليدخل الجنة بشرا بأمر أخرج به
منها ملكا، واستعيذوا بالله من لواقح الكبر، كما تستعيذون من طوارق الدهر، فلو
رخص الله في الكبر لأحد من عباده لرخص فيه لخاصة أنبيائه ورسله، ولكنه سبحانه



(1) البحار مج 15 ج 2 ص 209، عن قرب الاسناد، وقريب منه في علل الشرائع للصدوق (ره).
(2) البحار م (15) ج 3 ص 125 عن الخصال للصدوق.
56
كره إليهم التكابر، ورضي لهم التواضع (1).
وعن الصادق عن أبيه عن جده عليهم السلام قال: وقع بين سلمان الفارسي وبين رجل كلام
وخصومة فقال له الرجل: من أنت يا سلمان؟ فقال سلمان: أما أولي وأولك فنطفة قذرة،
وأما آخري وآخرك فجيفة منتنة، فإذا كان يوم القيامة، ووضعت الموازين، فمن ثقل
ميزانه فهو الكريم، ومن خف ميزانه فهو اللئيم (2).
وعن الصادق عليه السلام قال: جاء رجل موسر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله
نقي الثوب، فجلس إلى رسول الله، فجاء رجل معسر، درن الثوب، فجلس إلى جنب الموسر،
فقبض الموسر ثيابه من تحت فخذيه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: أخفت أن
يمسك من فقره شئ؟ قال: لا. قال: فخفت أن يوسخ ثيابك؟ قال: لا. قال: فما حملك
على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله إن لي قرينا يزين لي كل قبيح ويقبح لي كل
حسن، وقد جعلت له نصف مالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله للمعسر: أتقبل؟
قال: لا. فقال له الرجل: لم؟ قال: أخاف أن يدخلني ما دخلك.
مساوئ التكبر:
من الواضح أن التكبر من الأمراض الأخلاقية الخطيرة، الشائعة



(1) نهج البلاغة.
(2) البحار م 15 ج 3 ص 124 عن أمالي الصدوق.
57
في الأوساط الاجتماعية، التي سرت عدواها، وطغت مضاعفاتها على المجتمع، وغدا يعاني
مساوئها الجمة.
فمن مساوئ التكبر وآثاره السيئة في حياة الفرد:
أنه متى استبد بالانسان، أحاط نفسه بهالة من الزهو والخيلاء، وجن بحب الأنانية
والظهور، فلا يسعده إلا الملق المزيف، والثناء الكاذب، فيتعامى آنذاك عن نقائصه
وعيوبه، ولا يهتم بتهذيب نفسه، وتلافي نقائصه، ما يجعله هدفا لسهام النقد، وعرضة
للمقت والازدراء.
هذا إلى أن المتكبر أشد الناس عتوا وامتناعا عن الحق والعدل، ومقضيات الشرائع
والأديان.
ومن مساوئ التكبر الاجتماعية:
أنه يشيع في المجتمع روح الحقد والبغضاء، ويعكر صفو العلاقات الاجتماعية، فلا
يسئ الناس ويستثير سخطهم ومقتهم، كما يستثيره المتكبر الذي يتعالى عليهم بصلفه
وأنانيته.
إن الغطرسة داء يشقي الانسان، ويجعله منبوذا يعاني مرارة العزلة والوحشة، ويشقي
كذلك المرتبطين به بصنوف الروابط والعلاقات.
بواعث التكبر:
الأخلاق البشرية كريمة كانت أو ذميمة، هي انعكاسات النفس على صاحبها، وفيض نبعها،
فهي تشرق وتظلم، ويحلو فيضها ويمر تبعا

58
لطيبة النفس أو لؤمها، استقامتها أو انحرافها. وما من خلق ذميم إلا وله سبب من
أسباب لؤم النفس أو انحرافها.
فمن أسباب التكبر: مغالاة الانسان في تقييم نفسه، وتثمين مزاياها وفضائلها،
والافراط في الاعجاب والزهو بها، فلا يتكبر المتكبر إلا إذا آنس من نفسه علما
وافرا، أو منصبا رفيعا، أو ثراء ضخما، أو جاها عريضا، ونحو ذلك من مثيرات
الأنانية والتكبر.
وقد ينشأ التكبر من بواعث العداء أو الحسد أو المباهاة، مما يدفع المتصفين بهذه
الخلال على تحدي الأماثل والنبلاء، وبخس كراماتهم، والتطاول عليهم، بصنوف
الازدراءات الفعلية أو القولية، كما يتجلى ذلك في تصلفات المتنافسين والمتحاسدين في
المحافل والندوات.
درجات التكبر:
وهكذا تتفاوت درجات التكبر وابعاده بتفاوت أعراضه شدة وضعفا.
فالدرجة الأولى: وهي التي كمن التكبر في صاحبها، فعالجه بالتواضع، ولم تظهر عليه
أعراضه ومساوئه.
والدرجة الثانية: وهي التي نما التكبر فيها، وتجلت أعراضه بالاستعلاء على الناس،
والتقدم عليهم في المحافل، والتبختر في المشي.
والدرجة الثالثة: وهي التي طغى التكبر فيها، وتفاقمت مضاعفاته، فجن صاحبها بجنون
العظمة، والافراط في حب الجاه والظهور، فطفق

59
يلهج في محاسنه وفضائله، واستنقاص غيره واستصغاره. وهذه أسوأ درجات التكبر، وأشدها
صلفا وعتوا.
أنواع التكبر:
وينقسم التكبر باعتبار مصاديقه إلى ثلاثة أنواع:
(1) - التكبر على الله عز وجل:
وذلك بالامتناع عن الايمان به، والاستكبار عن طاعته وعبادته. وهو أفحش أنواع الكفر،
وأبشع أنواع التكبر، كما كان عليه فرعون ونمرود وأضرابهما من طغاة الكفر وجبابرة
الالحاد.
(2) - التكبر على الأنبياء.
وذلك بالترفع عن تصديقهم والاذعان لهم، وهو دون الأول وقريب منه.
(3) - التكبر على الناس:
وذلك بازدرائهم والتعالي عليهم بالأقوال والأفعال، ومن هذا النوع التكبر على
العلماء المخلصين، والترفع عن مسائلتهم والانتفاع بعلومهم وارشادهم، مما يفضي
بالمستكبرين إلى الخسران والجهل بحقائق الدين، وأحكام الشريعة الغراء.
علاج التكبر:
وحيث كان التكبر هوسا أخلاقيا خطيرا ماحقا، فجدير بكل عاقل

60
أن يأخذ حذره منه، وأن يجتهد - إذا ما داخلته أعراضه - في علاج نفسه، وتطهيرها من
مثالبه، وإليك مجملا من النصائح العلاجية:
(1) - أن يعرف المتكبر واقعه وما يتصف به من ألوان الضعف والعجز: فأوله نطفة قذرة،
وآخره جيفة منتنة، وهو بينهما عاجز واهن، يرهقه الجوع والظمأ، ويعروه السقم والمرض،
وينتابه الفقر والضر، ويدركه الموت والبلى، لا يقوى على جلب المنافع ورد
المكاره، فحقيق بمن اتصف بهذا الوهن، أن ينبذ الأنانية والتكبر، مستهديا بالآية
الكريمة تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا
والعاقبة للمتقين (القصص: 83)
فأفضل الناس أحسنهم أخلاقا، وأكثرهم نفعا، وأشدهم تقوى وصلاحا.
(2) - أن يتذكر مآثر التواضع ومحاسنه، ومساوئ التكبر وآثامه، وما ترادف في مدح
الأول وذم الثاني من دلائل العقل والنقل، قال بزرجمهر: وجدنا التواضع مع الجهل
والبخل، أحمد عند العقلاء من الكبر مع الأدب والسخاء، فأنبل بحسنة غطت على
سيئتين، وأقبح بسيئة غطت على حسنتين (1).
(3) - أن يروض نفسه على التواضع، والتخلق بأخلاق المتواضعين، لتخفيف حدة التكبر في
نفسه، وإليك أمثلة في ذلك:
أ - جدير بالعاقل عند احتدام الجدل والنقاش في المساجلات العلمية أن يذعن لمناظره
بالحق إذا ما ظهر عليه بحجته، متفاديا نوازع المكابرة والعناد.



(1) محاضرات الأدباء للراغب.
61
ب - أن يتفادى منافسة الأقران في السبق إلى دخول المحافل، والتصدر في المجالس.
ج - أن يخالط الفقراء والبؤساء، ويبدأهم بالسلام، ويؤاكلهم على المائدة، ويجيب
دعوتهم، متأسيا بأهل البيت عليهم أفضل الصلاة والسلام.

62
القناعة
وهي: الاكتفاء من المال بقدر الحاجة والكفاف، وعدم الاهتمام فيما زاد عن ذلك.
وهي: صفة كريمة، تعرب عن عزة النفس، وشرف الوجدان، وكرم الأخلاق.
وإليك بعض ما أثر عن فضائلها من النصوص:
قال الباقر عليه السلام: من قنع بما رزقه الله فهو من أغنى الناس (1).
إنما صار القانع من أغنى الناس، لأن حقيقة الغنى هي: عدم الحاجة إلى الناس، والقانع
راض ومكتف بما رزقه الله، لا يحتاج ولا يسأل سوى الله.
قيل: لما مات جالينوس وجد في جيبه رقعة فيها مكتوب: ما أكلته مقتصدا فلجسمك، وما
تصدقت به فلروحك، وما خلفته فلغيرك، والمحسن حي وإن نقل إلى دار البلى، والمسئ
ميت وإن بقي في دار الدنيا، والقناعة تستر الخلة، والتدبير يكثر القليل، وليس
لابن آدم أنفع من



(1) الوافي ج 3 ص 79 عن الكافي.
63
التوكل على الله سبحانه (1).
وشكى رجل إلى أبي عبد الله عليه السلام أنه يطلب فيصيب، ولا يقنع، وتنازعه نفسه
إلى ما هو أكثر منه، وقال: علمني شيئا أنتفع به. فقال أبو عبد الله عليه السلام
إن كان ما يكفيك يغنيك، فأدنى ما فيها يغنيك وإن كان ما يكفيك لا يغنيك، فكل ما
فيها لا يغنيك (2)
وقال الباقر عليه السلام: إياك أن يطمح بصرك إلى من هو فوقك فكفى بما قال الله
تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم وقال: ولا تمدن
عينيك إلى متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا، فان دخلك من ذلك شئ، فاذكر
عيش رسول الله صلى الله عليه وآله، فإنما كان قوته الشعير، وحلوه التمر، ووقوده
السعف إذا وجده (3).
محاسن القناعة:
للقناعة أهمية كبرى، وأثر بالغ في حياة الانسان، وتحقيق رخائه النفسي والجسمي، فهي
تحرره من عبودية المادة، واسترقاق الحرص والطمع، وعنائهما المرهق، وهوانهما المذل
، وتنفخ فيه روح العزة،



(1) كشكول البهائي، طبع إيران ص 371.
(2) الوافي ج 3 ص 79 عن الكافي.
(3) الوافي الجزء 3 ص 78 عن الكافي.
64
والكرامة، والإباء، والعفة، والترفع عن الدنايا، واستدرار عطف اللئام.
والقانع بالكفاف أسعد حياة، وأرخى بالا، وأكثر دعة واستقرارا، من الحريص المتفاني
في سبيل أطماعه وحرصه، والذي لا ينفك عن القلق والمتاعب والهموم.
والقناعة بعد هذا تمد صاحبها بيقظة روحية، وبصيرة نافذة، وتحفزه على التأهب
للآخرة، بالأعمال الصالحة، وتوفير بواعث السعادة فيها.
ومن طريف ما أثر في القناعة:
أن الخليل بن أحمد الفراهيدي كان يقاسي الضر بين اخصاص البصرة، وأصحابه يقتسمون
الرغائب بعلمه في النواحي.
ذكروا أن سليمان بن علي العباسي، وجه إليه من الأهواز لتأديب ولده، فأخرج الخليل
إلى رسول سليمان خبزا يابسا، وقال: كل فما عندي غيره، وما دمت أجده فلا حاجة لي
إلى سليمان. فقال الرسول: فما أبلغه؟ فقال:
أبلغ سليمان اني عنه في سعة * وفي غنى غير اني لست ذا مال
والفقر في النفس لا في المال فاعرفه * ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال
فالرزق عن قدر لا العجز ينقصه * ولا يزيدك فيه حول محتال (1)
وفي كشكول البهائي أنه ارسل عثمان بن عفان مع عبد له كيسا من الدراهم إلى أبي ذر
وقال له: ان قبل هذا فأنت حر، فأتى الغلام بالكيس إلى أبي ذر، وألح عليه في
قبوله، فلم يقبل، فقال له: أقبله



(1) سفينة البحار ج 1 ص 426 بتصرف.
65
فإن فيه عتقي. فقال: نعم ولكن فيه رقي (1).
وكان ديوجانس الكلبي من أساطين حكماء اليونان، وكان متقشفا. زاهدا، لا يقتني
شيئا، ولا يأوي إلى منزل، دعاه الإسكندر إلى مجلسه، فقال للرسول قل له: ان الذي
منعك من المسير إلينا، هو الذي منعنا من المسير إليك، منعك استغناؤك عنا بسلطانك،
ومنعني استغنائي عنك بقناعتي (2).
وكتب المنصور العباسي إلى أبي عبد الله الصادق عليه السلام: لم لا تغشانا كما
يغشانا الناس؟ فأجابه: ليس لنا من الدنيا ما نخافك عليه، ولا عندك من الآخرة ما
نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنيك بها، ولا في نقمة فنعزيك بها. فكتب المنصور:
تصحبنا لتنصحنا. فقال أبو عبد الله عليه السلام: من يطلب الدنيا لا ينصحك، ومن
يطلب الآخرة لا يصحبك (3).
وما أحلى قول أبي فراس الحمداني في القناعة:
إن الغني هو الغني بنفسه * ولو أنه عار المناكب حاف
ما كل ما فوق البسيطة كافيا * فإذا قنعت فكل شئ كاف



(1) سفينة البحار ج 1 ص 483.
(2) سفينة البحار ج 2 ص 451.
(3) كشكول البهائي.
66
الحرص
الحرص: هو الافراط في حب المال، والاستكثار منه، دون أن يكتفى بقدر محدود. وهو من
الصفات الذميمة، والخصال السيئة، الباعثة على ألوان المساوئ والآثام، وحسب الحريص
ذما أنه كلما ازداد حرصا ازداد غباءا وغما.
وإليك بعض ما ورد في ذمه:
قال الباقر عليه السلام: مثل الحريص على الدنيا، مثل دودة القز كلما ازدادت من
القز على نفسها لفا، كان أبعد لها من الخروج، حتى تموت غما (1).
لذلك قال الشاعر:
يفني البخيل بجمع المال مدته * وللحوادث والأيام ما يدع
كدودة القز ما تبنيه يهدمها * وغيرها بالذي تبنيه ينتفع
وقال الصادق عليه السالم: إن فيما نزل به الوحي من السماء: لو أن لابن آدم واديين،
يسيلان ذهبا وفضة، لابتغى لهما ثالثا، يا بن آدم إنما بطنك بحر من البحور، وواد من
الأودية، لا يملأه شئ إلا التراب (2).



(1) الوافي ج 3 ص 152 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 154 عن من لا يحضره الفقيه للصدوق (ره).
67
وقال عليه السلام: ما ذئبان ضاريان، في غنم قد فارقها رعاؤها أحدهما في أولها
والآخر في آخرها، بأفسد فيها من حب المال الدنيا خ ل والشرف في دين المسلم (1).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام في ضمن وصيته لولده الحسن عليه السلام: واعلم
يقينا أنك لن تبلغ أملك، ولن تعدو أجلك، وأنك في سبيل من كان قبلك، فخفض في الطلب،
وأجمل في المكتسب، فإنه رب طلب، قد جر إلى حرب، فليس كل طالب بمرزوق، ولا كل مجمل
بمحروم (2).
وقال الحسن بن علي عليهما السلام:
هلاك الناس في ثلاث: الكبر. والحرص. والحسد.
فالكبر هلاك الدين وبه لعن إبليس..
والحرص عدو النفس، وبه أخرج آدم من الجنة.
والحسد رائد السوء ومنه قتل قابيل هابيل (3).
مساوئ الحرص:
وبديهي أنه متى استبد الحرص بالانسان، استرقه، وسبب له العناء



(1) مرآة العقول في شرح الكافي للمجلسي (ره) ج 2 عن الكافي. ص 303.
(2) نهج البلاغة.
(3) كشف الغمة.
68
والشقاء، فلا يهم الحريص، ولا يشبع جشعه إلا استكثار الأموال واكتنازها، دون أن
ينتهي إلى حد محدود، فكلما أدرك مأربا طمح إلى آخر، وهكذا يلج به الحرص، وتستعبده
الأطماع، حتى يوافيه الموت فيغدو ضحية الغناء والخسران.
والحريص أشد الناس جهدا في المال، وأقلهم انتفاعا واستمتاعا به، يشقى بكسبه
وادخاره، وسرعان ما يفارقه بالموت، فيهنأ به الوارث، من حيث شقى هو به، وحرم من
لذته.
والحرص بعد هذا وذاك، كثيرا ما يزج بصاحبه في مزالق الشبهات والمحرمات والتورط في
آثامها، ومشاكلها الأخروية، كما يعيق صاحبه عن أعمال الخير، وكسب المثوبات كصلة
الأرحام وإعانة البؤساء والمعوزين، وفي ذلك ضرر بالغ، وحرمان جسيم.
علاج الحرص:
وبعد أن عرفنا مساوئ الحرص يحسن بنا أن نعرض مجملا من وسائل علاجه ونصائحه وهي:
1 - أن يتذكر الحريص مساوئ الحرص، وغوائله الدينية والدنيوية وأن الدنيا في حلالها
حساب، وفي حرامها عقاب، وفي الشبهات عتاب.
2 - أن يتأمل ما أسلفناه من فضائل القناعة، ومحاسنها، مستجليا سيرة العظماء
الأفذاذ، من الأنبياء والأوصياء والأولياء، في زهدهم في

69
الحياة، وقناعتهم باليسير منها.
3 - ترك النظر والتطلع إلى من يفوقه ثراءا، وتمتعا بزخارف الحياة والنظر إلى من
دونه فيهما فذلك من دواعي القناعة وكبح جماح الحرص.
4 - الاقتصاد المعاشي، فإنه من أهم العوامل، في تخفيف حدة الحرص، إذ الاسراف في
الانفاق يستلزم وفرة المال، والافراط في كسبه والحرص عليه.
قال الصادق عليه السلام: ضمنت لمن اقتصد أن لا يفتقر (1).



(1) البحار مج 15 ج 2 ص 199 عن الخصال للصدوق (ره).
70
الكرم
الكرم ضد البخل، وهو: بذل المال أو الطعام أو أي نفع مشروع، عن طيب نفس.
وهو من أشرف السجايا، وأعز المواهب، وأخلد المآثر. وناهيك في فضله أن كل نفيس
جليل يوصف بالكرم، ويعزى إليه، قال تعالى:
إنه لقرآن كريم (الواقعة: 77) وجاء رسول كريم (الدخان: 17). وزروع ومقام
كريم (الدخان: 26).
لذلك أشاد أهل البيت عليهم السلام بالكرم والكرماء، ونوهوا عنهما أبلغ تنويه:
قال الباقر عليه السلام: شاب سخي مرهق في الذنوب، أحب إلى الله من شيخ عابد
بخيل (1).
وقال الصادق عليه السلام: أتى رجل النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله
أي الناس أفضلهم إيمانا؟ فقال: أبسطهم كفا (2).
وعن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله



(1) الوافي ج 6 ص 68 عن الكافي والفقيه.
(2) الوافي ج 6 ص 67 عن الكافي.
71
صلى الله عليه وآله: السخي قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة.
والبخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، قريب من النار (1).
وقال الباقر عليه السلام: أنفق وأيقن بالخلف من الله، فإنه لم يبخل عبد ولا أمة
بنفقة فيما يرضي الله، الا أنفق أضعافها فيما يسخط الله (2).
محاسن الكرم:
لا يسعد المجتمع، ولا يتذوق حلاوة الطمأنينة والسلام، ومفاهيم الدعة والرخاء، الا
باستشعار أفراده روح التعاطف والتراحم، وتجاوبهم في المشاعر والأحاسيس، في سراء
الحياة وضرائها، وبذلك يغدو المجتمع كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضا.
وللتعاطف صور زاهرة، تشع بالجمال والروعة والبهاء، ولا ريب أن أسماها شأنا،
وأكثرها جمالا وجلالا، وأخلدها ذكرا هي: عطف الموسرين، وجودهم على البؤساء
والمعوزين، بما يخفف عنهم آلام الفاقة ولوعة الحرمان.
وبتحقيق هذا المبدأ الانساني النبيل (مبدأ التعاطف والتراحم) يستشعر المعوزون أزاء
ذوي العطف عليهم، والمحسنين إليهم، مشاعر



(1) البحار م 15 ج 3 عن كتاب الإمامة والتبصرة.
(2) الوافي ج 6 ص 68 عن الكافي.
72
الصفاء والوئام والود، مما يسعد المجتمع، ويشيع فيه التجاوب، والتلاحم والرخاء.
وبإغفاله يشقى المجتمع، وتسوده نوازع الحسد، والحقد، والبغضاء، والكيد. فينفجر عن
ثورة عارمة ماحقة، تزهق النفوس، وتمحق الأموال، وتهدد الكرامات.
من أجل ذلك دعت الشريعة الاسلامية إلى السخاء والبذل والعطف على البؤساء
والمحرومين، واستنكرت على المجتمع أن يراهم يتضورون سغبا وحرمانا، دون أن
يتحسس بمشاعرهم، وينبري لنجدتهم وإغاثتهم. واعتبرت الموسرين القادرين والمتقاعسين
عن إسعافهم أبعد الناس عن الاسلام، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من
أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم (1).
وقال صلى الله عليه وآله: ما آمن بي من بات شبعانا وجاره جائع، وما من أهل قرية
يبيت فيهم جائع ينظر الله إليهم يوم القيامة (2).
وإنما حرض الاسلام أتباعه على الأريحية والسخاء، ليكونوا مثلا عاليا في تعاطفهم
ومواساتهم، ولينعموا بحياة كريمة، وتعايش سلمي، ولأن الكرم حمام أمن المجتمع، وضمان
صفائه وازدهاره.
مجالات الكرم:
تتفاوت فضيلة الكرم، بتفاوت مواطنه ومجالاته. فأسمى فضائل



(1) و (2) عن الكافي.
73
الكرم، وأشرف بواعثه ومجالاته، ما كان استجابة لأمر الله تعالى، وتنفيذا لشرعه
المطاع، وفرائضه المقدسة، كالزكاة، والخمس، ونحوهما.
وهذا هو مقياس الكرم والسخاء في عرف الشريعة الاسلامية، كما قال النبي صلى الله
عليه وآله: من أدى ما افترض الله عليه، فهو أسخى الناس (1).
وأفضل مصاديق البر والسخاء بعد ذلك، وأجدرها - عيال الرجل وأهل بيته، فإنهم فضلا
عن وجوب الانفاق عليهم، وضرورته شرعا وعرفا، أولى بالمعروف والاحسان، وأحق
بالرعاية واللطف.
وقد يشذ بعض الأفراد عن هذا المبدأ الطبيعي الأصيل، فيغدقون نوالهم وسخاءهم على
الأباعد والغرباء، طلبا للسمعة والمباهاة، ويتصفون بالشح والتقتير على أهلهم
وعوائلهم، مما يجعلهم في ضنك واحتياج مريرين، وهم ألصق الناس بهم وأحناهم عليهم،
وذلك من لؤم النفس، وغباء الوعي.
لذلك أوصى أهل البيت عليه السلام بالعطف على العيال، والترفيه عنهم بمقتضيات العيش
ولوازم الحياة:
قال الإمام الرضا عليه السلام: ينبغي للرجل أن يوسع على عياله، لئلا يتمنوا
موته (2).
وقال الإمام موسى بن جعفر عليه السلام: إن عيال الرجل أسراؤه، فمن أنعم الله
عليه نعمة فليوسع على أسرائه، فان لم يفعل



(1) الوافي ج 6 ص 67 عن الفقيه.
(2) الوافي ج 6 ص 61 عن الكافي والفقيه.
74
أوشك أن تزول تلك النعمة (1).
والأرحام بعد هذا وذاك، أحق الناس بالبر، وأحراهم بالصلة والنوال، لأواصرهم
الرحمية، وتساندهم في الشدائد والأزمات.
ومن الخطأ الفاضح، حرمانهم من تلك العواطف، وإسباغها على الأباعد والغرباء، ويعتبر
ذلك ازدراءا صارخا، يستثير سخطهم ونفارهم، ويحرم جافيهم من عطفهم ومساندتهم.
وهكذا يجدر بالكريم، تقديم الأقرب الأفضل، من مستحقي الصلة والنوال: كالأصدقاء
والجيران، وذوي الفضل والصلاح، فإنهم أولى بالعطف من غيرهم.
بواعث الكرم:
وتختلف بواعث الكرم، باختلاف الكرماء، ودواعي أريحيتهم، فأسمى البواعث غاية،
وأحمدها عاقبة، ما كان في سبيل الله، وابتغاء رضوانه، وكسب مثوبته.
وقد يكون الباعث رغبة في الثناء، وكسب المحامد والأمجاد، وهنا يغدو الكريم تاجرا
مساوما بأريحيته وسخائه.
وقد يكون الباعث رغبة في نفع مأمول، أو رهبة من ضرر مخوف، يحفزان على التكرم
والاحسان.



(1) الوافي ج 6 ص 61 عن الكافي والفقيه.
75
ويلعب الحب دورا كبيرا في بعث المحب وتشجيعه على الأريحية والسخاء، استمالة
لمحبوبه، واستدارا واستدرارا لعطفه.
والجدير بالذكر أن الكرم لا يجمل وقعه، ولا تحلو ثماره، الا إذا تنزه عن المن،
وصفي من شوائب التسويف والمطل، وخلا من مظاهر التضخيم والتنويه، كما قال الصادق
عليه السلام: رأيت المعروف لا يصلح الا بثلاث خصال: تصغيره، وستره، وتعجيله. فإنك
إذا صغرته عظمته عند من تصنعه إليه. وإذا سترته تممته، وإذا عجلته هنيته، وإن
كان غير ذلك محقته ونكدته (1).



(1) البحار م 16 من كتاب العشرة ص 116 عن علل الشرائع للصدوق (ره).
76
الإيثار:
وهو: أسمى درجات الكرم، وأرفع مفاهيمه، ولا يتحلى بهذه الصفة المثالية النادرة، إلا
الذين جلوا بالأريحية، وبلغوا قمة السخاء، فجادوا بالعطاء، وهم بأمس الحاجة إليه،
وآثروا بالنوال، وهم في ضنك من الحياة. وقد أشاد القرآن بفضلهم قائلا: ويؤثرون
على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة (الحشر: 9)
وسئل الصادق عليه السلام: أي الصدقة أفضل، قال: جهد المقل، أما سمعت الله
تعالى يقول: ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة (1).
ولقد كان النبي صلى الله عليه وآله المثل الأعلى في عظمة الايثار، وسمو الأريحية.
قال جار بن عبد الله: ما سئل رسول الله صلى الله عليه وآله شيئا فقال لا.
وقال الصادق عليه السلام: إن رسول الله أقبل إلى الجعرانة، فقسم فيها الأموال،
وجعل الناس يسألونه فيعطيهم، حتى ألجأوا إلى



(1) الوافي ج 6 ص 58 عن الفقيه.
77
شجرة فأخذت برده، وخدشت ظهره، حتى جلوه عنها، وهم يسألونه. فقال: أيها الناس ردوا
علي بردي، والله لو كان عندي عدد شجر تهامة نعما لقسمته بينكم، ثم ما
ألفيتموني جبانا ولا بخيلا... (1).
وقد كان صلى الله عليه وآله يؤثر على نفسه البؤساء والمعوزين، فيجود عليهم بماله
وقوته، ويظل طاويا، وربما شد حجر المجاعة على بطنه مواساة لهم.
قال الباقر عليه السلام: ما شبع النبي من خبز بر ثلاثة أيام متوالية، منذ بعثه
الله إلى أن قبضه (2).
وهكذا كان أهل بيته عليهم السلام في كرمهم وإيثارهم:
قال الصادق عليه السلام: كان علي أشبه الناس برسول الله، كان يأكل الخبز والزيت،
ويطعم الناس الخبز واللحم (3).
وفي علي وأهل بيته الطاهرين، نزلت الآية الكريمة:
ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد
منكم جزاءا ولا شكورا (الدهر: 8 - 9)
فقد أجمع أولياء أهل البيت على نزولها في علي وفاطمة والحسن والحسين... وقد أخرجه
جماعة من أعلام غيرهم، وإليك ما ذكره الزمخشري في تفسير



(1) سفينة البحار ج 1 ص 607 عن علل الشرائع. والجعرانة موضع بين مكة والطائف.
(2) سفينة البحار ج 1 ص 194 عن الكافي.
(3) البحار م 9 ص 538 عن الكافي.
78
السورة من الكشاف.
قال: وعن ابن عباس أن الحسن والحسين مرضا، فعادهما رسول الله في ناس معه،
فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما، إن برئا
مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا، وما معهم شئ، فاستقرض علي من شمعون الخيبري
اليهودي ثلاثة أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعا، واختبزت خمسة أقراص على عددهم،
فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد،
مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة، فآثروه، وباتوا
ولم يذوقوا إلا الماء، وأصبحوا صياما، فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم، وقف
عليهم يتيم فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك.
فلما أصبحوا أخذ علي بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله، فلما أبصرهم وهم
يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع، قال: ما أشد ما يسوؤني ما أرى بكم، وقام فانطلق
معهم فرأى فاطمة في محرابها، قد التصق بطنها بظهرها، وغارت عيناها، فساءه ذلك، فنزل
جبرائيل وقال: خذها يا محمد هناك الله ي أهل بيتك، فأقرأه السورة (1).
وقد زخرت أسفار السير بإيثارهم، وأريحيتهم، بما يطول ذكره في هذا البحث المجمل.



(1) عن الكلمة الغراء - للمرحوم آية الله السيد عبد الحسين شرف الدين ص 29 نقل
بتصرف وتلخيص.
79
البخل
وهو: الامساك عما يحسن السخاء فيه، وهو ضد الكرم.
والبخل من السجايا الذميمة، والخلال الخسيسة، الموجبة لهوان صاحبها ومقته وازدرائه،
وقد عابها الاسلام، وحذر المسلمين منها تحذيرا رهيبا.
قال تعالى: ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل، ومن يبخل
فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء
(محمد: 38)
وقال تعالى: الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله،
وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا
(النساء: 37)
وقال تعالى: ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو
شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة.
(آل عمران: 180)
وعن الصادق عن آبائه عليهم السلام: أن أمير المؤمنين سمع رجلا يقول: إن الشحيح
أغدر من الظالم. فقال: كذبت إن الظالم قد يتوب ويستغفر، ويرد الظلامة عن أهلها،
والشحيح إذا شح منع الزكاة، والصدقة، وصلة الرحم، وقرى الضيف، والنفقة في سبيل
الله تعالى،

80
وأبواب البر، وحرام على الجنة أن يدخلها شحيح (1).
وعن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
السخي قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة، والبخيل بعيد من الله، بعيد
من الناس، قريب من النار (2)
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: عجبت للبخيل يستعجل الفقر الذي منه هرب، ويفوته
الغنى الذي إياه طلب، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء ويحاسب في الآخرة حساب
الأغنياء (3).
وسنعرض أخبارا أخرى في مطاوي هذا البحث.
مساوئ البخل:
البخل سجية خسيسة، وخلق لئيم باعث على المساوئ الجمة، والأخطار الجسيمة في دنيا
الانسان وأخراه.
أما خطره الأخروي: فقد أعربت عنه أقوال أهل البيت عليهم السلام ولخصه أمير
المؤمنين عليه السلام في كلمته السالفة حيث قال: والشحيح إذ شح منع الزكاة،
والصدقة، وصلة الرحم، وقرى الضيف، والنفقة في سبيل الله، وأبواب البر، وحرام على
الجنة أن يدخلها شحيح.



(1) الوافي ج 6 ص 69 عن الكافي.
(2) البحار م 15 ج 3 عن كتاب الإمامة والتبصرة.
(3) نهج البلاغة.
81
وأما خطره الدنيوي فإنه داعية المقت والازدراء، لدى القريب والبعيد وربما تمنى موت
البخيل أقربهم إليه، وأحبهم له، لحرمانه من نواله وطمعا في تراثه.
والبخيل بعد هذا أشد الناس عناءا وشقاءا، يكدح في جمع المال والثراء، ولا يستمتع
به، وسرعان ما يخلفه للوارث، فيعيش في الدنيا عيش الفقراء، ويحاسب في الآخرة حساب
الأغنياء.
صور البخل:
والبخل - وإن كان ذميما مقيتا - بيد أنه يتفاوت ذمه، وتتفاقم مساوئه، باختلاف
صوره وأبعاده:
فأقبح صوره وأشدها إثما، هو البخل بالفرائض المالية، التي أوجبها الله تعالى
على المسلمين، تنظيما لحياتهم الاقتصادية، وإنعاشا لمعوزيهم.
وهكذا تختلف معائب البخل، باختلاف الأشخاص والحالات:
فبخل الأغنياء أقبح من بخل الفقراء، والشح على العيال أو الأقرباء أو الأصدقاء أو
الأضياف أبشع وأذم منه على غيرهم، والتقتير والتضييق في ضرورات الحياة من طعام
وملابس، أسوأ منه في مجالات الترف والبذخ أعاذنا الله من جميع صوره ومثاليه.
علاج البخل:
وحيث كان البخل من النزعات الخسيسة، والخلال الماحقة، فجدير

82
بالعاقل علاجه ومكافحته، وإليك بعض النصائح العلاجية له:
1 - أن يستعرض ما أسلفناه من محاسن الكرم، ومساوئ البخل، فذلك يخفف من سورة البخل.
وان لم يجد ذلك، كان على الشحيح أن يخادع نفسه بتشويقها إلى السخاء، رغبة في
الثناء والسمعة، فإذا ما أنس بالبذل، وارتاح إليه، هذب نفسه بالاخلاص، وحبب إليها
البذل في سبيل الله عز وجل.
2 - للبخل أسباب ودوافع، وعلاجه منوط بعلاجها، وبدرء الأسباب تزول المسببات.
وأقوى دوافع الشح خوف الفقر، وهذا الخوف من نزعات الشيطان، وايحائه المثبط عن
السخاء، وقد عالج القران الكريم ذلك بأسلوبه البديع الحكيم، فقرر: أن الامساك لا
يجدي البخيل نفعا، وإنما ينعكس عليه إفلاسا وحرمانا، فقال تعالى: ها أنتم هؤلاء
تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه، والله
الغني وأنتم الفقراء (محمد: 38)
وقرر كذلك أن ما يسديه المرء من عوارف السخاء، لا تضيع هدرا، بل تعود مخلوقة على
المسدي، من الرزاق الكريم، قال عز وجل: وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه، وهو خير
الرازقين (سبأ: 39)
وهكذا يضاعف القرآن تشويقه إلى السخاء، مؤكدا أن المنفق في سبيل الله هو كالمقرض
لله عز وجل، وأنه تعالى بلطفه الواسع يرد عليه القرض أضعافا مضاعفة: مثل
الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل

83
حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة، والله يضاعف لمن يشاء، والله واسع
عليم
(البقرة: 261)
أما الذين استرقهم البخل، ولم يجدهم الاغراء والتشويق إلى السخاء، يوجه القرآن
إليهم تهديدا رهيبا، يملأ النفس ويهز المشاعر:
والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم. يوم
يحمى عليها في نار جهنم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم
فذوقوا ما كنتم تكنزون
(التوبة: 34 - 35)
ومن دواعي البخل: إهتمام الآباء بمستقبل أبنائهم من بعدهم، فيضنون بالمال توفيرا
لأولادهم، وليكون ذخيرة لهم، تقيهم العوز والفاقة.
وهذه غريزة عاطفية راسخة في الانسان، لا تضره ولا تجحف به، ما دامت سوية معتدلة.
بعيدة عن الافراط والمغالاة.
بيد أنه لا يليق بالعاقل، أن يسرف فيها، وينجرف بتيارها، مضحيا بمصالحه الدنيوية
والدينية في سبيل أبنائه.
وقد حذر القرآن الكريم الآباء من سطوة تلك العاطفة، وسيطرتها عليهم كيلا يفتتنوا
بحب أبنائهم، ويقترفوا في سبيلهم ما يخالف الدين والضمير: واعلموا أنما أموالكم،
وأولادكم فتنة، وأن الله عنده أجر عظيم (الأنفال: 29)
وأعظم بما قاله أمير المؤمنين عليه السلام في كتاب له: أما بعد، فإن الذي في يديك
من الدنيا، قد كان له أهل قبلك، وهو صائر إلى

84
أهل بعدك، وإنما أنت جامع لأحد رجلين: رجل عمل فيما جمعته بطاعة الله، فسعد بما
شقيت به، أو رجل عمل فيه بمعصية الله، فشقي بما جمعت له، وليس أحد هذين أهلا أن
تؤثره على نفسك، وتحمل له على ظهرك، فأرجو لمن مضى رحمة الله، ولمن بقي رزق
الله (1).
وعن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله تعالى: كذلك يريهم الله أعمالهم
حسرات عليهم (البقرة: 167) قال: هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة الله بخلا،
ثم يموت فيدعه لمن يعمل فيه بطاعة الله، أو في معصية الله، فإن عمل فيه بطاعة
الله، رآه في ميزان غيره فرآه حسرة، وقد كان المال له، وإن كان عمل به في معصية
الله، قواه بذلك المال حتى عمل به في معصية الله (2).
* * *
وهناك فئة تعشق المال لذاته، وتهيم بحبه، دون أن تتخذه وسيلة إلى سعادة دينية أو
دنيوية، وإنما تجد أنسها ومتعتها في اكتناز المال فحسب، ومن ثم تبخل به أشد البخل.
وهذا هوس نفسي، يشقي أربابه، ويوردهم المهالك، ليس المال غاية، وإنما هو ذريعة
لمآرب المعاش أو المعاد، فإذا انتفت الذريعتان غدا المال تافها عديم النفع.
وكيف يكدح المرء في جمع المال واكتنازه؟! ثم سرعان ما يغنمه



(1) نهج البلاغة.
(2) الوافي ج 6 ص 69 عن الكافي والفقيه.
85
الوارث، ويتمتع به، فيكون له المهنى وللمورث الوزر والعناء.
وقد استنكر القرآن الكريم هذا الهوس، وأنذر أربابه إنذارا رهيبا: كلا بل لا
تكرمون اليتيم، ولا تحاضون على طعام المسكين، وتأكلون التراث أكلا لما، وتحبون
المال حبا جما، كلا إذا دكت الأرض دكا دكا، وجاء ربك والملك صفا صفا، وجئ
يومئذ بجهنم، يومئذ يتذكر الانسان وأنى له الذكرى، يقول يا ليتني قدمت لحياتي،
فيومئذ لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد (الفجر: 17 - 26)
وقال تعالى: ويل لكل همزة لمزة، الذي جمع مالا وعدده، يحسب أن ماله أخلده،
كلا لينبذن في الحطمة، وما أدراك ما الحطمة، نار الله الموقدة، التي تطلع على
الأفئدة، إنها عليهم مؤصدة، في عمد ممددة (الهمزة)
وأبلغ ما أثر في هذا المجال، كلمة أمير المؤمنين عليه السلام، وهي في القمة من
الحكمة وسمو المعنى، قال عليه السلام: إنما الدنيا فناء، وعناء، وغير، وعبر،
فمن فنائها: أنك ترى الدهر موترا قوسه، مفوقا نبله، لا تخطئ سهامه، ولا تشفى
جراحه. يرمي الصحيح بالسقم، والحي بالموت.
ومن عنائها: أن المرء يجمع ما لا يأكل، ويبني ما لا يسكن، ثم يخرج إلى الله لا
مالا حمل، ولا بناءا نقل.
ومن غيرها: أنك ترى المغبوط مرحوما، والمرحوم مغبوطا، ليس بينهم الا نعيم زل،
وبؤس نزل.

86
ومن عبرها: أن المرء يشرف على أمله، فيتخطفه أجله، فلا أمل مدروك، ولا مؤمل
متروك (1).



(1) سفينة البحار ج 1 ص 467.
87
العفة
وهي: الامتناع والترفع عما لا يحل أو لا يجمل، من شهوات البطن والجنس، والتحرر من
استرقاقها المذل.
وهي من أنبل السجايا، وأرفع الخصائص. الدالة على سمو الايمان، وشرف النفس، وعز
الكرامة، وقد أشادت بفضلها الآثار:
قال الباقر عليه السلام: ما من عبادة أفضل عند الله من عفة بطن وفرج (1).
وقال رجل للباقر عليه السلام: إني ضعيف العمل، قليل الصلاة قليل الصيام، ولكني
أرجو أن لا آكل إلا حلالا، ولا أنكح إلا حلالا. فقال له: وأي جهاد أفضل من عفة
بطن وفرج (2).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أكثر ما تلج به أمتي النار، الأجوفان البطن
والفرج (3).



(1) الوافي ج 3 ص 65 عن الكافي.
(2) البحار م 15 ج 2 ص 184 عن محاسن البرقي وقريب منه في الكافي.
(3) البحار م 15 ج 2 ص 183 عن الكافي.
88
حقيقة العفة:
ليس المراد بالعفة، حرمان النفس من أشواقها، ورغائبها المشروعة، في المطعم والجنس.
وإنما الغرض منها، هو القصد والاعتدال في تعاطيها وممارستها، إذ كل إفراط أو تفريط
مضر بالانسان، وداع إلى شقائه وبؤسه:
فالافراط في شهوات البطن والجنس، يفضيان به إلى المخاطر الجسيمة، والأضرار الماحقة،
التي سنذكرها في بحث (الشره).
والتفريط فيها كذلك، باعث على الحرمان من متع الحياة، ولذائذها المشروعة، وموجب
لهزال الجسد، وضعف طاقاته ومعنوياته.
الاعتدال المطلوب:
من الصعب تحديد الاعتدال في غريزتي الطعام والجنس، لاختلاف حاجات الأفراد وطاقاتهم،
فالاعتدال في شخص قد يعتبر إفراطا أو تفريطا في آخر.
والاعتدال النسبي في المأكل هو: أن ينال كل فرد ما يقيم أوده ويسد حاجته من
الطعام، متوقيا الجشع المقيت، والامتلاء المرهق.
وخير مقياس لذلك هو ما حدده أمير المؤمنين، وهو يحدث ابنه

89
الحسن عليه السلام: يا بني الا أعلمك أربع كلمات تستغني بها عن الطب؟ فقال: بلى
يا أمير المؤمنين. قال: لا تجلس على الطعام إلا وأنت جائع، ولا تقم عن الطعام الا
وأنت تشتهيه، وجود المضغ، وإذا نمت فأعرض نفسك على الخلاء، فإذا استعملت هذا
استغنيت عن الطب.
وقال: إن في القرآن لآية تجمع الطب كله: كلوا واشربوا ولا تسرفوا
(الأعراف: 31) (1)
والاعتدال التقريبي في الجنس هو تلبية نداء الغريزة، كلما اقتضتها الرغبة الصادقة،
والحاجة المحفزة عليه.
محاسن العفة:
لا ريب أن العفة، هي من أنبل السجايا، وأرفع الفضائل، المعربة عن سمو الايمان،
وشرف النفس، والباعثة على سعادة المجتمع والفرد.
وهي الخلة المشرفة التي تزين الانسان، وتسمو به عن مزريات الشره والجشع، وتصونه عن
التملق للئام، استدرارا لعطفهم ونوالهم، وتحفزه على كسب وسائل العيش ورغائب
الحياة، بطرقها المشروعة، وأساليبها العفيفة.



(1) سفينة البحار م 2 ص 79 عن دعوات الراوندي.
90
الشره
وهو: الافراط في شهوات المأكل والجنس، ضد (العفة).
وهو: من النزعات الخسيسة، الدالة على ضعف النفس، وجشع الطبع، واستعباد الغرائز،
وقد نددت به الشريعة الاسلامية وحذرت منه أشد التحذير.
قال الصادق عليه السلام: كل داء من التخمة، ما خلا الحمى فإنها ترد ورودا (1).
وقال عليه السلام: إن البطن إذا شبع طغى (2).
وقال عليه السلام: إن الله يبغض كثرة الأكل (3).
وقال أبو الحسن عليه السلام: لو أن الناس قصدوا في المطعم، لاستقامت أبدانهم (4).
وعن الصادق عن أبيه قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: من



(1) الوافي ج 1 1 ص 67 عن الكافي.
(2) الوافي ج 1 1 ص 67 عن الفقيه.
(3) الوافي ج 1 1 ص 67 عن الكافي.
(4) البحار م 14 ص 876 عن المحاسن للبرقي (ره).
91
أراد البقاء ولا بقاء، فليخفف الرداء، وليباكر الغذاء، وليقل مجامعة النساء (1).
ومن أراد البقاء أي طول العمر، فليخفف الرداء أي يخفف ظهره من ثقل الدين.
وأكل أمير المؤمنين عليه السلام من تمر دقل، ثم شرب عليه الماء، وضرب يده على
بطنه وقال: من أدخل بطنه النار فأبعده الله. ثم تمثل:
وإنك مهما تعط بطنك سؤله * وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا (2)
مساوئ الشره:
الشره مفتاح الشهوات، ومصدر المهالك. وحسب الشره ذما، أن تسترقه الشهوات
العارمة، وتعرضه لصنوف المساوئ، المعنوية والمادية.
ولعل أقوى العوامل في تخلف الأمم، استبداد الشره بهم، وافتتانهم بزخارف الحياة،
ومفاتن الترف والبذخ، مما يفضي بهم إلى الضعف والانحلال.
ولشره الأكل آثار سيئة ومساوئ عديدة:
فقد أثبت الطب أن الكثير من الأمراض والكثير من الخطوط والتجعدات التي تشوه
القسمات الحلوة في النساء والرجال، والكثير من



(1) البحار م 14 ص 545 عن طب الأئمة.
(2) سفينة البحار م 1 ص 27.
92
الشحم المتراكم، والعيون الغائرة، والقوى المنهكة، والنفوس المريضة كلها تعزى
إلى التخمة المتواصلة، والطعام الدسم المترف.
وأثبت كذلك أن الشره يرهق المعدة ويسبب ألوان المآسي الصحية كتصلب الشرايين،
والذبحة الصدرية، وارتفاع ضغط الدم، والبول السكري.
وهكذا يفعل الشره الجنسي في إضعاف الصحة العامة، وتلاشي الطاقة العصبية، واضمحلال
الحيوية والنشاط، مما يعرض المسرفين للمخاطر.
علاج الشره:
أما شره الأكل فعلاجه:
1 - أن يتذكر الشره ما أسلفناه من محاسن العفة، وفضائلها.
2 - أن يتدبر مساوئ الشره، وغوائله الماحقة.
3 - أن يروض نفسه على الاعتدال في الطعام، ومجانبة الشره جاهدا في ذلك، حتى يزيل
الجشع. فإن دستور الصحة الوقائي والعلاجي هو الاعتدال في الأكل وعدم الاسراف فيه،
كما لخصته الآية الكريمة كلوا واشربوا ولا تسرفوا. (الأعراف: 31)
وقد أوضحنا واقع الاعتدال في بحث (العفة).
وأما الشره الجنسي فعلاجه:
1 - أن يتذكر المرء أخطار الاسراف الجنسي، ومفاسدة المادية والمعنوية.

93
2 - أن يكافح مثيرات الغريزة، كالنظر إلى الجمال النسوي، واختلاط الجنسين، وسروح
الفكر في التخيل، وأحلام اليقظة، ونحوها من المثيرات.
3 - أن يمارس ضبط الغريزة وكفها عن الافراط الجنسي، وتحري الاعتدال فيها، وقد مر
بيانه في بحث العفة.

94
الأمانة والخيانة
الأمانة هي: أداء ما ائتمن عليه الانسان من الحقوق، وهي ضد (الخيانة).
وهي من أنبل الخصال، وأشرف الفضائل، وأعز المآثر، بها يحرز المرء الثقة والاعجاب،
وينال النجاح والفوز.
وكفاها شرفا ان الله تعالى مدح المتحلين بها، فقال: والذين هم لأماناتهم وعهدهم
راعون
(المؤمنون: 8. المعارج: 32)
وضدها الخيانة، وهي: غمط الحقوق واغتصابها، وهي من أرذل الصفات، وأبشع المذام،
وأدعاها إلى سقوط الكرامة، والفشل والاخفاق.
لذلك جاءت الآيات والأخبار حاثة على التحلي بالأمانة، والتحذير من الخيانة، واليك
طرفا منها:
إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا
بالعدل، إن الله نعما يعظكم به
(النساء: 58)
وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول، وتخونوا أماناتكم وأنتم
تعلمون (الأنفال: 27)
قال الصادق عليه السلام: لا تغتروا بصلاتهم ولا بصيامهم،

95
فإن الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم، حتى لو تركه استوحش، ولكن اختبروهم عند صدق
الحديث، وأداء الأمانة (1).
وعنه عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ليس منا من أخلف
الأمانة.
وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أداء الأمانة يجلب الرزق، والخيانة
تجلب الفقر (2).
وقال الصادق عليه السلام: اتقوا الله، وعليكم بأداء الأمانة إلى من ائتمنكم، فلو
أن قاتل علي بن أبي طالب إئتمنني على أمانة لأديتها إليه (3).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا تزال أمتي بخير، ما لم يتخاونوا، وأدوا
الأمانة، وآتوا الزكاة، فإذا لم يفعلوا ذلك، ابتلوا بالقحط والسنين (4).
محاسن الأمانة ومساوئ الخيانة:
تلعب الأمانة دورا خطيرا، في حياة الأمم والأفراد، فهي نظام



(1) الوافي ج 3 ص 82 عن الكافي.
(2) الوافي ج 10 ص 112 عن الكافي.
(3) الوافي ج 10 ص 112 عن الكافي والتهذيب.
(4) عن ثواب الأعمال للصدوق (ره).
96
أعمالهم، وقوام شؤونهم، وعنوان نبلهم واستقامتهم، وسبيل رقيهم المادي والأدبي.
وبديهي أن من تحلى بالأمانة، كان مثار التقدير والاعجاب، وحاز ثقة الناس واعتزازهم
وائتمانهم، وشاركهم في أموالهم ومغانمهم.
ويصدق ذلك على الأمم عامة، فان حياتها لا تسمو ولا تزدهر، الا في محيط تسوده الثقة
والأمانة.
وبها ملك الغرب أزمة الاقتصاد، ومقاليد الصناعة والتجارة، وجنى الأرباح الوفيرة،
ولكن المسلمين وا أسفاه! تجاهلوها، وهي عنوان مبادئهم، ورمز كرامتهم، فباؤوا
بالخيبة والإخفاق.
من أجل ذلك كانت الخيانة من أهم أسباب سقوط الفرد واخفاقه في مجالات الحياة، كما هي
العامل الخطير في اضعاف ثقة الناس بعضهم ببعض، وشيوع التناكر والتخاوف بينهم، مما
تسبب تسيب المجتمع، وفصم روابطه، وإفساد مصالحه، وبعثرة طاقاته.
صور الخيانة:
وللخيانة صور تختلف بشاعتها وجرائمها باختلاف آثارها، فأسوأها نكرا هي الخيانة
العلمية التي يقترفها الخائنون المتلاعبون بحقائق العلم المقدسة، ويشوبونها بالدس
والتحريف.
ومن صورها إفشاء أسرار المسلمين، التي يحرصون على كتمانها،

97
فإشاعتها والحالة هذه جريمة نكراء، تعرضهم للأخطار والمآسي.
ومن صورها البشعة: خيانة الودائع والأمانات، التي أؤتمن عليها المرء، فمصادرتها
جريمة مضاعفة من الخيانة والسرقة والاغتصاب.
وللخيانة بعد هذا صور عديدة كريهة، تثير الفزع والتقزز، وتضر بالناس فردا
ومجتمعا، ماديا وأدبيا، كالخداع والغش والتطفيف بالوزن أو الكيل، ونحوها من
مفاهيم التدليس والتلبيس.

98
التآخي
التآخي الروحي:
كان العصر الجاهلي مسرحا للمآسي والأرزاء، في مختلف مجالاته ونواحيه الفكرية
والمادية.
وكان من أبشع مآسيه، ذلك التسيب الخلقي، والفوضى المدمرة، مما صيرهم يمارسون
طباع الضواري، وشريعة الغاب والتناكر والتناحر، والفتك والسلب، والتشدق بالثأر
والانتقام.
فلما أشرق فجر الاسلام، وأطل بأنواره على البشرية، استطاع بمبادئه الخالدة، ودستوره
الفذ أن يطب تلك المآسي، ويحسم تلك الأوزار، فأنشأ من ذلك القطيع الجاهلي خير
أمة أخرجت للناس (1) عقيدة وشريعة، وعلما وأخلاقا. فأحل الايمان محل الكفر،
والنظام محل الفوضى، والعلم محل الجهل، والسلام محل الحرب، والرحمة محل الانتقام.
فتلاشت تلك المفاهيم الجاهلية، وخلفتها المبادئ الاسلامية الجديدة، وراح النبي صلى
الله عليه وآله يبني وينشئ أمة مثالية تبذ الأمم نظاما، وأخلاقا وكمالا.
وكلما سار المسلمون أشواطا تحت راية القرآن، وقيادة الرسول الأعظم



(1) آل عمران: 110.
99
صلى الله عليه وآله، توغلوا في معارج الكمال، وحلقوا في آفاق المكارم، حتى حققوا
مبدأ المؤاخاة بأسلوب لم تحققه الشرائع والمبادئ، وأصبحت أواصر العقيدة أقوى من
أواصر النسب، ووشائج الايمان تسمو على وشائج القومية والقبلية، وغدا المسلمون أمة
واحدة، مرصوصة الصف، شامخة الصرح، خفاقة اللواء، لا تفرقهم النعرات والفوارق.
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل، لتعارفوا، إن
أكرمكم عند الله أتقاكم (1).
وطفق القرآن الكريم يغرس في نفوس المسلمين مفاهيم التآخي الروحي، مركزا على ذلك
بآياته العديدة وأساليبه الحكيمة الفذة.
فمرة شرع التآخي ليكون قانونا للمسلمين إنما المؤمنون إخوة، فأصلحوا بين أخويكم،
واتقوا الله لعلكم ترحمون (2).
وأخرى يؤكد عليه محذرا من عوامل الفرقة، ومذكرا نعمة التآلف والتآخي الاسلامي،
بعد طول التناكر والتناحر الجاهليين، واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا،
واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءا، فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته
إخوانا (3).
وهكذا جهد الاسلام في تعزيز التآخي الروحي وحماه من نوازع الفرقة والانقسام، بما
شرعه من دستور الروابط الاجتماعية في نظامه الخالد.



(1) الحجرات: 13.
(2) الحجرات: 10.
(3) آل عمران: 103.
100
واليك نموذجا من ذلك:
1 - تسامى بشعور المسلمين وعواطفهم، أن تسترقها النعرات العصبية، ونزعاتها
المفرقة، ووجهها نحو الهدف الأسمى من طاعة الله تعالى ورضاه: فالحب والبغض،
والعطاء والمنع، والنصر والخذلان: كل ذلك يجب أن يكون لله عز وجل، وبذلك تتوثق عرى
المؤاخاة، وتتلاشى النزعات المفرقة، ويغدو المسلمون كالبنيان المرصوص، يشد بعضه
بعضا.
واليك قبسا من آثار أهل البيت عليهم السلام في هذا المقام:
عن الباقر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله ود المؤمن للمؤمن
في الله، من أعظم شعب الايمان، ألا ومن أحب في الله، وأبغض في الله، وأعطى في
الله، ومنع في الله، فهو من أصفياء الله (1).
وقال الصادق عليه السلام: إن المتحابين في الله يوم القيامة، على منابر من نور،
قد أضاء نور وجوههم، ونور أجسادهم، ونور منابرهم، كل شئ حتى يعرفوا به، فيقال
هؤلاء المتحابون في الله (2).
وقال علي بن الحسين عليه السلام: إذا جمع الله عز وجل الأولين والآخرين، قام مناد
ينادي بصوت يسمع الناس، فيقول: أين المتحابون في الله؟ قال: فيقوم عنق من الناس،
فيقال لهم: اذهبوا إلى الجنة



(1) الوافي ج 3 ص 89 عن الكافي.
(2) نفس المصدر.
101
بغير حساب.
قال: فتلقاهم الملائكة فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة بغير حساب.
قال: فيقولون: فأي ضرب أنتم من الناس؟ فيقولون: نحن المتحابون في الله.
فيقولون: وأي شئ كانت أعمالكم؟ قالوا: كنا نحب في الله، ونبغض في الله.
قال: فيقولون: نعم أجر العاملين (1).
وقال الصادق عليه السلام: كل من لم يحب على الدين، ولم يبغض على الدين فلا دين
له (2).
وعن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام قال: إذا أردت أن تعلم أن فيك خيرا،
فانظر إلى قلبك، فان كان يحب أهل طاعة الله، ويبغض أهل معصيته، ففيك خير، والله
يحبك، وإن كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أهل معصيته، فليس فيك خير، والله يبغضك،
والمرء مع من أحب (3).
2 - رغب المسلمين فيما يؤلفهم، ويحقق لهم العزة والرخاء، كالتواصي بالحق، والتعاون
على البر، والتناصر على العدل، والتكافل في مجالات الحياة الاقتصادية، فهم في عرف
الشريعة أسرة واحدة، يسعدها ويشقيها



(1) البحار م 15 ج 1 ص 283 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 90 عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 90 عن الكافي.
102
ما يسعد أفرادها ويشقيهم.
دستورها محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم (1).
وشعارها قول الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله: من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين
فليس بمسلم (2).
3 - خذر المسلمين مما يبعث على الفرقة والعداء، والفحش والبذاء والاغتياب،
والنميمة والخيانة والغش، ونحوها من مثيرات الفتن والضغائن، ومبدأهم في ذلك قول
النبي صلى الله عليه وآله:
المؤمن من أمنه الناس على أموالهم ودمائهم، والمسلم من سلم المسلمون من يده
ولسانه، والمهاجر من هجر السيئات (3).
4 - أتاح الفرص لانماء العلاقات الودية بين المسلمين، كالحث على التزاور، وارتياد
المحافل الدينية، وشهود المجتمعات الاسلامية، كصلاة الجماعة ومناسك الحج، ونحو ذلك.



(1) الفتح: 29.
(2) الوافي ج 3 ص 99 عن الكافي.
(3) الوافي ج 14 ص 48 عن الفقيه.
103
العصبية
هي: مناصرة المرء قومه، أو أسرته، أو وطنه، فيما يخالف الشرع، وينافي الحق والعدل.
وهي: من أخطر النزعات وأفتكها في تسيب المسلمين، وتفريق شملهم، وإضعاف طاقاتهم،
الروحية والمادية، وقد حاربها الاسلام، وحذر المسلمين من شرورها.
فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من كان
في قلبه حبة من خردل من عصبية، بعثه الله تعالى يوم القيامة مع أعراب
الجاهلية (1).
وقال الصادق عليه السلام: من تعصب عصبه الله بعصابة من نار (2).
وقال النبي صلى الله عليه وآله: إن الله تبارك وتعالى قد أذهب بالاسلام نخوة
الجاهلية، وتفاخرها بآبائها، ألا إن الناس من آدم، وآدم من تراب، وأكرمهم عند الله
أتقاهم (3).



(1) الوافي ج 3 ص 149 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 149 عن الكافي.
(3) الوافي ج 14 ص 48 عن الفقيه.
104
وقال الباقر عليه السلام: جلس جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله
ينتسبون ويفتخرون، وفيهم سلمان. فقال عمر: ما نسبك أنت يا سلمان وما أصلك؟ فقال:
أنا سلمان بن عبد الله، كنت ضالا فهداني الله بمحمد. وكنت عائلا فأغناني الله
بمحمد، وكنت مملوكا فأعتقني الله بمحمد، فهذا حسبي ونسبي يا عمر.
ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وآله، فذكر له سلمان ما قال عمر وما أجابه، فقال
رسول الله: يا معشر قريش إن حسب المرء دينه، ومروءته خلقه، وأصله عقله، قال
الله تعالى يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل
لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم.
ثم أقبل على سلمان فقال له: إنه ليس لأحد من هؤلاء عليك فضل إلا بتقوى الله عز
وجل، فمن كنت أتقى منه فأنت أفضل منه (1).
وعن الصادق عن أبيه عن جده عليهم السلام قال: وقع بين سلمان الفارسي رضي الله
عنه، وبين رجل كلام وخصومة، فقال له الرجل: من أنت يا سلمان؟ فقال سلمان: أما أولي
وأولك فنطفة قذرة. وأما آخري وآخرك فجيفة منتنة، فإذا كان يوم القيامة، ووضعت
الموازين، فمن ثقل ميزانه فهو الكريم، ومن خف ميزانه فهو اللئيم (2).
وأصدق شاهد على واقعية الاسلام، واستنكاره النعرات العصبية



(1) البحار م 15 ج 2 ص 95 عن أمالي أبي علي الشيخ الطوسي.
(2) سفينة البحار ج 2 ص 348 عن أمالي الصدوق (ره).
105
المفرقة، وجعله الايمان والتقى مقياسا للتفاضل، أن أبا لهب - وهو من صميم العرب،
وعم النبي - صرح القرآن بثلبه وعذابه تبت يدا أبي لهب وتب، ما أغنى عنه ماله
وما كسب، سيصلى نارا ذات لهب وذلك بكفره ومحاربته لله ورسوله.
وكان سلمان فارسيا، بعيدا عن الأحساب العربية، وقد منحه الرسول الأعظم صلى الله
عليه وآله وساما خالدا في الشرف والعزة، فقال: سلمان منا أهل البيت. وما ذلك
الا لسمو إيمانه، وعظم إخلاصه، وتفانيه في الله ورسوله.
حقيقة العصبية:
لا ريب أن العصبية الذميمة التي نهى الاسلام عنها هي: التناصر على الباطل، والتعاون
على الظلم، والتفاخر بالقيم الجاهلية.
أما التعصب للحق، والدفاع عنه، والتناصر على تحقيق المصالح الاسلامية العامة،
كالدفاع عن الدين، وحماية الوطن الاسلامي الكبير، وصيانة كرامات المسلمين وأنفسهم
وأموالهم، فهو التعصب المحمود الباعث على توحيد الأهداف والجهود، وتحقيق العزة
والمنعة للمسلمين، وقد قال الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام: إن
العصبية التي يأثم عليها صاحبها، أن يرى الرجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين،
وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن من العصبية أن يعين

106
قومه على الظلم (1).
غوائل العصبية:
من استقرأ التاريخ الاسلامي، وتتبع العلل والأسباب، في هبوط المسلمين، علم أن
النزعات العصبية، هي المعول الهدام، والسبب الأول في تناكر المسلمين، وتمزيق
شملهم، وتفتيت طاقاتهم، مما أدى بهم إلى هذا المصير القاتم.
فقد ذل المسلمون وهانوا، حينما تفشت فيهم النعرات المفرقة، فانفصمت بينهم عرى
التحابب، ووهت فيهم أواصر الإخاء، فأصبحوا مثالا للتخلف والتبعثر والهوان، بعد أن
كانوا رمزا للتفوق والتماسك والفخار، كأنهم لم يسمعوا كلام الله تعالى حيث قال:
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءا
فألف بين قلوبكم، فأصبحتم بنعمته إخوانا. وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم
منها (2).



(1) الوافي ج 3 ص 149 عن الكافي.
(2) آل عمران: 103.
107
العدل
العدل ضد الظلم، وهو مناعة نفسية، تردع صاحبها عن الظلم، وتحفزه على العدل، وأداء
الحقوق والواجبات.
وهو سيد الفضائل، ورمز المفاخر، وقوام المجتمع المتحضر، وسبيل السعادة والسلام.
وقد مجده الاسلام، وعنى بتركيزه والتشويق إليه في القرآن والسنة:
قال تعالى: إن الله يأمر بالعدل والاحسان (1).
وقال سبحانه: وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى (2).
وقال عز وجل: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس
أن تحكموا بالعدل (3).
وقال الصادق عليه السلام: العدل أحلى من الشهد، وألين من الزبد، وأطيب ريحا من
المسك (4).



(1) النحل: 90.
(2) الانعام: 152.
(3) النساء: 58.
(4) الوافي ج 3 ص 89 عن الكافي، وهو من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس.
108
وقال الراوي لعلي بن الحسين عليه السلام أخبرني بجميع شرائع الدين؟ قال: قول الحق،
والحكم بالعدل، والوفاء بالعهد (1).
وقال الرضا عليه السلام: استعمال العدل والاحسان مؤذن بدوام النعمة (2).
أنواع العدل:
للعدل صور مشرقة تشع بالجمال والجلال، وإليك أهمها:
1 - عدل الانسان مع الله عز وجل، وهو أزهى صور العدل، وأسمى مفاهيمه، وعنوان
مصاديقه، وكيف يستطيع الانسان أن يؤدي واجب العدل للمنعم الأعظم، الذي لا تحصى
نعماؤه، ولا تعد آلاؤه؟!
وإذا كان عدل المكافأة يقدر بمعيار النعم، وشرف المنعم، فمن المستحيل تحقيق العدل
نحو واجب الوجود، والغني المطلق عن سائر الخلق، الا بما يستطيعه قصور الانسان،
وتوفيق المولى عز وجل له.
وجماع العدل مع الله تعالى يتلخص في الايمان به، وتوحيده، والاخلاص له، وتصديق
سفرائه وحججه على العباد، والاستجابة لمقتضيات ذلك من التوله بحبه والتشرف
بعبادته، والدأب على طاعته، ومجافاة عصيانه.
2 - عدل الانسان مع المجتمع:
وذلك برعاية حقوق أفراده، وكف الأذى والإساءة عنهم،



(1) البحار م 16 كتاب العشرة ص 125 عن خصال الصدوق (ره).
(2) البحار م 16 كتاب العشرة ص 125 عن عيون أخبار الرضا.
109
وسياستهم بكرم الأخلاق، وحسن المداراة وحب الخير لهم، والعطف على بؤسائهم
ومعوزيهم، ونحو ذلك من محققات العدل الاجتماعي.
وقد لخص الله تعالى واقع العدل العام في آية من كتابه المجيد: إن الله يأمر
بالعدل والاحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم
تذكرون (1).
وقد رسم أمير المؤمنين عليه السلام منهاج العدل الاجتماعي بايجاز وبلاغة، فقال
لابنه:
يا بني إجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك،
وأكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن إليك،
واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل
ما لا تعلم وإن قل ما تعلم، ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك.
أوصى عليه السلام ابنه الكريم أن يكون عادلا فيما بينه وبين الناس كالميزان، ثم
أوضح له صور العدل وطرائقه إيجابا وسلبا.
3 - عدل البشر الأحياء مع أسلافهم الأموات، الذين رحلوا عن الحياة، وخلفوا لهم
المال والثراء، وحرموا من متعه ولذائذه، ولم يكسبوا في رحلتهم الأبدية، الا أذرعا
من أثواب البلى، وأشبارا ضيقة من بطون الأرض.



(1) النمل: 90.
110
فمن العدل أن يستشعر الأحياء نحو أسلافهم بمشاعر الوفاء والعطف وحسن المكافاة، وذلك
بتنفيذ وصاياهم، وتسديد ديونهم، وإسداء الخيرات والمبرات إليهم، وطلب الغفران
والرضا والرحمة من الله عز وجل لهم.
قال الصادق عليه السلام: إن الميت ليفرح بالترحم عليه، والاستغفار له، كما يفرح
الحي بالهدية تهدى إليه.
وقال عليه السلام: من عمل من المسلمين عن ميت عملا صالحا، أضعف الله له أجره،
ونفع الله به الميت (1).
4 - عدل الحكام:
وحيث كان الحكام ساسة الرعية، وولاة أمر الأمة، فهم أجدر الناس بالعدل، وأولاهم
بالتحلي به، وكان عدلهم أسمى مفاهيم العدل، وأروعها مجالا وبهاء، وأبلغها أثرا
في حياة الناس.
بعدلهم يستتب الأمن، ويسود السلام، ويشيع الرخاء، وتسعد الرعية.
وبجورهم تنتكس تلك الفضائل، والأماني إلى نقائضها، وتغدو الأمة آنذاك في قلق وحيرة
وضنك وشقاء.
محاسن العدل:
فطرت النفوس السليمة على حب العدل وتعشقه، وبغض الظلم واستنكاره. وقد أجمع البشر
عبر الحياة، واختلاف الشرائع والمبادئ،



(1) هذا الخبر وسابقه عن كتاب من لا يحضره الفقيه للصدوق.
111
على تمجيد العدل وتقديسه، والتغني بفضائله ومآثره، والتفاني في سبيله.
فهو سر حياة الأمم، ورمز فضائلها، وقوام مجدها وسعادتها، وضمان أمنها ورخائها،
وأجل أهدافها وأمانيها في الحياة.
وما دالت الدول الكبرى، وتلاشت الحضارات العتيدة، الا بضياع العدل والاستهانة
بمبدئه الأصيل، وقد كان أهل البيت عليهم السلام المثل الأعلى للعدل، وكانت أقوالهم
وافعالهم دروسا خالدة تنير للانسانية مناهج العدل والحق والرشاد.
وإليك نماذج من عدلهم:
قال سوادة بن قيس للنبي صلى الله عليه وآله في أيام مرضه: يا رسول الله إنك لما
أقبلت من الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضباء، وبيدك القضيب الممشوق، فرفعت
القضيب وأنت تريد الراحلة، فأصاب بطني، فأمره النبي أن يقتص منه، فقال: اكشف لي عن
بطنك يا رسول الله فكشف عن بطنه، فقال سوادة: أتأذن لي أن أضع فمي على بطنك، فأذن
له فقال: أعوذ بموضع القصاص من رسول الله من النار يوم النار. فقال صلى الله عليه
وآله: يا سوادة بن قيس أتعفو أم تقتص؟ فقال: بل أعفو يا رسول الله. فقال: اللهم
أعف عن سوادة بن قيس كما عفا عن نبيك محمد (1).
وقال أبو سعيد الخدري: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله يتقاضاه دينا كان
عليه، فاشتد عليه حتى قال له: أحرج عليك



(1) سفينة البحار ج 1 ص 671.
112
إلا قضيتني، فانتهره أصحابه وقالوا: ويحك، تدري من تكلم؟!! قال: إني أطلب حقي.
فقال النبي صلى الله عليه وآله: هلا مع صاحب الحق كنتم، ثم أرسل إلى خولة بنت قيس
فقال لها: إن كان عندك تمر فأقرضينا، حتى يأتي تمرنا فنقضيك. فقالت: نعم بأبي أنت
وأمي يا رسول الله. قال: فأقرضته فقضى الأعرابي وأطعمه. فقال: أوفيت أوفى الله
لك؟ فقال: أولئك خيار الناس، إنه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع.
وقيل: إن الأعرابي كان كافرا، فأسلم بمشاهدة هذا الخلق الرفيع، وقال: يا رسول
الله ما رأيت أصبر منك (1).
وهكذا كان أمير المؤمنين علي عليه السلام:
قال الصادق عليه السلام لما ولي علي صعد المنبر فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:
إني لا أرزؤكم من فيئكم درهما، ما قام لي عذق بيثرب، فلتصدقكم أنفسكم، أفتروني
مانعا نفسي ومعطيكم؟!! قال: فقام إليه عقيل كرم الله وجهه فقال له: الله،
لتجعلني وأسود بالمدينة سواء، فقال: اجلس، أما كان هنا أحد يتكلم غيرك، وما فضلك
عليه إلا بسابقة أو بتقوى (2).
وجاء في صواعق ابن حجر ص 79 قال: وأخرج ابن عساكر أن



(1) فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج 1 ص 122 عن صحيح ابن ماجة.
(2) البحار م 9 ص 539 عن الكافي.
113
عقيلا سأل عليا عليه السلام فقال: إني محتاج، وإني فقير فاعطني. قال: إصبر حتى
يخرج عطاؤك مع المسلمين، فأعطيك معهم، فألح عليه، فقال لرجل: خذ بيده وانطلق به إلى
حوانيت أهل السوق فقل له دق هذه الأقفال، وخذ ما في هذه الحوانيت. قال: تريد أن
تتخذني سارقا؟ قال: وأنت تريد أن تتخذني سارقا، ان آخذ أموال المسلمين فأعطيكها
دونهم؟ قال: لآتين معاوية. قال: أنت وذاك. فأتى معاوية فسأله فأعطاه مائة ألف، ثم
قال: اصعد على المنبر، فاذكر ما أولاك به علي وما أوليتك، فصعد فحمد الله، وأثنى
عليه، ثم قال: أيها الناس اني أخبركم أني أردت عليا عليه السلام على دينه فاختار
دينه، وإني أردت معاوية على دينه فاختارني على دينه (1).
ومشى إليه عليه السلام ثلة من أصحابه عند تفرق الناس عنه، وفرار كثير منهم إلى
معاوية، طلبا لما في يديه من الدنيا، فقالوا: يا أمير المؤمنين إعط هذه الأموال،
وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم، ومن تخاف عليه من الناس
فراره إلى معاوية، فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: أتأمروني أن أطلب النصر
بالجور، لا والله ما أفعل، ما طلعت شمس، ولاح في السماء نجم، والله، لو كان مالهم
لي لواسيت بينهم، وكيف وإنما هي أموالهم (2).
وقال ابن عباس: اتيته (يعني أمير المؤمنين عليا) فوجدته يخصف



(1) فضائل الخمسة عن الصحاح الستة ج 3 ص 15.
(2) البحار م 9 ص 533 بتصرف.
114
نعلا، ثم ضمها إلى صاحبتها، وقال لي: قومها. فقلت: ليس لهما قيمة. قال: على ذلك.
قلت: كسر درهم. قال: والله، لهما أحب إلي من أمركم هذا إلا أن أقيم حدا (حقا)
أو ادفع باطلا (1).
وهو القائل: والله لئن أبيت على حسك السعدان مسهدا، واجر في الأغلال مصفدا،
أحب إلي من أن ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد، وغاصبا لشئ من
الحطام، وكيف أظلم أحدا لنفس يسرع إلى البلى قفولها، ويطول في الثرى حلولها (2).



(1) سفينة البحار ج 1 ص 570 بتصرف.
(2) سفينة البحار ج 2 ص 606 عن النهج.
115
الظلم
الظلم لغة: وضع الشئ في غير موضعه، فالشرك ظلم عظيم، لجعله موضع التوحيد عند
المشركين.
وعرفا هو: بخس الحق، والاعتداء على الغير، قولا أو عملا، كالسباب، والاغتياب،
ومصادرة المال، واجترام الضرب أو القتل، ونحو ذلك من صور الظلامات المادية أو
المعنوية.
والظلم من السجايا الراسخة في أغلب النفوس، وقد عانت منه البشرية في تاريخها المديد
ألوان المآسي والأهوال، مما جهم الحياة، ووسمها بطابع كئيب رهيب.
والظلم من شيم النفوس فإن تجد * ذا عفة فلعلة لا يظلم
من أجل ذلك كان الظلم جماع الآثام ومنبع الشرور، وداعية الفساد والدمار.
وقد تكاثرت الآيات والأخبار بذمه والتحذير منه:
قال تعالى: إنه لا يفلح الظالمون (1).
إن الله لا يهدي القوم الظالمين (2).



(1) الأنعام: 21.
(2) الأنعام: 144.
116
والله لا يحب الظالمين (1).
إن الظالمين لهم عذاب أليم (2).
ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا (3).
وقال تعالى: ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص
فيه الأبصار (4).
وقال سبحانه: ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به، وأسروا الندامة لما
رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون (5).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت
أفلاكها، على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت، وإن دنياكم لأهون
علي من ورقة في فم جرادة، ما لعلي ونعيم يفنى ولذة لا تبقى (6). وعن أبي بصير
قال: دخل رجلان على أبي عبد الله عليه السلام في مداراة بينهما ومعاملة، فلما أن
سمع كلامها قال: أما إنه ما ظفر أحد بخير من ظفر بالظلم، أما إن المظلوم يأخذ من
دين الظالم أكثر مما يأخذ الظالم من مال المظلوم. ثم قال: من يفعل الشر بالناس فلا



(1) آل عمران: 57.
(2) إبراهيم: 22.
(3) يونس: 13.
(4) إبراهيم: 42.
(5) يونس: 54.
(6) نهج البلاغة.
117
ينكر الشر إذا فعل به، أما إنه انما يحصد ابن آدم ما يزرع، وليس يحصد أحد من المر
حلوا، ولا من الحلو مرا، فاصطلح الرجلان قبل أن يقوما (1).
وقال عليه السلام: من أكل مال أخيه ظلما ولم يرده إليه، أكل جذوة من النار يوم
القيامة (2).
وقال الصادق عليه السلام: من ظلم سلط الله عليه من يظلمه، أو على عقبه، أو على
عقب عقبه.
قال (الراوي) يظلم هو فيسلط على عقبه؟ فقال: إن الله تعالى يقول: وليخش الذين لو
تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله،، وليقولوا قولا
سديدا (النساء: 9) (3).
وتعليلا للخبر الشريف: أن مؤاخذة الأبناء بجرائم الآباء انما هو في الأبناء الذين
ارتضوا مظالم آبائهم أو اغتنموا تراثهم المغصوب، ففي مؤاخذتهم زجر عاطفي رهيب، يردع
الظالم عن العدوان خشية على أبنائه الأعزاء، وبشارة للمظلوم على معالجة ظالمه
بالانتقام، مشفوعة بثواب ظلامته في الآخرة.
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من أصبح
لا يهم بظلم غفر الله له ما اجترم (4).
أي ما اجترم من الذنوب التي بينه وبين الله عز وجل في ذلك اليوم.
إلى كثير من الروايات الشريفة التي ستراها في مطاوي هذا البحث.



(1) الوافي ج 3 ص 162 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 162 عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 162 عن الكافي.
(4) الوافي ج 3 ص 162 عن الكافي.
118
أنواع الظلم:
يتنوع الظلم صورا نشير إليها إشارة لامحة:
1 - ظلم الانسان نفسه:
وذلك باهمال توجيهها إلى طاعة الله عز وجل، وتقويمها بالخلق الكريم، والسلوك
الرضي، مما يزجها في متاهات الغواية والضلال، فتبوء آنذاك بالخيبة والهوان.
ونفس وما سواها، فألهما فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها (1).
2 - ظلم الانسان عائلته:
وذلك باهمال تربيتهم تربية إسلامية صادقة، وإغفال توجيههم وجهة الخير والصلاح،
وسياستهم بالقسوة والعنف، والتقتير عليهم بضرورات الحياة ولوازم العيش الكريم، مما
يوجب تسيبهم وبلبلة حياتهم، ماديا وأدبيا.
3 - ظلم الانسان ذوي قرباه:
وذلك بجفائهم وخذلانهم في الشدائد والأزمات، وحرمانهم من مشاعر العطف والبر، مما
يبعث على تناكرهم وتقاطعهم.
4 - ظلم الانسان للمجتمع:
وذلك بالاستعلاء على أفراده وبخس حقوقهم، والاستخفاف بكراماتهم،



(1) الشمس: (7 - 10).
119
وعدم الاهتمام بشؤونهم ومصالحهم. ونحو ذلك من دواعي تسيب المجتمع وضعف طاقاته.
وأبشع المظالم الاجتماعية، ظلم الضعفاء، الذين لا يستطيعون صد العدوان عنهم، ولا
يملكون الا الشكاة والضراعة إلى العدل الرحيم في أساهم، وظلاماتهم.
فعن الباقر عليه السلام قال: لما حضر علي بن الحسين عليه السلام الوفاة، ضمني إلى
صدره، ثم قال: يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، وبما ذكر أن أباه
أوصاه، قال: يا بني إياك وظلم من لا يجد عليك ناصرا الا الله تعالى (1).
5 - ظلم الحكام والمتسلطين:
وذلك باستبدادهم، وخنقهم حرية الشعوب، وامتهان كرامتها، وابتزاز أموالها، وتسخيرها
لمصالحهم الخاصة.
من أجل ذلك كان ظلم الحكام أسوأ أنواع الظلم وأشدها نكرا، وأبلغها ضررا في كيان
الأمة ومقدراتها.
قال الصادق عليه السلام: إن الله تعالى أوحى إلى نبي من الأنبياء، في مملكة جبار
من الجبابرة: أن إئت هذا الجبار فقل له: إني لم استعملك على سفك الدماء، واتخاذ
الأموال، وإنما استعملتك لتكف عني أصوات المظلومين، فاني لن أدع ظلامتهم وان كانوا
كفارا (2).



(1) الوافي ج 3 ص 162 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 162 عن الكافي.
120
وعن الصادق عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: تكلم النار يوم
القيامة ثلاثة: أميرا، وقارئا، وذا ثروة من المال.
فتقول للأمير: يا من وهب الله له سلطانا فلم يعدل، فتزدرده كما يزدرد الطير حب
السمسم.
وتقول للقارئ: يا من تزين للناس وبارز الله بالمعاصي فتزدرده.
وتقول للغني: يا من وهب الله له دنيا كثيرة واسعة فيضا، وسأله الحقير اليسير
قرضا فأبى الا بخلا فتزدرده (1).
وليس هذا الوعيد الرهيب مقصورا على الجائرين فحسب، وإنما يشمل من ضلع في ركابهم،
وارتضى أعمالهم، وأسهم في جورهم، فإنه وإياهم سواسية في الاثم والعقاب، كما صرحت
بذلك الآثار:
قال الصادق عليه السلام: العامل بالظلم، والمعين له، والراضي به، شركاء
ثلاثتهم (2).
لذلك كانت نصرة المظلوم، وحمايته من عسف الجائرين، من أفضل الطاعات، وأعظم القربات
إلى الله عز وجل، وكان لها وقعها الجميل، وآثارها الطيبة في حياة الانسان المادية
والروحية.
قال الإمام الكاظم عليه السلام لابن يقطين: إضمن لي واحدة أضمن لك ثلاثا، إضمن
لي أن لا تلقى أحدا من موالينا في دار الخلافة الا بقضاء حاجته، أضمن لك أن لا
يصيبك حد السيف أبدا، ولا يظلك



(1) البحار م 16 ص 209 عن الخصال للصدوق (ره).
(2) الوافي ج 3 ص 163 عن الكافي.
121
سقف سجن أبدا، ولا يدخل الفقر بيتك أبدا (1).
وقال أبو الحسن عليه السلام: إن لله جل وعز مع السلطان أولياء، يدفع بهم عن
أوليائه.
وفي خبر آخر: أولئك عتقاء الله من النار (2).
وقال الصادق عليه السلام: كفارة عمل السلطان قضاء حوائج الاخوان (3).
وعن محمد بن جمهور وغيره من أصحابنا قال: كان النجاشي - وهو رجل من الدهاقين -
عاملا على الأهواز وفارس، فقال بعض أهل عمله لأبي عبد الله عليه السلام: إن في
ديوان النجاشي علي خراجا، وهو ممن يدين بطاعتك، فان رأيت أن تكتب لي إليه كتابا.
قال: فكتب إليه أبو عبد الله: بسم الله الرحمن الرحيم سر أخاك يسرك الله.
فلما ورد عليه الكتاب وهو في مجلسه، فلما خلا ناوله الكتاب وقال: هذا كتاب أبي عبد
الله عليه السلام، فقبله ووضعه على عينيه ثم قال: ما حاجتك؟ فقال: علي خراج في
ديوانك. قال له: كم هو؟ قال: هو عشرة آلاف درهم.
قال: فدعا كاتبه فأمره بأدائها عنه، ثم أخرج مثله فأمره أن يثبتها له لقابل، ثم قال
له: هل سررتك؟ قال نعم. قال: فأمر له بعشرة آلاف درهم أخرى فقال له: هل سررتك؟ قال:
نعم جعلت فداك.



(1) كشكول البهائي طبع إيران ص 124.
(2) الوافي ج 10 ص 28 عن الفقيه.
(3) الوافي ج 10 ص 28 عن الفقيه.
122
فأمر له بمركب، ثم أمر به بجارية وغلام، وتخت ثياب، في كل ذلك يقول: هل سررتك؟
فكلما قال: نعم، زاده حتى فرغ، فقال له: إحمل فرش هذا البيت الذي كنت جالسا فيه
حين دفعت إلي كتاب مولاي فيه، وارفع إلي جميع حوائجك. قال: ففعل، وخرج الرجل
فصار إلى أبي عبد الله عليه السلام، فحدثه بالحديث على جهته، فجعل يستبشر بما
فعله.
قال له الرجل: يا بن رسول الله قد سرك ما فعل بي؟ قال: اي والله، لقد سر الله
ورسوله (1).
وخامة الظلم:
بديهي أن استبشاع الظلم واستنكاره، فطري في البشر، تأباه النفوس الحرة، وتستميت
في كفاحه وقمعه، وليس شئ أضر بالمجتمع، وأدعى إلى تسيبه ودماره من شيوع الظلم
وانتشار بوائقه فيه.
فالاغضاء عن الظلم يشجع الطغاة على التمادي في الغي والاجرام، ويحفز الموتورين
على الثأر والانتقام، فيشيع بذلك الفوضى، وينتشر الفساد، وتغدو الحياة مسرحا
للجرائم والآثام، وفي ذلك انحلال الأمم، وفقد أمنها ورخائها، وانهيار مجدها
وسلطانها.



(1) الوافي ج 10 ص 28 عن الكافي.
123
علاج الظلم:
من العسير جدا علاج الظلم، واجتثاث جذوره المتغلغلة في أعماق النفس، بيد أن من
الممكن تخفيف جماحه، وتلطيف حدته، وذلك بالتوجيهات الآتية:
1 - التذكر لما أسلفناه من مزايا العدل، وجميل آثاره في حياة الأمم والأفراد، من
إشاعة السلام، ونشر الوثام والرخاء.
2 - الاعتبار بما عرضناه من مساوئ الظلم وجرائره المادية والمعنوية.
3 - تقوية الوازع الديني، وذلك بتربية الضمير والوجدان، وتنويرهما بقيم الايمان
ومفاهيمه الهادفة الموجهة.
4 - استقراء سير الطغاة وما عانوه من غوائل الجور وعواقبه الوخيمة.
جاء في كتاب حياة الحيوان عند ذكر الحجلان: أن بعض مقدمي الأكراد حضر على سماط
بعض الأمراء، وكان على السماط حجلتان مشويتان، فنظر الكردي إليهما وضحك، فسأله
الأمير عن ذلك، فقال: قطعت الطريق في عنفوان شبابي على تاجر فلما أردت قتله، تضرع
فما أفاد تضرعه، فلما رآني أقتله لا محالة، التفت إلى حجلتين كانتا في الجبل، فقال:
إشهدا عليه إنه قاتلي، فلما رأيت هاتين الحجلتين تذكرت حمقه فقال الأمير: قد
شهدتا، ثم أمر بضرب عنقه (1).



(1) كشكول البهائي طبع إيران ص 21.
124
وفي سراج الملوك لأبي بكر الطرطوسي: أن عبد الملك بن مروان أرق ليلة، فاستدعى
سميرا له يحدثه، فكان فيما حدثه أن قال: يا أمير المؤمنين، كان بالموصل بومة،
وبالبصرة بومة، فخطبت بومة الموصل إلى بومة البصرة بنتها لابنها، فقالت بومة
البصرة: لا أفعل الا أن تجعلي صداقها مائة ضيعة خراب! فقالت بومة الموصل: لا أقدر
على ذلك الآن، ولكن إن دام والينا علينا، سلمه الله تعالى سنة واحدة فعلت ذلك،
فاستيقظ عبد الملك، وجلس للمظالم، وأنصف الناس بعضهم من بعض، وتفقد أمر الولاة (1).



(1) سفينة البحار ج 1 ص 110.
125
الاخلاص
الاخلاص: ضد الرياء، وهو صفاء الأعمال من شوائب الرياء، وجعلها خالصة لله تعالى.
وهو قوام الفضائل، وملاك الطاعة، وجوهر العبادة، ومناط صحة الأعمال، وقبولها لدى
المولى عز وجل.
وقد مجدته الشريعة الاسلامية، ونوهت عن فضله، وشوقت إليه، وباركت جهود المتحلين
به في طائفة من الآيات والأخبار:
قال تعالى: فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه
أحدا (1).
وقال سبحانه: فاعبد الله مخلصا له الدين، ألا لله الدين الخالص (2).
وقال عز وجل: وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين (3).
وقال النبي صلى الله عليه وآله: من أخلص لله أربعين يوما،



(1) الكهف: 110.
(2) الزمر (2 - 3).
(3) البينة: 5.
126
فجر الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه (1).
وقال الإمام الجواد عليه السلام: أفضل العبادة الإخلاص (2).
وعن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: الدنيا كلها
جهل الا مواضع العلم، والعلم كله جهل الا ما عمل به، والعمل كله رياء الا ما كان
مخلصا، والاخلاص على خطر، حتى ينظر العبد بما يختم له (3).
وقال النبي صلى الله عليه وآله: يا أبا ذر لا يفقه الرجل كل الفقه، حتى يرى الناس
في جنب الله أمثال الأباعر، ثم يرجع إلى نفسه فيكون هو أحقر حاقر لها (4).
فضيلة الاخلاص:
تتفاوت قيم الأعمال، بتفاوت غاياتها والبواعث المحفزة عليها، وكلما سمت الغاية،
وطهرت البواعث من شوائب الغش والتدليس والنفاق، كان ذلك أزكى لها، وأدعى إلى قبولها
لدى المولى عز وجل.
وليس الباعث في عرف الشريعة الاسلامية الا (النية) المحفزة على الأعمال، فمتى
استهدفت الاخلاص لله تعالى، وصفت من كدر



(1) البحار م 15 ص 87 عن عدة الداعي لابن فهد.
(2) البحار م 15 ص 87 عن عدة الداعي لابن فهد.
(3) البحار م 15 ص 85 عن الأمالي والتوحيد للصدوق.
(4) الوافي ج 14 ص 54 في وصية النبي (ص) لأبي ذر.
127
الرياء نبلت وسعدت بشرف رضوان الله وقبوله، ومتى شابها الخداع والرياء، باءت بسخطه
ورفضه.
لذلك كان الاخلاص حجرا أساسيا في كيان العقائد والشرائع، وشرطا واقعيا لصحة
الأعمال، إذ هو نظام عقدها، ورائدها نحو طاعة الله تعالى ورضاه.
وناهيك في فضل الاخلاص أنه يحرر المرء من اغواء الشيطان وأضاليله (فبعزتك لأغوينهم
أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين).
عوائق الاخلاص:
وحيث كان الاخلاص هو المنار الساطع، الذي ينير للناس مناهج الطاعة الحقة، والعبودية
الصادقة، كان الشيطان ولوعا دؤوبا على إغوائهم وتضليلهم بصنوف الأماني والآمال
الخادعة: كحب السمعة والجاه، وكسب المحامد والأمجاد، وتحري الأطماع المادية التي
تمسخ الضمائر وتمحق الأعمال، وتذرها قفرا يبابا من مفاهيم الجمال والكمال وحلاوة
العطاء.
وقد يكون إيحاء الشيطان بالرياء هامسا خفيفا ماكرا، فيمارس الانسان الطاعة
والعبادة بدافع الاخلاص، ولو محصها وأمعن فيها وجدها مشوبة بالرياء. وهذا من أخطر
المزالق، وأشدها خفاءا وخداعا. ولا يتجنبها الا الأولياء الأفذاذ.
كما حكي عن بعضهم أنه قال: قضيت صلاة ثلاثين سنة كنت

128
صليتها في المسجد جماعة في الصف الأول، لأني تأخرت يوما لعذر، وصليت في الصف
الثاني، فاعترتني خجلة من الناس، حيث رأوني في الصف الثاني، فعرفت أن نظر الناس
إلي في الصف الأول كان يسرني، وكان سبب استراحة قلبي.
نعوذ بالله من سبات الغفلة، وخدع الرياء والغرور. من أجل ذلك يحرص العارفون على
كتمان طاعاتهم وعباداتهم، خشية من تلك الشوائب الخفية.
فقد نقل: ان بعض العباد صام أربعين سنة لم يعلم به أحد من الأباعد والأقارب، كان
يأخذ غذاءه فيتصدق به في الطريق، فيظن أهله أنه أكل في السوق، ويظن أهل السوق، أنه
أكل في البيت.
كيف نكسب الاخلاص:
بواعث الاخلاص ومحفزاته عديدة تلخصها النقاط التالية:
1 - استجلاء فضائل الاخلاص السالفة، وعظيم آثاره في دنيا العقيدة والايمان.
2 - ان أهم بواعث الرياء وأهدافه استثارة إعجاب الناس، وكسب رضاهم، وبديهي أن رضا
الناس غاية لا تدرك، وأنهم عاجزون عن إسعاد أنفسهم، فضلا عن غيرهم، وأن المسعد
الحق هو الله تعالى الذي بيده أزمة الأمور، وهو على كل شئ قدير، فحري بالعاقل أن
يتجه

129
إليه ويخلص الطاعة والعبادة له.
3 - إن الرياء والخداع سرعان ما ينكشفان للناس، ويسفران عن واقع الانسان، مما يفضح
المرائي ويعرضه للمقت والازدراء.
ثوب الرياء يشف عما تحته * فإذا التحفت به فإنك عاري
فعلى المرء أن يتسم بصدق الاخلاص، وجمال الطوية، ليكون مثلا رفيعا للاستقامة
والصلاح.
فقد جاء في الآثار السالفة: إن رجلا من بني إسرائيل قال: لأعبدن الله عبارة أذكر
بها، فمكث مدة مبالغا في الطاعات، وجعل لا يمر بملأ من الناس الا قالوا: متصنع
مراء، فأقبل على نفسه وقال: قد أتعبت نفسك، وضيعت عمرك في لا شئ، فينبغي أن تعمل
لله سبحانه، وأخلص عمله لله، فجعل لا يمر بملأ من الناس الا قالوا ورع تقي.

130
الرياء
وهو: طلب الجاه والرفعة في نفوس الناس، بمراءاة أعمال الخير.
وهو من أسوأ الخصال، وأفظع الجرائم، الموجبة لعناء المرائي وخسرانه ومقته، وقد
تعاضدت الآيات والأخبار على ذمه والتحذير منه.
قال تعالى في وصف المنافقين: يراؤن الناس ولا يذكرون الله الا قليلا (1).
وقال تعالى: فمن كان يرجو لقاء ربه، فليعمل عملا صالحا، ولا يشرك بعبادة ربه
أحدا (2).
وقال سبحانه: كالذي ينفق ماله رئاء الناس (3).
وقال الصادق عليه السلام: كل رياء شرك، إنه من عمل للناس كان ثوابه على الناس، ومن
عمل لله كان ثوابه على الله (4).
وقال عليه السلام: ما من عبد يسر خيرا، الا لم تذهب الأيام



(1) النساء: 142.
(2) الكهف: 110.
(3) البقرة: 264.
(4) الوافي ج 3 ص 137 عن الكافي.
131
حتى يظهر الله له خيرا، وما من عبد يسر شرا الا لم تذهب الأيام حتى يظهر له
شرا (1).
وعنه عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: سيأتي على الناس زمان
تخبث فيه سرائرهم، وتحسن فيه علانيتهم، طمعا في الدنيا، لا يريدون به ما عند ربهم،
يكون دينهم رياءا، لا يخالطهم خوف، يعمهم الله بعقاب فيدعونه دعاء الغريق فلا
يستجيب لهم (2).
وعن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
يؤمر برجال إلى النار، فيقول الله جل جلاله لمالك: قل للنار لا تحرق لهم أقداما،
فقد كانوا يمشون إلى المساجد، ولا تحرق لهم وجها، فقد كانوا يسبغون الوضوء، ولا
تحرق لهم أيديا، فقد كانوا يرفعونها بالدعاء، ولا تحرق لهم ألسنا، فقد كانوا
يكثرون تلاوة القرآن. قال: فيقول لهم خازن النار: يا أشقياء ما كان حالكم؟ قالوا:
كنا نعمل لغير الله عز وجل فقيل لنا خذوا ثوابكم ممن عملتم له (3).



(1) الوافي الجزء الثالث ص 147 عن الكافي.
(2) الوافي الجزء الثالث ص 147 عن الكافي، ودعاء الغريق: أي كدعاء المشرف على
الغرق، فان الاخلاص والانقطاع فيه إلى الله عز وجل أكثر من سائر الأدعية.
(3) البحار م 15 بحث الرياء ص 53 عن علل الشرائع وثواب الأعمال.
132
أقسام الرياء
ينقسم الرياء أقساما تلخصها النقاط التالية:
1 - الرياء بالعقيدة: باظهار الايمان وإسرار الكفر، وهذا هو النفاق وهو أشدها نكرا
وخطرا على المسلمين، لخفاء كيده، وتستره بظلام النفاق،
2 - الرياء بالعبادة مع صحة العقيدة. وذلك بممارسة العبادات أمام ملأ الناس، مراءاة
لهم، ونبذها في الخلوة والسر، كالتظاهر بالصلاة، والصيام، وإطالة الركوع والسجود
والتأني بالقراءة والأذكار وارتياد المساجد، وشهود الجماعة، ونحوه من صور الرياء،
في صميم العبادة أو مكملاتها، وهنا يغدو المرائي أشد إثما من تارك العبادة،
لاستخفافه بالله عز وجل، وتلبيسه على الناس.
3 - الرياء بالأفعال: كالتظاهر بالخشوع، وتطويل اللحية، ووسم الجبهة بأثر السجود،
وارتداء الملابس الخشنة ونحوه من مظاهر الزهد والتقشف الزائفة.
4 - الرياء بالأقوال، كالتشدق بالحكمة، والمراءاة بالأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، والتذكير بالثواب والعقاب مداجاة وخداعا.
دواعي الرياء:
للرياء أسباب ودواع نجملها فيما يلي:
1 - حب الجاه، وهو من أهم أسباب المراءاة ودواعيه.

133
2 - خوف النقد، وهو دافع على المراءاة بالعبادة، وأعمال الخير، خشية من قوارص الذم
والنقد.
3 - الطمع، وهو من محفزات الرياء وأهدافه التي يستهدفها الطامعون، إشباعا
لأطماعهم.
4 - التستر: وهو باعث على تظاهر المجرمين بمظاهر الصلاح المزيفة، إخفاءا لجرائمهم،
وتسترا عن الأعين.
ولا ريب أن تلك الدواعي هي من مكائد الشيطان، وأشراكه الخطيرة التي يأسر بها الناس،
أعاذنا الله منها جميعا.
حقائق:
ولا بد من استعراض بعض الحقائق والكشف عنها إتماما للبحث:
1 - اختلفت أقوال المحققين، في أفضلية اخفاء الطاعة أو اعلانها.
ومجمل القول في ذلك، إن الأعمال بالنيات، وأن لكل امرئ ما نوى، فما صفا من الرياء
فسواء إعلانه أو إخفاؤه، وما شابه الرياء فسيان إظهاره أو إسراره.
وقد يرجح الإسرار أحيانا للذين لا يطيقون مدافعة الرياء لشدة بواعثه في الإعلان.
كما يرجح إعلان الطاعة، إن خلصت من شوائب الرياء، وقصد به غرض صحيح كالترغيب في
الخير والحث على الاقتداء.
2 - ومن استهدف الاخلاص في طاعته وعبادته، ثم اطلع الناس

134
عليها، وسر باطلاعهم واغتبط، فلا يقدح ذلك في اخلاصه، إن كان سروره نابعا عن
استشعاره بلطف الله تعالى، واظهار محاسنه والستر على مساوئه تكرما منه عز وجل.
وقد سئل الإمام الباقر عليه السلام عن الرجل يعمل الشئ من الخير فيراه انسان فيسره
ذلك، فقال لا بأس، ما من أحد إلا وهو يحب أن يظهر الله له في الناس الخير، إذا لم
يكن صنع ذلك لذلك (1).
3 - وحيث كان الشيطان مجدا في إغواء الناس، وصدهم عن مشاريع الخير والطاعة، بصنوف
الكيد والاغواء، لزم الحذر والتوقي منه، فهو يسول للناس ترك الطاعة ونبذ العبادة،
فإن عجز عن ذلك أغراهم بالرياء، وحببه إليهم، فان أخفق في هذا وذاك، ألقى في خلدهم
أنهم مراؤون وأعمالهم مشوبة بالرياء، ليسول لهم نبذها وإهمالها.
فيجب والحالة هذه طرده، وعدم الاكتراث بخدعه ووساوسه، إذ المخلص لا تضره هذه
الخواطر والأوهام.
فعن الصادق عن أبيه عليهما السلام: إن النبي قال: إذا أتى الشيطان أحدكم وهو في
صلاته فقال: انك مرائي، فليطل صلاته ما بدا له، ما لم يفته وقت فريضة، وإذا كان على
شئ من أمر الآخرة فليتمكث ما بدا له، وإذا كان علي شئ من أمر الدنيا
فليسترح... (2).



(1) الوافي ج 3 ص 148 عن الكافي.
(2) البحار م 15 ص 53 عن قرب الاسناد.
135
مساوئ الرياء:
الرياء من السجايا الذميمة، والخلال المقيتة، الدالة على ضعة النفس، وسقم الضمير،
وغباء الوعي، إذ هو الوسيلة الخادعة المدجلة التي يتخذها المتلونون والمنحرفون
ذريعة لأهدافهم ومآربهم دونما خجل واستحياء من هوانها ومناقضتها لصميم الدين
والكرامة والاباء.
وحسب المرائي ذما أنه اقترف جرمين عظيمين:
تحدى الله عز وجل، واستخف بجلاله، بايثار عباده عليه في الزلفى والتقرب، ومخادعة
الناس والتلبس عليهم بالنفاق والرياء.
ومثل المرائي في صفاقته وغبائه، كمن وقف أزاء ملك عظيم مظهرا له الولاء والاخلاص،
وهو رغم موقفه ذلك يخاتل الملك بمغازلة جواريه أو استهواء غلمانه.
أليس هذا حريا بعقاب الملك ونكاله الفادحين على تلصصه واستهتاره.
ولا ريب أن المرائي أشد جرما وجناية من ذلك، لاستخفافه بالله عز وجل، ومخادعة
عبيده. والمرائي بعد هذا حليف الهم والعناء، يستهوي قلوب الناس، ويتملق رضاهم،
ورضاهم غاية لا تنال، فيعود بعد طول المعاناة خائبا، شقيا، سليب الكرامة والدين.
ومن الثابت أن سوء السريرة سرعان ما ينعكس على المرء، ويكشف واقعه، ويبوء بالفضيحة
والخسران.

136
ومهما تكن عند امرئ من خليقة * وإن خالها تخفى على الناس تعلم
وقد أعرب النبي صلى الله عليه وآله عن ذلك قائلا: من أسر سريرة رداءه الله
رداءها، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر (1).
علاج الرياء:
وبعد أن عرفنا طرفا من مساوئ الرياء، يجدر بنا أن نعرض أهم النصائح الأخلاقية في
علاجه وملافاته، وقد شرحت في بحث الاخلاص طرفا من مساوئ الرياء ومحاسن الاخلاص
فراجعه هناك.
علاج الرياء العملي:
وذلك برعاية النصائح المجملة التالية:
1 - محاكمة الشيطان، وإحباط مكائده ونزعاته المرائية، بأسلوب منطقي يقنع النفس،
ويرضي الوجدان.
2 - زجر الشيطان وطرد هواجسه في المراءاة، طردا حاسما، والاعتماد على ما انطوى
عليه المؤمن من حب الاخلاص، ومقت الرياء.
3 - تجنب مجالات الرياء ومظاهره، وذلك باخفاء الطاعات والعبادات وسترها عن ملأ
الناس، ريثما يثق الانسان بنفسه، ويحرز فيها الاخلاص.



(1) الوافي ج 3 ص 147 من خبر عن الكافي.
137
ومن طرائف الرياء والمرائين ما قيل:
إن أعرابيا دخل المسجد، فرأى رجلا يصلي بخشوع وخضوع، فأعجبه ذلك، فقال له: نعم ما
تصلي.
قال: وأنا صائم، فإن صلاة الصائم، تضعف صلاة المفطر.
فقال له الأعرابي: تفضل واحفظ ناقتي هذه، فإن لي حاجة حتى أقضيها. فخرج لحاجته،
فركب المصلي ناقته وخرج، فلما قضى الأعرابي حاجته، رجع ولم يجد الرجل ولا الناقة،
وطلبه فلم يقدر عليه، فخرج وهو يقول:
صلى فأعجبني وصام فرامني * منح القلوص عن المصلي الصائم
وصلى أعرابي فخفف صلاته، فقام إليه علي عليه السلام بالدرة وقال: أعدها، فلما فرغ
قال: أهذه خير أم الأولى؟ قال: بل الأولى قال: ولم قال: لأن الأولى لله وهذه
للدرة.

138
العجب
وهو استعظام الأسنان نفسه، لاتصافه بخلة كريمة، ومزية مشرفة، كالعلم والمال والجاه
والعمل الصالح.
ويتميز العجب عن التكبر، بأنه استعظام النفس مجردا عن التعالي على الغير، والتكبر
هما معا.
والعجب من الصفات المقيتة، والخلال المنفرة، الدالة على ضعة النفس، وضيق الأفق،
وصفاقة الأخلاق، وقد نهت الشريعة عنه، وحذرت منه.
قال تعالى: فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى (1).
وقال الصادق عليه السلام: من دخله العجب هلك (2)
وعنه عليه السلام قال: قال إبليس لعنه الله لجنوده: إذا استمكنت من ابن آدم في
ثلاث لم أبال ما عمل، فإنه غير مقبول منه، إذا استكثر عمله، ونسي ذنبه، ودخله
العجب (3).



(1) النجم: 32.
(2) الوافي ج 3 ص 151 عن الكافي.
(3) البحار م 15 ج 3 موضوع العجب بالأعمال عن الخصال للصدوق.
139
وقال الباقر عليه السلام: ثلاث هن قاصمات الظهر: رجل استكثر عمله، ونسي ذنوبه،
وأعجب برأيه (1).
وقال الصادق عليه السلام: أتى عالم عابدا فقال له: كيف صلاتك؟ فقال: مثلي يسأل
عن صلاته؟ وأنا أعبد الله تعالى منذ كذا وكذا، قال: فكيف بكاؤك؟ قال: أبكي حتى
تجري دموعي. فقال له العالم: فإن ضحكك وأنت خائف خير (أفضل خ ل) من بكائك وأنت
مدل، إن المدل لا يصعد من عمله شئ (2).
وعن أحدهما عليهما السلام، قال: دخل رجلان المسجد أحدهما عابد والآخر فاسق، فخرجا
من المسجد، والفاسق صديق، والعابد فاسق، وذلك: أنه يدخل العابد المسجد مدلا
بعبادته، يدل بها، فيكون فكرته في ذلك، ويكون فكرة الفاسق في الندم على فسقه،
ويستغفر الله تعالى لما ذكر من الذنوب (3).
وعن أبي عبد الله عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله: لولا أن الذنب خير للمؤمن من العجب، ما خلى الله بين عبده المؤمن وبين ذنب
أبدا (4).
والجدير بالذكر: أن العجب الذميم هو استكثار العمل الصالح،



(1) البحار م 15 ج 3 موضوع العجب بالأعمال عن الخصال للصدوق.
(2) الوافي ج 3 ص 151 عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 151 عن الكافي.
(4) البحار م 15 ج 3 بحث العجب عن أمالي أبي علي ابن الشيخ الطوسي.
140
والإدلال به، أما السرور به مع التواضع لله تعالى، والشكر له على توفيقه لطاعته،
فذلك ممدوح ولا ضير فيه.
مساوئ العجب:
للعجب أضرار ومساوئ:
1 - إنه سبب الأنانية والتكبر، فمن أعجب بنفسه ازدهاه العجب، وتعالى على الناس،
وتجبر عليهم، وذلك يسبب مقت الناس وهوانهم له.
2 - إنه يعمي صاحبه عن نقائصه ومساوئه، فلا يهتم بتجميل نفسه، وملافاة نقائصه، مما
يجعله في غمرة الجهل والتخلف.
3 - إنه باعث على استكثار الطاعة، والإدلال بها، وتناسي الذنوب والآثام، وفي ذلك
أضرار بليغة، فتناسي الذنوب يعيق عن التوبة والإنابة إلى الله عز وجل منها، ويعرض
ذويها لسخطه وعقابه، واستكثار الطاعة والعبادة يكدرها بالعجب والتعامي عن آفاتها،
فلا تنال شرف الرضا والقبول من المولى عز وجل.
علاج العجب:
وحيث كان العجب والتكبر صنوين من أصل واحد، وإن اختلفا في الاتجاه، فالعجب كما
أسلفنا استعظام النفس مجردا عن التعالي، والتكبر

141
هما معا، فعلاجهما واحد، وقد أوضحناه في بحث التكبر.
وجدير بالمعجب بنفسه، أن يدرك أن جميع ما يبعثه على الزهو والاعجاب من صنوف الفضائل
والمزايا، إنما هي نعم إلهية يسديها المولى إلى من شاء من عباده، فهي أحرى بالحمد،
وأجدر بالشكر من العجب والخيلاء.
وهي إلى ذلك عرضة لصروف الأقدار، وعوادي الدهر، فما للانسان والعجب!!
ومن طريف ما نقل عن بعض الصلحاء في ملافاة خواطر العجب:
قيل: إن بعضهم خرج في جنح الظلام متجها إلى بعض المشاهد المشرفة، لأداء مراسم
العبادة والزيارة، فبينا هو في طريقه إذ فاجأه العجب بخروجه سحرا، ومجافاته لذة
الدف ء وحلاوة الكرى من أجل العبادة.
فلاح له آنذاك، بائع شلغم فانبرى نحوه، فسأله كم تربح في كسبك وعناء خروجك في هذا
الوقت؟ فأجابه: درهمين أو ثلاث، فرجع إلى نفسه مخاطبا لها علام العجب؟ وقيمة
إسحاري لا تزيد عن درهمين أو ثلاث.
ونقل عن اخر: أنه عمل في ليلة القدر أعمالا جمة من الصلوات والدعوات والأوراد،
استثارت عجبه، فراح يعالجه بحكمة وسداد: فقال لبعض المتعبدين: كم تتقاضى على
القيام بأعمال هذه الليلة، وهي كيت وكيت. فقال: نصف دينار، فرجع إلى نفسه مؤنبا
لها وموحيا إليها، علام العجب وقيمة أعمالي كلها نصف دينار؟

142
اليقين:
وهو: الاعتقاد بأصول الدين وضروراته، اعتقادا ثابتا، مطابقا للواقع، لا تزعزعه
الشبه، فإن لم يطابق الواقع فهو جهل مركب.
واليقين هو غرة الفضائل النفسية، وأعز المواهب الإلهية، ورمز الوعي والكمال،
وسبيل السعادة في الدارين. وقد أولته الشريعة اهتماما بالغا ومجدت ذويه تمجيدا
عاطرا، واليك طرفا منه:
قال الصادق عليه السلام: إن الإيمان أفضل من الاسلام، وإن اليقين أفضل من
الإيمان، وما من شئ أعز من اليقين (1).
وقال عليه السلام: إن العمل الدائم القليل على اليقين، أفضل عند الله من العمل
الكثير على غير يقين (2).
وقال الصادق عليه السلام: من صحة يقين المرء المسلم، أن لا يرضي الناس بسخط
الله، ولا يلومهم على ما لم يأته الله، فإن الرزق لا يسوقه حرص حريص، ولا يرده
كراهية كاره، ولو أن أحدكم فر من رزقه كما يفر من الموت، لأدركه رزقه كما يدركه
الموت.



(1) البحار م 15 ج 2 ص 57 عن الكافي.
(2) البحار م 15 ج 2 ص 60 عن الكافي.
143
ثم قال: إن الله بعدله وقسطه جعل الروح والراحة في اليقين والرضا، وجعل الهم
والحزن في الشك والسخط (1).
وعنه عليه السلام قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: لا يجد عبد طعم
الايمان، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وان ما أخطأه لم يكن ليصيبه، وان
الضار النافع هو الله تعالى (2).
وسئل الإمام الرضا عليه السلام عن رجل يقول بالحق ويسرف على نفسه، بشرب الخمر
ويأتي الكبائر، وعن رجل دونه في اليقين وهو لا يأتي ما يأتيه، فقال عليه السلام:
أحسنهما يقينا كالنائم على المحجة، إذا انتبه ركبها، والأدون الذي يدخله الشك
كالنائم على غير طريق، لا يدري إذا انتبه أيهما المحجة (3).
وقال الصادق عليه السلام: إن رسول الله صلى الله عليه وآله صلى بالناس الصبح،
فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه، مصفرا لونه، قد نحف جسمه، وغارت
عيناه في رأسه، فقال له رسول الله: كيف أصبحت يا فلان؟ قال: أصبحت يا رسول الله
موقنا، فعجب رسول الله من قوله، وقال له: إن لكل يقين حقيقة، فما حقيقة يقينك؟
فقال: إن يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني، وأسهر ليلي، وأظمأ هواجري، فعزفت
نفسي عن الدنيا وما فيها، حتى كأني أنظر إلى



(1) الوافي ج 3 ص 54 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 54 عن الكافي.
(3) سفينة البحار ج 2 ص 734 عن فقه الرضا.
144
عرش ربي، وقد نصب للحساب، وحشر الخلائق لذلك، وأنا فيهم، وكأني أنظر إلى أهل الجنة
يتنعمون في الجنة ويتعارفون، على الأرائك متكئون، وكأني أنظر إلى أهل النار وهم
فيها معذبون، مصطفون، وكأن الآن استمع زفير النار يدور في مسامعي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لأصحابه: هذا عبد نور الله قلبه بالايمان،
ثم قال له: إلزم ما أنت عليه، فقال الشاب: أدع الله لي يا رسول الله أن أرزق
الشهادة معك، فدعا له رسول الله فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي فاستشهد بعد
تسعة نفر وكان هو العاشر (1).
خصائص الموقنين:
متى ازدهرت النفس باليقين، واستنارت بشعاعه الوهاج، عكست على ذويها ألوانا من
الجمال والكمال النفسيين، وتسامت بهم إلى أوج روحي رفيع، يتألقون في آفاقه تألق
الكواكب النيرة، ويتميزون عن الناس تميز الجواهر الفريدة من الحصا.
فمن أبرز خصائصهم ومزاياهم، أنك تجدهم دائبين في التحلي بمكارم الأخلاق، ومحاسن
الأفعال، وتجنب رذائلها ومساوئها، لا تخدعهم زخاف الحياة، ولا تلهيهم عن تصعيد
كفاءاتهم ومؤهلاتهم الروحية لنيل الدرجات الرفيعة، والسعادة المأمولة في الحياة
الأخروية، فهم متفانون في طاعة الله



(1) الوافي ج 3 ص 33 عن الكافي.
145
عز وجل، ابتغاء رضوانه، وحسن مثوبته، متوكلون عليه، في سراء الحياة وضرائها، لا
يرجون ولا يخشون أحدا سواه، ليقينهم بحسن تدبيره وحكمة أفعاله.
لذلك تستجاب دعواتهم، وتظهر الكرامات على أيديهم، وينالون شرف الحظوة والرعاية من
الله عز وجل.
درجات الايمان:
ويحسن بي وأنا أتحدث عن اليقين أن أعرض طرفا من مفاهيم الايمان ودرجاته، وأنواعه
إتماما للبحث وتنويرا للمؤمنين.
يتفاضل الناس في درجات الإيمان تفاضلا كبيرا، فمنهم المجلي السباق في حلبة
الايمان، ومنهم الواهن المتخلف، ومنهم بين هذا وذاك كما صورته الرواية الكريمة:
قال الصادق عليه السلام: إن الايمان عشر درجات، بمنزلة السلم، يصعد منه مرقاة
بعد مرقاة، فلا يقولن صاحب الاثنين لصاحب الواحد لست على شئ، حتى ينتهي إلى
العاشرة، فلا تسقط من هو دونك، فيسقطك من هو فوقك، وإذا رأيت من هو أسفل منك بدرجة
فارفعه إليك برفق، ولا تحملن عليه ما لا يطيق فتكسره، فإن من كسر مؤمنا فعليه
جبره (1).



(1) الوافي ج 3 ص 30 عن الكافي.
146
أنواع الايمان:
ينقسم الايمان إلى ثلاثة أنواع: فطري، ومستودع، وكسبي.
1 - فالفطري: هو ما كان هبة إلهية، قد فطر عليه الانسان، كما في الأنبياء والأوصياء
عليهم السلام، فإنهم المثل الأعلى في قوة الايمان، وسمو اليقين، لا تخالجهم
الشكوك، ولا تعروهم الوساس.
2 - المستودع وهو: ما كان صوريا طافيا على اللسان، سرعان ما تزعزعه الشبه
والوساوس، كما قال الصادق عليه السلام: إن العبد يصبح مؤمنا، ويمسي كافرا، ويصبح
كافرا، ويمسي مؤمنا، وقوم يعارون الايمان ثم يلبسونه، ويسمون المعارين (1).
وقال عليه السلام: إن الله تعالى جبل النبيين على نبوتهم، فلا يرتدون أبدا،
وجبل الأوصياء على وصاياهم فلا يرتدون أبدا، وجبل بعض المؤمنين على الايمان فلا
يرتدون أبدا، ومنهم من أعير الايمان عارية، فإذا هو دعا وألح في الدعاء مات على
الايمان (2).
وهكذا تعقب الإمام الصادق عليه السلام على حديثيه السالفين بحديث ثالث بجعله
مقياسا للتمييز بين الايمان الثابت من المستودع، فيقول: إن الحسرة والندامة
والويل كله لمن لم ينتفع بما أبصره ولم يدر ما الأمر الذي هو عليه مقيم، أنفع له أم
ضر، قلت (الراوي) فبم يعرف الناجي من هؤلاء جعلت فداك؟



(1) الوافي ج 3 ص 50 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 50 عن الكافي.
147
قال: من كان فعله لقوله موافقا، فأثبت له الشهادة بالنجاة، ومن لم يكن فعله لقوله
موافقا، فإنما ذلك مستودع (1).
3 - الكسبي: وهو الايمان الفطري الطفيف الذي نماه صاحبه واستزاد رصيده حتى تكامل
وسمى إلى مستوى رفيع، وله درجات ومراتب.
واليك بعض الوصايا والنصائح الباعثة على صيانة الجزء الفطري من الايمان، وتوفير
الكسبي منه:
1 - مصاحبة المؤمنين الأخيار، ومجانبة الشقاة والعصاة، فإن الصاحب متأثر بصاحبه
ومكتسب من سلوكه وأخلاقه، كما قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله: المرء على
دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل.
2 - ترك النظر والاستماع إلى كتب الضلال، وأقوال المضلين، المولعين بتسميم أفكار
الناس وحرفهم عن العقيدة والشريعة الاسلاميتين، وإفساد قيم الايمان ومفاهيمه في
نفوسهم.
3 - ممارسة النظر والتفكر في مخلوقات الله عز وجل، وما اتصفت به من جميل الصنع،
ودقة النظام، وحكمة التدبير، الباهرة المدهشة وفي الأرض آيات للموقنين، وفي أنفسكم
أفلا تبصرون (2).
4 - ومن موجبات الايمان وتوفير رصيده، جهاد النفس، وترويضها على طاعة الله تعالي،
وتجنب معاصيه، لتعمر النفس بمفاهيم الايمان، وتشرق بنوره الوضاء، فهي كالماء
الزلال، لا يزال شفافا رقراقا، ما لم تكدره



(1) الوافي ج 3 ص 50 عن الكافي.
(2) الذاريات (20 - 21).
148
الشوائب فيغدو آنذاك آسنا قاتما لا صفاء فيه ولا جمال. ولولا صدأ الذنوب، وأوضار
الآثام التي تنتاب القلوب والنفوس، فتجهم جمالها وتخبئ أنوارها، لاستنار الأكثرون
بالايمان، وتألقت نفوسهم بشعاعه الوهاج. ونفس وما سواها، فألهمها فجورها
وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها (1).
وقال الصادق عليه السلام: إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكته سوداء، فان تاب انمحت،
وإن زاد زادت، حتى تغلب على قلبه فلا يفلح بعدها أبدا (2).



(1) الشمس (7 - 10).
(2) الوافي ج 3 ص 167 عن الكافي.
149
الصبر
وهو: احتمال المكاره من غير جزع، أو بتعريف آخر هو: قسر النفس على مقتضيات الشرع
والعقل أوامرا ونواهيا، وهو دليل رجاحة العقل، وسعة الأفق، وسمو الخلق، وعظمة
البطولة والجلد، كما هو معراج طاعة الله تعالى ورضوانه، وسبب الظفر والنجاح،
والدرع الواقي من شماتة الأعداء والحساد.
وناهيك في شرف الصبر، وجلالة الصابرين، أن الله عز وجل، أشاد بهما، وباركهما في
نيف وسبعين موطنا من كتابه الكريم:
بشر الصابرين بالرضا والحب، فقال تعالى: والله يحب الصابرين (1).
ووعدهم بالتأييد: واصبر إن الله يحب الصابرين (2).
وأغدق عليهم ألوان العناية واللطف: ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع، ونقص من
الأموال والأنفس والثمرات، وبشر الصابرين،



(1) آل عمران: 146.
(2) الأنفال: 46.
(3) الزمر: 10.
150
الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من
ربهم ورحمة، وأولئك هم المهتدون (1).
وهكذا تواترت أخبار أهل البيت عليهم السلام في تمجيد الصبر والصابرين.
قال الصادق عليه السلام: الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس
ذهب الجسد، وكذلك إذا ذهب الصبر ذهب الايمان (2).
وقال الباقر عليه السلام الجنة محفوفة بالمكاره والصبر، فمن صبر على المكاره في
الدنيا دخل الجنة، وجهنم محفوفة باللذات والشهوات، فمن أعطى نفسه لذتها وشهوتها دخل
النار (3).
وقال عليه السلام: لما حضرت أبي الوفاة ضمني إلى صدره وقال: يا بني، إصبر على
الحق وإن كان مرا، توف أجرك بغير حساب (4).
وقال الصادق عليه السلام: من ابتلي من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له أجر ألف
شهيد (5).



(1) البقرة: (155 - 157).
(2) الوافي: (ج 3 ص 65 عن الكافي).
(3) الوافي ج 3 ص 65 عن الكافي.
(4) الوافي ج 3 ص 65 عن الكافي.
(5) الوافي ج 3 ص 66 عن الكافي.
151
ورب قائل يقول: كيف يعطى الصابر أجر ألف شهيد، والشهداء هم أبطال الصبر على الجهاد
والفداء؟.
فالمراد: أن الصابر يستحق أجر أولئك الشهداء، وإن كانت مكافأتهم وثوابهم على الله
تعالى أضعافا مضاعفة عنه.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: من لم ينجه الصبر، أهلكه الجزع (1).
أقسام الصبر
ينقسم الصبر باعتبار ظروفه ومقتضياته أقساما أهمها:
(1) الصبر على المكاره والنوائب، وهو أعظم أقسامه، وأجل مصاديقه الدالة على سمو
النفس، وتفتح الوعي، ورباطة الجأش، ومضاء العزيمة.
فالانسان عرضة للمآسي والارزاء، تنتابه قسرا واعتباطا، وهو لا يملك إزائها حولا
ولا قوة، وخير ما يفعله الممتحن هو التذرع بالصبر، فإنه بلسم القلوب الجريحة،
وعزاء النفوس المعذبة.
ولولاه لانهار الانسان، وغدا صريع الأحزان والآلام، من أجل ذلك حرضت الآيات
والأخبار على التحلي بالصبر والاعتصام به:
قال تعالى: وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا: إنا



(1) نهج البلاغة.
152
لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون (1).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: إن صبرت جرى عليك القدر وأنت مأجور، وإن جزعت جرى
عليك القدر، وأنت مأزور (2).
ومما يجدر ذكره أن الصبر الجميل المحمود هو الصبر على النوائب التي لا يستطيع
الانسان دفعها والتخلص منها، كفقد عزيز، أو اغتصاب مال، أو اضطهاد عدو.
أما الاستسلام للنوائب، والصبر عليها مع القدرة على درئها وملافاتها فذلك حمق
يستنكره الاسلام، كالصبر على المرض وهو قادر على علاجه، وعلى الفقر وهو يستطيع
اكتساب الرزق، وعلى هضم الحقوق وهو قادر على استردادها وصيانتها.
ومن الواضح أن ما يجرد المرء من فضيلة الصبر، ويخرجه عن التجلد، هو الجزع المفرط
المؤدي إلى شق الجيوب، ولطم الخدود، والاسراف في الشكوى والتذمر.
أما الآلام النفسية، والتنفيس عنها بالبكاء، أو الشكاية من متاعب المرض وعنائه
فإنها من ضرورات العواطف الحية، والمشاعر النبيلة، كما قال صلى الله عليه وآله
عنده وفاة ابنه إبراهيم:
(تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب).



(1) البقرة 155 - 157.
(2) نهج البلاغة.
153
وقد حكت لنا الآثار طرفا رائعا ممتعا من قصص الصابرين على النوائب، مما يبعث على
الاعجاب والاكبار، وحسن التأسي بأولئك الأفذاذ.
حكي أن كسرى سخط على بزرجمهر: فحبسه في بيت مظلم، وأمر أن يصفد بالحديد، فبقي
أياما على تلك الحال، فأرسل إليه من يسأله عن حاله، فإذا هو منشرح الصدر، مطمئن
النفس، فقالوا له: أنت في هذه الحالة من الضيق ونراك ناعم البال. فقال: اصطنعت ستة
أخلاط وعجنتها واستعملتها، فهي التي أبقتني على ما ترون. قالوا: صف لنا هذه لعلنا
ننتفع بها عند البلوى، فقال: نعم.
أما الخلط الأول: فالثقة بالله عز وجل.
وأما الثاني: فكل مقدر كائن.
وأما الثالث: فالصبر خير ما استعمله الممتحن.
وأما الرابع: فإذا لم أصبر فماذا أصنع، ولا أعين على نفسي بالجزع.
وأما الخامس: فقد يكون أشد مما أنا فيه.
وأما السادس، فمن ساعة إلى ساعة فرج.
فبلغ ما قاله كسرى فأطلقه وأعزه (1).
وعن الرضا عن أبيه عن أبيه عليهم السلام قال: إن سليمان بن داود قال ذات يوم
لأصحابه: ان الله تبارك وتعالى قد وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي: سخر لي
الريح، والانس، والجن، والطير، والوحش، وعلمني منطق الطير، وآتاني من كل شئ، ومع
جميع ما أوتيت



(1) سفينة البحار ج 2 ص 7.
154
من الملك ما تم لي سرور يوم إلى الليل، وقد أحببت أن أدخل قصري في غد، فأصعد أعلاه،
وأنظر إلى ممالكي، فلا تأذنوا لأحد علي لئلا يرد علي ما ينغض علي يومي. قالوا:
فلما كان من الغد أخذ عصاه بيده، وصعد إلى أعلى موضع قصره، ووقف متكئا على عصاه
ينظر إلى ممالكه مسرورا بما أوتي، فرحا بما أعطي، إذ نظر إلى شاب حسن الوجه
واللباس قد خرج عليه من بعض زوايا قصره، فلما بصر به سليمان عليه السلام، قال له:
من أدخلك إلي هذا القصر، وقد أردت أن أخلو فيه اليوم، فبإذن من دخلت؟
فقال الشاب: أدخلني هذا القصر ربه، وبإذنه دخلت.
فقال: ربه أحق به مني، فمن أنت؟
قال: أنا ملك الموت، قال: وفيما جئت؟
قال: جئت لأقبض روحك.
قال: إمض لما أمرت به، فهذا يوم سروري، وأبى الله أن يكون لي سرور دون لقائه. فقبض
ملك الموت روحه وهو متكئ على عصاه... (1).



(1) سفينة البحار ج 1 ص 614 عن عيون أخبار الرضا.
155
الصبر على طاعة الله والتصبر عن عصيانه:
من الواضح أن النفوس مجبولة على الجموح والشرود من النظم الالزامية والضوابط
المحددة لحريتها وانطلاقها في مسارح الأهواء والشهوات، وإن كانت باعثة على إصلاحها
وإسعادها.
فهي لا تنصاع لتلك النظم، والضوابط، إلا بالاغراء، والتشويق، أو الانذار والترهيب.
وحيث كانت ممارسة طاعة الله عز وجل، ومجافاة عصيانه، شاقين على النفس كان الصبر
على الطاعة، والتصبر عن المعصية من أعظم الواجبات، وأجل القربات.
وجاءت الآيات الكريمة وأحاديث أهل البيت عليهم السلام مشوقة إلى الأولى ومحذرة من
الثانية بأساليبها الحكيمة البليغة:
قال الصادق عليه السلام: اصبروا على طاعة الله، وتصبروا عن معصيته، فإنما الدنيا
ساعة، فما مضى فلست تجد له سرورا ولا حزنا، وما لم يأت فلست تعرفه، فاصبر على تلك
الساعة، فكأنك قد اغتبطت (1).
وقال عليه السلام: إذا كان يوم القيامة، يقوم عنق من الناس، فيأتون باب الجنة
فيضربونه، فيقال لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل



(1) الوافي ج 3 ص 63 عن الكافي.
156
الصبر. فيقال لهم: على ما صبرتم؟ فيقولون: كنا نصبر على طاعة الله، ونصبر عن
معاصي الله، فيقول الله تعالى: صدقوا أدخلوهم الجنة، وهو قوله تعالى: (إنما يوفى
الصابرون أجرهم بغير حساب).
الزمر: 10 (1)
وقال عليه السلام: الصبر صبران: فالصبر عند المصيبة، حسن جميل، وأفضل من ذلك
الصبر عما حرم الله عز وجل ليكون لك حاجزا (2).
الصبر على النعم:
وهو: ضبط النفس عن مسولات البطر والطغيان، وذلك من سمات عظمة النفس، ورجاحة العقل،
وبعد النظر.
فليس الصبر على مآسي الحياة وأرزائها بأولى من الصبر على مسراتها وأشواقها،
ومفاتنها، كالجاه العريض، والثراء الضخم، والسلطة النافذة، ونحو ذلك. حيث أن إغفال
الصبر في الضراء يفضي إلى الجزع المدمر، كما يؤدي إهماله في السراء إلى البطر
والطغيان: إن الانسان ليطغى، آن رآه استغنى (العلق: 6 - 7) وكلاهما ذميم مقيت.
والمراد بالصبر على النعم هو: رعاية حقوقها، واستغلالها في مجالات



(1) الوافي ج 3 ص 65 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 65 عن الفقيه.
157
العطف والاحسان المادية، أو المعنوية: كرعاية البؤساء، وإغاثة المضطهدين، والاهتمام
بحوائج المؤمنين، والتوقي من مزالق البطر والتجبر.
وللصبر أنواع عديدة أخرى:
فالصبر في الحرب: شجاعة، وضده الجبن.
والصبر عن الانتقام: حلم، وضده الغضب.
والصبر عن زخارف الحياة: زهد، وضده الحرص.
والصبر على كتمان الأسرار: كتمان، وضده الإذاعة والنشر.
والصبر على شهوتي البطن والفرج: عفة، وضده الشره.
فاتضح بهذا أن الصبر نظام الفضائل، وقطبها الثابت، وأساسها المكين.
محاسن الصبر:
نستنتج من العرض السالف أن الصبر عماد الفضائل، وقطب المكارم، ورأس المفاخر.
فهو عصمة الواجد الحزين، يخفف وجده، ويلطف عناءه، ويمده بالسكينة والاطمئنان.
وهو ظمآن من الجزع المدمر، والهلع الفاضح، ولولاه لانهار المصاب، وغدا فريسة العلل
والأمراض، وعرضة لشماتة الأعداء والحساد.
وهو بعد هذا وذاك الأمل المرجى فيما أعد الله للصابرين، من عظيم المكافآت، وجزيل
الأجر والثواب.

158
كيف تكسب الصبر:
واليك بعض النصائح الباعثة على كسب الصبر والتحلي به:
1 - التأمل في مآثر الصبر، وما يفئ على الصابرين من جميل الخصائص، وجليل العوائد
والمنافع في الحياة الدنيا، وجزيل المثوبة والأجر في الآخرة.
2 - التفكر في مساوئ الجزع، وسوء آثاره في حياة الانسان، وأنه لا يشفي غليلا، ولا
يرد قضاء، ولا يبدل واقعا، ولا ينتج الا بالشقاء والعناء. يقول (دليل كارنيجي)
لقد قرأت خلال الأعوام الثمانية الماضية كل كتاب، وكل مجلة، وكل مقالة عالجت موضوع
القلق، فهل تريد أن تعرف أحكم نصيحة، وأجداها خرجت بها من قراءتي الطويلة؟ إنها:
إرض بما ليس منه بد.
3 - تفهم واقع الحياة، وأنها مطبوعة على المتاعب والهموم:
طبعت على كدر وأنت تريدها * صفوا من الأقدار والأكدار
فليست الحياة دار هناء وارتياح، وإنما هي: دار اختبار وامتحان للمؤمن، فكما يرهق
طلاب العلم بالامتحانات استجلاء لرصيدهم العلمي، كذلك يمتحن المؤمن اختبارا لأبعاد
إيمانه ومبلغ يقينه.
قال تعالى: أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا
الذين من قبلهم، فليعلمن الله الذين صدقوا، وليعلمن

159
الكاذبين (العنكبوت: 2 - 3).
4 - الاعتبار والتأسي بما عاناه العظماء، والأولياء، من صنوف المآسي والأرزاء،
وتجلدهم فيها وصبرهم عليها، في ذات الله، وذلك من محفزات الجلد والصمود.
5 - التسلية والترفيه بما يخفف آلام النفس، وينهنه عن الوجد: كتغير المناخ، وارتياد
المناظر الجميلة، والتسلي بالقصص الممتعة، والأحاديث الشهية النافعة.

160
الشكر
وهو عرفان النعمة من المنعم، وحمده عليها، واستعمالها في مرضاته. وهو من خلال
الكمال، وسمات الطيبة والنبل، وموجبات ازدياد النعم واستدامتها.
والشكر واجب مقدس للمنعم المخلوق، فكيف بالمنعم الخالق، الذي لا تحصى نعماؤه ولا
تعد آلاؤه.
والشكر لا يجدي المولى عز وجل، لاستغنائه المطلق عن الخلق، وإنما يعود عليهم
بالنفع، لاعرابه عن تقديرهم للنعم الإلهية، واستعمالها في طاعته ورضاه، وفي ذلك
سعادتهم وازدهار حياتهم.
لذلك دعت الشريعة إلى التخلق بالشكر والتحلي به كتابا وسنة:
قال تعالى: واشكروا لي ولا تكفرون (البقرة: 152).
وقال عز وجل: كلوا من رزق ربكم واشكروا له (سبأ: 15).
وقال تعالى: وإذا تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم، ولئن كفرتم إن عذابي
لشديد (إبراهيم: 7).
وقال تعالى: وقليل من عبادي الشكور (سبأ: 13).
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:

161
الطاعم الشاكر له من الأجر، كأجر الصائم المحتسب، والمعافى الشاكر له من الأجر
كأجر المبتلى الصابر، والمعطى الشاكر له من الأجر كأجر المحروم القانع (1).
وقال الصادق عليه السلام: من أعطى الشكر أعطي الزيادة، يقول الله عز وجل لئن
شكرتم لأزيدنكم (إبراهيم: 7) (2).
وقال عليه السلام: شكر كل نعمة وإن عظمت أن تحمد الله عز وجل عليها (3).
وقال عليه السلام: ما أنعم الله على عبد بنعمة بالغة ما بلغت فحمد الله عليها،
الا كان حمد الله أفضل من تلك النعمة وأوزن (4).
وقال الباقر عليه السلام: تقول ثلاث مرات إذا نظرت إلى المبتلى من غير أن
تسمعه: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، ولو شاء فعل. قال: من قال ذلك لم
يصبه ذلك البلاء أبدا (5).
وقال الصادق عليه السلام: إن الرجل منكم ليشرب الشربة من الماء، فيوجب الله له
بها الجنة، ثم قال: إنه ليأخذ الاناء، فيضعه على فيه، فيسمي ثم يشرب، فينحيه وهو
يشتهيه، فيحمد الله، ثم يعود، ثم ينحيه فيحمد الله، ثم يعود فيشرب، ثم ينحيه
فيحمد الله



(1) الوافي ج 3 ص 67 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 67 عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 67 عن الكافي.
(4) الوافي ج 3 ص 69 عن الكافي.
(5) البحار م 15 ج 2 ص 135 عن ثواب الأعمال للصدوق.
162
فيوجب الله عز وجل له بها الجنة (1).
أقسام الشكر:
ينقسم الشكر إلى ثلاثة أقسام: شكر القلب. وشكر اللسان. وشكر الجوارح. ذلك أنه متى
امتلأت نفس الأسنان وعيا وإدراكا بعظم نعم الله تعالى، وجزيل آلائه عليه،
فاضت على اللسان بالحمد والشكر للمنعم الوهاب.
ومتى تجاوبت النفس واللسان في مشاعر الغبطة والشكر، سرى إيحاؤها إلى الجوارح، فغدت
تعرب عن شكرها للمولى عز وجل بانقيادها واستجابتها لطاعته.
من أجل ذلك اختلفت صور الشكر، وتنوعت أساليبه:
أ: فشكر القلب هو: تصور النعمة، وأنها من الله تعالى.
ب - وشكر اللسان: حمد المنعم والثناء عليه.
ج: وشكر الجوارح: إعمالها في طاعة الله، والتحرج بها عن معاصيه: كاستعمال العين
في مجالات التبصر والاعتبار، وغضها عن المحارم، واستعمال اللسان في حسن المقال،
وتعففه عن الفحش، والبذاء، واستعمال اليد في المآرب المباحة، وكفها عن الأذى
والشرور.
وهكذا يجدر الشكر على كل نعمة من نعم الله تعالى، بما يلائمها



(1) البحار م 15 ج 2 ص 131 عن الكافي.
163
من صور الشكر ومظاهره:
فشكر المال: إنفاقه في سبل طاعة الله ومرضاته.
وشكر العلم: نشره وإذاعة مفاهيمه النافعة.
وشكر الجاه: مناصرة الضعفاء والمضطهدين، وانقاذهم من ظلاماتهم. ومهما بالغ المرء في
الشكر، فإنه لن يستطيع أن يوفي النعم شكرها الحق، إذ الشكر نفسه من مظاهر نعم الله
وتوفيقه، لذلك يعجز الانسان عن أداء واقع شكرها: كما قال الصادق عليه السلام أوحى
الله عز وجل إلى موسى عليه السلام: يا موسى اشكرني حق شكري. فقال: يا رب وكيف
أشكرك حق شكرك، وليس من شكر أشكرك به، الا وأنت أنعمت به علي. قال: يا موسى الآن
شكرتني حين علمت أن ذلك مني (1).
فضيلة الشكر:
من خصائص النفوس الكريمة تقدير النعم والألطاف، وشكر مسديها، وكلما تعاظمت النعم،
كانت أحق بالتقدير، وأجدر بالشكر الجزيل، حتى تتسامى إلى النعم الإلهية التي يقصر
الانسان عن تقييمها وشكرها.
فكل نظرة يسرحها الطرف، أو كلمة ينطق بها الفم، أو عضو تحركه الإرادة، أو نفس
يردده المرء، كلها منح ربانية عظيمة،



(1) الوافي ج 3 ص 68 عن الكافي.
164
لا يثمنها الا العاطلون منها.
ولئن وجب الشكر للمخلوق فكيف بالمنعم الخالق، الذي لا تحصى نعماؤه ولا تقدر آلاؤه.
والشكر بعد هذا من موجبات الزلفى والرضا من المولى عز وجل، ومضاعفة نعمه وآلائه على
الشكور.
أما كفران النعم، فإنه من سمات النفوس اللئيمة الوضيعة، ودلائل الجهل بقيم النعم
وأقدارها، وضرورة شكرها.
أنظر كيف يخبر القران الكريم: أن كفران النعم هو سبب دمار الأمم ومحق خيراتها:
وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، فكفرت
بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون (النحل: 112).
وسئل الصادق عليه السلام: عن قول الله عز وجل: قالوا ربنا باعد بين أسفارنا
وظلموا أنفسهم الآية (سبأ: 19) فقال: هؤلاء قوم كانت لهم قرى متصلة، ينظر بعضهم
إلى بعض، وأنهار جارية، وأموال ظاهرة، فكفروا نعم الله عز وجل، وغيروا ما بأنفسهم
من عافية الله، فغير الله ما بهم من نعمة، وإن الله لا يغير ما بقوم، حتى يغيروا
ما بأنفسهم، فأرسل الله عليهم سيل العرم ففرق قراهم، وخرب ديارهم، وذهب
بأموالهم، وأبدلهم مكان جناتهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشئ من سدر قليل، ذلك
جزيناهم بما كفروا وهل نجازي الا الكفور (1).



(1) الوافي ج 3 ص 167 عن الكافي.
165
وقال الصادق عليه السلام في حديث له:
إن قوما أفرغت عليهم النعمة وهم (أهل الثرثار) فعمدوا إلى مخ الحنطة فجعلوه خبز
هجاء فجعلوا ينجون به صبيانهم، حتى اجتمع من ذلك جبل، فمر رجل على امرأة وهي تفعل
ذلك بصبي لها، فقال: ويحكم اتقوا الله لا تغيروا ما بكم من نعمة، فقالت: كأنك
تخوفنا بالجوع، أما ما دام ثرثارنا يجري فانا لا نخاف الجوع.
قال: فأسف الله عز وجل، وضعف لهم الثرثار، وحبس عنهم قطر السماء ونبت الأرض، قال
فاحتاجوا إلى ما في أيديهم فأكلوه، ثم احتاجوا إلى ذلك الجبل فإنه كان ليقسم بينهم
بالميزان (1).
وعن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال قال النبي (ص): أسرع الذنوب عقوبة كفران
النعم (2).
كيف نتحلى بالشكر:
إليك بعض النصائح لاكتساب فضيلة الشكر والتحلي به:
1 - التفكر فيما أغدقه الله على عباده من صنوف النعم، وألوان الرعاية واللطف.
2 - ترك التطلع إلى المترفين والمنعمين في وسائل العيش، وزخارف



(1) البحار عن محاسن البرقي.
(2) البحار عن أمالي ابن الشيخ الطوسي.
166
الحياة، والنظر إلى البؤساء والمعوزين، ومن هو دون الناظر في مستوى الحياة والمعاش،
كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: وأكثر أن تنظر إلى من فضلت عليه في الرزق،
فإن ذلك من أبواب الشكر (1).
3 - تذكر الانسان الأمراض، والشدائد التي أنجاه الله منها بلطفه، فأبدله بالسقم
صحة، وبالشدة رخاءا وأمنا.
4 - التأمل في محاسن الشكر، وجميل آثاره في استجلاب ود المنعم، وازدياد نعمه،
وآلائه، وفي مساوئ كفران النعم واقتضائه مقت المنعم وزوال نعمه.



(1) نهج البلاغة.
167
التوكل
هو: الاعتماد على الله تعالى في جميع الأمور، وتفويضها إليه، والاعراض عما سواه.
وباعثه قوة القلب واليقين، وعدمه من ضعفهما أو ضعف القلب، وتأثره بالمخاوف
والأوهام.
والتوكل هو: من دلائل الايمان، وسمات المؤمنين ومزاياهم الرفيعة، الباعثة على عزة
نفوسهم، وترفعهم عن استعطاف المخلوقين، والتوكل على الخالق في كسب المنافع ودرء
المضار.
وقد تواترت الآيات والآثار في مدحه والتشويق إليه:
قال تعالى: ومن يتوكل على الله فهو حسبه (الطلاق: 3).
وقال: إن الله يحب المتوكلين (آل عمران: 159).
وقال: قل لن يصيبنا الا ما كتب الله، هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون
(التوبة: 51).
وقال تعالى: إن ينصركم الله فلا غالب لكم، وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من
بعده، وعلى الله فليتوكل المؤمنون (آل عمران: 160).
وقال الصادق عليه السلام: إن الغنى والعز يجولان، فإذا ظفرا بموضع التوكل
أوطنا (1).



(1) الوافي ج 3 ص 56 عن الكافي.
168
وقال (ع): أوحى الله إلى داود (ع): ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي،
عرفت ذلك من نيته، ثم تكيده السماوات والأرض، ومن فيهن، الا جعلت له المخرج من
بينهن.
وما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي، عرفت ذلك من نيته، الا قطعت أسباب السماوات
من يديه، وأسخت الأرض من تحته، ولم أبال بأي واد هلك (1).
وقال عليه السلام: من أعطي ثلاثا، لم يمنع ثلاثا:
من أعطي الدعاء أعطي الإجابة.
ومن أعطي الشكر أعطي الزيادة.
ومن أعطي التوكل أعطي الكفاية.
ثم قال: أتلوت كتاب الله تعالى؟: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) (الطلاق: 3).
وقال: (لئن شكرتم لأزيدنكم) (إبراهيم: 7)، وقال: (أدعوني أستجب لكم) (غافر: 60).
(2).
وقال أمير المؤمنين في وصيته للحسن (ع):
وألجئ نفسك في الأمور كلها، إلى إلهك، فإنك تلجئها إلى كهف حريز، ومانع عزيز (3).
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام:



(1) الوافي ج 3 ص 56 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 56 عن الكافي.
(3) نهج البلاغة.
169
كان فيما وعظ به لقمان ابنه، أن قال له: يا بني ليعتبر من قصر يقينه وضعفت نيته في
طلب الرزق، ان الله تبارك وتعالى خلقه في ثلاثة أحوال، ضمن أمره، وآتاه رزقه، ولم
يكن له في واحدة منها كسب ولا حيلة، ان الله تبارك وتعالى سيرزقه في الحال
الرابعة:
أما أول ذلك فإنه كان في رحم أمه، يرزقه هناك في قرار مكين، حيث لا يؤذيه حر ولا
برد.
ثم أخرجه من ذلك، وأجرى له رزقا من لبن أمه، يكفيه به، ويربيه وينعشه، من غير حول
به ولا قوة.
ثم فطم من ذلك، فأجرى له رزقا من كسب أبويه، برأفة ورحمة له من قلوبهما، لا
يملكان غير ذلك، حتى أنهما يؤثرانه على أنفسهما، في أحوال كثيرة، حتى إذا كبر
وعقل، واكتسب لنفسه، ضاق به أمره، وظن الظنون بربه، وجحد الحقوق في ماله، وقتر على
نفسه وعياله، مخافة رزقه، وسوء ظن ويقين بالخلف من الله تبارك وتعالى في العاجل
والآجل، فبئس العبد هذا يا بني (1).
حقيقة التوكل:
ليس معنى التوكل اغفال الأسباب والوسائل الباعثة على تحقيق المنافع، ودرء المضار،
وأن يقف المرء ازاء الأحداث والأزمات مكتوف اليدين.



(1) البحار م 15 ج 2 ص 155 عن خصال الصدوق (ره).
170
سليب الإرادة والعزم. وإنما التوكل هو: الثقة بالله عز وجل، والركون إليه، والتوكل
عليه دون غيره من سائر الخلق والأسباب، باعتبار أنه تعالى هو مصدر الخير، ومسبب
الأسباب، وأنه وحده المصرف لأمور العباد، والقادر على انجاح غاياتهم ومآربهم.
ولا ينافي ذلك تذرع الانسان بالأسباب الطبيعية، والوسائل الظاهرية لتحقيق أهدافه
ومصالحه كالتزود للسفر، والتسلح لمقاومة الأعداء، والتداوي من المرض، والتحرز من
الأخطار والمضار، فهذه كلها أسباب ضرورية لحماية الانسان، وانجاز مقاصده، وقد أبى
الله عز وجل أن تجري الأمور الا بأسبابها.
بيد أنه يجب أن تكون الثقة به تعالى، والتوكل عليه، في انجاح الغايات والمآرب، دون
الأسباب، وآية ذلك أن أعرابيا أهمل عقل بعيره متوكلا على الله في حفظه، فقال
النبي صلى الله عليه وآله، له: إعقل وتوكل.
درجات التوكل:
يتفاوت الناس في مدارج التوكل تفاوتا كبيرا، كتفاوتهم في درجات إيمانهم: فمنهم
السباقون والمجلون في مجالات التوكل، المنقطعون إلى الله تعالى، والمعرضون عمن
سواه، وهم الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، ومن دار في فلكهم من الأولياء.

171
ومن أروع صور التوكل وأسماه، ما روي عن إبراهيم عليه السلام:
أنه لما ألقي في النار، تلقاه جبرئيل في الهواء، فقال: هل لك من حاجة؟ فقال: أما
إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل. فاستقبله ميكائيل فقال: إن أردت أن أخمد النار
فان خزائن الأمطار والمياه بيدي، فقال: لا أريد. وأتاه ملك الريح فقال: لو شئت
طيرت النار. فقال: لا أريد، فقال جبرئيل: فاسأل الله. فقال: حسبي من سؤالي علمه
بحالي (1).
ومن الناس من هو عديم التوكل، عاطل منه، لضعف احساسه الروحي، وهزال ايمانه. ومنهم
بين هذا وذاك على تفاوت في مراقي التوكل.
محاسن التوكل:
الانسان في هذه الحياة، عرضة للنوائب، وهدف للمشاكل والأزمات، لا ينفك عن جلادها
ومقارعتها، ينتصر عليها تارة وتصرعه أخرى، وكثيرا ما ترديه لقا، مهيض الجناح،
كسير القلب.
فهو منها في قلق مضني، وفزع رهيب، يخشى الاخفاق، ويخاف الفقر، ويرهب المرض، ويعاني
ألوان المخاوف المهددة لأمنه ورخائه.
ولئن استطاعت الحضارة الحديثة أن تخفف أعباء الحياة، بتيسيراتها الحضارية، وتوفير
وسائل التسلية والترفيه، فقد عجزت عن تزويد النفوس



(1) سفينة البحار ج 2 ص 638 عن بيان التنزيل لابن شهرآشوب بتلخيص.
172
بالطمأنينة والاستقرار، وإشعارها بالسكينة والسلام الروحيين، فلا يزال القلق والخوف
مخيما على النفوس، آخذا بخناقها، مما ضاعف الأمراض النفسية، واحداث الجنون
والانتحار في أرقى الممالك المتحضرة.
ولكن الشريعة الاسلامية استطاعت بمبادئها السامية، ودستورها الخلقي الرفيع - أن
تخفف قلق النفوس ومخاوفها، وتمدها بطاقات روحية ضخمة، من الجلد والثبات، والثقة
والاطمئنان، بالتوكل على الله، والاعتماد عليه، والاعتزاز بحسن تدبيره، وجميل
صنعه، وجزيل آلائه، وأنه له الخلق والأمر وهو على كل شئ قدير. وبهذا ترتاح
النفوس، وتستبدل بالخوف أمنا، وبالقلق دعة ورخاء.
والتوكل بعد هذا من أهم عوامل عزة النفس، وسمو الكرامة، وراحة الضمير، وذلك بترفع
المتوكلين عن الاستعانة بالمخلوق، واللجوء إلى الخالق، في جلب المنافع، ودرء
المضار.
ولعل أجدر الناس بالتوكل أرباب الأقدار والمسؤوليات الكبيرة، كالمصلحين ليستمدوا
منه العزم والتصميم على مجابهة عنت الناس وإرهاقهم، والمضي قدما في تحقيق
أهدافهم الاصلاحية، متخطين ما يعترضهم من أشواك وعوائق.
كيف تكسب التوكل:
1 - استعراض الآيات والأخبار الناطقة بفضله وجميل أثره في كسب

173
الطمأنينة والرخاء.
ومن طريق ما نظم في التوكل قول الحسين عليه السلام:
إذا ما عضك الدهر فلا تجنح إلى خلق * ولا تسأل سوى الله تعالى قاسم الرزق
فلو عشت وطوفت من الغرب إلى الشرق * لما صادفت من يقدر أن يسعد أو يشقي
ومما نسب لأمير المؤمنين عليه السلام:
رضيت بما قسم الله لي * وفوضت أمري إلى خالقي
كما أحسن الله فيما مضى * كذلك يحسن فيما بقي
وقال بعض الأعلام:
كن عن همومك معرضا * وكل الأمور إلى القضا
فلرب أمر مسخط * لك في عواقبه رضا
ولربما اتسع المضيق * وربما ضاق الفضا
الله عودك الجميل * فقس على ما قد مضى
* * *
2 - تقوية الايمان بالله عز وجل، والثقة بحسن صنعه، وحكمة تدبيره، وجزيل حنانه
ولطفه، وأنه هو مصدر الخير، ومسبب الأسباب، وهو على كل شئ قدير.
3 - التنبه إلى جميل صنع الله تعالى، وسمو عنايته بالانسان، في جميع أطواره
وشؤونه، من لدن كان جنينا حتى آخر الحياة، وأن من توكل عليه كفاه، ومن استنجده
أنجده وأغاثه.
4 - الاعتبار بتطور ظروف الحياة، وتداول الأيام بين الناس،

174
فكم فقير صار غنيا، وغني صار فقيرا، وأمير غدا صعلوكا، وصعلوك غدا أميرا
متسلطا.
وهكذا يجدر التنبه إلى عظمة القدرة الإلهية في أرزاق عبيده، ودفع الأسواء عنهم،
ونحو ذلك من صور العبر والعظات الدالة على قدرة الله عز وجل، وأنه وحده هو الجدير
بالثقة، والتوكل والاعتماد، دون سواه.
وآية حصول التوكل للمرء هي: الرضا بقضاء الله تعالى وقدره في المسرات والمكاره،
دون تضجر واعتراض، وتلك منزلة سامية لا ينالها إلا الأفذاذ المقربون.

175
الخوف من الله تعالى
وهو: تألم النفس خشية من عقاب الله، من جراء عصيانه ومخالفته. وهو من خصائص
الأولياء، وسمات المتقين، والباعث المحفز على الاستقامة والصلاح، والوازع القوي
عن الشرور والآثام.
لذلك أولته الشريعة عناية فائقة، وأثنت على ذويه ثناءا عاطرا مشرفا:
قال تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء (فاطر: 28).
وقال: إن الذين يخشون ربهم بالغيب، لهم مغفرة وأجر كبير (الملك: 12).
وقال: وأما من خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى
(النازعات: 40 - 41).
وقال الصادق عليه السلام: خف الله كأنك تراه، وإن كنت لا تراه فإنه يراك، وإن
كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم إنه يراك ثم برزت له بالمعصية، فقد
جعلته من أهون الناظرين إليك (1).
وقال عليه السلام: المؤمن بين مخافتين: ذنب قد مضى لا يدري ما صنع الله فيه، وعمر
قد بقي لا يدري ما يكتسب فيه من المهالك،



(1) الوافي ج 3 ص 57 عن الكافي.
176
فهو لا يصبح إلا خائفا، ولا يصلحه إلا الخوف (1).
وقال عليه السلام: لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون خائفا راجيا، ولا يكون خائفا
راجيا حتى يكون عاملا لما يخاف ويرجو (2).
وفي مناهي النبي صلى الله عليه وآله:
من عرضت له فاحشة، أو شهوة فاجتنبها من مخافة الله عز وجل، حرم الله عليه
النار، وآمنه من الفزع الأكبر، وأنجز له ما وعده في كتابه، في قوله عز وجل: (ولمن
خاف مقام ربه جنتان) (الرحمن: 46) (3).
وقال بعض الحكماء: مسكين ابن آدم، لو خاف من النار كما يخاف من الفقر لنجا منهما
جميعا، ولو رغب في الجنة كما رغب في الدنيا لفاز بهما جميعا، ولو خاف الله في
الباطن كما يخاف خلقه في الظاهر لسعد في الدارين جميعا.
ودخل حكيم على المهدي العباسي فقال له: عظني. فقال: أليس هذا المجلس قد جلس فيه
أبوك وعمك قبلك؟ قال: نعم. قال: فكانت لهم أعمال ترجو لهم النجاة بها؟ قال: نعم.
قال: فكانت لهم أعمال تخاف عليهم الهلكة منها؟ قال: نعم. قال: فانظر ما رجوت لهم
فيه فآته، وما خفت عليهم منه فاجتنبه.



(1) الوافي ج 3 ص 57 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 57 عن الكافي.
(3) البحار م 15 ج 2 ص 113 عن الفقيه.
177
الخوف بين المد والجزر:
لقد صورت الآيات الكريمة، والأخبار الشريفة، أهمية الخوف، وأثره في تقويم الانسان
وتوجيهه وجهة الخير والصلاح، وتأهيله لشرف رضا الله تعالى وانعامه.
بيد أن الخوف كسائر السجايا الكريمة، لا تستحق الاكبار والثناء، الا إذا اتسمت
بالقصد والاعتدال، الذي لا إفراط فيه ولا تفريط.
فالافراط في الخوف يجدب النفس، ويدعها يبابا من نضارة الرجاء، ورونقه البهيج، ويدع
الخائف آيسا آبقا موغلا في الغواية والضلال، ومرهقا نفسه في الطاعة والعبادة
حتى يشقيها وينهكها.
والتفريط فيه باعث على الاهمال والتقصير، والتمرد على طاعة الله تعالى واتباع
دستوره.
وبتعادل الخوف والرجاء تنتعش النفس، ويسمو الضمير، وتتفجر الطاقات الروحية، للعمل
الهادف البناء.
كما قال الصادق عليه السلام: أرج الله رجاءا لا يجرئك على معاصيه، وخف الله
خوفا لا يؤيسك من رحمته (1).
محاسن الخوف:
قيم السجايا الكريمة بقدر ما تحقق في ذويها من مفاهيم الانسانية الفاضلة،



(1) البحار م 15 ج 2 ص 118 عن أمالي الصدوق.
178
وقيم الخير والصلاح، وتؤهلهم للسعادة والرخاء. وبهذا التقييم يحتل الخوف مركز
الصدارة بين السجايا الأخلاقية الكريمة، وكانت له أهمية كبرى في عالم العقيدة
والإيمان، فهو الذي يلهب النفوس، ويحفزها على طاعة الله عز وجل، ويفطمها من
عصيانه، ومن ثم يسمو بها إلى منازل المتقين الأبرار.
وكلما تجاوبت مشاعر الخشية والخوف في النفس، صقلتها وسمت بها إلى أوج ملائكي
رفيع، يحيل الانسان ملاكا في طيبته ومثاليته، كما صوره أمير المؤمنين عليه السلام
وهو يقارن بين الملك والانسان والحيوان، فقال: إن الله عز وجل ركب في الملائكة
عقلا بلا شهوة، وركب في البهائم شهوة بلا عقل، وركب في بني آدم كليهما.
فمن غلب عقله شهوته، فهو خير من الملائكة، ومن غلب شهوته علقه فهو شر من
البهائم (1).
من أجل ذلك نجد الخائف من الله تعالى يستسهل عناء طاعته، ويستحلي مرارتها، ويستوخم
حلاوة المعاصي والآثام، خشية من سخطه وخوفا من عقابه.
وبهذا يسعد الانسان، وتزدهر حياته المادية والروحية، كما انتظم الكون، واتسقت
عناصره السماوية والأرضية، بخضوعه لله عز وجل، وسيره على وفق نظمه وقوانينه.
من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، فلنحيينه حياة طيبة،



(1) علل الشرائع.
179
ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (النحل: 97).
وما هذه المآسي والأرزاء التي تعيشها البشرية اليوم من شيوع الفوضى وانتشار
الجرائم، واستبداد الحيرة والقلق، والخوف بالناس إلا لاعراضهم عن الله تعالى،
وتنكبهم عن دستوره وشريعته.
ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا
فأخذناهم بما كانوا يكسبون (الأعراف: 96).
كيف نستشعر الخوف:
يجدر بمن ضعف فيه شعور الخوف اتباع النصائح التالية:
1 - تركيز العقيدة، وتقوية الايمان بالله تعالى، ومفاهيم المعاد والثواب والعقاب،
والجنة والنار، إذ الخوف من ثمرات الايمان وانعكاساته على النفس إنما المؤمنون
الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا، وعلى
ربهم يتوكلون (الأنفال: 2).
2 - استماع المواعظ البليغة، والحكم الناجعة، الموجبة للخوف والرهبة.
3 - دراسة حالات الخائفين وضراعتهم وتبتلهم إلى الله عز وجل، خوفا من سطوته،
وخشية من عقابه.
واليك أروع صورة للضراعة والخوف مناجاة الإمام زين العابدين عليه السلام في بعض
أدعيته:

180
ومالي لا أبكي!! ولا أدري إلى ما يكون مصيري، وأرى نفسي تخادعني، وأيامي تخاتلني،
وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت، فمالي لا أبكي، أبكي لخروج نفسي، أبكي لظلمة قبري،
أبكي لضيق لحدي، أبكي لسؤال منكر ونكير إياي، أبكي لخروجي من قبري عريانا ذليلا
حاملا ثقلي على ظهري، أنظر مرة عن يميني، وأخرى عن شمالي، إذ الخلائق في شأن غير
شأني (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة، ووجوه يومئذ
عليها غبرة، ترهقها قترة) (عبس: 37 - 41).
ظرف من قصص الخائفين:
عن الباقر عليه السلام قال: خرجت امرأة بغي على شباب من بني إسرائيل فأفتنتهم،
فقال بعضهم: لو كان العابد فلان رآها أفتنته!، وسمعت مقالتهم، فقالت: والله لا
أنصرف إلى منزلي، حتى أفتنه. فمضت نحوه بالليل فدقت عليه، فقالت: آوي عندك؟ فأبى
عليها فقالت: إن بعض شباب بني إسرائيل راودوني عن نفسي، فإن أدخلتني والا لحقوني،
وفضحوني، فلما سمع مقالتها فتح لها، فلما دخلت عليه رمت بثيابها، فلما رأى جمالها
وهيئتها وقعت في نفسه، فضرب يده عليها، ثم رجعت إليه نفسه، وقد كان يوقد تحت قدر
له، فأقبل حتى وضع يده على النار فقالت: أي شئ تصنع؟ فقال: أحرقها لأنها عملت
العمل، فخرجت

181
حتى أتت جماعة بني إسرائيل فقالت: الحقوا فلانا فقد وضع يده على النار، فأقبلوا
فلحقوه وقد احترقت يده (1).
وعن الصادق عليه السلام: إن عابدا كان في بني إسرائيل، فأضافته امرأة من بني
إسرائيل، فهم بها، فأقبل كلما هم بها قرب إصبعا من أصابعه إلى النار، فلم يزل
ذلك دأبه حتى أصبح، قال لها: أخرجي لبئس الضيف كنت لي (2).



(1) عن البحار م 5 عن قصص الأنبياء للقطب الراوندي.
(2) عن البحار م 5 عن قصص الأنبياء للقطب الراوندي.
182
الرجاء من الله تعالى
وهو: انتظار محبوب تمهدت أسباب حصوله، كمن زرع بذرا في أرض طيبه، ورعاه بالسقي
والمداراة، فرجا منه النتاح والنفع.
فإن لم تتمهد الأسباب، كان الرجاء حمقا وغرورا، كمن زرع أرضا سبخة وأهمل
رعايتها، وهو يرجو نتاجها.
والرجاء: هو الجناح الثاني من الخوف، اللذان يطير بهما المؤمن إلى آفاق طاعة الله،
والفوز بشرف رضاه، وكرم نعمائه، إذ هو باعث على الطاعة رغبة كما يبعث الخوف عليها
رهبة وفزعا.
ولئن تساند الخوف والرجاء، على تهذيب المؤمن، وتوجيهه وجهة الخير والصلاح، بيد أن
الرجاء أعذب موردا، وأحلى مذاقا من الخوف، لصدوره عن الثقة بالله، والاطمئنان
بسعة رحمته، وكرم عفوه، وجزيل ألطافه.
وبديهي ان المطيع رغبة ورجاءا، أفضل منه رهبة وخوفا، لذلك كانت تباشير الرجاء
وافرة، وبواعثه جمة وآياته مشرقة، واليك طرفا منها:
1 - النهي عن اليأس والقنوط.
قال تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من

183
رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا، إنه هو الغفور الرحيم (الزمر: 53).
وقال تعالى: ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله، الا القوم
الكافرون (يوسف: 87).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام لرجل أخرجه الخوف إلى القنوط لكثرة ذنوبه: أيا
هذا، يأسك من رحمة الله أعظم من ذنوبك (1).
وقال النبي صلى الله عليه وآله: يبعث الله المقنطين يوم القيامة، مغلبة
وجوههم، يعني غلبة السواد على البياض، فيقال لهم: هؤلاء المقنطون من رحمة الله
تعالى (1).
2 - سعة رحمة الله وعظيم عفوه:
قال تعالى: فقل ربكم ذو رحمة واسعة (الأنعام: 147).
وقال تعالى: وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم (الرعد: 6).
وقال تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء (النساء:
48).
وقال تعالى: وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم، كتب ربكم على نفسه
الرحمة انه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فإنه غفور رحيم (الزمر:
53).
وجاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وآله: لولا أنكم تذنبون فتستغفرون الله
تعالى، لأتى الله تعالى بخلق يذنبون ويستغفرون، فيغفر لهم،



(1) جامع السعادات ج 1 ص 246.
(2) سفينة البحار ج 2 ص 451 عن نوادر الراوندي.
184
إن المؤمن مفتن تواب، أما سمعت قول الله تعالى: (إن الله يحب التوابين)
(البقرة: 222) الخبر (1).
توضيح: المفتن التواب: هو من يقترف الذنوب ويسارع إلى التوبة منها.
وقال الصادق عليه السلام: إذا كان يوم القيامة، نشر الله تبارك وتعالى رحمته حتى
يطمع إبليس في رحمته (2).
وعن سليمان بن خالد قال: قرأت على أبي عبد الله عليه السلام هذه الآية: إلا من
تاب وآمن وعمل صالحا، فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات (الفرقان: 70).
فقال: هذه فيكم، إنه يؤتى بالمؤمن المذنب يوم القيامة، حتى يوقف بين يدي الله عز
وجل، فيكون هو الذي يلي حسابه، فيوقفه على سيئاته شيئا فشيئا، فيقول: عملت كذا في
يوم كذا في ساعة كذا، فيقول أعرف يا ربي، حتى يوقفه على سيئاته كلها، كل ذلك يقول:
أعرف. فيقول سترتها عليك في الدنيا، وأغفرها لك اليوم، أبدلوها لعبدي حسنات.
قال: فترفع صحيفته للناس فيقولون: سبحان الله! أما كانت لهذا العبد سيئة واحدة،
وهو قول الله عز وجل أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات (الفرقان: 70) (3).
3 - حسن الظن بالله الكريم، وهو أقوى دواعي الرجاء.



(1) الوافي ج 3 ص 51 عن الكافي.
(2) البحار مجلد 3 ص 274 عن أمالي الشيخ الصدوق.
(3) البحار مجلد 3 ص 274 عن محاسن البرقي.
185
قال الرضا عليه السلام: أحسن الظن بالله، فإن الله تعالى يقول: أنا عند ظن عبدي
بي، إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا (1).
وقال الصادق عليه السلام: آخر عبد يؤمر به إلى النار، يلتفت، فيقول الله عز وجل:
اعجلوه (2)، فإذا أتي به قال له: يا عبدي لم التفت؟ فيقول: يا رب ما كان ظني بك
هذا، فيقول الله عز وجل: عبدي وما كان ظنك بي؟ فيقول: يا رب كان ظني بك أن تغفر لي
خطيئتي وتسكنني جنتك. فيقول الله: ملائكتي وعزتي وجلالي وآلائي وبلائي وارتفاع
مكاني ما ظن بي هذا ساعة من حياته خيرا قط، ولو ظن بي ساعة من حياته خيرا ما
روعته بالنار، أجيزوا له كذبه وأدخلوه الجنة.
ثم قال أبو عبد الله عليه السلام: ما ظن عبد بالله خيرا، الا كان الله عند ظنه
به، ولا ظن به سوءا إلا كان الله عند ظنه به، وذلك قوله عز وجل: وذلكم ظنكم الذي
ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين (فصلت: 23) (3).
4 - شفاعة النبي والأئمة الطاهرين عليهم السلام لشيعتهم ومحبيهم:
عن الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله: إذا كان يوم القيامة ولينا حساب شيعتنا، فمن كانت مظلمته فيما بينه
وبين الله عز وجل، حكمنا فيها فأجابنا، ومن كانت



(1) الوافي ج 3 ص 59 عن الكافي.
(2) أعجلوه: أي ردوه مستعجلا.
(3) البحار م 3 ص 274 عن ثواب الأعمال للصدوق.
186
مظلمته فيما بينه وبين الناس استوهبناها فوهبت لنا، ومن كانت مظلمته فيما بينه
وبيننا كنا أحق من عفى وصفح (1).
وأخرج الثعلبي في تفسيره الكبير بالاسناد إلى جرير بن عبد الله البجلي قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وآله: ألا ومن مات على حب آل محمد مات شهيدا، ألا ومن
مات على حب آل محمد مات مغفورا له، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائبا، ألا
ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل الايمان، ألا ومن مات على حب آل محمد
بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير، ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة
كما تزف العروس إلى بيت زوجها، ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان
إلى الجنة، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومن
مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة.
ألا ومن مات على بغض آل محمد، جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه: آيس من رحمة
الله.....
وقد أرسله الزمخشري في تفسير آية المودة من كشافه إرسال المسلمات، رواه المؤلفون في
المناقب والفضائل مرسلا مرة ومسندا تارات (2).
وأورد ابن حجر في صواعقه ص 103 حديثا هذا لفظه:
إن النبي صلى الله عليه وآله خرج على أصحابه ذات يوم،



(1) البحار م 3 ص 301 عن عيون أخبار الرضا عليه السلام.
(2) الفصول المهمة للمرحوم آية الله السيد عبد الحسين شرف الدين.
187
ووجهه مشرق كدائرة القمر، فسأله عبد الرحمن بن عوف عن ذلك، فقال صلى الله عليه
وآله: بشارة أتتني من ربي في أخي وابن عمي وابنتي، بأن الله زوج عليا من فاطمة،
وأمر رضوان خازن الجنان فهز شجرة طوبى، فحملت رقاقا (يعني صكاكا) بعدد محبي أهل
بيتي، وأنشأ تحتها ملائكة من نور، دفع إلى كل ملك صكا، فإذا استوت القيامة بأهلها،
نادت الملائكة في الخلائق، فلا يبقى محب لأهل البيت، الا دفعت إليه صكا فيه فكاكه
من النار، فصار أخي وابن عمي وابنتي فكاك رقاب رجال ونساء من أمتي من النار (1).
وجاء في الصواعق ص 96 لابن حجر: أنه قال: لما أنزل الله تعالى (إن الذين آمنوا
وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية، جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها
الأنهار خالدين فيها أبدا، رضي الله عنهم ورضوا عنه، ذلك لمن خشي ربه) (البينة: 7
- 8) قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي: هم أنت وشيعتك، تأتي أنت وشيعتك يوم
القيامة راضين مرضيين، ويأتي عدوك غضابى مقمحين (2).
5 - النوائب والأمراض كفارة لآثام المؤمن:
قال الصادق عليه السلام: يا مفضل إياك والذنوب، وحذرها شيعتنا، فوالله ما هي إلى
أحد أسرع منها إليكم، إن أحدكم لتصيبه المعرة من السلطان، وما ذاك الا بذنوبه،
وإنه ليصيبه السقم، وما ذاك الا



(1) الفصول المهمة للامام شرف الدين ص 44.
(2) الفصول المهمة للامام شرف الدين ص 39.
188
بذنوبه، وإنه ليحبس عنه الرزق وما هو الا بذنوبه، وإنه ليشدد عليه عند الموت، وما
هو الا بذنوبه، حتى يقول من حضر: لقد غم بالموت. فلما رأى ما قد دخلني، قال: أتدري
لم ذاك يا مفضل؟ قال: قلت لا أدري جعلت فداك. قال: ذاك والله أنكم لا تؤاخذون
بها في الآخرة وعجلت لكم في الدنيا (1).
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: قال
الله تعالى: وعزتي وجلالي لا أخرج عبدا من الدنيا وأنا أريد أن أرحمه، حتى أستوفي
منه كل خطيئة عملها، إما بسقم في جسده، وإما بضيق في رزقه، وإما بخوف في دنياه، فإن
بقيت عليه بقية، شددت عليه عند الموت... (2).
وعن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما يزال الغم
والهم بالمؤمن حتى ما يدع له ذنبا (3).
وقال الصادق عليه السلام: إن المؤمن ليهول عليه في نومه فيغفر له ذنوبه، وإنه
ليمتهن في بدنه فيغفر له ذنوبه (4).
واقع الرجاء:
ومما يجدر ذكره: أن الرجاء كما أسلفنا لا يجدي ولا يثمر، الا



(1) البحار م 3 ص 35 عن علل الشرائع للصدوق (ره).
(2) الوافي ج 3 ص 172 عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 172 عن الكافي.
(4) الوافي ج 3 ص 172 عن الكافي.
189
بعد توفر الأسباب الباعثة على نجحه، وتحقيق أهدافه، والا كان هوسا وغرورا.
فمن الحمق أن يتنكب المرء مناهج الطاعة، ويتعسف طرق الغواية والضلال، ثم يمني
نفسه بالرجاء، فذلك غرور باطل وخداع مغرر.
ألا ترى عظماء الخلق وصفوتهم من الأنبياء والأوصياء والأولياء كيف تفانوا في طاعة
الله عز وجل، وانهمكوا في عبادته، وهم أقرب الناس إلى كرم الله وأرجاهم لرحمته.
إذا فلا قيمة للرجاء، الا بعد توفر وسائل الطاعة، والعمل لله تعالى، كما قال
الإمام الصادق عليه السلام: لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون خائفا راجيا، ولا
يكون خائفا راجيا حتى يكون عاملا لما يخاف ويرجو (1).
وقيل له عليه السلام: إن قوما من مواليك يلمون بالمعاصي، ويقولون نرجو. فقال
كذبوا ليسوا لنا بموال، أولئك قوم ترجحت بهم الأماني، من رجا شيئا عمل له، ومن
خاف شيئا هرب منه (2).
الحكمة في الترجي والتخويف:
يختلف الناس في طباعهم وسلوكهم اختلافا كبيرا، فمن الحكمة في إرشادهم وتوجيههم،
رعاية ما هو الأجدر بإصلاحهم من الترجي والتخويف



(1) الوافي ج 3 ص 58 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 57 عن الكافي.
190
فمنهم من يصلحه الرجاء، وهم:
1 - العصاة النادمون على ما فرطوا في الآثام، فحاولوا التوبة إلى الله، بيد أنهم
قنطوا من عفو الله وغفرانه، لفداحة جرائمهم، وكثرة سيئاتهم، فيعالج والحالة هذه
قنوطهم بالرجاء بعظيم لطف الله، وسعة رحمته وغفرانه.
2 - وهكذا يداوى بالرجاء من أنهك نفسه بالعبادة وأضر بها.
أما الذين يصلحهم الخوف:
فهم المردة العصاة، المنغمسون في الآثام، والمغترون بالرجاء، فعلاجهم بالتخويف
والزجر العنيف، بما يتهددهم من العقاب الأليم، والعذاب المهين.
وما أحلى قول الشاعر:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها * إن السفينة لا تجري على اليبس

191
الغرور
وهو: انخداع الانسان بخدعة شيطانية ورأي خاطئ، كمن ينفق المال المغصوب في وجوه البر
والاحسان، معتقدا بنفسه الصلاح، ومؤملا للاجر والثواب، وهو مغرور مخدوع بذلك.
وهكذا ينخدع الكثيرون بالغرور، وتلتبس به أعمالهم، فيعتقدون صحتها ونجحها، ولو
محصوها قليلا، لأدركوا ما تتسم به من غرور وبطلان.
لذلك كان الغرور من أخطر أشراك الشيطان، وأمضى أسلحته، وأخوف مكائده.
وللغرور صور وألوان مختلفة باختلاف نزعات المغرورين وبواعث غرورهم، فمنهم المغتر
بزخارف الدنيا ومباهجها الفاتنة، ومنهم المغتر بالعلم أو الزعامة، أو المال، أو
العبادة، ونحو ذلك من صور الغرور وألوانه.
وسأعرض في البحث التالي أهم صور الغرور وأبرز أنواعه، معقبا على كل نوع منها
بنصائح علاجية، تجلو غبش الغرور وتخفف من حدته.

192
الغرور
(أ) الاغترار بالدنيا
وأكثر من يتصف بهذا الغرور هم: ضعفاء الايمان، والمخدوعون بمباهج الدنيا ومفاتنها،
فيتناسون فناءها وزوالها، وما يعقبها من حياة أبدية خالدة، فيتذرعون إلى تبرير
اغترارهم بالدنيا، وتهالكهم عليها، بزعمين فاسدين، وقياسين باطلين:
الأول: أن الدنيا نقد، والآخرة نسيئة، والنقد خير من النسيئة.
الثاني: أن لذائذ الأولى ومتعها يقينية، ولذائذ الثانية - عندهم - مشكوكة، والمتيقن
خير من المشكوك.
وقد أخطأوا وضلوا ضلالا مبينا، إذ فاتهم في زعمهم الأول أن النقد خير من النسيئة
إن تعادلا في ميزان النفع، وإلا فان رجحت النسيئة كانت أفضل وأنفع من النقد، كمن
يتاجر بمبلغ عاجل من المال، ليربح أضعافه في الآجل، أو يحتمي عن شهوات ولذائذ عاجلة
توخيا للصحة في الآجل المديد.
هذا إلى الفارق الكبير، والبون الشاسع، بين لذائذ الدنيا والآخرة، فلذائذ الأولى
فانية، منغصة بالأكدار والهموم، والثانية خالدة هانئة.
وهكذا أخطأوا بزعمهم الثاني في شكهم وارتيابهم في الحياة الأخروية.

193
فقد أثبتها الأنبياء والأوصياء عليهم السلام والعلماء، وكثير من الأمم البدائية
الأولى، وأيقنوا بها يقينا لا يخالجه الشك، فارتياب المغرورين بالآخرة والحالة
هذه، هوس يستنكره الدين والعقل.
ألا ترى كيف يؤمن المريض بنجع الدواء الذي أجمع عليه الأطباء، وإن كذبهم فصبي غر
أو مغفل بليد.
وبعد أن عرفت فساد ذينك الزعمين وبطلانهما، فاعلم أنه لم يصور واقع الدنيا، ويعرض
خدعها وأمانيها المغررة كما صورها القرآن الكريم، وعرفها أهل البيت عليهم
السلام، فإذا هي برق خلب وسراب خادع.
أنظر كيف يصور القرآن واقع الدنيا وغرورها، فيقول تعالى:
إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم، وتكاثر في الأموال والأولاد،
كمثل غيث أعجب الكفار نباته، ثم يهيج فتراه مصفرا، ثم يكون حطاما، وفي الآخرة
عذاب شديد
(الحديد: 20)
وقال تعالى: إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء، فاختلط به نبات
الأرض، مما يأكل الناس والأنعام، حتى إذا أخذت الأرض زخرفها، وازينت، وظن أهلها
أنهم قادرون عليها، أتاها أمرنا ليلا أو نهارا، فجعلناها حصيدا، كأن لم تغن
بالأمس، كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون (يونس: 24)
وقال عز وجل: فأما من طغى، وآثر الحياة الدنيا، فان الجحيم هي المأوى، وأما من
خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى، فان الجنة هي المأوى (النازعات: 37 - 41)
وقال الصادق عليه السلام: ما ذئبان ضاريان في غنم قد فارقها

194
رعاؤها، أحدهما في أولها، والآخر في آخرها، بأفسد فيها، من حب الدنيا والشرق في
دين المسلم (1).
وقال الباقر عليه السلام: مثل الحريص على الدنيا، مثل دودة القز كلما ازدادت
من القز على نفسها لفا، كان أبعد لها من الخروج، حتى تموت غما (2).
وقال الصادق عليه السلام: من أصبح وأمسى، والدنيا أكبر همه، جعل الله تعالى
الفقر بين عينيه، وشتت أمره، ولم ينل من الدنيا الا ما قسم له، ومن أصبح وأمسى
والآخرة أكبر همه، جعل الله تعالى الغنى في قلبه، وجمع له أمره (3).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: إنما الدنيا فناء وعناء وغير وعبر: فمن
فنائها: أنك ترى الدهر موترا قوسه، مفوقا نبله، لا تخطئ سهامه، ولا يشفى جراحه،
يرمي الصحيح بالسقم، والحي بالموت.
ومن عنائها: أن المرء يجمع ما لا يأكل، ويبني ما لا يسكن، ثم يخرج إلى الله لا
مالا حمل ولا بناءا نقل.
ومن غيرها أنك ترى المغبوط مرحوما، والمرحوم مغبوطا، ليس بينهم الا نعيم زل،
وبؤس نزل.
ومن عبرها: ان المرء يشرف على أمله، فيتخطفه أجله، فلا أمل مدروك، ولا مؤمل
متروك (4).



(1) الوافي ج 3 ص 152 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 152 عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 154 عن الكافي.
(4) سفينة البحار ج 1 ص 467.
195
وقال الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام: يا هشام، إن العقلاء زهدوا في الدنيا،
ورغبوا في الآخرة، لأنهم علموا أن الدنيا طالبة مطلوبة، والآخرة طالبة ومطلوبة: فمن
طلب الآخرة طلبته الدنيا، حتى يستوفي منها رزقه، ومن طلب الدنيا طلبته الآخرة،
فيأتيه الموت، فيفسد عليه دنياه وآخرته (1).
القانون الخالد:
تواطأ الناس بأسرهم، على ذم الدنيا وشكايتها، لمعاناة آلامها، ففرحها مكدر بالحزن،
وراحتها منغصة بالعناء، لا تصفو لأحد، ولا يهنأ بها انسان. وبالرغم من تواطئهم على
ذلك تباينوا في سلوكهم وموقفهم من الحياة:
فمنهم من تعشقها، وهام بحبها، وتكالب على حطامها، ما صيرهم في حالة مزرية، من
التنافس والتناحر.
ومنهم من زهد فيها، وانزوى هاربا من مباهجها ومتعها إلى الأديرة والصوامع، ما
جعلهم فلولا مبعثرة على هامش الحياة.
وجاء الاسلام، والناس بين هذين الاتجاهين المتعاكسين، فاستطاع بحكمته البالغة،
واصلاحه الشامل، أن يشرع نظاما خالدا، يؤلف بين الدين والدنيا، ويجمع بين مآرب
الحياة وأشواق الروح، بأسلوب يلائم



(1) تحف العقول في وصيته لهشام بن الحكم.
196
فطرة الانسان، ويضمن له السعادة والرخاء.
فتراه تارة يحذر عشاق الحياة من خدعها وغرورها، ليحررهم من أسرها واسترقاقها،
كما صورته الآثار السالفة.
وأخرى يستدرج المتزمتين الهاربين من زخارف الحياة إلى لذائذها البريئة وأشواقها
المرفرفة، لئلا ينقطعوا عن ركب الحياة، ويصبحوا عرضة للفاقة والهوان.
قال الصادق عليه السلام: ليس منا من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه (1).
وقال العالم عليه السلام: إعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت
غدا (2).
وبهذا النظام الفذ ازدهرت حضارة الاسلام، وتوغل المسلمون في مدارج الكمال، ومعارج
الرقي المادي والروحي.
وعلى ضوء هذا القانون الخالد نستجلي الحقائق التالية:
1 - التمتع بملاذ الحياة، وطيباتها المحللة، مستحسن لا ضير فيه، ما لم يكن مشتملا
على حرام أو تبذير، كما قال سبحانه: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده،
والطيبات من الرزق، قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة
(الأعراف: 32).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: إعلموا عباد الله أن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا
وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم، ولم يشاركهم



(1) الوافي ج 10 ص 9 عن الفقيه.
(2) الوافي ج 10 ص 9 عن الفقيه.
197
أهل الدنيا في آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت، وأكلوها بأفضل ما أكلت، فحظوا
من الدنيا بما حظى به المترفون، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبرون، ثم
انقلبوا عنها بالزاد المبلغ والمتجر الرابح (1).
2 - إن التوفر على مقتنيات الحياة ونفائسها ورغائبها، هو كالأول مستحسن محمود، إلا
ما كان مختلسا من حرام، أو صارفا عن ذكر الله تعالى وطاعته.
أما اكتسابها استعفافا عن الناس، أو تذرعا بها إلى مرضاة الله عز وجل كصلة
الأرحام، وإعانة البؤساء، وإنشاء المشاريع الخيرية كالمساجد والمدارس والمستشفيات،
فإنه من أفضل الطاعات وأعظم القربات، كما صرح بذلك أهل البيت عليهم السلام:
قال الصادق عليه السلام: لا خير فيمن لا يجمع المال من حلال، يكف به وجهه، ويقضي
به دينه، ويصل به رحمه (2).
وقال رجل لأبي عبد الله عليه السلام: والله إنا لنطلب الدنيا ونحب أن نؤتاها.
فقال: تحب أن تصنع بها ماذا؟ قال: أعود بها على نفسي وعيالي، وأصل بها، وأتصدق
بها، وأحج، وأعتمر. فقال أبو عبد الله: ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة (3).



(1) نهج البلاغة.
(2) الوافي ج 10 ص 9 عن الكافي.
(3) الوافي ج 10 ص 9 عن الكافي.
198
3 - إن حب البقاء في الدنيا ليس مذموما مطلقا، وإنما يختلف بالغايات والأهداف،
فمن أحبه لغاية سامية، كالتزود من الطاعة، واستكثار الحسنات، فهو مستحسن. ومن
أحبه لغاية دنيئة، كممارسة الآثام، واقتراف الشهوات، فذلك ذميم مقيت، كما قال زين
العابدين عليه السلام: عمرني ما كان عمري بذلة في طاعتك، فإذا كان عمري مرتعا
للشيطان فاقبضني إليك.
ونستخلص مما أسلفناه أن الدنيا المذمومة هي التي تخدع الانسان، وتصرفه عن طاعة
الله والتأهب للحياة الأخروية.
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا * وأقبح الكفر والافلاس في الرجل
مساوئ الاغترار بالدنيا:
1 - من أبرز مساوئ الغرور أنه يلقي حجابا حاجزا بين العقل وواقع الانسان، فلا
يتبين آنذاك نقائصه ومساويه، منجشع، وحرص، وتكالب على الحياة، مما يسبب نقصه
وذمه.
2 - إن الغرور يشقي أربابه، ويدفعهم إلى معاناة الحياة، ومصارعتها، دون اقتناع
بالكفاف، أو نظر لزوالها المحتوم، مما يظنيهم ويشقيهم، كما صوره الخبر الآنف
الذكر: مثل الحريص على الدنيا مثل دودة القز، كلما ازدادت على نفسها لفا، كان
أبعد لها من الخروج حتى تموت غما.
3 - والغرور بعد هذا وذاك، من أقوى الصوارف والملهيات عن

199
التأهب للآخرة والتزود من الأعمال الصالحة، الموجبة للسعادة الأخروية، ونعيمها
الخالد.
وقال تعالى: فأما من طغى، وآثر الحياة الدنيا، فإن الجحيم هي المأوى، وأما من
خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى، فإن الجنة هي المأوى (النازعات: 37 - 41).
علاج هذا الغرور:
وهو كما يلي مجملا:
1 - استعراض الآيات والنصوص الواردة في ذم الغرور بالدنيا وأخطاره الرهيبة.
2 - إجماع الأنبياء والأوصياء والحكماء على فناء الدنيا، وخلود الآخرة، فجدير
بالعاقل أن يؤثر الخالد على الفاني، ويتأهب للسعادة الأبدية والنعيم الدائم، بل
تؤثرون الحياة الدنيا، والآخرة خير وأبقى، إن هذا لفي الصحف الأولى، صحف إبراهيم
وموسى (الأعلى: 16 - 19).
3 - الإفادة من المواعظ البليغة، والحكم الموجهة، والقصص الهادفة المعبرة عن ندم
الطغاة والجبارين، على اغترارهم في الدنيا، وصرف أعمارهم باللهو والفسوق.
ومن أبلغ العظات وأقواها أثرا في النفس كلمة أمير المؤمنين لابنه الحسن عليه
السلام: أحي قلبك بالموعظة، وأمته بالزهادة، وقوه باليقين،

200
ونوره بالحكمة، وذلله بذكر الموت، وقرره بالفناء، وبصره فجائع الدنيا، وحذره
صولة الدهر، وفحش تقلب الليالي والأيام، واعرض عليه أخبار الماضين، وذكره بما أصاب
من كان قبلك من الأولين، وسر في ديارهم وآثارهم، فانظر فيما فعلوا، وعما انتقلوا،
وأين حلوا ونزلوا، فإنك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبة، وحلوا ديار الغربة، وكأنك
عن قليل قد صرت كأحدهم، فأصلح مثواك، ولا تبع آخرتك بدنياك (1).
ومن روائع الحكم التشبيه التالي:
فقد شبه الحكماء الانسان وانهماكه في الدنيا، واغتراره بها، وغفلته عما وراءها،
كشخص مدلى في بئر، ووسطه مشدود بحبل، وفي أسفل ذلك البئر ثعبان عظيم، متوجه إليه،
منتظر لسقوطه، فاتح فاه لالتقامه، وفي أعلى ذلك البئر جرذان أبيض وأسود، لا يزالان
يقرضان ذلك الحبل، شيئا فشيئا، ولا يفتران عن قرضه آنا ما، وذلك الشخص مع رؤيته
ذلك الثعبان، ومشاهدته لانقراض الحبل آنا فآنا، قد أقبل على قليل عسل، قد لطخ به
جدار ذلك البئر وامتزج بترابه، واجتمع عليه زنابير كثيرة، وهو مشغول بلطعه، منهمك
فيه، متلذذ بما أصاب منه، مخاصم لتلك الزنابير التي عليه، قد صرف جميع باله إلى
ذلك، فهو غير ملتفت إلى ما فوقه وما تحته.
فالبئر هو الدنيا، والحبل هو العمر، والثعبان الفاتح فاه هو الموت،



(1) نهج البلاغة في وصيته عليه السلام لابنه الحسن.
201
والجرذان هما الليل والنهار القارضان للأعمال، والعسل المختلط بالتراب هو لذات
الدنيا الممزوجة بالكدر والآثام، والزنابير هم أبناء الدنيا المتزاحمون عليها.
ومن العبر البالغة في تصرم الحياة وإن طالت: ما روي أن نوحا عليه السلام عاش ألفين
وخمسمائة عام، ثم إن ملك الموت جاءه وهو في الشمس، فقال: السلام عليك. فرد عليه
نوح عليه السلام وقال له: ما حاجتك يا ملك الموت؟ قال: جئت لأقبض روحك. فقال له:
تدعني أتحول من الشمس إلى الظل. فقال له: نعم. فتحول نوح عليه السلام ثم قال: يا
ملك الموت فكأن ما مر بي في الدنيا مثل تحولي من الشمس إلى الظل!! فامض لما أمرت
به. فقبض روحه عليه السلام.
ومن عبر الطغاة والجبارين ما قاله المنصور لما حضرته الوفاة بعنا الآخرة بنومة.
وردد هارون الرشيد وهو ينتقي أكفانه عند الموت: ما أغنى عني ماليه، هلك عني
سلطانيه (الحاقة: 28 - 29).
وقيل لعبد الملك بن مروان في مرضه: كيف تجدك يا أبا مروان؟ قال: أجدني كما قال
الله تعالى: ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء
ظهوركم (الأنعام: 94).
ورأى زيتون الحكيم رجلا على شاطئ البحر مهموما محزونا، يتلهف على الدنيا، فقال
له: يا فتى ما تلهفك على الدنيا! لو كنت في غاية الغنى، وأنت راكب لجة البحر، وقد
انكسرت بك السفينة،

202
وأشرفت على الغرق، أما كانت غاية مطلوبك النجاة، وإن يفوتك كل ما بيدك. قال: نعم.
قال: ولو كنت ملكا على الدنيا، وأحاط بك من يريد قتلك، أما كان مرادك النجاة من
يده، ولو ذهب جميع ما تملك. قال: نعم.
قال: فأنت ذلك الغني الآن، وأنت ذلك الملك، فتسلى الرجل بكلامه.
وقال بعض العارفين لرجل من الأغنياء: كيف طلبك للدنيا؟ فقال: شديد. قال: فهل أدركت
منها ما تريد؟ قال: لا. قال: هذه التي صرفت عمرك في طلبها لم تحصل منها على ما تريد
فكيف التي لم تطلبها!!
ولا ريب أن تلك العظات لا تنجع إلا في القلوب السليمة، والعقول الواعية، أما الذين
استرقتهم الحياة، وطبعت على قلوبهم، فلا يجديهم أبلغ المواعظ، كما قال بعض
العارفين: إذا أشرب القلب حب الدنيا لم تنجع فيه كثرة المواعظ، كما أن الجسد إذا
استحكم فيه الداء، لم ينجع فيه كثرة الدواء.

203
(ب) غرور العلم
ومن صور الغرور ومفاتنه، الاغترار بالعلم، واتساع المعارف، مما يثير في بعض الفضلاء
الزهو والتيه، والتنافس البشع على الجاه، والتهالك على الأطماع، ونحوها من الخلال
المقيتة، التي لا تليق بالجهال فضلا عن العلماء.
وربما أفرط بعضهم في الزهو والغرور، فجن بجنون العظمة، والتطاول على الناس
بالكبر والازدراء.
وفات المغترين بالعلم أن العلم ليس غاية في نفسه، وإنما هو وسيلة لتهذيب الانسان
وتكامله، وإسعاده في الحياتين الدنيوية والأخروية، فإذا لم يحقق العلم تلك الغايات
السامية، كان جهدا ضائعا، وعناءا مرهقا، وغرورا خادعا: مثل الذين حملوا
التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا (الجمعة: 5).
وقد أحسن الشاعر حيث يقول:
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم * ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهان وجهموا * محياه بالأطماع حتى تجهما
فالعلم كالغيث ينهل على الأرض الطيبة، فيحيلها جنانا وارفة،

204
تزخر بالخير والجمال، وينهل على الأرض السبخة فلا يجديها نفعا.
وهكذا يفئ العلم على الكرام طيبة وبهاءا، وعلى اللئام خبثا ولؤما.
وكيف يغتر العالم بعلمه، ولم يكن الوحيد في مضماره، فقد عرف الناس قديما وحديثا
علماء أفذاذا جلوا في ميادين العلم، وحلقوا في آفاقه، وكانت لهم مآثرهم العلمية
الخالدة.
وعلى م الاغترار بالعلم، ومسؤولية العالم خطيرة، ومؤاخذته أشد من الجاهل، والحجة
عليه الزم، فإن لم يهتد بنور العلم، ويعمل بمقتضاه، كان العلم وبالا عليه، وغدا
قدوة سيئة للناس.
أنظر كيف يصور أهل البيت عليهم السلام جرائر العلماء المنحرفين، وأخطارهم:
فعن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي، وإذا فسدا فسدت أمتي. قيل: يا رسول الله ومن
هما؟ قال: الفقهاء والأمراء (1).
وقال الصادق عليه السلام: يغفر للجاهل سبعون ذنبا، قبل أن يغفر للعالم ذنب
واحد (2).
وقال النبي صلى الله عليه وآله: يطلع قوم من أهل الجنة إلى قوم من أهل النار،
فيقولون: ما أدخلكم النار وقد دخلنا الجنة لفضل تأديبكم وتعليمكم؟ فيقولون: إنا كنا
نأمر بالخير ولا نفعله (3).



(1) البحار م 1 ص 83 عن خصال الشيخ الصدوق.
(2) الوافي مجلد العقل والعلم ص 52 عن الكافي.
(3) الوافي في وصيته (ص) لأبي ذر.
205
فجدير بالعلماء والفضلاء أن يكونوا قدوة حسنة للناس، ونموذجا للخلق الرفيع، وان
يتفادوا ما وسعهم مزالق الغرور، وخلاله المقيتة، وان يستشعروا الآية الكريمة:
تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة
للمتقين (القصص: 83).

206
(ج) غرور الجاه
ويعتبر الجاه والسلطة من أقوى دواعي الغرور، وأشد بواعثه، فترى المتسلطين يتيهون
على الناس زهوا وغرورا، ويستذلون كراماتهم صلفا وكبرا.
وقد عاش الناس هذه المأساة في غالب العصور، وعانوا غرور المتسلطين وتحديهم، بأسى
ولوعة بالغين.
وفات هؤلاء المغرورين بمفاتن السلطة والرعة، ان الاسراف في الغرور والأنانية أمر
يستنكره الاسلام ويتوعد عليه بصنوف الانذار والوعيد، في عاجل الحياة وآجلها، كما
يعرضهم لمقت الناس وغضبهم ولعنهم، ويخسرون بذلك أغلى وأخلد مآثر الحياة: حب الناس
وعطفهم، وكان عليهم أن يستغلوا جاههم، ونفوذهم في استقطاب الناس، وتوفير رصيدهم
الشعبي، وكسب عواطف الجماهير وودهم.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم * فطالما استعبد الاحسان إنسانا
وأقوى عامل على تخفيف حدة هذا الغرور، وقمع نزواته العارمة، هو التأمل والتفكر فيما
ينتاب هؤلاء المغرورين من صروف الدهر، وسطوة الأقدار، وتنكر الزمان. فصاحب السلطان
كراكب الأسد، لا يدري أمد

207
غضبه وافتراسه.
وقد زخر التاريخ بصنوف العبر والعظات الدالة على ذلك:
ومنها: ما ذكره عبد الله بن عبد الرحمن صاحب الصلاة بالكوفة،
قال: دخلت إلى أمي في يوم أضحى، فرأيت عندها عجوزا في أطمار رثة، وذلك في سنة 190،
فإذا لها لسان وبيان، فقلت لأمي: من هذه؟ قالت: خالتك عباية أم جعفر بن يحيى
البرمكي. فسلمت عليها، وتحفيت بها، وقلت: أصارك الدهر إلى ما أرى؟!
فقالت: نعم يا بني، إنا كنا في عواري ارتجعها الدهر منا. فقلت: فحدثيني ببعض
شأنك.
فقالت: خذه جملة، لقد مضى علي أضحى، وعلى رأسي أربعمائة وصيفة، وأنا أزعم أن ابني
عاق، وقد جئتك اليوم أطلب جلدتي شاة، اجعل إحداهما شعارا، والأخرى دثارا.
قال فرفقت لها، ووهبت لها دراهم، فكادت تموت فرحا (1).
ودخل بعض الوعاظ على الرشيد، فقال: عظني، فقال له: أتراك لو منعت شربة من ماء عند
عطشك، بم كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكي.
قال: أتراها لو حبست عند خروجها بم كنت تشتريها؟ قال: بالنصف الباقي.



(1) سفينة البحار م 2 ص 609.
208
قال: فلا يغرنك ملك قيمته شربة ماء (1).
فجدير بالعاقل أن يدرك أن جميع ما يزهو به، ويدفعه على الغرور من مال، أو علم، أو
جاه، ونفوذ، إنما هي نعم وألطاف إلهية أسداها المنعم الأعظم، فهي أحرى بالحمد،
وأجدر بالشكر، منها بالغرور والخيلاء.
الجاه بين المدح والذم:
ليس طلب الجاه مذموما على الاطلاق، وإنما هو مختلف باختلاف الغايات والأهداف، فمن
طلبه لغاية مشروعة، وهدف سام نبيل، كنصرة المظلوم، وعون الضعيف، ودفع المظالم عن
نفسه أو غيره، فهو الجاه المحبب المحمود.
ومن توخاه للتسلط على الناس، والتعالي عليهم، والتحكم بهم، فذلك هو الجاه الرخيص
الذميم.
وقد تلتبس الغايات أحيانا في بعض صور الجاه، كالتصدي لامامة الجماعة، وممارسة
توجيه الناس وإرشادهم، وتسنم المراكز الروحية الهامة.
فتتميز الغايات آنذاك بما يتصف به ذووها من حسن الاخلاص، وسمو الغاية، وحب الخير
للناس، أو يتسمون بالأنانية، والانتهازية، وهذا من صور الغرور الخادعة، أعاذنا
الله منها جميعا.



(1) لآلي النركاني.
209
(د) غرور المال
وهكذا يستثير المال كوامن الغرور، ويعكس على أربابه صورا مقيتة من التلبيس
والخداع.
فهو يفتن الأثرياء من عشاق الجاه، ويحفزهم على السخاء والأريحية، بأموال مشوبة
بالحرام، ويحبسون أنهم يحسنون صنعا، وهم مخدوعون مغرورون.
وقد يتعطف بعضهم على البؤساء والمعوزين جهرا ويشح عليهم سرا، كسبا للسمعة
والاطراء، وهو مغرور مفتون.
ومنهم من يمتنع عن أداء الحقوق الإلهية المحتمة عليه بخلا وشحا، مكتفيا بأداء
العبادات التي لا تتطلب البذل والانفاق، كالصلاة والصيام، زاعما براءة ذمته بذلك،
وهو مفتون مغرور، إذ يجب أداء الفرائض الإلهية مادية وعبادية، ولكل فرض أهميته في
عالم العقيدة والشريعة.
ومن أجل ذلك كان المال من أخطر بواعث الغرور ومفاتنه.
فعن الصادق عليه السلام قال: يقول إبليس: ما أعياني في ابن آدم فلن يعييني منه
واحدة من ثلاثة: أخذ مال من غير حله، أو منعه من حقه، أو وضعه في غير وجهه (1).



(1) عن خصال الصدوق (ره).
210
وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله،: إن
الدينار والدرهم أهلكا من كان قبلكم، وهما مهلكاكم (1).
المال بين المدح والذم:
للمال محاسنه ومساوئه، ومضاره ومنافعه، فهو يسعد ويشقي أربابه تبعا لوسائل كسبه
وغايات إنفاقه.
فمن محاسنه: أنه الوسيلة الفعالة لتحقيق وسائل العيش، ونيل مآرب الحياة، وأشواقها
المادية، والسبب القوي في عزة ملاكه واستغنائهم عن لئام الناس، والذريعة الهامة في
كسب المحامد والأمجاد. كما قال الشريف الرضي رحمه الله:
اشتر العز بما بيع * فما العز بغالي
بالقصار الصفر إن * شئت أو السمر الطوال
ليس بالمغبون عقلا * من ثرى عزا بمال
إنما يدخر المال * لحاجات الرجال
والفتى من جعل الأموال * أثمان المعالي
كما أن المال من وسائل التزود للآخرة، وكسب السعادة الأبدية فيها.
ومن مساوئ المال: أنه باعث على التورط في الشبهات، واقتراف المحارم والآثام،
كاكتسابه بوسائل غير مشروعة، أو منع الحقوق الإلهية



(1) الوافي ج 3 ص 152 عن الكافي.
211
المفروضة عليه، أو إنفاقه في مجالات الغواية والمنكرات، كما أوضحت غوائله النصوص
السالفة.
وهو إلى ذلك من أقوى الصوارف والملهيات عن ذكر الله عز وجل، والتأهب للحياة
الأخروية الخالدة.
يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله، ومن يفعل ذلك
فأولئك هم الخاسرون (المنافقون: 9)
فليس المال مذموما إطلاقا، وإنما يختلف باختلاف وسائله وغاياته، فان صحت ونبلت
كان مدعاة للحمد والثناء، وإن هبطت وأسفت كان مدعاة للذم والاستنكار.
ولما كانت النفوس مشغوفة بالمال، ومولعة بجمعه واكتنازه، فحري بالمؤمن الواعي
المستنير، أن لا ينخدع ببريقه، ويغتر بمفاتنه، وأن يتعظ بحرمان المغرورين به،
والحريصين عليه، من كسب المثوبة في الآخرة، وإفلاسهم مما زاد عن حاجاتهم وكفافهم في
الدنيا، فإنهم خزان أمناء، يكدحون ويشقون في ادخاره، ثم يخلفونه طعمة سائغة
للوارثين، فيكون عليهم الوزر ولأبنائهم المهنى والاغتباط.

212
غرور النسب
وقد يغتر بعضهم برفعة أنسابهم، وانحدارهم من سلالة أهل البيت عليهم السلام، فيحسبون
أنهم ناجون بزلفاهم، وإن انحرفوا عن نهجهم، وتعسفوا طرق الغواية والضلال.
وهو غرور خادع حيث أن الله تعالي يكرم المطيع ولو كان عبدا حبشيا، ويهين العاصي
ولو كان سيدا قرشيا.
وما نال أهل البيت عليهم السلام تلك المآثر الخالدة ونالوا شرف العزة والكرامة عند
الله عز وجل الا باجتهادهم في طاعة الله، وتفانيهم في مرضاته.
فاغترار الأبناء بشرف آبائهم وعراقتهم، وهم منحرفون عن سيرتهم، من أحلام اليقظة
ومفاتن الغرور.
أرأيت جاهلا غدا عالما بفضيلة آبائه؟ أو جبانا صار بطلا بشجاعة أجداده؟ أو
لئيما عاد سخيا معطاءا بجود أسلافه؟ كلا، ما كان الله تعالى ليساوي بين المطيع
والعاصي، وبين المجاهد والوادع.
أنظر كيف يقص القرآن الكريم ضراعة نوح عليه السلام إلى ربه في استشفاع وليده الحبيب
ونجاته من غمرات الطوفان الماحق، فلم يجده

213
ذلك لكفر ابنه وغوايته: ونادى نوح ربه، فقال: رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق
وأنت أحكم الحاكمين. قال: يا نوح إنه ليس من أهلك، إنه عمل غير صالح، فلا تسألن ما
ليس لك به علم، إني أعظك أن تكون من الجاهلين (هود: 45 - 46)
واستمع إلى سيد المرسلين صلى الله عليه وآله كيف يملي على أسرته الكريمة درسا
خالدا في الحث على طاعة الله تعالى وتقواه، وعدم الاغترار بشرف الأنساب والأحساب،
كما جاء عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله على
الصفا، فقال: يا بني هاشم يا بني عبد المطلب، إني رسول الله إليكم، وإني شفيق
عليكم، وإن لي عملي، ولكل رجل منكم عمله، لا تقولوا إن محمدا منا، وسندخل مدخله،
فلا والله ما أوليائي منكم، ولا من غيركم يا بني عبد المطلب إلا المتقون، ألا فلا
أعرفكم يوم القيامة تأتون تحملون الناس على ظهوركم، ويأتي الناس يحملون الآخرة، ألا
إني قد أعذرت إليكم، فيما بيني وبينكم، وفيما بيني وبين الله تعالى فيكم (1).
فجدير بالعاقل أن يتوقى فتنة الغرور بشرف الأنساب، وأن يسعى جاهدا في تهذيب نفسه
وتوجيهها وجهة الخير والصلاح، متمثلا قول الشاعر:
إن الفتى من يقول ها أنذا * ليس الفتى من يقول كان أبي



(1) الوافي ج 3 ص 60 عن الكافي.
214
الحسد
وهو تمني زوال نعمة المحسود، وانتقالها للحاسد، فإن لم يتمن زوالها بل تمنى
نظيرها، فهو غبطة، وهي ليست ذميمة.
والحسد من أبشع الرذائل وألأم الصفات، وأسوأ الانحرافات الخلقية أثرا وشرا،
فالحسود لا ينفك عن الهم والعناد، ساخطا على قضاء الله سبحانه في رعاية عبيده،
وآلائه عليهم، حانقا على المحسود، جاهدا في كيده، فلا يستطيع ذلك، فيعود وبال
حسده عليه، ويرتد كيده في نحره.
ناهيك في ذم الحسد والحساد، وخطرها البالغ، أن الله تعالى أمر بالاستعاذة من
الحاسد، بعد الاستعاذة من شر ما خلق قائلا: ومن شر حاسد إذا حسد
(الفلق: 5)
لذلك تكاثرت النصوص في ذمه والتحذير منه:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الحسد يأكل الحسنات، كما تأكل النار
الحطب (1).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من



(1) البحار م 15 ج 3 عن المجازات النبوية، وجاء في الكافي عن الصادق عليه السلام
يأكل الايمان بدل الحسنات.
215
الحاسد، نفس دائم، وقلب هائم، وحزن لازم (1).
وقال الحسن بن علي عليه السلام: هلاك الناس في ثلاث: الكبر، والحرص، والحسد.
فالكبر: هلاك الدين وبه لعن إبليس.
والحرص: عدو النفس، وبه أخرج آدم من الجنة.
والحسد: رائد السوء، ومنه قتل قابيل هابل (2).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله ذات يوم لأصحابه: ألا إنه قد دب إليكم داء
الأمم من قبلكم وهو الحسد، ليس بحالق الشعر، لكنه حالق الدين، وينجي منه أن يكف
الانسان يده، ويخزن لسانه، ولا يكون ذا غمز على أخيه المؤمن (3).
بواعث الحسد:
للحسد أسباب وبواعث نجملها في النقاط التالية:
1 - خبث النفس:
فهناك شذاذ طبعوا على الخبث واللؤم، فتراهم يحزنون بمباهج الناس



(1) البحار م 15 ج 3 ص 131 عن كنز الكراجكي.
(2) عن كشف الغمة.
(3) البحار م 15 ج 3 ص 131 عن مجالس الشيخ المفيد وأمالي ابن الشيخ الطوسي.
216
وسعادتهم، ويسرون بشقائهم ومآسيهم، ومن ثم يحسدونهم على ما آتاهم الله من فضله،
وإن لم يكن بينهم ترة أو عداء. وذلك لخبثهم ولؤم طباعهم.
2 - العداء:
وهو أقوى بواعث الحسد، وأشدها صرامة على مكايدة الحسود واستلاب نعمته.
3 - التنافس:
بين أرباب المصالح والغايات المشتركة: كتحاسد أرباب المهن المتحدة وتحاسد الأبناء
في الحظوة لدى آبائهم، وتحاسد بطانة الزعماء والأمراء في الزلفى لديهم.
وهكذا تكثر بواعث الحسد بين فئات تجمعهم وحدة الأهداف والروابط، فلا تجد تحاسدا بين
متباينين هدفا واتجاها، فالتاجر يحسد نظيره التاجر دون المهندس والزارع.
4 - الأنانية:
وقد يستحوذ الحسد عن ذويه بدافع الأثرة والأنانية، رغبة في التفوق على الاقران،
وحبا بالتفرد والظهور.
5 - الازدراء:
وقد ينجم الحسد على ازدراء الحاسد للمحسود، مستكثرا نعم الله عليه، حاسدا له
على ذلك.
وربما اجتمعت بواعث الحسد في شخص، فيغدو آنذاك بركانا ينفجر حسدا وبغيا، يتحدى
محسوده تحديا سافرا مليئا بالحنق واللؤم، لا يستطيع

217
كتمان ذلك، مما يجعله شريرا مجرما خطيرا.
مساوئ الحسد:
يختص الحسد بين الأمراض الخلقية بأنه أشدها ضررا، وأسوأها مغبة في دين الحاسد
ودنياه.
1 - فمن أضراره العاجلة في دنيا الحاسد، أنه يكدر عليه صفو الحياة، ويجعله قرين
الهم والعناء، لتبرمه بنعم الله على عباده، وهي عظيمة وفيرة، وذلك ما يشقيه،
ويتقاضاه عللا صحيحة ونفسية ماحقة.
كما يفجعه في أنفس ذخائر الحياة: في كرامته، وسمعته، فتراه ذميما محقرا،
منبوذا تمقته النفوس، وتنبذه الطباع.
ويفجعه كذلك في أخلاقه، فتراه لا يتحرج عن الوقيعة بمحسوده، بصنوف التهم والأكاذيب
المحرمة في شرعة الأخلاق، ولا يألو جهدا في إثارة الفتن المفرقة بينه وبين
أودائه، وذوي قرباه، نكاية به وإذلالا له.
وأكثر الناس استهدافا للحسد، ومعاناة لشروره وأخطاره، اللامعون المتفوقون من أرباب
العلم والفضائل، لما ينفسه الحساد عليهم من سمو المنزلة، وجلالة القدر، فيسعون
جاهدين في ازدرائهم واستنقاصهم، وشن الحملات الظالمة عليهم.
وهذا هو سر ظلامة الفضلاء، وحرمانهم من عواطف التقدير والاعزاز، وربما طاشت سهام
الحسد، فأخلفت ظن الحاسد، وعادت

218
عليه باللوعة والأسى، وعلى المحسود بالتنويه والاكبار كما قال أبو تمام:
وإذا أراد الله نصر فضيلة * طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت * ما كان يعرف طيب عرف العود
لولا التخوف للعواقب لم يزل * للحاسد النعمى على المحسود
ويقول الآخر:
إصبر على حسد الحسود * فان صبرك قاتله
فالنار تأكل بعضها * إن لم تجد ما تأكله
2 - وأما أضرار الحسد الآجلة:
فقد عرفت ما يتذرع به الحاسد من صنوف الدس والتخريب في الوقيعة بالمحسود، وهدر
كرامته. وهذا ما يعرض الحاسد لسخط الله تعالى وعقابه، ويأكل حسناته كما تأكل النار
الحطب.
هذا إلى تنمر الحاسد، وسخطه على مشيئة الله سبحانه، في إغداق نعمه على عباده،
وتلك جرأة صارخة تبوئه السخط والهوان.
علاج الحسد:
واليك بعض النصائح العلاجية للحسد:
1 - ترك تطلع المرء إلى من فوقه سعادة ورخاء وجاها، والنظر إلى من دونه في ذلك،
ليستشعر عناية الله تعالى به، وآلائه عليه، فتخف بذلك نوازع الحسد وميوله الجامحة.

219
2 - تذكر مساوئ الحسد. وغوائله الدينية والدنيوية، وما يعانيه الحساد من صنوف
المكاره والأزمات.
3 - مراقبة الله تعالى، والايمان بحكمة تدبيره لعباده، والاستسلام لقضائه، متوقيا
بوادر الحسد، ومقتضياته الأثيمة من ثلب المحسود والإساءة إليه، كما قال صلى الله
عليه وآله وينجي منه أن يكف الانسان يده، ويخزن لسانه، ولا يكون ذا غمز على أخيه
المؤمن.
ولو لم يكن في نبذ الحسد الا استهجانه، والترفع عن الاتصاف بمثالبه المقيتة، لوجب
نبذه ومجافاته.
وجدير بالآباء أن لا يميزوا بين أبنائهم في شمول العناية والبر. فيبذروا في نفوسهم
سموم الحسد، ودوافعه الأثيمة.

220
الغيبة
وهي: ذكر المؤمن المعين بما يكره، سواء أكان ذلك في خلقه، أو خلقه، أو
مختصاته.
وليست الغيبة محصورة باللسان، بل تشمل كل ما يشعر باستنقاص الغير، قولا أو عملا،
كناية أو تصريحا.
وقد عرفها الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله قائلا: هل تدرون ما الغيبة؟ قالوا:
الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره.
قيل له: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم
يكن فيه فقد بهته.
وهي من أخس السجايا، وألأم الصفات، وأخطر الجرائم والآثام، وكفاها ذما أن الله
تعالى شبه المغتاب بآكل لحم الميتة، فقال: ولا يغتب بعضكم بعضا، أيحب أحدكم أن
يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه.
(الحجرات: 12)
وقال سبحانه ناهيا عنها: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول الا من ظلم، وكان
الله سميعا عليما.
(النساء: 148)
وهكذا جاءت النصوص المتواترة في ذمها، والتحذير منها:

221
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الآكلة
في جوفه (1).
وقال الصادق عليه السلام من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه، وهدم مروته، ليسقط
من أعين الناس، أخرجه الله عز وجل من ولايته إلى ولاية الشيطان (2).
وقال الصادق عليه السلام: لا تغتب فتغتب، ولا تحفر لأخيك حفرة، فتقع فيها،
فإنك كما تدين تدان (3).
وقال الصادق عليه السلام: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من أذاع فاحشة كان
كمبتدئها، ومن عير مؤمنا بشئ لا يموت حتى يركبه (4).
التصامم عن الغيبة:
وجدير بالعاقل أن يترفع عن مجاراة المغتابين، والاستماع إليهم،



(1) البحار م 15 كتاب العشرة ص 177 عن الكافي.
(2) البحار م 15 كتاب العشرة ص 187 عن ثواب الأعمال ومحاسن البرقي وأمالي الصدوق.
(3) البحار م 15 كتاب العشرة ص 185 عن أمالي الصدوق.
(4) البحار م 15 كتاب العشرة ص 188 عن ثواب الأعمال ومحاسن البرقي.
222
فان المستمع للغيبة صنو المستغيب، وشريكه في الاثم.
ولا يعفيه من ذلك الا أن يستنكر الغيبة بلسانه، أو يطور الحديث بحديث برئ، أو
النفار من مجلس الاغتياب، فان لم يستطع ذلك كله، فعليه الانكار بقلبه، ليأمن جريرة
المشاركة في الاغتياب.
قال بعض الحكماء: إذا رأيت من يغتاب الناس، فاجهد جهدك أن لا يعرفك، فان أشقى
الناس به معارفوه.
وكما يجب التوقي من استماع الغيبة، كذلك يجدر حفظ غيبة المؤمن، والذب عن كرامته،
إذا ما ذكر بالمزريات، فعن الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله: من رد عن عرض أخيه المسلم وجبت له الجنة ألبتة (1).
وجدير بالذكر أن حرمة الاغتياب مختصة بمن يعتقد الحق، فلا تسري إلى غيره من أهل
الضلال.
بواعث الغيبة:
للغيبة بواعث ودوافع أهمها ما يلي:
1 - العداء أو الحسد، فإنهما أقوى دواعي الاغتياب والتشهير بالمعادي أو المحسود.
نكاية به، وتشفيا منه.



(1) البحار م 15 كتاب العشرة ص 188 عن ثواب الأعمال.
223
2 - الهزل، وهو باعث على ثلب المستغات، ومحاكاته إثارة للضحك والمجون.
3 - المباهاة: وذلك بذكر مساوئ الغير تشدقا ومباهاة بالترفع عنها والبراءة منها.
4 - المجاراة: فكثيرا ما يندفع المرء على الاغتياب مجاراة للأصدقاء والخلطاء
اللاهين بالغيبة، وخشية من نفرتهم إذا لم يحاورهم في ذلك.
مساوئ الغيبة:
من أهم الأهداف والغايات التي حققها الاسلام، وعنى بها عناية كبرى، اتحاد المسلمين
وتآزرهم وتآخيهم، ليكونوا المثل الأعلى في القوة والمنعة، وسمو الكرامة، والمجد.
وعزز تلك الغاية السامية بما شرعه من نظم وآداب، لتكون دستورا خالدا للمسلمين،
فحثهم على ما ينمي الألفة والمودة، ويوثق العلائق الاجتماعية، ويحقق التآخي
والتآزر، كحسن الخلق، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، والاهتمام بشؤون المسلمين،
ورعاية مصالحهم العامة. ونهاهم عن كل ما يعكر صفو القلوب، ويثير الأحقاد والضغائن
الموجبة لتناكر المسلمين، وتقاطعهم كالكذب، والغش، والخيانة، والسخرية.
وحيث كانت الغيبة عاملا خطيرا، ومعولا هداما، في تقويض صرح المجتمع، وإفساد
علاقاته الوثيقة، فقد حرمها الشرع الاسلامي،

224
وعدها من كبائر الآثام.
فمن مساوئها: أنها تبذر سموم البغضة والفرقة في صفوف المسلمين، فتعكر صفو المحبة،
وتفصم عرى الصداقة، وتقطع وشائج القرابة.
وذلك بأن الغيبة قد تبلغ المغتاب، وتستثير حنقه على المستغيب، فيثأر منه،
ويبادله الذم والقدح، وطالما أثارت الفتن الخطيرة، والمآسي المحزونة.
هذا إلى مساوئها وآثامها الروحية التي أوضحتها الآثار، حيث صرحت أن الغيبة تنقل
حسنات المستغيب يوم القيامة إلى المستغاب، فإن لم يكن له حسنات طرح عليه من سيئات
المستغاب، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: يؤتى بأحدكم يوم
القيامة، فيوقف بين يدي الله تعالى، ويدفع إليه كتابه، فلا يرى حسناته، فيقول:
إلهي ليس هذا كتابي فاني لا أرى فيه طاعتي. فيقول له: إن ربك لا يضل ولا ينسى، ذهب
عملك باغتياب الناس.
ثم يؤتى بآخر ويدفع إليه كتابه، فيرى فيه طاعات كثيرة، فيقول: إلهي ما هذا كتابي،
فاني ما عملت هذه الطاعات، فيقول له: إن فلانا اغتابك فدفعت حسناته إليك (1).
مسوغات الغيبة:
الغيبة المحرمة هي ما قصد بها استنقاص المؤمن وإذلاله، فإن لم



(1) جامع السعادات ج 2 ص 301.
225
يقصد بها ذلك، وتوقف عليها غرض وجيه، فلا حرمة فيها. واليك ما ذكره العلماء من
الموارد المسوغة للغيبة:
1 - شكاية المتظلم لاحقاق حقه عند الحاكم، فيصح نسبة الجناية والظلم إلى الغير في
هذه الحالة.
2 - نصح المستشير في أمر ما كالتزويج والأمانة، فيحق للمستشار أن يذكر مثالب
المسؤول عنه.
ويصح كذلك تحذير المؤمن من صحبة فاسق أو مضل، بذكر مساوئهما من الفسق والضلال،
صيانة له من شرهما وإضلالهما، ويصح جرح الشاهد إذا ما سئل عنه.
3 - رد من أدعى نسبا مزورا.
4 - القدح في مقالة فاسدة، أو ادعاء باطل شرعا.
5 - الشهادة على مقترفي الجرائم والمحارم.
6 - ضرورة التعريف: وذلك بذكر الألقاب المقيتة، التي يتوقف عليها تعريف أصحابها،
كالأعمش والأعرج ونحوهما.
7 - النهي عن المنكر: وذلك بذكر مساوئ شخص عند من يستطيع إصلاحه ونهيه عنها.
8 - غيبة المتجاهر بالفسق كشرب الخمر، ولعب القمار، بشرط الاقتصار على ما يتجاهر
به، إذ ليس لفاسق غيبة.
ولا بد للمرء أن يستهدف في جميع تلك الموارد السالفة، الغاية النبيلة، والقصد
السليم، من بواعث الغيبة، ويتجنب البواعث غير النبيلة، كالعداء والحسد ونحوهما.

226
علاج الغيبة:
وذلك باتباع النصائح التالية:
1 - تذكر ما عرضناه من مساوئ الغيبة، وأخطارها الجسيمة، في دنيا الانسان وأخراه.
2 - الاهتمام بتزكية النفس، وتجميلها بالخلق الكريم، وصونها عن معائب الناس
ومساوئهم، بدلا من اغتيابهم واستنقاصهم.
قيل لمحمد بن الحنفية: من أدبك؟ قال: أدبني ربي في نفسي، فما استحسنته من أولي
الألباب والبصيرة تبعتهم به فاستعملته، وما استقبحت من الجهال اجتنبته وتركته
متنفرا، فأوصلني ذلك إلى كنوز العلم (1).
3 - استبدال الغيبة بالأحاديث الممتعة، والنوادر الشيقة، والقصص الهادفة الطريفة.
4 - ترويض النفس على صون اللسان، وكفه عن بوادر الغيبة وقوارصها، وبذلك تخف نوازع
الغيبة وبواعثها العارمة.
كفارة الغيبة:
وسبيلها بعد الندم على اقترافها، والتوبة من آثامها، التودد إلى



(1) سفينة البحار م 1 ص 324.
227
المستغاب، واستبراء الذمة منه، فإن صفح وعفى، وإلا كان التودد إليه، والاعتذار منه،
مكافئا لسيئة الغيبة.
هذا إذا كان المستغاب حيا، ولم يثر الاستيهاب منه غضبه وحقده، فإن خيف ذلك، أو
كان ميتا أو غائبا، فاللازم - والحالة هذه - الاستغفار له، تكفيرا عن اغتيابه،
فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: سئل النبي صلى الله عليه وآله ما كفارة
الاغتياب؟ قال: تستغفر الله لمن اغتبته كلما ذكرته (1).
قوله صلى الله عليه وآله كلما ذكرته أي كلما ذكرت المستغاب بالغيبة.



(1) البحار م 15 كتاب العشرة ص 184 عن الكافي.
228
البهتان
وعلى ذكر الغيبة يحسن الإشارة إلى البهتان: - وهو اتهام المؤمن، والتجني عليه، بما
لم يفعله، وهو أشد إثما وأعظم جرما من الغيبة، كما قال الله عز وجل: ومن يكسب
خطيئة أو إثما، ثم يرم به بريئا، فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا
(النساء: 112).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: من بهت مؤمنا أو مؤمنة، أو قال فيه ما ليس
فيه، أقامه الله تعالى يوم القيامة على تل من نار، حتى يخرج مما قاله فيه (1).



(1) سفينة البحار م 1 ص 110 عن عيون أخبار الرضا عليه السلام.
229
النميمة
وهي: نقل الأحاديث التي يكره الناس إفشاءها ونقلها من شخص إلى آخر، نكاية بالمحكي
عنه ووقيعة به.
والنميمة من أبشع الجرائم الخلقية، وأخطرها في حياة الفرد والمجتمع، والنمام ألأم
الناس وأخبثهم، لاتصافه بالغيبة، والغدر، والنفاق، والافساد بين الناس، والتفريق
بين الأحباء.
لذلك جاء ذمه، والتنديد في الآيات والأخبار:
قال تبارك وتعالى: ولا تطع كل حلاف مهين، هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد
أثيم، عتل بعد ذلك زنيم (القلم: 10 - 13).
والزنيم هو الدعي، فظهر من الآية الكريمة، أن النميمة من خلال الأدعياء، وسجايا
اللقطاء.

230
وقال سبحانه: ويل لكل همزة لمزة فالهمزة النمام واللمزة المغتاب.
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
ألا أنبئكم بشراركم. قالوا: بلى يا رسول الله. قال: المشاؤون بالنميمة،
المفرقون بين الأحبة، الباغون للبراء العيب (1).
وقال الباقر عليه السلام: محرمة الجنة على العيابين المشائين بالنميمة (2).
وقال الصادق عليه السلام للمنصور: لا تقبل في ذي رحمك، وأهل الرعاية من أهل بيتك،
قول من حرم الله عليه الجنة، وجعل مأواه النار، فإن النمام شاهد زور، وشريك إبليس
في الاغراء بين الناس، فقد قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق
بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين (الحجرات: 6)
(3).



(1) الوافي ج 3 ص 164 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 164 عن الكافي.
(3) البحار كتاب العشرة ص 190 عن أمالي الصدوق.
231
بواعث النميمة:
للنميمة باعثان:
1 - هتك المحكي عنه، والوقيعة به.
2 - التودد والتزلف للمحكي له بنم الأحاديث إليه.
مساوئ النميمة:
تجمع النميمة بين رذيلتين خطيرتين: الغيبة والنم، فكل نميمة غيبة، وليست كل غيبة
نميمة، فمساوئها كالغيبة، بل أنكى منها وأشد، لاشتمالها على إذاعة الأسرار، وهتك
المحكي عنه، والوقيعة فيه، وقد تسول سفك الدماء، واستباحة الأموال، وانتهاك صنوف
الحرمات، وهدر الكرامات.
كيف تعامل النمام:
وحيث كان النمام من أخطر المفسدين، وأشدهم إساءة وشرا بالناس، فلزم الحذر منه،
والتوقي من كيده وإفساده، وذلك باتباع النصائح الآتية:
1 - أن يكذب النمام، لفسقه وعدم وثاقته، كما قال تعالى: إن

232
جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين
(الحجرات: 6).
2 - أن لا يظن بأخيه المؤمن سوءا، بمجرد النم عليه، لقوله تعالى: اجتنبوا كثيرا
من الظن إن بعض الظن إثم (الحجرات: 12).
3 - أن لا تبعثه النميمة على التجسس والتحقق عن واقع النمام، لقوله تعالى:
ولا تجسسوا (الحجرات: 12).
4 - أن لا ينم على النمام بحكاية نميمته، فيكون نماما ومغتابا، في آن واحد.
وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: أن رجلا أتاه يسعى إليه برجل. فقال: يا
هذا نحن نسأل عما قلت، فان كنت صادقا مقتناك، وإن كنت كاذبا عاقبناك، وإن شئت أن
نقيلك أقلناك. قال: أقلني يا أمير المؤمنين (1).
وعن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن موسى عليه السلام قال: قلت له: جعلت فداك، الرجل
من إخوتي يبلغني عنه الشئ الذي أكره له، فأسأله عنه فينكر ذلك، وقد أخبرني عنه قوم
ثقات. فقال لي: يا محمد كذب سمعك وبصرك عن أخيك، فإن شهد عندك خمسون قسامة، وقال
لك قولا فصدقه وكذبهم، ولا تذيعن عليه شيئا تشينه به، وتهدم به مروته، فتكون من
الذين قال الله عز وجل: إن الذين يحبون أن تشيع



(1) سفينة البحار م 2 ص 613.
233
الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة (النور: 19) (1).



(1) البحار م 15 كتاب العشرة ص 188 عن ثواب الأعمال للصدوق.
234
السعاية
ومن متممات بحث النميمة (السعاية): وهي أقسى صور النميمة، وأنكاها جريرة وإثما، إذ
تستهدف دمار المسعى به وهلاكه بالنم عليه، والسعاية فيه لدى المرهوبين، من ذوي
السلطة والسطوة.
وأكثر ضحايا السعاية هم المرموقون من العظماء والأعلام، المحسودون على أمجادهم
وفضائلهم، مما يحفز حاسديهم على إذلالهم، والنكاية بهم، فلا يستطيعون سبيلا إلى
ذلك، فيكيدونهم بلؤم السعاية، إرضاءا لحسدهم وخبثهم، بيد أنه قد يبطل كيد السعاة،
وتخفق سعايتهم، فتعود عليهم بالخزي والعقاب، وعلى المسعي به بالتبجيل والاعزاز.
لذلك كان الساعي من ألأم الناس، وأخطرهم جناية وشرا، كما جاء عن الصادق عن آبائه
عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه وآله قال: شر الناس المثلث؟ قيل: يا رسول
الله ومن المثلث؟ قال: الذي يسعى بأخيه إلى السلطان، فيهلك نفسه، ويهلك أخاه،
ويهلك السلطان (2).



(2) البحار م 15 كتاب العشرة ص 191 عن كتاب الإمامة والتبصرة.
الفحش والسب والقذف
الفحش هو: التعبير عما يقبح التصريح به، كألفاظ الوقاع، وآلاته مما يتلفظ به
السفهاء، ويتحاشاه النبلاء، ويعبرون عنها بالكتابة والرمز كاللمس والمس، كناية عن
الجماع.
وهكذا يكني الأدباء عن ألفاظ ومفاهيم يتفادون التصريح بها لياقة وأدبا، كالكناية
عن الزوجة بالعائلة، وأم الأولاد، وعن التبول والتغوط، بقضاء الحاجة، والرمز إلي
البرص والقرع بالعارض مثلا، إذ التصريح بتلك الألفاظ والمفاهيم مستهجن عند
العقلاء والعارفين.
وأما السب فهو: الشتم، نحو يا كلب، يا خنزير، يا حمار، يا خائن وأمثاله من مصاديق
الإهانة والتحقير.
وأما القذف: نحو يا منكوح، أو يا ابن الزانية، أو يا زوج الزانية، أو يا أخت
الزانية.
وهذه الخصال الثلاث من أبشع مساوئ اللسان، وغوائله الخطيرة، التي استنكرها الشرع
والعقل، وحذرت منها الآثار والنصوص.
أما الفحش: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله في ذمه: إن الله حرم الجنة
على كل فحاش بذئ، قليل الحياء، لا يبالي
235
ما قال ولا ما قيل له، فإنك إن فتشته لم تجده الا لغية، أو شرك شيطان فقيل يا رسول
الله وفي الناس شرك شيطان؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أما تقرأ قول
الله تعالى: وشاركهم في الأموال والأولاد (الاسراء: 64) (1).
المراد بمشاركة الشيطان للناس في الأموال دفعهم على كسبها بالوسائل المحرمة،
وإنفاقها في مجالات الغواية والآثام. وأما مشاركته في الأولاد: فبمشاركته الآباء في
حال الوقاع إذا لم يسموا الله تعالى عنده، وولد غية أي ولد زنا.
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن من
شرار عباد الله من تكره مجالسته لفحشه (2).
وقال الصادق عليه السلام: من خاف الناس لسانه فهو في النار (3).
وقال عليه السلام لنفر من الشيعة: معاشر الشيعة كونوا لنا زينا، ولا تكونوا علينا
شينا، قولوا للناس حسنا، واحفظوا ألسنتكم، وكفوها عن الفضول وقبيح القول (4).
وأما السب: فعن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه



(1) الوافي ج 3 ص 160 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 160 عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 160 عن الكافي.
(4) البحار م 15 ج 2 ص 192 عن امالي الشيخ الصدوق وأمالي ابن الشيخ الطوسي.
236
معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه (1).
وعن أبي الحسن موسى عليه السلام في رجلين يتسابان فقال: البادئ منهما أظلم، ووزره
ووزر صاحبه عليه، ما لم يتعد المظلوم (2).
وأما القذف: فقد قال الباقر عليه السلام: ما من إنسان يطعن في مؤمن، إلا مات بشر
ميتة، وكان قمنا أن لا يرجع إلى خير (3).
وكان للإمام الصادق عليه السلام صديق لا يكاد يفارقه إذا ذهب مكانا، فبينما هو يمشي
معه في الحذائين، ومعه غلام سندي يمشي خلفهما، إذ التفت الرجل يريد غلامه ثلاث
مرات فلم يره، فلما نظر في الرابعة قال: يا بن الفاعلة أين كنت؟!
قال الراوي: فرفع الصادق يده فصلت بها جبهة نفسه، ثم قال: سبحان الله تقذف أمه!!
قد كنت أريتني أن لك ورعا، فإذا ليس لك ورع. فقال: جعلت فداك إن أمه سندية مشركة.
فقال: أما علمت أن لكل أمة نكاحا، تنح عني.
قال الراوي: فما رأيته يمشي معه، حتى فرق بينهما الموت (4).



(1) الوافي ج 3 ص 160 عن الكافي والفقيه.
(2) الوافي ج 3 ص 160 عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 160 عن الكافي.
(4) الوافي ج 3 ص 161 عن الكافي.
237
بواعث البذاء
من الواضح أن تلك المهاترات والقوارص، تنشأ غالبا عن العداء،
أو الحسد، أو الغضب، وسوء الخلق، وكثيرا ما تنشأ عن فساد التربية، وسوء الأدب،
باعتياد البذاء وعدم التحرج من آثامه ومساوئه.
مساوئ المهاترات:
لا ريب أن لتلك المهاترات من الفحش، والسب، والقذف، أضرارا خطيرة وآثاما فادحة:
فمن مساوئها: أنها تجرد الانسان من خصائص الانسانية المهذبة، وأخلاقها الكريمة،
وتسمه بالسفالة والوحشية.
ومنها: أنها داعية العداء والبغضاء، وإفساد العلاقات الاجتماعية، وإيجابها المقت
والمجافاة من أفراد المجتمع.
ومنها: أنها تعرض ذويها لسخط الله تعالى وعقابه الأليم، كما صورته النصوص السالفة.
لذلك جاء التحريض على رعاية اللسان، وصونه عن قوارص البذاء.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: اللسان سبع إن حلي عنه عقر.
وستأتي النصوص المشعرة بذلك في بحث الكلم الطيب.

238
السخرية
وهي: محاكاة أقوال الناس، أو أفعالهم، أو صفاتهم على سبيل استنقاصهم، والضحك عليهم،
بألوان المحاكاة القولية والفعلية.
وقد حرمها الشرع لايجابها العداء، وإثارة البغضاء، وإفساد العلاقات الودية بين
أفراد المسلمين.
وكيف يجرأ المرء على السخرية بالمؤمن؟! واستنقاصه، وإعابته، وكل فرد سوى المعصوم،
لا يخلوا من معائب ونقائص، ولا يأمن أن تجعله عوادي الزمن يوما ما هدفا للسخرية
والازدراء.
لذلك ندد القرآن الكريم بالسخرية وحذر منها:
فقال تعالى: يا أيها الذين امنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم،
ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا
بالألقاب، بئس الاسم الفسوق بعد الايمان، ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون (الحجرات:
11).
وقال تعالى: إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون، وإذا مروا بهم
يتغامزون، وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين، وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء
لضالون (المطففين: 29 - 32).

239
وقال الصادق عليه السلام: من روى على مؤمن رواية يريد بها شينه، وهدم مروته،
ليسقط من أعين الناس، أخرجه الله تعالى من ولايته إلى ولاية الشيطان، فلا يقبله
الشيطان (1).
وعنه عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا تطلبوا عثرات
المؤمنين، فإنه من تتبع عثرات المؤمنين تتبع الله عثراته، ومن تتبع الله
عثراته يفضحه ولو في جوف بيته (2).
فجدير بالعاقل أن ينبذ السخرية تحرجا من آثامها وتوقيا من غوائلها، وأن يقدر
الناس على حسب إيمانهم وصلاحهم، وحسن طويتهم غاضا عن نقائصهم وعيوبهم، كما جاء في
الخبر: إن الله تعالى أخفى أولياءه في عباده، فلا تستصغرن عبدا من عباد الله،
فربما كان وليه وأنت لا تعلم.



(1) الوافي ج 3 ص 163 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 163 عن الكافي.
240
الكلم الطيب
من استقرأ أحداث المشاكل الاجتماعية، والأزمات المعكرة لصفو المجتمع، علم أن
منشأها في الأغلب بوادر اللسان، وتبادل المهاترات الباعثة على توتر العلائق
الاجتماعية، وإثارة الضغائن والأحقاد بين أفراد المجتمع.
من أجل ذلك كان صون اللسان عن تلك القوارص والمباذل، وتعويده على الكلم الطيب
والحديث المهذب النبيل، ضرورة حازمة يفرضها أدب الكلام وتقتضيها مصلحة الفرد
والمجتمع.
فطيب الحديث، وحسن المقال، من سمات النبيل والكمال، ودواعي التقدير والاعزاز،
وعوامل الظفر والنجاح.
وقد دعت الشريعة الاسلامية إلى التحلي بأدب الحديث، وطيب القول، بصنوف الآيات
والأخبار، وركزت على ذلك تركيزا متواصلا إشاعة للسلام الاجتماعي، وتعزيزا
لأواصر المجتمع.
قال تعالى: وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن، إن الشيطان ينزغ بينهم، إن الشيطان
كان للانسان عدوا مبينا
(الاسراء: 53).
وقال سبحانه: وقولوا للناس حسنا (البقرة: 83).
وقال عز وجل: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي

241
أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم (فصلت: 34).
وقال تعالى: واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير (لقمان: 19).
وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، يصلح لكم
أعمالكم، ويغفر لكم ذنوبكم (الأحزاب: 70 - 71).
وقال رجل لأبي الحسن عليه السلام: أوصني. فقال، احفظ لسانك تعز، ولا تمكن الناس
من قيادك فتذل رقبتك (1).
وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله أوصني. قال: إحفظ
لسانك. قال: يا رسول الله أوصني. قال: احفظ لسانك. قال: يا رسول الله أوصني. قال:
احفظ لسانك، ويحك وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم!! (2).
وقال الصادق عليه السلام لعباد بن كثير البصري الصوفي ويحك يا عباد، غرك أن عن
بطنك وفرجك، إن الله تعالى يقول في كتابه يا أيها الذين امنوا اتقوا الله
وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم (الأحزاب: 70 - 71). إنه لا يتقبل الله منك
شيئا حتى تقول قولا عدلا (3).
وقال علي بن الحسين عليهما السلام: القول الحسن يثري المال، وينمي الرزق، وينسئ
في الأجل، ويحبب إلى الأهل، ويدخل الجنة (4).



(1) الوافي ج 3 ص 84 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 85 عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 85 عن الكافي.
(4) البحار م 15 ج 2 ص 192 عن الخصال وأمالي الصدوق.
242
وينسب للصادق عليه السلام هذا البيت:
عود لسانك قول الخير تحظ به * إن اللسان لما عودت معتاد
وعن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله: رحم الله عبدا قال خيرا فغنم، أو سكت عن سوء فسلم (1).
ونستجلي من تلك النصوص الموجهة ضرورة التمسك بأدب الحديث، وصون اللسان عن البذاء،
وتعويده على الكلم الطيب، والقول الحسن.
فللكلام العفيف النبيل حلاوته ووقعه في نفوس الأصدقاء والأعداء معا، ففي الأصدقاء
ينمي الحب، ويستديم الود، ويمنع نزغ الشيطان، في إفساد علائق الصداقة والمودة.
وفي الأعداء يلطف مشاعر العداء، ويخفف من إساءتهم وكيدهم.
لذلك نجد العظماء يرتاضون على ضبط ألسنتهم، وصيانتها من العثرات والفلتات.
فقد قيل أنه اجتمع أربعة ملوك فتكلموا:
فقال ملك الفرس: ما ندمت على ما لم أقل مرة، وندمت على ما قلت مرارا.
وقال قيصر: أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت.
وقال ملك الصين: ما لم أتكلم بكلمة ملكتها، فإذا تكلمت بها ملكتني.
وقال ملك الهند: العجب ممن يتكلم بكلمة إن رفعت ضرت، وإن



(1) البحار م 15 ج 2 ص 88، عن كتاب الإمامة والتبصرة.
243
لم ترفع لم تنفع (1).
وليس شئ أدل على غباء الانسان، وحماقته، من الثرثرة، وفضول القول، وبذاءة اللسان.
فقد مر أمير المؤمنين برجل يتكلم بفضول الكلام، فوقف عليه فقال: يا هذا إنك تملي
على حافظيك كتابا إلى ربك، فتكلم بما يعنيك ودع ما لا يعنيك (2).
وقال عليه السلام: من كثر كلامه كثر خطأه، ومن كثر خطأه قل حياؤه، ومن قل حياؤه
قل ورعه، من قل ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه دخل النار (3).
وعن سليمان بن مهران قال: دخلت على الصادق عليه السلام وعنده نفر من الشيعة،
فسمعته وهو يقول: معاشر الشيعة كونوا لنا زينا، ولا تكونوا علينا شينا، قولوا
للناس حسنا، واحفظوا ألسنتكم، وكفوها عن الفضول وقبيح القول (4).
وتوقيا من بوادر اللسان ومآسيه الخطيرة، فقد حثت النصوص على الصمت، وعفة اللسان،
ليأمن المرء كبوته وعثراته المدمرة:
قال الصادق عليه السلام: الصمت كنز وافر، وزين الحليم،



(1) مجاني الأدب.
(2) الوافي ج 3 ص 85 عن الفقيه.
(3) البحار م 15 ج 2 ص 187 عن النهج.
(4) البحار م 15 ج 2 ص 192 عن أمالي الصدوق.
244
وستر الجاهل (1).
وعن أبي جعفر عليه السلام قال: كان أبو ذر يقول: يا مبتغي العلم إن هذا اللسان
مفتاح خير، ومفتاح شر، فاختم على لسانك، كما تختم على ذهبك وورقك (2).
ونقل أنه اجتمع قس بن ساعدة وأكثم بن صيفي، فقال أحدهما لصاحبه: كم وجدت في ابن
آدم من العيوب؟ فقال: هي أكثر من أن تحصر، وقد وجدت خصلة إن استعملها الانسان سترت
العيوب كلها. قال: ما هي؟ قال: حفظ اللسان.



(1) الوافي ج 3 ص 85 عن الفقيه.
(2) الوافي ج 3 ص 85 عن الكافي.
245
غوائل الذنوب:
إن بين الأمراض الصحية التي يعانيها الانسان، وبين الذنوب التي يقترفها شبها
قويا في نشأتهما، وسوء مغبتهما عليه.
فكما تنشأ أغلب الأمراض عن مخالفة الدساتير الصحية التي وضعها الأطباء، وقاية
وعلاجا للأبدان، كذلك تنشأ الذنوب عن مخالفة القوانين الإلهية، والنظم السماوية،
التي شرعها الله تعالى لاصلاح البشر وإسعادهم.
وكما يختص كل مرض بأضرار خاصة، وآثار سيئة، تنعكس على المريض في صور من الاختلاطات
والمضاعفات المرضية، كذلك الذنوب فان لكل نوع منها مغبة سيئة، وضررا فادحا،
وآثارا خطيرة، تسبب للانسان ألوان المآسي والشقاء.
ولئن اشتركت الأمراض والذنوب في الإساءة والأذى، فان الذنوب أشد نكاية، وأسوأ
أثرا من الأمراض، لسهولة معالجة الأجسام، وصعوبة مباشرة النفوس.
لذلك كانت الذنوب سموما مهلكة، وجراثيم فاتكة، تعيث في الانسان فسادا، وتعرضه
لصنوف الأخطار والمهالك.
أنظر كيف يعرض القرآن الكريم صورا رهيبة من غوائل الذنوب،

246
وأخطارها الماحقة في سلسلة من آياته الكريمة:
قال تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول
فدمرناها تدميرا (الاسراء: 16).
وقال تعالى: ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن
لكم، وأرسلنا السماء عليهم مدرارا، وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم، فأهلكناهم
وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين (الأنعام: 6).
وقال تعالى: ولو أن أهل القرى امنوا واتقوا، لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض،
ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون (الأعراف: 96).
وقال تعالى: ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم، حتى يغيروا ما
بأنفسهم، وإن الله سميع عليم (الأنفال: 53).
وقال تعالى: وما أصابكم من مصيبة، فيما كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير (الشورى: 30).
وقال تعالى: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، ليذيقهم بعض الذي
عملوا لعلهم يرجعون (الروم: 41).
وهكذا جاءت أحاديث أهل البيت عليهم السلام محذرة غوائل الذنوب، ومآسيها
العامة، وأوضحت أن ما يعانيه الفرد والمجتمع، من ضروب الأزمات، والمحن، كشيوع
المظالم، وانتشار الأمراض، وشح الأرزاق، كل ذلك ناشئ من مقارفة الذنوب والآثام،
واليك طرفا منها:
عن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله

247
عليه وآله: عجبت لمن يحتمي من الطعام مخافة الداء، كيف لا يحتمي من الذنوب مخافة
النار؟!! (1).
وعن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يقول
الله تبارك وتعالى: يا بن آدم ما تنصفني، أتحبب إليك بالنعم، وتتمقت إلي بالمعاصي،
خيري عليك منزل، وشرك إلي صاعد، ولا يزال ملك كريم يأتيني عنك في كل يوم وليلة
بعمل قبيح، يا بن آدم لو سمعت وصفك من غيرك، وأنت لا تعلم من الموصوف، لسارعت إلى
مقته (2).
وقال الصادق عليه السلام: إذا أذنب الرجل خرج في قلبه نكتة سوداء، فإن تاب انمحت،
وإن زاد زادت، حتى تغلت على قلبه فلا يفلح بعدها أبدا (3).
وقال الباقر عليه السلام: إن العبد يسأل الله الحاجة، فيكون من شأنه قضاؤها إلى
أجل قريب أو إلى وقت بطئ، فيذنب العبد ذنبا، فيقول الله تبارك وتعالى للملك: لا
تقض حاجته، واحرمه إياها، فإنه تعرض لسخطي، واستوجب الحرمان مني (4).
وقال الصادق عليه السلام: كان أبي عليه السلام يقول: إن الله قضى قضاءا حتما
ألا ينعم على العبد بنعمة فيسلبها إياه، حتى يحدث



(1) البحار م 15 ج 3 ص 155 عن أمالي الصدوق.
(2) البحار م 15 ج 3 ص 156 عن عيون أخبار الرضا للصدوق.
(3) الوافي ج 3 ص 167 عن الكافي.
(4) الوافي ج 3 ص 167 عن الكافي.
248
العبد ذنبا يستحق بذلك النقمة (1).
وقال الرضا عليه السلام: كلما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعلمون، أحدث
الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون (2).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا غضب الله عز وجل على أمة، ولم ينزل
بها العذاب، غلت أسعارها، وقصرت أعمارها، ولم يربح تجارها، ولم تزك ثمارها، ولم تغزر
أنهارها، وحبس عنها أمطارها، وسلط عليها شرارها (3).
وقال الباقر عليه السلام: وجدنا في كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا ظهر
الزنا من بعدي كثر موت الفجأة، وإذا طفف المكيال والميزان، أخذهم الله تعالى
بالسنين والنقص، وإذا منعوا الزكاة، منعت الأرض بركتها من الزرع والثمار والمعادن
كلها، وإذا جاروا في الأحكام، تعاونوا على الظلم والعدوان، وإذا نقضوا العهد سلط
الله عليهم عدوهم، وإذا قطعوا الأرحام جعلت الأموال في أيدي الأشرار، وإذا لم
يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر، ولم يتبعوا الأخيار من أهل بيتي، سلط الله
عليهم شرارهم، فيدعو أخيارهم فلا يستجاب لهم (4).
وعن المفضل قال: قال الصادق عليه السلام: يا مفضل إياك



(1) الوافي ج 3 ص 167 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 168 عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 173 عن التهذيب والفقيه.
(4) الوافي ج 3 ص 173 عن الكافي.
249
والذنوب، وحذرها شيعتنا، فوالله ما هي إلى أحد أسرع منها إليكم، إن أحدكم لتصيبه
المعرة من السلطان، وما ذاك إلا بذنوبه، وإنه ليصيبه السقم وما ذاك الا بذنوبه،
وإنه ليحبس عنه الرزق وما هو إلا بذنوبه، وإنه ليشدد عليه عند الموت وما هو إلا
بذنوبه، حتى يقول من حضر:
لقد غم بالموت.
فلما رأى ما قد دخلني، قال: أتدري لم ذاك يا مفضل؟ قلت: لا أدري جعلت فداك. قال:
ذاك والله أنكم لا تؤاخذون بها في الآخرة، وعجلت لكم في الدنيا (1).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: توقوا الذنوب، فما من بلية، ولا نقص رزق، الا
بذنب، حتى الخدش، والكبوة، والمصيبة، قال الله عز وجل: وما أصابكم من مصيبة، فبما
كسبت أيديكم، ويعفو عن كثير (2).
وربما لبس الشيطان على بعض الأغراء، بأن الذنوب لو كانت ماحقة مدمرة، لأشقت
المنهمكين عليها، السادرين في اقترافها، وهم رغم ذلك في أرغد عيش وأسعد حياة.
وخفي عليهم أن الله عز وجل لا يعجزه الدرك، ولا يخاف الفوت، وإنما يمهل العصاة،
ويؤخر عقابهم، رعاية لمصالحهم، عسى أن يثوبوا إلى الطاعة والرشد، أو يمهلهم إشفاقا
على الأبرياء والضعفاء ممن تضرهم



(1) البحار عن علل الشرائع.
(2) البحار عن الخصال.
250
معاجلة المذنبين وهم برءاء من الذنوب.
أو يصابر المجرمين استدراجا لهم، ليزدادوا طغيانا وإثما، فيأخذهم بالعقاب
الصارم، والعذاب الأليم، كما صرحت بذلك الآيات والروايات.
قال الله تعالى: ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم، إنما نملي
لهم ليزدادوا إثما، ولهم عذاب مهين (آل عمران: 178).
وقال سبحانه: ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا، ما ترك على ظهرها من دابة ولكن
يؤخره إلى أجل مسمى (فاطر: 45).
وقال الصادق عليه السلام: إذا أراد الله بعبد خيرا، فأذنب ذنبا، أتبعه بنقمة،
ويذكره الاستغفار، وإذا أراد بعبد شرا، فأذنب ذنبا، أتبعه بنعمة، لينسيه
الاستغفار، ويتمادى بها، وهو قول الله تعالى: سنستدرجهم من حيث لا يعلمون
(القلم: 44) بالنعم عند المعاصي (1).
وقال الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام: إن لله عز وجل في كل يوم وليلة مناديا
ينادي: مهلا مهلا، عباد الله عن معاصي الله، فلولا بهائم رتع، وصبية رضع،
وشيوخ ركع، لصب عليكم العذاب صبا، ترضون به رضا (2).
وقد يختلج في الذهن أن الأنبياء والأوصياء معصومون من اقتراف الذنوب والآثام، فكيف
يؤاخذون بها، ويعانون صنوف المحن والأرزاء؟
وتوجيه ذلك: أن الذنوب تختلف، وتتفاوت باختلاف الأشخاص،



(1) الوافي ج 3 ص 173 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 168 عن الكافي.
251
ومبلغ إيمانهم، وأبعاد طاعتهم وعبوديتهم لله عز وجل.
فرب متعة بريئة، يتعاطاها فردان: يحسبها الأول طيبة مباحة، ويحسبها الثاني جريرة
وذنبا، حيث ألهته عما يتعشفه من ذكر الله عز وجل وعبادته.
وحيث كان الأنبياء عليهم السلام هم المثل الأعلى في الإيمان بالله، والتفاني في
طاعته والتوله بعبادته، أعتبر ترك الأولى منهم ذنبا وتقصيرا، كما قيل: حسنات
الأبرار سيئات المقربين.
هذا إلى أن معاناة المحن لا تنجم عن اقتراف الآثام والذنوب فحسب، فقد تكون كذلك.
وقد تكون المحن والارزاء وسيلة لاستجلاء صبر الممتحن، وجلده على طاعة الله،
ونافذ قدره ومشيئته، وقد تكون وسيلة لمضاعفة أجر المبتلى، وجزيل ثوابه، بصبره
على تلك المعاناة، وتفويض أمره إلى الله عز وجل.

252
التوبة
لقد عرفت في البحث السابق غوائل الذنوب، وأضرارها المادية والروحية، والتشابه
بينهما وبين الأمراض الجسمية في مذاحتها، وسوء آثارها على الإنسان.
فكما تجدر المسارعة إلى علاج الجسم من جراثيم الأمراض قبل استفحالها، وضعف الجسم
عن مكافحتها، كذلك تجب المبادرة إلى تصفية النفس، وتطهيرها من أوضار الذنوب، ودنس
الآثام، قبل تفاقم غوائلها، وعسر تداركها.
وكما تعالج الأمراض الصحيحة بتجرع العقاقير الكريهة، والاحتماء عن المطاعم الشهية
الضارة، كذلك تعالج الذنوب بمعاناة التوبة والإنابة، والإقلاع عن الشهوات العارمة،
والأهواء الجامحة، ليأمن التأثب أخطارها ومآسيها الدنيوية والأخروية.
حقيقة التوبة:
لا تتحقق التوبة الصادقة النصوح إلا بعد تبلورها، واجتيازها

253
أطوارا ثلاثة:
فالطور الأول: هو: طور يقظة الضمير، وشعور المذنب بالأسى والندم على معصية الله
تعالى، وتعرضه لسخطه وعقابه، فإذا امتلأت نفس المذنب بهذا الشعور الواعي انتقل إلى:
الطور الثاني، وهو: طور الإنابة إلى الله عز وجل، والعزم الصادق على طاعته، ونبذ
عصيانه، فإذا ما أنس بذلك تحول إلى:
الطور الثالث، وهو: طور تصفية النفس من رواسب الذنوب، وتلافي سيئاتها بالأعمال
الصالحة الباعثة على توفير رصيد الحسنات، وتلاشي الشيئات، وبذلك تتحقق التوبة
الصادقة النصوح.
وليست التوبة هزل عابث، ولقلقة يتشدق بها اللسان، وإنما هي: الإنابة الصادقة إلى
الله تعالى، ومجافاة عصيانه بعزم وتصميم قويين، والمستغفر بلسانه وهو سادر في
المعاصي مستهتر كذاب، كما قال الإمام الرضا عليه السلام:
المستغفر من ذنب ويفعله كالمستهزئ بربه.
فضائل التوبة:
للتوبة فضائل جمة، ومآثر جليلة، صورها القرآن الكريم، وأعربت عنها آثار أهل البيت
عليهم السلام.
وناهيك في فضلها أنها بلسم الذنوب، وسفينة النجاة، وصمام الأمن

254
من سخط الله تعالى وعقابه.
وقد أبت العناية الإلهية أن تهمل العصاة يتخبطون في دياجير الذنوب، ومجاهل
العصيان، دون أن يسعهم بعطفه السامي، وعفوه الكريم، فشوقهم إلى الإنابة، ومهد لهم
التوبة، فقال سبحانه:
وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم، كتب ربكم على نفسه الرحمة، أنه من
عمل منكم سوءا بجهالة، ثم تاب من بعده وأصلح، فإنه غفور رحيم (الأنعام: 54).
وقال تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن
الله يغفر الذنوب جميعا، إنه هو الغفور الرحيم (الزمر: 53).
وقال تعالى حاكيا: فقلت: استغفروا ربكم إنه كان غفارا، يرسل السماء عليكم
مدرارا، ويمددكم بأموال وبنين، ويجعل لكم جنات، ويجعل لكم أنهارا (نوح: 10 -
12).
وقال تعالى: إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين
(البقرة: 222)
وقال الصادق عليه السلام: إذا تاب العبد توبة نصوحا، أحبه الله تعالى فستر عليه
في الدنيا والآخرة. قال الراوي: وكيف يستر الله عليه؟ قال: ينسي ملكيه ما كتبا
عليه من الذنوب، ثم يوحي الله إلى جوارحه اكتمي عليه ذنوبه، ويوحي إلى بقاع الأرض
اكتمي عليه ما كان يعمل عليك من الذنوب، فيلقى الله تعالى حين يلقاه، وليس شئ
يشهد

255
عليه بشئ من الذنوب (1).
وعن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: التائب
من الذنب كمن لا ذنب له.
وقال صلى الله عليه وآله في حديث آخر: ليس شئ أحب إلى الله من مؤمن تائب، أو
مؤمنة تائبة (2).
وعن أبي عبد الله أو عن أبي جعفر عليهما السلام قال: إن آدم قال: يا رب سلطت
علي الشيطان وأجريته مجرى الدم مني فاجعل لي شيئا.
فقال: يا آدم جعلت لك أن من هم من ذريتك بسيئة لم يكتب عليه شئ، فان عملها كتبت
عليه سيئة، ومن هم منهم بحسنة فان لم يعملها كتبت له حسنة، فإن هو عملها كتبت له
عشرا.
قال: يا رب زدني. قال: جعلت لك أن من عمل منهم سيئة ثم استغفرني غفرت له.
قال: يا رب زدني. قال: جعلت لهم التوبة حتى يبلغ النفس هذه. قال: يا رب حسبي (3).
وقال الصادق عليه السلام: العبد المؤمن إذا أذنب ذنبا أجله الله سبع ساعات، فان
استغفر الله لم يكتب عليه، وإن مضت الساعات ولم يستغفر كتبت عليه سيئة، وإن المؤمن
ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتى



(1) الوافي ج 3 ص 183 عن الكافي.
(2) البحار م 3 ص 98 عن عيون أخبار الرضا عليه السلام.
(3) الوافي ج 3 ص 184 عن الكافي.
256
يستغفر ربه فيغفر له، وإن الكافر لينساه من ساعته (1).
وقال عليه السلام: ما من مؤمن يقارف في يومه وليلته أربعين كبيرة فيقول وهو نادم:
أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم بديع السماوات والأرض ذو الجلال
والاكرام وأسأله أن يصلي على محمد وآل محمد وأن يتوب علي إلا غفرها الله له، ولا
خير فيمن يقارف في يومه أكثر من أربعين كبيرة (2).
وجوب التوبة وفوريتها:
لا ريب في وجوب التوبة، لدلالة العقل والنقل على وجوبها:
أما العقل: فمن بديهياته ضرورة التوقي والتحرز عن موجبات الأضرار والأخطار الموجبة
لشقاء الانسان وهلاكه. لذلك وجب التحصن بالتوبة، والتحرز بها من غوائل الذنوب
وآثارها السيئة، في عاجل الحياة وآجلها.
وأما النقل: فقد فرضتها أوامر القرآن والسنة فرضا محتما، وشوقت إليها بألوان
التشويق والتيسير.
فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من تاب
قبل موته بسنة قبل الله توبته، ثم قال: إن السنة



(1) البحار م 3 ص 103 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 182 عن الكافي.
257
لكثير، من تاب قبل موته بشهر قبل الله توبته. ثم قال: إن الشهر لكثير، من تاب قبل
موته بجمعة قبل الله توبته. ثم قال: إن الجمعة لكثير، من تاب قبل موته بيوم قبل
الله توبته. ثم قال: إن يوما لكثير، من تاب قبل أن يعاين قبل الله توبته (1).
وعن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن
لله عز وجل فضولا من رزقه ينحله من يشاء من خلقه، والله باسط يديه عند كل فجر
لمذنب الليل هل يتوب فيغفر له، ويبسط يديه عند مغيب الشمس لمذنب النهار هل يتوب
فيغفر له (2).
تجديد التوبة:
من الناس من يهتدي بعد ضلال، ويستقيم بعد انحراف، فيتدارك آثامه بالتوبة والإنابة،
ملبيا داعي الايمان، ونداء الضمير الحر.
بيد أن الانسان كثيرا ما تخدعه مباهج الحياة، وتسترقه بأهوائها ومغرياتها، فيقارف
المعاصي من جديد، منجرفا بتيارها العرم، وهكذا يعيش صراعا عنيفا بين العقل
والشهوات، ينتصر عليها تارة، وتنتصر عليه أخرى، وهكذا دواليك.
وهذا ما يعيق الكثيرين عن تجديد التوبة، ومواصلة الإنابة خشية النكول



(1) الوافي ج 3 ص 183 عن الكافي.
(2) البحار م 3 ص 100 عن ثواب الأعمال للصدوق (ره).
258
عنها، فيظلون سادرين في المعاصي والآثام.
فعلى هؤلاء أن يعلموا أن الانسان عرضة لاغواء الشيطان، وتسويلاته الآثمة، ولا ينجو
منها إلا المعصومون من الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، وان الأجدر بهم إذا ما
استزلهم بخدعه ومغرياته، أن يجددوا عهد التوبة والإنابة بنية صادقة، وتصميم جازم،
فان زاغوا وانحرفوا فلا يقنطهم ذلك عن تجديدها كذلك، مستشعرين قول الله عز وجل:
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، أن الله يغفر
الذنوب جميعا، إنه هو الغفور الرحيم (الزمر: 53).
وهكذا شجعت أحاديث أهل البيت عليهم السلام على تجديد التوبة، ومواصلة الإنابة،
إنقاذا لصرعى الآثام من الانغماس فيها، والانجراف بها، وتشويقا لهم على استئناف
حياة نزيهة مستقيمة.
فعن محمد بن مسلم قال: قال الباقر عليه السلام: يا محمد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا
تاب عنها مغفورة له، فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة، أما والله
إنها ليست إلا لأهل الايمان.
قلت: فان عاد بعد التوبة والاستغفار في الذنوب، وعاد في التوبة. فقال: يا محمد بن
مسلم أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر الله تعالى منه ويتوب ثم لا يقبل
الله توبته!! قلت: فإنه فعل ذلك مرارا، يذنب ثم يتوب ويستغفر. فقال: كلما عاد
المؤمن بالاستغفار والتوبة، عاد الله عليه بالمغفرة، وإن الله غفور رحيم، يقبل
التوبة، ويعفو عن السيئات،

259
فإياك أن تقنط المؤمنين من رحمة الله تعالى (1).
وعن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: يا أيها الذين آمنوا توبوا
إلى الله توبة نصوحا (التحريم: 8)؟ قال: هو الذنب الذي لا يعود إليه أبدا. قلت:
وأينا لم يعد. فقال: يا أبا محمد. إن الله يحب من عباده المفتن التواب (2).
المراد بالمفتن التواب: هو من كان كثير الذنب كثير التوبة.
ولا بدع أن يحب الله تعالى المفتن التواب، فان الاصرار على مقارفة الذنوب، وعدم
ملافاتها بالتوبة، دليل صارخ على موت الضمير وتلاشي الايمان، والاستهتار بطاعة
الله عز وجل، وذلك من دواعي سخطه وعقابه.
منهاج التوبة:
ولا بد للتائب أن يعرف أساليب التوبة، وكيفية التخلص من تبعات الذنوب، ومسؤولياتها
الخطيرة، ليكفر عن كل جريرة بما يلائمها من الطاعة والإنابة.
فللذنوب صور وجوانب مختلفة:
منها ما يكون بين العبد وخالقه العظيم، وهي قسمان: ترك الواجبات، وفعل المحرمات.



(1) الوافي ج 3 ص 183 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 183 عن الكافي.
260
فترك الواجبات: كترك الصلاة والصيام والحج والزكاة ونحوها من الواجبات. وطريق
التوبة منها بالاجتهاد في قضائها وتلافيها جهد المستطاع.
وأما فعل المحرمات: كالزنا وشرب الخمر والقمار وأمثالها من المحرمات، وسبيل التوبة
منها بالندم على اقترافها، والعزم الصادق على تركها.
ومن الذنوب: ما تكون جرائرها بين المرء والناس، وهي أشدها تبعة ومسؤولية، وأعسرها
تلافيا، كغصب الأموال، وقتل النفوس البريئة المحرمة، وهتك المؤمنين بالسب والضرب
والنم والاغتياب.
والتوبة منها بإرضاء الخصوم، وأداء الظلامات إلى أهلها، ما استطاع إلى ذلك
سبيلا، فان عجز عن ذلك فعليه بالاستغفار، وتوفير رصيد حسناته، والتضرع إلى الله
عز وجل أن يرضيهم عنه يوم الحساب.
قبول التوبة:
لا ريب أن التوبة الصادقة الجامعة الشرائط مقبولة بالاجماع، لدلالة القرآن والسنة
عليها:
قال تعالى: وهو الذي يقبل التوبة عن عباده (الشورى: 25).
وقال تعالى: غافر الذنب، وقابل التوب (غافر: 3).
وقد عرضنا في فضائل التوبة طرفا من الآيات والأخبار الناطقة بقبول التوبة، وفوز
التائبين بشرف رضوان الله تعالى، وكريم عفوه، وجزيل آلائه.

261
وأصدق شاهد على ذلك ما جاء في معرض حديث للنبي صلى الله عليه وآله حيث قال: لولا
أنكم تذنبون فتستغفرون الله لخلق الله خلقا حتى يذنبوا ثم يستغفروا الله فيغفر
لهم، إن المؤمن مفتن تواب، أما سمعت قول الله إن الله يحب التوابين ويحب
المتطهرين
(البقرة: 222) (1)
أشواق التوبة:
تتلخص النصائح الباعثة على التوبة والمشوقة إليها فيما يلي:
1 - أن يتذكر المذنب ما صورته الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة، من غوائل
الذنوب، ومآسيها المادية والروحية، في عاجل الحياة وآجلها، وما توعد الله عليها من
صنوف التأديب وألوان العقاب.
2 - أن يستعرض فضائل التوبة ومآثر التائبين، وما حباهم الله به من كريم العفو،
وجزيل الأجر، وسمو العناية واللطف، وقد مر ذلك في بداية هذا البحث.
وكفى بهاتين النصيحتين تشويقا إلى التوبة، وتحريضا عليها، ولا يرغب عنها إلا أحمق
بليد، أو ضعيف الايمان والبصيرة.



(1) البحار م 3 ص 103 عن الكافي.
262
محاسبة النفس ومراقبتها:
المحاسبة هي: محاسبة النفس كل يوم عما عملته من الطاعات والمبرات، أو اقترفته من
المعاصي والآثام، فان رجحت كفة الطاعات على المعاصي، والحسنات على السيئات، فعلى
المحاسب أن يشكر الله تعالى على ما وفقه إليه وشرفه به من جميل طاعته وشرف رضاه.
وان رجحت المعاصي، فعليه أن يؤدب نفسه بالتأنيب والتقريع على شذوذها وانحرافها عن
طاعة الله تعالى.
وأما المراقبة: فهي ضبط النفس وصيانتها عن الاخلال بالواجبات ومقارفة المحرمات.
وجدير بالعاقل المستنير بالايمان واليقين، أن يروض نفسه على المحاسبة والمراقبة
فإنها (أمارة بالسوء): متى أهملت زاغت عن الحق، وانجرفت في الآثام والشهوات،
وأودت بصاحبها في مهاوي الشقاء والهلاك، ومتى اخذت بالتوجيه والتهذيب، أشرقت
بالفضائل، وازدهرت بالمكارم، وسمت بصاحبها نحو السعادة والهناء، ونفس وما سواها،
فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها (الشمس: 7 - 10).

263
هذا إلى أن للمحاسبة، والمراقبة أهمية كبرى في تأهب المؤمن، واستعداده لمواجهة حساب
الآخرة، وأهواله الرهيبة، ومن ثم اهتمامه بالتزود من أعمال البر والخير الباعثة
على نجاته وسعادة مآبه.
لذلك طفقت النصوص تشوق، وتحرض على المحاسبة والمراقبة بأساليبها الحكيمة البليغة:
قال الإمام الصادق عليه السلام: إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئا الا أعطاه،
فلييأس من الناس كلهم، ولا يكون له رجاء الا من عند الله تعالى، فإذا علم الله
تعالى ذلك من قلبه لم يسأل شيئا إلا أعطاه، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا عليها،
فإن للقيامة خمسين موقفا كل موقف مقام ألف سنة، ثم تلا في يوم كان مقداره خمسين
ألف سنة (المعارج: 4) (1).
وقال الإمام موسى بن جعفر عليه السلام: ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن
عمل حسنة استزاد الله تعالى، وإن عمل سيئة استغفر الله تعالى منها وتاب إليه (2).
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله فقال
له: يا رسول الله أوصني.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: فهل أنت مستوص إن أنا أوصيتك؟ حتى قال له
ذلك ثلاثا، وفي كلها يقول له الرجل: نعم



(1) الوافي الجزء الثالث ص 62 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 62 عن الكافي.
264
يا رسول الله.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: فاني أوصيك، إذا أنت هممت بأمر فتدبر
عاقبته، فإن يك رشدا فأمضه، وإن يك غيا فانته عنه (1).
وقال الصادق عليه السلام لرجل: إنك قد جعلت طبيب نفسك، وبين لك الداء،
وعرفت آية الصحة، ودللت على الدواء، فانظر كيف قياسك على نفسك (2).
وعن موسى بن جعفر عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال:
قال أمير المؤمنين عليه السلام: إن رسول الله صلى الله عليه وآله بعث سرية، فلما
رجعوا قال: مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر.
قيل: يا رسول الله، وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس. ثم قال: أفضل الجهاد من
جاهد نفسه التي بين جنبيه (3).
دستور المحاسبة:
لقد ذكر المعنيون بدراسة الأخلاق دستور المحاسبة والمراقبة بأسلوب مفصل ربما يشق
على البعض تنفيذه، بيد أني أعرضه مجملا وميسرا في



(1) الوافي ج 3 ص 62 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 62 عن الكافي.
(3) البحار م 15 ج 2 ص 40 عن معاني الأخبار وأمالي الصدوق.
265
أمرين هامين:
1 - أول ما يجدر محاسبة النفس عليه أداء الفرائض التي أوجبها الله تعالى على
الناس، كالصلاة والصيام والحج والزكاة ونحوها من الفرائض، فإن أداها المرء على
الوجه المطلوب، شكر الله تعالى على ذلك ورجى نفسه فيما أعد الله للمطيعين من كرم
الثواب وجزيل الأجر.
وإن أغفلها وفرط في أدائها خوف نفسه بما توعد الله العصاة والمتمردين عن عباده
بالعقاب الأليم، وجد في قضائها وتلافيها.
2 - محاسبة النفس على اقتراف الآثام واجتراح المنكرات، وذلك: بزجرها زجرا قاسيا،
وتأنيبها على ما فرط من سيئاتها، ثم الاجتهاد بملافاة ذلك بالندم عليه والتوبة
الصادقة منه.
ولقد ضرب النبي صلى الله عليه وآله أرفع مثل لمحاسبة النفس، والتحذير من صغائر
الذنوب ومحقراتها:
قال الصادق عليه السلام: إن رسول الله نزل بأرض قرعاء، فقال لأصحابه: إئتونا
بحطب. فقالوا: يا رسول الله نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب. قال: فليأت كل إنسان
بما قدر عليه، فجاءوا به حتى رموا بين يديه بعضه على بعض، فقال رسول الله صلى
الله عليه وآله: هكذا تجتمع الذنوب.
ثم قال: إياكم والمحقرات من الذنوب، فإن لكل شئ طالبا، ألا وان طالبها يكتب:

266
ما قدموا وآثارهم وكل شئ أحصيناه في إمام مبين (ياسين: 12) (1).
وكان بعض الأولياء يحاسب نفسه بأسلوب يستثير الدهشة والاكبار:
من ذلك ما نقل عن توبة بن الصمة، وكان محاسبا لنفسه في أكثر أوقات ليله ونهاره،
فحسب يوما ما مضى من عمره، فإذا هو ستون سنة، فحسب أيامها فكانت إحدى وعشرين ألف
يوم وخمسمائة يوم، فقال: يا ويلتاه!!، ألقى مالكا بإحدى وعشرين ألف ذنب، ثم صعق
صعقة كانت فيها نفسه (2).
وما أحلى هذا البيت:
إذا المرء أعطى نفسه كل شهوة * ولم ينهها تاقت إلى كل باطل
اغتنام فرصة العمر:
لو وازن الانسان بين جميع متع الحياة ومباهجها، وبين عمره وحياته لوجد أن العمر
أغلى وأنفس منها جميعا، وأنه لا يعدله شئ من نفائس الحياة وأشواقها الكثر، إذ من
الممكن اكتسابها أو استرجاع ما نفر منها.
أما العمر فإنه الوقت المحدد الذي لا يستطيع الانسان إطالة أمده، وتمديد أجله
المقدر المحتوم ولكل أمة أجل، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون
(الأعراف: 34).



(1) الوافي ج 3 ص 168 عن الكافي.
(2) سفينة البحار ج 1 ص 488.
267
كما يستحيل استرداد ما تصرم من العمر، ولو بذل المرء في سبيل ذلك جميع مقتنيات
الحياة.
وحيث كان الانسان غفولا عن قيم العمر وجلالة قدره، فهو يسرف عابثا في تضييعه
وإبادته، غير آبه لما تصرم منه، ولا مغتنم فرصته السانحة.
من أجل ذلك جاءت توجيهات آل البيت عليهم السلام موضحة نفاسة العمر، وضرورة استغلاله
وصرفه فيما يوجب سعادة الانسان ورخائه في حياته العاجلة والآجلة.
قال سيد المرسلين صلى الله عليه وآله في وصيته لأبي ذر: يا أبا ذر، كن على عمرك
أشح منك على درهمك ودينارك (1).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: إنما الدنيا ثلاثة أيام: يوم مضى بما فيه فليس
بعائد، ويوم أنت فيه فحق عليك اغتنامه، ويوم لا تدري أنت من أهله، ولعلك راحل فيه.
أما اليوم الماضي فحكيم مؤدب، وأما اليوم الذي أنت فيه فصديق مودع، وأما غد
فإنما في يديك منه الأمل.
وقال عليه السلام: ما من يوم يمر على ابن آدم، إلا قال له ذلك اليوم: أنا يوم
جديد، وأنا عليك شهيد، فقل في خيرا، واعمل



(1) الوافي قسم المواعظ في وصية النبي (ص) لأبي ذر.
268
في خيرا، أشهد لك به يوم القيامة، فإنك لن تراني بعد هذا أبدا (1).
وروي أنه جاء رجل إلى علي بن الحسين عليهما السلام يشكو إليه حاله، فقال: مسكين
ابن آدم، له في كل يوم ثلاث مصائب لا يعتبر بواحدة منهن، ولو اعتبر لهانت عليه
المصائب وأمر الدنيا:
فأما المصيبة الأولى: فاليوم الذي ينقص من عمره. قال: وإن ناله نقصان في ماله اغتم
به، والدهر يخلف عنه والعمر لا يرده شئ.
والثانية: انه يستوفي رزقه، فان كان حلالا حوسب عليه، وان كان حراما عوقب.
قال: والثالثة أعظم من ذلك. قيل: وما هي؟ قال: ما من يوم يمسي إلا وقد دنا من
الآخرة مرحلة، لا يدري على جنة أم على نار.
وقال: أكبر ما يكون ابن آدم اليوم الذي يولد من أمه.
قالت الحكماء ما سبقه إلى هذا أحد (2).
وقال الصادق عليه السلام: اصبروا على طاعة الله، وتصبروا عن معصية الله، فإنما
الدنيا ساعة، فما مضى فلست تجد له سرورا ولا حزنا، وما لم يأت فلست تعرفه، فاصبر
على تلك الساعة التي أنت فيها فكأنك قد اغتبطت (3).
وقال الباقر عليه السلام: لا يغرنك الناس من نفسك،



(1) الوافي ج 3 ص 63 عن الفقيه.
(2) عن كتاب الاختصاص المنسوب للشيخ المفيد.
(3) الوافي ج 3 ص 63 عن الكافي.
269
فإن الأمر يصل إليك دونهم، ولا تقطع نهارك بكذا وكذا، فإن معك من يحفظ عليك عملك،
فأحسن فاني لم أر شيئا أحسن دركا، ولا أسرع طلبا، من حسنة محدثة لذنب قديم (1).
وعن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
بادر بأربع قبل أربع، بشبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وحياتك
قبل موتك (2).
وعن الباقر عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله قال: لا يزول قدم (قدما)
عبد يوم القيامة من بين يدي الله، حتى يسأله عن أربع خصال: عمرك فيما أفنيته،
وجسدك فيما أبليته، ومالك من أين اكتسبته وأين وضعته، وعن حبنا أهل البيت؟ (3).
وقال بعض الحكماء: إن الانسان مسافر، ومنازله ستة، وقد قطع منها ثلاثة وبقي ثلاثة:
فالتي قطعها: -
1 - من كتم العدم إلى صلب الأب وترائب الأم.
2 - رحم الأم.
3 - من الرحم إلى فضاء الدنيا.
وأما التي لم يقطعها: -



(1) الوافي ج 3 ص 62 عن الكافي.
(2) البحار م 15 ص 165 عن كتاب كمال الدين للصدوق.
(3) البحار م 7 ص 389 عن مجالس الشيخ المفيد.
270
فأولها القبر. وثانيها فضاء المحشر. وثالثها الجنة أو النار.
ونحن الآن في قطع مرحلة المنزل الثالث، ومدة قطعها مدة عمرنا، فأيامنا فراسخ،
وساعاتنا أميال، وأنفاسنا خطوات.
فكم من شخص بقي له فراسخ، وآخر بقي له أميال، وآخر بقي له خطوات.
وما أروع قول الشاعر:
دقات قلب المرء قائلة له * إن الحياة دقائق وثواني

271
العمل الصالح
لقد عرفت في البحث السالف نفاسة الوقت، وجلالة العمر، وأنه أعز ذخائر الحياة
وأنفسها.
وحيث كان الوقت كذلك، وجب على العاقل أن يستغله فيما يليق به، ويكافئه عزة ونفاسة
من الأعمال الصالحة، والغايات السامية، الموجبة لسعادته ورخائه المادي والروحي،
الدنيوي والأخروي، كما قال سيد المرسلين صلى الله عليه وآله: ليس ينبغي للعاقل أن
يكون شاخصا إلا في ثلاث: مرمة لمعاش، أو تزود لمعاد، أو لذة في غير محرم (1).
فهذه هي الأهداف السامية، والغايات الكريمة التي يجدر صرف العمر النفيس في طلبها
وتحقيقها.



(1) الوافي قسم المواعظ في وصية النبي (ص) لعلي (ع).
272
وحيث كان الانسان مدفوعا بغرائزه وأهدافه وأهوائه إلى كسب المعاش، ونيل المتع
واللذائذ المادية، والتهالك عليها، مما يصرفه ويلهيه عن الأعمال الصالحة، والتأهب
للحياة الآخرة، وتوفير موجبات السعادة والهناء فيها. لذلك جاءت الآيات والأخبار
مشوقة إلى الاهتمام بالآخرة، والتزود لها من العمل الصالح.
قال تعالى: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره (الزلزلة:
7 - 8).
وقال تعالى: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى، وهو مؤمن، فلنحيينه حياة طيبة،
ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون (النحل: 97).
وقال تعالي: ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، فأولئك يدخلون الجنة،
يرزقون فيها بغير حساب (غافر: 40).
وقال تعالى: من عمل صالحا فلنفسه، ومن أساء فعليها، ثم إلى ربكم ترجعون
(الجاثية: 15).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا أبا ذر، إنك في ممر الليل والنهار، في
آجال منقوصة، وأعمال محفوظة، والموت يأتي بغتة، ومن يزرع خيرا يوشك أن يحصد خيرا،
ومن يزرع شرا يوشك أن يحصد ندامة، ولكل زارع مثل ما زرع (1).
وقال قيس بن عاصم: وفدت مع جماعة من بني تميم إلى النبي صلى الله عليه وآله، فقلت:
يا نبي الله عظنا موعظة ننتفع بها، فإنا قوم
نعمر في البرية.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا قيس إن مع العز ذلا، وإن مع الحياة
موتا، وإن مع الدنيا آخرة، وإن لكل شئ حسيبا، وعلى كل شئ رقيبا، وإن لكل
حسنة ثوابا، ولكل سيئة عقابا، ولكل أجل كتابا. وإنه لا بد لك يا قيس من قرين
يدفن معك وهو حي، وتدفن معه وأنت ميت، فإن كان كريما أكرمك، وإن كان لئيما
أسلمك، ثم لا يحشر إلا معك، ولا تبعث إلا معه، ولا تسأل إلا عنه، فلا تجعله إلا
صالحا، فإنه إن صلح أنست به، وإن فسد لم تستوحش الا منه، وهو فعلك (1).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: إن العبد إذا كان في آخر يوم من أيام الدنيا،
وأول يوم من أيام الآخرة، مثل له، ماله، وولده، وعمله، فيلتفت إلى ماله، فيقول:
والله إني كنت عليك حريصا شحيحا فمالي عندك؟ فيقول: خذ مني كفنك.
قال: فيلتفت إلى ولده فيقول: والله إني كنت لكم محبا، وإني كنت عليكم محاميا،
فمالي عندكم؟ فيقولون: نؤديك إلى حفرتك فنواريك فيها
قال: فيلتفت إلى عمله فيقول: والله إني كنت فيك لزاهدا، وإنك كنت علي لثقيلا،
فمالي عندك؟ فيقول: أنا قرينك في قبرك، ويوم



(1) الوافي في موعظة رسول الله (ص) لأبي ذر.
(1) البحار م 15 ج 2 ص 163 عن معاني الأخبار والخصال وأمالي الصدوق.
273
نشرك، حتى أعرض أنا وأنت على ربك (1).
قال: فان كان لله وليا، أتاه أطيب الناس ريحا، وأحسنهم منظرا وأحسنهم رياشا،
فقال: أبشر بروح وريحان، وجنة نعيم، ومقدمك خير مقدم، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا
عملك الصالح، ارتحل من الدنيا إلى الجنة... (2).
وقال الصادق عليه السلام: إذا وضع الميت في قبره، مثل له شخص، فقال له: يا هذا،
كنا ثلاثة: كان رزقك فانقطع بانقطاع أجلك، وكان أهلك فخلوك وانصرفوا عنك، وكنت
عملك فبقيت معك أما إني كنت أهون الثلاثة عليك (3).
وعن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من
أحسن فيما بقي من عمره، لم يؤخذ بما مضى من ذنبه، ومن أساء فيما بقي من عمره أخذ
بالأول والآخر.
وقد أحسن الشاعر بقوله:
والناس همهم الحياة ولا أرى * طول الحياة يزيد غير خيال
وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد * ذخرا يدوم كصالح الأعمال



(1) الوافي ج 13 ص 92 عن الفقيه.
(2) الوافي ج 13 ص 92 عن الكافي.
(3) الوافي ج 13 ص 94 عن الكافي.
274
طاعة الله وتقواه:
الانسان عنصر أصيل من عناصر هذا الكون، ونمط مثالي رفيع بين أنماطه الكثر، بل هو
أجلها قدرا، وأرفعها شأنا، وذلك بما حباه الله عز وجل، وشرفه بصنوف الخصائص
والهبات التي ميزته على سائر الخلق ولقد كرمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر،
ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (الاسراء: 70).
وكان من أبرز مظاهر العناية الإلهية بالانسان، ودلائل تكريمه له: أن استخلفه في
الأرض، واصطفى من عيون نوعه وخاصتهم رسلا وأنبياء بعثهم إلى العباد بالشرائع
والمبادئ الموجبة لتنظيم حياتهم، وإسعادهم في عاجل الدنيا وآجل الآخرة.
ولكن أغلب البشر، وا أسفاه! تستعبدهم الأهواء والشهوات، وتطفي عليهم نوازع التنكر
والتمرد على النظم الإلهية، وتشريعها الهادف البناء، فيتيهون في مجاهل العصيان،
ويتعسفون طرق الغواية والضلال، ومن ثم يعانون ضروب الحيرة والقلق والشقاء، ولو أنهم
استجابوا لطاعة الله تعالى، وساروا على هدي نظمه ودساتيره، لسعدوا وفازوا فوزا
عظيما، ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا، لفتحنا عليهم بركات من

275
السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون.
أرأيت كيف انتظم الكون، واتسقت عناصره، واستتب نظامه ملايين الأجيال والأحقاب؟!
بخضوعه لله عز وجل، وسيره على مقتضيات دساتيره وقوانينه؟!
أرأيت كيف ازدهرت حياة الأحياء، واستقامت بجريها على وفق مشيئة الله تعالى، وحكمة
نظامه وتدبيره؟!!.
أرأيت كيف يطبق الناس وصايا وتعاليم مخترعي الأجهزة الميكانيكية ليضمنوا صيانتها
واستغلالها على أفضل وجه؟!
أرأيت كيف يخضع الناس لنصائح الأطباء، ويعانون مشقة العلاج ومرارة الحمية، توخيا
للبرء والشفاء؟!.
فلم لا يطيع الانسان خالقه العظيم، ومدبره الحكيم، الخبير بدخائله وأسراره،
ومنافعه ومضاره؟!.
إنه يستحيل على الانسان أن ينال ما يصبو إليه من سعادة وسلام، وطمأنينة ورخاء، إلا
بطاعة الله تعالى، وانتهاج شريعته وقوانينه.
أنظر كيف يشوق الله عز وجل، عباده إلى طاعته وتقواه، ويحذرهم مغبة التمرد
والعصيان، وهو الغني المطلق عنهم.
قال تعالى: ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما
(الأحزاب: 61)
وقال سبحانه: ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار، ومن يتول
يعذبه عذابا أليما (الفتح: 17).

276
وأما التقوى، فقد علق الله خير الدنيا والآخرة، وأناط بها أعز الأماني والآمال،
وإليك بعضها:
1 - المحبة من الله تعالى، فقال سبحانه: إن الله يحب المتقين (التوبة: 4).
2 - النجاة من الشدائد وتهيئة أسباب الارتزاق، فقال: ومن يتق الله يجعل له
مخرجا، ويرزقه من حيث لا يحتسب (الطلاق: 2 - 3).
3 - النصر والتأييد، قال تعالى: إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون
(النحل: 128).
4 - صلاح الأعمال وقبولها، فقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، وقولوا
قولا سديدا، يصلح لكم أعمالكم
(الأحزاب: 70 - 71)
وقال: إنما يتقبل الله من المتقين.
5 - البشارة عند الموت، قال تعالى: الذين آمنوا وكانوا يتقون، لهم البشرى في
الحياة الدنيا وفي الآخرة (يونس: 63 - 64).
6 - النجاة من النار، قال تعالى: ثم ننجي الذين اتقوا
(مريم: 72)
7 - الخلود في الجنة، قال تعالى: أعدت للمتقين
(آل عمران: 133)
فتجلى من هذا العرض، أن التقوى هي الكنز العظيم، الحاوي لصنوف الأماني والآمال
المادية والروحية، الدينية والدنيوية.

277
حقيقة الطاعة والتقوى:
والطاعة: هي الخضوع لله عز وجل، وامتثال أوامره ونواهيه.
والتقوى: من الوقاية، وهي صيانة النفس عما يضرها في الآخرة، وقصرها على ما ينفعها
فيها.
وهكذا تواترت أحاديث أهل البيت عليهم السلام حاثة ومرغبة على طاعة الله تعالى
وتقواه، ومحذرة من عصيانه ومخالفته.
قال الإمام الحسن الزكي عليه السلام في موعظته الشهيرة لجنادة: إعمل لدنياك كأنك
تعيش أبدا، وأعمل لآخرتك كأنك تموت غدا، وإذا أردت عزا بلا عشيرة، وهيبة بلا
سلطان، فاخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعة الله عز وجل.
وقال الصادق عليه السلام: إصبروا على طاعة الله، وتصبروا عن معصية الله، فإنما
الدنيا ساعة، فما مضى فلست تجد له سرورا ولا حزنا، وما لم يأت فلست تعرفه، فاصبر
على تلك الساعة التي أنت فيها، فكأنك قد اغتبطت (1).
وقال عليه السلام: إذا كان يوم القيامة يقوم عنق من الناس، فيأتون باب الجنة
فيضربونه، فيقال لهم: من أنتم؟ فيقولون: نحن أهل الصبر. فيقال لهم: على ما صبرتم؟
فيقولون: كنا نصبر على طاعة الله



(1) الوافي ج 3 ص 63 عن الكافي.
278
ونصبر عن معاصي الله. فيقول الله عز وجل: صدقوا، ادخلوهم الجنة، وهو قول الله عز
وجل: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب (الزمر: 10) (1).
وقال الباقر عليه السلام: إذا أردت أن تعلم أن فيك خيرا، فانظر إلى قلبك، فان كان
يحب أهل طاعة الله عز وجل ويبغض أهل معصيته ففيك خير، والله يحبك.
وإن كان يبغض أهل طاعة الله، ويحب أهل معصيته فليس فيك خير، والله يبغضك، والمرء
مع من أحب (2).
وقال عليه السلام: ما عرف الله من عصاه، وأنشد:
تعصي الاله وأنت تظهر حبه * هذا لعمرك في الفعال بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته * إن المحب لمن أحب مطيع
وعن الحسن بن موسى الوشا البغدادي قال: كنت بخراسان مع علي بن موسى الرضا عليه
السلام في مجلسه، وزيد بن موسى حاضر، وقد أقبل على جماعة في المجلس يفتخر عليهم
ويقول نحن ونحن، وأبو الحسن مقبل على قوم يحدثهم، فسمع مقالة زيد، فالتفت إليه.
فقال: يا زيد، أغرك قول بقالي الكوفة إن فاطمة أحصنت فرجها، فحرم الله ذريتها
على النار، والله ما ذلك إلا للحسن والحسين، وولد بطنها خاصة، فأما أن يكون موسى
بن جعفر يطيع الله، ويصوم نهاره، ويقوم ليله،



(1) البحار م 5 ص 2 ص 49 عن الكافي.
(2) البحار م 15 ج 1 ص 283 عن علل الشرائع والمحاسن للبرقي والكافي.
279
وتعصيه أنت، ثم تجيئان يوم القيامة سواء، لأنت أعز على الله منه! إن علي بن
الحسين كان يقول: لمحسننا كفلان من الأجر، ولمسيئنا ضعفان من العذاب.
قال الحسن بن الوشا: ثم التفت إلي وقال: يا حسن، كيف تقرأون هذه الآية؟ وقال يا
نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح (هود: 46).
فقلت: من الناس من يقرأ عمل غير صالح ومنهم من يقرأ عمل غير صالح نفاه عن
أبيه.
فقال عليه السلام: كلا لقد كان ابنه، ولكن لما عصى الله عز وجل، نفاه الله عن
أبيه، كذا من كان منا ولم يطع الله فليس منا، وأنت إذا أطعت الله فأنت منا أهل
البيت (1).
وعن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله على الصفا،
فقال: يا بني هاشم، يا بني عبد المطلب، إني رسول الله إليكم، وإني شفيق عليكم، وإن
لي عملي، ولكل رجل منكم عمله، لا تقولوا إن محمدا منا وسندخل مدخله، فلا والله ما
أوليائي منكم ولا من غيركم، يا بني عبد المطلب إلا المتقون، ألا فلا أعرفكم يوم
القيامة تأتون تحملون الدنيا على ظهوركم، ويأتي الناس يحملون الآخرة، ألا إني قد
أعذرت إليكم فيما بيني وبينكم، وفيما بيني وبين الله تعالى فيكم (2).
وعن جابر قال: قال الباقر عليه السلام: يا جابر أيكتفي من انتحل



(1) البحار عن معاني الأخبار وعيون أخبار الرضا عليه السلام.
(2) الوافي ج 3 ص 60 عن الكافي.
280
التشيع، أن يقول بحبنا أهل البيت؟! فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه -
إلى أن قال: فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة،
أحب العباد إلى الله تعالى وأكرمهم عليه أتقاهم، وأعملهم بطاعته.
يا جابر، والله ما يتقرب إلى الله إلا بالطاعة، ما معنى براءة من النار، ولا على
الله لأحد من حجة، من كان لله مطيعا فهو لنا ولي، ومن كان لله عاصيا فهو لنا
عدو، وما تنال ولايتنا إلا بالعمل والورع (1).
وعن المفضل بن عمر قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فذكرنا الأعمال، فقلت
أنا: ما أضعف عملي. فقال: مه؟! إستغفر الله. ثم قال: إن قليل العمل مع التقوى خير
من كثير بلا تقوى. قلت: كيف يكون كثير بلا تقوى؟ قال: نعم، مثل الرجل يطعم طعامه،
ويرفق جيرانه، ويوطئ رحله، فإذا ارتفع له الباب من الحرام دخل فيه، فهذا العمل بلا
تقوى. ويكون الآخر ليس عنده شئ، فإذا ارتفع له الباب من الحرام لم يدخل فيه (2).
قال الشاعر:
ليس من يقطع طريقا بطلا * إنما من يتق الله البطل
فاتق الله فتقوى الله ما * جاورت قلب امرئ إلا وصل



(1) الوفي ج 3 ص 60 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 61 عن الكافي.
281
الثبات على المبدأ
للنظم والمبادئ أهمية كبرى، وأثر بالغ في حياة الأمم والشعوب، فهي مصدر الاشعاع
والتوجيه في الأمة، ومظهر رقيها أو تخلفها، وكلما سمت مبادئ الأمة، ونظمها
الاصلاحية، كان ذلك برهانا على تحضرها وازدهارها.
وكلما هزلت وسخفت المبادئ، كان دليلا على جهل ذويها وتخلفهم
وخير المبادئ وأشرفها هو: ما ينظم حياة الانسان فردا ومجتمعا، ويصون حريته
وكرامته، ويحقق أمنه ورخاءه، ويوفر له وسائل السعادة والسلام في مجالي الدين
والدنيا.
وبديهي أن المبادئ مهما سمت، وزخرت بجلائل المزايا والخلال، فإنها لا تحقق أماني
الأمة وآماله، ولا تفئ عليها بالخير المأمور، إلا إذا اعتنقتها وحرصت على حمايتها
وتنفيذها في مختلف مجالات الحياة، وإلا كانت عديمة الجدوى والنفع.
لذلك كان الثبات على المبدأ الحق من أقدس واجبات الأمة وفروضها الحتمية، فهو الذي
يرفع معنوياتها، ويعزز قيمتها، ويحقق أهدافها وأمانيها.
ولم تعرف البشرية في تاريخها المديد، أكمل وأفضل من المبادئ

282
الاسلامية الحائزة على جميع الخصائص والفضائل التي أهلتها للخلود، وبوأتها قمة
الشرائع والمبادئ.
فهي المبادئ الوحيدة التي تلائم الفطر السليمة، وتؤلف بين القيم المادية
والروحية، وتكفل لمعتنقيها سعادة الدين والدنيا.
ناهيك في جلالتها إنها استطاعت أن تحقق في أقل من ربع قرن من فتوحات الايمان،
ومعاجز الاصلاح، ما عجزت عن تحقيقه سائر الشرائع والمبادئ.
وأنشأت من الأمة العربية المتخلفة في جاهليتها خير أمة أخرجت للناس، حضارة ومجدا
وعلما وأخلاقا.
وما ساد المسلمون الأولون وانفردوا بحضارتهم وزعامتهم العلمية، الا بثباتهم على
مبادئهم الخالدة، وتفانيهم في حمايتها ونصرتها.
وما فجع المسلمون اليوم، وانتابتهم النكسات المتتالية، إلا باغفال مبادئهم،
وانحرافهم عنها.
أنظر كيف يمجد القرآن الكريم المسلمين الثابتين على مبادئهم الرفيعة، المستمسكين
بقيم الايمان ومثله العليا: إن الذين قالوا: ربنا الله، ثم استقاموا تتنزل عليهم
الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون، نحن أوليائكم في
الحياة الدنيا والآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون، نزلا من
غفور رحيم (فضلت: 31 - 32)
ولقد كان الرسول الأعظم وأهل بيته الطاهرون، المثل الأعلى في الثبات على المبدأ
وحمايته والتضحية في سبيله، بأعز النفوس والأرواح.

283
كان صلى الله عليه وآله كلما اكفهرت في وجهه أعاصير المحن، وتألبت عليه قوى الكفر
والطغيان إزداد صمودا ومضيا على نشر رسالته، ضاربا في سبيل ذلك أرفع الأمثال
لو وضعت الشمس في يميني، والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله، أو
أهلك في طلبه.
وبهذا الصمود والشموخ انهارت قوى الشرك، واستسلمت صاغرة للنبي صلى الله عليه وآله.
وكان أمير المؤمنين علي عليه السلام على سر رسول الله صلى الله عليه وآله،
ومثاليته في الثبات على المبدأ والاعتصام به، عرضت عليه الخلافة مشروطة بكتاب
الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين، فأبى معتدا بمبدئه السامي، ورأيه الأصيل قائلا
بل على كتاب الله، وسنة رسوله، واجتهاد رأيي.
وألح عليه نفر من خاصته ومواليه أن يستميل من أغوتهم زخارف الأطماع فسئموا عدل
الامام ومساواته، واستهواهم إغراء معاوية ونواله الرخيص يا أمير المؤمنين، إعط هذه
الأموال، وفضل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم، ومن تخاف عليه من
الناس فراره إلى معاوية.
فقال عليه السلام لهم وهو يعرب عن ثباته، وتمسكه بدستور الاسلام، وترفعه عن الوسائل
الاستغلالية الآثمة: أتأمروني أن أطلب النصر بالجور؟! لا والله ما أفعل ما طلعت
شمس ولاح في السماء نجم، والله لو كان مالهم لي لواسيت بينهم، وكيف وانما هي
أموالهم.

284
وهكذا سرت مثالية الإمام عليه السلام إلى الصفوة المختارة من أصحابه وحواريه،
فكانوا نماذج فذة، وأنماطا فريدة في الثبات على المبدأ والتمسك بالحق، والذود
عنه، رغم معاناتها ضروب الارهاب والتنكيل.
وقد ازدانت أسفار السير بطرائف أمجادهم، وطيب ذكراهم، مما خلدت مآثرهم عبر القرون
والأجيال، واليك طرفا منها:
قال الحجاج بن يوسف الثقفي ذات يوم: أحب أن أصيب رجلا من أصحاب أبي تراب فأتقرب
إلى الله بدمه. فقيل له: ما نعلم أحدا كان أطول صحبة لأبي تراب من قنبر مولاه.
فبعث في طلبه فأتي به، فقال له: أنت قنبر؟ قال: نعم. قال: أبو همدان. قال: نعم.
قال: مولى علي بن أبي طالب. قال: الله مولاي وأمير المؤمنين علي ولي نعمتي.
قال: إبرأ من دينه، قال: فإذا برئت من دينه تدلني على دين غيره أفضل منه. قال: إني
قاتلك، فاختر أي قتلة أحب إليك. قال: صيرت ذلك إليك. قال: ولم؟ قال: لأنك لا
تقتلني قتلة إلا قتلتك مثلها، وقد أخبرني أمير المؤمنين أن منيتي تكون ذبحا،
ظلما بغير حق.
قال: فأمر به فذبح (1).
وروي أن معاوية أرسل إلى أبي الأسود الدئلي هدية منها حلواء. يريد بذلك استمالته
وصرفه عن حب علي بن أبي طالب، فدخلت ابنة صغيرة له فأخذت لقمة من تلك الحلواء
وجعلتها في فمها، فقال لها أبو



(1) البحار م 9 ص 630.
285
الأسود: يا بنتي ألقيه فإنه سم، هذه حلواء أرسلها إلينا معاوية ليخدعنا عن أمير
المؤمنين عليه السلام، ويردنا عن محبة أهل البيت. فقالت الصبية: قبحه الله،
يخدعنا عن السيد المطهر بالشهد المزعفر! تبا لمرسله وآكله، فعالجت نفسها حتى قاءت
ما أكلتها، ثم قالت:
أبالشهد المزعفر يا بن هند * نبيع عليك أحسابا (اسلاما - خ ل) ودينا
معاذ الله كيف يكون هذا * ومولانا أمير المؤمنينا (1)
وكان رشيد الهجري من خواص أصحاب أمير المؤمنين، أتي به إلى زياد لعنه الله.
فقال زياد: ما قال لك خليلك أنا فاعلون بك؟ قال: تقطعون يدي ورجلي وتصلبونني.
فقال زياد: أما والله لأكذبن حديثه، خلوا سبيله. فلما أراد ان يخرج، قال: ردوه
لا نجد لك شيئا أصلح مما قال صاحبك، إنك لن تزال تبغي سوءا إن بقيت، اقطعوا يديه
ورجليه وهو يتكلم، وقال: إصلبوه خنقا في عنقه (2).
ولنستمع إلى كلمات أصحاب الإمام الخالدة، والمعربة عن شدة حبهم للإمام عليه السلام،
وثباتهم على موالاته، وتفانيهم في سبيله:
فهذا عمرو بن الحمق يخاطب أمير المؤمنين عليه السلام فيقول: والله يا أمير
المؤمنين، إني ما أجبتك ولا بايعتك على قرابة بيني وبينك،



(1) سفينة البحار ج 1 ص 669.
(2) سفينة البحار ج 1 ص 522.
286
ولا إرادة مال تؤتينه، ولا إرادة سلطان ترفع به ذكري، ولكني أجبتك بخصال خمس:
إنك ابن عم رسول الله، وأول من آمن به، وزوج سيدة نساء الأمة فاطمة بنت محمد،
ووصيه، وأبو الذرية التي بقيت فينا من رسول الله، وأسبق الناس إلى الاسلام، وأعظم
المهاجرين سهما في الجهاد.
فلو أني كلفت نقل الجبال الراوسي، ونزح البحور الطوامي، حتى يؤتى علي في أمر أقوى
به وليك، وأهين به عدوك، ما رأيت أني قد أديت فيه كل الذي يحق علي من حقك.
فقال علي عليه السلام: اللهم نور قلبه بالتقى، واهده إلى صراطك المستقيم، ليت أن
في جندي مائة مثلك، فقال حجر: إذا والله يا أمير المؤمنين صح جندك، وقل فيهم من
يغشك (1).
وروي أن أمير المؤمنين قال لحجر بن عدي الطائي: كيف بك إذا دعيت إلى البراءة
مني، فما عساك أن تقول؟ فقال: والله يا أمير المؤمنين لو قطعت بالسيف إربا
إربا، وأضرمت لي النار وألقيت فيها لآثرت ذلك على البراءة منك. فقال: وفقت لكل
خير يا حجر، جزاك الله خيرا عن أهل بيت نبيك (2).
وقال هاشم المرقال وكان على ميسرة أمير المؤمنين بصفين: والله ما أحب أن لي ما
على الأرض مما أقلت، وما تحت السماء مما أظلت،



(1) البحار م 8 ص 475.
(2) سفينة البحار ج 1 ص 226.
287
وإني واليت عدوا لك أو عاديت وليا لك.
فقال له أمير المؤمنين: اللهم ارزقه الشهادة في سبيلك والمرافقة لنبيك (1).
وروي أن أسودا دخل على علي عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين إني سرقت فطهرني.
فقال: لعلك سرقت من غير حرز ونحى رأسه عنه. فقال: يا أمير المؤمنين، سرقت من حرز
فطهرني. فقال عليه السلام: لعلك سرقت غير نصاب، ونحى رأسه عنه. فقال: يا أمير
المؤمنين سرقت نصابا، فلما أقر ثلاث مرات قطعه أمير المؤمنين، فذهب وجعل يقول في
الطريق: قطعني أمير المؤمنين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، ويعسوب الدين،
وسيد الوصيين، وجعل يمدحه. فسمع ذلك منه الحسن والحسين وقد استقبلا فدخلا على أمير
المؤمنين عليه السلام وقالا: رأينا أسودا يمدحك في الطريق، فبعث أمير المؤمنين
عليه السلام من أعاده إلى عنده، فقال عليه السلام: قطعتك وأنت تمدحني. فقال: يا
أمير المؤمنين إنك طهرتني، وإن حبك قد خالط لحمي وعظمي، فلو قطعتني إربا إربا
لما ذهب حبك من قلبي. فدعا له أمير المؤمنين عليه السلام، ووضع المقطوع إلى موضعه
فصح وصلح كما كان (2).
ولقد سما الحسين عليه السلام وأهل بيته الطاهرون وأصحابه الأكرمون



(1) سفينة البحار ج 2 ص 716.
(2) البحار م 9 ص 557.
288
إلى أوج رفيع، تنحط دونه الهمم والآمال في الثبات على المبدأ والتمسك بالحق، رغم
حراجة الموقف، ومعاناة أفدح الخطوب والأهوال.
وقف الحسين عليه السلام يوم عاشوراء، وقد أحاط به ثلاثون ألف مقاتل، يبغون إذلاله
وقتله، فصرخ في وجوههم صرخته المدوية، وأعلن عن إبائه وشموخه بكلماته الخالدة
المجلجلة في مسمع الدهر، والتي لا تزال دستورا حيا يقدسه الأباة والأحرار:
ألا وإن الدعي ابن الدعي، قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منا
الذلة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية، ونفوس
أبية، من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام.
ويؤكد الحسين عليه السلام ثباته على المبدأ مؤثرا في سبيله القتل والفداء على
الحياة الخانعة الذليلة والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار
العبيد.
إني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما.
وهكذا اقتفى أصحاب الحسين عليهم السلام نهجه ومثاليته في الصمود والثبات على
المبدأ، ومفاداته بأعز النفوس والأرواح. خطبهم الحسين عليه السلام خطبة ملؤها
الحب والاعجاب والاشفاق:
أما بعد فإني لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي، ولا أهل بيت أبر ولا
أوصل ولا أفضل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني خيرا، ألا وإني لأظن يوما لنا من
هؤلاء الأعداء، ألا وإني قد أذنت لكم

289
فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم مني ذمام، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا، ثم
ليأخذ كل رجل منكم يد رجل من أهل بيتي، ثم تفرقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج
الله، فإن القوم إنما يطلبوني، ولو قد أصابوني للهوا عن طلب غيري.
فقام إليه مسلم بن عوسجة فقال: أنحن نخلي عنك!! ولما نعذر إلى الله في أداء حقك،
أما والله حتى أطعن في صدورهم برمحي، وأضربهم بسيفي، ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم
يكن معي سلاح أقاتلهم به، لقذفتهم بالحجارة، والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا
قد حفظنا عيبة رسول الله صلى الله عليه وآله فيك. والله لو علمت أني أقتل، ثم
أحيى، ثم أقتل، ثم أحرق، ثم أذرى، ثم يفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك، حتى ألقى
حمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة العظمى التي لا
انقضاء لها أبدا.
وقام إليه زهير بن القين فقال: والله لوددت أني قتلت، ثم انتشرت، ثم قتلت، حتى
أقتل هكذا ألف مرة، وأن الله جل وعز يدفع بذلك القتل عن نفسك ونفوس هؤلاء
الفتيان من أهل بيتك.
وتكلم جماعة أصحابه بكلام يشبه بعضه بعضا، فقالوا: والله لا نفارقك، ولكن أنفسنا
لك الفداء، نقيك بنحورنا وجباهنا وأيدينا، فإذا نحن قتلنا كنا وفينا وقضينا ما
علينا (1).



(1) عن نفس المهموم للمرحوم الحجة الشيخ عباس القمي ص 121 بتصرف بسيط.
290
وهكذا طفق أصحاب الحسين عليه السلام يعربون عن ثباتهم وتفانيهم في ولائه ونصرته
والذب عنه، بأروع مفاهيم البطولة والفداء.
وما أحوج المسلمين اليوم أن يستلهموا جهاد أولئك العظماء الأفذاذ، ويقتفوا آثارهم،
في التمسك بالدين، والثبات على المبدأ، والتفاني في نصرة الحق، ليستردوا مجدهم
الضائع، وعزهم السليب، وينقذوا أنفسهم من هوان الهزائم الفاضحة والنكسات المتتالية
، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

291
القسم الثاني - في الحقوق والواجبات

293
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:
الحق أوسع الأشياء في التواصف، وأضيقها في التناصف، لا يجري لأحد إلا جرى عليه،
ولا يجري عليه إلا جرى له، ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصا
لله سبحانه دون خلقه، لقدرته على عباده، ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه.
ولكن جعل حقه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليها مضاعفة الثواب تفضلا منه،
وتوسعا بما هو من المزيد أهله. ثم جعل سبحانه من حقوقه حقا افترضها لبعض الناس
على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها، ويوجب بعضها بعضا، ولا يستوجب بعضها إلا ببعض.

294
تمهيد

295
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد:
فان الانسان مدني بالطبع، لا يستغني عن أبناء جنسه، ولا يستطيع اعتزالهم والتخلف عن
مسايرة ركبهم، فإنه متى انفرد عنهم أحسن بالوحشة والغربة، واستشعر الوهن والخذلان،
ازاء طوارئ الأقدار وملمات الحياة، وعجز عن تحقيق ما يصبو إليه من أماني وآمال، لا
يتسنى له تحقيقها الا بالتضامن والتآزر الاجتماعيين.
فهو فرع من دوحة أسرية وشجت على الآباء، وتفرعت عن الأبناء، فالأعمام والأخوال،
وامتدت أغصانها حتى انتضمت سائر الأقرباء والأرحام.
وهو عنصر من عناصر المجتمع، ولبنة في كيانه، تتجاذبه أواصر شتى وصلات مختلفة: من
العقيدة، والصداقة، والثقافة، والمهنة، وغيرها من الصلات الكثر.

296
وهذا الترابط الاجتماعي، أو المجتمع المترابط، لابد له من دستور ينظم حياته، ويوثق
أواصره، ويحقق العدل الاجتماعي في ظلاله، بما يرسمه من حقوق وواجبات، فردية
واجتماعية، تضمن صالح المجتمع، وتصون حقوقه وحرماته المقدسة.
وبذلك يغدو المجتمع زاهرا، سعيدا بالوئام والسلام، والخير والجمال. وباغفال ذلك
يغدو المجتمع بائسا شقيا، تسوده الفوضى، ويشيع فيه التسيب، وتنخر في كيانه عوامل
التخلف والانهيار.
وقد حوت الشريعة الاسلامية - فيما حوته من ضروب المعجزات الاصلاحية - انها جاءت
بدستور أخلاقي هادف بناء، ينظم حياة الفرد وحياة المجتمع أفضل وأكمل تنظيم، بما
يرسم له من حقوق وآداب اجتماعية في مختلف الحقول والمجالات، ما يحقق للمسلمين
مفاهيم السلام والرخاء، ويكفل إسعادهم أدبيا وماديا.
من أجل ذلك كان لزاما على المسلم أن يستلهم ذلك الدستور، ويعرف ماله وعليه من
الواجبات والحقوق، ويعنى بتطبيقه والسير على هداه، ليكون مثلا رفيعا في جمال
السيرة وحسن السلوك، ورعاية حقوق من ينتسب إليهم، ويرتبط بهم من صنوف الروابط
والصلات الاجتماعية، وليحقق بذلك ما يهفو إليه من توقير وحب وثناء.
وهذا ما حداني إلى وضع هذا الكتاب، الذي خططته ورسمت مفاهيمه على ضوء القرآن
الكريم، وأخلاق أهل البيت عليهم السلام ووصاياهم الحكيمة الجليلة. وعرضت فيه طائفة
من أهم الحقوق، وأبلغها أثرا في حياة الفرد

297
والمجتمع، مبتدئا فيه بحقوق الله على العباد، فحقوق رسوله الأعظم صلى الله عليه
وآله، فحقوق الأئمة المعصومين من آله عليهم السلام. ثم استعرضت الحقوق واحدا إثر
آخر، متدرجا من حقوق العلماء إلى حقوق الأساتذة والطلاب، فالوالدين والأولاد،
والزوجية والرحمية، إلى الحقوق الاجتماعية الأخرى التي يجدها المطالع في حقول
الكتاب.
وأملي أن يجد فيه المؤمنون رائد خير، وداعية صلاح، ومنار هداية. وان يحظى بشرف قبول
الله تعالى، وجميل رضوانه، وواسع لطفه ورحمته إنه قريب مجيب.

298
الحقوق الإلهية
تتفاوت الحقوق بتفاوت أربابها، وقيم عطفهم وفضلهم على المحسنين إليهم.
فللصديق حق معلوم، ولكنه دون حق الشقيق البار العطوف، الذي جمع بين آصرة القربى
وجمال اللطف والحنان.
وحق الشقيق دون حق الوالدين، لجلالة فضلهما على الولد وتفوقه على كل فضل.
وبهذا التقييم ندرك عظمة الحقوق الإلهية، وتفوقها على سائر الحقوق، فهو المنعم
الأعظم الذي خلق الانسان، وحباه من صنوف النعم والمواهب ما يعجز عن وصفه وتعداده،
ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض، وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة
وباطنة (لقمان: 20).
وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها (إبراهيم: 34).
فكيف يستطيع الانسان حد تلك الحقوق وعرضها، والاضطلاع بواجب شكرها، إلا بعون الله
تعالى وتوفيقه.
فلا مناص من الإشارة إلى بعضها والتلويح عن واجباتها، وهي بعد احراز الايمان
بالله، والاعتقاد بوحدانيته، واتصافه بجميع صفات الكمال وتنزيهه عما لا يليق بجلال
ألوهيته.

299
1 - العبادة:
قال علي بن الحسين عليه السلام: فأما حق الله الأكبر فإنك تعبده، لا تشرك به
شيئا، فإذا فعلت ذلك باخلاص، جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة، ويحفظ
لك ما تحب منها (1).
والعبادة لغة، هي: غاية التذلل والخضوع، لذلك لا يستحقها الا المنعم الأعظم الذي له
غاية الافضال والانعام، وهو الله عز وجل.
واصطلاحا هي: المواظبة على فعل المأمور به.
وناهيك في عظمة العبادة وجليل آثارها وخصائصها في حياة البشر: ان الله عز وجل
جعلها الغاية الكبرى من خلقهم وإيجادهم، حيث قال: وما خلقت الجن والإنس إلا
ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون، إن الله هو الرزاق ذو القوة
المتين (الذاريات: 56 - 58).
وبديهي ان الله تعالى غني عن العالمين، لا تنفعه طاعة المطيعين وعبادتهم، ولا تضره
معصية العصاة وتمردهم، وإنما فرض عبادته على الناس لينتفعوا بخصائصها وآثارها
العظيمة، الموجبة لتكاملهم واسعادهم.
فمن خصائص العبادة: أنها من أقوى الأسباب والبواعث على تركيز العقيدة ورسوخ الايمان
في المؤمن، لتذكيرها بالله عز وجل ورجاء ثوابه، والخوف من عقابه، وتذكيرها بالرسول
الأعظم، فلا ينساه ولا ينحرف عنه.



(1) رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين عليه السلام.
300
فإذا ما أغفل المؤمن عبادة ربه نساه، وتلاشت في نفسه قيم الايمان ومفاهيمه، وغدا
عرضة للإغواء والضلال. فالعقيدة هي الدوحة الباسقة التي يستظل المسلمون في ظلالها
الوارفة الندية، والعبادة هي التي تصونها وتمدها بعوامل النمو والازهار.
والعبادة بعد هذا من أكبر العوامل على التعديل والموازنة، بين القوى المادية
والروحية، التي تتجاذب الانسان وتصطرع في نفسه ولا تتسنى له السعادة والهناء إلا
بتعادلها. ذلك، أن طغيان القوى المادية واستفحالها يسترق الانسان بزخرفها وسلطانها
الخادع، وتجعله ميالا إلى الأثرة والأنانية، واقتراف الشرور والآثام، في تحقيق
أطماعه المادية.
فلا مناص - والحالة هذه - من تخفيف جماح المادة والحد من ضراوتها، وذلك عن طريق
تعزيز الجانب الروحي في الانسان، وإمداده بطاقات روحية، تعصمه من الشرور وتوجهه
وجهة الخير والصلاح. وهذا ما تحققه العبادة باشعاعاتها الروحية، وتذكيرها المتواصل
بالله تعالى، والدأب على طاعته وطلب رضاه.
والعبادة بعد هذا وذاك: اختبار للمؤمن واستجلاء لأبعاد إيمانه. فالايمان سر قلبي
مكنون، لا يتبين إلا بما يتعاطاه المؤمن من ضروب الشعائر والعبادات، الكاشف عن مبلغ
إيمانه وطاعته لله تعالى.
وحيث كانت العبادة تتطلب عناءا وجهدا، كان أداؤها والحفاظ عليها دليلا على قوة
الايمان ورسوخه، واغفالها دليلا على ضعفه وتسيبه.
فالصلاة.. كبيرة إلا على الخاشعين. والصيام.. كف النفس عن لذائذ الطعام والشراب
والجنس. والحج.. يتطلب البذل والمعاناة

301
في أداء مناسكه. والزكاة.. منح المال الذي تعتز به النفس وتحرص عليه. والجهاد: هو
الاقدام على التضحية والفداء في سبيل الواجب، وكلها أمور شاقة على النفس.
من أجل ذلك كان أداء العبادة والقيام بها برهانا ساطعا على إيمان صاحبها وطاعته
لله عز وجل.
2 - الطاعة:
وهي الخضوع لله عز وجل وامتثال جميع أوامره ونواهيه.
ولا ريب أنها من أشرف المزايا، وأجل الخلال الباعثة على سعادة المطيع وفوزه بشرف
الدنيا والآخرة، كما نوهت بها الآيات الكريمة والأخبار الشريفة:
قال تعالى: ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما (الأحزاب: 71).
وقال سبحانه ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار، ومن يتول
يعذبه عذابا أليما (الفتح: 17).
وقال الإمام الحسن الزكي عليه السلام: وإذا أردت عزا بلا عشيرة، وهيبة بلا سلطان،
فاخرج من ذل معصية الله إلى عز طاعة الله عز وجل.
وقال الصادق عليه السلام: اصبروا على طاعة الله، وتصبروا عن

302
معصية الله، فإنما الدنيا ساعة، فما مضى فلست تجد له سرورا ولا حزنا، وما لم يأت
فلست تعرفه، فاصبر على تلك الساعة التي أنت فيها فكأنك قد اغتبطت (1).
3 - الشكر:
وهو: عرفان نعمة المنعم، وشكره عليها، واستعمالها في مرضاته.
والشكر خلة مثالية يقدسها العقل والشرع، ويحتمها الضمير والوجدان، ازاء المحسنين من
الناس. فكيف بالمنعم الأعظم الذي لا تحصى نعماؤه، ولا تعد آلاؤه؟.
من أجل ذلك حثت الشريعة على التحلي به، في نصوص عديدة من الآيات والروايات.
قال تعالى: وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم، ولئن كفرتم إن عذابي لشديد
(إبراهيم: 7).
وقال الصادق عليه السلام: من أعطي الشكر أعطي الزيادة، يقول الله عز وجل (لئن
شكرتم لأزيدنكم) (2).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: الطاعم الشاكر، له من الأجر كأجر الصائم
المحتسب. والمعافى الشاكر، له من الأجر كأجر



(1) الوافي، ج 2 ص 63، عن الكافي.
(2) الوافي، ج 2 ص 67، عن الكافي.
303
المبتلى الصابر. والمعطى الشاكر، له من الأجر كأجر المحروم القانع (1).
4 - التوكل:
وهو: الاعتماد على الله عز وجل في جميع الأمور، وتفويضها إليه، والإعراض عما سواه.
والتوكل، هو من أجل خصائص المؤمنين ومزاياهم المشرفة، الموجبة لعزتهم وسمو كرامتهم
وارتياح ضمائرهم، بترفعهم عن الاتكال والاستعانة بالمخلوقين، ولجوئهم وتوكلهم على
الخلاق العظيم القدير في كسب المنافع ودرء المضار.
لذلك تواترت الآيات والآثار في تمجيد هذا الخلق، والتشويق إليه.
قال تعالى: إن ينصركم الله فلا غالب لكم، وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده،
وعلى الله فليتوكل المؤمنون (آل عمران: 16).
وقال تعالى: ومن يتوكل على الله فهو حسبه (الطلاق: 3).
وقال الصادق عليه السلام: إن الغنى والعز يجولان، فإذا ظفرا بموضع التوكل
أوطنا (2).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام في وصيته للحسن عليه السلام: والجئ نفسك في الأمور
كلها إلى إلهك، فإنك تلجئها إلى كهف حريز، ومانع عزيز (3).



(1) الوافي ج 3 ص 67 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 56 عن الكافي.
(3) نهج البلاغة (ومن شاء التوسع في الأبحاث الثلاثة، الطاعة والشكر والتوكل،
فليرجع إلى القسم الأول من هذا الكتاب).
304
حقوق النبي صلى الله عليه وآله
كان نبينا الأعظم محمد صلى الله عليه وآله، المثل الأعلى في سائر نواحي الكمال،
اصطفاه الله من الخلق واختاره من العباد، وحباه بأرفع الخصائص والمواهب التي حبا
بها الأنبياء عليهم السلام، وجمع فيه ما تفرق فيهم من صنوف العظمات والأمجاد ما
جعله سيدهم وخاتمهم.
وناهيك في عظمته أنه استطاع بجهوده الجبارة ومبادئه الخالدة، أن يحقق في أقل من ربع
قرن من الانتصارات الروحية والمكاسب الدينية، ما لم يستطع تحقيقه سائر الأنبياء
والشرائع في أكثر من قرون.
جاء بأكمل الشرائع الإلهية، وأشدها ملائمة لأطوار الحياة، وأكثرها تكفلا باسعاد
الانسان ماديا وروحيا، دينا ودنيا، فأخرج الناس من ظلمة الكفر إلى نور الاسلام،
ومن شقاء الجاهلية إلى السعادة الأبدية. وجعل أمته أكمل الأمم دينا، وأوفرهم
علما، وأسماهم أدبا وأخلاقا، وأرفعهم حضارة ومجدا.
وقد عانى في سبيل ذلك من ضروب الشدائد والأهوال، ما لم يعانه أي نبي.
من أجل ذلك، فان القلم عاجز عن تعداد أياديه، وحصر حقوقه

305
على المسلمين سيما في هذه الرسالة الوجيزة. فلا بد من الإشارة إليها والتلويح عنها.
وهي، بعد الايمان بنبوته، وتصديقه فيما جاء به من عند الله عز وجل، والاعتقاد بأنه
سيد الرسل، وخاتم الأنبياء:
1 - طاعته:
وطاعة النبي فرض محتم على الناس، كطاعة الله تعالى، إذ هو سفيره إلى العباد،
وأمينه على الوحي، ومنار هدايته الوضاء.
وواقع الطاعة هو: اتباع شرعته، وتطبيق مبادئه الخالدة، التي ما سعد المسلمون ونالوا
آمالهم وأمانيهم، الا بالتمسك بها والحفاظ عليها. وما تخلفوا واستكانوا الا
باغفالها والانحراف عنها.
أنظر كيف يحرض القرآن الكريم على طاعة النبي صلى الله عليه وآله، ويحذر مغبة
عصيانه ومخالفته، حيث قال:
وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا، واتقوا الله إن الله شديد
العقاب (الحشر: 7).
وقال تعالى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا، أن يكون لهم
الخيرة من أمرهم. ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا (الأحزاب: 36.
وقال سبحانه: ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من

306
تحتها الأنهار خالدين فيها، وذلك الفوز العظيم. ومن يعص الله ورسوله، ويتعد حدوده
يدخله نارا خالدا فيها، وله عذاب مهين (النساء: 13 - 14).
وقال عز وجل: إن الذين يحادون الله ورسوله، أولئك في الأذلين. كتب الله لأغلبن
أنا ورسلي، إن الله قوي عزيز (المجادلة: 20 - 21).
2 - محبته:
تختلف دواعي الحب والإعجاب باختلاف نزعات المحبين وميولهم، فمن الناس من يحب الجمال
ويقدسه، ومنهم من يحب البطولة والأبطال ويمجدهم، ومنهم من يحب الأريحية ويشيد
بأربابها.
وقد اجتمع في النبي الأعظم صلى الله عليه وآله كل ما يفرض المحبة ويدعو إلى
الاعجاب، حيث كان نموذجا فذا، ونمطا فريدا بين الناس. لخص الله فيه آيات
الجمال والكمال، وأودع فيه أسرار الجاذبية، فلا يملك المرء أزائه الا الحب والاجلال،
وهذا ما تشهد به شخصيته المثالية، وتأريخه المجيد.
قال أمير المؤمنين عليه السلام وهو يصف شمائل رسول الله صلى الله عليه وآله:
كان نبي الله أبيض اللون، مشربا حمرة، أدعج العين، سبط الشعر، كث اللحية، ذا
وفرة، دقيق المسربة، كأنما عنقه إبريق فضة يجري في تراقيه الذهب، له شعر من لبته
إلى سرته كقضيب خيط، وليس في بطنه ولا صدره شعر غيره، شثن الكفين والقدمين، إذا مشى

307
كأنه ينقلع من صخر، إذا أقبل كأنما ينحدر من صب، إذا التفت التفت جميعا بأجمعه،
ليس بالقصير ولا بالطويل، كأنما عرقه في وجهه اللؤلؤ، عرقه أطيب من المسك (1).
وقال عليه السلام وهو يصف أخلاق الرسول صلى الله عليه وآله:
كان أجود الناس كفا، وأجرأ الناس صدرا، وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهم
عريكة، وأكرمهم عشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه فعرفه أحبه، لم أر مثله قبله
ولا بعده (2).
ولأجل تلك الشمائل والمآثر، أحبه الناس على اختلاف ميولهم في الحب: أحبه الأبطال
لبطولته الفذة التي لا يجاريه فيها بطل مغوار، وأحبه الكرام إذ كان المثل الأعلى في
الأريحية والسخاء، وأحبه العباد لتولهه في العبادة وفنائه في ذات الله، وأحبه
أصحابه المخلصون لمثاليته الفذة في الخلق والخلق.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه
وآله، فقال: يا رسول الله ما أستطيع فراقك، واني لأدخل منزلي فأذكرك، فأترك ضيعتي
وأقبل حتى أنظر إليك حبا لك، فذكرت إذا كان يوم القيامة، وأدخلت الجنة، فرفعت في
أعلى عليين، فكيف لي بك يا نبي الله؟، فنزل: ومن يطع الله والرسول، فأولئك مع
الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك



(1) البحار م 6 في أوصاف خلقه وشمائله.
(2) سفينة البحار م 2 ص 414.
308
رفيقا (النساء: 69)، فدعا النبي صلى الله عليه وآله الرجل فقرأها عليه وبشره
بذلك (1).
وقال أنس: جاء رجل من أهل البادية، وكان يعجبنا ان يأتي الرجل من أهل البادية يسأل
النبي صلى الله عليه وآله، فقال: يا رسول الله متى قيام الساعة؟
فحضرت الصلاة، فلما قضى صلاته، قال: أين السائل عن الساعة؟
قال: أنا يا رسول الله. قال: فما أعددت لها؟
قال: والله ما أعددت لها من كثير عمل صلاة ولا صوم، الا اني أحب الله ورسوله.
فقال له النبي صلى الله عليه وآله: المرء من أحب.
قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بعد الاسلام بشئ أشد من فرحهم بهذا (2).
وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: كان رجل يبيع الزيت، وكان يحب رسول الله صلي
الله عليه وآله حبا شديدا، كان إذا أراد أن يذهب في حاجة لم يمض حتى ينظر إلى
رسول الله صلى الله عليه وآله، قد عرف ذلك منه، فإذا جاء تطاول له حتى ينظر إليه.
حتى إذا كان ذات يوم، دخل فتطاول له رسول الله صلى الله عليه وآله حتى نظر إليه
ثم مضى في حاجته، فلم يكن بأسرع من أن رجع، فلما رآه رسول الله



(1) البحار م 6 في باب وجوب طاعته وحبه.
(2) البحار م 6، باب وجوب طاعته وحبه، عن علل الشرائع.
309
صلى الله عليه وآله قد فعل ذلك، أشار إليه بيده إجلس، فجلس بين يديه، فقال: مالك
فعلت اليوم شيئا لم تكن تفعله قبل؟
فقال: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق نبيا، لغشى قلبي شئ من ذكرك حتى ما استطعت
ان أمضي في حاجتي، رجعت إليك. فدعا له وقال له خيرا.
ثم مكث رسول الله صلى الله عليه وآله أياما لا يراه، فلما فقده سأل عنه، فقيل
له: يا رسول الله ما رأيناه منذ أيام. فانتعل رسول الله صلى الله عليه وآله
وانتعل معه أصحابه، فانطلق حتى أتى سوق الزيت، فإذا دكان الرجل ليس فيه أحد، فسأل
عنه جيرته، فقالوا: يا رسول الله، مات... ولقد كان عندنا أمينا صدوقا، الا انه
قد كان فيه خصلة، قال: وما هي؟ قالوا: كان يزهق (يعنون، يتبع النساء). فقال رسول
الله صلى الله عليه وآله: لقد كان يحبني حبا، لو كان بخاسا لغفر الله له (1).
3 - الصلاة عليه:
قال تعالى: إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه
وسلموا تسليما (الأحزاب: 56).



(1) الوافي ج 3، ص 143 - 144. الزهق: غشيان المحارم. والبخس: النقص في المكيال
والميزان.
310
درج الناس على إجلال العظماء وتوقيرهم بما يستحقونه من صور الاجلال والتوقير،
تكريما لهم وتقديرا لجهودهم ومساعيهم في سبيل أممهم.
ومن هنا كان السلام الجمهوري والتحية العسكرية فرضا على الجنود، تبجيلا لقادتهم
وإظهارا لاخلاصهم لهم.
فلا غرابة أن يكون من حقوق النبي صلى الله عليه وآله على أمته - وهو سيد الخلق
وأشرفهم جميعا - تعظيمه والصلاة عليه، عند ذكر اسمه المبارك أو سماعه، وغيرهما من
مواطن الدعاء.
وقد أعربت الآية الكريمة عن بالغ تكريم الله تعالى وملائكته للنبي صلى الله عليه
وآله ان الله وملائكته يصلون على النبي، ثم وجهت الخطاب إلى المؤمنين بضرورة
تعظيمه والصلاة والسلام عليه يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما.
وجاءت نصوص أهل البيت عليهم السلام توضح خصائص ورغبات الصلاة عليه، بأسلوب شيق
جذاب.
فمن ذلك ما جاء عن ابن أبي حمزة عن أبيه، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن
قول الله عز وجل (إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين امنوا صلوا
عليه وسلموا تسليما). فقال: الصلاة من الله عز وجل رحمة، ومن الملائكة تزكية، ومن
الناس دعاء. وأما قوله عز وجل (وسلموا تسليما)، فإنه يعني بالتسليم له فيما ورد
عنه. قال: فقلت له: فكيف نصلي على محمد وآله؟
قال: تقولون صلوات الله وصلوات ملائكته وأنبيائه ورسله وجميع

311
خلقه على محمد وآل محمد، والسلام عليه وعليهم ورحمة الله وبركاته.
قال: فقلت فما ثواب من صلى على النبي وآله بهذه الصلاة؟
قال: الخروج من الذنوب، والله، كهيئة يوم ولدته أمه (1).
وقال الصادق عليه السلام: من صلى على محمد وآل محمد عشرا صلى الله عليه وملائكته
مائة مرة، ومن صلى على محمد وآل محمد مائة صلى الله عليه وملائكته ألفا، أما تسمع
قول الله تعالى هو الذي يصلي عليكم وملائكته، ليخرجكم من الظلمات إلى النور، وكان
بالمؤمنين رحيما (2) (الأحزاب: 43).
وقال الصادق عليه السلام: كل دعاء يدعى الله تعالى به، محجوب عن السماء حتى يصلى
على محمد وآل محمد (3).
وعن أحدهما عليهما السلام قال: ما في الميزان شئ أثقل من الصلاة على محمد وآل
محمد، وإن الرجل ليوضع أعماله في الميزان فيميل به، فيخرج صلى الله عليه وآله
الصلاة عليه فيضعها في ميزانه، فيرجح به (4).
وقال الرضا عليه السلام: من لم يقدر على ما يكفر به ذنوبه، فليكثر من الصلاة على
محمد وآله، فإنها تهدم الذنوب هدما (5).



(1) البحار م 19، ص 78، عن معاني الأخبار للصدوق (ره).
(2) الوافي ج 5، ص 228، عن الكافي.
(3) الوافي ج 5، ص 227، عن الكافي.
(4) الوافي ج 5، ص 228، عن الكافي.
(5) البحار م 19، ص 76، عن عيون أخبار الرضا وأمالي الشيخ الصدوق (ره).
312
وجاء في الصواعق (ص 87)، قال: ويروى لا تصلوا علي الصلاة البتراء. فقالوا: وما
الصلاة البتراء؟ قال: تقولون اللهم صل على محمد وتمسكون. بل قولوا: اللهم صل على
محمد وآل محمد (1).
مودة أهل بيته الطاهرين:
الذين فرض الله مودتهم في كتابه، وجعلها أجر الرسالة، وحقا مفروضا من حقوق النبي
صلى الله عليه وآله، فقال تعالى: قل لا أسئلكم عليه أجرا الا المودة في القربى،
ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا، إن الله غفور شكور (الشورى: 23).
وقد اتصف أهل البيت عليهم السلام بجميع دواعي الاعجاب والاكبار، وبواعث الحب
والولاء، كما وصفهم الشاعر:
من معشر حبهم دين وبغضهم * كفر وقربهم منجى ومعتصم
إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم * أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
نعم هم صفوة الخلق، وحجج العباد، وسفن النجاة، وخير من أقلته الأرض وأظلته السماء
- بعد جدهم الأعظم صلى الله عليه وآله - حسبا ونسبا وفضائل وأمجادا.
وكيف يرتضي الوجدان السليم محبة النبي صلى الله عليه وآله دون أهل بيته الطاهرين،
الجديرين بأصدق مفاهيم الحب والود، إنها ولا ريب



(1) فضائل الخمسة، من الصحاح الستة.
313
محبة زائفة تنم عن نفاق ولؤم، كما جاء عن عبد الله بن مسعود قال: كنا مع النبي
صلى الله عليه وآله في بعض أسفاره، إذ هتف بنا أعرابي بصوت جمهور، فقال: يا محمد.
فقال له النبي صلى الله عليه وآله: ما تشاء؟ فقال: المرء يحب القوم ولا يعمل
بأعمالهم. فقال النبي صلى الله عليه وآله: المرء مع من أحب. فقال: يا محمد، اعرض
علي الاسلام. فقال: إشهد ان لا إله الا الله، واني رسول الله، وتقيم الصلاة،
وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتحج البيت.
فقال: يا محمد، تأخذ على هذا أجرأ؟ فقال: لا، إلا المودة في القربى. قال: قرباي أو
قرباك؟ فقال: بل قرباي. قال: هلم يدك حتى أبايعك، لا خير فيمن يودك ولا يود
قرباك (1).
وقد أجمع الامامية أن المراد بالقربى في الآية الكريمة، هم الأئمة الطاهرون من أهل
البيت عليهم السلام، ووافقهم على ذلك ثلة من أعلام غيرهم من المفسرين والمحدثين،
كأحمد بن حنبل، والطبراني، والحاكم عن ابن عباس. كما نص عليه ابن حجر، في الفصل
الأول من الباب الحادي عشر من صواعقه، قال: لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول
الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال صلى الله عليه وآله: علي
وفاطمة وابناهما (2).



(1) البحار م 7، ص 389، عن مجالس الشيخ المفيد (ره).
(2) انظر الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء، للامام شرف الدين (ره) ص 18.
314
انظر، كيف يحرض النبي صلى الله عليه وآله أمته على مودة قرباه وأهل بيته، كما
يحدثنا به رواة الفريقين:
فمما ورد من طرقنا:
عن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من
أحبنا أهل البيت فليحمد الله على أول النعم. قيل: وما أول النعم؟ قال: طيب
الولادة، ولا يحبنا إلا من طابت ولادته (1).
وعن أبي جعفر الباقر عن أبيه عن جده عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وآله: حبي وحب أهل بيتي نافع في سبعة مواطن، أهوالهن عظيمة: عند الوفاة، وفي
القبر، وعند النشور، وعند الكتاب، وعند الحساب، وعند الميزان، وعند الصراط (2).
وعن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لو أن عبدا
عبد الله الف عام، ثم يذبح كما يذبح الكبش، ثم أتى الله ببغضنا أهل البيت، لرد
الله عليه عمله (3).
وعن الباقر عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله قال: لا تزول قدم (قدما خ ل)
عبد يوم القيامة من بين يدي الله، حتى يسأله عن أربع خصال: عمرك فيما أفنيته،
وجسدك فيما أبليته، ومالك من أين



(1) البحار م 7، ص 389، عن علل الشرائع ومعاني الأخبار وأمالي الصدوق (ره).
(2) البحار م 7، ص 391، عن الخصال.
(3) البحار م 7، ص 397، عن محاسن البرقي.
315
اكتسبته وأين وضعته، وعن حبنا أهل البيت (1).
وعن الحكم بن عتيبة، قال: بينا أنا مع أبي جعفر عليه السلام، والبيت غاص بأهله، إذ
أقبل شيخ يتوكأ على عنزة له، حتى وقف على باب البيت فقال: السلام عليك يا بن رسول
الله ورحمة الله وبركاته، ثم سكت. فقال أبو جعفر: وعليك السلام ورحمة الله
وبركاته. ثم أقبل الشيخ بوجهه على أهل البيت وقال: السلام عليكم، ثم سكت، حتى أجابه
القوم جميعا وردوا عليه السلام. ثم أقبل بوجهه على أبي جعفر عليه السلام، ثم قال:
يا بن رسول الله أدنني منك، جعلني الله فداك، فوالله اني لأحبكم وأحب من يحبكم،
ووالله ما أحبكم وما أحب من يحبكم لطمع في دنيا. واني لأبغض عدوكم وأبرأ منه،
ووالله ما أبغضه وأبرأ منه لوتر كان بيني وبينه. والله اني لأحل حلالكم، وأحرم
حرامكم، وأنتظر أمركم. فهل ترجو لي، جعلني الله فداك؟!
فقال أبو جعفر عليه السلام: إلي... إلي، حتى أقعده إلى جنبه. ثم قال: أيها الشيخ،
إن أبي علي بن الحسين عليه السلام، أتاه رجل فسأله عن مثل الذي سألتني عنه، فقال له
أبي: إن تمت ترد على رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي والحسن والحسين وعلي بن
الحسين عليهم السلام، ويثلج قلبك، ويبرد فؤادك، وتقر عينيك، وتستقبل بالروح
والريحان مع الكرام الكاتبين لو قد بلغت نفسك هاهنا - وأهوى بيده إلى حلقه - وان
تعش تر ما يقر الله به عينك، وتكون معنا في السنام



(1) البحار م 7، ص 389، عن مجالس الشيخ المفيد.
316
الأعلى - الخ (1).
ومما جاء من طرق إخواننا:
وأخرج ابن حنبل والترمذي، كما في الصواعق ص 91: انه صلى الله عليه وآله أخذ بيد
الحسنين وقال: من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة (2).
وأخرج الثعلبي في تفسيره الكبير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ألا من
مات على حب آل محمد مات شهيدا، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفورا له، الا
ومن مات على حب آل محمد مات تائبا، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل
الايمان، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير، ألا
ومات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها، ألا ومن مات على
حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله
قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة. ألا
ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله -
الحديث (3).
وأورد ابن حجر ص 103 من صواعقه حديثا، هذا نصه:



(1) الوافي ج 3، ص 139، عن الكافي.
(2) الفصول المهمة للامام شرف الدين، ص 41.
(3) الفصول المهمة للامام شرف الدين، ص 42.
317
إن النبي خرج على أصحابه ذات يوم، ووجهه مشرق كدائرة القمر. فسأله عبد الرحمن بن
عوف عن ذلك، فقال صلى الله عليه وآله: بشارة أتتني من ربي في أخي وابن عمي وابنتي،
بأن زوج عليا من فاطمة، وأمر رضوان خازن الجنان فهز شجرة طوبى، فحملت رقاقا
(يعني صكاكا) بعدد محبي أهل بيتي، وأنشأ تحتها ملائكة من نور، دفع إلى كل ملك
صكا، فإذا استوت القيامة بأهلها نادت الملائكة في الخلائق، فلا يبقى محب لأهل
البيت الا دفعت إليه صكا فيه فكاكه من النار، فصار أخي وابن عمي وابنتي فكاك رقاب
رجال ونساء من أمتي من النار (1).
وجاء في مستدرك الصحيحين ج 3، 127، عن ابن عباس قال: نظر النبي صلى الله عليه وآله
إلى علي عليه السلام فقال: يا علي، أنت سيد في الدنيا وسيد في الآخرة، حبيبك حبيبي،
وحبيبي حبيب الله، وعدوك عدوي، وعدوي عدو الله، والويل لمن أبغضك بعدي (2).
وأخرج الحافظ الطبري، في كتاب الولاية، باسناده عن علي عليه السلام انه قال: لا
يحبني ثلاثة: ولد زنا، ومنافق، ورجل حملت به أمه في بعض حيضها (3).
وأخرج الطبراني في الأوسط، والسيوطي في إحياء الميت، وابن حجر في صواعقه في باب
الحث على حبهم:



(1) الفصول المهمة، للامام شرف الدين، ص 43.
(2) فضائل الخمسة، من الصحاح الستة ج 1، ص 200.
(3) الغدير ج 4، ص 322.
318
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إلزموا مودتنا أهل البيت، فإنه من لقي الله
وهو يودنا دخل الجنة بشفاعتنا، والذي نفسي بيده لا ينفع عبدا عمله إلا بمعرفة
حقنا (1) إلى كثير من النصوص التي يطول عرضها في هذا المختصر.
ولا ريب أن المراد بأهل البيت عليهم السلام، هم الأئمة الاثنا عشر المعصومون صلوات
الله عليهم، دون سواهم، لأن هذه الخصائص الجليلة، والمزايا الفذة، لا يستحقها إلا
حجج الله تعالى على العباد، وخلفاء رسوله الميامين.



(1) المراجعات، للامام شرف الدين، ص 22.
319
حقوق الأئمة الطاهرين عليهم السلام
فضلهم:
لقد حاز الأئمة الطاهرون من أهل البيت عليهم السلام السبق في ميادين الفضل والكمال،
ونالوا الشرف الأرفع في الأحساب والأنساب. فهم آل رسول الله وأبناؤه، نشأوا في
ربوع الوصي، وترعرعوا في كنف الرسالة، واستلهموا حقائق الاسلام ومبادئه عن جدهم
الأعظم، فكانوا ورثه علمه، وخزان حكمته، وحماة شريعته الغراء، وخلفاءه الميامين.
وقد جاهدوا في نصرة الدين وحماية المسلمين، جهادا منقطع النظير، وفدوا أنفسهم في
سبيل الله تعالى، حتى استشهدوا في سبيل العقيدة والمبدأ، لا تأخذهم في الله لومة
لائم، ولا تخدعهم زخارف الحياة.
وكم لهم من أياد وحقوق على المسلمين، ينوء القلم بشرحها وتعدادها. بيد أني أشير
إليها إشارة خاطفة، وهي:
1 - معرفتهم:
كما جاء في الحديث المتواتر بين الفريقين، وفي الصحاح المعتبرة، قوله صلى الله
عليه وآله:

320
من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية (1).
الامام هو خليفة النبي صلى الله عليه وآله، وممثله في أمته، يبلغها عنه أحكام
الشريعة، ويسعى جاهدا في تنظيم حياتها، وتوفير سعادتها، وإعلاء مجدها. وحيث كان
الامام كذلك، وجب على كل مسلم معرفته، كما صرح بذلك الحديث الشريف، ليكون على بصيرة
من عقيدته وشريعته، وليسير على ضوء توجيهه وهداه.
فإذا أغفل المسلم معرفة إمامه، ولم يستهد به، وهو الدليل المخلص، والرائد الأمين،
ضل عن نهج الاسلام وواقعه، ومات كافرا منافقا.
وقد اشعر الحديث بضرورة وجود الامام ووجوب معرفته مدى الحياة، لأن إضافة الامام إلى
الزمان تستلزم استمرارية الإمامة، وتجددها عبر الأزمنة والعصور.
وهكذا توالت الأحاديث النبوية، المتواترة بين الفريقين، والمؤكدة على ضرورة معرفة
الأئمة الطاهرين، والاهتداء بهم، كقوله صلى الله عليه وآله: في كل خلف من أمتي
عدول من أهل بيتي، ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين، وانتحال المبطلين، وتأويل
الجاهلين. ألا وإن أئمتكم وفدكم إلى الله، فانظروا من توفدون (2).
وقال صلى الله عليه وآله (كما جاء في صحيح مسلم):



(1) انظر مصادر الحديث ورواته في الغدير، للحجة الأميني ج 10 ص 359 - 360.
(2) المراجعات، ص 21.
321
لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة، ويكون عليهم اثنا عشر خليفة، كلهم من
قريش.
وهذا الحديث شاهد على وجود الإمامة حتى قيام الساعة، وقصرها على الأئمة الاثني عشر
من أهل البيت عليهم السلام، دون غيرهم من ملوك الأمويين والعباسيين لزيادتهم عن هذا
العدد.
2 - موالاتهم:
معرفة الامام لا تجدي نفعا، ولا تحقق الأماني والآمال المعقودة عليه، الا إذا
اقترنت بولائه، والسير على هداه. ومتى تجردت المعرفة من ذلك غدت هزيلة جوفاء.
ذلك أن الامام هو خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله، وحامل لواء الاسلام، ورائد
المسلمين نحو المثل الاسلامية العليا، يبين لهم حقائق الشريعة، ويجلو أحكامها،
ويصونها من كيد الملحدين ودسهم، ويعمل جاهدا في حماية المسلمين، ونصرهم، واسعادهم
ماديا وروحيا، دينا ودينا.
من أجل ذلك كان التخلف عن موالاة الامام والاهتداء به، مدعاة للزيغ والضلال،
والانحراف عن خط الاسلام ونهجه المرسوم. كما نوه النبي صلى الله عليه وآله عن ذلك،
وأوضح للمسلمين أن الهدى والفوز في ولاء الأئمة الطاهرين من أهل البيت عليهم
السلام، وأن الضلال والشقاء في مجافاتهم ومخالفتهم.

322
قال صلى الله عليه وآله: إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا
ومن تخلف عنها غرق (1).
وقال صلى الله عليه وآله: إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب
الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علي
الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما (2).
وقد أوضح أمير المؤمنين عليه السلام معنى العترة:
فعن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: سئل أمير المؤمنين عليه السلام عن معنى قول
رسول الله صلى الله عليه وآله إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي من
العترة؟
فقال: أنا والحسن والحسين والأئمة التسعة من ولد الحسين، تاسعهم مهديهم وقائمهم، لا
يفارقون كتاب الله ولا يفارقهم، حتى يردا على رسول الله صلى الله عليه وآله
حوضه (3).
وهذا الحديث يدل بوضوح أن القرآن الكريم والعترة النبوية الطاهرة، صنوان مقترنان
مدى الدهر، لا ينفك أحدهما عن قرينه، وأنه كما يجب أن يكون القرآن دستورا للمسلمين
وحجة عليهم، كذلك وجب أن يكون في كل عصر امام من أهل البيت عليهم السلام يتولى
إمامة المسلمين، ويوجههم وجهة الخير والصلاح.



(1) المراجعات، ص 17.
(2) المراجعات ص 14.
(3) سفينة البحار، عن معاني الأخبار وعيون اخبار الرضا عليه السلام.
323
وقال صلى الله عليه وآله: من أحب أن يحيى حياتي، ويموت ميتتي، ويدخل الجنة التي
وعدني ربي وهي جنة الخلد، فليتول عليا وذريته من بعده، فإنهم لن يخرجوكم من باب
هدى، ولن يدخلوكم باب ضلالة (1).
إلى كثير من الأحاديث النبوية المحرضة على موالاة أهل البيت عليهم السلام والاقتداء
بهم.
3 - طاعتهم:
قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم،
فان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والى الرسول، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم
الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا (النساء: 59).
ولقد أوجب الله تعالى على المسلمين في الآية الكريمة طاعة الأئمة من آل محمد
بصفتهم خلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله، وأمراء المسلمين، وقادة الفكر
الاسلامي، ليستضيئوا بهداهم، وينتفعوا بتوجيههم الهادف البناء، ولا ينحرفوا عن واقع
الاسلام، ونهجه الأصيل.
فرض طاعتهم، كما فرض طاعته وطاعة رسوله، سواء بسواء. وهذا ما يشعر بخلافتهم الحقة
عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وعصمتهم من الآثام لأن الطاعة المطلقة لا
يستحقها إلا الامام المعصوم، الذي فرض الله طاعته على العباد.



(1) المراجعات ص 156.
324
فمن الخطأ الكبير تأويل أولي الأمر وحملها على سائر أمراء المسلمين، لمخالفة
الكثيرين منهم لله تعالى ورسوله، وانحرافهم عن خط الاسلام.
يحدثنا زرارة، وهو من أجل المحدثين والرواة، عن فضل موالاة الأئمة من أهل البيت
عليهم السلام، وضرورة طاعتهم، عن أبي جعفر عليه السلام، قال بني الاسلام على خمسة
أشياء: على الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والولاية قال زرارة: فقلت وأي شئ من
ذلك أفضل؟ قال: الولاية، لأنها مفتاحهن، والوالي هو الدليل عليهن..
إلى أن قال: ثم قال عليه السلام: ذروة الأمر، وسنامه، ومفتاحه، وباب الأشياء، ورضا
الرحمن.... الطاعة للامام، بعد معرفته. إن الله عز وجل يقول:
من يطع الرسول فقد أطاع الله، ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا (النساء: 80).
أما لو أن رجلا قام ليله، وصام نهاره، وتصدق بجميع ماله، وحج دهره، ولم يعرف ولاية
ولي الله فيواليه، ويكون جميع أعماله بدلالته إليه، ما كان له على الله حق في
ثواب، ولا كان من أهل الايمان الخبر (1).
وقال الصادق عليه السلام: وصل الله طاعة ولي أمره.. بطاعة رسوله، وطاعة رسوله...
بطاعته، فمن ترك طاعة ولاة الأمر لم يطع



(1) سفينة البحار ج 2، ص 691 نقل بتصرف.
325
الله ولا رسوله (1).
4 - أداء حقهم من الخمس:
قال تعالى: واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى
والمساكين وابن السبيل (الأنفال: 41).
وهذا الحق فرض محتم على المسلمين، شرعه الله عز وجل لأهل البيت عليهم السلام ومن
يمت إليهم بشرف القربى والنسب.
وهو حق طبيعي يفرضه العقل والوجدان، كما يفرضه الشرع. فقد درجت الدول على تكريم
موظفيها والعاملين في حقولها، فتمنحهم راتبا تقاعديا يتقاضوه عند كبر سنهم،
ويورثونه لأبنائهم، وذلك تقديرا لجهودهم في صالح أممهم وشعوبهم.
وقد فرض الله الخمس لآل محمد وذراريهم، تكريما للنبي صلى الله عليه وآله،
وتقديرا لجهاده الجبار، وتضحياته الغالية، في سبيل أمته، وتنزيها لآله عن الصدقة
والزكاة.
وقد أوضح أمير المؤمنين عليه السلام مفهوم ذي القربى، فقال: نحن والله الذين عنى
الله بذي القربى، الذين قرنهم الله بنفسه ونبيه، فقال ما أفاء الله على رسوله
من أهل القرى، فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين (الحشر: 7) منا خاصة،
لأنه لم يجعل لنا سهما



(1) سفينة البحار ج 2، ص 691.
326
في الصدقة، وأكرم الله نبيه، وأكرمنا أن يطعمنا أوساخ ما في أيدي الناس (1).
وعن أبي بصير قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: أصلحك الله، ما أيسر ما يدخل به
العبد النار؟ قال: من اكل مال اليتيم درهما، ونحن اليتيم (2)
وقد دار الجدال والنقاش بين الامامية وغيرهم، حول مفهوم الغنيمة، أهي مختصة بغنائم
الحرب، أم عامة لجميع الفوائد والمنافع؟ وتحقيق ذلك يخرج هذا الكتاب عن موضوعه
الأخلاقي، ومرجعه المصادر الفقهية.
5 - الاحسان إلى ذريتهم:
من دلائل مودة الأئمة الطاهرين عليهم السلام، ومقتضيات ولائهم، والوفاء لهم...
رعاية ذراريهم، والبر بهم، والاحسان إليهم. وهم جديرون بذلك، لشرف انتمائهم إلى
رسول الله صلى الله عليه وآله، وانحدارهم من سلالة أبنائه المعصومين عليهم
السلام.
وقد أعرب النبي صلى الله عليه وآله عن اغتباطه وحبه لمبجليهم ومكرميهم، كما أوضح
استنكاره وسخطه على مؤذيهم والمسيئين إليهم.
فعن الرضا عن آبائه عن علي عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
أربعة أنا لهم شفيع يوم القيامة: المكرم لذريتي من



(1) الوافي ج 6، ص 38، عن الكافي.
(2) البحار م 20، ص 48، عن كمال الدين للصدوق، وتفسير العياشي.
327
بعدي، والقاضي لهم حوائجهم، والساعي لهم في أموالهم عند اضطرارهم، والمحب لهم بقلبه
ولسانه (1).
وعن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا
قمت المقام المحمود، تشفعت في أصحاب الكبائر من أمتي، فيشفعني الله فيهم. والله
لا تشفعت فيمن آذى ذريتي (2).
6 - مدحهم ونشر فضلهم:
طبع النبلاء على تقدير العظماء والمجلين في ميادين الفضائل والمكرمات، فيطرونهم
بما يستحقونه من المدح والثناء، تكريما لهم وتخليدا لمآثرهم.
وحيث كان الأئمة الطاهرون أرفع الناس حسبا ونسبا، وأجمعهم للفضائل، وأسبقهم في
ميادين المآثر والأمجاد، استحقوا من مواليهم ومحبيهم أن يعربوا عما ينطوون عليه من
عواطف الحب والولاء، وبواعث الإعجاب والإكبار، وذلك بمدحهم، ونشر فضائلهم، والإشادة
بمآثرهم الخالدة، تكريما لهم، وتقديرا لجهادهم الجبار، وتضحياتهم الغالية في
خدمة الاسلام والمسلمين.
وناهيك في فضلهم أنهم كانوا غياث المسلمين، وملاذهم في كل خطب، لا يألون جهدا في
إنقاذهم، وتحريرهم من سطوة الطغاة والجائرين،



(1) البحار م 20، ص 57، عن عيون أخبار الرضا عليه السلام.
(2) البحار م 20، ص 57، عن أمالي الصدوق.
328
وإمدادهم بأسمى مفاهيم العزة والكرامة، ما وسعهم ذلك حتى استشهدوا في سبيل تلك
الغاية السامية.
والناس أزاء أهل البيت، فريقان:
فريق حاقد مبغض، ينكر فضائلهم ومثلهم الرفيعة، ويتعامى عنها، رغم جمالها واشراقها،
فهو كما قال الشاعر:
ومن يك ذا فم مر مريض * يجد مرا به الماء الزلالا
وفريق واله بحبهم وولائهم، شغوف بمناقبهم، طروب لسماعها، ويلهج بترديدها والتنويه
عنها، وان عانى في سبيل ذلك ضروب الشدائد والأهوال. وهذا ما أشار إليه أمير
المؤمنين عليه السلام بقوله:
لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببت الدنيا
بجماتها على المنافق على أن يحبني ما أحبني، وذلك أنه قضى فانقضى على لسان النبي
الأمي صلى الله عليه وآله، انه قال: يا علي لا يبغضك مؤمن، ولا يحبك منافق.
من أجل ذلك كان العارفون بفضائلهم، والمتمسكون بولائهم، يتبارون في مدحهم، ونشر
مناقبهم، معربين عن حبهم الصادق وولائهم الأصيل، دونما طلب جزاء ونوال.
وكان الأئمة عليهم السلام، يستقبلون مادحيهم بكل حفاوة وترحاب، شاكرين لهم عواطفهم
الفياضة، وأناشيدهم العذبة، ويكافؤنهم عليها بما وسعت يداهم من البر والنوال،
والدعاء لهم بالغفران، وجزيل الأجر والثواب.

329
فقد جاء في (خزانة الأدب): حكى صاعد مولى الكميت، قال: دخلت مع الكميت على علي بن
الحسين عليه السلام فقال: إني قد مدحتك بما أرجو أن يكون لي وسيلة عند رسول الله
صلى الله عليه وآله، ثم أنشده قصيدته التي أولها:
من لقلب متيم مستهام * غير ما صبوة ولا أحلام
فلما أتى على آخرها، قال له: ثوابك نعجز عنه، ولكن ما عجزنا عنه فان الله لا يعجز
عن مكافأتك، اللهم اغفر للكميت. ثم قسط له على نفسه وعلى أهله أربعمائة ألف درهم،
وقال له: خذ يا أبا المستهل. فقال له: لو وصلتني بدانق لكان شرفا لي، ولكن إن
أحببت أن تحسن إلي فادفع إلي بعض ثيابك أتبرك بها، فقام فنزع ثيابه ودفعها إليه
كلها، ثم قال: اللهم إن الكميت جاد في آل رسولك وذرية نبيك بنفسه حين ضن الناس،
وأظهر ما كتمه غيره من الحق، فأحيه سعيدا، وأمته شهيدا، وأره الجزاء عاجلا،
وأجزل له المثوبة آجلا، فإنا قد عجزنا عن مكافأته.
قال الكميت: ما زلت أعرف بركة دعائه (1).
وقال دعبل: دخلت على علي بن موسى الرضا عليه السلام - بخراسان - فقال لي: أنشدني
شيئا مما أحدثت، فأنشدته:
مدارس آيات خلت من تلاوة * ومنزل وحي مقفر العرصات
حتى انتهيت إلى قولي:
إذا وتروا مدوا إلى واتريهم * أكفا عن الأوتار منقبضات



(1) الغدير ج 2، ص 189.
330
فبكى حتى أغمي عليه، وأومأ إلي خادم كان على رأسه: ان اسكت، فسكت فمكث ساعة ثم
قال لي: أعد. فأعدت حتى انتهيت إلى هذا البيت أيضا، فأصابه مثل الذي أصابه في
المرة الأولى، وأومأ الخادم إلي أن أسكت، فسكت. فمكث ساعة أخرى، ثم قال لي: أعد.
فأعدت حتى انتهيت إلى آخرها، فقال لي: أحسنت، ثلاث مرات. ثم أمر لي بعشرة آلاف
درهم، مما ضرب باسمه، ولم تكن دفعت إلى أحد بعد. وأمر لي من في منزله، بحلي كثير
أخرجه إلي الخادم، فقدمت العراق، فبعت كل درهم منها بعشرة دراهم، اشتراها مني
الشيعة، فحصل لي مائة ألف درهم، فكان أول مال اعتقدته.
قال ابن مهرويه: وحدثني حذيفة بن محمد، أن دعبلا قال له: إنه استوهب من الرضا عليه
السلام ثوبا قد لبسه، ليجعله في أكفانه. فخلع جبة كانت عليه، فأعطاه إياها. فبلغ
أهل قم خبرها، فسألوه أن يبيعهم إياها بثلاثين ألف درهم، فلم يفعل، فخرجوا عليه في
طريقه، فأخذوها منه غصبا، وقالوا له: إن شئت أن تأخذ المال فافعل، والا فأنت أعلم.
فقال لهم: إني والله لا أعطيكم إياها طوعا، ولا تنفعكم غصبا، وأشكوكم إلى الرضا
عليه السلام. فصالحوه، على أن أعطوه الثلاثين ألف درهم وفردكم من بطانتها، فرضي
بذلك. فأعطوه فردكم فكان في أكفانه (1).
وكم لهذه القصص من أشباه ونظائر، يطول عرضها وتعدادها في هذا المجال المحدود.



(1) الغدير ج 2، ص 350 - 351.
331
7 - زيارة مشاهدهم:
ومن حقوقهم على مواليهم وشيعتهم، زيارة مشاهدهم المشرفة، والتسليم عليهم. فإنها من
مظاهر الحب والولاء، ومصاديق الوفاء والاخلاص فهم سيان، أحياءا وأمواتا.
قال الشيخ المفيد أعلى الله مقامه:
ان رسول الله (ص) والأئمة من عترته خاصة، لا يخفى عليهم بعد الوفاة أحوال شيعتهم
في دار الدنيا، باعلام الله تعالى لهم ذلك حالا بعد حال، ويسمعون كلام المناجي
لهم في مشاهدهم المكرمة العظام، بلطيفة من لطائف الله تعالى، بينهم بها من جمهور
العباد، وتبلغهم المناجاة من بعد، كما جاءت به الرواية، وهذا مذهب فقهاء الامامية
كافة...
وقد قال الله تعالى فيما يدل على جملته: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله
أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله، ويستبشرون
بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون. (آل عمران: 169 -
170)
وقال في قصة مؤمن آل فرعون: قيل ادخل الجنة، قال يا ليت قومي يعلمون، بما غفر لي
ربي، وجعلني من المكرمين.
(ياسين: 26 - 27)
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: من سلم علي عند قبري سمعته

332
ومن سلم علي من بعيد بلغته. سلام الله عليهم ورحمته وبركاته.
ثم الأخبار في تفصيل ما ذكرناه، من الجمل عن أئمة آل محمد، بما وصفناه نصا ولفظا،
أكثر (1).
وقد تواترت نصوص أهل البيت عليهم السلام، في فضل زيارة مشاهدهم، وما تشتمل عليه من
الخصائص الجليلة، والثواب الجم.
فعن الوشا، قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: إن لكل امام عهدا في عنق أوليائه
وشيعته، وان من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبة في
زيارتهم وتصديقا بما رغبوا فيه، كان أئمتهم شفعاءهم يوم القيامة (2).
وعن زيد الشحام قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما لمن زار واحدا منكم؟ قال:
كمن زار رسول الله صلى الله عليه وآله (3).
وعن أبي الحسن موسى عليه السلام قال: إذا كان يوم القيامة، كان على عرش الرحمن
أربعة من الأولين، وأربعة من الآخرين. فأما الأربعة الذين هم من الأولين: فنوح
وإبراهيم وموسى وعيسى، وأما الأربعة من الآخرين: محمد وعلي والحسن والحسين عليهم
السلام. ثم يمد الطعام فيقعد



(1) أوائل المقالات للشيخ المفيد (ره)
(2) البحار م 22، ص 6 عن عيون أخبار الرضا، وعلل الشرائع وكامل الزيارة لابن
قولويه.
(3) البحار م 22 ص 6، عن عيون أخبار الرضا، وعلل الشرائع وكامل الزيارة لابن
قولويه.
333
معنا من زار قبور الأئمة، ألا إن أعلاهم درجة وأقربهم حبوة زوار قبر ولدي (1).
وعن أبي جعفر عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: زارنا رسول الله،
وقد أهدت لنا أم أيمن لبنا وزبدا وتمرا، قدمنا منه، فأكل، ثم قام إلى زاوية
البيت فصلى ركعات، فلما كان في آخر سجوده بكى بكاءا شديدا، فلم يسأله أحد منا
إجلالا وإعظاما، فقام الحسين في الحجرة وقال له: يا أبه لقد دخلت بيتنا، فما
سررنا بشئ كسرورنا بدخولك، ثم بكيت بكاءا غما، فما أبكاك؟ فقال: يا بني، أتاني
جبرئيل آنفا، فأخبرني أنكم قتلى؟ وأن مصارعكم شتى. فقال: يا أبه، فما لمن يزور
قبورنا على تشتتها؟ فقال: يا بني، أولئك طوائف من أمتي، يزورونكم، فيلتمسون بذلك
البركة، وحقيق علي أن آتيهم يوم القيامة حتى أخلصهم من أهوال الساعة من ذنوبهم،
ويسكنهم الله الجنة (2).



(1) البحار م 22، ص 8، عن الكافي.
(2) البحار م 22، ص 7 عن كامل الزيارة، وأمالي ابن الشيخ الطوسي (ره).
334
حقوق العلماء
فضل العلم والعلماء:
العلم... أجل الفضائل، وأشرف المزايا، وأعز ما يتحلى به الانسان. فهو أساس الحضارة،
ومصدر أمجاد الأمم، وعنوان سموها وتفوقها في الحياة، ورائدها إلى السعاة الأبدية،
وشرف الدارين.
والعلماء... هم ورثة الأنبياء، وخزان العلم، ودعاة الحق، وأنصار الدين، يهدون
الناس إلى معرفة الله وطاعته، ويوجهونهم وجهة الخير والصلاح.
من أجل ذلك تظافرت الآيات والأخبار على تكريم العلم والعلماء، والإشادة بمقامهما
الرفيع.
قال تعالى: قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون (الزمر: 9).
وقال تعالى: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اتوا العلم درجات (المجادلة:
11).
وقال تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء (فاطر: 28).
وقال تعالى: وتلك الأمثال نضربها للناس، وما يعقلها الا العالمون (العنكبوت: 43).

335
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من سلك
طريقا يطلب فيه علما، سلك الله به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها
لطالب العلم رضا به، وانه يستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الأرض، حتى
الحوت في البحر. وفضل العالم على العابد، كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر.
وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، ولكن ورثوا
العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر (1).
وقال الباقر عليه السلام: عالم ينتفع بعلمه أفضل من سبعين ألف عابد (2).
وقال الصادق عليه السلام: إذا كان يوم القيامة، جمع الله عز وجل الناس في صعيد
واحد، ووضعت الموازين، فتوزن دماء الشهداء مع مداد العلماء، فيرجح مداد العلماء على
دماء الشهداء (3).
وقال الصادق عليه السلام: إذا كان يوم القيامة، بعث الله عز وجل العالم والعابد،
فإذا وقفا بين يدي الله عز وجل، قيل للعابد إنطلق إلى الجنة، وقيل للعالم قف تشفع
للناس بحسن تأديبك لهم (4).



(1) الوافي ج 1، ص 42، عن الكافي.
(2) الوافي ج 1، ص 40 عن الكافي.
(3) الوافي ج 1 ص 40، عن الفقيه.
(4) البحار م 1، ص 74، عن علل الشراع، وبصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار.
336
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: يا كميل، هلك خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء
باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة (1).
وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يجئ
الرجل يوم القيامة، وله من الحسنات كالسحاب الركام، أو كالجبال الراوسي، فيقول: يا
رب أنى لي هذا ولم أعملها؟ فيقول: هذا علمك الذي علمته الناس، يعمل به من
بعدك (2).
ولا غرابة أن يحظى العلماء بتلك الخصائص الجليلة، والمزايا الغر. فهم حماة الدين،
وأعلام الاسلام، وحفظة آثاره الخالدة، وتراثه المدخور. يحملون للناس عبر القرون،
مبادئ الشريعة وأحكامها وآدابها، فتستهدي الأجيال بأنوار علومهم، ويستنيرون
بتوجيههم الهادف البناء.
وبديهي أن تلك المنازل الرفيعة، لا ينالها إلا العلماء المخلصون. المجاهدون في
سبيل العقيدة والشريعة، والسائرون على الخط الاسلامي، والمتحلون بآداب الاسلام
وأخلاقه الكريمة.
ولهؤلاء فضل كبير، وحقوق مرعية في أعناق المسلمين، جديرة بكل عناية واهتمام، وهي:



(1) نهج البلاغة.
(2) البحار م 1، ص 75 عن بصائر الدرجات.
337
1 - توقيرهم:
وهو في طليعة حقوقهم المشروعة، لتحليهم بالعلم والفضل، وجهادهم في صيانة الشريعة
الاسلامية وتعزيزها، ودأبهم على إصلاح المجتمع الاسلامي وإرشاده.
وقد أعرب أهل البيت عليهم السلام عن جلالة العلماء، وضرورة تبجيلهم وتوقيرهم، قولا
وعملا، حتى قرروا أن النظر إليهم عبادة، وان بغضهم مدعاة للهلاك، كما شهد بذلك
الحديث الشريف:
فعن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم السلام قال: قال صلى الله عليه وآله: النظر في
وجه العالم حبا له عبادة (1).
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أغد
عالما أو متعلما، أو أحب العلماء، ولا تكن رابعا فتهلك ببغضهم (2).
وهكذا كانوا عليهم السلام يبجلون العلماء، ويرعونهم بالحفاوة والتكريم، يحدثنا
الشيخ المفيد (ره)، عن توقير الإمام الصادق عليه السلام لهشام بن الحكم، وكان من
ألمع أصحابه وأسماهم مكانة عنده أنه دخل عليه بمنى، وهو غلام أول ما اختلط عارضاه،
وفي مجلسه شيوخ الشيعة، كحمران بن أعين وقيس الماصر ويونس بن يعقوب وأبي جعفر
الأحول



(1) البحار م 1، ص 64، عن نوادر الراوندي.
(2) البحار م 1، ص 59، عن خصال الصدوق (ره).
338
وغيرهم، فرفعه على جماعتهم، وليس فيهم الا من هو أكبر سنا منه.
فلما رأى أبو عبد الله عليه السلام أن ذلك الفعل كبر على أصحابه، قال: هذا ناصرنا
بقلبه ولسانه ويده (1).
وجاء عن أحمد البزنطي، قال: وبعث إلي الرضا عليه السلام بحمار له، فجئت إلى صريا،
فمكث عامة الليل معه، ثم أتيت بعشاء، ثم قال: افرشوا له. ثم أتيت بوسادة طبرية
ومرادع وكساء قياصري وملحفة مروي، فلما أصبت من العشاء، قال لي: ما تريد أن تنام؟
قلت: بلى، جعلت فداك. فطرح علي الملحفة والكساء، ثم قال: بيتك الله في عافية.
وكنا على سطح، فما نزل من عندي، قلت في نفسي: قد نلت من هذا الرجل كرامة ما نالها
أحد قط (2).
2 - برهم:
همة العلماء، وهدفهم الأسمى، خدمة الدين، وبث التوعية الاسلامية، وتوجيه المسلمين
نحو الخلق الكريم والسلوك الأمثل، وهذا ما يقتضيهم وقتا واسعا، وجهدا ضخما،
يعوقهم عن اكتساب الرزق وطلب المعاش كسائر الناس.
فلا بد والحالة هذه، للمؤمنين المعنيين بشؤون الدين، والحريصين على



(1) سفينة البحار ج 2، ص 719.
(2) سفينة البحار ج 1، ص 81.
339
كيانه... أن يوفروا للعلماء وسائل الحياة الكريمة، والعيش اللائق. وذلك بأداء
الحقوق الشرعية إليهم، التي أمر الله بها، وندب إليها، من الزكاة والخمس، ووجوه
الخيرات والمبرات. فهم أحق الناس بها، وأهم مصاديقها، ليستطيعوا تحقيق أهدافهم،
والاضطلاع بمهامهم الدينية، دون أن يعوقهم عنها طلب المعاش.
وقد كان الغيارى من المسلمين الأولين، يتطوعون بأريحية وسخاء، في رصد الأموال،
وإيجاد الأوقاف، واستغلالها لصالح العلماء، وتوفير معاشهم.
وكلما تجاهل الناس أقدار العلماء، وغمطوا حقوقهم، أدى إلى قلة العلماء، وهبوط
الطاقات الروحية، وضعف النشاط الديني. مما يعرض المجتمع الاسلامي لغزو المبادئ
الهدامة، وخطر الزيغ والانحراف.
3 - الاهتداء بهم:
لا يستغني كل واع مستنير، عن الرجوع إلى الأخصائيين في مختلف العلوم والفنون،
للإفادة من معارفهم وتجاربهم، كالأطباء والكيمياويين والمهندسين ونحوهم من ذوي
الاختصاص.
وحيث كان العلماء الروحانيون متخصصين بالعلوم الدينية، والمعارف الاسلامية، قد
أوقفوا أنفسهم على خدمة الشريعة الاسلامية، ونشر مبادئها وأحكامها، وهداية الناس
وتوجيههم وجهة
الخير والصلاح.. فجدير

340
بالمسلمين أن يستهدوا بهم ويجتنوا ثمرات علومهم، ليكونوا على بصيرة من عقيدتهم
وشريعتهم، ويتفادوا دعايات الغاوين والمضللين من أعداء الاسلام.
فإذا ما تنكروا للعلماء المخلصين، واستهانوا بتوجيههم وإرشادهم... جهلوا واقع دينهم
ومبادئه وأحكامه، وغدوا عرضة للزيغ والانحراف.
أنظروا كيف يحرض أهل البيت عليهم السلام على مجالسة العلماء، والتزود من علومهم
وآدابهم، في نصوص عديدة:
فعن الصادق، عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله: مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة (1) والمراد بأهل الدين، علماء الدين
العارفون بمبادئه، العاملون بأحكامه.
وجاء في حديث الرضا عن آبائه عليهم السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله: مجالسة العلماء عبادة (2).
وقال لقمان لابنه: يا بني، جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، فان الله عز وجل يحيي
القلوب بنور الحكمة، كما يحيي الأرض بوابل السماء (3).
وعن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: العلم
خزائن، ومفتاحه (مفتاحها خ ل) السؤال، فاسألوا



(1) البحار م 1 ص 62، عن ثواب الأعمال، وأمالي الصدوق.
(2) البحار م 1 ص 64، عن كشف الغمة.
(3) البحار م 1 ص 64، عن روضة الواعظين.
341
يرحمكم الله، فإنه يؤجر فيه أربعة: السائل، والمعلم، والمستمع، والمحب لهم (1).
وقال الصادق عليه السلام: إنما يهلك الناس لأنهم لا يسألون (2).



(1) البحار م 1 ص 62، عن صحيفة الرضا عليه السلام وعيون اخبار الرضا.
(2) الوافي ج 1 ص 46، عن الكافي.
342
حقوق الأساتذة والطلاب
الأساتذة المخلصون، المتحلون بالايمان والخلق الكريم، لهم مكانة سامية، وفضل كبير
على المجتمع، بما يسدون إليه من جهود مشكورة في تربية أبنائهم، وتثقيفهم بالعلوم
والآداب. فهم رواد الثقافة، ودعاة العلم، وبناة الحضارة، وموجهو الجيل الجديد.
لذلك كان للأساتذة على طلابهم حقوق جديرة بالرعاية والاهتمام. وأول حقوقهم على
الطلاب، أن يوقروهم ويحترموهم احترام الآباء، مكافأة لهم على تأديبهم، وتنويرهم
بالعلم، وتوجيههم وجهة الخير والصلاح. كما قيل للاسكندر: انك تعظم معلمك أكثر من
تعظيمك لأبيك!!! فقال: لأن أبي سبب حياتي الفانية، ومؤدبي سبب الحياة الباقية.
قم للمعلم وفه التبجيلا * كاد المعلم أن يكون رسولا
أرأيت أكرم أو أجل من الذي * يبني وينشئ أنفسا وعقولا
وحسبك في فضل المعلم المخلص وأجره الجزيل، ما أعربت عنه نصوص أهل البيت عليهم
السلام:
فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يجئ
الرجل يوم القيامة، وله من الحسنات كالسحاب الركام،

343
أو الجبال الراوسي. فيقول: يا رب أنى لي هذا ولم أعملها؟ فيقول: هذا علمك الذي علمته
الناس، يعمل به من بعدك (1).
وعن أبي جعفر عليه السلام، قال: من علم باب هدى فله مثل أجر من عمل به ولا ينقص
أولئك من أجورهم شيئا، ومن علم باب ضلال كان عليه مثل أوزار من عمل به ولا ينقص
من أوزارهم شيئا (2).
ومن حقوق الأساتذة على الطلاب: تقدير جهودهم ومكافأتهم عليها بالشكر الجزيل، وجميل
الحفاوة والتكريم، واتباع نصائحهم العلمية، كاستيعاب الدروس وإنجاز الواجبات
المدرسية.
ومن حقوقهم كذلك: التسامح والإغضاء عما يبدر منهم من صرامة أو غلظة تأديبية، تهدف
إلى تثقيف الطالب وتهذيب أخلاقه.
وأبلغ وأجمع ما أثر في حقوق الأساتذة المربين، قول الإمام علي بن الحسين زين
العابدين عليه السلام: وحق سايسك بالعلم: التعظيم له، والتوقير لمجلسه، وحسن
الاستماع إليه، والاقبال عليه، وان لا ترفع عليه صوتك، ولا تجيب أحدا يسأله عن شئ
حتى يكون هو الذي يجيب. ولا تحدث في مجلسه أحدا، ولا تغتاب عنده أحدا، وأن تدفع
عنه إذا ذكر عندك بسوء، وان تستر عيوبه، وتظهر مناقبه ولا تجالس له عدوا، ولا تعاد
له وليا. فإذا فعلت ذلك، شهد لك ملائكة الله بأنك قصدته، وتعلمت علمه لله جل
اسمه، لا للناس (1).



(1) البحار م 1 ص 75، عن بصائر الدرجات للشيخ محمد بن الحسن الصفار.
(2) الوافي ج 1 ص 42، عن الكافي.
(3) رسالة الحقوق للإمام السجاد عليه السلام.
344
حقوق الطلاب
لطلاب العلم فضلهم وكرامتهم، باجتهادهم في تحصيل العلم، وحفظ تراثه، ونقله للأجيال
الصاعدة، ليبقى الرصيد العلمي زاخرا ناميا مدى القرون والأجيال.
من أجل ذلك، نوهت أحاديث أهل البيت عليهم السلام بفضل طلاب العلم، وشرف أقدارهم
وجزيل أجرهم.
فعن أبي عبد الله عليه السلام عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وآله: طالب العلم بين الجهال كالحي بين الأموات (1).
وعن أبي عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من سلك طريقا يطلب
فيه علما، سلك الله به طريقا إلى الجنة. وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم
رضا به، وانه ليستغفر لطالب العلم من في السماء ومن في الأرض حتى الحوت في البحر.
وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر (2).
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:



(1) البحار م 1 ص 58، عن أمالي الشيخ أبي علي ابن الشيخ الطوسي.
(2) الوافي ج 1 ص 42، عن الكافي.
345
طلب العلم فريضة على كل مسلم، ألا إن الله يحب بغاة العلم (1).
وعن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله العالم
والمتعلم شريكان في الأجر، للعالم أجران وللمتعلم أجر، ولا خير في سوى ذلك (2).
ومن الواضح أن تلك الخصائص الرفيعة، والمزايا المشرفة، لا ينالها الا طلاب العلم
المخلصون، المتذرعون بطلبه إلى تزكية نفوسهم وتهذيب أخلاقهم، وكسب معرفة الله عز
وجل وشرف طاعته ورضاه، فإذا ما تجردوا من تلك الخصائص والغايات، حرموا تلك المآثر
الخالدة، ولم يجنوا إلا المآرب المادية الزائلة.
واليك مجملا من حقوق الطلاب:
1 - يجدر بأولياء الطلاب والمعنيون بتربيتهم وتعليمهم، أن يختاروا لهم أساتذة
أكفاء، متحلين بالايمان وحسن الخلق، ليكونوا قدوة صالحة ونموذجا حسنا لتلامذتهم.
فالطالب شديد التأثر والمحاكاة لأساتذته ومربيه، سرعان ما تنعكس في نفسه صفاتهم
وأخلاقهم، ومن هنا وجب اختيار المدرسين المتصفين بالاستقامة والصلاح.
2 - ومن حقوق الطلاب: أن يستشعروا من أساتذتهم اللطف والاشفاق، فيعاملون معاملة
الأبناء، ويتفادون جهدهم عن احتقارهم واضطهادهم، لأن ذلك يحدث رد فعل سيئ فيهم،
يوشك أن ينفرهم من



(1) الوافي ج 1 ص 36، عن الكافي.
(2) البحار م 1 ص 56، عن بصائر الدرجات.
346
تحصيل العلم. لذلك كان من الحكمة في تهذيب الطلاب وتشجيعهم على الدرس، مكافأة
المحسن بالمدح والثناء، وزجر المقصر منهم بالتأنيب والتقريع، الذي لا يجرح العاطفة
ويهدر الكرامة ويحدث رد فعل في الطالب.
انظر كيف يوصي الإمام زين العابدين بالمتعلمين، في رسالته الحقوقية، فيقول عليه
السلام: وأما حق رعيتك بالعلم، فان تعلم أن الله عز وجل إنما جعلك قيما لهم
فيما أتاك من العلم، وفتح لك من خزائنه، فان أحسنت في تعليم الناس ولم تخرق بهم،
ولم تضجر عليهم، زادك الله من فضله، وإن أنت منعت الناس علمك أو خرقت بهم عند
طلبهم العلم منك، كان حقا على الله عز وجل أن يسلبك العلم وبهاءه، ويسقط من
القلوب محلك.
3 - وهكذا يجدر بالأساتذة أن يراعوا استعداد الطالب ومستواه الفكري، فيتدرجوا به في
مراقي العلم حسب طاقته ومؤهلاته الفكرية، فلا يطلعونهم على ما يسمو على أفهامهم،
وتقصر عنه مداركهم. مراعين إلى ذلك اتجاه الطالب ورغبته فيما يختار من العلوم، حيث
لا يحسن قسره على علم لا يرغب فيه، ولا يميل إليه.
4 - ويحق للطلاب على أساتذتهم أن يتعاهدوهم بالتوجيه والارشاد، في المجالات العلمية
وغيرها من آداب السيرة والسلوك، لينشأ الطلاب نشأة مثالية، ويكونوا نموذجا رائعا
في الاستقامة والصلاح.
وألزم النصائح وأجدرها بالاتباع، أن يعلم الطالب اللبيب أنه يجب أن تكون الغاية من
طلب العلم هي - كما أشرنا إليه - تزكية النفس،

347
وتهذيب الضمير، والتوصل إلى شرف طاعة الله تعالى ورضاه. وكسب السعادة الأبدية
الخالدة.
فان لم يستهدف الطالب تلك الغايات السامية، كان ماديا هزيل الغاية والمأرب، لم
يستثمر العلم استثمارا واعيا.
وأصدق شاهد على ذلك، الأمم المتحضرة اليوم، فإنها رغم سبقها وتفوقها في ميادين
العلم والاكتشاف، تعيش حياة مزرية من تفسخ الأخلاق، وتسيب القيم الروحية، وطغيان
الشرور فيها لنزعتها المادية، وتجردها من الدين والأخلاق، وغدت من جراء ذلك تتبارى
بأفتك الأسلحة للقضاء على خصومها ومنافسيها، مما صير العالم بركانا ينذر البشرية
بالدمار والهلاك.
هذه لمحات خاطفة من حقوق الأساتذة والطلاب. ومن شاء التوسع فيها فليرجع إلى ما كتبه
علماء الأخلاق في آداب المعلمين والمتعلمين، وحقوق كل منهما على الآخر.

348
حقوق الوالدين والأولاد
حقوق الوالدين
كيف يستطيع هذا القلم أن يصور جلالة الأبوين، وفضلهما على الأولاد، فهما سبب
وجودهم، وعماد حياتهم، وقوام فضلهم، ونجاحهم في الحياة.
وقد جهد الوالدان ما استطاعا في رعاية أبنائهما ماديا ومعنويا، وتحملا في سبيلهم
أشد المتاعب والمشاق. فاضطلعت الأم بأعباء الحمل، وعناء الوضع، ومشقة الارضاع، وجهد
التربية والمداراة.
واضطلع الأب بأعباء الجهاد، والسعي في توفير وسائل العيش لأبنائه، وتثقيفهم
وتأديبهم، وإعدادهم للحياة السعيدة الهانئة.
تحمل الأبوان تلك الجهود الضخمة، فرحين مغتبطين، لا يريدان من أولادهما ثناءا ولا
أجرا.
وناهيك في رأفة الوالدين وحنانهما الجم، أنهما يؤثران تفوق أولادهم عليهم في مجالات
الفضل والكمال، ليكونوا مثارا للاعجاب ومدعاة للفخر والاعتزاز، خلافا لما طبع
عليه الانسان من حب الظهور والتفوق على غيره.
من أجل ذلك كان فضل الوالدين على الولد عظيما وحقهما جسيما، سما على كل فضل وحق
بعد فضل الله عز وجل وحقه.

349
بر الوالدين:
وهذا ما يحتم على الأبناء النبلاء أن يقدروا فضل آبائهم وعظيم إحسانهم، فيجازونهم
بما يستحقونه من حسن الوفاء، وجميل التوقير والاجلال، ولطف البر والاحسان، وسمو
الرعاية والتكريم، أدبيا وماديا.
أنظر كيف يعظم القرآن الكريم شأن الأبوين، ويحض على إجلالها ومصاحبتهما بالبر
والمعروف، حيث قال: ووصينا الانسان بوالديه، حملته أمه وهنا على وهن، وفصاله في
عامين، أن اشكر لي ولوالديك. إلي المصير، وان جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به
علم، فلا تطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفا (لقمان: 14 - 15).
وقال تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا، إما يبلغن عندك
الكبر أحدهما أو كلاهما، فلا تقل لها أف، ولا تنهرهما، وقل لهما قولا كريما.
واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا (الاسراء: 23 -
24).
فقد أعربت هاتان الآيتان عن فضل الوالدين ومقامهما الرفيع، وضرورة مكافأتهما بالشكر
الجزيل، والبر والاحسان اللائقين بهما، فأمرت الآية الأولى بشكرهما بعد شكر الله
تعالى، وقرنت الثانية الاحسان إليهما بعبادته عز وجل، وهذا غاية التعزيز والتكريم.
وعلى هدي القرآن وضوئه تواترت أحاديث أهل البيت عليهم السلام:

350
قال الباقر عليه السلام: ثلاث لم يجعل الله تعالى فيهن رخصة: أداء الأمانة إلى
البر والفاجر، والوفاء بالعهد للبر والفاجر، وبر الوالدين برين كانا أو
فاجرين (1).
وقال الصادق عليه السلام: ان رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله، فقال: يا رسول
الله أوصني. فقال: لا تشرك بالله شيئا، وان حرقت بالنار وعذبت إلا وقلبك مطمئن
بالايمان. ووالديك، فأطعهما وبرهما حيين كانا أو ميتين، وان أمراك ان تخرج من أهلك
ومالك فافعل، فان ذلك من الايمان (2).
وعن أبي الحسن عليه السلام قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: كن بارا،
واقتصر على الجنة، وان كنت عاقا فاقتصر على النار (3).
وعنه عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
نظر الولد إلى والديه حبا لهما عبادة (4).
وقال الصادق عليه السلام: من أحب أن يخفف الله عز وجل عنه سكرات الموت، فليكن
لقرابته وصولا، وبوالديه بارا. فإذا كان كذلك هون الله عليه سكرات الموت، ولم
يصبه في حياته فقر أبدا (5).



(1) الوافي ج 3 ص 93، عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 91 - 92، عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 155، عن الكافي.
(4) البحار م 16 ج 4 ص 24، عن كشف الغمة الأربلي.
(5) البحار م 16 ج 4 ص 21، عن أمالي الشيخ الصدوق، وأمالي ابن الشيخ الطوسي.
351
وعن أبي عبد الله عليه السلام: ان رسول الله صلى الله عليه وآله أتته أخت له من
الرضاعة، فلما نظر إليها سر بها وبسط ملحفته لها، فأجلسها عليها، ثم أقبل يحدثها
ويضحك في وجهها. ثم قامت فذهبت، وجاء أخوها فلم يصنع به ما صنع بها. فقيل له: يا
رسول الله صنعت بأخته ما لم تصنع به، وهو رجل! فقال: لأنها كانت أبر بوالديها
منه (1).
* * *
وفي الوقت الذي أوصت الشريعة الاسلامية بر الوالدين والاحسان إليهما، فقد آثرت الأم
بالقسط الأوفر من الرعاية والبر، نظرا لما انفردت به من جهود جبارة واتعاب مضنية
في سبيل أبنائها، كالحمل والرضاع، ونحوهما من وظائف الأمومة وواجباتها المرهقة.
فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال:
يا رسول الله، من أبر؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال ثم من؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أباك (2).
وعن إبراهيم بن مهزم قال: خرجت من عند أبي عبد الله عليه السلام ليلة ممسيا،
فأتيت منزلي في المدينة، وكانت أمي معي. فوقع بيني وبينها كلام، فأغلظت لها. فلما
كان من الغد، صليت الغداة، وأتيت أبا عبد الله عليه السلام، فلما دخلت عليه، قال
لي مبتدئا: يا أبا مهزم، مالك ولخالدة؟ أغلظت في كلامها البارحة، أما علمت أن
بطنها منزل قد سكنته،



(1) الوافي ج 3 ص 92، عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 92، عن الكافي.
352
وأن حجرها مهد قد غمزته، وثديها وعاء قد شربته؟ قال قلت: بلى. قال: فلا تغلظ
لها (1).
واستمع إلى الإمام السجاد عليه السلام، وهو يوصي بالأم، معددا جهودها وفضلها على
الأبناء، بأسلوب عاطفي أخاذ، فيقول عليه السلام:
وأما حق أمك: أن تعلم أنها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحدا، وأعطتك من ثمرة قلبها ما
لا يعطي أحد أحدا، ووقتك بجميع جوارحها، ولم تبال ان تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك،
وتعري وتكسوك، وتضحى وتظلك، وتهجر النوم لأجلك، ووقتك الحر والبرد لتكون لها، فإنك
لا تطيق شكرها الا بعون الله وتوفيقه (2).
* * *
وبر الوالدين، وان كان له طيبته ووقعه الجميل في نفس الوالدين، بيد انه يزداد طيبة
ووقعا حسنا عند عجزهما وشدة احتياجهما إلى الرعاية والبر، كحالات المرض
والشيخوخة، والى هذا أشار القرآن الكريم إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما،
فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما، وقل لهما قولا كريما. واخفض لهما جناح الذل من
الرحمة، وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا.
وقد ورد أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله، فقال:



(1) البحار م 16 ج 4 ص 23، عن بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار.
(2) رسالة الحقوق للإمام السجاد عليه السلام.
353
يا رسول الله، ان أبوي بلغا من الكبر أني ألي منهما ما ولياني في الصغر، فهل
قضيتهما حقهما؟ قال: لا، فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك، وأنت تفعل ذلك
وتريد موتهما (1).
وعن إبراهيم بن شعيب قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن أبي قد كبر جدا
وضعف، فنحن نحمله إذا أراد الحاجة. فقال: ان استطعت ان تلي ذلك منه فافعل، ولقمه
بيدك، فإنه جنة لك غدا (2).
* * *
وليس البر مقصورا على حياة الوالدين فحسب، بل هو ضروري في حياتهما وبعد وفاتهما،
لانقطاعهما عن الدنيا وشدة احتياجهما إلى البر والاحسان.
فعن الصادق عليه السلام قال: ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال:
صدقة أجراها في حياته وهي تجري بعد موته، وسنة هدى سنها فهي يعمل بها بعد موته، أو
ولد صالح يدعو له (3).
من أجل ذلك فقد حرضت وصايا أهل البيت عليهم السلام على بر الوالدين بعد وفاتهما،
وأكدت عليه وذلك بقضاء ديونهما المالية أو العبادية، وإسداء الخيرات والمبرات
إليهما، والاستغفار لهما، والترحم عليهما. واعتبرت إهمال ذلك ضربا من العقوق.



(1) عن شرح الصحيفة السجادية للسيد علي خان.
(2) الوافي ج 3 ص 92، عن الكافي.
(3) الوافي ج 13 ص 90 عن الكافي والتهذيب.
354
قال الباقر عليه السلام: إن العبد ليكون بارا بوالديه في حياتهما، ثم يموتان فلا
يقضي عنهما دينهما ولا يستغفر لهما، فيكتبه الله عاقا. وانه ليكون عاقا لهما في
حياتهما غير بار بهما، فإذا ماتا قضى دينهما واستغفر لهما، فيكتبه الله تعالى
بارا (1).
وعن الصادق عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وآله: سيد الأبرار يوم القيامة، رجل بر والديه بعد موتهما (2).
عقوق الوالدين
من الواضح ان نكران الجميل ومكافأة الإحسان بالإساءة، أمران يستنكرهما العقل
والشرع، ويستهجنهما الضمير والوجدان. وكلما عظم الجميل والاحسان كان جحودها أشد
نكرا وأفظع جريرة واثما.
وبهذا المقياس ندرك بشاعة عقوق الوالدين وفظاعة جرمه، حتى عد من الكبائر الموجبة
لدخول النار. ولا غرابة فالعقوق - فضلا عن مخالفته المبادئ الانسانية، وقوانين
العقل والشرع - دال على موت الضمير، وضعف الايمان، وتلاشي القيم الانسانية في
العاق.



(1) الوافي ج 3 ص 93، عن الكافي.
(2) البحار م 16 ج 4 ص 26، عن كتاب الإمامة والتبصرة لعلي بن بابويه.
355
فقد بذل الأبوان طاقات ضخمة وجهودا جبارة، في تربية الأبناء وتوفير ما يبعث على
إسعادهم وازدهار حياتهم ماديا وأدبيا، ما يعجز الأولاد عن تثمينه وتقديره.
فكيف يسوغ للأبناء تناسي تلك العواطف والألطاف ومكافأتها بالإساءة والعقوق؟
من أجل ذلك حذرت الشريعة الاسلامية من عقوق الوالدين أشد التحذير، وأوعدت عليه
بالعقاب العاجل والآجل.
فعن أبي الحسن عليه السلام قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: كن بارا،
واقتصر على الجنة. وان كنت عاقا، فاقتصر على النار (1)
وقال الصادق عليه السلام: لو علم الله شيئا هو أدنى من أف، لنهى عنه، وهو من
أدنى العقوق، ومن العقوق ان ينظر الرجل إلى والديه، فيحد النظر إليهما (2).
وقال الباقر عليه السلام: ان أبي نظر إلى رجل ومعه ابنه يمشي، والابن متكئ على
ذراع الأب، قال: فما كلمه أبي عليه السلام مقتا له حتى فارق الدنيا (3).
وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ثلاثة من
الذنوب، تعجل عقوبتها ولا تؤخر إلى الآخرة: عقوق



(1) الوافي ج 3 ص 155، عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 155، عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 155، عن الكافي.
356
الوالدين، والبغي على الناس، وكفر الاحسان (1).
مساوئ العقوق:
وللعقوق مساوئ خطيرة، وآثار سيئة تنذر العاق وتتوعده بالشقاء الدنيوي والأخروي.
فمن آثاره أن العاق يعقه ابنه... جزاءا وفاقا على عقوقه لأبيه. وقد شهد الناس
صورا وأدوارا من هذه المكافأة على مسرح الحياة.
من ذلك ما حكاه الأصمعي قال: حدثني رجل من الأعراب قال: خرجت من الحي أطلب أعق
الناس وأبر الناس. فكنت أطوف بالأحياء، حتى انتهيت إلى شيخ في عنقه حبل، يستقي
بدلو لا تطيقه الإبل في الهاجر والحر الشديد، وخلفه شاب في يده رشاء من قد ملوي،
يضربه به، قد شق ظهره بذلك الحبل.
فقلت له: أما تتقي الله في هذا الشيخ الضعيف، أما يكفيه ما هو فيه من هذا الحبل
حتى تضربه؟
قال: انه مع هذا أبي.
قلت: فلا جزاك الله خيرا.
قال: اسكت، فهكذا كان يصنع هو بأبيه، وكذا كان يصنع أبوه بجده.



(1) البحار م 16 ج 4 ص 23، عن أمالي أبي علي ابن الشيخ الطوسي.
357
فقلت: هذا أعق الناس.
ثم جلت أيضا حتى انتهيت إلى شاب في عنقه زبيل، فيه شيخ كأنه فرخ، فيضعه بين يديه
في كل ساعة، فيزقه كما يزق الفرخ.
فقلت له: ما هذا؟
فقال: أبي، وقد خرف، فأنا أكفله.
قلت: فهذا أبر العرب. فرجعت وقد رأيت أعقهم وأبرهم (1).
ومن آثار العقوق:
أنه موجب لشقاء العاق، وعدم ارتياحه في الحياة، لسخط الوالدين ودعائهما عليه.
وقد جاء في الحديث النبوي: إياكم ودعوة الوالد، فإنها أحد من السيف.
ومن آثار العقوق:
ان العاق يشاهد أهوالا مريعة عند الوفاة، ويعاني شدائد النزع وسكرات الموت.
فعن أبي عبد الله عليه السلام: ان رسول الله صلى الله عليه وآله حضر شابا عند
وفاته، فقال له: قل لا إله الا الله. قال: فاعتقل لسانه مرارا.
فقال لامرأة عند رأسه: هل لهذا أم؟
قالت: نعم، انا أمه.



(1) المحاسن والمساوئ، للبيهقي ج 2 ص 193.
358
قال: أفساخطة أنت عليه؟
قالت: نعم، ما كلمته منذ ست حجج.
قال لها: ارض عنه. قالت: رضي الله عنه برضاك يا رسول الله.
فقال له رسول الله: قل لا إله الا الله. قال: فقالها.
فقال النبي صلى الله عليه وآله: ما ترى؟
فقال أرى رجلا أسودا قبيح المنظر، وسخ الثياب، منتن الريح، قد وليني الساعة فأخذ
بكظمي.
فقال له النبي: قل يا من يقبل اليسير ويعفو عن الكثير، إقبل مني السير واعف عن
الكثير، انك أنت الغفور الرحيم. فقالها الشاب.
فقال النبي صلى الله عليه وآله: أنظر، ماذا ترى؟
قال: أرى رجلا أبيض اللون، حسن الوجه، طيب الريح، حسن الثياب قد وليني، وأرى
الأسود قد تولى عني.
قال: أعد. فأعاد.
قال: ما ترى؟ قال: لست أرى الأسود، وأرى الأبيض قد وليني ثم طغى على تلك الحال (1).
ومن آثار العقوق:
انه من الذنوب الكبائر التي توعد الله عليها بالنار، كما صرحت بذلك الأخبار.
والجدير بالذكر، أنه كما يجب على الأبناء طاعة آبائهم وبرهم والاحسان



(1) البحار م 16 ج 4 ص 23، عن امالي أبي علي ابن الشيخ الطوسي.
359
إليهم، كذلك يجدر بالآباء أن يسوسوا أبناءهم بالحكمة، ولطف المداراة، ولا يخرقوا
بهم ويضطروهم إلى العقوق والعصيان.
فعن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يلزم
الوالدين من العقوق لولدهما إذا كان الولد صالحا ما يلزم الولد لهما (1).
وقال صلى الله عليه وآله: لعن الله والدين حملا ولدهما على عقوقهما، ورحم الله
والدين حملا ولدهما على برهما (2).
حقوق الأولاد:
الأولاد الصلحاء هم زينة الحياة، وربيع البيت، وأقمار الأسرة، وأعز آمالها
وأمانيها، وأجل الذخائر وأنفسها. لذلك أثنى عليهم أهل البيت وغيرهم من الحكماء
والأدباء.
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الولد
الصالح ريحانة من رياحين الجنة (3).
وفي حديث آخر، قال صلى الله عليه وآله: من سعادة الرجل الولد الصالح (4).



(1) البحار م 16 ج 4 ص 22، عن خصال الصدوق.
(2) الوافي ج 14 ص 50، عن الفقيه.
(3) الوافي ج 12 ص 196، عن الكافي.
(4) الوافي ج 12 ص 196، عن الفقيه.
360
وقال أبو الحسن عليه السلام: إن الله تعالى إذا أراد بعبد خيرا لم يمته حتى يريه
الخلف (1).
وقال حكيم في ميت: إن كان له ولد فهو حي، وإن لم يكن له ولد فهو ميت.
وفضل الولد الصالح ونفعه لوالديه لا يقتصر على حياتهما فحسب، بل يسري حتى بعد
وفاتهما وانقطاع أملهما من الحياة.
عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر الا ثلاث
خصال: صدقة أجراها في حياته وهي تجري بعد موته، وسنة هدي سنها فهي يعمل بها بعد
موته، أو ولد صالح يدعو له (2).
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: مر عيسى
بن مريم بقبر يعذب صاحبه، ثم مر به من قابل فإذا هو لا يعذب. فقال: يا رب، مررت
بهذا القبر عام أول وكان يعذب!. فأوحى الله إليه. انه أدرك له ولد صالح فأصلح
طريقا، وآوى يتيما، فلهذا غفرت له بما فعل ابنه. ثم قال رسول الله صلى الله
عليه وآله: ميراث الله من عبده المؤمن ولد يعبده من بعده. ثم تلا أبو عبد الله
عليه السلام آية زكريا على نبينا وآله وعليه السلام: فهب لي من لدنك وليا يرثني
ويرث من آل يعقوب، واجعله ربي رضيا (مريم: 5 - 6) (3).



(1) الوافي ج 12 ص 197، عن الفقيه.
(2) الوافي ج 13 ص 90، عن الكافي.
(3) الوافي ج 12 ص 197، عن الكافي.
361
ومن الواضح أن صلاح الأبناء واستقامتهم لا يتسنيان عفوا وجزافا، وانما يستلزمان
رعاية فائقة واهتماما بالغا في إعدادهم وتوجيههم وجهة الخير والصلاح.
من أجل ذلك وجب على الآباء تأديب أولادهم وتنشئتهم على الاستقامة والصلاح، ليجدوا
ما يأملون فيهم من قرة عين، وحسن هدى وسلوك.
قال الإمام السجاد عليه السلام: وأما حق ولدك: فان تعلم أنه منك، ومضاف إليك في
عاجل الدنيا بخيره وشره. وانك مسؤول عما وليته من حسن الأدب، والدلالة له على ربه
عز وجل، والمعونة له على طاعته. فاعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الاحسان
إليه، معاقب على الإساءة إليه (1).
فالآباء مسؤولون عن تهذيب أبنائهم وإعدادهم إعدادا صالحا، فان أغفلوا ذلك أساؤا
إلى أولادهم، وعرضوهم لأخطار التخلف والتسيب الديني والاجتماعي.
ويحسن بالآباء أن يبادروا أبناءهم بالتهذيب والتوجيه، منذ حداثتهم ونعومة أظفارهم،
لسرعة استجابتهم إلى ذلك قبل تقدمهم في السن، ورسوخ العادات السيئة والأخلاق
الذميمة فيهم، فيغدون آن ذاك أشد استعصاءا على التأديب والاصلاح.



(1) رسالة الحقوق، للإمام علي بن الحسين عليه السلام.
362
حكمة التأديب:
وهكذا يجدر بالآباء ان يتحروا القصد، والاعتدال في سلطتهم، وأساليب تأديب أبنائهم،
فلا يسوسونهم بالقسوة والعنف مما يعقدهم نفسيا، ويبعثهم على النفرة والعقوق. ولا
يتهاونوا في مؤاخذتهم على الإساءة والتقصير، فيستخفون بهم ويتمردون عليهم، فان من
أمن العقوبة أساء الأدب.
وخير الأساليب في ذلك هو التدرج في تأديب الأبناء وتقويمهم، وذلك بتشجيعهم على
الاحسان، بالمدح والثناء وحسن المكافأة، وبنصحهم على الإساءة. فان لم يجدهم ذلك،
فبالتقريع والتأنيب، والا فبالعقوبة الرادعة، والتأنيب الزاجر.
المدرسة الأولى للطفل:
والبيت هو المدرسة الأولى للطفل، يترعرع في ظلاله، وتتكامل فيه شخصيته، وتنمو فيه
سجاياه، متأثرا بأخلاق أبويه وسلوكهما. فعليهما أن يكونا قدوة حسنة، ومثلا
رفيعا، لتنعكس في نفسه مزاياهم وفضائلهم.

363
منهاج التأديب:
1 - وأول ما يبدأ به في تهذيب الطفل، تعليمه آداب الأكل والشرب: كغسل اليدين قبل
الطعام وبعده، والأكل بيمينه، وإجادة المضغ، وترك النظر في وجوه الآكلين، والرضا
والقنوع بالمقسوم من الرزق. ونحو ذلك من الآداب.
2 - ويراض الطفل على أدب الحديث، والكلام المهذب، والقول الحسن. ومنعه عن الفحش،
والبذاء، والاغتياب، والثرثرة. وما إلى ذلك من مساوئ اللسان وأن يحسن الاصغاء، كما
يحسن الحديث، فلا يقاطع متحدثا حتى ينتهي من حديثه.
3 - وأهم ما يعني به في توجيه الأولاد، غرس المفاهيم الدينية فيهم، وتنشئتهم على
العقيدة والايمان، بتعليمهم أصول الدين وفروعه بأسلوب يلائم مستواهم الفكري،
ليكونوا على بصيرة من عقيدتهم وشريعتهم، محصنين ضد الشبه المضللة من أعداء الاسلام
يا أيها الذين امنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة، عليها
ملائكة غلاظ شداد، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون (التحريم: 6).
4 - وعلى الآباء ان يروضوا أبناءهم على التخلق بالأخلاق الكريمة والسجايا النبيلة:
كالصدق، والأمانة، والصبر، والاعتماد على النفس.
وتحريضهم على حسن معاشرة الناس: كتوقير الكبير، والعطف على

364
الصغير، وشكر المحسن، والتجاوز ما وسعهم عن المسئ، والتحنن على البؤساء
والمعوزين.
5 - ومن المهم جدا منع الأبناء من معاشرة القرناء المنحرفين الأشرار، وتحبيذ
مصاحبة الأخدان الصلحاء لهم، لسرعة تأثرهم بالأصدقاء، واكتسابهم من أخلاقهم
وطباعهم، كما قال النبي صلى الله عليه وآله: المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم
من يخالل.
وقد شهد الناس كثيرا من مآسي الشباب الذين انحرفوا عن النهج السوي، وتدهوروا في
مهاوي الرذيلة والفساد، لتأثرهم بقرناء السوء، وأخدان الشر.
6 - وهكذا يحسن بالآباء أن يستطلعوا مواهب أبنائهم وكفاءاتهم، ليوجهوهم، في ميادين
الحياة وطرائق المعاش، حسب استعدادهم ومؤهلاتهم الفكرية والجسمية: من طلب العلم، أو
ممارسة الصناعة، أو التجارة. ليستطيعوا الاضطلاع بأعباء الحياة، ويعيشوا عيشا
كريما.

365
الحقوق الزوجية
فضل الزواج
الزواج: هو الرابطة الشرعية المقدسة، وشركة الحياة بين الزوجين. شرعه الله عز وجل
لحفظ النوع البشري وتكاثره، وعمران الأرض وازدهار الحياة فيها.
وقد رغبت فيه الشريعة الاسلامية وحرضت عليه كتابا وسنة:
قال تعالى: وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم، ان يكونوا فقراء
يغنهم الله من فضله، والله واسع عليم (النور: 32).
وقال سبحانه: ومن آياته ان خلق لكم من أنفسكم أزواجا، لتسكنوا إليها، وجعل بينكم
مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون (الروم: 21).
وعن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ما بني بناء
في الاسلام أحب إلى الله من التزويج (1).
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من تزوج
أحرز نصف دينه، فليتق الله في النصف الآخر (2).
وقال صلى الله عليه وآله: النكاح سنتي، فمن رغب عن سنتي، فليس مني (3).



(1) الوافي ج 12 ص 11، عن الفقيه.
(2) الوافي ج 12 ص 11، عن الكافي.
(3) البحار م 23 ص 51، عن مكارم الأخلاق للطبرسي.
366
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: تزوجوا
فاني مكاثر بكم الأمم غدا يوم القيامة، حتى أن السقط يجئ محبنطئا على باب
الجنة، فيقال له أدخل، فيقول: لا حتى يدخل أبواي قبلي (1).
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: ركعتان يصليهما المتزوج أفضل من سبعين ركعة
يصليها أعزب (2).
وقال النبي صلى الله عليه وآله: لركعتان يصليهما متزوج، أفضل من رجل عزب يقوم
ليله ويصوم نهاره (3).
وقال صلى الله عليه وآله: رذال موتاكم العزاب (4).
1 - فوائد الزواج:
ولا عجب أن تؤكد هذه النصوص على الزواج تأكيدها الملح، وتحرض عليه بالترغيب تارة
والترهيب أخرى، لما ينطوي عليه من صنوف الخصائص والمنافع:
1 - فمن خصائصه: أنه الوسيلة الوحيدة لكسب الذرية الطيبة،



(1) الوافي ج 12 ص 11، عن الفقيه، (المحبنطئ: المغتاظ).
(2) الوافي ج 12 ص 11، عن الفقيه والكافي.
(3) الوافي ج 12 ص 11، عن الفقيه.
(4) الوافي ج 12 ص 11، عن الفقيه.
367
والأبناء الصلحاء، وهم زينة الحياة الدنيا، وأعز ذخائرها، وألذ متعها وأشواقها، بهم
يستشعر الآباء العزة والمتعة، وامتداد الحياة، وطيب الذكر، وحسن المكافأة، وجزيل
الأجر عند الله عز وجل، كما أوضحته النصوص السالفة في فضل الولد الصالح.
2 - ومن منافع الزواج:
انه باعث على عفة المتزوج وحصانته ضد الفجور والآثام الجنسية، وهذا ما عناه النبي
صلى الله عليه وآله بقوله: من تزوج أحرز نصف دينه، فليتق الله في النصف الآخر.
من أجل ذلك كان عقاب الزاني المحصن رجما بالحجارة حتى الموت، لتحصنه بالزواج،
واستهتاره بقدسية الأعراض وكرامتها المصونة.
3 - ومن آثار الزواج:
أنه من دواعي رغد العيش، وسكينة النفس، وراحة الضمير والوجدان. ذلك أن الرجل كثيرا
ما يعاني أزمات الحياة، ومتاعب الكفاح في سبيل العيش، فيجد في ظلاله زوجته الحبيبة
المخلصة من حسن الرعاية ولطف المؤانسة، ورقة الحنان، ما يخفف عناءه ويسري عنه
الكثير من المتاعب والهموم، ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا
إليها،

368
وجعل بينكم مودة ورحمة.
وعن أبي عبد الله عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
ما استفاد امرؤ مسلم فائدة بعد الاسلام أفضل من زوجة مسلمة، تسره إذا نظر إليها،
وتطيعه إذا أمرها، وتحفظه إذا غاب عنها في نفسها وماله (1).
السعادة الزوجية:
ومن الثابت أن السعادة الزوجية لا تتحقق، ولا ينال الزوجان ما يصبوان إليه من رغد
وهناء، الا إذا أحسن كل منهما اختيار صاحبه، وشريك حياته، واصطفاه على ضوء القيم
الأصيلة والمقاييس الثابتة، التي من شأنها أن توثق الروابط الزوجية، وتنشر السعادة
والسلام في ربوع الحياة الزوجية. كما أن سوء الاختيار كثيرا ما يعرضها للفشل
والاخفاق.
وقد عالج أهل البيت عليهم السلام هذا الجانب الموضوعي من حياة الناس، فأوضحوا محاسن
ومساوئ كل من الرجل والمرأة، ليكون كل منهما على بصيرة من اختيار زوجه وشريك
حياته.
الزوج المثالي:
والزوج المثالي: هو الرجل الكفوء الذي تسعد المرأة في ظلاله،



(1) الوافي ج 12 ص 16، عن الكافي والفقيه.
369
وتنعم بحياة زوجية هانئة.
فليست الكفاءة كما يتوهمها غالب الناس - منوطة بالزخارف المادية فحسب، كالقصر
الفخم، أو السيارة الفارهة، أو الرصيد المالي الضخم.
وليست هي كذلك منوطة بالشهادة العالية، أو الوظيفة المرموقة، أو الحسب الرفيع.
وفقد تتوفر هذه الخلال في الرجل، وهي رغم ذلك لا تحقق سعادة الزوجة وأمانيها في
الحياة، كما أعربت عن ذلك زوجة معاوية، وقد سئمت في كنفه مظاهر الترف والبذخ
والسلطان والثراء، وحنت إلى فتى أحلامها، وان كان خلوا من كل ذلك:
لبيت تخفق الأرواح فيه * أحب إلي من قصر منيف
ولبس عباءة وتقر عيني * أحب إلي من لبس الشفوف
وخرق من بني عمي نجيب * أحب إلي من علج عنيف
فالكفاءة الحقة، هي مزيج من عناصر ثلاث: التمسك بالدين، والتحلي بحسن الخلق،
والقدرة على إعالة الزوجة ورعايتها ماديا وأدبيا. وبذلك يغدو الرجل كفئا وزوجا
مثاليا في عرف الاسلام.
فعن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا جاءكم من
ترضون خلقه ودينه، فزوجوه، إن لا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير (1).
وقال الصادق عليه السلام: الكفوء أن يكون عفيفا وعنده يسار (2).



(1) الوافي ج 12 ص 17، عن الكافي.
(2) الوافي ج 12 ص 18 عن الكافي والفقيه والتهذيب.
370
لذلك كان مكروها في الشريعة الاسلامية تزويج الفاسق، وشارب الخمر، والمخنث، وسيئ
الخلق. ونحوهم ممن لا يوثق بدينه وأخلاقه.
الزوجة المثالية:
والزوجة المثالية: هي المتحلية بالايمان، والعفاف، وكرم الأصل، وجمال الخلق
والخلق، وحسن العشرة مع زوجها.
وقد صورت نصوص أهل البيت عليهم السلام خصائص النساء، وصفاتهن الكريمة والذميمة،
لتكون علامة فارقة بين الزوجة المثالية وغيرها.
عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وآله فقال: ان خير
نسائكم الولود، الودود، العفيفة، العزيزة في أهلها، الذليلة مع بعلها، المتبرجة مع
زوجها، الحصان على غيره، التي تسمع قوله وتطيع أمره، وإذا خلا بها بذلت له ما يريد
منها، ولم تبذل كتبذل الرجل.
ثم قال: ألا أخبركم بشرار نسائكم؟ الذليلة في أهلها، العزيزة مع بعلها، العقيم
الحقود، التي لا تورع من قبيح، المتبرجة إذا غاب عنها بعلها، الحصان معه إذا حضر،
لا تسمع قوله، ولا تطيع أمره، وإذا خلا بها بعلها تمنعت منه، كما تمنع الصعبة من
ركوبها، ولا تقبل له عذرا ولا تغفر له ذنبا (1).
وعن أبي عبد الله عليه السلام عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال:



(1) الوافي ج 12 ص 14، عن الكافي والتهذيب.
371
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أفضل نساء أمتي أصبحهن وجها وأقلهن
مهرا (1).
وعن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من تزوج امرأة
لا يتزوجها الا لجمالها لم ير فيها ما يحب، ومن تزوجها لمالها لا يتزوجها الا له
وكله الله إليه، فعليكن بذات الدين (2).
وقام النبي صلى الله عليه وآله خطيبا فقال: أيها الناس، إياكم وخضراء الدمن. قيل
يا رسول الله: وما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء (3).
وقد نهى الحديث عن تزوج المرأة الوضيئة الحسناء إذا كانت من أسرة مغموزة في عفتها
ونجابتها.
رعاية الحقوق:
والزوجان بعد هذا لا يكسبان السعادة الزوجية والهناء العائلي، الا برعاية كل منهما
حقوق الآخر وأداء واجباته، جريا على قانون الأخذ والعطاء. وبذلك ينعمان بحياة
سعيدة، آمنة من مثيرات النكد والتنغيص.
وقد أولت الشريعة الاسلامية الحياة الزوجية عناية بالغة، بصفتها



(1) الوافي ج 12 ص 15، عن الكافي والفقيه.
(2) الوافي ج 12 ص 13، عن التهذيب.
(3) الوافي ج 12 ص 12، عن الكافي والفقيه.
372
الخلية الأولى من خلايا المجتمع الكبير، ورعتها بالتنظيم والتوجيه، وقررت الحقوق
المشتركة بين الزوجين، والحقوق الخاصة بكل منهما على انفراد.
فالحقوق المشتركة التي يجدر تبادلها بين الزوجين، هي: الاخلاص، الثقة، الأمانة،
التعاطف، والتآزر. وهذه هي عناصر الحياة الزوجية الناجحة، ومقوماتها الأصيلة.
وأما الحقوق الخاصة فسنعرضها في مطاوي هذا البحث:
حقوق الزوج
للزوج حقوق على زوجه بحكم رعايته لها وقوامته عليها، وهي:
1 - الطاعة:
وهي أول متطلبات الزوج وحقوقه المفروضة على زوجه. فهي مسؤولة عن طاعته وتلبية
رغباته المشروعة، ومفاداة كل ما يسيئه ويغيظه، كالخروج من الدار بغير رضاه،
والتبذير في ماله، وإهمال وظائفها المنزلية، ونحو ذلك مما يعرض الحياة الزوجية
لأخطار التباغض والفرقة.
فعن أبي جعفر عليه السلام قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وآله فقالت: يا
رسول الله، ما حق الزوج على المرأة؟ فقال لها: أن تطيعه ولا تعصيه، ولا تصدق من
بيته الا باذنه، ولا تصوم طوعا

373
الا باذنه، ولا تمنعه نفسها وان كانت على ظهر قتب، ولا تخرج من بيتها الا باذنه،
وإن خرجت بغير اذنه لعنتها ملائكة السماء وملائكة الأرض، وملائكة الغضب وملائكة
الرحمة حتى ترجع إلى بيتها.
فقالت: يا رسول الله من أعظم الناس حقا على الرجل؟
قال: والده.
قالت: فمن أعظم الناس حقا على المرأة؟
قال: زوجها... (1).
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن رجلا من الأنصار على عهد رسول الله صلى
الله عليه وآله، خرج في بعض حوائجه. فعهد إلى امرأته عهدا ان لا تخرج من بيتها حتى
يقدم.
قال: وان أباها مرض، فبعثت المرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت: ان
زوجي خرج وعهد إلي أن لا أخرج من بيتي حتى يقدم، وان أبي قد مرض، فتأمرني ان
أعوده؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا، اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك.
قال: فثقل، فأرسلت إليه ثانيا بذلك، فقالت: فتأمرني أن أعوده؟
فقال: اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك.
قال: فمات أبوها، فبعثت إليه إن أبي قد مات، فتأمرني أن أصلي عليه؟



(1) الوافي ج 12 ص 114، عن الكافي والفقيه.
374
فقال: لا، اجلسي في بيتك وأطيعي زوجك.
قال: فدفن الرجل، فبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وآله: ان الله تعالى قد
غفر لك ولأبيك بطاعتك لزوجك (1).
وقال أبو عبد الله عليه السلام: أيما امرأة باتت وزوجها عليها ساخط في حق، لم
تقبل منها صلاة حتى يرضى عنها (2).
2 - المداراة:
وعلى الزوجة ان تحيط زوجها بحسن العشرة، وجميل الرعاية، ولطف المداراة، وذلك بتفقد
شؤونه، وتوفير وسائل راحته النفسية والجسمية، وحسن التدبير المنزلي، ورعاية عياله،
ليستشعر منها العطف والولاء، وتغدو الزوجة بذلك حظية عند زوجها، أثيرة لديه،
يبادلها الحب والاخلاص. وتكون إلى ذلك قدوة حسنة لأبنائها، يستلهمون منها كريم
الأخلاق وحسن الأدب.
ومن أهم صور المداراة ان تتفادى المرأة جهدها، عن ارهاق زوجها بالتكاليف الباهضة،
والمآرب التي تنوء بها امكاناته الاقتصادية، فذلك مما يسبب إرباكه واغتمامه، ومن ثم
يستثير سخطه ونفاره من زوجته.



(1) الوافي ج 12 ص 115، عن الكافي.
(2) الوافي ج 12 ص 114، عن الكافي والفقيه.
375
فعن أبي إبراهيم عليه السلام قال: جهاد المرأة حسن التبعل (1).
ولا ريب ان حسن تبعل الزوجة وكرم أخلاقها، يشد أزر الزوج، ويرفع معنوياته، ويمده
بطاقات جسمية ونفسية ضخمة، تضاعف من قدرته على مواصلة الكفاح والجهاد في سبيل
العيش، ويزيده قوة وصلابة على معاناة الشدائد والأزمات، كما أن شراستها وتمردها
يوهن كيانه، ويضعف طاقته، ويهرمه قبل أوان الهرم، وفي التاريخ دلائل وشواهد على
ذلك.
منها: قصة الاخوة الثلاثة من بني غنام، حينما جاءهم نفر يحكمونهم في مشكلة أعياهم
حلها، فانتهوا إلى واحد منهم، فرأوا شيخا كبيرا، فقال لهم: ادخلوا إلي أخي
فلان فهو أكبر مني، فاسألوه.
فدخلوا عليه، فخرج شيخ كهل، فقال سلوا أخي الأكبر مني.
فدخلوا على الثالث، فإذا هو في المنظر أصغر. فسألوه أولا عن حالهم، ثم أوضح مبينا
لهم، فقال:
أما أخي الذي رأيتموه أولا، هو الأصغر، فان له امرأة سوء تسوؤه وقد صبر عليها
مخافة ان يبتلى ببلاء لا صبر له عليه، فهرمته.
وأما أخي الثاني فان عنده زوجة تسوؤه وتسره، فهو متماسك الشباب.
وأما أنا، فزوجتي تسرني، ولا تسوؤني، لم يلزمني منها مكروه قط منذ صحبتني. فشبابي
معها متماسك (2).



(1) الوافي ج 12 ص 114، عن الكافي.
(2) عن سفينة البحار ج 1 ص 133 بتصرف واختصار.
376
وهذه وصية بليغة لأعرابية حكيمة، توصي بها ابنتها ليلة البناء بها: أي بنية، إنك
فارقت بيتك الذي منه خرجت، وعشك الذي فيه درجت، إلى وكر لم تعرفيه، وقرين لم
تألفيه. فكوني له أمة يكن لك عبدا، واحفظي له خصالا عشرا:
أما الأولى والثانية: فاصحبيه بالقناعة، وعاشريه بحسن السمع والطاعة.
وأما الثالثة والرابعة: فالتفقد لموضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح، ولا
يشم منك الا أطيب ريح.
وأما الخامسة والسادسة: فالتفقد لوقت منامه وطعامه، فان تواتر الجوع ملهبة، وتنغيص
النوم مغضبة.
وأما السابعة والثامنة: فالاحتراس بماله، والارعاء على حشمه وعياله. وملاك الأمر في
المال حسن التقدير، وفي العيال حسن التدبير.
وأما التاسعة والعاشرة: فلا تعصين له أمرا، ولا تفشين له سرا. فإنك ان خالفتيه
أغرت صدره، وان أفشيت سره لم تأمين غدره.
ثم إياك والفرح بين يديه إذا كان مهتما، والكآبة بين يديه إذا كان فرحا، فان
الخصلة الأولى من التقصير، والثانية من التكدير.
وكوني له أشد الناس له إعظاما يكن أشدهم لك اكراما. واعلمي أنك لا تصلين إلى ما
تحبين حتى تؤثري رضاه على رضاك، وهواه على هواك، فيما أحببت وكرهت. والله يخير
لك (1).



(1) مختارات المنفلوطي ص 240.
377
3 - الصيانة:
وأهم واجبات الزوجة، صيانة شرف زوجها وسمعته، فتتفادى جهدها عما يسيئهما ويخدشهما،
كالخلاعة والميوعة، وافشاء أسرار الزوج، وكشف ما يحرص على اخفائه من صور الفاقة
والعوز، فذلك مما يضعف ثقة الزوج بها ويهددها بالنفرة والفرقة.

378
حقوق الزوجة
وهكذا أولت الشريعة الاسلامية الزوجة عناية كبرى ومنحتها حقوقها المادية والأدبية،
ازاء حقوق الزوج عليها. مشرعة ذلك على أساس الحكمة والعدل، ورعاية مصلحة الزوجين
وخيرهما معا، وهي أمور:
1 - النفقة:
وهي حق محتم على الزوج، يجب أداؤه إليها، وتوفير حاجاتها المعاشية، من الملبس
والمطعم والمسكن، ونحو ذلك من مستلزمات الحياة حسب شأنها وعادتها.
والنفقة حق معلوم للزوجة، تتقاضاه من زوجها، وان كانت ثرية موسرة، لا يسقط الا
بنشوزها وتمردها على الزوج. وليس له قسرها على الخدمات المنزلية، أو إرضاع طفله،
الا ان تتطوع بذلك عن رغبة وإيثار.

379
التوسعة على العيال:
وقد يسترق البخل بعض النفوس فتنزع إلى الشح والتقتير على العيال، متغاضية عن
أشواقهم ومآربهم. ومن هنا جاءت أحاديث أهل البيت عليهم السلام محذرة من ذلك
الامساك، ومرغبة في البر بهم، والتوسعة عليهم.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: خيركم خيركم لنسائه، وأنا خيركم لنسائي (1).
وقال صلى الله عليه وآله: عيال الرجل اسراؤه، وأحب العباد إلى الله تعالى أحسنهم
صنيعا إلى اسرائه (2).
وقال أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام: عيال الرجل اسراؤه، فمن أنعم الله
عليه نعمة فليوسع على اسرائه، فان لم يفعل أوشك أن تزول تلك النعمة (3).
وهكذا أثبتت أحاديثهم عليهم السلام وباركت جهود الكادحين، في طلب الرزق الحلال،
لتموين أزواجهم وعوائلهم، وتوفير وسائل العيش لهم.



(1) الوافي ج 12 ص 117، عن الفقيه.
(2) الوافي ج 12 ص 117، عن الفقيه.
(3) الوافي ج 12 ص 117، عن الفقيه.
380
فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله (1).
وعن أبي جعفر عليه السلام قال: من طلب الرزق في الدنيا، استعفافا عن الناس،
وسعيا على أهله، وتعطفا على جاره لقي الله عز وجل يوم القيامة ووجهه مثل القمر
ليلة البدر (2).
2 - حسن العشرة:
والزوجة أنيسة الرجل، وشريكة حياته، تشاطره السراء والضراء، وتواسيه في الأفراح
والأحزان. وتنفرد بجهود شاقة مضنية من تدبير المنزل، ورعاية الأسرة، ووظائف
الأمومة. فعلى الرجل ان يحسن عشرتها، ويسوسها بالرفق والمداراة، تلطيفا لمشاعرها،
ومكافأة لها على جهودها. وذلك مما يسليها، ويخفف متاعبها، ويضاعف حبها وإخلاصها
لزوجها.
وقد يستبد الصلف والغرور ببعض الأزواج، فيحسبون ان قوة الشخصية وسمات الرجولة لا
تبرز فيهم الا بالتحكم بالزوجة، والتجهم لها، والتطاول عليها بالإهانة والتحقير.
وتلك خلال مقيتة، تنم عن شخصية هزيلة معقدة، تعكر صفو الحياة الزوجية، وتنغص
الهناء العائلي.
والمرأة بحكم عواطفها ووظائفها، مرهفة الاحساس، سريعة التأثر،



(1) الوافي ج 10 ص 18، عن الكافي والفقيه.
(2) الوافي ج 10 ص 18، عن الكافي والتهذيب.
381
قد تسئ إلى زوجها بكلمة نابية، أو تقريع جارح، صادرين عن ثورة نفسية، وهياج عاطفي.
فعلى الرجل أن يضبط أعصابه، ويقابل اساءتها بحسن التسامح والاغضاء، لتسير سفينة
الأسرة آمنة مطمئنة، في محيط الحياة، لا تزعزعها عواصف النفرة والخلاف.
فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: انما مثل
المرأة مثل الضلع المعوج، ان تركته انتفعت به، وان أقمته كسرته (1).
فإذا تمادت المرأة في عصيان زوجها وتمردها عليه، فعليه ان يتدرج في علاجها
وتأديبها، بالنصح والارشاد، فان لم يجدها ذلك أعرض عنها، واعتزال مضاجعتها، فان لم
يجدها ذلك ضربها ضربا تأديبيا، مبرءا من القسوة، والتشقي الحاقد واللاتي تخافون
نشوزهن فعظوهن، واهجروهن في المضاجع، واضربوهن. فان أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا.
3 - الحماية:
والزوج بحكم قوامته على الزوجة، ورعايته لها، مسؤول عن حمايتها وصيانتها عما
يسيئها ويضرها أدبيا وماديا، وعليه ان يكون غيورا عليها، صائنا لها مما يشوه
سمعتها، ويثلب كرامتها من التخلع والاختلاط المريب، ومعاشرة المريبات من النساء.



(1) الوافي ج 12 ص 120، عن الكافي.
382
وما أسوأ الذين يزجون أزواجهم في الندوات الخليطة، والحفلات الداعرة، يخالطن
ويراقصن من شئن من الرجال، متعامين عن أضرار ذلك الاختلاط، وأخطاره الدينية
والأخلاقية والاجتماعية، التي تهدد كيان الأسرة، وتنذرها بالتبعثر والانحلال.
وعلى المرء ان يحمي زوجه وأسرته من دسائس الغزو الفكري، ودعاياته المضللة، التي
انخدع بها أغرار المسلمين، نساءا ورجالا، وتلقفوها تلقف الببغاء، دونما وعي
وتمحيص في واقعها وأهدافها. وذلك بتعليمهم أصول الدين الاسلامي ومفاهيمه حسب
مستواهم الثقافي والفكري، تحصينا لهم من تلك الدسائس والشرور.
يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا، وقودها الناس والحجارة عليها
ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون
(التحريم: 6)
* * *
الحقوق المزيفة
وتمحض العصر الحديث عن ضلالات ومبادئ غزت الشرق الاسلامي، وسممت أفكاره ومشاعره.
وكان ذلك بتخطيط وكيد من أعداء الاسلام، لاطفاء نوره الوهاج. واستجاب الأغرار
والبلهاء لتلك المفاهيم الوافدة، المناقضة لدينهم وشريعتهم، وطفقوا يحاكونها،
وينادون بها كأنها من

383
صميم مبادئهم. وانطمست تلك الصورة الاسلامية التي كانت بالأمس القريب تشع بالجمال
والنور والمثالية، وخلفتها صور مسيخة شوهاء يستبشعها الضمير المسلم، ويستنكرها واقع
الاسلام، وغدا يستشعر الغربة والوحشة في ربوعه وبين اتباعه ومعتنقيه. وراحت
المفاهيم الجاهلية الأولى تحتل مواقعها من مشاعر المسلمين وضمائرهم، لتحيلها قفرا
يبابا من قيم الاسلام ومثله الرفيعة.
وانطلقت حناجر، وصرت أفلام أجيرة، تطالب بالمزيد من تلك الأعراف الجاهلية، لتشيع
مفاهيمها الدارسة من جديد، في المحيط الاسلامي، وعلى حساب المرأة المسلمة، والتغاير
على حقوقها وتحريرها ومساواتها بالرجل، ونحو ذلك من صور الدعايات المدجلة.
1 - السفور:
لقد عز على دعاة التحرر أن يروا المرأة المسلمة محصنة بالصون والحجاب، عصية الطلب،
بعيدة المنال. فأغروها بالسفور والتبرج، ليستزلوها من علياء برجها وخدرها. واستجابت
المرأة لتلك الدعوة الماكرة وراحت تنظي حجابها وتبرز جمالها ومفاتنها، تستهوي
العيون والقلوب، دونما تحرج أو استحياء.
وما خدعت المرأة المسلمة وغرر بها في تاريخها المديد بمثل ذلك الخداع والتلبيس،
متجاهلة عما يترصدها من جراء ذلك من الأخطار والمزالق.

384
ليس الحجاب كما يصوره المتحللون تخلفا ورجعية، وانما هو حشمة وحصانة، تصون المرأة
من التبذل والاسفاف، ويقيها تلصص الغواة والداعرين، وتجنبها مزالق الفتن والشرور.
وحسب المسلمين ان يعتبروا بما أصاب الأمم الغربية من ويلات السفور والتبرج، واختلاط
الجنسين، ما جعلها في وضع سيئ وحالة مزرية، من التسيب الخلقي. وغدت تعاني ألوان
المآسي الأخلاقية والصحية والاجتماعية
الأضرار الخلقية:
لقد أحدث التبرج والاختلاط في الأوساط الغربية مضاعفات أخلاقية خطيرة، تثير الفزع
والتقزز. فأصبحوا لا يستنكرون الرذائل الجنسية، ولا يستحيون من آثامها ومعائبها.
وراح الوباء الخلقي يجتاحهم ويفتك بهم فتكا ذريعا، حتى انطلقت صيحات الغيارى منهم
معلنة بالتذمر والاستنكار، ومنذرة بالخطر الرهيب.
فقد صور (بول بيودر) انهيار الأخلاق في بلاده حيث قال: لم يعد الآن من الغريب
الشاذ وجود العلاقات الجنسية بين الأقارب في النسب، كالأب والبنت، والأخ والأخت في
بعض الأقاليم الفرنسية، وفي النواحي المزدحمة في المدن.
وجاء في تقرير (اللجنة الأربعة عشرية) المعنية بالفحص عن مكامن الفجور: ان كل ما
يوجد في البلاد الأمريكية من المراقص والنوادي

385
الليلة، ومجالي الزينة، وأماكن التدريم، وحجرات التدليك، ومراكز تمويج الشعر، قد
أصبح جلها مواطن للفجور ودورا للبغاء، بل هي أقبح منها وأشنع، لما يرتكب فيها من
الرذائل التي لا تصلح للذكر.
ومما يخمنه القاضي (لندسي) الأمريكي: أن خمسا وأربعين في المائة من فتيات المدارس
يدنسن أعراضهن قبل خروجهن منها، وترتفع هذه النسبة كثيرا في مراحل التعليم
التالية.
وقال (جورج رائيلي اسكات) في كتابه (تاريخ الفحشاء) وهو يشير إلى حالة بلاده في
الغالب وقد بلغ عدد هؤلاء العاهرات غير المحترفات في هذه الأيام مبلغا لم يعهد قط
فيما قبل، فهؤلاء يوجدن في كل طبقة من طبقات المجتمع من الدنيا والعليا.... وقد
أصبح تعاطي الفجور وعدم التصون بل اتخاذ الأطوار السوقية، معدودا عند فتاة العصر،
من أساليب العيش المستجدة.
وقد سرت عدوى هذا التفسخ الخلقي إلى الصبية والصبايا من أولئك الأقوام، لتأثرهم
بالمحيط الفاسد والمثيرات الجنسية.
يقول الدكتور (راديت هوكو) في كتابه (القوانين الجنسية): انه ليس من الغريب الشاذ
حتى في الطبقات المثقفة المترفة، ان بنات سبع أو ثماني سنين منهم، يخادن لداتهن من
الصبية، وربما تلوثن معهم بالفاحشة.
وقد جاء في تقرير طبيب من مدينة (بالتي مور): أنه قد رفع إلى المحاكم في تلك
المدينة أكثر من ألف مرافعة في مدة سنة واحدة، كلها

386
في ارتكاب الفاحشة مع صبايا دون الثانية عشرة من العمر.
ولم تقف الفوضى الخلقية عند هذا الدرك السافل، فقد تفاقمت حتى أصبحت العلاقات
الجنسية الطبيعية... لا تشبع نهمهم الجنسي، فراحوا يتمرغون في مقاذر الشذوذ الجنسي
وانحرافاته النكراء. وعاد من المألوف لديهم ان يتزوج الفتى فتى مثله، بتشجيع من
القانون، ومرأى ومسمع من الناس، وهم يباركون هذا العرس!!
ويقول الدكتور (هوكر): انه لا تزال تحدث في مثل هذه المدارس والكليات ودور التربية
للممرضات، والمدارس الدينية، من تسافح الوالدين من الجنس الواحد فيما بينهما، وقد
تلاشى أو كاد... ميلهم الطبيعي إلى الجنس المخالف.
والآن فلنسائل الببغاوات من دعاة التحرر والتبرج، أهذا الذي ينشدونه لأنفسهم وأمتهم
الاسلامية... أم أنهم لا يفقهون ما ينادون به ويدعون إليه؟
ان كل داعية إلى التبرج والاختلاط هو بلا ريب، معول هدام، في كيان المجتمع
الاسلامي، ورائد شر ودعارة لأمته وبلاده.
إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة،
والله يعلم وأنتم لا تعلمون (النور: 19).
* * *

387
الأضرار الصحية:
وكان من الطبيعي لأمة شاع فيها الفساد، وتلاشت فيها قيم الدين والأخلاق، أن تعاني
نتائج شذوذها وتفسخها، فتنهار صحتها كما انهارت أخلاقها من قبل.
وهذا ما حدث فعلا في الأوساط الغربية، حيث استهدفتها الأمراض الزهرية، وكبدتها
خسائر فادحة في الأرواح والأموال. وجاءت تقارير أطباء الغرب معلنة أبعاد تلك
الأمراض ومآسيها الخطيرة في أرقى تلك الأمم وأكثرها تشدقا بالحضارة والمدنية.
قال الدكتور الفرنسي (ليريد): إنه يموت في فرنسا ثلاثون ألف نسمة بالزهري وما
يتبعها من الأمراض الكثيرة، في كل سنة. وهذا المرض هو أفتك الأمراض بالأمة الفرنسية
بعد حمى الدق.
وجاء في دائرة المعارف البريطانية ج 23 ص 45: انه يعالج في المستشفيات الرسمية
هناك (اي القطر الأمريكي) مائتا ألف مريض بالزهري ومائة وستون ألف مصاب بالسيلان
البني في كل سنة بالمعدل. وقد اختص بهذه الأمراض الجنسية وحدها ستمائة وخمسون
مستشفى، على أنه يفوق هذه المستشفيات الرسمية نتاج الأطباء غير الرسميين الذين
يراجعهم 16 % من مرضى الزهري و 89 % من مرضى السيلان.
وجاء في كتاب القوانين الجنسية:

388
انه يموت في أمريكا ما بين ثلاثين وأربعين الف طفل بمرض الزهري الموروث وحده، في
كل سنة. وان الوفيات التي تقع بسبب جميع الأمراض - عدا السل - يربو عليها جملة عدد
الوفيات الواقعة من مرض الزهري وحده.
وكل هذه الخسائر والمآسي تدفعها الأمم الغربية الداعرة... ضريبة من صحتها وحياتها
جزاءا وفاقا، على تفسخها وتمرغها في مقاذر الجنس ومباءته.
الاضرار الاجتماعية:
وكان حتما مقضيا علي تلك الأمم المتحللة أن تعاني - إلى جانب خسائرها الأخلاقية
والصحية - عللا اجتماعية خطيرة.
فقد جنت على حياتها الأسرية والاجتماعية، باغفالها مبادئ العفة والوفاء، واستهتارها
بشرائط الزوجية الصالحة. وطفق الزوجان منهم يهيمان في متاهات الغواية والفساد،
تنطلق الزوجة خليعة متجملة بأبهى مظاهر الجمال، وبواعث الفتنة والاغراء، وينطلق
الزوج هائما في مراتع التبذل والاسفاف. وسرعان ما ينزلق هذا أو تلك في مهاوي
الرذيلة، حينما تستهوي بهما شخصية جذابة أروع جمالا وأشد اغراءا من شريك حياته،
فيزور عنه طالبا صيدا جديدا، ومتعة جديدة، بين فتيان الهوى وفتياته السائحات.
فتزعزع بذلك كيان الأسرة، وانفرط عقدها، ووهت

389
العلائق الزوجية، وغدت تنفصم لأتفه الأسباب. كما شهدت بذلك تقارير الخبراء.
وقد كتب القاضي (لندسي) في بلدة (دنور) سنة 1922:
أعقب كل زواج تفريق بين الزوجين، وبإزاء كل زواجين عرضت على المحكمة قضية الطلاق.
وهذه الحال لا تقتصر على بلدة دنور، بل الحق أن جميع البلدان الأمريكية على وجه
التقريب تماثلها في ذلك قليلا أو كثيرا.
ويمضي في كتابته فيقول: إن حوادث الطلاق والتفريق بين الزوجين لا تزال تكثر
وتزداد، وان اطردت الحال على هذا - كما هو المرجو - فلا بد ان تكون قضايا الطلاق
المرفوعة إلى المحاكم في معظم نواحي القطر على قدر ما يمنح فيها من الامتيازات
للزواج.
وهكذا توالت على الأمم الغربية أعراض الشذوذ واختلاطاته المقيتة فقد زهد الكثيرون
منهم في الحياة الزوجية، وآثروا العزوبة إشباعا لهوسهم الجنسي وتحررا من قيود
الزواج وتكاليفه.
فقد جاء في مقال نشرته جريدة (بدترويت):
إن ما قد نشأ بيننا اليوم من قلة الزواج، وكثرة الطلاق، وتفاحش العلاقات غير
المشروعة بين الرجال والنساء، يدل كله على أننا راجعون القهقرى إلى البهيمية.
فالرغبة الطبيعية في النسل إلى التلاشي، والجيل المولود ملقى حبله على غاربه،
والشعور بكون تعمير الأسرة والبيت لازما لبقاء المدنية، والحكم المستقل يكاد ينتفي
من النفوس، وبخلاف ذلك أصبح

390
الناس ينشأ فيهم الاغفال عن مآل المدنية والحكومة وعدم النصح لهما.
ولو تحرينا مرد تلك المآسي التي اجتاحت الغرب لرأيناه ماثلا في التبرج والخلاعة
والاختلاط، وشيوع المثيرات الجنسية، كالأفلام الداعرة والقصص الخلاعية والأغاني
المخنثة، التي مسخت القيم الأخلاقية وأشاعت الاسفاف والتهتك في المجتمع الغربي، كما
شهد بذلك القوم أنفسهم.
وقد كتب (أميل بوريسي) في تقريره الذي قدمه إلى الجلسة العامة الثانية لرابطة منع
الفواحش:
هذه الفوتوغرافات الداعرة المتهتكة تصيب أحاسيس الناس بأشد ما يمكن من الهيجان
والاختلال، وتحث مشتريها البؤساء على المعاصي والاجرام التي تقشعر من تصورها
الجلود. وإن أثرها السيئ المهلك في الفتية والفتيات لمما يعجز عنه البيان. فكثير
من المدارس والكليات قد خربت حالتها الخلقية والصحية لتأثير هذه الصور المهيجة، ولا
يمكن ان يكون للفتيات على الأخص شئ أضر وأفتك من هذه (1).
* * *
ونستنتج من هذا العرض السالف: أن الشريعة الاسلامية، إنما أمرت المرأة المسلمة
بالحجاب، ونهتها عن التبرج والاختلاط المريب، حرصا على كرامتها وصيانتها من دوافع
الإساءة والتغرير، ووقاية للمجتمع الاسلامي من المآسي والارزاء التي حاقت بالأمم
الغربية، ومسخت أخلاقها وضمائرها وأوردتها موارد الشقاء والهلاك.



(1) اقتبسنا تلك الأقوال المترجمة عن كتاب الحجاب، للأستاذ المودودي.
391
أنظر كيف أهاب الاسلام بالمرأة المسلمة أن تتحصن بالحجاب، وتتوقى به مزالق الفتن
والشرور: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك، ونساء المؤمنين، يدنين عليهن من
جلابيبهن، ذلك أدنى ان يعرفن فلا يؤذين (الأحزاب: 59).
هذه هي إحدى الآيات الكريمة الناطقة بوجوب الحجاب، والمحرضة عليه، بأسلوب جاد صريح،
حيث خاطب الله عز وجل رسوله الأعظم: يا أيها النبي قل لأزواجك، وبناتك، ونساء
المؤمنين... يدنين عليهن من جلابيبهن وذلك باسدال الجلباب - وهو ما تستتر به
المرأة من ملحفة أو ملاءة - على وجوههن وأبدانهن.
ثم بين سبحانه علة الحجاب وجدواه: ذلك أدنى ان يعرفن، فلا يؤذين حيث أن الحجاب
يستر محاسن المرأة ومفاتنها، ويحيطها بهالة من الحصانة والمنعة، تقيها تلصص الغواة
والداعرين وتحرشاتهم الاجرامية العابثة بصون النساء وكرامتهن.
ويمضي القرآن الكريم في تركيز مبدأ الحجاب والحث عليه في آيات متتالية، وأساليب
بلاغية فذة:
يا نساء النبي لستن كأحد من النساء، ان اتقيتن، فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في
قلبه مرض، وقلن قولا معروفا. وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى
(الأحزاب: 32 - 33).
وهنا يخاطب الله عز وجل، زوجات النبي صلى الله عليه وآله يا نساء النبي لستن
كأحد من النساء في الشرف والفضل، فأنتن أرفع شأنا

392
وأسمى منزلة منهن، لشرف انتمائكن لرسول الله صلى الله عليه وآله ان اتقيتن
معصية الله تعالى ورسوله، وفي هذا الشرط إشعار لهن ان انتسابهن إلى الرسول صلى
الله عليه وآله فحسب لا يوجب تفوقهن على غيرهن من النساء، الا بتحليهن بتقوى الله
عز وجل، الذي هو مفتاح الفضائل، وقوام حياة الايمان.
فلا تخضعن بالقول، فيطمع الذي في قلبه مرض فلا تخاطبن الأجانب بأسلوب لين رقيق
يستثير نوازع القلوب المريضة بالدنس والفجور.
وقلن قولا معروفا مستقيما مشعرا بالحشمة والترفع والوقار. ثم أمرهن
بالاستقرار في بيوتهن، ونهاهن عن التبرج واظهار المحاسن والزينة للأجانب، كما كن
يظهرنها النساء الجاهليات وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى. وفي
ذلك ضمان لعفاف المرأة وكرامتها، وصيانتها من مزالق الخطيئة، وخوالج الشك
والارتياب.
وهكذا يواصل القرآن الكريم غرس الفضيلة والعفة في نفوس المؤمنين بمثله العليا،
وآدابه الرفيعة:
قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم، ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم، ان الله خبير بما
يصنعون. وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن، ويحفظن فروجهن، ولا يبدين زينتهن الا ما
ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن، ولا يبدين زينتهن الا لبعولتهن، أو آبائهن،
أو آباء بعولتهن أو أبنائهن، أو إخوانهن، أو بني إخوانهن، أو بني أخواتهن، أو
نسائهن، أو ما ملكت أيمانهن، أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال،

393
أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء. ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من
زينتهن (النور: 30 - 31).
أمر الله تعالى في هذه الآية الكريمة النبي صلى الله عليه وآله أن يصدع بآداب
القرآن ووحي السماء، ويوجه المؤمنين على ضوئهما توجيها هادفا بناءا.
قل يا محمد للمؤمنين يغضوا من أبصارهم بأن ينقصوا من نظراتهم وتطلعاتهم نحو
النساء الأجنبيات، لما في ذلك من ضروب الأخطار والأضرار. فكم نظرة طامحة إلى الجمال
أورثت حسرة طويلة، واسترقت صاحبها بأسر الحب وعناء الهيام.
وأنت إذا أرسلت طرفك رائدا * لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر * عليه ولا عن بعضه أنت صابر
وقد تزج النظرة الآثمة في مهاوي الرذيلة والفساد:
نظرة فابتسامة فسلام * فكلام فموعد فلقاء
ثم أمر المؤمنين بحفظ الفروج بعد أمرهم بغض الأبصار ويحفظوا فروجهم عن الآثام
الجنسية أو يستروها عن الناظر المحترم، وقد أوصد الله تعالى بهذين الأمرين - غض
الأبصار وحفظ الفروج - أخطر منافذ الشرور الخلقية وبوائقها العارمة، وحصن المؤمنين
بالعفة والنزاهة ذلك أزكى لهم أطهر لنفوسهم وأخلاقهم، وأنفع لدينهم ودنياهم.
ثم عمد إلى توعية الضمائر، وتصعيد قيمها الأخلاقية بالايحاء النفسي بهيمنة الله
سبحانه عليهم ورقابته لهم ان الله خبير بما يصنعون بأبصارهم وفروجهم وجميع
أعمالهم.

394
ثم عطف الله تعالى على النساء المؤمنات، فأمرهن بما أمر به الرجال المؤمنين من غض
الأبصار وحفظ الفروج، لاتحاد الجنسين، وتساويهما في الغرائز والميول، وانجذاب كل
منهما نحو الآخر.
وخص النساء بتوجيهات تنظم سلوكهن، وتذكي فيهن مشاعر الحشمة والعزة والوقار:
ولا يبدين زينتهن لا يظهرن مواضع الزينة لغير المحارم، الا ما ظهر منها كالثياب
أو الوجه والكفين، وليضربن بخمرهن على جيوبهن وليسدلن الخمر والمقانع على نحورهن
وصدورهن تسترا من الأجانب.
ثم رخصهن في إبداء زينتهن للمحارم، ومن يؤمن من الافتتان والاغراء منهن وعليهن،
لنفرة الطباع من ذلك ولا يبدين زينتهن الا لبعولتهن، أو آبائهن، أو آباء بعولتهن،
أو أبنائهن، أو أبناء بعولتهن، أو إخوانهن، أو بني إخوانهن، أو بني أخواتهن، أو ما
ملكت أيمانهن وهن الإماء. أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال وهم الذين
يتبعون الناس طمعا في برهم ونوالهم من لا يهفو إلى النساء، ولا حاجة له فيهن،
كالبله من الرجال أو الشيوخ العاجزين الصلحاء.
أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء وأريد به جمع الأطفال الذين لا يعرفون
عورات النساء لسذاجتهم، وضعف غريزتهم الجنسية.
ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن للاعلام عن خلخالها أو اسماع صوته.

395
وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون (النور: 31) تسعدون في
الدارين.
* * *
وهكذا جاءت أحاديث أهل البيت عليهم السلام تحض على العفاف، وغض الأبصار عن النظرة
المحرمة، فضلا عن الاختلاط، سيان في ذلك الرجال والنساء.
قال الصادق عليه السلام: النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، وكم نظرة أورثت حسرة
طويلة (1).
وقال عليه السلام: أول النظرة لك، والثانية عليك، والثالثة فيها الهلاك (2).
وقال عليه السلام: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله أن يدخل الرجل على النساء
الا باذن أوليائهن (3).
وعن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام قالا: ما من أحد الا وهو يصيب حظا من
الزنا، فزنا العين النظر، وزنا الفم الغيبة، وزنا اليدين اللمس، صدق الفرج ذلك أم
كذب (4).
وقال الصادق عليه السلام: من نظر إلى امرأة فرفع بصره إلى



(1) الوافي ج 12 ص 127، عن الكافي.
(2) الوافي ج 12 ص 127، عن الفقيه.
(3) الوافي ج 12 ص 123، عن الكافي.
(4) الوافي ج 12 ص 127، عن الكافي.
396
السماء، لم يرتد إليه بصره حتى يزوجه الله من الحور العين (1).
وعنه، عن أبيه عليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: كل عين
باكية يوم القيامة الا ثلاث أعين: عين بكت من خشية الله، وعين غضت عن محارم
الله، وعين باتت ساهرة في سبيل الله (2).
* * *



(1) الوافي ج 12 ص 127، عن الفقيه
(2) البحار م 23 ص 101 عن خصال الصدوق (ره).
397
منزلة المرأة في الاسلام
أجدني وأنا أتحدث عن الحقوق الزوجية منساقا إلى التحدث عن منزلة المرأة في
الاسلام، ورعايته لها وعطفه عليها، ما جعلها حظية سعيدة في ظلاله.
ولا يستطيع الباحث ان يتبين أبعاد حظوتها وسعادتها في عهده الزاهر الا بالمقارنة
بينها وبين غيرها من النساء اللاتي سبقنها أو تخلفن عنها في التأريخ، ليستجلي عزتها
وتفوقها عليهن.
ولا يستطيع ان يتبين ذلك الا بدراسته على ضوء المبادئ السماوية الخالدة، والقيم
المنطقية المبرئة من نوازع الهوى والجهل وسيطرة الأعراف والتقاليد التي لا تصلح أن
تكون مقياسا ثابتا وحكما عدلا في تمحيص الحقائق وتقييمها واستجلاء الواقع من
المزيف منها، لتلونها بالمحيط الذي نبعت منه والظرف الذي شاعت فيه، فطالما استحسن
العرف خلالا قبيحة واستقبح سجايا كريمة، متأثرا بدوافع هذا أو ذاك.
وانما يصلح العرف في التحكيم إذا كان مستنيرا بهدي الله تعالى وتوجيهه السديد
الحكيم، فإنه آنذاك لا يخطئ في حكمه، ولا يزيغ عن العدل والصواب.

398
المرأة في التأريخ القديم
لقد اضطرب المعيار الاجتماعي في تقييم المرأة وتحديد منزلتها الاجتماعية في عصور
الجاهلية القديمة أو الحديثة. وتأرجح بين الافراط والتفريط، وبين التطفيف
والمغالاة، دون أن يستقر على حال رضي من القصد والاعتدال.
فاعتبرت حينا من الدهر مخلوقا قاصرا منحطا، ثم اعتبرت شيطانا يسول الخطيئة
ويوحي بالشر، ثم اعتبرت سيدة المجتمع تحكم بأمرها وتصرفه بمشيئتها، ثم اعتبرت عاملة
كادحة في سبيل عيشها، وحياتها.
وكانت المرأة في أغلب العصور تعاني الشقاء والهوان، مهدورة الحق مسترقة للرجل،
يسخرها لأغراضه كيف يشاء.
وهي في تقييم الحضارة الرومانية في تأرجح واضطراب، بين التطفيف والمغالاة: اعتبرتها
رقيقا تابعا للرجل، يتحكم فيها كما شاء. ثم غالت في قيمها فحررتها من سلطان الأب
والزوج، ومنحتها الحقوق الملكية والإرثية وحرية الطلاق، وحرية التبذل والاسفاف،
فكانت الرومانية تتزوج الرجل بعد الآخر دونما خجل أو استحياء.
فقد كتب جوونيل 60 - 140 م عن امرأة تقلبت في أحضان ثمانية أزواج في خمس سنوات.
وذكر القديس جروم 340 - 420 م عن امرأة تزوجت في المرة الأخيرة الثالث والعشرين
من أزواجها، وكانت

399
هي الحادية والعشرين لبعلها (1).
ثم أباحوا لها طرق الغواية والفساد، مما سبب تفسخ المجتمع الروماني ثم سقوطه
وانهياره.
وهي في عرف الحضارة اليونانية تعتبر من سقط المتاع، تباع وتشترى، وتعتبر رجسا من
عمل الشيطان.
وقضت شرائع الهند القديمة (أن الوباء والموت والجحيم والسم والأفاعي والنار... خير
من المرأة) وكان حقها في الحياة ينتهي بانتهاء أجل زوجها الذي هو سيدها ومالكها،
فإذا رأت جثمانه يحرق ألقت بنفسها في نيرانه، والا حاقت عليها اللعنة الأبدية.
وأما رأي التوراة في المرأة، فقد وضحه سفر الجامعة في الكلمات الآتية: (درت أنا
وقلبي لأعلم ولأبحث ولأطلب حكمة وعقلا، ولأعرف الشر أنه جهالة، والحماقة أنها
جنون، فوجدت أمر من الموت المرأة، التي هي شباك، وقلبها شراك، ويداها قيود
(الأصحاح 14 الفقرة 17) (2).
وكانت المرأة في وجهة نظر المسيحية - خلال العصور الوسطى - مخلوقا شيطانيا دنسا،
يجب الابتعاد عنه.
قال ليكي في كتاب تأريخ أخلاق أوربا: وكانوا يفرون من ظل النساء، ويتأثمون من
قربهن والاجتماع بهن، وكانوا يعتقدون أن



(1) الحجاب للمودودي ص 22.
(2) مقارنة الأديان ج 3 الاسلام ص 196 بتصرف للدكتور أحمد شلبي.
400
مصادفتهن في الطريق والتحدث إليهن - ولو كن أمهات وأزواجا أو شقيقات - تحبط
أعمالهم وجهودهم الروحية (1).
وهكذا كان المجتمع الغربي فيما خلا تلك العصور، يستخف بالمرأة ولا يقيم لها وزنا.
(فقد عقد في فرنسا اجتماع سنة 586 م يبحث شأن المرأة وما إذا كانت تعد انسانا أو
لا تعد انسانا. وبعد النقاش، قرر المجتمعون أن المرأة انسان ولكنها مخلوقة لخدمة
الرجل) (2).
وفي إنجلترا حرم هنري الثامن على المرأة الإنجليزية قراءة الكتاب المقدس، وظلت
النساء حتى سنة 1850 م غير معدودات من المواطنين، وظللن حتى سنة 1882 م ليس لهن
حقوق شخصية، ولا حق لهن في التملك الخالص، وانما كانت المرأة ذائبة في أبيها أو
زوجها (3).
المرأة في المجتمع العربي الجاهلي:
وقد لخص الأستاذ الندوي حياة المرأة في المجتمع العربي الجاهلي، حيث قال:
وكانت المرأة في المجتمع الجاهلي عرضة غبن وحيف، تؤكل حقوقها وتبتز أموالها،
وتحرم من ارثها، وتعضل بعد الطلاق أو وفاة الزوج من أن تنكح زوجا ترضاه، وتورث كما
يورث المتاع أو الدابة، وكانت المرأة



(1) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، للسيد الندوي ص 160.
(2) مقارنة الأديان، للدكتور احمد شلبي ج 3 ص 200.
(3) مقارنة الأديان، للدكتور احمد شلبي ج 3 ص 200.
401
في الجاهلية يطفف معها الكيل، فيتمتع الرجل بحقوقه ولا تتمتع هي بحقوقها، ومن
المأكولات ما هو خالص للذكور ومحرم على الإناث، وكان يسوغ للرجل ان يتزوج ما يشاء
من النساء من غير تحديد.
وقد بلغت كراهة البنات إلى حد الوأد، وكانوا يقتلون البنات بقسوة، فقد يتأخر وأد
الموؤودة لسفر الوالد وشغله، فلا يئدها الا وقد كبرت وصارت تعقل، وكان بعضهم يلقي
الأنثى من شاهق (1).
المرأة في الحضارة الغربية الحديثة:
ولما بلغت الحضارة الغربية الحديثة أوجها، نالت المرأة فيها - بعد جهاد شاق وتضحيات
غالية - حريتها وحقوقها، وغدت تستشعر المساواة بالرجل، وتشاطره الأعمال في الدوائر
والمتاجر والمصانع، ومختلف الشؤون والنشاطات الاجتماعية.
وابتهجت المرأة الغربية بهذه المكاسب التي نالتها بالدموع والمآسي، متجاهلة واقع
غبنها وخسرانها في هذا المجال. ولو أنها حاكمت وعادلت في ميزان المنطق بين المغانم
التي حققتها والمغارم التي حاقت بها... لأحست بالأسى والخيبة والخسران.
فقد خدعها دعاة التحرر في هذه الحضارة المادية، وغرروا بها واستغلوا سذاجتها
استغلالا ماكرا دنيئا. استغلوها لمضاربة الرجل،



(1) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، للسيد الندوي ص 57 بتصرف.
402
ومكايدته حينما بدأ يطالب بمضاعفة أجور العمل وتخفيف ساعاته، فاستجابت لذلك... تعمل
اعمال الرجل قانعة بأجر دون أجره.
واستغلوا أنوثتها في الحقل التجاري لمضاعفة الأرباح المادية، لقدرتها على اجتذاب
الزبائن وتصريف البضائع، مستثيرين كوامن الجنس في نفوسهم فأي استغلال أنكى وأسوأ من
هذا الاستغلال؟
وكان عليها بعد هذا أن تضطلع بمهامها النسوية من الحمل والوضع والتربية والتدبير
المنزلي، إلى جانب كفاحها في سبيل العيش كيلا يمسها السغب والحرمان لنكول الرجل عن
إعالتها في الغالب.
وبالرغم مما حققته المرأة الأروبية من صنوف الانجازات والمكاسب، فإنها تعتبر في
المعيار المنطقي خاسرة مخفقة، قد خسرت أزاء تحررها دينها وأخلاقها وكرامتها، وأصبحت
في حالة مرزية من التبذل والاسفاف. كما شهد به الغربيون أنفسهم مما أوضحناه سالفا
ونزيده ايضاحا في الأبحاث التالية.
تحرير المرأة في الاسلام
وندرك من هذا العرض السالف مبلغ التخبط والتأرجح في تقييم المرأة عبر العصور
القديمة والحديثة، دون ان تهتدي الأمم إلى القصد والاعتدال، مما أساء إلى المرأة
والمجتمع الذي تعيشه إساءة بالغة.
فلما انبثق فجر الاسلام وأطل على الدنيا بنوره الوضاء، أسقط تلك التقاليد الجاهلية
وأعرافها البالية، وأشاد للانسانية دستورا خالدا يلائم

403
العقول النيرة والفطر السليمة، ويواكب البشرية عبر الحياة.
فكان من اصلاحاته أنه صحح قيم المرأة وأعاد إليها اعتبارها، ومنحها حقوقها المادية
والأدبية بأسلوب قاصد حكيم، لا إفراط فيه ولا تفريط، فتبوأت المرأة المسلمة في عهده
الزاهر منزلة رفيعة لم تبلغها نساء العالم.
لقد أوضح الاسلام واقع المرأة، ومساواتها بالرجل في المفاهيم الانسانية، واتحادها
معه في المبدأ والمعاد، وحرمة الدم والعرض والمال، ونيل الجزاء الأخروي على
الأعمال، ليسقط المزاعم الجاهلية أزاء تخلف المرأة عن الرجل في هذه المجالات.
يا أيها الناس، انا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، إن
أكرمكم عند الله أتقاكم (الحجرات: 13).
من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن
ما كانوا يعملون (النحل: 97).
وكان بعض الأعراب يئد البنات ويقتلهن ظلما وعدوانا، فجاء ناعيا ومهددا على تلك
الجريمة النكراء، ومنح البنت شرف الكرامة وحق الحياة وإذا الموؤودة سئلت، بأي ذنب
قتلت (التكوير: 8 - 9).
ولا تقتلوا أولادكم خشية املاق، نحن نرزقهم وإياكم، إن قتلهم كان خطأ كبيرا
(الاسراء: 31).
وقضت الأعراف الجاهلية ان تسوم المرأة ألوان التحكم والافتئات، فتارة تقسرها على
التزويج ممن لا ترغب فيه، أو تعضلها من الزواج.

404
وأخرى تورث كما يورث المتاع، يتحكم بها الوارث كيف يشاء، فله ان يزوجها ويبتز
مهرها، أو يعضلها حتى تفتدي نفسها منه أو تموت، فيرثها كرها واغتصابا. وقد حررها
الاسلام من ذلك الأسر الخانق والعبودية المقيتة، ومنحها حرية اختيار الزوج الكفوء،
فلا يصح تزويجها الا برضاها، وحرم كذلك استيراثها قسرا واكراها:
يا أيها الذين امنوا لا يحل لكم ان ترثوا النساء كرها، ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض
ما آتيتموهن (النساء: 19).
وكانت التقاليد الجاهلية، وحتى الغربية منها، إلى عهد قريب تمنع المرأة حقوق
الملكية، كما حرمتها الجاهلية العربية حقوق الإرث، لأن الإرث في عرفهم لا يستحقه
الا رجال القبيلة وحماتها المدافعون عنها بالسيف. وقد أسقط الاسلام تلك التقاليد
الزائفة، ومنح المرأة حقوقها الملكية والإرثية، وقرر نصيبها من الإرث.. أما كانت،
أو بنتا، أو أختا أو زوجة:
للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن (النساء: 32)
للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، وللنساء نصيب مما ترك الوالدان
والأقربون (النساء: 7).
وفرض للزوجة على زوجها حق الإعالة، ولو كانت ثرية موسرة.
وقد عرضنا في حقوق الزوجة طرفا من وصايا أهل البيت عليهم السلام في رعايتها
وتكريمها، تعرب عن اهتمام الشريعة الاسلامية بشؤون المرأة ورفع معنوياتها.
واستطاع الاسلام بفضل مبادئه وسمو آدابه أن يجعل المرأة المسلمة

405
قدوة مثالية لبناء الأمم، في رجاحة العقل وسمو الايمان وكرم الأخلاق، ورفع منزلتها
الاجتماعية، حتى استطاعت ان تناقش وتحاج الخليفة الثاني ابان خلافته، وهو يخطب في
المسلمين وينهاهم عن المغالاة في المهور، فانبرت له امرأة من صف الناس، وقالت: ما
ذاك لك.
فقال: ولمه؟
أجابت: لأن الله تعالى يقول وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا،
أتأخذونه بهتانا واثما مبينا (النساء: 20).
فرجع عمر عن رأيه، وقال: أخطأ عمر وأصابت امرأة.
وقد سجل التاريخ صفحات مشرقة بأمجاد المرأة المسلمة ومواقفها البطولية في نصرة
الاسلام، يقصها الرواة بأسلوب رائع ممتع يستثير الاعجاب والاكبار.
فهذه نسيبة المازنية كانت تخرج مع رسول الله صلى الله عليه وآله في غزواته،
وكان ابنها معها، فأراد أن ينهزم ويتراجع، فحملت عليه، فقالت: يا بني، إلى أين تفر
عن الله وعن رسوله؟ فردته.
فحمل عليه رجل فقتله، فأخذت سيف ابنها، فحملت على الرجل فقتلته. فقال رسول الله
صلى الله عليه وآله: بارك الله عليك يا نسيبة.
وكانت تقي رسول الله صلى الله عليه وآله بصدرها وثديها، حتى أصابتها جراحات
كثيرة (1).
وحج معاوية سنة من سنيه، فسأل عن امرأة من بني كنانة كانت



(1) عن سفينة البحار ج 2 ص 585.
406
تنزل بالجحون، يقال لها دارمية الجحون وكانت سوداء كثيرة اللحم، فأخبر بسلامتها،
فبعث إليها. فجئ بها، فقال: ما حالك يا بنة حام؟ قالت: لست لحام إن عبتني، إنما
أنا امرأة من بني كنانة، ثمت من بني أبيك.
قال: صدقت، أتدرين لم بعثت إليك؟
قالت: لا يعلم الغيب الا الله.
قال: بعثت إليك لأسألك، علام أحببت عليا وأبغضتني، وواليته وعاديتني؟
قالت: أوتعفيني يا أمير المؤمنين.
قال: لا أعفيك.
قالت: أما إذا أبيت، فأني أحببت عليا على عدله في الرعية، وقسمه بالسوية. وأبغضتك
على قتال من هو أولى منك بالأمر، وطلبتك ما ليس لك بحق. وواليت عليا على ما عقد له
رسول الله من الولاء، وعلى حبه للمساكين، وإعظامه لأهل الدين، وعاديتك على سفك
الدماء، وشقك العصا وجورك في القضاء، وحكمك بالهوى.
قال: فلذلك انتفخ بطنك.
قالت: يا هذا، بهند والله يضرب المثل في ذلك لا بي.
قال معاوية: يا هذه، اربعي، فانا لم نقل الا خيرا، فرجعت وسكنت.
فقال لها: يا هذه، هل رأيت عليا؟

407
قالت: أي والله لقد رأيته.
قال: فكيف رأيتيه.
قالت: رأيته والله لم يفتنه الملك الذي فتنك، ولم تشغله النعمة التي شغلتك.
قال: هل سمعت كلامه.؟
قالت: نعم والله، كان يجلو القلوب من العمى كما يجلو الزيت الصدأ.
قال: صدقت، فهل لك من حاجة؟
قالت: أوتفعل إذا سألتك؟ قال: نعم.
قالت: تعطيني مائة ناقة حمراء فيها فحلها وراعيها.
قال: تصنعين بها ماذا؟
قالت: أغدو بألبانها الصغار، وأستحيي بها الكبار، واكتسب بها المكارم، وأصلح بها
العشائر.
قال: فان أعطيتك ذلك، فهل أحل عندك محل علي؟
قالت: ماء ولا كصداء، ومرعى ولا كالسعدان، وفتى ولا كمالك.
ثم قال: أما والله لو كان علي حيا ما أعطاك منها شيئا.
قالت: لا والله ولا وبرة واحدة من مال المسلمين.
* * *
واستدعى معاوية امرأة من أهل الكوفة تسمى الزرقاء بنت عدي كانت تعتمد الوقوف بين
الصفوف وترفع صوتها صارخة، يا أصحاب علي، تسمعهم كلامها كالصوارم، مستحثة لهم بقول
لو سمعه الجبان لقاتل،

408
والمدبر لأقبل، والمسالم لحارب، والفار لكر، والمتزلزل لاستقر.
فلما قدمت على معاوية، قال لها: هل تعلمين لم بعثت إليك؟
قالت: لا يعلم الغيب الا الله سبحانه وتعالى.
قال: ألست الراكبة الجمل الأحمر يوم صفين، وأنت بين الصفوف توقدين نار الحرب،
وتحرضين على القتال؟
قالت: نعم. قال: فما حملك على ذلك؟
قالت: يا أمير المؤمنين، انه قد مات الرأس، وبتر الذنب، ولن يعود ما ذهب، والدهر ذو
غير، ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعده الأمر.
قال: صدقت، فهل تعرفين كلامك وتحفظين ما قلت؟
قالت: لا والله، ولقد أنسيته.
قال: لله أبوك، فلقد سمعتك تقولين أيها الناس، ارعوا وارجعوا، انكم أصبحتم في
فتنة، غشتكم جلابيب الظلم، وجارت بكم عن قصد المحجة، فيا لها فتنة عمياء صماء
بكماء، لا تسمع لناعقها ولا تسلس لقائدها. ان المصباح لا يضئ في الشمس، وان الكواكب
لا تنير مع القمر، وان البغل لا يسبق الفرس، ولا يقطع الحديد الا بالحديد، ألا من
استرشد أرشدناه، ومن سألنا أخبرناه.
أيها الناس: ان الحق كان يطلب ضالته فأصابها، فصبرا يا معشر المهاجرين والأنصار
على الغصص، فكأنكم وقد التأم شمل الشتات، وظهرت كلمة العدل، وغلب الحق باطله، فإنه
لا يستوي المحق والمبطل. أفمن

409
كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون. فالنزال النزال، والصبر الصبر، ألا ان خضاب
النساء الحناء، وخضاب الرجال الدماء، والصبر خير الأمور عاقبة، أئتوا الحرب غير
ناكصين، فهذا يوم له ما بعده.
ثم قال: يا زرقاء، أليس هذا قولك وتحريضك؟
قالت: لقد كان ذلك.
قال: لقد شاركت عليا في كل دم سفكه.
فقالت: أحسن الله بشارتك أمير المؤمنين، وادام سلامتك، فمثلك من بشر بخير، وسر
جليسه.
فقال معاوية: أويسرك ذلك؟
قالت: نعم والله، لقد سرني قولك، وأنى لي بتصديق الفعل. فضحك معاوية، وقال:
والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب عندي من حبكم له في حياته (1).
وهذه أم وهب ابن عبد الله بن خباب الكلبي، قالت لابنها يوم عاشوراء: قم يا بني،
فانصر ابن بنت رسول الله.
فقال: أفعل يا أماه ولا أقصر.
فبرز وهو يقول رجزه المشهور، ثم حمل فلم يزل يقاتل، حتى قتل منهم جماعة، فرجع إلى
أمه وامرأته، فوقف عليهما فقال: يا أماه أرضيت؟
فقالت: ما رضيت أو تقتل بين يدي الحسين عليه السلام.



(1) هاتان القصتان (الثانية والثالثة) عن قصص العرب ج 2، وقد نقلتا بتصرف واختصار.
410
فقالت امرأته: بالله، لا تفجعني في نفسك.
فقالت أمه: يا بني، لا تقبل قولها وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت رسول الله، فيكون
غدا في القيامة شفيعا لك بين يدي الله.
فرجع ولم يزل يقاتل حتى قتل تسعة عشر فارسا واثني عشر راجلا، ثم قطعت يداه. واخذت
أمه عمودا وأقبلت نحوه وهي تقول: فداك أبي وأمي، قاتل دون الطيبين - حرم رسول
الله صلى الله عليه وآله -. فأقبل كي يردها إلى النساء، فأخذت بجانب ثوبه لن
أعود أو أموت معك.
فقال الحسين عليه السلام: جزيتم من أهل بيت خيرا، ارجعي إلى النساء، رحمك الله.
فانصرفت. وجعل يقاتل حتى قتل رضوان الله عليه (1).
هذه لمحة خاطفة من عرض تاريخي طويل زاخر بأمجاد المرأة المسلمة، ومواقفها البطولية
الخالدة، اقتصرنا عليها خشية الإطالة.
وأين من هذه العقائل المصونات، نساء المسلمين اليوم، اللاتي يتشدق الكثيرات منهن
بالتبرج، ونبذ التقاليد الاسلامية، ومحاكاة المرأة الغربية، في تبرجها وخلاعتها.
فخسرن بذلك أضخم رصيد ديني وأخلاقي تملكه المرأة المسلمة وتعتز به، وغدون عاطلات من
محاسن الاسلام، وفضائله المثالية.



(1) نفس المهموم للشيخ عباس القمي (ره) بتصرف وتلخيص.
المساواة بين الرجل والمرأة
لقد غزت الشرق فيما غزاه من صنوف البدع والضلالات، فكرة
411
المساواة التامة بين الرجل والمرأة، ومشاطرتها له في مختلف نشاطاته السياسية
والاقتصادية والاجتماعية.
وانخدع اغرار المسلمين بهذه الفكرة، وراحوا ينادون بها ويدعون إليها، جهلا بزيفها
ومخالفتها مبادئ الفطرة والوجدان، للفوارق العديدة بين الجنسين، واختلاف مؤهلاتهما
في مجالات الحياة.
ومتى ثبتت المفارقات بين الرجل والمرأة، تجلى خطأ هذه الفكرة، واستبان ما فيها من
تفريط وتضييع لخصائص كل منهما وكفاءته.
فالرجل غالبا: هو أضخم هيكلا من المرأة، وأصلب عودا، وأقوى جلدا على معاناة
الشدائد والأهوال، كما هو أوسع أفقا، وأبعد نظرا، وأوفر خبرة في تجارب الحياة.
والمرأة غالبا، هي أجمل صورة من الرجل، وأضعف جسما وطاقة، وأرق عاطفة، وأرهف
حسا، تيسيرا لما أعدت له من وظائف الأمومة ورسالتها الانسانية في الحياة.
ويزداد التغاير والتباين بين الجنسين فيما ينتاب الإناث خاصة، من أعراض الحيض
والحمل والارضاع، مما يؤثر تأثيرا بالغا في حياة المرأة وحالتها الصحية.
فهي تعاني أعراضا مرضية خلال عاداتها الشهرية، تخرجها عن طورها المألوف.
قال الطبيب (جب هارد): قل من النساء من لا تعتل بعلة في المحاض، ووجدنا أكثرهن
يشكين الصداع والنصب والوجع تحت السرة،

412
وقلة الشهوة للطعام، ويصبحن شرسات الطباع، مائلات إلى البكاء. فنظرا لهذه العوارض
كلها يصح القول، أن المرأة في محاضها تكون في الحق مريضة، وينتابها هذا المرض مرة
في كل شهر، وهذه التغييرات في جسم المرأة تؤثر لا محالة في قواها الذهنية وفي أفعال
أعضائها.
وهكذا أعرب الباحثون عن امتناع المساواة بين الجنسين.
قال الباحث الطبيعي الروسي (انطون نميلاف) في كتابه الذي أثبت فيه عدم المساواة
الفطرية بينهما، بتجارب العلوم الطبيعية ومشاهداته: ينبغي ان لا نخدع أنفسنا بزعم
أن إقامة المساواة بين الرجل والمرأة في الحياة العملية أمر هين ميسور. الحق أنه
لم يجتهد أحد في الدنيا لتحقيق هذه المساواة بين الصنفين مثل ما اجتهدنا في روسيا
السوفيتية، ولم يوضع في العالم من القوانين السمحة البريئة من التعصب في هذا الباب
مثل ما وضع عندنا، ولكن الحق ان منزلة المرأة قلما تبدلت في الأسرة، ولا في الأسرة
فحسب بل قلما تبدلت في المجتمع أيضا.
ويقول في مكان آخر: لا يزال تصور عدم مساواة الرجل والمرأة ذلك التصور العميق
راسخا لا في قلوب الطبقات ذات المستوى الذهني البسيط، بل في قلوب الطبقات
السوفيتية العليا أيضا (1).
وقال الدكتور (الكسيس كاريل) الحائز على جائزة نوبل: يجب أن يبذل المربون اهتماما
شديدا للخصائص العضوية والعقلية في الذكر والأنثى، كذا لوظائفهما الطبيعية. فهناك
اختلافات لا تنقض بين الجنسين



(1) الحجاب، للمودودي ص 256.
413
ولذلك فلا مناص من أن نحسب حساب هذه الاختلافات في انشاء عالم متمدن (1).
ولا يعتبر تفوق الرجل على المرأة في المجالات العملية والنظرية مقياسا عاما
شاملا لجميع الرجال، فقد تبذ المرأة الرجل وتفوقه في ذلك، ولكن هذا لا ينفي
تخلفها عن أغلب الرجال.
وعزا بعضهم تخلف المرأة عن الرجل إلى التقاليد الاجتماعية، والنظم التربوية التي
تكتنف حياتها.
وفاتهم أن تلك التقاليد والنظم قد تلاشت في أغلب الدول المتحللة، وانعدمت فيها
الفوارق بين الجنسين، وغدت المرأة تتمتع بجميع فرص التكافؤ التي يتمتع بها الرجل.
وبالرغم من ذلك فإنها تعتبر في المرتبة الثانية منه.
ومن هنا ندرك امتناع المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، ونعتبرها ضربا من
الحماقة والسخف.
فهل يسع دعاة المساواة أن يطوروا واقع الرجل ويجعلوه مشاركا للمرأة في مؤهلاتها
الخاصة، ووظائفها النسوية التي يعجز عنها هو، كذلك لا يسعهم ان يسترجلوا المرأة
ويمنحوها خصائص الرجل ووظائفه التي تعجز عنها هي.
ان الحكمة الإلهية قد كيفت كلا من الجنسين وأعدته إعدادا خاصا، يؤهله لأداء
وظائفه ومهماته في الحياة، فلا مناص من تنويع الأعمال بينهما



(1) الانسان ذلك المجهول ص 117.
414
حسب كفاءتهما ومؤهلاتهما... وكل ميسر لما خلق له.
فوظيفة الرجل هي: ممارسة الأعمال الشاقة، والشؤون الخارجية عن المنزل، والكدح في
توفير وسائل العيش لأسرته، والدأب على حمايتها وإسعادها ماديا وأدبيا، مما تنوء
به المرأة ولا تستطيع اتقانه واجادته.
ووظيفة المرأة هي: أن تكون ربة بيت وراعية منزل، وأما مثالية تنشئ الأكفاء من
الرجال، وهي وحدها التي تستطيع أن تجعل البيت فردوسا للرجل، يستشعر فيه الراحة من
متاعب الحياة، وينعم الأطفال فيه بدف ء الحنان ودواعي النمو والازدهار.
فإقحام المرأة في ميادين الرجل، ومنافستها له في أعماله... تضييع لكفاءتها
ومؤهلاتها، ثم هو تجميد للرجل عن ممارسة نشاطاته الحيوية التي يجيدها ولا تجيدها
المرأة، وتعطيل له عن انشاء أسرة وتكوين بيت.
وقد أحدثت منافسة المرأة للرجل في وظائفه ونشاطاته الخاصة في الجاهلية الحديثة...
شرورا أخلاقية واجتماعية ونفسية خطيرة، وكانت مضارها أكثر من نفعها أضعافا
مضاعفة.
وأصبحت المرأة هناك تعاني مرارة الكفاح ومهانة الابتذال في سبيل العيش، كي لا
تمسها الفاقة لنكول الرجل عن إعالتها، مما عاقها عن أداء وظائفها الخاصة من تدبير
المنزل ورعاية الأسرة وتربية الأبناء تربية صالحة.
وبتقاعس المرأة عن أداء واجبها الأصيل، وانخراطها في المجتمع الخليط، أصيبت الأسرة
هناك بالتبعثر والتسيب والشقاء، وشاع فيها التفسخ والتهتك والانهيار الخلقي، كما
شهد بذلك الباحث الطبيعي الروسي (انطون

415
نيميلاف) في كتابه الآنف الذكر:
الحق أن جميع العمال قد بدت فيهم اعراض الفوضى الجنسية، وهذه حالة جد خطرة، تهدد
النظام الاشتراكي بالدمار، فيجب أن نحارب بكل ما أمكن من الطرق، لأن المحاربة في
هذه الجبهة ذات مشاكل وصعوبات. ولي أن أدلكم على آلاف من الأحداث، يعلم منها ان
الإباحية الجنسية قد سرت عدواها لا في الجهال الأغرار فحسب، بل في الأفراد المثقفين
من طبقة العمال (1).
وحسبنا هذه الشهادة عظة وعبرة على بطلان المساواة بين الجنسين، وأضرار اختلاطهما
في الوظائف والأعمال، فهل من متعظ؟!
فاقحام المرأة في ميدان أعمال الرجال خطأ فاضح، وجناية كبرى على المرأة والمجتمع
الذي تعيشه، وهدر لكرامتهما معا.
نعم... يستساغ للمرأة ان تمارس أعمالا تخصها وتليق بها، كتعليم البنات، وتطبيب
النساء وتوليدهن، وفي حالة فقدان المرأة من يعولها، أو عجزه عن إعالتها، فإنها
والحالة هذه تستطيع مزاولة الأعمال والمكاسب التي يؤمن عليها من مفاتن المجتمع
الخليط، ويؤمن عليه من فتنتها كذلك.
ولكن الاسلام، صان كرامة المرأة المعوزة، وكفل رزقها من بيت المال، دون ان يحوجها
إلى تلك المعاناة، فلو أدى المسلمون زكاة أموالهم ما بقي محتاج.



(1) الحجاب، للمودودي ص 257.
416
فماذا يريد دعاة المساواة؟ أيريدون إعزاز المرأة وتحريرها من الغبن الاجتماعي؟ فقد
حررها الاسلام ورفع منزلتها ومنحها حقوقها المادية والأدبية.
أم يريدون مخادعة المرأة وابتذالها، لتكون قريبة من عيون الذئاب ومغازلاتهم؟
وماذا تريد المرأة المتحررة؟ أتريد المساواة التامة بالرجل، أم تريد حرية الخلاعة
والابتذال؟
وكلها غايات داعرة، حرمها الاسلام على المرأة والرجل ليقيهما مزالق الفتن ومآسي
الاختلاط.
التمايز بين الجنسين
لقد حرر الاسلام المرأة من تقاليد الجاهلية وأعرافها المقيتة، وأعزها ورفع منزلتها،
وقرر مساواتها بالرجل في الانسانية ووحدة المبدأ والمعاد، وحرمة الدم والعرض
والمال، ونيل الجزاء الأخروي على الأعمال.
وحدد قيم المرأة ومنزلتها من الرجل تحديدا عادلا حكيما. فهو يساوي بينها وبين
الرجل فيما تقتضيه الحكمة والصواب، ويفرق بينهما في بعض الحقوق وبعض الواجبات
والأحكام، حيث يجدر التفريق ويحسن التمايز نظرا لاختلاف خصائصهما ومسؤولياتهما في
مجالات الحياة.
وهو في هذا وذاك يستهدف الحكمة والصلاح، والتقييم العادل لطبائع البشر وخصائصهم
الأصيلة. فلم يكن في تمييزه الرجل في بعض الأحكام

417
ليستهين بالمرأة أو يبخس حقوقها، وانما أراد أن يحقق العدل، ويمنح كلا منهما ما
يستحقه ويلائم كفاءته وتكاليفه.
وسنبحث في المواضيع التالية أهم مواطن التفريق والتمايز بين الرجل والمرأة، لنستجلي
حكمة التشريع الاسلامي وسمو مبادئه في ذلك.
1 - القوامة:
الأسرة هي الخلية الأولى، التي انبثقت منها الخلايا الاجتماعية العديدة والمجتمع
الصغير الذي نما واتسع منه المجتمع العام الكبير.
ومن الثابت أن كل مجتمع - ولو كان صغيرا - لا بد له من راع كفؤ يرعى شؤونه، وينظم
حياته، ويسعى جاهدا في رقيه وازدهاره.
لذلك كان لابد للأسرة من راع وقيم، يسوسها بحسن التنظيم والتوجيه ويوفر لها وسائل
العيش الكريم، ويحوطها بالعزة والمنعة، وتلك مهمة خطيرة تستلزم الحنكة والدربة،
وقوة الإرادة، ووفرة التجربة في حقول الحياة.
فأي الشخصين الرجل أو المرأة أحق برعاية الأسرة والقوامة عليها؟
إن الرجل بحكم خصائصه ومؤهلاته أكثر خبرة وحذقا في شؤون الحياة من المرأة، وأكفأ
منها على حماية الأسرة ورعايتها أدبيا وماديا، وأشد قوة وجلدا على تحقيق وسائل
العيش ومستلزمات الحياة. لذلك كان هو أحق برعاية الأسرة والقوامة عليها. وهذا ما
قرره الدستور الاسلامي

418
الخالد الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما انفقوا من
أموالهم (النساء: 34).
وليس معنى القوامة هو التحكم بالأسرة وسياستها بالقسوة والعنف، فذلك مناف لأخلاق
الاسلام وآدابه. والقوامة الحقة هي التي ترتكز على التفاهم والتآزر والتجاوب الفكري
والعاطفي بين راعي الأسرة ورعيته.
ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة
(البقرة: 228)
أما المرأة فإنها بحكم أنوثتها، رقيقة العاطفة، مرهفة الحس، سريعة التأثر، تتغلب
عواطفها على عقلها ومشاعرها. وذلك ما يؤهلها لأداء رسالة الأمومة، ووظائفها
المستلزمة لتلك الخلال، ويقصيها عن مركز القيادة في الأسرة الذي يتطلب الحنكة،
واتزان العواطف، وقوة الجلد والحزم، المتوفرة في الرجل، وهذا ما يؤثره عليها في
رعاية الأسرة والقوامة.
هذا إلى أن المرأة السوية بحكم أنوثتها تستخف بالزوج المائع الرخو، وتكبره إذا كان
ذا شخصية قوية جذابة، تستشعر في ظلال رجولته مفاهيم العزة والمنعة، وترتاح إلى حسن
رعايته وتدبيره.
2 - ايثار الرجل على المرأة في الإرث:
وهكذا قضت حكمة التشريع الاسلامي ان تؤثر الرجل على المرأة،

419
بضعف نصيبها من الإرث، مما حسبه المغفلون انتقاصا لكرامة المرأة وبخسا لحقوقها
لا... لم يكن الاسلام ليستهين بالمرأة أو يبخس حقوقها، وهو الذي أعزها ومنحها
حقوقها الأدبية والمادية. وانما ضاعف نصيب الرجل عليها في الإرث تحقيقا للعدل
والانصاف، ونظرا لتكاليفه ومسؤولياته الجسيمة.
فالرجل مكلف بالانفاق على زوجته وأسرته وتوفير ما تحتاجه من طعام وكساء وسكن،
وتعليم وتطبيب، والمرأة معفوة من كل ذلك. وكذلك هو مسؤول عن حماية الاسلام والجهاد
في نصرته، والمرأة غير مكلفة به. والرجل مكلف بالاسهام في دية العاقلة ونحوها من
الالتزامات الاجتماعية، والمرأة معفاة منها.
وعلى ضوء هذه الموازنة بين الجهد والجزاء، نجد ان من العدل والانصاف تفوق الرجل
على المرأة في الأرض، وانها أسعد حالا، وأوفر نصيبا منه، لتكاليفه الأسرية
والاجتماعية، التي هي غير مسؤولة عنها. وهذا ما شرعه الاسلام للذكر مثل حظ
الأنثيين (النساء: 11) على أن تفضيل الرجل على المرأة في الإرث لا يعم حقوقها
الملكية، وأموالها المكتسبة، فإنها والرجل سيان، ولا يحق له ان يبتز فلسا واحدا
منها الا برضاها وإذنها.
3 - الشهادة:
وهكذا تجلت حكمة التشريع الاسلامي في تقييم شهادة المرأة، واعتبار شهادة امرأتين
بشهادة رجل واحد. وقد أراد الاسلام بهذا الاجراء أن

420
يصون شهادة المرأة عن التزوير والافتراء، ليحفظ حقوق المتخاصمين عن البخس والضياع.
فالمرأة سرعان ما تستبد بها عواطفها الجياشة، وشعورها المرهف، وانفعالها السريع،
فتزيغ عن العدل، وتتناسى الحق والواجب، متأثرة بنوازعها نحو أحد المتداعيين، قريبا
لها أو عزيزا عليها. وتفاديا من ذلك، قرن الاسلام بين المرأتين في الشهادة، لتكون
إحداهما مذكرة للأخرى ورادعة لها عن الزيغ والممالاة واستشهدوا شهيدين من رجالكم،
فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء، ان تضل إحداهما فتذكر
إحداهما الأخرى (البقرة: 282).
هذا إلى أن الطب الحديث قد اكتشف ان بعض النساء ابان عادتهن الشهرية، قد تضعف
طاقاتهن الذهنية ويغدون آنذاك مظنة للنسيان، كما أوضحته التقارير السالفة، في بحث
المساواة (1).
وهذا ما يؤيد ضرورة اقتران امرأتين في الشهادة، إذ باقترانهما وتذكير إحداهما
للأخرى يتجلى الحق ويتضح الواقع.
4 - تعدد الزوجات:
وما فتئ أعداء الاسلام يشنون الحملات الظالمة على الدين الاسلامي وشريعته الغراء،
في صور من النقد اللاذع، والتنديد الرخيص، الكاشف



(1) انظر ص 486 من هذا الكتاب (قول الطبيب جب هارد).
421
عن حقدهم وكيدهم للاسلام.
فمن ذلك تشنيعهم على الاسلام بإباحته تعدد الزوجات، وأنها على زعمهم اضرار بالزوجة
وارباك لحياتها.
وقد جهل الناقدون أو تجاهلوا ان الاسلام لم يكن المشرع الأول لذلك، فقد شرعته
الأديان السماوية والقوانين الوضعية قبل الاسلام بآماد وقرون مديدة.
فلا حجر على تعدد الزوجات في شريعة قديمة سبقت قبل التوراة والإنجيل، ولا حجر على
تعدد الزوجات في التوراة أو في الإنجيل، بل هو مباح مأثور عن الأنبياء أنفسهم، من
عهد إبراهيم الخليل إلى عهد الميلاد. ولم يرد في الإنجيل نص واحد يحرم ما أباحه
العهد القديم للآباء والأنبياء، ولمن دونهم من الخاصة والعامة. وما ورد في الإنجيل
يشير إلى الإباحة في جميع الحالات، والاستثناء في حالة واحدة، وهي: حالة الأسقف حين
لا يطيق الرهبانية فيقنع بزوجة واحدة اكتفاء بأهون الشرور...
وقال (وسترمارك) العالم الثقة في تاريخ الزواج: أن تعدد الزوجات باعتراف الكنيسة
بقي إلى القرن السابع عشر، وكان يتكرر كثيرا في الحالات التي لا تحصيها الكنيسة
والدولة...
فالاسلام لم يأت ببدعة فيما أباح من تعدد الزوجات، وإنما الجديد الذي اتى به: أنه
أصلح ما أفسدته الفوضى من هذه الإباحة، المطلقة من كل قيد، وانه حسب حساب الضرورات
التي لا يغفل عنها الشارع الحكيم، فلم يحرم أمرا قد تدعو إليه الضرورة الحازبة.
ويجوز ان تكون اباحته

422
خيرا من تحريمه في بعض ظروف الأسرة، أو بعض الظروف الاجتماعية العامة (1).
إن الذين استنكروا إباحة تعدد الزوجات في التشريع الاسلامي، قد مارسوه فعلا بطرق
الغواية والعلاقات الأثيمة بالخليلات والعشيقات، وتجاهلوا واقعهم السيئ وتحللهم من
القيم الأخلاقية، كأنما يحلو لهم ان يتنكبوا النهج السوي المشروع، ويتعسفوا الطرق
الموبوءة بالفساد.
ولو أنهم فكروا وأمعنوا النظر بتجرد وانصاف في حكمة ذلك التشريع الاسلامي، لأيقنوا
أنه العلاج الوحيد لحل المشاكل والأزمات التي قد تنتاب الفرد وتنتاب المجتمع
ويصلحها اصلاحا فريدا لا بديل له ولا محيص عنه.
أ - المبررات:
ونستطيع ان نستجلي أهداف الشريعة الاسلامية في تعدد الزوجات على ضوء المبررات
التالية:
1 - قد تمرض الزوجة جسميا أو عقليا، وتعجز آنذاك عن أداء رسالتها الزوجية،
ولا تستطيع تلبية رغبات الزوج، ورعاية الأسرة والأبناء، مما يفضي بهم إلى القلق
والتسيب.
ولا ريب أنها أزمة خانقة تستدعي العلاج الحاسم الحكيم، وهو



(1) عن كتاب حقائق الاسلام، للأستاذ العقاد، بتصرف.
423
لا يخلو من فروض ثلاثة:
أ - إما أن يترك الزوج هملا يعاني مرارة الحرمان من حقوقه الزوجية، ويغدو عرضة
للتردي في مهاوي الرذيلة والاثم، وتترك الأسرة كذلك نهبا للفوضى والتبعثر. وهذا
اجحاف بالزوج والأسرة، واهدار لحقوقهما معا.
ب - واما ان يتخلص الزوج من زوجته المريضة بالطلاق، والتخلي عنها، ويدعها تقاسي
شدائد المرض ووحشة النبذ والانفراد، وهذا ما يأباه الوجدان لمنافاته مبادئ
الانسانية وسجايا النبل والوفاء.
ج - وإما ان يتسرى الزوج على زوجه المريضة، متخذا زوجة أخرى تلبي رغباته، وتلم
شعث الأسرة، وتحيط الأولى بحسن الرعاية واللطف، وهذا هو أفضل الحلول وأقربها إلى
الرشد والصواب.
2 - وقد تكون الزوجة عقيمة محرومة من نعمة النسل والانجاب، فماذا يصنع الزوج
والحالة هذه، أيظل محروما من الأبناء يتحرق شوقا إليهم، وتلهفا عليهم مستجيبا
لغريزة الأبوة ووخزها الملح في النفس. فان هو صبر على ذلك الحرمان مؤثرا هوى زوجته
على هواه، فذلك نبل وتضحية وايثار. أو يتسرى عليها بأخرى تنجب له أبناء يملؤن
فراغه النفسي، ويكونون له قرة عين وسلوة فؤاد. وهذا هو منطق الفطرة والغريزة الذي
لا يحيد عنه الا نفر قليل من الناس.
3 - والنساء - في الغالب - أوفر عددا وأكثر نفوسا من الرجال، وذلك لأمرين:

424
أ - ان الرجال أكثر تعرضا لاخطار العمل وأحداث الوفاة من النساء، لممارستهم
الأعمال الشاقة الخطيرة، المؤدية إلى ذلك، كالمعامل والمناجم والمطافي ونحوها، مما
يسبب تلفهم وقلتهم عن النساء.
أضف إلى ذلك، أن الرجال أضعف مناعة من النساء وأكثر إصابة بعدوى الأوبئة والأمراض،
مما يجعلهم أقل عددا منهن ويعزو علماء الحياة ذلك إلى ما تتميز به المرأة على
الرجل بدنيا. والى ان الأمراض كلها تقريبا تهلك من الرجال أكثر مما تهلك من
النساء، ولذا فان في الولايات المتحدة في الوقت الحاضر (000، 700 و 7 أرملة)، ويتنبأ
مكتب التعداد الأمريكي بأن هذه الفئة سيرتفع عددها في أمريكا بمعدل مليونين كل 10
سنين.
وان الدكتورة (ماريون لانجر) العالمة الاجتماعية المتخصصة في استشارات الزواج تقول:
ان لدى المجتمع حلين ممكنين فقط لتغطية النقص المتزايد في الرجال اما تعدد
الزوجات، أو ايجاد طريقة ما لإطالة أعمار الرجال... (1).
ب - الحروب:
فإنها تفني اعدادا ضخمة من الرجال وتسبب هبوط نسبتهم عن النساء هبوطا مريعا. فقد
كان المصابون في الحرب العالمية الأولى (واحدا وعشرين مليون نسمة) بين قتيل وجريح.
وكانت ضحايا الحرب العالمية الثانية (خمسين



(1) الاسلام والعلم الحديث، عن مجلة المختار (عدد فبراير 1958).
425
مليون نسمة).
وقد أحدث ذلك فراغا كبيرا في صفوف الرجال وأثار أزمة عالمية تستدعي العلاج الحاسم
الناجع.
أما الأمم الغربية، فقد وقفت ازاء هذه الأزمة موقف العاجز الحائر في علاجها
وملافاتها... لمنعها تعدد الزوجات، فراحت تعالجه عن طريق الفساد الخلقي، مما دنسها
وأشاع فيها البغاء وكثرة اللقطاء، وعمتها الفوضى الأخلاقية.
وأما الاسلام، فقد عالج ذلك علاجا فذا فريدا يلائم الفطر البشرية، ومقتضيات
الظروف والحالات. حيث أباح التعدد وقاية للفرد والمجتمع من تلك المآسي التي عانتها
الأمم المحرمة له، فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فان خفتم أن
لا تعدلوا فواحدة.
(النساء: 3)
وحين شرع الاسلام التعدد لم يطلقه ارسالا وجزافا، فقد اشترط فيه العدل والمساواة
بين الأزواج صيانة لحقوق المرأة وكرامتها.
بيد ان ذلك العدل مشروط في مستلزمات الحياة المادية، كالمطعم والملبس والمسكن،
ونحوها من المآرب الحسية المتاحة للانسان، والداخلة في نطاق وسعه وقدرته.
أما النواحي الوجدانية والعاطفية، كالحب والميل النفسي، فإنها خارجة عن طوق
الانسان، ولا يستطيع العدل فيها والمساواة، لوهنه أزاء سلطانها الآسر، ولن
تستطيعوا ان تعدلوا بين النساء ولو حرصتم.
(النساء: 129)

426
وقد يعترض البعض أن المرأة الغربية قادرة على ممارسة الأعمال وكسب المعاش، فهي
غنية عن الزواج.
وهم زعم باطل يكذبه واقع الفطرة الانسانية وغرائزها الراسخة في النفس. فحاجة المرأة
إلى الرجل ليست مقصورة على المآرب المادية فحسب، وانما هي حاجة نفسية ملحة تستكمل
به كيانها وتشعر بوجودها كحاجة الرجل إليها على سواء.
4 - ومن مبررات التعدد أنه قد يتصف بعض الرجال بطاقة جنسية عارمة، تتطلب المزيد من
التنفيس والافضاء وتستدعي الأزواج، فان تيسر له ذلك، وإلا نفس عن طاقته بالدعارة
والفساد، كما حدث ذلك في الأمم التي حرمت التعدد المشروع، فابتلت بالتعدد الموبوء
من الخليلات والعشيقات.
* * *
الطلاق في الإسلام:
وهكذا انطلقت حناجر لاغية، تتشدق بانتقاد الاسلام على تشريع الطلاق، بأنه يهدد كيان
المرأة وسعادتها، فتغدو بنزوة من نزوات الرجل ولوثة من لوثاته الغاضبة، طريدة كسيرة
القلب مهدورة الكيان.
وهذا من صور التجني والتشنيع على الاسلام، إذ لم يكن هو المشرع الأول للطلاق، ولا
المقنن الوحيد له، وإنما كان شائعا في أغلب الأمم ومن أقدم العصور. وكان آنذاك
بأسلوب فوضوي يهدر حقوق الزوجة

427
وكرامتها، ويجعلها طريدة شريدة هائمة حيث تشاء.
فقد شاع عند اليونانيين دون قيد أو شرط، وأباحه الرومانيون دينيا ومدنيا بعد أن
حرمته الأجيال الأولى منهم.
وحينما جاءت الشريعة الموسوية قلصت من نطاق الطلاق وأباحته في حالات ثلاث: الزنا
والعقم والعيب الخلقي والخلقي.
وأما الشريعة المسيحية فقد حرمته إلا في حالتين: اقتراف أحد الزوجين أو كلاهما
جريمة الفسق، أو في حالة العقم.
وهذا ما دفع الأمم الغربية الحديثة، بضغط الحاجة الملحة إلى تقنين الطلاق المدني
وجعله قانونا ثابتا، وإن خالف دينها وشريعتها.
ولما أطل الاسلام بعهده الزاهر وتشريعه الكافل، أقر الطلاق وأحاطه بشروط من
التدابير الوقائية والعلاجية، لتقليصه وملافاة أزماته ومشاكله.
فهو أبغض الحلال إلى الله عز وجل، ولكن الضرورة تبيح المحذور، فهناك حالات يتسع
الخلاف فيها بين الزوجين ويشتد الخصام وتغدو الحياة الزوجية أتونا مستعرا
بالشحناء والبغضاء، مما يتعذر فيها التفاهم والوفاق.
وهنا يعالج الاسلام هذه الحالة المتوترة والجو المكفهر المحموم بحكمة وتدرج بالغين،
فهو لا يسرع إلى رباط الزوجية المقدس فيصمه لأول وهلة، ولأول بادرة من خلاف، انه
يشد على هذا الرباط بقوة، ويستمسك به في استماتة، فلا يدعه يفلت إلا بعد المحاولة
واليأس.
انه يهتف بالرجال وعاشروهن بالمعروف، فلن كرهتموهن، فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل
الله فيه خيرا كثيرا (النساء: 19)،

428
فيميل بهم إلى التريث والمصابرة حتى في حالة الكراهية.
فان تجاوز الامر مسألة الكره والحب، إلى النشوز والنفور، فليس الطلاق أول خاطر يهدي
إليه الاسلام، بل لا بد من محاولة يقوم بها الآخرون وتوفيق يحاوله الخيرون وان
خفتم شقاق بينهما، فابعثوا حكما من أهله، وحكما من أهلها، ان يريدا اصلاحا يوفق
الله بينهما. ان الله كان عليما خبيرا (النساء: 35) وان امرأة خافت من بعلها
نشوزا أو اعراضا، فلا جناح عليهما ان يصلحا بينهما، والصلح خير (النساء: 128).
فان لم تجد هذه الوساطة فالأمر إذن جد، وهناك ما لا تستقيم معه هذه الحياة،
وامساك الزوجين على هذا الوضع محاولة فاشلة، ويزيدها الضغط فشلا. ومن الحكمة
التسليم بالواقع وانهاء هذه الحياة - على كره من الاسلام - فان أبغض الحلال إلى
الله الطلاق.
ولعل هذه التفرقة تثير في نفس الزوجين رغبة جديدة لمعاودة الحياة فكثيرا ما نرى
حسنات الشئ عندما نحرمه، والفرصة لم تضع، الطلاق مرتان، فامساك بمعروف أو تسريح
باحسان (البقرة: 229) وهناك فترة العدة في حال الدخول بالزوجة، وعليه ان ينفق
عليها في هذه الفترة ولا يقتر. وفي خلالها يجوز له - ان كان قد ندم - ان يراجع
زوجه، وان يستأنفا حياتهما بلا أي إجراء جديد.
فان تركت مدة العدة تمضي دون مراجعة، ففي استطاعتهما ان يستأنفا هذه الحياة متى
رغبا. ولكن بعقد جديد.
وتلك هي التجربة الأولى وهي تكشف لكلا الزوجين عن حقيقة

429
عواطفهما، وعن جدية الأسباب التي انفصلا بسببها، فإذا تكررت هذه الأسباب، أو جد
سواها، واندفع الزوج إلى الطلاق مرة أخرى، فعندئذ لا تبقى سوى فرصة واحدة، هي
الثالثة.
فإذا كانت الثالثة، فالعلة اذن عميقة والمحاولة غير مجدية، ومن الخير له ولها ان
يجرب كل منهما طريقه، ومن الخير كذلك ان يتلقى الزوج - ان كان عابثا - نتيجة عبثه
أو تسرعه فان طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره (البقرة: 230) (1).
فماذا ينقم الثرثارون على الاسلام بتشريع الطلاق؟ أيريدون إلغاءه وتحريمه، لتشيع
المآسي في المجتمع الاسلامي، التي عاشتها الأمم الكاثوليكية، التي حرمت الطلاق
وحرمت تعدد الزوجات، مما اضطرهم إلى اتخاذ العشيقات والأخدان، وتعسف مسالك الغواية
والآثام الخلقية؟
* * *



(1) نقل بتصرف واختصار عن كتاب السلام العالمي، لسيد قطب ص 64 - 67.
430
حقوق الأقرباء
فضل الأقرباء:
الأقرباء: هم الأسرة التي ينتمي إليها الانسان، والدوحة التي تفرع منها وهم الصق
الناس نسبا به، وأشدهم عطفا عليه، وأسرعهم إلى نجدته ومواساته.
وقد وصفهم أمير المؤمنين عليه السلام فقال: أيها الناس انه لا يستغني الرجل وان
كان ذا مال عن عشيرته، ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم، وهم أعظم الناس حيطة من
ورائه، وألمهم لشعثه، وأعطفهم عليه عند نازلة إذا نزلت به (1).
وأفضل الأقرباء وأجدرهم بالاعجاب والثناء هم: المتحابون المتعاطفون المتآزرون على
تحقيق أهدافهم ومصالحهم.
وكلما استشعر الأرحام وتبادلوا مشاعر التضامن والتعاطف كانوا أعز قدرا، وامنع
جانبا، وأشد قوة على مجابهة الأعداء ومعاناة الشدائد والأزمات.
من أجل ذلك أولت الشريعة شؤون الأسرة عناية بالغة، ورعتها بالتنظيم والتوجيه
لمكانتها الاجتماعية وازدهار حياته وأثرها في اصلاح المجتمع الاسلامي.
صلة الرحم:
وفي طليعة المبادئ الخلقية التي فرضتها الشريعة واكدت عليها صلة



(1) نهج البلاغة.
431
الأرحام، وهم (المتحدون في النسب) وإن تباعدت أواصر القربى بينهم وذلك بالتودد
إليهم والعطف عليهم واسداء العون المادي لهم ودفع المكاره والشرور عنهم ومواساتهم
في الأفراح والأحزان.
واليك طرفا من نصوص أهل البيت عليهم السلام في صلة الأرحام ورعايتهم:
عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
أوصي الشاهد من أمتي والغائب منهم ومن في أصلاب الرجال وأرحام النساء إلى يوم
القيامة ان يصل الرحم وان كان منه على مسيرة سنة فان ذلك من الدين (1).
وعن علي بن الحسين عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: -
من سره ان يمد الله في عمره، وان يبسط في رزقه، فليصل رحمه، فإن الرحم لها لسان
يوم القيامة ذلق تقول: يا رب صل من وصلني واقطع من قطعني (2).
وعن الرضا عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: -
من ضمن لي واحدة ضمنت له أربعة: يصل رحمه، فيحبه الله تعالى،



(1) الوافي ج 3 ص 93 عن الكافي.
(2) البحار، كتاب العشرة، ص 27 عن عيون أخبار الرضا وصحيفة الرضا عليه السلام.
432
ويوسع عليه رزقه، ويزيد في عمره، ويدخله الجنة التي وعده (1).
وقال أبو عبد الله عليه السلام: ما نعلم شيئا يزيد في العمر الا صلة الرحم، حتى
أن الرجل يكون أجله ثلاث سنين، فيكون وصولا للرحم، فيزيد الله في عمره ثلاثين سنة
فيجعلها ثلاثا وثلاثين سنة فيكون قاطعا للرحم فينقصه الله تعالى ثلاثين سنة،
ويجعل أجله إلى ثلاث سنين (2).
وقال عليه السلام:
أن صلة الرحم والبر ليهونان الحساب، ويعصمان من الذنوب، فصلوا أرحامكم، وبروا
بإخوانكم ولو بحسن السلام ورد الجواب (4).
وقال أبو جعفر عليه السلام: -
صلة الأرحام تزكي الأعمال، وتنمي الأموال، وتدفع البلوى، وتيسر الحساب، وتنسئ في
الأجل (5).
وعن أبي عبد الله عليه السلام: أن رجلا اتى النبي صلى الله عليه



(1) الوافي ج 3 ص 94 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 94 عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 94 عن الكافي.
(4) الوافي ج 3 ص 94 عن الكافي.
(5) الوافي ج 3 ص 94 عن الكافي.
433
وآله فقال: يا رسول الله أهل بيتي أبوا الا توثبا علي وقطيعة لي وشتيمة فأرفضهم؟
قال صلى الله عليه وآله: إذا يرفضكم الله جميعا.
قال: فكيف اصنع؟
قال صلى الله عليه وآله: تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، فإنك إذا
فعلت ذلك كان لك من الله عليهم ظهيرا (1)
وقد أحسن بعض الشعراء المتقدمين حيث قال:
وإن الذي بيني وبين بني أبي * وبين بني عمي لمختلف جدا
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم * وان هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم * وإن هم هووا عني هويت لهم رشدا
لهم جل مالي إن تتابع لي غنى * وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا
خصائص صلة الرحم:
ولا غرابة ان نلمس في هذه النصوص قوة التركيز والتأكيد على صلة الرحم، وذلك لما
تنطوي عليه من جليل الخصائص والمنافع.
فالأسرة الرحمية تضم عناصر وأفرادا متفاوتين حالا وأقدارا، فيهم الغني والفقير،
والقوي والضعيف، والوجيه والخامل، وهي بأسرها فردا وجماعة لا تستطيع ان تنال أماني
العزة والمنعة والرخاء، وتجابه مشاكل



(1) الوافي ج 3 ص 94 عن الكافي.
434
الحياة ومناوأة الأعداء بجلد وثبات الا بالتضامن والتعاطف اللذين يشدان أزرها
ويجعلانها جبهة متراصة لا تزعزعها أعاصير المشاكل والاحداث، ولا يستطيع مكابدتها
الأعداء والحساد.
وقد جسد أكثم بن صيفي هذا الواقع في حكمته الشهيرة حيث:
دعى أبناءه عند موته، فاستدعى اضمامة من السهام، فتقدم إلى كل واحد منهم ان يكسرها
فلم يقدر أحد على كسرها.
ثم بددها فتقدم إليهم ان يكسروها فاستسهلوا كسرها، فقال:
كونوا مجتمعين ليعجز من ناوأكم عن كسركم كعجزكم عن كسرها مجتمعة، فإنكم ان تفرقتم
سهل كسركم وانشد:
كونوا جميعا يا بني إذا اعترى * خطب ولا تتفرقوا آحادا
تأبى القداح إذا اجتمعن تكسرا * وإذا افترقن تكسرت افرادا
هذا إلى ما في صلة الرحم من جليل الخصائص والآثار التي أوضحتها النصوص السالفة.
فهي:
مدعاة لحب الأقرباء وعطفهم وايثارهم وموجبة لطيلة العمر، ووفرة المال، وزكاة
الأعمال الصالحة ونحوها في الرصيد الأخروي، ومنجاة من صروف الاقدار والبلايا.
قطيعة الرحم:
وهي:
فعل ما يسخط الرحم ويؤذيه قولا أو فعلا، كسبه واغتيابه وهجره

435
وقطع الصلات المادية وحرمانه من مشاعر العطف والحنان.
وتعتبر الشريعة الاسلامية قطيعة الرحم جرما كبيرا وإثما ماحقا توعد عليها
الكتاب والسنة.
قال تعالى: فهل عسيتم ان توليتم ان تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم (محمد: 22).
وقال سبحانه: والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به ان
يوصل، ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون.
(البقرة: 27)
وقال رسول الله (ص): أربعة أسرع شئ عقوبة: رجل أحسنت إليه فكافأك بالاحسان
إساءة، ورجل لا تبغي عليه وهو يبغي عليك، ورجل عاهدته على امر فوفيت له وغدر بك،
ورجل وصل قرابته فقطعوه (1).
وعن أبي جعفر (ع) قال: في كتاب علي عليه السلام ثلاث خصال لا يموت صاحبهن ابدا
حتى يرى وبالهن: البغي، وقطيعة الرحم، واليمين الكاذبة يبارز الله بها.
وإن أعجل الطاعات ثوابا لصلة الرحم، وإن القوم ليكونون فجارا فيتواصلون فتنمو
أموالهم ويثرون، وإن اليمين الكاذبة وقطيعة الرحم لتذران الديار بلاقع من أهلها،
وتثقل الرحم، وإن ثقل الرحم انقطاع النسل (2).



(1) الوافي ج 14 ص 47 من وصية النبي (ص) لعلي (ع).
(2) الوافي ج 3 ص ص 156 عن الكافي.
436
وعن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام قال: قلت له:
إن اخوتي وبني عمي قد ضيقوا علي الدار وألجأوني منها إلى بيت ولو تكلمت اخذت ما
في أيديهم.
قال: فقال لي: اصبر فان الله سيجعل لك فرجا.
قال: فانصرفت، ووقع الوباء سنة (131 هجري) فماتوا والله كلهم فما بقي منهم أحد.
قال: فخرجت فلما دخلت عليه قال:
ما حال أهل بيتك؟
قال: قلت: قد ماتوا والله كلهم فما بقي منهم أحد.
فقال: هو بما صنعوا بك وبعقوقهم إياك وقطع رحمهم بتروا، أتحب انهم بقوا وانهم ضيقوا
عليك، قال: قلت أي والله (1).
وفي خبر شعيب العقرقوفي في دخول يعقوب المغزلي على موسى بن جعفر عليه السلام وقوله
عليه السلام له: يا يعقوب قدمت أمس ووقع بينك وبين أخيك شرفي موضع كذا وكذا حتى شتم
بعضكم بعضا، وليس هذا ديني ولا دين آبائي ولا نأمر بهذا أحدا من الناس، فاتق
الله وحده لا شريك له، فإنكما ستفترقان بموت، اما إن أخاك سيموت في سفره قبل ان
يصل إلى أهله، وستندم أنت على ما كان منك، وذلك أنكما تقاطعتما فبتر الله
أعماركما.
فقال له الرجل: فانا جعلت فداك متى أجلي؟



(1) سفينة البحار ج 1 ص 516 عن الكافي.
437
فقال عليه السلام: أما إن اجلك قد حضر، حتى وصلت عمتك بما وصلتها به في منزل كذا
وكذا فزيد في أجلك عشرون.
قال شعيب: فأخبرني الرجل ولقيته حاجا أن أخاه لم يصل إلى أهله حتى دفنه في
الطريق (1).
مساوئ قطيعة الرحم:
ونستنتج من هذه النصوص أن لقطيعة الرحم مغبة سيئة وآثارا خطيرة تنذر القاطع
وتعاجله بالفناء، وقصف الأعمار، ومحق الديار، والخسران المبين في دينه ودنياه.



(1) سفينة البحار ج 1 ص 516 عن الكافي.
438
حقوق الأصدقاء
فضل الأصدقاء
الانسان مدني بالطبع، لا يستطيع اعتزال الناس والانفراد عنهم، لأن اعتزالهم باعث
على استشعار الغربة والوحشة والاحساس بالوهن والخذلان أزاء طوارئ الاحداث وملمات
الزمان.
من اجل ذلك كان الانسان تواقا إلى اتخاذ الخلان والأصدقاء، ليكونوا له سندا
وسلوانا، يسرون عنه الهموم ويخففون عنه المتاعب، ويشاطرونه السراء والضراء.
وقد تضافرت دلائل العقل والنقل على فضل الأصدقاء والترغيب فيهم، واليك طرفا منها:
قال أمير المؤمنين عليه السلام في حديث له: عليك بإخوان الصدق، فأكثر من اكتسابهم،
فإنهم عدة عند الرخاء، وجنة عند البلاء (1).
وقال الصادق عليه السلام: لقد عظمت منزلة الصديق حتى أن أهل النار يستغيثون به
ويدعونه قبل القريب الحميم.
قال الله سبحانه مخبرا عنهم: فما لنا من شافعين ولا صديق



(1) البحار كتاب العشرة ص 51 عن امالي الشيخ الصدوق.
439
حميم (1) (الشعراء - 100 - 101).
وقال بعض الحكماء:
إن إخوان الصدق هم خير مكاسب الدنيا، زينة في الرخاء، وعدة في الشدة، ومعونة على
خير المعاش والمعاد.
وقيل الحكيم: أيما أحب إليك، أخوك أم صديقك؟
فقال: إنما أحب أخي إذا كان صديقا لي.
واقع الصداقة والأصدقاء:
قد يحسب الناس أن الصديق هو من يحسن مجاملتهم ويظهر البشاشة والتودد إليهم،
ويعتبرونه خلا وفيا وصديقا حميما، فإذا اختبروا في واقعة أسفر عن صديق مزيف،
وخل مخادع عاطل من خلال الصداقة الحقة وواقعها الأصيل.
ومن هنا كثرت شكايات الأدباء قديما وحديثا من تنكر الأصدقاء وجفائهم وخذلانهم رغم
ما يكنونه لهم من حب واخلاص.
وأغلب الظن أن سبب تلك المأساة أمران:
الأول: الجهل بواقع الصداقة والأصدقاء وعدم التمييز بين خصائص وخلال الواقعيين من
المزيفين منهم.
الثاني: اتصاف أغلب الأصدقاء بنقاط الضعف الشائعة في الأوساط



(1) البحار كتاب العشرة ص 51 عن امالي ابن الشيخ الطوسي.
440
الاجتماعية من التلون والخداع وعدم الوفاء التي سرعان ما يكشفهما محك الاختبار. وقد
أوضح أمير المؤمنين عليه السلام واقع الأصدقاء وابعاد صداقتهم فيما رواه أبو جعفر
الباقر عليه السلام فقال:
قام رجل بالبصرة إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال:
يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الاخوان.
فقال عليه السلام: الاخوان صنفان: اخوان الثقة، واخوان المكاشرة.
فأما اخوان الثقة: فهم الكف والجناح، والأهل والمال، فإذا كنت من أخيك على حد
الثقة، فابذل له مالك، وبدنك، وصاف من صافاه وعاد من عاداه، واكتم سره وعيبه، وأظهر
منه الحسن، واعلم أيها السائل انهم أقل من الكبريت الأحمر.
واما اخوان المكاشرة: فإنك تصيب لذتك منهم، فلا تقطعن ذلك منهم، ولا تطلبن ما وراء
ذلك من ضميرهم، وابذل لهم ما بذلوا لك من طلاقة الوجه، وحلاوة اللسان (1).
وقال الصادق عليه السلام: لا تكون الصداقة إلا بحدودها، فمن كانت فيه هذه الحدود
أو شئ منها فانسبه إلى الصداقة، ومن لم يكن فيه شئ منها، فلا تنسبه إلى شئ من
الصداقة:
فأولها: ان تكون سريرته وعلانيته لك واحدة.
والثانية: ان يرى زينك زينه وشينك شينه.
والثالثة: ان لا تغيره عليك ولاية ولا مال.



(1) الوافي ج 3 ص 104 عن الكافي
441
والرابعة: ان لا يمنعك شيئا تناله مقدرته.
والخامسة: وهي تجمع هذه الخصال ان لا يسلمك عند النكبات (1).
وقال بعض الحكماء: المودات ثلاث:
مودة في الله عز وجل لغير رغبة ولا رهبة، فهي التي لا يشوبها غدر ولا خيانة.
ومودة مقه ومعاشره، ومودة رغبة أو رهبة.
وهي: شر المودات، وأسرعها انتقاضا.
وقال مهيار الديلمي:
ما أنا من صبغة أيامكم * ولا الذي ان قلبوه انقلبا
ولا ابن وجهين ألم حاضرا * من الصديق وألوم الغيبا
قلبي للاخوان شطوا أو دنوا * وللهوى ساعف دهر أو نبا
من عاذري من متلاش كلما * أذنب يوما وعذرت أذنبا
يضحك في وجهي ملء فمه * وإن اغب وذكر اسمي قطبا
يطير لي حمامة فان رأى * خصاصة دب ورائي عقربا
ما أكثر الناس وما أقلهم * وما أقل في القليل النجبا
اختيار الصديق:
للصديق اثر بالغ في حياة صديقه وتكييفه فكريا وأخلاقيا، لما طبع



(1) الوافي ج 3 ص 104 عن الكافي.
442
عليه الانسان من سرعة التأثر والانفعال بالقرناء والأخلاء، ما يحفزه على محاكاتهم
والاقتباس من طباعهم ونزعاتهم.
من اجل ذلك كان التجاوب قويا بين الأصدقاء، وكانت صفاتهم سريعة العدوى والانتقال،
تنشر مفاهيم الخير والصلاح تارة، ومفاهيم الشر والفساد أخرى، تبعا لخصائصهم
وطبائعهم الكريمة أو الذميمة، وان كانت عدوى الرذائل أسرع انتقالا وأكثر شيوعا من
عدوى الفضائل.
فالصديق الصالح: رائد خير، وداعية هدى، يهدي إلى الرشد والصلاح.
والصديق الفاسد: رائد شر، وداعية ضلال، يقود إلى الغي والفساد. وكم انحرف أشخاص
كانوا مثاليين هديا وسلوكا، وضلوا في متاهات الغواية والفساد، لتأثرهم بالقرناء
والأخلاء المنحرفين.
وهذا ما يحتم على كل عاقل ان يتحفظ في اختيار الأصدقاء، ويصطفي منهم من تحلى بالخلق
المرضي والسمعة الطيبة والسلوك الحميد.
خلال الصديق المثالي:
وأهم تلك الخلال وألزمها فيه هي:
1 - ان يكون عاقلا لبيبا مبرءا من الحمق. فان الأحمق ذميم العشرة مقيت الصحبة،
مجحف بالصديق، وربما أراد نفعه فأضره وأساء إليه لسوء تصرفه وفرط حماقته، كما وصفه
أمير المؤمنين (ع) في حديث له فقال:
وأما الأحمق فإنه لا يشير عليك بخير ولا يرجى لصرف السوء

443
عنك ولو اجهد نفسه، وربما أراد منفعتك فضرك، فموته خير من حياته وسكوته خير من
نطقه، وبعده خير من قربه (1).
2 - ان يكون الصديق متحليا بالايمان والصلاح وحسن الخلق، فإن لم يتحل بذلك كان
تافها منحرفا يوشك ان يغوي اخلاءه بضلاله وانحرافه.
انظر كيف يصور القرآن ندم النادمين على مخادنة الغاوين والمضللين وأسفهم ولوعتهم
على ذلك:
ويوم يعض الظالم على يديه يقول: يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا، يا ويلتا ليتني
لم أتخذ فلانا خليلا، لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للانسان
خذولا (الفرقان: 27 - 29).
وعن الصادق عليه السلام عن آبائه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل (2).
وعن أبي جعفر عليه السلام عن أبيه عن جده عليه السلام قال:
قال أمير المؤمنين عليه السلام: مجالسة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار، ومجالسة
الأخيار تلحق الأشرار بالأخيار، ومجالسة الأبرار للفجار تلحق الأبرار بالفجار، فمن
اشتبه عليكم امره، ولم تعرفوا دينه، فانظروا إلى خلطائه، فان كانوا أهل دين الله،
فهو على دين الله، وان كانوا على



(1) البحار. كتاب العشرة. ص 56 عن الكافي.
(2) البحار. كتاب العشرة. ص 52 عن امالي أبي علي ابن الشيخ الطوسي.
444
غير دين الله فلا حظ له من دين الله، ان رسول الله صلى الله عليه وآله كان
يقول:
من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤاخين كافرا، ولا يخالطن فاجرا، ومن آخى
كافرا، أو خالط فاجرا كان كافرا فاجرا (1).
وهكذا يحذر أهل البيت عليهم السلام عن مخادنة أنماط من الرجال اتسموا بأخلاق ذميمة
وسجايا هابطة باعثة على النفرة وسوء الخلة.
وعن أبي عبد الله عن أبيه عليهما السلام قال: قال لي أبي علي بن الحسين عليه
السلام:
يا بني انظر خمسة فلا تصاحبهم، ولا تحادثهم، ولا ترافقهم، فقلت: يا أبه من هم
عرفنيهم. قال:
إياك ومصاحبة الكذاب فإنه بمنزلة السراب يقرب لك البعيد ويبعد لك القريب.
وإياك ومصاحبة الفاسق فإنه بايعك بأكلة أو أقل من ذلك.
وإياك من مصاحبة البخيل فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه.
وإياك ومصاحبة الأحمق فإنه يريد ان ينفعك فيضرك.
وإياك ومصاحبة القاطع لرحمه فاني وجدته ملعونا في كتاب الله عز وجل في ثلاث
مواضع... الخبر (2).



(1) البحار. كتاب العشرة. ص 53 عن كتاب صفات الشيعة للصدوق.
(2) الوافي ج 3 ص 105 عن الكافي.
445
وقال أبو العتاهية:
اصحب ذو العقل وأهل الدين * فالمرء منسوب إلى القرين
وقال أبو نؤاس:
ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم * واسمت سرح اللهو حيث أساموا
وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه * فإذا عصارة كل ذاك أثام
3 - ان يكون بين الصديقين تجاوب عاطفي ورغبة متبادلة في الحب والمؤاخاة، فذلك أثبت
للمودة وأوثق لعرى الإخاء، فان تلاشت في أحدهما نوازع الحب والخلة وهت علاقة
الصداقة وغدا المجفو منها الحريص على توثيقها عرضة للنقد والازدراء.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: زهدك في راغب فيك نقصان عقل (حظ) ورغبتك في زاهد
فيك ذل نفس (1).
وقال الشهيد الأول رحمه الله:
غنينا بنا عن كل من لا يريدنا * وان كثرت أوصافه ونعوته
ومن صد عنا حسبه الصد والقلا * ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته
وقال الطغرائي:
جامل أخاك إذا استربت بوده * وانظر به عقب الزمان العائد
فان استمر به الفساد فخله * فالعضو يقطع للفساد الزائد



(1) نهج البلاغة.
446
مقاييس الحب
وقد تلتبس مظاهر الحب في الأخلاء خاصة والناس عامة، وتخفى سماته وعلائمه، ويغدو
المرء آنذاك في شك وارتياب من ودهم أو قلاهم، وقد وضع أهل البيت عليهم السلام
مقاييس نفسية تستكشف دخائل الحب والبغض في النفوس وتجلو أسرارها الخفية.
قال الراوي: سمعت رجلا يسأل أبا عبد الله عليه السلام فقال:
الرجل يقول أودك، فكيف اعلم أنه يودني؟
فقال عليه السلام: امتحن قلبك، فان كنت توده فإنه يودك (1).
وقال عليه السلام في موطن آخر:
انظر قلبك، فان أنكر صاحبك، فاعلم أنه أحدث (2) يعني قد أحدث ما يوجب النفرة وضعف
المودة.
وعن أبي جعفر عليه السلام قال:
لما احتضر أمير المؤمنين عليه السلام جمع بنيه، حسنا وحسينا وابن الحنفية
والأصاغر فوصاهم، وكان في آخر وصيته: - يا بني عاشروا الناس عشرة، ان غبتم حنوا
إليكم، وإن فقدتم بكوا عليكم، يا بني إن القلوب جنود مجندة تتلاحظ بالمودة،
وتتناجى بها، وكذلك هي في البغض،



(1) الوافي ج 3 ص 106 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 106 عن الكافي.
447
فإذا أحببتم الرجل من غير خير سبق منه إليكم فارجوه، وإذا أبغضتم الرجل من غير سوء
سبق منه إليكم فاحذروه (1).
الصداقة بين المد والجزر:
اختلف العقلاء في أيهما أرجح وأفضل، الاكثار من الأصدقاء أو الاقلال منهم.
ففضل بعضهم الاكثار منهم والتوفر عليهم، لما يؤمل فيهم من جمال المؤانسة وحسن
المؤازرة والتأييد.
ورجح آخرون الاقلال منهم، لما ينجم عن استكثارهم من ضروب المشاكل المؤدية إلى
التباغض والعداء، كما قال ابن الرومي:
عدوك من صديقك مستفاد * فلا تستكثرن من الصحاب
فان الداء أكثر ما تراه * يكون من الطعام أو الشراب
والحق أن قيم الأصدقاء ليست منوطة بالقلة أو الكثرة، وانما هي فيما يتحلون به من
صفات النبل والاخلاص والوفاء، التي لا تجتمع الا في المثاليين منهم، وهم فئة قليلة
نادرة تتألق في دنيا الأصدقاء تألق اللآلي بين الحصا.



(1) البحار كتاب العشرة ص 46 عن امالي الشيخ أبي علي ابن الشيخ الطوسي.
448
وصديق مخلص وفي خير من الف صديق عديم الاخلاص والوفاء، كما قال الإسكندر: المستكثر
من الاخوان من غير اختيار كالمستوفر من الحجارة، والمقل من الاخوان المتخير لهم
كالذي يتخير الجوهر.
حقوق الأصدقاء:
وبعد ان أوضح أهل البيت عليهم السلام فضل الأصدقاء الأوفياء، رسموا لهم سياسة
وآدابا وقرروا حقوق بعضهم على بعض، ليوثقوا أواصر الصداقة بين المؤمنين، ومن ثم
لتكون باعثا على تعاطفهم وتساندهم. واليك طرفا من تلك الحقوق:
1 - الرعاية المادية:
قد يقع الصديق في أزمة اقتصادية خانقة، ويعاني مرارة الفاقة والحرمان ويغدو بأمس
الحاجة إلى النجدة والرعاية المادية، فمن حقه حقه على أصدقائه النبلاء ان ينبروا
لاسعافه، والتخفيف من أزمته بما تجود به أريحيتهم وسخاؤهم، وذلك من الزم حقوق
الأصدقاء وابرز سمات النبل والوفاء فيهم، وقد مدح الله أقواما تحلوا بالايثار
وحسن المواساة فقال تعالى:
ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة (الحشر: 9).
وقال الإمام موسى بن جعفر عليه السلام لرجل من خاصته:

449
يا عاصم كيف أنتم في التواصل والتواسي؟
قلت: على أفضل ما كان عليه أحد.
قال عليه السلام: أيأتي أحدكم إلى دكان أخيه أو منزله عند الضائقة فيستخرج كيسه
ويأخذ ما يحتاج إليه فلا ينكر عليه؟ قال: لا.
قال عليه السلام: فلستم على ما أحب في التواصل (1).
وعن أبي إسماعيل قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: جعلت فداك، إن الشيعة عندنا
كثير، فقال عليه السلام:
فهل يعطف الغني على الفقير؟ وهل يتجاوز المحسن عن المسئ؟ ويتواسون. فقلت: لا.
فقال عليه السلام:
ليس هؤلاء شيعة، الشيعة من يفعل هذا (2).
وقال أبو تمام:
أولى البرية حقا ان تراعيه * عند السرور الذي أساك في الحزن
إن الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا * من كان يألفهم في المنزل الخشن
وقال الواقدي:
كان لي صديقان: أحدهما هاشمي، وكنا كنفس واحدة، فنالتني ضيقة شديدة وحضر العيد،
فقالت امرأتي: أما نحن في أنفسنا فنصبر على البؤس والشدة، وأما صبياننا هؤلاء فقد
قطعوا قلبي رحمة لهم،



(1) البحار كتاب العشرة ص 46 عن كتاب قضاء الحقوق للصوري.
(2) البحار كتاب العشرة ص 71 عن الكافي.
450
لأنهم يرون صبيان الجيران وقد تزينوا في عيدهم، وأصلحوا ثيابهم، وهم على هذه الحال
من الثياب الرثة! فلو احتلت بشئ تصرفه في كسوتهم! فكتبت إلى صديقي الهاشمي أسأله
التوسعة علي، فوجه إلي كيسا مختوما، ذكر ان فيه ألف درهم، فما استقر قراري حتى
كتب إلي الصديق الآخر يشكو مثل ما شكوت إلى صاحبي، فوجهت إليه الكيس بحاله، وخرجت
إلى المسجد فأقمت فيه ليلي مستحيا من امرأتي.
فلما دخلت عليها استحسنت ما كان مني، ولم تعنفني عليه.
فبينما انا كذلك إذ وافى صديقي الهاشمي ومعه الكيس كهيئته، فقال لي: اصدقني عما
فعلته فيما وجهت إليك؟
فعرفته الخبر على وجهه، فقال: انك وجهت إلي وما أملك على الأرض الا ما بعثت به
إليك، وكتبت إلى صديقنا أسأله المواساة فوجه إلي بكيسي! فتواسينا آلاف أثلاثا!
ثم نمي الخبر إلى المأمون فدعاني، فشرحت له الخبر، فأمر لنا بسبعة آلاف دينار، لكل
واحد ألفا دينار وللمرأة ألف دينار! (1).
2 - الرعاية الأدبية:
وهكذا تنتاب الصديق ضروب الشدائد والارزاء ما تسبب إرهاقه وبلبلة حياته، ويغدو
آنذاك مفتقرا إلى النجدة والمساندة لإغاثته وتفريج كربه.



(1) قصص العرب ج 1 ص 290.
451
فحقيق على أصدقائه الأوفياء ان يسارعوا إلى نصرته والذب عنه، لسانا وجاها،
لانقاذه من أعاصير الشدائد والأزمات، ومواساته في ظرفه الحالك.
هذا هو مقياس الحب الصادق والعلامة الفارقة بين الصديق المخلص من المزيف.
قال أمير المؤمنين عليه السلام:
لا يكون الصديق صديقا حتى يحفظ أخاه في ثلاث: في نكبته، وغيبته، ووفاته (1).
وقال الشريف الرضي:
يعرفك الاخوان كل بنفسه * وخير أخ من عرفتك الشدائد
* * *
3 - المداراة:
والأصدقاء مهما حسنت أخلاقهم، وقويت علائق الود بينهم فإنهم عرضة للخطأ والتقصير،
لعدم عصمتهم عن ذلك. فإذا ما بدرت من أحدهم هناة وهفوة في قول أو فعل، كخلف وعد، أو
كلمة جارحة أو تخلف عن مواساة في فرح أو حزن ونحو ذلك من صور التقصير.
فعلى الصديق إذا ما كان واثقا بحبهم واخلاصهم ان يتغاضى عن إساءتهم



(1) نهج البلاغة.
452
ويصفح عن زللهم حرصا على صداقتهم واستبقاءا لودهم، إذ المبالغة في نقدهم
وملاحاتهم، باعثة على نفرتهم والحرمان منهم.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها * كفى المرء نبلا ان تعد معائبه
انظر كيف يوصي أمير المؤمنين عليه السلام ابنه الحسن عليه السلام بمداراة الصديق
المخلص والتسامح معه والحفاظ عليه:
احمل نفسك من أخيك عند صرفه على الصلة، وعند صدوده على اللطف والمقاربة، وعند
جموده على البذل، وعند تباعده على الدنو، وعند شدته على اللين، وعند جرمه على
العذر، حتى كأنك له عبد، وكأنه ذو نعمة عليك.
وإياك ان تضع ذلك في غير موضعه أو تفعله بغير أهله، لا تتخذن عدو صديقك صديقا
فتعادي صديقك، وامحض أخاك النصيحة حسنة كانت أو قبيحة، وتجرع الغيظ. فاني لم أر
جرعه أحلى منها عاقبة ولا ألذ مغبة، ولن لمن غالظك فإنه يوشك ان يلين لك، وخذ
على عدوك بالفضل فإنه أحلى الظفرين، وان أردت قطيعة أخيك فاستبق له من نفسك بقية
ترجع إليها إن بدا له ذلك يوما ما، ومن ظن بك خيرا فصدق ظنه. ولا تضيعن حق أخيك
اتكالا على ما بينك وبينه. فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه (1).
وقال الإمام الحسن عليه السلام لبعض ولده:
يا بني لا تؤاخ أحدا حتى تعرف موارده ومصادره، فإذا استبطنت



(1) نهج البلاغة. في وصيته لابنه الحسن عليه السلام.
453
الخبرة ورضيت العشرة فآخه على إقالة العثرة، والمواساة في العشرة (1).
وقال أبو فراس الحمداني:
لم أواخذك بالجفاء لأني * واثق منك بالوداد الصريح
فجميل العدو غير جميل * وقبيح الصديق غير قبيح
وقال بشار بن برد:
إذا كنت في كل الأمور معاتبا * صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحدا أو صل أخاك فإنه * مقارف ذنب مرة ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى * ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
وقال أبو العلاء المعري:
من عاش غير مداج من يعاشره * أساء عشرة أصحاب وأخدان
كم صاحب يتمنى لو نعيت له * وإن تشكيت راعاني وفداني
ومن أروع صور مداراة الأصدقاء وأجملها وقعا في النفوس: الاغضاء عن اساءتهم والصفح
عن مسيئهم.
ولذلك مظاهر وأساليب رائعة:
1 - ان يتناسى الصديق الإساءة ويتجاهلها ثقة بصديقه، وحسن ظن به، واعتزارا باخائه،
وهذا ما يبعث المسئ على اكبار صديقه ووده والحرص على صداقته.
2 - ان يتقبل معذرة صديقه عند اعتذاره منه، دونما تشدد أو تعنت في قبولها. فذلك من
سمات كرم الأخلاق وطهارة الضمير والوجدان.



(1) تحف العقول.
454
3 - ان يستميل صديقه بالعتاب العاطفي الرقيق، استجلابا لوده، فترك العتاب قد يشعر
باغفاله وعدم الاكتراث به، أو يوهمه بحنق الصديق عليه واضمار الكيد له.
ولكن العتاب لا يجدي نفعا ولا يستميل الصديق الا إذا كان عاطفيا رقيقا كاشفا عن
حب العاتب ورغبته في استعطاف صديقه واستدامة وده، إذ العشرة فيه والافراط منه
يحدثان رد فعل سيئ يضاعف نفار الصديق ويفصم عرى الود والإخاء.
لذلك حثت الشريعة الاسلامية على الصفح والتسامح عن المسئ وحسن مداراة الأصدقاء
خاصة والناس عامة.
قال تعالى: ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم، واستغفر لهم،
وشاورهم في الامر (آل عمران: 159).
وقال سبحانه: إدفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما
يلقاها الا الذين صبروا، وما يلقاها الا ذو حظ عظيم (حم السجدة: 34 - 35).
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: امرني
ربي بمداراة الناس كما امرني بأداء الفرائض (1).
وقال صلى الله عليه وآله: أعقل الناس أشدهم مداراة للناس (2).



(1) الوافي. ج 3 ص 86 عن الكافي.
(2) معاني الأخبار للصدوق.
455
والجدير بالذكر أن من أقوى عوامل ازدهار الصداقة وتوثيق أواصر الحب والاخلاص بين
الأصدقاء، هو ان يتفادى كل منهم جهده عن تصديق النمامين والوشاة المغرمين بغرس بذور
البغضاء والفرقة بين الأحباب وتفريق شملهم، وفصم عرى الإخاء بينهم. وهؤلاء هم شرار
الخلق كما وصفهم رسول الله صلى الله عليه وآله حيث قال:
ألا أنبئكم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: المشاؤون بالنميمة المفرقون
بين الأحبة، الباغون للبراء المعايب (1).
* * *
الاعتدال في حب الصديق والثقة به:
ومن الحكمة أن يكون العاقل معتدلا في محبة الأصدقاء والثقة بهم والركون إليهم دون
اسراف أو مغالاة، فلا يصح الافراط في الاطمئنان إليهم واطلاعهم على ما يخشى إفشاءه
من أسراره وخفاياه.
فقد يرتد الصديق ويغدو عدوا لدودا، فيكون آنذاك أشد خطرا وأعظم ضررا من الخصوم
والأعداء.
وقد حذرت وصايا أهل البيت عليهم السلام وأقوال الحكماء والأدباء نظما ونثرا من
ذلك:
قال أمير المؤمنين عليه السلام: احبب حبيبك هونا ما، عسى ان



(1) البحار كتاب العشرة ص 191 عن الكافي.
456
يكون بغيضك يوما ما، وابغض بغيضك هونا ما، عسى ان يكون حبيبك يوما ما (1).
وقال الصادق عليه السلام لبعض أصحابه:
لا تطلع صديقك من سرك الا على ما لو اطلع عليه عدوك لم يضرك قان الصديق قد يكون
عدوك يوما ما (2).
قال المعري:
خف من تود كما تخاف معاديا * وتمار فيمن ليس فيه تمار
فالرزء يبعثه القريب وما درى * مضر بما تجنى يدا أنمار
وقال أبو العتاهية:
ليخل امرؤ دون الثقات بنفسه * فما كل موثوق ناصح الحب
* * *



(1) نهج البلاغة.
(2) البحار، كتاب العشرة ص 39 عن أمالي الصدوق.
457
حقوق الجوار
التآزر والتعاطف:
لقد جهد الاسلام في حث المسلمين وترغيبهم في التآزر والتعاطف، ليجعلهم أمة مثالية
في اتحادها وتعاضدها على تحقيق أهدافها، ودفع الأزمات والاخطار عنها.
ودأب على غرس تلك المفاهيم السامية في نفوس المسلمين ليزدادوا قوة ومنعة وتجاوبا
في أحاسيس الود ومشاعر الإخاء.
محمد رسول الله، والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم.
(الفتح: 29)
وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الاثم والعدوان.
(المائدة: 2)
وكان من ذلك تحريض المسلمين على حسن الجوار ورعاية الجار، لينشئ من المتجاورين
جماعة متراصة متعاطفة تتبادل اللطف والاحسان، وتتعاون على كسب المنافع ودرء المضار،
ليستشعروا بذلك الدعة والرخاء والقوة على معاناة المشاكل والاحداث.
ولقد أوصى القرآن الكريم برعاية الجار والاحسان إليه فقال:
واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى
والمساكين وابن السبيل والجار ذي القربى، والجار الجنب، والصاحب بالجنب وابن السبيل
وما ملكت أيمانكم (النساء: 36).

458
والمراد - بالجار ذي القربى - الجار القريب دارا أو نسبا - والجار الجنب - هو
البعيد جوارا أو نسبا.
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: كل
أربعين دارا جيران من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله (1).
و - الصاحب بالجنب - الرفيق في السفر، أو الزميل في التعليم، أو في الحرفة.
و - ابن السبيل - المسافر أو الضيف.
- وما ملكت أيمانكم - الأهل والخدم.
وناهيك في حرمة الجار وضرورة رعايته قول النبي صلى الله عليه وآله فيه: ما زال
جبرئيل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه (2).
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
حسن الجوار يعمر الديار، وينسئ في الأعمار (3).
وقال الصادق عليه السلام، ليس منا من لم يحسن مجاورة من جاوره (4).
وعن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع، وما من أهل قرية يبيت فيهم جائع ينظر الله
إليهم يوم القيامة (5).



(1) الوافي. ج 3 ص 97 عن الكافي.
(2) الوافي. ج 3 ص 96 عن الفقيه.
(3) الوافي ج 3 ص 96 عن الكافي.
(4) الوافي ج 3 ص 96 عن الكافي.
(5) الوافي ج 3 ص 96 عن الكافي.
459
وقال الصادق عليه السلام: ان يعقوب لما ذهب منه بنيامين نادى يا رب أما ترحمني،
أذهبت عيني، وأذهبت ابني. فأوحى الله تعالى إليه: لو أمتهما لأحييتهما لك حتى أجمع
بينك وبينهما، ولكن تذكر الشاة التي ذبحتها، وشويتها وأكلت، وفلان إلى جانبك صائم
لم تنله منها شيئا (1).
وفي رواية أخرى قال: وكان بعد ذلك يعقوب ينادي مناديه كل غداة من منزله على فرسخ،
ألا من أراد الغداء فليأت إلى يعقوب. وإذا امسى نادى: ألا من أراد العشاء فليأت إلي
يعقوب (2).
حقوق الجار:
وخلاصتها ان يساس الجار باللطف وحسن المداراة، كابتدائه بالسلام وعيادته في المرض،
وتهنئته في الأفراح، وتعزيته في المصائب، وعدم التطلع إلى حرمه، والاغضاء عن
هفواته، وكف الأذى عنه، واعانته ماديا إذا كان معوزا، وإعادة ما يستعيره من
الأدوات المنزلية، ونصحه إذا ما زاغ وانحرف عن الخط المستقيم.
ومن طريف ما يحكى في حسن الجوار:
إن رجلا كان جارا لأبي دلف ببغداد، فأدركته حاجة، وركبه دين فادح حتى احتاج إلى
بيع داره، فساوموه فيها، فسمى لهم الف



(1) - (2) الوافي ج 3 ص 96 عن الكافي.
460
دينار، فقالوا له: إن دارك تساوي خمسمائة دينار. فقال: أبيع داري بخمسمائة، وجوار
أبي دلف بخمسمائة، فبلغ أبا دلف الخبر، فأمر بقضاء دينه ووصله، وقال: لا تنتقل من
جوارنا. فانظر كيف صار الجوار يباع كما تباع العقار.
* * *

461
حقوق المجتمع الإسلامي
فضل المجتمع الاسلامي:
كان المجتمع الاسلامي إبان رقيه وازدهاره، نموذجا فذا ونمطا مثاليا بين
المجتمعات العالمية المتحضرة، بخصائصه الرفيعة، ومزاياه الغر التي بوأته فمم
المفاخر والأمجاد، وأنشأت من أفراده أسرة اسلامية مرصوصة الصف، خفاقة اللواء،
مرهوبة الجانب، موصوفة بالفضائل والمكرمات.
لقد كان فذا في عقيدته التي حوت أسرار التوحيد وأوضحت خصائص الألوهية وصفاتها
الحقة، وجلت واقع النبوة والأنبياء، وفصلت حقائق المعاد، وما يجيش به من صور
النعيم والعذاب.
حوت كل ذلك، وصورته تصويرا رائعا يستهوي العقول والقلوب ويقنع الضمائر حتى باركها
الله واصطفاها بين العقائد والأديان.
ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين
(آل عمران: 85)
وكان فذا في شريعته الغراء، تلك التي تكاملت بها شرائع السماء وبلغت قمة الوحي
الإلهي ما جعلها الشريعة الخالدة عبر الحياة، والدستور الأمثل للبشرية جمعاء.
وكان فذا في أخلاقه، فقد ازدهرت في ربوعه القيم الأخلاقية وتكاملت

462
حتى أصبحت طابعا مميزا للمسلم الحق كما وصفه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله
بقوله:
المؤمن من امنه الناس على أموالهم ودمائهم، والمسلم من سلم المسلمون من يده
ولسانه، والمهاجر من هجر السيئات (1).
وكان مثلا رفيعا في آدابه الاجتماعية:
قال أمير المؤمنين عليه السلام: يا بني اجعل نفسك ميزانا بينك وبين غيرك، فأحبب
لغيرك ما تحب لنفسك، وأكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب ان تظلم، وأحسن
كما تحب ان يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من الناس بما
ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم، وإن قل ما تعلم، ولا تقل ما لا تحب ان
يقال لك (2).
وكان فريدا في تآخيه: فقد أعلن مبدأ المؤاخاة وحققه بين افراده بأسلوب لم تستطع
تحقيقه سائر الشرائع والمبادئ انما المؤمنون اخوة (الحجرات: 10) وأصبح المجتمع
أسرة واحدة تستشعر روح الإخاء، وتتجاوب في عواطفها ومشاعرها، وكان ذلك من أعظم
منجزات الاسلام وفتوحاته الاصلاحية.
وكان مثاليا في أريحته وتكافله: فالمسلم معني بشؤون المجتمع والاهتمام بمصالحه
والعطف على بؤسائه ومعوزيه.



(1) الوافي ج 14 ص 48 عن الفقيه.
(2) نهج البلاغة، من وصيته لابنه الحسن عليه السلام.
463
فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من أصبح
لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم (1).
وعنه عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الخلق عيال الله،
وأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله، وأدخل على بيت سرورا (2).
حقوق المجتمع الاسلامي:
للفرد قيمته ومنزلته في المجتمع، بصفته لبنة في كيانه، وغصنا من أغصان دوحته،
وبمقدار ما يسعد الفرد، وينال حقوقه الاجتماعية يسعد المجتمع، وتشيع فيه دواعي
الطمأنينة والرخاء، وبشقائه وحرمانه يشقى المجتمع وتسوده عوامل البلبلة والتخلف.
لذلك كان حتما مقضيا على المجتمع رعاية مصالح الفرد، وصيانة كرامته ومنحه الحقوق
الاجتماعية المشروعة، ليستشعر العزة والسكينة والرخاء في إطار أسرته الاجتماعية،
واليك أهم تلك الحقوق:
1 - حق الحياة:
وهو حق طبيعي مقدس يجب رعايته وصيانته، ويعتبر الاسلام هدره



(1) الوافي ج 3 ص 99 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 99 عن الكافي.
464
والاعتداء عليه جناية نكراء وجرما عظيما يتوعد عليه بالنار: ومن يقتل مؤمنا
متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها، وغضب الله عليه ولعنه واعد له عذابا عظيما
(النساء: 93).
ولم يكتف الاسلام بانذار السفاكين، ووعيدهم بالعقاب الأخروي، فقد شرع القصاص من
القاتل عمدا، والدية عليه خطأ، حماية لدماء المسلمين، وحسما لاحداث القتل
وجرائمه ولكم في القصاص حياة يا اولي الألباب لعلكم تتقون (البقرة: 129).
وليس للانسان ان يفرط في حياته ويزهقها بالانتحار، وانما يجب عليه حفظها وصيانتها
من الأضرار والمهالك ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة (البقرة: 195).
وقد بالغ الاسلام في قدسية الأرواح وحمايتها، حتى حرم قتل الجنين واجهاضه تخلصا
منه، وفرض الدية على قاتله.
2 - حق الكرامة:
لقد شرف الله المؤمن وحباه بصنوف التوقير والاعزاز، وألوان الدعم والتأييد. فحفظ
كرامته، وصان عرضه، وحرم ماله ودمه، وضمن حقوقه، ووالى عليه الطافه، حتى أعلن في
كتابه الكريم عنايته بالمؤمن ورعايته له في الحياة العاجلة والآجلة: إن الذين
قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ان لا تخافوا ولا تحزنوا
وابشروا بالجنة التي كنتم

465
توعدون، نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم
فيها ما توعدون (حم السجدة: 30 - 31).
الذين آمنوا وكانوا يتقلون، لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة (يونس: 63 -
64).
إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الاشهاد (غافر: 51).
وحرم الاسلام بعد هذا كل ما يبعث على استهانة المؤمن وخدش كرامته وتلويث سمعته
باغتيابه والتجسس عليه، والسخرية منه ليطهر المجتمع الاسلامي من عوامل التباغض
والفرقة. وليشع في ربوعه مفاهيم العزة والكرامة
يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن، إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا ولا
يغتب بعضكم بعضا، أيحب أحدكم ان يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه (الحجرات: 12).
يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى ان يكونوا خيرا منهم، ولا نساء من
نساء عسى ان يكن خيرا منهن، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم
الفسوق بعد الايمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون (الحجرات: 11).
وهكذا حرص الاسلام على اعزاز المؤمن وحماية شرفه وكرامته حتى بعد وفاته، فجعل حرمته
ميتا كحرمته حيا، وفرض على المسلمين تجهيزه بعد الممات وتغسيله وتكفينه والصلاة
عليه ودفنه، وحرم كلما يثلب كرامته كالمثلة به ونبش قبره، واستغابته والطعن فيه.

466
وقد جهد الاسلام في حماية المسلمين وضمان كرامتهم فردا ومجتمعا، ماديا وأدبيا:
فشرع الحدود والديات صيانة لأرواحهم وأموالهم وحرماتهم، وردعا للمجرمين العابثين
بأمن المجتمع ومقدراته.
ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب، لعلكم تتقون
(البقرة: 129)
إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا، أن يقتلوا أو
يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض (المائدة: 33).
وبالغ الاسلام في عقوبة الزاني لاستهتاره بقدسية أعراض الناس، وانتهاكه صميم
كرامتهم وشرفهم.
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين
الله (النور: 2).
وقرر الحد الصارم على السارق حسما لإجرامه وحرصا على أمن المسلمين واطمئنانهم.
والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله.
(المائدة: 38)
وهكذا أعلن أهل البيت عليهم السلام شرف المؤمن وعزته، وأحاطوه بهالة من التوقير
والاجلال وألوان الحصانة والصيانة:
فعن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه

467
وآله: سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر، وأكل لحمه معصية، وحرمة ماله كحرمة دمه (1).
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: قال الله عز وجل: من أهان لي وليا، فقد
أرصد لمحاربتي. وما تقرب إلي عبد بشئ أحب إلى مما افترضت عليه، وإنه ليتقرب إلي
بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه
الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته، وما ترددت عن
شئ انا فاعله كترددي عن موت عبدي المؤمن، يكره الموت وانا أكره مساءته (2).
وعنه عليه السلام قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: يا معشر من أسلم بلسانه، ولم يخلص الايمان إلى
قلبه، لا تذموا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عوراتهم يتبع الله
عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في بيته (3).
وعنه عليه السلام قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من أذاع فاحشة كان كمبتدئها



(1) سفينة البحار ج 1 ص 41 عن الكافي.
(2) سفينة البحار ج 1 ص 41 عن الكافي.
(3) البحار كتاب العشرة ص 177 عن الكافي.
468
ومن عير مؤمنا بشئ لم يمت حتى يركبه (1).
3 - حق الحرية:
والحرية هي: انعتاق الانسان وتحرره من أسر الرق والطغيان، وتمتعه بحقوقه المشروعة.
وهي من أقدس الحقوق وأجلها خطرا، وأبلغها أثرا في حياة الناس.
لذلك أقر الاسلام هذا الحق وحرص على حمايته وسيادته في المجتمع الاسلامي.
وليست الحرية كما يفهمها الاغرار هي التحلل من جميع النظم والضوابط الكفيلة بتنظيم
المجتمع، واصلاحه وصيانة حقوقه وحرماته، فتلك هي حرية الغاب والوحوش الباعثة على
فساده وتسيبه. وانما الحرية الحقة هي:
التمتع بالحقوق المشروعة التي لا تناقض حقوق الآخرين ولا تجحف بهم. واليك طرفا من
الحريات:
أ - الحرية الدينية:
فمن حق المسلم ان يكون حرا طليقا في عقيدته وممارسة عباداته، واحكام شريعته. فلا
يجور قسره على نبذها أو مخالفة دستورها، ويعتبر ذلك عدوانا صارخا على أقدس
الحريات، وأجلها خطرا في دنيا الاسلام.



(1) الوافي ج 3 ص 163 عن الكافي.
469
والمسلمين. وعلى المسلم ان يكون صلبا في عقيدته، صامدا أزاء حملات التضليل التي
يشنها أعداء الاسلام، لاغواء المسلمين واضعاف طاقاتهم ومعنوياتهم.
ب - الحرية المدنية:
ومن حق المسلم الرشيد ان يكون حرا في تصرفاته، وممارسة شؤونه المدنية، فيستوطن ما
أحب من البلدان، ويختار ما شاء من الحرف والمكاسب ويتخصص فيما يهوى من العلوم،
وينشئ ما أراد من العقود، كالبيع والشراء والإجارة والرهن ونحوها. وهو حر في مزاولة
ذلك على ضوء الشريعة الاسلامية.
ج - حرية الدعوة الاسلامية:
وهذه الحرية تحض الأكفاء من المسلمين القادرين على نشر التوعية الاسلامية، وارشاد
المسلمين وتوجيههم وجهة الخير والصلاح. وذلك ما يبعث على تصعيد المجتمع الاسلامي
ورقيه دينيا وثقافيا واجتماعيا، ويعمل على وقايته وتطهيره من شرور الرذائل
والمنكرات.
ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر وأولئك هم
المفلحون (آل عمران: 104).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله:
لا يزال الناس بخير ما أمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وتعاونوا

470
على البر، فإذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم
ناصر في الأرض ولا في السماء (1).
4 - حق المساواة:
كانت الأمم العالمية تعيش حياة مزرية، تسودها الأثرة والأنانية، وتفرقها نوازع
الامتيازات الطبقية. فكان التفاوت الطبقي من أبرز مظاهر العرب الجاهليين، إذ كانوا
يضطهدون الضعفاء ويستعبدونهم كالأرقاء، ولا يؤاخذون الاشراف على جناية أو جرم
تمييزا لهم عن سوقة الناس.
وحسبك ما كان عليه ملوك العرب يومذاك من الأنانية واستذلال الناس.
فكان عمر بن هند ملكا عربيا: وقد عود الناس ان يكلمهم من وراء حجاب، وقد استكثر
على سادة القبائل ان تأنف أمهاتهم من خدمته في داره.
وكان النعمان بن المنذر قد بلغ به العسف ان يتخذ لنفسه يوما للرضي، يغدق فيه النعم
على كل قادم إليه خبط عشواء، ويوما للغضب يقتل فيه كل طالع عليه من الصباح إلى
المساء.
ومن القصص المشهورة: قصة (عمليق) ملك طسم وجديس.



(1) الوافي ج 9 ص 29 عن التهذيب.
471
كان يستبيح كل عروس قبل ان تزف إلى عروسها (1).
وهكذا كانت الأمم الغربية في تمايزها الطبقي حتى قيام الثورة الفرنسية التي طفقت
تنادي بالمساواة وتحفز عليها مما أيقظ الغربيين وأثار فيهم شعور المساواة.
ولكن رواسب الطبقة لا تزال عالقة في نفوس الغربيين تستشف من خلال أقوالهم
وتصرفاتهم:
فالألمانية النازية: تقدس الجنس الآري، وتفضله على سائر الأجناس البشرية.
والأمم الأمريكية: لا يزال الصراع فيها قائما بين البيض والسود من جراء أنانية
البيض وترفعهم عن مخالطة السود، ومشاركتهم في المدارس والمطاعم وسائر مرافق الحياة.
وهكذا درجت بريطانيا على إشاعة التفاوت الطبقي بين البيض والملونين في جنوب
إفريقيا، حيث جعلت البيض سادة مدللين، والسود أرقاء مستعبدين لهم.
وكذلك نجد التمايز والتفاوت واضحين في ظلال الحكم الشيوعي بين العامل ورئيسه،
والجندي وقائده، والفنانين والكادحين. ولم يستطيع رغم تشدقه بالمساواة: محو الطبقية
بين اتباعه.



(1) حقائق الاسلام. للعقاد ص 150.
472
المساواة في الاسلام
لقد شرع الاسلام مبدأ المساواة، ونشر ظلاله في ربوع المجتمع الاسلامي بأسلوب مثالي
فريد، لم تستطع تحقيقه سائر الشرائع والمبادئ. فأفراد المجتمع ذكورا وإناثا،
بيضا وسودا، عربا وعجما، أشرافا وسوقة، أغنياء وفقراء. كلهم في شرعة الاسلام
سواسية كأسنان المشط، لا يتفاضلون الا بالتقوى والعمل الصالح.
يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن
أكرمكم عند الله أتقاكم (الحجرات: 13).
والقوانين الاسلامية والفرائض الشرعية نافذة عليهم جميعا دون تمايز وتفريق بين
الأجناس والطبقات. وما انفك النبي صلى الله عليه وآله عن تركيز مبدأ المساواة
وتصعيده حتى استطاع تطويره والتسامي به إلى المؤاخاة الروحية بين المؤمنين.
انما المؤمنون اخوة (الحجرات: 10).
حسبك في ذلك أن الملوك كانوا يحسبون أنهم فوق مستوى البشر، ويترفعون عنهم في أبراج
عاجية يطلون منها زهوا وكبرا على الناس.
يأمر القرآن الكريم سيد المرسلين أن يعلن واقعه للناس:
قل انما انا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد.
(الكهف: 110)

473
لذلك كان هو صلى الله عليه وآله، وذريته الأطهار: المثل الاعلى في تطبيق مبدأ
المساواة والدعوة إليه قولا وعملا.
قال صلى الله عليه وآله: إن الله تبارك وتعالى قد اذهب بالاسلام نخوة الجاهلية
وتفاخرها بآبائها، ألا إن الناس من آدم، وآدم من تراب، وأكرمهم عند الله
اتقاهم (1).
ويحدثنا الرواة: انه صلى الله عليه وآله كان في سفر فأمر باصلاح شاة، فقال رجل: يا
رسول الله علي ذبحها، وقال آخر علي سلخها، وقال آخر علي طبخها، فقال صلى الله
عليه وآله: وعلي جمع الحطب. فقالوا يا رسول الله نحن نكفيك، فقال: قد علمت أنكم
تكفوني، ولكن أكره ان أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده ان يراه متميزا بين
أصحابه وقام فجمع الحطب (2).
ويحدث الرواة: أن سوادة بن قيس قال للنبي صلى الله عليه وآله في أيام مرضه: يا
رسول الله انك لما أقبلت من الطائف استقبلتك، وأنت على ناقتك العضباء، وبيدك
القضيب الممشوق، فرفعت القضيب وأنت تريد الراحلة فأصاب بطني، فأمره النبي صلى الله
عليه وآله ان يقتص منه فقال: اكشف لي عن بطنك يا رسول الله، فكشف عن بطنه. فقال
سوادة: أتأذن لي أن أضع فمي على بطنك، فاذن له فقال: أعوذ بموضع القصاص من رسول
الله صلى الله عليه وآله النار يوم النار، فقال



(1) الوافي ج 14 في وصية النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام.
(2) سفينة البحار ج 1 ص 415.
474
صلى الله عليه وآله: يا سوادة بن قيس أتعفو أم تقتص؟ فقال: بل أعفو يا رسول الله،
فقال: اللهم اعف عن سوادة بن قيس كما عفى عن نبيك محمد (1).
وهكذا كان أمير المؤمنين عليه السلام:
قال الصادق عليه السلام: لما ولي علي عليه السلام صعد المنبر فحمد الله وأثنى
عليه، ثم قال:
اني لا أرزؤكم من فيئكم درهما ما قام لي عذق بيثرب، فلتصدقكم أنفسكم، أفتروني
مانعا نفسي ومعطيكم؟.
قال: فقام إليه عقيل كرم الله وجهه فقال له: الله! لتجعلني وأسود بالمدينة سواء.
فقال عليه السلام: اجلس اما كان هنا أحد يتكلم غيرك؟ وما فضلك عليه الا بسابقة أو
تقوى (2).
ومشى إليه ثلة من أصحابه عند تفرق الناس عنه، وفرار كثير منهم إلى معاوية طلبا
لما بي يديه من الدنيا، فقالوا: يا أمير المؤمنين أعط هذه الأموال وفضل هؤلاء
الاشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم ومن تخاف عليه من الناس فراره إلى
معاوية.
فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: أتأمروني أن أطلب النصر بالجور لا والله ما
أفعل، ما طلعت شمس ولاح في السماء نجم، والله لو كان مالهم



(1) سفينة البحار ج 1 ص 671.
(2) البحار م 9 ص 359 عن الكافي.
475
لي لواسيت بينهم، وكيف وانما هي أموالهم (1).
وقال عمر بن الخطاب للناس يوما: ما قولكم لو أن أمير المؤمنين شاهد امرأة على
معصية - يعني أتكفي شهادته في إقامة الحد عليها -؟.
فقال له علي بن أبي طالب: يأتي بأربعة شهود أو يجلد حد القذف شأنه في ذلك شأن سائر
المسلمين (2).
وقد انبهر الكاتب الغربي - جب - بمبدأ المساواة في الاسلام، وراح يعرب عن اعجابه
وإكباره لذلك، فقال في كتابه - مع الاسلام -:
ليس هناك أية هيئة سوى الاسلام يمكن ان تنجح مثله نجاحا باهرا في تأليف هذه
الأجناس البشرية المتنافرة في جبهة واحدة أساسها المساواة.
وإذا وضعت منازعات دول الشرق والغرب العظمى موضع الدرس فلا بد من الالتجاء إلى
الاسلام لحزم النزاع.
وبتقرير مبدأ المساواة استشعر المسلمون مفاهيم العزة والكرامة، ومعاني الوئام
والصفاء، وغدوا قادة الأمم وروادها إلى العدل والحرية والمساواة.
وفي الوقت الذي قرر الاسلام فيه المساواة، فإنه قررها بأسلوب منطقي حكيم يلائم
العقول النيرة والفطر السليمة ويساير مبادئه الخالدة في إشاعة العدل، وإتاحة فرص
التكافؤ بين عامة المسلمين، وإناطة التفاضل



(1) البحار م 9 ص 533 (بتصرف وتلخيص).
(2) عن كتاب حقوق الانسان بين تعاليم الاسلام واعلان الأمم المتحدة ص 27 لمحمد
الغزالي.
476
والتمايز بينهم فيما هو مقدور لهم وداخل في امكاناتهم من أعمال الخير والصلاح دون
ما كان خارجا عن طاقتهم وإرادتهم من وفرة المال أو سعة الجاه.
إن أكرمكم عند الله أتقاكم (الحجرات: 13).
فهو يشرع المساواة تحقيقا لمبادئه العادلة البناءة ويقرر التمايز كذلك نظرا لبعض
القيم والكفاءات التي لا يجوز اغفالها وهدرها.
قل هل يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون (الزمر: 9).
لذلك فضل الله الأنبياء بعضهم على بعض، لاختلاف كفاءتهم وجهادهم في سبيل الله
تعالى، واصلاح البشر واسعادهم.
تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، منهم من كلم الله، ورفع بعضهم درجات (البقرة:
253).
وفضل العلماء على الجهال، والمؤمنين بعضهم على بعض، لتفاوتهم في مدارج العلم والتقى
والصلاح.
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات.
(المجادلة: 11).
وهكذا فاضل بين الناس في الرزق، لاختلاف كفاءاتهم وطاقاتهم في إجادة الأعمال، ووفرة
الانتاج، فليس من العدل مساواة الغبي بالذكي والكسول بالمجد والعالم المخترع
بالعامل البسيط، إذ المساواة والحالة هذه مدعاة لخفق العبقريات والمواهب وهدر
الطاقات والجهود.
نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق

477
بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون
(الزخرف: 32)
5 - حق العلم:
للفرد قيمته واثره في المجتمع بصفته عضوا من أعضائه، ولبنة في كيانه، وعلى حسب
كفاءته ومؤهلاته الفكرية والجسمية تقاس حياة المجتمع وحالته رقيا أو تخلفا،
ازدهارا أو خمولا، للتفاعل القوي بين الفرد والمجتمع.
من اجل ذلك دأبت الأمم المتحضرة على تربية أبنائها وتثقيفهم بالعلم، حتى فرضوا
التعليم الاجباري ويسروه مجانا في مراحله الأولى، دعما لحضارتهم وتصعيدا
لكفاءاتهم.
وقد كان المسلمون إبان حضارتهم مثلا رفيعا وقدوة مثالية في إشاعة العلم لطلابه
وتمجيد العلماء وتكريمهم، حتى استطاعت المعاهد الاسلامية أن تخرج أمة من أقطاب
العلم واعلامه.
كانوا قادة الفكر وبناة الحضارة الاسلامية، ورواد الأمم إلى العلم والعرفان،
وعليهم تتلمذ الغرب ومنهم اقتبس علمه وحضارته.
قال سديو في كتابه تاريخ العرب:
- كان المسلمون في القرون الوسطى منفردين في العلم والفلسفة والفنون وقد نشروها
أينما حلت اقدامهم، وتسربت عنهم إلى أوربا، فكانوا هم سببا لنهضتها وارتقائها.

478
وقال جوستاف لويون في كتابه حضارة العرب:
- ثبت الآن أن تأثير العرب في الغرب عظيم كتأثيرهم في الشرق، وأن أوربا مدينة للعرب
بحضارتها.
وكان من أقوى بواعث ازدهار العلوم الاسلامية واتساع آفاقها، أن حق التعليم - في
المجتمع الاسلامي - كان مضمونا ومتاحا لكل طالب مهما كان عنصره ومستواه شريفا أو
وضيعا، غنيا أو فقيرا، عربيا أو أعجميا.
وان الشريعة الاسلامية كما فرضت على كل مسلم طلب العلم والتحلي به والانتفاع بثماره
اليانعة، حتمت على العالم ان ينشر علمه ويذيعه بين المسلمين ولا يكتمه عنهم.
قال الباقر عليه السلام: عالم ينتفع بعلمه، أفضل من سبعين الف عابد (1).
فلم يعرف المسلمون تلك الإثرة العلمية التي اتصف بها رجال الدين الغربيون حتى قيام
النهضة الحديثة، وبذلك أصبح المسلمون مشعلا وهاجا بالعلم والعرفان.
6 - حق الملكية:
لم يشهد التاريخ فتنة أثارت الجدل الحاد والنزاع الضاري كفتنة المال والملكية في
هذا العصر، فقد انقسم العالم فيها إلى فريقين متناحرين: أحدهما



(1) الوافي ج 1 ص 40 عن الكافي.
479
يبيح الملكية الفردية بغير حد أو شرط، وهو الفريق الرأسمالي.
وثانيهما يستنكرها ويمنعها وهو الفريق الاشتراكي. وغدا العالم من جراء هذين
المبدأين المتناقضين يعاني ضروب الأزمات والمشاكل.
وقد حسم الاسلام هذه الفتنة، وعالجها علاجا ناجحا حكيما، لا تجد البشرية أفضل
منه أو بديلا عنه لتحقيق سعادتها وسلامتها.
فهو: لا يمنع الملكية الفردية، ولا يبيحها من غير شرط.
لا يمنعها: لان الانسان مفطور على غريزة التملك، وحب النفع الذاتي، وهما نزعتان
راسختان في النفس، لا يستطيع الانفكاك منهما والتخلي عنهما، وإن تجاهلتهما النظريات
الخيالية التي لا تؤمن بغرائز الانسان وميوله الفطرية.
هي حق طبيعي يحقق كرامة الفرد، ويشعره بوجوده، ويحرره من عبودية السلطة التي تحتكر
أرزاق الناس وتستعبدهم بها.
هي حق يفجر في الانسان طاقات المواهب والعبقريات، وينفخ فيه روح الامل والرجاء،
ويحفزه على مضاعفة الجهود ووفرة الانتاج وتحسينه.
وفي الوقت الذي منح الاسلام حق الملكية فإنه لم يمنحه على طرائق الجاهلية
الرأسمالية التي تجيز اكتساب المال واستثماره بأي وجه كان، حلالا أم حراما. مما
يوجب اجتماع المال واكتنازه في أيد قليلة وحرمان أغلب الناس منه، ووقوعهم في أسر
الأثرياء يتحكمون فيهم ويستغلون جهودهم كما يشاؤون.
إنه أباح الملكية بأسلوب يضمن صالح الفرد، ويضمن صالح الجماعة

480
ولا يضر بهذا ولا بأولئك، وذلك بما وضع لها من شروط:
1 - فهو لا يجيز اكتساب المال وتملكه الا بطرق مشروعة محللة، وحرم ما سوى ذلك
كالربا والرشا والاحتكار، واكتناز المال الذي فرض الله فيه نصيبا للفقراء، أو
ابتزازه غصبا.
2 - شرع قانون الإرث الموجب لتفتيت الثراء وتوزيعه على عدد من الوراث في كل جيل.
3 - شرع الفرائض المالية لإعانة الفقراء وانعاشهم، كالزكاة والخمس والكفارات ورد
المظالم.
وقد استطاع الاسلام بمبادئه الاقتصادية الحكيمة ان يشيع بين المسلمين روح التعاطف
والتراحم، ويحقق العدل الاجتماعي فيهم، فلا تجد بينهم جائعا إزاء متخم، ولا عاريا
إزاء مكتس بالحرير.
7 - حق الرعاية الاسلامية:
كان من أبرز خصائص المجتمع الاسلامي ومزاياه، ذلك التجاوب العاطفي، والأحاسيس
الأخوية المتبادلة بين افراده، ما جعلهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، أو
كالجسد الواحد إذا اشتكى عضو تألمت له سائر الأعضاء.
فما كان للمسلم الحق ان يتغاضى عن الاهتمام بشؤون مجتمعه، ورعاية مصالحه العامة،
والحرص على رقيه وازدهاره. كما قال النبي صلى الله عليه وآله:

481
من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم (1).
وقال صلى الله عليه وآله: ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع، وما من أهل قرية
فيهم جائع ينظر الله إليهم يوم القيامة (2).
وما كان للمجتمع الاسلامي ان يتغاضى عن رعاية افراده البؤساء، وهم يعانون مرارة
الفاقة ومضض الحرمان، دون ان يتحسس بمشاعرهم ويتطوع لإغاثتهم والتخفيف من ضرهم.
وحسبك في شرف المؤمن وضرورة دعمه واسناده، دعوة أهل البيت عليهم السلام وحثهم على
توقيره واكرامه ورعايته ماديا ومعنويا ما لو طبقه المسلمون اليوم لكانوا أسعد
الأمم، وأرغدهم عيشا وأسماهم منعة وجاها.
واليك نماذج من وصاياهم في ذلك:
أ - اطعامه وسقيه: قال علي بن الحسين عليه السلام: من أطعم مؤمنا من جوع أطعمه
الله من ثمار الجنة، ومن سقى مؤمنا سقاه الله من الرحيق المختوم (3).
وقال الصادق عليه السلام: من أطعم مؤمنا حتى يشبعه لم يدر أحد من خلق الله ماله
من الاجر في الآخرة، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل الا الله رب العالمين.
ثم قال: من موجبات المغفرة اطعام المسلم السغبان، ثم تلا قول الله



(1) الوافي ج 3 ص 99 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 96 عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 120 عن الكافي.
482
تعالى: أو اطعام في يوم ذي مسغبة، يتيما ذا مقربة، أو مسكينا ذا متربة (1).
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من سقى
مؤمنا شربة من ماء من حيث يقدر على الماء، أعطاه الله بكل شربة سبعين الف حسنة،
وإن سقاه من حيث لا يقدر على الماء، فكأنما أعتق عشر رقاب من ولد إسماعيل (2).
ب - اكساء المؤمن:
وقال الصادق عليه السلام: من كسا أخاه كسوة شتاء أو صيف كان حقا على الله ان
يكسوه من ثياب الجنة، وان يهون عليه من سكرات الموت وان يوسع عليه في قبره وان يلقى
الملائكة إذا خرج من قبره بالبشرى، وهو قوله تعالى في كتابه وتتلقاهم الملائكة هذا
يومكم الذي كنتم توعدون (3) (الأنبياء: 103).
وقال عليه السلام: من كسا أحدا من فقراء المسلمين ثوبا من عري، أو إعانة بشئ
مما يقوته من معيشته وكل الله تعالى به سبعة آلاف ملك من الملائكة يستغفرون لكل
ذنب عمله إلى أن ينفخ في الصور..
وعن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من كسا أحدا..
الحديث مثله - الا ان فيه سبعين الف ملك (4).



(1) الوافي ج 3 ص 120 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 121 عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 121 عن الكافي.
(4) الوافي ج 3 ص 121 عن الكافي.
483
ج - قضاء حاجة المؤمن:
عن المفضل عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال لي: يا مفضل اسمع ما أقول لك،
واعلم أنه الحق، وافعله وأخبر به علية إخوانك، قلت: جعلت فداك وما علية إخواني؟
قال: الراغبون في قضاء حوائج إخوانهم، قال: ثم قال:
ومن قضى لأخيه المؤمن حاجة قضى الله تعالى له يوم القيامة مائة الف حاجة، من ذلك
أولها الجنة، ومن ذلك أن يدخل قرابته ومعارفه واخوانه الجنة، بعد أن لا يكونوا
نصابا (1).
وقال الصادق عليه السلام:
ما قضى مسلم لمسلم حاجة الا ناداه الله تعالى: علي ثوابك، ولا ارضى لك بدون
الجنة (2).
وقال عليه السلام: إن المؤمن منكم يوم القيامة ليمر به الرجل له المعرفة به في
الدنيا وقد امر به إلى النار، والملك ينطلق به، قال: فيقول له: يا فلان أغثني فقد
كنت اصنع إليك المعروف في الدنيا، وأسعفك في الحاجة تطلبها مني، فهل عندك اليوم
مكافأة؟ فيقول المؤمن للملك الموكل به خل سبيله، قال: فيسمع الله قول المؤمن،
فيأمر الملك ان يجبر قول المؤمن فيخلي سبيله (3).



(1) الوافي ج 3 ص 117 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 118 عن الكافي.
(3) البحار. كتاب العشرة. ص 86 عن ثواب الأعمال للصدوق.
484
د - مسرة المؤمن:
عن أبي عبد الله عليه السلام عن أبيه عن علي بن الحسين عليه السلام قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله: إن أحب الأعمال إلى الله تعالى إدخال السرور على
المؤمنين (1).
وعن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: الخلق
عيال الله، فأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله، وأدخل على أهل بيت
سرورا (2).
وقال الصادق عليه السلام: من أدخل على مؤمن سرورا خلق الله من ذلك السرور خلقا
فيلقاه عند موته فيقول له: ابشر يا ولي الله بكرامة من الله ورضوان، ثم لا يزال
معه حتى يدخله قبره، فيقول له مثل ذلك فإذا بعث يلقاه فيقول له مثل ذلك، ثم لا يزال
معه عند كل هول يبشره ويقول له مثل ذلك، فيقول له: من أنت رحمك الله؟ فيقول له: انا
السرور الذي أدخلته على فلان (3).



(1) الوافي ج 3 ص 117 عن الكافي.
(2) الوافي ج 3 ص 99 عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 117 عن الكافي.
485
ه - زيارة المؤمن:
عن أبي عزة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: من زار أخاه في الله، في
مرض أو صحة، لا يأتيه خداعا ولا استبدالا وكل الله به سبعين الف ملك ينادونه في
قفاه ان طبت وطابت لك الجنة، فأنتم زوار الله، وأنتم وفد الرحمن حتى يأتي
منزله (1).
وقال عليه السلام: إن ضيفان الله عز وجل: رجل حج واعتمر فهو ضيف الله حتى يرجع
إلى منزله، ورجل كان في صلاته فهو كنف الله حتى ينصرف، ورجل زار أخاه المؤمن في
الله عز وجل فهو زائر الله في ثوابه وخزائن رحمته.



(1) الوافي ج 3 ص 107 عن الكافي.
486
الحاكمون وواجباتهم
الانسان مدني بالطبع، لا يستغني عن افراد نوعه، والانس بهم والتعاون معهم على انجاز
مهام الحياة، وكسب وسائل العيش.
وحيث كان افراد البشر متفاوتين في طاقاتهم وكفاءاتهم الجسمية والفكرية فيهم القوي
والضعيف والذكي والغبي، والصالح والفاسد، وذلك ما يثير فيهم نوازع الأثرة والأنانية
والتنافس البغيض على المنافع والمصالح، مما يسبب بلبلة المجتمع، وهدر حقوقه
وكرامته.
لذلك كان لابد للأمم من سلطة راعية ضابطة، ترعى شؤونهم وتحمي حقوقهم، وتشيع الامن
والعدل والرخاء فيهم.
ومن هنا نشأت الحكومات وتطورت عبر العصور من صورها البدائية الأولى حتى بلغت طورها
الحضاري الراهن. وكان للحكام أثر بليغ في حياة الأمم والشعوب وحالاتها رقيا أو
تخلفا، سعادة أو شقاء، تبعا لكفاءة الحكام وخصائصهم الكريمة أو الذميمة.
فالحاكم المثالي المخلص لامته هو: الذي يسوسها بالرفق والعدل والمساواة، ويحرص على
اسعادها ورفع قيمتها المادية والمعنوية.
والحاكم المستبد الجائر هو: الذي يستعبد الأمة ويسترقها لأهوائه ومآربه ويعمد على
اذلالها وتخلفها. وقد أوضحت آثار أهل البيت عليهم السلام أهمية الحكام وآثارهم
الحسنة أو السيئة في حياة الأمة، فأثنت على العادلين المخلصين منهم، ونددت
بالجائرين وأنذرتهم بسوء المغبة والمصير.

487
فعن الصادق عن أبيه عليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: صنفان
من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي، وإذا فسدا فسدت. قيل يا رسول الله ومن هما؟ قال:
الفقهاء والامراء (1).
وعن الصادق عن آبائه عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه وآله قال: تكلم النار
يوم القيامة ثلاثة: أميرا وقاريا وذا ثروة من المال. فتقول للأمير: يا من وهب
الله له سلطانا فلم يعدل، فتزدرده كما يزدرد الطير حب السمسم.
وتقول للقارئ: يامن تزين للناس وبارز الله بالمعاصي فتزدرده.
وتقول للغني: يامن وهب الله له دنيا كثيرة واسعة فيضا، وسأله الحقير اليسير فرضا
فأبى الا بخلا فتزدرده (2).
ولم يكتف أهل البيت عليهم السلام بالاعراب عن سخطهم على الظلم والظالمين ووعيدهم
حتى اعتبروا أنصارهم والضالعين في ركابهم شركاء معهم في الاثم والعقاب.
فعن الصادق عن أبيه عليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا
كان يوم القيامة نادى مناد. أين الظلمة وأعوانهم، ومن لاق لهم دواة، أو ربط لهم
كيسا، أو مد لهم مدة قلم؟ فاحشروهم معهم (3).
والطغاة مهما تجبروا وعتوا على الناس، فإنهم لا محالة مؤاخذون بما



(1) البحار. كتاب العشرة. ص 209 عن الخصال.
(2) البحار. كتاب العشرة. ص 209 عن الخصال.
(3) البحار. كتاب العشرة ص 218 عن ثواب الأعمال للصدوق.
488
يستحقونه من عقاب عاجل أو آجل، فالمكر السيئ لا يحيق الا بأهله ولعنة التاريخ تلاحق
الطواغيت وتمطرهم بوابل الذم واللعن وتنذرهم بسوء المغبة والمصير، وفي التاريخ
شواهد جمة على ذلك.
منها ما حكاه الرواة عن ابن الزيات: إنه كان قد اتخذ في أيام وزارته تنورا من
حديد، وأطراف مساميره محدودة إلى داخل وهي قائمة مثل رؤوس المسال، وكان يعذب فيه
المصادرين وأرباب الدواوين المطلوبين بالأموال، فكيف ما انقلب واحد منهم أو تحرك من
حرارة العقوبة تدخل المسامير في جسمه، فيجدون لذلك أشد الألم ولم يسبقه أحد إلى
هذه المعاقبة.
فلما تولى المتوكل الخلافة اعتقل ابن الزيات، وامر بادخاله التنور وقيده بخمسة عشر
رطلا من الحديد، فأقام في التنور أربعين يوما ثم مات (1).
ومنها: الحجاج بن يوسف الثقفي.
فإنه تأمر عشرين سنة، وأحصي من قتله صبرا سوى من قتل في عساكره وحروبه فوجد -
مائة الف وعشرين ألفا - وفي حبسه خمسون الف رجل، وثلاثون الف امرأة، منهن ستة عشر
ألفا مجردة، وكان يحبس النساء والرجال في موضع واحد، ولم يكن للحبس ستر يستر الناس
من الشمس في الصيف، ولا من المطر والبرد في الشتاء.
ثم لاقى جزاء طغيانه واجرامه خزيا ولعنا وعذابا، وكانت عاقبة امره انه ابتلي
بالآكلة في جوفه، وسلط الله عز وجل عليه الزمهرير،



(1) سفينة البحار ج 1 ص 574.
489
فكانت الكوانين المتوقدة بالنار تجعل حوله، وتدنى منه حتى تحرق جلده وهو لا يحس
بها حتى هلك عليه لعائن الله.
حقوق الرعية على الحاكم:
والحاكم بصفته قائد الأمة وحارسها الأمين مسؤول عن رعايتها وصيانة حقوقها، وضمان
أمنها ورخائها، ودرء الاخطار والشرور عنها. واليك أهم تلك الحقوق:
أ - العدل: وهو أقدس واجبات الحكام، وأجل فضائلهم، وأخلد مآثرهم، فهو أساس الملك،
وقوام حياة الرعية، ومصدر سعادتها وسلامها. وكثيرا ما يوجب تمرد الناس على الله
تعالى، وتنكبهم عن طاعته ومنهاجه تسلط الطغاة عليهم واضطهادهم بألوان الظلامات كما
شهدت بذلك أحاديث أهل البيت عليهم السلام:
فعن الصادق عليه السلام عن آبائه عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وآله: قال الله جل جلاله: أنا الله لا اله الا انا خلقت
الملوك وقلوبهم بيدي، فأيما قوم أطاعوني جعلت قلوب الملوك عليهم رحمة، وأيما قوم
عصوني جعلت قلوب الملوك عليهم سخطة، ألا لا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك، توبوا إلي
اعطف قلوبهم عليكم (1).



(1) البحار. كتاب العشرة ص 210 عن امالي الشيخ الصدوق.
490
وقد بحثت في القسم الأول من هذا الكتاب موضوع العدل وفضائله وأنواعه فراجعه هناك
ب - الصلاح: ينزع غالب الناس إلى تقليد الحكام والعظماء تشبها بهم ومحاكاة لهم،
ورغبة في جاههم ومكانتهم.
ولهذا وجب اتصاف الحاكم بالصلاح وحسن الخلق وجمال السيرة والسلوك ليكون قدوة صالحة
ونموذجا رفيعا تستلهمه الرعية وتسير على هديه ومنهاجه.
وانحراف الحاكم وسوء أخلاقه وأفعاله يدفع غالب الرعية إلى الانحراف وزجها في متاهات
الغواية والضلال، فيعجز الحاكم آنذاك عن ضبطها وتقويمها
ونفسك فاحفظها من الغي والردى * فمتى تغواها تغوي الذي بك يقتدي
وفي التأريخ شواهد جمة على تأثر الشعوب بحكامها، وانطباعها بأخلاقهم وسجاياهم
حميدة كانت أو ذميمة كما قيل: - الناس على دين ملوكهم.
ج - الرفق:
ويجدر بالحاكم ان يسوس الرعية بالرفق وحسن الرعاية، ويتفادى سياسة العنف والارهاب،
فليس شئ أضر بسمعة الحاكم وزعزعة كيانه من الاستبداد والطغيان.
ولبس شئ أضر بالرعية، وادعى إلى اذلالها وتخلفها من أن تساس بالقسوة والاضطهاد.
فعن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله إن الرفق لم
يوضع على شئ الا زانه، ولا نزع من شئ الا شانه (1).



(1) الوافي ج 3 ص 86 عن الكافي.
491
وقال الصادق عليه السلام: من كان رفيقا في امره نال ما يريد من الناس (1).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام في عهده إلى مالك الأشتر: وأشعر قلبك الرحمة
للرعية، والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان:
إما أخ لك في الدين، واما نظيرك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتي
على أيديهم في العمد والخطأ، فاعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى ان يعطيك
الله من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك، وقد
استكفاك أمرهم وابتلاك بهم.
وبديهي أن الرفق لا يجمل وقعه ولا يحمد صنيعه الا مع النبلاء الأخيار، أما الأشرار
العابثون بأمن المجتمع وحرماته فإنهم لا يستحقون الرفق ولا يليق بهم، إذ لا تجديهم
الا القسوة الزاجرة والصرامة الرادعة عن غيهم واجرامهم.
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته * وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا * مضر كوضع السيف في موضع الندى
مظاهر الرفق:
وللرفق صور رائعة ومظاهر خلابة، تتجلى في أقوال الحاكم وأفعاله.



(1) الوافي ج 3 ص 87 عن الكافي.
492
أ - فعليه ان يكون عف اللسان، مهذب القول، مجانبا للبذاء.
ب - وأن يكون عطوفا على الرعية يتحسس بآلامها ومآسيها. فإذا داهمها خطر، وحاق بها
بلاء سارع لنجدتها ومواساتها والتخفيف من بؤسها وعنائها.
ج - وان يتفادى ارهاق الرعية بالأتاوات الباهضة، والضرائب الفادحة الباعثة على
شقائها وعنتها.
آثار الرفق:
للرفق خصائص وآثار طيبة تفئ على الحاكم والمحكوم بالخير والوئام. فهو مدعاة حب
الرعية للراعي واخلاصها له وتفانيها في سبيله.
كما هو عاصم للرعية عن الملق والنفاق الناجمين من رهبة الحاكم المتجبر والخوف من
بطشة وفتكه. وقد مدح الله رسوله الأعظم بالرفق والعطف فقال تعالى:
فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك (آل عمران:
159).
د - اختبار الأعوان:
لا يستطيع الحاكم مهما أوتي من قدرة وكفاءة ان يستقل بسياسة الرعية، ويضطلع بمهام
الحكم وإدارة جهازه، فهو لا يستغني عن أعوان يؤازرونه على تحقيق أهدافه وانجاز
أعماله.

493
ولهؤلاء الأعوان اثر كبير وخطير في توجيه الحاكم وتكييف أخلاقه وآرائه حسبما تتصف
به من خلال وميول رفيعة أو وضيعة.
لذلك كان على الحاكم ان يختار بطانته وأعوانه من ذوي الكفاءة والنزاهة والصلاح،
لتمحضه النصيحة، وتؤازره على اسعاد الرعية وتحقيق آمالها وأمانيها، دونما نزوع إلى
إثرة أو محاباة تضر بصالح الرعية وتجحف بحقوقها.
ه - محاسبة العمال والموظفين: كثيرا ما يزهو الموظف بمنصبه ونفوذه، ويستحوذ عليه
الغرور فيتحدى الناس، ويتعالى عليهم، ويمتهن كرامتهم ويهمل أعمالهم ولا ينجزها الا
بدافع من الطمع أو المحاباة، الخوف أو الرجاء مما يعرقل مهماتهم ويستثير سخطهم
وحنقهم على جهاز الحكم. لهذا يجب على الحاكم مراقبة الموظفين ومحاسبتهم على أعمالهم
ومكافأة المحسن منهم على احسانه، ومعاقبة المسئ على إساءته، ليؤدي كل فرد منهم
واجبة نحو المجتمع، وليستشعر الناس مفاهيم العزة والكرامة والرخاء.
وبذلك تتسق شؤون الرعية، ويسودها العدل، وتنجو من مآسي الملق والتزلف إلى الموظفين
بالرشا وألوان الشفاعات.
و - إسعاد الرعية:
والحاكم بوصفه قائد الأمة وراعيها الأمين، فهو مسؤول عن رعايتها والعناية بها،
والحرص على اسعادها ورقيها ماديا وأدبيا. وذلك: بتفقد شؤون الرعية، ورعاية
مصالحها وضمان حقوقها وإشاعة الامن والعدل والرخاء فيها، وتصعيد مستوياتها العلمية
والصحية والاجتماعية والأخلاقية

494
والعمرانية: بنشر العلم وتحسين طرق الوقاية والعلاج وتهذيب الأخلاق والاهتمام
بالتنمية الصناعية والزراعية والتجارية، بالأساليب العلمية الحديثة واستغلال
الموارد الطبيعية، وتشجيع المواهب والطاقات على الابداع في تلك المجالات على أفضل
وجه ممكن.
وبذلك تتوطد دعائم الملك، وتعلو أمجاد الأمم، وتتوثق أواصر الود والاخلاص بين
الحاكم والمحكوم، ويتبوأ الحاكم عرش القلوب. ويحظى بخلود الذكر وطيب الثناء.
وقد عرضت في حقوق المجتمع الاسلامي طرفا من حقوق افراده تندرج في حقوق الرعية على
الحاكم، باعتباره المسؤول الأول عن رعايتها وصيانة حقوقها، وضمان أمنها ورخائها.
{3 حقوق الحاكم على الرعية
الحاكم العادل هو: قطب رحى الأمة، ورائد نهضتها، وباني أمجادها، وحارسها الأمين.
وهو عنصر فعال من عناصر المجتمع، وجزء أصيل لا يتجزأ عنه، لهذا وجب ان يكون
التجاوب في العواطف والمشاعر قويا بين الحاكم والمحكوم، والراعي والرعية، ليستطيع
الأول أداء رسالته الاصلاحية لامته، وتحقيق أهدافها وأمانيها، ولتنال الأمة في ظلال
حكمه مفاهيم الطمأنينة والحرية والرخاء.
لذلك كان للحاكم حقوق على الرعية أزاء حقوقها عليه، وكان على

495
كل منهما رعاية حقوق الآخر، والقيام بواجبه نحوه.
وهذا ما أوضحه أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال:
فليست تصلح الرعية الا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة الا باستقامة الرعية، فإذا
أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها، عز الحق بينهم، وقامت مناهج
الدين واعتدلت معالم العدل، وجرت على اذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان، وطمع في
بقاء الدولة، ويئست مطامع الأعداء.
وإذا غلبت الرعية واليها، وأجحف الوالي برعيته، اختلفت هناك الكلمة، وظهرت معالم
الجور، وكثر الأدغال في الدين، وتركت محاج السنن، فعمل بالهوى وعطلت الأحكام، وكثرت
علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حق عطل، ولا لعظيم باطل فعل، فهناك تذل الأبرار، وتعز
الأشرار، وتعظم تبعات الله عند العباد (1).
واليك مجملا من حقوق الحاكم:
1 - الطاعة: للحاكم حق الطاعة على رعيته فيما يرضي الله عز وجل، حيث للإطاعة
لمخلوق في معصية الخالق.
والطاعة هي: المشجع الأول للحاكم على اخلاصه للرعية، وتحسسه بمشاعرها وآلامها،
ودأبه على اسعادها وتحقيق آمالها وأمانيها.
اما التمرد والعصيان والخذلان فهي خلال مقيتة تستفز الحاكم وتستثير نقمته على
الرعية، وبطشه بها، وتقاعسه على اصلاحها ورقيها، ومن



(1) نهج البلاغة. من كلام له عليه السلام في حق الحاكم على المحكوم.
496
ثم احباط جهوده الهادفة البناءة في سبيلها.
انظر كيف يوصي الإمام موسى بن جعفر عليه السلام شيعته بطاعة الحاكم: يا معشر
الشيعة لا تذلوا رقابكم بترك طاعة سلطانكم، فان كان عادلا فاسألوا الله إبقاءه،
وان كان جائرا فاسألوا الله اصلاحه، فان صلاحكم في صلاح سلطانكم، وإن السلطان
العادل بمنزلة الوالد الرحيم، فأحبوا له ما تحبون لأنفسكم، واكرهوا له ما تكرهون
لأنفسكم (1).
2 - المؤازرة: والحاكم مهما سمت كفاءته ومواهبه، فإنه قاصر عن الاضطلاع بأعباء
الملك، والقيام بواجبات الرعية وتحقيق منافعها العامة، ومصالحها المشتركة الا
بمؤازرة أكفائها، ودعمهم له، ومعاضدتهم إياه بصنوف الجهود والمواهب المادية
والمعنوية، الجسمية والفكرية. وبمقدار تجاوبهما وتضامنهما يستتب الأمن، ويعم الرخاء
ويسعد الراعي والرعية.
3 - النصيحة: كثيرا ما يستبد الغرور بالحاكم، وتستحوذ عليه نشوة الحكم وسكرة
السلطان، فينزع إلى التجبر والطغيان، واستعباد الرعية، وخنق حريتها، وامتهان
كرامتها، واستباحة حرماتها، وسومها سوء المذلة والهوان.
وهذا ما يحتم على الغيارى من قادة الرأي، وأعلام الأمة ان يبادروا إلى نصحه
وتقويمه، والحد من طغيانه، فإن أجدى ذلك، والا فقد اعذر المصلحون وقاموا بواجب
الاصلاح.
وقد جاء في الحديث عن الصادق عن آبائه عليهم السلام عن النبي



(1) البحار. كتاب العشرة ص 218 عن امالي الشيخ الصدوق.
497
صلى الله عليه وآله قال:
السلطان ظل الله في الأرض، يأوي إليه كل مظلوم، فمن عدل كان له الاجر، وعلى
الرعية الشكر، ومن جار كان عليه الوزر وعلى الرعية الصبر حتى يأتيهم الأمر (1).
اما في العصر الحاضر وقد تطورت فيه أساليب الحياة، ووسائل الاصلاح، فلم يعد الحكام
يستسيغون العظة والنصح ولا تجديهم نفعا.
من اجل ذلك فقد استجازت الحكومات المتحضرة نقد حكامها المنحرفين عن طريق البرلمانات
والصحف والمذكرات التي تندد بإثرتهم وأنانيتهم، وتنذرهم عليها بلعنة الشعب، وثورته
الماحقة على الطغاة والمستبدين.



(1) البحار. كتاب العشرة. ص 214 عن امالي الشيخ ابن علي ابن الشيخ الطوسي.
498
حاجات الجسم والنفس:
يتألف الانسان من عنصرين: عنصر الجسد، وعنصر الروح، وهما مترابطان ترابطا وثيقا،
ومتفاعلان تفاعلا قويا، لا ينفك أحدهما عن الثاني الا بتصرم العمر، ونهاية
الحياة. وسعادة الانسان وهناؤه الجسمي والفكري منوط بصحة هذين العنصرين وسلامتهما
معا. لهذا كان على ناشد السعادة ومبتغيها ان يعني بهما عناية فائقة تضمن صحتهما
وازدهارهما، وصيانتهما من المضار.
ولكل من الجسم والروح أشواقه وحاجاته:
فحاجات الجسم هي: المآرب المادية الموجبة لنموه وصحته وحيويته، كالغذاء والشراب
والكساء ونحوها من ضرورات الحياة.
وحاجات الروح هي: الأشواق الروحية والنفسية التي تتعشقها الروح، وتهفو إليها،
كالمعرفة، والحرية، والعدل، وراحة الضمير ورخاء البال وما إلى ذلك من المثل العليا
والأماني الروحية. ولا مناص من تلبية هذه المآرب والرغائب الجسمية والروحية لتحقيق
صحة الجسم والروح، وضمان هنائهما المرجو.
فحرمان الجسم من أشواقه يفضي به إلى الضعف والسقم والانحلال

499
وحرمان الروح والنفس من أمانيها، يقودها إلى الحيرة والقلق والشقاء.
والسعادة الحقة منوطة بصحة الجسم والنفس وازدهارهما معا ورعاية حقوقهما المادية
والروحية.
حقوق الجسد:
وتتلخص هذه الحقوق في رعاية القوانين الصحية، واتباع الآداب الاسلامية الكفيلة بصحة
الجسم وحيويته ونشاطه. كالاعتدال في الطعام والشراب وتجنب الكحول والعادات الضارة،
كالخمر والحشيش والأفيون والتوقي من الشهوات الجنسية الآثمة، واعتياد النظافة،
وممارسة الرياضة البدنية، ومعالجة الأمراض الصحية ونحو ذلك من مقومات الصحة
وشرائطها مما هو معروف لغالب الناس لتوفر التوعية الصحية، والنصائح الطبية في حقول
الإعلام الصحفي والإذاعي. فلا أجد حاجة إلى تفصيله والاطناب فيه.
حقوق النفس:
بيد ان صحة النفس ووسائل وقايتها وعلاجها، وعوامل رقيها وتكاملها، ورعاية حقوقها
وواجباتها، يجهلها أو يتجاهلها الكثيرون لقلة احتفائهم بالقيم الروحية والمفاهيم
النفسية، وجهلهم بعلل النفس وانحرافاتها. وما تعكسه من آثار سيئة على حياة الناس.

500
فالأمراض الجسمية تبرز سماتها واعراضها على الجسم في صور من الشحوب والهزال
والانهيار.
أما العلل النفسية والروحية فإن مضاعفاتها لا يتبينها الا العارفون من الناس، حيث
تبدو في صور مقيتة من جموح النفس، وتمردها على الحق، ونزوعها إلى الآثام والمنكرات،
وهيامها بحب المادة وتقديسها وعبادتها، ونبذها للقيم الروحية ومثلها العليا. مما
يوجب مسخها وهبوطها إلى درك الحيوان.
من اجل ذلك كانت العلل الروحية والنفسية أصعب علاجا، وأشد عناء من العلل
الجسمية، لعسر علاج الأولى، ويسر الثانية في الغالب.
وكانت عناية الحكماء والأولياء بتهذيب النفس، وتربية الوجدان اضعاف عنايتهم بالجسد.
وهذا ما يحتم على كل واع مستنير أن يعني بتركيز نفسه، وتصعيد كفاءتها، وتهذيب
ملكاتها، ووقايتها من الشذوذ والانحراف، وذلك برعاية حقوقها، وحسن سياستها
وتوجيهها.
واليك طرفا من طلائع حقوق النفس:
1 - تثقيف النفس:
وذلك: بتنويرها بالمعرفة الإلهية والعقيدة الحقة، وتزويدها بالمعارف النافعة التي
تنير للانسان سبل الهداية وتوجهه وجهة الخير والسداد. وهذه هي

501
اسمى غايات النفس وأشواقها.
فهي تصبو إلى العقيدة، وتهفو إلى الايمان بالله عز وجل، وتتعشق العلم، وتهفو إلى
استجلاء الحقائق، واستكشاف أسرار الكون والغاز الحياة. تتطلع إلى ذلك تطلع الظمآن
إلى الماء، وتلتمس الذي لنفسها كما يلتمسه هو سواء بسواء. فإن ظفرت بذلك أحست
بالطمأنينة والارتياح، وإن فقدته شعرت بالقلق والسأم.
2 - اصلاح السريرة:
للانسان صورتان: صورة ظاهرية تتمثل في إطار جسده المادي، وصورة باطنية تتمثل فيها
خصائصه النفسية، وسجاياه الخلقية.
وكما تكون الصورة الظاهرية هدفا للمدح أو الذم، ومدعاة للحب أو الكره نظرا
لصفاتها الجميلة أو القبيحة. كذلك الصورة الباطنية يعروها المدح والذم، وتبعث على
الاعجاب أو الاستنكار، تبعا لما تتسم به من طيبة أو خبث، من تلألؤ أو ظلام.
وكما يهتم العقلاء بتجميل صورهم المادية، واظهارها بالمظهر اللائق الجذاب. كذلك
يجدوا الاهتمام بتجميل صورهم الباطنية، وتزيينها بالطيبة وصفاء السريرة وجمال
الخلق. لتغدو وضاءة مشعة بألوان الخير والجمال. وذلك بتطهيرها من اوضار الرياء
والنفاق، والحسد والمكر ونحوها من السجايا الهابطة المقتية.

502
من أجل ذلك حرض أهل البيت عليهم السلام على تهذيب النفس واصلاح السريرة، وحسن
الطوية لتكون ينبوعا ثرا فياضا بشرف الفضائل وحسن الأخلاق.
فعن الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: كانت
الفقهاء والحكماء إذا كاتب بعضهم بعضا، كتبوا بثلاث ليس معهن رابعة:
من كانت الآخرة همه كفاه الله همه من الدنيا، ومن أصلح سريرته أصلح الله
علانيته، ومن أصلح فيما بينه وبين الله عز وجل أصلح الله له فيما بينه وبين
الناس (1).
وقال الصادق عليه السلام: ما من عبد يسر خيرا الا لم تذهب الأيام حتى يظهر الله
له خيرا، وما من عبد يسر شرا، الا لم تذهب الأيام حتى يظهر الله له شرا (2).
وعنه عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله سيأتي على الناس زمان،
تخبث فيه سرائرهم، وتحسن فيه علانيتهم، طمعا في الدنيا، لا يريدون به ما عند ربهم،
يكون دينهم رياء، لا يخالطهم خوف، يعمهم الله بعقاب، فيدعونه دعاء الغريق، فلا
يستجيب لهم (3).



(1) البحار م 14 ج 2 ص 204 عن الخصال والأمالي وثواب الأعمال للصدوق (ره).
(2) الوافي ج 3 ص 147 عن الكافي.
(3) الوافي ج 3 ص 148 عن الكافي.
503
ضبط النفس:
تنزع النفس بغزائرها وشهواتها إلى الشذوذ والانحراف، وتخدع أربابها بسحرها الفاتن
وأهوائها المضلة، حتى تجمح بهم في متاهات الغواية والضلال إن النفس لأمارة بالسوء
الا ما رحم ربي (يوسف: 53).
وهذا ما يحفز كل واع مستنير، ان يعني بضبط نفسه، والسيطرة عليها وتحصينها ضد
المعاصي والآثام، وترويضها على طاعة الله تعالى، واتباع شرعته ومنهاجه.
وقد حث القرآن الكريم علي ضبط النفس، والحد من جماحها وتوجيهها شطر الخير
والصلاح.
قال تعالى: ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب
من دساها (الشمس: 7 - 10).
وقال تعالى: وأما من خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى، فان الجنة هي المأوى
(النازعات: 41). فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا، فان الجحيم هي المأوى
(النازعات: 37).
وهكذا حرض أهل البيت عليهم السلام على ضبط النفس، وقمع نزواتها، معتبرين ذلك أفضل
صور الجهاد.
فعن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: إن
رسول الله صلى الله عليه وآله بعث سرية، فلما رجعوا

504
قال: مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر. قيل: يا رسول الله
وما الجهاد الأكبر؟
قال صلى الله عليه وآله: جهاد النفس. ثم قال: أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين
جنبيه (1).
وعن عبد الله بن الحسن، عن أمه فاطمة بنت الحسين بن علي عليه السلام عن أبيها عليه
السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ثلاث خصال، من كن فيه، استكمل
خصال الايمان: الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في إثم ولا باطل، وإذا غضب لم يخرجه
الغضب من الحق، وإذا قدر لم يتعاط ما ليس له (2).
4 - محاسبة النفس:
والمراد منها هو: محاسبة النفس في كل يوم عما عملته من الطاعات والمعاصي، والموازنة
بينهما، فإن رجحت كفة الطاعات، شكر المحاسب الله على توفيقه لها، وفوزه بشرف طاعته
ورضاه.
وإن رجحت كفة المعاصي أدب المحاسب نفسه بالتقريع والتأنيب على اغفال الطاعة،
والنزوع للآثام.
قال الإمام موسى بن جعفر عليه السلام: ليس منا من لم يحاسب



(1) سفينة البحار ج 1 ص 197 عن معاني الأخبار للصدوق.
(2) سفينة البحار ج 2 ص 550 عن الخصال للصدوق.
505
نفسه في كل يوم، فإن عمل حسنة استزاد الله تعالى، وإن عمل سيئة استغفر الله تعالى
منها وتاب إليه (1).
وقد بحثت هذا الموضوع في القسم الأول من هذا الكتاب فراجعه هناك.
هذه لمحات خاطفة من حقوق النفس، تفاديت الاطناب فيها خشية السأم والملل.
وقد وقع الفراغ من هذه الأبحاث على يد مؤلفها مهدي ابن المغفور له العلامة الحجة
السيد علي الصدر ابن آية الله العظمى السيد حسن الصدر - أعلى الله مقامهما - في
ليلة الأربعاء 17 شوال سنة 1390 هجرية والحمد لله أولا وآخرا.



(1) الوافي ج 3 ص 62 عن الكافي.
506
/ 1