شرح رسالة الحقوق نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

شرح رسالة الحقوق - نسخه متنی

امام زین العابدین (ع)

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: شرح رسالة الحقوق
المؤلف: الإمام زين العابدين (ع)
الجزء:
الوفاة: 94
المجموعة: من مصادر العقائد عند الشيعة الإمامية
تحقيق: شرح : حسن السيد علي القبانچي
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: 1406
المطبعة: إسماعيليان - قم
الناشر: مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر
ردمك:
ملاحظات:
شرح
رسالة الحقوق
للإمام علي بن الحسين زين العابدين
عليه السلام
الجزء الأول

1
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم أعني على التعبير عن الحق بما يسطره
قلمي من آيات الكمال في هذه المقدمة

3
(لو كنت لأنتظر الكمال، لما فرغت من كتابي إلى الأبد)
تاي تنج

4
صفحة من نور
عن حياة الإمام عليه السلام

5
(في الربع الأخير من القرن الأول الهجري، كان يعيش في مدينة
الرسول صلى الله عليه وسلم، رجل امتلأ قلبه إيمانا، وأشرق نوره على وجهه روعة
وجلالا. أحبته المدينة كلها، وتسايرت الركبان بذكره وفضله، قد تواضع
فارتفع، وتطامن للناس فأعزوه، وأحب ضعاف الناس فأحبه كل الناس.
كان للفقراء مواسيا، وعلى اليتامى حانيا... ذلكم الرجل هو
- علي زين العابدين ابن الحسين -، بقية السيف من أبناء الحسين، وبه
حفظ نسل أبي الشهداء، صريع الظلم والفساد في كربلاء.
كان علي هذا شديد البكاء، كثير الحسرات، لأنه عاش بعد أن قتل
الأحبة من آل بيته. وقد قال في ذلك (رضي الله عنه): إن يعقوب عليه السلام
بكى حتى ابيضت عيناه على يوسف، ولم يعلم أنه مات. وإني رأيت بضعة
عشر من أهل بيتي يذبحون في غداة يوم واحد، أفترون حزنهم يذهب من
قلبي).
وإنه في وسط الأحزان والآلام النفسية نبعت الرحمة منه، ففاض قلبه
بها، فكان جوادا يسد دين المدينين وحاجة المحتاجين، ويفيض سماحة
وعفوا. وتروى الأعاجيب عن سماحته وعفوه. ومما يروى منها أن جارية
كانت تحمل الإبريق، وتسكب الماء ليتوضأ، فوقع ما في يدها على وجهه
فشجه، فرفع رأسه إليها لائما فقالت له الجارية: إن الله تعالى يقول:
(والكاظمين الغيظ)، فقال: (قد كظمت غيظي) فقالت: (والعافين عن
الناس)، فقال: (عفا الله عنك)، فقالت: (والله يحب المحسنين)،
قال: أنت حرة لوجه الله!).
بهذا النبل والسمو والرحمة والعطف، اشتهر علي في ربوع الحجاز،

7
- وخصوصا في مكة المكرمة، والمدينة المنورة -، وعلا إلى درجة لم يصل
إليها أبناء الخلفاء، فكان المهيب من غير سلطان. ويروى في هذا من عدة
طرق أن هشاما ابن عبد الملك، قبل أن يتولى الخلافة، كان يحج فطاف
بالبيت الحرام، ولما أراد أن يستلم الحجر الأسود لم يتمكن، حتى نصب
له منبر فجلس عليه وسلم، وأهل الشام حوله، وبينما هو كذلك إذ أقبل علي
زين العابدين، فلما دنا من الحجر ليستلم، تنحى عنه الناس إجلالا له
وهيبة واحتراما، وهو في بزة حسنة وشكل مليح، فقال هشام: من هذا؟
استنقاصا له، وكان الفرزدق الشاعر حاضرا، فاندفع الشاعر الفحل في
تعريفه بقصيدة، جاء فيها:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم
هذا التقي النقي الطاهر العلم
إذا رأته قريش قال قائلها
إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
إلى أن قال:
فليس قولك من هذا بضائره
العرب تعرف من أنكرت والعجم). (1)



(1) دائرة معارف الشعب.
8
ما ترى وتقرأ

9
قد سبق أن قدمت لقرائي - فيما قدمت - كتاب (الجواهر الروحية)
بأجزائه الثلاث، وكتاب (علي والأسس التربوية). وما كنت أفكر أني
سأوفق يوما ما لأمر ذي شأن، بيد أن العناية أعادت الكرة فوحدت بين السمع
والبصر والعقل، فحفزتني إلى وضع شرح (رسالة الحقوق) المستوحاة من
الإمام زين العابدين (ع) وإلى اقتفاء الخطوط العريضة التي رسمها في حق الفرد
والمجتمع، وأحسب أن هذا الشرح بداية جديدة من نوعها.
ومهما يكن، فلقد خرجت من كتابي هذا بشعور أقرب إلى الرضا
والارتياح.. ولا أدري ما هو سبب هذا الشعور، وعن أي شئ يعبر.. لعله
يعبر عن أملي بأن هذه الصفحات ستبعث غيري على المزيد والتوسع، أو يعبر
عما خيل إلي بأنها تعرف القراء - ولو بعضهم - بأشياء وضعها الإمام كانوا
يجهلونها. أو أن شعوري بالرضا يمثل شيئا من الحقيقة؟.. والله أعلم،
وهو سبحانه المسؤول أن يخرج القارئ من هذا الكتاب بشعور الرضا والارتياح
* * *
رسالة الحقوق للإمام علي زين العابدين (ع) يفيض بها الوجدان
روعة وجلالا، ويمتلأ، بها القلب طمأنينة وإيمانا، وتثير في الأسماع بهجة
ورضا، وتحرك في النفوس عواطف وأحاسيس، وهي لعمري رائد الفكر
الإنساني، وسجل المعرفة. وفوق ذلك كله أنها الوسيلة لفهم الإنسان نفسه
وما فطرت عليه من مواهب ونزعات.
وهي كذلك مقومة الأخلاق ومقدرة القيم، والمشرف الأعلى على جميع
منازع الناس وتطوراتهم في علومهم ومعارفهم وسلوكهم، وسائر اتجاهاتهم
العقلية والسياسية والاجتماعية. إنها (رسالة) تهدي للتي هي أقوم، في
التنسيق بين ظاهر الإنسان وباطنه، وبين مشاعره وسلوكه، وبين عقيدته

11
وعمله. فإذا هي مشدودة إلى العروة الوثقى التي لا تنفصم، متطلعة إلى الأعلى،
وهي مستقرة على الأرض، وإذا العمل بها عبادة متى توجه الإنسان به إلى
الله، ولو كان هذا العمل متاعا واستمتاعا بالحياة.
إنها (رسالة) تهدي للتي هي أقوم: في علاقات الناس بعضهم ببعض،
أفرادا وأزواجا، وحكومات وشعوبا، ودولا وأجناسا، تقيم هذه العلاقات
على الأسس الوطيدة الثابتة التي لا تتأثر بالرأي والهوى، ولا تميل مع المودة
والشنآن، ولا تصرفها المصالح والأغراض.
إنها (رسالة تهدي للتي هي أقوم: في عالم الضمير والشعور بالعقيدة
الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض، والتي تطلق الروح من عقال
الوهم والخرافة، وتوجه الطاقات البشرية الصالحة إلى العمل والبناء، وتربط
بين نواميس الكون والطبيعة ونواميس الفطرة البشرية في تناسق واتساق.
وإذن هي سياج حقوقنا كلها، بل هي من أهم أركان الرقي والعمران
والقانون.
إنها لنور العدل في الملك، ونور الإيمان في الدين، ونور الصدق في
العمل، ونور الحياة الحقة في الأمة.
وحسبها قيمة أن غارس بذرتها نبعة شجرة النبوة، وغذي وحي الرسالة
وعنصر الرحمة، ومعدن العلم والحكمة.
أجل إن تعاليم الإمام (ع) ودروسه النيرة لا تنحصر في هذه الرسالة
فحسب، فالمجال متسع للعارف الذي قدر له شئ من الفراغ أن يملأه
بنشر ما تركه للانسانية من تراث خالد، بل لو أراد أن يفكر ويطيل
التفكير في أدعيته - المعبر عنها بزبور آل محمد - وكلامه الذي كان يناجي
به خالق الكائنات، لاستطاع أن يقتبس ما شاء ومتى شاء من أنواره التي لا

12
تبلغ إلى نهاية ولا تحد بلفظ.
وأرى من صالح الإنسانية أجمع أن أتحدث عن شئ قصير من حكمياته
وعظاته، ليبرز الإنسان نفسه على سجيتها ويعرف واقع الحياة وحقيقتها.
وأي شئ أفضل من التحدث بدروس الإمام (ع) وتوجيهاته وأي، علم
أجدر وأنفع من علومه وعظاته؟!
إنها تذكر بالله وتبعث على طاعته، والبعد عن معصيته، إنها كالغيث
تحيى النفوس بعد موتها، وتجعلها مع الخالدين والأنبياء والصالحين.
وبمقدار ما يبلغ الإنسان من علومه يبلغ حده من العظمة والخلود.
وإليك قبسا من أنواره وأشعته - ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق -
وقد شغلت فيها أمدا من عمري ولا أعرفها أكثر من غيري.
قال (ع) لابنه: (يا بني إياك ومعاداة الرجال، فإنه لن يعدمك
مكر حليم، أو مفاجأة لئيم).
قيل له من أعظم الناس خطرا: قال: (من لم ير الدنيا خطرا لنفسه)
قال له رجل: ما أشد بغض قريش لأبيك. قال: (لأنه أورد أولهم
النار، وألزم آخرهم العار).
قيل له: ما بالك إذا سافرت كتمت نسبك أهل الرفقة. فقال:
(أكره أن آخذ برسول الله (ص) ما لا أعطي مثله).
وقال: (الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين).
(من كرمت عليه نفسه هانت عليه الدنيا).
وقال بحضرته رجل: اللهم أغنني عن خلقك. فقال: (ليس هكذا
إنما الناس بالناس، ولكن قل اللهم أغنني عن شرار خلقك).

13
(من قنع بما قسم الله له، فهو أغنى الناس).
(اتقوا الكذب في الصغير منه والكبير، في كل جد وهزل، فإن الرجل
إذا كذب في الصغير اجترأ على الكبير).
(كفى بنصر الله لك أن ترى عدوك يعمل بمعاصي الله فيك).
(الخير كله، صيانة الإنسان نفسه).
وقال لبعض بنيه: (يا بني إن الله رضيني لك، ولم يرضك لي فأوصاك
بي ولم يوصيني بك، عليك بالبر فإنه تحفة كبيرة).
وقال له رجل: ما الزهد. فقال: (الزهد عشرة أجزاء: فأعلى
درجات الزهد أدنى درجات الورع، وأعلى درجات اليقين أدنى درجات الرضا،
وإن الزهد في آية من كتاب الله تعالى (لكيلا تأسوا على ما فاتكم، ولا
تفرحوا بما أتاكم).
(طلب الحوائج إلى الناس مذلة للحياة ومذهبة للحياء، واستخفاف
بالوقار، وهو الفقر الحاضر. وقلة الحوائج من الناس هو الغنى الحاضر).
(إن أحبكم إلى الله تعالى أحسنكم عملا، وإن أعظمكم عند الله عملا
أعظمكم عند الله رغبة، وإن أنجاكم من عذاب الله سبحانه أشدكم خشية لله
سبحانه، وإن أقربكم من الله عز شأنه أوسعكم خلقا، وإن أرضاكم عند
الله جل جلاله أسعاكم على عياله، وإن أكرمكم على الله عز وجل أتقاكم
لله سبحانه وتعالى).
(لا حسب لقرشي ولا لعربي إلا بتواضع، ولا كرم إلا بتقوى، ولا
عمل إلا بنية، ولا عبادة إلا بالتفقه).
(ورأى - صلوات الله عليه - عليلا قد برئ، فقال له: ليهنؤك
الطهور من الذنوب، إن الله قد ذكرك فاذكره، وأقالك فاشكره).

14
يا سوأتاه لمن غلبت أحداته عشراته). (يريد أن السيئة بواحدة،
والحسنة بعشرة).
(إن من أخلاق المؤمن الإنفاق على قدر الإقتار، والتوسع على قدر
التوسع، وإنصاف الناس من نفسه، وابتداءه إياهم بالسلام).
(ثلاث منجيات للمؤمن: كف لسانه عن الناس وعن اغتيابهم وشغله
لنفسه بما ينفعه في آخرته ودنياه، وطول البكاء على خطيئته).
(ثلاث من كن فيه من المؤمنين كان في كنف الله تعالى، وأظله الله يوم
القيامة في ظل عرشه، وآمنه من فزع اليوم الأكبر: من أعطى الناس من
نفسه ما هو سائلهم لنفسه، ورجل لم يقدم يدا ولا رجلا حتى يعلم أنه في طاعة
لله قدمها أو في معصية رجع عنها وتاب منها، ورجل لم يعب أخاه بعيب حتى
يترك ذلك العيب من نفسه، وكفى بالمرء شغلا بعيب نفسه عن عيوب الناس).
وقال لابنه (محمد الباقر ع): (افعل الخير إلى كل من طلبه منك
فإن كان أهله فقد أصبت موضعه، وإن لم يكن بأهل كنت أنت أهله، وإن
شتمك رجل عن يمينك ثم تحول إلى يسارك واعتذر إليك فاقبل عذره).
(ضل من ليس له حكيم يرشده، وذل من ليس له سفيه يعضده).
(أربع هن ذل: البنت ولو مريم، والدين ولو درهم، والغربة ولو
ليلة، والسؤال ولو كيف الطريق).
(عجبت لمن يحتمي من الطعام لمضرته كيف لا يحتمي من الذنب لمعرته).
(إياك والابتهاج بالذنب فإن الابتهاج به أعظم من ركوبه).
(من ضحك ضحكة مج من عقله مجة علم).
(إن الجسد إذا لم يمرض أشر، ولا خير في جسد يأشر).
وأوصى ولده الباقر فقال: يا بني لا تصحب خمسة ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق:

15
لا تصحبن الفاسق فإنه يبيعك بأكلة فما دونها. قال: وما دونها.
قال يطمع فيها ولا ينالها. والبخيل فإنه يقطع بك أحوج ما تكون إليه.
والكذاب فإنه بمنزلة السراب يبعد منك القريب، ويقرب إليك البعيد. والأحمق
فإنه يريد أن ينفعك فيضرك. وقاطع الرحم فإني رأيته ملعونا في ثلاثة مواضع
من كتاب الله). (1) وكان يقول لأولاده: (يا بني إذا أصابتكم مصيبة من
الدنيا، أو نزلت بكم فاقة، أو أمر فادح، فليتوضأ الرجل منكم وضوءه
للصلاة، وليصل أربع ركعات أو ركعتين، فإذا فرغ من صلاته فليقل:
يا موضع كل شكوى، يا سامع كل نجوى، يا شافي كل بلوى، ويا عالم كل
خفية، ويا كاشف ما يشاء من كل بلية، أدعوك دعاء من اشتدت فاقته وضعفت
قوته، وقلت حيلته، دعاء الغريب الغريق الفقير الذي لا يجد لكشف ما هو
فيه إلا أنت يا أرحم الراحمين، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
قال رضي الله عنه لا يدعو به أحد أصابه بلاء إلا فرجه الله عنه). (2).
* * *
وليست هذه الكلمات التي استعرضتها هي كل ما اطلعت عليه من أقوال
الإمام (ع)، وإنما هي نقطة من بحر حكمه البالغة وتعاليمه الرشيدة، ولكنها
على قلتها تفي بالغاية التي أردت، حيث يبصر القارئ من خلالها أن الإسلام
غني قلتها تفي بالغاية التي أردت، حيث يبصر القارئ من خلالها أن الإسلام
غني بمبادئه وتعاليمه عن كل جديد، غريبا كان أو شرقيا، وأنه يصدر ولا
يستورد، ويعطي ولا يأخذ.
أجل هذه قطرة من بحر حكم الإمام البليغة، ولمعاته، المضيئة التي
لا تختص بجهة دون جهة، ولا بناحية دون أخرى، إنها ليست لزمان دون



(1) الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي.
(2) أخبار الدول للقرماني.
16
زمان. إنها القرآن، بل هو القرآن الناطق الذي فيه تبيان كل شئ...
لذلك ولهذا كله فقد قضيت في شرح هذه الرسالة فترة من حياتي
استروحت فيها ما لا أستروحه في سواها من مؤلفاتي.
فترة أوصلتني بالسماء، وفتحت لي فيها نوافذ مضيئة وكوى مشعة.
وهي في الوقت ذاته تثبت قدمي في الأرض وتشعرني أنني أقف على أرض صلبة
لا تدنسها الأوحال ولا تزل فيها الأقدام.
استروحت هذه الأشعة الطلقة من (رسالة الإمام) لتكون كسبا لروحي
أولا ولذاتي، وربما شاركني فيه الناس إذا أنا جمعته لهم في كتاب.
ووفق الله وسرت في هذا الشوط خطوات... ولم أتقيد به على وجه الدقة
إنما تقيدت فقط بأن يكون في حلقتين تصدر تباعا إن شاء الله. أرجو أن
يوفق الله إلى إكمال هذا العمل.
حسن القبانچي
النجفي
سنة
1383 ه‍
1963 م

17
حق الله

19
قوله عليه السلام: (فأما حق الله الأكبر عليك، فأن تعبده لا تشرك
به شيئا، فإذا فعلت ذلك بإخلاص جعل الله لك على نفسه
أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة، ويحفظ لك ما تحب
منهما).
* * *
مبحث طالما أشفقت أن أتحدث عنه، إن حسي ليفعم بمشاعر ومعاني
لا أجد لها كفاء من العبارات، ولكن لا بد من تقريب المشاعر والمعاني
بالعبارات.
هذه الظاهرة الخالدة التي رسمها الإمام عليه السلام ووضع خطوطها، ظاهرة
نجد فيها لمسات وجدانية متتابعة، تنتهي كلها إلى هدف واحد: إشعار النفس
البشرية بتوحيد الله وصدق الرسول، ويقين اليوم الآخر والقسط في الجزاء.
لمسات تأخذ النفس من أقطارها، وتأخذ بها إلى أقطار الكون في جولة
واسعة شاملة، جولة من الأرض إلى السماء، ومن آفاق الكون إلى آفاق
النفس، ومن ماضي القرون إلى حاضر البشر، ومن الدنيا إلى الآخرة..
إنها حملة من اللمسات العميقة الصادقة، لا تملك نفس سليمة التلقي،
صحيحة الاستجابة، إلا تستجيب لها، وإلا تتذاوب الحواجز والموانع فيها
تحمل هذه اللمسات من المؤثرات النفسية والعقلية ما لا يحمله أسطول
من مدمرات الشرك والانحراف والفسوق!

21
وقد استهل الإمام (روحي فداه) رسالته بحق الله تعالى إذ هو أعظم
الحقوق وأجلها، فلذلك يجب أن يؤدى كاملا، بأن يعبد وحده دون سواه.
يعبد وحده بلا شريك، لأنه وحده المستحق أن يعبد دون غيره.
ومثل هذه العبادة تهيمن على الشعور والسلوك، فهي منهج كامل للحياة
يشمل تصور الإنسان لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية، ولحقيقة الصلة بين الخلق
والخالق، ولحقيقة القوى والقيم في الكون وفي حياة الناس.. ومن ثم
ينبثق نظام للحياة البشرية قائم على ذلك التصور، فيقوم منهج للحياة خاص.
منهج رباني مرجعه إلى حقيقة الصلة بين العبودية والألوهية، وإلى القيم التي
يقررها الله للأحياء والأشياء.
وفي هذا الخط العريض نرى الإمام عليه السلام يدعو إلى العبادة التي تتخلص
فيها الديانة السماوية على الإطلاق. يدعو إلى العبادة بإخلاص، فقد تكون
العبادة ولا يكون معها الإخلاص، وهذا اللون من العبادة غير نافع، إنما
الإخلاص والعزم والجسد والمثابرة - هذا كله - هو المدار في كل الأعمال
والعبادات وغيرها من الأمور.
ودعوة الإمام هذه إلى العبادة هي نفسها محض الإخلاص، تبتغي وجه الله
وترجو فضله. وهي في الواقع مستمدة من المنبع المعين الذي لا يغيض،
مستمدة من القرآن الكريم. فالقرآن تكاد تغلب عليه صبغة الدعوة المخلصة
إلى الله تعالى وعبادته، والإيمان به وحده دون من عداه.
القرآن يدعو الناس ويلح في دعوته إلى أن يعملوا من أجل التوصل إلى
العبادة بإخلاص. وأن يضربوا في الأرض إن كان التوصل إلى العبادة متوقفا
على هذا الضرب في الأرض.
القرآن يكثر التأكيد على أن الذين يترددون في إيمانهم فهم غير رابحين

22
وإن الذين يشركون مع الله إلها آخرا فليسوا مفلحين. بينما يؤكد في نفس
الوقت على أن الذين آمنوا لله ودخل الإيمان قلوبهم وأسلموا وأنابوا فأولئك
يغفر الله لهم ويتجاوز عنهم ويبدل سيئآتهم حسنات، ويجعل لهم عنده مقاما
محمودا ومنزلة عليا تجاه ما أتوه من عمل، وما قدموه بين أيديهم من معروف.
* * *
إن حقيقة العبادة تتمثل في أمرين رئيسيين:
الأول: هو استقرار معنى العبودية لله في النفس، أي استقرار الشعور
على أن هناك عبدا، وربا. عبدا يعبد. وربا يعبد. وأن ليس وراء ذلك
شئ، وأن ليس هناك إلا هذا الوضع وهذا الاعتبار. ليس في هذا الوجود إلا
عابد ومعبود، وإلا رب واحد والكل له عبيد.
والثاني: هو التوجه إلى الله بكل حركة في الضمير، وكل حركة في
الجوارح، وكل حركة في الحياة. التوجه بها إلى الله خالصة، والتجرد من
كل شعور آخر، ومن كل معنى غير معنى التعبد لله.
والعبادة ليست طاعة القهر والسخط، ولكنها طاعة الرضا والحب.
وليست طاعة الجهل والغفلة، ولكنها طاعة المعرفة والحصافة!
قد تصدر الحكومة أمرا بتسعير البضائع، فيقبل التجار كارهين. أو
أمرا بخفض الرواتب، فيقبل الموظفون ساخطين.
وقد تشير إلى البهيمة العجماء فتنقاد إليك لا تدري إلى مرتعها أم إلى
مصرعها. تلك أنواع من الطاعات بعيدة عن معنى العبادة التي شرع الله للناس
فالعبادة التي أجراها الله على الألسنة في الآية الكريمة (إياك نعبد وإياك نستعين)،
والتي جعلها حكمة الوجود وغاية الأحياء في قوله: (ما خلقت الجن والإنس
إلا ليعبدون) تعني الخضوع المقرون بالمعرفة والمحبة. أي الناشئ عن

23
الاعجاب بالعظمة والعرفان للجميل...
إن العبادة شعور مكتمل العناصر، يبدأ بالمعرفة العقلية، ثم بالانفعال
الوجداني، ثم بالنزوع السلوكي.
فالصورة الأخيرة ثمرة ما قبلها.
وهذا هو الوضع الصحيح لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وإحسان الخلق
وقول الحق. وسائر العبادات الأخرى.
إن العبادة الأولى في الإسلام، هي معرفة الله معرفة صحيحة، والعقل
المستنير بهذه المعرفة، هو القائد الواعي لكل سلوك صحيح، والأساس المكين
لكل معاملة متقبلة.
ويوم تتلاشى هذه المعرفة من لب الإنسان، فلن يصح له دين، ولن
تقوم له فضيلة.
المعرفة الصحيحة لله تهون من قيمة الأخطاء التي يتورط فيها المرء،
أخطاء عارضة، أو خدوش سخطية.
أما الجهل بالله، فهو الخطيئة التي لا تغتفر، ولا يصلح معها عمل. ومن
ثم يقول الله تعالى في كتابه: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون
ذلك لمن يشاء، ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا). ذلك أن الشرك دلالة
جهل غليظ بالله عز وجل.
وقد أطردت آيات القرآن تبني سلوك الناس على المعرفة بالله، وتريهم
صحائف مشرقة من خلقه البديع وفضله الجزيل. تمزق ما نسجته الغفلة على
الأعين من جهالة وجحود.
(الله الذي خلق السماوات والأرض، وأنزل من السماء ماءا فأخرج به
من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره، وسخر

24
لكم الأنهار، وسخر لكم الشمس والقمر دائبين، وسخر لكم الليل والنهار،
وآتاكم من كل ما سألتموه. وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها. إن الإنسان
لظلوم كفار).
ذالكم أسلوب القرآن في تعريف الناس بالله. إنه أسلوب يقيمهم على
عبودية الحب والتفاني لا على عبودية التحقير والهوان، عبودية الاعجاب
بالعظمة والإقرار بالاحسان، لا العبودية المبهمة التي تصادر الإرادة وتزري
بالانسان.
(قل: الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، الله خير أما
يشركون؟ أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماءا فأنبتنا به
حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله؟ بل هم قوم يعدلون)
(أمن خلق الأرض قرارا، وجعل خلالها أنهارا، وجعل لها رواسي، وجعل بين البحرين حاجزا، أإله مع الله؟ بل أكثرهم لا يعلمون)،
(أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء
الأرض، أإله مع الله قليلا ما تذكرون). (أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن
يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته، أإله مع الله؟ تعالى عما يشركون).
أمن يبدأ الخلق ثم يعيده، ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع
الله؟ قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين).
إن هذا التساؤل المتواصل السريع يفتح على النفس آفاقا بعيدة من
الإيمان الذكي، ويجعلها تهرع إلى الله متجردة تنفر من شوائب الشرك نفور
الرجال من عبث الصبية...
إن الشرك موت، وإن الإيمان حياة.
إن الشرك ظلمة، وإن الإيمان نور.

25
إن الشرك ضيق وعسر وقلق، وإن الإيمان انشراح ويسر وطمأنينة في
الصدور.
إن الشرك انقطاع عن منبع الحياة الأزلية الخالدة التي لا تفنى ولا
تغيض، فهو موت وانعزال عن القوة الفاعلة المؤثرة في الكون، فهو موت
وجفاف من نداوة الإيمان وبشاشته ونتاجه، فهو موت وفناء في هذه الحياة
الدنيا بلا تطلع للحياة الباقية، فهو موت وتعطيل للمشاعر والمدارك والحواس
عن التأثر والاستجابة.
وإن الإيمان اتصال واستمداد ونداوة وامتداد وفاعلية واستجابة، فهو
حياة بكل معاني الحياة.
إن الشرك تغطية وحجب للروح عن التطلع والاطلاع، فهو ظلمة. وختم على
الجوارح أن ترى وتسمع وتحس، فهو ظلمة وتيه في الطرق المتعرجة وضلال،
فهو ظلمة.
وإن الإيمان تفتح ورؤية وإدراك واستقامة على الطريق، فهو نور بكل
مقومات النور.
إن الشرك إنكماش وتصليب وتحجر فهو ضيق. وشرود عن الطريق
السوي الواصل فهو عسر. وحرمان من الاطمئنان إلى القوة الكبرى فهو علق.
وإن الإيمان انشراح ويسر وطمأنينة، ترحم هذا المخلوق الإنساني
الضعيف.
وما المشرك؟ إن هو إلا نبتة ضالة لا وشائج لها ولا جذور؟ إن هو
إلا فرد منقطع الصلة بخالق الوجود، فهو منقطع الصلة بالوجود، لا تربطه
به إلا روابط هزيلة من وجوده الفردي المحدود.
إن الصلة بالله والصلة في الله لتصلان الفرد الفاني بالأزل القديم والخلود

26
الدائم، ثم تصلانه بالكون الحادث والحياة المديدة، ثم تصلانه بالانسانية
كلها ذات الإله الواحد، والدين الواحد، والاتجاه الواحد، والعبادة الواحدة
فهو في ثراء من الوشائج، وفي ثراء من الصلات، وفي ثراء من الوجود
الزاخر الممتد الذي لا يقف عند عمره الفردي المحدود.
ألا إن الشرك موت في كل صورة من صوره. ولكن موتى المشركين لا
يشعرون بما هم فيه من موت مقيم.
وهل أحمق من رجل يسكن عمارة ضخمة، فإذا به يتوهم أن سلاسل القمامة
المبعثرة فيها، هي التي قامت على بنائها؟.
أليس هذا مثل الوثنية المخرفة، التي ترد مظاهر الوجود إلى بعض
الجماد، أو الحيوان أو الإنسان؟.
ومثل الطبيعية التي ترد نظام الكون البديع، وإحكام صنعه العجيب الباهر
إلى الطبيعة العمياء، عديمة الحس والشعور.
* * *
قال رسول الله (ص): (إن الله تبارك وتعالى أمر يحيى بن زكريا
بخمس كلمات، أن يعمل بها، وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها. وأنه
كأنه كاد أن يبطئ بها. فقال له عيسى عليه السلام: إن الله أمرك بخمس كلمات
أن تعمل بها، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فأما أن تأمرهم بها
وإما أن آمرهم أنا بها. فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي
أو أعذب.. فجمع الناس في بيت المقدس فامتلأ المسجد وقصدوا على الشرف
فقال: إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وأن آمركم أن تعملوا
بهن، أو لهن أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا، فإن مثل من أشرك بالله
كمثل رجل اشترى عبدا من خالص ماله بذهب أو ورق، وقال: هذه داري

27
وهذا عملي فاعمل وأد إلي. فكان يعمل ويؤدي إلى غير سيده! فأيكم يرضى
أن يكون عبده كذلك؟.
وإن الله تعالى أمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا، فإن الله ينصب
وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت.
وأمركم بالصيام، فإن مثل ذلك كمثل رجل في عصابة معه صرة فيها
مسك كلهم يعجبه ريحها، وإن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك.
وأمركم بالصدقة، فإن مثل ذلك كمثل رجل أسره العدو فأوثقوا يديه
إلى عنقه، وقدموه ليضربوا عنقه، فقال: أنا أفدي نفسي منكم بالقليل
والكثير، ففدى نفسه منهم.
وأمركم أن تذكروا الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل خرج العدو في
أثره سراعا، حتى أتى على حصن حصين فأحرز نفسه منهم. وكذلك العبد
لا يحرز نفسه من الشيطان إلا بذكر الله تعالى.
* * *
(الله والطبيعة)
(قال لي أحدهم وهو يجادلني: أنت لست حر الفكر.
قلت: لماذا؟
قال: هل تؤمن بوجود إله؟
قلت: نعم. قال: وتصلي له وتصوم؟ قلت: نعم. قال: إذن
فلست حر الفكر..

28
قلت مرة أخرى: ولماذا؟ قال: لأنك تؤمن بخرافة لا وجود لها.
قلت: وأنتم بماذا تؤمنون؟ من الذي خلق الكون والحياة؟ قال:
الطبيعة.
قلت: وما الطبيعة؟ قال: قوة خفية ليس لها حدود، ولكن لها
مظاهر يمكن أن تدركها الحواس.
قلت: أنا أفهم أن تمنعني من الإيمان بقوة خفية لتعطيني بدلا منها
قوة معلومة. ولكن إذا كانت المسألة قوة خفية بقوة خفية، فلماذا تأخذ
مني إلهي الذي أجد الأمن والراحة والسلام في الإيمان به لتعطيني بدلا منه
إلها آخر لا يستجيب لي ولا يسمع مني الدعاء.
تلك هي قضية حرية الفكر لدى التقدميين. حرية الفكر تعني الإلحاد
وإذ كان الإسلام لا يبيح الإلحاد، فهو إذن لا يبيح حرية الفكر). (1)
فلنتبسط في المسألة وغايتنا في هذا الكتاب أن نختصر حيث أسهبوا،
ونسهب حيث أوجزوا أو أهملوا.
فنقول:
يلزم على من ينكر وجود الباري جل شأنه أن يكون له إلمام بنواميس
العلم وقوانين الحجة وموازين الاستدلال، لا من الجديديين، الذين غاية
حجتهم كتب السر فلان، وخطب المسيو فلان، وقال الدكتور فلان وذكرت
جريدة المقتطف، ونقلت مجلة الهلال.
ولا يعرف من مقابلة الحجة الواضحة إلا أن يقول: هذه حجة من العقل
العتيق، شعوري المتنور لا يقبلها هذا عصر الرقي والتنور، لا أعرف الإمكان
والامتناع والواجب، ولا الدور والتسلسل. هذه خرافات قديمة، الشعور



(1) شبهات حول الإسلام.
29
الراقي لا يحتاج في حجته إلى موازين الاستدلال. فاللازم على المنكر أن
يكون من أهل العلم يراعي في كلامه شرف فضيلته.
إن حجة المنكرين لواجب الوجود (جلت عظمته) أن قالوا:
(إن العلم العصري لا يسمح لنا بأن نؤمن بوجود غير منظور).
فليسمح لي أصحابي بأن أقول كلمتي الذهبية، وليسمح السادات
بالالتفات إلى إحساسي في نظريتي.
ها هي كلمتي ونظريتي، تهتف بها إحساساتي المتنورة، وحرية وجداني
إن هذه الكلمة مما يتبرأ منها العلم العصري، وشرف الإنسانية.
كيف يقول ذلك إنسان، أوليس جميع العالم مذعنا بوجود القوة
الكهربائية، فهل هي منظورة؟ أو ليست مشاهدة أعمالها وآثارها في
الجذب والدفع والتحريك كافية في الإذعان بوجودها، مع أن العلم لم يأخذ
قراره في ماهيتها، ففي القديم أنها كائن مقابل للمادة، كامن فيها يهيج
بأحد الهيجات المقررة، وفي الجديد أنها مرتبطة في المبدأ بالمادة، تتولد من
انحلال المادة إليها بأحد الأسباب المقررة، كما أنها تتكاثف وتكون مادة.
هل ينكر أحد وجود النفس للحيوان، فهل هي منظورة، أو ليست
أعمالها الحيوية الشعورية تجبر الإنسان على الإذعان بوجودها، بعد أن يرى
أن الجسم الذي تفارقه لا تأتي منه هذه الأعمال، بل يكون كسائر الجمادات
وإن خفي على العلم كنه النفس فتشعبت فيها الأقوال.
أفي القوة الكهربائية شك مع مشاهدة الأعمال التي يحصرها العلم
بتأثير القوة الغير المنظورة.
أفي النفس شك مع مشاهدة أعمال الحيوان التي يحصرها العلم بتأثير
النفس.

30
أفي الله شك فاطر السماوات والأرض مع مشاهدة الأعمال الكبيرة في
النظام الباهر، والحكمة الفائقة في عالم الكون.
هذه الأعمال التي لا يمكن للعلم المستقيم إلا أن يحصر تعليل صدورها
بواجب الوجود العليم الحكيم، وهو الله جلت عظمته.
إذا شهدت بوجود الموجود آثاره وأعماله المحسوسة بكثرة مدهشة، فلا
يصح لنا جحوده أو التوقف عن الاعتراف به، لمحض قصورنا عن تصور حقيقته
ولماذا لا نلتفت بذلك إلى قصور أفكارنا عن معرفة جملة من الحقائق، وإلى متى
وحتى متى نكون معجبين بأفكارنا، فنقابل الحقائق بالجحود الأعمى والتوقف
السخيف، عادة جرينا عليها ولم يرد عناعنها ظهور خطأنا وجهلنا، وكثرة
الحقائق التي نعترف بها ولا نهتدي إلى معرفة كنهها سبيلا.
سمع الناس على بعد باختراع التلغراف فضجوا بالجحود والتشكيك
اغترارا بأوهامهم في الطبيعيات، حتى إذا شاهدوا أعماله خمد صوتهم وصاروا
يعللونه بالقوة الكهربائية التي لم يعرف كنه حقيقتها حتى الآن.
وسمع الناس بالفونغراف (صندوق الأصوات) فتسرعوا حتى بعض الخواص
الممارسين للطبيعيات وجاهروا. بجحوده والتشكيك في أمره اغترارا بأوهامهم
في طبيعة الصوت.
ذكر التلغراف اللاسلكي فلج السامعون بجحوده والتشكيك فيه حتى مع
ألفتهم للتلغراف السلكي.
ذكر النور الغير المرئي (نور رونتكين) فعده السامعون من الخرافات
اغترارا بأوهامهم في طبيعيات النور والشفافية والكثافة، وإلى الآن لم يعرف
كنه الحقائق المؤثرة في هذه الأعمال.
يرون الناس أعمالها ويقفون في معرفة كنهها موقف المبهوت.

31
نرى أعمال النفس في الحياة والشعور ولا يمكننا درك كنهها.
نعم تسرع بعض الناس في البحث عن ماهيتها فصار هذا يقول: رأيي
هكذا، وهذا يقول: رأيي هكذا. آراء مجردة، وفتاوى كلها مقدسة،
لكن ذات النفس تشمئز من أوهامهم وتضجر.
ما هي القوة وما هو كنهها؟ ما هي ماهية النفس والشعور؟ ما هو
الوجود. هذه الأمور كلها غير مادية فكيف اعترفتم بوجودها، أليس ذلك
لأجل مشاهدة أعمالها.
إذن فماذا يمنعكم عن الاعتراف بوجود واجب الوجود، مع مشاهدة
أعماله في هذا الكون الذي لا بد من تعليله به.
يا من يفترضون الأثير افتراضا مزعوما، ويربطون به التعليلات الطبيعية
قولوا إنه في غاية اللطافة والبساطة، ولكن ما هي حقيقته، هل هو مادي،
ألستم تزعمون أن المادة من نتائج زوابعه أو تكاثفه.
قد أذعنتم لكثير من الحقائق أن لا تكون مادية، ولا يظهر لعالم
الماديات والحواس إلا أعمالها، فماذا يصدكم عن الإذعان بذلك لواجب الوجود
أم تريدون أن نتقهقر في التعليل إلى ما لا يمكن أن يكون واجب الوجود.
أليس من شرف الإنسانية أن لا تتلون في أفكارها.
أليس من شرف العلم أن يجري في نهج مستقيم عادل. ألا تنظرون إلى
غفلات الأهواء، هذه الغفلات والطفرات التي يسمونها شجاعة أدبية، انظروا
إليها كيف فعلت أفاعيلها.
كل ناظر إلى هذا الكون يراه في جميع عوالمه وأنواعه وأطواره وأدواره
ومواليده، منتظما على نظام فائق متناسب، وحكمة باهرة وغايات كبيرة شريفة، و
كل جزء منه صغيرا كان أو كبيرا، يراه مسخرا للغايات الجليلة، معدا للفوائد الكبيرة

32
مستعملا في الآثار الباهرة، جاريا على حكمة فائقة.
وكلما أمعن النظر وأحسن الجد تجلت له حسب استعداده من الغايات
والحكم ما لم يكن يخطر على باله، وها هو العلم قد صار يكشف كل يوم عن
أسرار وغايات لم تكن في الخيال. أسرار وغايات يرتاح لها الشعور ويعظمها
العلم ويستزيد منها العالم المجد الحر.
ألا وإن الوجدان يحكم بأوليات حكومته، وبديهيات قضائه، أن
الموجد لا مثال هذه الأمور التي تهتف بغاياتها، لا بد من أن يكون عالما بتلك
الغايات، قد أوجد موجوداته لأعمال غاياتها ونتائج فوائدها التي تعرف منها
ما لا يحصى، ويكشف العلم في كل حين عما يبهر العقول بحكمته وعظيم فوائده
يا أصحابنا هذه القطع الصوانية التي وجدها الحفريون في جوف الأرض،
على هيئة فاس ومنشار وسنان، كيف حكم الوجدان من أهل العلم وسائر
الناس، بأنها صنعها البشر قبل ألوف من السنين لأجل غاياتها وفوائدها التي
كانوا يتصورونها. وهذه موجودات العالم بأجمعها في أدوارها مرتبة على نظام
الغايات، مستعملة فيها على أتقن الحكمة، كيف لا يحكم الوجدان بأنها
صنع صانع، أنشأها لأعمال غاياتها المعلومة لديه.
يا أصحابنا فهذا العالم المنتظم وموجوداته التي تبهر العلم والعقل بغاياتها
الكبيرة المستعملة فيها، كيف يقال إنه بتأثير الطبيعة البكماء والصدفة العمياء بلا
شعور بغاية ولا حكمة.
لماذا لا يقال ذلك فيما ذكرناه من القطع الصوانية؟.
ألا تقولون لنا أين وجدانكم الذي تحكمون به في أمر القطع الصوانية؟
ما أقوى يد تغمض عيون الوجدان في شأن العالم وصنعه؟! أي برقعة هذه؟
ماذا يعينها وبأي نشاط تعمل أعمالها؟. ما أعجب هذه اليد المبرقعة قد شابكت

33
يد العلم فلوتها. وغطت على عين الوجدان فأسقطت حسها!. لم يكن في
الحسبان أن بذر أبيقورس للاستراحة الشهوانية ينمو هذا النمو في الأذهان مهما
دملتها الأهواء بشهوانيتها.
لا أخال لسانك بعد هذا يستطيع أن يقول كما يقوله بعض الشهوانيين
العديمي العلم والشعور، الذين لا بضاعة لهم ولا حجة إلا تبسم الاستهزاء،
وقولهم أين صانع العالم العليم الحكيم، هل هو في آسيا أو أوربا أو إفريقيا
أو أمريكا، وفي أي بلد هو أنا لا نراه بأعيننا ولا نلمسه بأيدينا ولا نسمع له صوتا
يتحدث إلينا الأستاذ (أحمد أمين) مفتش وزارة المعارف (للجمهورية العراقية)
(إن لينين لما أوفد مندوبه إلى سمرقند، أمره بهدم المساجد والكنائس
ودور العبادة، وأن يفهم الناس أن لا شئ وراء المادة، وأن هذه العبادات
ليست إلا سخافة).
فقدم (المندوب) سمرقند وطلب إلى الناس أن يجتمعوا في ساحة كبيرة
وقد أخبر العالم الديني - العالم بالدين الإسلامي - هناك بما سيكون من أمر
هذا المندوب، واجتمع إليه رؤساء الأديان من أهل الكتاب وغيرهم فتفاوضوا
في الأمر، وقالوا: إن البلية عامة لا تختص بدين دون آخر، وفوضوا إليه
الأمر. حتى إذا كان اليوم الموعود واجتمع الناس، قام المندوب الروسي بين
الجماهير قائلا: ماذا تعبدون إن كان هناك إله فلم لا نراه بأبصارنا، ولم لا
نلمسه بأيدينا، ولما لا نتذوقه بألسنتنا ونشمه بأنوفنا، ونسمعه بآذاننا، إذن
ليس وراء المحسوسات شئ، اهدموا الجوامع والكنائس ودور العبادة. فانبرى
إليه العالم المسلم، وكان قد أحضر قبلا كرتين بحجم واحد، إحداهما من
خشب والأخرى من حديد، ملونتين بنفس اللون، وقد وضعهما على المنضدة،
فالتفت إلى المندوب الروسي قائلا: قل لي أي الكرتين أثقل؟ استعمل في

34
ذلك حواسك الخمس كما استعملتها لمعرفة الخالق. فأبصرهما المندوب، ثم شمهما
ثم لمسهما، ثم ذاقهما، ثم وضع أذنه بالقرب منهما ليسمعهما، فقال: لا
أهتدي بالحواس الخمس إلى معرفة أثقلهما، إلا أن عقلي يقول لي ارفعهما
وحركهما بيديك كي تعلم أيهما أثقل. فقال له العالم: إذن العقل هو
المرجع الوحيد عند قصور الحواس الخمس وعجزها وإخطاءها. فبالعقل
يدرك الخالق الذي جهزك بأعضاء لو تعطل عضو رئيسي منها لما استطاعت
المعامل بأجمعها أن تعوض عنها. فكم تخطئ الحواس الخمس والعقل
مصحح لها). (1)
وكان الإمام الصادق عليه السلام قد رمز إلى هذه النكتة بقوله للديصاني لما قال
له: تدلني على معبودي.
فأخذ الإمام عليه السلام بيضة، وقال: هذا حصن مكنون له جلد غليظ،
وتحته جلد رقيق، وتحت الجلد الرقيق فضة سائلة، وذهبة مائعة، فلا الذهبة
المائعة تختلط بالفضة السائلة، ولا هذه تختلط بتلك، ولم يدخل فيها شئ
ولم يخرج منها شئ، ولا يدرى أللذكر خلقت أم للأنثى، ثم تنفلق عن مثل
الطاووس، أترى ليس لها مدبرا؟
قال الديصاني: نحن لا نؤمن إلا بما أدركناه بالعين أو السمع أو الشم
أو الذوق أو اللمس.
قال الإمام: ذكرت الحواس الخمس، وهي لا تنفع شيئا بغير العقل.
ألا يعجب القراء من أفراد يسمون أنفسهم أناسا، وهم في الحقيقة
كالأنعام بل هم أضل.
أفراد يعيشون على هذه الذرة العائمة في الفضاء، التي يسمونها - الأرض -



(1) التكامل في الإسلام
35
الدائرة بنظام بديع حول ذرة أخرى يسمونها - الشمس - السابحة مع ما لا يحصى من الذرات
التي يسمونها - المنظومات الشمسية -. في النظام الشاسع
العجيب الابداع.
وهؤلاء الأنعام هم أضعف خلق الله، يعيشون على أصغر مخلوق وأحقره.
يأتي هؤلاء ويقولون: إن هذا التدبير والحكمة، وإتقان الصنع، لم يكن
عن إرادة وعلم وقصد، إنما كان بالصدفة، فينكرون عظمة الخالق، ويدهشهم
المخلوق.
هؤلاء هم الماديون الملحدون الذين يتحكمون بما لا يعلمون. ينكرون
خالقهم ومدبرهم لكلمة لا معنى لها وهي - الصدفة -.
ألا ليت (الصاد) و (الدال) و (الفاء) و (الهاء) عدمت من اللغة
العربية، وفني ما يقابلها من سائر اللغات، كيلا يتشبث بها من لا يعقل ولا
يفهم، ويقنع باللفظ دون أن يرى له معنى أو مصداقا.
وأي مفهوم للفظ الصدفة؟ ومع أنه فاقد المصداق والمفهوم. أي دليل
عليه لو فرض له ذلك؟ أليس القصد والغاية محسوسة في كل ما نشاهد؟ وما
تخبرنا عنه المراصد من سفن هذا الفضاء، التي لم تحركها إلى مقاصدها إلا
قوة وإرادة خالقها ومدبرها، الذي أراد بها غايات معينة، وسيرها سيرا
دقيقا منظما إلى غاياتها.
هؤلاء الأنعام الذين يتحكمون على أعظم المخلوقات، بل على الخالق،
يعجزون عن مقاومة أقل حادث من حوادث الطبيعة، من رعد أو برق أو مطر،
أو سيل أو إعصار، أو زلزال أو حرق أو غرق، أو مرض أو عاهة أو فاقة،
أو حية أو عقرب، أو بعوض يحمل (ميكروب) الملاريا، أو قمل تنقل إليهم
(ميكروب) الحرارة المطبقة (التيفوس) أو ذبابة تنشر بينهم جراثيم الأوبئة

36
أو غير ذلك.
وعجزهم هذا يجب أن يدلهم على اللجأ إلى القوي العزيز الذي دبر هذا
الخلق. ولكنهم (لكلمة قالها حيوان أبكم) جعلوا ما يدل على عظمة الخالق
وتدبيره وحكمته دليلا على نفي وجوده.
قال (كارل ماركس) وما أكثر هذيانه، وما أبعده عن القول بدليل
وبرهان، وما أعجزه عن أن يدعم قوله بحجة؟: (إن الناس يظنون أن لهم
خالقا، وما علموا أن هذا الخالق الموهوم مخلوق أوهامهم وخيالاتهم،
وذلك أنهم لما عجزوا عن الوقوف أمام الحوادث الطبيعية توهموا لأنفسهم
خالقا يلجأون إليه فيسكنوا به روعهم، وهذا الخالق هو مخلوق أوهامهم).
وتبعه على هذا القول (إنجلز) و (لينين) و (ستالين) وغيرهم، ولم يطالبوه
ببرهان على قوله.
وسمع الرعاع السذج الإغرار هذا القول فدانوا به، وعلى هذا انتشرت الشيوعية الإلحادية بين هؤلاء الأنعام المنكرين للمحسوسات.
إن المؤمنين رأوا الحكمة والتقدير والعظمة في الخلق كله محسوسا،
فقالوا: بأن لها خالقا قادرا عالما مديرا، فلم يقولوا إلا عن حس ووجدان
لا عن خوف أو ذهول، والذاهل المرعوب من التجأ في تعليل ما يشاهده من
آثار الحكمة والتدبير والقصد إلى لفظ مجهول عار عن كل معنى معقول. وهو
(الصدفة).
نعم إن المؤمنين رأوا عظمة هذه الخليقة، وأن الأرض أصغرها، فسمت
عقولهم عن أن ينسبوا تدبيرها إلى غير مدبرها، وأبت أفهامهم أن ينزلوا الله
من عظمته إلى درجة لا تليق بمقامه. ولكن عباد الرجال حرموا هذا التميز.
العقلي، فجعلوا الصدفة هي المدبرة لهذه الكائنات. - سفها لهذه العقول -.

37
ألا يحق لهذا العظيم القدير أن يهلك من أنكر عظمته وقدرته، فيأتيهم
العذاب بغتة وهم لا يشعرون، فيهلك كل متنفس عليها وتبيد هي بأهلها.
ما شأن من تجرأ على جبار السماوات والأرض الذي من عليه بالنعم
الكثيرة، فأنكرها وأحل الصدفة محلها (وهي اللفظ المجهول المعنى).
أليس من يقف على معمل دقيق، يرمى بالجنون إذا قال: إنه كون
بالصدفة وليس من عمل قاصد مريد قادر عالم، علم الغاية فدبر لها ما يوجدها
بقدرة؟! فكيف بمن وقف على المعمل الدقيق العجيب الصنع، البديع
الغريب المتقن في بدن كل إنسان، ثم يحكم أن ذلك وجد لا عن قصد وإرادة
وعلم، بل بالصدفة.
إن كانت هناك صفة أنكى من الجنون، أو حالة أشد بهمة من الظلمة،
يجب أن ننسبها لأولئك الذين سموا أنفسهم علماء وحكموا بهذه الآراء السخيفة
التي يردها الوجدان قبل البرهان، والحس قبل الحدس.
كيف ينكر صنع الله تعالى وتدبيره وتقديره وإرادته في بدن الإنسان؟
وفية ألوف الملايين من الدلائل على الإرادة والقصد لوجود الأعمال الغائية في
أدق أجزاء هذا البدن.
إن الدم يشتمل في كل بدن على ما يزيد على (400) ألف مليون
كرية حمراء وبيضاء، وإن كل كرية بأعمالها الدقيقة تدل على إرادة مكونها
حيث قصد من الكرية الحمراء نقل (الأوكسجين) من الفضاء - بواسطة التنفس
إلى البدن، ودفع ما تخلف في البدن من ثاني (أوكسيد الكاربون) إلى الخارج
وكل كرية من الكريات البيض مستعدة لأن تصطف مع أخواتها، وتنظم
أفواجا وتشكل جيشا جرارا داخل البدن لمحاربة ما يهاجمه من عدو داخل أو
خارج، كمرض أو سقطة أو ضربة أو غيرها...

38
ففي كل كرية دلالة واضحة على الإرادة والقصد من مكونها.
وإذا كان في الدم (400) ألف مليون كرية، ففي الدم وحده (400) ألف مليون دليل قاطع لا يقبل الرد على الإرادة والقصد لمكونه.
مضافا إلى ما في الدم من أجزاء أخر من الأملاح و (الهيموغلوبين)
و (البلازما) وغيرها التي يتكون منها الدم الذي تدوم به أعمال الحياة في البدن
وإذا نظرنا إلى الجهاز الهضمي وأعماله الدقيقة، من منبت الأسنان إلى
فضاء الفم، إلى الحلقوم والمري، إلى المعدة والاثني عشري، إلى الكبد
والمرارة والمعاء والكليتين والطحال. نجد في كل مرحلة من مراحل الهضم،
مئات ألوف الملايين من الأدلة على الإرادة والقصد وإتقان الصنع، وبديع
الخلق ودقيق الحكمة، في خالق هذه الأجزاء ومكونها. ومع هذه الأدلة
القاطعة، كيف يقنع الإنسان نفسه ويرضى لها أن تنكر هذه الدلالات
الواضحة.. اللهم إلا من نسي نفسه.
وأولئك الذين أخبر الله تعالى عنهم، ونهى الناس أن يكونوا منهم،
وذلك بقوله في سورة الحشر: (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم
وأولئك هم الفاسقون).
إن (الفسيولوجيا) ككتاب توحيد كامل ترى في كل صفحة منه ألوف
ألوف من الأدلة القاطعة على توحيد الله جل شأنه. وكلما توسع العلماء فيه
واكتشفوا شيئا جديدا ازدادت تلك الأدلة، وعلم أن ما من ذرة في هذا البدن
وأقل من ذرة إلا وفيها أمر مقصود مدبر عن علم.
فكيف يقرأ ذلك الكتاب قارئ ويجرأ على إنكار القصد والإرادة والتدبير
والتقدير والعلم لخالق هذا البدن العجيب الصنع. ألا يكون القارئ مكذب
حسه، ومنكر نفسه.

39
إن النكات السود السود في ساعتي
والعقرب الدائر حول النكات
أحصت حياتي نكتة نكتة
بالضبط فالساعة رمز الحياة
دقات قلب المرء دقاتها
والسكتة السكتة حين الممات
دورتها في نبضها مثلما
الدورة في عروقنا النابضات
آلات جسمي مثل آلاتها
أقاصدات هي أم غافلات
مدبر الأوقات في جريها
دل على مدبر الكائنات.
ظريفة
(ومن ظريف ما أجيب به عن وجود الله تعالى، حين سأل عصري أحد
طلاب العلوم الدينية: من خلق الله؟. فأجابه: خلقه إله أعلا منه. فقال
له: ومن خلق ذلك الإله؟ فقال له أيضا: إله أعلا منه، فسأله
ثالثة: ومن خلق ذلك الإله؟. فأجابه بمثل السابق. فقال له: لا بد
وأن يكون إله أعلا من الكل خلق الجميع.
فأجابه: ذلك هو الله... وبهذه الطريقة أمكنه أن يوصله إلى مراده
إذ أن كل نفس إنسانية تقر بذاتها بوجود صانع، خالق لها ولكل الأشياء
وأنه ليس مسبوقا بالعدم. (1)
قال العلماء: يعرف الله بطرق ثلاث:
1 - دليل الفطرة الذي يعبر عنه بأن البعرة تدل على البعير، والصنعة
تدل على الصانع. وهذا الدليل يشترك فيه العالم والجاهل، والكبير والصغير
والعادل والفاسق. فكل إنسان إذا نظر إلى نفسه، وأنه وجد بعد العدم،
وأنه خلق من نطفة، وأنه لم يخلقه أبواه، ولا هو خلق نفسه يجزم لا



(1) أخي المثقف.
40
محالة بوجود الخالق المدبر.
2 - الدليل النظري: وهو أن تعرف الله بصفاته الكمالية بالدليل
وبرهان العقل، كما دونه المتكلمون والفلاسفة الإلهيون.
3 - دليل الاشراق، وهو أن الإنسان متى خلصت نفسه من الشوائب،
وانصرفت عن كل ما يشين انعكست في قلبه معرفة الله سبحانه، بدون استعمال
النظر تماما، كما ينعكس المثال في المرآة الصافية.
والدليل الأول والثاني ينتقل بنا من العلم بالمسبب إلى العلم بالسبب، ومن
العلم بالأثر إلى العلم بالمؤثر.
والدليل الثالث بالعكس، ينتقل بنا من العلم بالسبب والمؤثر إلى العلم
بالمسبب والأثر. وهذا أعلى مراتب المعرفة.
قيل للإمام علي عليه السلام هل عرفت الله بمحمد، أو عرفت محمدا بالله؟ قال
ما عرفت الله بمحمد، ولكن عرفت محمدا بالله.
قصة تقرأ
(ذكروا أنه كان في مدينة (دلهي) من أرض الهند، أحد الدعاة
المسلمين، وكانت حرفته الصياغة، وهو كثير الحب لله ورسله وللناس جميعا،
يتخذ من صياغته وسيلة لجمع المال لينفقه في سبيل الدعوة إلى الله، الصانع الأعظم لهذا
الوجود بكل ما فيه من مادة وقوة روحية، وقد بلغه أن حكومة الهند، أعلنت أنها
ستقيم معرضا صناعيا وطنيا كبيرا في مدينة (دلهي) تدعو إليه سكان الهند وسواهم.
وقد سره هذا الإعلان، وصمم في نفسه، أن يتخذ من فنه البارع
وسيلة للدعوة إلى الله، وكشف حقيقة الإيمان به، وصلته بمخلوقاته.
من أجل هذه الغاية الشريفة، أخذ يسهر الليالي الطوال وهو يصوغ

41
عوالم الوجود، المادية والروحية، في صورة شجرة فنية رائعة، وقد عرض
فيها الأرض والشموس والأقمار والسماوات وعوالم الأرواح عرضا فنيا رائعا جدا
فجعلها أغصانا متشابكة، تحمل كرات شتى، وأرسل بينها مختلف الإشعاعات
الكهربائية المغناطيسية وسواها، لتمثل القوى المعنوية في الوجود، كما أرسل
إشعاعات بيضاء صافية مجنحة، تمثل الأملاك والجنة، وأشار إلى الشياطين
بأشباح سوداء مخيفة، وقد اتخذ لشجرته هذه مكانا بارزا في صدر المعرض
لتلفت الأنظار.
احتشد الناس صبيحة يوم افتتاح المعرض، واجتمعوا متزاحمين حول هذه
الشجرة الفنية العجيبة، وهم ما بين (بوذيين) يعبدون روح بوذا الأزلية
القديمة، التي تأنست فيه وتجسدت حسب تعاليمهم، وما بين (براهمة)
يؤلهون روح برهمة وسيفا وفشنو الذين يقولون عنهم قد حل الله فيهم، لأنهم
اعتقدوا أن الله روح. وما بين (مجوس) يعبدون النار التي هي جزء من الشمس
الحالة فيها قوة روحية، يزعمون أنها هي الخالق العظيم. وما بين (شنتويين)
يابانيين يعبدون روحا عامة، يعتقدونها حالة في طبيعة اليابان وجبالها وأوديتها
وأنهارها، وما بين (سياميين) يعبدون الروح الحالة في الفيل الأبيض. وما
بين (حلوليين) يعتقدون أن الله روح كلية يحل في كل ذرة من ذرات الوجود،
هي التي تسيره. وما بين (ثنويين) يرون العالم يدار بيد روحين كبيرتين:
هما (يزدان) خالق الخير، و (أهرمن) خالق الشر، وسوى هؤلاء كثير
من أهل هاتيك البلاد، كعباد النوافع والمضار والجمال، كالبقر والأفاعي
والغزلان.
أما الداعية - صانع الشجرة - فقد فرح فرحا عظيما، حين رأى
الناس مجتمعين باحتشاد وتزاحم حول شجرته الفنية الرائعة، وهم معجبون

42
كيف استطاع صانعها العبقري أن يمثل فيها كل قوى عوالم الوجود المادية
والروحية، كما استطاع أن يشير إلى كل أشياء الوجود التي عبدت، واعتقد
أنها هي الله الخالق العظيم.
أجل فرح الداعية الصانع حين رآهم معجبين بالشجرة، وكيف تسنى
لصانعها أن يجعلها تشتمل على كل صور الآلهة المعبودة من دون الله، كالغزلان
والأبقار والأرض والسماوات وبقية الأجرام، والشموس وبوذا وبرهمة وسيفا
وفشنوا وتشتري وزرادشت ومترا وفولكان ولا وتسو وكونفشيون والباب...
وسواهم من الملوك والقياصرة والأباطرة والفراعنة ومؤسسي الأديان وبعض
أتباعهم الذين بولغ بهم حتى ألهوا فعبدوا.
نعم فرح لأنه رأى المحتشدين معجبين بعبقريته الفنية الخارقة التي
استطاعت أن تصور عوالم الوجود المادية والروحية هذا التصوير الدقيق ويبرزها
في هذا الجمال الفني الباهر للعيان.
أخذ المحتشدون يلتفتون يمينا وشمالا، وهم يتساءلون عن صانع الشجرة
وقد كان تلاميذه منتشرين بين جمهور المحتشدين، وكلما رأوا إلحاح الجمهور
في طلب رؤية صانع الشجرة، يصرفونهم عنه بإلفات أنظارهم إلى عجائب الشجرة
الفنية، وغرائب صنعتها الظاهرة في كل جزء من أجزائها، وأخيرا صاح
المشاهدون جميعا: إن هذه الشجرة الفنية هي أعظم ما في المعرض، فلا بد لنا
من معرفة صانعها العظيم الكبير، وأخذوا يهتفون ويرددون الهتاف بصورة
متواصلة. فقال التلاميذ: ماذا تريدون من معرفة الصانع؟
المحتشدون:
إن صانعا قديرا، وصانعا ماهرا، قد استطاع أن يمثل عوالم الوجود
بقسميه المادي والروحي، في هذه الشجرة يجب أن نعرفه معرفة أكيدة

43
صحيحة، حتى لا ننسب أمجاده واحترامه وإكباره إلى سواه.
التلاميذ:
وماذا يضركم إذا احترمتم غيره وأكبرتموه، ونسبتم صنعته إلى سواه؟
المحتشدون: يعطى الحق إلى غير أهله، ويقدر غير الجدير بالتقدير
ويجر ذلك إلى تقدير الجهل باسم العلم، وفي هذا إفساد للأوضاع وقلب
للحقائق، بل فيه كل الشر، فيجب أن نعرف صانع هذه الشجرة بالذات.
وحتى أصر الجمهور على ذلك: اقترب أحد التلاميذ الداعية من الشجرة ومد
يده مشيرا إلى الشمس البادية فيها قائلا: إن الذي صنع هذه الشجرة هي الروح
الثاوية في هذه الشمس، فظنه المحتشدون مجنونا وأعرضوا عنه، فتقدم تلميذ
آخر قائلا: لا لا، إنه كاذب لأننا نشاهد عيانا أن الشمس والروح الحالة
فيها، مصنوعتان لصانع الشجرة، ففرح الجميع وقالوا: هذا تلميذ يفهم
الحقائق ويعلم أن الصنعة غير الصانع، وطلبوا إليه أن يرشدهم إلى معرفة الصانع
الصحيحة، فقال لهم حبا وكرامة، ثم مشى إلى الشجرة ومد يده وأشار إلى
القوة التي تمثل الجاذبية العامة الممزوجة بكل الشجرة، المتخللة كل ذرة
من ذراتها، وكل عنصر من عناصرها، وقال: هذه القوة الروحية، هي
التي صنعت الشجرة بكل ما فيها من عوالم سواء كانت من الأرواح أو من المادة
فضج الجميع وسخطوا وقالوا: إن هذا التلميذ لا يقل عن زميله جنونا، وهنا
ظهر أحد التلاميذ أمام الجمهور بوقار ورزانة قائلا: إنه أشار إلى الروح العامة
التي تتخلل الشجرة. وهذه أوجدها الصانع لتمسك ذرات الشجرة وعناصرها
وعوالمها، ولكن الذي صنع الشجرة، هو (هؤلاء وأشار بيده إلى التماثيل
الثلاثة) - برهمة وسيفا وفشنو - قائلا: إن الروح الكامنة في هؤلاء الثلاثة،
المتحدة المنبثق بعضها من بعض قبل الدهور، هي التي صنعت الشجرة بكل

44
عوالمها المادية والروحية والحية وغير الحية والعاقلة، وغير العاقلة، وهذه
التماثيل الثلاثة تشير إلى أقانيم ثلاث هي في الحقيقة إله واحد. فصرخ الناس
وقالوا: ما لنا ولهؤلاء المجانين، وأخذوا يتنادون من يعلم شيئا عن حقيقة
صانع الشجرة فليتقدم.
وهنا تقدم جماعة آخرون من التلاميذ، وأشاروا إلى النار قائلين، هي
التي صنعت الشجرة فقال آخرون: كذبوا بل الذي صنعها، الروح الحالة
في هذا الفيل الأبيض. وقال آخرون: بل الروح الأزلية التي حلت في بوذا
هذا. وقال آخرون: كذبتم بل هذه، وأشار إلى الروح الحالة في طبيعة
اليابان وجبالها وأوديتها كما هو ماثل في الشجرة...
وهنا أعرض جماهير المشاهدين عنهم، وطفقوا يضحكون قائلين: هل
نحن في (مارستان) أتلاميذ أي مجنون هؤلاء؟؟!!
ثم قال حكيم من حكماء الجماهير المحتشدين: ما لكم يا قوم نسألكم
عن صانع الشجرة، لا عن الأشياء المكونة منها الشجرة، فكيف تشيرون
إلى الصنعة، وتقولون هي الصانع، فبرز تلميذ كأنه فيلسوف كبير وقال:
إن كل جزء من أجزاء الشجرة المادية والمعنوية، هو الذي صنع الشجرة،
أي أن الشجرة هي التي صنعت نفسها، وليس لها صانع سواها. فأخذ
المحتشدون يضحكون على عقليات التلاميذ السخيفة ونظراتهم الواهمة ووزنهم
الخفيف الخفيف.
وحينئذ أدرك جماعة من الحكماء أن التلاميذ ما قالوا الذي قالوه إلا
لغاية مقصودة، وأدركوا أن في المسألة سرا، إذ التلاميذ ليسوا بمجانين ولا
مخبولين، لذلك قالوا علمنا يقينا أن الصنعة غير الصانع، هلموا فاطلبوا صانع
الشجرة ليكلم الجماهير. فذهب التلاميذ جميعا، حين رأوا الجد في طلب الصانع

45
وما لبثوا أن أقبلوا، وصانع الشجرة يتقدمهم، وما كادت الحكماء والجماهير
تشاهده مقبلا حتى قابلته بعاصفة من التصفيق والهتاف، فانحنى متقبلا هتافهم
وخطبهم قائلا:
لقد رأيتم بعيدا كل البعد أن شيئا من أشياء هذه الشجرة المادية أو الروحية،
هو الذي صنعها، وقلتم يستحيل ذلك عقلا وعلما وتجربة، بيد أنكم جميعا
آمنتم بذلك وأذعنتم له تقليدا ووراثة وتلقينا وتعليما.
المحتشدون: لا لا، نحن لم نؤمن به ولم نذعن له، إنما تلاميذك
هؤلاء المحيطون بك، هم الذين أعلنوا ذلك وتنادوا به.
الداعية: إن تلاميذي أرادوا أن يقربوا لكم الحقيقة، ويكشفوا لكم
ما أنتم عليه، من تقاليد ووراثات، وتربيات وتلقينات تنافي واقع العلم
والمعرفة، أما تعلمون أن هذه الأرض التي نعيش فيها، وهذا الفضاء الذي
تسبح فيه الأجرام المترامية في أبعاده، وهذه الأرواح والجاذبية والمغناطيسية
وكل القوى الروحية، والملائكة والجن... وكل ما تشاهدونه أو تقرؤن عنه
من أشياء الوجود هي صنعة بين أيديكم تشاهدونها وتدركونها بحواسكم
وعقولكم، أما تدل هذه الكائنات على جلال صانعها وعظيم قدرته وأنه لا يشبهها
ولا تشبهه في صفة ما، وأنه وحده المهيمن عليها المسير لها؟؟
نعم أنتم تعلمون هذا كل العلم، ومع ذلك تقولون - تقليدا ووراثة -
إن صانعها هو بعضها كما هو معلوم لكم...
المحتشدون: محال أن نقول: إن بعض الصنعة هو الذي صنع كل
الصنعة، بل نتحقق من طريق العلم اليقيني والمشاهدة، إن لكل صنعة صانعا
هو سواها بلا ريب.
الداعية: لا لا، بل قلتم ذلك، أما فيكم من يقول: (نؤمن

46
بسافتري) إله واحد ضابط الكل خالق السماوات والأرض، وبابنه الوحيد
(آني) نور من نور، مولود غير مخلوق تجسد من (فايو) في بطن (مايا)
العذراء، ونؤمن (بغايو) الروح المنبثق من الأب والابن الذي هو مع الأب
والابن يسجد له ويمجد (1)، أما فيكم من يقول إن الله روح محض لا تحل في
شئ، ولكنها تتجلى وتشرق على من تشاء فيعبد لأجل ذلك.
أما فيكم من يعتقد أن الروح الحالة في الشمس هي الخالق العظيم، أما
فيكم من يعتقد أن الخالق العظيم هو الروح المحض التي حلت في برهمة وسيفا
وفشنو، ثم قلتم بعد ذلك إن هؤلاء الثلاثة، إله واحد، حيث انبثق بعضهم
من بعض قبل الدهور.
أما فيكم من قال: إن موجد هذا الكون روح حلت في الفيل الأبيض
أما فيكم من قال: إن صانع الوجود بقسميه المادي والروحي، هو روح حالة
في طبيعة اليابان؟ أليس فيكم من أنكر كل ذلك، زاعما أن الصانع هو الروح
التي حلت في بوذا، أليس فيكم من قال: بل الروح التي حلت في الباب. أليس
فيكم من جعل الصانع الأعظم لهذا الوجود روح الخير وروح الشر، التي حلت في
(يزدان وأهرمن)، أليس فيكم من جعل الصانع روحا تحل في النوافع
كالثيران والعجول، وطير أبي قردان، أو المضار كالأفاعي والشياطين، أو
الجميلة الوديعة كالحمام والغزلان والنساء، أما فيكم من وصلت به سخافة الفكر
والمهانة، أن أنكر الصانع لهذا الوجود زاعما أن العوالم المادية والروحية هي



(1) هذا هو قانون الإيمان الهندي القديم، كما نقله العلامة المستشرق
(مالغير) في كتابه المطبوع عام 1895 الذي ترجمه للعربية نخلة بك شفوات
عام 1913 ومعنى (سافستري) الشمس، ومعنى (آني) النار، ومعنى (فايو)
الروح، (وماياهي) العذراء المقدسة المشهورة في الهند القديمة وهي والدة الإله
47
التي خلقت نفسها بنفسها أي قال: إن الصانع هو الصنعة، أما فيكم أما
فيكم...
وهنا تنهد الداعية قائلا: ويا ليت بعضكم مسلم لبعض ولم تختلفوا على
أنفسكم، وتحتربوا من أجل هذه الأساطير والسخافات، ولم ينكر كل فريق
منكم الروح التي ألهها الآخرون غير مصدق بسوى الروح التي آمن بها هو،
واعتقدها وحدها هي التي صنعت عوالم الوجود. والمقصود أنكم اختلفتم على
أنفسكم وعلى العلم والحق والدين، وجعلتم الأجيال تختلف باختلافكم وتمرض
بمرضكم وتتوارث سخافتكم وأساطيركم، وتعتقدون أن ترهاتكم هذه هي وحي
الله المنزل الذي لا يأتيه الباطل.
وماذا أقول لكم: وفيكم جماعات كثيرة لها من عمق الفكر وسعة الحضارة
ما لم يكن لقدماء الفرس والروم واليونان والكلدان... ومع ذلك لا يزالون
يعبدون أشياء كثيرة، متخيلين أن خالق الوجود هو الروح التي زعموا أنها تحل
فيها ولن يجدوا مثلا يصدق عليهم إلا كلمة الأديب (جرجي زيدان) التي قالها
حين درس تاريخ سكان مصر القدماء ورآهم يعتقدون أن الله روح تحل في الأشياء
التي يعبدونها. (لقد عبدوا كل شئ إلا الله).
المحتشدون: قلت حقا، فكيف النجاة من مضايق هذه البلايا وأغلال
هاتيك التقاليد، وكابوس رحى المورثات والتعاليم والتربيات؟
الداعية: النجاة هي في الرجوع إلى العلم والعقل، إلى الحرية والفهم،
إلى الانتصاف من النفس لوجه الحق وواقع المعرفة.
المحتشدون: إلا أن الأرواح التي زينتها تقاليدنا في أعيننا وجعلتنا نعتقدها هي الله
الخالق العظيم، هي التي حملتنا ثقل هذه الأساطير وبلايا هذه الخرافات والترهات،
لذلك نطلب إليك أيها الداعية الكريم أن تخرجنا منها، وها نحن أولاء نعلنك

48
المساعدة.
الداعية: إنكم لا تستطيعون الخروج من أغلالها وخنادقها المظلمة
وقيودها الحديدية الثقيلة.
المحتشدون: بل في مقدورنا، وهل في الوجود من ينكر الحق بعد
معرفته إياه، ويؤثر عليه الجهل والخرافة، ويحني عنقه للخرافات التي تضاد
العقل وتناقض العلم والمعرفة!
الداعية: نعم ذلك موجود وبينكم أيضا، لأنكم أنتم ثلاث فرق: الفرقة
الأولى، هي التي تؤمن بفطرتها وعقلها وعلمها، وتعلم أن لهذه المصنوعات التي
تبدو ماثلة في الوجود صانعا تدل صنعته على مدا قدرته وعظمته، وعلى جلال
صفاته التي تليق به سبحانه وتعالى، وعلى مغايرته لها جميعا المادية والروحية،
وهؤلاء يستطيعون أن يؤمنوا بالحقيقة متى أدركوها، أي يستطيعون أن يؤمنوا
بما أوحاه الله على خاتم الأنبياء، ويعلموا أن الصنعة غير الصانع، وحينئذ
يمكنهم أن يأخذوا الوحي الإلهي من منبعه الصافي، خاتم الكتب الإلهية
- القرآن المجيد -.
وهنا صرخت هذه الفرقة وقالت: نؤمن بوجود الصانع العظيم، بمعارفنا
وعلومنا، ونطلبه بإيمان وصدق وإخلاص، ونضحي في سبيل طلبه بأنفسنا
وأولادنا ولا ندخر دون ذلك مالا أو جاها أو سلطانا، وإن انحرفت بنا عنه
التقاليد والموروثات والتلقينات، وأوصلتنا إلى اعتقاد أنه - تعالى - روح يحل
في مصنوعاته من إنسان وحيوان وشجرة وكواكب وشموس... نعم لا ندخر
وسعا دون معرفته العلمية الصحيحة، لأننا نعتقد أن الانحراف عن واقع تلك
المعرفة والحق، يغضب الخالق العظيم. لذلك نطلب منك أن تذكر لنا
الدلائل القطعية التي تثبت أن خاتم وحي السماء القرآن، جاء بهذه الحقيقة

49
العلمية التي كشفتها في شجرتك ما دمنا تحققنا علميا أن الصنعة غير الصانع،
وفهمنا أنه تعالى واحد أزلي أبدي، من قبل جميع المخلوقات، وأنه هو وحده
الذي لا أول له ولا آخر، وجميع مخلوقاته الروحية والمادية، لها بداية ونهاية
لأنها خلقه وصنعته وحده.
وهنا، ابتسم الداعية وقال: يكفي أن تقرأوا القرآن مرة واحدة،
وتنعموا أنظاركم في آياته، آية آية لتفهموا ذلك، وها أنا أسمعكم جانبا من
الآيات البينات.
قال الله تعالى: (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير) (له مقاليد
السماوات والأرض) (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ
عليم) (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة، والسماوات
مطويات بيمينه، سبحانه وتعالى عما يشركون) (يا أيها الناس ضرب مثل
فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله، لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له
وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه، ضعف الطالب والمطلوب) (والله
خالق كل شئ) (بديع السماوات والأرض، وإذا قضى أمرا فإنما يقول له
كن فيكون) (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط)
ولما أنهى تلاوة الآيات هتفوا قائلين: (نشهد أن الله هو الصانع الأعظم
لكل شئ، وأنه واحد أزلي قديم، ليس هو الروح أو المادة، بل هو وحده
خالق الروح والمادة معا، وخالق كل شئ، وخالق الأزمنة والأمكنة،
وهو وحده كان قبل خلقه، كان ولا يزال متفردا بالوجود الأبدي القادر وحده،
لا تحيط به مخلوقاته من زمان أو مكان أو سواهما، ولا يماثل شيئا منها ولا
تماثله، بيد أن جميع مخلوقاته في قبضته وقهره وسلطانه، هو يحيط بها جميعا
وأن محمدا عبده ورسوله، ختم به الرسالات السماوية والوحي، وأن الله لم يحرم

50
أمة من الأمم من الرسالات الآلهية في زمن من الأزمان، وأن كل جمال وخير
وهدى وإنسانية وسمو واجتماع، جاءت على ألسنة الرسل السابقين، هي
مذخورة في خاتم الوحي الآلهي، والقرآن المجيد، وأن كل جمال وخير
وهدى وإنسانية وسمو واجتماع جاءت بعده، إنما هو مصدرها وينبوعها الخالد
الحي. وقد أرسل الله أنبياءه للدعوة إلى الإيمان به، إيمانا خاليا من كل شائبة
من شوائب الوثنية والشرك والتشبيه والتمثيل والحلول والانتقال، سائلين المولى
الكريم، أن يعفو عنا ما مضى من عبادة سواه.
الداعية: قد عفا الله عنكم منذ الساعة التي آمنتم به وحده لأن الإسلام
إليه، يقطع جراثم عبادة مخلوقاته المادية أو الروحية المبتدأة بالعدم والمنتهية
إلى العدم. (1)
(حقيقة العبادة)
هذا هو الطرف الآخر لحقيقة العبادة، المفجرة لينابيع الخير المرهفة للضمير والتي
تربط القلوب بالله وتقترب منه وتتصل به، ومتى اتصل الإنسان بربه بعدت خطواته



(1) إن أجمل كلمة قيلت في هذا الموضوع، هي الكلمة التي قالها حمزة
ابن علي الزوزني وزير أبي علي المنصور، الحاكم بأمر الله الفاطمي، في بعض
محاضراته التي كان يلقيها على تلاميذه في الجامع الأزهر حيث جاءت بهذا النص:
(إن شر الكفر عبادة العدم، وما جئنا لندعو لعبادة العدم...) وهو يقصد أن
وجه الله وحده هو الذي لم يسبقه عدم ولن يدركه عدم، وما عداه يصدق عليه
قوله تعالى: (كل شئ هالك إلا وجهه)
(*) لا جديد تحت الشمس. (*)
51
عن خطوات، الشيطان، واستحيا أن يغضب الله بعمل وهو يلقاه، واستقام على
الطريقة، ووجد فيها هداه.
* * *
العبادة ضرب من الشكر وغاية فيه، لأنها الخضوع والتذلل، تدل على
أعلا مراتب التعظيم. ولا يستحقها أحد إلا بإعطاء أصول النعم، من خلق
الحياة والقدرة، والحس والشهوة، ولا يقدر عليه أحد إلا الله، فلذلك
اختص سبحانه بأن يعبد. ولا تجوز العبادة لغيره، بخلاف الطاعة، فإنها قد
تحسن لغيره، كطاعة الأب والمولى والسلطان والزوج. فمن قال إن العبادة
هي الطاعة، فقد أخطأ، لأنها غاية التذلل، دون الطاعة فإنها مجرد موافقة
الأمر. ألا ترى أن العبد يطيع مولاه ولا يكون عابدا، والكفار يعبدون
الأصنام ولا يكونون مطيعين، إذ لا يتصور من جهتهم الأمر. فمستحق العبادة
هو الله جلت عظمته، منحصرة فيه ومختصة به، وحق من حقوقه.
قال رسول الله (ص): (يا معاذ تدري ما حق الله على العباد؟ قلت:
الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوا الله ولا يشركوا
به شيئا. وحق العباد على الله عز وجل أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا).
وهذا الحق باق ما بقي في الإنسان نفس يتردد.
(يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم).
(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)،
هناك سؤال يتبادر إلى الإنسان في ساعة صفاء ذهنه، وفي حالة
التفكر في نفسه: لماذا خلقت، وما هي الغاية من خلقي؟.
هذا السؤال الذي كان مدار البحث والتفكير عند الفلاسفة، والذي لم
يهتدوا إلى رأي ثابت في حل أسراره.

52
وقد كان الفيلسوف الألماني - كانت - يرى أن أعظم مسائل الفلسفة وأجلها
شأنا ثلاث مسائل، وهي:
1 -، ما الذي نستطيع معرفته؟
2 -، ما الذي يجب أن نعمله؟
3 -، ما الذي نرتجيه ونعلق آمالنا عليه؟.
والقرآن يجيب على بعض هذه المسائل، ويكشف سرا من أسرار الحياة
والغاية من خلق الله للانسان وهي: عبادة الله قال تعالى: (ما خلقت الجن
والإنس إلا ليعبدون). فعبادة الله هي أقصى غاية الخضوع والتذلل له مع
طاعته. وهذا يقتضي عدم الخضوع لأي كائن على هذه الأرض، لأنهم كلهم
مربوبون لله، وهذا ما صرح به القرآن: (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا
إياه). (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه).
وعلى هذا فلا يجوز لكائن أن يعلو في الأرض ويتكبر ويقهر الناس حتى
يخضعوا له ويذعنوا لأمره وينقادوا لجبروته، يأمرهم بما يشاء وينهاهم عما
يريد كما فعل الملوك والكهنة قديما، والذين يخضعون لأمثال هؤلاء إنما
يشركون بالله، الأمر الذي يبعث على الفساد في الأرض، ومنه تتفجر ينابيع
الشر والطغيان.
والإسلام يريد أن يقطع دابر الذين تبوأوا ذروة الألوهية واستعبدوا
الناس لأهوائهم. ولهذا يعيب على اليهود والنصارى الذين اتخذوا أحبارهم
ورهبانهم أربابا من دون الله. قال الله تعالى: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من
دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو).
عندما تلا محمد (ص) هذه الآية قال عدي بن حاتم وكان نصرانيا
قبل أن يسلم: ما كنا نعبدهم يا رسول الله. قال أليس كانوا يحلون لكم

53
ويحرمون، فتأخذون بقولهم؟ قال: نعم. قال: هو ذاك.
فالاسلام إذ أمر بعبادة الله كان يرمي من ذلك أن يحرر الإنسان من
العبودية التي لازمته السنين الطوال من ملوك الأرض وزعمائها الطاغين، ورؤساء
الدين المتألهين، وأن ينزع من ذهنه ذلك الوهم بأنهم من طينة أفضل من طينته وأنهم
من عنصر أفضل، وأن بيدهم النفع والضر. ولهذا يقول الله تعالى: (قل
أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا). ويقول سبحانه: (إن
الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا، فابتغوا عند الله الرزق).
ولهذا أرسل الله الرسل - في كافة العصور - للناس ليدعوهم إلى عبادة الله
وحده وعدم خضوع بعضهم لبعض. قال الله تعالى: (ولقد بعثنا في كل
أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت). وإن الشقاء الذي ينتاب الجنس
البشري مرده عدم فهم هذه الحقيقة، فألهوا بعضا من أفراد جنسهم علوا في
الأرض، واستذلوا البشر وساقوهم إلى التناحر، وجعلوا الإنسانية شيعا يحارب
بعضها بعضا.
ولهذا يدعو الله الناس جميعا - بقطع النظر عن ألوانهم وأجناسهم -
بالتوجه إلى عبادة الله وحده.
أنظر إلى هاتين الآيتين اللتين تفيض عباراتهما بالشعور الحي، فتستجيب
لها النفس إذا كانت ذات عقل ووجدان، (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي
خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون، الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء
بناءا وأنزل من السماء ماءا فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا
وأنتم تعلمون).
والمعنى - والله العالم - أن الله هو الذي خصكم بهذه الآيات الكونية
العظيمة، والدلائل النيرة من خلق السماء والأرض، الشاهدة بوحدانيته

54
فاخضعوا له ولا تتخذوا له شركاء في العبادة.
* * *
ولكن هل العبادة مقتصر معناها على الخضوع لله وحده؟ كلا! فقد
ذكر القرآن أن لها مستلزمات أخرى بجانب معنى الخضوع لله وهي: الشكر
لله، التوكل على الله، الإخلاص لله، دعاء الله.
وقد بين القرآن أن هذه الفروض التي يجب أن يقوم بها الإنسان هي
من العبادة التي خلق الله الناس لأجلها.
وإليك عرض وتحليل كل قسم منها على ضوء ما جاء في القرآن من
الدعوة إليها.
الشكر لله:
عرف العلماء الشكر بأنه: ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده، ثناء
واعترافا، وعلى قلبه شهودا ومحبة، وعلى جوارحه انقيادا وطاعة، فالشاكر
من يكون لسانه مشتغلا بالثناء على ربه، معترفا له بنعمته. ويكون قلبه
مملوء محبة لله على هذه النعم، وشهودا بأنها منه فضل وإحسان، وتكون
جوارحه مشتغلة بطاعة الله استسلاما له وانقيادا.
لهذا كان الشكر من مظاهر العبادة التي دعا إليها القرآن، لأنه يجعل
العبد ذاكرا ربه عابدا متعلقا بخالقه، قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا
كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون).
وكلمة الشكر من الكلم الجوامع التي تنتظم كل خير وتشمل كل ما
يصلح به قلب الإنسان ولسانه وجوارحه. فالذي لا يحب الله ولا يشهد قلبه
بأن ما فيه من النعم إنما هو من الله فضلا وإحسانا ليس بشاكر، والذي لا
يثني على ربه ولا يحمده بلسانه ويخوض في الباطل ويشتغل لسانه بلغو القول

55
ولهو الحديث ليس بشاكر. والذي يعطيه الله من العلم شيئا ولا يعمل به ولا
يعلمه الناس ليس بشاكر. والذي يعطيه من المال ما يستعين به على طاعته
بصرفه في وجوه الخير والبر ويبخل به أو يصرفه في معاصي الله ليس بشاكر.
لهذا دعا الله تعالى إلى التخلق بالشكر في كثير من الآيات، (بل الله
فاعبد وكن من الشاكرين) ومدح نبيه إبراهيم لقيامه بواجب الشكر،
(إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين، شاكرا لأنعمه
اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم. (وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة
لمن الصالحين) كما تفضل الله بعدم عذابهم (ما يفعل الله بعذابكم إن
شكرتم وآمنتم). ووعد الشاكرين بأن يزيد لهم النعم في الدنيا ويحفظها
لهم، فقال سبحانه: (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم
إن عذابي لشديد).
والانسان عليه واجب الشكر نحو خالقه فإن لم يفعل كان بذلك مقترفا
أشنع أنواع الجحود والنكران. ألا ترى أننا ننكر على الشخص الذي لا
يسدي الشكر لمن أحسن إليه من البشر، فما بالك بمن لا يسدي الشكر لله
خالقه مصدر كل النعم. ولا يمكن أن نكون مقربين إلى الله من غير شكره
وهذا ما أمر به الله في آيات متعددة بعد أن ذكر فيها بعض النعم التي أنعمها
على الإنسان، (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم
السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) ويقول سبحانه: (وآية لهم
الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون. وجعلنا فيها جنات
من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون. ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم
أفلا يشركون). ويقول سبحانه أيضا: (الله الذي سخر لكم البحر لتجري
الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون، وسخر لكم ما في

56
السماوات وما في الأرض جميعا منه) ويقول سبحانه في موضع آخر: (قل
أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم
بضياء أفلا تسمعون، قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة
من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون. ومن رحمته جعل لكم
الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون).
ولكن الناس أمام هذه النعم وغيرها قليلا ما يشكرون. قال سبحانه:
(إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون)
ومنفعة الشكر لا تعود على الله، فإنه لا ينتفع بشكر الشاكرين، ولا
يتضرر بكفر الكافرين، وإنما منفعة الشكر عائدة على الشاكرين، فهو يطهر
النفوس ويقربها من الله، ويوجه إرادتها إلى الوجهة الصالحة في إنفاق النعم في
وجوهها المشروعة: ولهذا يقول سبحانه: (ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه،
ومن كفر فإن الله غني حميد).
أما كفران النعم فيعرضها للزوال، لأنها تجعل المرء غير مبال بما يعمل
ويبدد الثروة بدون منفعة، ويتلف ما أنعم الله به عليه من نعم الصحة والعافية
ويسير على غير المنهج الذي رسمه له الخالق، فيؤدي به إلى غضب الله والبعد
عن رحمته.
والقرآن يخبر بأن خراب الأمم كان سببه كفران النعم، وعدم الشكر
لله تعالى. قال سبحانه: (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها
رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف
بما كانوا يصنعون).
وذكر القرآن قصة قوم سبأ (لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن
يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور. فأعرضوا

57
فأرسلنا عليهم سيل العرم، وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل
وشئ من سدر قليل. ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور).
فالشكر من الدعائم لسعادة الأمم، والتنكب عنه لا يجلب غير الدمار
والخراب، حبذا لو فهمته الشعوب وعملت به لتحصل على السعادة التي تنشدها
وهي عنه غافلة.
وهنا نادرة طريفة أقصها:
(حدث التاريخ أن السلطان (سنجر السلجوقي، مر في طريق وهو في
موكب سلطنته، وكان في الطريق درويش من أهل الفقر فسلم على السلطان
فلم يرد عليه جواب التحية بلسانه بل حرك رأسه بدل الجواب. فقال الدرويش
أيها الملك إن الابتداء بالتحية مستحب وجوابها واجب، وأنا قد أديت
المستحب فلم لا تؤدي الواجب. فأمسك السلطان بعنان مركبه وأخذ يعتذر من
الدرويش بأنه كان مشغولا بالشكر فغفل عن جواب التحية. فقال الدرويش
للسلطان لمن كنت تشكر. فقال: لله الذي هو المنعم على الإطلاق، وما نعمة
إلا وهي منه، ولا عطاء إلا من قبله. فقال الدرويش: بأي نوع كنت تشكره
فقال: بكلمة (الحمد لله رب العالمين) فإن فيها شكر سائر النعم. فقال
الدرويش: أيها السلطان ما أجهلك بطريق الشكر الواجب عليك، إن ما جب
عليك من هذا الأمر هو مقدار ما أفاض عليك المنعم وأردف عليك عطاياه الغير
المتناهية من اقتدار أيامك وسعة زمانك، فليس الواجب عليك قول الحمد لله
فإن الشكر من السلطان إنما يقع موقع القبول ويستزاد به النعمة إذا وقع منه
على كل نعمة عنده بما يناسبها. فالتمس السلطان منه أن يعلمه ذلك، فقال
له: شكر السلطان هو العدل والإحسان مع عامة العباد، وشكر سعة
ملكه عدم الطمع في أملاك رعيته، وشكر ارتفاع عرشه وإقباله الالتفات إلى

58
المنخفظين في تراب الفاقة والمذلة، وشكر نعمة التأمر أداء حق المأمورين،
وشكر الخزائن العامرة التصدق على أهل الاستحقاق والإدرار عليهم بالمقررات
وشكر نعمة القوة والقدرة النظر إلى العجزة والضعفاء بنظر الرأفة والرحمة. وشكر
نعمة الصحة شفاء المعلولين بعلة الظلم بقانون العدالة، وشكر نعمة كثرة الجند
والعسكر منعهم عن إيذاء المسلمين والتعرض لأمتعتهم، وشكر نعمة القصور
العالية والأبنية المشيدة منع الخدم والحشم عن النزول في منازل الرعية وإعفائهم
عن المزاحمة فيها، وخلاصة شكر السلطان أن ينظر إلى المحق بعين الرضا
ويقدم راحة الرعية على راحة نفسه).
وفي قصة الأبرص، والأقرع، والأعمى، التي عن رسول الله (ص)
أبلغ الدرس:
قرأت في كتاب (إسلامنا) تأليف - السيد سابق - (عن النبي (ص):
أن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص، وأقرع، وأعمى، أراد الله أن
يبتليهم.. فبعث إليهم ملكا، فأتى الأبرص فقال: أي شئ أحب
إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني
الناس. فمسحه فذهب عنه قذره، وأعطي لونا حسنا، وجلدا حسنا،
فقال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبل. فأعطي ناقة عشراء. فقال:
بارك الله لك فيها.
فأتى الأقرع فقال: أي شئ أحب إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب
عني هذا الذي قد قذرني الناس. فمسحه فذهب عنه، وأعطي شعرا حسنا.
قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر. فأعطي بقرة حاملا، قال:
بارك الله لك فيها.
فأتى الأعمى فقال: أي شئ أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي

59
بصري فأبصر الناس. فمسحه فرد الله إليه بصره. قال: فأي المال أحب
إليك؟ قال: الغنم. فأعطي شاة والدا، فأنتج هذان، وولد هذا.
فكان لهذا واد من الإبل. ولهذا واد من البقر. ولهذا واد من الغنم. ثم
إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته. فقال له: رجل مسكين وابن السبيل، قد
انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ إلى اليوم إلى بالله ثم بك، أسألك
بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال، بعيرا أتبلغ به في سفري،
فقال: الحقوق كثيرة.
فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص بقذرك الناس، فقيرا فأعطاك
الله؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر. فقال: إن كنت كاذبا
فصيرك الله إلى ما كنت.
وأتى الأقرع في صورته وهيئته، فقال له: ما قال لهذا، ورد عليه
مثل ما رد هذا. فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت.
وأتى الأعمى في صورته وهيئته. فقال له: رجل مسكين وابن سبيل
انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي
رد عليك بصرك وأعطاك المال. شاة أتبلغ بها في سفري.
فقال: قد كنت أعمى فرد الله إلي بصري، فخذ ما شئت، فوالله لا
أجهدك اليوم بشئ أخذته لله عز وجل.
فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم، فقد رضي الله عنك وسخط على
صاحبيك)
التوكل على الله:
أفلحت المدنية في تيسير العيش والترفيه عن الناس، ولكنها فشلت في
بث السكينة في النفس، فلا يزال القلق والخوف بشتى صوره، والخوف على

60
مستقبلها الاقتصادي والاجتماعي والخوف من الفشل، والخوف على الصحة
وغير ذلك تفعل فعلها السئ في النفس الإنسانية.
وقد أظهر علم الطب النفساني الجديد أن سلسلة طويلة من الأمراض من
البرد العادي إلى النقرس، يمكن في كثير من الأحوال ردها إلى متاعب عقلية
لا بدنية، وليس سوء الصحة الذي يعتري كثيرا من الناس إلا ستارا لمخاوف
عميقة القرار.
وإن في الإسلام عاملا نفسانيا للقضاء على الخوف، وهو ما أمر به من
التوكل على الله وتفويض الأمر إليه، وقرنه بالعبادة التي خلق الله الناس لأجلها
قال الله تعالى: (إليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه).
والتوكل أثر من آثار الإيمان، فالذي يؤمن بأن الله بيده تصاريف
الحياة، وبيده النفع والضر، يترك الأمر إليه ويرضى بمشيئة الله، فلا يفزعه
المستقبل وما يخبئه له من مفاجآت، ويستعيض عن الخوف بسكينة واطمئنان
إلى عدل الله ورحمته، ولهذا يقرر الإسلام بأن الإيمان يجب أن يصاحبه التوكل
(وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين). (الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل
المؤمنون).
والإسلام يحمل البشرى للمتوكلين، ويعدهم الفضل من الله ونيل بركاته
انظر إلى هذه الآية الكريمة التي تمسح ما في نفوس المؤمنين من الخوف،
وتمدهم بقوة روحية يستطيعون بها التغلب على خوفهم وقلقهم، (فما أوتيتم
من شئ فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم
يتوكلون). وورد في القرآن أيضا آية أخرى تحمل الوعد الصادق بالمعونة
والتأييد من الله، (ومن يتوكل على الله فهو حسبه). أي كافيه مما أهمه
ومما أحزنه.

61
وهناك فئات من الناس في حاجة إلى التوكل أكثر من حاجة غيرهم،
وهم المصلحون الذين يجتازون دائما الطريق المملوء بالأشواك، ويكونون
عرضة للأذى والتعب المضني، هؤلاء يعلمهم الله أن يفوضوا أمرهم إليه حتى لا
يثبط الفشل همتهم، ويأمرهم أن يقتدوا بنبيه شعيب الذي قال: (إن أريد إلا
الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب).
ولكن هناك شبهة يمكن أن تتبادر إلى الأذهان، بأن التوكل يضعف
الهمة للعمل ويؤدي إلى الكسل. هذه الشبهة عالجها القرآن ودحضها في هذه
الآية، (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين).
هذه الآية تدل على أن التوكل على الله يجب أن يسبقه المشاورة من
أهل الرأي في الطريق الذي يجب سلوكه، ثم العزم الصادق في السير على
الطريق الذي استقرت المشاورة عليه، وبعد ذلك يأتي التوكل على الله لنيل
النجاح.
فالتوكل في الإسلام هو زاد روحي للتغلب على الخوف والقلق، وهو
الذي يعطي المؤمن بسمة أمام أهلك الساعات التي تمر به، ويهبه سكينة النفس
المحروم منها كثير من سكان هذه الأرض.
(قال رسول الله (ص): (من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤنة
ورزقه من حيث لا يحتسب، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها) وقال (ص):
(من سره أن يكون أغنى الناس فليكن بما عند الله أوثق منه بما في يده)
وقال (ص): (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق
الطيور تغدوا خماصا وتروح بطانا). وعن علي بن الحسين عليه السلام قال: (خرجت
حتى انتهيت إلى هذا الحائط فاتكأت عليه فإذا رجل عليه ثوبان أبيضان ينظر
في تجاه وجهي، ثم قال: يا علي بن الحسين ما لي أراك كئيبا حزينا، أعلى

62
الدنيا فرزق الله حاضر للبر والفاجر قلت: ما على هذا أحزن وإنه لكما تقول
قال: فعلى الآخرة فوعد صادق يحكم فيه ملك قاهر قادر. قلت: ما على هذا
أحزن وإنه لكما تقول. فقال: مم حزنك قلت: مما نتخوف من فتنة بن
الزبير وما فيه الناس. قال: فضحك ثم قال: يا علي بن الحسين هل رأيت
أحدا دعا الله فلم يجبه. قلت: لا. قال: فهل رأيت أحدا توكل على الله فلم
يكفه. قلت: لا. قال: فهل رأيت أحدا سأل الله فلم يعطه. قلت: لا.
ثم غاب عني) (ولعل الرجل كان هو الخضر عليه السلام. وقال الإمام الصادق عليه السلام
(أوحى الله إلى داود: (ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي
عرفت ذلك من نيته ثم تكتده السماوات والأرض ومن فيهن، إلا جعلت له
المخرج من بينهن) وقال عليه السلام: (من أعطي ثلاثا لم يمنع ثلاثا: من
أعطي الدعاء أعطي الإجابة، ومن أعطي الشكر أعطي الزيادة، ومن أعطي
التوكل أعطي الكفاية. ثم قال: أتلوت كتاب الله عز وجل: (ومن يتوكل
على الله فهو حسبه) وقال: (لئن شكرتم لأزيدنكم) وقال: (ادعوني
أستجب لكم)) (1)
الإخلاص لله:
الإخلاص: هو إفراد الحق خاصة في الطاعة بالقصد والتقرب إليه بذلك
خاصة، من غير رياء ومن غير أن يمازجه شئ آخر من تصنع لمخلوق
أو اكتساب محمدة بين الناس أو محبة مدح أو معنى من المعاني، ولذلك
قال أرباب هذا الفن: (الإخلاص تصفية العمل عن ملاحظة المخلوقين. وقال
الخواص من هؤلاء القوم: نقصان كل مخلص في إخلاصه رؤية إخلاصه، فإذا
أراد الله أن يخلص إخلاص عبد أسقط عن إخلاصه رؤيته لإخلاصه، فيكون



(1) جامع السعادات
63
مخلصا. وجاء في الأثر: ما أخلص عبد لله أربعين صباحا إلا ظهرت ينابيع
الحكمة من قلبه على لسانه.
والاخلاص من الصفات الروحية التي تسمو بالمرء إلى منزلة رفيعة من
الخلق الإنساني، فأهواء النفس والرياء والغايات الشخصية هي التي يحاربها
الإسلام ويحل محلها الإخلاص لله. ولهذا أولاه الإسلام اهتماما خاصا وقرنه
بالعبادة. قال الله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) وقال
سبحانه: (فاعبد الله مخلصا له الدين). ويقول الرسول محمد (ص): (أول
من يسأل يوم القيامة ثلاثة: رجل آتاه الله العلم فيقول الله له: ما صنعت
فيما علمت؟ فيقول: يا رب كنت أقوم به آناء الليل وأطراف النهار. فيقول
الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، بل أردت أن يقال فلان عالم،
ألا فقد قيل ذلك. ورجل آتاه الله مالا، فيقول الله له: لقد أنعمت عليك
فماذا صنعت؟ فيقول: يا رب كنت أتصدق به آناء الليل وأطراف النهار.
فيقول الله: كذبت. وتقول الملائكة: كذبت، بل أردت أن يقال فلان
جواد، ألا فقد قيل ذلك. والثالث رجل جاهد في سبيل الله فقتل، فيقول
الله له: لقد جاهد ليقال فلان شجاع، ألا فقد قيل ذلك. ثم قال الرسول (ص)
أولئك أول خلق تسعر بهم جهنم يوم القيامة).
ولما كانت الأعمال الخاصة لله وحده لا بد لها من سابق نية وعزم، نجد
الإسلام يهتم بالنية هذه ويجعلها محورا تدور عليه أعمال العبد. قال رسول الله ص
(إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله
ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة
يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه).
فالنية الطيبة هي عنصر من عناصر التربية الخلقية التي تجعل الإنسان عضوا

64
ممتازا في المجموعة الإنسانية، وقد جعلها الإسلام الأصل في قبول الأعمال عند
الله خالصة له، وله بذلك السبق بأن أعلنها قبل أن يعلنها (عما نويل كانت)
فيلسوف الأخلاق الألماني إذ قال: (إن حسن النية هو الكل في الكل في
الأخلاق).
فالخير في الإسلام ليس خيرا إلا إذا كان عن نية طيبة خالصة لوجه الله،
والعنصر الطيب ليس طيبا إلا إذا استنار بأوامره.
ولا شك أن هذا مذهب جليل في تقدير الرجال والأعمال، يصحح
الأوضاع ويسمو بالمجتمع إلى مستوى رفيع من الكمال، إذ يجعل الأقوال
والأعمال منوطة بغاية واحدة ومثل أعلى هو الله، لا يحب ولا يبغض ولا يفعل
ولا يترك إلا لله، والله لا يأمر إلا ما كان خيرا للشخص وللمجموعة الإنسانية) (1)
الدعاء:
قال رسول الله (ص): (الدعاء مخ العبادة) وفي رواية (الدعاء هو
العبادة، وتلا قوله تعالى: (وقال ربكم ادعوني أستجب لكم).
وليس المراد من الدعاء مجرد طلب الأشياء من الله باللسان فحسب، بل
المراد به حقيقته، وهو أن يكون صادرا عن القلب معبرا عن الحاجة إلى من
يملك إعطاء تلك الحاجة، وهو أعم من أن يكون باللسان أو بالفعل متى كان
يقصد طاعة الله أو التقرب إليه ونيل الأجر منه، كالسعي لكسب الرزق والنذر
والذبح وأنواع الصدقات، وهو بهذا ينطوي على معان سامية هي لب لباب
الإسلام، وهي:
1 - معرفة الله بوصفه ربا خالقا لجميع الموجودات، متصرفا في جميع
الكائنات، متصفا بصفات الكمال، فلو لم تحصل هذه المعرفة لا يمكن أن



(1) روح الدين الإسلامي.
65
يوجه إليه الدهاء، لأن الدعاء لا يوجه إلى مجهول.
2 - العلم واليقين بوحدانية الله، وأنه تعالى النافع الضار الذي يملك
العطاء والنجدة، فلا يصح توجيه الدعاء إلى غيره، ولا يستحق العبادة أحد
سواه، ولولا ذلك لما وجه إليه الدعاء إذ أنه لا يطلب الشئ إلا ممن يملك
إعطاءه، وفي هذا يقول تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك
وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم).
3 - الشعور الذاتي بالضعف والحاجة والفقر إلى الله سبحانه، ولو لم
يكن المرء شاعرا بذلك لما تقدم إلى الله تعالى بالدعاء، وهذا من شأنه إظهار
التذلل والتزام الطاعة لما افترض، والعمل على ما يقرب إليه من البر والإحسان
وكل ما يفيد الإنسان.
فلا غرو إذا ما كان الدعاء بهذا المعنى هو الركن الأساسي لجميع
الديانات، وهو الأمر الذي فطرت النفوس عليه، بل هو الأمر الذي من أجله
خلق الله الجن والإنس حيث يقول تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا
ليعبدون) أي ليدعونني، نتيجة معرفتهم لي ليكونوا على صلة تامه بي ويؤمنوا
بي فيطيعوا أمري ويوقنوا بقدرتي، وينتظروا مني تحقيق آمالهم. وقد عقب
الله تعالى على هذه الآية بقوله: (ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون
إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين). أي أن الله تعالى لم يخلقهم إلا للاتصال
به عن طريق معرفته وتوحيده وطاعة أمره واجتناب نواهيه، والاعتراف بالحاجة
إليه ليمنحهم ما يشاؤون، والله تعالى لم يرد منهم العمل لإيجاد أساس الرزق،
فهو الرزاق الذي يسره لعباده وتكفل لهم به، وما عليهم إلا السعي لتناوله
حيث يقول: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا
من رزقه وإليه النشور) وما يريد منهم أن يقدموا لذاته شيئا من العبادات ليعود

66
عليه نفعها، فهو ذو القوة المتين الذي خلق كل شئ فلا حاجة له إلى شئ منهم
(فإن الله غني عن العالمين).
ومما يؤيد أن الدعاء مخ العبادة، وأنه ركن أساسي فيها ما يأتي:
1 - أن جميع الأعمال التعبدية قائمة على أساس اللجوء إلى الله بصالح
الأقوال والأعمال.
2 - أن الله قد فسر الدعاء بالعبادة، وأنذر المستكبرين عنه بنار جهنم،
حيث يقول: (ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين، ولا تفسدوا
في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمة الله قريب من المحسنين)
(وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون
جهنم داخرين).
3 - أن الله قد أخبرنا أن الدعاء هو السر الذي يربطنا به، ولولاه ما
اكترث بنا حيث يقول: (قل ما يعبؤا بكم ربي لولا دعاؤكم).
4 - أن النبي (ص) قد حض على الدعاء وبين مزاياه ودعانا إلى الثقة
التامة بإجابة الله له حيث يقول: (ادع الله وأنت موقن بالإجابة).
5 - إن الله تعالى قد حث على الدعاء وضمن إجابته في مواضع كثيرة من
القرآن منها قوله: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع
إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون).
ومعنى هذا (وإذا سألك) أيها الرسول (عبادي) المعترفون بعبوديتهم
لي الخاضعون لعظمتي وجلالي (عني) أقريب أنا منهم أم بعيد؟ (فإني قريب)
فأجبهم باني قريب منهم، بمالي من كمال العلم والسلطان النافذ والهيمنة
المطلقة على سائر الموجودات وجميع القوى الظاهرة والباطنة، البارزة والكامنة
كالروح وأسرار الأثير والكهرباء (أجيب دعوة الداع) أي وقد أخذت على

67
نفسي أنني أجيب دعوة كل ملتجئ إلي بدعوته ما لم يسأل بإثم أو قطيعة رحم
(إذا دعان) أي خصني بالدعاء مقرا بعجزه معترفا لي بالقدرة على تحقيق
المطالب واثقا من صدق وعدي، وأني لا أبخل بما عندي. قال (ص):
(ادعوا ربكم وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من
قلب غافل لاه) (فليستجيبوا لي) فما عليهم إلا أن يبادروا بالدعاء الذي هو
روح العبادة، لما فيه من الدلالة على الشعور بالحاجة إلى الله تعالى والتعلق به،
ويطالبونني بالإجابة ليبرهنوا بذلك على ثقتهم بتحقيق مطالبهم ومعرفتهم بي
(وليؤمنوا بي) أي وليبرهنوا على إيمانهم حقا بي بالاخلاص في طاعتي
والانقياد لأحكامي، والتقرب إلي بصالح الأعمال. (لعلهم) بذلك (يرشدون)
يبلغون الرشد إذ يدركون ما لي عليهم من حقوق الطاعة والاخلاص في سائر
الأعمال التي أمرتهم بها، والتي هي هيكل جميع العبادات، مقابل ما منحتهم
من النعم، وما تعهدت لهم من إجابة الدعاء، وفي هذا يقول تعالى: (وأطيعوا
الله ورسوله إن كنتم مؤمنين)، إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم
وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون، الذين يقيمون الصلاة
ومما رزقناهم ينفقون، أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة
ورزق كريم).

68
حق النفس

69
قوله عليه السلام:
(وأما حق نفسك عليك، فأن تستوفيها في طاعة الله
فتؤدي إلى لسانك حقه، وإلى سمعك حقه وإلى بصرك حقه،
وإلى يدك حقها، وإلى رجلك حقها وإلى بطنك حقه، وإلى
فرجك حقه، وتستعين بالله على ذلك).
* * *
كنا في الدرس السابق في مبحث واجب الوجود، ومبحث حقيقة العبادة
ونحن الآن - في هذا الدرس الجديد - أمام حديث يتضمن معرفة كنه النفس
وحقوقها.
حق النفس عبارة عن مجموعة من الحقوق يجب على الإنسان أن يؤديها
كما يجب أن تؤدى، ويجب أن يضع كلا منها موضعه، فوضع الشئ في محله
يمثل العدل، كما أن وضع الشئ في غير محله يمثل الظلم.
إلا أن هذه الظاهرة تتركز أولا على معرفة النفس والبحث عن كنهها
إذ هي الطريق المعبد الموصل إلى معرفة موجدها ومبدعها. يقول (علي) عليه السلام
(من عرف نفسه فقد عرف ربه).
ويقول (لافونتين)، (إن أول أمر يجب على الإنسان أن يتعلمه هو
معرفته نفسه). و (بعد) الكشف عن معرفة حقوقها وواجباتها:
(إن معرفتنا لأنفسنا قد تكون من أوضح المعارف ومن أخفاها في

71
وقت واحد. بيد أن عرفانها واجب على كل كائن ذي وعي وتمييز وبصيرة،
لأنها مصدر سائر المعارف والعلوم حتى العلم بالله.
أما الجهل بها وبأحوالها وبسياستها، فهو نبع كل ضعف، وكل نقص
وكل خيبة، في هذه الحياة وفي الحياة الآجلة.
وفوق هذا وذاك، فإن معرفة النفس سر القوة والسعادة والانسجام مع
الحياة، لأن النفس هي المجلي الأعظم لسائر ألوان المعرفة، من علم وفلسفة
وفن ودين.
ولا معنى لكل ذلك إلا أن تكون النفس الإنسانية: مهبط الهدى والخير
والعلم والحكمة. أو أن مثار الجهل والضلال والشقاء والشر.
كيف لا! والنفس أس كل قوة وكل ضعف يبدوان في الإنسان.
وهي مبعث كل صلاح أو فساد يطرآن على ذلك الكائن البشري. ثم يقوم على
سلامة النفس أو سقمها توازن الشخصية الإنسانية أو اضطرابها. فهي مقياس
صحة الإنسان أو مرضه، وسعادته أو شقائه، وصلاحه أو طلاحه.
وإذن، فالعلم بالنفس يقدم على كل علم كما، أن الجهل بها
يذهب بثمار كل معرفة.
أو ليست النفس مبعث وملتقى الايحاء بالرفعة أو الضعة، والاقتدار أو
العجز، والخير أو الشر، والإيمان أو الكفر، في وقت واحد وفي شخصية واحدة
وهل تطيب للانسان حياة إذا فقدت نفسه ألفتها وانسجامها، فاضطربت
وتبلبلت؟ وهل يصفو له عيش إلا إذا صحت نفسه فتوازنت وهدأت واطمأنت؟
حقا إن بين النفس والجسد، لتقابل وتكافؤ في التأثير والتأثر المتبادلين
- قوة وضعفا، وصحة ومرضا - ولكن أشدهما سيطرة، وأعظمهما تأثيرا في
الحالين، هي النفس دون الجسد. فإذا انسجما - النفس والجسد - وتعاونا،

72
صلحت الحياة، واستقامت الصحة وحسنت الأخلاق، وإن اضطربا وتنافرا،
اضطراب كل شئ في الحياة.
والعبرة في كل ذلك، بدراسة النفس، ثم بحسن سياستها وعرفان
نزعاتها وما فيها من مواضع القوة ومواضع الضعف، لا سيما وإن فقه الإنسان
أحوال نفسه وأنفس المحيطين به، من أهل بيئته ومن معاشريه.
وقد صنع سقراط حسنا، إذ بنى فلسفته على الحكمة الذهبية القائلة:
(اعرف نفسك) معتبرا إياها وحيا سماويا.
وللنفس عند أئمة التصوف الشأن الأكبر - في سلوكهم، وفي تربية
تلاميذهم، وفي سائر علومهم ومعارفهم وأحوالهم ومقاماتهم - وهي عندهم
حجر الزاوية في الموضوع، والمصباح الذي يضئ لهم سبيل الوصول إلى الله،
أو الحجاب الأعظم الذي يحجب عن الوصول إليه.
وأما في التعاليم الدينية، فلها المكان الأول، وهي والقلب في تعبير
تلك التعاليم معنيان مترادفان.
وأما تعريف النفس. ولنسمها الذات، لأن ذلك اسمها العلمي، فهو
من معضلات المسائل بعد ذات الله وحقيقة الوجود، والكلام فيها سر من
الأسرار التي لا تتحملها كل العقول.
وقد يعبر عنها في لغة الدين: بالقلب كما تقدم، أو بالروح. وفي
الفلسفة: بالنفس أو الذات، وهكذا يسميها علم النفس، لأنه وليد الفلسفة:
وهي عند الجميع: مقومة الحياة، ومصدر الكفايات، كالوجدان، والوعي،
والإدراك العقلي والحسي. وأما حقيقتها فمما تضاربت فيها الأفكار قديما
وحديثا، - ككل حقيقة غيبية لا يعلم علمها إلا الله). (1)



(1) كتاب الوجود.
73
ولابن أبي الحديد في هذا المعنى:
قد حار في النفس جميع الورى
والفكر فيها قد غدا ضائعا
وبرهن الكل على ما ادعوا
وليس برهانهم قاطعا
من جهل الصنعة عجزا فما
أجدره أن يجهل الصانعا
ونحن انسياقا مع الكلاميين والحكماء نضع خطوطا في تعريف هذه
الظاهرة الشائكة، وما وقع فيها من تضارب وخلاف، قبل أن ندخل في
صميم البحث، كي يتسنى لنا أن نتسلسل في البحث بشكل منهجي، ونضع
المباحث التي يهمنا ذكرها في هذا الدرس في مواضعها الطبيعية من غير أن يختل
منهج البحث، ومن دون أن يفوتنا جانب من الحديث فيما نتعرض له من
جوانب هذه الدراسة.
مصدر النفس
نقصد من هذه الكلمة أن ننظر إلى النفس من حيث مصدرها. أو بالأصح من
حيث هي نظرة إجمالية لا تبتني على الأقيسة ومقدماتها، بل على شئ أدل وأقوى منها
ومن الحواس والتجربة في أي شئ آخر. وذلك بإلقاء أسئلة تكمن في أعماق النفس،
ويتطلب الجواب عنها كل من يملك الاحساس والإدراك، وهذا طرف منها:
أين كانت الروح قبل اتصالها بالبدن؟ وإلى أين تذهب بعد
انحلاله؟ ومن الذي أعطاها له، ثم سلبها منه؟ وكيف حوت طاقات
جبارة تستوعب إدراك الكون، وترقى بها إلى أقصى الكواكب،
وتكتشف المجهول، وتتذكر الماضي، وتضع تصميم المستقبل؟ وكيف اتصلت
بالطبيعة وانفصلت عنها في آن واحد، إلى عشرات الأسئلة التي لا تجد لها.

74
جوابا ولا حلا، إذ لم يفترض وجود خالق مدبر لهذا الكون، قادر على
ما لا يقدر عليه أحد سواه، تماما كما تفترض وجود كاتب لرسالة أرسلها إليك
مجهول لا تعرف هويته، ولا شيئا عنه من قبل.
قال صدر المتألهين: (إن الله قد جمع في الإنسان قوى العالم، وأوجده
بعد وجود الأشياء التي جمعت فيه: (الذي أحسن كل شئ خلقه وبدأ خلق
الإنسان من طين) فلقد أوجد الله فيه بسائط العالم ومركباته وروحانيته
ومبدعاته ومكوناته، فالإنسان من حيث جمع فيه قوى العالم كالمختصر من
الكتاب الذي لفظه قليل ومعناه كاف واف، كالزبدة من المخيض، والدهن من
السمسم، والزيت من الزيتون.)
ونحن مع الماديين إذا استطاعوا أن يجيبوا عن هذه الأسئلة، أو عن
واحد منها جوابا صحيحا معقولا، دون أن يفترضوا وجود الله سبحانه، وكيف
يفترضون وجوده وهم يتوجسون خيفة لمجرد ذكره، لا لشئ إلا لأنه
اسم سحيق عريق في القدم يردده الإنسان مند وجد على ظهر هذه الكواكب،
وكفى بهذا مبررا للجحود والإنكار في منطقهم.
إن جميع الحلول والتفاسير لمصدر النفس والكون لا تزودنا بنظرية
صحيحة إذا لم نفترض وجود سبب أول ينبثق عنه كل موجود، ويرجع إليه
كل شئ، وحيثما وجد النقص والخلل في التفسير والتعليل لمصدر النفس يوجد
التمام والكمال في هذا السبب.
واحتار بعض الباحثين في أمر النفس وواقعها، ولم يدر ماذا يصنع،
فقد رأى إن أرجعها إلى المادة وحتميتها المحضة ازداد الأمر غموضا وتعقيدا،
وإن أرجعها إلى الله ناقض نفسه، لأنه لا يؤمن بغير المادة، على الرغم من
أنها لا تقدم الحلول، ولا تكتفي بذاتها، وأنها في حاجة إلى الحل والتفسير،.

75
فكان من نتيجة إلحاده أن تخبط في ظلمات الشك والحيرة.
وقال آخرون: (الخير في أن لا نفكر في نفوسنا إطلاقا تفاديا للاصطدامات).
أجل، ونحن مع هذا القائل لو أن نفوسنا هي غيرنا لا تتصل بنا من
قريب أو بعيد. وهذي حال من حاد عن الحق، يناقض نفسه بنفسه من
حيث لا يحس ولا يشعر. ولعل قائلا: إذا كان الحل لمشكلة الروح يحتم الإيمان
بوجود مبدأ أول مغاير للمادة، فلماذا - إذن - كل هذا التطويل والقال
والقيل؟.
الجواب:
إن التطويل أتى من الماديين الذين افترضوا عدم وجود الخالق سلفا
دون أن يقدموا دليلا، أو أثارة من علم، وقد رأينا لهم - في هذا العصر -
أشياعا وأتباعا، فاضطررنا إلى نقاشهم ورد شبهاتهم، وبيان ما في أقوالهم من
مفاسد وأخطاء.. وإن ردودنا على الماديين وإن تكن سلبية في ظاهرها فإنها
تؤلف في واقعها دليلا إيجابيا يوقفنا على الحقيقة، وينتقل بنا من المعلوم إلى
المجهول، لأن الاختلاف بيننا وبين الماديين يدور بين السلب والإيجاب، وبين
الوجود واللاوجود، فإذا أبطلنا قول الماديين ثبت قهرا القول الثاني، بناء
على بطلان التناقض الذي هو خير وسيلة لفصل الخصومات. إذن لا فرق بين
أن نتجه إلى مزاعم الماديين فنبطلها، أو نتجاهلهم بالمرة، ونثبت ما نقول
ابتداءا، لا فرق إلا في الخطة والأسلوب، هذا إلى ما ذكرنا من البراهين
الإيجابية على تجريد النفس وبقائها بعد فساد البدن.

76
علاقة النفس بالبدن
إن علاقة النفس بالجسم مسألة عسيرة الحل، ذلك أننا لا ندرك النفس
في ذاتها وحقيقتها، وإنما ندركها بظواهرها وأفعالها (قال أرسطو في كتاب
النفس): (إنها كمال أول لجسم طبيعي آلي) ويريد بالآلي أنه ذو أعضاء
وأن لكل عضو وظيفة تخصه، وهذا تعريف بالآثار، تماما كتعريف البيت
بأنه ملجئ يحمي من أضرار الرياح والأمطار، ويحجز بين أهله وأعين النظار.
بل قال جماعة من المفسرين وعلماء الكلام: إن النفس شئ استأثره
الله بعلمه، ولم يطلع عليه أحدا من خلقه حتى رسول الله (ص) وعليه لا
يجوز لأحد البحث عنها بأكثر من القول بأنها موجودة وكفى.
وقال صدر المتألهين في كتاب - الأسفار - (إن النفس لا تعرف بالحد،
لأن الحد مركب من الجنس والفصل، ولا جنس وفصل للنفس لأنها جوهر
بسيط ولكنه أنكر أشد الإنكار على من زعم أن علمها محجوب عن الرسول
الأعظم، لأن جهله بحقيقتها يتنافى مع منصب النبوة.
وقال في كتاب - المظاهر الآلهية - ما نصه بالحرف: (لا تظنن أن
النبي لم يكن عالما بالروح، وكيف يكون برهانا ومظهرا لجميع الصفات.
وقد توهم جماعة أن الله أبهم عليم الروح على الخلق، واستأثره لنفسه، حتى
قالوا لفرط جهلهم بمنصب النبوة: إن النبي لم يكن عالما به، جل منصب
حبيب الله أن يكون جاهلا بالروح، وقد من الله عليه بقوله: (وعلمك ما لم
تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) وقوله تعالى: (وما يعقلها إلا
العالمون).

77
وذهب القائلون بتجريد النفس وقيامها بذاتها إلى أن تعلقها بالبدن هو
تعلق التدبير والتصرف من غير أن تكون داخلة فيه دخول الجزء في الكل، ولا
حالة فيه حلول لماء في الإناء.
قال الشريف (الجرجاني): (1) (إن تعلق النفس بالبدن ليس تعلقا
ضعيفا يسهل زواله بأدنى سبب مع بقاء المتعلق بحاله، كتعلق الجسم بمكانه،
وإلا تمكنت النفس من مفارقة البدن بمجرد المشيئة من غير حاجة إلى أمر آخر
وليس أيضا تعلقا في غاية القوة، بحيث إذا زال التعلق بطل المتعلق، مثل
تعلق الأعراض والصور المادية بحالها، لما عرفت من أنها مجردة بذاتها،
غنية عما تحل فيه، بل هو تعلق متوسط بين بين، كتعلق الصانع بالآلات
التي يحتاج إليها في أفعاله المختلفة).
ويدلنا تشبيه النفس بالصانع، والجسم بآلاته، أن النفس هي المبدأ
والمصدر للأفعال الحيوية بشتى أنواعها، وأن الجسم ما هو إلا أداة ووسيلة
لفعل النفس وانفعالها، فهي التي تبصر الألوان، والعين واسطة، وهي التي
تشم الروائح، وتسمع الأصوات، وتخاف وتتألم، وتفرح وترجو وتكتب
وتخطب وتزرع وتتاجر، وتتعلم وتعلم وتخترع، وتحارب وتسالم، كل
أولئك وما إليها من فعل النفس. أما الجسم فوسيلة تماما كما يصنع النجار
الخزانة، أما المنشار فآلة، وكفى. ولو كانت العين تبصر بطبيعتها، والأذن
تسمع بذاتها، والأنف يشم، واليد تعمل بدون النفس لأدى كل عضو وظيفته
بعد مفارقة الروح للجسم، كما كان يؤديها قبل الموت.
ورب قائل: كما أن العين لا تبصر، والأذن لا تسمع والأنف لا يشم
بدون النفس، كذلك النفس لا تعرف الألوان والأصوات والروائح بدون



(1) الجزء السابع من شرح المواقف.
78
العين والأذن والأنف، ولذا قيل: (من فقد حسا فقد علما). إذن، القول بأن
النفس ترى بواسطة العين ليس بأولى من القول بأن العين ترى بواسطة النفس،
أو لا أقل من إسناد الاحساس إليهما معا، واعتبارهما جزأين لجوهر واحد،
يتحدان اتحاد الهيولى والصورة.
الجواب:
إن النفس هي التي تتصرف بالجسم وأعضائه، ولا عكس، فأنت بنفسك
إن شئت نظرت وشممت وسمعت ولمست وفعلت، وإن لم تشأ لم يكن من ذلك
شئ، فالسلطان للنفس على الأعضاء ولا سلطان للأعضاء على النفس بحال.
ومن هنا كانت هي الفاعل حقيقة، وكان الجسم آلة وأداة لا غير، تماما
كما هي الحال في النجار وآلاته، والفرق بينهما: أن تعلق النفس بالبدن
طبيعي ذاتي، وتعلق النجار بآلاته عرضي خارجي.
وبهذا يتبين معنا أن تعلق النفس بالبدن تعلق التدبير والتصرف من غير
أن تكون جزءا منها، أو يكونا جزأين لكل. أما القول الشائع من أن
الإنسان مركب من جسم وروح فلا يحمل على حقيقته، وإنما المراد منه أن
للانسان روحا قائمة بذاتها، وتعرف بآثارها، كما أن له جسما نعرفه
بالمشاهدة والعيان.
مع الماديين ثانية.
أشرنا في فصل (تجريد النفس) إلى قول الماديين، وذكرنا ما يرد
على قولهم من المحاذير، والأدلة التي تثبت وجود النفس وتجردها عن المادة
ونعود الآن لنستقبل آراءهم مرة ثانية، ونشير إلى ما فيها بتجرد ليكون
المشايعون لهم على بينة من أخطائهم وأوهامهم.
قال (هو بس وهيوم)، وغيرهما من أئمة الماديين وأقطابهم: (إن

79
الإدراك ينشأ من حركة ذرات الجسم). ومعنى هذا أن كل فكرة أيا كان
نوعها فهي وليدة تجمع الذرات وجذبها ودفعها، واستدلوا بأنه لو حصل مانع
من تجمع هذه الذرات وتركيبها وتفاعلها لذهب الفكر أو اضطرب، كالراديو
لا يلتقط الصوت إذا عطب، ووقع فيه أدنى خلل. وهذا الدليل هو العمدة،
وما عداه يرجع إليه، أو أضعف منه.
الجواب:
أولا أننا نتساءل لماذا تخطر للعالم أفكار نافعة دون الجاهل، مع أن
تفاعل الذرات متحقق في الدماغين؟! ثم لماذا يحتاج اكتشاف النظريات
إلى تفكير عميق، وانتباه حاد، وبراعة في التحليل، وانصراف عن كل شاغل
مع أن تجمع الذرات وتفاعلها، والجهاز العصبي هو هو لم يطرأ عليه شئ في
جميع الحالات، ولو كان هو الأصل للتفكير لما أحتاج الأمر، إلى ذلك، ولما
اختلفت حال عن حال؟!
وبعد هذا التساؤل نجيب بأن تأثير الأفكار والشعور على البدن أقوى
بكثير من تأثير البدن على الفكر، فلقد رأينا أن المجهود العقلي، والتفكير
المتواصل يضعف الأعضاء وتسوء معه الصحة.
قال الأطباء: إن العمل العقلي مع الجهد قد يؤدي إلى تعطيل الدفاع،
أو اضطرابه، وذلك بتوارد الدم إليه، ورأينا أن للحزن والخوف تأثيرا
كبيرا على البدن، كما أننا بالإرادة نكبح الكثير من غرائزنا، ونخضع
البدن إلى مقتضيات الكمال، ونضحي به في سبيل المبادئ والعقائد.
إن تدبير الفكر للبدن، وتحكم الإرادة به يدلان بوضوح على أصالة
الفكر، وأنه ليس فرعا عن البدن، لأن الفرع لا يسير الأصل ولا يتحكم به
أما العلاقة بين الظواهر الفكرية والحياة البدنية، فإن دلت على شئ، فإنما

80
تدل على أن الثانية شرط للأولى لا علة لها، لأن البدن يتأثر بالفكر كما
قدمنا -، ومعلوم أن العلة لا تتأثر بالمعلول، بل العكس هو الصحيح، ومن
هنا قال (ليبنترا): (إننا مضطرون للاقرار بأن الإدراك وما يتعلق به لا
يفسر بأسباب مادية).
وبالتالي لو قلنا: إن المادة أصل الظواهر الفكرية لصدق قول القائل
بأن علم النفس بلا نفس، وعلم الحياة بلا حياة.
النفس والموت
الموت حادث طبيعي لا بد منه ولا مفر عنه، ولا بقاء إلا لمن خلق الموت
والحياة، فهو وحده الحي الذي لا يموت، وإليه المصير، ولكن ما هو الموت
هل هو مفارقة النفس للبدن، وقطع العلاقة بينه وبينها، وانتقالها عنه مع
بقائها سالمة كاملة، أو أنها تفسد بفساده، وتنحل بانحلاله، ولا يبقى لها
بعد الموت عين ولا أثر تماما كما ينطفئ النور في المصباح.
وبديهة أن هذا التساؤل لا يهم الماديين في شئ، لأنهم ينكرون الروح
إطلاقا، بل أنكر (أبيقور) الموت بالمرة، حيث قال: (ما دمنا أحياء فلا
موت، وإذا متنا فلا حياة). وإنما يخص هذا التساؤل القائلين بتجرد النفس
مستقلة بحقيقتها وأفعالها كغيرها من الموجودات. والحق الذي نؤمن به
وندين أنها لا تموت بموت البدن، ولا تفسد بفساده، وإنما تتركه إلى عالم
آخر، ولكن من أين نتبين ذلك؟ هل نتبينه بالعقل والقياس المنطقي، أو
بالوحي من كتاب، أو سنة ثابتة؟.
وعلى افتراض أن الدليل المعتمد هو العقل، فهل يحكم العقل ببقاء

81
النفس ابتداء كما يحكم بثبوت الصانع، أو أن حكمه منوط بفكرة الثواب
والعقاب، أو الميل الغريزي إلى البقاء والخلود، ذهب إلى كل فريق، وإليك
أدلة الجميع:
قال الذين اعتمدوا الوحي: إن فساد البدن لا يوجب فساد النفس أما
تدبيرها له، وتصرفها فيه فلا يستدعي الملازمة بينهما نفيا ولا إثباتا، وعليه
فلا بد لإثبات البقاء من دليل، ولا دليل سوى نصوص الكتاب والسنة وإجماع
الأمة، وهي من الكثرة ما لا يبلغه الاحصاء، من ذلك قوله تعالى: (ولا
تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) وقوله
تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية). وجاء في
السيرة أن النبي (ص) نادى قتلى بدر من المشركين رجلا رجلا، وخاطبهم
قائلا: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا،
بئس القوم كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني
الناس وقاتلتموني ونصرني الناس. فقال له أصحابه: يا رسول الله أتنادي
قوما قد ماتوا؟! فقال: ما أنتم بأسمع منهم لما أقول، ولكنهم لا يستطيعون
الجواب).
أما الذين اعتبروا حكم العقل وثيق الصلة بفكرة الثواب والعقاب، أو
حب الخلود، فيتلخص دليلهم بما يلي:
1 - إن الله سبحانه قد أودع في طبيعة الإنسان محبة الوجود والخلود،
وكراهية العدم والفناء، وبديهة أنه لا بقاء في هذه الحياة فلا بد - إذن - من
حياة ثانية يتم فيها الخلود، ولو لم توجد هذه الحياة لكانت غريزة الميل إلى
البقاء عبثا والله منزه عن العبث.
ويلاحظ على هذا الدليل أن الخلود لا يتحقق لمجرد الرغبة فيه، وإلا

82
تحقق كل ما هو مراد محبوب، والحكمة من حب البقاء هي الاستمرار في
العمل، تماما كالحكمة من الأمل.
2 - قد رأينا ظالما لا تنتصف منه الطبيعة، والعدالة البشرية، ومطلوبا
يذهب حقه هدرا في هذه الحياة، إذن لا بد من حياة أخرى تقوم فيها العدالة
الآلهية.
وهذا الدليل يرجع في حقيقته إلى قدرة الله وعدالته تعالى:
وقال الفلاسفة الذين لا يربطون بقاء الروح بالجزاء ولا بالحب ولا بأية فكرة،
قالوا: (إن النفس بسيطة غير مركبة من أجزاء، كي تفسد بالانحلال، ولا هي عرض
قائم بغيره، كي تذهب بذهاب المحل الذي قامت فيه، وعرضت له، وإنما هي
الحياة بطبيعتها، وعليه فلا تكون قابلة للفساد بحال، وبكلمة أن النفس
ليست كما ولا كيفا، وإنما هي جوهر بسيط قائم بذاته، وما كان كذلك لا
يقبل الفساد والانحلال إطلاقا، فهي إذن خالدة.
ويعتمد هذا الدليل على منطق العقل، والتأمل النظري، وعليه فلا يكون
الإيمان بخلود النفس إيمانا دينيا، بل يقينا فلسفيا يقره الدين ويباركه.
ومما استدل به صدر المتألهين في كتاب (المبدأ والمعاد) على أن النفس
لا تموت بموت البدن إنه لا تعلق ذاتي بينهما، ولا ارتباط عقلي، بل معية
ومصاحبة ليس إلا، لأن أحدهما ليس بعلة حقيقية للآخر، ولا هما معلولان
لعلة ثالثة فلا يوجب فساد أحدهما فساد الآخر. ثم قال: (ومما يدل على
بقاء النفس بعد فساد البدن اتفاق أصحاب الشرايع والملل على ذلك، إذ ما
من ملة إلا وفيها وعد ووعيد أخرويان في الأفعال والأعمال الحسنة والقبيحة،
وأيضا يدل على فعل الأنبياء (ع) وخلفائهم، ومن يرى مثل رأيهم من
الفلاسفة والبراهمة، لأنهم يتهاونون بأمر الأجساد، ويرون أن هذه الأبدان المظلمة

83
الكثيفة هي حبس للنفوس، أو حجاب لها، وأنها بمنزلة البيضة للفرخ وبيت
الرحم للجنين).
أيضا مع الماديين:
نعود إلى الماديين في كل مناسبة، ونكرر أقوالهم، وما فيها من أخطاء
في كل فصل من الفصول أو في أكثر الفصول، لأنهم الهدف الأول والأخير
لتأليف هذا البحث.
قالوا: إن الإنسان مادة بلا روح، وإن القوانين الطبيعية لا تتحكم به
تماما كما تتحكم بالمادة الجامدة.. وأن ما فيه من ظواهر الحزن والفرح
والخوف والرجاء، وما إلى ذلك إن هي إلا لتأثره بالظروف والبيئة المحيطة به
ونجيب: لماذا استعد الإنسان وتقبل هذه الظواهر وتفاعل مع الظروف
والبيئة دون غيره، أو استعد لها أكثر من بقية الكائنات، مع أنه لا فرق
بينه وبينها في شئ؟!
قال (بسكال): (إن خلايا النحل لم تكن أقل ضبطا، أو أدنى دقة
منذ آلاف السنين عما هي عليه الآن). أما الإنسان فقد دخل في ألف طور
وطور، ألا يدل هذا على أن فيه معنى وراء المادة، ووراء الحيوانية؟!
ونحن لا ننكر أبدا أن الإنسان جزء من الطبيعة بوصفه جسما، ولكنا
نقول: إنه فوق الطبيعة بوصفه عقلا، يتحكم بها وبقوانينها، ويستوعب كل
شئ ولا يستوعبه شئ سوى خالقه. ولذا قال أمير المؤمنين علي عليه السلام:
(الإنسان يشارك السبع الشداد) وقال غيره: (الإنسان مركز الكون).
وغريبة الغرائب أن يقول الماديون: إن الكون بأرضه وسمائه وجميع
أشيائه ملك للانسان يتصرف فيه ما يشاء، ويضفون عليه جميع الصفات الآلهية
حتى قال إمام من أئمتهم وهو (فوربايخ): (إن إله الإنسان هو الإنسان

84
قالوا هذا وفي الوقت نفسه زعموا أن الإنسان جسم بلا روح، وأنه تراب يتحرك، تماما
كالهوام والحشرات!!.. أما العلم والإرادة والحرية، أما التضحية والإنسانية
العبقرية، أما الإبداع والابتكار، أما حب الحق والخير والجمال فكلام فارغ..
ونحن لا نجانب الصواب إذا قلنا هذا الكلام فارغ، تماما كأدمغة
الجاحدين.. ثم نسأل الماديين: هل أنكرتم الروح بوصفكم أرواحا أو
بوصفكم أشباحا؟ فإن قالوا: بالأول ناقضوا أنفسهم بأنفسهم، وإن قالوا
بالثاني أعدنا السؤال: هل تشك بالأشباح وتنكر؟!.
وصدق الله العظيم، حيث وصف المنافقين بقوله: (وإذا رأيتهم تعجبك
أجسامهم وإن يقولوا تسمع كأنهم خشب مسندة).
وأيضا هل يوجد كائن غير الإنسان يتفلسف، ويتخذ نفسه بنفسه محلا للبحث
والدرس والنزاع والصراع في أنه مادة بلا روح، أو روح بلا مادة، أو هما معا، أو
هو شئ لا تعرف حقيقته؟! (الأول قول الماديين، والثاني قول المثاليين،
والثالث قول العارفين، والرابع قول اللاأدريين).
ثم لماذا يغضب الماديون إذا شبهوا بالحيوانات ما داموا لا يمتازون عنها
إلا في الشكل والهيئة؟! ولماذا يحاولون تبرير أقوالهم بمنطق العقل مع أنه
لا وجود للعقل بزعمهم؟! وبماذا يميزون بين الصدق والكذب، والحق والباطل
والعلم والجهل، ما داموا أشباحا بلا أرواح، وأجساما بلا عقول؟! قال
العلماء: إن الحيوان يعيش في اللحظة التي هو فيها، ولا ينظر إلى المستقبل
ولا يتأثر في سلوكه بأصداء الماضي.
وقال الماديون: إن الإنسان كالحيوان، ولا فرق بينهما إلا أن هذا يمشي
على أربع، وذاك على رجلين. كلا، ثم كلا، إن الإنسان يعلو على
الحيوان، ويسخره لصالحه بدليل أنه يحتج بالمنطق السليم على من ساوى بين

85
الاثنين، أما الحيوان فلا علم لديه ولا هدى ولا كتاب منير). (1)
هل حدوث الروح قبل الجسد
أنكر فريق من الحكماء والمتكلمين حدوث الروح قبل الجسد، زاعمين
أن حدوثها مع حدوث الأجساد. وسيمر عليك تصحيحه من طريقي العقل
والسماع الديني.
قال العلامة الشيخ (محمد جواد الجزائري (ره) (هذا شروع في تصحيح
مسألة وجود الأرواح قبل الأبدان من طريق النظر والقياس.
وقد صححناها من طريق الأصل الشهير بين الحكماء بقاعدة إمكان
الأشرف المبني على أساس امتناع صدور الكثرة عن الواحد، ومفاده أن الممكن
الأشرف يجب أن يكون أقدم في مراتب الوجود من الممكن الأخس، وأنه إذا
وجد الممكن الأخس فلا بد أن يكون الممكن الأشرف منه قد وجد قبله.
ومن الواضح انطباق ذلك على مسألتنا، لأن نشأة النفس الناطقة قبل
البدن وفي مطاوي الغيب أقدم صدورا من المبدأ الأول وأقرب إليه من نشأتها
الطبيعية، وأبعد عن المادة العنصرية ونقائصها وقصوراتها، فهي أشرف وأقوى
وجودا. ولما كانت ممكنة (لما عرفت) وجب حصولها قبل الأخص، وإن شئت
قلت النفس الكاملة في التجرد أشرف ذاتا وأقوى وجودا من النفس المجردة
المتعلقة بالبدن، لأنها أبعد عن نقائص المادة وقصوراتها وأقدم صدورا من
المبدأ الأول. فإذا وجدت الثانية وقد أمكنت الأولى وجب حصولها قبلها.
وحاصل ما ذكره الحكماء من البرهان على هذا الأصل مع زيادة



(1) فلسفة المبدأ والمعاد
86
إيضاح: أنه لو وجد الأخس ولم يوجد الممكن الأشرف قبله، تمحل الأمر
ولزم إما خلاف المقدر أو جواز صدور الكثير عن الواحد أو الأشرف عن الأخس
أو وجود جهة أشرف مما عليه المبدأ الأول، لأن وجود الأخس إن كان بواسطة
لزم الأول، للزوم كون العلة أشرف من المعلول وأقوى، وإن كان بغير واسطة
وجاز صدور الأشرف عن المبدأ الأول لزم الثاني، لامتناع صدوره بواسطة
الأخس لما تقدم، - وإن جاز عن معلوله لزم الثالث لانحصار الواسطة في
الأخس - وإن لم يجز صدوره عنهما لزم الرابع لفرض إمكانه، والممكن لا
يلزم من فرض تحققه محال، وإلا لم يكن ممكنا وهو خلاف الفرض.
فإذا فرض وجوده وليس بصادر فرضا عن المبدأ الأول، ولا عن معلولاته
استدعى ذلك الوجود جهة مقتضية له أشرف مما عليه المبدأ الأول، حتى يكون
عدم وجوده لعدم علته، وإذا بطل التالي وامتنع سوقه على أقسامه بطل المقدم
ولزم صدق الشرطية المذكورة المفيدة لقاعدة إمكان الأشرف.
ولا يلتبس عليك الأمر إذا لاح لك في كتب الفلسفة، الفصل المعقود
لتحقيق حدوث النفوس البشرية، أو رأيت من الشفا (للشيخ الرئيس) قوله:
(إن النفس الإنسانية لم تكن قائمة مفارقة للأبدان، ثم حصلت في البدن)
وقوله فيها أيضا: (فقد صح إذا أن الأنفس تحدث كما تحدث مادة
بدنية صالحة لاستعمالها إياها). فإن موضوع قضيتهم النفوس الناطقة المتعينة
بهذه التعينات الجزئية، التي بها تلمس وتشم وتسمع، ولا شك في حدوثها
بحدوث البدن.
وموضوع مسألتنا النفوس المتشخصة بنحو آخر من الوجود، لما تقدم
لك من أن للنفس الناطقة مع بساطتها نشآت جوهرية متفاوتة وأنحاء من الكون
بين سابق ولاحق، وليس لها كون محدود الهوية. واستعداد البدن شرط للنحو

87
السافل من وجوداتها وليس شرطا لكمال هويتها وتمام وجودها، وإلا لزالت
بزواله واللازم باطل، لما سيمر عليك من البراهين العقلية والآيات الكريمة
والأحاديث المأثورة الدالة على وجودها بعد البدن.
وحري بمن أذعن بإبقاء النفوس الناطقة المتصرفة بالبدن واتصالها بالعالم
الأعلى على ما هي عليه من دون تجدد وإيجاد، أن يذعن بمسألتنا، لأن حال
الإعادة كحال الابتداء في صعوبة الدرك وسهولته، فإذا صح أحدهما صح الآخر
ويمكن الإشارة إلى هذه المقايسة بقوله تعالى: (كما بدأنا أول خلق
نعيده) وقوله تعالى: (كما بدأناكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم
الضلالة) وقوله: (هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده).
ومن تتبع الكتب الأساسية لسير الحكمة يجدها مشبعة بما ذكرناه من أن
للنفس الناطقة كينونة قبل البدن ووجودا في العالم الأعلى وهبوطا منه إلى عالم
الطبيعة. ويمكن الإشارة إلى ذلك بقوله تعالى: (إهبطوا بعضكم لبعض
عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين). وبالأحاديث النبوية منها
قوله (ص): (كنت نبيا وآدم بين الماء والطين) وقوله: (نحن السابقون
اللاحقون) وقوله: (إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام).
ويقول سيد الوصيين علي بن أبي طالب (ع): (رحم الله امرأ عرف من أين
وفي أين وإلى أين) فإن قوله: (من أين) إشارة إلى حال النفس قبل عالم
الجسم. والأحاديث الواردة في ذلك عن أئمتنا المعصومين كثيرة.
قال صاحب (الأنوار النعمانية): (الأخبار الدالة على أن الروح
مخلوقة قبل البدن بألفي عام أو أكثر على ما وردت به الأخبار، مستفيضة بل
متواترة حتى لا يبقى الريب في تقدمها). وعلى ذلك ينزل قول الشيخ الرئيس
في قصيدته الشهيرة:

88
نزلت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تعزز وتمنع) (1)
* * *
(من عرف نفسه فقد عرف ربه)
قال صاحبي وهو يتحدث إلي: (إن أصحاب الإمام السجاد علي بن
الحسين، أو الإمام محمد بن علي (عليهما السلام) سألوه: أليس الله يقول:
يا عبادي ادعوني أستجب لكم. قال: صدق الله العظيم بل هو قائل ذلك. قالوا
فما بالنا ندعوه ليل نهار فلا يستجيب لنا؟؟ قال: لأنكم تدعون من لا تعرفون
قالوا: وكيف نعرفه. قال: إعرفوا نفوسكم تعرفوه ثم ادعوه يستجب لكم
قالوا: وكيف نعرف نفوسنا. قال: فكروا في أعينكم كيف تبصر؟
وفي آذانكم كيف تسمع؟ ثم في قلوبكم كيف تفكر؟؟ فإذا عرفتم ذلك
شعرتم بعظمة الله في نفوسكم فدعوتموه فاستجاب لكم).
وينقل علماء الطب: أن المجهر الحديث كشف للعين، أن تلافيف
الدماغ تشتمل على أربعة ملايين سلك من العصب، ويقولون: لا يبعد أن
تتضاعف هذه الأسلاك بتعزيز المجهر، لأن العلم لم يقف في صناعة المكبرات من
مجاهر ومراصد عند حد، ففي كل جبل نرى هذه الآلات تتعزز فتأتينا بجديد
مما لم نشعر به لولا تعزيزها.
ويقول بعض آخر من علماء التشريح في الطب: إن العلم لم يثبت فرقا
بين أذني السميع والأصم، ولا بين لساني الناطق والأبكم من حيث الظاهر،
ذلك مما يدل على أن وراء ما تحس العين بالمجهر من عصبيهما المتصل بجمهور



(1) حل الطلاسم.
89
الأعصاب في الدماغ المسيطر على الحواس، اختلالا في عصب لم تتبينه مجاهر
الطب الحديث، ولو كان عصب التلافيف محدودا بالملايين الأربعة التي نتبينها
بالمجهر لسهل الوقوف على الخلل الذي ينشأ منه الصم والبكم، على أن البعض
يحقق أن في ألمانيا مصحات لمجموعة الرأس يطمئن الطب إلى التشريح فيها،
ثم إلى تبين العلل القائمة في خرس الألسن وصم الأذن.
* * *
ومعجزة العين أن جوها الواصل بين الروح وبين مرئيات الوجود، هذا
الجوهر هو عبارة عن شبكة من العروق الدقيقة تتصل تعصب الدماغ، ثم يتصل
بها إنسان العين المسمى بالجؤجؤ: وهو كرة صغيرة الحجم قائمة في حدقة لا
يمسكها إلا محجر يفرز ماءا لزجا تندى به تلك الكرة ما دامت تعمل على
التقاط الصور المرئية التي تتكسر عليها أشعة الشمس، ثم نرى هذه الكرة مغلفة
بغشاء شفاف يسمى قرنية ترسم عليها تلك الصور فهي من الجؤجؤ بمنزلة
اللوحة الحساسة من عدسة الفنان، فما هي تلك الشبكة؟ وما هو هذا الجؤجؤ
وما هي هذه القرنية؟ ثم ما هو ذلك الماء الذي تفرزه عروق المحجر فتؤهل
القرنية لالتقاط هذه الصور؟؟
إن الطب ليدهش من عظمة المواد الكيمياوية التي يتركب منها ذلك الماء
المحدق بتلك الكرة، ويدهش أكثر لقوة هذا الماء على صقل ذلك الغلاف
الشفاف المسمى بالقرنية. ثم يدهش الطب أكثر عندما يحار في قوة ذلك الماء
لدى استحالته إلى دموع وقدرته على تضميد جراح القرنية إذ يخدشها عرض من
خارج أو يقرحها تأثر من داخل، ويكاد يكون هذا الماء أقوى علاج لصقل
تلك اللوحة الحساسة وإعطائها مناعة لا يتوفر عليها تواطؤ الملايين من أطباء
العالم في ملايين من عصور الإنسان. فمن أين ينبع هذا الماء؟؟ وما هي

90
المواد التي يتركب منها؟؟ ثم من هو الطبيب المشرف على ذلك التركيب
الكيمياوي العجيب؟؟؟
أما معجزة المعجزات في هذا الكائن الأعجب الذي نطلق عليه لفظ الإنسان
وهو مجهول لدينا بكل ما يتقوم به، ثم نزعم تحليله وتعليله، أما هذه المعجزة
فهي دماغه وقلبه.
هذا القلب الذي يتولى توزيع الدم بعد تنقيته، على كل خلية يتقوم بها
كل عضو، وعلى كل ذرة تتألف منها كل خلية. ثم نرى إذ نحكم التشريح
عجبا في الوسائل التي تنقي هذا الدم بين الكبد والقلب، وتحول دون تسرب
الفاسد منه إلى النزيه، وانكفاء النزيه إلى الفاسد
وهذا الدماغ الجبار الذي يقوم في تفكيره على حرارة ذلك الدم الصاعد
إليه من تلك الجوارح، والذي يتقوم بأسلاك عصبية دقيقة أكثرها لا يقع تحت
مجهر العين، وقد أنهاها بعض علماء التشريح إلى أربعة ملايين سلك، كلها
يعمل على التقاط الأفكار من عالم الروح، كما تلتقط أسلاك الواحي (الراديو)
ألفاظ المذيع من عالم الأثير؟
إن بين دماغ الإنسان وبين جهاز الواحي لشبها دقيقا يكاد يكون عبرة لمن
يؤت حظا من سعة التفكير في خلق الإنسان، فالواحي جهاز يتقوم بأسلاك
دقيقة من الصلب تلتقط الصوت مما يتصل بتيار الجاذبية العام المسمى بالكهرباء
وهو التيار المحيط بكل جرم كوني متحرك، والدماغ جهاز يتقوم بأسلاك
دقيقة من العصب المرهف تلتقط الأفكار مما يتصل بتيار الروح المهيمن على الكون
فكلما دقت وانتظمت أسلاك الواحي كان أقوى على أداء رسالته التي هي التقاط
الصوت ولفظه، وكلما دقت وانتظمت أعصاب الدماغ كان أقوى على أداء
رسالته التي هي اقتباس الفكر ولفظه. وكما أن حرارة الكهرباء شرط أول في

91
أداء رسالة الواحي، كذلك نجد أن حرارة الدم شرط أول في أداء رسالة الدماغ
وهكذا نجد الشبه جليا بين المهيمن على الواحي - وهو الإنسان - وبين المهيمن
على الدماغ وهو العقل.
قرأت وشيكا في الصحف أن مرصدا فلكيا في شمال أمريكا بدأ منذ أيام
يتلقى إشارات لا سلكية متزنة من كوكب الزهرة في عدة مناسبات. وقد
عكف الراصدون على تبين هذه الحركات الصوتية واكتناه جوهرها ثم قياسها
على أصواتنا.
وقرأت قبل أشهر أن بعض علماء الموسيقى يعملون على التقاط الموسيقى
الكونية الناشئة عن تموجات الأثير، لما قر في أذهان الألباء من قادة الفكر
الحديث والقديم، من أن كل حركة طبيعية تتصل بعظمة الكون القائم على
نظام أزلي، يصدر عنها من فنون الموسيقى ما لا عهد لأرباب الفنون بالتحسس
منه.
والموسيقى الأثيرية ليست وقفا على السمع فقط وإنما تتجاوزها إلى العين
والفكر فهي نظام عام يستهوي السمع بصوته، والعين بشكله، والفكر بإيحائه
فإذا سال كان لحنا، باعثا في السمع حنينه إلى مصدره الأزلي، وإذا جمد كان
شكلا كاشفا للعين أن تبصر من وراء طبعها النور الذي صدرت عنه، ثم إذا لطف
شف للعقل عما يتقوم به الكون من أسرار تلهمه أن كل ذرة في الكون تقوم على
الموسيقى فيما نسمع ونرى ونفكر.
ويقول أحد أساتذة العلوم الكونية في جامعة برلين. وقد ترجم قوله
هذا (الدكتور أحمد زكي المصري) في مجلة الرسالة، يقول ما مضمونه: (إن
عجائب ما يتقوم به الأثير المسمى بالفضاء أو الهواء، لا تقف عند اكتشاف
الكهرباء من تجاذب الأجرام السابحة فيه، وإنما تتجاوزه إلى أعجب من

92
ذلك، وهو أن التيار الكهربائي العام يتقوم بتيار روحي يهيمن عليه في صميم
الأثير، وهو مصدر التفكير والإلهامات، فإذا كان التيار الكهربائي مصدر هذه
العجائب التي هي بين سمعنا وبصرنا، فمصدر أي العجائب سيكون التيار
الروحي في مستقبل عقل الإنسان، يوم يتحكم به كما يتحكم اليوم بتيار
الكهرباء؟؟ ثم يختم هذا وهو يملي على تلاميذه بقوله: إذن صدقوا يا أبنائي
ما يرويه لنا تاريخ الأديان من أن الأنبياء والرسل كانوا يمشون على الماء
ويصعدون في الهواء).
ويقول (أنشتين): - صاحب نظرية النسبية -: (لا يدخل في روع
من يفكر أن الفضاء لا شئ، فمما لا ريب فيه أن هذا الخلاء ممتلئ صلب
ولعله أصلب من الفولاذ).
فليعجب الإنسان لعظمة القوة في نفسه التي يخترق بها هذا الفضاء
الصلب عن طريق العين والفم والقلب بنظرته ونبراته وتفكيره، وليعجب أكثر
من أن صلابة هذا الأثير قائمة على ما يختزنه في صميمه من قوة الفكر والصوت
والنظر الحائر فيه من كلى الروح المنبث في جزئيات هذا الكائن الإنساني الذي
يعمر الكون.
من هذا كله نصل إلى عظمة قول الله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق
وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق). (1)
يكفي هذا العرض الموجز من مبحث النفس الخارج عن مقدورنا وأفق
تفكيرنا، إذ هو أمر عجيب رباني تعجز العقول والأفهام عن إدراك كنهه.
فإذا كانت النفس بهذا السمو والرفعة، وقد خصها الله تعالى - تشريفا
لها - بالخطاب بقوله: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية



(1) دين وتمدين.
93
مرضية) كان الجدير أن تعصم من الرذائل المزرية بها.
ولعل العجب يأخذك إذا قلت لك إن الإنسان يظلم نفسه أكثر مما يظلم
غيره، لأن كل إنسان يحس ويحسب أن نفسه أحب إليه من غيره، ولا أرى
أحدا يقر بأنه عدو نفسه، لكنك إذا تدبرت هذا الأمر قليلا تبينت لك حقيقته
من أبرز مواطن الضعف التي فطر عليها الإنسان أنه إذا غلبته شهوة من
الشهوات انقاد لها كل الانقياد، لا يبالي بما يصاب لأجلها من الضرر في نفسه
سواء أكان يشعر بذلك أو لا يشعر.
ترى رجلا قد افتتن بالسكر يعمى في سبيله ويتحمل لأجله المضرات
الفادحة في صحته ونفسه وماله وعرضه. وترى رجلا غيره قد أولع بلذة الطعام
يأكل كل ما يجد من نافع أو غير نافع، ويعرض نفسه للهلاك في سبيله. وترى
رجلا ثالثا صار عبدا لشهواته النفسية، يأتي بأعمال تجره إلى الهلاك جرا.
وترى رجلا رابعا قد أهمته نجاة نفسه، فانقطع إلى تزكيتها وترقيتها يناصب
نفسه العداء، ويريد أن يدرس كل ما تتطلع إليه من اللذائذ والشهوات ويأبى
أن يحقق حاجاتها، ويجتنب الزواج، ويأنف الأكل والشراب، ويجانف
اللباس ويبغضه، حتى أنه لا يكاد يرضى بالتنفس في هذه الدنيا المليئة بالمآثم
في نظره، فيأوي إلى الغابات والكهوف، ويظن أن هذه الدنيا ما بنيت له.
هذه أمثلة قليلة لتطرف الإنسان في هذه الدنيا، وإلا ففي حياته صور
عديدة لهذا التطرف نشاهدها بين كل آونة وأخرى.
وبما أن الشريعة الإسلامية تريد فلاح الإنسان وسعادته، فهي تنبهه إلى
الحقيقة الثابتة. وتنبهه بأن للنفس حقا كما جاء في قول الإمام عليه السلام: (إن
لنفسك عليك حقا). فهي تمنعه عن كل شئ يضره، كالخمر والحشيش
والأفيون وغيرها من الأشياء المسكرة. وعن الميتة والدم ولحم الخنزير وغيره

94
من الوحوش الضارية والحيوانات النجسة. فإن لهذه الأشياء كلها تأثيرا سيئا في
صحة الإنسان وأخلاقه وقواه العقلية والروحية. وتحل له بدلا منها الأشياء
المفيدة الطيبة، وتقول له لا تحرم نفسك من التمتع بها فإن لجسدك عليك حقا
وهي تنهاه عن العري، وتأمره أن يتمتع بما قد أنزل الله له من الزينة في هذه
الدنيا، ويستر من جسده الأعضاء التي يعد من الوقاحة الكشف عنها.
وهي تأمره بالجد في كسب الرزق، وتقول له لا تقبع في بيتك عاطلا،
ولا تمدن يدك إلى الناس مستجديا جدواهم، ولا تلفظ نفسك جوعا، واستخدم
ما قد أنعم الله عليك من القوى، واسع بالطرق المشروعة لنيل ما قد خلق الله
في الأرض والسماء من الوسائل والأسباب لراحتك وتربيتك.
وهي تمنعه عن تذليل النفس وحرمانها من رغد العيش ومتعة الحياة،
وتقول له: إنك إن كنت تريد الرقي الروحاني والتقرب إلى الله والنجاة في
الآخرة، فلا حاجة لك ولا داعي إلى ترك الدنيا فإن ذكر الله تعالى في هذه
الدنيا، مع التمتع بلذاتها ومنافعها، واجتناب معصيته، واتباع قانونه
وشريعته، لهو أكبر وسيلة وأنجعها إلى الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.
وهي تحرم عليه الانتحار، وتقول له: إن هذه النفس التي قد أوتيتها
إن هي إلا ملك لله، قد أودعها أمانة عندك، لتستخدمها إلى أجل مسمى، وما
أوتيتها لتعبث بها وتقضي عليها بيدك.
ومن أحسن ما قرأت للمرحوم العلامة الجليل الشيخ محمد جواد الجزائري
قوله في النفس:
روح النفس فهي ضيف بمغناك
مقيم وسوف ينوي الرحيلا
فتوسم لها الفضائل في المغنى
وإياك أن تصيب الفضولا
وأرحها بفعلك الخير واضع
في مجاري الطباع صنعا جميلا

95
وارعها صاغرا لديها وعظمها
مقاما ووفها تبجيلا
وإذا لم تصن كرامة هذا الضيف
كنت المذمم المخذولا
إعطه حقه فما كل ضيف
يطلب الحق يقبل التعليلا
فهي إشراق عالم النور
والإشراق يأبى بطبعه أن يحولا
بيد أن الاشراق أرخت عليه
ظلمات من الطباع سدولا
فتوارى بحجبها فتراءى
وهو ذاك النور اللباب ضئيلا
فأردها نورا على النور بالعلم
وبالغ واجهد به تحصيلا
ليس من عانق الطباع عليما
مثل من عانق الطباع جهولا

96
حق اللسان

97
قوله عليه السلام: (وأما حق اللسان: فإكرامه عن الخنا، وتعويده الخير
وترك الفضول التي لا فائدة لها، والبر بالناس وحسن القول
فيهم، وحله بالآداب، وإجمامه إلا لموضع الحاجة والمنفعة
للدين والدنيا، وإعفائه من الفضول القليلة الفائدة التي لا يؤمن
ضررها مع قلة عائدتها، وبعد شاهد العقل والدليل عليه،
وتزيين العاقل بعقله حسن سيرته في لسانه. ولا حول ولا
قوة إلا بالله).
* * *
حدثتك في الدرس المتقدم عن النفس وماهيتها، والآن سأحدثك عن
اللسان والشفتين وما فيهما من حكمة وإتقان، ونظام واتزان.
سأتحدث معك عن هاتين العضيلتين المضيغتين اللتين ذكرهما الله في القرآن
ليدلنا على القدرة والحكمة.
(إحفظ لسانك وإياك أن تستخف بهذا الرائع الأروع، الصامع
الأصمع، ذي الوزارات الأربع، الذي إن حفظته سلمك، وإن سيبته سلمك،
وإن استطعمته أطعمك، وإن كلمته كلمك، وإن سألته علمك، من قبل أن
تعرف أسرار الحكمة في تنويع وظائفه وأعماله، وتصريف حروفه وأقواله وتعدد
حليماته، واختلاف حركاته بين شفتيه ولهاته، وتمييز أعصابه وتوفير لعابه

99
وتيسير تلعابه...؟
ولعلك تستغرب من قولي ذو الوزارات الأربع، وتقول: ما كنت
أحسب أن هذه العضيلة البسيطة لها كل هذا الشأن فما معنى أن اللسان ذو
الوزارات الأربع؟
فليكن معلوم لديك أن كل عضو من أعضاء الحس له وظيفة واحدة إلا
هذا اللسان، فالعين للبصر، والأذن للسمع، والأنف للشم، والأنامل
أشد جوانب الجلد إحساسا باللمس. أما هذا اللسان فقد شاءت له المصادفات
أن يكون آلة للذوق، وآلة للمضغ والبلع والهضم، وآلة للحس واللمس،
وآلة للتكلم...
فمن أجل أن يكون آلة للذوق شاءت المصادفة أن يفرش سطحه وجانباه
بحليمات تمتص الطعوم وتؤديها إلى الأعصاب المنتشرة في باطنها...
وشاءت المصادفة أن يكون صنفان من هذه الحليمات للذوق خاصة دون
اللمس كي لا يختلطا فيتعطل عمل أحدهما عند فقد الآخر، فقد يفقد الحس
العام عند الإنسان وتدوم له حاسة الذوق، أو يفقد الذوق ويدوم له الحس العام
ومن أجل أن الحليمات لا تمتص الطعوم إلا إذا كانت ذائبة محلولة، وإلا إذا
كان اللسان رطبا، شاءت المصادفة أن يزود اللسان بغشاء مخاطي فيه أجربة
وغدد تفرز المخاط، وأن يزود تحته بغدة تفرز اللعاب فوق ما تفرزه الغدد
اللعابية الأخرى، ولولا ذلك ما استطاع اللسان أن يتذوق الطعوم، وما كان
يحدث له سوى الاحساس بمس الطعام، كما تعرف ذلك من نفسك إذا كان
لسانك جافا من الزكام مثلا فإنه لا يتذوق الطعوم ولو كانت مذابة.
ومن أجل أن الطعوم مختلفة المذاق ولها في تلاقيها تألف وتنافر على نسب
معينة، كتآلف الألوان والأصوات وتنافرها، فقد شاءت المصادفة أن تختلف

100
الحليمات الذواقة بعضها عن بعض، شيئا قليلا في تذوقها وفي قدرتها على الاحتفاظ
بطعم بعض المواد حتى بعد زوالها، وعلى هذا يقوم الطهاة المهرة في خلط الأطعمة
ومزجها.
ومن أجل أن اللسان مفتقر بحكم مركزه ووظائفه إلى أن يكون
حساسا قوي الاحساس ليلوك اللقمة ويدور بها من حنك إلى حنك، ومن سن
إلى ضرس، ويستقصي أصغر أجزائها في مطاوي الفم وثنايا الأضراس، ويتقي
بإحساسه المرهف كل ما يدخل الفم من المؤذيات من كاو ومحرق ولاذع وشائك
وجارح، شاءت المصادفة أن تكون له حليمات للحس واللمس خاصة. كما
سبق القول، وأن تكون هذه الحليمات (الخيطية) مرهفة جدا في رأس اللسان
وجانبيه لا يساويها في دقة الاحساس إلا طرف البنصر.
ومن أجل أن اللسان آلة للمضغ والبلع فقد شاءت المصادفة أن تكون
هذه العضيلة قوية، نشيطة، لعوبا، تلعابة، لعابية مخاطية، ولولا
ذلك ما تم مضغ ولا بلع. فاللسان هو الذي يلاعب اللقمة ويلوكها ويعجنها
عجنا باللعاب، حتى إذا اكتمل مضغها وأصبحت صالحة للبلع لفها بمخاطه،
وضغطها بين سطحه وسقف الحلق، ودفعها بقوته وزلقها حتى تعبر قوس (اللهاة)
فيكون البلع بعد ذلك بغير إرادة الآكل.
ومن أجل أن اللسان آلة للهضم فقد شاءت المصادفة أن يكون هضم
الأطعمة مختلفا مكانه باختلاف عناصرها: فمنها ما يهضم في المعدة، ومنها
ما يهضم في الأمعاء، ولكن شيئا واحدا منها وهو النشاء، لا يهضم في المعدة،
بل أن عصارات المعدة تعيق هضمه وتبطل تحويله، ولذلك شاءت المصادفة أن
يكون الوسط الوحيد الصالح لتحويل النشائيات إلى سكر وهضمها هو اللعاب
ولولا هذا اللسان التلعاب الذي يمزج اللعاب باللقمة ويعجنها، لما تم هضم

101
النشاء، وهو من أهم عناصر الغذاء.
ومن أجل أن اللسان آلة للتكلم، ومن أجل أن الأصوات تخرج من
الحنجرة كما تعلم، ومن أجل أن الحنجرة لا تستطيع توليد الحروف كلها،
بل يقتصر عملها على توليد الحروف الصوتية (المعروفة بحروف العلة) دون
الحروف الأخرى (المعروفة بحروف الصحة) التي لا بد لتوليدها من تقطيع
مجرى الهوى الذي يحمل الصوت من الحنجرة، فقد شاءت المصادفة أن يخلق
هذا اللسان مع الشفتين ليكون وسيلة لتقطيع الهواء وإخراج حروف الصحة،
ولولا ذلك ما كان لنا كلام فصيح، بل كنا نكون كالحيوانات نطلق أصواتا
نمدها مدا، فلا نحس إلا عواء ونعيقا، أو صفيرا ونقيقا، أو صهيلا ونهيقا.
فما أعجبها هذه المصادفات التي كثرت وتوالت وتلاقت، وتلاءمت وتوافقت
حتى كونت لنا هذا اللسان العجيب. حقا أن اللسان عضو عجيب،
ولكن ماذا في الشفتين سوى أنهما تساعدان على لفظ بعض الحروف.
أكان يرضيك أن تخلق بلا شفتين مكشرا فاغرا، يسيل لعابك ويدخل
الغبار إلى صدرك، والذباب إلى لهاتك...؟ ألا تشكر المصادفة التي خلقت
هذا الإنسان (في أحسن تقويم) فجعلت له من الشفتين زينة لوجهه، وسترا
لفمه، وحاجزا للعابه، ومانعا من دخول الغبار إلى رئاته، والذباب إلى
لهاته، ليتنفس من حيث ينفع التنفس بأنفه وخيشومه، ويصد المؤذيات عن
حلقه وبلعومه...؟
ألا تشكر المصادفة التي سلمت هاتين الشفتين بقوة مرهفة من الاحساس
ليصدا كل مؤذ وكاو ومحرق، وزودتهما تحت غشائهما المخاطي بغدد تفرز
اللعاب لتظلا رطبتين مرطبتين، وربطتهما بأعصاب تجعل كل حركة لهما، (من
فتح وإغلاق، ومط وزم) بإرادة الإنسان واختياره ليفتحهما ساعة يشاء

102
ويغلقهما ساعة يريد، فيقطع بهما الهواء ويحبس الصوت ليتمكن من لفظ
الحروف الشفوية، فلولا كل هذه المصادفات لانقلب هذا الإنسان المليح الفصيح
الظريف النظيف، مسخا قبيحا مكشرا فاغرا عيا قذرا، يسيل لعابه على ذقنه
وثيابه، ويزدحم الذباب على رضابه.
ولعلك تقول فما ذكر المصادفة وتكررها في المقام: فنقول: إن تكرار
ذكر المصادفة في المقام هو إرادة اقتحام العقبة لأبلغ بنفسي الذروة، عقبة الشك
التي يريد الله منا أن نكابد لنقتحمها، وذروة الإيمان التي يريد سبحانه منا
أن نكابد لنصل إليها.
ذروة الإيمان التي يريد أن نبلغها، هي النواصي بالحق. (ألم نجعل له
عينين ولسانا وشفتين، وهديناه النجدين، فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة) (1)
* * *
هذا عرض مصغر عن اللسان، ولعله ما أوصلنا إلى الغرض، ويحتمل
أن يكون مغمضا معقدا، لذلك ولهذا لا مندوحة لنا من البسط في المسألة فنقول:
اللسان: عضو الكلام والذوق. وهو كتلة عضلية مغطاة بالغشاء المخاطي
تملأ أكثر الفم.
ووظيفته جمع الطعام الممضوغ في الفم وتوجيهه إلى الحلق والإعانة على
الازدراد.
وهو موضوع في مؤخر الفم وأسفله. وله قمة متحركة في كل اتجاه.
وهو للانسان مرشد أمين ومنبه له، فمتى حكم بأن الطعم لا يوافقه
تنبهت النفس واشمأزت منه وكرهت المعدة قبوله مخافة أن يهيجها أو يضر بها،
أما إذا حكم بأن الطعم لذيذ، وأن المذوق نافع للبدن، فالنفس تشتهيه



(1) قصة الإيمان
103
وتزداد رغبتها فيه كما تزداد المعدة اشتياقا لقبوله، وسائر أعضاء الهضم تزداد
قوة ونشاطا لهضمه فتهيأ لقبوله ولذا يجب أن تتحقق أنه ليس لنا غنى عن
اللسان، إذ لولاه لانعدمت حاسة الذوق التي مركزها سطح اللسان، ولأكثر
الإنسان من تعاطي ما يضره فيتلف صحته، ولكانت البلعة الغذائية في الفم كما
تكون في اليد على حد سواء، ولكان الإنسان لا يميز عند الأكل بين الخبز
الجيد والخبز العفن الردئ الذي يترتب على كثرة الأكل منه ضرر عظيم، لأنه
سم قاتل.
وصفوة القول: فمنفعة اللسان لصحة الإنسان بديهية، وحينئذ لا ينبغي
احتقار شأنه وعدم اعتبار أمره.
وهو أيضا: ترجمان الضمير وآلة المنطق والبيان، وإن كان عضوا
بسيطا مركبا من اللحم والدم والأعصاب والشرايين والأوردة كباقي
الأعضاء إلا أنه سر الحياة الصحيحة، حتى عبروا عنه بنصف.
الإنسان
والجزء الذي لا يتجزأ من الجنان. ويؤيد هذا قول علي أمير المؤمنين عليه السلام
(المرء بأصغريه قلبه ولسانه). وقول زهير بن أبي سلمى - حكيم
الشعراء -:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وهو مؤتمر بأوامر الإرادة المنفذة للضمير، فإن الضمير يوحي إلى اللسان
ما يشاء والإرادة تحركه، فينطق بمكنونات الضمير، وما يتخلق به المرء من
صفات إيجابية تعلي من شأنها صاحبها وترفع من مكانته، أو من أخلاق سلبية
تؤدي بذويها إلى الردى، وتنحدر بهم في مهاوي الدرك الأسفل.
وهو من النعم الجليلة التي حبانا الله سبحانه بها، لذلك يجب علينا أن
نعطيه حقه بأن نصونه من مبتذل القول وبذئ الكلم، وأن نجنبه الآفات التي

104
تعود على الإنسان بالضرر والخسارة.
وأن نعوده على الخير مثل إصلاح ذات
البين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر العلوم النافعة، وغير ذلك
ومن حقه كذلك أن يعفى عن الكذب، وفضول القول الذي لا يرجع على
صاحبه بالخير، وربما عاد عليه بالضرر.
وهو أيضا نقمة أي نقمة إن هو ترك ولم يمسك عليه. وهو عجيب من عجائب خلق الله،
ولطائف صنعه الغريبة، فإنه صغير جرمه كبير ضرره، فترى الكفر والإيمان
والبغض والمحبة، والشر والخير، والسفاهة واللطافة، لا يستبين شئ منها
ولا يعرف حق المعرفة إلا باللسان، ثم لا يكب الناس في النار على مناخرهم
إلا حصائد ألسنتهم، ولا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الصمت،
فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدين والدنيا.
إن خطر اللسان عظيم، ولا نجاة من خطره إلا بالصمت، فلذلك مدح
الشرع الصمت وحث عليه، قال (ص): (من صمت نجا، وقال: (الصمت
حكم وقليل فاعله) ثم في الصمت راحة الجسم والحواس، والأمان من
اللوم والإثم، والاستغناء عن المعذرة من الهفوات، وملك عنان النفس التي كثيرا
ما تقذف بقوس اللسان، تلك القارصات الجارحات كأنها تقذف أسهما لا تندمل
جروحها، بخلاف الأسهم التي تصيب الهدف فتميته، وكثيرا ما تحيل الصديق
عدوا والخير شرا. وقد قيل في هذا المعنى:
جراحات السنان لها التئام
ولا يلتام ما جرح اللسان
هذه إحدى فوائد الصمت وحبس اللسان عن النطق إلا فيما يعود بالنفع
كما تقدم.
ومن فوائده أيضا: راحة الفكر وإمكان توسيع دائرته وإقامة الدلالة والبرهان
على ما يقرره من صواب أو خطأ، وهذا ما لا يمكن أثناء التكلم، إذ لا فكر

105
بدون صمت، ولا إصابة بدون إمعان فكرة وإعمال بصيرة.
ومنها: إن بالصمت تكون أذنا المرء واقفتين بالمرصاد لكل ساقطة،
فتلتقطان ما يحب، وتنبذان ما يكره كما قيل: (لكل ساقطة لاقطة) وقد
يسمع المرء ما لا يفهم، ويفهم ما لا يعلم، فإذا يكون فتح بالصمت لذهنه
وذاكرته بابي الفهم والعلم اللذين يغلقهما بإطلاق العنان للسانه. إذ ما من
خلة ذميمة وسمة دنيئة، وعادة مستهجنة تكون تبعتها عائدة على الإنسان من
لسانه، إلا أمكنه إلقاء تلك التبعة عنه في صمته، مستعيضا عنها بأجمل وأشرف
منها، حيث ما بالتكلم نقص إلا بالصمت شرف يوازي ذلك النقص - من قبيل
التناقض - ويميته، وما بالتكلم من أذى ولا ضعة إلا بالصمت سلامة من ذلك
الأذى، ورفعة من تلك الضعة.
ونظرا لكثرة فوائده أخذت الأمم الراقية تتحلى بعقود درره المنظومة
بسلك العلم والعمل (كاليابان) و (الإنكليز) و (الصين) وغيرهم فقد يخال
من يمر بشوارعهم ويدخل أنديتهم أن القوم خرس وما بالقوم من خرس، وقد
يكتفي أحدهم بالإشارة عن الصراخ المزعج، فيتعاطى (البوليس مثلا) أعمالا
يندهش مثلنا كيف يتعاطاها بدون تكلم ولا اضطراب. بينما لأمر بسيط تختلف
عمالنا وتشكل أعمالنا وتقوم الضوضاء بين أظهرنا. وبالنتيجة الانزعاج والقلق
فالخصام ليس إلا!
فشتان بين عليم صموت
وبين جهول كثير الكلام
وبين مشير لقصد الوفاق
وبين مثير لنار الخصام
وقد أرى أن مثل المكثار: مثل تاجر يوزع بضائعه لزبائنه بدون نقد
ولا طلب، غير مهتم إلا بالنفاد ساه عما يتكبده من الخسارة وفقد الأصحاب،
تعب الفكر والوجدان، صفر اليدين من المال والنوال. ومثل الصموت الخبير

106
مثل الصيرفي النقاد، محكه أمامه لا يبذل دينارا ولا درهما قبل الحك والوزن
والنقد، أخذا بالعوض عنه ما يعادله أو يزيده قيمة، ولا يدخل عليه شيئا
إلا بعد النقد المذكور.
وقد قالت الشعراء ما ليس بالقليل في هذا المعنى فلنذكر طرفا منه:
واحفظ لسانك واحترز من لفظه
فالمرء يسلم باللسان ويعطب
وزن الكلام إذا نطقت ولا تكن
ثرثارة في كل ناد تخطب
كمثال جاهلة تطوف بليلها
مكثارة في كل واد تحطب
* * *
ومنه: إن كان منطق ناطق من فضة
فالصمت در زانه ياقوت
ما عيب ذو صمت ولا من ناطق
إلا يعاب ولا يعاب صموت
* * *
ومنه: أنطق بحيث العي مستقبح
واصمت بحيث الخير في سكتتك
الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب
زعم ابن سلمى أن حلمي ضر بي
ما ضر قبلي أهله الحلم
إنا أناس من سجيتهم
صدق الحديث ورأيهم حتم
لبسوا الحياء فإن نظرت حسبتهم
سقموا ولم يمسسهم سقم
إني وجدت العدم أكبره
عدم العقول وذلك العدم
والمرء أكثر عيبه ضررا
خطل اللسان وصمته حكم
علي بن هشام
لعمرك أن الحلم زين لأهله
وما الحلم إلا عادة وتحلم
إذا لم يكن صمت الفتى من بلادة
وعي فإن الصمت أهدى وأسلم

107
أصيحة بن الجلاح
والصمت أجمل بالفتى
ما لم يكن عي يشينه
والقول ذو خطل إذا
ما لم يكن لب يعينه
ولبعض الشعراء
وإذا خطبت على الرجال فلا تكن
خطل الكلام تقوله مختالا
واعلم بأن من السكوت لبابة
ومن التكلف ما يكون خبالا
وللأمام الشافعي
إذا شئت أن تحيا سليما من الأذى
وذنبك مغفور وعرضك صين
لسانك لا تذكر به عورة امرئ
فكلك عورات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك مساويا
فدعها وقل يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى
وفارق ولكن بالتي هي أحسن
* * *
لعمرك ما شئ علمت مكانه
أحق بسجن من لسان مذلل
على فيك مما ليس يعنيك قوله
بقفل شديد حيث ما كنت فأقفل
* * *
إذا الأمر أعيى اليوم فانظر به غدا
لعل عسيرا في غد يتيسر
ولا تبد قولا من لسانك لم يرض
مواقعه من قبل ذاك التفكر
ولا تصر من حبل امرئ في رضى امرئ
فيتصلا يوما وحبلك أبتر
* * *
إحفظ لسانك لا تقول فتبتلى
إن البلاء موكل بالمنطق
* * *
رأيت اللسان على أهله
إذا ساسه الجهل ليثا مغارا

108
عليك حفظ اللسان مجتهدا
فإن جل الهلاك في زلله
إلى غير ذلك من الأشعار التي اشتهرت عند الأدباء.
قال أحد الحكماء: (في الصمت سبعة آلاف خير، وقد اجتمعت في
سبع كلمات في كل كلمة ألف. أولها: الصمت عبادة من غير عناء. والثانية
زينة من غير حلي. والثالثة هيبة من غير سلطان. والرابعة: حصن من غير
حائط. والخامسة الاستغناء عن الاعتذار إلى أحد. والسادسة راحة الكرام
الكاتبين. والسابعة: ستر لعيوبه).
وقال حكيم: الكلام المنطوق به في أوانه تفاح من ذهب في سلال من فضة.
وقال: كثرة الكلام لا تخلو من زلة، ومن ضبط شفتيه فهو عاقل ومن فتقهما
فحظه الدمار. وقال آخر لابنه: يا بني تعلم حسن الاستماع كما تتعلم حسن
الحديث، وليعلم الناس أنك أحرص على أن تسمع من أن تقول.
وقالت الحكماء: رأس الأدب حسن الفهم والتفهم والاصغاء إلى التكلم.
إلى غير ذلك مما به رقي الإنسان وصيانة معنويته. وإلى هذه الظاهرة يشير
الإمام عليه السلام في كلمته النورية: إلى أن اللسان بعد أن نعطيه حقه، أو قبل أن
نعطيه إياه، ذو جانب مهم في الكشف عن ذات الإنسان، والدلالة على ما تحويه
هذه الذات، بحيث يمكن أن يتخذ اللسان سبيلا لمعرفة الصالحين من غير
الصالحين. فاللسان المقوم يدل على حسن السيرة واستقامة في السلوك. أما
العكس فيدل على خور النفس وضعف الروح التي تؤدي بصاحبها إلى الانحراف
عن السبيل المستقيم.
ثم بعد ذلك. وبعد أن يحاول الإمام عليه السلام جهده أن يعلمنا كيف
نعطي لساننا حقه، ونوفيه ما يجب أن يوفى، يطلق كلمة العبد الذي لا حول
له ولا قوة في أمر من الأمور، إنما الحول والقوة شئ يختص به الجليل

109
تبارك وتعالى، وإنما نستطيع أن نؤدي أي شئ من قول أو عمل باستمداد من
هذه القوة العظيمة الواسعة غير المحدودة بحد، والتي لا تقف عند أمد.
فنحن إذن عاجزون أن نضبط أنفسنا، أو نؤدي أي حق من الحقوق
لأي شئ من الأشياء، ما لم يشأ الله لنا ذلك ويريده بنا.
* * *
وبهذه المناسبة، ولعله من الخير، أرى ألا أستأثر بهذا الخير كله وأخص
به نفسي وحدها. فقد رأيت أن يسهم بعض ذوي الاختصاص في شرح بعض
مقاطع هذه الرسالة، مما يستحق التعمق في مداليلها ومفاهيمها، والتي لا يكشفها
إلا ذو الاختصاص كل في اختصاصه.
وإني أتقدم إلى القراء بنماذج مما شرحه أولئك المهرة جوابا لأسئلتي التي
وجهتها إليهم رغبة التأكد والوقوف على حقائقها بصورة فنية، رغم مراجعتي
لكثير من كتب الطب ومباحث التشريح، تنويرا للأفكار. راجيا أن تكون
بادرة عهد جديد لشرح هذه الرسالة النيرة من الطرق العلمية والفنية.
وإليكم منها ما يلي:
كلمة الدكتور (عارف القراغولي) الأخصائي بعلم اللسان والأسنان
والحنجرة. والذي له مؤلفات وبحوث علمية قيمة في بابها. ولسنا في حاجة
للإشادة بطبيبنا النابغة وقد ظهرت له، حديثا كتب قيمة (من علوم الطب
في الإسلام) (من أسرار الطب في الإسلام) (الإمام الصادق والطب) وهذه ثمرة
تفكير وتدبر يرجى أن يكون لها تأثير عظيم.
كلمة الدكتور (عارف القراغولي)
سماحة العلامة الجليل السيد حسن القبانچي دام ظله.
السلام عليكم.

110
استجابة لطلبكم المدون في رقعتكم، كتبت لكم هذه الكلمة الموجزة
عن اللسان، راجيا أن تنال رضاكم وتحظى منكم بالقبول والاستحسان.
كان طلبكم يتضمن ثلاثة مطالب. وهي:
1 - تشريح اللسان.
2 - ما يعرض له من أمراض وعلل.
3 - معالجة تلك الأمراض.
أما تشريح اللسان والأمراض التي تعرض له فقد ذكرناها لكم بإيجاز
لأننا إذا أردنا التفصيل، فإننا نخرج عن الغرض الذي بعثكم على طلب الكتابة
في هذا الموضوع، فيكون سببا للسأم والضجر لدى القارئ العادي لاستغلاق
فهمه وصعوبة إدراكه، وإن ذلك يخص الأطباء والعاملين في علم التشريح
والغريزة دون غيرهم، لذلك فإن ما ذكرناه عبارة عن إلمامة تشريحية تفيد
القارئ العادي غير المتخصص، ولا تثقل عليه المصطلحات الطبية والتعابير
التشريحية والمرضية.
أما الكلام عن معالجة تلك الأمراض فلم أتطرق إليها البتة، لأن ذلك
يجلب الضرر للقارئ أكثر مما يجلب له النفع، فإن كثيرا من القراء يحاول
تطبيق ما يقرأ من العلاجات على نفسه وذويه من غير أن يكون له علم تام
بالأمراض واختلاطاتها، والأدوية وتركيبها ومواضع استعمالها ومحاذيرها.
وحبذا لو امتنع الناس عن استعمال الأدوية اعتمادا على تجربة سابقة، أو
استشارة أحد الذين يدعون أكثر مما يعرفون.
وقد ذكرنا وصايا عامة تفيد القارئ فوائد كثيرة في معرض كلامنا
عن الأمراض بدلا من ذكر العلاجات. والله الموفق للصواب.
* * *

111
اللسان عضو عضلي مخاطي يتحرك بحرية داخل الفم، ويساعد على المضغ
والبلع والذوق والتصويت. ويحتل القسم المتوسط من قاع الفم. وشكله بيضوي
غير منتظم. ويتميز فيه وجهان علوي وسفلي، وحافتان وذروة.
فالوجه العلوي أو الظهري ينقسم إلى قسمين: أمامي، أو فموي ويكون
مستورا بغشاء مخاطي، وعليه ثلم متوسط يمتد من ذروة اللسان إلى الثقبة العوراء
وعليه بوارز صغيرة تدعى بالحليمات اللسانية، وهناك حليمات أكبر من غيرها
تتوضع أمام الثلم الانتهائي وعددها تسع حليمات فقط تسمى السبعة اللسانية.
أما القسم الخلفي فيقال له البلعومي، وعليه حليمات مدورة غير منتظمة
تكون مجموعات خيطية تكون اللوزة اللسانية ويتصل في نهايته السفلية مع لسان
المزمار التواءات تدعى الالتواءات اللسانية لسان المزمازية، ويوجد انخفاض
على جانبي الالتواء المتوسط يدعى بالحفيرة اللسانية ليان المزمارية أما الوجه
السفلي فمستور أيضا بغشاء مخاطي، ويحتوي على:
1 - ميزابة متوسطة موازية لثلم الوجه الظهري.
2 - التواء مخاطي متوسط يدعى بلجام اللسان.
أما الحواف الجانبية للسان فثخينة في الخلف ورقيقة في الأمام.
أما أوصافها فتشبه أوصاف الوجه المجاور لها.
أما الذروة فهي قمة اللسان أو طرفه. وتكون محفورة بثلم يتمادى مع
الثلم المتوسط للوجه الظهري، والميزابة المتوسطة للوجه السفلي.
عضلات اللسان:
يتألف اللسان من سبعة عشر عضلة، ثماني منها مزدوجة، وواحدة مفردة
وهي العضلة اللسانية العلوية. وإليك هذه العضلات:
1 - العضلة الذقنية اللسانية.

112
2 - العضلة اللسانية السفلية.
3 - العضلة اللامية اللسانية.
4 - العضلة الأبرية اللسانية.
5 - العضلة الحنكية اللسانية، ويقال لها أيضا اللسانية اللهاتية.
6 - العضلة اللوزية اللسانية.
7 - العضلة البلعومية اللسانية.
8 - العضلة المعترضة.
شرايين اللسان:
وللسان شرايين تقوم بتغذيته، وتنشأ أهمها من الشريان اللساني الذي
يعطي شعبة هي الشريان الظهري للسان، وشعبا انتهائية تؤلف إحداها الشريان
الضفدعي.
أوردة اللسان:
وهناك أوردة ترافق الشرايين في اللسان، وتسمى بنفس الأسماء،
وتكون مجرى الدم الوريدي.
أعصاب اللسان:
وهي أما محركة، وتأتي من العصب تحت اللسان الكبير، وإما حسية
وتنشأ من:
1 - العصب اللساني شعبة الفك السفلي.
2 - العصب اللساني البلعومي.
3 - العصب الرئوي المعدي.
أمراض اللسان:
لقد كان للسان أهمية كبيرة في تشخيص أمراض البدن وعلله لدى

113
الأطباء القدماء، فقد كانوا يعتبرونه مرآة لصحة بدن الإنسان، فيستدلون
بمنظره على حال المعدة والأمعاء.
والحقيقة هي أن اللسان لا يشير دوما إلى حال المعدة، ولا إلى بقية
أجزاء الأنبوب الهضمي، لأن التغير الذي يطرأ على اللسان قد يماشي التغير
الذي يطرأ على غيره، إلا أن أكثر أشكال هذا التغير خاص باللسان دون غيره
فاللسان المتسخ، يشير إلى وجود علل في المعدة والأمعاء، وإلى الإمساك،
وإلى قلة اللعاب، وإلى الإصابة ببعض الحميات. واللسان الأحمر وتضخم حليماته
يشيران إلى فاقة الدم ونقص الفيتامين. خاصة فيتامين سي.
أما الأمراض الخاصة باللسان فهي:
1 - التهاب اللسان المنفعل: وهو التهاب يشكو فيه الشخص من ألم حاد
ووجع ناخس وحس بالاحتراق. وليس هنالك سبب ظاهر غير حمرة خفيفة تظهر
على المكان الذي تبدو فيه هذه الأعراض. وقد تكون هذه الحالة ناشئة عن
قلق فكري، وقد تشاهد أيضا في ألسنة الأشخاص الذين تجاوزوا الخمسين من
العمر حيث تكون باكورة سرطانية.
وأسباب هذا الالتهاب مجهولة في الغالب. إلا أن من أسبابها وجود
الأسنان ذات الحواف الحادة التي تعمل على تخريش اللسان تخريشا مستمرا،
وأحداث الجروح والتقرحات التي قد تكون سببا لظهور مرض خبيث على اللسان
فيما بعد. أو وجود تقيحات لثوية سنية، حيث أن هذه التعفنات اللثوية تغير
وسط الفم وتفسده فينفعل اللسان ويلتهب. أو غياب بعض الأسنان بسبب قلعها
وعدم تعويضها بأخرى صناعية فتسبب إحتكاك اللسان إحتكاكا مستمرا بالأسنان
المجاورة للفراغ الذي تركته الأسنان أو السن المفقودة، فيكون سببا لإصابته
بالالتهاب المنفعل.

114
كما أن الأسنان الصناعية السيئة الصنع والتي لم يراع في صناعتها الأساليب
العلمية والفنية تكون عاملا مهما للإصابة بهذا الالتهاب الذي يؤدي فيما بعد
للإصابة بمرض خبيث، أمثال هؤلاء الذين يركبون أسنانهم لدى المركبين
الدجالين طمعا بالأجور الرخيصة التي يتقاضوها، فإن العاقبة تكون وخيمة قد
تؤدي بحياة المريض إلى الموت.
ومن أسباب هذا الالتهاب وجود ترسبات كلسية على سطوح الأسنان،
فإنها تعمل على تخريش اللسان تخريشا مستمرا، أو وجود نخر في واحد
أو كثير من الأسنان، فيكون هذا النخر مصدرا لسموم وتعفنات سنية،
فتسبب تضخم الحليمات الورقية على الجانب الخلفي من اللسان.
أما الوصايا العامة التي نذكرها للوقاية من هذا الالتهاب. فهي:
1 - مراجعة الطبيب عند ظهور أي عرض، وعدم التساهل فيها أو تأجيلها
2 - معالجة الأسنان من النخور وإزالة الحواف الحادة من بعض الأسنان
إن وجدت، وتنظيف الأسنان ورفع الطبقات الكلسية المترسبة على سطوحها.
3 - قلع الأسنان المتعفنة التي لا يرجى إصلاحها، والأسنان الميتة
والجذور ومعالجة القرحات اللثوية والنواسير واستئصال الأكياس الجذرية والفكية
والحصيات اللعابية.
4 - تعويض الأسنان المفقودة بأسنان صناعية صالحة.
5 - رفع الأسنان الصناعية السيئة الصنع كالجسور الذهبية والطقوم السنية
واستبدالها بأخرى صالحة.
6 - الإقلال من التدخين وتعاطي المشروبات الكحولية والتوابل الحارة.
فقر الدم الشديد:
يكون فقر الدم سببا لالتهاب اللسان، وأهم أعراض هذا الالتهاب هو

115
الشعور بألم حاد لاسع، غالبا ما يكون في جهة واحدة، وكنتيجة لهذا الالتهاب
فإن الغشاء الخارجي للسان يختفي تاركا لسانا صقيلا هشا يعرف بلسان البقر.
الوصايا:
1 - مراجعة الطبيب بالسرعة الممكنة وتطبيق إرشاداته.
2 - تناول الأغذية الحاوية على فيتامين (سي).
الطلا، أو صدفية اللسان:
ويتصف بتضخم الحليمات الخيطية للسان واحمرارها وحصول ثخانة في
النسيج البشروي، فيكون ذا مظهر أصفر مخضل أو أبيض متسخ، ومن ثم
تصبح لهذه الحليمات طلاء ناعم ينكشف عن منطقة محمرة، ثم تكون بشكل
أبيض مزرق شاحب مضغوطة بالحليمات المجاورة.
والأسباب المساعدة لحدوث هذا المرض عديدة. أهمها:
1 - التهاب اللسان السطحي المزمن.
2 - وجود عامل منبه قوي طويل الأمد كالتدخين وتناول التوابل وتعاطي
المشروبات الروحية.
3 - وجود إصابة قديمة بالسفلس.
4 - وجود انتانات سنية مزمنة.
5 - وجود سحجات مزمنة على اللسان.
أما الوصايا التي يجب أتباعها فتعتمد بصورة عامة على إزالة الأسباب
المذكورة سابقا والاسراع بمراجعة الطبيب المختص لأخذ العلاج اللازم.
اللسان الجغرافي:
وهو أحد أشكال التهاب اللسان المزمن الذي ينشأ عن تآكل البشرة السطحية،
وظهور سطح ناعم رطب معتم ذي شكل شاذ، وله شقوق قريبة الشبه بالتضاريس الأرضية

116
فيعرف اللسان حينئذ باللسان الجغرافي، وغالبا ما تظهر هذه الحالة في
أعقاب التهاب اللسان الناشئ عن فقر الدم الشديد.
اللسان الأسود: أو اللسان المشوي
وينشأ هذا المرض عن خمائر لفطور خاصة تكون بقعا على اللسان وقد
تمتد حتى تحتل الثلثين الأماميين من ظهر اللسان، وإن لون هذه البقع يختلف من
الأسمر الشاحب إلى الأسود، وتنشأ عليه شعيرات خيطية مجهرية مطاطة يبلغ
طولها ثلاثة إلى أربعة مليمترا. وكل شعرة تتكون من تراص كتل من خلايا
بشروية وحراشف.
إن لون اللسان الأسود يعود إلى انتشار اللون الأسمر في الخلايا البشروية
وانستار اللسان بعدد هائل من الخلايا الفطرية.
وقد لوحظ أن المحاليل القلوية المطهرة غير نافعة في مكافحة هذا المرض
أما الصبغات الزرنيخية فإنها كثيرة الفائدة كما أن هناك أدوية موضعية وأخرى
عامة ذات نتائج مرضية.
إن هذا المرض قليل الحدوث وقليل المصادفة، وقد دعي خطأ بالسرطان
الأسود. ومن أعراضه الشعور بالاحتراق وحدوث السعال.
والوصايا التي نوجهها للوقاية مهنا هي:
1 - تطبيق وسائل حفظ صحة الفم.
2 - استعمال المطهرات الفمومية.
3 - تنظيف الأسنان بالفرشات والمعجون يوميا.
4 - مراجعة الطبيب المختص عند ظهور أي عارض في الفم مهما كان بسيطا
سفلس اللسان:
ويتميز بظهور قرحة ابتدائية على طرف اللسان، أو على حافته بالقرب

117
من طرفه، تتصف بتكوين عقدة صلبة مع تقرح سطحي وتضخم الغدد تحت
الفكية كما وتظهر أعراض المرض للمرحلتين الثانية والثالثة، وهي مراحل
مرض السفلس.
سل اللسان:
ويكون هذا المرض تاليا للإصابة بالسل الرئوي فتتوضع القرحة السلبية
تحت سطح ذروة اللسان، وغالبا ما تكون القرحة واحدة وسطحية وشديدة
الألم. وإن الكشف عن وجود سل رئوي يكفي لتمييز هذه القرحة على قرحة
السفلس.
سرطان اللسان:
ويظهر هذا المرض في الرجال أكثر من النساء، وفي سن الأربعين إلى
الستين. وأسبابه كثيرة: كالطلا وسفلس اللسان والتهاب اللسان المزمن والتدخين
ويكون السرطان في المرحلة الأولى سطحيا، فينبت على صفيحة طلاء تتكثف
وتتشقق وتنزف بكثرة ويأخذ اللسان بالتضخم، وتتضخم العقد اللمفاوية ويسيل
لعاب نتن ناتج عن تموت أجزاء النسج السرطاني، وتفسخ فضلات الطعام، ثم
إن صحة المريض العامة تتدهور وتنتقل من سئ إلى أسوء بسبب ابتلاعه المواد
النتنة أثناء النوم، وشحوب وجه المريض واختلال وظيفة اللسان واختلال البلع
إن هذا المرض خطر جدا، ولا تجري معه العلاجات الدوائية وإنما
يستلزم التداخل الجراحي وإن كان أيضا غير مأمون العاقبة، وقل أن يعيش
المصاب لأكثر من سنة واحدة.
والوصايا العامة التي يجب أتباعها: هو عدم إهمال أمر أي سحجة تظهر
على اللسان أو قرحة أو ظهور التهاب في اللسان، لأن عدم معالجة مثل هذه
الحالات معالجة طبية صحيحة قد تتطور إلى مرض خبيث وخيم العاقبة، وكذلك فإن
.

118
مراعاة قواعد حفظ صحة الفم ذات دخل كبير في الوقاية من مثل هذا المرض.
فالفم النظيف ذو الأسنان الجيدة الخالية من النخر والتقيحات اللثوية والحاوي
لأسنان صناعية جيدة الصنع، كل ذلك يقي الإنسان من احتمال الإصابة
بمثل هذا المرض الخبيث. ثم أن ترك التدخين أو تقليل مقداره لذو أثر كبير
في الوقاية من هذا المرض.
وفي الختام أكرر شكري للعلامة الجليل السيد حسن القبانچي حيث
طلب مني أن أكتب في هذا الموضوع ليطلع عليه قسم من القراء الذين قد
لا يتسنى لهم الحصول على مثل هذه المعلومات لانشغالهم بالعلوم الدينية والأدبية،
وغاية ما أتمناه أني أكون قد وفقت في عرض الموضوع عرضا بسيطا من غير
تعقيد أو تطويل والسلام).
المخلص
الدكتور عارف القراغولي
16 / 12 / 1961 م

119
حق السمع

121
قوله عليه السلام:
(وأما حق السمع تنزيهه عن سماع الغيبة، وسماع ما لا يحل
سماعه. وتنزيهه أن تجعله طريقا إلى قلبك إلا لفوهة كريمة تحدث
في قلبك خيرا أو تكسب به خلقا كريما، فإنه باب الكلام إلى القلب
يؤدي إليه ضروب المعاني على ما فيها من خير أو شر، ولا قوة إلا بالله)
* * *
حاسة السمع الأذن:
تعد حاسة السمع الفرقة الثانية من كشافة الدماغ، وهي عضو عجيب
كالعين يقوم بسماع الأصوات وتمييزها، درجة، وشدة، ونوعا.
تتألف من أجزاء مختلفة كثيرة جدا بحيث يصعب تصورها إلا برويتها
مشرحة.
هذه الأجزاء المختلفة الكثيرة تقوم بجمع التموجات الصوتية وتوصيلها إلى
الأجزاء الداخلية من الأذن، حيث تحملها إلى المخ بواسطة العصب السمعي
لتمييزها.
تنقسم الأذن - تبعا لترتيب وضع أجزائها ووظيفتها - إلى ثلاثة أقسام
رئيسية حسبما يفصلها علماء التشريح:
(1) القسم الأول - أو الأذن الخارجية: وتتكون من جسم غضروفي يدعى
بالصيوان، وهو الجزء الظاهر من الأذن. ومن مجرى عام في الجمجمة يعرف
بالصماخ، تنتشر في جدرانه غدد تفرز موادا دهنية صفراء اللون تسمى (الصملاخ)

123
ضرورية لصحة الأذن، متى أدى وظيفته خرج وتكون خارج الأذن فيرفعه
الإنسان بإصبعه. وكثير من الناس يدخل إلى تلك الفتاة أصابع من الخشب
يستأصلون بها ذلك الدهن الضروري للأذن قبل أن يخرج بنفسه فيضرون أنفسهم
ضررا بليغا ويوجدون لأنفسهم أمراضا خطيرة. ويتصل الصماخ بالهواء الخارجي
ومن الداخل بغشاء الطبلة، وهو الغشاء الحاجز بين الأذن الخارجية والأذن الوسطى
(2) القسم الثاني - أو الأذن الوسطى، مكونة من ثلاثة عظام تتصل ببعضها
وتسمى حسب أشكالها وترتيبها من الخارج إلى الداخل:
أ - العظم المطرقي: ويتصل أحد طرفيه بالطبلة، والآخر بالعظم السنداني
ب - العظم السنداني: في الوسط.
ج - العظم الركابي: ويتصل من جهة بالعظم السنداني بواسطة أربطة عضلية
ومن الجهة الأخرى بفتحة بين الأذن الوسطى والداخلية، تدعى بالكوة البيضية.
والأذن الوسطى تتصل بالبلعوم بواسطة مجرى خاص يدعى قناة أو بوق
(أوستاكي) وبواسطته يتصل الهواء الخارجي بهواء الأذن الوسطى، فيتعادل
الضغطان المؤثران على طرفي الطبلة. وكذلك فالأذن الوسطى، تجاور الأذن
الداخلية ولكن تفصلهما نافذتان مسدودتان بغشاء تدعيان بالكوة المستديرة
والكوة البيضية.
(3) القسم الثالث - وهو الأذن الداخلية (التيه): وتتألف من مجار
في عظام القحف تشتمل على بعض أكياس غشائية وقنوات ذات اعوجاجات كثيرة
جدا، لذلك تدعى الأذن الداخلية بالتيه، وهذا التيه على نوعين:
أ - التيه العظمي: ويتألف من تجاويف عظمية متعرجة تدعى:
(1) الدهليز: وهو تجويف بيضي الشكل يتصل بالأذن الوسطى بفتحتين
هما الكوة البيضية، والكوة المستديرة.

124
(2) القنوات الهلالية: وعددها ثلاث: اثنتان شاقوليتان متعامدتان
تنفتحان بفتحة مشتركة في الدهليز، وقناة أفقية تنفتح كذلك في الدهليز وتمثل
القنوات الثلاث الأبعاد الهندسية الثلاثة: (الطول والعرض والارتفاع)
(3) الحلزون (القوقع): وهو أنبوب ملتف على نفسه مرتين ونصف مرة
نظير صدف الحلزون (البزاقة).
ب - التيه الغشائي: وهو غشاء رقيق يبطن جميع تجاويف التيه العظمي
ولذلك يكتسب شكله تماما. ويعزل التيهين عن بعضهما سائل يعرف باللمف
الخارجي، كما أن هناك داخل التيه الغشائي سائلا آخر يعرف باللمف الداخلي
فيه تنتهي الأعصاب السمعية.
ويتفرع العصب السمعي في الأذن الداخلية وعلى الأخص في الحلزون
فتتصل منتهياته العصبية بأوتار مشدودة كالأوتار الرنانة تدعى أوتار (كورتي)
- باسم العالم الذي اكتشفها ولحظها قبل غيره -. ولكل من هذه مفتاح عضلي
يمكنها من الاشتداد والارتخاء بحسب حاجة الدماغ واستحسانه.
ووضع هذه الأوتار والألياف شبيه بأوتار الأرغن، أو أسلاك المعزف، ففي
كل أذن يوجد ثلاثة آلاف من هذه الأوتار المختلفة القياس، تتقاصر تدريجيا
من نصف مليمتر إلى جزء من عشرين من المليمتر، وكل منها يردد طبقة مخصوصة
من أجزاء الأنغام التي نسمعها في الطبيعة، بين هزيج الرعد القاصف ولهاث الطفل
النائم. فالطويلة منها تتأثر من الأصوات منخصفة الدرجة، والقصيرة تتأثر من
الأصوات عالية الدرجة.
قال (كريسي موريسون) وهو يستعرض عظمة خلقة الأذن وعجائب
صنعتها: (إن جزءا من أذن الإنسان هو سلسلة من نحو أربعة آلاف حنية
(قوس) دقيقة معقدة متدرجة بنظام بالغ في الحجم والشكل، ويمكن القول

125
بأن هذه الحنيات تشبه آلة موسيقية، ويبدو أنها معدة بحيث تلتقط وتنقل إلى
المخ بشكل ما كل وقع صوت أو ضجة من قصف الرعد إلى حفيف الشجر، فضلا
عن المزيج الرائع من أنغام كل أداة موسيقية في الأوركسترا ووحدتها المنسجمة
لو كان المراد عند تكوين الأذن أن تحسن خلاياها الأداء كي يعيش الإنسان
فلماذا لم يمتد مداها حتى تصل إلى إرهاف السمع؟ لعل (القوة) التي وراء
نشاط هذه الخلايا قد توقعت حاجة الإنسان في المستقبل إلى الاستماع الذهني،
أم أن المصادفة قد شاءت تكوين الأذن خير من المقصود) (1).
فسلجة الأذن: السمع:
(الصوت وهو الظاهرة الطبيعة التي تنشأ من اهتزازات تموجية تنتقل في
وسط مادي كالهواء، وبذلك يؤثر على حاسة السمع. والسمع نفسه يتم بواسطة
القسم الداخلي أو الأذن الداخلية، أما القسمان الخارجي والوسطي فيقومان
بجمع الاهتزازات الصوتية ونقلها إلى الأذن الداخلية، فالموجات الصوتية المنتقلة
في الهواء تضرب على الطبلة فتهزها وهذه تحرك العظم المطرقي الذي يضرب على
العظم السنداني، وهذا بدوره يحرك الركابي فتدخل الاهتزازات الصوتية وتسبب
ارتجاج السوائل التيهية، ومن ثم إلى سائل الحلزون، وهكذا تهتز أوتار أو ألياف
كورتي بالتأثير، ومن هنا تتأثر منتهيات عصب السمع المتصل بها فينتقل هذا
التأثير إلى المراكز السمعية في المخ فيؤول الأمر إلى السمع) (2).



(1) العلم يدعوا إلى الإيمان.
(2) علم الصحة،
126
صحة الأذن:
إن الأذن كالعين عرضة لكثير من العوارض التي قد تصيبها وتتلف أجزاءها
ولأجل المحافظة على صحة الأذن يجب مراعاة النقاط التالية:
(1) إن الأمراض التي تصيب الوجه والأنف والحنجرة: كالزكام والحصبة
والحمى القرمزية قد تصيب الأذن أيضا فتسبب خرابا في الجهاز السمعي.
فالتهاب قناة (أوستاكي) الذي قد يتأتى من التهاب الحنجرة، وربما ينتقل
إلى الأذن الوسطى فيحدث الصمم.
(2) إن المادة الشمعية داخل الأذن تؤدي وظيفة خطيرة، فإن هذا الشمع
مرير للغاية وهو يمنع الحشرات الصغيرة من الدخول إلى الأذن. ولكنها قد
تفرز في بعض الأحيان بكميات كبيرة تؤدي إلى خلل في السمع، وعليه فإذا
كان الأمر كذلك فيلزم تنظيفها وغسل الشمع الزائد بالماء الدافئ ثم تنشيف
الأذن من الماء الزائد.
(3) ينبغي تجنب التمخط بشدة لأنه يدفع الجراثيم الموجودة في الأنف
والحلق إلى قناة الأذن المتوسطة فيحدث الصمم، وكذلك يجب اجتناب الضجيج
المزعج والدوي القاصف. فإن الطبلة قد تترجرج حتى التمزق فعند حدوث
الدوي يجب الانتباه إلى فتح الفم على ملئ شدقيه، وذلك لأن التموجات الصوتية
تأخذ في الضرب على الطبلة من جهتيها فيقل تأثير الارتجاج عليها.
وينبغي
ملاحظة كل قصور يحدث في الأذن ويخل في السمع والمبادرة لمداواته بما
يمكن من السرعة.
(4) ويستحسن كذلك سد مجرى الأذن الخارجي عند التعرض إلى غبار
كثير كما في الأسفار أو ضغط شديد، أو لدى التعرض إلى مياه وسخة.

127
هذه القدرة والنعمة الجسيمة التي لا يعرف قيمتها إلا فاقدها، ولا يدرك
ضرورتها إلا من حرمها.
هذه القدرة والعظمة إذا تجلت وتحققت لدى الإنسان يدرك عند ذاك
مدى عناية الإمام عليه السلام بهذا العضو المهم، ويعرف مغزاه من توجيهنا نحوه
والايصاء به، والالزام بأداء حقه، بأن يستخدم في غير سبيل الشر، وأن يكون
طريقا إلى سماع العلم والحكمة والموعظة، بدلا من الاصغاء إلى كلام مغتاب
مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم.
والإمام عليه السلام يعتبر السمع الباب الوحيد لإيصال الكلام إلى القلب،
وأن هذا الباب يؤدي إلى القلب ضروب المعاني ومختلف الأقوال.
فبالسمع يتلقى الإنسان العلوم، وبالسمع يعرف الصالح من غير الصالح
وبالسمع يستطيع أن يملأ قلبه حكمة ومعرفة ويقينا.
وهنا يعيد الإمام عليه السلام قولة العبد الذي ليس له من الأمر شئ، إنما
الأمر كله لله يعمل ما يشاء وما يريد. ومن حق الإمام دائما أن يعيد هذا القول
لأنه يشعر شعورا عميقا أعمق من كل شعور، أنه ضعيف في غاية الضعف، وأنه
بحاجة شديدة إلى المعونة القوية التي تأتيه من قبل مصدر القوة والإرادة، لكي
يستطيع أن يعصم نفسه في كل ما لا يرتضيه الله من قول أو عمل.
* * *
حكمة الخالق:
(لما كانت القوة السامعة لا تفيد السمع إلا بواسطة قرع الصوت للهواء ووصول
ذلك الهواء إلى الدماغ، اقتضت الحكمة الإلهية أن يجري السمع في عظم صلب
ذي عطفات وتعاريج كثيرة إلى أن ينتهي إلى عصبتين ناشئتين من الدماغ.

128
وذلك العصب لو كان بارزا لأضر به الهواء البارد فيخرج من حد الاعتدال
بملاقاة أدنى برودة، لأن طبعه بارد، فيجعل كامنا في الدماغ لهذا المعنى،
وقد جعل مجراه مفتوحا أبدا ليصل إليه الهواء المقروع دائما فيسمع ما يشاء
وما لم يشاء.
ولما كان فتحته سعة، وكان متعرضا لآفات البرد والغبار ومصادمة
الهواء المقروع بعنف، كالرعد والصيحة العظيمة جعل مجراه ذا عطفات وتعاريج
على هيئة (اللولب) لئلا يصل الهواء إلى السمع دفعة واحدة، بل يبقى في
العطفات ويرد على السمع شيئا فشيئا، وتسكن شدته في التعاريج فيفهم بالتأني
وجعلت على مجراه صدفة ناشزة لرد الصوت إلى الثقبة وتمنعه من الانتشار،
وخلقت من الغضروف لأن الغضروف موافق لقبول الصوت.
كيفية السمع:
تحدث الأصوات الخارجية في الهواء تموجات مناسبة لشدتها، فوظيفة
الأذن الخارجية جميع التموجات الصوتية وتوصيلها من القناة السمعية الخارجية
إلى الغشاء الطبلي فيهتز اهتزازات مناسبة لها، وتصل هذه الاهتزازات إلى الأذن
الداخلية بواسطة العظيمات السمعية إذ تتصل الأولى منها وهي المطرقة بالغشاء
الطبلي، والأخيرة وهي الركاب بالدهليز عند الكوة البيضية، فتسري هذه
الاهتزازات في السائل التيهي وتحدث به تموجات مناسبة لها فتنبه أطراف
الألياف العصبية المغمورة فيه،
وتنقل هذه الألياف ما تشعر به أطرافها إلى
المراكز السمعية في المخ لتمييزها، وعند ذلك تدرك الأصوات المختلفة وتتعرف
اتجاهاتها.

129
الصوت:
هو الظاهرة الطبيعية الميسور إدراكها بحاسة السمع، ويتولد من
اهتزازات الأجسام الصلبة أو السائلة أو الغازية، ومن انتقال هذه الاهتزازات
خلال الهواء أو أي وسط مرن آخر تؤثر في الأذن وتحدث ما يسمى بالصوت. وهذه الاهتزازات
الناتجة إما أن تكون منتظمة أو غير منتظمة، فإن
كانت منتظمة سمي الصوت الناشئ عنها بالصوت الموسيقي أو النغمة الموسيقية،
وإذا كانت غير منتظمة سمي الصوت دويا كدوي المطارق والتصفيق، وقصف
المدافع، وقعقعة الرعد، وفرقة البارود، ولغط الأمواج. والصوت هو اللفظ المشتمل على بعض الحروف الهجائية، وهو خاص بالنوع
الإنساني دون غيره من أنواع الحيوان، والصوت المركب المفيد نافع في الخطاب
ورد الجواب، والأمر والنهي، وكطلب ما يلزم طلبه.
وهو يتكون في الحنجرة بمساعدة التنفس، لكنه في الرجال أقوى منه في
النساء وفي الكهول أقوى منه في المراهقين وهكذا، ويجب على آباء الأطفال
وأوليائهم أن يعلموهم الكلام اللائق بحيث لا تكون أصواتهم شديدة الارتفاع
حتى تؤذي سامعيها ولا منخفضة جدا فلا يكاد يفهم المراد منها سامعها، وأن
تكون عارية عن الخنخنة والتمتمة، والفأفأة، والتأتأة، واللثغة، وغيرها مما
إذا اعتادوه تعسر فيما بعد عليهم إصلاح كلامهم.
نصائح أدبية
1 - خلق الله لك أذنين لتسمع بهما الأصوات، ولتقتطف الأحاديث
والأخبار، فاسمع كلام ربك، وأحاديث نبيك، واعمل بها، واسمع كلام

130
أبويك ومربيك لتنال من الله الفوز والرضوان، قال الله تعالى:
(وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون).
2 - إذا كان تنظيف الأذنين من القذر واجبا، فأوجب منه صيانتهما عن
سماع القبيح، فقد قيل في الأمثال: (نزه نفسك عن استماع القبيح، كما
تنزه نفسك عن الكلام به) فإن السامع شريك القائل، ولأن القبائح تصل إلى
العقل وتؤثر فيه تأثيرا سيئا.
3 - لا تسترق السمع خلف الجدران، والأبواب، والحوائل، لأن هذا
العمل يعتبر من الخيانة وسوء الأدب، ويعرف بالتجسس المنهي عنه شرعا.
4 - إذا سمعت أحدا ينم على أحد أو يغتابه (أي يتكلم في حقه أمامك)
فلا تشترك معه، وإن كان أكبر منك سنا وقدرا، فاخفض عينيك والزم الصمت،
وإن كان من أمثالك فأبد له النصيحة بالابتعاد عن مذمة الناس، وإن كان أصغر
منك سنا فازجره مع تفهيمه مضار الغيبة المنهي عنها شرعا.
5 - لا تنقل حديثا سمعته لئلا تكون مفتاح الفتنة التي نهى الله عنها
بقوله: (والفتنة أشد من القتل) لأنها سبب الشرور والخصومات.
6 - ليس من الأدب ولا من المروءة الصياح في أذن الغير، أو النفخ فيها
أو الضرب عليها، أو الجذب منها، ولا يليق بالأهل ثقب آذان الغلمان، أو
تعليق الحلي فيها، فإن هذا بالإناث أليق، وبهن ألصق.
7 - إن سماع الأصوات المطربة وإن كان مفيدا للسمع، ولكن الانقطاع
إلى سماع الأغاني، والاشتغال بها شغل للبال، وإضاعة للوقت، وصرف للقوة
وتشتيت للفكر، وتهييج للاحساس، (فضلا عن كونها محرمة في الشرع).
8 - أشكر الله صباح مساء على ما أنعم به عليك من حاستي السمع،
والبصر عملا بقوله تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا.

131
وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون).
ومعناه ظاهر، وهو أن الله أخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا
ضعافا لا تعلمون شيئا، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة (القلوب) آلات
تدركون بها ما يحيط بكم من الكائنات، لعلكم تشكرونه على نعمه التي لا
تعد ولا تحصى، وقال بعض المفسرين وجعل لكم (السمع) لتسمعوا مواعظ الله
(والأبصار) لتبصروا دلائل الله (والأفئدة) لتعقلوا عظمة الله.
وجاء في الحديث الشريف: ثلاثة أصوات يباهي الله بها الملائكة.
الأذان، والتكبير في سبيل الله، ورفع الصوت بالتلبية.
9 - الخلاصة أن الأذن من أجل النعم، فيجب علينا أن نستخدمها في
طاعة الله، فنصغي بها إلى كلام الله الحكيم، وأحاديث نبيه الكريم، بدلا من
الاصغاء إلى كلام مغتاب مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم.
وأن نستخدمها في تلقي العلوم والمعارف بدلا من أن نتجسس بها على
الناس عملا بقوله تعالى: (ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا) وأن نجعل
زكاتها طاعة الله بدلا من عصيانه، حتى تدوم علينا النعم، إذ بفقدها ينهدم ركن
من سعادة الحياة، وأن نشكر الله عليها، وعلى بقية النعم على الدوام). (1)
(كلمة الدكتور أكرم عبد الكريم)
أكرم عبد الكريم إسحاق القس المسيحي. خريج جامعة بغداد.
لسنة 1958 - 1959 م، أخصائي في الأذن، يؤدي وظيفته في مستشفى الفرات
الأوسط في الكوفة، التقينا به في النجف الأشرف في عيادته الواقعة في شارع
الخورنق سنة 1382 ه‍.



(1) الإنسان لعلي فكري.
132
سماحة العلامة السيد حسن القبانچي المحترم.
لقد سرني أن يكون لي شرف المشاركة ببحثكم المستفيض، عند شرح
(رسالة الحقوق) ولو بجزء قليل، عن الأذن، والأعجاز الذي أودعه الخالق
فيها. وأمراضها. أرجو أن تكون شاملة لبعض الأمور الآتية المتعلقة بالأذن،
كما أرجو أن تحوز رضاكم.
الدكتور
أكرم عبد الكريم
تشريح الأذن:
الأذن هو عضو يخدم حاستين في وقت واحد: حاسة السمع، وحاسة التوازن
الجسمي. وتتكون الأذن من ثلاثة أقسام:
1 - الأذن الخارجية، وتشمل (أ) الصيوان، (ب) الدهليز الأذني
الخارجي، (ج) طبلة الأذن.
2 - الأذن الوسطى: وهي الفجوة التي تفصل بين الأذن الخارجية والأذن
الداخلية. وتحتوي على عظام السمع، وتتصل بأعلى البلعوم من الجهة الداخلية
السفلى، وبالعظم الحلمي من الجهة الخارجية العليا.
3 - الأذن الخارجية: وهي تتكون من قسمين: (1) الحلزون، وظيفته
السمع. (ب) القنوات نصف الدائرية، وظيفتها حفظ التوازن.
صيوان الأذن
وهو القسم الخارجي من الأذن، غضروفي التركيب، ومغطى بطبقة من الجلد
فائدته جمع التموجات الصوتية وتوجيهها إلى طبلة الأذن.

133
دهليز الأذن الخارجي
وهو عبارة عن أنبوب ينتهي من الداخل بالطبلة. وهو مبطن بالجلد الذي
يحتوي على بصيلات الشعر والغدد الشمعية.
الطبلة
وهي غشاء رقيق يمتد بصورة مائلة على النهاية الداخلية للدهليز الأذني الخارجي
وفائدته نقل التموجات الصوتية إلى العظام السمعية ومنها إلى الأذن الداخلية.
الأذن الوسطى
هي عبارة عن صندوق مجوف يقع في العظم الصدغي، تحتوي على عظام السمع
وهي ثلاثة:
(1) عظم المطرقة: ويشبه المطرقة. وله نتوئين: أحدهما طويل والآخر
قصير.
(ب) عظم السندان: ويشبه سندان الحداد.
(ج‍) عظم الركابي: ويشبه ركاب السرج.
فائدة هذه العظام نقل الصوت إلى الأذن الداخلية.
الأذن الداخلية
وتتكون من قسمين: (1) الحلزون: وهو عبارة عن كيس غشائي يلتف
حول نفسه مرتين ونصف. ومحاط بغلاف عظمي يشبه القوقعة. وداخل هذا
الغلاف العظمي منقسم إلى قسمين بواسطة بروز يشبه الرف، وطبقة خفيفة من

134
النسيج تدعى الغشاء القاعدي، وغشاء آخر يسمى غشاء (رايسنر).
ويحتوي القسم الصغير على سائل يدعى باللمف الداخلي.
والقسم الكبير يحتوي على سائل يعرف باللمف الخارجي، ومن قاعدة الرف
يخرج العصب السمعي.
(ب) القنوات النصف الدائرية (هلالية) وفائدتها حفظ توازن الجسم. ومن
نهاية الأذن الداخلية يخرج عصب السمع الذي يخترق عظم الجمجمة، ويتصل
بالقسم الأسفل من الدماغ.
إن الإعجاز الذي وضعه الخالق في الأذن بلغ النهاية. فإن عملية السمع منذ
حدوث الصوت حتى انتقاله إلى الأذن الخارجية، ثم الوسطى، ثم الداخلية،
ومنها إلى الدماغ تشمل عمليات معقدة.
فالتموجات الصوتية بعد أن تدخل الصيوان تتجه إلى طبلة الأذن فتسبب
فيها حركة ذبذبية تنتقل بواسطة عظام الأذن الثلاثة إلى الأذن الداخلية
فبواسطة عظم الركابي تنتقل الاهتزازات الصوتية إلى اللمف الخارجي الذي يلاصق
عظم الركابي، حيث ينقلها بدوره إلى اللمف الداخلي الذي يؤثر على نهايات
العصب السمعي، فيسري فيه حث كهربائي ينتقل إلى الدماغ في منطقة معينة
تميز الأصوات المختلفة.
أمراض الأذن:
1 - النقص الخلقي: - يولد قسم من الأطفال وهنالك بعض التشويه
في الأذن الخارجية كصغرها أو تشوهها، كما أن هنالك أحيانا يخلق وله
آثار جنينية لصيوان آخر.
هنالك حالات تكون فيها قناة السمع الخارجية، أما غير موجودة

135
أو قصيرة، ومغلفة بغشاء رقيق في منتصفها. في هذه الحالات قد ينفع فيها
بعض العمليات الجراحية المعقدة لإعادة تكوين القناة.
2 - الأضرار الخارجية:
كما يحدث أحيانا على أثر لطمة أو اصطدام على صيوان الأذن حيث
تتكون كدمة على الصيوان التي تشوه الصيوان، فيما بعد تعالج هذه الحالة
بسحب الدم المتجمع تحت الجلد يوميا.
التهابات الصيوان:
التهاب غشاء الغضروف: قد يحدث على أثر صدمة أو تقيح الكدمة
الحاصلة من الصدمة. حيث يصبح الصيوان محمرا ومؤلم جدا ومتورم.
علاجه بواسطة الضمادات الحارة، ومرهم الاكتيول مع الكليسرين.
دمل الأذن:
وهي التهاب في بصيلة إحدى شعرات قناة السمع الخارجية، حيث تلتهب
وتتقيح فتسبب ألما شديدا، وأحيانا قد تؤدي إلى التهاب الصيوان.
علاجها كعلاج التهاب الصيوان. بالإضافة إلى الأدوية (مضادات الحياة).
التهاب الجلد:
وسببه مكروبات سبحية (أي تشبه جزء من السبحة) وتسبب إحمرار
وتقيح الجلد المحيط بالأذن، وتكون قلف صفراء على الأذن، وسببها تقيح
جرح في الجلد، وأن هذه الحالة معدية، وقد تنتقل من شخص إلى آخر بالتماس.
علاجها كعلاج أي التهاب بالجلد.

136
داء الحمراء:
وهي عبارة عن التهاب سببه مكروبات سبحية أيضا. وهذا الالتهاب
ينتقل إلى الرقبة والوجه. كما تظهر فقاعات مليئة بالمصل على أطراف الإحمرار
وتكون حالة المريض رديئة ويشكو من حمى شديدة.
علاجها:
بعلاج موضعي من مجففات الأنسجة، كسلفات المغنيسيوم أما إذا تكونت
التقيحات في الجلد فبتبضيع الجلد لفسح المجال للقيح بالخروج، تساعد كثيرا
على شفاء المنطقة، كما أن حقن مضادات الحياة لها فائدة عظيمة في شفائه.
تدرن الجلد
يصيب صيوان الأذن في نفس الوقت يصيب الوجه ويتميز بمظهره
الخاص. وقد تصل أضراره إلى تأكل قسم كبير من الأذن والوجه.
علاجه كعلاج التدرن في أي مكان آخر.
سفلس الأذن
قد تصاب الأذن بالقرحة الأولية للسفلس، أو بالطفح الثانوي. أما
الأمراض التي تصيب قناة السمع الخارجية فهي:
دمل الأذن
وهي عبارة عن التهاب في بصيلة الشعر الموجود في الأذن، لذلك

137
لا نجدها إلا في القسم الخارجي من قناة السمع.
أعراضها: ألم شديد جدا، قد ينتشر إلى الأسفل نحو الرقبة أو
نحو الفك الأسفل، كما قد يظهر تورم حول الأذن. كما أن دمل الأذن
يكون واضحا عند الفحص.
العلاج: كمادات ماء حار للأذن من الخارج. ضماد الأذن بمادة الاكتيول
المحلول بالكليسرين، استعمال المسكنات لتجنب الألم الشديد، بالإضافة
إلى مضادات الحياة المتوفرة بكثرة وأشكال مختلفة.
شمع الأذن:
في قناة السمع الخارجية غدد تفرز مادة شمعية تتساقط باستمرار من
الأذن، ولكنها قد تفرز بسرعة وتتجمع بكثرة، بالإضافة إلى الغبار، فتكون
سدادة شمعية كبيرة داخل قناة السمع الخارجية التي صعوبة في السمع
بالإضافة إلى الضغط المستمر على جدران القناة التي تسبب أحيانا تسلخ الجلد
علاجها: بواسطة غسل الأذن بعد ترطيب الشمع.
طفيليات الأذن:
في هذه الحالة يكون سبب الالتهاب طفيلي وليس جرثوميا. ومن
مساوئ هذا الالتهاب أنه يحدث فيه عدة انتكاسات، وعلاجه متعب وطويل.

138
التورمات الخبيثة في الأذن
هناك عدة أنواع من التورمات الخبيثة التي تصيب الأذن، وأغلبها تنشأ
كجزء من تورمات في الوجه.
أمراض غشاء الطبلة
التهاب الطبلة الحويصلي: وفيه تظهر حويصلة ذات لون داكن على
سطح الطبلة قد تغطي الطبلة كلها، وتسبب ألما شديدا قد يستعصي معه النوم
وغالبا ما تحدث إثر إصابة الشخص بالأنفلونزا.
وبمرور الزمن تجف هذه الحويصلة المملوءة بالدم، وتسقط، وأحيانا قد
تسبب التهاب الأذن الوسطى.
التهاب الأذن الوسطى الحاد
ويحدث هذا المرض أحيانا على أثر إصابة الشخص بالزكام، أو في
حالات تضخم الغدد اللمفاوية البلعومية، كما قد يحدث نتيجة لالتهاب الأذن
الوسطى عن طريق الدم، أي أن المكروبات التي تسبب الالتهاب تكون محمولة
من قبل الدم.
كذلك يحدث هذا المرض في حالات تمزق الطبلة، نتيجة لشدة خارجية
تقع عليها.
أهم أعراض هذا المرض: هو الألم الشديد في الأذن الذي يتزايد يوميا
مع حمى، وهذا الألم قد يصبح نابضا (أي كضربات القلب) وذلك لالتهاب
الطبلة نفسها. كذلك ثقل في السمع والطنين. ثم تبتدأ الإفرازات القيحية داخل

139
الأذن بالتجمع ودفع الطبلة إلى الخارج، حتى تتكون نقطة ضعف في
الطبلة فتنثقب، وعندئذ تخرج المواد القيحية إلى الخارج، وبهذا يخف الألم
كثيرا، أو قد تختفي من الأذن وتبدأ مرحلة القيح. وقد يشفى المرض بدون
انثقاب الطبلة، أو أن تقيح الطبلة جراحيا.
العلاج
إذا كانت الحالة في بدايتها ولم يتكون قيح في الأذن الوسطى فإن العلاج
بواسطة مضادات الحياة أو الإضافة إلى قطرات للأنف لفتح قناة أوستاكي.
أما إذا كان هنالك قيح في الأذن الوسطى فإن العلاج يجب أن يكون
بعملية فتح الطبلة لاستخراج المواد القيحية، ثم التداوي اليومي. وهكذا إذا
شوهد المريض وهو في حالة التقيح حيث يستعمل لذلك محلول فوق أوكسيد
الهيدروجين لمدة نصف إلى دقيقة واحدة، ثم تغسل الأذن بمحلول البوريك.
الاختلاطات
1 - قد تنتشر عملية التقيح والالتهاب إلى العظم الحلمي الذي يقع خلف
الأذن. وفي هذه الحالة لا يتم شفاء الحالة إلا بعد إجراء عملية جرف العظم
المذكور.
2 - قد تتكون نتيجة الالتهابات المزمنة والقيح المزمن حبيبات دموية
تشبه عنقود العنب في بداية تكوينه وتنزف باستمرار. وهي كذلك تعيق خروج
القيح، ولذلك تعرقل شفاء الأذن.
كما قد تسبب الزوائد الأذنية التي تشبه إلى حد كبير الحبيبات الدموية

140
أو قد تنشأ منها شكل القناة السمعية الخارجية. ولعلاج الحبيبات تستعمل
خارطات خاصة وتكوي بقاياها. أما الزوائد الأذنية فتزال بواسطة آلة خاصة
3 - التهاب العظم الحلمي: وذلك بانتقال الالتهاب إلى المواد القيحية
خلال الفتحة إلى تجاويف هذا العظم. علاجها بواسطة عملية خاصة.
4 - شلل العصب الوجهي:
وذلك لتعرضه إلى الضغط الناتج من الالتهاب.
وفي هذه الحالة نجد أن العين على الجهة المصابة لا تستطيع الانسداد بصورة صحيحة. وكذلك زاوية
الفم مسحوبة إلى الجهة الأخرى.
تصلب الأذن:
وهذا المرض يحدث نتيجة للالتحام الذي يحصل بين الشباك البيضاوي
والتيه الغشائي، لذلك لا تنتقل التموجات الصوتية ويصعب السمع تدريجا،
ولكن تنتقل التموجات الصوتية إلى العصب السمعي بواسطة العظام. لذلك
نشاهد المصابين بهذا المرض يتكلمون همسا، لأن الكلام الاعتيادي يسبب لهم
تضخم كبير للصوت، بالإضافة إلى الأزيز الذي يحدث أحيانا.
العلاج:
هنالك نظريتان للعلاج: وهي أن هذا المرض ناتج من اختلال بالغدد الصماء
بالإضافة إلى اختلال التمثيل الغذائي، لذلك فيكون العلاج بواسطة أنواع
مختلفة من الفيتامينات وخلاصات الغدد الصماء، وقد يسجل بعض النجاح، أما
العلاج الجراحي فيشمل فتح فتحة أخرى في الحلزون، وذلك لكي يسمح

141
للسائل اللمفي بالاهتزاز. ولكن شوهد أن هذه الفتحة تلتحم فيما بعد ويعود
المريض إلى حالته المرضية الأولى.
مرض مينير:
وهو مرض يصيب الإنسان، يتميز بحدوث دوار شديد وتقيؤ وطنين في
الأذن مع درجة قليلة من الصمم، وهو ناتج عن تهيج التيه الغشائي أو ازدياد
الضغط داخل التيه الغشائي. وجميع هذه الأعراض تحدث بصورة فجائية جدا قد
تجعل المريض يسقط على الأرض ولا يستطيع القيام. وجميع هذه الأعراض تزول
فجائيا أيضا ولا تترك أعراضا خلفها، ولكنها قد تؤثر على السمع في المدى الطويل
العلاج:
استعمال غذاء خال من الملح مع مهدء، واستعمال حبوب نيكوتنيك
أسيد، وقد تستعمل الطرق الجراحية لقطع قسم من العصب المختص بالتوازن.

142
حق البصر

143
قوله عليه السلام:
(وأما حق البصر فغضه عما لا يحل لك، وتعتبر
بالنظر به، وترك ابتذاله إلا لموضع عبرة تستقبل به بصرا
أو تستفيد به علما، فإن البصر باب الاعتبار).
* * *
مبحث البصر - العين - هو من أوعر المباحث وأصعبها، لما أو دع فيه
من إعجاز وإبداع، يبعثان على الدهشة والارتباك. وكتبت فيه مباحث بين
إفراط وتفريط، ونحن في دورنا نسلك النمط الأوسط فنعطي صورة تغني عن
الجهد والعناء.
حاسة البصر - العين
وهي الفرقة الأولى من كشافة الدماغ. عضو عجيب يرسم صور المرئيات
التي نبصرها. والأعصاب التي فيها ترسل إلى المخ رسالة تعلنه فيها عن هذه
الصور والمرئيات، وعندها ندرك إن كان الشئ الذي ننظره كبيرا أو صغيرا،
ونعرف شكله ولونه، ومقدار بعده عنا أو قربه منا. وليس بين أعضاء الجسم عضو
سريع التلف (بسبب ما يتكلفه من الجهود) مثل العينين، ولذا كانتا بحكم
موقعهما والأجزاء التي تتركبان منهما في حرز حريز يقيهما شر المؤثرات
الطبيعية، فهما موضوعتان في تجويفين بمقدمة الجمجمة، ومحصنتان بالجفون
والأهداب والحواجب.

145
تشريح العين:
بنيتها: تتألف العين من كرة العين أو (المقلة) واللواحق التابعة لها
والمقلة جسم كروي موضوع في حفرة خاصة في الجمجمة تدعى المحجر أو الحجاج
طبقات العين:
تتألف كرة العين من ثلاث طبقات:
(1) الطبقة الخارجية وتدعى الصلبة، وهي طبقة قاسية بيضاء معتمة
مكونة من أنسجة ليفية، ولكنها تكون شفافة في المقدم حيث يزداد تحدبها،
وهذه المنطقة الشفافة تدعى القرنية.
وبتعبير أوضح الصلبة - بياض العين -: غشاء ليفي متين مثقوب من
الخلف ثقبا ضيقا يمر فيه العصب البصري، وفيه من الإمام ثقب أكبر منه تدخل
فيه القرنية، وهي غشاء شفاف موضوع في الجهة المقدمة من الصلبة، وهي
كزجاجة الساعة.
(2) الطبقة الوسطى: وتدعى المشيمية: وهي طبقة سوداء تنتشر فيها
الأوعية الدموية منبسطة داخل الصلبة غير أنها تفترق عنها في مقدم العين عند
حدود القرنية، وتصبح على شكل قرص ملون يسمى القزحية، مثقوب من
الوسط بفتحة صغيرة مستديرة تدعى الحدقة (البؤبؤ)، والحدقة مجهزة بألياف
عضلية ملساء حلقية وشعاعية، فتضيق الحدقة لتقلص الأولى، وتتوسع بتقلص
الثانية، وهكذا تنظم كمية الضوء الداخل إلى العين.
وبتعبير أبسط (المشيمية: غشاء وعائي أسمر اللون أو أسوده، موضوع
في داخل الصلبة. ومنفعته امتصاص الأشعة الضوئية.

146
والقزحية: غشاء متحرك مختلف اللون، فقد يكون أسود أو أسمر
أو أزرق أو أخضر. وفي وسطه الثقب المسمى با (الحدقة) وهو قابل للانقباض
والانبساط. ومنفعته زيادة الأشعة الضوئية.
(3) الطبقة الداخلية وتدعى الشبكية: وهي طبقة شفافة مؤلفة من
منتهيات العصب البصري، والقسم الذي يلامس المشيمية منها يتألف من جسيمات
حيه على شكل عصي، ومخاريط تسمى طبقة العصي، والمخاريط تنتهي إليها فروع
العصب البصري المنتشرة في الشبكية التي هي الطبقة الحساسة الوحيدة في العين.
والعصب البصري ينفذ إلى المقلة لا من قطبها الخلفي تماما بل من نقطة منحرفة
عن هذا القطب، وبعد أن يخترق الصلبة والمشيمية يكون نتوء داخل العين،
ومن هذا النتوء تأخذ أليافه في التفرق والانتشار في كافة الشبكية. ولكن
هناك شيئا آخر وراء القزحية، ألا وهو العدسة، وهذه العدسة البلورية محدبة
الطرفين وشفافة تتألف من ألياف مرنة للغاية، تحدب طرفها الأمامي أقل من
تحدب طرفها الخلفي. وتثبت البلورية في محلها بواسطة إطار قوي يتصل
بطرفيها ويربطها بالمشيمية.
يظهر من هذا الوسط أن الطبقات التي تؤلف مقلة العين تكون خزانتين
واحدة جنب الأخرى: فالأولى وهي الإمامية تكون بين القرنية والبلورية،
ويملؤها سائل يدعى بالسائل (الخلط) المائي. والثانية وهي الخلفية تقع
بين القرنية والشبكية، يفصلها عن الخزانة الأولى البؤبؤ أو الحدقة، ويملؤها
أيضا مائع شبه سائل ولكنه شفاف يدعى السائل الزجاجي، ويقوم السائلان
في المحافظة على شكل العين الكروي.
وبأسلوب أوضح (الشبكية): هي امتداد من العصب البصري، هو الجزء
الحساس من العين، وبها يتم الأبصار إذ عليها ينطبع الشئ المرئي أولا ثم ينتقل

147
إلى المخ بواسطتها. ويوجد في باطن العين أيضا ثلاث رطوبات:
1 - الرطوبة البلورية المسماة (العدسة) لمشابهتها بحبة العدسة في
تحديب وجهتيها، وموضعها خلف الطبقة القزحية، محاطة بمحفظة من غشاء
قوي. وفائدتها كسر الأشعة الضوئية الداخلية إلى العين من الخارج، ثم جمعها
فوق الشبكية.
2 - الرطوبة الزجاجية: وهي مائع صاف أبيض كالزجاج يشبه في
قوامه الهلام أو المخاط، وهي تملأ الفراغ من الكرة العينية، ولولاها لكانت
العين مثل الكيس ملتصقة جدرانها بعضها ببعض، وموضعها خلف الرطوبة البلورية
3 - الرطوبة المائية: وهي سائل مائي القوام يملأ الخزانتين القدامية
والخلفية، المفصول بينهما بالطبقة القزحية. وقد ذكر العالم (كريسي
موريسون) في كتابه (1) فقرة وجيزة عن وصف العين ودقتها مما تدهش
وتبهر. قال: (إن عدسات عينك تلقي صورة على الشبكية فتنظم العضلات
العدسات بطريقة آلية إلى بؤرة محكمة، وتتكون الشبكية من تسع طبقات
منفصلة، هي في مجموعها ليست أسمك من ورقة رقيقة. والطبقة التي في أقصى
الداخل تتكون من أعواد ومخروطات. ويقال إن عدد الأولى ثلاثون مليون
وعدد الثانية ثلاثة ملايين مخروط. وقد نظمت هذه كلها في تناسب محكم بعضها
بالنسبة إلى بعض، وبالنسبة إلى العدسات، ولكن العجيب أنها تدير ظهورها
للعدسات وتنظر نحو الداخل لا نحو الخارج. وإذا استطعت أن تنظر في خلال
العدسات فإنك ترى عدوك مقلوب الوضع، والجانب الأيمن منه هو الأيسر.
وهذا أمر يربكك إذا حاولت أن تدافع عن نفسك، ولذا فإن الطبيعة قد
عرفت بطريقة ما ماذا سيحدث، ولذا أجرت ذلك التصميم قبل أن تقدر العين على



(1) العلم يدعو إلى الإيمان.
148
الأبصار، ورتب إعادة تنظيم كامل عن طريق ملايين خويطات الأعصاب
المؤدية إلى المخ. ثم رفعت مدى إدراكنا الحسي من الحرارة إلى الضوء. وبذا
جعلت العين حساسة بالنسبة للضوء.
وهكذا نرى صورة ملونة للعالم من الجانب الأيمن إلى فوق، وهو
احتياط بصري سليم. وعدسة عينك تختلف في الكثافة، ولذا تجمع كل الأشعة
في بؤرة، ولا يحصل الإنسان على مثل ذلك في أية مادة من جنس واحد كالزجاج
مثلا وكل هذه التنظيمات العجيبة للعدسات والعيدان والمخروطات والأعصاب
وغيرها لا بد أنها حدثت في وقت واحد، لأنه قبل أن تكمل كل واحدة منها
كان الأبصار مستحيلا، فكيف استطاع كل عامل أن يعرف احتياجات العوامل
الأخرى ويوائم بين نفسه وبينها؟!).
ملحقات العين:
(لكل عين لواحق عضلية وغدية تساعد العين على تنظيم حركاتها
ووظائفها، وتصونها من المؤثرات الخارجية فهناك:
(1) عضلات العين: يتصل بكل مقلة ست عضلات تحيط بها من كل
الجهات، وتربط المقلة من الطبقة الخارجية مع المحجر والعضلات، هذه على
نوعين: منها ما تكون مستقيمة وعددها أربعة، ومنها ما تكون مائلة وهما
الاثنتان الباقيتان. وتقلص العضلات المستقيمة يسبب تحريك العين إلى الجهات
الأربع وأما تقلص العضلات المائلة فيسبب دوران العين حول محورها الأفقي. إن
أفعال هذه العضلات كلها مترافقة مع بعضها البعض، وهذا ما يؤدي إلى تحريك
العين وجعلها في موضع مناسب لقبول الأشعة الضوئية.
(2) الأجفان: وهي منعطفات جلدية خارج المقلة تتحرك بواسطة

149
العضلات الداخلة في تكوينها، كما أن هناك في كل جفن عددا من الغدد
الدهنية تفرز بعض السوائل لترطيب العين، وتكسو، حافته الأهداب، وهي شعيرات
صغيرة مقوسة، فائدتها محافظة العين من ذرات الغبار والجسميات الصلبة التي تحل
في العين. إن حركات الأهداب المتواصلة هي التي تنبه الغدد الدمعية، فتفرز
الدموع. على أن هذه الأجفان تكون الغطاء الوحيد الذي يحفظ العين من
التأثيرات المضرة كمواجهة نور الشمس الشديد على حين غفلة. أما الحواجب
فهي نتوءات فوق العين مكسوة بالشعر أيضا تحافظ العين من العرق المتصبب
من الجبين.
(3) الغدد الدمعية: لكل عين غدة دمعية موضعها تحت الجفن العلوي
وإلى الجهة الخارجية للعين من المحجر، تفرز الغدة الدموع متماديا وتنشرها
إلى جميع الأطراف وذلك بواسطة أقنية صغيرة عديدة، وهكذا تسهل هذه
الإفرازات انزلاق المقلة بترطيبها ثم إزالة ذرات الغبار، وإذا ما انتشرت الدموع
على سطح العين اجتمعت في الكيس الدمعي الواقع في موق العين في ناحية الأنف
وعندئذ تتسرب إلى الأنف بواسطة قناة مخصوصة، على أنها إذا تكاثرت عن
الحد الطبيعي تتدفق من الأجفان وتسيل. وهذا ما يحصل كثيرا بنتيجة الانفعالات
النفسية أو بتأثير بعض أبخرة وغازات مهيجة.
فسلجة العين:
تكون العين، ورؤية الأجسام.
العين تمثل بتركيبها وعملها الآلة المصورة، فالجزء الذي يرى من العين
هو اللوح في الآلة المصورة، وهذا الجزء هو الطبقة الشبكية الحساسة، أما
الطبقات والأجسام الأخرى فتقوم بجمع الأشعة وإيصالها إلى الطبقة الشبكية

150
لكي تتكون فيها أشباح للأجسام المرئية، وهذه الطبقة كما علمنا هي أرق
شئ في العين تكتنفه أنسجة متينة تصونه من الأذى.
إن النور الواقع على العين من أي جسم مضئ يعاني في سيره قبل أن
يصل إلى الطبقة الشبكية عدة انكسارات متعاقبة، أولا عند: سطح القرنية
والسائل المائي، ثانيا عند العدسة البلورية المحدبة ثم السائل الزجاجي وتقوم
جميع هذه الأقسام بوظيفة عدسة كبيرة محدبة الطرفين تلم الأشعة الضوئية كلها
على الشبكية فتكون أشباحا للأجسام الخارجية بصورة مقلوبة، على أن النور
المنعكس على الشبكية لا يؤثر مباشرة على الألياف العصبية المنتشرة على هذه
الطبقة من العين، بل إنما يؤثر على مناطق العصي والمخاريط التي مر ذكرها
في موضوع تشريح العين. وهناك تحدث بعض التغيرات الكيمياوية والطبيعية
التي تنبه بها منتهيات ألياف العصب البصري، وهكذا ينتقل التأثير إلى المراكز
البصرية في المخ فينشأ من ذلك شبح الجسم الحقيقي بصورة معتدلة ويؤول الأمر
إلى الرؤية. فالذي يرى في الحقيقة هو المخ لا العين، لأنك إذا قطعت الحبل
التلغرافي الذي يصل بين العين والمخ لم تر شيئا، وكذلك لا ترى أيضا إذا
تلفت العين فكلاهما ضروري لرؤية الصور.) (1)
هذا الدرس الموجز عن كيفيات العين وحالاتها الغريبة الخارجة عن قدرة
نطاق البشر تكاد تكون محل اتفاق عند العلماء، نعم إن الاختلاف إنما وقع في
كيفية الأبصار. فالأقدمون يظنون أن إبصارنا للأشياء يتم بواسطة نور ينبعث
من أعيننا فيدرك المرئيات. وقد ثبت الآن غير هذا الرأي، فقال علماء الطبيعة
إن إبصارنا للأشياء يتم بواسطة أشعة تنبعث من الجسم المرئي من كل نقطة
فيه فترتسم له صورة مصغرة في أعيننا، فيحمل عصب العين تأثير هذه الصورة إلى



(1) علم الصحة.
151
المخ فيدركها. ولكن إن قلت كيف ينقل عصب العين تأثيرها إلى المخ، وما
معنى أنه يدركها وهو مادة جامدة لا ميزة لها على أي مادة عضوية على قول
الماديين. عجز أكبر علماء المادة عن الجواب.
أما الحقيقة: إن العين آلة للإبصار، ولكن المدرك للأشياء في حقائقها
هو الروح أولا، فها هو الميت له عين ترسم المرئيات على شبكيتها، ومخ لا
يفترق في مادته عن مادة مخ الرجل الحي فلماذا يدرك ولا يتعقلها؟ أليس لأن
الروح قد زايلته فصار لا يعي ولا يبصر؟.
على أنه قد ثبت أن المنوم نوما مغناطيسيا يبصر الأشياء وهو مقفل العين،
بل ويبصرها من قفاه ومن خلال الحجب، بل ومن بلاد بعيدة، فما الذي أدركها
فيه، وعينه معطلة؟ أليس هذا دليل محسوس على أن المدرك للمرئيات هو الروح
دون الجسد.
البقعة العمياء والشائبة الصفراء:
(إن حساسية الشبكية ليست متساوية في كافة أنحائها فالحساسية تكون
مفقودة تماما في المنطقة الواقعة في مفترق ألياف العصب البصري، إذ تكون
خالية من العصي والمخاريط وتسمى بالبقعة العمياء، لأن أشباح الأجسام التي
تقع على هذه المنطقة لا ترى أبدا، على أنها تكون على أشدها في بقعة منخفضة
صفراء اللون ولذلك تدعى بالشائبة الصفراء، ويكون موضعها على سطح
الشبكية من الداخل بموازاة الحدقة تماما، وتبلغ مساحتها نحو مليمتر مربع
واحد، وتكون فيها المخاريط والعصي أشد ازدحاما من أي بقعة أخرى. لذلك
فالصور الواقعة على هذه المنطقة - كما يحدث في العين السليمة - ترى بوضوح
كلي، لأن الأشعة الضوئية تتلاقى جميعها في هذه البؤرة، ولكن لا يحدث ذلك إذا

152
كان الإنسان قصير النظر أو طويله لأن الأشعة، تتلاقى حينئذ أما أمام هذه
البؤرة وأما خلفها فلا ترى الأشياء بوضوح.
تكييف العين
قلنا أن للعين عدسة محدبة تنعكس من خلالها الأشعة الضوئية فتقع
على الشبكية، وهذا ما يؤدي إلى تكون الصور. ولكن كل منا يعلم أن موضع
الصورة المتكونة لجسم ما بواسطة عدسة محدبة يختلف باختلاف بعد الجسم عن
العدسة، غير أن العين وهي تمتلك مثل هذه العدسة أيضا نراها ترسم الصور
البعيدة والقريبة بوضوح تام أي أن صور جميع الأجسام على أبعادها المتفاوتة
تقع دائما وأبدا على الشبكية، إذن فما هي العلة في هذا النظام؟ إن البؤرة
الأصلية في الأعين السليمة تقع على الطبقة الشبكية تماما، فإذا زادت أبعاد
الأجسام المرئية أو قلت عن حد محدود وقعت صور الأشياء أمام الشبكية
أو خلفها فلا تحصل الرؤية. غير أن هناك عاملا مهما لتنظيم كل هذا حسب
الأبعاد المختلفة وبذلك يمكن للفرد أن يرى الأشباح تماما، وهذا العامل
هو تكييف العدسة البلورية نفسها، إن هذه العدسة بطبيعتها متكونة من ألياف
مرنة جدا فبتأثير تقلص وانبساط العضلات الدائرية والطولية المحيطة بها
يحدث تغير في انحنائها. فإذا كان الجسم قريبا من العين تقع صورته خلف
الشبكية فيزداد حينذاك انحناء العدسة البلورية وبذا تقترب البؤرة وتقع الصور
على الشبكية. ويحصل عكس ذلك إذا كان الجسم المرئي بعيدا. وبهذه
الصورة يمكننا تفسير عدم الرؤية لجسمين موضوعين على بعدين مختلفين رؤية
واضحة في وقت واحد وذلك لأنه إذا رؤي القريب واضحا يفقد البعيد وضوحه
والعكس بالعكس. ولكن لنعلم إن هذا التكييف محدود دائما فاقرب المسافات

153
التي يمكن للعين السليمة أن ترى الأشباح فيها هي 6 بوصات وأبعدها هي
20 قدما) (1).
أمراض النظر:
رب سائل يسأل لم يضع بعض الناس النظارات على عيونهم؟ إنهم يضعونها
لعيب في عدسة العين (أو في باقي أجزاء العين) قد يولد معهم أو قد يطرأ عليهم
فلا يمكنهم جمع أشعة النور التي تدخل العين في نقطة معينة. وقد فكر الأطباء
في إصلاح هذا العيب باستعمال عدسة أخرى أمام العين لكي تتلاقى الأشعة في
بؤرة النظر منها وهذه هي النظارات.
إن أهم أمراض النظر الفسلجية هي:
(1) قصر النظر - ويعني أن العين القصيرة النظر لا يمكنها أن ترى
الأجسام بوضوح إلا إذا كانت أقرب مما يراها ذو النظر السليم، وينشأ هذا
المرض من ازدياد في أنحاء القرنية والبلورية، أو من زيادة طول كرة العين من
الإمام إلى الخلف، وهكذا يكون من الضروري تقريب الجسم كثيرا من العين
ليتسنى لها رؤيته بوضوح، لذلك فالعين القصيرة النظر تعالج باستعمال عدسة
مقعرة ذات بعد بؤري مناسب كي تفرق الأشعة التي تقع على العين من الجسم
المنظور، وبذا تبتعد الصورة عن البلورية وتسقط على جدران الشبكية.
(2) طور النظر - ويعني أن العين المصابة بهذه العلة لا يمكنها رؤية
الأشباح رؤية واضحة إلا إذا كانت على أبعد مما يراها ذو النظر السليم، وهذا
المرض بعكس السابق ينشأ من تسطح القرنية والبلورية أو قصر كرة العين عامة
من الأمام إلى الخلف، وحينئذ تكون بؤرة العدسة خلف الشبكية. فتعالج



(1) علم الصحة.
154
العين ذات النظر الطويل باستعمال العدسات المحدبة لكي تلم الأشعة التي تقع على
العين من الجسم المرئي، وبذا تقترب الصورة من البلورية وتسقط على جدران الشبكية.
صحة العين: عرفنا سابقا ما لحاسة البصر من أهمية عظمى في حياة الإنسان لذلك
يجب بذل العناية الخاصة بالمحافظة عليها دائما ويمكننا أن نلخص الأمور التي
يجب أن تراعى في هذا السبيل:
1 - لا يجوز الاشتغال طويلا في الأعمال الدقيقة كالحفر وصنع الساعات
والصياغة والقراءة، إذ ينتج عنها قصر في النظر والتهاب وصداع ويمكننا، أن نقي
أنفسنا شر هذا الضرر ونخفف من وطأته على الأقل بواسطة النور الجيد واستعمال
البلورات المكبرة وإصلاح هفوات انعكاس الأنوار، وتتابع الاستراحة بين ساعات
العمل. والنور الصحي هو ما كان أقرب شبها لضوء الشمس دون أن يكون ساطعا
ويفضل أن يكون الجلوس بحيث يقع الضوء على الكتاب مثلا من الخلف فوق
الكتف لا من الإمام كي لا يكون للظل أثر في النظر أثناء المطالعة أو العمل
كما أنه يجب الالتفات إلى إراحة العين بين آونة وأخرى. كما أنه من
المستحسن النوم في غرفة مظلمة خالية من الأنوار الساطعة.
2 - يجب الاجتناب عن القراءة في وسائل النقل المتحركة أو على ضوء
متحرك (كالشمع) وذلك لتغير مساقط الأبصار على الورق دائما فينتج تعب
عام لأجزاء العين.
3 - وجوب الاجتناب عن دعك العيون حين دخول أي جسم غريب إليها
بل الأفضل تركها حتى تخرج الأجسام الغريبة بواسطة الدموع، وإلا فتغسل
بمحلول حامض البوريك أو بماء قراح، كما أنه يجب إبعاد الذباب عن العينين
لأنه العامل الأساسي في نقل جراثيم الرمد الحبيبي أو التراخوما من المريض إلى

155
السليم. وكذلك الاجتناب عن استعمال مناشف الغير.
4 - ومن الواجب كذلك تربية النظر وتمرينه لأنها تزيد في دقة البصر
فالصياد يدرك الفريسة قبل غيره بفضل الاعتياد والممارسة، وكذلك البحري
الممارس والبدوي في الصحراء فإن لهم من أفقهم في البحر والسهل تأثيرا حسنا
في البصر وراحته، وأن ندرة قصر النظر في البدويين لأحسن دليل على ذلك.
5 - ويجب الحذر في حسن وقاية العين من استعمال النظارات الملونة بلا
لزوم مبرر، وقد يكون استعمالها للزينة ففيه ضرر للعين. والأفضل في النظارات
التي تستعمل لوقاية العين من الغبار فقط أن تكون ذات لون أصفر أما إذا كان الغرض
من استعمالها تقليل النور عن العين فالأفضل أن تكون ذات لون رمادي.
فائدة قيافية:
(قال بعض الحكماء: ينبغي أن تكون عين كل إنسان قدر ثمن بشبر
من أشبار يده، فمن كان عينه أعظم وأوسع من هذا القدر فهو كسلان بليد،
ومن كان عينه أصغر من هذا وكانت غائرة فهو خبيث مكار، ومن كان عينه
بارزة فهو جاهل وقح، ومن كان شديد سواد العين فهو حسن الخلق سليم الطبع
يحب الخير والصلاح، ومن كان عينه شديدة الحمرة فهو غضوب، ومن كان عينه
بطيئة الحركة كأنها جامدة فهو ذو مكر ورأي، وسرعة النظر مع سرعة حركة العين
دليل على اللصوصية والمكر والخديعة، والعين الزرقاء التي تبرق بالصفرة والخضرة
كالفيروزج وفي حولها نقطة حمراء مثل الدم تدل على أن صاحبها شر الناس
ولا سيما إذا كانت قامته طويلة وأسنانه معوجة، ومن كان عينه يشوبها صفرة
تدل على أن صاحبها سفاك للدماء شرير قتال، وخير العيون الشهلاء، فإن لم

156
تكن الشهلة شديدة البرق ولا تظهر عليها صفرة أو حمرة فإنها تدل على شدة
الفطانة ولطافة الطبع.) (1)
* * *
ولما كانت العين من أهم أعضاء الإنسان وأبدعها في الإعجاز، رأيت أن
أفتح بابا واسعا للبحث في نواحيها، وفيه إرشاد مبتكر في حينه. وجهت سؤالي
إلى الدكتور الأخصائي في العين (قيصر عبد الله طعمة) فإنه مارس هذا الفن
بمختلف أدواره. والدكتور (قيصر عبد الله) مسيحي سوري الأصل، ذكر لي
أنه كان عقيدا في الجيش العراقي أيام فيصل الأول. التقيت معه في عيادته في
شارع الإمام الصادق (عليه السلام) في النجف الأشرف سنة 1381 هجرية أيام اشتغالي
بتأليف هذا الكتاب، ورغبت إليه أن يكتب بحثا عن العين حين اختصاصه.
فأجابني فيما يلي:
(كلمة الدكتور قيصر عبد الله طعمه)
(حضرة الفاضل الكريم السيد حسن القبانچي المحترم.
أرجو أن أكون عند حسن ظنكم. وأشارككم بكلمة لعلها تكون مفيدة
وفعلا كتبت لجنابكم شيئا أعتبره بدائيا عن العين، راجيا أن يكون فيه نفع
وفائدة، وعسى أن يكون كتابكم مفيدا قيما وأن تتوفق ويتوفق كل مخلص
لخدمة العلم والأمة والوطن. واقبلوا فائق الاحترام.
المخلص
الدكتور قيصر طعمه



(1) كتاب الروح.
157
العين مصباح الجسم. وقد وضعها الخالق عضوا بصريا لينير طريقنا في
السير وفي الأسفار وفي طلب الرزق.
والعين مرآة صالحة، تشف بمرآها البراق عن الصحة، وبقلة براقها عن
النحول والاختلال والاعتلال الصحي.
وإني كطبيب اشتغل فقط في حقل العين كثيرا ما سمعت المكفوف البصر
يقول: (موتي أفضل من حياتي). وسمعت مرارا من المريض الأعمى (أصحيح
أعود وأرى الدنيا وأعيش من جديد!) وكثيرا ما كان يبكي الضرير بكاءا
مرا عندما كنت أفحصه وأقول له: مع الأسف لا أملا بعد في الشفاء. وليس
الأعمى عالة على نفسه. بل عالة على أيضا، من حيث طعامه وشرابه ومؤاواته
لذلك من الضروري أن تزيد الإدارة الصحية عدد المستشفيات العينية والاكثار
من الارشادات الطبية الوقائية لمحافظة هذا العضو الثمين الذي إذا (لا سمح الله)
فقده أحدنا فقد أعز ما وهبه الله في الحياة.
أما تكوين العين إذا تمحصتم إنساجها وتمعنتم بمحتوياتها، لأخذتكم
الدهشة كيف يشتغل هذا، الجهاز وإذا ذهبتا إلى أقل عطب يصيب جهاز العين
وتحسسه للأمراض أيضا نستغرب مدى انفعالاته وتأثره لما يتعارض وإعاقته
عن تأدية واجبه. فإذا مهما بالغنا بالمحافظة على هذا العضو الثمين فنحن على
حق في عملنا.
العين:
كروية الشكل، وضعها الله في حفرة عظيمة في القسم الأمامي من الجمجمة
ووقاها بأجفان للازدياد من المحافظة عليها ووقايتها من الغبار، ومما تتعرض له

158
من الأضرار الأخرى، لأنها سريعة التلف إذا ألم بها عطب.
كرة العين:
تتألف من الخارج إلى الداخل من أربع طبقات:
الأولى: وتدعى المنظمة المكونة من نسيج رقيق شبه شفاف، فيه أوعية
دموية رقيقة جدا كثيرة متشابهة.
أما الطبقة التي تليها وهي (الصلبة) مكونة من ألياف متكاثفة قوية،
وتنتهي من الأمام بالقرنية، أو بلورة العين كما نقول: بلورة الساعة.
والطبقة الثالثة: وهي (المشيمية) سوداء اللون تحتوي على أوعية دموية
غزيرة ملاصقة للطبقة الصلبة منتهية من الأمام بالقزحية التي وسطها فتحة
مستديرة تدعى (البؤبؤ).
الطبقة الرابعة: وهي (الشبكية) كناية عن طبقة شفافة ينتهي فيها العصب
العيني، وينفذ إلى القعر (كنتوء) ينفرش بخيوط من أعصاب في كل الشبكة
إذا أصيب هذا العصب بالتهاب أو بضمور، أو بأي مرض آخر تبطل الرؤية
لأنه بمثابة شريط لا تتم عملية الرؤية بدونه.
القزحية:
هي تكملة الطبقة المشيمية للإمام، يختلف لونها في الأشخاص، فمنها
اللون الأسود، والقهوائي، والخرنوبي، وغيره. وكما يكثر اللون الأسود في
الأمة الشرقية، هكذا يكثر اللون الأزرق في الأمة الغربية. وفي وسط القزحية
فتحة مستديرة صغيرة، تتقلص وتضيق، وتكبر وتنفرج لتنظيم كمية النور

159
الداخل إلى العين.. وراء القزحية (العدسة البلورية) المحدبة الشكل،
المكونة من ألياف مرنة جدا مربوطة بالمشيمة من طرفيها ومغلفة بإطار رقيق
جدا. وعندما تصبح كثيفة عند بعض الأشخاص في أيام الشيخوخة تمنع مرور
النور من البؤبؤ إلى الداخل فتسبب العمى أو ما يدعوه العامة الماء الأبيض (أي
الساد). وقد يستخرج هذا الساد بعملية جراحية فيعاد إلى المريض الأعمى
رؤيته.
العين تحتوي على غرفتين: أمامية، وخلفية: الأمامية يحدها من الأمام
القرنية. ومن الخلف القزحية والعدسية. وضمنها سائل مائي بعد العدسة.
تبتدئ الغرفة الخلفية. ويحدها من الخلف والجوانب الطبقة الشبكية،
تحتوي على سائل زجاجي شفاف أشبه بزلال البيض.
عضلات العين:
عددها ستة: العضلة الفوقية المستقيمة. والعضلة التحتية المستقيمة. والعضلة
الأنسية والوحشية المستقيمتين. وعضلة فوقية مائلة، وعضلة تحتية مائلة. وبعمل
هذه المجموعة من العضلات تتم حركة العين واستدارتها. وكثيرا ما نرى
الحول في بعض العيون نتيجة عدم توازن الحركة في هذه العضلات لما يطرأ
على أحدها من المرض يسبب تقصيرها في الواجب.
غدة دمعية:
توجد غدة دمعية بقدر حبة الحمص في الزاوية الخارجية للعين. هذه
الغدة تفرز الدموع. كما وإنه يوجد في الزاوية الأنفية للعين كيس دمعي
متصل بقناة دمعية تتصل بأجوف الأنف. وفرز الدموع يرطب ويغسل المقلة

160
من الغبار في النهار، ويجرف ذرات الغبار إلى الزاوية الأنفية. وكثيرا ما نرى
صباحا في زاوية العين أوساخا تنجرف بعملية الغسل صباحا.
الرؤية:
العين في مقابلتها النور تفسر لنا الأشباح والأحجام والأشكال، فنفرق
بين هذا وذاك، بتكسر النور عندما يقع على القرنية. ثم في السائل المائي في
الغرفة الأمامية، ثم في العدسة البلورية المحدبة. ويتجمع النور على الشبكية
(الطبقة الرابعة) وبواسطة العصب البصري المتوزعة أطوافه في الشبكة تحمل
(أي تنقل هذه الأشباح إلى الدماغ لأجل تفسيرها) وهنا يتبين لنا أن جهاز
العين بوحده (أي بدون العصب البصري) لا يقدر أن يتمم وظيفته، ولا تتم
عملية الرؤية. وكثيرا ما نرى عينا سالمة من جميع الوجوه ولكن عصبها البصري
لمرض ما متوقف عن الإرسال. فلا تتم الرؤية والشخص أعمى، والعكس بالعكس
قد يكون العصب البصري سالما، ولكن القرنية أم العدسة أم المشيمة أم الشبكة
مريضة فلا تحصل الرؤية. أما إذا كنا نفكر كيف جاءت الخليقة بهذا الترتيب
وهذه الدقة، وهذه الحساسية معا، نعود إلى التفتيش عن أسرار الخالق، وما
نحن تجاه أسراره أكثر من ذرة في هذا الكون...
هذا ما نقوله بصورة بدائية عن العين. أما أمراض العين: فهي كثيرة
تجدوها في مجلدات طب العين... والمرض السائد في العراق التراخوما.
وهذا المرض موجود بصورة عامة في الشرق الأوسط. وقد اهتمت بمكافحته
المنظمة العالمية، وتشكلت لجن ومؤتمرات كثيرة في صدد مكافحته. يكثر في
الطبقة الفقيرة. وفي العائلة الكادحة الجاهلة، كالفلاح والعامل. وإن كنا إلى
الآن نجهل ما يسبب هذا المرض، إلا أننا نعلم أنه ينتقل بالعدوى هو

161
عن طريق الذباب أم الملامسة، إذا أصيب فرد من العائلة بهذا الداء انتقل منه
إلى جميع أفراد العائلة التي يعيش معها ويخالطها.. مدة المرض طويلة
(أي لسنوات عديدة) إذا لم يعالج معالجة طويلة من قبل أطباء العيون.
وتحتاج إلى صبر كي لا تحدث اختلاطات كالقرحة وانسداد القناة الدمعية
والشعرا. ويجوز أن يمتد الالتهاب إلى القزحية والغرف العينية فيحدث
العمى. وهنا الطامة الكبرى. فعند حدوث أي التهاب بدائي في العين، الأفضل
أن تسرع إلى الطبيب.
أما الأمراض الأخرى التي رأيتها بكثرة: فهي الماء الأسود، وفي
النساء خاصة. والماء الأبيض (أي الساد) في الشيخوخة.
وإني آسف أن المرض الأول ما وصل إلي إلا بعد خراب البصر.
فهناك عجوز وضعت لزقة (صفار البيض). وآخر مرزا يدعي طبابة العين
وصف (ياخة). وبدوي يتعاطى مداوات العيون وصف (الكي).. ولما يئس
المريض من كل علاج واختفى نور العين، بالإضافة إلى الوجع الصدغي على
ناحية العين المريضة الذي لم يقل، بل لا طاقة لتحمله، أتى إلى الطبيب العيني
يستشيره بأمره. ولكن لم تجد الاستشارة بعد فائدة إلا بتسكين الألم وإرشاد
المريض للاعتناء بالعين السالمة.
أما مرض الماء الأبيض: وهو تكلس العدسة البلورية وعدم مرور النور
فيها إلى الداخل، فقد وجدته كثيرا وإن فعلا هو مرض الشيخوخة، إلا أنني
لاحظت أن سوء التغذية والفقر والقلق على الحياة له دخل في الموضوع.
كما وأنني لاحظت أن الحزن العميق والمغالات في النحيب واللطم على الوجه
بدون وعي عند النساء لفقد عزيز من الأسرة كان من أهم الأسباب لمرض
الماء الأسود. وأظن إذا ما ارتفع المستوى العلمي والمستوى الغذائي في أي

162
أمة عبثا نحاول أن نتجنب مساوئ الحياة. وهذا يحتاج إلى وقت طويل،
وعسانا سائرين في طريقنا إلى ما هو أنسب وأسمى.
ولنختم حديثنا بكلمة عن كيف نحافظ على أعيننا. أو بالحري
عن هذا العضو الثمين بملاحظة ما يأتي:
1 - غسل العين والوجه كل صباح بعد النوم بماء فاتر وصابون أبو الهيل
والتنشيف بمنشفة خاصة لا يستعملها أحد.
2 - لنتجنب الاشتغال في الأشياء الدقيقة، كالحفر والرسم والصياغة
والنقش وما أشبه ذلك بصورة مستمرة بدون إعطاء فترات للاستراحة.
3 - لا يجوز أن نقرأ على ضوء متحرك كالشمعة، ولا على نور
ضئيل أو نور قوي يبهر العينين.
4 - لا يجوز أن نطالع ونحن في قطار أم سيارة أم عربانة لأن الحركة
تؤثر على تكثيف العين لتثبيت الأحرف.
5 - استشر الطبيب العيني عند ملاحظتك أي تغير في رؤيتك، وامشي
على المثل القائل (درهم وقاية ولا قنطار علاج).
* * *
قرأت لفضيلة الشيخ - محمد الخليلي - حفظه الله لفتة لطيفة استعرتها
منه هنا:
(ثم لا يخفى أن لهذه الآلة (العين) البديعة الخلقة، العظيمة الفائدة
(عدا الإبصار) وظائف أخرى تجعل العقل المحدود في إدراكه في حيرة
واندهاش، فإنها هي المرآة التي تنعكس فيها جميع المشاعر الحياتية وصروفها،
وهي تلك النقطة الصغيرة التي تتجمع فيها ثم تشع منها مختلف العواطف التي
تجول في خاطر الإنسان، فإذا كان مسرور الخاطر بان في عينيه قبل أن

163
يرتسم على وجهه، وإذا كان غضبانا تطاير الشرر منهما، وإذا كان خائفا
زاغ بصره، وإذا كان خجولا قرأ الخجل في عينيه، بل وحتى المحب الذي
ينطوي على كبد حرى فيكتم هواه لا يخفى أمره بل تتكلم عيناه، كما
قال الشاعر:
وللعيون أحاديث بلا كلم
وكم لها في الهوى شرح وتبيان
وكم تناجى المحبون، وتفاهم الشعراء بلغة النظر وحديث العيون إذا
ما تعذرت عليهم لغة الكلام كما قال أحدهم:
وتعطلت لغة الكلام وخاطبت
عيني في لغة الهوى عيناك
إذا فالعين هي المرآة الصافية التي تنعكس فيها كل الخوالج الحيوية،
والمؤثرات النفسية، أما إذا انطفأت جذوة الحياة تعتمت قرنية العين، وانطفأ
مصباح نورها كما ينطفئ المصباح الكهربائي حينما ينقطع عنه التيار.
وهي أيضا تنم عن شخصية الإنسان من عزيمة أو ضعف أو تردد أو همة
أو أي صفة جبل عليها أو اعتادها، كما تضفي على الوجه نوعا من الرقة
والجمال لا يجهله الكثير من الناس.
وهي عنوان الصحة والمرض، ودليل انحراف المزاج واستقامته، بل
المقياس الدقيق لدى الأطباء للتشخيص ومعرفة الصحة والداء.
وأخيرا فإنها دون سائر الأعضاء جزء من المخ تكونت منه ثم تطورت
إلى وضعها المرئي. وإن العصب البصري خاصة ممتد من خلايا نفس المخ
فلا غرابة إذا ما أصبحت تعرب عن كلما يجري فيه من انطباعات وإحساسات،
فهي مترجمة له حاكية عما فيه، إذا فالمخ مبعث العواطف والإحساسات، والعين
لسانه الناطق وترجمانه الصادق) (1).



(1) شرح توحيد المفضل.
164
وجماع القول إن من وصل إلى معرفة ما أودع الله تعالى في هذا العضو
من القدرة والأعجاز الباهر، يعرف عند ذاك مدى قول الإمام عليه السلام واهتمامه
به، وإنه يجب بذل العناية فيه ووقايته وصيانته من الطوارئ، وحفظه عما يزري
به من النظر إلى ما لا يحل النظر إليه، لأنه من النعم الجليلة، وليس في مقابل
النعم أن نستخدمها في معصية الله.
قال علي أمير المؤمنين عليه السلام: (ليس في الحواس الظاهرة شئ
أشرف من العين، فلا تعطوها سؤلها فتشغلكم عن ذكر الله).
فالبصر إن أعطي حقه استخدم في التبصر والنظر في آثار الغابرين
وما كانوا عليه، وما آل أمرهم إليه بعد ذلك، لنستفيد بصيرة بالأمور
وتجربة في الحياة، ومعرفة بأمور العيش السعيد في الدنيا والآخرة.
والبصر إن استخدمناه حيث يصح استخدامه يفيدنا يقينا أكثر حينما
ننظر به إلى آيات صنع الله وأعاجيب مخلوقاته، وكيفية تركيبها وتناسقها
وانسجامها... كل ذلك نستطيعه بالبصر، هذا بالإضافة إلى البصيرة التي
نكسبها منه حين نجعله موضعا وبابا للاعتبار كما يريد الإمام عليه السلام.
ومن المفيد للجميع أرى أن أستعرض الآيات القرآنية التي استعرضت
ذكر العين والأبصار، تدليلا على عظمة هذا العضو، وأنه من أهم الأعضاء
وأعلاها في الإنسان.
فمن ذلك ما جاء في سورة (البقرة): (إن الذين كفروا سواء عليهم
أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى
أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم).
المعنى (والله أعلم): إن الذين كفروا (أي جحدوا الحق) يستوي
عندهم أن تخوفهم من عقاب الله أو لا تخوفهم، فهم لا يؤمنون، لأن الله قد

165
أغلق قلوبهم، وختم عليها وعلى أسماعهم فلا يتسرب إليها علم يصلحهم
ويحييهم، وجعل على أبصارهم غطاء فلا يرون آيات الله في الكون ليتعظوا بها.
هؤلاء سينالهم من الله عذاب عظيم.
وجاء في سورة الأنعام: (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم
وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به).
المعنى ظاهر، وهو أنه: قل أرأيتم أيها المشركون بالله إن أخذ الله
سمعكم وأبصاركم وأقفل قلوبكم، فمن إله غير الله يأتيكم به؟ وذلك
لردعهم عن الشرك بالله.
وفيها أيضا: (ذلك الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه
وهو على كل شئ وكيل، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو
اللطيف الخبير، قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي
فعليها وما أنا عليكم بحفيظ).
هذا قول محمد (ص) للمشركين: (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو
خالق كل شئ فاعبدوه) دون سواه (وهو على كل شئ وكيل) لا يمكن
للأبصار أن تدركه، وهو يدركها، وهو اللطيف بالناس، الخبير بأحوالهم،
وقد جاءتكم دلالات وعلامات من ربكم تجلي لكم الحق، فمن أبصر الحق
وآمن وعمل به، فقد أبصر الخير لنفسه، ومن عمي عن الحق فعلى نفسه
العقاب، (وما أنا عليكم بحفيظ) أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها، فإن
ذلك لله وحده، أما أنا فنذير لكم
وجاء في سورة الرعد: (قل هل يستوي الأعمى والبصير، أم هل
تستوي الظلمات والنور).
يقول الله تعالى لنبيه محمد (ص): قل يا محمد لهؤلاء المشركين

166
الذين عبدوا من دون الله (الذي بيده نفعهم وضرهم) ما لا ينفع ولا يضر،
هل يستوي الأعمى، الذي لا يبصر شيئا ولا يهتدي لحجة يسلكها إلا بأن
يهدى، والبصير الذي يهدي الأعمى لمحجة الطريق فيتبعه، ويعرف الهدى
فيسلكه؟ وأنتم أيها المشركون الذين لا تعرفون حقا ولا تبصرون رشدا.
وقوله: (أم هل تستوي الظلمات والنور) أي هل تستوي الظلمات التي لا ترى
فيها المحجة فتسلك، ولا يرى فيها السبيل فيركب، والنور الذي يبصر به
الأشياء ويجلو ضوؤه الظلام؟ يقول: إن هذين لا شك غير مستويين، فكذلك
الكفر بالله، إنما صاحبه منه في حيرة يضرب أبدا في غمرة لا يرجع منه إلى
حقيقة، والإيمان بالله صاحبه منه في ضياء يعمل على علم بربه ومعرفة منه
بأن له مثيبا يثيبه على إحسانه، ومعاقبا يعاقبه على إساءته، ورازقا يرزقه،
ونافعا ينفعه.
وجاء في سورة (الحجر): (لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا
منهم، ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين).
يقول الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وآله: لا تتمنين يا محمد ما جعلنا من
زينة هذه الدنيا متاعا للأغنياء من قومك، الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر
يتمتعون فيها، فإن من ورائهم عذابا غليظا، (ولا تحزن عليهم) أي لا تحزن
على ما متعوا به، فجعل لهم، فإن لك في الآخرة ما هو خير منه، وقوله:
(واخفض جناحك للمؤمنين) يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله: وألن جانبك
لمن آمن بك، واتبعك واتبع كلامك، وقربهم منك ولا تجف بهم ولا تغلظ
عليهم. يأمره تعالى بالرفق بالمؤمنين.
وجاء في سورة (الكهف): (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم
بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا).

167
يقول الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وآله: واصبر يا محمد نفسك مع أصحابك
الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي، أي يعبدون الله صباحا ومساء يتحرون
طاعته، يريدون بفعلهم هذا وجه الله، ولا يريدون به عرضا من عرض
الدنيا. (ولا تعد عيناك عنهم) أي لا تصرف عيناك عن هؤلاء الذين أمرتك
يا محمد أن تصبر نفسك معهم إلى غيرهم من الكفار، ولا تجاوزهم إليه (تريد
زينة الحياة الدنيا) يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وآله: لا تعد عيناك عن هؤلاء
المؤمنين الذين يدعون ربهم صباحا ومساء إلى أشراف المشركين تبتغي بمجالستهم
الشرف والفخر، فهو يريد بزينة الحياة الدنيا مجالسة أولئك العظماء.
وجاء في سورة (طه): (ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم
زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى).
يقول الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وآله: ولا تنظر إلى ما جعلنا لهؤلاء
المعرضين عن آيات ربهم وأمثالهم، من متعة في حياتهم الدنيا يتمتعون بها
من زهرة عاجل الدنيا ونضرتها (لنفتنهم فيه) أي لنختبرهم فيما متعناهم به
من ذلك ونبتليهم، فإن ذلك زائل وغرور وخداع، ورزق ربك الذي وعدك
به أن يرزقكه في الآخرة حتى ترضى، وهو ثوابه إياك، خير لك مما
متعناهم به من زهرة الحياة الدنيا، وأبقى أي وأدوم لا انقطاع له
ولا نفاد.
وجاء في سورة (يس): (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم
سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون).
المعنى: أي جعلنا من أمام هؤلاء المشركين سدا، ومن خلفهم سدا،
أي أنه زين لهم سوء أعمالهم فهم يعملون ولا يبصرون رشدا، وينتبهون
حقا.

168
وفيها أيضا: (ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى
يبصرون).
المعنى: ولو نشاء لأعميناهم عن الهدى،
وأضللناهم عن المحجة،
أو لو نشاء لتركناهم عميا. وقوله: (فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون)
إي كيف يبصرون الحق وقد طمسنا على أعينهم.
وجاء في سورة (النحل): (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون
شيئا، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون).
يقول الله تعالى ذكره: والله تعالى أعلمكم ما لم تكونوا تعلمون، من
بعد ما أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعقلون شيئا ولا تعلمون. فرزقكم
عقولا تفهمون بها وتميزون بها الخير من الشر، وبصركم بها ما لم تكونوا
تبصرون، وجعل لكم السمع الذي تسمعون به الأصوات فيفقه بعضكم عن
بعض ما تتحاورون به بينكم، والأبصار التي تبصرون بها الأشخاص، فتتعارفون
بها وتميزون بها بعضا من بعض، والأفئدة أي القلوب التي تعرفون بها
الأشياء فتحفظونها وتفكرون فتفقهون بها (لعلكم تشكرون) أي فاشكروا
الله على ما أنعم به عليكم من ذلك:
وجاء في سورة (البقرة): (مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما
أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون، صم بكم
عمي فهم لا يرجعون).
المعنى: هؤلاء المنافقون الذين دخلوا في الإسلام ثم نافقوا، مثلهم
كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد نارا فأضاءت له ما حوله من قذى أو أذى
فأبصره حتى عرف ما يتقي به، فبينما هو كذلك إذ أطفئت ناره فصار لا يدري
ما يتقي به الأذى.

169
فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال من الحرام،
والخير من الشر، فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يفرق بين الحلال والحرام
والخير من الشر.
وأما النور فهو الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله، والظلمة هي نفاقهم.
فهؤلاء المنافقون (صم) لا يسمعون (بكم) خرس لا يتكلمون (عمي)
لا يبصرون (فهم لا يرجعون) عن كفرهم، ولا يقلعون عن ضلالهم.
وفيها أيضا: (يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه
وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل
شئ قدير).
المعنى: (يكاد البرق) الذي يحصل قبل المطر (يخطف أبصارهم)
يعني يذهب بها ويسلبها من شدة ضيائه ونور شعاعه. (كلما أضاء لهم) يعني
كلما أضاء لهم البرق (مشوا فيه وإذا أظلم عليهم) يعني ذهب ضوء البرق
عنهم، أي كلما لم يروا في الإسلام ما يعجبهم (قاموا) على نفاقهم وثبتوا على
ضلالتهم (ولو شاء الله لذهب) من المنافقين (سمعهم وأبصارهم) عقوبة لهم
على كفرهم (إن الله على كل شئ قدير) أي محيط بكل شئ وقادر
على كل شئ.
* * *

170
المنافقون
كثير من الآيات القرآنية الكريمة نزلت في ذم المنافقين وسئ
أعمالهم.
بل خصص الله سبحانه سورة كبرى من سور القرآن في ذمهم. وذلك
أن المنافقين شر مستطير في كل زمان على كل إصلاح في الأرض.
لو تتبع الإنسان أي إصلاح في الأرض، وأراد أن يعرف كيف يقابل
ذلك الإصلاح من طبقات الناس، لرأى رأي العين أن الناس أمام ذلك الإصلاح
أقسام ثلاثة: قسم يرحب به ويناصره ظاهرا وباطنا، ويضحي في سبيل
مناصرته النفس والنفيس. وقسم آخر يعاديه ظاهرا وباطنا. وقسم ثالث
يعاديه في الباطن ويناصره في الظاهر، وأولئك هم المنافقون المخادعون.
ونظرة واحدة في نهضات البلاد وثورتها ضد أعدائها الغاصبين لها،
تريك كيف تنقسم الناس على المصالح، وكيف يكونون أحزابا وشيعا،
وكيف تتجلى أخلاقهم، وتظهر مخبآت نفوسهم. ترى الفريق الذي صفت،
وطهرت عن الخبث أخلاقه، يرحب بذلك الإصلاح ويدعو الناس إليه، ناسيا
ما وراء ذلك من آلام ومشاق، وتراه يندفع إلى ترويج الدعاية للمبدأ وهو
لا يشعر، ولا يرى سعادته في أن ينفق ماله وحياته في ذلك السبيل، وهو
الفريق المؤمن.
وترى فريقا آخر كبر عليه أن يقوم بذلك الإصلاح رجل من القوم،
ويصبح وله ذلك الأثر الخالد، والصيت الذائع، فيرجع إلى نفسه وقد
امتلأت حقدا وحسدا، وكبرا وغرورا، فيسائل نفسه ماذا أنت فاعلة

171
بذلك الرجل؟ وماذا أعددت له من عمل؟ فتجيبه: أعددت له خذلانا
لا يقوم بعده، وموتا لا يحيا معه، أعددت له أنواعا من الإهانة، وضروبا
من الايذاء، وأصنافا من العنت والإحراج، أعددت له تحقيرا أمام مواطنيه،
وتسفيها لعمله، تتناقله الأبناء عن الآباء، وذلك هو الفريق الكافر
بذلك الإصلاح المعادي له سرا وعلانية.
وترى فريقا ثالثا وهو شر من الفريق الثاني يشترك معه في خبث
النفس وفساد الطوية والحنق على ذلك المصلح، ويمتاز عنه بالجبن والخور
وضعف القلب، فلا يستطيع أن يصارح المصلح بأنه عدوه اللدود، ولا أن
يظهر أمام المؤمنين بذلك المظهر، فيضطره ضعف عقيدته وفقدانه للجرأة
أن يداري ويوارب، فيكون بين الصديق والعدو، والمناصر والمحارب، إذا
رأى المؤمنين أظهر لهم الإيمان، وإذا لقي الكافرين قال لهم: إني معكم.
ومثله في ذلك مثل حيوان خبيث (وهو الضب)، يعمل له جحرا في الأرض يسمى
النافقاء. له بابان، إذا أراد صائده أن يدخل إليه من أحد البابين لوح له
بذنبه أنه مقبل عليه ليطعمه، ثم يخرج من الباب الآخر، يخدعه بذلك
العمل.
وهكذا المنافق، واشتقاقه من النافقاء، وهو ذلك الجحر الذي يعمله
الضب. أو هو إحدى جحرة اليربوع التي يعملها في الأرض ظاهرة يراها
الناس، حتى إذا ذهبوا إليها ليطلبوه، إذا به قد أعد جحرا آخر قد أخفاه
عن الناس ليكون فيه.
ذلك هو المنافق الذي يخادع الناس ويخادع المصلحين في كل زمان،
وهذا مثله في خداعه ونفاقه.

172
أخلاق المنافقين
يرينا الله تعالى في كتابه الكريم - وهو العالم بخفايا النفوس
وما تكنه الضمائر - أن للمنافقين خصائص وأخلاقا بها يمتازون عن غيرهم
ثم أرانا أن العلة في تلك الأخلاق هي مرض القلب، واضطراب العقيدة،
ولو كان قلبهم سليما من المرض ما كانوا على ذلك الخلق.
(الأولى) من صفاتهم أنهم يعاملون الله معاملة المخادع، لا معاملة
المخلص، وما دروا أنهم بذلك العمل يخدعون أنفسهم، وأن وبال خداعهم
راجع إليهم، ولو قدروا الله حق قدره ما عاملوه تلك المعاملة، (يخادعون الله
والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) ولو كان عندهم شئ
من العقل لاستحوا من ذلك العمل، فإن الرجل العاقل يستنكف أن يخادع
مخلوقا مثله إذا كان يعلم أن عنده من اليقظة والعلم ما به ينكشف خداع
صاحبه، فكيف إذا كان ذلك الذي يعامله إلها له العلم الشامل والهيمنة
على النفوس
ومن آثار خداعهم لله أنهم يصلون بأجسامهم لا بقلوبهم، فهم يصلون
صلاة رياء لا صلاة إخلاص (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون
الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا). وكأنه يشير بكلمة (إذا) الدالة على
التعليق إلى أن الشأن فيهم أن لا يصلوا، ولو فرض أنهم قاموا إلى الصلاة
قاموا كسالى، فلم يأخذوا التكاليف بقوة، كما هو الشأن فيمن يعمل
العمل وهو مقتنع بأنه نافع مفيد، بل يؤدونها كارهين متثاقلين، لأنهم

173
يراءون الناس بصلاتهم، ولا يبتغون بها وجه الله، ومن كان كذلك لا يقوم
إلى صلاته بجد ونشاط.
(الثانية): من صفات المنافقين الذبذبة والاضطراب بين حزب
المؤمنين وحزب الكافرين، فلا يستطيعون أن يكونوا مع أحد الفريقين
ظاهرا وباطنا، فإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا، وإذا خلوا إلى شياطينهم
ورؤس الكفر منهم قالوا لهم إنا معكم، وما أظهرنا الإيمان مع الحزب
الأول إلا تهكما بهم، وقد بين الله علة ذلك النفاق وهذه الذبذبة بقوله:
(في قلوبهم مرض) ومن مرض قلبه، مرض كل شئ فيه، شفان القلب هو
رئيس الجوارح، والمهيمن على الإنسان كله، وبفساد الرئيس يفسد المرؤوس،
وذلك المرض لا يشركهم فيه كافر وإن كان قلبه مريضا بحب الجاه وكراهة
الحق، والحقد على المصلح، لأن قلبه لم يمرض بالضعف والخور والشرور،
فكان جريئا في معاداة الحق وخذلان الإصلاح.
أما المنافق فكان خبيثا في عداوته، محتالا في إفساده، شأن الضعيف
الذي لا يستطيع أن يشفي غيظه، يمكر ويخادع، ويداجي ويوارب،
مرض قلب ذلك المنافق فلم يثق بالله في وعده ووعيده، ولم يؤمن به في ثوابه
وعقابه، فمرض بذلك المرض صاحبه، ولم يفض على الجسم نورا يسير به
في الظلمات، ويهتدي به في الملمات، وكان مثل ذلك الجسم كجيش اعتل قائده
فهو يسير بلا قيادة، وهيهات أن يهتدي أو يصل إلى غاية.
(الثالثة): من أخلاق المنافق أن يعجبك قوله، ويسوؤك عمله،
قوله قول المتقين، وعمله عمل الجبارين، إذا تكلمت معه في الإصلاح
والمصلحين، والافساد والمفسدين أفاض معك في القول، وأراك أن قلبه
يتفطر حسرة لذلك الفساد الذي نراه كل يوم، وأنه يتمنى أن لو صلح أمر

174
الناس، وقد يصف لك طريق الخلاص من ذلك الفساد كطبيب ماهر وعالم
خبير، وإذا ولي عملا من أعمال المسلمين رأيته شيطانا من الشياطين، رأيته
ظلم العباد والبلاد وعاث في الأرض الفساد، (ومن الناس من يعجبك قوله في
الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام، وإذا تولى سعى في
الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد، وإذا قيل له
اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد).
(الرابع): من أوصاف المنافقين أنهم لم يرضوا الله ورسوله حكما
فيما يعرض لهم من خلاف، فحكومتهم غير حكومة المؤمنين، ومرجعهم
غير مرجعهم، فإن الله تعالى يرينا أن حكومة المؤمنين عند النزاع هي كتاب
الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وفيها يقول تعالى: (فإن تنازعتم في شئ فردوه
إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير
وأحسن تأويلا).
أما هؤلاء فيتحاكمون إلى غير كتاب الله المعصوم، وسنة رسوله
الصحيحة، يتحاكمون إلى طواغيتهم وأوليائهم، ويحلونهم محل المعصوم،
وإذا طالبتهم بالمحاكمة إلى الله ورسوله صدوا عنك صدودا. (ألم تر إلى
الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن
يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم
ضلالا بعيدا، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين
يصدون عنك صدودا).
وقد بين الله علة إعراضهم عن المحاكمة إليه في قوله: (أولئك
الذين يعلم الله ما في قلوبهم) أي من مرض ونفاق، وهو علة ذلك الإعراض،
وهو يرينا بذلك أن المؤمن الذي سلم قلبه من الشك والنفاق لا يمكن

175
أن يعرض عن حكومة المؤمنين.
(الخامس): من صفاتهم إكثارهم من الحلف، فتراهم كثيري
الإيمان وكثيري الكذب، والقرآن الكريم يحدثنا عنهم وعن أيمانهم فيقول:
(ويحلفون بالله أنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون) وتراه يقول:
(يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم
ينالوا وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) وتراه يقول:
(سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس
ومأواهم جهنم جزاءا بما كانوا يكسبون، يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن
ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين).
وسبب إكثارهم من الإيمان أنهم لا يثقون بأنفسهم ولا يعتقدون أنهم
صادقون، والشأن فيمن فقد الثقة في نفسه أن يشعر بفقد ثقة الناس فيه،
فيجد نفسه في حاجة إلى أيمان عله يعوض شيئا من هذه الثقة، أما الرجل
الذي يصدق ويعتقد في نفسه أنه صادق فما أغناه عن تأكيد أحاديثه بالأيمان
وتقويتها بالحلف.
(السادس): من أخلاقهم، كذبهم وتهاونهم بالصدق، وامتهانهم
لأنفسهم وكرامتهم، وجدير بقوم فقدوا الشجاعة الأدبية ولم يكن لهم مذهب
معين في الحياة أن يكونوا كذبة، لا يعنون بحق ولا يحلفون بصدق.
وقد كشف الله عن كذبهم في دعوى الإسلام، فعرف نبيه محمد صلى الله عليه وآله
أن المنافقين إذا جاؤوك وقالوا لك نشهد أنك رسول الله فلا تصدقهم، لأنهم
لم يقولوا ذلك عن يقين واقتناع، كما هو الشأن في الشهادة، وإنما يقولون
ذلك تقية منك ومن أصحابك، وأن الله تعالى يشهد بكذبهم، ومن شهد الله
بكذبه لا أحد يصدقه، (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد أنك لرسول الله

176
والله يعلم أنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون).
هؤلاء هم المنافقون وهذه صفاتهم، فعلى الإنسان أن يحذر منهم
ولا يتخلق بخلقهم، فإنهم أعداء الأمة الألداء وداؤها العضال، وهم طريق
نكبتها وسبب استعباد العدو لها وشقاؤها في هذه الحياة (1).
* * *
وأبدع وصف للمنافقين هو ما وصفهم به علي أمير المؤمنين عليه السلام في
خطبة له. جاء ذكرها في أواخر المجلد الثاني من شرح بن أبي الحديد:
قال عليه السلام: (... أوصيكم عباد الله بتقوى الله وأحذركم
أهل النفاق فإنهم الضالون المضلون، والزالون المزلون، يتلونون ألوانا
ويفتنون افتنانا، ويعمدونكم بكل عماد ويرصدونكم بكل مرصاد، قلوبهم
دوية وصفاحهم نقية، يمشون الخفاء ويدبون الضراء، وصفهم دواء وذكرهم
شفاء وفعلهم الداء العياء، حسدة الرخاء ومؤكدوا البلاء ومقنطوا الرجاء،
لهم بكل طريق صريع وإلى كل قلب شفيع ولكل شجو دموع، يتقارضون
الثناء ويتراقبون الجزاء، إن سألوا ألحفوا وإن عذلوا كشفوا وإن حكموا
أسرفوا، قد أعدوا لكل حق باطلا، ولكل قائم مائلا، ولكل حي قاتلا، ولكل
باب مفتاحا، ولكل ليل مصباحا، يتوصلون إلى الطمع باليأس ليقيموا به أسواقهم
وينفقوا به أعلاقهم، يقولون فيشبهون ويصفون فيموهون، قد هونوا الطريق
وأضلعوا المضيق، فهم لمة الشيطان وحمة النيران (أولئك حزب الشيطان إلا أن
حزب الشيطان هم الخاسرون).



(1) دعوة الرسل.
177
حق اليد

179
قوله عليه السلام:
(وحق يدك أن لا تبسطها عما لا يحل لك، فتنال بما
تبسطها إليه من الله العقوبة في الآجل، ومن الناس اللائمة في العاجل،
ولا تقيضها عما افترض الله عليها، ولكن توقرها بقبضها عن كثير
مما لا يحل لها، وبسطها إلى كثير مما ليس عليها، فإذا هي قد
عقلت وشرفت في العاجل، ووجب لها حسن الثواب من الله
في الآجل).
* * *
أظن أننا لا نزال نذكر شيئا من حديثنا الأسبق الذي أوضحنا فيه
طريق العناية والقدرة الآلهية بالنسبة إلى (اللسان، والأذن، والعين)، أما
الآن فنحن أمام دور لا يقل أهمية من حيث العناية عن الأدوار المتقدمة،
وهو دور الحديث عن (اليد) وسنتحدث عن أهم ما يلفت النظر بصورة موجزة،
والله هو العون والموفق.
هل فكرت يوما في يدك؟ كيف تعمل وما هي مهمتها؟..
تقول (مجلة العلوم الانكليزية): (إن يد الإنسان في مقدمة
العجائب الطبيعية الفذة، وأنه من الصعب جدا، بل من المستحيل أن تبتكر
آلة تضارع اليد البشرية من حيث البساطة والقدرة وسرعة التكيف. فحينما
تريد قراءة كتاب، تتناوله بيدك ثم تثبته في الوضع الملائم للقراءة،
وهذه اليد هي التي تصحح وضعه تلقائيا. وحينما تقلب إحدى صفحاته تضع

181
أصابعك تحت الورقة وتضغط عليها بالدرجة التي تقلبها بها، ثم يزول
الضغط بقلب الورقة. واليد تمسك القلم وتكتب به. وتستعمل الآلات التي
تلزم الإنسان من ملعقة إلى سكين إلى آلة الكتابة. وتفتح النوافذ، وتغلقها
وتحمل كل ما يريد الإنسان.
واليدان تشتملان على 27 عظمة 19 مجموعة من العضلات
لكل منهما).
ويقول الدكتور (جوردن هاين) الأستاذ بجامعة كليفورنيا: (إن
الطبيب يعرف من مظهر اليد حالة الجسم الداخلية، فكبرهما عن المعتاد
يدل على مرض الغدة النخامية. وجفاف وبرودة، وشحوب ظهر اليد يدل على
نقص إفراز الغدة الدرقية. بينما اليد الدافئة المرتجفة كثيرة العرق تدل على
زيادة إفراز هذه الغدة. والبقع على ظهر اليد دليل على أمراض غدة
فوق الكلى.
أما اصفرار راحة اليد المصحوب برائحة مميزة، فيدل على مرض
التيفود)،
ويقول أحد كبار أطباء القلب: (إن درجة عرق اليد وارتعاشها
يتخذ دليلا على مدى تطور مرض قلب صاحبها).
والأظافر من أهم ما يوجد في الإنسان.، وقل من يهتم بها، بل ما أكثر المتسائلين عن فائدتها... يقول أبقراط (مرجع الطب والحكمة
منذ أكثر من ألفي سنة): (إن الأظافر كالمرآة تنعكس عليها حالة
الإنسان الصحيحة).
وما زال ذلك القول صحيحا حتى الآن. فكم من طبيب إذا استعصى
عليه تشخيص مرض يمسك بأظافر مريضه، ومنها يشخص نوع المرض.

182
فالأظافر الباهتة تدل على فقر الدم، والمائلة للزرقة تؤكد مرض القلب،
وتقعر الأظافر يدل على اضطراب الدورة الدموية وهكذا.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل قرر العلم أن الأظافر لها وظيفتها
الهامة، وهي حماية أطراف الأصابع، إذ أنها هي الأجزاء الأكثر تعرضا
للإصابة. وهذا علاوة على شدة حساسيتها. فبدون الأظافر لا يستطيع الإنسان
أن يلتقط الأشياء الدقيقة، أو حتى يحك جلده.
وفي دراسة اختلاف شكل الإنسان، ما يقربنا إلى تفهم جزء عن مدى
القدرة التي كونت فشكلت. فقد أثبت العلماء أن الصفات الشكلية والخلقية،
تحملها في الإنسان كروموسومات تناهت في الدقة إلى درجة أنه لو جمعت
كروموسومات العالم بأجمعه ما زادت عن قبضة يد، هذه القبضة تسبب اختلافا
في شكل ولون وصفات وأخلاق بلايين البشر، هم سكان هذا العالم في الماضي
والحاضر والمستقبل.
أليس من العجيب أن وجه الإنسان الذي لا يزيد في مساحته عن بضعة
سنتيمترات، وبه الحاجبان، والعينان، والأنف والفم، والأذنان، كلها
موضوعة بترتيب واحد، وبالرغم من ذلك لم يحدث أن اتفق اثنان في شكل
واحد من يوم أن خلقت الأرض ومن عليها حتى الآن؟ أوليس من الأعجب
اختلاف بصمة الإصبع في شخص عن غيره على مدى الحياة؟.. فهذه
أدق وأرق.
إذ أن الأصابع لها مميزات خاصة لا تتشابه ولا تتقارب، (كبقية
أعضاء الجسم في الإنسان من العين والأنف والأذن وغيرها من إنسان لإنسان).
وهذه المميزات لم تعرف لأول مرة إلا في القرن الماضي أي بعد نزول
القرآن باثني عشر قرنا ونصف القرن تقريبا، ففي سنة 1884 م استعملت

183
رسميا في انكلترا طريقة الاستعراف والتعرف بواسطة بصمات الأصابع، إذ أن
بشرة الأصابع لدى الناس جميعا مغطاة بخطوط على ثلاثة أنواع: أقواس،
وعراو، ودوامات، بمعنى دوائر متحدة المركز. وكذلك يوجد نوع رابع
يشمل جميع الأشكال التي لم توصف في الثلاثة السالفة الذكر وتسمى المركبات،
وهذه الخطوط لا تتغير مدى الحياة وتتميز بين شخص وآخر.
وعلى أثر هذه اللفتة المدهشة أسلم أحد علماء الألمان في الآونة
الأخيرة، وحينما سئل عن سبب إسلامه أجاب قائلا: قرأت في القرآن
المنزل على ذلك النبي العربي الأمي (بلى قادرين على أن نسوي بنانه) وقد
أصبحت جميع الحكومات لا يستقر قرار الأمن فيها إلا بدراسة نظام البنان ومسامه،
ولم يجد الناس رجلين في الكرة الأرضية تتشابه أناملهما في مسامها ونظامها،
فلم أختص البنان بالذكر، وعلم البنان لم يكن ليعرفه الناس إذ ذاك، ولم
تدركه الحكومات السابقة، بل لو عرفوا ذلك لم يعرفه أهل الحجاز ومنهم
هذا النبي الأمي، فهذا القول إنما جاء من مصدر أعلى من عقولنا التي
في الأرض؟ فلذلك آمنت به وصدقت.
قرأت لعلي فكري في كتاب الإنسان: (إن اليد مكونة من أجزاء ثلاثة:
من العضد، والساعد، والكف.
فالعضد: خلق من عظم واحد، قوي متصل بالكتف، بمفصل واحد
حتى يمكنه التحرك إلى جميع الجهات، وذلك بأن جعل رأس العظم مستديرا،
وركب على رأس الكتف في حق لتكون حركته سلسلة إلى جميع الجهات، ثم
تمم ما أعوز ذلك من الوثاقة بأن ربط أحد العظمين بالآخر برباط قوي.
ولما كانت اليد آلة لأعمال كثيرة مختلفة جعل الكتفان موضوعين
على جانبي البدن غير متلاقين بالأضلاع لتنبسط اليد في اليمين والشمال

184
على استقامة، وتلتقيان من أمام وخلف، فيمكنهما الوصول إلى جميع
الجهات بسهولة.
وأما الساعد: فخلق مؤلفا من عظمين متلاصقين طويلين يسميان
الزندين، والفوقاني الذي يلي الإبهام منهما أدق، ويسمى الزند الأعلى،
والسفلاني الذي يلي الخنصر منهما أغلظ، لأنه حامل. ومنفعة الزند
الأعلى أن يكون به حركة الساعد إلى الالتواء والانبطاح. ومنفعة الزند
الأسفل أن يكون به حركة الساعد إلى الانقباض والانبساط.
وأما الكف: فخلقت مركبة من أربعة عظام متباعدة، لتكون
الأصابع الأربعة مركبة عليها. وخلق عظم الرسغ صلبا قويا، لأن تركيب
المشط والأصابع عليه، فهو كالعمدة التي عليها اعتماد اليد.
وخلق وضع الأصابع الأربعة على صف واحد، ووضع الإبهام مقابلا
لها ليدعمها كلها واحدة واحدة. وجعلت غليظة قوية لتكون مساوية لقوة
الباقي، وخلقت الأصابع مختلفة المقادير لتتصل أناملها كلها معا عند تقعير
الراحة، وعند القبض تبقى كالصندوق الحافظ للشئ، ويبقى الإبهام عليها
كالقفل، ويمكن أن تكون سلاحا يضرب بها العدو.
وخلق الأصابع من عظام تسمى السلاميات، وهي مصمتة لتدعمها
وتعينها في القبض على الأشياء، فلو كانت لحمة لكانت أفعالها واهية، ولم
تخلق من عظم واحد لتتشكل بالأشكال المختلفة، ولم تزد على ثلاثة أنامل،
لأنها كانت تورث ضعفا، ولو خلقت من أنملتين لكانت الوثاقة أزيد، ولكانت
الحركات تنقص عن الكفاية، والحاجة إلى الحركات المتقنة أمس من الحاجة
إلى الوثاقة.
وخلق عظام قواعدها أعرض، ورؤسها أدق لتحسن نسبة الحامل إلى

185
المحمول. وخلقت عظاما مستديرة لتكون أبعد من الآفات. وخلقت مصمتة
لتكون أقوى على الثبات، وخلق باطنها لحميا ليتمكن من القبض، ولم تجعل
كذلك من ظاهرها ليكون الجميع سلاحا موجعا). (1)
ويسلك (انتوني رافييللي) هذا المسلك بقوله:
عظم العضد:
(يتدلى عظم العضد من لوح الكتف كما يتدلى الخيط من السنارة.
والعضد هو أكبر عظم في الجزء العلوي من الجسم، وهو يشبه الدمبل
إذا نظرنا إليه من الأمام. (2)
والرأس العريض لعظم العضد - وهو يشبه الكرة - يتجه بوجهه إلى
الداخل ناحية الجسم، في حين يختنق جسم تحت الرأس مكونا حافة رفيعة
لقاعدة الرأس ثم ينفرد فجأة، وفي الطرف السفلي للعضد يوجد جزء يشبه البكرة
وعندما تكون الذراع ممتدة إلى أسفل فإن لوح الكتف والعضد يشبهان
معول الكشاف.
عظام الساعد:
(عظم الكعبرة، وعظم الزند)
يتكون الساعد - كما في الساق - من عظمين يجريان جنبا إلى جنب.
وفي الساق يسمح العظمان المتوازيان للقدم بأن تلتوي قليلا، ولكن في حالة



(1) كتاب الإنسان
(2) الدمبل قضيب من الحديد له ثقل في كل من طرفيه يستعمل
لتمرين العضلات وتقويتها.
186
الساعد فإنهما يجعلان من الممكن أن تلتف تماما.
وأكبر عظمي الساعد هو عظم الزند، ورأسه الذي يشبه المخلب هو
أعرض جزء فيه. وعظم الزند يزداد رفعا برشاقة ناحية طرفه السفلي، ويمتد
هذا العظم من الكوع (المرفق) حتى رسغ اليد (المعصم) في ناحية الإصبع
الصغيرة (الخنصر). وفي ناحية الإبهام وموازيا لعظم الزند، يوجد عظم
الكعبرة الذي يكون مع عظم الزند مفصلي رسغ اليد والكوع.
وعندما تتجه راحة اليد إلى أعلى يستقيم عظما الزند والكعبرة، وبانزلاق
الكعبرة فوق الزند يكون من الممكن لراحة اليد أن تنقلب. والعظم في
حد ذاته صلب (رصين) جدا لدرجة أنه لا يمكن أن يلتوي على نفسه، ولكن
العظم الطويلة الرفيعة التي تجري جنبا إلى جنب تستطيع أن تتدحرج الواحدة
فوق الأخرى، وبذلك تعطي مرونة للعظام التي تنثني.
اليد والمعصم:
إن عظام المعصم الثمانية، وعظام الكف والأصابع التسعة عشر تجعل
من اليد أكثر أداة مفيدة في العالم. وتتصل اليد بالمعصم بواسطة مفصل، ولذا
يمكنها أن تتحرك إلى أعلى وإلى أسفل وأن تلف وأن تنقلب. والابهام
تستطيع أن تصل وأن تلمس أي إصبع من الأصابع الأربع الأخرى.
ولكل إصبع ثلاثة مفاصل عدا الإبهام فلها مفصلان وذلك يجعل اليد
أداة مرنة وذات مهارة فائقة، فاليد يمكنها أن تقوم بعمل ملعقة أو خطاف
أو مطرقة أو سلاح أو أط شئ تقريبا. والقدرة على استعمال اليد بطرق
متعددة هي أحد الأسباب التي جعلت الإنسان يسمو على الحيوانات الدنيا.

187
واليد مثل كل الأجزاء الأخرى من هيكلك العظمي، قوية وقديرة ومفيدة) (1)
(وخلق الأظفار على رؤس الأصابع زينة لها وعمادا لها من ورائها حتى
لا تنقطع، وليلتقط بها الأشياء الدقيقة التي لا تتناولها الأنامل، وليحك بها
بدنه عند الحاجة.
فالظفر الذي هو أخس الأعضاء لو عدمها الإنسان وظهر به حكة لكان
أعجز الخلق وأضعفهم، ولم يقم أحد مقامه في حك بدنه.
فلو اجتمع الأولون والآخرون على أن يستنبطوا بدقيق الفكر وجها
آخرا في وضع اليد سوى ما وضعت عليه لم يقدروا، إذ بهذا الترتيب صلحت
للقبض والبسط والأخذ والإعطاء، فإن بسطها كانت له طبقا يضع عليها ما يريد
وإن جمعها كانت آلة للضرب، وإن ضمها ضما غير تام كانت مغرفة له، وإن
بسطها وضم أصابعها كانت مجرفة له.) (2)
* * *
هذا الدرس الدقيق الذي يمر على القارئ عن كيفية وضع اليد وبديع
تركيبها، والأعجاز المودع فيها.
هذا الدرس كله يعرض شيئا من الفقرة النيرة التي استعرضها الإمام عليه السلام
عن اليد وحقوقها.
بهذه العبارات الندية والصور الموحية، يلقي الإمام عليه السلام دروسه على
الأجيال المقبلة والناشئة الجديدة.
إن اليد - التي هي عضو عامل متحرك مضطرب - تصدر عنها شتى
الأعمال وصنوف الأفعال، ففيها الخير والشر، وفيها ما يرضي الله وفيها



(1) عجائب جسم الإنسان.
(2) الرابع عشر من البحار
188
ما يسخطه، فمن حقها أن تستعمل حيث يصح استعمالها من قبض أو بسط. ومن
حقها أن لا تمد إلى أشياء لم يكن ليرضاها الله من بطش وتعذيب وتنكيل
بالأبرياء من الناس وغير ذلك، بحيث يسبب البطش والتنكيل في غير موضعه
نقمة الله، ونقمة الناس جميعا، ولكن نقمة الله أشد وأعظم من نقمة الناس.
ومن حقها ألا تقبض وتقصر عن أشياء فرضها الله واجبات علينا ففي
ذلك سخط الله. إنما الأمر في اليد ليس هو القبض دائما أو البسط دائما إنما هو
أمر الله الذي لا محيد عنه، فحيث يريد الله أن نقبض أيدينا أو نبسطها كان ذلك
أمرا محتوما ليس لنا التنكب عنه، وبتنكب أوامر الله نكون مستحقين لغضبه
الذي يستتبع عذابه الأليم الذي هو لا يطاق.
وقد علمنا الله ذلك بقوله: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا
تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا).
فإن التوازن هو القاعدة الكبرى في النهج الإسلامي، والغلو - كالتفريط -
يخل بالتوازن.
والتعبير هنا يجري على طريقة التصوير، فيرسم البخل يدا مغلولة إلى
العنق. ويرسم الإسراف يدا مبسوطة كل البسط لا تملك شيئا، ويرسم نهاية
البخل ونهاية الإسراف قعدة كقعدة الملوم المحسور. والحسير في اللغة الدابة
تعجز فتقف ضعفا وعجزا، فكذلك البخيل يحسره بخله فيقف. وكذلك
المسرف ينتهي به سرفه إلى وقفة الحسير. ملوما في الحالتين على البخل وعلى
السرف، وخير الأمور الوسط.
وبتعبير أبسط وأوضح، (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) أي لا تجعل
يدك في انقباضها وبخلها بالإنفاق كاليد المغلولة الممنوعة من الانبساط. (ولا
تبسطها كل البسط) أي ولا تتوسع في الإنفاق توسعا مفرطا حتى لا يبقى

189
بيدك شئ.
وقد بين لنا سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة عاقبة الإفراط والتفريط
المذمومين بقوله: (فتقعد ملوما محسورا) أي تصير معنفا موبخا عند الله وعند
الناس وعند نفسك بسبب البخل، نادما على الإسراف، ومنقطعا عن الخير
بسبب الفقر.
* * *
(كلمة الدكتور يوسف شمس علي النجفي)
الدكتور يوسف طبيب وجراح حاذق، ذو مهارة وفن في العمليات قوي
معجب، جميل الخلق رحب الملاقاة. خريج كلية الطب في بغداد يواصل مهنته في
مستشفى الفرات الأوسط بالكوفة.
إلى سماحة العلامة السيد حسن القبانچي المحترم.
مع العذر الجزيل لضيق الوقت وظروف أخرى، أقدم هذه النبذة
المختصرة جدا عن تشريح وفسلجة الطرف الأعلى من الإنسان، راجين أن
يحظى برضاكم.
الدكتور
يوسف شمس علي
الطرف الأعلى
نبذة عن وظيفته بصورة عامة
إن الطرف الأعلى قد بني لأجل المسك. إن اليد عضو ميكانيكي للمسك،
وهي كذلك أهم عضو حساس في الجسم.

190
تتم عملية المسك بواسطة جلب الإبهام وحركته كي يكون مقابلا لبقية
الأصابع الأربعة. وفي عملية المسك أن الإبهام له وظيفة مساوية لبقية الأصابع
الأربعة، وفقدانه يساوي من حيث الأهمية فقدان بقية الأصابع، ولأجل
إجراء عملية المسك في كل حال وموضع نجد أن الذراع لها قابلية الحركة
والدوران على 180 درجة. وفي مفصل المرافق هناك 180 درجة أيضا حركة
تقلص وانبساط. وهناك درجة حركة كبيرة في مفصل الكتف. وهذه الحركة
تزداد بواسطة الحلقة الكتفية، والتي تشمل عظمي لوح الكتف والترقوة، والتي
بواسطتها يرتبط الطرف وهيكله المحيطي بالهيكل المحوري للجسم.
نبذة عن أقسامه بصورة عامة
الطرف الأعلى
إن أقسام الطرف الأعلى هي: (1) منطقة الكتف (2) منطقة
الذراع العليا، (3) منطقة الذراع السفلي أو الذراع الأمامية
(4) منطقة اليد.
وتشمل منطقة الكتف ليس الجزء البارز من أعلا منطقة عظم العضد
فحسب، بل تشمل أيضا (1) منطقة الإبط (2) منطقة لوح الكتف، (3)
منطقة أمام الصدر والثدي. إن عظام منطقة الكتف تكون الحلقة الكتفية،
وهي عظم لوح الكتف وعظم الترقوة
الذراع العليا هي المنطقة بين الكتف والمرفق، وإن عظمها يقال له عظم
العضد، والذي يتصل مع عظم لوح الكتف ليكون مفصل الكتف
الذراع الأمامية تمتد من المرفق حتى الرسغ. ولها عظمان هما عظم
الكعبرة والزند، وهما يتصلان مع عظم العضد ليكونان مفصل المرفق

191
اليد:
تتكون من الرسغ وراحة الكف والأصابع. وإن عظام الرسغ
هي مجموعة من ثمانية عظام، تتكون من صفين أعلا وأسفل: وهما يتصلان فيما
بينهم، ليكونان المفاصل بين عظام الرسغ. والصف الأعلى يتصل مع أسفل
عظمي الكعبرة والزند، ليكون مفصل الرسغ.
وراحة الكف لها عظام مشط الكف: وهي عبارة عن خمسة عظام، كل
عظم أمام أحد الأصابع الخمسة، وهي ترقم من واحد إلى خمسة مبتدءا
من الإبهام.
الأصابع تسمى: الإبهام، والسبابة، والإصبع الوسطي، والإصبع
الحلقي، والإصبع الصغير. وعظام الأصابع تسمى بالسلاميات. والإبهام له
سلاميتان، وبقية الأصابع لها ثلاثة سلاميات.
أنسجة الطرف وتركيبه:
تتركب أنسجة الطرف من جلد ونسيج تحت الجلد وعضلات وهيكل
عظمي. وهناك أيضا الأعصاب والشرايين والأوردة والجهاز اللمفاوي.
الجلد:
وهو الغلاف الخارجي، ويتميز بطراوته وشدة حساسيته وخاصة في منطقة
اليد، وذلك لأهمية اليد في التحسس واللمس وكثرة الحركة. وإن هذه الحساسية
الشديدة ناتجة عن كثرة انتشار الأعصاب الجلدية في المنطقة مما يجعل اليد
شديدة الحساسية كي تتجنب العوارض التي هي أكثر أعضاء الجسم عرضة لها.
وإن أمراض الجلد هي مثل بقية أمراض الجلد في كل منطقة. وبصورة
عامة هناك أمراض التهابية تنتج من إصابة الجلد بمكروبات كخزاجات الجلد

192
والنسيج التحت الجلدي. وهناك أمراض ولادية كظهور الجلد ملونا ببقع
حمراء. وهناك أمراض الأورام الخبيثة والبسيطة. وهناك أمراض أيضا أمراض
العوارض كالجروح والحروق، وهناك أمراض ناتجة عن فقدان الحساسية
العصبية أو ضعفها.
أما العضلات: فهي تقسم وتدرس حسب المناطق، ففي المنطقة الثديية
توجد العضلة الصدرية الكبرى والعضلة الصدرية الصغرى. وفي منطقة لوح عظم
الكتف توجد عضلات حول الكتف وتحيطه أماما وخلفا، وتساعد في ربطه مع
عظم العضد حول مفصل الكتف، وحول عظم العضد توجد مجموعة من العضلات
أيضا، كالعضلة الدالية والتي تغطي مفصل الكتف والعضلة ذات الرأسين في
الناحية الأمامية، والعضلة ذات الثلاث رؤوس في الخلف، وغيرها من العضلات. وفي
منطقة الساعد توجد مجموعة من العضلات أماما (المجموعة المقلصة) ومجموعة
خلف المجموعة المبسطة للساعد. وفي منطقة اليد توجد مجاميع من العضلات، فهناك
مجموعة عضلات الأعصاب، ومجموعة عضلات راحة الكف، وعضلات الأصابع.
والعضلات تتكون من خلايا عضلية تتصل فيما بينها على شكل ألياف.
وكل مجموعة من الألياف تكون حزمة، وكل مجموعة من الحزم تكون العضلة، وترتبط
العضلة من نهايتها بأوتار ليفية صلبة تشدها إلى العظام. والنسيج العضلي
له القدرة على التقلص والانبساط وبتقلصه تتم حركة الذراع والمفاصل. وتتم
الحركة بواسطة عمل انعكاسي من عصب يغذي العضلة.
والأمراض التي تصيب العضلات هي أمراض الشدة والحوادث الخارجة،
كتمزق العضلات، أو قطع أوتار العضلات أو أمراض الأعصاب المغذية
للعضلات، أو أمراض ولادية كعدم نمو العضلات الوراثي.

193
الهيكل العظمى:
يتكون الهيكل العظمى للطرف من:
1 - الحلقة الكتفية.
2 - الهيكل العظمى الأساسي للطرف:
الحلقة الكتفية: وهي عبارة عن عظام تربط بين الهيكل العظمى الأساسي للطرف،
والهيكل العظمي المحوري، وتتكون في الطرف الأعلى من عظمي الترقوة ولوح الكتف.
عظم الترقوة:
وهو عظم يقع في أسفل الرقبة من الناحية الأمامية، ويتصل من جهة
بأعلا عظم القص بواسطة مفصل غضروفي يسمى clvicular joint _ Sterrio
ويتصل من الناحية الخارجية مع عظم لوح الكتف بمفصل آخر يسمى
Acvomio clavicular joint وعظم الترقوة على شكل قوسين يتصل أحدهما بالآخر
القوس الداخلي:
وهو محدب إلى الأمام، وتمر من خلفه جميع الأوعية الدموية والأعصاب بين
الرقبة والجوف الصدري، والقوس الخارجي ويكون محدب إلى الخلف.
عظم لوح الكتف:
ويقع خلف الصدر: وهو على شكل مثلث، قاعدته إلى
الأعلى، له سطحان أمامي مقعر، وخلفي محدب، وله ثلاثة زوايا خارجية
عليا، وداخلية عليا، وزاوية سفلى. يوجد في محل الزاوية العليا الخارجية
تجويف مقعر يسمى Glenoid Cavity يتصل مع رأس عظم العضد ليكون مفصل
الكتف، ولعظم لوح الكتف نتوء آن أجدهما يسمى Acromion والآخر

194
Caracoid ويتصل النتوء الثاني مع عظم الترقوة.
عظم العضد:
هو العظم في الذراع العليا. ويتكون من رأسين أعلا وأسفل، ومن العظم
نفسه، ويتصل من الناحية العليا مع عظم لوح الكتف في مفصل الكتف، ويتصل
رأسه الأسفل مع عظمي الساعد والكعبرة والزند ليكونون مفصل المرفق.
يتكون الرأس الأعلى من نتوئين يسميان النتوء الأكبر greater tuberosity
والنتوء الأصغر Lesser oritestuby مع رأس مفصلي مغلف بغضروف مفصلي
يسمى articular surfase والرأس الأسفل يتكون من قسم مفصلي ينقسم إلى
قسمين: قسم على شكل بكرة، وقسم بيضوي، وقسم غير مفصلي يتكون من
نتوئين خارجي، وداخلي.
عظمي الكعبرة والزند:
عظم الكعبرة: يتكون من رأسين أيضا، والعظم نفسه. الرأس الأعلى
يتكون من الرأس والعنق. ونتوء الرأس الأسفل يكون أوسع من الرأس الأعلى
ويحتوي على نتوء يسمى Radial Styloid
عظم الزند:
ويتكون أيضا من رأسين والعظم نفسه. والرأس الأعلى يتكون على شكل
قوس محدب. الجهة العليا الخلفية منه تسمى Oiecranon والجهة الأمامية
تسمى Tuberosity والرأس الأسفل يكون أصغر من الرأس الأعلى، ويحتوي
على نتوء يسمى Uinhr styloid

195
عظام الرسغ:
وهي ثمانية عظام تكون على سطرين: السطر الأعلى ويشمل أربع
عظام، والسطر الأسفل ويشمل أربعة أخرى، يتصل السطر الأعلى بأسفل عظمي
الكعبرة والزند ليكونون مفصل الرسغ. ويتصل السطر الأسفل مع عظام مشط
الكف ليكونون مفصل بين المشط والرسغ.
عظام مشط الكف:
هي خمسة عظام تتصل من جهة بعظام الرسغ، ومن جهة أخرى بعظام
السلاميات للأصابع.
عظام السلاميات:
وهي عظام الأصابع. وتكون ثلاثة لكل أصبع ما عدا الإبهام الذي
يحوي عظمين.
أمراض العظام:
وهي أمراض كثيرة أهمها أمراض الشدة والكسور. ولكل كسر أعراض
خاصة به، وتعالج حسب نوعية الكسر من حيث الشكل، وحسب مكانه.
ويقصد بالنوعية هي شكل الكسر، هل هو عرضي أو محوري أو خطى، ويقصد
بالمكان محل الكسر من العظم، ككسر الرأس أو العظم، أو النهاية السفلى.
فلكل شكل نوع من العلاج.
وهناك الأمراض الالتهابية. كالتهاب العظم الحاد، والمزمن. وهناك

196
الأمراض الورمية، ومنها أورام خبيثة، وأورام غير خبيثة. الأعصاب:
تدار جميع عضلات الطرف الأعلى بواسطة الشبكة الذراعية وتفرعاتها
وتتكون جذور الشبكة الذراعية من النصف الأمامي الأولى لأسفل أربعة أعصاب عنقية
والعصب الصدري الأول (أي من خمسة جذور). وتتفرع أعصاب الطرف
الأعلى من هذه الشبكة التي تمتد من أسفل الرقبة إلى الأبط. والأعصاب المهمة
التي تتفرع من هذه الشبكة هي العصب الوسطى والعصب الكعبري، والعصب الزندي،
ويمتد كل عصب من الأبط حتى أطراف الأصابع، ويتكون كل عصب من
قسمين: (1) القسم المحرك أو المغذي (2) والقسم الحاس. والقسم المغذي
هو الأساس في حركة العضلات والمفاصل. والقسم الحاس يقوم بالتحسس من
الألم ودرجة الحرارة والمكان، ويقوم كل عصب بإدارة قسم من العضلات
ومساحة معينة من الجلد.
والأمراض التي تصيب الأعصاب هي تلك الأمراض التي تنشأ من فقدان
وظيفة العصب سواء كانت وظيفة حركية أو وظيفة حاسة أو كليهما معا.
والأمراض المشهورة التي تصيب الأعصاب هي أمراض الشدة، كقطع العصب بآلة
قاطعة أو راضة أو بأورام الأعصاب. وأمراض الأعصاب تظهر للعيان بواسطة
الشكل الذي تأخذه اليد أو الذراع بعد حدوث الإصابة. وإصابة كل عصب
تعطي شكلا خاصا بها، لأن فقدان وظيفة العصب معناه فقدان العضلات التي
تدار بذلك العصب لوظيفتها في التقلص مما يحمل العضلات المضادة لتلك العضلات
لأن تجعل اليد أو الكف في شكل معينة. فمثلا أن إصابة العصب الوسطى
يسبب شكل عضلات المقلصة للكف، وبذلك تكون العضلات المبسطة للكف في

197
حالة تقلص، وليس هناك ما يقاومها، وهذا يظهر شكلا معينا وهكذا.
الأوردة والشرايين:
يتغذى الطرف الأعلى بواسطة شرايين وظيفتها جلب الدم المؤكسد إلى
جميع أنسجة الطرف من عضلات وعظام وجلد وأنسجة أخرى. ويسحب هذا
الدم كدم غير مؤكسد بواسطة الأوردة.
يغذي الطرف الأعلى بواسطة الشريان الأبطي وتفرعاته، ففي منطقة
الأبط يكون هناك الشريان الأبطي والذي يمتد إلى منطقة العضد (الذراع
العليا) حيث يسمى هناك بالشريان الذراعي.
يقوم الشريان الأبطي بتغذية جميع عضلات المنطقة الكيفية، ومنطقة لوح
الكتف، ومنطقة الصدر والثدي.
ويقوم الشريان الذراعي بتغذية عضلات منطقة الذراع الصلب، وعظم العضد
ويمتد حتى منطقة المرفق وحتى منطقة عنق عظم الكعبرة حيث ينقسم إلى
شريانين: الشريان الزندي، والشريان الكعبري. ويمتد كل منهما إلى منطقة الرسغ
حيث يظهر الشريان الكعبري سطحيا، ومنه يجس الطبيب نبض المريض، ومن
ثم ينتهي كل شريان بعد أن يكون كل منهما قوسا شريانيا في منطقة الكف
وتتفرع من هذا القوس مجموعة من الشرايين تسمى بالشرايين الأصبعية تغذى
الأصابع وتنتهي بالشعيرات الشريانية.
الأوردة:
تبدأ الشعيرات الوريدية والأوردة الأصبعية، ثم القوس الكفى، ومن ثم
أوردة الساعد السطحية، والذي تظهر جليا تحت الجلد، وهناك وريدين حول

198
كل شريان عميقا، تسمى الأوردة العميقة. وتنتهي الأوردة السطحية والعميقة
جميعا بالوريد الأبطي.
أمراض الشرايين:
هي تلك الأمراض التي تسبب انقطاع جريان الدم في المنطقة التي
تغذى الشريان، والتي قد تسبب موت تلك المنطقة Gangren وأشهر هذه
الأمراض هي الخثرات الدموية والجلطات الدموية، وأمراض الشدة، وبعض
الأمراض التي تسبب تقلصات الشرايين. أمراض الأوردة:
هي كذلك أمراض تسبب إما عدم جريان الدم في الأوردة كالخثرات
الدموية والجلطات الدموية. وهناك أمراض تسبب التهاب الأوردة، وكليهما
يظهران على شكل تورم في الذراع والكف، وألم وحرارة في حالة الالتهاب).

199
حق الرجل

201
قوله عليه السلام:
(وحق رجليك أن لا تمشي بهما إلى ما لا يحل
لك، ففيهما تقف على الصراط، فانظر أن لا يزلا بك
فتتردى في النار).
الرجل لغلة:
القدم، أو من أصل الفخذ إلى القدم.
قيل سميت بذلك لأنها تحمل البدن، وتقوى على الحركة.
وفي الاصطلاح تطلق مفردة ومضافة على عدة أمور قد تقتضي الحاجة
إلى بيانها فنذكرها:
تتكون هذه الرجل من العظام الآتية: الردف، الحوض، الفخذ،
الساق، القدم.
1 - الردف:
عظم كبير مسطح، غير منتظم الشكل، محزز في الوسط، ومتصل من
الخلف بالعجز.
وهو مكون من ثلاثة عظام متصل بعضها ببعض وهي:
العظم الحرقفي - عظم مستعرض صلب جدا يقابل لوح الكتف في الطرف
العلوي.

203
العظم الوركي - يقابل النتوء الغرابي.
العظم العاني - يقابل الترقوة.
ويوجد بالسطح الخارجي عند التحام هذه العظام بعضها ببعض تجويف،
يسمى (التجويف الحقي) تتصل به عظمة الفخذ اتصالا مفصليا.
ويوجد بين العظمين (الوركي والعاني) فتحة تسمى: (الثقب المسدود)
2 - الحوض:
حلقة قوية عظيمة، تتكون من أمام ومن الجانب من العظم الردفي،
ومن خلف من العجز والعصعص، وتتصل من أعلا وخلف بالعمود الفقرى،
ومن الجانبين بالطرفين الأسفلين. وهو معد لحفظ الأحشاء الموجودة في البطن
السفلي.
العجز:
هو الجزء الذي ترتكز عليه فقرات العمود الفقرى وما فوقها، ويحمل ثقلها، وهو مكون من خمس فقرات يتصل بعضها ببعض، فتكون عظما
واحدا يتصل من جهتيه بالعظم الحرقفي، وهو مثلث الشكل من أمام إلى خلف
ويكون الجدار الخلفي للحوض. وفي كل من سطحيه الأمامي والخلفي ثمانية
ثقوب: أربعة على كل جانب للخط الأوسط، متصلة بالقناة الفقرية.
العصعص:
عظم صغير مثلث الشكل، مكون من أربع فقرات، وأحيانا الفقرة
الأولى منها تبقى منفردة. ولا يوجد به قناة فقرية، وينحني إلى الأمام،

204
ويتحرك قليلا إلى الخلف.
وقد مر على (لسامي شوكت) ما نصه:
الأطراف السفلى:
(مكونة من أربعة أقسام كالأطراف العليا: وهي الحوصلة، الفخذ،
الساق، القدم، فالحوصلة (أو عظام الحوض) مكونة من أربعة عظام من
الجانبين العظميين الحوصليين، ومن الخلف عظم العجز، ومعلق بذنب العجز
من الأسفل، عظم العصعص فعظم العجز، مكون من خمس فقرات، وهذه
الفقرات تكون منفصلة عن بعضها في الحالة الجنينية، ولكنها تتحد بعد
الولادة. أما عظم العصعص.
فمكون من ثلاث فقرات كذلك، تتحد بعد الولادة بعد أن تكون
منفصلة عن بعضها في الحياة الجنينية، وعليه أن مجموع فقرات عظمي العجز
والعصعص يبلغ 8، وهذه الثماني فقرات تصغر بصورة تدريجية من الفوق إلى
الأسفل حتى تأتي الفقرة الثالثة للعصعص، فبينما نرى حجم الفقرة الأولى
العجزية أكبر من حجم جوزتين موضوعتين جنب بعضهما، نرى الفقرة الثالثة
السفلى للعصعص لا يتجاوز حجمها حجم الحمصة الصغيرة، وهذا التصغر الشديد
الفجائي بين ثماني فقرات يدلنا دلالة واضحة على أن هذه الفقرات الثمان
ربما كانت أكثر فيما مضى، ثم نقص عددها بالتدريج لعدم بقاء اللزوم لها...
أما عظام الحرقفة:
فهما من العظام العريضة الكبيرة، ويتحدان قداما مع بعضهما،
ويرتكزان خلفا على عظم العجز، ويكونان الحرقفية. ولعظم (الحوصلة) هذا

205
ثلاثة أقسام: قسم جنبي ومرتفع، وقسم قدامي، وقسم سفلي، فالقسم
الجنبي هو جسم العظم، وأشبه بدائرة غير منتظمة، لها وجه مقعر داخلي،
ووجه محدب خارجي. وهذه القطعة تشكل النواحي العليا من الإليتين من
الخلف والجانبين. أما القسم القدامي فهو عبارة عن استطالة عظمية وتسمى
بالعانة تتحد مع القسم السفلي الذي هو كذلك استطالة عظمية وتسمى بالورك
فتتكون من اتحاد هاتين الاستطالتين العظميتين (أي العانة والورك) فتحة
تدعى با (لفتحة تحت العانة) وهذه الفتحة عند النساء يكون شكلها مثلثا وعند
الرجال بيضيا، ومن هذا نتمكن من تفريق عظم الأنثى من عظم الذكر.
ويحتوي عظم الحرقفة في جانبه على تجويف كبير يستوعب جوزة كبيرة
يسمى بالتجويف الحرقفي حيث يدخله رأس الفخذ، ويكون المفصل الفخذي
الحرقفي.) (1)
وقد لخص هذه الكلمة (انتواني رافييللى) في كتابه بقوله: (إن
عظام الحوض الثابتة تكون حلقة من العظام يرتكز عليها كل الجزء العلوي
من الجسم، وهي المحور الذي يلف عليه الساقان.
ويتكون الحوض من عظمين بارزين إلى الخارج يشبهان جناحي الفراشة
وهذان العظمان مقوسان وعريضان عند القمة، ويتجهان إلى الداخل ناحية
الوسط ليكونا شكل فنجان له فتحة واسعة في القارع. إن جزء الحوض الذي
تعلق عليه سروالك وحزام بندقيتك هو حافة العظم البارز عند أكثر أجزائه
إتساعا. وعلى كل جانب من الحوض، تحت بروز العظم يوجد تجويف،
وهذا التجوبف هو الذي يستقبل رأس عظم الفخذ). (2)



(1) كتاب الصحة.
(2) عجائب جسم الإنسان.
206
3 - الفخذ:
(هو أطول عظام الهيكل وأغلظها وأقواها. وهو واقع بين الحرقفي
وقصبة الساق. وأما اتجاهه فإذا كان الجسم منتصبا يكون إلى الأسفل والأنسية
بحيث يكون طرفه العلوي منفرجا عن رفيقه من الجانب المخالف، وطرفه
السفلي متقاربا، وله في طرفه الأعلى رأس على شكل نصف كرة يتصل بالحق
الحرقفي، وتحت الرأس عنق مسطح هرمى، وعند حافتيه من أسفل جدبتان
يقال لهما المدور الكبير، والمدور الصغير، ترتبط بهما العضلات التي تدير
عظم الفخذ دورة رحوية على محوره.
وعظم الفخذ مقوس من الأعلى إلى الأسفل، ويكون التحديب إلى
الأمام، وطرفه السفلي أكبر من العلوي مسطح من الأمام إلى الخلف ويقسمه
خلاء إلى ارتفاعين كبيرين: هما العقدتان أو النتوءان اللحميان اللذان
يتصلان اتصالا مفصليا بالقصبة، وعلى المقدم من الخلاء المذكور انخفاض
أملس بكري الشكل يتصل اتصالا مفصليا بالرضفة، وعلى المؤخر شرم كبير بين
العقدتين تستقر فيه الربط المتصالبة.
4 - الساق:
فلها ثلاثة أعظم: الرضفة، والقصبة، والشظية.
فالرضفة عظم صغير سمسماني مسطح مثلث الشكل موضوع في مقدم
مفصل الركبة. بناؤها من النسيج الشبكي الكثيف كسائر العظام السمسمانية
والقصبة: ثانية عظم الفخذ في الطول والغلظ، وهي موضوعة في مقدم
الساق إلى الأنسية، عمودية في الذكور منحرفة قليلا إلى الوحشية في الإناث

207
لمقابلة انحراف عظم الفخذ، فيهن الناتج عن اتساع الحوض والشظية:
عظم طويل رقيق موضوع وراء القصبة في الجانب الوحشي من الساق، طرفها
العلوي موضوع أسفل مساواة مفصل الركبة، والسفلى بارز أسفل القصبة.
يتكون من الكعب الوحشي، وأما الكعب الأنسي فهو الطرف السفلي من
القصبة.
5 - القدم:
فهي القسم السفلي من الرجل، تحمل الجسد إذا كان منتصبا، وبها
تتم الحركة الانتقالية. وهي مؤلفة من 3 أقسام: الرسغ، والمشط، والسلاميات
فالرسغ:
مؤلف من سبعة أعظم: وهي العقب، والكعب، والمكعب، والزورقي
وثلاثة أسفينية: أنسى، ومتوسط، ووحشي.
فالعقب أكبر وأقوى عظام الرسغ، شكله مكعب غير منتظم، وموضعه
القسم السفلي المؤخر من القدم.
والكعب المعروف في كتب مصر بالعظم القنزعي هو ثاني العقب في الكبر
ومركزه القسم المتوسط، والعلوي من الرسغ فيحمل القصبة من الأعلى
ويستقر على العقب من الأسفل، ويتصل اتصالا مفصليا بالكعبين من الجانبين
وبالزورقي من المقدم.
والمكعب: ويقال له النردي أيضا، موضوع في الجانب الوحشي من
المقدم إلى مقدم العقب، ووراء العظمين المشطيين الرابع والخامس.
والزورقي في الجانب الأيسر من الرسغ بين الكعب من الخلف والأسفينية

208
الثلاثة من الأمام.
وأما الأسفينية فموضعها مقدم الرسغ، وتتصل اتصالا مفصليا بالزورقي
من الخلف، والعظام المشطية الثلاثة الأنسية من المقدم. ويقال لها على
ترتيبها الأنسي، والمتوسط، والوحشي.
مشط القدم:
مؤلف من 5 أعظم: أولها من الجهة الإنسية وما يليه أطولها، ثم
يتناقص طولها إلى الخامس.
وأما السلاميات:
فهي 14 لكل أصبع 3 إلا الإبهام فله اثنتان، وهي كسلاميات اليد
وضعا وشكلا غير أنها أصغر منها، لكن سلاميتي الإبهام في الرجل أكبر من
سلاميتيه في اليد، وبينهما فروقات أخرى خفيفة.
ومجموع عظام القدم كلها على شكل قنطرة مزدوجة، قسم منها يمتد من
المقدم إلى الخلف، والآخر من الجانب إلى الجانب. وأما العظام السمسمانية
فهي كتل صغيرة غضروفية قبل البلوغ، عظمية بعده. تتولد في الأوتار التي
تضغط الأجزاء التي تتزلق عليها، وأكثر وجودها في الذين يتعودون الأعمال
العضلية الشاقة. ومنها ينزلق على سطوح مفصلية، ومنها على سطوح عظمية
وأعظمها في الرجل هي الرضفة التي تسميها العامة (صابونة الركبة) وهي
مفصلية). (1)
والسلاميات الأخيرة لأصابع اليدين والقدمين مغطات من الوجه الظهري



(1) دائرة معارف البستاني.
209
بصفائح قرنية (أي شبيهة بالقرن) مسطحة مربعة الشكل تقريبا، تسمى
(الأظافر) ووظيفتها وقاية ظهور الأطراف من تأثير المصادمات والملابسات.
وأطراف أصابع اليدين والقدمين يقال لها (البنان) جمع بنانه.
(وتتماثل الأطراف العليا بأقسامها مع الأطراف السفلى، إلا أن هناك
فرقين: -
1 - في المحتويات: فالرضفة موجودة في عظام الأطراف السفلى ولكنها
معدومة في الأطراف العليا، وكذلك نجد رسغ القدم مؤلف من سبعة عظام،
بينما رسغ اليد مؤلف من ثمانية عظام.
2 - في الوظيفة: فالأطراف العليا تفيدنا للمس وحمل الأثقال لأنها
خفيفة وسهلة الحركة، فالمنكب يصلها بالجذع اتصالا بسيطا، وكذلك فإن
أصابع اليد سهلة الحركة جدا أكثر من أصابع القدم، كما أن الإبهام في
اليد لكونه يقابل جميع الأصابع الأخرى ويقوم بحركته الواسعة النطاق، كان
عاملا مهما لترقية الجنس البشري واحتلاله المركزي السامي في سلم التطور.
أما الأطراف السفلى من جهة ثانية فتفيدنا لحمل ثقل الجسم لأن عظامها
ثقيلة تتصل من جهة الحوض بالجذع اتصالا قويا إلا أن عظام القدم ولو كانت
أقل حركة من عظام اليد، ولكنها مرتبة بشكل يشبه القوس لتعطي للجسم
مطاطية). (1)
آفات الرجل:
وتصيب الرجل آفات مختلفة خاصة بها فضلا عن العلل العامة التي تشرك
بها، وأخص هذه الآفات في القدم، فمن ذلك إعوجاج القدم: وهو ينشأ



(1) علم الصحة تأليف فؤاد الانگورلي. وأمين الهلالي.
210
عن تيبس عضلات الساق وتقلصها، وهو خلفي على الغالب، ويترجح حصوله من
تأثير في جهاز الأم العصبي مدة إقامة الجنين في الرحم، أو من علة عصبية.
والقدم العوجاء ثلاثة أنواع:
أولا القدم القفداء: وهي التي يرتفع فيها العقب، بحيث يكون المشي
على أطراف العظام المشطية.
ثانيا القدم الفدعاء: وهي التي يرتفع عقبها وحافتها الأنسية، وينعطف
ثلثاها المقدمان إلى الأنسية والأعلى، بحيث يصير المشي على الحافة الوحشية
أو على ظهرها، وتتولد ثفنة على الجلد الذي يغطي المكعب وجزء القنزعي
المقدم وسطحه المفصلي والكعب الوحشي.
ثالثا القدم الوكعاء: وهي التي ترتفع حافتها الوحشية فيكون المشي على
الحافة الأنسية أو الكعب الأنسي. وهذا النوع نادر وأندر منه الاعوجاج
العقبى، وهو عبارة عن انطواء القدم على الساق بحيث يقرب ظهر القدم من مقدم
الساق.
وقد تكون القدم رحاء أيضا: وهي التي تكون مبسوطة الأخمص
وفائدة المقنطر.
ومن آفات الرجل أيضا: العصل: وهو عبارة عن تقوس الرجلين إلى
الأنسية بتقارب الركبتين. والفجج: وهو عكس العصل أي تقوس الرجلين
إلى الوحشية ببعد الركبتين والحفلجة.
وهي تداني صدري القدمين وتباعد عقبيها. والفجج أو الفجل: وهما
عكس الحفلجة، أي انفراج ما بين القدمين في المشي.
وهذه العلل وغيرها مما يتعلق بتشريح الرجل تقتضي تفصيلا طويلا
يضيق دونه المقام فيطلب في كتب التشريح والجراحة. وربما ذكرنا بعض

211
العلل الكبيرة في بابه.
* * *
ومن يتأمل في تركيب اليد والرجل وفائدتهما الكبرى، تنجلي له
حكمة الخالق القدير سبحانه وتعالى الذي أتقن كل شئ خلقه، ويظهر له
سر استعراض الإمام عليه السلام للرجل بالذكر، وأن لها حقا كغيرها من الأعضاء
- التي سبق ذكرها - تستوجب أن توضع في محلها وأن لا تستخدم في غير
ما جعلت من أجله.
فالرجل لم تجعل لركوب الإثم. ولم تخلق لارتكاب الخطأ وإنما
جعلت وخلقت ليمشي بها لقضاء المصالح الإنسانية المعقولة ولسلوك سبيل
الخير والدين والتقوى. قال رسول الله (ص): (من مشى في حاجة أخيه
المسلم كتب الله تعالى له بكل خطوة سبعين حسنة ومحا عنه سبعين سيئة إلى أن
يرجع من حيث فارقه، فإن قضيت حاجته على يديه خرج من ذنوبه كيوم
ولدته أمه، وإن هلك فيما بين ذلك دخل الجنة بغير حساب). وقال (ص):
(لأن يمشي أحدكم مع أخيه في قضاء حاجة أفضل من أن يعتكف في مسجدي
شهرين).
لا تسع بقدميك إلى ما حرم الله بل اجتهد أن يكون لك قدم خير
وصدق في العالمين حتى تفوز برضاء الخلق والخالق. يقول الله تعالى:
(وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم).
هذا هو حق الرجل الذي يجب أن يوفى. أما أننا نستطيع أن نملك زمام
أنفسنا فنقودها إلى حيث الخير، أو أن الزمام يفلت وتخرج من أيدينا المقادة
فتشهد علينا عند ذاك أيدينا وأرجلنا بما سعينا بها في طريق المضرة والفساد.
(يوم تشهد عليهم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون).

212
يوم يجحدون ما اكتسبوا في الدنيا من الذنوب حين سؤالهم عنها،
فتشهد عليهم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون من قول أو فعل، إذ ينطقها
الله بقدرته فتخبر كل جارحة منها بما صدر منها من أفاعيل صاحبها.
ويرى فريق من المفسرين أن الشهادة هنا ليست الشهادة باللسان بل
شهادة الإثبات والبيان، إذ كل ما يعمله الإنسان في الدنيا من قول أو فعل
تنطبع له صورة على العضو الذي فعله، فالكلمة يقولها تنطبع لها صورة على
اللسان، واليد التي تمتد لفعل شئ والرجل التي تخطو إلى عمل، كل ذلك
يحفظ على نفس الجارحة التي فعلته.
وقد ألمحت الرواية إلى هذا المعنى قال رسول الله (ص): (إن الرجل
يؤتى به يوم القيامة ويؤتى بكتابه فتكتب حسناته في ظهر كفه، وتكتب
سيئاته في بطن كفه، فينظر إلى سيئاته فيحزن فيقال له: اقلب كفك فيرى
حسناته فيفرح).
فما أشبه ذلك بالصور التي تؤخذ اليوم لأصابع المجرمين وبصمات
أيديهم وأرجلهم في قلم تحقيق الشخصية للرجوع إليها إذا دعت الحاجة إلى
ضبط أولئك المجرمين، فما ينطبع إذ ذاك على اللسان واليد والرجل، يكون
كافيا حد الكفاية في إثبات الجرم على أولئك المجرمين والطغات الظالمين.
* * *
كلمة الدكتور عبد الكريم أحمد الكامل البصري
عبد الكريم أحمد طبيب لامع كريم الخلق، رقيق العاطفة، رحب الملاقاة

213
اجتمعنا به في عيادته بالنجف الأشرف في شارع الإمام الصادق عليه السلام فأنسنا به،
إذ كان لطيف المحاضرة جميل البشاشة.
بسم الله الرحمن الرحيم
سيادة العلامة السيد حسن القبنچى المحترم.
تحية واحتراما.
بناء أعلى طلبكم أن أكتب موضوعا عن الرجل وفسلجتها وتشريحها
والعوارض التي تصيبها، وكيفية معالجتها، أقدم لكم صورة بسيطة موجزة
عما استطعت أن أكتبه لسيادتكم خدمة للعلم وللإنسانية المقبلة، ولكي
يتطلع عليها القراء الأعزاء، ولكي يأخذوا نظرة عما خلقه الباري عز وجل،
وعن تركيب ووظيفة الرجل مع الشكر الجزيل والتقدير.
الدكتور
عبد الكريم أحمد كامل
13 / 9 / 963
الطرف السفلي
الرجل
فسلجة في تشريح الرجل:
إن أقسام الطرف السفلي متكونة من الورك، والإلية، والفخذ،
والساق، والقدم، والأصابع.

214
إن منطقة الفخذ تمتد من الورك إلى الركبة، وعظمها يسمى بعظم الفخذ
في أعلى عظم الفخذ يتصل عظم الفخذ مع عظم الورك، في منطقة تدعى مفصل
الورك، أما في أسفل عظم الفخذ فإنه يتصل مع عظم القصبة للساق، ومع عظم
الرضفة (الصابونة) في منطقة تدعى بمفصل الركبة.
إن منطقة الساق تمتد من منطقة مفصل الركبة إلى مفصل الكاحل. إن
عظام الساق متكونة من عظمين رئيسين هما عظم القصبة، وعظم الشظية، واللذان
يقعان جنبا إلى جنب. إن عظم الشظية وهو عظم رفيع وطويل يقع إلى الجنب
الخارجي للساق، وفي أعلاهما وأسفلهما يتصلان معا ليكونا مفاصل القصبة
والشظية، وكذلك فإن أسفلهما يتصلان بأحد عظام الكاحل والذي يدعى
ب‍ Talus ليكونوا مفصل الكاحل.
إن منطقة القدم تمتد من قاعدة القدم الخلفية إلى قاعدة أصابع القدم.
إن الجهة العليا من القدم يدعى بالجهة الظهرية للقدم، وإن الجهة السفلية
للقدم تدعى بالجهة الباطنية (أو راحة القدم) للقدم. إن القدم منقسمة إلى
ثلاثة أقسام:
1 - منطقة الكاحل.
2 - منطقة عظام المشط.
(3) منطقة عظام الأصابع.
إن عظام منطقة الكاحل متكونة من سبعة عظام صغيرة متصلة بعضها
بالبعض الآخر لتكون عدة مفاصل. وإن أحد هذه العظام السبعة الصغيرة
متصل بأسفل عظمي القصبة والشظية. لكي يعمل مفصل الكاحل. أما أسفل هذه
العظام فإنها تتصل مع عظام مشط القدم لتكون مفاصل ذات أهمية عند المشي
والقفز والوقوف على القدمين.

215
أما عظام مشط القدم فإنها متكونة من خمسة عظام الواحد بجانب الآخر
خلف عظام الأصابع، ويعدون بالرقم من 1 إلى رقم 5 ويبدأ الحساب من
عظم المشط الذي هو خلف إبهام القدم، فيدعى بالرقم 1 وهكذا إن قواعد
عظام المشط متصلين الواحد بالآخر لتكون مفاصل ما بين عظام المشط إلى
عظام الأصابع للقدم، فيحسبون من المنطقة الداخلية للقدم إلى الخارج. وإن
أول أصبع للقدم وهو الكبير ويدعى بالإبهام، والأصبع الخامس، وهو
الخارجي الذي يدعى بالأصبع الصغير للقدم.
إن عظام الأصابع تدعى بالسلاميات. إن الإبهام يحتوي على سلاميتين
أما بقية الأصابع فإنها تحتوي على ثلاثة سلاميات.
العوارض:
إن أهم العوارض التي تصيب الرجل هي حوادث الهدس في السيارات
وحوادث السقوط من علو، أو سلم. وأكثر العظام التي تصاب هي أما عظم
الفخذ، وأما أحد عظمي الساق أو كليهما. وعند ذلك تجري لهم إرجاع الكسر
إلى محله تحت تأثير المخدر العمومي. وأحيانا بدون واسطة التخدير،
وبعد إرجاع الكسر إلى محله تجري بناء الساق أو الفخذ بالجبس لمدة معينة.
فمثلا نضع الجبس عند حدوث كسر عظم الفخذ لمدة ستة أسابيع، ثم نرفع
الجبس ونعيد الفحص على الفخذ مرة أخرى، وعند ذلك أما أن نعيد وضع
الجبس أو نترك الفخذ بدون بناء بالجبس عند حدوث الانتقام، ونفس الطريقة
نعيدها حيث المدة اللازمة لوضع الجبس على الساق هي أربعة أسابيع.
ثم هناك أمراض خاصة يصاب الساق بها، مثلا الالتهاب الجلدي،
والالتهاب المفاصلي، والالتهاب العظمي، وكلها ممن معالجتها بالطريقة الحديثة بإعطاء

216
الحديثة بإعطاء الأدوية اللازمة والحقن بالمواد المضادة للحياة (إنتيبايوتك).
وهناك أورام بسيطة أمثال الورم الليفي، والورم الشحمي، والورم
العضلي، والورم العصبي، والورم الدموي، والورم العظمي. والتي ممكن
استئصالها جميعا بعملية جراحية.
ومن الأورام ما هو خبيث (سرطان) وهنا فإننا نشاهد بأن الورم
يتوسع ويكبر بسرعة فائقة ومدهشة، وينتشر إلى أماكن بعيدة. فمثلا هناك
أورام خبيثة تصيب أحد عظام الرجل، ومن هذه الأورام أيضا تصيب عضلات أو
مفاصل أو أعصاب الرجل.
فمن هذه الأورام الخبيثة والتي يصاب بها الفخذ أو الساق فإننا نجري
عملية بتر الرجل، أو أحيانا العملية الجراحية تكون غير نافعة، فعند ذلك
تستعمل لتلك الأورام العلاج بواسطة الأشعة العميقة أو بواسطة النظائر المشعة
أو بواسطة الذرة.
وأحيانا تصاب شرايين الرجل بجلطة دموية أما من القلب أو من مكان
آخر في الجسم مما تسبب تموت في الساق أو الفخذ، ويحدث ما يسمى بالكانكرين
وعند ذلك تجري عملية البتر أيضا).

217
حق البطن

219
قوله عليه السلام:
(وحق بطنك أن لا تجعله وعاء لقليل من الحرام
ولا لكثير، وأن تقصد له في الحلال، ولا تخرجه من حد
التقوية إلى حد التهوين وذهاب المروءة، فإن الشبع المنتهي
بصاحبه إلى السكر مسخفة ومجهلة ومذهبة للمروءة).
* * *
البطن خلاف الظهر: وهو أعظم تجاويف الجسم. يفصله من أعلاه عن
التجويف الصدري الحجاب الحاجز، ومن أسفله عن التجويف الحوضي شفة الحوض
وهو بيضي الشكل، وقطرة الطويل من الأعلى إلى الأسفل، وأعلاه أعرض
من أسفله.
يشمل أجزاء كثيرة من الآلات الحيوية، كالمعدة، والأمعاء، والكبد،
والطحال، والبنكرياس، والكليتين، والمثانة.
المعدة:
هي العضو المهم في الهضم، بل هي أهم أعضاء الجسم، إذ بصلاحها يصلح
وبفسادها يفسد.
وهي شبيهة بقرعة طويلة العنق، مركبة من ثلاث طبقات:
(1) الطبقة الداخلية، أو الغشاء المخاطي.

221
(2) المتوسطة أو الطبقة العضلية.
(3 (الطبقة المصلية أو الخارجية.
فمن الطبقة الداخلية تفرز العصارات المعدية الهاضمة التي تعد الغذاء
ليكون كيموسا حاضرا لامتصاص رقيقه إلى الكبد. وفي الطبقة المتوسطة
شظايا دقاق كثيرة تشبه شظايا الأعصاب وتسمى (الألياف) محاطة باللحم وهي
مختلفة الامتداد فيها حيث يكون بعضها ممتدا في طول المعدة، وعملها جذب
الغذاء، وبعضها في العرض وعملها دفعه إلى الخارج بعد الهضم، وبعضها موربة،
وعملها مسك الغذاء وإيقافه فيها حتى يتم هضمه. فسبحانه من مدبر.
وموضعها تحت القلب، متوسطة بين الكبد يمينا والطحال شمالا.
ولحم الصلب من خلف لتنال من حرارة هذه الأعضاء، فينهضم فيها الغذاء،
وجعل أمامها إلى صفاق البطن ليمتد إذا امتلأت من الغذاء، وخلقت مستديرة
الشكل لتسع غذاءا كثيرا، وقعرها أوسع من أعلاها، لأن قامة الإنسان
منتصبة، وما يتناوله من الطعام والشراب ثقيل، فميل الجميع إلى جهة قعر
المعدة فوجب أن يكون أوسع.
وفم المعدة مفتوح دائما، لأن وضعه فوق المعدة، فلا يخرج منه ما في
المعدة، وخلق مجراها إلى الأمعاء بحيث ينفتح في وقت وينغلق في وقت، لأن
وضعه أسفل فيحتاج الغذاء إلى أن يلبث فيه ريثما ينهضم، فلو كان مفتوحا
لنزل الغذاء فيه من غير هضم، فإذا صار الغذاء نضيجا كف الماسكة عن الإمساك
وأخذت الدافعة في الدفع إلى الأمعاء.
وخلق من خارج المعدة عليها غشاء، وثرب:
أما الغشاء فهو جسم متنسج من ليف عصباني كنسيج الثياب، وجعل في
المعدة ليكون وقاية لها، ويربطها بالأعضاء التي حولها. وأما الثرب فهو جسم

222
شحمي خص بإلحاق المعدة من الأمام ليفيدها حرارة مع سهولة الانبساط إذا
امتلأت المعدة من الغذاء. وجعل الثرب من قدام أكثر، لأن توقع وصول
البرد من هذا الجانب أكثر. وخلق فم المعدة عصبانيا ليكون قوي الاحساس
بالحاجة إلى الغذاء. وخلق قعرها لحمانيا لينضج الغذاء بحرارة اللحم.
وتحتوي المعدة والأمعاء غددا صغيرة جدا أنبوبية الشكل، وظيفتها إفراز
العصارة المعدية. وهذه العصارة حمضية دائما لاحتوائها على (حمض الكولوريدريك)
وفيها خميرة هاضمة اسمها (الببين) واسمها اللغوي (الحاطوم).
وتمكث في المعدة الأغذية بضع ساعات قبل أن تصل الأمعاء. ووظيفة
المعدة قبول الأغذية وطبخها وطحنها وإحالتها إلى عجينة صالحة للتغذية.
فإذا كانت المعدة سليمة كان الهضم جيدا، وإذا كانت متغيرة ساء الهضم
ويترتب على ذلك ضرر بالصحة كما قال الرسول الأعظم محمد (ص): (المعدة
بيت الداء).
فمن الواجب إذن الاعتناء بسلامة المعدة، لأنها (كما قلنا) أهم أعضاء
الهضم بل أهم أعضاء الجسم.
أمراض المعدة:
سوء الهضم أو عسر الهضم، ألفاظ تطلق على عدم هضم المأكولات على
الشكل الطبيعي، أو بقاء الأغذية في المعدة فوق الوقت المعتاد، وكل هذا ينشأ
من وجود أمراض في المعدة سواء كانت التهابات مختلفة أو أرواح أو قرح
انسداد في فتحة المعدة الاثني عشرية، ولكن في الغالب الشائع أن تكون هذه
الآفات نتيجة عدم إفراز السوائل الهاضمة على الشكل الطبيعي، أو عدم تحرك
المعدة على الشكل العادي، أو أن يكون الافراز غير ملائم للأغذية، أو أن

223
تكون القوة العصبية الهضمية ناقصة من أي وجه كان.
وقد يجوز أن يكون المنشأ عدم إعطاء الغذاء الكافي، أو فوق العادة
فينتج من وراء ذلك تهيج في المعدة، أو عدم قدرتها على أداء وظيفتها بالشكل
المطلوب، وفصل هذه العوامل يؤئر في المعدة فينشأ عنها الالتهاب المعدي
فيحول دون معرفة الحقيقة.
عسر الهضم:
يكون هنا ناشئا عن خلل عملي من أكل زائد عن المعدة أو مهيج لها
ويسري هذا على أي رجل سليم البنية يأكل ما يزيد عن حاجته، أو يشرب
كثيرا من القهوة أو الشاي أو المشروبات الكحولية، فإن الطعام يبقى في معدته
أكثر من الزمن اللازم بغير هضم.
أعراضه
أما أن تبتدئ بعد الأكل مباشرة أو بعد عدة ساعات، فيشعر الإنسان
بألم في جهة المعدة، أو شعور غير طبيعي في هذه الجهة، وربما حصل الأكل
في وقت الغذاء فيبقى في معدته حتى وقت النوم فينام الشخص بدون أي ألم
فيه، ولكنه يستيقظ من ألم في معدته، ويكون لسانه جافا وبه صداع شديد،
فيبقى ساهرا مدة من الزمن، وربما حصل ألم في جهة القلب، وبعض الأحيان
تضطرب ضربات القلب، وفي الصباح لا تنفتح شهية المريض للأكل، ولكن
كل هذه الأعراض تزول في قليل من الساعات، وفي بعض الأحيان ينتهي
المرض بسرعة زائدة بحصول القئ فيزول كل شئ، وربما تكرر القئ ومج
معه قليل من الصفراء، وربما حصل إسهال في الاثني عشري في الساعة التالية

224
لوقت المرض.
العلاج:
إيجاد القئ بأي شكل كان سواء بالمقيئات، أو بتهييج داخل الحلق
وفي الأحوال البسيطة يمتنع عن الطعام مدة من نصف يوم إلى يوم.
والمعدة أمراض وأعراض كثيرة أعرضنا عنها، إذ بنينا كتابنا هذا
(شرح رسالة الحقوق) على سبيل الإيجاز والاختصار.
الأمعاء:
قناة غشائية مصلية تشغل جزءا كبيرا من تجويف البطن، وهي ممتدة
من المعدة إلى الدبر (الشرج) وتنقسم إلى أمعاء دقاق، وأمعاء غلاظ.
الأمعاء الدقاق:
هي الجزء الأكثر طولا من القناة الهضمية، وهي على شكل أنبوبة
ضيقة، تمتد من المعدة إلى الأمعاء الغلاظ، وتنثني على نفسها مرارا، وطولها
في الإنسان قدر طول الجسم ست مرات، وتبلغ سبعة أمتار تقريبا، وموضوعها
في وسط البطن، وتتصل كلها إلا جزءا صغيرا منها بالجدار الخلفي للبطن
بواسطة ثنية من البريتون تسمى (المساريقا).
وتقسم الأمعاء الدقاق إلى ثلاثة أقسام: هي:
الاثني عشري. والصائم. واللفائف.
الاثني عشري - يسمى بذلك، لأن أول من وضعه من علماء التشريح
قدر مقياسه باثني عشر أصبعا، ويمتاز بأنه أقصر وأوسع وأقل حركة من كل

225
الأمعاء الدقاق، وأيضا يمتاز بخلوه من المساريقا، ويبتدئ من الفتحة
البوابية للمعدة، وينتهي على يمين الفقرة الثانية القطنية باتحاده مع الصائم
وشكله كحرف S وفيه تنصب القناة المرارية الآتية من الكبد والقناة البنكرياسية
الآتية من البنكرياس.
الصائم واللفائف:
هما الجزءان الكبيران من الأمعاء الدقاق، ولا يوجد بينهما فرق
ظاهر، ويمتازان من بعضهما بكثرة ثنايا الغشاء المخاطي في الصائم، ويوجد
غدد لمفاوية في اللفائف تسمى (بيار) ويسمى الصائم واللفائف (بالأمعاء
المساريقبة) لأنها تتصل بالمساريقا، والمساريقا تسمح بحركة كبيرة للأمعاء
والأمعاء الدقاق عضلية مبطنة بغشاء مخاطي يحتوي غددا صغيرة جدا أنبوبية
الشكل، تفرز العصارات، وهي قلوية التأثير، وفي هذا الجزء من القناة
الهضمية يكمل هضم الأغذية، وتنتهي الأمعاء الدقاق حيث أول الأمعاء الغلاظ
في الحفرة الحرقفية اليمنى.
الأمعاء الغلاظ:
تلي الأمعاء الدقاق، وهي التي تقبل فضلات الهضم، أعني الأغذية غير
المهضومة لأجل قذفها إلى الخارج، وهي عضلية التركيب، ومبطنة بغشاء
مخاطي إلا أنها أكثر اتساعا من الأمعاء الدقاق، ولكنها أقل حركة منها،
وبظاهرها زوائد دهنية، ويشاهد في ظاهرها ثلاثة أشرطة مستطيلة تمتد في
طول الأمعاء، ويشاهد أيضا بروزات في جدارها.
وتنقسم إلى أربعة أقسام وهي: الأعور، والقولون، والمستقيم، والشرج

226
الأعور:
كيس موضوع في الحفرة الحرقفية اليمنى، طوله 6 سنتيمترات تقريبا
وكله مغطى بالبريتون، وتفتح في جانبه الأيسر نهاية الأمعاء الدقاق، وحول
هذه الفتحة صمام يسمى الصمام القولوني، ويوجد بأسفل الصمام القولوني
زائدة تسمى الزائدة الدودية متوسطة، طولها 9 سنتيمترات، وهي مغطاة
بالبريتون، وسائبة تتمتع بحركة كبيرة.
القولون:
قناة كبيرة الحجم. محدبة توجد بعد الأعور، وتصعد في الجهة اليمنى
نحو الكبد، ثم تمر عرضا بأسفل البطن، ثم تنزل في الجهة اليسرى نحو
الحوض، وتشرف على المستقيم الذي هو آخر القناة الهضمية، ويوجد في محل
اتصال اللفائف بالقولون صمام يمنع رجوع المواد البرازية من الأمعاء الغلاظ
إلى الأمعاء الدقاق.
المستقيم:
يبتدئ أمام الفقرة الثانية العجزية، وينتهي على بعد سنتمترين أسفل
قمة العصعص، ويتبع انحناء العجز والعصعص، ويبلغ طوله 40 سنتيمترا
تقريبا، ويوجد في جزئه السفلي انتفاخ يسمى (نفاطة المستقيم) ويغطي
البريتون ثلثيه الأعليين من أمام ومن الجانبين، أما الثلث السفلي فخال من
البريتون.

227
الشرج أو الأست:
هو آخر جزء في القناة الهضمية، طوله سنتمتران ونصف تقريبا
ويبتدئ من نهاية المستقيم أسفل قمة العصعص، ويتجه إلى خلف وأسفل،
وينتهي بالفتحة الشرجية، وهو محاط بعضلة تسمى (العضلة العاصرة) لأنها
بانقباضها المستمر تمنع الخروج الفجائي للمواد المجتمعة في الأمعاء الغلاظ) (1)
الكبد:
هو جسم لحمي ألين من القلب وأرطب، يحمل روحا طبيعيا ودما غذائيا
ينفذ منه في العروق إلى سائر الأعضاء، وهو موضوع في الجانب الأيمن تحت
الضلوع العالية من ضلوع الخلف، وشكله هلالي وتقعيره في الجانب الذي يلي
المعدة، وحدبته تلي الحجاب، وهو مربوط برباطات تتصل بالغشاء الذي
عليه، ينبت من مقعره قناة تنقسم إلى أقسام: منها ما يأتي قعر المعدة
وإلى الأمعاء. وبهذه الفوهات يجذب الغذاء إلى الكبد، ويصير في الكبد
ما ينضجه، وفي حدبة الكبد عروق تسمى (الأوردة) يجري فيها الدم إلى
سائر الأعضاء.
وخلق جرم الكبد شبيها بالدم ليحيل الكيلوس فيه إلى شبه جوهره.
فائدته:
صلاح المزاج واعتدال الأخلاط، وجريان الدم في الأعضاء، وبه ينمو



(1) الإنسان. لعلي فكري.
228
الجسد ويستوي البدن وتطيب الحياة ويلذ العيش وتأنس الأرواح. (1)
المرارة
هي وعاء المرة الصفراء، موضوعة في قعر الجانب الأعلى من الكبد،
ولها مجريان أحدهما يتصل بتقعير الكبد، والآخر يتشعب فيتصل بالأمعاء
العليا وبأسفل المعدة.
فالمرارة تجذب من مقعر الكبد المرة الصفراء وتقذفها إلى الأمعاء،
أما الجذب فلتصفية الدم عن المرة الصفراء، وأما القذف فلتنقية الأمعاء من
الفضول، وينصب منها إلى عضلة المخرج فيثبته على الحاجة.
ولما كانت المعدة والأمعاء محتاجة إلى التنقية من الفضول لما بقي فيها
من بقية الغذاء فضلة لزجة يتلطخ بها، جعل للمرة مجرى ضيقا إلى المعدة
فتنصب إليها المرة فتجلوها من الخلط البلغمي وتغسلها، فإن البلغم لا يزال
يتولد في المعدة عند خلاء المعدة واشتداد الجوع، فلو كان انصبابها وقت
امتلاء المعدة لاختلطت بالغذاء وأفسدته.
الطحال:
هو عضو وعائي موضوع في الجهة اليسرى من المعدة، ويحتوي على مقدار
عظيم من الدم، يتوجه منه المقدار المذكور إلى المعدة حين امتلائها فيعين على
الهضم. له قناتان: إحداهما تتصل بتقعير الكبد تجذب الخلط السوداوي من
الدم لئلا ينفذ الدم مع السوداء، بل يصفو عن الخلط الردئ. والقناة الثانية
تتصل بفم المعدة وتثبته على شهوة الغذاء.



(1) عن كتابنا (نزهة الخاطر).
229
أنظر إلى حكمة الصانع جلت قدرته كيف اقتضى تدبير تصفية الدم من
الصفراء والسوداء ليكون الغذاء صالحا سليما من الفضول، ثم استعملها لفائدتين
عظيمتين: إحداهما التنبيه على شهوة الغذاء والأخرى التنبيه على خروج الفضلة.
فائدته:
ما ينبث منه في الجسد من المرة السوداء، وبذلك تكون أجزاء البدن
من العظام والعصب والجلود وجمود الرطوبات، ومن أفعاله أيضا البرودة واليبوسة (1)
البنكرياس:
هو غدة في البطن موضوعة عرضا بين المعدة والعمود الفقرى، منسوجها يشبه منسوج
الغدد اللعابية، ولونها أبيض ضارب للسنجابية، وهي تتركب
من حبيبات تنضم بعضها إلى بعض على هيئة فصوص متميزة بعضها من بعض،
منها تخرج أصول قنوات تنفتح في الأمعاء الدقاق لتوصل عصيرها إلى الأمعاء
وهو العصير البنكرياسي الذي له تأثير كبير على هضم الأغذية.
وفائدته فيما قيل إعداد مادة خميرية في مدة الهضم، ترسل إلى البنكرياس
بواسطة الدم وتمتزج فيه بمادة زلالية خصوصية وتحولها إلى ببسين بنكرياسي
لهضم المواد الزلالية والدهنية، وما يفرز ويصب يوميا من المعي في هذا السائل
أكثر من نصف ليبرة في الكلاب، وبين ليبرة ونصف وليبرتين في الإنسان، ويكون
الافراز أكثر في ابتداء الهضم ومدة سيره، وينقص كثيرا أو ينقطع بالكلية في
الفترات بين هضم وهضم.



(1) عن كتابنا (نزهة الخاطر).
230
الكليتان:
هما غدتان مركز هما على جانبي العمود الفقرى خلف البريتون (الثرب)
ولكل منهما غلاف، وعلى رأس كل واحدة غدة أخرى صغيرة، أما على
نقطة في الكلية اليمنى فتوازي الحرف الأعلى للضلع الثاني عشر، أما اليسرى
فقد ترتفع إلى الحرف الأسفل للضلع الحادي عشر، وطول كل كلية نحو
عشرة سنتيمترات إلى أسفل هاتين النقطتين، وعرض كل واحدة خمسة
سنتيمترات، وشكل الكلية خاص بها فإنها مستديرة الشكل محدودبة من ناحية
ومقعرة في الأخرى تشبه نصف هلال إذا لم تكن أطرافه محددة، وأمام الكلية
اليمنى الكبد والقولون والجزء الثاني من الاثني عشري، وأمام الكلية اليسرى
الطحال والبنكرياس والمعدة والقولون النازل. وكل كلية محاطة بمحفظة
ومنسوج دهن خلوي، ويمر فيها فرع شرياني يمينا ويسارا يسمى (الشريان
الكلوي) آت من الأورطي النازل، ويوجد أيضا في كل كلية فرع من (الوريد
الكلوي يحمل إلى الكبد الدم الموجود فيها القابل للإصلاح.
ووضيفتها تصفية الدم من المائية الزائدة فيه، ودفعها إلى المثانة بواسطة
مجرى المحالب بعد امتصاص غذائها من ذلك الدم المختلط.
المثانة:
هي مستودع البول: كيس مجوف عصباني مؤلف من طبقتين، وعلى فم
هذا الكيس عضلة تصم الفم وتفتحه بالاختيار ليمسك البول ولا يخرج بدون
إرادة، وإنما خلق عصبانيا ليحس بامتلاء البول فيدفعه، ثم قد ركب داخل
المثانة من ثلاث لفائف مختلفة الاتجاه في وضعها، أحدها ممتدة بالطول لجذب

231
المائية من الكلية، والثانية ممتدة بالعرض لدفع البول إلى الخارج، والثالثة
ممتدة بالتوريب لإمساكه إلى أن يجتمع.
أمراض المثانة:
إلتهاب المثانة وعلاجه: إذا سرى الالتهاب من مجرى البول أو من
الرحم يوضع علق على الشرج من ثمان إلى عشر ديدان. وإذا كان ناجما من
البرد أفادته المعرقات أو سليسيلات الصودا بجرعة نصف غرام كل ساعتين مدة
ثلاثة أو أربعة أيام بشرط أن يكون القلب سليما لأن مرضه يزداد من السليسيلات
سلس البول في الصغار:
علاجه: تفريغ المثانة قبل النوم، وإيقاظ المصاب مرتين أو أكثر لمنع
الاستغراق، وكثيرا ما يفيد الزواج في هذا المرض.
احتباس البول:
وهذه العلة شديدة الخطر من حيث التسمم، لذلك كان الواجب الإسراع
باستدعاء طبيب خبير لكي يستخرج البول بواسطة الميل (الصوندة) وفي عيابه
يغطس العليل في ماء ساخن ويبقى فيه قدر ساعة فربما يخفف الألم ويسيل
البول، وإذا صعب استحضار الطبيب فينقل إليه المريض بدون توان فيستخرج
له البول، وإلا تسمم دمه ولم يعد يفيد الدواء ويموت المصاب على أشنع حالة.
هذه هي أهم الأعضاء التي اشتملت عليها البطن، والتي كل منها تعمل
عملا خاصا كما مر، وعملا مشتركا، أعني أن كل عضو يعمل غير ما يعمل
الآخر، ويعمل لنفسه وللكل في آن واحد.

232
فالمعدة مثلا تعمل غير ما يعمل الكبد، والكبد يعمل غير ما يعمل
الطحال، وكل منها لازم للآخر ولنفسه.
والجميع يعمل لغاية واحدة، وهي حفظ الكل، والكل ضروري لحياة
الإنسان التي لولاها لفقد وأصبح في عالم الأموات.
فسبحان الذي أودع في جسم الإنسان من العجائب والأسرار ما دل على
قدرته وعظمته، واعترف العالم بوحدانيته وأزليته.
فالبطن التي جعلها الله لكي يقيم بها الإنسان أوده ويقوم صلبه، وإقامة الأود
لا تكون في عرف الشرع إلا عن الطريق المشروع المباح، ليس لنا أن نملأها
مما حرم الله، لأن الله قد أحل لنا كثيرا من الطيبات في وسعنا تناولها،
فالانحراف عنها إلى ما حرمه الله خطيئة وإثم كبير.
وليست البطن أداة للترف، وليست موضوعة للامتلاء والشحن كما
يتصورها البعض.
وهنا يلفت الإمام عليه السلام أنظارنا إلى أن في الشبع ضررا بليغا من الصعب
تحمله، فضلا عن أن فيه نقصا للمروءة وتقليلا من القوة الفكرية التي يتمتع بها
الإنسان في أوقات عدم الامتلاء الشديد.
يقول الرسول الأعظم (محمد ص): (لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام
والشراب، فإن القلوب تموت كالزرع إذا كثر عليه الماء). وقوله (ص):
(ما ملأ ابن آدم وعاءا شرا من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه،
فإن كان فاعلا لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه).
وقد نهت العرب وأطباؤهم عن الإفراط في الأكل، فقال بعض الحكماء:
(البطنة تذهب الفطنة وتجلب الداء العضال). وقيل: كثرة الأكل تقسي
القلب، وتكثر النوم والكسل عن العبادة، وتكثر الشهوة وتضعف البصر.

233
ومن الأمثال: أقلل طعامك يحمد منامك.
وحد الاعتدال في الغذاء ما بينه الرسول الأعظم محمد (ص) في قوله:
(نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع).
ولقد أخطأ من قال: إن الأكل الكثير يكون منه للجسم غذاء كثير،
وفي الواقع أن لا غذاء إلا في الطعام الذي يحسن هضمه. أما الإكثار من
الأكل فيكون مجلبة للضرر وخيم المغبة.
وقد قسم رسول الله (ص) المعدة إلى ثلاثة أقسام فقال: قسم للطعام
وقسم للماء، وقسم للتنفس، فمن تأمل في ذلك التقسيم البديع وجد فيه حكمة
بالغة يأمن معها الإنسان شر الأمراض، لأن من أكل أكثر مما يحتاج إليه
يتسبب عنه سوء الهضم ويتناوله أكثر من سبعة أمراض: منها الضعف والتهاب
القناة الهضمية التهابا مزمنا، فإذا قدر وانهضم الطعام كله لقوة في المعدة ضعفت
الأعضاء الأخر، ويحدث من ذلك سمن مفرط يعوق الحركة الجسمية وينشأ
أمراض كثيرة أهما داء النقطة والسكتة وغيرهما.
هذا ونحن لا نذهب إلى أن الجوع الشديد مصف للفكر وموقد للذهن
ومفجر للخيال، فلا يخفى على أحد أن انشغال الذهن بنداء المعدة مع عدم
التمكن من تلبية هذا النداء الملح، هو أكبر شاغل للانسان عن التفكر في أي
شئ آخر غير أمر التلبية، وإنما نرى الاعتدال هنا كما نرى الاعتدال في
كل مكان حسنا، فلا الجائع الحرب يستطيع أن ينتج أي نوع من الانتاج
فكريا كان أم عمليا، ولا الممتلئ المشحون الذي لا يجد متنفسا لرئتيه
يستطيع ذلك أيضا، فكلاهما مشتركان في الحرمان من هذه الفائدة، أما
المتوسط والمعتدل فهو الذي يكون ذا قوة إرادية قوية جدا، وهو الذي يكون
صافي الذهن ذو مهارة عملية فائقة.

234
ويضيف الإمام عليه السلام إلى هذا أن الزيادة في الأكل إلى حد السكر والغشيان
تؤدي إلى نقص في الأخلاق، من ذلك نقص المروءة، فالشبعان غالبا لا
يستطيع الإنصاف وإعطاء الحق وقول الصدق الصريح، كما لا يستطيع أن
يقوم بأي عمل يستدعي صفاء الذهن وخلوه.
* * *
كلمة الدكتور عبد المحسن مهدي
الدكتور عبد المحسن، كاظمي المولد والأصل، خريج جامعة بغداد
الطبية، له كتاب تغذية الأطفال على ما ذكر لي، حسن السيرة محمود الملاقاة
ماهرا في الطب حاد الذهن، تعلوه البشاشة يرتاح المريض عند ملاقاته.
* * *
شرفني سماحة السيد حسن القبانچى إذ طلب مني أن أكتب إليه في بحث
الأمراض الباطنية، وقد سارعت لإجابة طلبه منتقيا جهاز الهضم، لماله من أهمية
كبرى في صحة الإنسان، فشرحت ما وسعني، الأمراض التي تصيب الجهاز
المذكور وطرق الوقاية منها وطرق معالجتها، آملا أن يستفاد منها الناس،
ويتجنبوا ما يجعل جهازهم الهضمي في حالة مرض ويصغوا لقول نبيهم الأعظم:
(المعدة بيت الداء).
وبالختام أشكر سماحة السيد إذ أتاح لي هذه الفرصة لأقوم بخدمة
بسيطة للناس والله ولي التوفيق.
عبد المحسن مهدي
* * *
يتكون جسم الإنسان من الرأس والجذع والأطراف: ويتكون الجذع

235
من تجويفين: التجويف الصدري، والتجويف البطني، ويفصل بينهما الحجاب
الحاجز. ويحتوي التجويف البطني على الأحشاء الداخلية: وهي المعدة،
والأمعاء الدقيقة، والأمعاء الغليظة، وغدة البنكرياس، والكبد، والطحال
والكليتين والحالبين والمثانة.
أولا - المعدة: وهي الجزء المتوسع من القناة الهضمية، وتقع في الجهة
العلوية والإمامية من التجويف البطني، وتتصل بدايتها بالمرئ ونهايتها
بالأثني عشري.
وتتكون من ثلاث طبقات: الطبقة الخارجية: وهي عبارة عن غشاء
رقيق يغلف المعدة. الطبقة الوسطى: وهي طبقة عضلية. وظيفتها القيام بحركة
المعدة عند الهضم، وتكون أليافها على ثلاثة أشكال: الألياف الدائرية.
والألياف المائلة، والألياف الطويلة.
الطبقة الداخلية:
وهي عبارة عن الغشاء المخاطي الذي يبطن المعدة ويفرز العصارات المعدية
الهاضمة وحامض الكلوردريك، وتصاب المعدة كأي عضو آخر بأمراض
واضطرابات تؤدي إلى حالات مرضية في الإنسان. وسنذكر فيما يلي بعض
تلك الحالات المرضية.
1 - التقئ:
وهو عبارة عن رجوع محتويات المعدة إلى الفم، مصحوب بغثيان وأسباب
عديدة منها معدية، ومنها عامة، فمن الأسباب العامة التي تسبب التقئ بعض
أمراض الجهاز العصبي، كتورم في الدماغ وذات السحايا، وداء الشقيقة،

236
وحالات التهيج العصبي والهستريا. ويصحب التقئ كل ألم شديد وخاصة في
أحشاء البطن، كالمغص الكلوي، والتهاب الزائدة الدودية. والمغص المعوي
الشديد. ولذا من الخطأ أن يتصور الناس أن كل تقئ معناه التهاب الزائدة
الدودية كما هو شائع عند الناس. والتقئ يتسبب عند من يتعرض لدوار البحر
والسفر بالطائرات. وكذلك في أمراض الأذن، وفي حالات بدء الحمل، وحالات
التسمم بجوهر البول وتضخم الغدة الدرقية، وتشمع الكبد، وذات الرئة،
والتهاب الكبد، والتدرن الرئوي.
أما أسباب التقئ الناتجة عن أمراض في المعدة فتحصل عندما يتعرض
غشائها المخاطي إلى مواد مخرشة أو متفسخة أو ملوثة. وكذلك السموم
العضوية وغير العضوية، مثلا تناول المشروبات الروحية، أو تناول طعام
يسبب حساسية لمتناوله والتخمة الزائدة، وخصوصا إذا تناول الطعام بسرعة وشراهة
العلاج:
أولا: إزالة السبب فإذا كان السبب معدي فيكون بإفراغ محتويات
المعدة بطريقة حك البلعوم بالأصبع، أو شرب مقدار كبير من محلول الصودا
الدافئ، فإذا لم تنجح هذه الطرق فتجري عملية غسل المعدة.
ثانيا:
ارتداد محتويات المعدة إلى المرئ وأحيانا إلى الفم (الجالي) وينتج عن
ذلك التهاب المرئ بمحتويات المعدة الحامضية، فيتسبب عن ذلك ألم خلف
عظم القص. وتعالج هذه الحالة بتناول شئ من الماء أو محلول الصودا.

237
ثالثا:
عدم الاشتهاء، ويجب التفريق بين هذه الحالة وحالة الخوف من تناول
الطعام الذي يحدث عادة في حالات قرحة المعدة حيث يخشى المصابون بها من
تناول الطعام، لأنه يسبب لهم ألما في المعدة فيمتنعون عن تناول الطعام، بينما
هم يشتهونه.
أما أسباب انقطاع الشهية للطعام فهي التهاب المعدة المزمن، وسرطان
المعدة، وفي حالات الحمى الحادة والتدرن، وفي حالات تيبس اللسان وغالبا
ما تكون الأسباب الحقيقية نفسية كالتهيج العصبي. عدم الاشتهاء
العصبي: ويحدث في الشبان والشابات ولا سيما في الشابات نتيجة
لاضطرابات نفسية، ولا سيما الفشل في الحب. والمريض يصاب بعدم
الرغبة في تناول أي طعام وحتى الكميات القليلة يتناولها بصعوبة. ويصاب
بعد ذلك بانتفاخ المعدة وغثيان، ويفقد المريض أو المريضة الوزن بسرعة
وتكون المعالجة بنقل المريضة من محيطها ووضعها في مستشفى أو محل آخر
كالريف مثلا، على أن تزار من قبل ذويها بفترات متباعدة. ويجب أن
تتناول المريضة الطعام بصورة كاملة وشاملة منذ الوجبة الأولى، وذلك بالجلوس
مع المريضة أثناء الطعام والاصرار عليها بتناول ما يقدم لها كاملا، وبعد
فترة تعالج المريضة نفسيا بعد مدة.
رابعا:
الغثيان: وعادة يبدأ قبل حدوث التقيئ، ويزول عند إفراغ المعدة.
وإذا صحب الغثيان وجع في الرأس فهو عادة يكون عند من يصابون بداء الشقيقة

238
ويصحب الغثيان دوار في أمراض الأذن الداخلية ودوار البحر. ويحدث الغثيان
بحالات التهاب المعدة المزمن، والتهاب كيس الصفراء المزمن، وفي سرطان
المعدة وفي التدرن، والأسبوع الأول من الحمل، والتهاب الكلى، والتهاب
البروستات، كل هذه الحالات يجب أن تميز قبل أن تعزى حالة الغثيان إلى
مرض عصبي كالهستريا، والهيجان النفسي.
خامسا: -
تطبل المعدة بالغازات: ويحدث هذا مصحوبا بامتلاء الأمعاء أيضا
بالغازات، ولكن في حالات كثيرة تنحصر الغازات في المعدة فقط، ويحصل
ذلك إما بتكون الغازات بصورة متزايدة ناتجة عن عمليات التخمر أو التفسخ،
ويحصل ذلك في سرطان الجهة البوابية من المعدة وحالات نقصان حامض
كلوردريك، وامتلاء الهواء بصورة مستمرة في حالات عسر الهضم العصبي والتهاب
كيس الصفراء وقرحة المعدة والاثني عشري، فيشعر المريض بامتلاء في المعدة
ويتصور سبب ذلك امتلائها بالغازات فيحاول استخراجها بطريقة التجشؤ.
ولما كانت المعدة في الحقيقة لا تحوي مقدارا كثيرا من الغاز فينتج عن
التجشؤ ازدياد إضافيا للغازات التي كانت سابقا، وهكذا بتكرار تلك المحاولة لعدة
مرات تتطبل المعدة بالغازات، ثم تخرج دفعة واحدة محدثة ضجيج. ويصاب
المريض بشعور بالامتلاء في منطقة المعدة في أسفل وأيسر جهة الصدر. وتدفع
الغازات الحجاب الحاجز إلى الأعلى وينتج عن ذلك خفقان في القلب وضيق في
النفس، وتكون المعالجة بإزالة، السبب ويوصى المريض بعدم التجشؤ مهما
اشتدت رغبته لذلك، ومداواة عسر الهضم.

239
سادسا: -
عسر الهضم العصبي: الاضطرابات النفسية تؤثر على سير الهضم والشعور
بالإثم، أو الغضب يؤثر على الإفرازات المعدية والمعوية وعلى حركة الأمعاء
والمعدة، وكذلك التعب والشغل الكثير. ويتميز أعراض هذا المرض بعدم
الانتظام، فيشعر المريض بعسر شديد في يوم ما وبتحسن مفاجئ في اليوم
التالي، وتكون المعالجة باطمئنان المريض وإفهامه بعدم وجود مرض عضوي
في المعدة، وبالراحة البدنية والنفسية وبعض الممهدات.
سابعا: -
التقيؤ الدموي والتبرز الدموي، ويحصل ذلك في حالات القرحة المزمنة
للمعدة والاثني عشري والمرئ والأمعاء الدقيقة، وكذلك في حالات تناول
الأدوية المخرشة كالأسبرين، وفي حالات أمراض القلب وتشمع الكبد وأمراض الدم،
وكذلك الدم الذي يصل المعدة عن طريق الرعاف والنفث الدموي.
وتكون المعالجة بإزالة السبب، وفي حالات كون النزيف ناتجا عن
قرحة المعدة أو أسباب أخرى عضوية يجب نقل المريض إلى المستشفى حيث
يعطى المهد آت ويوضع في سرير، ولا يسمح له بالحركة، ويغذى عن طريق
الوريد. وغيرها من الإسعافات.
أمراض المعدة:
1 - إلتهاب المعدة: ويقسم إلى قسمين: إلتهاب المعدة الحاد، والتهاب
المعدة المزمن.

240
1 - إلتهاب المعدة الحاد وينتج عن تخرش الغشاء المخاطي للمعدة نتيجة
لعوامل خارجية كنقصان الأسنان وتناول أغذية عسرة الهضم، وتناول
المشروبات الروحية والتوابل وعدم مضغ الطعام جيدا، وتناول مواد ملوثة
كالأطعمة الملوثة، وابتلاع مواد ملوثة من الأنف والجيوب الأنفية واللثة
والأسنان والبصاق، وبعض المواد الكيماوية كالأسبرين والسلاسلات والكنين
ومضغ التبغ، والمواد السامة، كالليزول والزرنيخ. أما العوامل الداخلية التي
تسبب التهاب المعدة الحاد، هو التسمم بجوهر البول والالتهابات الحادة،
كالأنفلونزا وذات الرئة والحصبة والدفتريا (الخناق) والتدرن الحاد.
ويشعر المريض بامتلاء وعدم راحة في الجهة الأمامية من أعلا الصدر،
وتنتفخ البطن وتزول الشاهية تماما ويزداد العطش ويغطى اللسان بطبقة كثيفة
ويشعر الإنسان بمرارة في الفم ويتجشأ باستمرار، ويشعر بغثيان وتقيؤ،
ويصاب بالامساك إلا إذا كانت المواد المخرشة قد أثرت على الأمعاء وسببت
الإسهال، ويشحب لون المريض ويبدو متعبا منهوكا شاكيا ألما في الرأس،
وترتفع درجة الحرارة قليلا ويسرع النبض، وتكون المعالجة بوضع المريض
بفراش دافئ، ووضع كيس ماء حار على البطن وإفراغ محتويات المعدة بمحلول
ماء الصودا، أو غسل المعدة إن لم تنجح الطريقة الأولى، ولا يحتاج المريض
إلى دواء آخر إلا في حالات نادرة من الوجع الشديد حيث يزرق شيئا من
مادة المورفين، ولا يتناول شيئا من الطعام سوى الماء، وتزول الأعراض
بين يوم أو يومين.
ب (إلتهاب المعدة المزمن، وغالبا ما يكون المريض بلا أعراض،
ومن الممكن أن يصاب بالغثيان لا سيما عند الصباح، وفقدان الشاهية مع امتلاء
خفيف في منطقة المعدة، وإذا صاحب ذلك غثيان شديد، فيصاب المريض

241
بالتقيؤ والإمساك، ويكون اللسان نظيفا وتكون المعالجة بإزالة السبب،
كالعناية بالأسنان وإزالة اللوزتين المتكررة، والالتهاب وتداوي إلتهابات الأنف
ومضغ الطعام جيدا، وعدم تناول العشاء والنوم مباشرة، إذ يجب أن يبقى
الإنسان لساعتين قبل الذهاب إلى النوم، ويجب أن يرتاح المريض لنصف ساعة
بعد تناول الطعام كي يسمح للمعدة بالقيام بعملها بانتظام، وإذا كان متعبا
فيجب أن يأخذ قسطا من الراحة، ثم يتناول طعامه، ويمتنع عن المشروبات
الروحية ويقلل من التدخين ويشرب الشاي خفيفا ومحضر توا، ولا يشرب القهوة
إلا إذا مزج معها كمية مساوية من الحليب، ويتناول اللحوم في وجبة واحدة
على أن تكون محضرة ومطبوخة جيدا، ويجب اجتناب الجبن والخبز المصنوع
من الدقيق غير المنقى، وقشور الفواكه والسلاطة والتوابل والمخضرات عدا
الاسبيناغ الذي يساعد على إفراز العصارات الهاضمة. وفي الصباح الباكر
يتناول المريض قدحا من ماء الصودا مذابا فيه ملعقة كوب من مادة بيكاربونات
الصودا، وتنظم حركة الأمعاء ويحافظ على عدم الإصابة بالامساك بتناول
العسل والفواكه المنزع قشرتها، وإذا اقتضى الأمر فيتناول كمية من
سائل البرافين.
2 - قرحة المعدة والاثني عشري، علمنا بأن الطعام يهضم في المعدة بواسطة
العصارات المعدية فإذا تناول الإنسان قطعة من اللحم فتقوم العصارات المعدية بهضم تلك
القطعة وتحويلها إلى مواد أبسط تركيبا، فلماذا لا تستطيع العصارات المعدية هضم
المعدة نفسها؟ لا بد إذن من وجود عوامل تدافع عن المعدة وتحول دون إتلافها بواسطة
عصاراتها المعدية، فإذا اختل التوازن بين العوامل المدافعة الكامنة في المعدة
نفسها، وبين العوامل التالفة، وهي العصارات المعدية تسبب هضم قسم من
جدار المعدة بعصارته المعدية، وبالتالي تتكون ما يسمى بقرحة المعدة.

242
وهناك عوامل كثيرة لتكون هذه القرحة، وتشمل جميع الأسباب التي تؤدي
إلى التهاب المعدة، ومنها عدم تناول الطعام بفترات متقاربة طبيعية، والتهيج
العصبي والتعب وتناول الطعام بسرعة. كل ذلك يسبب القرحة، لا سيما
قرحة الاثني عشري.
1 - قرحة المعدة الحادة: وهي لا تعطي أعراض خاصة إلا إذا سببت
نزف في المعدة أو ثقب المعدة، وغالبا ما يشفى المريض، وأحيانا تتحول القرحة
الحادة إلى قرحة مزمنة، وتعالج بإزالة جميع ما يهيج المعدة واتباع الراحة
والطعام الخاص بقرحة المعدة حتى يتم الشفاء.
ب - قرحة المعدة المزمن: وتبدأ الأعراض ببطء وتبدأ عندما يتناول
المريض كمية كبيرة من الطعام، أو طعام عسر الهضم. ويزول بتناول الحليب
أو التقيؤ، أو تناول القلويات. ويخف الألم بالاضطجاع ووضع كيس حار
على منطقة المعدة، وتدريجا يظهر التقيؤ بصورة واضحة عندما يشتد الألم وتكون
شاهية طبيعية، ولكن المريض يخشى عليه تناول الطعام، لأنه يسبب له ألما
فيهزل المصاب ويقل وزنه ويصاب بالامساك وتكون المعالجة طبية وجراحية.
1 - المعالجة الطبية:
1 - الراحة لمدة أسبوعين أو ثلاثة في الفراش، وعدم التدخين وإراحة
الفكر واجتناب المشاكل العائلية وغيرها.
ب - تناول الطعام بفترات متفاوتة، وفي البداية كل ساعة، ويشمل
الحليب والكاستر، وبعد ذلك يضاف قليل من الزبد والخبز الرقيق والبيض
المسلوق قليلا، وبعد مدة مربى التفاح وعصير البرتقال، ويعطى ملعقة طعام
من زيت الزيتون ثلاث مرات باليوم، والقيمر بمقدار مناسب ثلاث مرات باليوم أيضا

243
وهذه الشحوم تساعد على تقليل انسكاب العصارات المعدية، وبنفس الوقت
تجهز الجسم بمواد سريعة الهضم وغير مخرشة للمعدة، وبمرور الزمن تقلل
وجبات الطعام فتكون كل ساعتين، ثم كل ثلاث ساعات، ويعطى المريض
أطعمة صلبة كالسمك المشوي والفروج المشوي والبطاطة المسلوقة والكيك
والبسكت والجبن، وبعد فترة أخرى يضاف بعض اللحوم والكبد، وتقلل
وجبات الطعام ويستمر على المعالجة حتى يزول الألم، وقد تستمر المعالجة
شهرين أو ثلاثة، ويشفى المرضى الشباب أسرع من الكهول.
ج - القلويات: وتعطى هذه المواد بعد مدة من ظهور الأعراض، إذ من
المستحسن اجتنابها في المرحلة الأولى والاعتماد على الراحة والتداوي بالتغذية
وبعد ذلك يعطى المسحوق القلوي بين وجبات الطعام من ثلاث أو أربعة مرات
الأدوية المضادة لتشنج المعدة والأمعاء كالاتروبين والهيوستيامين والبلادونا.
د - المهدآت: مثل الفينوباربيتون نصف قمحة أربعة مرات باليوم.
غسل المعدة إذا تكونت القرحة في نهاية المعدة، يحدث انسداد نسبي
فيها وتتجمع المواد الغذائية والعصارات المعدية فيكون غسل المعدة في هذه
الحالة من العوامل التي تخفف من تعرض القرحة للعصارات المعدية، وعندما
تشفي القرحة بعد هذه المعالجة التي قد تستغرق شهرين يوصى المريض باجتناب
الانفعالات النفسية والمشاكل العائلية، والاعتناء بصحة أسنانه وإزالة اللوزتين
إن كانت مصدر تلوث مستمر، وعليه تناول الطعام ببطء، وأن يمضغه جيدا،
واجتناب الفواكه غير المقشرة واللحوم الصعبة والتوابل والسلاطة والخضروات
غير المطبوخة وتقليل التدخين، ويتمتع المريض على الأقل يوم أو يومين

244
أسبوعيا بإجازة، ويستحسن أن يذهب فيها إلى الريف أو إلى النزهة، وإذا
كان في حالة قلق وأرق فيستعمل بعض المهدآت كالفينوباباتون. وإذا أصيب
بالتهابات حادة كاللوزتين أو القصبات وغيرها فعليه معالجة ذلك بصورة كاملة
وملازمة الفراش حتى يتم الشفاء، وعليه معالجة الإمساك بتناول سائل البرافين
أو المغنيسيا. أما المواد الأخرى فيجب اجتنابها، ويمتنع عن تناول الشاي
المركز والقهوة المركزة واللحوم مطلقا. وعلى المريض أن يحتفظ معه دائما
بأقراص خاصة تساعده على إزالة حموضة المعدة فيمتصها عند الحاجة.
2 - المعالجة الجراحية:
وتستعمل هذه الطريقة إذا انثقبت قرحة المعدة أو حدوث تضيق في
الصمام البابي، أو إذا تكررت انتكاسة القرحة، أو إذا حصل نزف أو إذا
حصل شك بتكون سرطان فيها.
3 - تدرن المعدة: وهو نادر جدا، ويصاب المرضى المصابين بالتدرن
العام والتدرن الرئوي المتقدم.
4 - سفلس المعدة: وهو نادر أيضا، ويصيب الذكور ضعف الإناث،
وأعراضه ألم في منطقة المعدة بعد تناول الطعام وتقيؤ، وعدم وجود الغثيان
وفقدان الشهية وفقر دم إلا ناذرا، ويكون التداوي بتداوي السفلس والشفاء
مضمون تقريبا.

245
5 - سرطان المعدة: وهو من أبشع أنواع السرطان عند الذكور، فيصيب
الذكور ثلاثة أضعاف ما يصيب الإناث، ويتراوح عمر المصابين ما بين الخامسة
والأربعين، والخامسة والستين، ويصاب به من كانوا مصابين بالتهاب المعدة
المزمن، وهناك استعداد عائلي ضئيل للإصابة به، ويكثر في أهالي المدن
ويقل حدوثه بين سكان الريف، وأحيانا يحصل كاختلاط لقرحة المعدة.
وتكون الأعراض باضطرابات في الهضم كألم أو ضيق في منطقة المعدة، بعد
تناول الطعام مباشرة، وبعد مدة من الزمن يستمر الألم طول الوقت ويزداد
بتناول الطعام، وتقل الشاهية، ولا سيما اللحوم، ويصاب بالغثيان وفقر
الدم والتطبل والتقيؤ، وإذا حدث السرطان في بداية فم المعدة فيصاب المريض
بعسر في الازدراد ورجوع الطعام إلى الفم بعد تناوله مباشرة مصحوبا أحيانا
بقليل من الدم، ويصاب المريض بفقدان من الوزن وضعف في البدن، وأحيانا
تنثقب المعدة وينتشر السرطان إلى المناطق المجاورة، ولا يعيش الإنسان عادة
أكثر من سنة، وتكون المعالجة طبيا بواسطة المساحيق القلوية والمسكنات
واستئصال الورم إن اكتشف في المرحلة الأولى.
6 - توسع المعدة الحاد: ويحصل عقب العمليات الجراحية، ولا سيما
الباطنية منها، وكذلك الأمراض الالتهابية كذات الرئة فتتطبل البطن ويحصل
التقيؤ وتكون السوائل المتقيئة غامقة اللون، وتكون المعالجة بإفراغ محتويات
المعدة المستمر، وعدم تناول الغذاء عن طريق الفم، وتعطي السوائل عن طريق الوريد

246
أمراض الأمعاء
أولا - أمراض الأمعاء غير العضوية: وتشمل الإمساك: وهو عبارة
عن عدم طرح فضلات طعام تنول قبل يومين. وأسبابه كثيرة: منها كسل الأمعاء
الغليظة وبطء حركتها، ومنها عدم كفاءة المخرج بالقيام بطرح الفضلات.
والسبب الثالث عدم تكون الفضلات بصورة طبيعية. وكثير من الناس من
يعتقد بأنه مريض لأنه لم يتبرز مرة في اليوم، ولكن هذه القاعدة ليست
أساسية فهناك كثير من الناس يتبرزون مرتين أو ثلاثة باليوم بصورة طبيعية،
وآخرون من لا يتبرز إلا في كل يومين أو ثلاثة إلا مرة واحدة، ولكن
بصورة عامة، فنحن نعتبر أن كل شخص لا يتبرز على الأقل مرة في كل
يومين فهو مصاب بالامساك. ويصاب المريض نتيجة لذلك بقلق مستمر مسببا
له صداع وتعب وفقدان شهية وتطبل في الأمعاء ومغص، وأحيانا انسداد
في الأمعاء وبواسير وحكة في الشرج والتهاب في المخرج، وألم في الظهر والساقين
وتبرز مؤلم وتقرح في الشرج.
المعالجة:
على المريض أن يحاول التبرز بصورة مستمرة وعلى الدوام، بعد تناول
كل فطور، وإذا شعر برغبة في التبرز خلال أوقات النهار فيجب عليه أن يتبرز
ولا يهمل تلك الرغبة، وعليه البقاء لفترة كافية وعدم القيام بعملية التبرز
بطريقة مستعجلة فلذا، يجب العناية بالمراحيض وجعلها نظيفة وخالية من
الأرياح الكريهة، ويجب العناية في الطعام فيؤخذ بكميات كافية، ويحتوي
على كميات كثيرة من الخضروات والفواكه والسلاطة والخبز الأسمر وكميات

247
كبيرة من السوائل، ويجب أن يعتاد المريض على تناول قدح من الماء في
الصباح الباكر، وكثير من حالات الإمساك تعالج بدون أدوية. أما الأمراض
التي يصاحبها الإمساك ويزيد في خطرها فيجب إعطاء المسهلات بصورة منتظمة
وكذلك في الأمراض التي يكون من الخطر على المصاب إذا بذل جهدا كبيرا
في التبرز، كما في أمراض القلب مثلا، فإذا لم ينفع تنظيم الطعام واتباع الطريقة
الصحيحة في التبرز فيستعان بالمسهلات، ولكن بصورة وقتية ولفترة قصيرة
وبكمية معقولة ومناسبة بحيث يحصل تبرز واحد فقط في كل يوم، كمحلول
سينا بود والآيسوجل والبرافين، وتوجد أحيانا كمية كبيرة من الفضلات
مجتمعة في الأمعاء الغليظة السفلى فيجب استعمال الحقن الشرجية للتخلص منها
قبل البدء بالمعالجة، وفي حالات التهاب معصرة الشرج والتهاب البواسير أو
فطور الشرج فيجب توسيع فتحة الشرج بواسطة جهاز كهربائي مخروطي.
وعلى المصابين إجراء التمارين الرياضية في الهواء الطلق وبعض التمارين
الخاصة بمنطقة أسفل البطن والعضلات المجاورة ولا سيما عند المصابين بسقوط
الشرج.
ثانيا - الاسهال: وهو عبارة عن تبرز مواد سائلة ويكون عادة عدة مرات
باليوم.
أسبابه:
1 - تهيج حركة الأمعاء ميكانيكيا أو كيميائيا، كما في تناول المخضرات
والسلاطة والفواكه غير الناضجة والأغذية المتفسخة واستعمال الملينات بصورة
مستمرة. ويحصل أيضا إذا كانت العصارات المعدية قليلة أو غير موجودة،

248
أو إذا كانت المعدة تفرغ محتوياتها بسرعة.
2 - في الحالة الطبيعية يحصل عمل انعكاسي لدى تناول الطعام صباحا
يؤدي إلى حركة في الأمعاء الغليظة فتنزل محتوياتها، ويحصل التبرز وهو يحصل
عادة بعد تناول الفطور، وفي بعض الأحيان يكون هذا العمل انعكاسي نشط
بحيث يحصل تبرز آخر بعد نصف ساعة، وأحيانا بعد تناول كل طعام وهناك
نوع آخر من الاسهال يدعى الاسهال العصبي كما في حالات الخوف.
3 - أمراض الأمعاء العضوية التي تسبب الاسهال.
أ - إلتهاب الأمعاء كما في القسم الغذائي، والتهابات الأمعاء التي تحصل
في حمى التايفوئيد.
ب - إلتهاب الأمعاء الغليظة كما في التهاب القولون التقرحي والاسهال
الباسيلي وسرطان القولون.
الأعراض:
وهي عبارة عن تكرار التبرز، مواد غير طبيعية مع عدم راحة ومغص
وتعب شديد، وتعرق وتبرد الأطراف، وأحيانا إغماء وتدريجيا يفقد المريض
وزنه ويصاب بالهزال وتيبس اللسان وتغور العينان، وهو شديد الخطورة عند
الأطفال لا سيما في فصل الصيف.
التداوي:
ويكون بمعالجة السبب، ولكن بصورة عامة يكون التداوي على الوجه
التالي:

249
1 - المرحلة الحادة:
يوضع المريض في محل دافئ وفي راحة تامة، وإذا كان السبب يعود
إلى تسمم غذائي قبل مضي 12 ساعة فيعطى كل ساعة مقدار من الملح الإنكليزي لثلاث
أو أربع ساعات إلا إذا كانت الحالة شديدة والاسهال كثير، بحيث أن
المواد المتفسخة كانت قد خرجت مع الاسهال الشديد، ولا يعطى طعام لمدة
24 ساعة عدا الماء الذي يجب إعطاؤه بكثرة، وبعد ذلك يعطى السوائل
المحلاة بالسكر ويبقى على هذه الحالة حتى يزول الاسهال، فيعطى الحليب
والخبز والزبد والبيض، وتدريجيا يتناول الطعام الاعتيادي.
أما الأدوية فهي عبارة عن مادة الكاؤلين والكوادئين والترياك والسلفا نمايد
ومضادات الحياة كالأستر تبوماسين وغيره.
2 - المرحلة المزمنة:
ويكون بالراحة، واجتناب البرد والتعب الشديد، واجتناب الأغذية
المتفسخة، وتحرى السبب ومعالجته واجتناب ما من شأنه تهيج الأمعاء فيمضغ
الطعام جيدا، ولا يتناول اللحوم الصلبة والفواكه غير المقشرة والخضروات
والتوابل والكحول، وفي حالات الاسهال العصبي يعطى بعض المهدآت كالبرومايد
والفينو باربيرتون قبل تناول
الطعام بنصف ساعة.
سرطان القولون:
ويصيب الرجال أكثر من النساء، ويحصل ما بين أربعين سنة إلى خمسة
وستين سنة، ويصاب المريض بعدم انتظام حركة التبرز فيصاب أما بالإسهال

250
وأما بالامساك بلا سبب، ويحصل الإمساك في المرحلة الأولى، وذلك بتضييق
مجرى القولون نتيجة لحصول عائق لمجرى الفضلات، وأحيانا يترافق الإمساك
بنوبات من الاسهال، وتدريجيا تتسدد الأمعاء ويصحب ذلك مغص شديد
ويصاب الإنسان بالهزال وفقر الدم الشديد وتتورم البطن.
التداوي:
ويكون بإجراء عملية جراحية، وذلك بإزالة الأمعاء الغليظة وتوصيل
ما تبقى من الأمعاء الغليظة بالأمعاء الدقيقة.
انسداد الأمعاء الحاد:
ويكون بانسداد المجرى للفضلات، إما إنسدادا تاما أو إنسدادا جزئيا
وأسبابه أما ميكانيكية أو نتيجة شلل الأمعاء أو تشنج الأمعاء.
إن الأسباب الميكانيكية انسداد الأمعاء تكون أما أسباب داخل قناة
الأمعاء، كحصاة كيس الصفراء. وتجمع مواد البراز والمواد الأجنبية الغريبة
أما الأسباب التي تعود إلى جدار الأمعاء نفسه: فهو السرطان وشلل
الأمعاء والتضيق الخلقي.
أما أسباب انسداد الأمعاء الناتج عن أمراض خارج القناة الهضمية، فهو
اختناق قسم من الأمعاء داخل تجاويف، أو أنسجة في البطن. وكذلك الفتق
المختنق وتداخل الأمعاء والتواء الأمعاء. وتكون الأعراض على شكل ألم في
البطن وتقيؤ وإمساك وتيبس في اللسان.

251
التداوي ويكون بإجراء العملية الجراحية:
التهاب الزائدة الدودية، ويصيب الذكور والإناث على حد سواء،
لا سيما الشباب.
1 - إلتهاب الزائدة الدودية الحادة ويصاب المريض بألم مفاجئ في البطن مصحوب
بحمى وتسرع النبض وتيبس اللسان وتقيؤ وغثيان وإمساك، وأحيانا إسهال مع ألم
شديد في أسفل وأيمن منطقة البطن، وإذا ترك المريض بدون معالجة فأما أن تزول
الحالة الحادة، أو يصاب بالتهاب البريتون فيحدث الموت عندئذ، أما إذا
زالت الحالة الحادة فهناك احتمال كبير بحصول المرض مرة أخرى، أما إذا
أجريت العملية في ابتداء المرض فإن النتيجة تكون جيدة.
إلتهاب الزائدة الدودية غير الحادة: ويحصل عند تكرار الزائدة الدودية
وتكون الأعراض ليست حادة كما في الحالة الحادة، وإنما ألم في أسفل وأيمن
منطقة البطن).

252
حق الفرج

253
قوله عليه السلام:
(وحق فرجك أن تحصنه عن الزنا، وحفظه عما
لا يحل لك، والاستعانة عليه بغض البصر، فإنه من أعون
الأعوان، وضبطه إذا هم بالجوع والظما، وكثرة ذكر الموت
والتهدد لنفسك بالله، والتخويف لها به، وبالله العصمة والتأييد
ولا حول ولا قوة إلا به)
* * *
الفرج: يطلق على الجهاز التناسلي للرجل والمرأة على السواء، ولكنه
غلب في الدلالة على عضو المرأة.
والغرض من هذا الجهاز هو التناسل لحفظ النوع الإنساني من التلاشي.
ويختلف هذا العضو بحسب كونه في الذكر أو الأنثى: ففي الذكر يكون
ظاهرا تقريبا، وفي الأنثى بالعكس.
وعضو التناسل في الرجل: هو القضيب. وفي المرأة الرحم، فإذا اتصل
العضوان بتلك العملية الخاصة المسماة (الجماع) حصل اللقاح المنتج للنسل
والمبقي للنوع.
ولتوضيح ذلك يلزم معرفة نفس العضوين وكيفية عملهما، لتتضح كيفية
العلوق واللقاح المقصود من تلك العملية الجنسية فنقول:

255
أما القضيب:
هو جسم مجموع من أربطة وأعصاب وعروق ساكنة وضاربة، أغلظه عند
عظم العانة، ثم يدق تدريجا إلى القطعة اللحمية المعروفة بالكمرة، وهي
تستر ثقوبا ثلاثة أسفلها يتصل بالمثانة يجري فيه البول، وأعلاها بالأنثيين
يترقى منه الماء، وبينهما ثالث يخرج منه الريح في النادر وهو أضيقها، وباقي
الرطوبات - كالمذي - من مجرى المني على الأصح، وانتشار هذا العضو بحسب
ما يدخل في أصوله من البخار الحار، ولذلك تضعف قوته في عاجز القوى والمبرود
وأما منفعته فلأن يكون آلة في زرق المني إلى قعر الرحم، ولذلك
خلق جوهره رباطيا ليكون شديد الانتصاب عند انتشاره، وينزرق المني منه إلى
قعر الرحم انزراقا تاما، غير أنه لما كان قريبا من محل البول - الذي هو
المثانة - جعله الصانع مجرى له، وخلق جوهره رباطيا لأن هذا الجوهر أوفق
له من باقي جواهر الأعضاء.
أما العظام فإنها لم تصلح لذلك، لأنها غير مواتية للانتشار والانتصاب
تارة والاسترخاء والانحناء أخرى. وأما اللحم فكلا نوعيه غير موات لشدة
التوتر والانتصاب المحتاج إليهما في زرق المني، فأما الأعصاب فإنها وإن كانت
صلبة غير أن صلابتها لم تكف في ذلك. وكذلك الكلام في الأوتار وفي الأوردة
والشرايين، فلما سبق في علم الصانع (تعالى ذكره) ذلك خلقه من الجوهر
المذكور، وصار نباته من عظمي العانة لأنه مكان مستور يغطى بالخاصرتين
والفخذين، ولأنه يقابل به الرحم، وجعل موضعه هذا الموضع لأنه لو أنزل
قليلا لزاحم مخرج الأثقال عند انتصابه ومنعها من الخروج على ما ينبغي، ولو
كان مائلا إلى فوق لم يتأت نباته على ما ينبغي، ولو كان ضعيف الانتصاب

256
لبعده عن عظم العانة. وخلق له تجويف من بين الرباطات لأجل انزراق ما ينزرق فيه
وخروج ما يخرج منه، وصار هذا التجويف قريبا من الجلد ليقبل التمديد عند انزراق
ما يزرق فيه بقوة وحصر شديد، وليكن على محاذاة فم المثانة الذي هو مخرج
البول وليسهل خروجه، وصار فيه تجاويف أخر غير محسوسة، ليكون للحرارة
والأرواح الموجبة للانتشار مكان تحتبس فيه مدة الحاجة، وصار طرفه لحميا
ليكون قوي الحس ليشعر بالدغدغة التي هي موجبة في الأكثر لانتشاره، وصار
يحيط به جلدة لتوقيه من الأشياء الحارة والباردة والخشنة وغيرها من الأمور
المؤذية، وصار طرفه دقيقا ليسهل دخوله في الرحم، وخلق مستقيما ليسهل
انزراق المني فيه، ولئلا يطول تردده فيه فيبرد قبل دخوله إلى الرحم وصار
تأتيه الآلات المذكورة.
أما الأعصاب فلتعطيه الحس اللمسي والحركة الإرادية. وأما الشرايين
فلتعطيه قوة الانتشار، وأما الأوردة فتعطيه مادة الشهوة والتغذية. تبارك من
له الصنع والإبداع.
أما الرحم:
فهو جزء عظيم الشأن من أجزاء عضو التناسل في المرأة، وهو ما يعبر
عنه العامة ببيت الولد، فيه تتلقح بيضة المرأة بمادة الذكر ولا يزال فيه
الجنين حتى يولد.
هو عضو عضلي في شكل الكمثرى، مفلطح قليلا من الأمام والخلف
ويتغير شكله على الدوام على حسب حالة الحياة التناسلية. واقع بين المعاء
المستقيم من الخلف والمثانة من الأمام في التجويف الحوضي، ومبطن بغشاء

257
مخاطي سميك، ومؤلف من ألياف عضلية قوية مرنة قابلة للتمدد والانكماش
وذلك لغرض أن يتسع مدة الحمل على قدر حجم الجنين، وليتمكن من حمل
الجنين وصيانته في جميع أدواره، من الآفات والمزعجات والطوارئ حتى يكمل
خلقه، ثم ليتقلص عند الوضع ليدفع الجنين مع محتوياته إلى الخارج.
وهذا الرحم يوجد على جانبيه المبيضان اللذان هما عبارة عن مجموعة
حويصلات، وظيفتها صنع البويضات المنوية في الأنثى المصطلح عليها (ماء
الأنثى) وهي التي تندفع إلى داخل الرحم لتلقح فيه عندما يصادفها الحويمن
المنوي من الرجل.
وهذه البويضة عبارة عن المادة المسماة (بروتوبلازما) الكروية الشكل
مغلفة بغشاء شفاف حاو للسائل، وفي وسطه كريات وحبيبات عائمة فيه، ومن
جملتها الجرثومة القابلة للتلقيح. إذا فيكون هذان المبيضان في الأنثى بمنزلة
الخصيتين في الذكر.
وهذه العملية الجنسية (الجماع) التي يقصد منها إيجاد النسل أو إخماد
الشهوة الجنسية أو كليهما، تمر بأدوار ستة (1) التهيج الجنسي والانعاظ
(2) الايلاج (3) وصول الشهوة إلى القمة (4) القذف (5) الاحساسات
اللذيذة (6) هبوط الشهوة وبه تكمل العملية.
ومن عجيب الخلقة، أن تكون الحياة كلها لدى الجماع كأنها مجتمعة في الجاز
التناسلي، حيث تبلغ جميع الوظائف العضوية أشدها في أثنائه فترى
الدورة الدموية تسرع في الدوران ويخضل أديم الجلد ويتقطع النفس وتتهيج
الغدد العصبية، وتبلغ حاسة اللمس أقصى درجة شعورها، وتنقبض جميع العضلات
السفلية، وتهتز الأعصاب متشنجة متوترة، وفي وسط هذا الهياج العام يحصل
القذف المنوي فيهبط كل ذلك الهياج، ويسكن ذلك الاختلاج العام بعد قليل
القذف المنوي فيهبط كل ذلك الهياج،

258
ويذهب الانتصاب فيعود كل شئ إلى نصابه وراحته الأصلية. فسبحان المدبر
الحكيم
صحة هذا الجهاز في الرجل والمرأة تنحصر في شيئين:
أولا - نظافته من الأقذار والأوساخ التي تحيط به بالغسل، بالماء والصابون
والمواد المطهرة.
ثانيا - نظافته أدبيا ودينيا بالمحافظة عليه من الوقوع في معصية الله
بارتكاب جريمة الزنا التي كثيرا ما تجر الإنسان إلى الهلاك وسوء العاقبة.
ومن حقه أيضا أن يقصر على ما أحله الله من النساء أو ما ملكت الأيمان
ويبدو لنا من كلام الإمام السجاد (صلوات الله عليه) أن هناك ترابطا
وثيقا بين حق الفرج، وحق البصر، وحق البطن. فالبصر يساعدنا بعض الشئ
في التخفيف من متطلبات الفرج غير المشروعة. ويساعدنا على إعطاء حق الفرج
كاملا إذا غضضناه عما حرم الله. وكذلك البطن حيث يكون الشبعان أكثر
ميلا إلى الانحراف في حق الفرج من الجائع أو المعتدل
وهناك عامل نفسي آخر هو أكبر مخفف من حدة التوتر في متطلبات
الفرج غير المشروعة، ألا وهو كثرة ذكر الله تعالى، وذكر تهديده ووعيده
وإنذاره. وكذلك ذكر الموت الذي يعرف بأنه هادم اللذات. وطبيعي أن
تموت في الإنسان شهوة الفرج إذا ذكر الموت وما بعد الموت، أو ذكر الله
وعذابه الذي يعذب به من لا يعطون فروجهم حقوقها من صيانة وحرمة.
* * *
كلمة الدكتور عبد الرزاق الشهرستاني
الدكتور عبد الرزاق، كبير النفس عالي الهمة، له عناية ورعاية إنسانية

259
بالمرضى، ومهارة قوية بمهنة الطب، أخذ شهرة عالية في النجف الأشرف، أقام
فيها طويلا، وقد لازمناه وصحبناه مدة مكثه في النجف، وباشرنا عنده كثيرا،
فوجدناه حاد الذهن غزير المادة في الطب، يشخص الداء فيعين الدواء، مع
أنه حدث في العمر فحياه الله ونفع به.
بسم الله الرحمن الرحيم
استجابة إلى طلب سماحة العلامة الجليل السيد حسن القبانچى النجفي،
مؤلف هذا الكتاب المسمى، (شرح رسالة الحقوق) للإمام زين العابدين عليه السلام
ومساهمة مني في سفره القيم، وفي موضوع تشريح الأعضاء التناسلية عند
الإنسان، وما أودع فيها الباري عز وجل من قدرة وإعجاز، وذكر الأمراض
والعوارض التي تطرأ عليها وطرق مكافحتها.. أوجز ذلك فيما يلي:
(الأعضاء التناسلية عند الأنثى:
إن المرأة تختلف عن الرجل في تكوين جسمها بالإضافة إلى أعضائها
التناسلية اختلافا كبيرا. فقد تختلف عن الرجل في الطول والوزن ومواضع
الشعر والشكل العام. وأما أعضائها التناسلية فتنقسم إلى قسمين: الخارجية
والداخلية:
الأعضاء التناسلية الخارجية:
تتكون من الفرج وهو القسم الظاهر من الأعضاء التناسلية المحدود من
الأمام بحبل الزهرة، ومن الخلف بالعجان. ويشتمل الفرج على الشفرين
العظيمين، والشفرين الصغيرين، والبظر والدهلين، والصماخ البولي،
وفتحة المهبل، وغشاء البكارة، والشوكة الفرجية، والحفرة الزورقية.

260
أما حبل الزهرة:
هو الجزء البارز في نهاية أسفل البطن في منطقة العانة. ويتكون من
مواد متشحمة متجمعة تحت الجلد، وتغطى بشعر كثيف عند البالغات.
والعجان:
هو القسم الواقع بين فتحة الشرج وفتحة المهبل ويشتمل على منطقة
واسعة تشريحيا، وكثيرا ما يحدث في الولادات العسرة تمزقات في عضلات هذه المنطقة
على شكل غير كامل إن كانت التمزقات تشمل فقط جسم العجان (أي
نقطة تجمع العضلات، وعلى شكل كامل إن كانت التمزقات تشمل العضلة
المعصرة للشرج، وجداره الأمامي.
الشفران العظيمان:
هما طيتان من الجلد واقعتان في جانبي الفرج، تلتقيان عند حبل
الزهرة من الأمام، وعند العجان من الخلف. والطرفان الخلفيان يلتقيان
أحدهما بالآخر، ويتحدان تماما.
الشفران الصغيران:
هما طيتان من الجلد أيضا داخل الشفرين العظيمين، ومحاذيتان لهما
تقريبا، وهما يتحدان من الخلف، فتتكون عند ذاك الشوكة الفرجية، وأما
من الأمام فيتفرع كل منهما إلى فرعين: يتحد العلويان منهما كل
مع الآخر والسفليان أيضا كل مع الآخر، ويحيطان بالبظر من أعلاه، ومن أسفله.

261
والفرعان العلويان تتكون منهما قلفة البظر. وأما الفرعان السفليان فيتكون
منهما فتك البظر، ويتدلى البظر عندئذ بين القلفة والفتك: ويتميز الشفران
الصغيران بكثرة الغدد الدهنية ورقة الجلد وعدم نبوت الشعر عليهما. وهنا يجب
أن تنظف بصورة خاصة كلما تجمعت من الإفرازات المتيبسة حولها.
البظر:
هو الجسم الانتصابي الحساس، ويتقابل العضو الانتصابي (القضيب) عند
الذكور ويتصل بالسطح الأسفل للارتفاق العاني بواسطة الرباط المعلق للبظر.
يستأصل البظر مع الشفرين الصغيرين عند إجراء عملية الختان عند بعض
الفتيات، وفي بعض الأمم.
الدهليز:
هو المنطقة المثلثة الشكل المحدودة من الخلف بالحافة المقدمة لفوهة
المهبل، ومن الجانبين بالشفرين الصغيرين. ويقع البظر في قمة المثلث.
الصماخ البولي:
إن الصماخ البولي يقع قرب قاعدة الدهليز. وهو الفتحة الخارجية
لقناة مجرى البول.
فتحة المهبل:
إن فتحة المهبل تقع في المنطقة الخلفية من الدهليز، وعند الفتاة العذراء
مغطاة بغشاء البكارة (العذرة). وتقع على كل من جانبي فتحة المهبل فتحة

262
قناة غدة بارتولين.
غدتا البارتولين:
هما غدتان مطمورتان في الجزء الخلفي للشفرين العظيمين على جانبي
فتحة المهبل. وكل منهما لها قناة تصب في الجهة الداخلية من الشفر الصغير.
وعندما تحدث التهابات في المرأة يمكن عندئذ حبس الغدتين لتضخمهما وقد
تؤدي إلى حصول خراج أو كيس أحيانا تستوجب التداخل الجراحي. وأن
فائدة هذه الغدد هي إفراز مادة مخاطية أثناء الجماع لتسهيله.
غشاء البكارة:
هو الحد الفاصل بين الأعضاء التناسلية الخارجية والداخلية، ويتكون
من طية مركبة من طبقتين من الغشاء، المخاطي بينهما بعض ألياف وأوعية
دموية وأعصاب تغطي بعض فتحة المهبل. وهو مثقوب في وسطه للسماح بمرور
نهاية الأصبع الصغير (الخنصر) دون أن يتمزق. وإن هذا الغشاء يختلف
عند الفتيات، وعلى أشكال وصلابة مختلفة. كالآتي منه الحلقي والهلالي. وذو
الفتحة الطويلة. وآخر ذو الحاجز. ومنه المسنن ومنه الغربالي. وفي بعض
الأحيان لا يوجد الغشاء خلقيا فتكون مشكلة كبيرة عند الزواج وخصوصا عند
الشرقيين. وأحيانا يكون الغشاء غير مثقوب مطلقا فيسد فتحة المهبل
وكيس دم الحيض وقت البلوغ، ويجتمع عند ذاك الدم في المهبل، وقد يصل
إلى الرحم فالبوقين، فيحتاج في هذه الحالة إلى تداخل جراحي. وعند الجماع
لأول مرة يتمزق غشاء البكارة ويصحب ذلك نزيف بسيط، وقد يكون غزيرا
إذا كان غشاء البكارة غليظا ومحتويا على الأوعية الدموية بكثرة، وقد لا يحصل

263
نزيف إطلاقا إذا كان الغشاء قابلا للتمدد دون التمزق.
الشوكة الفرجية:
وهي طية رقيقة من الجلد تتكون من اتحاد الطرفين الخلفيين للشفرين
الصغيرين، وهي تتمزق بعد الولادة الأولى.
الحفرة الزورقية:
تقع بين الشوكة الفرجية وحافة غشاء البكارة في الفرج، وتشاهد هذه
الحفرة بوضوح عند جر الشوكة الفرجية إلى الخلف. وتصاب بقرحة زهرية
في الدور الأول عند المريضات بالأمراض الزهرية. ويجب المعالجة فورا،
واستشارة الطبيب.
وأما الأعضاء التناسلية الداخلية، تشمل الأعضاء التالية المهبل،
والرحم، وملحقاته.
المهبل:
هو ذلك القناة العضلية المبطنة بالغشاء المخاطي والخالي من الغدد والذي
يشبه الجلد تركيبا. وهو العضو الذي يوصل الأعضاء التناسلية الخارجية
بالرحم من الداخل. ويبلغ طول المهبل حوالي العشرة سنتمترات. وله
جداران أمامي وخلفي، وأن جداره الخلفي أطول من الأمامي، وكلاهما
متلامسان وأن اتجاه المهبل يكون إلى أعلى بانحدار إلى الخلف مشكلا زاوية
قدرها ستون درجة مع المستوى الأفقي. وهذا الاتجاه يكون أيضا موازيا
للمستوي المائل لداخل الحوض. ومعرفة اتجاهه لها أهميته التشخصية عند

264
الفحص والعلاج من قبل المختصين. وأن قناة المهبل قابلة للتمدد، وهذه
القابلية تظهر بوضوح عند مرور الجنين أثناء الولادة. وقد تحدث تمزقات مهبلية
أثناء الولادة ربما تؤدي إلى ناسور مثاني مهبلي إذا أصيب الجدار الأمامي وإلى ناسور
مستقيمي مهبلي إذا أصيب الجدار الخلفي منه، وأن القسم العلوي للمهبل أكثر
سعة من القسم السفلي. ويحيط بعنق الرحم الذي يبرز حوالي 25 / 1 سم داخل
التجويف المهبلي فيقسم القمة إلى القبو الخلفي والأمامي والجانبين الأيمن
والأيسر. إن الإفرازات المهبلية حامضية التفاعل لوجود حامض اللبنيك،
وجعلت كذلك لاعطاء مناعة ضد تكاثر الجراثم المرضية. وتحتوي هذه
للافرازات على خلايا متناثرة من عنق الرحم وجسمه، ومن جدران المهبل.
وهذه تتخذ أشكالا خاصة عند وجود الأورام الخبيثة فتظهر عند تلوين
الإفرازات في فحوص المسحات المهبلية. ومن المهم جدا تشخيص الأورام
الخبيثة (السرطان) في بدايتها حيث لا فائدة تجنى بعد انتشار المرض.
الرحم:
هو ذلك العضو اللحمي الذي يشبه الكمثرى، جدرانه عضلية سميكة،
وهو أجوف ويقع في وسط التجويف الحوض للأنثى. طوله حوالي 5 / 7 سم
وينقسم إلى جسم وعنق. الجسم واقع في الأعلى والعنق في الأسفل (أي مقلوبي
الشكل).
عنق الرحم:
هو المثلث الأسفل منه، ويتصل بالمهبل. وأن الجزء الذي بداخل
المهبل يسمى بالجزء المهبلي، والجز ء الآخر فوق المهبل. ولعنق الرحم

265
فتحتان: الفتحة العليا والفتحة السفلى وقناة توصل بينها، وأن الفتحة السفلى
متصلة بالمهبل وتسمى بالفوهة الظاهرة، ويمكن رؤيتها بالمنظار المهبلي عند
الفحص النسائي، ولدى المرأة التي لم تلد تكون الفوهة صغيرة جدا تتراوح بين مغرز
إبرة إلى شق مستعرض لا يتجاوز الثلاث مليمترات ولكن تتسع تلك الفوهة
كلما ولدت المرأة أكثر حتى يبلغ قطرها سنتمترا واحدا أو أكثر.
وأما الفتحة العليا فإنها متصلة بالتجويف الرحمي، وتسمى بالفوهة
الداخلية، وأن طول عنق الرحم يبلغ سنتمترين ونصف. وهو مبطن بغشاء
مخاطي كثيرا ما يصاب بالتهابات لوجود الغدد المخاطية المتشعبة الكثيرة، ويجب
عندئذ بعد الفحص النسائي إجزاء الغسيل بالمطهرات المعروفة، ورفع حمالات
مهبلية ليلا حسب توصيات الطبية أو الطبيب المعالج.
جسم الرحم:
يبلغ طوله حوالي الخمسة سنتيمترات. وهو مفرطح من الأمام إلى
الخلف، وطرفه العريض متجه إلى الأعلى، ومغطى بالغشاء البريتوني، ما عدا
جانبيه عند اتصاله بطيات الرباط العريض، ويفتح بالقرب من الزاويتين العليا
في كل من الجانبين أنبوبا فالوب، وأن جسم الرحم الذي هو أعلى الخط
الواصل بين فتحتي الأنبوبين يسمى بقاع الرحم. وأما تجويف جسم الرحم
فهو مثلث الشكل زواياه تقابل فتحتي الأنبوبين من الأعلى، والفوهة الباطنية
لعنق الرحم من الأسفل. ويتكون جسم الرحم من ثلاث طبقات (1) الطبقة
الخارجية بريتونية (أي من غشاء البريتون) (2) الطبقة الوسطى عضلية ومن
جراء انقباض الطبقات العضلية يحدث الطلق عند الولادة، ويتمدد عنق الرحم تدريجيا
تمهيدا لنزول الجنين وخروجه. (3) الطبقة الداخلية مخاطية وتسمى (بطانة

266
الرحم) وهي التي تستقبل البويضة الملقحة حيث تعشعش فيها. ويبدأ الجنين
عند ذاك بالنمو تدريجيا.
وإن الرحم على صغره غني جدا بالأوعية الدموية، حيث يرد الدم إليه
من ثلاث مصادر في كل من الجانبين. ولهذا السبب يعتبر النزف الرحمي من
أشد أنواع النزف الدموي وأخطرها على حياة المرأة، ويجب سرعة الاسعاف
لإنقاذها.
أنواع الرحم:
إن الرحم يختلف شكله وحجمه حسب اختلاف العمر، ففي الأطفال
يكون عنق الرحم أطول من جسمه، وإذا توقف النمو عند هذا الحد فيسمى
(الرحم الطفلي) وإن رحم المرأة التي حملت ووضعت يكون أكبر من رحم التي
لم تلد، لأن بعد هذا التمدد الكبير لا يعود الرحم إلى حجمه السابق.
هذا وأن الرحم يبدأ بالغمور بعد سن اليأس لتوقف إفرازات المبيضين، فيعود
حجمه إلى ما قبل سن البلوغ، كما وعند المسنات تغمر باقي أعضاء التناسل
فينمحي عنق الرحم ويضيق المهبل.
وضع الرحم:
إن الرحم الطبيعي مائل ومنحني إلى الأمام وهو ثابت في مكانه، وإن حدث
ارتخاء في أربطته وضعفت عضلات الحوض، أدى كل ذلك إلى سقوط الرحم حيث
يحتاج إلى رفعه بواسطة حلقات خاصة أو إجراء عملية جراحية، لأن سقوط
الرحم فيه مضاعفات كثيرة بالإضافة إلى النواحي النفسية والاجتماعية، وقد
يحدث للرحم ميلان إلى الخلف، فإن كان ذلك مصحوبا بأعراض، كألم الظهر

267
أحتاج إلى التعديل إلى وضعه الطبيعي بواسطة تمرينات رياضية خاصة، أو بواسطة
أيدي فنية ذات اختصاص.
وظيفة الرحم:
هي حمل وتغذية الجنين خلال مدة الحمل ودفعه أثناء الولادة، فإن لم
يحصل حمل تنفصل بطانة الرحم - كما قلنا آنفا - بانتظام شهريا، محدثا
ما تسمى بالعادة الشهرية (الطمث)، كما ويفرز الرحم إفرازا مخاطيا رائقا..
بينما يفرز عنقه سائل مخاطيا لزجا قلوي التفاعل للمحافظة على الحيوانات
المنوية عند الجماع، ويجذبها إلى داخل الرحم.
إن تشوهات الخلقية في الرحم نادرة، وهي كالآتي: رحم ذو قرنين
ورحم مزدوج. وقد لا يوجد الرحم مطلقا. وفي هذه الحالة النادرة لا يوجد
المهبل أيضا، ولا يحدث عندئذ الطمث، كما في حالات استئصال الرحم في
بعض الحالات المرضية التي تستوجب ذلك. فعند ذاك لا يكون هناك طمث
ولا حمل.
وقد تظهر في جسم الرحم أو عنقه أورام بسيطة كالأورام الليفية أو أورام
خبيثة كالسرطان (السر كوما) وفي هذه الحالة تحتاج إلى المداخلة الجراحية
السريعة. وقبل انتشار المرض إلى الأعضاء المجاورة حيث يستحيل الشفاء.
ملحقات الرحم:
تتكون من الأنبوبين (أو البوقين) قناتي فالوب ورباطيهما العريضين،
ومن المبيضين وأربطتهما.
البوقان (قناتا فالوب) واحد أيمن، وآخر أيسر: يمتدان من التجويف

268
الرحمي إلى التجويف البريتوني. ويشتملان على الحافتين العلويين للرباطين العريضين.
وطول كل منهما 12 سم ويكون ضيقا عند اتصال القناة بالرحم، وتزداد سعته تدريجيا
كلما امتدتا إلى الجانب البريتوني حيث تكون تلك النهاية قمعية الشكل وتسمى
بصيوان الأنبوب، ولها خمس زوائد (شرابات) أطولها على شكل
ميزاب تتصل بالمبيض وتسمى بالشرابة المبيضية، والبوق تتكون من أربعة أجزاء
(1) الجزء الداخلي هو الذي منغمر في جدار الرحم وطوله 25 / 1 سم
(2) البرزخ وهو الجزء الضيق القطر، ويشمل الثلث الأنسي للبوق.
(3) الأنبولة وهو الجزء الواسع، ويشمل ثلثي البوق.
(4) الطرف: هو النهائي الوحشي وذو الشرابات (الصوان).
وكلها تكون على شكل قارورة معوجة، وأن جدار البوق بريتوني من الخارج،
وعضلي في الوسط، ومخاطي من الداخل.
وأن هذا الغشاء المبطن للداخل مكون من
حجيرات ذات أهداب تدفع البويضة نحو الرحم، وأن البوق بمثابة أنبوب
يوصل الحيوان المنوي ليلاقي البويضة في منطقة الصوان حيث تتم هناك عملية
التلقيح.
وأن البويضة الملقحة تجتاز البوق إلى داخل الرحم لكي تعشعش في
بطانته للنمو. وأن اجتياز البويضة الملقحة خلال الأنبوبة يحصل من جراء
انقباضات عضلات جدرانها الإضافة إلى الحركة الهدبية للخلايا المبطنة لها.
وفي بعض الحالات المرضية التي تتوقف عملية الانقباض، والحركة الهدبية تبقى
البويضة في طريقها، ولا تصل إلى الرحم بل تعشعش في جدار الأنبوبة (القناة)
وينتج من ذلك ما نسمي بالحمل خارج الرحم.
وهنا قد يؤدي إلى بعض الأخطار تستوجب المداخلات الجراحية الآتية
ولأجل تلاقى وتلقيح البويضة من قبل الحيوان المنوي: يجب أن يكون كلا

269
البوقين، أو على الأقل أحدهما مفتوحا ليس فيهما انسداد، لذلك عند الفحص
من قبل الطبيب يجري الاختبار بالنفخ، وذلك بإدخال غاز ثاني أو كسيد
الكاربون، أو التصوير الرحمي الأنبوبي بعد حقن الرحم بمادة معتمة للأشعة
كزيت اليپودول
لمعرفة انسداد الأنبوب أو عدم انسداده، حيث ينسد عادة نتيجة التهابات ويحدث العقم،
وفي بعض الأحيان يتولد كيس صديدي يحتاج
إلى استئصاله جراحيا.
المبيضان:
هما غدتان من الغدد الصماء، لهما أهميتهما العظمى في تلوين جسم
المرأة عموما وأعضائها التناسلية خصوصا، وكل منهما على شكل لوزة طوله
يبلغ 5 / 3 سم وعرضه 5 / 2 سم وسمكه 5 / 1 سم وله قطبان علوي وسفلي
وسطحان أنسي ووحشي، وحافتان أمامية ومستقيمة، وخلفية محدبة.
وموقع كل منهما في جانب من التجويف الحوضي في منخفض مغطى
بغشاء البريتون يسمى بالحفرة المبيضية. والحافة الأمامية للمبيض متحدة
مع الطبقة الخلفية للرباط العريض بواسطة طية من غشاء البريتون تسمى بالرباط
المساريقي للمبيض. وفيها الأعصاب والأوعية الدموية. والقطب الأسفل
الأنسي للمبيض متصل بالرحم برباط يسمى بالرباط المبيضي. والقطب الأعلى
متصل بالجدار الجانبي للحوض بواسطة الرباط القمعي الحوضي، والمبيض
متكون من طبقتين القشرة في الخارج والنخاع في الداخل، وعلى عكس بقية
الأعضاء التناسلية الداخلية لا يغطي المبيضين غشاء بريتوني، وإنما تكسوهما
طبقة مصلية سطحية غير تامة تحتها طبقة الغلاف وهي (محفظة المبيض).
وإن طبقة القشرة تحتوي على حويصلات تنمو منها حويصلات جراف

270
بعد البلوغ وهي التي تفرز الافراز الداخلي المسمى بالهرمون الاسترين،
وهي التي تقترب من سطح المبيض وتنفجر وتخرج منها البويضة. وتطلق على
هذه العلمية (التبويض) ويحدث شهريا، وبانتظام عند المرأة الطبيعية، ويكون
موعده في اليوم الرابع عشر من بدء الحيض تقريبا.
وبعد التبويض تأخذ الحويصلة بالانكماش وتصبح نجمية الشكل وتسمى
بالجسم الأصفر، ويفرز هرمون البروجسترون الذي يؤثر هو مع الأسترين
في خلايا بطانة الرحم، ويعده صالحا لاستقبال البويضة الملقحة. وعند الخوف
أو البدء بالإسقاط في الأشهر الأولى من الحمل تعطي الحامل هذا الهورمون لمنع
ذاك، وإن فائدة المبيضين علاوة على إفرازهما هرمون الأسترين والپروجستين
لتكون البويضة والتبويض، والرحم يعتمد على هذه الإفرازات (الهورمونات)
في حدوث الحيض الذي يختل نظامه إذا كان بالمبيض ما يمنعه من أداء عمله.
وطبيعي بأن ذلك الخلل يؤدي إلى العقم. وقد تحدث أورام في المبيض بأحجام
وأنواع مختلفة، فمنها السليمة، ومنها الخبيثة، بحيث تحتاج إلى استئصال
الورم المبيضي جراحيا.
الأعضاء التناسلية عند الذكر:
تشتمل الأعضاء التناسلية عند الذكور على ما يأتي:
1 -: الخصية (العضو المفرز). ويقابلها عند الأنثى المبيضي.
2 -: القنوات والمجاري المنوية (العضو المبرز. ويقابلها عند الأنثى
قناتا فالوب والصوان.
3 -: القضيب وهو العضو المحرك والقابل للانتعاض ويقابله عند
الأنثى البظر:

271
الخصيتان:
إن الخصيتين أو البيضتين تقعان في كيس واحد، يقع بين الفخذين من الأعلى
ويتكون هذا الكيس من أربع طبقات، وهي كما يلي من الخارج إلى الداخل:
1 - الطبقة الجلدية، وتسمى بالصفن.
2 - طبقة عضلية.
3 - طبقة ليفية.
4 - طبقة مصلية.
دور التكوين:
تبدأ الخصية في التكوين في أول دورها في الجوف البطني تحت الكلية.
وتبدأ بالنزول في الشهر الثالث حيث تبتعد عن موضعها الأول بست مللمترات
فقط، وفي نهاية الشهر الرابع من أدوار الجنين تقترب من فوهة القناة الأربية
العليا (القناة المغبنية) وتدخل فيها في نهاية الشهر السابع، ثم تصل في الشهر التاسع
إلى موضعها الأخير بداخل الكيس (الحقاب). وفي بعض الحالات تبقى الخصية
في داخل القناة الاربية حتى بعد بعدة أسابيع، وفي بعض الأحيان تختلف الخصية
في الجوف البطني. وتبقى هناك حتى سن البلوغ. وتسمى في تلك الحالة بالخصية
السجينة.
إن وزن الخصية الواحدة عند البالغ من الشبان يبلغ 21 غراما، ويبلغ
طول قطرها الكبير ستة سانتمرات، وسمكها سنتمترين ونصف. وأن اليسرى
في أكثر الأحيان أوطأ من اليمنى.
وإن وظائف الخصية هي إفراز المني السائل الحلوى على الأجسام المنوية

272
(الحيامن) التي يتكون كل منها من ثلاثة أقسام: الرأس وطوله خمسة
ميكرونات، وهو كمثري الشكل. والعنق وطوله خمسة ميكرونات.
والذنب وطوله 45 ميكرونات وهو خيطي الشكل وحلزوني منتهيا بطرف مدبب
وأنه سريع الحركة.
تبدأ الخصية بإفراز المني من بداية دور البلوغ (دور الاحتلام) وتستمر
حتى الستين سنة، وأحيانا حتى نهاية الحياة. وفي كل قذفة تخرج الملايين من
هذه الأجسام المنوية (الحيامن) وتنشط وتنتعش في المحيط الخفيف القلوية.
وكذلك في دم الحيض، وفي الحرارة التي لا تتجاوز الأربعين درجة منوية ويقطع
الحيمن (الجسم المنوي) مسافة ميلمترين أو ثلاثة في الدقيقة الواحدة في مثل
هذا المحيط، ولكن سيرها يكون بطيئا في الماء البارد والمحلول الحامض
والسكري أو الزلالي الشديد، وفي محيط المخدرات كالبنج والأيثر والكحول،
وفي الحرارة المنخفضة أو المرتفعة جدا، ويتلف حالا بالشرارة الكهربائية.
وقد أيد لنا الأستاذ (فوربر نكر) باختباراته بأن الحيامن المنوية ليست
لها حركة عند تكوينها في الخصية، ولكن بعد أن تتكون وتستمر مدة من
الزمن في الحويصلة المنوية وبعد الدفق والمرور في طريقها بالغدة المسماة بالموثة
(الغدة الواقعة في مؤخرة المثانة والمحيطة بابتداء المجرى البولي الذي تخترقها
غدة البروستات) فتختلط مع إفرازاتها وتحصل لها الحركة.
وقد أصبح الاعتقاد (على ضوء ذلك) بأن الحركة لا تنشأ في هذه الحيامن
إلا بعد تدفق المني فقط في جهاز الأنثى التناسلي حيث يفرض عليه اختراق
طرق جديدة ومجاري عديدة لا واسطة لديه سوى هذه القوة الحركية الغريزية

273
2 - العضو المبرز:
هو مجموع القنوات الدقيقة المتشابكة مع بعضها، وتسمى بالقنوات المنوية والتي
تتكون منها فصوص الخصية منتهية لدى حافة الخصية العليا في موضع يسمى جسم
(هگمور) فتصبح عند ذاك مستوية، وتتحول إلى عشرين فرع مستقيم أوسع
قطرا من سابقتها تدعى بالقنوات المنوية الواردة فتخرق جسم (هگمور) ثم
تتركه وتكون قناة واحدة تدعى بالبربخ الذي هو عبارة عن قناة طويلة ودقيقة
وملتفة حول نفسها عدة مرات بجنب الخصية، ثم تنتهي في قناة أخرى تدعى
المستوردة، بعدئذ تصعد هذه القناة حتى تتصل بفوهة القناة المقبنية فتتخلل فيها
وتدعى إذ ذاك الأسهر، ومنها تتصل بمجرى البول عند غدة الموثة، فإن هذه
القنوات المنوية بجملتها مع الواردة والبربخ والمستوردة والأسهر، تشكل القسم
المبرز والذي يستمد قوته الدافعة أو المبرزة من خاصيته، وهي قابليته للتقلص
التي في طبقته العضلية.
3 - العضو المحرك (القضيب):
يتكون من ثلاثة أقسام (1) الحشفة: وهي مخروطي الشكل، وتكسوها
استطالة، سطحها الظاهر جلد، والباطن غشاء مخاطي تدعى القلفة (2) الجسمان
الاسفنجيان اللذان يكونان الدعامة الأساسية للقضيب، قابلان للتضخم عند الانتعاض
وهما متوازيان في الطول والاتجاه، ويقع تحتهما. (3) مجرى البول الذي يرد
إليه من المثانة، والمني من الأسهر، وينتهي بفوهة تدعى الصنبور.

274
كيفية اللقاح:
يبدأ الجماع (فعل التناسل) بولوج القضيب المنتعظ للرجل بداخل
مهبل المرأة، وقذف المني فيه.
ويحصل الانتعاض بانتباه الحس الشهواني في الدماغ بعد التصور والخيال
ويتضاعف ذلك الحس باشتراك النخاع الشوكي والأعضاء الحسية السطحية في
غشاء الحشفة المخاطي، وخصوصا على أثر احتكاكها بالفرج والمهبل. فيبدأ
الجسمان الاسفنجيان بالانتفاخ شيئا فشيئا حتى ينتعظ القضيب، وبعد ولوجه
في المهبل واحتكاكه بجدرانه المطلية بالمواد المخاطية التي تفرز لهذه الغاية من
قبل غدد بارثوليتى وكوير، يزداد حسا ونعوظا فتشرع إذ ذاك الحويصلات
المنوية بإفراز المني، ويقدر في كل دفقة بستة غرامات فيخترق المني مجاريه
بسرعة كبيرة تقل عن الثانية، ويمتزج خلال سيره بما تفرزه الغدد المذكورة
فيقذفه القضيب في المهبل، وخصوصا حوالي عنق الرحم.
وبعد استمرار المني في المهبل مدة من الزمن لا تتجاوز ساعات تقصد
الأجسام المنوية بقوتها الغريزية، وحركة شعيراتها فوهة عنق الرحم الخارجية
فتخترقها، ومنها تتجه نحو التجويف الرحمي، ومنه إلى إحدى فوهيتي الرحم
الداخلية أم إلى كلتيهما في آن واحد. ثم تواصل السير في قناة فالوب فيجتازه
دون توقف، وتستقر بعدئذ في المبيض نفسه، أو في السرادق حيث تصادف
البويضة وتتحد بها، ويبدأ في تلك اللحظة التلقيح وهو ابتدأ الحمل) انتهى.
* * *
وصفوة القول إن هذه الأعضاء - أعني أعضاء التناسل - لم تخلق إلا
لغاية شريفة راقية، وهي النسل والإنتاج، لضرورة بقاء النوع الإنساني، وأن

275
يكون ذلك حيث أراده الله من الوجهة المشروعة، ومتى ارتكب خلاف ذلك
فقد ارتكب جريمة فظيعة هي ضد العقل والفضيلة، تحط من شأن الإنسان،
وتقضي على الإنسانية والحضارة والعمران. لم تكن هناك جريمة أدعى إلى
الهلاك مثل جريمة الزنا، فإنه رأس الهلاك وطريق الفساد، وهو مضيعة للأموال
والأعراض والأولاد. مخل بالشرف والمروءة، ومؤد إلى المرض والخزي والعار
والعذاب المهين.
(موقف الإسلام من الزنا)
في الحلقة الأولى من كتابنا (الجواهر الروحية) مر بنا موضوع الزنا
وأسبابه، ومضاره، وعلاجه. والآن حيث استدعى البحث لقول الإمام عليه السلام
(وحق فرجك أن تحصنه عن الزنا) نعود ثانية إليه، بلون هو جدير بالملاحظة
بصفة خاصة:
جاء في سورة (الإسراء) من دستور الدين الإسلامي:
(لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا).
وفي سورة (النور): (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة
جلدة ولا تأخذكم. بهما رأفة....).
(الزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين).
إن لهذه المسألة - مسألة الزنا - عدة نواح من قانونية، وخلقية، وتاريخية
تحتاج إلى الشرح، وإننا إذا لم نشرحها بكل تفصيل، فقد يشكل على رجل
في هذا الزمان فهم هذا القانون الإلهي (القرآن)، وما فيه من الحكم والمصالح
للبشر، فلذلك نريد أن نشرح نواحيها المختلفة في ما يلي:
1 - إجماع الشرايع القديمة والحديثة على حرمة الزنا: إن مفهوم (الزنا)

276
العام الذي يعرفه عامة الناس، هو أن يأتي رجل وامرأة بفعل الجماع بغير أن
تكون بينهما علاقة الزوجية المشروعة، وكون هذا الفعل رذيلة من ناحية
الأخلاق، وإثما من ناحية الدين، وعيبا وعارا من ناحية الاجتماع، أمر
ما زالت المجتمعات البشرية مجمعة عليه منذ أقدم عصور التاريخ إلى يومنا الحاضر
ولم يخالفها فيه حتى اليوم إلا شرذمة قليلة من الذين جعلوا عقولهم تابعة
لأهوائهم وشهواتهم البهيمية، أو أوتوا من قبل عقولهم، ويظنون كل مخالفة للنظام
والعرف الجاري اختراعا لفلسفة جديدة. والعلة في هذا الإجماع العاملي: أن
الفطرة الإنسانية بنفسها تقتضي حرمة الزنا، ومما يتوقف عليه بقاء النوع
الإنساني وقيام التمدن الإنساني، أن لا تكون الحرية للرجل والمرأة في أن
يجتمعا ابتغاء للذة وقضاء لشهوتهما النفسية متى شاءا، ثم يتفرقا متى أرادا، بل
يجب أن تكون العلاقة بين رجل وامرأة قائمة على عهد للوفاء دائم محكم معروف
في المجتمع، وتكون مستندة - مع ذلك - إلى ضمان المجتمع كله، وبدون
هذا لا يمكن أن يكتب النمو والبقاء للنسل الإنساني ولا ليوم واحد، لأن
طفل الإنسان محتاج لحياته ونموه إلى من يقوم بتعهد شأنه وتربيته إلى غير واحدة
من السنين. ومن الظاهر أن لا قبل بذلك للمرأة وحدها ما دام لا يشاركها
فيه الرجل الذي يكون السبب في إخراج هذا الطفل إلى حيز الوجود.
ثم إن هذه المعاهدة بين الرجل والمرأة هي التي بدونها لا يمكن أن
يكتب البقاء والنمو للتمدن الإنساني، لأن التمدن الإنساني لم يتكون إلا
بمعاشرة الرجل والمرأة معا وإنشائهما أسرة، ثم امتداد وشائج النسب والصهر
بين تلك الأسرة. فإن أخذ الرجل والمرأة يجتمعان بكل حرية لا لشئ إلا
ابتغاء اللذة ونيل المتعة النفسية بقطع نظرهما عن التفكير في إنشاء الأسرة،
انتثر عقد التمدن الإنساني واستؤصلت حياة الاجتماع، وعاد الأساس الذي

277
يقوم عليه اليوم بناء التمدن والاجتماع أثرا بعد عين.
ولأجل هذه الأسباب فإن كل علاقة حرة بين الرجل والمرأة لا تقوم
على عهد للوفاء معروف مسلم به في المجتمع، تضاد الفطرة الإنسانية. ولأجل
هذه الأسباب ما زال الإنسان يعد الزنا في كل زمان رذيلة قبيحة وتحللا سافرا
من قيود الأخلاق، وإثما كبيرا حسب المصطلح الديني.
ولأجل هذه الأسباب فقد بذلت المجتمعات الإنسانية سعيها لسد باب الزنا
جنبا بجنب لسعيها في ترويج النكاح في كل عصر وزمان، مهما كانت صور هذا
السعي وطرقه ومقاديره مختلفة، بين مختلف القوانين والشرايع والنظم الخلقية
والمدنية والدينية. وأساس هذا الاختلاف هو الفرق في شعور مختلف المجتمعات
بمضار الزنا لنوع الإنسان وتمدنه، فهو قليل في بعضها وكثير في بعضها وواضح
في بعضها، وملتبس بالمسائل الأخرى في بعضها.
2 - الوجهات المختلفة في اعتبار الزنا جريمة مستلزمة للعقوبة:
أما القضية التي فيها الخلاف بين مختلف القوانين والشرايع بعد اتفاقها
على حرمة الزنا، فهي كون الزنا جريمة مستلزمة للعقوبة في نظر القانون.
فالمجتمعات التي كانت على قرب من الفطرة الإنسانية، ما زالت تعد الزنا
(أي
العلاقة غير المشروعة بين الرجل والمرأة) في حد ذاته جريمة قررت لها العقوبات
الشديدة، ولكن ظل سلوك المجتمعات واتجاهها نحو الزنا يلين شيئا فشيئا على
قدر ما ظلت زخارف المدنية تفسد هذه المجتمعات.
فأول تساهل جيئ به عام في هذه القضية، أنهم فرقوا بين الزنا المحض
والزنا بزوجة الغير، فاعتبروا الأول خطيئة أو زلة يسيرة ولم يعتبروا جريمة
مستلزمة للعقوبة إلا الآخر. أما تعريف الزنا المحض عندهم فهو أن يجامع
أيما رجل، بكرا كان أم متزوجا - امرأة ليست بزوجة لأحد، فما العبرة

278
في هذا التعريف للزنا بحال الرجل، وإنما هي بحال المرأة، فهي إذا كانت
بدون زوج فجماعها هو الزنا المحض، بقطع النظر عما إذا كان الرجل الذي
جامعها متزوجا أو غير متزوج. فحد هذه الخطيئة (أي عقوبتها) هين جدا في
قوانين مصر القديمة، وبابل وآشور والهند، وهذه القاعدة هي التي أخذت
بها اليونان والروم، وبها تأثرت اليهود أخيرا، فهي لم تذكر في الكتاب
المقدس لليهود إلا كخطيئة يلزم الرجل عليها غرامة مالية لا غير، فقد جاء
في كتاب الخروج: - الإصحاح الثاني والعشرون - الآيتان - 16 و 17 -
(وإذا راود رجل عذراء لم تخطب فاضطجع معها، يمهرها لنفسه زوجة، إن
أبى أبوها أن يعطيه إياها يزن له فضة كمهر العذارى).
وجاء هذا الحكم بعينه في كتاب الاستثناء (الإصحاح الثاني والعشرون
28 و 29) بشئ من الاختلافات في ألفاظه، وبعده التصريح بأنه (إذا وجد
رجل فتاة عذراء غير مخطوبة فأمسكها واضطجع معها فوجدا يعطي الرجل
الذي اضطجع معها لأبي الفتاة خمسين مثقالا من الفضة، وتكون هي له زوجة
من أجل أنه قد أذلها) غير أنه إذا زنى أحد ببنت القسيس عوقب بالشنق
بموجب القانون اليهودي وعوقبت البنت بالاحراق.
وهذه الفكرة ما أشبهها بفكرة الهنادك، ستعرف ذلك إذا راجعت كتاب القانون الديني
(لمانو) حيث جاء فيه (أيما رجل زنى ببنت من طبقته عن رضاها فليس عليه شئ من
العقوبة، وله أن يؤدي الأجرة إلى والدها وينكحها إن رضي به، وأما إذا كانت البنت
من طبقة أعلى من طبقته فلتخرج البنت من بيتها ويعاقب بقطع الأعضاء).
ويجوز تغيير هذه العقوبة بإحراق البنت حية إذا كانت من الطبقة البرهمية
فالحقيقة أن هذه القوانين كلها ليست الجريمة الأصلية فيها إلا الزنا
بزوجة الغير، أي أن يزني الرجل بامرأة هي زوجة لغيره، كأنه ليس الأساس

279
لاعتبار هذه الفعلة جريمة أن قد ارتكب الزنا رجل وامرأة، وإنما هو أنهما
قد عرضا رجلا في المجتمع لخطر أن يقوم بتربية طفل ليس من صلبه، أي
ليس الزنا هو الأساس، وإنما الأساس هو خطر اختلاط النسب، وأن يتربى
الطفل على نفقة رجل غير والده ويرثه. وعلى هذا الأساس كان الرجل والمرأة
معا مشتركين في ارتكاب الجريمة.
أما عقوبة هذه الجريمة عند المصريين: فهي أن يضرب الرجل ضربا
شديدا بالعصا ويجدع أنف المرأة. ومثل هذه العقوبة كانت لهذه الجريمة في
بابل وآشور، وفارس القديمة. أما الهنود فكانت عقوبة المرأة عندهم أن
تطرح أمام الكلاب حتى تمزقها، وعقوبة الرجل أن يضجع على سرير محمى
من الحديد وتشعل حوله النار.
وقد كان من حق الرجل عند اليونان والروم في بدء الأمر أنه إذا وجد
أحدا يزني بامرأته أن يقتله، أو ينال منه - إن شاء - غرامة مالية. ثم
أصدر قيصر (أغسطس) في القرن الأول قبل المسيح مرسوما بأن يصادر الرجل
بنصف ما يملك من المال والبيوت وينفى من موطنه، وأن تحرم المرأة من
نصف صداقها وتصادر بنصف ما تملك من المال، وتنفى إلى بقعة أخرى من بقاع المملكة.
ثم جاء (قسطنطين) وغير هذا القانون بإعدام الرجل والمرأة
ثم تغير هذا القانون في عهد (ليوومارسين) بالحبس المؤبد، ثم جاء قيصر
(جستينين) وخفف هذه العقوبة وغيرها بضرب المرأة بالأسواط ثم حبسها في
دير الراهبات، وإعطاء زوجها الحق في أنه إن شاء استخرجها من الدير في
ضمن مدة سنتين، أو تركها فيه إن شاء إلى طول حياتها.
وأما الأحكام الموردة في القانون اليهودي عن الزنا بامرأة الغير، فهي
على ما جاء في كتاب (التثنية) الإصحاح الثاني والعشرون الآية: 22 (وإذا

280
اضطجع رجل مع امرأة اضطجاع زوج وهي أمة مخطوبة لرجل ولم تفد فداء
ولا أعطيت حريتها، فليكن تأديب ولا يقتلا لأنها لم تعتق، وإذا وجد رجل
مضطجعا مع امرأة زوجة بعل، يقتل الاثنان: الرجل المضطجع مع المرأة
والمرأة). وفي الإصحاح الثاني والعشرون منه، الآيات: 22 - 26 (إذا كانت
فتاة عذراء مخطوبة لرجل فوجدها رجل في المدينة واضطجع معها، فاخرجوهما
كليهما إلى باب تلك المدينة وارجموها بالحجارة حتى يموتا، الفتاة من أجل
أنها لم تصرخ في المدينة، والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه، فتنتزع
الشر من وسطك. ولكن إن وجد الرجل الفتاة المخطوبة في الحقل وأمسكها
الرجل واضطجع معها، يموت الرجل الذي اضطجع معها وحده، وأما الفتاة
فلا تفعل بها شيئا).
ولكن علماء اليهود وفقهاءهم وعامتهم كأنهم سدلوا على هذا القانون ستر
الإهمال، وألغوه فعلا منذ عصر قبل عصر (عيسى بن مريم عليه السلام) حتى أننا
لا نكاد نجد في تاريخ اليهود كله نظيرا لتنفيذه، مع أنهم كانوا يعتقدونه حكما
إلهيا، وكان مكتوبا عندهم في التوراة.
ولما أن قام عيسى بن مريم بدعوته إلى الحق، وجد علماء اليهود أنهم
لا قبل لهم بالقيام في وجه سبيل هذه الدعوة، أطالوا الفكر ومكروا مكرا
وأخذوا امرأة زانية وساقوها إلى عيسى بن مريم عليه السلام وقالوا له اقض لنا أمرها
وإنما يقصدون من ذلك أن يحرجوا عليه الموقف ويلقوه أما في البئر أو في
الحفرة، فهو إن قضى في أمرها بالرجم، صدموه بالقانون الرومي في جانب
وقالوا للناس في الجانب الآخر هلموا أيها القوم وآمنوا بهذا النبي العجيب
الجديد، وقدموا له ظهور كم ونفوسكم لينفذ فيها شريعة التوراة بكل قوته،
وأما إن قضى في أمرها بعقوبة غير الرجم، شوهوا سمعته في الناس قائلين:

281
كيف لكم أن تؤمنوا بهذا المدعي للنبوة، وهو يغير شريعة التوراة ويلغيها
مراعاة للمصالح الدنيوية. ولكن عيسى عليه السلام جعل مكرهم السيئ لا يحيق
إلا بهم إذ قال لهم: من كان عفيفا منكم فليتقدم ويرمها بالحجارة. فبمجرد
هذه الفقرة انقشع من حوله جموع الفقهاء الكرام، وانكشف الغطاء عن وجوه
الحملة القديسين الأطهار للشريعة الغراء. ولما وجد المرأة قائمة عليه وحدها
بذل لها النصيحة واستتابها وقال لها ارحلي.
ذلك بأن عيسى عليه السلام ما كان قاضيا يقضي في أمرها بصفة رسمية، ولا
كانت هناك حكومة إسلامية تنفذ فيها القانون الإلهي.
وقد استنبط المسيحيون بعض استنباط خاطئة من هذا الحادث، ومن
بعض أقوال عيسى المتفرقة الأخرى قالها عند مختلف الموانع، وجعلوا لهم
تصورا جديدا لجريمة الزنا، فإذا زنى عندهم رجل بكر بامرأة باكرة، فإن
فعلهما على كونه ذنبا ليس بجريمة مستلزمة للعقوبة على كل حال. وأما
إذا كان أحد المرتكبين لهذا الفعل - الرجل أو المرأة - أو كلاهما متزوجا
فإنه الجريمة، غير أن الذي يجعله الجريمة إنما هو نقض العهد لا (الزنا
المحض). فكل من أتى بفعل الزنا بعد كونه متزوجا فإنه مجرم لأنه نقض
العهد الذي كان عقده مع زوجته - أو زوجها إن كانت المرتكبة امرأة - أمام
المذبح بواسطة القسيس، أما عقوبته على إتيانه بهذه الجريمة، فإنما هي أن
تقيم زوجته عليه الدعوى، وتشكو غدره إلى المحكمة وتطلب منها التفريق
بينهما. وكذلك ليس من حق زوج المرأة الزانية أن يقيم عليها الدعوى في
المحكمة ويطلقها أمامها فحسب، بل له كذلك أن ينال غرامة مالية من الرجل
الذي أفسد زوجته. فهذه هي العقوبة التي يقررها القانون المسيحي للزناة
المتزوجين والزانيات المتزوجات.

282
ومن العجب أن هذه العقوبة سيف يقطع من جانبين، فإن المرأة وإن
كان لها أن تقيم الدعوى على زوجها الغادر وتنال من المحكمة حكم تفريقها
منه، ولكن لا يجوز لها بموجب القانون المسيحي أن تنكح رجلا آخر طول
حياتها. وكذلك أن الرجل وإن كان له أن يقيم الدعوى على زوجته الغادرة
ويتخلص منها أمام المحكمة، ولكن لا يبيح له القانون المسيحي أن ينكح
بعدها امرأة أخرى طول حياته. ومعنى ذلك أن كل من أحب من الزوجين
أن يحيى في الدنيا حياة الرهبان والراهبات فعليه أن يشكو إلى المحكمة غدر
شريكته - أو شريكها - في الحياة ويطلب منها التفريق بينهما.
إن القوانين الغربية اليوم - وهي التي تتبعها معظم بلاد المسلمين في هذا
الزمان - إنما تقوم على هذه التصورات المختلفة، فالزنا في نظرها وإن كان
عيبا أو رذيلة خلقية أو ذنبا، ولكنه ليس بجريمة على كل حال. وأن الشئ
الوحيد الذي يحوله إلى الجريمة هو الجبر والاكراه لا غير، أي أن يجامع
الرجل المرأة بدون رضاها. أما الرجل المتزوج فإن كان ارتكابه لفعلة الزنا
سببا للنزاع والشكوى، فإنما هو كذلك لزوجته وحدها، فلها - إن شاءت -
أن تطلب من المحكمة تخليصها منه. وأما إذا كانت المرتكبة للزنا امرأة
متزوجة فما لزوجها أن يشكوها إلى المحكمة ويطلقها فحسب، بل له كذلك
أن يشكو إلى المحكمة ذلك الرجل الذي ارتكب الزنا بزوجته وينال منه
غرامة مالية.
3 - وجهة نظر الإسلام في باب الزنا:
أما القانون الإسلامي: فإنه على العكس من جميع هذه التصورات يقرر
الزنا - من حيث هو - جريمة مستلزمة للمؤاخذة والعقوبة، ويغلظ في نظره
شدة هذه الجريمة أن يرتكبها رجل متحصن من امرأة متحصنة بالزواج لا على

283
أساس أنه نقض العهد أو تعدى على فراش غيره، ولكن على أساس أنه سلك
لقضاء شهوته طريقا غير مشروع، على كونه متمكنا من قضائها بطريق مشروع
والنظرة التي بها ينظر القانون الإسلامي إلى فعلة الزنا، هي أنها إذا أطلق
عنان الناس لإتيانها متى شاؤوا، فإنها لا تلبث أن تستأصل شأفة نوع الإنسان
وتمدنه معا، فمما يستلزمه الاستبقاء على نوع الإنسان وتمدنه أن تكون العلاقة
بين الرجل والمرأة محدودة إلى علاقة قابلة للاعتماد عليها حسب القانون. ولا
يمكن أن تكون هذه العلاقة محدودة ما دام المجال واسعا معها للعلاقة الحرة،
فإن الناس إذا كان من الميسور لهم أن يقضوا شهواتهم بدون أن
يتحملوا أعباء الحياة العائلية وتبعاتها، لا يمكن أن يرجى منهم مجال أن يرضوا
بتحمل هذه الأعباء والتبعات لمجرد قضاء هذه الشهوات نفسها. ومثل ذلك كمثل
شرط التذكرة لركوب القطار: أنه لا عبرة بشرط التذكرة لركوب القطار
ما دامت للناس الحرية في ركوبه بالتذكرة أو بدون التذكرة، فإن كان شرط
التذكرة لازما، فمن اللازم لجعله شرطا متأكدا مؤثرا أن يكون السفر
بدون التذكرة جريمة. فمن ركب القطار ولم يأخذ التذكرة لأنه لا يملك
من المال ما يأخذها به، فإنه يأتي بجريمة خفيفة، ومن ركبه بدون التذكرة
على كونه غير معدم للمال فإنه يأتي بجريمة أفحش وأغلظ.
4 - التدابير الإصلاحية الوقائية في الإسلام لحفظ المجتمع من مفاسد الزنا
إن الإسلام لا يعول على سلاح التعزير القانوني المحض لحفظ المجتمع
الإنساني من خطر الزنا، بل أنه ليأتي لذلك بتدابير إصلاحية ووقائية على
نطاق واسع، وهو إنما جاء بالتعزير القانوني كآخر حيلة لتطهير المجتمع
وليس الغرض منه أن يبقى الناس يرتكبون الزنا ويجلدون وتنصب لهم الفلك
ليل نهار، بل الغرض منه أن يحول دون ارتكاب هذه الجريمة حيلولة تامة

284
ولا يدع الأمر يفضي إلى إقامة الحدود على الناس.
ولأجل ذلك: فإن الإسلام يعتني بإصلاح نفس الإنسان قبل كل شئ
ويعمر قلبه بخشية الله عالم الغيب والشهادة العزيز الجبار، ويشعره بمسؤوليته
يوم القيامة التي لا يستطيع أن ينجو منها بأي حيلة، وينشئ فيه الميل إلى
طاعة الله والرسول، التي هي أول مقتضيات الإيمان، ثم ينبهه ولا يزال ينبهه
مرة بعد أخرى على أن الزنا والفحشاء من كبائر الذنوب الموجبة عليه العذاب
الأليم في الآخرة.
ثم أن الإسلام - بعد ذلك - يوفر على الإنسان السهولات الممكنة
للنكاح ويزيل عن وجهه العقبات: يبيح له العلاقة المشروعة - النكاح - بمثنى
وثلاث ورباع - أي إلى أربع من النساء إذا كان لا يقنع بامرأة واحدة -
ويهيئ للزوج سهولة لتطليق زوجته، وللزوجة سهولة لمخالفة زوجها إن كان
لا يحصل بينهما التوافق، ويفتح أمامهما باب مراجعة الحكمين - أعني حكما
من أهله وحكما من أهلها - ومراجعة المحكمة ليحصل بينهما التوافق أو يفترقا
ويتزوجا حيث شاءا.
ولك أن تجد بيان جميع هذه الأحكام في سورة البقرة، والنساء والطلاق
وتجد أيضا في سورة النور أوفر من كل هذه السور، كيف أن الله سبحانه
وتعالى يكره بقاء الرجال والنساء في المجتمع بدون نكاح، فيأمر المسلمين
بإنكاحهم، بل يأمرهم أن لا يتركوا حتى العبيد والإماء بغير نكاح.
ثم هو يزيل عن المجتمع البواعث والدواعي التي ترغب الإنسان في الزنا
وتهيئ له فرصة لارتكاب هذه الجريمة.
فمن هذا القبيل أنه قد أمر النساء - في سورة الأحزاب - إذا خرجن
لحاجة من بيوتهن أن يخرجن ضاربات الخمر على رؤوسهن ونحو رهن وصدورهن

285
وأمر نساء النبي (ص) - ونساؤه هن القدوة الصالحة والمثال المحتذى لنساء
جميع المسلمين طبعا - أن يقرن في بيوتهن ولا يخرجن منها متبرجات ولا يرين
الرجال زينتهن، وإذا سألهن أحد من غير محارمهن، فليسألهن من وراء
حجاب. فما لبثت أن أثرت هذه القدوة في جميع المؤمنات والمسلمات اللائي
ما كن يعتبرن نساء الجاهلية قدوة لأنفسهن، وإنما كن يعتقدن نساء النبي (ص)
وبناته هن القدوة لأنفسهن.
فهكذا ألغى الإسلام من المجتمع الاختلاط بين الرجال والنساء قبل
تقرير حد الزنا - أي عقوبته الجنائية - وأغلق باب الأسباب والمحرضات التي
تهيئ الفرص والسهولات للزنا. وبعد كل ذلك لما أنزل الله تعالى حكم حد
الزنا - عقوبته الجنائية - أنزل معه من الأحكام والتعليمات ما يحول دون
شيوع الفاحشة في المجتمع، ويلغي مهنة البغاء وبيع العرض إلغاءا قانونيا،
ويضع لمن يرمي غيره بالزنا بدون بينة وينقل أخباره في المجتمع حدا شديدا
ويأمر الرجال والنساء معا بالغض من أبصارهم. فكان الإسلام هكذا يقيم
الحارس القوي على الأنظار كيلا يتدرج الأمر من التلذذ بالنظر إلى الولوع بالجمال
إلى الوقوع في الغرام. ويأمر النساء بأن يميزن بين المحارم وغير المحارم من
الرجال في داخل بيوتهن، ولا يبرزن متزينات لغير المحارم منهم.
ولا يصعب عليك أن تدرك بهذا كله تلك الخطة الإصلاحية التي ما جاء
الإسلام بحد الزنا إلا كجزء منها، وليس هذا لحد إلا لأن يستأصل شأفة
الخلعاء المستهترين الذين لا ينفكون يصرون على قضاء شهواتهم بطريق نجس،
على الرغم من هذه التدابير للإصلاح الخارجي والداخلي، وعلى الرغم مما
يجدون أمامهم من الطرق المشروعة لقضاء شهواتهم، وأن يجري على الذين
يجدون في نفوسهم مثل هذه الميول عملية الجراحية النفسية بقتل نفس منهم،

286
وهذا الحد ليس بعقوبة لمجرم فحسب، بل هو إعلان في الوقت نفسه، أن
ليس المجتمع الإسلامي بمنتزه يسرح فيه الذواقون والذواقات متمتعين بحريتهم
بدون خوف ولا تقيد بقاعدة من قواعد الشرف والأخلاق.
والحقيقة أن الإنسان إذا أدرك خطة الإسلام في إصلاح المجتمع وتطهيره
على هذا الوجه، فإنه لا يلبث أن يشعر بأن أي جزء من أجزاء هذه الخطة
لا يمكن أن يزاح عن مكانه، ولا أن يدخل عليه شئ من النقص أو الزيادة
وأنه لا يكاديهم بإدخال التغيير فيه، إلا من سفه نفسه وزعم أنه مصلح بدون أن تكون
عنده القدرة على فهمه، أو من كان يريد الفساد في الأرض وينوي
تغيير الغاية التي لأجلها وضع الحكيم المطلق سبحانه وتعالى هذه الخطة كلها.

287
حق الصلاة

289
قوله عليه السلام:
(وحق الصلاة أن تعلم أنها وفادة إلى الله تعالى فإذا
علمت ذلك قمت مقام الذليل الحقير الراغب، والراهب الراجي
الخائف المسكين المتضرع، لمن كان بين يديه بالسكون والوقار
وتقبل عليها بقلبك، وتقيمها بحدودها وحقوقها، (مع الإطراق
وخشوع الأطراف، ولين الجناح وحسن المناجاة له في نفسه
والرغبة إليه في فكاك رقبتك التي أحاطت بها خطيئتك، واستهلكتها
ذنوبك).
* * *
لقد مر في غير هذا السفر من تآليفنا، حديث الصلاة بأساليب ملونة،
وأنها وسيلة الاتصال بالله والاستمداد من ذلك الرصيد، ومظهر العبودية الخالصة
التي يتجرد فيها مقام الربوبية ومقام العبودية في صور معينة. وأن القائم بها
على وجهها الصحيح، سائر على النور، واصل إلى الغاية، ناج من الضلال في
الدنيا ومن عواقب الضلال في الآخرة، مطمئن في رحلته على هذا الكوكب،
تتناسق خطاه مع دورة الأفلاك ونواميس الوجود، فيحس بالأنس والراحة
والتجاوب مع كل كائن في الوجود.
وأحب أن لا أحرم هذا السفر القائم على حكمة الإمام عليه السلام من خوض

291
في هذا البحث، أولا لعلاقته بقول الإمام عليه السلام وثانيا لأن الصلاة أكثر مساسا في
كياننا الديني والمدني من سائر الفروض، وأكمل صورة من صور العبادة
التي تربط القلوب بخالقها وتقترب منه وتتصل به، ومتى اتصل الإنسان بربه
بعدت خطواته عن خطوات الشيطان، واستحيا أن يغضب الله بعمل وهو يلقاه
واستقام على الطريقة ووجد هداه.
* * *
إنه لا بد للفرد الفاني المحدود القوى والطاقة أن يتصل بالقوة الكبرى
يستمدها العون حينما يتجاوز الجهد قواه المحدودة، حينما تواجهه قوى الشر
والطغيان والفساد، وهي كثيرة. حينما يطول به الطريق وتبعد به الشقة في
عمره المحدود، حينما يجد الشر نافشا، والخير ضاويا، فلولا ثقة وراء الواقع
في قوة أكبر من قوى الواقع، ليئس وضل وخانته الآمال.
هنا تبدو قيمة الصلاة، إنها الصلة المباشرة بين الفرد الفاني والقوة الخالدة
إنها الموعد المختار لالتقاء القطرة المنعزلة بالنبع الذي لا يغيض، إنها
مفتاح الكنز. الذي يغني ويقني ويفيض.
ومن هنا كان الرسول (ص) إذا حز به أمر أكثر من الصلاة ليكثر من
لقائه بالله.
وبتتبع النصوص الواردة في الكتاب والسنة، يمكن معرفة حكم الصلاة النفسية
يقول الرسول الأعظم محمد (ص): (إذا قام أحد كم يصلي فإنه يناجي
ربه).
والمناجاة: مخاطبة الله مباشرة، وهي تشعر المرء بوجود الله وجودا حقيقيا، وأنه

292
قريب منه يسمع دعاءه، ويلبي نداءة، ويستجيب له.
وإذا واظب المصلي على هذه المناجاة خمس مرات في اليوم والليلة،
تيقظت قواه الروحية، وأحس بأن الله يمده بالقوة والعون، وأنه سبحانه معه
لا يتخلى عنه، فتقوى عزيمته، وتشتد إرادته ويمضي إلى غايته دون تردد أو
ضعف مهما اعترضته الصعاب أو واجهته العقبات.
وإذا ظفر بمطلوبه وبلغ الذروة من الفوز والنجاح، فإن ذلك لا يزدهيه
ولا يداخله الغرور، ولو قدر أنه لم يبلغ ما يريد فإنه لا يحزن، ولا ييأس،
بل يعيد المحاولة من جديد، واثقا بالله ومتوكلا عليه.
هذا من جانب...
ومن جانب آخر فإن الصلاة انتزاع للنفس من ماديات الحياة وآلامها
وتوجيه لها إلى الله بالذكر والدعاء والضراعة، والخضوع لكبريائه وعظمته.
وهذا من شأنه أن يضفي على النفس السكينة والرضا، ويجعلها تشعر
بفيض من السعادة فتتجدد قواها، ويحفزها ذلك إلى العمل الجاد والأمل في
وجه الله الكريم.
هذه الحكم النفسية التي تظهر لنا من آثار الصلاة.
آثارها الخلقية:
والانسان لا يصل إلى القرب من الله، ولا يسعد برضاه إلا إذا تطهر
من الرذائل وسائر الصفات السيئة.
يقول الله تعالى: (قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى).
والصلاة هي الوسيلة لهذا التطهير لأن المواظبة عليها تربى في المصلي
الضمير الحي الذي يبعث على الخير، ويحض عليه، ويمنع من الشر،

293
ويحذر منه.
لهذا نجد الآية الكريمة تقول: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)
بالإضافة إلى هذا فإن الصلاة تغرس في النفس فضيلتي الثبات والكرم،
وهما من أكرم الخصال، وأشرف الخلال. فإذا أصاب المصلي ما يكره لا
يستبد به الجزع والهلع.
وإذا أفاض الله عليه بالنعم والآلاء لا يستأثر بها بل يشرك معه فيها غيره
وإلى هذا تشير الآية: (إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسته الشر جزوعا
وإذا مسه الخير منوعا، إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون).
آثارها الاجتماعية:
وإذا كانت الصلاة تكسب المرء سكينة النفس، وتطبعه بطابع خلقي
جميل. فإن هذه الصفات تجعل المقيم لها رضي النفس، حسن الخلق، عضوا
نافعا في المجتمع الذي يعيش فيه، وتخلق منه خليقة حية تعمل وتنتج ويعم
خيرها الناس.
ثم إن الإسلام حبب في صلاة الجماعة، وأوجب صلاة الجمعة كل أسبوع.
واجتماع أهل الحي في اليوم خمس مرات مع اجتماعهم يوم الجمعة
اجتماعا أوسع مدى، يقوي الروابط الاجتماعية، ويشد أو أصر الصلات بين
الجماعة، ويشعر كل واحد بأنه أخ لكل من في المسجد، وأنه مساو له فتنمو
روح المساواة الحقيقية. لا فرق بين غني وفقير. ولا بين عظيم وحقير، فكلهم
عباد الله اجتمعوا في بيته تظللهم ظلال المحبة والأخوة في الله.
وبهذه الممارسة العملية للمساواة تنتفي فوارق اللون، وفوارق الثراء،
وفوارق الدم. فيشعر الفرد شعورا حقيقيا بأنه للجماعة، وتشعر الجماعة

294
بأنها للفرد.
وهذه الغاية هي أسمى الغايات التي يجهد العلماء والحكماء، والمربون والفلاسفة
أنفسهم في تحقيقها، ليعم البشرية الأمن والسلام. ويلاحظ أن هذه الحكم لا
يمكن أن تتحقق إلا إذا أقبل المصلي على صلاته بوعي كامل ويقظة تامة وتأمل
حقيقي في أقوال الصلاة وأفعالها.
وهذا هو المعبر بالخشوع في قول الله تعالى: (قد أفلح المؤمنون،
الذين هم في صلاتهم خاشعون).
فإذا تجردت الصلاة من هذا الوعي كانت قليلة الثمرة، بل عديمة الجدوى.
ولنصغ إلى هذا الحديث القدسي الذي يرويه النبي (ص) عن ربه:
(إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، ولم يستطل بها على خلقي، ولم
يبت مصرا على معصيتي، وقطع النهار في ذكرى، ورحم المسكين وابن
السبيل والأرملة، ورحم المصاب، ذلك نوره كنور الشمس، أكلؤه بعزتي
واستحفظه ملائكتي، وأجعل له في الظلمة نورا، وفي الجهالة حلما، ومثله
في خلقي كمثل الفردوس في الجنة...).
أجل إن الصلاة توجه الإنسان بكليته إلى ربه، ظاهرا وباطنا، جسما وعقلا وروحا.
إنها ليست مجرد حركات رياضية بالجسد، وليست مجرد توجه صوفي
بالروح. فالصلاة الإسلامية تلخص فكرة الإسلام الأساسية عن الحياة.
إن الإسلام يعترف بالانسان جسما وعقلا وروحا، ولا يفترض أن
هنا لك تعارضا بين نشاط هذه القوى المكونة في مجموعها للانسان، ولا يحاول
أن يكبت الجسد - على طريقية المسيحية المترهبنة، أو الهندوكية المتصوفة -
لتنطلق الروح، لأن هذا الكبت ليس ضروريا لانطلاق الأرواح.. ومن

295
ثم يجعل عبادته الكبرى.. الصلاة.. مظهرا لنشاط قواه الثلاثة وتوجهها
إلى خالقها جميعا في ترابط واتحاد، يجعلها قياما وقعودا وركوعا وسجودا،
تحقيقا لنشاط الجسد، ويجعلها قراءة وتدبرا وتفكيرا في المعنى والمبنى،
تحقيقا لنشاط العقل، ويجعلها توجها واستسلامه لله، تحقيقا لنشاط الروح..
كلها في آن.. وإقامة الصلاة على هذا النحو تذكر بفكرة الإسلام كلها عن
الحياة، واتجاهها بطاقاتها كلها لله في كل ركعة وفي كل صلاة.
جاء في كتاب - وسائل الشيعة - (إن رسول الله (ص) لما أسري به
أمره ربه بخمسين صلاة فمر على النبيين نبي نبي لا يسألونه عن شئ حتى انتهى
إلى موسى بن عمران عليه السلام فقال: بأي شئ أمرك ربك. فقال: بخمسين
صلاة. فقال: أسأل ربك التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك. فسأل ربه
فحط عنه عشرا، ثم مر بالنبيين نبي نبي لا يسألونه عن شئ حتى مر بموسى
بن عمران عليه السلام فقال: بأي شئ أمرك ربك. فقال: بأربعين صلاة. فقال:
اسئل ربك التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك.
فسأل ربه فحط عنه عشرا. ثم مر بالنبيين: نبي نبي لا يسألونه عن شئ
حتى مر بموسى عليه السلام فقال: بأي شئ أمرك ربك. فقال: بثلاثين صلاة.
فقال: اسأل ربك التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك. فسأل ربه فحط عنه
عشرا. ثم مر بالنبيين: نبي نبي لا يسألونه عن شئ حتى مر بموسى عليه السلام فقال
بأي شئ أمرك ربك فقال: بعشرين صلاة. فقال: اسأل ربك التخفيف فإن
أمتك لا تطيق ذلك. فسأل ربه فحط عنه عشرا. ثم مر بالنبيين نبي نبي
لا يسألونه عن شئ حتى مر بموسى عليه السلام فقال: بأي شئ أمرك ربك. فقال:
بعشر صلوات. فقال: اسأل ربك التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك، فإني
جئت إلى بني إسرائيل بما افترض الله عليهم فلم يأخذوا به ولم يقروا عليه.

296
فسأل النبي (ص) ربه فخفف عنه فجعلها خمسا. ثم مر بالنبيين نبي نبي
لا يسألونه عن شئ حتى مر بموسى عليه السلام فقال: له بأي شئ أمرك ربك فقال
بخمس صلوات. فقال: اسأل ربك التخفيف عن أمتك فإن أمتك لا تطيق
ذلك. فقال: إني لأستحي أن أعود إلى ربي. فجاء رسول الله (ص) بخمس
صلوات).
عاد النبي (ص) من رحلة الأسرار والمعراج بهدية من ربه، عاد إلى
المسلمين بفريضة الصلاة، ففتح عليهم بابا يصلون منه إلى الله عز وجل مفتاحه
في يد المسلم: (إذا قام أحدكم إلى صلاته، فإنما يناجي ربه. فلينظر بم
يناجيه).
يدخل المسلم في صلاته بآلامه وآماله ومعصيته وتوبته وآثام حواسه
وجوارحه. ثم ينصرف وقد ألقى كل ذلك في حضرة الغفور الرحيم. ويعود
إلى دنياه متجدد الإيمان ومتجدد الوجود.
وتقبلها المسلمون بنفوس كريمة بفهم سليم. وعقول وقلوب واعية.
وعرفوا قيمتها. وما هانت عليهم أبدا. فما هانوا على الله أبدا. (من هانت
عليه صلاته كان على الله عز وجل أهون)).
(من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة. ومن لم
يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة. وكان يوم القيامة مع
قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف).
يقف المؤمن في صلاته يناجي ربه (إياك نعبد. وإياك نستعين)
فتساقط عنه أمراض الكبر والرياء والهوى. ثم يقول: (إهدنا الصراط المستقيم)
يلتمس النجاة من الضلال والجهل والغفلة ليحيا مع المنعم عليهم غير المغضوب عليهم
فمن آثر حظ جسده فليس من أهل إياك نعبد. ومن

297
استعان بقوته أو بماله أو بأحد من الناس، فليس من أهل إياك نستعين.
ومن سلك صراط الحرام والمنكر والبدع والجريمة، فليس من المهتدين إلى
الصراط المستقيم. وإلى هؤلاء الذين تركوا الصلاة ولهم في ذلك فلسفات
خاصة نتسائل: كم من الخير فاتهم؟ وهل المريض الذي يعيش في رعاية
طبيبه أفضل أم من يظل فريسة للأسقام والأمراض والعلل معرضا عن وسائل
الشفاء؟.
وإلى هؤلاء الذين يقومون إلى الصلاة وهم كسالى، نتساءل: هل هذا
هو أدب العبد نحو سيده؟.
وإلى الذين هم عن صلاتهم ساهون، نتساءل: أمن الصدق والاخلاص
أن نناجي وننادي الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وصدورنا ليست
مستعدة لاستقبال جلال الله سبحانه.
ولنعد بعد هذا الاستطراد إلى ما يقوله الإمام عليه السلام: (إن الصلاة وفادة
إلى الله) والوفادة بمعناها المعروف (الضيافة) وهو في الحق تعبير صادق عميق
فهو عليه السلام لا يصف الصلاة وفضلها، ولا يصف واجباتها ومستحباتها، وإنما يريد
(سلام الله عليه) أن يكشف ما ينبغي أن يتصف به المؤمن المخلص المسلم وجهه
إلى الله حين الصلاة التي هي الوفادة الكريمة على الله.
كما نلمس ذلك من سيرته حين الصلاة، أو حينما يريد الوقوف بين
يدي الله.
كان إذا أراد أن يتطهر لصلاته لا يطيق الثبوت والسكون، يتغير منه
لونه، وترتعد فرائصه حتى كأنه غصن تحت إعصار في يوم عاصف.
أما إذا وقف بين يدي الرب العظيم فلا يشعر بعالمنا الذي نحن فيه حتى
ولا بنفسه وإنما يكون في عالم آخر غير هذا العالم، يكون في حالة أشبه بالغيبوبة

298
يقوم بين يدي ربه مقام الذليل. تدفعه إلى عبادته رغبة ورهبة، يدفعه
إلى هذا الخضوع وهذا الانقطاع خوف ورجاء. وهو في كل ذلك في إطراق
خاشع الطرف، منسحق النفس، لين الجانب، كسير الجناح، يتململ
- كجده على - تململ السليم. يخاف أن تأخذ عليه خطيئته أطراف الأرض
وآفاق السماء، فتقطعه عن المبدأ الأعلى، وعن فيضه المتدفق.
هذه حال الإمام عليه السلام حال الصلاة.
كانت تعتريه في كل صلاة، بل في كل تطهر للصلاة، بل في كل
لحظة يذكر فيها اسم الله، شأن المؤمنين الذين (إذا ذكروا الله وجلت قلوبهم
وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون). حتى إذا سئل عن
ذلك ذات يوم أجاب متعجبا متسائلا: (ألم أقف بين يدي جبار السماوات)؟.
فهو يعبد الله كأنه يراه، ويخافه كأنه ينظر إليه، وجلال المهيمن
وعظمته متجلية لديه في كل الأحوال.
إذا فلا غرو فيما تتحدث به الرواة من الخشية والرهبة التي تعلوه عند
المثول أمام المولى عز شأنه لأداء فرضه، فتضطرب أعضاؤه. وإذا دخل في
الصلاة لم يتحرك منه شئ إلا ما حركه الريح. وإذا قيل له في ذلك يقول:
(أتدرون إلى من أقوم، ومن أريد أن أناجي، إني أريد أن أتأهب للقيام
بين يدي ملك عظيم).
وقد رآه أبو حمزة الثمالي يصلي، وقد سقط رداؤه من على أحد منكبيه فلم
يسوه، ولما فرغ من الصلاة سأله عن ذلك فقال عليه السلام: (أتدري بين يدي من
أنا واقف، إن العبد لا يقبل منه صلاة إلا ما أقبل منها). قال أبو حمزة هلكنا
فطمنه الإمام بأن الله تعالى يتم ما نقص منها بالنوافل.
ووقع حريق في بيت كان ساجدا فيه، فصاحوا: النار يا ابن رسول الله

299
فلم يلتفت، ولا خفف من صلاته، وبعد أن فرغ قيل له ما ألهاك عنها: قال
ألهتني النار الكبرى.
وجاء في أخبار الدول (للقرماني): إنه عليه السلام سقط ابن له في البئر،
ففزع أهل المدينة لذلك حتى أخرجوه، وهو قائم يصلي في محرابه فما زال
عن مكانه ولما قيل له في ذلك قال: ما شعرت لأني كنت أناجي ربا عظيما.
وحدث المجلسي في (البحار): عن الأصمعي: قال: كنت أطوف
حول الكعبة ليلة فإذا أنا بشاب ظريف حسن الشمائل، وعليه ذؤابتان، وهو
متعلق بأستار الكعبة وهو يقول:
(نامت العيون، وغارت النجوم، وأنت الملك الحي القيوم إلهي غلقت
الملوك أبوابها، وأقامت عليها حراسها، وبابك مفتوح للسائلين، جئتك
لتنظر إلى برحمتك يا أرحم الراحمين. ثم أنشأ يقول:
يا من يجيب دعا المضطر في الظلم * يا كاشف الضر والبلوى مع السقم
قد نام وفدك حول البيت قاطبة * وأنت وحدك يا قيوم لم تنم
أدعوك رب دعاء قد أمرت به * فارحم بكائي بحق البيت والحرم
أدعوك رب دعاء قد أمرت به * فارحم بكائي بحق البيت والحرم
إن كان عفوك لا يرجوه ذو سرف * فمن يجود على العاصين بالنعم
قال الأصمعي: فاقتفيت أثره فإذا هو زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام
وجاء فيه أيضا: عن طاووس الفقيه، قال: رأيت علي بن الحسين عليه السلام يطوف
من العشاء إلى السحر ويتعبد، فلما لم ير أحدا رمق السماء بطرفه وقال:
إلهي غارت نجوم سماواتك، وهجعت عيون أنا مك، وأبوا بك مفتحات
للسائلين، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدي محمد (صلى الله عليه وآله
في عرصات القيامة. ثم بكى وقال:
وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتك إذ عصيتك

300
وأنا بك شاك، ولا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك متعرض، ولكن سولت لي
نفسي وأعانني على ذلك سترك المرخى على، فأنا الآن من عذابك من
يستنقذني، وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عني، فواسوأتاه، غدا من
الوقوف بين يديك إذا قيل للمخفين جوزوا، وللمثقلين حطوا، أمع المخفين
أجوز، أم مع المثقلين أحط. ويلي كلما طال عمري كثرت خطاياي ولم
أتب، أما آن لي أن أستحي من ربي. ثم بكى (صلوات الله عليه)
وأنشأ يقول:
أتحرقني بالنار يا غاية المنى * فأين رجائي ثم أين محبتي
أتيت بأعمال قباح رزية * وما في الورى خلق جنى كجنايتي
ثم بكى (عليه السلام) وقال:
سبحانك تعصى كأنت لا ترى، وتحلم كأنك لم تعص، تتودد إلى
خلقك بحسن الضيع كان بك الحاجة إليهم، وأنت سيدي الغني عنهم. ثم
خر ساجدا، فدنوت منه وأخذت برأسه ووضعته على ركبتي وبكيت حتى
جرت دموعي على خده، فاستوى جالسا وقال: من الذي أشغلني عن ذكر
ربي. فقلت أنا طاووس يا بن رسول الله، ما هذا الجزع والفزع، ونحن
يلزمنا أن نفعل مثل هذا، ونحن عاصون جافون، سيدي أبوك الحسين
بن علي، وأمك فاطمة الزهراء، وجدك رسول الله. قال: فالتفت إلى وقال:
هيهات هيهات يا طاووس دع عني حديث أبي وأمي وجدي، خلق الله الجنة لمن
أطاعه وأحسن ولو كان عبدا حبشيا، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولدا قرشيا،
أما سمعت قوله تعالى: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا
يتسائلون) والله لا ينفعك غدا إلا تقدمة تقدمها من عمل صالح.
وحدث (الكليني) في أصول الكافي، عن أبي حمزة قال: رأيت علي بن

301
الحسين عليه السلام في فناء الكعبة في الليل، وهو يصلي فأطال القيام حتى جعل
مرة يتوكأ على رجله اليمنى، ومرة على رجله اليسرى، ثم سمعته يقول بصوت
كأنه باك:
سيدي تعذبني وحبك في قلبي، أما وعزتك لأن فعلت لتجمعن بيني
وبين قوم طالما عاديتهم فيك.
وفيه أيضا عن أبان بن تغلب، قال قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام إني
رأيت علي بن الحسين عليه السلام إذا قام في الصلاة غشى لونه لون آخر. فقال لي: إن
علي بن الحسين كان يعرف الذي يقوم بين يديه.
وفي أمالي بن بابويه عن أبي حمزة الثمالي. قال: دخلت مسجد
الكوفة فإذا أنا برجل عند الأسطوانة السابعة قائما يصلي يحسن ركوعه وسجوده
فجئت لأنظر إليه فسبقني إلى السجود وهو يقول في سجوده:
اللهم إن كنت قد عصيتك فقد أطعتك في أحب الأشياء إليك، وهو
الإيمان بك، منا منك به على لا مني منا به عليك، ولم أعصك في أبغض الأشياء
إليك لم أدع لك ولدا، ولم أتخذ لك شريكا يمنك على لا منا مني عليك،
وعصيتك في أشياء على غير وجه مكابرة ولا استكبارا عن عبادتك ولا، جحودا
لربوبيتك ولكن اتبعت هواي وأزلني الشيطان بعد الحجة والبيان فإن تعذبني
فبذنبي غير ظالم لي وإن ترحمني فبجودك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
ثم انفتل وخرج من باب كندة، فتبعته حتى أتى مناخ الكلبيين فمر
بأسود فأمره بشئ لم أفهمه. فقلت له: من هذا. فقال: هذا زين العابدين
علي بن الحسين عليه السلام. قال: فقلت جعلت فداك ما أقدمك هذا الموضع.
فقال: الذي رأيت.
وفي (كشف الغمة) عن الحافظ بن عبد العزيز بن الأخضر الجنابذي

302
عن يوسف بن أسباط، قال: حدثني أبي. قال: دخلت مسجد الكوفة فإذا
شاب يناجي ربه وهو يقول في سجوده: وجهي متعفر في التراب لخالقي
وحق له. فقمت إليه فإذا هو علي بن الحسين، فلما انفجر الفجر نهضت
إليه فقلت له: يا بن رسول الله تعذب نفسك وقد فضلك الله بما فضلك. فبكى،
ثم قال: حدثني عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد. قال: قال رسول الله (ص)
(كل عين باكية يوم القيامة إلا أربعة:
عين بكت من خشية الله تعالى.
وعين فقئت في سبيل الله تعالى.
وعين غضت عن محارم الله تعالى.
وعين باتت ساهرة ساجدة يباهي الله الملائكة. يقول: أنظروا إلى عبدي
روحه عندي وجسده في طاعتي قد جافى بدنه عن المضاجع يدعوني خوفا من
عذابي وطمعا في رحمتي، اشهدوا أني قد غفرت له).
وفي البحار نقلا عن كتاب (فتح الأبواب في الاستخارة) للسيد علي بن طاووس الحسيني
بإسناده عن الزهري: قال: دخلت مع علي بن الحسين عليه السلام على عبد الملك بن
مروان (لع) فاستعظم عبد الملك ما رأى من أثر السجود
بين عينيه عليه السلام فقال عبد الملك: يا أبا محمد بين عليك الاجتهاد، ولقد سبق لك
من الله الحسنى، وأنت بضعة من رسول الله (ص) قريب النسب وكيد السبب
وإنك لذو فضل على أهل بيتك وذوي عصرك، ولقد أوتيت من الفضل والعلم
والدين والورع ما لم يؤته أحد مثلك ولا قبلك إلا من سلفك، وأقبل يثني
عليه ويطريه.
فقال له علي بن الحسين عليه السلام: كلما ذكرت ووصفت هو من فضل الله

303
سبحانه على وتأييده وتوفيقه. فأين شكره على ما أنعم.
كان رسول الله (ص) يقف في الصلاة حتى تورم قدماه ويظمأ في الصيام
حتى يعطب فوه فقيل له يا رسول الله: ألم يغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما
تأخر. فقال: أفلا أكون عبدا شكورا: الحمد لله على ما أولى وأبلى،
وله الحمد في الآخرة والأولى، والله لو تقطعت أعضائي وسالت مقلتاي على
صدري لن أقوم لله عز وجل بشكر عشر العشر من نعمة واحدة من جميع نعمه
التي لا يحصيها العادون ولا يبلغ حمد نعمة منها على جميع حمد الحامدون، لا والله
أو يراني الله لا يشغلني شئ عن شكره وذكره في ليل ولا نهار ولا علانية،
ولولا أن لأهلي على حقا ولسائر الناس من خاصهم وعامهم على حقوقا لا يسعني
إلا القيام بها حسب الوسع والطاقة حتى أو أديها إليهم لرميت بطرفي إلى السماء
وبقلبي إلى الله ثم لم أرددها حتى يقضي الله على نفسي وهو خير الحاكمين،
وبكى (عليه السلام) وبكى عبد الملك وقال: شتان بين عبد طلب
الآخرة وسعى لها سعيها، وبين من طلب الدنيا من أين جاءته ما له في الآخرة
من خلاق.
وقال ابن حجر في صواعقه: (إن زين العابدين هو الذي خلف أباه
علما وزهدا وعبادة).
وعن أبي حمزة الثمالي قال: كان علي بن الحسين عليه السلام يصلي في اليوم
والليلة ألف ركعة، وكان عظيم التجاوز والعفو والصفح، ولقد سئلت عنه
جاريته فقالت: أطنب أم أختصر. فقلت اختصري. قالت: ما فرشت له ليلا
فراش، ولا أتيت له بطعام نهارا قط. وكان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة
عند كل نخلة ركعتان، وكانت الريح تميله مثل السنبلة.
وعن الباقر عليه السلام قال: لقد بلغ أبي زين العابدين عليه السلام في العبادة ما لم

304
يبلغه أحد، دخلت عليه يوما فرأيته قد اصفر لونه من السهر ورمصت عيناه
من البكاء ودبرت جبهته من السجود وتورمت قدماه من القيام في الصلاة، فلم
أملك نفسي حين رأيته بتلك الحالة، فبكيت رحمة له. وإذا هو يتفكر
فالتفت إلى بعد هنيئة. فقال: يا بني أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة
علي بن أبي طالب (عليه السلام) فأعطيته فقرأها يسيرا ثم تركها من يده
متضجرا، وقال: من يقدر على عبادة علي بن أبي طالب عليه السلام. وكان (عليه السلام)
يتعب نفسه في العبادة ويجتهد جهدا عظيما حتى خافوا عليه من التلف، ورقت
له القلوب، وكانوا يتأسفون عليه غاية الأسف، وأقبلوا يمنعونه ويحذرونه
لأجل ذلك لما يجدونه منه من الضعف والانكسار، وألحوا عليه في تخفيف
العبادة والبكاء ترحما على نفسه وعلى جميع أرحامه وأقاربه روحي له الفداء.
يحدثنا المجلسي في (البحار): إن فاطمة بنت الحسين عليه السلام أتت إلى
جابر بن عبد الله فقالت له: يا صاحب رسول الله إن لنا عليكم حقوقا، ومن
حقنا عليكم أن إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه اجتهادا أن تذكروه الله على نفسه
وتدعوه إلى البقيا على نفسه، وهذا علي بن الحسين بقية أبيه الحسين قد انخرم
أنفه وثفنت جبهته وورمت ركبتاه وراحتاه، أذاب نفسه في العبادة. فأتى جابر
إليه عليه السلام. قال جابر: فأتيت إلى بابه واستأذنت عليه، فلما دخلت عليه وجدته
وقد أضنته العبادة، جالسا في محرابه، فنهض الإمام عليه السلام وأجلسه بجنبه
وسأله عن حاله سؤالا خفيفا، ثم أقبل جابر يقول: بابن رسول الله أما
علمت أن الله خلق الجنة لكم ولمن أحبكم، وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم
فما هذا الجهد الذي كلفته نفسك. فقال له علي بن الحسين عليه السلام يا صاحب
رسول الله أما علمت أن جدي رسول الله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما

305
تأخر، فلم يذر الاجتهاد له، وتعبد هو بأبي وأمي حتى انتفخ، الساق وورم
القدم، وقيل له أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر،
فقال: أفلا أكون عبدا شكورا. فلما نظر إليه جابر وليس يغني فيه قول
قال: يا بن رسول الله البقيا على نفسك فإنك من أسرة بهم يستدفع البلاء
ويستكشف الضر، وبهم تمسك السماء أن تقع على الأرض.
فقال: عليه السلام: يا جابر لا أزال على منهاج أبوي (عليهما السلام) متأسيا بهما حتى
ألقاهما. فأقبل جابر على من حضر فقال لهم: ما أرى في أولاد الأنبياء مثل
علي بن الحسين عليه السلام).
وفي البحار أيضا: ذكر محمد بن أبي عبد الله (وهو من رواة أصحابنا)
في أماليه عن عيسى بن جعفر عن العباس بن أيوب عن أبي بكر الكوفي عن
حماد بن حبيب العطار الكوفي، قال: (خرجنا حجاجا فرحلنا من زبالة ليلا
فاستقبلتنا ريح سوداء مظلمة فتقطعت القافلة فتهت في تلك الصحراء والبراري
فانتهيت إلى واد ففر فلما جن الليل لجئت إلى شجرة عالية، فلما أن اختلط
على الظلام إذا أنا بشاب قد أقبل، عليه أطمار بيض تفوح منه رائحة المسك،
فقلت في نفسي هذا من أولياء الله متى أحس بحركتي خشيت نفاره، وأن
أمنعه عن كثير ما يريد فعاله، فأخفيت نفسي ما استطعت، فدنا إلى الموضع
فتهيأ للصلاة ثم وثب قائما وهو يقول:
يا من حاز كل شئ ملكوته، وقهر كل شئ جبروته، أولج قلبي
فرح الإقبال، وألحقني بميدان المطيعين لك.
قال: ثم دخل في الصلاة، فلما أن رأيته قد هدأت أعظاؤه وسكنت
حركاته، قمت إلى الوضوء تهيأ للصلاة، ثم قمت خلفه فإذا أنا بمحراب كأنه
مثل في ذلك الوقت، فرأيت كلما مر بآية فيها ذكر الوعيد يرددها بانتحاب

306
فلما أن ارتفع الظلام وثب قائما وهو يقول:
يا من قصده الطالبون فأصابوه مرشدا، وأمه الخائفون فوجدوه معقلا،
ولجأ إليه العائذون فوجدوه موئلا، متى راحة من نصب لغيرك بدنه، ومتى
فرج من قصده غير همته.
إلهي قد تقشع الظلام ولم أقضي من خدمتك وطرا، ولا من حياض
مناجاتك صدرا، صلى على محمد وآل محمد وافعل بي أولى الأمرين بك يا أرحم الراحمين
قال: فخفت أن يفوتني شخصه، وأن يخفى علي أثره، فتعلقت به
وقلت بالذي أسقط عنك ملال التعب، ومنحك شدة الشوق لمزيد الرغب،
إلا لحقتني منك جناح رحمة، وكنف رقة فإني، ضال.
فقال له: لو صدقت وتوكلت ما كنت ضالا، ولكن اتبعني واقتف
أثرى، فلما أن صار بجنب الشجرة أخذ بيدي فخيل إلى أن الأرض تميد من
تحت قدمي، فلما انفجر عمود الصبح قال لي: إبشر فهذه مكة. قال فقلت
بالذي ترجوه يوم الآزفة ويوم الفاقة من أنت. فقال لي: أما إذا أقسمت
فأنا علي بن الحسين بن علي أبي طالب (عليهم السلام).

307
حق الحج

309
قوله عليه السلام:
(وحق الحج أن تعلم أنه وفادة إلى ربك، وفرار
إليه من ذنوبك، وبه قبول توبتك، وقضاء الفرض الذي
أوجبه الله عليك).
* * *
انتهى الدرس الماضي بتصوير مشروعية الصلاة، وبهذه النهاية يتصل
الدرس الجديد فيتحدث عن مشروعية الحج:
وأذكر أني تحدثت في الحلقة الثانية من كتابي (الجواهر الروحية)
عن الحج وفلسفته، وحاجة النفس البشرية إلى هذا اللون من الشعائر الظاهرة
في العبادات الإسلامية.
ونعود الآن ثانية فنقول:
أدرك العقل السليم أن الحج - وهو الركن الرابع للإسلام - جمع من
المزايا ما ليس في غيره من العبادات، ذلك لأن وجوب أي عبادة على العبد
أما أن تكون حقا للعبودية، أو شكرا لنعم الله عليه. وفي عبادة الحج إظهار
العبودية وشكر النعمة.
فدليل الأول:
هو أمر العبد بترك الرفاهية، وإظهار الشعث وإلغاء النفث، ووجود
الإنسان على حالة خضوع وذلة في مثل حالة الاحرام.

311
هو أن بعض العبادات بدنية، وبعضها مالية، وعبادة جمعت بينهما،
فإن فريضة الحج لم تجب على الشخص المكلف إلا عند وجود المال الكافي وصحة
البدن وأمن السرب، ومن هنا كان في أداء الحج شكر النعمتين.
ولما كانت أعمال الحج تؤدى مع عناء ومشقة لبعد الشقة وعظم المسافة،
وخاصة إذا نأت الجهات عن أما كنه المقدسة. فرضه الله تعالى مرة في العمر على
كل فرد من عباده المسلمين ذكرا كان أو أنثى، متى استطاع أن يؤديه.
قال رسول الله (ص): (الحج مرة واحدة فمن زاد فهو تطوع).
وللحج فوائد دينية واجتماعية وخلقية. تعود بحسن العاقبة على سائر
الشعوب الإسلامية.
فهو عبادة تتطلب السفر، فيشاهد المسافر في رحلته إلى تلك البقاع
الطاهرة أماكن مقدسة وآثار مباركة، تملأ القلوب إيمانا ويقينا.
والحج سبيل التعارف والتآلف والتعاون، وتوثيق العلاقات والروابط
والصلات بين سائر الشعوب الإسلامية فتأتلف قلوبهم، وتتحد كلمتهم فيعملون
ما يصلح شأنهم، ويقوم ما اعوج من أمرهم.
يقول الله تعالى: (ليشهدوا منافع لهم). والمنافع التي يشهدها الحجيج
كثيرة:
فالحج موسم ومؤتمر. الحج موسم تجارة وموسم عبادة. والحج مؤتمر
اجتماع وتعارف، ومؤتمر تنسيق وتعاون.
وهو الفريضة التي تلتقي فيها الدنيا والآخرة كما تلتقي فيها ذكريات
العقيدة البعيدة والقريبة.. أصحاب السلع والتجارة يجدون في موسم الحج

312
سوقا رائجة، حيث تجبى إلى البلد الحرام ثمرات كل شئ. من أطراف
الأرض. ويقدم الحجيج من كل فج ومن كل قطر. ومعهم من خيرات
بلادهم ما تفرق في أرجاء الأرض في شتى المواسم. يتجمع كله في البلد الحرام
في موسم واحد. فهو موسم تجارة، ومعرض نتاج، وسوق عالمية تقام في كل
عام. وهو موسم عبادة تصفو فيه الأرواح، وهي تستشعر قربها من الله في بيته
الحرام.
وهي ترف حول هذا البيت وتستروح الذكريات التي تحوم عليه وترف
كالأطياف من قريب ومن بعيد..
طيف إبراهيم الخليل (عليه السلام) وهو يودع البيت فلذة كبده إسماعيل
وأمه، ويتوجه بقلبه الخافق الواجف إلى ربه: (ربنا إني أسكنت من ذريتي
بواد غير زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة، فاجعل أفئدة من
الناس تهوي إليهم، وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون).
وطيف هاجر، وهي تستروح الماء لنفسها ولطفلها الرضيع في تلك الحرة
الملتهبة حول البيت، وهي تهرول بين الصفا والمروة وقد نهكها العطش، وهدها
الجهد وأضناها الاشفاق على الطفل.. ثم ترجع في الجولة السابقة وقد حطمها
اليأس لتجد النبع يتدفق بين يدي الرضيع الوضئ. وإذا هي زمزم، ينبوع
الرحمة في حصراء اليأس والجدب.
وطيف إبراهيم (عليه السلام) وهو يرى الرؤيا، فلا يتردد في التضحية
بفلذة كبده، ويمضي في الطاعة المؤمنة إلى ذلك الأفق البعيد: (قال: يا بني
إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى) فتجيبه الطاعة الراضية في إسماعيل
(عليه السلام): (قال: يا أبت افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من
الصابرين).. وإذا رحمة الله تتجلى في الفداء: (وناديناه أن يا إبراهيم قد

313
صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزى المحسنين، إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه
بذبح عظيم).
وطيف إبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) يرفعان القواعد من البيت
في إنابة وخشوع: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، ربنا واجعلنا
مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، وأرنا مناسكنا وتب علينا، إنك
أنت التواب الرحيم).
وتظل هذه الأطياف وتلك الذكريات، ترف وتتتابع حتى يلوح طيف
عبد المطلب، وهو ينذر دم ابنه العاشر إن رزقه الله عشرة أبناء، وإذا هو
عبد الله، وإذا عبد المطلب حريصا على الوفاء بالنذر. وإذا قومه من
حوله يعرضون عليه فكرة الفداء، وإذا هو يدير القداح حول الكعبة ويضاعف
الفداء، والقداح يخرج في كل مرة على عبد الله، حتى يبلغ الفداء مئة ناقة
بعد عشر، هي الدية المعروفة. فيقبل منه الفداء، فينحر المئة وينجو عبد الله.
ينجو ليودع رحم آمنة أطهر نطفة وأكرم خلق الله على الله (محمد رسول الله (ص)
ثم يموت فكأنما فداه الله من الذبح لهذا القصد الوحيد الكريم الكبير.
ثم تتواكب الأطراف والذكريات، من محمد رسول الله (ص) وهو يدرج
في طفولته وصباه فوق هذا الثرى، حول هذا البيت... وهو يرفع الحجر
الأسود بيديه الكريمتين فيضعه موضعه ليطفئ الفتنة التي كادت تنشب بين
القبائل.. وهو يصلي ويطوف.. وهو يخطب.. وهو يعتكف.. وإن
خطواته (عليه الصلاة والسلام) لتنبض حية في الخاطر، وتتمثل شاخصة في
الضمير. يكاد الحاج هناك يلمحها وهو مستغرق في تلك الذكريات.. وخطوات
الحشد من صحابته الكرام،. وأطيافهم ترف وتدف فوق هذا الثرى، حول ذلك
البيت، تكاد تسمعها الأذن، وتكاد تراها الأبصار.

314
والحج بعد ذلك كله مؤتمر جامع للمسلمين قاطبة. مؤتمر يجدون
فيه أصلهم العريق الضارب في أعماق الزمن منذ أبيهم إبراهيم الخليل: (ملة
أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا).. ويجدون محورهم
الذي يشدهم جميعا إليه: هذه القبلة التي يتوجهون إليها جميعا ويلتفون عليها
جميعا.. ويجدون رايتهم التي يفيئون إليها. راية العقيدة الواحدة التي
تتوارى في ظلها فوارق الأجناس والألوان والأوطان.. ويجدون قوتهم التي
قد ينسونها حينا. قوة التجمع والتوحد والترابط الذي يضم الملايين. الملايين
التي لا يقف لها أحد لو فاءت إلى رايتها الواحدة التي لا تتعد راية العقيدة والتوحيد
وهو مؤتمر للتعارف والتشاور، وتنسيق الخطط وتوحيد القوى، وتبادل
المنافع والسلع والمعارف والتجارب، وتنظيم ذلك العالم الإسلامي الواحد
الكامل المتكامل مرة في كل عام. في ظل الله. بالقرب من بيت الله. وفي
ظلال الطاعات البعيدة والقريبة، والذكريات الغائبة والحاضرة. في أنسب
مكان، وأنسب جو. وأنسب زمان.
فذلك إذ يقول الله سبحانه: (ليشهدوا منافع لهم)).. كل جيل
بحسب ظروفه وحاجاته وتجاربه ومقتضياته. وذلك بعض ما أراده الله بالحج
يوم أن فرضه على المسلمين، وأمر إبراهيم عليه السلام أن يؤذن به في الناس.
أجل أعود ثانية فأقول: الحج هو اجتماع الألوف المؤلفة من المسلمين
المبعثرين في سائر أرجاء العالم، المختلفين في الأجناس واللغات في بقعة
واحدة، ملبين بالروح والجسم معا، نداء ربهم، وهم من بساطة الملبس،
والتساوي في الدرجات على صورة لا توازيها صورة في أي شرع من الشرايع ولا
مدنية من المدنيات الأرضية. وهم بين أمير ومأمور، وحاكم ومحكوم وعربي
وتركي، وأفغاني وفارسي، وهندي وسوداني، وحبشي وصيني، وأوربي

315
وأوقيانوسي، وبين أبيض ناصع، وأصفر فاقع، وأحمر قاتم، وأسود فاحم
والكل شخوص بالأعين والأفئدة إلى نقطة واحدة ليس في ضمائرهم إلا
موضوع واحد. تركوا الأهل والوطن، وهجروا المال والسكن، خاضوا
غمرات البحار الزاخرة، واقتحموا الصحارى الغامرة، لعبت هوج الرياح
بهم تارة على السفائن، ولفحتهم لوافح السموم طورا في السباسب، خلعوا
عاداتهم وتقاليدهم. وغيروا لباسهم ومآكلهم. وصعدوا وهم على هذه الصورة
التجريدية على سطح جبل يضم أشتاتهم ويلم جمعهم. فماذا يكون من أثر هذا
الموقف المهيب عليهم. وماذا تكون نتيجة هذا المنظر الفخم على أفئدتهم
وأرواحهم؟.
لا شك أن تركز كل تلك الأشعة المنبعثة من صميم معانيهم إلى عرض
واحد ونقطة مشتركة، وهم على هذه الصورة من المساواة والبساطة على قمة ذلك
الجيل الذي وقف عليه قبلهم بناة مجد هذه الأمة الكريمة من الشهداء والصالحين
والعلماء العاملين، والأولياء المقربين، وفوق هؤلاء كلهم خاتم النبيين محمد (ص)
كل ذلك يوحي إلى سرائرهم، وينقش في صميم روعهم ويصور لهم في
لباب فطرهم، حقيقة معنى (الله أكبر) وناهيك برجل يعتقد أن (الله أكبر)
من يعتقد أن الله أكبر، لا يرضح للذل، ولا يستكين للعبودية، ولا
يلين قياده في يد غاشم.
من يعتقد أن الله أكبر، لا يخاف بطش العوادي، ولا يرهب قرع
الحوادث، ولا ترتعد فرائصه من نازلة مهما عظمت.
من يعتقد أن الله أكبر، لا يستعظم الأقوياء ولا يكبر الأعلياء، ولا
يستخذي للكبراء.
من يعتقد أن الله أكبر، لا ينسحر بمدنية، ولا يؤله أي قوة أجنبية

316
ولا ييأس من بلوغ أمته أقصى المكانات العمرانية.
من يعتقد أن الله أكبر، كان رجلا صحيحا، وإنسانا تاما، وفاضلا
صرفا، لأن من يعتقد أن الله أكبر لا يستبد ولا يتكبر ولا يتجبر، ولا يعجب
بنفسه، وهي من كبرى مهلكات الإنسان، ثم لا يسرف لأن باعث الإسراف
حب التفرد، وكيف يتفرد والله أكبر، ولا يقتر لأن موجبه خوف الفقر،
وكيف يخافه والله أكبر.
وصفوة القول أنه لا يقارف دنيئة سواء كانت معنوية أو حسية، لأن مثيرها
إرضاء الهوى، وكيف يرضى هواه من يعتقد أن الله أكبر.
نعم من كان يعتقد أن الله أكبر على هذه الصورة كان مسلما حقا، ولو
قلت: إن الذي سما بهمم آبائنا الأولين، فرفعهم في بضع وعشرين سنة، إلى أعلاء
عليين هو محض اعتقادهم أن الله أكبر، لما كنت مغاليا في المقال، ولا ذاهبا
مذهب الشعر والخيال.
يقولون: إذا كان هذا أثر الحج فأين نحن منه اليوم؟ قلنا إن أركان
الإسلام كلها مرتبطة ببعضها، ولا يغني شئ عن شئ منها، وقد ترك
المسلمون كل تلك الأركان، وبعضهم يأتيها صورة لا حقيقة، فكيف تؤثر
رقهم هذا الأثر الباهر الذي أحدثته في آبائنا الأولين الذين كانوا يراعونها
على حقيقتها؟.
* * *
(لقد بلغ من خوف المؤمنين (من قوم عيسى) من الله أن ابتدعوا في
ديانتهم الانقطاع عن الدنيا وملازمة الصوامع والأديرة، ترهبا إلى الله فأقرهم
الله عليها، لأن القصد منها لم يكن إلا ابتغاء مرضاة الله، ولكنهم لم يراعوا
حقوق هذا الترهب لله بما أدخلوه في ديانتهم من عقائد تتنافى مع الإيمان بالله

317
حيث قال تعالى: (ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه
الإنجيل، وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة، ورهبانية ابتدعوها ما
كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، فما رعوها حق رعايتها، فآتينا الذين
آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون).
ولما جاء الرسول الأعظم محمد (ص) بشريعة الإسلام التي تدعو إلى العمل
وتعتبر كل أعمال الإنسان المشروعة في الحياة عبادة، إذا قصد بها الطاعة ورضاء
الله، وحرم الله على الناس البطالة والكسل والتسول والاستجداء إن كانوا
قادرين على العمل. أراد سبحانه وتعالى أن لا يحرمهم من عمل يحصلون به على
الثواب، ثواب الرهبانية خلال فترات قصيرة، فدعاهم إلى الحج، إلى بيته
الحرام، وصاغه في قالب يقضي به الإنسان على شهوات النفس، ويوجهها إلى
طاعة الله ابتغاء مرضاة الله، إذ فيه أتعاب للجسم، وتقشف في المظهر، وكف
عن الزينة، وصبر عن الشهوة الجنسية.
وفيه بذل للمال الذي هو أغلا شئ عند الإنسان في الحياة بغير مقابل
إلا رضاء الله، وفيه منتهى الطاعة والانقياد بإقامة شعائر لا يدرك غالبا كنهها
ولا يعلم أسرارها، بل ربما كان في إتيانها ما يدعو إلى الاستغراب لو لم يكن
بأمر رب العالمين.
فالحج بهذا الاعتبار رهبانية حقة لله، لأنه يقضي على روح التمرد في
ابن آدم عن تقي وطاعة، وإذعان لله بالعظمة والسيادة، إذ يقف المسلم إلى
جانب من هو أرفع منه مقاما وأكثر مالا، بزي واحد من غير تفريق في
صعيد واحد (هو جبل عرفات) في موقف تتجلى فيه العبودية لله بأقصى معانيها
يلهجون إليه بالتلبية والدعوات بمختلف اللغات، ويسألونه الرحمة والغفران
وقضاء الحاجات، وينفذون من المناسك ما لا يفقهون لفعلها معنى سوى الطاعات

318
وإن كان في مناسكها من المرامي الاجتماعية والأهداف السامية ما لا يخفى على
المتأملين، إذ هي تهيئ للمسلمين سبل التعارف في كثير من المواضع وأضيق
الجهات، وهو ما دعا إليه الله بقوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقنا كم من
ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا).
فاعتكاف دائم بالمسجد الحرام، واتصال مستمر عند الطواف بالبيت وعند
السعي فيها بين الصفا والمروة، واجتماع كلي في صعيد واحد خال من البناء
حول جبل عرفات، إلى مثله أيضا ليلة واحدة في مزدلفة، حيث المشعر
الحرام، إلى مثله في منى ثلاثة أيام يلتقون خلالها ذهابا وإيابا عند رمي الجمار
وكل هذا من شأنه أن يوجد الألفة ويحكم روابط الأخوة بين المسلمين وييسر
لهم طرق التفاهم في الرأي والتعاون في الأعمال الصالحة، وتوحيد الثقافة وتبادل
المصالح والمنافع. وفي هذا يقول تعالى: (وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا
وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله
في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير)
من أجل هذا شرع الله الحج. وقال عنه رسول الله (ص): (تابعوا
بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب
والفضة، وليس لحجة مبرورة ثواب إلا الجنة). وفي حديث آخر (من حج
فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه). (1)
ومن طريق أهل البيت (عليهم السلام) في الموضوع أحاديث متوفرة منها:
(قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: (الحج والعمرة سوقان من أسواق الآخرة
اللازم لهما من أضياف الله إن أبقاه أبقاه ولا ذنب له وإن أماته أدخله الجنة).
وقال الصادق عليه السلام: (إن لله تعالى حول الكعبة عشرين وماءة رحمة، منها



(1) أسمى الرسالات.
319
ستون للطائفين وأربعون للمصلين وعشرون للناظرين) وقال على أمير المؤمنين عليه السلام
(ما من مهل يهل في التلبية إلا أهل من عن يمينه من شئ إلى مقطع التراب،
ومن عن يساره إلى مقطع التراب، وقال له الملكان إبشر يا عبد الله، وما
يبشر الله، عبدا إلا بالجنة، ومن لبى في إحرامه سبعين مرة إيمانا واحتسابا
أشهد الله له ألف من الملائكة ببراءة من النار وبراءة من النفاق، ومن انتهى
إلى الحرم فنزل واغتسل وأخذ نعليه بيده ثم دخل الحرم حافيا تواضعا لله محا
الله عنه ماءة ألف سيئة، وكتب له ماءة ألف حسنة، وبنى له ماءة ألف درجة
وقضى له ماءة ألف حاجة، ومن دخله بسكينة غفر الله له ذنبه، وهو أن
يدخلها غير متكبر ولا متجبر، ومن دخل المسجد حافيا بسكينة ووقار وخشوع
غفر الله له، ومن نظر الكعبة عارفا بحقها غفر الله له ذنوبه وكفى ما أهمه).
وروى الحسن بن محبوب عن علي بن رئاب عن محمد بن قيس قال: سمعت
أبا جعفر عليه السلام يحدث الناس بمكة. قال عليه السلام: (صلى رسول الله (ص)
بأصحابه الفجر ثم جلس معهم يحدثهم حتى طلعت الشمس، فجعل يقوم الرجل بعد
الرجل حتى لم يبق معه إلا رجلان أنصاري وثقيفي، فقال لهما رسول الله (ص):
قد علمت أن لكما حاجة تريدان أن تسألاني عنها فإن شئتما أخبرتكما
بحاجتكما قبل أن تسألاني، وإن شئتما فاسألاني. فقالا بل تخبرنا أنت
يا رسول الله فإن ذلك أجلى للعمى وأبعد من الارتياب وأثبت للإيمان. فقال
النبي (ص): أما أنت يا أخا الأنصار فإنك من قوم يؤثرون على أنفسهم،
وأنت قروي وهذا الثقفي بدوي أفتؤثره بالمسألة. قال نعم. قال: أما أنت
يا أخا ثقيف فإنك جئتني تسألني عن وضوئك وصلاتك ومالك فيها، فاعلم أنك
إذا ضربت يدك في الماء وقلت بسم الله الرحمن الرحيم تناثرت الذنوب التي
اكتسبتها يداك، فإذا غسلت وجهك تناثرت الذنوب التي اكتسبتها عيناك بنظر هما

320
وفوك بلفظه، فإذا غسلت ذراعيك تناثرت الذنوب عن يمينك وشمالك، فإذا
مسحت رأسك وقدميك تناثرت الذنوب التي مشيت إليها على قدميك، فهذا
لك في وضوئك، فإذا قمت إلى الصلاة وتوجهت وقرأت أم الكتاب وما تيسر
لك من السور، ثم ركعت فأتممت ركوعها وسجودها وتشهدت وسلمت غفر
لك كل ذنب فيما بينك وبين الصلاة التي قدمتها إلى الصلاة المؤخرة، فهذا
لك في صلاتك ووضوئك. وأما أنت يا أخا الأنصار فإنك جئت تسألني عن
حجك وعمرتك، ومالك فيهما من الثواب، فاعلم أنك إذا توجهت إلى سبيل
الحج ثم ركبت راحلتك لم تضع راحلتك خفا ولم ترفع خفا إلا كتب الله لك
حسنة ومحا عنك سيئة، فإذا أحرمت ولبيت كتب الله لك بكل تلبية عشر
حسنات ومحا عنك عشر سيئات، فإذا طفت بالبيت أسبوعا كان لك بذلك عند
الله عهد وذكر يستحي منك ربك أن يعذبك بعد، فإذا صليت عند المقام
ركعتين كتب الله لك بهما ألفي ركعة مقبولة، وإذا سعيت بين الصفا والمروة
سبعة أشواط كان لك بذلك عند الله مثل أجر من حج ماشيا من بلاده، ومثل
أجر من أعتق سبعين رقبة، وإذا وقفت بعرفات إلى غروب الشمس فلو كان
عليك من الذنوب مثل رمل عالج وزبد البحر ليغفره الله لك، فإذا رميت الجمار
كتب الله لك لكل حصاة عشر حسنات فيما تستقبل من عمرك، فإذا
طفت بالبيت أسبوعا للزيارة وصليت عند المقام ركعتين ضرب ملك كريم على
كتفيك فقال: أما ما مضى فقد غفر لك فاستأنف العمل فيما بينك وبين
عشرين ماءة يوم). (1)
ولقد كان من سنة السلف أن أحدهم إذا قضى مناسكه أسند ظهره إلى



(1) وسائل الشيعة
321
الكعبة وقال مودعا للبيت: (ما زلنا نحل إليك عروة ونشد إليك أخرى،
ونصعد لك أكمة ونهبط أخرى، وتخفضنا أرض وترفعنا أخرى، حتى
أتيناك، فليت شعري بم يكون منصرفنا أبذنب مغفور فأعظم بها من نعمة،
أم بعمل مردود فأعظم بها من مصيبة، فيا من له خرجنا وإليه قصدنا وبحرمه
أنخنا، إرحم يا معطي الوفد بفناك فقد أتيناك بها معراة جلودها ذابلة أسنمتها
نقبة أخفافها، وإن أعظم الرزية أن نرجع وقد اكتنفتنا الخيبة، اللهم وأن
للزائرين حقا فاجعل حقنا عليك غفران ذنوبنا، فإنك جواد كريم ماجد
لا ينقصك نائل ولا يبخلك سائل).

322
حق الصوم

323
قوله عليه السلام:
(وحق الصوم أن تعلم أنه حجاب ضربه الله على
لسانك وسمعك وبصرك وبطنك وفرجك ليسترك به من النار
فإن تركت الصوم خرقت ستر الله عليك. وهكذا جاء في
الحديث الصوم جنة من النار، فإن سكنت أطرافك في حجبتها
رجوت أن تكون محجوبا، وإن أنت تركتها تضطرب في
حجابها وترفع جنبات الحجاب، فتطلع إلى ما ليس بالنظرة
الداعية للشهوة والقوة الخارجة عن حد التقية لله، لم تأمن
أن تخرق الحجاب وتخرج منه).
* * *
كان الدرس السابق استطرادا عما كلفت به هذه الأمة المسلمة من صلاة،
وحج، وما كتب عليها من تضحيات للقيام بهذه التكاليف.
ونحن الآن في هذا الدرس الجديد نتابع ذلك الاستطراد.
نحن الآن أمام حديث الصوم وما رسمه من فوائد مادية وروحية...
* * *
(لم أقرأ لأحد قولا شافيا في فلسفة الصوم وحكمته، أما منفعته للجسم
وأنه نوع من الطب له، وباب من السياسة في تدبيره، فقد فرغ الأطباء من

325
تحقيق القول في ذلك، وكأن أيام هذا الشهر المبارك إن هي إلا ثلاثون حبة
تؤخذ في كل سنة مرة، لتقوية المعدة وتصفية الدم وحياطة أنسجة الجسم.
ولكنا الآن لسنا بصدد من هذا، وإنما نستوحي تلك الحقيقة الإسلامية
الكبرى التي شرعت هذا الشرع لسياسة الحقائق الأرضية الصغيرة. عاملة على
استمرار الفكرة الإنسانية فيها، كي لا تتبدل النفس على تغير الحوادث وتبدلها
ولكيلا تجهل الدنيا معاني الترقيع إذا أتت على هذه الدنيا معاني التمرين.
من معجزات القرآن الكريم أنه يدخر في الألفاظ المعروفة في كل زمن،
حقائق غير معروفة لكل زمن، فيجليها لوقتها حين يضج الزمان العلمي في
متاهته وحيرته، فيشغب على التاريخ وأهله مستخفا بالأديان، ويذهب يتبع
الحقائق ويستقصي في فنون المعرفة، ليستخلص من بين كفر وإيمان دينا
طبيعيا سائغا، يتناول الحياة أول ما يتناول فيضبطها بأسرار العلم، ويوجهها
بالعلم إلى غايتها الصحيحة، ويضاعف قواها بأساليبه الطبيعية، ليحقق في
إنسانية العالم هذه الشيئية المجهولة التي تتوهما المذاهب الاجتماعية ولم يهتد
إليها مذهب منها ولا قاربها، فما برحت سعادة الاجتماع كالتجربة العلمية بين
أيدي علمائها: لم يحققوها ولم ييأسوا منها، وبقيت تلك المذاهب كعقارب
الساعة في دورتها: تبدأ من حيث تبدأ، ثم لا تنتهي إلا إلى حيث تبدأ...
* * *
يضطرب الاشتراكيون في أوربا وقد عجزوا عجز من يحاول تغيير الإنسان
بزيادة ونقص في أعصابه، ولا يزال مذهبهم في الدنيا مذهب كتب ورسائل،
ولو أنهم تدبروا حكمة الصوم في الإسلام، لرأوا هذا الشهر نظاما عمليا من
أقوى وأبدع الأنظمة الاشتراكية الصحيحة، فهذا الصوم فقر إجباري تفرضه
الشريعة على الناس فرضا ليتساوى الجميع في بواطنهم،
سواء منهم من ملك

326
المليون من الدنانير، ومن ملك الدرهم الواحد، ومن لم يملك شيئا، كما
يتساوى الناس جميعا في ذهاب كبريائهم الإنسانية بالصلاة التي يفرضها الإسلام
على كل مسلم، وفي ذهاب تفاوتهم الاجتماعي بالحج الذي يفرضه على من
استطاع.
فقر إجباري يراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل
الوضوح، أن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها، وأنها إنما تكون على أتمها
حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون، وحين يتعاطفون بإحساس
الألم الواحد لاحين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة.
ولو حققت رأيت الناس لا يختلفون في الإنسانية بعقولهم، ولا بأنسابهم
ولا بمراتبهم، ولا بما ملكوا، وإنما يختلفون ببطونهم وأحكام هذه البطون
على العقل والعاطفة، فمن البطن نكبة الإنسانية، وهو العقل العملي وعلى
الأرض، وإذا اختلف البطن والدماغ في ضرورة، مد البطن مدة من قوى
الهضم فلم يبق ولم يذر.
ومن ههنا يتناوله الصوم بالتهذيب والتأديب والتدريب، ويجعل الناس
فيه سواء: ليس لجميعهم إلا شعور واحد وحس واحد وطبيعة واحدة، ويحكم
الأمر فيحول بين هذا البطن وبين المادة، ويبالغ في إحكامه فيمسك حواشيه
العصبية في الجسم كله يمنعها تغذيتها ولذتها حتى نفثة من دخينة.
وبهذا يضع الإنسانية كلها في حالة نفسية واحدة تتلبس بها النفس في
مشارق الأرض ومغاربها، وينطلق في هذه الإنسانية كلها صوت الروح يعلم
الرحمة ويدعو إليها، فيشبع فيها بهذا الجوع فكرة معينة هي كل ما في مذهب
الاشتراكية من الحق، وهي تلك الفكرة التي يكون عنها مساواة الغني للفقير
من طبيعته، واطمئنان الفقير إلى الغني بطبيعته، ومن هذين (الاطمئنان

327
والمساواة) يكون هدوء الحياة بهدوء النفسين اللتين هما السلب والإيجاب في
هذا الاجتماع الإنساني، وإذا أنت نزعت هذه الفكرة من الاشتراكية بقي
هذا المذهب كله عبثا من العبث في محاولة جعل التاريخ الإنساني تاريخا لا طبيعة
له.
* * *
من قواعد النفس أن الرحمة تنشأ عن الألم، وهذا بعض السر الاجتماعي
العظيم في الصوم، إذ يبالغ أشد المبالغة، ويدقق كل التدقيق، في منع الغذاء
وشبه الغذاء عن البطن وحواشيه مدة آخرها آخر الطاقة، فهذه طريقة عملية لتربية
الرحمة في النفس، ولا طريقة غيرها إلا النكبات والكوارث، فهما طريقتان كما ترى
مبصرة وعمياء، وخاصة وعامة، وعلى نظام وعلى فجأة. ومتى تحققت رحمة
الجائع الغني للجائع الفقير، أصبح للكلمة الإنسانية الداخلية سلطانها النافذ،
وحكم الوازع النفسي على المادة، فيسمع الغني في ضميره صوت الفقير يقول
(أعطني) ثم لا يسمع منه طلبا من الرجاء، بل طلبا من الأمر لا مفر من
تلبيته والاستجابة لمعانيه، كما يواسي المبتلي من كان في مثل بلائه.
أية معجزة إصلاحية أعجب من هذه المعجزة الإسلامية التي تقضي أن
يحذف من الإنسانية كلها تاريخ البطن ثلاثين يوما في كل سنة، ليحل في محله
تاريخ النفس، وأنا مستيقن أن هناك نسبة رياضية هي الحكمة في جعل هذا
الصوم شهرا كاملا من كل اثني عشر شهرا، وأن هذه النسبة متحققة في أعمال
النفس للجسم، وأعمال الجسم للنفس، كأنه الشهر الصحي الذي يفرضه الطب
في كل سنة للراحة والاستجمام وتغيير المعيشة، لا حداث الترميم العصبي في
الجسم، ولعل ذلك آت من العلاقة بين دورة الدم في الجسم الإنساني وبين القمر
منذ يكون هلالا إلى أن يدخل في المحاق، إذ تنتفخ العروق وتربو في النصف

328
الأول من الشهر، كأنها في (مد) من نور القمر ما دام هذا النور إلى زيادة،
ثم يراجعها (الجزر) في النصف الثاني حتى كأن للدم إضاءة وظلاما، وإذا
ثبت أن للقمر أثرا في الأمراض العصبية وفي مد الدم وجزرة (1) فهذا من
أعجب الحكمة في أن يكون الصيام شهرا قمريا دون غيره. وفي ترائي الهلال
ووجوب الصوم لرؤيته معنى دقيق آخر، وهو - مع إثبات رؤية الهلال
وإعلانها - إثبات الإرادة وإعلانها، كأنما انبعث أول الشعاع السماوي في
التنبه الإنساني العام لفروض الرحمة والإنسانية والبر.
وهنا حكمة كبيرة من حكم الصوم، وهو عمله في تربية الإرادة وتقويتها
بهذا الأسلوب العملي الذي يدرب الصائم على أن يمتنع باختياره من شهواته
ولذة حيوانيته، ويبقيه مصرا على الامتناع، مهيئا له بعزيمته، صابرا عليه
بأخلاق الصبر، مزاولا في كل ذلك أفضل طريقة نفسية لاكتساب الفكرة
الثابتة ترسخ لا تتغير ولا تتحول، ولا تعدو عليها عوادي الغريزة.
وإدراك هذه القوة من الإرادة العملية منزلة اجتماعية سامية، هي في
الإنسانية فوق منزلة الذكاء والعلم، ففي هذين تعرض الفكرة مارة مرورها،
ولكنها في الإرادة تعرض لتستقر وتتحقق، فانظر في أي قانون من القوانين،
وفي أية أمة من الأمم، تجد ثلاثين يوما من كل سنة قد فرضت فرضا لتربية
إرادة الشعب ومزاولته فكرة نفسية واحدة بخصائصها وملابساتها حتى تستقر
وترسخ وتعود جزءا من عمل الإنسان، لا خيالا يمر برأسه مرا.
أليست هذه هي إتاحة الفرصة العملية التي جعلوها أساسا في تكوين
الإرادة وهل تبلغ الإرادة فيما تبلغ أعلى من منزلتها حين تجعل شهوات



(1) قال الجاحظ في الحيوان: ولزيادة القمر حتى يصير بدرا: أثر
بين في زيادة الدماء والأدمغة وجميع الرطوبات.
329
المرء مذعنة لفكرة، منقادة للوازع النفسي فيه، مصرفة بالحس الديني
المسيطر على النفس ومشاعرها، أما والله لو عم هذا الصوم الإسلامي أهل الأرض
جميعا، لآل معناه أن يكون إجماعا من الإنسانية كلها على إعلان الثورة شهرا
كاملا في السنة لتطهير العالم من رذائله وفساده، ومحق الأثرة والبخل فيه،
وطرح المسألة النفسية ليتدارسها أهل الأرض دراسة عملية مدة هذا الشهر بطوله
فيهبط كل رجل وكل امرأة إلى أعماق نفسه ومكامنها، ليختبر في مصنع فكره
معنى الحاجة ومعنى الفقر، وليفهم في طبيعة جسمه - لا في الكتب - معاني الصبر والثبات
والإرادة، وليبلغ من ذلك وذلك درجات الإنسانية والمواساة والإحسان،
فيحقق بهذه وتلك معاني الإخاء والحرية والمساواة.
شهر هو أيام قلبية في الزمن، متى أشرفت على الدنيا قال الزمن لأهله
هذه أيام من أنفسكم لا من أيامي، ومن طبيعتكم لا من طبيعتي، فيقبل العالم
كله على حالة نفسية بالغة السمو، يتعهد فيها النفس برياضتها على معالي
الأمور ومكارم الأخلاق، ويفهم الحياة على وجه آخر غير وجهها الكالح ويراها
كأنما أجيعت من طعامها اليومي كما جاع هو، وكأنما أفرغت من خسائسها
وشهواتها كما فرغ هو، وكأنما ألزمت معاني التقوى كما ألزمها هو. وما
أجمل وأبدع أن تظهر الحياة في العالم كله - ولو يوما واحدا - حاملة في يدها
السبحة.! فكيف بها على ذلك شهرا من كل سنة؟
إنها والله طريقة عملية لرسوخ فكرة الخير والحق في النفس، وتطهير
الاجتماع من خسائس العقل المادي، ورد هذه الطبيعة الحيوانية المحكومة في
ظاهرها بالقوانين، والمحررة من القوانين في باطنها - إلى قانون من باطن
نفسها يطهر مشاعرها، ويسمو بإحساسها، ويصرفها إلى معاني إنسانيتها،
ويهذب من زياداتها ويحذف كثيرا من فضولها، حتى يرجع بها إلى نحو من

330
براءة الطفولة، فيجعلها صافية مشرقة بما يجتذب إليها من معاني الخير
والصفاء والاشراق، إذ كان من عمل الفكرة الثابتة في النفس أن تدعو إليها
ما يلائمها ويتصل بطبيعتها من الفكر الأخرى، والنفس في هذا الشهر محتسبة
في فكرة الخير وحدها، فهي تبني بناءها من ذلك ما استطاعت.
هذا على الحقيقة ليس شهرا من الأشهر بل هو فصل نفساني كفصول
الطبيعة في دورانها، ولهو والله أشبه بفصل الشتاء في حلوله على الدنيا بالجو
الذي من طبيعته السحب والغيث، ومن عمله إمداد الحياة بوسائل لها ما بعدها
إلى آخر السنة، ومن رياضته أن يكسبها الصلابة والانكماش والخفة، ومن
غايته إعداد الطبيعة للتفتح عن جمال باطنها في الربيع الذي يتلوه.
وعجيب جدا أن هذا الشهر الذي يدخر فيه الجسم من قواه المعنوية
فيودعها مصرف روحانيته، ليجد منها عند الشدائد مدد الصبر والثبات والعزم
والجلد والخشونة، عجيب جدا أن هذا الشهر الاقتصادي هو من أيام السنة
كفائدة 8 في المائة... فكأنه يسجل في أعصاب المؤمن حساب قوته
وربحه، فله في كل سنة زيادة 8 من قوته المعنوية الروحانية.
وسحر العظائم في هذه الدنيا إنما يكون في الأمة التي تعرف كيف تدخر
هذه القوة ويوفرها لتستمدها عند الحاجة، وذلك هو سر أسلافنا الأولين الذين
كانوا يجدون على الفقر في دمائهم وأعصابهم، ما تجد الجيوش العظمى اليوم في
مخازن العتاد والأسلحة والذخيرة.
* * *
كل ما ذكرته في هذا المقال - من فلسفة الصوم - فإنما استخرجته من
هذه الآية الكريمة: (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم
لعلكم تتقون). وقد فهمها العلماء جميعا على أنها من معنى (التقوى) أما

331
أنا وأولتها من (الاتقاء)، فبالصوم يتقي المرء على نفسه أن يكون كالحيوان
الذي شريعته معدته، وألا يعامل الدنيا إلا بمواد هذه الشريعة، ويتقي المجتمع
على إنسانيته وطبيعته مثل ذلك، فلا يكون إنسان مع إنسان كحمار مع
إنسان يبيعه القوة كلها بالقليل من العلف.
وبالصوم يتقي هذا وهذا ما بين يديه وما خلفه، فإن ما بين يديه هو
الحاضر من طباعه وأخلاقه، وما خلفه هو الجيل الذي سيرت من هذه الطباع
والأخلاق، فيعمل بنفسه في الحاضر، ويعمل بالحاضر في الآتي (1).
وكل ما شرحناه فهو اتقاء ضرر لجلب منفعة. واتقاء رذيلة لجلب فضيلة
وبهذا التأويل تتوجه الآية الكريمة جهة فلسفية عالية، لا يأتي البيان ولا العلم
ولا الفلسفة بأوجز ولا أكمل من لفظها، ويتوجه الصيام على أنه شريعة
اجتماعية إنسانية عامة، يتقي بها الاجتماع شرور نفسه، ولن يتهذب العالم
إلا إذا كان له مع القوانين النافذة هذا القانون العام الذي اسمه الصوم، ومعناه
(قانون البطن)). (2).
* * *
الأمة التي تريد السيادة الخالدة، والحرية المستمرة والعزة الدائمة
والكرامة الباقية، لا بد لها من الإيمان الراسخ الذي يقوي روحها ويهذب
أخلاقها، ويبعث فيها العزم الواثب والوعي الصاعد وحب التضحية وصلابة الصبر
وما من أمة تهاونت في إيمانها وعقيدتها وقيمتها الروحية وفرائضها وشعائرها
الدينية، إلا أسرع إليها الضعف والانحلال والاضطراب الاجتماعي والقلق



(1) ويشير إلى هذا التأويل قول النبي (ص): (إنما الصوم جنة)
والجنة الوقاية يتقي بها الإنسان والمراد أن يعتقد الصائم أنه قد صام ليتقي شر
حيوانيته وحواسه.
(2) وحي القلم.
332
النفسي، وأصبحت مسرحا للفوضى ومرتعا للمطامع، وبؤرة لأمراض الأفكار
الوافدة.
فالاسلام شخص علل البشرية تشخيصا لا يرقى إليه الاختلاف، وأعدلها
العلاج الذي يضمن الشفاء وموفور الصحة والسعادة، بحيث لا تنتكس وتشقى
إلا إذا تخلت عنه، فالمسلمون ما انحدروا إلى هذه الهوة السحيقة المظلمة من
التفرق والتأخر والانحطاط والتردي المزري وصاروا هدفا للقوى المعادية،
وأضاعوا أغلب أوطانهم، وفقدوا مكانتهم الرفيعة إلا بعد ما تهاونوا في جوهر
الإسلام ولبابه، وتمسكوا بالقشور والهوامش الخرافية، ثم أخذتهم العصبية
الميتة من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وغرتهم مظاهر المجاملات الدولية
وتعاموا عما كانت تكيد لهم في الخفاء.
إنه الإسلام الذي جمع خير الإنسانية وحقق أعظم نهضة عالمية، وبعث
أصدق وأسمى الحرية، وصان الكرامة العقلية والفكرية، وأوجد روحا
تقارع الذل والعبودية.
إنه الصيام الذي فيه امتحان الإيمان واختبار العقيدة، وقياس الصدق
والصبر، فيه تدريب للنفس على القوة والفضيلة والتعاون وانسجام الشعور
وتجاوب القلوب.
إنه الصيام: الذي فيه تجريد النفس من الخبث والرذائل، إنه النهوض
بالأخلاق والمقومات النبيلة.
إنه الصيام: الذي يعزز الفضائل ويقمع الرذائل.
إنه الصيام: الذي هو مجال تقرير الإرادة الإنسانية، والشخصية
الإنسانية، بالاستعلاء على ضرورات الجسد جميعا، واحتمال ضغطها وثقلها
بالمقاومة الإرادية الواعية، التي تستعلي على الضرورات جميعا، كما أنه مجال

333
لاختبار مدى الطاعة لله، والاتصال بالله، والاستسلام لفرائضه أيا كان فيها من
الحرمان، إيثار لما عند الله من المتاع.
هذا بالإضافة إلى أن الصوم - كما نبه الإمام - صلوات الله وسلامه عليه -
حجاب صفيق بين الإنسان وبين الوقوع في الخطأ، كما يحول بين المرء وبين
أن يتبع هواه عن طريق لسانه وسمعه وبصره وفرجه وبطنه.
وليس هذا الحديث: (الصوم جنه من النار) غريبا علينا إذا علمنا
بأن الصوم هو نفسه أداة لإماتة الشهوة وإطفاء جذورها الملتهبة، وربما نجد
سبيلا لأن نربط بين جوع المعدة وخلوها من الطعام، وكذلك بين الظمأ
وبين إماتة الشهوة وإطفائها فقد يمكن القول أن كثيرا من أسباب الشهوة المتقدة
يرجع إلى امتلاء البطن وشبعها، وإلى الري الكامل الذي لا ظمأ معه.
ولا ريب أن تقليل المأكول نافع للنفس والأخلاق، والتجربة قد دلت
عليه لأنا نرى المكثر من الأكل يغلبه النوم والكسل وبلادة الحواس وتبخر
المأكولات الكثيرة أبخرة كثيرة فتتصاعد إلى الدماغ فتفسد القوى النفسانية. وأيضا
فإن كثرة المأكل تزيل الرقة وتورث القساوة والسبعية، والقياس أيضا يقتضي
ذلك، لأن كثرة المزاولات سبب لحصول الملكات، فالنفس إذا توفرت على
تدبير الغذاء وتصريفه كان ذلك شغلا شاغلا لها وعائقا عظيما عن انصبابها إلى
الجهة الروحانية العالية، ولكن ينبغي أن يكون تقليل الغذاء إلى حد يوجب
جوعا قليلا فإن الجوع المفرط يورث ضعف الأعضاء الرئيسية واضطرابها
واختلال قواها، وذلك يقتضي تشوش النفس واضطراب الفكر واختلال العقل،
ولذلك تعرض الأخلاط السوداوية لمن أفرط عليه الجوع، فإذن لا بد من إصلاح
أمر الغذاء بأن يكون قليل الكمية كثير الكيفية، فتؤثر قلة كميته في أنه
لا يشغل النفس بتدبير الهضم عن التوجه إلى الجهة العالية الروحانية، وتؤثر

334
كثرة كيفيته في تدارك الخلل الحاصل له من قلة الكمية. ويجب أن يكون
الغذاء شديد الإمداد للأعضاء الرئيسية، لأنها هي المهمة من أعضاء البدن وما
دامت باقية على كمال حالها لا يظهر كثير خلل من ضعف غيرها من الأعضاء
والسبب الطبيعي في كون الجوع مؤثرا في صفاء النفس: أن البلغم الغالب
على مزاج البدن يوجب بطبعه البلادة وإبطاء الفهم لكثرة الأرضية فيه وثقل
جوهره وكثرة ما يتولد عنه من البخارات التي تسد المجاري وتمنع نفوذ
الأرواح، ولا ريب أن الجوع يقتضي تقليل البلغم لأن القوة الهاضمة إذا لم تجد
غذاء تهضمه عملت في الرطوبة الغريبة الكامنة في الجسد، فكلما انقطع الغذاء
استمر عملها في البلغم الموجود في البدن فلا تزال تعمل فيه وتذيبه الحرارة
الكائنة في البدن حتى يفنى كل ما في البدن من الرطوبات الغريبة ولا تبقى إلا
الرطوبات الأصلية، فإن استمر انقطاع الغذاء أخذت الحرارة والقوة الهاضمة
في تنقيص الرطوبات الأصلية من جوهر البدن، فإن كان ذلك يسيرا وإلى حد
ليس بمفرط لم يضر ذلك بالبدن كل الأضرار، وكان ذلك هو غاية الرياضة
وإن أفرط وقع الحيف والإجحاف على الرطوبة الأصلية وعطب البدن ووقع
صاحبه في الدق والذبول، وذلك منهي عنه لأنه قتل النفس فهو كمن يقتل
نفسه بالسيف أو بالسكين.
وقد سبق لنا أن ذكرنا في بعض أبحاثنا: أن الجوع المفرط فضلا عن
أنه يميت الشهوة، فهو يميت كل حيوية وكل قوة وكل نشاط للانسان،
ولذلك يمكن أن نقول: (أشبع الجائع ثم أفهمه ما تريد أن تقول له:)
وقال بعضهم: (إذا كلمت الجائع سمعك بمعدته، وإذا خاطبته فسيجيبك
بمعدته أيضا). إذ لا يصدر أي فعل عنه إلا بموجب ما يؤدي إلى شبع المعدة
الخاوية:

335
وهناك جانب آخر: وهو أن الصوم ليس بعاصم الإنسان من كل ما
يشتهيه، وإنما هو معين على ذلك ومؤد إليه على الأكثر. فعلى المرء أن
يعصم نفسه عن الزلل بإرادة قوية حازمة تردعه عن النظر إلى المحرمات وتناول
ما لا يحل تناوله، فإن الاتجاه إلى المنهي عنه يسقطه ويخزيه. والعصمة والقوة
من الله.
* * *
وفي (قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما
كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون).
اختصاص للمؤمنين، خصهم الله تعالى بشرف هذا الخطاب الكريم - على
حين أن الحكم عام - تكريما لهم واعتناء بشأنهم، وإيماء إلى نفاسة هذه
العبادة فلا يسعد بها إلا المؤمن المصدق.
ولفتا إلى اعتبار الإيمان في صحتها، وتحريضا واستحثاثا على الإقبال
عليها واستساغتها. ففي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: (لذة هذا النداء
أزال تعب العبادة والعناء).
وإن في الغاية التي لوحت إليها الآية الشريفة ما تستريح إليه نفس
العارف دلالة ويملؤها إيمانا بأن الصيام من أشرف العبادات غاية، وأجلبها
نفعا، وشرف العمل بشرف غايته.
يدك على هذا الطلب الجميل بهذا الأسلوب الفذ وهذه الصورة الرائعة
أن الصوم جنة يتقى بها أسوأ الأضرار الدنيوية والأخروية على ما مر ذكره.
وعلى هذا اللحن يوقع الحديث النبوي (الصوم جنة). ذلك بما أنه رياضة
عالية ودرس عملي يغذي الإرادة الإنسانية بالنشاط ويمدها بالقوة، ولقوة
الإرادة إلى حد مكانتها من الكرامة، فتأخذ على يد الشهوات بيد حديدية،

336
وتحول دون أن تسترسل بالمرء فتهوي به إلى مكان سحيق، وتهبط في كرامته
إلى درجة الصفر، وتميت فيه روح الطموح إلى العز والاشتياق إلى المعالي،
والتحبب إلى غرر المآثر وترتاد له المرعى الوبيل، وتورده موارد الذل.
أجل وما من فساد يحيق في العالم إلا وهي زناده القادحة ويده العاملة،
فإذا لم يكبح جماحها ويضيق عليها الخناق بالارتياض والرقابة الدقيقة فتنقهر لسلطان
الإرادة الإنسانية والعقل الشريف تلتهب نارا يتطاير شررها ويتعاظم ضررها.
وإن من أنجح الوسائل إلى ذلك (الصوم) تطمح نفس الصائم إلى ما
كانت تعودته من ذي قبل من ملاذ فيردها قسرا ويوسعها زجرا، وإن من
شأنها أن تتصاغر لدى الجد وتقف قبالته على حد، فإذا رأت الصرامة في العزم
انقادت إليه طائعة وصغت لأمره سامعة، وهي معتادة لما عودت عليه، فإذا
اعتادت الانقياد للإرادة رسخت فيه قدما وارتاحت له نفسا، ومشت على ضوئها
مسيرة لما خلقت له، وناهيك بها ثمرة طيبة وغاية كريمة لو لم يكن للصوم
إلاها لكفى.
وفي الحديث والسنة الشريفة الشئ الكثير مما يعبر عن هذا المعنى بأساليب
رائعة، (إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة وأغلقت أبواب النار وصفدت
الشياطين). فأبواب الجنة العقل الشريف والإرادة الإنسانية المماشية له جنبا
لجنب وأبواب النار المغلقة والشياطين المصفدة الشهوات تخضع لحكم العقل وتنقاد
لسلطانه وتسخر لإشاءته.
ومن ثمراته الطيبة التمرن على الصبر حتى يكون ملكة راسخة في النفس
تستمد منها الثبات وترتاد منها القوة وتدرع بها حيث تصدمها الحوادث وتنكبها
الأيام، والصبر جناح العز وسلاح الظفر ووسيلة الفوز والنجاح. وفي الحديث
الشريف: (الصوم نصف الصبر، والصوم نصف الإيمان، وحسب الصائم أن

337
ينال درجة الصابرين). (إنما يوفى الصابرون أجورهم بغير حساب).
ومن حكمه العالية وأسراره الكريمة تلطيف النفس وترقيقها ولفتها إلى
النعم التي ألفتها وتربت في أحضانها من حيث لا تقيم لها وزنا، فبسغب الجوع
يفطن إلى لذة الشبع، وبكظة العطش يتعرف قدر نعمة الارتواء ويستفزه ذلك
إلى أنه محاط بالنعم من بارئه الكريم، قائم قاعد في ظلها الوارف، غارق في
سكرة خمرتها.
ومن ناحية ثانية يلفته إلى عجزه وضعفه وحاجته وفقره، فلا يقدر أن
يحتفظ بقواه إذا ما قدر عليه طعامه، ولا يتسنى له ذلك إلا بيد غيبية وألطاف
إلهية، وقد يتغلغل به الفكر فيستطرد سائر مناحي حياته وعموم تقلباته
ولحظاته، فيراها خارجة عن قيد قدرته بعيدة عن الرضوخ لإشاءته، وإنما هي
مسخرة له من لدن لطيف خبير، فيفئ إلى ذكره وينشط إلى شكره ويتحرى
أن يكون قيد نهيه وأمره. وعلى هذا الأساس جاء في الحديث الكريم:
(لكل شئ باب وباب العبادة الصوم).
ومن جهة ثالثة: يلفته بما يلازمه غالبا من ألم الجوع وعناء التعب إلى
تعاسة حال الفقراء فيثير في نفسه الرقة والحنان فيبعثه على إسهامهم شيئا من
أمواله يستعينون به على إصلاح شؤونهم، ومن ذلك يكون له منهم أوداء مخلصين
وأحباء صادقين يستغل خيرهم ويأمن شرهم. وعلى هذه النقطة تدور رحى
نظام الحياة، ومن أسراره القيمة أن يرتقي بنفسه من حضيض النفس البهيمية
إلى ذروة التشبه بالملائكة الروحانية، وذلك عالم له قيمته وله أثره، في
الخير والبركة وسعادة الحياة ورغد العيش.
وضروري أن ذلك كله لا يكون للصائم إذا هو تدارك في فطره ما فاته
ضحوة نهاره، وربما زاد عليه في ألوان الطعام جريا على السيرة المتبعة عند

338
الكثير، فإن النفس إذا حبست حتى إذا هاجت بها الشهوة وقويت لديها الرغبة
أطعمت من اللذات وأشبعت من ألوان المطاعم، وقرب إليها ليلا ما أبعد
عنها نهارا، زادت لذتها وتضاعفت قوتها، وربما انبعث فيها من الشهوة ما كان
راكدا لو تركت على حالها فلا ينال ما هو المقصود من الصوم من تضعيف
القوى الشهوية، وهي المرض الفاتك والداء العضال، وإلى ذلك يشير الحديث
(صوموا تصحوا). (1)
* * *
(إن من يتأمل في قصة خلق آدم وحواء وخروجهما من الجنة، يجد
أن شهوة البطن قد كانت هي أولى الشهوات التي سببت لهما كل ما حاق بهما
حيث نهاهما ربهما عن الأكل من الشجرة فغلبتهما شهوة الأكل من الطعام
الممنوع، فأكلا منه فبدت لهما سوآتهما، وتبع ذلك شهوة الجسم وطفقا
يخصفان عليهما من ورق الجنة.
وهكذا أصبحت شهوة البطن مصدرا الشهوات ومبعث الأدواء والآفات،
ويتبعها شهوة النكاح، ثم الرغبة في المال والجاه، ومن هنا تتولد أنواع المفاسد
والمنافسات، وينشأ الحسد والكبرياء والعداوة والبغضاء، إلى غير ذلك من
السيئات التي يحركها إبليس في نفس الإنسان، ولا سبيل إلى مقاومته إلا عن
طريق الجوع.
ولهذا عمل رسول الله (ص) على تربية قومه على التقليل من الأطعمة،
لأن ذلك من شأنه أن يحدد القوى، ويضعف الشهوات التي تنشأ عنها المعاصي
فكان يقول: (حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه). ويقول: (نحن قوم
لا نأكل حتى نجوع وإذا أكلنا لا نشبع) وفي حديث (إن الشيطان ليجري في



(1) من مقال للعلامة الشيخ محمد تقي صادق.
339
الإنسان مجرى الدم فضيقوا عليه بالجوع) وفي حديث آخر (نور الحكمة
الجوع، ورأس الدين ترك الدنيا، والقرب إلى الله حب المساكين والدنو منهم
والبعد عن الله الذي نقوى به على المعاصي هو الشبع فلا تشبعوا بطونكم فيطفأ
نور الحكمة في صدوركم، فإن الحكمة تسطع في القلب مثل السراج).
وكان لهذه التعاليم أثرها الفعال في نفوس المسلمين في عهد الرسول (ص)
حيث تغلبوا على الشهوات وانصرفوا إلى الطاعات، وأنا لهم الله أعلى الدرجات
جاء في الرواية: (أول بدعة حدثت بعد رسول الله (ص) الشبع، فإن القوم
لما شبعت بطونهم جمحت نفوسهم إلى هذه الدنيا).
ولقد فرض الله على عباده الصوم في جميع الديانات السابقة بطرق مختلفة،
وشرعه القرآن للمؤمنين بالطريقة التي هو عليها في رمضان، وأخبرنا بالغاية
المرجوة منه، وهي تقوى الله حيث يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب
عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون). وهل من تقوى
أعظم من أن يراقب العبد ربه ويردع عن الشهوات نفسه، ويحفظها ويخضعها الامتثال
أمر مولاه، يترك طعامه وشرابه حبا في رضاه. وفي هذا أعظم معاني الجهاد
للنفس بإذلالها وإشعارها بمبلغ ضعفها وشدة حاجتها إلى لقمة من الطعام تقيم
أودها، وشربة من الماء تتبلغ بها، لتسكن إلى ربها وتخضع لعظمته، فلا
تتكبر، عن عبادته، وتتصور مقدار فضله عليها، فتبالغ في شكره وتذكر حالة
الفقير فيزيد خوفها ويعظم عطفها على عباده، فتكثر من الصدقات وتزيد في
الإيثار وتحسن كما أحسن الله إليها. وبذلك تسمو وترتفع وتكون مثلا أعلى
للكمال الإنساني والنفس العالية. ومن أجل هذا لم يكن الصوم من العبادات
الإيجابية التي تشاهد، بخلاف غيره من العبادات التي يؤديها الإنسان ويطلع
عليها الناس، بل هو عمل سلبي في الظاهر بالامساك عن الطعام والشراب ولكنه

340
لا يتحقق إلا بعمل إيجابي من ناحية القلب بالنية والصبر وكثرة المراقبة
والتدبر والاتعاظ. ويصل الإنسان بصومه إلى مجموعة من الفضائل والمكرمات
ويحصل على عظيم الأجر وأرفع الدرجات، فهو بهذا الاعتبار من أفضل
العبادات لبعده عن شائبة الرياء كما ورد فيه قوله (ص): (الصيام لا رياء فيه
قال الله: (هو لي وأنا أجزى به، يدع عبدي طعامه وشرابه من أجلي).
وهو إلى جانب هذا من العبادات التي تقوم على دعائم الصبر وتشتمل على
كل أنواعه: فهو صبر على طاعة الله، وصبر عن المحارم والشهوات، وصبر
كل آلام الجوع والعطش وضعف النفس والبدن. ولهذا كان يسمى الرسول (ص)
رمضان شهر الصبر، وورد عنه أنه قال: (الصوم نصف الصبر).
وقد امتدح لله عباده الصابرين، وبشرهم بالثواب العظيم حيث قال:
(إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب). وهل من صبر أعظم من أن
يمتنع الإنسان عن شئ يشتهيه وهو في متناول يده؟
وهل من صبر أجل من الصبر على مقاومة النفس في أعظم شهواتها وأحبابها
إليها، وهي شهوة البطن وشهوة الفرج؟
وهل من صبر أشد على النفس من صبر على أمر لا رقيب فيه غير الله؟
وهل من صبر أحب إلى الله من صبر كان منشؤه والباعث إليه مجرد
الخوف من الله؟
كم هو عظيم أن تتطلع نفس الصائم إلى الشهوات، وتتهيأ له أسبابها،
وهو في خلوة من الأنظار، فيعرض عنها لمحض الخشية، ويؤثر رضا مولاه
عن كل لذة.
ولقد ورد في الحديث ما يدل على أنه ليس المقصود من الصوم مجرد
الإمساك عن الطعام والشراب والجماع، بل لا بد من الإمساك معه عن الكلام

341
البذئ والعمل القبيح وسائر المحرمات، إذ يقول (ص): (الصيام جنة)
(أي سترة ووقاية إذا صام أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو
قاتله فليقل إني امرؤ صائم) وفي حديث آخر: (الصوم جنة ما لم يخرقه
بكذب أو غيبة) وفي حديث آخر: (إن الصوم أمانة فليحفظ أحد كم أمانته)
ولما تلا قوله تعالى: (إن الله يأمر كم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وضع
يده على سمعه وبصره فقال: (السمع أمانة والبصر أمانة). ولولا أن السمع
والبصر من أمانات الصوم لما قال (ص): (فإن امرؤ سابه أو قاتله فليقل إني
امرؤ صائم) أي أني أودعت لساني لأحفظه، فكيف أطلقه لجوابك وكذلك
أعضاء ابن آدم أمانة عنده يجب أن لا يطلقها في حالة الصوم فيما لا يرضى الله
وإذا أمكن للانسان أن يترك كل هذا في حالة الصوم فإنه سيتعود لا محالة أن
لا يستعمل أعضاءه دواما في غير ما خلقت له من الطاعات.
وإذا لم يستطع أن يقهر نفسه على ترك جميع المحرمات في رمضان،
فإنه لم يحقق الغاية التي شرع الصوم من أجلها. وفي هذا يقول (ص):
(رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع) وقد وردت أحاديث عديدة بأن
الغيبة تفسد الصوم. وإذا حملها البعض على المبالغة في التحذير منها، فمما لا
جدال فيه أنها تتنافى مع حالة الصائم الذي يزعم أنه ترك الطعام والشراب خوفا
من الله، ثم لا يحفظ جوارحه من الآثام، ويقدم على ما يغضبه تعالى من
سئ الكلام.
إن مقاومة النفس إرضاء لله إذا صحت عن يقين كامل من شأنها أن تغرس
في النفس ملكة مراقبة الله في السر والعلن، وفي جميع الأعمال. وهذا مما يؤدي
إلى الامتناع عن جميع المحرمات والتدرج بتركها في أيام رمضان إلى الاقلاع
عنها بتاتا في سائر الأوقات.

342
وهذه درجة الكمال التي ترمي إليها الشريعة الإسلامية من وراء الصوم
الذي هو في الواقع تطهير للنفس من سيئ النيات وامتناع للجوارح عن سائر
المحرمات.
وقد أثبت العلم الحديث ما في الصوم من فوائد عظمي في إخراج الفضلات
من الجسم، وطرد السموم والمفرزات الضارة من مجاري الدم، ليس بواسطة
العقاقير والجواهر لكن بطريقة الامتناع عن الأكل والشرب، وهو ما يسمونه
في اصطلاحهم (بالعلاج الطبيعي) وهؤلاء فقراء الهند لا يزالون يروضون أنفسهم
بالصوم بشكل فظيع، ويجدون منه خير مطهر للنفس من أدران الدنس
فضلا أنه يذكي العقل ويكسبه خصوبة وخيالا واسعا، ويقومون بعدة أعمال
وأحوال تكاد تكون من خوارق العادات). (1)



(1) أسمى الرسالات.
343
حق الصدقة

345
قوله عليه السلام:
(وحق الصدقة أن تعلم أنها ذخرك عند ربك
عز وجل ووديعتك التي لا تحتاج إلى الإشهاد عليها، فإذا علمت
ذلك كنت بما استودعته سرا أوثق بما استودعته علانية وتعلم
أنها تدفع البلايا والأسقام عنك في الدنيا وتدفع عنك النار
في الآخرة، (ثم لم تمتن بها على أحد لأنها لك، فإذا امتننت
بها لم تأمن أن تكون بها مثل تهجين حالك منها إلى ما مننت
بها، عليه لأن في ذلك دليلا على أنك لم ترد نفسك بها، ولو
أردت نفسك بها لم تمتن بها على أحد).
* * *
إنها الدعوة إلى البذل والإنفاق
إنها الدعوة إلى الصدقة. يرسم الإمام عليه السلام دستورها في تفصيل وإسهاب
يرسم هذا الدستور مظللا بظلال حبيبة أليفة.
ويبين آداب الصدقة:
آدابها النفسية والاجتماعية.
الآداب التي تحول هذه الصدقة عملا تهذيبيا لنفس معطيها، وعملا نافعا مربحا
لآخذها،
وتحول المجتمع عن طريقها إلى أسرة فيها التعاون والتكافل والتواد

347
والتراحم، وترفع البشرية إلى مستوى كريم: المعطي فيها والآخذ على السواء
إنه الإنفاق الذي يرفع المشاعر الإنسانية ولا يشوبها. الإنفاق الذي لا
يؤذي كرامة ولا يخدش شعورا.
الإنفاق الكريم المنبعث عن أريحية ونقاء، المتجه إلى الله ابتغاء مرضاة
الله:
(الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى
لهم أجرهم عند ربهم، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون). والمن عنصر كريه
لئيم، وشعور خسيس واط.
فالنفس البشرية لا تمن بما أعطت إلا رغبة في استعلاء كاذب، أو رغبة
في إذلال الآخذ. وكلاهما إحساس لا يجيش في قلب طيب كريم.
وهو كفيل بأن يحيل الصدقة أذى للواهب وللآخذ على السواء. أذى
للواهب بما يثير في نفسه من كبر وخيلاء، أو رغبة في رؤية أخيه ذليلا له،
كسيرا لديه، وأذى للآخذ بما يثير في نفسه من انكسار وانهزام، ومن رد
فعل بالحقد والانتقام... وما أراد الإسلام بالصدقة مجرد سد الخلة وملء
البطن وتلافي الحاجة... كلا! إنما أرادها تهذيبا وتزكية، وتطهيرا لنفس
المعطي، واستجاشة لمشاعره الإنسانية، وارتباطه بأخيه الفقير في الإنسانية
وفي الله.... كما أرادها ترضية وتندية لنفس الآخذ، وتوثيقا لصلته بأخيه
في الإنسانية وفي الله... والمن يذهب بهذه المشاعر كلها، ويحيل الصدقة
سما ونارا، فهو أذى وإن لم يصحبه أذى آخر باليد أو باللسان، هو أذى
في ذاته يمحق الصدقة، ويمزق المجتمع، ويثير السخائم والأحقاد
وبعض الباحثين النفسيين في هذه الأيام، يقررون: أن رد الفعل الطبيعي
في النفس البشرية للاحسان هو العداء في يوم من الأيام!

348
وهم يعللون هذا بأن الآخذ يحس بالنقص والضعف أمام المعطي ويظل
هذا الشعور يحز في نفسه، فيحاول الاستعلاء عليه بالتهجم لصاحب الفضل عليه
وإضمار العداوة له، لأنه يشعره دائما بنقصه وضعفه.. وبأن المعطي يريد
أن يشعر دائما بأنه صاحب فضل على ما أعطاه. وهو الشعور الذي يزيد من
ألم صاحبه الآخر حتى يتحول إلى عداء..
وقد يكون هذا كله صحيحا في المجتمعات التي لا تسودها روح الإسلام
أما هذا الدين فقد عالج المشكلة على نحو آخر، عالجها بأن يقرر في النفوس
أن المال مال الله، وأن الرزق الذي في أيدي الواجدين هو رزق الله. فإذا
أعطى الواجد من ماله شيئا فإنما من مال الله أعطى، وإذا أسلف حسنة فإنما
هي قرض لله يضاعفه له أضعافا كثيرة. وليس المحروم الآخذ إلا أداة وسببا
لينال المعطي الواهب أضعاف ما قدمت يداه! ثم شرع هذه الآداب التي نحن
بصددها الآن، توكيدا لهذا المعنى في النفوس، حتى لا يستعلي معط، ولا
يتخاذل آخذ. فكلاهما آكل من رزق الله. وللمعطين أجرهم من الله إذا
هم أعطوا في سبيل الله، وابتغاء لرضاه، متأدبين بالأدب الذي رسمه أولئك
(لا خوف عليهم) من فقر، ولا من حقد، (ولا هم يحزنون) على ما أنفقوا
في الدنيا، ولا على مصيرهم في الآخرة... وتوكيدا للمعنى الذي سلف من
حكمة الصدقة. وتوكيدا لأن الغرض منها هو تهذيب النفوس وترضية القلوب
وربط الواهب والآخذ برباط الحب في الله... يقول تعالى: (قول معروف
ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم).
يقرر أن الصدقة التي يتبعها الأذى لا ضرورة لها: وأولى منها كلمة
طيبة، وشعور سمح. كلمة طيبة تضمد جراح القلوب وتفعمها بالرضى والبشاشة
ومغفرة تغسل أحقاد النفوس وتحل محلها الإخاء والصداقة.

349
فالقول المعروف والمغفرة في هذه الحالة يؤديان الوظيفة الأولى للصدقة
تهذيب النفوس وتأليف القلوب.. (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل
وأعناب تجري من تحتها الأنهار، له فيها من كل الثمرات، وأصابه الكبر
وله ذرية ضعفاء، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت؟ كذلك يبين الله لكم
الآيات لعلكم تتفكرون).
تمثيل لنهاية المن والأذى، كيف يمحق آثار الصدقة محقا، في وقت
لا يملك صاحبها قوة ولا عونا، ولا يستطيع لذلك المحق ردا.
تمثيل لهذه النهاية البائسة في صورة موحية عنيفة الايحاء. كل ما فيها
عاصف بعد أمن ورخاء:
هذه الصدقة وقد خرجت عن رضى، ووصلت محروما... هذه هي
ظليلة وارفة مخصبة مثمرة. إنها (جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها
الأنهار، له فيها من كل الثمرات).
هذه هي في حياة المعطي والآخذ، وفي حياة الجماعة الإنسانية ذات
روح وظل، وذات خير وبركة، وذات غذاء وري، وذات زكاة ونماء..
فمن ذا الذي يود أن تكون له حسنة ثم يرسل عليها المن والأذى يمحقها محقا، كما
لو كانت جنة (فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت).. ومتى؟ في أشد
ساعاته عجزا عن إنقاذها، وحاجة إلى ظلها ونعمائها: من ذا الذي يود هذا؟
ومن ذا الذي يفكر في ذلك المصير ثم لا يتقيه.
إنها صورة عميقة الإيحاء يرسمها الإمام (صلوات الله عليه) في هذا النص
القصير لذلك النموذج الكريم في البشر وهي صورة كاملة ترتسم على استحياء!
وكل فقرة تكاد تكون لمسة ريشة، ترسم الملامح والسمات، وتشخص المشاعر
والحركات. وما يكاد الإنسان يتم قرائتها حتى تبدو له تلك الوجوه، وتلك

350
الشخصيات كأنما يراها. وتلك طريقة الإمام في رسم النماذج الإنسانية، حتى
لتكاد تخطر على الورق نابضة حية!
* * *
الإنفاق من أعظم ما يهتم بأمره الإسلام في أحدر كنيه - وهو حقوق
الناس - وقد توصل إليه بأنحاء التوصل إيجابا وندبا من طريق الزكاة والخمس
والكفارات المالية، وأقسام الفدية، والإنفاقات الواجبة، والصدقات المندوبة.
ومن طريق الوقف والسكنى، والوصايا والهبة وغير ذلك.
وإنما يريد بذلك ارتفاع سطح معيشة الطبقة الساحقة التي لا تستطيع
رفع حوائج الحياة من غير إمداد مالي من غيرهم، ليقرب أفقهم من أفق
أهل النعمة والثروة.
ومن جانب آخر قد منع من تظاهر أهل الطبقة العالية بالجمال والزينة
في مظاهر الحياة بما لا يقرب من المعروف ولا تناله أيدي النمط الأوسط من
الناس بالنهي عن الإسراف والتبذير ونحو ذلك.
وكان الغرض من ذلك كله إيجاد حياة نوعية متوسطة متقاربة الأجزاء
متشابهة الأبعاض. تحيي ناموس الوحدة والمعاضدة، وتميت الإرادات المتضادة
وأضغان القلوب ومنابت الأحقاد. فإن القرآن يرى أن شأن الدين الحق هو
تنظيم الحياة بشئوونها وترتيبها ترتيبا يتضمن سعادة الإنسان في العاجل والآجل
ويعيش به الإنسان في معارف حقة وأخلاق فاضلة، وعيشة طيبة يتنعم فيها بما
أنعم الله عليه من النعم في الدنيا، ويدفع بها عن نفسه المكاره والنوائب ونواقص
المادة.
ولا يتم ذلك إلا بالحياة الطيبة النوعية المتشابهة في طيبها وصفائها، ولا
يكون ذلك إلا بإصلاح حال النوع برفع حوائجه في الحياة، ولا يكمل ذلك

351
إلا بالجهات المالية والثروة والقنية، والطريق إلى ذلك إنفاق الأفراد
مما
اقتنوه بكد اليمين وعرق الجبين، فإنما المؤمنون إخوة، والأرض لله والمال
ماله.
وهذه حقيقة أثبتت السيرة النبوية (على صاحبها وآله أفضل التحية -
صحتها واستقامتها في القرار والنماء والنتيجة في برهة من الزمان، وهي زمان
حياته ونفوذ أمره.
وهي التي يتأسف عليها، ويشكو انحراف مجريها - أمير المؤمنين على
(صلوات الله وسلامه عليه) إذ يقول: (وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير
فيه إلا إدبارا، والشر فيه إلا إقبالا، والشيطان في هلاك الناس إلا طمعا فهذا
أوان قويت عدته، وعمت مكيدته، وأمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث
شئت هل تبصر إلا فقيرا يكابد فقرا، أو غنيا بدل نعمة الله كفرا، أو بخيلا
اتخذ البخل بحق الله وفرا، أو متمردا كأن بأذنه عن سمع المواعظ وقرا).
وقد كشف توالي الأيام عن صدق القرآن في نظريته هذه - وهي تقريب
الطبقات بإمداد الدانية بالإنفاق، ومنع العالية عن الإتراف والتظاهر بالجمال -
حيث أن الناس بعد ظهور المدنية الغربية استرسلوا في الاخلاد إلى الأرض،
والافراط في استقصاء المشتهيات الحيوانية، واستيفاء الهوسات النفسانية وأعدوا
له ما استطاعوا من قوة، فأوجب ذلك عكوف الثروة وصفوة لذائذ الحياة على
أبواب أولي القوة والثروة، ولم يبق بأيدي النمط الأسفل إلا الحرمان، ولم
يزل النمط الأعلى يأكل بعضه بعضا حتى تفرد بسعادة الحياة المادية نزر قليل
من الناس، وسلب حق الحياة من الأكثرين وهم سواد الناس، وأثار ذلك
جميع الرذائل الخلقية من الطرفين، كل يعمل على شاكلته لا يبقي ولا يذر.
فأنتج ذلك التقابل بين الطائفتين، واشتباك النزاع والنزال بين الفريقين والتفاني

352
بين الغني والفقير والمنعم والمحروم والواجد والفاقد، ونشبت الحروب العالمية
الكبرى، وظهرت الشيوعية، وهجرت الحقيقة والفضيلة، وارتحلت الطمأنينة
وطيب الحياة من بين النوع. وهذا ما نشاهده اليوم من فساد العالم الإنساني،
وما يهدد النوع بما يستقبله أعظم وأفظع.
* * *
قرأت (للمنفلوطي) الكاتب العبقري في (النظرات):
(مررت ليلة أمس برجل بائس فرأيته واضعا يده على بطنه كأنما يشكو
ألما فرثيت لحاله، وسألته ما باله فشكا إلى الجوع، ففثأته عنه ببعض ما قدرت
عليه، ثم تركته وذهبت إلى زيارة صديق لي من أرباب الثراء والنعمة فأدهشني
أني رأيته واضعا يده على بطنه وأنه يشكو من الألم ما يشكو ذلك البائس الفقير
فسألته عما به فشكا إلى البطنة، فقلت: يا للعجب لو أعطى ذلك الغني ذلك الفقير
ما فضل عن حاجته من الطعام ما شكا واحد منهما سقما ولا ألما.
لقد كان جديرا به أن يتناول من الطعام ما يشبع جوعته ويطفئ غلته
ولكنه كان محبا لنفسه، مغاليا بها، فضم إلى مائدته ما اختلسه من صحفة الفقير
فعاقبه الله على قسوته بالبطنة حتى لا يهيئ للظالم ظلمه، ولا يطيب له عيشه،
وهكذا يصدق المثل السائر (بطنة الغني انتقام لجوع الفقير). ما ظنت السماء
بمائها، ولا شحت الأرض بنباتها، ولكن حسد القوي الضعيف عليهما فزواهما
عنه واحتجبهما دونه، فأصبح فقيرا معدما شاكيا متظلما، غرماؤه المياسير
الأغنياء، لا الأرض والسماء.
ليتني أملك ذلك العقل الذي يملكه هؤلاء الناس فأستطيع أن أتصور كما
يتصورون حجة الأقوياء في أنهم أحق بإحراز المال وأولى بامتلاكه من الضعفاء
إن كانت القوة حجتهم عليه، فلم لا يملكون بهذه الحجة سلب أرواحهم

353
كما ملكوا سلب أموالهم، وما الحياة في نظر الحي بأثمن قيمة من اللقمة في
يد الجائع، وإن كانت حجتهم أنهم ورثوا ذلك المال عن آبائهم قلنا لهم: إن
كانت الأبوة علة الميراث فلم ورثتم آباءكم في أموالهم ولم ترثوهم في مظالمهم،
فلقد كان آباؤكم أقوياء اغتصبوا ذلك المال من الضعفاء، وكان حقا عليهم أن
يردوا إليهم ما اغتصبوا منهم، فإن كنتم لا بد ورثاء فاخلفوهم في رد المال إلى
أربابه لا في الاستمرار على اغتصابه.
ما أظلم الأقوياء من بني الإنسان، وما أقسى قلوبهم، ينام أحدهم ملء
جفنيه على فراشه الوثير، ولا يقلقه في مضجعه أنه يسمع أنين جاره وهو يرعد
بردا وقرا، ويجلس أمام مائدة حافلة بصنوف الطعام، قديده وشوائه، حلوه
وحامضه، ولا ينغص عليه شهوته علمه أن بني أقرباؤه وذوي رحمه من تتواثب
أحشاؤه شوقا إلى فتات تلك المائدة، ويسيل لعابه تلهفا على فضلاتها، بل أن
بينهم من لا تخالط الرحمة قلبه، ولا يعقد الحياء لسانه فيظل يسرد على مسمع
الفقير أحاديث نعمته، وربما استعان به على عدما تشتمل عليه خزائنه من الذهب
وصناديقه من الجواهر، وغرفه من الأثاث والرياش، ليكسر قلبه وينغص عليه
عيشه، ويبغض إليه حياته، وكأنه يقول له في كل كلمة من كلماته وحركة
من حركاته: أنا سعيد لأني غني، وأنت شقي لأنك فقير.
أحسب لولا أن الأقوياء في حاجة إلى الضعفاء يستخدمونهم في مرافقهم
وحاجاتهم كما يستخدمون أدوات منازلهم، ويسخرونهم في مطالبهم كما يسخرون
مراكبهم، ولولا أنهم يؤثرون الإبقاء عليهم ليمتعوا أنفسهم بمشاهدة عبوديتهم
لهم وسجودهم بين أيديهم، لامتصوا دماءكم كما اختلسوا أرزاقهم، ولحرموهم
الحياة كما حرموهم لذة العيش فيها.
لا أستطيع أن أتصور أن الإنسان إنسان حتى أراه محسنا، لأني لا أعتقد

354
فصلا صحيحا بين الإنسان والحيوان إلا الإحسان، وإني أرى الناس ثلاثة:
رجل يحسن إلى غيره ليتخذ إحسانه إليه سبيلا إلى الإحسان إلى نفسه، وهو المستبد
الجبار الذي لا يفهم من الإحسان إلا أنه يستعبد الإنسان.
ورجل يحسن إلى نفسه ولا يحسن إلى غيره، وهو الشره المتكالب الذي
لو علم أن الدم السائل يستحيل إلى ذهب جامد لذبح في سبيله الناس جميعا،
ورجل لا يحسن إلى نفسه ولا إلى غيره، وهو البخيل الأحمق الذي يجيع بطنه
ليشبع صندوقه أما الرابع وهو الذي يحسن إلى غيره ويحسن إلى نفسه، فلا أعلم
له مكانا، ولا أجد إليه سبيلا، وأحسب أنه هو الذي كان يفتش عليه الفيلسوف
اليوناني (ديوجينيس) الكلبي حينما سئل ما يصنع بمصباحه، وكان يدور به في
بياض النهار فقال: (أفتش عن إنسان).
دعوة القرآن إلى الإنفاق
1 - (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة
والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون) (سورة البقرة).
2 - (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقنا كم من قبل أن يأتي يوم لا بيع
فيه ولا خلة ولا شفاعة) (سورة البقرة).
3 - (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع
سنابل في كل سنبلة مئة حبة، والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم، الذين
ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند
ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون). (سورة البقرة)
4 -) ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من أنفسهم

355
كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين، فإن لم يصبها وابل فطل).
(سورة البقرة)
5 - (وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه).
(سورة البقرة)
6 -) إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو
خير لكم). (سورة البقرة)
7 - (وما تنفقوا من خير فلأنفسكم، وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله
وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون). (سورة البقرة)
8 - (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم،
بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة). (سورة آل عمران)
9 - (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم
بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم
هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون). (سورة التوبة)
10 - (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن
صلاتك سكن لهم). (سورة التوبة)
11 - (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب
لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون). (سورة التوبة)
12 - (إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور
حليم). (سورة التغابن)
13 - (وأنفقوا مما رزقنا كم من قبل أن يأتي أحد كم الموت فيقول
رب لولا أخرتين إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين) (سورة المنافقين)
14 - (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا، إنما نطعمكم

356
لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا). (سورة الدهر)
دعوة الرسول إلى الإنفاق
1 - (عليكم باصطناع المعروف فإنه يمنع مصارع السوء، وعليكم
بصدقة السر فإنها تطفئ غضب الله عز وجل).
2 (من آتاه الله مالا فلم يؤدي زكاته، مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع
له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه، ثم يقول: أنا مالك أنا
كنزك، ثم تلا هذه الآية: (ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله
هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة).
3 - (حصنوا أموالكم بالزكاة، وداووا مرضاكم بالصدقة).
4 - (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما:
اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا).
5 - (اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة
ما كان عن ظهر غنى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله).
6 - ((خير أبواب البر الصدقة)
7 - (خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق).
8 (شر ما في الرجل شح هالع، وجبن خالع).

357
حق الهدى

359
قوله عليه السلام:
(وأما حق الهدى: فإن تخلص به الإرادة إلى ربك
والتعرض لرحمته وقبوله، ولا تريد عيون الناظرين دونه، فإذا
كنت كذلك لم تكن متكلفا ولا متصنعا، وكنت إنما تقصد
إلى الله. واعلم أن الله يراد باليسير ولا يراد بالعسير. كما
أراد بخلقه التيسير ولم يرد بهم التعسير. وكذلك التذلل أولى
بك من (التدهقن) لأن الكلفة والمؤنة في (المتدهقنين) فأما
التذلل والتمسكن فلا كلفة فيهما ولا مؤنة عليهما، لأنهما
الخلقة، وهما موجودان في الطبيعة. ولا قوة إلا بالله).
* * *
إن مثل ما جاء به الإمام عليه السلام لا يملك من يتدبره أن يظل معرضا عنه،
ففيه من الجمال، وفيه من الكمال، وفيه من الجاذبية، وفيه من موافقة الفطرة،
وفيه من الإيحاءات الوجدانية، وفيه من غذاء القلب، وفيه من زاد الفكر،
وفيه من عظمة الاتجاهات، وفيه من قويم المناهج، وفيه من محكم التشريع.
وفيه من كل شئ ما يستجيش كل ناصر الفطرة ويغذيها ويلبيها.
وقد استعرض (صلوات الله عليه) في هذه الفقرات النيرة - بعد تقرير
كل تلك الحقوق التي تتعلق بالله - (حق الهدي) الذي هو أعظم حق. وهو
بعبارة واضحة نفس حق الله، فما هو الواجب علينا في أداء حق الله؟ أليس هو

361
عبادته بحزم وعزم وإخلاص، والخضوع له وحده دون سواه، وابتغاء فضله
وغير ذلك.
أجل: وهذا هو في نفس الوقت (حق الهدي). فهو إخلاص الإرادة
والرغبة إلى الرب، والتعرض لرحمته وعطفه ومغفرته، وهو كذلك إرادته
دون إرادة سواه. وهو القصد الصحيح إلى الله تعالى، والتعرض لنجاة الروح
وتزكيتها يوم نلقاه على حد تعبير الإمام عليه السلام.
هكذا يكون الإخلاص في العبادة، والتوجه الخالص إلى الله تعالى والقصد
الصحيح إليه.
ولا يمكن أن نتصور أن لقاء الله عسير، أو فيه شئ من العسر، كلا
إنما الله في كل مكان، وفي كل زمان، وفي كل نفس، وفي كل قلب،
وبين كل اثنين.
إنما الله موجود في كل مكان، ليس عليك لكي تراه وتلقاه وتقدم إليه
ما تريد، أو تطلب منه ما تريد، إلا أن تذكره وتقصد إليه، فإذا هو عندما
تريد، وإذا هو حيثما تريد.
والشئ المهم هنا أن نعرف أن الله تعالى كما ينال باليسير ولا ينال بالعسير
كذلك الله لا يريد بنا العسير إنما يريد بنا اليسر، وليخفف عنا ويلطف بنا
ويعطف علينا، فيجب أن نتذلل، فالتذلل خير من التكبر وأنفع، لأن في
التكبر أو الاستعلاء تكلفا وتصنعا، أما في التذلل والاستكانة فلا تكلف ولا تصنع
ومهم أيضا أن نعرف أن الإمام عليه السلام يكشف لنا عن جانب مهم من جوانب
الطبيعة المحيطة بنا، وهو جانب الذل والمسكنة، فليس علينا من سبيل إذا
عرفنا أن الطبيعة ليست جبارة، وليست متكبرة، وليست مخيفة، إنما السبيل
علينا لو عرفنا غير ذلك.

362
هكذا يقرر الإمام (صلوات الله عليه) فهو يريد أن ينبه إلى أن الأصل
في الطبيعة هو الذل والمسكنة، والأصل في كل شئ يوافق ويلائم ما عليه
الشئ من حال. أما الخروج عن الأصل، وعن الحالة الاعتيادية فهو خرق
للنظام وتكلف في خلق نظام آخر جديد لا يقوم مقام النظام الأول.
ولا يريد عليه السلام أن الذل أصل في كل إنسان بالنسبة إلى مثله. فليس ذلك
ما يريد، لأن الطبيعة الإنسانية في حساب الإمام عليه السلام كوحدة موحدة لا تمايز فيها
ولا خلاف، وهي كلها يجب - كما أن الأصل فيها - أن تكون ذليلة خاضعة
لمن؟ لله القوي المتكبر المتجبر المهيمن السلام، ولا قوة إلا بالله.
هذا ما يتجلى لدينا من هذه الفقرات المشعة.
ومعلوم أن الهدي والقلائد قوام للناس، فمن بذلها قومت له دينه،
وكفرت عن ذنبه، وطهرت له نفسه، وزكت ماله، وجعلته آمنا على نفسه
وهي عند من يأخذها قوام حياته، وتخفيف آلامه.
والقرآن الكريم ربط (الهدي) بتقوى الله قال: (ومن يعظم شعائر الله
فإنها من تقوى القلوب). إذ أن التقوى هي الغاية من مناسك الحج وشعائره
وتعظيم شعائر الله تعالى يتبعه الالتزام بها، وذلك خير عند الله. خير في
عالم الضمير والمشاعر، خير في عالم الحياة والواقع. فالضمير الذي يتمسك
بشعائر الله هو الضمير الذي يتطهر، والحياة التي ترعى فيها شعائر الله هي الحياة
التي يأمن فيها البشر من البغي والاعتداء، ويوجد فيها متابة أمن، وواحة
سلام، ومنطقة اطمئنان. وفوق ذلك أنها رموز تعبيرية عن التوجه إلى رب
البيت وطاعته. وقد تحمل في طياتها ذكريات قديمة من عهد إبراهيم (عليه السلام)
وما تلاه، وهي ذكريات الطاعة والإنابة والتوجه إلى الله منذ نشأة هذه الأمة

363
المسلمة، فهي والدعاء والصلاة سواء.
والأنعام التي تتخذ هديا ينحر في نهاية أيام الاحرام، يجوز لصاحبها
الانتفاع بها، إن كان في حاجة إليها يركبها، أو في حاجة إلى ألبانها يشربها
حتى تبلغ محلها - أي مكان حلها - وهو البيت العتيق. ثم تنحر هناك ليأكل
منها، ويطعم البائس الفقير.
وقد كان المسلمون على عهد النبي (ص) يغالون في الهدي، يختارونه
سمينا غالي الثمن، يعلنون بها عن تعظيمهم لشعائر الله، مدفوعين بتقوى الله.
ويذكر القرآن الكريم هذه الذبائح - التي تقدم هديا للبيت - أنها
شعائر معروفة في شتى الأمم على اختلاف عقائدها ومذاهبها بقوله: (ولكل
أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام).
فيعلم من هذا أن الدم الذي يريقه الحاج في تلك البقاع الطاهرة ليس
بدعة حصلت في الإسلام، إذ هو قديم في الأمم على اختلاف مذاهبها وتباني مشاربها
إلا أن الإسلام لما جاء هذب تلك العادات التي لا توافق مشربه.
وهذا القربان الذي كان يحصل في الزمن القديم كان يتقرب به الناس إلى
الله سبحانه وتعالى، وكان يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة.
وأول ما حصل على هذه البسيطة من أمر القرابين: هو ما قصه الله علينا
في القرآن الشريف، من أن قابيل بن آدم عليه السلام قرب إلى الله قربانا، وقرب
أخوه هابيل قربانا. فتقبل الله قربان أحدهما ولم يتقبل قربان الآخر، ويقال
إن قربان الأول كان ثمرا من ثمار الأرض، وقربان الثاني كان ذبيحة من
أبكار غنمه. وقد قص الله على نبيه (ص) أحسن القصص فقال: وقوله الحق
(واتل عليهم نبأ ابني آدم عليه السلام بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل
من الآخر).

364
وبعد الطوفان شيد نوح عليه السلام موضعا كان يقرب فيه كثيرا من الحيوانات
وكان يحرقها في هذا الموضع.
وكان إبراهيم عليه السلام يتقرب إلى الله بصدقة الخبز وغير ذلك. ونقلوا
عنه أن الله أمره أن يذبح عجلة وعنزا وكبشا وغير ذلك: هكذا جاء في سفر
التكوين آية - 9 و 17: -
وكان بنو إبراهيم من بعده يقربون إلى الله الذبائح ويحرقونها واستمروا
على هذه الحالة حتى بعث موسى عليه السلام فقسم الذبائح إلى دموي وغير دموي،
والأخير كان لا يخرج عن الماشية التي كانوا يطلقونها في البرية لله تعالى. وفي
الحقيقة يطلقونها لأصنامهم. وما زالت فيهم هذه العادة حتى جاء الإسلام وحرمها
والذبائح الدموية كانت تنقسم عندهم إلى ثلاثة أقسام: الذبيحة المحرقة
وذبيحة التكفير عن الخطايا، وذبيحة السلامة وكانوا يحرقون التي تسمى المحرقة
ولا يأخذون منها إلا جلدها، ويكون خاصا بالكاهن.
وذبيحة التكفير عن الخطايا كانوا يحرقون منها بعضها، والبعض الآخر
تأكله الكهنة.
وذبيحة السلامة كان لحمها حلالا لهم.
وكانوا يشرطون في الذبيحة التي تقدم وتكون قربانا أن تكون خالية
من كل عيب، وإذا كان الإنسان فقيرا لا يمكنه أن يقدم ذبيحة من ذوات
الأربع، كان يقبل منه ذبيحة الطيور. وما زالت عبادة الأصنام والأوثان
والكواكب في قديم الزمان. كانوا يقدمون شيئا من بعض النباتات ويحرقونها
على هياكلهم. وكان قدماء اليونان يدخلون الملح في قرابينهم، لأنه كان
عندهم رمزا للصدقة. وكانوا يضعونه مع حب الشعير ويقدمونه للحاضرين.
والرومان كانوا يقدمون الذبائح إلى آلهتهم، ومن يحضر جمعهم يأخذ

365
من لحمه تبركا ويفرقون جانبا من الذبائح على من يحضر من ذوي قرابتهم
وقد كانت كهنتهم عند تقديم الذبائح يرشون على الحاضرين عسلا وماء حتى
ارتقى الأمر إلى أن صاروا يرشون ماء الورد في اجتماعاتهم، ولا تزال هذه
العادة مستعملة في أكثر الحفلات الدينية إلى الآن.
ولم يقتصر ذبائح القربان على الحيوان، بل بالغ كثير من الأمم
المتقدمة حتى كانوا يقدمون ذبائحهم من البشر: كالفينقيين، والكنعانيين،
والصوريين، والفرس، والرومان، والمصريين.
وما زالت هذه العادة القبيحة فاشية ومنتشرة في أوربا حتى صدر قرار
من مجلس الأعيان الروماني بمنعها في سنة (657) ميلادية، ومع صدور هذا
القرار بمنعها فإن هذه العادة القبيحة استمرت في بلاد الجرمان مدة طويلة.
وكان ملك الحيرة يقدم في أيامه إلى معبوده المسمى (الغري) الذبائح
من البشر. وقد سرت له هذه العادة القبيحة من وثنيي الفرس.
ويقال: إن المصريين كانوا يقدمون إلى النيل يوم (11) بؤنة (الشهر
القبطي من كل سنة) بنتا بكرا من فتياتهم بعد أن يزينوها بأحسن زينة، ثم
يغرقونها في النهر الذي كان يعد من بعض معبوداتهم.
وما زالت هذه العادة الشنيعة فاشية في مصر حتى أبطلها (عمرو بن العاص)
كما يقال بموافقة (عمر بن الخطاب. هكذا قرأت في كتاب (حكمة التشريع
وفلسفته) للأستاذ أحمد الجرجاني أحد علماء الأزهر.
من هذا كله نأخذ درسا مهما في أحوال الأمم، ونرى أن المسلمين
كانوا أسبق الأمم والشعوب في تحريم الذبائح البشرية. وكانوا يسوقون
ذبائحهم من الإبل والبقر والغنم في زمن الحج الذي يسمونه (هديا) ويفرق
له لحمه على الفقراء والمساكين والبائسين والمحتاجين.

366
وبالتالي فالاسلام وجهها وجهتها الصحيحة، حين يتوجه بها إلى الله وحده
دون سواه. (فإلهكم إله واحد، فله أسلموا).
وهكذا يوحد الإسلام المشاعر والاتجاهات، ويتوجه بها كلها إلى الله
ومن ثم يعني بتوجيه الشعور والعمل، والنشاط والعبادة، والحركة والعادة،
إلى الوجهة الواحدة. وبذلك تصطبغ الحياة كلها بصبغة العقيدة.
وعلى هذا الأساس حرم من الذبائح ما أهل لغير الله به، وحتم ذكر
اسم الله عليها، حتى ليجعل ذكر اسم الله هو الغرض البارز، وكأنما تذبح
الذبيحة بقصد ذكر اسم الله. (ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على
ما رزقهم من بهيمة الأنعام). ثم يعقب بتقرير الوحدانية: (فإلهكم إله واحد)
وبالأمر بالإسلام له وحده: (فله أسلموا).. وليس إسلام الاجبار
والاضطرار، إنما هو إسلام التسليم والاطمئنان (وبشر المخبتين الذين إذا
ذكر الله وجلت قلوبهم). فمجرد ذكر اسم الله يحرك الوجل في ضمائرهم
ومشاعرهم. (والصابرين على ما أصابهم) فلا اعتراض لهم على قضاء الله
فيهم. (والمقيمي الصلاة). فهم يعبدون الله حق عبادته. ومما رزقناهم
ينفقون) فهم لا يضنون على الله بما في أيديهم.
وهكذا يربط الإسلام بين العقيدة والشعائر. فهي منبثقة من العقيدة
وقائمة عليها.
والشعائر كما مر تعبير عن هذه العقيدة ورمز لها. والمهم أن تصطبغ
الحياة كلها، ويصطبغ نشاطها كله بتلك الصبغة، فتتوحد الطاقة ويتوحد
الاتجاه، ولا تتمزق النفس الإنسانية في شتى الاتجاهات.
ويستطرد القرآن السياق في تقرير هذا المعنى وتوكيده وهو يبني شعائر
الحج بنحر البدن: (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله، لكم فيها منافع

367
فاذكروا اسم الله عليها صواف، فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع
والمعتر، كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون. لن ينال الله لحومها ولا
ولا دماؤها، ولكن يناله التقوى منكم، كذلك سخرناها لكم لتكبروا الله
على ما هداكم، وبشر المحسنين)..
ويخص البدن بالذكر لأنها أعظم الهدي، فيقرر أن الله أراد بها الخير
لهم، فجعل فيها خيرا وهي حية، تركب وتحلب، وهي ذبيحة تهدى وتطعم،
فجزاء ما جعلها الله خيرا لهم أن يذكروا اسم الله عليها ويتوجهوا بها إليه،
وهي تهيأ للنحر بصف أقدامها: (فإذا وجبت جنوبها) وأطمأنت على الأرض
بموتها أكل منها أصحابها، استحبابا، وأطعموا منها الفقير القانع - الذي لا
يسأل - والفقير المعتر - الذي يتعرض للسؤال.
فلهذا سخرها الله للناس ليشكروه على ما قدر لهم فيها من الخير حية
وذبيحة: (كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون).. وحين يؤمرون
بنحرها باسم الله (لن ينال الله لحومها ولا دماؤها) فإن اللحوم والدماء لا
تصل إلى الله سبحانه، إنما تصل إليه تقوى القلوب وتوجهاتها - لا كما كان
مشركوا قريش يلطخون أوثانهم وآلهتهم بدماء الأضحيات على طريقة الشرك
المنحرفة الغليظة! (كذلك سخرناها لكم لتكبروا الله على ما هداكم).
فقد هداكم إلى توحيده وحقيقة الصلة بين العمل والاتجاه. (وبشر المحسنين)
الذين يحسنون التصور، ويحسنون الشعور، ويحسنون العبادة، ويحسنون الصلة
بالله في كل نشاط الحياة.
هكذا علم الإسلام المسلم أنه لا يخطوا في حياته خطوة، ولا يتحرك في
ليله أو نهاره حركة، إلا وهو ينظر فيها إلى الله. ويجيش قلبه بتقواه ويتطلع
فيها إلى وجهه ورضاه.

368
فإذا الحياة كلها عبادة تتحقق بها إرادة الله من خلق العباد، وتصلح بها
الحياة في الأرض وهي موصولة السبب بالسماء.
وصفوة القول إن (الهدي) شئ أمر به للعقل والشرع، إذ فيه عون الفقير
وإرهاف النفس وتهذيب الروح وتقوية أواصر الاجتماع، فهو مفيد كل فائدة وليس
يوجب ضررا والمال الذي يصرف فيه كالمال الذي يصرف في أصل الحج. والقول
بأن أشلاء الأضاحي تولد الجراثيم السامة أو تدفن بلا فائدة مما يحمل المسؤولية على
الحكام المسيطرين على تلك البلاد، حيث لا يؤدون الفريضة في صرف هذه الأضاحي
في مصارفها الشرعية المقررة، ولو فعلوا ذلك لما فضلت بضعة لحم هناك
جاء في (علل الشرايع) عن الإمام جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم السلام)
قال قال رسول الله (ص): (إنما جعل الله هذا الأضحى لتتسع مساكينكم
من اللحم فأطعموهم). وعن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام
ما علة الأضحية. فقال: (إنه يغفر لصاحبها عند أول قطرة تقطر من دمها
على الأرض، وليعلم الله عز وجل من يتقيه بالغيب، قال الله تعالى: (لن
ينال الله لحومها الآية). وقال النبي (ص): (استفرهوا ضحاياكم فإنها
مطاياكم على الصراط) وعن علي عليه السلام قال: (لو علم الناس ما في الأضحية
لاستدانوا وضحوا، إنه يغفر لصاحب الأضحية عند أول قطرة تقطر من دمها).
وفي (وسائل الشيعة): (إن رسول الله (ص) قال لابنته فاطمة عليه السلام:
إشهدي ذبح ذبيحتك، فإن أول قطرة منها يغفر الله بها كل ذنب عليك،
وكل خطيئة عليك، إلى أن قال: وهذا للمسلمين عامة). وفي (البحار)
أنها يؤتى بها يوم القيامة فتوضع في ميزانك مثل ما هي سبعين ضعفا. قال
فقال له المقداد: يا رسول الله هذه خاصة أم لكل مؤمن عامة فقال: بل لآل
محمد وللمؤمنين).

369
وفي كتابه الغنية (للشيخ عبد القادر الجيلاني) عن النبي (ص): (إن
داود قال: إلهي ما ثواب من ضحى من أمة محمد، قال الله عز وجل: ثوابه أن
يعطى بكل شعرة منها عشر حسنات، ويمحى عنه عشر سيئات، ويرفع له عشر
درجات، فقال: إلهي فما ثوابه إذا شق بطنها؟ قال: إذا انشق القبر عنه
أخرجه الله تعالى آمنا من الجوع والعطش ومن أهوال القيامة، أما علمت
يا داود أن الضحايا هي المطايا، وأن الضحايا تمحو الخطايا وتدفع البلايا،
مر با الضحايا فإنها فداء المؤمن كفداء إسحاق من الذبح).
وروي أن عليا (رضي الله عنه) قرأ (نحشر المتقين إلى الرحمن
وفدا *) ثم قال: (وهل يكون الوفد إلا ركبانا على نجائبهم، ونجائبهم ضحاياهم
يؤتون بنوق لم ير الخلائق مثلها عليها أرحلة من الذهب، وأزمتها الزبرجد،
ثم تنطلق بهم إلى الجنة حتى يقرعوا بابها).

370
حق السلطان

371
قوله عليه السلام:
(وحق السلطان أن تعلم أنك جعلت له فتنة، وأنه
مبتلى فيك بما جعله عز وجل له من السلطان، وأن تخلص
له في النصيحة، وأن لا تماحكه، وقد بسطت يده عليك فتكون
سبب هلاك نفسك وهلاكه. وتذلل وتلطف لإعطائه من الرضا
ما يكفه عنك ولا يضر بدينك وتستعين عليه في ذلك بالله،
ولا تعازه ولا تعانده، فإنك إن فعلت ذلك عققته وعققت نفسك،
فعرضتها لمكروه وعرضته للهلكة فيك، وكنت خليقا أن تكون
معينا له على نفسك وشريكا له فيما أتى إليك من سوء. ولا قوة
إلا بالله).
* * *
كثيرا ما أقف أمام هذه النصوص وقفة المتهيب أن أمسها بأسلوبي القاصر
أو أن أشوبها بتعبيري الفاني!
ولكن ماذا أصنع ونحن في جيل لا بد أن يقدم له شئ من الايضاح
لبعض ألفاظه ولبعض تعبيراته، مع التوجيه إلى ما فيه من جمال وكمال.
سبق أن قلنا في مطلع الحديث عن هذه الرسالة - رسالة الحقوق - أن
المحور الذي تدور عليه موضوعاتها هو تنظيم علاقات بني الإنسان، تارة بينهم
وبين خالقهم سبحانه، وتارة بين بعضهم لبعض، أفرادا وجماعات، وعقائد

373
وديانات، وشعوبا ودولات...
وفي هذا الدرس يستعرض الإمام عليه السلام حق السلطان (أي صاحب السلطة)
القائمة التي تمسك بيدها زمام الأمور، وتأخذ على عاتقها أن تقوم بواجبات:
منها اليسير، ومنها العسير.
وبديهي أن طبيعة مهمة السلطان الأولى، (وهي حماية أمن الناس وأعراضهم
ودمائهم وأموالهم ونشر العدل فيهم)، تستلزم توفر خصائص واشتراطات
في شخص السلطان، ونظام حكمه.
جاء عن أبي ذر (ره) قال: (قلت يا رسول الله ألا تستعملني. قال:
فضرب بيده على منكبي ثم قال: يا أبا ذر إنك ضعيف. وإنها أمانة، وإنها
يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذ بحقها وأدى الذي عليه فيها).
وأبو ذر من الصحابة المقربين من الرسول (ص) ولكن النبي صارحه
مع ذلك بأنه لا يصلح للحكم.. فاشتراط القوة في السلطان، واشتراط
الأمانة، يقصد بهما معنى واسع، فالقوة يراد بها قوة البأس وقوة الفهم وقوة
الشخصية وقوة ضبط النفس، ليدفع السلطان بهذه الصفات أذى بعض الناس
لبعضهم، ولكي لا يظلمهم، ولكي يستطيع بقوة فهمه تعرف أحوال رعيته
والفصل بينهم، وليستطيع بقوة ضبطه لنفسه أن يعلم أن الحكم ليس سلطة
يستبد بها كيف شاء، وأنه ليس لذة لشخصيته ولا نفعا مختلسا وإنما هو تكليف
واشتراط الأمانة هو إحاطة للسلطان بسياج من الأخلاق الفاضلة التي
يستلزمها الاضطلاع بمهمة الحكم. ومن الأمانة الحرص على شؤون الرعية
المادية والأدبية، والحرص على الدفاع عنها والحزم، فإن الحازم لا يخون
الحقوق بشفاعة الشافعين، لا حقوق الأفراد ولا حقوق المجتمع على المذنب
ولا حقوق الله على متعدي حدوده. ولا يميل الحازم مع عاطفته الشخصية في

374
تقريب الأفراد أو إبعادهم.
وقد عد الفقهاء في باب الأمانة: الرحمة والرفق بالرعية، وتأديب
المفسدين العابثين بالأمن العام.
فهذا الحديث النبوي قسم من دستور الحكم وما تتطلبه الحكومة من
صفات لشخص الحاكم. ويتممه قوله (ص): (ومن ولاه الله شيئا من أمور
المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم احتجب الله دون حاجته وخلته وفقره
يوم القيامة). وقوله (ص): (أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغها إلى
فإن من أبلغ سلطانا حاجة من لا يستطيع إبلاغها ثبت الله قدميه يوم القيامة).
فالاسلام حين يشترط في السلطان ألا يحتجب دون حاجات الناس، يسد
باب المحسوبية وباب الرشوة. ويوفر للمحكمين أول أركان الاطمئنان، وهو
العدل فيهم والوقوف على احتياجاتهم. وفي التشريع الإسلامي لا يجوز أن يعهد
بالحكومة أو ولاية الأقاليم أو المدائن أو القرى (أو أي وظيفة عامة) إلى رجل
يطلبها بنفسه أو يتطلع إليها، لأن طلبه للحكم يجعله في نظر الإسلام رجلا
غير أمين وصاحب غاية شخصية، إما أن تكون الانتفاع المادي عن طريق
الولاية، أو الاستمتاع بلذة السلطان، وكلا الأمرين مناقض لمصلحة الأمة
المحكومة. ومن قديم الزمان كان طالب الحكم يعلل طلبه له بأن يرى في
نفسه القدرة عليه، ولكن التعليل الإسلامي لهذه الرغبات هو الضعف وفساد
الذمة وعدم الأمانة.
وشدد الإسلام على السلطان وحذره الظلم، وخوفه الآخرة، وقرر أن السلطة
تقابلها المسؤولية (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته). وهذا أصل من أصول
القانون الدولي الخاص في العصور الحديثة، ابتدعه الإسلام ولم يسبقه غيره إليه
ونظام السلطة الإسلامية نظام دستوري بأوسع المعاني، فالأمير يستمد سلطته

375
وولايته من البيعة الشعبية العامة، وتكون البيعة من أهل السيف (لأنهم قوته
في حماية الدولة) وأهل العلم ورؤساء العشائر، وهذا القسم هو أوسع الحقوق
الانتخابية. فكل رئيس عشيرة إنما ارتضته واختارته عشيرته وانتخبته، وكل
ذي سيف يتبعه فرسان يدينون له كما كان الحال في الجاهلية وفي الإسلام وفي
العصور الوسطى. وذو السيف هنا هو المحارب المشتهر، فكأنه بمثابة أحد
القواد. وأهل العلم معتبرون أعيان الوجوه في كل مملكة متحضرة.
والأمير مسؤول، مسؤولية دستورية كاملة، لا أمام ناخبيه وأصحاب
بيعته فقط، ولكن أمام كل فرد من رجال الشارع. والإمام (صلوات الله عليه)
هنا يستعرض المشاكل التي تحيط بكل من الحاكم والمحكوم (أي السلطان
والرعية) كل واحد تجاه الآخر. فيقول:
إن السلطان مفتون برعيته للمسوؤلية التي يتحملها تجاه رعيته، وللواجبات
التي عليه أداؤها، وكذا الشعب مفتون بالسلطان لأن للسلطان عليه حقوقا
يلزم أداؤها. وإذن فكل منهما مفتون بصاحبه، والاخلال بشئ ما من أي
من الجانبين يوجب قيام الجانب الآخر بعمل سلبي تجاه الآخر.
ونعرف من هذه الفقرات أن الإمام عليه السلام يصور فكرة (التعاقد الاجتماعي)
قبل أن يتصورها المحدثون. ومعلوم أن التعاقد معناه الاتفاق بين الحكومة
والشعب، أن يخدم كل مصالح الآخر، ويقوم كل بأداء ما عليه من واجبات
فالثورات التي تقوم ضد السلطان الغاشم حق مشروع للشعب، بل واجب
من واجباته، وكذا السلطان له الحق أن يؤدب كل فرد يرى منه خروجا على
ما اتفق عليه.
الواجب أن يخلص السلطان في خدمة الرعية، وتنقاد الرعية للسلطان
وتخضع لقوانينه العادلة.

376
قرأت للإمام على أمير المؤمنين عليه السلام (في نهج البلاغة) خطبة يستعرض
فيها حق السلطان على الرعية، وحق الرعية على السلطان قائلا:
(... ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقا افترضها لبعض الناس على
بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها ويوجب بعضها بعضا ولا يستوجب بعضها إلا
ببعض. وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية،
وحق الرعية على الوالي، فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل، فجعلها
نظاما لألفتهم وعزا لدينهم، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح
الولاة إلا باستقامة الرعية، فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها
حقها، عز الحق بينهم وقامت مناهج الدين واعتدلت معالم العدل وجرت على
أذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان وطمع في بقاء الدولة ويئست مطالع الأعداء
وإذا غلبت الرعية واليها وأجحف الوالي برعيته، اختلفت هنالك الكلمة وظهرت
معالم الجور وكثر الإدغال في الدين وتركت محاج السنن، فعمل بالهوى
وعطلت الأحكام وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حق عطل ولا
لعظيم باطل فعل، فهنالك تذل الأبرار وتعز الأشرار، وتعظم تبعات الله
سبحانه عند العباد...) (1)
(نستخلص من هذه التوجيهات، الأمور التالية:
1 - أن المجتمع الصالح الذي يعز فيه الحق، ولا يطمع فيه العدو
يتقوم بأمرين: صلاح الراعي، وصلاح الرعية: أما صلاح الراعي فبعلمه
وإخلاصه، وكفاءته للقيام بأعباء الحكم. وأما صلاح الرعية فيتقوم بالنصح
والاخلاص للراعي الصالح، والتعاون على الخير والنفع العام، فإذا قصر الراعي،
أو تمردت الرعية فقد الأمن، وعم القلق والذعر، وشلت الأعمال، وإلى هذا



(1) الثالث من شرح النهج لابن أبي الحديد.
377
أشار الإمام بقوله: (فعمل بالهوى، وعطلت الأحكام). وقد اعتبر الإسلام
التمرد على الحاكم تمردا على المجتمع، وسمى الخارجين عليه بالساعين في
الأرض فسادا.
وينبغي الإشارة إلى أن حق الرعية على الراعي ثابت مطلقا، سواء
أقامت الرعية بما عليها من حق الراعي، أو لم تقم.. أما حق الراعي على
رعيته فمقيد بصلاح الراعي، قيامه بما عليه من حق.. فإن أهمل فلا تجب
طاعته، بل يجوز خلعه وعزله.
2 - أن التعاون على الخير والأمر بالمعروف حق الله على جميع المكلفين
وأن من ترك ذلك تهاونا فقد خان أمانة الله عز وجل، جاء في الحديث:
(من رأى أخاه على أمر يكرهه فلم يردعه عنه، وهو يقدر عليه فقد خان
الله). وقال الإمام لولده الحسن عليه السلام: (إمحض أخاك النصيحة حسنة كانت
أم قبيحة).
3 - أن الإنسان مهما بلغت منزلته من العلم، وعظمت مكانته في الدين
يظل مفتقرا إلى النصيحة والإرشاد، حتى من الأشخاص العاديين، إذ ربما
كشفوا له عن شئ أو أشياء لم يلتفت إليها، ومن رأى نفسه فوق النقد فقد ادعى
أنه بلغ الشوط الأخير، وأحاط بكل شئ علما.. قال الإمام في آخر الخطبة
- التي نقلنا منها القطعة السابقة -: (ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي، ولا
التماس إعظام لنفسي، فإنه من استثقل الحق أن يقال له، أو العدل أن يعرض
عليه، كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق، أو مشورة
بعدل، فإني لست بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي إلا أن يكفي
الله من نفسي ما هو أملك به مني، فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب
غيره ".

378
ونقدم هذا الدرس البليغ من باب مدينة العلم إلى الذين يزكون أنفسهم
ويستنكفون عن الاصغاء إلى النصيحة والإرشاد. ومهما شككت في شئ فإني لا
أشك في أن من يدعى أنه أعلم الناس في زمانه لا يستطيع أن ينظر إلى شئ بعين
الواقع، أو يأتي بخير ما دام معتقدا بأن علمه بما هو - ويصرف النظر عن أي
أثر - هو أعظم الأعمال وأجلها. وأنه يجب أن يكون المطلب الأخير للانسانية
جمعاء.. ومن كانت هذه حاله فمحال أن يقبل النصح، والتحول عن رأيه..
فالأولى أن يترك وشأنه، ونتجاهل مكانه.. وأقسم أني ما نظرت إلى واحد
من المتعالين الذين عرفتهم إلا شعرت بأني أنظر إلى خرافة القرن العشرين،
إلى من خلع إنسانيته ووجوده، وذهل عن نفسه، وعاش في عالم لا وجود له
إلا في وهمه ومخيلته.. وهنا تكمن الأعجوبة والخرافة). (1)
ومن كلام الحكماء: قلوب الرعية خزائن واليها، فما أودعه فيها
وجده. وكان يقال: صنفان متباغضان متنافيان، السلطان والرعية، وهما مع
ذلك متلازمان، إن صلح أحدهما صلح الآخر، وإن فسد فسد الآخر وكان
يقال: محل الملك من رعيته محل الروح من الجسد، ومحل الرعية منه محل
الجسد من الروح، فالروح تألم بألم كل عضو من أعضاء البدن وليس كل
واحد من الأعضاء يألم بألم غيره، وفساد الروح فساد جميع البدن، وقد يفسد
بعض البدن وغيره من سائر البدن صحيح.
وكان يقال: ظلم الرعية إستجلاب البلية. وكان يقال: العجب ممن
استفسد رعيته وهو يعلم أن عزه بطاعتهم. وكان يقال: موت الملك الجائر
خصب شامل. وكان يقال: لا قحط أشد من جور السلطان. وكان يقال: قد
تعامل الرعية المشمئزة بالرفق فتزول أحقادها ويذل قيادها، وقد تعامل



(1) على والفلسفة
379
بالخرق فتكاشف بما غيبت وتقدم على ما عيبت حتى يعود نفاقها شقاقا ورذاذها
سيلا بعاقا، إن غلبت وقهرت فهو الدمار، وإن غلبت وقهرت لم يكن بغلبها
إفتخار ولم يدرك بقهرها ثار. وكان يقال: الرعية وإن كانت ثمارا مجتناة
وذخائر مقتناة وسيوفا منتضاة وأحراسا مرتضاة، فإن لها نفارا كنفار الوحوش
وطغيانا كطغيان السيول، ومتى قدرت أن تقول قدرت أن تصول. وكان
يقال: أيدي الرعية تبع ألسنتها فلن يملك الملك ألسنتها حتى يملك جسومها
ولن يملك جسومها حتى يملك قلوبها فتحبه ولن تحبه حتى يعدل عليها في
أحكامه عدلا يتساوى فيه الخاصة والعامة، وحتى يخفف عنها المؤن والكلف،
وحتى يعفيها من رفع أوضاعها وأراذلها عليها، وهذه الثالثة تحقد على الملك
العلية من الرعية، وتطمع السفلة في الرتب السنية. وكان يقال: الرعية
ثلاثة أصناف: صنف فضلاء مرتاضون بحكم الرئاسة والسياسة، يعلمون فضيلة
الملك وعظم غنائه ويرثون له من ثقل أعبائه، فهؤلاء يحصل الملك موداتهم
بالبشر عند اللقاء ويلقى أحاديثهم بحسن الاصغاء. وصنف فيهم خير وشر
ظاهران فصلاحهم يكتسب من معاملتهم بالترغيب والترهيب. وصنف من
السفلة الرعاع أتباع لكل راع لا يمتحنون في أقوالهم وأعمالهم بنقد لا يرجعون
في الموالاة إلى عقد.
ويقال أن يزد جرد بن بهرام سأل حكيما: ما صلاح الملك: قال:
الرفق بالرعية وأخذ الحق منها بغير عنف والتودد إليها بالعدل، وأمن السبل
وإنصاف المظلوم. قال فما صلاح الملك: قال: وزراؤه إذا صلحوا صلح.
قال: فما الذي يثير الفتن. قال: ضغائن يظهرها جرأة عامة واستخفاف
خاصة وانبساط الألسن بضمائر القلوب، وإشفاق مؤسر وأمن معسر وغفلة
مرزوق ويقظة محروم. قال وما يسكنها قال: أخذ العدة لما يخاف وإيثار

380
الجد حين يلتذ الهزل والعمل بالحزم وادراع الصبر بالقضاء. وكان يقال
خير الملوك من أشرب قلوب رعيته محبته كما أشعرها هيبته، ولن ينال ذلك
منها حتى تظفر منه بخمسة أشياء: إكرام شريفها ورحمة ضعيفها وإغاثة لهيفها
وكف عدوان عدوها وتأمين سبل رواحها وغدوها، فمتى أعدمها شيئا من ذلك
فقد أحقدها بقدر ما أفقدها.
وكان يقال: الأسباب التي تجر الهلك إلى الملك ثلاثة: أحدها من
جهة الملك، وهو أن تتأمر شهواته على عقله فيستهويه نشوات الشهوات فلا
تسنح له لذة إلا اقتضها، ولا راحة إلا افترصها. والثاني من جهة الوزراء وهو
تحاسدهم المقتضي تعارض الآراء، فلا يسبق أحدهم إلى حق إلا كويد وعورض
وعوند. والثالث من جهة الجند المؤهلين لحراسة الملك والدين وتوهين
المعاندين، وهو نكولهم عن الجلاد وتضجيعهم في المناصحة والجهاد، وهم
صنفان: صنف وسع الملك عليهم فأبطرهم الإتراف وضنوا بنفوسهم عن التعويض
للاتلاف. وصنف قدر عليهم الأرزاق فاضطغنوا الأحقاد واستشعروا النفاق.
فالسلطان: زمام الأمور، ونظام الحقوق، وقوام الحدود، والقطب
الذي عليه مدار الدنيا.
وهو حمى الله في بلاده، وظله الممدود على عباده، به يمتنع حريمهم
وينتصر مظلومهم، وينقمع ظالمهم، ويأمن خائفهم.
قالت الحكماء: (إمام عادل خير من مطر وابل، وإمام غشوم خير
من فتنة تدوم). ولما يزع الله بالسلطان أكثر مما يزع بالقرآن. وفيما أنزل
الله تعالى على نبيه داود عليه السلام: (إني أنا الله مالك الملوك قلوب الملوك بيدي،
فمن كان لي على طاعة جعلت الملوك عليهم رحمة، ومن كان لي على معصية جعلت
الملوك عليهم نقمة، فحق على من قلده الله أزمة حكمه، وملكه أمور خلقه،

381
واختصه بإحسانه، ومكن له في سلطانه، أن يكون من الاهتمام بمصالح رعيته
والاعتناء بمرافق أهل طاعته، بحيث وضعه الله من الكرامة، وأجرى عليه
من أسباب السعادة).
وقال رسول الله (ص): (وقروا السلاطين وبجلوهم فإنهم عز الله وظله
في الأرض إذا كانوا عدولا).
وعن عمر قال قلت للنبي (ص): (اخبرني عن هذا السلطان الذي
ذلت له الرقاب وخضعت له الأجساد ما هو. قال: ظل الله في الأرض فإذا
أحسن فله الأجر وعليكم الشكر، وإذا أساء فعليه الإصر وعليكم الصبر).
وجاء عن الإمام (موسى بن جعفر عليه السلام) إنه قال لشيعته: (لا تذلوا
رقابكم بترك طاعة سلطانكم، فإن كان عادلا فاسألوا الله إبقائه، وإن كان جائرا
فاسألوا الله إصلاحه، فإن صلاحكم في صلاح سلطانكم، وإن السلطان العادل
بمنزلة الوالد الرحيم فأحبوا له ما تحبون لأنفسكم، وأكرهوا له ما تكرهون
لأنفسكم).
وقال (مالك بن دينار): (وجدت في بعض الكتب يقول الله تعالى:
(أنا ملك الملوك رقاب الملوك بيدي، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن
عصاني جعلتهم عليه نقمة، لا تشغلوا ألسنتكم بسب الملوك ولكن توبوا
إلى الله يعطفهم عليكم).
وسئل (كعب الأحبار) عن السلطان فقال: (ظل الله في أرضه من
ناصحه اهتدى ومن غشه ضل). وعن (حذيفة اليمان): (لا تسبوا السلطان
فإنه ظل الله في الأرض، به يقوم الحق ويظهر الدين، وبه يدفع الله الظلم
ويهلك الفاسقين).
وقالوا: (إن طاعة السلطان تؤلف شمل الدين وتنظم أمور المسلمين،

382
وإن عصيان السلطان يهدم أركان الملة، وإن أرفع منازل السعادة طاعة
السلطان، وإن طاعته عصمة من كل فتنة. وبطاعة السلطان تقام الحدود وتؤدى
الفروض وتحقن الدماء وتؤمن السبل).
وما أحسن ما قالت العلماء: (إن طاعة السلطان هدى لمن استضاء
بنورها، وإن الخارج عن طاعة السلطان منقطع العصمة برئ من الذمة، وإن
طاعة السلطان حبل الله المتين ودينه القويم. وإن الخروج منها خروج من أنس
الطاعة إلى وحشة المعصية. ومن غش السلطان ضل وزل، ومن أخلص له
المحبة والنصح حل من الدين والدنيا في أرفع محل).
والسلطان الفاضل هو الذي اجتمعت فيه خصال، وعدمت فيه خصال:
فأما الخصال التي يستحب أن توجد فيه:
منها (العقل):
وهو أصلها وأفضلها، وبه تساس الدول بل الملل وفي هذا الوصف كفاية
ومنها (العدل):
وهو الذي تستغرز به الأموال، وتعمر به الأعمال، وتستصلح به الرجال
وكان يقال: (لا يكون العمران إلا حيث يعدل السلطان) وكان يقال
العدل حصن وثيق في رأس لا يحطمه سيل ولا يهدمه منجنيق.
وقال النبي (ص): (زين الله السماء بثلاثة: الشمس والقمر والكواكب
وزين الأرض بثلاثة العلماء والمطر والسلطان العادل). وقيل لأنوشروان أي
الخير أوقى قال: الدين. قيل: فأي العدد أقوى قال: العدل.
وخطب الإسكندر جنده فقال لهم بالرومية كلاما تفسيره: (يا عباد
الله إنما إلهكم الله الذي في السماء الذي نصرنا بعد حين، الذي يسقيكم الغيث
عند الحاجة، وإليه مفزعكم عند الكرب والله لا يبلغني أن الله أحب شيئا إلا

383
أحببته وعملت به إلى يوم أجلى، ولا يبلغني أنه أبغض شيئا إلا أبغضته وهجرته
إلى يوم أجلى وقد أنبئت أن الله يحب العدل في عباده ويبغض الجور، فويل
للظالم من سوطي وسيفي، ومن ظهر منه العدل من عمالي فليتكئ في مجلسي
كيف شاء وليتمنى على ما يشاء فلن تخطيه أمنيته والله المجازي كلا بعمله)
كم يرى المرء في هذه الحياة من جمال ساحر، ويتعشق من نظام بديع
فاتن، ولكن لم يبصر يوما أجمل من العدل ولم يتعشق كتعشقه للوفاء والرحمة
والصدق.
وكم ينتاب الشعوب مر الألم، وينزل بها عظيم الخطوب، فلم تتوجع
لذلك النفوس، وتتألم الأفئدة كتألمها من الغدر.
العدل منبع الحرية الصافي، ونور المدنية الوهاج، على أساسه يبنى
الملك ويقوى السلطان، فهو سر نظام الأمم، ورمز نجاحها وتقدمها. فما سطعت
شمسه على شعب إلاهام في سماء الطمأنينة ورتع في بحبوحة الرخاء، وما غربت
شمسه عن أمة إلا اندك صرح مجدها وتقوض بنيان عزها. قال تعالى: (ألم تر
كيف فعل ربك بعاد! إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد، وثمود
الذين جابوا الصخر بالواد، وفرعون ذي الأوتاد، الذين طغوا في البلاد،
فأكثروا فيها الفساد، فصب عليهم ربك سوط عذاب، إن ربك لبالمرصاد).
فأي أمة تجردت من العدل، وتسربلت برداء الظلم والغدر، تلك هي
الأمة الهمجية والشعب المتوحش، تلك هي الأمة الساقطة والشعب السافل.
تلك هي الأمة التي قدر لها العار في الحياة، والويل في الممات.
(ولما فتح السلطان (هولاكو) بغداد سنة ست وخمسين وستمائة. أمر
أن يستفتى العلماء أيما أفضل، السلطان الكافر العادل، أو السلطان المسلم الجائر
ثم جمع العلماء بالمستنصرية لذلك، فلما وقفوا على الفتيا أحجموا عن الجواب وكان

384
رضي الدين (علي بن طاووس) حاضرا هذا المجلس، وكان مقدما محترما،
فلما رأى إحجامهم تناول الفتيا، ووضع خطه فيها، بتفضيل العادل الكافر على
المسلم الجائر، فوضع الناس خطوطهم بعده. (1)
ولا غرابة في ذلك بعد ما روي عن سيد الكائنات من جوامع كلمه:
(يبقى الملك بالعدل مع الكفر ولا يبقى بالجور مع الإيمان).
ومنها (العلم):
وهو ثمرة العقل، وبه يستبصر السلطان فيما يأتيه ويذره، ويأمن
الزلل في قضاياه وأحكامه، وبه يتزين في عيون العامة والخاصة.
قال بعض الحكماء: السلطان إذا كان خلوا من العلم كان كالفيل الهائج
لا يمر بشئ إلا خبطه، ليس له زاجر من عقل، ولا رادع من علم.
وليس المراد بالعلم في السلطان هو تصور المسائل المشكلة، والتبحر في
غوامض العلوم والاغراق في طلبها، وإنما المراد من العلم هو أن يكون له
أنس بها، بحيث يمكنه أن يفاوض أربابها فيها مفاوضة يندفع بها الحال الحاضر
ولا ضرورة في ذلك إلى التدقيق.
وتختلف علوم السلاطين باختلاف آرائهم. فأما سلاطين الفرس فكانت
علومهم حكما ووصايا، وآدابا وتواريخ وهندسة وما أشبه ذلك. وأما علوم سلاطين
الإسلام فكانت علومهم اللسان: كالنحو واللغة والشعر والتواريخ، حتى أن
اللحن كان عندهم من أفحش عيوب السلطان. وكانت منزلة الإنسان تعلو عندهم
بالحكاية الواحدة، وبالبيت الواحد من الشعر، بل باللفظة الواحدة من اللغة
وأما في الدولة المغولية فرفضت تلك العلوم كلها، ونفقت فيها علوم
أخر: وهي علم السياسة والحساب لضبط المملكة، وحصر الدخل والخرج
والطب لحفظ الأبدان والأمزجة، والنجوم لاختبار الأوقات. وما عدا ذلك من



(1) الآداب السلطانية.
385
العلوم والآداب فكاسد عندهم.
ومنها (الخوف من الله تعالى):
وهذه الخصلة هي أصل كل خير، ومفتاح كل بركة، فإن السلطان
متى خاف الله أمنه عباد الله.
روى أن عليا أمير المؤمنين (عليه السلام) استدعى بصوته بعض عبيده فلم يجبه
فدعاه مرارا فلم يجبه، فدخل عليه رجل وقال: يا أمير المؤمنين، إنه بالباب
واقف وهو يسمع صوتك ولا يكلمك، فلما حضر العبد عنده قال: أما سمعت
صوتي، قال: بلى قال: فما منعك من إجابتي؟ قال: أمنت عقوبتك.
قال علي عليه السلام: الحمد لله الذي جعلني ممن يأمنه خلقه.
ومنها (العفو):
عن الذنوب وحسن الصفح عن الهفوات، وهذه أكبر. خصال الخير،
وبها تستمال القلوب وتصلح النيات فمما جاء في التنزيل من الحث على ذلك قوله
تعالى: (وليعفو وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم).
كان بهرام بن يزدجر متصفا بالعفو والصفح عن هفوات رجاله. وكان
أبوه (يزدجر) بعثه إلى النعمان بن امرء القيس (ملك الحيرة) ليربيه، فتعلم
فنون الآداب من البلاغة والشجاعة والرأي والضرب والرمي وسائر الفنون العربية
ثم قتل أبوه (يزدجر) فسار بهرام بنخبة من فرسان العرب وذوي النجدة منهم إلى
محله طالبا للملك، فنازعه أخوه (نردشير) وكان هوى الوزراء مع (نردشير)
لأنهم يسمون بهرام عربيا ولا يقبلون أن يملك فارس عربي، فاختصما بينهما
(بهرام ونردشير) ثم رضيا على أن يجعلا التاج بين أسدين جائعين فمن لبسه
كان هو الملك، فجوعا أسدين ووضعا بينهما التاج، فقال بهرام: لنردشير
تقدم فامتنع نردشير وتقدم بهرام، فأخذ الأسدين من عنقيهما وضرب رأس
أحدهما بالآخر فألقاهما صريعين، ثم لبس التاج فملكهم، فعندها خاف

386
الوزراء بهرام وكتبوا إلى قيصر (ملك الروم) أن يأتي فيستلم مملكة فارس،
وكثرت كتبهم عليه، واختبرهم فوجدهم صادقين، فجاء بجنوده حتى صار
تحت جبل (حلوان) قريبا من عاصمة الملك، فعندها أخبر الوزراء بهرام،
فعجب من ذلك وعلم أنهم هم الذين كاتبوه، فاستشارهم ليتضح له الحال.
فقالوا لا رأي إلا الاستسلام لأنه مصبحنا ونحن على غير عدة، فسكت عنهم
وطلب العرب الذين صحبوه من الحيرة فأتوا إلى داره فقال لهم إن فارسا أبغضتني
لأني عربي منكم، وكتبوا إلى قيصر (ملك الروم) فجاء ليقتلنا ويملك فارس
فما الرأي، قالوا: الرأي أن نخرج إليه ونبيت عسكره هذه الليلة فنلقى
سلاما أو نموت كراما، فقال: ذلك رأيي بالمصلحة وظني بكم ثم صعد بهم
على جبل (حلوان) فأشرف على القوم وإذا هم سكارى غارون فرحون فقسمهم
ماءة جريدة وباعد بين الجرائد وكانوا ألفين، فأمرهم أن يشقوا العسكر ذهابا
وإيابا، وأن لا يضربوا إلا من تعرض لهم، وأن يجتنبوا خيمة قيصر وخيم
خاصته، ففعلوا ذلك ثم عادوا إلى جبل (حلوان) فأشرفوا على القوم فإذا
هم بين منتبه مدهوش، وبين سكران طافح، وجعل يضرب بعضهم بعضا،
وظنوا أن فارسا أحاطت بهم وأن الكتب خديعة، فأمهلهم حتى سكنت فورتهم
فنزل من على الجبل فقبض على قيصر وعلى خاصته، وعاد إلى محله قبل أن
يلوح الصباح، فلما طلعت الشمس أحضر (بهرام) وزرائه وملك الروم فقال
أيها الملك كيف غدرت بنا وبيننا وبينك عهود والملك لا يغدر، فأخرج قيصر
كتب الوزراء وقال: أنظر تعذر، فلم ينظر (بهرام) إلى الكتب وأمر بنار
فأجججت فأحرق الكتب، ومن على ملك الروم بالاطلاق وجدد عليه العهود
والمواثيق، وعفى وصفح عن وزرائه، فقال قيصر: أيها الملك إني اختبرت
أفعالك فوجدتها مطابقة للحكمة إلا فعلين لم أهتدي لمرادك منهما. قال:

387
وما هما. قال: إحراقك الكتب قبل قرائتها، وفي قرائتها معرفة عدوك من
صديقك، واجتناب العسكر خيمتي وخيم خاصتي، بما أني طلبتك دونهم
وبإهلاكي إهلاكهم. فقال (بهرام): أيها الملك أما إحراق الكتب قبل
قرائتها فلو قرائتها غضبت على وزرائي فقتلتهم فإذا قتلتهم لم أجد من يخلفهم ولا
يعرف الوزارة إلا من نشأ فيها، وأما اجتناب العسكر خيمتك وخيم خاصتك
فلأن الملوك إذا سافرت صحبت نسائها، ولربما طرقت الخيل خيم النساء
فارتاعت، ولا يحسن بذي مروءة أن يريع النساء ولو كانت نساء أعدائها.
ومن الخصال التي يستحب أن تكون في السلطان.
(الكرم):
وهو الأصل في استمالة القلوب، وتحصيل النصائح واستخدام الأشراف
يقول الشاعر:
إذا ملك لم يكن ذاهبة فدعه فدولته ذاهبة
ومما جاء في الحديث النبوي (صلوات الله على صاحبه): (تجاوزوا عن
ذنب السخي فإن الله آخذ بيده كلما عثر، وفاتح عليه كلما افتقر) وقال علي عليه السلام
(الجوار حارس الأعراض).
ومنها (الهيبة)
وبها يحفظ نظام المملكة، ويحرس من أطماع الرعية. وقد كان
السلاطين يبالغون في إقامة الهيبة والناموس حتى بارتباط الأسود والفيلة والنمور
وبضرب البوقات الكبار، كبوق النفير والدبادب والقصع، ورفع السناجق وخفق
الألوية على رؤوسهم، كل ذلك لإثبات الهيبة في صدور الرعية ولإقامة ناموس
المملكة.
كان عضد الدولة إذا جلس على سريره أحضرت الأسود والفيلة والنمور في

388
السلاسل، وجعلت في حواشي مجلسه، تهويلا بذلك على الناس وترويعا لهم.
ومنها (السياسة):
وهي رأس مال السلطان، وعليها التعويل في حقن الدماء وحفظ الأموال
وتحصين الفروج ومنع الشرور، وقمع الدعار والمفسدين، والمنع من التظالم
المؤدي إلى الفتنة والاضطراب.
ومنها (الوفاء بالعهد):
قال الله تعالى: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا). وهو الأصل في
تسكين القلوب وطمأنينة النفوس، ووثوق الرعية بالسلطان، إذا طلب الأمان
منه خائف، أو أراد المعاهدة منه معاهد.
ومنها (الاطلاع):
على غوامض أحوال المملكة، ودقائق أمور الرعية ومجازات المحسن على
إحسانه، والمسيئ على إساءته.
كان أردشير الملك يقول (لمن شاء من أشراف رعيته وأوضاعهم): كان
البارحة من حالك كيت وكيت، حتى صار يقال أن أردشير يأتيه ملك من
السماء يخبره بالأمور. وما ذلك إلا لتيقظه وتصفحه.
فهذه عشر خصال من خصال الخير، من كن فيه استحق الرياسة الكبرى
قال (بزرجمهر): (ينبغي أن يكون السلطان كالأرض في كتمان سره وصبره
وكالنار على أهل الفساد. وكالماء في لينه لمن لاينه. وينبغي أن يكون أسمع
من فارس، وأبصر من عقاب، وأهدى من قطاة، وأشد حذرا من غراب،
وأعظم إقداما من الأسد، وأقوى وأسرع وثوبا من الفهد).
وينبغي للسلطان أن لا يستبد برأيه، وأن يشاور في الملمات خواص
الناس وعقلاءهم، ومن يتفرس فيه الذكاء والعقل، وجودة الرأي وصحة التمييز

389
ومعرفة الأمور. ولا ينبغي أن تمنعه عزة السلطان من إيناس المستشار به،
وبسطه واستمالة قلبه، حتى يمحضه النصيحة، فإن أحدا لا ينصح بالقسر، ولا
يعطي نصيحته إلا بالرغبة. وما أحسن قول الشاعر في هذا المعنى:
أهان وأقصى ثم يستنصحونني ومن ذا الذي يعطي نصيحته قسرا
قال الله تعالى: (وشاورهم في الأمر). وكان رسول الله (ص) يشاور
أصحابه دائما.
لما كانت وقعة بدر، خرج (ص) من المدينة في جماعة من المسلمين،
فلما وصلوا بدرا نزلوا على غير ماء، فقام إليه رجل من أصحابه، وقال:
يا رسول الله نزولك ها هنا شئ أمرك الله به أو هو من عند نفسك؟ قال: بل
هو من عند نفسي، قال: يا رسول الله إن الصواب أن ترحل وتنزل على الماء
فيكون الماء عندنا فلا نخاف العطش، وإذا جاء المشركون لا يجدون ماء فيكون
ذلك معينا لنا عليهم. فقال رسول الله (ص): صدقت، ثم أمر بالرحيل
ونزل على الماء. قال (الطقطقي - في الآداب السلطانية -:
(اختلف المتكلمون في كون الله تعالى أمر رسوله بالاستشارة مع أنه
أيده ووفقه، وفي ذلك أربعة وجوه.
أحدها:
أنه (ص) أمر بمشاورة الصحابة استمالة لقلوبهم وتطييبا لنفوسهم.
الثاني:
أمر بمشاورتهم الحرب، ليستقوى له الرأي الصحيح فيعمل عليه.
الثالث:
أنه أمر بمشاورتهم لما فيها من النفع والمصلحة.
الرابع:

390
أنه إنما أمر بمشاورتهم ليقتدي به الناس، وهذا عندي أحسن الوجوه
وأصلحها).
وقرأت نكتة ملذة ذكرها العلامة (الشيخ محمد جواد مغنية). قال (قال
الورثاني (وهو من فقهاء السنة) للشيخ المفيد: (أليس من مذهبك أن
رسول الله (ص) كان معصوما من الخطأ، مبرءا من الزلل، مأمونا عليه
من السهو والغلط، كاملا بنفسه غنيا عن رعيته؟.
قال المفيد: بلى، كذلك كان رسول الله (ص).
قال الورثاني: فما تصنع بقوله تعالى: (فشاورهم في الأمر فإذا عزمت
فتوكل على الله) وإذا أفقره الله إلى أصحابه، وأمره بالاستعانة بهم، فكيف
يصح لك ما ادعيت مع ظاهر القرآن؟!
قال المفيد: إن رسول الله (ص) لم يشاور أصحابه، لفقره إلى آرائهم
ولا لحاجة دعته إلى مشورتهم، كما ظننت وتوهمت، كيف والنبي أكمل
الخلق باتفاق أهل الكلمة، وأحسنهم رأيا، وأوفرهم عقلا، وأكملهم تدبيرا
وكانت الملائكة تتواتر عليه بالتوفيق من الله عز وجل، بالأنباء له عن المصالح
ومن كانت هذه صفته لا يستشير من هو دونه، لأن الكامل لا يفتقر إلى الناقص
ولا العالم يحتاج إلى الجاهل.
ثم قال الشيخ المفيد للورثاني: أما الآية التي استدليت بها، وهي
(وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله) فإنها حجة عليك لا لك، لأن
الله أمره أن يفعل متى عزم هو، لاحين يشيرون عليه، فعلق وقوع الفعل
بعزم النبي لا بمشورة الأصحاب، ولو كان الأمر على ما زعمت وادعيت لقال
له: فإذا أشاروا عليك فاعمل بمشورتهم، وإذا اجتمعوا على رأيي فأمضه..
وإن قال قائل: إذن ما الغاية من المشورة؟ قلنا في جوابه: إن الغاية

391
منها أن يتألف النبي أصحابه، ويعلمهم كيف يصنعون ويتعاونون فيما بينهم،
فالاستشارة كانت لذلك لا لحاجته إلى آرائهم). (1)
قالوا: الخطأ مع المشورة أصلح من الصواب مع الانفراد والاستبداد. وقال صاحب
(كليلة ودمنة) لا بد للسلطان من مستشار مأمون، يفضي إليه بسره ويعاونه على رأيه.
المستشير وإن كان أفضل من المستشار وأكمل عقلا وأصح رأيا، فقد
يزداد برأي المشير رأيا كما تزداد النار بالدهن ضوءا ونورا.
قال الشاعر:
إذا أعوز الرأي المشورة فاستشر * برأي نصيح أو مشورة حازم
وينبغي أن نذكر هنا رسالة أرسطو إلى الإسكندر عندما استشاره في أهل
البيوتات، وذوي الأحساب، من أهل إيران شهر، حينما استولى عليهم،
استشاره بماذا يعاملهم، أبا لقتل أم بالعفو عنهم. فأشار عليه أرسطو بأن يعفو
عنهم ويخصهم بالرئاسة والإمرة، ولا يعدل عنهم إلى العامة والسفلة.
(لما ملك الإسكندر (إيران شهر) وهو العراق مملكة الأكاسرة، وقتل
دار ابن دارا، كتب إلى أرسطوا، وهو ببلاد اليونان،
عليك أيها الحكيم منا السلام، أما بعد فإن الأفلاك الدائرة والعلل السمائية، وإن
كانت أسعدتنا بالأمور التي أصبح الناس لنا بها دائبين، فإنا واجدون جلس الاضطرار
إلى حكمتك غير جاحدين لفضلك والإقرار بمنزلتك، والاستنابة إلى مشورتك
والاقتداء برأيك، والاعتماد لأمرك ونهيك، لما بلونا من جدوا ذلك علينا،
وذقنا من جنا منفعته حتى صار ذلك بنجوعه فينا وترسخه في أذهاننا وعقولنا
كالقضاء لنا، فما ننفك نعول عليه ونستمد منه استمداد الجداول من البحور،
وتعويل الفروع على الأصول وقوة الأشكال بالأشكال.



(1) مع علماء النجف.
392
وقد كان مما سيق إلينا من النصر والفلج، وأتيح لنا من الظفر وبلغنا
في العدو من النكاية والبطش ما يعجز القول عن وصفه، ويقصر شكر المنعم عن
موقع الإنعام به، وكان من ذلك أنا جاوزنا أرض سورية والجزيرة إلى بابل
وأرض فارس، فلما حللنا بعقوة أهلها وساحة بلادهم، لم يكن إلا ريثما تلقانا
نفر منهم برأس ملكهم هدية إلينا، وطلبا للحظوة عندنا، فأمرنا بصلب من جاء
به وشهرته لسوء بلائه وقلة ارعوائه ووفائه، ثم أمرنا بجمع من كان هناك من
أولاد أبناء ملوكهم وأحرارهم وذوي الشرف منهم، فرأينا رجالا عظيمة
أجسامهم وأحلامهم، حاضرة ألبابهم وأذهانهم، رائعة مناظرهم ومناطقهم دليلا
على أن ما يظهر من روائهم ومنطقهم أن وراء من قوة أيديهم وشدة نجدتهم وبأسهم
ما لم يكن، ليكون لنا سبيل إلى غلبتهم وإعطائهم بأيديهم لولا أن القضاء أدا
لنا منهم وأظفرنا بهم وأظفرنا عليهم، ولم نر بعيدا من الرأي في أمرهم أن
نستأصل شأفتهم ونجتث أصلهم ونلحقهم بمن مضى من أسلافهم، لتسكن القلوب
بذلك إلى الأمن من جرائرهم وبوائقهم، فرأينا أن لا نعجل بإسعاف بادئ
الرأي في قتلهم دون الاستظهار عليهم بمشورتك فيهم، فارفع إلينا رأيك فيما
استشر ناك فيه بعد صحته عندك وتقليبك إياه بجلي نظرك. وسلام أهل السلام
فليكن علينا وعليك.
فكتب إليه أرسطو: لملك الملوك وعظيم العظماء الإسكندر، المؤيد
بالنصر على الأعداء، المهدى له الظفر بالملوك، من أصغر عبيده وأقل خوله
أرسطو طاليس، ليس البخوع بالسجود والتذلل في السلام، والإذعان في الطاعة
أما بعد فإنه لا قوة بالمنطق وإن احتشد الناطق فيه واجتهد في تثقيف معانيه
وتأليف حروفه ومبانيه على الإحاطة، بأقل ما تناله القدرة من بسطة علو الملك
وسموا ارتفاعه عن كل قول وإبرازه على كل وصف واعترافه بكل إطناب.

393
وقد كان تقرر عندي من مقدمات أعلام فضل الملك في صهلة سبقة وبروز شاؤه
ويمن نقيبته، مذ أدت إلى حاسة بصري صورة شخصه، واضطرب في حس
سمعي صوت لفظه، ووقع وهمي على تعقب نجاح رأيه، أيام كنت أؤدي إليه
من تكلف تعليمي إياه ما أصبحت قاضيا على نفسي بالحاجة إلى تعلمه منه ومهما
يكن مني إليه في ذلك فإنما هو عقل مردود إلى عقله مستنبطة أواليه وتواليه
من علمه وحكمته، وقد جلا إلى كتاب الملك ومخاطبته إياي ومسألته لي،
عما لا يتخالجني الشك في لقاح ذلك وإنتاجه من عنده، فعنه صدر وعليه ورد
وأنا فيما أشير به على الملك وإن اجتهدت فيه واحتشدت له، وتجاوزت حد
الوسع والطاقة مني في استنطاقه واستقصائه كالعدم مع الوجود، بل كما لا يتجزأ
في جنب أعظم الأشياء، ولكني غير ممتنع من إجابة الملك إلى ما سأل، مع
علمي ويقيني بعظيم غناه عني وشدة فاقتي إليه، وأنا راد إلى الملك ما اكتسبته
منه ومشير عليه بما أخذته منه، فقائل له: إن لكل تربة لا محالة قسما من
الفضائل، وأن لفارس قسمها من النجدة والقوة، وإنك إن تقتل أشرافهم
تخلف الوضعاء على أعقابهم، وتورث سفلتهم على منازل علينهم، وتغلب أدنيائهم
على مراتب ذوي أخطارهم، ولم يبتل الملوك قط ببلاء هو أعظم عليهم وأشد
توهينا لسلطانهم من غلبة السفلة وذل الوجوه، فاحذر الحذر كله أن تمكن
تلك الطبقة من الغلبة والحركة، فإنه إن نجم منهم بعد اليوم على جندك وأهل
بلادك ناجم وهمهم منه ما لا روية فيه ولا بقية معه، فانصرف عن هذا الرأي
إلى غيره، واعتمد إلى من قبلك من أولئك العظماء والأحرار فوزع بينهم
مملكتهم، وألزم اسم الملك كل من وليته منهم ناحيته، واعقد التاج على رأسه
وإن صغر ملكه، فإن المتسمى بالملك لازم لاسمه، والمعقود التاج على رأسه
لا يخضع لغيره، فإنه ينشب ذلك أن يوقع كل ملك منهم بينه وبين صاحبه

394
تدابرا وتقاطعا وتغالبا على الملك، وتفاخرا بالمال والجند، حتى ينسوا
بذلك أضغانهم عليك وأوتارهم فيك، ويعود حربهم لك حربا بينهم، وحنقهم
عليك حنقا منهم على أنفسهم، ثم لا يزدادون في ذلك بصيرة إلا أحد ثوا لك
بها استقامة، إن دنوت منهم دانوا لك، وإن نأيت عنهم تعززوا بك، حتى
يثب من ملك منهم على جاره باسمك، ويسترهبه بجندك، وفي ذلك شاغل
لهم عنك وأمان لأحداثهم بعدك، وإن كان لا أمان للدهر ولا ثقة بالأيام. قد
أديت إلى الملك ما رأيته لي حظا، وعلي حقا من إجابتي إياه إلى ما سألني عنه
ومحضته النصيحة فيه - والملك أعلى عينا وأنفذ روية وأفضل رأيا وأبعد همة،
فيما استعان بي عليه وكلفني بتبيينه والمشورة عليه فيه، لا زال الملك متعرفا،
من عوائد النعم وعواقب الصنع وتوطيد الملك وتنفيس الأجل ودرك الأمل،
ما تأتي فيه قدرته على غاية قصوى ما تناله قدرة البشر، والسلام الذي لا انقضاء
له ولا انتهاء ولا غاية ولا فناء، فليكن على الملك.
قالوا: فعمل الملك برأيه واستخلف على إيران شهر أبناء الملوك والعظماء من أهل
فارس فهم ملوك الطوائف الذين بقوا بعده والمملكة موزعة بينهم إلى أن جاء
أردشير بن بابك فانتزع الملك منهم) (1)
وأما الخصال التي من المستحسن أن تكون معدومة في السلطان فقد ذكرها
ابن المقفع في كلام له قال:
(ليس للسلطان أن يغضب، لأن القدرة وراء حاجته. وليس له أن
يكذب، لأنه لا يقدر أحد على إلزامه بغير ما يريد. وليس له أن يبخل،
لأنه أقل الناس عذرا في خوف الفقر. وليس له أن يكون حقودا، لأن قدره
قد عظم عن المجازاة لأحد على إساءة صدرت منه وليس له أن يحلف إذا
حدث، لأن الذي يحمل الإنسان على اليمين في حديثه خلال: إما مهانة



(1) الرابع من شرح ابن أبي الحديد.
395
يجدها في نفسه، واحتياج إلى أن يصدقه الناس، وإما عي وحصر وعجز عن
الكلام فيريد أن يجعل اليمين تتمة لكلامه أو حشوا فيه، وإما أن يكون قد
عرف أنه مشهور عند الناس بالكذب، فهو يجعل نفسه بمنزلة من لا يصدق
ولا يقبل قوله إلا باليمين، وحينئذ كلما ازداد إيمانا ازداد الناس له تكذيبا،
والسلطان بمعزل عن هذه الدنايا كلها، وقدره أكبر من ذلك).
ومنها (الحدة):
فإنها ربما أصدرت عنه فعلا يندم عليه حين لا ينفع الندم.
ومنها (الضجر والسأم والملل): فذلك من أضر الأمور، وأفسد لحاله
ومنها (مخالطة الأنذال والسوقة والجهال):
فإن سماع ألفاظه م الساقطة، ومعانيهم المرذولة، وعباراتهم الدنية،
مما يحط الهمة ويضع المنزلة، ويصدئ القلب ويزري بالملك. ومخالطة الأشراف
ومعاشرة أفاضل الرجال، مما يعلى الهمة ويذكي القلب ويفتق الذهن ويبسط
اللسان.
ومنها (المبالغة في الميل إلى النساء، والانهماك في محبتهن، وقطع الزمان
بالخلوة معهن): فأما مشاورتهن في الأمور فمجلبة للعجز، ومدعاة إلى
الفساد، ومنبهة على ضعف الرأي، اللهم إلا أن تكون مشاورتهن يراد بها
مخالفتهن.
قال رسول الله (ص): (شاوروهن وخالفوهن). وفي الحديث سؤال
وجواب: إن قال قائل: إذا كان المراد مخالفتهن في آرائهن فأي فائدة في
الأمر بمشاورتهن، وقد كان يكفي في هذا أن يقال: خالفوهن فيما يشرن
به. فالجواب من وجهين أحدهما: أن الأمر الأول للإباحة. والأمر الثاني
للوجوب. (يعني إذا شاورتموهن فخالفوهن). والآخر أن الصواب لا يزال

396
في خلاف آرائهن. فإذا أشكل عليكم الصواب فشاوروهن، فإذا ملن إلى شئ
فاعلموا أن الصواب في خلافه.
وفي هذا تظهر فائدة الأمر بمشاورتهن، (يعني بها يستدل على الصواب)
وحدث أن عضد الدولة (فنا خسروبن بويه) شغفته امرأة من جواريه
حبا، وغلبت عليه، فاشتغل بها عن تدبير المملكة، حتى ظهر الخلل في
مملكته، فخلا به وزيره، وقال له: أيها الملك إن هذه الجارية قد شغلتك عن
مصالح دولتك، حتى لقد تطرق النقص عليها من عدة جهات، وما سبب ذلك
إلا اشتغالك عن إصلاح دولتك بهذه الأمة، والصواب أن تتركها وتلتفت إلى
إصلاح ما قد فسد من مملكت. قال: فبعد أيام جلس عضد الدولة على
مشترف له على دجلة، ثم استدعى الجارية فحضرت، فشاغلها ساعة حتى غفلت
عن نفسها، ثم دفعها إلى دجلة فغرقت، وتفرغ خاطره من حبها واشتغل
بإصلاح أمور دولته، فاستعظم الناس هذا الفعل من عضد الدولة ونسبوه فيه إلى
قوة النفس، حين قويت.
ومنها (الانهماك في اللذات وسماع الأغاني وقطع الزمان بذلك): قال
(أبو الفتح البستي):
إذا غدا ملك باللهو مشتغلا * فاحكم على ملكه بالويل والحرب
أما ترى الشمس في الميزان هابطة * لما غدا وهو برج اللهو والطرب
وممن دخل النقص عليه من السلاطين بسبب اللهو واللعب (محمد بن زبيدة
الأمين) كان كثير اللهو واللعب منهمكا في اللذات.
ذكر المسعودي في (مروج الذهب) عن إبراهيم بن المهدي قال: استأذنت
على الأمين يوما وقد اشتد الحصار عليه من كل وجه (من قبل جيش المأمون) فأبوا أن
يأذنوا لي بالدخول عليه إلى كاثرت، ودخلت فإذا هو قد تطلع إلى دجلة بالشباك

397
وكان في وسط قصره بركة عظيمة لها مخترق إلى الماء في دجلة، وفي المخترق شباك
حديد، فسلمت عليه وهو مقبل على الماء والخدم والغلمان قد انتشروا إلى
تفتيش الماء وهو كالواله، فقال لي: (وقد ثنيت بالسلام وكررت) لا تؤذوني
فمقرطتي قد ذهبت في البركة إلى دجلة. (والمقروطة سمكة كانت قد صيدت
له وهي صغيرة فقرطها حلقتين من ذهب فيهما حبتا در) قال: فخرجت وأنا
مؤيس من فلاحه، وقلت لو ارتدع من وقت لكان هذا الوقت). (قال
الفضل بن الربيع (أيام الرحب بين الأمين والمأمون) في كلام يذكر فيه
الأمين ويصفه بالعجز: ينام نوم الظربان وينتبه انتباهة الذئب، همه بطنه
ولذته فرجه، لا يكفر في زوال نعمة ولا يروي في إمضاء رأي ولا مكيدة،
قد شمر له عبد الله عن ساقه وفوق له أشد سهامه، يرميه على بعد الدار بالحتف
النافذ والموت القاصد، قد عبأ له المنايا على متون الخيل، وناط له البلايا
بأسنة الرماح وشفار السيوف، فكأنه هو قال هذا الشعر، ووصف به نفسه
وأخاه:
يقارع أتراك ابن خاقان ليله * إلى أن يرى الأصباح لا يتلثم
فيصبح من طول الطراد وجسمه * نحيل وأضحى في النعيم أصمم
وهمي كأس من عقار وقينة * وهمته درع ورمح مخذم
فشتان ما بيني وبين ابن خالد * أميته في الرزق الذي الله يقسم) (1)
وكان المستعصم (آخر الخلفاء العباسيين) شديد الكلف باللهو واللعب
وسماع الأغاني، لا يكاد مجلسه يخلو من ذلك ساعة واحدة، وكان ندماؤه
وحاشيته جميعهم منهمكين معه على التنعم واللذات، لا يراعون له صلاحا. وفي
بعض الأمثال: (الخائن لا يسمع صياحا) وكتبت له الرقاع من العوام وفيها
(1) الرابع من شرح ابن أبي الحديد.

398
أنواع التحذير، وألقيت وفيها الأشعار في أبواب الخلافة، فمن ذلك:
قل للخليفة مهلا * أتاك ما لا تحب
ها قد دهتك فنون * من المصائب غرب
فانهض بعزم وإلا * غشاك ويل وحرب
كسر وهتك وأسر * ضرب ونهب وسلب
وفي ذلك يقول بعض شعراء الدولة المستعصمية من قصيدة أولها:
يا سائلي ولمحض الحق يرتاد * أصخ فعندي نشدان وإنشاء
واضيعة الناس والدين الحنيف وما * تلقاه من حادثات الدهر بغداد
قتل وهتك وأحداث يشيب بها * رأس الوليد وتعذيب وأصفاد
كل ذلك وهو عاكف على سماع الأغاني، واستماع المثالب والمثاني.
وفي تلك الحال وصل السلطان (هولاكو) بغداد، وكان من القتل
الفضيع الذي لا يوصف، حتى جرى نهر دجلة بدل الماء دما.
وكان المتوكل العباسي كلفا بشرب الخمر والغنى واللهو والطرب، وكان
مجلس الخلافة لا يخلو ليلة من تلك الفظائع والفجائع. وكان من جملة ندمائه
(عبادة المخنث) كان يحضره في الطرب ويشد على بطنه تحت ثيابه مخدة،
ويكشف رأسه وهو (أصلع) ويرقص بين يدي المتوكل، والمغنون يغنون
قد أقبل الأصلع البطين خليفة المسلمين، يحكي بذلك عليا عليه السلام والمتوكل
يشرب ويضحك، ففعل ذلك يوما و (المنتصر) ابنه حاضر، فأومأ إلى
عبادة يتهدده، فسكت خوفا منه، فقال المتوكل ما حالك فأخبره.
فقال المنتصر: يا أمير المؤمنين إن الذي يحكيه هذا الكلب ويضحك منه
الناس هو ابن عمك وشيخ أهل بيتك وبه فخرك، فكل أنت لحمه إذا شئت،
ولا تطعم هذا الكلب وأمثاله منه. فقال المتوكل: للمغنين غنوا جميعا.

399
غار الفتى لا بن عمه * رأس الفتى في حر أمه
هكذا قرأت في تاريخ ابن الأثير في حوادث سنة 236، وهكذا نقل
بن أبي الفداء في تاريخه. قال ابن الأثير: (فكان هذا من الأسباب التي استحل
المنتصر قتله) فقتله وقتل معه وزيره (الفتح بن خاقان) فأخذت السيوف
مأخذها منهما حتى اختلط لحمهما ولم يميز أحدهما عن الآخر.
قال (الحافظ الذهبي) في تاريخه (العبر) مج 1: (وفتكوا به في
مجلس لهوه، وكان فيه نصب ظاهر، وانهماك على اللذات والمكاره).
ومنها (البغي):
وكان يقال (لا ظفر مع بغي). وكان قيس بن عامر المنقري يقول لوالده
إذا غزوا إياكم والبغي فإنه ما بغى قوم قط إلا ذلوا.
(ومن الكلمات المستحسنة في سوء عاقبة البغي ما ذكره ابن قتيبة في كتاب
(عيون الأخبار).
إن فيروز بن يزدجرد بن بهرام، لما ملك سار بجنوده نحو بلاد الهياطلة
فلما انتهى إليهم اشتد رعب ملكهم (اخشنوار) منه وحذره، فناظر أصحابه
ووزراء في أمره، فقال رجل منهم: أعطني موثقا من الله وعهدا تطمئن إليه
نفسي، أن تكفيني الغم بأمر أهلي وولدي، وأن تحسن إليهم وتخلفني فيهم
ثم اقطع يدي ورجلي، وألقني في طريق فيروز حتى يمر بي هو وأصحابه،
وأنا أكفيك أمرهم وأورطهم مورطا يكون فيه هلكتهم. فقال له (اخشنوار)
وما الذي تنتفع به من سلامتنا وصلاح حالنا إذا أنت هلكت ولم تشركنا في
ذلك. فقال: إني قد بلغت ما كنت أحب أن أبلغ من الدنيا، وأنا موقن
أن الموت لا بد منه وإن تأخر أياما قليلة، فأحب أن أختم عملي بأفضل ما
يختم به الأعمال من النصيحة بسلطاني والنكاية في عدوي، فيشرف بذلك عقبى

400
وأصيب سعادة وحظوة فيما أمامي. ففعل (اخشنوار) به ذلك وحمله فألقاه في
الموضع الذي أشار إليه، فمر به فيروز في جنوده فسأله عن حاله فأخبره أن
اخشنوار فعل به ما يراه، وأنه شديد الأسف كيف لا يستطيع أن يكون أمام
الجيش في غزو بلاده وتخريب مدينته، ولكنه سيدل الملك على طريق هو أقرب
من هذا الطريق الذي يريدون سلوكه وأخفى، فلا يشعر اخشنوار حتى يهجم
عليه فينتقم الله منه بكم، وليس في هذا الطريق من المكروه إلا تغور يومين
ثم تفضون إلى كل ما تحبون. فقبل فيروز قوله بعد أن أشار إليه وزراؤه
بالاتهام له والحذر منه، فخالفهم وسلك تلك الطريق، فانتهوا بعد يومين إلى
موضع من المفازة لا صدر لهم عنه، ولا ماء معهم، ولا بين أيديهم، وتبين لهم
أنهم قد خدعوا، فتفرقوا في تلك المفازة يمينا وشمالا يلتمسون الماء، فقتل
العطش أكثرهم ولم يسلم مع فيروز في إلا عدة يسيرة، فانتهى إليهم اخشنوار
يجيشه فواقعهم في تلك الحال التي هم فيها من القلة والضر والجهد، فاستمكنوا
منهم بعد أن أعظموا النكاية فيهم، وأسر فيروز، فرغب اخشنوار أن يمن
عليه وعلى من بقي من أصحابه، على أن يجعل له عهد الله وميثاقه أن لا
يغزوهم أبدا ما بقي، وعلى أن يحد فيما بينه وبين مملكتهم حدا لا يتجاوزه
جنوده. فرضى اخشنوار بذلك، فخلى سبيله، وجعلا بين المملكتين حجرا
لا يتجاوزه كل واحد منهما. فمكث فيروز برهة من دهره، ثم حمله الأنف على
أن يعود لغزو الهياطلة، ودعا أصحابه إلى ذلك فنهوه عنه وقالوا إنك قد عاهدته
ونحن تخوف عليك عاقبة البغي والغدر، مع ما في ذلك من العار وسوء القالة
فقال لهم: إنما اشترطت له أن لا أجوز الحجر الذي جعلناه بيننا، وأنا آمر
بالحجر فيحمل أمامنا على عجل فقالوا أيها الملك إن العهود والمواثيق التي
يتعاطاها الناس بينهم لا تحمل على ما يسره المعطي لها، ولكن على ما يعلن

401
به المعطى إياها، وإنما جعلت عهد الله وميثاقه على الأمر الذي عرفه لا على
الأمر الذي لم يخطر له ببال. فأبى فيروز ومضى في غزوته حتى انتهى إلى
الهياطلة وتصاف الفريقان للقتال، فأرسل اخشنوار إلى فيروز يسأله أن يبرز
فيما بين صفيهم، فخرج إليه فقال له: اخشنوار إني قد ظننت أنه لم يدعك
إلى مقامك هذا إلا الأنف مما أصابك، ولعمري إن كنا قد احتلنا لك بما
رأيت، لقد التمست منا أعظم منه وما ابتدأناك ببغي ولا ظلم، وما أردنا إلا
دفعك عن أنفسنا وحريمنا، ولقد كنت جديرا أن تكون من سوء مكافأتنا
بمننا عليك وعلى من معك، ومن نقض العهد والميثاق الذي أكدته على نفسك
أعظم أنفا وأشد امتعاضا مما نالك منا، فإنا أطلقناكم وأنتم أسارى، ومننا
عليكم وأنتم على الهلكة مشرفون، وحقنا دماءكم ولنا على سفكها قدرة وأنا
لم نجبرك على ما شرطت لنا بل كنت أنت الراغب إلينا فيه والمريد لنا عليه
ففكر في ذلك وميز بين هذين الأمرين فانظر أيهما أشد عارا وأقبح سماعا،
إن طلب رجل أمرا فلم يقدر له ولم ينجح في طلبته وسلك سبيلا فلم يظفر فيه
ببغيه واستمكن منه عدوه على حال جهد وضيعة منه، وممن هم معه، فمن
عليهم وأطلقهم على شرط شرطوه، وأمر اصطلحوا عليه، فاصطبر بمكروه
القضاء واستحيا من الغدر والنكث، أم يقال نقض العهد وأخفر الميثاق، مع
أني قد ظننت أنه يزيدك لجاجة ما تثق به من كثرة جنودك وما ترى من حسن
عدتهم، وما أجدني أشك أنهم أو أكثرهم كارهون لما كان من شخوصك بهم،
عارفون بأنك قد حملتهم على غير الحق ودعوتهم إلى ما يسخط الله، وأنهم في
حربنا غير مستبصرين ونياتهم على مناصحتك مدخولة، فانظر ما قدر غناء من
يقاتل على هذه الحال، وما عسى أن يبلغ نكايته في عدوه إذا كان عارفا بأنه
إن ظفر فمع عار، وإن قتل فإلى النار، وأنا أذكر الله الذي جعلته على

402
نفسك كفيلا، وأذكرك نعمتي عليك وعلى من معك بعد يأسكم من الحياة
وإشرافكم على الممات، وأدعوك إلى ما فيه حظك ورشدك من الوفاء بالعهد
والاقتداء بآبائك وأسلافك الذين مضوا على ذلك في كل ما أحبوه وكرهوه،
فاحمدوا عواقبه، وحسن عليهم أثره مع ذلك فإنك لست على ثقة من الظفر بنا
وبلوغ نهمتك فينا، وإنما نلتمس أمرا يلتمس منك مثله وتنادي عدوا لعله
يمنح النصر عليك، فاقبل هذه النصيحة فقد بالغت في الاحتجاج عليك وتقدمت
بالأعذار إليك، ونحن نستظهر بالله الذي اعتذرنا إليه ووثقنا بما جعلت لنا من
عهده، إذا استظهرت بكثرة جنودك وازدهتك عدة أصحابك، فدونك هذه
النصيحة، فبالله ما كان أحد من أصحابك ببالغ لك أكثر منها ولا يزيدك
عليها ولا يحرمنك منفعتها مخرجها مني، فإنه ليس يزري بالمنافع والمصالح
عند ذوي الآراء صدورها عن الأعداء، كما لا تحسن المضار أن تكون على
أيدي الأصدقاء.
واعلم أنه ليس يدعوني إلى ما تسمع من مخاطبتي إياك ضعف من نفسي
ولا من قلة جنودي، ولكني أحببت أن أزداد بذلك حجة واستظهار فأزداد به
للنصر والمعونة من الله استيجابا، ولا أؤثر على العافية والسلامة شيئا ما وجدت
إليهما سبيلا.
فقال فيروز: لست ممن يردعه عن الأمر الوعيد، ولا يصده التهدد والترهيب
ولو كنت أرى ما أطلب غدرا مني إذا ما كان أحد أنظر ولا أشد إبقاء مني على
نفسي، وقد يعلم الله أني لم أجعل لك العهد والميثاق إلا بما أضمرت في نفسي
فلا يغرنك الحال التي كنت صادفتنا عليها من القلة والجهد والضعف. فقال
اخشنوار: لا يغرنك ما تخدع به نفسك من حملك الحجر أمامك فإن الناس
لو كانوا يعطون العهود على ما تصف من إسرار أمر وإعلان آخر، إذا ما كان

403
ينبغي لأحد أن يغتر بأمان أو يثق بعهد، وإذا ما قبل الناس شيئا مما كانوا
يعطون من ذلك، ولكنه وضع على العلانية وعلى نية من تعقد له العهود
والشروط، ثم انصرف. فقال فيروز لأصحابه لقد كان اخشنوار حسن
المحاورة وما رأيت للفرس الذي كان تحته نظيرا في الدواب، فإنه لم يزل
قوائمه ولم يرفع حوافره عن موضعها، ولا صهل ولا أحدث شيئا يقطع به
المحاورة في طول ما تواقفنا. وقال اخشنوار لأصحابه: لقد واقفت فيروز
كما رأيتهم وعليه السلاح كله فلم يتحرك ولم ينزع رجله من ركابه ولا حنى
كما رأيتم وعليه السلاح كله فلم يتحرك ولم ينزع رجله من ركابه ولا حنى
ظهره، ولا التفت يمينا وشمالا، ولقد توركت أنا مرارا وتمطيت على فرسي
والتفت إلى من خلفي ومددت بصري فيما أمامي، وهو منتصب ساكن على
حاله، ولولا محاورته إياي لظننت أنه لا يبصرني. وإنما أرادا بما وصفا من
ذلك أن ينشر هذان الحديثان في أهل عسكرهما فيشتغلوا بالإضافة فيهما عن
النظر فيما تذاكرا، فلما كان في اليوم الثاني أخرج اخشنوار الصحيفة التي
كتبها لهم فيروز ونصبها على رميح ليراها أهل عسكر فيروز فيعرفوا غدره وبغيه
ويخرجوا من متابعته على هواه، فما هو إلا أن رأوها حتى انتقض عسكرهم
واختلفوا وما تلبثوا إلا يسيرا حتى انهزموا وقتل منهم خلق كثير وهلك
فيروز، فقال اخشنوار لقد صدق الذي قال: لا مرد لما قدر ولا شئ أشد
إحالة لمنافع الرأي من الهوى واللجاج، ولا أضيع من نصيحة يمنحها من لا
يوطن نفسه على قبولها والصبر على مكروهها، ولا أسرع عقوبة وأسوأ عاقبة
من البغي والغدر، ولا أجلب لعظيم العار والفضوح من الأنف وإفراط العجب) (1)
ثم أن للسلطان العادل حقوقا على رعيته، وأن لهم عليه حقوقا - كما
مرت الإشارة إليه موجزا -



(1) شرح ابن أبي الجديد مج 3
404
فأما الحقوق التي تجب للسلطان على رعيته:
منها (الطاعة):
وهي الأصل الذي ينتظم به صلاح أمور الجمهور، ويتمكن به السلطان
من الإنصاف للضعيف من القوي والقسمة بالحق.
ومما جاء التنزيل من الحث على ذلك، الآية المشهورة في هذا المعنى
قوله تعالى: (يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر
منكم) ومعلوم أن المقصود من أولي الأمر من أهل العدل الممتثلين
لأوامر الله، والمجتنبين معاصيه. (ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).
ومنها (التعظيم والتفخيم)
لشأنه في الباطن والظاهر، وتعويد النفس على ذلك ورياضتها به، بحيث
تصير ملكة مستقرة، وتربية الأولاد على ذلك وتأديبهم به، ليتربى هذا المعنى
معهم. وقالوا: اصحب السلطان بالهيبة له والوقار، لأنه إنما احتجب عن
الناس لقيام الهيبة، فلا تترك الهيبة وإن طال أنسك به.
ومنها (النصيحة):
جاء عن جابر بن عبد الله الأنصاري (ره) قال: (بايعت رسول الله (ص)
على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة،
والسمع والطاعة والنصح لكل مسلم). وقال (ص): (الدين النصيحة قيل لمن
يا رسول الله قال: (لله ولرسول ولجماعة المسلمين).
وورد في الأحاديث الكثيرة أن النبي (ص) أمر بالسمع والطاعة لو لي
الأمر ومن صحته ومحبته والدعاء له.
ومنها (ترك اغتيابه)
بظهر الغيب، قال رسول الله (ص): ((لا تسبوا الولاة فإنهم إن أحسنوا

405
كان لهم الأجر وعليكم الشكر، وإن أساؤا فعليكم الوزر وعليكم الصبر، وإنما
هم نقمة ينتقم الله بها ممن يشاء، فلا تستقبلوا نقمة الله بالحمية والغضب،
واستقبلوها بالإستكانة والتضرع).
وأما الحقوق التي هي للرعية على السلطان فستأتي في محلها من هذا
الكتاب إنشاء الله تعالى.

406
حق المعلم

407
قوله عليه السلام:
(وحق سائسك بالتعلم، التعظيم له، والتوقير لمجلسه
وحسن الاستماع إليه والاقبال عليه، وأن لا ترفع عليه صوتك
ولا تجيب أحدا يسأله عن شئ حتى يكون هو الذي يجيب،
ولا تحدت في مجلسه أحدا، ولا تغتاب عنده أحدا، وأن
تدفع عنه إذا ذكر عندك بسوء، وأن تستر عيوبه وتظهر مناقبه،
ولا تجالس عدوه، ولا تعادي له وليا، فإذا فعلت ذلك شهدت لك
ملائكة الله بأنك قصدته وتعلمت علمه عز وجل لا للناس).
* * *
قرأت في المجلد الثاني من كتاب (دين وتمدين) (قول الإمام
علي عليه السلام: (من علمني حرفا كنت له عبدا).
(نهج في هذه الكلمة (سلام الله عليه)، منهج معلمه الثاني محمد (ص)
ومعلمه الأول رب محمد، إذ كان كل من فرقان الله وحديث رسول الله حافلا
بالحث على العلم والدعوة إليه.
(هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟؟ (إن الملائكة
لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى به) في هذا من قول الله وقول رسوله ما يعزز
العلم في نفوس الخلق.
وهكذا نجد في قول الإمام: (من علمني حرفا كنت له عبدا) ذلك

409
التعزيز للعلم والحض عليه، فالعبودية التي لا تصح من الإنسان إلا لخالق
الإنسان أجازها الإمام للمعلم، لأن المعلم خليفة الله في خلقه، إذ يسبغ العلم
على الإنسان فيصبح رمزا لخالقه ويكون آخر الأمر هو المخاطب من ربه
بقوله: (يا عبدي أطعني تكن مثلي أنا أقول للشئ كن فيكون وأنت تقول
للشئ كن فيكون) وهل في طاعة العبد أقرب إلى سيده من طاعة العالم العارف
بسيده؟؟؟
إن لقب المعلم كبير، ولقد كان الأولون لا يطلقون لقب المعلم إلا على
من أحرز اثنين وستين علما وفنا (كإفلاطون، وسقراط، والفارابي، وابن
سينا). وبعضهم يحجب اللقب عن أفلاطون وابن سينا لعدم توفره فيهما.
الإمام علي عليه السلام وهو باب مدينة علم الرسول، يقول: (من علمني
حرفا كنت له عبدا) فماذا يقول واحدنا إذن؟؟ وهل الإمام في حاجة لمعلم
بعد محمد ليقول هذا؟ كلا.. ولكنه يعلمنا أن نخضع للمعلم، وأن نعتبره
مصدر الحياة في الأمة ثم نعتبر العلم عين هذه الحياة ألم يحصر القرآن عظمة
الوجود في وحدانيته، ويحصر عظمة هذه الوحدانية في هيمنته على الكون، ثم
يحصر هذه الهيمنة في العلم بقوله عز من قائل: (شهد الله أنه لا آله إلا هو
والملائكة وأولوا العلم)؟؟ ألم يجعل الفرقان تقوى الله مناط كرامة الإنسان
وفضله على غيره إذ قال: إن أكرمكم عند الله أتقاكم) ثم يحص هذه التقوى
بالعلماء في قوله: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)؟؟
إذن يصدق الإمام إذ يقول: (من علمني حرفا كنت له عبدا) وهو
يعني بذلك أن يجعلني أقرب إلى الله، إلى ربي وأكرمهم عليه هو معلمي.
وهذه الزلفى إلى الله هي مناط العبودية في نفسي لمن أدناني من خالقي وعرفني
به وأخلص له حتى أحالني فيه، فعبوديتي لهذا المعلم جزء من عبوديتي

410
لخالقي، إذ كان السبب الأول في عرفاني نفسي ومن وراء هذا العرفان عرفت
ربي، فكل حرف تعلمته ودنت به لخالقي أراني مدينا بين يديه لمن علمنيه
وفقهني به ثم أصدرني عنه إنسانا كاملا يصعد بروحه إلى سمائه ثم يهبط
بجسده إلى أرضه.
وإذا خاطب الله عبده وهو يحثه على طاعة أبويه بقوله: (واخفض لهما
جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا) ثم إذا قرن طاعة
عبده له بطاعته لوالديه في قوله تعالى: (ووصينا الإنسان..، أن اشكر لي
ولوالديك... أقول: إذا فرض الله على العبد هذه الطاعة، فمن طريق
أولى أن يفرض على عباده الطاعة لأهل العلم، لأن العالم خير من العابد ولأن
المعلم أفضل من الأب.
نقل لي الثقات وأنا في لندن: ولعل هذا الثقة الأستاذ (كاظم الدجيلي)
وكان يومئذ قنصلا لحكومة العراق في عاصمة السكسون. قال: (العرف
يقضي هنا بأن لا ترفع القبع (البرانيط) عن الرؤوس في الشوارع للتحية إلا
إذا مر الملك أو الأستاذ (المعلم) أما رئيس الوزراء أو أحد كبار المسيطرين إذا
مروا كانوا هدفا للسخرية فضلا عن الاحترام).
من ذا يقر عالمنا اليوم قول الإمام (عليه السلام) وهو يشير إلى عظمة
العلم وتعظيم المعلم لترسخ في النفوس هيبة الحياة وجلال الإنسانية من وراء
تقديس العلم واحترامه.
أقول: من ذا يقر قول الإمام: (من علمني حرفا كنت له عبدا)؟؟
هل للعلم في نفوسنا هذه القدسية؟؟ وهل للمعلم في صدورنا هذا الإكبار؟؟
وإذا كان الإمام وهو (علي بن أبي طالب) أقضى الأمة وأفضلها بعد محمد. إذا
كان هذا يفرض على نفسه العبودية بين يدي من يعلمه ولو حرفا واحدا، فماذا

411
ينبغي لنا أن نفرض على نفوسنا نحن أتباع الإمام على وشيعته بين يدي من
يسهرون الليالي الطوال في سبيل تثقيفنا وتهذيبنا؟؟؟).
أجل المعلم أب روحي يعطينا غذاءا روحيا فكريا ثمينا، فيجب تعظيمه
وتوقيره واحترامه، والتعاون معه في سبيل التعلم، لأن التعليم والتعلم عملية
تعاون بين المعلم والمتعلم، فيجب على المتعلم أن يحسن الاصغاء والاستماع
والاقبال على المعلم بكل نفسه، ففي ذلك تعظيم وتوقير وإجلال لمقام المعلم
وشأنه.
ويضيف الإمام السجاد عليه السلام إلى هذا كله أن نؤدي عن المعلم فنحسن
الأداء، ولا ننقص ولا نزيد على ما قال.
ويريد عليه السلام بالتعظيم والتوقير أن تكون عند معلمك كما تكون بين
يدي أبويك. يجب عليك أن لا ترفع صوتك فوق صوته وأن تدفع عنه كل
ما يمسه بسوء في حال حضوره وغيبته، وأن تظهر ما تعرف له من فضل،
وتنشر بين الناس ما لمست منه من معروف، وأن تخفى عن الناس ما اطلعت
على بعض مكنوناته مما لا يحسن أن يطلع عليها أحد.
وبدهي أن للعلم شأنه عظيما، ومقاما محمودا في المجتمع الذي يقدر مهمة
التعليم حق قدرها.
فالشعوب المتمدنة تقدس معلميها وتحلهم الموقع الأسمى اللائق بهم،
اعتراضا بصنيعهم وتقديرا لخدماتهم التي يؤدونها إلى أمتهم إبان قيامهم بوظائفهم
التعليمية.
فالإجلال للمعلمين يتمشى معهم أينما ساروا وحيثما حلوا، لما لهم من
الأيادي البيضاء في تثقيف العقول وتهذيب الأخلاق والأفكار، ومن التأثير في
إعلاء مستوى الشعوب إلى ما يؤهلها لرفع مكانها بين الأمم الحية لتسير في مضمار

412
الحياة، وتقابل كل حادثة وكارثة برباطة جأش وقوة إيمان.
لا تتخلص الشعوب من غياهب الجهل، ولا تتقدم في معارج الحياة التقدم
المنشود، بل لا تكون ذات قوة وسلطان ومنزلة عليا ما لم يكن فيها معلمون
ذوو اختصاص يدر بونها فيصلون بها إلى حياة العلم الصحيح، حياة العزو السؤدد
فإذا وجدت شعبا يتقدم نحو الكمال بخطوات رصينة أيقنت أن وراءه
مرشدين ينتشلونه من حضيض الجهل والهوان ذروة العلم والمجد، فبهذا
الاعتبار لزم أن يكون المعلم محترم الجانب عزيز الكرامة.
وقد سئل الإسكندر ما بالك توقر معلمك أكثر من والدك، فقال:
(لأن المعلم سبب لحياتي الباقية، ووالدي سبب لحياتي الفانية). وقد بلغ من
اهتمام الرشيد بتعليم أولاده أنه سأل يوما من أكرم الناس خدما؟ فقيل:
أمير المؤمنين. فقال: لا بل أكرمهم خدما (الكسائي)! فقد رأيته يخدمه
الأمين والمأمون وليا عهد المسلمين وليس لي من الخدم مثلهما.
إن للعلم فضلا كبيرا على العالم، كيف لا وهو يضحي بأعز مالديه
من أجل أبناء جلدته، فإذا كانت الرجال تقاس بأعمالها، فإن ما يقدمه
المعلمون من الخدمات القيمة في سبيل إنهاض شعوبهم تجعل في أبناء تلك الشعوب
مكانة خاصة لهؤلاء المرشدين الذين علموا النشئ كيف يقيم لمثل هذه الأعمال
وزنا، فأي شئ أعز من النفس والوقت، وأغلى ثمنا منهما، ولعمر الحق
أن المتفاني بنفسه ووقته أجل كثيرا من المضحي بماله.
ما كان (سقراط) إلا معلما علم تلاميذه المبادئ الطيبة حتى عزموا على
أن يضحوا حياتهم من أجل تخليصه من حكم الإعدام الصادر بحقه، لكنه أبى
ومات في سبيل الواجب ورعاية القانون، فعلم الناس بموته حب الموت من أجل
المحافظة على النظام.

413
وكذلك (أرسطو) و (أفلاطون) و (فيثاغورس) و (أرخميدس)
و (أقليدس) وغيرهم من الحكماء الذين كانوا معلمين هذبوا اليونان القديم
وكونوا له مدنية هي أساس حضارات الأمم التي لا نزال نشاهد آثارها وعظمتها
إلى اليوم.
فالمعلم الذي يضحي بنفسه وهو يعاين الجراثيم الفتاكة ليعلم تأثيرها
إلى تلاميذه، وينشر مفعولها إلى شعبه، وجب أن يكون أعلى مقاما من
المتفاني بماله من المحسنين، إذ أن الاحساس ينحصر بجزء من الشعب بينما
العلم يشمل الكل.
ولذلك جاءت الكتب السماوية والأحاديث الشريفة وأقوال العظماء
المأثورة حاثة على العلم والتعليم.
المعلمون قادة الرأي العام ومنقذوا الشعوب من الموت الأدبي، فإليهم
ترجع الأمور ومن آرائهم الصائبة تستنبط المعضلات وتعرف الرموز والمشكلات
وتسن القوانين.
إن أهم وظيفة يقوم بها المعلمون هي غرسهم بذور الأخلاق الطيبة في
النفوس، تلك الأخلاق التي عليها مدار جميع الأعمال، وبدونها لا يتمكن
البشر من أن يسير سيرا حسنا مهما علت منزلته وسمت رفعته.
فكر فيما قاله النبي محمد (ص) - معلم الأمم الحكم - في خطبة له:
كأن الموت فيها على غير ناقد كتب، وكأن الحق فيها على غيرنا قد وجب
إلى أن قال: طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، طوبى لمن أنفق مالا
اكتسبه بغير معصية، طوبى لمن زكت وحسنت خليقته وطابت سريرته، وعزل
عن الناس شره، طوبى لمن أنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من قوله).
تجد الصراحة متجلية أمام عينيك ثم تعمق في المعاني التي تنطوي عليها

414
تلك الكلمات تجد أنه تشع منها أنوار تهدي للتي هي أقوم. يدعو الناس إلى
القيام بالواجب والاعتراف بالحق. وهذا أقصى تشريع يتطلبه عقلاء الأمم
اليوم من أجل تأمين النظام والسلم العام
ما بادت أمة من الأمم السالفة فأضاعت سؤدها إلا بسبب سقوط أخلاقها
وانحرافها عن السبل الصحيحة التي كان يسوقها إليها معلموها الأبرار وما ضاع
حق إلا من قصر عقل الجاهل المطالب به وضعف خبرته. ولا ريب في أن
الضعيف مغلوب على أمره.
لم يكن الملك عادلا، ولا الوزير حاكما قادرا، ولا الشعب واقفا على
ما يحاك حوله من الشباك لولا المعلم. وما نراه ونقرؤه في صحف التاريخ من
حضارات قديمة كانت أو حديثة ومن علوم وفنون واكتشافات واختراعات،
ما هي إلا من مأثر أولئك الأبطال (وهم المعلمون).
وجماع القول إن المعلم مرب ولولاه لما عرف المخلوق خالقه. فالأنبياء
مرشدون سيروا الشعوب إلى طريق الهدى والحق، وردعوهم عن الغي والبهتان،
والفلاسفة معلمون يتحرون الحقائق ويفتشون على كنه الأشياء.
* * *
كل محاسن هذا الكون مدينة للمعلمين الذين ثابروا على الاستنباط
والتدقيق طوال حياتهم، فعلموا الشعوب كيف تفكر وكيف تشعر بواجباتها
لتنافس الأمم المناوئة لها في مضمار الحياة.
فإذا كان في الشعوب المتمدنة قوة إبداع علمية أو صناعية، وصفات
ممدوحة، فمر جعلها المعلم الذي أنهك جسمه وأضنى فكره في سبيل التهذيب حتى كانت
حياته القصيرة ملأى بالجهود والأتعاب فيتضح من ذلك كله أن المعلم الذي يضحي
بنفسه وهو يعاين الجراثيم الفتاكة أمام منضدته، ليعلم تأثيرها إلى تلاميذه،

415
لم يكن أقل قدرا ومكانة من القائد الفاتح. فإذا كان هذا يسوق الجند إلى
ميادين القتال لحفظ كيان أمته ورفعة مجدها، فإن ذاك يسير الشعوب إلى ساحات
الجد والعمل بنشاط، ويهيئها إلى الاختراع والإبداع من جهة، وإلى استساغة
الموت في سبيل الواجب من جهة أخرى.
المعلم أمام منضدة التدريس بصوته الجهوري يلقي على تلاميذه دروسا قيمة
ويبث فيهم المبادئ الطيبة والروح السامية، وهو على منبره كأنه الجبل الراسخ
والبنيان المرصوص.
وهناك العاهل الجالس على كرسي عرشه، المفكر في تدبير شؤون رعيته
لا يكون حكمه عادلا ما لم يتدرب على حب الحق وتقديره على يد معلم قدير
ومما هو جدير بالذكر ما قام به المعلمون في القرون الوسطى من الجد
والتعليم طوال حياتهم، فأبقوا من الآثار ما يعسر عده وحصره، ومن
الذكريات ما لم تمحه العصور والدهور.
ولقد قام أبطال الإسلام بوظيفة التعليم والإرشاد للمدينة الحقة في زمن لم
يتسير التقدم فيه إلا للأمة الإسلامية التي جاهد معلموها طيلة أل ف عام - فترة
القرون الوسطى - فانتفعت من علومهم أمم الغرب، وما المقبول من مدنيات
هؤلاء اليوم إلا ولهم فيها التأثير البليغ.
وقد رأينا في عصور الحضارات الأخيرة أن النهضات العلمية والفكرية في
البلاد لا تثمر إلا إذا اشتراك فيها المعلمون بجهودهم المتواصلة.
فالمعلمون في الأرض كالنجوم المتألقة في السماء، يستضئ الناس بأنوار
ثقافتهم، فيهتدون إلى سبل النجاة.
لم تتسع العلوم والفنون في العصور الأخيرة في الغرب منذ بدء دور
الانتباه توسعا محسوسا تشعبت منه لكل علم شعبات لها قواعد ونظريات تختص

416
بهذه الشعب، إلا عن طريق تبحر المعلمين في كل فن مارسوه، حتى صار
لا تمر لحظة من الزمان إلا ونرى أو نسمع أنه برز لميدان السباق العلمي مخترع
حديث واكتشاف جديد.
(فغاليلا) و (فوبرنيق) و (نيوتون) و (لاباس) و (باستور)
و (أديسون) و (روسو)، وغيرهم ممن تقدم أو تأخر من علماء تلك العصور،
هم الذين هيئوا لأممهم - بالنظر لاختصاصهم بمختلف العلوم - سبل النهضات
حتى فاضت تعاليمهم فانتشرت في بقية الأمم الأخرى فكانت سببا لنهضتها من
كبوتها، تعلمها معنى الحياة الطيبة الموصلة إلى الحرية والاستقلال.
زادت مؤلفاتهم عن دائرة الحصر حتى في موضوع واحد، وقد أوجدوا
من النظريات الهندسية خططا عملية كانت أساسا لوضع المدن الراقية على أحسن
طراز معماري يكاد بإبداعه يدهش العقول ويبهر الأبصار.
قربوا المسافات الشاسعة - التي كان الإنسان ينهك قواه لاجتيازها -
بقوة البخار، وأوجدوا السكك الحديدية والبواخر الضخمة والسيارات والطيارات
السريعة، فسهلت المواصلات بتأثير تلك القوة التي كان للعالم الإفرنسي
(بابن) تأثير عظيم في الاستفادة منها.
اخترعوا البرق والهاتف واللاسلكي، وأخيرا الهاتف الرائي، والمذياع
الذي يعد أعجوبة العصر الحاضر، فهانت المخابرات والمكالمات بين أقاصي البلاد
حيث يرى المتكلم مخاطبه.
علموا تلاميذهم ماهية الأجسام الحية وغير الحية فوقفوا على ذراتها
وكنهها بالتحليل الكيمي الذي قام بأعباء إجرائه المعلمون الماهرون أمثال
(لافوازيه) العالم الإفرنسي الشهير بتدقيقاته العلمية، بمزجهم النظريات
بالعمليات، وأرسخوا في ذهن الإنسان القاعدتين التاليتين:

417
1 - النظريات التي لا تقترن بعمل غير مفيدة.
2 - العمليات التي لا تستند على نظرية ما مبهمة.
وبذلك فتحوا باب العمل وأوجدوا لكل فرد مهنة تساعده على تأمين
حياته بالكسب.
هذا فضلا عن المخترعات الطبية والكيمائية التي صانت حياة الإنسان
من مهالك الأدواء التي طالما أن تحت كابوسها عصورا مديدة.
فكل ذلك يرجع طبعا إلى فضل المعلمين وإلى مساعيهم المتواصلة في سبيل
الاختراع والتعليم.
فإذا كان هذا أثر المعلم في هذا المجتمع الإنساني، فلعمر الحق إن عمله
الخالد لا يوازيه أي ثناء وشكر، وهو جدير بالتعظيم والاحترام.
فإذا بحثنا عن سر رقي الأمم وسعادتها نجده في احترامها لمعلميها ومهذبيها
فرقي الشعوب يقاس بقدر محبة أفرادها للمعلمين الذين جادوا بجهودهم وبجواهر
علومهم المكنونة في صدورهم. فطوبى لأمة عرفت قدر معلميها.
يقول (شوقي) شاعر مصر:
أعلمت أشرف أو أجل من الذي * يبني وينشئ أنفسا وعقولا
سبحانك اللهم خير معلم * علمت بالقلم القرون الأولى
أخرجت هذا العقل من ظلماته * وهديته النور المبين سبيلا
وطبعته بيد المعلم تارة * صدئ الحديد وتارة مصقولا
أرسلت بالتوراة موسى مرشدا * وابن البتول فعلم الإنجيلا
وفجرت ينبوع البيان محمدا * فسقى الحديث وناول التنزيلا
وإذا المعلم لم يكن عدلا مشى * روح العدالة في الشباب ظئيلا
وإذا المعلم ساء لحظ بصيرة * جاءت على يده البصائر حولا
وإذا أتى الإرشاد من سبب الهوى * ومن الغرور فسمه التضليلا

418
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم * فأقم عليهم مأتما وعويلا
ولفضيلة العلامة السيد حسين بحر العلوم حفظه الله تعالى مقطوعة في المعلم
يقول في بعضها:
فسبحان من فجر الكهرباء * بذهن المعلم حتى ازدهر
إذا الكون في يقظة ثرة * بها البدو يلحق ركب الحضر
ولولا المعلم لم ينبلج * بأفق الطبيعة نور القدر
ولولا المعلم لم ينفجر * لسقي المروج ضمير الحجر
ولولاه لم يك غير التراب * فخرا إلى المرء إما افتخر
فما أكثر الطين لولا الحياة * وما أهون الغصن لولا الثمر
وهل ينتشي الروض إن لم تسل * بأعماقه عذبات النهر
* * *
نبي القرون وفخر النبي * معاجز من روحه تنفجر
خلدت مع العقل ذهنا يفيض * وعيا تواقد منه الشرر
وقلبا رقيقا يضوع الحنان * من جانبيه إذا ما ابتشر
وروحا سخيا تحوم النفوس * لتشرب من عطره ما انتشر
وخصب الرسالة أن تلتقي * بروح النبي نفوس البشر
وبهذه المناسبة أرسل إلينا فضيلة الحجة السيد محمد جمال الهاشمي من نظمه:
* أيها النجم الذي شع به الأفق وأشرق *
* طل على الشمس فضوء الشمس من معناك مشتق *
واسبق الدهر بأعمالك واتركه ليلحق *
وتسلق سلم الخلد ففيك المجد حلق *
زورق أنت ببحر الدهر من يتركه يغرق *

419
وحياة الروح في سير به الأرواح تزهق *
وشعاع الحق في دنيا بها لا يظهر الحق *
لك عقل من قيود الوهم والتقليد مطلق *
وشعور نشره أندى من الورد وأعبق *
ووجود فيضه كالفجر نورا يتدفق *
* * *
أيها الأستاذ في مدرجك النشئ تسلق *
فحنانا كم فؤاد.. حول توجيهك قد رق
قد نثرت البذر في التربة فامتد وأورق *
قائد يزحف من آرائه في ألف فيلق *
خالق الأمة والأمة من روحك تخلق *
باسمك المحبوب تاه الشعر والفن تأنق *
رام أن يسمو إلى معراجك المدح فأخفق *
أنت شمس ما رآها ناظر إلا وأطرق *
سر إلى الغاية بالآمال حتى تتحقق *
ودع الأخرق في إنكاره فضلك أخرق *
أنت في فقرك مثر وهو في الثروة أملق *
إنما كوخك من أبراجه أسمى وأسمق *
قد جنيت اللب والأخرق بالقشر تمشدق *
* * *
السعادة موقوفة على العلم، والعلم موقوف على التعلم على ما ينبغي والتعلم
على ما ينبغي موقوف على إصلاح طرق التعاليم، فالسعادة موقوفة على إصلاح

420
طرق التعاليم، فهي الأساس.
الإلحاد أساس الفساد: لأن انحطاط كل أمة لإهمالها المصالح النوعية
وإهمالها المصالح النوعية لمعارضتها مع المصالح الشخصية لأفرادها وتقديم
الأفراد مصالحهم الشخصية على المصالح النوعية. لما فطر عليه كل
أحد من تقديم مصلحته على مصلحة غيره، ومع فرض إلحاد الأفراد
لا يرى الفرد مصالحه الشخصية عين المصالح النوعية ليقوم بها بل
يرى المضادة بينهما فيهمل. فالإلحاد يوجب إهمال المصالح النوعية وهو عين
الفساد وأساسه.
وبعبارة أخرى كل أحد يقدم مصلحته على مصلحة غيره، والمصالح النوعية تعارض
المصالح الشخصية في أكثر المواضع، فكل أحد يقدم مصالحه الشخصية على
المصالح النوعية ما لم يعتقد أن المصالح النوعية عين المصالح الشخصية، ولا
يعتقد ذلك إلا بواسطة الاعتقاد بالله واليوم الآخر " من يعمل مثقال ذرة خيرا
يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " وأنه مأمور بالقيام بالمصالح النوعية
فإذا اعتقد هكذا فيرى القيام بالمصالح النوعية عين القيام بمصالحه الشخصية
فيقوم بها لنفسه لا لغيره.
أفرض نفسك واقفا في موقف حرج من ميادين الحرب واستمالك الخصم
بصفراء فاقع لونها تسر الناظرين ويعدك ويمنيك، ونفرض أن تربيتك (على
ما يزعمون) تربية صحيحة لكنك (ملحد) لا شك أن قيامك في مقامك ودفاعك عن
قومك وصبرك وثباتك مصلحة عامة لهم، كما أن خيانتك مفسدة عامة فهل ترى
نفسك صابرا في البأساء والضراء، وهل تشتري نفسك ابتغاء مرضاة الناس لو
كنت منصفا، لأجبت كلا ثم كلا.
ثم نفرضك معتقدا الثواب والعقاب وما أنزل في الكتاب " وما متاع الحياة

421
الدنيا في الآخرة إلا قليل " وقد بلغت في العقيدة منتهاها، ألا ترى نفسك
صابرا في البأساء والضراء قائلا: " إن الله اشترى من المؤمنين أموالهم وأنفسهم
بأن لهم الجنة ".
قارن بين تصورات الملحد والمؤمن، ثم احكم بأن أي الفريقين أحق
بالأمانة وأيهما أقرب للخيانة.
هذا مثال واحد مما لا نهاية له من الأمثلة في مقارنة حال الملحد والمؤمن
يستنتج منه أن التعاليم المجردة عن الديانة كأنها بل هي بعينها تعليم طرق الإفساد
جاء في (الخلق الكامل): " المعلم (وهو الأستاذ والمؤدب والمربي
إنسان أكملته التربية، يحاول أن ينقل صورته ونظام أحواله إلى غيره ليكون
خلفا منه، فلم يمنح حق سياسة التهذيب لإظهار جلاله والرغبة في تعظيمه،
ولكن ليدير شؤون تلاميذه، ويبحث عن الطرق المهمة لإفادتهم. فمن أهم
واجباته التواضع ومجانبة العجب، فإن التواضع عطوف، والعجب منفر، وأن
يدع التكلف لما لا يحسن، وأن لا يستنكف من تعلم ما ليس يعرفه، وأن
يستقل ما أوتيه ليستزيد، وألا يتصنع بما أدرك، وألا يجهل من نفسه مبلغ
علمها، ولا يتجاوز بها قدر حقها، وأن يكون من شيمته العمل بعلمه وحث
النفس على أن تأتمر بما يأمر به، وأن يكون في مشيه وسكونه وإشارته بالتحية
وفي منظره إذا تبسم، وفي منطقه إذا تكلم ما يشير إلى وقاره وكمال عقله وحسن
خلقه، لا سيما في المجامع والمحافل، وأن لا يبخل بتعليم ما يحسن، ولا
يمتنع من إفادة ما يعلم، فإن البخل به لؤم وظلم والمنع منه حسد وإثم. وفي
التعليم زيادة العلم وإتقان الحفظ، وأن ينقب طوال حياته عن أهم المؤلفات
وأقربها فائدة وأبدعها أسلوبا. وأن ينظر في شؤون تلامذته ويمهد لهم سبيل
المجد والارتقاء، وأن يكون لهم مثال العقل ونموذج الوقار والصلاح، وأن

422
ينصح لهم ويرفق بهم، ويبذل الجهود في رفدهم ومعونتهم، وأن لا يحتقر ناشئا
ولا يتصغر مبتدءا، وأن يوجه ذهن الطالب إلى تعقل المسائل وفهم المعاني من
أقرب الوجوه مجتنبا الاحتمالات البعيدة وتكلف التعسفات الممقوتة، وأن يحضر
درسه قبل إلقائه فيراجع ما يحتاج إلى مراجعته من الكتب لتصحيح ألفاظ
وتحقيق بحث.
وألا يأتي للطلبة في أثناء الدرس بما يهوش الفهم، فلا يغرب بالإكثار
من الاعتراضات اللفظية والجواب عنها بالاحتمالات، فإن ذلك مضيعة للأوقات
وألا يخلط مسائل علم بعلم آخر إلا ما جاء عرضا وتوقف عليه فهم المقام
وأن يمرنهم على المناقشة فيما يصل بهم إلى المطلوب، فليس بنافع أن يلقن
المعلم الطلبة ما يريد من الأحكام والمسائل ليحفظوها عن ظهر قلب، بل يستمر
معهم في أخذ ورد وبحث وتمثيل حتى يصل بهم إلى ما يريد، وأن يعودهم أيضا
القدرة على التعبير عما يدركونه بعد إيضاح الموضوع لهم إيضاحا تاما، وأن
يمرنهم على إثبات الشئ بالبرهان الصحيح الثابت الذي لا يقبل النقض لتجري
في نفوسهم حركة المعقولات، ويحيى فيهم قوة التأمل والتعقل حتى تصير ملكة
راسخة، وأن يقتلع جذور التعصب من قلوب المتعلمين ويحبب إليهم الإنصاف
فإن التعب يسبب تفريق الناس بعضهم عن بعض ويحجب العقول عن الحق،
والإنصاف راحة لأنه يرفع الخلاف ويوجب الائتلاف.
المعلم كما يراه الغزالي:
قال الغزالي: " اعلم أن للإنسان في علمه أربعة أحوال كحاله في اقتناء
الأموال، إذ لصاحب المال حال استفادة فيكون مكتسبا، وحال ادخار
فيكون غنيا عن السؤال، وحال إنفاق على نفسه فيكون منتفعا، وحال بذل
لغيره فيكون به سخيا متفضلا، وهي أشرف أحواله.

423
فكذلك العلم يقتنى كما يقتنى المال: فله حال طلب واكتساب وحال
تحصيل يغني عن السؤال، وحال استبصار وهو التفكير في المحصل والتمتع به
وحال تبصير وهو أشرف الأحوال.
فمن علم وعمل وعلم فهو الذي يدعى عظيما، فإنه كالشمس تضيئ لغيرها
وهي مضيئة في نفسها، وكالمسك الذي يطيب غيره وهو طيب.
والذي يعلم ولا يعمل به كالدفتر الذي يفيد غيره، وهو خال عن العلم
وذبالة المصباح تضيئ لغيرها وهي تحترق كما قيل:
ما هو إلا ذبالة وقدت * تضيئ للناس وهي تحترق
ومن اشتغل بالتعليم فقد تقلد أمرا عظيما وخطرا جسيما فليحفظ شرائطه
الشرط الأول: الشفقة على المتعلمين، وأن يجريهم مجرى بنيه، قال
رسول الله (ص): " إنما أنا لكم مثل الوالد لولده " فيقصد إنقاذهم من
نار الآخرة، وهو أهم من إنقاذ الوالدين ولدهما من نار الدنيا، ولذلك صار
حق المعلم أعظم من حق الوالدين، فإن الوالد سبب وجود الحاضر والحياة
الفانية، والمعلم سبب الحياة الباقية، ولولا المعلم لانساق ما حصل من جهة
الأب إلى الهلاك الدائم، وإنما المعلم هو المفيد للحياة الأخروية الدائمة إذا
علم علوم الآخرة، أو علوم الدنيا على قصد الآخرة، وإلا فهو هلاك وإهلاك
نعوذ بالله منه. والذين يطلبون الرياسة بالعلوم خارجون عن موجب قوله تعالى
" إنما المؤمنون أخوة " وداخلون في مقتضى قوله تعالى: " الأخلاء يومئذ
بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ".
الشرط الثاني: أن يقتدي بصاحب الشرع (صلوات الله وسلامه عليه)
فلا يرى لنفسه على المتعلمين منة وإن كانت المنة لازمة عليهم.
الشرط الثالث: ألا يدع من نصح المتعلم شيئا: وذلك أن يمنعه من

424
التصدي لرتبة قبل استحقاقها والتشاغل بعلم خفي قبل الفراغ من الجلي. ثم
ينبهه على أن الغرض من طلب العلم القرب من الله دون الرياسة والمباهاة والمنافسة
وأن يقبح ذلك في نفسه بأقصى ما يمكن، فليس ما يصلحه العالم الفاجر بأكثر
مما يفسده. فإذا تعلم الطالب وقصده الدنيا فلا بأس أن يتركه، فإنه يثمر له
طمعا في الوعظ.
الشرط الرابع: وهو من دقائق صناعة التعليم: أن يزجر المعلم المتعلم
عن سوء الأخلاق بطريق التعريض ما أمكن ولا يصرح، وبطريق الرحمة لا
بطريق التوبيخ، فإن التصريح يهتك حجاب الهيبة ويورث الجرأة على الهجوم
بالخلاف ويهيج الحرص على الإصرار: إذ قال رسول الله (ص): - وهو
مرشد كل متعلم - " لو منع الناس عن فت البعر لفتوه، وقالوا ما نهينا عنه
إلا وفيه شئ ". ولأن التعريض أيضا يميل النفوس الفاضلة والأذهان الذكية
إلى استنباط معانيه، فيفيد فرح التفطن لمعناه رغبة في العلم به ليعلم أن ذلك
مما لا يعزب عن فطنته.
الشرط الخامس: أن المتكفل ببعض العلوم ينبغي ألا يقبح في نفس
المتعلم العلوم التي وراءه: كمعلم اللغة إذ عادته تقبيح علم الفقه، ومعلم الفقه
عادته تقبيح علم الحديث والتفسير، فهذه أخلاق مذمومة للمعلمين ينبغي أن
تجتنب، بل المتكفل بعلم واحد ينبغي أن يوسع على المتعلم طريق التعلم في غيره
والمتكفل بعلوم ينبغي أن يراعي التدريج في ترقية المتعلم من رتبة إلى رتبة.
الشرط السادس: أن يقتصر بالمتعلم على قدر فهمه، فلا يلقي إليه
ما لا يبلغه عقله فينفره أو يخبط عليه عقله اقتداء في ذلك بسيد البشر (ص)
حيث قال: " نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، ونكلمهم على
قدر عقولهم ".

425
فليبث إليه الحقيقة إذا علم أنه يستقل بفهمها. وقال (ص): " ما أحد
يحدث قوما بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة على بعضهم ". وقال علي
(رضي الله عنه) وأشار إلى صدره: " إن ههنا لعلوما جمة لو وجدت لها حملة "
وصدق (رضي الله عنه) فقلوب الأبرار قبور الأسرار، فلا ينبغي أن يفشي
العالم كل ما يعلم إلى كل أحد.
هذا إذا كان يفهمه المتعلم ولم يكن أهلا للانتفاع به فكيف فيما لا يفهمه
ولذلك قيل: " كل لكل عبد بمعيار عقله، وزن له بميزان فهمه حتى تسلم
منه وينتفع بك، وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار ".
وسئل بعض العلماء عن شئ فلم يجب فقال السائل أما سمعت رسول الله (ص)
قال: " من كتم علما نافعا جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار " فقال:
أترك اللجام واذهب، فإن جاء من يفقه وكتمته فليلجمني، فقد قال تعالى:
" ولا تؤتوا السفهاء أموالكم " تنبيها على أن حفظ العلم ممن يفسده ويضره أولى
وليس الظلم في إعطاء غير المستحق بأقل من الظلم في منع المستحقين.
الشرط السابع: أن المتعلم القاصر ينبغي أن يلقى إليه الجلي اللائق به
ولا يذكر له وراء هذا تدقيقا وهو يدخره عنه، فإن ذلك يفتر رغبته في الجلي
ويهوش عليه قلبه، ويوهم إليه البخل به عنه، إذ يظن كل أحد أنه أهل لكل
علم رقيق، فما من أحد إلا وهو راضي عن الله سبحانه في كمال عقله. وأشدهم
حماقة وأضعفهم عقلا هو أفرحهم بكمال عقله، وبهذا يعلم أن من تقيد من
العوام بقيد الشرع ورسخت في نفسه العقائد المأثورة عن السلف من غير تشبيه
ولا تأويل وحسنت مع ذلك سريرته، ولم يتحمل عقله أكثر من ذلك، فلا
ينبغي أن يهوش عليه اعتقاده، بل ينبغي أن يخلى وحرفته، فإنه لو ذكر له
تأويلات الظاهر انحل عنه قيد العوام، ولم يتيسر قيده بقيد الخواص فيرتفع

426
عنه السد الذي بينه وبين المعاصي، وينقلب شيطانا مريدا يهلك نفسه وغيره.
وعلى الجملة يجب أن يقتصر مع العوام على تعليم العبادات، وتعليم الأمانة في
الصناعات التي هم بصددها، ويملأ قلوبهم من الرغبة في الجنة والرهبة من النار
كما نطق به القرآن. وينبغي ألا يفتح للعوام باب البحث فإنه يعطل عليهم
صناعاتهم التي بها قوام الخلق ودوام عيش الخواص.
الشرط الثامن: أن يكون المعلم عاملا بعلمه فلا يكذب قوله فعله،
لأن العلم يدرك بالبصائر. والعمل يدرك بالأبصار، وأرباب الأبصار أكثر،
فإذا خالف العمل العلم منع الرشد، وكل من تناول شيئا وقال للناس لا تتناولوه
فإنه سم مهلك سخر الناس به واتهموه، وزاد حرصهم على ما نهوا عنه فيقولون
لولا أنه أطيب الأشياء وألذها ما كان يستأثر به.
ومثل المسترشدين من المعلم المرشد مثل الظل من العود، ومتى استقام
الظل والعود أعوج؟. وقد قيل:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله * عار عليك إذا فعلت عظيم
وقال الله تعالى: " أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم " ولذا كان وزر
العالم في معاصيه أكبر من وزر الجاهل، إذ يزل بزلته عالم كثير ويقتدون به
ومن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها، ولذلك قال علي (رضي الله عنه)
" قصم ظهري رجلان: عالم متهتك، وجاهل متنسك، فالجاهل يغر الناس
بتنسكه، والعالم يغرهم بتهتكه ".
المعلم في رأي أفلاطون:
جاء في وصية أفلاطون في تأديب الأحداث ما يلي: " لست أخاطب الطبقة العالية في الفلسفة والبلاغة، ولا الطبقة الدنيا، لكن
أتوخى الطبقة الوسطى بين الطبقتين فأقول: إنه يجب أن أذكر نفسي وأحضها

427
على الأدب دون أن أحوج غيري إلى تأديبي وتقويمي، فإن آية العقل أن أقيم نفسي
مقام الممتحن لها وعليها، فإذا فعلت ذلك كنت من الذين قومهم الأدب.
أقر أني لا أعرف نفسي فإني لست بالحكيم ولا المستقل بالتعليم، لأني
إلى هذه الغاية متعلم وطالب حكمة، فليت شعري من الكاتب البليغ الذي يأتي
بعدي؟ ومن الواضع للسنن الذي جاد طبعه وكرم أصله؟ والذي يحسن أن
يكون وساطة بين الأستاذين والمدرسين، وأن يقنع الفريقين معا فيرضي الطبقة
العالية، ويؤدب الطبقة التي دونها من غير أن يتعسف من الأولين ولا يكون
بذيئا مع الآخرين؟ أيها المعلمون، افهموا عني ما أوصيكم به وأرسمه لكم
لتكن سيرتكم مع تلاميذكم سيرة مستقيمة بلا زيادة ولا نقصان، وبالله
المنشئ لكل أدب وعلم أستحلفكم وأقسم عليكم ألا تتجاوزوا الحدود. اعرفوا
عاداتكم واحفظوا درج مراتبكم، وكونوا لهؤلاء التلاميذ مرآة صافية مضيئة
فكونوا دليلا لمروءتهم ليتأدبوا بالمروءة، وأبعدوهم من كل لائمة قبيحة،
وامتنعوا من الشهوات المذمومة ومن أفعال الخطايا ولا تضنوا بحسن مناظرتهم
ولا تقربوا شيئا يلحقكم منه عذل، ولا تكونوا سببا لعادة مذمومة يجترئ
عليكم بها تلاميذكم، ولا تتكلموا بشئ يكره بين أيديهم، ولا يكونن لكم
معهم سر ولا خلوة، فإذا أدبتموهم فلا تكلموهم بكلام يكون مستورا عن جماعة من
بحضرتكم، ولا تهذبوهم بالخدع، ولا تتقربوا إليهم بالهبات والصلات،
وعاملوهم بحسب استحقاقهم، وعلموهم ألا ينحطوا عن مراتبهم من العلم
فتنحطوا أنتم عن مراتبكم في التعليم لهم، ولا تحفلوا بالظل الزائل ولا باللذة
التي لا دوام لها فتفسدوا إخلاص أنفسكم ورياسة تعليمكم، واستحيوا منهم،
وتصونوا وتوقروا وتحفظوا أنتم وتلاميذكم أيضا بالوصايا المرتفعة عن كل
طعن وقدح، ولا تؤدبوهم بالأدب إلا في موضعه وعلى حقيقته من حيث لا يلحقكم

428
فيه شك ولا ارتياب بأنكم ظلمتوهم وتعديتم عليهم، وأن ترفعوا فحطوا منهم
ولا ترقوا للمتجاسرين منهم برقة للآباء، ولا تحبوهم محبة ذوي الأنساب
منكم بل أدبوهم كالغرباء منكم، ومن أول ابتداءكم بهم خذوا في رياضتهم، وإن
أحد من أهلهم وأقاربهم منعوكم تأديبهم وسألوكم أن ترحموهم وترقوا لهم فأخرجوهم
من عندكم، ولا يكن تقويمكم لهم وضربكم إياهم عن غضب وهياج.
ولا تتركوهم إهمالا لقلة عنايتكم بهم، ولا تتركوهم من غير حد
تعرفونه لأنفسهم، ولا تنسوا التعليم الروحاني من قبل الكرامة العالية،
وداووهم إذا احتاجوا إلى الأدوية الملطفة حتى تصفوا أذهانهم ليكون لهم بما
تفيدونهم من علومكم شرف وافتخار، وعودوهم الاحتماء من الأطعمة الضارة،
وعودوهم ألا يأكلوا إلا في أوقات معلومة محدودة من أطعمة لطيفة، وحذروهم
الشره والسكر والخروج عن الاعتدال في كل ما يصلح ويشاكل حالة علمهم
وامنعوهم من النظر الشهواني المردي، وأقيموا عليهم رئيسا منهم يشرف عليهم
وليكن متقدما، غنيا كان أو فقيرا، جميلا كان أو قبيحا، ولا تنظروا إلى
حسن الوجه مع قبح السيرة، بل انظروا إلى حسن العقل.
وليكن المدبر لهؤلاء الأحداث موثوقا به ذكيا عالما مهيبا غير معروف
بسوء اللقاء وقبح المعاملة وفساد السيرة، ولا تصبحوا المعروفين بالأفعال
القبيحة وتباعدوا منهم.
وقابلوا كل من تؤدبونهم بما يشاكلهم من التأديب، ولا يكن تأدبيكم
لهم بغير تمييز وترتيب. حملوهم ما يقوون عليه من التأديب، ولا تميتوا
قلوبهم بالإلحاح عليهم وتجشيمهم ما لا يقوون عليه، وأقيموا عليهم منهم رؤساء
ألوف، ورؤساء مئين، ورؤساء خمسين، ورؤساء عشرة، وكل واحد منهم يأمر
تلاميذه وينهاهم. ومتى زال رئيس منهم عما تأدب به وأدبهم ولم يستعمل ما

429
يجب عليه مما يوصيهم به فلينح ذلك الرئيس منهم عن مرتبته وليقم فيها غيره،
فليس من الحزم أن يوثق بخائن ولا كاذب، ولا يقبل اعتذار ممن يقتل النفس
عامدا، فإن أخطأ حدث ممن يسمع التأديب أو زل غفرت زلته، واحتمل
دفعتين أو ثلاثا فإن عاد بعد الثلاث نحي عن جملة المتأدبين وحجر لئلا يفسد
سائر من يروم التأديب.
أيها الإخوة المحبون للعلم اسمعوا واحفظوا وصاتي فإني كاتب لكم
مقالة سهلة أبين لكم المدخل إلى العلم بكل صناعة شريفة يتنعم بها كل محب
متعلم:
فأول ذلك أن تكونوا طاهرين لا عيب فيكم قبل أن تشرعوا في هذا
العلم، فإنه يجب ألا تتقرب الأشياء الطاهرة إلى الأشياء الدنسة، ولا الأشياء
الدنسة إلى الأشياء الطاهرة، ولا يقرب ذوو العيب الدنس من المبرأ، ولا المبرأ من الدنس
وليعلم أنه لا يستطيع مكيال من ماء عذب صاف لطيف أن يقاوم جب خمأة منتنة
لا قبح أقبح بالعاقل من أن يسم نفسه عند الناس بالعقل ويأمرهم به وهو
خلو منه صفر الأدب مرتكب للمأثم. إن الحكمة التشبه بالله عز وجل وهو
المعلم للحكمة والمرشد إلى الأفعال الجميلة الفاضلة الموفق لها.
إياكم والحسد فإنه المفرق المشتت، وليتواضع بعضكم لبعض. تساووا
في المحبة الكاملة. أسلموا نفوسكم لله وللعقلاء الكاملين الذين يستحقون الرياسة
بأفعالهم واقتصادهم وقناعتهم، ولا تتكلوا على المفتخرين بالآباء الذين لم
يؤدبوهم بأدب النفس ولزوم ما وجب عليهم، أولئك حزب الظلمة وأعداء
الحكمة ومصيدة الشياطين، والهرب منهم والتباعد عنهم أولى.
وليجعل كل واحد منكم صاحبه كنفسه، وليحفظ كل واحد منكم
صاحبه حتى يكون بعضكم حافظا لسر بعض.

430
كونوا سامعين مطيعين حريصين على طلب الحق والحكمة، مجتهدين
مناضلين عن الحق محبين للصدق مجادلين عن العلم عارفين بالأزمنة واختلافها
مبغضين المعايب عاملين على تمكين الصلاح والسكون والهدوء والسلامة متكلمين
عن أهل الخير ناظرين بأعينهم وقلوبهم نظر المتواضعين لا المتكبرين، آنفين
أنفة ذوي العزة متذكرين دائما الموت الاختياري محبين للفضائل بكل المحاسن
لا تتحملوا ثقل التكبر، ولا تتعدوا أقداركم، ولا تترفعوا بالصلف
ولا تتعظموا بالافتخار، ولا تأخذوا بأخلاق الجبابرة، وكونوا علماء بما
تعلمون، ولا تتجاسروا على تعدي حدودكم، ولا تتماروا فيما لا حقيقة له،
لا تجادلوا بالكذب ولا تتكلموا بالهذر.
واحذروا الشهوات القبيحة، ولا تعودوا أنفسكم الميل إليها، والزموا
قراءة الكتب الأدبية ولا تملوا وأحسنوا الإنصات للحكميات وارهبوا آباءكم
وأكرموا أمهاتكم، ولا تركنوا إلى البطالة والكسل، وميزوا بين الخير والشر
واعرفوا الربح من الخسران، وإذا لم تسألوا فلا تجيبوا، وتنكبوا الخصومات
واستعملوا الأغذية اللطيفة، وتباعدوا عن الشره للأطعمة، ولا تشربوا الخمر
وليكن لغذاءكم وقت معلوم، وأكثروا ذكر الله عز وجل وإحسانه إليكم
فرادى ومجتمعين، ولا ترفعوا أصواتكم عند من هو أسن منكم، ولا ترادوهم
الكلام، ولا تطلقوا ألسنتكم بحضرتهم بكلام جاف، ولا تؤثروا لذة المأكل
على لذة العلوم، ولا تشتغلوا بذكر مساوي غيركم، وإذا صح كلامكم
وظهرت حجتكم فلا تعجبوا بأنفسكم، ولا تفتخروا بما ظهر منكم من غلبة خصومكم
وآثروا الوحدة والدعة والسكون، ولا تطلبوا الرياسة وإن أكرمكم
إنسان فتواضعوا أنتم في أنفسكم، وإن سلطكم مسلط على أمر من الأمور
فأحسنوا فيه، واكظموا الغيظ ولا تسرعوا إلى الغضب، وأكرموا أنفسكم

431
فإنكم بذلك تصيبون كرامة كثيرة، ولا تمضوا شيئا في وقت الضجر، وامتحنوا
الأصدقاء قبل أن تصادقوهم ولا تصادقوهم قبل الامتحان.
ولا تقوموا في الأسواق وإن استطعتم ألا تمشوا فيها فافعلوا فإن الأسواق
مزابل المدن، وليس يجد الإنسان على المزابل شيئا نظيفا ولا طيبا طاهرا.
ولا تصغوا إلى أقاويل العامة، وبخاصة أهل السوق فإنهم همج رعاع ولا
تحصيل عندهم ولا رأي لهم ولا معرفة حقيقية، ولا تطلعوا أحدا على أسراركم
وكلموا الرؤساء بتواضع ولطف. ولا يعظمن في صدوركم ما يعظم في عين كثير
من الناس من أعراض هذه الدنيا.
وإذا أنكرتم شيئا على إنسان يهمكم أمره فعاتبوه عليه من وقته، ولا
تكونوا ذوي وجهين ولسانين، ولا تكن مودتكم متقلبة كاختلاف ضوء القمر
وكونوا كالشمس التي نورها فيها دائم لا يزيد ولا ينقص، ولا تتبعوا شهوات
الناس في الأحكام، لكن كونوا حكماء بلا محاباة لأحد منهم، ولا تغتابوا من
غاب عنكم، ولا تحلفوا يمينا إرضاء للناس، ولا تقيموا في ظل ملوك إن كانوا
لكم غاصبين، واحذروا الملاهي الشائنة لكم واللعب المضل لأذهانكم ولا تواصلوا
الضحك، ولا تميلوا إلى الخدع الآخذة بالعين التي تحدث في أنفسكم اضطرابا
ولا تجالسوا من يزينوا لكم الشهوات القبيحة.
احذروا العدو الذي يريكم الصداقة، والأخ الذي لا صدق لكلامه ولا
صحة لضمانه ولا صواب في منطقه، والذي ينبغي للأحداث أن يأخذوا طرفا
من الأسباب التي يحتاج إليها في تدبير الحروب وترتيب الصفوف وتعلم المثاقفة
والرمي والمصارعة والطلب والهرب من غير استهانة ولا انهماك فيه، وليتعودوا
ركوب الخيل وجريها والعمل بالسلاح.
وينبغي أن ينظروا في الموسيقى فإنها من التعاليم الأربعة حتى يقفوا على

432
المناسبات وتأليف اللحون وأصناف ما ينسب إليها من العود، والمعرفة بسائر
آلات الموسيقى.
واعلموا أنكم إذا اتصفتم بهذه الحكمة وتمسكتم بها كنتم كالنور المشرق
على الخلائق، فاجعلوا شكركم لله المدبر للكل الأزلي القديم القائم بالحق
والقسط.
ومن خالف هذه الوصايا فالواجب على من يشرف على المتأدبين تقويمه
وتأديبه، فإن لكل خطأ عقابا، إما عاجلا، وإما آجلا ويجب أن تقدم
عقوبة العاجل لئلا يفسد الناس، ويقتل بعضهم بالقهر والغلبة، فتضيع ثمرة
التعليم والتأديب.
ولنختم الدرس بشعر
العلامة الشيخ عبد المنعم الفرطوسي في حق المعلم:
يفنى بموتك جيلك المتعلم * وإذا نعيت يقال مات معلم
أفلست بانيه عقولا مثلما * تبنى الصروح على الثرى وتقوم
غذيته حتى ترعرع ذهنه * بلبان علم منك يوحيه الفم
وغرسته خلقا عليك تضوعت * نفحاته وانشق منك المبسم
حقا بأنك أمة بجهادها * تبنى المعارف والجهالة تهدم
* * *
أمعلم الأجيال إنك فاتح * فينا وجندك جيلك المتعلم
حررته بالعلم من رقية * للجهل فوق الناشئين تخيم
وغزوت فيه مجاهدا أمية * تستعمر الجنسين إذ تستحكم
قلم تخط به الدروس أجل في * كفيك من سيف الشهيد وأعظم
وأجل من دمه مداد محابر * منها تخط على الطروس وترقم

433
وعقيدة دفعت به للموت في * سوح الجهاد وثغره متبسم
أسمى على منها لذهنك فكرة * تحيي بها جيلا وأنت تعلم
ضحيت نفسك للفضيلة سالكا * نهج الشهيد فمجده لك توأم
* * *
أفنيت قلبك في الجهاد بطولة * حتى تلاشى عمره المتصرم
تضرى على البلوى بمدرسة غدت * لك كالعرين وأنت فيها الضيغم
ويخف بالأعباء وهي ثقيلة * ذهن تحرقه ولسن مخذم
تشقى من السهر الممض معذبا * وسواك يهنأ بالرقاد وينعم
وتذيب من عينيك في حلك الدجى * قطرات قلبك أهي دمع أم دم
أمبكرا كالطير نحو خميلة * لك أنت فيها البلبل المترنم
ترعى البنين بها كأنك زارع * والنشئ في روض المعارف برعم
رفقا فقد أجهدت روحك بالعنا * حتى تداعى جسمك المتهدم
* * *
الصف ديرك حينما تأوي له * ناقوسه جرس به يترنم
والدرس إذ تلقيه وهو فريضة * تأتي بها حيث السكون مخيم
والنشئ أشباه الدمى وبفضل ما * توحي له من قسوة يتكلم
وأمام عينك كالصحيفة لوحة * تمحو وتثبت وحيها وتترجم
وأراك كالشبح الضئيل أمامها * تبدو وفي قدميك قد جمد الدم
أفراهب يلتذ في طاعاته * نسكا وفي دنيا السعادة يحلم
أم كادح من جهده قد حرموا * رغد الحياة عليه فهو محرم
في عيشة العمال وهي خشونة * يحيى عنا ويموت وهو المعدم
* * *

434
هذا الوزير المستطيل ترفعا * فكأنه بالنيرين معمم
والحاكم الطاغي بسلطته على * هذا الفقير أو الرئيس الأفخم
وأبو المواهب كاتبا أو شاعرا * في حين ينثر دره أو ينظم
هو نجمة من أفق فضلك أشرقت * أو بذرة من غرس كفك تنجم
أترى يحس بفضل تربية له * أسديتها كأبيه وهو يتمتم
وإذا وقفت كسائل في بابه * مستأذنا أفهل يرق ويرحم
إن كرموك على الجهاد فإنما * بك عظموا رمز الجهاد وكرموا
وإذا جفوك فلست أول مصلح * يجفى وقبلك قد توارت أنجم
والمصلحون حياتهم ومماتهم * جهد ومجد بالخلود معظم
* * *
ومبعد في عزلة عن كل ما * يهواه من متع بها يتنعم
ضاقت قصور الرافدين بمهده * وهو ابنها وهي الفضاء الأعظم
ضنت عليه بنظرة من حسنها * وبنفحة من طيبها تتنسم
فنفته من دنيا الحضارة والمنى * في مهدها فكأنما هو مجرم
للريف وهو ابن النعيم حضارة * والريف من نكد الحياة جهنم
البيت من قصب يكاد من البلى * يهوي بسطوة عاصف يتقحم
وكأنه بيت بلا سقف متى * يسخو بوابله سحاب مرزم
بقراته في جانب من بيته * وبجانب أطفاله تتجشم
وبنوه كالربان بين زوارق * من ها هنا أو ها هنا تتقدم
في ظل مدرسة كان صفوفها * أرماس مقبرة عليه ترمم
أمعلم يبني لنا جيلا بما * يبني من النشئ الذي يتعلم
أم زارع نكد المعيشة معدم * في قرية بالترب سد له فم

435
ورواية فيما حوته حزينة * يبكي لها فكأنما هي مأتم
بطل الرواية بائس يرثى له * إن المعلم بائس متألم
هو شمعة موقودة أنفاسها * حسراته والنار قلب مضرم
قطراتها وهي الدموع وجسمها * مما يعاني هيكل متحطم
تجتاب أدوار الحياة مجدة * بجهادها فبكل آن مغنم
تذكو فتحرق نفسها كيما بها * للسالكين ينار درب مظلم
* * *
يا أسرة التعليم حسبكم على * ترثى الفضيلة باسمكم وتكرم
أرثيكم مثلي لأن حياتكم * غنم لغيركم وأنتم مغرم
أنتم بناة النشئ في أفكاره * وطباعه بدء وفيكم يختم
والنشئ شبه الببغاء فكلما * يوحي معلمه له يتعلم
غذوه بالدين الصحيح وهذبوا * أخلاقه فهي السياج المحكم
أرأيتموا طيش البلابل حينما * أودى بها ذاك الفضاء المبهم
صونوه من جرح العقيدة يافعا * بمعارف القرآن فهي البلسم
إن العقيدة وهي أفق واسع * قفص تصان به العقول فتسلم
وله أيضا
يا رجال التعليم في المنشآت * أنتم للعقول خير بناة
هذه المنشآت وهي حقول * زاهرات والنشئ كالزهرات
أنتم منبع الفضلية فيها * وعقول البنين شبه النبات
أحسنوا الغرس في ثراها لكيما * يجتني منه أحسن الثمرات
وأجيدوا رعاية النشئ فيها * يا رعاة العقول والعاطفات
* * *

436
إن هذا الطفل الصغير سينمو * بعد إكمال آخر النشئات
وله في الحياة شأن سيبدو * بعد حين بما له من صفات
فلكم ما لديه من حسنات * وعليكم ما فيه من سيئات
هو فرع له المعلم أصل * فهو يحكيه من جميع الجهات
إن آراءه تصور فيه * كانعكاس الأجسام في المرآة
إن أخلاقه ليعبق منها * كل شئ فيه من النفحات
فانتقوه للطفل خير مرب * بعد حجر الآباء والأمهات
* * *
إن هذا النشئ الوديع إليكم * وكلوه في هذه المنشآت
علموه فالعلم خير حياة * أنقذوه فالجهل شر ممات
درسوه الأخلاق فهي سياج * يحرس العلم من يد الموبقات
ثقفوه بالدين كي تحفظوه * من شذوذ الآراء والنزعات
بيديكم توجيهه حيث شئتم * أرأيتم عقارب الساعات
* * *
يا دعاة التعليم في الشرق أنتم * لنظام الإصلاح خير دعات
إن أردتم إنقاذ شعب تردى * في مهاو كثيرة العثرات
أصلحوا منه ألسنا وعقولا * باللغى والمعارف الصالحات
أرأيتم شعبا بغير نبوغ * ورجال مثقفين دهاة
سار في موكب تسير المعالي * خلفه في رواحه والغداة
إن شعبا يسوسه عبقري * هو أرقى سياسة من مئات
إن أمية تسيطر فيه * وهي تمري أجفانه بقذاة
هي شر المستعمرين بلاء * لعقول بالجهل مستعمرات

437
أيهذا المعلم الفذ قدست * مثالا للفضل والمكرمات
فيك سر من النبوغ عظيم * يتحدى بمجده المعجزات
أنت باب إلى الحقيقة منه * يلج العقل في مجاز النجاة
أنت شبه السراج يفنى اشتعالا * قلبه في إنارة الظلمات
لك شبه المرآة ذهن صقيل * حاشد بالمواهب الخالدات
رسمت ريشة التمارين فيه * ألف لون من شارد الذكريات
هو أفق من الخيال بعيد * فيه تبدو الأفكار كالنيرات
لو يشاد الخلود تمثال مجد * لابتعدنا فيه عن الطرقات
وأقمناه رمز نبل وفخر * لك في أفق دجلة والفرات

438
حق المالك

439
قوله عليه السلام:
" وأما حق سائسك بالملك فنحو من سائسك بالسلطان،
إلا أن هذا يملك ما لا يملكه ذاك، تلزمك طاعته فيما
دق وجل منك، إلا أن يخرجك من وجوب حق الله،
ويحول بينك وبين حقه وحقوق الخلق فإذا قضيته رجعت إلى
حقه فتشاغلت به. ولا قوة إلا بالله ".
* * *
حق المالك صنو حق السائس بالسلطان، إلا أن السلطان لا يملك من
الأمر ما يملكه هذا.
والمناط هنا في أداء حق المالك، كما أن المناط في سائر الحقوق
بالنسبة للناس هو أن لا يتعارض مع حق الله، فإذا تعارض فليس ذلك بحق،
إنما ذلك تضييع لحق هو أعظم الحقوق وأخطرها (وهو حق الله) فيجب قضاء
حق الله أولا وبالذات، ثم التشاغل ثانيا وبالعرض بحق المالك.
هذا مضمون الفقرات النيرة على الإجمال.
والظاهرة البارزة في هذه القطعة من قول الإمام (عليه السلام) هي ظاهرة الرقية
وموضوع تشريعها:
وحديث هذا الدرس هو الذي حمل خصوم الإسلام عليه ظالمين. فزعموا
أنه دين غير إنساني، لأنه أحل الاسترقاق وساعد على نشر الرق والاستعباد
ولأنه لم يلغه وقد كان من المستطاع أن يلغيه.

441
وسنسلك في دفع هذه الفرية مسلكا تاريخيا نبين فيه أن الإسلام استهل
على العالم، والرق نظام شائع وعرف متبع.
ثم نبين أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي ضيق دائرة الاسترقاق وجفف
ينابعه. وأنه الدين الوحيد الذي شرع وسائل شتى لإعتاق الأرقاء وتحريرهم
وشرع من الوسائل في حسن معاملتهم ما يكفل لهم الحياة الإنسانية التي يشعرون
فيها بالكرامة حتى يحين أوان إعتاقهم
* * *
كان أمر الرق أمر وضع اجتماعي اقتصادي، وأمر عرف دولي وعالمي
في استرقاق الأسرى، وقد استخدم الرقيق والأوضاع الاجتماعية المعقدة تحتاج
إلى تعديل شامل لمقوماتها وارتباطاتها قبل تعديل ظواهرها وآثارها، والعرف
الدولي يحتاج إلى اتفاقات دولية ومعاهدات جماعية.
ولما جاء الإسلام ووجد الرق نظاما عالميا يقوم عليه الاقتصاد العالمي.
ووجد استرقاق الأسرى عرفا دوليا يأخذ به المحاربون جميعا.. فلم يكن بد
أن يتريث في علاج الوضع الاجتماعي القائم والنظام الدولي الشامل.
اختار أن يجفف منابع الرق وموارده دون إحداث هزة اجتماعية لا يمكن
ضبطها ولا قيادها. وذلك مع العناية بتوفير ضمانات الحياة المناسبة للرقيق،
وضمان الكرامة الإنسانية في حدود واسعة.
بدأ بتجفيف موارد الرق فيما عدا أسرى الحرب الشرعية ونسل الأرقاء
وذلك أن المجتمعات المعادية للإسلام كانت تسترق أسرى المسلمين حسب العرف
السائد في ذلك الزمان. وما كان الإسلام يومئذ قادرا على أن يجبر المجتمعات
المعادية على مخالفة ذلك العرف السائد الذي تقوم عليه قواعد النظام الاجتماعي
والاقتصادي في أنحاء الأرض.

442
ولو أنه قرر إلغاء استرقاق الأسرى لكان هذا إجراء مقصورا على الأسرى
الذين يقعون في أيدي المسلمين، بينما الأسارى المسلمون يلاقون مصيرهم
السئ في عالم الرق هناك. وفي هذا إطماع لأعداء الإسلام في أهل الإسلام.
ولو أنه قرر تحرير نسل الأرقاء الموجود فعلا قبل أن ينظم الأوضاع
الاقتصادية للدولة المسلمة ولجميع من تضمهم، لترك هؤلاء الأرقاء بلا مورد
رزق ولا كافل ولا عائل، ولا أواصر قربى تعصمهم من الفقر والسقوط الخلقي
الذي يفسد حياة المجتمع الناشئ.. لهذه الأوضاع القائمة العميقة الجذور
لم ينص على استرقاق الأسرى، بل قال: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب
الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق، فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع
الحرب أوزارها ". ولكنه كذلك لم ينص على عدم استرقاقهم. وترك الدولة
المسلمة تعامل أسراها حسب ما يقتضيه طبيعة موقفها. فتفادي من تفادي من
الأسرى من الجانبين، وتتبادل الأسرى من الفريقين، وتسترق من تسترق
وفق الملابسات الواقعية في التعامل مع أعدائها المحاربين.
وبتجفيف موارد الرق الأخرى (وكانت كثيرة جدا ومتنوعة) يقل العدد
وهذا العدد القليل أخذ الإسلام يعمل على تحريره بمجرد أن ينضم إلى الجماعة
المسلمة ويقطع صلته بالمعسكرات المعادية. فجعل للرقيق حقه كاملا في طلب
الحرية بدفع فدية عنه يكاتب عليها سيده. ومنذ هذه اللحظة التي
يريد فيها الحرية يملك حرية العمل وحرية الكسب والتملك،
فيصبح أجر عمله له، وله أن يعمل في غير خدمة سيده ليحصل على فديته
(أي أنه يصبح كيانا مستقلا ويحصل على أهم مقومات الحرية فعلا) ثم يصبح
له نصيبه من بيت مال المسلمين في الزكاة. والمسلمون مكلفون بعد هذا أن
يساعدوه بالمال على استرداد حريته.. وذلك كله غير الكفارات التي تقتضي

443
عتق رقبة. كبعض حالات القتل الخطأ، وفدية اليمين، وكفارة الظهار على
ما يمر عليك بعد.
فإذا أراد أحد من (المستشرقين أو من تأثر بمنهج المستشرقين الخاطئ)
أن ينتقد الإسلام من ناحية الرق، فليس له أن ينتقده من حيث الجموع
المنتسبة إلى الإسلام على مدى التاريخ، بل ينتقده من حيث نظمه وأصوله
الصحيحة. وإلا فهو إما جاهل أو يحمله على ذلك خبث الطوية.
فالإسلام لم يتغير. ولم تضف إلى مبادئه مبادئ جديدة. إنما الذي
تغير هم الناس، وقد بعدوا عنه فلم تعد له علاقة بهم، ولم يعدوا هم حلقة من
تاريخه. ولقد كتب بعض الكتاب من (الإنكليز) فقال: " إن الإسلام إما
أن يكون أهله قد ماتوا وانقرضوا، وإما أنهم لم يوجدوا بعد ".
هذه صورة مجملة عن الرقية في الإسلام. وإلى القارئ صورة مفصلة
نرسمها في كتابنا هذا (شرح رسالة الحقوق) ونحن في النجف الأشرف (معهد
العلم) في سنة 1381 هجرية.
نرسم بعض ما وضعه الإسلام من تجفيف ينابيع الرق، والرحمة واللطف
بالرقيق، ما لم تضعه ملة أو دولة، لعل من لا يفقهون الإسلام من منتقديه
أن يخففوا من غلوائهم.
* * *
لما ظهر الإسلام وأشرق نوره الماحي لكل ظلام، كان مما أصلحه من
فساد الأمم: إبطال ظلم الرقيق وإرهاقه، ووضع الأحكام بالتدريج السريع لتضييق
دائرته والترفيه عليه دون إلغائه، إذ كان إلغاءه متعذرا في نظام الاجتماع
البشري من الناحيتين: ناحية مصالح السادة المسترقين، وناحية معيشة الأرقاء

444
المستعبدين.
فإن الولايات المتحدة لما حررت رقيقها كان بعضهم يضرب في الأرض
يلتمس وسيلة للرزق فلا يجدها فيحور إلى سادته يرجو منهم العود إلى خدمتهم
كما كان.
وكذلك جرى في السودان المصري، فقد جرب الحكام من الإنكليز أن
يجدوا لهم رزقا بعمل يعملونه مستقلين فيه مكتفين به فلم يمكن فاضطروا إلى
الإذن لهم بالرجوع إلى خدمة الرق السابقة، بيد أنها لا تسمح للمخدومين
ببيعهم والاتجار بهم. فهذا برهان حسي مشاهد على أن إبطال الرق بتشريع
ديني يتبعد الله تعالى به لم يكن من الحكمة ولا من مصلحة البشر الممكن تنفيذها
والإسلام تشريع عملي لا هوادة فيه، فما شرعه في الرقيق كان أعلى
مراتب الحكمة الجامع بين المصلحة العامة والرحمة (كما تقرءه مفصلا فيما
يلي). فنجزم بأنه هداية ربانية، لا فلسفة محمدية، وإنما كان محمد (ص)
أحكم وأرحم مبلغ ومنفذ لوحي الله بها، وقد أعتق كثيرا من الرجال والنساء
قبل البعثة وبعدها من ماله ومال زوجه خديجة (أم المؤمنين (رضوان الله عليها)
وكان بعض من يملكهم يفضلون الرق عنده على العتق وعلى الحرية عند أهلهم.
منع الإسلام أولا جميع ما كان عليه الناس من استرقاق الأقوياء للضعفاء
بكل وسيلة من وسائل البغي والعدوان، إلا استرقاق الأسرى والسبايا في
الحرب التي اشترط فيها دفع المفاسد وتقرير المصالح، ومنع الاعتداء ومراعاة
العدل والرحمة، وهي شروط لم تكن قبله مشروعة عند المليين، ولا عند أهل
الحضارة فضلا عن المشركين الذين لا شرع لهم ولا قانون.
ولست أعني بالاستثناء أن الله تعالى شرع لنا من هذا النوع من الاسترقاق
كل ما كانت الأمم تفعله معاملة لهم بالمثل، بل شرع لأولي الأمر من المسلمين

445
مراعاة المصلحة للبشر في إمضائه أو عدمه، بأن خيرهم في أسرى الحرب
الشرعية بين أمرين:
(أولهما) المن عليهم بالحرية فضلا وإحسانا ورحمة.
(ثانيهما): الفداء بهم وهو نوعان: فداء المال، وفداء الأنفس (إذا
كان لنا أسارى أو سبي عند قومهم) بنص القرآن " فإما منا بعد وإما فداء ".
وليست هذه الآية (الدالة على التخيير بين الأمرين) إبطالا لاستئناف
الاسترقاق في الإسلام (كما توهمه البعض) فبقي حكمه على الأصل المتبع عند
جميع الأمم من إقرار الرقية، إلا أنها تحت نظم وقوانين توجب رفع الضغط
عنهم إلى حد بحيث يلحقهم بالأحرار.
وقد تكون مصلحة الاسترقاق أرجح من هاتين المصلحتين (أي المن على
الأسرى والفداء بهم) في حالات قليلة لا تدوم، كأن يكون المحاربون
للمسلمين قوما قليلي العدد كبعض قبائل البدو تقتل رجالهم كلهم أو جلهم فإذا
ترك النساء والأطفال والضعفاء من الرجال لأنفسهم لا يكون لهم قدرة على
الاستقلال في حياتهم، فيكون الخير لهم أن يكفلهم الغالبون ويقوموا بشؤونهم
المعاشية، ثم تجري عليهم أحكام الطريقة الثانية في تحريرهم، وقد يتسرون
بالنساء فيكن أمهات أولاد وربات بيوت، فحرائر، أو محصنات من فساد
الأخلاق، مكفيات أمر المعيشة على الأقل. وكذلك الأطفال يكفلهم المسلمون
ويربوهم على عقائد الإسلام وفضائله ثم ينالهم العتق في الغالب (لما سيأتي في
وجوهه)، فيكونون كسائر أحرار المسلمين علماء وأغنياء وحكاما وأمراء
وقد سن النبي (ص) لأمته ترجيح المن على الأسارى والسبايا بالعتق
قولا وعملا في غزوة بني المصطلق، وغزوة فتح مكة، وغزوة حنين. كما هو
مفصل في كتب السيرة النبوية وغيرها، لأن المسلمين قد أثخنوهم وظهروا عليهم

446
ولم يكونوا أسروا من المسلمين أحدا، فعلم من ذلك أن روح الشريعة
الإسلامية ترجيح جانب الفضل والإحسان عند القدرة، ومنه عتق الأسرى
والسبايا والمن عليهم بالحرية بلا مقابل حاضر ولا خوف مستقبل، بل لمحض
الإحسان.
ولا تنس أن أكثر المشركين الذين كانوا يقاتلون النبي (ص) من
الأعراب (البدو) وكانت حالة الحرب معهم مستمرة فلم يكن من المصلحة
إرجاع سبيهم إليهم يشقى بشقائهم وشركهم وظلمهم وقساوتهم، من قتل للأولاد
ووأد للبنات.
وتأمل فعله (ص) مع بني النضير من اليهود إذ استأذنه أصحابه بأخذ
أولادهم الذين تهودوا معهم فأمرهم بتخييرهم.
ثانيا - ما شرعه لتحرير الرقيق الموجود وجوبا وندبا وهو (4) أنواع:
النوع الأول من أحكام الرق ووسائل تحريره اللازمة: وفيه تسع مسائل
1 - الحرية في الإسلام: وهي الأصل في الإنسان. قال علي أمير المؤمنين (عليه السلام)
لولده الحسن (عليه السلام): " ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا ". وقول
(عمر بن الخطاب) لعمرو بن العاص: " يا عمرو منذ كم تعبدتم الناس وقد
ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ ".
2 - أن الإسلام حرم استرقاق الأحرار من غير أسرى الحرب الشرعية
العادلة بشروطها (كما تقدم) وجعل ذلك من أعظم الآثام. ففي الحديث عن
النبي (ص) " قال: قال الله تعالى: " ثلاث أنا خصمهم يوم القيامة، ومن
كنت خصمه خصمته: رجل أعطي به ثم غدر، ورجل باع حرا ثم أكل ثمنه
ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه فلم يعطه أجره ".
3 - شرع الله تعالى للمملوك أن يشتري نفسه من مالكه بمال يدفعه ولو

447
أقساطا، ويسمى هذا في الشرع (المكاتبة) وأصله قوله تعالى: والذين يبتغون
الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله
الذي آتاكم " أمر بمكاتبتهم إن علم المالك أنهم يقدرون على الكسب والوفاء
بما التزموه وأنه خير لهم، وندب المالك بإعانة مكاتبه على أداء ما باعه نفسه به
ويدخل فيه الهبة وحط بعض الأقساط عنه. وجعل في مال الزكاة المفروضة
سهما تدخل فيه هذه الإعانة وندب غير المالك لذلك أيضا.
4 - إذا خرج الأرقاء من دار الكفر ودخلوا دار الإسلام يصيرون أحرارا
وعلى الحكومة الإسلامية تنفيذ ذلك. ومستنده في السنة معروف. وقد انعكس
الأمر في هذا العصر فصار الأرقاء الذين يخرجون من دار الإسلام إلى دار الكفر
أو ما في حكمها هم الذين يعتقون.
5 - أن من أعتق حصة له من عبده عتق كله عليه من ماله إن كان له
مال، وإن كان لغيره حصة فيه فله أحكام. قال رسول الله (ص): " من
أعتق نصيبا أو شقيصا في مملوك فخلاصه عليه في ماله إن كان له مال، وإلا قوم
عليه فاستسعى به غير مشوق عليه ".
6 - من عذب مملوكه أو مثل به أو أخصاه عتق عليه. جاء رجل إلى
رسول الله (ص) صارخا فقال له: ما لك؟ قال: سيدي رآني أقبل جارية له
فجب مذاكيري. فقال النبي (ص): علي بالرجل فطلب فلم يقدر عليه.
فقال (ص): للغلام اذهب فأنت حر ". وقال (ص): " من مثل بعبده عتق عليه ".
فهذا وما قبله بعض هدي الرسول في الرحمة ومعاملة الرقيق الذي لا يزال
يصفه رجال الكنيسة ورجال السياسة من الإفرنج وتلاميذهم بما علم القاصي
والداني من الكذب والإفك والبهتان، كيف لا وهو الرحمة العامة للعالمين.
7 - التدبير عتق لازم، وينعقد بقول السيد لعبده: أنت مدبر، وأنت

448
حر عن دبر مني (أن بعد أن أدبر عن هذه الدنيا) وكذا أنت حر بعد موتي
8 - عتق أمهات الأولاد (وهو أن الجارية التي تلد لسيدها ولدا تصير
حرة من نصيب ولدها بعد موت السيد، فلا تدخل في ملك الورثة، ولا يجوز
له بيعها في حياته.
9 - إن ملك أحد أحد عموديه ينعتق عليه.
النوع الثاني:
من وسائل تحرير الرقيق الموجود: الكفارات:
والمراد بها القربات التي تمحو الذنوب، وأعظمها عتق الرقاب وهي قسمان:
(أحدها) واجب حتم على القادر على العتق بملك الرقبة أو ثمنها
ككفارة قتل النفس خطأ، وكفارة الظهار (وهو تشبيه الرجل زوجه بأمه)
وكان طلاقا في الجاهلية.
(وثانيها) واجب مخير فيه وهو كفارة اليمين، فمن حلف يمينا وحنث
فيها فكفارته إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة. كما قال تعالى
وكفارة إفساد الصيام عمدا. وحكمة التخيير ظاهرة.
النوع الثالث:
من وسائل إلغاء الرق الموجود:
جعل الله أحد السهام الثمانية من مصارف الزكاة الشرعية المفروضة (في
الرقاب) بنص القرآن، وهو يشمل العتق (فيما إذا كان العبد في شدة عند
مولاه) والإعانة على شراء المملوك نفسه (بالكتابة) ومن المعلوم أن زكاة
الأمة الإسلامية قد تبلغ مئات الألوف وألوف الألوف من الدراهم والدنانير فلو

449
نفذت أحكام الإسلام فيها وحدها لأمكن تحرير جميع الرقيق في دار الإسلام.
النوع الرابع:
منها العتق الاختياري لوجه الله تعالى (أي ابتغاء مرضاته ومثوبته) وقد
ورد في الكتاب والسنة وآثار الأئمة (صلوات الله عليهم) من الترغيب في العتق
ما يدخل تدوينه في سفر كبير.
ومما يدل على أنه من أعظم العبادات وأصول القربات آية البر من سورة
البقرة: " ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من
آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي
القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب... " ومن
أشهر أحاديث الترغيب في العتق قوله (ص): " أيما رجل أعتق امرءا مسلما
استنقذ الله بكل عضو منه عضوا من النار ". وعن أبي ذر (ره) قال: " سألت
رسول الله (ص) أي العمل أفضل؟ قال: " إيمان بالله، وجهاد في سبيله.
قلت: فأي الرقاب أفضل قال: أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها ". ومن أشهرها
أيضا قوله (ص): أيما رجل كانت له جارية أدبها فأحسن تأديبها، وعلمها
فأحسن تعليمها، وأعتقها وتزوجها فله أجران ". وقوله (ص) لأعرابي جاء
يسأله عن عمل يدخله الجنة: " أعتق النسمة، وفك الرقبة فقال الأعرابي: أو
ليسا واحدا؟ فقال رسول الله (ص): لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك
الرقبة أن تعين في ثمنها ".
وفي هذا يقول (فان دنبرغ): " وضع الإسلام قواعد كثيرة للرقيق
تدل على ما كان ينطوي عليه محمد وأتباعه نحوهم من الشعور الإنساني النبيل.
ففيها تجد من محامد الإسلام ما يناقض كل المناقضة الأساليب التي تتخذها

450
إلى عهد قريب شعوب تدعي أنها تمشي في طليعة الحضارة ".
وكثيرا ما حض الإسلام على الرفق بهم وإكرامهم وحسن معاملتهم،
كقوله (ص): " أوصاني حبيبي جبرئيل بالرفق بالرقيق، حتى ظننت أن
الناس لا تستعبد ولا تستخدم ". وقوله: " إن إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت
أيديكم، فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم
ما يغلبهم فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم ". وقوله: " أرقاءكم أطعموهم مما تأكلون،
واكسوهم مما تلبسون، فإن جاءوا بذنب لا تريدون أن تغفروه فبيعوا عباد
الله ولا تعذبوهم ". وقوله: (ص): " إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن
لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين، فإنه ولي علاجه ".
وله (ص) في هذا أحاديث شتى، حتى لقد أمر بأن ينادى الرقيق بكلمات
لا تؤذي " لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي، وليقل فتاي وفتاتي ".
وإنه ليضرب (صلوات الله وسلامه عليه) أعظم المثل في السماحة بقوله:
" إنهم إخوانكم " وبقوله: " إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس
كما يجلس العبد ". وبوصاته بهم في خطبة الوداع. وفي قوله قبيل وفاته:
" الصلاة وما ملكت أيمانكم " ورأى رجلا على دابة وغلامه يسعى خلفه، فقال
" يا عبد الله احمله خلفك فإنما هو أخوك. وروحه مثل روحك ".
فأين هذه السماحة النبيلة مما عرفناه عن أكثر الأمم القديمة والحديثة
من قسوة على الأرقاء وإهدار لكرامتهم؟ ولعمر الحق إن العبد المملوك في حكم
الإسلام الأول كان أعز نفسا وأطيب عيشا من جميع الأحرار الذين ابتلوا في هذه
العصور بحكم دول الإفرنج من غيرهم أو نفوذهم.

451
مساواة عامة بين الأحرار والأرقاء:
لم يكن يدور بخلد أحد من المصلحين السابقين للإسلام أن يمنح الأرقاء
مثل الحقوق التي منحهم الإسلام إياها.
وما كان يدور بخلد أحد من المصلحين الذين جاءوا بعد الإسلام ولم
يدرسوه أنه كان يمحو الفوارق بين السادة والعبيد، لأن الأساس الذي جرى
عليه الإسلام هو أن الحرية هي الأصل، أما الرق فعارض موقوف عليها.
وقد رزح العالم أزمانا طوالا تحت أثقال الطبقية ورسف في قيودها قبل
المسيحية وبعدها.
فاليهود يزعمون أنهم وحدهم شعب الله المختار، وأنهم أبناء الله وأحباؤه
كما يعبر القرآن الكريم، ويفرقون في تشريعهم بين اليهودي وغير اليهودي،
لهذا حرموا الربا بين الإسرائيليين، وأباحوه ربحا حلالا لليهودي من غير اليهود
(كما في سفر التثنية 15 / 7 - 8 وسفر اللاويين 25 / 35 - 39)
والديانة البراهمية تقسم الأمة إلى أربع طبقات: أعلاها الكهنة وأدناها الأنجاس
أو السفلة. وتحتم على الأنجاس أن يذلوا للكهنة ذلة العبيد، وتحظر عليهم
الاستمتاع بحقوق الإنسان. جاء في قوانين (منو) أن البراهمي يجب إجلاله
لنسبه، وأحكامه هي الحجة. وله أن يملك - حين الحاجة - مال أي واحد من
السفلة، لأن العبد وما يملك ملك لسيده. وكان محرما على هذه الطبقة أن
تتصل بالعلم أو الدين، والذي يخالف يعذب أشذ العذاب، بصب الرصاص
المصهور في أذنيه أو شق لسانه وتقطيع جسمه.
وكانت الشرائع القديمة تلغي الشخصية المعنوية للعبيد بل تلغي كيانهم
الإنساني، فلم تعترف لهم بحق الزواج ولا بالحق في أن يكون لهم أسرة بالمعنى

452
القانوني الكامل.
وكان الاتصال بين ذكورهم وإناثهم لا يعتبر زواجا، وإنما هو اتصال
للتناسل والإكثار من الأرقاء كما يحدث بين الحيوانات، وكان محظورا على
العبد أن يتزوج من أمة، وعلى الحرة أن تتزوج بعبد، بل أن
معظم هذه الشرائع كانت تعاقب الحرة التي تتزوج بعبد عقابا شديدا وصل
في بعض الأحيان إلى الإعدام.
أما بعد المسيحية فإن العالم كله كان يبني كيانه على الطبقية. وحسبنا
أن نعلم أن هذه الطبقية الجائرة كانت من أسباب الثورة الفرنسية وثورات أوربا
فيما بعد.
وإذا كانت الثورة الفرنسية قد باهت بالحرية والإخاء والمساواة، فإن
هذه المبادئ لم يكتب لها أن تطبق عمليا وما زالت أمريكا تفرق بين الجنس
الأوربي النازح إليها، وبين سكانها الأصليين تفرقة لا يقرها دين ولا قانون ولا
خلق كريم. فإن الولايات الجنوبية تفرق بين البيض والسود تفرقة يقرها
القانون وتنفذها الحكومة، ولا يباح للسود الجلوس مع البيض في المركبات
العامة، ولا النزول معهم في الفنادق، ولا تعليم أبنائهم في المدارس التي يتعلم
فيها أبناء البيض.
ولما صدر القانون الذي يخول الطفل الأسود حقا في التعليم كحق الطفل
الأبيض - مع انفصال المدارس والجامعات - تبين من التنفيذ أن المساواة
صورية لا حقيقية، وأن التلميذ الأبيض يكلف الدولة في تسع ولايات من ولايات
الجنوب نحو تسعة وخمسين ريالا في السنة، ولا تزيد كلفة التلميذ الأسود فيها
على تسعة عشر ريالا. وتبين أن الفارق في ولاية مسيسبي يتجاوز ذلك كثيرا،
لأن الدولة تنفق على الطفل الأبيض اثنين وخمسين ريالا، على حين أن نفقة

453
الطفل الأسود لا تزيد على سبعة ريالات ونصف ريال.
وحسبنا من مظاهر المساواة بين الأحرار والأرقاء أن نمثل بعدة أمثلة:
1 - أباح الإسلام للأرقاء أن يتزوجوا بإماء أو حرائر، وأباح للإماء
أن يتزوجن بعبيد أو بأحرار، على أن يكون السيد مشرفا على عقد زواج
عبده أو أمته. ولم ينظر الإسلام في كفاءة الزواج إلى أصل الزوج والزوجة،
فقد زوج النبي (ص) زينب بنت عمته - وهي قرشية - من زيد بن حارثة مولاه
وزوج فاطمة بنت قيس الفهرية من أسامة بن زيد، وزوج أخت عبد الرحمن بن
عوف من بلال بن رباح.
2 - إذا كان العبد متزوجا فإنه وحده يملك حق الطلاق لزوجته وليس
لسيده سلطان على هذا الحق. فقد أتى النبي (ص) رجل فقال: يا رسول الله
سيدي زوجني أمته، وهو يريد أن يفرق بيني وبينها. فصعد رسول الله (ص)
المنبر فقال: " أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عبده أمته ثم يريد أن يفرق بينهما
إنما الطلاق لمن أخذ بالساق ". (أي أن الطلاق من حق الزوج وحده).
3 - يحكم بشهادة العبد والأمة في كل ما تقبل فيه شهادة الحر والحرة
4 - للعبد المكاتب أن يبيع ويشتري، لأنه صار مأذونا له في التجارة
والبيع والشراء من باب التجارة. وله أن يبيع بقليل الثمن وكثيره. وله أن
يهدي إلى الناس وأن يدعوهم إلى وليمته، لأن ذلك وسيلة إلى أداء مال المكاتبة
إذ يجذب قلوب الناس فيحملهم ذلك على الإهداء إليه، فيتمكن من أداء بدل
المكاتبة.
5 - ولى رسول الله (ص) بلالا على المدينة، وفيها كبار الصحابة،
وأقر أسامة بن زيد على جيشه، وفي الجيش أبو بكر وعمر، وولى زيد بن
حارثة قيادة جيش موتة وفيه أيضا جملة الصحابة.

454
6 - لما أنف زعماء قريش من أن يجلسوا إلى النبي (ص) مع العبيد مثل
بلال الحبشي، وصهيب الرومي، وعمار بن ياسر، وطلبوا منه أن يخصص لهم
يوما، وللعبيد يوما، أو يطرد العبيد يوما، من مجالسه، نزل
عليه التوجيه من السماء بألا يفعل " ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي
يريدون وجهه، ما عليك من حسابهم من شئ وما من حسابك عليهم من شئ
فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله
عليهم من بيننا؟ أليس الله بأعلم بالشاكرين، وإذا جاءك الذين يؤمنون
بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة ".
7 - جعل الإسلام لأولاد السيد من أمته حقوقا ومكانة مثل إخوتهم من
أمهات حرائر، بغير تفريق ما. وكان المعروف في الأمم القديمة التهوين من
شأن الأبناء الذين تلدهم الإماء لسادتهن.
ففي شريعة (حمورابي) أن أولاد الرجل من جاريته لا يعدون أولادا
شرعيين، إلا إذا نسبهم إليه، فإذا نسبهم إليه كان لهم حق الإرث وإلا فلا
ميراث، لكنهم يعتقون.
والرومان كانوا يعدون أولاد السبايا عبيدا كأمهاتهم.
وقد حدث (هيرودوت) عن اللاسيين أنهم كانوا يلقبون أولاد الإماء
بأسماء أمهاتهم لا آبائهم، فلو سئل أحدهم عن اسمه ذكر اسمه واسم أمه ثم
جدته لأمه.
وأعجب من هذا أن المرأة الحرة إذا تزوجت عبدا عد أولادها أحرار.
أما إذا كان الزوج حرا وامرأته أمة فأولادها رقيق، وإن كان أبوه أعظم رجل
في المملكة.
وكان (اليهود) لا ينسبون ابن الجارية إلى أبيه وإن تهود، لقول الكتاب

455
" عصوا الله وجاؤا بنسل غريب " لذلك كان من الطبيعي ألا يرث.
وجرى (الآشوريون) على حرمان أبناء السبايا من الميراث إلا إذا لم
يكن للأب أولاد من زوجة حرة.
وكذلك (البابليون) لم يورثوا ابن الأمة إلا إذا اعترف به أبوه أمام
شهود.
واعتبر اليونان حرية هذا الابن إذا ادعاه أبوه ناقصة. لأنه من الجائز
بعد موت أبيه أن يعود إلى الرق.
ولم تسم أمة بأبناء الإماء كما سمت مصر، لأن (المصريين) كانوا يسوونهم
بأبناء الزوجات الشرعيات، حتى في التربية والميراث.
أما العرب قبل الإسلام فكانوا لا يلحقون أبناءهم من الإماء بنسبهم، فلا
يرثون إلا إذا ادعوهم، وأشهدوا على أنهم ألصقوا بهم نسبهم، فإن لم يلحق
الرجل ابنه بنسبه استعبده. وإذا فقد كان أبناء الإماء عبيدا في نظر العرب
واليونان والرومان واللاسيين واليهود والبابليين.
وكانوا محرومين من الميراث في عرف العرب وشريعة حمورابي واليهود
والأشوريين والبابليين، وكانوا لا يلحقون بنسب الآباء في هذه الأمم إلا إذا
ادعوهم.
ولم يغاير في هذا العرف إلا المصريون القدماء، وأرسطوا.
أما بعد: فإن الإنصاف يقتضينا أن نشهد بأن الإسلام حينما ضيق منافذ
الاسترقاق وحض على تحرير الأرقاء، حث على الرفق بهم، ودعا إلى مساواتهم
بالأحرار في كثير من الحقوق العامة حينما شرع ذلك كله فإنما كانت نظريته
الأصلية أن الحرية حق طبيعي للبشر أيا كان جنسهم ولونهم.
وبهذا قضى على دعوى التفوق الجنسي التي دان بها اليونان والرومان

456
واليهود وغيرهم، والتي دوت في القرن العشرين دويا كاد يوهم بصدقها وصحتها
لكنها ما لبثت أن توارت أو شرعت تتوارى، لأن التفوق الجنسي أكذوبة لا
يقرها العلم.
يقول العلامة (فرانزبواس) أحد العلماء الكبار المختصين بدراسة
سلالات البشر: " لو تخيرنا أذكى جماعة من البشر وأوسعهم خيالا، وأعلاهم
قدرة، وأرزنهم عاطفة لوجدنا جميع السلالات البشرية ممثلة فيهم ". (1)
صدق رسول الله (ص) في قوله: " لا فضل لعربي على عجمي، ولا
لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، الناس
من آدم وآدم من تراب.



(1) مجلة المختار.
457
حق الرعية

459
قوله عليه السلام:
" وحق رعيتك بالسلطان أن تعلم أنهم صاروا رعيتك
لضعفهم وقوتك، فيجب أن تعدل فيهم وتكون لهم كالوالد
الرحيم، وتغفر لهم جهلهم ولا تعاجلهم بالعقوبة وتشكر الله
على ما آتاك من القوة عليهم ".
* * *
في الدرس الخامس عشر من هذه الدروس حاولنا استيفاء حق السلطان
على الرعية، وكتبنا في ذلك شيئا لا نعلم مبلغه من الإجادة، فقد ذكرنا فيما
سبق الحقوق والواجبات التي للسلطان على الرعية، وما يستطيع أن يأخذهم
به ويحملهم عليه ويردهم إليه. وفي هذا الدرس نستعرض فيه على ضوء كلمات
الإمام (سلام الله عليه) حقوق الرعية على السلطان وما لهم عليه، وما من حقهم
أن يلزموه به. وبعد أن نتفهم كلام الإمام ونتعمق في أغواره، نكون قد
عرفنا ما يربط الرعية بالسلطان من صلات، وما يربط السلطان بالرعية من
صلات أيضا، ونكون قد عرفنا أيضا ما يضمن لهما حياة هادئة رخية ملؤها الأمن
والاطمئنان، والتفاهم وراحة البال.
كل شئ في الإسلام ينبثق من عقيدته ويتلون بفكرته العامة، ولكنه
لا يجمد ولا يقف، بل يمتد ويتطور ويمشي مع الناس ومع الحياة في لين
ويسر وسماحة.
فالإسلام كدين عام للناس كافة. وكعقيدة ارتضاها الله ختاما لرسالاته

461
واصطفاها لتصنع على أعين الناس خير أمة أخرجت للناس. حينما جاءت
أنظمته وشرائعه، إنما كانت كليات عامة تصوغ روح الأشياء وتبدع ناموسها
وتترك للناس التطبيق بما يلائم حياتهم ويحقق مصالحهم ويكفل سعادتهم وقوتهم
وتنطلق عقولهم حرة لتجول في مرونة وسماحة مجتهدة مبتدعة منظمة متطورة.
والشريعة الإسلامية كائن حي دائم النماء لا يقف ولا يجمد، لأن الوقوف
عن الحركة سنة الأموات، والجمود طبيعة العاجزين.
والكلية الإسلامية في الحكم، أنه عقد بين متعاقدين... بين الراعي
والرعية، وهو من قبيل التعاون على البر والتقوى، لأن الحياة الإنسانية لا تقوم
إلا بهذا التعاون ولا تستقيم إلا بهذا النظام.
والعقد أساسه الاختيار والرضا، لا التعسف والإكراه... إنه توكيل
من المجموع للفرد الذي انتخبه هذا المجموع انتخابا شعبيا حرا ليكون راعيا
لهم قائما بأماناتهم منفذا لشريعة الله بينهم، موفرا للحياة السعيدة الحرة
الكريمة لهم.
فالسلطان ليس شخصا مقدسا حاكما بأمره، وليس وارثا لملك، ولا
مهيمنا على عقائد الناس وقلوبهم، إنه طرف في عقد ليقوم بأعمال الوكالة
باسم المجموع.
فعليه أولا: أن يكون بين رعاياه عادلا لا تنال من عدالته مؤثرات
الحياة، من هوى أو قربى أو مصلحة شخصية، بل: "... لا يجرمنكم
شنآن قوم على أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى... " فالعدل هو
التقوى، وهو شريعة الله وروح الكون. فالطبيعة الإنسانية شئ واحد يأخذ
الجميع منها حصصا متساوية، فليس من الجائز للحاكم أن يفضل بعض الناس
على بعض، فالتفضيل عند الله، ومن الله، وليس هو للون والجنس واللغة

462
والوطن، ليس لسائر هذه المعاني من حساب في ميزان الله، إنما هنالك ميزان
واحد تتحدد به القيم، ويعرف به فضل الناس: " إن أكرمكم عند الله أتقاكم "
والكريم حقا هو الكريم عند الله. وهو يزن عباده عن علم وعن خبرة بالقيم والموازين
على السلطان أن يكون رحيم القلب لين الجانب رقيق الطبع، إلا في
الحق فلا رأفة ولا رحمة.
كما عليه أن يتصف بالأناة والتبصر دون الإسراع إلى ما لا تحمد عقباه.
وبالتالي: على السلطان أن يكون شاكرا لأنعم الله، إذ عنده من
النعم أكبرها وأجلها وهو نعمة السلطة والإمرة، فعليه أن يقابلها بالشكر
والطاعة والإخلاص في أمر الرعية وتنفيذ مطالبها وأداء ما افترضه الله عليه من حقها.
فمن ذلك
حماية البيضة وسد الثغور وتحصين الأطراف وأمن السبل وقمع الدعار.
فهذه حقوق تلزم السلطان تجري مجرى الفروض الواجبة. وبهذه الأمور
تجب طاعته على رعيته.
ومنها الرفق بهم:
والصبر على صادرات هفواتهم. قال رسول الله (ص): " ما كان الرفق
في شئ إلا زانه، ولا كان الخرق في شئ إلا شانه " وقال (ص): " من
أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير كله، ومن حرم حظه من الرفق
فقد حرم حظه من الخير كله ". وقال (ص): " ما من عمل أحب إلى الله
تعالى وإلى رسوله من الإيمان بالله والرفق بعباده، وما من عمل أبغض إلى الله
تعالى من الإشراك بالله تعالى والضغط على عباده ".

463
وعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: " إن لكل شئ قفلا وقفل الإيمان
الرفق ". وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال رسول الله (ص): " ما اصطحب
اثنان إلا كان أعظمهما أجرا وأحبهما إلى الله عز وجل أرفقهما بصاحبه ". وفي
وصية الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) (لهشام بن الحكم) " عليك بالرفق فإن
الرفق يمن والخرق شؤم، إن الرفق والبر وحسن الخلق يعمر الديار ويزيد في
الرزق ". وكان آخر وصية الخضر لموسى (عليه السلام) لا تعيرن أحدا بذنب، وإن
أحب الأمور إلى الله عز وجل ثلاثة: القصد في الجدة، والعفو في المقدرة،
والرفق بعباد الله، وما رفق أحد بأحد في الدنيا إلا رفق الله عز وجل به يوم
القيامة ".
من ضرورات الحكم الصالح المشاركة الوجدانية بين الراعي والرعية،
إذ بها يستطيع الحاكم أن يتعرف على آمال المحكومين وآلامهم ومطامحهم،
وأن يعي حاجاتهم ومخاوفهم، فيعمل لخيرهم ويضع كل شئ مما يصلحهم موضعه
ويشعرهم ذلك برعايته لهم وحياطته لأمورهم وعمله لصالحهم، فيدعمون حكمه
بحبهم وإيثارهم له ويؤازرونه في السراء والضراء على السواء. ولا يحصل شئ
من هذا إذا أغلق الحاكم دونهم قلبه وأغمض عنهم عينه، إنه حينذاك لا يعرف
شيئا من أمورهم ليعمل على الإصلاح، وتكون عاقبة ذلك أن يفقد حبه في
قلوبهم ويشعرون بأنه شئ غريب عنهم مفروض عليهم كالحشرة الطفيلية التي
تعيش على دماء الحيوان الذي تلتصق به.
وقد وضع الإمام علي أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) أسس هذا اللون
من الحكم ومارسه ودعا إلى ممارسته في عهده العظيم لمالك الأشتر حين ولاه مصر.
قال " وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم
سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق

464
تفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ،
فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه
وصفحه ".
يردد علي هذه الألحان، ألحان الرحمة للرعية في أكمل صورها وأسمى
ألوانها. وهي ألحان لا تعرفها القوانين المدنية، لأنها لا تتفجر إلا من القلوب
المؤمنة المخبتة لربها، المتطلعة إلى خالقها. القلوب التي تجافي الظلم وتحاربه
وتبرأ منه، لأنه من ظلم عباد الله كان الله خصمه ليس الشعب فحسب، وإنما
خصيمه الأول والأكبر جبار السماوات والأرضين... وأين منه المهرب؟!
ولكي تحصل هذه المشاركة الوجدانية، ولكي تؤتي أكلها يجب على
الوالي أن يخالط الرعية وأن يمكنهم من مخالطته ومطالعته بما يريدون، لأن
احتجابه عنهم سبب لجهله بأحوالهم، وسبب لانصراف قلوبهم عنه وتفاقم
موجدتهم عليه.
قال عليه السلام:
"... فلا تطولن احتجابك عن رعيتك، فإن احتجاب الولاة عن الرعية
شعبة من الضيق، وقلة علم بالأمور. والاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا
دونه فيصغر عندهم الكبير ويعظم الصغير، ويقبح الحسن ويحسن القبيح، ويشاب
الحق بالباطل. وإنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور،
وليست على الحق سمات تعرف بها ضروب الصدق من الكذب ".
ولكي يبقى ما بين الوالي ورعيته من وشائج الود، ويبقى ما للوالي في
قلوب الرعية من جميل الأثر وحسن الظن، يجب عليه أن يبدد من أذهانهم كل
ما يتوهمون فيه الظلم والحيف، فيبين لهم خطته، ويشرح لهم نهجه ليؤيدوا
سياسته عن قناعة بها وإيمان بصلاحها وجدواها. ويجب عليه ألا يمن على

465
رعيته بما يفعل، فإن منصبه يفرض عليه أن يخدمهم، ولو من عليهم لذهب جميل
أثره من قلوبهم. وعليه أن يتجنب الكذب فيما يعطي من عهد والتزيد فيما يصف
من عمل، فإن الكذب داعية المقت والتزيد أخو الكذب.
قال عليه السلام:
" وإن ظنت الرعية بك حيفا فأصحر لهم بعذرك، واعدل عنك ظنونهم
بإصحارك، فإن في ذلك رياضة منك لنفسك، ورفقا برعيتك، وإعذارا تبلغ به
حاجتك من تقويمهم على الحق ". " وإياك والمن على رعيتك بإحسانك،
أو التزيد فيما كان من فعلك، أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإن المن
يبطل الإحسان، والتزيد يذهب بنور الحق، والخلف يوجب المقت عند الله
والناس، قال الله تعالى: " كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ".
وقد لاحظ ابن خلدون هذه الظاهرة فقرر في مقدمته ما يأتي:
" اعلم أن مصلحة الرعية في السلطان ليست في ذاته وجسمه من حسن
شكله أو ملاحة وجهه أو عظم جثمانه أو اتساع علمه أو جودة خطه أو ثقوب
ذهنه، وإنما مصلحتهم فيه من حيث إضافته إليهم، فإن الملك والسلطان من
الأمور الإضافية وهي نسبة بين منتسبين، فحقيقة السلطان أنه المالك للرعية
القائم في أمورهم عليهم، فالسلطان من له رعية، والرعية من لها سلطان،
والصفة التي له من حيث إضافته إليهم هي التي تسمى (الملكة) وهي كونه
يملكهم، فإذا كانت هذه الملكة وتوابعها من الجودة بمكان حصل المقصود من
السلطان على أتم الوجوه، فإنها إن كانت جميلة صالحة كان ذلك مصلحة لهم،
وإن كانت سيئة متعسفة كان ذلك ضررا عليهم وإهلاكا لهم. ويعود حسن الملكة
إلى (الرفق) أي الإحسان، لأن الملك إذا كان قاهرا باطشا بالعقوبات، منقبا
عن عورات الناس وتعديد ذنوبهم شملهم الخوف والذل ولاذوا منه بالكذب

466
والمكر والخديعة فتخلقوا بها وفسدت بصائرهم وأخلاقهم، وربما خذلوه في
مواطن الحروب والمدافعات، ففسدت الحماية بفساد النيات، وربما أجمعوا على
قتله لذلك فتفسد الدولة...
إلى أن يقول: وأما توابع حسن الملكة فهي النعمة - الإحسان - عليهم
والمدافعة عنهم، فالمدافعة بها تتم حقيقة الملك. وأما النعمة عليهم والإحسان
لهم فمن جملتها الرفق بهم والنظر لهم في معاشهم، وهي أصل كبير في التحبب
إلى الرعية.
واعلم أنه قلما تكون ملكة الرفق فيمن يكون يقظا شديد الذكاء من
الناس، وأكثر ما يوجد الرفق في الغفل والمتغفل، وأقل ما يكون في اليقظ أنه
يكلف الرعية فوق طاقتهم لنفوذ نظره فيما وراء مداركهم واطلاعه على عواقب
الأمور في مباديها بألمعية، فيهلكون لذلك، قال (ص): " سيروا على سير
أضعفكم ".
ومنها: ردع قويهم عن ضعيفهم، وإنصاف ذليلهم من عزيزهم، وإقامة
الحدود فيهم، وإقرار حقوقهم مقارها، وإغاثة ملهوفهم، وإجابة مستصرخهم،
والتسوية في حكمه بين الأبعد منهم والأقرب والأذل والأعز. قال عمر بن الخطاب
لرجل: " إني لا أحبك. قال: فتنقصني من حقي شيئا. قال عمر: لا. قال
الرجل: فما يفرح بالحب بعد هذا إلا النساء ".
قال رسول الله (ص): " ما من عبد استرعاه الله رعية، فلم يحطها بنصحه
لم يجد رائحة الجنة " وقال (ص): ما من وال يلي رعية من المسلمين، فيموت
وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنة ".
وقد بين الرسول (ص) أن من لم يحط رعيته بنصحه، ولم يحفظها بقوله
وفعله، بل كان فيها الحاكم الخامل، أو الوالي الظالم، أو الراعي الغاش الذي

467
يعطي من طرف اللسان حلاوة، وقلبه مفعم بالعداوة، يتظاهر بالجد في المصلحة
وهو يضمر المفسدة، يبدو للناس الشاب العابد، والورع القانت، وبين جنبيه
لئيم ماكر وعدو غادر. من كان كذلك إذا استمر على غشه ولم يرعو عن
غيه، حتى بغتته المنية، حرم الله عليه الجنة، فلا يدخلها، بل لا يراح رائحتها
العبقة الذائعة المنتشرة، إنما مأواه النار وما للظالمين من أنصار. وإن هذا
لوعيد شديد، وعذاب أليم، وإنه للحق، والإنصاف والعدل. فإن من غش
الآلاف أو الملايين، وسامهم الهوان والذل عشرات السنين، وحرمهم لذة الحياة
ليستحق النكال أضعافا مضاعفة، وما ربك بظلام للعبيد.
أجل الرعية أمانة في يد الراعي. يجب عليه القيام بحفظها وحسن التعهد
لها والعمل لمصلحتها، فمن ولاه الله شؤون الخلق من ملك وأمير، ورئيس
ووزير ومدير ومأمور... يجب عليه أن يحوطهم بنصحه، ويخلص لهم في
حكمه، فيكون لهم كما يكون لنفسه، يحب العدل معه والصدق فليكن معهم
عادلا، وفي معاملتهم صادقا. يحب لنفسه السلامة والعافية، والعلم والثروة،
فليعمل على سلامتهم من الأمراض ووقايتهم من الأضرار وليقم بينهم دور العلم
ويسهل السبل إليه، ولينم ثروتهم بالجد في ترقية الصناعة وإقامة التجارة وتحسين
الزراعة.
يحب الأمن على نفسه وماله وعرضه، فليكن لنفوسهم واقيا ولمالهم راعيا
ولعرضهم صائنا، فيضرب على أيدي المفسدين بيد من حديد، لا يحركها إلا
التربية والتأديب.
يحب لنفسه مجدا وعلوا، فليعمل لمجدهم وعزتهم وشرفهم وكرامتهم.
وبعبارة وجيزة: ليفرض نفسه واحدا منهم وليعاملهم بما يحب أن يعامل به.

468
حق الرعية بالعلم

469
قوله عليه السلام:
" وأما حق رعيتك بالعلم: فأن تعلم أن الله قد جعلك
لهم خازنا فيما آتاك من العلم وولاك من خزانة الحكمة فإن
أحسنت فيما ولاك الله من ذلك وقمت به لهم مقام الخازن
الشفيق الناصح لمولاه في عبيده، الصابر المحتسب، الذي إذا
رأى ذا حاجة أخرج له من الأموال التي في يديه، كنت
راشدا، وكنت لذلك آملا معتقدا، وإلا كنت له خائنا ولخلقه
ظالما، (وكان حقا على الله عز وجل أن يسلبك العلم وبهاءه
ويسقط من القلوب محلك) ".
* * *
هذا الفصل يحتوي على أمور خطيرة مهمة، ومسائل دقيقة كثيرة، ولا
نبالغ بالقول إذا قلنا إن موضوع هذا الفصل هو أنفس نفائس كتابنا هذا ومن
أهم وأدق مباحثه الجليلة. كما سترى من كشف القناع عن أسراره العجيبة
وتحليل فلسفته البليغة العالية.
العلم عند الإمام (عليه السلام) (والحق كذلك) كنز ثمين لا يناله من عباد الله
إلا الذين أحسنوا وآمنوا واتقوا.
وهذا الكنز هو من أثمن الكنوز، ولكنه يمتاز عنها بأنه لا تجف ينابعه
وليس له نفاد، وإنما هو ينمو ويزداد ويزدهر بقدر ما ينفق منه. قال

471
علي أمير المؤمنين (عليه السلام): " المال ينفد والعلم يزكو على الإنفاق ".
كما أن أصحاب هذا العلم وأهله خالدون بخلوده ليس يعروهم فناء،
لأن لهم حياة ثانية يستأنفونها بعد أن ينعتقوا من سجن البدن. وينطلقوا في
فناء الروح الأبدية، فيحيون ويرزقون خيرا مما كانوا يحيون ويرزقون أولا
ويكون لهم ذكر على الأفئدة والقلوب لا يمحوه الدهر ولا يقوى عليه الزمان
" العلماء باقون ما بقي الدهر ".
العلماء مصابيح الهداية، ورسل الرشاد، وأمناء الله في خلقه. يهدون
الضال، ويأخذون بيد المسترشد إلى حيث السداد والصواب. آتاهم الله من
بسطة الفهم، وسعة العقل ونفاذ البصيرة ما يكون عصمة لهم من الزلل في الرأي
والخطل في الفهم، وعونا على استكناه الحقائق وكشف غوامض العلوم فصدورهم أوعية
المعارف، وعقولهم خزائن الحكم، يفيض منها على الناس ينبوع لا
ينضب ومعين لا يغيض. وعلى مقدار كثرتهم في الأمة واسترشاد الناس بهم يكون
رقيها وعزها. كما أن في قلتهم وانفضاض الأفراد من حولهم أو ابتعادهم عن
الناس يكون انحطاطها وتأخيرها وانغمارها في جهالة جهلاء، وفشوا الأكاذيب
والأضاليل فيها.
وبموت العالم يخبو مصباح يضئ ظلمات الحياة، ويثلم سيف كان للحق
ماضيا، وينهدم ركن من أركان عظمة الأمة ومجدها، فإن لم يخلفه غيره بقي
ذلك الجانب مهيضا، وظل ذلك الركن مظلما، واستولت من بعده على العقول
الأوهام والخرافات، وثارت من مكامنها هوام الفتنة والزيغ، وتصدر المجالس
من ليس لها بأهل، وأفتى من ليس بينه وبين العلم نسب ولا صهر، فأذاع
الأساطير وملأ الأفئدة والآذان بما ينبو عنه العلم الصحيح، ويجافي الحق
والصواب ولا يزال سادرا في ظلماء الزيغ حتى يضل من حوله بضلاله ويعمي

472
البصائر عن سواء السبيل.
فحامل العلم خازن بيده مفاتيح أؤتمن عليها، فعليه أن يقوم بالعلم
مقام الخازن المؤتمن الذي لا ينقص الناس ولا يزيدهم شيئا.
فهنا يتضح لنا أن من حق الرعية بالعلم (أي المتعلمين) أن يتلقوا ما
يشاؤون من العلم عن طريق أهله وخزنته. وعلى حملة العلم أن يؤدوا ما وجب
عليهم أداؤه من هذا الحق. يجب أن يعلموا فهم إن لم يعلموا مسؤولون أمام
الحق والعدل. " وما أخذ الله على الجهلاء أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم
أن يعلموا ".
بالعلم حياة النفوس ونهضة الشعوب وتكوين أجيال أنضر وأزكى. فإذا
منع العلماء العلم فقد انحطت أممهم ونزلت أسفل سافلين.
والحضارة التي تسود الحياة المعاصرة سارت أشواطا متفاوتة في مضمار
الارتقاء العام، فسبقت وحلقت.
لقد ارتفع مستوى الصحة العامة، وأظن سكان العالم لم يبلغوا في عصر
مضى هذا الحد من الكثرة.
إن الأوبئة التي كانت تذر الديار بلاقع تلاشت أو انكسرت حدتها.
إن الجهود مبذولة لإشاعة الثقافة والرياضة وتنشيط الأذهان والأبدان،
وخلق أجيال فارقتها بلادة الجهل والفوضى، ونحن نود أن يصعد البشر في درج
الرقي حتى يبلغوا القمة، وأن تنجو الحياة من الأدواء التي أزلتها عن الصراط
وعاقتها عن الكمال المنشود، ولكن كيف السبيل؟ وأين الغاية؟ " وما أخذ
الله على الجهلاء أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا " ولما كان الإنسان
كائنا متعدد الملكات والقوى، فإن التسامي به يحتاج إلى وسائل كثيرة، وسائل
يجب أن تلاحقه مادة وروحا منذ يتكون قطرة ماء في بطن أمه إلى أن يتحول

473
بشرا سويا يعالج الحياة وتعاني من جبروته ما تعاني!
ونحن ننشئ المعاهد ونمد بها أنهار المعرفة لتروى بها مواهب الإنسان
كما تروى العيدان في الحقول! فهل هذا التعليم هو الذي يصوغ الناشئة ويهيئ
لها أطوارا أرقى من سابقتها؟
إن العلم حياة القلوب، وضياء العقول، وحاجة المرء إلى العلم كحاجة
عينيه إلى الضوء، غير أن فنون العلم وحدها لا تتدرج بالحياة إلى آفاق أعلى
ما لم تصاحبها وسائل أخرى تغير من طبائع المتعلمين أنفسهم حتى تتيح لهم الإفادة
مما يتعلمون.
وفي الحديث: أن النبي (ص) قال: " مثل ما بعثني الله به من الهدى
والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها فتية قبلت الماء فأنبتت الكلاء
والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا
وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا
تنبت كلاء. فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم،
ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به ".
والحديث واضح في أن العلم وحده لا يخلق أمة متساوية الأنصبة في حقائق
الخير والتقى، ولا في أسباب الفلاح والرشد.
والمثل الذي ضربه النبي (ص) لاستفادة الخلائق من رسالته عد أصنافا
من الطبائع التي يحسن أن نشرحها.
فأولاها بالله ألصقها بالحق وأجدرها بالتوفير والمثوبة... أولئك
الذين علموا وعملوا وعلموا، إنهم استناروا بالمعرفة الصحيحة وأناروا الدنيا بها!!
أخصبت نفوسهم بالخير المغروس فيها فأزهرت وأثمرت، ثم امتدت
الأيدي إلى جناها الداني تقطف منه ما تشتهي.. أولئك دعائم الرشد في كل

474
أمة، إذ أقاموا دست أركانها، وإذا ذهبوا ذهبت ريحها.
هذا ما قرره الرسول الكريم إذ قال: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعا
ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس
رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا ". فالعلماء الذين
يعصمون الجماعات من الزيغ هم أولئك الذين أماتوا أهواءهم وقاموا بحق الله
في أنفسهم وفيما حولهم، انتفعوا بالإسلام ونفعوا الآخرين به، واتصلت
حياة هذا الدين بهم كما تتصل حياة الشجرة بما تحمل من بذور فيها طبيعة
الإنتاج والنماء، فهي وإن ولت أعقبت بعدها ما ينبت مثلها أو أشد إلى أن
يأذن الله بانقضاء الحياة والأحياء.
وذكر الحديث طائفة أخرى من العلماء الذين لا يستفيدون مما علموا
فائدة طائلة، إلا أنهم أوعية حسنة للمعارف النافعة التي تظل قائمة بأنفسهم
حتى يجئ من ينقلها عنهم ليعمل بها ويفيد منها!!
وهذه الطائفة ليست صنفا واحدا، فهناك حفاظ للعلم يعملون بقليل
منه ويحملون كثيره دون تدبر فيه أو دراسة عميقة له.
وأمثال هؤلاء هم الذين يصدق فيهم قول رسول الله (ص): " رب حامل
فقه ليس بفقيه " " رب مبلغ أوعى من سامع ".
وربما اتسع علم هؤلاء وكثر بذلهم له.. حتى يضرب الناس إليهم
لينالوا من حكمتهم ما تصح به النفوس وتصحو الهمم!! فهم كالبحيرة التي
تجمع الماء فيها فأضحت مثابة للعطاش يردونها ليرتووا، وربما حمل الماء منها
إلى الأرض العاطلة، فإذا هي بعد حين حالية بالأزهار والرياض.
وحفظة العلم من هذا الصنف أقل رتبة في الخير من العاملين المعلمين،
بيد أنهم أرقى درجة من صنف آخر يعمل بضد ما يعلم ويسلك في الحياة مسلكا

475
يزري بما أوتي من عرفان.. وقد أعلن الله عز وجل سخطه على أولئك الذين
يعلمون بأقوالهم، ويجهلون بأحوالهم، فقال: " كبر مقتا عند الله أن تقولوا
ما لا تفعلون ".
والحق أن هناك نفرا نكب العلم بهم، وفضحت الأديان بسيرتهم جعلوا
علمهم بالحق مصيدة للباطل فحفظوا منه كلمات يهدون بها الناس، ثم انثنوا
من جهة أخرى يجرون المنافع ويصطادون المغانم.
فالفواصل بين ما يقولون وبين ما يفعلون غليظة كثيفة، طباع بهائم وتعاليم
ملائكة.
وأحسب أن هذا الصنف ليس من قبيل الأرض المجدبة التي أمسكت الماء
فالمفروض أن معدن هذه الأرض لا يفسد ما فوقه! والنفوس ينبغي لها أن تصلح
بالعلم، فإذا لم تصلح به فلعل من بقية الخير بها أن تحفظه نقيا ليصلح به
الآخرون..!
وقد تقول: إن الحديث ذكر علماء ينشرون الهدى ولا ينتفعون به،
فلم ترك العباد الأتقياء الذين ليس لديهم علم ينشرونه؟ والجواب أنه ليس في
الإسلام عباد جهلة، وأقل أحوال المسلم أن يكون لديه معرفة بالفضائل
والرذائل فهو يدعو للأولى وينفر من الأخرى.. فإذا لم يكن كذلك فهو من
العصاة وليس من المتقين.
وأما الصنف الذي أعيى العالمين أمره، وأعجز الأطباء برؤه فهم أولئك
الذين تتعهدهم بدروس الحكمة وتأخذهم بألوان الأدب، وتغزوهم بالنذر،
وتتألفهم بالبشريات.. ومع ذلك كله يستعصون على جهودك المتتابعة ويلقون
القنوط في قلبك.
أنظر إلى قوم إبراهيم كيف هشم أصنامهم ليثبت لهم أنها لا تملك لنفسها

476
ولا لغيرها ضرا ولا نفعا فلما جاءوها ورأوها مكبوبة مهينة تساءلوا: " قالوا
أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم. قال: بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن
كانوا ينطقون!! فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون!! "
وإلى هذا الموقف كان يجب على الضلال أن يهتدوا، وأن يصحوا من
غفلتهم على ضوء الحقيقة الرائعة، لكن النفوس الملتوية تتقلب فيها مقدمات
الحق، فإذا بها تتمخض عن نتيجة أخرى!.
لقد عادوا يقولون لإبراهيم، إن آلهتنا - كما علمت - لا تنطق فكيف
جرأت على قداستها؟
" ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون.. قال:
أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف ولما تعبدون من
دون الله... أفلا تعقلون؟ قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين "
وجماهير الدهماء من هذا القبيل المتعب، فهم إما أناس لا عقول لهم يعجزون عن
إدراك الحق لقصور أذهانهم على نحو ما قال الشاعر:
أقول له عمرا فيسمع خالدا * ويقرؤها زيدا ويكتبها بكرا
وإما أناس لهم عقول مدركة ذكية، لكن ليس لهم ضمائر حية، فهواهم
هو الذي يوجه علاقاتهم بالخصوم والأصدقاء، ويفسد أحكامهم على الأشخاص
والأشياء...
هؤلاء وأضرابهم هم الذين شبههم الرسول بالأرض السبخة.. لا تمسك
ماء ولا تنبت كلاء! تحاول أن ترفع رؤوسهم وأن تحملهم عن الثرى الذي
التصقوا به، فكأنك تحرك الرواسي من أوضاعها التي شدت فيها.
هل معنى ذلك أنه من الصعب إنشاء أجيال طيبة يترعرع فيها الحق
والجمال، وينضر بها العالم ويستقيم العمران، وتستأنف الحياة بها مراحل

477
أدنى إلى الفلاح وأبعد عن الدنايا.
إنني أميل إلى التفاؤل في حكمي على فطرة الإنسان، وأحسب أنه لو
تضافرت عوامل معينة على تمهيد الطريق أمامه لقل عثاره واهتدى إلى ربه
واستراح إلى كنفه.
إن الحكومات تستصلح الآن مساحات شاسعة من الأرض السبخة والصحاري
الجافة، وتعمل - دائبة - على تحويلها إلى جنان وحقول تزدان بالزرع
والنخيل، وهي تغسل الأرض جيدا لتزيل ما علق بتربتها من أملاح، وترقب
البذور الوليدة لتمنع الحشائش الغريبة من النماء على حسابها.
فهل ترى أن مثل هذه الجهود لو سلطت في ميدان العلم والتربية
لاستصلاح الجماهير المضيعة والعقول الملتاثة، أما كان لها نتاج كريم وثمر عظيم؟
كتب شقي مجرم ليلة إعدامه كلمات، أحب أن نقف قليلا لديها، وأن
نسائل أنفسنا عن مدى ما فيها من حق.
هذا المجرم سرق في سن الخامسة، وكان من قطاع الطرق في الحادية
عشرة، وتحول قاتلا فاتكا في السادسة والعشرين، وحكم عليه بالموت خنقا
بالغاز عقابا له على ما جنت يداه.
وها هو ذا - قبل أن يلقى حتفه - يخط هذه الأفكار والمشاعر...
وفيها - لا ريب - عظات بالغة للمربين.
قال: " لم يبق لي في الحياة وقت طويل، فما هي إلا أيام أو ساعات
وينتهي أمري، ولكنه وقت يكفي لأن أعود بذاكرتي إلى الوراء أعرض بها
الماضي فأتبين ما جاء بي إلى هنا وقادني إلى هذا المصير.
ولست أدري أي شعور يخالجني الآن؟! وقد يخيل إلي أنني سأتهافت
حتى أهوى، وسأنفجر فأصيح باكيا، ولكني أرجو أن أصمد وأتجلد كما

478
يفعل الرجل في النائبات، وأن أتكلف - حتى اللحظة الأخيرة - مظهر
الجرأة والقوة.
أما ما أدرك أنه يملك علي تفكيري وشعوري جميعا فهو أني على يقين
من أن قتلي لن يفيد أحدا من الناس.
فلن يعود الرجل الذي قتلته إلى الحياة، ولن يستطيع البشر أبدا أن
ينزعوا الروح من جسد حي ليحيوا بها جسدا هامدا.
إنني أتساءل طوال ليلي المؤرق ونهاري الحائر: أما يستطيع الناس
- وفيهم من العلماء والمفكرين - أن يجدوا طريقة يصلحون بها الأشقياء بدلا
من تقتيلهم؟ لو وجدت هذه الطريقة لتغير مصيري... فلأدع الله في هذه الساعة
الأخيرة من حياتي أن يوفق الناس إلى هذه الطريقة حتى لا يكون مصير من
نشأوا مثل نشأتي أليما مروعا كمصيري!
إنني أعرض الآن في ذاكرتي قصة حياتي فأرى أني لو ربيت تربية
صالحة، ولو وجهت توجيها قويا لشققت في الحياة الطريق الذي يشقه الناس
الأخيار، ولكني كنت سئ الحظ أكثر مما كنت شرير الطبع، فلم ألق حولي
إلا من أساء فهمي وأخطأ توجيهي، فقادني من السرقة إلى القتل إلى الإعدام.. "
إن فساد العلم بالدين والحكم بالدين كانا من الكوارث الكبرى في
تاريخ البشر، فهل يعز على أولي الألباب من حملة العلم إقامة حضارة تحسن
معرفتها لله وإقامتها لحدوده؟
ربما قال المتشائمون: لقد نجح الشيطان من قديم في إغواء الإنسان
ويبدو أنه ماضي في خطته الأولى يحرز نصرا بعد نصر.
وما من جيل ينقرض إلا ويتقلص معه من ظلال.
وأقول: إن العراك خالد بين الحق والباطل، وعلى حملة العلم أن يؤدوا

479
واجبهم إلى آخر رمق.
ويؤسفني أن أقرر هنا أن انتشار الفساد في الأرض لن يجئ من نشاط
الشيطان بقدر ما جاء من تكاسل حملة العلم ووهن عزيمتهم.
والله عز وجل يكلف رجال العلم خاصة أن يستميتوا في إعلاء كلمته
وحياطة رايته وتعليم عباده. " ما أخذ الله على الجهلاء أن يتعلموا حتى أخذ
على أهل العلم أن يعلموا ".
" * * *
قال الإمام علي أمير المؤمنين (عليه السلام): " الناس ثلاثة: عالم رباني،
ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع ينعقون مع كل ناعق ".
العالم الرباني هو الملهم أو المستلهم، وقد ثبت في العلم الحديث أن من
العلم ما هو ملهم كعلوم الأنبياء، ذوي المعاجز، وقد عقدت مؤتمرات في جامعة
برلين لبحث إمكان العلم بطريق الإلهام، لثبوت أن جابر بن حيان لم يدرس العلوم
على غير إمامه جعفر الصادق (عليه السلام)، وثبوت أن جعفرا هذا تلقى علومه عن
آبائه، وثبوت أن علوم هؤلاء تقف بنسبها عند محمد، (ومحمد صلوات الله وسلامه
عليه) كان ملهما.
نقل ذلك العلامة يحيى الهاشمي المجاز بعلمه من جامعة برلين. من
أجل ذلك، أي أن علم الإنسان الأول إلهام، نسب الإمام هذا الإنسان بعلمه
إلى ربه وجعله أسمى أنواع العلم، فالرباني هو المنسوب إلى الرب، وهو
بصورة أوضح. فيما يقول ويفعل، أي أن العالم الرباني هو الذي يستعين ربه
في إصابة الحق بقوله إذ يقول، وإصابة الحكمة في عمله إذ يعمل، لذلك نرى
الملهمين في العلوم والفنون من رسل الحق المعبر عنهم بالأنبياء، ورسل الطبيعة
المعبر عنهم بالحكماء، أقول: لذلك، أي لأن علومهم ربانية، نراهم المشرعين

480
الأول في توجيه الإنسانية والهيمنة على نظم الحياة فيها، هذا هو العالم الرباني
وأما المتعلم على سبيل نجاة: وهو النوع الثاني من مقومات الإنسانية
فهو من يتلقى العلوم من معاهد تشاد للدراسة والتلقين، أو يتلقاها
من أفواه الناس أو بطون الكتب، أو من مظاهر الحياة على ألسنة هدير البحر
وهيمنة النسيم، كل ذلك من بواعث العلوم والفنون في نفس الإنسان إذا شاء
أن يتعلم ليصل بعلمه أو فنه إلى حيث ينجو من شقاء الدنيا أو من عذاب الآخرة
فإن العلم أو الفن، أيا كان، يفضي بطالبه إلى النجاة من شقائه القائم على الجهل
وأقل ما ينشأ عن الجهل الفقر والمرض المفضيان بالإنسانية إلى الدمار آخر الأمر.
وأما الهمج الذي ينعق مع كل ناعق، وهو النوع الثالث من مقومات
الإنسانية فهو الذي يقوم على خدمة العالم والمتعلم في تأمين وسائل الحياة لذلك
كان مسيرا لا خيرة له فيما يعمل، ولا حول له ولا طول في حياته، إلا بأن
يأتمر وينتهي بين يدي موجهه العالم الرباني والمتعلم الناجي وإلا هلك.
الهمج الرعاع من بني الإنسان هم الذين يشكلون السواد الأعظم، وهم
الذين يطأون الحق بأقدامهم إذا قادهم مبطل ويرفعون لواء الحق إذا قادهم
محق، فهم السلاح لإصلاح العالم، وهم السلاح لإفساده، من أجل ذلك نرى
السعيد في الأمة من يقوى على توجيه العامة من الشعب، ونرى الشقي من يخفق
في هذا التوجيه، ومن هنا رأينا عليا (عليه السلام) يرجع مغصوصا إلى ربه أن أخفق
في قيادة الرأي العام في أمته، بينما كان خصمه معاوية يتقلب على رياش العز إذ
كان مفلحا في قيادة الرعاع من أمة محمد.
ذلك لأن وسائل القيادة في العامة تضطر القائد لأن يتسامح في دينه،
فينافق ويكذب ويدجل ويضلل، ويغدر ويفجر، ثم ينفق مال الأمة في غير
سبيله، وعلى العكس نرى وسائل القيادة والتوجيه في الخاصة تضطر القائد لأن

481
يخلص في عمله، ويضحي بين يدي إنسانيته في سبيل دينه وكرامته، من هذا
القبيل علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ومن القبيل الأول كان معاوية بن أبي سفيان،
والواقع الذي يؤلم أن سنة علي تعطلت بموته ولا تزال سنة معاوية لها السيادة
في العالم حتى اليوم، ذلك لماذا؟؟؟.
ذلك لأن عليا كان يريد أن يتخذ الخلافة وسيلة لتوجيه الأمة إلى الحق،
ولأن معاوية أراد أن يتخذ توجيه الأمة إلى الباطل وسيلة للخلافة، وأكثر
الناس مأخوذون بزخرف الحياة الدنيا، فحيث رأوا هذا الزخرف شخصوا إليه
إلا من هدى الله قلبه للإيمان وهو نادر في الأمة، لأن في الإيمان قيدا للنفس
عن الهوى وفي الكفر انطلاق لها بين يدي متع الحياة، والدين إنما نزل ليغرز
الإيمان في النفوس بالعلم، فيكثر العالم الرباني والمتعلم الناجي، ويتضاءل
الهمج الذي ينعق مع كل ناعق، ويتقهقر إذ ذاك من يتخذ الرعاع وسيلة لإشباع
شهواته من حطام الدنيا، ثم يتقدم بعد ذلك من يتخذ الخاصة جنده في تعزيز
الحق كم في هذا التقسيم للناس من علم بالناس؟؟ وأين درس علي هذه العلوم؟؟
وإذا قلنا: إنه تلميذ محمد فأين درس محمد؟؟ ثم إذا ثبت لدينا أن محمدا كان أميا
لا يقرأ ولا يكتب، فمن أين جاء بهذا العلم وأفضى به إلى وزيره وخليفته علي
أقول مرة ثانية: كيف علم علي أن من العلم ما هو رباني، أي أنه
من الله مباشرة دونما تعلم وإنما هو بطريق الإلهام، سواء كان هذا العالم الملهم
نبيا أو غير نبي، وسواء كان أميا أم متعلما، وسواء كان ذكرا أو أنثى،
ولعلي أجرأ على أن أقول: سواء كان هذا الملهم إنسانا أو غير إنسان؟؟.
إن فيما يأتينا به رسل الله من شرائع، وفيما يأتينا به الحكماء والعلماء
أميين ومتعلمين، ثم فيما يأتينا به غير الإنسان كالطير في نباهته الغريزية وهو
يزقزق ويغرد مع الفن، أقول: إن في ذلك كله علما ربانيا يشعرنا بأن وراء

482
العلم الناشئ عن تعلم، علما آخر لعله أسمى منه، يزقه الخالق مخلوقاته زقا
ويلهمه إياها إلهاما، قلم يحبر، أو عين تتحسس، أو فكر يجول في استلهام
علمه وفنه، فقد ورد في الحديث الشريف: " من أخلص للحق فيما يقول
ويفعل علمه الله بلا تعلم " قال يزيد بن معاوية في أهل البيت (عليهم السلام)، عندما
استأذنه زين العابدين ليتكلم وهو صبي مفجوع بقتل أبيه، ورفض يزيد أن يأذن
له وأنكر عليه أهل مجلسه هذا الرفض قائلين: ما ذا يحسن هذا الصبي فدعه
يتكلم، فقال يزيد لهم: " هؤلاء أهل بيت زقوا العلم زقا ".
والحديث الشريف القائل: " إن الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها أنى وجدها
لا يبالي من أي وعاء خرجت ". أقول: إن هذا الحديث يشير إلى أن الحكمة
وهي في صميم العلم، يمكن للمؤمن سواء كان متعلما أو أميا، أن يظفر بها
عن طريق الإلهام دونما إعمال عقل أو إجالة فكر، كما يعمل العقل العالم
والفكر المجرب.
إن التقاط الحكمة معناها استلهامها من كل ما يدركه الحس ويعيه القلب
ولو شاء رسول الله بكلمته هذه أخذ الحكمة عن طريق العلم لقال غير ذلك،
ولكان ينبغي أن يقول: الحكمة ضالة المؤمن العالم يبحث عنها في كل ما يحس
فكلمة المؤمن أعم من العالم، وكلمة يلتقطها بمعناها الدقيق يقنصها ويظفر بها
والمعنى الباقي في كلمته (ص): أن ظفر المؤمن بالحكمة ليس له ضابط وأن
مكان هذه الحكمة غير محدود، والعلم غير ذلك. فإن له ضوابط وأصولا وقواعد
لا بد للمتعلم من يتدرج فيها ليصل إلى العلم المفضي به إلى الحكمة التي يؤتى
كثيرا من الخير من يؤتاها.
في دستور الإمام إذن تقسيم الإنسان إلى ثلاثة: علماء، ومتعلمين،
وجهلاء، ولا يزال هذا التقسيم قائما حتى اليوم، ثم لن يزال كذلك قائما

483
حتى يقوم الحشر، فلا يقولن معترض: إن في سويسرا مثلا فضلا عن انكلترا
أو ولايات أمريكا المتحدة ما يخالف هذا التقسيم، لأن الأمية في هذه الأقطار
لا وجود لها، وبأن سويسرا قد شيعت الأمية بحفاوة بالغة، إشعارا بأن الماضي
ولي بجهله وبأن الحاضر يستقبل العلم الذي لا جهل وراءه...
أقول: ليس في هذا ما ينقض حكم الإمام في دستوره، فإن الجهل غير
قاصر على الأمية، وليست الثقافة قاصرة على العلم، فكم من جاهل أمي وهو في
عداد العلماء بثقافته الفطرية. وكم من عالم قطع حياته في الدرس وهو في عداد
الجهلاء بما أوتيه من سفه في الرأي وخطل في الفكر، فلو لم يكن في الأمة
إلا أمي أم متعلم، لكان من هؤلاء الأميين أو أولئك المتعلمين ثلاثة: أحدهم
عالم، والثاني متعلم، والثالث همج.
هذا إذا لم نعتبر الناس بمفهومهم العام أي سكان الأرض لا سكان أمريكا أو
أوربا، فإن الإمام لم يقل أمريكا أو غيرها وإنما قال: الناس، فإذا كان العالم
في الغرب فيقابله الجاهل في شرق الأرض أو جنوبها مثلا، والعالم في دستور
الإمام هو من عمل بعلمه، لقوله: " العالم من عمل بعلمه ووافق علمه عمله "
فيخرج بهذا من تعلم وأعرق ثم لم يعمل، أو من عمل ولم يطابق علمه عمله فهو
إذ ذاك في عداد الجهلاء
وكلام (الإمام سلام الله عليه) في أكثر أقواله عريق في البيان عراقته
في الحقيقة، لذاك نجد أنه يتجوز في كثير من أقواله، وبهذا كان أبلغ من
خطب وكتب منذ كان حتى عصرنا الحاضر، وبهذا أيضا كان المجدد الأول في
بيانه، ثم أعطي لقب إمام البلغاء ". (1)
لقد حث الإسلام على طلب العلم، كل علم بدون استثناء، حث عليه
لأنه مظهر لقدرة الله وعظمته، وقوة نتغلب بها على ما يعترض سبيلنا من عقبات



(1) دين وتمدين ج 2.
484
ويؤهلنا لنفهم الحقائق وأسرار الحياة، ويمهد لنا طريق التقدم والتطور، حثنا
عليه لنستخدمه في الأغراض الإنسانية النبيلة، ويكون قوة للحق ودعامة للعدل
لا قنبلة مهلكة في يد الطغاة، وآلة منتجة في مصانع الشركات والاحتكارات.
لقد حث الإسلام على كل علم يدفع الجهل سواء أكان في العقائد الدينية أم
في الشؤون المادية، فالعلوم الطبيعية، وعلم النفس، وعلم التاريخ والجغرافيا
والاجتماع وغيرها هي التي قصدها الإسلام بجانب العلوم الدينية.
حض الإسلام على تعلم هذه العلوم ليكونوا أبصر بعظمة الله وقدرته
المتجلية في آيات صنعه. كما أن هناك إلى هذه الحكمة حكما أخرى هي ما
يتبع هذه العلوم من منافع مادية دنيوية آتية من استخدام حقائق العلم في
شؤون الإنسان.
الدعوة إلى تعلم العلوم الطبيعية
أما الآيات التي وردت في القرآن بمعنى الحض على تعلم العلم الطبيعي
فهي كثيرة نذكر منها قوله تعالى:
" ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك
لآيات للعالمين " وقوله تعالى: " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءا فأخرجنا به
ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ومن
الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء ".
وواضح من السياق في الآيتين أن المراد هنا بالعلماء العالمون بالآيات وأسرار
الخلق التي أودعها الله فيما أشارت هاتان الآيتان، وموضوعهما هو نفس موضوع
العلم الطبيعي. فالعلم الطبيعي يبحث عن الأشياء الكونية: طبائعها، وخواصها
والعلاقات بينها، ثم عن حقيقتها إن أمكن، أي عن آيات الله المودعة في هذه الأشياء

485
ففي آية فاطر مثلا لا يعرف سر نزول الماء من السماء إلا بعلم الطبيعة
ولا يعرف تركيبه وخواصه إلا بعلم الكيمياء.
ولا يعرف الإنبات والإثمار فيهما إلا بعلم النبات. ولا يعرف ما الجبال
ولا ما طرائقها البيض والحمر والسود إلا بعلم طبقات الأرض، ولا يعرف
اختلاف أجناس البشر والدواب والأنعام إلا بعلمي أصل الشعوب والحيوان. ثم
انظر إلى تذييل الآية " إنما يخشى الله من عباده العلماء " فقد حصر الله الخشية
الكاملة من الله في العلماء الذين يتدارسون آياته الكونية، لأن العلماء إذا كانوا
مؤمنين حملهم علمهم بأسرار الطبيعة على خشية الله خالقها.
علم الحياة (البيولوجيا)
ونرى القرآن يوجه نظر الإنسان إلى نفسه وكيفية تكونه في الرحم وأطواره
" فلينظر الإنسان مما خلق خلق من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب "
فمن النظر في أصل التكوين يتوصل الإنسان إلى علم الحياة، وفيه من
عجائب نمو الجرثومة الإنسانية وتقلبها في أدوار الخلقة وتطورها ما أصبح مادة
(البيولوجيا).
علم النفس
أما ما جاء في القرآن عن التفكير في النفس فيتجلى لنا في مثل قوله
تعالى: " وفي أنفسكم أفلا تبصرون ".
أليس النظر في النفس يستنبط منه علم النفس بكل ما فيه من الغرائز
والميول والبواعث الإنسانية.

486
علم التاريخ والاجتماع
ولم يكتف الإسلام بتكليف المسلم، النظر فيما هو أمامه من الكائنات، بل
دفعه إلى البحث فيما كانت عليه الأمم السالفة من قوة السلطان واتساع العمران
ثم ما آلوا إليه باتباع الشهوات وتجاهل البينات من هلاك ودمار. قال الله تعالى
" أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم، كانوا
أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات
فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ". ويقول سبحانه في هذا
المعنى أيضا: " قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين ".
أترى أن قوما أتت إليهم هذه التعاليم يهملون السياحات العلمية للتعرف
في أسباب تكون الأمم وانحلالها، ورقيها وانحطاطها، وعمرانها وخرابها؟
أفلا يؤدي هذا التعرف كله إلى علمي التاريخ والاجتماع بكل ما يشتملان
عليه من بحوث.
* * *
ما ورد في فضل العلم
" إن فضيلة العلم وارتفاع درجته أمر كفى انتظامه في سلك الضرورة
مؤنة الاهتمام ببيانه، وما يورد في فضله إنما هو من قبيل ما يذكره الوعاظ
من أخبار الترغيب والترهيب، لتحريك النفوس وتنبيه الغافل، ويدل على
فضل العلم بعد الضرورة عند جميع العقلاء، العقل والنقل من كتاب وسنة.

487
دلالة العقل على فضل العلم
أما العقل: فمن وجهين:
الأول أن الأسماء تنقسم إلى موجود ومعدوم، والموجود أشرف من
المعدوم ببديهة العقل، والموجود ينقسم إلى جماد ونام، والنامي أشرف من الجامد
والنامي ينقسم إلى حساس وغيره، والحساس أشرف من غيره، والحساس ينقسم
إلى عاقل وغير عاقل، والعاقل أشرف من غيره، والعاقل ينقسم إلى عالم وجاهل،
والعالم أشرف من الجاهل، كل ذلك ببداهة العقل، فالعالم أشرف المعقولات
والموجودات.
الثاني - أن الأمور على أربعة أقسام: قسم يرضاه العقل ولا ترضاه
الشهوة، وقسم عكسه، وقسم يرضيانه، وقسم لا يرضيانه، فالأول كالأمراض
والمكاره في الدنيا. والثاني المعاصي، والثالث العلم. والرابع الجهل.
الآيات الواردة في فضل العلم
وأما الكتاب فآيات:
1 - في سورة العلق، وهي أول ما أنزل عند بعض المفسرين: " اقرأ
باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم
بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم ".
حيث افتتح كلامه المجيد بذكر نعمة الإيجاد، وأتبعه بذكر نعمة
العلم، فلو كان بعد نعمة الإيجاد نعمة أعلى من العلم لكانت أجدر بالذكر. وقد قيل
في وجه التناسب بين الآي المذكورة في صدر هذه السورة المشتمل بعضها على خلق
الإنسان من علق، وبعضها على تعليمه ما لم يعلم، أنه تعالى ذكر أول حال الإنسان

488
أعني كونه علقة، وهي بمكانة من الخساسة، وآخر حاله وهي صيرورته عالما
وذلك كمال الرفعة والجلالة، فكأنه سبحانه قال: كنت في أول أمرك في
تلك المنزلة الدنية الخسيسة، ثم صرت في آخره إلى هذه الدرجة الشريفة
النفيسة.
قال الشهيد الثاني في منية المريد: هذا يدل على أنه سبحانه اختص
بوصف الأكرمية، لأنه علم الإنسان العلم، فلو كان شئ أفضل من العلم أو
أنفس لكان اقترانه بالأكرمية المؤداة بأفعل التفضيل أولى.
2 - " الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن
لتعلموا أن الله على كل شئ قدير، وأن الله قد أحاط بكل شئ علما ".
فجعل العلم علة لخلق العلم العلوي والسفلي، وكفى بذلك دلالة على
شرف العلم سيما علم التوحيد.
3 - " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ".
وفسرت الحكمة في هذه الآية، وفي آية " وآتيناه الحكم صبيا "
وغيرهما بمواعظ القرآن والعلم والفهم والنبوة، والكل يرجع إلى العلم.
4 - " هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا
الألباب ".
وقرن الله في كتابه العزيز بين عشرة أشياء " قل لا يستوي الخبيث
والطيب " " وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور
وما يستوي الأحياء ولا الأموات " وإذا تأملت تفسير ذلك وجدت مرجعه جميعا
إلى العلم.
5 - " إنما يخشى الله من عباده العلماء ".
6 - " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم ".

489
فقرن أولي العلم بنفسه وملائكته.
7 - " وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به الآية "
8 - " قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ".
9 - " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ".
10 - " وقل رب زدني علما ".
11 - " بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ".
12 - وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ".
13 - " إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان
سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا، ويخرون للأذقان
يبكون ويزيدهم خشوعا ".
14 - " أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما
يتذكر أولوا الألباب ".
15 - " وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ".
16 - " وأعلم من الله ما لا تعلمون ".
17 - " وتلك حدود الله نبينها لقوم يعلمون ".
18 - قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون ".
19 - " ولنبينه لقوم يعلمون ".
20 - " إن في ذلك لآية لقوم يعلمون ".
21 - " قرآنا عربيا لقوم يعلمون ".
22 - " وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ".
23 - " هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ".
24 - " وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ".

490
25 - " ولتعلموا عدد السنين والحساب ".
26 - " أو لم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ".
27 - " فاعلم أنه لا إله إلا الله ".
28 - " وعلم آدم الأسماء كلها ".
29 - " الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان ".
30 - " ذلكما مما علمني ربي ".
31 - " وعلمه مما يشاء ".
32 - " فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ".
33 - " وعلمتني من تأويل الأحاديث ".
34 - " وإذ علمتك الكتاب ".
35 - " وإنه لذو علم لما علمناه ".
36 - " وعلمناه من لدنا علما ".
37 - " ويعلمه الكتاب والحكمة ".
38 - " ويعلمكم الكتاب والحكمة ".
39 - " ومن عنده علم الكتاب ".
40 - " وإنه لذو علم لما علمناه ".
41 - " وفوق كل ذي علم عليم ".
42 - " وما أتيتم من العلم إلا قليلا ".
43 - " وزاده بسطة في العلم ".
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

491
ما جاء عن النبي (ص) في فضل العلم
قال رسول الله (ص): " طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ألا
إن الله تعالى يحب بغاة العلم " وقال (ص): " اطلبوا العلم ولو بالصين " وقال (ص)
" فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة " وقال (ص): " فضل العلم على العابد
كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر " وقال (ص) لعلي (عليه السلام): " يا علي
نوم العالم أفضل من عبادة العابد، يا علي ركعتان يصليهما العالم أفضل من
سبعين ركعة يصليها العابد ". وقال (ص): " نوم مع علم خير من صلاة مع
جهل " وقال (ص): " قليل العلم خير من كثير العبادة " وقال (ص): " ساعة
العالم يتكئ على فراشه ينظر في علم خير من عبادة سبعين سنة " وقال (ص):
" فضل العالم على العابد سبعون درجة بين كل درجتين حضر الفرس سبعين عاما
وذلك لأن الشيطان يضع البدعة للناس فيبصرها العالم فيزيلها والعابد مقبل على عبادته "
وقال: " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم إن الله وملائكته وأهل السماوات
والأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في الماء ليصلون على معلم الخير "
وقال (ص) " فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد " وخرج (ص)
فإذا في المسجد مجلسان مجلس يتفقهون، ومجلس يدعون الله ويسألونه، فقال (ص):
" كلا المجلسين إلى خير، أما هؤلاء فيدعون الله، وأما هؤلاء فيتعلمون ويفقهون
الجاهل، هؤلاء أفضل بالتعليم، بالتعليم أرسلت لما أرسلت، ثم قعد معهم ".
وعنه (ص) " من أراد الدنيا فليتجر ومن أراد الآخرة فليتزهد ومن
أرادهما فليتعلم " وقال (ص): " من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به
طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى به وإنه
ليستغفر لطالب العلم من في السماوات ومن في الأرض حتى الحوت في البحر،

492
وإن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، ولكن ورثوا
العلم فمن أخذ منه أخذ بحظ وافر " وقال (ص): " من يرد الله به خيرا يفقهه في
الدين " وقال (ص): " من طلب علما فأدركه كتب الله له كفلين من الأجر، ومن
طلب علما فلم يدركه كتب الله له كفلا من الأجر " وقال (ص): " من
أحب أن ينظر إلى عتقاء الله من النار فلينظر إلى المتعلمين، فوالذي نفسي
بيده ما من متعلم يختلف إلى باب العالم إلا كتب الله له بكل قدم عبادة سنة،
وبنى الله له بكل قدم مدينة في الجنة، ويمشي على الأرض وهي تستغفر له،
ويمسي ويصبح مغفورا له، وشهدت الملائكة أنه من عتقاء الله من النار "
وقال (ص): " من طلب العلم فهو كالصائم نهاره القائم ليله، وإن بابا من العلم
يتعلمه الرجل خير له من أن يكون أبو قبيس ذهبا فأنفقه في سبيل الله "
وقال (ص): " من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام كان بينه
وبين الأنبياء درجة واحدة في الجنة " وقال (ص): " إذا جاء الموت إلى طالب
العلم وهو على هذه الحال مات شهيدا " وقال (ص): " من خرج في طلب العلم
فهو خارج في سبيل الله حتى يرجع " وقال (ص): " من خرج يطلب بابا من
العلم ليرد به باطلا إلى حق وضالا إلى هدى كان علمه كعبادة أربعين عاما "
وقال (ص) لعلي (عليه السلام): " يا علي لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير من أن
يكون لك حمر النعم " وقال (ص) لمعاذ: " يا معاذ لأن يهدي الله بك رجلا
واحدا خير لك من الدنيا وما فيها " وقال (ص): " لا حسد إلا في اثنين رجل
آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي
بها ويعلمها " وقال (ص): " من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور
من تبعه، ولا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل
آثام من تبعه ولا ينقص من آثامهم شيئا " وقال (ص): " من سلك طريقا يلتمس به

493
علما سهل الله له طريقا إلى الجنة " وقال (ص): " إن مثل العلماء في الأرض كمثل
النجوم في السماء يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست أوشك أن
تضل الهداة " وقال (ص): " أيما ناش نشأ في العلم والعبادة حتى يكبر أعطاه
الله تعالى يوم القيامة ثواب اثنين وسبعين صديقا " وقال (ص): " يقول الله
عز وجل يوم القيامة للعلماء: إني لم أجعل علمي وحكمي فيكم إلا وأنا أريد
أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي " وقال (ص): " ما جمع شئ أفضل
من علم إلى حلم " وقال (ص): " ما تصدق الناس بصدقة مثل علم ينشر "
وقال (ص): " ما أهدى الرجل المسلم إلى أخيه هدية أفضل من كلمة حكمة
يزيده الله بها هدى ويرده عن ردى " وقال (ص): " أفضل الصدقة أن يتعلم
المرء علما ثم يعلمه أخاه " وقال (ص): " العالم والمتعلم شريكان في الأجر
ولا خير في سائر الناس " وقال (ص): " أغد عالما أو متعلما أو مستمعا أو محبا
ولا تكن الخامس فتهلك " وقال (ص): " العلم خليل المؤمن والحلم وزيره
والعقل دليله والعمل قيمه واللين أخوه والرفق والده والصبر أمير جنوده "
وقال (ص): " من غدا إلى مسجد لا يريد إلا ليتعلم خيرا أو يعلمه كان له
أجر معتمر تام العمرة، ومن راح إلى المسجد لا يريد إلا ليتعلم خيرا أو ليعلمه
فله أجر حاج تام الحجة ".
ومن الكلمات القصار المروية عنه (ص) في فضل العلم قوله (ص):
العلماء ورثة الأنبياء. العلماء أمناء الله على خلقه. العلماء أمناء أمتي. العالم
أمين الله في الأرض. لقحوا عقولكم بالمذاكرة. عظموا العلماء فإنكم تحتاجون
إليهم في الدنيا والآخرة. النظر في وجه العلماء عبادة. الكواكب زينة السماء
والعلماء زينة أمتي. لغدوة في طلب العلم أحب إلى الله من مائة غزوة. الأنبياء
قادة، والفقهاء سادة، ومجالستهم زيادة إن أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به "

494
ما جاء عن علي (ع) في فضل العلم
وعن علي (عليه السلام): " جلوس ساعة عند العلماء أحب إلى الله من
عبادة ألف سنة، والنظر إلى العالم أحب إلى الله تعالى من سبعين طوافا حول
البيت، وأفضل من سبعين حجة وعمرة مبرورة مقبولة، ورفع الله له سبعين
درجة، وأنزل عليه الرحمة وشهدت له الملائكة أن الجنة وجبت له ".
وعنه (عليه السلام) " تعلموا العلم فإن تعلمه حسنة ومدارسته تسبيح، والبحث عنه
جهاد وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وهو عند الله لأهله قربة، لأنه معالم الحلال
والحرام وسالك بطالبه سبيل الجنة، وهو أنيس في الوحشة وصاحب في الوحدة
وسلاح على الأعداء وزين عند الأخلاء، يرفع الله به أقواما يجعلهم في الخير
أئمة يقتدى بهم وترمق أعمالهم وتقتبس آثارهم وترغب الملائكة في خلتهم،
يمسحونهم بأجنحتهم في صلواتهم، لأن العلم حياة القلوب من الجهل ونور
الأبصار من العمى وقوة الأبدان من الضعف، ينزل الله حامله منازل الأبرار
ويمنحه مجالسة الأخيار في الدنيا والآخرة، وبالعلم يطاع الله ويعبد، وبالعلم
يعرف الله ويوحد، وبالعلم توصل الأرحام وبه يعرف الحلال والحرام، والعلم
إمام العقل والعقل تابعه، يلهمه الله السعداء ويحرمه الأشقياء ".
وعنه (عليه السلام) إنه قال: " أيها الناس اعلموا أن كمال الدين طلب العلم
والعمل به، ألا وإن طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال لأن المال مقسوم
مضمون لكم قد قسمه عادل بينكم وضمنه وسيفي لكم، والعلم مخزون عند أهله
وقد أمرتم بطلبه من أهله فاطلبوه ".
وعنه (عليه السلام): " العالم أفصل من الصائم القائم المجاهد، وإذا مات العالم
ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلف منه ". وعنه (عليه السلام): " كفى بالعلم شرفا

495
أن يدعيه من لا يحسنه ويفرح به إذا نسب إليه، وكفى بالجهل ذما أن يبرأ
منه من هو فيه " وقال (عليه السلام) لكميل بن زياد: " يا كميل العلم خير من المال،
العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، والمال
تنقصه النفقة والعلم يزكو وينمو على الإنفاق ".
وعنه (عليه السلام): " العلم أفضل من المال بسبعة:
1 - إنه ميراث الأنبياء والمال ميراث الفراعنة.
2 - العلم لا ينقص بالنفقة والمال ينقص بها.
3 - يحتاج المال إلى الحافظ والعلم يحفظ صاحبه.
4 - العلم يدخل في الكفن والمال لا يدخل.
5 - المال يحصل للمؤمن والكافر، والعلم لا يحصل إلا للمؤمن خاصة.
6 - جميع الناس يحتاجون إلى العلم في أمر دينهم، ولا يحتاجون إلى المال
7 - العلم يقوي الرجل على المرور على الصراط والمال يمنعه ".
ما جاء عن الزهراء (ع) في فضل العلم
وحضرت امرأة عند فاطمة الصديقة (عليها السلام) فقالت: إن لي
والدة ضعيفة، وقد لبس عليها في أمر صلاتها شئ وقد بعثتني إليك أسألك
فأجابتها عن ذلك، ثم ثنت فأجابت ثم ثلثت فأجابت إلى عشر مرات ثم خجلت
من الكثرة، فقالت لا أشق عليك يا بنت رسول الله قالت فاطمة (عليها السلام)
هاتي فاسألي عما بدا لك أرأيت من ذا الذي يصعد يوما إلى سطح بحمل ثقيل
وكراه مائة ألف دينار أيثقل عليه ذلك. فقالت: لا فقالت: اكتريت أنا
لكل مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤا فأحرى إذا أن لا يثقل

496
علي لأني سمعت أبي (ص) يقول: إن علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم من
خلع من الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدهم في إرشاد عباد الله، إلى أن
قالت فاطمة (عليها السلام): يا أمة الله إن سلكا من تلك الخلع لأفضل مما
طلعت عليه الشمس ألف ألف مرة، وما فضل ما طلعت عليه الشمس فإنه مشوب
بالتنغيص والكدر ".
ما جاء عن الحسن (ع) في فضل العلم
وعن الحسن بن علي (عليهما السلام): " فضل كافل يتيم آل محمد المنقطع
عن مواليه الناشب في تيه الجهل، يخرجه من جهله ويوضح له ما اشتبه عليه،
ويطعمه ويسقيه كفضل الشمس على السهى ".
ما جاء عن الحسين (ع) في فضل العلم
وعن الحسين بن علي (عليهما السلام): " من كفل لنا يتيما قطعته عنا
محنتنا باستتارنا فواساه من علومنا التي سقطت إليه حتى أرشده بهداه، قال له
الله عز وجل: يا أيها العبد الكريم المواسي إني أولى بهذا الكرم، اجعلوا له
يا ملائكتي في الجنان بعدد كل حرف علمه أخاه ألف ألف قصر وضموا إليها
ما يليق بها من سائر النعم ".
ما جاء عن علي بن الحسين (ع) في فضل العلم:
وعن علي بن الحسين (عليهما السلام): " لو يعلم الناس ما في طلب العلم
لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج، إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى دانيال
إن أمقت عبيدي إلي الجاهل المستخف بحق أهل العلم التارك للاقتداء بهم،

497
وإن أحب عبيدي إلي التقي الطالب للثواب الجزيل الملازم للعلماء، التابع
للحكماء القائل عن الحكماء ".
ما جاء عن الباقر (ع) في فضل العلم:
وقال محمد بن علي الباقر (عليهما السلام): " عالم ينتفع بعلمه أفضل من
سبعين ألف عابد " وعنه (ع): " العالم كمن معه شمعة تضئ للناس فكل من
أبصر بشمعته دعا له بخير، وكذلك العالم معه شمعة يزيل بها ظلمة الجهل
والحيرة فكل من أضاءت له فخرج بها من حيرة أو نجا بها من جهل فهو من
عتقائه من النار، والله تعالى يعوضه عن ذلك بكل شعرة لمن أعتقه ما هو أفضل
له من الصدقة بمائة ألف قنطار على غير الوجه الذي أمر الله عز وجل به، بل
تلك الصدقة وبال على صاحبها لكن يعطيه الله تعالى ما هو أفضل من مائة ألف
ركعة بين يدي الكعبة " وعنه (ع): " من علم باب هدى فله مثل أجر من عمل
به ولا ينقص أولئك من أجورهم شيئا، ومن علم باب ضلالة كان عليه مثل
أوزار من عمل به ولا ينقص من أوزارهم شيئا " وعنه (ع): " إن الذي يعلم العلم
منكم له مثل أجر المتعلم وله الفضل عليه فتعلموا العلم من حملة العلم وعلموه
إخوانكم كما علمكموه العلماء " وعنه (ع): " لمجلس أجلسه إلى من أثق به
أوثق في نفسي من عمل سنة " وعنه (ع): " كل الكمال التفقه في الدين والصبر
على النائبة وتقدير المعيشة ".
ما جاء عن الصادق (ع) في فضل العلم
وقال جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام): " علماء شيعتنا مرابطون
في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته يمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا،

498
وعن أن يتسلط إبليس وشيعته النواصب، ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا كان
أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة، لأنه يدفع عن أديان محبينا
وذلك يدفع عن أبدانهم " وعنه (ع): " من علم خيرا فله أجر مثل من عمل
به، قلت، فإن علمه غيره يجري ذلك له؟ قال: إن علم الناس كلهم جرى
له، قلت: فإن مات؟ قال: وإن مات " وعنه (ع): " تفقهوا في الدين فإن
من لم يتفقه منكم في الدين فهو أعرابي، وأن الله عز وجل يقول في كتابه:
" ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " وعنه (ع)
" عليكم بالتفقه في دين الله ولا تكونوا أعرابا، فإن من لم يتفقه في دين الله لم
ينظر الله إليه يوم القيامة ولم يزك له عملا ". وعنه (ع) " لوددت أن أصحابي
ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا في الحلال والحرام " وعنه (ع): " لو أتيت بشاب
من شباب الشيعة لا يتفقه لأدبته. قال وكان أبو جعفر يقول: تفقهوا وإلا فأنتم
أعراب " وعنه (ع): " إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا درهما
ولا دينارا وإنما ورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشئ منها فقد أخذ
حظا وافرا، فانظروا علمكم هذا عمن تأخذونه، فإن فينا أهل البيت في كل
خلف عدولا ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين "
وعنه (ع): " إذا أراد الله بعبد خيرا فقهه في الدين " وعنه (ع): " حديث في
حلال وحرام تأخذه من صادق خير من الدنيا وما فيها من ذهب أو فضة "
وقال له معاوية بن عمار: رجل راوية لحديثكم، يبث ذلك في الناس ويشد به
قلوبهم وقلوب شيعتكم، ولعل عابدا من شيعتكم ليست له هذه الرواية أيهما
أفضل. قال: الراوية لحديثنا يشد به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد " وقال
له رجل: إن لي ابنا قد أحب أن يسألك عن حلال وحرام ولا يسألك عما
لا يعنيه. فقال له: وهل يسأل الناس عن شئ أفضل من الحلال والحرام "

499
وعنه (ع): " ما من أحد يموت من المؤمنين كان أحب إلى إبليس من موت فقيه "
وعنه (ع): " إذا مات المؤمن الفقيه ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شئ ".
ما جاء عن الكاظم (ع) في فضل العلم:
قال الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام): " فقيه واحد ينقذ يتيما
من أيتامنا المنقطعين عن مشاهدتنا والتعلم من علومنا أشد على إبليس من ألف
عابد، لأن العابد همه ذات نفسه فقط وهذا همه مع ذات نفسه عباد الله تعالى
وإماءه لينقذهم من يد إبليس ومردته، وكذلك هو أفضل عند الله من ألف
عابد وألف ألف عابد " وعنه (ع): " إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة وبقاع
الأرض التي كان يعبد الله عليها وأبواب السماء التي كان يصعد منها أعماله، وثلم
في الإسلام ثلمة لا يسدها شئ لأن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور
المدينة لها ".
ما جاء عن الرضا (ع) في فضل العلم:
قال الإمام علي بن موسى الرضا (عليهما السلام): " يقال للعابد يوم القيامة
نعم الرجل كنت، همتك ذات نفسك وكفيت الناس مؤنتك فادخل الجنة، على
أن الفقيه من أفاض على الناس خيره وأنقذهم من أعدائهم ووفر عليهم نعيم
جنات الله وفضل لهم رضوان الله تعالى، ويقال للفقيه أيها الكافل لأيتام آل محمد
الهادي لضعفاء محبيه ومواليه قف حتى تشفع لكل من أخذ عنك، أو تعلم منك
فيقف فيدخل الجنة معه فئام وفئام حتى قال عشرا وهم الذين أخذوا عنه علومه
وأخذوا عمن أخذ عنه إلى يوم القيامة، فانظر كم فرق بين المنزلتين ".

500
ما جاء عن الجواد (ع) في فضل العلم:
وقال محمد بن علي الجواد (عليهما السلام): " إن من يتكفل بأيتام آل محمد
المنقطعين عن إمامهم المتحيرين في جهلهم الأسراء في أيدي شياطينهم وفي أيدي
النواصب من أعدائنا، فاستنقذهم منهم فأخرجهم من حيرتهم وقهر الشياطين
برد وسواسهم وقهر النواصب بحجج ربهم ودليل أئمتهم، ليفضل عند الله تعالى
على العابد بأفضل المواقع بأكثر من فضل السماء على الأرض والعرش على
الكرسي والحجب على السماء، وفضل هذا على العابد كفضل القمر ليلة البدر
على أخفى كوكب في السماء ".
ما جاء عن الهادي (ع) في فضل العلم:
وقال علي بن محمد الهادي (عليهما السلام): " لولا من يبقى بعد غيبة قائمكم
من العلماء الداعين إليه والدالين عليه والذابين عن دينه بحجج الله تعالى،
والمنقذين لضعفاء عباد الله من شباك إبليس لعنه الله ومردته، ومن فخاخ النواصب
الذين يمسكون أزمة قلوب ضعفاء الشيعة كما يمسك السفينة سكانها، لما بقي
أحد إلا ارتد عن دين الله تعالى، أولئك الأفضلون عند الله عز وجل ".
ما جاء عن العسكري (ع) في فضل العلم:
وقال الحسن بن علي العسكري (عليهما السلام): " تأتي علماء شيعتنا
القوامون بضعفاء محبينا وأهل ولايتنا يوم القيامة والأنوار تسطع من تيجانهم
(الحديث). وعن التفسير المنسوب لمولانا العسكري (ع) في قوله تعالى:
" وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله - إلى قوله - واليتامى "

501
قال الإمام (ع): وأما قوله عز وجل واليتامى فإن رسول الله (ص) قال: حث
الله تعالى على بر اليتامى لانقطاعهم عن آبائهم، فمن صانهم صانه الله، ومن
أكرمهم أكرمه الله، ومن مسح يده برأس يتيم رفقا به جعل الله تعالى له
في الجنة بكل شعرة مرت تحت يده قصرا أوسع من الدنيا بما فيها، وفيها
ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين وهم فيها خالدون. قال الإمام (ع): أشد من
يتم هذا اليتيم يتيم انقطع عن إمامه لا يقدر على الوصول إليه، ولا يدري كيف
حكمه فيما يبتلي به من شرائع دينه، ألا فمن كان من شيعتنا عالما بعلومنا
فهدى الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا كان كمن أخذ يتيما في حجره،
ألا فمن هداه وأرشده وعلمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى، حدثني بذلك
أبي عن أبيه عن آبائه عن رسول الله (ص) ".
ما جاء عن بعض الصحابة في فضل العلم:
عن أبي ذر (رضي الله عنه): " باب من العلم نتعلمه أحب إلينا من ألف
ركعة تطوعا ".
ما جاء عن الأنبياء السابقين في فضل العلم:
قال علي بن الحسين (ع): " أوحى الله عز وجل إلى موسى (ع): حببني
إلى خلقي، وحبب خلقي إلي، قال: كيف أفعل؟ قال الله تعالى: ذكرهم
آلائي ونعمائي ليحبوني، فلأن ترد آبقا عن بابي أو ضالا عن فنائي أفضل
لك من عبادة مائة سنة صيام نهارها وقيام ليلها. قال موسى (ع): فمن هذا
العبد الآبق منك؟ قال: العاصي المتمرد. قال: فمن هذا الضال عن فنائك؟
قال الجاهل بإمام زمانه تعرفه والغائب منه بعد ما عرفه، والجاهل بشريعة دينه

502
تعرفه شريعته وما يعبد به ربه ويتوصل به إلى مرضاته (الحديث). ومن كلام
المسيح عليه السلام: من علم وعمل فذاك يدعى عظيما في ملكوت السماء ".
ما جاء في الكتب السماوية في فضل العلم:
(عن التوراة) قال الله تعالى لموسى (ع): " عظم الحكمة فإني لا أجعل
الحكمة في قلب أحد إلا وأردت أن أغفر له، فتعلمها ثم اعمل بها ثم ابذلها كي
تنال بذلك كرامتي في الدنيا والآخرة ".
(وعن الزبور) قل لأحبار بني إسرائيل ورهبانهم حادثوا من الناس
الأتقياء، فإن لم تجدوا فيهم تقيا فحادثوا العلماء، فإن لم تجدوا عالما فحادثوا
العقلاء، فإن التقى والعلم والعقل ثلاث مراتب ما جعلت واحدة منهن في خلقي
وأنا أريد هلاكه ".
قال الشهيد الثاني (قدس سره) في منية المريد: " إنما قدم التقى
لأنه لا يوجد بدون العلم، كما أن الخشية التي هي من لوازم التقى لا تحصل
إلا بالعلم، ولذلك قدم العلم على العقل، لأن العالم لا بد أن يكون عاقلا... إلخ "
وهنا إشكال: وهو أن هذا يدل على نجاة من وجدت فيه إحدى هذه
الخصال، ولو عدم الباقي وهو باطل. (ولو أجيب) بأن الثلاثة متلازمة إذ
المراد بالتقوى ما تنبعث عن العلم والعقل، وبالعلم الملازم للعمل، وإلا لكان
شرا من الجهل، وبالعقل ما يبعث على العلم والعمل (لكان) ذلك خلاف
المفروض في هذا الكلام بقوله فإن لم تجدوا تقيا، فإن لم تجدوا عالما.
(ويمكن الجواب) بأن المراد إن لم تجدوا تقيا فحادثوا العالم الذي ليس
بتقي، لأنه يرجى أن يجره علمه بالآخرة إلى التقوى، ومحادثته خير من محادثة
الجاهل، وإن لم تجدوا عالما فحادثوا العاقل، لأن محادثته خير من محادثة

503
الأحمق ويرجى أن يجره عقله إلى العلم والتقى. وهذه أمور تجري مجرى
الرجاء والأمل لا مجرى الملازمة والقطع، أو يراد بالعالم غير التقي من لم يكن
في درجة عالية من التقوى لا من كان فاسقا، وبالعاقل غير العالم من لم يتعمق
في العلم والمعرفة بل عنده أقل ما يكفيه من المعارف الواجبة لا الجاهل من
جميع الوجوه. وكثيرا ما ينزل الشئ اليسير منزلة المعدوم.
وعن (الإنجيل في السورة السابعة عشرة منه، قال الله تعالى: " ويل
لمن سمع بالعلم ولم يطلبه كيف يحشر مع الجهال، اطلبوا العلم وتعلموه فإن
العلم إن لم يسعدكم لم يشقكم وإن لم يرفعكم لم يضعكم وإن لم يغنكم لم
يفقركم، وإن لم ينفعكم لم يضركم، ولا تقولوا نخاف أن نعلم فلا نعمل ولكن
قولوا نرجو أن نعلم ونعمل، والعلم يشفع لصاحبه وحق على الله تعالى أن لا يخزيه
إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا معشر العلماء ما ظنكم بربكم فيقولون ظننا
أن يرحمنا ويغفر لنا، فيقول الله تعالى: قد فعلت إني أستودعكم حكمتي لا
لشر أردته بكم بل لخير أردته بكم فادخلوا في صالح عبادي إلى جنتي برحمتي "
وقال مقاتل بن سليمان: " وجدت في الإنجيل إن الله تعالى قال لعيسى (عليه السلام):
" عظم العلماء واعرف فضلهم فإني فضلتهم على جميع خلقي إلا النبيين والمرسلين
كفضل الشمس على الكواكب وكفضل الآخرة على الدنيا، وكفضلي على
كل شئ ".
ما جاء عن لقمان في فضل العلم:
قال لقمان لابنه: " يا بني اختر المجالس على عينك فإن رأيت قوما
يذكرون الله فاجلس معهم، فإن تكن عالما ينفعك علمك وإن تكن جاهلا
علموك، ولعل الله تعالى أن يظلهم برحمته فتعمك معهم، وإذا رأيت قوما

504
لا يذكرون الله تعالى فلا تجلس معهم فإن تكن عالما لم ينفعك علمك، وإن
تكن جاهلا يزيدوك جهلا. ولعل الله تعالى أن يظلهم بعقوبة فتعمك معهم "
ما جاء عن العلماء في فضل العلم:
قال وهب بن منبه: " يتشعب من العلم الشرف وإن كان صاحبه دنيا،
والعز وإن كان مهينا، والقرب وإن كان قصيا، والغنى وإن كان فقيرا والنبل
وإن كان حقيرا، والمهابة وإن كان وضيعا، والسلامة وإن كان سقيما " وقال
بعض العارفين: " أليس المريض إذا منع عن الطعام والشراب والدواء يموت،
كذلك القلب إذا منع عنه العلم والفكر والحكمة يموت " وقال بعض العارفين
أيضا: " علم الله تعالى سبعة نفر سبعة أشياء كانت سببا في سبعة أشياء: علم آدم
الأسماء كلها، والخضر (عليه السلام) علم الفراسة، ويوسف (عليه السلام) علم التعبير، وداود (عليه السلام)
صنعة الدروع، وسليمان منطق الطير، وعيسى التوراة والإنجيل، ومحمد (ص)
الشرع والتوحيد. فعلم آدم كان سببا في سجود الملائكة والرفعة عليهم، وعلم الخضر
كان سببا لوجود موسى تلميذا له ويوشع (عليهم السلام)، وتذلل موسى له كما
يستفاد من الآيات الواردة في القصة، وعلم يوسف (عليه السلام) كان سببا لوجدان الأهل
والمملكة والاجتباء، وعلم داود (عليه السلام) كان سببا للرياسة والدرجة، وعلم
سليمان (عليه السلام) لوجدان بلقيس والغلبة، وعلم عيسى (عليه السلام) كان سببا
لزوال التهمة عن أمه، وعلم محمد (ص) كان سببا في الشفاعة ".
وقال شبيب بن شبيب: " اطلبوا الأدب فإنه مادة العقل ودليل على المروءة
وصاحب في الغربة ومؤنس في الوحشة وصلة في المجلس " وقال بعضهم: " إن
للعلم عبقة وعرفا ينادي على صاحبه، ونورا وضياءا يشرق عليه كتاجر مسك
لا يخفى مكانه ولا تجهل بضاعته، وكمن يمشي في مشعل في ليل مدلهم ".

505
الحكم والأمثال القصيرة في فضل العلم:
ما منح والد ولدا أفضل من أدب حسن. زينة الأرض العلماء والكواكب
زينة السماء. قيمة كل امرئ ما يحسنه. العلماء أعلام الإسلام. رتبة العلم
أعلى الرتب. العلم يزيد الشريف شرفا ويرفع المملوك إلى مجالس الملوك. العلم
وسيلة إلى كل فضيلة. العلماء في الأرض كالنجوم في السماء. لولا العلماء لهلك
الأمراء. موت العالم موت العالم. ثلمة الدين موت العلماء. لا تستطيع أن
تعي العلوم السنية حتى تمحو من ذهنك الأمور الدنية. العلم زين من أطاعه
وشين من عصاه. آفة العلم حب الرياسة. الفضيلة بالآداب لا بفراهة السلوة.
مجلس العلم روضة من رياض الجنة. العلم يبلغ العبد منازل الأحرار ومجالس
الملوك والدرجات العلى. الملوك حكام على الناس والعلماء حكام على الملوك.
العالم كالسراج من مر به اقتبس منه. مجالسة أهل الفضل ذكاء العقل. مداد
العلماء يوزن بدم الشهداء يوم القيامة. العلم حياة القلب ومصابيح الأبصار.
علم الرجل ولده المخلد. العلم في الصغر كالنقش على الحجر. من أدب ولده
صغيرا قرت عينه به كبيرا. من أدب ولده أرغم حاسده. الأب لا يحب ابنه
حتى يبغضه على ترك الأدب. بادر بتأديب الأطفال قبل تراكم الأشغال. من
لم يتعلم في الصغر هان في حال الكبر. لا خير في علم لا يعبر معك الوادي.
ألف في تامورك خير من ألف ألف في دستورك. قيدوا العلم بالكتابة إذا أثبتته
الأقلام لم تطمع في درسه الأيام. ما مات من أحيا علما. العلم أحسن حلية
والفضل أفضل قنية.. العلم أفضل خلف والعمل به أشرف. لا سمير كالعلم ولا
ظهير كالحلم

506
ما قيل في فضل العلم من الشعر:
العلم أنفس ذخر أنت ذاخره * من يدرس العلم لم تدرس مفاخره
أقبل على العلم واستقبل مقاصده * فأول العلم إقبال وآخره
* * *
وإنما العلم لأربابه * ولاية ليس لها عزل
* * *
إن الأمير هو الذي * يضحى أميرا عند عزله
إن زال سلطان الولاية * لم يزل سلطان فضله
* * *
حياة المرء علم فاغتنمه * وموت القلب جهل فاجتنبه
* * *
أجامع العلم نعم الذخر تجمعه * لا تعدلن به درا ولا ذهبا
العلم زين وتشريف لصاحبه * فاطلب هديت فنون العلم والأدبا
* * *
إذا ما اعتز ذو علم بعلم * فعلم الشرع أولى باعتزاز
فكم طيب يطيب ولا كمسك * وكم طير يطير ولا كبازي
* * *
تعلم فإن العلم زين لأهله * وفضل وعنوان لكل المحامد
تفقه فإن الفقه أفضل قائد * إلى البر والتقوى وأعدل قاصد
* * *
فإن فقيها واحدا متورعا * أشد على الشيطان من ألف عابد

507
اسمع حديثا قاله المصطفى * بوجه إعلام وتبيين
إذا أراد الله خير امرئ * فقهه في العلم والدين
* * *
فعظم مقادير أهل العلوم * فقد أوجب الله إعظامهم
* * *
تالله لا شئ مثل العلم مرتبة * فاذكر فضيلته إن كنت أنسيتا
* * *
ليس بعلم ما حوى القمطر * ما العلم إلا ما حوى الصدر
* * *
ولم أقضي حق العلم إن كان كلما * بدا طمع صيرته لي سلما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي * لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأسقي به غرسا وأجنيه ذلة * إذا فاتباع الجهل قد كان أحزما
فإن قلت زند العلم كأب فإنما * كبا حين لم نحرس حماه وأظلما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم * ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهان ودنسوا * محياه بالأطماع حتى تجهما
* * *
الناس من جهة التمثال أكفاء * أبوهم آدم والأم حواء
وإنما أمهات الناس أوعية * مستودعات وللأحساب آباء
فإن يكن لهم من أصلهم شرف * يفاخرون به فالطين والماء
وإن أتيت بفخر من ذوي نسب * فإن نسبتنا جود وعلياء
ما الفضل إلا لأهل العلم أنهم * على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقيمة المرء ما قد كان يحسنه * والجاهلون لأهل العلم أعداء

508
فقم بعلم ولا تبغي به بدلا * فالناس موتى وأهل العلم أحياء
* * *
إذ لم يزد علم الفتى قلبه هدى * وسيرته عدلا وأخلاقه حسنا
فبشره أن الله أولاه فتنة * تغشيه حرمانا وتوسعه حزنا
* * *
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله * وأجسامهم قبل القبور قبور
وكل امرئ لم يحيى بالعلم ميت * وليس له حتى النشور نشور
* * *
لا تدخر غير العلو * م فإنها نعم الذخائر
فالمرء لو ربح البقا * ء مع الجهالة كان خاسر
* * *
تعلم فليس المرء يولد عالما * وليس أخو علم كمن هو جاهل
وإن كبير القوم لا علم عنده * صغير إذا التفت عليه المحافل
* * *
أخو العلم حي خالدا بعد موته * وأوصاله تحت التراب رميم
وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى * يعد من الأحياء وهو عديم
* * *
عاب التعلم قوم لا عقول لهم * وما عليه إذا عابوه من ضرر
ما ضر شمس الضحى والشمس طالعة * أن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر
* * *
للإمام الشافعي:
علمي معي حيثما يممت ينفعني * قلبي وعاء له لا بطن صندوقي

509
إن كنت في البيت كان العلم فيه معي * أو كنت في السوق كان العلم في السوق
* * *
العلم يحيي قلوب الميتين كما * تحيا البلاد إذا ما مسها المطر
والعلم يجلو العمى عن قلب صاحبه * كما يجلي سواد الظلمة القمر
* * *
ومن يصطبر للعلم يظفر بنيله * ومن يخطب الحسناء يصبر على البذل
ومن لم يذل النفس في طلب العلى * يسيرا يعش دهرا طويلا أخا ذل
* * *
القاضي الأرجاني:
ليس شئ عندي أعز من العلم * فلا أبتغي سواه أنيسا
إنما السوء في مداخلة الناس * فدعها وكن حكيما رئيسا
* * *
يا لهف نفسي على شيئين لو وجدا * عندي لكنت إذا من أحسن البشر
كفاف عيش يقيني ذل مسألة * وخدمة العلم حتى ينقضي عمري ". (1)
مؤيد الدين الطغرائي:
من قاس بالعلم الثراء فإنه * في حكمه أعمى البصيرة كاذب
العلم تخدمه بنفسك دائما * والمال يخدم عنك فيه نائب
والمال يسلب أو يبيد لحادث * والعلم لا يخشى عليه سالب
والعلم نقش في فؤادك راسخ * والمال ظل عن فنائك ذاهب



(1) معادن الجواهر ج 1
510
هذا على الإنفاق يغزو فيضه * أبدا وذلك حين تنفق ناضب
* * *
العلم أشرف شئ قاله رجل * من لم يكن فيه علم لم يكن رجلا
تعلم العلم واعمل يا أخي به * فالعلم زين لمن بالعلم عملا
* * *
العلم مبلغ قوم ذروة الشرف * وصاحب العلم محفوظ من التلف
يا صاحب العلم مهلا لا تدنسه * بالموبقات فما للعلم من خلف
العلم يرفع بيتا لا عماد له * والجهل يهدم بيت العز والشرف
* * *
لو كان نور العلم يدرك بالمنى * ما كان يبقى في البرية جاهل
اجهد ولا تكسل ولا تك غافلا * فندامة العقبى لمن يتكاسل
* * *
لكل مجد في الورى نفع فاضل * وليس يفيد العلم من دون عامل
يسابق بعض الناس بعضا بجدهم * وما كان كر بالهوى كر باسل
إذا لم يكن نفع لذي العلم والحجا * فما هو بين الناس إلا كجاهل
كذاك إذا لم ينفع المرء غيره * يعد كشوك بين زهر الخمائل
* * *
يا ساعيا وطلاب المال همته * إني أراك ضعيف العقل والدين
عليك بالعلم لا تطلب به بدلا * واعلم بأنك فيه غير مغبون
العلم يجدي ويبقى للفتى أبدا * والمال يفنى وإن أجدى إلى حين
هذاك عز وذا ذل لصاحبه * ما زال بالعبد بين العز والهون
* * *

511
بالعلم والعقل لا بالمال والذهب * يزداد رفع الفتى قدرا بلا طلب
فالعلم طوق النهى يزهو به شرفا * والجهل قيد له يبليه باللغب
كم يرفع العلم أشخاصا إلى رتب * ويخفض الجهل أشرافا بلا أدب
العلم كنز فلا تفنى ذخائره * والمرء ما زاد علما زاد بالرتب
فالعلم فاطلب لكي يجديك جوهره * كالقوت للجسم لا تطلب غنى الذهب
* * *
العلم زين فكن للعلم مكتسبا * وكن له طالبا ما عشت مقتبسا
أركن إليه وثق بالله واغن به * وكن حليما رزين العقل محترسا
وكن فتى سالكا محض التقى ورعا * للدين مغتنما في العلم منغمسا
فمن تخلق بالآداب ظل بها * رئيس قوم إذا ما فارق الرؤسا
* * *
العلم يغرس كل فضل فاجتهد * ألا يفوتك فضل ذاك المغرس
واعلم بأن العلم ليس يناله * من همه في مطعم أو ملبس
إلا أخو العلم الذي يزهو به * في حالتيه عاريا أو مكتسي
فاجعل لنفسك منه حظا وافرا * واهجر له طيب الرقاد وعبس
فلعل يوما إن حضرت بمجلس * كنت الرئيس وفخر ذاك المجلس
* * *
الشيخ عبد المنعم الفرطوسي:
خلد لنفسك مجدا فيه تذكر * فالعين تفنى ويبقى بعدها الأثر
والنفس ينشر بالأعمال جوهرها * إذا انطوت هذه الأعراض والصور
والعلم أطيب بذر أنت تغرسه * بتربة النفس كيما يحسن الثمر

512
ومورد كالنمير العذب منهله * للنفس يعذب منه الورد والصدر
مصباح نور به تهدى النفوس إذا * أضلها غلس للجهل معتكر
يثقف العقل في أدوار نشأته * والعقل كالطفل للتثقيف مفتقر
وصاحب العلم يثرى حين ينفقه * وصاحب المال بالإنفاق يفتقر
وليس يخلد في الدنيا بثروته * ولا بسلطانه مهما علا بشر
فأين غيب (قارون) وزينته * وأين منه كنوز ليس تنحصر
في حين خلد (لقمان) بحكمته * وأظهرت فضله الآيات والسور
فلتعتبر أيها الإنسان موعظة * في كل شئ به الإنسان يعتبر

513
حق الزوجة

515
قوله عليه السلام:
" وحق الزوجة أن تعلم أن الله عز وجل جعلها لك سكنا
وأنسا، وتعلم أن ذلك نعمة من الله تعالى عليك فتكرمها
وترفق بها، وإن كان حقك عليها أوجب فإن لها عليك أن
ترحمها لأنها أسيرك، وتطعمها وتكسوها فإذا جهلت عفوت عنها "
* * *
يتناول هذا الدرس جانبا جديدا في ميدان التكافل الاجتماعي في حياة
الزوج والزوجة.
يتناول جانب الحقوق الشرعية والأدبية والمادية للزوجة، مرة بالتشريع
ومرة بالتوجيه الوجداني المؤثر.
والناس يعرفون مشاعرهم تجاه الزوجة، وتشغل أعصابهم ومشاعرهم
تلك الصلة بين الجنسين، وتدفع خطاهم وتحرك نشاطهم تلك المشاعر المختلفة
الأنماط والاتجاهات بين الزوج والزوجة. ولكنهم قلما يتذكرون يد الله التي
خلقت لهم من أنفسهم أزواجا وأودعت نفوسهم هذه العواطف والمشاعر وجعلت
في تلك الصلة سكنا للنفس والعصب، وراحة للجسم والقلب، واستقرارا للحياة
والمعاش، وأنسا للأرواح والضمائر واطمئنانا للرجل والمرأة على السواء،
وحرزا لنصف الدين، وتنفيسا شرعيا اجتماعيا للغريزة الجنسية.
وهذا التعبير اللطيف الرفيق من الإمام (عليه السلام) يصور هذه العلاقات تصويرا
موحيا، كأنما يلتقط الصورة من أعماق القلب وأغوار الحس، كأنما يلتقطها

517
من قوله تعالى: " لتسكنوا إليها ".. " وجعل بينكم مودة ورحمة "..
" هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ".. فتدرك حكمة الخالق في خلق كل من
الجنسين على نحو يجعله موافقا للآخر، ملبيا لحاجته الفطرية: نفسية وعقلية
وجسدية. بحيث يجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار، ويجد أن في
اجتماعهما السكن والاكتفاء، والمودة والرحمة، لأن تركيبهما النفسي والعصبي
والعضوي ملحوظ فيه تلبية رغائب كل منهما في الآخر، وائتلافهما وامتزاجهما
في النهاية لانتشاء حياة جديدة تتمثل في جيل جديد.
يصور (سلام الله عليه) صلة النفس بالنفس، صلة السكن والقرار، صلة
المودة والرحمة، صلة الستر والتجمل.
وإن الإنسان ليحس في ألفاظ الإمام (عليه السلام) ذاتها حنوا ورفقا، ويستروح
من خلالها نداوة وظلا، وأنها لتعبير كامل عن حقيقة الصلة التي يفترضها الإسلام
لذلك الرباط الإنساني الرفيق الوثيق. وأنها لتعبير عن العلاقات الجنسية المقامة
على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية التي تجعل من التقاء جسدين التقاء
نفسين وقلبين وروحين. وبتعبير شامل التقاء إنسانين تربط بينهما حياة مشتركة
وآمال مشتركة وآلام مشتركة، ومستقبل مشترك، يلتقي في الذرية المرتقبة،
ويتقابل في الجيل الجديد الذي ينشأ في العش المشترك الذي يقوم الولدان
حارسين لا يفترقان.
شرعت الزوجية فكانت أوثق الروابط وأمتن الصلات، منها انحدرت
البنوة، ووجدت الأبوة، وتولدت الأخوة، وتفرعت القرابة، وبها نشأت
المصاهرة وتكونت الأسرة، فكانت لذلك روح الاجتماع في صلاحها صلاح الأمة
وفي قوتها قوة الدولة. فهي مبدأ الإصلاح ومبعث النمو، ومنشأ القوة.
شرع لها الإسلام من الحقوق والواجبات ما يكفل بقاءها وصلاحها وتبلغ

518
به غايتها على ضوء الأخلاق العالية والعواطف النزيهة، حيث يكون الولد البر
والأب الرحيم، والأم الحنون، حيث ينشأ الطفل على الدين، ويشب على الفضيلة
ويهيأ لتحمل متاعب الحياة وتكاليفها، ويوجه إلى مثلها العليا، وغايتها المرجوة
حتى يتم للعالم عمرانه وللإنسان سعادته.
ومن هذه النواحي نظر إليها الإسلام واهتم بأمرها، فأوجب في بداية
الأمر إشهارها وإعلانها، وندب إلى الاحتفال بها تعظيما لشأنها. وأوجب على
الزوج المهر. وجعله حقا خالصا للزوجة، جزاء ما رضيت به من شركة، وما
فرضته على نفسها من تبعية، وما ستقدمه من معونة، إعزازا لجانبها وتكريما
لالتزامها. لا يجب فيه جهاز، ولا مطمع فيه لأحد من زوج أو قريب، ولا
رغبة فيه لأحد إلا رغبتها خالصة.
رفع الإسلام من شأن الزوجية، فجعلها صلة أبدية، قوامها المحبة
وأساسها المودة والرحمة، يقول الله تعالى: " ومن آياته أن خلق لكم من
أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات
لقوم يتفكرون ".
هذا الحب الذي من وده ينشأ الود كله في كل الصدور، ومن سكنه تخيم
السكينة كلها على كل النفوس، ومن رحمته تفيض الرحمة كلها على كل القلوب
هذا الحب الذي من خيوطه ينسج الزوجان أوكار الصغار. وهي أجمل
وأحلى وأقدس صورة خلقها الله في ملكوته من السماوات والأرض، يدخل إليها
الرجل وحشا فيصبح إنسانا، وتدخل إليها المرأة لعبة فتصبح الجنة تحت أقدامها
تلك الأوكار التي تخيم عليها السكينة، وتورق فيها الرحمة، ويزهر بها
الحنان وتثمر منها عبادة الله، فيبدأ أول دعاء صادق نستمطر به رحمة الله على
أفلاذ أكبادنا الذين جعلهم الخلاق الحكيم بسر الحب أعز علينا من أكبادنا.

519
" هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها
فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا
صالحا لنكونن من الشاكرين ".
هذا الحب الذي بسره صرنا نحب أطفالنا وأزواجنا وآباءنا وأمهاتنا،
والأهل والإخوان والخلان والجيران، وكل أخ لنا في الإنسانية، بل الحيوان
الأعجم الضعيف الذي نأس عليه إذ رأيناه يفقد عشيره أو صغيره، حتى نكاد
نبكي عليه من الرحمة
هذا الحب الذي خلق الله منه الجمال كله، وفي خدمته صنع الإنسان
الجميل كله، من الشجاعة إلى الكرم إلى الزهو والخيلاء، إلى الأناقة إلى الظرف
إلى الترف إلى الحداء والغناء إلى الشعر والنحت والتصوير وهو يظن بهذا كله أنه
يتعبد الحب والحبيب من غير أن يدري أنه في أعماق نفسه إنما يتعبد الذي خلق
فيه السر العجيب...
فالأوقات المملوءة بالمحبة هي أوقت الياقوت وأيام الأمل، تشابه عود
الزمرد، والأزمان التي تمضي بالصداقة تحاكي الفيروز، والأعمار التي تنقضي
بالوئام والاتحاد تكون كاللآلئ فهذه النفائس بعد أن يمضي وقتها، وبعد أن
تتزين بها النحور، يجب أن تصان في محافظ قيمة، يجب أن يعنى بشأنها لئلا
يصيبها أذى أو يعتورها فساد أو يلحقها غبار ينقص ويقلل من شأنها، فإذا ما
انقضى ربيع الحياة ومضت أنوار العمر وذبلت أزهار السرور والبسمات. فإن
إخراج هذه النفائس من مكامنها للتملي بمشاهدتها، وإعادة الذكريات الحلوة
برؤياها، وتجديد خواطر الصبا بواسطتها، سعادة يا لها من سعادة.
قرر الإسلام لكل من الزوجين حقوقا راعى فيها ما بينهما من مميزات
وفوارق طبيعية واجتماعية، فقد خلق الرجل على الجملة أقوى جسما وأصلب

520
عودا أثبت قلبا، فكان لذلك أقل تأثرا وأضبط عاطفة، وأوفر عقلا وكانت
لذلك وظيفته في الحياة خارجية، يكد ويعمل في طلب الرزق، ويحارب ويدافع
في المحافظة على المال والنفس والعرض، ويقوم على البيت وما يحوي من زوجة
وأولاد وخدم.
فهو يكدح أغلب عمره كي يوفر لهذا البيت سعادته وطمأنينته.. والواقع
أن العمل خارج البيت هو شريان البقاء للحياة داخل البيت.
والعمل خارج البيت معصوب برأس الرجل الذي زودته الأقدار بطاقة
موصولة على الكدح والمعاناة.
وكانت وظيفة الزوجة داخلية، أمومة ورضاع وتربية وتهذيب ونظافة
وتدبير. على هذا الأساس شرع الإسلام حقوق الزوجية وقررها، فأوجب على
الزوج أن يقوم بما تتطلبه الحياة من حاجات بقدر ما يتسع له زرقه من غير تقتير ولا
إسراف قال تعالى: " لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه
الله " " لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها " " سيجعل الله بعد عسر يسرا " وقال الرسول الأعظم
(محمد ص) في خطبة حجة الوداع: " إلا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن
وطعامهن ". وقال: " استوصوا بالنساء خيرا، فإنما هن عوان عندكم " وقال:
" أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وخياركم لنسائهم ". وسئل (ص) ما
حق زوجة أحدنا عليه. فقال: " أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت
ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في المبيت ". وقال: " كفى بالمرء
إثما أن يضيع من يقوت " وقال (ص): لا يترك مؤمن مؤمنة إن كره منها
خلقا رضي منها آخر ". والله تعالى يقول: " وعاشروهن بالمعروف ".
فالزوجة (كما ترى) عون للرجل فمن واجبه أن يعاملها المعاملة
التي تليق بها، فيكرمها ويحسن معاشرتها، فإذا ذلك دليل على كمال خلق

521
الرجل وتمام إيمانه، وإذا كان لا بد أن توجد في الإنسان بعض العيوب أو
الصفات التي لا يرضاها الآخر، فلا ريب أن هناك صفات كثيرة غيرها تعوض
عنها وتقوم مقامها وتدعو للإعجاب.
وليتدبر الأزواج قوله تعالى: " لينفق ذو سعة من سعته " وقوله (ص)
" أن تحسنوا إليهن " فليوسع على زوجته ما استطاع وليحسن إليها ما وجد،
فإن ذلك أبقى للمودة وأرعى للحرمة وأنفى لكفر النعمة.
وعلى الزوجة ألا تشتط في الطلب، وتلح في السؤال، فتطلب من زوجها
ما لا يستطيع، وتكلفه ما لا يقوى عليه فإنه إن أجاب فإلى دين ومذلة، ثم إلى
فقر ومسكنة، وإن رفض فإلى ضغن وبغضاء يذهبان بالمودة، ويقضيان على
المعاونة " لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ".
ولقيام الرجل بهذه النفقة كان له بالطبع نوع من الرعاية في بيته قال
الله تعالى: " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض، وبما
أنفقوا من أموالهم ".
وهذا نوع من الولاية يستوجب على الزوجة الطاعة لزوجها فيما يريده
منها، ما لم يكن معصية حرمها الله تعالى فتطيعه فيما تتطلبه الزوجية مما فيه
حفظ الدين والمال والكرامة والولد والعفاف. وفي ذلك يقول (ص): " لا يصلح
لبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها
لعظم حقه عليها ".
فلا بد للمرأة الصالحة من رعاية زوجها، بأن تهئ له المنزل الذي
يتحقق فيه السكون المرجو من الحياة الزوجية، وذلك لا يتحقق إلا بأداء
المرأة واجباتها نحو زوجها، يحدوها الإخلاص والوفاء والمحبة. يقول الرسول
الأكرم محمد (ص): " أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة ".

522
ويقول (ص): " خير النساء من تسرك إذ أبصرت، وتطيعك إذا أمرت، وتحفظ
غيبتك في نفسها مالك ".
فالمرأة كما ترى تلعب الدور الكبير في إيجاد الحياة الزوجية السليمة،
فهي مسؤولة عن بيت زوجها وحفظ ماله، كما أن عليها أن تبعد الريبة عن
نفس زوجها، فلا تدخل بيته من يكره حين غيابه.
وأساس الوفاق التفاهم المتبادل بين الرجل وامرأته، والطاعة والاتفاق،
فلا تشاكسه فيما يرغب ويرى من أمور. بل على المرأة أن تطيع زوجها إذا
أرادت أن تحظى لديه وتحفظ ركن البيت الزوجي دون شقاق. ولا تعني
إطاعتها أنها أذلت كبرياءها واتضعت قيمتها، وإنما الغاية في ذلك الانسجام
والوفاق عندما يقوم كل من الزوجين بواجبه الذي تفرضه عليه الحياة الزوجية
ويعرف المهمة الملقاة على عاتقه دون تبرم أو تقصير. وعندما يسود التعاون
والتآزر ويفهم كل من الزوجين طبيعة الآخر، يقوم البيت الزوجي على خير
الأسس، وتستقر الحياة الزوجية حتى النهاية. إلا أن جانب الرجل أحرى
وأولى بالرعاية باعتبار ولايته ورعايته على بيته: " الرجل قوامون على النساء
بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ".
وكما تستوجب هذه الولاية على الزوجة الطاعة، تستوجب على الزوج
النصيحة والإرشاد فيرشدها إلى ما فيه صلاحها من خلق ودين، قال تعالى:
" وأمر أهلك بالصلاة " وقال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم
نارا وقودها الناس والحجارة ".
وليعلم الزوج أنه مسؤول في ذلك فلا يسرف في الأمر، ولا يكلفها شططا
ولا يقصر في النصيحة قال تعالى: " فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا " وقال
رسول الله (ص): " الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ أو ضيع، حتى يسأل

523
الرجل عن أهل بيته ".
فإذا تبرجت المرأة فجاوزت حد الكمال فلم يمنعها كان مسؤولا أمام الله
وإذا أظهرت زينتها لغير من أحل الله فلم ينصحها سأله الله، وإذا خالطت
الأجانب فلم يحل بينها وبين ذلك أثم، وإذا نصحها فعصت أو منعها من الخروج
إذا رأى مصلحة فأبت، استوجبت الإثم. وفي ذلك يقول (ص): " ثلاثة
لا يدخلون الجنة أبدا: الرجل الديوث، والرجلة من النساء، ومدمن الخمر.
قالوا: يا رسول الله أما مدمن الخمر فقد عرفناه، فما الديوث؟ قال: الذي
لا يبالي من دخل على أهله. قلنا: فما الرجلة من النساء؟ قال: التي تتشبه بالرجال ".
ويتصل بهذا غيرة الرجل على زوجته، وهي طبيعة فاضلة إن لم تتجاوز
حدودها. قال رسول الله (ص): " كان إبراهيم غيورا وأنا أغير منه وجدع الله
أنف من لا يغار ".
وعلى الزوج ألا يسرف في الغيرة! وإلا سببت حقدا وولدت جفاء، وذهبت
بكرامة الزوجة. قال (ص): " إن من الغيرة غيرة يبغضها الله، وهي غيرة
الرجل على أهله من غير ريبة ". وقد نهى النبي (ص) أن يطرق الرجل أهله
ليلا يتخوفهم أو يطلب عثراتهم. قال تعالى: " ولا تجسسوا ".
وكما تستوجب هذه الولاية على الرجل النصح والإرشاد، وعلى الزوجة
الرضى والامتثال، كذلك تستوجب عليهما حسن المعاشرة. قال تعالى:
" وعاشروهن بالمعروف " وقال: " ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا، ومن يفعل
ذلك فقد ظلم نفسه، ولا تتخذوا آيات الله هزوا، واذكروا نعمة الله عليكم،
وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله... ".
وهذا الحق يشمل عدة خلال طيبة: يشمل العدل، فلا يبغي أحد

524
الزوجين على الآخر في قول أو فعل أو ظن. ويشمل الوفاء بالعهد فلا ينقض
أحدهما للآخر عهدا. ويشمل العفو والصفح فيغفر كل منهما للآخر هفوته
ويشمل عفة اللسان ولين الجانب، وحفظ الكرامة وحفظ الغيبة والعفاف، فلا
تسمح الزوجة لأحد بدخول بيت زوجها إلا بإذنه، لا سيما إذا كان مبغضا لديه
وفي ذلك يقول رسول الله (ص) في حجة الوداع: " فحقكم عليهن ألا يوطئن
فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ".
ومما يشمله أيضا: حسن الخلق والتلطف بالزوجة والرأفة بها وإيناسها
وفي ذلك يقول (ص): " أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا، وألطفهم بأهله "
ويقول (ص): " خياركم لنسائهم ". ويقول (ص): " استوصوا بالنساء خيرا "
وتلك خلال مشتركة وحقوق متبادلة. يقول الله تعالى فيها: " ولهن مثل الذي
عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم ".
والحذر الحذر من النفاق والرياء، فالحياة بها هموم وآلام، وليحذر
الزوجان الخيانة وإفشاء السر يفضي به أحدهما إلى صاحبه. قال رسول الله (ص)
" إن شر الناس منزلة يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر
أحدهما سر صاحبه ".
وكما تستتبع ولاية الزوج (على ما قدمنا) تتطلب منه أن يكون غفورا
لهنات زوجته، صبورا على ما يكره منها، وقد دعاه الله إلى ذلك ورغبه فيه
أحسن ترغيب، ونبهه إلى ما قد يكون في المكروه من الخير والمنافع حيث
يقول: " فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا "
وعند ذلك يتغير الرأي والحكم عليه، فإن لم يفد في ذلك عفوه وصبره، ولم يغير
مرور الزمن من نظره وحكمه، فللإصلاح حينئذ طرق مختلفة اختلفت باختلاف
البيئات، فإن النساء معادن والمعادن مختلفة متباينة يكفي في جلاء بعضها خفيف

525
المس، ولا يفيد في بعضها إلا نوع من العلاج يستعان فيه بشديد الدلك واستعمال
بعض السوائل والأخلاط.
ولما بيناه في علاقة الزوجة من المعاونة بين الزوجين واشتراكهما في
مرافق الحياة، وتماثلهما في الحقوق والواجبات، على حسب ما تقتضيه المصلحة
والطبيعة.
جعل الإسلام بدء هذه الرابطة مؤسسا على رضا الطرفين، فلهما الرأي.
وإنشائها دون أن يكون لأحد حق الالتزام بها جبرا فليس لأبي المرأة إكراهها
على تزوج من لا ترضاه، وكذلك ليس للولي حمل ابنه على تزوجه ممن لا يرضاها
ولحصول الزواج غالبا في أوقات لا يتم للعقل فيها نموه، ولا يزال لهوى
النفوس سلطان فيها على القلوب، جعل الإسلام لأولياء الزوجين رقابة على
اختيارهما حتى يوجههما إلى الخير ويجنبوهما أسباب الطيش وسبل الهوى.
أما إنهاء هذه العلاقة فقد تدعو إليه الضرورة ويتعين طريق ووسيلة لدفع
شرور ماحقة كثيرا ما تطغى فتتجاوز الزوجين إلى الأقارب والمجتمع، ولمثل
هذا شرع الطلاق، وفي مثل هذه الظروف قرره الإسلام، وجعله بيد الزوج لأنه
أبعد نظرا وأقل تأثرا، وأعرف بالعواقب وأحرص على إبقاء هذه العلاقة في
كثير من الأحوال.
إذا دب الشقاق إلى البيت، وتعذر جمع شمله، وتنافر ود أهله، فلا محيص
من الفرقة بين الزوجين. والفرقة أمر بغيض، وقد يتعدى شرها الزوجين إلى غيرهما
ولذلك لا يصار إليها إلا بعد اليأس من المصالحة، واستئناف حياة أهدأ أو أطيب
والمفروض من التئام شمل الأسرة إقامة حدود الله. فيعف أحدهما الآخر
ويعينه على السكينة النفسية ويمكنه من أداء واجباته الاجتماعية والتفرغ لإتقانها
فإذا استحال ذلك فلكلا الزوجين أن يترك الآخر...

526
ونبدأ بحق الزوجة في الانفصال، لو جازت الكلام فيه.
إذا أبغضت المرأة زوجها فإن إمساكها بالعصا لا معنى له، وليس المقصود
من البيت أن تتحول جدرانه إلى سجن تحبس المرأة فيه بقوة القانون ورجال
الشرطة. قال تعالى: " أمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ".
ومهما كان الرجل محبا لزوجته، فإن رفضها البقاء معه يجب أن يقدر
ويجاب.
وقد أعطاها الشارع - والحالة هذه - حق الخلع، وهو أن ترد على
زوجها المهر الذي دفعه ويحكم القضاء بالفرقة. قال تعالى: " فإن خفتم ألا
يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به ".
ولم تكن الزوجة في الإسلام مع ما قدمناه من حقوق سببا لحرمان
المرأة من أي حق مقرر لها باعتبارها أحد أفراد الهيئة الاجتماعية، فلا مع
الزوجية حقوق الملك كاملة تبيع وتشتري وتلتزم وتتعاقد وتتصرف بجميع
التصرفات المالية من غير حجر عليها أو توقف على إذن زوجها، تتصدق على من
تشاء، وتوقف مالها إن أرادت وتبيعه إن رأت، ولها حق الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر.
وهي مكلفة بما يكلف به كل مؤمن من الفرائض والواجبات ومطالبة بما
يطالب به كل مؤمن من بر وإحسان.
الإسلام يعد الزواج من العبادات. ويرفض وصف النزوع الجنسي بأنه دنس
ما دام يتحرك في حدود الشريعة، ويمشي وفق ضوابطها. إن الشخص الذي يطعم
باسم الله ويستغل القوى المذخورة في بدنه في مرضاة الله شخص صالح، وكذلك
الرجل يفضي إلى المرأة أو المرأة تفضي إلى الرجل، وكلاهما ما يستحل
الآخر إلا باسم الله. إن هذه الصلة قربة.. ومن ثمرتها يتصل موكب الحياة

527
على ظهر الأرض. ويزداد الإيمان قوة بما ينضم إلى الآباء من أولاد. ولذلك
يقول الله جل شأنه: " فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم ".
وقد شرد بعض الناس عن الجادة، وظن اعتزال النساء عبادة، فأنكر
عليهم النبي (ص) ذلك، وقرر أن الزواج من سنن النبوة قال تعالى: " ولقد
أرسلنا رسلا من قبلك، وجعلنا لهم أزواجا وذرية... " وطبيعي أن الزواج
يكون عبادة مطلوبة ممن توافرت لديه دواعيه المادية والمالية.
أما الذين ضعفت غرائزهم، أو لا طاقة لهم على تكوين أسرة، فهم
معذورون.
ولما ذا ينكل الرجل عن الزواج، وهو في المرأة راغب وعلى نفقتها قادر؟؟
إن هذا القعود مظنة شر، أو هو الشر عينه. ولو قدرنا أن رجلا رائع
العزم استطاع أن يقهر مطالب هذه الغريزة الجنسية. وأن يخرس نداءها
في دمه فما هي قيمة هذا الانتصار؟
وما نتيجة تلك الرهبانية؟
نتيجتها تغليب الفناء على الحياة، والسلبية على الإيجابية.
ثم إن رضوان الله لا ينال بتلك الوسيلة القاهرة.
أيهما أنفع لقضايا الحق وأجدر بوصف الإيمان، وأجدى على جماهير الخفق:
هندي يصوم شهورا، ولا يتحرك من شدة الهزال. أم فارس يخوض المعارك
لنصرة العدالة وإنصاف المظلومين وتفجير ينابيع الخير، وتيسير مرافق الأرض
له ولأولاده والناس أجمعين؟
إن الإسلام آثر الطريق الآخر، ورفض مزاعم الجهاد النفسي عند
الرجل الأول.
وعند التأمل نرى اللون الثاني من الجهاد أشق وأيمن. ولذلك يقول

528
رسول الله (ص): " رهبانية أمتي الهجرة والجهاد والصوم والصلاة والحج والعمرة "
وهذا الحديث واضح في الدلالة على المنهج العملي الإيجابي للإسلام..
ولكن هل كبت الرهبانية يتبعه حقا صفاء النفس ونصاعة الضمير؟..
إن ذلك ما نماري فيه، بل نجزم أن إلحاح الوساوس وتنغيص العقد يملأ
الحياة الإنسانية في هذه الأحوال.
وقلما يصفو إيمان أو يكتمل دين مع هذه الأحوال، ولذلك حث نبي
الإسلام على الزواج حثا بالغا قال: " إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين
فليتق الله في النصف الباقي ".
وقال: " من أراد أن يلقى الله طاهرا مطهرا فليتزوج ".
وقال: " معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض
للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء ".
وقال: " ما استفاد المؤمن بعد تقوى الله خيرا له من زوجة صالحة، إن
أمرها أطاعته، وإن نظر إليها سرته، وإن أقسم عليها أبرته، وإن غاب عنها
نصحته في نفسها وماله ".
فلما ذا إذن ينكل الشاب عن الزواج، وهو في المرأة راغب وعلى نفقتها
قادر؟؟
كتب الشيخ (بهي الخولي) يشرح: " لما ذا يمتنع الشباب عن الزواج "
فقال:
" يمتنع عن الزواج، لأن الزواج قيد يحجزه عن التخوض فيما يشاء
من اللذة المتجددة، فقد أقبلت عوامل التطور الحديث على كثير من المجتمعات
الغربية بحريات واسعة في الفكر، والقول، والعقيدة، والسلوك الخاص،
وأنشأت لهم أهدافا في المال، والمنفعة واللذة الحسية، تعارض ما كان لهم من

529
أهداف روحية، ومقاييس لمعاني العرض والعفة، وصار لكل منهم حريته
الواسعة في حياته الخاصة يفعل فيها ما يريد، دون رقابة من قانون أو تحرج
من عرف، بل يفعل ما يريد بتحريض من العرف، وعطف من المجتمع.
وكان من ذلك أن تفجرت الشهوات وسادت عبادة الجنس، وراح جنون
اللذة يستبد بألباب كثير من أفراد تلك المجتمعات، فرأوا في الزواج قيدا
يحد من حرياتهم في ابتغاء ما يريدون، فنبذوا حياة الأسرة وركنوا إلى
المخالة والمخادنة، كلما فترت رغبة أحدهم في خليلة، أو فترت رغبتها هي
فيه انصرف كل منهما عن صاحبه إلى حيث يجد اللذة في رغبة جديدة، وسوق
أشد...
ولا شك أن ذلك يفضي إلى قلة النسل، أي إلى تناقص عدد السكان
وضعف الأمة في مقوماتها العددية، ومقوماتها المعنوية، وقد ظهرت آثاره السيئة
منذ عشرات السنين في بعض البيئات الأوربية، وأخذت في الازدياد والنمو
والاتساع حتى شملت كثيرا من الدول.
وها نحن أولاء نرى كثيرا من علماء الاجتماع يدقون نواقيس الخطر
وينذرون أممهم - إذ تهمل حياة الأسرة - سوء المصير بانهيار الأخلاق وانحلال
روابط المجتمع، وانقراض النسل، ولقد وقف المارشال (بيتان) غداة احتلال
الألمان فرنسا في الحرب العالمية الأخيرة، ينادي قومه إلى الفضيلة ويعزو
الهزيمة إلى هجر حياة الأسرة. فكان مما قاله:
" زنوا خطاياكم فإنها ثقيلة في الميزان، إنكم نبذتم الفضيلة، وكل
المبادئ الروحية. ولم تريدوا أطفالا، فهجرتم حياة الأسرة وانطلقتم وراء
الشهوات تطلبونها في كل مكان، فانظروا إلى أي مصير قادتكم الشهوات ".

530
ومن رغب المزيد فليراجع إلى تآليفنا (1) فللتعبير هناك معنى جديد.
* * *
وليكن ختام المطاف ما نقطفه للقارئ من كتاب (حكمة التشريع
وفلسفته) من وصايا ملذة رقيقة، ليرى ما فيها من جلال وجمال، وفيها من
حكم وعرفان، يرتاح لهما الضمير ويطمأن بهما الخاطر.
" نصحت سيدة من سيدات العرب وهي (أمامة التغلبية) إلى ابنتها (أم
أياس بنت عوف) وكان ذلك قبل زفافها، فقالت لها:
" يا بنية لو كانت الوصية تترك لفضل أدب، أو لتقدم حسب، لزويت
ذلك عنك ولأبعدته منك، ولكنها تذكرة للعاقل ومنبهة للغافل. يا بنية لو
استغنت امرأة عن زوج بفضل مال أبيها لكنت أغنى الناس عن ذلك، ولكن
للرجال خلقنا كما خلقوا لنا. يا بنية إنك فارقت بيتك الذي منه خرجت،
والعش الذي فيه درجت، إلى وكر لم تعرفيه وقرين لم تألفيه، فكوني أمة
يكون لك عبدا. واحفظي مني خصالا عشرا يكن لك ذكرا وذخرا.
أما الأولى والثانية: فالصحبة والقناعة، والمعاشرة بحسن السمع والطاعة
فإن في القناعة راحة القلب، وفي حسن المعاشرة مرضاة الرب.
وأما الثالثة والرابعة: فالتعهد لموضع عينيه، والتفقد لموضع أنفه، فلا
تقع عيناه منك على قبيح، ولا يشم أنفه منك إلا أطيب ريح. واعلمي يا بنية
أن الماء أطيب الطيب المفقود.
وأما الخامسة والسادسة: فالتعهد لوقت طعامه والتفقد لحين منامه، فإن
حرارة الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة.
وأما السابعة والثامنة: فالاحتفاظ ببيته وماله، والرعاية لحشمه وعياله



(1) الجواهر الروحية بأجزائه الثلاث. وعلي والأسس التربوية.
531
فإن حفظ المال أصل التقدير، والرعاية للحشم والعيال من حسن التدبير.
وأما التاسعة والعاشرة: فلا تفشين له سرا، ولا تعصين له أمرا، فإنك
إن أفشيت سره لم تأمني غدره، وإن عصيت أمره أوغرت صدره.
واتقي من ذلك الفرح كله إن كان ترحا، والاكتئاب إن كان فرحا.
فإن الأولى من التقصير، والثانية من التكدير. وأشد ما تكونين له موافقة
أطول ما يكون لك مرافقة. واعلمي يا بنية أنك لا تدرين على ذلك حتى
تؤثري رضاه على رضاك، وتقدمي هواه على هواك فيما أحببت أو كرهت.
والله يضع لك الخير وأستودعك الله ".
نصيحة قدماء الفراعنة للزوجين:
قد وقفت على نصيحة سيدة من سيدات العرب، وشريفة من أشرافها،
والآن نذكر لك نصيحة قدام ء الفراعنة للزوجين لأجل أن تعلم أن الحياة
الحقيقية بين المرء وزجه لا تكون إلا بالمعاشرة بالحسنى وبالمعاملة الطيبة والرفق
ولين الجانب، وبذلك تسعد حياة الزوجين، ويصير كل منهما في عيشة راضية "
انظر إلى النصيحة التي تسدى إلى الفتاة:
" حافظي على شرفك، وإياك أن تؤلمي أبا أو أما. إذا تزوجت
فاحترمي زوجك وقدري كلمته. اغتنمي فرصة مجيئه بعد العمل، وكوني مخففة
له بابتساماتك وملاطفتك له. لا تعصي لزوجك أمرا وبخاصة إذا كان قد تشدد
فيه، فإن المشادة بين الطرفين حرية بأن تنتهي بقطع حبل علاقة الزوجية،
وفي ذلك خراب له وكساد وفساد لك. اذكري أهله بالحسنى، احترمي أمه،
واعلمي أنها أمه قبل أن تكوني زوجته. وإن الله فرض عليه طاعتها وحبها.
احترمي أباه واتخذيه لك أبا.

532
أما أولادك فإنهم قطعة من جسدك ودمك، فليكن اعتناؤك بأمرهم همك
الأول، ولتخرجي لمصر جيلا سعيدا محبا لوطنه وأهله. أنت في منزلك ملكة
تديرين مملكة مصغرة فبرهني على أنك كفؤ لهذا المنصب كي ترضى عنك الآلهة.
وهاك النصيحة التي تسدى إلى الرجل:
كن سيدا في منزلك، وأحب امرأتك حبا خالصا، أعطها كفايتها
من الطعام، واستحضر لها أصنافا مختلفة من الملابس، واشتر لها العطر فإنها
تحبه، اجعلها سعيدة ما دمت حيا، فإن المرأة مرآة لزوجها ينعكس ما
يبذله في سبيل سعادتها ورغدها. لا تكن خشنا في بيتك فاللين يحرك قلب
المرأة، بينما الغلظة وعدم المجاملة تستفزانها.
إعط امرأتك كل ما تريد إن كان لك إلى ذلك سبيل. راضها وأرضها
تعش سعيدا، وإلا كان مصيرك الخراب.
قربها إليك، وسمها بأسماء معززة، وجلها واحترمها، أظهر لها حبك
وحنانك دائما، وإياك وغضب الأم فإنها إن تضرعت إلى الله وشكتك فإن الله
سميع لها شكايتها ويعاقبك على ذلك ".
وصفوة القول: يطلب من الزوجة أن تكون في بيت زوجها راعية،
ومؤتمنة موكلة وربة مملكة، رعيتها البنات والبنون، والزوج الرؤوم، والبيت
وما وعى، والمال والخدم، فلتكن للأولاد خير مربية، ولزوجها خادما طائعة
وفي بيتها حكيمة مدبرة، وعلى المال قائمة راعية حافظة له منمية، ولخدمها
قدوة صالحة، ترشدهم إلى الواجب، وتهديهم إلى الصالح، تهذب أخلاقهم وتقوم
بواجبهم، تراقب سيرهم وترعى نفوسهم، ولا تهجر في زجرهم.
وبعبارة أخرى: نريد من الزوجة بيتا نظيفا منظما، وولدا صحيحا
مؤدبا، ومالا مرعيا وطعاما شهيا وثمرا جنيا، وطاعة لزوج في معروف وأدبا

533
في منطق وكمالا في نفس، ونظافة في بدن وزي، وفي ولد وخدم. فإن فعلت
ذلك فنعمت الراعية، ونعمت من ترعى.
وإن الزوجة المسؤولة أمام الله عن هذه الرعية: أقامت بواجبها أم قصرت
في حقها، فإن كان القيام فروح وريحان وجنة نعيم. وإن كان التقصير فنزل من
حميم وتصلية حجيم. فلتتق الله الزوجات ولا يكن كل همهن الطعام والشراب،
وزيارة الأحباب، والتفنن في الزينات، والمشي في الطرقات، أما البيت وتدبيره
والولد وتقويمه والزوج وشئونه فلا عناية ولا رعاية. ذلك شين في الدين الخطر
فيه كبير، والوزر عظيم، والحساب عليه عسير.

534
حق المملوك

535
قوله عليه السلام:
" وحق مملوكك أن تعلم أنه خلق ربك، وابن أبيك
وأمك ولحمك ودمك، لم تملكه لأنك صنعته دون الله تعالى
ولا خلقت شيئا من جوارحه ولا أخرجت له رزقا، ولكن
الله عز وجل كفاك ذلك ثم سخره لك، وأتمنك عليه
واستودعك إياه، ليحفظ لك ما تأتيه من الخير إليه، فأحسن
إليه كما أحسن الله إليك، وإن كرهته استبدلت به ولم تعذب
خلق الله عز وجل ".
* * *
لقد أفضت في القول عن الرقية في غير موضع من هذه الدروس، وأراني
الآن على ضوء كلمة الإمام (عليه السلام) حريصا أن لا يفوتني البحث عنها ولو بطريق
الإيجاز، على أن التعبير هنا يزيد معنى جديدا.
يوصينا الإمام (عليه السلام) بملك اليمين. ويوصينا الله كذلك، ورسوله فيما
ملكت أيماننا.
وإنما تتكاثر الوصايا علينا في ملك اليمين، لأنه شئ مملوك وضعيف ولا بد
أن الإنسان يرى في نفسه أنه قادر على التصرف بكل ما ملكت يمينه من
شئ، فيذهب به هذا إلى أشياء غير حسنة.
وهنا يعلل الإمام وصيته في الرفق بملك اليمين، الإنسان المالك لم يكن

537
هو الذي خلق هذا المملوك، ولا هو الذي أعطاه سمعا ولا بصرا، ولا هو الذي
أجرى له رزقا، وإنما الله هو الذي تكفل بهذه جميعا. فهو الذي جعل له
السمع والبصر والفؤاد، وهو الذي أوفر من أمره كل شئ، وبعد ذلك جعله
مسخرا للمالك يتصرف لا بنفسه ولا بروحه ولا بكل شئ فيه، وإنما للمالك
فقط حق الأمر، وعلى المملوك حق الطاعة إلا فيما يخالف أمر الله.
وليس للمالك أن يرهق عبده من أمره عسرا، فإذا أمره بأمر لا يطيقه
فليعنه وليأخذ من يده كما أمرنا بذلك رسول الإنسانية (محمد ص)، وليس
العبد أو المملوك وراء ذلك إلا خلقا إنسانيا مشابها للخلق الإنساني في الحرية
فيجب أن يساوي في جميع الحقوق التي يتمتع بها الحر المالك من مأكل
ومشرب وملبس. وليس للمالك أن يعذب مملوكه في غير شئ، فإن كان قد
كرهه فما أيسر التخلص منه والاستبدال به مملوكا آخر.
والإسلام ذو رأي ندي رفيق في الرقيق، فهو أولا لا يميل إلى الرقية
بطبعه وإنما يميل إلى إلغائها بصورة تدريجية، عن طريق وسائل عديدة يمكن
بها التقليل من عدد المماليك، ثم إنهائهم آخر الأمر وإعتاقهم وإعطائهم الحرية
الكاملة ومساواتهم بالناس الأحرار الآخرين.
وهو يرى أن العبد ذو نفس إنسانية كالنفس التي في الحر لا فرق بينها
وبينها بشئ.
وكلنا يعرف رأي بعض فلاسفة اليونان في المماليك والرقيق، وهو أن
ليس للرقيق روح مثل الروح التي في الأحرار، وإنما هي روح غير إنسانية
(بمعنى أنها روح حيوانية لا تفترق عن روح سائر الحيوانات) لذلك فهي
مسخرة لنا وتحت تصرفنا.
ومن هنا يرى هذا البعض من الفلاسفة حق المالك في حياة مملوكه أو

538
مماته. وأكثر من ذلك فالبعض الآخر من هؤلاء الفلاسفة لا يرى روحا للعبد
ويرى أنه من فصيلة أخرى غير فصيلة الإنسان، إلى غير ذلك من الآراء
التي لا تتلاءم وواقع الإسلام.
والإسلام إن لم يصل إلى إلغاء الرقية إلغاء تاما فهو يسعى جهده
بالوسائل الكثيرة للتخفيف من كثرة الرقيق.
ولا نريد نحن أن نعود إلى موضوع الرقيق مرة ثانية فقد استوفيناه
في مبحث الرقيق من هذا الكتاب.
وإنما حاولنا أن نعلم أن الإمام (عليه السلام) يمثل رأي الإسلام الصريح في الرق
والنبي (ص) يقول: " أرقاءكم فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما
تلبسون، وإن جاؤوا الذنب لا تريدون أن تغفروه فبيعوا عباد الله ولا تعذبوهم "
ويقول: " أرقاءكم إخوانكم فأحسنوا إليهم، واستعينوهم على ما غلبكم
وأعينوهم على ما غلبهم ".
جاء عن معرور بن سويد قال: " رأيت أبا ذر الغفاري (رضي الله عنه)
وعليه حلة، وعلى غلامه حلة، فسألته عن ذلك فقال: إني ساببت رجلا
فشكاني إلى النبي (ص) فقال النبي (ص): أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك
جاهلية. ثم قال: إن إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان
أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم
فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم ".
إن معرور بن سويد لقي أبا ذر بالربذة، وعليه حلة وعلى خادمه مثلها
فسأله كيف يلبس خادمه مثل ما يلبس، وذلك غير معهود. فأجابه ببيان
السبب. وأنه حصل بينه وبين شخص سباب ومشاتمة، وأنه عايره بأمه وعابه

539
بها، وقال له يا ابن الأعجمية أو يا ابن السوداء، أو شاكل ذلك من الكلمات.
فشكاه إلى النبي (ص) فقال له الرسول أعيرته بأمه؟ منكرا عليه ذلك، إذ
الأم لا دخل لها في الخصام، " لا تزر وازرة وزر أخرى " وقال له: إنك
امرؤ فيك جاهلية (أي خصلة من خصالها التي قضى عليها الإسلام أن تعتدي في
الخصام) فتجاوز الخصم إلى أبيه وأمه وما لها من ذنب إليك. ثم أوصاه هذه
الوصية القيمة التي رفعت من شأن الخدم إلى درجة المخدومين والسادة.
فبين الرسول (ص) أن الخدم والمماليك إخوان في الدين أو في الإنسانية
وكان الظاهر أن يقول: خولكم إخوانكم. ولكن قدم ما أصله التأخير اهتماما
بالأخوة. وأنه لا ينبغي أن تنسبها الخدمة. وهل الخدمة إلا إعانة. فكيف
تجعلها سبب تحقير وإهانة؟ إن الأخوة وحدها داعية التبجيل والإكرام.
فكيف إذا انضمت إليها الخدمة، والمعونة والمساعدة؟ كنت تحسب
أنك تطعم الخادم وتسقيه، وتكسوه وتؤويه أو تنقده أجرا على خدمته، فلا
تنس أنه يقوم لك بأمور أنت مضطر إليها في حياتك، وكثيرا ما تعجز عن
معالجتها، والقيام بها، فهو يكمل نقصك، ويوفر عليك وقتك، ويحقق
غرضك، وتصور الوقت الذي تفقد فيه الخادم كيف تعتل أمورك ويقف دولابك
ويختل النظام وتتعسر الحاجات؟ فالذي يكفيك شؤونك، ويحقق مصالحك
جدير بمعونتك، خليق برعايتك، فهؤلاء الخدم الإخوان جعلهم الله تحت
يدك، ومكنك منهم بالملك أو الأجر، وصاروا مسخرين لك طواعية واختيارا
فالواجب عليك العناية بهم والإحسان إليهم.
يقول الله تعالى: " واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وبالوالدين إحسانا
وبذي القربى.... وما ملكت أيمانكم " فتطعمهم من جنس ما تطعم، فلا
تعد لهم طعاما دون طعامك، ولا عيشا دون عيشك، وكيف تستمرئ طعاما

540
يطهوه الخادم ويعده، وعينه إليه ناظرة، ويده فيه عاملة فتأكله كله، ولا تبقي
له بعضه، أما تخشى سم عينيه؟ فإن كان طبيخك لحما وأرزا، وخضارة وحلوى
فأبق له من كل ولا تحرمه من بعض وخل عنك الكبر والتعاظم: فلولا هذا
ما طعمت الشهي، ولا شربت الهني، وكذلك تلبسهم مما تلبس، وإن لم يكن
مثله من كل الوجوه فإن المدار على المواساة.
قال رسول الله (ص): " إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه
معه فليناوله لقمة أو لقمتين، أو أكلة أو أكلتين فإنه ولي علاجه ". فالغرض أن
تكون نفوسهم قانعة، وبحالهم راضية، وقد نهانا الرسول (ص) أن نكلفهم من
الأعمال ما يشق عليهم، ويهد من قوتهم، أو يستفرغ جهدهم، بل التكليف بالسهل
المستطاع الذي لا يسأمه الخادم، فإن كلفناهم بالشاق وجب علينا أن نعينهم
بنفوسنا أو بخدم إلى خدمنا. والحديث نصر للخدم والأخذ بيدهم، ورفع
لمستواهم وتنبيه لهم إلى حقوقهم قبل ساداتهم، وإرشاد لأرباب البيوت أن يقفوا
منهم موقف العدالة، ولا يتناسوا رابطة الأخوة، ولا تبادل المنافع، وفيه النهي
عن السباب للخدم وعدم التعرض لآبائهم وأمهاتهم بما يسوؤهم، أو يحط من
قدرهم.
كما أنه يجب على الخادم أيضا أن يكون راع في مال سيده وحافظ مؤتمن
فليرعه كما يرعى ماله، ينميه بما استطاع، ويحفظه من الضياع. يرحم حيوانه
ويرأف به، ويتفقد صالحه وخيره أليس من هذا المال يطعم ويشرب ويلبس ويسكن؟
أليس منه يتخذ الأجر؟ فلم لا يكون فيه أمينا، وعلى تثميره حريصا. وإذا كان
مكلفا برعاية المال فما بالك برعاية الأهل والولد فلا يخن سيده في ماله أو ولده
أو أهله وليبعد عنهم الدنس والدنايا، ولينصح لسيده في كل ما له صلة به والدين
النصيحة، وليعلم أن الله سائله عن كل ذلك.

541
حق الأم

543
قوله عليه السلام:
" فحق أمك أن تعلم أنها حملتك حيث لا يحمل أحد أحدا
وأطعمك من ثمرة قلبها ما لا يطعم أحد أحدا، وأنها وقتك
بسمعها وبصرها، ويدها ورجلها، وشعرها وبشرها. وجميع
جوارحها، مستبشرة فرحة، محتملة لما فيه مكروهها وألمها وثقلها
وغمها، حتى دفعتها عنك يد القدرة، وأخرجتك إلى الأرض،
فرضيت أن تشبع وتجوع هي، وتكسوك وتعرى، وترويك
وتظمى وتظلك وتضحى، وتنعمك ببؤسها وتلذذك بالنوم بأرقها وكان
بطنها لك وعاء وحجرها لك حواء وثديها لك سقاء، ونفسها لك وقاء
تباشر حر الدنيا وبردها لك ودونك. فتشكرها على قدر ذلك ولا
تقدر عليه إلا بعون الله وتوفيقه ".
* * *
بهذه العبارات الندية والصور الموحية، يستجيش الإمام وجدان البر
والرحمة في قلوب الأبناء.
ذلك أن الحياة وهي مندفعة في طريقها بالأحياء، توجه اهتمامهم القوي
إلى الأمام.
إلى الذرية، إلى الناشئة الجديدة. إلى الجيل المقبل. وقلما توجه اهتمامهم
إلى الوراء. إلى الأبوة. إلى الحياة المولية. إلى الجيل الذاهب! ومن ثم تحتاج

545
البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة لتنعطف إلى الخلف، وتتلفت إلى الآباء والأمهات
إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد، إلى التضحية بكل شئ
حتى بالذات. وكما تمتص النابتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات،
ويمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشر، كذلك يمتص الأولاد كل
رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين، فإذا هما شيخوخة
فانية - إن أمهلهما الأجل - وإذا هما مع ذلك سعيدين!
فأما الأولاد فسرعان ما ينسون هذا كله، ويندفعون بدورهم إلى الأمام
إلى الزوجات والذرية... وهكذا تندفع الحياة.
ومن ثم لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء، إنما يحتاج الأبناء إلى
استجاشة وجدانهم بقوة، ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقه كله حتى
أدركه الجفاف!
ويصور الإمام (سلام الله عليه) هنا تلك التضحية النبيلة الكريمة الواهبة
التي تتقدم بها الأمومة، والتي لا يجزيها أبدا إحسان من الأولاد مهما أحسنوا
القيام بحقها.
وتركيب هذه الألفاظ وجرسها من الإمام (عليه السلام) يكاد يجسم العناء والجهد
والضنى والكلال، الذي تتحمله الأم أيام الحمل وأثناء الوضع. " حملته كرها
ووضعته كرها " لكأنها آهة مجهد مكروب، ينوء بعب ء ويتنفس بجهد ويلهب
بالأنفاس! إنها سورة الحمل وبخاصة في أواخر أيامه وسورة الوضع وطلقه وآلامه
ويتقدم علم الأجنة فإذا به يكشف لنا في عملية الحمل عن جسامة التضحية
ونبلها قي صورة حسية مؤثرة.
إن البويضة بمجرد تلقيحها بالخلية المنوية، تسعى للالتصاق بجدار
الرحم. وهي مزودة بخاصية أكالة، تمزق جدار الرحم الذي تلتصق به وتأكله

546
فيتوارد دم الأم إلى موضعها حيث تسبح هذه البويضة الملقحة دائما في بركة من
دم الأم، الغني بكل ما في جسمها من خلاصات، وتمتصه لتحيا به وتنمو. وهي
دائمة الأكلان لجدار الرحم، دائمة الامتصاص لمادة الحياة، والأم المسكينة
تأكل وتشرب وتهضم وتمتص، لتصب هذا كله دما نقيا غنيا لهذه البويضة الشرهة
النهمة الأكول!
وفي فترة تكوين عظام الجنين يشتد امتصاصه للجير من دم الأم فتفتقر
إلى الجير، ذلك أنها تعطي محلول عظامها في الدم ليقوم به هيكل هذا الصغير!
وهذا كله قليل من كثير!
ثم الوضع، وهي عملية شاقة ممزقة، ولكن آلامها الهائلة كلها لا تقف في
وجه الفطرة، ولا تنسى الأم حلاوة الثمرة، ثمرة التلبية للفطرة، ومنح الحياة
نبتة جديدة تعيش وتمتد.. بينما هي تذوي وتموت!
ثم الرضاع والرعاية، حيث تعطي الأم عصارة لحمها وعظمها في اللبن،
وعصارة قلبها وأعصابها في الرعاية، وهي مع هذا وذاك فرحة سعيدة رحيمة
ودود. لا تمل أبدا ولا تكره تعب هذا الوليد. وأكبر ما تتطلع إليه من جزاء
أن تراه يسلم وينمو. فهذا هو جزاؤها الحبيب الوحيد!
فأنى يبلغ الإنسان في جزاء هذه التضحية مهما يفعل، وهو لا يفعل إلا
القليل الزهيد؟ لذلك صارت الأم - بطبيعة الحال - تحتمل النصيب الأوفر من العناية
والرعاية، لما تجود به من انعطاف أشد وأعمق، وأحنى وأرفق.
وصدق رسول الله (ص) قد جاءه رجل كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها
فسأله هل أديت حقها؟ فأجابه: " لا، ولا بزفرة واحدة ".
هكذا.. ولا بزفرة واحدة.. في حمل أو في وضع، وهي تحمله وهنا على وهن

547
وجاءه رجل آخر قائلا: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟
قال: " أمك " قال: ثم من؟ قال: " أمك " قال: ثم من؟ قال: " أمك " قال
ثم من؟ قال: " أبوك ". وقال (ص): " يوصيكم الله بأمهاتكم، ثم يوصيكم
بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب ". وقال (ص)
" الجنة تحت أقدام الأمهات ".
كان رجل من النساك يقبل كل يوم قدم أمه، فأبطأ يوما على إخوته،
فسألوه فقال: كنت أتمرغ في رياض الجنة، فقد بلغنا أن الجنة تحت أقدام
الأمهات.
" وعن عباس بن مرداس أنه قال: يا رسول الله إني أريد الجهاد. قال:
ألك أم؟ قال: نعم. قال: الزم أمك فإن الجنة عند رجل أمك ". (1)
وقال (ص): " ولا ينبغي للرجل أن يخرج إلى الجهاد وله أب أو أم إلا
بإذنهما ". لأن برهما واجب، والتحرز عن عقوقهما فرض عليه بعينه. قال
صلى الله عليه وسلم: " ليعمل البار ما شاء فلن يدخل النار. وليعمل العاق
ما شاء فلن يدخل الجنة ". وقال: " من أصبح ووالداه راضيان عنه فله بابان
مفتوحان إلى الجنة ". فلا ينبغي له أن يسد هذا الباب بالخروج بغير إذنهما (2)
وشكى رجل إلى رسول الله (ص) سوء خلق أمه، فقال (ص): " إنها
لم تكن سيئة الخلق حين حملتك تسعة أشهر، وحين أرضعتك حولين، وحين
سهرت لك ليلها وأظمأت نهارها. فقال الرجل: إني جازيتها وحججت بها على
عاتقي فقال (ص): ما جازيتها ولا طلقة ".
وكان (ص) يقول: " حق الوالد أن تطيعه ما عاش، وأما حق الولدة



(1) شرح كتاب السير الكبير للشيباني.
(2) نفس المصدر.
548
فهيهات هيهات لو أنه عدد رمل عالج وقطر المطر أيام الدنيا قام بين يديها ما عدل
ذلك يوم حملته في بطنها ".
جاء في تفسير (روح المعاني) للآلوسي:
لأمك حق لو علمت كبير * كثيرك يا هذا لديه يسير
فكم ليلة باتت بثقلك تشتكي * لها من جراها أنة وزفير
وفي الوضع لو تدري عليها مشقة * فمن غصص كاد الفؤاد يطير
وكم غسلت عنك الأذى بيمينها * وما حجرها إلا لديك سرير
وتفديك مما تشتكيه بنفسها * ومن ثديها شرب لديك نمير
وكم مرة جاعت وأعطتك قوتها * حنوا وإشفاقا وأنت صغير
فآها لذي عقل فيتبع الهوى * وآها لأعمى القلب وهو بصير
فدونك فارغب في عميم دعائها * فأنت لما تدعو به لفقير
قال معروف الرصافي:
أوجب الواجبات إكرام أمي * إن أمي أحق بالإكرام
حملتني ثقلا ومن بعد حملي * أرضعتني إلى أوان فطامي
ورعتني في ظلمة الليل حتى * تركت نومها لأجل منامي
جاء رجل إلى رسول الله (ص) قال يا رسول الله: أي الوالدين أعظم
حقا. قال (ص): " التي حملته بين الجنبين وأرضعته الثديين، وحضنته على
الفخذين، وفدته بالوالدين "
لم يكتف (ص) ببيان الحقيقة حتى شفعه ببيان ما تتحمله الأم من العناء
في حضانة الولد وتربيته بعد الولادة، وتغذيتها إياه لبابا من جسدها، وكونها
وعاء له قبل ولادته، تحمل أرقه وتنوء بعبئه، كما أنها تربيه على فخذيها،
تنظر منه زهرة حياتها، وتشم عرف كيانها، تناغيه وتفديه بالوالدين من فرط

549
جهالة إلى ما هو شر.
جاء عن مهزم ابن أبي بركة الأسدي قال: وقع بيني وبين أمي كلام
فأغلظت لها، فلما كان من الغد صليت الغداة وأتيت أبا عبد الله (عليه السلام) فدخلت
عليه فقال لي مبتدءا: " يا مهزم ما لك ولخالدة أغلظت لها البارحة، أما علمت
أن بطنها منزلا قد سكنته، وأن حجرها مهدا قد اخترته، وأن ثديها وعاءا
قد شربته. قلت: بلى، قال: فلا تغلظ لها ".
هذا كله هو الذي أوجب للأم عظم الحق والأولوية بالرعاية، وكونها
أولى بالطاعة من الوالد الذي لا صلة له بجل تلكم الأتعاب والمشاق.
يحدثنا صاحب (روضة الواعظين): عن الإمام الباقر (عليه السلام): " إن موسى
ابن عمران قال: يا رب أوصني قال: أوصيك بي. قال: يا رب أوصني. قال:
أوصيك بي ثلاثا. قال: يا رب أوصني. قال: أوصيك بأمك. قال: يا رب
أوصني. قال: أوصيك بأمك. قال: يا رب أوصني. قال: أوصيك بأبيك ".
وفي رواية أخرى " إن الله قال له: يا موسى ألا إن رضاها رضاي وسخطها
سخطي ". فكان يقال: لأجل ذلك أن للأم ثلثا البر وللأب الثلث.
وفي ضياء الشهاب (للقطب الراوندي): " إن النبي (ص) قال: " دعاء
الوالدة أسرع إجابة من الوالد. قيل: لم يا رسول الله. قال: لأنها أرحم
من الأب، ودعاء الرحيم لا يرد ".
وإلى القارئ نزف أبياتا لرشيد سليم الخوري:
هي نغمة الطفولة، وأنشودة الحياة، ولسان الحمد والشكر: تحت عنوان
(أمي)
ولو عصفت رياح الهم عصفا * ولو قصفت رعود الموت قصفا

550
ففي أذني عند الموت صوت * يحول لي عزيف الجن عزفا
فيطربني وذلك صوت أمي *
ولو ملئت لي الجامات صبرا * ولو جرعت كأس العيش مرا
ففي شفتي ينبوع عجيب * يحول لي كؤوس الخل خمرا
فيسكرني وذلك ذكر أمي *
ولو هجمت على قلبي البلايا * وهدت سور آمالي الرزايا
فإن بباب فردوسي ملاكا * يسل السيف في وجه المنايا
فيحرسني وذلك طيف أمي *
ولو يا رب في اليوم العظيم * تلوت علي حكمك بالجحيم
فلي أمل بأن ستعود يوما * فتصفح في جهنم عن أثيم
وقلبك يستحي من قلب أمي *
وللشاعر رشدي المعلوف في عيد الأمهات:
رب سألتك باسمهن * أن تفرش الدنيا لهن
بالورد إن سمحت يداك * وبالبنفسج بعدهن
حب الحياة بمنتين * وحبهن بغير منه
نمشي على أجفانهن * ونهتدي بقلوبهن
فردوسهن وبؤسهن * ببسمة منا وأنه
سمارنا في غربة الدنيا * وصفوة كل جنه
رب سألتك رحمة * وجه السماء ووجههن
ورن جرس الحقيقة على لسان الطفل، يصور حنان الأم والعطف الذي
تبديه فأنشأ قائلا:
أحب الناس لي أمي * ومن بالروح تفديني

551
فكم من ليلة قامت * على مهدي تغطيني
بصوت هادئ عذب * وإنشاد تغنيني
تخاف علي من برد * ومن حر فتحميني
ومن ألم ومن مرض * أناديها فتأتيني
بروحي سوف أفديها * كما بالروح تفديني
وأسعى في هناءتها * كما تسعى وترضيني
وآخر يصور هذه الحقيقة الندية بقوله:
من صوت أمي الشجي * سمعت حلو الأغاني
من قلب أمي الزكي * عرفت طعم الحنان
من ثدي أمي الشهي * رضعت كأس التهاني
أمي التي لاحظتني * بقلبها واللسان
أمي التي غمرتني * بعطفها كل آن
أمي ومن مثل أمي * كم في سبيل تعاني
من غير أمي إذا ما * رحلت عنه بكاني
من غير أمي إذا ما * مرضت يوما رعاني
تعيش أمي وتبقى * حتى أنال الأماني
تعيش أمي وتحيا * على مرور الزمان
وقال سماحة العلامة الشيخ عبد المنعم الفرطوسي:
أما رؤوما تفديه بمهجتها * وكل ما ملكته وهي تعتذر
تحنو عليه فإن شاكته شائكة * ودت بمهجتها لو تنبت الإبر
إن صح صحت وإلا فهي مدنفة * عليه لا تسلي نفسها العبر
يبكي فتبكي وإن يضحك لها ضحكت * بملء ء فيها له والدمع يبتدر

552
تضمه بحنو حين ترمقه * لقلبها وحشاها ملؤه شرر
ولو أطاقت مكان القلب تجعله * لصيرته ولكن ليس تقتدر
وطالما بين نهديها ارتمى فغدا * يلهو لعيبا ونهداها هما الأكر
كأنما هو عقد في ترائبها * في حين يمرح لهوا وهو مزدهر
وله أيضا
دنيا الأمومة رحمة علوية * ترعاك هاطلة بأطيب مربع
أفديك من دنيا دفنت بلحدها * من مهدها طفل الحنان الممرع
كبد يفيض حنانها حدبا على * أمل يرفرف في الشغاف ويرتعي
عين تود من الرعاية أنني * في جفنها وسوادها في موضعي
هجرت لذيذ رقادها حتى قضت * سهرا لترعاني وتحرس مضجعي
وفم تلوح على فمي بسماته * مهما ضحكت وإن بكيت بكى معي
ودعت آمالي على شفتيه في * قبل بها شيعت خير مودع
وطويتها في لوح صدر ممرع * بالذكريات وبالعواطف مربع
وقال بعض الشعراء يصور قساوة قلب الولد، ورقة قلب الأم:
أغرى امرء يوما غلاما جاهلا * في أمره حتى ينال به الوطر
قال إئتني بفؤاد أمك يا فتى * ولك الجوائز والجواهر والدرر
فمضى وأغرز خنجرا في صدرها * والقلب أخرجه وعاد على الأثر
لكنه من فرط سرعته هوى * فتمزق القلب المعفر إذ عثر
ناداه قلب الأم وهو معفر * ولدي حبيبي هل أصابك من ضرر
فنظم بعضهم أبياتا تفي الموضوع حقه، وتبين حالة الغلام بعد عطف القلب
عليه:

553
فكأن هذا الصوت رغم حنوه * غضب السماء به على الولد انهمر
ودرى فظيع خيانة لم يأتها * ولد سواه منذ تاريخ البشر
فارتد نحو القلب يغسله بما * فاضت به عيناه من سيل العبر
ويقول يا قلب انتقم مني ولا * تغفر فإن جريمي لا تغتفر
وإذا صفحت فإنني أقضي انتحارا * مثل ما (يوضاص) من قلبي انتحر
واستل خنجره ليطعن قلبه * طعنا فيبقى عبرة لمن اعتبر
ناداه قلب (الأم) كف يدا ولا * تذبح فؤادي مرتين على الأثر
وذكر لي فضيلة الخطيب الشيخ (شاكر القرشي) نقلا عن (مجاني الأدب)
أن عمرو بن هند كان من أشد ملوك العرب بأسا وأعظمهم جرأة، وينقل عنه
أنه لما قتلت بنو تهيم أخاه سعدا غضب، وآل على نفسه أنه متى ظفر بهم قتل
رجالهم وسبى حريمهم، فلم ظفر بهم حمى لهم الصفا، ومشى عليه من رجالهم من
بلغ أجله، فأتي بشاب ليمشي عليه كما فعل أصحابه، وأقبلت أمه معه فلما
رأت الصفا وشدة وهجه قطعت ثدييها ورمت بهما على الصفا، وقالت:
يا بني " ق بثديي قدمك * واقلل بوطئها ألمك "
ثم أنشدت:
أبني لو قبل الفداء لجدت بالكبد * التي أضحت عليك تقطع
يا ليت حر النار باشر مهجتي * أو ليت خدي فوق خدك يلذع
فرق لها عمرو بن هند وأمر بإطلاق ولدها وإطلاق من بقي من قومها.
وروى المفسرون حكاية عن بني إسرائيل، كانوا يتوارثونها كابرا عن
كابر، تهذيبا للنفوس، وحبا للوالدين، وطاعة لله تعالى. ونحن نذكرها مختصرة
للعظة والتربية، ولعلاقتها بالموضوع.
حكي أنه كان رجل صالح في بني إسرائيل، وكان له طفل وله عجلة،

554
فانطلق بها إلى غيضة وقال: اللهم إني أستودعك هذه العجلة لابني حتى يكبر
فلما مات الرجل وكبر الولد كان بارا بأمه، يقسم ليله ثلاثة أقسام: يصلي
ثلثا، وينام ثلثا، ويجلس عند رأس أمه ثلثا. وفي النهار يحتطب فيتصدق
بالثلث، ويأكل الثلث، ويعطي أمه الثلث. فقالت له أمه يوما: يا بني انطلق
إلى غيضة كذا ففيها العجلة التي تركها لك أبوك، وأفهمته علاماتها. فلما ذهب
إلى الغيضة عرفها وقادها ورجع إلى أمه. فقالت له: بع البقرة في السوق
بثلاثة دنانير على شرط أن تشاورني. فذهب إلى السوق، فأعطي أكثر من
ثلاثة فلم يرض إلا باستشارة أمه، وقال لطالبها لو أعطيتني ملء جلدها ذهبا
لم أبعها إلا بإذن أمي. فلما رجع إلى أمه قالت لا تبع هذه البقرة فسيكون
لها شأن.
واتفق أنه كان رجل من خيار بني إسرائيل وعلمائهم، خطب امرأة
منهم فأجابت، وخطبها ابن عم لذلك الرجل (كان فاسقا رديا) فلم تقبل، فحسد
ابن عمه الذي أجابوه فقعد له في الطريق فقتله غيلة، ثم حمله إلى موسى (عليه السلام) فقال
يا نبي الله هذا ابن عمي قد قتل ولا أدري من قتله وكان القتل في بني إسرائيل عظيما
جدا فعظم ذلك على موسى (عليه السلام) فاجتمع إليه بنو إسرائيل وبكوا وضجوا، وقالوا
ما ترى يا نبي الله. قال لهم موسى (عليه السلام): إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة.
فتعجبوا وقالوا أتتخذنا هزوا نأتيك بقتيل فتقول اذبحوا بقرة. فقال لهم
موسى: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. فعلموا أنهم قد أخطأوا. فقالوا
" ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ". قال: إنه يقول: " إنها بقرة لا فارض ولا
بكر " (أي لا مسنة ولا فتية) فقالوا: " ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها ".
قال: إنه يقول إنها صفراء فاقع لونها (أي شديدة الصفرة) تسر
الناظرين ". قالوا: " ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا

555
إن شاء الله لمهتدون ". قال إنه يقول: إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض (أي
لم تذلل) ولا تسقي الحرث " (أي لا تسقي الزرع) مسلمة لا شية فيها " (أي
لا نقطة فيها إلا الصفرة) " قالوا: الآن جئت بالحق " هي بقرة فلان إذ لم
يوجد بتلك الصفة التي وصفها الجليل غير بقرة الشاب. فذهبوا إليه ليشتروها
فقال: لا أبيعها إلا بملء ء جلدها ذهبا. فرجعوا إلى موسى فأخبروه. فقال
لهم لا بد لكم من ذبحها بعينها. فاشتروها بملء ء جلدها ذهبا فذبحوها، ثم قالوا
ما تأمرنا يا نبي الله فأوحى الله تعالى إليه قل لهم اضربوه ببعضها وقولوا له من
قتلك. ففعلوا ذلك، فأخذوا الذنب فضربوه به، وقالوا من قتلك يا فلان،
فأحياه الله بمقدار ما أوضح لهم، فقال ابن عمي الذي جاء بي. وهو قوله تعالى
" فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون "
* * *
قال رسول الله (ص): " إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ووأد
البنات، ومنع وهات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال "
اشتمل هذا الحديث على ستة أشياء يجب على المسلم اجتنابها.
أولها: عقوق الأمهات وعدم القيام بحقوقهن والوفاء لهن بما يجب
من حسن الطاعة، والإنفاق والمعونة. وطيب القول والبعد عما يغضبهن أو يسبب
سخطهن، فطالما شقيت الأم بابنها حملا وفصالا ورضاعا وتربية وحياطة من
كل أذى وضرر وتسهر لينام، وتتعب ليرتاح، وتشقى ليسعد، ابتسامته وهو صغير
أشهى لديها من الدنيا وما فيها، وصحته وسروره أغلى ما تبغي الحصول عليها،
تفديه بكل مرتخص وغال، وتقيه بما تستطيع وتملك من كل غائلة وشر، إن
بكى طارت نفسها شعاعا، وإن مرض تقرحت جفونها التياعا، فليس من حسن
الصنيع أن يقابل ذلك بالجحود والكفران أو يجعله في مطارح النسيان.

556
وقد خص الأم في هذا الحديث، لأن العقوق إليها أسرع لضعفها، ولينبه
على أن بر الأم مقدم على بر الأب في التلطف والحنو.
وثانيها: دفن البنات وهن أحياء. وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك
مخافة الفقر أو العار، لأن البنت ضعيفة المنة عاجزة عن مزاحمة الرجال في كسب مادة
الحياة فتكون عبئا على أبيها وحملا ثقيلا، فكان بعضهم يقتل البنات لتخف عنه ثقل
معيشتهن، وبعض آخر يئدهن مخافة أن يجلبن عليه العار بزلة تجعل أهلها
سبة الدهر.
وثالثها: منع وهات. والمراد بهما البخل بالمال عن الواجبات الشرعية
وما تقتضيه المروءة من زكاة وصدقة وبر وإعانة محتاج وغوث مستغيث ونحو
ذلك، والطمع فيما ليس أهلا له من ابتغاء أجر بدون عمل، أو زيادة على
استحقاق لما في ذلك من إضاعة المروءة وإذلال النفس وأكل المال بالباطل.
ورابعها: قيل وقال. والمراد تتبع أخبار الناس وأحوالهم للتحدث بها
وإشاعتها وربما كان في شئ منها ما يغضب المقول فيه من أمور كان يود إخفاءها
وأسرار لا يحب إذاعتها فتنشأ العداوة وتنمو الضغينة ويعم الفساد والأذى.
أضف إلى ذلك ما يوصم به من كانت هذه صفته من المذلة والصغار، وما
يلقاه من الناس من الإهانة والاحتقار.
وخامسها: كثرة السؤال والمراد بذلك إما سؤال المال والصدقة، وفي
ذلك من إراقة ماء الوجه والإذلال النفس ما يربأ المؤمن أن يدنس به نفسه وإما
السؤال عن المشكلات والمعضلات وأخبار الناس واختراع الأحاجي والألغاز
للتعجيز. والإرهاق لما يترتب على ذلك من إضاعة الوقت في غير المفيد. وربما
كان في الجواب عن السؤال ما يؤلم السائل ويسئ إليه أو إلى غيره عن حد قوله

557
تعالى: " لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ".
وسادسها: إضاعة المال. بالإسراف في إنفاقه أو إنفاقه فيما يغضب الله
من المحرمات.
وعلى الجملة إنفاقه في غير وجهه المأذون فيه شرعا مما يجلب مصلحة
دينية أو دنيوية، أو يدفع مضرة كذلك. ذلك بأن المال قوام الحياة ومادة
الدنيا التي هي مزرعة الآخرة، وإضاعته تورث الندم والفقر والذل.

558
حق الأب

559
قوله عليه السلام:
" وحق أبيك أن تعلم أنه أصلك، وأنه لولاه لم تكن
فمهما رأيت في نفسك ما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة
عليك فيه، فأحمد الله واشكره على قدر ذلك. ولا قوة إلا بالله "
* * *
من الخير الشامل للجميع أن نصدر هذا الدرس بالآية الشريفة:
" واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وبالوالدين إحسانا وبذي القربى
واليتامى والمساكين، والجار ذي القربى، والجار الجنب، والصاحب بالجنب،
وابن السبيل، وما ملكت أيمانكم.. " (1)
إن التشريعات كلها في الإسلام والتوجيهات، إنما تنبثق من نبع واحد،
وترتكز على ركيزة واحدة.
إنها تنبثق من نبع العقيدة في الله، وترتكز على الوحدة المميزة لهذه العقيدة
ومن ثم يتصل بعضها ببعض، ويتناسق بعضها مع بعض، ويصعب فصل
جزئية منها عن جزيئة، وتصبح دراسة أي منها ناقصة بدون الرجوع فيها إلى
أص
لها الكبير الذي تلتقي عنده (وهو تلك العقيدة).
من العقيدة بالله تنبع كل التصورات الأساسية للعلاقات الكونية والحيوية
والإنسانية.
تلك التصورات التي تقوم عليه التشريعات الاجتماعية والاقتصادية والتي



(1) سورة النساء 35
561
تؤثر في علاقات الناس بعضهم ببعض في كل مجال النشاط في الأرض، والتي تكيف
ضمير الفرد وواقع المجتمع، والتي تجعل المعاملات عبادات - بما فيها من
مراقبة لله - والعبادات قاعدة للمعاملات - بما فيها من تطهير للسلوك - والتي
تحيل الحياة في النهاية وحدة متماسكة مردها كلها إلى الله.
هذه السمة الأساسية في العقيدة الإسلامية، تبرز في تصدير آية الإحسان
إلى الوالدين والأقربين وغيرهم من طوائف الناس، بعبادة الله وتوحيده، ثم في
الجمع بين قرابة الوالدين وقرابة هذه الأصناف كلها من طوائف البشر، متصلة
هذه وتلك بعبادة الله وتوحيده. وذلك بعد أن جعل هذا التوحيد وتلك العبادة
واسطة ما بين دستور الأسرة القريبة ودستور العلاقة البشرية الواسعة، ليصلها
جميعا بتلك الآصرة التي تضم الأواصر جميعا.
" واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ".. شيئا.. ليكون النهي أعم،
ولكي ينزل ما سوى الله في مجال العبادة منزلة الشئ حتى لو كان عاقلا!
ثم ينطلق إلى الإحسان للوالدين على التخصيص، ولذي القربى على التعميم
ومعظم الأوامر تتوجه إلى توصية الذرية بالوالدين بالبر والإحسان إليهما
ابتغاء مرضاة الله لا رياءا واختيالا ومباهاة.
لذلك نرى الإمام (سلام الله عليه) - بهذا التنويع في العرض والتجديد
في الأسلوب، وبهذا التعبير المبدع - يعالج العلاقة بين الوالد والولد.
ويصور هذه العلاقة صورة موحية، فيها انعطاف ورقة. فما يريد للولد
إلا الخير، ولا يرى له إلا النصح، النصح الذي مبرأ من كل شبهة، بعيد
من كل ظنة؟
إلا أنه الحقيقة القديمة التي تجري على لسان كل من آتاه الله الحكمة
من الناس.

562
يريد به الخير المحض ولا يريد به سواه. وهذا هو المؤثر النفسي المقصود
فهو (عليه السلام) يوجه دروسه ووصاياه إلى الأولاد دون الوالدين على ضوء
القرآن الكريم، إذ لم ترد توصية الوالدين بالولد إلا قليلا. ومعظمها في حالة
الوأد - وهي حالة خاصة في ظروف خاصة - ذلك أن الفطرة تتكفل وحدها
برعاية الوليد من والديه.
فالفطرة مدفوعة إلى رعاية الجيل الناشئ لضمان امتداد الحياة كما
يريدها الله.
وإن الوالدين ليبذلان لوليدهما من أجسامهما وأعصابهما وأعمارهما ومن
كل ما يملكان من عزيز وغال، في غير تأفف ولا شكوى، بل في غير انتباه ولا
شعور بما يبذلان، بل في نشاط وفرح وسرور كأنهما اللذان يأخذان!
فالفطرة وحدها كفيلة بتوصية الوالدين دون وصاة! فأما الوليد فهو في
حاجة إلى الوصية المكررة ليلتفت إلى الجيل الذاهب في إدبار الحياة، بعد ما
سكب عصارة عمره وروحه وأعصابه للجيل المتجه إلى مستقبل الحياة! وما يملك
الوليد وما يبلغ أن يعوض الوالدين بعض ما بذلاه، ولو وقف عمره عليهما.
وهذا الانعطاف الهائل، وهذه الكرامة والمعاملة الندية تأتي في طريقها
شدة وضعفا، فالأم بطبيعة الحال (كما ذكرنا) تحتمل النصيب الأوفر، ولها
القدح المعلى من البر والرعاية والانعطاف. قال رسول الله (ص): " بر الوالدة
على الوالد ضعفان ".
ويفوقها الوالد بما يحدث للولد بعد هذا من شعور الإعجاب بالعظمة
والكمال والقدرة وهو من الغرائز.
والولد يشعر بأن أباه أعظم الناس وأحقهم بالإجلال والتعظيم. وقد كان
العرب يتفاخرون بآبائهم في أسواقهم، وفي معاهد الحج، حتى قال الله تعالى:

563
فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا ".
يتلو ذلك شعور عزة الحماية والصيانة له من والده والذود عنه والانتقام
له إذا ضيم وفوق هذا شعور الشرف فهو يشرف بشرفه ويحقر بضعته وخسته.
فإن أهين بقول أو فعل ترجف أعصابه ويتبيغ دمه، ولا تكاد تهدأ ثائرته إلا
بالانتقام له.
فهذه مجامع نوازع حب الولد الوالد أكثر من حبه لأمه، واتجاهه
بالعناية نحو أبيه أكثر مما يتجه بالعناية نحو أمه.
مضافا إلى ذلك شعوره بأنه بضعة من أبيه، يرث بعض صفاته وطباعه
وشمائله من جسدية ونفسية وعقلية، بيد أن حب الوالد للولد أحر وأقوى وأنمى
وأبقى من عكسه، وهو أشد شعورا بمعنى كون ولده بضعة منه، وكون
وجوده مستمدا من وجوده، ويشعر ما لا يشعر من معنى كونه نسخة ثانية منه
يرجى لها من البقاء ما لا يرجى للنسخة الأولى، فهو يحرص على بقائه كما
يحرص على نفسه أو أشد، ويحرم نفسه من كثير من الطيبات إيثارا له بها في
حاضر أمره ومستقبله، ويكابد الأهوال ويركب الصعاب في سبيل السعي والادخار
له. فهو مجهد متعب طوال حياته، في تغذيته وإنعاشه وتربيته. من أجل ذلك
جعل الله طاعته واجبة، وطلب رضاه حتم. وجعل طاعته منوطة بطاعته،
ورضاه وسخطه منوطان برضاه وسخطه.
والأحاديث في ذلك متوفرة: قال رسول الله (ص): " رضا الرب في
رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد ". وقال (ص): " إن الوالد باب
من أبواب الجنة فاحفظ ذلك الباب ". وقال (ص): " من حج عن والده بعد
وفاته كتب الله لوالده حجة وكتب له براءة من النار ". وعن إبراهيم بن شعيب
قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إن أبي قد كبر جدا وضعف فنحن نحمله إذا

564
أراد حاجة. فقال (عليه السلام) إن استطعت أن تلي ذلك منه فافعل، ولقمه بيدك
فإنه جنة لك غدا ". وقال الحسن: " حق الوالد أعظم وبر الوالدة ألزم ".
وقال سليمان الملك: " إن العين المستهزئة بأبيها، والمتحقرة طاعة أمها تقورها
غربان الوادي، وتأكلها فراخ النسر " وقال موسى (عليه السلام): " أكرم أباك لكي
تطول أيامك على الأرض " وقال (ص): " بروا آباءكم تبركم أبناؤكم ".
قال المأمون لم أر أحدا أبر من الفضل بن يحيى بأبيه، بلغ من بره له
أنه كان لا يتوضأ إلا بماء سخن، فمنعهم السجان من الوقود في ليلة باردة،
فلما أخذ يحيى مضجعه، قام الفضل إلى قمقم نحاس فملأه ماء، وأدناه من المصباح
فلم يزل قائما وهو في يده إلى الصباح حتى استيقظ يحيى من منامه.
وطلب بعضهم من ولده أن يسقيه ماء، فلما أتاه بالشربة نام أبوه، فما
زال الولد واقفا والشربة في يده إلى الصباح حتى استيقظ أبوه من منامه.
* * *
جاء في منشورات (حمدي عبيد) تحت عنوان (قصة واقعة):
" بعد أن كان قوي العضلات في شرخ شبابه، ينسج الأقمشة ويأكل من
عرق جبينه تأبى عليه عزته أن يكون عالة على ولد له أو قريب، وتسمو به
كرامته أن يطلب معونة من غير الله، بعد هذا كله، أدركه الضعف الذي هو نتيجة
طبيعية لكل من بلغ من الكبر عتيا، وأقعدته الشيخوخة عن العمل، فذهب مضطرا
إلى ولده، يدفعه الرجاء والحاجة، ويردفه اليأس والإباء.
وقف في منتصف الطريق يسائل نفسه: هل يفي لي يا ترى ويقوم بما
يجب عليه نحوي، فأقضي البقية الباقية من أيام حياتي براحة وهناء، أم يكون
عاقا لا يعرف للوفاء معنى، ولا يقيم للحقوق الأبوية وزنا؟
وقف حائرا بين هذين العاملين، وأخيرا تغلب عليه عامل الرجاء فتقدم

565
مسرعا، ودخل على ولده وقال له بلسان متلجلج، وصوت متهدج: إن السنين
يا بني قد هدت جسمي، وأضعفت قوتي، فأصبحت عاجزا عن الكسب، فهل
لنفسك الطيبة أن تسمح لأبيك ولو بجزء ضئيل من المال يستعين به على شيخوخته
أذهلت الولد هذه المفاجأة التي لم يكن يتوقعها، فجمد في مكانه
مشدوها، ثم انتبه من ذهوله وترك أباه وذهب كأن الأمر لا يعنيه، وكأن
المخاطب سواه.
تألم الوالد وندم على ما فرط منه، وشعر كأن صاعقة انقضت عليه،
وخاطب نفسه وقال: هذا ما كنت أخشاه ها هو قد تركني ومضى لشأنه كأنه
لا يعرفني، وكأنني لست أباه، وطفرت من عيونه دموع الألم، وهم بالنهوض
فخانته قواه، ولم تستطع أن تحمله قدماه فسقط في مكانه، ثم استعاد قواه،
وبينما هو يحاول النهوض ثانية إذ أقبل ولده والعرق يتصبب من جبينه فارتمى
على يدي والده يقبلهما ويقول: إنني يا أبت لم أنس حنوك وعطفك علي زمن
طفولتي، ولن أنسى ما حييت جهودك العظيمة التي بذلتها في سبيل تربيتي
وتوفير راحتي، لا أزال أذكر سهرك الليالي الطوال بجانب سريري أيام
مرضي، إنني لا أزال أشعر بأنك كنت تتمنى أن تسكب روحك النقية في
جسمي لتعود إلي العافية والحياة.
إنني يا أبت لا أستطيع، مهما حاولت، أن أفي ببعض ما لك في عنقي من
منة، ولا أقدر أن أقابل هذا الشعور بمثله.
إنك تطلب مني أن أخصك بشئ من المال، هذا لا يكون أبدا، إن
الولد البار يعلم يقينا أنه هو وماله لأبيه يتصرف بهما كما يحب.
هاك يا والدي مفتاح الخزانة، افتحها متى أردت، وخذ منها ما شئت،
والفضل لك، لأنني أعتقد أنه لم يكن لينالني شئ من التوفيق لولا دعواتك

566
الصالحة، وتربيتك الحسنة، وأنني لو بذلت جميع ما ملكت يدي في سبيل راحتك
ورضاك لكان ضئيلا.
فاغرورقت عينا الوالد بدموع الفرح، وامتزجت بدموع ولده وقال
بصوت تخنقه العبرات: بارك الله لك يا ولدي بمالك، وجعلك سعيدا في دنياك
وآخرتك.
مضت سنوات عدة والولد لا يألوا جهدا في خدمة أبيه، ويبالغ في إكرامه
والإحسان إليه، ثم أخذه إلى مكة وسعد بخدمته، وأديا فريضة الحج معا، ثم
عادا براحة وسرور عظيمين، ولم يزل الولد يحنو على والده، ويحوطه برعايته
ويشمله بعنايته، ويتسقط مواضع مرضاته، حتى وافاه أجله، فأسلم الروح إلى
خالقها، ولسانه رطب بالدعاء لولده، مكررا قوله: " اللهم بارك له في ماله
وسره في أولاده، واجعله سعيدا في دنياه وآخرته ".
استجيبت دعوة الوالد، وها هو الولد يتقلب بنعيمها حتى يومنا هذا ".
كلنا يعلم ما يلاقيه الآباء في سبيل أبناءهم من شدائد وصعوبات، ولكن
الكثير منا يجهل مكانة الآباء ومنزلتهم عند الله.
وقد أفاض أهل البيت (سلام الله عليهم) في بيان حقوق الأبوين على الأبناء
ووجوب شكرهم وطاعتهم إلا فيما يغضب الله سبحانه، إذ لا طاعة لمخلوق في
معصية الخالق.
وأكتفي هنا بنقل فقرات من دعاء الإمام (زين العابدين) (عليه السلام) المذكور
في الصحيفة السجادية، (وهي أثمن تراث إسلامي بعد القرآن على الإطلاق)،
وما قرأها إنسان (من أي لون كان) إلا نقلته إلى أجواء يشعر معها بنشوة
لا عهد لأهل الأرض بمثلها.
ومن الذي يقرأ قول الإمام: " اللهم اجعلني أهابها هيبة السلطان

567
العسوف، وأبرهما بر الأم الرؤوف، واجعل طاعتي لوالدي وبري بهما، أقر
لعيني من رقدة الوسنان، وأثلج لصدري من شربة الظمآن، حتى أؤثر على
هواي هواهما، وأقدم على رضاي رضاهما، وأستكثر برهما بري وإن قل،
وأستقل بري بهما وإن كثر ".
من الذي يقرأ هذا القول، ولا يترك في نفسه أعمق الآثار؟!.. يهابهما
هيبة السلطان العسوف مع مخالطته لهما، ودنوه منهما، وعلمه بأنهما أرأف به
من نفسه. إنها هيبة التعظيم والتوقير، لا هيبة الخوف من الحساب والعقاب هيبة
الأبوة التي لا يقدرها إلا العارفون.
كانت فاطمة (سلام الله عليها) بضعة من النبي (ص) وأحب الخلق
إلى قلبه، ومع هذا كانت تقول: " ما استطعت أن أكلم رسول الله من هيبته ".
ولا شئ عند الأبوين أغلا وأثمن من بر الابن بهما، على الرغم من أنه
وفاء لبعض ما لهما من ديون. إنهما يسعدان بهذا البر سعادة الغارس بثمرات
غرسه، بل سعادة العالم باكتشاف أسرار الكون، وبهذه السعادة يشعر الابن
البار إذا تأكد من سعادة أبويه به، ورضاهما عنه.
ثم اقرأ معي هذه الكلمات للإمام (عليه السلام):
" اللهم وما تعديا علي فيه من قول، أو أسرفا علي فيه من فعل، أو ضيعاه
من حق، أو قصرا بي عنه من واجب، فقد وهبته لهما، ورغبت إليك في وضع
تبعته عنهما، فإني لا أتهمهما على نفسي، ولا أستبطئهما في بري، ولا أكره
ما تولياه من أمري يا رب، فهما أوجب حقا علي وأقدم إحسانا إلي وأعظم منة
لدي من أن أقاصهما بعدل، أو أجازيهما على مثل. أين إذن يا إلهي طول
شغلهما بتربيتي؟! وأين شدة تعبهما في حراستي؟! وأين إقتارهما على أنفسهما
للتوسعة علي. هيهات ما يستوفيان مني حقهما، ولا أدرك ما يجب علي لهما،

568
ولا أنا قاض وظيفة خدمتهما... ".
الحق ما كان لك، والواجب ما كان عليك، وكلاهما ثقيل الوطأة، ومن
هنا تفسد العلاقات بين الناس، تقصر فيما يلزمك أداؤه فتمنع مما لك استيفاؤه
ولكن هذا المنطق لا يجوز تطبيقه بحال على علاقة الابن بالأبوين.
فلو افترض أن الأبوين تعديا وقصرا في واجبك فإن حقهما عليك طبيعي
لا يسقطه شئ، وكبير أن يعادله شئ، لقد تحملا الضيق والشدة لتكون في
سعة، والتعب والعناء لتكون في راحة، والذل والهوان من أجل سعادتك. وكم
رأينا من الآباء يجرؤون على ارتكاب الحرام واقتحام المعاصي من أجل أبنائهم
وجاء في أحكام القرآن (لابن العربي) إنه أتى شيخ إلى النبي (ص) فقال
" إن ابني هذا له مال كثير، وإنه لا ينفق علي من ماله، فنزل جبرئيل
فقال: إن هذا الشيخ قد أنشأ أبياتا فاستنشدها منه، فاستنشده النبي (ص)
فنشدها الشيخ:
غذوتك مولودا ومنتك يافعا * تعل بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلة نابتك بالسقم لم أبت * لشكواك إلا ساهرا أتململ
كأني أنا المطروق دونك بالذي * طرقت به دوني فعيني تهمل
تخاف الردى نفسي عليك وإنني * لأعلم أن الموت حتم مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي * إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفضاضة * كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي * فعلت كما الجار المجاور يفعل
فغضب رسول الله (ص) وقال: " أنت ومالك لأبيك ".
قرأت هذه الأبيات في المجلد الأول من (كتاب فرائد الغوالي) للحجة

569
الكبير المرحوم الشيخ محصن صاحب الجواهر منسوبة إلى أمية إلا أنني لم أهتدي
إلى معرفة أمية هذا مع كثرة تتبعي. وقال آخر يشكو عقوق ولده،
وربيته حتى إذا ما تركته * فتى الحرب واستغنى عن الطر شاربه
تعمد حقي ظالما ولوى يدي * لوى يده الله الذي هو غالبه
ويقول المعري في ضرورة تربية الطفل وعدم تعليمه على الجريمة:
ربيت شبلا فلما أن غدا أسدا * عدا عليك فلولا ربه أكلك
فلا تعلم صغير القوم معصية * فذاك وزر على أمثاله عدلك
فالسلك ما اسطاع يوما ثقب لؤلؤة * لكن أساب طريقا نافذا فسلك
حدث المجلسي (ره) في (البحار):
" أن شيخا كبيرا جاء بابنه إلى رسول الله (ص) والشيخ يبكي ويقول
يا رسول الله ابني هذا غذوته صغيرا، وربيته طفلا عزيزا، وأعنته بمالي كثيرا،
حتى اشتد أزره وقوى ظهره وكثر ماله، وفنيت قوتي وذهب مالي عليه وصرت
من الضعف إلى ما ترى، قعد بي فلا يواسيني بالقوت الممسك لرمقي. فقال
رسول الله (ص): للشاب ما ذا تقول. قال: يا رسول الله لا فضل معي عن قوتي
وقوت عيالي. فقال رسول الله: للوالد ما تقول. فقال يا رسول الله إن له
أنابير حنطة وشعير وتمر وزبيب. وبدر الدراهم والدنانير وهو غني. فقال
رسول الله للابن ما تقول. قال الابن: يا رسول الله ما لي شئ مما قال. قال
رسول الله (ص): اتق الله يا فتى وأحسن إلى والدك المحسن إليك. قال: لا
شئ لي. قال رسول الله: فنحن نعطيه عنك في هذا الشهر، فأعطه أنت فيما
بعده، وقال لأسامة أعط الشيخ مائة درهم نفقة لشهره لنفسه ولعياله، ففعل فلما
كان رأس الشهر جاء الشيخ والغلام، وقال الغلام لا شئ لي، فقال رسول الله:
لك مال كثير، ولكنك اليوم تنسى وأنت فقير وتصير أفقر من أبيك هذا لا شئ

570
لك. فانصرف الشاب فإذا جيران أنابيره قد اجتمعوا عليه يقولون حول هذه
الأنابير عنا، فجاء إلى أنابيره وإذا الحنطة والشعير والتمر والزبيب قد نتن جميعه
وفسد وهلك، وأخذوه بتحويل ذلك عن جوارهم، واكترى أجراء بأموال
كثيرة فحولوه وأخرجوه بعيدا عن المدينة، ثم ذهب يخرج إليهم كراء من
أكياسه التي فيها دراهمه ودنانيره فإذا هي قد طمست ومسخت حجارة، وأخذ
الحمالون يطالبون بالأجرة، فباع ما كان له من كسوة وفرش ودار، وأعطاهم
الكراء، وخرج من ذلك صفرا، ثم بقي فقيرا وقترا لا يهتدي إلى قوت
يومه، فسقم لذلك جسده وضنى، فقال رسول الله (ص): يا أيها العاقون
للآباء والأمهات اعتبروا واعلموا أنه كما طمس في الدنيا على أمواله، فكذلك
جعل بدل ما كان أعد له في الجنة من الدرجات معدا له في النار من الدركات " (1)
إن شباب الجيل المثقف يرون لهم كل حق على الآباء، ولا واجب عليهم
لأب وأم، وأقدم مثلا واحدا على ذلك من حياة الكاتب الشهير (أحمد أمين
المصري) قال في كتابه (حياتي):
" كنت أمشي على رجلي من بيتي في (المنشية) إلى الأزهر، وأعود من
الأزهر وأنا أحمل ما يبهضني حمله، وكان أبي يعلمني في كتاب، فأصبحت أعلم
أولادي في رياض الأطفال، ولا يعجبهم أن يركبوا في الدرجة الأولى في الترام
ويطلبون سيارة خاصة، وكان أبي يضربني على الشئ التافه الصغير فأحتمل ولا
أثور ولا أغضب، فصار أبنائي يغضبون من الكلمة الخفيفة، والعتاب المؤدب،
لا أؤاخذ أبي على حرماني من الضرورات، فصار أبنائي يؤاخذونني على
حرمانهم من الإسراف في الكماليات... ".
وأولاد (أحمد أمين) هؤلاء منهم من يحمل شهادة الاختصاص في الحقوق



(1) المجلد السادس من البحار.
571
ومنهم ليسانسي في الهندسة، وربما كانوا أخف وطأة على أبيهم من كثير من الأولاد
ونحن مع اعترافنا بأن الزمان قد تغير، وأن كل شئ مرده إلى القوانين
العامة لحركة التاريخ وأسبابه الاجتماعية، ولكننا لا نجد عذرا لهذا الغلو الذي
نراه اليوم في عقوق الابن لأبيه.
وبالجملة، فإن لفظ الأب يوحي معنى الاحترام والحب، وكل ابن
مسؤول عن تعظيم أبيه والإخلاص له أمام الله والناس والضمير.
عطف الأبوة لفضيلة العلامة " الشيخ عبد المنعم الفرطوسي "
طفل يتيم أقض الجوع مضجعه * ملوع القلب قد أودى به الخور
قد مات والده فأظلم مكتئبا * أفق الرجاء عليه مذ خبا القمر
من كان يرويه من سلسال عبرته * كأنه زهرة والمدمع المطر
وكان يفرش خديه بمضجعه * كيلا يعفر منه الخد والشعر
وينصب القلب دولابا بملعبه * فحيث مال يميل القلب والبصر
فلا وساد سوى زند ومعصمه * ولا أرائك إلا الصدر والسرر
ولا يطيب له من عيشه وطر * حتى يطيب له من عيشه وطر
ولا ترق له نجوى ولا سمر * إن لم يكن باسمه نجواه والسمر
وليس يطبق جفنيه على سنة * حتى يلطف من أحلامه السحر
وليس يملأ نور الصبح ناظره * إن لم يكن من سناه يملأ النظر
وليس يفتر ثغر منه مبتسما * حتى يراه لعيبا وهو مبتشر
وليس تنعشه في الروض عابقة * إن لم يكن بشذاه يعبق الزهر
وهكذا كان ينمو في رعايته * وعطفه وهو لا يبقي ولا يذر
وله أيضا

572
عهد الأبوة والأبوة كلها * حلم يريح من العناء المفزع
رغد من العيش الهني ورقدة * غرقت بها نفسي ولما تهجع
روح لذيذ أنقي في ظله * حري وبردي لاهيا بتمتعي
حقل خصيب بالأماني لم أزل * كالطير ألهو في ثراه وأرتعي
قلب جهلت حنانه بطفولتي * وعرفته من قلبي المتصدع
وتر أهز شعوره بعواطفي * فيثور في تياره المتدفع
ما كنت أشعر بالمتاعب كلها * حتى تنائي لحنه عن مسمعي
جاء رجل إلى رسول الله (ص) فقال: " يا رسول الله من أحق بحسن
صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال أمك
قال: ثم من؟ قال: أبوك ".
هذا الحديث يدل على أن لكل من الأبوين حقا في المصاحبة الحسنة
والعناية التامة بشؤونه " وصاحبهما في الدنيا معروفا " ولكن حق الأم فوق حق
الأب بدرجات، إذ لم يذكر حقه إلا بعد أن أكد حق الأم تمام التأكيد،
بذكرها ثلاث مرات. وإنما علت منزلتها منزلته مع أنهما يشتركان في تربية
الولد، هذا بماله ورعايته، وهذه بخدمته في طعامه وشرابه، ولباسه وفراشه
و... " لأن الأم عانت في سبيله ما لم يعانيه الأب. فحملته تسعة أشهر
وهنا على وهن، وضعفا إلى ضعف، ووضعته كرها، يكاد يخطفها الموت من
هول ما تقاسي. ولكم كان بدء الحياة لوليد نهايتها لأم رؤوم، وكذلك
أرضعته سنتين، ساهرة على راحته، عاملة لمصلحته، وإن برحت بها في سبيل
ذلك الآلام، وبذلك نطق الوحي " ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا، حملته أمه
كرها، ووضعته كرها، وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ". فتراه وصى الإنسان
بالإحسان إلى والديه ولم يذكر من الأسباب إلا تعانيه الأم إشارة إلى عظم حقها

573
قال رجل لرسول الله (ص): " إن أبوي بلغا من الكبر، وإني ألي
منهما ما وليا مني في الصغر، فهل قضيتهما حقهما. قال (ص): لا فإنهما كانا
يفعلان ذلك وهما يحبان بقائك، وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما ".
ومن حسن المصاحبة للأبوين الإنفاق عليهما طعاما وشرابا، ومسكنا
ولباسا، وما إلى ذلك من حاجات المعيشة، إن كانا محتاجين، بل إن كانا في
عيشة دنيا أو وسطى، وكنت في عيشة ناعمة راضية فارفعهما إلى درجتك أو زد،
فإن ذلك من الإحسان في الصحبة. واذكر ما صنع يوسف مع أبويه وقد أوتي
الملك إذ رفعهما على العرش بعد أن جاء بهما من البدو.
ومن حسن الصحبة بل جماع أمورها ما ذكره الله بقوله: " وقضى ربك
ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما
فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما، واخفض لهما جناح
الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا " فامنع عنهما لسان البذاءة، ولو
بالهنات الصغيرة، وجنبهما أنواع الأذى، وألن لهما قولك، واخفض لهما
جناحك، وذلل لطاعتهما نفسك، وأذك في روحك العطف عليهما، والرحمة بهما
ورطب لسانك بالدعاء لهما من خالص قلبك وقرارة نفسك، وقل: رب ارحمهما
كما ربياني صغيرا، ولا تنس زيادة العناية بالأم، عملا بإشارة الوحي ومسايرة
لمنطق الحديث. وقد استنبط جمهور الفقهاء من الحديث تقديم الأم على الأب في
النفقة إذا كان مال الولد لا يتسع إلا لواحد منهما وقيل إنهما سواء.
* * *
قال رسول الله (ص): " إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه
قيل يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل
فيسب أباه، ويسب أمه ".

574
من الذنوب ما ضرره عظيم، وسوء أثره في المجتمع كبير كالقتل والزنا
وشرب الخمر والسرقة وشهادة الزور وقطيعة الرحم وأكل مال اليتيم.
وهذا النوع يسمى بالكبائر لكبر المفسدة فيه، وللوعيد الشديد عليه.
ولهذا النوع درجات بحسب الضرر الذي فيه. فكلما كانت دائرته أوسع كان في
الكبر أدخل. فكتمان الشهادة كبيرة، ولكن أكبر منه الكذب على رسول الله (ص)
وما كان من الذنوب ضرره يسيرا يسمى بالصغائر، كعبوسة الوجه وهز
الرأس احتقارا.
والحديث يبين أن سب الرجل أبويه من أكبر الكبائر وأعظم الذنوب،
لأنه الإساءة في موضع الإحسان، والإثم الكبير مكان البر العظيم، والشتم الذميم
عوض القول الكريم. وهل هو إلا كفر بنعمة التربية منهما وغمط لحقوقهما،
ودناءة نفس وخسة طبع.
وهل يرجى من شخص يسئ إلى أبويه - اللذين ربياه صغيرا - أن يحسن
إلى أحد من الناس؟ كلا، فهو مصدر شر ومبعث فساد. فلا جرم أن كان ذنبه
عظيما، ووزره خطيرا. ولذلك عجب الصحابة واستغربوا وقالوا: كيف يسب
الرجل والديه؟ استبعاد أن يكون في بني الإنسان من يقدم على هذا الجرم العظيم
فبين لهم الرسول (ص) أنه سب غير مباشر، بأن يسب شخص أبا شخص
آخر، فيسب هذا أبويه انتصارا لنفسه وانتقاما مضاعفا لعرضه، فذلك سب من
الأول لأبويه، لأنه تسبب فيه. وإذا كان التسبب لذلك من الكبائر فما
بالك بمن يسبهما كفاحا، بله من يؤذيهما ويضربهما؟ إن ذلك للوزر الأكبر
لا يفوقه إلا الشرك.
وخلاصة الدرس يجب على الولد نحو والديه أمور أربعة:
الحب - الشكر - الطاعة - الاحترام

575
1 - أما الحب فعاطفة فطرية أوجدتها القدرة الربانية في قلب الولد فإن
لم يشعر الولد في دور الطفولة بأنه منجذب بميل طبيعي لمحبة والديه المملؤين
عطفا وحنانا عليه، فلا شك أنه يشعر بذلك إذا شب، وكلما نما ازداد إدراكه
وشعوره بالمحبة، حتى إذا بلغ أشده تحولت محبته لأهله شفقة، فيعمل لسعادتهم
كما كانوا هم يعملون لسعادته.
2 - أما شكره لهما فيجب أن لا يحده حد، ولا يحصيه عد، لأنهما
سبب وجوده في الحياة الدنيا، وهما اللذان ربياه، وأحباه حبا جما، واشتغلا من
أجله، وكابدا الآلام في سبيل راحته، وسهرا على حياته، وأقل ثمن لذلك
الشكر، وعليه أن يقرن هذا الشكر بالعمل لنفعهما، وتخفيف أعباء الحياة عنهما
فهو عدتهما في الحياة، وفلذة كبدهما، وموضع هنائهما، ومحل عنايتهما.
وأن يكون أداءه حق الشكر، وقيامه بمفروض حق العمل، بلا من ولا
ضجر، بل بالعطف والصبر، لأن أداء هذا لا يعادل ما صادفاه من المشاق العظيمة
في ترتبيته منذ ولد إلى أن صار شابا يكسب المال بجده ونشاطه، بفضل رضائهما
وحبهما ودعائهما، وتثقيفهما عقله بالعلم والأدب. فيجب عليه أن يعاملهما بالبر
والإحسان عملا بقوله تعالى:
" وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك
الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما وقولا كريما
واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ".
وقال تعالى: " ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته
كرها ".
وقال رسول الله (ص): " بر الوالدين أفضل من الصلاة، والصدقة والصوم
والحج، والعمرة، والجهاد في سبيل الله ".

576
3 - أما طاعته لهما فهي دليل على إخلاصه وحبه، فواجب عليه أن
يطيعهما وأن يخلص لهما، في السر والعلانية، وأن يعمل بنصائحهما، وأن يعتقد
كل الاعتقاد أن الفوز والنجاح في امتثال أوامرهما، والخيبة والخسران في
مخالفتهما، لأنهما أعرف منه بالنفع والضار، وأكثر خبرة منه بأمور الدنيا ولا
يهمهما إلا نفعه، وراحته وسعادته.
4 - أما احترامه البنوي لهما، فيكون برعاية الأدب نحوهما في قوله
وفعله، فلا يعاملهما معاملة الأنداد، بل معاملة الصغير للكبير، حتى إذا بلغا
من الكبر عتيا وجب عليه احتمال ما يبدو منهما مهما كان مخالفا للعقل والصبر
مع التلطف في إرشادهما إلى جادة الحق والصواب " (1)
وهنا لفتة جميلة:
جاء عن النبي (ص) أنه قال: " إن ثلاثة نفر انطلقوا إلى الصحراء
فمطرتهم السماء، فلجئوا إلى كهف في جبل ينتظرون إقلاع المطر، فبينما هم
كذلك إذ هبطت صخرة من الجبل، وجثمت على باب الغار، فيئسوا من الحياة
والنجاة، فقال أحدهم: لينظر كل واحد منكم إلى أفضل عمل عمله فليذكره،
ثم ليدع الله تعالى عسى أن يرحمنا وينجينا.
فقال أحدهم: اللهم إنك تعلم أني هويت امرأة، ولقيت في شأنها أهوالا
حتى ظفرت بها ولكنني تركتها خوفا منك، فإن كنت تعلم أنه ما حملني على
ذلك إلا مخافتك فأفرج عنا، فمالت الصخرة عن مكانها حتى دخل عليهم الضوء
وقال الآخر: اللهم إنك تعلم أني استأجرت أجراء، فعملوا لي فوفيتهم
أجورهم إلا رجلا واحدا ترك أجره عندي، وخرج مغاضبا، فربيت أجره،
حتى نما وبلغ مبلغا، ثم جاء الأجير فطلب أجرته، فقلت: هاك ما ترى من



(1) الإنسان لعلي فكري.
577
المال، فإن كنت عملت ذلك لك فأفرج عنا، فانفرجت الصخرة حتى لو شاء
القوم أن يخرجوا لقدروا.
فقال الثالث: اللهم إنك تعلم أني كنت بارا لوالدي، وكنت آتيهما
بغبوقهما فيغتبقانه، فأتيت ليلة بغبوقهما، فوجدتهما قد ناما، وكرهت أن
أوقظهما، وكرهت الرجوع، فلم يزل ذاك دأبي حتى طلع الفجر، فإن كنت
عملت ذلك لوجهك، فأفرج عنا، فمالت الصخرة، وانطلقوا سالمين! فقال (ص)
" من صدق نجا ". (1)
قال الشاعر:
إن للوالدين حقا علينا * بعد حق الإله في الاحترام
أوجدانا وربيانا صغارا * فاستحقا نهاية الإكرام
كم أذيقا من الصغار هوانا * في رضانا وجرعا شر جام
كم ليال قد قضياها سهادا * قاوما ما بنا من الآلام
كم أرادا ولو بروحيهما أن * يفديانا وأن نرى في سلام



(1) مجمع الأمثال.
578
حق الولد

579
قوله عليه السلام:
" وحق ولدك أن تعلم أنه منك ومضاف إليك في
عاجل الدنيا بخيره وشره، وأنك مسؤول عما وليته من حسن
الأدب والدلالة على ربه عز وجل، والمعونة له على طاعته،
فاعمل في أمره عمل من يعلم أنه مثاب على الإحسان إليه
معاقب على الإساءة إليه ".
* * *
محبة الأولاد فضيلة من فضائل الفطرة الإنسانية، بل الغريزة الحيوانية،
وحقوقهم على الوالدين مقررة في الشرع بما يحدد دواعي الغريزة والطبع ويقف
بها دون الغلو المفضي إلى عصيان الله تعالى، أو هضم حقوق عباده.
والأولاد أمانة وضعها الله بين يدي الآباء. وهم مسؤولون عنها، فإن
أحسنوا إليهم بحسن التربية كانت المثوبة، وإن أساؤا تربيتهم استوجبوا العقوبة
والأولاد يخلقون مزودين بقوى فطرية تصلح أن توجه للخير، كما تصلح
أن توجه للشر، وعلى الآباء أن يستغلوا هذه القوى ويوجهونها وجهة الخير،
ويعودوهم العادات الحسنة، حتى ينشأ الطفل خيرا ينفع نفسه وينفع أمته، قال
تعالى: " يا أيها الذين قوا أنفسكم وأهليكم نارا " ووقاية النفس والأهل
من النار تكون بالتعليم والتربية، وتنشئتهم على الأخلاق الفاضلة، وإرشادهم
إلى ما فيه نفعهم وفلاحهم. وإن العناية بالأولاد. وتربيتهم التربية الصالحة من
أكبر واجبات الأبوين التي يفرضها الشرع ونظام الاجتماع عليهما، كما أن

581
إهمالهم والتفريط في تربيتهم من أكبر الجنايات التي يمقتها الشرع، وتعاقب
عليها القوانين المدنية.
قال رسول الله (ص): " الزموا أولادكم وأحسنوا آدابهم، فإن أولادكم
هدية إليكم ".
وفي هذا الحديث إرشاد إلى ما ينبغي أن يكون عليه الآباء من ملازمة
أولادهم يكون تصرف الأبناء تحت نظر الآباء وإشرافهم، فإذا تصرف أحدهم
أي تصرف يحتاج إلى توجيه كان ذلك التصرف موضع العناية والنظر.
وقال (ص): " حق الولد على الوالد أن يعمله الكتابة، والسباحة، والرمي "
كان الهدف الأول من حث الرسول (ص) قومه المنتضلون والناهضون
بعب ء النضال، على الرماية وتسديدها إلى صدور الأعداء، ثم جعلها دستورا
قائما بذاته في قوله لدى نزول الآية الكريمة: " وأعدوا لهم ما استطعتم من
قوة " فقال: " ألا إن القوة الرمي " ثم كررها ثلاث مرات، وقال بعد ذلك:
" حق الولد على الوالد أن يعلمه الكتابة، والسباحة، والرماية ".
فقد عنى بالكتابة العلم، وبالسباحة، الرياضة وبالرماية الدفاع عن الكيان وإنما
كنى عن العلم بالكتابة لأنها وسيلة العلم الأولى، قال الله تعالى: " إقرأ باسم
ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم
علم الإنسان ما لم يعلم " وإكبارا لشأن الكتابة وأنها سبيل الإنسان إلى العلم،
إن الله أقسم بالقلم في قوله: عز من قائل: " ن والقلم وما يسطرون ".
وإنما كنى عن الرياضة بالسباحة، لأن الحركة في الماء هي أبلغ أنواع
الرياضة تنشيطا للجوارح، فالماء يصون مسام الجسم عن جراثيم الهواء التي تنفذ
إليه من وراء الحرارة بالجهد حيث تتفتح تلك المسام، ثم الماء يطهر ما تفرزه تلك
المسام من العرق المتبخر عن فضلات الشراب والطعام في جوف الإنسان فيحق لنا أن

582
نقول: إن السباحة هي الرياضة المفضلة بما يكتنفها من الطهر والنقاء.
وأما الرماية التي عبر بها عن القوة: فهي تسديد الرمي نحو الهدف فكلما
كان التسديد محكما كانت الإصابة مضمونة، وكان الهدف غرضا لها، فإصابة
الهدف إذن هي القوة، سواء كان الهدف إنسانا أو حيوانا أو جمادا، فليس الغرض
المعبر عنه بالهدف قاصرا على عدوك وأنت تسدد إليه ضرباتك بالسهام أو الرصاص
أو القذائف، ولا هو قاصر على أنشودتك وأنت تصيد الطير والحيوان.
أقول: ليس الغرض قاصرا على هذا وإنما تتجاوزه إلى المعنى وأنت تسدد
القول وإلى البرهان وأنت تسدد المنطق، وإلى الغاية وأنت تسدد جوارحك وإلى الذرة
وأنت تسدد عقلك، ثم إلى الخيال وأنت ترهف حسك هل القوة البالغة شئ غير
هذا؟؟ إن كل شئ تحكمه بعقلك أو لسانك أو جوارحك فتصيب الهدف الذي
من أجله صوبت عقلك، وثقفت لسانك، وقومت جوارحك، هذا الشئ هو أقوى
مظهر للقوة في روحك وبدنك. لهذا حث (ص) أمته على الرمي، والرمي المسدد
الذي هو القوة، وفي الفرقان الأعظم: " وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى "
فالمقصود بالرمي الإصابة وإلا كان خطأ وفقدت آلة الرمي صوابها، وكان القول
والعمل إذ ذاك عبثا.
كنا نسمع في الكتاتيب أيام حداثتنا وتلقينا العلوم الأولية، نسمع مثلا
يسير على الألسن وينفذ إلى القلوب من الآذان، ومن قراءة الأماثيل التي
يخطها الأستاذ قواعد على الألواح التي نتلقى عليها فن الخط، هذا المثل مقتبس
من الحديث الشريف الذي نحن بصدد البحث عنه الآن والمثل هو: " من خط
وعام وضرب بالحسام فهو نعم الغلام "، وهو عين معنى الحديث لولا استبدال
الحسام بالرماية، وأظن أن القافية وتحريها في المثل هو السبب في الاستبدال،
على أن مقتبس المثل في استطاعته الحصول على السجع باستبدال لفظ السهام من

583
لفظ الحسام فيقول: " من خط وعام ورمى بالسهام فهو نعم الغلام " وليس من
فرق في تحري الحقيقة بين الرمي بالسهم والضرب بالسيف، لأن كلا منهما
رمي للقوة والدفاع.
على أن للانتضال، أي الرمي بالسهام، ميزة على الضرب بالحسام هي
أن القتال دون ما اشتباك يخفف وطء التقتيل بين المتحاربين، لأن الاشتباك
يوشك أن يكون بين المشتبكين دمارا، ولهذا كانت خطط الحروب فيما بعد
الرمي أولا وقبل كل شئ، فلم يخترعوا البنادق والمدافع والقنابل ثم الصواريخ
إلا ليتفادوا هذا الاشتباك الذي يحيل الأرض بالمعارك إلى بحار من الدماء تهدر
فيما كرامة الإنسانية، ولقد أصبح الآن مجتمع هذا الإنسان الوحشي يستطيع
أن يمحو خصمه من الوجود وهو في بيته من وراء الأسلحة النورية المدمرة.
فالكتابة ليست كما كنا نفهم في عهد الخمول، وكما كان يفهم آباؤنا
السادرون في تأخرهم بعد أن نبذوا تعاليم الله على لسان رسوله، كانوا يفهمون
من الكتابة أنها تحبير الكلام على الطروس، والافتنان في جودة الخط وتزويقه
ولكنها العلم الذي علمنا الله تعالى شأنه فنونه وأساليبه بالقلم الذي هو عنوان
التدوين والتحبير المفضيين بنا إلى علوم الحياة وليست السباحة كما نفهم من
أنها عصمة الإنسان من الغرق إذا ركب البحر، ولكنها إلى ذلك، دفع بنا إلى
استقصاء الأعماق في قعر البحار، لاستخراج الكنوز والاطلاع في أغوارها على
عجائب خلق الله، ثم ليست الرماية كما نفهم ويفهم آباؤنا، من أنها إحكام
وضع السهام في القسي ثم إطلاقها على العدو، ولكنها إلى ذلك رمز للقوة التي
صرح بها الرسول (ص) في مطلع هذا البحث، ثم تطورت بعد ذلك إلى فنون
من القوة والبأس العام في عهدنا الحاضر، وحتى أصبحت الرماية مصدر السلام
كما أنها مصدر الدمار.

584
وهكذا نصل إلى توضيح ما مر من أنها قوة مادية كما أسلفنا، وهي
أيضا قوة معنوية يقصد منها التسديد إلى الهدف وإصابة الصميم في كيانه، سواء
في ذلك تسديد اللسان أو الفكر أو العقل في مجال العلوم والفنون والآداب، ولهذا
نطلق على أقوال الرسول أنها الكلم الجوامع، فالكلمة الجامعة هي التي لا تقف
عند حدود الأفهام المحدودة بزمان ولا مكان، وإنما هي مرآة للحياة منذ كانت
إلى أن تزول، تتلون بألوانها، وتتشكل بأشكالها. فدين محمد ليس قاصرا على
زمان محدود ولا مكان محدود، ولا محصورا في ناحية من نواحي الحياة، وإنما
هو سجل لأحداثها وتفادي السئ منها والاعتصام بالحسن من أدوارها، وليس
عن عبث قال الفقهاء الأولون: " حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه
حرام إلى يوم القيامة ".
ولنعد إلى صميم الحديث الذي توجنا به هذا البحث فنقول: هل المقصود
بقوله (ص): " حق الولد على الوالد... إلخ " الحصر والقصر، وأن ليس
للولد حق على والده بعد هذا؟؟، وهل هذا الحق لازم في عنق الأب لزوم
الواجب الفرض؟؟ الظاهر أنه من المستحب المؤكد ما عدا العلم، فتعليم الآباء
للأبناء فرض عليهما معا، أي أن على الآباء أن يعلموا، وعلى الأبناء أن
يتعلموا، وهذا فيما يختص بالكتابة المكنى بها عن العلم، والقرآن الكريم
والسنة الشريفة مشحونان بالحث على العلم وجوبا لا استحبابا.
أما السباحة فهي من لوازم العلم وتأتي عنه بغير إيجاب، وأما الرماية فإذا
اعتبرانا قوله (ص): " ألا إن القوة الرمي " هي عين القوة المفروضة علينا في
الفرقان الأعظم بقوله عز من قائل: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة " إذا
اعتبرنا أن الرسول يشير إلى تأكيد هذا الأمر فهي واجبة، وإن اعتبرنا أن
قوله صلوات الله عليه: من قبيل الحث والتحريض بإلحاق الرمي في القوة، وهو

585
أحد مظاهره لا أنه كله، كان من قبيل الاستحباب، كقوله (ص): " الدين
المعاملة " من باب المجاز في حمل البعض على الكل.
وأما حصر الواجب على الأب في هذه الثلاثة فليس في الحديث دليل عليه
ولكن الكتاب الكريم يفرض على الأب أمر أهله بأشياء أخرى، كالصلاة التي
هي رمز العبادات في قوله تعالى: " وأمر أهلك بالصلاة "، إذن الحديث ليس
فيه حصر للواجب، وإنما هو أمر للآباء ببعض الفروض التي هي العلم والقوة
وهو كما قدمنا مقتبس عن الأحكام في القرآن، فالواجب في الحديث متبادل
بين الآباء والأبناء، تحت العموم الكامن في قوله صلوات الله عليه: " اطلبوا
العلم من المهد إلى اللحد "، كما أن العلم المفروض ليس محدودا وإنما هو
مطلق، وقد خصصه الرسول أو أشار إلى أن الواجب الاجتزاء لا الإحاطة لأن
العلم ليس له حد لقوله تعالى: " وقل رب زدني علما " ذلك ما يفيد أن العلم
المفروض هو العلم المطلق يسقط وجوب الكل فيه بإحراز البعض.
* * *
وقال (ص): " لاعب ابنك سبعا، وأدبه سبعا، وصاحبه سبعا، ثم اترك
له الحبل على الغارب ".
إذن: فمراحل الحياة الأولى للرجل ثلاث: أولها الطفولة، وثانيها
الصبا، وثالثها الفتوة، وهو في هذه المراحل كل على أبيه، وأبوه هو المسؤول
عنه في إعداده للحياة الثانية التي يستقل بها عن أبيه ويشق طريقه في الحياة،
وأما مراحل الحياة فثلاث: أولها الشباب، وثانيها الكهولة، وثالثها
الشيخوخة. وهو في هذه المراحل كل على نفسه، وعلى هذه المراحل تقوم
رجولته فإما إنسان يملأ فراغا في مجتمعه، وإما نكرة مهمل إذا حضر لا يعد
وإذا غاب لا يفقد.

586
هذه الكلمة نافذة المفعول عند الغربيين وخاصة أمريكا الشمالية، فإن
دور الحضانة التي يقوم فيها على تربية الأطفال منذ السنة الأولى إلى السنة
السادسة، يقوم على تربيتهم حواضن قلما يكون معهن رجال، لأن التربية
الأولى تكاد تكون قاصرة على الأمهات، وحيث إن الأمومة هناك تكاد تكون
مفقودة فإن المعلمات يقمن مقام الأمهات.
أقول: إن الأمومة بمعناها الصحيح تكاد تكون في أمريكا مفقودة، لأن
كثيرا من أبنائها مجهولوا الآباء كفرنسا التي أثبت الإحصاء في عاصمتها بعد
الحرب الأولى عن أربعين في المائة من أبنائها مجهولوا الآباء.
وهكذا في أمريكا أن حصانة الزواج مفقودة فقلما تجد العفة، وحرمة
الزواج تعصم أحد الزوجين، من أجل ذلك لا تحرص المرأة على الولد لأنه
يحول بينها وبين انطلاقها في عالم الشهوات، لذلك تتحامى الحمل أولا، فإن
وقعت فيه مكرهة سلمته لدور الحضانة على حساب حكومتها، فتنشأ الأبناء
في حضانة أمهات عارية. ومقدمة هذا البحث إنما هي تمهيد لصدق الرسول على
الغربيين في أن دور الحضانة تكاد تكون ملهى وملعبا للصبية ستا أو سبعا
من أعمارهم.
أما نحن فلا نفتح أعيننا على الحياة إلا في جو مرهق من القيود التي
يغل آباؤنا بها أيدينا عن أن نعمل وأرجلنا على أن نركض، فقد أسأنا كلمة
الأدب في الصغار كأنا لم نسمع قول الرسول هذا: " لاعب ابنك سبعا " فإن
الوقار المسطنع والهيبة المتكلفة عن كبارنا تحول بينهم وبين أبنائهم من اللهو
والمرح والانطلاق التي هي من أرقى صفات الطفولة والصبا في تنشئة الأبناء
عقلاء أصحاء، والطبيعة هي التي تؤهلهم لذلك، ولكنا نخالف الفطرة التي هي
نواة أولى لدين محمد، فنفرض على صغارنا منذ السنة الأولى أو الثانية لزوم الوقار

587
والتزمت والاحتشام التي هي من صفات الرجولة بعد الشباب.
أذكر بدقة: أنا كنا في دور الصبا ونكاد لا ننهد إلى الخامسة من سني
حياتنا، كنا نختلس الزمن الذي يخولنا اللعب ساعات حتى إذا فاجأنا رجل ما
نهرب ونتوارى خوفا من تأنيبه وتقريعه، وقد نتعرض في سبيل اللعب إلى سخط
الشيوخ واستعمالهم العصي أحيانا كثيرة ليزجرونا عن وظيفة الطبع في نفوسنا،
وكان اللعب واللهو في صغار القرية وكبارها سبة أولى تنال أهل الولد اللاعب
اللاهي، فالمسلمون أفرطوا في تربية أولادهم تربية الجمود، وغيرهم فرطوا في
تربية أبنائهم تربية التحرر حتى الجحود، لقد رأيت السواد الأعظم من الغربيين
يقطعون حياتهم في اللعب واللهو، من المهد إلى اللحد.
لقد خلقوا لهوا ولعبا يحار فيه عقل الإنسان المفكر، مثل الملاكمة
التي يذهب ضحيتها عشرات الناس في كل أسبوع، وكلما سقطت ضحية صفق
لسقوطها عشرات الألوف من النظارة حولهم. ومن هذه الألعاب كرة القدم
ويا لها لعبة يموج اللاعبون في حلبتها وحولهم مئات الألوف يهتفون ويهللون
وهكذا حياة الغربي حافلة باللعب ولكنه لعب يقوم على حكمة يفيد منها مجتمعهم
كلها نشاط، وأما حياتنا نحن الشرقيين فهي حافلة بالجد ولكنه جد يقوم على
الخمول والكسل.
فالإنسانية التي يدعو إليها محمد في كلمته بصدر هذا البحث تعني الوسط بين
هؤلاء وهؤلاء لا إلى الهزل كل الهزل، ولا إلى الجد كل الجد.
عقيدتي أن السنوات السبع الأولى من حياة الإنسان يجب أن يكون
قاصرا فيها على اللعب واللهو والمرح والانطلاق والرياضة، ثم إذا تعدى في لعبه
الطور المباح له فأصبح إلى الضرر أقرب منه إلى النفع، وجبت رعايته بما
يرده عن لهوه وإرشاده بالحسنى إلى اللعب المباح، وليكن حرص أبيه بالغا في

588
أن يرعاه بالعنف كي لا ينشأ ذليلا مهانا، فإن التعليم في الصغر كالنقش على
الحجر، لا يزول من النفس بزوال الصبا، ومن هنا قال الرسول (ص):
" لاعب ولدك سبعا... " يعني علمه اللعب، واللعب معه في بيتك أو في مكان تكون أنت وهو معك حرا.
فملاعبة الرجل ولده أو رعايته وهو يلعب مع لداته، تلك هي التربية
الرياضية الصحيحة، وإليها يفتقر الإنسان في طفولته ويطمئن إلى رجولته فيما
بعد، ثم يأتي دور التأديب، وكلمة التأديب تحمل في طيها التعليم، لأن الأدب
علم، وقوة، وإلمام بهما، حتى إذا نشط الغلام إلى السبع الأخيرة، وقد أخذ
بمبادئ العلوم والآداب والفنون جاء دور التثقيف والتدريب على الحياة بحيث
لا ينتهي من هذا الدور إلا وهو حاذق خبير في تطبيق العلوم على الحياة، وأصبح
مؤهلا للعمل بعلمه، وكان جديرا بالحياة الحرة النزيهة في مجتمعه.
ويقول (ص) بعد ذلك: " صاحبه سبعا " ومعنى هذا هو تطبيق العلم على
الحياة والتجربة العملية بمصاحبة الأب، ويسمون هذا الدور اليوم دور الاختبار
والتدريب في المختبرات من مصانع أو معاهد عليا، ونسبة التأديب والصحبة للأب
إشعار بأن المؤدب المصاحب يجب أن يكون مخلصا لتلميذه إخلاص أبيه له،
هذا إذا لم يكن المعلم نفس أبيه. وغني عن البيان ما يرمي إليه نبينا (ص) من
حرص على أن تكون التربية في عصمة عن الشذوذ والضلالة، خشية أن ينشأ
ضالا مضلا لمن يقتدي به وهو يقود أهله وأمته في مستقبل حياته، لأن
الناشئ هو عنوان الحياة التي يستقبلها بعد أبيه.
بعد هذا يقول سيدنا (ص): " ثم اترك له الحبل على الغارب " أي دعه
يشق طريق حياته بنفسه بعد أن أرسلت أضواءك عليها وأشرت له بنصائحك،
إلى خيرها وشرها، وأمرته بالخير، ونهيته عن الشر، وفقا لدين محمد وتأثرا

589
لرسالته وعملا بقوله تعالى: " وهديناه النجدين " وقوله عز من قائل:
" وهديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ".
إذن فالتربية الإسلامية الصحيحة إنما تقوم على ثلاثة أدوار: أولها:
التربية الرياضية الفطرية، يعامل الأب فيها ابنه معاملة الرفق والرحمة والعطف
والحنان، حتى يملأ جسمه صحة وقلبه حبا للبيت والمجتمع والحياة، لينشأ
محبا لأهله، محبا لقومه، محبا لوطنه، لذلك نرى الولد الذي ينشأ مع غير
أبويه محروما من عطفهما وحنوهما، لا يعرف معنى للحب الأول الذي يغرس
في صدره الجهاد في الحياة، حافلا بعصبيته لقومه ووطنه، وعلى العكس نراه
ينشأ متبرما بالحياة، صاخبا على المجتمع، يكاد فراغ قلبه من حنان أبويه،
يكاد يحيله وحشا مفترسا لا يملأه غير البطش والعسف والجور فيما يقول ويفعل.
فالنواة الأولى لحياة المرء الهادئة المطمئنة إلى جمال الوجود وخيره، واستقبال
ما يثقف عقله وينير بصيرته، ويملك أمره ويعزز كرامته الإنسانية في عشيرته
وقومه، وقد يصبح بفضل هذه الحياة رجلا عالميا يفيض خيره على الوجود كله.
أقول: إن النواة الأولى لهذه الحياة، هي تنشئته على الشكل الذي دعا
إليه الرسول في دوره الأول، من إسباغ الحنان عليه والرعاية له بغير ما قسوة
ولا عنف ولا تقويم، لأنه لا يزال في أمس الحاجات إلى الملاينة والمداعبة
والملاطفة حتى يشتد عضله ويقوى ساعده ويتفتح قلبه للحياة، وعلى العكس
ينشأ مظلم القلب عاتي النفس لا يرى في الحياة إلا النقمة والصلف والجبروت.
وثاني هذه الأدوار: التربية العلمية، وهي التي تسترعي الأب المعلم
عنايته في التثقيف والتعليم والتعريف بالحياة، والحرص على أن يستهدف التلميذ
لتقويم العقل حتى ينضج ويفقه الحكمة التي من أجلها كان، وإليها يعود، لأن
العلم حياة والجهل موت، ولهذا نجد الأمة التي تنشأ في الفوضى، وتسود فيها

590
الأمية، نجدها عارية من جمال الحياة وجلالها، خالية من كل ما يدفع بها
إلى السيادة والعزة والكرامة، ثم إلى الحكمة في خلق السماء والأرض وعرفان
القدرة والمهيمنة على نظام الكون وانتظامه.
وأما الدور الثالث: فهو دور الخروج أو الإعداد لخروج الناشئ من
عالم البيت إلى عالم العلم المقرون بالعمل، إلى عالم الاستقلال بالرأي والتصرف
بالحياة، إلى عالم يصعد به إلى ربه أو يهبط به إلى الدرك الأسفل من جحيم الحياة
صلوات الله عليك يا رسول الله، إنك تعلمنا منذ ألف عام ونيف بما
يتبجح به أرقى الشعوب في عصر النور، ويحسبون أنه من ولائدهم ونحن سادرون
في غينا نؤمن بأن هؤلاء الذين أرشدونا إلى الحياة وتعاليمهم هي التي تضمن لنا
ذلك، وأما رسالتك فهي في حرز من أن نبصر بها ونسمع ونفكر.
* * *
قال الإمام علي (ع): " لا تقسروا أولادكم على أخلاقكم فإنهم خلقوا
لزمن غير زمنكم " (1).
هذه الكلمة من الإمام (ع) نزلت من نفسي منزلة أحرص على أن لا تمر
عابرة. فأحببت أن أعقب عليها بما ينبض فيها من حياة تتراءى لي وأنا أدرس
وأعلل فيما يحدق بي من روائع الوجود.
الكلمة هذه خليقة بأمير المؤمنين علي، لأنه عودنا التجديد فيما يقول،
ونهجه حافل بأمثال هذه الروائع.
أقول: إن هذه الكلمة خليقة بإمام البلغاء، إذ عودنا على التنبؤ في
المغيبات، وعلمنا كيف نستقبل الحياة جديدة، ونستدبرها قديمة، فهو
المجدد الأول في عهده مع صلابة في التمسك بمبدئه والاحتفاظ بعقيدته، لم



(1) ابن أبي الحديد ج 4 ص 536.
591
يفرط فيما فرط به معاوية، ولم يجحد جحود من شرطوا في الخلافة قبله أن
تكون قاصرة بعد كتاب الله وسنة رسوله على سيرة الشيخين، دون اعتماد
الفصل في تصريف الأحكام بدافع التطور، وذلك ما دعا عليا لأن يضحي بالخلافة
يوم الشورى، إذ قال له عبد الرحمن بن عوف (وكان محكما ذلك اليوم):
" أبسط يدك أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين أبي بكر وعمر.
فأجابه علي: على كتاب الله وسنة رسوله واجتهادي فيما أرى بعد ذلك ".
ولقد كان الإمام يرمي بكثير من أقواله إلى بناء الأمة في مستقبلها العتيد
وفي نهجه كثير من آرائه التي أشار بها إلى العلوم والفنون في العصور المختلفة
حتى عصرنا الحاضر، وفي هذه الكلمة التي يدور حولها بحثنا الآن إشارة
صريحة إلى ضرورة التطور في الحياة، فهو يريد أن يحمل الناس حملا على
الإيمان بالتطور، إذ لو جمد الأبناء على سيرة الآباء لكانوا إياهم خلقا وخلقا
وهذا مغاير لسنن الطبيعة في التطور المفروض طبعا على كل كائن.
على أنا نقف متسائلين بين يدي إمامنا عما يعني بالأخلاق في قوله: " لا تقسروا
أبناءكم على أخلاقكم؟ فالأخلاق في أصل اللغة هي السجايا والطبائع والعادات
سيئة كانت أو حسنة، وأما في العرف العام فيطلقونها على المروءات والحكم
والآداب، فإذا نهى الإمام الآباء عن قسر أبنائهم على ما تخلقوا به فإنما يعني
السجايا والعادات التي هي مناط الخير والشر معا، لا الأخلاق التي هي مناط
الخير فقط كالمروءات والآداب العامة، فإن هذه من أخص ما يجب أن يقسر
الآباء عليه الأبناء.
فإذا كنت متصفا بالكرم والوفاء والتسامح والإباء وغيرها من السجايا
النبيلة، فالإمام أسمى من أن ينهاني عن أن أروض ولدي عليها وألزمه بها.
إن الأخلاق الكريمة في الآباء وديعة من عند الله لا يؤمنون الإيمان المحظي

592
عند ربهم حتى يؤدوها إلى الأبناء، والصلة الوثيقة بين القديم والجديد إنما تقوم
على الوراثة، وخير للآباء القدامى أن يورثوا أبناءهم الجدد خير ما عندهم من
أخلاق، ولعل تربيتهم أبناءهم على التعلق بها هي إحدى الفضائل التي يتقوم بها
الدين المنزل من السماء على الأرض.
وإذا لم يرث عني ولدي خير ما أحرص عليه من تراث كان مزاج لحمي
ودمي حبا في الخير ونقمة على الشر، فما ذا يرث إذن عني والمفروض أنه يجب
أن يكون وارثي ليكون مني.
إذن فالمعني للإمام بقوله: " لا تقسروا أبناءكم على أخلاقكم " إنما هو
العادات والسجايا والتقاليد التي تلائم عصر الآباء ولا تتسق للأبناء من وراء
الرقي المفروض بدافع التطور الطبيعي في الإنسان، ومثالا على ذلك: إنا نحن
الآباء درجنا في جيل مضى على أن نلبس الجلباب ونأكل باليدين ونضطجع
أو ننام على الأرض، وأن نتخذ من دورنا محافل وأندية للسمر والتندر، وأن
نلتزم الوفاء والحزم والاحتفاظ بالهيبة في تربية أولادنا وتلقين تلامذتنا إلى غير
ذلك من الأخلاق والصفات التي تلائم عصرنا.
أقول: نحن الآباء الذين درجنا على مثل هذه العادات، وتخلقنا بمثل
تلك السجايا لسنا مصيبين إذا حملنا أبناءنا أو أكرهناهم على التخلق بها في عصر
تأنقت فيه الحياة وارتفع بنا مستوى العيش فيها، وهكذا كنا ندرس في المساجد
فرادى فأصبح أبناؤنا يدرسون جماعات وفي معاهد يلتقي الدين فيها بالدنيا،
بينما كانت دروسنا قاصرة على الفقه أو ما يلزم الفقه من لغة وبيان حتى حرم
بعض الفقهاء على الدارس أن يخلط مع هذه العلوم علوما أخرى كالطب والهندسة
والكيمياء وعلوم النفس والسياسة والاجتماع والتجارة وغير ذلك.
وهكذا نجد طراز حياتنا قبل خمسين عاما قد تغير وتحول في أبنائنا

593
إلى طراز آخر، كما كان طراز ما درجنا عليه بالتطبع قبل خمسين عاما وهو
جيل كبير، قد تحول في نفوس أبنائنا إلى طراز خير من طرازنا في كثير من
وجوهه، فليس لنا أن نكره أبناءنا على ذلك الطراز ليتخلقوا به فنركسهم إلى
الوراء والركب يستقبل الأمام.
ربما كان لنا حق في أن نقسرهم على أخلاقنا الكريمة إذا لم يكن بين
أيديهم إلا أخلاق السوء تذهب شوائب الجيل الحديث بهم مذاهب شتى لا يستقرون
فيها على حق ولا يطمئنون إلى حياة، حينئذ فقط عليها أن نكرههم ما استطعنا
أو أن نقنعهم على الأصح بأن ما استدبروه من حياة خير لهم مما يستقبلون وأن
ماضي آبائهم في خشونته واستقراره خير لهم من حاضرهم في نعيمه وقلقه وانهياره
أذكر من سجايانا الطيبة أن للجار على جاره حقا لا يقل عن حق
القريب على قريبه. فإذا نزل جار في حي واحد منا كان على هذا أن يؤلم له
ويدعو أهل الحي ليتعرفوا به، وأن الجار يتفقد جاره أبدا، ويتعهده بكرم
الجوار وحسن الأحدوثة حتى لا يشعر بغربة أو وحشة في جواره، هذا قبل
خمسين عاما، أما اليوم فقد ينزل الرجل في جوار آخر، ويكون بابه محاذيا
لبابه، وتمر بالجار الجديد أيام وأسابيع وأشهر وقد يمر به أعوام ويلتقي به
مرارا على بابه أو سلم البناء الذي يشتركان فيه ثم لا يتحسس منه ولا يتعرف
إليه فضلا عن أن يؤلم له أو يحدب عليه.
ومن تراثنا القديم الحسن أن النساء متعففات جالسات في حدود الحشمة
والوقار والحرص على الكرامة وإذا وقع الاختلاط في ندرة من الوقت لم يكن
الرجل ليتبين في جليسته غير وجهها ويديها دونما تبرج في زينة أو زي، بينما
تحول هذا في أبنائنا إلى كثير من التبرج الذي يشبه التهتك والخلاعة.
وقلما أجد اليوم رجلا يود الاجتماع بامرأة، والحديث إليها بريئا من

594
الريب والدخيلة والإصرار على التمتع بما يرى من تبرج ويتوقع من تهافت،
ثم يحسبون ذلك من جميل ما يتسم به العهد الحديث، وأن التخلق به من محاسن
العصر دونما تفكير بما يجره علينا من مساوئ نتردى معها إلى هوة الذل
والانكسار، وهكذا مشى الأبناء في إقناع آبائهم إلى أن الرقص الذي يزاوج
بين المرأة والرجل وهما أجنبيان، قد أصبح من الأخلاق التي يمتاز بها الحاضر
عن الماضي.
ومن أخلاق هذا العصر السباحة المختلطة، فلقد شوهد أن المرأة بين
الرجال مجردة من كل ما يستر جسدها ما عدا عضوا واحدا لو كان جميلا لما
سترته، بينما نجدها في المحافل والمجالس تحرص على أن لا يظهر من جسدها
ما فوق الساق، ولكنها إذ تريد السباحة، يحق لها عرفا أن ترتدي (المايوه)
وهو لباس العوم القاصر على ذلك العضو، ثم ترتدي (الروب) معطف التبذل
فوقه وتقطع الشوارع هكذا إلى المسبح، بينما العرف يقضي عليها أن لا تطل
على الشارع من شرفة منزلها وهي في هذا المعطف.
فالأخلاق وليدة اصطلاح الأمة وتواطؤها فيما تقول وتفعل ما عدا السئ
منها فإنه من وضع النفس الأمارة بالسوء لا من وضع المجتمع.
إذن فالأخلاق منها ما تضعه الخاصة من الأمة كما يضعون الدساتير
والشرائع لحماية الإنسانية والأخلاق علم بذاته لا يقل تقويما في كيان المجتمع
عن القوانين لأنه تراث إنساني، وأما النظم والدساتير فهي تراث سياسي والأخلاق
أعرق في بناء الأمة من القوانين والنظم، ولهذا قد نجد الأنظمة خالدة معمرة
تحتاج الأمة في تطبيقها إلى قوة وإكراه، بخلاف العادات والأخلاق التي هي
أبدا عرضة للتطور والتحويل والتي تسري في الأمة دونما إكراه على التطبيق.
فالإمام يحث على تحرير الأجيال في عاداتها بعد أن يطمئن إلى أن الدين

595
كفيل بردع الأمة عن سوء ما تتخلق به من طبائع قد تفضي بها إلى الانهيار،
كم ذا رأينا ونرى الشعوب المفسخة كفرنسا وإيطاليا وغيرها من الأمم التي
سارت بأخلاقها أو سارت بها أخلاقها إلى الانحلال. والنبي إذا قال: " إنما
بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " يشير بذلك إلى أن حياة الإنسان السامية تتقوم
بسمو الأخلاق.
فالأخلاق ليس لها زمان ومكان، وإنما هي نفس الزمان ونفس المكان
الذي يتسع للعالم، فإما أن يكون هذا الزمان أو المكان صالحا فيبقى على أهله
بين يدي تطورهم القائم على الخلود في عالم الحق.
إن عبقرية الإمام تتقوم بكلمات تأتي في الصميم البالغ، منها هذا القول
الذي تصدر البحث، فليس من العبقرية في البلاغة هذا القول وإنما هو من
البلاغة في العبقرية بحيث يتصدر الإعجاز، فهو يقرر بهذه الجملة عنصرين
هامين في بناء الدستور الإنساني. أولهما ضرورة التطور في الحياة، وثانيهما قيام
التطور على دعائم الحق في العالم.
هذا هو الدستور الذي يشير إليه معلمه محمد بقوله السالف، وهذا هو الذي
يعنيه الشاعر بقوله:
وإذا الأخلاق كانت سلما * نالت النجم يد الملتمس
فارق فيها ترق أسباب السما * وعلى ناصية الشمس اجلس
وإذا جعل محمد (صلوات الله عليه) عنوان رسالته مكارم الأخلاق فكيف لا
يكون علي (عليه السلام)، وهو تلميذه الأول، مقرر هذا العنوان ومعززه في
صدور البلغاء، وهو إنما كان خليفته ووصيه وأخاه وابنه وتلميذه وصهره،
لينشر هذا العنوان لواء يدعو الأمم إلى الانضواء تحته؟؟.
محمد الذي جعل سمو الخلق أحد شقي رسالته الذين هما العلم والأخلاق

596
بقوله: " اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد " وقوله: " إنما بعثت لأتمم مكارم
الأخلاق ".
أقول: إن محمدا هو الذي نفخ من روحه في صدر علي هذه الكلمة الجامعة
" لا تقسروا أولادكم على أخلاقكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم ". فإن
في هذه الكلمة تقرير الدعوة إلى سمو الأخلاق ثم إلى ضرورة التطور في هذا
السمو، فنحن مسؤولون أمام هذه الحكمة أن نهذب ناشئتنا ثم نكلها إلى
الزمن ". (1)
* * *
فالواجب على أولياء الأحداث اليوم أن يعلموهم ما هم في حاجة ماسة
إليه، وإن الإسلام ليقدر الاختلاف الزماني قدره، فإذا كانت الأخلاق تختلف
بين زمن الأب وابنه فكيف يكون مبلغ اختلافها بين زمن السلف وزمننا هذا.
جاء عن أبي الحسن (موسى بن جعفر ع) قال: " جاء رجل إلى النبي
(ص) فقال:، يا رسول الله ما حق ابني هذا؟ قال: تحسن اسمه وأدبه، وضعه
موضعا حسنا ".
وسأله رجل فقال: يا رسول الله من أبر؟ قال: بر والديك. قال:
ليس لي والدان. قال: بر ولدك، كما أن لوالديك عليك حقا كذلك لولدك
عليك حقا ".
وقال (ص): " رحم الله والدا أعان ولده على بره " (أي لم يحمله على
العقوق بسوء عمله).
وجاء عن علي (ع) قال: " أعينوا أولادكم على بركم، من شاء استخرج
العقوق من ولده ".



(1) دين وتمدين.
597
وقال (ع): " يلزم الآباء من العقوق لأولادهم ما يلزم الأولاد من
العقوق لآبائهم " وقال (ع): " لعن الله والدين حملا ولديهما على عقوقهما ".
وقال (ص): " من قبل ولده كتب له حسنة، ومن فرحه فرحه الله يوم
القيامة، ومن علمه القرآن دعي بالأبوين فكسيا حلتين يضئ من نورهما
وجوه أهل الجنة ".
وعنه (ص) قال: " حق الولد على والده إذا كان ذكرا أن يستفره أمه
ويستحسن اسمه، ويعلمه كتاب الله، ويطهره ويعلمه السباحة، وإن كانت
أنثى أن يستفره أمها، ويستحسن اسمها، ويعلمها سورة النور ولا يعلمها
سورة يوسف... ".
فتعليم الوالد الولد وتأديبه مأمور به، وكذلك القول في تسميته باسم
حسن. إذ أن للإسم دلالة على المسمى من الفأل الحسن وغيره. وأثر وضعي
للحب والكره، فقد جاء في كلام الحكماء: إن أحبكم إلينا قبل أن نراكم
أحسنكم اسما، فإذا رأيناكم فأحسنكم وجها، وإذا سمعناكم فأثبتكم منطقا،
وإذا اختبرناكم فأحسنكم عملا، أما سرائركم فبينكم وبين ربكم.
قال علي (ع): " وحق الولد على الوالد أن يحسن اسمه، ويحسن أدبه،
ويعلمه القرآن ". وجاء في الحديث: " تسموا بأسماء الأنبياء ".
وأحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها: حارث وهمام
وأقبحها: حرب ومرة.
روى أبو الدرداء عن النبي (ص): " إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم
وأسماء آبائكم فأحسنوا أسمائكم ".
وقال (ص): " إذا سميتم فعبدوا " أي سموا بنيكم عبد الله ونحوه من
أسماء الإضافة إليه عز اسمه. وكان رسول الله (ص) يغير بعض الأسماء، سمى

598
أبا بكر عبد الله، وكان اسمه في الجاهلية عبد الكعبة، وسمى ابن عوف
عبد الرحمن، وكان اسمه عبد الحارث، وسمى شعب الضلالة شعب الهدى، وسمى
يثرب طيبة، وسمى بني الريبة بني الرشدة، وبني معاوية بني مرشدة.
وروى جابر عنه (ص): " ما من بيت فيه أحد اسمه محمد إلا وسع الله
عليه الرزق، فإذا سميتموهم به فلا تضربوهم ولا تشتموهم، ومن ولد له ثلاثة
ذكور ولم يسم أحدهم أحمد أو محمد فقد جفاني ".
ومن حديث علي (ع) عن النبي (ص): " إذا سميتم الولد محمدا فأكرموه
وأسعوا له في المجلس ولا تقبحوا له وجها ".
وعنه (ص): " ما من قوم كانت لهم مشورة فحضر معهم عليها من اسمه
محمد أحمد فادخلوه في مشورتهم إلا خير لهم، وما من مائدة وضعت فحضر
عليها من اسمه محمد أو أحمد إلا قدس ذلك المنزل في كل يوم مرتين ".
وإن الإسلام لا يفرق بين الذكور والإناث في هذه الناحية، فلكل من
الجنسين الحق في أن يتربى، وفي أن يتعلم العلم النافع، ويدرس المعارف
الصحيحة، ويأخذ بأسباب التأديب، ووسائل التهذيب، لتكمل إنسانيته،
ويستطيع النهوض بالأعباء الملقاة على عاتقه.
يقول رسول الله (ص): " من كانت له ابنة فأدبها فأحسن تأديبها،
ورباها فأحسن تأديبها، وغذاها فأحسن غذاءها كانت له وقاية من النار ".
والمقصود بالتربية: إعداد الطفل بدنيا وعقليا وروحيا، حتى يكون
عضوا نافعا لنفسه ولأمته.
والمقصود بالإعداد البدني: تهيئة الطفل ليكون سليم الجسم، قوي البنية
قادرا على مواجهة الصعاب التي تعترضه، بعيدا عن الأمراض والعلل التي تشل
حركته وتعطل نشاطه.

599
ومعنى إعداده عقليا: أن يتهيأ كي يكون سليم التفكير، قادرا على
النظر والتأمل، يستطيع أن يفهم البيئة التي تحيط به، ويحسن الحكم على
الأشياء، ويمكنه أن ينتفع بتجاربه وتجارب الآخرين.
وأما إعداده روحيا: فمعناه أن يكون جياش العواطف، ينبسط للخير
ويفرح به، ويحرص عليه، وينقبض عن الشر ويضيق به ويفر منه.
الوسيلة لإعداد الفرد بدنيا:
والوسيلة التي وضعها الإسلام لجعل الفرد صحيح البدن، بعيدا عن
الأسقام والعلل، والتي يجب على المربي أن يأخذ بها في التربية تتلخص
فيما يلي:
1 - أن يحرص على النظافة في البدن والثوب والمكان، إذ أن النظافة
ركن من أركان الصحة، ودعامة من دعائمها:
2 - أن يعود الطفل الأكل من الطيبات التي تغذي البدن وتقويه مع
البعد عن الإسراف الذي يضر الجسم ويعرضه لكثير من الأمراض، يقول الله
تعالى: " كلوا واشربوا ولا تسرفوا ".
الوسيلة لإعداد الفرد عقليا:
إن الإنسان لا يحيا بجسده وحده، فإن حياة الجسد هي حياة الحيوان،
ولهذا وجب على المربي أن يعد الطفل عقليا، ويمكن تلخيص هذا الإعداد
باتخاذ الوسائل الآتية:
1 - القراءة والكتابة والتعلم: فإن الإسلام أول ما دعا إلى ذلك بقوله
تعالى: " اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك

600
الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم ".
2 -: التأمل والتفكير، وهما ضروريان لتنمية العقل واستقلاله بالفهم
والإدراك.
3 -: السياحة والرحلة والتنقل في الأرض، فإن ذلك يفيد علما جديدا
ومعرفة صحيحة. يقول القرآن: " أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها ".
وسائل الإعداد الروحي:
وتتلخص فيما يلي:
1 -: إبراز قيمة الفضائل وآثارها الفردية والاجتماعية، وإظهار مساوئ
الرذائل وآثارها أمام الطفل بقدر ما يتسع له فهمه.
2 -: أن يكون الآباء أنفسهم مثلا صالحا لأبنائهم، فإن الأطفال من
عاداتهم أن يتشبهوا بآبائهم ويحاكوهم في أقوالهم وأفعالهم.. والقدوة الصالحة
ما هي إلا عرض مجسم للفضائل.
وإن الطفل الذي يرى والديه يهتمان بأداء الشعائر والبعد عما يخل بتعاليم
الدين، مثل الكذب، والغدر، والنميمة، والأثرة والبخل، وغير ذلك من الصفات
الذميمة، لا بد وأن يتأثر أثرا بالغا بما يراه ويشاهده من والديه.
3 -: تلقين الطفل مبادئ الدين وتمرينه على العبادات وتعويده ممارسة
فعل الخير، فإن ذلك يجعل منه نواة صالحة لمجتمع سليم راق.
يقول رسول الله (ص): " مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم
عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع "
4 -: على الآباء أن تكون معاملتهم لأولادهم قائمة على أساس الملاطفة

601
وخفض الجناح. وقد كان النبي (ص) يعلم أصحابه أن يعاملوا أولادهم بالرفق
واللين، ويضرب لهم المثل بما يمارسه بنفسه، فقد كان يصلي يوما، إماما فارتحله
ابنه الحسين (عليه السلام) وهو ساجد فأطال السجود، فلما فرغ قالت الصحابة يا رسول
الله أطلت السجود فقال (ص): " إن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله ".
وقبله يوما وهو طفل، فقال رجل من الأعراب وكان حاضرا: أتقبلون أبناءكم
إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحدا منهم. فقال رسول الله (ص): " أو
أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك " (أي ما أستطيع أن أفعله معك وقد
غاض نبع الرحمة من قلبك). وغضب معاوية على ابنه يزيد فهجره، فاستعطفه
له الأحنف قال له: " يا أمير المؤمنين أولادنا ثمار قلوبنا وعماد ظهورنا ونحن
لهم سماء ظليلة وأرض ذليلة، فإن غضبوا فأرضهم وإن سألوا فأعطهم، فلا تكن
عليهم قفلا فيملوا حياتك ويتمنوا موتك ".
5 -: وما هو ضروري، أن يحبب الآباء أبناءهم في اختيار الأصدقاء
الأخيار ومزاملة أصحاب الخلق الفاضل، فإن الأطفال يحاكي بعضهم بعضا،
ويتشبه كل بالآخر.
ولنختم هذا الفصل بعرض النموذج الصالح للتربية الحسنة التي حكاها
القرآن عن لقمان الحكيم.
وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه:
1 -: يا بني لا تشرك بالله، إن الشرك لظلم عظيم...
2 -: ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن، وفصاله في
عامين أن اشكر لي ولوالديك إلى المصير، وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس
لك به علم فلا تطعهما، وصاحبهما في الدنيا معروفا، واتبع سبيل من أناب إلي
ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون.

602
3 -: يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في
السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير.
4 - يا بني أقم الصلاة...
5 -: وامر بالمعروف...
6 -: وإنه عن المنكر...
7 -: واصبر على أصابك إن ذلك من عزم الأمور..
8 -: ولا تصعر خدك للناس...
9 -: ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور...
10 - واقصد في مشيك...
11 -: واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ".
ولقمان الذي اختاره القرآن ليعرض بلسانه قضية التوحيد وقضية الآخرة
تختلف في حقيقته الروايات: فمن قائل: إنه كان نبيا، ومن قائل: إنه
كان عبدا صالحا من غير نبوة - والأكثرون على هذا القول الثاني - ثم يقال
إنه كان عبدا حبشيا. ويقال: إنه كان نوبيا. كما قيل: إنه كان في بني
إسرائيل قاضيا من قضاتهم. وأيا من كان لقمان فقد قرر القرآن أنه رجل
آتاه الله الحكمة التي مضمونها ومقتضاها الشكر لله: " ولقد آتينا لقمان الحكمة
أن اشكر لله ".. وهذا توجيه قرآني ضمني إلى شكر الله، اقتداء بذلك الرجل
الحكيم المختار الذي يعرض قضيته وقوله، وإلى جوار هذا التوجيه الضمني توجيه
آخر فشكر الله إنما هو رصيد مذخور للشاكر ينفعه هو، والله غني عنه.
فالله محمود بذاته ولو لم يحمده أحد من خلقه: " ومن يشكر فإنما يشكر
لنفسه، ومن كفر فإن الله غني حميد ".. وإذن فأحمق الحمقى هو من يخالف

603
الحكمة، ولا يدخر لنفسه مثل ذلك الرصيد. (1)
ثم تجئ قضية التوحيد في صورة موعظة من لقمان الحكيم لابنه: " وإذ
قال لقمان لابنه - وهو يعظه - " يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم ".
وإنها لعظة غير متهمة، فما يريد الوالد لولده إلا الخير، وما يكون
الوالد لولده إلا ناصحا. وهذا لقمان الحكيم ينهى ابنه عن الشرك، ويعلل هذا
النهي بأن الشرك ظلم عظيم. ويؤكد هذه الحقيقة مرتين: مرة بتقديم النهي
وفصل علته. ومرة بأن واللام.. وهذه هي الحقيقة التي يعرضها محمد (ص) على
قومه فيجادلونه فيها، ويشكون في غرضه من وراء عرضها، ويخشون أن يكون
وراءها انتزاع سلطان منهم والتفضل عليهم! فما القول ولقمان الحكيم يعرضها
على ابنه ويأمر بها. والنصيحة من الوالد لولده مبرأة من كل شبهة بعيدة من
كل ظنة.
وفي هذه الآيات على ما نرى تتركز عناصر التربية والتهذيب الإسلاميين
وهي مملوءة زاخرة بالعناصر المختلفة التي تجعل من الطفل والرجل والمرأة
أشخاصا مثاليين في مجتمع مثالي، ولا تعني هذه المثالية أنها خيالية بل أنها
مثالية واقعية لأنها تراعي طبيعة الإنسان وفطرته وانسجامه مع المادة والروح،
مع الأفراد والجماعات، منسجم في أسرته ومعاشه وحياته وآخرته.
فلسفة التربية في الإسلام فلسفة مثالية واقعية تحترم الشخصية الإنسانية
تراعي جميع نواحيها وتجعلها شخصية متكاملة كلية لا انقسام فيها ولا تجزئة.



(1) راجع الجزء الثاني من كتابنا (الجواهر الروحية) تجد فيه
استيفاء أحوال لقمان وحياته.
604
ولنر ذلك في الآيات السابقة:
تبدأ وصية لقمان لابنه بقوله تعالى: " يا بني لا تشرك بالله إن الشرك
لظلم عظيم ".
ولعلنا نستغرب بوصية لقمان هذه، إذ أنها تبدأ بطلبه من ابنه أن لا
يشرك بالله. وكان الأولى أن يطلب منه قبل ذلك أن يؤمن به، لكن في الحقيقة
لا داعي لهذا الاستغراب لأن الحقيقة التي يؤمن بها المسلم أن الإيمان بالله أمر
فطري طبيعي، فهي شئ مفروغ منه لا داعي للتذكير به والرسول محمد (ص)
يقول: " كل مولود يولد على الفطرة، إلا أن أبواه يهودانه أو ينصرانه أو
يمجسانه ".
فالإنسان يولد وهو مفطور على الإيمان بالله، وإنما الذي يفسده هو
المجتمع الفاسد، ويجعله سليما المجتمع السليم، وللأبوين أكبر الأثر في ذلك
فالإيمان أمر مفروغ منه وإنما الذي يقع بعد الإيمان إنما هو الشرك بالله.
والشرك أنواع، فليس الشرك عبادة الأصنام من حجارة وأمثالها فحسب بل
الشرك أنواع كثيرة، فالاعتقاد بالأوهام والخرافات شرك، أو اتباع الأهواء
وعبادتها شرك، والخضوع للشهوات بشكلها الغير المشروع شرك، والتذلل
والخضوع لطاغية أو جبار شرك بالله، عبادة المال بجعلها غاية بذاتها شرك،
وقبول شريعة وحكم وقانون يخالف ما شرعه الله ورسوله أيضا شرك.
فكما نرى أن الشرك أنواع كثيرة لا حصر لها.
وربما نتساءل وما دخل الشرك في الناحية التربوية؟ ولما ذا يبدأ لقمان
بوصيته لابنه يتحذره من الشرك؟ نقول: إن الوحدانية في الإسلام هي أساس
التربية.

605
وذلك أن الإنسان عندما يخلص العبادة لله وحده يتحرر من كل كائن
آخر سواه، فهو يتحرر من الأوهام والخرافات، ويتحرر من سيطرة المشعوذين
فيحرر فكره وعقله فيكون على بصيرة من الأمر ولا يقبل الأشياء على علاتها،
ثم إنه يتحرر من عبادة المال فلا يجعل غايته في الحياة السعي وراء كنزه
والاستكثار منه فيحرم منه ذوي الحاجة إليه، كما أنه بذلك يتفرغ إلى أمور
أخرى هي أهم من جمع المال. ويتحرر من عبودية الأشخاص فيشعر بقوة
شخصيته وحريته وتحرره، فلا يكون عبدا ذليلا لغيره إذ العبودية لله وحده
وهو يقف جبارا أمام كل طاغية رافع الرأس غير مستكين. إنه متحرر من
أهوائه وشهواته، فقد أحكم ذاته وأخضعها للخير، وقوى إرادته، فلم يعد آلة
طيعة تلعب بها الأهواء. وفي كل ذلك تربية للشخصية وتثقيف لها وتهذيب.
وبعد أن تتحقق هذه الشخصية المتحررة من عبودية الخرافات والأوهام
والأشخاص والمال والأهواء. هذه الشخصية التي رتبت ذاتها وإرادتها أصبح
بإمكانها ومن السهل عليها أن تقبل أنواعا من التربية وتكمل بها إنسانيتها.
ثم إن الإسلام في تربيته يحرص على أن يغرس في نفس الطفل الوازع
الداخلي النابع من الأعماق الذي يسلك السلوك الحسن لا خوفا من الأشخاص
أو المجتمع، ولا لأن العقوبة ستصيبه إن هو أساء السلوك، ولا لأن القانون
والمحاكم ستتابعه ثم يزج به في السجن.
إن الإسلام يحرص على أن تكون الرقابة ذاتية داخلية لا رقابة مادية
ولكن من أين تأتي هذه الرقابة وكيف تتكون؟ إنها مسألة بسيطة بالنسبة
للإنسان المؤمن، إن هذه المراقبة الداخلية تتكون عندما يشعر الإنسان بالرقابة
الإلهية وحدها التي لا تخطئ، ولذلك نجد لقمان يقول لابنه: " يا بني إنها
إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض

606
يأت بها الله " لم يقل لقمان لابنه يجب أن تسلك السلوك الحسن وإلا أعاقبك بالجلد
أو العصا، وإنما أراد أن يربي فيه الشعور المرهف والإحساس الشديد بالمسؤولية
أمام ربه الذي آمن به وحده وأخلص في ذلك، فأصبح يعتقد أنه مراقب على
كل كبيرة وصغيرة مهما كانت، وأنه سيسأل عنها، فإذا أفلت من عقاب المجتمع
أو من عقاب القانون أو الأفراد فلن يفلت من عقاب خالقه القوي القدير.
ثم يأتي لقمان في وصيته إلى ناحية أخرى فيقول له: " يا بني أقم الصلاة
وامر بالمعروف وإنه عن المنكر " فالمسلم الذي آمن بربه وحرر شخصيته
وأرهف شعوره بالمسؤولية، لا بد له نتيجة الإيمان هذا من أن يعبد الله معترفا
بجميله فيؤدي الصلاة التي هي من أسس العبادة لله والتي هي عنصر تربوي في
ذاتها، إذ أنها توجد الانسجام في الشخصية بين الناحيتين المادية والروحية كما
أنها تعلمه النظام وتربطه مع الجماعة وتجعله في راحة نفسية كبرى، وفي الصلاة
فوائد تربوية كثيرة استعرضناها في الحلقة الثالثة من كتابنا (الجواهر الروحية)
وفي الدرس العاشر من هذا الكتاب وفي كتابنا (علي والأسس التربوية)
* * *
إلى الآن ما نزال في تربية الشخصية تربية فردية، والإنسان لا يعيش
وحيدا في الحياة إنما هو مغمور في الحياة الاجتماعية وعلاقاته مع لآخرين،
فلا بد من تربيته أيضا على السلوك الاجتماعي ليتكون بذلك المجتمع المثالي.
ولذلك نجد لقمان يتبع وصيته لابنه بالصلاة، الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر.
فالإنسان الذي ربى ذاته وحكم شخصيته وتحرر من الأهواء أصبح بإمكانه
أن يتنقل إلى غيره ممن يعيش معهم، فهو ليس مسؤول أيضا عن شخصه وحده بل
مسؤول أيضا عن مجتمعه، فمن الواجب عليه أن يقوم المعوج ويأمر بفعل الخير

607
واتباع السبيل القويم، كما أنه يجب عليه أن يقاوم المنكر بجميع أنواعه من
انحلال في الخلق وانحراف عن العقيدة أو اعتداء على الآخرين، أو حكم جائر
ظالم، وأنواع المنكرات كثيرة لا يمكن حصرها. وهو إذا لم يفعل ذلك فإن
المصيبة ستحل به أيضا لأنه جزء من المجتمع يحل به ما يصيب هذا المجتمع، وبذلك
يغرس الإسلام في الفرد الروح الاجتماعية والمسؤولية فلا يستطيع عنها انفكاكا.
ثم نجد لقمان يخاطب ابنه ويوصيه بناحية أخرى من نواحي تربية
الذات، وهي مرتبطة ارتباطا وثيقا بما سبق ذكره فيقول له: " واصبر على ما
أصابك، إن ذلك من عزم الأمور ".
والعنصر التربوي هنا هو الصبر على المصائب، والمصائب متنوعة كثيرة
منها ما ينتج عن المجتمع ذاته، إذ أن من الطبيعي أن الذي يريد أن يأمر
بالمعروف وينهى عن المنكر، لا بد وأن يناله الأذى المعنوي والمادي ومن الأذى
المعنوي الشتائم والتعذير والإعراض. ومن الأذى المادي تعذيب وسجن من قبل
حاكم طاغية. ومنه أيضا تعذيب في المال إذا صودر، وربما جوع وحرم من
حاجاته، وغير ذلك كثير، فمثل هذه الأنواع من المصائب والمكاره لا يمكن
أن يحتملها إلا شخص جبار سيطر على نفسه وقوى إيمانه عزيمته، ووطد نفسه
لما تحب وتكره وتعود الصبر على المكروه.
ثم إن من المصائب ما هو طبيعي، فهو كإنسان معرض للأمراض ومعرض
أن يصاب في ماله أو عياله وأهله. فهذه مصائب ليست آتية من المجتمع وإنما
هي من الطبيعة الإنسانية، فهي تصيب الفرد لأنه إنسان كائن حي. فهذه المصائب
أيضا لا بد لاحتمالها من شخصية فذة جلدة متحررة، تعودت الخشونة ومارست
متاعب الحياة فسخرت بها واجتازتها بسلام.
ثم بعد ذلك الوصايا التي تحدد السلوك الاجتماعي، فيقول لقمان: " ولا

608
تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا، إن الله لا يحب كل مختال فخور
واقصد في مشيك... ". ويقول الله تعالى في سورة الفرقان: " وعباد الرحمن
الذين يمشون على الأرض هونا... ".
وفي هاتين الآيتين نجد أدب الشخصية المؤمنة المسلمة، وسلوكها في
الشارع حيث الناس مجتمعون.
وهنا أترك الحديث (لسيد قطب) يشرح لنا هذه المعاني في أسلوبه
التربوي:
ها هي ذي سمة من سمات عباد الرحمن: إنهم يمشون على الأرض مشية
سهلة هينة، ليس فيها تكلف ولا تصنع، وليس فيها خيلاء ولا تتعج ولا تصعير
خد ولا تخلع أو ترهل. فالمشية ككل حركة تعبير عن الشخصية وعما يستكنه
فيها من مشاعر. والنفس السوية المطمئنة الجادة القاصدة، تخلع صفاتها على
مشية صاحبها، فيمشي مشية سوية مطمئنة جادة قاصدة. فيها وقار وسكينة وفيها
جد وقوة.
وليس معنى: " يمشون على الأرض هونا " إنهم يمشون متماوتين منكسي
الرؤوس، متداعي الأركان، متهاوي البنيان، كما يفهم بعض الناس ممن يريدون
إظهار التقوى والصلاح وهذا رسول الله (ص) كان إذا مشى تكفأ تكفئا وكان
أسرع الناس مشية، وأحسنها وأسكنها. قال أبو هريرة: " ما رأيت شيئا أحسن
من رسول الله (ص) كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحدا أسرع في
مشيته من رسول الله (ص) كأنما الأرض تطوى له، وإنا لنجهد أنفسنا وأنه
لغير مكترث ". وقال علي أمير المؤمنين (عليه السلام): " كان رسول الله (ص) إذا
مشى تكفأ تكفئا كأنما ينحط من صبب ".
ونعود مرة ثانية إلى وصية لقمان يعلم ابنه آداب السلوك ومعاشرة الناس

609
والتحدث إليهم، فيقول له: " واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت
الحمير ".
إن من صفات الشخصية المنسجمة المتزنة أن تحسن أدب الحديث مع
الناس، فتعبر عن رأي صائب وفكر واضح نير، والصوت المعتدل يعبر عن صفاء
الذهن وانبساط الشخصية وانطلاقها، ويعبر عن الرزانة ورباطة الجأش والجرأة
والانسجام الاجتماعي. بينما نرى أن الشخصية المفككة يصعب على صاحبها
التفكير السليم، فتخرج نبراته مفككة على مثال شخصيته، ونرى ضعيف التفكير
وفاقد التهذيب الذي لا يملك الوسائل المعقولة التي توصله إلى هدفه عن طريق
الكلام المقنع واللسان الهادئ، نرى مثل هذا يحاول أن يسيطر على محدثه
بصوته الأجش الغليظ النابي، ليعوض بذلك عن قصوره وسوء تعبيره، ولكنه في
الواقع قد أظهر ضعفه وانحلال خلقه وقصر باعه. فأصبح كالحمار يملأ الأرض
إزعاجا بنهيقه، فينفر من حوله ويضيق به ذرعا. فالصوت ظاهرة مهمة تعبر عن
شخصية صاحبها وقد قيل: " إن من البيان لسحرا " والسحر ينفذ إلى الأعماق
ويحرك القلوب ويثير الشعور ويدفع إلى التعاطف مع محدثه.
وكثيرا ما استطعنا الحكم على الأشخاص من سماع أصواتهم، فنقول فلان
منعزل عن المجتمع منطو على نفسه، وفلان شخص اجتماعي منطلق، وثالث
نقول عنه قليل الحياء والأدب منحط الأخلاق سئ الطبع، وآخر نقول عنه
إنه شخص مهذب مربي حسن السلوك، وفلان سئ التفكير ضعيف الثقافة. وفلان
قوي التفكير منسجم مع نفسه واضح البيان، كما أننا نتعرف على حالته العاطفية
فنقول: إنه مذعور، أو حزين أو فرح مسرور، إلى غير ذلك من التعابير، مما
يجعل للصوت أثره الكبير في التربية.
وننتهي من وصايا لقمان لابنه، لنعود ثانية إلى صفات عباد الرحمن

610
المهذبين، فنسمع قوله تعالى: " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ".
وهنا أيضا ندع الكلام (لسيد قطب) يشرح لنا هذه الصفة التربوية
الأخلاقية لعباد الرحمن تعتبر مكملة للصفة السابقة.
يقول السيد قطب: " وهم - أي عباد الرحمن - في جدهم ووقارهم وقصدهم
إلى ما يشغل نفوسهم من إهتمامات كبيرة، لا يلتفتون إلى حماقة الحمقى وسفه
السفهاء، ولا يشغلون بالهم ووقتهم وجهدهم بالاشتباك مع السفهاء والحمقى في
جدال أو عراك ويترفعون عن المهاترة مع المهاترين الطائشين: " وإذا خاطبهم
الجاهلون قالوا سلاما " لا عن ضعف ولكن عن ترفع، ولا عن عجز إنما عن
استعلاء وعن صيانة للوقت والجهد أن ينفقا فيما لا يليق بالرجل الكريم المشغول
عن المهاترة مما هو أهم وأكرم وأرفع ".
ونتابع صفات عباد الرحمن، فيقول الله عز وجل: " والذين يبيتون لربهم
سجدا وقياما، والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما
إنها ساءت مستقرا ومقاما ".
ولا حاجة بنا أن نعيد ما ذكرناه من قبل عن أهمية العبادة، ثم الاعتماد
في التربية على المراقبة الداخلية وتربية الحس والشعور بالواجب عن طريق
الشعور بالمراقبة الإلهية وخشيته وتقواه والتحرر بعد ذلك من سائر القيود.
ويلي ذلك صفات أخرى تتعلق بالناحية الاقتصادية، إذ أن الإسلام كما قلنا
يعالج التربية بشكل كلي شامل، فيربي الشخصية بجميع جوانبها لتكون
متكاملة متماسكة " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك
قواما " فهنا يضع قانونا اقتصاديا يحدد به التصرف بالإنفاق، وتظهر هنا ظاهرة

611
الاعتدال والتوازن التي أنصف بها الإسلام في جميع تشريعاته، فيبين أن عباد
الرحمن ينصفون بالاعتدال، فهو إذا أنفقوا، إنما ينفقون على قدر حاجاتهم فلا
يبذرون فيبددون مالهم بغير فائدة ترجى، فيضر صاحب المال نفسه وجماعته
ويحرم غيره ممن هو في حاجة إلى فضل ماله الذي يبدده على غير هدى. كما
أن عباد الرحمن لا يقترون على أنفسهم دون سرف أو تقتير.
" والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله
إلا بالحق ولا يزنون، ومن يفعل ذلك يلق أثاما، يضاعف له العذاب يوم القيمة
ويخلد فيه مهانا ".
وهنا نجد أن التربية الإسلامية تعمل على إيجاد الانسجام والالتئام بين
أفراد المجتمع، فلا يعتدي فرد على آخر بدون حق، فيقضي على حياته فتشيع
بذلك الفوضى والفزع والاضطراب بين الأفراد ويفرق بينهم، ولذلك أنذر الله
عز وجل من يفعل ذلك بعاقبة سيئة فينال العذاب المقيم والمهانة الدائمة ومثل
الاعتداء على الحياة، الاعتداء على الأعراض، إذ أن ذلك يشيع الفاحشة بين
أفراد المجتمع ويذهب الثقة من نفوسهم وتضطرب حياة الأسرة ويسيطر عليها
الانحلال، فيفقد بذلك المجتمع أهم مقوماته. " إلا من تاب وآمن وعمل صالحا
فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما، ومن تاب وعمل صالحا
فإنه يتوب إلى الله متابا ".
ومهما يكن المجتمع سليما لا يمكن أن يصل لمرحلة المثالية ولا بد من
وجود بعض الأفراد الذين يرتكبون في فترة من فترات حياتهم بعض الآثام
والجرائم. إلا أن هؤلاء لا يقطع عليهم المجتمع الإسلامي سبيل العودة إلى الرشد
والصواب وإلى صف المجتمع السليم، ولا يدع مثل هؤلاء الأفراد صرعى اليأس
فيعيثون في المجتمع فسادا، فالتربية الإسلامية لا تزال تلتمس فيهم عنصر الخير

612
والطبع السليم فتدع لهم المجال واسعا، للأوبة والتفكير عما جنت أيديهم،
بإمكانهم أن يكونوا من المهتدين.
ويعد الله عز وجل مثل هؤلاء الذين استيقظ ضميرهم وأرادوا العودة
والمآب، بأن سيئاتهم ستبدل حسنات، فيشعروا بالطمأنينة والإعتزاز وينسوا
ماضيهم الأسود بعد أن أنابوا إلى الله فأكرمهم وتقبل توبتهم، وبذلك ينعدم
الأثر اللاشعوري للجريمة، فلا تتكون العقد النفسية المختلفة، وإنما تصبح
هذه النفوس صافية سليمة مندفعة نحو الخير وبقبول التوبة يزول ما يسمى
الشعور بالخطيئة التي تقض مضجع المجتمع الغربي لاعتقاد أفراده أن الإنسان
مفطور على الشر وهو مسؤول عن خطيئة آدم، ولذلك نجد المجتمع الغربي قد
انقسم إلى فئتين: فئة أظهرت اللامبالاة وانغمست في الرذيلة وعكفت على شهواتها
ونسيت إنسانيتها وانحدرت إلى مراتب الحيوانية، وهناك فئة أخرى انقطعت
للعبادة والتنسك وقاومت ما في طبيعتها من ميول فطر الإنسان عليها، لكي تكفر
عن الخطيئة التي ولدت وهي تحملها، فنشأ عن ذلك صراع بين المادة والروح
وانقسام في الشخصية وانحلال في الأسرة.
أما الإسلام فيعتبر أن الأصل طهارة النفس إذا أحسنت التربية، وليس
على الإنسان وزر خطيئة غيره " كل نفس بما كسبت رهينة " " ولا تزر وازرة وزر
أخرى " فكل امرئ مسؤول عما يفعل هو دون سواه. وإذا كانت بعض
النفوس تميل في بعض فتراتها إلى المعصية فإن باب التوبة مفتوح على مصراعيه
ويضع قاعدة التوبة وشرطها: " ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله
متابا "... فالتوبة تبدأ بالندم والإقلاع عن المعصية، وتنتهي بالعمل الصالح
الذي يثبت أن التوبة صحيحة وأنها جدية، وهو في الوقت ذاته ينشئ التعويض
الإيجابي في النفس للإقلاع عن المعصية. فالمعصية عمل وحركة يجب ملء فراغه

613
بعمل مضاد وحركة، وإلا حنت النفس إلى الخطيئة بتأثير الفراغ الذي تحسه
بعد الإقلاع.
هذه لمحة في نهج التربية القرآني عجيبة، تقوم على خبرة بالنفس
الإنسانية عميقة، ومن أخبر من الخالق بما خلق؟
ثم يذكر القرآن الكريم قاعدة تربوية أخرى: " والذين لا يشهدون
الزور، وإذا مروا باللغو مروا كراما " وشهادة الزور إما أن تكون بالشهادة
المباشرة على الغير والمسلم الذي تربى التربية الإسلامية الصحيحة لا يمكن أن
يقدم على مثل هذه الشهادة، لأن فيها ضياعا لحقوق الناس، وفيها تشجيع
لاغتصاب حقوق الآخرين وتشجيع للجريمة والكذب والعقوق. وبذلك تفقد
العدالة مكانتها وعملها ويصبح الباطل حقا والحق باطلا. ولذلك كان البعد عن
شهادة الزور ذا أهمية كبرى في التربية الإسلامية وعنصرا له مكانته في الحياة
الاجتماعية السلمية.
ومن ناحية ثانية ربما تكون شهادة الزور بحضور مجلس أو مجالس يقع
فيه الزور بجميع ألوانه، فالذي تربى التربية الإسلامية يترفع عن حضور مثل هذه
المجالس إذا لم يحاربها ويعمل على زوالها ليصون نفسه ومجتمعه منها. " وإذا
مروا باللغو مروا كراما ".
المسلم المهذب لا يشغل نفسه بسماع الباطل والكلام الفارغ والثرثرة
الجوفاء، ويتنزه عن المشاركة بمثل هذه الأوضاع، لأنه في شغل شاغل عن ذلك
فهو جد وعمل يتطلع إلى حياة كريمة وسمعة طيبة. ولا يخفى ما في عنصر اللغو
من أضرار تلحق الجماعة لما يحدث من تجريح للأشخاص والدس لهم وترويج
الشائعات الكاذبة حولهم، كما أن اللغو مضيعة لوقت بدون فائدة. ويختم الله

614
عز وجل صفات عباد الرحمن بقوله: " والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا
وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ".
فهؤلاء المؤمنون يغمرهم اهتمام كبير بشأن مستقبل أمتهم، فهم يتمنون
من الله أن يهبهم من زوجاتهم وذرياتهم جيلا مؤمنا صحيح الإيمان، سليم
العقيدة، يدعو للفخر والبهجة.
وفي هذه الآية قاعدة كبرى من قواعد التربية: " واجعلنا للمتقين إماما "
فأهم ناحية في الترية هي وجود القدوة الحسنة. فالطفل لا يتأثر بالوعظ والكلام
ومعرفة النظريات، فالكلام - كما يقولون - يدخل من أذن ويخرج من أخرى
وخاصة بالنسبة للطفل، فإن عقليته البسيطة لا تدرك المجردات والنظريات ولا
تعيها، لأن نموه الفكري لا يزال في بدايته، ولا بد له لكي يفهم هذه النظريات
من أن تتجسد في شخصية محسوسة، فيقتدي بها ويعمل على أثرها، إنه يدرك
الخير عندما يرى من يفعله ويعرف السلوك الحسن عندما يرى أباه يفعله وكما
يقولون: (الولد سر أبيه) فالقدوة خير من الكلام مهما حسن وطال ونمق
وزخرف.. يقول علي أمير المؤمنين (عليه السلام): " أيها العلماء ربوا الناس بأفعالكم
قبل أن تربوهم بأقوالكم " فالقدوة الحسنة أهم قاعدة في أساليب التربية.
ومن المشكوك فيه أن ينشأ الطفل سليم البنية سليم التفكير والتربية حسن الخلق
قوي العقيدة عن طريق الوعظ والكلام، وهو يشهد أبويه يفعلان خلاف ما يقولان
وسلوكهما يختلف عن أقوالهما. فالأب الذي يكذب ويطلب من ابنه أن يكون صادقا
كمن يضحك على نفسه، لأن ابنه لن يصغي إلى ما يعظه به بل سيفعل ما يفعل
وهذا يصدق في كل عمل أخلاقي، فإذا أردنا أن يكون الطفل حسن التربية فلا
بد من توفير جو صالح ينشأ فيه، ومن يملأ هذا الجو مثل الأبوين.
بقول (أبو حامد الغزالي) حين يعدد واجبات المعلم: " يجب أن يكون

615
المعلم عاملا بعلمه فلا يكذب قوله فعله، لأن العلم يدرك بالبصائر والعمل يدرك
بالأبصار، وأرباب الأبصار أكثر، فإذا خالف العمل العلم منع الرشد، وكل
من تناول شيئا وقال للناس لا تتناولوه فإنه سم مهلك، سخر الناس به واتهموه
وزاد حرصهم على ما نهوا عنه، فيقولون لولا أنه أطيب الأشياء وألذها لما كان
يستأثر به ".
ويقول أيضا: " ثم مهما ظهر من الصبي من خلق جميل وفعل محمود فينبغي
أن يكرم عليه ويجازى عليه بما يفرح به ويمدح بين أظهر الناس، فإن خالف
ذلك في بعض الأحوال مرة واحدة، فينبغي أن يتغافل عنه ولا يهتك سره ولا
يكاشفه ولا يظهر له أنه يتصور أن يتجاسر أحد عليه مثله، ولا سيما إذا ستره
الصبي واجتهد في إخفائه، فإن إظهار ذلك عليه ربما يفيده جسارة حتى لا يبالي
بالمكاشفة، فعند ذلك إن عاد ثانيا فينبغي أن يعاتب سرا ويعظم الأمر فيه ويقال
له: إياك أن تعود بعد ذلك لمثل هذا، وأن يطلع عليك في مثل هذا فتفتضح
بين الناس، ولا تكثر القول عليه بالعتاب في كل حين. فإنه يهون عليه سماع
الملامة وركوب القبائح، ويسقط وقع الكلام من قبله ".
وبعد فقد أطلنا الرحلة في جولتنا بين أجواء التربية مستوحاة من القرآن
بعد أن بينا جوانبا من فلسفة التربية في الإسلام وإن لم نحط بها فالإحاطة
تتطلب جهدا أكثر من ذلك بكثير. ولعلنا قد أشرنا إلى أصول التربية في كتابنا
(علي والأسس التربوية) فقد أعطينا هناك فكرة عامة عن التربية التي يتطلبها الإنسان

616
لفضيلة العلامة الشيخ مرزا محمد الخليلي حفظه الله مقطوعة شعرية يوصي
فيها ولده نثبتها هنا من أجل المناسبة:
بني أوصيك نلت العز والرشدا * وصية بر فيها الوالد الولدا
فكر تجد سبل الغايات واضحة * فالفكر إن لم يجد تنبيهة رقدا
واعمل ولا تتكل إن رمت نيل منى * فالذهن إن لم يجد تحريكة خمدا
كن ابن من شئت لا تنظر إلى سلف * وهذب النفس بالعرفان والجسدا
وامسك بدينك واعلم أن خالقنا * ما كان أنشأ هذي الكائنات سدى
وافخر بدين الهدى إذ صرت متبعا * لخير دين به الرحمن قد عبدا
وحسن الزرع في الدنيا لتحصده * غدا بدار بها قد فاز من حصدا
فليس بالعاقل المرموق من ترك * العقبى لدنيا جناحاها ضني وردى
وإنما الكيس الفذ الذي جمع * الدنيا إلى الدين عن عقل له وهدى
وتابع المصطفى دنيا وآخرة * وآله عدة أعظم بهم عددا
فأحمد خاتم الرسل الأولى سبقوا * ودينه خاتم الأديان معتقدا
فاسمع مقالي واعمل في نصائحه * فعامل الخير مجزي بما اعتقدا
* * *
ثق أن للكون ربا جل عن شبه * وعن شريك له من خلقه أحدا
قد أرسل الرسل فضلا ثم أعقبهم * لطفا أئمة إصلاح لنا وهدى
لا يظلم الناس عدلا منه حين هدى * النجدين من طلب الأخرى ومن جحدا
فمن يمت عاصيا يوم المعاد هوى * ومن يمت مؤمنا يوم الجزا سعدا
هذي أصول بها الإيمان يكمل و * الفروع عشر سيأتي ذكرها عددا
صوم صلاة زكاة حج من بلغ * استطاعة مرة في العمر قد وردا
والخمس يعطى لأبناء النبي من * المثرين إن ربحوا أو مغنم وجدا

617
ثم الجهاد لنشر الدين إن وجد * الإمام أو نائب إن رام صد عدا
والنهي عن منكر في الدين جاء و * بالمعروف أمر لوجه الله قد قصدا
وأن توالي أهل البيت متخذا * ولاهم جنة تطفي بها الوقدا
وأن تعادي من عاداهم وترى * ذاك الولا والعدا أجر النبي غدا
وهم علي ونجلاه وبعدهم * السجاد والباقر السامي علا وندى
وجعفر الصادق الأقوال مذهبنا * وكاظم الغيظ موسى غوث من وفدا
ثم العلي الرضا ثم الجواد محمد * ومن بعده الهادي العلي هدى
وبعده العسكري المجتبى حسن * والقائم المرتجى أعظم بهم سندا
من يملأ الأرض عدلا بعد ما ملئت * جورا ويغمرها من فيضه رشدا
هم أئمتنا المفروض طاعتهم * وفي رقاب البرايا ودهم عقدا
فما السعيد سوى من نال ودهم * وما الشقي سوى من فضلهم جحدا
* * *
ثم اعتقد أن ما بعد الحياة لنا * موت يقين وقبر يكفل الجسدا
وعالم البرزخ الموعود بعدهما * لا بد يأتي وحق كل ما وعدا
والنشر والحشر في يوم الحساب غدا * حتم على كل من في قبره لحدا
لتأخذ الناس أجر السالفات من * الأعمال منهم وحاشا أن تروح سدى
والكوثر العذب يسقى منه كل فتى * لله في حب آل البيت مد يدا
وهم لمن رضي الرحمن عنه غدا * يستشفعون ومن تقبل له خلدا
ولن يجوز غدا فوق الصراط سوى * من كان في كفه صك له شهدا
بأنه من علي وهو تابعه * ومن سيعطاه يعطى الخلد والرغدا
هذى وصاياي فاحفظها وكن رجلا * مهذبا لصنوف الخير قد قصدا

618
وللعلامة حجة الإسلام الشيخ عبد الحسين صادق العاملي رحمه الله يوصي
ولده العلامة الشيخ حسن:
ذي عامل فكن أبا النجيب لا * وصالها تهوى ولا صدودها
كن لا قريبها الذي تطمع أن * تقبضه الكف ولا بعيدها
سس كأبيك الناس بالحسنى وزد * إن كان في الإمكان أن تزيدها
كن في بني العلم على حاشية * من حشدها لا تخترق محشودها
واجتنب الصدر لذات احتبت * في دسته ولا تكن حسودها
كن أذنا واعية مفادها * إن نطقت أو كن فما مفيدها
كن في التقى سلمانها كن في الهدى * لقمانها كن في القضا داودها
وإن تهز القوم أريحية * للنظم والنثر فكن لبيدها
وإن تجد في القيل والقال ريا * لا سمح الله فكن جلمودها
لا تبتئس إن ازدرتك أعين * ما أنت إلا أنت يا وحيدها
فضيلة الإنسان لن ينقصها * الجهل بها والعلم لن يزيدها
ألحف بني العلم جناحيك وذد * عن حوضها واحفظ لها عهودها
وكن لها مجنة دارئة * عنها الأذى مميطة نكودها
أذق سواد الناس من مكارم * الأخلاق مشمول الصبا برودها
اعطف على صغيرها موقرا * كبيرها مجمعا بديدها
ذد للتقى نفسك فالنفس إذا * أهملتها أعيتك أن تذودها
رضها بثقل العب ء فالنفس إذا * اعتادت فثقل العب ء لن يؤدها
صن يا ابن أيامك أيامك عن * قول الورى بؤساك يا ولودها
ألبس جديديك الملونين ما * يزيل في تبييضه تسويدها

619
احذر وجوه الناس جيدا وقفا * ليس قفاها بالمساوي جيدها
مداحة إن أقبلت سلاقة * إن أدبرت مشاقة حديدها
تطعن في كل امرئ لم ينتجع * نجعتها أو لم يرد ورودها (1)



(1) عن المجموع الرائق للعلامة السيد محمد صادق بحر العلوم مجلد 3.
620
حق الأخ

621
قوله عليه السلام:
" وحق أخيك أن تعلم أنه يدك التي تبسطها، وظهرك
الذي تلتجئ إليه، وعزك الذي تعتمد عليه، وقوتك التي تصول
بها. فلا تتخذه سلاحا على معصية الله، ولا عدة للظلم لخلق الله
ولا تدع نصرته على نفسه، ومعونته على عدوه والحول بينه وبين
شياطينه. وتأدية النصيحة إليه والإقبال عليه في الله، فإن انقاد
لربه وأحسن الإجابة له، وإلا فليكن الله آثر عندك وأكرم
عليك منه ".
* * *
الأخ صنو أخيه، منبتهما واحد، ودمهما واحد، ووراثتهما النفسية
والجسدية تتسلسل من أرومة واحدة، وكل منهما يشعر بالاعتزاز بعزة الآخر
إلا أن يفسد فطرته الحسد، ويحفظ من ذكريات الطفولة والصبا ما له سلطان
عظيم على النفس، وتأثير كبير في آصرة الرحم والحب، وما زال أهل الوسط
من بيوت الناس الذين سلمت فطرتهم وكرمت أخلاقهم، يحبون إخوتهم كحبهم
أنفسهم وأولادهم، ويوقرون كبيرهم توقيرهم لأبيهم، ويرحمون صغيرهم رحمتهم
لأبنائهم، ويكفلون من يتركه والده صغيرا فيتربى مع أولادهم كأحدهم وقد
تكون العناية به أشد، كل ذلك أداء لحق الأخوة والقيام بواجبها.
والإمام (عليه السلام) هنا يريد هذا المعنى وأن الأخ هو الذي اتحد بأخيه اتحادا
تاما، حتى أصبحت يد أحدهما يد الآخر، وعز أحدهما عز الآخر.

623
فالأخ للإنسان يد تبسط، وظهر يستند إليه، وقوة يستعين بها على مناهضة
الأيام ومغالبة الخطوب، لا أن يتخذ سبيلا إلى معصية الله أو يتخذ عدة للظلم
لخلق الله.
ومن حق الأخ أن يحال بينه وبين الشيطان، وأن تؤدى إليه النصيحة
وليس حق الأخ بمقدم على حق الله، بل الله آثر منه وأكرم.
" إن أخاك الذي والده والدك، وأمه أمك، ودمه دمك، ولحمه لحمك،
ولغته لغتك، ودينه دينك، لهو جدير باهتمامك ومعاونتك إياه، وله حقوق
عليك ورجاء فيك، فلا تبخل عليه بالعناية والالتفات إلى مصالحه والاهتمام بها
كاهتمامك بمصالحك الخاصة.
قال سليمان: أما الأخ فللشدة يولد. وجاء في الأمثال العامة: " أنا
وأخي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب ". بيانا لشدة الصلة بين الأخوة
وما ينسب لعلي أمير المؤمنين (عليه السلام):
أخاك أخاك إن من لا أخا له * كساع إلى الهيجا بغير سلاح
دليلا على أن الأخ هو الساعد الأيمن لأخيه، بل هو السلاح الذي يدافع
به في معترك الحياة.
قال الله تعالى:
" قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني
يفقهوا قولي واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه
في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا ".
وقال تعالى:
" قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما
بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون ".

624
وعلى الأخ واجبات كثيرة نحو إخوته:
1 - فيجب عليه محبتهم واحترامهم وحسن معاملتهم، لأنهم أقرب الناس
إليه بعد أبويه، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه، عملا بالحديث الشريف:
" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ".
2 - عليه أن يعتبر الأخ الأكبر في منزلة الوالد، فيعامله بالأدب
والمعروف، وأن يذعن لنصائحه، ويعمل بإرشاداته النافعة.
3 - عليه أن يعامل إخوته الأصاغر باللطف والإحسان، وأن يشفق
عليهم ولا يتسبب في ضررهم أو أذاهم، وأن يكون لهم مثال الاحترام والوقار
وعنوان الاستقامة والاعتبار، فلا يشتمهم، ولا يأخذ من أيديهم بغير رضاهم،
لأن ذلك يسوءهم ويغضب والدهم، وله إذا رأى منهم أمرا غير لائق أو خارجا
عن حد الأدب أن ينهاهم عنه باللطف واللين، وأن يعرفهم ضرره ويرشدهم إلى
طريق الخير والصواب.
4 - يجب أن يكون عضدا ونصيرا لإخوته في كل ملمة، غير منتظر في
ذلك سؤالا منهم، يساعدهم بما في قدرته، وأن يسعى لما فيه مصلحتهم على قدر
طاقته، وعليه أيضا المحافظة على أسرار إخوته، وأن لا ينقل عنهم شيئا يلحق
بهم ضررا وإلا كان عدوا لهم، وأن يكون صادقا معهم قولا وفعلا.
5 - ليجتنب الأخ معاداة إخوته، والوقوع معهم في مشاحنات أو مخاصمات
أو منافسات، طمعا في ميراث أو ثروة يرثها عن والده فيقضي وقته، وينفق
أمواله في الطغيان والفساد، وبذلك يسئ إلى نفسه وإلى إخوته، وإلى سمعة أبيهم
ويحط من شرف أسرته، وليكن على الدوام معهم في وفاق واتحاد، لا في نزاع
واختلاف، لعيش معهم في راحة ومسرة وهناء: قال رسول الله (ص):

625
" مثل الأخوين مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى ". (1)
والخلاصة: يجب محبة الأخوة، وحسن معاملتهم واحترام كبيرهم،
والرفق بصغيرهم، ومساعدتهم على نيل رغباتهم، ومخاطبتهم بالأدب واللطف،
ومجاملتهم والسعي في خيرهم وحفظ أسرارهم، والابتعاد عن مخاصمتهم ومنازعتهم
والاجتهاد في توثيق عرى الألفة والاتحاد بينهم.
لما ولد لسعيد بن العاص عمرو وترعرع، وتفرس فيه النجابة،
وكان يفضله على ولده، فجمع بنيه - وكانوا يومئذ أكثر من خمسة عشر رجلا
- ولم يدع عمرا معهم، وقال: يا بني، قد عرفتم خبرة الوالد بولده، وإن
أخاكم عمرا لذو همة واعدة، يسمو جده، ويبعد صيته، وتشتد شكيمته، وإني
آمركم إن نزل بي من الموت ما لا محيص عنه أن تظاهروه وتوازروه وتعززوه
فإنكم إن فعلتم ذلك يتألف بكم الكرم أو يخسأ عنكم اللئام، ويلبسكم عزا
لا تنهجه الأيام. فقالوا جميعا: إنك تؤثره علينا، تحابيه دوننا. فقال:
سأريكم ما ستره البغي عنكم، وصرفهم، ثم أمهلهم، حتى ظن أن قد ذهلوا عما كان
وراهق عمرو البلوغ، واستدعاهم دونه، فلما حضروا قال: يا بني، ألم
تروا إلى أخيكم عمرو، فإنه لا يزال يلحف في مسألتي ما لي، فأحسن عليه
لصغره، إلى أن أستثبت أن أمه باغيته على ذلك، فزجرتها فلم تكف، وقد
جاء يسألني الصمصامة كأن لا ولد لي غيره، وقد عزمت على أن أقسم مالي
فيكم دونه! فقالوا كلهم: يا أبانا، هذا عملك بإيثارك له علينا، واختصاصك
إياه دوننا.
فقال: يا بني، والله ما آثرته دونكم بشئ من مالي قط، وما كان ما
قلته لكم إلا اختلاقا، تساهلت فيه لما أملته من صلاح أمركم. ثم قال: ادخلوا



(1) إحياء العلوم للغزالي.
626
المخدع، فدخلوا، ثم أرسل إلى عمرو فأحضره، فلما حضر قال: يا بني إني
عليك حدب مشفق لصغر سنك، ونفاسة إخوتك على مكانك مني، وإني لا آمن
بغتة الأجل، ولي كنز ادخرته لك دون إخوتك، وهأنذا مطلعك عليه
فاكتم أمره.
فقال: يا أبت، طال عمرك، وعلا أمرك، وإني لأرجو أن يطيل بك
الأمتاع، فأما ذكرت من شأن الكنز، فما يعجبني أن أقطع دون إخوتي
أمرا، وأزدرع في صدورهم غمرا.
فقال: انصرف يا بني، فداك أبوك، فوالله ما لي من كنز، ولكني أردت
أن أبلو رأيك في إخوتك، وبني أبيك. فانطلق عمرو، وخرج إخوته من
المخدع، فاعتذروا إلى أبيهم وأعطوه موثقا على اتباع مشورته (1)
ولفضيلة العلامة الشيخ عبد المنعم الفرطوسي بهذه المناسبة:
ذكرى الأخوة والأخوة مصرع * للعاطفات إذا ارتمت في مصرع
ألم على ألم وجرح فاغر * في قلب جرح بالصميم مبضع
وأرقها لحنا حزينا لاذعا * ذكرا أخ بر وفي لوذعي
غض الشبيبة ناشئ عف على * غير القداسة قط لم يترعرع
ما زلت مفزعه إذا عصفت به * نوب الزمان ولم يزل هو مفزعي
كنا كغريدين فوق أراكة * تختال بين مغرد ومرجع
أو زهرتي حقل تعانقنا معا * جيدا لجيد فوق غصن مفرع
أو درتين على جبين ناصع * يزهو بتاج بالجمان مرصع
أو فرقدين بأفق قلب مشرق * بالأمنيات تجاورا في مطلع
* * *
والإخوة نوعان: إخاء وتآخي. والثاني قوام الأول، ولذا أوعز بعض



(1) أنباء نجباء الأبناء.
627
الفلاسفة بقوله: " لا أحب أخي حتى يكون صديقي " فالإخاء هو الانتساب
المعروف بجامع الأبوة بين الأخوين كما مر. والتآخي هو اصطناع الأخلاء
والثقاة وتنزيلهم منزلة الأخوة الصلبيين قصد التعاون والتعاضد في الأمور الدينية
والدنيوية. وأعلا أقسامه وأشرفها ما كان سببه الأوحد وداعيه الأكمل هو الأمر
الديني.
الأخوة الإسلامية
ليست هناك دواع معقولة تحمل الناس على أن يعيشوا أشتاتا متناكرين
بل إن الدواعي القائمة على المنطق الحق والعاطفة السليمة تعطف البشر بعضهم
على البعض، وتمهد لهم مجتمعا متكافلا تسوده المحبة، ويمتد به الأمان على
ظهر الأرض.
والله عز وجل رد أنساب الناس وأجناسهم إلى أبوين اثنين، ليجعل من
هذه الرحم الماسة ملتقى تتشابك عنده الصلات وتستوثق.
" يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل
لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ".
فالتعارف - لا التنافر - أساس العلائق بين البشر، وقد تطرأ عوائق
تمنع هذا التعارف الواجب من المضي في مجراه، وإمداد الحياة بآثاره الصالحة
وفي زحام البشر على موارد الرزق، وفي اختلافهم على فهم الحق وتحديد
الخير قد يثور نزاع ويقع صدام، بيد أن هذه الأحداث السيئة لا ينبغي أن
تنسي الحكمة المنشودة من خلق الناس وتعمير الأرض بجهودهم المتناسقة.
وكل رابطة توطد هذا التعارف وتزيح من طريقه العوائق فهي رابطة
يجب تدعيمها، والانتفاع بخصائصها. وليس للإسلام رابطة تجمع بين عدد قل

628
أو كثر من الناس فحسب ولكنه جملة الحقائق التي تقر الأوضاع الصحيحة بين
الناس وربهم، ثم بين الناس أجمعين.
ومن ثم فأصحاب الإسلام وحملة رسالته يجب أن يستشعروا جلال العقيدة
التي شرح الله بها صدورهم، وجمع عليها أمرهم، وأن يولوا التعارف عليها ما هو
جدير به من عناية وإعزاز... إنه تعارف يجدد ما درس من قرابة مشتركة
بين الخلق، ويؤكد الأبوة المادية المنتهية إلى آدم بأبوة روحية ترجع إلى
تعاليم الأديان المخلصة في رسالة الإسلام، وبذلك يصير الدين الخالص أساس
أخوة وثيقة العرى، تؤلف بين أتباعه في مشارق الأرض ومغاربها وتجعل منهم - على
اختلاف الأمكنة والأزمنة - وحدة راسخة الدعامة سامقة البناء، لا تنال منها
العواصف الهوج.
هذه الأخوة هي روح الإيمان الحي ولباب المشاعر الرقيقة التي يكنها
المسلم لإخوانه، حتى إنه ليحيا بهم ويحيا لهم، فكأنهم أغصان انبثقت من
دوحة واحدة أو روح واحدة حل في أجسام متعددة.
إن الأثرة الغالبة آفة الإنسان وغول فضائله، إذا سيطرت نزعتها على
امرئ محقت خيره ونمت شره، وحصرته في نطاق ضيق خسيس لا يعرف فيه
إلا شخصه ولا يهتاج بالفرح أو الحزن إلا لما يسميه من خير أو شر. أما الدنيا
العريضة والألوف المؤلفة من البشر، فهو لا يعرفهم إلا في حدود ما يصل إليه
عن طريقهم ليحقق آماله أو يثير مخاوفه..!!
وقد حارب الإسلام هذه الأثرة الظالمة بالأخوة العادلة، وأفهم الإنسان
أن الحياة ليست له وحده، وأنها لا تصلح به وحده، فليعلم أن هناك أناسا مثله
إن ذكر حقه عليهم ومصلحته عندهم فليذكر حقوقهم عليه ومصالحهم عنده.
وتذكر ذلك يخلع المرء من أثرته الصغيرة، ويحمله على الشعور بغيره حين

629
يشعر بنفسه، فلا يتزيد ولا يفتات.
من حق أخيك عليك أن تكره مضرته، وأن تبادر إلى دفعها، فإن مسه
ما يتأذى به شاركته الألم، وأحسست معه بالحزن. أما أن تكون ميت العاطفة قليل
الاكتراث، لأن المصيبة وقعت بعيدا عنك فالأمر لا يعنيك فهذا تصرف
لئيم. وهو مبتوت الصلة بمشاعر الأخوة الغامرة التي تمزج بين نفوس المسلمين
فتجعل الرجل يتأوه للألم ينزل بأخيه، مصداق قول رسول الله (ص):
" مثل المسلمين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى
منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى ".
والتألم الحق هو الذي يدفعك دفعا إلى كشف ضوائق إخوانك فلا تهدأ
حتى تزيل غمتها وتنير ظلمتها. فإذا نجحت في ذلك استنار وجهك واستراح
ضميرك.
قال رسول الله (ص): " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يثلمه، ومن
كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه
بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة ".
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): " إن المؤمن أخو المؤمن، عينه ودليله، لا
يخونه ولا يظلمه ولا يغشه، ولا يعده عدة فيخلفه ".
ومن علائم الأخوة الكريمة أن تحب النفع لأخيك، وأن تهش بوصوله
إليه كما تبتهج للنفع يصل إليك أنت. فإذا اجتهدت في تحقيق هذا النفع فقد
تقربت إلى الله بأزكى الطاعات وأجزلها مثوبة.
جاء في الوسائل عن ميمون بن مهران قال: كنت جالسا عند الحسن
ابن علي (صلوات الله وسلامه عليه) فأتاه رجل فقال: يا ابن رسول الله إن فلانا
له علي مال ويريد أن يحبسني. فقال: " والله ما عندي مال فأقضي عنك قال

630
فكلمه. قال: فلبس (عليه السلام) نعله. فقلت له أنسيت اعتكافك. فقال له: لم أنس
ولكني سمعت أبي يحدث عن جدي رسول الله (ص) أنه قال: " من سعى في حاجة
أخيه المسلم فكأنما عبد الله عز وجل تسعة آلاف سنة صائما نهاره قائما ليله "
وهذا الحديث يصور إعزاز الإسلام لعلائق الإخاء الجميل، وتقديره
العالي لضروب الخدمات العامة التي يحتاجها المجتمع لإرساء أركانه وصيامة بنيانه
لقد آثر الإمام (عليه السلام) أن يدع اعتكافه، والاعتكاف عبادة محضة رفيعة الدرجة
عند الله لأنها استغراق في الصلاة والصيام والذكر، ثم هو في مسجد رسول الله (ص)
حيث يضاعف الأجر ألف مرة فوق المساجد الأخرى. ومع ذلك فإن جوهر
الإسلام جعله يدع ذلك ليقدم خدمة إلى مسلم يطلب العون. هكذا تعلم من
رسول الله...
* * *
إن أعباء الدنيا جسام تنزل بالناس كما يهطل المطر فيغمر الخصب
والجدب. والإنسان وحده أضعف من أن يقف طويلا تجاه هذه الشدائد ولئن
وقف إنه لباذل من الجهد ما كان في غنى عنه لو أن إخوانه هرعوا لنجدته
وظاهروه في إنجاح قصده. وقد قيل: " المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه ".
ومن حق الأخوة أن يشعر المسلم بأن إخوانه ظهير له في السراء والضراء وأن
قوته لا تتحرك في الحياة وحدها، بل إن قوى المؤمنين تساندها وتشد أزرها.
قال رسول الله (ص): " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ". ومن ثم
كانت الأخوة الخالصة نعمة مضاعفة، لا نعمة التجانس الروحي فحسب، بل
نعمة التعاون المادي كذلك.
وقد كرر الله عز وجل ذكر هذه النعمة مرة ومرة في آية " واذكروا
نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ".

631
وأخوة الدين تفرض التناصر بين المسلمين، لا تناصر العصبيات العمياء
بل تناصر المؤمنين المصلحين لإحقاق الحق وإبطال الباطل، وردع المعتدي
وإجارة المهضوم، فلا يجوز ترك مسلم يكافح وحده في معترك، بل لا بد من
الوقوف بجانبه على أي حال: لإرشاده إن ضل، وحجزه إن تطاول، والدفاع
عنه إن هوجم والقتال معه إذا استبيح... وذلك معنى التناصر الذي فرضه
الإسلام.
قال رسول الله (ص): " أنصر أخاك ظالما أو مظلوما، قال: أنصره
مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: تحجزه عن ظلمه فذلك نصره ".
إن خذلان المسلم شئ عظيم، وهو - إن حدث - ذريعة خذلان المسلمين
جميعا، إذ سيقضي على خلال الإباء والشهامة بينهم، وسيرضخ المظلوم طوعا أو
كرها لما وقع به من ضيم.. ثم ينزوي بعيدا وتتقطع عرى الأخوة بينه وبين
من خذلوه.
وقد هان المسلمون أفرادا. وهانوا أمما يوم وهت أواصر الأخوة بينهم
ونظر أحدهم إلى الآخر نظرة استغراب وتنكر، وأصبح الأخ ينتقص أمام أخيه
فيهز كتفيه ويمضي لشأنه كأن الأمر لا يعنيه!
إن هذا التخاذل جر على المسلمين الذل والعار. وقد حاربه الإسلام حربا
شعواء، ولعن من يقبعون في ظلاله الداكنة الزرية.
قال رسول الله (ص): " لا يقفن أحدكم موقفا يضرب فيه رجل ظلما
فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه " فإذا رأيت أن إساءة نزلت
بأخيك أو مهانة وقعت عليه فأره من نفسك الاستعداد لمظاهرته، والسير معه
حتى ينال بك الحق ويرد الظلم.
روي عن النبي (ص): " من مشى مع مظلوم حتى يثبت له حقه ثبت

632
الله قدميه على الصراط يوم تزل الأقدام ".
وهذا الواجب العظيم يزداد تأكدا إذا كنت ذا جاه في المجتمع أو
صاحب منصب تحفه الرغبة والرهبة.. إن للجاه زكاة تؤتى كما تؤتى زكاة
المال، فإذا رزقك الله سيادة في الأرض أو تمكينا بين الناس فليس ذلك لتنتفخ
بعد انكماش أو تزهى بعد تواضع، إنما يسر الله ذلك ليربط بعنقك حاجات
لا تقضى إلا عن طريقك، فإن أنت سهلتها قمت بالحق المفروض، وأحرزت
الثواب الموعود، وإلا فقد جحدت النعمة وعرضتها للزوال.
روي عن رسول الله (ص): " إن لله عند أقوام نعما أقرها عندهم ما
كانوا في حوائج المسلمين، ما لم يملوهم، فإذا ملوهم نقلها إلى غيرهم ".
وجاء عن الإمام الحسين (عليه السلام) إنه قال: " حوائج الناس إليكم من نعم الله
عليكم، فلا تملوا النعم فتعود نقما ".
واستخدام المرء جاهه لنفع الناس ومنع أذاهم ينبغي أن يتم في حدود
الإخلاص والنزاهة، فإن فعل أحد ذلك لقاء هدية ينتظرها فقد أجره عند الله
* * *
وهناك رذائل حاربها الإسلام لأنها تناقض آداب الأخوة وشرائطها.
إن القاعدة التي تسوى بها الصفوف تسوية ترد المتقدم إلى مكانه، وتقدم
المتأخر عن أقرانه هي الأخوة. فإذا نشب نزاع أو حدث هرج ومرج طبقت
قوانين الإخاء على الكافة ونفذ حكمها.
" إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون "
وقد حذر رسول الله (ص) من هذه الرذائل في حديثه الجليل، وهي
رذائل تبدو للنظر القاصر تافهة الخطر، غير أنها لمن تدبر عواقبها تصدع
القلوب، وتجفف عواطف الود منها:

633
قال (ص) إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا
تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله
إخوانا كما أمركم الله تعالى... " " المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله
ولا يحقره " " حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم " كل المسلم على
المسلم حرام ماله ودمه وعرضه... " " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم
ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.. وكونوا عباد الله إخوانا " " ولا يحل
لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ".
في المجتمع المتحاب بروح الله الملتقي على شعائر الإسلام، يقوم إخاء العقيدة
مقام إخاء النسب، وربما ربت رابطة الإيمان على رابطة الدم.. والحق
أن أواصر الأخوة في الله هي التي حمت الإسلام أول أمره، وأقامت دولته، ورفعت
رايته، وعليها اعتمد رسول الله (ص) في تأسيس أمة صابرت هجمات الوثنية
الحاقدة وسائر الخصوم المتربصين، ثم خرجت بعد صراع طويل وهي رفيعة
العماد وطيدة الأركان، على حين ذاب أعداؤها وهلكوا.
إن الأمور تذكر بأضدادها. وفي عصرنا هذا يذكرنا تجمع اليهود حول
باطلهم وتطلعهم إلى إقامة ملك لهم، ومجيئهم من المشرق والمغرب نافرين إلى
الأرض المقدسة، تاركين أوطانهم الأولى وما ضمت من ثروات وذكريات.
ويذكرنا هذا الانبعاث عن عقيدة باطلة بالانبعاث الأغر الذي وقع منذ
أربعة عشر قرنا، حين يمم المسلمون من كل فج شطر (يثرب) وهاجروا من
مواطنهم الأولى إلى الوطن الذي اختاروه ليقيموا فيه أول دولة الإسلام...
كانت المدينة التي احتظنت الإسلام ومجدت كلمته، تقيم العلاقات بين
القاطنين والوافدين على التبادل في ذات الله، والإيثار عن سماحة رائعة والمساواة
بين الأنساب والأجناس، وتبادل الاحترام والحب، وإشاعة الفضل وتقديس

634
الحق، وإسداء المعروف عن رغبة فيه لا تكليف به.
قال الله عز وجل: " والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم، يحبون من
هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو
كان بهم خصاصة ".
وهذه علائم الإخاء الصحيح، إخاء العقيدة الخالصة لوجه الله، لا إخاء
المنافع الزائلة، ولا إخاء الغايات الدنيا. وكانت تعاليم الإسلام ترعى هذا
الإخاء حتى لا يعدو عليه ما يكدره، فلا يجوز لمسلم أن يسبب لأخيه قلقا أو
يثير في نفسه فزعا.
قال رسول الله (ص): " من أشار إلى أخيه بحديدة فإن الملائكة تلعنه
حتى ينتهي، وإن كان أخاه لأبيه وأمه ".
وبهذه الوصايا كانت الأخوة تأمينا شاملا، بث في أكناف المجتمع السلام
والطمأنينة...
ومما اتخذه الإسلام لصيانة الأخوة العامة، ومحو الفروق المصطنعة وتوكيد
التكافؤ في الدم والتساوي في الحق، إشعار العامة والخاصة بأن التفاخر بالأنساب
باطل، لأن أبوة آدم لفت أعقابه كلهم في شعار فذ، فما يفضل أحد صنوه إلا
بميزة يحرزها لنفسه بكده وجده، فمن لا امتياز له بعمل جليل لم ينفعه
أسلافه ولو كانوا ملوك الآخرة...
قال رسول الله (ص): " إذا كان يوم القيامة أمر الله مناديا ينادي: ألا
إني جعلت نسبا، وجعلتم نسبا، فجعلت أكرمكم أتقاكم، فأبيتم إلا أن تقولوا
فلان بن فلان، فاليوم أرفع نسبي وأضع أنسابكم!! ".
وهذا مصداق قوله تعالى: " فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ
ولا يتساءلون ".

635
والغريب أن عادة العرب في الإعلاء بالنسب والازدهار بالأبوة غلبت في
مجتمعهم تعاليم الإسلام، فكان ذلك من أسباب الفتوق الخطيرة في ماضينا وحاضرنا
ومن وسائل الإسلام كذلك في المحافظة على الإخاء بين بنيه - مهما
اختلفت أوطانهم وعشائرهم - إماتته للنزعات العنصرية والعصبيات الجنسية.
إنه من الطبيعي أن يحب المرء وطنه وقومه، ولكن لا يجوز أبدا أن
يكون ذلك سببا في نسيان المرء لربه وخلقه ومثله.
قال رسول الله (ص): " خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم ".
وسئل: ما العصبية؟ قال: " أن تعين قومك على الظلم ".
إن الإخوة في الإسلام تعني الإخلاص له، والسير على سبيله، والعمل
بأحكامه، وتغليب روحه على الصلات الخاصة والعامة، واستفتاءه فيما تعرض من
مشكلاته، وغض الطرف عما عدا ذلك من صيحات ودعوات.

636
انتهي بحمد الله ومنه المجلد الأول من شرح رسالة الحقوق،
ويليه الثاني إن شاء الله تعالى، وإني لأرجو الله
أن يتدارك بلطفه ما في هذا الجهد من
قصور وأن يتجاوز بعفوه عما
لحقنا من تقصير.

637
/ 1