شافي في الامامة (جزء 3) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

شافي في الامامة (جزء 3) - نسخه متنی

شریف مرتضی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: الشافي في الامامة
المؤلف: الشريف المرتضى
الجزء: 3
الوفاة: 436
المجموعة: من مصادر العقائد عند الشيعة الإمامية
تحقيق:
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: 1410
المطبعة: مؤسسة إسماعيليان - قم
الناشر: مؤسسة إسماعيليان - قم
ردمك:
ملاحظات:
الشافي في الإمامة

1
الكتاب: الشافي في الإمامة
المؤلف: الشريف المرتضى قدس سره
الناشر: مؤسسة الصادق - طهران
الطبعة: الثانية
الطباعة والتجليد: مؤسسة إسماعيليان - قم
تاريخ النشر: 1410 ه‍. ق
عدد الطبع: 3000 نسخة
القطع: وزيري
سعر أربعة مجلدات: 500 تومان

2
الشافي
في الإمامة
للشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي قدس سره
المتوفى 436 ه‍
حققه وعلق عليه
السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب
راجعه
السيد فاضل الميلاني
الجزء الثالث
مؤسسة الصادق
للطباعة والنشر
طهران - إيران

3
كافة الحقوق محفوظة ومسجلة
1407 ه‍ - 1987 م

4
بسم الله الرحمن الرحيم
قال صاحب الكتاب: " دليل لهم آخر، واستدلوا بقوله صلى الله عليه
وآله: " أنت مني بمنزلة هارون بن موسى إلا أنه لا نبي بعدي " (1) فاقتضى
هذا الظاهر أن له كل منازل هارون من موسى، لأنه أطلق ولم يخص إلا
ما دل عليه العقل، والاستثناء المذكور (2) ولولا أن الكلام يقتضي الشمول



(1) حديث المنزلة أخرجه جماعة من الحفاظ وأرباب المسانيد كالبخاري في
صحيحه 4 / 208، كتاب بدء الخلق باب مناقب علي بن أبي طالب و ج 5 / 129، كتاب
المغازي، باب غزوة تبوك، ومسلم في صحيحه 2 / 360، كتاب فضائل الصحابة باب
من فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عبد البر بترجمة علي عليه السلام من
الاستيعاب 3 / 45 وعقب عليه بقوله: " وهو من أثبت الآثار وأصحها رواه عن النبي سعد بن
أبي وقاص " قال: " وطرق سعد فيه كثيرة ذكرها ابن أبي خيثمة وغيره " قال: " ورواه
ابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وأم سلمة، وأسماء بنت عميس، وجابر بن عبد الله
وجماعة يطول ذكرهم " ورواه أحمد في المسند بطرق عديدة عن جماعة من الصحابة (انظر
الجزء الأول ص 173 و 175 و 177 و 179 و 182 و 185 و 331، والجزء السادس 369
و 438، وفي صواعق ابن حجر ص 179 قال أخرج أحمد " إن رجلا سأل معاوية عن
مسألة، فقال: سل عنها عليا فهو أعلم، قال: جوابك فيها أحب إلي من جواب
علي، قال بئس ما قلت لقد كرهت رجلا كان رسول الله يغره بالعلم غرا، ولقد قال
له: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " وكان عمر إذا أشكل عليه
شئ أخذ منه قال: " وأخرجه آخرون ولكن زاد بعضهم: قم عني لا أقام الله
رجليك، ومحا اسمه من الديوان " ونقله كل علماء السيرة عند تعرضهم لغزوة تبوك،
والكلام في ذكر كل ما هنالك يطول.
(2) غ " والاستدلال " وهو خطأ ".
5
لما كان للاستثناء معنى وإنما نبه عليه السلام باستثناء النبوة على أن ما
عداه قد دخل تحته إلا ما علم بالعقل أنه لا يدخل فيه نحو الأخوة في
النسب أو الفضل الذي يقتضيه شركة النبوة إلى ما شاكله، وقد ثبت أن
أحد منازله من موسى عليه السلام أن يكون خليفته (1) من بعده وفي حال
غيبته، وفي حال موته، فيجب أن يكون هذه حال أمير المؤمنين عليه
السلام، من بعد النبي صلى الله عليه وآله قالوا: ولا يطعن فيما بيناه (2) أن
هارون عليه السلام مات قبل موسى عليه السلام لأن المتعالم أنه لو عاش
بعده لخلفه فالمنزلة ثابتة، وإن لم يعش فيجب حصولها لأمير المؤمنين عليه
السلام إذا عاش بعد الرسول صلى الله عليه وآله كما لو قال الرئيس لصاحب
له: منزلتك عندي في الإكرام والعطاء منزلة فلان من فلان وفلان فأت فيه
الإكرام والعطاء بموت أو غيبة (3) ولم يفت في الثاني فالواجب أن ينزل
منزلته، ولا يجوز أن يقال: لا يزاد على الأول في ذلك، قال: وربما
قالوا: قد ثبت أن موسى عليه السلام قد استخلف هارون على الإطلاق
على ما دل عليه قوله تعالى: (اخلفني في قومي) (4) فيجب ثبوت هذه المنزلة
لعلي عليه السلام من الرسول صلى الله عليه وآله على الإطلاق حتى تصير
كأنه صلى الله عليه وآله قال: اخلفني في قومي، والمعلوم أنه لو قال ذلك
لتناول حال الحياة وحال الممات فيجب لذلك أن يكون هو الخليفة [من
بعده] (5) وربما قالوا: قد ثبت أنه صلى الله عليه وآله قد استخلف
أمير المؤمنين عليه السلام عند غيبته في غزوة تبوك، ولم يثبت عنه أنه



(1) غ " خليفة "
(2) غ " فيما قلناه ".
(3) غ " أو غيبة ".
(4) الأعراف 142.
(5) التكملة من " المغني ".
6
صلى الله عليه وآله صرفه فيجب أن يكون خليفته بعد وفاته كما يجب في
هارون أن يكون خليفته أبدا ما عاش، وربما ذكروا ذلك بأن قالوا: إنه
صلى الله عليه وآله أثبت له منزلته ونفى الأشياء الأخرى فإذا كان ما نفاه
بعده صلى الله عليه وآله ثابتا فالذي أثبته كمثله وهذا يوجب أنه الخليفة
بعده لأنه صلى الله عليه وآله نبه بالاستثناء على هذه الحالة وإن كان مثلها
لم يحصل لهارون عليه السلام إلا في حال حياة موسى عليه
السلام،...) (1).
يقال له: نحن نبين كيفية الاستدلال بالخبر الذي أوردته على
إيجاب النص ونورد من الأسئلة والمطالبات ما يليق بالموضع ثم نعود
إلى نقض كلامك على عادتنا فيما سلف من الكتاب فنقول: إن الخبر
دال على النص من وجهين ما فيهما إلا قوي معتمد أحدهما أن قوله
صلى الله عليه وآله " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي
بعدي " يقتضي حصول جميع منازل هارون من موسى عليه السلام
لأمير المؤمنين إلا ما خصه الاستثناء المتطرق (2) به في الخبر وما جرى مجرى
الاستثناء من العرف، وقد علمنا أن منازل هارون من موسى هي الشركة
في النبوة، وأخوة النسب والفضل والمحبة والاختصاص على جميع قومه
والخلافة له في حال غيبته على أمته، وأنه لو بقي بعده لخلفه فيهم ولم يجز
أن يخرج القيام بأمورهم عنه إلى غيره، وإذا خرج بالاستثناء منزلة النبوة،
وخص العرف منزلة الأخوة في النسب لأن من المعلوم لكل أحد ممن عرفهما
عليهما السلام أنه لم يكن بينهما أخوة نسب وجب القطع على ثبوت ما
عدا هاتين المنزلتين، وإذا ثبت ما عداهما وفي جملته أنه لو بقي لخلفه ودبر
أمر أمته وقام فيهم مقامه، وعلمنا بقاء أمير المؤمنين عليه السلام بعد وفاة



(1) المغني 20 ق 1 / 159.
(2) المستطرق به خ ل أيضا " المنطوق به " خ ل.
7
الرسول صلى الله عليه وآله وجبت له الإمامة بعده بلا شبهة.
فإن قالوا: دلوا أولا على صحة الخبر فهو الأصل، ثم على أن من
جملة منازل هارون من موسى أنه لو بقي بعد وفاته لخلفه وقام بأمر أمته،
ثم على أن الخبر يصح فيه طريقة العموم، وأنه يقتضي ثبوت جميع المنازل
بعد ما أخرجه الاستثناء وما جرى مجراه.
قيل: أما الذي يدل على صحة الخبر فهو جميع ما دل على
صحة خبر الغدير مما استقصيناه فيما تقدم وأحكمناه، ولأن علماء
الأمة مطبقون على قبوله وإن اختلفوا في تأويله والشيعة تتواتر به
وأكثر رواة الحديث يرويه ومن صنف الحديث منهم أورده من جملة
الصحيح، وهو ظاهر بين الأمة شائع كظهور سائر ما نقطع على صحته
من الأخبار واحتجاج أمير المؤمنين عليه السلام على أهل الشورى
يصححه، ومن يحكي أنه رده أو أظهر الشك فيه لا شك إذا صحت
الحكاية عنه في شذوذه وتقدم الإجماع لقوله ثم تأخره عنه، وكل هذا قد
تقدم فلا حاجة بنا إلى بسطه.
وأما الدليل على أن هارون عليه السلام لو بقي بعد موسى لخلفه في
أمته فهو أنه قد ثبت خلافته له في حال حياته بلا خلاف وفي قوله تعالى:
(وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل
المفسدين) (1) أكبر شاهد بذلك. وإذا ثبت الخلافة له في حال الحياة
وجب حصولها له بعد حال الوفاة لو بقي إليها لأن خروجها عنه في حال
من الأحوال مع بقائه حط له من رتبة كان عليها، وصرف عن ولاية
فوضت إليه، وذلك يقتضي من التنفير أكثر مما يعترف به خصومنا من
المعتزلة بأن الله تعالى يجنب أنبياءه عليهم السلام من القباحة في الخلق



(1) الأعراف 142.
8
والدمامة المفرطة، والصغائر المستخفة، وأن لا يجيبهم الله تعالى إلى ما
يسألونه لأمتهم من حيث يظهر لهم.
فإن قال: ولم زعمتم أن فيما ذكرتموه تنفيرا قيل له: لأن خلافة
هارون لموسى عليهما السلام كانت منزلة في الدين جليلة، ودرجة فيه
رفيعة، واقتضت من التبجيل والتعظيم ما يجب لمثلها لم يجز أن يخرج عنها
لأن في خروجه عنها زوال ما كان له في النفوس بها من المنزلة، وفي هذا
نهاية التنفير والتأثير في السكون إليه ومن دفع أن يكون الخروج عن
هذه المنزلة منفرا كمن دفع أن يكون سائر ما عددناه منفرا.
فإن قال: إذا ثبت فيما ذكرتموه أنه منفر وجب أن يجتنبه هارون عليه
السلام من حيث كان نبيا ومؤديا عن الله عز وجل، لأنه لو لم يكن نبيا لما
وجب أن يجتنب المنفرات، فكأن نبوته هي المقتضية لاستمرار خلافته إلى
بعد الوفاة، وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله قد استثنى في الخبر النبوة
وجب أن يخرج معها ما هي مقتضية له وكالسبب فيه، وإذا أخرجت هذه
المنزلة مع النبوة لم يكن في الخبر دلالة على النص الذي تدعونه.
قيل له: إن أردت بقولك إن الخلافة من مقتضى النبوة أنه من
حيث كان نبيا تجب له هذه المنزلة كما يجب له سائر شروط النبوة فليس
الأمر كذلك، لأنه غير منكر أن يكون هارون قبل استخلاف موسى له
شريكا في نبوته، وتبليغ شرعه وإن لم يكن خليفة له فيما سوى ذلك في
حياته ولا بعد وفاته، وإن أردت أن هارون بعد استخلاف موسى له في
حياته يجب أن يستمر حاله ولا يخرج عن هذه المنزلة، لأن خروجه عنها
يقتضي التنفير الذي يمتنع نبوة هارون منه، وأشرت في ذلك أن النبوة
تقتضي الخلافة بعد الوفاة إلى هذا الوجه فهو صحيح، غير أنه لا يجب ما
ظننته من استثناء الخلافة باستثناء النبوة، لأن أكثر ما فيه أن يكون

9
كالسبب في ثبوت الخلافة بعد الوفاة، وغير واجب أن ينفي ما هو كالسبب
عن غيره عند نفي ذلك الغير ألا ترى أن أحدنا لو قال لوصيه: اعط
فلانا من مالي كذا وكذا - وذكر مبلغا عينه - فإنه يستحق هذا المبلغ علي
من ثمن سلعة ابتعتها منه، وأنزل فلانا منزلة فلان الذي أوصيتك به
وأجره مجراه، فإن ذلك يجب له من أرش جناية أو قيمة متلفة، أو
ميراث أو غير هذه الوجوه، بعد أن يذكر وجها يخالف الأول لوجب على
الوصي أن يسوي بينهما في العطية، ولا يخالف بينهما فيها من حيث
اختلفت جهة استحقاقهما، ولا يكون قول هذا القائل عند أحد من
العقلاء يقتضي سلب المعطى الثاني العطية من حيث سلبه جهة استحقاقها
في الأول، فوجب بما ذكرناه أن تكون منزلة هارون من موسى عليهما
السلام في استحقاق خلافته له بعد وفاته ثابتة لأمير المؤمنين عليه السلام
لاقتضاء اللفظ لها، وإن كانت تجب لهارون من حيث كان في انتفائها تنفير
يمنع نبوته منه وتجب لأمير المؤمنين عليه السلام من غير هذا الوجه.
وليس له أن يقول: إن ما ذكرتم حاله لم يختلفا في جهة العطية، وما
هو كالسبب لها لأن القول من الموصي هو المقتضي لها، والمذكوران يتساويان
فيه، وذلك أن سبب استحقاق العطية في الحقيقة ليس هو القول، بل هو ما
تقدم ثمن البيع وقيمة التلف أو ما جرى مجراهما، وهو مختلف لا محالة،
وإنما يجب بالقول على الموصى إليه العطية، فأما الاستحقاق على الموصي
وسببه فيتقدمان بغير شك، ويزيد ما ذكرناه وضوحا أن النبي صلى الله
عليه وآله لو صرح به حتى يقول: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " في
خلافته له في حياته واستحقاقها له لو بقي إلى بعد وفاته إلا أنك لست
بنبي كان كلامه صلى الله عليه وآله صحيحا غير متناقض ولا خارج عن
الحقيقة، ولم يجب عند أحد أن يكون باستثناء النبوة نافيا لما أثبته من منزلة
الخلافة بعد الوفاة، وقد يمكن مع ثبوت هذه الجملة أن يرتب الدليل في

10
الأصل على وجه يجب معه كون هارون مفترض الطاعة على أمة موسى لو
بقي إلى بعد وفاته، وثبوت مثل هذه المنزلة لأمير المؤمنين عليه السلام وإن
لم يرجع إلى كونه خليفة له في حال حياته ووجوب استمرار ذلك إلى بعد
الوفاة فإن في المخالفين من يحمله نفسه على دفع خلافة هارون لموسى في
حياته وإنكار كونها منزلة تنفصل عن نبوته وإن كان فيما حمل نفسه عليه
ظاهره المكابرة ويقول: قد ثبت أن هارون كان مفترض الطاعة على أمة
موسى عليه السلام لمكان شركته له في النبوة التي لا يتمكن من دفعها،
وثبت أنه لو بقي بعده لكان ما يجب من طاعته على جميع أمة موسى عليه
السلام يجب له لأنه لا يجوز خروجه عن النبوة وهو حي، وإذا وجب ما
ذكرناه وكان النبي صلى الله عليه وآله قد أوجب بالخبر لأمير المؤمنين عليه
السلام جميع منازل هارون من موسى ونفى أن يكون نبيا وكان من جملة
منازله أنه لو بقي بعده لكانت طاعته مفترضة على أمته وإن كانت تجب
لمكان نبوته وجب أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام المفترض الطاعة
وعلى سائر الأمة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وإن
لم يكن نبيا لأن نفي النبوة لا يقتضي نفي ما يجب
لمكانها على ما بيناه، وإنما كان يجب بنفي النبوة، نفي فرض الطاعة
لو لم يصح حصول فرض الطاعة إلا للنبي، وإذا جاز أن يحصل لغير
النبي كالإمام والأمير علم انفصاله من النبوة، وأنه ليس من شرائطها
وحقائقها التي تثبت بثبوتها وتنتفي بانتفائها والمثال الذي تقدم يكشف عن
صحة قولنا، وأن النبي صلى الله عليه وآله لو صرح أيضا بما ذكرناه حتى يقول " أنت
مني بمنزلة هارون من موسى " في فرض الطاعة على أمتي وإن لم تكن
شريكي في النبوة وتبليغ الرسالة لكان كلامه مستقيما بعيدا من التنافي،
فإن قال: فيجب على هذه الطريقة أن يكون أمير المؤمنين عليه
السلام مفترض الطاعة على الأمة في حال حياة النبي صلى الله عليه وآله

11
كما كان هارون كذلك في حياة موسى عليه السلام.
قيل له: لو خلينا وظاهر الكلام لأوجبنا ما ذكرته، غير أن
الإجماع مانع منه لأن الأمة لا تختلف في أنه عليه السلام لم يكن مشاركا
للرسول صلى الله عليه وآله في فرض الطاعة على الأمة في جميع أحوال
حياته حيث ما كان عليه هارون في حياة موسى ومن قال منهم: إنه
مفترض الطاعة في تلك الأحوال يجعل ذلك في أحوال غيبة الرسول عن
الأمة في جميع أحوال حياته حيث ما كان عليه هارون في حياة موسى ومن
قال منهم: إنه مفترض الطاعة في تلك الأحوال يجعل ذلك في أحوال غيبة
الرسول صلى الله عليه وآله على وجه الخلافة له لا في أحوال حضوره،
وإذا خرجت أحوال الحياة بالدليل تثبت الأحوال بعد الوفاة بمقتضى اللفظ
فإن قال ظاهر قوله عليه السلام: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " لم
يمنع مما ذكرتموه لأنه يقتضي من المنازل ما حصل لهارون من جهة موسى
واستفادة به، وإلا فلا معنى لنسبة المنازل إلى أنها منه، وفرض الطاعة
الحاصل عن النبوة غير متعلق بموسى عليه السلام ولا واجب من جهته.
قيل له: أما سؤالك فظاهر السقوط على كلامنا، لأن خلافة
هارون لموسى في حياته لا شك في أنها منزلة منه، وواجبة بقوله الذي ورد
به القرآن، فأما ما أوجبناه من استخلافه الخلافة بعده فلا مانع من إضافته
أيضا إلى موسى عليه السلام، لأنه من حيث استخلفه في حياته وفوض
إليه تدبير قومه ولم يجز أن يخرج عن ولاية جعلت له، وجب حصول
هذه المنزلة له بعد الوفاة، فتعلقها بموسى عليه السلام تعلق قوي، فلم
يبق إلا أن نبين الجواب على الطريقة التي استأنفناها، والذي يبينه أن قوله
صلى الله عليه وآله: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " لا يقتضي ما ظنه
السائل من حصول المنازل بموسى عليه السلام ومن جهته، كما أن قول
أحدنا: أنت مني بمنزلة أخي مني أو بمنزلة أبي مني لا يقتضي كون الأخوة

12
والأبوة به ومن جهته، فليس يمكن أحدا أن يقول في هذا القول إنه مجاز
أو خارج عن حكم الحقيقة، ولو كانت هذه الصيغة تقتضي ما ادعى
لوجب أيضا أن لا يصح استعمالها في الجمادات، وكل ما لا يصح منه
فعل، وقد علمنا صحة استعمالها فيما ذكرناه لأنهم لا يمنعون من القول
بأن منزلة دار زيد من دار عمرو بمنزلة دار خالد من دار بكر، ومنزلة بعض
أعضاء الإنسان منه بمنزلة بعض آخر منه، وإنما يفيدون تشابه الأحوال
وتقاربها، ويجري لفظة " من " في هذه الوجوه مجرى " عند " و " مع " فكأن
القائل أراد محلك عندي، وحالك معي في الاكرام والاعظام كحال أبي
عندي ومحله فيهما، ومما يكشف عن صحة ما ذكرناه حسن استثناء الرسول
صلى الله عليه وآله النبوة من جملة المنازل، ونحن نعلم أنه لم يستثن إلا ما
يجوز دخوله تحت اللفظ عندنا، أو يجب دخوله عند مخالفينا، ونعلم أيضا
أن النبوة المستثناة لم تكن بموسى عليه السلام وإذا ساغ استثناء النبوة من
جملة ما اقتضى اللفظ مع أنها لم تكن بموسى عليه السلام بطل أن يكون
اللفظ متناولا لما وجب من جهة موسى من المنازل، وأما الذي يدل على
أن اللفظ يوجب حصول جميع المنازل إلا ما أخرجه الاستثناء، وما جرى
مجراه وإن لم يكن من ألفاظ العموم الموجبة للاشتمال والاستغراق، ولا
كان من مذهبنا أيضا أن في اللفظ المستغرق للجنس على سبيل الوجوب
لفظا موضوعا له فهو أن دخول الاستثناء في اللفظ الذي يقتضي على سبيل
الاحتمال أشياء كثيرة متى صدر من حكيم يريد البيان والافهام دليل على
أن ما يقتضيه اللفظ يحتمله بعد ما خرج بالاستثناء مرادا بالخطاب وداخل
تحته، ويصير دخول الاستثناء كالقرينة أو الدلالة التي توجب بها
الاستغراق والشمول، يدل على صحة ما ذكروه أن الحكيم منا إذا قال:
من دخل داري أكرمته إلا زيدا فهمنا من كلامه بدخول الاستثناء إن من
عدا زيدا مراد بالقول، لأنه لو لم يكن مرادا لوجب استثناؤه مع إرادة

13
الإفهام والبيان، فهذا وجه.
ووجه آخر وهو إنا وجدنا الناس في هذا الخبر على فرقتين منهم من
ذهب إلى أن المراد منزلة واحدة لأجل السبب الذي يعدون خروج الخبر
عليه أو لأجل عهد أو عرف، والفرقة الأخرى تذهب إلى عموم القول
بجميع ما هو منزلة لهارون من موسى عليهما السلام بعد ما أخرجه الدليل
على اختلافهم في تفصيل المنازل وتعيينها، وهؤلاء هم الشيعة وأكثر
مخالفيهم، لأن القول الأول لم يذهب إليه إلا الواحد والاثنان، وإنما يمتنع
من خالف الشيعة من إيجاب كون أمير المؤمنين عليه السلام خليفة النبي
صلى الله عليه وآله من حيث لم يثبت عندهم أن هارون لو بقي بعد
موسى لخلفه، ولا أن ذلك مما يصح أن يعد في جملة منازله فكان كل من
ذهب إلى أن اللفظ يصح تعديه المنزلة الواحدة ذهب إلى عمومه فإذا فسد
قول من قصر القول على المنزلة الواحدة لما سنذكره، وبطل وجب عمومه
لأن أحدا لم يقل بصحة تعديته مع الشك في عمومه، بل القول بأنه مما
يصح أن يتعدى، وليس بعام خروج عن الإجماع.
فإن قال: وبأي شئ تفسدون أن يكون الخبر مقصورا على منزلة
واحدة لأجل السبب أو ما يجري مجراه.
قيل له: أما ما تدعي من السبب الذي هو إرجاف المنافقين (1)،
ووجوب حمل الكلام عليه وألا يتعداه فيبطل من وجوه:
منها، أن ذلك غير معلوم على حد العلم بنفس الخبر (2) بل غير
معلوم أصلا، وإنما وردت به أخبار آحاد وأكثر الأخبار واردة بخلافه،
وأن أمير المؤمنين عليه السلام لما خلفه النبي صلى الله عليه وآله بالمدينة في



(1) الأرجاف: واحد أراجيف الأخبار، وأرجف القوم خاضوا في أخبار الفتن
وغيرها، ومنه (المرجفون في المدينة).
(2) خ " على حد تيقن الخبر ".
14
غزوة تبوك كره أن يتخلف عنه، وأن ينقطع عن العادة التي كان يجري
عليها في مواساته له بنفسه، وذبه الأعداء عن وجهه، فلحق به وشكى إليه
ما يجده من ألم الوحشة، فقال له هذا القول، وليس لنا أن نخصص خبرا
معلوما بأمر غير معلوم، على أن كثيرا من الروايات قد أتت بأن النبي
صلى الله عليه وآله قال له: " أنت مني بمنزله هارون من موسى " في
أماكن مختلفة، وأحوال شتى (1)، فليس لنا أيضا أن نخصه بغزوة تبوك دون
غيرها، بل الواجب القطع على الخبر الحق والرجوع إلى ما يقتضيه والشك
فيما لم يثبت صحته من الأسباب والأحوال.
ومنها، إن الذي يقتضيه السبب مطابقة القول له، وليس يقتضي مع
مطابقته ألا يتعداه وإذا كان السبب ما يدعونه من إرجاف المنافقين أو استثقاله
عليه السلام أو كان الاستخلاف في حال الغيبة والسفر فالقول على مذهبنا
وتأويلنا يطابقه ويتناوله، وإن تعداه إلى غيره من الاستخلاف بعد الوفاة الذي
لا ينافي ما يقتضيه السبب، يبين ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله لو صرح بما ذهبنا
إليه حتى يقول: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى " في المحبة والفضل
والاختصاص والخلافة في الحياة وبعد الوفاة لكان السبب الذي يدعي غير مانع
من صحة الكلام واستقامته.
ومنها، إن القول لو اقتضى منزلة واحدة إما الخلافة في السفر أو ما
ينافي من إرجاف المنافقين من المحبة والميل لقبح الاستثناء لأن ظاهره لا
يقتضي تناول الكلام لأكثر من منزلة واحدة، ألا ترى أنه لا يحسن أن
يقول أحدنا لغيره منزلتك مني في الشركة في المتاع المخصوص دون غيرها
منزلة فلان من فلان إلا أنك لست بجاري، وإن كان الجوار ثابتا بين من
ذكره من حيث لم يصح تناول قوله الأول ما يصح دخول منزلة الجوار فيه،
وكذلك لا يصح أن يقول: إن ضربت غلامي زيدا إلا غلامي عمرا،
وإن صح أن يقول: ضربت غلماني إلا غلامي عمرا من حيث تناول



(1) سيأتي ذكر هذه الأحوال ص 56 من هذا الجزء
15
اللفظ الواحد دون الجمع، وبهذا الوجه يسقط قول من ادعى أن الخبر
يقتضي منزلة واحدة لأن ظاهر اللفظ يتناول أكثر من المنزلة الواحدة، وأنه
لو أراد منازل كثيرة لقال أنت مني بمنازل هارون من موسى وذلك أن
اعتبار موضع الاستثناء يدل على أن الكلام يتناول أكثر من منزلة واحدة،
والعادة في الاستعمال جارية بأن يستعمل مثل هذا الخطاب، وإن كان
المراد المنازل الكثيرة، لأنهم يقولون منزلة فلان من الأمير كمنزلة فلان
منه، وإن أشاروا إلى أحوال مختلفة وإلى منازل كثيرة، ولا يكادون يقولون
بدلا مما ذكرناه منازل فلان كمنازل فلان، وإنما حسن منهم ذلك من حيث
اعتقدوا أن ذوي المنازل الكثيرة، والرتب المختلفة قد حصل لهم
بمجموعها منزلة واحدة كأنها جملة تتفرع على غيرها، فتقع الإشارة منهم
إلى الجملة بلفظ الواحدة، وباعتبار ما اعتبرناه من الاستثناء يبطل قول من
حمل الكلام على منزلة يقتضيها العهد والعرف، ولأنه ليس في العرف ألا
تستعمل لفظ منزلة إلا في شئ مخصوص دون ما عداه، لأنه لا حال من
الأحوال يحصل لأحد مع غيره من نسب وجوار وولاية ومحبة واختصاص
إلى سائر الأحوال إلا ويصح أن يقال فيه: أنه منزلة، ومن ادعى عرفا في
بعض المنازل كمن ادعاه في غيره وكذلك لا عهد يشار إليه في منزلة من
منازل هارون من موسى عليه السلام دون غيرها فلا اختصاص بشئ من
منازله بعهد ليس في غيره، بل سائر منازله كالمعهود من جهة أنها معلومة
بالأدلة عليها، وكل ما ذكرناه واضح لمن أنصف من نفسه.
طريقة أخرى من الاستدلال بالخبر على النص وهي أنه إذا ثبت
كون هارون خليفة لموسى على أمته في حياته ومفترض الطاعة عليهم، وأن
هذه المنزلة من جملة منازله، ووجدنا النبي صلى الله عليه وآله استثنى ما لم
يرده من المنازل بعده بقوله " إلا أنه لا نبي بعدي " دل هذا الاستثناء على
أن ما لم يستثنه حاصل لأمير المؤمنين عليه السلام بعده وإذا كان من جملة
المنازل الخلافة في الحياة وثبتت بعده فقد صح وجه النص بالإمامة.

16
فإن قال: ولم قلتم إن الاستثناء في الخبر يدل على بقاء ما لم يستثن
من المنازل وثبوته بعده.
قيل له: لأن الاستثناء كما من شأنه إذا كان مطلقا أن يوجب ما لم
يستثن مطلقا كذلك من شأنه إذا قيد بحال أو وقت أن يوجب ثبوت ما لم
يستثن في ذلك الوقت، لأنه لا فرق بين أن يستثنى من الجملة في حال
مخصوصة ما لم يتضمنه الجملة في تلك الحال وبين أن يستثنى منها ما لم
يتضمنه على وجه من الوجوه، ألا ترى أن قول القائل: ضربت غلماني
إلا زيدا في الدار، وإلا زيدا فإني لم أضربه في الدار، يدل على أن ضربه
غلمانه كان في الدار لموضع تعلق الاستثناء بها، وأن الضرب لو لم يكن في
الدار لكان تضمن الاستثناء لذكر الدار كتضمنه ذكر ما لا تشتمل عليه
الجملة الأولى من بهيمة وغيرها، وليس لأحد أن يقول ويتعلق بأن لفظة
" بعدي " في الخبر لا تفيد حال الوفاة، وأن المراد بها بعد نبوتي لأن
الجواب عن هذه الشبهة يأتي فيما بعد مستقصى بمشيئة الله، ولا له أن
يقول: من أين لكم ثبوت ما لم يدخل تحت الاستثناء من المنازل؟ لأنا قد
دللنا على ذلك في الطريقة الأولى.
ونحن نعود إلى كلام صاحب الكتاب في الفصل.
أما الطريقة الأولى وهي التي بدأ بذكرها فقد استوفينا نصرتها.
وأما ما ذكره ثانيا فليس بمعتمد جملة لأن قوله تعالى في حكاية خطاب
موسى لهارون (اخلفني في قومي وأصلح) إن كانت هذه الصيغة بعينها
هي الواقعة من موسى عليه السلام لم يكن دلالة على ثبوت الاستخلاف في
جميع الأحوال، فكيف ونحن نعلم أن الحكاية تناولت معنى قوله دون
صيغته، وإنما قلنا إن قوله: (أخلفني في قومي) لا يقتضي عموم سائر
الأحوال لأنه محتمل، وليس يجب في اللفظ المحتمل أن يحمل على سائر ما
يحتمله إلا بدليل كما لا يجب ذلك في البعض.
فأما ما ذكره ثالثا فهو طريقة إثبات النص، وقد اعتمدها أصحابنا

17
أنه ليس بمتعلق بالخبر الذي شرع صاحب الكتاب في حكاية وجوه
استدلالاتنا منه، ولا مفتقرة إليه، وما نعلم أحدا من أصحابنا قرن هذه
الطريقة من الاستدلال بالكلام في الخبر وإيرادها في هذا الموضع طريف.
فأما ما ذكره رابعا فهي الطريقة التي أوردناها وقد بينا كيفية
دلالتها.
قال صاحب الكتاب: " واعلم أن قوله: (أنت مني بمنزلة هارون
من موسى) لا يتناول إلا منزلة ثابتة منه، ولا يدخل تحته منزلة مقدرة لأن
المقدر ليس بحاصل ولا يجوز أن يكون منزلة لأن وصفه بأنه منزلة يقتضي
حصوله على وجه مخصوص ولا فرق في المقدر بين (1) أن يكون من الباب
الذي كان يجب لا محالة على الوجه الذي قدر أو لا يجب في أنه لا يدخل
تحت الكلام، ويبين صحة ذلك أن قوله: (أنت مني بمنزلة هارون من
موسى) يقتضي منزلة لهارون من موسى معروفة يشبه (2) بها منزلته،
فكيف يصح أن تدخل في ذلك المقدر وهو كقول القائل: حقك (3) علي
مثل حق فلان على فلان، ودينك عندي مثل دين فلان إلى ما شاكل ذلك
في أنه لا يتناول إلا أمرا معروفا حاصلا وإذا ثبت ذلك، فيقال: ننظر فإن
كانت منزلة هارون من موسى معروفة حملنا الكلام عليها، وإلا وجب
التوقف كما يجب مثله فيما مثلناه من الحق والدين، ويجب أن ننظر إن كان
الكلام يقتضي الشمول حملناه عليه وإلا وجب التوقف عليه ولا يجوز أن
يدخل تحت الكلام ما لم يحصل لهارون من المنزلة البتة، وقد علمنا أنه لم
تحصل له الخلافة بعده فيجب أن لا يدخل ذلك تحت الخبر ولا يمكنهم أن



(1) غ " في العدد ".
(2) غ " ليست بها منزلته " والظاهر تحريف " ليست " عن " يشبه ".
(3) غ " حصل علي ".
18
يقولوا بوجوب دخوله تحت الخبر على التقدير الذي ذكروه، لأنا قد بينا أن
الخبر لا يتناول التقدير (1) الذي لم يكن، وإنما يتناول أول المنزلة الكائنة
الحاصلة.
فإن قيل: إن المنزلة التي تقدرها لهارون هي كأنها ثابتة، لأنها
واجبة بالاستخلاف في حال الغيبة، وإنما حصل فيها منع وهو موته قبل
موت موسى عليه السلام، ولولا هذا المنع لكانت ثابتة فإذا لم يحصل مثل
هذا المنع في أمير المؤمنين عليه السلام فيجب أن تكون ثابتة.
قيل له: إن الذي ذكرته إذا سلمناه لم يخرج هذه المنزلة من كونها
غير ثابتة في الحقيقة وإن كانت في الحكم كأنها ثابتة وقد بينا (2) أن الخبر لم
يتناول المقدر صح وجوبه أو لم يصح فنحن قبل أن نتكلم في صحة ما
أوردته ووجوبه قد صح كلامنا (3) فلا حاجة بنا (4) إلى منازعتك في هذه المنزلة
هل كانت تجب لو مات موسى قبله، أو كانت لا تجب؟ يبين ذلك أنه
عليه السلام لو ألزمنا صلاة سادسة في المكتوبات أو صوم شوال لكان ذلك
شرعا له ولوجب ذلك لمكان المعجز وليس بواجب أن يكون من شرعه
الآن وإن كان لو أمر به للزم، وكذلك القول فيما ذكروه وليس كل مقدر
حصل سبب وجوبه وكان يجب حصوله له ولولا المانع (5) يصح أن يقال:
إنه حاصل، وإذا تعذر ذلك فكيف يقال أنه منزلة وقد بينا أن كونه (6)



(1) غ " المقدر ".
(2) غ " وقد ثبت أن الخبر ".
(3) غ " فيجب صحة كونه كلامنا ".
(4) غ " فلا حاجة بنا الآن ".
(5) غ " تحت حصوله لولا الصانع لصح " وهي محرفة قطعا ولو رجع محققوا
" المغني " إلى " الشافي " لكانوا في غنى عن توجيه هذه التحريفات وهي كثيرة جدا!
(6) غ " وقد بينا أنه منزلة ".
19
صفة زائدة على حصوله يبين ذلك أن الخلافة بعد الموت لها من الحكم ما
ليس للخلافة في حالة الحياة فهما منزلتان مختلفتان تختص كل واحدة منهما
بحكم يخالف حكم صاحبتها لأنه [في حال الحياة تصح فيها الشركة
والعزل والاختصاص، وبعد الوفاة] (1) لا يصح فيها ذلك فلا يجب ثبوت
إحداهما بثبوت الأخرى، ولا يصح أن يعد ذلك منزلة ولم يحصل فكيف
يقال إن الخبر يتناوله... " (2).
يقال له: لم قلت: " إن ما يقدر لا يصح وصفه بأنه منزلة " فما نراك
ذكرت إلا ما يجري مجرى الدعوى، وما أنكرت من أن يوصف المقدر
بالمنزلة إذا كان سبب استحقاقه وجوبه حاصلا وليس يخرج بكونه
مقدرا من أن يكون معروفا يصح أن يشار إليه ويشبه به غيره لأنه إذا صح
وكان مع كونه مقدرا معلوما حصوله ووجوبه عند وجود شرطه فالإشارة
إليه صحيحة، والتعريف فيه حاصل، وقد رضينا بما ذكرته في الدين لأنه
لو كان لأحدنا على غيره دين مشروط يجب في وقت منتظر يصح قبل ثبوته
وحصوله أن تقع الإشارة إليه، ويحمل غيره عليه، ولا يمتنع من جميع
ذلك فيه كونه منتظرا متوقعا، ويوصف أيضا بأنه دين وحق وإن لم يكن في
الحال ثابتا، ومما يكشف عن بطلان قولك: إن المقدر وإن كان مما يعلم
حصوله لا يوصف بأنه منزلة أن أحدنا لو قال فلان مني بمنزلة زيد من
عمرو في جميع أحواله وعلمنا أن ذلك قد بلغ من الاختصاص بعمرو،
والتقرب منه، والزلفى عنده إلى حد لا يسأله معه شيئا من أمواله إلا
أجابه إليه، وبذله ثم إن المشبه حاله بحاله سأل صاحبه درهما من ماله،
أو ثوبا لوجب عليه إذا كان قد حكم بأن منزلته منه منزلة من ذكرناه أن



(1) التكملة بين المعقوفين من " المغني ".
(2) المغني 20 ق 1 / 159.
20
يبذله له وإن لم يكن وقع ممن شبهت حاله به مثل تلك المسألة بعينها، ولم
يكن للقائل الذي حكينا قوله أن يمنعه من الدرهم والثوب بأن يقول: إنني
جعلت لك منازل فلان من فلان، وليس في منازله إن سأله درهما أو ثوبا
فأعطاه في كل واحدة منهما بل يوجب عليه جميع من سمع كلامه العطية من
حيث كان المعلوم من حال من جعل له مثل منزلته أنه لو سأله في ذلك كما
سأل هذا أجيب إليه، وليس يلزم على هذا أن تكون الصلاة السادسة وما
أشبهها من العبادات التي لو أوجبها الرسول صلى الله عليه وآله علينا
لوجب مما يجري عليها الوصف الآن بأنها من شرعه لأنها لم يحصل لها سبب
وجوب استحقاق بل سبب وجوبها مقدر بما أنها مقدرة، وليس كذلك ما
أوجبناه لأنا لا نصف بالمنزلة إلا ما حصل استحقاقه وسبب وجوبه ولو قال
عليه السلام: صلوا بعد سنة صلاة مخصوصة خارجة عما نعرف من
الصلوات لجاز أن يقال: بل وجب أن تكون تلك الصلاة من شرعه قبل
حضور الوقت من حيث ثبت سبب وجوبها، ومثل ما ذكرناه يسقط قول
من يقول: فيجب على كلامك أن يكون كل أحد نبيا إماما وعلى سائر
الأحوال التي يجوز على طريق التقدير أن يحصل عليها مثل أن يكون وصيا
لغيره، وشريكا له ونسيبا إلى غير ذلك، لأنه على طريق التقدير يصح أن
يكون على جميع هذه الأحوال لوجود أسبابها وشروطها، وإنما لم يلزم جميع
ما عددناه لما قدمنا ذكره من اعتبار ثبوت سبب المنزلة واستحقاقها وجميع
ما ذكر لم يثبت له سبب استحقاق، ولا وجوب، ولا يصح أن يقال إنه منزلة.
ثم يقال له: ما نحتاج إلى مضايفتك في وصف المقدر بأنه منزلة
وكلامنا يتم وينتظم من دونه لأن ما عليه هارون من استحقاق منزلة
الخلافة بعد وفاة موسى إذا كان ثابتا في أحوال حياته صح أن يوصف بأنه
منزلة وإن لم يصح وصف الخلافة بعد الوفاة بأنها منزلة في حال الحياة لأن
التصرف في الأمر المتعلق بحال مخصوصة عند استحقاقه وأحد الأمرين

21
منفصل من الآخر وإذا ثبت أن استحقاقه للخلافة بعد الوفاة يجري عليه
الوصف بالمنزلة، ووجب حصوله لأمير المؤمنين كما حصل لهارون لثبتت له
الإمامة بعد النبي صلى الله عليه وآله لتمام شرطها فيه، ألا ترى أن من
أوصى إلى غيره وجعل إليه التصرف في أمواله بعد وفاته يجب له ذلك
بشرط الوفاة وكذلك من استخلف غيره بشرط غيبته عن بلده ليكون نائبا
عنه بعد الغيبة يجب له هذه المنزلة عند حصول شرطها، فحال استحقاق
التصرف والقيام بالأمر المنصوص إليه غير حال استحقاقه، ولو أن غير
الموصي والمستخلف قال: فلان مني بمنزلة فلان من فلان وأشار إلى
الموصي والموصى إليه لوجب أن يثبت له من الاستحقاق في الحال
والتصرف بعدها ما أوجبناه للأول، ولم يكن لأحد التطرق إلى منع هذا
المتصرف من التصرف إذا بقي إلى حال وفاة صاحبه من حيث لا يوصف
التصرف المستقبل (1) بأنه منزلة قبل حصول (2) وقته ولا من حيث كان من
شبهت حاله به لم يبق بعد الوفاة لو قدرنا أنه لم يبق.
فإن قال صاحب الكتاب: إنما صح ما ذكرتموه لأن التصرف في
مال الموصي والخلافة لمن استخلف في حال الغيبة وإن لم يكونا حاصلين في
حال الخطاب ولم يوصفا بأنهما منزلتان فيما يقتضيهما من الوصية
والاستخلاف الموجبتين لاستحقاقهما يثبت في الحال، ويوصف بأنه
منزلة.
قلنا: وهكذا نقول لك فيما أوجبناه من منازل هارون من موسى
لأمير المؤمنين عليه السلام حرفا بحرف وليس له أن يخالف في أن
استحقاق هارون بخلافة موسى بعد الوفاة كان حاصلا في الحال لأن كلامه
في هذا الفصل مبني على تسليمه وإن كان قد خالف في ذلك في فصل



(1) خ " المستفيد " ولم يظهر وجهه.
(2) خ " حضور ".
22
استأنفه يأتي مع الكلام عليه فيما بعد وقد صرح في مواضع من كلامه
الذي حكيناه بتسليم هذا الموضع، لأنه بنى الفصل على أن الخلافة لو
وجبت بعد الوفاة حسبما يذهب إليه لم يصح وصفها قبل حصولها بأنها
منزلة، ولو كان مخالفا في أنها مما يجب أن يحصل لاستغنى بالمنازعة عن
جميع ما تكلفه فقد بان من جملة ما أوردناه، أن الذي اقترحه من أن الخبر
لم يتناول المقدر لم يغن عنه شيئا لأنا مع تسليمه قد بينا صحة مذهبنا في
تأويله، وأن كلامه إذا صح لم يكن له من التأثير أكثر من منع الوصف
بالمنزلة ما كان مقدرا، وليس يضر من ذهب في هذا الخبر إلى النص
لامتناع من وصف الخلافة بعد الوفاة بأنها منزلة قبل حصولها إذا ثبت له
أنها واجبة مستحقة وأن ما يقتضيها يجب وصفه بأنه منزلة.
قال صاحب الكتاب: " فإن قال: إن الذي يدل على أن الخبر
يتناول ذلك قوله: (إلا أنه لا نبي بعدي) وظاهر ذلك بعد موتي فيجب
أن يكون ما أثبته بعد الموت أيضا قيل له: إن التشبيه الأول يقتضي حمل
هذا الاستثناء على أن المراد به بعد كوني (1) نبيا ليصح أن يحصل ما استثناه (2)
في هارون كما صح أن يحصل ما استثنى منه في هارون لأنه لا بد من صحة
الأمرين في هارون (3) وقد علمنا أنه لم يكن من منازل النبوة بعد موسى
وإنما يدخل في منازله النبوة بعد نبوة موسى فيجب أن يكون إنما استثنى
ما لولاه لثبت من منازل (4) هارون، ولا يجوز أن يستثنى ما لولاه لم يثبت
من منازل (5) هارون لأن ذلك لا يفيد، وهذا يبين صحة ما قدمناه وإذا
ثبت أن المراد إلا أنه لا نبي بعد نبوتي فيجب أن يكون المنازل التي



(1) غ " يتصل كونه نبيا ".
(2) خ " ما استثني منه ".
(3) غ " في منازل هارون ".
(4) غ " في منازل ".
(5) كذلك.
23
دخلها (1) هذا الاستثناء بعد نبوته لا بعد موته وهذا يسقط ما عولوا عليه
فصار التشبيه الأول هو الدال على أن المستثنى والمستثنى منه جميعا حاصلان
لهارون، وإذا لم يحصل له كل المنازل إلا في حال الحياة من موسى وجب
صحة ما ذكرناه، ومما يبين صحة ذلك أن من حق الاستثناء أن يطابق
المستثنى منه في وقته لأن الرجل إذا قال لفلان على عشرة دراهم إلا درهما
فالمراد بما أثبته الحال وبما نفاه الحال ولا يجوز في الكلام سوى ذلك إلا
بقرينة ودلالة، وقد علمنا أنه عليه السلام لما قال لعلي عليه السلام: (أنت
مني بمنزلة هارون من موسى) أثبت له المنزلة في الوقت، فيجب فيما استثنى
أن يتناول الوقت فكيف يقال: إنه أراد بعد موته بل [كيف] (2) يجب حمله
على الوقت فكأنه قال: أنت مني في حال نبوتي بمنزلة هارون من موسى في
حال نبوته وبعد نبوته إلا أنه لا نبي بعد نبوتي حتى يكون الاستثناء متناولا
للحال التي لولا الاستثناء لثبت، فإذا كان لو لم يستثن لوجب في حق
الكلام أن يكون شريكه في النبوة في الحال كما ثبت لهارون فيجب إذا
استثني أن يقتضي نفي هذا المعنى وهذا يمنع من حمله على بعد الموت،
وليس لأحد أن يقول فيجب أن لا يعرف بقوله: (إلا أنه لا نبي بعدي)
أنه خاتم الأنبياء وذلك لأنه إذا كان المراد إلا أنه لا نبي بعد كوني نبيا فقد
دل على ذلك بأقوى ما يدل لو أراد إلا أنه لا نبي بعد وفاتي (3) فكيف لا يدل
على ما ذكرتموه؟
ولسنا نعتمد في أنه خاتم النبيين عليه السلام إلا على ما نعلم من
دينه ضرورة بالنقل المتواتر الذي نعرف به ذلك من غير اعتبارا لفظه.. " (4)



(1) غ " المنازل التي حصل لأجلها ".
(2) " كيف " من " المغني ".
(3) غ " ولو أراد بقوله: ب‍ (بعدي) بعد وفاتي ".
(4) المغني 20 ق 1 / 163.
24
يقال له: قد أجاب أصحابنا من أن يكون قوله عليه السلام: (إلا
أنه لا نبي بعدي) أراد به بعد نبوتي بجوابين:
أحدهما أن قوله عليه السلام: (لا نبي بعدي) يقتضي ظاهره بعد
موتي لأن العادة جارية في فائدة مثل هذه اللفظة إذا وقعت على هذا الوجه
بمثل ما ذكرناه، ألا ترى أن أحدنا إذا قال: فلان وصيي من بعدي وهذا
المال يفرق على الفقراء من بعدي لم يفهم من كلامه إلا بعد وفاتي دون
سائر أحواله، وإذا كان الظاهر يقتضي صحة قولنا وجب التمسك به،
واطراح قول من سامه العدول عنه.
والجواب الثاني إنا لو سلمنا للخصوم ما اقترحوه من أن المراد بنفي
النبوة لم يختص حال الوفاة، بل يتناول ما هو بعد حال نبوته من الأحوال لم
يخل ذلك بصحة تأويلنا للخبر لأنا نعلم أن الذي أشاروا إليه من الأحوال
يشتمل على أحوال الحياة، وأحوال الوفاة إلى قيام الساعة فيجب بظاهر
الكلام، وبما حكمنا به من مطابقة الاستثناء في الحال التي وقع فيها
المستثنى منه، أن يجب لأمير المؤمنين عليه السلام الإمامة في جميع الأحوال
التي تعلق النفي بها، فإن أخرجت دلالة شيئا من هذه الأحوال أخرجناه
لها وأبقينا ما عداه لاقتضاء ظاهر الكلام له، فكان ما طعن به مخالفونا إنما
زاد قولنا صحة وتأكيدا، وهذا الجواب هو المعتمد دون الأول لأن لقائل
أن يقول في الأول أن الظاهر من قول القائل بعدي لا يتناول أحوال الوفاة
على ما ادعيتم، ولا يمتنع أن يكون هذه الكناية متعلقة بحال من أحوال
القائل غير حال وفاته، لأنا نعلم أولا إنها ليست بكناية عن ذاته وإنما هي
كناية عن حال من أحواله، فلا فرق بين بعض أحواله وبين بعض في
صحة الكناية عنه بهذه اللفظة، ألا ترى إلى صحة قول القائل قدم فلانا
بعدي، وتكلم بعدي وولي فلان كذا وكذا بعد فلان، وإن كانت لفظة
بعدي جميعها كناية عن غير حال الوفاة، ومتعلقة بما يثبت في حال الحياة،

25
وليس يمكن أن يدعي أن ظاهرها وحقيقتها يقتضيان حال الوفاة، وأنها إذا
أريد بها ما عدا حال الوفاة من الأحوال كانت مجازا لأن ذلك تحكم من
مدعيه، ولا فرق بينه وبين من ادعى عكسه عليه، فقال إنها إنما تكون
مجازا إذا عني بها حال الوفاة، ومن رجع إلى ما يقع عليه هذه اللفظة في
الاستعمال والتعارف لم يجد لوقوعها كناية عن بعض الأحوال مزية على بعض.
ثم يقال له: في قوله: " إن الكلام يقتضي حصول المستثنى
والمستثنى منه معا لهارون عليه السلام وأن من حق الاستثناء أن يطابق المستثنى
منه في وقته " أما مطابقة الاستثناء للمستثنى منه فهو الصحيح الواجب
الذي فزعوا إليه، ومدار كلامهم في هذه الطريقة عليه، وأما حصول
المستثنى والمستثنى منه معا لهارون في وقتهما وعلى سائر وجوههما فغير واجب
لأن النبي صلى الله عليه وآله لم يقصد إلى جعل منازل هارون من موسى
في زمانهما ووجه حصولهما لأمير المؤمنين عليه السلام وإنما قصد إلى إيجاب
ما كان لهارون من موسى عليهما السلام من المنازل في حال مخصوصة
لأمير المؤمنين عليه السلام في حال أخرى فدخل التشبيه والتمثيل بين
المنازل لأنفسها لا بين أوقاتها وأزمان حصولها، والذي دلنا على صحة هذه
الجملة:
ما قدمناه من اعتبار الاستثناء لأنه عليه السلام إذا استثنى ما أخرجه
من المنازل بعده، وكان الاستثناء من شأنه أن يطابق المستثنى منه حتى
يكون مخرجا من الكلام ما لولاه لثبت على الوجه الذي تعلق به
الاستثناء، فلا بد أن يحكم بأنه عليه السلام أراد بصدر الكلام إيجاب
المنازل بعده، فكأنه عليه السلام قال: (أنت مني بمنزلة هارون من
موسى) بعدي واستغنى عن التصريح بلفظ بعدي في صدر الكلام من
حيث كان الاستثناء دالا عليها، ومقتضيا لها، وهذا هو الواجب في

26
الكلام الفصيح بمعنى أن يكتفى بيسيره عن كثيره، وبالتصريح في بعضه
عن التصريح في كله، ولو لم يقتض الاستثناء ما ذكرناه لخرج عن مطابقة
المستثنى منه وبعد عن الفائدة، لأن هارون لم يكن نبيا بعد وفاة موسى
فيكون الاستثناء مخرجا ما لولاه لثبت، فلا فرق بين تعلق الاستثناء بالحال
المخصوصة التي لم تثبت لهارون ولا قدرنا أضمارها في صدر الكلام وبين
تعلقه بمنزلة غير مخصوصة لم تثبت لهارون من موسى على وجه من
الوجوه، فوجب بما بيناه أن يكون ما أوجب في صدر الكلام من المنازل
مقصودا به إلى الحال التي تعلق الاستثناء بها وسقط قول إن هارون إذا لم
يكن نبيا بعد وفاة موسى لم يصح تعلق الاستثناء بحال الوفاة، فلا فرق
في صحة هذه الطريقة بين أن تكون لفظة " بعدي " محمولة على نفي النبوة
بعد الموت، أو محمولة على نفيها بعد أحوال كونه نبيا مما يعم الحياة والوفاة
معا لأن اشتراط الحال التي تعلق بها الاستثناء وتقديرها في صدر الكلام
من الواجب سواء كانت حالة الوفاة خاصة أو حالة الحياة والوفاة جميعا،
وما نريده من إثبات الإمامة بالخبر بعد الوفاة مستمر على الوجهين، فلا
معنى للمضايقة فيما يتم المراد دونه، ومما يزيد ما قد أوردناه وضوحا،
ويسقط قوله التشبيه يقتضي حصول ما تعلق به الاستثناء في وقته لهارون أن
النبي صلى الله عليه وآله لو صرح بما قدرناه حتى يقول: (أنت مني بمنزلة
هارون من موسى) بعد وفاتي أو في حال حياتي وبعد وفاتي إلا أنك لست
بنبي في هذه الأحوال لكان الكلام مستقيما خارجا عن باب التجوز، ولم
يمنع من صحته أن المنزلة المستثناة لم تحصل لهارون في الحال التي تعلق بها
الاستثناء.
وأما قوله: " إن من حق الاستثناء أن يطابق المستثنى منه في وقته
وإنا قد علمنا أن بقوله: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) أثبت له
المنزلة في الوقت فيجب فيما استثني أن يتناول الوقت " فقد نقضه بجوابه لما

27
ألزم نفسه (ألا يعلم بالقول أنه عليه السلام خاتم النبيين) (1) بأنا نعلم أنه
إذا كان المراد لا نبي بعد كوني نبيا فقد دل على ذلك بأقوى ما يدل لو أراد
إلا أنه لا نبي بعد وفاتي، وموضع المناقضة أنه حكم بوجوب مطابقة
الاستثناء في الوقت المستثنى منه، ثم جعل نفي النبوة معلوما بأحوال لم
تثبت للمستثنى منه في جميعها لأن ثبوته عنده يختص حال الحياة ونفي النبوة
يعم جميع الأحوال التي تلي كونه نبيا وتدخل فيها أحوال الحياة والوفاة،
وفي هذا نقض منه ظاهر، على أن ما قدمناه من دلالة الاستثناء يبطل ما
ظنه من أن صدر الكلام أوجب ثبوت المنازل في الوقت.
وقوله: " إذا كان لو لم يستثن لوجب (2) أن يكون شريكا في النبوة في
الحال فيجب إذا استثني أن ينتفي النبوة في هذه الحال " باطل لأنا لا
نسلم له أولا أنه لو لم يستثن لوجب ثبوت ذلك في الحال بظاهر الكلام،
ولو سلمناه لم يجب ما ظنه لأن الاستثناء إنما كان يجب أن ينفي النبوة في
الحياة ولو وقع مطلقا لم يتعلق بحال مخصوصة، فأما وقد تعلق بحال معينة
ودلنا تعلقه على ثبوت ما لم يستثن فيها لتحصيل المطابقة فالذي ذكره غير
صحيح.
وأما قوله: (إنا لا نتعلق في أنه عليه السلام خاتم الأنبياء بلفظ بل بما
نعلم من دينه) فلا يتوجه علينا لأن الأمر وإن كان على ما ذكره فليس يجوز
أن يجعل أحد قوله عليه السلام: (لا نبي بعدي) مختصا بحال الحياة دون
أحوال الوفاة لأنه لا أحد من الأمة ذهب إلى هذا، وإنما الخلاف في
الاستثناء هل اختص بحال الوفاة دون أحوال الحياة على ما نصره أكثر
أصحابنا أو تعلق ببعد حال النبوة مما يشتمل الحياة والوفاة، وخلاف هذين



(1) لا يخفى أن المرتضى نقل كلام القاضي بمعناه دون حروفه.
(2) خ " يوجب ".
28
القولين لا نعرفه قولا لأحد منهم، وقد كنا أملينا في الجواب عن هذه
الشبهة التي اشتمل عليها الفصل من كلامه مسألة (1) مفردة استقصينا
الكلام فيها وفيما أوردناه هاهنا كفاية إن شاء الله تعالى.
قال صاحب الكتاب: " وبعد، فلو ثبت أن قوله (إلا أنه لا نبي
بعدي) المراد به بعد موتي لكان لا بد فيه من شرط، فكأنه يريد فلا تكون
يا علي نبيا بعدي إن عشت لأن هذا الشرط واجب لا بد منه وإذا وجب
ذلك فكأنه قال عليه السلام: أنت وإن بقيت لا تكون نبيا بعدي كما يكون
هارون نبيا بعد أخيه موسى لو بقي، فلا بد من إثبات الشرط
وتقديره في الأمرين، وإن كان الكلام لا يقتضيه لأنه لا يجب إذا دل
الدليل على دخول شرط في الاستثناء أن يدخل (2) في المستثنى منه * مع
إمكان حمله على ظاهره وقد علمنا أن قوله (أنت مني بمنزلة هارون من
موسى) يقتضي الحال من غير شرط فكيف يجب بدخول الشرط في
الاستثناء من حيث أدى إليه الدليل إثبات شرط في المستثنى منه * (3) وهذا
يبين أن الذي ذكروه لو سلمناه لم يوجب ما قالوه (4)، وكان يجب على هذا
القول أن لا يدخل تحت الخبر (5) منزلة يستحقها أمير المؤمنين عليه السلام
في حال حياة الرسول صلى الله عليه وآله أصلا لأنهم أوجبوا في المستثنى منه
أن يكون كالمستثنى (6) في أنه بعد الموت، وبطلان ذلك يبين فساد هذا



(1) رسالة، خ ل.
(2) غ " أن يدل ".
(3) ما بين النجمتين ساقط من " المغنى " في الموضعين.
(4) غ " لم يجب ما قالوه ".
(5) غ " تحت القول ".
(6) غ " أن يكون بمنزلة المستثنى ".
29
القول " (1) ثم قال: " فإن قالوا: قد دخل تحت الاثبات حال الحياة وبعد
الممات فصح الاستثناء منه وإن كان بعد الموت، قيل لهم: فإذا جاز في
المستثنى منه أن يكون ثابتا في الحالين، وإن كان الاستثناء لا يحصل إلا في
أحدهما فما المانع من أن يكون المستثنى منه يثبت (2) في حال الحياة فقط على ما
يقتضيه لفظه؟ وإن كان المستثنى لا يحصل إلا بعد الوفاة على ما يقتضيه
لفظه.
وبعد، فإنه يقال لهم: إذا كنا متى وفينا المستثنى منه الذي هو
لإثبات حقه تناول الحال وإذا وفينا المستثنى حقه تناول بعد الموت ومثل
ذلك لا يصح في الاستثناء فيجب أن يصرف الكلام عن الاستثناء ونقول
وإذا كان لفظه لفظ الاستثناء فالمراد به ما يجري مجرى استئناف من كلام
يكون القصد به إزالة الشبهة عن القلوب فكأنه عليه السلام ظن أنه لو
أطلق الكلام إطلاقا لدخلت الشبهة على قوم في أن يكون نبيا بعده *
فيجب أن يصرف الكلام عن الاستثناء بعده * (3) فأزال هذه الشبهة بما
يجري مجرى المبتدأ من كلامه (4) فيصير كأنه قال: أنت يا علي مني في هذه
الحال بمنزلة هارون من موسى لكنه لا نبي بعدي [ليس بأن يتناول الحال
أولى من المستقبل] (5)... ".
يقال له: ليس يحتاج إلى الشرط الذي قدرته لأن الاستثناء إذا تعلق
بحال الموت ووجب أن يكون ما أثبت بصدد الكلام من المنازل مقصودا به
إلى هذه الحال ليحصل المطابقة على ما بيناه في كلامنا المتقدم فالشرط



(1) غ " هذا الخبر ".
(2) غ " يحصل حال الحياة ".
(3) ما بين النجمتين ساقط من المغني.
(4) غ " الابتداء من القول ".
(5) المغني: 20 ق 1 / 163 وما بين المعقوفين ساقط من " الشافي ".
30
مستغنى عنه وفيما استثني منه لأن ما أثبته من المنازل بعده لا بد فيه من
القطع المنافي لتقدير الشرط، وما نفاه بالاستثناء من منزلة النبوة تناول منزلة
لولاه لثبت قطعا أيضا بغير شرط.
فأما قوله: " وليس يجب بدخول الشرط في الاستثناء أن يدخل في
المستثنى منه مع إمكان جملة على ظاهره " فهو وإن سقط بما ذكرناه يفسد
أيضا بما اعترف به من وجوب مطابقة الاستثناء للمستثنى منه لأن الاستثناء
إذا دخل فيه الشرط الذي قدره ولم يدخل المستثنى منه فقد تعلق بحال لا
يقتضيها صدر الكلام، ولا ينطوي ما أثبته من المنازل عليها، فلا فرق
بين أن يستثني النبوة بعد الوفاة مشروطة وإن كانت غير داخلة فيما تقدم ولا
كان ما أثبته من المنازل متعلقا بحال الوفاة جملة وبين أن يستثني غيرها مما
لا يدخل تحت ما أثبته، وهذا مفسد لحقيقة الاستثناء، ومخرج له عما
وضع له، فوجب بهذه الجملة لو صرنا إلى ما ادعاه من إثبات الشرط
دخوله في الأمرين ليتم المطابقة وتثبت حقيقة الاستثناء، وليس ما ذكره في
آخر الفصل من ادعاء استئناف الكلام وإخراجه عن باب الاستثناء
بشئ، لأنه لما رأى أن تأويله يبطل حقيقة الاستثناء وما يجب من مطابقته
للمستثنى منه حمل نفسه على نفيه وظاهر الكلام يقتضي خلاف ما قاله لأن
إيراد لفظ " إلا " بعد جملة متقدمة لا تكون إلا للاستثناء حقيقة، وإنما يحمل
في بعض المواضع على الابتداء والاستيناف أيضا ضرورة على سبيل
المجاز، وليس لنا أن نعدل عن الحقيقة إلى المجاز بغير دلالة وادعاؤه أن
الذي يوجب إخراج الكلام عن الاستثناء تناوله لبعد الموت مع أن المستثنى
منه من حقه أن يتناول الحال، غير صحيح، لأن ذلك إنما كان يجب لو لم
يكن لنا عنه مندوحة، فأما مع إمكان ما ذكرناه من تناول المستثنى منه
للحال التي تعلق الاستثناء بها وإعطاء الاستثناء ما يقتضيه حقيقة من
المطابقة لما تقدم فلا وجه لما ذكره من العدول عن الظاهر من الكلام وجعل

31
ما ظاهره يقتضي الاستثناء لغيره.
فأما قوله: " وكان يجب أن لا يدخل تحت الخبر منزلة يستحقها
أمير المؤمنين عليه السلام في الحال " فإن ذلك واجب على قول من جعل
الاستثناء متعلقا ببعد الموت لا ببعد النبوة لأن الغرض عندهم بهذا الخبر
النص على الإمامة بعد الوفاة، فإذا بينوا أن الخبر يقتضيها فقد تم الغرض
وإن كان من يجب له منزلة الإمامة لا بد أن يكون في الحال على أحوال من
الفضل وغيره لا يقتضيها في الحال ظاهر اللفظ، ولم نجده عول في إبطال
قول من ذكرناه على أكثر من ادعاء بطلانه وفساده من غير إيراد ما يجري
مجرى الحجة أو الشبهة، وأما على قول من جعل النفي متعلقا ببعد النبوة
وعم به أحوال الحياة والوفاة فإنه يجعل ظاهر الخبر مقتضيا لإثبات جميع
المنازل بعد ما أخرجه الاستثناء في الأحوال التي تعلق نفي النبوة بها وهي
أحوال الحياة والوفاة معا ولا يخص بذلك المستثنى منه دون المستثنى على ما
سأل صاحب الكتاب نفسه عنه، ونقول: متى أخرجت منزلة الإمامة من
الثبوت في جميع حال الحياة أو من الاستمرار في جميع أحوال الوفاة فالدليل
اقتضى الانصراف عن الظاهر يجب العمل به والتمسك بما عداه من مقتضى
الظاهر، وإذا قيل له: فاجعل الاثبات متعلقا بالحياة خاصة والنفي مختصا
بالوفاة أو عاما للأمرين ولا يوجب المطابقة قياسا على ما استعملته من
التخصيص قال: ليس يجب إذا اضطررت إلى تخصيص ما لا بد له وإن كان
ظاهر الكلام يقتضي خلافه إن التزم تخصيصا لا دلالة تقتضيه فقد بطل بما
أوردناه جميع كلامه في الفصل على جملة وتفصيل.
قال صاحب الكتاب: " فإن قال: إن قوله: (أنت مني بمنزلة
هارون من موسى) ليس بأن يتناول الحال بأولى من المستقبل فيجب أن
يحمل الاستثناء على ظاهره، لأنه لا فرق بين أن يخرج من الكلام ما لولاه

32
لثبت في الحال، أو ما لولاه لثبت في المستقبل، قيل له: إن ظاهر هذا
الكلام لا يقتضي إلا الحال، وإنما يقتضي المستقبل من جهة المعنى لا من
جهة اللفظ، ومن حق الاستثناء أن يعود إلى اللفظ لا إلى المعنى فلا يصح
ما ذكرته، يبين ما ذكرناه أنه لو تغيرت منزلته في المستقبل لم يبطل حكم
اللفظ، ولو كانت منزلته غير حاصلة في الحال لبطل حكم اللفظ، فعلمنا
أن الذي يقتضيه الظاهر هو الحال وإنما يحكم بدوامه من جهة المعنى،
وذلك يبين صحة ما ذكرناه، على أنه لو جعل ذلك دلالة على ضد ما قالوه
بأن يقال: لم يكن لهارون من موسى منزلة الإمامة بعده البتة، فيجب إذا
كان حال علي عليه السلام من النبي صلى الله عليه وآله حال هارون من
موسى أن يكون إماما بعده لكان أقرب مما تعلقوا به، لأنهم راموا إثبات
منزلة مقدرة ليست حاصلة بهذا الخبر، فإن ساغ لهم ذلك ساغ لمن
خالفهم أن يدعي أن الخبر يتناول نفي الإمامة بعد الرسول صلى الله عليه
وآله من حيث لم يكن ذلك لهارون بعد موسى، ومتى قالوا: ليس ذلك
مما يعد من المنازل فيتناوله الخبر، قلنا بمثله في المقدر الذي ذكروه.
وبعد، فإنه يقال لهم: قد ثبت من منزلة هارون من موسى الشركة
في النبوة في حال حياته، والذي كان له منزلة الإمامة بعده يوشع بن نون
فلو أراد عليه السلام بهذا الخبر الإمامة لكان يشبه منزلته منه بمنزلة يوشع
ابن نون من موسى وهذا يبين أن مراده عليه السلام ما ينفيه من بعد مما
يقتضي إثباته في الحال فقط،... " (1)
يقال له: إنا لا نسألك عن هذا السؤال الذي أوردته على نفسك
ومع إنا لا نسألك عنه فقد أجبت عنه بما ليس بصحيح، لأن مجرد اللفظ
الذي يقتضي الاثبات من الخبر لا يقتضي بظاهره لا الحال ولا المستقبل،



(1) المغني: 20 ق 1 / 16.
33
وإنما يرجع في ذلك إلى غير ما يقتضيه لفظ الاثبات، ولهذا يرجع أصحابنا
في تعلق الاثبات بالوفاة أو بحال الوفاة والحياة معا إلى الاستثناء، وكما إن
المنزلة لو تغيرت في المستقبل على ما ذكرت لم يبطل حكم اللفظ فكذلك لو
لم يحصل في الحال لما بطل أيضا حكم اللفظ لأن النبي صلى الله عليه وآله
لو دلنا عند خطابه لنا بالخبر على أن مراده به إثبات المنازل في حال منتظرة
لم يكن القول مجازا ولا بطل حكم لفظه، وإنما يصح ما ادعيته لو كان
إطلاق القول يقتضي الحال وهذا غير مسلم ولم نرك دللت عليه بأكثر من
دعواك بطلان حكم اللفظ، وهذه دعوى باطلة.
فأما ادعاؤه اقتضاء الخبر لنفي الإمامة من حيث لم يكن هارون بعد
وفاة موسى إماما (1) وقوله: " إنه لم يكن بهذه الصفة منزلة " فبعيد من
الصواب لأن هارون وإن لم يكن خليفة لموسى بعد وفاته، فقد دللنا على
أنه لو بقي لخلفه في أمته، وإن هذه المنزلة وإن كانت مقدرة يصح أن تعد
في منازله، وإن المقدر لو تسامحنا (2) بأنه لا توصف المنزلة لكان لا بد من
أن يوصف ما هو عليه من استحقاق الخلافة بعده بأنه منزلة لأن التقدير
وإن كان في نفس الخلافة بعده فليس هو في استحقاقها، وما يقتضي
وجوبها، وإذا ثبت ذلك فالواجب فيمن شبهت حاله بحاله، وجعل له
مثل منزلته إذا بقي إلى بعد الوفاة أن تجب له الخلافة ولا يقدح في ثبوتها له
أنها لم تثبت لهارون بعد الوفاة، ولو كان ما ذكروه صحيحا لوجب فيمن
قال لوكيله: اعط فلانا في كل شهر إذا حضرك دينارا ثم قال في الحال أو
بعدها بمدة: وأنزل فلانا منزلته، ثم قدرنا أن المذكور الأول لم يحضر



(1) خ " وجعله ".
(2) خ " تسمحنا ".
34
المأمور لعطيته (1) ولم يقبض ما جعله له من الدينار أن يجعل الوكيل إن كان
الأمر على ما ادعاه صاحب الكتاب تأخر المذكور الأول طريقا إلى حرمان
الثاني العطية، وأن يقول له: إذا كنت إنما أنزلت منزلة فلان وفلان لم
يحصل له عطية، فيجب أن لا يحصل لك أيضا، وفي علمنا بأنه ليس
للوكيل ولا غيره منع من ذكرنا حاله، ولا أن يعتل في حرمانه بمثل علة
صاحب الكتاب دليل على بطلان هذه الشبهة على أن النفي وما جرى
مجراه لا يصح وصفه بأنه منزلة وإن صح وصف المقدر الجاري مجرى
الاثبات بذلك إذا كان سبب استحقاقه ووقوعه ثابتا ألا ترى أنه لا يصح
أن يقول أحدنا: فلان مني بمنزلة فلان من فلان في أنه ليس بأخيه ولا
شريكه ولا وكيله ولا فيما جرى مجراه من النفي، وإن صح هذا القول فيما
يجري مجرى المقدر من أنه إذا شفع إليه شفعه، وإذا سأله أعطاه، ولا
يجعل أحد أنه لم يشفع إذا كان ممن لو شفع لشفع (2) منزلة يقتضي فيمن
جعل له مثل منزلته بأن لا يجاب شفاعته.
فأما الاعتراض بيوشع بن نون، فقد أجاب أصحابنا عنه بأجوبة:
أحدها: أنا إذا دللنا على أن الخبر على صورته هذه دال على
الإمامة، ومقتض لحصولها لأمير المؤمنين عليه السلام كدلالته لو تضمن
ذكر يوشع بن نون فإلزامنا مع ما ذكرناه أن يرد على خلاف هذه الصورة
اقتراح في الأدلة، وتحكم، لأنه لا فرق في معنى الدلالة على الإمامة بين
وروده على الوجهين وإنما كان لشبهتهم وجه لو كان متى ورد غير متضمن
لذكر يوشع لم يكن فيه دلالة على النص بالإمامة، فأما والأمر بخلاف
ذلك فقولهم ظاهر البطلان لأنه يلزم مثله في سائر الأدلة.



(1) لتعطيه خ ل.
(2) خ " لم يشفع ".
35
وثانيها: أنه عليه السلام لما قصد إلى استخلافه في حياته وبعد
وفاته لم يجز أن يعدل عن تشبيه حاله بحال هارون من موسى لأنه هو
الذي خلفه في حياته، واستحق أن يخلفه بعد وفاته ويوشع بن نون لم
يحصل له هاتان المنزلتان ففي ذكره، والعدول عن ذكر هارون إخلال
بالغرض.
وثالثها: أن هارون كانت له مع منزلته الخلافة في الحياة
والاستحقاق لها بعد الوفاة منزلة التقدم على سائر أصحاب موسى وكونه
أفضلهم بعده وهذه منزلة أراد النبي صلى الله عليه وآله إيجابها
لأمير المؤمنين عليه السلام ولو ذكر بدلا من هارون يوشع بن نون لم تكن
دالا عليها.
ورابعها: إن خلافة هارون لموسى عليهما السلام نطق بها القرآن
وظهر أمرها لجميع المسلمين، وليس خلافة يوشع بن نون لموسى عليه
السلام بعده ثابتة بالقرآن، ولا ظاهرة لكل من ظهر له خلافة هارون فأراد
النبي صلى الله عليه وآله أن يوجب له الإمامة بالأمر الواضح الجلي الذي
يشهد به القرآن ولا يعترض فيه الشبهات، على أن يوشع بن نون لم يكن
خليفة لموسى عليه السلام بعده فيما يقتضي الإمامة، وإنما كان نبيا بعده
مؤديا لشرعه وخلافته فيما يتعلق بالإمامة كانت في ولد هارون، فليس
للمخالف أن يقول: إن حصول الإمامة في ولد هارون غير معلوم من
طريق يقطع عليه، لأن المرجع فيه إلى أخبار الآحاد، أو إلى قول اليهود
الذي لا حجة فيه، وليس هكذا حكم نبوة يوشع بن نون لأنه لا خلاف
بين المسلمين في أنه كان نبيا بعد موسى عليه السلام لأنا نقول له: اعمل
على أن الأمر كما ذكرت أليس وإن علمنا بنبوة يوشع بعد موسى فإنا غير
عالمين بأن الإمامة كانت إليه، وأنه كان المتولي لما يقوم به الأئمة فلا بد من

36
نعم، فنقول له: فهذا القدر كاف في إبطال سؤالكم لأنا وإن لم نعلم أن
الإمامة كانت في ولد هارون من بعد موسى فلم نعلم أيضا أنها كانت إلى
يوشع بن نون مضافة إلى النبوة، فكيف يقال لنا: إن النبي صلى الله عليه
وآله لو أراد الإمامة لقال أنت مني بمنزلة يوشع بن نون؟
قال صاحب الكتاب: " على أنه يقال لهم: ومن أين أن هارون لو
عاش بعد موسى لكان خليفته؟ فإن قالوا: إذا كان خليفته في حال حياته
وجب مثله بعد وفاته، قيل لهم: أتقولون: إن الخلافة في حال الحياة
تقتضي الخلافة بعد الموت لا محالة، أو يحتاج في كونه خليفة له بعد وفاته
إلى أمر آخر، فإن قالوا: يقتضي ذلك، قيل لهم: فيجب لو قيده بحال
الحياة أن يكون خليفته بعد الموت، وأن لا يفترق الحال بين المقيد منه
والمطلق ولا فرق بين من قال إن خلافته منه عليه السلام سنة تقتضي
الخلافة فيما بعد وبين من قال مثله (1) في الوكالة والإمارة
وغيرهما... " (2).
ثم ذكر بعد هذا كلاما لا نرتضيه ولا نتعلق به إلى أن قال:
" وبعد فمن أين أنه كان خليفته على وجه ثبت بقوله حتى لولا هذا القول
لم يكن خليفة على قوله؟ بل ما أنكرتم أن يكون إنما قال ذلك فعن قوله:
(اخلفني في قومي) استظهارا كما قاله له: (وأصلح ولا تتبع سبيل
المفسدين) استظهارا يبين ذلك أن المتعالم من حاله أنه كان شريكه في
النبوة، ولا يجوز ذلك إلا ويلزمه عند غيبة موسى أن يقوم بأمر قومه،
وإن لم يستخلفه كما يلزمه إذا استخلفه، وما هذه حاله لا يعد في التحقيق



(1) في المغني " ولا فرق بين قال ذلك وبين من قال بمثله في الوكالة والإمارة
وغيرها ".
(2) المغني 20 ق 1 / 165.
37
خلافة لأن الوجه الذي له كان يقوم بهذه الأمور كونه نبيا معه لا خلافته
له،.... " (1).
يقال له: قد مضى فيما سلف من كلامنا أنا لا نحتاج في إثبات
النص بهذا الخبر على الطريقتين معا إلى إثبات أن هارون لو بقي بعد
موسى لخلفه ولا إلى أنه كان خليفة له في حياته على وجه يثبت بقوله،
وبينا أن طاعة هارون إذا كانت واجبة على قوم موسى بعد وفاته كما كانت
واجبة في حياته، وإن كان جهة وجوبها له هي النبوة فهي منزلة يصح أن
تجعل لغيره وإن لم يكن نبيا وأبطلنا قول من ظن أن في استثناء النبوة
استثناء هذه المنزلة بما نحن أغنياء عن إعادته فلو أعرضنا عن نقل ما
تضمنه الفصل الذي حكيناه لم يكن إعراضنا مخلا بصحة ما نصرناه من
الطريقين جميعا في إثبات النص على أنا نقول له: قد دللنا أيضا على أن
هارون لو بقي بعد موسى عليه السلام لكان خليفته والقائم بأمر أمته بما لا
يطعن فيه كلامك هذا الذي حكيناه، لأنا قد بينا أن خلافته له لو وجبت
في حال دون حال مع علمنا بأنها منزلة في الدين جليلة، ورتبة فيه
عظيمة، لاقتضى نفيها بعد ثبوتها من التنفير أكثر مما يقتضيه جميع ما ينفيه
خصومنا عن الأنبياء عليهم السلام لمكان التنفير فلا بد من القول بأن
خلافته في حال حياته اقتضت الخلافة بعد الموت من الوجه الذي ذكرناه،
والذي قدره من التقييد بحال الحياة دون غيرها باطل، لأن موسى عليه
السلام أعلم منا بما قلناه من اقتضاء نفي الإمامة بعد ثبوتها للتنفير،
فكيف يجوز أن يفيد الخلافة بحال دون حال؟ وكيف يسوغه الله تعالى
ذلك وهو لا ينطق إلا عن وحيه؟ ولو جاز فيما يقتضي النبوة استمراره
التقييد والاختصاص لجاز مثله في نفس النبوة، فكأنا نقول لصاحب



(1) المغني نفس الصفحة.
38
الكتاب: لو قيد موسى عليه السلام الخلافة بحال دون حال لوجبت على
الوجه الذي تعلق كلامه به، غير أن ذلك لا يجوز أن يفعله عليه السلام
لما ذكرناه، وليس ما عارض به من الوكالة والإمارة بشئ، لأنا إنما أوجبنا
استمرار خلافة هارون وأبطلنا التخصيص فيها والتقييد لأمر لا يثبت في
الأمير والوكيل ومن يجري مجراهما، لأن ولاية هؤلاء يصح فيها العزل
والتقييد وضروب التخصيص، ولا يؤدي إلى التنفير الذي منعنا منه في
هارون عليه السلام.
فأما الدلالة على أن هارون كان خليفة موسى عليه السلام على وجه
يثبت بقوله، فهو القرآن والاجماع قال الله تعالى حكاية عن موسى: (وقال
موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي) والظاهر من الاستخلاف حصول
الولاية للمستخلف بالقول على طريق النيابة عن المستخلف، ولهذا لا يصح
للانسان أن يقول لغيره: اخلفني في نفقة عيالك، والقيام بالواجب عليك
من أمر منزلك، أو اخلفني في أداء فروضك وعباداتك، وقد يجوز أن
يأمره بما يجب عليه على سبيل التأكيد فيقول له: اطع ربك وأقم
صلاتك، وأخرج مما يجب من زكاتك، فقد بان الفرق بين قوله:
(وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) في وقوعه على سبيل التأكيد وبين
قوله: (اخلفني في قومي) في أنه ظاهرة تقتضي ولاية تثبت بهذا القول
على جهة النيابة وليس لأحد أن يمنع من التعلق بظاهر قوله: (اخلفني في
قومي) بأن يقول: إنه حكاية لكلام موسى وليس هو نفس كلامه فكيف
يصح التعلق بظاهره لأنه وإن لم يكن حكاية للفظ موسى بعينه فهو مفيد
لمعنى كلامه ومراده، فلا بد من أن يكون موسى أراد بما هذا الكلام
حكايته معنى الاستخلاف الذي نعقله، ونستفيد منه المعنى الذي تقدم
ذكره، لأنه لو لم يكن المراد ما ذكرناه لم نفهم بحكايته تعالى عن موسى
شيئا وساغ لقائل أن يقول في قوله تعالى حكايته عنه: (واجعل لي وزيرا

39
من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري) (1) أنه لم يرد
بسؤاله ما نعقله من معنى الوزارة والشركة، بل أراد غيره من حيث لم
يكن لفظ موسى نفسه محكيا.
فأما الإجماع فدلالته أيضا على ما ذكرناه ظاهرة لأنه لا خلاف بين
الأمة في أن هارون كان خليفة لموسى ونائبا عنه وتابعا لأمره ونهيه، وظاهر
إجماعهم على الاستخلاف والنيابة يقتضي ما تقدم ذكره فأما قوله: " إنه إذا
كان شريكه في النبوة فلا بد من أن يلزمه عند غيبته أن يقوم بأمر قومه وإن
لم يستخلفه " فغلط ظاهر لأنه لا ينكر وإن كان شريكا له في النبوة أن
يختص موسى عليه السلام دونه بما تقوم به الأئمة من إقامة الحدود وما
جرى مجراها، لأن مجرد النبوة لا يقتضي هذه الولاية المخصوصة، وإذا
كان هذا جائزا لم يجب أن يقوم هارون عند غيبة أخيه بهذه الأمور لأجل
نبوته، ولم يكن من الاستخلاف له ليقوم بذلك بد لأنه لو لم يستخلفه في
الابتداء لو استخلف غيره كان جائزا.
فإن قيل: قد بنيتم كلامكم على أن الشركة في النبوة لا تقتضي الولاية
على ما تقوم به الأئمة وأن من الجائز أن ينفرد موسى عليه السلام بهذه
الولاية عن أخيه فاعملوا على أن ما ذكرتموه جائز من أين لكم القطع على
هذه الحال وأن هارون إنما تصرف فيما يقوم به الأئمة لاستخلاف موسى
له لا لمكان نبوته.
قلنا: الغرض بكلامنا في هذا الموضع أن نبين جواز ما ظن المخالفون
أنه غير جائز والذي نقطع به على أحد الجائزين هو ما قدمنا ذكره من دلالة
الآية والاجماع.



(1) طه 29 - 32.
40
قال صاحب الكتاب: " وبعد، فغير واجب فيمن يكون شريكا
لموسى في النبوة أن يكون هو القائم (1) بعد وفاته بما يقوم به الإمام، بل لا
يمتنع في التعبد أن يكون النبي منفردا بأداء الشرع وتعليمه وبيانه
فقط، والذي يقوم بالحدود والأحكام والسياسة الراجعة إلى مصالح الدنيا
غيره، كما يروى في أخبار طالوت وداود، يبين ذلك أن القيام بما يقوم به
الإمام تعبد وشرع، فإذا جاز من الله تعالى أن يبعث نبيا ببعض الشرائع
دون بعض فما الذي يمنع من أن يحمله الشرع ولا يجعل إليه (2) هذه الأمور
أصلا ". ثم قال بعد سؤال لا نسأله عنه " وبعد فإنه يقال لهم: إذا كان
سبب الاستخلاف الغيبة فما أنكرتم أنها إذا زالت زال الاستخلاف بزوالها
ويكون اللفظ وإن كان مطلقا في حكم المقيد لأن السبب والعلة فيما
يقتضيانه أقوى من القول فيما حل هذا المحل وعلى هذا الوجه جرت العادة
من الرسول أنه كان يستخلف بالمدينة عند الغيبة الواحد من أصحابه فإذا
عاد زال حكم الاستخلاف كما روي في ابن أم مكتوم (3) وعثمان وغيرهما



(1) في " المغني " والمخطوطة " القيم ".
(2) غ " ولا يجعل الله ".
(3) في " المغني " ابن أم كلثوم، ولا أدري كيف يكون مثل هذا الخطأ في كتاب
حققه شيخ الأزهر الدكتور عبد الحليم محمود، وأستاذ الفلسفة فيه الدكتور سليمان
دنيا، وراجعه الدكتور إبراهيم مدكور، وعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، ولولا
عشرات بل مئات الأخطاء وقعت في هذا الكتاب لما ذكرت هذا.
أما ابن أم مكتوم فهو عمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم القرشي العامري الأعمى
المؤذن وأمه أم مكتوم اسمها عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة بن عامر بن مخزوم وهو ابن
خال خديجة بنت خويلد فإن أم خديجة فاطمة بنت زائدة بن الأصم هاجر إلى المدينة بعد
مصعب بن عمير وقيل بعد بدر، وقد استخلفه رسول الله صلى الله عليه وآله على
المدينة في بعض غزواته مرتين وقيل ثلاث عشرة مرة وسنشير إلى ذلك قريبا وشهد فتح
القادسية وكان معه اللواء وقتل بالقادسية، وقيل رجع منها إلى المدينة فمات (انظر أسد
الغابة 4 / 127).
41
يبين ذلك أن استخلافه في حال الغيبة يقتضي أنه خليفته في موضع دون
موضع (1) لأنه لا يجوز أن يكون خليفته في المكان الذي غاب إليه وإنما
يكون خليفته في الموضع الذي غاب عنه، فلو قلنا: إن ذلك يقتضي
كونه خليفة بعد موته لاقتضى أن يكون خليفة في الكل، واللفظ الأول لم
يقتضه، وهذا يبين أن ذلك لا يقع إلا مقيدا.،... " (2).
يقال له: أول ما في كلامك أنه ناقض لما حكيناه عنك قبل هذا
الفصل من قولك: " إن هارون لا يجوز أن يكون شريكا لموسى عليه السلام
في النبوة إلا ويلزمه عند غيبته أن يقوم بأمر قومه لمكان نبوته وإن لم
يستخلفه " لأنك جوزت هاهنا أن يكون موسى عليه السلام منفردا بما يقوم
به الإمام مضافا إلى الأداء والتبليغ، ويكون هارون مشاركا في الأداء
والتبليغ دون غيره، وهذا يقتضي حاجته إلى الاستخلاف فيما يقوم به
الأئمة.
فإن قلت: إنني لم أطلق ما ذكرتموه وإنما قلت: غير واجب فيمن
يكون شريكا لموسى عليه السلام في النبوة أن يكون هو القيم بعد وفاته بما
يقوم به الإمام.
قلنا: لا فرق بين ما قلته وحكيناه لأن ما يقوم به الأئمة لو كان من
مقتضى النبوة على ما دل كلامك عليه في الفصل الأول لم يجز فيمن كان
شريكا لموسى في النبوة أن يبقى بعده ولا يقوم بذلك مع ثبوت المقتضي
الذي هو النبوة وإذا أجزت في شريك موسى في النبوة أن يبقى بعده ولا
يتولى ما يقوم به الأئمة، فلا بد أن يجوز مثله في حياته لأنه إذا لم يكن من
مقتضى النبوة جاز في الحالين، وإذا جاز فيهما صح ما حكيناه من تجويزك



(1) غ " في حال دون حال النبي عليه السلام ".
(2) المغني 20 ق 1 / 166 - 167.
42
انفراد موسى بما يقوم به الأئمة، وإن كان هارون شريكه في النبوة، وليس
لك أن تقول: إنني إنما عنيت بكلامي الأول أن هارون يلزمه عند غيبة
موسى أن يقوم بأمر قومه على وجه التبليغ والأداء اللذين تقتضيهما النبوة،
لأنك لو أردت ذلك لكنت متكلما على غير ما نحن فيه لأنا لم نقل ولا أحد
من الناس: إن هارون لو بقي بعد موسى لكان خليفة له في الأداء
والتبليغ اللذين هما من مقتضى النبوة فيكون كلامك مبطلا لذلك، وإنما
أوجبنا أن يكون خليفته بعد وفاته على قومه فيما يقوم به الأئمة، فلا بد أن
يكون مرادك بالكلام الأول ما ذكرناه، ثم نقول: إن الذي ذكرته من
جواز انفراد موسى بما يقوم به الأئمة دون هارون، وإنه غير واجب فيما
كان شريكه في النبوة أن يكون شريكه في القيام بهذه الأمور في حياته وبعد
وفاته، صحيح سديد غير أنه وإن كان غير واجب في الابتداء لما ذكرته فليس
يجوز بعد حصوله لهارون أن يخرج عنه ويصرف عن توليه لما ذكرناه من
اقتضائه التنفير الذي يمنع النبوة منه.
فأما التعلق بالسبب وإنه كان الغيبة فغير مؤثر لأن أكثر ما يقتضيه
السبب تعلق الكلام به، ومطابقته له، وليس بموجب أن لا يتعداه و
يتجاوزه، فإذا سلم أن الغيبة كانت السبب في استخلاف هارون لم ينكر
ثبوت الخلافة له بعدها لما بيناه، ألا ترى أن موسى عليه السلام لو قال
لأخيه مع أن السبب كان الغيبة: اخلفني في قومي في الغيبة والحضور وفي
حياتي، وبعد وفاتي وعلى كل حال لم يكن كلامه منافيا للسبب.
فأما ما روي من استخلاف النبي صلى الله عليه وآله ابن أم مكتوم
وعثمان ومن جرى مجراهما فإنا لم نعلم زوال ولايتهم وانقطاعها باعتبار
زوال السبب على ما ظنه، بل لأمر زائد لأنه لا خلاف بين الأمة في انقطاع
ولاية هؤلاء وعدم استمرارها، على إنا لا نتعلق على هذه الطريقة

43
باستخلاف أمير المؤمنين عليه السلام على المدينة في وجوب الإمامة فيما
بعد، بل بما بيناه من مقتضى الخبر ووجه دلالته، فإن أراد صاحب
الكتاب بما ادعاه من سبب الاستخلاف استخلاف الرسول صلى الله عليه
وآله أمير المؤمنين عليه السلام على المدينة فقد بينا ما فيه، وإن أراد
استخلاف موسى أخاه فقد ذكرنا ما يخص هذا الوجه أيضا، وإن كان
عاما للأول من أن السبب لا يقتضي قصر الكلام عليه.
فأما قوله: " إن الاستخلاف في الغيبة يقتضي أنه خليفة في موضع
دون موضع " إلى آخر الفصل، فلو سلمنا اختصاص الاستخلاف في
الغيبة على ما ادعاه مع أنه غير واجب لثبت أيضا ما نريده لأنه إذا ثبت
لهارون بعد أخيه من الإمامة والخلافة وإن كانتا مخصوصتين ما كان ضائرا
لما دللنا عليه من قبل، وأوجبه الخبر لأمير المؤمنين عليه السلام مثل هذه
المنزلة، وصح ما نقصده لأن الأمة مجمعة على أن كل من وجب له بنص
الرسول صلى الله عليه وآله بعد وفاته إمامة في بعض المواضع فهو الإمام في
جميعها على سبيل العموم، فلو لم يكن اللفظ يقتضي ما ذكرناه لكان هذا
الاعتبار يقتضيه.
وربما سئلنا عن نظير هذا السؤال بأن يقال: إن هارون إنما كان
خليفة لموسى على بعض قومه دون بعض، لأنه كان خليفة له على ما خلفه
ولم يستصحبه، فكيف توجبون بنظير هذه المنزلة الإمامة على جميع الناس.
والجواب عن ذلك، هو الجواب عن الأول بعينه، وكل هذا الكلام إنما
نتكلفه إذا كان تعلقنا باستخلاف موسى لهارون عليه السلام، فأما إذا ما
رجعنا إلى ما تقتضيه نبوته من فرض الطاعة وعمومها لجميع المواضع
ولسائر أمة موسى على الطريقة التي بينا فيما سلف لم يلزمنا شئ من كلامه
ولم نحتج إلى أكثر ما تكلفناه معه.

44
قال صاحب الكتاب: " على أنه يقال لهم: إن هارون لو عاش
بعد موسى لكان الذي يثبت له أن يكون كما كان من قبل، وقد كان من
قبل أن يقوم بهذه الأمور لنبوته فيجب إذا لم تبطل نبوته بموت موسى أن
يكون له أن يقوم بذلك، فإن كنتم توجبون لعلي عليه السلام مثل ذلك
فيجب أن يكون بعد موته عليه السلام إماما له أن يقوم (1) بذلك كما
كان (2) وقد علمنا أنه لم يكن إماما في حياة الرسول صلى الله عليه وآله ولا
كان له أن يقوم بهذه الأمور على الوجه الذي يقوم به الإمام، فيجب أن
يكون حاله بعد موته كما كان، لأن هذه المنزلة هي التي كانت لهارون من
موسى عليه السلام يبين ذلك أنه في حياته (3) كان له أن يقوم بهذه الأمور
والحال حال شركة فبأن يكون له أن يقوم بذلك بعد وفاته أولى، فلما ثبت
ذلك له على الحد الذي كان لا على وجه مخالف له فيجب مثله لعلي عليه
السلام وهذا بأن يقتضي نفي الإمامة أولى من أن يقتضي
إثباتها،... " (4).
يقال له: لم زعمت أن هارون لو بقي بعد موسى لكان إنما يجب أن
يقوم بما يقوم به الأئمة لموضع نبوته، أوليس قد بينا فيما سلف من كلامنا
أن هذه المنزلة منفصلة من النبوة، وأنه لا يمتنع أن يكون النبي صلى الله
عليه وآله من حيث كان نبيا لا يتولاها ولا يجب له القيام بها، واعترفت
في بعض ما حكيناه من كلامك بذلك، فقلت: " إنه غير واجب فيمن
يكون شريكا لموسى في النبوة أن يكون هو القيم بعد وفاته بما يقوم به
الإمام " غير أن الذي ذكرته وإن كان ليس بصحيح، يمكن أن يرتب



(1) " إماما له أن يقوم " ساقطة من المغني.
(2) في المغني " حاله كما كان ".
(3) غ " في حال حياته ".
(4) المغني 20 ق 1 / 167.
45
الكلام عليه على وجه يلزم معه الانفصال، فيقال: إذا كنتم قد صرحتم
فيما مضى من كلامكم بأن استخلاف موسى لأخيه هارون لو لم يثبت لكان
استدلالكم على النص مع فقده متوجها باعتبار ما يجب لهارون من فرض
الطاعة على أمة موسى في حياته، ووجوب استمرار ذلك لو بقي إلى
بعد وفاته، وإن كان من مقتضى النبوة، وقلتم: إنه غير واجب فيمن
جعل له مثل منزلة هارون من موسى في باب فرض الطاعة أن يكون
مشاركا له في سبب هذه المنزلة، فقد ثبت من هذا الوجه أن هارون كان
يجب له فرض الطاعة بعد موسى لمكان نبوته على سبيل الاستمرار لا
التجدد، ويلزمكم الجواب.
ويمكن أن يتوجه من وجه آخر وهو أن هارون إذا كان خليفة لموسى
حال حياته وأوجبتم خلافته لو بقي بعده لما ذكرتموه من التنفير، فلا بد من
ثبوت الخلافة في جميع أحوال الحياة على استقبال استخلاف أخيه له بالوجه
الذي أوجبتم به حصولها بعد الوفاة، وإذا حصلت هذه المنزلة لهارون
مستمرة غير متحدة ولم يمكن بأن تجعلوا حال أمير المؤمنين عليه السلام فيها
كحاله لزمكم الكلام والجواب عن السؤال إذا رتب الترتيب الذي ذكرناه
هو أنه لا معتبر في ثبوت منزلة الخلافة لهارون بعد وفاة أخيه لو بقي إليها
باستمرار هذه المنزلة أو تجددها فلا فرق في الوجه الذي قصدناه بين الأمرين
لأن منزلة الخلافة في الحياة كالمنفصلة من منزلة الخلافة بعد الوفاة، بل
حصولها في كل حال كالمنفصل من الحال الأخرى لجواز أن يثبت في إحدى
الحالتين ولا يثبت في الأخرى، وإذا كانت حال الخلافة في الحالين على ما
ذكرناه من الانفصال لم يمتنع أن يقع التشبيه بإحداهما دون الأخرى ويجعل
للمشبه بهارون عليه السلام منزلة الوفاة دون ما يجب في الحياة، وليس
معنى أن هارون لو بقي لوجب أن يكون كما كان أكثر من أن منزلة الخلافة
كانت تثبت له في الحالين، وينضاف إلى ثبوتها في الحياة ثبوتها بعد الوفاة،

46
وغير واجب فيمن جعل بمثابة هارون أن لا يصح ذلك فيه إلا بعد ثبوت
المنزلتين له في كلتا الحالتين.
ومما يكشف عن صحة قولنا وبطلان ما اعتبره صاحب الكتاب أن
أحدنا لو قال لغيره: أنت مني اليوم بمنزلة فلان من فلان، وكان أحد
اللذين أشار إليهما وكيلا لصاحبه وكالة متقدمة مستمرة إلى الوقت الذي
وقع فيه القول الذي حكيناه، لكان قد أوجب بكلامه كون من جعل له
منزلة الوكيل وكيلا له على استقبال الوقت الذي ذكره، ولم يكن لأحد أن
ينفي وكالته بأن يقول: إن الذي جعل له مثل منزلته حاله اليوم كحاله
فيما تقدم، فيجب إذا جعلنا حال الآخر كحاله أن لا يكون وكيلا، بل
كان المعترض بمثل هذا القول عند جميع العقلاء مستنقص الفهم والفطنة،
لا لشئ إلا لما ذكرناه من أنه لا اعتبار باستمرار الوكالة وتجددها، والمعتبر
بأن يثبت لمن جعل لغيره مثل منزلته في الحال التي أشير إليها وثبوتها فيما
تقدم هذه الحال كانتفائها في الوجه المقصود بالقول، وكما أنه لا معتبر
باستمرار المنزلة وتجددها فكذلك لا معتبر باختلاف سببها لأنا قد بينا فيما
مضى أن التسوية بين الاثنين في العطية لا توجب اتفاق جهة عطيتهما، بل
لا يمتنع أن يختلفا في الجهة والسبب وإن اتفقا في العطية، وإنما أوجبنا
لأمير المؤمنين عليه السلام من المنازل منزلة الخلافة بعد الوفاة ولم نوجب
استمرار الخلافة في الحياة لأن ما يمنع من إثبات إحدى المنزلتين لا يمنع من
الأخرى، فأوجبنا ما لا يمنع الدليل منه باللفظ وأخرجنا ما منع منه، على
أن في أصحابنا من ذهب إلى استمرار خلافة أمير المؤمنين عليه السلام
واستحقاقه التصرف فيما يتصرف فيه الأئمة في الحال، من ابتداء وقوع
النص عليه إلى آخر مدة حياته، غير أنهم يمتنعون من أن يسموه إماما،
لأن الإمام هو الذي لا يد فوق يده، ولا يتصرف فيما يتصرف فيه الأئمة
على سبيل الخلافة لغيره، والنيابة عنه، وهو حي فيمتنعون من تسميته

47
عليه السلام بالإمامة في حال حياة الرسول صلى الله عليه وآله لما ذكرناه،
ويجرون الاسم بعد الوفاة لزوال المانع، ومن ذهب إلى هذا المذهب فقد
أثبت لأمير المؤمنين عليه السلام مثل ما يثبت لهارون من استمرار الخلافة
وسقط عنه تكلف ما ذكرناه.
قال صاحب الكتاب: " وبعد فلو ثبت لعلي عليه السلام
بالاستخلاف ما يقتضي كونه إماما بعده لوجب أن يكون له أن يقيم
الحدود، ويقوم بسائر ما يقوم به الأئمة في حياته صلى الله عليه وآله من
غير إذن وأمر، ونحن نعلم أن ذلك لم يكن له عليه السلام في حياته وأن حاله
في أنه كان يفعل ذلك بأمر حال غيره، وكيف يمكنهم أن يقولوا: إنه بحق
الاستخلاف يكون إماما بعده، فإن قالوا: نقول في ذلك ما تقولون في
الإمام إذا استخلف غيره، قيل لهم: إن سبب الاستخلاف معتبر عندنا
فإذا كانت الغيبة (1) كان له أن يقوم بهذه الأمور بعد الغيبة، وإذا كان
السبب خوف (2) الموت فإنما يكون له ذلك بعد الموت ويكون حال حياته
خارجة من الاستخلاف، كما أن حال المقام خارجة من الاستخلاف،
وليس كذلك قولكم: لأنكم قلتم كما استخلفه عليه السلام في حال الحياة
مطلقا (3) وجب أن يكون مستمرا إلى بعد الموت وذلك يوجب
أن يكون إماما فلزمكم ما أوردناه عليكم لأنه لا يمكنكم أن
تقولوا: قد استفاد بالموت ما لم يحصل له من قبل إذا كان إنما ثبت له
الولاية باستمرار الولاية المتقدمة وأما نحن فإنما أوجبنا الولاية بالموت كما
أوجبناها بالغيبة فصح لنا ما ذكرناه دونكم، وعلى هذا الوجه ألزم شيخنا
أبو علي من استدل بهذا الخبر إثبات إمامة أمير المؤمنين عليه السلام في



(1) غ " فإذا كان السبب الغيبة ".
(2) غ " حدث الموت ".
(3) غ " استخلافا مطلقا ".
48
الحال (1) لأنه عليه السلام أثبت المنزلة في الوقت، وإنما تثبت فيما بعد على
جهة الدوام والاستمرار لا على وجه التجدد، فإذا لم يصح كونه إماما في
الوقت لما قدمناه من قبل فكيف يكون إماما من بعد؟ ونحن نعلم أنه لما
خلفه عليه السلام بالمدينة لم يجز أن يقيم الحدود في غيرها ولا بحيث
حضره الرسول ولا على الذين كانوا معه عليه السلام فكيف يجوز أن
يعد ذلك إمامة ولو أن قائلا قال: إن الذي ثبت لأمير المؤمنين عليه
السلام بحكم هذا القول الإمارة المخصوصة (2) فيجب بعد وفاته عليه
السلام، أن يكون أميرا لا إماما * لكان أقرب، وليس يجب إذا لم يثبت
أميرا يجب أن يكون إماما * (3) لأن نفي أحدهما لا يوجب إثبات
الآخر، لأن لكل واحد منهما سببا يقتضيه، يبين ذلك أن عندهم أن
الإمام إذا أمر أميرا على بلد ثم حضرته الوفاة فلم ينص عليه فغير واجب
أن يكون إماما، يبين ذلك أنه قد يجوز أن يستخلف جماعة، ولا يجوز
عندهم أن ينص في الإمامة على جماعة، " ثم قال: " واعلم أن من تعلق
باستخلافه عليه السلام في ثبوت الإمامة له بعد موته فهو غير مستدل بالخبر
لأن الخبر لو لم يثبت لكان يمكنه التعلق بذلك [بأن يقول: قد صح أنه
عليه السلام قد استخلفه مطلقا فيجب أن يكون خليفة أبدا، ولا يجب أن
يكون كذلك إلا وهو إمام بعد وفاته] (4) وإنما يكون متعلقا بالخبر متى
احتاج إليه على وجه لولاه لما تم استدلاله، وذلك لا يكون إلا بأن يبين أن
من منازل هارون (5) من موسى الإمامة في المعنى أو اللفظ كائنا أو
مقدرا،... " (6).



(1) غ " إثبات أمير المؤمنين إماما في الحال ".
(2) غ " المخصوصة دون الإمامة ".
(3) ما بين النجمتين ساقط من " المغني ".
(4) التكملة من " المغني ".
(5) غ " إلا أن ينزل منازل هارون ".
(6) المغني 20 ق 1 / 169.
49
يقال له: نراك قد خلطت في كلامك هذا بين الكلام على من تعلق
بالاستخلاف على المدينة وأوجب استمراره وبين الكلام على الخبر الذي
نحن في تأويله فقد بينا أنه لا تعلق لأحد الأمرين بالآخر فما الذي أردت
بقولك: " لو اقتضى الاستخلاف كان إماما بعده لكان له أن يقيم الحدود
وغيرها في حياته " فإن كنت تريد أن الاستخلاف على المدينة كان يقتضي ما
ذكرته، فقد علمت أن كلامنا الآن معك على غيره، لأنا في تأويل قوله
عليه السلام: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) وبيان موضع النص
فيه، وإن أردت أن الخبر لو اقتضى الإمامة بعد الوفاة لوجب ما ادعيته،
فمن أين توهمت ذلك؟ وقد كان يجب أن تبين الوجه فيما ظننته، أوليس
قد بينا أن منزلة الإمامة تثبت لأمير المؤمنين عليه السلام بالخبر بعد وفاة
الرسول صلى الله عليه وآله على سبيل التجدد لا الاستمرار! وقلنا: إن
هارون عليه السلام وإن كان مفترض الطاعة في حياة موسى لأجل نبوته
ولاستخلاف أخيه له وتثبت له الخلافة من بعد لو بقي بعد ثبوتها فيما مضى
وعلى سبيل الاستمرار فليس يجب مثل ذلك في أمير المؤمنين عليه السلام،
وأكثر ما في الباب أن تكون الخلافة في أحوال الحياة على سبيل الاستمرار
منزلة من منازل هارون منع من إثباتها لأمير المؤمنين عليه السلام دليل كما
منع من غيرها، وقد قلنا: أيضا أن من ذهب من أصحابنا إلى استمرار
خلافة أمير المؤمنين عليه السلام في حال حياة الرسول صلى الله عليه وآله
يسقط عنه هذا الكلام جملة، لأنه يذهب إلى أن إقامة الحدود وما جرى
مجراها مما كان له عليه السلام أن يقوم به في تلك الحال على سبيل الخلافة
للرسول، فليس قول صاحب الكتاب: " ونحن نعلم أن ذلك لم يكن إليه "
بحجة على من قال به ممن ذكرناه، لأنه لم يبين من أين علم ما ادعاه فليس
قوله: " لو كان عليه السلام في تلك الأحوال القائم بالحدود وتنفيذ الأحكام
لوجب أن ينفذ توليته لها وفعله فيها وأن يظهر ظهورا يشترك سامعوا الأخبار

50
في علمه لأنه غير ممتنع أن يكون عليه السلام إليه القيام بهذه الأمور
ويمسك عن توليها في تلك الحال لبعض الأغراض والأسباب المانعة،
وليس معنى قولنا: أن فلانا إليه كذا وكذا، أنه لا بد من أن يقوم بذلك
الأمر ويتولى التصرف فيه، وإنما معناه أن التصرف متى وقع منه كان
مستحقا حسنا، ولهذا نجد بعض الأئمة والأمراء يمتنعون من التصرف في
بعض الأحوال لعارض، ويكون ما يستحقونه من الولاية بحاله والذي
حكاه عن شيخه أبي علي من الالزام قد سقط بجملة كلامنا.
وقوله: " إذا لم يصح كونه إماما في الوقت فكيف يكون إماما بعده ".
فعجب في غير موضعه لأن ما ذكرناه من الفرق بين الحالين وإن ما منع من
إثبات الإمامة في أحدهما لا يمنع من إثباتها في الأخرى يزيل التعجب.
فأما قوله: " إنه صلى الله عليه وآله لما خلفه بالمدينة لم يكن له إن
يقيم الحدود في غيرها وإن مثل ذلك لا يعد إمامة " فهو كلام على من تعلق
بالاستخلاف لا في تأويل الخبر وقد بينا ما هو جواب عنه فيما تقدم وقلنا:
أنه إذا ثبت له عليه السلام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله فرض
الطاعة، واستحقاق التصرف بالأمر والنهي في بعض الأمة، وجب أن
يكون إماما على الكل لأنه لا أحد من الأمة ذهب إلى اختصاص ما يجب
له في هذه الحال، بل كل من أثبت له هذه المنزلة أثبتها عامة على وجه
الإمامة لا الإمارة، فكان الإجماع مانعا من قوله: " فيجب أن يكون بعد
وفاته صلى الله عليه وآله أميرا لا إماما " ولم يقل ما ذكرناه من جهة أن نفي
الإمارة يقتضي إثبات الإمامة كما ظن، بل لما بيناه من أن وجوب فرض
الطاعة إذا ثبت وبطل أن يكون أميرا مختص الولاية بالاجماع، فلا بد من
أن يكون إماما لأن الإمارة أو ما جرى مجراها من الولايات المختصة إذا
انتفت مع ثبوت وجوب الطاعة فلا بد من ثبوت الإمامة.

51
فأما قوله: " إن التعلق بالاستخلاف على المدينة خارج عن
الاستدلال بالخبر " فصحيح وقد ذكرنا فيما مضى أنه لا نسبة بين
الأمرين، وعجبنا من إيراده ذلك في جملة ما حكاه عن أصحابنا من
الطرق في الاستدلال بالخبر.
فإن قيل: فقد ذكرتم أن التعلق بالاستخلاف على المدينة طريقة
معتمدة لأصحابكم فبينوا وجه الاستدلال بها.
قلنا: الوجه في دلالتها أنه قد ثبت استخلاف النبي صلى الله عليه
وآله لأمير المؤمنين عليه السلام لما توجه إلى غزوة تبوك ولم يثبت عزله عن
هذه الولاية يقول من الرسول صلى الله عليه وآله، ولا دليل، فوجب أن
يكون الإمام بعد وفاته لأن حاله لم يتغير.
فإن قيل: ما أنكرتم من أن يكون رجوع النبي إلى المدينة يقتضي
عزله وإن لم يقع العزل بالقول.
قلنا: إن الرجوع ليس بعزل عن الولاية في عادة ولا عرف، وكيف
يكون العود من الغيبة عزلا أو مقتضيا للعزل؟ وقد يجتمع الخليفة
والمستخلف في البلد الواحد ولا ينفي حضوره الخلافة له، وإنما يثبت في
بعض الأحوال العزل بعود المستخلف إذا كان قد علمنا أن الاستخلاف
تعلق بحال الغيبة دون غيرها فيكون الغيبة كالشرط فيه ولم يعلم مثل ذلك
في استخلاف أمير المؤمنين.
فإن عارض معارض بمن روى أن النبي صلى الله عليه وآله استخلفه
كمعاذ (1) وابن أم مكتوم وغيرهما، فالجواب عنه قد تقدم، وهو أن



(1) يريد معاذ بن جبل والمعروف أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما انصرف من
مكة سنة 8 استعمل على مكة عتاب بن أسيد وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس
سيرة ابن هشام 4 / 143) ثم بعثه إلى اليمن (سيرة ابن هشام 4 / 237) وابن أم
مكتوم استعمله رسول الله صلى الله عليه وآله على المدينة في غزوة الفرع
بضمتين - من نجران وهي قرية من ناحية المدينة (سيرة ابن هشام 1 / 50) واستعمله
على الصلاة في غزوة أحد (سيرة ابن هشام 3 / 68) واستعمله على الصلاة لما خرج إلى
بدر ثم رد أبا لبابة من الروحاء واستعمله على المدينة (سيرة ابن هشام 3 / 293) وفي
غزوة ذي قرد (سيرة ابن هشام 3 / 297) وقد تقدم ذكره.
52
الإجماع على أنه لاحظ لهؤلاء بعد الرسول صلى الله عليه وآله في
إمامة، ولا فرض طاعة يدل على ثبوت عزلهم فإن تعلق باختصاص هذه
الولاية وأنها لا يجوز أن تقتضي الإمامة التي تعم، فقد مضى الكلام على
الاختصاص في هذا الفصل مستقصى، وقد مضى أيضا فيه الكلام على
من قال: لو كانت هذه الولاية مستمرة لوجب أن يقيم الحدود في حياة
الرسول صلى الله عليه وآله ويتصرف في حقوق الخلافة بغير إذن، ولو فعل
لنقل وعلمناه، فليس لأحد أن يتعلق بذلك.
قال صاحب الكتاب: " وبعد، فإنه يقال لهم: لو لم يستخلف
موسى هارون وعاش بعده أكان يجب له الإمامة والقيام بالأمور التي يقوم بها
الأئمة أو لا يجب ذلك؟ فإن قالوا: كان لا يجب له ذلك قلنا لهم: إن جاز
مع كونه شريكا له في النبوة التي هي من قبل الله سبحانه وتعالى أن يبقى
بعده ولا يكون له ذلك ليجوزن أن لا يكون له ذلك وإن استخلفه، لأن
استخلاف موسى له لا يكون أوكد من إرسال الله تعالى إياه معه
رسولا،... " (1) وهذا مما قد مضى الكلام عليه وقد بينا أن الذي يقوم به
الأئمة ولاية منفصلة من النبوة، وأنه غير ممتنع أن تثبت النبوة لمن لا تثبت
له هذه الولاية ومع ذلك فهو تصريح أيضا منه بالمناقضة، لأنه قال فيما
تقدم: " إنه غير واجب فيمن يكون شريكا لموسى في النبوة أن يكون هو



(1) المغني 20 ق 1 / 169.
53
القيم بعد وفاته بما يقوم به الإمام (1) وقال هاهنا كما ترى: " أن الشركة في
النبوة تقتضي القيام بذلك " (2) وتجاوز هذا إلى أن جعل اقتضاء النبوة
لهذه المنزلة كاقتضاء الاستخلاف لها والفرق بين الاستخلاف في اقتضائه
هذه الولاية وبين النبوة واضح، لأنه إذا بان بما قدمنا ذكره أن الذي يقوم
به الأئمة ليس من مقتضى النبوة لم يجب بثبوتها ثبوته والاستخلاف لا شك
في أنه سبب القيام بما يسنده المستخلف إلى خليفته من جملة ما يتولاه
ويكون إليه التصرف فكيف يصح أن يدخل لفظه أوكد بين هذين وأحدهما
لا تأثير له جملة، والآخر معلوم تأثيره وكونه سببا.
ثم ذكر صاحب الكتاب: بعد ما حكيناه كلاما تركنا حكايته لأن
جملة ما تقدم من كلامنا قد أتت عليه فقد بينا أنه لا معتبر في تشبيه إحدى
المنزلتين بالأخرى بأسبابهما وبما هو كالمقتضي لهما وقلنا: إن هارون عليه
السلام لو ثبت أن ولايته على قوم أخيه صلى الله عليه وسلم كان بغير
استخلاف بل لأجل نبوته لم يلزم فيمن جعل له مثل منزلته أن يكون
مشاركا له في سبب المنزلة وكيفية حصولها ودللنا على أن هارون لو بقي بعد
وفاة أخيه لوجب أن يكون حاله في الإمامة باقية غير متغيرة وفرقنا بين أن
لا يكون إليه ذلك في الابتداء وبين أن يتولاه ثم يعزل عنه بأن الأول لا
تنفير فيه، والثاني موجب للتنفير الذي لا بد أن يجتنبه عليه السلام وليس
يخرج عما أشرنا إليه شئ من كلامه الذي تجاوزناه.
وقال صاحب الكتاب: " فإن قيل: فما المراد عندكم بهذا الخبر قيل
له: إنه عليه السلام لما استخلفه على المدينة وتكلم المنافقون فيه، قال
هذا القول دالا به على لطف محله منه، وقوة سكونه إليه، واستناد ظهره



(1) لا يخفى أن المرتضى بعد أن ينقل كلام القاضي ينقله بلفظه فإذا استعرضه
بالرد ينقله بتصرف - أحيانا - ولكن لم يخرجه عن معناه.
(2) تقدم آنفا تحت رقم 1.
54
به، ليزيل ما خامر القلوب من الشبهة في أمره وليعلم أنه صلى الله عليه
وآله إنما استخلفه لهذه الأحوال التي تقتضي نهاية الاختصاص، والأغلب
في العرف والعادة أن الإنسان إنما يستعمل ذكر المنزلة بمعنى المحل والموقع
لأنه لا فرق بين قول القائل: فلان مني بمحل فلان من فلان، وبين قوله
بمنزلة فلان من فلان، وقد علمنا أن الظاهر من ذلك الموقع من القلب في
الاختصاص والسكون والاعتماد دون ما يرجع إلى الولايات، فيجب أن
يكون الخبر محمولا عليه لشهادة التعارف أو لشهادة السبب له " ثم قال:
" فإن قال إن كان المراد ما ذكرتم فما الوجه في استثناء النبوة من هذا
القول، وليس لها به تعلق قيل له: إن المتعالم من حال هارون أنه كان
موقعه من قلب موسى لمكان النبوة أعظم وأن النبوة أوجبت مزية في هذا
الباب (1) فقد كان يجوز لو لم يستثن صلى الله عليه وآله النبوة أن يفهم (2)
إن منزلة أمير المؤمنين صلوات الله عليه تماثل هذه المنزلة، فأراد أن يبين
باستثناء النبوة أنها مقصرة عن هذه المنزلة القدر الذي يقتضيه نفي نبوته (3)
وهذا كما يقول أحدنا لرفيع المحل في قلبه: إن محلك ومنزلتك مني محل
ولدي وإن لم تكن لي بولد وإنما يستعمل ما يجري مجرى الاستثناء في هذا
الباب في الوجه الذي من حقه أن يؤكد تلك المنزلة ويعظم أمرها ويفخم
شأنها،... " (4). ثم قال بعد كلام تركناه: " ولولا أن ذلك كذلك لم
يكن في هذا القول إزالة عن القلوب ما تحدث به المنافقون من شكه صلى
الله عليه وآله في أمره وأنه إنما خلفه تحرزا لأن كل ذلك لا يزول
بالاستخلاف الذي هو الولاية في الحال ومن بعد وإنما يزول ذلك بما



(1) في المغني " في هذا الباب في السكون وفي سائر الوجوه فقد، الخ ".
(2) غ " يوهم " وفي حاشية الأصل " يتوهم ".
(3) غ " في نبوته ".
(4) المغني 20 ق 1 / 172.
55
وصفناه من الأخبار بنهاية السكون إليه والاستقامة منه،... " (1).
يقال له: قد بينا فيما سلف من كلامنا إن الذي يدعي من السبب
في أنه كان إرجاف المنافقين، غير معلوم، وذكرنا ورود الروايات بأنه صلى
الله عليه وآله قال: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى) في مواطن
مختلفة (2)، وذكرنا أيضا أن أكثر الأخبار واردة في السبب بخلاف ما ادعاه
الخصوم، وأنه عليه السلام خرج إليه لما خلفه باكيا مخبرا بما هو عليه من
الوحشة له، والكراهة لمفارقته، فقال له صلى الله عليه وآله هذا القول
وليس بنكر وورد بعض الأخبار بما ذكروه، غير أن ورودها بخلافه أظهر
وأشهر، وكيف لا يكون ما حكي من السبب الذي هو إرجاف المنافقين
مستبعدا، بل مقطوعا على بطلانه، ونحن نعلم أنه لا يصح أن تدخل
شبهة على عاقل توهمه تهمة النبي صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين عليه
السلام وخوفه منه، وتحرزه من ضرره، هذا مع ما كان ظاهرا منه عليه
السلام من الأقوال والأفعال الدالة على عظم محله وشدة اختصاصه، وأنه
قد بلغ النهاية في النصيحة والمحبة، ولم يكن ما ظهر مما ذكرناه أمرا يشكل
مثله فيحتاج فيه إلى الاستدلال والنظر، بل كان مما يضطر العقلاء وغير
العقلاء إن كانوا ممن يجوز أن يضطر إلى ما لا يتطرق معه تهمة ولا تتوجه



(1) المصدر ص 173.
(2) من المواطن التي قال فيها: " علي مني بمنزلة هارون من موسى " منها لما خلفه
على المدينة يوم غزوة تبوك كما في صحيح البخاري وغيره، ومنها عند التخاصم في ابنة
حمزة كما في الخصائص للنسائي ص 19، ومنها لما آخى بين أصحابه كما في كنز العمال
ج 5 ص 40 وقال: أخرجه أحمد في المناقب وابن عساكر، في كلام للنبي صلى الله عليه
وآله مع عقيل وجعفر وعلي عليهم السلام أخرجه المتقي في الكنز 6 / 188، ومنها في
كلام له صلى الله عليه وآله مع علي عليه السلام وهو متكئ عليه، أخرجه المتقي أيضا
في الكنز 6 / 395، ومنها في حديث له صلى الله عليه وآله مع علي عليه السلام يوم ولد
الحسن سلام الله عليه كما في ذخائر العقبى ص 120، وغير ذلك.
56
ظنه، فليس يخلو المنافقون الذين ادعى عليهم الإرجاف من أن يكونوا
عقلاء مميزين أو نقصاء مجانين، فإن كانوا عقلاء فالعاقل لا يصح دخول
الشبهة عليه في الضروريات، وإن كانوا من أهل الجنون والنقص
فإرجافهم غير مؤثر، ولا معتد به، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله غير
محتاج إلى الرد عليهم، والإبطال لقولهم، وهذه الجملة تكشف عن بطلان
قول من ادعى أن السبب كان إرجاف المنافقين، ويقتضي القطع على
كذب الرواية الواردة بذلك.
ثم يقال له: اعمل على أن السبب ما ذكرته واقترحته، وأن المراد
ما وصفته من إفادة لطف المحل، وقوة السكون، وشدة الاختصاص،
فما المانع مما قلناه وتأولنا الخبر عليه؟ وأي تناف بين تأويلك وتأويلنا؟ وإنما
يكون كلامك مشتبها ولك فيه أدنى تعلق لو كان ما وصفته من المراد مانعا
مما ذهبنا إلى أنه المراد حتى لا يصح أن يراد جميعا، فأما والأمر بخلاف
ذلك فلا شبهة في كلامك.
فأما تعلقه بالعادة في استعمال لفظ المنزلة وإنها لا تكون إلا بمعنى
المحل والموقع من القلب دون ما يرجع إلى الولايات، فباطل، وما
وجدناه زاد في ادعاء ذلك على مجرد الدعوى، وقد كان يجب أن يذكر ما
يجري مجرى الدلالة على صحة قوله، ولا فرق في عادة ولا عرف بين
استعمال لفظة المنزلة في الموقع من القلب، وبين استعمالها في الولايات
وما أشبهها، ألا ترى أنه كما لا يصح أن يقول أحدنا: فلان مني بمنزلة
فلان ويريد في المحبة والاستقامة، والسكون إليه (1) كذلك يصح أن يقول مثل
هذا القول وهو يريد أنه بمنزلة فلان في الوكالة أو الوصية أو الخلافة له،
ولو كان الأمر على ما ظنه صاحب الكتاب لكان قول أحدنا: فلان مني
بمنزلة فلان في وكالته أو وصيته مجازا من حيث وضع اللفظ خلاف



(1) خ " والاستناد إليه " وفي حاشية خ " والاستقامة " خ ل.
57
موضعه، ولا فرق بين من ادعى أن اللفظ في هذا الموضع مجاز وبين من
قال: إنه في المحبة وما أشبهها أيضا مجاز، لأن الاستعمال لا يفرق بين
الأمرين.
فأما قوله: " إن المنزلة تستعمل بمعنى المحل والموقع " فقد أصاب فيه
إلا أنه ظن أنا لا نقول في المحل والموقع بمثل ما يقوله في المنزلة، وتوهم
أنه لا يستفاد من لفظ المحل والموقع ما يرجع إلى الولاية، وقد ظن ظنا
بعيدا لأنه لا فرق بين سائر هذه الألفاظ في صحة استعمالها في الولاية وغير
الولاية، لأنه غير ممتنع عند أحد أن يقول الأمير في بعض أصحابه عند
موت وزيره أو عزله: فلان مني بمحل فلان، يعني من كانت إليه وزارته
أو قد أحللت فلانا محل فلان وأنزلته منزلته، فكيف يدعي مع ما ذكرناه
اختصاص فائدة هذه الألفاظ بشئ دون شئ؟
وأما ما اعتذر به في الاستثناء فإنه لا يخرج الاستثناء من أن يكون
جاريا على غير وجه الحقيقة، ولهذا قال في كلامه: (إنه استعمل ما يجري
مجرى الاستثناء) لأن من حق الاستثناء عنده إذا كان حقيقة أن يخرج من
الكلام ما يجب دخوله فيه بمقتضى اللفظ، وعندنا إنه يخرج من الكلام ما
يقتضيه اللفظ احتمالا لا إيجابا، وعلى المذهبين لا بد أن يكون الاستثناء
في الخبر إذا كان المراد ما ادعاه مجازا موضوعا في غير موضعه، لأن اللفظ
الأول لا يتناول النبوة لا إيجابا ولا احتمالا فكيف يجوز استثناؤها حقيقة؟
ونحن نعلم أن القائل إذا قال: ضربت غلماني إلا زيدا دل ظاهر استثنائه
على أن زيدا من جملة غلمانه، ولو لم يكن من جملتهم لما جاز استثناؤه،
فلو أنه استثنى زيدا ولم يكن من غلمانه إلا أنه اعتقد أن في الناس من
يتوهم أنه غلامه، وقصد إزالة الشبهة لم يخرجه ذلك من أن يكون متجوزا
في الاستثناء موقعا له في غير موقعه.

58
فأما قوله: (إن الذي تأولنا الخبر عليه لا يزيل شك المنافقين ولا
يبطل إرجافهم) فعجيب لأنا لا ننكر دخول المنزلة التي ذكرها صاحب
الكتاب في جملة المنازل، وإنما أضفنا إليها غيرها، وقد ذكرنا في صدر
الاستدلال بالخبر أنه يتناول كل منازل هارون من موسى من فضل ومحبة
واختصاص، وتقدم إلى غير ذلك سوى ما أخرجه الاستثناء من النبوة
وأخرجه العرف من إخوة النسب على أنه يكفي في زوال إرجاف المنافقين
حصول منزلة الخلافة في الحياة وبعد الممات، لأن هذه المنزلة لا تسند إلى
مستثقل مبغض مخوف الناحية، بل إلى من له نهاية الاختصاص، وقد
بلغ الغاية في الثقة والأمانة، وهذا واضح لمن تأمله.
قال صاحب الكتاب بعد كلام لا طائل في حكايته: (وقال ملزما
لهم - يعني أبا علي -: إن كان صلى الله عليه وآله إنما أراد بهذا الخبر
إثبات الإمامة لأمير المؤمنين عليه السلام فيجب لو مات في حياة النبي
صلى الله عليه وآله أن لا يكون منه بمنزلة هارون من موسى، ولو كان
كذلك لوجب عند سماع هذا الخبر أن يقطع على أنه يبقى بعده صلى الله
عليه وآله، ولوجب أن لا يستفاد في الحال فضيلة لأمير المؤمنين عليه
السلام، وألزمهم أن لا يجوز منه صلى الله عليه وآله - وقد قال هذا
القول - أن يولي [أحدا على علي في حال حياته كما لا يجوز أن يولي] (1)
عليه أحدا بعد وفاته، لأن الخبر فيما يفيده لفظا أو معنى لا يفصل بين
الحالين، وذلك يبطل لما قد ثبت من أنه صلى الله عليه وآله ولى أبا بكر
على علي أمير المؤمنين عليه السلام في الحجة التي حجها المؤمنون قبل حجة
الوداع، وولاه الصلاة في مرضه (2) إلى غير ذلك، وإن كان الخبر يدل على



(1) التكملة من المغني.
(2) غ " في موضعه ".
59
الإمامة التي لا يجوز معها أن يتقدمه أحد في الصلاة فكيف جاز منه صلى
الله عليه وآله أن يقدمه عليه في الصلاة) (1) وقال حاكيا عنه: (إن كان
استخلافه صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام في المدينة يقتضي استمرار
الخلافة إلى بعد الموت فيكون إماما فتقديمه صلى الله عليه وآله أبا بكر في
الصلاة في أيام مرضه يقتضي كونه إماما بعد وفاته،...) (2) ثم قال بعد
كلام ذكره لم نحكه لأن نقضه قد تقدم: " وقال - يعني أبا علي -: إنه قد
ثبت أنه صلى الله عليه وآله بعد ما استخلف عليا عليه السلام على المدينة
بعثه إلى اليمن واستخلف على المدينة غيره عند خروجه في حجة الوداع،
وهذا يبطل قولهم أن ذلك الاستخلاف قائم إلى بعد موته... " (3).
يقال له: ليس يجب ما ظننته من أن أمير المؤمنين عليه السلام لو مات في
حياة النبي صلى الله عليه وآله لوجب أن لا يكون منه بمنزلة هارون من
موسى، بل لو مات عليه السلام لم يخرج من أن يكون بمنزلته في الخلافة له
عليه السلام في الحياة، واستحقاق الخلافة بعد الوفاة إلى سائر ما ذكرناه
من المنازل، غير أنا نقطع على بقائه إلى بعد وفاة الرسول ونمنع من وفاته
قبل وفاته صلى الله عليه وآله، فإنه ليس لهذا الوجه لكن لأن النبي صلى
الله عليه وآله إذا كان بهذا الخبر قد نص على إمامته بعده، وأشار لنا به
إلى من يكون فزعنا إليه عند فقده عليه السلام ولم يقل في غيره ما يقتضي
النص عليه وحصول الإمامة له من بعده، فلا بد من أن يستدل بهذا الخبر
من هذه الجهة على أن أمير المؤمنين هو الإمام من بعده، وإلا لم يكن النبي
صلى الله عليه وآله قد خرج مما قد وجب عليه من النص على خليفته
بعده، ولسنا نعلم من أي وجه استبعد صاحب الكتاب القطع على بقائه



(1) المغني 20 ق 1 / 177.
(2) المغني، نفس الصفحة.
(3) المغني: نفس الصفحة.
60
حتى أرسله إرسال من ينص بأنه منكر مستبعد لا خلاف عليه فيه، ونحن
نعلم أنه ليس في القطع على بقائه بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله ما
يقتضي فسادا أو خروجا عن أصل أو مفارقة لحق، وقد روي من أقواله
عليه السلام فيه ما يدل على بقائه بعده، وقد تظاهرت الرواية بذلك فمن
جملته قوله: (تقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين) (1) إلى غير هذا مما لو
ذكرناه لطال.
فأما قوله: " إنه يجب أن لا يستفاد به فضيلة في الحال " فقد تقدم
كلامنا عليه، وبينا ترتيب القول فيه على طريقة الاستثناء التي يتعلق فيها
بلفظة بعدي فأما الطريقة الأولى فلا شبهة في أنها تقتضي حصول جميع
المنازل الموجبة للفضيلة في الحال.
فأما قوله: " إن تأولنا يقتضي أن لا يولي أحدا على أمير المؤمنين
عليه السلام في حياته صلى الله عليه وآله " وادعاؤه إنه ولى عليه أبا بكر في
الحجة التي حجها المسلمون قبل حجة الوداع، فأول ما فيه إنه لا يلزم
إذا صحت دعواه من ذهب منا في تأويل الخبر إلى إيجابه في حال الحياة
الخلافة على المدينة من غير استمرار واستحقاق الخلافة من بعد الوفاة،
وإنما يلزم أن يجيب عنه من ذهب إلى أن الخلافة في الحياة استمرت إلى بعد
الوفاة، ولمن ذهب إلى ذلك أن يقول: إنني لا أعلم صحة ما ادعى من
ولاية أبي بكر عليه في الوقت المذكور لأنه كما روي من بعض الطرق أن أبا
بكر بعد أخذ السورة منه كان واليا على الموسم، فقد روي أنه رجع لما
أخذ أمير المؤمنين عليه السلام السورة منه إلى النبي صلى الله عليه وآله



(1) أخرجه جماعة من الحفاظ ورواه الحديث منهم ابن الأثير في أسد الغابة 4 /
32 و 33، والحاكم في المستدرك 3 / 139 والخطيب في تاريخ بغداد 8 / 340 و 13 /
186 في حديث طويل لعلقمة والأسود مع أبي أيوب الأنصاري، والهيثمي في مجمع
الزوائد 7 / 238 و 9 / 235.
61
وكان الوالي على الحجيج والموسم والمؤدي للسورة أمير المؤمنين عليه
السلام وليس هذا مما ينفرد الشيعة بنقله لأن كثيرا من أصحاب الحديث
قد رووه (1) ومن تأمل كتبهم وجده فيها وإذا تقابلت الروايتان وجب الشك
في موجبهما، بل يجب القطع على بطلان ما ينافي منهما مقتضى الخبر المعلوم
الذي لا شك فيه، وهو قوله صلى الله عليه وآله: (أنت مني بمنزلة هارون
من موسى) لأنه إذا دل الدليل على اقتضاء هذا الخبر الخلافة في الغيبة على
سبيل الاستمرار وجب القطع على بطلان الرواية المنافية لما يقتضيه، على
إنه لم يرو أحد أن أبا بكر كان واليا على أمير المؤمنين عليه السلام، وإنما
روي أنه كان أميرا على الحجيج، وقد يجوز أن تكون ولايته على من عدا
أمير المؤمنين عليه السلام، فلو صحت الرواية التي يرجعون إليها لما صح
قول صاحب الكتاب " إنه ولى أبا بكر على أمير المؤمنين عليه السلام ".
فأما حديث الصلاة فقد بينا فيما تقدم أن النبي صلى الله عليه وآله لم
يولها أبا بكر، وشرحنا الحال التي جرت عليها وبينا أن ولاية الصلاة لو
ثبتت لم تدل على الإمامة، وذلك يسقط التعلق بالصلاة في الموضعين.
فأما قوله: " إنه صلى الله عليه وآله لما بعث أمير المؤمنين عليه
السلام إلى اليمن استخلف على المدينة غيره عند خروجه في حجة الوداع "
فإنه غير مناف للطريقين معا في تأويل الخبر، لأن من ذهب إلى أن الخلافة
في الحياة لم تستمر إلى بعد الوفاة لا شبهة في سقوط هذا الكلام عنه، ومن
ذهب إلى استمرارها إلى بعد الوفاة يقول: ليس يقتضي استخلافه عليه
السلام في المدينة أكثر من أن يكون له عليه السلام أن يتصرف في أهلها



(1) نذكر من رواته ابن جرير في تفسيره 10 / 46 و 47، والإمام أحمد في المسند
ج 1 / 3 و 151 و 330، و ج 2 / 299 و ج 3 / 212 و 283، والنسائي في خصائصه
ص 20، وانظر عمدة القاري 8 / 637.
62
بالأمر والنهي وما جرى مجراهما على الحد الذي كان يتصرف عليه النبي
صلى الله عليه وآله، وليس يقتضي هذا المعنى المنع من تصرف غيره على
وجه من الوجوه، لأنه إذا جاز للمستخلف غيره في موضع من المواضع أن
يتصرف فيه مع استخلافه عليه ولا يمنع استخلافه من تصرفه في أهله
بالأمر والنبي جاز للمستخلف في موضع من المواضع لزيد أن يستخلف
عمرا على ذلك الموضع أما في حال غيبته زيدا (1) ومع حضوره ولا يكون
استخلافه للثاني عزلا للأول، كما لا يكون تصرفه نفسه عزلا له عن
الموضع الذي جعل إليه التصرف فيه، ويكون فائدة استخلافه لكل واحد
من هذين أن يكون له التصرف فيما استخلف فيه، وكيف يكون إيجاب
تصرف أحدهما بعد الآخر عزلا للأول ومانعا من جواز تصرفه، ونحن
نعلم أنه قد يجوز أن يستخلف على الموضع الواحد الاثنان والجماعة؟ وهذه
الجملة تأتي على جميع ما حكيناه في الفضل من كلامه.
قال صاحب الكتاب: بعد كلام لم نورده لأن نقضه قد مضى في
كلامنا: " واعلم أنه لا يمتنع أن يكون استخلاف موسى لهارون محمولا
على وجه يصح لأنه سبب للقيام بالأمر كما أن النبوة سبب لذلك، وليس
يمتنع في كثير من الأحكام أن يحصل فيها سببان وعلتان، وإذا علمنا أنه
لولا النبوة لكان له أن يقوم بالأمر لمكان الاستخلاف، ولولا الاستخلاف
لكان له أن يقوم بالأمر لمكان النبوة، فقد أفاد الاستخلاف ضربا من
الفائدة، فإن أضاف إلى ذلك أن يدخل في الاستخلاف ما لا يكون له أن
يقوم به لمكان النبوة فهو أقوى في باب الفائدة، ولسنا نعلم كيف كان حال
موسى وهارون فيما يتعلق بالإمامة، وكيف كانت الشريعة في ذلك
الوقت، ولا نعلم أيضا أن حالهما في النبوة إذا كانت متفقة أن حالهما فيما



(1) " زيدا " منصوبة بيستخلف مقدرة.
63
يقوم به الأئمة أيضا متفقة، بل لا يمتنع أن يكون لأحدهما من الاختصاص
ما ليس للآخر، كما لا يمتنع أن لا يدخل في شريعتهما ما تقتضيه الإمامة،
وإذا كانت الحال في هذا الباب مما يختلف بالشرائع فإنما نقطع على وجه
دون وجه بدلالة سمعية ثم يصح الاعتماد على ذلك، والذي يجب أن
يقطع به لا محالة أنه كان نبيا مع موسى فلا بد من أن يتحمل شريعة
مجددة، أو يتحملا شريعة بعد ظهور المعجز عليهما مجددة، ولا يجب من
حيث أشركا في النبوة أن تكون شريعة أحدهما شريعة للآخر، وإذا جاز
ذلك فما الذي يمنع أن يدخل في جملة شرائعهما ما يتصل بالحدود والأحكام
أن يختص بذلك أحدهما دون الآخر، وكما يجوز ذلك فقد يجوز أن يكون
من تعبد الله تعالى في ذلك الوقت أن لا يجوز للرسول أن يستخلف فيما
هذا حاله في حال حياته ولا بعد وفاته، أو يجوز له أن يستخلف في حال
دون حال، أو من يشركه في النبوة دون من لا يشركه، فعلى هذا الوجه
يجب أن يجري القول في هذا الباب ولا يجعل لعلي عليه السلام من المنازل
إلا ما ثبت معلوما لهارون من موسى دون ما لم يثبت، وإذا لم يعلم كيف
كانت شريعة موسى في الاستخلاف، وهل كان يجب أن يستخلف [في
حال حياته أو] (1) بعد موته أو في حال غيبته في كل شئ، أو في بعض
الأشياء وأنه لو مات قبل هارون هل كان يجب أن يكون خليفته أو يبعث
الله تعالى (2) نبيا يقوم مقامه مع هارون، أو يصير القيم بأمر الحدود غير
هارون ممن ينص عليه، إلى غير ذلك من الوجوه المختلفة، فكيف يصح
للقوم أن يعتمدوا على ذلك في الإمامة،.... " (3).
يقال له: ما أشد اختلاف كلامك في هذا الباب وأظهر رجوعك فيه



(1) ما بين الحاصرتين من " المغني ".
(2) غ " إليه نبيا ".
(3) المغني 20 ق 1 / 180.
64
من قول إلى ضده وخلافه لأنك قلت أولا فيما حكيناه عنك: " إن هارون
من حيث كان شريكا لموسى في النبوة يلزمه القيام فيهم بما لا يقوم به
الأئمة وإن لم يستخلفه " ثم عقبت ذلك بأن قلت: " غير واجب فيمن
كان شريكا لموسى في النبوة أن يكون إليه ما إلى الأئمة " ثم رجعت عن
ذلك في فصل آخر فقلت: " إن هارون لو عاش بعد موسى
لكان الذي ثبت له أن يكون كما كان من قبل وقد
كان من قبل له أن يقوم بهذه الأمور لنبوته " فجعلت
القيام بهذه الأمور من مقتضى النبوة كما ترى، ثم أكدت ذلك في
فصل آخر حكيناه أيضا بأن قلت لمن خالفك: " في أن موسى لو لم
يستخلف هارون بعده ما كان يجب له القيام بعده بما يقوم به الأئمة إن
جاز مع كونه شريكا له في النبوة أن يبقى بعده، ولا يكون له ذلك
ليجوزن وإن استخلفه أن لا يكون له ذلك " ثم ختمت جميع ما تقدم هذا
الكلام الذي هو رجوع عن أكثر ما تقدم، وتصريح بأن النبوة لا تقتضي
القيام بهذه الأمور، وإن الفرض على المتأمل في هذا هو الشك وترك
القطع على أحد الأمرين، فعلى أي شئ يحصل من كلامك المختلف؟
وعلى أي الأقوال نعول؟ وما نظن أن الاعتماد والاستقرار إلا على هذا
الفصل المتأخر، فإنه بتأخره كالناسخ والماحي لما قبله، والذي تضمنه من
أن النبوة لا توجب بمجردها القيام بالأمور التي ذكرتها، وإنما يحتاج في
ثبوت هذه الأمور مضافة إلى النبوة إلى دليل صحيح، وقد بيناه فيما تقدم
من كلامنا.
فأما شكه في حال موسى وهارون عليهما السلام وقوله: " ما نعلم
كيف كانت الحال فيما إليهما " فقد بينا أنه لا يجب الشك في ذلك لا من
حيث كانت نبوة هارون تقتضي قيامه بما يقوم به الأئمة، بل من حيث
ثبت بدليل الآية التي تلوناها، والاجماع الذي ذكرناه من كون هارون
خليفة لأخيه موسى، ونائبا عنه في سياسة قومه، والقيام بأمورهم،

65
وليس يجوز أن يكون خليفة له إلا ما يثبت له بالاستخلاف، وكان له
التصرف فيه من أجله، وهذا هو العرف المعقول في الاستخلاف، وفي
ثبوت هذه الجملة ما يقتضي كون هارون خليفة لأخيه في هذه الأمور،
وأن يده إنما تثبت عليها في حال حياته لمكان استخلافه، وإذا كنا قد بينا
لو بقي بعده لوجب أن يستمر حاله في هذه الولاية، وأن تغيرها وانتقالها
عنه يقتضي ما يمنع ثبوته منه، فقد تم ما قصدناه، ولم نجعل
لأمير المؤمنين عليه السلام منزلة لم يعلم ثبوتها لهارون من موسى عليه
السلام على ما ظن، ولم يبق في كلامه شبهة تتعلق بها نفس أحد على أنه
ابتدأ كلامه في الفصل بما ليس بصحيح، وذلك أنه جعل الاستخلاف
مؤثرا وإن انضم إلى النبوة المقتضية لما تضمنه، وقال: " ليس يمتنع أن
يكون للحكم الواحد سببان وعلتان " وهذا ظاهر الفساد، لأن
الاستخلاف وإن كان متى لم يكن نبوة مؤثرا فإنه لا تأثير له مع النبوة على
وجه من الوجوه، ووجوده كعدمه، لأن فائدة الاستخلاف هي حصول
ولاية للمستخلف يجب به ويصح فيها تصرف المستخلف بالعزل والتبديل
ورفع اليد، فكيف يكون على هذا من له - لمكان النبوة - القيام بأمر من
الأمور، سواء كان ما يقوم به الأئمة أو غيره من حقوق النبوة خليفة (1)
لغيره في ذلك الأمر ومتصرفا فيه لمكان استخلافه، وكما إن الاستخلاف لا
تأثير له إذا طرأ على أمر توجبه النبوة كذلك لو تقدم فأثر ثم طرأت عليه
النبوة، واقتضت التصرف في موجبه لمكانها لزال تأثيره، وارتفع حكمه،
وكما إن في الأحكام ما له سببان وعلتان كما ذكر، كذلك في الأسباب
والعلل ما يكون مؤثرا إذا انفرد وإذا انضم إلى ما هو أقوى منه بطل
تأثيره، وهذه الجملة تبين أن استخلاف موسى لأخيه لا بد أن يكون



(1) " خليفة " اسم كان في قوله: " فكيف يكون ".
66
محمولا على أمر وجب له التصرف فيه باستخلافه، ويثبت يده عليه من
قبله.
قال صاحب الكتاب: " وبعد، فإن وجود الشئ لا يقتضي
وجوبه * فلو ثبت أن موسى عليه السلام لو مات لكان الذي يخلفه هارون
لم يدل ذلك على وجوبه * (1) بل كان لا يمتنع أن يكون مخيرا إن شاء
استخلفه، وإن شاء استخلف غيره، أو جمع بين الكل وإن شاء ترك الأمر
شورى (2) ليختار صالحوا أصحابه من يقوم بالحدود والأحكام، وإذا كان
كل ذلك مجوزا عندنا فكيف يصح الاعتماد عليه في وجوب النص على
الوجه الذي تذهبون إليه؟ وإنما يوصف الاستخلاف بأنه منزلة متى وجبت
لسبب، فأما إذا وقع بالاختيار على وجه كان يجوز أن لا يحصل ويحصل
خلافه فلا يكاد يقال إنه منزلة فكيف يدخل ما جرى هذا المجرى تحت
الخبر وكل ذلك يقوي أن المراد بالخبر ما ذكرناه،... " (3).
يقال له: هذا كلام من هو ساه عما نحن معه فيه لأن كلامنا إنما هو
في أن النبي صلى الله عليه وآله نص على أمير المؤمنين عليه السلام بالخلافة
بعده، وجعل الإمامة فيه، وله دون غيره، وأن هذه منزلة له منه كما أن
هارون لو بقي بعد أخيه موسى لكان خليفته بعده، فأما الكلام في أن
النص بالإمامة حصل على جهة الوجوب، وأنه مما كان يجوز أن يحصل
خلافه، وهل كان النبي صلى الله عليه وآله في ذلك مخيرا أو غير مخير،
فهو غير ما نحن فيه الآن، وغير ما شرعت في حكاية أدلة أصحابنا
عليه، والكلام فيه كلام في مسألة أخرى كالمنفصلة عن النص وإثباته،



(1) ما بين النجمتين ساقط من " المغني ".
(2) غ " أو جعل الأمر شورى ".
(3) المغني 20 ق 1 / 180.
67
ويكفي أصحابنا فيما قصدوه بأدلتهم التي حكيتها أن يثبت لأمير المؤمنين
عليه السلام بعد الرسول صلى الله عليه وآله الإمامة والتصرف في تدبير
الأمة بذلك يتم غرضهم المقصود، وما سواه من وجوب ذلك أو جوازه لا
شاغل لهم به في هذا الموضع.
على أنا نقول له: نحن ننزل خلافة أمير المؤمنين عليه السلام للرسول
صلى الله عليه وآله على أمته بعده منزلة نبوة موسى من هارون عندك،
ونقول فيها ما تقوله أنت في نبوتهما ونبوة غيرهما من الأنبياء عليهم السلام
لأنك لا تقطع في النبوة على أن زيدا بعينه كلفها على سبيل الوجوب، بل
تجوز أن يتساوى اثنان أو جماعة في حسن القيام بأداء الشرائع، وفيما يتعلق
بهم من مصلحة المكلفين فتكلف النبوة أحدهم ولا يكون ذلك إلا واجبا
لأن تكليف غيره ممن ساواه كتكليفه، وهذا هو قولنا في الإمامة بعينه،
لأنا لا نرى أن الإمامة مستحقة بعمل ولا النبوة كما يرى ذلك بعض من
تقدم من أصحابنا (ره)، فإن قال: إنما أردت بما ذكرته أن الخبر لو سلم
لخصومي أنه دال على النص بالإمامة لكان غير دال من الوجه الذي
تذهبون إليه في وجوب الإمامة لمن يحصل له على وجه لا يجوز سواه،
قلنا: قد بينا أن مذهبنا بخلاف ذلك، وهو مذهب أكثر الطائفة من
المحققين منها، ولنا فيه تفصيل سنذكره، وهب أن الكلام توجه إلى من
ذهب إلى ذلك، أو أن الجماعة تذهب إليه كيف يكون واقعا موقعه،
ومن هذا الذي ضمن لك وتكفل بأنه يدل بهذا الخبر المخصوص على جميع
مذاهبه في الإمامة حتى يلزمه من حيث ذهب في الإمامة إلى ما ذكرت أن
يستفيد ذلك بالخبر، ويكون الخبر دالا عليه؟ ولمن ذهب إلى المذهب
الذي ذكرته أن يقول: أنا وإن اعتقدت في وجوب الإمامة ما حكيته فلي
عليه دلالة غير هذا الخبر، وإنما استدل بالخبر على النص بالإمامة على
أمير المؤمنين عليه السلام، وإنه الإمام بعد الرسول، وما سوى ذلك من

68
وجوب هذه المنزلة أو جوازها الطريق إليه غير الخبر، ولو لزمني هذا
للزمك مثله، إذا قيل لك: إنك إذا كنت تعتقد أن القديم تعالى قادر
لنفسه فصحة الفعل منه ليس تدل على كونه على هذه الصفة على ما ذهبتم
إليه، وأكثر ما يدل صحة الفعل على كونه قادرا، فأما الوجه الذي كان
قادرا منه، وأنه النفس دون المعنى فغير مستفاد من صحة الفعل، وجعل
ذلك قدحا في مذهبك وطريقتك، ما كان يمكنك أن تعتمد إلا على
ما اعتمدناه بعينه، وتبين أن صحة الفعل دلالة إثباته قادرا والطريق إلى
استناد هذه الصفة إلى النفس أو المعنى غير هذا، وأنه ليس يجب من حيث
كان المذهب يشتمل الأمرين أعني كونه قادرا، وأنه كذلك للنفس أن يعلما
بدليل واحد من طريق واحد.
فإن قيل: إذا كان مذهبكم في النبوة والإمامة ما شرحتموه ورغبتم
عن قول من ذهب فيهما إلى الاستحقاق أفتجوزون أن يكون في زمان النبي
وزمان أمير المؤمنين عليهما لسلام من يساوي كل واحد منهما في القيام بما
أسند إليه حتى لو عدل بالأمر إليه لقام به هذا المقام بعينه.
قلنا: قد كان ذلك جائزا وإنما علمنا أنه لم يقع لدليل منع منه لا
من حيث الاستحقاق ولا تساوي صفة من يصلح لهذه الأمور، فيكون
تكليف هذا كتكليف ذلك لا يصح، والذي نقوله: إنه لم يكن في زمن
النبي صلى الله عليه وآله من يساويه في شرائط النبوة ولا كان في زمان
إمامة أمير المؤمنين عليه السلام من يساويه في جميع شرائط الإمامة، وإن
جاز أن يكون قبل إمامته من يساويه في ذلك في أيام الرسول صلى الله عليه
وآله، والوجه في المنع مما ذكرناه أنه لو جاز ما منعنا منه من الأمرين لوجب
في ذلك المساوي للرسول أو الإمام أحد الأمرين، إما أن يكون رعية لمن
هو مساو له أو خارجا عن رعيته، ومستثنى به عليه، وليس يجوز أن يكون

69
رعية لمن يساويه كما لا يجوز أن يكون رعية لمن يفضله وقبح أحد الأمرين
كقبح الآخر، وهذا قد مضى فيما تقدم من الكلام عند دلالتنا على أن
إمامة المفضول لا تجوز، وليس يجوز أن يكون خارجا عن رعيته لأنا قد
علمنا أن النبي صلى الله عليه وآله بعث إلى سائر المكلفين، وأنه لا أحد
منهم إلا وتجب طاعته عليه، والتصرف على أمره ونهيه، وكذلك نعلم أن
إمامة أمير المؤمنين عامة لسائر المكلفين، وأن أحدا منهم لا يخرج عنها لأن
كل من أوجبها بعد الرسول صلى الله عليه وآله أوجبها على هذه الصفة،
والإجماع يمنع من تخصيصها بعد ثبوتها، فبهذا علمنا أنه لم يكن في أزمانهما
عليهما السلام من يساويهما لا من الوجوه الفاسدة التي اعتمدها غيرنا.
فإن قيل: فإذا كانت خلافة هارون لموسى عليه السلام في حياته إنما
ثبتت باختياره لأنكم لا توجبون فيما جرى هذا المجرى من الاستخلاف لمن
يكون بأمر الله تعالى لأن ذلك يوجب عليكم أن يكون الله تعالى هو الذي
ينص على أمراء الإمام وحكامه وقضاته وجميع خلفائه، وكان استمرارها
إلى بعد الوفاة إنما وجب أيضا من حيث ثبتت له في الحياة، ولم يجز له
صرفه عنها فهو عائد في المعنى إلى أمر غير واجب، بل تابع للاختيار،
فيجب أن تقولوا في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام بعد الرسول صلى الله
عليه وآله مثل ذلك وتجعلوها راجعة إلى اختيار الرسول لأنها مشبهة بها
ومحمولة عليها، ومذهبكم يخالف ذلك.
قلنا: أليس قد بينا فيما تقدم أنه لا معتبر في باب حمل منازله عليه
السلام على منازل هارون من موسى بالأسباب والعلل والجهات، وأن
التشبيه وقع بين المنازل أو ثبوتها لا بين جهاتها وأشبعنا القول في ذلك
فكيف يلزمنا ما ظننته؟ وإنما جاز أن يكون استخلاف النبي صلى الله عليه
وآله في حياته موقوفا على اختياره واستخلافه بعد وفاته بنص من الله
تعالى، لأن خليفته في حياته لا يجب أن يكون معصوما ولا حجة،

70
وخليفته بعد موته لا بد من كونه كذلك، فالنص عليه من الله تعالى
واجب.
فأما قول صاحب الكتاب: " إن الاستخلاف إنما يوصف بأنه منزلة
متى وجبت لسبب، فأما إذا وقع بالاختيار على وجه كان يجوز أن لا يحصل
فلا يكاد يقال: إنه منزلة " فإنه كثيرا ما يدعي في هذه الطريقة بما لا يزيد
فيه على الدعوى ويتحجر في قصرها على أمر واحد من غير دليل ولا
شبهة، وهذا يشبه ما ذكره متقدما من أن المنزلة لا تستعمل إلا بمعنى
المحل والموقع من القلب دون ما يرجع إلى الولايات، وقد بينا بطلان ما
ظنه بما يبين أيضا بطلان دعواه هذه، لأنه قد يقال: فلان بمنزلة فلان،
وقد أنزلت زيدا منزلة عمرو في الأمور، والولايات التي ليست بواجبة
كنحو الوكالة والوصية، والتفضل بالعطية، وغير ذلك مما لا سبب يوجبه
فكيف يدعي أن اللفظ يختص بما له سبب وجوب، والعرف يشهد
باستعمالها في الكل، وفيما قد أوردناه كفاية في فساد جميع ما تعلق به في
هذا الباب.
قال صاحب الكتاب " دليل لهم آخر، وربما استدلوا باستخلافه
[صلى الله عليهما إياه] (1) بعد الغيبة على المدينة ونصه على من يخلفه على
وجوب الاستخلاف والنص بعد الموت، لأن الموت أقوى في ذلك من
الغيبة، ولأن الغرض طلب الصلاح والموت بذلك أولى من حال الغيبة "
ثم قال " وهذا إنما كان يجب لو ثبت لهم أنه صلى الله عليه وآله
استخلف، وكان لا بد أن يستخلف فيقاس حال الموت عليه، فأما إذا
قلنا: إنه كان يجوز أن لا يستخلف، وإنما استخلف باختياره، وعلى وجه



(1) التكملة من " المغني ".
71
الاستظهار لا على وجه الوجوب، فيجوز (1) أن يكون الموت بمنزلته،
وبعد، فإن ذلك إنما يدل على أن الإمام عند الغيبة يجب أن يستخلف
فمن أين إنه لا بد من إمام بعد الموت؟ فإن قال: لأن الموت أوكد من
الغيبة، قيل له: إنما كان يجب لو ثبت أنه استخلف في حال الغيبة من
حيث لم يكن مقيما، فأما إذا لم يثبت ذلك فمن أين أن الموت أوكد في
ذلك، وقد كان يجوز من جهة المصلحة أن يفارق أحدهما
الآخر؟،... " (2).
يقال له: من العجب إيرادك ما حكيته على أنه استدلال لنا على
النص على أمير المؤمنين بعينه، وإدخالك ذلك في جملة الأدلة التي نعتمدها
في هذا الباب وما نظن أن أحدا يستعمل معنا بعض حسن الظن يتهمنا
بمثل هذا، ويظن أنا نستدل على الشئ بما لا تعلق له به على وجه، وما
نشك في أن ليس سبب إيرادك هذا إلا لأن تقول ما قلته في آخر كلامك
" وأي تعلق لذلك بالنص على فلان وليس ذلك بأن يدل على النص على
واحد بأولى من غيره " (3) وهذا مع قولك في أول الفصل " وربما استدلوا
بكذا وكذا على وجوب الاستخلاف والنص " وهذا القول يقتضي أن لا
تقول ما قلته في آخر الفصل لأنك لم تحك عنا الاستدلال على منصوص
عليه معين فتعجب من الطريقة، وعلى كل حال فلا معنى لإيرادك هذه
الطريقة في هذا الموضع، لأنها إن حكيت على أنها طريقة في وجوب النص
على الجملة فليس هذا موضعه، ولا هو في حكاية الأدلة عليه، وإن
حكيت على أنها طريقة في النص على إنسان بعينه فلا أحد يستدل بها
على ذلك، ونفس ترتيبه لها وحكايته تدل على خلاف هذا المعنى.



(1) غ " فيجب ".
(2) المغني 20 ق 1 / 181.
(3) بأولى منه على غيره خ ل.
72
ثم يقال له: قد استدل بعض أصحابنا بهذه الطريقة على وجوب
النص بعد الوفاة، وهي طريقة (1) قريبة يمكن أن تعتمد وتنصر والوجه في
نصرتها أننا إذا رأيناه صلى الله عليه وآله يستخلف في أحوال الغيبة على
الاستمرار ومع اختلاف الأحوال، دلنا ذلك على أنه ما فعله إلا بسبب
يقتضيه، لأنه لو كان بغير سبب ومما منه بد وعنه غنى لم تستمر الأحوال
به، ولجاز أن يفعل تارة ولا يفعل أخرى كسائر الأمور التي كان صلى الله
عليه وآله يفعلها من غير سبب وجوب، وإذا استقرت هذه الجملة وتأملنا
ما يجوز أن يكون مقتضيا لذلك وكان لسبب فيه فلم نجده إلا أنه صلى الله
عليه وآله مع الغيبة لا يمكنه عن سياسة الأمة وتدبيرهم والقيام بأمورهم
ما كان يمكنه مع الحضور وجب أن يتساوى حال الغيبة وحال الموت في
وجوب الاستخلاف، بل كان لحال الموت المزية الظاهرة في علة
الاستخلاف وسببه لأن مع الغيبة في أحوال الحياة قد يمكن من تدبير الأمة
ومراعاة أمورهم ما لا يمكنه على وجه بعد الوفاة، وفي صحة ما ذكرناه
سقوط لما اعترض به وبطلان لقوله أيضا، وقد كان يجوز من جهة
المصلحة أن يفارق أحدهما الآخر، لأنه إذا لم يكن في ذكر وجه
الاستخلاف في الغيبة في أحوال الحياة إلا ما ذكرناه مما تساوي فيه أحوال
الوفاة أحوال الحياة، ويزيد تأكدا لم يجز أن يفارق أحد الأمرين الآخر من
جهة المصلحة.
قال صاحب الكتاب: " وقد ثبت أن في حال الغيبة يجوز أن
يستخلف جماعة وقد كان النبي صلى الله عليه وآله يستخلف على
المكان والبلدان التي هو غائب عنها جماعة، ولا يقتصر على واحد فلو قال
قائل: إن الموت إذا كان آكد من الغيبة فكان يجب أن يستخلف على كل



(1) قوية، خ ل.
73
بلد واحدا كان يجوز ذلك أو لا؟ فإن قال: نعم، لزمه النص على أئمة،
وإن قال: لا يجب ذلك فقد نقض ما اعتمد عليه، وقد ثبت أنه صلى
الله عليه وآله وسلم عند الغيبة كان يستخلف جماعة كل مرة غير التي
يستخلف في غيرها، وذلك يدل على أنه كان يفعل ذلك باختيار واجتهاد
لا عن نص، فإن كان عندهم أن الموت كالغيبة فيجب أن يكون الإمام
بعده ثابت الإمامة باختيار واجتهاد لا عن نص.
وبعد، فكما إنه صلى الله عليه وآله وسلم استخلف في حال الغيبة
فقد ثبت في أمرائه أنهم استخلفوا في حال الغيبة وبعد الموت، فيجب أن
لا يدل ذلك على أنه المختص بإقامة الإمام، بل قد يجوز لغيره أن يشركه
فيه، وذلك يصحح ما نقوله.
وبعد، فإن ذلك ليس بأن يدل على النص على واحد بأولى من أن
يدل على غيره فلا يمكنهم أن يتعلقوا بذلك في وجوب النص على
أمير المؤمنين، وقد بينا أنه لا يمكنهم أن يقولوا إذا ثبت النص فلا قول إلا
ما نذهب إليه، وذلك لأنا قد بينا أن الجمع العظيم قد قالوا بالنص على
أبي بكر وبينا القول في ذلك،... " (1).
يقال له: أما المدينة التي تضمن الدليل ذكرها بعينها فلم يستخلف
صلى الله عليه وآله عليها عند غيبته عنها إلا الواحد، وبعد فإن المبتغى
بهذه الطريقة من الاستدلال وجوب الاستخلاف لا كيفيته ولا عدد
المستخلفين، وقد ثبت وجوب الاستخلاف بما رتبناه من الكلام، وليس
يجري عدد المستخلفين مجرى الاستخلاف على الجملة في الوجوب، ألا
ترى أنه عليه السلام مع الغيبة قد كان يستخلف على البلدان الواحد تارة



(1) المغني 20 ق 1 / 181.
74
والجماعة أخرى، ويختلف فعله عليه السلام في ذلك (1) بحسب اختلاف
المصلحة، ولم يختلف فعله صلى الله عليه وآله في الاستخلاف المطلق
فأوجبنا ما لم يختلف الحال فيه من مطلق الاستخلاف، ولم نوجب ما
اختلف من عدد المستخلفين، فلم يلزم على ما ذكرناه أن ينص على أمير
كل بلد بعد وفاته، على أنه صلى الله عليه وآله في أحوال حياته قد كان
يولي الأمير الكورة (2) ويجعل إليه الاستخلاف في أطرافها وبلدانها فكذلك
لا يمتنع أن ينص على إمامة واحد بعده، ويجعل إليه الاستخلاف على
الأمصار والبلدان.
فأما تبديله الخلفاء وإن ذلك يدل على أنه كان يفعل ذلك برأيه
واجتهاده لا عن نص فليس يعلم من أي وجه يدل بما ذكره على ما ظنه
وليس في إبدال الخلفاء ما يقتضي أن استخلافهم صادر عن رأي واجتهاد
كما أنه ليس في إبدال الشرائع بغيرها ما يدل على ذلك، وليس يمتنع أن
تختلف المصلحة فيختلف المستخلفون وإن كانوا منصوصا عليهم، ولو كان
الأمر على ما ظنه وادعاه لم يكن فيه علينا حجة لأن من استدل بهذه
الطريقة من أصحابنا لم يرجع إليها في أكثر من أن النص واجب من
الرسول صلى الله عليه وآله.
فأما كونه مفعولا بأمر الله تعالى أو باختيار واجتهاد، فالمرجع فيه إلى
غير ذلك.
فأما تعلقه باستخلاف أمرائه، وتوصله إلى أن يكون غيره مشاركا له
في إقامة الإمام فباطل، لأن أمراءه إنما ساغ لهم الاستخلاف من حيث
جعل عليه السلام ذلك إليهم، واستخلفهم فيه كما استخلفهم على



(1) في الاستخلاف، خ ل.
(2) الكورة - بوزن صورة - المدينة، والصقع، والمراد هنا الثاني.
75
التصرف في الأعمال، فالأصل هو استخلافه عليهم وعروض ذلك أن
يستخلف صلى الله عليه وآله بعده رئيسا يشير إليه بعينه، ويفوض إليه
الاستخلاف، فأما أن يجعل عروضه الاهمال والتعويل على اختيار الأمة
فهو بعيد منه جدا، وليس لهم أن يجعلوا النص على صفة المختارين
يجري مجرى النص على عين الأمير في حال حياته واختيار من نص على
صفته أن يختارونه يجري مجرى استخلاف الأمير من يستخلفه، وذلك إنا لم
نجده صلى الله عليه وآله مع اختلاف الأحوال وتغيرها نص في حياته على
صفة من استخلفه على البلدان دون عينه، ولم نر له صلى الله عليه وآله في
حياته إلا خليفة نص على استخلافه أو نص على عين مستخلفه، فيجب
إذا كانت الحال الداعية إلى ذلك بعد الوفاة آكد أن يحكم بأن الأمر جرى
على ما كان جاريا عليه في الحياة.
فأما قوله: " وبعد، فإن ذلك ليس بأن يدل على النص على واحد
بأولى من غيره " فهو على ما ذكره وقد تقدم من كلامنا في هذا المعنى ما فيه
كفاية.
قال صاحب الكتاب: " دليل لهم آخر، واحتجوا بما رووا عنه
صلى الله عليه وآله أنه قال لأمير المؤمنين عليه السلام " أنت أخي
ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني " (1) [لأنه لا يكون كذلك إلا



(1) هذا الحديث أخرجه بهذا المعنى وتقارب في الألفاظ كثير من حفظة الآثار
النبوية، وإثبات السنة وجهابذة الحديث كابن إسحاق، وابن أبي حاتم، وابن مردويه،
وأبي نعيم، والبيهقي، والثعلبي، والطبري في تفسير سورة الشعراء من تفسيرهما،
والطبري وابن الأثير في تاريخهما، وصرح أبو عثمان الجاحظ - كما نقل ذلك عنه أبو جعفر
الإسكافي في نقض " العثمانية " تعرف ذلك عند مراجعة " المراجعات " لشرف الدين
ص 118 في المراجعة 20، وقد أوردت أكثر من ثمانين شاهدا على صحة الوصية لعلي
عليه السلام في كتابي " مصادر نهج البلاغة وأسانيده " ج 1 ص 121 - 151 من الكتاب
والسنة، والتاريخ والأخبار، والشعر والأدب، وحسبك أن قاضي القضاة أرسله هنا
إرسال المسلمات، وإن حاول صرفه على ما يراد به.
76
وهو الذي يقوم عند القيام مقامه] (1) * قالوا أفليس في تفويض الأمر إليه
دلالة له أوكد من ذلك، لأنه لو اقتصر على قوله (أنت وصيي) لكفى،
ولو اقتصر على قوله (خليفتي من بعدي) لكفى وكذلك قوله (قاضي ديني)
لأنه لا يكون كذلك إلا وهو النائب عنه القائم مقامه * (2) قالوا: وقد
روي (وقاضي ديني) بكسر الدال، وذلك يدل على أنه الإمام بعده بأقوى
مما يدل ما تقدم لأنه قد أبان بذلك أنه الذي يقوم بأداء شريعته
بعده، وكل ذلك يبين ما قلناه ".
ثم قال: " واعلم أن عند شيوخنا أن هذا الخبر يجري مجرى أخبار
الآحاد، والألفاظ المذكورة فيه مختلفة ففيها ما هو أظهر من بعض لأن
قوله: (أنت وصيي) أظهر من غيره ومع تسليم ذلك أنهم قد تكلموا
عليه.
فأما قوله: " أنت أخي " فسنذكر القول فيه في باب حديث
المؤاخاة * وأما قوله (أنت وصيي) فلا يدخل تحت الوصية إلا ما يختص
الموصي من الأحوال دون ما يتعلق بالدين والشرع،... " (3) ثم أطنب من
ذلك بما جملته أن الوصية لا يدخل تحتها معنى الإمامة إلى أن قال * (4)
فأما قوله: (وقاضي ديني) فهو بعض ما تناولته الوصية، فإذا
كانت لا تدل على الإمامة فبأن لا يدل ذلك عليها أولى وإنما الشبهة في
الوصية المطلقة، فأما إذا خصت بأمر مخصوص فلا شبهة فيها، فأما من



(1) الزيادة من " المغني ".
(2) ما بين النجمتين ساقط من " المغني " في الموضع.
(3) المغني 20 ق 1 / 181.
(4) ما بين النجمتين ساقط من " المغني " في الموضع.
77
روى ذلك بكسر الدال فقد أبعد من جهة الرواية لأن المشهور ما قدمناه،
وقد قال شيخنا أبو هاشم: " إن هذا اللفظ مضطرب لأن القضاء لا
يستعمل إلا في الدين، فأما في أداء الشرائع والدين فلا يستعمل، فإذا
أريد به معنى الإخبار قالوا قضينا إليه كما قال تعالى: (وقضينا إلى بني
إسرائيل في الكتاب) (1) فلو كان صلى الله عليه وآله أراد ذلك لقال:
القاضي ديني إلى أمتي، ولا يجوز في هذا الموضع أن يحذف ذكر إلى، لأن
ذلك ليس بمختار (2) فهذا الوجه أيضا يضعف الخبر من جهة اللفظ ".
ثم قال: " وقال - يعني أبا هاشم - " أن المراد بذلك إن كان أنه يؤدي
عنه ما تحمله من الشرائع غير ما لم يتحمله من الشرائع فحكم غيره من
الصحابة حكمه فكيف يدل على الإمامة "،... ") (3)
ثم أتبع ذلك بكلام في هذا المعنى لا طائل في حكايته إلى أن قال:
وأما قوله: (خليفتي من بعدي) (4) فغير معروف، والمعروف



(1) الاسراء 4.
(2) غ " بمجاز ".
(3) المغني 20 ق 1 / 184.
(4) أخرج الحمويني في " فرائد السمطين " في السمط الأول من الباب 85. بلفظ
(علي أخي، ووزيري، ووصيي، وخليفتي في أمتي، وخير من أترك بعدي)، وأخرج
الخوارزمي في المناقب ص 85 من طريق أم سلمة: (علي وصيي في عترتي وأهل بيتي
وأمتي من بعدي) وأخرج أحمد بن محمد الطبري المعروف بالخليلي من علماء القرن الرابع
في كتاب الرجال - كما نقله عنه السيد ابن طاووس في كتاب " اليقين " ص 117 قال صلى
الله عليه وسلم: (إن جبرئيل هبط إلي مرارا ثلاثا يأمرني عن السلام رب السلام أن أقوم
في المشهد، وأعلم كل أبيض وأسود، أن علي بن أبي طالب أخي ووصيي، وخليفتي على
أمتي، والإمام من بعدي، محله مني محل هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي).
78
(وخليفتي في أهلي) وذلك لا يدل على الإمامة بل تخصيصه بالأهل يدل على
أنه أراد عليه السلام أن يقوم بأحوالهم التي كان يقوم بها النبي صلى الله
عليه وآله بعده.
وبعد، فلو كان ما تعلقوا به حقا لقد كان عليه السلام يدعي به
النص ولا يستجيز ترك ذكره عند اختلاف الأحوال في باب الإمامة على ما
قدمنا القول فيه (1) وقد بينا أن ما ثبت من إمامة أبي بكر ثم عمر يقتضي
صرف ما ظاهره الإمامة عن ظاهره، فبأن يجب لأجل ذلك إبطال التعلق
بالمحتمل من القول أولى،...) (2).
يقال له: قد بينا فيما تقدم أن هذا الخبر الذي يتضمن ذكر
الاستخلاف قد تواتر النقل به، وورد مورد الحجة، وأنه أحد ألفاظ
النص الذي يلقبه أصحابنا بالجلي، ولا معتبر بقول شيوخهم واعتقادهم
في الخبر أنه جار مجرى الآحاد لأن ذلك إذا لم يكن مستندا إلى حجة لم يكن
قادحا، وهذا الخبر مما قد رواه العامة والخاصة ولم يتفرد به الشيعة، غير
أنا لا ندفع أن يكون تواتر النقل به ووروده مورد الحجة وما يقتضي
العلم مما يختص طرق الشيعة، والمعتمد من لفظ هذا الخبر في الدلالة على
النص بالإمامة على لفظ الاستخلاف دون باقي الألفاظ من وصية
وغيرها، فلا معنى لتشاغله بالكلام على أن الوصية تختص في العرف بأمور
مخصوصة لا تعلق للإمامة بها، فذلك مسلم لا خلاف فيه، وكذلك
قضاء الدين.
فأما الرواية - بكسر الدال - فما نعرفها، وهي إذا كانت معروفة



(1) غ " قدمنا من قبل القول فيه ".
(2) المغني 20 ق 1 / 185.
79
صحيحة دالة على معنى الإمامة والاستخلاف، لأن أحد أقسام ما يحتمله
لفظ القضاء الحكم، ولهذا سمي الحاكم قاضيا وإذا أضيف ذلك إلى
الدين فكأنه صلى الله عليه وآله قال: أنت حاكم ديني والحاكم في دينه
بعده لا يكون إلا الإمام، أو من يجري مجراه من ولاته.
فأما قول أبي هاشم: (إن الكلام يحتاج إلى زيادة، وإنه كان يجب أن
يقول القاضي ديني إلى أمتي) فهذا إنما كان يجب لو أراد بلفظ القضاء
الأخبار لأن لفظة " إلى " إنما يحتاج إليها من هذا الوجه، فأما إذا أريد
بالقضاء الحكم فذلك غير واجب.
فأما ادعاؤه أن (خليفتي من بعدي) غير معروف، وأن المعروف
(خليفتي في أهلي) فما فيهما إلا معروف ظاهر في الرواية، وليس في ثبوت قوله
(خليفتي في أهلي) نفي لقوله في حال أخرى: (أنت خليفتي من بعدي) ومن
عادة صاحب الكتاب أن يضعف كل ما يحس فيه بمكان الحجة، ولهذا قال
في أول الفصل أن قوله (أنت وصيي) أظهر من سائر الألفاظ من حيث
كان هذا اللفظ أبعد من معنى الإمامة من الجميع، على إنا لو صرنا إلى ما
يريد وفرضنا أن الخبر لم يرد إلا بقوله: (أنت خليفتي في أهلي) لكان نصا
بالإمامة، لأن من يخلف النبي صلى الله عليه وآله هو من يقوم فيمن كان
خليفة عليه بما كان صلى الله عليه وآله يقوم به، ويجب له من امتثال
أمره، وفرض طاعته ما وجب للنبي صلى الله عليه وآله، وإذا ثبت
هذا المعنى بعد النبي صلى الله عليه وآله لأمير المؤمنين عليه
السلام في واحد من الناس فضلا عن جماعة الأهل تثبت له الإمامة، لأن
من تجب طاعته، والانتهاء إلى أمره ونهيه لا بد أن يكون إماما أو واليا من
قبل الإمام ولأن حكم الأهل في تدبيرهم والقيام بأمورهم حكم غيرهم من
الأمة، فمن وجب ذلك له على الأهل وجب له على الكل، ومن لم يجب
له أحد الأمرين لم يجب له الآخر، وليس له أن يقول: إنما أراد بالخلافة

80
عليهم معنى الوصية، وذلك أن الوصية قد تقدمت في الكلام مصرحا
بها، فلا معنى لإدخالها تحت لفظ آخر على سبيل التكرار، وأيضا فإن
ظاهر لفظ الخليفة في العرف من قام مقام المستخلف في جميع ما كان إليه،
وإنما يختص الاستخلاف بالخلافة في بعض الأحوال بإضافات تدخل على
الكلام وإلا فالاطلاق في العرف يقتضي ما ذكرناه.
فأما قوله: (ولو كان ذلك حقا لكان عليه السلام يذكره عند
الاختلاف في الإمامة) فقد مضى فيما تقدم من كلامنا في هذا ما فيه
كفاية، وبينا السبب المانع من ذكر ذلك، وأنه لا دلالة في ترك ذكره على
أنه لم يكن.
فأما قوله في آخر الفصل: (إن ثبوت إمامة فلان وفلان تقتضي
صرف ما ظاهره الإمامة عن ظاهره فبأن يجب ذلك في المحتمل أولى) فقد
مضى أيضا فيما سلف أن هذا الخبر وأمثاله من ألفاظ النص غير محتمل،
وأن ظواهرها وحقائقها تقتضي النص بالإمامة، ولم يثبت ما ادعاه من
إمامة من ذكره على وجه فضلا عن ثبوتها على وجه غير محتمل فينصرف
لذلك عن ظواهر النصوص، وإنما يحيل على ما يأتي من كلامه في هذا
المعنى، وإذا بلغنا إليه بينا ما فيه بعون الله تعالى.
قال صاحب الكتاب: " دليل لهم آخر، ثم قال: " وقد استدل
الخلق منهم بحديث المؤاخاة، وإنه صلى الله عليه وآله قصد إلى أمر زائد
على ما تقتضيه الأخوة في الدين، لأنه لو أراد ذلك لم يكن ليخص بعضا
دون بعض بأخوة غيره، وإذا صح أن المقصد أمر زايد فليس إلا إبانة
الاختصاص، والتقارب بين من آخى بينهما فإذا آخى بين علي عليه السلام
وبينه صلى الله عليه وآله فقد دل على أنه أخص الناس به، وأقربهم إليه،
وأفضلهم بعده، وذلك يقتضي أنه أولى بالإمامة ".

81
ثم قال: " وهذا إذا سلم فإنما يدل على أنه أفضل من غيره أو على
أنه أقربهم إلى قلبه وأحبهم إليه، أو على جميع ذلك، فأما أن يدل على
الإمامة فبعيد لأنه ليس في ظاهر المؤاخاة ولا في معانيها ما يقتضي ذلك،
ولو كانت المؤاخاة تقتضي هذا المعنى لكان صلى الله عليه وآله من حيث
آخى بين أبي بكر وعمر أن يكون عمر خليفة من غير عهد إليه، فلما
طلبت الصحابة منه (1) أن يعهد إلى غيره بطل هذا القول، وقد قال
شيخنا أبو هاشم: إنما قصد صلى الله عليه وآله بالمؤاخاة التآلف والاستنابة (1)
والبعث على المعونة والمواساة ولذلك لما آخى بين عبد الرحمان [بن عوف
وبين] (3) غيره قال له: هذا مالي فخذ شطره على ما روي في هذا الباب،
وقد كان المهاجرون في ابتداء الهجرة في شدة وضيق، فأراد صلى الله عليه
وآله بالمؤاخاة بين بعضهم وبين الأنصار طريقة المعونة، ولما كان
أمير المؤمنين عليه السلام أقربهم إليه في هذه الوجوه آخى بينه وبين
نفسه، وقد بينا أن ما يدل على كونه أفضل منهم لا يدل على الإمامة فإن دل
الخبر على أنه أفضل منهم لم يجب أن يكون هو الإمام،...) (4).
يقال له: قد بينا في ابتداء كلامنا في النص أن النص من النبي
صلى الله عليه وآله على ضربين، منه ما يدل بلفظه وصريحه على الإمامة،
ومنه ما يدل فعلا كان أو قولا عليها بضرب من الترتيب والتنزيل، وقلنا:
إن كل أمر وقع منه عليه السلام من قول أو فعل يدل على تميز أمير المؤمنين
عليه السلام واختصاصه من الرتب العالية، والمنازل السامية بما ليس



(1) أي من أبي بكر (رض).
(2) والاستقامة، خ ل وهي أوجه.
(3) الزيادة من " المغني ".
(4) المغني 20 ق؟؟؟.
82
لهم، فهو دال على النص بالإمامة من حيث كان دالا على عظم المنزلة
وقوة الفضل، والإمامة هي أعلى منازل الدين بعد النبوة، فمن كان
أفضل في الدين، وأعظم قدرا فيه، وأثبت قدما في منازله، فهو أولى بها
وكان من دل على ذلك في حاله قد دل على إمامته، ويبين ذلك أن بعض
الملوك لو تابع بين أقوال وأفعال طول عمره وولايته يدل في بعض أصحابه
على فضل شديد، واختصاص وكيد، وقرب منه في المودة والنصرة
والمخالصة لكان ذلك عند ذوي العادات بهذه الأفعال مرشحا له لهؤلاء
على المنازل بعده، وكالدال على استحقاقه لأفضل الرتب، وربما كانت دلالة
هذه الأفعال أقوى من دلالة الأقوال، لأن الأقوال يدخلها المجاز الذي لا
يدخل هذه الأفعال.
وأما قوله: (لو سلم أن الخبر يدل على الفضل لم يكن فيه دلالة
على الإمامة، لأن الأفضل لا يجب أن يكون إماما) فهذا مما قد بينا فساده
فيما تقدم، ودللنا على أن الإمام لا بد أن يكون الأفضل، وأنه لا يجوز أن
يكون مفضولا فلا حاجة بنا إلى إعادة ما قدمناه في ذلك.
فأما ذكر المؤاخاة بين أبي بكر وعمر وظنه أن ذلك يوجب أن يكون
عمر خليفته من غير عهد إليه، فنحن نقول في المؤاخاة بين أبي بكر
وعمر مثل ما قلناه في المؤاخاة بين النبي صلى الله عليه وآله وبين
أمير المؤمنين عليه السلام، والمؤاخاة بينهما تدل على تقارب منزلتهما،
وتداني أحوالهما، وإن ما يصلح له كل واحد منهما يصلح له الآخر، وإن
عمر حقيق بمقام أبي بكر، وأولى من غيره به، وهذا هو المعنى الذي
أثبتناه في المؤاخاة التي تقدمت.
فأما قوله: (إن المؤاخاة إنما كان الغرض فيها طريقة المعونة والمواساة
للشدة التي كان المهاجرون فيها من ابتداء الأمر) فغلط، وذلك لأنا لم

83
نستدل بهذه المؤاخاة على الفضل والتقدم، بل لم يواخ النبي صلى الله عليه
وآله في هذه المؤاخاة بين أمير المؤمنين وبين نفسه، وإنما آخى بين كل
رجل من الأنصار ورجل من المهاجرين للمواساة والمعونة، والتساهم
والتشارك، وهذه المؤاخاة نسخت حكمها آيات المواريث، ولم يكن فيها
أبو بكر أخا لعمر، والمؤاخاة الثانية هي التي اعتبرناها، واستدللنا بها على
ما ذكرناه، ولم يكن الغرض فيها ما ظنه من المواساة والمعونة، والذي يدل
على أن هذه المؤاخاة كانت تقتضي تفضيلا وتعظيما وأنها لم تكن على سبيل
المعونة والمؤاخاة تظاهر الخبر عن أمير المؤمنين عليه السلام في غير مقام
بقوله مفتخرا متبجحا (أنا عبد الله وأخو رسوله لا يقولها بعدي إلا كذاب
مفتري) (1) فلولا أن في الأخوة تفضيلا وتعظيما لم يفتخر عليه السلام بها
ولا أمسك عن مواقفة على أنه لا مفتخر فيها، ويشهد أيضا بذلك وأن
هذه المؤاخاة ذريعة قوية إلى الإمامة، وسبب وكيد في استحقاقها أنه يوم
الشورى لما عدد فضائله ومناقبه وذرائعه إلى استحقاق الإمامة، قال في
جملة ذلك (أفيكم أحد آخى رسول الله صلى الله عليه وآله بينه وبين نفسه
غيري) (2) ويشهد أيضا باقتضاء المؤاخاة الفضل الباهر والمزية الظاهرة ما



(1) هذا الكلام قاله علي عليه السلام في أكثر من موطن، وانظر الاستيعاب
بترجمة علي عليه السلام ومستدرك الحاكم 3 / 111 وكنز العمال 6 / 394 وقال:
أخرجه ابن أبي شيبة، والنسائي في الخصائص وابن أبي عاصم في السنة، والعقيلي،
والحاكم، وأبو نعيم في المعرفة. وفي الرياض النضرة 2 / 168 إن النبي صلى الله عليه
وآله أمره أن يقول ذلك.
(2) هذه الجملة من حديث المناشدة رواه جماعة من علماء أهل السنة باختلاف
يسير في بعض الحروف والكلمات وقد خرج جميع تلك الجمل واحدة بعد واحدة العلامة
المتتبع المرحوم الشيخ نجم الدين العسكري في كتابه " علي والوصية " وبالمناسبة أذكر أن
هذا العالم الباحث الجليل له كتب قيمة حري بمن أراد الاطلاع أن يقف عليها وخصوصا
كتابه (الوضوء في الكتاب والسنة).
84
رواه عيسى بن عبد الله بن عمر بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده
عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله
(سألت ربي فيك خمسا فمنعني واحدة وأعطاني أربعا سألته أن يجمع عليك
أمتي فأبى وأعطاني فيك أني أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة وأنت
معي، ومعي لواء الحمد وأنت تحمله بين يدي تسوق به الأولين
والآخرين، وأعطاني أنك أخي في الدنيا والآخرة، وأن بيتك مقابل بيتي
في الجنة، وأعطاني أنك أولى بالمؤمنين من بعدي) (1).
وروى حفص بن عمر بن ميمون قال أخبرنا جعفر بن محمد بن علي
ابن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام عن أبيه عن جده أن عليا
عليه السلام قال على المنبر بالكوفة: (يا أيها الناس إنه كانت لي من
رسول الله صلى الله عليه وآله عشر خصال لهن أحب إلي مما طلعت عليه
الشمس قال: يا علي أنت أخي في الدنيا والآخرة، وأنت أقرب الخلق
مني يوم القيامة في الموقف بين يدي الجبار، ومنزلك في الجنة يواجه منزلي
كما يتواجه منازل الإخوان في الله، وأنت الوارث مني، وأنت الوصي مني
في عداتي وأمري، وفي كل غيبة)، يعني بذلك حفظة في أزواجه.
وروى كثير بن إسماعيل عن جميع بن عمير التيمي قال: أتيت ابن
عمر في المسجد فسألته عن علي عليه السلام فقال: هذا منزل رسول الله
صلى الله عليه وآله وهذا منزل علي عليه السلام وإن شئت حدثتك، قلت
: نعم قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وآله بين المهاجرين حتى بقي
علي وحده فقال: يا رسول الله آخيت بين المهاجرين فمن أخي قال: (أما



(1) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد 4 / 399 والمتقي في الكنز 6 / 159،
وقال: أخرجه الخطيب والرافعي عن علي، ورواه في ص 396 من نفس الجزء وقال:
أخرجه ابن الجوزي.
85
ترضى أن تكون أخي في الدنيا والآخرة) قال: بلى، قال: (فأنت أخي
في الدنيا والآخرة (1)) وكل هذا الذي أوردناه، وإن كان قليلا من كثير
صريح في دلالة المؤاخاة على الفضل وبطلان قول من ظن خلاف ذلك.
قال صاحب الكتاب: (دليل لهم آخر، وقد تغلقوا بقوله صلى الله
عليه وآله (لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله)
وبما روي من قوله صلى الله عليه وآله (اللهم آتيني بأحب خلقك إليك
ليأكل معي من هذا الطائر). قالوا: وإذا دل ذلك على أنه أفضل خلق
الله تعالى بعده وأحبهم إلى الله تعالى فيجب أن يكون هو الإمام) ثم
قال: (وهذا بعيد، لأنه إنما يمكن أن يتعلق به في أنه أفضل، فأما في
النص على أنه إمام فغير جائز التعلق به إلا من حيث يقال: إن الإمامة
واجبة للأفضل، وقد بينا أنها غير مستحقة بالفضل (2) فإنه لا يمتنع في
المفضول أن يتولاها أو فيمن يساويه غيره في الفضل، وسنبين القول في
ذلك من بعد، وقوله: (لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله) إنما
يدل على أنه فاضل، ولا يمتنع أن يكون غيره موازيا له في ذلك، فالتعلق
به في الإمامة والتفضيل يبعد ولا يمكن أن يتعلق به من حيث يقتضي دفع
الراية الإمامة لأن ذلك لا يقتضيها، ولا يدل عليها، وقد كان صلى الله
عليه وآله يعطي الراية لمن يؤديه اجتهاده إليه في الوقت، ولمن يكون ذلك
فيه أصلح، كما كان يستخلف ويولي من هذه حاله،...) (3)
يقال له: هذان الخبران اللذان ذكرتهما (4) إنما يدلان عندنا على الإمامة



(1) رواه الترمذي 2 / 299 والحاكم في المستدرك 3 / 14 عن ابن عمر.
(2) غ " واجبة في الأفضل، وقد ثبت ".
(3) المغني 20 ق 1 / 187.
(4) أي خبر الراية والطائر، وحديث الراية رواه المحدثون عامة، نذكر منهم:
البخاري في صحيحه ج 4 ص 5 وص 207 في كتاب بدء الخلق باب مناقب علي بن أبي
طالب وفي كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي صلى الله عليه وآله إلى الاسلام
والنبوة، وص 12 باب ما قيل في لواء النبي صلى الله عليه وآله، و ج 5 / 76 في كتاب
المغازي باب غزوة خيبر، ومسلم في صحيحه ج 3 / 1441 في كتاب الجهاد والسير باب
غزوة ذي قرد و ج 4 / 871 في كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي
طالب، والترمذي 2 / 300 وابن ماجة 1 / 43 والحاكم في المستدرك 3 / 130 و 131
وغير هؤلاء وسيأتي تخريج حديث الطائر ص 100 من هذا الجزء.
86
كدلالة حديث المؤاخاة وما جرى مجراها، لأنا قد بينا أن كل شئ دل
على التفضيل والتعظيم فهو دلالة على استحقاق أعلى الرتب والمنازل، وأن
أولى الناس بالإمامة من كان أفضلهم، وأحقهم بأعلى منازل التبجيل
والتعظيم، وقد مضى طرف من الكلام في أن المفضول لا يحسن إمامته،
وإن ورد من كلامه في المستقبل شئ من ذلك أفسدناه بعون الله تعالى.
فأما ادعاؤه في قوله: (لأعطين الراية غدا): " أنه إنما يدل على أنه
فاضل، ولا يمتنع أن يكون غيره موازيا له في ذلك " فباطل لأنه لا بد من
أن يكون له مزية ظاهرة في ذلك على غيره من المؤمنين، وسائر الصحابة
من حيث كانت صورة الحال، وكيفية خروج القول من النبي صلى الله
عليه وآله يقتضي ذلك، ويدل عليه، لأن أبا سعيد الخدري روى أن
رسول الله صلى الله عليه وآله أرسل عمر إلى خيبر فانهزم ومن معه،
فقدم على رسول الله صلى الله عليه وآله يجبن أصحابه وهم يجبنونه فبلغ
ذلك من رسول الله صلى الله عليه وآله كل مبلغ فبات ليلته مهموما فلما
أصبح خرج إلى الناس ومعه الراية، فقال: (لأعطين الراية اليوم رجلا
يحب الله ورسوله كرارا غير فرار) فتعرض لها جميع المهاجرين والأنصار

87
فقال صلى الله عليه وآله: (أين علي فقالوا يا رسول الله، هو أرمد،
فبعث إليه أبا ذر وسلمان فجاءا به يقاد لا يقدر على فتح عينيه من الرمد،
فلما دنى من رسول الله صلى الله عليه وآله تفل في عينيه فقال: (اللهم
أذهب عنه الحر والبرد، وانصره على عدوه، فإنه عبدك يحبك ويحب
رسولك كرار غير فرار) ثم دفع إليه الراية فاستأذنه حسان بن ثابت أن
يقول فيه شعرا، قال: قل فأنشأ يقول:
وكان علي أرمد العين يبتغي * دواء فلما لم يحس مداويا
شفاه رسول الله منه بتفلة * فبورك مرقيا وبورك راقيا
وقال سأعطي الراية اليوم صارما * كميا محبا للرسول مواليا
يحب إلهي والإله يحبه * به يفتح الله الحصون الأوابيا
فأصفى بها دون البرية كلها * عليا وسماه الوزير المواخيا (1)
ويقال إن أمير المؤمنين عليه السلام لم يجد بعد ذلك أذى حر ولا
برد.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس هذا الخبر بعينه على وجه آخر
قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله أبا بكر إلى خيبر فرجع وقد انهزم
وانهزم الناس معه، ثم بعث من الغد عمر فرجع وقد جرح في رجليه،
وانهزم الناس معه فهو يجبن الناس والناس يجبنونه، فقال رسول الله صلى
الله عليه وآله: (لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله
ليس بفرار ولا يرجع حتى يفتح الله عليه) وقال ابن عباس: فأصبحنا
متشوقين نرائي وجوهنا رجاء أن يدعى رجل منا فدعا رسول الله صلى الله
عليه وآله عليا وهو أرمد فتفل في عينيه، ودفع إليه الراية ففتح الله عليه
فهذه الأخبار وجميع ما روي في هذه القصة، وكيفية ما جرت عليه يدل
على غاية التفضيل والتقديم، لأنه لو لم يفد القول إلا المحبة التي هي



(1) كفاية الطالب ص 16.
88
حاصلة للجماعة، وموجودة فيهم لما تصدوا لدفع الراية وتشوقوا إلى
دعائهم إليها، ولا غبط أمير المؤمنين عليه السلام بها ولا مدحته الشعراء،
ولا افتخرت له بذلك المقام، وفي مجموع القصة وتفصيلها إذا تأملت ما
يكاد يضطر إلى غاية التفضيل، ونهاية التقديم، وفي أصحابنا من لم يرض
بأن يكون هذا القول من الرسول صلى الله عليه وآله يدل على تفضيل
أمير المؤمنين وتقديمه على الجماعة، حتى بين أنه يدل على أنه مختص من
الأوصاف المذكورة في الخبر بما ليس موجودا عند من تقدمه في الحرب،
قالوا: لأنه لو كان عندهم ما عنده أو يختصون بشئ مما ذكر اختصاصه به
لكان القول عبثا وخلفا وليس هذا من دليل الخطاب في شئ، لأنهم لم
يرجعوا في نفي الصفة عن غيره إلى مجرد إثباتها له، وإنما استدلوا بكيفية ما
جرى في الحال على ذلك، لأنه صلى الله عليه وآله لا يجوز أن يغضب من
فرار من فر وينكره، ثم يقول إنني أدفع الراية غدا إلى من عنده كذا وفيه
كذا وكل ذلك عند من تقدم ألا ترى أن بعض حصفاء الملوك لو أرسل
رسولا إلى غيره ففرط في أداء رسالته وحرفها، ولم يؤدها على حقها
فغضب لذلك المرسل، وأنكر فعله، وقال: لأرسلن رسولا حصيفا
حسن الكلام والقيام بأداء رسالتي مضطلعا بها، لكنا نعلم أن الذي أثبته
منفي عن الأول، قالوا وكما انتفى عمن تقدم فتح الحصن على أيديهم،
والكر الذي لا فرار معه، كذلك يجب أن ينتفي سائر ما أثبت له صلى الله
عليه وآله، لأن الكل خرج مخرجا واحدا وورد على طريقة واحدة، وهذا
وجه وإن كان الذي لا يمكن أن يدفع ولا يشغب فيه هو دلالة الكلام،
وجملة القصة على أنه يزيد على القوم في جميع ما ذكر، ويفضل عليهم فيه
فضلا ظاهرا لن يشاركوه في شئ منه، فإنه ليس في هذا من الشبهة ما في
ادعاء نفي المشاركة وإن قلت وضعفت.
قال صاحب الكتاب: (دليل لهم آخر، وربما تعلقوا بأخبارهم

89
يدعونها في هذا الباب منها ما طريقه الآحاد، ومنها ما لا يمكن إثباته على
شرط الآحاد أيضا، نحو ما يدعون من أنه صلى الله عليه وآله تقدم إلى
الصحابة بأن يسلموا على علي بإمارة المؤمنين ونحو ما يروون من قوله صلى
الله عليه وآله في علي عليه السلام (إنه سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد
الغر المحجلين) وقوله لعلي عليه السلام: (هذا ولي كل مؤمن ومؤمنة من
بعدي) وإنه قال (إن عليا مني وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن ومؤمنة) إلى
غير ذلك مما يتعلقون به في الإمامة أو في أنه الأفضل أو في باب العصمة).
ثم قال: (وقد بين شيخنا أبو علي أن هذه الأخبار لم تثبت من وجه
يوجب العلم فلا يصح الاعتماد عليها في إثبات النص، وبين أن ادعاءهم
فيها أو في بعضها أنها ثابتة بالتواتر لا يصح لأن للتواتر شرائط ليست
حاصلة فيها [أو في بعضها أنها ثابتة فيه] (1) ولا يمكنهم إثبات ذلك بأن
يقولوا: إن الشيعة قد طبقت البلاد عصرا بعد عصر، وحالا بعد حال
فروايتها تجب أن تبلغ حد التوتر، لأن الخبر لا يصير داخلا في جملة التواتر
بهذه الطريقة دون أن يبين حصول النقل فيه على شرط التواتر) قال:
(وبين - يعني أبا علي - أن لمن خالفهم أن يدعوا مثل ذلك في النص على
أبي بكر لأن أصحاب الحديث فيهم كثرة، وبين أن ادعاء النص لا يمكن
إثباته إلا حديثا، فأما في الأعصار القديمة فذلك متعذر، وبين أن ادعاءهم
أنه قد كان لأمير المؤمنين عليه السلام شيعة ومتعصبون يدعون له النص
كأبي ذر وعمار والمقداد وسلمان إلى غيرهم (2) لا يمكن إثباته، وإنما يمكن
أن يثبت انقطاعهم إليه، وقولهم بفضله، وبأنه حقيق بالإمامة، وبأنه قد



(1) ما بين المعقوفين من المغني.
(2) أثبت الإمام كاشف الغطاء في " أصل الشيعة وأصولها " أن كلمة " شيعة "
معروفة في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وأنها كانت تطلق على المذكورين وغيرهم.
90
كان يجب أن لا يعدل عنه وعن رأيه إلى ما يجري هذا المجرى، فأما ادعاء
غير ذلك فبعيد، لأن النص غير مذكور عنهم على الوجه الذي يدعون،
وبين أنهم إن رضوا لأنفسهم في إثبات النص أن يعتمدوا على مثل هذه
الأخبار، فالمروي من الأخبار الدالة على أنه صلى الله عليه وآله لم
يستخلف أظهر من ذلك، لأنه قد روي عن أبي وائل (1) والحكم عن علي
ابن أبي طالب عليه السلام أنه قيل له: ألا توصي؟ قال: ما أوصى رسول الله
صلى الله عليه وآله فأوصي، ولكن إن أراد الله بالناس خيرا فسيجمعهم
على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم (2)، وروى صعصعة بن
صوحان (3) أن ابن ملجم لعنه الله لما ضربه عليه السلام (4) دخلنا إليه فقلنا
يا أمير المؤمنين استخلف علينا قال: لا فإنا دخلنا على رسول الله صلى الله
عليه وآله حين ثقل، فقلنا يا رسول الله صلى الله عليه وآله استخلف
علينا، فقال: (لا إني أخاف أن تتفرقوا عنه كما تفرقت بنوا إسرائيل عن
هارون، ولكن إن يعلم الله في قلوبكم خيرا اختار لكم) والمروي عن
العباس أنه خاطب أمير المؤمنين عليه السلام في مرض النبي صلى الله عليه
وآله أن يسأله عن القائم بالأمر بعده، وأنه امتنع من ذلك خوفا أن يصرفه
عن أهل بيته، فلا يعود إليهم أبدا، ظاهر فلم صاروا بأن يتعلقوا بتلك



(1) أبو وائل هو شقيق بن سلمة، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه
شهد صفين مع علي عليه السلام وروي عن أبي بكر وعثمان وعلي وسعد وابن عباس
وابن مسعود وغيرهم وروى عنه الشعبي والسبيعي والأعمش وغيرهم توفي سنة 99
(انظر أسد الغابة ج 2 ص 1).
(2) رواه الحاكم في المستدرك 3 / 79.
(3) صعصعة بن صوحان العبدي أسلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم ولم يره، وكان من سادات قومه بني عبد القيس فصيحا لسنا دينا فاضلا من
أصحاب علي عليه السلام توفي في أيام معاوية (انظر أسد الغابة: 3 / 20).
(4) غ " لما ضرب عليا عليه السلام ".
91
الأخبار بأولى ممن يخالفهم بأن يتعلق بهذه الأخبار * في أنه صلى الله عليه
وآله لم يستخلف * (1) قال: وأحد ما يعارضون به ما روي عنه في
استخلاف أبي بكر، فقد روي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله
أمره عند إقبال أبي بكر أن يبشره بالجنة وبالخلافة بعده، وأن يبشر عمر
بالجنة وبالخلافة بعد أبي بكر، وروي عن جبير بن مطعم (2) أن امرأة أتت
رسول الله صلى الله عليه وآله فكلمته في شئ من أمرها فأمرها أن ترجع
إليه فقالت: يا رسول الله أرأيت إن رجعت فلم أجدك، تعني الموت قال
صلى الله عليه وآله: (إن لم تجديني فائتي أبا بكر) وروى أبو مالك
الأشجعي (3) عن أبي عريض (4) وكان رجلا من أهل خيبر وكان يعطيه
النبي صلى الله عليه وآله في كل سنة مائة راحلة تمرا فأعطاه سنة، وقال
إني أخاف أن لا أعطى بعدك، فقال صلى الله عليه وآله تعطاها، قال
فمررت بعلي عليه السلام فأخبرته، فقال فارجع إليه فقل: يا رسول الله
صلى الله عليه وآله من يعطينيها بعدك، فرجعت فقلت: فقال عليه
السلام: (أبو بكر) وقد روي عن الشعبي عن بني المصطلق أنهم بعثوا رجلا
إلى النبي صلى الله عليه وآله فقالوا له سله من يلي صدقاتنا من بعده،
فانطلق فلقي عليا عليه السلام وسأله فقال لا أدري، انطلق إلى
رسول الله صلى الله عليه وآله: فاسأله، ثم ائتني فسأله، فقال (أبو بكر)



(1) ما بين النجمتين ساقط من المغني.
(2) جبير بن مطعم القرشي النوفلي صحابي من أكابر قريش مات في آخر أيام
معاوية.
(3) أبو مالك الأشجعي ذكره أحمد بن حنبل في الصحابة وروى عن أبي عريض
المذكور بعده (انظر أسد الغابة 3 ص 253 و 287).
(4) أبو عريض ذكره أبو عمر في الاستيعاب في الكنى وابن الأثير في أسد الغابة
5 / 253 ولم يصرحا باسمه وقالا: " كان دليل رسول الله صلى الله عليه وآله من
أهل خيبر " روي عنه من قبله.
92
فرجع إلى علي عليه السلام فأخبره، ثم كذلك حتى ذكر عمر بعده، وفي
حديث سفينة (1) مولى رسول الله صلى الله عليه وآله (إن الخلافة بعدي
ثلاثون سنة) وإنه صلى الله عليه وآله ذكر أبا بكر وعمر وعثمان بالخلافة،
وقد روى أن أبا بكر قال: يا رسول الله صلى الله عليه وآله رأيت كأن علي
برد حبرة وكأن فيه رقمين (2) فقال صلى الله عليه وآله (تلي الخلافة بعدي
سنتين إن صدقت رؤياك) وقال: وقد روي أنه قال صلى الله عليه وآله في
أبي بكر وعمر (هذان سيدا كهول أهل الجنة) والمراد بذلك أنهما سيدا من
يدخل الجنة من كهول الدنيا كما قال صلى الله عليه وآله في الحسن والحسين
عليهما السلام (أنهما سيدا شباب أهل الجنة) يعني سيدا من يدخل الجنة
من شباب الدنيا، وروي أنه قال صلى الله عليه وآله في أبي بكر (ادعوا لي
أخي وصاحبي صدقني حيث كذبني الناس) وقال: (اقتدوا باللذين بعدي
أبي بكر وعمر) وروى جعفر بن محمد عن أبيه أن رجلا من قريش جاء إلى
أمير المؤمنين عليه السلام فقال سمعتك تقول في الخطبة آنفا: (اللهم
أصلحنا بما أصلحت به الخلفاء الراشدين) فمن هم، قال: (حبيباي
وعماي أبو بكر وعمر إماما الهدى وشيخا الاسلام ورجلا قريش،
والمقتدى بهما بعد رسول الله صلى الله عليه وآله من اقتدى بهما عصم،



(1) سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وآله اختلفوا في اسمه على واحد
وعشرين قولا أصله من فارس اشترته أم سلمة وأعتقته واشترطت عليه خدمة رسول الله
صلى الله عليه وآله، وعن سفينة قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في
سفر فكان بعض القوم إذا أعيا ألقى علي ثوبه حتى حملت من ذلك شيئا كثيرا فقال: (ما
أنت إلا سفينة) وقد جاء لسفينة ذكر في حديث لفضة أمة الزهراء عليها السلام مع زينب
العقيلة يوم عاشوراء (انظر الكافي 1 / 465).
(2) الرقم بالثوب الكتابة فيه، يقال رقم الثوب والكتاب رقما وترقيما أيضا،
وفي خ " رقمتين ".
93
ومن اتبع آثارهما هدي إلى صراط مستقيم).
وروى أبو جحيفة (1) ومحمد بن علي (2) وعبد خير (3) وسويد بن
غفلة (4) وأبو حكيمة (5) وغيرهم وقد قيل إنهم أربعة عشر رجلا إن عليا
عليه السلام قال في خطبة (خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر) وفي
بعض الأخبار (ولو أشاء أن أسمي الثالث لفعلت) وفي بعض الأخبار أنه
عليه السلام خطب بذلك بعد ما أنهي إليه أن رجلا تناول أبا بكر وعمر
بالشتيمة فدعا به وتقدم لعقوبته بعد أن شهدوا عليه بذلك * وروى جعفر
ابن محمد عن أبيه عن جده عليه السلام قال لما استخلف أبو بكر جاء أبو
سفيان فاستأذن على علي عليه السلام وقال: أبسط يدك أبايعك، فوالله
لأملأها على أبي فصيل (6) خيلا ورجلا فانزوى عنه عليه السلام فقال:



(1) أبو جحيفة: وهب بن عبد الله السوائي ويقال له: وهب الخير، كان من
صغار الصحابة، جعله علي بن أبي طالب على بيت المال بالكوفة، وشهد معه مشاهده
كلها، وكان يحبه ويثق إليه، ويسميه: وهب الخير، ووهب الله، وروى عنه ابنه عون
أنه أكل ثريدة بلحم وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجشأ، فقال: (اكفف
عليك جشاءك أبا جحيفة فإن أكثرهم شيعا أكثرهم جوعا يوم القيامة) فما أكل أبو جحيفة
ملء بطنه حتى فارق الدنيا توفي سنة 72.
(2) يريد الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام أو محمد بن الحنفية.
(3) عبد خير هو عبد خير بن يزيد الهمداني يكنى أبا عمارة أدرك زمان النبي صلى
الله عليه وسلم وهو من أكابر أصحاب علي رضي الله عنه وسكن الكوفة وهو ثقة مأمون
(أسد الغابة 3 / 277).
(4) سويد بن غفلة - بالغين المعجمة والفاء مفتوحتين وقيل بالعين المهملة وهو
خلاف المشهور - الجعفي مخضرم من كبار التابعين، قدم المدينة يوم دفن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم وكان مسلما في حياته توفي بالكوفة سنة 1 أو 2 أو 83.
(5) أبو حكيمة أحد الرواة عن علي عليه السلام (انظر الكنى والأسماء للدولابي
ص 155).
(6) انظر شرح نهج البلاغة 1 / 222.
94
ويحك يا أبا سفيان هذه من دواهيك، وقد اجتمع الناس على أبي بكر ما
زلت تبغي للاسلام العوج في الجاهلية والاسلام، ووالله ما ضر الاسلام
ذلك شيئا حتى ما زلت صاحب فتنة (1) *.
وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال لما غسل
عمر وكفن دخل علي عليه السلام فقال ما على الأرض أحد أحب إلي أن
ألقى الله بصحيفته من هذا المسجى بين أظهركم، وروي مثل ذلك عن
ابن عباس وابن عمر وقال صلى الله عليه وآله (اقتدوا باللذين من بعدي
أبي بكر وعمر ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا) إلى غير ذلك
مما يطول ذكره " قال: " فإذا كانت هذه الأخبار وغيرها مما يطول ذكرها منقولة
ظاهرة فلم صرتم بأن تستدلوا بما ذكرتموه على إمامة أمير المؤمنين عليه
السلام وفضله بأولى ممن خالفكم، وادعى النص لأبي بكر والفضل له،
ونبه بذلك على أن الواجب فيما هذا حاله العدول عن أخبار الآحاد إلى
طريقة العلم، وإنما نذكر هذه الأخبار لنبين لهم الفضل، وإنهم أهل
الإمامة لأنه لا يرجع في ذلك إلى ما طريقه القطع، فأما الاعتماد على
ذلك في باب النص (2) فبعيد، قال: على أن هذه الأخبار لا تقتضي
النص بل هي مختلفة (3) لأن قوله صلى الله عليه وآله (إمام المتقين) أراد به
في التقوى والصلاح، ولو أراد به الإمامة لم يكن إماما بأن يكون للمتقين
بأولى من أن يكون إماما للفاسقين، وعلى هذا الوجه خبر عز وجل عن
الصالحين (4) أنهم سألوا الله عز وجل في الدعاء (واجعلنا للمتقين



(1) ما بين النجمتين ساقط من المغني.
(2) غ " في باب النقل ".
(3) غ " لا يقتضي الرضا فهي محتملة ".
(4) في حاشية المخطوطة " الصادقين ".
95
إماما) (1) وإنما أرادوا أن يبلغوا في الصلاح والتقوى المبلغ الذي يتأسى
بهم (2) قال: ولو كان المراد الإمامة لكان إماما في الوقت لأنه صلى الله
عليه وآله أثبته كذلك في الحال فأما " سيد المسلمين وقائد الغر المحجلين "
فلا شبهة في أنه لا يدل على الإمامة، وقد بينا أن وصف علي بأنه:
(ولي كل مؤمن) لا يدل على الإمامة، فأما قوله صلى الله عليه وآله (إن
عليا مني وأنا منه) فإنما يدل (3) على الاختصاص والقرب ولا مدخل له في
الإمامة، فأما ادعاؤهم أنه صلى الله عليه وآله تقدم بأن يسلم عليه بإمرة
المؤمنين فمما لا أصل له، ولو ثبت لدل على أنه الإمام في الحال لا في
الثاني على ما تقدم القول فيه،... " (4).
يقال له: قد بينا فيما تقدم أن الخبر الذي يتضمن الأمر بالتسليم
على أمير المؤمنين عليه السلام بإمرة المؤمنين تتواتر الشيعة بنقله، وأنه
أحد ألفاظ النص الجلي الذي دللنا على حصول شرائط التواتر فيه وقوله
عليه السلام: (إنه سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين) (5)
وقوله فيه: (هذا ولي كل مؤمن ومؤمنة بعدي) (6) جار مجرى الخبر الأول



(1) الفرقان 74.
(2) غ " يتأتي بهم " وما في المتن أرجح.
(3) ع " فإنما يدخل ".
(4) المغني 20 ق 1 / 190 و 191.
(5) أخرجه الحاكم في المستدرك 3 / 137 وقال: هذا حديث صحيح الاسناد،
والمتقي في كنز العمال 6 / 157 وقال: أخرجه البارودي وابن قانع والبزاز والحاكم وأبو
نعيم، والهيثمي في مجمع الزوائد 9 / 121 وقال: رواه الطبراني في الصغير.
(6) في مسند أبي داود الطيالسي 3 / 111 " إن عليا مني وأنا منه وهو ولي كل
مؤمن بعدي " فيه 11 / 360 " أنت ولي كل مؤمن بعدي " وروي بهذا المضمون في
مسند أحمد 4 / 437 و 5 / 356 وحلية الأولياء 6 / 294، وخصائص النسائي ص 19
و 23 وكنز العمال 6 / 159 و 396.
96
في اقتضاء النص وتواتر الشيعة بنقله، وإن كانت هذه الأخبار مع إن
الشيعة بنقلها قد نقلها أكثر رواة العامة من طرق مختلفة وصححوها، ولم
نجد أحدا من رواة العامة ولا علماءهم طعن فيها ولا دفعها، وإن كان
خبر التسليم بإمرة المؤمنين نقل في روايتهم ولا يجري في التظاهر بينهم
مجرى باقي الأخبار التي ذكرناها، وإن كان الكل من طريق العامة، لا
يبلغ التواتر بل يجري مجرى الآحاد ولا معتبر بادعاء أبي علي أن للتواتر
شروطا لم تحصل في هذه الأخبار، لأنا قد بينا فيما تقدم من هذا الكتاب
أن الشروط المطلوبة في التواتر حاصلة في ذلك.
فأما قوله: (إن الخبر لا يصير داخلا في التواتر بأن يقولوا إن الشيعة
طبقت البلاد عصرا بعد عصر، فروايتها يجب أن تبلغ حد التواتر دون أن
نبين حصول النقل على شروط التواتر) فليت شعرنا بأي شئ يعلم التواتر
أهو أكثر من أن نجد كثرة لا يجوز عليهم التواطؤ والتعارف (1) ينقلون
ويدعون أنهم نقلوا خبرا ما عمن هو بمثل صفتهم، ونعلم أن أولهم في
الصفة كآخرهم إلى سائر الشروط التي تقدم ذكرها، ودلالتنا على ثبوتها في
نقل الشيعة ومتى شك شاك فيما ذكرنا فليتعاط الإشارة إلى خبر متواتر حتى
نعلمه أن خبر الشيعة يوازنه إن لم يزد عليه، ولولا أنا حكمنا هذا فيما
تقدم وبسطناه وفرغنا منه لما اقتصرنا فيه على هذه الجملة، وقد بينا أيضا
أنه ليس من شرط صحة التواتر حصول العلم الضروري، فليس له أن
يجعل الدلالة على أن هذه الأخبار غير متواترة فقد العلم الضروري
بمخبرها، وكل هذا قد تقدم.



(1) في المخطوطة " التفارق " وله وجه وما في المتن أوجه.
97
فأما معارضته ما تذهب إليه من النص بما يدعي من النص على
أبي بكر فقد مضى فيه أيضا ما لا يحتاج إلى تكراره، وبينا بطلان هذه
الدعوى، وأنها لا تعادل مذهب الشيعة في النص على أمير المؤمنين عليه
السلام ولا تقاربه، ولا يجوز أن يذكر في مقابلته، وذكرنا في ذلك وجوها
تزيل الشبهة في هذا الباب وبينا أيضا فيما مضى من الكتاب أن للشيعة
سلفا فيهم صفة الحجة كما أنها ثابتة في الخلف، وأن النص ليس مما حدث
ادعاؤه بعد أن لم يكن يدعي فبطل قول من قد ظن خلاف ذلك فأما
خطبه (1) وجمعه من الأخبار التي أوردها على سبيل المعارضة لأخبارنا كالذي
رواه في أنه صلى الله عليه وآله لم يستخلف أو أنه استخلف أبا بكر وأشار
إلى إمامته، فأول ما نقوله في ذلك أن المعارضة متى لم يوف حقها من
المماثلة والموازنة ظهرت عصبية مدعيها، وقد علم كل أحد ضرورة
الفصل بين الأخبار التي أوردها معارضا بها وبين الأخبار التي حكى
اعتمادنا عليها لأن أخبارنا أولا مما يشاركنا في نقل جميعها أو أكثرها
خصومنا، وقد صححها رواتهم، وأوردوها في كتبهم ومصنفاتهم مورد
الصحيح، والأخبار التي ادعاها لم تنقل إلا من جهة واحدة، وجميع شيعة
أمير المؤمنين عليه السلام على اختلاف مذاهبهم يدفعها وينكرها،
ويكذب رواتها، فضلا عن أن ينقلها ولا شئ منها، إلا ومتى فتشت عن
ناقله وأصله وجدته صادرا عن متعصب مشهور بالانحراف عن أهل البيت
عليهم السلام، والإعراض عنهم، فليس مع ذلك شياعها وتظاهرها في
خصوم الشيعة كشياع الأخبار التي اعتمدنا عليها في رواية الشيعة، ونقل
الجميع لها، ورضى الكل بها فكيف يجوز أن يجعل هذه الأخبار مع ما



(1) خطب - هنا - الأمر والشأن كأنه أراد وأما الأمر الذي ذكره والروايات التي
جمعها، أو لعلها " خبطة " من الخبط، وهو المشي في الظلام بلا مصباح يهتدي عليه،
والمراد ركوب الأمر بجهالة.
98
وصفناه في مقابلة أخبارنا لولا العصبية التي لا تليق بالعلماء، وهذه جملة
تسقط المعارضة بهذه الأخبار من أصلها.
ثم نرجع إلى التفصيل فنقول: قد دللنا على ثبوت النص على
أمير المؤمنين عليه السلام بأخبار مجمع على صحتها متفق عليها، وإن كان
الاختلاف واقعا في تأويلها وبينا أنها تفيد النص عليه عليه السلام بغير
احتمال ولا إشكال كقوله صلى الله عليه وآله (أنت مني بمنزلة هارون من
موسى) و (من كنت مولاه فعلي مولاه) إلى غير ذلك مما دللنا على أن
القرآن يشهد به كقوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) (1)
فلا بد من أن نطرح كل خبر ناف ما دلت عليه هذه الأدلة القاطعة إن كان
غير محتمل للتأويل، ونحمله بالتأويل على ما يوافقها ويطابقها إذا ساغ
ذلك فيه كما يفعل في كل ما دلت الأدلة القاطعة عليه وورد سمع ينافيه،
ويقتضي خلافه، وهذه الجملة تسقط كل خبر يروى في أنه عليه السلام لم
يستخلف، على أن الخبر الذي رواه عن أمير المؤمنين، لما قيل له ألا
توصي (2) فقال: " ما أوصى رسول الله صلى الله عليه وآله فأوصي، ولكن إن
أراد الله تعالى بالناس خيرا فسيجمعهم على خيرهم كما جمعهم بعد نبيهم
على خيرهم "، فمتضمن لما يكاد يعلم بطلانه ضرورة، لأن فيه التصريح
القوي بفضل أبي بكر عليه، وأنه خير منه، والظاهر من أحوال
أمير المؤمنين، والمشهور من أقواله وأفعاله جملة وتفصيلا يقتضي أنه كان
يقدم نفسه على أبي بكر وغيره من الصحابة، وأنه كان لا يعترف لأحدهم
بالتقدم عليه، ومن تصفح الأخبار والسير، ولم تمل به العصبية والهوى،
يعلم هذا من حاله على وجه لا يدخل فيه شك، ولا اعتبار بمن دفع هذا
ممن يفضل عليه لأنه بين أمرين إما أن يكون عاميا أو مقلدا لم يتصفح



(1) المائدة 55.
(2) في المخطوطة (ألا ترضى) وهو تصحيف قطعا.
99
الأخبار والسير، وما روي من أقواله وأفعاله ولم يختلط بأهل النقل، فلا
يعلم ذلك أو يكون متأملا متصفحا (1) إلا أن العصبية قد استولت عليه،
والهوى قد ملكه واسترقه، فهو يدفع ذلك عنادا، وإلا فالشبهة مع
الانصاف زائلة في هذا الموضع، على أنه لا يجوز أن يقول هذا من قال
رسول الله صلى الله عليه وآله فيه باتفاق (اللهم إئتني بأحب خلقك إليك
يأكل معي من هذا الطائر) (2) فجاء عليه السلام من بين الجماعة فأكل
معه، ولا من يقول النبي صلى الله عليه وآله لابنته فاطمة عليها السلام
(إن الله عز وجل اطلع على أهل الأرض اطلاعة فاختار منها رجلين جعل
أحدهما أباك والآخر بعلك) (3) وقال صلى الله عليه وآله فيه (علي سيد
العرب) (4) و (خير أمتي) (5) و (خير من أخلف بعدي) (6) و (علي خير البشر
من أبى فقد كفر) (7) ولا يجوز أن يقول هذا من تظاهر الخبر عنه بقوله صلوات
الله عليه وقد جرى بينه وبين عثمان كلام فقال له: أبو بكر وعمر



(1) تصفح الشئ نظر في صفحاته.
(2) حديث الطير رواه جماعة من العلماء كالترمذي ج 2 / 299 والنسائي في
خصائصه ص 5 والحاكم في مستدركه 3 / 130 و 131 وأبو نعيم في حليته 6 / 339،
والخطيب في تاريخه 3 / 171، والمتقي في كنزه 6 / 406 والهيثمي في مجمعه 9 / 125
و 126.
(3) انظر كنز العمال 6 / 153 ومستدرك الحاكم 3 / 129، وفي مسند أحمد 5 /
26 " أما ترضين أن زوجتك خير أمتي ".
(4) مستدرك الحاكم 3 / 124، حلية الأولياء 1 / 63 و 5 / 38 وفيهما " فقالت
عائشة ألست سيد العرب؟ قال: أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب ".
(5) تقدم آنفا عن مسند الإمام أحمد.
(6) كنز العمال 6 / 154.
(7) في تاريخ بغداد للخطيب 3 / 19 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من لم
يقل علي خير البشر فقد كفر) وفي ج 7 / 421 " علي خير البشر فمن امترى فقد كفر "
وانظر تقريب التهذيب لابن حجر 9 / 419.
100
خير منك، فقال (أنا خير منك ومنهما عبدت الله قبلهما وعبدته بعدهما) (1)
ومن قال: (نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد) (2). وروي عن عائشة في
قصة الخوارج لما سألها مسروق فقال لها بالله يا أمه لا يمنعك ما بينك وبين
علي أن تقولي ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله فيه وفيهم فقال
سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (هم شر الخلق والخليقة
يقتلهم خير الخلق والخليقة) (3) إلى غير ذلك من أقواله صلى الله عليه
وآله فيه التي لو ذكرناها أجمع لاحتجنا إلى مثل جميع كتابنا إن لم يزد على
ذلك وكل هذه الأخبار التي ذكرناها فهي مشهورة معروفة، قد رواها
الخاصة والعامة بخلاف ما ادعاه مما يتفرد به بعض الأمة ويدفعه باقيها.
فأما الخبر الذي رواه عن العباس رضي الله عنه من أنه قال
لأمير المؤمنين عليه السلام لو سألت النبي صلى الله عليه وآله عن القائم
بالأمر بعده، فقد تقدم في كتابنا الكلام عليه وبينا أنه لو كان صحيحا لم
يدل على بطلان النص فلا وجه لإعادة ما قلناه فيه.
وبعد، فبإزاء هذين الخبرين الشاذين اللذين رواهما في أن
أمير المؤمنين عليه السلام. لم يوص كما لم يوص رسول الله صلى الله عليه
وآله الأخبار التي ترويها الشيعة من جهات عدة، وطرق مختلفة المتضمنة
لأنه عليه السلام وصى إلى الحسن ابنه، وأشار إليه واستخلفه، وأرشد
إلى طاعته من بعده، وهي أكثر من أن نعدها ونوردها.
فمنها، ما رواه أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السلام أن
أمير المؤمنين لما أن حضره الذي حضره قال لابنه الحسن عليه السلام: " ادن



(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20 / 262.
(2) كنز العمال 6 / 218.
(3) سنتعرض لهذا الحديث بعد قليل.
101
مني حتى أسر إليك ما أسر إلي رسول الله صلى الله عليه وآله، وأئتمنك
على ما ائتمنني عليه ".
وروى حماد بن عيسى عن عمر بن شمر عن جابر عن أبي جعفر
عليه السلام قال: " أوصى أمير المؤمنين عليه السلام إلى الحسن عليه
السلام وأشهد على وصيته الحسين ومحمدا عليهما السلام وجميع ولده
ورؤساء شيعته وأهل بيته، ثم دفع إليه الكتب والسلاح " في خبر طويل
يتضمن الأمر بالوصية في واحد بعد واحد إلى أبي جعفر محمد بن علي بن
الحسين بن علي عليهم السلام وأخبار وصية أمير المؤمنين عليه السلام إلى
ابنه الحسن عليه السلام واستخلافه له ظاهرة مشهورة بين الشيعة وأقل
أحوالها واخفض مراتبها أن يعارض ما رواه ويخلص ما استدللنا به.
فأما ما حكاه من معارضة أبي علي لنا بما يروى من الأخبار في
استخلاف أبي بكر وذكره من ذلك شيئا بعد شئ فقد تقدم من كلامنا في
إفساد النص على أبي بكر واستخلاف الرسول له صلى الله عليه وآله ما
يبطل كل شئ يدعى في هذا الباب على سبيل الجملة والتفصيل لأنا قد
بينا أنه لو كان هناك نص عليه لوجب أن يحتج به على الأنصار في السقيفة
عند نزاعهم له في الأمر، ولا يعدل عن الاحتجاج بذلك إلى روايته (إن
الأئمة من قريش) وشرحنا ذلك وأوضحناه وأزلنا كل شبهة تعرض فيه،
وإنه لو كان أيضا منصوصا عليه لم يجز أن يشير إلى أبي عبيدة وعمر في يوم
السقيفة، ويقول بايعوا أي الرجلين شئتم ولا أن يستقبل المسلمين الذين
لم يثبت إمامته بعقدهم ومن جهتهم، ولا أن يقول: وددت أني كنت
سألت رسول الله صلى الله عليه وآله عن هذا الأمر فيمن هو فكنا لا ننازعه
أهله، ولما جاز أن يقول عمر كانت بيعة أبي بكر فلتة ولا أن يقول: أن
أستخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني أبا بكر وإن أترك فقد ترك

102
من هو خير مني يعني رسول الله صلى الله عليه وآله وشرحنا هذه الوجوه
أتم شرح، وذكرنا غيرها وكل ذلك يبطل المعارضة بالنص على أبي بكر.
ومما يفيد كل خبر رواه متضمنا للإشارة إلى استخلاف الرسول صلى
الله عليه وآله لعمر مضافا إلى استخلاف أبي بكر إن هذا الاستخلاف لو
كان حقا لكان أبو بكر به أعرف وله أذكر، فقد كان يجب لما أنكر طلحة
عليه نصه على عمر وإشارته إلى بالإمامة حتى قال له: ما تقول لربك إذا
سئلت وقد وليت علينا فظا غليظا فقال: أقول يا رب وليت عليهم خير
أهلك، أن يقول بدلا من ذلك أقول وليت عليهم من نص عليه الرسول
صلى الله عليه وآله واستخلفه، واختاره وقال فيه: بشروه بالجنة
والخلافة، وقال فيه كذا وكذا، مما روي وادعي أنه نص بالخلافة وإشارة
إلى الإمامة فلما لم يكن ذلك علمنا أنه لا أصل لما يدعى في هذا الباب،
على أن الخبر الذي يتضمن البشارة بالجنة والخلافة يرويه أنس بن مالك
ومذهب أنس بن مالك في الإعراض عن أمير المؤمنين عليه السلام،
والانحراف عن جهته معروف، وهو الذي كتم فضيلته (2) ورده في يوم
الطائر عن الدخول إلى النبي صلى الله عليه وآله والقصة في ذلك
مشهورة، وبدون هذا يتهم روايته، ويسقط عدالته.



(1) وذلك أن عليا عليه السلام ناشد الناس الله في الرحبة بالكوفة فقال: أنشدكم
الله رجلا سمع رسول الله يقول لي وهو منصرف من حجة الوداع " من كنت مولاه فهذا
علي مولاه، الحديث " فقام رجال فشهدوا بذلك، فقال عليه السلام لأنس بن مالك: لقد
حضرتها فما بالك! فقال: يا أمير المؤمنين كبرت سني وصار ما أنساه أكثر مما أذكره، فقال
له: إن كنت كاذبا فضربك الله بها بيضاء لا تواريها العمامة، فما مات حتى أصابه
البرص، روى ذلك جماعة منهم ابن قتيبة في المعارف ص 351 وأبو نعيم في الحلية 5 /
26 والثعالبي في لطائف المعارف ص 105 وإذا أردت المزيد من ذلك فعليك بالغدير
لشيخنا الأميني ج 1 ص 166 - 194.
103
فأما الخبر الذي رواه عن جبير بن مطعم في المرأة التي أتت
رسول الله صلى الله عليه وآله فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: أرأيت إن
رجعت فلم أجدك فقال: (إن لم تجديني فائتي أبا بكر) فإنه قد دس فيه
من عند نفسه (1) شيئا لو لم نرده لم يكن في ظاهره دلالة، لأنه فسر قولها
فلم أجدك بأن قال: يعني الموت، وهذا غير معلوم من الخبر ولا مستفاد
من لفظه، وقد يجوز أن يكون صلى الله عليه وآله أمرها بأنها متى لم تجده
في الموضع الذي كان فيه أن تلقى أبا بكر لتصيب منه حاجتها، أو لأنه
كان تقدم إليه في معناها بما تحتاج إليه ويكون ذلك في حال الحياة لا حال
الموت، فمن أين يدعي الاستخلاف بعد الوفاة، والخبر الذي يلي هذا
الخبر يجري في خلو ظاهره من شبهة في الاستخلاف (2) مجرى الأول لأن
قوله للذي كان يعطيه التمر في كل سنة إن أبا بكر يعطيكه لا يدل على
استخلافه، وإنما يدل على وقوع العطية كما خبر، فأما أن تكون العطية
صدرت عن ولاية مستحقة أو إمامة منصوص عليها، فليس في الخبر،
وليس يدل هذا الخبر على أكثر من الأخبار بغيب لا بد أن يقع وقد خبر
النبي صلى الله عليه وآله عن حوادث كثيرة مستقبلة على وجوه لا يدل على
أن الذي خبر عن وقوعه، مما لفاعله أن يفعله، وأنه من حيث خبر عن
كونه حسن خارج عن باب القبح، وهذا مثل إخباره لعائشة بأنها تقاتل
أمير المؤمنين وتنبحها كلاب الحوأب (3) وإخباره عن الخوارج وقتالهم له



(1) الدس: الاخفاء ودفن الشئ، والضمير في " نفسه " للقاضي.
(2) من الاستخلاف أو شبهته، خ ل.
(3) الحوأب: منزل بين الكوفة والبصرة روى ابن عبد البر في الاستيعاب 2 /
745 بسنده عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أيتكن صاحبة
الجمل الأدبب تنبحها كلاب الحوأب يقتل حولها قتل كثير وتنجو بعد ما كادت " قال:
وهذا الحديث من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، وفي تاريخ الطبري 3 / 485 إنها لما
سمعت نباح الكلاب قالت: أي ماء هذا فقالوا: الحوأب، فقالت: إنا لله وإنا إليه
راجعون، إني لهيه قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وعنده نساؤه:
" ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب " فأرادت الرجوع فأتاها عبد الله بن الزبير
فزعم أنه قال: كذب من قال إن هذا الحوأب ولم يزل بها حتى مضت فقدموا البصرة،
وقال العسقلاني في فتح الباري 16 / 165 أخرج هذا أحمد وأبو يعلى والبزاز وصححه ابن
حبان والحاكم وسنده على شرط الصحيحين، ا ه‍ أقول: والأدبب: طويل الوبر،
ورواه بعضهم الأذنب أي طويل الذنب.
104
عليه السلام (1)، وغير ذلك مما يطول ذكره والخبر الذي ذكره عقيب الخبرين
اللذين تكلمنا عليهما يجري مجراهما في هذه القضية لأنه ليس في أخباره بأن
فلانا أو فلانا، يلي صدقاتهم بعده ما يدل على استحقاق هذه الولاية،
لأنهم لم يسألوه من يولى صدقاتنا بعدك، أو من يستحق هذه الولاية،
وإنما قالوا من يلي الصدقات، فقال فلان وقد يلي الشئ من يستحقه ومن
لا يستحقه، فلا دلالة في الخبر.
فأما حديث سفينة فالذي يبطله ويبطل الأخبار التي ذكرناها آنفا
وتكلمنا عليها وكل خبر يدعى في النص على أبي بكر وعمر على سبيل
التفصيل ما تقدم من كلامنا، وأدلتنا على فساد النص عليهما على سبيل
الجملة، ويبطل هذا الخبر زائدا على ذلك أنا وجدنا سني خلافة هؤلاء
الأربعة تزيد على ثلاثين سنة شهورا لأن النبي صلى الله عليه وآله قبض
لاثني عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة عشر وقبض أمير المؤمنين



(1) أخباره صلى الله عليه وآله عن الخوارج رواه البخاري في صحيحه 4 / 189
كتاب بدء الخلق باب علامات النبوة في الاسلام، ومسلم في صحيحه 1 / 750 كتاب
الزكاة باب الخوارج شر الخلق، والحاكم في المستدرك 2 ص 145 و 147 و 148
و 154، وفي رواية ابن أبي الحديد 2 / 267 والبداية والنهاية 7 / 297 و 303 " هم شر
الخلق والخليقة يقتلهم خير الخلق والخليقة، وأقربهم عند الله وسيلة "، وفي رواية ابن
كثير 7 / 304 (شرار أمتي يقتلهم خيار أمتي).
105
لتسع ليال بقيت من شهر رمضان سنة أربعين فهاهنا زيادة على ثلاثين سنة
بينه ولا يجوز أن يدخل مثل ذلك فيما يخبر به صلى الله عليه وآله لأن وجود
الزيادة كوجود النقصان في إخراج الخبر من أن يكون صدقا على أن توزيع
السنين لم يسنده سفينة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وإنما هو شئ من
جهته، وما لم يسنده لا يلتفت إليه، ولا حجة فيه، ويمكن على هذا إن
كان الخبر صحيحا أن يكون المراد به استمرار الخلافة بعدي بخليفة واحد
يكون مدة ثلاثين سنة، وهكذا كان فإن أمير المؤمنين عليه السلام كان
وحده الخليفة في هذه المدة عندنا، وقد دللنا على ذلك، فمن أين لهم أن
الخلافة في هذه المدة كانت لجماعة؟ وليس لهم أن يتعلقوا بما يوجد في الخبر
من توزيع السنين على الخلفاء، لأن ذلك معلوم أن سفينة لم يسنده، وأنه
من قبله.
فأما خبر الرقمين والرؤيا فالكلام عليه كالكلام على سائر ما تقدم
من الأخبار، وليس في أخباره أنه يلي الخلافة دلالة على الاستحقاق، ولا
على حسن الولاية، على ما تقدم فأما الخبر الذي يتضمن (أنهما سيدا
كهول أهل الجنة) فمن تأمل أصل هذا الخبر بعين إنصاف علم أنه
موضوع في أيام بني أمية معارضة لما روي من قوله صلى الله عليه وآله في
الحسن والحسين عليهما السلام: (أنهما سيدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خير
منهما) (1) وهذا الخبر الذي ادعوه يروونه عن عبيد الله بن عمر وحال عبيد الله
ابن عمر في الانحراف عن أهل البيت معروفة، وهو أيضا كالجار إلى
نفسه، على أنه لا يخلو من أن يريد بقوله: (سيدا كهول أهل الجنة) أنهما
سيدا الكهول في الجنة) أو يريد أنهما سيدا من يدخل الجنة من كهول الدنيا،



(1) صحيح الترمذي 2 / 306 سنن ابن ماجة 1 / 44 مسند أحمد 3 / 62 / 64
/ 82 و 5 / 391 و 392.
106
فإن كان الأول فذلك باطل لأن رسول الله صلى الله عليه وآله قد وقفنا
وأجمعت الأمة على أن أهل الجنة جرد مرد، وأن لا يدخلها كهل وإن كان
الثاني فذلك دافع ومناقض للحديث المجمع على روايته من قوله صلى الله
عليه وآله في الحسن والحسين عليهما السلام: (أنهما سيدا شباب أهل الجنة
وأبوهما خير منهما) لأن هذا الخبر يقتضي أنهما سيدا كل من يدخل الجنة إذا
كان لا يدخلها إلا شباب وأبو بكر وعمر وكل كهل في الدنيا داخلون في
جملة من يكونان عليهما السلام سيديه، والخبر الذي رووه يقتضي أن
أبا بكر وعمر سيداهما من حيث كانا سيدي الكهول في الدنيا، وهما من
جملة من كان كهلا في الدنيا.
فإن قيل: لم يرد بقوله: (سيدا شباب أهل الجنة) ما ظننتم، وإنما
أراد أنهما سيدا من يدخل الجنة من شباب الدنيا كما قلنا في قوله: (سيدا
كهول أهل الجنة).
قلنا: المناقضة بين الخبرين بعد ثابتة لأنه إذا أراد أنهما سيدا كل
شباب في الدنيا من أهل الجنة فقد عم بذلك جميع من كان في الدنيا من
أهل الجنة من الشباب والكهول والشيوخ لأن الكل كانوا شبابا فقد تناولهم
القول، وإذا قال في غيرهما أنهما سيدا الكهول فقد جعلهما بهذا القول
سيدين لمن جعلهما بالقول الأول سيديهما لأن أبا بكر وعمر إذا كانا شابين
فقد دخلا فيمن يسودهما الحسن والحسين عليهما السلام إذا بلغا سنا من
التكهيل (1) فقد دخلا فيمن يسودهما أبو بكر وعمر بالخبر الذي رووه وإذا
كانت هذه صورة الخبرين وجب العمل على الظاهر في الرواية المنقولة
المتفق عليها عنه عليه السلام واطراح الآخر وذلك موجب لفضل الحسن



(1) في المخطوطة " سن التكهل ".
107
والحسين وأبيهما عليهم السلام على جميع الخلق.
فإن قيل: إنما أراد بقوله: (سيدا كهول أهل الجنة)، من كان في
الحال كذلك دون من يأتي من بعد فكأنه قال: هما سيدا كهول أهل الجنة
في وقتهما وزمانهما، وكذلك القول في الخبر الآخر الذي رويتموه فلا
تعارض بين الخبرين على هذا.
قلنا: لو كان معنى الخبر الذي رويتموه ما ذكرتموه لم يكن فيه كثير
فضيلة، ولا ساغ أن يدعى به فضل الرجلين على سائر الصحابة، وأن
يستدل به على فضلهما على أمير المؤمنين وعلى غيره ممن لم يكن كهلا في
حال تكهلهما، على أنه إذا حمل الخبر على هذا الضرب من التخصيص
ساغ أيضا لغيرهم حمله على ما هو أخص من ذلك، ويجعله متناولا لكهول
قبيلة من القبائل أو جماعة من الجماعات، كما جعلوه متناولا للكهول في
حال من الأحوال دون غيرها، وهذا يخرجه من معنى الفضيلة جملة، على
أنهم قد رووا عن النبي صلى الله عليه وآله ما يخالف فائدة هذا الخبر
ويناقضها، لأنهم رووا عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (بنو
عبد المطلب سادة أهل الجنة أنا وعلي وجعفر ابنا أبي طالب، وحمزة بن
عبد المطلب، والحسن والحسين، والمهدي) (1) ولا شبهة في أن هذا الخبر
يعارض في الفائدة الخبر الذي ذكروه، وإذا كان العمل بالمتفق عليه أولى
وجب العمل بهذا واطراح خبرهم.



(1) أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد 9 / 434، والحاكم في المستدرك 3 / 211،
وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، والمحب في الرياض 2 / 209، وقال:
أخرجه ابن السري، وابن حجر في الصواعق ص 160، وقال: أخرجه الديلمي وفي
ص 235 وقال: أخرجه ابن السري والديلمي.
108
وبعد، ففي ضمن هذا الخبر ما يدل على فساده، لأن في الخبر أن
أمير المؤمنين عليه السلام كان عند الرسول صلى الله عليه وآله إذ أقبل
أبو بكر وعمر فقال: (يا علي هذان سيدا كهول أهل الجنة من الأولين
والآخرين إلا النبيين والمرسلين، لا تخبرهما بذلك يا علي) (1) وما رأينا
النبي صلى الله عليه وآله قط أمر بكتمان فضل أحد من أصحابه ولا نهى
عن إذاعة ما تشرف وتفضل به أصحابه، وقد روي من فضائل هؤلاء
القوم ما هو أعلى وأظهر من فضيلة هذا الخبر من غير أن يأمر صلى الله
عليه وآله أحدا بكتمانه، بل أمر بإذاعته ونشره كروايتهم أن أبا بكر
استأذن على رسول الله صلى الله عليه وآله فقال (إئذن له وبشره بالجنة)
واستأذن عمر، فقال: (إئذن له وبشره بالجنة) واستأذن عثمان، فقال:
(إيذن له وبشره بالجنة) (2) فما بال هذه الفضيلة من بين سائر الفضائل
تكتم وتطوى عنهما!.
فأما ما روي عنه من قوله: (ادعوا لي أخي وصاحبي) (3) فالذي
يبطله المتظاهر من قول أمير المؤمنين عليه السلام في مقام بعد آخر (أنا
عبد الله وأخو رسوله لا يقولها بعدي إلا كذاب مفتري) (4) وإن أحدا لم



(1) أخرجه الخطيب في التاريخ 7 / 118 من طريق بشار بن موسى الشيباني
الخفاف وفي تهذيب التهذيب 1 / 441 قال ابن معين: " ليس بثقة - يعني بشارا - إنه من
الدجالين، وقال البخاري: منكر الحديث قد رأيته، وكتبت عنه، وتركت حديثه،
وكذلك في ميزان الاعتدال 1 / 310.
(2) في تاريخ بغداد 9 / 339: " عن عبد الله بن علي المديني إنه سئل عن هذا
الحديث فقال: " كذب موضوع " وروى الخطيب في هذا الحديث، " وبشره بالجنة
والخلافة " وعلق ابن حجر في لسان الميزان 3 / 193 على ذلك بقوله: " لو صح هذا لما
جعل عمر الخلافة في أهل الشورى، وكان يعهد إلى عثمان بلا نزاع ".
(3) يعني أبا بكر (رض) وفي بعض الروايات " دعوا لي ".
(4) تقدم تخريجه.
109
يقل له: وأبو بكر أيضا أخو رسول الله صلى الله عليه وآله، ولأن المشهور
المعروف هو مؤاخاته لأمير المؤمنين عليه السلام بنفسه، ومؤاخاة أبي بكر
لعمر.
فأما روايتهم (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) (1) فقد
تقدم في كتابنا هذا الكلام عليه مستقصى عند اعتراضه بهذا الخبر ما
يستدل به من خبر الغدير على النص وأشبعنا الكلام فيه فلا طائل في
إعادته.
فأما الخبر الذي يروونه عن جعفر بن محمد عليه السلام عن أبيه أن
أمير المؤمنين عليه السلام قال ما حكاه، فمن العجائب أن يروى مثل
ذلك من مثل هذا الطريق الذي ما عهد منه قط إلا ما يضاد هذه الرواية،
وليس يجوز أن يقول ذلك من كان يتظلم تظلما ظاهرا في مقام بعد آخر،
وبتصريح بعد تلويح، ويقول فيما قد رواه ثقات الرواة، ولم يرد من
خاص الطرق دون عامها: (اللهم إني أستعديك على قريش، فإنهم
ظلموني الحجر والمدر) ويقول: (لم أزل مظلوما منذ قبض رسول الله صلى
الله عليه وآله) (2) ويقول فيما رواه زيد بن علي بن الحسين، قال كان علي
عليه السلام يقول: (بايع الناس أبا بكر وأنا أولى بهم مني بقميصي هذا
فكظمت غيظي، وانتظرت أمري وألزقت كلكلي بالأرض ثم إن أبا بكر
هلك واستخلف عمر وقد والله علم أني أولى بالناس مني بقميصي هذا،
فكظمت غيظي، وانتظرت أمري، ثم إن عمر هلك وجعلها شورى،
وجعلني فيها في سادس ستة كسهم الجدة فقال اقتلوا الأقل فكظمت غيظي
وانتظرت أمري، وألزقت كلكلي بالأرض حتى ما وجدت إلا القتال أو



(1) تقدم الكلام عليه.
(2) انظر ص 226 من هذا الجزء.
110
الكفر بالله) (1) وهذا باب تغني فيه الإشارة فإنا لو شئنا أن نذكر ما يروى
في هذا الباب عنه عليه السلام، وعن جعفر بن محمد وأبيه اللذين أسند
إليهما الخبر الذي رواه عنهما عليهما السلام، وعن جماعة أهل البيت لأوردنا
من ذلك ما لا يضبط كثرة، وكنا لا نذكر إلا ما يرويه الثقات المشهورون
بصحبة هؤلاء القوم، والانقطاع إليهم، والأخذ عنهم، بخلاف الخبر
الذي ادعاه لأنه متى فتش عن أصله وناقله لم يوجد إلا منحرفا متعصبا غير
مشهور بالصحبة (2) لمن رواه عنه من أهل البيت عليهم السلام، ومن أراد
استقصاء النظر في ذلك فعليه بالكتب المصنفات فيه، فإنه يجد فيها ما
يشفي الغليل وينقع الصدى (3) ومن البديع أن يقول في مثل ما روي من
قوله صلى الله عليه وآله: (علي ولي كل مؤمن بعدي) و (إنه سيد المسلمين
وإمام المتقين) (4) إنه لا يعرف ويرميه بالشذوذ، وقد روي من طرق
العامة والخاصة، وورد من جهات مختلفة ثم يورد في معارضته مثل هذه
الأخبار.
فأما ما روي عنه صلوات الله عليه من قوله: ألا إن خير هذه الأمة
بعد نبيها أبو بكر وعمر ولو شئت أن اسمي الثالث لفعلت) فقد تقدم
الكلام عليه على سبيل الجملة، وأفسدنا ما رواه عنه صلوات الله عليه
من قوله: (إن أراد الله بالناس خيرا فسيجمعهم على خيرهم كما جمعهم
بعد نبيهم على خيرهم) بما يفسد به هذا الخبر وكل ما جرى



(1) المنقول هنا عن ابن هلال الثقفي ورواه ابن عساكر 3 / 174 باختلاف في
بعض الألفاظ.
(2) في المخطوطة " بالصحة وما في المتن أرجح.
(3) نقع الماء العطش نقعا ونقوعا: سكنه، والصدى: العطش
(4) الترمذي 2 / 297 ومسند أحمد 3 / 111 و 4 / 447 و 5 / 356، ومستدرك
الحاكم 3 / 137 وتاريخ بغداد 3 / 123.
111
مجراه، على أن هذا الخبر قد روي على خلاف هذا الوجه وأوردت
له مقدمة أسقطت عنه ليتم الاحتجاج به وذاك أن معاذ بن الحرث
الأفطس (1) حدث عن جعفر بن عبد الرحمان البلخي (2) وكان
عثمانيا يفضل عثمان على أمير المؤمنين عليه السلام قال: أخبرنا أبو
خباب الكلبي (3) - وكان أيضا عثمانيا - عن الشعبي ورأيه في الانحراف عن
أهل البيت عليهم السلام معروف قال سمعت وهب بن أبي جحيفة (4)
وعمرو بن شرحبيل (5) وسويد بن غفلة (6) وعبد الرحمان الهمداني (7) وأبا
جعفر الأشجعي (8) كلهم يقولون سمعنا عليا عليه السلام على المنبر



(1) معاذ بن الحارث الأفطس لم اهتد لمعرفته وهو غير معاذ بن الحارث الأنصاري
المعروف بابن عفراء، وغير معاذ بن الحارث الأنصاري النجاري الذي هو أحد من أقامه
عمر بمصلى التراويح، المقتول يوم الحرة.
(2) حفص بن عبد الرحمن خ ل.
(3) في الأصل " أبو حباب " بالحاء المهملة وتشديد الموحدة التحتية، والصحيح
" أبو جناب " بالجيم والنون - وهو أبو جناب يحيى بن أبي حية الكلبي، قال الذهبي في
ميزان الاعتدال 4 / 371 " روى عن الشعبي وطبقته " ثم نقل ضعفه عن علماء الرجال
وتدليسه وعدم استحلال بعضهم لروايته وتركهم لها.
(4) وهب بن أبي جحيفة: هو وهب بن عبد الله السوائي المسمى " وهب
الخير " قال ابن حجر في تهذيب التهذيب: " مات النبي صلى الله عليه وآله قبل أن
يبلغ الحلم، كان على شرطة علي، ويقال: إن عليا هو الذي سماه وهب الخير " توفي
سنة 74.
(5) عمرو بن شرحبيل أبو ميسرة الهمداني تابعي توفي بالكوفة سنة 63 (تهذيب
التهذيب 8 / 47).
(6) سويد بن غفلة تقدم ذكره.
(7) هو عبد الرحمن بن عوسجة النهمي قتل يوم الزاوية مع ابن الأشعث سنة 82
(تهذيب التهذيب 6 / 244).
(8) أبو جعفر الأشجعي هو ميسرة بن عمار، ويقال: ابن تمام الكوفي (تهذيب
التهذيب 10 / 386 والجرح والتعديل 1 / 252).
112
يقول: (ما هذا الكذب الذي يقولون، ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها
أبو بكر وعمر) فإذا كانت هذه المقدمة قد رواها من روى الخبر ممن ذكرناه
مع انحرافه وعصبيته فلا يلتفت إلى قول من يسقطها، فالمقدمة إذا ذكرت
لم يكن في الخبر احتجاج لهم، بل يكون فيه حجة عليهم من حيث ينقل
الحكم الذي ظنوه إلى ضده.
وقد قال قوم من أصحابنا: لو كان هذا الخبر صحيحا لجاز أن
يحمل على أنه عليه السلام أراد به ذم الجماعة أي خاطبها بذلك،
والازراء (1) على اعتقادها فكأنه قال: ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها في
اعتقاداتها وعلى ما تذهب إليه فلان وفلان، ولهذا نظائر في الكتاب
والاستعمال، قال الله تعالى: (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا) (2)
ولم يكن إلهه على الحقيقة، بل كان كذلك في اعتقاده، وقال تعالى: (ذق
إنك أنت العزيز الكريم) (3) أي أنت كذلك عند نفسك وبين قومك،
ويقول أحدنا: فلان بقية هذه الأمة، وزيد شاعر هذا العصر، وهو لا
يريد إلا أنه كذلك في اعتقاد أهل العصر دون أن يكون على الحقيقة بهذه
الصفة.
فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه وإن جاز فالظاهر بخلافه والكلام على
ظاهره إلى أن يقوم دليل.
قلنا: لو كان الأمر في الظاهر على ما ادعيتم لوجب العدول عنه
للأدلة القاهرة الموجبة لفضله عليه السلام على جميع الأمة على أنه قد
روي ما يقتضي العدول بهذا القول عن ظاهره، وأنه خارج مخرج



(1) الازراء: النقص.
(2) طه 97.
(3) الدخان 49.
113
التعريض، فروى عون بن أبي جحيفة قال سمعت عليا عليه السلام يقول
(إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وآله فلئن أخر من السماء
فتخطفني (1) الطير أحب إلي من أن أقول قال رسول الله صلى الله عليه وآله
ولم يقل، وإذا حدثتكم عن نفسي فإني محارب مكايد إن الله قضى على
لسان نبيكم " إن الحرب خدعة " (2) ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو
بكر وعمر، ولو شئت لسميت الثالث). وهذا الكلام يدل على أنه على
سبيل التعريض وقد يحتاج صلوات الله عليه إلى التعريض فيحسن منه
بعد أن تكون الأدلة المؤمنة من اللبس (3) واشتباه الشبهة بالحجة متقدمة،
ومعلوم أن جمهور أصحابه وجلهم كانوا ممن يعتقد إمامة من تقدم عليه
عليه السلام، وفيهم من يفضلهم على جميع الأمة.
وقد قيل إن معاوية بث الرجال في الشام يخبرون عنه عليه السلام
بأنه يتبرأ من المتقدمين عليه، وأنه شرك في دم عثمان لينفر الناس عنه،
ويصرف وجوه أكثر أصحابه عن نصرته، فلا ينكر أن يكون قال ذلك
إطفاء لهذه النائرة، ومراده بالقول ما تقدم مما لا يخالف الحق.
وقال أيضا بعض أصحابنا: مما يدل على فساد هذا الخبر ما يتضمنه



(1) خطف الشئ استلبه، وخطف من باب سمع وضرب والثاني قليل
الاستعمال أو رديه.
(2) قال ابن الأثير في النهاية 2 / 14 مادة " خدع ": " الحرب خدعة، يروى
بفتح الخاء وضمها مع سكون الدال، فالأول معناه: أن الحرب ينقضي أمرها بخدعة
واحدة، من الخداع أي أن المقاتل إذا خدع مرة واحدة لم تكن لها إقالة وهي أفصح
الروايات وأصحها، ومعنى الثاني هو الاسم من الخداع، ومعنى الثالث أي إن الحرب
تخدع الرجال وتمنيهم ولا تفي لهم، كما يقال: فلان لعبة وضحكة أي كثير اللعب
والضحك ".
(3) اللبس - بفتح فسكون -: الخلط، يقال: ليس الأمر أي خلط بعضه ببعض.
114
لفظه من الخلل لأن قوله: (ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها) يقتضي
دخول النبي صلى الله عليه وآله في الكلام الأول وتحت لفظ الأمة، لأن
الأمة مضافة إليه فكيف يكون منها، وهذا يقتضي أنه من أمة نفسه، وقد
دفع أيضا أصحابنا احتجاج من احتج بهذا الخبر في التفضيل بأن قالوا:
قد يتكلم المتكلم بما جرى هذا المجرى وهو خارج من جملة كلامه، وغير
داخل فيه، واستشهدوا بما روي عن الرسول صلى الله عليه وآله من
قوله: (لا ينبغي لأحد أن يقول أني خير من يونس بن متى) (1) مع قوله:
(أنا سيد الأولين والآخرين) ومع قوله: (أنا سيد ولد آدم) (2) وإجماع
الأمة على أنه أفضل الأنبياء فلولا أنه خارج من قوله: (لا ينبغي لأحد)
لكان القول منه فاسدا، وكذلك روي عنه صلى الله عليه وآله أنه قال:
(أبو سفيان بن الحارث خير أهلي) (3) وقال: (ما أقلت الغبراء ولا أظلت
الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر) (4) وهو صلى الله عليه وآله
خارج من ذلك، وقد يحلف الرجل أيضا ألا يدخل داره أحدا من
الناس، وهو خارج من يمينه، وإذا كان صلى الله عليه وآله خارجا من
الخبر من حيث كان المخاطب به لم يدل على التفضيل عليه.



(1) أخرجه المناوي في كنوز الحقائق 1 / 184 عن الطبراني بلفظ (لا ينبغي لنبي
أن يقول الخ).
(2) رواه وما بعده بهذا المضمون السيوطي في الجامع الصغير 1 / 107.
(3) في صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله رجلان بهذه الكنية هما أبو سفيان بن
الحارث بن عبد المطلب رضيع رسول الله صلى الله عليه وآله وابن عمه، والثاني أبو
سفيان بن الحارث بن قيس الأنصاري الأوسي والظاهر أن المقصود الأول منهما، كما لم
اهتد للحديث رغم طلبي له من مظانه.
(4) أخرجه الترمذي 2 / 221 والحاكم 3 / 242 وابن ماجة 1 / 68 وأحمد في
مسنده 2 / 163 و 175 و 223 و 5 / 197 و 6 / 442 وغير هؤلاء.
115
ومن ظريف الأمور أن يستشهد القوم بهذا الخبر على التفضيل وهم
يروون أن أبا بكر قال: (وليتكم ولست بخيركم) فصرح باللفظ الخاص
بأنه ليس بالأفضل، ثم يتأولون ذلك على أنه خرج مخرج التخاشع
والتخاضع، فألا استعملوا هذا الضرب من التأويل فيما يدعونه من قوله:
(ألا إن خير هذه الأمة) ولكن الانصاف عندهم مفقود.
فأما ما رواه عن جعفر بن محمد عليه السلام من قول أمير المؤمنين
علي عليه السلام لأبي سفيان عند استخلاف أبي بكر، وقد قال له: أبسط
يدك أبايعك، فوالله لأملأنها على أبي فصيل خيلا ورجلا: (إن هذا من
دواهيك، وما زلت تبغي للاسلام العوج في الجاهلية والاسلام) فهو خبر
متى صح لم يكن فيه دلالة على أكثر من تهمة أمير المؤمنين لأبي سفيان
وقطعه على خبث باطنه، وقلة دينه، وبعده عن النصح فيما يشير به، ولا
حجة فيه ولا دلالة على إمامة أبي بكر، ولا تفضيله لأن أمير المؤمنين عليه
السلام لم يعدل عن محارجة (1) القوم والتصريح بادعاء النص والمجاذبة
عليه (2) إلا لما اقتضته الحال من حفظ أصل الدين، ولعلمه بأن
المخاصمة والمغالبة فيه تؤديان إلى فساد لا يتلافى فلا بد من مخالفته في هذا
الباب لكل مشير لا سيما إذا كان متهما منافقا، غير نقي السريرة، فليس
في رده عليه السلام على أبي سفيان ما رآه من إظهار البيعة والمحاربة أكثر
مما ذكرناه من أن الرأي كان عنده في خلافه، وليس لأحد أن يقول: لولا
استحقاق متولي الأمر له لما جاز أن ينهى أمير المؤمنين عن الإجلاب عليه،
والمحاربة له، ولا أن يمتنع من مبايعة أبي سفيان له بالإمامة، لأنا قد بينا
أن ذلك أجمع لا يدل على استحقاق الأمر، وأن المصلحة إذا اقتضت



(1) مفاعلة من الخروج.
(2) والمحاربة خ ل.
116
الامساك وجب وإن لم يكن هناك استحقاق من التلبس بالأمر، وأن هذا
إن جعل دلالة في هذا الموضع لزم أن يكون الامساك عن الظلمة والمتغلبين
على أمور المسلمين من بني أمية وغيرهم دلالة على استحقاقهم لما كان في
أيديهم، ونحن نعلم أن الحسن عليه السلام لو أشار عليه مشير بعد صلح
معاوية بمحاربته وبمخارجته لعصاه وخالفه، بل قد عصى جماعة أشاروا
عليه بخلاف ما رآه من الامساك والتسليم، وبين لهم أن الدين والرأي
يقتضيان ما فعله عليه السلام.
فأما ما رواه عن أمير المؤمنين عليه السلام من التمني لأن يلقى الله
بصحيفة عمر، فهذا لا يقوله من فضله النبي صلى الله عليه وآله على
الخلق بالأقوال والأفعال المجمع عليها، الظاهرة في الرواية، وقد تقدم
طرف منها ولا يصدر عمن كان يصرح بتفضيل نفسه على جميع الأمة بعد
الرسول صلى الله عليه وآله ولا يقدر (1) أن يصرح بذلك أيضا، وقد
تقدم الكلام على نظائر هذا الخبر على أن قوله: (وددت أن ألقى الله
بصحيفة هذا المسجى) أو (ما على الأرض أحد أحب إلي من أن ألقى الله
بصحيفته من هذا المسجى) لا يجوز أن يكون محمولا على ظاهره، لأن
الصحيفة إنما يشار بها إلى صحيفة الأعمال، وأعمال زيد لا يجوز أن
يكون بعينها لعمرو، وتمني ذلك مما لا يصح على مثله عليه السلام فلا بد
من أن يقال: إنه أراد بمثل صحيفته، وبنظير أعماله، وإذا جاز أن
يضمروا شيئا في صريح اللفظ جاز لخصومهم أن يضمروا خلافه، ويجعلوا
بدلا من اضمار المثل الخلاف، وإذا تكافأت الدعويان لم يكن في ظاهر
الخبر حجة لهم، على أن في متقدمي أصحابنا من قال: إنما تمنى أن يلقى
الله بصحيفته ليخاصمه بما فيها، ويحاكمه بما تضمنته، وقالوا أيضا في



(1) في حاشية المخطوطة: " ولا يقدر أحد غيره " خ ل.
117
ذلك وجها غير هذا معروفا، وكل ذلك يسقط تعلقهم بالخبر.
فأما ما رواه عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله: " لو كنت
متخذا خليلا " فقد تقدم الكلام عليه فيما مضى من الكتاب فلا وجه
لإعادته، وقد تقدم أيضا في أول هذا الفصل الكلام على أن جميع ما رواه
من الأخبار لا يعارض في الثبوت والصحة أخبارنا، وإن لأخبارنا في باب
الحجة المزية الظاهرة، والرجحان القوي.
فأما قوله عن أبي علي: " وعلى " أن هذه الأخبار لا تقتضي النص بل
هي محتملة لأن قوله صلى الله عليه وآله " إمام المتقين " أراد به في التقوى،
ولو أراد به الإمامة لم يكن بأن يكون إماما للمتقين بأولى من أن يكون إماما
للفاسقين " فتأويل باطل لأن حمل ذلك على أنه إمام في شئ دون شئ
تخصيص ومذهبه الأخذ بالعموم، إلا أن يقوم دليل، على إنا قد بينا فيما
مضى إن معنى الإمامة، وحقيقة هذه اللفظة والصفة تتضمن الاقتداء بمن
كان إماما من حيث قال وفعل، فإذا ثبت أنه إمام لبعض الأمة في بعض
الأمور فلا بد من أن يكون مقتدى به في ذلك الأمر على الوجه الذي
ذكرناه، وذلك يقتضي عصمته، وإذا ثبتت عصمته وجبت إمامته لأن كل
من أثبت له العصمة وقطع عليها أوجب له الإمامة بعد الرسول صلى الله
عليه وآله بلا فصل.
فأما تخصيص المتقين باللفظ دون الفاسقين فلا يمتنع وإن كان إماما
للكل، كما قال تعالى: (ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) (1)
وإن كان هدى للكل فإن حمل ذلك على أن المتقين لما انتفعوا (2) بهدايته، ولم
ينتفع بها الفاسقون جاز هذا القول، وكان لنا أن نقول مثل ذلك في



(1) البقرة 2.
(2) في المخطوطة " إن المنافقين ما انتفعوا ".
118
قوله: (إمام المتقين) ولا وجه يذكر في اختصاص لفظ الآية مع عموم
معناها إلا وهو قائم في الخبر.
فأما دعاء الصالحين بأن يجعلهم الله للمتقين إماما، فقد يجوز أن
يحمل على أنهم دعوا بأن يكونوا أئمة يقتدى بهم الاقتداء الحقيقي الذي
بيناه فهذا غير ممتنع، ولو صرنا إلى ما يريده من أنهم دعوا بخلاف ذلك
لكنا إنما صرنا إليه بدلالة وإن كانت حقيقة الإمامة تتضمن ما قدمناه من
معنى الاقتداء المخصوص وليس العدول عن بعض الظواهر لدلالة تقتضي
العدول عن كل ظاهر بغير دلالة.
فأما قوله: " ويجب أن يكون إماما في الوقت " فقد تقدم الكلام
على هذا المعنى في جملة كلامنا في خبر الغدير، واستقصينا القول فيه.
فأما قوله: " وسيد المسلمين " فإن معنى السيادة يرجع إلى معنى
الإمامة والرئاسة وكذلك قوله: " وقائد الغر المحجلين " لأن القائد للقوم هو
الرئيس المطاع فيهم، لا سيما إذا كان ذلك عقيب قوله: " إمام المتقين "
ولا شبهة في أن معنى هذه الألفاظ يتقارب، ويفهم منها ما ذكرناه.
فأما قوله صلى الله عليه وآله: " إنه ولي كل مؤمن ومؤمنة من
بعدي " فقد بينا عند الكلام في قوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله) (1)
الكلام في اقتضاء هذه اللفظة لمعنى الإمامة، وشرحناه واستقصيناه فسقط
ادعاؤه أنها لا تفيد الإمامة.
فأما قوله صلى الله عليه وآله فيه عليه السلام: " إنه مني وأنا منه " فإنه
يدل على الاختصاص والتفضيل، والقرب على ما ذكره ولا يدل بلفظه
على الإمامة، لكن يدل عليها من الوجه الذي ذكرناه، وبينا كل قول



(1) المائدة 55.
119
أو فعل يقتضي التفضيل به يدل عليه بضرب من الترتيب قد تقدم، فلم
يبق مع ما أوردناه شبهة في جميع الفصل الذي حكيناه عنه والمنة لله.
قال صاحب الكتاب: " دليل لهم آخر، وربما تعلقوا بما روي عنه
صلى الله عليه وآله من قوله: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا
كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض) (1) وإن
ذلك يدل على أن الإمامة فيهم، وكذلك العصمة، وربما قووا ذلك بما
روي عنه صلى الله عليه وآله: " إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من
ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق) (2) وإن ذلك يدل على عصمتهم، ووجوب
طاعتهم، وحظر العدول عنهم، قالوا: وذلك يقتضي النص على
أمير المؤمنين "
ثم قال: " وهذا إنما يدل على أن إجماع العترة لا يكون إلا حقا لأنه
لا يخلوا من أن يريد صلى الله عليه وآله بذلك جملتهم أو كل واحد منهم،



(1) حديث الثقلين متواتر، وطرقه صحيحة عن أكثر من عشرين صحابيا فقد
أخرجه الترمذي 2 / 308 عن جابر وزيد بن أرقم والنسائي / 21 عن جابر أيضا،
والإمام أحمد في المسند ج 3 / 17 و 26 عن أبي سعيد الخدري و ج 5 / 182 و 189 عن زيد
بن ثابت، والحاكم في المستدرك ج 3 / 109 و 148 و 533، وعلق عليه بأن على
شرط الشيخين، وكذلك في " تلخيص المستدرك " وقال ابن حجر في الصواعق
ص 150: " إعلم أن لحديث التمسك بهما طرقا كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابيا "
وأنت إذا تصفحت طرق هذا الحديث يظهر لك بكل وضوح أن رسول الله صلى الله عليه
وآله قال ذلك في غير موضع، وفي أكثر من مناسبة.
(2) حديث السفينة أخرجه غير واحد من علماء الحديث نذكر منهم الحاكم في
المستدرك 2 / 343 و 3 / 151 عن أبي ذر، وأبو نعيم في الحلية 4 / 306 وقال ابن حجر
في الصواعق 153 " ووجه تشبيههم في السفينة أن من أحبهم وعظمهم شكرا لنعمة
مشرفهم صلى الله عليه وسلم، وأخذ بهدى علمائهم نجا من ظلمة المخالفات، ومن
تخلف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم وهلك في مفاوز الطغيان ".
120
وقد علمنا أنه لا يجوز أن يريد صلى الله عليه وآله إلا جملتهم، ولا يجوز
أن يريد كل واحد منهم لأن الكلام يقتضي الجمع [دون كل واحد] (1)
ولأن الاختلاف قد يقع فيهم على ما علمناه من حالهم، ولا يجوز أن
يكون قول كل واحد منهم حقا لأن الحق لا يكون في الشئ وضده، وقد
ثبت اختلافهم فيما هذا حاله، ولا يجوز أن يقال إنهم مع هذا الاختلاف
لا يفارقون الكتاب، وذلك يبين أن المراد به أن ما أجمعوا عليه يكون حقا
حتى يصح قوله: (لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) وذلك يمنع من أن
المراد بالخبر الإمامة، لأن الإمامة لا تصح في جميعهم، وإنما يختص بها
الواحد منهم، وقد بينا أن المقصد بالخبر (2) ما يرجع إلى جميعهم، ويبين
ما قلناه إن أحدا ممن خالفنا (3) في هذا الباب لا يقول في كل واحد من
العترة أنه بهذه الصفة، فلا بد من أن يتركوا الظاهر إلى أمر آخر يعلم به
أن المراد بعض من بعض، وذلك الأمر لا يكون دالا بنفسه، وليس لهم
أن يقولوا: إذا دل على ثبوت العصمة (4) فيهم، ولم يصح إلا في
أمير المؤمنين عليه السلام ثم في واحد واحد من الأئمة، فيجب أن يكون
هو المراد وذلك إن لقائل أن يقول: إن المراد عصمتهم فيما اتفقوا عليه،
ويكون ذلك أليق بالظاهر (5).
وبعد فالواجب حمل الكلام على ما يصح أن يوافق العترة فيه
الكتاب وقد علمنا (6) إن في كتاب الله تعالى دلالة على الأمور فيجب أن



(1) الزيادة من " المغني ".
(2) غ " المستفاد بالخبر ".
(3) غ " ممن خالف ".
(4) غ " على ثبوت العترة " وما في المتن أرجح.
(5) غ " أليق بالكلام ".
(6) غ " وقد علم ".
121
يحمل قوله صلى الله عليه وآله في العترة على ما يقتضي كونه دلالة، وذلك
لا يصح إلا بأن يقال: إن إجماعها حق ودليل.
فأما طريقة الإمامية فمباينة لهذا المقصد، وقد قال شيخنا أبو علي:
إن دل ذلك على الإمامة فقوله صلى الله عليه وآله: (اقتدوا باللذين من بعدي
أبي بكر وعمر) يدل على ذلك وقوله: (إن الحق ينطق عن لسان (1) عمر
وقلبه) على أنه الإمام وقوله: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم
اهتديتم) [وما شاكل ذلك] (2)... ".
يقال له: أما قوله: " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا
كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض " فإنه
دال على أن إجماع أهل البيت حجة على ما أقررت به، ودال أيضا بعد
ثبوت هذه المرتبة على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام بعد النبي صلى الله
عليه وآله بلا فصل بالنص، وعلى غير ذلك مما أجمع عليه أهل البيت
عليهم السلام، ويمكن أيضا أن يجعل حجة، ودليلا على أنه لا بد في كل
عصر في جملة أهل البيت من حجة معصوم مأمون بقطع على صحة قوله،
وقوله صلى الله عليه وآله: (إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح)
يجري مجرى الخبر الأول في التنبيه على أهل البيت عليهم السلام والارشاد
إليهم، وإن كان الخبر الأول أعم فائدة، وأقوى دلالة، ونحن نبين
الجملة التي ذكرناها.



(1) غ " أن الحق مطلق " وما في المتن هو المشهور، على أن في حاشية الأصل
" على لسان " خ ل.
(2) المغني 20 ق 1 / 191 والزيادة بين المعقوفين منه، وفي الأصل مكانها
" كمثله ".
122
فإن قيل: دلوا على صحة هذا الخبر قيل أن تتكلموا في معناه.
قلنا: الدلالة على صحته تلقي الأمة له بالقبول، وإن أحدا منهم مع
اختلافهم في تأويله لم يخالف في صحته، وهذا يدل على أن الحجة قامت
به في أصله، وإن الشك مرتفع عنه، ومن شأن علماء الأمة إذا ورد
عليهم خبر مشكوك في صحته أن يقدموا الكلام في أصله، وإن الحجة به
غير ثابتة، ثم يشرعوا في تأويله، وإذا رأينا جميعهم عدلوا عن هذه
الطريقة في هذا الخبر، وحمله كل منهم على ما يوافق طريقته ومذهبه دل
ذلك على صحة ما ذكرناه.
فإن قيل: فما المراد بالعترة فإن الحكم متعلق بهذا الاسم الذي لا
بد من بيان معناه؟
قلنا: عترة الرجل في اللغة هم نسله كولده وولد ولده، وفي أهل
اللغة من وسع ذلك فقال: إن عترة الرجل هم أدنى قومه إليه في
النسب، فعلى القول الأول يتناول ظاهر الخبر وحقيقته الحسن والحسين
عليهما السلام وأولادهما، وعلى القول الثاني يتناول من ذكرناه ومن جرى
مجراهم في الاختصاص بالقرب من النسب على أن رسول الله صلى الله عليه
وآله قد قيد القول بما أزال به الشبهة، وأوضح الأمر بقوله: (عترتي أهل
بيتي) فوجه الحكم إلى من استحق هذين الاسمين، ونحن نعلم أن من
يوصف من عترة الرجل بأنهم أهل بيته هو من قدمنا ذكره من أولاده
وأولاد أولاده، ومن جرى مجراهم في النسب القريب، على أن الرسول
صلى الله عليه وآله قد بين من يتناوله الوصف بأنه من أهل البيت وتظاهر
الخبر بأنه جمع أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام في بيته
وجللهم بكسائه ثم قال: (اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس
وطهرهم تطهيرا) فنزلت الآية فقالت أم سلمة يا رسول الله ألست من أهل

123
بيتك فقال صلى الله عليه وآله (لا ولكنك على خير) (1) فخص هذا الاسم
بهؤلاء دون غيرهم، فيجب أن يكون الحكم متوجها إليهم وإلى من ألحق
بهم بالدليل وقد أجمع كل من أثبت فيهم هذا الحكم أعني وجوب التمسك
والاقتداء، على أن أولادهم في ذلك يجرون مجراهم، فقد ثبت توجه
الحكم إلى الجميع.
فإن قيل: فعلى بعض ما أوردتموه يجب أن يكون أمير المؤمنين عليه
السلام ليس من العترة إن كانت العترة مقصورة على الأولاد وأولاد أولادهم.
قلنا: من ذهب إلى ذلك من الشيعة يقول: إن أمير المؤمنين عليه
السلام وإن لم يتناوله هذا الاسم على سبيل لحقيقة كما لا يتناوله اسم
الولد، فهو عليه السلام أبو العترة وسيدها وخير منها والحكم في المستحق
بالاسم ثابت له بدليل، غير تناول الاسم المذكور في الخبر.
فإن قيل: فما تقولون في قول أبي بكر بحضرة جماعة الأمة: (نحن
عترة رسول الله وبيضته التي انفقأت عنه) (2) وهو يقتضي خلاف ما ذهبتم إليه.



(1) نزول آية التطهير في علي وفاطمة والحسنين عليهم السلام خاصة رواه الطبري
في تفسيره ج 22 ص 5 من عدة طرق، وروى أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم كان يمر ببيت فاطمة عليها السلام ستة أشهر كلما خرج إلى الصلاة فيقول:
(الصلاة أهل البيت: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)
ولعل رسول الله صلى الله عليه وآله أراد بفعله هذا أن يؤكد أنهم هم المقصودون بآية
التطهير دون غيرهم ولذا حددهم بالكساء خشية أن يدعي أحد أو يدعى له أن آية
التطهير تشمله ولذا قال صلى الله عليه وآله لأم سلمة - كما في رواية الطبري أيضا -:
(أنت على خير) وقال ابن حجر في الصواعق ص 143: " أكثر المفسرين على أنها نزلت
في علي وفاطمة والحسن والحسين لتذكير ضمير " عنكم " وما بعده " هذا ولا حاجة بنا
لاستعراض من نقل ذلك من المفسرين.
(2) قال ابن الأثير في النهاية مادة " فقأ " ومنه حديث أبي بكر " تفقأت " أي
انفلقت وانشقت.
124
قلنا: الاعتراض بخبر شاذ يرده ويطعن عليه أكثر الأمة على خبر
مجمع عليه مسلم روايته لا وجه له، على أن قول أبي بكر هذا لو كان
صحيحا لم يكن من حمله على التوسع والتجوز بد لأن قرب أبي بكر إلى
الرسول في النسب لا يقتضي أن يطلق عليه لفظة " عترة " على سبيل
الحقيقة، لأن بني تيم بن مرة وإن كانوا إلى بني هاشم أقرب ممن بعد عنهم
بأب أو أبوين فكذلك من بعد عنهم بأب أو بأبوين أو أكثر من ذلك هو
أقرب إلى بني هاشم ممن بعد أكثر من هذا البعد، وفي هذا ما يقتضي أن
تكون قريش كلها عترة واحدة، بل يقتضي أن يكون جميع ولد معد بن
عدنان عترة، لأن بعضهم أقرب إلى بعض من اليمن، وعلى هذا التدريج
حتى يجعل جميع بني آدم عترة واحدة، فصح بما ذكرناه أن الخبر إذا صح
كان مجازا ويكون وجه ذلك ما أراده أبو بكر من الافتخار بالقرابة من نسب
الرسول صلى الله عليه وآله وأطلق هذه اللفظة توسعا، وقد يقول من له
أدنى شعبة بقوم وأيسر علقة بنسبهم: أنا من بني فلان، على سبيل
التوسع، وقد يقول أحدنا لمن ليس بابن له على الحقيقة: إنك ابني
وولدي، إذا أراد الاختصاص والشفقة، وكذلك قد يقول لمن لم يلده:
أنت أبي، فعلى هذا يجب أن يحمل قول أبي بكر وإن كانت الحقيقة
تقتضي خلافه، على أن أبا بكر لو صح كونه من عترة الرسول عليه
السلام على سبيل الحقيقة لكان خارجا من حكم قوله: (إني مخلف فيكم
الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)
لأن الرسول صلى الله عليه وآله قيد ذلك بصفة معلوم، وأنها لم تكن في
أبي بكر وهي قوله: (أهل بيتي) ولا شبهة في أنه لم يكن من أهل البيت
الذين ذكرنا أن الآية نزلت فيهم واختصتهم، ولا ممن يطلق عليه في
العرف أنه من أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله، لأن من اجتمع مع
غيره بعد عشرة آباء أو نحوهم لا يقال إنه: من أهل بيته، وإذا صحت

125
هذه الجملة التي ذكرناها وجب أن يكون إجماع العترة حجة، لأنه لو لم
يكن بهذه الصفة لم يجب ارتفاع الضلال عن التمسك بالعترة على كل
وجه، وإذا كان صلى الله عليه وآله قد بين أن المتمسك بالعترة لا يضل
ثبت ما ذكرناه.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون صلى الله عليه وآله إنما نفى الضلال
عمن يتمسك بالكتاب والعترة معا فمن أين أن المتمسك بالعترة وحدها
بهذه الصفة؟
قلنا: لولا أن المراد بالكلام أن المتمسك بكل واحد من الكتاب
والعترة لا يضل لكان لا فائدة في إضافة ذكر العترة إلى الكتاب، لأن
الكتاب إذا كان حجة فلا معنى لإضافة ما ليس بحجة إليه، والقول في
الجميع أن المتمسك بهما محق، لأن هذا حقيقة العبث على أن إضافة العترة
إذا لم تكن في قولهم الحجة كإضافة غيرهم من سائر الأشياء فأي معنى
لتخصيصهم، والتنبيه عليهم، والقطع على أنهم لا يفترقون حتى يردوا
القيامة؟ وهذا مما لا إشكال في سقوطه، وإذا صح أن إجماع أهل البيت
حجة قطعنا على صحة كل ما اتفقوا عليه، ومما اتفقوا عليه القول بإمامة
أمير المؤمنين بعد النبي صلى الله عليه وآله بلا فصل على اختلافهم في
حصول ذلك بنص جلي أو خفي أو بما يحتمل التأويل أو لا يحتمله؟
فإن قيل: كيف تدعون الإجماع من أهل البيت على ما ذكرتم،
وقد رأينا كثيرا منهم يذهب مذهب المعتزلة في الإمامة.
قلنا: أما نحن فما رأينا أحدا من أهل البيت يذهب إلى خلاف ما
ذكرناه، وكل من سمعنا عنه فيما مضى بخلاف ما حكيناه، فليس أولى إذا
صح ذلك عنه ممن يعترض بقوله على الإجماع لشذوذه، وأكثر من يدعى
عليه هذا القول الواحد والاثنان، وليس بمثل هذا اعتراض على الإجماع،
ثم إنك لا تجد أحدا ممن يدعى عليه هذا من جملة علماء أهل البيت عليهم
السلام ولا من ذوي الفضل منهم، ومتى فتشت عن أمره وجدته متعرضا

126
بذلك لفائدة، مرتقيا (1) به على بعض أغراض الدنيا، ومتى طرقنا
الاعتراض بالشذاذ والآحاد إلى الجماعات أدى هذا إلى بطلان استقرار
الإجماع في شئ من الأشياء، لأنا لا نعلم أن في الغلاة والإسماعيلية من
يخالف في الشرائع كأعداد الصلاة وغيرها، ومنهم من يذهب إلى أنه كان
بعد الرسول صلى الله عليه وآله عدة أنبياء وأن الرسالة ما انختمت به،
ومع هذا فلا يمنعنا ذلك من أن ندعي الإجماع على انقطاع النبوة، وتقرير
أصول الشرائع، ولا يعتد بخلاف من ذكرناه، ومعلوم ضرورة أنهم
أضعاف أضعاف من يظهر من أهل البيت خلاف المذهب الذي ذكرناه في
الإمامة، على أنه قد شاهدنا وناظرنا بعض من يعد في جملة الفقهاء،
وأهل الفتيا على أن الله تعالى يعفو عن اليهود والنصارى وإن لم يؤمنوا ولا
يعاقبهم، وعلى وغير ذلك مما لا شك في أن الإجماع حجة فيه، على أنا لو
جعلنا القول بذلك معترضا على أدلتنا، وعلى إجماع أهل البيت، وحفلنا (2)
بقول من يحكى ذلك عنه لم يقدح فيما اعتمدناه، لأن من المعلوم أن أزمنة
كثيرة لا يعرف فيها قائل بهذا المذهب من أهل البيت كزماننا هذا وغيره،
فإنا لم نشاهد في وقتنا هذا قائلا بالمذهب الذي أفسدناه ولا أخبرنا عمن
هذه حاله فيه والمعتبر في الإجماع كل عصر فثبت ما أردناه.
فأما ما يمكن أن يستدل بهذا الخبر عليه من ثبوت حجة مأمون في
جملة أهل البيت في كل عصر، فهو إنا نعلم أن الرسول صلى الله عليه
وآله إنما خاطبنا بهذا القول على طريق إزاحة العلة لنا، والاحتجاج في



(1) من الرقي: وهو الصعود والارتفاع يقال: رقي يرقى ويشدد للتعدية إلى
المفعول، المعنى أنه يرتفع إلى الباطل ويتوصل بذلك إليه وفي المخطوطة " مزيغا " من
الزيغ وهو الميل على أن الصحيح زائغا لأن زاغ من باب باع ولعله " مرتعا " كما في
حاشيتها.
(2) حفلنا: بالينا يقال: حفل بكذا أي بالى به.
127
الدين علينا، والارشاد إلى ما يكون فيه نجاتنا من الشكوك والريب (1)،
والذي يوضح ذلك: أن في رواية زيد بن ثابت لهذا الخبر وهما (الخليفتان
من بعدي) وإنما أراد أن المرجع إليهما بعدي فيما كان يرجع إلي فيه في
حياتي، فلا يخلو من أن يريد إن إجماعهم حجة فقط دون أن يدل القول على
أن فيهم في كل حال من يرجع إلى قوله، ويقطع على عصمته، أو يريد ما
ذكرناه، فلو أراد الأول لم يكن مكملا للحجة علينا، ولا مزيحا لعلتنا،
ولا مستخلفا من يقوم مقامه فينا، لأن العترة أولا قد يجوز أن تجمع على
القول الواحد، ويجوز أن لا تجمع بل تختلف، فما هو الحجة من إجماعها
ليس بواجب، ثم ما أجمعت عليه هو جزء من ألف جزء من الشريعة،
فكيف يحتج علينا في الشريعة بمن لا نصيب عنده من حاجتنا إلا القليل
من الكثير، وهذا يدل على أنه لا بد في كل عصر، من حجة في جملة
أهل البيت مأمون مقطوع على قوله، وهذا دلالة على وجود الحجة على
سبيل الجملة، وبالأدلة الخاصة يعلم من الذي هو حجة منهم على سبيل
التفصيل.
على أن صاحب الكتاب قد حكم بمثل هذه القضية في قوله:
(إن الواجب حمل الكلام على ما يصح أن يوافق فيه العترة للكتاب، وإن
الكتاب إذا كان دلالة على الأمور وجب في العترة مثل ذلك).
وهذا صحيح للجمع بينهما في اللفظ والارشاد إلى التمسك بهما
ليقع الأمان في الضلال، والحكم بأنهما لا يفترقان إلى القيامة وإذا
وجب في الكتاب أن يكون دليلا وحجة وجب مثل ذلك في قول
العترة، وإذا كانت دلالة الكتاب مستمرة غير منقطعة موجودة في كل
حال وممكنة إصابتها في كل زمان وجب مثل ذلك في قول
العترة، المقرون بها، والمحكوم له بمثل حكمها، وهذا لا يتم



(1) الريب جمع ريبة: وهي التهمة.
128
إلا بأن يكون فيها في كل حال من قوله حجة، لأن إجماعها على الأمور،
ليس بواجب على ما بيناه والرجوع إليها مع الاختلاف، وفقد المعصوم لا
يصح فلا بد مما ذكرناه.
وأما الأخبار الثلاثة التي أوردها على سبيل المعارضة للخبر الذي
تعلقنا به، فأول ما فيها أنها لا تجري مجرى خبرنا في القوة والصحة لأن
خبرنا مما نقله المخارفون، وسلمه المتنازعون، وتلقته الأمة بالقبول، وإنما
وقع اختلافهم في تأويله، والأخبار التي عارض بها لا تجري هذا المجرى
لأنها مما تفرد المخارف بنقله، وليس فيها إلا ما إذا كشفت عن أصله،
وفتشت عن سنده، ظهر لك انحراف من راويه وعصبية من مدعيه، وقد
بينا فيما تقدم سقوط المعارضة بما جرى هذا المجرى من الأخبار.
فأما ما رواه من قوله (اقتدوا باللذين من بعدي) فقد تقدم الكلام
عليه في معارضته بهذا الخبر استدلالنا بخبر الغدير واستقصيناه هناك، فلا
معنى لإعادته.
وأما ما رواه من قوله: (إن الحق ينطق على لسان عمر) (1) فهو
مقتض إن كان صحيحا عصمة عمر، والقطع على أن أقواله كلها
حجة، وليس هذا مذهب أحد في عمر لأنه لا خلاف في أنه ليس
بمعصوم، وإن خلافه سائغ، وكيف يكون الحق ناطقا على لسان من
يرجع في الأحكام من قول إلى قول، ويشهد على نفسه بالخطأ ويخالف في



(1) رواه أحمد في المسند 2 / 401 بسنده عن أبي هريرة، وفي طريقه عبد الله بن
عمر العمري وقد طعن علماء الجرح والتعديل في مروياته قال أبو زرعة: إنه يزيد في
الأسانيد ويخالف، كما ضعفه علي بن المديني والنسائي، كما إن في طريقه جهم بن أبي
الجهم قال الذهبي: لا يعرف انظر تهذيب التهذيب 5 / 327، و 10 / 489 وميزان
الاعتدال 1 / 426.
129
الشئ ثم يعود إلى قول من خالفه فيوافقه عليه ويقول (لولا علي لهلك
عمر) و (لولا معاذ لهلك عمر) وكيف لم يحتج بهذا الخبر هو لنفسه في
بعض المقامات التي احتاج إلى الاحتجاج فيها، وكيف لم يقل أبو بكر
لطلحة لما قال له: ما تقول لربك إذ وليت علينا فظا غليظا؟ أقول له:
وليت من شهد الرسول صلى الله عليه وآله بأن الحق ينطق على لسانه،
وليس لأحد أن يدعي في الامتناع من الاحتجاج بذلك سببا مانعا كما
ندعيه في ترك أمير المؤمنين عليه السلام الاحتجاج بذلك بالنص لأنا قد
بينا فيما تقدم أن لتركه عليه السلام ذلك سببا ظاهرا، وهو تآمر القوم
عليه، وانبساط أيديهم، وأن الخوف والتقية واجبان ممن له السلطان ولا
تقية على عمر وأبي بكر من أحد لأن السلطان كان فيهما، ولهما، والتقية
منهما لا عليهما، على أن هذا الخبر لو كان صحيحا في سنده ومعناه لوجب
على من ادعى أنه يوجب الإمامة أن يبين كيفية إيجابه لذلك، ولا يقتصر
على الدعوى المحضة، وعلى أن يقول: إذا جاز أن يدعي في كذا وكذا
أنه يوجب الإمامة جاز في هذا الخبر لأنا لما ادعينا في الأخبار التي ذكرناها
ذلك لم نقتصر على محض الدعوى، بل بينا كيفية دلالة ما تعلقنا به على
الإمامة، وقد كان يجب عليه إذا عارضنا بأخباره أن يفعل مثل ذلك.
فأما ما تعلق به من الرواية عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: (أصحابي
كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) فالكلام في أنه غير معارض لقوله صلى الله
عليه وآله (إني مخلف فيكم الثقلين) وغيره من أخبارنا جار على ما بيناه
آنفا، فإذا تجاوزنا عن ذلك كان لنا نقول: لو كان هذا الخبر صحيحا
لكان موجبا لعصمة كل واحد من الصحابة ليصح ويحسن الأمر بالاقتداء
بكل واحد منهم، وليس هذا قولا لأحد من الأمة فيهم، وكيف يكونون
معصومين، ويجب الاقتداء بكل واحد منهم، وفيهم من ظهر فسقه
وعناده، وخروجه عن الجماعة، وخلافه للرسول صلى الله عليه وآله ومن

130
جملة الصحابة معاوية وعمرو بن العاص وأصحابهما، ومذهب صاحب
الكتاب وأصحابه فيهم معروف (1) ومن جملتهم طلحة والزبير ومن قاتل
أمير المؤمنين عليه السلام في يوم الجمل ولا شبهة في فسقهم وإن ادعى
مدعون توبتهم بعد ذلك، ومن جملتهم من قعد عن بيعة أمير المؤمنين
عليه السلام ولم يدخل مع جماعة المسلمين في الرضا بإمامته، ومن جملتهم
من حصر عثمان بن عفان ومنعه الماء وشهد عليه بالردة ثم سفك دمه،
فكيف يجوز مع ذلك أن يأمر الرسول صلى الله عليه وآله بالاقتداء بكل
واحد من الصحابة؟ ولا بد من حمل هذا الخبر إذا صح على الخصوص
ولا بد فيمن عني به وتناوله من أن يكون معصوما لا يجوز الخطأ عليه في
أقواله وأفعاله، ونحن نقول بذلك ونوجه هذا الخبر لو صح إلى
أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام لأن هؤلاء ممن ثبتت عصمته
وعلمت طهارته على أن هذا الخبر معارض بما هو أظهر منه وأثبت رواية،
مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله: " إنكم تحشرون إلى الله
يوم القيامة حفاة عراة وأنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات
الشمال، فأقول: يا رب أصحابي فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك
إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم " (3) وما روي من قوله صلى



(1) يعني المعتزلة، وقد نقل رأيهم ابن أبي الحديد قال: " ومعاوية مطعون في دينه
عند شيوخنا رحمهم الله يرمى بالزندقة، وقد ذكرنا في نقض السفيانية على شيخنا أبي
عثمان الجاحظ ما رواه أصحابنا في كتبهم الكلامية عنه من الالحاد، والتعرض
لرسول الله صلى الله عليه وآله وما تظاهر به من الجبر والإرجاء، ولو لم يكن شئ من
ذلك لكان في محاربة الإمام ما يكفي في فساد حاله لا سيما على قواعد أصحابنا، وكونهم
بالكبيرة الواحدة يقطعون على المصير إلى النار والخلود فيها إن لم تكفرها التوبة " (انظر
شرح نهج البلاغة 1 / 340).
(2) المدعون توبتهم المعتزلة انظر شرح نهج البلاغة 1 / 2.
(3) أخرجه البخاري ج 4 / 110 في كتاب بدء الخلق، باب قوله تعالى (واتخذ
الله إبراهيم خليلا)، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم
وروى البخاري قريبا من ذلك ج 7 ص 206 - 208 في كتاب الرقاق، باب في الحوض.
131
الله عليه وآله (إن من أصحابي لمن لا يراني بعد أن يفارقني) (1) وقوله " أيها
الناس بينا أنا على الحوض إذ مر بكم زمرا فتفرق بكم الطرق فأناديكم ألا
هلموا إلى الطريق فينادي مناد من ورائي (2) إنهم بدلوا بعدك فأقول ألا
سحقا ألا سحقا " (3) وما روي من قوله صلى الله عليه وآله: " وما بال أقوام
يقولون إن رحم رسول الله صلى الله عليه وآله ينقطع يوم القيامة بلى والله
إن رحمي لموصولة في الدنيا والآخرة وإني أيها الناس فرطكم على الحوض
فإذا جئتم قال الرجل منكم يا رسول الله أنا فلان بن فلان وقال الآخر أنا
فلان بن فلان فأقول أما النسب فقد عرفته ولكنكم أحدثتم بعدي
وارتددتم القهقرى " وقوله لأصحابه: " لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا
بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخل أحدهم جحر ضب لدخلتموه " فقالوا يا
رسول الله صلى الله عليه وآله: اليهود والنصارى؟ قال: (فمن إذا) (4) وقال في
حجة الوداع لأصحابه: " ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام
كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلا ليبلغ الشاهد منكم
الغائب ألا لأعرفنكم ترتدون بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ألا
إني قد شهدت وغبتم " (5) فكيف يصح مع ما ذكرناه الأمر بالاقتداء بمن



(1) أخرجه المناوي في كنوز الحقائق 1 / 74 وقد حذف الناسخ أو الطابع " لا "
وما علم أنه لم يخرج الحديث من معناه.
(2) من قبل ربي، خ ل.
(3) أخرجه البخاري ج 7 / 208 في كتاب الرقاق، باب الحوض، عن سهل بن
سعد وفيه " فأقول سحقا سحقا لمن غير بعدي) و ج 8 ص 87 في أوائل كتاب الفتن.
(4) أخرجه السيوطي في الجامع الصغير 1 / 122 باختلاف يسير في بعض حروفه
وأشار إلى أنه صحيح.
(5) انظر صحيح البخاري ج 7 / 91 كتاب الفتن، باب قول النبي صلى الله عليه
وسلم (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض).
132
يتناوله اسم الصحبة على أن هذا الخبر لو سلم من كل ما ذكرناه لم يقتض
الإمامة على ما ادعاه صاحب الكتاب لأنه لم يبين في لفظه الشئ الذي
يقتدى بهم فيه ولا أنه مما يقتضي الإمامة دون غيرها، فهو كالمجمل الذي
لا يمكن أن يتعلق بظاهره، وكل هذا واضح.
قال صاحب الكتاب: " دليل لهم آخر " ثم قال: " وربما تعلقوا
بقوله عز وجل * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم
تطهيرا) * (1) وإن ذلك يدل على عصمتهم، وبعدهم من الضلال والخطأ
فإذا صح ذلك فيجب أن يكون الإمام فيهم دون غيرهم ممن لم يثبت له
العصمة " ثم قال: " وهذا أبعد مما تقدم لأنه إنما يدل على أنه عز وجل
يريد أن يطهرهم ويذهب الرجس عنهم ولا يدل على أن ما أراده ثابت
فيهم، فكيف يستدل بالظاهر على ما ادعوه فقد صح أن الله تعالى يريد
تطهير كل المؤمنين (2) وإزالة الرجس عنهم، لأنه متى لم نقل بذلك أدى
إلى أنه تعالى يريد خلاف التطهير بالمؤمنين وبعد فليس يخلو من أن يريد
بذلك المدح والتعظيم، أو يريد به الأفعال التي يصير بها طاهرا زاكيا فإن
أريد الأول فكل المؤمنين فيه شرع سواء، وإن أريد الثاني فكل
المكلفين (3) يتفقون فيه، وأكثر ما تدل الآية عليه أن لأهل البيت مزية في
باب الألطاف، وما يجري مجراها، فلذلك خصهم بهذا الذكر، ولا
مدخل للإمامة فيه، ولو دل على الإمامة لم يدل على واحد دون آخر
بعينه، ولاحتيج في التعليل إلى دلالة مبتدأة، ولكانت كافية مغنية عن هذه
الجملة، ولأن الكلام يتضمن إثبات حال لأهل البيت ولا يدل على أن



(1) الأحزاب 33.
(2) غ " أن يطهر كل مؤمن ".
(3) غ " فكل المطيعين ".
133
غيرهم في ذلك بخلافهم (11) وكذلك القول فيما تقدم لأنه إذا قال في عترته
إن من تمسك بها لم يضل، وإنها لا تفارق الكتاب، فإنما يدل ذلك على
إثبات هذا الحكم لها ولا يدل على نفيه عن غيرها (2) فقد يجوز في غيرها أن
يكون محقا ولمن تمسك به هاديا،... " (3).
يقال له: هذه الآية تدل على عصمة أهل البيت المختصين بها
عليهم السلام، وعلى أن أقوالهم حجة، ثم تدل من بعد على إمامة
أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام بضرب من الترتيب فأما وجه
دلالتها على العصمة، فهو إن قوله تعالى: (إنما يريد الله) لا يخلو من أن
يكون معناه الإرادة المحضة التي لم يتبعها الفعل، وإذهاب الرجس، أو
أن يكون أراد ذلك وفعله، فإن كان الأول فهو باطل من وجوه، لأن لفظ
الآية يقتضي اختصاص أهل البيت بما ليس لغيرهم، ألا ترى أنه قال
(إنما يريد الله ليذهب) وهذه اللفظة تقتضي ما ذكرنا من التخصيص،
ألا ترى أن القائل إذا قال إنما العالم فلان وإنما الجواد حاتم، وإنما لك
عندي درهم، فكلامه يفيد التخصيص الذي ذكرناه، والإرادة للطهارة
من الذنوب من غير أن يتبعها فعل لا تخصيص لأهل البيت عليهم السلام
بها، بل الله يريد من كل مكلف مثل ذلك، وأيضا فإن الآية تقتضي
مدح من تناولته، وتشريفه، وتعظيمه، بدلالة ما روي من أن النبي صلى
الله عليه وآله لما جلل عليا وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام
بالكساء وقال: " اللهم إن هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس
وطهرهم تطهيرا " فنزلت الآية وكان ذلك في بيت أم سلمة رحمة الله عليها
فقالت له صلى الله عليه وآله: ألست من أهل بيتك؟ فقال لها " إنك على



(1) غ " ولا ينفي ذلك عن غيرهم ".
(2) غ " فأما أن يدل على نفيه فلا ".
(3) المغني 20 ق 1 / 193.
134
خير " (1) وصورة الحال وسبب نزول الآية يقتضيان المدحة والتشريف، ولا
مدحة ولا تشريف في الإرادة المحضة التي تعم سائر المكلفين من الكفار وغيرهم.
فإن قيل: على هذا الوجه فكذلك لا مدحة فيما تذكرونه لأنكم لا
بد أن تقولوا إنه أذهب عنهم الرجس وطهرهم، بأن لطف لهم بما اختاروا
عنده الامتناع من القبائح وهذا واجب عندنا وعندكم، ولو علم من
غيرهم من الكفار مثل ما علمه منهم لفعل مثل ذلك بهم، فأي وجه للمدح؟
قلنا: الأمر على ما ذكرتموه في اللطف ووجوبه، وأنه لو علمه في
غيرهم لفعله كما فعله بهم غير أن وجه المدح مع ذلك ظاهر لأن من اختار
الامتناع من القبائح، وعلمنا أنه لا يقارف شيئا من الذنوب، وإن كان
ذلك عن ألطاف فعلها الله تعالى به، لا بد من أن يكون ممدوحا مشرفا
معظما، وليس كذلك من أريد منه أن يفعل الواجب، ويمتنع من
القبيح، ولم يعلم من جهته ما يوافق هذه الإرادة، فبان الفرق بين
الأمرين، وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وآله على ما وردت به الرواية
الظاهرة لم يسأل الله أن يريد أن يذهب عنهم الرجس، وإنما سأل أن
يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا فنزلت الآية مطابقة لدعوته،
متضمنة لأجابته، فيجب أن يكون المعنى فيها ما ذكرناه، وإذا ثبت
اقتضاء الآية لعصمة من تناولته وعني بها وجب أن تكون مختصة من أهل
البيت عليهم السلام بمن ذهبنا إلى عصمته، دون من أجمع جميع المسلمين
على فقد عصمته، لأنها إذا انتفت عمن قطع على نفي عصمته لما يقتضيه
معناها من العصمة لم يخل من أن تكون متناولة لمن اختلف في عصمته، أو
غير متناولة له، وإن لم تتناوله بطلت فائدتها التي تقتضيها، فوجب أن
يكون متناولة له، وهذه الطريقة تبطل قول من حملها على الأزواج، لأجل



(1) تقدم الكلام على هذا آنفا.
135
كونها واردة عقيب ذكرهن وخطابهن، لأن الأزواج إذا لم يذهب أحد إلى
عصمتهن وجب أن يخرجن عن الخطاب المقتضي لعصمة من يتناوله،
وورودها عقيب ذكرهن لا يدل على تعلقها بهن، إذا كان معناها لا يطابق
أحوالهن، وفي القرآن وغيره من الكلام لذلك نظائر كثيرة، على أن حمل
الآية على الأزواج بانفرادهن يخالف مقتضى لفظها لأنها تتضمن علامة جمع
المذكر والجمع الذي فيه المذكر والمؤنث ولا يجوز حملها على الأزواج دون
غيرهن، ألا ترى أن ما تقدم هذه الآية ثم تأخر عنها لما كان المعني به
الأزواج، جاء جمعه بالنون المختص بالمؤنث، ومما يدل على اختصاصها
بمن نذهب إليه أيضا الرواية الواردة في سبب نزولها، وقد تقدم ذكرها،
وإذا كان الأزواج وغيرهن خارجين من جملة من جلل بالكساء وجب أن
تكون الآية غير متناولة له، وجواب النبي لأم سلمة يدل أيضا على
ذلك، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله بعد نزول هذه الآية كان يمر
على باب فاطمة عليها السلام عند صلاة الفجر ويقول: " الصلاة يرحمكم
الله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " (1)
فإذا ثبت اختصاص الآية بمن ذكرناه ووجبت عصمته وطهارته ثم وجدنا
كل من أثبت عصمة أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام يذهب
إلى أن إمامتهم ثبتت بالنص من الرسول صلى الله عليه وآله فقد تم ما
أوردناه.
فأما قول صاحب الكتاب: " إن أكثر ما تدل عليه الآية أن لأهل
البيت مزية في باب الألطاف فلذلك خصهم بهذا الذكر " فإنه متى لم يكن
المراد ما ذكرناه لم يكن لهم مزية على غيرهم، لأنا قد بينا أنه إن أريد
بالآية الإرادة الخالصة فلا مزية، فإذا ثبتت المزية فلا بد من أن يثبت فعلا



(1) الأحزاب 33.
136
تابعا للإرادة، وقد بينا كيف يدل على الإمامة على التفصيل، فبطل ما
ظنه من أنها لا تدل على ذلك.
فأما قوله: " إن الكلام يتضمن إثبات حال لأهل البيت ولا يدل
على أن غيرهم في ذلك بخلافهم " فالطريق إلى نفي ما أثبتناه لهم عن
غيرهم واضح.
أما العصمة فلا خلاف في أن غيرهم لا يقطع فيه عليها.
وأما الإمامة فإذا أثبتت فيهم بطلت أن تكون في غيرهم لاستحالة
أن يختص بالإمامة اثنان في وقت واحد.
فأما قوله: " وكذلك القول فيما تقدم لأنه إذا قال في عترته: إن من
تمسك بها لم يضل فإنما يدل على إثبات هذا الحكم لها ولا يدل على نفيه
عن غيرها " فباطل لأنه قد بينا دلالة هذا الخبر على أن إجماع أهل البيت
حجة، ومما أجمعوا عليه لأن خلافهم غير سائغ، وإن مخالفهم مبطل
فيجب أن يكون قولهم في هذا حجة كسائر أقوالهم، وهذا يبطل ما ظنه
صاحب الكتاب من تجويز أن يكون الحق في جهتهم وجهة من خالفهم.
قال صاحب الكتاب: " دليل لهم آخر " ثم قال: " وربما تعلقوا [بقوله
تعالى] في إبراهيم عليه السلام: * (إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي
قال لا ينال عهدي الظالمين) * (1) فأخبر أنه لا حق في الإمامة لظالم فوجب
بذلك إن من كان ظالما وكافرا وقتا من الزمان (2) لاحظ له في ذلك، وأن
يكون المستحق لذلك المعصوم في كل أوقاته، وذلك يقتضي أن الإمامة
ثابتة لأمير المؤمنين عليه السلام، وربما تعلقوا بقريب من ذلك من غير ذكر



(1) البقرة 124.
(2) غ " في وقت من الزمان ".
137
الآية (1) وقالوا: قد ثبت أن من يقول بوجوب الإمامة نفسان (2) أحدهما
يقول بإمامة أبي بكر وذلك لا يصح لأن من حق الإمام أن يكون كالرسول
في كونه منزها عن التدنس والكفر والكبائر في سائر حالاته، فإذا بطل
ذلك فليس إلا القول الثاني، وهو إن الإمام علي بن أبي طالب لأنه ما كفر
بالله قط ": قال: " وهذا لا يمكن الاعتماد عليه لأن ظاهر الآية إنما يقتضي أن
عهده لا ينال الظالم، ومن كفر ثم تاب أو فسق ثم تاب وصلحت أحواله
لا يكون ظالما، فيجب بحكم الآية أن لا يمتنع أن يناله العهد، وليس
المراد أن الظالمين لا ينالون العهد وإن خرجوا من أن يكونوا ظالمين، وإنما
المراد في حال ظلمهم كما إنه تعالى لما قال: (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله
فضلا كبيرا) (3) فالمراد بذلك في حال إيمانهم وقوله تعالى: (إني جاعلك
للناس إماما) ما أن يراد به النبوة * أو أن يكون قدوة في الصلاح، لأنا قد
بينا أنه لا تدخل تحت ذلك الإمامة التي هي بمعنى إقامة الحدود، وتنفيذ
الأحكام، فإن أريد به النبوة * (4) فمن حيث دل الدليل على أن من حق
النبي أن لا يقع منه كفر ولا كبيرة، يجب أن لا يكون ظالما في حال من
الأحوال (5) وإن أريد به الوجه الآخر فغير ممتنع أن يكون ظالما في حال
ثم يصلح فيقتدى بطريقته وعلمه، وبعد فلا يمتنع أن يقع من الرسول
صلى الله عليه وآله المعصية الصغيرة التي تكون ظلما فلا بد من أن يقال:
إنه تعالى أراد بالكلام الظلم المذموم، وما زال بالتوبة كالصغيرة في هذا
الباب فهذا مما يبين فساد ما تعلقوا به من ظاهر الآية.



(1) غ " من غير دليل الآية ".
(2) غ " فريقان ".
(3) الأحزاب 47.
(4) ما بين النجمتين ساقط من " المغني ".
(5) غ " على كل حال من الأحوال ".
138
فأما الطريقة الأخرى فقد بينا الكلام عليها في باب النبوات (1) وأن ماله
وجب في الرسول أن يكون منزها عن الكفر والكبائر، هو كونه حجة فيما
تحمله وأن الإمام في أنه بخلافه بمنزلة الأمير والحاكم وذلك يسقط ما تعلقوا
به،... " (2).
يقال له: قد اعتمد بهذه الآية التي ذكرتها قوم من أصحابنا
والاستدلال بها مبني على القول بالعموم، وأن له صيغة يقتضي ظاهرها
الاستغراق، فمن لا يذهب إلى ذلك من أصحابنا لا يصح له الاستدلال
بهذه الآية في هذا الموضع، ومن ذهب إلى العموم منهم صح له ذلك،
ويمكن أن يستدل بها على أمرين: أحدهما أن من كان ظالما في وقت من
الأوقات فلن يجوز أن يكون إماما، ويبنى على ذلك القول بإمامة
أمير المؤمنين عليه السلام بعد الرسول صلى الله عليه وآله بلا فصل لأن
من تولى الأمر غيره قد كان ظالما فيما سلف من أحواله، والأمر الآخر أن
يبين اقتضاء الآية لكون الإمام معصوما لأنها إذا اقتضت نفي الإمامة عمن
كان ظالما على كل حال، سواء كان مسر الظلم أو مظهرا له، وكان من
ليس بمعصوم وإن كان ظاهره جميلا يجوز أن يكون مبطنا للظلم والقبح،
ولا أحد ممن ليس بمعصوم يؤمن ذلك منه، ولا يجوز فيه، فيجب بحكم
الآية أن يكون من يناله العهد الذي هو الإمامة معصوما حتى يؤمن
استسراره بالظلم، وحتى يوافق ظاهره باطنه، والكلام الذي طعن به
صاحب الكتاب في الاستدلال بالآية غير صحيح، لأن عموم ظاهرها
يقتضي أن الظالم في حال من الأحوال لا ينال الإمامة، ومن تاب بعد كفر
أو فسق وإن كان بعد التوبة لا يوصف بأنه ظالم فقد كان ممن يتناوله



(1) باب النبوءات يعني من المغني وهو في الجزء الخامس عشر منه.
(2) المغني 20 ق 1 / 194.
139
الاسم، ودخل تحت الآية، وإذا حملنا الآية على ما توهم صاحب الكتاب
من أن المراد بها من دام على ظلمه، واستمر عليه، كان هذا تخصيصا
بغير دليل والقول بالعموم يمنع منه، وكيف يجوز لصاحب الكتاب أن
يقول: " إن زوال الاسم بالتوبة يخرج المستحق لذلك من عموم الاسم
الوارد " وهو يقول في جميع آيات الوعيد أنها مخصوصة، وأن التائبين
وأصحاب الصغائر خارجون منها بالأدلة الموجبة لإخراجهم، وأن آيات
الوعيد مخصوصة أيضا بالأدلة الموجبة لاستثناء من أحبط ثواب إيمانه بندم
عليه أو كبيرة تصحبه، فلو كان الأمر على ما ادعاه في هذه الآية من
خروج من تاب من ظلمه عن عموم قوله: (لا ينال عهدي الظالمين) من
غير دلالة بل لأن الاسم لا يتناوله على ما ادعاه لوجب مثل ذلك في آيات
الوعد والوعيد، وأن يقول: إنها غير مخصوصة ولا مستثناة بأدلة العقول
وغيرها، ويجعل التائب وغيره خارجا من الاسم واللفظ ولا يحتاج أن
يخرجه بدلالة، وهذا ظاهر البطلان عنده وعند كل من قال بالعموم.
فأما معارضته بقوله تعالى: (وبشر المؤمنين) فلو لم تقم الدلالة على
أن المراد بذلك في حال إيمانهم وسلامتهم أيضا من الاحباط على قول من
ذهب إليه لم يجعل القول مخصوصا بمن كان في الحال مؤمنا، وإنما جعل
كذلك لأن البشارة بالثواب لا تكون إلا لمستحقه دون من أحبطه وأزاله،
وهذا طريق الاستدلال الذي ما منعنا صاحب الكتاب منه، وإنما منعناه
من ادعاء خروج التائب من الاسم.
فأما تقسيمه المراد بالآية، وادعاؤه أن الإمامة بمعنى إقامة الحدود،
وتنفيذ الأحكام، لا يدخل تحتها فباطل، لأن الظاهر فيه تصريح بذكر
الإمامة التي قد فرق المخاطبون بينها وبين النبوة، فلا بد من أن يكون
محمولا عليها دون النبوة، ولسنا ندري في أي موضع بين أنه لا يدخل

140
تحت ذلك الإمامة التي هي بمعنى إقامة الحدود حتى ادعى بيان ذلك فيما
سلف من كلامه؟ إن كان ذلك فيه فقد سلف نقضه، وإن كان فيما يأتي
فسيجئ أيضا بمشيئة الله تعالى نقضه وما المنكر من أن يكون إبراهيم عليه
السلام نبيا إماما ويكون إليه مع تبليغ الرسالة إقامة الحدود، وتنفيذ
الأحكام؟
فإن قيل: من أين لكم أن المراد بلفظة (عهدي) الإمامة، وهي لفظة
مجملة يصح أن يعنى بها الإمامة وغيرها.
قلنا: من وجهين اثنين، أحدهما دلالة موضوع الآية على ذلك
لأنه تعالى لما قال لإبراهيم عليه السلام: (إني جاعلك للناس إماما) حكى
عنه قوله: (ومن ذريتي) ومعلوم أنه أراد جعل (من ذريتي) أئمة ثم قال
عقيب ذلك: (لا ينال عهدي الظالمين) فأشار بالعهد إلى ما تقدم من
سؤال إبراهيم عليه السلام فيه ليتطابق الكلام، ويشهد بعضه لبعض،
والوجه الآخر إن (عهدي) إذا كان فظا مشتركا وجب أن يحمل على كل ما
يصلح له، ويصح أن يكون عبارة عنه، فنقول: إن الظاهر يقتضي أن
كل ما يتناوله اسم العهد لا ينال الظالم، ويجري ذلك مجرى أن يقول قائل
لا ينال عطائي الأشرار، في أن الظاهر يقتضي أن جنس عطائه لا يناله
شرير، ولا يختص بعطاء دون عطاء، وهذا الوجه أيضا مبني على القول
بالعموم الذي بينا إنه عمدة الاستدلال بهذه الآية.
فأما قوله: على الطريقة الأخرى: " إن الذي له أوجب في الرسول أن
يكون منزها عن الكفر والكبائر كونه حجة فيما تحمله، وإن الإمام بخلافه
وأنه بمنزلة الأمير والحاكم " فقد بينا فيما تقدم أن الإمام أيضا حجة وأنه
يرجع إليه في أمور لا تعلم إلا من جهته، وبينا أن النقل الوارد بأحكام
الشريعة قد يجوز أن يتغير حاله فيخرج من أن يكون حجة على وجه لا

141
يكون المفزع فيه إلا إلى قول الإمام، فيجري قوله والحال هذه في أنه حجة
لا يقوم غيره مقامه فيها مجرى قول الرسول، وبينا الفرق بين الإمام
والحاكم والأمير، وأن الحاكم والأمير ليسا هما حجة في شئ، ولا يجوز
أن يكونا حجة على وجه من الوجوه، وأوضحنا ذلك إيضاحا يغني عن
إعادته، فإذا وجب عند صاحب الكتاب كون الرسول منزها عن الكفر
والكبائر قبل بعثته لأنه حجة فيما يتحمله فيجب أيضا أن يكون الإمام
منزها عن القبائح قبل إمامته لأنه حجة فيما يؤديه ويعرف من جهته،
وهذا بين لمن تدبره.
ثم قال صاحب الكتاب: " واعلم أن أحد ما يبطل طريقة الإمامية
أن يقال لهم: إن مذهبكم في النص على الإمام يقتضي أن يكون إمام كل
زمان بمنزلة أمير المؤمنين عليه السلام في أنه لا بد من النص عليه من أن
يظهر ظهور الحجة القاطعة، لأن الإمامة من أعظم أركان الدين عندكم
على ما تقدم القول فيه، فكيف السبيل إلى أن نعلم أنه عليه السلام نص
على الحسن وعلى الحسين أو نص الحسن على الحسين، وكذلك سائر
الأئمة، وقد علمنا أن الوجوه التي يمكنهم ذكرها في النص على
أمير المؤمنين على اختلافها لا يمكن ادعاء مثلها في النص على إمام كل
زمان، ولا يمكنهم أن يدعوا في ذلك طريقة العقل لأنا قد بينا أنها لا
تدل، ولو دلت لكانت لا تدل على واحد معين، ولا يمكنهم أن يدعوا
إثباتها في الولد لأنها ليست متوارثة (1) فيصح ذلك فيها ولإن صح ذلك
يوجب أن لا ينتقل من الحسن إلى أخيه بل ينتقل إلى ولده، ويوجب ألا
يكون بعض أولاد الحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد
عليهم السلام أولى من غيرهم لأنهم خلفوا أكثر من واحد وهذا يبين أنه



(1) غ " متوازية ".
142
لا بد لهم من إثبات إمامة كل واحد بنص ظاهر، وذلك مما لا يمكن
إثباته، وقد بينا أن إثبات النص للإمام فرع على إثبات عينه، وذلك لا
يمكن في إمام هذا الزمان، فكيف يدعى هذا النص فيه وقد سألهم
أصحابنا في الغيبة، وأن سببها إن كان الخوف من الظهور فقد كان يجب
أن تحصل غيبة الأئمة في أيام بني أمية لأن خوفهم كان أكثر، وكذلك في
كثير من أيام بني العباس، ثم لم يمنع ذلك من ظهورهم، فكيف وجبت
الغيبة في هذه الأيام والخوف لا يزيد فيها على ما قد كان من قبل وكيف
تصح الغيبة مع شدة الحاجة إلى الإمام فيما يتصل بالتكليف ولئن جاز ذلك
ليجوزن لبعض الأعذار أن لا ينصب عز وجل أدلة المكلف وأن لا يمكنه
والتكليف قائم وهلا وجب على مذاهبهم حراسة إمام الزمان من جهة الله
عز وجل، وأن يعصمه من كل مخافة لما يتعلق به من صحة الشريعة،
وذلك يقتضي بطلان الغيبة وقد ألزمهم واصل بن عطاء على قولهم هذا أن
يكون قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وآله في الزمان حجة من رسول أو
إمام، ولو كان كذلك لما صح قوله تعالى: (يا أهل الكتاب قد جاءكم
رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا
نذير فقد جاءكم بشير ونذير) (1) لأن على قولهم لم يخل الزمان من بشير
ونذير وادعى إجماع علماء المسلمين (2) وظهور الأخبار عن أهل الكتب (3)
أن الفترات من الرسل (4) قد كانت ولم يكن فيها أنبياء ولا من يجري
مجراهما " ثم قال: (وهذه الوجوه إنما يقصد بها تقوية ما قدمناه لأن ذلك
هو المعتمد،...) (5).



(1) المائدة 19.
(2) غ " وادعاء إجماع المسلمين ".
(3) غ " أهل الكهف " والظاهر أنه تحريف.
(4) غ " بين الرسل ".
(5) المغني 20 ق 1 / 195.
143
يقال له: لا شبهة في أنه يجب على من ادعى النص على إمام كل
زمان أن يذكر فيه حجة قاطعة، وطريقة واضحة، فمن أين حكمت أنا
لا نتمكن من ذلك في النص على الحسن والحسين ومن بعدهما من الأئمة
عليهم السلام إلى وقتنا هذا، وقد كان أقل ما يجب أن تذكر ما نتعلق به
في هذا الباب، وتتعاطى إفساده، ثم تحكم بالحكم الذي اعتمدت
عليه.
وأما قولك: " إن الوجوه التي يمكنهم ذكرها في النص على
أمير المؤمنين عليه السلام لا يمكن ذكرها وادعاء مثلها في النص على إمام
كل زمان " فإن أردت بقولك مثلها ما يجري مجراهما في الدلالة والحجة،
وقطع العذر، وإزالة الريب، فنحن بحمد الله تعالى نتمكن من ذلك
وسنذكره، وإن أردت إنا لا نتمكن في باقي الأئمة عليهم السلام من نص
يرويه الموافق والمخالف، ويجمع على نقله جماعة المسلمين وإن اختلفوا في
تأويله، كالنصوص على أمير المؤمنين، فهو صحيح، إلا أن فقد التمكن
من ذلك لا يخل بصحة المذهب الذي إنما قصدت إلى إفساده، وشرعت في
الاستدلال على أنه لا دليل لله تعالى عليه، ولا منفعة لك ولمن وافقك في
أن يكون بعض الأدلة والطرق مفقودا في هذا الموضع إذا قام مقامه ما
يجري في الحجة مجراه، ويقطع العذر كقطعه على أن النصوص على
أمير المؤمنين عليه السلام غير متفقة الطرق، لأن فيها ما يرويه جميع
الرواة، وتسلم صحته جميع الأمة كخبر الغدير وقوله: " أنت مني بمنزلة
هارون من موسى " وما يجري مجراهما، وفيها ما يشترك العامة والخاصة في
نقله، وإن كان من جهة الخاصة، ومن طرق الشيعة متواترا ظاهرا،
ومن طرق العامة يرويه الآحاد، ويذكره الأفراد، كخبر يوم الدار (1) وما



(1) يوم الدار ويسمى يوم الانذار أيضا، والمراد بالدار دار أبي طالب رضوان الله عليه، وذلك لما أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله: (وأنذر عشيرتك
الأقربين) فدعاهم صلى الله عليه وآله إلى دار عمه أبي طالب، وهم يومئذ أربعون رجلا
يزيدون رجلا أو ينقصون رجلا، وفيهم أعمامه أبو طالب والعباس وحمزة وأبو لهب
فكلمهم رسول الله صلى الله عليه وآله وكان من جملة ما قال لهم: " يا بني عبد المطلب
إني والله ما أعلم شابا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، جئتكم بخير الدنيا
والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على أمري هذا على أن يكون
أخي ووصيي وخليفتي فيكم " فأحجم القوم غير علي عليه السلام وكان أصغرهم إذ قام
فقال: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله
برقبته وقال: " إن هذا أخي، ووصيي، وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا " فقام
القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب، قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع. (انظر تاريخ
الطبري 2 / 319 فما بعدها فقد رواه بطرق مختلفة ونقله في كنز العمال ج 6 ص 395
و 396 و 397 و 401 و 408 عن ابن جرير وأحمد والضياء المقدسي وابن إسحاق وابن أبي
حاتم، وابن مردويه، وأبي نعيم وغيرهم.
144
أشبهه، وفيها ما يختص الشيعة بنقله ولا يشاركها فيه مخالفها كألفاظ
النص الصريحة، ومثل هذا القسم موجود في النصوص على سائر الأئمة
عليهم السلام وإن لم يوجد فيها مثل القسمين الأولين، وقد بينا أن ذلك
لا يخل بالحجة، ولنا في الاستدلال على إمامة الحسن ومن بعده من الأئمة
عليهم السلام إلى عصرنا هذا طريقان:
أحدهما: الرجوع إلى النقل الظاهر بين الشيعة الوارد مورد الحجة
بنص النبي مجملا ومفصلا، وكذلك ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام
في ذلك، لأن الأخبار متظاهرة عنه بين الشيعة، ينقلها خلف عن سلف
بنصه بالإمامة على الحسن عليه السلام في مقامات كثيرة، وبإشارته إلى
الأئمة من ولد الحسين بأعدادهم وصفاتهم، وكذلك القول في نص
الحسن على الحسين عليهما السلام ونص كل واحد على من بعده، ولولا
أن كتابنا يضيق عن استقصاء الروايات في هذا الباب لذكرنا ما ورد من

145
النصوص في إمامة كل واحد من الأئمة عليهم السلام بألفاظه وطرقه،
ومن أراد الوقوف على ذلك فعليه بكتب حديث الشيعة، فإنه يقف من
ذلك على ما لا يستجيز معه أن يطلق القول بأنه لا يمكن في إمامتهم عليهم
السلام ما أمكن في إمامة أبيهم أمير المؤمنين عليه السلام، وليس يمكن
الطعن في هذه الأخبار بأنها آحاد، وأن شروط الأخبار المتواترة مفقودة
فيها، وذلك أن الشيعة في هذا الوقت لا شبهة في كثرتها واستحالة اتفاق
الكذب منها والتواطؤ عليه، وهي تدعي أنها أخذت هذه الروايات عن
سلفها، وأن سلفها أخبرها بمثل ذلك عن سلفها، حتى ينتهي الخبر إلى
أصله، وقد بينا فيما تقدم عند الكلام في النص الصريح على أمير المؤمنين
عليه السلام صحة هذه الطريقة، وأجبنا عن الأسئلة والإيرادات عليها فلا
حاجة بنا إلى استقصائها هاهنا.
وأما الطريقة الثانية فهو أن يعتمد في إمامة كل واحد منهم على
طريقة الاعتبار، والبناء على الأصول المتقررة في العقول من غير رجوع
إلى النقل، فنقول في إمامة الحسن عليه السلام: إن الناس لما قبض الله
تعالى أمير المؤمنين عليه السلام إلى جنبه كانوا في باب الإمامة على
ضروب، فمنهم من نفاها وادعى أنه لا إمام في العالم، وهم الخوارج ومن
وافقهم، وقولهم يبطله قيام الدلالة العقلية على وجوب الإمامة، وقد
تقدمت، ومنهم من قال بإمامة معاوية بن أبي سفيان، ويبطل قول هؤلاء
ما يفترقون معنا به من فقد عصمته التي قد تقدمت دلالتنا على وجوب
اعتبارها في الإمام، وهذا كاف في إبطال إمامته، وإن كان لنا أن نتخطى
ذلك إلى ما ظهر من كفره ومجاهرته بما ينفي العدالة، ويرفع حكم
الاسلام ومنهم من قال بإمامة محمد بن الحنفية رضوان الله عليه، وهؤلاء
أحد فرق الكيسانية، ويبطل قول هؤلاء إذا ادعوا في محمد بن الحنفية ما
نوجبه للأئمة من العصمة وغيرها، وحملوا أنفسهم - أعني هؤلاء القوم

146
من الكيسانية - على هذه المقالة، وقد بينا على ذلك أن ابن الحنفية ما زال
تابعا لأخويه عليهما السلام مقدما لهما على نفسه، راجعا إليهما، ومعولا
عليهما، والمفضول لا يكون إماما، وحالهما عليهما السلام في العلم
والفضل عليه ظاهرة لا تخفى على من سمع الأخبار، وبعد فإنه حضر
البيعة لهما بالإمامة، وكان راضيا بهما غير منازع ولا منكر، والتقية منهما عنه
زائلة، فكيف يكون مع كل ذلك إماما دونهما؟ وأيضا فإن هؤلاء
الكيسانية، ومن وافقهم في إمامة محمد بن الحنفية اختلفوا، فادعى
بعضهم أنها كانت له بعد أخويه، بعد تشتت أهوائهم، وتفرق آرائهم،
وادعى بعضهم حياة محمد وأنه بين أسد ونمر في جبال رضوى إلى غير ذلك
من المذاهب التي ألجأتهم الحيرة إليها، وقد انقرضوا فلا عين لهم ولا أثر
منذ السنين الطوال، وما رأينا أحدا منهم، ولا من كان قبلنا بمدد بعيدة،
فلو كان قولهم حقا لما جاز أن ينقرضوا حتى لا يقول قائل به من الأمة في
زمان بعد زمان، ولا في زمان واحد لأن الحق لا يخرج غن أقوال جميع
الأمة، فلم يبق إلا قول من قال بإمامة الحسن وهم على ضربين، منهم
من ذهب إليها من طريق الاختيار، وقول هؤلاء يفسد بما دللنا عليه من
وجوب النص، فلم يبق إلا قول من أوجبها بالنص عليه، وهو الحق
المبين، لأنه لو ساوى هذا القول ما تقدم من الأقوال في الفساد لاقتضى
ذلك خروج الحق من الأمة، وقد بينا ذلك، وأنت إذا اتبعت هذه الطريقة
وسلكتها في إمامة الحسين عليه السلام ومن بعده من الأئمة وجدتها نهجا
واضحا وطريقا جددا (1) لأن كل من ذهب في الإمامة إلى غير مذهبنا في
إمام كل زمان بعينه إما أن ينفي وجوبها أو يثبتها لمن يعترف بنفي صفات
الأئمة التي أوجبناها بحجج العقول عنه، أو يدعي حياة ميت قد علم



(1) الجدد - بالتحريك -: المستوي من الأرض.
147
ضرورة موته أو يثبتها بطريق مثل الاختيار، أو الدعوة على مذهب
الزيدية، وقد دلت العقول أيضا على إن الطريق إليها لا يكون إلا النص
والمعجز، وهذه الطريقة إذا سلكت في إمامة صاحب زماننا هذا عليه
السلام كانت أوضح من غيرها وأحسم لكل شبهة، وأقطع لكل شغب،
لأن الإمام إذا وجبت عصمته والنص عليه فلم يبق في أقوال المختلفين في
إمام هذا الزمان ما يجوز أن يكون مطابقا لهذه الأدلة إلا قولان قول
الإمامية الذاهبين إلى إمامة ابن الحسن عليه السلام وقول شذاذ لم يبق
منهم إلا صبابة (1) قد كاد الانقراض يأتي عليهم كما أتى على أمثالهم، وهم
الواقفة على موسى بن جعفر عليه السلام، وهؤلاء يبطل قولهم - وإن
كانت الشبهة به زائلة وقتنا هذا - ما يعلمه جميع الأمة ضرورة وفاة موسى
ابن جعفر عليه السلام، ومشاهدة كثير من الناس له ميتا على حد أن لم يزد
في الوضوح على موت آبائه عليهم السلام لم ينقص عنه، فلم يبق ما يجوز
أن يكون صحيحا إلا قول من ذهب إلى إمامة ابن الحسن، فيجب أن
يكون صحيحا وإلا أدى ذلك إلى أن الحق مفقود من أقوال الأمة، وهذه
الجملة تبين إن ما ادعى صاحب الكتاب تعذره علينا ممكن سهل بحمد
الله ومنه.
فأما قوله: " إن الغيبة إن كان الخوف سببها فقد كان يجب أن يحصل
غيبة الأئمة في أيام بني أمية، وكثير من أيام بني العباس لأن الخوف كان
هناك أظهر وأكثر " فأول ما نقوله في ذلك: إن الأمر بخلاف ما ظنه
من زيادة الخوف في تلك الأيام على غيرها، لأنا نعلم إن من عدا إمام
زماننا عليه السلام من آبائه عليهم السلام لم يكن أحد منهم يدعى له،
ويحكم فيه، وينتظر منه إظهار العدل في مشارق الأرض ومغاربها وابتزاز



(1) الصبابة - بالضم -: بقية الماء في الإناء.
148
الأمر من أيدي الجائرين والمتغلبين، ولا أنه (1) صاحب الزمان، والمهدي
المنتظر لا صلاح ما فسد من الأمور، وارتجاع ما غصب من الحقوق،
وهذا كله موجود في إمامة صاحب الزمان مفقود في إمامة من تقدمه من آبائه
سلام الله عليهم أجمعين، ولهذا كتمت ولادته، وأخفي في الابتداء
أمره، وكيف لا يكون الحال كذلك، ولما مات الحسن عليه السلام جمع
جواريه وسراريه (2) واحتاط عليهم المتملك في ذلك الوقت للأمر ليظهر له
ميلاد القائم عليه السلام الذي ينتظر منه العجائب، وقلب الدول
والممالك، ولم يعلم أن ميلاده قد تقدم، وإنه عليه السلام ولد قبل وفاة
أبيه صلوات الله عليهما بزمان طويل فكيف يجمع منصف بين أحوال
صاحب الزمان مع ما ذكرناه وأحوال من تقدم من آبائه عليهم السلام
فيما يقتضي الخوف والغيبة والاستتار والأمن، وكيف يضم في باب الخوف
والتقية من المتملكين للأمور، والمستبدين بالدول بين من لا يخافونه على ما
في أيديهم ولا ينازعهم شيئا من أمورهم، ولا يقضى له ولا يدعى فيه
أنه المنصور عليهم، والسالب لنعمتهم، وبين من تجتمع فيه هذه
الصفات، والفرق بين هذين الأمرين فيما يدعو إلى الخوف والتقية أوضح
من أن يطنب فيه، وهو بالعكس مما قضى به صاحب الكتاب على أن
أحوال الخائف إنما يرجع فيها إلى اعتقاداته، فظنونه واعتقاداته بحسب ما
يظهر له من الإمارات التي تقتضي الخوف أو الأمن ولا مرجع في أحوال



(1) أي ولا أن أحدا من الأئمة أدعي له.
(2) السرية: الأمة التي بوأتها بيتا، وهي فعيلة منسوبة إلى السر وهو الإخفاء لأن
الإنسان كثيرا ما يسرها عن حرته، وهي بضم السين وإنما ضمت السين لأن الأبنية قد
تغير في النسب خاصة كما قالوا بالنسبة إلى الدهر دهري، وإلى الأرض السهلة سهلي بضم
أولهما والجمع " سراري " وقال الأخفش: هي مشتقة من السرور لأنه يسر بها يقال:
تسرر جارية وتسرى أيضا، مثل تظنن وتظنى.
149
الإنسان من خوف وأمن إلى غيره، ولهذا نجد كثيرا من العقلاء يقدم في
بعض المجالس التي يلزم فيها الخوف والتقية في الظاهر على أفعال وأقوال
لا نراه يقدم على مثلها في غير ذلك المجلس مما لا يظهر لنا فيه قوة إمارات
الخوف، ولا يلزم أن ننسبه إلى السفه من حيث لم يظهر لنا ما ظهر له،
لأنه يجوز أن يختص بإمارات تقتضي شدة الخوف في الموضع الذي يظهر لنا
فيه ضعف الخوف ويختص بإمارات تقتضي ضعف الخوف في الموضع الذي
يظهر لنا قوته، والعادات تشهد بما ذكرناه شهادة لا يحتاج معها إلى الاكثار فيه.
فأما قوله: " وكيف تصح الغيبة مع شدة الحاجة إلى الإمام فيما
يتصل بالتكليف، ولئن جاز ذلك ليجوزن أن لا ينصب الأدلة للمكلف
مع قيام التكليف " فقد مضى الكلام في هذا المعنى مستقصى وتكرر في
أثناء نقضنا عليه، وبينا أن سبب الغيبة هو فعل الظالمين، وتقصيرهم فيما
يلزم من تمكين الإمام فيه والإفراج بينه وبين التصرف فيهم، وبينا أنهم
مع الغيبة متمكنون من مصلحتهم بأن يزيلوا السبب الموجب للغيبة ليظهر
الإمام، وينتفعوا بتدبيره وسياسته، وفرقنا بين ذلك وبين أن لا ينصب
الله تعالى الأدلة للمكلف، أو لا يمكنه، بأن قلنا: لو فعل ذلك - تعالى
عنه علوا كبيرا - لكان مكلفا لما لا يطاق، ولكان فقد العلم والانتفاع به
من قبله تعالى خاصة، ولا مدخل للمكلف فيه، ولا أتى فيه من تقصيره
وغيبة الإمام بخلاف ذلك لأن التمكن من المصالح معها ثابت، وما فقد
من المنافع بالغيبة مرجعه إلى الظالمين الذين سببوها وألجأوا إليها.
فأما قوله: " هلا وجب على مذهبهم حراسة إمام الزمان من جهة الله
تعالى، وأن يعصمه من كل مخافة " فإنا نقول له في ذلك: الحراسة والعصمة
من المخافة على ضربين فمنها ما لا ينافي التكليف، ولا يخرج المكلف إلى
حد الالجاء، وهذا القسم قد فعله الله تعالى على أبلغ الوجوه وحرس

150
الإمام بالحجة وأيده ونصره بالأدلة، وأما القسم الآخر فهو ما نافى
التكليف وأخرج من استحقاق الثواب والعقاب، وإلزامنا هذا القسم من
عجيب الأمور لأن الإمام إنما يحتاج إليه للمصلحة في التكليف فكيف
يجمع بينه وبين ما نافاه ونافى التكليف، وهل هذا إلا مناقضة من الملزم أو
قلة تأمل لما يقوله خصومه.
فأما ما حكاه عن واصل بن عطاء من ذكر الفترة والاستشهاد
بالقرآن وإجماع علماء المسلمين عليها، فمن بعيد الكلام عن موقع
الحجة، لأن قوله تعالى: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم
على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير) (1) صريح في
أن الفترة تختص الرسل، وأنها عبارة عن الزمان الذي لا رسول فيه،
وهذا إنما يلزم من ادعى أن في كل زمان حجة هو رسول فأما إذا لم يزد
على ادعاء حجة وجواز أن يكون رسولا وغير رسول فإن هذا الكلام لا
يكون حجاجا عليه.
فأما ادعاؤه إجماع علماء المسلمين على الفترات بين الرسل، فإن
أراد بالفترات خلو الزمان من رسول وحجة فلا إجماع في ذلك، وكل من
يقول بوجوب الإمامة في كل زمان وعصر يخالف في ذلك، فكيف يدعى
الإجماع وهذه الجملة تبين فساد جميع ما أورده في الفصل الذي حكيناه إلى
آخره.



(1) المائدة 19.
151
فصل
في اعتراض كلامه
فيما يجب أن يكون عليه الإمام من الصفات
إعلم أنه وإن كان لا خلاف بيننا وبين صاحب الكتاب وأصحابه في
الأوصاف التي أثبتها للإمام من كونه عاقلا حرا مسلما عدلا، فإنه قد
استدل على بعض ما وقع عليه الخلاف من ذلك بما لا يدل عليه، ونحن
إن أثبتنا كون الإمام عدلا، وتيقنا كونه فاسقا فطريقنا في ذلك ما تقدم
بياننا له من أدلة عصمته وطهارته، فمن لم يسلك في ذلك ما سلكناه لم
يصل إلى المطلوب منه، ونحن نعترض على ما استدل به على كونه عدلا
ونبين ما يمكن أن يطعن به من جوز من الأمة كون الإمام بخلاف هذه
الصفات.
قال صاحب الكتاب بعد أن قدم فصلا يتضمن اختلاف الناس في
صفاته، وبعد أن ذكر أنه لا خلاف في كونه حرا عادلا مسلما: " فأما
الذي يدل على وجوب كونه عدلا فلأنه قد ثبت أن العدالة مطلوبة في
الشاهد والحاكم ولا خلاف أن الإمامة أعلى منزلة منهما فيما يتعلق بأمر
الدين، لأن إليه ما إليهما وزيادة، فإذا كان الفسق يمنع من كونه شاهدا
وحاكما فبأن يمنع من كونه إماما أولى ".
ثم قال: " فإن قيل: إذا لم يمنع فسقه من أن يكون إماما في

153
الصلاة فهلا قلتم: إنه لا يمنع من كونه إماما (1)، قيل له: إن دل ذلك على
جواز كونه إماما فجوزوا كونه حاكما وشاهدا (2) بمثله وإنما جوز أن يكون
إماما في الصلاة لأنها لا تتعلق بحقوق الغير (3) فجوزت إمامته كما جوزت
صلاته، لأنها مبنية في الجواز على جواز صلاته، ومن حق الإمام أن يقوم
بالحقوق كالحدود والأحكام، والانصاف والانتصاف، وأخذ الأموال من
وجوهها، وصرفها في حقها والفاسق لا يؤمن (4) على ذلك،... " (5).
يقال له: إن لمن خالف في هذا الباب أن يقول: أنا أسوي فيما أجزته
بين الإمام والحاكم والشاهد، لأنني إنما أجيز أن يكون الإمام فاسقا بما
يرجع إلى المذاهب والاعتقادات، ويدخل التأويل في والشبهة، كاعتقاد
مذهب الخوارج بالشبهة، أو بعض البدع التي يحمل عليها سوء التأويل
فيه دون ما يتعلق بأفعال الجوارح، ويجب الحد على مرتكبه، وإذا كان
هذا هو المحصل من المذهب في الإمام سويت بينه وبين الشاهد والحاكم،
وجوزت في كل واحد ما جوزته في الآخر، فمن أين لك أني أمتنع من
إجازة ذلك في الشاهد والحاكم؟.
فإن قلت: لا خلاف في أن الشاهد يجب أن يكون عدلا، وكذلك



(1) بناء على تجويزهم إمامة الفاسق في الصلاة عملا بالحديث الذي يكذب متنه
سنده: (صل خلف كل بر وفاجر) الذي وضعه وعاظ السلاطين، بإيحائهم لأن
إمامة الصلاة كانت للأمير والوالي واجتراح أكثرهم للموبقات معلوم فخافوا أن ينفض
الناس عنهم فطلبوا من أولئك الوعاظ - وما أكثرهم في كل زمان ومكان - أن يقولوا
للناس: لا مانع من الصلاة خلفهم لأن الائتمام يجوز بالبر والفاجر عملا بالحديث
الذي ما نطق به من لا ينطق من الهوى!.
(2) غ " لمثله ".
(3) لا تتعلق بالغير خ ل.
(4) غ " لا يؤتمن ".
(5) المغني 20 ق 1 / 202.
154
الحاكم.
قيل لك: إنما الذي لا خلاف فيه من عدالته أن لا يكون فاسقا
بفسق يتعلق بأفعال الجوارح وبما لا يرجع إلى المذاهب والاعتقادات التي
يسوغ فيها التأويل، وما عدا ذلك فكل الخلاف فيه، وله أيضا أن
يقول: لو فرقت بين الإمام والحاكم في وجوب العدالة لجاز لي أن أقول
أيضا أن الإمام إذا كان فاسقا فليس له أن يحكم بنفسه الحكم الذي يعتبر
فيه العدالة، وإن كان له أن يولي الحكام فيحكموا إذا كانوا عدولا،
وكيف يسوغ لأحد أن يجمع بين القول بأن الحكم يوجب العدالة، وبين
القول بأن الإمام له أن يحكم مع كونه غير عدل فبطل قول صاحب
الكتاب " إن إليه ما إليهما وزيادة ".
فأما قوله - في جواب من عارضه بالصلاة -: " فجوزوا
كونه حاكما وشاهدا لهذه العلة " فقد بينا أنهم يجوزون ذلك على الحد
الذي جوزوه في الإمام، وهو فيما دخل فيه التأويل والشبهة دون ما عداه.
فأما فرقه بين الأمرين بأن إمامة الصلاة لا تتعلق بحقوق الغير،
وإمامة المسلمين كلهم تتعلق بالحقوق المتعدية فلقائل أن يقول إن إمامة
الصلاة أيضا تتعلق بحقوق تتعدى إلى غير الإمام ألا ترى إن صلاة المؤتم
بخلاف صلاة المنفرد، وإن الإمام يتحمل عن المؤتمين وما لا يكون
حاصلا إذا كانوا منفردين، وتسقط عنهم في حال الإمامة أفعال تجب
عليهم إذا انفردوا بالصلاة فكيف يقال مع ذلك: " إن إمامة الصلاة لا
تتعلق بحقوق تتعدى إلى الغير ".
فأما قوله: " إن الفاسق لا يؤتمن في إقامة الحدود وأخذ الأموال
وصرفها في وجوهها " فهو كذلك إلا أنه يلزم عليه أن يقال في مقابلته ومن
لا يؤمن من أن يكون فاسقا ويجوز أن يكون مبطنا للفسق، وإن كان
مظهرا للعدالة لا يؤمن أيضا في شئ مما ذكرته على أن لمن خالف في
وجوب عدالة الإمام أن يقول: هذا لا يلزم على المذهب الذي جوزناه

155
وبيناه لأنه إذا كان مقدما على اعتقاد فاسد لشبهة مع تحريه الحق في كل ما
يعتقده قبيحا آمنا منه أن يقدم على أخذ الأموال ووضعها في غير موضعها
لأن ذلك لا يشتبه عليه قبحه أصلا.
ثم قال صاحب الكتاب: " وبعد، فإن فسقه إن لم يمنع من
الإمامة فيجب تجويز كونه إماما، وإن ظهر منه ما يوجب الحدود، ومن
هذا حاله لا يؤتمن على إقامتها، وبعد فقد ثبت أن الواجب التوصلي إلى
أنه لا يضيع الحدود (1) فلو جاز كونه إماما (2) وهذا حاله لكان الحد
الواجب ضائعا، وبعد فقد ثبت بإجماع الصحابة أن الإمام يجب أن يخلع
بحدث يجري مجرى الفسق، لأنه لا خلاف بين الصحابة في ذلك وإنما
اختلفوا في أيام عثمان هل أحدث ما يوجب (3) خلعه أم لم يحدث؟ فهذا
أيضا يبين ما قلناه،... " (4).
يقال له: قد بينا أن من خالف في وجوب عدالة الإمام لم يجوز كونه
متظاهرا بما يوجب الحد على فاعله، وإنما يجوز أن يكون فاسقا باعتقاد
فاسد حمله عليه سوء التأويل، وليس في ضروب الفسق الذي يوجب
الحدود ما يجوز أن يدخل الشبهة على أحد فيه حتى يعتقد بالتأويل إباحته،
فلا يلزم على هذه الجملة أن يجوزوا كونه إماما وإن أقدم على ما يوجب
إقامة الحدود قياسا على كونه خارجيا أو صاحب بدعة اعتقدها لشبهة.
فأما خلع الإمام للحدث فلا ينقض هذه الجملة لأن الصحابة لم



(1) غ " لا يمنع الحدود ".
(2) " فلو جاز كونه إماما " ساقطة من " المغني ".
(3) غ " هل أحدث حدثا يوجب خلعه ".
(4) المغني 20 ق 1 / 203.
156
تجمع على وجوب خلع كل عاص، وإنما اعتقدوا وجوب خلع من أقدم
على ما لا شبهة في مثله ولا انتظام لأمر الإمامة معه مثل أخذ الأموال
وصرفها في غير وجوهها، وليس كل حدث يجري هذا المجرى، ألا ترى
أنه ليس لأحد أن يعلل ما أجمعت الصحابة على استحقاق الخلع له من
المعاصي بأن يقول لا علة لذلك إلا كونه معصية فيجب أن أخلع الإمام
لكل معصية، وإن كانت معصية صغيرة، فلذلك ليس لأحد أن يجعل
العلة فيما اقتضى الخلع كونه حدثا، تأمل.
قال صاحب الكتاب بعد أن أجاب عن سؤال لا يسأل عنه (فإن
قال: إنما أسلم (1) أن الفسق الذي يتعلق بأفعال الجوارح يمنع من كونه إماما
فمن أين أنه إذا كان متعلقا بمذهب وتأويل يمنع من الإمامة [وما أنكرتم
أن الباغي إذا كان متأولا، وكذلك الخارجي لا يمنع كونهما إمامين؟] (2).
قيل له: إن الواجب علينا منع الباغي عن بغيه وتصرفه فيما
يتصرف فيه، ومن حق الإمام أن يمنع غيره، ولا يمنع، وأن تلزم
طاعته، فكيف يصح كون من هذه حاله إماما، ولأن الأمير إذا ظهر منه
البغي وجب على الإمام أن يعزله ويمنعه من البغي، وكذلك يجب على
المسلمين إزالة الباغي عن بغيه، ويلزمهم إقامة الإمام، وذلك يمنع فيمن
هذه حاله أن يكون إماما، ولأن إقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام، لا يجوز
أن يقوم به كل أحد، فلا بد فيمن يقوم به من صفة مخصوصة، وقد ثبت
إذا كان عدلا وعلى الصفات التي نقولها أن قيامه بذلك يصح ولم يثبت
ذلك في الباغي، فيجب أن يكون حاله كحال سائر الناس،...) (3).



(1) غ " إنا لنسلم ".
(2) التكملة من المغني ".
(3) المغني 20 ق 1 / 203.
157
يقال له: أما قولك: " إن الواجب علينا منع الباغي من بغيه
وتصرفه فيما يتصرف فيه " فلفظ الباغي لفظ مشكل محتمل، فإن أردت به
من شق عصا المسلمين، واستبد عليهم بأمورهم، واستولى على
حقوقهم، فلا شك في منع من هذه صفته عن تصرفه بالقول والفعل،
وليس الخلاف في ذلك، وإن أردت بالباغي من اعتقدت مذهبا فاسدا لشبهة
دخلت عليه وكان متحريا في سائر أموره لما يعتقده حقا، فإن هذا إنما يجب
منعه بالتنبيه والارشاد والوعظ وإقامة الحجة، ولا يجب بغير ذلك، وإن
أردت بقولك: (ومن حق الإمام أن يمنع غيره ولا يمنع) المنع الذي يكون
بالقهر والأخذ على اليد فذلك صحيح، وهو لا ينفع في هذا الموضع،
وإن أردت الضرب الآخر من المنع الذي هو التنبيه والارشاد فلا إطباق
معك عليه.
فأما قوله: " إن الأمير إذا ظهر منه البغي وجب على الإمام عزله "
فإن أراد به البغي الذي قلنا إنه يمنع من الإمامة فلا شك فيما ذكره، وإن
أراد به ما يرجع إلى الاعتقاد والمذاهب المتأولة فمن يوافقه على وجوب عزل
الأمير إذا أظهر ذلك؟ وهل القول في الأمير في هذا الباب عند من ذهب
إلى المذهب الذي حكيناه إلا كالقول في الإمام؟.
وأما قوله " إنه لا خلاف في أن العدل ومن كان على الصفات التي
تقولها يصح أن يكون إماما ولم يثبت ذلك في الباغي فأكثر ما يقتضيه هذا
الكلام أن يقطع على جواز إمامة العدل، ويشك فيمن لم يكن عدلا لأن
فقد الإجماع فيمن ليس بعدل إنما يقتضي الشك دون القطع على أن إمامته
لا تجوز، وصاحب الكتاب إنما شرع في الدلالة على فساد إمامة من ليس
بعدل قطعا لا تجويزا، وهذا الكلام لا يقتضي ذلك.

158
ثم قال صاحب الكتاب: بعد أن سأل نفسه عما لا شبهة في مثله،
وأجاب عنه:
" فإن قال جوزوا فيمن يفسق بالتأويل أن يكون إماما كما جوزتم مثله
في الشاهد، قيل له: قد بينا أن شيخينا (1) يقولان: إن ذلك يمنع من
صحة شهادته، فلا مسألة عليهما لأنهما قد أجريا الباب مجرى واحدا، فأما
غيرهما فإنه وإن أجاز في الشاهد ذلك، فإنه لا يجيزه في الإمام لما له من
الرتبة كما لا يجيزه في الأمير والحاكم، ولأنه لا يجوز أن يكون الفضل
مطلوبا فيه، وما يقدح في الفضل غير معتبر، وقد علمنا أن الفسق
بتأويل يقدح في الفضل، فيجب أن يكون معتبرا في هذا الباب، ولأن
الواجب علينا إقامة الحكم من تأديب وغيره على من يقدم على هذا الفسق
المتأول، فلا يجوز أن يكون مظهرا لمثله كما قلناه في الفسق الذي يوجب
الحدود ".
ثم قال: " واعلم أن من خالف في هذا الباب لا يجيز أن يختار
للإمامة من هذه حاله، وإنما نقول إذا خرج وغلب وقهر وسلك طريقة
الأئمة فهو إمام، وربما قالوا يقوم مقام الإمام، فإذا صح بما سنذكره أن
الواجب أن لا يكون إمام إلا باختيار أهل الحل والعقد له فقد صح ما
ذكرناه بالاجماع لأنه لو كان بغيه لا يمنع من إمامته (2) لصح أن يختار وهذه
حاله ابتداء (3) ". ثم اتبع بما يجري مجرى التفريع على مذاهبه في
هذا الباب لا معنى لتتبعه.



(1) يعني بهما أبا هاشم الكعبي وأبا علي الجبائي كما تقدم ذلك غير مرة.
(2) غ " من اقامته ".
(3) المغني 20 ق 1 / 205.
159
يقال له: أما من منع في الشاهد أن يكون فاسقا بالتأويل كما منع
أن يكون فاسقا بغير التأويل، فليس يلزمه السؤال الذي أوردته.
فأما احتجاجه عمن أجاز ذلك بذكر الرتبة بين الشاهد والإمام،
فمما لا يغني شيئا لأن لقائل أن يقول لا شبهة في أن للإمام رتبة على
الشاهد إلا أنه من أين زعمتم أن مزيته وزيادة رتبته يقتضيان أن لا يكون
فاسقا بالتأويل وإن جاز مثل ذلك في الشاهد، أوليس مع أن له الرتبة
على الشاهد يجوز أن يكون باطنه بخلاف ظاهره، ولا يجب أن يكون ممن
يقطع على باطنه كما لا يجب مثل ذلك في الشاهد، فإن كانت رتبته على
الشاهد لا تقتضي فيه أن يكون مأمون الباطن، وجاز أن يكون مساويا
للشاهد في العدالة المرجوع فيها إلى الظاهر فإلا جاز مع أن له الرتبة عليه
أن يتساويا في تجويز الفسق الراجع إلى التأويل؟.
فأما الكلام في رد حال الإمام في ذلك إلى حال الأمير والحاكم فقد
تقدم.
فأما قوله: " لا يجوز أن يكون الفضل مطلوبا وما يقدح في الفضل
غير معتبر وأن الفسق بتأويل يقدح في الفضل " فإن الذاهب إلى المذهب
الذي حكيناه يقول: إن الفضل وإن كان مطلوبا مع سلامة الأحوال فإنه
لا يمتنع أن تعترض أمور تدفع المختارين إلى ترك اعتبار الفضل، واختيار
من يقوم بالإمامة ويضطلع بها، وإن لم يكن فاضلا كما أن الأفضل عندك
مطلوب في الإمامة مع سلامة الأحوال، ومع هذا فلا يمتنع على مذهبك
أن يعترض في بعض الأحوال ما يوجب العدول عن الأفضل إلى
المفضول، وإن كان الأفضل هو المطلوب مع السلامة فاجعل عذرك في
العدول عن الأفضل في بعض الأحوال وإن كان هو المطلوب مع السلامة
عذرا لمن عدل عن الفاضل في بعض الأحوال للضرورة، وإن كان الفضل

160
مطلوبا على أن من ذهب إلى هذا المذهب لا يقول: إن الفضل يقدح فيه
الفسق، سواء كان بتأويل أو بغير تأويل لأن الأعمال عنده لا تتحابط ولا
المستحق (1) عليها من ثواب وعقاب.
فأما قولك: " إن الواجب علينا أن لا نقيم الأحكام من تأديب وغيره
على من يقدم على الفسق المتأول كما نقيم الحدود على من يفعل من الفسق
ما يقتضيها " فقد تقدم أن من أجاز ما ذكرناه لا يجيز كون الإمام فاسقا بما
يتعلق بأفعال الجوارح، ويوجب إقامة الحدود، وإنما يجيز ذلك فيما يرجع
إلى الاعتقادات والمذاهب، فإن أردت بالأحكام التي نقيمها عليه الحدود
وما أشبههما فقد أفسدناه، وإن أردت الاستدعاء والوعظ وما أشبهها فقد
يجوز أن يستعمل مثل ذلك مع الإمام، ولا تكون إمامته مانعة منه،
وكيف يمتنع من ذلك من يجيز أن توقف الأمة الإمام وتعلمه وتفيده العلم
بالأحكام، وتناظره فيها وتحاجه، ويرجع إلى أقوالها بعد أن كان أفتى
بخلافها.
فأما ما حكيته في آخر الكلام من أن من خالفك في هذا الباب لا
يجيز أن يختار للإمامة ابتداء من هذا حاله، وإنما يقول بإمامته إذا خرج
وغلب واستولى، فهو تمن لا يكون المذهب على الوجه الذي يسهل عليك
إفساده، ومن خالف فيما حكيناه فهو في الجملة ممن يقول إن الإمامة لا
تنعقد إلا باختيار أو نص وأنه لا يكون إماما بالغلبة والقهر، وإنما لا
يجيز أن يختار للإمامة من يعتقد اعتقادا فاسدا بالتأويل إذا كانت الحال حال
سلامة، فأما إذا اضطرت الحال إليه ولم يوجد في العصر من



(1) لعله " ولا يسقط المستحق عليها " أو ما يؤدي هذا المعنى.
161
يضطلع بالإمامة ويقوم بها اضطلاعه (1) جاز عندهم اختياره على ما تقدم فيما
فصلناه وأوضحناه.



(1) أي كاضطلاعه.
162
فصل
في اعتراض ما أورده من الكلام
في القدر الذي يختص به الإمام من العلم
إعلم أن معاني الكلام في هذا الباب قد تقدم كلامنا عليها
مستقصى فيما مضى من كتابنا حيث دللنا على وجوب كون الإمام عالما
بجميع أحكام الدين، فإنا ذكرنا في الدلالة على ذلك وجوها
استقصيناها، وأوضحنا شرحها، وفرقنا بين الولاية والتكليف، وبينا أن
تكليف الشئ من لا يعلمه إذا كان له سبيل إلى علمه حسن جائز، وإن
ولايته الشئ الذي لا يعلمه قبيحة، وإن كان المتولى متمكنا من أن
يعلم، وذكرنا في ذلك ما لا زيادة عليه، وقد اعترف صاحب الكتاب في
هذا الفصل بما نريده، وسلم غاية ما نقترحه، لأنه قال: " إن علم
الإمام بجميع أحكام الدين إنما يجب على مذهب من يقول إنه حجة وإنه
معصوم دون من لا يوجب ذلك " وهذا لعمري صحيح وقد دللنا على أنه
حجة ومعصوم، فيجب أن يتبع (1) ذلك ما اعترف بوجوب اتباعه له من
كونه عالما بجميع الأحكام.
فأما قوله في هذا الفصل: " إنه لا يشترط في ذلك من العلم ما لا
تعلق له بما يقوم به، وما لا يكون أصلا لذلك، لأنا متى اعتبرنا ذلك لم



(1) لا يمنع، خ ل.
163
يكن بعض العلوم بأن يعتبر أولى من بعض، وذلك يوجب كونه عالما
بسائر اللغات، وسائر الحرف وغير ذلك،... " (1). فقد أصاب في أن ما
لا تعلق له بما يقوم به الإمام لا يجب أن يعلمه، إلا أنه ظن علينا أنا
نوجب هذا الجنس من العلوم، فلهذا أتبع كلامه بالحكاية عنا إيجاب كونه
عالما بما جرى مجرى الغيب ومعاذ الله أن نوجب له من العلوم إلا ما تقتضيه
ولايته، ويوجبه ما وليه، وأسند إليه من الأحكام الشرعية، وعلم الغيب
خارج عن هذا.
فأما قوله: " فيجب أن يكون عالما أو في حكم العالم بما
يتصل بالأحكام والشرائع، يبين ذلك أن الحاكم يقوم بالأمور التي يقوم
هو بها، فإذا لم يعتبر في الحاكم إلا ما ذكرناه فكذلك القول في الإمام،
وبعد، فلا يخلو إذا قال المخالف إنه يجب أن يعلم أكثر مما ذكرناه، وأن
يوجب في كونه عالما أن يستقل بنفسه، وأن لا يحتاج إلى غيره في شئ من
الأحكام، أو يجوز ذلك فيه، فإن منعه لزمه أن يعلم كل ما يتصل
بالأحكام من القيم والأروش (2) وما يتصل بالصناعات وبطلان ذلك يبين
جواز رجوعه إلى غيره " فقد تقدم الكلام على هذا ونظائره من كلامه لأن
معنى قوله (أن يكون في حكم العالم هو أن يكون متمكنا من العلم) وقد
بينا أن التمكن من العلم لا يحسن ولاية الشئ من لا يعلمه.
فأما حمله الإمام في هذا الباب على الحاكم فقد مضى الكلام أيضا
فيه وبينا أن كلا الأمرين واحد في هذه القضية، وأن الحاكم لا يجوز أن
يولى الحكم فيما لا يعلمه على وجه ولا سبب، وأن كل شئ لم يعلمه
الحاكم المنصوب للأحكام فهو خارج عن ولايته، ومستثنى به عليه،
ويجب متى عرض ما لا يعلمه من الأحكام أن لا يقدم على الحكم فيه،



(1) المغني 20 ق 1 / 208.
(2) الأروش - جمع الأرش بوزن العرش -: دية الجراحات.
164
وينهيه إلى الإمام، وبينا أن ولاية الحاكم خاصة، وولاية الإمام عامة فلا
يمكن أن يقال في ولاية الإمام ما قلناه في ولاية الحاكم.
فأما إلزامه إذا ذهبنا إلى وجوب استقلاله بنفسه في العلم بالأحكام
التي ولي لتنفيذها، ونصب لإقامتها أن يعلم كل شئ حتى يعلم القيم
والأروش والصناعات، فمن طريف الالزام وغريبه، لأنا إنما أوجبنا ما
ذهبنا إليه في هذا الباب من حيث كان الإمام حاكما في الدين، وواليا في
تنفيذ أحكامه، فيجب في كل حكم لله تعالى في الدين أن يعلمه لينفذه ويضعه في
مواضعه، وأبطلنا قول من خالفنا وذهب إلى جواز كونه غير عالم بكثير من
الأحكام المشروعة التي تعبد بعلمها، وندب إلى معرفتها، فأين هذا من
العلم بالحرف والمهن والقيم والأروش، وكل ذلك مما لا تعلق له بالشريعة
ولا كلف أحد من الأمة إماما كان أو مأموما العلم به لا على سبيل الندب
ولا الايجاب؟ وإنما تكليفهم المتعلق بالشريعة في ذلك أن يرجعوا إلى أهل
القيم والمعرفة بالصناعات، لا أن يقوموا ذلك بأنفسهم.
ثم يقال: مثال (1) ما أجزته على الإمام فيما يتعلق بالصناعات أن يكون
غير عالم فيما يكون حكم الله تعالى فيه الرجوع إلى أهل صناعة مخصوصة
بهذا الحكم، لأنك قد أجزت تظاهره عليه، وليس مثال ذلك ألا يكون
عالما بنفس الصناعة والمهنة على أنك تقول: إن كون الإمام عالما بجميع
أحكام الشريعة أفضل وأكمل، ومن كان بهذه الصفة أولى من غيره،
فهل تقول إن من كان عالما بالمهن والصناعات كان أفضل وأكمل فيما
يتعلق بالإمامة، وأولى بها من غيره؟ فما تثبته أنت وأصحابك فضلا
وكمالا، وتجعلونه أولى نوجبه، وما لا تثبتونه بهذه الصفات لا نوجبه
نحن، من حيث لا تعلق له بأحكام الشريعة وما يجب على الإمام من
إقامتها، وإنما يجب أن يكون عالما بالصنائع والمهن لو كان واليا على أهلها



(1) " ومثل " خ ل.
165
فيها كما أوجبنا إذا كان واليا في الدين ورئيسا في الشريعة أن يكون عالما
بأحكامها، فأما والأمر بخلاف ذلك فإن إلزامه العلم بالصنائع على العلم
بأحكام الشريعة من بعيد الالزام.
على أنك لا تجيز أن ينصب للإمامة إلا من كان عالما بالأحكام
الشرعية، أو في حكم العالم، ومعنى أن يكون في حكم العالم: أن يتمكن
من الاجتهاد والاستدلال على إصابة الحكم.
وقد يجوز عندك وعند كل أحد أن ينصب للإمامة من لا يكون
عالما بالصنائع والمهن ولا في حكم العالم فبان افتراق الأمرين، وإنه لا
تعلق للصنائع والمهن والعلم بها بأحكام الشريعة. فما توجب أنت كون
الإمام في حكم العالم به إذا لم يكن عالما نوجب نحن كونه عالما به، وما
لا توجب ذلك فيه ولا تجعله شرطا في إمامته لا يجب عندنا أن يكون
حاصلا له، وهذا واضح.
فأما قوله: " فإن قيل: فيجب وإن لم يكن من أهل الاجتهاد أن
يجوز كونه إماما بأن يرجع إلى قول العلماء، قيل له: قد ثبت أن ذلك
ممتنع في الحكام، وأن الإمام يجب أن يكون أعلى رتبة فلا يصح ذلك
فيه، ولأن إلزام الحكم أوكد من الفتيا فإذا لم يحل أن يفتي المفتي إلا وهو
من أهل الاجتهاد فبأن لا يحل له أن يحكم إلا وهو كذلك أولى، وقد ثبت
بما سنذكره إمامة أبي بكر وعمر وعثمان، وإن كانت حالهم تتفاوت (1) في
العلم، وفيهم من يقصر عن صاحبه، وقد صح أن أمير المؤمنين عليه السلام



(1) غ " تتقارب ".
166
كان أعلم منهم بالأحكام (1) وعدل مع ذلك إليهم، وذلك يبين أن
القدر الذي يطلب من العلم في من يختار للإمامة ما ذكرناه،...) (2) فأول
ما فيه أنا نسوي في الالزام بين الإمام والحاكم، فنقول لم لا يكون الحاكم
أيضا يرجع إلى أهل الفتيا في الأحكام فيحكم بقولهم، وإن لم يكن من
أهل الاجتهاد، فقوله: " قد ثبت أن ذلك ممتنع في الحاكم " دعوى لا نوافقه
عليها، وكيف يظن لمن يلزم مثل هذا الالزام في الإمام وهو حاكم الحكام
أن يسلم امتناع مثله في الحكام الذين يتولون من قبل الإمام.
فإن قيل: إن الذي يمنع من أن يكون الحاكم بهذه الصفة إجماع الأمة
لأنهم متفقون مع اختلافهم على أن الحاكم لا بد من أن يكون من أهل
الاجتهاد، ولا يجوز كونه عاميا مقتصرا في الأحكام على الاستفتاء.
قيل له: هذا يمكنك أن تقوله بعينه في الإمام، ولا يكون لردك
حال الإمام إلى حال الحاكم معنى في أمر متى نوزعت فيه، وطولبت
بالدلالة على أنه شرط في الحاكم فزعت إلى طريقة يمكن أن يستدل بها في
الإمام والحاكم معا على حد واحد، والجواب عن الاعتصام بالاجماع سواء
فزع إليه في الإمام أو في الحاكم أن الإجماع إذا كان هو المانع من ذلك
فيجب أن يكون جائزا قبل الإجماع لجواز كل أمر اختص الإجماع بالمنع
منه، وهذا يقتضي التصريح بتجويز إقامة إمام يحكم في جميع الشريعة،
ويكون إماما في جميع الدين وأحكامه، وهو مع ذلك خال من جميع
العلوم بأحكام الشريعة، معول في كل حكم يحدث على الاستفتاء
والرجوع إلى العلماء، وفي علمنا بقبح ذلك عند كل عاقل دلالة على أن
الإجماع لا مدخل له في المنع منه.



(1) غ " بالأخبار ".
(2) المغني 20 ق 1 / 209.
167
وأما قوله: " إن إلزام الحكم آكد من الفتيا " فلقائل أن يقول:
أليس الحاكم عندك قد يكون حاكما في أشياء كثيرة من الشريعة، وإن لم
يعلمها، بأن يرجع إلى من يعلمها فيستفتيه ويباحثه، ولا يجوز لأحد أن
ينتصب للفتيا فيما لا يعلمه، ويرجع في معرفته إلى غيره، بل لا يجوز له
أن يفتي بما يستفتى فيه غيره وإن جاز أن يحكم بما يستفتي فيه غيره، ولم
يقتض ذلك تأكد حكم الفتيا على القضاء، وتولي الأحكام فألا جاز ما
ألزمناك إياه من أن يكون الإمام والحاكم من غير أهل الاجتهاد، وإن لم
يجز في المفتي أن يكون بهذه الصفة؟ فإن منع مما ألزمناه تأكد الحكم على
الفتيا منع مما حكيناه عنك، وإن جوز أحد الأمرين جوز الآخر.
فأما ادعاؤه ثبوت إمامة من قصر في العلم عن غيره، فمبني على ما
لم يصح ولا يصح، وسنتكلم على ما أحال عليه بعون الله ومشيئته،
وأحد ما يدل على بطلان إمامة من ذكره تقصيره في العلم عن غيره،
واعترافه على نفسه بالخلو عن معرفة كثير من الأحكام، وتوقفه فيها
ورجوعه إلى غيره في إصابتها، والكلام في ذلك يجيئ في مواضعه.
فأما قوله: بعد كلام لا فائدة في حكايته لأنه كالتفريع على مذهبه:
" وبعد فإن الذي يقوم به الإمام هو الذي يقوم به الأمراء، وقد ثبت أنه
صلى الله عليه وآله وسلم كان يولي الأمراء والعمال على النواحي إذا عرفوا
من العلم القدر الذي ذكرناه فلا وجه للقول بالحاجة إلى زيادة
عليه،... " (1) فقد تقدم فيما مضى الكلام على هذا المعنى، وبينا أنه لا
يجوز أن يتولى الحكم في شئ من لا يعلمه سواء كان إماما أو أميرا وإن
الأمير إنما لم يجب فيه العلم بجميع أحكام الحوادث حتى يكون مساويا



(1) المغني 20 ق 1 / 210.
168
للإمام من حيث كانت ولايته خاصة وولاية الإمام عامة، وبينا أن الأمير
يرجع فيما لا يعلمه، وليس بأمير عليه، ولا حاكم فيه إلى الإمام، ولا
يجوز في الإمام مثل ذلك، لأنه لا يمكن أن يشير إلى شئ من الشريعة
ليس هو إماما فيه ومنصوبا لتنفيذ أحكامه، واستقصينا ذلك استقصاء
يغني عن تكراره هاهنا.
فأما قوله: " فإن قيل: أليس الرسول صلى الله عليه وآله يجب أن
يكون عالما بكل الدين وأعلم من سائر أمته، فهلا وجب في الإمام مثله ".
قيل له: إنما وجب في الرسول صلى الله عليه وآله ذلك لأن من
جهته يعلم أمر الشرع وهو الحجة فيه وإليه يرجع في باب الديانات ولا
يجوز أن يكون كذلك إلا ويفوق في العلم غيره، وإلا كان محتاجا إلى
غيره في بعض ذلك، وليس كذلك الإمام لأنه لا يعلم من قبله الديانات
والشرائع، وإنما فوض إليه القيام بأمور مخصوصة، فحاله كحال الحكام
والأمراء... " (1) فقد مضى أيضا الكلام على ذلك، وبينا أن الإمام
حجة في الشرع كالرسول، وأن الرجوع إليه في الديانات قد يحصل على
حد الرجوع إلى الرسول صلى الله عليه وآله لأنه إذا وقع من الأمة ما يجوز
عليها من الإعراض عن نقل بعض الأحكام حتى لم يبق نقل ذلك إلا
فيمن لا تقوم الحجة به، فلا مفزع في باب العلم بذلك الحكم إلا إلى
قول الإمام، ولا يصح أن يعلم إلا من جهته، ففي هذا الموضع يجري
الإمام مجرى الرسول في أن الشرع يعلم من جهته، وهو الحجة فيه، فلو
جوزنا أن يذهب عن الإمام بعض أحكام الشريعة لم يأمن أن يكون الذي
ذهب عنه هو الذي اتفق كتمانه من الأمة فلم نثق بوصول جميع الشرع



(1) المغني 20 ق 1 / 211.
169
إلينا، ويبطل ما هو أكبر الأغراض في نصب الإمام من حفظ الشريعة،
وتلافي ما يعرض فيها من خلل، على إنا نقول له: إذا كان المانع من
ذلك عندك هو كون الرسول صلى الله عليه وآله ممن لا يعلم الشرع إلا من
جهته فجوز فيه بعد أداء الشريعة كلها وقيام الحجة بها على المكلفين أن
يذهب عنه كثير من أحكام الشريعة حتى يحتاج عند حدوثها إلى الرجوع
إلى غيره، لأن العلة التي عولت عليها من أن الشرع لا يعلم إلا من جهته
هاهنا مرتفعة، وهذا حد لا يبلغه أحد في الرسول صلى الله عليه وآله.
ثم أورد صاحب الكتاب كلاما طويلا (1) يشتمل على موضعين
أحدهما أنه أجاب عن سؤال من يسأل عن الإمام: كيف يجوز أن يحتاج في
العلم إلى غيره مع حاجة ذلك الغير إليه بأن قال: " جهة الحاجة مختلفة وأن
المتناقض هو حاجته إليهم في نفس ما يحتاجون إليه فيه، وبين أنه يحتاج
إليهم في العلم ويحتاجون إليه في تنفيذ الأحكام، وإقامة الحدود، فالجهة
مختلفة " وقال: " إن ذلك يجري مجرى حاجة الإمام في إقامة الحد إلى
شهادة الشهود، والشهود يحتاجون إليه في غير ذلك ويجري مجرى حاجته
إلى المقومين فيما يرجع إلى ما وقع فيه التنازع وإن كانوا محتاجين إليه في
غير هذا الوجه "، والموضع الآخر أنه قال: " لا اعتبار فيمن يحتاج إلى
غيره في أمر من الأمور أن يكون ذلك الذي احتاج إليه فيه واجبا
حصوله، بل المراعى أن يكون ذلك الذي احتاج إليه حاصلا لمن تعلقت
الحاجة به، ولا فرق بين أن يكون واجبا أو جائزا " قال: " ولهذا يصح
عن أحدنا أن يستفيد من غيره الرزق إذا كان حاصلا له، وإن لم يكن
واجبا " والكلام عليه في الفصل الأول أنه ادعى فيه أن جهة حاجة العلماء
إلى الإمام وحاجته إليهم مختلفة، ولو كان الأمر على ما ظنه لما تناقض ذلك



(1) اختصره المرتضى هنا وتجده في المغني 20 ق 2121 و 213 كاملا.
170
على ما ذكره إلا أن الأمر بخلافه، لأنا قد بينا فيما تقدم أن الإمام حجة في
الشرع وأدائه، وأنه يستفاد من جهته، وأن الحال ربما انتهت إلى أن يكون
الشرع لا يعلم إلا من جهته، بأن يعرض الناقلون عن نقله، فكيف
يحتاج الإمام في تعلم العلم واستفادته على هذا إلى من يحتاج إليه في
ذلك بعينه، ولا شبهة في ارتفاع التناقض عن حاجته إلى الشهود مع
حاجتهم إليه لاختلاف وجه الحاجة وقد بينا أن الأمر فيما نتكمل عليه
بخلاد ذلك.
فأما الموضع الآخر فليس يجوز أن تكون الحاجة إلى أمر من الأمور
واجبة وذلك الأمر جائز حصوله وارتفاعه مع القول بأن المحتاج إليه مزاح
العلة، لأن وجوب حاجته يقتضي وجوب وجود ما يحتاج إليه حتى يكون
مزاح العلة، وهذه الجملة تقتضي أن تكون الأمة إذا وجب عملها
بالشرائع إلى أن تقوم الساعة، ووجب بوجوب ذلك علمها بالشرائع
يرجع في العلم إلى من يجب حصوله له، ولا يجوز عدمه من جهته، لأن
ذلك يؤدي إلى انتفاء إزاحة العلة في التكليف، وقد اعترف صاحب
الكتاب بمعنى ما ذكرناه بقوله عقيب هذا الكلام. " ولذلك نقول: إن
جملة العلوم يجب أن تكون محفوظة في الأمة وإن تفرقت في العلماء لكي
يصح أن يظفر بها من يطلبها من أهل العلم. فأما وجوب حصول ذلك في
الواحد فغير واجب لأنه لا فرق بين أن يوجد مفترقا في صحة التوصل إليه
أو مجتمعا عند واحد " وهذا تصريح منه كما ترى لوجوب حصول العلم
وإمكان الوصول إليه لتكون العلة مزاحة وما استأنفه من ذلك كالناقض
لما قدمه، لأنه أراد أن يبين أن حصول المحتاج إليه ليس يجب من حيث
تعلقت الحاجة به، وشبهه بالرزق وهو الآن قد اعترف بوجوب وجوده
وحصوله، إلا أنه قال: ليس يجب أن يحصل عند واحد بعينه بلا فرق في
إزاحة العلة بين وجوده مفترقا ومجتمعا، والأمر في ذلك على ما قال لأن

171
إزاحة العلة لا تقتضي وجود العلم في جهة واحدة بعينه، غير أن الدليل
إذا دل على أن من عدا الإمام لا يجب عصمته، ولا يؤمن الخطأ عليه لم
يجز أن تتعلق الحاجة في إصابة العلم المحتاج إليه به، ووجوب تعلقها
بالمعصوم الذي يؤمن من تغييره وتبديله، ويوثق بوجود العلم في كل حال
عنده، وإذا لم يكن من هذه صفته إلا واحدا وجب بهذا الترتيب المرجع
في علوم الشريعة إلى واحد.

172
فصل
في اعتراض كلامه في الأفضل (1)
إعلم أنه قد بني هذا الفصل على أن العقل لا يدل على كون الإمام
أفضل، وعلى أن هذه الصفة غير واجبة لمن كان إماما، وأن المرجع في
أنها مراعاة وغير مراعاة إلى الشرع وأدلته، وهذا بناء منه على فساد وتفريع
على خطأ، لأنا قد بينا فيما سلف من هذا الكتاب أن العقل دال على أن
الإمام لا يكون إلا الأفضل وأن الشرع لا مدخل له في هذا الباب، وقد
كان من حقنا أن نتجاوز هذا الفصل من كلامه لكنا نتكلم على نكت
منه، ففي الكلام عليها ضرب من الفائدة.
أما استدلاله على أن الفضل في غالب الظن، وفي الظاهر غير معتبر
في الإمام بقول عمر لأبي عبيدة: امدد يدك أبايعك، مع ظهور فضل أبي
بكر على أبي عبيدة، وتأويله قول أبي عبيدة في جوابه: ما لك في الاسلام
فهة (2) غيرها، على أنه لم يرد بذلك الخطأ في الدين، بل أراد الزلل في
الرأي والتدبير، واستدلاله على صحة تأويله بأن أبا عبيدة كان يجوز
الخطأ في الدين على عمر بعد الاسلام، فلا يجوز أن يريد بهذا النفي



(1) لخص المرتضى ما قاله قاضي القضاة في هذا الفصل وهي في " المغني " من
ص 215 إلى 234.
(2) الفهة: السقطة والجهلة ونحوها.
173
الخطأ في الدين على عمر، وبأن هذا الانكار لو كان لأجل فضل أبي بكر
لكان عمر أعرف بذلك من أبي عبيدة، فكيف يخفى عليه منه ما يظهر
لأبي عبيدة؟ قال: (إنما أراد أبو عبيدة ما لأبي بكر من المزية في سكون
الناس (1) إليه، أو مزيته في الأخبار (2) المأثورة فيه نحو قوله: (إن وليتم
أبا بكر)، وقوله (اقتدوا باللذين من بعدي) فباطل لا شبهة في تهافته،
لأنه ليس يكون في الانكار ما هو أبلغ من قول أبي عبيده لعمر ما قاله له،
وحمل ذلك على الخطأ في الرأي دون الدين باطل، لأن إضافة الفهة إلى
الاسلام تدل على أنها خطأ في الدين دون التدبير، ولأن إطلاق لفظ الخطأ
في عرف الشرع لا يحمل إلا على الدين، وإنما يعدل به إلى التدبير في
بعض المواضع لدلالة.
فأما تصحيحه لتأويله بأن أبا عبيدة كان يجوز الخطأ على عمر بعد
الاسلام، فطريف لأنه وإن كان يجوز ذلك عليه فليس يمتنع أن يكون
أبو عبيدة لم يظهر له من عمر خطأ بعد الاسلام إلا ما دعاه إليه من
المبايعة، وإن كان لا يجوز الخطأ عليه فليس في تجويز الشئ دلالة على
وقوعه وظوره.
وقوله - " إن عمر كان أعلم بفضل أبي بكر من أبي عبيدة،
فكذلك عمر كان أعلم بمزية أبي بكر في سكون الناس إليه والأخبار المأثورة
فيه من أبي عبيدة " فكيف جاز أن يقول ما قاله فليس له في هذا الباب إلا
مثل ما عليه، لأنه إن جاز له أن يدعي أن مزية أبي بكر فيما بينه من السكون
وغيره وخفيت على عمر جاز لخصمه أن يدعي أن مزيته في الفضل خفيت
على عمر، وإن قال: إن ذلك لم يخف عليه، وإنما عرض البيعة على أبي



(1) في النفوس، خ ل.
(2) غ " أو ما له مزية في الأخبار ".
174
عبيدة لوجه من الوجوه، قيل له: فأجز أن يكون عالما بالفضل والمزية
معا، وإنما عرض البيعة للوجه الذي نذكره.
فأما ارتضاؤه في علة تقديم أبي بكر للإمامة مبادرة إطفاء الفتنة
المتخوفة عقيب موت الرسول صلى الله عليه وآله لما كان من الأنصار، وأن
تأخير العقد في تلك الحال كان يؤدي إلى أمور يبعد تلافيها فلهذا قدموا
المفضول على الفاضل، فأول ما يقال له في ذلك: لسنا نرضى منك
بادعاء فتنة لم تظهر أسبابها، ولم تقو إمارتها، ولم تلح دلالتها، حتى يجعل
ذلك ذريعة إلى دفع الفاضل عن مقامه، فأشر إلى هذه الفتنة التي
ادعيتها، وزعمت أنها كانت متخوفة، فإن أشاروا إلى ما كان من الأنصار
من حضور السقيفة، وجذب الأمر إلى جهتهم، فهذا لم يكن من الأنصار
ابتداء حتى يحمل على تقديم المفضول على الفاضل، والمعروف في الرواية
أن النفر من المهاجرين ابتدؤا بحضور السقيفة فبلغ الأنصار أن
المهاجرين قد اجتمعوا للخوض في باب الإمامة فصاروا إلى السقيفة
وجرى بينهم ما جرى، على أن الأنصار لم يكونوا عندكم ممن يرتكب
العناد، ويحمله اللجاج على خلاف الرسول صلى الله عليه وآله ولم يحضروا
السقيفة للمغالبة والمجاذبة، وإنما حضروا للتدبير والمشاورة، ولهذا يقولون
إنهم رجعوا عند رواية الخبر المتضمن لإخراجهم من نصاب الإمامة،
وسلموا وانقادوا وأذعنوا ولم يبق منهم من هو مقيم على الخلاف إلا واحد
يدعي قوم استمراره على الخلاف، وتنفون أنتم ذلك عنه، فأي فتنة
تتخوف ممن هذه حاله في الإمامة، وطلب السلامة، والانقياد للحق.
فأما ما لا يزال يقول مخالفونا في هذا الموضع من أن العقد إنما بودر
إليه خوفا من فتنة المنافقين الذين كانوا في خلال المؤمنين، يتربصون بهم
الدوائر، فإن موت رسول الله صلى الله عليه وآله قوي في نفوسهم وشد من



(1) المراد به سعد بن عبادة.
175
أطماعهم، فلم يكن يؤمن من جهتهم لو لم يبادروا بالعقد من الفتنة ما لا
يتلافى، فأوضح فسادا مما تقدم، لأنه دعوى لا شاهد عليها واخبار على الحال
بما لم يظهر له دلالة، ولا إمارة لأنه لم يكن في تلك الحال في المدينة من
المنافقين من يعبأ به، ويعتد بمكانه، وإنما كان هناك النفسان والثلاثة ممن
قد قمعه عز الاسلام، وطأطأ رأسه، وفل حده، وجعله مغمورا مقهورا
لا ملجأ له يأوي إليه، ولا فئة يستنصر بها وقبض الرسول صلى الله عليه
وآله والاسلام ممتد الاطناب، مستبد (1) الأصحاب كثير العدد، قوي
العدد، ولم يكن للنفاق ولأهله صولة ولا للباطل ولا لأهله دولة، فأي
فتنة تتخوفها الألوف الكثيرة من ذوي البأس والغلبة، والتمكن في
الاسلام من نفر يسير حقير لا بطش لهم ولا منة؟ وهذا قول يرغب بأهل
العلم والعقل عن الاعتماد عليه، والاعتلال في هذا الأمر الجليل بمثله.
ثم يقال لصاحب الكتاب: إذا جاز أن يحمل خوف الفتنة على
تأخير المقدم وتقديم المؤخر في باب الفضل فألا جاز أن يحمل خوف الفتنة
على العقد للفاسق؟ أو لمن لا علم له جملة ولا فضل، أو لمن هو في أدنى
طبقات العلم والفضل، فلا يكون أفضل، ولا كالأفضل.
فإن قال: لأن كونه أفضل ليس من الشرائط الواجبة التي لا بد
منها، وإنما هو كالترجيح، وكونه عدلا من الشروط الواجبة كذلك كونه
ذا حظ من العلم.
قيل له: هذا اقتراح لا فرق بينك وبين من عكسه، وقال: إن
الفضل هو الذي لا بد منه، وإن العدالة هي التي تجري مجرى الترجيح.



(1) لعلها " مسند " أي مستقيم أو " مشتد " بمعنى قوي، وإن ل‍ " مستبد " وجه
بمعنى متباعد ويريد به الكثرة والسعة ولكنه بعيد.
176
وبعد، فاجز على موجب هذا الفرق أن يعقد في حال الضرورة
لمن هو خال من العلم جملة، وإن كان عدلا.
فإن قال: فكأنكم بطعنكم على الوجه الذي اخترناه في علة تقديم
أبي بكر مصوبون لمن اعتل في تقديمه بأنه كان أفضلهم من حيث لم يكن
بأعزهم عشيرة، ولا بأكثرهم مالا.
قلنا: أليس يجب من حيث طعنا على بعض العلل أن نكون
مصوبين لغيرها، وكل ما حكيته من التعليل فاسد عندنا، لأنه مبني على
أن الاختيار كان صوابا صحيحا، وإنما الخلاف في علة تقديم المفضول
على الفاضل ونحن إن لا نقول بصحة ذلك الاختيار وصوابه فنحتاج إلى
ذكر علته وعندنا أنه كان فاسدا وإنما حمل قوما عليه الحمية والعصبية،
وانقاد آخرون للشبهة، وأمسك الباقون للتقية، فلا معنى للكلام في طلب
العلل، وهذا المعنى قد مضى فيه كلام كثير وسيأتي فيه كلام آخر عند
الحاجة إليه بعون الله تعالى.
ثم ذكر صاحب الكتاب الخلال التي تقدم المفضول على الفاضل
لأجلها في كلام طويل جملته أنه عد من جملة ذلك أن تكون بعض الشرائط
التي يحتاج إليها في الإمامة مفقودة في الفاضل، موجودة عند المفضول،
كالعلم والمعرفة بالسياسة، أو يكون الفاضل عبدا أو ضريرا أو زمنا أو
شديد الجبن والجزع، أو يكون الأفضل من غير قريش، أو يكون
المفضول مشتهر الفضل عند العامة والخاصة، والأفضل خفي الفضل،
أو يعرف من انقياد الناس للمفضول، وسكونهم إليه، واستنامتهم (1) إلى
ولايته ما لا يعرف في الفاضل، أو يكون المفضول في البلد الذي مات فيه



(1) استنام إلى الشئ سكن واطمأن.
177
الإمام، فيخاف من تأخير العقد وإرجائه إلى أن يحضر الفاضل البعيد
الدار من فتنة، واضطراب، أو يكون في الفاضل صوارف ليست مثلها في
المفضول كالعجلة والحدة، والبخل الشديد، وما أشبه ذلك (1).
يقال له: إن من كان ناقص العلم والسياسة أو مفقود الشجاعة،
أو معروفا بالحدة والعجلة، والبخل الشديد، فليس الأفضل بالإطلاق،
وإنما أوجبنا الإمامة لمن كان أفضل في كل الخلال المراعاة في باب
الإمامة، فمن كان أفضل في شئ ومفضولا في غيره لم يكن الأفضل
بالإطلاق.
فإذا قال لنا قائل: أفرأيتم لو اتفق أن يكون الأفضل في العبادة
والثواب ناقصا في العلم والسياسة، ويكون الأفضل في السياسة والعلم
مفضولا في الثواب والعبادة، من الذي ينصب إماما منهما.
قلنا: متى لم يكن الأفضل في سائر الخلال واحدا، وانقسم الفضل
القسمة التي ذكرها السائل، وجب أن ينصب الفاضل في العبادة،
والناقص في السياسة، إماما لمن كان دونه في كل ذلك، وينصب الفاضل
في السياسة المفضول في الثواب والعبادة إماما لمن كان أيضا دونه في كل
ذلك، ولا يقدم المفضول على الفاضل فيما كان أفضل منه فيه، وليس
ينكر ما ذكرناه لأن اختصاص ولاية الإمام بفريق دون فريق من طريق
العقل جائز، ولا يمتنع أيضا لو اتفق ما ذكروه أن يجعل الفاضل في العبادة
إماما للمفضول فيها، والفاضل في السياسة إماما للمفضول، وهذا أيضا
غير منكر.
فأما ظهور الفضل عند العامة والخاصة، فليس بعلة توجب تقديم



(1) انظر المغني 20 ق 1 / 230 علما بأن ما في المتن تلخيص لما هناك.
178
المفضول على الفاضل، لأن ذلك لو جاز أن يكون علة لجاز أن يقدم من
كان قليل العلم نزر المعرفة (1) بالأحكام، إلا أن حاله منتشرة عند العامة
على الأفضل في العلم المبرز في العلم بالأحكام، فلما كان لا اعتبار بما عند
العامة، وما يظهر لهم في باب العلم لم يكن أيضا بما عندهم اعتبار في باب
الفضل، وهذا إنما يصح أن يراعيه ويجعله علة من يذهب إلى أن نصب
الإمام باختيار الأمة، فتعتبر في صفاته ما يظهر لها، فأما على المذهب
الصحيح الذي دللنا فيما تقدم عليه من أن الإمامة لا تكون إلا بنص الله
تعالى فلا يجب اعتبار ذلك.
فأما الاستنامة والسكون والانقياد للمفضول، والانحراف عن
الفاضل، والنفور عن ولايته فليس يجوز أن يكون علة في تقديم المفضول
وتأخير الفاضل لأن الاستنامة والسكون إذا كانا إلى من لم تتكامل صفاته،
أو من كان غيره أحق منه وأولى بالتقديم لم يكن بهما اعتبار، ألا ترى إن
الناس لو سكنوا إلى الفاسق، ومن لا علم عنده بشئ من الأحكام،
ونفروا عن العدل العالم بالأحكام لم يكن ذلك علة في تقديم الفاسق
الجاهل، وتأخير العدل العالم، على أن صاحب الكتاب كأنه ناقض لهذا
الموضع بقوله بعد هذا الفصل: " ولذلك قال شيخنا أبو علي: إن نفور الناس
عن أمير المؤمنين عليه السلام لما كان منه من قتل الأقارب " لا يعد علة بها
يقدم الغير عليه، لأن ذلك من عظيم مناقبه في الدين، وأقوى ما يدل
على شدته في ذات الله تعالى.
قال: " وعلى هذا الوجه حمل ما ذكر من فظاظة عمر وحدته لأن
ذلك كان في ذات الله تعالى وفي دينه، فما حل هذا المحل لا يجوز تقديم



(1) نزر المعرفة: قليلها.
179
المفضول على الفاضل (1)) وهذا كما ترى كلام من لا يراعي أسباب النفار
والسكون، ويعتبر بما كان له سبب مؤثر في حال من يختار للإمامة ولا
يعتبر ما لم يكن مؤثرا في حاله بل كان ما أوجب النفار عنه رافعا لمنزلته،
ومقدما لرتبته.
فأما كون المفضول في البلد الذي مات فيه الإمام وبعد دار
الفاضل، وخوف الفتنة من تأخير العقد، فإنما يصح له أيضا أن يكون
سببا عند من جعل الإمامة بالاختيار، وذلك فاسد، على أنه يوجب أن
يعقد للفاسق، والخالي من كل علوم الدين إذا كان في البلد الذي توفي
فيه الإمام وخيفت الفتنة من تأخير العقد، وهذا مما لا فضل فيه.
ثم قال صاحب الكتاب: " فإن قيل: إن كان الأفضل أولى بالإمامة
فيجب بعد العقد للإمام الذي هو الأفضل إذا صار غيره أفضل منه أن
يعقد له وينقض عقد الأول " ثم قال: " قيل له: لا يمتنع في هذا الشرط
أن يعتبر في الأول على بعض الوجوه، ولا يعتبر بعد ذلك لأن كثيرا من
الأحكام قد تعرض ولا يمنع من صحة العقد، وإن كان في الابتداء يمنع
منه كالعلة (2) التي تطرأ على النكاح فلا تمنع من صحته، وإن منعت في
الابتداء إلى غير ذلك فهو موقوف على الدلالة، وقد ثبت بالدليل أن عقد
الإمام لا ينقض بذلك، وهو الإجماع، على أن شيخنا أبا علي قد ذكر فيما
أظن أن الإمام إذا كف بصره لا يفسخ إمامته وإنما ينوب عنه غيره وهو على
جملة الإمامة فلم ينقض عقد الإمامة لهذه الخلة، وهو في باب المنع أقوى
من كون المفضول مفضولا... " (3).



(1) غ " تقديم المفضول عليه ".
(2) غ " كالعدة ".
(3) المغني 20 ق 1 / 231.
180
يقال له: السؤال لازم، ولم يجب عنه بشئ مقنع، والذي يؤكده
أن كل شئ جعل مانعا من العقد للإمام ابتداء، فهو متى عرض بعد
العقد صار سببا للفسخ وتغيرت الإمامة (1)، ألا ترى أن العدالة لما أن كانت
مطلوبة، وكان الفسق مانعا من العقد ابتداء فكذلك لو ظهر الفسق بعد
العقد، وتغيرت العدالة كان ذلك يوجب الفسخ، وكذلك العلم
المخصوص لما كان فقده مانعا من ابتداء العقد منع أيضا لو قدرنا أن
الخروج عن العلم يعرض في المستقبل، إما بنسيان أو غيره وسائر الشروط
المراعاة ابتداء هي مراعاة مع الاستمرار، فكيف خرج الفضل في هذه
القضية عن سائر الصفات؟ والذي ذكره من العلة في النكاح لا ينفعه
شيئا، لأنا لم نقل كل أمر منع في كل عقد ابتداء منع عارضا، وإنما
خصصنا بذلك الإمامة دون غيرها.
وأما ادعاؤه الإجماع على أن عقد الإمامة لا ينقض بذلك،
فباطل لأنا خارجون عن هذا الإجماع، وعندنا أن الإمامة لو كانت
بالاختيار، وكان الفضل فيها مراعى ابتداء لوجب أن يكون مراعى في
المستقبل، ويجب أن تنقض إمامة من صار مفضولا كما يمنع من العقد
للمفضول.
فأما ما حكاه عن أبي علي في الإمام إذا كف بصره، فإن كان أبو
علي ممن يقول: إن كف البصر مانع من العقد في الابتداء فيجب أن
ينقض به متى عرض في الإمام، وهو مناقض متى لم يلتزم ذلك، والحجة
ما اعتبرناه في أن المانع من العقد ابتداء يمنع منه ثانيا، وإن لم يكن يقول
ذلك فلا معنى للاحتجاج بقوله.
ثم قال صاحب الكتاب: " فإن قيل: لو قطع بالنص على فضل
الواحد أكان يجوز العدول عنه إلى غيره؟ قيل له: قد يجوز ذلك لأن الذي



(1) خ " ونقض الإمامة ".
181
يعتبر في هذا الباب هو الفضل في الظاهر دون الباطن فإذا قوي الظن
بالإمارات أن غيره مثله أو أفضل منه، لم يمتنع أن يقدم عليه وذلك بمنزله
أن يسمع من الرسول صلى الله عليه وآله وصفه الرجل أنه قرشي (3) فلا
يجب أن لا يقدم غيره عليه، وإن لم يثبت النسب قطعا، وعلى هذا الوجه
يجوز أن يكون من لا يقطع على فضله أفضل منه، وإنما كان يجب ما سأل
عنه لو كان الفضل المطلوب هو المتيقن،... " (2).
يقال له: لا شبهة في أن الفضل المقطوع عليه أولى أن يقدم صاحبه
من الفضل المظنون، وإنما يعتبر الفضل في الظاهر دون الباطن من يعتبره
في هذا الباب من حيث لم يكن له إلى الباطن سبيل، ولا عليه دليل لأن
الظن إنما يكون له حكم، ويقوم مقام العلم عند تعذر العلم فأما مع
حصول العلم فلا حكم للظن، ولهذا لو علمنا بخبر الرسول صلى الله
عليه وآله عدالة بعض الشهود لكانت شهادته أولى من شهادة من يظن
عدالته ولا يقطع عليها، وما أظن أحدا يسوي في هذا الباب بين شهادة
المقطوع على عدالته، والمظنونة عدالته، ولا يجعل الرجحان والمزية في
جهة العلم.
فأما الذي جعله أصلا من وصف الرسول صلى الله عليه وآله لرجل
بأنه قرشي فلا يمتنع أن يقدم غيره ممن يظن أنه قرشي، والخلاف في
الأمرين واحد والحجة على فساد قوله في الأصل والفرع جميعا ما ذكرناه.



(1) غ " أن كل قرشي ".
(2) المغني 20 ق 1 / 231.
182
فصل
في اعتراض كلامه في " أن الأئمة من قريش " (1)
إعلم أن المذهب في هذا الباب وإن كان واحدا لأنا نوافقه على أن
الإمامة لا تصلح في غير قريش، فلنا أن نتكلم فيه من حيث اختلفنا في
الدلالة، والطرق الموصلة إلى هذا المذهب، وإنما ذكرنا هذه المقدمة لئلا
يظن ظان أن الخلاف منا واقع في المذهب.
قال صاحب الكتاب: " قد استدل شيوخنا على ذلك بما روي عنه
صلى الله عليه وآله (إن الأئمة من قريش) وروى عنه أنه قال: (إن هذا
الأمر لا يصلح إلا في هذا الحي من قريش) وقووا ذلك بما كان يوم
السقيفة من كون ذلك سببا لصرف الأنصار عما كانوا عزموا عليه، لأنهم
عند هذه الرواية انصرفوا عن ذلك، وتركوا الخوض فيه، وقووا ذلك بأن
أحدا لم ينكره في تلك الحال، وأن أبا بكر استشهد في ذلك الحاضرين
فشهدوا به [على النبي صلى الله عليه] (2) حتى صار خارجا عن باب خبر
الواحد إلى الاستفاضة (3) وقووا ذلك بأن ما جرى (4) هذا المجرى إذا ذكر



(1) انظر " المغني 20 ق 1 / 234.
(2) الزيادة من " المغني ".
(3) غ " إلى الكثرة ".
(4) غ " من جرى ".
183
في ملأ من الناس وادعى عليهم المعرفة، فتركهم النكير يدل على صحة
الخبر المذكور ".
يقال له: ليس يصح احتجاجك بهذه الطريقة التي سلكتها إلا بعد أن
تبين أشياء منها أن أبا بكر ذكر يوم السقيفة ما حكيته، واحتج به، وأن
ذلك وارد من جهة توجب العلم، ومنها أنه لما احتج بذلك سلمت الأمة
له احتجاجه، وصدقته عليه، ورضيت به، ومنها أن اللفظ موجب لنفي
الإمامة عمن ليس بقرشي وأنها لا تجوز إلا في قرشي، وما رأينا صاحب
الكتاب بين شيئا مما ذكرناه، وإنما عول على جملة الدعوى، ونحن نبين أن
شيئا من ذلك لم يثبت.
أما احتجاج أبي بكر على الأنصار بالخبر المتضمن (إن الأئمة من
قريش) فأكثر من روى الخبر، ونقل السير نقل خبر السقيفة وما جرى
فيها لم يذكره بلفظ ولا معنى بل ذكر من احتجاج أبي بكر وغيره على
الأنصار وجوها وطرقا ليس من جملتها هذا الخبر المدعى، وقد روى أبو
جعفر محمد بن جرير الطبري في كتابه التاريخ قصة السقيفة وما جرى فيها
من الاحتجاج (1) ونحن نذكر ما حكاه على طوله ليعلم خلوه من ذلك،
قال روي (2) عن هشام بن محمد عن أبي مخنف عن عبد الله بن
عبد الرحمن بن أبي عمرة الأنصاري (3) أن النبي صلى الله عليه وآله لما
قبض اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: نولي هذا الأمر
من بعد محمد صلى الله عليه وآله سعد بن عبادة وأخرجوه إليهم وهو



(1) انظر تاريخ الطبري 3 / 218 - 223 حوادث سنة 11.
(2) في الطبري " حدثنا هشام ".
(3) هو عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري الأشهلي قال ابن الأثير في أسد الغابة
3 / 200: " له صحبة ".
184
مريض، قال فلما اجتمعوا قال لابنه أو لبعض بني عمه: إني لا أقدر
لشكواي أن أسمع القوم كلهم كلامي ولكن تلق مني قولي فاسمعوه،
فكان يتكلم ويحفظ الرجل قوله فيرفع به صوته فيسمع أصحابه، فقال:
بعد أن حمد الله تعالى وأثنى عليه " يا معشر الأنصار إن لكم سابقة في
الدين، وفضيلة في الاسلام، ليست لقبيلة من العرب، إن محمدا صلى
الله عليه وسلم لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن،
وخلع الأنداد فما آمن به من قومه إلا رجال قليل، والله ما كانوا يقدرون
على أن يمنعوا رسوله، ولا أن يعزوا دينه، ولا أن يدفعوا عن أنفسهم
ضيما عموا به، حتى إذا أراد الله بكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة،
وخصكم بالنعمة، فرزقكم الإيمان به وبرسوله، والمنع له ولأصحابه،
والإعزاز له ولدينه، والجهاد لأعدائه، وكنتم أشد الناس على عدوه
منكم، وأثقله على عدوه من غيركم، حتى استقامت العرب لأمر الله
طوعا وكرها، وأعطى البعيد المقادة صاغرا واخرا وحتى أثخن الله
لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب، وتوفاه الله إليه وهو
عنكم راض، وبكم قرير العين، استبدوا بهذا الأمر دون الناس، فإنه
لكم دون الناس " فأجابوه بأجمعهم أن قد وفقت في الرأي وأصبت في
القول، ولن نعدو ما رأيت نوليك هذا الأمر فإنك فينا مقنع، ولصالح
المؤمنين رضا، ثم إنهم ترادوا الكلام، فقالوا: فإن أتت مهاجرة قريش،
فقالوا: نحن المهاجرون وصحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
الأولون، ونحن عشيرته وأولياؤه، فعلام تنازعوا الأمر من بعده، فقالت
طائفة منهم: فإنا نقول إذا فمنا أمير ومنكم أمير، ولن نرضى بدون هذا
أبدا، فقال سعد بن عبادة حين سمعها: هذا أول الوهن، وأتى عمر
الخبر فأقبل إلى منزل النبي صلى الله عليه وآله فأرسل إلى أبي بكر،
وأبو بكر في الدار وعلي بن أبي طالب عليه السلام دائب في جهاز النبي

185
صلى الله عليه وآله فأرسل إلى أبي بكر أن اخرج إلي، فأرسل إليه إني
مشتغل، فأرسل إنه قد حدث الأمر لا بد لك من حضوره فخرج إليه،
فقال أما علمت أن الأنصار قد اجتمعت في سقيفة بني ساعدة يريدون أن
يولوا هذا الأمر سعد بن عبادة، وأحسنهم مقالة من يقول: منا أمير ومن
قريش أمير، فمضيا مسرعين نحوهم، فلقيا أبا عبيدة فتماسوا إليه
فلقيهم عاصم بن عدي (1) وعويم بن ساعدة (2) وقالا لهم: ارجعوا فإنه
لن يكون إلا ما تحبون، فقالوا: لا نفعل فجاؤوهم وهم مجتمعون،
فقال عمر بن الخطاب: أتيناهم وقد كنت زورت في نفسي كلاما أردت أن
أقوم به فيهم، فلما أن دفعت إليهم، ذهبت لأبتدئ المنطق، فقال لي أبو
بكر: رويدا حتى أتكلم، ثم أنطق بعد بما أحببت فنطق، فقال عمر:
فما شئ كنت أريد أن أقول به، إلا وقد أتى عليه، قال عبد الله بن
عبد الرحمن فبدأ أبو بكر فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: إن الله تعالى
بعث محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا إلى خلقه، وشهيدا على أمته
ليعبدوا الله ويوحدوه، وهم يعبدون من دونه آلهة شتى يزعمون أنها لمن
عبدها شافعة، ولهم نافعة، وإنما هي من حجر منحوت، وخشب
منجور، ثم قرأ (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم
ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) (3) (وقالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى
الله زلفى) (4) فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم فخص المهاجرين



(1) عاصم بن عدي بن الجد بن العجلان حليف الأنصار كان سيد بني العجلان
صحابي توفي سنة 45 بعد أن عمر 115 أو 120 سنة (انظر أسد الغابة 3 / 75).
(2) في نسخة " عويمر " والصواب " عويم " كما في الطبري، وهو عويم بن ساعدة
الأنصاري قال ابن الأثير في أسد الغابة 4 / 158: " له أثر في بيعة أبي بكر الصديق ".
(3) يونس 18.
(4) الزمر 3.
186
الأولين الأولين من قومه بتصديقه، والإيمان به، والمواساة له، والصبر
معه على شدة أذى قومهم لهم، وتكذيبهم إياهم، وكل الناس لهم
مخالف، وعليهم زار، فلم يستوحشوا لقلة عددهم، وتشنف (1) الناس
لهم وإجماع قومهم عليهم أول من عبد الله في الأرض، وآمن بالله
وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحق الناس بهذا الأمر من بعده،
ولا ينازعهم في ذلك إلا ظالم، وأنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم
في الدين، ولا سابقتهم العظيمة في الاسلام، رضيكم الله أنصارا لدينه
ورسوله، وجعل إليكم هجرته، وفيكم جلة أصحابه وأزواجه، فليس
بعد المهاجرين الأولين أحد عندنا بمنزلتكم فنحن الأمراء وأنتم الوزراء،
لا تفاوتون (2) بمشورة، ولا تقضى دونكم الأمور، فقام إليه المنذر بن
الحباب (3) - هكذا روى الطبري والذي رواه غيره أنه الحباب
المنذر (4) فقال: يا معشر الأنصار أملكوا على أيديكم فإن الناس في فيئكم
وظلكم، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم، ولن يصدر الناس إلا عن
رأيكم، أنتم أهل العز والثروة، وأولوا العدد والتجربة، وذووا البأس
والنجدة، وإنما ينظر الناس إلى ما تصنعون، فلا تختلفوا فيفسد عليكم
رأيكم، وتنتقض أموركم، إن أبى هؤلاء إلا ما سمعتم فمنا أمير ومنهم
أمير، فقال عمر بن الخطاب هيهات لا يجتمع اثنان في قرن (5) إنه والله



(1) في الطبري " وشنف الناس لهم " والشنف: البغض.
(2) يقال: تفوت فلان على فلان في كذا، وافتات عليه إذا انفرد برأيه ولم
يستشره.
(3) في الأصل " المنذر بن حباب " والصواب ما أثبتناه.
(4) في الأصل " الحسان بن المنذر " وليس في الصحابة من هو بهذا الاسم فهو
تحريف " حباب " وما في المتن من المخطوطة وانظر تلخيص الشافي 3 / 63.
(5) القرن - بفتح القاف وسكون الراء - الحبل المفتول من لحاء الشجر.
187
لا يرضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن
يولى أمورها من كانت النبوة فيهم، وولي أمورهم منهم، ولنا بذلك على
من أبى من العرب الحجة الظاهرة، والسلطان المبين، من ذا ينازعنا
سلطان محمد صلى الله عليه وآله وإمارته، ونحن أولياؤه وعشيرته إلا مدل
بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكة (1) فقام الحباب بن المنذر،
وفي رواية غير الطبري الحسان بن المنذر (2) فقال يا معشر الأنصار أملكوا
على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا
الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموهم، فأجلوهم من هذه البلاد، وتولوا
عليهم هذه الأمور، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم، فإنه بأسيافكم دان
لهذا الدين من لم يكن يدين أنا جذيلها المحكك، وأنا عذيقها المرجب (3)
أما والله لئن شئتم لنعيدنها جذعة فقال له عمر: إذا يقتلك الله، قال:
بل إياك يقتل، فقال أبو عبيدة: يا معشر الأنصار إنكم أول من نصر
وآزر فلا تكونوا أول من بدل وغير، فقام بشير بن سعد (4) أبو النعمان بن
بشير فقال: يا معشر الأنصار أما والله لئن كنا أولي فضيلة في جهاد
المشركين، وسابقة في هذا الدين، ما أردنا به إلا رضا ربنا وطاعة نبينا



(1) دل بباطل: جاء بدليل باطل، والجنف - بالتحريك - الجور والميل عن
الحق. والإثم: فعل ما لا يحل، والمتورط: الواقع في الورطة - بفتح الواو وسكون
الراء أي الهلكة.
(2) لاحظ ما تقدم ص 187 برقم 4.
(3) قال الزمخشري في الفائق 1 / 180 " الجذيل تصغير جذل - بالكسر - وهو في
الأصل عوه ينصب للجربى تحتك به فتسشفى به، والمحكك: الذي كثر به الاحتكاك
حتى صار مملسا، والمرجب المدعوم بالرجبة وهي خشبة ذات شعبتين ومعناه أني ذو رأي
يشفي بالاستشفاء به كثيرا في مثل هذه الحادثة وأنا في كثرة التجارب والعلم بموارد
الأحوال فيها وفي أمثالها ومصادرها كالنخلة الكثيرة " الحمل ".
(4) بشير بن سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي، قال ابن الأثير: " يقال: إنه
أول من بايع أبا بكر الصديق رضي الله عنه يوم السقيفة من الأنصار، وقتل يوم عين
التمر مع خالد بن الوليد بعد انصرافه من اليمامة سنة اثنتي عشرة " (أسد الغابة 1 /
195).
188
صلى الله عليه وسلم والكدح لأنفسنا فما نبتغي أن نستطيل بذلك على
الناس، ولا نبتغي من الدنيا عرضا، فإن الله ولي المنة علينا بذلك ألا إن
محمدا صلى الله عليه وسلم من قريش، وقومه أحق به، وأولى، وأيم الله
لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدا، فاتقوا الله ولا تخالفوهم ولا
تنازعوهم، فقال أبو بكر: هذا عمر وأبو عبيدة فأيهما شئتم فبايعوا،
فقالا: لا والله لا نتولى هذا الأمر عليك، وأنت أفضل المهاجرين (وثاني
اثنين إذ هما في الغار) وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصلاة
والصلاة أفضل دين المسلمين، فمن ذا ينبغي له أن يتقدمك، أو يتولى
هذا الأمر عليك؟ أبسط يدك نبايعك، فلما ذهبا ليبايعاه سبقهما إليه بشير
بن سعد فبايعه، فنادى المنذر بن الحباب يا بشير بن سعد عقتك عقاق ما
أحوجك إلى ما صنعت أنفست (1) على ابن عمك الإمارة، فقال: لا والله
ولكن كرهت أن أنازع قوما حقا جعله الله تعالى لهم، فلما رأت الأوس ما
صنع بشير بن سعد وما تدعو إليه قريش، وما يطلب الخزرج من تأمير
سعد بن عبادة قال بعضهم لبعض وفيهم أسيد بن الحضير (2) وكان أحد



(1) في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: " عقك عقاق " وعقاق - بفتح العين
وتخفيف القاف - مبنية على الكسر مثل حذام ورواش، كأنه دعاء عليه بأن يعقه العاق،
وهو الولد الذي يعصي أباه ويترك الشفقة عليه والاحسان إليه ونفس فلان على فلان
الشئ حسده عليه.
(2) أسيد بن حضير - بضم الأول فيهما - قال ابن الأثير: " كان أبو بكر الصديق يكرمه
ولا يقدم عليه أحدا ويقول: لا خلاف عنده " قال: " وله في بيعة أبي بكر أثر عظيم "
قال: " توفي في شعبان سنة وحمل عمر بن الخطاب (رض) نعشه حتى وضعه في البقيع
وصلى عليه " (أسد الغابة 1 / 92).
189
النقباء: والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك
الفضيلة، ولا جعلوا لكم فيها معهم نصيبا أبدا، فقوموا فبايعوا أبا
بكر، فقاموا إليه فبايعوه، فانكسر على سعد بن عبادة وعلى الخزرج ما
كانوا اجتمعوا له من أمرهم.
قال هشام: قال أبو مخنف وحدثني أبو بكر بن محمد الخزاعي إن
أسلم أقبلت بجماعتها حتى تضايقت بهم السكك ليبايعوا أبا بكر، فكان
عمر يقول: ما هو إلا أن رأيت أسلم فأيقنت بالنصر.
قال هشام: عن أبي مخنف قال: قال: عبد الله بن عبد الرحمن،
وأقبل الناس من كل جانب يبايعون أبا بكر، وكادوا يطأون سعد بن
عبادة، فقال ناس من أصحاب سعد: اتقوا سعدا لا تطؤه، فقال
عمر: اقتلوه قتله الله، ثم قام على رأسه فقال: لقد هممت أن أطأك
حتى يندر عضوك (1) فأخذ قيس بن سعد بلحية عمر، قال: والله لئن
حصصت (2) منه شعرة ما رجعت وفي فيك واضحة، فقال أبو بكر: مهلا
يا عمر الرفق هاهنا أبلغ، فأعرض عنه عمر، وقال سعد: أما والله لو
أرى من قوتي ما أقوى على النهوض لسمعتم مني في أقطارها وسككها زئيرا
يجحرك (3) وأصحابك، أما والله إذا لألحقنك بقوم كنت فيهم تابعا غير
متبوع، احملوني من هذا المكان فحملوه، فأدخلوه داره وترك أياما ثم



(1) تندر: تزال عن موضعها، والذي في الطبري " تندر عضدك ".
(2) حص الشعر حصا: حلقه.
(3) يجحرك - بتقديم الجيم على الحاء المهملة - أي يلجئكم إلى دخول الجحر وهو
الغار البعيد القعر، والمراد أنهم ينكمشون في بيوتهم.
190
بعث إليه أن أقبل فبايع، فقد بايع الناس، وبايع قومك، فقال: أما والله
حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي، وأخضب منكم سنان رمحي وأضربكم
بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي، ولا
أفعل وأيم الله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى
أعرض على ربي، وأعلم ما حسابي فلما أتى أبو بكر بذلك قال له عمر:
لا تدعه حتى يبايع، فقال بشير بن سعد إنه قد لج وأبى (1) فليس بمبايعكم
حتى يقتل، وليس بمقتول حتى يقتل معه ولده وأهل بيته، وطائفة من
عشيرته، فاتركوه فليس تركه بضائركم إنما هو رجل واحد، فتركوه وقبلوا
مشورة بشير بن سعد، واستنصحوه لما بدا لهم منه، وكان سعد لا يصلي
بصلاتهم، ولا يجتمع معهم، ولا يحج معهم، ولا يفيض بإفاضتهم،
فلم يزل كذلك حتى هلك أبو بكر (2).
وهذا الخبر يتضمن من شرح أمر السقيفة ما للناظر فيه معتبر،
ويستفيد الواقف عليه أشياء:
منها: خلوه من احتجاج قريش على الأنصار بجعل النبي صلى الله
عليه وآله الإمامة فيهم لأنه تضمن من احتجاجهم عليهم ما يخالف
ذلك، وأنهم إنما ادعوا كونهم أحق بالأمر من حيث كانت النبوة فيهم،
ومن حيث كانوا أقرب إلى النبي صلى الله عليه وآله نسبا، وأولهم له اتباعا.
ومنها، إن الأمر إنما بني في السقيفة على المغالبة والمخالسة (3) وإن
كلا منهم كان يجذبه إليه بما اتفق له، وعن (4) من حق وباطل، وقوي وضعيف.



(1) لج: تمادى.
(2) تاريخ الطبري 3 / 222. حوادث سنة 11.
(3) المخالسة: المخاتلة.
(4) عن بمعنى عرض.
191
ومنها، إن سبب ضعف الأنصار، وقوة المهاجرين عليهم انحياز
بشير بن سعد حسدا لسعد بن عبادة، وانحياز الأوس بانحيازه عن
الأنصار.
ومنها، أن خلاف سعد وأهله وقومه كان باقيا لم يرجعوا عنه، وإنما
أقعدهم عن الخلاف فيه بالسيف قلة الناصر.
وقد روى الطبري بعد هذا الخبر من طرق أخر خبر السقيفة فلم
يذكر فيه الاحتجاج بأن (الأئمة من قريش) مع إنه جمع في كتابه هذه
الروايات المختلفة.
وروى الزهري من طرق كثيرة خبر السقيفة الذي يتضمن أن عمر
ابن الخطاب خطب على المنبر فذكر ما كان في يوم السقيفة، ومنازعة
الأنصار للمهاجرين واحتجاج كل فريق منهم على الآخر بقوة أسبابه إلى
هذا الأمر، فما في جميع الأخبار ما تضمن احتجاج أحد عليهم، ممن
حضر بأن النبي قال: (الأئمة من قريش) بل تضمنت الأخبار الرواية التي
رواها الزهري كلها على اختلافها، إن أبا بكر لما سمع كلام سعد بن
عبادة وخطبته التي مضى معناها في الخبر الذي رواه الطبري، قال أما بعد
فما ذكرتم فيكم من خير فأنتم أهله، وأن العرب لن تعرف هذا الأمر إلا
لهذا الحي من قريش، هم أوسط العرب نسبا ودارا.
وروى عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود
قال لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله قالت الأنصار: منا أمير ومنكم
أمير، فأتاهم عمر فقال: يا معشر الأنصار ألستم تعلمون أن رسول الله
صلى الله عليه وآله أمر أبا بكر أن يصلي بالناس؟ قالوا: بلى، قال:
فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر بعد ذلك

192
ولسنا ننكر بعد ذلك أن يكون هذا الخبر مرويا على الوجه الذي
ادعوه لكن رواه قليل من كثير، وواحد من جماعات، والقوم عكسوا
القصة فأوردوه مورد ما لا خلاف فيه، وما لا يعرف سواه، وإذا كانت
الرواية بغيره أظهر كان العمل بخلافه مما هو الظاهر في الرواية أوجب،
والذي يدل على ضعف هذه الدعوى ما تظاهرت به الرواية عن أبي بكر
من قوله عند حضور الموت: ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه وآله
عن ثلاثة أشياء ذكر من جملتها (1) ليتني كنت سألته هل للأنصار في هذا
الأمر حق، وكيف يقول هذا القول من يروي عنه صلى الله عليه وآله
(الأئمة من قريش) و (إن هذا الأمر لا يصلح إلا لهذا الحي من قريش).



(1) الأشياء الثلاثة من التسعة التي رويت عنه فعن عبد الرحمن بن عوف قال: إنه
دخل على أبي بكر الصديق (رض) في مرضه الذي توفي فيه فأصابه مهتما فقال له
عبد الرحمن في جملة كلام له إنك لا تأسى على شئ من الدنيا قال أبو بكر (رض) أجل
إني لا آسى على شئ من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن ليتني تركتهن، وثلاث تركتهن
وددت أني فعلتهن، وثلاث وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وآله عنهن، فأما
الثلاث التي وددت أني تركتهن فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شئ وإن كانوا قد
غلقوه على الحرب، ووددت أني لم أحرق الفجاءة السلمي وأني قتلته سريحا أو خليته
نجيحا، ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين - يريد
عمر أو أبا عبيدة - فكان أحدهما أميرا وكنت وزيرا، وأما اللاتي تركتهن فوددت أني يوم
أتيت بالأشعث بن قيس أسيرا كنت قتلته فإنه يخيل إلي أنه لا يرى شرا إلا أعان عليه
ووددت أني حين سيرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة كنت أقمت بذي القصة فإن ظفر
المسلمون ظفروا، وإن هزموا كنت بصدد لقاء أو مدد، وددت أني إذ وجهت خالد إلى
الشام كنت وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق فكنت قد بسطت يدي كليهما في سبيل
الله - ومد يديه - ووددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن هذا الأمر؟ فلا
ينازعه أحد، ووددت أني سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب، ووددت أني كنت قد
سألته عن ميراث ابنة الأخ والعمة فإن في نفسي منهما شئ، أخرجه أبو عبيد في الأموال
ص 131 والطبري في التاريخ 3 / 430 حوادث سنة 13 والمسعودي في مروج الذهب
2 / 308 وابن عبد ربه في العقد الفريد 4 / 267.
193
فأما الكلام على الفصل الثاني وهو أن يسلم أن أبا بكر احتج بذلك
يوم السقيفة لكنا ننازعه في صحته فواضح، وذلك أن أبا بكر لم يكن
معصوما فينتفي الخطأ عنه فمن أين ما رواه صحيح؟ فإن احتج في صحته
بالاجماع، وترك النكير وأن أبا بكر استشهد في ذلك بالحاضرين فشهدوا
به، فأول ما فيه أن ترك النكير غير معلوم، ولا مسلم لأن سعد بن عبادة
وولده وأهل بيته كانوا مقيمين على الخلاف على ما تضمنته الروايات،
وأي نكير في الخبر أبلغ من الخلاف في متضمنه؟ ثم لو ارتفع الخلاف
والنكير على ما ادعى لم يكن دالا على الرضا والإجماع، لأن ارتفاع النكير
على ضربين أحدهما، أن يرتفع على وجه يعلم أنه لولا الرضا لم يكن
مرتفعا، والوجه الآخر أن يرتفع ويكون ارتفاعه مجوزا فيه الرضا وغيره،
وإنما يدل على صحة الخبر ارتفاع النكير على وجه لا يكون إلا للرضا،
ومن تأمل خبر السقيفة، وما جرى فيها وسبب رجوع الأنصار عن الأمر
علم أن الكف وترك النكير لم يكونا للرضا.
فأما الاستشهاد بالحاضرين فمما لا يستحسن ادعاءه منصف لأن من
روى احتجاج أبي بكر على قلته لم يرو الاستشهاد، على أن أحدا لا يمكنه
أن يدعي أنه استشهد جميع الحاضرين من المهاجرين والأنصار فشهدوا
له، وإنما يجوز أن يدعي أنه استشهد بعضهم، ومن استشهده فشهد له
يجوز عليه من الخطأ ما يجوز عليه، على أنه يمكن أن يكون من سمع هذا
الخبر من أبي بكر يوم السقيفة لم ينكره، لأنه لم يعلم بأن الأمر بخلاف ما
ادعاه، ورواه، وإنما يجب أن يرد من الأخبار ما لا يجوز أن يكون
صحيحا، وليس إذا لم يردوه وينكروه فقد صدقوه وشهدوا به، لأن أخبار
الآحاد في الشريعة الواردة بما يجوز أن يكون صحيحا غير مردودة ولا
مصدقة، وليس له أن يقول إنهم عملوا به، والعمل في مثل هذا الموضع

194
تابع للعلم، فلهذا وجب أن يكونوا مصدقين له وأن يكون صحيحا،
وذلك أن الخروج أولا لم تعلم به، وأقاموا على خلافه، وعمل بعض
الأمة لا يكون حجة، ثم غير مسلم أنهم عملوا به على وجه، لأن أكثر ما
يدعى في ذلك أنهم عقدوا لأبي بكر، وكان ذلك عملا بالخبر وليس الأمر
كذلك، لأن العقد لأبي بكر والبيعة له لا يدلان على العمل بالخبر، لأن
من أجاز الإمامة في غير قريش لا يمنعها في قريش فكيف يكون العقد
لقريش عملا بالخبر.
وأما الكلام على الفصل الثالث، وهو على تسليم الاحتجاج بالخبر
وصته، وبيان أنه ليس في ظاهره ما يتناول موضع الخلاف لأنه خبر
محض، والخبر المحض لا يجوز صرفه إلى معنى الأمر إلا بدلالة وأكثر ما
يقتضيه أن يكون كل إمام يعقد له من غير قريش فمن أين أنه لا يجوز
عقدها لغير قريش؟ وليس له أن يقول: أي فائدة في هذا القول؟ وذلك
أن الفائدة فيه ثابتة لأن يقطع على أحد المجوزين قبل وقوعه لأن السامع
لهذا القول كان يجوز حصول الإمامة في قريش وغيرهم، وبهذا الخبر
يستفيد أنها لا تثبت إلا في قريش، وليس له أن يقول: فقد عقدت
الإمامة لغير قرشي، وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله لم ينف دعوى
الإمامة في غير قريش، وإنما نفى ثبوتها في غيرهم، ولم تثبت الإمامة على
الحقيقة إلا لقرشي، وإن جاز أن يدعي الشبهة لغير قرشي، وليس له أن
يقول: إن هذا وإن كان خبرا ففيه معنى الأمر، ويجري مجرى قوله
تعالى: (ومن دخله كان آمنا) (1) وما أشبهه، وذلك أن الظاهر كونه خبرا
فلا يعدل إلى أن يجعل له معنى الأمر إلا بدليل فأما قوله تعالى: (ومن دخله



(1) آل عمران 97.
195
كان آمنا) فالضرورة تدعو إلى جعله أمرا لأنه لو كان خبرا كان كذبا وإذا
كان أمرا كان صحيحا.
فأما اللفظ الآخر الذي رواه من قوله: (إن هذا الأمر لا يصلح إلا في هذا
الحي من قريش) فضعيف لا يكاد يعرف، واللفظ هو المعروف (1)،
وقد روينا في خبر الزهري من طرقه المختلفة إن هذا اللفظ إنما حكاه أبو
بكر عن نفسه، ولم يسنده إلى الرسول صلى الله عليه وآله وإنه قال صلى
الله عليه وآله: (إن العرب لن تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش) ولو
سلم هذا اللفظ على علاته (2) لم يكن أيضا فيه حجة ودليل، لأن القائل
قد يقول هذه الولاية لا تصلح إلا لفلان، إذا كان أقوم بها من غيره
وأولى، وإن جازت في غيره، وهذا اللفظ لا يكاد يستعمل إلا في
التفضيل والترجيح، ولا يستعمل في الأغلب في التحريم ونفي الجواز،
وهذه الجملة تأتي على ما ذكره.
ثم قال صاحب الكتاب: بعد كلام لا وجه لذكره: " فإن قيل:
فقد روي عن عمر ما يدل على خلاف ذلك، وهو قوله: " لو كان سالم حيا
ما يخالجني فيه الشكوك " ولم يكن من قريش ".
ثم قال " قيل له ليس في الخبر بيان الوجه الذي لا يتخالجه الشك
فيه، ويحتمل أن يريد أن يدخله في المشورة والرأي دون الشورى فلا يصح
أن يقدح به فيما قلناه، بل لو ثبت عنه النص الصريح في ذلك لم يجز أن
يعترض به على ما رويناه في الخبر،... (3).
يقال له: هذا تأويل من لم يعرف الخبر المروي عن عمر على حقيقته



(1) " واللفظ معروف " خ ل.
(2) يقال: جرى الأمر على علاته أي على كل حال.
(3) المغني 20 ق 1 / 236.
196
أو من يعرف ذلك، ويظن أن من قرأ كلامه لا يجمع بينه وبين الرواية
ويقابلها به، وفي الخبر على ما نقله جميع الرواة تصريح بالوجه الذي تمنى
حضور سالم له، وإنه الخلافة دون المشورة والرأي وقد روى الطبري في
تاريخه عن شيوخه من طرق مختلفة أن عمر بن الخطاب لما طعن قيل له: يا
أمير المؤمنين لو استخلفت قال: من استخلف لو كان أبو عبيدة بن الجراح
حيا استخلفته، فإن سألني ربي قلت سمعت نبيك عليه السلام يقول (إنه
أمين هذه الأمة) ولو كان سالم مولى أبي حذيفة أيضا حيا استخلفته، فإن
سألني ربي قلت سمعت نبيك عليه السلام يقول: (إن سالما شديد الحب لله)
فقال له رجل أدلك عليه عبد الله بن عمر، فقال قاتلك الله، والله ما
أردت الله بهذا، ويحك كيف استخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته (1)
وروى أبو الحسن أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري في كتابه المعروف
بتاريخ الأشراف عن عفان بن مسلم عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد
عن أبي رافع أن عمر بن الخطاب كان مستندا إلى ابن عباس وعنده ابن
عمر وسعيد بن زيد (2) فقال: اعلموا أني لم أقل في الكلالة شيئا، ولم
استخلف بعدي أحدا، وإنه من أدرك وفاتي من سبي العرب فهو حر من
مال الله، قال سعيد بن زيد: أما إنك لو أشرت برجل من المسلمين
أئتمنك الناس، فقال عمر: لقد رأيت من أصحابي حرصا سيئا وأنا جاعل
هذا الأمر إلى هؤلاء النفر الستة الذين مات رسول الله صلى الله عليه وآله



(1) تاريخ الطبري 4 / 228 حوادث سنة 23، ومسألة طلاق ابن عمر لزوجته
نقلها ابن حجر في الصواعق ص 104 قال: " أي لأنه في زمان رسول الله صلى الله عليه
وسلم طلقها في الحيض فقال صلى الله عليه وسلم لعمر: مره فليراجعها ".
(2) هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل القرشي العدوي صهر عمر وابن عمه
أحد العشرة المبشرة توفي بالعقيق وقيل بالمدينة سنة 50 أو 51 وقيل سنة 58 (انظر أسد
الغابة 2 / 308).
197
وهو عنهم راض، ثم قال: لو أدركني أحد رجلين فجعلت هذا الأمر إليه
لوثقت به سالم مولى أبي حذيفة، وأبو عبيدة بن الجراح، فقال رجل يا
أمير المؤمنين فأين أنت عن عبد الله بن عمر، فقال له قاتلك الله والله ما
أردت الله بها استخلف رجلا لم يحسن أن يطلق امرأته، قال عفان: يعني
بالرجل الذي أشار عليه بعبد الله بن عمر المغيرة بن شعبة، وهذا كما
ترى تصريح بأن تمنى سالم إنما كان لأن يستخلفه كما أنه تمنى أبا عبيدة
لذلك فأي تأويل يبقى مع هذا الشرح والبيان؟ ولسنا ندري ما نقول في
رجل بحضرته مثل أمير المؤمنين عليه السلام ومنزلته في خلال الفضل
منزلته، وباقي أهل الشورى الذين كانوا في الفضل الظاهر على أعلى
طبقاته، ثم يتمنى مع ذلك حضور سالم تمني من لا يجد عنه عوضا، وإن
ذلك لدليل قوي على سوء رأيه في الجماعة، ولو كان تمنيه لحضوره إنما هو
للمشورة والرأي على ما ادعى صاحب الكتاب وأصحابه، وإن كانت
الأخبار المروية تمنع من ذلك - لكان الخطب أيضا جليلا لأنا نعلم أنه لم
يكن في هذه الجماعة التي ذكرناها إلا من هو لا يساوي سالما إن لم يفضله
في الرأي وجودة التحصيل فكيف يرغب عنهم في الرأي واختيار من يصلح
للأمر فيتلهف على حضور من لا يدنيهم في علم ولا رأي؟
فإن قيل: كيف يجوز أن يطلب عمر سالما لتولية الخلافة وهو
بالأمس يشهد بأن النبي صلى الله عليه وآله قال (إن الأئمة من قريش)
ويدفع الأنصار بهذه الحجة عن الأمر، وهل يدل ذلك إلا على ما قلناه،
من إنه أراد المشورة والرأي لأن المنحرف عن عمر المدعي لفساد إمامته لا
يمكنه أن يدفع عقله، وفرط تحصيله، وإنه ممن لا يناقض على رؤوس
الاشهاد.
قلنا: ليس يجوز أن يدفع المنقول من الرواية المعروف منها بأن الأمر

198
كان يجب أن يكون على خلاف ما تضمنته، وإنما يتأول المحتمل من
الكلام، وقد تضمنت الأخبار المروية في هذا الباب ما لا يسوغ معه هذا
التأويل المتعسف المضمحل فلم يبق إلا أن يبين عذر عمر في هذا القول
ويجمع بين قوله هاهنا وقوله يوم السقيفة، وأحسن ما يقال في ذلك وأدخله
في تنزيه عمر عن المناقضة أن يكون الخبر الذي يتضمن حصر الإمامة في
قريش لا أصل له ولم يجز له ذكر يوم السقيفة على ما بينا أن الروايات
المتظاهرة وردت به فقد مضى من شرحها وأنها خالية من الاحتجاج به ما
فيه كفاية.
ثم حكى صاحب الكتاب عن أبي علي أنه كان يستدل على أن
الإمامة لا تصلح إلا في قريش بطريقة أخرى، وهي " إنهم أجمعوا قديما
على أن قريشا تصلح للإمامة ولا إجماع أن الإمامة تصلح في غيرها، ولا
يجوز إثبات الإمامة بغير حجة سمعية، فيجب لذلك أن يكون الإمام من
قريش،... " (1).
يقال له: هذا من ركيك الاستدلال وضعيفه لأنهم وإن أجمعوا على
أن قريشا تصلح للإمامة، وليس هذا موضع الخلاف فلم يجمعوا على أن
غيرها لا يصلح وهو موضع الخلاف، وليس إذا لم يكن في غير قريش
إجماع وجب نفي الإمامة عنهم، لأن الحق قد ثبت بالاجماع وغيره، وليس
مقصورا على الإجماع.
وقوله: " ولا يجوز إثبات الإمامة بغير حجة سمعية " صحيح إلا أنه
لم يبق من صلاح غير قريش للإمامة من الحجج السمعية إلا الإجماع،
دون ما عداه فمن أين إنه لا حجة سمعية في ذلك؟ على أنه يلزمه على



(1) حكايته عن أبي علي في المغني 20 ق 1 / 236.
199
هذه الطريقة إذا كانت صحيحة أن تكون الإمامة مقصورة على ولد الحسن
والحسين عليهما السلام لأن فيمن عداهم من الناس اختلافا ولا إجماع على
صلاح غيرهم للإمامة، ولا اختلاف فيهم، ولا أحد يدفع أنهم يصلحون
للإمامة، وقد ألزم صاحب الكتاب نفسه هذا الالزام، وأجاب عنه بما
يقتضي هدم استدلاله، لأنه قال: (ولا يجب أن لا يثبت الشئ إلا من
جهة الإجماع بل قد يثبت بغيره فليس الخلاف إمارة الفساد وإن كان
الإجماع إمارة الصحة) وهذا بعينه يمكن أن يقال له في استدلاله لأنه
أضاف في خلال كلامه إلى ذلك أن الإجماع الذي يريده إجماع الصحابة
والسلف المتقدم.
قال: " وقد علمنا أنهم لم يطلبوا للإمامة العترة ولا اعتقدوا لها
موضعا أخص من قريش، وإنما حدث الخلاف من بعد وهو خلاف ممن
يطعن في طريقة الاختيار على ما نقوله، وقد بينا أنه لا نص في الإمامة فلم
يبق بعده إلا الطريقة التي سلكناها ".
فيقال له في ذلك: لعمري إن الخلاف في هذا الباب هو ممن يقول
بالنص ويفسد الاختيار، وإذا كان كلامك في هذا الفصل لا يصح إلا
بعد أن يبطل النص ويصح الاختيار فقد تقدم من الأدلة على صحة
النص، وفساد الاختيار ما فيه كفاية.
وأما قوله: " إن الصحابة لم تطلب للإمامة العترة ولا موضعا أخص
من قريش " فقد بينا العلة في أن الطلب لذلك لم يظهر ودللنا على سبب
الإعراض عن منازعة من لم يكن من العترة وتكرر في ذلك ما لا حاجة بنا
إلى إعادته.

200
فصل
في الاعتراض على كلامه
فهل يجوز العدول عن قريش في باب الإمامة أم لا؟
حكي عن أبي علي (1) أنه كان يجوز أن لا يوجد في قريش من يصلح
للإمامة، وأن ذلك إذا اتفق وجب أن ينصب من غيرهم، وفرق بين
النسب وبين العلم والفضل والعدالة، فقال: " إن فقد القرشي لا يؤثر
ويجوز أن ينصب من غيرهم لأنه ليس بشرط واجب، وليس كذلك باقي
الشروط لأنها واجبة، وفقدها مؤثر فلا يجوز أن ينصب للإمامة من تفقد
فيه " وحكى في آخر الباب عن أبي عبد الله الحسين بن علي البصري (2) (إنه
لا يمتنع أن يقال: إنه لا يجوز أن تخلو قريش ممن يصلح للإمامة لمكان الخبر)
ثم سأل نفسه فقال: " إن قيل: ألا قلتم أن الخبر متضمن صحة وجود من
يصلح ومن يلزم العقد له فيهم أبدا ليصح بهذا التكليف قيل له: إذا كان
التكليف معلقا بشرط فما الذي يمنع من أن لا يوجد ولا يلزم ذلك
التكليف، فعند ذلك يرجع إلى الدلالة فإذا وجب بالآيات التي ألزم الله
عز وجل فيها القيام بالحدود ونصب إمام فواجب أن ينصب من غيرهم ".
ثم قال: " فإن قيل: فهلا قلتم: إنه متى لم يوجد فيهم من يصلح



(1) كذلك ص 239.
(2) من شيوخ المعتزلة وقد تقدم ذكره غير مرة.
201
لذلك سقط التكليف في نصب الأئمة؟ كما لو وجد كل من يصلح لهذا
الشأن مختل العدالة لسقط هذا التكليف.
ثم قال: " قيل له: إذا كان ما لأجله يجب نصب الإمام من إقامة
الحدود والقيام بالأحكام وغير ذلك لا يخص حال وجود من يصلح لذلك
فيهم من حال عدمه (1) فيجب أن يكون التكليف قائما، (2)... ".
يقال له: إن المذهب الذي حكيته عن أبي علي يبعد
عن الصواب لأنه لما أجاز أن تخلو قريش ممن يصلح للإمامة
أجاز أن ينصب من غيرهم، ولم يجز ذلك في باقي الشروط، ونحن نبين
أن ذلك مناقضة، لأنه إذا كنا إنما نرجع في أوصاف الإمام وشروط إمامته
إلى النص والسمع على ما تذهب أنت وأصحابك إليه، والنص وارد في
هذه الصفات أجمع على حد واحد، لأنه قد دل النص على أن من شرط
الإمام أن يكون من قريش، كما دل على أن من شرطه العدالة، والعلم
المخصوص، ونحن نعلم أن هذه الصفات لم تحصر في هذا الباب إلا بما
تقتضيه المصلحة، وكأن المصلحة تقتضي كون الإمام على صفات منها أن
يكون من قريش، فكيف يجوز أن نقيم من غير قريش إذا لم نجد قرشيا،
ولم نجز أن نقيم غير عالم أو غير عدل إذا لم نجد عالما عدلا؟ وقوله: " هذا
شرط لا بد منه وهذا شرط منه بد " اقتراح لأنه لا فرق بينه وبين من
عكسه وقال: الذي لا بد منه هو النسب، وباقي الشروط منها بد وكل
ذلك غير صحيح، لأنا إنما نعلم أنه لا بد منه من حيث اقتضاء النص
وعلقت الإمامة به، وهذه الطريقة عامة لسائر الشروط فلا وجه



(1) غ " منهم في حال ".
(2) المغني 20 ق 1 / 240.
202
لتقسيمها، على أن صاحب الكتاب بتحقيقه قول أبي علي وارتضائه له
ناقض لما استدل به في هذا الكتاب في باب الإجماع (1)، على أنه لا بد في كل
عصر من إثبات مؤمنين ليصح أن يتبعوا له، وأنه لا يجوز خلو الزمان ممن
هذه صفته لأنه استدل هناك على هذا بقوله: (ومن يشاقق الرسول)
الآية.. (2) وادعاء أن توعدها على ترك اتباع سبيلهم يقتضي أن يكونوا
متمكنين في كل عصر من اتباع سبيلهم ولا يكونون متمكنين من ذلك إلا
بوجود المؤمن في كل عصر وهو هاهنا يقول: (إن إيجابه إقامة الأئمة من
قريش لا يقتضي وجود من يصلح للإمامة في قريش، وإن كان إيجابا
وتكليفا ويجعله مشروطا بوجود من يصلح لذلك وهو هناك منع من هذا
أشد منع وأحال أن يكون إيجابه اتباع سبيل المؤمنين مشروطا، وقد كلمناه
على هذا الفصل في موضعه من هذا الكتاب بكلام طويل لا معنى في
إعادته، وإنما أردنا الآن التنبيه على وجه المناقضة، وإلا فالخبر لا يقتضي
بظاهره وجود من يصلح في قريش كما إن الآية لا تقتضي وجود مؤمنين في
كل عصر.
فأما تعلقه في الجواب عما سأل عنه نفسه من أن التكليف إذا كان
معلقا بشرط فما الذي يمنع من سقوطه عند انتفاء شرطه بالآيات التي ألزم
الله تعالى فيها إقامة الحدود والأحكام، وإن ذلك إذا كان مستمرا وجب
أن يستمر التكليف، ويعدل إلى غير قريش إذا لم يوجد فيهم من يصلح
للإمامة فبعيد من الصواب، لأن الآيات التي ذكرها إذا كانت موجبة
لإقامة الحدود، وموجبة لإقامة من يقيمها على مستحقها فإنما توجب
إقامة من له صفة مخصوصة متى لم تحصل ولم يمكن تحصيل من هو عليها



(1) باب الإجماع في أول الجزء السابع عشر من المغني.
(2) النساء من الآية 115.
203
فينبغي أن يسقط التكليف كما لو قدرنا فقد يختص بالعدالة والعلم
المخصوص يسقط التكليف في إقامة الإمام وإن كانت الآيات المتضمنة لإقامة
الحدود ثابتة..
فإن قلت: علمي بوجوب إقامة الحدود، وتنفيذ الأحكام، وأن
ذلك موجب نصب من يتولاه ويقوم به يمنعني من أن أجوز خلو الزمان من
عدل عالم يصلح للإمامة.
قيل لك: فألا كان علمك بما ذكرت يمنعك من أن تجيز خلو الزمان
من قرشي يصلح للأمة؟ وألا توصلت إلى الأمرين توصلا واحدا؟ فإذا
جاز أن يعدل عن القرشي عند فقده إلى غيره لأجل إثبات التكليف، فألا
جاز أن يعدل عن العالم والعدل إلى غيرهما عند فقدهما من أجل إثبات
التكليف؟
قال صاحب الكتاب: " وقد يبين صحة ما ذكرناه أن الإمام يجوز أن
يعتمد فيما إليه على الصالحين من غير قريش، وذلك يبين * إنهم أهل
القيام بهذه الأمور، ولا يجوز لو تعذر عليه أهل الصلاح أن يعتمد على
الفساق وذلك * (1) يبين التفرقة بين الأمرين وصح ما نقوله نحن، وجملة
القول في ذلك أن كل شرط في الإمام لو فقد صلح أن يكون أميرا يقوم بما
إلى الإمام، فيجب أن لا يمتنع على بعض الوجوه أن يكون إماما، وكل
شرط لو فقد لم يصلح أن يكون أميرا وحاكما فيجب أن يمتنع من عقد
الإمامة له... " (2).
يقال له: لم زعمت أن الإمام إذا جاز أن يعتمد على غير



(1) ما بين النجمتين ساقط من " المغني ".
(2) المغني 20 ق 1 / 241 والعبارة مشوشة في المغني.
204
قريش في الإمارة جاز أن يكون الإمام غير قرشي، وكيف تكون الإمامة
قياسا للإمارة في هذا الباب وأحد شروط الإمام أن يكون قرشيا بلا خلاف
بيننا وبين صاحب الكتاب، وليس من شرط الأمير أن يكون قرشيا، فكان
محصول كلامه إذا جاز أن يولى الأمير مع تكامل شرائطه المطلوبة فيه، فألا
جاز أن يولى الإمام مع اختلال بعض شرائطه المطلوبة فيه، ولا خفاء بما
في هذا الكلام.
فأما قوله: " إن كل شرط في الإمام لو فقد صلح أن يكون أميرا
فيجب أن لا يمتنع على بعض الوجوه أن يكون إماما وكل شرط لو فقد لم
يصلح أن يكون أميرا أو حاكما [يقوم بما إلى الإمام] (1) فيجب أن يمنع من
عقد الإمامة فيفسد بما ذكرناه لأنا قد بينا الفرق بين الإمارة والإمامة * وأن
النسب مطلوب في الإمامة دون الإمارة * (2) على أنه مقتصر على دعوى من
غير أصل رد إليه كلامه " (3).
فيقال له: لم زعمت أن الأمر على ما ادعيت، وما الدليل على
صحة العقد الذي عقدته؟ على أن هاهنا شرطا لو فقد صلح أن يكون من
يفقد فيه أميرا وإن لم يصلح أن يكون إماما لأن من شرط الإمامة عندنا
وعنده أن يكون بصيرا باختيار الخلفاء والنائبين عنه، عالما من يصلح
لذلك ممن لا يصلح له، وهذا الشرط يصلح أن يكون الأمير أميرا
والحاكم حاكما مع فقده ولا يصلح أن يكون إماما مع فقده على أن أكثر
أصحابنا لا يسلم له ما ذكره في الأمير لأن عندهم أن الفضل في النسب
أحد جهات الفضل، ولا يجوز أن يقدم المفضول في شئ منه على



(1) الزيادة من المغني.
(2) ما بين النجمتين ساقط من المغني.
(3) المغني 20 ق 1 / 241.
205
الفاضل، ومن ذهب إلى أن هذا المذهب يتناول كلما نورد عليه من إمارة
غير قرشي إلا بأن لا يكون إمارة صحيحة، أو ترد من جهة من ليس له
أن يؤمر أو بأن يكون مخصوصا بمن له من النسب ما لا يفضل عليه
نسب المؤمر وعلى كل حال فقد سقط ما تعلق به.
ثم ذكر صاحب الكتاب - بعد هذا كلاما في أن الإمام يجب أن يكون
واحدا في الزمان، وأنه لا يمتنع أن يجتمع في وقت واحد جماعة تصلح
للإمامة، وكلاما في أن من يصلح للإمامة لا يصير إماما إلا بأمر مجدد وكل
ذلك لا خلاف بيننا وبينه فيه، ولا معنى لتتبعه إلا أنه عول في أن من
يصلح للإمامة لا يصير إماما بذلك، وأنه لا بد من تجدد أمر يصير به إماما
على أن قال: " لا خلاف بين من لا يقول بالنص في كل إمام أنه لا يصير
إماما بأن يصلح لذلك ويجتمع فيه " الشرائط " (1) وهذا لا معنى له ولا فائدة
له في إخراجه من يقول بالنص عن هذا الإجماع لأنه لا خلاف في ذلك
بالإطلاق، ومن يقول بالنص يذهب إلى أنه لولا النص أو ما يقوم مقامه
من المعجز لم يصر الإمام إماما، وإن اجتمعت فيه شرائط الإمامة،
وكملت له خلالها، ومن يقول من أصحابنا أن الإمامة مستحقة وأنها
تجري مجرى الثواب لا يذهب إلى أنه يصير إماما بنفس الاستحقاق، بل
لا بد عنده من نص عليه وإشارة إليه.



(1) كلام صاحب المغني الذي أشار إليه المرتضى يبتدئ من ص 243 وينتهي في
ص 251 في فصول ثلاثة.
206
فصل
في الكلام على ما اعتمد عليه في عدد العاقدين للإمامة
قال صاحب الكتاب: " إنما قلنا: إنه لا بد من العقد حيث ثبت
بما قدمناه أنه لا يصير إماما بأن يصلح للإمامة فقط، فلا بد من أمر
زائد، وقد ثبت عند كل من يقول بالاختيار أنه إذا حصل العقد من واحد
برضا أربعة صار إماما، واختلفوا فيما عدا ذلك، فلا بد فيما يصير به
إماما من دليل فما قارنه الإجماع يجب أن يحكم به " (1) ثم عارض نفسه
بالزيدية وأجاب عن الاعتراض بأنهم قائلون بالنص على بعض الوجوه،
وأنه إنما اعتبر إجماع من يقول باختيار.
ثم قال: " فإن قيل: أليس في الناس من يقول: لا يصير إماما إلا
برضا الكافة من البلد (2) الذي يظهر به، وهذه طريقة العامة قيل له ليس
ذلك بمذهب يتحصل فيذكر ويطعن به فيما قدمناه من الإجماع، لأنهم ربما
اعتبروا العامة وإن خالفت الخاصة في ذلك وربما قالوا بإمامة الفاسق
المهتوك إذا غلب (3) وأحد ما يدل على ذلك ما ثبت من إجماع الصحابة في
بيعة أبي بكر لأنه بايعه الواحد برضا أربعة على ما تقدم ذكره.. " (4)



(1) المغني 20 ق 1 / 259.
(2) غ " في البلد ".
(3) غ " المفضول للغلبة لا للرضا ".
(4) المغني 20 ق 1 / 260.
207
وعني بذلك أن عمر بايعه برضا أبي عبيدة وسالم مولى أبي حذيفة وأسيد بن
حضير الأنصاري، وبشير بن سعد على ما ذكره في الفصل الذي قبل هذا
قال: (وقد علمنا بإجماعهم من بعد أنه صار إماما من أول ما عقد له،
وبالسبب الذي تقدم فلا بد من سمع ثابت عندهم يقتضي أنه يصير إماما
بذلك لأنه لا يجوز وقد حصل له الإجماع فيه أن يحمل على التبخيت (1) ولا
أن يقال: إن طريقه الاجتهاد لأن المقادير (2) الجارية هذا المجرى لا مجال
للاجتهاد فيها، فلا بد من سمع لكن لا يجب نقله لأنه استغنى بالاجماع
عنه، وسقط بذلك قول من يقول: إن ذلك إنما اتفق ولو حضر في الحال
من العدد ما يزيد على خمسة وينقص لعقدوا له، فإن الذي قدمناه من
مقارنة الإجماع له يمنع (3) من ذلك،...) (4).
يقال له: قد ادعيت الإجماع في موضع لا إجماع فيه، والخلاف فيه
ظاهر لأن كثيرا ممن يقول بالاختيار يذهب إلى أن الإمامة لا تنعقد إلا
برضا جميع الأمة وتسليمها، ولا يعتبرون في هذا عددا مخصوصا،
والذاهب إلى ما ذكرناه من أهل الاختيار أكثر عددا ممن يذهب فيه إلى
العدد الذي اعتبره صاحب الكتاب وليس توهينه لهذه المقالة وتضعيفه
لأهلها بحجة في مثل هذا الموضع، لأنه ادعى الإجماع، وإذا ثبت خلافه
بطلت دعواه سواء كان الخلاف من ضعيف أو قوي عامي أو خاصي.
فأما قوله: (إنهم ربما اعتبروا إجماع العامة وإن خالفت الخاصة فيه)
فليس هذا قول من يعتبر إجماع جميع الأمة لأنهم ربما اعتبروا إجماع الأمة



(1) التبخيت تفعيل من البخت، وهو الجد أي الحظ.
(2) غ " المعاذير ".
(3) غ " من مقارنة ذلك أنه يمنع ".
(4) المغني 20 ق 1 / 260.
208
وإن خالفت الخاصة فيه لأنهم إذا لم يجعلوا إجماع الخاصة إذا خالفتهم
العامة إجماعا فأولى أن لا يجعلوا إجماع العامة مع خلاف الخاصة حجة
وإجماعا، وليس جميع من يذهب إلى ما ذكرناه يجوز إمامة الفاسق المهتوك
ومن ذهب منهم إلى ذلك فلسنا نعترض بقوله.
فأما ما اعتمده من إجماع الصحابة على بيعة أبي بكر وصحتها،
وإنها إنما انعقدت في الأصل بالعدد المخصوص الذي اعتبره، قلنا في ذلك
كلام من وجوه.
أولها، إنا لا نسلم هذا الإجماع لأنه ما كان قط ولا وقع.
وثانيها، أن نسلمه ثم نبين أن لقائل أن يقول: إن إمامته إنما
صحت بالاجماع عليها، لا بعقد النفر الذين ذكرهم.
وثالثها، أن نتجاوز عن كل ذلك ونقول لم إذا انعقدت إمامته
بخمسة لم يجز النقصان من هذا العدد، ونحن نتكلم على جميع ذلك.
أما الوجه الأول فالأولى أن نؤخر الكلام فيه إلى الفصل الذي
نعترض به كلامه في إمامة أبي بكر لأنه اختص بهذا الخلاف من حيث كان
هذا الفصل كالفرع على صحة الاختيار وثبوته، والخلاف فيه جار بين من
يوافق على أصل الاختيار.
فأما الفصل الثاني فالكلام فيه واضح لأن أبا بكر لما صفق على يده
بالبيعة من سبق إلى بيعته لم يبرح من مجلسه ذلك عند من يقول بصحة
إمامته، وثبوت اختياره حتى بايعه جميع أهل المدينة فمنهم من حضر
السقيفة وصفق على يده بالبيعة وهم جمهور الأنصار والمهاجرين، ومنهم
من تأخر لعذر فلم يبايع بيده ورضي البيعة بقلبه، وسلمها وأذعن بها
كأمير المؤمنين عليه السلام عندهم، ومن تأخر من بني هاشم معه اشتغالا

209
بتجهيز النبي صلى الله عليه وآله فمن أين له أن إمامته انعقدت بأربعة
دون أن يكون إنما انعقدت بالاجماع الذي لم يتراخ عن بيعة من بايعه ممن
ذكره.
وقوله: (إنهم أجمعوا على أنه صار إماما من أول ما عقد له)
وبالسبب المتقدم لا ينافي ما ذكرناه لأن رضا الكافة وبيعة الجميع كان تاليا
صفقة من سبق إلى مبايعته ولم يكن بينهما زمان، والحال التي جرى فيها
الخوض إلا بالاجماع عليه عندهم، ولم تنفصل حال الإجماع من الكافة عن
حال مبايعة الأربعة بزمان يصح أن يكون معتبرا كما لم تنفصل بيعة عمر
ثم عن رضا الأربعة وتسليمهم بزمان يجوز أن يكون معتبرا وإدخالهم في
جملة العدد الذي به انعقدت الإمامة أسيد بن خضير طريف لأن جميع من
روى خبر السقيفة، لم يرو أن أسيد بن حضير سبق إلى بيعة أبي بكر قبل
جماعة الأوس وإنما بايع في جملتهم لما بايعوا بعد أن قال بعضهم لبعض
والله لأن وليها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم بذلك الفضيلة عليكم،
على ما شرحناه في الخبر الذي اقتصصنا فيه قصة السقيفة على رواية
الطبري، فإن كان العقد لم يكمل إلا بأسيد بن حضير فهو لم يبايع إلا مع
بني عمه وقومه، فيجب أن تكون بيعة جميعهم معتبرة ولا يقتصر على
أربعة، ومن تأمل خبر السقيفة، وما روي من كيفية وقوع البيعة علم أن
من اعتبر في صحة إمامة أبي بكر أربعة مخصوصة متحكم مقترح لما لا
يشهد به في شئ من الروايات.
ويقال له: في الفصل الثالث: إذا سلم لك أن إمامته انعقدت
ببيعة واحد، ورضى أربعة من أين لك أن هذا هو العدد الذي لا نقصان
فيه؟ وأكثر ما يقتضيه ما اعتبرته أن يكون الإجماع كاشفا عن أحد أمرين
إما أن يكون هذا هو العدد المراعى في عقد الإمامة، أو أن يكون العدد

210
المراعى داخلا في جملته، وليس لك أن تقول إن الإجماع كما كشف لي من
أن العدد المطلوب لا يجوز أن يزيد على ما ذكرته كذلك لا يجوز أن ينقص
عنه، وذلك أن بين الأمرين فرقا واضحا، وهو أن دلالة الإجماع تمنع من
أن يكون العدد المطلوب زائدا على ما قارنه الإجماع، وشهد له بالصحة
لأنه لو زاد عليه لخرج الإجماع من أن يكون حجة، وليس بمانع من أن
يكون ناقصا عنه لأنه على هذا الوجه لا يخرج من أن يكون حجة،
وهذا يجري مجرى تنفيذ الحاكم الحكم بشهادة أربعة في موضع يعتبر فيه
شهادة الاثنين، وتنفيذه بشهادة العشرة ما يعتبر فيه شهادة الأربعة، وهذا
واضح.
ثم قال صاحب الكتاب: (ويدل على ذلك ما يثبت من صنيع (1)
عمر عند وفاته لأنه جعله شورى بين ستة وتقدم إليهم بأن يجتمعوا على
واحد منهم فصار ذلك موافقا لما قدمنا " (2).
ثم قال: (فإن قيل: أليس قد روي عن عمر أنه قال إن بايع
ثلاثة وخالف اثنان فاقتلوا الاثنين؟ قيل له: إن شيخنا أبا علي (3) قال إن
هذا الخبر من أخبار الآحاد ولا شئ يقتضي صحته فلا يجوز (4) أن يطعن به
في الإجماع الظاهر الذي قدمناه، قال: ولو صح لقلنا: إن الإمام يصير
إماما ببيعة ثلاثة لكن ذلك (5) لما لم يصح لم يجب أن يقال به وذكر - يعني أبا
علي - إن الخبر يمكن أن يحمل على أنه أراد أن امتنع اثنان بعد الرضا



(1) غ " ثبت من صنع ".
(2) المغني 20 ق 1 / 261.
(3) غ " قد قال شيخنا أبو علي ".
(4) غ " فلا ينبغي ".
(5) غ " لكنه لما ".
211
وخالفا على جهة شق العصا وطلب الفتنة فاقتلوهما، لأن القتل لا يستحق
إلا على هذا الوجه،...) (1).
يقال له: من أعجب الأمور أنك صرت إلى ما هو دليل عليك في
فساد ما اعتبرته في العدد المخصوص الذي راعيته في عقد الإمامة فجعلته
دليلا لك، ومن دلك بأن تخرج من قصة الشورى كفافا لا لك ولا
عليك، لأن عمر لما نص على أهل الشورى لم يجعل العقد ثابتا برضا
خمسة لواحد حتى قال: إن خالف واحد الخمسة فاقتلوا الواحد وإن خالف
اثنان الأربعة اتفقوا على أحد فاقتلوا الاثنين، فجعل العقد ماضيا بأقل من
ستة وهذا بخلاف ما اعتبرتموه، وادعيتم أن أمر السقيفة جرى عليه.
وليس قول أبي علي أن الخبر من أخبار الآحاد بشئ لأن كل من
روى الشورى وأن القوم كانوا ستة روى التفصيل الذي ذكرناه (2) فكيف
صار الخبر من جهة الآحاد فيما ذكرناه ولم يصر من جهة الآحاد في أنهم
كانوا ستة والطريق واحد؟ وقد روى الطبري في تاريخه أن عمر قال:
لأبي طلحة الأنصاري لما يأس من نفسه يا أبا طلحة إن الله طال ما أعز
الاسلام بكم فاختر خمسين رجلا من الأنصار فاستحث هؤلاء الرهط حتى
يختاروا رجلا منهم، وقال للمقداد بن الأسود إذا وضعتموني في حفرتي
فاجمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلا منهم، وقال لصهيب:
صل بالناس ثلاثة أيام وادخل عليا وعثمان والزبير وسعدا وعبد الرحمن بن
عوف وطلحة - إن قدم - وأحضر عبد الله بن عمر ولا شئ له من الأمر،
وقم على رؤوسهم فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلا منهم وأبى واحد فاشدخ (3)



(1) المغني 20 ق 1 / 262.
(2) انظر شرح نهج البلاغة 1 / 190 فما بعدها و ج 9 / 49.
(3) الشدخ: كسر الشئ الأجوف. يقال: شدخ رأسه فانشدخ.
212
رأسه بالسيف وإن اتفق أربعة فرضوا رجلا منهم وأبى اثنان فاضرب
رؤوسهما، (1) فإن رضي ثلاثة منهم رجلا وثلاثة رجلا منهم فحكموا عبد الله
ابن عمر فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلا منهم، فإن لم يرضوا
بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف،
وهذا قول من لم يعتبر في عقد الإمامة بأن يعقدها واحد لغيره برضا أربعة
ولا شئ أدل على بطلان قولهم واعتبار هذا العدد المخصوص من قصة
الشورى.
فأما تأويل أبي على الأمر بالقتل على أن المراد به بعد الرضى
والدخول في البيعة فمن التأويل البعيد، لأن لفظ الخبر لا يقتضي
ذلك، وفحوى كلام الرجل لا يحتمله، وكيف يحمل على ذلك،
ومعلوم أن من خالف بعد الرضا والدخول في البيعة على جهة شق
العصا أو طلب الفتنة يستحق المحاربة والقتل على أي عدد كان فأي
معنى لذكر اثنين في مقابلة أربعة وثلاثة في مقابلة ثلاثة، وليس هذا من
التأويل الذي يحمل عليه تدين ولا إنصاف.
ثم عارض صاحب الكتاب نفسه (2) بعقد أبي بكر لعمر وأنه واحد
عقد لواحد من غير اعتبار رضا خمسة وأجاب عن ذلك بأن رضا خمسة
معتبر إذا لم يحصل من الإمام المتقدم عهد، ثم استدل على أن بعهد الإمام
ثبت الإمامة للثاني بفعل أبي بكر ونصه على عمر وذكر أنه لم يثبت أنه فعل
ذلك برضا المسلمين، بل قد صح أنه قد كان فيهم من أنكر ذلك على ما
روي عن طلحة أنه قال: وليت علينا فظا غليظا فجعل القاطع لقوله وليت
أموركم خيركم في نفسي (3) فأضاف توليته إلى نفسه، فيجب أن يكون



(1) هذا مثل (فقد صغت قلوبكما).
(2) المغني 20 ق 1 / 262.
(3) انظر تاريخ الطبري 3 / 429 حوادث سنة 13.
213
ذلك هو الموجب لكونه إماما، ولذلك لم يستأنف له بيعة بعد موت أبي
بكر، ولو كان نصه عليه لا يكفي لوجب استئناف العقد له وكان يجب أن
يكون ما تقدم منه وجوده كعدمه إن لم يكن له أن ينص على من يقوم
بالأمر بعده نصا يزيل الشبهة، وذلك إنه كان يجب أن يكون نصه كلا
نص وأن يكون نصه كنص غيره في أنه كان يجب أن يكون الخلاف قائما،
وأن يجوز العدول عنه، وحكى هذه الطريقة والاستدلال عن أبي هاشم.
ثم قال: (ولهذه الطريقة أصل في السمعيات (1) وذلك لأنه جعل من له
الحق في حال الوفاة أولى بالتصرف وإن لم يتم إلا بعد الممات كما نقوله في
الوصايا فلما كان للإمام هذا التصرف لم يمتنع أن يجعل له ذلك لكنه لما كان
لا يصح إثبات إمامين صار عهده (2) مستقرا بعد وفاته كما أن الوصية إنما
تستقر بعد الموت، فلولا أن الأمر كما قلناه لوجب إذا أوصى الناس بذلك
ثم مات أن لا يكون إماما إلا باستئناف العقد لأن رضاهم والإمام الأول
في غير معتل به (3) من حيث لم يصر إماما به بأنه لو صار إماما به لكان في
ذلك إثبات إمامين فلولا أن لعهده تأثيرا لكان اقتران الرضا به لا يوجب
أن يصير إماما بعده لعده،...) (4).
يقال له: هذه الدعوى التي عولت عليها في أن عقد
الإمام يغني عن الرضا ويثبت به الإمامة ليس بمقنع لأن لمن خالفك
في ذلك من أبي علي وغيره ممن حكيت عنه فيما تقدم أن الإمام
لا يصير إماما بعقد الأول حتى يقترن إليه رضا جماعة أقلهم خمسة أن يقول
لم زعمت أن بيعة عمر إنما ثبتت بمجرد نص أبي بكر عليه وإلا كان ثبوتها



(1) غ " الشبهات " وما في المتن هو الصحيح على الظاهر.
(2) غ " صار عنده ".
(3) غ " فغير معتل له ".
(4) المغني 20 ق 1 / 263.
214
بما اقترن إلى ذلك من رضا الجماعة به، فإن قلت: لم يرض المسلمون
بذلك لأن طلحة خالف، قيل: وأي معتبر بخلاف طلحة مع رضا كل
من عدا طلحة وهم أكثر من خمسة، وهو القدر المطلوب في باب
الإمامة، فلو خالف مع طلحة أمثاله وأمثاله حتى يسلم رضا خمسة لم يقدح
ذلك في ثبوت الإمامة له، وصحتها على أن طلحة ما أقام على هذا
الخلاف، بل رجع عنه وسلم ورضي وهل خلاف طلحة في هذا الباب
بآكد من خلاف أمير المؤمنين عليه السلام وجماعة من بني هاشم، والزبير
وخالد بن سعيد بن العاص (1) وفلان وفلان الذين زعمتم أنهم بعد إظهار
الخلاف الذي صرحوا بالمنازعة في نفس الإمامة، وزادوا بذلك على
طلحة، لأن طلحة لم يقل إنه لا يصلح للإمامة وإنني غير راض به، وإنما
تألم من فظاظته حتى قلتم في جميع من خالف هناك أنه رضي وسلم،
وبايع وتابع، ولم يرجعوا من ذلك إلا إلى الامساك وترك النكير الظاهر،
فهل كان من طلحة بعد هذا القول نكير وهل كان إلا متابعا مسلما.
فأما تعلقه بإضافة ولايته إلى نفسه فليس بشئ لأن الإضافة تصح
من حيث كان هو المبتدئ بها والمنبه عليها، وإن كان إمضاؤها يقف على
رضا الغير، وهذا كما يقال إن عمر عقد الإمامة لأبي بكر من حيث سبق
إلى بيعته، وإن كان العقد لم يصح إلا بعد رضا غيره، وليس يجب أن
تستأنف له بيعة بعد موت أبي بكر إن كان النص بنفسه لم يكن كافيا على
ما ظن لأنه إذا أشار إليه في حياته ورضي القوم بذلك من حاله فهو عقد



(1) خالد بن سعيد بن العاص صحابي من السابقين الأولين هجره أبوه وإخوته
لما علموا بإسلامه فلازم رسول الله صلى الله عليه وآله ثم هاجر إلى الحبشة وتولى هناك تزويج حبيبة
بنت أبي سفيان لرسول الله صلى الله عليه وآله وكان هو وأخواه أبان وعمرو ابنا سعيد بن العاص
ممن انحازوا إلى علي عليه السلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وامتنعوا
من البيعة في أول الأمر.
215
مستقر يتأخر إلى بعد الوفاة، ولا يجب أن تستأنف فيها بيعة ثانية لأن
الرضا الأول قد أغني عن ذلك.
فأما قوله: " كان يجب أن يكون ما تقدم من نصه وجوده كعدمه " فلا
يجب إذا اقترن به الرضا والتسليم ولو لم يقارنه الرضا لكان وجوده كعدمه.
فأما قوله: (" إن لذلك أصلا في السمعيات " وذكره الوصايا في
هذا الباب فغير صحيح لأن كثيرا من الحقوق يثبت التصرف فيها حال
الحياة ولا يثبت بعد الوفاة كالحقوق في الفروج، وما جرى مجراها وإنما
تكون العبرة التي ذكرها صحيحة في الأموال وما جرى مجراها، وليس
التصرف في الإمامة من باب التصرف في الأموال، وقد بينا أنهم إذا رضوا
بعهده وعقد الإمامة بعده، لم يجز مع ذلك استئناف العقد بعد وفاته وأن
العهد بمجرده لا تأثير له، لولا الرضا والتسليم فلا معنى لتكراره لذلك،
ثم ذكر كلاما في هذا المعنى لا طائل في تتبعه وخرج منه إلى كلام في
الاختيار نحن نسبق فيه ونذكر ما عندنا فيه عند كلامنا على فساد الاختيار
بإذن الله ومشيئته.

216
فصل
في اعتراض كلامه في إمامة أبي بكر
اعتمد صاحب الكتاب في هذا الباب على طريقتين، زعم أن الأولى
منهما تدل على إمامة أبي بكر على سبيل الجملة، والثانية تدل على صحة
الاختيار في الجملة، وعلى إمامة أبي بكر على سبيل التفصيل، وعول في
الأولى على ما تقدم من كلامه في النص والرد على القائلين به، وأشار إلى
حمل ما تقدم من كلامه في ذلك، ثم تكلم على من ذهب في الإمامة إلى
أنها تثبت بالخروج بالسيف من الزيدية بكلام لا طائل في ذكره وتتبعه،
لأنه واقع موقعه ثم شرع في الكلام على الطريقة الثانية، فقال: " إن
الإجماع قد صح على الرضا بإمامة أبي بكر وكشف لنا الإجماع من أن البيعة
وقعت صحيحة، لأنهم حين أجمعوا على ذلك لم يتجدد ما يوجب كونه
إماما ولا تعلق إجماعهم بإمامته في وقت دون وقت ولذلك أجروا كل
أيامه (1) وأحكامه مجرى واحدا فصار من هذا الوجه الإجماع كاشفا عن
صحة إمامته من أول الأمر لا أن به صحت إمامته وإذا ثبت (2) ذلك
فيجب أن يجعل الوجه الذي انعقدت به إمامته أصلا في تثبيت الإمامة على
ما قدمنا القول فيه " (3).



(1) غ " كل أيامه مجرى واحدا ".
(2) غ " وإذا صح ذلك ".
(3) المغني 20 ق 1 / 262.
217
ثم بين أن الإجماع لا بد أن يكون مستندا إلى دلالة وشرع
وذكر ما يمكن أن يكون الإجماع مستندا إليه مما لا حاجة بنا إلى
ذكره، لأنا ندفعه عن الإجماع، ولو صح الإجماع لكان لا بد من استناده
إلى دلالة على ما ذكر إلى أن قال: " واعلم أن من يخالفنا في هذا الباب ممن
يطعن (1) في الإجماع لا نكلمهم في ذلك لأنه فرع وإنما نبين صحة الإجماع
ثم نكلمهم في ذلك، وكذلك من يدعي في الإمامة أن طريقها العقل
والنص الذي لا يحتمل أو ظهور الاعجاز وقد تكلمنا عليهم بما حضر،
وإنما نتكلم بذلك بعد ثبوت الإجماع، وبطلان هذه الوجوه، ثم لا يخلو
حالهم من وجهين إما أن يخالفوا في ثبوت الإجماع على ما نرتبه أو يسلموا
ذلك في الظاهر ويتعلقوا بالتقية، وبادعاء باطن خلاف الظاهر على ما
يحكى عن قوم ولا يمكن في ذلك إلا هذه الوجوه، ونحن نذكرها فأما
الوجوه التي ترتب الإجماع عليها فأحدها أن يقال انتهى الأمر (2) في إمامته
إلى أن لم يكن في الزمان إلا راض بإمامته أو كاف عن النكير، ولو لم يكن
حقا لم يصح ذلك، ولا فرق بين أن نبين ذلك في أول الأمر أو في بعض
الأوقات، وإنما نذكر ذلك لأن في ابتداء ما عقد له جرى كلام من العباس
والزبير وأبي سفيان ووقع تأخر عن بيعة أمير المؤمنين أياما ومن غيره (3) ثم
زال كل ذلك فإذا كان ثبوت الإجماع من الوجه الذي ذكرناه في آخر أمره
ووسطه كهو في أوله في صحة الدلالة لم يمتنع أن يجعل العمدة في ذلك ثبوته
في بعض الأحوال، وقد ترتب الإجماع ترتيبا آخر بأن نبين أن كل من



(1) غ " من خالفنا في هذا الباب ويطعن ".
(2) غ " اشتهر الأمر ".
(3) أمثال سعد بن عبادة، ومن انضم إلى أمير المؤمنين كسلمان والمقداد وأبو ذر
وعمار والزبير وغيرهم.
218
يدعي عليه الخلاف قد ثبت عنه فعلا وقولا الرضا والبيعة ممن يعتمد
عليه، لأن العامة في ذلك تبع للخاصة، ونبين أن سعد بن عبادة لم يبق
على الخلاف ولا يعتد بخلافه، وقد نرتب على وجه آخر بأن يقال إجماعهم
على فرع لأصل يتضمن تثبيت الأصل، وقد استقر الإجماع في أيام عمر
على إمامته وهي فرع لإمامة أبي بكر، فيجب بصحتها صحة ذلك، أو
نبين أن أحدا لم يقل بصحة أحدهما دون الآخر فثبوت أحدهما يوجب
كثبوت الآخر من جهة هذا الإجماع الثاني ويكون الكلام في هذا الوجه
أوضح، لأن أيام عمر امتدت وظهر من الناس الطاعة له، والتولي من
قبله وحضور مجلسه والمعاضدة له في الأمور لأن سعد بن عبادة [الذي
ندعي أنه نفى الخلاف لا شك أنه] (1) مات في أوائل أيام عمر فاستقر
الإجماع بعده من غير شبهة، وكلام شيخنا أبي علي يدل على أن سعد بن
عبادة مات في أيام أبي بكر، وأن الأمة أجمعت بعد موته على تسويغ (2) إمامته
وقد خطأه الناس في ذلك، وزعموا أن الأمر ظاهر في أنه مات في أيام
عمر، قال: وأظن أن الذي ذكره يعني أبا علي موجود في مغازي ابن إسحاق
، وعلى أي الوجوه (3) كان فقد ثبت ما أردناه ".
قال: " وقد قال شيخنا أبو علي ما يدل على أن خلاف سعد بن
عبادة لا يؤثر لأنه إنما خالف على سبيل طلب الإمامة لنفسه، وقد صح
إنه كان مبطلا في ذلك حيث استمر على المخالفة، وإنما كان استمر على
هذه الطريقة فيجب أن لا يعد خلاف في أمر قد علم أنه فيه على باطل،
ولأنه لا يمكن أن يقال: إن خروج سعد مما عليه الأمة يؤثر في الإجماع



(1) التكملة من " المغني ".
(2) في المغني " سويع " وقال المحشي: " لعلها شيوخ " وأي معنى للتعليل.
(3) غ " وعلى الوجوه كلها ".
219
لأنا نعلم أن سعد بن عبادة وحده لا يكون محقا ولا بد أن يكون الحق في
أحد ما قالته الأمة (1) فيجب أن يكون فيما عليه سائر الصحابة ".
قال: " وقد بينا في كتاب " الإجماع " من هذا الكتاب (2)
أن المذهب إذا لم يكن من باب الاجتهاد، وقد كان الحق في
واحد منهم، فما تذهب إليه الجماعة هو الحق دون ما يتفرد به
الواحد والاثنان، لأن ذلك يصح أن يكون سبيلا للمؤمنين، وما صح
ذلك فيه فهو سبيل الحق دون ما عداه، وإنما يعد قول (3) الواحد خلافا
فيما طريقه الاجتهاد، وهذا يبطل التعلق بخلاف سعد وحده، على أنه لا
خلاف يمكن أن يذكر بعد بيعة أبي بكر إلا أنه الإمام أو أمير المؤمنين،
وسعد خارج عن هذين القولين، فجيب أن يكون قوله مطرحا لأنه امتنع
من مبايعة غير أبي بكر على حد امتناعه عن مبايعة أبي بكر، وهذا إن صح
أنه بقي على الخلاف، لأنه لا يمتنع أن لا يبايع وهو راض لأنه لا معتبر
بالبيعة ولا بالحضور لأنه قد يجوز أن يكون نافرا عن الحضور لما جرى من
صده عما كاد يثبت له من الإمارة (4) وإن صح وتيقن خلافه، فالأمر على
ما قدمناه من أنه إما أن لا يعتد بخلافه أو يعول على صحة الإجماع بعد
موته،... " (5).
يقال له: أما الطريقة الأولى فإنك عولت فيها على ما تقدم من
كلامك الذي ظننت أنك أفسدت به مذهبنا في النص فلم تحل في ذلك إلا



(1) وهو محصور يومئذ في قولين النص أو الاختيار.
(2) أي من " المغني " وهو في الجزء السابع عشر منه.
(3) غ " كون ".
(4) غ " عما كان له من الإمارة ".
(5) المغني 20 ق 1 / 282.
220
على ما قد أبطلناه، وبينا فساده وكل جملة أشرت إليها في كلامك هذا قد
تقدم كلامنا عليه على سبيل التفصيل، ولا طائل في إعادة ما مضى فقد
بطلت هذه الطريقة لبطلان أصلها الذي أسندتها إليه، وصار ما تقدم من
أدلتنا على صحة النص وثبوته وإبطال المطاعن فيه من أوضح الدلالة على
فساد إمامة الأول حتى لو اقتصر مقتصر في إبطاها على الجملة المتقدمة في
صحة النص وثبوته لأغناه من تكلف كلام مستأنف يخصها لأن النص إذا
كان صحيحا فقد بطل الاختيار، ووجب أن يتأول ما التبس من الإجماع
فيه على وجه يطابق الأدلة التي لا احتمال فيها.
فأما الطريقة الثانية فهي أخص بهذا الموضع ولنا في الكلام عليها
وجهان:
أحدهما، أن تبين أن ترك المنازعة والامساك عن النكير اللذين
توصلت بهما إلى الرضا والإجماع لم يكونا في وقت من الأوقات.
والوجه الثاني أن نسلم إن الخلاف في إمامته بعد ظهوره انقطع غير
أنه لم ينقطع على وجه يوجب الرضا وأن السخط ممن كان مظهر للنكير ثم
كف عنه بأن في المستقبل وإن كف عن النكير لمعاذير نذكرها.
فأما الكلام في الوجه الأول فبين لأن الخلاف ظهر في أول الأمر
ظهورا لا يمكن دفعه من أمير المؤمنين عليه السلام والعباس رضي الله عنه
وجماعة بني هاشم ثم من الزبير حتى روي أنه خرج شاهرا سيفه واستلب
من يده فضرب به الصفا (1) ثم من سلمان وخالد بن سعيد بن العاص
وأبي سفيان فكل هؤلاء قد ظهر من خلافهم وكلامهم ما شهرته تغني عن
ذكره وخلاف سعد وولده وأهله أيضا معروف وكل هذا كان ظاهرا في



(1) انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 6 ص 11.
221
ابتداء الأمر، ثم إن الخلاف من بعض ما ذكرناه بقي واستمر وإن لم يكن
ظاهرا منه في المستقبل على حد ظهوره في الماضي، إلا أنه منقول
معروف، فمن أين لصاحب الكتاب أن الخلاف انقطع؟ وأن الإجماع
وقع في حال من الأحوال؟ فما نراه عول في ذلك إلا على الدعوى.
فإن قال: أما الخلاف في الابتداء فقد عرفته، وأقررت به، وما
تدعونه من استمراره باطل لأنه غير منقول ولا معروف، فعلى من يدعي
استمرار الخلاف أن يبين ذلك، فأنى أنكره.
قيل له: لا معتبر بإنكارك ما تذكره في هذا الباب لأنك بين أمرين
إما أن تكون منكرا لكونه مرويا في الجملة وتدعي أن أحدا لم يرو استمرار
الخلاف على وجه من الوجوه، أو تعترف بأن قوما رووه غير ثقات عندك،
وأنه لم يظهر ظهور الخلاف الأول، ولم ينقله كل من نقل ذلك، فإن
أردت ما ذكرناه ثانيا فقد سبقناك إلى الاعتراف به، لأنا لم ندع في
الاستمرار ما حصل في الابتداء من الظهور، ولا ندفع أنك لا توثق أيضا
كل من روى ذلك إلا أن أقل ما في هذا الباب أن يمنعك هذا من القطع
على أن النكير زال وارتفع، والرضا حصل وثبت، وإن أردت ما ذكرناه
أولا فهو يجري مجرى دفع المشاهدة لأن وجود هذا في الرواية أظهر من أن
يدفع، ولم يزل أمير المؤمنين عليه السلام متظلما متألما منذ قبض الرسول
صلى الله عليه وآله إلى أن توفاه الله إلى جنته، ولم يزل أهله وشيعته
يتظلمون من دفعه عن حقه، وكان ذلك منه عليه السلام ومنهم يخفى
ويظهر ويترتب في الخفاء والظهور ترتب الأوقات في شدتها وسهولتها،
فكان عليه السلام يظهر من كلامه في هذا الباب في أيام أبي بكر ما لم يكن
ظاهرا في أيام عمر، ثم قوي كلامه عليه السلام وصرح بكثير مما في نفسه
في أيام عثمان، ثم ازداد قوة في أيام تسليم الأمر إليه، ومن عني بقراءة
الآثار علم أن الأمر جرى على ما ذكرناه.

222
وقد روى أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد الثقفي (1) قال أخبرنا
عثمان بن أبي شيبة العبسي قال: حدثنا خالد المدايني قال: حدثنا أبو
عوانة عن خالد الحذاء عن عبد الرحمن بن أبي بكر قال: سمعت عليا
عليه السلام على المنبر يقول: قبض رسول الله وما في الناس أحد بهذا
الأمر أولى مني. وروى إبراهيم بن سعيد الثقفي قال: أخبرنا عثمان
ابن أبي شيبة. وأبو نعيم الفضل بن دكين قالا أخبرنا قطر بن خليفة عن
جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه قال سمعت عليا عليه السلام
يقول (ما زلت مظلوما منذ قبض الله نبيه صلى الله عليه وآله إلى يوم
الناس هذا).
وروى إبراهيم قال أخبرنا يحيى بن عبد الحميد الحماني وعباد بن
يعقوب الأسدي قالا حدثنا عمر بن ثابت عن سلمة بن كهيل عن المسبب
بن نجبة قال بينما علي عليه السلام يخطب وأعرابي يقول: وا مظلمتاه فقال
عليه السلام (ادن) فدنا فقال: (لقد ظلمت عدد المدر والوبر) وفي
حديث قال جاء أعرابي يتخطى فنادى يا أمير المؤمنين مظلوم، فقال علي
عليه السلام: (ويحك وأنا مظلوم ظلمت عدد المدد والوبر).
وروى أبو نعيم الفضل بن دكين عن عمر بن أبي مسلم قال كنا



(1) هو أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال بن عاصم بن سعد بن
مسعود الثقفي الكوفي الرقي من علماء القرن الثالث، المتوفى بأصبهان سنة 283 المعروف
بابن هلال الثقفي صاحب كتاب الغارات المشهور، له ما يقرب من خمسين كتابا في
التفسير وأسباب النزول، والفقه والأحكام، والدلائل والفضائل، والسير والأخبار،
والمظنون أن ما نقله المرتضى هنا من كتاب " المعرفة " وهو من أهم كتب إبراهيم، وقد
وصفه السيد ابن طاووس بأنه أربعة أجزاء، ونقل عنه في كتاب " اليقين " ص 38 ثلاثة
عشر حديثا في تسمية علي عليه السلام أمير المؤمنين في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله
وأنه هو الذي سماه بذلك، كما أشار إليه في كتاب " كشف المحجة لثمرة المهجة "
ص 48 وأوصى ولده محمدا بالوقوف عليه، وانظر سفينة البحار ج 2 مادة " ظلم " فإنه
أشار إلى كلام علي عليه السلام في هذا المورد.
223
جلوسا عند جعفر بن عمرو بن حريث فقال حدثني والدي أن عليا عليه
السلام لم يقم مرة على المنبر إلا وقال في آخر كلامه قبل أن ينزل (ما زلت
مظلوما منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله ".
وروى إبراهيم قال أخبرنا عباد (1) قال حدثنا علي بن هاشم قال حدثنا
أبو الجحاف عن معاوية بن ثعلبة قال جاء رجل إلى أبي ذر رحمة الله عليه
وهو جالس في المسجد الأعظم وعلي عليه السلام يصلي أمامه فقال: يا أبا
ذر ألا تحدثني بأحب الناس إليك فوالله لقد علمت أن أحبهم إليك
أحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: أجل والذي نفسي بيده
إن أحبهم إلي لأحبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو هذا الشيخ
المظلوم المضطهد حقه.
وقد روي من طرق كثيرة أنه عليه السلام كان يقول: (أنا أول من
يجثو للخصومة بين يدي الله يوم القيامة) وقوله عليه السلام (يا عجبا
بينما هو يستقبلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاته) مشهور.
وروى إبراهيم قال حدثني عثمان بن سعيد قال حدثنا علي بن
عابس عن أبي الجحاف عن معاوية بن ثعلبة أنه قال ألا أحدثك حديثا لو
يختلط؟ قلت: بلى، قال: مرض أبو ذر مرضا شديدا فأوصى إلى علي
عليه السلام فقال له بعض من يدخل عليه لو أوصيت إلى أمير المؤمنين
كان أحمل من وصيتك إلى علي عليه السلام فقال: قد والله أوصيت إلى
أمير المؤمنين حقا، أمير المؤمنين.
وروى عبد الله بن جبلة الكناني عن ذريح المحاربي عن أبي حمزة
الثمالي عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام أن بريدة كان غائبا
بالشام فقدم وقد بايع الناس أبا بكر فأتاه في مجلسه فقال يا أبا بكر هل



(1) أي عباد بن يعقوب الأسدي أحد من يروي عنهم الثقفي، وفي الأصلين
" العباد ".
224
نسيت تسليمنا على علي عليه السلام بإمرة المؤمنين واجبة من الله ورسوله
قال: يا بريدة إنك غبت وشهدنا، وإن الله يحدث الأمر بعد الأمر، ولم
يكن الله ليجمع لأهل هذا البيت النبوة والخلافة والملك، وقد روى
خطاب بريدة لأبي بكر بهذا المعنى في ألفاظ مختلفة من طرق كثيرة.
وقد روي أيضا من طرق مختلفة وبألفاظ متقاربة المعاني خطاب
سلمان الفارسي رضي الله عنه للقوم وإنكاره ما فعلوه، وقوله: " أصبتم
وأخطأتم أصبتم سنة الأولين وأخطأتم أهل بيت نبيكم " وقوله: " ما أدري
أنسيتم أم تناسيتم أم جهلتم أم تجاهلتم " وقوله: " والله لو أعلم أني أعز لله
دينا وأمنع لله ضيما، لضربت بسيفي قدما قدما " (1) ولم نذكر أسانيد هذه
الأخبار وطرقها وألفاظها لطول ذلك ومن أراده أخذه من مظانه وهذا
الخلاف من سلمان وبريدة لا ينفع فيه أن يقال رضي سلمان بعده،
وتولى الولايات وأمسك بريدة وسلم وبايع لأن تصريحهما بسبب الخلاف
يقتضي أن الرضا لا يقع منهما أبدا وأنهما وإن كانا كافين في المستقبل عن
الانكار لفقد النصار والخوف على النفس فإن قلوبهم منكرة ولكن ليس
لمضطر اختيار.
وروى إبراهيم الثقفي عن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن عمرو
ابن حريث عن حبيب بن أبي ثابت عن ثعلبة بن يزيد الحماني عن علي
عليه السلام قال سمعته يقول: (كان فيما عهد إلي النبي صلى الله عليه
وآله الأمي أن الأمة ستغدر بك من بعدي).
وروى إبراهيم عن إسماعيل بن عمرو البجلي قال حدثنا هشام بن
بشير الواسطي عن إسماعيل بن سالم الأسدي عن أبي إدريس الأزدي عن



(1) انظر رجال البرقي ص 63 واحتجاج الطبرسي 1 / 110.
225
علي عليه السلام قال (لئن أخر من السماء إلى الأرض فتخطفني الطير
أحب إلي من أن أقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله ولم أسمعه
قال لي يا علي ستغدر بك الأمة بعدي) (1) وروى زيد بن علي بن الحسين
عليهما السلام قال كان علي عليه السلام يقول: (بايع الناس والله أبا بكر
وأنا أولى بهم مني بقميصي هذا فكظمت غيظي (2) وانتظرت أمري وألزقت
كلكلي بالأرض (3) ثم إن أبا بكر هلك واستخلف عمر وقد والله علم أني
أولى بالناس مني بقميصي هذا فكظمت غيظي وانتظرت أمري ثم إن عمر
هلك وجعلها شورى وجعلني فيها سادس ستة كسهم الجدة (4) فقال اقتلوا
الأقل فكظمت غيظي وانتظرت أمري وألزقت كلكلي بالأرض حتى ما
وجدت إلا القتال أو الكفر بالله) وقوله عليه السلام: (حتى ما وجدت
إلا القتال أو الكفر بالله) (5) منبها بذلك على سبب قتاله لطلحة والزبير
ومعاوية وكفه عن من تقدم لأنه لما وجد الأعوان والأنصار لزمه الأمر وتعين
عليه فرض القتال، والدفاع حتى لا يجد إلا القتال والخلاف لله وفي الحال
الأولى كان معذورا لفقد الأعوان والنصارى.



(1) إخبار النبي صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام (أن الأمة تغدر به) أخرجه
الخطيب في تاريخ بغداد 11 / 216 والحاكم في المستدرك 3 / 140 و 142 وابن عساكر
في تاريخ دمشق 3 / 115 ط المحمودي بترجمة علي عليه السلام من عدة طرق.
(2) كظم غيظه: اجترعه، والغيظ: الغضب الكامن.
(3) الكلكل: الصدر.
(4) يعني سهمها في الميراث، ويرى بعضهم أنه تعريض بأبي بكر (رض) لتوقفه
في معرفة ميراث الجدة حتى روي له: أن لها السدس، قال: ولماذا خص الجدة مع
السدس يكون لكل واحد من الأبوين مع الولد، وللأم مع الإخوة، وللأب مع الأبناء
وللأخ من الأم والأخت الواحدة منها الخ...
(5) رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق 3 / 101 و 174 بترجمة أمير المؤمنين عليه
السلام وانظر المجلد الثامن من البحار ص 73.
226
وقد روى جميع أهل السير أن أمير المؤمنين والعباس لما تنازعا في
الميراث، وتخاصما إلى عمر قال عمر من يعذرني من هذين ولي أبو بكر
فقالا: عق وظلم، والله يعلم إنه كان برا تقيا ثم وليت فقالا: عق
وظلم (1) وهذا الكلام من أوضح دليل على أن تظلمه عليه السلام من
القوم كان ظاهرا لهم، وغير خاف عليهم، وإنما كانوا يجاملونه
ويجاملهم.
وروى الواقدي في كتاب الجمل بإسناده أن أمير المؤمنين عليه
السلام حين بويع خطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (حق وباطل
ولكل أهل لئن أمر الباطل لقديما فعل ولئن قل الحق لربما ولعل، ولقل ما
أدبر شئ فأقبل وإني لأخشى أن تكونوا في فترة وما علينا إلا الاجتهاد وقد
كانت أمور مضت ملتم فيها ميلة كانت عليكم، ما كنتم عندي فيها
بمحمودين، أما والله إني لو أشاء لقلت، عفا الله عما سلف، سبق
الرجلان، وقام الثالث كالغراب همته بطنه، يا ويله لو قص جناحه،
وقطع رأسه لكان خيرا له) في كلام طويل بعد هذا وقد روى هذه الخطبة
غير الواقدي من طرق مختلفة (2).



(1) في تلخيص الشافي 3 / 52 " فقال: لا عق وظلم " ولا ريب أنه تحريف وما
في المتن أوجه.
(2) هذه الخطبة نقل مختارها الشريف الرضي في نهج البلاغة 1 / 46 وقال ابن أبي
الحديد في ج 1 / 257 معلقا عليها: " هذه الخطبة من جلائل خطبه عليه السلم ومن
مشهوراتها رواها الناس كلهم وفيها زيادات حذفها الرضي إما اختصارا وإما خوفا من
إيحاش السامعين " قال: " وقد ذكرها شيخنا أبو عثمان على وجهها " وقال إنها: أول
خطبة خطبها في خلافته " أما كتاب الجمل فلم يعلم مستقره الآن، ولكن ابن أبي الحديد
ينقل عنه كثيرا في ثنايا شرحه على النهج وكذلك الشيخ المفيد في كتاب " الجمل " المسمى
ب‍ " النصرة لحرب البصرة ".
227
وقوله عليه السلام: (لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن
محلي منها محل القطب من الرحى) معروف والذي ذكرناه قليل من كثير ولو
تقصينا جميع ما روي في هذا الباب عنه عليه السلام وعن أهله وولده
وشيعته لم يتسع له حجم جميع كتابنا، وفي بعض ما ذكرناه أوضح دلالة
على أن الخلاف لم يزل وأنه كان مستمرا، وأن الرضا لم يقع (1) في حال من
الأحوال.
فإن قيل: هذه أخبار آحاد لا توجب علما ولا يرجع بمثلها عن
المعلوم، والمعلوم أن الخلاف لم يظهر على حد ظهوره في الأول، ولم يروها
أيضا إلا متعصب غير موثوق بأمانته.
قلنا: أما هذه الأخبار وإن كانت على التفصيل أخبار آحاد فمعناها
قد رواه عدد كثير، وجم غفير فصار المعنى متواترا به، وإن كان اللفظ
والتفصيل يرجع إلى الآحاد ولا نعمل إلا على اقتراحكم في أنها آحاد أليس
يجب أن تكون مانعة من القطع على ارتفاع النكير، وادعاء العلم بأن
الخلاف قد زال وارتفع، لأنه لا يمكن مع هذه الأخبار وهي توجب الظن
إن لم توجب العلم أن يدعى العلم بزوال الخلاف.
فأما قول السائل: إنا لا نرجع بها عن المعلوم فأي معلوم هاهنا رجعنا
بهذه الأخبار عنه؟ فإن ذكر الإجماع أو زوال الخلاف فكل ذلك لا يثبت
إلا مع فقد ما هو أضعف من هذه الأخبار، وزوال الخلاف لا يكون
معلوما مع وجودنا رواية واردة، وإنما يتوصل إلى الرضا والاجماع بالكف
عن النكير وزوال الخلاف، وإذا كان الخلاف والنكير مرويين من جهة
ضعيفة أو قوية كيف يقطع على ارتفاعها وزوالهما.



(1) لم يحصل، خ ل.
228
فأما القدح في رواية ما ذكرناه من الأخبار، فأول ما فيه إن أكثر ما
رويناه هاهنا وارد من طرق العامة ومسند إلى من لا يتهمونه ولا يجرحونه،
ومن تأمل ذلك علمه، ثم ليس يقنع في جرح الرواة بمحض الدعوى
دون أن يشار إلى أمور معروفة، وأسباب ظاهرة، وإذا روى الخبر من
ظاهره العدالة والتدين لم يقدح فيه ما جرى هذا المجرى من القدح.
فإن قيل: هذا يؤدي إلى الشك في ارتفاع كل خلاف.
قلنا: إن كان الطريق فيما تشيرون إليه يجري مجرى ما يتكلم عليه
في هذا الباب فلا سبيل إلى القطع على انتفائه وكيف يقطع على انتفاء أمر
وهو مروي منقول، وإنما يقطع على ذلك في الموضع الذي لا يوجد فيه
نقل الخلاف ولا رواية النكير.
فإن قيل: الشئ إذا كان مما يجب ظهوره إذا كان فإنا نستدل
بانتفاء ظهوره على انتفائه ولا نحتاج إلى أكثر من ذلك، ولهذا نقول: لو
كان القرآن عورض لوجب أن تظهر معارضته على حد ظهور القرآن، فإذا
لم نجدها ظاهرة قطعنا على انتفائها، ولو روى لنا راو من طرق الآحاد أن
معارضته وقعت لم يلتفت إلى روايته، وهذه سبيل ما يدعونه من النكير
الذي لم يثبت، ولم يظهر.
قلنا: قد شرطت شرطا كان ينبغي أن تراعيه، وتوجدناه فيما
اختلفنا فيه، لأنك قلت: إن كل أمر لو كان لوجب ظهوره متى لم يظهر
يجب القطع على انتفائه، وهذا صحيح وبه تبطل معارضة القرآن على ما
ذكرت، لأن الأمر في أنها لو كانت لوجب ظهورها واضح، وعليه يبتني
الكلام، وليس هذا موجودا في النكير على أصحاب الاختيار لأنك لا تقدر
على أن تدل أن نكيرهم يجب ظهوره لو كان، وأن الداعي إليه داع إلى
إظهاره، بل الأمر بخلاف ذلك، لأن الانكار على مالك الحل والعقد،

229
والأمر والنهي والنفع والضرر الذي قد مال إليه أكثر المسلمين ورضي
بإمامته أكثر الأنصار والمهاجرين يجب طيه وستره ولا يجب إذاعته ونشره،
والدواعي كلها متوفرة إلى إخفائه وترك إعلانه فأين هذا من المعارضة؟ ولو
جوزنا في المعارضة أو غيرها من الأمور أن يكون ولا تدعو الدواعي إلى
إظهاره، بل إلى طيه وستره لم نقطع على انتفائه من حيث لم يظهر للكل،
وينقله الجميع، ولكنا متى وجدنا أيسر رواية في ذلك نمنع لأجلها من
القطع على انتفاء ذلك الأمر وعلى أنه لم يكن، وسنشبع الكلام في السبب
المانع من إظهار الخلاف، وإعلان النكير ونتقصاه فيما يأتي من هذا الباب
بمشيئة الله تعالى.
فأما الوجه الثاني الذي وعدنا بذكره وشرحه، وهو المتضمن لتسليم
ما يدعونه من أن الخلاف ارتفع وانقطع، غير أنه لم يكن ارتفاعه عن رضا
وإجماع فنحن نذكره في الفصل الذي يلي هذا الكلام، لأن الذي نحكيه
من كلام صاحب الكتاب يقتضي ذلك ومن تأمل جملة ما أوردناه علم
دخول الكلام على ما أورده صاحب الكتاب في الفصل الذي حكيناه
فيها، فإنها مزيلة لما تضمنه من شبهة.
فأما دعواه أن الأمر انتهى إلى أنه لم يكن في الزمان إلا راض بإمامته
أو كاف عن النكير، فقد بينا أن الأمر بخلاف ذلك، وأن الخلاف وقع في
الأصل ظاهرا ثم استمر ولم ينقطع، وإن لم يكن استمراره في الظهور
بحسب ابتدائه.
فأما قوله: (إن كل من يدعى عليه الخلاف فإنه ثبت عنه قولا
وفعلا الرضا والبيعة) فقد بينا وسنبين أن الأمر بخلافه، وأن الذي عمدته
عليه من الكف عن النزاع والامساك عن النكير ليس بدلالة على الرضا
لأنه وقع عن أسباب ملجئة وكذلك سائر ما يدعي من ولاية من تولى من

230
قبل القوم ممن يدعي أنه كان مقيما على خلافهم ومنكرا لأمرهم.
فأما بناؤه العقد الأول على الثاني، وأنه لما ظهر في الثاني من الرضى
والانقياد لطول الأيام وتماديها ما لم يظهر في الأول جاز أن يجعل أصلا له
فالكلام على العقد الأول الذي ذكرناه مستمر في الثاني بعينه، لأن خلاف
من حكينا خلافه وروينا عنه ما روينا هو خلاف في العقدين جميعا، ثم لو
سلمنا ارتفاع الخلاف على ما اقترح لكان ذلك لا يدل على الرضا إذا بينا
ما أحوج إليه وألجأ إلى استعماله.
فأما كلامه في سعد بن عبادة وتشككه في موته، وهل كان متقدما أو
متأخرا فمما لا يحتاج إليه، لأن الخلاف لم يكن من سعد وحده فينعقد
الإجماع بعد موته، وخلاف غير سعد في هذا الباب هو المعول عليه ممن
بقي واستمر خلافه، على أن سعدا لما مات لم يمت ولده ولا أقاربه،
ومعلوم أن هؤلاء امتنعوا من البيعة كامتناع سعد.
وأما قوله: (إن سعدا لا يعتد به من حيث طلب الإمامة لنفسه،
وكان مبطلا في ذلك واستمر على هذه الطريقة فلا اعتبار بخلافه) فليس
بشئ يعول على مثله، لأنا قد بينا فيما تقدم، أن الذي عول عليه
صاحب الكتاب وأصحابه في دفع الأنصار عن الأمر لم يثبت ثبوتا يقتضي
أن يقطعوا معه على أن مذهب سعد في طلب الإمامة لنفسه باطل، وأنهم
إنما عولوا في صحة الخبر المروي في هذا الباب على الإجماع، وتسليم
الأمة، ولا إجماع مع خلاف سعد وذويه (1) ولا نعمل إلا على أن سعدا
كان مبطلا في طلب الإمامة لنفسه على غاية ما يقترح، فلم لا يعتد
بخلافه وهو خالف في أمرين أحدهما أنه اعتقد أن الإمامة تجوز للأنصار،



(1) في المخطوطة " ودونه " ولعله " وما دونه " أو تصحيف " ذويه ".
231
والأمر الآخر أنه لم يرض بإمامة أبي بكر ولا بايعه، وهذان خلافان ليس
كونه مبطلا في أحدهما يقتضي أن يكون مبطلا في الآخر، وليس أحدهما
مبنيا على صاحبه فيكون في إبطال الأصل إبطال الفرع، لأن من ذهب إلى
أن الإمامة تجوز في غير قريش، لا يمنع من جوازها لقريش فكيف تجعل
امتناعه من بيعة قريش مبنيا على أصله في أن الإمامة تجوز في غير قريش.
فأما قوله: (إن سعدا وحده لا يكون محقا ولا يمكن أن يقال: إن
خروجه مما عليه الأمة يؤثر في الإجماع) فعجيب لأنا لا نعلم من أي وجه
استبعد أن يكون سعد وحده محقا من بين سائر الأمة، وهل سعد في ذلك
إلا كغيره ممن يجوز أن يخالف جمهور الأمة فلا يعد القول إجماعا لموضع
خلافه.
فأما قوله: (إن الخلاف الواحد والاثنين لا يعتبر به من حيث لا
يجوز أن يكون سبيلا للمؤمنين، وقول الجماعة يصح ذلك فيه) فأول ما
فيه أنه قد كان لسعد من ولده من يجوز أن يتناوله الكنايات عن
الجماعات، لأن أقل من يتناوله الكناية ثلاثة فصاعدا.
وبعد، فإن أمير المؤمنين (1) إذا كان اسما مستغرقا لجميع من يستحق
هذا الاسم فمعلوم أنه يكون مجازا متى عبر به عن بعضهم، والواحد
والاثنان إذا خرجا من جملة المؤمنين لم يكن هذا الاسم متناولا للباقين على
الحقيقة، وكان مجازا فيهم وإذا جاز لصاحب الكتاب أن يجريه مجازا على
بعض المؤمنين جاز لغيره أن يجريه مجازا على الواحد والاثنين.
فأما قوله في سعد: (هذا إن صح أنه بقي على الخلاف لأنه لا يمتنع



(1) يعني المأمور باتباع سبيلهم.
232
أن لا يبايع وهو راض) فشك منه في الضرورات لأن خلاف سعد
وسخطه ومقامه على ذلك معلنا له مظهرا معلوم ضرورة فأي وجه للتشكك
والتلوم فيه حتى يقال: إن صح فكذا وكذا؟ وهذه جملة كافية تأتي على ما
حكيناه من كلامه.
قال صاحب الكتاب: (فإن قيل كيف ادعيتم الإجماع [على بيعة
أبي بكر] (1) وقد تأخر عن ذلك أمير المؤمنين (ع) وخالد بن سعيد بن
العاص وظهر الخلاف عن سلمان [وعن الزبير وظهر عن أبي ذر وحذيفة
والمقداد وعمار الانحراف عن ذلك] (1).
ثم قال: (قيل له: لا أحد ممن ذكرته إلا وقد بايع ورضي وظهر
ذلك عنه فقد حصل الإجماع مستقرا لأنا لا ننكر في الابتداء وقع التأخر،
والتباطؤ من بعضهم عن بيعته، وقال شيخنا أبو هاشم: روي أنه عليه
السلام تأخر عن بيعة أبي بكر أربعين صباحا، وقال قوم ستة أشهر
والأقرب أنه تأخر لاستيحاشه منهم من حيث استبدؤا بالأمر ولم يتربصوا
بإبرام العقد حضوره، وإنما تأخر أياما يسيرة ولعله كان أربعين يوما ولم
يكن أبو بكر يلتمس منه المبادرة فيكون مخالفا عليه، وكيف يكون مخالفا
وهو الذي أشار عليه بقتال أهل الردة وكان ذلك في أول أيامه وأنكر على
أبي سفيان قوله: أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي عليكم تيم امدد يدك
أبايعك فلأملأنها على فلان خيلا ورجلا، بأن قال: (أمسك عليك فطالما
غششت الاسلام) ولو كان ينكر إمامة أبي بكر لم يخف أن يظهر ذلك كما
أظهره أبو سفيان، وكان ذلك من أبي سفيان حدثان وقوع البيعة وقال له
العباس لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله: امدد يدك أبايعك وآتيك



(1) الزيادة في الموضعين من المغني.
233
بهذا الشيخ من قريش يعني أبا سفيان - فيقال: إن عم رسول الله بايع ابن
عمه فلا يختلف عليك من قريش أحد (1) والناس تبع لقريش فامتناعه مع
تصلبه (2) في دينه يدل على أنه لم يدع الحق لنفسه وإلا فقد كان يجد أنصارا
كالعباس، والزبير، وأبي سفيان، وخالد بن سعيد، وسائر من ذكرهم
الإمامية، ولا يجب أن يكون تأخره دلالة على فقد الرضا بل كان راضيا
ببيعته من حيث كان منفذا للأمور فلا ينكر ولا يجب بعد وقوع العقد
الصحيح إلا الرضا بإمامته والمعاضدة له عند الحاجة، وقد كان ذلك
حاصلا من أمير المؤمنين عليه السلام وإن كان تأخرا لاشتغاله برسول الله
صلى الله عليه وآله وقد كان بينه وبين العباس شبيه بالوحشة، وإن لم يكن
كل واحد منهما إلا مواليا لصاحبه فكذلك القول في تأخره واستيحاشه من
حيث استبدوا بالأمر دونه، ولا يدل على أنه لم يكن راضيا، ولذلك لما
طلب منه الحضور والمعاضدة حضر لا محالة، وعلى هذا الوجه يحمل تأخر
غيره عن بيعة أبي بكر، وإنما يطعن ذلك في إمامته لو ظهر منهم النكير،
وخلاف الرضا والتشدد (3) عليهم في الحضور للبيعة فامتنعوا من غير عذر)
ثم حكى عن أبي علي أن مبايعة أمير المؤمنين عليه السلام بعد ذلك
ظهرت وانتشرت وأجمع أهل النقل عليها وإنما اختلفوا في مدة تأخره عن
البيعة.
ثم قال: (فإن قيل: إنه قد روي أنه بايع مكرها أو كارها أو خوف
أو هدد حتى بايع فلا يصح (4) ما ذكرتموه.



(1) غ " اثنان ".
(2) غ " مع فضله " وكذلك في المخطوطة.
(3) غ " واشتد ".
(4) غ " فلا يتم ".
234
قيل له: كما ثبت أنه حضر وبايع فقد صح أنه لم يجر هناك (1)
إكراه، والأحوال التي كان عليها مع أبي بكر من المعاونة والمعاضدة وما
ثبت عنه من الأخبار في مدحه وتقديمه يمنع من ذلك، وإنما يتعلق بهذه
الرواية بعض الإمامية من غير أن يمكنه إسنادها إلى حجة صحيحة، أو
طريق معروف، ومثل ذلك أن قبل أدى إلى فساد الكلام في الأخبار،
وبين صحة ما ذكرناه أن الخلاف في إمامة أبي بكر وعمر لو كان ثابتا لظهر
كما ظهر الخلاف في آخر أيام عثمان، وفي أيام أمير المؤمنين عليه السلام،
وهذا يبين أن تصويب إمامة أبي بكر وعمر لا خلاف فيها على الحد الذي
ذكرناه، على أنا قد بينا إنا لا نجعل ذلك إجماعا من حيث البيعة، لأن
أمير المؤمنين عليه السلام لو لم يبايع لكان تركه للنكير يدل على صحة
الإجماع، لأنه لو كان مبطلا في الإمامة لكان غاصبا لذلك الموضع ومقدما
على الباطل في كل ما يحكم به، فإن كان الحق في ذلك لأمير المؤمنين عليه
السلام صار الذي يلزمه في إنكار ذلك قولا وفعلا أكد مما يلزم غيره، من
حيث أزيل عن حقه وعن المقام (2) الذي جعل له، فكان يجب أن يكون
نكيره فعلا وقولا بحيث تزول فيه الشبهة، ويظهر كظهور البيعة لأبي
بكر، وقد عرفنا خلاف ذلك، بل كان يجب أن يتكرر منه النكير حالا
بعد حال، وأن لا يقتصر على نكير مقدم، وكان يجب أن لا يظهر له
معاضدة ولا معاونة لما فيه من إيهام كونه محقا، وذلك لا يحل في الدين
وكان يجب إن لم يزد نكيره وإظهاره الخلاف على ما ظهر من الحسين عليه
السلام (3) وغيره في أيام بني أمية لا ينقص من ذلك، فقد علم أنهم لما



(1) غ " لم يكن ".
(2) غ " المقام العظيم ".
(3) غ " من الحسن عليه السلام ".
235
طلبوا بالبيعة له كيف امتنعوا منها، وتهاربوا وأظهروا الخلاف والنكير ولم
يكن فزعه من أبي بكر إلا دون فزعهم من يزيد اللعين) (1) وكرر بعد ذلك
إن سبب استيحاشه الاستبداد بالرأي عليه وضرب لذلك مثلا بالمرأة التي
لها إخوة وفيهم كبير مقدم في الرأي فإن الصغير متى زوجها لا بد من أن
يستوحش الكبير، وإن كان العقد صحيحا، وذكر في تأخره اشتغاله
بالرسول صلى الله عليه وآله وتجهيزه ثم بأمر فاطمة عليها السلام ثم ذكر
أن من حضر السقيفة لعقد الإمامة وترك الرسول صلى الله عليه وآله قبل
أن يفرغ من أمره إنما ساغ له ذلك خوفا من الفتنة فبادر إلى ما يخاف فوته
وعول في أمر الرسول صلى الله عليه وآله على من اشتغل به، ثم ذكر
عرض العباس وأبي سفيان على أمير المؤمنين عليه السلام البيعة، وأن
ذلك دليل على أن النص لا أصل له، وأن المطلوب في تلك الحال هو عقد
الإمامة بالاختيار، ثم حكي عن أبي علي أنه قال: (إن جاز للمخالف أن
يعول على أخبار الآحاد في أنه عليه السلام بايع كارها تحت السيف
[والخوف إلى سائر ما يروى في هذا الباب] (2) ليجوزن لنا أن نحتج
بأخبار ظاهرة تدل على أنه عليه السلام كان يقول بإمامة أبي بكر وتقديمه
ومدحه) ثم ذكر أخبارا كثيرة قد تقدم ذكر لها في هذا الكتاب، وكلامنا
عليها مشروحا نحو ما روي من قوله عليه السلام (ألا إن خير هذه الأمة
بعد نبيها فلان وفلان) و (وددت أن ألقى الله عز وجل بصحيفة هذا
المسجى) وما جرى مجرى ذلك من أخبار قد تقدم ذكرها والكلام عليها.
ثم ذكر بعد ذلك من شجاعة أمير المؤمنين عليه السلام وقوته ما



(1) في المغني " يزيد الملعون " وكل ما مر من نقل المرتضى عن " المغني " هو في
ص 284 و 285 من الجزء المذكور.
(2) الزيادة من " المغني ".
236
ادعى أنه لا يجوز من مثله التقية، وأنه عليه السلام كان بعيدا عن التقية لما
انتهت الإمامة إليه.
ثم قال: (واعلم أن التقية متى لم يكن لها سبب لم يصح ادعاؤها
وسببها معلوم وهو الخوف الشديد، وظهور إمارات ذلك وقد بينا من قبل
في باب الاكراه الحال في ذلك وبينا أن في كثير من الأوقات إظهار الحق هو
أولى يبين ما ذكرناه (1) أنه مع فقد السبب لو جاز ادعاء التقية لم يأمن في
أكثر ما ظهر من الرسول صلى الله عليه وآله قولا وفعلا أنه كان على
طريق التقية، وفي ذلك إبطال معرفة كثير من الشرائع، ولم صار بأن
يقال: إنه كان يتقي فيعظم أبا بكر وعمر بأولى من أن يحمل تقديمه
لأمير المؤمنين عليه السلام على مثل ذلك، وهذا يخرج كون مدحه وذمه
من أن يكون دلالة وما أوجب ذلك يوجب خروج أفعاله وأقواله من أن
تكون دلالة فكيف يصح أن يقال: إن أمير المؤمنين إنما ظهر منه مدح أبي
بكر وعمر ومعاضدتهما على طريق التقية ولا سبب هنا يوجب ذلك ولو
أمكن أن يدعي في ابتداء البيعة التقية ما كان يمكن في سائر الأحوال وهلا
ظهرت التقية منه يوم الجمل وصفين مع عظيم ما رفع إليه؟ والمتعالم من
حاله عليه السلام أنه كان يتشدد في مواضع رخص على أن المتعالم من حال
أبي بكر أنه لم يكن من القوة في نفسه وأعوانه بحيث يخاف منه فقد كان
يجب أن يظهر منه عليه السلام الانكار فعلا وقولا بحيث يشتهر لا سيما
على قولهم إنه حجة [فيما يأتي ويذر (2)...) (3).
يقال له: من أين قلت: إن أمير المؤمنين عليه السلام لم يبايع



(1) غ " على ما قلناه ".
(2) ما بين الحاصرتين من " المغني ".
(3) المغني 20 ق 1 / 290.
237
ويكف عن النكير إلا عن رضا فما نراك عولت إلا على دعوى وتشبثت
بأشياء لا شبهة في مثلها؟ ونحن نبين ما فيها على التفصيل.
فإن قال: لو لم يرض لم يكف عن النكير ولا قام على الخلاف.
قيل له: ولم زعمت ذلك؟ وهل هذا إلا مجرد الدعوى، وإنما كان
يصح هذا الكلام لو كان لا وجه لترك النكير الكف عنه إلا الرضا دون
غيره، فأما إذا كان ترك النكير قد يقع ويكون الداعي إليه غير الرضا كما
قد يدعو إليه الرضا فليس لأحد أن يجعل فقده دليل الرضا لأن النكير قد
يرتفع لأمور منها التقية والخوف على النفس وما جرى مجراها، ومنها العلم
أو الظن بأنه يعقب من المنكر ما هو أعظم من المنكر الذي يراد إنكاره،
ومنها، الاستغناء عنه بنكير قد تقدم، وأمور ظهرت ترفع اللبس
والايهام في الرضا بمثله، ومنها أن يكون للرضا (1) فإذا كان ترك النكير منقسما
لم يكن لأحد أن يخصه بوجه واحد، وإنما يكون ترك النكير دالا على الرضا
في الموضع الذي لا يكون له وجه سوى الرضا فمن أين لصاحب الكتاب
وأهل مقالته أنه لا وجه لترك النكير هاهنا إلا الرضا؟ فإن قال: ليس الرضا
أكثر من ترك النكير فمتى علمنا ارتفاع النكير علمنا الرضا.
قلنا: هذا مما قد بينا فساده وبينا أن ترك النكير منقسم إلى الرضا
وغيره.
وبعد، فما الفرق بينك وبين من قال: وليس السخط أكثر من
ارتفاع الرضا فمتى لم أعلم الرضا أو أتحققه قطعت على السخط، فيجب
على من ادعى أن أمير المؤمنين عليه السلام كان راضيا أن ينقل ما يوجب
كونه كذلك ولا يعتمد في أنه كان راضيا على أن يكسره ارتفاع فإن لقائل
أن يقول مقابلا لذلك ما ذكرناه، ونجعل دليل كونه ساخطا ارتفاع رضاه.



(1) خ " الرضا ".
238
فإن قال: ليس يجب علينا أن ننقل فيما يدل على رضاه أكثر من
بيعته، وترك نكيره لأن الظاهر من ذلك يقتضي ما ذكرناه، وعلى من
ادعى أنه كان مبطنا بخلاف الرضا أن يدل على ذلك فإنه خلاف
الظاهر.
قيل له: ليس الأمر على ما قدرته لأن سخط أمير المؤمنين عليه
السلام هو الأصل لأنه لا خلاف بين الأمة في أنه عليه السلام سخط الأمر
وأباه ونازع فيه، وتأخر عن البيعة، ثم إنه لا خلاف في أنه في المستقبل
بايع وترك النكير (1) فنقلناه عن أحد الأصلين اللذين كان عليهما من
الامتناع عن البيعة وإظهار الخلاف أمر معلوم، ولم ينقلنا عن الأصل
الآخر الذي هو السخط والكراهة شئ فيجب على من ادعى تغير الحال
أن يدل على تغيرها، ويذكر أمرا معلوما يقتضي ذلك، ولا يرجع ذلك
علينا فيلزمنا أن ندل نحن على ما ذكرناه، لأنا على ما بيناه آنفا متمسكون
بالأصل المعلوم، وإنما تجب الدلالة على من ادعى تغير الحال، وليس له
أن يجعل البيعة وترك النكير دلالة الرضا لأنا قد بينا أن ذلك (2) ينقسم ولا
ينتقل من المعلوم المتحقق بأمر محتمل.
فإن قال: هذه الطريقة التي سلكتموها توجب الشك في كل إجماع،
وتمنع من أن يقطع على رضا أحد بشئ من الأشياء لأنا إنما نعلم الرضا في
كل موضع نثبته فيه بمثل هذه الطريقة، وما هو أضعف منها.
قيل له: إن كان لا طريق إلى معرفة الإجماع ورضا الناس بالأمور
إلا ما ادعيته فلا طريق إليه، لكن الطريق إلى ذلك واضحة، وهو أن



(1) أظهر البيعة ولم يفهم على ما كان عليه من إظهار الخلافة والنكير، خ ل.
(2) " ذلك " أشار إلى ترك النكير كما تقدمت أقسامه قبل قليل.
239
يعلم أن النكير لم يرتفع إلا للرضا وأنه لا وجه هناك سواه، وهذا قد يعلم
ضرورة من شاهد الحال، وقد يعلم من غاب عنها بالنقل وغيره حتى لا
يرتاب بأن الرضا هو الداعي إلى ترك النكير ألا ترى إنا نعلم كلنا علما لا
يعترضه شك أن بيعة عمر وأبي عبيدة وسالم لأبي بكر كانت عن رضا
وموافقة ومتابعة في الظاهر والباطن، وأنه لا وجه لما أظهروه من البيعة
والموافقة إلا الرضا، ولا نعلم ذلك في أمير المؤمنين عليه السلام ومن
يجري مجراه، فلو كان الطريق واحدا لعلمنا الأمرين على سواء وهذا أحد
ما يمكن أن يعتمد في هذا الموضع، فيقال: لو كان أمير المؤمنين عليه
السلام راضيا وظاهره كباطنه في الكف عن النكير لوجب أن يعلم ذلك
من حاله كما علمناه من حال عمر وأبي عبيدة، فلما لم يكن ذلك معلوما
دل على اختلاف الحال فيه، وكيف يشكل على منصف أن بيعة أمير
المؤمنين عليه السلام لم تكن عن رضا والأخبار متظاهرة بين كل من روى
السير بما يقتضي ذلك، حتى أن من تأمل ما روي في هذا الباب لم يبق
عليه شئ (1) في أنه عليه السلام ألجئ على البيعة وصار إليهما بعد المدافعة
والمحاجزة لأمور اقتضت ذلك، ليس من جملتهما الرضا.
وقد روى أبو الحسن أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري - وحاله في
الثقة عند العامة والبعد عن مقاربة الشيعة والضبط لما يرويه معروف -
قال: حدثني بكر بن الهيثم (2) قال حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن
الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال بعث أبو بكر عمر بن الخطاب
إلى علي عليه السلام حين قعد عن بيعته وقال إئتني به بأعنف العنف، فلما
أتاه جرى بينهما كلام فقال له علي عليه السلام: احلب حلبا لك شطره



(1) شك خ ل.
(2) ابن هشام خ ل.
240
والله ما حرصك على إمارته اليوم إلا ليؤمرك غدا، وما تنفس على أبي بكر
هذا الأمر لكنا أنكرنا ترككم مشاورتنا، وقلنا: إن لنا حقا لا تجهلونه،
ثم أتى فبايعه (1) وهذا الخبر يتضمن ما جرت عليه الحال وما يقوله الشيعة
بعينه وقد أنطق الله تعالى به رواتهم.
وقد روى البلاذري عن المدائني عن مسلمة بن محارب عن سليمان
التيمي عن أبي عون أن أبا بكر أرسل إلى علي عليه السلام يريده على
البيعة فلم يبايع، فجاء عمر ومعه قيس فلقيته فاطمة عليها السلام على
الباب فقالت: يا ابن الخطاب أتراك محرقا علي بابي (2) قال: نعم، وذلك
أقوى فيما جاء به أبوك وجاء علي عليه السلام فبايع، وهذا الخبر قد روته
الشيعة من طرق كثيرة، وإنما الطريف أن نرويه برواية لشيوخ محدثي
العامة ولكنهم كانوا يروون ما سمعوا بالسلامة، وربما تنبهوا على ما في
بعض ما يروونه عليهم فكفوا عنه، وأي اختيار لمن يحرق عليه بابه حتى
يبايع؟
وقد روى إبراهيم بن سعيد الثقفي، قال: حدثنا أحمد بن عمرو
البجلي، قال: حدثنا أحمد بن حبيب العامري، عن حمران بن أعين عن
أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام قال: (والله ما بايع علي عليه
السلام حتى رأى الدخان قد دخل عليه بيته).
وروى المدائني عن عبد الله بن جعفر عن أبي عبد الله عليه السلام
قال: لما ارتدت العرب مشي عثمان إلى علي عليه السلام فقال: يا ابن عم



(1) ورواه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 6 / 11 عن كتاب السقيفة لأحمد
ابن عبد العزيز الجوهري.
(2) انظر الإمامة والسياسة 1 / 12، والعقد الفريد 4 / 259.
241
إنه لا يخرج أحد إلى قتال هؤلاء وأنت لم تبايع، ولم يزل به حتى مشي إلى
أبي بكر فسر المسلمون بذلك، وجد الناس في قتالهم.
وروى البلاذري عن المدائني عن أبي جري (1) عن معمر عن
الزهري عن عروة عن عائشة قالت: لم يبايع علي أبا بكر حتى ماتت
فاطمة بعد ستة أشهر فلما ماتت ضرع (2) إلى صلح أبي بكر، فأرسل إليه
أن يأتيه، فقال عمر: لا تأته وحدك قال: وماذا يصنعون بي؟ فأتاه أبو
بكر فقال له عليه السلام: (والله ما نفسنا عليك ما ساق الله إليك من فضل
وخير ولكنا كنا نظن أن لنا في هذا الأمر نصيبا استبد به علينا) فقال أبو
بكر: والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وآله أحب إلي من قرابتي فلم
يزل عليه السلام يذكر حقه وقرابته حتى بكى أبو بكر فقال: ميعادك
العشية، فلما صلى أبو بكر الظهر خطب وذكر عليا عليه السلام وبيعته
فقال علي: (إني لم يحبسني عن بيعة أبي بكر ألا أكون عارفا بحقه ولكنا
كنا نرى أن لنا في هذا الأمر نصيبا استبد به علينا) ثم بايع أبا بكر فقال
المسلمون: أصبت وأحسنت، ومن تأمل هذا الخبر وما جرى مجراه علم
كيف وقعت الحال في البيعة، وما الداعي إليها، ولو كانت الحال سليمة
والنيات صافية، والتهمة مرتفعة، لما منع عمر أبا بكر أن يصير إلى
أمير المؤمنين عليه السلام وحده.
وروى إبراهيم الثقفي عن محمد بن أبي عمير عن أبيه عن صالح بن
أبي الأسود عن عقبه بن سنان عن الزهري قال: ما بايع علي عليه السلام
إلا بعد ستة أشهر، وما اجترى عليه إلا بعد موت فاطمة عليه السلام.
وروى الثقفي قال: حدثني محمد بن علي عن عاصم بن عامر



(1) حربي خ ل.
(2) ضرع: خضع.
242
البجلي عن نوح بن دراج عن محمد بن إسحاق عن سفيان بن فروة عن أبيه
قال جاء بريدة (1) حتى ركز رايته في وسط أسلم ثم قال: لا أبايع حتى
يبايع علي فقال علي عليه السلام: (يا بريدة ادخل فيما دخل فيه الناس فإن
اجتماعهم أحب إلي من اختلافهم اليوم).
وروى إبراهيم قال: حدثني محمد بن أبي عمير قال: حدثنا محمد
بن إسحاق عن موسى بن عبد الله بن الحسن أن عليا عليه السلام قال لهم
(بايعوا فإن هؤلاء خيروني أن يأخذوا ما ليس لهم أو أقاتلهم وأفرق أمر
المسلمين).
وروى إبراهيم عن يحيى بن الحسن ابن الفرات عن ميسر بن حماد
عن موسى بن عبد الله بن الحسن قال: أبت أسلم أن تبايع وقالوا: ما
كنا نبايع حتى يبايع بريدة لقول النبي صلى الله عليه وآله لبريدة: (علي
وليكم من بعدي) (2) فقال علي عليه السلام: (يا هؤلاء إن هؤلاء



(1) بريدة بن الحصيب بن عبد الله بن الحارث الأسلمي صحابي أسلم هو وقومه وكانوا
ثمانين بيتا عند مرور رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهم في طريقة إلى المدينة، وبقي
في أرض قومه ثم قدم المدينة بعد أحد فشهد بقية المشاهد وسكن البصرة أخيرا ثم خرج
غازيا إلى خراسان فأقام بمرو وأقام بها حتى مات ودفن بها (أسد الغابة 1 / 175).
(2) حديث بريدة رواه جماعة من أرباب السنن فيهم أحمد في مسنده 5 / 356
بسنده عن بريدة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثتين إلى اليمن على أحدهما
علي بن أبي طالب وعلى الآخر خالد بن الوليد فقال: (إذا التقيتم فعلي على الناس وإن
افترقتما فكل واحد منكما على جنده)، قال: فلقينا بني زيد من أهل اليمن فاقتتلنا فظهر
المسلمون على المشركين، فقتلنا المقاتلة وسبينا الذرية فاصطفى علي امرأة من السبي
لنفسه، قال بريدة: فكتب معي خالد بن الوليد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
يخبره بذلك، فلما أتيت النبي صلى الله عليه وسلم دفعت الكتاب فقرئ عليه، فرأيت
الغضب في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت يا رسول الله هذا مقام العائذ،
بعثتني مع رجل وأمرتني أن أطيعه، ففعلت ما أرسلت به، ورواه النسائي في خصائصه
بعثتني مع رجل وأمرتني أن أطيعه، ففعلت ما أرسلت به فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (لا تقع في علي فإنه مني وأنا منه وهو وليكم بعدي)، ورواه النسائي في
خصائصه ص 24 والهيثمي في المجمع 9 / 127 و 128، والمتقي في الكنز 6 / 154
و 155 وقال أخرجه ابن أبي شيبة.
243
خيروني أن يظلموني حقي وأبايعهم أو ارتدت الناس حتى بلغت الردة
أحدا (1) فاخترت أن أظلم حقي وإن فعلوا ما فعلوا)
وروى إبراهيم عن يحيى بن الحسن، عن عاصم عامر، عن
نوح بن دراج، عن داود بن يزيد الأودي، عن أبيه عن عدي بن
حاتم (2) قال: ما رحمت أحدا رحمتي عليا حين أتى به ملبيا (3) فقيل له:
بايع قال: (فإن لم أفعل) قالوا: إذا نقتلك، قال: (إذا تقتلون عبد
الله وأخا رسوله) ثم بايع كذا وضم يده اليمنى.
وروى إبراهيم بن عثمان بن أبي شيبة عن خالد بن مخلد البجلي عن
داود بن يزيد الأودي عن أبيه عن عدي بن حاتم قال إني لجالس عند أبي
بكر إذ جئ بعلي عليه السلام فقال له أبو بكر: بايع فقال له علي عليه
السلام: (فإن لم أفعل) فقال: أضرب الذي فيه عيناك، فرفع رأسه إلى
السماء ثم قال: (اللهم اشهد) ثم مد يده.
وقد روى هذا المعنى من طرق مختلفة، وبألفاظ متقاربة المعنى وإن



(1) أحد - بضم أوله وثانيه - اسم الجبل المعروف في المدينة.
(2) عدي بن حاتم الطائي، صحابي كان على شاكلة أبيه في الكرم أرسل إليه
الأشعث بن قبس يستعير منه قدور حاتم فملأها وأرسلها تحملها الرجال فقال الأشعث
إنما أردناها فارغة فقال: إنا لا نعيرها فارغة، وكان يفت الخبز للنمل ويقول: إنهن
جارات، شهد مع علي عليه السلام الجمل وذهبت إحدى عينيه في تلك الوقعة وقتل
فيها أبناؤه الثلاثة طرفة وطرافة وطريف، كما شهد معه صفين، وله ذكر كثير في تلك
الوقعة، توفي بالكوفة أيام المختار سنة 67.
(3) قال ابن السكيت في إصلاح المنطق ص 253: " الببته فهو ملبب " وفي لسان
العرب: " لببه أخذ بتلبيبه وتلابيبه إذا جمعت ثيابه عند نحره وصدره ثم جررته ".
244
اختلفت ألفاظها، وإنه عليه السلام كان يقول في ذلك اليوم لما أكره
على البيعة وحذر من التقاعد عنها: " يا ابن أم إن القوم استضعفوني
وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم
الظالمين " (1) ويردد ذلك ويكرره وذكر أكثر ما روي في هذا المعنى يطول
فضلا عن ذكر جميعه، وفيما أشرنا إليه كفاية ودلالة على أن البيعة لم
تكن عن رضى واختيار.
فإن قيل: كلما رويتموه في هذا المعنى أخبار آحاد لا يوجب علما قلنا
كل خبر مما ذكرناه وإن كان من طريق الآحاد فإن معناه الذي تضمنه
متواتر، والمعول على المعنى دون اللفظ، ومن استقرى الأخبار وجد معنى
إكراهه على البيعة، فإنه دخل فيها مستدفعا للشر وخوفا من نفور الناس،
وتفرق الكلمة، وقد وردت به أخبار كثيرة من طرق مختلفة تخرج عن حد
الآحاد إلى التواتر.
وبعد، فأدون منزلة هذه الأخبار إذا كانت آحاد أن تقتضي الظن
وتمنع من القطع، على إنه لم يكن هناك خوف ولا إكراه، وإذا كنا لا نعلم
أن البيعة وقعت عن رضا واختيار مع التجويز لأن يكون هناك أسباب
إكراه فأولى أن لا نقطع على الرضا والاختيار مع الظن لأسباب الاكراه
والخوف.
فإن قيل: التقية لا تكون إلا عن خوف شديد فلا بد له من أسباب
إكراه فأولى أن لا نقطع على الرضا والاختيار مع الظن لأسباب الإكراه
والخوف.
فإن قيل: التقية لا تكون إلا عن خوف شديد فلا بد له من أسباب
وإمارات تظهر فمتى تظهر أسبابه لم يسغ تجويزه فإذا كان غير جائز فلا تقية



(1) الأعراف 150.
245
قلنا: فأي أسباب وإمارات هي أظهر مما ذكرنا وروينا، هذا إن أردتم
بالظهور أن ينقله جميع الناس ويعلموه ولا يرتابوا به فذلك اقتراح منكم لا
ترجعون فيه إلى حجة، ولنا أن نقول لكم: من أين أوجبتم ذلك، وما
المانع من أن ينقل أسباب التقية قوم ويعرض عن نقلها آخرون لأغراض
لهم، وصوارف تصرفهم عن النقل؟ ولا خفاء بما هو في هذه الدعوى
وأمثالها على أن الأمر في ظهور أسباب التقية أوضح من أن يحتاج إلى رواية
خبر، ونقل لفظ مخصوص، لأنكم تعلمون أن أمير المؤمنين عليه السلام
تأخر عن البيعة تأخرا علم وارتفع الخلاف فيه، ثم بايع بعد زمان متراخ
عن البيعة، وإن اختلف في مدته، ولم يكن بيعته وإمساكه عن النكير
الذي كان وقع منه إلا بعد أن استقر الأمر لمن عقد له، وبايعه الأنصار
والمهاجرون، وأجمع عليه في الظاهر المسلمون، وشاع بينهم أن بيعته قد
انعقدت بالاجماع والاتفاق، وأن من خالف عليه كان شاقا لعصا
المسلمين، مبدعا في الدين، رادا على الله وعلى رسوله، وبهذا بعينه
احتجوا على من قعد عن البيعة وتأخر عنها، فأي سبب للخوف أظهر مما
ذكرناه؟ وكيف يراد سبب له ولا شئ يذكر في هذا الباب إلا وهو أضعف
مما أشرنا إليه؟ وكيف يمكن أمير المؤمنين عليه السلام الخلاف على من بايعه
جميع المسلمين، وأظهروا الرضا به، والسكون إليه؟ وإن مخالفه مبدع
خارج عن الملة، وإنما يصح أن يقال: إن الخوف لا بد له من أسباب
تظهر، وإن نفيه واجب عند ارتفاع أسبابه، لو كان أمير المؤمنين عليه
السلام بايع في ابتداء الأمر مبتدئا بالبيعة طالبا لها، راغبا فيها من غير
تقاعد، ومن غير أن تأخذه الألسن باللوم والعذل، فيقول واحد:
حسدت الرجل، ويقول الآخر: أردت الفرقة ووقوع الاختلاف بين
المسلمين ويقول آخر: متى أقمت على هذا لم يقاتل أحد من أهل الردة،
وطمع المرتدون في المسلمين، ومن غير أن يتلوم أو يتربص حتى يجتمع

246
المفترقون ويدخل الخارجون ولا يبقى إلا راض أو متظاهر بالرضا فأما
والأمر جرى على خلاف ذلك فالظاهر الذي لا إشكال فيه أنه عليه السلام
بايع مستدفعا للشر وفارا من الفتنة، وبعد أن لم يبق عنده بقية ولا عذر في
المحاجزة والمدافعة، وهذا إذا عولنا في إمساكه عن النكير على الخوف
المقتضي للتقية، وقد يجوز أن يكون سبب إمساكه عن النكير غير
الخوف، إما منفردا وإما مضموما إليه، وذلك أنه لا خلاف بيننا وبين من
خالفنا في هذه المسألة أن المنكر إنما يجب إنكاره بشروط، منها أن لا يغلب
على ظنه أنه يؤدي إلى منكر أعظم منه، وإنه متى غلب في الظن ما ذكرناه
لم يجز إنكاره، ولعل هذه كانت حال أمير المؤمنين عليه السلام في ترك
النكير، والشيعة لا تقتصر في هذا الباب على التجويز، بل تروي روايات
كثيرة أن النبي صلى الله عليه وآله عهد إلى أمير المؤمنين عليه السلام بذلك
وأخبره أن القوم يدفعونه عن الأمر، ويغلبونه عليه، وإنه متى نازعهم فيه
أدى ذلك إلى الردة ورجوع الحرب جذعة (1) وأمره بالإغضاء والإمساك إلى
أن يتمكن من القيام بالأمور والتجويز في هذا الباب لما ذكرناه كاف.
وإن قيل: هذا يؤدي إلى أن يجوز في كل من ترك إنكار منكر هذا
الوجه بعينه فلا نذمه على ترك نكيره، ولا نقطع على رضاه به.
قلنا: لا شك في أن من رأيناه كافا عن نكير منكر، ونحن نجوز
أن يكون إنما كف عن نكيره لظنه أن يعقب ما هو أعظم منه، فإنا لا نذمه
ولا نرميه أيضا بالرضا به، وإنما نفعل ذلك عند علمنا بارتفاع سائر
الأعذار، وحصول شرائط جميع إنكار المنكر، وما نعلم بيننا وبينهم خلافا
في هذا الذي ذكرناه على الجملة، وإنما يقع التناسي للأصول إذا بلغ
الكلام إلى الإمامة، وليس لأحد أن يقول: إن غلبة الظن بأن إنكاره



(1) جذعة: فتية.
247
بعض المنكر يؤدي إلى ما هو أعظم منه لا بد فيه من إمارات تظهر،
وتنقل، وفي فقد علمنا بذلك دلالة على أنه لم يكن، وذلك أن الإمارات
إنما يجب أن تكون ظاهرة لمن شاهد الحال، وغلب في ظنه ما ذكرناه دون
من لم يكن هذه حاله، ونحن خارجون عن ذلك، والإمارات الظاهرة في
تلك الحال لمن غلب في ظنه ما يقتضيه ليست مما ينقل ويروى وإنما يعرف
بشاهد الحال، وربما ظهرت أيضا لبعض الحاضرين دون بعض على أن
هذا الكلام إنما نتكلفه متى لم نبن كلامنا على صحة النص على
أمير المؤمنين. ومتى بنينا الكلام في أسباب ترك النكير على ما قدمناه من
صحة النص ظهر الأمر ظهورا يدفع الشبهة، لأنه إذا كان هو عليه السلام
المنصوص عليه بالإمامة، والمشار إليه بينهم بالخلافة، ثم رآهم بعد وفاة
الرسول صلى الله عليه وآله تنازعوا الأمر بينهم تنازع من لم يسمعوا فيه
نصا، ولا أعطوا فيه عهدا، ثم صاروا إلى إحدى الجهتين بطريقة
الاختيار وصمموا على أن ذلك هو الواجب الذي لا معدل عنه، ولا حق
سواه علم عليه السلام أن ذلك مؤيس من نزوعهم ورجوعهم، ومخيف
من ناحيتهم، وأنهم إذا استجازوا اطراح عهد الرسول صلى الله عليه وآله
وإيقاع الشبهة فيه، فهم بأن يطرحوا إنكار غيره، ويعرضوا عن وعظه
وتذكيره أولى وأحرى، ولا شبهة على عاقل في أن النص إن كان حقا على
ما نقوله ودفع ذلك الدفع فإن النكير هناك لا ينجع ولا ينفع، وإنه مؤد
إلى غاية مكروه فاعليه ومما يعارضون به فيما يدعي من الإجماع على إمامة
أبي بكر الإجماع على إمامة معاوية فإن الحسن بعد تسليم الأمر إليه كان
والناس بأسرهم مظهرين للرضا بإمامته، وتنفيذ أحكامه، وكافين من
النكير عليه، حتى سمى ذلك العام عام الجماعة وكلما يدعى هاهنا من
إنكار باطن، وخوف وتقية يمكن أن يدعى بعينه فيما تقدم، ومما يعارضون
به أيضا الإجماع على قتل عثمان وخلعه، فإن الناس كانوا بين قاتل أو

248
خاذل أو كاف عن النكير، وهذه إمارات للرضا عندهم ونحن نستقصي
الجواب عما يرد على هاتين المعارضتين عندما نحكيه من كلام صاحب
الكتاب مستقبلا، وهذه الجملة التي أوردناها تأتي على ما حكيناه من
كلامه في هذا الفصل متى تؤملت لكنا لا ندع الإشارة إلى ما ذكره على
طريق التفصيل والتنبيه عليه.
أما قوله: (إنا لا ننكر أنه عليه السلام تأخر وتباطأ عن
البيعة وأن قوما قالوا: أربعين يوما وآخرين قالوا: ستة أشهر)
وقوله: (إنه تأخر لاستيحاشه من استبدادهم بالأمر دون مشاورته
ومطالعته أو اشتغاله بتجهيز الرسول صلى الله عليه وآله أو بأمر فاطمة
عليها السلام) فتعليل منه باطل لأن مشاورته عليه السلام عند مخالفينا لا
تجب عليهم، وعقد الإمامة يتم بمن عقدها، ولا يفتقر في صحته وتمامه
إلى حضوره، وما يدعونه من خوف الفتنة فهو عليه السلام كان أعلم به،
وأخوف له فكيف يتأخر عما يجب عليه من أجل أنهم لم يفعلوا ما لا يحب
عليهم؟ وكيف يستوحش ممن عدل عن مشاورته وهي عندهم غير واجبة في
حال السلم والأمن، وإنما عدل تحرزا من الفتنة والفرقة، وهل هذا منهم
إلا سوء ثناء على أمير المؤمنين عليه السلام ونسبته إلى ما يتنزه قدره ودينه
عنه.
فأما الاشتغال بالنبي صلى الله عليه وآله فإنه كان ساعة من نهار
والتأخر كان شهورا والمقلل قال أياما، وتلك الساعة كان يمكن أيضا فيها
إظهار الرضا والمراسلة به بدلا من إظهار السخط والخلاف.
وأما فاطمة عليها السلام فإنها توفيت بعد أشهر فكيف يشتغل
بوفاتها عن البيعة في المدة المتقدمة مع تراخيها، وعندهم أيضا أنه تأخر
عن البيعة أياما يسيرة وأكثرهم يقول: أربعين يوما فكيف يشغل ما يكون

249
بعد أشهر عما كان قبلها.
فأما ضربه المثل بالمرأة التي لها أخوة واستيحاش كبيرهم من أن يعقد
عليها صغيرهم فأول ما فيه أن الكبير متى كان دينا خائفا من الله كان
استيحاشه، وثقل ما جرى على طبعه لا يجوز أن يبلغ به إلى إظهار
الكراهة للعقد والخلاف فيه، وإيهام أنه غير ممضي ولا صواب وكل هذا
جرى من أمير المؤمنين عليه السلام فكيف يضاف إليه مع
المعلوم من خشونة أمير المؤمنين في الدين، وغضبه له
كراهية للواجب والاستيحاش من الحق، والغضب مما يورد إليه
تحرزا من الفتنة وتلافيا للفرقة، ومن أدل دليل على أن كفه
عليه السلام عن النكير وإظهار الرضا لم يكن اختيارا وإيثارا، بل
كان لبعض ما ذكرناه أنه لا وجه لمبايعته بعد الإباء إلا ما ذكرناه بعينه فإن
إباءه المتقدم لا يخلو من وجوه، إما أن يكون لما ادعاه صاحب الكتاب من
اشتغاله بالنبي صلى الله عليه وآله وابنته، واستيحاشه من ترك مشاورته،
وقد أبطلنا ذلك بما لا زيادة عليه، أو لأنه كان ناظرا في الأمر ومريبا في
صحة العقد إما بأن يكون ناظرا في صلاح المعقود له الإمامة، أو في
تكامل شروط عقد إمامته، ووقوعه على وجه الصحة، وكل ذلك لا
يجوز أن يكون خافيا على أمير المؤمنين عليه السلام ولا ملتبسا، بل كان به
أعلم وإليه أسبق، ولو جاز أن يخفى على مثله وقتا ووقتين لما جاز أن
يستمر الأوقات، وتتراخى المدد في خفائه وكيف يشكل عليه صلاح أبي
بكر للإمامة وعندهم أن ذلك كان معلوما ضرورة لكل أحد، وكذلك
عندهم صفات العاقدين وعددهم، وشروط العقد الصحيح مما نص النبي
صلى الله عليه وآله وأعلم الجماعة به على سبيل التفصيل، فلم يبق شئ
يرتئي فيه أمير المؤمنين عليه السلام وينظر في إصابته النظر الطويل فلم يبق
وجه يحمل عليه إباؤه وامتناعه من البيعة في الأول إلا ما نذكره من أنها

250
وقعت في غير حقها ولغير مستحقها، وذلك يقتضي أن رجوعه إليها لم
يكن إلا لضرب من التدبير.
فأما استدلاله على رضاه بما ادعاه من إظهار المعاونة والمعاضدة،
وأنه أشار عليه بقتال أهل الردة فإنه ادعاء معاونة ومعاضدة على سبيل
الجملة لا نعرفها، ولو ذكر تفصيله لتكلمنا عليه، فإن أشار بذلك إلى ما
كان يمدهم به من الفتيا في الأحكام، فذلك واجب عليه في كل حال،
ولكل مستفت فلا يدل إظهار الحق والتنبيه على الصواب في الأحكام لا
على معاونة ولا معاضدة، وإن أشار إلى ما كان منه عليه السلام في وقت
من الأوقات من الدفع عن المدينة (1) فذلك أيضا واجب على كل مسلم
وكيف لا يدفع عن حريمه وحريم المسلمين، فأي دلالة في ذلك على ما
يرجع إلى الإمامة.
فأما المشورة عليه بقتال أهل الردة فما علمنا أنها كانت منه، وقد
كان يجب عليه أن يصحح ذلك، ثم لو كانت لم تدل على ما ظنه لأن
قتالهم واجب على المسلمين كافة والمشورة به صحيحة.
فأما تعلقه بإنكار أمير المؤمنين على أبي سفيان فقد تقدم في كلامنا أن



(1) أشار علي عليه السلام إلى سبب دفاعه عن المدينة في كتابه إلى أهل مصر مع
مالك الأشتر حيث قال عليه السلام: (فأمسكت بيدي حتى رأيت راجعة من الناس قد
رجعت عن الاسلام يدعون إلى محق دين محمد صلى الله عليه وآله، فخشيت إن لم انصر
الاسلام وأهله أن أرى فيه ثلما وهدما تكون المصيبة علي أعظم)، والكتاب مذكور في
باب الكتب من " نهج البلاغة " وذلك أن جماعة من العرب بعد وفاة رسول الله صلى الله
عليه وآله أرسلوا إلى أبي بكر أن يقارهم على إقامة الصلاة ومنع الزكاة فامتنع من إجابتهم
إلى ذلك فأغاروا على المدينة فخرج علي عليه السلام بنفسه للدفاع عن المدينة حتى رد الله
كيدهم وانظر تفصيل القضية في تاريخ الطبري 3 / 244 حوادث سنة 11 وشرح نهج
البلاغة لابن أبي الحديد 17 / 153.
251
ذلك إنما يدل على تهمته لأبي سفيان، وعلمه بأن غرضه بذلك الكلام لم
يكن النصح له، فأي تعلق له بذلك؟
وأما امتناعه عما بذله له العباس من البيعة، فلأنه كان يعرف
الباطن، وكلام العباس كان على الظاهر، وليس يمتنع أن يغلب في ظنه
ما لا يغلب في ظن العباس فلا يكون في امتناعه دلالة على صواب ما جرى
من العقد، وإنما يكون دلالة على أن ما بذله العباس لم يكن عنده صوابا.
فأما قوله: (ولو كان منكرا لإمامة أبي بكر لم يخف أن يظهر ذلك
كما أظهره أبو سفيان) فطريف لأن الوقت الذي أظهر أبو سفيان
الخلاف فيه لم يكن أحد فيه يخاف من الخلاف، لأنه كان في ابتداء الأمر
وقبل استمرار العقد، وقد كان في تلك الحال جماعة مظهرين للخلاف.
وإنما قلنا إنه عليه السلام خاف من الخلاف في المستقبل وبعد إطباق
الكل ولم يكن في تلك الحال أبو سفيان ولا غيره مظهرا للخلاف.
فأما قوله: (إنه لو ادعى الحق لنفسه لوجد أنصارا كالعباس والزبير
وأبي سفيان وخالد بن سعيد) فظاهر البطلان لأنه لا نصرة فيمن ذكر ولا
في إضعافهم على من عقد العقد لأبي بكر وانقاد له، ورضي بإمامته،
والأمر في هذا أظهر من أن يخفى.
فأما قوله: (إنه وإن تأخر من البيعة فقد كان راضيا من حيث ترك
النكير وإنه إنما تأخر عن البيعة لأنه لم يطالب بها ولم يشدد فيها عليه)
فكلام في غير موضعه لأن المعتبر في باب الإمامة إنما هو بالرضا والتسليم
دون الصفقة باليد، ألا ترى أن من نأى عن محل الإمام وبلده يعد مبايعا
له من حيث رضي وسلم وانقاد وإن لم يصفق بيده، وإنما يراد الصفقة
لتكون إمارة على الرضا فإذا ظهر ما هو أدل منها لم يعتبر بها ولم يحتج إليها

252
فما وقع من الاتفاق على تأخر أمير المؤمنين عليه السلام عن البيعة يجب أن
يكون محمولا على التأخر عن إظهار الرضا والتسليم دون الصفقة باليد،
ولو كان راضيا بالأمر، ومسلما للعقد لم يعتبر بصفقته ولا عوتب على
تأخره، ولا قيل في ذلك ما قيل ولا جرى ما جرى، على أنا قد بينا أن
ترك النكير لا يدل على الرضا والاجماع إلا بعد شرائط لم تحصل في تركه
عليه السلام النكير.
فأما قوله: (وكان يجب إن لم يزد نكيره وإظهار الخلاف على ما ظهر
من الحسين عليه السلام وغيره في أيام بني أمية ألا ينقص من ذلك فقد
علم أنهم لما طولبوا بالبيعة كيف امتنعوا وتهاربوا وأظهروا الخلاف
والنكير، ولم يكن فزعه من أبي بكر إلا دون فزعهم من يزيد) وتقويته
ذلك بأن نكيره كان يجب أن يكون أقوى من نكير غيره من حيث أزيل عن
حقه فبعيد من الصواب لأنا قد بينا الأسباب المانعة من النكير، وأوضحنا
ذلك وشرحناه، وليس الخوف في تلك الحال كالخوف من يزيد وبني أمية،
وكيف يكون الخوف من مظهر للفسق والخلاعة والمجانة متهتك لا مسكة
معه (1) ولا شبهة في أن إمامته ملك وغلبة، وأنه لا شرط من شرائط
الإمامة فيه كالخوف من مقدم معظم جميل الظاهر، يرى أكثر الأمة أن
الإمامة دونه وأنها أدنى منازله، وما الجامع بين الأمرين كالجمع بين
الضدين على أن القوم الذين امتنعوا من بيعة يزيد قد عرف ما جرى
عليهم من القتل والمكروه فأما الحسين عليه السلام فإنه أظهر الخلاف لما
وجد بعض الأعوان عليه وطمع في معاونة من خذله، وقعد عنه ثم حاله
آلت مع اجتهاده واجتهاد من اجتهد في نصرته إلى ما آلت إليه.



(1) يقال: فلان فيه مسكة - بضم الميم - من خير أي بقية.
253
فأما تعلقه بعرض العباس وأبي سفيان عليه البيعة وأن ذلك دليل
على أن النص لا أصل له، وأن طريق الإمامة الاختيار، فقد قدمنا
الكلام فيما مضى من هذا الكتاب عليه، وبينا أن ذلك لا ينافي النص من
وجهين، أحدهما، أن البيعة لا تدل على أن النص لم يتقدم وتثبت به
الإمامة، بل يكون الغرض منها القيام بالنص التكفل بالذب ولهذا المعنى
بايع النبي صلى الله عليه وآله الأنصار ليلة العقبة وبايع المهاجرون
والأنصار تحت الشجرة وعلى هذا الوجه بايع الناس عمر بن الخطاب
بالخلافة بعد أبي بكر وإن كان نصه قد تقدم عليه، والوجه الآخر أن
القوم لما أن شرعوا في الإمامة من جهة الاختيار وأوهموا أنه الطريق إلى
الإمامة أراد العباس أن يحتج عليهم بمثل حجتهم، ويسلك في إمامة
أمير المؤمنين عليه السلام مسلكهم على سبيل الاستظهار عليهم، والإزالة
لشبههم، وكذلك أبو سفيان، وليس في بذل البيعة دلالة على انتفاء
النص.
فأما ما طول بذكره من الأخبار التي ذكرها في هذا الموضع،
المتضمنة للتفضيل والتعظيم والمدح، فقد تقدم فيما مضى كلامنا عليها
عند احتجاجه بها في مقابلة ما اعتمدناه من الرواية المتضمنة أمره عليه
السلام للناس بالتسليم على أمير المؤمنين عليه السلام بإمرة المؤمنين
وقوله: (هذا ولي كل مؤمن بعدي) وتكلمنا في هذه الأخبار بوجوه من
الكلام، وبينا ما فيها مشروحا بما لا طائل في إعادته (1)، وإيراده مثل هذه
الأخبار التي يعلم أنها واردة من جهة ومدفوعة من أخرى يقتضينا أن نورد
في مقابلتها ما يجري هذا المجرى مما يروونه ويدفعونه من الأخبار المتضمنة
للطعن واللوم، والتصريح والتلويح، لكنا لا نفعل ذلك تنزها عنه،
وتعويلا في الحجة على غيره، ومن أراد أن يعارض أخبارهم هذه بما ذكرناه
من الأخبار كان له في ذلك متسع على أن جميع ما ذكره من الأخبار لو صح

254
لم يكن فيه حجة، لأنه يجوز أن يكون خرجت مخرج التقية ويحمل الأحوال
عليها، لأن التقية جائزة عندنا فيما جرى هذا المجرى.
فأما وصفه لأمير المؤمنين عليه السلام بالشجاعة والقوة وأن التقية لا
تجوز على مثله فهو على ما ذكر من الشجاعة وأفضل، إلا أن شجاعته لا
تبلغ أن يغلب جميع الخلائق، ويحارب سائر الناس، وهو مع الشجاعة
والقوة بشر يقوى ويضعف، ويخاف ويأمن، والتقية جائزة على البشر
الذين يضعفون عن دفع المكروه عنهم.
فأما قوله: (إنه كان بعيدا عن التقية لما انتهت الخلافة إليه)
فلعمري أن كثيرا من التقية زال عنه في أيام إمامته بزوال أسبابها، وبقي
كثير من التقية لبقاء أسبابها، وبهذا لم ينقض جميع أحكام من تقدم ولا
فسخ عقدهم، وأين أنصاره وأعوانه في الكثرة والتظاهر، والتوازر في أيام
إمامته من أنصاره فيما تقدم، ولا إشكال على منصف في الفرق بين
الأمرين.
فأما قوله: (إن التقية لا بد فيها من سبب ظاهر) فقد قلنا في ذلك
ما فيه كفاية فأما قوله: (إن في كثير من الأوقات إظهار الحق أولى) فهب
إن الأمر على ذلك لعل الوقت الذي تكلم عليه من الأوقات التي لا يكون
الاظهار فيها أولى
فأما قوله: (لو جاز مع فقد السبب ادعاء التقية لم تأمن في
أكثر ما ظهر من الرسول صلى الله عليه وآله أن يكون على سبيل
التقية) فباطل لأنا قد بينا أن السبب في الموضع الذي ادعى فقده فيه لم
يكن مفقودا ثم إن الرسول صلى الله عليه وآله إنما لم تجز التقية عليه لأن
الشريعة لا تعرف إلا من قبله، ولا يوصل إليها إلا من جهته فمتى جازت

255
التقية عليه لم يكن لنا إلى العلم بالشرع طريق، وليس العلم بأن الإمام
منصوص عليه موقوفا على قوله ولا يعلم إلا من جهته حتى تكون تقيته في
ذلك رافعة لطريق العلم فبان الفرق بين الأمرين، على إن صاحب
الكتاب يجزى على كل من عدا الرسول صلى الله عليه وآله من المؤمنين
التقية ولا يلزمه على ذلك أن يجيز التقية على الرسول صلى الله عليه وآله
فكيف يلزم خصومه الجمع بين الأمرين.
فأما قوله: (ولم صار بأن يقال إنه كان يتقي فيعظم أبا بكر وعمر
بأولى من أن يحمل تقديمه لأمير المؤمنين على مثل ذلك) فكلام كأنه لا
يليق بما نحن فيه لأنا إنما نتكلم في تقية أمير المؤمنين عليه السلام وكفه عن
منازعة من غالبه على الأمر، ولم نكن في تقية النبي صلى الله عليه وآله
ومن قال له في هذا الموضع أن النبي صلى الله عليه وآله كان يتقي فيعظم
أبا بكر وعمر، وأي مدخل لذلك هاهنا على أن الكثير من أصحابنا لا
يقولون إن تعظيمه لأبي بكر وعمر كان على وجه التقية، بل كان على ما
يقتضيه الحال من ظاهرهما، ومن قال بذلك يمكن أن يفصل بين الأمرين
بالدليل، فيقول: لو تركت والظاهر من تعظيم الجماعة لسويت بين الكل
لكنه لما دل الدليل في بعضهم على ما يقتضي خلاف ذلك التعظيم نسبته
إلى غير ظاهرة، وما لم يصرف عنه الدليل كان باقيا على حاله.
فأما قوله: (ولو أمكن أن يدعى في ابتداء البيعة التقية ما كان
يمكن في سائر الأحوال، وهلا ظهرت التقية منه يوم الجمل وصفين)
فظاهر الفساد، لأن الأمر بالعكس مما قاله إن ابتداء الأمر في البيعة كان
أحق منه في استقراء الأحوال، ومعلوم أن الحال بعد الابتداء اشتدت
وتفرعت، وقويت وتشعبت فكيف يدعي أن الابتداء كان أحق من
الاستمرار، اللهم إلا أن يعني بذلك الأيام التي سلم فيها الأمر إليه عليه

256
السلام فهذه الأيام أيضا تجري مجرى الأول في حصول أسباب التقية لأن
أكثر من بايعه بالإمامة كانوا شيعة المتقدمين عليه، ومن يعتقد إمامتهم،
والأحوال متقاربة، وإن كان عليه السلام في هذه الأيام كثيرا ما كان ينفث
ببعض ما في صدره، ويبوح ببعض ما كان يكتمه.
فأما ذكر الجمل وصفين في هذا الموضع فمن بعيد الكلام، وإنما لم
يسغ له التقية في صفين والجمل لوجود الألوف الكثيرة من الأنصار
والأعوان المستبصرين الذين يثق بمناصحتهم ونصرتهم، وليس شئ من
هذا فيما تقدم.
فأما قوله: (إن المتعالم من حال أبي بكر أنه لم يكن من القوة في
نفسه وأعوانه بحيث يخاف منه) فقول من لا يتصفح كلامه، وأي قوة
تزيد على من اجتمع عليه أكثر المسلمين، وانقادوا له من الأولين
والآخرين، وسموه خليفة الرسول صلى الله عليه وآله وأنزلوه منزلته،
وأطاعوه طاعته، وهذا القول مما نربأ (1) بصاحب الكتاب عنه، وهذه
جملة كافية.
ثم قال صاحب الكتاب: (فأما خالد بن سعيد فإنه بايع بعد ذلك
من غير شبهة عند أهل النقل، وأما سلمان فإنما روي عنه أنه قال: كرديد
ونكرديد (2)، وحكي عن أبي علي أن ذلك غير مقطوع به وأنه لا يجوز أن
يخاطبهم بالفارسية وهم عرب (3) وكيف فهموا ذلك منه، ورووه، وأن



(1) يقال: أربأ به عن كذا أي لا أرضاه له.
(2) " كرديد ونكرديد " معناه - كما أخبرني أحد المتضلعين في اللغة الفارسية -
فعلتم وما فعلتم.
(3) وفيه " فكيف يصح أن يخاطبهم بهذا القول وهم عرب، وهو يعرف
العربية ".
257
هذا يقتضي أن الراوي الذي رواه كان يفهم بالفارسية، وأنه من باب
الآحاد،...) (1) وذكر توليته لعمر المدائن، وأن الفعل آكد من القول في
دلالته، وحكي عن أبي هاشم أن قوله كرديد يدل على صحة الإمامة
وثبوتها، وإنما أراد بقوله: ونكرديد إنكم إن أصبتم الحق فقد أخطأتم
المعدن، لأن عادة الفرس في الملك أن لا يزيلونه عن البيت والأقرب
فالأقرب، وحكي عن أبي وعن أبي ذر أخبارا تدل على مدحه وتقريظه
له، وأن ذلك يدل على أنه مصوب له، وذكر تولي عمار من قبل عمر
الكوفة، وأن له شعرا في مدح أبي بكر، وأن المقداد ما تخلف عن بعوث
أبي بكر وعمر والانقياد لهما، وإظهار تصويبهما، وأن سبيله في ذلك سبيل
صهيب وسالم مولى أبي حذيفة وكل ذلك يحكيه عن أبي علي، وحكي عنه
أنه قال: (إذا قبل المخالف الخبر المروي عن رسول الله صلى الله عليه
وآله في أبي ذر وهو قوله: (ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء على ذي
لهجة أصدق من أبي ذر) (2) فهلا قبلوا ما روي عنه من قوله: (اقتدوا
باللذين من بعدي أبي بكر وعمر) و (إنهما سيدا كهول أهل الجنة) وما روي
من تبشيره إياهما بالجنة، وبالخلافة بعده إلى غير ذلك).
ثم قال: (واعلم أن هذه الأخبار لم نذكرها وإن كان أكثرها أخبار
آحاد اعتمادا عليها بل المعتمد على ما قدمناه من الإجماع الظاهر وإنما
دفعنا بذلك ما ادعوه من الأخبار التي لا أصل لها ومنعناهم أن
يتوصلوا بها إلى إثبات الخلافة، وأريناهم أن هذه الأخبار أشهر
وأثبت) ثم عارض نفسه بالاجماع على معاوية وأجاب عن ذلك بأن حكي
عن أبي علي (على أن معاوية لم يصلح للإمامة لأمور تقدمت نوجب فيها (3)
البراءة والفسق، نحو استلحاق زياد، وقتل حجر وغيره، وشقه العصا



(1) المغني 20 ق 1 / 291.
(2) غ " الخلاف ".
(3) خ " فيه ".
258
في أيام أمير المؤمنين عليه السلام ومقاتلته له إلى غير ذلك مما لا يحصى
كثرة ولا يصلح وحاله هذه أن يدعى الإجماع على إمامته لأن
الإجماع في ذلك إنما يدل على ثبوت ما يصح وقد بينا أن الإمامة لا تصح
فيه فيجب أن يعلم أن الإجماع لم يقع
في الحقيقة، ولو ثبت - والحال ما ذكرناه - الإجماع لوجب حمله
على أنه كان على سبيل القهر كما كان يقع من الملوك ذلك في
ممالكهم، فكيف وقد صح واشتهر الخلاف في ذلك، بل ربما أظهروا هذا
الجنس بحضرته فلا ينكره، وقد كان الحسن والحسين عليهما السلام
ومحمد بن علي (1) وابن عباس وإخوته وغيرهم من قريش يظهرون ذمه
والوقيعة فيه فكيف يدعي الإجماع في ذلك مع علمنا ضرورة من حال من
ذكرناه أنه كان لا يقول بإمامته، ولا يدين بها، بلى لو قيل إنه يعلم
بالأمور الظاهرة أنه كان لا يدين بإمامة نفسه، وكذلك خلص أصحابه
لكان يقرب وإن لم يعلم ذلك بالاضطرار فالإمارات الدالة على ذلك
ظاهرة؟ فكيف يدعي مثل ذلك في أبي بكر والحال ما قدمناه،...) (2)
وعارض نفسه بالاجماع على قتل عثمان وأجاب بأن قال: (كيف يجوز أن
يدعى الإجماع في ذلك وقد حصل هناك أمران يمنعان فيمن لم ينكر القول
بأنه ينكر ذلك لاعتقاده أنه حق أحدهما أنه كان هناك غلبة والثاني ما كان
من منع عثمان من القتال وكيف يقال ذلك وقد ثبت بالنقل ما كان من
أمير المؤمنين عليه السلام من الانكار حتى بعث بالحسن والحسين عليهما
السلام وقنبر على ما روي في ذلك، وكيف يدعي في ذلك الإجماع وعثمان
نفسه مع شيعته وأقاربه خارجون،...) (3) وحكي عن أبي علي أنه قال: إن



(1) يعني ابن الحنفية.
(2) المغني 20 ق 1 / 294.
(3) المصدر نفس الصفحة المتقدمة.
259
قدح في الإجماع على خلافه هذه الأمور فالإجماع لا يصح إثباته (1) لأنه
إجماع أظهر مما ذكرناه وهذا يبطل كون الإجماع دلالة وتأول ما روي عن
أمير المؤمنين عليه السلام من قوله عليه السلام: (لقد تقمصها ابن أبي
قحافة وقد علم أني منها مكان القطب من الرحى) (2) بأن قال: إن ثبت
ذلك فالمراد أنه أهل لها وأنه أصلح منه، يبين ذلك أن القطب من الرحى
لا يستقل بنفسه، ولا بد في تمامه من الرحى فنبه بذلك على أنه أحق وإن
كان قد تقمصها قال: (وقد كانت العادة في ذلك الزمان أن يسمي
أحدهم صاحبه ويكنيه ويضيفه إلى أبيه حتى كانوا ربما قالوا لرسول الله
صلى الله عليه وآله: يا محمد، فليس في ذلك استخفاف، ولا دلالة على
الوضع، وبإزاء هذه الأخبار المروية ما رويناه من الأخبار [التي هي
أشهر] (3) في تعظيمه لهما ويعضدها الأخبار المروية عن الرسول في
فضلهما) (4).
ثم قال: (واحد ما قوى به شيوخنا ما ذكرناه [من الإجماع] (3) لو
كان أمير المؤمنين عليه السلام مخالفا [لأنه أحق بالأمر] (3) على ما يقولون
لوجب لما انتهى الأمر إليه أن ينفي (5) أحكام القوم وينقض ما يجب أن



(1) في المغني " إن كان يصح القدح فيما ذكرناه من الإجماع فلا إجماع يصح
إثباته ".
(2) وفيه: " وهل لم يبطل كون الإجماع دلالة فقد ثبت صحة ذلك بالكتاب وغيره
مما له تأويل نحو ما يحكون عنه أنه قال: (والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أن
محلي منها محل القطب من الرحى) ورواية " المغني " موافقة في حروفها لما في " نهج
البلاغة " وقد استعرضت رواة الخطبة الشقشقية من السنة والشيعة والمعتزلة قبل الرضي
وبعده في " مصادر نهج البلاغة وأسانيده " فراجع.
(3) جميع الزيادات تحت هذا الرقم من " المغني ".
(4) غ " ويعضده " فيكون الضمير للتعظيم.
(5) غ " أن يتتبع ".
260
ينقض منها لأنهم على هذا القول كانوا خوارج يتصرفون في الحدود
والأحكام على وجه محرم عليهم (1) وبطلان ذلك يبين أنه كان راضيا
بإماتهم،...) (2).
يقال له: أما بيعة خالد بن سعيد وغيره ممن كان أظهر الخلاف في
الأصل فلا شبهة فيها، إلا أنه بقي عليك أن تبين أن ذلك كان عن رضى
واختيار، فقد بينا في ذلك ما فيه كفاية ومقنع وإذا كان أمير المؤمنين عليه
السلام مع عظم قدره، وعلو منزلته، قد ألجأته الحال إلى البيعة فأولى أن
يلجئ غيره ممن لا يدانيه في أحواله.
فأما قول أبي علي: (إن الذي روي عن سلمان من قوله (كرديد
ونكرديد " ليس بمقطوع به) فإن كان خبر السقيفة وشرح ما جرى فيها من
الأقوال والأفعال مقطوعا به فقول سلمان مقطوع به، بل لأن كل من روى
السقيفة رواه، وليس هذا مما يختص الشيعة بنقله فيتهمهم فيه.
فأما قوله: (فكيف يخاطبهم وهم عرب بالفارسية) فقد بينا فيما
تقدم أنه صرح بمعنى ذلك بالعربية، وقال: أصبتم وأخطأتم، وفسر
أيضا هذا الكلام وصرح بمعناه، وقد يجوز أن يجمع في إنكاره بين
الفارسية والعربية ليفهم إنكاره أهل اللغتين معا فلم يخاطب على هذا
العرب بالفارسية (3).
فأما قوله: (كيف رووه واستدلاله على أن راويه واحد من حيث لا



(1) غ " يحرم عليهم ".
(2) المغني 20 ق 1 / 295.
(3) ويجوز أن سلمان استولى عليه الغضب والانفعال والانسان في مثل هذه الحال ينسى
العادة ويرجع إلى الطبيعة.
261
يجوز يرويه إلا من فهم الفارسية) فطريف لأن الشئ قد يرويه من لا
من لا يعرف معناه.
فأما استدلاله بقوله: " كرديد " على أن الإمامة قد ثبتت وصحت،
فباطل لأنه أراد بقوله: " كرديد " فعلتم، وبقوله: " نكرديد " لم
تفعلوا، والمعنى إنكم عقدتم لمن لا يصلح للأمر ولا يستحقه، وعدلتم
عن المستحق، وهذه عادة الناس في إنكار ما يجري على غير وجهه، لأنهم
يقولون: فعل فلان ولم يفعل، والمراد ما ذكرناه، وقد صرح سلمان على
ما روي بمعنى قوله " أصبتم الحق وأخطأتم أهل بيت نبيكم " فقد فسر
بالعربية معنى كلامه بالفارسية.
فأما حمله لكلامه على أن المراد به (أصبتم الحق وأخطأتم المعدن،
لأن عادة الفرس أن لا تزيل عن أهل البيت الملك) فالذي يبطله تفسير
سلمان لكلام نفسه فهو أعرف بمعناه، على أن سلمان كان أتقى لله
وأعرف به من أن يريد من المسلمين أن يسلكوا سنن الأكاسرة والجبابرة،
ويعدلوا عما شرعه لهم نبيهم صلى الله عليه وآله.
وأما توليه لعمر المدائن فمحمول على التقية وما اقتضاه إظهار البيعة
والرضا يقتضيه، وليس لأحد أن يقول: وأي تقية في الولايات لأنه غير
ممتنع أن يعرض عليه ليمتحنه بها ويغلب في ظنه أن من عدل عنها وأباها
نسب إلى الخلاف، واعتقدت فيه العداوة، ولم يأمن المكروه، وهذه
حال توجب عليه أن يتولى ما عرض عليه فالتقية تبيح مثل ذلك وأكثر منه،
وكذلك الكلام في تولي عمار الكوفة، ونفوذ المقداد في بعوث القوة.
فأما ما رواه عن أبي ذر التعظيم والتقريظ للقوم، وظنه أن ذلك
يعارض ما نقله عنه وعن أمثاله من الخلاف، فظاهر البطلان لأنه لا يمنع
إذا صح ما رواه عنه أن يكون محمولا على التقية لأن الحال التي منوا بها

262
ودفعوا إليها كانت تقتضي أمثال ما قلناه وما رويناه عنهم من الأخبار التي
تتضمن الخلاف والنكير لا يصدر إلا عن نية واعتقاد فلا يعارض شيئا مما
رووه لما ذكرناه.
فأما الفرق بين الخبر المروي عن الرسول صلى الله عليه وآله في أبي ذر وبين ما
روي من قوله (اقتدوا باللذين من بعدي) وغيره فظاهر لأن خبر أبي ذر
يرويه الخاصة والعامة، وينقله الشيعي والناصبي، ولم يرده أحد من الأمة
ولا طعن فيه، ولا قدح في تأويله ولا ناقليه، وليس شئ من هذا
موجودا في الأخبار التي عارض بها.
فأما الجواب عن المعارضة بإمامة معاوية والاتفاق عليها بأنه لا
يصلح للإمامة لكذا وكذا مما عددناه، فإنما ذلك تعليل منه للنقض لأنه إذا
كان لا يصلح للإمامة، وقد وجدنا في الاتفاق عليه، والكف عن منازعته
ومخالفته ما وجدناه فيمن تقدم فيجب إما أن يكون إماما أو أن تكون هذه
الطريقة ليست مرضية في تصحيح الإجماع وكل شئ يبين أنه لأجله لا
يصلح للإمامة يؤكد الالزام ويؤيده.
وقوله: (إن الإجماع إنما يدل على ثبوت ما يصح) صحيح إلا أنه
كان يجب أن يبين أن الإجماع لم يقع هاهنا باعتبار يقتضي أن شروطه لم
تتكامل ولا يرجع في أنه لم يقع مع تكامل شروطه وأسبابه إلى أن المجمع
عليه لا يصلح للإمامة، لأن ذلك كالمناقضة.
فأما ادعاؤه الغلبة والقهر فما يقوله المخالف له في الإمامة في إمامة
معاوية ما قاله هو لنا فيما تقدم من أن القهر والغلبة لا بد لهما من أسباب
تظهر وتنقل وتعلم فلو كان هناك غلبة لعلمها الناس كلهم على سواء فإن
ادعى شيئا مما نقل في هذا المعنى لم يلتفت إليه مخالفه وقال له: لو كان ذلك
صحيحا لنقل إلي وعلمته كما علمته وقابله في هذا الموضع بمثل ما قابلنا

263
صاحب الكتاب في إمامة من تقدم حذو النعل بالنعل، ولهذا يقول من
ينسب إلى السنة منهم أن إبطال إمامة معاوية والوقيعة فيه طريق مهيع (1)
لأهل الرفض إلى القدح في إمامة من تقدمه، وقولهم إن معاوية كالحلقة
للباب يريدون بذلك أن قرع الحلقة طريق إلى الولوج وسبيل للدخول.
فأما ادعاؤه من اشتهار الخلاف من الحسن والحسين عليهما السلام
وفلان وفلان وأنهم كانوا يظهرون ذمه والوقيعة فيه، فيقال له: من أين
علمت هذا الذي ادعيته بالضرورة على ما لوحت أو بالاستدلال.
فإن قال: بالضرورة قلنا: وما بال علم الضرورة لا يحصل
لمخالفك، ويحصل لك دونهم وهم أكثر عددا منك، وآنس بالأخبار،
ونقل الآثار، ولئن جاز لك أن تدعي على مخالفك في هذا الباب دفع
الضرورة مع علمك بكثرة عددهم وتدين أكثرهم ليجوزن للشيعة التي
تخالفك في إمامة من تقدم أن تدعي الضرورة عليك في العلم بإنكار
أمير المؤمنين عليه السلام وأهله وشيعته ظاهرا وباطنا على المتقدمين عليه،
وأنه كان يتظلم ويتألم من سلب حقه والدفع له عن مقامه، وهيهات أن
يقع بين الأمرين فصل.
فإن قال: أعلم ذلك بالاستدلال، قلنا، أذكر أي طريق شئت في
تصحيح ما ادعيته من إنكار من سميته ووصفته حتى نبين بمثله صحة ما
رويناه في الانكار على من تقدم فإنك لا تروي في ذلك إلا أخبارا نقلتها
أنت ومن وافقك ويدفعها مخالفك، ويدعي أنها من رواية أهل الرفض
ودسيس من قصده الطعن في السلف، ويقول فيمن يروي هذه الأخبار
ويقبلها أكثر مما تقول أنت وأصحابك فيمن يروي ما ذكرناه من الأخبار،



(1) طريق مهيع: أي واسع وجمعه مهايع.
264
على أن الظاهر الذي لا يمكن أن يدفع أن القوم الذين سماهم وزعم أنهم
كانوا يواجهونه بالخلاف والإنكار إنما كانوا يفتخرون عليه في النسب وما
جرى مجراه، وكانت تجري بين القوم مفاضلة ومفاخرة لا ذكر للإمامة فيها
وما كان ذلك إلا بتعرض من معاوية له وأنه كان رجلا عريضا (1) يريد أن
يتحدث عنه بالحلم، وكان دائبا يتحكك (2) بمن يعلم أنه لا يتحمله حتى
يرد منه من الكلام ما يغضي عليه ويعرض عنه فيكون ذلك داعيا إلى
وصفه بالحلم، وما كان في جميع من ذكره ممن كان قابله بغليظ الكلام
وشديده إلا من يخاطبه بإمرة المؤمنين في الحال، ويأخذ عطاءه ويتعرض
لجوائزه ونوافله، فأي إنكار كان مع ما ذكرناه؟
فأما ما اعتمده في جواب معارضة من عارضه بالاجماع على قتل
عثمان من ذكر فليس الغلبة بأكثر من استيلاء الجمع الكثير تخشى
سطوتهم، وتخاف بادرتهم وهذه كانت حال من عقد الإمامة لأبي بكر لأن
أكثر الأمة تولاها ومال إليها، واعتقد أنه السنة وما يخالفها البدعة، فأي
غلبة هي أوضح مما ذكرناه؟ وكيف يدعي الغلبة في قتل عثمان وعندهم
إن الذين تولوا قتله وباشروا حربه نفر من أهل مصر، التف بهم قوم
أوباش من أهل المدينة ممن يريد الفتنة، ويكره الجماعة وأن أكابر المسلمين
ووجوه الأنصار والمهاجرين، - وهم أكثر أهل المدينة وعليهم مدار أمرها،
وبهم يتم الحل والعقد فيها -، كانوا لذلك كارهين، وعلى من أتاه
منكرين، فأي غلبة تكون من القليل على الكثير، والصغير على الكبير
لولا أن أصحابنا (3) يدفعون الكلام في الإمامة بما سنح وعرض من غير فكر



(1) العريض - بالكسر والتشديد -: الذي يتعرض للناس بالشر.
(2) تحكك به: تعرض له، وتحرش به.
(3) الظاهر " لولا أن أصحابه ".
265
في عواقبه ونتائجه.
فأما تعلقه بمنع عثمان من القتال فعجيب وأي علة في منع عثمان
لمن قعد عن نصرته، وخلى بينه وبين الباغين عليه، والنهي عن المنكر
واجب؟ وإن منع منه من يجري ذلك المنكر عليه وكيف يمتنع من القتال
لأجل منع عثمان منه من كان معه في الدار من أقاربه وعبيده وهم له
أطوع، وإن ينتهوا إلى أمره أولى؟
وكيف لم يطعه في النهي عن المنكر والصبر على إيقاع الفتنة إلا ما
المهاجرون والأنصار دون أهله وعبيده.
فأما ذكره إنكار أمير المؤمنين عليه السلام لذلك وبعثه الحسن
والحسين عليهما السلام للنصرة والمعاونة فالذي هو معروف أن أمير المؤمنين
عليه السلام كان ينكر قتله ويبرأ من ذلك في أقوال محفوظة معروفة لأن
قتله منكر لا شك فيه، ولم يكن ممن تولاه أن يقدم عليه.
فأما حصره ومطالبته بخلع نفسه وتسليم من كان سبب الفتنة ممن
كان في جهته فما يحفظ عن أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك إنكار، بل
الظاهر أنه كان بذلك راضيا ولخلافه ساخطا، وكيف لا يكون كذلك وهو
الذي قام بأمره في الدفعة الأولى وتوسطه حتى جرى الأمر على إرادته بعد
أن كاد أن يخرج الأمر إلى ما خرج إليه في المرة الثانية، وضمن لخصومه
عنه الأعتاب والجميل فكان ذلك سببا لتهمته عليه السلام ومشافهته أن لا
يتهم سواه فمضى عليه السلام من فوره وجلس في بيته، وأغلق بابه.
فأما بعث الحسن والحسين عليهما السلام ففي ذلك نظر، ولو كان
مسلما لا خلاف فيه لكان إنما بعثهما للمنع من الانتهاء بالرجل إلى القتل،
ولأنهم كانوا حصروه، ومنعوه الطعام والشراب وفي داره حرم وأطفال،
ومن لا تعلق له بهذا الأمر، وهذا منكر يجب على مثل أمير المؤمنين عليه

266
السلام رفعه فلو كان أمير المؤمنين عليه السلام وطلحة والزبير وفلان
وفلان كارهين لما جرى لما وقع شئ منه، ولكانوا يمنعون من جميعه باليد
واللسان والسيف.
فأما قوله: (وكيف يدعى الإجماع وعثمان نفسه مع شيعته وأقاربه
خارجون منه) فطريف لأنه إن لم يكن في هذا الإجماع إلا خروجه عنه
فبإزائه خروج سعد بن عبادة وأهله وولده من الإجماع على إمامة أبي بكر
ممن قال صاحب الكتاب إني لا اعتقد بخروجه إذا كان في مقابلته جميع
الأمة.
فأما الذين كانوا مع عثمان في الدار فلم يكن معه من أهله إلا ظاهر
الفسق، عدوا لله تعالى كمروان وذويه ممن لا يعتبر خروجه عن الإجماع
لارتفاع الشبهة في أمره أو عبيد أدناس طغام لا يفرقون بين الحق
والباطل، ولا يكون خلاف مثلهم قادحا في الإجماع، وإذا بلغنا في هذا
الباب إلى أن لا نجد منكرا من جميع الأمة إلا عبيد عثمان والنفر من
أقاربه الذين حضروا في الدار فقد سهلت القصة ولم يبق فيها شبهة.
فأما قوله: عن أبي علي: (إن هذا طريق إلى إبطال الإجماع في كل
موضع) فقد بينا أن الأمر على خلاف ما ظنه وأن الإجماع يثبت ويصح
بطرق صحيحة ليست موجودة فيما ادعوه ولا طائل في إعادة ما مضى.
فأما تأويله ما روي عنه عليه السلام في قوله: (والله لقد تقمصها
ابن أبي قحافة) على أن المراد بذلك أنه أهل لها واضح منه للقيام بها فأول
ما فيه أن هذا التأويل على بعده لا يمكنه في غير هذا اللفظ من الألفاظ
المروية عنه عليه السلام وهي كثيرة وقد ذكرنا منها طرفا ثم هو مع ذلك
فاسد لأن من كان أهلا للأمر وموضعا له لا يطلق من الألفاظ ما هو
موضع للاستحقاق المخصوص أو التفرد بالأمر والتميز لأن قول القائل:

267
أنا مكان القطب من الرحى يقتضي ما فيه أن غيره لا يقوم فيه مقامه كما
أن غير القطب لا يقوم مقام القطب ولا يفهم من هذا الكلام أنه أهل له
وموضع، ولا هو مثال من يريد الإخبار عن المعنى الذي ذكرناه.
فأما قوله: (إن القطب لا يستقل بنفسه ولا بد في تمامه من
الرحى) فأول ما فيه أنه تأول في اللغة، وتحمل الألفاظ ما لم توضع له،
لأن عرف أهل اللغة جاء باستعمال لفظ القطب في الموضع الذي ذكرناه،
وعند إرادة أحدهم أن يخبر عن نهاية الاستحقاق والتفرد بالأمر الذي لا
يقع فيه مشاركة فتأوله مع المعرفة بمرادهم في هذه اللفظة لا معنى له، على
أن القطب أشد استقلالا بنفسه من باقي الرحى لأنه يمكن أن يتحرك
ويدور من غير أن يتصل به شئ وباقي الرحى لا يمكن ذلك فيه على
سبيل الدور إلا بقطب.
فأما الإضافة إلى كنية أبيه فمما لا نعتبره في الخبر، وعلى كل حال،
فليس ذلك صنع من يريد التعظيم والتبجيل، وقد كانت لأبي بكر عندهم
من الألقاب الجميلة ما يقصد إليه من يريد تعظيمه، وقوله: (إن
رسول الله صلى الله عليه وآله ينادى باسمه فمعاذ الله ما كان ينادى باسمه
إلا شاك فيه أو جاهل من طغام الأعراب الذين لا يعرفون ما يجب عليهم
في هذا الباب، وقوله: (من عادة العرب أن يسمي أحدهم صاحبه
ويضيفه إلى أبيه من غير إرادة سوء) فلا شك في أن هذه عادة القوم فيمن
لا يكون له من الألقاب أفخمها وأعظمها كالصديق وخليفة رسول الله،
وما نجدهم يعدلون عن ذكر الإنسان بلقبه العظيم الذي يدل على محله
ومرتبته إلى إضافته إلى اسم أبيه إلا ومقصدهم بذلك خلاف التعظيم
والمدح.
فأما قوله: (إنه كان يجب لما انتهى إليه الأمر أن يتتبع أحكام القوم

268
فينقض ما يجب أن ينقض منها) فهو من عمدهم التي يعتمدونها، وربما
أضافوا إليها أنه نكح سبيهم، فإن الحنفية كانت سبية، وأنه أقام الحد
بين أيديهم، وزوج ابنته من فاطمة بعضهم، ويقولون كل ذلك دال على
الولاية، وخلاف العداوة فكيف يستبيح من الحنفية ما استباحه بسبي من
لا تجوز طاعته وكيف يزوج مرتدا ابنته؟
ونحن نذكر الوجه في ذلك شيئا فشيئا فنقول: إنا قد بينا فيما مضى
من كلامنا أن أمير المؤمنين عليه السلام كان منذ قبض الله نبيه في حال
تقية ومداراة ومدافعة لاستيلاء من استبد بالأمر عليه، ولما اتفق من الأمور
التي بيناها مجملة ومفصلة، فلما قتل عثمان وأفضى الأمر إليه لم يفض إليه
من الوجه الذي استحقه، لأنهم إنما عقدوا له الإمامة بالاختيار الذي ليس
بطريق إلى الإمامة وبنى أكثرهم هذا الاختيار في صحته والتوصل إلى
الإمامة به على اختيار من تقدم فكره أمير المؤمنين عليه السلام أن يبرأ من
الأمر ويقيم على ترك الدخول فيه فيخرج لأنه إذا تمكن من التصرف فيما
جعل إليه بطريق من الطرق، وعلى وجه من الوجوه، فعليه أن يتصرف
ويقيم بما أوجب الله أن يقيمه، وكره أن يعرفهم أن إمامته لم تثبت
باختيارهم، وأنه المنصوص عليه من ابتداء الأمر فيقولون له: صرحت
بذم السلف وطعنت في الأئمة الثلاثة وكل سبب ذكرنا أنه كان يمنعه من
الموافقة على ما ذكرناه سالفا فهو يمنعه على أوكد الأحوال آنفا ولو لم يكن في
تصريحه عليه السلام بذلك عند دعائهم له إلى الأمر، إلا أنه كان سببا
لخلافهم عليه، وترك تسليم الأمر إليه، فلا يتمكن مما لاح له التمكن منه
فالتقية لم تفارقه ولم يجد منها في حال من الأحوال بد وكيف تتبع أحكام
القوم، والعاقدون له الإمامة والمسلمون إليه الأمر كانوا أولياءهم
وشيعتهم، وممن يرى إمامتهم وإن إمامته عليه السلام فرع على إمامتهم،

269
وإن الطريق إليها من جهتهم عرفوه، وبهدايتهم سلكوه، ومما يبين صحة ما
ذكرناه ما روي عنه عليه السلام من قوله في أيام ولايته: (والله لو ثني لي
الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم
وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم حتى يزهر (1) كل
كتاب ويقول: يا رب إن عليا قضى بقضائك) وقوله عليه السلام لقضاته
وقد سألوه بماذا نحكم فقال عليه السلام: (أحكموا بما كنتم تحكمون
حتى يكون الناس على جماعة أو أموت كما مات أصحابي) يعني عليه
السلام بذلك من تقدمت وفاته من شيعته كأبي ذر وغيره، وقد بين
أمير المؤمنين عليه السلام جملة ما ذكرناه في كلامه المشهور حيث يقول:
(والله لولا حضور الناصر ولزوم الحجة وما أخذ الله على أولياء العهد ألا
يقروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ولسقيت
آخرها بكأس أولها ولوجدتم دنياكم عندي أهون من عفطة عنز) (2) وإنما أراد
أني كنت استعمل في آخر الأمر من التخلي منه والاعتزال ما استعملته في
أوله فإن قيل: فإذا كان عليه السلام لم يغير أحكامهم للتقية فيجب أن
تكون ممضاة جارية مجرى الصحيح في وقوع التملك بها وغيره من الأحكام.
قلنا: لا شك في إنما إذا لم يغير بسبب موجب للامضاء فإن أحكامها



(1) يزهو خ ل.
(2) هذه الفقرة هي الأخيرة من خطبته عليه السلام المعروفة بالشقشقية وهي في
" نهج البلاغة " هكذا: " أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر،
وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم، ولا
سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم
عندي أهون من عفطة عنز) ويعني عليه السلام بالحاضر: من حضر لبيعته، وبالناصر:
الجيش الذي يستعين به، والكظة امتلاء البطن من الطعام، والسغب: شدة الجوع،
ويريد أنهم لا يقاروا الظالم على استثاره بالفئ وأكله الحرام والغارب: الكاهل،
والكلام تمثيل للترك والارسال.
270
جارية على من حكم بها عليه وواقعة موقع الصحيح، وقد يجوز أن يؤثر
الضرورة في استباحة ما لا يجوز استباحته لولاها كما قد يؤثر في استباحة
الميتة وغيرها فأما الحنفية فلم تكن سبية على الحقيقة، ولم يستبحها عليه
السلام بالسبا لأنها بالاسلام قد صارت حرة مالكة أمرها فأخرجها من يد
من استرقها ثم عقد عليها عقد النكاح، فمن أين أنه استباحها بالسبا دون
عقد النكاح، وفي أصحابنا من يذهب إلى أن الظالمين متى غلبوا على الدار
وقهروا ولم يتمكن المؤمن من الخروج من أحكامهم جاز له أن يطأ سبيهم
ويجري أحكامهم مع الغلبة والقهر مجرى أحكام المحقين فيما يرجع إلى
المحكوم عليه، وإن كان فيما يرجع إلى الحاكم معاقبا آثما.
فأما إقامة الحدود، فما نعرف في ذلك إلا أن عثمان أراد أن يدرأ
الحد عن أخيه (1) وكان أمير المؤمنين عليه السلام حاضرا، وغلب في ظنه
التمكن من إقامة الحد، فأمر به، وهذا مما يجب مع التمكن وهو في باب
الانكار عليهم أدخل.



(1) أي الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان أخا عثمان لأمه ولاه الكوفة بعد أن
عزل عنها سعد بن أبي وقاص وكان الوليد ماجنا معروفا بالفسق، وهو الذي سماه الله
فاسقا في موضعين من القرآن الكريم الأول في قوله تعالى: (أفمن كان مؤمنا كمن كان
فاسقا لا يستوون)، السجدة 18 انظر الكشاف 3 / 243، والثاني في قوله تعالى: (يا
أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) الحجرات 6، لما كذب على بني المصطلق
على رسول الله صلى الله عليه وآله وادعى أنهم منعوه الصدقة (انظر تفصيل القضية في
سيرة ابن هشام 3 / 308) فعظم ذلك على أهل الكوفة حيث يستبدل سعد بمثل الوليد
فشرب الخمر ذات يوم وصلى بالناس وهو سكران فتكلم بالصلاة وزاد فيها، وقاء في
المحراب وأخذوا خاتمه من إصبعه وهو لا يعلم وشهدوا بذلك عند عثمان فرد شهادتهم
فشكوا ذلك إلى علي عليه السلام فأقبل إلى عثمان وعاتبه في ذلك ثم أخذ عليه السلام
الوليد فجلده بين يدي أخيه وتفصيل القضية في الأغاني 5 / 120 - 133 وشرح نهج
البلاغة لابن أبي الحديد 17 / 227.
271
فأما تزويجه بنته، فلم يكن ذلك عن اختيار، والخلاف فيه
مشهور، فإن الرواية وردت بأن عمر خطبها إلى أمير المؤمنين عليه السلام
فدافعه وماطله، فاستدعى عمر العباس فقال: ما لي، أبي بأس؟،
فقال: ما حملك على هذا الكلام؟ فقال: خطبت إلى ابن أخيك فمنعني
لعداوته لي، والله لأغورن زمزم، ولأهدمن السقاية، ولا تركت لكم - بني
هاشم - مأثرة إلا هدمتها، ولأقيمن عليه شهودا بالسرقة، ولأقطعنه،
فمضى العباس إلى أمير المؤمنين عليه السلام فخبره بما سمع من الرجل،
فقال قد أقسمت ألا أزوجها إياه، فقال رد أمرها إلي، ففعل فزوجه
العباس إياها، ويبين أن الأمر جرى على إكراه ما روي عن أبي عبد الله
جعفر بن محمد عليهما السلام من قوله (ذلك فرج غصبنا عليه) (1) على



(1) في النفس من هذه الرواية شئ فاللازم أن ترد على راويها، لا لمنع أصل
الوقوع ولكن حاشى لله أن يبلغ الأمر من اضطهاد أهل البيت إلى اغتصاب بناتهم " يأبى
الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون " فالأمر بهذه الصورة ممنوع، كما أنه ممنوع أيضا بالصورة
التي يرويها بعضهم من أن أمير المؤمنين أرسلها إليه وبيدها رداء لتقول له: " يقول أبي
أيعجبك هذا الرداء " معرضا بها فيأخذ الرجل بساقها فتغضب، فيقول: رفئوني
رفئوني، فلو أن أبرد الناس حمية، وأضعفهم نفسا قيل له: ابعث إلي بتصوير ابنتك
لأراها فأتزوجها لعد ذلك خدشا لكرامته، وطعنا في شرفه فكيف بفتى الفتيان، ثم
كيف يمد الشيخ إليها يده والعقد لم يجر بعد، والرواية لم تشر إليه من قريب أو بعيد!
وللشيخ المفيد في جواب المسائل السروية كلام حول الموضوع ننقل لك منه ما يتعلق
بالغرض قال: " إن الخبر الوارد بتزويج أمير المؤمنين عليه السلام ابنته من عمر لم
يثبت، وطريقه من الزبير بن بكار ولم يكن موثوقا به في النقل، وكان متهما فيما ذكره
من بغضه لأمير المؤمنين عليه السلام وغير مأمون، والحديث نفسه مختلف فتارة يروى
أن أمير المؤمنين تولى العقد له على ابنته، وتارة يروى عن العباس أنه تولى ذلك عنه،
وتارة يروى أنه لم يقع العقد إلا بعد وعيد من عمر وتهديد لبني هاشم، وتارة يروى أنه
عن اختيار وإيثار، ثم بعض الرواة يذكر أن عمر أولدها ولدا سماه زيدا، وبعضهم
يقول: إن لزيد بن عمر عقبا، ومنهم من يقول: قتل ولا عقب له، ومنهم من
يقول: إنه وأمه قتلا ومنهم من يقول إن أمه بقيت بعده، ومنهم من يقول: إن عمر
أمهر أم كلثوم أربعين ألف درهم، ومنهم من يقول: أمهرها أربعة آلاف درهم ومنهم
من يقول: كان مهرها خمسمائة درهم وهذا الاختلاف مما يبطل الحديث (انظر رسائل
المفيد ص 61 و ج 42 / 107 من بحار الأنوار).
272
أنه لو لم يجر ما ذكرناه لم يمتنع أن يزوجه عليه السلام، لأنه كان على ظاهر
الاسلام، والتمسك بشرائعه، وإظهار الاسلام يرجع إلى الشرع فيه،
وليس مما يحظره العقول.
وقد كان يجوز في العقول أن يبيحنا الله مناكحة المرتدين على
اختلاف ضروب ردتهم، وكان أيضا يجوز أن يبيحنا أن ننكح اليهود
والنصارى، كما أباحنا عند أكثر المسلمين أن ينكح فيهم، وهذا إذا كان في
العقول سابقا فالمرجع في تحليله أو تحريمه إلى الشريعة، وفعل أمير المؤمنين
عليه السلام حجة عندنا في الشرع، فلنا أن نجعل ما فعله أصلا في جواز
مناكحة من ذكروه، وليس لهم أن يلزموا به على ذلك مناكحة اليهود
والنصارى، وعباد الأوثان، لأنهم إن سألوا عن جوازه في العقل فهو
جائز، وإن سألوا عنه في الشرع فالاجماع يحظره، ويمنع منه.
فإذا قالوا: فما الفرق بين الوثني والكافر بدفع الإمامة؟
قلنا لهم: وما الفرق بين النصرانية والوثنية في جواز النكاح، وما
الفرق بين النصراني والوثني في أخذ الجزية وغيرها من الأحكام؟ فلا
يرجعون في ذلك إلا إلى الشرع الذي رجعنا معهم إليه.
وهذه جملة كافية في الكلام على ما أورده.
إلى هنا انتهى الجزء الثالث من كتاب " الشافي في الإمامة " للسيد
المرتضى بحسب هذه الطبعة ويليه - إن شاء الله تعالى - الجزء الرابع وأوله
" فصل في تتبع كلامه - أي قاضي القضاة - على من طعن في الاختيار ".

273
/ 1