شافي في الامامة (جزء 4) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

شافي في الامامة (جزء 4) - نسخه متنی

شریف مرتضی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: الشافي في الامامة
المؤلف: الشريف المرتضى
الجزء: 4
الوفاة: 436
المجموعة: من مصادر العقائد عند الشيعة الإمامية
تحقيق:
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: 1410
المطبعة: مؤسسة إسماعيليان - قم
الناشر: مؤسسة إسماعيليان - قم
ردمك:
ملاحظات:
الشافي
في الإمامة

1
الكتاب: الشافي في الإمامة
المؤلف: الشريف المرتضى قدس سره
الناشر: مؤسسة الصادق - طهران
الطبعة: الثانية
الطباعة والتجليد: مؤسسة إسماعيليان - قم
تاريخ النشر: 1410 ه‍. ق
عدد الطبع: 3000 نسخة
القطع: وزيري
سعر أربعة مجلدات: 500 تومان

2
الشافي
في الإمامة
للشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي قدس سره
المتوفى 436 ه‍
حققه وعلق عليه
السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب
راجعه السيد فاضل الميلاني
الجزء الرابع
مؤسسة الصادق
للطباعة والنشر
طهران - إيران

3
كافة الحقوق محفوظة ومسجلة
1407 ه‍ - 1987 م

4
فصل
في تتبع كلامه على من طعن في الاختيار (1)
قال الشريف المرتضى: إعلم أن كلامنا في وجوب النص، وأنه لا
بد منه ولا يقوم غيره في الإمامة مقامه تقدم، وذلك كاف في فساد
الاختيار، لأن كل شئ أوجب النص بعينه فهو مبطل للاختيار فلا معنى
لتكلف كلام مستقل (2) في إفساد الاختيار.
واعلم أن الذي نعتمده في إفساد اختيار الإمام هو بيان صفاته التي
لا دليل للمختارين عليها، ولا يمكن إصابتها بالنظر والاجتهاد، ويختص
علام الغيوب تعالى بالعلم بها كالعصمة والفضل في الثواب والعلم على
جميع الأمة، لأنه لا شبهة في أن هذه الصفات لا تستدرك بالاختيار، ولا
يوقف عليها إلا بالنص، وهذا مما تقدم شرحه وبيانه في هذا الكتاب،
وبينا أيضا أنه لا يمكن أن يقال بصحة الاختيار مع اعتبار هذه الصفات
بأن يعلم الله تعالى أن المكلفين لا يتفق منهم إلا اختيار من هذه صفاته،
وقلنا: إن ذلك تكليف قبيح من حيث كان مكلفا لما لا دلالة عليه، ولا
إمارة تميز الواجب من غيره. وبينا أنه يلزم على ذلك جواز تكليفنا اختيار



(1) انظر المغني ج 20 ق 1 / 297 - 320.
(2) في الأصل " مستقبل " والتصحيح من ض وع.
5
الأنبياء والشرائع بأن يعلم الله تعالى أن المختارين لا يتفق منهم إلا اختيار
النبي دون غيره، ومن الشرائع المصلحة دون غيرها، وكيف يكون
الاختيار كاشفا لنا عن وجوب الفعل، وإنما يجب أن نختاره إذا علمنا
وجوبه، فالاختيار تابع، فكيف نجعله متبوعا، وكيف يتميز (1) الواجب
من غيره، والقبيح من الحسن بعد الفعل فإنما يجب أن يتميزا قبل الفعل
ليكون الإقدام على ما يعلم حسنه، ويؤمن قبحه، ولا معنى للإكثار في
هذا الباب. فالشبهة فيه ضعيفة.
ولما تتبعنا ما أورده صاحب الكتاب في هذا الفصل وجدناه قد جمع
فيه وحشد (2) القوي والضعيف، والبعيد والقريب، وما أورده أصحابنا
على سبيل التحقيق وعلى سبيل التقريب،
وقد بينا ما نعتمده في هذا الباب، ونصرناه فيما تقدم من الكتاب
بأدلته، وأوردنا الجواب عما يرد عليه، وما عدا ذلك فهو غير معتمد، ولا
دال لما ذكره صاحب الكتاب وغيره، ومن أورد من أصحابنا فإنما قرب
بإيراده، ولم يرد التحقيق، وليس ذلك بعيب، فإنه لم يعر (3) المصنفون
من الجمع بين المقرب والمحقق، وصاحب الكتاب يعلم أنه لما تتبع هو
أدلة الموحدين على التوحيد في بعض كتبه لم يصحح منها إلا دليلين أو
ثلاثة، وطعن على الباقي وزيفه، فإن كان على أصحابنا عيب بأن ذكروا
في فساد الاختيار شيئا لا يلزم عند التحقيق والتفتيش فهذا العيب لازم
لخصومهم فيما هو أعظم من باب الاختيار وأفحم، (4) وهذه الجملة



(1) ع " يميز ".
(2) حشد: أي جمع.
(3) المراد لم يخل.
(4) في ض وع " بالخاء المعجمة " ومعناه بالمهملة إسكات الخصم، وبالمعجمة
من الفخامة أي العظمة.
6
تغني عن غيرها وجميع ما أورده في هذا الفصل على طوله (1)، ومما يمكن أن
يعتمد في فساد الاختيار خارجا عن الجملة التي عقدناها، أن يقال: إن
العاقدين للإمامة يجوز أن يختلفوا فيرى بعضهم أن الحال يقتضي أن يعقد
فيها للفاضل، ويرى آخرون أنها تقتضي العقد للمفضول، وهذا مما لا
يمكن دفع جوازه، لأن الاجتهاد يجوز أن يقع فيه الاختلاف بحسب
الإمارات التي تظهر للمجتهدين فلن يخلو من حالهم إذا قدرنا هذا
الاختلاف من أمور، إما أن يقال: أن يقفوا عن العقد حتى يتناظروا
ويتفقوا على كلمة واحدة، وهذا يؤدي إلى إهمال الأمر في الإمامة لأنه غير
ممتنع أن يمتد الزمان باختلافهم. بل جائز أن يبقوا مختلفين أبدا، أو
يقال: يجب أن يعقد كل فريق لمن يراه، وهذا يؤدي إلى إمامين مع
العلم بفساده، أو يقال: يجب المصير إلى قول من يرى العقد للفاضل
لأنه أولى، ويحرم على الباقين المخالفة. وهذا فاسد لأنه إلزام للمجتهد أن
يترك اجتهاده إلى اجتهاد من يجري مجراه، فكيف يكون العقد للفاضل
أولى على كل حال، وبعض من لا يتم العقد إلا به يرى أنه ولايته مفسدة
وولاية غيره مصلحة، وإنما فرضنا أن يكون هذا الاختلاف بين العدد
الذي لا يتم عند مخالفينا عقد الإمامة إلا به حتى لا يقولوا: متى عقد
واحد لغيره برضى أربعة فهو إمام [سواء] (2) كان فاضلا أو مفضولا ولا
يلتفت إلى من يعتقد من باقي الأمة أن العقد لغيره أولى لأنا إذا فرضنا
الاختلاف بين هذا العدد المخصوص لم يستقم هذا الانفصال، وليس
لأحد أن يقول: إن وقوف أمر الإمامة عند هذا الأمر المقدر إنما أتوا فيه
من قبل أنفسهم كما يقولون إذا قيل لهم: إن الاختيار إذا كان لأهل الحق



(1) أي إن هذه الجملة تغني في رد كلامه في صحة الاختيار على طوله
(2) ما بين المعقوفين من ا وع.
7
وكان كل فريق من فرق الأمة يدعي هذه الصفات فالاختيار لا يتم، ولا
بد من التجاذب فيه. والتغالب والاختلاف، ووقوف عقد الإمامة لأنهم
إذا قالوا على هذا الوجه: إنهم إنما يؤتون من قبل نفوسهم في فوت الإمامة
دون مكلفهم كان هذا القول صحيحا، لأن على الحق دليلا يمكن المبطل
إصابته، والمصير إلى موجبه، وبتقصيره يضل عنه، وليس هذا فيما تقدم
لأنه ليس على الأولى من الفاضل والمفضول دليل قاطع يصل إليه الناظر،
ويضل عنه المقصر بالتفريط، وإنما يرجع في ذلك إلى الإمارات وجهات
الظنون، وقد يلتبس ويخفى ويظهر ولا لوم في هذا الموضع على أحد
المجتهدين، ولا تقصير ينسب إليه ولا تفريط، فكيف يسوى بين
الأمرين؟

8
فصل
في اعتراض كلامه:
في أن أبا بكر يصلح للإمامة (1)
اعتمد في ذلك على أن الإجماع إذا ثبت في إمامته ثبت أنه يصلح لها
لأنه لو لم يصلح لما أجمعوا على إمامته، وادعى أن الصفات المراعاة في الإمامة
مجتمعة فيه من علم وفضل ورأي ونسب وغير ذلك، ثم أجاب عن سؤال
من سأله عن سر الدلالة على إيمانه وخروجه عن الكفر المتيقن منه بأن قال
كما نعلم أنه كان كافرا من قبل بالتواتر نعلم انتقاله إلى الإيمان،
والتصديق بالرسول صلى الله عليه وآله ولا يجوز أن يكون باقيا على
حالته، بل اليقين قد حصل بانتقاله.
قال: " على أنا نعلم ضرورة أنه كان على دين الرسول صلى الله
عليه وآله بما نقل من الأخبار، وذلك يمنع من التجويز والشك، وقد بينا
أنه لا يمتنع في الاعتقادات أن تعلم ضرورة، فلا يجوز أن يقال: إذا كان
ذلك باطنا (2) فكيف يدعي الاضطرار فيه وعلى هذا الوجه يدعي في كثير
من الأمور إنا نعلم ضرورة من دين الرسول صلى الله عليه وآله، وبعد فإنا



(1) أنظر المغني 20 ق 1 / 322.
(2) غ " باطلا ".
9
نعلم أن النبي صلى الله عليه وآله كان يعظمه ويمدحه على الحد
الذي يعلم ذلك في أمير المؤمنين عليه السلام وغيره وذلك يمنع من كونه
كافرا، وما ثبت عنه صلى الله عليه وآله من تسميته صديقا يدل على
ذلك، وما روي من الفضائل المشهورة في بابه يدل على بطلان هذا
القول،... " (1)
يقال له: آكد ما دل على أن أبا بكر لا يصلح للإمامة ما ثبت من
وجوب عصمة الإمام وأن السهو والغلط لا يجوزان عليه في شئ من
الأشياء، وعلمنا بأن أبا بكر لم يكن بهذه الصفة، وما ثبت أيضا من أن
الإمام لا بد أن يكون عالما بجميع أحكام الدين، دقيقه وجليله، وأن
يكون أكمل علما من جميع الأمة به، وقد علمنا بلا شبهة أن أبا بكر لم
يكن كذلك، وما ثبت أيضا من وجوب كون الإمام أفضل عند الله من
جميع الأمة يدل على أنه لا يصلح لها، لأنا قد علمنا بالأدلة الظاهرة أن
غيره أفضل منه عند الله تعالى.
فأما ما اعتمده في ذلك من دعوى الإجماع على إمامته فقد سلف من
الكلام على بطلان هذه الدعوى ما فيه كفاية وبينا إن الإجماع لم يثبت قط
على إمامته.
فأما ادعاؤه أن الخلال المراعاة في الإمامة مجتمعة فيه فهذا منه أيضا
بناء على أصله الفاسد الذي قد دللنا على بطلانه، لأنه لا يراعي في الإمام
العصمة ولا كمال العلم، ولا كونه أفضل عند الله تعالى، وقد دللنا على
أن ذلك معتبر وفقده مؤثر فيما تقدم من الكتاب فبطل قوله " إن الخلال
المراعاة مجتمعة فيه ".



(1) المغني 20 ق 1 / 322.
10
فأما ادعاؤه اليقين والضرورة بإيمانه وانتقاله عن الكفر فليس يخلو
من أن يدعي الضرورة في انتقاله إلى إظهار الإيمان والتصديق وأن يدعي
الضرورة في إبطانه لذلك واعتقاده له وانطوائه عليه والأول لا خلاف فيه
ولا ينفعه فيما قصد له والثاني ادعاؤه يجري مجرى المكابرة فإن البواطن لا
يعلمها إلا علام الغيوب تعالى، ولو كان ذلك معلوما ضرورة بالإخبار على
ما ادعى لوجب أن نشركه نحن وسائر العقلاء في هذا العلم لمشاركتنا في
الطريق إليه
وقوله: " إن في الاعتقادات ما يعلم ضرورة فلا يمتنع أن يكون
هذا منها " يبطله ما بيناه من أن ذلك يوجب أن نشاركه في العلم، على أنا
لو سلمنا أن اعتقاده لدين الرسول صلى الله عليه وآله وتصديقه في جميع
شريعته كان معلوما منه ضرورة. من أين أنه كان إيمانا وعلما؟ وليس
يمكنه أن يدعي الاضطرار في العلم كما ادعاه في الاعتقاد لأنه معلوم أن
أحدا لا يضطر إلى كون غيره عالما وإن جاز أن يضطر إلى كونه معتقدا.
فأما قوله: " إن النبي صلى الله عليه وآله كان يعظمه ويمدحه
على الحد الذي يعلم ذلك في أمير المؤمنين عليه السلام " فأول ما فيه. أن
ذلك غير معلوم، ولا وارد من طريق يوجب اليقين، ويرفع الريب، وما
نجد في ذلك إلا أخبار آحاد مظنونة (1) مقدوحا في ورودها بضروب القدح
يرويها بعض الأئمة ويدفعها بعض آخر، ويقسم (2) على بطلانها، ثم هي
مع ذلك متأوله مخرجة عن وجوه تمنع من الغرض المقصود بها.
ثم يقال له: ما في مدحه وتعظيمه لو ثبت مما يدل على صلاحه



(1) مبعوثة خ ل.
(2) ض " ويقيم ".
11
للإمامة إذ كل معظم ممدوح لا يصلح لها، وهذا مما لا تقوله أنت ولا أحد
من أصحابك.
فإن قال: إنما نفيت بتعظيمه ومدحه من كونه كافرا ليثبت إيمانه ولم
اقتصر في صلاحه للإمامة على تعظيمه ومدحه.
قيل له: إنما يمنع تعظيمه ومدحه من كونه يظهر الكفر ولا يمنع من
كون مبطنا له إذا كان لا يعلم باطنه، فمن أين لك أن المدح والتعظيم
يدلا على الإيمان الباطن.
فإن قال: يقنعني (1) في صلاحه للإمامة أن يكون مظهرا للإيمان
ولست أحتاج إلى العلم بباطنه.
قيل له: وقد بينا أن ذلك غير مقنع، وإذا كان إظهار الإيمان
يقنعك فمن الذي يخالف فيه حتى أحوجك إلى الاستدلال عليه، وإذا
كنت تقنع بالظاهر فما الحاجة بك إلى ذكر الاعتقادات؟ وإنها قد تعلم
ضرورة.
فإن قال: كيف تسلمون أن النبي صلى الله عليه وآله كان يعظمه
على الظاهر وعندكم أنه عليه السلام كان يعلم أنه سيدفع النص وذلك
عندكم كفر وردة، والكفر والردة الذي يوافى به صاحبه على مذاهبكم لا
يجوز أن يتقدمه إيمان، فكيف يجوز على هذا أن يعظمه النبي صلى الله
عليه وآله وهو يعلم من باطنه ما يقتضي خلاف التعظيم؟
قيل له: ليس يمتنع أن يكون النبي صلى الله عليه وآله غير عالم بأنه
سيدفع النص لأن هذا لا طريق إليه إلا بإعلام الله تعالى وفي الجائز أن لا
يعلمه ذلك.



(1) في آ وع " يقتضي " وفي نسخة أخرى " يقضي ".
12
فإن قيل: هذا وإن كان جائزا فالظاهر من مذهب الشيعة خلافه
لأنهم يذهبون إلى أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يعلم ذلك. وأن النبي
صلى الله عليه وآله أشعره به.
قلنا: ليس يمتنع أن يكون عالما في الجملة دون التفصيل بأنه سيغدر
به، ويدفع النص وأنذر بذلك على هذا الوجه من الاجمال، وما عدا هذا
من التفضيل فليس (1) ينقطع العذر به على أنه لو سلم أنه عليه السلام
كان عالما على التحديد والتعيين لجاز أن يكون تعظيمه للرجل متقدما لهذا
العلم ولما علم منه هذه الحال لم يكن منه تعظيم ولا مدح، وليس معنا في
العلم تاريخ ولا في المدح والتعظيم، والتجويز في هذا كاف.
وبعد، فليس يكفي في نفي تقدم الإيمان العلم بوقوع كفر في
المستقبل دون أن يعلم أنه يوافى به، وليس يمنع أن يعلم النبي صلى الله
عليه وآله بحال الدافعين للنص ولا يعلم بعاقبتهم، وما يموتون عليه،
ومتى جوز أن يتوبوا، ولو قبل الوفاة بلحظة لم يكن قاطعا على نفي الإيمان
منهم فيما تقدم بل لا بد مع التجويز لأن يتوبوا من التجويز لأن يكون
الإيمان الظاهر منهم صحيحا في الباطن،
وبعد، فليس جميع أصحابنا القائلين بالنص يذهبون إلى الموافاة
وإلى أن من مات على كفره لا يجوز أن يتقدم منه الإيمان ومن لا يذهب إلى
ذلك لا يحتاج أن يتكلف ما ذكرناه.
فأما ادعاؤه أنه كان عليه السلام كان يسميه صديقا فدون صحة
ذلك خرط القتاد، وليس يقدر أحد على أن يروي عنه عليه السلام في
ذلك خبرا معروفا. وإنما معولهم على المشهور والظاهر، وليس في ذلك
دلالة على الصحة لأنه قد يتقرب إلى ولاة الأمور، وملاك الحمل والعقد من



(1) المصدر السابق.
13
الألقاب والسمات والصفات وغير ذلك ما يبلغ من الشهرة أقصاها،
وينتهي إلى أن يغلب على الأسماء والكنى ولا يقع التعريف إلا به، ومع
ذلك فلا يكون صادرا عن حجة ولا مبنيا على صحة.
ولو قيل لمدعي ذلك أشر إلى الحال التي لقبه النبي صلى الله عليه
وآله فيها بالصديق، والمقام الذي قام بذلك فيه لعجز عن إيراد شئ
مقنع.
قال صاحب الكتاب: " وقال الشيخ أبو حذيفة واصل بن عطاء:
الذي يدل على بطلان طريقهم في سوء الثناء على المهاجرين والأنصار
ورميهم إياهم بشرك ونفاق ما خلا طائفة يسيرة قوله تعالى: (لقد رضي
الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل
السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا) (1) وقد علم من بايع تحت الشجرة
فكذلك قوله: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم
يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك وهم
الصادقون والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم
ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان
بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) (2) وقال تعالى:
(لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار والذين اتبعوه في ساعة
العسرة) (3) وقال: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما
استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفى الله عنهم) (4) فلو كانوا كفارا



(1) الفتح 18.
(2) الحشر 8 و 9.
(3) التوبة 117.
(4) آل عمران 115.
14
ما صح ذلك، وقال تعالى: (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر
لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالإيمان) (1) وذكر جل جلاله أنه أذهب
الرجس عن أزواج النبي صلى الله عليه وآله فلا يصح مع ذلك كفرهن، *
وكيف يصح أن يكن كافرات وبنات كفار وقد تزوج بهن النبي صلى الله عليه
وآله * (2) ومن دينه أنه لا يجوز التزويج ببنات الكفار وإذا لم يكونوا أهل
ذمة، ولو جاز أن يتزوج ببناتهم وهم كفار لجاز أن يزوج بناته الكفار،
وذلك بخلاف الدين ".
قال: " وقد ثبت من مناقبه أنه سبق إلى الاسلام، وبايع الرسول
صلى الله عليه وآله وواساه بنفسه وماله، ثم كان ثاني اثنين في الغار،
وصاحبه في الهجرة وأنيسه في العريش يوم بدر، ووزيره والمستشار في
أموره، وأميره على الموسم (3) في الحج وحين افتتحت مكة والمقدم في
الصلاة أيام مرضه، والمخصوص بتسميته الصديق والمشبه من الملائكة
بميكائيل، ومن الأنبياء بإبراهيم عليهم السلام ثم هو وعمر بشرا بأنهما
سيدا كهول أهل الجنة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله: (هما مني
بمنزلة يميني من شمالي) وكل ذلك يبطل نسبتهما إلى الكفر والنفاق
والردة ".
قال: " وقد بينا ما ورد في الأخبار من تعظيم أمير المؤمنين عليه
السلام له والجماعة (4) وأن النبي صلى الله عليه وآله بشره وغيره بالجنة
بألفاظ مختلفة، ووصفه بأنه خليله وأخوه، إلى غير ذلك مما يمنع أن يكون



(1) الحشر 10.
(2) ما بين النجمتين ساقط من " المغني ".
(3) غ " على الصلاة ".
(4) غ " له وللجماعة ما يغني عن إعادة ذكره ".
15
كافرا ويوجب (1) له الفضل العظيم، على أنه قد ثبت أن الناس بعد النبي
اختلفوا في تقديمه وتقديم أمير المؤمنين عليه السلام، وذلك لا يصح إلا
مع ثبوت فضله.
قال: " بعد ولو عدلنا (2) عن كل ذلك وجدنا ما ظهر من أحوال
أبي بكر دلالة على ظاهر الفضل العظيم، والعلم بالرأي وقد بينا أنه لا
يجب في الإمام أن يكون معصوما فكيف يصح أن يدعي أنه كان لا يصح
للإمامة، وقد بينا أن الوجوه التي قلنا لها في معاوية وغيره أنهم لا
يصلحون للإمامة لا يتأتى فيه (3) وبينا ما روي مما يدل على أنه يصلح
لذلك نحو قوله: (إن وليتم أبا بكر) ونحوه من الأخبار التي يتضمن بشارته
بالخلافة نصا أو تنبيها وذلك يعني عن إعادته " وحكي عن أبي علي " أن
قول من يقول كان كافرا فجوزوا بقاءه على ما كان عليه بمنزلة قول من
يقول كان بمكة مقيما (4) فجوزوا بقاءه على ما كان عليه لأنا كما نعلم أنه
انتقل إلى المدينة نعلم انتقاله إلى الاسلام [والدين] (5) وقد ثبت أن الله
تعالى كان يحذر نبيه المنافقين، ويمنعه من صحبتهم والاختصاص بهم،
وصح أنه كان يختص أبا بكر بأعظم المنازل في سفره وحضره واختاره
صاحبا له ومعينا ومشيرا ولا فرق بين ما قالوا في أبي بكر وعمر وبين من
ادعى من الخوارج عليهم اللعنة أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن مؤمنا



(1) غ " بل يوجب ".
(2) " قال وبعد " ساقطة من ض.
(3) غ " وكشفنا الحال فيه ".
(4) " مقيما " كانت في المغني " مغنما " فجعل المصحح مكانها " مغنم " ظنا منه
أنها اسم كان ولم يفطن للمعنى، وكم له من أمثالها.
(5) الزيادة من " المغني ".
16
بيقين، فيجب أن يكون على ما كان عليه لأن فيهم طبقة مختلفة، وهم
الحازمية، والعجردية (1) يقولون فيه عليه السلام أنه ما اعتقد الاسلام
والإيمان قط فإذا قالوا لو كان كذلك لما زوجه بنته عليه السلام فللمخالف
أن يقول لهم ولو كان حال أبي بكر وعمر ما ذكرتم لما خطب إليهما وكان لا
يزوج عثمان بابنتيه جميعا،... " (2).
يقال له: قد جمعت في هذا الفصل بين أشياء كثيرة مختلفة
واستقصاء كل فصل منها وإيراد جميع ما يجب أن يورد فيه يطول، لكنا
نتكلم على ذلك بأخصر ما يمكن مع الاستيفاء لشرائط الحجة.
أما قوله تعالى: (لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت
الشجرة) فأول ما فيه أنا لا نذهب أن الألف واللام للاستغراق لكل من
يصلحان له، بل الظاهر عندنا مشترك متردد بين العموم والخصوص،
وإنما يحمل على أحدهما بدلالة غير الظاهر.
وقد دللنا على ذلك في مواضع كثيرة، وخاصة في كلامنا المنفرد
للوعيد من جملة جواب مسائل أهل الموصل (3) وإذا لم يكن الظاهر يستغرق
جميع المبايعين تحت الشجرة فلا حجة لهم في الآية.
على أنا لو سلمنا ما يقترحونه من استغراق الألف واللام لم يكن في
الآية أيضا دلالة على ما ادعوه لأن الله تعالى علق الرضى في الآية بالمؤمنين
ثم قال: " إذ يبايعونك تحت الشجرة " فجعل البيعة حالا للمؤمنين أو تعليلا
لوجه الرضى عنهم وأي الأمرين كان فلا بد فيمن وقع الرضى عنه عن
أمرين:



(1) الحازمية كانت في المغني " الحار " وقال المصحح: كذا بالأصل و
" العجردية " " العمرون " ولم يكلف المحقق نفسه الفحص عن معناهما.
(2) ما نقله المرتضى من أول هذا الفصل إلى هنا يبدأ في المغني من 222 -
224.
(3) الحشر 8.
17
أحدهما: أن يكون مؤمنا والآخر أن يكون مبايعا، ونحن نقطع
على أن الرضا متعلق بمن جمع الأمرين فمن أين أن كل من بايع تحت
الشجرة كان جامعا لهما فإن الظاهر لا يفيد ذلك على أنه تعالى قد وصف
من رضي عنه ممن بايع تحت الشجرة بأوصاف قد علمنا أنها لم تحصل
لجميع المبايعين فيجب أن يختص الرضا بمن اختص بتلك الأوصاف لأنه
تعالى قال: (فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا
قريبا) ولا خلاف بين أهل النقل في أن الفتح الذي كان بعد بيعة
الرضوان بلا فصل هو فتح خيبر، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله بعث
أبا بكر وعمر فرجع كل واحد منهما منهزما ناكصا على عقبيه فغضب النبي
صلى الله عليه وآله وقال. (لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله تعالى ورسوله
ويحبه الله ورسوله كرارا غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله عليه) فدعا
أمير المؤمنين عليه السلام وكان أرمد فتفل في عينه فزال ما كان يتشكاه
وأعطاه الراية فمضى متوجها وكان الفتح على يديه، فيجب أن يكون هو
المخصوص بحكم الآية ومن كان معه في ذلك الفتح من أهل البيعة تحت
الشجرة لتكامل الشرائط فيهم. ويجب أن يخرج عنها من لم يجتمع له
الشرائط، وليس لأحد أن يقول: إن الفتح كان لجميع المسلمين، وإن
تولاه بعضهم. وجرى على يديه فيجب أن يكون جميع أهل بيعة الرضوان
ممن رزق الفتح وأثيب به، وهذا يقتضي شمول الرضا للجميع وذلك
لأن هذا عدول عن الظاهر لأن من تولي الشئ نفسه هو الذي يضاف
إليه على سبيل الحقيقة، ويقال إنه أثيب به، ورزق إياه، وإن جاز أن
يوصف بذلك غيره ممن يلحقه حكمه على سبيل التجوز لجاز أن يوصف
من كان بخراسان من المسلمين بأنه هازم جنود الروم. ووالج حصونهم
وإن وصفنا بذلك من يتولاه، ويجري على يديه.
فأما قوله: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم

18
وأموالهم) فأول ما فيه أن أبا بكر يجب أن يخرج عن هذه الآية على أصول
مخالفينا لأنهم على أصولهم كان غنيا مؤسرا كثير المال، واسع الحال،
وليس لهم أن يتأولوا الفقراء هاهنا على أن المراد به الفقر إلى الله دون ما
يرجع إلى الأموال، لأن الظاهر من لفظ الغني والفقير ينبئ عن معنى
الأموال دون غيرها. وإنما يحملان على ذلك بدليل يقتضي العدول عن
الظاهر، وما قلناه في الآية الأولى من أن الألف واللام لا يقتضيان
الاستغراق على كل حال يطعن أيضا على معتقدهم في هذه الآية، وبعد فإن
سياق الآية يخرج ظاهرها عن أيديهم ويوجب الرجوع عليهم إلى غيرها
لأن الله تعالى قال: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم
وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم
الصادقون) (1) فوصف بالصدق من تكاملت له الشرائط ومنها ما هو
مشاهد كالهجرة والإخراج من الديار والأموال ومنها ما هو باطن لا يعلمه
إلا الله تعالى وهو ابتغاء الفضل والرضوان من الله ونصرة الرسول، والله
تعالى لأن المعتبر في ذلك ليس بما يظهر بل بالبواطن والنيات فيجب على
الخصوم أن يثبتوا اجتماع هذه الصفات في كل واحد من الذين هاجروا
وأخرجوا من ديارهم وأموالهم، ولا بد في ذلك من الرجوع إلى غير
الآية.
فأما قوله تعالى: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار
الذين اتبعوه في ساعة العسرة) فالكلام فيه يجري مجرى ما تقدم لأن
الظاهر لا يقتضي العموم.
ثم الظاهر من الكلام يقتضي أنهم تابوا فتاب الله عليهم، وقبل



(1) الحشر 8.
19
توبتهم ولا بد أن تكون توبتهم مشترطة لأن الله تعالى لا يقبل توبة من لم
يتب فيجب عليهم أن يدلوا على وقوع توبة من الجماعة حتى يدخلوا تحت
الظاهر.
فأما قوله تعالى: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما
استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفى الله عنهم) (1) فلنا أن ننازع
في اقتضاء ظاهر العموم على ما تقدم وإذا سلمنا ذلك جاز أن يحمل على
العفو عن العقاب المعجل في الدنيا دون المستحق في الآخرة، فقد روى
هذا المعنى بعينه وقد يجوز أن يعفو الله تعالى عن الجماعة عن عقاب هذا
الذنب خاصة بأن يكون سبق من حكمه ووعده أن يعفو عنه، وإن كان
منهم من يستحق عقابا على ذنوب أخر لم يعف عنها. فإن العقل لا يمنع
من العفو عن بعض العقاب دون بعض كما لا يمنع من العفو عن الجميع
والسمع أيضا لا يمنع من ذلك إلا في أقوام مخصوصين.
فأما قوله تعالى: (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا
ولاخواننا الذين سبقونا بالإيمان) (2) فلا حجة فيه لأنه علق المغفرة بالسبق
إلى الإيمان وهذا شرط يحتاج إلى دليل في إثباته للجماعة، ومع هذا فهو
سؤال وليس كل سؤال يقتضي الإجابة.
فأما ادعاؤه أنه أذهب الرجس عن أزواج النبي صلى الله عليه وآله
فلا أدري أي مدخل لذكر الأزواج في هذا الباب المخصوص بالكلام في
أن أبا بكر هل يصلح للإمامة (3) على أنا قد بينا فيما تقدم من هذا الكتاب



(1) آل عمران 155.
(2) الحشر 10.
(3) لا يصلح للإمامة، خ ل.
20
أن الآية التي ظن أنها تتناول الأزواج لا تتناولهن، وأنها تختص
أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام واستقصينا ذلك بما لا
طائل في إعادته.
فأما قوله: " كيف تزوج بهن وهن كافرات ".
فالجواب عن ذلك قد تقدم معناه عند كلامنا في تعظيمه عليه
السلام لهم مع علمه بأنهم سيدفعون النص وجملة الأمر في ذلك أن
الرسول صلى الله عليه وآله إذا كان قد اطلع على ما سيكون من حرب
زوجته لأخيه وابن عمه فلا يمتنع أن يكون ما اطلع على عاقبتها وكان مجوزا
لأن تموت على الاصرار أو التوبة ومع هذا التجويز لا نقطع على كفرها في
الحال مع إظهار الاسلام، فإذا قيل: إنه عليه السلام كان يعلم العاقبة لم
نمنع أن يكون نكاحه لهن لأجل ما يظهرن من الإيمان والاسلام جايزا وإن
لم يجز نكاح كل كافرة ولا إنكاح الكفار، وما طريقه الشرع والعقل يجوز
فيه الأمور المختلفة فلا دليل فيه أوضح من فعله صلى الله عليه وآله
وسلم.
فأما قوله: " إن من مناقبه أنه سبق إلى الاسلام " فباطل لأنه لا
شبهة في أمير المؤمنين عليه السلام هو السابق إلى اتباع النبي صلى الله
عليه وآله والإيمان به، والأمر في ذلك بين أهل النقل متعارف، وإنما
ادعى قوم من أهل النصب والعناد أن إسلامه وإن كان سابقا فإنما كان على
سبيل التلقين دون المعرفة واليقين لصغر سنة عليه السلام، وفضلوا لأجل
ذلك إيمان أبي بكر وإن كان متأخرا.
وقد أجابت الشيعة عن هذه الشبهة وبينوا أن الأمر في سنه عليه
السلام كان بخلاف ما ظنه الأعداء، وأنه كان في تلك الحال ممن يتناوله
التكليف، ويصح منه المعارف، وبينوا ذلك بالرجوع إلى تاريخ وفاته

21
ومبلغ سنه عندنا (1) وأن اعتبار ذلك يشهد بأن سنه لم تكن في ابتداء
الدعوة صغيرة بحيث لا يصح معها المعرفة، وأوضحوا ذلك بتمدحه عليه
السلام في مقام بعد مقام. ومقال بعد مقال، وافتخاره بأنه أسبق الناس
إسلاما. وإيراده ذلك بألفاظ مختلفة كقوله عليه السلام: (اللهم إني لا
أعرف عبدا عبدك من هذه الأمة قبلي غير نبيها صلى الله عليه وآله
وسلم)، وقوله عليه السلام: (أنا أول من صلى) (2) وقوله لما شاجره
عثمان وقال له أبو بكر وعمر خير منك فقال: (أنا خير منك ومنهما عبدت
الله قبلهما وعبدته بعدهما) (3) وقول النبي صلى الله عليه وآله فاطمة
زوجتك: (أقدمهم سلما (4) وأوسعهم علما) (5) إلى غير هذا مما يدل على
إيمانه، وأنه إيمان العارفين، ولولا ذلك لا تمدح به ولا افتخر ولا
افتخر له.
فإن قال: فهبوا أن أبا بكر لم يسبق الناس كلهم إلى الاسلام أليس
كان من السابقين إليه؟ وهذا يدل على صلاحه للإمامة وعلى أنه لم يكن
كافرا منافقا.
قيل له: ليس كل من سبق إلى إظهار الاسلام أو كان أسبق الناس



(1) عندها، خ ل.
(2) ورد ذلك عنه عليه السلام في غير واحد من الصحاح والمسانيد وبحسبك أن
تنظر صحيح الترمذي 2 / 301 وخصائص النسائي ص 2 ومستدرك الحاكم 3 /
112 ومسند أحمد 1 / 99 الخ.
(3) انظر الحكمة 68 من الحكم المنثورة في آخر شرح نهج البلاغة لابن أبي
الحديد.
(4) ع " إسلاما ".
(5) أخرجه جماعة من الحفاظ وأرباب المسانيد كالإمام أحمد في المسند 5 / 26
من طريق معقل بن يسار، وابن الأثير في أسد الغابة 5 / 520، والمتقي في كنز
العمال 5 / 153 و 397 وقال: أخرجه الخطيب في المتفق والمفترق عن بريدة،
والمحب في الرياض النضرة 2 / 182 وغيرهم.
22
إليه يصلح للإمامة لأنا قد بينا أن للإمامة شرائط تزيد على الاسلام
والإيمان.
فأما نفي الكفر فإن أريد به نفي إظهاره وإعلانه في تلك الحال فلا
شبهة في ذلك، وإن أريد به نفي إبطانه فليس في السبق إلى إظهار الاسلام
نفي لذلك.
فأما ادعاؤه أنه واساه بماله ونفسه فالمواساة بالنفس إنما تكون بأن
يبذل في نصرته والمدافعة عنه، ومكافحة الأعداء وذبهم عن وجهه،
ومعلوم بلا شبهة حال أبي بكر.
فأما المواساة بالمال فما يحصل مع المخالفين فيها إلا على دعوى مجردة
متى طالبناهم بتفصيلها وذكر الوجوه التي كان إنفاقه فيها ألطوا (1) وحاجزوا
ولم يحصل منهم على شئ مقنع. ولو كان إنفاق أبي بكر صحيحا لوجب
أن تكون وجوهه معروفة كما كانت نفقة عثمان في تجهيز جيش العسرة
وغيره معروفة لا يقدر على إنكارها منكر، ولا يرتاب في جهاتها مرتاب،
وكما كانت جهات نفقات أمير المؤمنين عليه السلام معروفة ينقلها الموافق
والمخالف فمن ذلك أنه عليه السلام كان يقوم بما يحتاج النبي صلى الله
عليه وآله مدة مقامه بالشعب إليه ويتمحله.
وقد روي أنه آجر نفسه من يهودي صرف أجره إلى بعض ما كان
يحتاج إليه النبي صلى الله عليه وآله، وإنفاق أمير المؤمنين عليه السلام مع
الاقتار والإقلال أفضل وأرفع من إنفاق أبي بكر لو ثبت مع الغنى
والسعة ومن ذلك تقديمه الصدقة بين يدي النجوى ونزول القرآن بذلك



(1) ألطوا بها: مجدوها.
23
بلا خلاف بين أهل العلم (1) وأنه عليه السلام كان يطعم المسكين واليتيم
والأسير وحتى نزلت في ذلك سورة هل أتى على الإنسان (2) وفيه نزل وفي
معنى نفقته ورد قوله: (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية
فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) (3) ولما تصدق
بخاتمه وهو راكع نزل فيه قوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله والذين
آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (4) وهذه
جهات لا تدفع ولا تجهل فأين نفقات أبي بكر والشاهد عليها إن كانت
صحيحة. على أن الذي ادعى من إنفاق أبي بكر لا يخلو من أن يكون
وقع بمكة قبل الهجرة لو كان صحيحا، أو بالمدينة، فإن كان بمكة فمعلوم
أن النبي صلى الله عليه وآله لم يجهز هناك جيشا ولا بعث بعثا ولا حارب
عدوا وإنما يحتاج مثله عليه السلام إلى النفقة الواسعة في تجهيز الجيوش
وإعداد الكراع (5) لأنه كان ممن لا يتفكه ولا يتنعم بإنفاق الأموال على أنه
عليه السلام كان بمكة في كفاية واسعة من مال خديجة رضي الله عنها وقد
كانت باقية عنده إلى سنة الهجرة وسعة حالها معروفة. ولما كان فيه من
الكفاية والاتساع ضم أمير المؤمنين عليه السلام إلى نفسه وكفله واقتطعه
عن أبيه تخفيفا عنه، وهذا لا يفعله المحتاج إلى نفقة أبي بكر، وإن كانت
النفقة بعد الهجرة فمعلوم أن أبا بكر ورد المدينة فقيرا بلا مال، ولهذا
احتاج إلى مواساة الأنصار.
وقد روى الناس كلهم أن النبي صلى الله عليه وآله كان في ضيافة



(1) انظر تفسير الرازي 29 / 271 و 272.
(2) انظر الكشاف 4 / 97 وأسد الغابة 5 / 530 في ترجمة فضة.
(3) تفسير الرازي 12 / 26.
(4) المائدة 55.
(5) الكراع: اسم لجمع الخيل.
24
الأنصار يتداولون ضيافته، ولم يرو أحد أن أبا بكر أضافه، وقام بمؤنته
بالمدينة وقد كان صلى الله عليه وآله يبقى اليومين والثلاثة لا يطعم
شيئا وربما شد الحجر (1) ووجوه الانفاق في المدينة معروفة لأنها الجهاد
وتجهيز الجيوش وليس يمكن أحد أن يبين له إنفاق في شئ من ذلك.
وقد بين أصحابنا في الكلام على نفقة أبي بكر وادعائها تارة أنه كان
مملقا غير موسر ودلوا على ذلك من حاله بأشياء:
منها، أنه كان يعلم الناس ويأخذ الأجر على تعليمه، وليس هذا
صنيع الموسرين.
ومنها، أنه كان يخيط الثياب ويبيعها.
ومنها، أن أباه كان معروفا بالمسكنة والفقر وأنه كان ينادي في كل
يوم على مائدة عبد الله بن جدعان بأجر طفيف، فلو كان أبو بكر غنيا
لكفى أباه.
وبعد، فلو سلمنا لهم يساره وإنفاقه على ما يدعون لكان غير دال
على الغرض الذي أجروا إليه، لأن المعتبر في الانفاق بالمقاصد والنيات.
فمن أين لهم أن غرض أبي بكر كان محمودا؟ وهذا مما لا بد لهم فيه من
الرجوع إلى غير ظاهر الانفاق.
فأما قوله: " إنه كان صاحبه في الغار " فإنا متى اعتبرنا قصة الغار لم
نجد فيها لأبي بكر فضلا بل وجدناه منهيا، والنهي من الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم لا يتوجه إلا إلى قبيح ونحن نبين ما يقتضيه استقراء
الآية.



(1) أي شد الحجر على بطنه لدفع النفخ الحادث عن الجوع وخلو الجوف.
25
أما قوله تعالى: (ثاني اثنين) فليس فيه أكثر من إخبار عن عدد وقد
يكون ثانيا لغيره من لا يشركه في إيمان ولا فضل ثم قال: (يقول
لصاحبه) (1) وليس في التسمية بالصحبة فضل لأنها قد تحصل من الولي
والعدو والمؤمن والكافر قال الله تعالى مخبرا عن مؤمن وكافر اصطحبا
(قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة
ثم سواك رجلا) (2) ثم قال: (لا تحزن) فنهاه عن الاستمرار على حزن
وقع منه بلا خلاف لأن الرواية وردت بأنه جزع ونشج بالبكاء، وإنما
ذكرنا ذلك لئلا يقولوا: إنما نهاه عما لم يقع منه فظاهر نهيه عليه السلام
يدل على قبح الفعل، وإنما يحمل النهي في بعض المواضع على التشجيع
والتسكين بدلالة توجب العدول عن الظاهر، وهذا يدل على وقوع
المعصية من الرجل في الحال فأما قوله تعالى: (إن الله معنا) فمعناه إنه عالم
بحالنا كما قال تعالى: (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا
خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما
كانوا) (3) فليس في ذلك أيضا فضل.
وقد قيل: إن لفظة (معنا) تختص النبي وحده صلى الله عليه وآله
دون من كان معه وقد يستعمل الواحد العظيم هذه اللفظة في العبارة عن
نفسه كما قال تعالى: (إنا أرسلنا نوحا) (4) و (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا
له لحافظون) (5) ثم قال: (فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم
تروها) وإنزال السكينة إنما كان على النبي صلى الله عليه وآله بدلالة قوله



(1) التوبة 40.
(2) الكهف 37.
(3) المجادلة 7.
(4) نوح 1.
(5) الحجر 9.
26
(وأيده بجنود لم تروها) وهم الملائكة وبدلالة أن الهاء من أول الآية إلى
آخرها كناية عن النبي صلى الله عليه وآله ولم ينزل السكينة على النبي صلى
الله عليه وآله في غير هذا المقام إلا عمت من كان معه من المؤمنين قال الله
تعالى في يوم حنين (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) (1) وقال
تعالى: (إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله
سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) (2) وفي اختصاص الرسول صلى الله
عليه وآله في الغار بالسكينة دون من كان معه ما فيه.
فأما قوله: " وصاحبه في الهجرة " فإن أراد بذلك تفضيل هجرته
على هجرة غيره في ظاهر الحال فليس الأمر على ما ظنه لأن هجرة
أمير المؤمنين عليه السلام أفضل وأجل وأعظم من قبل أنه جمع بين الهجرة
وبين ما خلفه النبي صلى الله عليه وآله لإنجازه من أموره المهمة وإخراج
أهله ونسائه ولأنه صلوات الله عليه هاجر وحده خائفا على نفسه وعلى من
معه من الأهل الذين كلف إخراجهم وحراستهم مستوحشا حتى روي أنه
كان يكمن نهارا ويسير ليلا وأنه امتنع من ظهوره نهارا ومشى حتى انتفخ
قدماه، وليس يكون خوف من هاجر وحده ومعه النساء والأهل ومن يخاف
عليه كخوفه على نفسه كهجرة من كان مصاحبا للنبي صلى الله عليه وآله
مستأنسا بقربه واثقا بأنه مرعى محروس لمكانه، ولا خلاف أن هجرة أبي
بكر كهجرة عارم بن فهيرة (3) لأنهما صحباه عليه السلام ثم لا خلاف أن
هجرة أمير المؤمنين عليه السلام كانت أفضل من هجرة عامر بن فهيرة



(1) التوبة 26.
(2) الفتح 26.
(3) عامر بن فهيرة التيمي بالولاء أحد السابقين ممن يعذب في الله، كان مع
النبي صلى الله عليه وآله عندما هاجر إلى المدينة استشهد ببئر معونة (انظر ترجمته في
الإصابة ق 1 حرف العين).
27
فكيف يفضل عليها هجرة أبي بكر وإن لم يرد بذكر الهجرة هذا وأراد إثبات
الإيمان والاخلاص، فقد قلنا في أن ظواهر هذه الأمور لا تدل على ذلك
بما كفي.
فأما أنه: " أنيسه في العريش يوم بدر " فالنبي صلى الله عليه وآله
وسلم كان أفضل وأوثق بالله تعالى من أن يحتاج إلى مؤنس والوجه في
احتباس أبي بكر في العريش معروف لأنه عليه السلام كان يعهد منه الجبن
والهلع لما ظهر منه في مقام بعد مقام، فهو الفار في يوم خيبر، وأول
المنهزمين يوم أحد وحنين، فلو تركه يختلط بالمحاربين لم يأمن أن يظهر من
خوره ما يكون سببا للهزيمة. وطريقا إلى استظهار المشركين، فأجلسه معه
لتكفي هذه المؤونة ويكفي في هذا الوجه أن يكون ما ذكرناه جائزا، ويبين
صحته أنه لو أنس منه رشدا في القتال ووثق بكفايته واضطلاعه بالحرب لم
يكن ليحرمه منزلة المحاربين، ودرجة المباشرين للحرب الذين قال الله
تعالى فيهم: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة
يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون) (1) والذين قال الله تعالى فيهم: (لا
يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله
بأموالهم وأنفسهم فضل المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة
وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) (2)
فأما قوله: " إنه كان المستشار في أموره " فأول ما فيه أن النبي صلى
الله عليه وآله لا يستشير أحدا لحاجة منه إلى رأيه، وفقر إلى تعليمه وتوقيفه
لأنه عليه السلام الكامل الراجح المعصوم المؤيد بالملائكة، وإنما كانت



(1) التوبة 111.
(2) النساء 95.
28
مشاورته أصحابه ليعلمهم كيف يعملون في أمورهم، وقد قيل فعل ذلك
ليستخرج دخائلهم (1) وضمائرهم فلا فضل في المشاورة.
فأما قوله: " إنه كان أميره على الموسم في الحج وحين افتتحت
مكة " فغير مسلم له لأن أصحابنا يقولون: إنه لما عزل عن سورة براءة
عزل عن إمارة الموسم وحج وهو غير أمير، وأظن أن فيهم من يقول إنه
بعد عوده إلى النبي صلى الله عليه وآله الذي لم يختلف فيه (2) لم يرجع إلى
الموسم.
فأما تأميره على الصلاة حين فتح مكة فما نعرفه.
فأما أنه المقدم في الصلاة أيام مرضه، فقد تقدم من كلامنا في ذلك
ما فيه كفاية وبينا أنه عليه السلام لم يأذن في تقديمه.
فأما قوله: " إنه شبه بميكائيل من الملائكة. وبإبراهيم من الأنبياء "
فمما لا يحتج بمثله صاحب الكتاب لأنه طريقة أغتام القصاص (3) ومن لا
يبالي ما يخرج من رأسه، وما يحتج بمثل هذا ويصدق به ويرويه إلا من
يروي أنه تعالى بكى على عثمان حتى هاجت عينه (4) جل وتعالى علوا
كبيرا، ومن يروي أن النبي صلى الله عليه وآله لما أسري به رأى في السماء
ملائكة متلففين بالأكسية فسأل عنهم، فقيل له: إنهم تشبهوا بأبي بكر في
تجلله بالعباءة، ولهذا نظائر لا ينشط صاحب الكتاب لقبولها ولا
لسماعهما.



(1) الدخائل جمع دخيلة.
(2) في الأصل " له يختلف " ولا يستقيم المعنى والتصحيح من " ض ".
(3) أغتام جمع أغتم وهو من لا يفصح في كلامه.
(4) هاجت عينه: أي ورمت.
29
فأما الخبر بأنهما (سيدا كهول أهل الجنة) فقد تقدم الكلام عليه
خاصة وعلى نظائره وقد تقدم أيضا الكلام فيما يروى من تعظيم
أمير المؤمنين عليه السلام وتكلمنا أيضا على ما ادعى من وصفه بأنه خليله
وأخوه واستقصينا كل ذلك استقصاء لا يحوج إلى زيادة.
وأما ما ادعاه من بشارته له ولغيره بالجنة فأول ما فيه أن راويه واحد
ولا شبهة في أنه غير معلوم ولا مقطوع به فكيف يحتج في هذا الموضع به؟
ثم الذي رواه أحد العشرة وهو سعيد بن زيد بن نفيل (1) وهو مزك لنفسه
مع تزكيته غيره، ودخوله في جملة من تضمنه الخبر شبهة، وطريق إلى
التهمة.
وبعد، فقد علمنا أن الله تعالى لا يجوز أن يعلم مكلفا يجوز أن يقع
منه القبيح والحسن، وليس بمعصوم من الذنوب بأن عاقبته الجنة، لأن
ذلك يغريه بالقبيح ولا خلاف أن التسعة لم يكونوا معصومين من الذنوب
وقد أوقع بعضهم على مذهب خصومنا كبائر وواقع خطايا وإن ادعوا أنهم
تابوا منها.
ومما يبين بطلان هذا الخبر أن أبا بكر لم يحتج به لنفسه ولا احتج له
به في مواطن دفع فيها إلى الاحتجاج كالسقيفة وغيرها، وكذلك عمر
وعثمان أيضا لما حصر وطولب بخلع نفسه وهموا بقتله وقد رأيناه احتج
بأشياء تجري مجري الفضائل والمناقب، وذكر القطع له بالجنة أولى منها
وأحرى أن يعتمد عليه في الاحتجاج، وفي عدول الجماعة عن ذكره دلالة



(1) سعيد بن زيد بن نفيل العدوي، هو ابن عم عمر بن الخطاب وزوج أخته
فاطمة أسلم قبل عمر، وهو أحد العشرة المبشرة مات بالعقيق أو المدينة واختلفوا في
سنة وفاته بين سنة 50 - 58 (انظر أسد الغابة 2 / 307).
30
واضحة على بطلانه.
فأما قوله: " إنهم شكوا (1) في الفضل بينه وبين أمير المؤمنين عليه
السلام وإن ذلك يدل على التقارب وظهور الفضل وأكثر ما فيه الدلالة
على الفضل الظاهر الذي لا يختلف فيه، ولأجله وقع التمثيل، فمن أين
الفضل الباطن؟ على أنه يلزم صاحب الكتاب على هذا الاعتلال أن يكون
معاوية مستحقا للإمامة ومستوفيا لشرائطها لأن الناس قد ميلوا (2) في
الإمامة بينه وبين أمير المؤمنين عليه السلام.
وقد بينا أن الإمام يجب أن يكون معصوما فسقط قوله: " إن
عصمته غير واجبة ".
وبينا أيضا الكلام على الأخبار التي ادعاها من قوله: " إن وليتم أبا
بكر " وبشارته بالخلافة واستقصيناه.
فأما قوله عن أبي علي " إن من جوز مقامه على الكفر كمن جوز
مقامه بمكة ونفى انتقاله إلى المدينة " فإنما يكون ذلك مثالا لمن نفى انتقاله
إلى إظهار الاسلام، وقد بينا أن ذلك لا ينفيه عاقل.
فأما قوله: " إنه عليه السلام كان يحذر نبيه صحبة المنافقين ويمنعه
من ذلك " فهذا وإن كان على ما ذكره فقد كان في جملة أصحابه
والمختلطين به منافقون، معروفون لا شبهة على أحد في أمرهم الآن،
فأي شئ قاله فيمن ذكرناه أمكن أن يقال له في غيره.
فأما ما عارض به من قول الخوارج في أمير المؤمنين عليه السلام فما



(1) ميلوا، خ ل، والمعنى واحد.
(2) في ض " مثلوا " تصحيف.
31
نعرف ما ادعاه من قول الخوارج والمعروف من مذهبهم تعظيم أمير المؤمنين
عليه السلام وتفضيله والقول فيه بأحسن الأقوال قبل التحكيم، ولو كان
هذا الذي حكاه على بطلانه قولا لبعضهم لكان الفرق بين الأمرين واضحا
لأنهم إنما بنوا هذا الاعتقاد الفاسد عليه أن التحكيم كفر، وقد دلت الأدلة
على أنه صواب وحق فسقط ما فرعوه عليه.
والقول الذي عارضه بهذا، إنما بني على دفع النص وأنه ضلال
وذلك مما قد دلت الأدلة على صحته، والرجوع إلى الأدلة يفرق بين
الأمرين ويقتضي سلامة باطن أمير المؤمنين عليه السلام على وجه لا
يقتضي سلامة باطن غيره.
فأما ما حكاه من الاحتجاج بالتزويج فليس ذلك مما يحتج به ولا
يعول عليه، وهذا واضح.
قال صاحب الكتاب: " وقد ذكر شيخنا أبو علي من القرآن ما يدل
على ذلك وهو قوله تعالى: (سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا
أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم) (1) وقال
(فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي
أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع
الخالفين) (2) وقال: (سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم
لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم
قال الله من قبل) (3) يعني قوله: (لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي



(1) الفتح 11.
(2) التوبة 83.
(3) الفتح 15.
32
عدوا) (1) ثم قال: (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي
بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن
تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما) (2) فتبين أن الذي يدعو
هؤلاء المخلفين من الأعراب إلى قتال قوم أولي بأس شديد غير النبي صلى
الله عليه وآله وسلم، لأنه تعالى قد بين أنهم لا يخرجون معه، ولا
يقاتلون معه عدوا بآية متقدمة، ولم يدعهم بعد النبي صلى الله عليه وآله
وسلم إلى قتال الكفار إلا أبو بكر وعمر وعثمان لأن أهل التأويل لم يقولوا
في هذه الآية غير وجهين من التأويل، فقال بعضهم: عني بقوله
(ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد) بني حنيفة، وقال بعضهم: عني
بذلك فارس والروم، وأبو بكر هو الذي دعى إلى قتال بني حنيفة، وقتال
فارس والروم. ودعاهم بعده إلى قتال فارس والروم عمر، فإذا كان الله
تعالى قد بين أنهم بطاعتهم لهما يؤتيهم الله أجرا حسنا، وإن تولوا عن
طاعتهما يعذبهم الله عذابا أليما صح أنهما على حق وأن طاعتهما طاعة الله،
وهذا يوجب صحة إمامتهما وصلاحهما لذلك.
ثم قال: فإن قيل: إنما أراد تعالى بذلك أهل الجمل وصفين
فذلك فاسد من وجهين:
أحدهما: قوله تعالى (يقاتلونهم أو يسلمون) والذين حاربوا
أمير المؤمنين عليه السلام كانوا على الاسلام، ولم يكونوا يقاتلون على
الكفر [ولا كان هو يقاتلهم ليسلموا، بل كان يقاتلهم ليردهم إلى طاعته
والدخول في بيعته ويردهم عن البغي] (3).



(1) التوبة 83.
(2) الفتح 16.
(3) جميع الزيادات تحت هذا الرقم من " المغني ".
33
والوجه الثاني: أنا لا نعرف من الذين عناهم بذلك من بقي إلى أيام
أمير المؤمنين عليه السلام كما علمنا أنهم كانوا باقين إلى أيام أبي بكر
[فوجب بهذا أن الذي دعوا هؤلاء المخالفين إلى قتال قوم أولي بأس
شديد هم أبو بكر وعمر] (1)
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف
يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون
في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) (2) " ثم قال: " وهذا خبر من الله تعالى
ولا بد من أن يكون كائنا على ما أخبر به، والذين قاتلوا المرتدين هم أبو
بكر وأصحابه فوجب أنهم الذين عناهم بقوله: (يحبهم ويحبونه) [وأنهم
(يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم)] (3) وذلك يوجب أن يكون
على صواب [وأن يكون ممن وفى ويمنع من قول من يدعي النص وأنه كان
على باطل] (3).
قال: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم
في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى
لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني ولا يشركون بي شيئا) (4) فلم
نجد هذا التمكين والاستخلاف في الأرض الذي وعده الله من آمن وعمل
صالحا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله إلا في أيام أبي بكر وعمر لأن
الفتوح كانت في أيامهم وأبو بكر فتح بلاد العرب، وصدرا من بلاد



(1) ما بين المعقوفين من " المغني ".
(2) المائدة 54.
(3) الزيادة من المغني.
(4) النور 55.
34
العجم. وعمر فتح مدائن كسرى وإلى حد (1) خراسان والشام ومصر * ثم
كان من عثمان فتح ناحية المغرب * (2) وخراسان وسجستان وغيرها، وإذا
كان التمكين والاستخلاف الذي تضمنته الآية لهؤلاء الأئمة وأصحابهم
علمنا أنهم محقون، فلو لم يكن لهؤلاء لم يصح لأنه لم يكن لغيرهم
الفتوح، ولو كان لغيرهم أيضا لوجب كون الآية متناولة للجميع (3) وقوله
تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن
المنكر وتؤمنون بالله...) (4) ولو كان الأمر على ما يقوله كثير من
الإمامية أنهم ارتدوا بعد نبيهم صلى الله عليه وآله وخالفوا النص الجلي لما
كانوا خير أمة، لأن أمة موسى لم يرتدوا بعد موسى بل كانوا متمسكين به
مع يوشع ".
وقال حاكيا عن أبي علي: " وكيف يتصور عاقل مع عظم حال
الاسلام عند موت الرسول صلى الله عليه وآله أن يكون الجميع
ينقادون لأبي بكر ولا ينكرون إمامته، وقد نص رسول الله نصا ظاهرا على
واحد بعينه فلا يتخذه أحد إماما ولا يذكرون ذلك. ولو جاز ذلك لجاز أن
يكون للرسول صلى الله عليه وآله ولد ولا نص عليه (5) ولم يذكر ذلك
وكيف يكونون مرتدين مع أنه تعالى أخبر أنه جعلهم (أمة وسطا) (6)
وكيف يصح مع قوله عز وجل: (السابقون الأولون من المهاجرين



(1) غ " إلى جهة ".
(2) ما بين النجمتين ساقط من " المغني ".
(3) العبارة في " المغني " ناقصة ومشوشة.
(4) آل عمران 110.
(5) في المغني " ولذا نص عليه " وهو تصحيف ظاهر وفي ض " ولد نص
عليه ".
(6) البقرة من الآية 143.
35
والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه) (1)
وكيف يقول تعالى: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك
أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا) (2) وكيف يصح ذلك مع
قوله تعالى (محمد رسول الله والذين معه) (3) الآية فشهد بمدحهم وبأنهم
غيظ الكفار، ونحن نعلم أنه لا يغيظ الكفار بستة نفر على ما يقوله
الإمامية، وكيف يصح ما قالوه مع قوله صلى الله عليه وآله (خير
الناس قرني ثم الذين يلونهم)، وكل ذلك يبين بطلان قولهم: إنه لم
يصلح للإمامة، وإنه مشكوك في فضله وإيمانه،... " (4)
يقال له: أما ما بدأت به من الآية التي زعمت أن أبا علي
اعتمدها، واستدل بها، فالغلط في تأويلها ظاهر، وقد ضم إلى الغلط في
التأويل أيضا الغلط في التاريخ. ونحن نبين ما في ذلك.
ولنا في الكلام على هذه الآية وجهان.
أحدهما: أن ننازع في اقتضائها داعيا يدعو هؤلاء المخلفين غير
النبي صلى الله عليه وآله ونبين أن الداعي لهم فيما بعد كان الرسول صلى
الله عليه وآله والوجه الآخر أن نسلم أن الداعي غيره عليه السلام ونبين
أنه لم يكن أبو بكر وعمر على ما ظن أبو علي وأصحابه، بل كان
أمير المؤمنين.



(1) التوبة 100.
(2) الحديد 10.
(3) الفتح 29.
(4) كل ما نقله المرتضى هنا تجده في المغني 20 ق 1 / 321 - 327.
36
فأما الوجه الأول، فواضح لأن قوله تعالى: (سيقول لك
المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم
ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو
أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا بل ظننتم أن لن ينقلب
الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن
السوء وكنتم قوما بورا) (1) إنما أراد به الذين تخلفوا عن الحديبية بشهادة
جميع أهل النقل وإطباق المفسرين (2) ثم قال تعالى: (سيقول المخلفون
إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله
قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا
يفقهون إلا قليلا) (3) وإنما التمس هؤلاء المخلفون أن يخرجوا إلى غنيمة
خيبر فمنعهم الله تعالى من ذلك وأمر نبيه صلى الله عليه وآله بأن يقول لهم
لن تتبعونا إلى هذه الغزوة لأن الله تعالى كان حكم من قبل بأن غنيمة خيبر
لمن شهد الحديبية وأنه لاحظ فيها لمن لم يشهدها وهذا هو معنى قوله
تعالى: (يريدون أن يبدلوا كلام الله) وقوله: (كذلكم قال الله من
قبل) ثم قال تعالى (قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي
بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون) (4)
وإنما أراد أن الرسول صلى الله عليه وآله سيدعوكم فيما بعد
إلى قتال قوم أولي بأس شديد وقد دعاهم النبي صلى الله عليه وآله بعد



(1) الفتح 11، 12.
(2) انظر تفسير الطبري ج 26 / 48 و 49 وتفسير الرازي ج 28 / 88
والكشاف 3 / 543 والتبيان 9 / 319.
(3) الفتح 15.
(4) الفتح 16.
37
ذلك إلى غزوات كثيرة، وقتال قوم أولي بأس شديد كمؤتة (1) وحنين (2)
وتبوك (3) وغيرها فمن أين يجب أن يكون الداعي لهؤلاء غير النبي صلى
الله عليه وآله مع ما ذكرناه من الحروب التي كانت بعد خيبر؟ وقوله: " إن
معنى قوله تعالى: (كذلكم قال الله من قبل) إنما أراد به ما بينه في قوله:
(فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي
أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا) (4) وهو الغلط الفاحش من طريق التاريخ
والرواية التي وعدنا بالتنبيه عليها لأن هذه الآية في سورة التوبة، وإنما
نزلت بتبوك سنة تسع وآية الفتح نزلت سنة ست، فكيف يكون قبلها؟
وليس يجب أن يقال في القرآن بالآراء أو بما يحتمل من الوجوه في كل
موضع دون الرجوع إلى تاريخ نزول الآية والأسباب التي وردت عليها
وتعلقت بها.



(1) مؤتة تقدم ذكرها.
(2) حنين: قال ياقوت في معجم البلدان 2 / 312: يجوز أن يكون تصغير
الحنان وهو الرحمة - تصغير ترخيم - ويجوز أن يكون تصغير الحن وهو حي من الجن
وهو الموضع المعروف بين مكة والطائف، ويوم حنين من أيام الاسلام المشهورة، وحنين
يذكر ويؤنث فإن قصدت به البلد والموضع ذكرته، وصرفته، وإن قصدت به البلدة
والبقعة أنثته ولم تصرفه قال الشاعر:
نصروا نبيهم وشدوا أزره * بحنين يوم تواكل الأبطال
(3) تبوك - بالفتح ثم الضم وواو ساكنة: موضع معروف بين وادي القرى
والشام، توجه إليه النبي صلى الله عليه وآله في سنة تسع للهجرة وهي آخر
غزواته حين انتهى إليه تجمع الروم وعاملة ولخم وجذام فوجدهم قد تفرقوا فلم يلق
كيدا ونزلوا على عين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله أن لا أحد يمس من
مائها فسبق إليها رجلان وهي تبض بشئ من ماء فجعلا يدخلان فيها سهمين ليكثر
ماؤها فقال لهما صلى الله عليه وآله (ما زلتما تبوكان منذ اليوم فسميت بذلك تبوك)
والبوك إدخال اليد في شئ وتحريكه، وركز صلى الله عليه وآله عنزته فيها ثلاث ركزات
فجاشت ثلاث أعين فهي تهمي بالماء إلى الآن (انظر معجم البلدان 2 / 14 مادة " تبوك ")
(4) التوبة 83.
38
ومما يبين لك أن هؤلاء المخلفين غير أولئك لو لم يرجع في ذلك إلى نقل
وتاريخ قوله في هؤلاء: (فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا وإن تتولوا
كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما) (1) فلم يقطع فيهم على طاعة ولا
معصية، بل ذكر الوعد والوعيد على ما يفعلونه من طاعة أو معصية،
وحكم المذكورين في آية التوبة بخلاف هذا لأنه تعالى قال بعد قوله:
(إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين * ولا تصل على أحد
منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم
فاسقون * ولا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في
الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون) (2) واختلاف أحكامهم وصفاتهم يدل
على اختلافهم لو أن المذكورين في آية سورة الفتح غير المذكورين في آية
التوبة.
فأما قوله: " لأن أهل التأويل لم يقولوا في هذه الآية غير وجهين من
التأويل " ذكرهما فباطل لأن أهل التأويل قد ذكروا أشياء أخر لم يذكرها
لأن ابن المسيب (3) روى عن الضحاك في قوله تعالى: (ستدعون إلى قوم
أولي بأس شديد) (4) الآية قال: هم ثقيف. وروى هيثم عن أبي
بشير عن سعيد بن جبير قال: هم هوازن يوم حنين. وروى
الواقدي عن معمر عن قتادة قال: هم هوازن وثقيف (5) فكيف ذكر



(1) الفتح 16.
(2) التوبة 83 و 84
(3) هو أبو عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني من المفسرين في القرن الثاني.
(4) الفتح 16.
(5) انظر تفسير الطبري ج 16 / 51 / 52،
39
من قول أهل التأويل ما يوافقه مع اختلاف الرواية عنهم. على أنا لا
نرجع في كل ما يحتمله تأويل القرآن إلى أقوال المفسرين، فإنهم ربما تركوا
ما يحتمله القول وجها صحيحا وكم استخرج جماعة من أهل العدل في
متشابه القرآن من الوجوه الصحيحة التي ظاهر التنزيل بها أشبه، ولها أشد
احتمالا ما لم يسبق إليه المفسرون ولا دخل في جملة تفسيرهم وتأويلهم.
فأما الوجه الآخر: الذي نسلم فيه أن الداعي لهؤلاء المخلفين هو
غير النبي صلى الله عليه وآله فنبين أيضا لأنه لا يمتنع أن يعني بهذا
الداعي أمير المؤمنين عليه السلام لأنه قد قاتل بعده أهل الجمل وصفين
وأهل النهروان، وبشره النبي صلى الله عليه وآله بأنه يقاتلهم، وقد كانوا
أولي بأس شديد بلا شبهة.
فأما تعلق صاحب الكتاب بقوله: (أو يسلمون) وإن الذين حاربهم
أمير المؤمنين عليه السلام كانوا مسلمين، فأول ما فيه أنهم غير مسلمين
عنده وعند أصحابه لأن الكبائر تخرج من الاسلام عندهم كما تخرج عن
الإيمان، إذ كان الإيمان هو الاسلام على مذاهبهم (1)، ثم مذهبنا نحن في
محاربي أمير المؤمنين معروف لأنهم عندنا كانوا كفارا بحربه بوجوه ونحن
نذكر منها هاهنا طرفا ولاستقصائها موضع غيره.
منها: إن من حاربه كان مستحلا لقتله مظهرا لأنه في ارتكابه على
حق، ونحن نعلم أن من أظهر استحلال شرب جرعة خمر فهو كافر
بالاجماع، واستحلال دم المؤمن فضلا عن أكابرهم وأفاضلهم أعظم من
شرب الخمر واستحلاله، فيجب أن يكونوا من هذا الوجه كفارا.



(1) الضمير للمعتزلة والقاضي أحد أقطابهم وهم مجمعون على أن صاحب
الكبيرة مخلد في النار إن لم يتداركها بالتوبة.
40
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وآله قال له عليه السلام بلا
خلاف بين أهل النقل: (حربك يا علي حربي وسلمك سلمي) (1) ونحن
نعلم أنه لم يرد إلا التشبيه بينهما في الأحكام. ومن أحكام محاربي النبي
صلى الله عليه وآله الكفر بلا خلاف.
ومنها: أنه عليه السلام قال بلا خلاف أيضا: (اللهم وال من
والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله) وقد ثبت عندنا
أن العداوة من الله لا تكون إلا للكفار الذين يعادونه دون فساق أهل
الملة.
فأما قوله: " إنا لا نعلم بقاء هؤلاء المخلفين إلى أيام أمير المؤمنين
عليه السلام كما علمنا بقاءهم إلى أيام أبي بكر " فليس بشئ لأنه إذا لم
يكن معلوما ومقطوعا عليه، فهو مجوز غير معلوم خلافه والجواز كاف لنا
في هذا الموضع، ولو قيل له: من أين علمت بقاء المخلفين المذكورين في
الآية على سبيل القطع إلى أيام أبي بكر لكان يفزع إلى أن يقول حكم الآية
يقتضي بقاءهم حتى يتم كونهم مدعوين إلى قتال أولي البأس الشديد على
وجه يلزمهم فيه الطاعة، وهذا بعينه يمكن أن يقال له، ويعتمد في
بقائهم إلى أيام أمير المؤمنين عليه السلام على ما يوجبه حكم الآية.
فإن قيل: كيف يكون أهل الجمل وصفين كفارا ولم يسر فيهم
أمير المؤمنين عليه السلام بسيرة الكفار لأنه ما سباهم ولا غنم أموالهم ولا
اتبع موليهم.
قلنا: أحكام الكفر تختلف وإن شملهم اسم الكفر، لأن فيهم من يقتل



(1) تقدم تخريجه.
41
ولا يستبقى، وفيهم من يؤخذ منه الجزية ولا يحل قتله إلا بسبب طار غير
الكفر، ومنهم من لا يجوز نكاحه بإجماع، ومنهم من يجوز نكاحه على
مذهب أكثر المسلمين. فعلى هذا يجوز أن يكون هؤلاء القوم كفارا وإن لم
يسر فيهم بجميع سيرة أهل الكفر لأنا قد بينا أحكام الكفار ونرجع في أن
حكمهم مخالف لأحكام الكفار إلى فعله عليه السلام وسيرته فيهم على إنا
لا نجد من الفساق من حكمه أن يقتل مقبلا ولا يقتل موليا ولا يجهز على
جريحه إلى غير ذلك من الأحكام التي سير بها في أهل البصرة وصفين.
فإذا قيل - في جواب ذلك -: أحكام الفسق مختلفة، وفعل أمير المؤمنين
عليه السلام هو الحجة في أن حكم أهل البصرة وصفين ما فعله.
قلنا: مثل ذلك حرفا بحرف، ويمكن مع تسليم أن الداعي لهؤلاء
المخلفين أبو بكر أن يقال ليس في الآية دلالة على مدح الداعي ولا على
إمامته لأنه يجوز أن يدعو إلى الحق والصواب من ليس عليهما فيلزم ذلك
الفعل من حيث كان واجبا في نفسه لا بدعاء الداعي إليه وأبو بكر إنما دعى
إلى دفع أهل الردة إلى الاسلام (1) وهذا يجب على المسلمين بلا دعاء داع
والطاعة فيه طاعة الله، فمن أين أن الداعي كان على حق وصواب وليس
في كون ما دعا إليه طاعة ما يدل على ذلك؟ ويمكن أيضا أن يكون قوله
تعالى: (ستدعون) إنما أراد به دعاء الله تعالى لهم بإيجاب القتال عليهم
لأنه إذا دلهم على وجوب قتال المرتدين ودفعهم عن بيضة الاسلام فقد
دعاهم إلى القتال ووجبت عليهم الطاعة ووجب لهم الثواب إن أطاعوا،
وهذا أيضا وجه تحتمله الآية.
فأما قوله: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه) الآية



(1) عن أهل الاسلام، خ ل.
42
وادعاء صاحب الكتاب أنها في أبي بكر وأصحابه فما زاد في هذا الوضع
على الدعوى والاقتراح، فيقال له من أين قلت: إن الآية في أبي بكر
وأصحابه نزلت؟
فإن قال: لأنهم هم الذين قاتلوا المرتدين بعد الرسول صلى الله
عليه وآله وسلم ولا أحد قاتلهم سواهم.
قيل له: ومن الذي سلم لك ذلك، أوليس أمير المؤمنين عليه
السلام قد قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين بعد الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم وهؤلاء عندنا مرتدون عن الدين ويشهد بصحة هذا التأويل
زائدا على احتمال القول له ما روي عن أمير المؤمنين من قوله عليه السلام
يوم البصرة: والله ما قوتل أهل هذه الآية حتى اليوم وتلا قوله تعالى: (يا
أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه) وروي عن عمار وحذيفة
وغيرهما مثل ذلك (1).
فإن قال: دليل على أنها في أبي بكر وأصحابه قول أهل التفسير.
قيل له: أوكل أهل التفسير قال ذلك؟
فإن قال: نعم، كابر لأنه قد روي عن جماعة، التأويل الذي ذكرناه
ولو لم يكن ذلك إلا ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام ووجوه الصحابة
لكفى.
فإن قال: حجتي قول بعض المفسرين.
قلنا: وأي حجة في قول البعض ولم صار البعض الذي قال ما



(1) نقل هذا عن عمار وحذيفة الطبرسي في مجمع البيان 3 / 208 والمراد
بغيرهما ابن عباس والباقر والصادق عليهما السلام.
43
ذكرته بالحق أولى من البعض الذي قال ما ذكرناه.
ثم يقال له: قد وجدنا الله تعالى نعت المذكورين في الآية بنعوت
يجب أن نراعيها لنعلم أفي صاحبنا هي أم في صاحبك؟ لأنه وصفهم بأن
الله يحبهم ويحبونه، وهذا وصف مجمع عليه في صاحبنا مختلف فيه في
صاحبك، وقد جعله الرسول صلى الله عليه وآله علما له في خيبر حين فر من
القوم عن العدو فقال: (لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه
الله ورسوله كرار غير فرار) (1) فدفعها إلى أمير المؤمنين عليه السلام ثم
قال (أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) ومعلوم بلا خلاف حالة
أمير المؤمنين عليه السلام في التخاشع والتواضع وذم نفسه وقمع غضبه وأنه
ما رؤي طائشا ولا مستطيرا (2) في حال من أحوال الدنيا ومعلوم حال صاحبيكم
في هذا الباب.
أما أحدهم فإنه اعترف طوعا بأن له شيطانا يعتريه عند غضبه،
وأما الآخر فكان معروفا بالحدة والعجلة، مشهورا بالفظاظة والغلظة.
وأما العزة على الكافرين فإنما يكون بقتالهم وجهادهم والانتصاف
منهم، وهذه حال لم يسبق أمير المؤمنين عليه السلام إليها سابق في الحقيقة
ولا لحقه فيها لاحق ثم قال: (يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة
لائم) وهذا وصف أمير المؤمنين عليه السلام مستحق له بالاجماع، وهو
منتف عن أبي بكر وعمر بالاجماع لأنه لا قتيل لهما في الاسلام ولا جهاد بين
يدي الرسول صلى الله عليه وآله وإذا كانت الأوصاف المراعاة في الآية
حاصلة لأمير المؤمنين عليه السلام وغير حاصلة لمن أدعيتهم لأنها فيهم على
ضربين: ضرب معلوم انتفاؤه كالجهاد، وضرب مختلف فيه كالأوصاف
التي هي غير الجهاد، وعلى من أثبتها لهم الدلالة على حصولها، ولا بد



(1) تقدم تخريجه.
(2) الطيش: القحة والنزق، والمستطير - هنا - الشرير.
44
من أن يرجع في ذلك إلى غير ظاهر الآية، فلا يبقى في يده من الآية
دليل.
فأما ما تعلق به من قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا
الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم) (1) فأول
ما في ذلك أن الآية مشروطة بالإيمان، فيجب على من ادعى تناولها القوم
أن يبين إيمانهم بغير الآية وما يقتضيه ظاهرها، ثم المراد بالاستخلاف
هاهنا ليس هو الإمامة والخلافة على ما ظنوه، بل المعنى فيه بقاؤهم في أثر
من مضى من الفرق وجعلهم عوضا منهم وخلفا.
ومن ذلك قوله: (وهو الذي جعلكم خلائف في الأرض) (2)
وقوله: (عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر
كيف تعملون) (3) وقوله تعالى: (وربكم الغني ذو الرحمة إن يشأ
يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء) (4) وقد ذكر أهل التأويل في قوله
تعالى: (وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد
شكورا) (5) أن المراد به كون كل واحد منهما خلف صاحبه. وأنشدوا في
ذلك قول زهير بن أبي سلمى:
بها العين والآرام يمشين خلفة * وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم (6)



(1) النور 55.
(2) الأنعام 165.
(3) الأعراف 129.
(4) الأنعام 133.
(5) الفرقان 62.
(6) البيت من المعلقة والعين - بالكسر - بقر الوحش، والآرام: الظباء
واحدها ريم بالفتح، وخلفة واحدة بعد واحدة، والاطلاء جمع طلا وهو ولد الظبي
الصغير، والمجثم: الموضع الذي يجثم فيه الطائر، أو بمعنى الجثوم - مصدر - أراد إن
الدار اقفرت حتى صارت مجثما لضروب الوحش.
45
وهذا الاستخلاف والتمكين في الدين لم يتأخر إلى أيام أبي بكر وعمر
على ما ظنه القوم بل كان في أيام النبي صلى الله عليه وآله حين قمع الله
أعداءه، وأعلى كلمته، ونشر رايته، وأظهر دعوته، وأكمل دينه، ونعوذ
بالله أن نقول: إن الله لم يكن أكمل دينه لنبيه في حياته حتى تلافى ذلك
متلاف بعد وفاته، وليس كل التمكين هو كثرة الفتوح والغلبة على
البلدان، لأن ذلك يوجب أن دين الله تعالى لم يتمكن إلى اليوم لعلمنا ببقاء
ممالك الكفرة كثيرة لم يفتحها المسلمون، ولأنه أيضا يوجب أن الدين تمكن
في أيام معاوية ومن بعده من بني أمية أكثر من تمكنه في أيام النبي صلى الله
عليه وآله وأبي بكر وعمر لأن بني أمية افتتحوا بلادا لم تفتتح قبلهم.
ثم يقال له: من أي وجه أوجبت كون التمكين فيمن ادعيت؟ فإن
قال: لأني لم أجد هذا التمكين والاستخلاف إلا في أيامهم وقد بينا ما في
ذلك وذكرنا أن التمكين كان متقدما وكذلك الاستخلاف على المعنى الذي
ذكرناه، وإن قال: لأنا لم نجد من خلف الرسول صلى الله عليه وآله وقام
مقامه إلا من ذكرته.
قيل له: أليس قد بينا أن الاستخلاف هاهنا يحتمل غير معنى
الإمامة فلم حملته على الإمامة؟ وبعد فإن حمله على المعنى الذي ذكرناه
أقرب إلى مذهبك وأجرى على أصولك لأنه إذا حملته على الإمامة لم يعم
جميع المؤمنين وإذا حمل على المعنى الذي ذكرناه عم جميع المؤمنين.
وبعد، فإذا سلم لك أن المراد به الإمامة لم يتم ما ادعيته إلا بأن
تدل من غير جهة الآية على أن أصحابك كانوا أئمة على الحقيقة، وخلفاء
للرسول صلى الله عليه وآله حتى تتناولهم الآية.
فإن قال: دليلي على تناولها لهم قول أهل التفسير. (*)

46
قيل له، ليس كل أهل التفسير قال ما ادعيت لأن ابن
جريح (1) روى عن مجاهد في قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم
وعملوا الصالحات) (2) قال: هم أمة محمد صلى الله عليه وآله.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه وغيره قريب من ذلك وقد
تأول هذه الآية علماء أهل البيت صلوات الله عليهم وحملوها على وجه
معروف، فقالوا: هذا التمكين والاستخلاف وإبدال الخوف بالأمن إنما
يكون عند قيام المهدي عليه السلام (3) فليس على تأويلك إجماع من
المفسرين، وقول بعضهم ليس بحجة.
فأما تعلقه بقوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) (4) وإنهم
لو كانوا خالفوا النص الجلي لم يكونوا خير أمة أخرجت للناس، فقد تقدم
من كلامنا على هذه الآية وكلامه أيضا على من استدل بها على صحة
الإجماع، فإنه ضعف الاستدلال بها، بما فيه كفاية لكنا نقول له هاهنا:
ألست تعلم أن هذه الآية لا تتناول جميع الأمة، لأن ما اشتملت عليه من
الأوصاف من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرهما ليس موجودا في
جميع الأمة.
فإن قال: هي متوجهة إلى الجميع كان علمنا بأن أكثرهم لا يأمر
بالمعروف ولا ينهى عن المنكر دافعا لقوله، وإن اعترف بتوجهها إلى
البعض.



(1) هو عبد الملك بن جريح المكي الأموي بالولاء من المفسرين في أوائل القرن
الثاني.
(2) النور 55.
(3) انظر مجمع البيان 7 / 152.
(4) آل عمران 110.
47
قيل له: فما المانع على هذا أن يكون الدافع للنص بعض الأمة
ممن لم تتوجه إليه الآية.
فإن قال: إنما بنيت كلامي على أن الأمة كلها لم تصل بدفع النص
فلهذا استشهدت بالآية؟
قيل له: ومن هذا الذي يقول: إن الأمة كلها ضلت بدفع النص
حتى يحتاج إلى الاستدلال عليه، وقد مضى في هذا المعنى عند الكلام في
النص ما فيه كفاية.
فإن قال: فأي فضل يكون لهذه الأمة على الأمم قبلها إذا كان
أكثرها قد ضل وخالف النبي صلى الله عليه وآله ويجب أن يكون أمة
موسى أفضل منهم وخيرا لأنهم لم يرتدوا بعد موسى عليه السلام.
قيل له: أما لفظة " خير " وهي عندنا وعندك تبنى على الثواب
والفضل، وليس يمتنع أن يكون من لم يخالف النص من الأمة أكثر ثوابا وأفضل عملا
من الأمم المتقدمة، وإن كان في جملة المسلمين من عدل عن النص،
وليس بمنكر أن يكون من قل عدده أكثر ثوابا ممن كثر عدده، ألا ترى أن
أمتنا بلا خلاف أقل عددا من أمم الكفر، ولم يمنع هذا عندك من أن
يكونوا خير أمة ولم يعتبر بقلتهم وكثرة غيرهم فكذلك لا يمنع ما ذكرناه من
كون أهل الحق خيرا من سائر الأمم المتقدمين وإن كانوا بعض الأمة أقل
عددا ممن خالفهم، على أنك تذهب إلى أن قوما من الأمة ارتدوا بعد
الرسول صلى الله عليه وآله وطوائف من العرب رجعوا عن أديانهم حتى
قوتلوا على الردة، ولم يكن هذا في أمة موسى وعيسى عليهما السلام ولم
يوجب ذلك أن تكون أمة موسى وعيسى عليهما السلام خيرا من أمتنا ولا
مانع من أن تكون أمتنا خيرا منهم. وإن كان من تقدم قد سلم من الردة
بعد نبيه ولم تسلم أمتنا من ذلك. فظهر أنه لا معتبر في الردة، بل المعتبر

48
بالفضل وزيادة الجزاء على الأعمال.
فأما قوله: (كيف ينقادون لمن نص عليه السلام على غيره) فقد
مضى في هذا من الكلام ما لا طائل في إعادته.
وقوله: (لو جاز ذلك لجاز أن يكون للرسول صلى الله عليه وآله
ولد نص عليه ولم يذكر ذلك) فقد مضى في هذا الجنس من الكلام
الكثير، على أنا نقول له: إنما تكون المعارضة بولد لم يذكر ولم ينقل النص
عليه، في مقابلة من قال بنص لم يذكره ذاكر، ولم ينقله ناقل، وهذا ما لم
نقل به نحن ولا أحد (1) وإنما يكون عروضا لنص مذكور معروف تذهب
إليه طائفة من الأمة منتشرة في البلاد، والقول بنص على ولد له بهذه
الصورة يجري مجراها (2) ومعلوم فقد ذلك.
ثم يقال له: إذا جرى عندك القول بالنص الذي تذهب إليه مجرى
النص على الولد فلم كان أحد الأمرين معلوما نفيه (3) لكل عاقل ضرورة
والآخر تختلف فيه العقلاء وتصنف فيه الكتب، وتنتحل له الأدلة، وهذا
يدل على افتراق الأمرين وبعد ما بينهما.
فأما قوله: (فكيف يكونون مرتدين مع أنه تعالى أخبر أنه جعلهم
(أمة وسطا) (4) فقد مضى أيضا من الكلام في هذه الآية عند استدلاله بها
في صحة (5) الإجماع ما فيه كفاية. والكلام فيها يقرب من الكلام على



(1) يريد الذاهبين إلى النص.
(2) يعني إذا كان النص على ولد له بالصورة التي يذهب إليها القائلون بالنص
فإنه يجري هذا المجرى ولكن ذلك مفقود.
(3) أي النص على الولد.
(4) البقرة 143.
(5) على صحة، خ ل.
49
قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس) وجملة الأمر أنه تعالى نعتهم
بأنهم خيار. وهذا نعت لا يجوز أن يكون لجميعهم، بل يتناول بعضهم
ووصف بعضهم بأنه خيار لا يمنع من ردة بعض آخر.
فأما قوله تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين
والأنصار) (1) فلنا في الكلام عليه وجهان: أحدهما أن ننازع في أن السبق
ها هنا السبق إلى الاسلام، والوجه الآخر أن نسلم ذلك فنبين أنه لا حجة
في الآية على ما ادعوه، والوجه الأول بين لأن لفظة " السابقين " في الآية
مطلق غير مضاف، ويحتمل أن يكون مضافا إلى إظهار الاسلام، واتباع
النبي صلى الله عليه وآله بل المراد به السبق إلى الخيرات والتقدم في فعل
الطاعات، ويكون قوله " الأولون " تأكيدا لمعنى السبق كما يقولون: فلان
سابق في الفضل إلى الخيرات سابق فيؤكدون باللفظين المختلفين، وقد
قال الله تعالى: (والسابقون السابقون أولئك المقربون) (2) وقال
تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه
ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله) (3)
فإن قيل: إذا كان المراد ما ذكرتم فأي معنى لتخصيص المهاجرين
والأنصار ولولا أنه أراد السبق إلى الاسلام.
قلنا: لم نخص المهاجرين والأنصار دون غيرهم لأنه تعالى قال:
(والذين اتبعوهم بإحسان) (4).
وهو عام في الجميع على أنه لا يمتنع أن يخص المهاجرين والأنصار بحكم



(1) التوبة 100.
(2) الواقعة 10.
(3) فاطر 32.
(4) التوبة 100،
50
هو لغيرهم، إما لفضلهم وعلو قدرهم أو لغير ذلك من الوجوه.
فأما الوجه الثاني فالكلام فيه أيضا بين لأنه إذا سلم أن المراد بالسبق
هو السبق إلى إظهار الاسلام فلا بد من أن يكون مشروطا بالاخلاص في
الباطن لأن الله تعالى لا يعد بالرضا من أظهر الاسلام ولم يبطنه فيجب أن
يكون الباطن معتبرا ومدلولا عليه فيمن يدعي دخوله تحت الآية حتى
يتناوله الوعد بالرضا ومما يشهد بأن الاخلاص مشروط مع السبق إلى إظهار
الاسلام قوله تعالى: (والذين اتبعوهم بإحسان) فشرط الاحسان الذي لا
بد أن يكون مشروطا في الجميع على أن الله تعالى قد وعد الصابرين
والصادقين بالجنان، فقال: (هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات
تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك
الفوز العظيم) (1) وقوله تعالى: (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم
مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم
ورحمة وأولئك هم المهتدون) (2) ولم يوجب ذلك أن يكون كل صابر
وصادق مقطوعا له بالجنة، بل لا بد من شروط مراعاة فكذلك القول في
السابقين على أنه لا يخلو المراد بالسابقين من أن يكون هو الأول الذي لا
أول قبله أو يكون من سبق غيره، وإن كان مسبوقا والوجه الأول هو
المقصود لأن الوجه الثاني يؤدي إلى أن يكون جميع المسلمين سابقين إلا
الواحد الذي لم يكن بعده إسلام أحد، ومعلوم خلاف هذا فلم يبق إلا
الوجه الأول ولهذا أكده تعالى بقوله: (الأولون) لأن من كان قبله غيره لا
يكون أولا بالإطلاق، ومن هذه صفته بلا خلاف أمير المؤمنين عليه



(1) المائدة 119.
(2) البقرة 155 - 157.
51
السلام وحمزة وجعفر (1) وخباب بن الأرت (2) وزيد بن ثابت (3) وعمار ومن
الأنصار سعد بن معاد (4) وأبو الهيثم بن التيهان (5) وخزيمة بن ثابت ذو
الشهادتين (6) فأما أبو بكر ففي تقدم إسلامه خلاف معروف (7) فعلى من
ادعى تناول الآية أن يدل أنه من السابقين.
فأما قوله تعالى: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح



(1) حمزة عم النبي صلى الله عليه وآله وجعفر ابن عمه.
(2) خباب بن الإرث صحابي من السابقين الأولين كان سادس ستة في الاسلام
وعذب في الله وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله المشاهد كلها ومات بالكوفة بعد
أن شهد مع أمير المؤمنين عليه السلام صفين والنهروان وهو أول من دفن بظهر الكوفة.
(3) زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري كان عثمانيا ولم يشهد مع علي شيئا
من حروبه وهو الذي كتب القرآن على عهد عثمان واختلفوا في سنة وفاته على أقوال
ذكرها ابن الأثير في أسد الغابة بترجمته 2 / 221.
(4) سعد بن معاذ الأنصاري أسلم على يد مصعب بن عمير لما أرسله رسول الله
صلى الله عليه وآله إلى المدينة فقال لبني عبد الأشهل كلام رجالكم ونسائكم علي حرام
حتى تسلموا، فأسلموا فكان من أعظم الناس بركة في الاسلام شهد بدرا واحدا
والخندق فأصابه سهم فدعا الله أن لا يميته حتى يقر عينه في بني قريضة، واستجاب
الله سبحانه دعاءه، وحكمه رسول الله فيهم في قصة معروفة (وانظر أسد الغابة 2 /
296)
(5) أبو الهيثم مالك بن التيهان بالياء المنقوطة باثنتين تحتها المشددة المكسورة
وقبلها تاء منقوطة باثنتين فوقها الأنصاري شهد العقبة وهو أحد النقباء وشهد مع
رسول الله مشاهده كلها، وشهد مع علي عليه السلام الجمل وصفين واستشهد فيها.
(6) خزيمة (مصغرا) بن ثابت الأنصاري يكني أبا عمارة. شهد بدرا وما
بعدها من المشاهد ويقال له ذو الشهادتين لأن رسول الله صلى الله عليه وآله جعله
شهادته كشهادة رجلين لقصة مشهورة، وشهد مع علي عليه السلام صفين وقتل،
وتأوه عليه أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته المذكورة في نهج البلاغة برواية نوف
البكالي (انظر الاستيعاب 12 / 179 باب الكنى حرف الهاء وشرح نهج البلاغة 9 /
108).
قال ابن أبي الحديد في شرح النهج 9 / 109: " ومن غريب ما وقعت عليه من
العصبية أن أبا حيان التوحيدي قال في كتاب " البصائر " إن خزيمة بن ثابت المقتول
مع علي عليه السلام بصفين ليس خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين بل آخر من الأنصار
صحابي اسمه زيد بن ثابت " قال: " وهذا خطأ لأن كتب الحديث والنسب تنطق بأن
لم يكن في الصحابة من الأنصار خزيمة بن ثابت إلا ذو الشهادتين وإنما الهوى لا دواء
له، على أن الطبري صاحب التاريخ قد سبق أبا حيان بهذا القول، ومن كتابه نقل
أبو حيان، والكتب الموضوعة لأسماء الصحابة تشهد بخلاف ما ذكراه " قال: " ثم أي
حاجة لناصري أمير المؤمنين بخزيمة وأبي الهيثم وعمار وغيرهم! ولو أنصف الناس هذا
الرجل ورأوه بالعين الصحيحة لعلموا أنه لو كان وحده وحاربه الناس كلهم أجمعون
لكان على الحق وكان كل الناس على الباطل ".
(7) انظر تفصيل هذه المسألة في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13 / 215.
52
وقاتل) (1) الآية فالاعتبار وهو بمجموع الأمرين يعني القتال والانفاق،
ومعلوم أن أبا بكر لم يقاتل قبل الفتح ولا بعده، وهذا القدر يخرجه من
تناول الآية، ثم في إنفاقه خلاف قد بينا من قبل الكلام فيه وأشبعناه، على
أنه لو سلم لأبي بكر إنفاق وقتال على بعدهما لكان لا يكفي في تناول الآية
له لأنه معلوم أن الله تعالى لا يمدح ولا يعد بالجنة على ظاهر الانفاق
والقتال، وإن كان الباطن بخلافه، ولا بد من اعتبار الباطن والنية
والقصد إلى الله تعالى بالفعل فعلى من ادعى تناول الآية لمن ظهر منه إنفاق
وقتال أن يدل على حسن باطنه وسلامة غرضه، وهذا لا يكون مفهوما من
الآية ولا بد من الرجوع فيها إلى غيرها.
فأما قوله تعالى: (محمد رسول الله والذين معه) (2) الآية فأول ما
يقال فيها أن الألف واللام إذا لم تفد الاستغراق بظاهرها من غير دليل،
لم يكن للمخالف متعلق بهذه الآية لأنها حينئذ محتملة للعموم وغيره على
سواء وقد بينا أن الصحيح غير ذلك، وأن هذه الألفاظ مشترك الظاهر،
ودللنا عليه في غير موضع، ولو سلمنا مذهبهم في العموم أيضا لم نسلم أما
قصدوه لأن قوله تعالى: (والذين معه) لا يعدو أحد أمرين أحدهما من



(1) الحديد 10.
(2) الفتح 29.
53
كان في عصره وزمانه وصحبته، والآخر من كان على دينه وملته، والأول
يقتضي عموم أوصاف الآية وما تضمنته من المدح لجميع من عاصره
وصحبه عليه السلام ومعلوم أن كثيرا من هؤلاء كان منافقا خبيث الباطن
لا يستحق شيئا من المدح ولا يليق به هذه الأوصاف، فثبت أن المراد
بالذين معه من كان على دينه ومتمسكا بملته، وهذا يخرج الظاهر من يد
المخالف وينقض غرضه في الاحتجاج به، لأنا لا نسلم له أن كل من كان
بهذه الصفة فهو ممدوح مستحق لجميع صفات الآية، وعليه أن يبين أن
من خالفناه فيه له هذه الصفة حتى يحصل له التزاحم، وليس لهم أن
يقولوا: نحن نحمل اللفظ (1) على الصحبة والمعاصرة، ونقول إن
الظاهر والعموم يقتضيان حصول جميع الصفات لكل معاصر مصاحب إلا
من أخرجه الدليل، فالذي ذكرتم ممن يظهر نفاقه وشكه نخرجه بدليل،
وذلك أنها إذا حملت على الصحبة والمعاصرة وأخرج بالدليل بعض من كان
بهذه الصفة كانت الآية مجازا لأنا إنما نتكلم الآن على أن العموم هو
الحقيقة والظاهر، ومتى حملناها على أن المراد بها من كان على دينه عمت
كل من كان بهذه الصفة فكانت الآية حقيقة على هذا الوجه، وصار ذلك
أولى مما ذكروه، وليس لهم أن يقولوا: إن الظاهر من لفظة " معه "
يقتضي الزمان والمكان دون المذهب والاعتقاد لأنا لا نسلم ذلك، بل هذه
اللفظة مستعملة في الجميع على سواء، ولهذا يحسن استفهام من قال:
فلان مع فلان عن مراده، وقد يجوز أن يكون في أصل اللغة للمكان أو
الزمان، ويكون العرف وكثرة الاستعمال قد أثر في احتمالها لما ذكرناه،
على إنا لو سلمنا ذلك أيضا لكان التأويلان جميعا قد تعادلا في حصول وجه
من المجاز في كل واحد منهما، وليس المخالف بأن يعدل إلى تأويله هربا



(1) أي " والذين معه ".
54
من المجاز الذي في تأويلنا بأولى ممن عكس ذلك وعدل عن تأويله للمجاز
الذي فيه، وإذا تجاذب التأويلان وتعادلا بطل التعلق بالظاهر، ولم يكن
في الآية دليل للمخالف على الغرض الذي قصده، على إنا قد بينا فيما
تقدم ما يقتضي خروج القوم عن مثل هذه الآية لأن الشدة على الكفار إنما
تكون ببذل النفس في جهادهم والصبر على ذلك وأنه لاحظ لمن يعنون
فيه.
فأما قوله: (فكيف يغتاظ الكفار من ستة نفر) فأول ما فيه أنه بني
من حكاية مذهبنا على فساد فمن الذي قال له منا: إن المتمسكين بالحق
بعد النبي صلى الله عليه وآله كانوا ستة أو ستين أو ستمائة؟ ومن الذي
حصر له عددهم؟ وليس يجب إذا كنا نذهب إلى أنهم قليل بالإضافة إلى
مخالفيهم أن يكونوا ستة لأنا نقول جميعا إن المسلمين بالإضافة إلى أمم
الكفر قليل، وليس هم ستة ولا ستة آلاف على أنه قد فهم من قوله
(والذين معه) ما ليس مفهوما من القول لأنه حمله على من عاصره وكان
في حياته وليس الأمر على ما توهم لأن المراد بذلك من كان على دينه وملته
وسنته إلى أن تقوم الساعة، وهؤلاء ممن يغيظ الكفار بلا شبهة، على إنا
لو سلمنا أن المراد به من كان في حياته في عصره لم يلزم أيضا ما ظنه لأنه
قد قتل ومات في حياة الرسول صلى الله عليه وآله قبل الهجرة وبعدها ممن
كان على الحق عدد كثير وجم غفير يغيظ بعضهم الكفار فضلا عن
كلهم.
فأما تعلقه بما روي عنه صلى الله عليه وآله من قوله: (خير الناس
قرني ثم الذين يلونهم) (1) فأول ما فيه أنه خبر واحد لا يوجب علما ولا



(1) ع " خير القرون ".
55
يجوز أن يحتج به في أماكن العلم، ثم هو معارض بأخبار كثيرة قد ذكرنا
منها طرفا فيما تقدم من هذا الكتاب مثل قوله: (لتتبعن سنن الذين من
قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخل أحدهم في حجر ضب
لدخلتموه) فقالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال (فمن إذا) (1)
وقال في حجة الوداع بعد كلام طويل: " ألا لا أعرفنكم ترتدون بعدي
كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا إني قد شهدت وغبتم " (2) وهذا
خطاب لأصحابه ومن كان في أيامه وقرنه، على أنه لا يخلو هذا الخبر (3)
من أن يكون متوجها إلى جميع من كان في أيامه وعصره أو إلى بعض من
كان فيه، فإن كان متوجها إلى جميعهم فهذا ما لا نقول به جميعا لأن في
أيامه وعلى قرنه معاوية وعمرو بن العاص وأبا سفيان وفلانا وفلانا ممن
نقطع جميع على أنه لا خير عنده، وإن كان متوجها إلى البعض فقد سقط
الغرض بالاحتجاج به، وهذه جملة كافية في هذا الفضل.



(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(3) في ع " هذا الجنس " فيكون المعنى هذا الجنس من الكلام وهو " خير الناس
قرني ".
56
فصل
في تتبع كلامه على الطاعن على أبي بكر وما أجاب به عن مطاعنهم
ابتدأ صاحب الكتاب في هذا الفصل (1) بذكر ميراث النبي صلى الله
عليه وآله ورتب في ذلك كلاما لا نرتضيه (2) ونحن بعد نبين الترتيب فيه
وكيفية التعلق به.
ثم أجاب عن ذلك بأن قال في الخبر الذي احتج به أبو بكر يعني
قوله: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث): " لم يقتصر على روايته حتى
استشهد عليه عمر وعثمان وطلحة والزبير وسعدا وعبد الرحمن فشهدوا
به، فكان لا يحل لأبي بكر وقد صار الأمر إليه أن يقسم التركة ميراثا
وقد خبر الرسول (3) صلى الله عليه وآله بأنه صدقة وليس بميراث، وأقل ما
في هذا الباب أن يكون الخبر من أخبار الآحاد فلو أن شاهدين شهدا في
التركة أن فيها حقا أليس كان يجب أن يصرفه عن الإرث؟ فعلمه بما قال



(1) نقل ما في هذا الفصل من كلام قاضي القضاة في " المغني " ورد المرتضى
عليه في " الشافي " ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج 16 ص 237 - 286 فما ترى
رمزه بحرف " ش " فهو للفروق المهمة في نقل ابن أبي الحديد، وكلام القاضي الذي
أشار إليه المرتضى في " المغني " 20 ق 1 / 328.
(2) يعني المعتزلة والامامية.
(3) ش " رسول الله صلى الله عليه وآله ".
57
الرسول صلى الله عليه وآله مع شهادة غيره أقوى من ذلك ولسنا نجعله
مدعيا (1) لأنه لم يدع ذلك لنفسه وإنما بين أنه ليس بميراث وأنه صدقة،
ولا يمتنع تخصيص القرآن بذلك كما يخص في العبد والقاتل وغيرهما وليس
ذلك بنقص (2) للأنبياء بل هو إجلال لهم (3) يرفع الله به قدرهم عن أن
يورثوا المال وصار ذلك من أوكد الدواعي إلى أن لا يتشاغلوا بجمعها (4) لأن
الدواعي (5) القوية (6) إلى ذلك تركه على الأولاد والأهلين.
ولما سمعت فاطمة عليها السلام ذلك من أبي بكر كفت عن الطلب
بما ثبت من الأخبار الصحيحة فلا يمتنع أن تكون غير عارفة بذلك فطلبت
الإرث فلما روى لها ما روى كفت فأصابت أولا وأصابت ثانيا.
وليس لأحد أن يقول: كيف يجوز أن يبين النبي صلى الله عليه وآله
ذلك للقوم ولا حق لهم في الإرث (7) ويدع أن يبين ذلك لمن له حق في
الإرث مع أن التكليف يتصل به. وذلك لأن التكليف في ذلك يتعلق
بالامام فإذا بين له جاز أن لا يبين لغيره ويصير البيان له بيانا لغيره، وإن
لم تسمع من الرسول صلى الله عليه وآله لأن هذا الجنس من البيان يجب
أن يكون بحسب المصلحة " ثم حكي عن أبي علي أنه قال: " أتعلمون كذب
أبي بكر في هذه الرواية أم تجوزون كذبه وصدقه " (8) قال: قد علم أنه لا



(1) غ " بدعيا ".
(2) في المغني " بنقض للآية " وتحير المحقق في التوجيه وتركه على ما هو عليه.
(3) غ " حلال لهم " ويختل المعنى بذلك.
(4) بجمعه خ ل.
(5) ش " أحد الدواعي ".
(6) في المغني " البشرية " بدل " القوية ".
(7) غ " يتبرع " وهو تصحيف.
(8) في المغني " أتعلمون صدق أبي بكر في هذه الرواية أم تجوزون
صدقه؟ ". وفي ش " أم تجوزون أن يكون صادقا ".
58
شئ يعلم به قطعا كذبه فلا بد من تحريز كونه صادقا، وإذا صح ذلك
قيل لهم فهل كان يحل له مخالفة رسول الله صلى الله عليه وآله.
فإن قالوا: لو كان صدقا لظهر واشتهر.
قيل لهم: إن ذلك من باب العمل فلا يمتنع أن يتفرد بروايته جماعة
يسيرة (1) مثل الواحد والاثنان مثل ساير الأحكام ومثل الشهادات.
فإن قالوا: نعلم أنه لا يصح لقوله تعالى في كتابه: " وورث سليمان
داود) (2)
قيل لهم: ومن أين أنه ورثه الأموال مع تجويز أن يكون المراد ورثه العلم
والحكمة.
فإن قالوا: إطلاق الميراث لا يكون إلا في الأموال.
قيل لهم: إن كتاب الله يبطل قولكم لأنه قال: (ثم أورثنا الكتاب
الذين اصطفينا من عبادنا) (3) والكتاب ليس بمال، ويقال في اللغة ما
ورث الآباء الأبناء شيئا أفضل من أدب (4) حسن وقالوا (العلماء ورثة
الأنبياء) وإنما ورثوا منهم العلم دون المال على أن في آخر الآية (5) ما يدل
على ما قلناه وهو قوله تعالى: (يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من
كل شئ إن هذا لهو الفضل المبين) (6) فنبه على أن الذي ورث هو هذا
العلم وهذا الفضل وإلا لم يكن لهذا القول تعلق بالأول.



(1) غ " بل الواحد " الخ.
(2) النمل 16.
(3) فاطر 32.
(4) ش " ما ورث الأبناء عن الآباء ".
(5) غ " على إن في الكتاب ".
(6) النمل 16.
59
فإن قالوا: فقد قال تعالى: (فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث
من آل يعقوب) (1) وذلك يبطل الخبر.
قيل لهم: ليس في ذلك بيان المال أيضا وفي الآية ما يدل على أن المراد
النبوة والعلم لأن زكريا خاف على العلم أن يندرس.
وأما قوله: (وإني خفت الموالي من ورائي) يدل على ذلك لأن الأنبياء
لا تحرص على الأموال حرصا يتعلق خوفها بها وإنما أراد خوفه على العلم
أن يضيع فسأل الله تعالى وليا يقوم الدين مقامه.
وقوله: (ويرث من آل يعقوب) يدل على أن المراد العلم والحكمة
لأنه لا يرث أموال آل يعقوب في الحقيقة وإنما يرث ذلك غيره، فأما من
يقول: المراد في (إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة) لا يدل على
إنا لا نورث الأموال فكأنه أراد أن ما جعلوه صدقة في حال حياتهم لا
يورثون فركيك (2) من القول لأن إجماع الصحابة بخلافه لأن أحدا لم
يتأوله على هذا الوجه لأنه لا يكون في ذلك تخصيص للأنبياء ولا مزية لهم
ولأن قوله: (ما تركناه صدقة) جملة من الكلام مستقلة بنفسها ولا وجه إذا لم
يكن ذلك فيها أن يجعل من تمام الكلام الأول فكأنه عليه السلام مع
بيانه (3) أنهم لا يورثون بين جهة المال الذي خلفوه لأنه كان يجوز أن لا
يكون ميراثا ويصرف إلى وجه آخر (4).



(1) مريم 5 و 6.
(2) غ " فباطل ".
(3) المغني 20 ق 1 / 330.
(4) أي " ما تركناه صدقة " جملة مستقلة أتى به أي بهذا القول مع بيان أنه ليس
ميراثا لنفي جواز أن يصرف في وجهه.
60
فأما خبر السيف والبغلة (1) والعمامة وغير ذلك فقد قال أبو علي
إنه لم يثبت أن أبا بكر دفع ذلك إلى أمير المؤمنين عليه السلام (2) على جهة
الإرث، وكيف يجوز ذلك مع الخبر الذي رواه؟ وكيف يجوز لو كان وارثا
أن يخصه بذلك ولا إرث له مع العم لأنه عصبة (3) فإن كان وصل إلى
فاطمة عليها السلام فقد كان ينبغي أن يكون العباس شريكا في ذلك
وأزواج النبي صلى الله عليه وآله، ولوجب أن يكون ذلك ظاهرا مشهورا
ليعرف أنهم أخذوا نصيبهم من غير ذلك، أو بدله ولا يجب إذا لم يدفع
أبو بكر إليه على جهة الإرث أن لا يحصل في يده، لأنه قد يجوز أن يكون
النبي صلى الله عليه وآله نحله (4) ويجوز أيضا أن يكون أبو بكر رأى
الصلاح في ذلك أن يكون بيده لما فيه من تقوية الدين وتصدق ببدله بعد
التقويم لأن للإمام أن يفعل ذلك) (5).
وحكي عن أبي علي في البردة والقضيب (إنه لا يمتنع أن يكون
جعله عدة في سبيل الله وتقوية على المشركين فتداولته الأئمة (6) لما فيه من
التقوية ورأى أن ذلك (7) أولى من أن يتصدق به إن ثبت أنه عليه السلام لم
يكن قد نحله غيره في حياته) (8) ثم عارض نفسه بطلب أزواج النبي صلى الله



(1) غ " النعل ".
(2) غ " إلى علي عليه السلام ".
(3) العصبة - بالتحريك - قرابة الرجل لأبيه سموا بذلك لأنهم عصبوا به، أي
أحاطوا.
(4) النحلى - بضم النون، وقصر آخرها، والنحلة - بكسر النون -: العطية عن
طيب نفس.
(5) المغني 20 ق 1 / 331.
(6) غ " الأمة " تصحيف.
(7) غ " أقوى ".
(8) المغني 20 ق 1 / 333.
61
عليه وآله الميراث وتنازع أمير المؤمنين عليه السلام والعباس فيه بعد
موت فاطمة عليها السلام.
وأجاب عن ذلك بأن قال: (يجوز أن يكونوا لم يعرفوا رواية (1) أبي
بكر وغيره للخبر.
وقد روي أن عائشة لما عرفتهن الخبر أمسكن (2) وقد بينا أنه لا يمتنع
في مثل ذلك أن يخفى على من يستحق الإرث ويعرفه من يتقلد الأمر كما
تعرف العلماء والحكام (3) من أحكام المواريث ما لا يعلمه أرباب الإرث
وقد بينا أن رواية أبي بكر مع الجماعة أقوى من شاهدين لو شهدا على
التركة بدين (4) وهو أقوى من رواية سلمان وابن مسعود ولو رويا ذلك
عند القوم كان يجب أن يقبل منهما).
قال: (ومتى تعلقوا بعموم القرآن أريناهم جواز التخصيص بهذا
الخبر كما إن عموم القرآن يقتضي كون الصدقات للفقراء وقد ثبت أن آل
محمد صلوات الله عليهم لا يحل لهم الصدقة...) (5)
يقال له: نحن نبين أولا ما يدل على أنه صلى الله عليه وآله يورث
المال، ونرتب الكلام في ذلك الترتيب الصحيح، ثم نعطف على ما أورده
ونتكلم عليه.
والذي يدل على ما ذكرناه قوله تعالى مخبرا عن زكريا عليه السلام



(1) في المغني " إن ثبت ذلك فلأنهم لم يعرفوا رواية... "
(2) غ " لما عرفتهم أمسكوا ".
(3) غ " والحكماء ".
(4) غ " بان بعض تركته في دين ".
(5) المغني 20 ق 1 / 333.
62
(وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا
يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا) (1) فخبر أنه خاف من
بني عمه لأن الموالي ها هنا هم بنو العم بلا شبهة، وإنما خافهم أن يرثوا
ماله فينفقوه في الفساد، لأنه كان يعرف ذلك من خلائقهم وطرائقهم
فسأل ربه ولدا يكون أحق بميراثه منهم، والذي يدل على أن المراد بالميراث
المذكور في الآية ميراث المال دون العلم والنبوة على ما يقولون، إن لفظة
الميراث في اللغة والشريعة جميعا لا يعهد (2) إطلاقها إلا على ما يحق وأن
ينتقل على الحقيقة من المورث إلى الوارث كالأموال وما في معناها، ولا
يستعمل في غير المال إلا تجاوزا واتساعا، ولهذا لا يفهم من قول القائل:
لا وارث لفلان إلا فلان، وفلان يرث مع فلان بالظاهر، والاطلاق إلا
ميراث الأموال والأعراض دون العلوم وغيرها، وليس لنا أن نعدل عن
ظاهر الكلام وحقيقته إلى مجازه بغير دلالة، وأيضا فإنه تعالى خبر عن نبيه
صلوات الله عليه أنه اشترط في وارثه أن يكون رضيا، ومتى لم يحمل
الميراث في الآية على المال دون العلم والنبوة لم يكن للاشتراط معنى، وكان
لغوا عبثا، لأنه إذا كان إنما سأل من يقوم مقامه ويرث مكانه فقد دخل
الرضا وما هو أعظم من الرضا في جملة كلامه وسؤاله، فلا معنى (3)
لاشتراطه ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول اللهم ابعث إلينا نبيا واجعله
عاقلا ومكلفا فإذا ثبتت هذه الجملة صح أن زكريا موروث ماله، وصح
أيضا بصحتها أن نبينا صلى الله عليه وآله ممن يورث المال، لأن الإجماع
واقع على أن حال نبينا عليه السلام لا يخالف حال الأنبياء المتقدمين في



(1) مريم 5 و 6.
(2) ش " لا يفيد ".
(3) ش " فلا مقتضى لاشتراطه ".
63
ميراث المال، فمن مثبت للأمرين وناف للأمرين.
ومما يقوي ما قدمناه أن زكريا خاف بني عمه فطلب وارثا لأجل
خوفه، ولا يليق خوفه منهم إلا بالمال دون النبوة والعلم. لأنه عليه
السلام كان أعلم بالله تعالى من أن يخاف أن يبعث نبيا من ليس بأهل
للنبوة وأن يورث علمه وحكمه من ليس أهلا لها، ولأنه إنما بعث لإذاعة
العلم ونشره في الناس فلا يجوز أن يخاف من الأمر الذي هو الغرض في
بعثته.
فإن قيل: فهذا يرجع عليكم في الخوف من وراثة المال (1) لأن
ذلك غاية الضن (2) والبخل.
قلنا: معاذ الله أن يستوي الحال لأن المال قد يصح أن يرزقه الله
تعالى المؤمن والكافر، والعدو والولي، ولا يصح ذلك في النبوة
وعلومها. وليس من الضن أن يأسى على بني عمه وهم من أهل الفساد
أن يظفروا بماله فينفقوه على المعاصي، ويصرفوه في غير وجوهه المحبوبة،
بل ذلك هو غاية الحكمة وحسن التدبير في الدين. لأن الدين يحظر تقوية
الفساق وإمدادهم بما يعينهم على طرائقهم المذمومة، وما يعد ذلك شحا
ولا بخلا إلا من لا تأمل له.
فإن قيل: فالا جاز أن يكون خاف من بني عمه أن يرثوا علمه وهم
من أهل الفساد على ما ادعيتم فيستفسدوا به الناس ويموهونه عليهم؟
قلنا: لا يخلو هذا العلم الذي أشرتم إليه من أن يكون هو كتب
علمه وصحف حكمته لأن ذلك قد يسمى علما على طريق المجاز، أو أن



(1) ش " عن إرث المال ".
(2) الضن - بالضاد -: البخل، فالكلمتان مترادفتان على معنى واحد.
64
يكون هو العلم الذي يحل القلوب، فإن كان الأول فهو يرجع إلى معنى
المال ويصحح أن الأنبياء عليهم السلام يورثون أموالهم وما في معناها،
وإن كان الثاني لم يخل هذا العلم من أن يكون هو العلم الذي بعث النبي
صلوات الله عليه بنشره وأدائه، أو أن يكون علما مخصوصا لا يتعلق
بالشريعة ولا يجب اطلاع جميع الأمة عليه كعلم العواقب وما يجري في
المستقبل من الأوقات وما جرى مجرى ذلك والقسم الأول لا يجوز على
النبي صلى الله عليه وآله أن يخاف من وصوله إلى بني عمه وهم من جملة
أمته الذين بعث إلى أن يطلعهم (1) على ذلك ويؤديه إليهم وكأنه على هذا
الوجه يخاف مما هو الغرض في بعثته.
والقسم الثاني فاسد أيضا لأن هذا العلم المخصوص إنما يستفاد من
جهته ويوقف عليه باطلاعه وإعلامه، وليس هو مما يجب نشره في جميع
الناس فقد كان يجب إذا خاف من إلقائه إلى بعض الناس فسادا أن لا
يلقيه إليه فإن ذلك في يده ولا يحتاج إلى أكثر من ذلك. ومما يدل على أن
الأنبياء عليهم السلام يورثون قوله تعالى: (وورث سليمان داود) (2)
والظاهر من إطلاق لفظ الميراث يقتضي الأموال وما في معناها على ما دللنا
عليه (3) من قبل، ويدل أيضا على ذلك قوله تعالى: (يوصيكم الله في
أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) (4) الآية وقد أجمعت الأمة على عموم
هذه اللفظة إلا من أخرجه الدليل فيجب أن يتمسك بعمومها لمكان هذه
الدلالة، ولا يخرج عن حكمها إلا من أخرجه دليل قاطع فأما تعلق



(1) ش " لاطلاعهم وتأديته إليهم ".
(2) النمل 16.
(3) ش " به من قبل "
(4) النساء 11.
65
صاحب الكتاب بالخبر الذي رواه أبو بكر وادعاه وأنه استشهد عمر
وعثمان وفلانا وفلانا فأول (1) ما فيه أن الذي ادعاه من الاستشهاد غير
معروف.
والذي روي أن عمر استشهد هؤلاء النفر لما نازع (2) أمير المؤمنين
عليه السلام العباس في الميراث فشهدوا بالخبر المتضمن لنفي الميراث،
وإنما معول مخالفينا في صحة الخبر الذي رواه أبو بكر عند مطالبة فاطمة
عليها السلام بالميراث على إمساك الأمة عن النكير عليه والرد لقضيته (3)
ولو سلمنا استشهاد من ذكر على الخبر لم يكن فيه حجة، لأن الخبر
على كل حال لا يخرج من أن يكون غير موجب للعلم، وهو في حكم
أخبار الآحاد، وليس يجوز أن يرجع عن ظاهر القرآن بما يجري هذا
المجرى، لأن المعلوم لا يخص إلا بمعلوم، وإذا كانت دلالة الظاهر
معلومة لم يجز أن يرجع (4) عنها بأمر مظنون، وهذا الكلام مبني على أن
التخصيص للكتاب والسنة المقطوع بها (5) بأخبار الآحاد وهو المذهب
الصحيح، وقد أشرنا إلى ما يمكن أن يعتمد في الدلالة عليه من أن الظن
لا يقابل العلم ولا يرجع عن المعلوم بالظن (6)، وليس لهم أن يقولوا: إن



(1) في الأصل " فالأول ما فيه " وصححناه عن ابن أبي الحديد.
(2) ش " تنازع أمير المؤمنين عليه السلام والعباس ".
(3) علق ابن أبي الحديد على ذلك بقوله: " صدق المرتضى رحمه الله فيما قال،
أما عقيب وفاة النبي صلى الله عليه وآله ومطالبة فاطمة عليها السلام بالإرث، فلم يرو
الخبر غير أبي بكر وحده، وقيل: إنه رواه معه مالك بن أوس بن الحدثان أما
المهاجرون الذين ذكرهم قاضي القضاة، فإنما شهدوا في الخبر في خلافة عمر " (الشرح
16 / 245).
(4) ش " يخرج عنها ".
(5) في الأصل " بهما " وآثرنا نقل ابن أبي الحديد، لأن أخبار الآحاد من السنة
ولكن غير مقطوع بها.
(6) ش " بالمظنون ".
66
التخصيص بالأخبار الآحاد (1) مستند أيضا إلى علم وإن كان الطريق
مظنونا، ويشيروا إلى ما يدعونه من الدلالة على وجوب العمل بخبر
الواحد في الشريعة (2) وإنه حجة لأن ذلك مبني من قولهم على ما لا
نسلمه، وقد دل الدليل على فساده (3) من صحة العمل بخبر الواحد،
والكلام في أن خبر الواحد يقبل في الشريعة أولا يقبل لا يليق بكتابنا
هذا.
والكلام فيه معروف على أنه لو سلم لهم أن خبر الواحد يعمل به في
الشرح لاحتاجوا إلى دليل مستأنف على أنه يقبل في تخصيص القرآن لأن ما
دل على العمل به في الجملة لا يتناول هذا الموضع كما لا يتناول جواز
النسخ به.
وهذا يسقط قول صاحب الكتاب " إن شاهدين لو شهدا أن في التركة
حقا لكان يجب أن يصرف عن الإرث، وذلك أن الشهادة وإن كانت
مظنونة فالعمل بها استند إلى علم (4)، لأن الشريعة قد قررت العمل
بالشهادة ولم تقرر العمل بخبر الواحد وليس له أن يقيس خبر الواحد على
الشهادة من حيث اجتمعا في غلبة الظن لأنا لم نعمل على الشهادة من
حيث غلبة الظن دون ما ذكرناه من تقرير الشريعة العمل بها، ألا ترى إنا
قد نظن صدق الفاسق والمرأة والصبي وكثير ممن يجوز صدقه (5) ولا يجوز
العمل بقوله، فبان أن المعول في هذا على المصلحة التي نستفيدها على



(1) في شرح النهج " أخبار الآحاد " على الإضافة لا الصفة.
(2) ش " في الشرع ".
(3) أي حجية خبر الواحد.
(4) ش " استند ".
(5) " ممن يجوز صدقه " ساقطة من شرح نهج البلاغة.
67
طريق الجملة من دليل الشرع وأبو بكر في حكم المدعي لنفسه، والجار
إليها بخلاف ما ظنه صاحب الكتاب، وكذلك من شهد له إن كانت
شهادة قد وجدت، وذلك أن أبا بكر وسائر المسلمين سوى أهل بيت
الرسول صلوات الله عليهم يحل لهم الصدقة، ويجوز أن يصيبوا منها،
وهذه تهمة في الحكم والشهادة.
وليس له أن يقول: فهذا يقتضي أن لا يقبل شهادة شاهدين في
تركة بأن فيها صدقة لمثل ما ذكرتم، وذلك لأن الشاهدين إذا شهدا بالصدقة
فحظهما منها كحظ صاحب الميراث، بل سائر المسلمين وليس كذلك حال
تركة الرسول صلى الله عليه وآله لأن كونها صدقة يحرمها على ورثته
ويبيحها لسائر المسلمين.
فأما قوله: (نخص القرآن بذلك كما خصصنا في العبد والقاتل) (1)
فليس بشئ لأن من ذكر إنما خصصناهما بدليل مقطوع عليه معلوم (2)
وليس هذا في الخبر الذي ادعاه.
فأما قوله: (وليس ذلك ينقص للأنبياء عليهم السلام بل هو
إجلال لهم) فمن الذي قال له: إنه نقص؟ وكما إنه لا نقص فيه فلا
إجلال فيه ولا فضيلة، لأن الداعي وإن كان قد يقوى إلى جمع المال
ليخلف على الورثة فقد يقويه أيضا إرادة صرفه في وجوه الخير والبر، وكلا
الأمرين يكون داعيا إلى تحصيل المال، بل الداعي الذي ذكرناه أقوى فيما
يتعلق بالدين.
فأما قوله: (إن فاطمة عليها السلام لما سمعت ذلك كفت عن



(1) يعني في عدم استحقاقهما في الميراث.
(2) ش " لأنا قد خصصنا من ذكر بدليل معلوم ".
68
الطلب فأصابت أولا وأصابت آخرا) فلعمري أنها كفت عن الطلب الذي
هو المنازعة والمشاحة لكنها انصرفت مغضبة متظلمة متألمة والأمر في غضبها
وسخطها أظهر من أن يخفى على منصف، فقد روى أكثر الرواة الذين لا
يتهمون بتشيع ولا عصبية فيه من كلامها عليها السلام في تلك الحال،
وبعد انصرافها عن مقام المنازعة والمطالبة ما يدل على ما ذكرناه من
سخطها وغضبها ونحن نذكر من ذلك ما يستدل به على صحة قولنا،
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عمران المرزباني (1) قال [حدثني محمد بن
أحمد الكاتب] (2) حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح النحوي (3) قال حدثنا
الزيادي (4) قال حدثنا الشرقي بن القطامي (5) عن محمد بن إسحاق (6)



(1) المرزباني: محمد بن عمران، يعد من محاسن الدنيا، صادق اللهجة.
ثقة في الحديث، واسع المعرفة رواية للأدب، وقيل: هو أول من أسس علم البيان
ودونه، وبهذا تعرف أنه سابق لعبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني المتوفى سنة 471
في هذا العلم، وللمرزباني من المؤلفات (كتاب ما نزل في القرآن في علي عليه
السلام) وهو أول من جمع شعر يزيد بن معاوية بن أبي سفيان واعتنى به، وهو من
مشائخ المفيد، وقد أكثر السيد الشريف المرتضى النقل عنه في " الغرر والدرر " توفي
المرزباني سنة 384 (انظر مصادر نهج البلاغة وأسانيده).
(2) الزيادة من ابن أبي الحديد، والكاتب هو أبو طاهر محمد بن أحمد بن
محمد الكاتب من شيوخ ابن مندة (انظر ابن خلكان 6 / 169).
(3) أحمد بن عبيد بن ناصح أبو جعفر المعروف بأبي عصيدة أديب ديلمي
الأصل من موالي بني هاشم تولى تأديب المعتز العباسي من كتبه " عيون الأخبار
والأشعار " و " الزيادات في معاني الشعر لابن السكيت في إصلاحه " توفي سنة 273
(انظر الأعلام للزركلي 1 / 159).
(4) الزيادي: عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي النحوي من الموالي من أهل
البصرة توفي سنة 129 (خزانة الأدب 1 / 115، وتهذيب التهذيب: 5 / 148).
(5) الشرقي بن القطامي: كوفي اسمه الوليد بن الحصين، والشرقي لقب
غلب عليه كان عالما بالنسب وافر الأدب أقدمه المنصور بغداد وضم إليه المهدي ليأخذ
من أدبه توفي حدود سنة 155 (تاريخ بغداد 9 / 279 ولسان الميزان 3 / 142).
(6) محمد بن إسحاق بن يسار أبو بكر القرشي بالولاء إمام أصحاب السير،
من بحور العلم، ثبت في الحديث، عده الشيخ الطوسي ممن أسند عن الإمام الصادق
عليه السلام نشأ بالمدينة، واضطر إلى الخروج منها إلى مصر بسبب تشيعه، ثم قدم
على أبي جعفر المنصور وهو بالحيرة، وكتب له المغازي، وسمع منه أهل الكوفة بهذا
السبب، وكتابه في السيرة إلى قسمين " مبتدأ الخلق " و " المغازي " والظاهر أنه لم يبق
من هذين الكتابين إلا ما اختاره ابن هشام من سيرة النبي صلى الله عليه وآله، وما
نقله أصحاب الكتب منهما كالطبري وابن أبي الحديد، توفي ابن إسحاق بغداد سنة
151 ودفن بمقبرة الخيزران في الجانب الشرقي (انظر رجال الطوسي وابن خلكان 4 /
276، تأسيس الشيعة 232).
69
قال: حدثنا صالح بن كيسان (1) عن عروة (2) عن عائشة قال المرزباني
وحدثنا أبو بكر أحمد بن محمد (3) المكي قال: حدثنا أبو العينا محمد بن
القاسم السيمامي (4) قال حدثنا ابن عائشة (5) قال: لما قبض رسول الله
صلى الله عليه وآله أقبلت فاطمة عليها السلام في لمة (6) من حفدتها إلى
أبي بكر، وفي الرواية الأولى قالت عائشة: لما سمعت فاطمة عليها السلام



(1) قال الذهبي " صالح بن كيسان أحد الثقاة والعلماء (ميزان الاعتدال 2 /
299).
(2) هو عروة بن الزبير بن العوام أبو عبد الله المدني ولد في أوائل خلافة عمر
وتوفي سنة 94 وقد عده ابن أبي الحديد في شرح النهج من المنحرفين عن علي عليه
السلام.
(3) أحمد بن محمد بن أبي الموت المكي روى عن البغوي صاحب المسند (انظر
ميزان الاعتدال 1 / 151).
(4) أبو العيناء هو عبد الله بن محمد بن القاسم بن خلاد الأهوازي البصري
كان أديبا ماهرا، وكان من الظرفاء والأذكياء حاضر النكتة، سريع الجواب نقل ابن
خلكان كثيرا من أجوبته ونوادره، وأضر وهو في حدود الأربعين من عمره فسئل يوما:
ما ضرك من العمى، قال شيئان. أحدهما فاتني السبق بالسلام، والثاني ربما ناظرت
فهو يكفهر وجهه ويظهر الكراهية حتى لا أراه وأقطع الكلام توفي بالبصرة سنة 283 أو
284.
(5) ابن عائشة: عبيد الله بن محمد بن حفص التيمي نسبة إلى عائشة بنت
طلحة لأنها من جداته قال في تقريب التهذيب: ثقة جواد رمي بالقدر ولم يثبت مات
سنة 228.
(6) اللمة - بالضم والتخفيف: الترب والشكل.
70
إجماع أبي بكر على منعها فدك لاثت خمارها على رأسها، واشتملت
بجلبابها (1) وأقبلت في لمة من حفدتها [ثم اجتمعت الروايتان من
هاهنا] (2) ونساء قومها تطأ ذيولها ما تخرم (3) مشيتها مشية رسول الله
صلى الله عليه وآله حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد (4) من
المهاجرين والأنصار وغيرهم فنيطت دونها ملاءة (5) ثم أنت أنة أجهش
القوم لها بالبكاء (6) وارتج المجلس، ثم أمهلت هنيئة (7) حتى إذا سكن
نشيج القوم وهدأت فورتهم (8) افتتحت كلامها بالحمد لله عز وجل
والثناء عليه والصلاة على رسوله صلى الله عليه وآله ثم قالت: (9)



(1) الجلباب: الملحفة، والجمع جلابيب.
(2) ما بين المعقوفين من شرح نهج البلاغة.
(3) لم تخرم لم تنقص، يقال ما خرم منه شيئا أي ما نقص
(4) الحشد - كفلس -: الجماعة.
(5) نيطت: علقت ووصلت، والملاءة: الريطة والأزار أيضا.
(6) أجهش بالبكاء: تهيأ له.
(7) ح " هنيهة " والمعنى واحد.
(8) الفورة: الجيشان.
(9) خطبة الزهراء سلام الله عليه في شأن فدك رواها الخلف عن السلف من
العلويين في جميع الأجيال إلى زمن الأئمة من أهل البيت عليهم السلام. وكان مشائخ
آل أبي طالب يروونها عن آبائهم ويعلمونها أبناءهم وهم من محاسن الخطب وبدائعها،
وفيها عقبة من أريج الرسالة. كما أخرجها من إثبات الرواة غير الشيعة، فقد روى
ابن أبي الحديد فصولا منها ضمن جملة من أخبار فدك وما جرى في شأنها وقال في
مقدمة ذلك: " الفصل الأول فيما ورد من الأخبار والسير المنقولة من أفواه أهل
الحديث وكتبهم. لأن من كتب الشيعة ورجالهم. لأنا مشترطون على أنفسنا أن لا نحفل
بذلك، (شرح نهج البلاغة ج 16 / 210) ثم نقل أسانيد لهذه الخطبة تنتهي إلى
زينب بنت أمير المؤمنين والإمامين الباقر والصادق وزيد بن علي بن الحسين بن زيد بن
علي بن الحسين وإلى عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي عليهم السلام مضافا إلى
الأسانيد الأخرى التي ينتهي بعضا إلى عروة بن الزبير عن خالته أم المؤمنين عائشة
(رض) والخطبة تجدها كاملة في الجزء الأول من الاحتجاج للطبرسي في باب احتجاج
فاطمة عليها السلام وقال أبو الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الأربلي المتوفى
سنة 693، في كتابه " كشف الغمة في معرفة الأئمة " ج 2 / 108 " نقلتها - أي خطبة
الزهراء عليها السلام - من كتاب " السقيفة " لأبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري
عن عمرو بن شبة - توفي سنة 262 - من نسخة مقروءة على مؤلفها المذكور، قرئت في
ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة روى عن رجاله من عدة طرق أن فاطمة عليها
السلام لما بلغها إجماع أبي بكر على منعها فدكا لاثت خمارها وأقبلت في لميمة من حفدتها
الخ " ويظهر من هذا أن الجوهري كان حيا سنة 322.
71
(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص
عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) (1) فإن تعزوه (2) تجدوه أبي دون آبائكم، وأخا
ابن عمي دون رجالكم، فبلغ الرسالة صادعا بالنذارة (3) مائلا عن سنن
المشركين ضاربا ثبجهم (4) يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة
آخذا بأكظام (5) المشركين يهشم الأصنام ويفلق الهام، حتى انهزم الجمع،
وولوا الدبر، وحتى تفرى (6) الليل عن صبحه، وأسفر الحق عن محضه،
ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق (7) الشياطين، وتمت كلمة
الاخلاص وكنتم على شفا حفرة من النار نهزة الطامع (8) ومذقة
الشارب (9) وقبسة العجلان (10) وموطأ الأقدام، تشربون الطرق (11)



(1) التوبة / 128.
(2) تعزوه: تسندوه.
(3) صدع بالأمر: تكلم به جهارا.
(4) الثبج - بفتحتين - ما بين الكاهل إلى الظهر، وقيل: ثبج كل شئ
وسطه.
(5) الأكظام جمع كظم - بالتحريك -: مخرج النفس.
(6) تفرى الليل عن صبحه: انشق.
(7) الشقاشق - جمع شقشقة - الجلدة الحمراء التي يخرجها البعير من جوفه عند
هيجانه.
(8) النهزة كالفرصة وزنا ومعنى.
(9) اللبن الممزوج بالماء.
(10) قبسة العجلان مثل في الاستعجال تشبيها بالمقتبس الذي يدخل الدار ريثما
يقبس الجذوة من النار.
(11) الطرق - بفتح وسكون - والمطروق أيضا: ماء الغدران الذي تبول فيه
الإبل وتبعر.
72
وتقتاتون القد (1) أذلة خاسئين، يتخطفكم الناس من حولكم، حتى
أنقذكم الله عز وجل برسوله صلى الله عليه وآله بعد اللتيا والتي (2) وبعد
أن مني بسهم الرجال (3) وذؤبان العرب (4) ومردة أهل النفاق (5) (كلما
أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله) (6) ونجم قرن للشيطان (7) أو فغرت
للمشركين فاغرة (8) قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها
بأخمصه (9) ويطفئ عادية لهبها، (10) أو قالت: ويخمد لهبهتا بحده
مكدودا في ذات الله (11) وأنتم في رفاهية فكهون آمنون وادعون) (12)
إلى هاهنا انتهى خبر أبي العيناء عن ابن عائشة، وزاد عروة ابن



(1) القد - بالكسر -: سير يقد من جلد غير مدبوغ.
(2) اللتيا - بالفتح والتشديد - والمراد باللتيا والتي الداهية الصغيرة والكبيرة،
وكنى عن الكبيرة بالتصغير تشبيها بالحية فإنها إذا كثر سمها صغرت لأنهم يزعمون أن
السم يأكل جسدها، والأصل في المثل أن رجلا من جديس تزوج امرأة قصيرة فقاسى
منها الشدائد فطلقها وتزوج طويلة فكانت أشد من الأولى فطلقها فقيل له: ألا تتزوج
قال: أبعد اللتيا والتي فذهبت مثلا.
(3) بهم الرجال: شجعانهم.
(4) ذؤبان العرب: لصوصهم وصعاليكهم.
(5) المردة - جمع مارد وهو العاتي.
(6) المائدة / 64.
(7) نجم: ظهر وطلع.
(8) فاغرة المشركين: جماعتهم، والمعنى مجازي مأخوذ من فغر فاه إذا فتحه.
(9) الصماخ - بالكسر - خرق الأذن، وقيل: هو الأذن نفسها والسين لغة
فيه والأخمص: ما دخل من باطن القدم فلم يصب الأرض.
(10) العادية: الشر.
(11) مكدودا: متعبا.
(12) الرفاهية والرفاهة من العيش: السعة، والفكه: طيب النفس والودع
والوديع الساكن.
73
الزبير عن عائشة.
(حتى إذا اختار الله لنبيه دار أنبيائه ظهرت حسيكة النفاق (1)
وسمل جلباب الدين (2) ونطق كاظم الغاوين (3) ونبغ خامل الآفكين (4)
وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم (5) وأطلع الشيطان رأسه
صارخا بكم، فدعاكم فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرة (6) ملاحظين،
ثم استنهضكم فوجدكم خفافا، وأحمشكم (7) فألفاكم غضبا فوسمتم (8)
غير إبلكم، ووردتم غير شربكم، هذا والعهد قريب والكلم رحيب (9)
والجرح لما يندمل (10) إنما زعمتم ذلك خوف الفتنة (ألا في الفتنة سقطوا
وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) (11)
فهيهات منكم وأنى بكم وأنى تؤفكون (12) وكتاب الله بين



(1) الحسيكة والحسكة والحساكة: الحقد والعداوة وقد وردت الرواية
باللفظتين الأوليين.
(2) سمل: أخلق، والجلباب الملحفة والجمع جلابيب
(3) كاظم - هنا - فاعل الكظوم وهو السكوت.
(4) نبغ الشئ: ظهر، والخامل: الساقط الذي لا نباهة له.
(5) هدر البعير: ردد صوته في حنجرته، والفنيق: الفحل من الإبل،
وخطر: اهتز في مشيه تبخترا وهي هنا مجازية، والعرصة - بوزن ضربة - كل بقعة بين
الدور واسعة ليس بها بناء والجمع عراص - بكسر العين - وعرصات.
(6) تروى بإعجام الأول وإهمال الثاني كما تروى بالعكس ومعنى الأولى الغفلة
والمراد طلبها ومعنى الثانية الحمية والأنفة.
(7) أحمشكم - هنا هيجكم.
(8) الوسم: الكي، وهو علامة كانت العرب تستعملها للإبل.
(9) الكلم: الجرح، والرحيب: الواسع.
(10) اندمل الجرح وأدمل: تماثل وتراجع إلى الشفاء.
(11) التوبة / 49.
(12) هيهات - بتثليث الآخر - اسم فعل بمعنى بعد، وأنى: ظرف مكان
بمعنى أين. والإفك: الكذب.
74
أظهركم، زواجره بينة، وشواهده لائحة، وأوامره واضحة، أرغبة عنه
تريدون، أم بغيره تحكمون (بئس للظالمين بدلا) (1) (ومن يبتغ غير
الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) (2)
ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها تسرون حسوا في ارتغاء (3)
ونصبر منكم على مثل حز المدى (4) وأنتم الآن تزعمون ألا إرث لنا
(أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يؤمنون) (5).
يا ابن أبي قحافة أترث أباك ولا أرث أبي (لقد جئت شيئا
فريا) (6) فدونكها مخطومة مرحولة (7) تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم
الله، والزعيم محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون
(ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون) (8)
ثم انكفأت إلى قبر أبيها فقالت:
قد كان بعدك أنباء وهنبثة * لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب (9)
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها * واختل قومك فاشهدهم ولا تغب (10)



(1) الكهف / 50.
(2) آل عمران / 85.
(3) الحسو: الشرب شيئا فشيئا، والارتغاء: شرب الرغوة وهي ما يطفو على
فوق اللبن من الماء المشوب به، والمثل يضرب لمن يظهر شيئا ويريد غيره.
(4) الحز: القطع، والمدى جمع مدية وهي السكين.
(5) المائدة: 50.
(6) مريم 27 والفري: الأمر المختلق.
(7) مخطومة من الخطام وهو كل ما يوضع في أنف البعير ليقاد به، والرحل
للناقة كالسرج للفرس.
(8) الأنعام / 67.
(9) الهنبثة جمعها هنابث: الأمر الشديد والاختلاط في القول.
(10) في الشعر أقواء وتروى " فاشهدهم قد انقلبوا ".
75
وروى جرمي بن أبي العلا مع هذين البيتين بيتا ثالثا، وهو:
فليت قبلك كان الموت صادفنا * لما قضيت وحالت دونك الكثب (1)
قال: فحمد الله أبو بكر وصلى على محمد وآله وقال: يا خير النساء،
وابنة خير الأنبياء، والله ما عدوت رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولا عملت إلا بإذنه وإن الرائد لا يكذب أهله، وإني أشهد الله وكفى بالله
شهيدا. وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (إنا معاشر
الأنبياء لا نورث ذهبا ولا فضة، ولا دارا ولا عقارا. وإنما نورث الكتاب
والحكمة، والعلم والنبوة).
قال: فلما وصل الأمر إلى علي بن أبي طالب عليه السلام كلم (2) في
رد فدك، فقال: إني لأستحي من الله أن أرد شيئا منع منه أبو بكر
وأمضاه عمر.
وأخبرنا أبو عبد الله المرزباني، قال: حدثني علي بن هارون،
قال: أخبرني عبد الله بن أحمد بن أبي طاهر عن أبيه قال: ذكرت لأبي
الحسين زيد بن [علي بن الحسين بن زيد بن] (3) علي بن الحسين بن زيد
ابن علي كلام فاطمة عليها السلام عند منع أبي بكر إياها فدك، وقلت
له: إن هؤلاء يزعمون إنه مصنوع وإنه كلام أبي العيناء، لأن الكلام
منسوق البلاغة فقال لي: رأيت مشائخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم.
ويعلمونه أولادهم، وقد حدثني به أبي عن جدي يبلغ به فاطمة عليها



(1) الكثب جميع كثيب وهو من الرمل ما اجتمع.
(2) على البناء للمجهول.
(3) التصحيح بين المعقوفين عن المخطوطة والمراد به زيد الأصغر وهو من
أصحاب الإمام علي بن محمد الهادي عليه السلام إذ لا يعقل تأخر زيد الشهيد من أبي
العيناء انظر تهذيب التهذيب 30 / 420 وإرشاد المفيد ص 332.
76
السلام على هذه الحكاية، ورواه مشائخ الشيعة وتدارسوه بينهم قبل أن
يولد جد أبي العينا وقد حدث الحسين بن علوان عن عطية العوفي (1) إنه سمع
عبد الله بن الحسن (2) ذكر عن أبيه هذا.
ثم قال أبو الحسين: وكيف ينكر من هذا كلام فاطمة عليها السلام
وهم يروون من كلام عائشة عند موت أبيها ما هو أعجب من كلام فاطمة
عليها السلام فيحققونه، لولا عداوتهم لنا أهل البيت؟
ثم ذكر الحديث بطوله على نسقه وزاد في الأبيات بعد البيتين
الأولين:
ضاقت علي بلادي بعد ما رحبت * وسيم سبطاك خسفا فيه لي نصب (3)
فليت قبلك كان الموت صادفنا * قوم تمنوا فاعطوا كلما طلبوا
تجهمتنا رجال واستخف بنا * مذغبت عنا وكل الإرث قد غصبوا (4)
قال: فما رأيت يوما كان أكثر باكيا وباكية من ذلك اليوم.



(1) عطية بن سعد بن جنادة العوفي الكوفي ولد في أيام علي عليه السلام من
رجال الحديث، خرج مع ابن الأشعث فكتب الحجاج إلى محمد بن القاسم الثقفي:
ادع عطية فإن سب علي بن أبي طالب وإلا فاضربه أربعمائة سوط واحلق رأسه ولحيته
فاستدعاه فأبي أن يسب فأمضى حكم الحجاج فيه ثم خرج إلى خراسان فلم يزل بها
حتى ولى عمر بن هبيرة العراق فقدمها فلم يزل بها إلى أن توفي سنة 111 أو 127
(انظر تهذيب التهذيب 7 / 224 - 226).
(2) عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام أبو
محمد تابعي من أهل المدينة أمه فاطمة بنت الحسين بن علي عليهما السلام كان من
العباد وكان له شرف وعارضة وهيبة توفي في حبس المنصور وهو ابن سبعين سنة سنة
145 قبل قتل ولده محمد بأشهر انظر تهذيب التهذيب 5 / 186.
(3) الخسف: الذل والظلم والمراد الثاني، يقال سامه خسفا أي أراده
عليه.
(4) تجهمتنا: استقبلتنا بوجه كريه.
77
وقد روي هذا الكلام على هذا الوجه من طرق مختلفة ووجوه
كثيرة، فمن أرادها أخذها من مواضعها فقط طولنا بذكرنا ما ذكرناه منها
لحاجة مست إليه فكيف يدعى أنها كفت راضية، وأمسكت قانعة لولا
البهت وقلة الحياء.
فأما قوله: (إنه يجوز أن يبين أنه لا حق في ميراثه لورثته لغير
الورثة ولا يمتنع أن يرد من جهة الآحاد لأنه من باب العمل) فكل هذا بناء
منه على أصوله الفاسدة في أن خبر الواحد حجة في الشرع وأن العمل به
وجب، ودون صحة ذلك خرط القتاد.
وإنما يجوز أن يبين من جهة دون جهة إذا تساويا في الحجة ووقوع
العلم. فأما مع تباينهما فلا يجوز التخيير فيهما وإذا كان ورثة النبي صلى
الله عليه وآله متعبدين بأن لا يرثوه فلا بد من إزاحة علتهم في هذه العبادة
بأن يوقفهم على الحكم بعينه، ويشافههم به أو بأن يلقيه إلى من تقوم
الحجة عليهم بنقله، وكل ذلك لم يكن.
فأما قوله: (تجوزون صدقه في الرواية أم لا تجوزون ذلك) فالجواب
إنا لا نجوزه، لأن كتاب الله أصدق منه وهو يدفع روايته ويبطلها.
فأما اعتراضه على قولنا: إن إطلاق الميراث لا يكون إلا في الأموال
بقوله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) (1) وقولهم:
" ما ورثت الأبناء من الآباء شيئا أفضل من أدب حسن " وقولهم: " العلماء
ورثة الأنبياء " فعجيب لأن كل ما ذكر مقيد غير مطلق، وإنما قلنا: إن
مطلق لفظ الميراث من غير قرينة ولا تقييد يفيد بظاهره ميراث الأموال



(1) فاطر / 32.
78
فبعد ما ذكره وعارض به لا يخفى على متأمل.
فأما استدلاله على أن سليمان ورث داود علمه دون ماله بقوله: (يا
أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ إن هذا لهو الفضل
المبين) (1) وإنما المراد أنه ورث العلم والفضل، وإلا لم يكن لهذا القول تعلق
بالأول، فليس بشئ يعول عليه لأنه لا يمتنع أن يريد أنه ورث المال
بالظاهر والعلم بهذا المعنى من الاستدلال فليس يجب إذ دلتنا الدلالة في
بعض الألفاظ على معنى المجاز أن نقتصر بها عليه، بل يجب أن نحملها
على الحقيقة التي هي الأصل إذا لم يمنع من ذلك مانع، على أنه لا يمتنع
أن يريد ميراث المال خاصة ثم يقول: إنا مع ذلك علمنا منطق الطير،
ويشير بالفضل المبين إلى العلم والمال جميعا فله بالأمرين جميعا فضل على
من لم يكن عليهما وقوله: (وأوتينا من كل شئ) يحتمل المال كما يحتمل
العلم فليس بخالص ما ظنه.
فأما قوله في قصة زكريا (إنه خاف على العلم أن يندرس لأن
الأنبياء لا تحرص (2) على الأموال، وإنما خاف أن يضيع العلم، فسأل الله
تعالى وليا يقوم بالدين مقامه) فقد بينا أن الأنبياء عليهم السلام وإن كانوا
لا يحرصون على الأموال ولا يبخلون بها، فإنهم يجتهدون في منع المفسدين
من الاستعانة بها على الفساد، ولا يعد ذلك حرصا، ولا بخلا، بل
فضلا ودينا، وليس يجوز من زكريا أن يخاف على العلم أن يندرس
ويضيع (3) لأنه يعلم أن حكمة الله تعالى تقتضي حفظ العلم الذي هو



(1) النمل / 16.
(2) ش " لا يحرصون ".
(3) شس " يخاف على العلم الاندراس والضياع ".
79
الحجة على العباد، وبه تنزاح علتهم في مصالحهم، فكيف يخاف ما لا
يخاف من مثله.
فإن قيل: فهبوا أن الأمر على ما ذكرتم من أن زكريا كان يأمن على
العلم أن يندرس، أليس لا بد أن يكون مجوزا لأن يحفظه الله تعالى بمن
هو من أهله وأقاربه كما يجوز أن يحفظه بغريب أجنبي؟ فما أنكرتم أن
يكون خوفه من بني عمه أن لا يتعلموا العلم. ولا يقوموا فيه مقامه.
فسأل الله تعالى ولدا يجمع فيه هذه العلوم حتى لا يخرج العلم عن بيته.
ويتعدى إلى غير قومه، فيلحقه بذلك وصمة.
قلنا: أما إذا رتب السؤال هذا الترتيب فالجواب عنه ما أجبنا به
صاحب الكتاب، وهو أن الخوف الذي أشاروا إليه ليس من ضرر ديني
وإنما هو من ضرر دنيوي والأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا لتحمل المضار
الدنيوية ومنازلهم في الثواب إنما زادت على كل المنازل لهذا الوجه، ومن
كانت حاله هذه الحال فالظاهر من خوفه إذا لم يعلم وجهه بعينه أن يكون
محمولا على مضار الدين، لأنها هي جهة خوفهم. والغرض في بعثتهم
تحمل ما سواها من المضار، فإذا قال النبي صلى الله عليه وآله: أنا خائف ولم
يعلم جهة خوفه على التفصيل، يجب أن يصرف خوفه بالظاهر إلى مضار
الدين دون الدنيا، لأن أحوالهم وبعثهم تقتضي ذلك. فإذا كنا لو اعتدنا
من بعضنا الزهد في الدنيا وأسبابها والتعفف عن منافعها. والرغبة في
الآخرة والتفرد بالعمل لها لكنا نحمل ما يظهر لنا من خوفه الذي لا يعلم
وجهه بعينه على ما هو أشبه وأليق بحاله، ونضيفه إلى الآخرة دون
الدنيا، وإذا كان هذا واجبا فيمن ذكرناه فهو الأنبياء عليهم السلام
أوجب.
فأما قوله متعلقا في أن الميراث محمول على العلم بقوله: (ويرث

80
من آل يعقوب): (لأنه لا يرث أموال يعقوب في الحقيقة، وإنما يرث
ذلك غيره) فبعيد من الصواب لأن ولد زكريا يرث بالقرابة من آل يعقوب
أموالهم، على أنه لم يقل: يرث آل يعقوب، بل قال: يرث من آل
يعقوب، منبها بذلك على أنه يرث من كان أحق بميراثه بالقرابة.
فأما طعنه على من تأول الخبر بأنه عليه السلام لا يورث ما تركه
للصدقة بقوله: (إن أحدا من الصحابة لم يتأوله على هذا الوجه) فهذا
التأويل الذي ذكرناه أحد ما قاله أصحابنا في هذا الخبر فمن أين له إجماع
الصحابة على خلافه؟ وإن أحدا لم يتأوله على هذا الوجه.
فإن قال: (لو كان ذلك لظهر وانتشر، ولوقف أبو بكر عليه) فقد
مضى من الكلام فيما يمنع من الموافقة على هذا المعنى ما فيه كفاية، وقوله
(إنه لا يكون في ذلك تخصيص للأنبياء ولا مزية) ليس بصحيح.
وقد قيل في الجواب عن هذا: إنه صلى الله عليه وآله يجوز أن يريد أن
ما تنوى فيه الصدقة وتفرده لها من غير أن تخرجه عن أيدينا لا يناله ورثتنا
وهذا تخصيص لهم ومزية ظاهرة.
فأما قوله: (إن قوله: " ما تركناه صدقة " جملة من الكلام مستقلة فلا
وجه لأن يجعل من تمام الكلام الأول) فكلام في غير موضعه لأنها إنما
تكون مستقلة بنفسها إذا كانت لفظة " ما " مبتدأ مرفوعة ولم تكن منصوبة
بوقوع الفعل عليها وكانت لفظة " صدقة " أيضا مرفوعة غير منصوبة وفي
هذا وقع النزاع فكيف يدعي أنها جملة مستقلة بنفسها ونحن نخالف في
الإعراب الذي لا يصح استقلالها بنفسها إلا مع تغيره وأقوى ما ذكروه ما
نقوله (1) أن الرواية جاءت في لفظة الصدقة بالرفع وعلى ما تأولتموه لا



(1) ش " وأقوى ما يمكن أن نذكره أن نقول ".
81
يكون إلا منصوبة.
والجواب عن ذلك أنا لا نسلم الرواية بالرفع، ولم تجر عادة الرواة
بضبط ما جرى هذا المجرى من الإعراب والاشتباه يقع في مثله، فمن
حقق منهم وصرح أن الرواية بالرفع يجوز أن يكون اشتبه عليه فظنها
مرفوعة وهي منصوبة.
فأما حكايته عن أبي علي أن أبا بكر لم يدفع إلى أمير المؤمنين عليه
السلام السيف والبغلة والعمامة على سبيل الإرث وقوله: (وكيف يجوز ذلك
مع الخبر الذي رواه وكيف خصصه بذلك دون العلم الذي هو العصبة) (1)
فما نراه زاد على التعجب ومما عجب منه عجبنا ولم يثبت عصمة أبي بكر
فننفي عن أفعاله التناقض.
وقوله: (يجوز أن يكون [النبي صلى الله عليه وآله نحله إياه
فتركه أبو بكر] (2) في يده لما فيه من تقوية الدين وتصدق ببدله) فكل ما
ذكره جائز إلا أنه قد كان يجب أن يظهر أسباب النحلة والشهادة بها
والحجة عليها، ولم يظهر من ذلك شئ فنعرفه.
ومن العجائب أن تدعي فاطمة عليها السلام فدك نحلة وتستشهد
على قولها أمير المؤمنين عليه السلام وغيره فلا يصغى إليها وإلى قولها،
ويترك السيف والبغلة والعمامة في يد أمير المؤمنين عليه السلام على سبيل
النحلة بغير بينة ظهرت، ولا شهادة قامت، على أنه كان يجب على أبي
بكر أن يبين ذلك، ويذكر وجهه بعينه أي شئ كان لما نازع العباس



(1) المغني 20 ق 1 / 331.
(2) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل وأعدناه من " شرح نهج البلاغة ".
82
فيه، فلا وقت لذكر الوجه في ذلك أولى من هذا الوقت (1) والقول في
البردة والقضيب إن كان نحلة أو على الوجه الآخر (2) يجري مجرى ما
ذكرناه من وجوب الظهور والاستشهاد، ولسنا نرى أصحابنا - أي
المعتزلة - (3) يطالبون خصومهم (4) في هذه المواضع بما يطالبونا بمثله إذا
ادعينا وجوها وأسبابا وعللا مجوزة، لأنهم لا يقنعون منا بما يجوز ويمكن بل
يوجبون فيما ندعيه الظهور والاستشهاد، وإذا كان هذا عليهم نسوه أو
تناسوه.
فأما قوله: (إن أزواج النبي صلى الله عليه وآله إنما طلبن الميراث
لأنهن لم يعرفن رواية أبي بكر للخبر وكذلك إنما نازع العباس أمير المؤمنين
عليه السلام بعد موت فاطمة عليها السلام في الميراث لهذا الوجه) فمن
أقبح ما يقال في هذا الباب وأبعده من الصواب، وكيف لا يعرف
أمير المؤمنين عليه السلام رواية أبي بكر وبها دفعت زوجته عن الميراث؟
وهل مثل ذلك المقام الذي قامته، وما رواه أبو بكر في دفعها يخفى على
من هو في أقاصي البلاد فضلا عمن هو في المدينة حاضر شاهد يعنى



(1) أنكر ابن أبي الحديد أن يكون النزاع بين العباس وعلي عليه السلام في
البغلة والعمامة ونحوهما وقع في أيام أبي بكر وإنما كان النزاع في أيام عمر (انظر شرح
النهج 16 / 261).
(2) النحلة: العطية، والمراد بالوجه الآخر - على ما يراه أبو علي - أن يكون أبو
بكر رأى الصلاح في ذلك أن يكون بيده لما فيه من تقوية الدين، كما مر ذلك في كلام
القاضي.
(3) الجملة بين الخطين ساقطة من " الشافي " وأعدناها من " شرح نهج
البلاغة " ومعنى كلام المرتضى أصحابنا وهو يقصد المعتزلة من قبيل (قال له صاحبه
وهو يحاوره) لأن العادة أن المؤلف إذا قال " أصحابنا " فإنه يقصد أصحابه في المذهب
والاعتقاد.
(4) شس " نفوسهم " وهي أوجه مما في المتن.
83
بالأخبار ويراعيها، إن هذا الخروج في المكابرة عن الحد، وكيف يخفى
على الأزواج ذلك حتى يطلبنه مرة بعد أخرى، ويكون عثمان المترسل (1)
لهن والمطالب عنهن، وعثمان على زعمهم أحد من شهد أن النبي صلى
الله عليه وآله لا يورث، وقد سمعن على كل حال أن بنت النبي صلى الله
عليه وآله لم تورث ماله، ولا بد أن يكن قد سألن عن السبب في دفعها
فذكر لهن الخبر، فكيف يقال: إنهن لم يعرفنه والإكثار في هذا الموضع
يوهم أنه موضع شبهة وليس كذلك.
فإن قيل: إذا كان أبو بكر قد حكم بخطأ في دفع فاطمة عليها
السلام عن الميراث، واحتج بخبر لا حجة فيه، فما بال الأمة أقرته على
هذا الحكم، ولم تنكر عليه وفي رضاها وإمساكها دليل على صوابه.
قلنا: قد مضى أن ترك النكير لا يكون دليل الرضا إلا في الموضع
الذي لا يكون له وجه سوى الرضا، وبينا في الكلام على إمامة أبي بكر
هذا الموضع بيانا شافيا وقد أجاب أبو عثمان الجاحظ في كتاب " العباسية "
عن هذا السؤال جوابا جيد (2) المعنى واللفظ، نحن نذكره على وجهه
لنقابل بينه وبين كلامه في " العثمانية " وغيرها.
قال: " وقد زعم ناس أن الدليل على صدق خبرهما يعني أبا بكر
وعمر في منع الميراث، وبراءة ساحتهما ترك أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وآله النكير عليهما ".
ثم قال: " فيقال لهم: لئن كان ترك النكير دليلا على صدقهما
ليكونن ترك النكير على المتظلمين منهما، والمحتجين عليهما، والمطالبين
لهما، دليلا على صدق دعواهم، واستحسان مقالتهم، ولا سيما وقد



(1) ش " الرسول ".
(2) ش " حسن المعنى ".
84
طالت المحاجات (1) وكثرت المراجعة والملاحاة، وظهرت الشكية،
واشتدت الموجدة، وقد بلغ ذلك من فاطمة عليها السلام حتى أنها أوصت
أن لا يصلي عليها أبو بكر، ولقد كانت قالت له حين أتته طالبة
بحقها، ومحتجة برهطها: (من يرثك يا أبا بكر إن مت؟) قال: أهلي
وولدي، قالت: (فما بالنا لا نرث النبي صلى الله عليه وآله؟) فلما
منعها ميراثها وبخسها حقها. واعتل عليها، وجلح (2) في أمرها وعاينت
التهضم وآيست من النزوع (3) ووجدت مس الضعف، وقلة الناصر،
قالت: (والله لأدعون الله عليك) قال: والله لأدعون الله لك، قالت
(والله لا أكلمك أبدا) قال: والله لا أهجرك أبدا فإن يكن ترك
النكير منهم على أبي بكر دليلا على صواب منعه، إن كان في ترك النكير
على فاطمة عليها السلام دليلا على الصواب طلبها، وأدنى ما كان يجب
عليهم في ذلك تعريفها ما جهلت، وتذكيرها ما نسيت، وصرفها عن
الخطأ، ورفع قدرها على البذاء، وأن تقول هجرا (4) وتجور عادلا (5) أو
تقطع واصلا، فإذا لم نجدهم أنكروا على الخصمين جميعا فقد تكافأت
الأمور، واستوت الأسباب، والرجوع إلى أصل حكم الله في المواريث
أولى بنا وبكم، وأوجب علينا وعليكم ثم قال: (6) " فإن قالوا: كيف
نظن بأبي بكر (7) ظلمها، والتعدي عليها، وكلما ازدادت فاطمة عليها
السلام عليه غلظة ازداد لها لينا ورقة، حيث تقول: (والله لا أكلمك



(1) ش " والمناجاة " وكذلك في ع.
(2) جلح: جاهر.
(3) التهضم: الظلم، والنزع: الرجوع، وفي ش " التورع ".
(4) البذاء: الفحش، والهجر - بضم الهاء - القبيح من الكلام.
(5) تجور عادلا: تجعله جائرا.
(6) أي الجاحظ.
(7) ش " تظن به ".
85
أبدا) فيقول: والله لا أهجرك أبدا، ثم تقول: (والله لأدعون الله
عليك) فيقول: والله لأدعون الله لك، ثم يحتمل هذا الكلام الغليظ،
والقول الشديد في دار الخلافة، وبحضرة قريش والصحابة مع حاجة
الخلافة إلى البهاء والرفعة وما يجب لها من التنزيه والهيبة، ثم لم يمنعه ذلك
أن قال متعذرا أو متقربا كلام المعظم لحقها المكبر لمقامها والصائن
لوجهها، والمتحنن عليها، ما أحد أعز علي منك (1) فقرا ولا أحب إلي
منك غنى، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (إنا
معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو صدقة) قيل لهم: ليس ذلك بدليل
على البراءة من الظلم، والسلامة من العمد، وقد يبلغ من مكر الظالم،
ودهاء الماكر، إذا كان أديبا، وللخصومة معتادا، أن يظهر كلام المظلوم،
وذلة المنتصف، وحدب الوامق، ومقة المحق، (2) وكيف جعلتم ترك
النكير حجة قاطعة، ودلالة واضحة، وقد زعمتم أن عمر قال على منبره
" متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله متعة النساء ومتعة
الحج أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما " فما وجدتم أحدا أنكر قوله، ولا
استشنع مخرج نهيه، ولا خطأه في معناه، ولا تعجب منه، ولا
استفهمه؟ وكيف تقضون في معناه بترك النكير، وقد شهد عمر يوم
السقيفة وبعد ذلك، أن النبي صلى الله عليه وآله قال: (الأئمة من
قريش) ثم قال في شكاته: لو كان سالم (3) حيا، ما يخالجني فيه شك "



(1) عز عليه كذا أي عظم.
(2) المراد بالحدب هنا العطف، والوامق: المحب، والمقة: الحب والفاعل
وامق.
(3) سالم بن معقل مولى أبي حذيفة من أهل فارس من كبار الصحابة معدود
في المهاجرين وكان يؤم المهاجرين بقبا وفيهم أبو بكر وعمر قال ابن عبد البر " وكان
عمر يفرط في الثناء عليه " استشهد يوم اليمامة سنة 12 (انظر الاستيعاب 4 / 70
والإصابة حرف السين ق 1) والشكاة: المرض، ويريد لما طعن.
86
حيث أظهر الشك في استحقاق كل واحد من الستة الذين جعلهم
شورى، وسالم عبد لامرأة من الأنصار وهي أعتقته، وحازت ميراثه، ثم
لم ينكر ذلك من قوله منكر، ولا قابل إنسان بين خبريه، ولا تعجب
منه، وإنما يكون ترك النكير على من لا رغبة له ولا رهبة عنده، دليلا على
صدق قوله، وصواب عمله، فأما ترك النكير على من يملك الضعة
والرفعة، والأمر والنهي، والقتل والاستحياء (1) والحبس والاطلاق،
فليس بحجة تقي (2) ولا دلالة تضي قال: وقال آخرون: بل الدليل
على صدق قولهما، وصواب عملهما، إمساك الصحابة عن خلعهما،
والخروج عليهما، وهم الذين وثبوا على عثمان في أيسر من جحد التنزيل،
ورد المنصوص (3)، ولو كانا كما يقولون وما يصفون ما كان سبيل الأمة فيهما
إلا كسبيلهم فيه وعثمان كان أعز نفرا، وأشرف رهطا، وأكثر عددا
وثروة، وأقوى عدة.
قلنا: إنهما لم يجحدا التنزيل، ولم ينكرا المنصوص (4)، ولكنهما بعد
إقرارهما بحكم الميراث وما عليه الظاهر من الشريعة ادعيا رواية، وتحدثا
بحديث لم يكن بمحال كونه، ولا يمتنع في حجج العقول مجيئه، وشهد لهما
عليه من علته مثل علتهما فيه ولعل بعضهم كان يرى التصديق للرجل إذا
كان عدلا في رهطه، مأمونا في ظاهره، ولم يكن قبل ذلك عرفه بفجره (5).



(1) الاستحياء: الابقاء.
(2) ش " تشفى "
(3) ش " النصوص ".
(4) ش " النصوص ".
(5) الفجرة: الانبعاث في المعاصي والفجور.
87
ولا جرت عليه غدره، فيكون تصديقه له على جهة حسن الظن، وتعديل
الشاهد، ولأنه لم يكن كثير منهم يعرف حقائق الحجج، والذي يقطع
بشهادته على الغيب (1) وكان ذلك شبهة على أكثرهم، فلذلك قل النكير.
وتواكل الناس، واشتبه الأمر، فصار لا يتخلص إلى معرفة حق ذلك من
باطله إلا العالم المتقدم، والمؤيد المسترشد، ولأنه لم يكن لعثمان في
صدور العوام، وفي قلوب السفلة والطغام (2) ما كان لهما من الهيبة
والمحبة، ولأنهما كانا أقل استئثارا بالفئ، وأقل تفكها (3) بما الله منه،
ومن شأن الناس إهمال السلطان (4) ما وفر عليهم أموالهم، ولم يستأثر
بخراجهم، ولم يعطل ثغورهم، ولأن الذي صنع أبو بكر من منع العترة
حظها (5) والعمومة ميراثها، قد كان موافقا لجلة قريش (6) وكبراء العرب،
ولأن عثمان أيضا كان مضعوفا في نفسه، مستخفا بقدره، لا يمنع ضيما،
ولا يقمع عدوا، ولقد وثب ناس على عثمان بالشتم والقذف والتشنيع
والنكير لأمور لو أتى عمر أضعافها وبلغ أقصاها لما اجترأوا على اغتيابه،
فضلا من مبادأته، والإغراء به ومواجهته، كما أغلظ عيينة بن حصن (7) له
فقال له: أما إنه لو كان عمر لقمعك ومنعك، فقال عيينة: عمر كان



(1) المغيب، خ ل.
(2) الطغام - بفتح الطاء المهملة -: الأوغاد والأدنياء من الناس، الواحد
والجمع فيه سواء.
(3) المراد بإهمال السلطان: ترك التعرض، والسكوت عنه.
(4) ش " تفضلا بمال الله ".
(5) ش " حقها ".
(6) جلة قريش: عظماؤها.
(7) عيينة بن حصن الفزاري يكنى أبا مالك أسلم قبل الفتح وشهد الفتح مسلما
وشهد حنينا والطائف وكان من المؤلفة قلوبهم ومن الأعراب الجفاة، وكان ممن ارتد
وتبع طليحة الأسدي وقاتل معه فأخذ أسيرا وحمل إلى أبي بكر فأطلقه (انظر ترجمته في
أسد الغابة 4 / 167).
88
خيرا لي منك وهبني فاتقاني (1) ".
ثم قال: " والعجب إنا وجدنا جميع من خالفنا في الميراث على
اختلافهم في التشبيه والقدر والوعيد يرد كل صنف منهم من أحاديث
مخالفيه وخصومه ما هو أقرب إسنادا، وأصح (2) رجالا، وأحسن
اتصالا، حتى إذا صاروا إلى القول في ميراث النبي صلى الله عليه وآله
نسخوا الكتاب وخصوا الخبر العام بما لا يداني بعض ما رووه وأكذبوا
ناقليه، وذلك أن كل إنسان منهم إنما يجري إلى هواه ويصدق ما وافق
رضاه " مضى ما أردنا حكايته من كلام الجاحظ (3)
فإن قيل: ليس ما عارض به الجاحظ من الاستدلال بترك النكير،
وقوله: كما لم ينكروا على أبي بكر فلم ينكروا أيضا على فاطمة عليها
السلام ولا على غيرها من المطالبين بالميراث كالأزواج وغير هن معارضة
صحيحة وذلك أن نكير أبي بكر لذلك، ودفعه والاحتجاج عليه يكفيهم
ويغنيهم عن تكلف نكير آخر، ولم ينكر على أبي بكر ما رواه منكر
فيستغنوا بإنكاره.
قلنا: أول ما يبطل هذا السؤال أن أبا بكر لم ينكر عليها ما أقامت
عليه بعد احتجاجها بالخبر من التظلم والتألم والتعنيف والتبكيت (4)
وقولها - على ما روي -: لأدعون الله عليك ولا كلمتك أبدا، وما جرى
هذا المجرى فقد كان يجب أن ينكره غيره فمن المنكر الغضب على المنصف



(1) ش " أرهبني فاتقاني ".
(2) في ش وع " وأوضح ".
(3) ش " هذا آخر كلام الجاحظ ".
(4) التبكيت: التقريع والتعنيف، وفي الأصل " التنكيب " وهو الميل
والإعراض وآثرنا المنقول في " شرح نهج البلاغة ".
89
وبعد فإن كان إنكار أبي بكر مقنعا أو مغنيا عن إنكار غيره من المسلمين.
فإنكار فاطمة عليها السلام حكمة، ومقامها على التظلم منه يعني عن نكير
غيرها، وهذا واضح لمن أنصف من نفسه.
قال صاحب الكتاب: (شبهة لهم أخرى، وأحد ما طعنوا به
وعظموا القول فيه أمر فدك (1) قالوا: قد روي عن أبي سعيد الخدري أنه
قال: " لما نزلت (وآت ذا القربى حقه) (2) أعطى رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم فاطمة عليها السلام فدك، ثم فعل عمر بن عبد العزيز
مثل ذلك ورده (3) على ولدها، قالوا: ولا شك أن أبا بكر أغضبها، إن
لم يصح كل الذي روي في هذا الباب، وقد كان الأجمل أن يمنعهم التكرم
مما ارتكبوا (4) فضلا عن الدين، ثم ذكروا أنها استشهدت أمير المؤمنين
عليه السلام وأم أيمن فلم تقبل شهادتهما، هذا مع تركه أزواج النبي صلى
الله عليه وآله وسلم في حجرهن ولم يجعلها صدقة، وصدقهن في أن ذلك
لهن ولم يصدقها).
ثم قال: (الجواب عن ذلك أن أكثر ما يروون في هذا الباب غير
صحيح، ولسنا ننكر صحة ما روي من ادعائها فدك فأما إنه كان في يدها
فغير مسلم بل لو كانت في يدها لكان الظاهر أنه لها، فإذا كان في جملة
التركة فالظاهر أنه ميراث، وإذا كان كذلك فغير جائز لأبي بكر قبول
دعواها لأنه لا خلاف أن العمل على الدعوى لا يجوز، وإنما يعمل



(1) ش " ما عظمت الشيعة القول في أمر فدك " علما بأن أول هذه الشبهة
ساقط من " المغني ".
(2) الاسراء / 26.
(3) ش " وردها " والضمير لفدك.
(4) ش " ارتكبوا منها ".
90
على (1) ذلك متى علم (2) صحته بمشاهدة أو ما يجري مجراها، أو
حصل بينة أو إقرار) ثم ذكر (إن البينة لا بد منها وإن أمير المؤمنين عليه
السلام لما خاصمه اليهودي حاكمه (3) وإن أم سلمة التي يطبق على فضلها
لو ادعت نحلا لما قبلت دعواها).
ثم قال: (لو كان أمير المؤمنين عليه السلام هو الإمام (4) بعده ولم
يعلم صحة هذه الدعوى ما الذي كان يجب أن يعمل؟
فإن قلتم: (يقبل الدعوى فالشرع بخلاف ذلك، وإن قلتم:
يلتمس بينة فهو الذي فعله أبو بكر) ثم تشاغل بالكلام على من تعلق بأن
أبا بكر قضى دين رسول الله صلى الله عليه وآله، وذلك مما لا حجة فيه
ولا تعلق لنا به.
ثم قال: (وأما قوله: رجل مع رجل وامرأة مع امرأة، فهو
الذي يوجبه الدين ولم يثبت أن الشاهد في ذلك كان أمير المؤمنين عليه
السلام، بل الرواية المنقولة أنه شهد لها عليها السلام مولى رسول الله مع
أم أيمن، وليس لأحد أن يقول: فلماذا ادعت ذلك ولا بينة معها، لأنه لا
يمتنع أن تجوز أن يحكم أبو بكر بالشاهد واليمين، وتجوز عند شهادة من
شهد لها أن يتذكر غيره فيشهد، وهذا هو الواجب على ملتمس الحق فلا



(1) ش " على مثل ذلك ".
(2) ش " علمت ".
(3) في قضية الدرع المعلومة.
(4) ش " الوالي " والضمير في " بعده، للنبي صلى الله عليه وآله.
91
عتب عليها في ذلك، ولا على أبي بكر في التماس البينة، وإن لم يحكم لما
لم يتم (1) ولم يكن لها هناك خصم لأن التركة صدقة على ما ذكرنا فكان لا
يمكن (2) أن يعول في ذلك على يمين أو نكول فلم يكن الأمر (3) إلا ما
فعله.
وقد أنكر أبو علي ما قاله السائل من أنها لما أرادت فدك وردت في
دعوى النحلة ادعته إرثا وقال: كان طلب الإرث قبل ذلك فلما سمعت
منه الخبر كفت ثم ادعت النحلة.
فأما فعل عمر بن عبد العزيز فلم يثبت أنه رده على سبيل النحلة،
بل عمل في ذلك ما فعله عمر بن الخطاب بأن أقره في يد أمير المؤمنين
عليه السلام ليصرف غلاتها في الموضع (4) الذي كان يجعلها رسول الله
صلى الله عليه وآله فيه فقام بذلك مدة ثم ردها إلى عمر في آخر سنيه
وكذلك فعل عمر بن عبد العزيز، ولو ثبت أنه فعل بخلاف ما فعله
السلف لكان هو المحجوج بقولهم وفعلهم، وأحد ما يقوى ما ذكرناه إن
الأمر لما انتهى إلى أمير المؤمنين عليه السلام ترك فدك على ما كانت (5) ولم
يجعلها ميراثا لولد فاطمة عليها السلام، وهذا يبين أن الشاهد كان غيره.
لأنه لو كان هو الشاهد لكان الأقرب أن يحكم بعلمه، على أن الناس
اختلفوا في الهبة إذا لم تقبض، فعند بعضهم تستحق بالتسليم، وعند
بعضهم يصير وجوده كعدمه، فلا يمتنع من هذا الوجه أيضا أن يمتنع



(1) ش " لم يتبين ".
(2) غ " لا ينكر ".
(3) ش " في الأمر ".
(4) غ " في المواضع التي ".
(5) غ " ترك أمر فدك على ما كان ".
92
أمير المؤمنين عليه السلام من ردها، وإن صح عقد لهبته (1)، وهذا هو
الظاهر لأن التسليم لو كان وقع لظهر أنه كان في يدها فكان ذلك كافيا في
الاستحقاق.
فأما حجر أزواج النبي صلى الله عليه وآله فإنما تركت في
أيديهن لأنها كانت لهن، ونص الكتاب يشهد بذلك. وهو قوله: (وقرن
في بيوتكن) (2) وروي في الأخبار أن النبي صلى الله عليه وآله قسم ما كان
له من الحجر على نسائه وبناته، ونبين صحة ذلك أنه لو كان ميراثا أو
صدقة لكان أمير المؤمنين عليه السلام لما أفضى الأمر إليه لغيره، وليس
لأحد أن يقول: إنما لم يغير ذلك لأن الملك قد صار إليه فتبرع به،
وذلك أن الذي يحصل له ليس إلا ربع ميراث فاطمة عليها السلام، وهو
الثمن من ميراث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد كان يجب أن
ينتصف لأولاد العباس وأولاد فاطمة عليها السلام منهن في باب الحجر،
ويأخذ هذا الحق منهن فتركه ذلك يدل على صحة ما قلناه، وليس يمكنهم
بعد ذلك إلا التعلق بالتقية التي هي مفزعهم عند لزوم الكلام، ولو
علموا ما عليهم في ذلك لاشتد هربهم منه، لأنه إن جاز للأئمة التقية
وحالهم في العصمة ما يقولون ليجوزن ذلك من رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، وتجويز ذلك فيه يوجب ألا يوثق بنصه على أمير المؤمنين عليه
السلام لتجويز التقية، ومتى قالوا: يعلم بالمعجز إمامته فقد أبطلوا كون
النص طريقا للإمامة، والكلام مع ذلك لازم لهم بأن يقولوا (3) جوزوا مع



(1) غ " وإن صح عنده عقد الهبة ".
(2) الأحزاب / 33.
(3) غ " بل يقال ".
93
ظهور المعجز أن يدعي الإمامة تقية، وأن يفعل سائر ما يفعله تقية.
وكيف يوثق مع ذلك بما ينقل عن الرسول صلى الله عليه وآله وعن
الأئمة؟
وهلا جاز أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام نبيا بعد الرسول
صلى الله عليه وآله وترك ادعاء ذلك تقية وخوفا فإن الشبهة (1) في
ذلك أوكد من النص، لأن التعصب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في
النبوة أعظم من التعصب لأبي بكر وغيره في الإمامة. فإن عولوا في ذلك
على علم الاضطرار فعندهم أن الضرورة في النص على الإمامة قائمة،
وإن فزعوا في ذلك إلى الإجماع، فمن قولهم: إنه لا يوثق به، ويلزمهم
في الإجماع أن يجوز أن يقع على طريق التقية، لأنه لا يكون أوكد من قول
الرسول صلى الله عليه وآله وقول الإمام عندهم. وبعد فقد ذكر الخلاف
في ذلك كما ذكر الخلاف في أنه إله فلا يصح على شروطهم أن يتعلقوا
بذلك...) (2).
يقال له: نحن نبتدئ فندل على أن فاطمة عليها السلام ما ادعت
من نحلة فدك إلا ما كانت مصيبة فيه. وأن مانعها ومطالبها بالبينة متعنت
عادل عن الصواب لأنها لا تحتاج إلى شهادة ولا بينة، ثم نعطف على ما
ذكرناه على التفضيل فنتكلم عليه.
أما الذي يدل على ما ذكرناه (3) أنها كانت عليها السلام معصومة من



(1) غ " بل الشبهة ".
(2) انظر المغني 20 ق 1 / 332 و 333.
(3) أي على أن فاطمة عليها السلام كانت مصيبة في ما ادعته.
94
الغلط مأمونا منها فعل القبيح. ومن هذه صفته لا يحتاج فيما يدعيه إلى
شهادة ولا بينة.
فإن قيل: دللوا على الأمرين.
قلنا: أما الذي يدل على عصمتها قوله تعالى: (إنما يريد الله
ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (1) وقد بينا فيما
سلف من هذا الكتاب أن هذه الآية تتناول جماعة منهم فاطمة عليها
السلام [بما تواترت الأخبار في ذلك] (2) وأنها تدل على عصمة من تناولته
وطهارته وأن الإرادة ها هنا دلالة (3) على وقوع الفعل المراد ولا طائل في
إعادته، ويدل أيضا على عصمتها قوله عليه السلام (فاطمة بضعة مني
فمن أذى فاطمة فقد آذاني من آذاني فقد آذى الله عز وجل) (4) وهذا يدل
على عصمتها لأنها لو كانت ممن يقارف الذنوب لم يكن من يؤذيها مؤذيا له
على كل حال بل كان فعل المستحق من ذمها وإقامة الحد [عليها] - إن كان
الفعل يقتضيه - سارا له ومطيعا، على أنا لا نحتاج فيما نريد أن نبنيه (5)
على هذا الكلام إلى القطع على عصمتها. بل يكفي في هذا الموضع العلم
بصدقها فيما ادعته، وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين، لأن أحدا لا يشك
أنها عليها السلام لم تدع ما ادعته كاذبة، وليس بعد أن لا تكون كاذبة إلا
أن تكون صادقة، وإنما اختلفوا في أنه هل يجب مع العلم بصدقها تسليم



(1) الأحزاب / 33.
(2) التكملة من " شرح نهج البلاغة " والمعنى: بل كان من فعل بها عليها
السلام ما استحقت من الذم وإقامة الحد عليها - لو صدر منها ما يستوجبه - سارا
لرسول الله صلى الله عليه وآله ومطيعا له بذلك.
(3) دالة خ. ل.
(4) ش " فاطمة بضعة مني، من آذاها فقد آذاني " الخ.
(5) ش " أن ننبهه في هذا الموضع على الدلالة على عصمتها ".
95
ما ادعته بغير بينة أم لا يجب ذلك: والذي يدل على الفصل الثاني (1) أن
البينة إنما تراد ليغلب في الظن صدق المدعي، ألا ترى أن العدالة معتبرة
في الشهادة لما كانت مؤثرة في غلبة الظن لما ذكرناه. ولهذا جاز أن يحكم
الحاكم بعلمه من غير شهادة، لأن علمه أقوى من الشهادة، ولهذا كان
الاقرار أقوى من البينة من حيث كان أبلغ في تأثير غلبة الظن، وإذا قدم
الاقرار على الشهادة لقوة الظن عنده فأولى أن يقدم العلم على الجميع،
وإذا لم يحتج مع الاقرار إلى شهادة لسقوط حكم الضعيف مع القوي فلا
يحتاج أيضا مع العلم إلى ما يؤثر الظن من البينات والشهادات.
والذي يدل أيضا على صحة ما ذكرناه أنه لا خلاف بين أهل النقل
في أن أعرابيا نازع النبي صلى الله عليه وآله في ناقة فقال صلى الله عليه
وآله: (هذه لي وقد خرجت إليك من ثمنها) فقال الأعرابي: من يشهد لك
بهذا فقام خزيمة بن ثابت فقال: أنا أشهد بذلك فقال النبي صلى الله
عليه وآله: (من أين علمت أحضرت ابتياعي لها) (2) فقال: لا ولكن
علمت ذلك من حيث علمت أنك رسول الله فقال النبي صلى الله عليه
وآله: (قد أجزت شهادتك وجعلتها شهادتين) فسمي خزيمة بذلك ذا
الشهادتين، وهذه القصة مشبهة لقصة فاطمة عليها السلام لأن خزيمة بن
ثابت اكتفي في العلم بأن الناقة له عليه السلام وشهد بذلك من حيث
علم أنه رسول الله صلى الله عليه وآله. ولا يقول إلا حقا وأمضى
النبي صلى الله عليه وآله ذلك على هذا الوجه فلم يدفعه عن الشهادة من
حيث لم يحضرا ابتياعه، فقد كان يجب على من علم أن فاطمة عليها



(1) وهو من كان بهذه الصفة لا يحتاج فيما يدعي إلى بينة وأن مطالبه بها عادل
عن الصواب.
(2) ش " من أين علمت وما حضرت ذلك؟ " وانظر أسد الغابة بترجمته.
96
السلام لا تقول إلا حقا ألا يستظهر عليها بطلب شهادة أو بينة.
هذا وقد روي أن أبا بكر لما شهد لها أمير المؤمنين عليه السلام كتب
بتسليم فدك إليها فاعترض عمر قضيته فخرق ما كتبه، روى إبراهيم بن
محمد الثقفي (1) عن إبراهيم بن ميمون (2) قال حدثنا عيسى بن عبد الله
بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب (3) عن أبيه عن جده عن جد أبيه
علي عليهم السلام قال جاءت فاطمة عليها السلام إلى أبي بكر وقالت: إن
أبي أعطاني فدكا وعلي يشهد لي وأم أيمن (4) قال ما كنت لتقولي إلا
الحق (5) نعم قد أعطيتك إياها، ودعا بصحيفة من أدم (6) فكتب لها
فيها فخرجت فلقيت عمر فقال: من أين جئت يا فاطمة قالت من عند أبي
بكر أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وآله أعطاني فدك وعلي يشهد وأم



(1) إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي الكوفي المتوفى سنة 283 صاحب كتاب
" الغارات المعروف " بابن هلال الثقفي، والمظنون أن الرواية المذكورة رواها في كتاب
" المعرفة " فهي بموضوعه أشبه خصوصا وأن المرتضى من رواة كتب إبراهيم المذكور كما
في الفهرست للشيخ الطوسي.
(2) هو إبراهيم بن محمد بن ميمون، قال عنه الذهبي في ميزانه: " من
أجلاد الشيعة " وكثيرا ما يعبر. عن رجال الشيعة بهذا التعبير فيقول إذا ذكر أحدهم
" رافضي جلد، أو شيعي جلد " والجلد - بفتحتين -: الصلابة وظن بعضهم أن
" أجلاد " تصحيف " أجلاء " والصحيح ما ذكرناه، وظن بعضهم أنه متحد مع
إبراهيم بن ميمون الكوفي، بياع الهروي الذي عده الشيخ في رجاله من أصحاب
الصادق عليه السلام إذ من البعيد جدا أن يروي إبراهيم الثقفي المتوفى سنة 283 عن
رجل كان في زمن الصادق عليه السلام.
(3) عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عليه السلام
عده الطوسي من مصنفي الإمامية وقال: له كتاب (الفهرست 116).
(4) ش " وعلي وأم أيمن: يشهدان " وأم أيمن.
(5) ش " ما كنت لتقولي على أبيك إلا الحق ".
(6) الأدم: باطن الجلد، والمراد هنا جلد رقيق وهو المعروف بالرق - بفتح
الراء - كانوا يكتبون به.
97
أيمن فأعطانيها وكتبها لي (1) فأخذ عمر منها الكتاب، ثم رجع إلى أبي بكر
فقال: أعطيت فاطمة فدك وكتبت بها لها؟ قال: نعم قال عمر: علي يجر إلى
نفسه وأم أيمن امرأة، وبصق في الصحيفة ومحاها (2).
وقد روي هذا المعنى من وجوه مختلفة، من أراد الوقوف عليها
واستقصاءها أخذها من مواضعها.
وليس لهم أن يقولوا: إنها أخبار آحاد لأنها وإن كانت كذلك فأقل
أحوالها أن توجب الظن، وتمنع من القطع على خلاف معناها.
وليس لهم أن يقولوا: كيف يسلم إليها فدك وهو يروي عن
الرسول صلى الله عليه وآله أن ما خلفه صدقة؟ وذلك أنه لا تنافي بين
الأمرين لأنه إنما سلمها على ما وردت به الرواية على سبيل النحل، فلما
وقعت المطالبة بالميراث روى الخبر في معنى الميراث فلا اختلاف بين
الأمرين.
فأما إنكار صاحب الكتاب كون فدك في يدها عليها السلام فما رأيناه
اعتمد في إنكار ذلك على حجة، بل قال: (لو كان ذلك في يدها لكان
الظاهر أنها لها) والأمر على ما قال فمن أين إنها لم تخرج عن يدها على
وجه يقتضي الظاهر خلافه، وقد روي من طرق مختلفة من غير طريق أبي
سعيد الذي ذكره صاحب الكتاب أنه لما نزل قوله تعالى: (وآت ذا
القربى حقه) (3) دعا النبي صلى الله عليه وآله فاطمة عليها السلام فأعطاها
فدك وإذا كان ذلك مرويا فلا معنى لدفعه بغير حجة.



(1) ش " وعلي وأم أيمن يشهدان لي فأعطانيها، وكتب لي بها ".
(2) ش " وبسق في الكتاب فمحاه وخرقه ".
(3) الاسراء / 26.
98
وقوله: (لا خلاف أن العمل على الدعوى لا يجوز) صحيح،
وقد بينا أن قولها عليها السلام إذا كان معلوما صحته وجب العمل به.
وبينا أنه معلوم صحته.
وأما قوله: (إنما يعمل على ذلك متى علم صحته بمشاهدة أو ما
يجري مجراها (1) أو حصلت بينة أو إقرار) فيقال له: أما علم مشاهدة فلم
يكن هناك، وأما بينته فقد كانت على الحقيقة، لأن شهادة أمير المؤمنين
عليه السلام من أكبر البينات وأعدلها، ولكن على مذهبك أنه لم يكن
هناك بينة، فمن أين زعمت أنه لم يكن هناك علم؟ وإن كان لم يكن عن
مشاهدة فقد أدخلت ذلك في جملة الأقسام.
فإن قال: لأن قولها بمجرده لا يكون جهة للعلم.
قيل له: ولم قلت ذلك أوليس قد دللنا على أنها كانت معصومة،
وأن الخطأ مأمون عليها، ثم لو لم يكن كذلك لكان قولها في تلك القضية
معلوما صحته على كل حال، لأنها لو لم تكن مصيبة لكانت مبطلة عاصية
فيما ادعته، إذ الشبهة لا تدخل في مثل ذلك، وقد أجمعت الأمة على أنها
عليها السلام لم يظهر منها بعد الرسول صلى الله عليه وآله معصية بلا شك
وارتياب، بل أجمعوا على أنها لم تدع إلا الصحيح. وإن اختلفوا فمن
قائل يقول: مانعها مخطئ، وآخر يقول: هو أيضا مصيب لفقد البينة
وأن علم صدقها.
فأما قوله: (إنه عليه السلام لو حاكم غيره لطولب بالبينة) فقد
تقدم في هذا ما يكفي وقصة خزيمة بن ثابت، وقبول شهادته تبطل هذا



(1) كالعلم الحاصل من الشياع والتواتر.
99
الكلام.
وأما قوله: (إن أمير المؤمنين عليه السلام حاكم يهوديا على الوجه
الواجب في سائر الناس) فقد روي ذلك، إلا أن أمير المؤمنين عليه
السلام لم يفعل ذلك وهو واجب عليه وإنما تبرع به، واستظهر بإقامة
الحجة فيه، وقد أخطأ من طالبه ببينة كائنا من كان.
فأما اعتراضه بأم سلمة فلم يثبت من عصمتها ما ثبت من عصمة
فاطمة عليها السلام فلذلك احتاجت في دعواها إلى بينة.
فأما إنكاره وادعاؤه أن الشاهد في ذلك لم يثبت أنه أمير المؤمنين
عليه السلام فلم يزد في ذلك على مجرد الدعوى والانكار، والأخبار
مستفيضة بأنه شهد لها فدفع ذلك باقتراح (1) ولا يغني شيئا.
وقوله: (إن الشاهد لها مولى لرسول الله صلى الله عليه وآله) هو
المنكر الذي ليس بمعروف.
وأما قوله: (إنها عليها لسلام جوزت أن يحكم أبو بكر بالشاهد
واليمين) فطريف مع قوله فيما بعد: (إن التركة صدقة ولا خصم فيها ولا
يدخل اليمين في مثلها) أفترى أن فاطمة عليها السلام لم تكن تعلم من
الشريعة هذا المقدار الذي نبه صاحب الكتاب عليه! ولو لم تعلمه أما كان
أمير المؤمنين عليه السلام وهو أعلم الناس بالشريعة يوقفها!.
وقوله: (إنها جوزت عند شهادة من شهد لها أن يتذكر غيرهم
فليشهد) باطل لأن مثلها لا يتعرض للظنة والتهمة ويعرض قوله للرد،
وقد كان يجب أن تعلم من يشهد لها ممن لا يشهد حتى تكون دعواها على



(1) ح " فدفع بزيغ ".
100
الوجه الذي يجب معه القبول والامضاء، ومن هو دونها في الرتبة والجلالة
والصيانة من أفناء الناس لا يتعرض لمثل هذه الخطة ويتورطها للتجويز
الذي لا أصل له، ولا إمارة عليه.
فأما إنكار أبي علي لأن يكون ادعاء النحل قبل ادعاء الميراث
وعكسه الأمر فيه، فأول ما فيه أنا لا نعرف له غرضا صحيحا في إنكار
ذلك لأن كون أحد الأمرين قبل الآخر لا يصحح له مذهبا، ولا يفسد
على مخالفيه مذهبا.
ثم إن الأمر في أن الكلام في النحل كان المتقدم ظاهرا، والروايات
كلها به واردة، وكيف يجوز أن يبتدئ بالميراث فيما تدعيه بعينه نحلا؟
أوليس هذا يوجب أن يكون قد طالبت بحقها من وجه لا تستحقه منه مع
الاختيار! وكيف يجوز ذلك والميراث يشركها فيه غيرها (1) والنحل تنفرد
به؟ ولا ينقلب مثل ذلك علينا من حيث طالبت بالميراث بعد النحل لأنها
في الابتداء طالبت بالنحل وهو الوجه الذي تستحق منه فدك، فلما دفعت
عنه طالبت ضرورة بالميراث لأن للمدفوع عن حقه أن يتوصل إلى تناوله
بكل وجه وسبب، وهذا بخلاف ما قاله أبو علي لأنه أضاف إليها عليها
السلام ادعاء الحق من وجه لا تستحقه منه، وهي مختارة.
فأما إنكاره أن يكون عمر بن عبد العزيز رد فدك على وجه النحل،
ثم ادعاؤه أنه فعل في ذلك مثل ما فعله عمر بن الخطاب من إقرارها في
يد أمير المؤمنين عليه السلام ليصرف غلاتها في جهاتها، فأول ما فيه أنا لا
نحتج عليه بفعل عمر بن عبد العزيز على أي وجه وقع، لأن فعله ليس



(1) يقصد أزواج النبي صلى الله عليه وآله لا غير لأنه لا يقول بالتعصيب، أو
من باب الالزام.
101
بحجة، ولو أردنا الاحتجاج بهذا الجنس من الحجج لذكرنا فعل المأمون.
فإنه رد فدك بعد أن جلس مجلسا مشهورا حكم فيه بين خصمين نصبهما
أحدهما لفاطمة عليها السلام والآخر لأبي بكر وردها بعد قيام الحجة.
ووضوح الأمر (1) ومع ذلك فإنه أنكر من فعل عمر بن عبد العزيز ما هو
معروف مشهور بلا خلاف بين أهل النقل فيه.
وقد روى محمد بن زكريا الغلابي (2) عن شيوخه عن أبي المقدام
هشام بن زياد مولى آل عثمان (3) قال لما ولي عمر بن عبد العزيز فرد فدك
على ولد فاطمة عليها السلام وكتب إلى واليه على المدينة أبي بكر بن عمر



(1) نقل ابن أبي الحديد في شرح النهج 16 / 217، من كتاب أبي بكر أحمد بن
عبد العزيز الجوهري في السقيفة وفدك، بسنده عن مهدي بن سابق، قال: " جلس
المأمون للمظالم، فأول رقعة وقعت في يده نظر فيها وبكى، وقال للذي على رأسه: ناد
أين وكيل فاطمة؟ فقام شيخ عليه دراعة وعمامة وخف تعزي (نسبة إلى تعز في
اليمن) فتقدم فجعل يناظره في فدك والمأموم يحتج عليه، وهو يحتج على المأمون ثم أمر
أن يسجل لهم بها، فكتب السجل وقرئ عليه، فأنفذه، فقام دعبل إلى المأمون فأنشده
الأبيات التي أولها:
أصبح وجه الزمان قد ضحكا * برد مأمون هاشم فدكا
فلم تزل في أيديهم حتى كان في أيام المتوكل فاقطعها عبد الله بن عمر البازيار
وكانت فيها إحدى عشرة نخلة غرسها رسول الله صلى الله عليه وآله بيده، فكانوا بنو
فاطمة، يأخذون ثمرها، فإذا قدم الحجاج أهدوا إليهم من ذلك التمر فيصلونهم،
فيصير إليهم من ذلك مال جزيل جسيم، فصرم عبد الله بن عمر البازيار ذلك التمر،
وجه رجلا يقال له بشر بن أبي أمية الثقفي إلى المدينة فصرمه ثم عاد إلى البصرة
ففلج ".
(2) محمد بن زكريا الغلابي مولى بني غلاب إخباري إمامي من أهل البصرة من
كتبه الأجواد " و " أخبار فاطمة ومنشئها ومولدها " و " كتاب صفين " توفي سنة 298
(انظر الأعلام 6 / 364).
(3) أبو المقدام هشام بن زياد بن أبي يزيد القرشي مولى عثمان، (تهذيب
التهذيب 11 / 38).
102
ابن حزم (1) يأمره بذلك فكتب إليه إن فاطمة عليها السلام قد ولدت في آل
عثمان وآل فلان وآل فلان (2) فكتب إليه، أما بعد فإني لو كنت كتبت
إليك آمرك أن تذبح شاة لسألتني جماء أو قرناء (3)، أو كتبت إليك أن تذبح
بقرة لسألتني ما لونها، فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقسمها بين ولد فاطمة
من علي، والسلام.
قال أبو المقدام: فنقمت بنو أمية ذلك على عمر بن عبد العزيز
وعاتبوه فيه، وقالوا له: هجنت (4) فعل الشيخين وخرج إليه عمرو بن
عبس (5)، في جماعة من أهل الكوفة فلما عاتبوه على فعله، قال: أنكم
جهلتم وعلمت، ونسيتم وذكرت، إن أبا بكر محمد بن عمرو بن حزم
حدثني عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: (فاطمة
بضعة مني يسخطني ما يسخطها ويرضيني ما يرضيها) (6) وإن فدك كانت
صافية (7) على عهد أبي بكر وعمر ثم صار أمرها إلى مروان فوهبها لأبي عبد
العزيز فورثتها أنا وإخواني، فسألتهم أن يبيعوني حصتهم منها فمنهم من



(1) الصحيح كما في الجرح والتعديل للرازي 9 / 227: أبو بكر بن محمد بن
عمرو بن حزم وهو قاضي المدينة وقد ولاه عمر بن عبد العزيز عليها ولم يكن على
المدينة أنصاري أميرا غيره.
(2) في مروج الذهب 3 / 194 " إن عليا قد ولد له في عدة قبائل من قريش "
وفيه " فاقسم في ولد علي من فاطمة ".
(3) الجماء: الملساء، والقرناء: ذات القرن.
(4) تهجين الأمر: تقبيحه.
(5) ح " عمر بن قيس " وهو الأظهر انظر لسان الميزان 4 / 374.
(6) هذا الحديث رواه أصحاب الحديث كافة مع اختلاف في اللفظ واتفاق في
المعنى وسبب الاختلاف في اللفظ أن رسول الله صلى الله عليه وآله قاله في
مواطن عديدة وأزمان مختلفة.
(7) صافية: المعروف " صفية " والجمع صفايا وهي ما يصطفيه الرئيس لنفسه من
المغنم.
103
باعني، ومنهم من وهب لي، حتى استجمعتها فرأيت أن أردها على ولد
فاطمة عليها السلام، فقالوا: إن أبيت إلا هذا فأمسك الأصل، وأقسم
الغلة ففعل.
فأما ما ذكره من ترك أمير المؤمنين عليه السلام فدك لما أفضى الأمر
إليه، واستدلاله بذلك على أنه لم يكن الشاهد فيها، فالوجه في تركه عليه
السلام رد فدك هو الوجه في إقراره أحكام القوم، وكفه عن نقضها
وتغييرها، وقد بيناه في هذا الكتاب مجملا ومفصلا، وذكرنا أنه عليه
السلام كان في انتهاء الأمر إليه في بقية من التقية قوية.
فأما استدلاله على أن حجر أزواج النبي صلى الله عليه وآله كانت
لهن بقوله عز وجل: (وقرن في بيوتكن) (1) فمن عجيب الاستدلال،
لأن هذه الإضافة لا تقتضي الملك. بل العادة جارية فيه بأنها تستعمل
من جهة السكنى، ولهذا يقال: هذا بيت فلان ومسكنه ولا يراد بذلك
الملك، وقد قال الله تعالى: (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين
بفاحشة مبينة) (2) ولا شبهة في أنه تعالى أراد منازل الأزواج التي يسكنون
فيها زوجاتهم، ولم يرد بهذا الإضافة الملك.
فأما ما رواه من أن رسول الله صلى الله عليه وآله قسم حجره على
بناته ونسائه فمن أين له إذا كان هذا الخبر صحيحا أن هذه القسمة على
جهة التمليك دون الاسكان والانزال؟ ولو كان قد ملكهن ذلن لوجب أن
يكون ظاهرا مشهورا.
فأما الوجه في ترك أمير المؤمنين عليه السلام لما صار الأمر إليه في يده



(1) الأحزاب 33.
(2) الطلاق 1.
104
منازعة الأزواج في هذه الحجر فهو ما تقدم وتكرر (1).
فأما قوله: " إذا جازت التقية للأئمة وحالهم في العصمة ما تدعون
جازت على الرسول صلى الله عليه وآله " فالفرق بين الأمرين واضح لأن
الرسول صلى الله عليه وآله مبتدئ بالشرع، ومفتتح لتعريف الأحكام
التي لا تعرف إلا من جهته وبيانه، فلو جازت عليه التقية لأخل ذلك
بإزاحة علة المكلفين، ولفقدوا الطريق إلى معرفة مصالحهم الشرعية التي
قد بينها أنها لا تعرف إلا من جهته والإمام، بخلاف هذا الحكم لأنه منفذ
للشرائع التي قد علمت من غير جهته، وليس يقف العلم بها والحق
فيها، على قوله دون غيره، فمن اتقى في بعض الأحكام لسبب يوجب
ذلك لم يخل تقية بمعرفة الحق، وإمكان الوصول إليه، والإمام والرسول
وإن استويا في العصمة فليس يجب أن يستويا في جواز التقية للفرق الذي
ذكرناه، لأن الإمام لم تجز التقية عليه لأجل العصمة، وليس للعصمة تأثير
في جواز التقية ولا نفي جوازها.
فإن قيل: أليس من قولكم: إن الإمام حجة في الشرائع؟ وقد يجوز
عندكم أن ينتهي الأمر إلى أن يكون الحق لا يعرف إلا من جهته وبقوله،
بأن يعرض الناقلون عن النقل فلا يرد إلا من جهة من لا تقوم الحجة
بقوله، وهذا يوجب مساواة الإمام للرسول فيما فرقتم بينهما فيه.
قلنا: إذا كانت الحال في الإمام على ما صورتموه، وتعينت الحجة
في قوله، فإن التقية لا تجوز عليه كما لا تجوز على النبي.
فإن قيل: فلو قدرنا أن النبي صلى الله عليه وآله قد بين جميع



(1) أي إقرار أحكام من تقدمه تقية.
105
الشرائع والأحكام التي يلزمه بيانها حتى لم يبق شبهة في ذلك ولا ريب،
لكان يجوز والحال هذه عليه التقية في بعض الأحكام.
قلنا: ليس يمتنع عند قوة أسباب الخوف الموجبة للتقية أن يتقي إذا
لم تكن التقية مخلة بالوصول إلى الحق، ولا منفرة عنه.
ثم يقال لصاحب الكتاب: أليست التقية عندك جائزة على جميع
المؤمنين عند حصول أسبابها وعلى الإمام والأمير؟
فإن قال: هي جائزة على المؤمنين وليست جائزة على الإمام
والأمير.
قلنا: وأي فرق بين ذلك والإمام والأمير عندك ليسا بحجة في شئ
كما أن النبي صلى الله عليه وآله حجة فتمنع من ذلك لمكان الحجة بقولهما
فإن اعترف بجوازها عليهما.
قيل له: فألا جاز على النبي صلى الله عليه وآله قياسا على الأمير
والإمام؟
فإن قال: لأن قول النبي صلى الله عليه وآله حجة، وليس الأمير
والإمام كذلك.
قيل له: وأي تأثير للحجة في ذلك إذا لم تكن التقية مانعة من
إصابة الحق ولا مخلة بالطريق إليه؟ وخبرنا عن الجماعة التي نقلها في باب
الأخبار حجة لو ظفر بهم جبار ظالم متفرقين أو مجتمعين فسألهم عن
مذاهبهم وهم يعلمون أو يغلب في ظنونهم أنهم متى ذكروها على وجهها
قتلهم، وأباح حريمهم، أليست التقية جائزة على هؤلاء، مع أن الحجة
في أقوالهم؟ فإن منع من جواز التقية على ما ذكرناه دفع ما هو معلوم.
قيل له: وأي فرق بين هذه الجماعة وبين من نقص عن عدتها في جواز

106
التقية؟ فلا يجد فرقا،
فإن قال: إنما جوزنا التقية على من ذكرتم لظهور الاكراه والأسباب
الملجئة إلى التقية، ومنعناكم من مثل ذلك لأنكم تدعون تقية لم تظهر
أسبابها ولا الأمور الحاملة عليها من إكراه وغيره.
قيل له: هذا اعتراف بما أردنا من جواز التقية عند وجود أسبابها.
وصار الكلام الآن في تفصيل هذه الجملة، ولسنا نذهب في موضع من
المواضع إلى أن الإمام اتقى بغير سبب موجب لتقيته، وحامل على فعله
والكلام في التفصيل غير الكلام في الجملة، وليس كل الأسباب التي
توجب التقية تظهر لكل أحد ويعلمها جميع الخلق، بل ربما اختلفت الحال
فيها، وعلى كل حال فلا بد من أن تكون معلومة لمن أوجب تقية ومعلومة
أو مجوزة لغيره، ولهذا قد نجد بعض الملوك يسأل رعيته عن أمر فيصدقه
بعضهم عن ذلك، ولا يصدقه آخرون ويستعملون ضربا من التورية
وليس ذلك إلا لأن من صدق لم يخف على نفسه ومن جرى مجرى نفسه
ومن ورى فلأنه خاف على نفسه. وغلب في ظنه وقوع الضرر به متى
صدق عما سئل فيه، وليس يجب أن يستوي حال الجميع، وأن يظهر
لكل أحد السبب في تقية من اتقى ممن ذكرناه بعينه حتى تقع الإشارة إليه
على سبيل التفصيل وحتى يجري مجرى العرض على السيف في الملأ من
الناس، بل ربما كان ظاهرا كذلك، وربما كان خاصا.
فإن قيل: مع تجويز التقية على الإمام كيف السبيل إلى العلم
بمذاهبه واعتقاده، وكيف يخلص لنا ما يفتي به على سبيل التقية من غيره.
قلنا: أول ما نقوله في ذلك أن الإمام لا يجوز أن يتقي فيما لا يعلم
إلا من جهته، ولا طريق إليه إلا من ناحية قوله، وإنما يجوز التقية عليه
فيما قد بان بالحجج والبينات، ونصبت عليه الدلالات حتى لا يكون فتياه

107
فيه مزيلة الطريق إصابة الحق وموقعة للشبهة، ثم لا يتقي في شئ إلا
ويدل على خروجه منه مخرج التقية، أما لما يصاحب كلامه أو يتقدمه أو
يتأخر عنه، ومن اعتبر جميع ما روي عن أئمتنا عليهم السلام على سبيل
التقية وجده لا يعري ما ذكرناه، ثم إن التقية إنما تكون من العدو دون
الولي، ومن المتهم دون الموثوق به، فما يصدر عنهم إلى أوليائهم وشيعتهم
ونصحائهم في غير مجالس الخوف يرتفع الشك في أنه على غير جهة التقية
وما يفتون به العدو أو يمتحنون به في مجالس الخوف يجوز أن يكون على
سبيل التقية كما يجوز أن يكون على غيرها، ثم نقلب هذا السؤال على
المخالف فيقال له: إذا أجزت على جميع الناس التقية عند الخوف
الشديد، وما يجري مجراه فمن أين تعرف مذاهبهم واعتقادهم؟ وكيف
يفصل بين ما يفتي به المفتي منهم على سبيل التقية وبين ما يفتى به وهو
مذهب له يعتقد صحته، فلا بد ضرورة من الرجوع إلى ما ذكرناه.
فإن قال: أعرف مذهب غيري وإن أجزت عليه التقية بأن يضطرني
إلى اعتقاده وعند التقية لا يكون ذلك.
قلنا: وما المانع لنا من أن نقول هذا بعينه فيما سألت عنه.
فأما ما تلا صاحب الكتاب كلامه الذي حكيناه عنه به (1) من
الكلام في التقية.
وقوله: (إن ذلك يوجب أن لا يوثق بنصه على أمير المؤمنين عليه
السلام) فإنما بناه على أن النبي صلى الله عليه وآله يجوز عليه التقية على
كل حال، وقد بينا ما في ذلك واستقصيناه.



(1) " به " متعلق ب‍ " تلا ".
108
وقوله: (ألا جاز أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام نبيا وعدل
عن ادعاء ذلك تقية؟) فيبطله ما ذكرناه من أن التقية لا تجوز على النبي
والإمام فيما لا يسلم إلا من جهته، ويبطله زائدا على ذلك ما نعلمه نحن
وكل عاقل ضرورة من أن نفي النبوة بعده على كل حال من دين الرسول
صلى الله عليه وآله (1).
وقوله: (إن عولوا على علم الاضطرار فعندهم أن الضرورة في
النص على الإمام قائمة) فمعاذ الله أن ندعي الضرورة في العلم بالنص
على من غاب عنه فلم يسمعه والذي نذهب إليه أن كل من لم يشهده لا
يعلمه إلا باستدلال، وليس كذلك نفي النبوة لأنه معلوم من دينه عليه
السلام ضرورة، ولو لم يشهد بالفرق بين الأمرين إلا اختلاف العقلاء في
النص مع تصديقهم بالرسول صلى الله عليه وآله ولم يختلفوا في نفي النبوة
ولا اعتبار بقول صاحب الكتاب: (إن في ذلك خلافا قد ذكر كما ذكر في
أنه عليه السلام إله) لأن هذا الخلاف لا يعتد به والمخالف فيه خارج عن
الاسلام فلا يعتبر في إجماع المسلمين بقول من خالف في أنه إله على أن من
خالف وادعى نبوته لا يكون مصدقا للرسول صلى الله عليه وآله ولا عالما
بنبوته ولا ندعي علم الاضطرار في أنه لا نبي وبعده وإنما نعلم ضرورة من
دينه صلى الله عليه وآله نفي النبوة بعده.
فأما قوله: (إن الإجماع لا يوثق به عندهم) فمعاذ الله أن نطعن
في الإجماع وكونه حجة، فإن أراد أن الإجماع الذي لا يكون فيه قول إمام
ليس بحجة فذلك ليس بإجماع عندنا وعندهم، وما ليس بإجماع فلا حجة
فيه، وقد تقدم عند كلامنا في الإجماع من هذا الكتاب ما فيه كفاية،



(1) لما تواتر عنه صلى الله عليه وآله (لا نبي بعدي).
109
وقوله (لتجوزن أن يقع الإجماع على طريق التقية لأنه لا يكون أوكد
من قول الرسول أو قول الإمام عندهم) باطل لأنا قد بينا أن التقية لا
تجوز على الرسول والإمام على كل حال وإنما تجوز على حال دون حال
أخرى على أن القول بأن الأمة بأسرها تجمع على طريق التقية طريق لأن
التقية سببها الخوف من الضرر العظيم وإنما يتقي بعض الأمة من بعض
لغلبته عليه وقهره له وجميع الأمة لا تقية عليها من أحد.
فإن قيل: يتقى من مخالفيها في الشرائع.
قلنا: الأمر بالضد من ذلك لأن من خالطهم وصاحبهم من
مخالفيهم في الملل أقل عددا وأضعف بطشا منهم. فالتقية لمخالفيهم منهم
أولى وهذا أظهر من أن يحتاج إلى الإطالة فيه والاستقصاء.
قال صاحب الكتاب: (ومن جملة ما ذكروه [من الطعن (1)]
ادعاؤهم أن فاطمة عليها السلام لغضبها على أبي بكر وعمرا وصت أن لا
يصليا عليها وأن تدفن سرا منهما فدفنت ليلا وادعوا برواية رووها عن
جعفر بن محمد عليه السلام وغيره أن عمر ضرب فاطمة عليها السلام
بالسوط وضرب الزبير بالسيف وذكروا أن عمر قصد منزلها وعلي والزبير
والمقداد وجماعة ممن تخلف عن بيعة أبي بكر مجتمعون هناك فقال لها: ما أحد
بعد أبيك أحب إلينا منك، وأيم الله لئن اجتمع هؤلاء النفر عندك
لنحرقن عليهم فمنعت القوم من الاجتماع). ثم قال: (الجواب عن
ذلك أنا لا نصدق ذلك ولا نجوزه (2).
فأما أمر الصلاة فقد روي أن أبا بكر هو الذي صلى على فاطمة



(1) الزيادة من المغني.
(2) أي التهديد بالتحريق وفي المغني " ولا نجوزه عليها، عليها السلام ".
110
عليها السلام وكبر أربعا وهذا أحد ما استدل به كثير من الفقهاء في التكبير
على الميت ولا يصح أنها دفنت ليلا وإن صح ذلك فقد دفن رسول الله
صلى الله عليه وآله ليلا وعمر دفن ابنه ليلا وقد كان أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وآله يدفنون بالنهار ويدفنون بالليل، فما في هذا مما يطعن به
بل الأقرب في النساء أن دفنهن ليلا أستر وأولى بالسنة).
ثم حكي عن أبي علي تكذيب ما روي من الضرب بالسوط قال:
وهذا المروي عن جعفر بن محمد من ضرب عمر لا أصل له بل المروي من
جعفر بن محمد عليه السلام أنه كان يتولى أبا بكر وعمر ويأتي القبر فيسلم
عليهما (1) مع تسليمه على رسول الله صلى الله عليه وآله، روى ذلك عباد بن
صهيب (2) وشعبة (3) بن الحجاج ومهدي بن هلال (4) والدراوردي وغيرهم،
وقد روي عن أبيه وعن علي بن الحسين مثل ذلك، فكيف يصح ما
ادعوه؟ وهل هذه الرواية إلا كروايتهم [عن جعفر في أخبار لهم] (5) أن
علي بن أبي طالب هو إسرافيل والحسن ميكائيل والحسين جبرائيل وفاطمة
ملك الموت وآمنة أم النبي ليلة القدر فإن صدقوا ذلك صدقوا هذا أيضا.



(1) في المغني " كان يترك أبا بكر وعمر ويأتي القبر فيسلم عليها " والتحريف بين
(2) عباد بن صهيب البصري في لسان الميزان 3 / 230: " متروك الحديث
يروي أشياء إذا سمعها المبتدي بهذه الصفاعة شهد لها بالوضع، مات قريبا من سنة
212 ".
(3) في المغني " وسعيد محرف شعبة ".
(4) مهدي بن هلال أبو عبد الله البصري روى عن يعقوب بن أبي عطاء
ويونس بن عبيد وروى عنه جماعة في لسان الميزان 6 / 106 " كذبه يحيى بن سعيد وابن
معين. صاحب بدعة يضع الحديث، عامة ما يرويه لا يتابع عليه، من المعروفين
بالكذب ووضع الحديث الخ ".
(5) أي للشيعة وجعفر هو الإمام الصادق عليه السلام.
111
قيل لهم: فعمر بن الخطاب كيف يقدر على ضرب ملك الموت وإن
قالوا: لا نصدق ذلك فقد جوزوا رد هذه الروايات وصح أنه لا يجوز
التعويل على هذا الجنس وإنما يتعلق بذلك من غرضه الالحاد كالوراق وابن
الراوندي [فلا يتألون مهما يوردون ليقع التنفير به] لأن غرضهم القدح
في الاسلام).
وحكي عن أبي علي أنه قال: (لم صار غضبها لو ثبت كأنه
كأنه غضب رسول الله صلى الله عليه وآله من حيث قال: " فمن أغضبها
فقد أغضبني " أولى من أن يقال: من أغضب أبا بكر وعمر فقد نافق
وفارق الدين لأنه روي عنه عليه السلام أنه قال: " حب أبي بكر وعمر
إيمان وبغضهما نفاق " ومن يورد مثل هذه فقصده الطعن في الاسلام وأن
يوهم الناس أن أصحاب النبي نافقوا مع مشاهدة الأعلام ليضعفوا دلالة
العلم في النفوس...) (1).
قال: (فأما ما ذكروه من حديث عمر في باب الاحراق (2)، فلو صح لم يكن
طعنا على عمر لأن له أن يهدد من امتنع عن المبايعة إرادة للخلاف
على المسلمين لكنه (1) غير ثابت لأن أمير المؤمنين قد بايع، وكذلك الزبير
والمقداد والجماعة، وقد بينا القول في ذلك فيما تقدم وأن التمسك بما تواتر
به الخبر من بيعتهم أولى من هذه الروايات الشاذة) (3).



(1) المغني 20 ق 1 / 335 و 336.
(2) في المغني " لكن ذلك غير ثابت " وحديث التهديد بالاحراق رواه جماعة منهم
ابن عبد ربه في العقد الفريد 4 / 259، الإمامة والسياسة 1 / 18.
(3) المغني 20 ق 1 / 337.
112
ثم كرر حاكيا عن أبي علي أن أمير المؤمنين عليه السلام إنما تأخر
عن البيعة من أجل استبدادهم بالرأي عليه، وأنهم لم يشاوروه وأنه بعد
ذلك بايع ورضي، وإن كان في مدة تأخره عن البيعة مسلما راضيا (1).
يقال له: أما قولك (2): (إنا لا نصدق ذلك، ولا نجوزه) فإنك
لم تسند إنكارك إلى حجة أو شبهة فنتكلم عليها، والدفع لما يروى بغير
حجة لا يلتفت إليه.
فأما ما ادعيت من أن أبا بكر هو الذي صلى على فاطمة عليها
السلام وكبر أربعا وأن كثيرا من الفقهاء يستدلون به في التكبير على الميت
فهو شئ ما سمع إلا منك وإن كنت تلقيته عن غيرك فممن يجري مجراك
في العصبية، وإلا فالروايات المشهورة وكتب الآثار والسير خالية من
ذلك. ولم يختلف أهل النقل في أن أمير المؤمنين عليه السلام هو الذي
صلى على فاطمة عليها السلام، إلا رواية شاذة نادرة وردت بأن العباس
رضي الله عنه صلى عليها.
وروى الواقدي بإسناده عن عكرمة (3) قال: سألت ابن عباس متى
دفنتم فاطمة؟ قال: دفناها بليل بعد هدأة قال: قلت: فمن صلى عليها؟
قال علي عليه السلام.



(1) المغني 20 ق 1 / 337.
(2) في نقل ابن أبي الحديد: (أما قوله: الخ) وجميع الضمائر فيه وفيما بعده
للغائب.
(3) عكرمة مولى ابن عباس أبو عبد الله أصله من البربر من المغرب، كان
لحصين بن الحر العنبري فوهبه لابن عباس حين ولى البصرة واجتهد ابن عباس في
تعليمه القرآن والسنن، كان يرى رأي الخوارج، وكان كثير التطواف والجولان في
البلاد واختلف في سنة وفاته ما بين 104 - 115.
113
* وروى الطبري عن الحرث بن أبي أسامة عن المدائني عن أبي زكريا
العجلاني أن فاطمة عليها السلام عمل لها نعش قبل وفاتها فنظرت إليه،
وقالت سترتموني ستركم الله، قال أبو جعفر محمد بن جرير: والثابت في ذلك
أنها زينب لا فاطمة عليها السلام دفنت ليلا ولم يحضرها إلا العباس وعلي
عليه السلام والمقداد * والزبير (1).
وروى القاضي أبو بكر أحمد بن كامل بإسناده في تاريخه عن الزهري
قال حدثني عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أن فاطمة بنت رسول الله
صلوات الله عليه وعليها عاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله ستة
أشهر (2) فلما توفيت دفنها علي عليه السلام ليلا وصلى عليها علي بن أبي
طالب، وذكر في كتابه هذا أن أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم
السلام دفنوها ليلا وغيبوا قبرها.
وروى سفيان بن عيينة عن عمرو عن الحسن بن محمد أن فاطمة
عليها السلام دفنت ليلا، وروى عبد الله بن أبي شيبة عن يحيى بن سعيد
العطار عن معمر عن الزهري مثل ذلك.
وقال البلاذري في تاريخه: أن فاطمة عليها السلام لم تر مبتسمة بعد
وفاة رسول الله ولم يعلم أبو بكر وعمر بموتها، والأمر في هذا واضح،
وأظهر من أن نطنب في الاستشهاد عليه، ونذكر الروايات فيه.
فأما قوله: (ولا يصح أنها دفنت ليلا، وإن صح فقد دفن فلان
وفلان ليلا) فقد بينا أن دفنها ليلا في الصحة كالشمس الطالعة وأن منكر
ذلك كدافع المشاهدات. ولم يجعل دفنها بمجرده هو الحجة فيقال: فقد



(1) ما بين النجمتين ساقط من الطبري
(2) نقله الطبري 3 / 240 حوادث سنة 11.
114
دفن فلان وفلان ليلا، بل مع الاحتجاج بذلك على ما وردت به الروايات
المستفيضة الظاهرة التي هي كالمتواتر أنها أوصت بأن تدفن ليلا حتى لا
يصلي عليها الرجلان، وصرحت بذلك وعهدت فيه عهدا، بعد أن كانا
استأذنا عليها في مرضها ليعوداها فأبت أن تأذن لهما فلما طال عليهما المدافعة
رغبا إلى أمير المؤمنين عليه السلام في أن يستأذن لهما وجعلاها حاجة إليه
فكلمها أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك وألح عليها فأذنت لهما في
الدخول ثم أعرضت عنهما عند دخولهما ولم تكلمهما فلما خرجا قالت
لأمير المؤمنين عليه السلام أليس قد صنعت ما أردت؟ قال نعم قالت:
فهل أنت صانع ما آمرك قال: نعم قالت: فإني أنشدك الله أن لا يصليا
على جنازتي ولا يقوما على قبري.
وروي أنه عليه السلام عمى على قبرها (1) ورش أربعين قبرا في
البقيع ولم يرش على قبرها حتى لا يهتديا إليه، وإنما عاتباه على ترك
إعلامهما بشأنها وإحضارهما الصلاة عليها فمن هاهنا احتججنا بالدفن
ليلا، ولو كان ليس غير الدفن بالليل من غير ما تقدم عليه وتأخر عنه لم
يكن فيه حجة.
فأما حكايته عن أبي علي إنكاره ما روي من ضربها وادعاؤه أن
جعفر بن محمد عليه السلام كان يتولاهما وكان أبوه وجده كذلك، فأول
ما فيه أن إنكار أبي علي لما وردت به الرواية من غير حجة لا يعتد به،
وكيف لا ينكر أبو علي هذه الرواية وعنده أن القوم لم يجلسوا من الإمامة
إلا مجلسهم، ولا تناولوا إلا بعض حقهم وأنهم كانوا على كثب (2) عظيم



(1) ش " عفى قبرها ".
(2) الكثب - بالتحريك -: القرب.
115
من التوفيق والتأييد، والتحري للدين ولو أخرج من قلبه هذه الاعتقادات
المبتدأة لعرف أمثال هذه الرواية، أو الشك على أقل أحواله في صحتها
وفسادها، وقد كنا نظن أن مخالفينا في الإمامة يقنعون فيما يدعونه على أبي
عبد الله جعفر بن محمد وأبيه وجده عليهم السلام بأن لا يقولوا في القوم
السوء ويكفوا عن الملامة فيهم، وإضافة المعايب إليهم، ففي هذا لو
سلم لهم مقنع وبلاغ، وما كنا نظن أنهم يحملون أنفسهم على مثل ما
ادعاه أبو علي، ومذاهب الناس إنما تؤخذ من خواصهم وأوليائهم، ومن
ليس بمتهم عليهم، ولا يتلقى من أعدائهم والمنحرفين عنهم، وقد علمنا
وعلم كل أحد أن المختصين بهؤلاء السادة قد رووا عنهم ضد ما ادعاه أبو
علي، وإضافة إلى شعبة بن الحجاج (1) وفلان وفلان، وقولهم فيهما: هم
أنهما أول من ظلمنا حقنا، وحمل الناس على رقابنا، وقولهم: إنهما أصفيا
بإنائنا واضطجعا بسبيلنا وجلسا مجلسا نحن أحق به منهما، مشهور معروف
إلى غير ذلك من فنون التظلم، وضروب الشكاية فيما لو أوردناه
واستقصيناه لاحتاج إلى مثل حجم كتابنا، ومن أراد أن يعتبر ما روي عن
أهل البيت في هذا المعنى فلينظر في كتاب المعرفة لأبي إسحاق إبراهيم بن
سعيد الثقفي فإنه قد ذكر عن رجل رجل من أهل البيت عليهم السلام
بالأسانيد البينة ما لا زيادة عليه.
وبعد، فأي حجة في رواية شعبة وأمثاله ما حكاه وهو مما يجوز أن
يخرج مخرج التقية التي قدمنا جوازها على سادتنا عليهم السلام فكيف



(1) شعبة بن الحجاج " أبو بسطام " " مولى الأشاقر " واسطي الأصل.
بصري الدار سمع قتادة ويونس بن عبيد وعبد الملك بن عمير وغيرهم وروى عنه
أيوب السختياني والأعمش وغيرهم قدم بغداد فوهب له المهدي ثلاثين ألف درهم
وأقطعه ألف جريب بالبصرة انظر ترجمته في تاريخ بغداد 9 / 255 وابن خلكان
2 / 469 وغيرهما.
116
يعارض ذلك أخبارنا التي لا يجوز أن تصدر إلا عن الاعتقادات الصحيحة
والمذاهب التي يدان الله تعالى بها (1)
فأما قوله: (إن هذه الرواية كروايتهم أن علي بن أبي طالب عليه
السلام هو إسرافيل وأن الحسن هو الميكائل إلى آخر كلامه) فمما كنا نظن
أن مثل صاحب الكتاب يتنزه عن ذكره، والتشاغل بالاحتجاج به لأنا لا
نعرف عاقلا يحتج عليه وله، ولا يذهب إلى ما حكاه، ومن ينتسب إلى
التشيع رجلان مقتصد وغال فالمقتصد معلوم نزاهته عن مثل هذا القول،
والغالي لم يرض إلا بالإلهية والربوبية، ومن قصر منهم ذهب إلى النبوة،
فهذه الحكاية خارجة عن مذهب المقتصد، والغالي قد كان يجب لما أودعها
كتابه محتجا بها أن يذكر قائلها، والذاهب إليها بعينها، والراوي لها
باسمه، والكتاب الذي نقلها منه إن كان من كتاب.
وبعد فلو كانت هذه الحكاية صحيحة، وقد ذهب إليها ذاهب
لكان من جملة مذاهب الغلاة الذين نبرأ إلى الله تعالى منهم، ولا نعدهم
شيعة ولا مسلمين، فكيف تجري هذه الرواية مجرى ما حكاه عنا؟
ثم يقال له: ألست تعلم أن هذا المذهب يذهب إليه أصحاب
الحلول، والعقل دال على بطلان قولهم؟ فهل العقل دال على استحالة ما
روي من ضرب فاطمة عليها السلام فإن قال هما سيان، قيل له: فبين
استحالة ذلك في العقل كما بينت استحالة الحلول، وقد ثبت مرادك،
ومعلوم عجزك عن ذلك.



(1) نقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة كل ما ذكر في هذا الموضع عن
" الشافي " ج 16 ص 279 - 281، ولكن بتقديم وتأخير، واختلاف في بعض الألفاظ،
ونقصان بعض العبارات، ولكن كل ذلك لم يختلف في المعنى عن المذكور هنا.
117
وإن قال: العقل لا يحيل ما رويتموه وإنما يعلم فساده من جهة
أخرى.
قيل له: فلم جمعت بين الروايتين وشبهت بين الأمرين وهما مختلفان
متباينان؟
وبعد، فكما غلا قوم في أمير المؤمنين عليه السلام هذا الضرب من
الغلو فقد غلا آخرون فيه بالعكس من هذا الغلو فذهبوا إلى ما تقشعر من
ذكره الجلود، وكذلك قد غلا قوم ممن لا يرتضي صاحب الكتاب طريقته
في أبي بكر وعمر وعثمان، وأخرجهم غلوهم إلى التفضيل لهم على سائر
الملائكة، ورووا روايات معروفة تجري في الشناعة مجرى ما ذكره عن
أصحاب الحلول، فلو عارضه معارض فقال له: ما روايتكم في علي ما
تروونه إلا كرواية من روى كيت وكيت وذكر ما ترويه الشراة، وتدين به
الخوارج، وما روايتكم في أبي بكر وعمر وعثمان ما تروونه من التفضيل
والتعظيم إلا كمن روى كذا وكذا، وذكر طرفا مما يروونه الغلاة ما كان
يكون جوابه، وعلى أي شئ يكون معتمده؟! فإنه لا تنفصل عن ذلك إلا
بمثل ما انفصلنا عنه.
فأما حكايته عن أبي علي معارضته لمن ذهب إلى أن غضب فاطمة
عليها السلام كغضب رسول الله صلى الله عليه وآله بما رواه من (أن حب
أبي بكر وعمر إيمان وبغضهما نفاق) فمن بعيد المعارضة، لأنا إنما احتججنا
بالخبر الذي حكيناه من حيث كان مجمعا عليه غير مطعون عليه لا محالة،
ولا مختلف فيه، والخبر الذي رواه غير مجمع عليه وإنما يرويه قوم ويدفعه
آخرون، ويقسمون على بطلانه، وكيف يعارض الأمران؟ وكيف يقابل
المعلوم، والمجمع عليه، المتفق على تصديقه ما هو مدفوع مكذوب.
فأما قوله: (إن من يورد مثل ذلك إنما قصده تضعيف دلالة

118
العلم، والمعجز في النفوس، من حيث أضاف النفاق إلى من شاهدها)
فتشنيع في غير موضعه، واستناد إلى ما لا يجدي نفعا، لأن نفاق من شاهد
الأعلام لا يضعفها، ولا يوهن دليلها، ولا يقدح في كونها حجة، لأن
الأعلام ليست ملجئة إلى العلم، ولا موجبة لحصوله على كل حال، وإنما
تثمر العلم لمن أنعم النظر فيها من الوجه الذي تدل منه، فمن عدل عن
ذلك لسوء اختياره لا يكون عدوله مؤثرا في دلالتها فكم قد عدل من
العقلاء وذوي الأحلام الراجحة والألباب الصحيحة عن تأمل هذه
الأعلام، وأصابه الحق منها، ولم يكن ذلك عندنا وعند صاحب الكتاب
قادحا في دلالة الأعلام، على أن هذا القول يوجب عليه أن ينفي النفاق
والشك عن كل من صحب النبي وعاصره وشاهد أعلامه كعمرو بن
العاص وأبي سفيان وفلان وفلان ممن قد اشتهر نفاقهم، وظهر شكهم في
الدين وارتيابهم (1) وإن كانت إضافة النفاق إلى هؤلاء لا تقدح في دلالة
الأعلام فكذلك القول في غيرهم.
فأما قوله: " إن حديث الاحراق ما صح، ولو صح لم يكن طعنا
لأن له أن يهدد من امتنع من المبايعة إرادة للخلاف على المسلمين " فقد بينا
أن خبر الاحراق قد رواه غير الشيعة ممن لا يتهم على القوم، وأن دفع
الروايات بغير حجة أكثر من نفس المذاهب المختلف فيها لا يجدي شيئا،
والذي اعتذر به من حديث الاحراق إذا صح طريف، وأي عذر لمن أراد
أن يحرق على أمير المؤمنين وفاطمة عليهما السلام منزلهما؟ وهل يكون في
مثل ذلك علة يصغى إليها أو تسمع وإنما يكون مخالفا على المسلمين وخارقا



(1) إنما أورد هذا المثال لأن المعتزلة لا يذهبون إلى تعديل جميع الصحابة بل
يذهبون إلى تفسيق بعضهم انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 1 ص 9
و 3 / 315 و 20 ص 15 وغير ذلك.
119
لإجماعهم، إذا كان الإجماع قد تقرر وثبت، وإنما يصح لهم الإجماع متى
كان أمير المؤمنين عليه السلام ومن قعد عن البيعة ممن انحاز إلى بيت
فاطمة عليها السلام داخلا فيه، وغير خارج عنه، وأي إجماع يصح مع
خلاف أمير المؤمنين عليه السلام وحده فضلا عن أن يتابعه على ذلك
غيره، وهذه زلة من صاحب الكتاب، وممن حكى احتجاجه.
وبعد، فلا فرق بين أن يهدد بالاحراق للعلة التي ذكرها وبين
ضرب فاطمة عليها السلام لمثل هذه العلة، فإن إحراق المنازل أعظم من
ضربه بالسوط وما يحسن الكبير ممن أراد الخلاف على المسلمين أولى بأن
يحسن الصغير فلا وجه لامتعاض صاحب الكتاب من ضربة السوط،
وتكذيب ناقلها، وعنده مثل هذا الاعتذار.
فأما ادعاؤه أن أمير المؤمنين عليه السلام قد بايع بعد ذلك ورضي
وكذلك الجماعة التي أظهرت الخلاف، وأن امتناعه عليه السلام من
البيعة إنما كان لأجل أن القوم لم يشاوروه، فقد مضى الكلام في ذلك فيما
سلف من هذا الكتاب مستوفى ولا حاجة بنا إلى إعادته.
قال صاحب الكتاب: (شبهة لهم أخرى، قالوا: وكيف يصلح
للإمامة من يخبر عن نفسه أن له شيطانا يعتريه، ومن يحذر الناس نفسه،
ومن يقول: أقيلوني، بعد دخوله في الإمامة مع أنه لا يحل أن يكون
الإمام يقول: أقيلوني البيعة).
ثم قال: (الجواب (1) ما ذكره شيخنا أبو علي من أن ذلك لو كان
نقصا فيه لكان قوله تعالى في آدم وحواء: (فوسوس لهما الشيطان) وقوله



(1) ش " أجاب قاضي القضاة فقال " والمظنون، أنه تصرف من ابن أبي
أبي الحديد في كلام المرتضى ولكن لم يخرجه عن معناه.
120
(فأزلهما الشيطان) وقوله: (وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا
تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) يوجب النقص في الأنبياء، وإذا لم يجب
ذلك فكذلك ما وصف به أبو بكر نفسه وإنما أراد أن عند الغضب يشفق
من المعصية ويحذر منها، ويخشى أن يكون الشيطان يعتريه في تلك الحال
فيوسوس إليه، وذلك منه على طريق الزجر لنفسه عن المعاصي [والتفكر
في أحواله] (1) وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه ترك مخاصمة
الناس في حقوقه إشفاقا من المعصية وكان يولي ذلك عقيلا فلما (2) أسن
عقيل كان يوليها عبد الله بن جعفر رحمهم الله أجمعين (3).
فأما ما روي من إقالة البيعة فهو خبر ضعيف وإن صح فالمراد به
التنبيه على أنه لا يبالي لأمر يرجع إليه أن يقيله (4) الناس البيعة، وإنما
يضرون بذلك أنفسهم، فكأنه نبه بذلك على أنه غير مكره لهم، وأنه قد
خلاهم وما يريدون إلا أن يعرض ما يوجب خلافه، وقد روي أن
أمير المؤمنين أقال عبد الله بن عمر البيعة حين استقاله، والمراد بذلك أنه
تركه وما يختاره ولم يكرهه،...) (5)
يقال له: أما قولك في ذلك فباطل لأن قول أبي بكر: وليتكم
ولست بخيركم، فإن استقمت فاتبعوني وإن اعوججت فقوموني فإن لي
شيطانا يعتريني عند غضبي، فإذا رأيتموني مغضبا فاجتنبوني، لا أؤثر في
أشعاركم ولا أبشاركم " (6) فإنه يدل على أنه لا يصلح للإمامة من وجهين



(1) التكملة من " المغني ".
(2) غ " وما أيس " تحريف ظاهر.
(3) المغني 20 ق 1 / 338.
(4) غ " يستقيله ".
(5) المغني 20 ق 1 / 339.
(6) أما قوله " ولست بخيركم " فقد تقدم تخريجه وفي الصواعق المحرقة ص 30
" أقيلوني أقيلوني فلست بخيركم " وأما قوله: " فإن استقمت فاتبعوني، وإن زغت
فقوموني، ألا وإن لي شيطانا يعتريني فإذا أتاني فاجتنبوني لا أوثر في أشعاركم
وأبشاركم " فقد رواه الطبري في التاريخ 4 / 224 حوادث سنة 91 بما لا يخرج عما نقله
المرتضى ولكن مصدره غير الطبري قطعا.
121
أحدهما أن هذه صفة من ليس بمعصوم، ولا يأمن الغلط على نفسه، ومن
يحتاج إلى تقويم رعيته له إذا واقع المعصية، وقد بينا أن الإمام لا بد أن
يكون معصوما مسددا موفقا، والوجه الآخر أن هذه صفة من لا يملك
نفسه، ولا يضبط غضبه، ومن هو في نهاية الطيش والحدة، والخرق (1)
والعجلة ولا خلاف أن الإمام يجب أن يكون منزها عن هذه الأوصاف غير
حاصل عليها، وليس يشبه قول أبي بكر ما تلاه (2) من الآيات كلها، لأن
أبا بكر خبر عن نفسه بطاعة الشيطان عند الغضب، وأن عادته بذلك
جارية، وليس هذا بمنزلة من يوسوس له الشيطان ولا يطيعه، ويزين له
القبيح فلا يأتيه، وليس وسوسته الشيطان بعيب على الموسوس له إذا لم
يستزله ذلك عن الصواب، بل هو زيادة في التكليف، ووجه يتضاعف
معه الثواب، وقوله تعالى: (ألقى الشيطان في أمنيته) (3)
قيل: معناه في تلاوته، وقيل في فكرته على سبيل الخاطر، وأي
الأمرين كان فلا عار في ذلك على النبي ولا نقص، وإنما العار والنقص
على من يطيع الشيطان، ويتبع ما يدعو إليه، وليس لأحد أن يقول: هذا
إن سلم لكم في جميع الآيات لم يسلم لكم في قوله: (فأزلهما
الشيطان) (4) لأنه قد خبر عن تأثير غوايته ووسوسته بما كان منهما من
الفعل، وذلك أن المعنى الصحيح في هذه الآية إن آدم وحواء كانا مندوبين



(1) الخرق - بالضم -: ضد الرفق، وفاعله أخرق.
(2) الضمير في تلاه للقاضي
(3) الحج / 52.
(4) البقرة / 26.
122
إلى اجتناب الشجرة، وترك التناول منها، ولم يكن ذلك عليهما واجبا
لازما، لأن الأنبياء لا يخلون بالواجب فوسوس لهما الشيطان حتى تناولا
من الشجرة فتركا مندوبا إليه وحرما بذلك أنفسهما الثواب وسما إزلالا لأنه
حط لهما عن درجة الثواب وفعل الأفضل، وقوله تعالى في موضع آخر:
(وعصى آدم ربه فغوى) (1) لا ينافي هذا المعنى، لأن المعصية قد يسمى
بها من أخل بالواجب والندب معا، وقوله: (فغوى) أي خاب من حيث
لم يستحق الثواب على ما ندب إليه، على أن صاحب الكتاب يقول: إن
هذه المعصية من آدم كانت صغيرة لا يستحق بها عقابا ولا ذما، فعلى
مذهبه أيضا تكون المفارقة بينه وبين أبي بكر ظاهرة، لأن أبا بكر خبر عن
نفسه أن الشيطان يعتريه حتى يؤثر في الأشعار والأبشار، ويأتي ما يستحق
به التقويم، فأين هذه من ذنب صغير لا ذم ولا عقاب عليه؟ وهو يجري
من وجه من الوجوه مجرى المباح لأنه لا يؤثر في أحوال فاعله، وحط
رتبته، وليس يجوز أن يكون ذلك منه على سبيل الخشية والاشفاق على ما
ظن، لأن مفهوم خطابه يقتضي خلاف ذلك ألا ترى أنه قال إن لي
شيطانا يعتريني، وهذا قول من قد عرف عادته، ولو كان على سبيل
الاشفاق والخوف لخرج غير هذا المخرج، ولكان يقول: فإني لا آمن من
كذا وكذا، وإني لمشفق منه.
فأما ترك أمير المؤمنين عليه السلام مخاصمة الناس في حقوقه، فإنما
كان تنزها وتكرما، وأي نسبة بين ذلك وبين من صرح وشهد على نفسه
بما لا يليق بالأئمة.
وأما خبر استقالة البيعة وتضعيف صاحب الكتاب له فهو أبدا



(1) طه / 121.
123
يضعف ما لا يوافقه من غير حجة يعتمدها في تضعيفه، وقوله: (إنه ما
استقال على التحقيق وإنما نبه على أنه لا يبالي بخروج الأمر عنه وأنه غير
مكره لهم عليه) فبعيد من الصواب لأن ظاهر قوله: " أقيلوني " أمر
بالإقالة، وأقل أحواله أن يكون عرضا لها وبذلا وكلا الأمرين قبيح، ولو
أراد ما ظنه لكان له في غير هذا القول مندوحة (1) ولكان يقول: إني ما
أكرهتكم ولا حملتكم على مبايعتي، وما كنت أبالي ألا يكون هذا الأمر في
ولا إلي وإن مفارقته تسرني لولا ما ألزمنيه الدخول فيه من التمسك به،
ومتى عدلنا عن ظواهر الكلام بلا دليل جر ذلك علينا ما لا قبل لنا به.
فأما أمير المؤمنين عليه السلام فإنه لم يقل ابن عمر البيعة بعد دخوله
فيها، وإنما استعفاه من أن يلزمه البيعة ابتداء فأعفاه قلة فكر فيه، وعلما
بأن إمامته عليه السلام لا تثبت بمبايعة من يبايعه عليها، فأين هذا من
استقالة بيعة قد تقدمت واستقرت؟
قال صاحب الكتاب: (شبهة لهم أخرى وطعنوا في إمامته بما روي
عن عمر بن الخطاب أنه قال: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها فمن
عاد إلى مثلها فاقتلوه. فبين أنها خطأ وأنها شر، وبين أن مثلها يجب فيه
المقاتلة، وليس في الذم والتخطئة أوكد من ذلك.
ثم قال: والجواب أنه لا يجوز لقول يحمل ترك ما يعلم
ضرورة (2)، ومعلوم من حال عمر إعظام أبي بكر، والقول بإمامته،
والرضا ببيعته، وذلك يمنع مما ذكروه لأن المصوب للشئ لا يجوز أن
يكون مخطئا له. وحكي عن أبي علي أن الفلتة ليست هي الزلة والخطيئة.



(1) يقال: له عن هذا الأمر مندوحة ومنتدح أي سعة.
(2) العلم الضروري الذي لا يمكن من علمه أن ينفيه بوجه من الوجوه.
124
بل هي البغتة، وما وقع فجأة من غير روية ولا مشاورة (1) واستشهد
بقول الشاعر:
من يأمن الحدثان بعد صبيرة القرشي ماتا * سبقت منيته المشيب وكان ميتته افتلاتا (2)
بمعنى نعتة من غير مقدمة، وحكي عن الرياشي (3) أن العرب
تسمي آخر يوم من شوال فلتة من حيث أن من لم يدرك ثاره وطلبه فيه
فاته، لأنه كانوا إذا دخلوا في الأشهر الحرم لا يطلبون الثأر، وذو القعدة
من أشهر الحرم، وإنما سموه فلتة لأنهم أدركوا فيه ما كاد يفوتهم، فأراد
عمر على هذا أن بيعة أبي بكر تداركها بعد ما كادت تفوت، وقوله: وقى
الله شرها، دليل على التصويب لأن المراد بذلك أنه تعالى دفع شر
الاختلاف فيها.
فأما قوله: " فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه " (4) فالمراد من عاد إلى



(1) غ " بل يجب أن تكون محمولة - على ما نقل أهل اللغة - من أن المراد بها
بغتة وفجأة من غير روية ومشاورة ".
(2) في المغني هكذا: " هربا من الحدثان بعد جبيرة القرشي ماتا سبقت منه
المشيب وكا، وعلق محقق المغني على هذا البيت بقوله: " تحريف أضاع منه الوزن
والمعنى، ولو أنه جعل " ماتا " في الشطر الأول لاستقام الوزن، ولو كلف نفسه
البحث عن البيتين لوجدهما في الكامل للمبرد 1 / 348 وظهر له المعنى.
(3) غ " أو على ما ذكره عسكر عن الرياشي " والذي عند ابن أبي الحديد
" قال شيخنا أبو علي رحمه الله ذكر الرياشي ".
(4) علق ابن أبي الحديد على كلام شيخه هذا بقوله: " واعلم أن هذه اللفظة
من عمر مناسبة للفظات كثيرة كان يقولها بمقتضى ما جبله الله تعالى عليه من غلطة
الطينة، وجفاء الطبيعة، ولا حيلة له فيها، لأنه مجبول عليها لا يستطيع تغييرها،
ولا ريب عندنا أنه كان يتعاطى أن يتلطف، وأن يخرج ألفاظه مخارج حسنة لطيفة،
فينزع به الطبع الجاسي، والغريزة الغليظة إلى أمثال هذه اللفظات، ولا يقصد بها
سوء، ولا يريد بها ذما ولا تخطئة كما قدمنا من قبل في اللفظة التي قالها في مرض النبي
صلى الله عليه وآله، وكاللفظات التي قالها عام الحديبية وغير ذلك والله تعالى لا يجازي
المكلف إلا بما نواه، ولقد كانت نيته من أطهر النيات، وأخلصها لله تعالى
وللمسلمين، ومن أنصف علم أن هذا الكلام حق، وأنه يغني عن تأويل شيخنا أبي
علي، شرح نهج البلاغة 2 / 27 ".
125
مثلها من غير مشاورة ولا عدة ولا ضرورة ثم بسط يده على المسلمين
ليدخلهم في البيعة قهرا فاقتلوه وإذا احتمل ذلك وجب حمله على المقدمة
التي ذكرنا ولم نتكلف ذلك لأن قول عمر يطعن في بيعة أبي بكر، ولا أن
قوله حجة عند المخالف (1) ولكن تعلقوا به وليوهموا أن بيعته غير متفق
عليها، وأن أول من ذمها من عقدها...) (2)
يقال له: أما ما تعلقت به من العلم الضروري برضى عمر ببيعة
أبي بكر وإمامته، فالمعلوم ضرورة بلا شبهة أنه كان راضيا بإمامته، وليس
كل من رضي شيئا كان متدينا به، معتقدا لصوابه، فإن كثيرا من الناس
يرضون بأشياء من حيث كانت دافعة لما هو أضر منها وإن كانوا لا يرونه
صوابا، ولو ملكوا الاختيار لاختاروا غيرها، وقد علمنا أن معاوية كان
راضيا ببيعة يزيد وولايته العهد من بعده، ولم يكن متدينا بذلك،
ومعتقدا صحته، وإنما رضي عمر ببيعة أبي بكر من حيث كانت حاجزة
عن بيعة أمير المؤمنين عليه السلام ولو ملك الاختيار لكان مصير الأمر إليه
آثر في نفسه، وأقر لعينه فإن ادعى أن المعلوم ضرورة تدين عمر ببيعة أبي
بكر وأنه أولى بالإمامة منه فهو مدفوع عن ذلك أشد دفع، مع أنه قد كان
يبدر منه - أعني عمر - في وقت بعد آخر ما يدل على ما ذكرناه، وقد روى
الهيثم بن عدي (3) عن عبد الله بن عياش الهمداني (4) عن سعيد بن جبير



(1) غ " ولا عند المخالف قوله حجة ".
(2) المغني 20 ق 1 / 340.
(3) الهيثم بن عدي الطائي الكوفي من رواة الأخبار روى عن هشام بن عروة
وعبد الله بن عياش ومجالد توفي سنة 206.
(4) عبد الله بن عياش الهمداني الكوفي كان راوية للأخبار والآداب توفي سنة 185.
126
قال: ذكر أبو بكر وعمر عند عبد الله بن عمر فقال رجل: كانا والله
شمسي هذه الأمة ونوريها، فقال له ابن عمر: وما يدريك؟ فقال له
الرجل: أوليس قد ائتلفا؟ فقال ابن عمر: بل اختلفا لو كنتم تعلمون،
وأشهد أني عند أبي يوما وقد أمرني أن أحبس الناس عنه، فاستأذن
عبد الرحمن بن أبي بكر (1) فقال عمر دويبة سوء ولهو خير من أبيه،
فأوحشني ذلك منه، فقلت: يا أبه عبد الرحمن خير من أبيه! فقال:
ومن ليس خيرا (2) من أبيه لا أم لك! ائذن لعبد الرحمن، فدخل عليه
فكلمه في الحطيئة الشاعر (3) أن يرضى عنه - وكان عمر قد حبسه في شعر
قاله - فقال عمر: إن الحطيئة لبذي فدعني أقومه (4) بطول الحبس (5) فألح
عليه عبد الرحمن وأبي عمر، وخرج عبد الرحمن فأقبل علي أبي وقال:
أفي غفلة أنت إلى يومك هذا على ما كان من تقدم أحيمق بني تيم علي
وظلمه لي؟ فقلت: يا أبه لا علم لي بما كان من ذلك، فقال: يا بني وما
عسيت أن تعلم، فقلت: والله لهو أحب إلى الناس من ضياء أبصارهم،
قال: إن ذلك لكذلك على رغم أبيك وسخطه، فقلت: يا أبه أفلا



(1) عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة. صحابي اسمه في الجاهلية عبد
الكعبة فجعله رسول الله عبد الرحمن، حضر اليمامة وشهد غزو إفريقية وحضر الجمل
مع عائشة مات بمكة سنة 53 (انظر الأعلام للزركلي 4 / 83).
(2) في شرح نهج البلاغة: " ومن ليس بخير من أبيه ".
(3) الحطيئة العبسي.
(4) في الأصل " احبسه " والتصحيح عن ابن أبي الحديد.
(5) في شرح نهج البلاغة " إن في الحطيئة أودأ فدعني أقومه بطول الحبس "
والأود: الاعوجاج.
127
تحكي (1) عن فعله بموقف في الناس تبين ذلك لهم، قال: وكيف لي
بذلك مع ما ذكرت أنه أحب إلى الناس من ضياء أبصارهم، إذن يرضخ
رأس أبيك بالجندل (2) قال ابن عمر: ثم تجاسر والله فجسر فما دارت
الجمعة حتى قام خطيبا في الناس فقال: يا أيها الناس إن بيعة أبي بكر كانت
فلتة، وقى الله شرها فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه (3).
وروى الهيثم بن عدي أيضا عن مجالد بن سعيد (4) قال غدوت
يوما إلى الشعبي وإنما أريد أن أسأله عن شئ بلغني عن ابن مسعود أنه
كان يقول فأتيته في مسجد حيه (5) وفي المسجد قوم ينتظرونه فخرج
فتعرفت إليه وقلت: أصلحك الله كان ابن مسعود يقول: ما كنت محدثا
قوما حديثا لا يبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة، قال: نعم، قد كان
ابن مسعود يقول ذلك، وكان ابن عباس يقوله أيضا وكان عند ابن عباس
دفائن علم يعطيها أهلها ويصرفها عن غيرهم، فبينا نحن كذلك إذ أقبل
رجل من الأزد فجلس إلينا، فأخذنا في ذكر أبي بكر وعمر، فضحك
الشعبي وقال: لقد كان في صدر عمر ضب (6) على أبي بكر، فقال
الأزدي: والله ما رأينا ولا سمعنا برجل قط كان أسلس قيادا لرجل ولا
أقوله بالجميل فيه من عمر في أبي بكر، فأقبل على عامر الشعبي فقال هذا



(1) وفيه " تجلي ".
(2) يرضخ: يكسر، والجندل: الحجر.
(3) انظر شرح نهج البلاغة 2 / 28.
(4) مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني الكوفي مات سنة 144 وهو ضعيف عند
أهل الحديث.
(5) حيه أي الحي الذي كان نازلا فيه وفي الأصل " حبسه " والتصحيح عن
ابن أبي الحديد.
(6) الضب: الحقد والغيظ، وجمعه ضباب.
128
مما سألت عنه، ثم أقبل على الرجل فقال يا أخا الأزد كيف تصنع بالفلتة
التي وقى الله شرها أترى عدوا يقول في عدو ويريد أن يهدم ما بنى لنفسه
في الناس أكثر من قول عمر في أبي بكر؟ فقال الرجل: سبحان الله يا با
عمرو أنت تقول ذلك! فقال الشعبي: أنا أقوله قاله عمر بن الخطاب على
رؤوس الاشهاد فلمه أودعه، فنهض الرجل مغضبا وهو يهمهم بشئ لم
أفهمه في الكلام، فقال مجالد: فقلت للشعبي: ما أحسب هذا الرجل
إلا سينقل عنك هذا الكلام إلى الناس ويبثه فيهم، قال إذا والله لا أحفل
بذلك شيئا لم يحفل به ابن الخطاب حين قام على رؤوس المهاجرين
والأنصار أحفل به وأنتم أيضا فأذيعوه عني ما بدا لكم (1)
وقد روى شريك بن عبد الله النخعي (2) عن محمد بن عمرو بن
مرة عن أبيه عن عبد الله بن سلمة عن أبي موسى الأشعري قال:
حججت مع عمر بن الخطاب فلما نزلنا وعظم الناس خرجت من رحلي
وأنا أريد عمر، فلقيني المغيرة بن شعبة فرافقني ثم قال: أين تريد؟
فقلت: أمير المؤمنين، فهل لك؟ قال: نعم، فانطلقنا نريد رحل
عمر، فإنا لفي طريقنا إذ ذكرنا تولي عمر وقيادته بما هو فيه، وحياطته
على الاسلام، ونهوضه بما قبله من ذلك، ثم خرجنا إلى ذكر أبي بكر،
ثم قال: فقلت للمغيرة: يا لك الخير لقد كان أبو بكر مسددا في عمر
كأنه ينظر إلى قيامه من بعده، وجده واجتهاده وعنائه في الاسلام، فقال



(1) انظر شرح نهج البلاغة 2 / 29.
(2) شريك بن عبد الله النخعي أبو عبد الله الكوفي، قال عنه ابن المبارك:
" أعلم بحديث الكوفيين من الثوري وقال عنه ابن معين: صدوق ثقة إلا أنه إذا
خالف فغيره أحب إلينا منه " (انظر تهذيب التهذيب 4 / 335) ولعل قول ابن معين
هذا سببه اتهام شريك بالتشيع، مات سنة 177.
129
المغيرة: لقد كان ذلك، وإن كان قوم كرهوا ولاية عمر ليزووها عنه، وما
كان لهم في ذلك من حظ، فقلت له: لا أبا لك! ما نرى القوم الذين
كرهوا (1) ذلك من عمر، فقال لي المغيرة: لله أنت كأنك في غفلة لا
تعرف هذا الحي من قريش، وما قد خصوا به من الحسد! فوالله لو كان
هذا الحسد يدرك بحساب لكان لقريش تسعة أعشار الحسد وللناس عشر
بينهم، فقلت: مه يا مغيرة! فإن قريشا قد بانت بفضلها على الناس،
ولم نزل في ذلك حتى انتهينا إلى عمر بن الخطاب أو إلى رحله (2) فلم
نجده، فسألنا عنه فقيل خرج آنفا، فمضينا نقفو أثره حتى دخلنا المسجد
فإذا عمر يطوف بالبيت فطفنا معه، فلما فرغ دخل بيني وبين المغيرة فتوكأ
على المغيرة، ثم قال من أين جئتما؟ فقلنا: يا أمير المؤمنين خرجنا نريدك
فأتينا رحلك فقيل لها: خرج يريد المسجد فاتبعناك، قال: تبعكما الخير، ثم
أن المغيرة نظر إلي فتبسم، فنظر إليه عمر (3) فقال: مم تبسمت أيها
العبد! فقال: من حديث كنت أنا وأبو موسى فيه آنفا في طريقنا إليك،
فقال: وما ذاك الحديث فقصصنا عليه الخبر حتى بلغنا ذكر حسد قريش
وذكر من أراد صرف أبي بكر عن ولاية عمر فتنفس عمر الصعداء (4) ثم
قال: ثكلتك أمك يا مغيرة وما تسعة أعشار الحسد، إن فيها لتسعة
أعشار الحسد، وتسعة أعشار العشر، وفي الناس عشر العشر وقريش
شركاؤهم في عشر العشر أيضا، ثم سكت مليا وهو يتهادى (5) بيننا، ثم
قال: ألا أخبركما بأحسد قريش كلها؟ قلنا: بلى يا أمير المؤمنين، قال:



(1) في الشرح " ومن القوم الذين كرهوا ".
(2) وفيه " حتى انتهينا إلى رحل عمر فلم نجده ".
(3) وفيه " فرمقه عمر؟؟ ".
(4) الصعداء بضم الصاد والمد -: تنفس ممدود.
(5) مليا: طويلا، ويتهادى: يسير بهدوء.
130
وعليكما ثيابكما، قلنا نعم، قال: وكيف بذلك وأنتما ملبسان ثيابكما؟
قلنا له: يا أمير المؤمنين وما بال الثياب؟ قال: خوف الإذاعة من
الثياب، فقلت له: أتخاف الإذاعة من الثياب فأنت والله من ملبسي
الثياب أخوف وما الثياب أردت! قال: هو ذاك، فانطلق وانطلقنا معه
حتى انتهينا إلى رحله فخلى أيدينا من يده، ثم قال: لا تريما (1) ثم
دخل، فقلت للمغيرة: لا أبا لك لقد عثرنا بكلامنا وما كنا فيه، وما
أراه حبسنا إلا ليذاكرنا إياها قال: فإنا لكذلك إذ خرج علينا آذنه فقال:
ادخلا فدخلنا، فإذا عمر مستلق على برذعة الرحل (2) فلما دخلنا أنشأ
يتمثل بيت كعب بن زهير (3):
لا تفش سرك إلا عند ذي ثقة * أولى وأفضل ما استودعت أسرارا
صدرا رحيبا وقلبا واسعا صمتا * لا تخش منه إذا أودعت اظهارا (4)
فلما سمعناه يتمثل بالشعر علمنا أنه يريد أن نضمن له كتمان
حديثه، فقلنا له: يا أمير المؤمنين أكرمنا وخصنا ووصلنا قال: بماذا يا أخا
الأشعرين (5)؟ قلنا: بإفشاء سرك إلينا وأشركنا في همك فنعم المستسران (6)
نحن لك، فقال: إنكما لكذلك، فاسألا عما بدا لكما.



(1) لا تريما: لا تبرحا، وفي الأصل لا تريحا، فآثرنا نقل ابن أبي الحديد.
وكذلك في حاشية ع.
(2) البرذعة - بالفتح -: الجلس الذي يلقى تحت الرحل.
(3) كعب بن زهير بن أبي سلمى صحابي صاحب " بانت سعاد " انظر ترجمته في
أسد الغابة 4 / 240.
(4) في رواية ابن أبي الحديد:
صدرا وقلبا واسعا فمنا * ألا تخاف متى أودعت إظهارا
(5) الأشعرين بحذف ياء النسبة قال في اللسان: " تقول العرب: جاء بك
الأشعرون، بحذف ياء النسبة ".
(6) في الشرح " المستشاران لك وما في المتن أرجح.
131
قال: فقام إلى الباب ليغلقه فإذا آذنه الذي أذن لنا عليه في
الحجرة، فقال: امض عنا لا أم لك، فخرج وأغلق الباب خلفه، ثم
أقبل إلينا فجلس معنا، فقال: سلا تخبرا قلنا: نريد أن تخبرنا بأحسد
قريش الذي لم تأمن ثيابنا عليه أن تذكره لنا، فقال: سألتما عن معضلة،
وسأخبر كما فلتكن عندكما في ذمة منيعة، وحرز ما بقيت، فإذا مت
فشأنكما وما أحببتما من إظهار أو كتمان، قلنا: فإن لك عندنا ذلك.
قال أبو موسى: وأنا أقول في نفسي: ما أظنه يريد إلا الذين
كرهوا من أبي بكر استخلافه عمر، وكان طلحة أحدهم فأشاروا عليه ألا
يستخلفه لأنه فظ غليظ، ثم قلت في نفسي: قد عرفنا هؤلاء القوم
بأسمائهم وعشائرهم، وعرفهم الناس، وإذا هو يريد غير ما نذهب إليه
منهم فعاد عمر إلى النفس، ثم قال: من تريانه؟ قلنا: والله ما ندري إلا
ظنا، قال: ومن تظنان، قلنا: نراك تريد القوم الذين أرادوا أبا بكر على
صرف هذا الأمر عنك قال كلا، بل كان أبو بكر أعق وأظلم، هو الذي
سألتما عنه كان والله أحسد قريش كلها، ثم اطرق طويلا فنظر إلي المغيرة
ونظرت إليه، وأطرقنا لإطراقه، وطال السكوت منا ومنه حتى ظننا أنه
قد ندم على ما بدا منه، ثم قال: وا لهفاه على ضئيل بني تيم بن مرة! لقد
تقدمني ظالما، وخرج إلي منها آثما، فقال له المغيرة: هذا يقدمك ظالما قد
عرفنا فكيف خرج إليك منها آثما؟ قال: ذاك لأنه لم يخرج إلي منها إلا بعد
يأس منها، وأما والله لو كنت أطعت زيد بن الخطاب وأصحابه لم يتلمظ (1)
من حلاوتها بشئ أبدا، ولكني قدمت وأخرت وصعدت وصوبت (2)
ونقضت وأبرمت فلم أجد إلا الاغضاء على ما نشبت منه فيها، والتلهف



(1) تلمظ: تتبع بقية الطعام في فمه وأخرج لسانه فمسح به شفتيه.
(2) صعد: تأمله بالنظر من أعلاه وصوب: خفض رأسه ليتأمله من أسفله.
132
على نفسي (1) وأملت إنابته ورجوعه، فوالله ما فعل حتى فغر بها
بشما (2)، فقال له المغيرة بن شعبة: فما منعك منها وقد عرضها عليك يوم
السقيفة بدعائك إليها؟ ثم أنت الآن تنقم بالتأسف عليه! فقال له:
ثكلتك أمك يا مغيرة إن كنت لأعدك من دهاة العرب كأنك كنت غائبا
عما هناك، إن الرجل كادني فكدته، وماكرني فماكرته، وألفاني أحذر من
قطاة، إنه، لما رأى شغف الناس به، وإقبالهم بوجوههم عليه أيقن أن لا
يريدوا به بدلا فأحب لما رأى من حرص الناس عليه، وشغفهم به، أن
يعلم ما عندي، وهل تنازع إليها نفسي، وأحب أن يبلوني (3) بأطماعي
فيها، والتعريض لي بها، وقد علم وعلمت لو قبلت ما عرض علي منها لم
يجبه الناس إلى ذلك، فألقاني قائما على أخمصي متشوزا (4) حذرا ولو أجبته
إلى قبولها لم يسلم الناس إلى ذلك واختبأها ضغنا علي في قلبه، ولم آمن
غائلته (5) ولو بعد حين مع ما بدا لي من كراهية الناس، أما سمعت
نداءهم من كل ناحية عند عرضها علي لا نريد سواك يا أبا بكر أنت
لها، فرددتها عليه فعند ذلك رأيته وقد التمع وجهه لذلك سرورا، ولقد
عاتبني مرة على شئ بلغه عني، وذلك لما قدم بالأشعث بن قيس أسيرا
فمن عليه وأطلقه وزوجه أخته أم فروة بنت أبي قحافة (6) فقلت للأشعث



(1) والتلهف فلم تجبني نفسي، خ. ل.
(2) فغر: فتح فاه، وفي رواية ابن أبي الحديد " نغر " أي امتلأ، والبشم:
التخمة.
(3) يبلوني: يختبرني.
(4) مستوشز: " مستوفزا " والمستوفز من قعد منتصبا غير مطمئن، عند ابن
أبي الحديد.
(5) الغائلة والمغالة: الشر والداهية.
(6) وذلك أن الأشعث بن قيس ارتد مع من ارتد من بني وليعة بعد وفاة
رسول الله صلى الله عليه وآله وتوجوه عليهم ملكا كما يتوج الملك من قحطان واجتمعوا
حوله وأظهروا الشماتة بوفاة رسول الله صلى الله علي وآله وسلم، وخضبوا الأيدي
وضربت بغاياهم بالدفوف، وتوجهت إليهم جيوش المسلمين بقيادة زياد بن لبيد
البياضي والي حضرموت وأعانه المهاجر بن أبي أمية والي صنعاء فانهزم الأشعث، وفر
أصحابه، ولجأوا إلى الحصن المعروف النجير، فحاصرهم المسلمون حصارا شديدا
حتى ضعفوا فنزل الأشعث ليلا وكلم زيادا والمهاجر وسألهما الأمان لنفسه وعشر من
أهل بيته حتى يقدموا بهم على أبي بكر فيرى فيهم رأيه على أن يفتح لهم باب الحصن
وتسلم إليهم من فيه فأمناه وأمضيا شرطه ففتح لهم الحصن، واستنزلوا من فيه،
وأخذوا أسلحتهم ثم قتلوا منهم ثمانمائة وحملوا الأشعث وأهل بيته إلى المدينة فعفا أبو
بكر عنه وعن هم وزوجه أخته أم فروة فكان الأشعث يسمى بعد ذلك عرف النار،
قال الطبري في التاريخ 3 / 275: " وكان الأشعث يلعنه المسلمون ويلعنه الكافرون
وسماه قومه عرف النار، كلام يماني يسمون به الغادر عنهم.
133
وهو بين يدي أبي بكر: يا عدو الله أكفرت بعد إسلامك! وارتددت كافرا
ناكصا على عقبيك؟ فنظر إلى الأشعث نظرا شزرا علمت له أنه يريد
كلاما يكلمني به، ثم سكت فلقيني بعد ذلك في بعض سكك المدينة
فرافقني. ثم قال لي: أنت صاحب الكلام يا ابن الخطاب؟ قلت: نعم يا
عدو الله، ولك عندي شر من ذلك، فقال: بئس الجزاء هذا لي منك؟
فقلت: على م تريد مني حسن الجزاء؟ قال: لا نفتي لك من اتباع هذا
الرجل - يريد أبا بكر - وما جرأني على الخلاف عليه إلا بقدمه عليك
وتخلفك عنها، ولو كنت صاحبها ما رأيت مني خلافا عليك، قلت: قد
كان ذلك فما تأمر الآن؟ قال: ما هذا وقت أمر إنما هو وقت صبر، حتى
يأتي الله بفرج ومخرج، فمضى ومضيت، ولقي الأشعث بن قيس
الزبرقان بن بدر السعدي (1) فذكر له ما جرى بيني وبينه، فنقل



(1) الزبرقان بن بدر السعدي: صحابي من رؤساء قومه، قيل: اسمه الحصين ولقب
بالزبرقان، وهو من أسماء القمر، لحسن وجهه، ولاه رسول الله صلى الله عليه وآله
صدقات قومه، فثبت إلى أيام عمر وكف بصره في آخر عمره، وكان شاعرا فصيحا، فيه جفاء
الأعراب. توفي سنة 45 (الإصابة حرف الزاي والأعلام 3 / 72).
134
الزبرقان إلى أبي بكر الكلام فأرسل إلي فأتيته فذكر لي ذلك ثم قال: إنك
لمتشوف (1) إليها يا ابن الخطاب فقلت وما يمنعني من التشوف لذلك فذكر
أحق به فمن غلبني عليه، أما والله لتكفن أو لأقولن كلمة بالغة بي
وبك في الناس يحملها الركبان حيث ساروا، وإن شئت استدمنا ما نحن
فيه عفوا، فقال: إذا نستديمها على أنها صائرة إليك إلى أيام، فما ظننت
أنه يأتي عليه جمعة حتى يردها على فتغافل والله فما ذكر لي والله بعد ذلك
المجلس حرفا حتى هلك، ولقد مد في أمدها عاضا على نواجذه حتى
حضره الموت فأيس منها فكان منه ما رأيتما، ثم قال: اكتما ما قلت لكما عن بني
هاشم (2) خاصة وليكن منكم حيث أمرتكما إذا شئتما على بركة الله فمضينا
ونحن نعجب من قوله، ووالله ما أفشينا سره حتى هلك (3) فكأني بهم
عند سماع هذه الأخبار يستغرقون ضحكا تعجبا، واستبعادا وانكارا،
ويقولون: كيف نصغي إلى هذه الأخبار، ومعلوم ضرورة تعظيم عمر
لأبي بكر ووفاقه له، وتصويبه لإمامته، وكيف يطعن عمر في إمامة أبي
بكر وهي أصل لإمامته، وقاعدة لولايته، وليس هذا بمنكر ممن طمست
العصبية على قلبه وعينه، فهو لا يرى ولا يسمع إلا ما يوافق اعتقادات
مبتدأة قد اعتقدها، ومذاهب فاسدة قد انتحلها، فما بال هذه الضرورة
تخصهم ولا تعم من خالفهم، ونحن نقسم بالله على أنا لا نعلم ما
يدعونه، ونزيد على ذلك بأنا نعتقد أن الأمر بخلافه، وليس في طعن
عمر على بيعة أبي بكر ما يؤدي إلى فساد إمامته، لأنه يمكن أن يكون



(1) تشوف إلى الشئ: تطلع.
(2) في رواية ابن أبي الحديد " عن الناس كافة وعن بني هاشم خاصة ".
(3) انظر شرح نهج البلاغة 2 / 33،
135
ذهب إلى أن إمامته لم تثبت إلا بالنص عليه، وإنما ثبتت بالإجماع من الأمة
والرضا، فقد ذهب إلى ذلك جماعة من الناس، ويرى أن إمامته أولى من
حيث لم تقع بغتة ولا فجأة، ولا اختلف الناس في أصلها وامتنع كثير منهم
من الدخول فيها، حتى أكرهوا وتهددوا وخوفوا.
فأما الفلتة فإنها وإن كانت محتملة للبغتة على ما حكى صاحب الكتاب
وللزلة أيضا والخطيئة فالذي يخصصها بالمعنى الذي ذكرناه قوله: " وقى
الله شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه " وهذا الكلام لا يليق بالمدح وهو
بالذم أشبه فيجب أن يكون محمولا على معناه.
وقوله: (إن المراد وقى الله شرها، إنه دفع شر الاختلاف فيها)
وعدل عن الظاهر، لأن الشر في ظاهر الكلام مضاف إليها دون غيرها،
وأبعد من هذا التأويل قوله: (إن المراد من عاد إلى مثلها من غير ضرورة
وأكره المسلمين عليها فاقتلوه) لأن ما جرى هذا المجرى لا يكون مثلا
لبيعة أبي بكر عندهم. لأن كل ذلك ما جرى على مذاهبهم فيها وقد كان
يجب على هذا أن يقول: من عاد إلى خلافها فاقتلوه، وليس له أن يقول: إنما
أراد بالتمثيل وجها واحدا، وهو وقوعهما من غير مشاورة لأن ذلك إنما تم
في أبي بكر خاصة لظهور أمره، واشتهار فضله، ولأنهم بادروا إلى العقد
خوفا من الفتنة، وذلك أنه غير منكر أن يتفق من ظهور فضل غير أبي بكر
بالعقد له واشتهار أمره، وخوف الفتنة ما اتفق لأبي بكر فلا يستحق قتلا
ولا ذما على أن قوله: " مثلها " يقتضي وقوعها على الوجه الذي وقعت عليه
وكيف يكون ما وقع من غير مشاورة لضرورة داعية وأسباب موجبة مثلا لما
وقع بلا مشاورة، ومن غير ضرورة ولا أسباب! والذي رواه عن أهل
اللغة من أن آخر يوم من شوال يسمى فلتة من حيث لم يدرك فيه ثاره فإنا
لا نعرفه، والذي نعرفه من القوم أنهم يسمون الليلة التي ينقضي بها أحد

136
الشهور الحرم ويتم فلتة، وهي آخر ليلة من ليالي الشهر لأنه ربما رأى قوم
الهلال لتسع وعشرين ولم يبصره الباقون فيغير هؤلاء على أولئك وهم
غارون (1)، فلهذا سميت هذا الليلة فلتة، على إنا قد بينا أن مجموع
الكلام يقتضي ما ذكرناه من المعنى، ولو سلم له ما رواه عن أهل اللغة في
احتمال هذه اللفظة (2).
وقوله في أول الكلام: (وليست الفلتة الزلة والخطيئة) إن أراد أنها
لا تختص بذلك صحيح، وإن أراد أنها لا تحملها فهو ظاهر الخطأ لأن
صاحب " العين " قد ذكر في كتابه: إن الفلتة من الأمر الذي يقع على غير
أحكام.
وبعد، فلو كان عمر لم يرد بقوله توهين بيعة أبي بكر بل أراد ما
ظنه المخالفون لكان ذلك عائدا عليه بالنقص، لأنه وضع كلامه في غير
موضعه، وأراد شيئا فعبر عن خلافه، فليس يخرج هذا الخبر من أن
يكون طعنا على أبي بكر إلا بأن يكن طعنا على عمر.
قال صاحب الكتاب: (شبهة لهم أخرى، قالوا: قد روي عن
أبي بكر أنه قال عند موته: ليتني كنت سألت رسول الله صلى الله عليه
وآله عن ثلاثة فذكر في أحدها ليتني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر
حق، وذلك أنه يدل على شكه في بيعة (3) نفسه وربما قالوا قد روي أنه قال
في مرضه: ليتني كنت تركت بيت فاطمة عليها السلام لم أكشفه، وليتني



(1) غارون: غافلون.
(2) نقل ذلك ابن أبي الحديد عن " الشافي " بتحوير واختلاف يسير في بعض
الحروف والكلمات (انظر شرح نهج البلاغة 2 / 34 و 35).
(3) في المغني " في صحة بيعة نفسه ويمنع من كونها صوابا ".
137
في ظلة بني ساعدة كنت ضربت على يد أحد الرجلين، فكان هو الأمير
وكنت الوزير، قالوا: وذلك يدل على ما روي من إقدامه على بيت فاطمة
عليها السلام عند اجتماع أمير المؤمنين عليه السلام والزبير وغيرهما فيه،
ويدل على أنه كان يرى الفضل لغيره لا لنفسه [ولا يدل على أنه لم يكن
عالما] (1).
ثم قال: (الجواب عن ذلك أن قوله: ليتني، لا يدل على
الشك فيما تمناه، وقول إبراهيم عليه السلام: (رب أرني كيف تحيي الموتى
قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) (2) أقوى من ذلك على
الشبهة (3) ثم حمل تمنيه على أنه أراد سماع شئ مفصل أو أراد ليتني سألته
عند الموت لقرب العهد لأن ما قرب عهده لا ينسى ويكون أردع للأنصار
لما حاولوه) ثم قال: (على أنه ليس في ظاهره أنه تمنى أن يسأل (4) هل لهم
حق في الإمامة أم لا لأن الإمامة قد يتعلق بها حقوق سواها) ثم دفع
الرواية المتعلقة ببيت فاطمة عليها السلام وقال: (فإن تمنيه أن يبايع غيره
فلو ثبت لم يكن ذما لأن من شهد التكليف عليه فهو يتمنى
خلافه)...) (5).
يقال له: ليس يجوز أن يقول أبو بكر: ليتني سألت عن كذا إلا مع
الشك والشبهة لأن مع العلم واليقين لا يجوز مثل هذا القول هكذا
يقتضي الظاهر فأما قول إبراهيم عليه السلام فإنما ساغ أن يعدل عن



(1) الزيادة من المغني.
(2) البقرة / 62.
(3) غ " في الشبهة ".
(4) غ " يشك " تصحيف.
(5) المغني 20 ق 1 / 341.
138
ظاهره لأن الشك لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام ويجوز على غيرهم على
أنه عليه السلام قد نفى عن نفسه الشك بقوله: (بلى ولكن ليطمئن قلبي)
وقد قيل إن نمرود قال له: إذا كنت تزعم أن لك ربا يحيي الموتى فسله أن
يحيي لنا ميتا إن كان على ذلك قادرا فإن لم يفعل ذلك فقتلتك فأراد بقوله
(ولكن ليطمئن قلبي) أي لآمن توعد عدوك لي بالقتل وقد يجوز أن يكون
طلب ذلك لقومه وقد سألوه أن يرغب إلى الله فيه فقال: (ليطمئن قلبي) إلى
إجابتك لي وإلي إزاحة علة قومي ولم يرد ليطمئن قلبي إلى أنك تقدر أن
تحيي الموتى لأن قلبه بذلك مطمئن وأي شئ يريد أبو بكر من التفضيل
أكثر من قوله: إن هذا الأمر لا يصلح إلا لهذا الحي من قريش [والأئمة من
قريش] (1) وأي فرق بين ما يقال عند الموت وما يقال قبله إذا كان محفوظا
معلوما لم يرفع حكمه ولم ينسخ، وبعد فظاهر الكلام لا يقتضي هذا
التخصيص ونحن مع الإطلاق والظاهر، وأي حق يجوز أن يكون
للأنصار في الإمامة غير أن يتولاها رجل منهم حتى يجوز أن يكون الحق
الذي تمنى أن يسأل عنه غير الإمامة، وهل هذا إلا تعسف وتكلف، وأي
شبهة تبقى بعد قول أبي بكر: ليتني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر
شئ فكنا لا ننازعه أهله، ومعلوم أن التنازع لم يقع بينهم إلا في الإمامة
نفسها لا في حق آخر من حقوقها.
فأما قوله: (إنا قد بينا أنه لم يكن منه في بيت فاطمة عليها السلام
ما يوجب أن يتمنى أن لم يفعله) فقد بينا فساد ما ظنه في هذا الباب،
ومضى الكلام فيه مستقصى.
فأما قوله: (إن من اشتد التكليف عليه قد يتمنى خلافه) فليس
بصحيح لأن ولاية أبي بكر إذا كانت هي التي اقتضاها الدين والنظر



(1) ما بين المعقوفين من المغني.
139
للمسلمين في تلك الحال، وما عداها كان مفسدة ومؤديا إلى الفتنة فالتمني
بخلافها لا يكون إلا قبيحا.
قال صاحب الكتاب بعد أن ذكر شيئا لا يتعلق به من أن أبا بكر
نص على عمر، وترك التأسي بالرسول صلى الله عليه وآله لأنه لم
يستخلف وأجاب عنه (وربما قالوا في الطعن عليه: إنه ولى عمر ولم يوله
رسول الله صلى الله عليه وآله شيئا من أعماله إلا ما ولاه يوم خيبر فرجع
منهزما وولاه الصدقة فلما شكى إليه (1) العباس عزله).
ثم أجاب (بأن تركه عليه السلام أن يوليه لا يدل على أنه لا يصلح
لذلك لأنه قد ولى خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، ولم يدل على أنهما
يصلحان للإمامة وكذلك تركه أن يولي لا يدل على أنه غير صالح للإمامة
بل المعتبر بالصفات التي بها يصلح للإمامة فإذا كملت صلح لذلك ولي
من قبل أو لم يول [فإذا كان لو كان قد ولاه لم يدل على صلاحه للإمامة كما
ذكرنا في خالد وغيره. فتركه لأن يوليه لا يدل على ما قالوه] (2) وقد ثبت
أن النبي صلى الله عليه وآله ترك أن يولي أمير المؤمنين ولايات كثيرة، ولم
يجب أن لا يصلح لها [بل معتبر بالصفات التي لها تصلح للإمامة] (2)
وثبت أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يول الحسين عليه السلام ولم يمنع
ذلك من أن يصلح للإمامة) وحكي عن أبي علي (على أن ذلك إنما كان
يصح أن يتعلق به لو ظفروا بتقصير من عمر فيما يتولاه، فأما وأحواله
معروفة في قيامه بالأمر حين يعجز غيره فكيف يصح ما قالوه، وبعد فهلا
دل ما روي من قوله: (وإن وليتم عمر تجدوه قويا في أمر الله قويا في ندبه)



(1) غ " شكاه ".
(2) التكملة تحت هذا الرقم من " المغني ".
140
على جواز ذلك وإن ترك أن يوليه لأن هذا القول أقوى من
الفعل...) (1).
يقال له: قد علمنا من العادة أن من يرشح لكبار الأمور لا بد من
أن يدرج إليها بصغارها لأن من يريد بعض الملوك تأهيله للأمر بعده لا بد
أن ينبه عليه بكل قول وفعل يدل على ترشيحه لهذه المنزلة، ويستكفيه من
أموره وولاياته ما يعلم عنده أو يغلب في الظن صلاحه لما يريده له، وأن
من يرى أن الملك مع حضوره، وامتداد الزمان وتطاوله ولا يستكفيه شيئا
من الولايات ومتى ولاه عزله وإنما يولي غيره ويستكفي سواه لا بد أن
يغلب في الظن أنه ليس بأهل للولاية وإن جوزنا أنه لم يوله لأسباب
كثيرة سوى أنه لا يصلح للولاية إلا أن مع هذا التجويز لا بد أن يغلب
الظن بما ذكرناه.
فأما خالد وعمرو فإنما لم يصلحا للإمامة لفقد شروط الإمامة فيهما
وإن كانا يصلحان لما ولياه من الإمارة، فترك الولاية مع امتداد الزمان،
وتطاول الأيام، وجميع الشروط التي ذكرناها تقتضي غلبة الظن لفقد
الصلاح والولاية لشئ لا يدل على الصلاح لغيره إذا كانت الشرائط في
القيام بذلك الغير معلوما فقدها، وقد نجد الملك يولي بعض أموره من لا
يصلح الملك بعده لظهور فقد الشرائط فيه ولا يجوز أن يكون بحضرته من
يرشحه للملك بعده ولا يوليه على تطاول الزمان شيئا من الولايات، فبان
الفرق بين الولاية وتركها فيما ذكرناه.
فأما أمير المؤمنين عليه السلام وإن لم يتول جميع أمور النبي صلى الله



(1) المغني 20 ق 1 / 342.
141
عليه وآله في حياته فقد تولى أكثرها وأعظمها، وخلفه عليه السلام بالمدينة
وكان الأمير على الجيش المبعوث إلى خيبر وجرى الفتح على يديه بعد انهزام
من انهزم عنها وكان المؤدي عنه سورة براءة بعد عزل أبي بكر عنها
وارتجاعها (1) منه إلى غير ذلك من عظيم الولايات والمقامات مما يطول
بذكره الشرح ولو لم يكن إلا أنه لم يول عليه واليا لكفى.
فأما اعتراضه بأن أمير المؤمنين لم يول الحسين فبعيد من الصواب،
لأن أيام أمير المؤمنين عليه السلام لم تطل حتى يتمكن فيها من مراداته
وكانت على قصرها منقسمة بين قتال الأعداء، ولأنه عليه السلام لما بويع
لم يلبث أن خرج عليه أهل البصرة فاحتاج إلى قتالهم، ثم انكفأ من قتالهم
إلى قتال أهل الشام (2) وتعقب ذلك قتال أهل النهروان، فلم يستقر به
الدار ولا امتد له الزمان وهذا بخلاف أيام النبي صلى الله عليه وآله التي
تطاولت وامتدت على إنه قد نص عليه بالإمامة بعد أخيه الحسن، وإنما
يطلب الولايات لغلبة الظن بالصلاح للإمامة فإذا كان هناك وجه يقتضي
العلم بالصلاح لها كان أولى من طريق الظن، على أنه لا خلاف بين
المسلمين بأن الحسين عليه السلام كان يصلح للإمامة وإن لم يوله أبوه
الولايات وفي مثل ذلك خلاف من حال عمر فافترق الأمران.
فأما قوله: (في أنه لم يعثر على عمر بتقصير في الولاية فمن سلم
ذلك أوليس يعلم أن مخالفته تعد تقصيرا كثيرا ولو لم يكن إلا ما اتفق عليه
من خطئه في الأحكام ورجوعه من قول إلى غيره واستفتائه الناس في
الصغير والكبير وقوله " كل الناس أفقه من عمر " لكان فيه كفاية، وليس



(1) في شرح النهج " بعد عزل من عزل عنها ".
(2) في الأصل " إلى قبائل أهل الشام " فآثرنا ما في شرح نهج البلاغة.
142
كل النهوض بالإمامة يرجع إلى حسن التدبير والسياسة الدنياوية ورم
العمال والاستظهار في حياته الأموال وتمصير الأمصار، ووضع الأعشار،
بل حظ الإمامة من العلم بالأحكام والفتيا بالحلال والحرام والناسخ
والمنسوخ والمحكم والمتشابه أقوى فمن قصر في هذا لم ينفعه أن يكون
كاملا في ذلك.
فأما قوله: فالأدل ما روي من قوله: (وإن وليتم عمر تجدوه قويا في
أمر الله قويا في بدنه) فهذا لو ثبت لدل وقد تقدم الكلام على هذا الخبر
وأمثاله فيما سلف من هذا الكلام، وأقوى ما يبطله عدول أبي بكر عن
ذكره والاحتجاج به، لما أراد النص على عمر فعوتب على ذلك، وقيل
له: ما تقول لربك إذا وليت علينا فظا غليظا؟ ولو كان صحيحا لكان
يحتج به ويقول: وليت عليكم من عهد النبي صلى الله عليه وآله بأنه قوي
في أمر الله قوي في بدنه وقد قيل فيما يطعن (1) على هذا الخبر أن ظاهره
يقتضي تفضيل عمر على أبي بكر والاجماع (2) بخلاف ذلك لأن القوة في
الجسم فضل، قال الله تعالى: (إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في
العلم والجسم) (3) وبعد فكيف يعارض ما اعتمدناه من عدوله عليه
السلام عن ولايته وهو أمر معلوم بهذا الخبر المردود المدفوع (4).



(1) ش " وقد قيل في الطعن على صحة هذا الخبر ".
(2) أنكر ابن أبي الحديد هذا الإجماع وقال معلقا على كلام المرتضى: " إن
كتب الكلام والتصانيف المصنفة في المقالات مشحونة بذكر الفرقة العمرية، وهم
القائلون: إن عمر أفضل من أبي بكر، وهي طائفة عظيمة من المسلمين، يقال: إن
عبد الله بن مسعود منهم، وقد رأيت جماعة من الفقهاء يذهبون إلى هذا ويناظرون
عليه " (شرح نهج البلاغة 17 / 174).
(3) البقرة / 247.
(4) كلام قاضي القضاة هنا في تولية عمر (رض) ونقض المرتضى له نقله ابن
أبي الحديد في شرح النهج ج 17 ص 168 - 171.
143
قال صاحب الكتاب: (شبهة لهم أخرى) قال: (وأحد ما طعنوا
به في إمامته حديث أسامة بن زيد (1) وذكروا أنه كان في جيشه وأن
رسول الله صلى الله عليه وآله كرر حين موته الأمر بتنفيذ جيش أسامة
فتأخره يقتضي مخالفة الرسول صلى الله عليه وآله، فإن قلتم: إنه لم يكن
في الجيش، قيل لكم: لا شك أن عمر بن الخطاب كان في الجيش وأنه
حبسه ومنعه من النفوذ مع القوم، وهذا كالأول في أنه معصية، وربما
قالوا: إنه جعل في جيش أسامة هؤلاء القوم ليبعدوا بعد وفاته [عن
المدينة] (2) ولا يقع منهم توثب على الإمامة، ولذلك لم يجعل أمير المؤمنين،
عليه السلام في ذلك الجيش، وجعل فيه أبا بكر وعمر وعثمان وغيرهم،
وذلك من أوكد الدلالة على أنه لم يرد أن يختاروا للإمامة) (3) ثم أجاب عن
ذلك بأن أنكر أو لا أن يكون أبو بكر في جيش أسامة، وأحال على كتب
المغازي ثم سلم ذلك [وقال: إن الأمر لا يلزم الفور فلا يلزم من تأخر
أبي بكر عن النفوذ أن يكون عاصيا) ثم قال: (إن] (4) خطابه عليه
السلام بتنفيذ الجيش يجب أن يكون متوجها إلى القائم بعده بالأمر لأنه من
خطاب الأئمة، وهذا يقتضي أن لا يدخل المخاطب بالإنفاذ في الجملة)



(1) أسامة بن زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وآله استعمار
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة في علته التي توفي فيها توفي آخر
أيام معاوية (انظر أسد الغابة 1 / 66).
وكلام القاضي في هذه المسألة ونقض المرتضى له نقله ابن أبي الحديد في شرح
نهج البلاغة ج 17 ص 175 - 181.
(2) التكملة من " شرح نهج البلاغة ".
(3) المغني 20 ق 1 / 344 مع اختلاف في الألفاظ وتفاق في المغني.
(4) ما بين المعقوفين ساقط من " الشافي " وأعدناه من " المغني " وهو منقول عن
" الشافي " في " شرح نهج البلاغة 17 / 175 ".
144
ثم قال (هذا يدل على إنه لم يكن هناك إمام منصوص عليه لأنه لو كان
كذلك لا قبل بالخطاب عليه وخصه بالأمر بالإنفاذ دون الجميع...) (1)
ثم ذكر أن أمره صلى الله عليه وآله بالإنفاذ لا بد أن يكون مشروطا
بالمصلحة، وبأن لا يعرض ما هو أهم منه، لأنه لا يجوز أن يأمرهم
بالنفوذ وإن أعقب ضررا في الدين، وقواه بأنه لم ينكر على أسامة تأخره
وقوله: لم أكن لأسأل عنك الركب وأكد كون الأمر مشروطا بكلام كثير لا
طائل فيه، وفي حكايته وقال: (لو كان الإمام منصوصا عليه - كما
يقولون - (2) لجاز أن يسترد جيش أسامة أو بعضه لنصرته فكذلك إذا كان
بالاختيار) (3) وحكي عن أبي علي استدلاله أن أبا بكر لم يكن في جيش
أسامة بأنه ولاه الصلاة في مرضه مع تكرره أمر الجيش بالنفوذ
والخروج) (4) ثم ذكر (إن الرسول صلى الله عليه وآله إنما يأمر بما يتعلق
بمصالح الدنيا من الحروب وغيرها عن اجتهاده، وليس بواجب أن يكون
ذلك عن وحي كما وجب في الأحكام الشرعية وإن اجتهاده يجوز أن يخالف
بعد وفاته، وإن لم يجز في حياته لأن اجتهاده في الحياة أولى من اجتهاد
غيره) (5) ثم ذكر (إن العلة في احتباس عمر عن النفوذ مع الجيش حاجة
إليه (6) وقيامه بما لا يقوم به غيره وإن ذلك أحوط للدين من نفوذه) ثم



(1) المغني 20 ق 1 / 345.
(2) الجملة المعترضة من " المغني ".
(3) المغني 20 ق 1 / 346.
(4) المغني نفس الصفحة.
(5) غلق أب أبي الحديد على كلام شيخه هذا بقوله: " فليس يكاد يظهر لأن
اجتهاده وهو ميت أولى أيضا من اجتهاد غيره " قال " ويغلب على ظني أنهم فرقوا بين
حالتي الحياة والموت، فإن في مخالفته وهو حي نوعا من أذى له وأذاه محرم لقوله تعالى:
(وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) والأذى بعد الموت لا يكون فافترق الحالان "!!
واترك للقارئ الكريم الحكم في هذا الاجتهاد المزعوم والتعليق على هذا التفريق.
(6) غ " حاجة أبي بكر إليه ".
145
ذكر: (إن أمير المؤمنين عليه السلام حارب معاوية بأمر الله تعالى وأمر
رسوله ومع هذا فقد ترك محاربته في بعض الأوقات ولم يجب بذلك ألا
يكون ممتثلا للأمر وذكر توليته عليه السلام أبا موسى الأشعري وتولية
الرسول صلى الله عليه وآله خالد بن الوليد (1) مع ما ظهر منهما وإن كل
ذلك يقتضي الشروط) ثم ذكر (إن من يصلح للإمامة ممن ضمه جيش
أسامة يجب تأخره ليختار للإمامة أحدهم لأن ذلك أهم من نفوذهم، فإذا
جاز لهذه العلة التأخر قبل العقد جاز التأخر بعده للمعاضدة وغيرها)
وطعن في قول من جعل إخراجهم في الجيش على طريق الابعاد ليؤمن
بحضوره أمر النص بأن قال: (إن بعدهم لا يمنع من أن يختاروا للإمامة
ولأنه عليه السلام لم يكن قاطعا على موته لا محالة لأنه لم يرد نفذوا جيش
أسامة في حياتي).
ثم ذكر إن ولاية أسامة عليهما لا تقتضي فضله وإنهما دونه، وذكر
ولاية عمرو بن العاص عليهما وإن لم يكونا دونه في الفضل وإن أحدا لم
يفضل أسامة عليهما.
ثم ذكر أن السبب في كون عمر من جملة جيش أسامة أن عبد الله
ابن أبي ربيعة المخزومي (2) قال عند ولاية أسامة تولي علينا شابا حدثا



(1) يريد تولية: أبي موسى في التحكيم وتولية خالد السرية إلى الغميصاء وهو
الموضع الذي أوقع خالد فيه ببني جذيمة وتبرأ رسول الله صلى الله عليه وآله من فعله،
وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد) وأرسل إليهم عليا وودى لهم كل شئ
حتى مليغة الكلب، والقضية رواها عامة أهل السير وانظر (سيرة ابن هشام).
(2) نقل ابن أبي الحديد عن الواقدي " إن المنكر لإمارة أسامة عياش بن أبي
ربيعة " قال " وغير الواقدي يقول عبد الله بن أبي عياش وقد قيل عبد الله بن أبي ربيعة
أخو عياش " (الشرح 17 / 182).
146
ونحن مشيخة قريش؟ فقال عمر: " يا رسول الله مرني حتى أضرب عنقه ".
فقد طعن في إمارته (1) ثم قال عمر أنا أخرج في جيش أسامة، تواضعا
وتعظيما لأمره له عليه السلام (2).
يقال له: أما كون أبي بكر في جملة جيش أسامة فظاهر قد ذكره
أصحاب السير والتواريخ (3) وقد روى البلاذري في تاريخه وهو معروف
الثقة والضبط ويرى من مماثلة الشيعة ومقاربتها أن أبا بكر وعمر كانا معا
في جيش أسامة والانكار لما يجري هذا المجرى لا يغني شيئا، وقد كان
يجب على من أحال بذلك على كتب المغازي في الجملة أن يومي إلى
الكتاب المتضمن لذلك بعينه ليرجع إليه.
فأما خطابه بالتنفيذ للجيش فالمقصود به الفور دون التراخي، أما
من حيث مقتضى الأمر على مذهب من رأى ذلك لغة أو شرعا (4) من
حيث وجدنا جميع الأمة من لدن الصحابة إلى هذا الوقت يحملون أوامره
ونواهيه عليه السلام على الفور، ويطلبون في تراخيها الأدلة ثم لم يثبت
كل ذلك لكان قول أسامة: لم أكن لأسأل عنك الركب، أوضح دليل على أنه



(1) ش " بتأميرك إياه ".
(2) كل ما نقله الشريف هنا نقله باختصار وإن كان لم يترك المهم من كلام
القاضي انظر المغني 20 ق 1 / من ص 246 - 349.
(3) قال ابن أبي الحديد: إن الأمر عندي في هذا الموضع مشتبه والتواريخ
مختلفة في هذه القضية فمنهم من يقول: إن أبا بكر كان في جملة الجيش، ومنهم من
يقول: لم يكن، وما أشار إليه قاضي القضاة بقوله: في كتب المغازي، لا ينتهي إلى
أمر صحيح (الشرح 17 / 182).
(4) علق ابن أبي الحديد على ذلك بقوله: " أما قول المرتضى: الأمر على
الفور أما لغة عند من قال به وشرعا لإجماع الكل على أن الأوامر الشرعية على الفور إلا
ما خرج بالدليل، فالظاهر في هذا الموضع صحة ما قاله المرتضى ".
147
عقل من الأمر الفور لأن سؤال الركب عنه عليه السلام لا معنى له بعد
الوفاة وقول صاحب الكتاب: (فلم ينكر على أسامة تأخره) ليس بشئ
وأي إنكار أبلغ من تكراره الأمر وترداده القول في حال يشغل عن المهم،
ويقطع عن الفكر إلا فيها؟ وقد ينكر الأمر على المأمور تارة بتكرار الأمر
وأخرى بغيره، وإذا سلمنا أن أمره عليه السلام كان متوجها إلى القائم
بالأمر بعده لتنفيذ الجيش بعد الوفاة لم يلزم ما ذكره من خروج المخاطب
بالإنفاذ عن الجملة، فكيف يصح ذلك وهو من جملة الجيش والأمر
متضمن لتنفيذ الجيش؟ فلا بد من خروج كل من كان في جملته لأن تأخر
بعضهم يسلب الخارجين اسم الجيش على الإطلاق، أوليس من مذهب
صاحب الكتاب أن الأمر بالشئ أمر بما لا يتم إلا معه، وقد اعتمد على
هذا في مواضع كثيرة، وإن كان خروج الجيش ونفوذه لا يتم إلا بخروج
أبي بكر فالأمر بخروجه أمر لأبي بكر بالنفوذ والخروج وكذلك لو أقبل عليه
على سبيل التخصيص وقال: (نفذوا جيش أسامة) وكان هو في جملة
الجيش فلا بد من أن يكون ذلك أمرا له بالخروج واستدلالا له على أنه لم
يكن هناك إمام منصوص عليه لعموم الأمر بالتنفيذ، ليس بصحيح لأنا قد
بينا أن الخطاب إنما توجه إلى الحاضرين ولم يتوجه إلى الإمام بعده، على
أن هذا لازم له، لأن الإمام بعده لا يكون إلا واحدا فلم عمم صاحب
الكتاب الخطاب ولم يفرد به الواحد فيقول: لينفذ القائم بالأمر بعدي
جيش أسامة؟ فإن الحال لا يختلف في كون الإمام بعده عليه السلام
واحدا بين أن يكون منصوصا عليه أو مختارا.
وأما ادعاؤه الشرط في أمره عليه السلام بالنفوذ فباطل لأن إطلاق
الأمر يمنع من إثبات الشرط، وإنما يثبت من الشروط ما يقتضي العقل
إثباتها من التمكن والقدرة، لأن ذلك شرط ثابت في كل أمر ورد من
حكيم والمصلحة بخلاف ذلك، لأن الحكيم لا يأمر بشرط المصلحة بل

148
إطلاق الأمر منه يقتضي ثبوت المصلحة (1) وانتفاء المفسدة، وليس كذلك
التمكن وما يجري مجراه، ولهذا لا يشترط أحد في أوامر الله تعالى ورسوله
بالشرائع المصلحة وانتفاء المفسدة، وشرطوا في ذلك التمكن ورفع
التعذر، ولو كان الإمام منصوصا عليه بعينه واسمه لما جاز أن يسترد
جيش أسامة بخلاف ما ظنه ولا أن يعزل من ولاه صلى الله عليه وآله،
ولا يولي من عزله للعلة التي ذكرناها.
فأما استدلال أبي علي على أن أبا بكر لم يكن في الجيش بحديث الصلاة
فأول ما فيه أنه اعتراف بأن الأمر بتنفيذ الجيش كان في الحال دون بعد
الوفاة، وهذا ناقض لما بنى صاحب الكتاب عليه أمره صلى الله عليه
وآله، ثم إنا بينا أنه صلى الله عليه وآله لم يوله الصلاة، وذكرنا ما في
ذلك، ثم ما المانع من أن يوليه تلك الصلاة إن كان ولاه إياها ثم يأمره
بالنفوذ من بعد مع الجيش؟ فإن الأمر بالصلاة في تلك الحال لا يقتضي
أمره بها على التأييد.
وأما ادعاؤه: أن النبي صلى الله عليه وآله يأمر بالحروب وما يتصل
بها عن اجتهاد دون الوحي، فمعاذ الله أن يكون ذلك صحيحا لأن
حروبه صلى الله عليه وآله لم تكن مما تختص مصالح الدنيا بل للدين فيها
أقوى تعلق لما يعود على الاسلام وأهله بفتوحه من العز والقوة، وعلو



(1) علق ابن أبي علي هذا بقوله: " فأما قول المرتضى: الأمر المطلق يدل على
ثبوت المصلحة فقول جيد إذا اعترض به على الوجه الذي أورده قاضي القضاة " لكنه
نكص بعد ذلك فقال: " فأما إذا أورده أصحابنا على وجه آخر فإنه يندفع كلام
المرتضى، وذلك إنه يجوز تخصيص عمومات النصوص بالقياس الجلي، فلم لا يجوز
لأبي بكر أن يخص عموم قوله: " أنفذوا جيش أسامة " لمصلحة غلبت على ظنه في عدم
نفوذه نفسه " (شرح نهج البلاغة 17 / 188).
149
الكلمة، وليس يجري ذلك مجرى أكله وشربه ونومه، لأن ذلك لا تعلق
له بالدين، فيجوز أن يكون عن رأيه (1) ولو جاز أن تكون مغازيه وبعوثه
مع التعلق القوي لها بالدين عن اجتهاد لجاز ذلك في الاحكام ثم لو كان
ذلك عن اجتهاد لما ساغت مخالفته فيه بعد وفاته، كما لا تسوغ في حياته
فكل علة تمنع من أحد الأمرين تمنع من الأخرى.
فأما الاعتذار في حبس عمر عن الجيش بما ذكره فباطل لأنا قد بينا
أن ما يأمر به عليه السلام لا يسوغ مخالفته مع الامكان، ولا مراعاة لما
عساه يعرض فيه من رأى غيره، وأي حاجة إلى عمر بعد تمام العقد
واستقراره ورضا الأمة به على مذهب المخالف وإجماع الأمة عليه، ولم
يكن هناك فتنة ولا تنازع ولا اختلاف يحتاج فيه إلى مشاورته وتدبيره وكل
هذا تعلل بالباطل.
فأما محاربة أمير المؤمنين عليه السلام معاوية فلم يكن مأمورا بها إلا
مع التمكن ووجود الأنصار، وقد فعل عليه السلام ما وجب (2) عليه لما
تمكن منه فأما مع التعذر وفقد الأنصار فما كان مأمورا وليس كذلك القول
في جيش أسامة لأن تأخر من تأخر عنه كان مع القدرة والتمكن.
فأما تولية أبي موسى فلا ندري كيف يشبه ما نحن فيه لأنه إنما ولاه
بأن يرجع إلى كتاب الله فيحكم بما يقتضيه فيه وفي خصمه بالشرط الذي
ولاه عليه، وأبو موسى فعل خلاف ما جعل إليه، فلم يمكن ممتثلا لأمر من
ولاه وكذلك خالد بن الوليد إنما خالف ما أمره الرسول صلى الله عليه وآله
به فتبرأ من فعله وكل هذا لا يشبه أمره عليه السلام بتنفيذ جيش أسامة



(1) كيف وهو صلى الله عليه وآله في فعله وتقريره القدوة والأسوة.
(2) ش " من ذلك ما وجب ".
150
أمر مطلقا وتأكيده ذلك وتكراره له.
فأما جيش أسامة فإنه لم يضم من يصلح للإمامة فيجوز تأخرهم
ليختار أحدهم على ما ظنه صاحب الكتاب، على أن ذلك لو صح أيضا لم
يكن عذرا في التأخر لأن من خرج في الجيش يمكن أن يختار وإن كان بعيدا
ولا يمنع بعده من صحة الاختيار، وقد صرح صاحب الكتاب بذلك ثم
لو صح هذا العذر لكان عذرا في التأخر قبل العقد فأما بعد إبرامه فلا
عذر فيه، فالمعاضدة التي ادعاها قد بينا ما فيها.
فأما قول صاحب الكتاب رادا على من جعل إخراج القوم في الجيش
ليتم أمر النص (إن بعدهم لا يمنع من أن يختاروا للإمامة) فيدل على أنه
لم يتبين معنى هذا الطعن على حقيقته، لأن الطاعن به لا يقول إنه
أنفذهم (1) لئلا يختاروا للإمامة، وإنما يقول إنه أبعدهم حتى ينتصب بعده
في الأمر من نص عليه، ولا يكون هناك من يخالفه وينازعه.
فأما قوله: (إنه صلى الله عليه وآله لم يكن قاطعا على موته)،
فذلك لا يضر تسليمه أليس كان خائفا ومشفقا وعلى الخائف أن يتجرد مما
يخاف منه.
فأما قوله: (لم يرد نفذوا الجيش في حياتي) فقد بينا ما في ذلك
فأما ولاية أسامة على من ولى عليه فلا بد من اقتضائها لفضله على
الجماعة فيما كان واليا فيه، وقد دللنا فيما تقدم من الكتاب على أن ولاية
المفضول على الفاضل فيما كان أفضل فيه منه قبيحة، وكذلك القول في
ولاية عمرو بن العاص عليهما والقول في الأمرين واحد.



(1) أبعدهم، خ ل.
151
وقوله: (إن أحدا لم يدع فضل أسامة عليهما) فليس الأمر على ما
ظنه لأن من ذهب إلى فساد إمامة المفضول لا بد من أن يفضل أسامة
عليهما فيما كان واليا فيه.
وأما ما ادعاه من السبب في دخول عمر في الجيش فما نعرفه ولا
وقفنا عليه إلا من كتابه، ثم لو صح لم يغن شيئا لأن عمر لو كان أفضل
من أسامة لمنعه الرسول صلى الله عليه وآله من الدخول في إمارته، والمسير
تحت لوائه، والتواضع لا يقتضي فعل القبيح، وهذه جملة كافية.
قال صاحب الكتاب: (شبهة أخرى لهم. وأحد ما طعنوا به في
أبي بكر أنه عليه السلام لم يوله الأعمال، وولى غيره عليه ولما ولاه الحج
بالناس وأن يقرأ عليهم سورة براءة عزله عن ذلك، وجعل الأمر إلى أمير
المؤمنين عليه السلام وقال: (لا يؤدي عني إلا أنا ورجل مني) حتى رجع أبو
بكر إلى النبي صلى الله عليه وآله).
ثم أجاب عن ذلك أنه لو سلم [إنه لم يوله ما كان يدل على نقص
ولا على أنه لا يصلح للإمارة والإمامة بل لو قيل:] (1) إنه لم يوله لحاجته إليه
بحضرته وإن ذلك رفعة له لكان أقرب لا سيما وقد روى عنه صلى الله
عليه وآله ما يدل على أنهما وزيراه فكان صلى الله عليه وآله محتاجا إليهما،
وإلى رأيهما فلذلك لم يولهما، ولو كان للعمل على تركه فضل لكان عمرو
ابن العاص وخالد بن الوليد وغيرهما أفضل من أكابر الصحابة لأنه صلى الله
عليه وآله ولاهما وقدمهما وقد قدمنا أن توليته هي بحسب الصلاح، وقد
يولي المفضول على الفاضل تارة والفاضل [على المفضول] أخرى وربما ولى
الواحد لاستغنائه عنه بحضرته، وربما ولاه لاتصال بينه وبين من يولي



(1) ما بين المعقوفين ساقط من المغني.
152
عليه إلى غير ذلك...) (1).
ثم ادعى أن ولاية أبي بكر على الموسم والحج قد ثبتت بلا خلاف
بين أهل الأخبار، ولم يصح أنه عزله ولا يدل رجوع أبي بكر إلى النبي
صلى الله عليه وآله مستفهما عن القصة على العزل ثم جعل إنكار من أنكر
حج أبي بكر في تلك السنة بالناس كإنكار عباد وطبقته أخذ أمير المؤمنين
عليه السلام سورة براءة من أبي بكر، وحكي عن أبي علي أن المعنى في
أخذ السورة من أبي بكر: (إن من عادة العرب أن سيدا من سادات
قبائلهم إذا عقد عقد القوم فإن ذلك العقد لا ينحل إلا أن يحله هو أو
بعض سادات قومه، فلما كان هذا عادتهم وأراد النبي صلى الله عليه وآله
وسلم أن ينبذ إليهم عهدهم وينقض ما كان بينه وبينهم علم أنه لا ينحل
ذلك إلا به أو بسيد من سادات رهطه، فعدل عن أبي بكر إلى
أمير المؤمنين عليه السلام للقرب في النسب (2) ثم ادعى أنه عليه السلام
ولى أبا بكر في حال مرضه أن يصلي (3) بالناس وذلك أشرف الولايات وقال
في ذلك: (يأبى الله ورسوله والمؤمنون إلا أبا بكر) ثم اعترض نفسه
بصلاته عليه السلام خلف عبد الرحمن بن عوف وأجاب (بأنه عليه
السلام صلى خلفه لا أنه ولاه الصلاة وقدمه فيها وإنما قدم عبد الرحمن عند
غيبة النبي صلى الله عليه وآله بغير أمره وقد ضاق الوقت فجاء الرسول
صلى الله عليه وآله فصلى خلفه) وتكلم على أن ولاية أبي بكر الصلاة لا
تدل على النص بالخلافة عليه) بكلام لا طائل في حكايته (4).



(1) المغني 20 ق 1 / 350.
(2) ش " للقرب بالنسب ".
(3) ش " الصلاة ".
(4) المغني 20 ق 1 / 350 و 351.
153
يقال له: قد بينا أن تركه عليه السلام الولاية لبعض أصحابه مع
حضوره وإمكان ولايته والعدول عنه إلى غيره مع تطاول الزمان وامتداده لا
بد من أن يقتضي غلبة الظن بأنه لا يصلح للولاية، فأما من يدعي (1) أنه
لم يوله لافتقاره إليه بحضرته وحاجته إلى تدبيره ورأيه فقد بينا أنه صلى الله
عليه وآله ما كان يفتقر إلى رأي أحد لكماله ورجحانه على كل واحد وإنما
كان يشاور أصحابه على سبيل التعليم لهم والتأديب أو لغير ذلك مما قد
ذكر.
وبعد، فكيف استمرت هذه الحاجة واتصلت منه إليهما، حتى لم
يستغن في زمان من الأزمان عن حضورهما فيوليهما، وهل هذا إلا قدح في
رأي الرسول صلى الله عليه وآله ونسبته إلى أنه كان ممن يحتاج إلى أن
يلقن، ويوقف على كل شئ، وقد نزهه الله تعالى عن ذلك.
فأما ادعاؤه أن الرواية وردت بأنهما وزيراه، وقد كان يجب أن
يصحح ذلك قبل أن يعتمده ويحتج به، فإنا ندفعه عنه أشد دفع.
فأما ولاية عمرو بن العاص وخالد بن الوليد فقد تكلمنا عليها من
قبل، وبينا أن ولايتهما تدل على صلاحهما لما ولياه، ولا يدل على
صلاحهما للإمامة، لأن شرائط الإمامة لم تتكامل فيهما، وبينا أيضا أن
ولاية المفضول على الفاضل لا تجوز بخلاف ما ظنه صاحب الكتاب.
فأما تعظيمه واستكباره قول من يذهب إلى أن أبا بكر عزل عن أداء
سورة براءة والموسم معا وجمعهما لأمير المؤمنين عليه السلام وجمعه بين ذلك
في البعد وبين إنكار عباد أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام ارتجع سورة



(1) ش " فأما ادعاؤه ".
154
براءة من أبي بكر، فأول ما فيه أنا لا ننكر أن يكون أكثر الأخبار واردة
بأن أبا بكر حج بالناس في تلك السنة، إلا أنه قد روى قوم من أصحابنا
خلاف ذلك، وأن أمير المؤمنين عليه السلام كان أمير الموسم في تلك
السنة، وأن عزله الرجل كان عن الأمرين، فاستكبار ذلك وفيه خلاف لا
معنى له.
فأما ما حكاه من عباد فإنا لا نعرفه ولا أظن أحد يذهب إلى مثله،
وليس يمكنه بإزاء ذلك جحد مذهب أصحابنا الذي حكيناه، وليس عباد
ولو صحت الحكاية عنه بإزاء من ذكرناه، فهو ملئ بالجهالات ودفع
الضرورات.
وبعد، فلو سلمنا أن ولاية الموسم لم تفسخ لكان الكلام باقيا لأنه
إذا كان ما ولي مع تطاول الزمان إلا هذه الولاية ثم سلب شطرها والأفخم
الأعظم منها فليس ذلك إلا تنبيها على ما ذكرناه.
فأما ما حكاه عن أبي علي من أن عادة العرب أن لا يحل ما عقده
الرئيس منهم إلا هو أو المتقدم من رهطه، فمعاذ الله أن يجري النبي صلى
الله عليه وآله سنته وأحكامه على عادات الجاهلية، وقد بين عليه السلام
سببه لما رجع إليه أبو بكر فسأله عن أخذ السورة منه، فقال: (أوحي إلي أن
لا يؤدي إلا أنا أو رجل مني (1)) ولم يذكر ما ادعاه أبو علي على أن هذه
العادة قد كان يعرفها النبي صلى الله عليه وآله قبل بعثة أبي بكر بسورة
براءة فما باله لم يعتمدها في الابتداء ولم يبعث من يجوز أن يحل عقده من
قومه.



(1) تقدم الكلام حول ذلك.
155
فأما ادعاؤه من ولاية الصلاة فقد بينا فيما تقدم أنه عليه السلام ما
ولاه ذلك * ولا أمره به واستقصينا ذلك استقصاء يغني عن إعادته * (1)
فأما فصله بين صلاته عليه السلام خلف عبد الرحمن وبين صلاة أبي
بكر فليس بشئ، لأنا إذا كنا قد دللنا على أنه عليه السلام ما قدمه في
الصلاة فقد استوى الأمران.
وبعد، فأي فرق بين أن يصلي خلفه وبين أن يوليه ويقدمه ونحن
نعلم أن صلاته خلفه إقرار لولايته ورضا بها فقد عاد الأمر إلى أن
عبد الرحمن كأنه قد صلى بأمره وإذنه على أن قصة عبد الرحمن أوكد لأنه قد
اعترف بأن الرسول صلى الله عليه وآله صلى خلفه ولم يصل خلف أبي
بكر، وإن ذهب كثير من الناس إلى أنه قدمه وأمره بالصلاة قبل خروجه
عليه السلام إلى المسجد وتحامله (2).
فإن قيل: ليس يخلو النبي صلى الله عليه وآله من أن يكون سلم في
الابتداء سورة براءة إلى أبي بكر بأمر الله تعالى أو باجتهاده ورأيه، فإن كان
بأمر الله تعالى فكيف يجوز أن يرتجع منه السورة قبل وقت الأداء وعندكم
أنه لا يجوز نسخ الشئ قبل وقت فعله وإن كان باجتهاده عليه السلام
فعندكم أنه لا يجوز أن يجتهد فيما يجري هذا المجرى؟
قلنا: ما سلم السورة إلى أبي بكر إلا بإذنه تعالى إلا أنه لم يأمره
بأدائها ولا كلفه قراءتها على أهل الموسم لأن أحدا لا يمكنه أن ينقل عنه
عليه السلام في ذلك لفظ الأمر والتكليف فكأنه عليه السلام سلم إليه
سورة براءة لتقرأها على أهل الموسم ولم يصرح باسم القارئ المبلغ لها في



(1) ما بين النجمتين ساقط من " شرح نهج البلاغة ".
(2) تحامل: تكلف الشئ على مشقة.
156
الحال، ولو نقل عنه تصريح لجاز أن يكون مشروطا بشرط لم يظهره لأنه
عليه السلام * ممن يجوز مثل ذلك عليه * (1).
فإن قيل: فأي فائدة في دفع السورة إلى أبي بكر وهو لا يريد أن
يؤديها عنه ثم ارتجاعها منه، ولا دفعت في الابتداء إلى أمير المؤمنين عليه
السلام.
قلنا: الفائدة في ذلك ظهور فضل أمير المؤمنين عليه السلام ومرتبته
وأن الرجل الذي نزعت السورة منه لا يصلح لما يصلح له، وهذا غرض
قوي في وقوع الأمر على ما وقع عليه * من دفعها إلى أبي بكر وارتجاعها
منه * (1)
قال صاحب الكتاب: (شبهة لهم أخرى (2) ثم ذكر ما روي عن أبي
بكر في الكلالة (3) من قوله أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن



(1) ما بين النجمتين ساقط من " شرح نهج البلاغة ".
(2) هذه الشبهة أوردها القاضي في المغني ج 2 ق 1 / 352 ونقلها المرتضى هنا
باقتضاب كما اقتضب ابن أبي الحديد كلام المرتضى أيضا يعرف ذلك عند المقارنة.
(3) الكلالة: الميت الذي لا والد ولا ولد في ورثته، كما يقال لورثته الكلالة،
وفي السنن الكبرى للبيهقي 6 / 223 عن الشعبي قال: سئل أبو بكر رضي الله عنه
فقال: إني سأقول فيها برأيي فإن يك صوابا فمن الله وإن يك خطأ فمني ومن
الشيطان، ويرى بعضهم أنه لا عذر للخليفة في جهل الحكم بهذه المسألة وهو مرجع
الأمة في الأحكام وفض التنازع في الخصام مع أن الله سبحانه أوضح حكمها في
موضعين من كتابه الكريم قال تعالى: (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ
أو أخت فلكل واحد منهما السدس وإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في
الثلث...) (النساء / 12) والمراد بالكلالة في هذه الآية الأخ والأخت من الأم، وقال
تعالى في آية الصيف: (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له
ولد وله أخت فله نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما
الثلثان مما ترك وإن كانوا أخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين...) (سورة
النساء / 176) قيل: وكيف يتردد في الحكم مع (ولا تقف ما ليس لك به
علم...) (الاسراء / 26) (ولو تقول علينا بعض الأقاويل...) (الحاقة الآية: / 24)
وقد وقع لعمر (رض) مثل ذلك، وأجاب عنه ابن حجر في فتح الباري 8 / 215
بجواب لا يقوم أمام ذلك الاعتراض.
157
يكن خطأ فمني، ونحو ما رووه من أنه لم يعرف ميراث الجدة (1) وإن من
هذه حاله لا يصلح للإمامة) وأجاب عن ذلك بأن الإمام لا يجب أن
يكون محيطا بجميع أمور الدين، وإن القدر الذي يحتاج إليه الإمام فهو
الذي يحتاج إليه الحاكم، وذكر أن القول بالرأي هو الواجب في ما لا نص
فيه، وأن ذلك إجماع من الصحابة وادعا أن أمير المؤمنين عليه السلام قال
بالرأي في بيع أمهات الأولاد (2) ومسألة الحرام والحد (3) والمشتركة (4) فإنه
ذهب عليه بعض الأحكام نحو الكلام في العقل عن مولى صفيه حتى قطع
عمر بن الخطاب التداعي بينه وبين الزبير بأن بين أن الميراث للمولى



(1) في مسند أحمد 4 / 224 وسنن البيهقي 6 / 234 وبداية المجتهد 2 / 287
وغيرها عن أبي قبيصة بن ذويب قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر الصديق (رض)
تسأله عن ميراثها مالك في كتاب الله شئ، وما علمت لك في سنة رسول الله صلى
الله عليه وسلم شيئا فارجعي حتى اسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول
الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس قال: هل معك غيرك فقام محمد بن مسلمة
الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة فأنفذه.
وروي عنه أيضا أنه أتته جدتان أم الأم وأم الأب فأعطى الميراث أم الأم دون أم
الأب فقال له عبد الرحمن بن سهل أخو بني الحارث: يا خليفة رسول الله لقد أعطيت
التي لو أنها ماتت لم يرثها فجعله أبو بكر بينهما يعني السدس (انظر الإصابة حرف العين
ق 1 بترجمة عبد الرحمن بن سهل وأسد الغابة 3 / 299).
(2) تقدم الكلام على هذا وسيأتي قريبا طعن المرتضى في الرواية وانظر سنن
البيهقي 10 / 348.
(3) يعني بإكرام الخمر والحد: حد الخمر فقد روى غير الإمامية أن عليا عليه
السلام أشار على عمر بأن الحد في شرب الحرام حد المفتري وهو ثمانون جلدة مع أنه
جلد الوليد بن عقبة بحضرة عثمان أربعين (انظر المغني لابن قدامة 8 / 306،
والجوهر النقي لابن التركماني بحاشية السنن الكبرى للبيهقي 10 / 320).
(4) أي الجارية المشتركة والمعروف بين الإمامية عدم اختلاف حكم أمير المؤمنين
فيها.
158
والعقل للعصبة (1) والزم قياسا على الإمام في كمال العقل الأمير والحاكم
وذكر أن معاذ وزيد بن ثابت كانا متقدمين في العلم بالحلال والحرام ثم لم
يوجب ذلك أنهما أحق بالإمامة يقال له: قد دللنا فيما مضى من الكتاب على
أن من شرائط الإمامة العلم بجميع أحكام الدين، وأن ذلك شرط
واجب، فمن ظهر منه نقصان في هذا العلم لا يجوز أن يكون إماما، وقد
ظهر عن أبي بكر في مسائل كثيرة الاعتراف على نفسه بأنه لا يعرف الحكم
فيها، وبينا فيما مضى أيضا من الكتاب الفرق بين الأمير والحاكم، وبين
الإمام من حيث كانت ولاية الإمام عامة وولاية من عداه خاصة، وبينا أن
الحاكم والأمير يجب أن يكونا عالمين بالحكم في جميع ما أسند إليهما وأن لا
يذهب عليهما شئ من ذلك، إلا أنهما لما كانت ولايتهما خاصة لم يجب أن
يكون عالمين بجميع أحكام الدين، والإمام بخلاف ذلك لأن ولايته
عامة.
فأما القول بالرأي الذي صححه وصوبه، فقد بينا في صدر الكتاب
طرفا من الدلالة على فساده، واستقصينا الكلام في هذا الباب في باب
المسائل الواردة من أهل الموصل (2) ولولا أن صاحب الكتاب أطال في هذا
الباب على غير هذا الموضع من كلامه، واستعملنا مثل ما فعله لكنا لا
نخلي هذا المكان من كلام في هذا المعنى.
فأما دعواه على أمير المؤمنين عليه السلام القول بالرأي في بيع
أمهات الأولاد ومسألة الحرام والحد فما رأيناه عول على حجة ولا شبهة في
ذلك، وقد كان يجب أن يبين من أين أنه عليه السلام قال في ذلك



(1) تقدم الكلام على هذه القضية.
(2) مسائل أهل الموصل من رسائل المرتضى وقد مر ذكرها.
159
بالرأي، فإن كان معوله على ما روى عن عبيدة السلماني من أنه سأله عن
بيع أمهات الأولاد، فقال كان رأيي ورأي عمر ألا يبعن ورأيي الآن أن
يبعن إلى آخر الخبر، فقد تكلمنا على هذه الشبهة فيما مضى من الكتاب،
وبينا أن الخبر مطعون فيه غير صحيح، ولو صح لم يدل على صحة القول
بالرأي الذي يذهبون إليه لأن الرجوع من قول إلى قول قد يكون سببه
الاجتهاد، ويكون أيضا سببه الرجوع إلى النصوص والأدلة القاطعة وبينا
أنه عليه السلام في الحقيقة لم يكن قوله إلا واحدا في الحالين وإن أظهر في
أحدهما خلاف مذهبه للتقية، وليس في إضافة القول إلى الرأي دلالة على
أنه معول من غير جهة النص والأدلة القاطعة، لأن هذه اللفظة تفيد
المذهب والاعتقاد واللذان يستندان إلى ضروب الأدلة، وقد يقال: فلان
يرى القدر وفلان يرى العدل، وفلان من رأيه التشبيه وفلان من رأيه
التوحيد، وليس شئ من ذلك من جهة الاجتهاد والظنون.
فأما مسألة الحرام والحد والمشتركة فلسنا نعلم ما شبهته في أنه عليه
السلام قال فيها بالاجتهاد، فإن كان معوله على فقد النصوص التي لهذه
الأحكام دخول فيها، وإنه لا وجه لقوله إلا من جهة الاجتهاد، فكل هذا
تخيل لما لا أصل له، وليس إذا لم يعرف صاحب الكتاب طريقا في
النصوص لهذه الأحكام لم يعرف ذلك غيره، وقد بينا في جواب أهل
الموصل في هذا الموضع باستقصاء شديد، وكشفنا عن بطلان ادعائهم
إجماع الصحابة على القول بالاجتهاد من وجوه شتى.
فأما دعواه على أمير المؤمنين عليه السلام أنه لم يعرف الحكم في عقل
موالي صفية حتى قطع النزاع بينه وبين الزبير فيه عمر بن الخطاب،
فطريف لأن أمير المؤمنين عليه السلام لم يسترشد في ذلك عمر، بل كان
مصرحا بما يعتقده في هذه القضية وإنما حكم عمر بينه وبين الزبير في ذلك

160
لأن الأمر في الحال كان إليه، ولم يمكنه عليه السلام دفع قضيته، وإن كان
لا يراها صوابا للأحوال الظاهرة التي تمنع من ذلك، فكيف يتحصل من
هذا الباب أن بعض الأحكام ذهب عليه، وهل اشتباه مثل ذلك إلا بعد
عن الصواب؟
فأما معاذ وزيد فلم يكونا ممن يعلم أحكام الدين فيصلحا للإمامة،
وإن كانا عالمين بالأكثر الأظهر، ولو كانا أيضا عالمين بالجميع لم يكونا أحق
بالإمامة لفقد شرائط الإمامة فيهما وهذا واضح لمن تدبره.
قال صاحب الكتاب: (شبهة لهم أخرى، وذكروا قصة خالد بن
الوليد وقتل مالك بن نويرة ومضاجعة امرأته من ليلته، وإن أبا بكر ترك
إقامة الحد عليه، وزعم أنه سيف من سيوف الله سله الله على أعدائه،
مع أن الله تعالى قد أوجب القود وحد الزناة عموما وأن عمر نبهه، وقال
له اقتله فإنه قتل مؤمنا) (1) ثم قال: (الجواب عن ذلك ما قاله شيخنا
أبو علي وهو أن الردة ظهرت من مالك لأن في الأخبار أنه رد صدقات قومه
عليهم لما بلغه موت رسول الله صلى الله عليه وآله كما فعله سائر أهل الردة
* فاستحق القتل ثم قال: فإن قيل فقد كان يصلي، قيل له (2) * كذلك سائر
أهل الردة، وإنما كفروا بالامتناع من الزكاة وإسقاط وجوبها دون
غيرها (3) فإن قيل: فلم أنكر عليه عمر، قيل: كان أمره إلى أبي بكر فلا
وجه لإنكار عمر، وقد يجوز أن يعلم من حاله ما يخفى على عمر فإن قيل
ما معنى ما روي عن أبي بكر من أن خالدا تأول فأخطأ بل أراد تأول في
عجلته عليه بالقتل، فكان عنده الواجب أن يتوقف للشبهة



(1) ش " مسلما ".
(2) ما بين النجمتين ساقط من المغني.
(3) ش " واعتقادهم إسقاط وجوب الزكاة دون غيره ".
161
[والاستتابة] (1) واستدل على ردته بأن أخاه متمم بن نويرة (2) لما أنشد
عمر مرثية أخاه فقال له عمر وددت أني أقول الشعر فأرثي أخي زيدا (3)
كما رثيت أخاك، فقال له متمم: لو قتل أخي على مثل ما قتل عليه أخوك
لما رثيته، فقال له عمر: ما عزاني أحد كتعزيتك، فدل هذا على أنه لم يقتل
على الاسلام كما قتل زيد، ثم أجاب عن تزوجه بامرأته بأنه إذا قتل على
الردة في دار الكفر جاز ذلك عند كثير من أهل العلم وإن كان لا يجوز أن
يطأها إلا بعد الاستبراء) (4) وحكي عن أبي علي (إنه إنما قتله لأنه ذكر
رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: صاحبك، وأوهم بذلك أنه ليس
بصاحب له، وكان عنده أن ذلك ردة وعلم عند المشاهدة المقصد، وهو
أمير القوم فجاز أن يقتله وإن كان الأولى أن لا يعجل، وأن يكشف الأمر
في ردته حتى يتضح فلهذا لم يقتله به (5) فأما وطيه لامرأته فلم يثبت عنده،
ولا يصح أن يجعل طعنا في هذا الباب...) (6).
يقال له: أما صنع خالد في قتل مالك بن نويرة واستباحة ماله
وزوجته لنسبته إلى الردة التي لم تظهر بل كان الظاهر خلافها من
الاسلام، فعظيم ويجري مجراه في العظم تغافل من تغافل عن أمره، ولم



(1) ما بين الحاصرتين من المغني.
(2) متمم بن نويرة أخو مالك بن نويرة أبو أدهم له في أخيه حسان مراثي.
قال ابن الأثير: لم يقل أحد مثل شعره في المراثي (انظر ترجمته في الإصابة حرف الميم
ق 1 وفي أسد الغابة 4 / 298).
(3) زيد بن الخطاب أخو عمر (رض) لأبيه وكان أسن منه صحابي قتل يوم
اليمامة وحزن عليه عمر حزنا شديدا وقال لمتمم بن نويرة لو كنت أحسن الشعر لقلت
في أخي مثل ما قلت في أخيك (أسد الغابة 2 / 228).
(4) المغني 20 ق 1 / 355.
(5) غ " وإذا كان كذلك فالواجب على أبي بكران لا يقتله به ".
(6) المغني، نفس الصفحة.
162
يقم فيه حكم الله تعالى وأقره على الخطأ الذي شهد هو به على نفسه،
ويجري مجراهما من أمكنه أن يعلم الحال فأهملها ولم يتفصح (1) ما روي من
الأخبار في هذا الباب [ويتعصب لأسلافه ومذهبه] (2) وكيف يجوز عند
خصومنا على مالك وأصحابه جحد الزكاة مع المقام على الصلاة وهما جميعا
في قرن (3) لأن العلم الضروري بأنهما من دينه عليه السلام وشريعته على
حد واحد، وهل نسبة مالك إلى الردة مع ما ذكرناه إلا قدح في الأصول
ونقض لما تضمنته من أن الزكاة معلومة ضرورة من دينه عليه السلام
وأعجب من كل عجيب قوله: وكذلك سائر أهل الردة، يعني أنهم كانوا
يصلون ويجحدون الزكاة لأنا قد بينا أن ذلك مستحيل غير ممكن، وكيف
يصح ذلك. وقد روى جميع أهل النقل أن أبا بكر لما وصى الجيش الذين
أنفذهم بأن يؤذنوا ويقيموا فإن أذن القوم كأذانهم وإقامتهم أكفوا عنهم
وإن لم يفعلوا أغاروا عليهم، فجعل إمارة الاسلام والبراءة من الردة
الأذان والإقامة، وكيف يطلق في سائر أهل الردة ما يطلقه من أنهم كانوا
يصلون؟ وقد علمنا أن أصحاب مسيلمة وطليحة (4) وغيرهما ممن ادعى
النبوة وخلع الشريعة ما كانوا يرون الصلاة ولا شيئا مما جاءت به شريعتنا



(1) ش " يتصفح ".
(2) الزيادة من نقل ابن أبي الحديد.
(3) القرن: الحبل الذي يقرن به الدابتان، والكلام على الاستعارة.
(4) مسيلمة الحنفي كذاب اليمامة قتله وحشي قاتل حمزة (رض) وشاركه
بذلك رجل من الأنصار وكانا مع خالد بن الوليد (يراجع في تفصيل ذلك تاريخ
الطبري 3 / 267 - 296 حوادث سنة 11) وطليحة ارتد عن الاسلام في حياة رسول
الله صلى الله عليه وآله فادعى النبوة فوجه إليه رسول الله صلى الله عليه وآله عماله من
بني أسد وفاجئهم نبأ وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله فاستطار أمره ثم لم يثبت لجيش
المسلمين ففر حتى نزل كلب على النقع فأسلم ولم يزل مقيما في كلب حتى توفي أبو بكر
(رض) وكان قد عفى عنه وقال: خلوا عنه فقد هداه الله إلى الاسلام (انظر تفصيل
ذلك في تاريخ الطبري 3 / 253 - 261 حوادث سنة 11).
163
وقصة مالك معروفة عند من تأملها من أهل النقل لأنه كان على صدقات
قومه بني يربوع واليا من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله فلما بلغته وفاة
رسول الله صلى الله عليه وآله أمسك عن أخذ الصدقة من قومه وقال لهم
تربصوا بها حتى يقوم قائم بعد النبي صلى الله عليه وآله وننظر ما يكون
من أمره، وقد صرح بذلك في شعره حيث يقول:
وقال رجال سدد اليوم مالك * وقال رجال مالك لم يسدد
فقلت دعوني لا أبا لأبيكم * فلم أخط رأيا في المقال ولا اليد
وقلت: خذوا أموالكم غير خائف * ولا ناظر فيما يجئ به عندي (1)
فدونكموها إنما هي مالكم * مصررة أخلافها لم تجدد (2)
سأجعل نفسي دون ما تحذرونه * وأرهنكم يوما بما قلته يدي
فإن قام بالأمر المحدث قائم * أطعنا وقلنا: الدين دين محمد
فصرح كما ترى إنه استبقى الصدقة في أيدي قومه رفقا بهم، وتقربا
إليهم إلى أن يقوم بالأمر من يدفع ذلك إليه.
وقد روى جماعة أهل السير وذكره الطبري في تاريخه (3) إن مالكا نهى
قومه عن الاجتماع على منع الصدقات وفرقهم وقال: يا بني يربوع إنا كنا
قد عصينا أمرائنا إذا دعونا إلى هذا الدين وبطأنا الناس عنه فلم نفلح ولم
ننجح وإني قد نظرت في هذا الأمر فوجدت الأمر يتأتى لهم بغير سياسة وإذا
أمر لا يسوسه الناس فإياكم ومعاداة قوم يصنع لهم. فتفرقوا على ذلك إلى



(1) وروي " ولا ناظر فيما يجئ من الغد ".
(2) يقال: صر الناقة: شد ضرعها فهي مصراة، وأكثر مما يفعل ذلك للإيهام
بأنها حافلة باللبن، وتجدد الضرع ذهب لبنه.
(3) تاريخ الطبري 3 / 276، حوادث سنة 11 وقد نقل المرتضى هذه الرواية
بتصرف واختصار.
164
أموالهم، ورجع مالك إلى منزله، فلما قدم خالد البطاح بث السرايا
وأمرهم بداعية الاسلام وأن يأتوه بكل من لم يجب وإن امتنع أن يقتلوه
فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر من بني يربوع واختلفت السرية
فيهم، وفيهم (1) أبو قتادة الحرث بن ربعي (2) وكان فيمن شهد أنهم قد
أذنوا وأقاموا وصلوا فلما اختلفوا فيهم أمر بهم خالد فحبسوا وكانت ليلة
باردة لا يقوم لها شئ، فأمر خالد بن الوليد مناديا فنادى أدفئوا أسراءكم
فظنوا أنه أمرهم بقتلهم، لأن هذه اللفظة تستعمل في لغة كنانة للقتل
فقتل ضرار بن الحارث الأزور (3) مالكا وتزوج خالد زوجته أم تميم بنت
المنهال (4)
وفي خبر آخر أن السرية التي بعث فيها خالد لما غشيت القوم تحت
الليل له راعوهم، فأخذ القوم السلاح، قال: فقلنا: إنا لمسلمون، فقالوا:
ونحن المسلمون، قلنا: فما بال السلاح قالوا لنا: فما بال السلاح



(1) ش " في أمرهم وفي السرية أبو قتادة ".
(2) أبو قتادة الأنصاري اسمه الحارث بن ربعي أو النعمان كان بدريا يعبر
عنه بفارس النبي صلى الله عليه وآله شهد مع علي عليه السلام مشاهده كلها، وولاه
مكة ثم عزله مات بالكوفة وهو ابن سبعين وصلى عليه علي عليه السلام وكبر عليه
سبعا (كذا في سفينة البحار ج 2 / 406 عن الاستيعاب) ولعل المراد بالتكبير سبعا
تكرارها بناء على استحباب؟؟ ذلك إذا الميت من أهل الشرف في الدين وانظر أسد الغابة
5 / 274.
(3) ضرار بن الأزور الأسدي قيل اسم الأزور مالك كان شاعرا فارسا قتل
يوم أجنادين، وقيل في اليمامة وقيل: توفي في خلافة عمر بالكوفة أسد الغابة 3 / 39
وذكره له ابن حجر في الإصابة 2 / 200 قصة مع امرأة من بني أسد كقصة خالد مع
امرأة مالك.
(4) أم تميم بنت المنهال اسمها ليلى وكانت من أشهر نساء العرب بالجمال،
يقال إنه لم ير أجمل من عينيها ولا ساقيها انظر تفصيل القضية في " النص والاجتهاد "
ص 138.
165
معكم، قلنا: فضعوا السلاح، فلما وضعوا ربطوا أسارى فأتوا بهم خالد
ابن الوليد، فحدث أبو قتادة خالد بن الوليد بأن القوم نادوا بالاسلام،
وأن لهم أمانا فلم يلتفت خالد إلى قوله، وأمر بقتلهم، وقسم سبيهم
فحلف أبو قتادة ألا يسير تحت لواء خالد في جيش أبدا فركب فرسه
شاذا (1) إلى أبي بكر وخبره بالقصة، وقال له: إني نهيت خالد عن قتله
فلم يقبل قولي وأخذ بشهادة الأعراب الذين غرضهم الغنائم، وإن عمر
لما سمع ذلك تكلم فيه عند أبي بكر وأكثر وقال: إن القصاص قد وجب
عليه، فلما أقبل خالد بن الوليد قافلا دخل المسجد وعليه قباء له عليه صدأ
الحديد معتجرا (2) بعمامة له قد غرز في عمامته سهما، فلما أن دخل
المسجد قام إليه عمر فنزع الأسهم عن رأسه فحطمها، ثم قال: يا عدي
نفسه (3) أعدوت على امرئ مسلم فقتلته، ثم نزوت على امرأته والله
لأرجمنك بأحجارك، وخالد لا يكلمه ولا يظن إلا أن رأي أبي بكر مثل
رأي عمر فيه، حتى دخل على أبي بكر واعتذر إليه فعذره وتجاوز عنه
فخرج خالد وعمر جالس في المسجد، فقال: هلم يا ابن أم شملة،
فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه فلم يكلمه ودخل بيته.
وقد روي أيضا أن عمر لما ولي جمع من بقي من عشيرة مالك بن
نويرة واسترجع ما وجد عند المسلمين من أموالهم وأولادهم ونسائهم فرد
ذلك جميعا عليهم مع نصيبه الذي كان فيهم.
وقيل: إنه ارتجع بعض نسائهم من نواحي دمشق وبعضهن حوامل
فردهن على أزواجهن فالأمر ظاهر في خطأ خالد وخطأ من تجاوز عنه.



(1) شاذا: أي مفردا.
(2) اعتجر العمامة: لبسها.
(3) عدي: تصغير عدو.
166
وقول صاحب الكتاب: (إنه يجوز أن يخفى على عمر ما يظهر لأبي
بكر ليس بشئ لأن الأمر في قصة خالد لم يكن مشتبها بل كان مشاهدا
معلوما لكل من حضره وتأوله في القتل إن كان تأول لا يعذره، وما رأيناه
حكم فيه بحكم المتأول ولا غيره ولا تلافي خطأه وزلله وكونه سيفا من
سيوف الله على ما ادعاه لا يسقط عنه الأحكام ويبرئه من الآثام.
فأما قول متمم: لو قتل أخي على ما قتل عليه أخوك لما رثيته، فإنه
لا يدل على أنه كان مرتدا، وكيف يظن عاقل أن متمما اعترف بردة أخيه
وهو يطالب أبا بكر بدمه والاقتصاص من قاتله ورد سبيه، وإنما أراد في
الجملة التقرب إلى عمر بتقريظ أخيه، ثم لو كان ظاهر هذا القول كما ظنه
لكان إنما يفيد تفضيل زيد وقتلته على قتلة مالك، والحال في ذلك أظهر
لأن زيدا قتل في بعض المسلمين، ذابا عن وجوههم، ومالك قتل على
شبهة، وبين الأمرين فرق.
فأما قوله في النبي صلى الله عليه وآله: " صاحبك " فقد قال أهل
العلم: إنه أراد القرشية، لأن خالدا قرشي، وبعد فليس، في ظاهر
إضافته إليه دلالته على نفيه له عن نفسه، ولو كان علم من مقصده
الاستخفاف والإهانة على ما ادعاه صاحب الكتاب لوجب أن يعتذر بذلك
خالد عند أبي بكر وعمر، ويعتذر به أبو بكر له لما طالبه عمر بقتله، فإن
عمر ما كان يمتنع من قتل قادح في نبوة النبي صلى الله عليه وآله وإن كان
الأمر على ذلك فأي معنى لقول أبي بكر تأول فأخطأ، وإنما تأول فأصاب
إن كان الأمر على ما ذكره (1).



(1) نقل ابن أبي الحديد عن الشافي كل ما ورد تحت هذا العنوان إيرادا
ونقضا مع اختلاف يسير في بعض الكلمات والحروف. (انظر شرح نهج البلاغة
ج 17 ص 202 - 207)
167
قال صاحب الكتاب: " شبهه لهم أحرى، قالوا: لم سمي بخليفة
رسول الله صلى الله عليه وآله مع أنه لم يستخلفه " ثم شرع في الجواب عن
ذلك وهذا مما لا نقوله إذا سلمنا لهم صحة الاختيار، لأنه قد يجوز إذا
صح الاختيار أن يأمر بالاستخلاف كما يجوز أن يستخلف هو، وإنما يطعن
بذلك من أصحابنا من لم يسلم أن النبي صلى الله عليه وآله استخلفه،
ولا أمر أحدا باستخلافه على جملة ولا تفصيل، وإذا ورد الكلام هذا
المورد عاد إلى الاختيار وصحته وقد مضى ما في ذلك (1).
قال صاحب الكتاب: " شبهة لهم أخرى (2)، قالوا: ومما يؤثر في
حاله وحال عمر دفنهما مع الرسول صلى الله عليه وآله في بيته وقد منع الله
تعالى لكل من ذلك في حال حياته فكيف بعد الممات بقوله تعالى: (لا
تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم) (3) وأجاب عن ذلك بأن الموضع
كان ملكا لعائشة وهي حجرتها التي كانت معروفة بها، قال: (وقد بينا أن
هذه الحجر كانت أملاكا لنساء الرسول وأن القرآن ينطق بذلك [في قوله
تعالى: (وقرن في بيوتكن) (4)] (5) وذكر أن عمر استأذن عائشة في أن
يدفن في ذلك الموضع حتى قال: إن لم تأذن فادفنوني في البقيع وعلى هذا



(1) اختصر المرتضى كلام القاضي كما مر في نقضه مر الكرام (انظر المغني - 20
ق 1 / 355).
(2) هذه الشبهة اختصرها المرتضى هنا وهي في المغني 20 ق 1 / 355 - 356،
كما نقلها ابن أبي الحديد مع نقض المرتضى لها في شرح نهج البلاغة
17 / 214 - 217.
(3) الأحزاب / 53.
(4) الأحزاب / 330.
(5) التكملة من شرح النهج وقال ابن أبي الحديد: " فأما احتجاج قاضي
القضاة بقوله: " وقرن في بيوتكن " فاعتراض المرتضى عليه قوي لأن هذه الإضافة
إنما تقتضي التخصيص فقط لا التمليك ".
168
الوجه يحمل ما روي عن الحسن عليه السلام أنه لما مات أوصى أن يدفن
إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وآله فإن لم يترك ففي البقيع فلما كان
من مروان سعيد بن العاص (1) ما كان دفن بالبقيع وإنما أوصى بذلك
بإذن عائشة ويجوز أن يكون علم من عائشة أنها جعلت الموضع في حكم
الوقف فاستباحوا ذلك لهذا الوجه، قال: وفي دفنه عليه السلام في ذلك ما
يدل على فضل أبي بكر لأنه عليه السلام لما مات اختلفوا في موضع دفنه
وكثر القول حتى روى أبو بكر عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال ما
يدل على أن الأنبياء إذا ماتوا دفنوا حيث ماتوا فزال الخلاف في ذلك ".
يقال له: ليس يخلو موضع قبر النبي صلى الله عليه وآله من أن
يكون باقيا على ملكه أو يكون انتقل في حياته إلى عائشة على ما ادعاه،
فإن كان الأول لم يخل من أن يكون ميراثا بعده أو صدقة فإن كان ميراثا فما
كان يحل لأبي بكر ولا لعمر من بعده أن يأمرا بدفنهما فيه إلا بعد إرضاء
الورثة الذين هم على مذهبنا فاطمة عليه السلام وجماعة الأزواج وعلى
مذهبهم هؤلاء والعباس ولم نجد واحدا منهما خاطب أحدا من هؤلاء
الورثة عن ابتياع هذا المكان، ولا استنزله عنه بثمن ولا غيره، وإن كان
صدقة فقد كان يجب أن يرضى عنه جماعة المسلمين وابتياعه منهم، هذا
إن جاز الابتياع لما يجري هذا المجرى وإن كان انتقل في حياته فقد كان
يجب أن يظهر سبب انتقاله والحجة فيه، فإن فاطمة عليها السلام لم يقنع
منها في انتقال فدك إلى ملكها بقولها ولا شهادة من شهد لها، فأما تعلقه
بإضافة البيوت إلى ملكهن (2) بقوله تعالى: (وقرن في بيوتكن) فمن
ضعيف الشبهة، لأنا قد بينا فيما مضى من الكتاب أن هذه الإضافة لا



(1) انظر تذكرة الخواص ص 183
(2) ش " إليهن ".
169
تقتضي الملك وإنما تقتضي السكنى، والعادة في استعمال هذه اللفظة فيما
ذكرناه ظاهرة قال الله تعالى: (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن
يأتين بفاحشة مبينة) ولم يرد تعالى إلا حيث يسكن وينزلن دون حيث
يملكن بلا شبهة (1) وأطرف من كل شئ تقدم قوله: (إن الحسن عليه السلام
استأذن عائشة في أن يدفن في البيت حتى منعه مروان وسعيد بن العاص)
لأن هذه مكابرة منه ظاهرة، فإن المانع للحسن من ذلك لم يكن إلا
عائشة (2) ولعل من ذكر من مروان وسعيد وغيرهما أعانها، واتبع في ذلك
أمرها، وروي أنها خرجت في ذلك اليوم على بغل حتى قال ابن عباس
يوما على بغل ويوما على جمل (3) فكيف تأذن عائشة وهي في ذلك مالكة
للموضع على قولهم، ويمنع منه مروان وغيره ممن لا ملك له في الموضع.
ولا شركة ولا يد، وهذا من قبيح ما يرتكب وأي فضل لأبي بكر في روايته
عن النبي صلى الله عليه وآله حديث الدفن وعملهم بقوله إن صح فمن
مذهب صاحب الكتاب وأصحابه العمل بخبر الواحد العدل في أحكام
الدين العظيمة فكيف لا يعمل بقول أبي بكر في الدفن وهم يعملون بقول
من هو دونه فيما هو أعظم من ذلك وهذا بين.



(1) ش " وما أشبهه ".
(2) يراجع مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصبهاني ص 74 وشرح نهج البلاغة
لابن أبي الحديد 16 / 50 و 51.
170
فصل (1)
في تتبع كلامه في إمامة عمر بن الخطاب
إعلم أن جميع ما قدمناه من الكلام في إمامة أبي بكر كاف في إمامة
عمر وعثمان معا لأن إمامتهما مبينة على إمامة أبي بكر وصحة اختياره لأن
طريقهم إلى إمامة عمر من وجهين:
أحدهما: بنص أبي بكر، والآخر رضا الجماعة الذين تنعقد
الإمامة عندهم به والوجه الأول مبني على صحة إمامة أبي بكر حتى يكون
عهده وعقده مؤثرين، فما أبطل إمامة أبي بكر مبطل لهذا الوجه.
والوجه الثاني: مبني على أن العقد لواحد بخمسة به يصير إماما
وذلك أيضا مبني على صحة الاختيار وصحة إمامة أبي بكر، وأن إمامته
انعقدت على هذا الوجه، وقد تكلمنا على إبطال كل ذلك فبطل ما هو
مبني عليه وإمامة عثمان أيضا مبنية على الوجه الأخير فما أفسده يفسدها ولم
يحل صاحب الكتاب من كلامه على أن عمر يصلح للإمامة إلا على ما
ذكره في أبي بكر من الآيات والأخبار وغيرها، وقد تكلمنا في ذلك بما فيه
كفاية فلا معنى لتتبع ما أورده في هذا الفصل بأكثر من هذه الجملة الكافية



(1) اختصر المرتضى هذا الفصل مع أنه في المغني يقع في ست صفحات.
171
فصل
في تتبع كلامه وجوابه عن المطاعن على عمر (1)
قال صاحب الكتاب: " أحد (2) ما طعن به عليه، قولهم: إنه بلغ
من قلة علمه أنه لم يعلم أن الموت يجوز على النبي صلى الله عليه وآله
وسلم، وأنه أسوة (3) الأنبياء في ذلك حتى قال ذلك اليوم: والله ما مات
محمد، ولا يموت حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم، فلما تلا عليه أبو بكر
قوله تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون) (4) وقوله تعالى: (وما محمد إلا
رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على
أعقابكم)... (5) قال: أيقنت بوفاته، وكأني لم أسمع هذه الآية، فلو
كان يحفظ القرآن، أو يكفر فيه لما قال ذلك. وهذا يدل على بعده من
حفظ القرآن، ومن هذا حاله لا يجوز أن يكون إماما ".
ثم قال: " وهذا لا يصح، وذلك لأنه روي عنه أنه قال: كيف



(1) نقل ابن أبي الحديد هذا الفصل في الجزء الثاني عشر من شرح نهج البلاغة
ص 195 فما بعدها مع تفاوت يسير في بعض الحروف والكلمات نشير إلى المهم منها
برمز - ش.
(2) ش " أول ما طعن به ".
(3) الأسوة: القدوة.
(4) الزمر / 30.
(5) آل عمران / 144.
173
يموت وقد قال الله تعالى: (ليظهره على الدين كله) (1) وقال:
(وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) (2) ولذلك نفى موته عليه السلام، لأنه
حمل الآية على أنها خبر عن ذلك في حال حياته، حتى قال أبو بكر: إن
الله قد وعده بذلك وسيفعله، وتلا عليه ما تلا فأيقن عند ذلك بموته،
وإنما ظن أن موته يتأخر عن ذلك الوقت، لا أنه منع من موته.
ثم قال: " فإن قيل: فلم قال لأبي بكر عند قراءة الآية: كأني لم
أسمعها ووصف نفسه بأنه أيقن بالوفاة! ".
وأجاب بأن قال: " لما كان الوجه في ظنه ما أزال أبو بكر فيه
الشبهة جاز أن يتيقن ".
ثم سأل نفسه عن سبب يقينه فيما لا يعلم إلا بالمشاهدة.
وأجاب: " بأن قرينة الحال عند سماع الخبر أفادته اليقين، ولو لم يكن في
ذلك إلا خبر أبي بكر، وادعاؤه لذلك والناس مجتمعون، لحصل اليقين،
وقوله: كأني لم أقرأ هذه الآية، ولم أسمعها تنبيه عن ذهابه (3) عن
الاستدلال بها لا أنه على الحقيقة لم يقرأها ولم يسمعها، ولا يجب فيمن
ذهب عن بعض أحكام الكتاب أن يكون لا يعرف القرآن لأن ذلك لو دل
لوجب أن لا يحفظ القرآن إلا من يعرف جميع أحكامه ".
ثم ذكر: " أن حفظ جميع القرآن غير واجب، ولا يقدح الاخلال
به في الفضل ".
وحكي عن أبي علي: " أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يحط علمه



(1) التوبة / 33.
(2) النور / 55.
(3) ش " على ذهوله ".
174
بجميع الأحكام. ولم يمنع ذلك من فضله، واستدل بما روي حديثا من
قوله: " كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله حديثا نفعني
الله به ما شاء أن ينفعني، وإذا حدثني غيره أحلفته، فإن حلف لي
صدقته، وحدثني أبو بكر، وصدق أبو بكر، وذكر أنه عليه السلام لم
يعرف أي موضع يدفن رسول الله صلى الله عليه وآله فيه حتى رجع إلى ما
رواه أبو بكر، وذكر قصة الزبير في موالي صفية، وأن أمير المؤمنين عليه
السلام أراد أن يأخذ ميراثهم كما أن عليه أن يحمل عقلهم (1) حتى أخبره
عمر بخلاف ذلك من أن الميراث للأب والعقل على العصبة ".
ثم سأل نفسه فقال: " كيف يجوز ما ذكرتموه على أمير المؤمنين عليه
السلام مع قوله: " سلوني قبل أن تفقدوني " وقوله: " إن ها هنا علما
جما " يومي إلى قلبه، وقوله: " لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين أهل
التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم. وبين أهل الزبور
بزبورهم، وبين أهل القرآن بقرآنهم " وقوله: " كنت إذا سألت أجبت
وإذا سكت ابتديت (2) ".
وأجاب عن ذلك ب‍ " أن هذا إنما يدل على عظم المحل في العلم
من غير أن يدل على الإحاطة بالجميع ".
وحكي عن أبي علي استبعاده ما روي من قوله: " لو ثنيت لي
الوسادة " إلى آخر الخبر، قال: (لأنه لا يجوز أن يصف نفسه بأنه يحكم
بما لا يجوز، ومعلوم أنه عليه السلام لا يحكم بين الجميع إلا بالقرآن،



(1) العقل - بسكون ثانية - الدية، وعقل عن فلان إذا أدى عنه جنايته.
(2) يعني إذا سأل النبي صلى الله عليه وآله أجابه، وإذا أمسك عن السؤال
ابتداه.
175
ثنيت له الوسادة أو لم تثن، وذلك يدل على أن هذا الخبر موضوع) (1)
يقال له: ليس يخلو خلاف عمر في وفاة رسول الله صلى الله عليه
وآله من أن يكون على سبيل الانكار لموته على كل حال، والاعتقاد بأن
الموت لا يجوز عليه على كل وجه، أو يكون منكرا لموته في تلك الحال،
من حيث لم يظهر دينه على الدين كله، وما أشبه ذلك مما قال صاحب
الكتاب: (إنها كانت شبهة في تأخر موته عن تلك الحال).
فإن كان الوجه الأول، فهو مما لا يجوز خلاف العقلاء في مثله،
والعلم بجواز الموت على سائر البشر لا يشك فيه عاقل، والعلم من دينه
عليه السلام بأنه سيموت كما مات من قبله ضروري، وليس يحتاج في مثل
هذا إلى الآيات التي تلاها أبو بكر، من قوله تعالى: (إنك ميت وإنهم
ميتون) وما أشبهها.
وإن كان خلافه على الوجه الثاني، فأول ما فيه أن هذا الخلاف لا
يليق بما احتج به أبو بكر من قوله تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون) (2)
لأنه لم ينكر على هذا جواز الموت، وإنما خالف في تقدمه، وقد كان يجب
أن يقول له: وأي حجة في هذه الآيات على من جوز عليه صلى الله عليه
وآله الموت في المستقبل، وأنكره في هذه الحال!
وبعد، فكيف دخلت الشبهة البعيدة على عمر من بين سائر
الخلق! ومن أين زعم أنه لا يموت حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم!
وكيف حمل معنى قوله تعالى: (ليظهره على الدين كله) وقوله:



(1) كل ما نقله المرتضى ملتقط من الصفحات 9 - 12 من ق 2 ج 20 من
المغني.
(2) الزمر / 30.
176
(وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا) على أن ذلك لا يكون في المستقبل بعد
الوفاة! وكيف لم يخطر هذا لعمر وحده، ومعلوم أن ضعف الشبهة إنما
يكون من ضعف الفكرة، وقلة التأمل والبصيرة! وكيف لم يوقن بموته لما
رأى ما عليه أهل الاسلام من اعتقاد موته، وما ركبهم من الحزن والكآبة
لفقده، وهلا دفع بهذا اليقين ذلك التأويل البعيد، فلم يحتج إلى موقف
ومعرف، وقد كان يجب - إن كانت هذه شبهة - أن يقول في حال مرض
الرسول صلى الله عليه وآله: وقد رأى من جزع أهله وأصحابه وخوفهم
عليه الوفاة حتى يقول أسامة بن زيد معتذرا من تأخره (1) عن الخروج في
الجيش الذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله يكرر ويردد الأمر حينئذ
بتنفيذه: لم أكن لأسأل عنك الركب، -: ما هذا الجزع والهلع وقد أمنكم
الله بكذا وكذا من وجه كذا، وليس هذا من أحكام الكتاب التي يعذر من
لا يعرفها على ما ظنه صاحب الكتاب.
فأما ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام من خبر الاستحلاف في
الأخبار، فقد بينا في صدر هذا الكتاب الكلام عليه، ودللنا على أنه غير
مقتض لذهاب بعض الأخبار عليه من حيث يجوز أن يكون استحلافه
ليرهب المخبر ويخوفه من الكذب على النبي صلى الله عليه وآله، لأن
العلم بصحة الحكم الذي يتضمنه الخبر لا يقتضي صدق المخبر، وذكرنا
أيضا أنه لا تاريخ لهذا الخبر، ويمكن أن يكون استحلافه عليه السلام في
الأخبار (2) إنما كان في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وفي تلك الحال لم
يكن محيطا بجميع الأحكام (3).



(1) ش " من تباطئه ".
(2) ش " الرواة ".
(3) انظر شرح نهج البلاغة ج 2 / 41 و 42 و ج 12 / 195 - 200.
177
فأما حديث الدفن، وإدخاله في باب أحكام الدين التي يجب
معرفتها، فطريف وقد يجوز أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام سمع
من النبي صلى الله عليه وآله في باب الدفن مثل ما سمع أبو بكر، وكان
عازما على العمل به، حتى روى أبو بكر ما رواه فعمل بما كان يعلمه لا
من طريق أبي بكر وظن الناس أن العمل لأجله، ولم يكن ذلك كذلك
ويجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وآله خبر وصيه في موضع دفنه ولم
يعين له موضعا بعينه، فلما روى أبو بكر ما روى رأى موافقته، فليس في
هذا دلالة على أنه عليه السلام استفاد حكما لم يكن عنده
فأما موالي صفية فقد تقدم قولنا في شأنهم، وبطلان ما ظنه صاحب
الكتاب في قصتهم [وليس سكوته حيث سكت عند عمر رجوعا عما أفتى
به، ولكنه كسكوته عن كثير من الحق تقية ومداراة للقوم (1)]
وأما قوله عليه السلام: (سلوني قبل أن تفقدوني) وقوله: (إن ها
هنا لعلما جما) إلى غير ذلك فإنه لا يدل على عظم المحل في العلم فقط،
على ما ظنه صاحب الكتاب، بل هو قول واثق بنفسه، آمن من أن يسأل
عما لا يعلمه، وكيف يجوز أن يقول مثله على رؤس الاشهاد، وظهور
المنابر: (سلوني قبل أن تفقدوني) وهو يعلم أن كثيرا من الأحكام في
الدين يعزب (2) عنه، وأين كان أعداؤه، والمنتهزون لفرصته وزلته عن
سؤاله عن مشكل المسائل، وغوامض الأحكام، والأمر في هذا ظاهر.
فأما استبعاد أبي علي لما روي عنه عليه السلام: (لو ثنيت لي



(1) الزيادة من (شرح نهج البلاغة).
(2) عزب - بالمهملة والزاي - أي بعد وهي مثل غرب - بالمعجمة والراء -
معنى ووزنا.
178
الوسادة) للوجه الذي ظنه، فمن بعيد الاستبعاد، لأنه لم يفطن لغرضه
عليه السلام، وإنما أراد كنت أقاضيهم إلى كتبهم الدالة على البشارة بنبينا
صلى الله عليه وآله، وصحة شرعه، فأكون حاكما - حينئذ - عليهم بما
تقتضيه كتبهم من هذه الشريعة وأحكام هذا القرآن، وهذا من أحسن
الأغراض وجليلها وعظيمها في العلم.
قال صاحب الكتاب: (شبهة لهم أخرى، وأحد ما طعنوا به على
عمر أنه أمر برجم حامل حتى نبهه معاذ (1) وقال له: إن يكن لك سبيل
عليها، فلا سبيل لك على ما في بطنها فرجع عن حكمه وقال: لولا معاذ
لهلك عمر، قالوا: ومن يجهل هذا القدر لا يجوز أن يصير إماما، لأنه
يجري مجرى أصول الشرع، بل العقل يدل على ذلك، لأن الرجم عقوبة، ولا
يجوز أن يعاقب من لا يستحق).
ثم قال: (وهذا غير لازم، لأنه ليس في الخبر أنه أمر برجمها مع
علمه بأنها حامل، لأنه ليس ممن يخفى عليه هذا القدر، وهو أن الحامل
لا ترجم حتى تضع، وإنما ثبت عنده زناها فأمر برجمها على الظاهر، وإنما
قال ما قال في معاذ لأنه نبهه على أنها حامل).
ثم قال: (فإن قيل إذا لم تكن منه معصية فكيف يهلك لولا
معاذ!)
وأجاب عن ذلك - ب‍ (أنه لم يرد: لهلك من جهة العذاب، وإنما أراد:
أنه كان يجري بقوله قتل من لا يستحق القتل كما يقال للرجل هلك من
الفقر إذ افتقر وصار الفقر سببا لهلاكه (2) ويجوز أن يريد بذلك تقصيره في



(1) الإصابة 3 / 427، وفتح الباري 12 / 120.
(2) في المغني " إذ افتقر وصار سببا لقتل الخطأ " ولا يخفى الخلل في العبارة.
179
تعرف حالها، لأن ذلك لا يمتنع أن يكون خطيئة وإن صغرت، (1)...)
يقال له: ما تأولت به في الخبر من التأويل البعيد، لأنه لو كان الخبر
على ما ظننته لم يكن تنبيه معاذ له على هذا الوجه، بل كان يجب أن ينبهه
بأن يقول له: هي حامل، ولا يقول له: إن كان لك سبيل عليها، فلا
سبيل لك على ما في بطنها، لأن هذا القول من عنده أنه أمر برجمها مع
العلم بأنها حامل، وأقل ما يجب لو كان الأمر على ما ظنه صاحب الكتاب
أن يقول لمعاذ: ما ذهب علي أن الحامل لا ترجم، وإنما أمرت برجمها
لفقد علمي بحملها، فكان ينفي بهذا القول عن نفسه الشبهة، وفي
إمساكه عنه مع شدة الحاجة إليه دليل على صحة قولنا، وقد كان يجب
أيضا أن يسأل عن الحمل لأنه أحد الموانع من الرجم، فإذا علم
ارتفاعه (2) أمر بالرجم، وصاحب الكتاب قد اعترف بأن ترك المسألة عن
ذلك تقصير وخطيئة، وادعى أنها صغيرة، ومن أين له ذلك ولا دليل
يدل عنده في غير الأنبياء عليهم السلام أن معصية عنده صغيرة.
فأما إقراره بالهلاك لولا تنبيه معاذ فهو يقتضي التعظيم والتفخيم
لشأن الفعل، ولا يليق ذلك إلا بالتقصير الواقع، أما في الأمر برجمها مع
العلم بأنها حامل، أو ترك البحث عن ذلك والمسألة عنه، وأي لوم عليه
في أنه كان يجري بقوله قتل من لا يستحق القتل إذا لم يكن عن تفريط منه
ولا تقصير.
قال صاحب الكتاب: (شبهة لهم أخرى، واحد ما طعنوا به في
ذلك خبر المجنونة التي أمر برجمها فنبهه أمير المؤمنين عليه السلام،



(1) المغني 20 ق 2 / 12.
(2) أي الحمل.
180
وقال: " إن القلم (1) مرفوع عن المجنون حتى يفيق " فقال: " لولا علي
لهلك عمر " وذلك يدل على أنه لم يعرف الظاهر من الشريعة).
ثم قال: (وهذا غير لازم لأنه ليس في الخبر أنه عرف جنونها،
فيجوز أن يكون الذي نبه عليه جنونها دون الحكم، لأنه كان يعلم أن في
حال الجنون لا يقام الحد، وإنما قال: " لولا علي لهلك عمر " لا من جهة
المعصية والإثم، لكن من جهة أن حكمه لو نفذ لعظم غمه، ويقال في
شدة الغم: إنه هلاك كما يقال في الفقر وغيره هلاك، وذلك مبالغة منه لما
كان يلحقه من الغم الذي زال بهذا التنبيه. على أن هذا الوجه مما لا يمتنع
في الشريعة أن يكون صحيحا، وأن يقال: إذا كانت مستحقة للحد
فإقامته عليها تصح، وإن لم يكن لها عقل، لأنه لا يخرج الحد من أن
يكون واقعا موقعه، ويكون قوله عليه السلام: (رفع القلم عن ثلاث)
يراد بذلك زوال التكليف عنهم دون زوال إجراء الحكم عليهم، ومن هذا
حاله لا يمتنع أن يكون مشتبها فيرجع فيه إلى غيره، فلا يكون الخطأ فيه
مما يعظم فيمنع من صحة الإمامة (2)...)
يقال له: الكلام في هذا يقرب من الخبر الذي تقدمه، لأنه لو كان أمر برجم
المجنونة من غير علم بجنونها لما قال له أمير المؤمنين عليه السلام: " أما
علمت أن القلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق! " بل كان يقول له بدلا
من ذلك: هي مجنونة، ولكان أيضا لما سمع من التنبيه له على ما يقتضي



(1) في المغني " العلم " وقال المعلق: " لعله الحد " وإذا خفي حديث رفع
القلم مع اشتهاره على المحقق الفاضل فتمحل التوجيه فكيف خفي على الدكتور طه
حسين وقد راجع الكتاب وعلى شيخ الأزهر وقد أشرف عليه!!
(2) المغني 20 ق 2 / 13.
181
الاعتقاد فيه أنه أمر برجمها مع العلم بجنونها يقول متبرئا عن الشبهة: ما
علمت بجنونها، ولست ممن يذهب عليه أن المجنون لا يرجم واستعظامه
لما أمر به (1) وقوله: " لولا علي لهلك عمر " يدل على أنه كان تأثم وتحرج
بوقوع الأمر بالرجم، وأنه مما لا يجوز ولا يحل له أن يأمر به، وإلا فلا
معنى لهذا الكلام.
أما ذكره الغم، فأي غم كان يلحقه إذا فعل ما له أن يفعله! ولم
يكن منه تقصير ولا تفريط، لأنه إذا كان جنونها لم يعلم به، وكانت
المسألة عن حالها والبحث لا يجبان عليه، فأي وجه لتألمه وتوجعه،
واستعظامه لما فعله! وهل هذا إلا كرجم المشهود عليه بالزنا في أنه لو ظهر
للإمام بعد ذلك براءة ساحته (2) لم يجب أن يندم على فعله ويستعظمه، لأنه
وقع صوابا مستحقا.
فأما قوله: (كان لا يمتنع في العقل أن يقام على المجنون الحد)
وتأوله الخبر المروي بما يقتضي زوال التكليف دون الأحكام، فإن أراد أنه
لا يمتنع في العقل (3) أن يقام على المجنون ما هو من جنس الحد بغير
استخفاف ولا إهانة فذلك صحيح، كما يقام على التائب، وأما الحد في
الحقيقة فهو الذي يضامه (4) الاستخفاف والإهانة فلا يقام إلا على المكلفين
ومستحقي العقاب، وبالجنون قد زال التكليف فزال استحقاق العقاب
الذي يتبعه الحد.



(1) ش " فلما رأيناه استعظم ما أمر به "
(2) غ " سابقة ".
(3) الشرع خ ل.
(4) يضامه: أي يضم إليه.
182
وقوله: " لا يمتنع أن يرجع فيما هذا حاله من المشتبه إلى غيره "
فليس هذا من المشتبه الغامض، بل يجب أن يعرفه العوام فضلا عن
العلماء، على أنا قد بينا أن الإمام لا يجوز أن يرجع إلى غيره في جلى ولا
مشتبه من أحكام الدين.
وقوله: (إن الخطأ في ذلك لا يعظم فيمنع من صحة الإمامة) فقد
بينا أنه اقتراح بغير حجة، لأنه إذا اعترف بالخطأ فلا سبيل إلى القطع على
أنه صغير.
قال صاحب الكتاب - بعد أن ذكر الطعن بمفارقة جيش أسامة
وأحال على ما تقدم مما قد تكلمنا عليه وبينا ما فيه مما لا حاجة بنا إلى
إعادته (شبهة أخرى لهم قال: وأحد ما طعنوا به حديث أبي العجفاء (1) وأنه
منه من مغالاة الصداق في النساء (2) اقتداء بما كان من النبي صلى الله
عليه وآله وسلم في صداق فاطمة عليه السلام حتى قامت المرأة ونبهته
بقوله تعالى: (وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) (3) على جواز
ذلك فقال: " كل الناس أفقه من عمر ".
وبما روي أنه تسور على قوم ووجدهم على منكر، فقالوا له إنك
أخطأت من جهات تجسست وقال الله تبارك وتعالى: (ولا



(1) أبو العجفاء هرم بن نسيب السلمي تابعي يروي عن عمر بن الخطاب
عداده في أهل البصرة روى عنه محمد بن سيرين أورده ابن حبان في كتاب الثقاة
(تاج العروس 8 / 190 مادة " عجف "..)
(2) في ش " في صدقات النساء ".
(3) النساء 20.
183
تجسسوا) (1) ودخلت بغير أذن ولم تسلم، وأجاب عن ذلك بأن قال:
(علمنا بتقدم عمر في العلم وفضله فيه (2) ضروري فلا يجوز أن يقدح فيه
بأخبار آحاد غير مشهورة (3) وإنما أراد في المهور أن المستحب
الاقتداء (4) برسول الله صلى الله عليه وآله وأن المغالاة فيها ليس
بمكرمة، ثم عند التنبيه علم أن ذلك مبني على طيب النفس، فقال ما قال
على جهة التواضع، لأن من أظهر الاستفادة من غيره وإن قل علمه فقد
تعاطي الخضوع، ونبه على أن طريقته أخذ الفائدة أينما وجدها وصير نفسه
قدوة في ذلك وأسوة، وذلك يحسن من الفضلاء.
فأما حديث التجسس (5) فإن فعله فقد كان له ذلك. لأن للإمام أن
يجتهد في إزالة المنكر بهذا الجنس من الفعل، وإنما لحقه على ما يروي في
الخبر الخجل " لأنه لم يصادف الأمر على ما ألقي إليه في إقدامهم على
المنكر، (6)...).
يقال له: أما تعويلك على العلم الضروري بكونه من أهل العلم
والاجتهاد فذلك لا ينفعك إذا صح لأنه قد يذهب على من هو بهذه الصفة
كثير من الأحكام حتى ينبه عليها، أو يجتهد فيها وليس العلم الضروري
ثابتا بأنه عالم بجميع أحكام الدين فيكون قاضيا على هذه الأخبار.



(1) الحجرات 12.
(2) غ " وما كان فيه من الاجتهاد في المسائل والتنبيه وغير ذلك ضروري ".
(3) غ " مشهورة النقل ".
(4) غ " وأما حديث المهور فإنما أراد أن المستحب الاقتداء ".
(5) غ " فأما ما روي من حديث التجسس ".
(6) المغني 20 ق 2 / 14.
184
فأما تأوله الحديث، وحمله إياه على الاستحباب، فهو دفع للعيان
لأن المروي أنه منع من ذلك وحظره حتى قالت له المرأة ما قالت، ولو كان راغبا عن
المغالاة وغير حاظر لها (1) - لما كان في الآية حجة عليه ولا كان
لكلام المرأة موقع ولا كان يعترف لها بأنها أفقه منه بل كان الواجب أن يرد
عليها ويوبخها ويعرفها أنه ما حظر ذلك، وإنما تكون الآية حجة عليه لو
كان حاظرا مانعا.
فأما التواضع فلا يقتضي إظهار القبيح، وتصويب الخطأ ولو كان
الأمر على ما توهمه صاحب الكتاب لكان هو المصيب والمرأة مخطئة فكيف
يتواضع بكلام يوهم أنه المخطي وهي المصيبة.
فأما التجسس فهو محظور بالقرآن والسنة، وليس للإمام أن يجتهد
فيما يؤدي إلى مخالفة الكتاب والسنة، وقد كان يجب إن كان هذا عذرا
صحيحا أن يعتذر به إلى من خطأه في وجهه، وقال له: إنك أخطأت
السنة من وجوه فإنه بمعاذير نفسه أعلم من صاحب الكتاب، وتلك الحال
تدعو إلى الاحتجاج وإقامة العذر وكل هذا تلزيق وتلفيق. (2)
قال صاحب الكتاب: (شبهة لهم أخرى وأحد ما طعنوا به ونقموا عليه أنه
كان * يعطي من بيت المال ما لا يجوز (3) حتى * كان يعطي عائشة وحفصة عشرة
آلاف درهم في كل سنة وبأنه حرم أهل البيت خمسهم الذي يجري مجرى
الواصل إليهم من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وأنه كان عليه
ثمانون ألف درهم من بيت المال على سبيل القرض وأجاب عن ذلك بأن



(1) حاظر لها: أي مانع.
(2) التلزيق هنا - الترقيع، والتلفيق، الأصل فيه أن يضم شقة من الثوب
إلى أخرى فيخيطهما، والمراد هنا زخرفة الكلام من غير تحقق.
(3) ما بين النجمتين ساقط من " المغني ".
185
دفعه إلى الأزواج من حيث ظن أن لهن حقا في بيت المال، وللإمام أن يدفع
ذلك على قدر ما يراه، وهذا الفعل مما قد فعله من قبله ومن بعده ولو كان
منكرا (1) لما استمر عليه أمير المؤمنين عليه السلام وقد ثبت استمراره
عليه، ولو كان ذلك طعنا لوجب إذا كان يدفع إلى الحسن والحسين عليهما
السلام وعبد الله بن جعفر وغيرهم من بيت المال أن يكون في حكم الخائن
وكل ذلك يبطل ما قالوه لأن بيت المال إنما يراد لوضع الأموال في حقها ثم
الاجتهاد إلى المتولي للأمر في القلة والكثرة.
فأما أمر الخمس فمن باب الاجتهاد، وقد اختلف الناس فيه فمنهم من
جعله حقا لذوي القربى وسهما مفردا لهم على ما يقتضيه ظاهر الآية ومنهم
من جعله حقا لهم من جهة الفقر وأجراهم مجرى غيرهم، وإن كانوا قد
خصوا بالذكر كما أجرى الأيتام وإن خصوا بالذكر مجرى غيرهم في أنهم
يستحقون بالفقر، والكلام في ذلك يطول فلم يخرج بما حكم به عن
طريق الاجتهاد، ومن قدح في ذلك فإنما يقدح في الاجتهاد الذي هو
طريقة جميع الصحابة على ما قدمناه من قبل.
فأما اقتراضه من بيت المال فإن صح فهو غير محظور، بل ربما
كان (2) أحوط إذا كان على ثقة من رده بمعرفة الوجه الذي يمكنه منه الرد،
وقد ذكر الفقهاء ذلك وقال أكثرهم إن الاحتياط في مال الأيتام وغيرهم أن
يجعل في ذمة الغني المأمون لبعده عن الخطر ولا فرق بين أن يقرض الغير أو
يقترض ومن بلغ من أمره أن يطعن على عمر بمثل هذه الأخبار مع ما يعلم
من سيرته وتشدده في ذات الله واحتياطه فيما يتصل بملك الله وتنزيهه



(1) غ " لو كان مستنكرا ".
(2) غ " كان أحوط، وعن الخطر أبعد إذا كان على ثقة من نفسه من رده ".
186
عنه (1) حتى فعل بالصبي الذي أكل من تمر الصدقة واحدة ما فعل به
وحتى كان يرفع نفسه عن الأمر الخطير (2) ويتشدد على كل أحد حتى على
ولده فقد أبعد في القول والمطاعن... (3)).
يقال له: أما تفضيل الأزواج فإنه لا يجوز لأنه لا سبب فيهن
يقتضي ذلك، وإنما يفضل الإمام في العطاء ذي الأسباب المقتضية لذلك
مثل الجهاد وغيره من الأمور العام نفعها للمسلمين وقوله: (إن لهن حقا
في بيت المال) صحيح إلا أنه لا يقتضي تفضيلهن على غيرهن وما عيب
بدفع حقهن وإنما عيب بالزيادة عليه وما نعلم أن أمير المؤمنين عليه السلام
استمر على ذلك وإن كان صحيحا كما ادعى فالمسبب الداعي إلى
الاستمرار على جميع الأحكام.
فأما تعلقه بدفع أمير المؤمنين عليه السلام إلى الحسن والحسين
عليهما السلام وغيرها من بيت المال فعجيب لأنه لم يفضل هؤلاء في العطية
فيشبه ما ذكرناه في الأزواج وإنما أعطاهم حقوقهم وسوى بينهم وبين
غيرهم.
فأما الخمس فهو للرسول صلى الله عليه وآله ولأقربائه على ما
نطق به القرآن وإنما عني تعالى بقوله: (ولذي القربى واليتامى والمساكين
وابن السبيل) (4) من كان من آل الرسول صلى الله عليه وآله
خاصة لأمور (5) كثيرة لا حاجة بنا إلى ذكرها ها هنا وقد روى سليم بن



(1) غ " بمال الله، وتنزهه وبعده عنه ".
(2) ش " الأمر الحقير ".
(3) المغني 20 ق 2 / 15 - 16.
(4) الأنفال 41.
(5) ش " لأدلة كثيرة ".
187
قيس الهلالي قال سمعت أمير المؤمنين عليه السلام يقول " نحن والله الذين عني
الله بذي القربى الذين قرنهم الله بنفسه وبنبيه صلى الله عليه وآله
فقال: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي
القربى واليتامى والمساكين) (1) وكل هؤلاء منا خاصة لم يجعل لنا سهما في
الصدقة أكرم الله تعالى بها نبيه. صلى الله عليه وآله وأكرمنا أن يطعمنا
أوساخ ما في أيدي الناس " وروى يزيد بن هرمز (2) قال كتب نجدة إلى ابن
عباس يسأله عن الخمس لمن هو؟ قال: فكتب إليه كتبت تسألني عن
الخمس لمن هو؟ وإنا كنا نزعم أنه لنا فأبى قومنا علينا بذلك فصبرنا
عليه، والكلام في هذا الباب يطول ولا حاجة بنا إلى تقصيه هاهنا.
وأما الاجتهاد الذي عول عليه وجعله عذرا في إخراج الخمس عن
أهله قد أبطلناه.
فأما الاقتراض من بيت المال فهو مما يدعوا إلى الريبة والتهمة ومن
كان من التشدد والتحفظ والتعفف (3) على الحد الذي ذكره فكيف تطيب
نفسه بالاقتراض من بيت المال وفيه حقوق وربما مست الحاجة إلى الاخراج
فيها وأي حاجة لمن كان متقللا خشنا جشب المأكل خشن الملبس يتبلغ
بالقوت إلى اقتراض الأموال فأما حكايته عن الفقهاء أن الاحتياط أن يجعل
أموال الأيتام في ذمة الغني المأمون، فذلك إذا صح لم يكن نافعا لأن عمر
لم يكن غنيا ولو كان غنيا لما اقترض وقد خرج اقتراضه عن أن يكون من
باب الاحتياط، وإنما شرط الفقهاء مع الإمامة الغنى لئلا تمس الحاجة
إليه، فلا يمكن ارتجاعه ولهذا قلنا إن اقتراضه لحاجته إلى المال لم يكن



(1) الحشر: 7.
(2) " يزيد بن هرم ".
(3) خ " التقشف ".
188
صوابا وحسن نظر للمسلمين وفي هذه الجملة كفاية.
قال صاحب الكتاب: (شبهة أخرى لهم (1) وأحد ما نقموا عليه
قولهم: إنه عطل حد الله تعالى في المغيرة بن شعبة لما شهدوا عليه بالزنا،
ولقن الشاهد الرابع الامتناع من الشهادة اتباعا لهواه، فلما فعل ذلك عاد
إلى الشهود فحدهم وضربهم، فتجنب أن يفضح المغيرة وهو واحد وفضح
الثلاثة مع تعطيله لحكم الله تعالى ووضعه الحد في غير موضعه) وأجاب
عن ذلك (أنه لم يعطل الحد إلا من حيث لم تكمل الشهادة وإرادة الرابع
لأن يشهد لا تكمل البينة وإنما تكمل الشهادة) وذكر (أن قوله أرى وجه
رجل لا يفضح الله به رجلا من المسلمين يجري في أنه سائغ صحيح مجرى
ما روي عنه عليه السلام من أنه أتي بسارق فقال له: (لا تفر) وقال
لصفوان بن أمية لما أتاه بالسارق وأمر بقطعه فقال: (هي له) (2) يعني
ما سرق (هلا قبل أن تأتيني (3) به) فلا يمتنع من عمر أن يجيب ألا تكمل
الشهادة، وينبه الشاهد على لا يشهد) وذكر (أن له أن يجلد الثلاثة
من حيث صاروا قذفة وأنه ليس حالهم وقد شهدوا كحال من لم تتكامل
الشهادة عليه، لأن الحيلة في إزالة الحد عنه ولما تكاملت الشهادة ممكنة
بتنبيه وتلقين ولا حيلة فيما قد وقع من الشهادة، فلذلك حدهم) قال:
(وليس في إقامة الحد عليهم من الفضيحة ما في تكامل الشهادة على المغيرة
لأنه يتصور بأنه زان، ويحكم بذلك، وليس كذلك حال الشهود، لأنهم
لا يتصورون بذلك وإن وجب في الحكم أن يجعلوا في حكم القذفة)
وحكي عن أبي علي أن الثلاثة كان القذف قد تقدم منهم للمغيرة بالبصرة



(1) عبارة " شبهة أخرى لهم " ساقط من " الشافي " وأعدناها من " المغني ".
(2) أي صفوان.
(3) أي هلا كان قولك قبل أن تأتيني به.
189
[واشتهر لما خرج للصلاة بهم (1) لأنهم صاحوا به من نواحي المسجد بأنا نشهد بأنك
زان فلو لم يعيدوا الشهادة لكان يحدهم لا محالة فلم يمكن في إزالة الحد
عنهم ما أمكن في المغيرة] وحكي عن أبي علي في جواب اعتراضه على
نفسه بما روي عن عمر أنه كان إذ رآه يقول لقد خفت أن يرميني الله عز
وجل بحجارة من السماء أن هذا الخبر غير صحيح ولو كان حقا لكان
تأويله التخويف وإظهاره قوة الظن بصدق القوم لما شهدوا عليه ليكون
ردعا له وذكر أنه غير ممتنع أن يجب أن لا يفضح لما كان متوليا للبصرة من
قبله ثم أجاب عن سؤال من سأله عن امتناع زياد من الشهادة، (وهل
يقتضي الفسق أم لا) بأن قال: (لا يعلم أنه كان يتم الشهادة ولو علمنا
ذلك لكان من حيث ثبت في الشرع أن له السكوت لا يكون طعنا، ولو
كان ذلك طعنا وقد ظهر أمره لأمير المؤمنين لما ولاه، فارس ولما ائتمنه
على أموال الناس وعلى دمائهم) (2).
يقال له: إنما نسب عمر إلى تعطيل الحد من حيث كان في حكم
الثابت، وإنما بتلقينه لم تكمل الشهادة، لأن زيادا ما حضر إلا ليشهد بما
شهد به أصحابه، وقد صرح بذلك كما صرحوا قبل حضورهم، ولو لم
يكن هذا هكذا لما شهد القوم قبله وهم لا يعلمون حال زياد، هل حاله
في ذلك الحكم كحالهم، لكنه مجمع بالشهادة لما رأى كراهية متولي الأمر
لكمالها، وتصريحه بأنه لا يريد أن يعمل بموجبها، ومن العجايب أن
يطلب الحيلة في دفع الحد عن واحد وهو لا يندفع إلا بانصرافه إلى
ثلاثة فلو كان درء الحد والاحتيال في دفعه من السنن المتبعة فدرؤه عن
ثلاثة أولى من درئه عن واحد.



(1) ما بين المعقوفين من " المغني ".
(2) المغني 20 ق 2 / 16 و 17.
190
وقوله: (إن دفع الحد عن المغيرة ممكن ودفعه عن ثلاثة وقد شهدوا
غير ممكن) طريف لأنه لو لم يلقن الشاهد الرابع الامتناع من الشهادة لا
ندفع عن الثلاثة الحد فكيف لا تكون الحيلة ممكنة فيما ذكره؟ بل لو أمسك
عن الاحتيال في الجملة لما لحق الثلاثة حد.
وقوله: (إن المغيرة يتصور بصورة زان لو تكاملت الشهادة وفي هذا
من الفضيحة ما ليس في حد الثلاثة) غير صحيح لأن الحكم في الأمرين
واحد لأن الثلاثة إذا ما حدوا يظن بهم الكذب وإن جوزوا أن يكونوا
صادقين والمغيرة لو كملت الشهادة عليه بالزنا لظن ذلك به مع التجويز
لأن يكون الشهود كذبة وليس في أحد الأمرين إلا ما في الآخر (1)
وما روي عنه عليه السلام من أنه أتي بسارق فقال له: (لا تقر) إن
كان صحيحا لا يشبه ما نحن فيه، لأنه ليس في دفع الحد عن السارق
إيقاع غيره في المكروه، وقصة المغيرة تخالف هذا لما ذكرناه.
فأما قوله عليه السلام: (هلا قبل أن يأتيني به) فلا يشبه كل ما نحن
فيه، لأنه بين أن ذلك القول كان يسقط الحد لو تقدم، وليس فيه تلقين
يوجب إسقاط الحد.
فأما ما حكاه عن أبي علي من أن القذف من الثلاثة كان قد تقدم



(1) نقل ابن أبي الحديد كل ما أورده القاضي في هذه القضية ونفض المرتضى
له في شرح نهج البلاغة ج 12 ص 227 - 230.
وقال معقبا على ذلك بقوله: " أما المغيرة فلا شك أنه زنى بالمرأة ولكني لست
أخطئ عمر في درء الحد عنه " ثم نقل تفصيل القصة من تاريخ الطبري، والأغاني
لأبي الفرج الأصبهاني وعقب على ذلك بقوله: " إن الخبر بزناه كان شائعا مستفيضا " ثم
قال: " وإنما قلنا في أن عمر لم يخطئ في درء الحد عنه، لأن الإمام يستحب له
ذلك، وإن غلب على ظنه أنه يجب الحد عليه " ج 12 ص 241.
191
وأنهم لو لم يعيدوا الشهادة لكان يحدهم لا محالة، فغير معروف والظاهر
المروي خلافه، وهو أن حدهم عند نكول زياد عن الشهادة، وأن ذلك
كان السبب في إيقاع الحد بهم، وما تأول عليه قوله: لقد خفت أن
يرميني الله بحجارة من السماء لا يليق بظاهر الكلام، لأنه يقتضي التندم
والتأسف على تفريط وقع، ولم يخاف أن يرمي بالحجارة، وهو لم يدرء الحد
عن مستحق له، ولو أراد الردع والتخويف للمغيرة لأتى بكلام يليق
بذلك، ولا يقتضي إضافة التفريط إلى نفسه، وكونه واليا من قبله لا
يقتضي أن يدرأ عنه الحد ويعدل به إلى غيره.
وأما قوله: (إنا ما كنا نعلم أن زيادا كان يتمم الشاهد) فقد بينا
أن ذلك كان معلوما بالظاهر ومن قرأ ما روي في هذه القصة علم بلا شك
أن حال زياد كحال الثلاثة في أنه إنما حضر ليشهد، وإنما عدل عنها
لكلام عمر وقوله: (إن الشرع يبيحه السكوت) ليس بصحيح لأن
الشرع قد حظر كتمان الشهادة.
فأما استدلاله على أن زياد لم يفسق بالامساك عن الشهادة، واستدل
بتولية أمير المؤمنين له فارس فليس بشئ يعتمد لأنه لا يمتنع أن يكون قد
تاب بعد ذلك. وأظهر توبته لأمير المؤمنين عليه السلام فجاز أن يوليه،
وكان بعض أصحابنا يقول في قصة المغيرة شيئا طيبا، وإن كان معتمدا في
باب الحجة كان يقول: إن زياد إنما امتنع من التصريح بالشهادة المطلوبة
في الزنا وقد شهد أنه شاهده بين شعبها الأربع. وسمع نفسا عاليا فقد
صح على المغيرة بشهادة الأربع وجلوسه منها مجلس الفاحشة إلى غير ذلك،
من مقدمات الزنا وأسبابه، فألا ضم إلى جلد الثلاثة تعزير هذا الذي قد
صح عنده بشهادة الأربع ما صح من الفاحشة من تعريك أذن أو ما يجري
مجراه من خفيف التعزير ويسيره، وهل في العدول عن ذلك حتى كف

192
عن لومه وتوبيخه والاستخفاف به إلا ما ذكروه من السبب الذي يشهد
الحال به؟
قال صاحب الكتاب: (شبهة أخرى لهم (1) وأحد ما نقموا عليه أنه
كان يتلون في الأحكام حتى روي عنه أنه قضى في الجد بسبعين قضية،
وروي مائة قضية، وأنه كان يفضل في القسمة والعطاء وقد سوى الله
تعالى بين الجميع وأنه قال في الأحكام من جهة الرأي والحدس والظن).
وأجاب عن ذلك بأن مسائل الاجتهاد يجوز فيها الاختلاف،
والرجوع من رأي إلى رأي بحسب الإمارات وغالب الظن، وادعى أن
هذه طريقة أمير المؤمنين عليه السلام في أمهات الأولاد ومقاسمة الجد مع
الإخوة ومسألة الحرام.
قال: (وإنما الكلام في أصل القياس والاجتهاد، فإذا ثبت خرج
من أن يكون ذلك طعنا وقد ثبت أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يولي
من يرى خلافه (2) كابن عباس وشريح ولا يمنع زيد (3) وابن مسعود من
الفتيا مع الاختلاف بينه وبينهما.
فأما ما روى في السبعين قضية فالمراد به في مسائل الجد لأن مسألة
واحدة لا يوجد فيها سبعون قضية مختلفة، وليس في ذلك عيب بل يدل
على سعة علمه) (4) قال (وقد صح في زمان الرسول صلى الله عليه وآله
مثل ذلك، لأنه لما شاور في أمر الاسراء أبا بكر أشار أن لا يقتلهم،



(1) " شبهة أخرى لهم " ساقطة من الشافي.
(2) غ " خلاف رأيه ".
(3) غ " زيد بن ثابت ".
(4) في المغني " وإنما المراد بذلك الدلالة على سعة علمه وعلى كثرة ما اتفق في
مسائل الجد في أيامه ".
193
وأشار عمر بقتلهم فمدحهما جميعا، فما الذي يمنع من كون القولين صوابا
من المجتهدين، ومن الواحد في الحالين؟ وبعد فقد ثبت أن اجتهاد
الحسن عليه السلام في طلب الإمامة كان بخلاف اجتهاد الحسين عليه
السلام، لأنه سلم الأمر وتمكنه أكثر من تمكن الحسين (1) عليه السلام ولم
يمنع ذلك من كونهما مصيبين... (2)).
يقال له: لا شك أن التلون في الأحكام، والرجوع من قضاء إلى
قضاء، إنما يكون عيبا وطعنا إذا بطل الاجتهاد الذي تذهبون إليه، فأما
لو ثبت لم يكن ذلك عيبا.
فأما الدعوى على أمير المؤمنين عليه السلام أنه ينتقل في الأحكام
ورجع من مذهب إلى آخر فإنها غير صحيحة ولا نسلمه * ونحن ننازعه في
ذلك كل النزاع، ونذهب إلى دفعه أشد الدفاع وهو لا ينازعنا في تلون
صاحبه في الأحكام فلا يشتبه الأمران * (3) وأطهر ما روي في ذلك خبر أمهات
الأولاد وقد سلف من كلامنا في هذا الكتاب ما فيه كفاية، وقلنا: إن
مذهبه عليه السلام في بيعهن كان واحدا غير مختلف وإن كان قد وافق عمر
في بعض الأحوال لضرب من الرأي
فأما توليته لمن يرى خلاف رأيه، فليس ذلك لتسويغه الاجتهاد
الذي تذهبون إليه، بل لما بيناه من قبل أنه عليه السلام كان غير متمكن
من اختياره، وأنه كان يجري أكثر الأمور مجراها المتقدم للسياسة
والتدبير، وهذا السبب في أنه لم يمنع من خالفه من الفتيا.



(1) غ " من تمكن الحسين عليه السلام لما اشتد في الطلب ".
(2) المغني 20 ق 2 / 19.
(3) ما بين النجمتين ساقط من نقل ابن أبي الحديد.
194
فأما قوله: (إن السبعين قضية لم تكن في مسألة واحدة وإنما كانت في
مسائل من الجد) فكلا الأمرين واحد فيما قصدناه لأن حكم الله تعالى لا
يختلف في المسألة الواحدة والمسائل.
فأما أمر الأسارى فإن صح فإنه لا يشبه أحكام الدين المبنية على
العلم واليقين، لأنه لا سبيل لأبي بكر وعمر إلى المشورة في أمر الأسارى
إلا من طريق الظن والحسبان وأحكام الدين معلومة وإلى العلم بها سبيل.
فأما ادعاؤه من أن الاجتهاد من الحسن عليه السلام بخلاف اجتهاد
الحسين عليه السلام فليس على ما ظنه لأن ذلك لم يكن عن اجتهاد وظن
بل كان عن علم ويقين فمن أين له أنهما عليهما السلام عملا على الظن فما
نراه اعتمد على حجة ومن أين له أن تمكن الحسن عليه السلام كان أكثر
من تمكن الحسين عليه السلام على أن هذا لو كان على ما قاله لم يحسن من
هذا التسليم، ومن ذاك القتال، لأن المقاتل كان مغررا ملقيا بيديه إلى
التهلكة، والمسلم مضيعا للأمر مفرطا وإذا كان عند صاحب الكتاب
التسليم والقتال إنما كانا أصابها عن ظن وإمارات، فليس يجوز أن يغلب
الظن بأن الرأي في القتال مع ارتفاع إمارات التمكن ولا يغلب في الظن
المسالمة مع أمارات القوة والتمكن، وهذا بين لمن تدبره بعين بصيرة (1)
قال صاحب الكتاب: (شبهة لهم أخرى واحد منا طعنوا به ونقموا
عليه، قوله: (متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله
أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما) قالوا: وهذا اللفظ قبيح لو صح المعنى،



(1) هذا الفصل نقله ابن أبي الحديد عن " الشافي " في شرح نهج البلاغة ج
12 / 246 - 249 بتفاوت غير مهم في بعض الحروف والكلمات والمظنون قويا أنها
من تصرفاته.
195
فكيف إذا فسد لأنه ليس ممن يشرع فيقول هذا القول، ولأنه يوهم مساواة
الرسول صلى الله عليه وآله في الأمر والنهي [ولأنه أوهم (1)] أن
اتباعه أولى من اتباع الرسول صلى الله عليه وآله قال: (وهذا غير
لازم لأنه إنما عني بقوله: أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما، كراهية لذلك،
وتشدده فيه من حيث نهى رسول الله صلى الله عليه وآله بعد أن
كانتا في أيامه منبها بذلك على حصول النسخ فيهما، وتغير الحكم لأنا
نعلم أنه كان متبعا للرسول ومتدينا بالاسلام، فلا يجوز أن يحمل قوله على
خلاف ما تواتر من حاله) وقد حكي عن أبي علي: إن ذلك بمنزلة أن
يقول: أنا أعاقب من صلى إلى بيت المقدس، وإن كان قد صلى إلى بيت
المقدس في حياة رسول الله (2) صلى الله عليه وآله واعتمد في تصويبه
على كف الصحابة عن النكير عليه، وادعى أن أمير المؤمنين أنكر على ابن
عباس رحمه الله إحلال المتعة، وأنه روى عن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم تحريمها قال: (فأما متعة الحج فإنما أراد ما كانوا يفعلون من فسخ
الحج لأنه كان يحصل لهم عنده التمتع، لم يرد بذلك التمتع الذي يجري
مجرى تقديم العمرة وإضافة الحج إليها بعد ذلك لأنه جائز لم يقع فيه
فسخ) (3).
يقال له: ظاهر الخبر المروي عن عمر في المتعتين يبطل هذا التأويل
لأنه قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا
أنهى عنهما وأعاقب عليهما، وأضاف النهي إلى نفسه، ولو كان الرسول



(1) التكملة من " المغني "
(2) غ " وإن كان قد صلى إلى هذه القبلة في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم).
(3) المغني 20 ق 2 / 20 وعند ابن أبي الحديد " قبح " بدل " فسخ ".
196
نهى عنهما لأضاف النهي إليه، ولكان أوكد وأولى، وكان يقول: فنهى
عنهما أو نسخهما وأنا من بعده أنهى عنهما، وأعاقب عليهما، وليس يشبه
ذلك ما ذكره من الصلاة إلى بيت المقدس لأن نسخ الصلاة إلى بيت
المقدس معلوم ضرورة من دينه صلى الله عليه وآله وسلم وليس كذلك
المتعة على أنه لو قال: إن الصلاة إلى بيت المقدس كانت في أيام النبي
صلى الله عليه وآله جائزة وأنا الآن أنهى عنهما لكان ذلك قولا
قبيحا، يجري مجرى ما استقبحناه من القول الأول، وليس هذا القول منه
ردا على الرسول صلى الله عليه وآله لأنه لا يمتنع أن يكون استحسن
حظرها في أيامه لوجه لم يكن فيما تقدم واعتقد أن الإباحة في أيام الرسول
صلى الله عليه وآله كان لها شرط لم يوجد في أيامه، وقد روي عنه
أنه صرح بهذا المعنى، فقال: إنما أحل الله المتعة للناس على عهد رسول
الله صلى الله عليه وآله والنساء يومئذ قليل وكذلك روي عنه في متعة
الحج، أنه قال: قد علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد
فعلها وأصحابه ولكن كرهت أن يظلوا بهن معرسين تحت الأراك، ثم
يرجعوا بالحج تقطر رؤسهم.
فأما اعتماده على الكف عن النكير، فقد تقدم أنه ليس بحجة إلا
على شرائط شرحناها وأوضحناها ولا معنى لإعادتها، على أنه قد روي عن
عمر أنه قال بعد نهيه عن المتعة: ولا أقدر على أحد تزوج متعة إلا عذبته
بالحجارة، ولو كنت تقدمت فيها لرجمت، وما وجدنا أحدا أنكر عليه هذا
القول، لأن المتمتع عندهم لا يستحق الرجم، ولم يدل ترك النكير على
صوابه.
فأما ادعاؤه أن أمير المؤمنين عليه السلام أنكر على ابن عباس
إحلالها فالأمر بخلافه وعكسه، فقد روي عنه عليه السلام بطرق كثيرة

197
أنه كان يفتي بها وينكر على من حرمها ونهى عنها، وروي عن عمر بن
سعد الهمداني عن حبيش بن المعتمر قال: سمعت أمير المؤمنين عليه
السلام يقول لولا ما سبق من ابن الخطاب في المتعة ما زنى إلا
شقي (1) وروى أبو بصير قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر
عليهم السلام يقول: سمعت علي بن الحسين يروي عن جده أمير المؤمنين
عليه السلام يقول: (لولا ما سبقني به ابن الخطاب ما زنى إلا شقي) وقد
أفتى بالمتعة جماعة من الصحابة والتابعين كعبد الله بن عباس (2) وعبد الله
ابن مسعود (3) وجابر بن عبد الله الأنصاري (4) وسلمة بن الأكوع (5) وأبي سعيد
الخدري (6) وسعيد بن جبير (7) وابن جريج (8) ومجاهد (9) وغير من ذكرنا ممن يطول
ذكره.



(1) انظر تفسير الطبري ج 5 / 9 وكنز العمال 8 / 294.
(2) عبد الله بن عباس بن عبد المطلب حبر الأمة ولد بمكة وكف بصره في آخر
عمره فسكن الطائف وتوفي بها سنة 68 ورأي ابن عباس نقله جماعة منهم الجصاص في
أحكام القرآن، والزمخشري في الفائق 1 ك 331 وابن الأثير في النهاية 2 / 488 مادة
" شفا ".
(3) عبد الله بن مسعود الهذلي من أكابر الصحابة توفي في أيام عثمان سنة 32
وانظر صحيح، مسلم بشرح النووي 9 / 181.
(4) جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري السلمي صحابي كبير توفي
سنة 78 وانظر عمدة القاري للعيني 8 / 310 وأحكام القرآن للجصاص 2 / 178.
(5) سلمة بن عمر بن سنان الأكوع صحابي معروف غزا إفريقية أيام عثمان
توفي بالمدينة سنة 74.
(6) أبو سعيد الخدري سعد بن مالك بن سنان من أكابر الصحابة توفي سنة 74.
وانظر عمدة القارئ 8 / 310.
(7) سعيد بن جبير الأسدي بالولاء الكوفي حبشي الأصل تابعي من تلامذة
ابن عباس قتله الحجاج بواسط سنة 95.
(8) ابن جريج عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج رومي الأصل، من فقهاء
مكة مكي المولد والوفاة توفي سنة 150، وانظر تهذيب التهذيب 6 / 406.
(9) مجاهد بن جبر أبو الحجاج المكي مولى بني مخزوم تابعي مفسر توفي
سنة 104 وانظر تفسير الطبري ج 5 ص 9.
198
فأما سادة أهل البيت وعلماؤهم فأمرهم واضح في الفتيا بها كعلي
ابن الحسين زين العابدين، وأبي جعفر الباقر، وأبي عبد الله الصادق، وأبي
الحسن موسى الكاظم، وعلي بن موسى الرضا عليهم السلام.
وما ذكرنا من فتيا من أشرنا إليه من الصحابة بها يدل على بطلان ما
ذكره صاحب الكتاب من ارتفاع النكير لتحريمها لأن مقامهم على الفتيا بها
نكرة فأما متعة الحج فقد فعلها النبي صلى الله عليه وآله والناس
أجمع من بعده، والفقهاء في أعصارنا هذه لا يرونها خطأ بل صوابا.
فأما قول صاحب الكتاب: (إن عمر إنما أنكر فسخ الحج فباطل لأن
ذلك أولا لا يسمى متعة، ولأن ذلك ما فعل في أيام النبي صلى الله عليه
وآله وسلم، ولا فعله أحد من المسلمين بعده، وإنما هو من سنن
الجاهلية، فكيف يقول: متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، وكيف يغلظ ويشدد فيما لم يفعل ولا يفعل، وهذا الكلام
أضعف من أن يحتاج إلى الاكثار (1) فيه.
قال صاحب الكتاب: (شبهة لهم أخرى) ثم ذكر الطعن بقصة الشورى وأنه
خرج بها عن الاختيار والنص معا وذم كل واحد بأن ذكر فيه طعنا * ثم أهله
للخلافة بعد أن طعن فيه، وأنه * (2) جعل الأمر إلى ستة، ثم إلى أربعة ثم إلى واحد وقد
وصفه بالضعف والقصور، وقال: إن اجتمع علي وعثمان فالقول ما
قالاه، وإن صاروا ثلاثة وثلاثة فالقول للذين فيهم عبد الرحمن، لعلمه
بأن عليا وعثمان لا يجتمعان، وأن عبد الرحمن لا يكاد يعدل بالأمر عن
ختنه وابن عمه وأمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة فوق ثلاثة



(1) نقل ابن أبي الحديد كلام القاضي في المتعتين ونقض المرتضى له في شرح
نهج البلاغة ج 12 / 251 - 254 وينظر في ذلك كتاب المتعة للأستاذ توفيق الفكيكي
رحمه الله فإنه من خير ما كتب في هذا الموضوع والغدير 6 / 220 - 227.
(2) ما بين النجمتين ساقط من المغني والشافي وأعدناه من شرح النهج.
199
أيام، وأنه أمر بقتل من يخالف الأربعة منهم. والذين ليس فيهم عبد
الرحمن، فأجاب عن ذلك: (بأن الأمر الظاهرة لا يجوز أن يعترض
عليها بأخبار آحاد غير صحيحة، والأمر في الشورى ظاهر وإن الجماعة
دخلت فيها بالرضي [وكانوا يجتمعون ويتشاورون على وجه يدل على
الرضى (1)] فلا فرق بين من قال في أحدهم أنه دخل فيها إلا بالرضى
وبين من قال ذلك في جميعهم، ولذلك جعلنا دخول أمير المؤمنين عليه
السلام في الشورى أحد ما نعتمد عليه، في أن لا نص يدل على أنه
المختص بالإمامة وأطنب في أنه كان يجب أن يصرح بالنص على نفسه.
ولا يحتاج إلى ذكر فضائله ومناقبه لأن الحال حال مناظرة ولم يكن الأمر
مستقرا لواحد، ولا يمكن أن يتعلق بالتقية قال: (والمتعالم من حاله أنه لو
امتنع من الدخول في الشورى أصلا لم يلحقه الخوف فضلا عن غيره)
وذكر (أن دلالة الفعل أقوى من دلالة القول من حيث كان الاحتمال فيه
أقل)
وذكر (أن عبد الرحمن أخذ الميثاق على الجماعة بالرضا بمن يختاره)
قال:
(ولا يجب القدح في الأفعال بالظنون بل يجب حملها على ظاهر
الصحة دون الاحتمال، كما يجب مثله في الألفاظ ويجب إذا تقدمت
للفاعل حالة تقتضي حسن الظن به أن يحمل فعله على ما يطابقها).
قال: (وقد علمنا أن حال عمرو ما كان عليه من النصيحة للمسلمين
يمنع من صرف أمره في الشورى إلى الأغراض التي يظنها القوم،
فلا يصح أن يقولوا: كان مراده بالشورى بأن يجعل الأمر إلى الفرقة
التي فيها عبد الرحمن عند الخلاف أن يتم الأمر لعثمان [وينصرف عن

200
علي] (1) لأنه لو كان هذا مراده لم يكن هناك ما يمنعه عن النص على
عثمان، كما لم يمنع ذلك أبا بكر لأن أمره إن لم يكن أقوى من أمر أبي بكر
لم ينقص عنه قال: (وليس ذلك بدعة [ولا خلاف سنة (1)] لأنه إذا جاز
في غير الإمام إذا اختار [الإمام] (1) أن يفعل ذلك، بأن ينظر في أماثل
القوم فيعلم إنهم عشرة، ثم ينظر في العشرة فيعلم أن الأماثل خمسة، ثم
ينظر في واحد منهم، فما الذي يمنع من مثله في الإمام، وهو في هذا الباب
أقوى اختيارا لأن له أن يختار واحدا بعينه) وذكر (إنه إنما حصر الأمر في
الجماعة الذين انتهى إليهم الفضل وجعله شورى بينهم ثم بين أن الانتقال
من الستة إلى الأربعة، ومن الأربعة إلى الثلاثة، لا يكون مناقضا لأن
الأحوال مختلفة، وليست الحال واحدة، ولو كانت أيضا واحدة لكان
كالرجوع لأن للإمام أن يرجع في مثل ذلك لأنه في حكم الوصية) قال:
(وقولهم: أنه كان يعلم أن عليا وعثمان لا يجتمعان وأن عبد الرحمن يميل
إلى عثمان [فلذلك قال ما قال، وقد بينا أن ذلك ظن منه والظاهر من
الفعل خلافه، وقولهم: إنه كان يعلم ذلك (1)] قلة دين لأن الأمور
المستقبلة لا تعلم، وإنما يحصل فيها إمارة) وقال: (والإمارات توجب
أنه لم يكن فيهم حرص شديد على الإمامة [على وجه يقع فيه
الاختلاف] (1) بل الغالب من حالهم طلب الاتفاق والائتلاف،
والاسترواح إلى قيام الغير بذلك، وإنما جعل عمر الأمر إلى عبد الرحمن
عند الاختلاف لعلمه بزهده في الأمر وأنه لأجل ذلك أقرب إلى أن يتثبت
لأن الراغب عن الشئ يحصل له من التثبت ما لا يحصل للراغب فيه،
ومن كانت هذه حاله كان القوم إلى الرضا به أقرب) حكي عن أبي علي



(1) ما بين المعقوفين من " المغني ".
201
(إن المخادعة إنما تظن بمن قصده في الأمور طريق الفساد، وعمر برئ
من ذلك) قال: (والضعف الذي وصف به عبد الرحمن إنما أراد به
الضعف عن القيام بالإمامة لا ضعف الرأي ولذلك رد الاختيار والرأي
إليه) وحكي عن أبي علي أنه ضعف ما روي من أمره بضرب أعناق القوم إذا
تأخروا عن البيعة، وإن ذلك لو صح لأنكره القوم، ولم يدخلوا في
الشورى بهذا الشرط، ثم تأوله إذا سلم صحته على أنهم إن تأخروا عن
البيعة على سبيل شق العصا وطلب الأمر من غير وجهه، وقال: (لا
يمتنع أن يقول ذلك على طريق التهديد، وإن بعد عنده أن يقدموا عليه،
كما قال تعالى: (لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من
الخاسرين... (1)) (2).
يقال له: قد بينا فيما تقدم طرفا من الكلام في الشورى، وذكرنا أن
الذي رتبه فيها من ترتيب العدد واتفاقه واختلافه يدل على بطلان مذهب
أصحاب الاختيار في عدد العاقدين للإمامة، وأنه يتم بعقد واحد لغيره
برضى أربعة، وأنه لا يتم بدون ذلك، وقصة الشورى تصرح بخلاف
هذا الاعتبار، فهذا من وجوه المطاعن في قصة الشورى من جملتها أنه
وصف كل واحد منهم بوصف زعم أنه يمنع من الإمامة، ثم جعل الأمر
فيمن له هذه الأوصاف. وروى محمد بن سعد عن الواقدي عن محمد بن
عبد الله الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال:
قال عمر: لا أدري ما اصنع بأمة محمد صلى الله عليه وآله وذلك
قبل أن يطعن فقلت: ولم تهتم وأنت تجد من تستخلفه عليهم، قال:
أصاحبكم يعني عليا قلت: نعم والله هو لها أهل في قرابته من رسول الله



(1) الزمر / 65.
(2) نقل المرتضى كلام القاضي باختصار، وتجده كاملا في المغني 20 ق / 2
ص 21 إلى 26.
202
صلى الله عليه وآله وصهره، وسابقته، وبلائه، فقال عمر: إن
فيه بطالة (1) وفكاهة، قلت: فأين أنت عن طلحة؟ قال: فأين الزهو
والنخوة، قلت: عبد الرحمن، قال: هو رجل صالح على ضعف فيه،
قلت: فسعد، قال: ذاك صاحب مقنب (2) وقتال لا يقوم بقرية لو حمل
أمرها قلت: فالزبير قال: وعقة لقس (3) مؤمن الرضى، كافر الغضب،
شحيح، وإن هذا الأمر لا يصلح له إلا القوي
في غير عنف، رفيق في غير ضعف، جواد في غير سرف (4)، قلت: أين
أنت وعثمان؟ قال: لو وليها لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس،
ولو فعلها لقتلوه، وقد روي من غير هذا الطريق أن عمر قال لأصحاب
الشورى: روحوا إلي فلما نظر إليهم، قال: قد جائني كل واحد منهم يهز
عقيرته يرجو أن يكون خليفة أما أنت يا طلحة أفلست القائل إن قبض
النبي صلى الله عليه وآله وسلم لننكحن أزواجه من بعده فما جعل الله
محمدا بأحق ببنات أعمامنا منا، فأنزل الله فيك: (وما كان لكم أن تؤذوا



(1) البطالة - بفتح الباء -: التعطل والتفرغ عن العمل، وعلق ابن أبي الحديد
على ذلك بقوله: " لقد كان عليه السلام على قدم عظيمة من الوقار والجد، والسمت
العظيم، والهدى الرصين، ولكنه كان طلق الوجه سمح الأخلاق، وعمر كان يريده
مثله من ذوي الفضاضة والخشونة، لأن كل واحد يستحسن طبع نفسه، ولا يستحسن
طبع من يباينه، في الخلق والطبع " قال: "... وأنا أعجب من لفظة عمر - إن كان
قالها - إن فيه بطالة، وحاش لله أن يوصف علي عليه السلام بذلك! وإنما يوصف
به أهل الدعابة واللهو، وما أظن عمر - إن شاء الله - قالها. وأظنها زيدت في
كلامه، وإن الكلمة ها هنا دالة على انحراف شديد " (الشرح 12 / 279).
(2) المقنب: جماعة من الفرسان.
(3) وعقه لقيس: أي كله شراسة، وشدة الخلق، وخبث النفس، قال
الزمخشري في الفائق: " وروي أنه قال: ضرس ظبيس، أو قال: ضميس).
(4) قال في الفائق: " لا يصلح أن يلي هذا الأمر إلا حصيف العقدة: قليل
الغرة، الشديد في غير عنف، اللين في عير ضعف الجواد في غير سرف، البخيل في غير
وكف ".
203
رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا (1)) وأما أنت يا زبير،
فوالله ما لان قلبك يوما ولا ليلة، وما زلت جلفا جافيا، وأما أنت يا
عثمان فوالله لروثة أهلك خير (2) منك. وأما أنت يا عبد الرحمن فإنك رجل ما
تحب قومك جميعا، وأما أنت يا سعد فأنت رجل عصبي، وأما أنت يا
علي فوالله لو وزن إيمانك بإيمان أهل الأرض لرجح، فقام علي عليه
السلام موليا فقال عمر: والله إني لأعلم مكان رجل لو وليتموها إياه
لحملكم على المحجة البيضاء قالوا: من هو؟ قال: هذا المولى من
بينكم، قالوا: فما يمنعك من ذلك؟ قال: ليس إلى ذلك سبيل، وفي
خبر آخر رواه البلاذري في تاريخه: إن عمر لما خرج أهل الشورى من
عنده قال إن ولوها الأجلح سلك بهم الطريق، قال ابن عمر: فما يمنعك
منه يا أمير المؤمنين؟ قال أكره أن أتحملها حيا وميتا فوصف كل واحد من
القوم كما ترى بوصف قبيح يمنع من الإمامة ثم جعلها في جملتهم حتى كأن
تلك الأوصاف تزول في حال الاجتماع، ونحن نعلم أن الذي ذكره كان
مانعا من الإمامة في كل واحد على الانفراد، فهو مانع مع الاجتماع، مع
إنه وصف عليا عليه السلام بوصف لا يليق به، ولا ادعاه عدو قط
عليه، وهو معروف بضده من الركانة والبعد عن المزاح والفكاهة، وهذا
معلوم ضرورة لمن سمع أخباره عليه السلام وكيف يظن به ذلك وقد روي
عن ابن عباس أنه قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام إذا أطرق هبنا أن



(1) الأحزاب 53.
(2) نقل ذلك الزمخشري في الفائق 2 / 425، 426، وابن أبي الحديد في
شرح النهج 12 / 143 وقال ابن أبي الحديد: - فأما الرواية الأخرى التي قال فيها
لعثمان: لروثة خير منك، فهي من روايات الشيعة ولسنا نعرفها من كتب غيرهم.
204
نبتدءه بالكلام، وهذا لا يكون إلا ومن شدة التزمت (1) والتوقر، وما يخالف
الدعابة والفكاهة، ومما تضمنته الشورى من المطاعن، أنه قال: لا
أتحملها حيا وميتا، وهذا كان علة عدوله عن النص على واحد بعينه،
وهو قول متلمس متخلص لا يفتات (2) على الناس في آرائهم ثم نقض هذا
بأن نص على ستة من بين العالم كله، ثم رتب العدد ترتيبا مخصوصا يؤل
إلى أن اختيار عبد الرحمن هو المقدم، وأي شئ يكون التحمل أكثر
من هذا وأي فرق بين أن يتحملها بأن ينص على واحد بعينه، وبين أن
يتحملها بما فعله من الحصر والترتيب!
ومن جملة المطاعن أنه أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة
أكثر من ثلاثة أيام، ومعلوم: أن بذلك لا يستحقون القتل، لأنهم إذا
كانوا إنما كلفوا: أن يجتهدوا آراءهم في اختيار الإمام، فربما طال
زمان الاجتهاد، وربما قصر بحسب ما يعرض فيه من العوارض، فأي
معنى للأمر بالقتل، ثم أمر بقتل من يخالف الأربعة، وما يخالف العدد
الذي فيه عبد الرحمن، وكل ذلك مما لا يستحق به القتل.
وأما تضعيف أبي علي لذكر القتل، فليس بحجة مع أن جميع من روى
قصة الشورى روى ذلك، وقد ذكر ذلك الطبري في تاريخه (3) وغيره.
فأما تأوله الأمر بالقتل على أن المراد به إذا تأخر على طريق شق



(1) التزمت: الوقار.
(2) المتملس والمتخلص في معنى واحد، ولا يفتات: لا يستبد.
(3) انظر تاريخ الطبري 4 / 229 حوادث سنة 23.
205
العصا وطلب الأمر من غير وجهه، فبعيد من الصواب لأنه ليس في ظاهر
الخبر ذلك، ولأنهم إذا شقوا العصا، وطلبوا الأمر من غير وجهه من أول
يوم، وجب أن يمنعوا ويقاتلوا، فأي معنى لضرب الأيام الثلاثة
إطلاقا؟.
فأما تعلقه بالتهديد فكيف يجوز أن يتهدد الإنسان على فعل بما لا
يستحقه، وإن علم أنه لا يعزم عليه.
فأما قوله تعالى: (لئن أشركت ليحبطن عملك) (1) فيخالف ما
ذكر، لأن الشرك يستحق به إحباط الأعمال، وليس يستحق بالتأخر عن
البيعة القتل.
فأما ادعاء صاحب الكتاب (أن الجماعة دخلوا في الشورى على
سبيل الرضى، وأن عبد الرحمن أخذ عليهم العهد أن يرضوا بما يفعله،
فمن قرأ قصة الشورى على وجهها، وعدل عما تسوله النفس من بناء
الأخبار على المذاهب، علم أن الأمر بخلاف ما ذكره.
وقد روى الطبري في تاريخه، عن أشياخه من طرق مختلفة، أن
أمير المؤمنين عليه السلام قال لما خرج من عند عمر بعد خطابه للجماعة
بما تقدم ذكره لقوم كانوا معه من بني هاشم إن طمع (2) فيكم قومكم لم
تؤمروا أبدا، وتلقاه العباس بن عبد المطلب فقال عليه السلام: يا عم
عدلت عنا، قال: وما علمك؟ قال: قرن بي عثمان وقال: كونوا مع
الأكثر، وإن رضي رجلان رجلا، ورجلان رجلا فكونوا مع الذين فيهم



(1) الزمر / 65.
(2) في الطبري " إن أطيع "
206
عبد الرحمن بن عوف، فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد
الرحمن صهر عثمان لا يختلفان فيوليها عبد الرحمن عثمان، أو يوليها عثمان
عبد الرحمن، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني بله (1) إني لا أرجو إلا أحدهما
فقال له العباس: لم أدفعك في شئ إلا رجعت إلي متأخرا (2) أشرت إليك عند
وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله أن تسأله فيمن هذا الأمر
فأبيت، وأشرت عليك بعد وفاته أن تعاجل الأمر فأبيت وأشرت عليك
حين سماك عمر في الشورى ألا تدخل معهم فأبيت فاحفظ عني واحدة فكل ما
عرض عليك القوم فقل لا إلا أن يولوك، واحذر هؤلاء الرهط فإنهم لا
يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم به لنا غيرنا [وغيرهم] (3)، وأيم الله
لا تناله إلا بشر لا ينفع معه خير، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام أما
والله لأن بقي عمر لأذكرنه ما فعل وأتى، ولئن مات ليتداولنها بينهم،
ولئن فعلوا لتجدنني حيث يكرهون، ثم تمثل:
حلفت برب الراقصات عشية * غدون خفافا يبتدرن المحصبا
ليحتلبن رهط ابن يعمر قاربا * نجيعا بنو الشداخ وردا مصلبا (4)



(1) في الطبري " مستأخرا ".
(2) بله، بمعنى: دع، وهي مبنية على الفتح، وقيل: معناها سوى.
(3) التكملة من شرح نهج البلاغة عن الشافي.
(4) الراقصات الإبل، وخفاف مسرعات، ويبتدرن: يستبقن،
والمحصب: موضع رمي الجمار بمنى، أو الشعب بين مكة ومنى كان الخارجون من
مكة إلى منى ومن منى إلى مكة يقيمون به ساعة من الليل قبل التوجه إلى مقصدهم
ليحتلبن توكيد للحلب وفي الطبري " ليختلين " والتخلي هو أن تترك الناقة الغزيرة
للحلب بعد أن يدني ولدها فتعطف عليه ويترك تحتها ريثما تستدر ثم يجر من تحتها
وتسمى خلية والشداخ - كشداد: يعمر بن عوف الكناني: و " نجيعا " مفعول
" يحتلبن ".
207
فالتفت فرأى أبا طلحة الأنصاري تركه مكانه، فقال أبو طلحة لا
ترع أبا حسن (1).
فإن قيل: أي معنى لقول العباس إني دعوتك إلى أن تسأل رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم فيمن هذا الأمر من قبل وفاته، أليس هذا
مبطلا لما تدعونه من النص.
قلنا: قد مضى الكلام على هذا المعنى فيما مضى من الكتاب، وبينا
أنه لا يمتنع أن يريد العباس رضي الله عنه سؤاله عمن يصل الأمر إليه،
وينتقل إلى يديه، لأنه قد يستحقه من لا يصل إليه، [وقد يصل إلى من لا
يستحقه] وليس يمتنع أن يريد إنا كنا نسأله صلى الله عليه وآله
قبل الموت ليتجدد ويتأكد، ويكون لقرب العهد أبعد من أن يطرح.
فإن قيل: أليس قد أنكرتم على صاحب الكتاب هذا التأويل بعينه
فيما استعمله فيما روي عن أبي بكر من قوله: ليتني كنت سألت رسول الله
صلى الله عليه وآله هل للأنصار في هذا الأمر حق؟
قلنا: إنما أنكرناه في ذلك الخبر لأنه لا يليق به من حيث قال: فكنا
لا ننازعه أهله، وهذا قول من لا علم له بأنه ليس للأنصار حق في
الإمامة، ومن كان يرجع في أن لهم حقا في الأمر أو لا حق لهم فيه،
إلى ما يسمعه مستأنفا وليس في هذا الخبر الذي ذكرناه ما في ذلك الخبر.
وروى العباس بن هشام الكلبي عن أبيه عن أبي مخنف في إسناده
أن أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه شكا إلى العباس رضوان الله
عليه وما سمع من قول عمر كونوا مع الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن



(1) الطبري 4 / 230 حوادث سنة 23.
208
وقال: والله لقد ذهب الأمر منا فقال العباس: فكيف قلت ذاك يا ابن
أخي قال: إن سعدا لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد الرحمن نظير
عثمان وصهره فأحدهما يختار لصاحبه لا محالة وإن كان الزبير وطلحة معي
لن ينفعاني إذا كان ابن عوف في الثلاثة الآخرين.
وقال ابن الكلبي: عبد الرحمن زوج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي
معيط وأمها أروى بنت كريز، وأروى أم عثمان فلذلك قال صهره.
وفي رواية الطبري أن عبد الرحمن بن عوف دعا عليا عليه السلام
فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسول صلى الله
عليه وآله وسلم، وسيرة الخليفتين بعده، فقال: أرجو أن أفعل وأعمل
بمبلغ علمي وطاقتي.
وفي خبر آخر عن أبي الطفيل (1) أن عبد الرحمن قال لعلي عليه
السلام: هلم يدك خذها بما فيها على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر
فقال علي عليه السلام آخذها بما فيها على أن أسير فيكم بكتاب الله وسنة
رسول الله صلى الله عليه وآله جهدي، فترك يده وقال: هلم يدك
يا عثمان أن تأخذها بما فيها على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر قال:
نعم، قال: هي لك يا عثمان.
وفي رواية الطبري أنه قال لعثمان مثل قوله لعلي عليه السلام



(1) أبو الطفيل عامر بن وائلة الليثي صحابي كان شيعة لعلي عليه السلام
وشهد معه مشاهدة ويروى بعض أحداثها كما روى عنه عمر طويلا حتى مات بالكوفة
أو مكة سنة 110 على الأصح وهو آخر من مات من الصحابة (انظر أسد الغابة
5 / 233).
209
فقال: نعم فبايعه فقال علي عليه السلام: ختونة حنت دهرا (1) وفي خبر
آخر، نفعت الختونة يا ابن عوف، ليس هذا أول ما تظاهرتم علينا فيه
(فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون) والله ما وليت عثمان إلا ليرد
الأمر إليك والله كل يوم هو في شأن.
وفي غير رواية الطبري أن عبد الرحمن قال له: قد قلت ذلك لعمر
فقال علي عليه السلام أو لم يكن ذلك كما ظننت.
وروى الطبري أن عبد الرحمن قال: يا علي لا تجعل على نفسك
سبيلا فإني نظرت وشاورت الناس، فإذا هم لا يعدلون بعثمان، فخرج
علي عليه السلام وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله.
وفي رواية الطبري أن الناس لما بايعوا عثمان تلكأ علي عليه السلام
فقال عثمان: (فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أو في بما عاهد عليه
الله فسيؤتيه أجرا عظيما... (2)) فرجع عليه السلام حتى بايعه وهو يقول:
" خدعة وأي خدعة " (3).
وروى البلاذري في كتابه عن الكلبي، عن أبيه عن أبي مخنف في
إسناد له: إن أمير المؤمنين عليه السلام لما بايع عبد الرحمن عثمان كان
قائما فقعد، فقال له عبد الرحمن: بايع وإلا أضرب عنقك، ولم يكن مع
أحد يومئذ سيف غيره. فيقال: إن عليا عليه السلام خرج مغضبا فلحقه
أصحاب الشورى، فقالوا له: بايع، وإلا جاهدناك فأقبل معهم يمشي



(1) الختونة: المصاهرة، والذي في الطبري " حبوته حبوة دهر " والحبوة:
العطاء.
(2) الفتح 10.
(3) الطبري 4 / 238 وفيه " خدعة وإيما خدعة ".
210
حتى بايع عثمان فأي رضا هاهنا، وأي إجماع، وكيف يكون مختارا من
يهدد بالقتل والجهاد!
وهذا المعنى يعني حديث التهديد بضرب العنق لو روته الشيعة
لتضاحك المخالفون منه، ولتغامزوا وقالوا: وهذا من جملة ما يدعونه من
المحال، ويروونه من الأحاديث، وقد أنطق الله به رواتهم، وأجراه على
أفواه ثقاتهم.
وقد تكلم المقداد في ذلك اليوم بكلام طويل نفند (1) فيه ما فعلوه من
بيعة عثمان، وعدولهم بالأمر عن أمير المؤمنين عليه السلام إلى أن قال له
عبد الرحمن: يا مقداد اتق الله فإني خائف عليك الفتنة، ثم جاء إلى أمير
المؤمنين عليه السلام فقال: أتقاتل فنقاتل؟ فقال عليه السلام: فبمن
نقاتل، وتكلم أيضا عمار فيما رواه أبو مخنف فقال: يا معشر قريش أين
تصرفون هذا الأمر من أهل بيت نبيكم؟ تحولونه ها هنا مرة وهاهنا مرة
أما والله ما أنا بآمن أن ينزعه الله منكم فيضعه في غيركم كما نزعتموه من أهله،
ووضعتموه في غير أهله، فقال له هشام بن الوليد (2): يا ابن سمية لقد
عدوت طورك، وما عرفت قدرك، وما أنت وما رأته قريش لأنفسها
وإمارتها، فتنح عنها، وتكلمت قريش بأجمعها وصاحت بعمار وانتهرته،
فقال: الحمد لله ما زال أعوان الحق قليلا.
وروى أبو مخنف أن عمارا رحمه الله قال في ذلك اليوم:
يا ناعي الاسلام قم فانعه * قد مات عرف وأتى منكر



(1) التفنيد: اللوم وتضعيف الرأي.
(2) هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي أخو خالد بن الوليد من المؤلفة قلوبهم
(انظر الإصابة ق 1 حرف الهاء بترجمته) وفي الطبري " فقال رجل من بني مخزوم " ولا
أدري لم هذه الكناية.
211
أما والله لو أن لي أعوانا لقاتلتهم، وقال لأمير المؤمنين عليه
السلام: لئن قاتلتهم بواحد لأكونن ثانيا، فقال عليه السلام: والله ما
أجد عليهم أعوانا ولا أحب أن أعرضكم لما لا تطيقون.
وروى أبو مخنف عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه قال: دخلت
على أمير المؤمنين عليه السلام وكنت حاضرا بالمدينة فإذا هو واجم كئيب،
فقلت: ما أصاب قوم صرفوا هذا الأمر عنكم، فقال: صبر جميل
فقلت: سبحان الله إنك لصبور قال: فأصنع ماذا؟ قلت: تقوم في
الناس وتدعوهم إلى نفسك إنك أولى بالنبي صلى الله عليه وآله
وسلم بالعمل والسابقة، وتسألهم النصر على هؤلاء المتظاهرين عليك،
فإن أجابك عشرة من مائة شددت بالعشرة على المائة وإن دانوا لك كان
لك ما أحببت، وإن أبوا قاتلتهم، فإن ظهرت عليهم فهو سلطان الله
الذي أتاه نبيه صلى الله عليه وآله وكنت أولى به منهم، إذ ذهبوا
بذلك فرده الله إليك، وإن قتلت في طلبه قتلت شهيدا، وكنت أولى
بالعذر عند الله في الدنيا والآخرة، فقال: أو تراه كان تابعي من كل مائة
عشرة؟ فقلت له: أرجو ذلك قال: لكن لا أرجو، ولا والله من المائة
اثنين، وسأخبرك من أين ذلك إن الناس إنما ينظرون إلى قريش،
فيقولون هم قوم محمد صلى الله عليه وآله وقبيلته، وإن قريشا تنظر
فينا ويقولون إن لهم بالنبوة فضلا على سائر قريش، وإنهم أولياء هذا الأمر
من دون قريش والناس، إنهم إن ولوه لم يخرج هذا السلطان منهم إلى
أحد ابدا، ومتى كان في غيرهم تداولتموه بينكم، فلا والله لا تدفع هذا
السلطان قريش طائعة إلينا أبدا فقلت: أفلا أرجع إلى المصر فأخبر الناس
بمقالتك هذه، وأدعو الناس إليك؟ فقال: يا جندب ليس هذا زمان
ذاك، فرجعت فكلما ذكرت للناس شيئا من فضل علي عليه السلام
زبروني، وقهروني حتى رفع ذلك من أمري إلى الوليد بن عقبة، فبعث

212
إلي فحبسني، وهذه الجملة التي أوردناها قليل من كثير في
أن الخلاف كان واقعا، والرضا كان مرتفعا والأمر إنما تم بالحيلة
والمكر والخداع، وأول شئ مكر به عبد الرحمن أنه ابتدأ فأخرج
نفسه من الأمر ليتمكن من صرفه إلى من يريد، وليقال أنه لولا إيثار
الحق، وزهده في الولاية لما أخرج نفسه، ثم عرض على أمير المؤمنين عليه
السلام ما يعلم أنه لا يجيب إليه، ولا تلزمه الإجابة إليه من السيرة فيهم
بسيرة الرجلين، وعلم أنه لا يتمكن من أن يقول: إن سيرتهما لا تلزمني،
لئلا ينسب إلى الطعن عليهما، وكيف يلزم سيرتهما وكل واحد منهما لم يسر
بسيرة صاحبه، بل اختلفا وتباينا في كثير من الأحكام، هذا بعد أن قال
لأهل الشورى: وثقوا لي من أنفسكم بأنكم ترضون باختياري إذا
خرجت نفسي، فأجابوه على ما رواه أبو مخنف بإسناده إلى ما عرض عليهم
إلا أمير المؤمنين عليه السلام فإنه قال: أنظر، لعلمه بما يجر هذا المكر
حتى أتاهم أبو طلحة فأخبره عبد الرحمن بما عرض، وبإجابة القوم إياه إلا
عليا عليه السلام، فأقبل أبو طلحة على علي عليه السلام فقال: يا أبا
الحسن إن أبا محمد ثقة لك وللمسلمين فما بالك تخالفه وقد عدل بالأمر
عن نفسه، فلن يتحمل المأثم لغيره فاحلف علي عليه السلام عبد الرحمن
أن لا يميل إلى هوى، وأن يؤثر الحق، ويجتهد للأمة، ولا يحامي ذا
قرابة، فحلف له، وهذا غاية ما تمكن منه أمير المؤمنين عليه السلام في
الحال، لأن عبد الرحمن لما أخرج نفسه من الأمر ظنت به الجماعة الخير،
وفوضوا إليه الاختيار، فلم يقدر أمير المؤمنين عليه السلام أن يخالفهم،
وينقض ما اجتمعوا عليه، فكان أكثر ما تمكن منه أن أحلفه وصرح بما
يخاف من جهته من الميل إلى الهوى وإيثار القرابة غير أن ذلك كله لم يغن
شيئا.
وأما قول صاحب الكتاب: (إن دخوله عليه السلام في الشورى

213
دلالة على أنه لا نص عليه بالإمامة (1) ولو كان عليه نص لصرح به في تلك
الحال وكان ذكره أولى من ذكر الفضائل والمناقب) فقد تقدم الكلام في
هذا مستقصى وبينا المانع (2) من تصريحه عليه السلام في تلك الحال
وغيرها بالنص وذكرنا أيضا علة دخوله في الشورى ولو لم يدخل فيها إلا
ليحتج بما احتج به من مقاماته وفضائله، وذرائعه (3) ووسائله إلى الإمامة،
وبالأخبار الدالة عند تأملها على النص والإشارة بالإمامة إليه لكان غرضا
صحيحا، وداعيا قويا، وكيف لا يدخل في الشورى وعندهم أن
واضعها قد أحسن النظر للمسلمين، وفعل ما لم يسبق إليه من التحرز
للدين!
فأول ما كان يقال له: - لو امتنع منها - إنك مصرح بالطعن على
واضعها، وعلى جماعة المسلمين بالرضا بها، وليس طعنك إلا لأنك ترى
أن الأمر لك، وإنك أحق به، فيعود الأمر إلى ما كان عليه السلام يخافه
من تفرق الأمة، ووقوع الفتنة، وتشتت الكلمة، وفي أصحابنا القائلين
بالنص من يقول: إنه عليه السلام إنما دخل في الشورى لتجويزه أن ينال
الأمر منها، وعليه أن يتوصل إلى ما يلزمه القيام به من كل وجه يظن أنه
توصل إليه وقول صاحب الكتاب: (إن التقية لا يمكن أن يتعلق بها لأن
الأمر لم يكن استقر لواحد) طريف لأن الأمر وإن لم يكن في تلك الحال
مستقرا لأحد فمعلوم أن الإظهار لما يطعن في المتقدمين من ولاة الأمر لا



(1) في المغني " وصح دلالة دخوله في الشورى أن لا نص عليه ".
(2) ع " إن المانع من ذكر النص كونه يقتضي تضليل من تقدم عليه
وتفسيقهم، وليس كذلك تعديد المناقب والفضائل، وأما دخوله في الشورى فلو لم
يدخل فيها إلا ليحتج بما احتج به من مقاماته " الخ خ ل.
(3) الذرائع جمع ذريعة وهي الوسيلة.
214
يتمكن منه، ولا يرضى به، وكذلك الخروج مما يتفق أكثرهم عليه
ويرضى جهودهم به، لا يقرون أحدا عليه، بل يعدونه شذوذا عن
الجماعة، وخلافا على الأمة،
فأما قوله: (إن الأفعال لا يقدح فيها بالظنون، بل يجب أن تحمل
على ظاهر الصحة، وإن الفاعل إذا تقدمت له حالة تقتضي حسن الظن
به يجب أن يحمل فعله على ما يطابقها) فإنا متى سلمنا له هذه المقدمة لم
يتم قصده فيها، لأن الفعل إذا كان له ظاهر وجب أن يحمل على ظاهره
إلا بدليل يعدل بنا عن ظاهره، كما يجب مثله في الألفاظ، وقد بينا أن
ظاهر الشورى وما جرى فيها يقتضي ما ذكرناه للإمارات اللائحة الوجوه
الظاهرة، فما عدلنا عن ظاهر إلى محتمل، بل المخالف هو الذي يسومنا
أن نعدل عن الظاهر.
فأما الفاعل وما تقدم له من الأحوال فمتى تقدم للفاعل حالة تقتضي أن يظن
به الخير من غير علم ولا يقين، فلا بد من أن يؤثر فيها، ويقدح أن يرى له حالة
أخرى تقتضي ظن القبيح به لدلالة ظاهرها على ذلك، وليس لنا أن
نقضي بالأولى على الثانية وهما جميعا مظنونتان، لأن ذلك بمنزلة أن يقول
قائل: اقضوا بالثانية على الأولى، وليس كذلك إذا تقدمت للفاعل حالة
تقتضي العلم بالخير منه، ثم تليها حالة تقتضي ظن القبيح به، لأنا
حينئذ نقضي بالعلم على الظن ونبطل حكمه لمكان العلم، وإذا صحت
هذه الجملة فما تقدمت لمن ذكر حالة تقتضي العلم بالخير، وإنما تقدم ما
يقتضي حسن الظن، فليس لنا أن لا نسئ الظن عند ظهور إمارات سوء
الظن، لأن كل ذلك مظنون غير معلوم.
وقوله: (ولو أراد ذلك ما منعه من أن ينص على عثمان مانع، كما
لم يمنع ذلك أبا بكر من النص عليه) ليس بشئ، لأنه فعل ما يقوم

215
مقام النص على من أراد إيصاله إليه، وصرفه عمن أراد أن يصرفه عنه
من غير شناعة للتصريح، وحتى لا يقال ما قيل في أبي بكر، ويراجع
في نصه كما روجع أبو بكر، ولم يتعسف أبعد الطريقين وغرضه يتم من
أقربهما.
فأما بيان صاحب الكتاب: (إن الانتقال من الستة إلى الأربعة في
الشورى ومن الأربعة إلى الثلاثة لا يكون تناقضا) فهو رد على من زعم أن
ذلك تناقض، فليس من هذا الوجه طعنا بل قد بينا وجوه المطاعن
ففصلناها.
فأما قوله: (إن الأمور المستقبلة لا تعلم وإنما تحصل فيها إمارة)
ردا على من قال: إن عمر كان يعلم أن عليا عليه السلام وعثمان لا
يجتمعان وأن عبد الرحمن يميل إلى عثمان، فكلام في غير موضعه، لأن
المراد بذلك الظن لا العلم وإن عبر عن الظن بالعلم فعلى طريقة في
الاستعمال معروفة، لا يتناكرها المتكلمون.
ولعل صاحب الكتاب قد استعمل في العلم موضع الظن فيما لا
يحصى كثرة من كتابه هذا وغيره.
وقد بينا فيما ذكرناه من رواية الكلبي عن أبي مخنف أن أمير المؤمنين
عليه السلام أول من سبق إلى هذا المعنى في قوله للعباس شاكيا إليه:
ذهب والله الأمر منا لأن سعدا لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد
الرحمن صهر عثمان فأحدهما مختار لصاحبه لا محالة، وإن كان الزبير
وطلحة معي فلن انتفع بذلك إذا كان ابن عوف في الثلاثة الآخرين.
فأما قوله: (إن عبد الرحمن كان زاهدا في الأمر والزاهد أقرب إلى
التثبت) فقد بينا وجه إظهار الزهد فيه، وأنه جعله الذريعة إلى مراده.

216
فأما قوله: (إن الضعف الذي وصفه به إنما أراد به الضعف عن
القيام بالإمامة لا ضعف الرأي) فهب إن الأمر كذلك أليس قد جعله
أحد من يجوز أن يختار للإمامة، ويفوض إليه مع أنه ضعيف عنها، وهذا
بمنزلة أن يصفه بالفسق ثم يدخله في جملة القوم، لأن الضعف عن الإمامة
مانع منها كما أن الفسق كذلك، وهذا الكلام يأتي على جميع ما ذكره في
الفصل (1).
قال صاحب الكتاب: (شبهة لهم أخرى وربما قالوا: إنه أبدع في
الدين ما لا يجوز كالتراويح، وما عمله في الخراج الذي وضعه على
السواد، وفي ترتيب الجزية، وكل ذلك مخالف القرآن والسنة، لأنه
تعالى جعل الغنيمة للغانمين، والخمس منها لأهل الخمس، فخالف
القرآن وكذلك السنة تنطق في الجزية أن على كل حالم دينارا فخالف
ذلك، والسنة أن الجماعة لا تكون إلا في المكتوبات فخالف السنة).
وأجاب عن ذلك: (إن قيام شهر رمضان قد روي عن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم أنه عمله ثم تركه، وإذا علم أن الترك ليس بنسخ
صار سنة يجوز أن يعمل بها، وإذا كان ما لأجله ترك عليه السلام من
التنبيه بذلك على أنه ليس بفرض ومن تخفيف التعبد ليس بقائم في فعل
عمر لم يمتنع أن يدوم عليه، * وإذا كان فيه الدعاء إلى الصلاة والتشدد في
حفظ القرآن * (2) فما الذي يمنع أن يعمل به [على وجه أنه مسنون] (3).



(1) كلام القاضي في هذا الباب ورد المرتضى عليه أورده ابن أبي الحديد في
شريح نهج البلاغة ج 12 ص 256 - 270 مع تفاوت بسيط في بعض الحروف
والكلمات.
(2) ما بين النجمتين ساقط من " المغني ".
(3) التكملة من " المغني ".
217
قال: (فأما أمر الخراج فأصله الستة لأن النبي صلى الله عليه وآله
وسلم بين أن لمن يتولى الأمر ضربا من الاختيار في الغنيمة، وكذلك
فصل بين الأموال والرجال فجعل الاختيار في الرجال إلى الإمام في القتل
والاسترقاق والمفاداة، وفصل بينه وبين المال، وإن كان الجميع غنيمة،
وذكر أن الغنيمة لم تضف إلى الغانمين على سبيل الملك وإنما المراد أن لهم في
ذلك من الاختصاص والحق ما ليس لغيرهم فإذا عرض ما يقتضي تقديم
أمر آخر جاز للإمام أن يفعل، ورأى عمر في أرض السواد الاحتياط
للاسلام أن يقر في أيديهم على الخراج الذي وضعه [لما فيه من الأحوال
المؤدية للقوة بفعله] (1) وأن في الناس من يقول فعل ذلك برضا الغانمين،
وبأن عوض [بعضهم] (1) واستدل على صحة فعله بالاجماع من الأمة، وبأنه لما
أفضى الأمر إلى أمير المؤمنين تركه [على جملته، ولو كان ذلك منكرا لغيره كما
غير في أيامه الأمور المنكرة (1)] وذكر في الجزية أن طريقها الاجتهاد وأن
الخبر المروي في هذا الباب ليس بمقطوع به، ولا معناه معلوم (2) ذكر أنه
تكلم على ما فيه من المطاعن وعلى المشهور منها دون ما يعلم أنه لا أصل
له وحكي عن أبي علي أنه لو جاز أن يعول في الطعن على مثل ذلك لم
يسلم أحد من الطعن، وعارض بالخوارج وطعنهم على أمير المؤمنين عليه
السلام ثم نبه على ما ترك مما ادعى أن الأمر في بطلانه ظاهر نحو ما روي
عن أبي بكر وكلامه في الصلاة وقوله: لا يفعلن خالد ما آمره وما روي
من أن عمر قال لأبي بكر يوم الغدير إن محمدا لمفتون بابن عمه [ولو قدر أن
يجعله نبيا لفعل (1)] وحديث ما عزم عليه من إحراق بيت فاطمة عليها



(1) الزيادة من " المغني " وكل زيادة تحت هذه الرقم فمنه أيضا.
(2) كل ما نقله المرتضى في هذا الباب من " المغني " نقله باختصار (انظر المغني
ج 20 ق ص 27 - 29).
218
السلام [ونحو ما رووه عن عمر قال: ثلاثة أشياء كانت على عهد رسول
الله أنا أنهى عنهما وزادوا على ذلك وحي على خير العمل، في
الأذان]... (1).
يقال له: أما التراويح فلا شبهة أنها بدعة، وقد روي عن النبي
صلى الله عليه وآله أنه قال: (يا أيها الناس إن الصلاة باليل في شهر
رمضان من النافلة جماعة بدعة، وصلاة الضحى بدعة، ألا فلا تجتمعوا
ليلا في شهر رمضان في النافلة، ولا تصلوا صلاة الضحى، فإن قليلا في
سنة خير من كثير في بدعة، ألا وإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة سبيلها
في النار).
وقد روي أن عمر خرج في شهر رمضان ليلا فرأى المصابيح في
المساجد فقال: وما هذا؟ فقيل له: إن الناس قد اجتمعوا لصلاة
التطوع، فقال: بدعة، ونعمت البدعة، فاعترف كما ترى بأنها بدعة،
وقد شهد الرسول صلى الله عليه وآله بأن كل بدعة ضلالة.
وقد روي أن أمير المؤمنين عليه السلام لما اجتمعوا إليه بالكوفة
فسألوه أن ينصب لهم إماما يصلي بهم نافلة شهر رمضان زجرهم،
وعرفهم أن ذلك خلاف السنة فتركوه، واجتمعوا لأنفسهم وقدموا
بعضهم، فبعث إليهم الحسن عليه السلام فدخل عليهم المسجد ومعه
الدرة فلما رأوه تبادروا الأبواب وصاحوا واعمراه فأما ادعاؤه أن قيام شهر



(1) ما بين المعقوفين ساقط في " الشافي " وأعدناه من " المغني " والمظنون أنها
أيضا ساقطة من نسخة " المغني " التي نقض المرتضى ما فيها لأنه لم يتعرض للرد عليها
كما ترى، ونهي عمر (رض) عن هذه الثلاثة نص عليه علاء الدين علي بن محمد
القوشجي وهو من أئمة المتكلمين على مذهب الأشاعرة في أواخر مبحث الإمامة من
شرح التجريد تجد تفصيل ذلك في كتاب " النص والاجتهاد " لشرف الدين
ص 206.
219
رمضان كان في أيام الرسول صلى الله عليه وآله ثم تركه فمغالطة منه لأنا
لا ننكر قيام شهر رمضان بالنوافل على سبيل الانفراد وإنما أنكرنا الاجتماع
على ذلك.
فإن ادعى أن الرسول صلى الله عليه وآله صلاها جماعة في أيامه فإنها
مكابرة ما أقدم عليها أحد ولو كان كذلك ما قال عمر: إنها بدعة، وإن
أراد غير ذلك فهو ما لا ينفعه لأن الذي أنكرناه غيره والذي ذكره من أن
فيه التشدد في حفظ القرآن والمحافظة على الصلاة ليس بشئ لأن الله
تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله بذلك أعلم، ولو كان كما قاله لكانا
يسنان هذه الصلاة ويأمران بها، وليس لنا أن نبدع في الدين بما يظن أن
فيه مصلحة لأنه لا خلاف في أن ذلك لا يسوغ ولا يحل.
فأما أمر الخراج فهو خلاف لنص القرآن لأن الله تعالى جعل
الغنيمة في وجوه مخصوصة فمن خالفها فقد أبدع، وليس للإمام ولا لغيره
أن يجتهد فيخالف النص، فبطل قوله: (إنه رأى من الاحتياط للاسلام
أن تقر في أيديهم على الخراج) لأن خلاف النص لا يكون من
الاحتياط، والله ورسوله أعلم بالاحتياط منه، ولو كان أرضى الغانمين
عن ذلك أو عوضهم بينة على ما ادعاه صاحب الكتاب، لوجب أن يظهر
ذلك، ويعلم وما عرفنا من ذلك شيئا، ولا نقله الناقلون، وما ادعاه من
الإجماع فمعوله فيه على ترك النكير الذي قد تقدم الكلام عليه وتكرر،
وكذلك تقدم الكلام في وجه إقرار أمير المؤمنين عليه السلام ما أقره من
أحكام القوم وادعاؤه أن خبر الجزية غير معلوم، ولا مقطوع به، فهب
أن ذلك سلم على ما فيه أليس من مذهبه أن أخبار الآحاد في الشريعة
يعمل بها وإن لم تكن معلومة فألا عمل عمر بالخبر الذي روي في هذا
الباب، وعدل عن اجتهاده الذي أداه إلى مخالفة النص.

220
فأما ما عارض به من مذهب الخوارج فمن المعارضة البعيدة، لأن
الخوارج لم تنقم على أمير المؤمنين عليه السلام إلا ما هو معلوم وقوعه،
وإنما اشتبه عليهم صفته، وهل يدخل في باب القبح أو الحسن، وعلينا
أن نبين لهم زوال القبح عن ذلك، وأنه حسن صواب، وما نعرف أحدا
منهم يطعن بما يخالف ما ذكرناه.
فأما تقسيمه الشبه إلى بعيد وقريب وخفي البطلان وظاهره، فما
وجدناه عول في هذا التمييز بين الأمرين إلا على استبعاده، وادعائه أن
ذلك ظاهر البطلان، ومثل هذا لا يكون حجة، وقد كان يجب أن يبين
من أي وجه كان خبر خالد بن الوليد وما شاكله من السخف والبطلان
بحيث لا يجوز أن يتكلم عليه، وما الذي بعد هذا وقرب ما تكلم عليه،
فإنه ما اعتمد في ذلك إلا على ما لا حجة فيه ولا شبهة فأما خبر الاحراق
فقد مضى ما فيه كفاية فيما تقدم فلا معنى لإعادته (1).



(1) ما تقدم في هذا الباب من كلام القاضي ونقض المرتضى منقول في شرح
نهج البلاغة ج 2 / 281 - 284 باختلاف يسير.
221
فصل
في اعتراض كلامه في إمامة عثمان
إعلم أن كل شئ بينا به فيما تقدم أن أبا بكر وعمر لا يصلحان
للإمامة من ارتفاع العصمة، وكونهما مفضولين، وفقد القدر من العلم
المحتاج إليه في الإمامة يدل على أن عثمان لا يصلح لها، لأن الكلام في
الكل واحد وما مضى من الكلام فيما يدعي من الفضائل كاف أيضا في
هذا الموضع إلا التزويج خاصة، فإنه لم يجر فيه كلام يخصه، وإن جرى
فيما يقاربه ويشبهه عند كلامنا في تزويجه بعائشة مع علمه بما سيكون منها في
المستقبل، والأمر فيه مع ذلك ظاهر واضح، فإن تزويجه عليه السلام
أكثر ما يدل على سلامة ظاهره، وليس يدل على ما نعتبره في الإمامة من
الخصال كلها، فما في تزويجه من الدلالة على صلاحه للإمامة.
فإن قيل: إذا كان جحد النص كفرا عندكم، وكان الكافر على
مذاهبكم لا يجوز أن يتقدم منه إيمان ولا إسلام، والنبي صلى الله عليه
وآله عالم بكل ذلك فكيف يجوز أن ينكح ابنته من يعرف من باطنه خلاف
الإيمان.
قلنا: قد مضى في الكتاب الكلام على نظير هذا المعنى وجملته أنه ليس
كل من قال بالنص على أمير المؤمنين عليه السلام يكفر دافعيه، ولا كل من

223
كفر دافعيه يقول بالموافاة وأن الموافي بالكفر لا يجوز أن يتقدم منه إيمان،
ومن قال بالأمرين لا يمتنع أن يجوز كون النبي صلى الله عليه وآله غير عالم
بحال دافعي النص على سبيل التفصيل، فإذا علم ذلك علم ما يوجب
تكفيرهم ومتى لم يعلم جوز أن يتوبوا كما يجوز أن يموتوا على حالهم،
وذلك يمنع القطع في الحال على كفرهم، وإن أظهروا الاسلام، ثم لو
ثبت أنه صلى الله عليه وآله كان يعلم التفصيل والعاقبة وكل شئ جوزنا
أن لا يعلمه لكان ممكن أن يكون تزويجه قبل هذا العلم، ولو كان تقدم
له العلم لما زوجه فليس معنا في العلم إذا ثبت تاريخ فأما ذكره في هذا
الفصل من الشورى وبيعة عبد الرحمن فقد مضى الكلام على ذلك فإنه وقع
على سبيل الخداع والمكر واستقصيناه.

224
فصل
في اعتراض كلامه على الطاعنين على عثمان باحداثه
إعلم أن هذا الباب مما لا يلزمنا الكلام عليه لأن إمامة الرجل لم
تثبت عندنا وقتا من الأوقات فتؤثر في فسخها الأحداث المتجددة، وإنما
يختص هذا الفصل بمن قال بإمامته قبل أحداثه، رجع عنها عند وقوع
أحداثه، وهم الخوارج ومن وافقهم غير أنا نتكلف الكلام على ذلك،
ونبين أن إمامته لو صحت فيما سلف لكان أحداثه ومتجدداته تبطلها
وتفسخها.
قال صاحب الكتاب: (الأصل في هذا الباب أن من ثبتت
عدالته، ووجوب توليه، إما على القطع وإما على الظاهر فغير جائز أن
يعدل فيه عن هذه الطريقة إلا بأمر متيقن يقتضي العدول، يبين ذلك أن
من شاهدناه على ما يوجب الظاهر توليه وتعظيمه يجب أن نبقى فيه على *
هذه الطريقة وإن غاب عنا، وقد عرفنا أن مع الغيبة يجوز أن
يكون مستمرا (1) * على حالته ويجوز أن يكون مستقلا ولم يقدح هذا التجويز
في وجوب ما ذكرناه) ثم ذكر بعد أن أكد هذا الكلام وحققه (إن الحدث



(1) كل عبارة تحت هذا الرقم وبين نجمتين ساقطة من " المغني ".
225
الذي يوجب الانتقال عن التولي والتعظيم إذا كان من باب يحتمل لم يجر
الانتقال له) وأطنب في تشييد ذلك إلى أن قال: (إن الأحوال المتقررة
في النفوس بالعادات والأحوال المعروفة فيمن يتولاه (1) ربما يكون أقوى في
باب الإمارة من الأمور المتجددة (2) واستشهد بأن مثل فرقد
السبخي (3) ومالك بن دينار (4) لو شوهدا في دار فيها منكر لقوي في الظن
حضورهما للتغيير والنكير، أو على وجه الاكراه والغلط، ولو كان الحاضر
هناك من علم من حاله الاختلاط بالمنكر ليجوز حضوره للفساد، بل كان
ذلك هو الظاهر من حاله (5) وأشبع في ذلك الأمثال في هذا الباب ثم قال:
(واعلم أن الكلام فيما يدعي من الحدث والتغيير فيمن ثبت توليه قد
يكون من وجهين، أحدهما هل (6) علم ذلك أم لا والثاني مع يقين حصوله
هل هو حدث يؤثر في العدالة أم لا؟ ولا فرق بين أن لا يكون حادث
أصلا وبين أن يعلم حدوثه، ويجوز أن لا يكون حدثا (7))، ثم ذكر إن
كل واقع يحتمل لو أخبر الفاعل أن فعله على أحد الوجهين، وكان ممن
يغلب على الظن صدقه، لوجب تصديقه، فإذا عرف من حالة المتقررة في
النفوس ما يطابق ذلك (8) جرى مجرى الاقرار بل ربما كان أقوى وقال:



(1) غ " من حال من يتولاه في باب كونه إمارة ".
(2) غ " المتجددة أو المقارنة " المغني 20 ق 2 / 23 والزيادة بين المعقوفين منه.
(3) فرقد بن يعقوب السبخي نسبة إلى السبخة موضع بالبصرة يعد من زهاد
البصرة مات سنة 131.
(4) مالك بن دينار يعد من الزهاد والوعاظ روى عن أنس بن مالك والحسن
وابن سيرين توفي سنة 130.
(5) المغني 20 ق 2 / 34.
(6) غ " هل حدث ".
(7) غ " فيجب أن يجري في النفوس خلاف ذلك فيه " المغني 20 ق 2 / 35.
(8) غ " فيجب ".
226
(ومتى لم نسلك هذه الطريقة في الأمور المشتبهة لم يصح في أكثر من
نتولاه ونعظمه أن يسلم حاله عندنا، واستشهد بأنا لو رأينا من نظن به الخير
يكلم امرأة حسناء في الطريق لكان ذلك من باب المحتمل فإذا كان لو أخبر
أنها أخته أو امرأته لوجب أن لا نحول من توليه فكذلك إذا كان قد (1) تقدم في
النفوس ستره وصلاحه، فالواجب أن نحمل على هذا الوجه) ثم قسم الأفعال إلى
محتمل وما له ظاهر وشرح ذلك شرحا لا معنى لحكايته، ثم
ذكر (إن قول الإمام له مزية في هذا الباب لأنه أكد من غيره) وذكر (إن
ما ينقل عن الرسول وإن لم يكن مقطوعا به، ويؤثر في هذا الباب ويكون
أقوى مما تقدم) ثم ابتدأ بذكر أحداث عثمان قال: (فمن ذلك قولهم: إنه
ولى أمور المسلمين من لا يصلح لذلك. ولا يؤتمن عليه، ومن ظهر منه
الفسق والفساد، ومن لا علم له مراعاة الحرمة والقرابة، وعدولا عن
مراعاة حرمة الدين، والنظر للمسلمين، حتى ظهر ذلك منه وتكرر، وقد
كان عمر حذر من ذلك فيه من حيث وصفه بأنه كلف (2) بأقاربه وقال
له: إذا وليت هذا الأمر تسلط بني أبي معيط على رقاب الناس، فوجد
منه ما حذره، وعوتب في ذلك فلم ينفع العتب فيه، وذلك نحو
استعمال الوليد بن عقبة (3) وتقليده إياه حتى ظهر منه شرب الخمر، واستعماله
سعيد بن العاص (4) حتى ظهرت منه من الأمور التي عندها أخرجه



(1) غ " تقرر ".
(2) كلف بأقاربه أي مولع بهم، والكلام أورده الزمخشري في الفائق
2 / 420 وفي غ " كلف بأقاربه " ولا ريب أنه تحريف.
(3) الوليد بن عقبة بن أبي معيط - بضم الميم - أخو عثمان لأمه أسلم يوم
الفتح، نشأ في كنف عثمان إلى أن استخلف فولاه الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص
سنة 25 وعزل سنة 29 بسبب شربه الخمر (انظر الإصابة ق 1 حرف الواو بترجمته).
(4) سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص الأموي من أشراف قريش
وأجوادهم وفصحائهم وهو أحد الذين كتبوا المصحف لعثمان واستعمله على الكوفة
بعد الوليد بن عقبة (انظر أسد الغابة 2 / 310).
227
أهل الكوفة، وتولية عبد الله بن سعد بن أبي (1) سرح وعبد الله ابن عامر
بن كريز (2) وحتى يروى عنه في أمر ابن أبي سرح أنه لما تظلم منه أهل
مصر، وصرفه عنهم بمحمد بن أبي بكر كاتبه بأن يستمر على ولايته،
فأبطن خلاف ما أظهر وهذا طريقة من غرضه خلاف الدين، ويقال أنه
كاتبه بقتل محمد بن أبي بكر وغيره ممن يرد عليه، وظفر بذلك الكتاب،
ولذلك عظم التظلم من بعد وكثر الجمع، وكان سبب الحصار والقتل،
وحتى كان من أمر مروان وتسلطه عليه * وعلى أمور ما قتل بسبه وذلك ظاهر
لا يمكن دفعه ومن * (3) ذلك رده الحكم ابن أبي العاص إلى المدينة، قد كان
رسول الله صلى الله عليه وآله سيره وطرده، وامتنع أبو بكر وعمر من رده
فصار بذلك مخالفا للسنة، ولسيرة من تقدمه، مدعيا على رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم عاملا بدعواه من غير بينة [وفي دون هذا يطعن في
حاله (4)] ومن ذلك أنه كان يؤثر أهل بيته بالأموال العظيمة التي هي



(1) عبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري أسلم قبل الفتح وهاجر واستكتبه
رسول الله صلى الله عليه وآله فيمن استكتبهم فكان يحرف ما يمليه عليه رسول الله صلى
الله عليه وآله ثم ارتد ورجع إلى مكة فلما كان يوم الفتح أمر رسول الله صلى الله عليه
وآله بقتله في جماعة سماهم ولو وجدوا تحت أستار الكعبة فغيبه عثمان - وكان أخاه من
الرضاعة - ثم أتى به رسول الله صلى الله عليه وآله فسأله العفو عنه فصمت رسول الله
صلى الله عليه وآله طويلا ثم قال: نعم، فلما انصرف عثمان قال صلى الله عليه وآله
لمن حوله: (ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه) فقال رجل من الأنصار
فهلا أومأت إلي يا رسول الله قال: (إن النبي لا ينبغي أن يكون له خائنة الأعين)
ولاه عثمان مصر وبسوء سيرته ثار المصريون على عثمان ثم لم يبايع عليا عليه السلام
وانضم إلى معاوية يوم صفين وتوفي بعسقلان سنة 59 أسد الغابة 3 / 172.
(2) عبد الله بن عامر بن كريز ولاه عثمان البصرة بعد أبي موسى الأشعري
وهو ابن خمس وعشرين سنة (انظر طبقات ابن سعد 5 / 30).
(3) ما بين النجمتين ساقط من المغني.
(4) الزيادة من المغني.
228
عدة للمسلمين (1) نحو ما روي أنه دفع إلى أربعة أنفس من قريش زوجهم
بناته أربعمائة ألف دينار، وأعطى مروان مائة ألف على فتح
إفريقية * ويروى خمس إفريقية * (2) وغير ذلك وهذا بخلاف سيرة من
تقدم (3) في القسمة على الناس بقدر الاستحقاق وإيثار الأباعد على
الأقارب (4) ومن ذلك أنه حمى الحمى على المسلمين مع إنه عليه السلام
جعلهم سواء في الماء والكلاء، وأعطى من بيت مال الصدقة المقاتلة
وغيرها وذلك مما لا يحل في الدين وجلد (5) بالسوط وقد كان من قبله يقع
الضرب بالدرة، ومن ذلك أنه أقدم على كبار الصحابة بما لا يحل نحو
إقدامه على ابن مسعود عندما أحرق المصاحف وإقدامه على عمار حتى روي
أنه صار به فتق، وكان أحد من ظاهر المتظلمين (6) على قتله ويقول: قتلنا
كافرا، وأقدم على أبي ذر مع تقدمه حتى سيره إلى الربذة ونفاه، بل قد
روي أنه ضربه، ثم من عظيم ما أقدم عليه من جمعه الناس على قراءة
زيد وإحراقه المصاحف، وإبطاله ما شك (7) أنه منزل من القرآن، وأنه
مأخوذ عن الرسول * عليه السلام ولو كان مما يسوغ لسبق إليه الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم ولفعله أبو بكر * (2) وعمر ثم عطل الحدود الواجبة



(1) غ " وهي من صدقة المسلمين ".
(2) ما بين النجمتين ساقط من " المغني ".
(3) غ " وقد كان من سيرة أبي بكر وعمر ".
(4) غ " وإيثاره الأقارب وتقديمهم في العطاء ".
(5) غ " وحده ".
(6) المسلمين، خ ل.
(7) غ " لما شك ".
229
به، وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام يطلبه قالوا: ولم لم يكن كل
ما (1) قلنا أو بعضه يوجب خلعه، والبراءة منه، لوجب أن يكون
الصحابة تنكر على من قصده من البلاد متظلما مما فعلوه، وأقدموا عليه،
وقد علمنا أن بالمدينة المهاجرين والأنصار وكبار الصحابة لم ينكروا ذلك، بل
أسلموه ولم يدفعوا عنه، بل أعانوا (2) قاتليه ولم يمنعوا من قتله وحصره،
ومنع الماء منه مع إنهم متمكنون من خلاف ذلك، وذلك أقوى الدليل على ما قلناه
فلو لم يكن في أمره إلا ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: الله قتله وأنا معه
كالحد في عبيد الله بن عمر (3) فإنه قتل الهرمزان (4) بعد إسلامه فلم يقده



(1) غ " على ما قلناه ".
(2) غ " أعانوا عليه ".
(3) غ " لأنه ".
(4) الهرمزان: زعيم من زعماء الفرس وقائد من قادتهم أتي به أسيرا بعد انتصار
المسلمين في القادسية فعرض عليه عمر الاسلام فأبي فأمر بقتله، فلما عرض عليه
السيف قال: لو أمرت لي يا أمير المؤمنين بشربة من ماء فهو خير من قتلي على ظمأ،
فأمر له بها فلما صار الإناء بيده قال: أنا آمن حتى أشرب؟ قال: نعم فألقى الماء من
يده، وقال: الوفاء - يا أمير المؤمنين - نور أبلج فقال: لك التوقف حتى أنظر في أمرك
ارفعا عنه السيف، فلما رفع عنه قال: الآن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده
ورسوله وما جاء به حق من عنده فقال له عمر: ويحك أسلمت خير إسلام فما أخرك
قال: خشيت أن يقال إن إسلامي إنما كان جزعا من الموت فقال عمر: إن لفارس
حلوما بها استحقت ما كانت فيه من الملك ثم كان عمر يشاوره بعد ذلك في إخراج
الجيوش إلى أرض فارس ويعمل برأيه (العقد الفريد 1 / 125 و 2 / 171) قال ابن
كثير: " وحسن إسلام الهرمزان فكان لا يفارق عمر " فلما قتل عمر اتهم الهرمزان
بممالاة أبي لؤلؤة فجاءه عبيد الله بن عمر فقال: اصحبني ننظر إلى فرس لي - وكان الهرمزان
بصيرا بالخيل - فخرج بين يدي عبيد الله فعلاه بالسيف فقتله، ثم قصد عبيد الله إلى
جفينة - وهو رجل ذمي من النصارى من أهل الحيرة أقدمه سعد بن أبي وقاص المدينة
ليعلم الناس الكتابة - فقتله، ثم قصد ابنة أبي لؤلؤة وهي طفلة صغيرة فقتلها وقد
أعظم المسلمون فعله فحبس حتى يتم الاستخلاف فلما بويع عثمان استشار المسلمين في
أمره فأشار عليه علي عليه السلام بقتله، وقال آخرون بالأمس قتل عمر واليوم تتبعوه
بابنه فخلى عثمان سبيله، فلما بويع علي عليه السلام طلبه ليقتص منه فهرب إلى
معاوية فكان معه إلى قتل بين يديه يوم صفين (انظر مصادر نهج البلاغة وأسانيده
3 / 274).
230
وكان في أصحابه من يصرح بأنه قتل عثمان
ومع ذلك لا يقيدهم، ولا ينكر عليهم، وكان أهل الشام يصرحون بأن
مع أمير المؤمنين عليه السلام قتلة عثمان، ويجعلون ذلك من أوكد الشبه،
ولا ينكر ذلك عليهم، مع إنا نعلم أن أمير المؤمنين عليه السلام لو أراد
منعهم من قتله والدفع عنه مع غيره، لما قتل فصار كفه عن ذلك مع غيره
من أدل الدلالة على أنهم صدقوا عليه ما نسب إليه من الأحداث، وأنهم
لم يقبلوا وأما جعله عذرا، قال: (ونحن نقدم قبل الجواب عن هذه
المطاعن مقدمات تبين بطلانها على الجملة، ثم نتكلم على تفصيلها ثم
حكي عن أبي علي (إن ذلك لو كان صحيحا) (1) لوجب من الوقت الذي
ظهر ذلك من حاله أن يطلبوا رجلا ينصب للإمامة، وأن يكون ظهور
ذلك كموته، لأنه لا خلاف أنه متى ظهر من الإمام ما يوجب خلعه أن
الواجب على المسلمين إقامة إمام سواه، فلما علمنا أن طلبهم لإقامة إمام
كان بعد قتله ولم يكن من قبل والتمكن قائم فذلك من أدل الدلالة على بطلان ما
أضافوه إليه من الأحداث) قال: (وليس لأحد أن يقول: لم يتمكنوا من
ذلك لأن المتعالم من حالهم وقد حصروه ومنعوه التمكن من ذلك،
خصوصا وهم يدعون أن الجميع كانوا على قول واحد في خلعه والبراءة
منه) قال: (ومعلوم من حال هذه الأحداث أنها لم تحصل أجمع في الأيام
التي حوصر فيها وقتل، بل كانت تحصل من قبل حالا بعد حال، فلو
كان ذلك يوجب الخلع والبراءة لما تأخر من المسلمين الانكار عليه، ولكان
كبار الصحابة المقيمين بالمدينة أولى بذلك من الواردين من البلاد، لأن
أهل العلم والفضل بالنكير في ذلك أحق من غيرهم) قال: (لقد كان يجب



(1) غ " لو صح عند المسلمين ".
231
على طريقتهم (1) أن تحصل البراءة والخلع من أول يوم حدث فيه منه ما
حدث، ولا ينتظر حصول غيره من الأحداث لأنه لو وجب انتظار ذلك
لم ينته إلى حد إلا أن ينتظر غيره).
ثم ذكر: (إن إمساكهم عن ذلك إذا تيقنوا الأحداث منه يوجب
نسبة الخطأ إلى جميعهم والضلال، فلا يجوز ذلك) وقال: (ولا يمكنهم
أن يقولوا: إن علمهم بذلك حصل في الوقت الذي منع، لأن في جملة
الأحداث التي يذكرونها ما تقدم هذه الحال بل كلها أو جلها، تقدم هذا
الوقت، وإنما يمكنهم أن يتعلقوا فيما حدث في الوقت بما يذكرون من
حديث الكتاب النافذ إلى ابن أبي سرح بالقتل وما أوجب كون ذلك حدثا
يوجب كون غيره حدثا فكان يجب أن يفعلوا ذلك من قبل واحتمال المتقدم
للتأويل كاحتمال المتأخر، وبعده ليس يخلو من أن يدعوا أن طلب الخلع
وقع من كل الأمة، أو من بعضهم، فإن ادعوا ذلك في بعض الأمة فقد
علمنا أن الإمامة إذا ثبتت بالاجماع لم يجز إبطالها بالخلاف، لأن الخطأ
جائز على بعض الأمة، وإن ادعوا في ذلك الإجماع لم يصح، لأن من
جملة الإجماع عثمان ومن كان ينصره، ولا يمكن إخراجه من الإجماع، بأن
يقال إنه كان على باطل لأن بالإجماع يتوصل إلى ذلك لما يثبت) قال:
(على أن الظاهر من حال الصحابة أنها كانت بين فريقين، أما ينصره فقد
روي عن زيد بن ثابت أنه قال لعثمان ومعه الأنصار: ائذن لنا ننصرك
وروي مثل ذلك عن ابن عمر، وأبي هريرة، والمغيرة بن شعبة، والباقون
يمتنعون انتظارا لزوال العارض، لا لأنه لو ضيق عليهم الأمر في الدفع
عنه ما فعلوا بل المتعالم من حالهم ذلك) ثم ذكر ما روي من إنفاذ أمير



(1) أي طريقة الخوارج لأنه قال قبل ذلك: إن هذه الأحداث حصلت في
الست الأواخر.
232
المؤمنين عليه السلام الحسن والحسين عليهما السلام إليه وإنه لما قتل لأمهما
على وصول القوم إليه، ظنا منه بأنهما قصرا، وذكر أن أصحاب الحديث
يروون عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: (ستكون فتنة واختلاف وأن
عثمان وأصحابه يومئذ على الهدى) وما روي عن عائشة من قولها قتل
والله مظلوم) قال: (ولا يمتنع أن يتعلق بأخبار آحاد في ذلك لأنه ليس
هناك أمر ظاهر يدفعه نحو دعواهم أن جميع الصحابة كانوا عليه لأن ذلك
دعوى منهم * وإن كان فيه رواية فمن جهة الآحاد وإذا تعارضت الروايات
سقطت ووجب الرجوع إلى أمر ثابت وهو ما ثبت من أحواله السليمة
ووجوب توليه) (1) * قال: (وليس يجوز أن يعدل عن تعظيمه، وصحة
إمامته بأمور محتمله، فلا شئ مما ذكره إلا ويحتمل الوجه الذي هو
صحيح).
ثم ذكر: (إن للإمام أن يجتهد رأيه في الأمور المنوطة به. ويعمل
فيها على غالب ظنه ظاهرا وقد يكون مصيبا، وإن أفضت إلى عاقبة
مذمومة) وأكد ذلك وأطنب فيه (2).
يقال له: أما ما بدأت به من قولك: (إن من يثبت عدالته وجوب
توليته إما قطعا أو على الظاهر فغير جائز أن يعدل فيه عن هذه الطريقة إلا
بأمر متيقن) فخطأ لا إشكال فيه لأن من نتولاه على الظاهر أو ثبتت
عدالته عندنا من جهة غالب الظن، يجب أن نرجع عن ولايته مما يقتضي
غالب الظن دون اليقين. ولهذا يؤثر في جرح الشهود وسقوط عدالتهم
أقوال الجارحين وإن كانت مظنونة غير معلومة، وما يظهر من أنفسهم من



(1) ما بين النجمتين ساقط من " المغني.
(2) المغني 20 ق 2 / 38 - 44 وجميع كلام القاضي في هذا الباب لخصه
المرتضى من الصفحات المذكورة.
233
الأفعال التي لها ظاهر يظن معه القبيح بهم حتى نرجع عما كنا عليه من
القول بعد التهم وإن لم يكن كل ذلك متيقنا، وإنما يصح ما ذكره فيمن
ثبتت عدالته على القطع ووجب توليه على الباطن فلا يجوز أن يؤثر في حاله
ما يقتضي الظن لأن الظن لا يقابل العلم والدلالة لا تقابل الإمارة.
فإن قال: لم أرد بقولي إلا بأمر متيقن أن كونه حدثا متيقن وإنما أردت تيقن
وقوع الفعل نفسه قلنا الأمران سواء في تأثير غلبة الظن فيهما، ولهذا يؤثر
في عدالة من تقدمت عدالته عندنا على سبيل الظن أقوال من يخبرنا عنه
بارتكاب قبيح إذا كانوا عدولا وإن كانت أقوالهم. لا تقتضي اليقين، بل
يحصل عندها غالب الظن وكيف لا نرجع عن ولاية من توليناه على
الظاهر بوقوع أفعال منه يقتضي ظاهرها خلاف الولاية، ونحن إنما قلنا
بعدالته في الأصل على سبيل الظاهر مع التجويز لأن يكون ما وقع منه في
الباطن قبيحا لا يستحق به التولي والتعظيم ألا ترى أن من شاهدناه يلزم
مجالس العلم، ويكرر تلاوة القرآن، ويدمن الصلاة والصيام والحج يجب
أن نتولاه ونعظمه على الظاهر وإن جوزنا أن يكون جميع ما وقع منه مع
خبث باطنه وغرضه في فعله قبيحا فلم نتولاه إلا على الظاهر ومع التجويز
فكيف لا نرجع عن ولايته بما يقابل هذه الطريقة، فأما من غاب عنا
وتقدمت له أحوال تقتضي الولاية فيجب أن نستمر على ولايته، وإن
جوزنا مع الغيبة أن يكون منتقلا عن الأحوال الجميلة التي عهدنا ها منه،
إلا أن هذا تجويز محض لا ظاهر معه يقابل ما تقدم من الظاهر الجميل.
وهو بخلاف ما ذكرناه من مقابلة الظاهر للظاهر، وإن كان في كل واحدة
من الأمرين تجويز، وقد أصاب في قوله: (إن ما يحتمل ألا يجوز أن
ينتقل له عن التعظيم والتولي) إن أراد بالاحتمال ما لا ظاهر له وأما ما له
ظاهر ويجوز مع ذلك أن يكون الأمر فيه بخلاف ظاهره، فإنه لا يسمى
محتملا. وقد يكون مؤثرا فيما ثبت من التولي على الظاهر على ما ذكرناه.

234
فأما قوله: (إن الأحوال المتقررة في النفوس بالعادات فيمن نتولاه
تؤثر ما لا يؤثر غيرها ويقتضي حمل أفعاله على الصحة والتأول له وتقويته
ذلك وتأكيده له) فلا شك أن ما ذكره مؤثر: وطريق قوي إلى غلبة
الظن، إلا أنه ليس يقتضي ما يتقرر في نفوسنا لبعض من نتولاه على
الظاهر، أن نتأول كلما نشاهد منه من الأفعال التي لها ظاهر قبيح،
ونحمل الجميع على أجمل الوجوه وإن كان بخلاف الظاهر، بل ربما يبين
الأمر فيما يرجع منه من الأفعال التي لها ظاهر قبيح إلى أن يؤثر في أحواله
المتقررة ونرجع بها عن ولايته، ولهذا ما نجد كثيرا من أهل العدالة
المتقررة لهم في النفوس ينسلخون منها حتى يلحقوا بمن لم يثبت له في وقت
من الأوقات عدالة، وإنما يكون ذلك بما يتوالى منهم ويتكرر من الأفعال
القبيحة الظاهرة.
فأما ما استشهد به من أن مثل مالك بن دينار لو شاهدناه في دار فيها
منكر لقوي في الظن حضوره للتغيير والنكير، أو على وجه الاكراه
والغلط، وأن غيره يخالفه في هذا الباب فصحيح لا يخالف ما ذكرناه،
لأن مثل مالك بن دينار ممن تناصرت إمارات عدالته، وشواهد نزاهته،
حالا بعد حال، لا يجوز أن يقدح فيه فعل له ظاهر قبيح، بل يجب لما
تقدم من حاله أن نتأول فعله، ونخرجه عن ظاهره إلى أجمل وجوهه،
وإنما وجب ذلك لأن الظنون المتقدمة أقوى وأولى بالترجيح والغلبة،
فنجعلها قاضية على الفعل والفعلين، ومتى توالت منه الأفعال القبيحة
الظاهرة، وتكررت قدحت في حاله. وأثرت في ولايته، وكيف لا يكون
كذلك وطريق ولايته في الأصل هو الظن والظاهر، ولا بد من قدح
الظاهر في الظاهر وتأثير الظن في الظن على بعض الوجوه.
فأما قوله: (إن كل محتمل لو أخبرنا عنه وهو ممن يغلب على الظن

235
صدقه أنه فعله على أحد الوجهين، لوجب تصديقه متى عرف من حاله
المتقررة في النفوس ما يطابق ذلك، وجرى مجرى الإقرار) فأول ما فيه أن
المحتمل هو ما لا ظاهر له من الأفعال، والذي يكون جواز كونه قبيحا
كجواز كون حسنا، ومثل هذا الفعل لا يقتضي ولاية ولا عداوة وإنما
يقتضي من الولاية ما له من الأفعال ظاهر جميل، ويقتضي العداوة ما له
ظاهر قبيح.
فإن قال: (أردت بالمحتمل ما له ظاهر لكنه يجوز أن يكون الأمر
بخلاف ظاهره).
قيل له: ما ذكرته لا يسمى محتملا، فإن كنت عنيته فقد
وضعت العبارة في غير موضعها، ولا شك في أنه إذا كان ممن لو خبر بأنه
فعل الفعل القبيح على أحد الوجهين لوجب تصديقه، وحمل الفعل على
خلاف ظاهره، فإن الواجب لما تقرر له في النفوس أن يتأول له، ونعدل
بفعله عن الوجه القبيح إلى الفعل الحسن، والوجه الجميل، إلا أنه متى
توالت منه الأفعال التي لها ظواهر قبيحة، فلا بد من أن يكون مؤثره في
تصديقه متى خبرنا بأن غرضه في الفعل خلاف ظاهره، كما يكون مانعة
من الابتداء بالتأول له، وضربه المثل بأن من يراه يكلم امرأة حسناء في
الطريق، إذا أخبر أنها أخته أو امرأته في أن تصديقه واجب، ولو لم يخبر
بذلك لحملنا كلامه لها على أجمل الوجوه لما تقرر له في النفوس صحيح إلا
أنه لا بد فيه من مراعاة ما تقدم ذكره، من أنه قد تقوى الأمر لقوة
الإمارات والظواهر إلى حد لا يجوز معه تصديقه، ولا التأول له، ولولا
أن الأمر قد ينتهي إلى ذلك لما صح أن يخرج أحد عندنا من الولاية إلى
العداوة، ولا من العداوة إلى خلافها، لأنه لا شئ مما يفعله الفساق
المتهتكون إلا ويجوز أن يكون له باطن بخلاف الظاهر، ومع ذلك فلا
يلتفت إلى هذا التجويز، يبين صحة ما ذكرناه، إنا لو رأينا من يظن به

236
الخير يكلم امرأة حسناء في الطريق، ويداعبها ويضاحكها، ظننا به
الجميل مرة ومرات، ثم ينتهي الأمر إلى أن لا نظنه وكذلك لو شاهدناه
وبحضرته المنكر لحملنا حضوره على الغلط والاكراه أو غير ذلك من الوجوه
الجميلة، ثم لا بد من انتهاء الأمر إلى أن نظن به القبيح ولا نصدقه في
خلافه.
ثم يقال له: خبرنا عمن شاهدناه من بعد وهو راكب فرج امرأة نعلم
أنها ليست له بمحرم، وإن لها في الحال زوجا غيره، وهو ممن تقررت له
في النفوس عدالة متقدمة ماذا يجب أن نظن به؟ وهل نرجع بهذا الفعل
عن الولاية، أو نحمله على أنه غالط، ومتوهم أن المرأة زوجته أو على أنه
مكره على الفعل، أو غير ذلك من الوجوه الجميلة فإن قال: نرجع عن
الولاية اعترف بخلاف ما قصده في الكلام، وقيل له: وأي فرق بين هذا
الفعل وبين جميع ما عددناه من الأفعال، وادعيت أن الواجب أن نعدل
عن ظاهرها، وما جواز الجميل في ذلك إلا كجواز الجميل في هذا
الفعل، فإن قال: لا أرجع بهذا الفعل عن الولاية، بل أتأوله على بعض
الوجوه الجميلة، قيل له: أرأيت لو تكرر هذا الفعل وتوالى هو وأمثاله
حتى نشاهده حاضرا في دور القمار ومجالس اللهو واللعب، ونراه بشرب
الخمر بعينها، وكل هذا مما يجوز أن يكون عليه مكرها، وفي أنه القبيح
بعينه غالطا، ما كان يجب علينا من الاستقرار على ولايته والعدول عنها
فإن قال: نستمر ونتأول، ارتكب ما لا شبهة في فساده، والزم ما قدمناه
ذكره من أنه لا طريق إلى الرجوع عن ولاية أحد، ولو شاهدنا منه أعظم
المناكير ووقف أيضا على أن طريق الولاية المتقدمة إذا كان الظن دون
القطع، فكيف لا نرجع عنها بمثل هذا الطريق فلا بد إذا من الرجوع إلى
ما بيناه وفصلناه في هذا الباب.

237
وأما قوله: (إن قول الإمام له مزية لأنه آكد من غيره) فلا معنى
له، لأن قول الإمام على مذهبنا يجب أن يكون له مزية من حيث كان
معصوما مأمونا باطنه وعلى مذهبه إنما ثبتت ولايته بالظاهر كما ثبتت ولاية
غيره من سائر المؤمنين، وأي مزية له في هذا الباب؟
وأما قوله: (إن ما ينقل عن الرسول وإن لم يكن مقطوعا عليه يؤثر
في هذا الباب ويكون أقوى مما تقدم) غير صحيح على إطلاقه لأن تأثير ما
ينقل إذا كان يقتضي غلبة الظن لا شبهة فيه فأما تقويته على غيره فلا وجه
له وقد كان يجب أن يبين من أي وجه يكون أقوى.
فأما عده الأحداث التي نقمت عليه، فنحن نتكلم عليها، وعلى ما
أورده من المعاذير فيها بمشيئة الله تعالى عند ذكره لذلك.
فأما ما حكاه عن أبي علي من قوله: (لو كان ما ذكروه من
الأحداث قادحا لوجب من الوقت الذي ظهرت الأحداث فيه أن يطلبوا
رجلا ينصبونه في الإمامة، لأن ظهور الحدث كونه) قال: (فلما رأيناهم
طلبوا إماما بعد قتله دل على بطلان ما أضافوه إليه من الأحداث) فليس
ذلك بشئ معتمد، لأن تلك الأحداث وإن كانت مزيلة عندهم لإمامته
وناسخة لها ومقتضية لأن يعقدوا لغيره الإمامة، فإنهم لم يقدموا على نصب
غيره مع تشبثه بالأمر خوفا من الفتنة والتنازع والتجاذب، وأرادوا أن يخلع
نفسه حتى تزول الشبهة، وينشط من يصلح للإمامة لقبول العقد،
والتكفل بالأمر، وليس يجري ذلك مجرى موته، لأن موته يحسم الطمع في
استمرار ولايته ولا تبقى شبهة في خلو الزمان من إمام، وليس كذلك
حدثه الذي يسوغ فيه التأويل على بعده، وتبقى معه الشبهة في استمرار
أمره، وليس نقول أنهم لم يتمكنوا من ذلك كما سأل نفسه، بل الوجه في
عدولهم ما ذكرناه من إرادتهم لحسم المواد، وإزالة الشبهة، وقطع أسباب

238
الفتنة.
فأما قوله: (إنه معلوم من حال هذه الأحداث أنها لم تحصل أجمع
في الأيام التي حصر فيها وقتل، بل كانت تقع حالا بعد حال، فلو كانت
توجب الخلع والبراءة لما تأخر من المسلمين الانكار عليه، ولكان المقيمون
بالمدينة من الصحابة بذلك أولى من الواردين من البلاد) فلا شك أن
الأحداث لم تحصل في وقت واحد إلا أنه غير منكر أن يكون نكيرهم إنما
تأخر لأنهم تأولوا ما ورد عليهم من أفعاله على أجمل الوجوه، حتى زاد
الأمر وتفاقم، وبعد التأويل وتعذر التخريج ولم يبق للظن الجميل طريق
فحينئذ أنكروا، وهذا مستمر على ما قدمنا ذكره، من أن العدالة
والطريقة الجميلة تتأول في الفعل والأفعال القليلة، بحسب ما تقدم من
حسن الظن به، ثم ينتهي الأمر بعد ذلك إلى بعد التأويل والعمل على
الظاهر القبيح، على أن الوجه الصحيح في هذا الباب إن أهل الحق كانوا
معتقدين لخلعه من أول حدث، بل معتقدين لأن إمامته لم تثبت وقتا من
الأوقات، وإنما منعهم من إظهار ما في نفوسهم ما قدمناه من أسباب
الخوف والتقية، ولأن الاغترار بالرجل (1) كان عاما فلما تبين أمره حالا بعد
حال، وأعرضت الوجوه عنه، وقل العاذر له، قويت الكلمة في عزله
وهذا إنما كان في آخر الأمر دون أوله، فليس يقتضي الامساك عنه إلى
الوقت الذي وقع الكلام في نسبة الخطأ إلى الجميع على ما ظنه.
فأما دفعه أن تكون الأمة أجمعت على خلعه بإخراجه نفسه،
وخروج من كان في حيزه عن القوم، فليس بشئ لأنه إذا ثبت أن من



(1) لأن الاعتذار بالوجل خ ل فإذا كانت كذلك يكون المعنى الاعتذار
بالخوف.
239
عداه وعدا عبيده والرهط من فجار أهليه وفساقهم كمروان، ومن جرى
مجراه كانوا مجمعين على خلعه، فلا شبهة أن الحق في غير حيزه لأنه لا يجوز
أن يكون هو المصيب وجميع الأمة مبطل، وإنما يدعي أنه على الحق من
تنازع في إجماع من عداه، فأما مع تسليم ذلك فليس تبقى شبهة، وما
نجد مخالفينا يعتبرون في باب الإجماع بإجماع الشذاذ عنه، والنفر القليل
الخارجين منه، ألا ترى أنهم لا يحفلون بخلاف سعد (1)، وولده وأهله في
بيعة أبي بكر لقلتهم، وكثرة من بإزائهم وكذلك لا يعتدون بخلاف من
امتنع من بيعة أمير المؤمنين عليه السلام ويجعلونه شاذا لا تأثير له، فكيف
فارقوا هذه الطريقة في خلع عثمان، وهل هذا إلا تقلب وتلون.
فأما قوله: (إن الصحابة بين فريقين أما من ينصره كزيد بن ثابت،
وابن عمر وفلان وفلان، والباقون ممتنعون انتظارا لزوال العارض، لأنه
ما ضيق عليهم الأمر في الدفع عنه) فعجيب لأن الظاهر أن أنصاره هم
الذين كانوا معه في الدار، يقاتلون عنه، ويدفعون الهاجمين عليه فقط.
فأما من كان في منزله ما أغنى عنه فتيلا لا يعد ناصرا، وكيف يجوز
ممن أراد نصرته وكان معتقدا لصوابه وخطأ الطالبين لخلعه (2) يتوقف عن
النصرة طلبا لزوال العارض، وهل تراد النصرة إلا لدفع العارض وبعد
زواله لا حاجة إليها؟ وليس يحتاج في نصرته إلى أن يضيق هو عليهم
الأمر فيها، بل من كان معتقدا لها لا يحتاج حمله إلى أذنه فيها ولا يحفل
نهيه عنها، لأن المنكر مما قد تقدم أمر الله تعالى فيه بالنهي عنه، فليس
يجتاح في إنكاره إلى أمر غيره.



(1) يعني سعد بن عبادة الأنصاري وخلافه في حديث السقيفة مأثور مشهور.
(2) وخطأ المطالبين له بالخلع خ ل.
240
فأما زيد بن ثابت فقد روى ميله إلى عثمان، فما يعني ذلك وبإزائه جميع
الأنصار والمهاجرين. ولميله إليه سبب معروف قد روته الرواة فإن الوافدي
قد روى في كتاب الدار أن مروان بن الحكم لما حصر عثمان الحصر الأخير
جاء إلى زيد بن ثابت فاستصحبه إلى عائشة ليكلمها في هذا الأمر فمضيا
إليها وهي عازمة على الحج، فكلماها في أن تقيم وتذب عنه، فأقبلت على
زيد بن ثابت فقالت: وما منعك يا ابن ثابت ولك الأساويف (1) قد قطعها
لك عثمان، ولك كذا وكذا، وأعطاك من بيت المال زهاء عشرة آلاف
دينار قال زيد: فلم أرجع عليها حرفا واحدا قال: وأشارت إلى مروان
بالقيام فقام مروان وهو يقول متمثلا:
وحرق زيد علي البلا * د حتى إذا اضطرمت اجذما (2)
فنادته عائشة وقد خرج من العتبة يا ابن الحكم أعلى تمثل الأشعار!
قد والله سمعت ما قلت، أتراني في شك من صاحبك؟ والذي نفسي
بيده لوددت أنه الآن في غرارة (3) من غرائري مخيطة عليها فألقيها في البحر
الأخضر (4) قال: زيد فخرجنا من عندها على الناس (5).
وروى الواقدي أن زيد بن ثابت اجتمع عليه عصابة من الأنصار،
وهو يدعوهم إلى نصر عثمان، فوقف عليها جبلة بن عمرو بن حية



(1) الأساويف كذا في الأصل وفي شرح نهج البلاغة " الأشاريف قد اقتطعها "
والمشارف: أعالي الأرض، ولعل المراد الاقطاع.
(2) البيت للربيع بن زياد العبسي، والأجذام: الإسراع، والمعنى: أنه
أضرمها حتى استعرت، أسرع في الهرب، وذلك لأن قيسا أسعر الحرب في داحس فلما
اضطرمت انتقل إلى عمان.
(3) الغرارة - بالكسر - واحدة غرائر؟؟ التبن. قال في مختار الصحاح: " وأظنه
معربا ".
(4) رواية ابن أبي الحديد: " مخيط عليه، فألقيه في البحر الأخضر ".
(5) ش " على اليأس منها ".
241
المازني (1)، فقال له جبلة: ما يمنعك يا زيد أن تذب عنه أعطاك عشرة
آلاف دينار، وأعطاك حدائق من نخل لم ترث من أبيك مثل حديقة
منها.
فأما ابن عمر فإن الواقدي يروي أيضا عن ابن عمر أنه قال: والله
ما كان منا إلا خاذل أو قاتل، والأمر في هذا أوضح من أن يخفى.
فأما ما ذكره من إنفاذ أمير المؤمنين عليه السلام الحسن والحسين
عليهما السلام فإنما أنفذهما إن كان أنفذهما ليمنعان من انتهاك حريمه،
وتعمد قتله ومنع حرمه ونسائه من الطعام، والشراب، ولم ينفذهما ليمنعا
من مطالبته بالخلع، كيف وهو مصرح بأنه باحداثه مستحق للخلع،
والقوم الذين سعوا في ذلك إليه كانوا يغدون ويروحون إليه ومعلوم منه
ضرورة أنه كان مساعدا على خلعه، ونقض أمره لا سيما في المرة
الأخيرة.
فأما ادعاؤه أنه لعن قتلته، فهو يعلم ما في هذا من الروايات
المختلفة التي هي أظهر من هذه الرواية، وإن صحت فيجوز أن تكون
محمولة على لعن من قتله متعمدا لقتله، قاصدا إليه فإن ذلك لم يكن
لهم.
فأما ادعاؤه أن طلحة رجع لما ناشده عثمان يوم الدار فظاهر
البطلان، وغير معروف في الرواية، والظاهر المعروف، أنه لم يكن على
عثمان أشد من طلحة يوم الدار ولا أغلظ، ولو حكينا من كلامه فيه ما
قد روى لا فنينا به قطعة كبيرة من هذا الكتاب، وقد روى أن عثمان كان



(1) لعله جبل بن عمرو الساعدي وهو أول من اجترأ على عثمان بالمنطق كما في
كامل ابن الأثير 3 / 168.
242
يقول يوم الدار: اللهم اكفني طلحة، ويكرر ذلك علما منه بأنه أشد
القوم عليه، وروي أن طلحة كان عليه، يوم الدار درع، وهو يرامي
الناس، ولم ينزع عن القتال حتى قتل الرجل.
فأما ادعاؤه من الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله (إنه
سيكون فتنة وإن عثمان وأصحابه يومئذ على الهدى) فهو يعلم أن هذه
الرواية الشاذة لا تكون في مقابلة المعلوم ضرورة من إجماع الأمة على خلعه
وخذله، وكلام وجوه المهاجرين والأنصار فيه، وبإزاء هذه الرواية ما
يملأ الطروس عن النبي صلى الله عليه وآله وغيره مما يتضمن ضد ما
تضمنته، ولو كانت هذه الرواية معروفة لكان عثمان أولى الناس
بالاحتجاج بها يوم الدار، وقد احتج عليهم بكل غث وسمين، وقيل
ذلك لما خوصم وطولب بأن يخلع نفسه، ولأحتج عنه بعض أصحابه
وأنصاره، وفي علمنا بأن شيئا من ذلك لم يكن، دلالة على أنها مصنوعة
موضوعة.
فأما ما رواه عن عائشة من قولها: قتل والله مظلوما فأما فأقوال عائشة
فيه معروفة معلومة، وإخراجها قميص رسول الله صلى الله عليه و
آله وسلم، وهي تقول: هذا قميصه لم يبل وقد بليت سنته (1) وغير ذلك
مما لا يحصى كثيرة.
فأما مدحها وثناؤها عليه، فإنما كان عقيب علمها بانتقال الأمر إلى
أمير المؤمنين عليه السلام والسبب فيه معروف وقد وقفت عليه، وقوبل
بين كلامها فيه متقدما ومتأخرا.



(1) في نقل ابن أبي الحديد " وقد أبلى عثمان سنته ".
243
فأما قوله: (لا يمتنع أن يتعلق بأخبار الآحاد في ذلك، لأنها في
مقابلة ما يدعونه مما طريقه أيضا الآحاد) فواضح البطلان، لأن أطباق
الصحابة وأهل المدينة إلا من كان في الدار معه على خلافه، وإنهم كانوا
بين مجاهد ومقاتل مبارز، وبين خاذل متقاعد معلوم ضرورة لكل من سمع
الأخبار، وكيف يدعي أنها من جهة الآحاد حتى يعارض بأخبار شاذة
نادرة؟ وهل هذا إلا مكابرة ظاهرة!.
فأما قوله: (إنا لا نعدل عن ولايته بأمور محتملة) فقد مضى
الكلام في هذا المعنى، وقلنا: إن المحتمل هو ما لا ظاهر له، ويتجاذبه
الأمور المختلفة.
فأما ما له ظاهر فلا يسمى محتملا، وإن سماه بهذه التسمية فقد بينا
إنه مما يعدل من أجله عن الولاية، وفصلنا ذلك تفصيلا بينا.
فأما قوله: (إن للإمام أن يجتهد رأيه في الأمور المنوطة به، ويكون
مصيبا وإن أفضت إلى عاقبة مذمومة) فأول ما فيه أنه ليس للإمام ولا
غيره أن يجتهد في الأحكام، ولا يجوز العمل فيها إلا على النصوص، ثم
إذا سلمنا الاجتهاد فلا شك أن ها هنا أمورا لا يسوغ فيها الاجتهاد، حتى
يكون من خبرنا عنه بأنه اجتهد فيها غير مصدق وتفصيل هذه الجملة يبين
عند الكلام على ما تعاطاه من الأعذار في أحداثه..
ثم ذكر صاحب الكتاب أن عثمان اعتذر مما ينسب إليه من
الأحداث، وذكر عنه أعذارا نحن نتكلم عليها فيما بعد عند استقصاء
صاحب الكتاب لشرحها، فإنه أشار في هذا الموضع إلى جزء من جملة ما
سنذكره عنه، وأدخل في جملة الموافقة على الأحداث غيبة عثمان عن
بدر، وهربه يوم أحد، وأنه لم يشهد بيعة الرضوان، وحكي عن عثمان.

244
الجواب عن ذلك (1) وليس هذا من الأحداث التي نقمت عليه، وطولب
بخلعه نفسه لأجلها، لأنهم نقموا عليه أمورا تجددت منه بعد العقد له،
وليس ما ذكره من هذا الجنس، وإن واقفوا على ذلك إن كانوا وقفوه عليه،
من حيث كان يقتضي نقضا وانحطاطا عن رتبة غيره ممن شهدها أعني هذه
المواطن ولا طائل في تتبع ذلك.
قال صاحب الكتاب: (أما ما ذكروه من توليته من لا يجوز أن
يستعمل فقد علمنا أنه لا يمكن أن يدعي أنه حين استعملهم علم من
أحوالهم خلاف الستر والصلاح، لأن الذي ثبت عنهم من الأمور حدث من
بعد، ولا يمتنع كونهم في الأول مستورين في الحقيقة أو مستورين عنده وإنما كان
يجب تخطئته لو استعملهم وهم في الحال لا يصلحون لذلك
فإن قال: لما علم بحالهم كان يجب أن يعزلهم. قيل له: كذلك
فعل لأنه استعمل الوليد بن عقبة قبل ظهور شرب الخمر منه، فلما شهدوا
عليه بذلك جلده الحد وصرفه وقد روي مثله عن عمر لأنه ولى قدامة بن
مظعون بعض أعماله فشهدوا عليه بشرب الخمر فأشخصه وجلده الحد
فإذا عد ذلك في فضائل عمر لم يجز أن يعد ما ذكروه في الوليد من معائب
عثمان، ويقال: إنه لما أشخصه أقيم عليه الحد بمشهد أمير المؤمنين عليه
السلام واعتذر من عزله سعد بن أبي وقاص بالوليد، بأن سعدا شكاه
أهل الكوفة فأداه اجتهاده إلى عزله بالوليد).
ثم قال: فأما سعيد بن العاص فإنه عزله عن الكوفة وولى مكانه



(1) ما أشار إليه المرتضى تحت قوله " ثم ذكر صاحب الكتاب " هو في المغني ج
20 ق 2 ص 43 - 46 والإشارة المذكورة لم ينقلها ابن أبي الحديد فيما نقله من الشافي في
هذا الموضع.
245
أبا موسى الأشعري، وكذلك عبد الله بن سعد بن أبي سرح عزله وولى
مكانه محمد بن أبي بكر، ولم يظهر له في باب مروان ما يوجب أن يصرفه
عما كان مستعملا فيه، ولو كان ذلك طعنا لوجب مثله في كل من ولى،
وقد علمنا أنه عليه السلام (1) ولى الوليد بن عقبة فحدث منه ما حدث
وحدث من بعض أمراء أمير المؤمنين عليه السلام الخيانة كالقعقاع بن
شور (2) ولاه على ميسان (3) فأخذ مالها ولحق بمعاوية وكذلك فعل الأشعث
ابن قيس بمال آذربيجان وولى أبا موسى الحكم (4) وكان منه ما كان، ولا
يجب أن يعاب أحد بفعل غيره فأما إذا لم يلحقه عيب في ابتداء الولاية فقد
زال العيب فيما عداه (5) * فقولهم أنه قسم الولايات في أقاربه، وزال عن
طريقة الاحتياط للمسلمين، وقد كان عمر حذره من ذلك، فليس بعيب
لأن تولية الأقارب كتولية الأباعد، وأنه يحسن إذا كانوا على صفات
مخصوصة، ولو قيل: إن تقديمهم أولى لم يمتنع ذلك إذا كان المولى لهم
أشد تمكنا من عزلهم، والاستبدال بهم، لكان أقرب وقد ولى أمير
المؤمنين عليه السلام عبد الله بن عباس البصرة وعبيد الله بن عباس اليمن
وقثم بن العباس مكة حتى قال الأشتر عند ذلك على ماذا قتلنا الشيخ
أمس، فيما يروى، ولم يكن ذلك بعيب إذا أدى ما وجب عليه في
اجتهاده * (6).



(1) الضمير في عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله.
(2) القعقاع بن شور الشيباني الوائلي وصف بالجود وحسن الجوار كان جليس
معاوية (انظر الاشتقاق لابن دريد ص 351 والكامل للمبرد 1 / 120).
(3) خراسان خ ل.
(4) يقصد في أمر التحكيم.
(5) المغني 20 ق 2 / 47.
(6) ما بين النجمتين ساقط من المغني.
246
فأما قولهم: إنه كتب إلى ابن أبي سرح حيث ولى محمد بن أبي بكر
بأن يقتله ويقتل أصحابه، فقد أنكر أشد الانكار حتى حلف عليه، وبين
أن الكتاب الذي ظهر ليس كتابه، ولا الغلام غلامه، ولا الراحلة
راحلته، وكان في جملة من خاطبه في ذلك أمير المؤمنين عليه السلام فقبل
عذره، وذلك بين لأن قول كل واحد مقبول في مثل ذلك وقد علم أن
الكتاب قد يجوز فيه التزوير فهو بمنزلة الخبر الذي يجوز فيه الكذب (1) ثم
اعتذر عن قول من يقول قد علم أن مروان هو الذي زور الكتاب لأنه
الذي كان يكتب عنه فهلا أقام الواجب فيه؟ بأن قال: (ليس يجب بهذا
القدر أن يقطع على أن مروان هو الذي فعل ذلك، لأنه وإن غلب ذلك
في الظن، فلا يجوز أن يحكم به، وقد كان القوم يسومونه بتسليم مروان
إليهم، وذلك ظلم لأن الواجب على الإمام أن يقيم الحد على من
يستحقه أو التأديب، ولا يحل له تسليمه من غيره، فقد كان الواجب أن
يثبتوا عنده ما يوجب في مروان الحد ليفعله به، وكان إذا لم يفعل والحال
هذه يستحق التعنيف).
ثم ذكر أن الفقهاء ذكروا في كتبهم أن الأمر بالقتل لا يوجب قودا
ولا دية ولا حدا، فلو ثبت في مروان ما ذكروه لم يستحق القتل، وإن
استحق التعزير لكنه عدل عن تعزيره لأنه لم يثبت.
قال: (وقد يجوز أن يكون عثمان ظن أن هذا الفعل فعل بعض
من يعادي مروان تقبيحا لأمره، لأن ذلك يجوز كما يجوز أن يكون من فعله
ولا يعلم كيف كان اجتهاده وظنه وبعد فإن هذا الحديث من (2) أجل ما



(1) المغني 20 ق 2 / 48.
(2) غ " من آخر ما نقموا ".
247
نقموا عليه، فإن كان شئ من ذلك يوجب خلع عثمان وقتله فليس إلا
ذلك، وقد علمنا أن هذا الأمر لو ثبت ما كان يوجب القتل، لأن الأمر
بالقتل لا يوجب القتل لا سيما قبل وقوع القتل المأمور به (1)).
قال: (فيقال لهم: لو ثبت ذلك على عثمان أكان يجب قتله، فلا
يمكنهم ادعاء ذلك، لأنه بخلاف الدين، ولا بد أن يقولوا: أن قتله
ظلم، فكذلك في حبسه في الدار، ومنعه من الماء، فقد كان يجب أن
يدفع القوم عن كل ذلك، وأن يقال: إن من لم يدفعهم وينكر عليهم
يكون مخطئا، وفي ذلك تخطئة أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله
وسلم).
ثم ذكر (إن مستحق القتل والخلع لا يحل أن يمنع الطعام والشراب
وإن أمير المؤمنين عليه السلام لم يمنع أهل الشام من الماء في صفين، وقد
تمكن من منعهم) وأطنب في ذلك إلى أن قال:
(وكل ذلك يدل على كونه مظلوما، وإن ذلك كان من صنع
الجهال، وأعيان الصحابة كارهون لذلك).
ثم ذكر: (إن قتله لو وجب لم يجز أن يتولاه العوام من
الناس وإن الذين أقدموا على قتله كانوا بهذه الصفة وإذا صح إن قتله لم
يكن لهم فمنعهم والنكير عليهم واجب).
ثم ذكر: (إنه لم يكن منه ما يستحق القتل من ردة أو زنا بعد
إحصان، أو قتل نفس وأنه لو كان منه ما يوجب القتل لكان الواجب أن



(1) المغني 20 ق 2 / 49.
248
يتولاه الإمام، فقتله على كل حال منكر، وإنكار المنكر واجب (1)).
قال: (وليس لأحد أن يقول أنه أباح قتل نفسه من حيث امتنع
من دفع الظلم عنهم، لأنه لم يمتنع من ذلك، بل أنصفهم ونظر في
حالهم، ولأنه لو لم يفعل ذلك لم يحل لهم قتله لأنه إنما يحل قتل الظالم إذا
كان على وجه الدفع (1)) قال: (والمروي أنهم أحرقوا بابه، وهجموا
عليه في منزله وبعجوه بالسيف والمشاقص (2) وضربوا يد زوجته لما وقعت
عليه، وانتهبوا متاع داره، ومثل هذه القتلة لا تحل في الكافر والمرتد،
فكيف يظن أن الصحابة لم تنكر ذلك، ولم تعده ظلما حتى يقال: إنه
مستحق من حيث لم يدفع القوم عنه (3)).
ثم قص شيئا من قصته في تجمع القوم عليه وتوسط أمير المؤمنين
عليه السلام لأمرهم، وأنه بذل لهم ما أرادوه، وأعتبهم (4) وأشهد على
نفسه بذلك حرفه ولم يأت به على وجهه وذكر قصة الكتاب الذي وجدوه
بعد ذلك المتضمن لقتل القوم، وذكر أن أمير المؤمنين عليه السلام واقفه
على الكتاب، فحلف أنه ما كتبه ولا أمر به، فقال له: فمن تتهم؟ قال: ما
أتهم أحدا، وأن للناس لحيلا، وذكر أن الرواية ظاهرة بقوله: إن كنت
أخطأت أو تعمدت، فإني تائب مستغفر، قال: (فكيف يجوز والحال هذه
أن تهتك فيه حرمة الاسلام، وحرمة البلد الحرام).
قال: * (ولا شبهة أن القتل على وجه الغيلة حرام لا يحل فيمن



(1) المغني 20 ق 2 / 49.
(2) المشاقص جمع مشقص - وهو النصل العريض.
(3) المغني 20 ق 2 / 50.
(4) أعتبهم: طلب رضاهم.
249
يستحق القتل فكيف فيمن لا يستحقه؟ ولولا أنه كان يمنع من محاربة
القوم ظنا منه بأن ذلك يؤدي إلى القتل الذريع لكثرة * (1) نصاره) وحكي
أن الأنصار بذلت معونته ونصرته وأن أمير المؤمنين عليه السلام بعث إليه
الحسن عليه السلام فقال له: قل لأبيك: فليأتني، وأراد أمير المؤمنين
عليه السلام المصير إليه فمنعه من ذلك ابنه محمد، واستغاث بالنساء
عليه حتى جاء الصريخ (2) بقتل عثمان، فمد يده إلى القبلة، وقال:
اللهم إني أبرء إليك من دم عثمان (3).
ثم قال: (إن قالوا إنهم اعتقدوا أنه من المفسدين في الأرض،
وإنه داخل تحت آية المحاربين، قيل لهم: فقد كان يجب أن يتولى الإمام
هذا الفعل، لأن ذلك يجري مجرى الحد) قال: (وكيف يدعي ذلك
والمشهور عنه إنه كان يمنع من مقاتلتهم، حتى روي أنه قال لعبيده
ومواليه، وقد هموا بالقتال: من أغمد سيفه فهو حر، وقد كان مؤثرا
للنكير لذلك الأمر إلا أنه بما لا يؤدي إلى إراقة الدماء والفتنة، فلذلك لم
يستعن بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، وإن كان لما اشتد
الأمر أعانه من أعانه [ونصره من أدركه (4)] لأن عند ذلك تجب النصرة
والمعونة لا بأمره، فحيث وقفت النصرة على أمره امتنعوا وتوقفوا، وحيث
اشتد الأمر كانت إعانته ممن أدركه دون من لم يقدر ويغلب ذلك في
ظنه... (5)).



(1) ما بين النجمتين ساقط من المغني
(2) الصريخ: المستغيث.
(3) المغني 20 ق 2 / 50.
(4) الزيادة من " المغني " وفي كلام القاضي وما في الشافي تفاوت في الحروف لا
في المعنى.
(5) المغني 20 ق 2 / 50 مع تفاوت في بعض الحروف لا في المعنى.
250
يقال له: أما اعتذاره في ولاية عثمان من ولاه من الفسقة، بأنه لم
يكن عالما بذلك من حالهم قبل الولاية، وإنما تجدد منهم ما تجدد فعزلهم،
فليس بشئ يعول على مثله، لأنه لم يول هؤلاء النفر إلا وحالهم مشهورة
في الخلاعة والمجانة (1) والتحرم والتهتك، ولم يختلف اثنان في أن الوليد بن
عقبة لم يستأنف التظاهر بشرب الخمر، والاستخفاف بالدين، على
استقبال ولايته الكوفة، بل هذه كانت سنته والعادة المعروفة منه، وكيف
يخفى على عثمان - وهو قريبه ولصيقه وأخوه لأمه من حاله ما لا يخفى على
الأجانب الأباعد؟ فلهذا قال له سعد بن أبي وقاص في رواية الواقدي وقد
دخل الكوفة يا أبا وهب (2)، أميرا أم زائرا قال: بل أميرا فقال سعد: ما
أدري أحمقت بعدك أم كيست (3) بعدي؟ قال: ما حمقت بعدي ولا كيست
بعدك ولكن القوم ملكوا فاستأثروا، فقال سعد: ما أراك إلا صادقا.
وفي رواية أبي مخنف لوط بن يحيى أن الوليد لما دخل الكوفة مر على
مجلس عمرو بن زرارة النخعي فوقف، فقال عمرو: يا معشر بني أسد
بئس ما استقبلنا به أخوكم ابن عفان، من عدله أن ينزع عنا ابن أبي
وقاص، الهين اللين السهل القريب، ويبعث علينا أخاه الوليد، الأحمق
الماجن الفاجر قديما وحديثا واستعظم الناس مقدمه، وعزل سعد به،
وقالوا: أراد عثمان كرامة أخيه بهوان أمة محمد صلى الله عليه وآله
وسلم! وهذا تحقيق ما ذكرناه من حاله كانت مشهورة قبل الولاية، لا



(1) المجانة - بفتح الميم - والمجون - بضمها - ومعناهما واحدة، والفاعل
ماجن: وهو الذي يا يبالي ما صنع.
(2) أبو وهب: كنية الوليد.
(3) الحمق - بسكون الميم وضمها - قلة العقل، يقال: حمق - بضم الميم -
من باب ظرف فهو أحمق، وتكسر الميم أيضا، والكيس بوزن الكيل: ضده.
251
ريب فيها على أحد، فكيف يقال: إنه كان مستورا حتى ظهر منه ما
ظهر؟ وفي الوليد نزل قوله تعالى: (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا
يستوون (1)) فالمؤمن ها هنا علي بن أبي طالب عليه السلام والفاسق
الوليد على ما ذكره أهل التأويل (2) وفيه نزل قوله تعالى: (يا أيها الذين
آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما
فعلتم نادمين (3)) والسبب في ذلك أنه كذب على بني المصطلق عند رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم، وادعى أنهم منعوه الصدقة (4) ولو قصصنا
مخازيه المتقدمة ومساويه لطال الشرح.
وأما شربه الخمر بالكوفة وسكره، حتى دخل عليه من دخل
وأخذ خاتمه من أصبعه، وهو لا يعلم، فظاهر قد سارت به الركبان،
كذلك كلامه في الصلاة والتفاته إلى من يقتدي به فيها وهو سكران، وقوله
لهم: أزيدكم فقالوا: لا، قد قضينا صلاتنا، حتى قال الحطيئة في
ذلك (5):
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه * إن الوليد أحق بالعذر
نادى وقد تمت صلاتهم * أأزيدكم ثملا وما يدري
ليزيدهم خيرا ولو قبلوا * منه لزادهم على عشر
فأبوا أبا وهب ولو فعلوا * لقرنت بين الشفع والوتر



(1) السجدة / 18.
(2) انظر تفسير الطبري 21 / 68.
(3) الحجرات: 6.
(4) انظر تفسير الطبري 26 / 78.
(5) الذي في الأغاني 4 / 178 ط بولاق " إن الحطيئة قال بعد ما جلد الوليد
يكذب عنه.
شهد الحطيئة... البيت * خلعوا عنانك... البيت
وبعده:
ورأوا شمائل ماجد أنف * يعطي على الميسور والعسر
فنزعت مكذوبا عليك ولم * تنزع إلى طمع ولا فقر
فقال رجل من بني عجل يرد على الحطيئة:
نادى وقد تمت... إلى آخر الأبيات مع تفاوت يسير ولكن الذي يضعف هذه
الرواية أنها من طريق الزبير بن بكار وهو معروف بالتلاعب بالروايات، وتحريف
الكلم عن مواضعه، والذي تكلم في الصلاة... الخ فمن شعر الحطيئة الذي لا
يشك فيه، انظر ديوانه ص 85.
252
حبسوا عنانك إذ جريت ولو * خلوا عنانك لم تزل تجري
وقال أيضا فيه:
تكلم في الصلاة وزاد فيها * علانية وجاهر بالنفاق
ومج الخمر في سنن المصلى * ونادى والجميع إلى افتراق
أزيدكم على أن تحمدوني * فما لكم وما لي من خلاق
فأما قوله: إنه جلده الحد وعزله، فبعد أي شئ كان ذلك؟ ولم
يعزله إلا بعد أن دافع ومانع، واحتج عنه وناضل، فلو لم يكن أمير
المؤمنين عليه السلام قهره على رأيه لما عزله، ولا مكن من جلده، وقد
روى الواقدي أن عثمان لما جاءه الشهود يشهدون على الوليد بشرب الخمر
أوعدهم وتهددهم.
قال الراوي ويقال: إنه ضرب بعض الشهود أسواطا فاتوا أمير
المؤمنين فشكوا إليه فأتى عثمان فقال: عطلت الحدود وضربت قوما
شهودا على أخيك فقلبت الحكم، وقد قال عمر: لا تحمل بني أمية وآل
أبي معيط على رقاب الناس قال: فما ترى؟ قال: أرى أن تعزله ولا توليه
شيئا من أمور المسلمين، وأن تسأل عن الشهود فإن لم يكونوا أهل ظنة ولا

253
عداوة أقمت على صاحبك الحد، وتكلم في مثل ذلك طلحة والزبير
وعائشة وقالوا أقوالا شديدة وأخذته الألسن من كل جانب فحينئذ عزله
ومكن من إقامة الحد عليه.
وروى الواقدي أن الشهود لما شهدوا عليه، في وجهه وأراد عثمان
أن يحده ألبسه جبة خز وأدخله بيتا فجعل إذا بعث إليه رجلا من قريش
ليضربه، قال له الوليد: أنشدك الله أن تقطع رحمي وتغضب أمير
المؤمنين، فيكف، فلما رأى أمير المؤمنين عليه السلام ذلك أخذ السوط
ودخل عليه، فجلده به، فأي عذر له في عزله وجلده بعد هذه الممانعة
الطويلة، والمدافعة التامة؟
وقصة الوليد مع الساحر الذي يلعب بين يديه ويغر الناس بمكره
وخديعته، وإن جندب بن عبد الله الأزدي، امتعض من ذلك ودخل
عليه، فقتله وقال له أحي نفسك إن كنت صادقا وإن الوليد أراد أن يقتل
جندبا بالساحر حتى أنكر الأزد ذلك عليه فحبسه وطال حبسه حتى هرب
من السجن معروفة مشهورة (1).
فإن قيل: فقد ولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوليد بن
عقبة صدقة بني المصطلق وولى عمر الوليد أيضا صدقة تغلب (2) فكيف
يدعون أن حاله في أنه لا يصلح للولاية ظاهرة؟



(1) في سفينة البحار 1 / 183 مادة " جندب ": " جندب بن كعب هو الذي
قتل الساحر الذي يلعب بين يدي الوليد بن عقبة ويرى أنه يقطع رأس رجل ثم
يعيده، ويدخل في فم الحمار ويخرج من استه وبالعكس فلما قتله حبسه الوليد " وانظر
الإصابة حرف الجيم ق 1 بترجمته.
(2) بني تغلب، خ ل.
254
قلنا: لا جرم أنه غر رسول الله صلى الله عليه وآله وكذب
على القوم حتى نزلت الآية التي قدمنا ذكرها فعزله وليس خطب ولاية
الصدقة خطب ولاية الكوفة فأما عمر لما بلغه قوله:
إذا ما شددت الرأس مني بمشوذ * فويلك مني تغلب ابنة وائل (1)
وأما عزل أمير المؤمنين عليه السلام بعض أمرائه لما ظهر منه الحدث
كالقعقاع بن شور وغيره وكذلك عزل عمر قدامة بن مظعون لما شهدوا
عليه، بشرب الخمر وجلده له فإنه لا يشبه ما تقدم لأن كل واحد ممن
ذكرناه لم يول الأمر إلا من هو حسن الظن عند توليته فيه، حسن الظاهر
عنده وعند الناس، غير معروف باللعب، ولا مشهور بالفساد، ثم لما
ظهر منه ما ظهر لم يحام عنه، ولا كذب الشهود عليه وكابرهم، بل عزله
مختارا غير مضطر وكل هذا لم يجر في أمراء عثمان، ولأنا قد بينا كيف كان
عزل الوليد، وإقامة الحد عليه.
فأما أبو موسى فإن أمير المؤمنين عليه السلام لم يوله الحكم مختارا،
لكنه غلب على رأيه وقهر على أمره ولا رأي لمقهور.
فأما قوله: (إن ولاية الأقارب كولاية الأباعد، بل الأباعد أجدر
وأولى أن يقدم الأقارب عليهم، من حيث كان التمكن من عزلهم أشد)
وذكر تولية أمير المؤمنين عليه السلام عبد الله وعبيد الله وقثما بني العباس،
وغيرهم فليس بشئ، لأن عثمان لم تنقم عليه تولية الأقارب من حيث
كانوا أقارب، بل من حيث كانوا أهل بيت الظن والتهمة، ولهذا حذره
عمر منهم وأشعر بأنه يحملهم على رقاب الناس، وأمير المؤمنين عليه



(1) المشوذ: العمامة.
255
السلام لم يول من أقاربه متهما ولا ظنينا، وحين أحس من ابن عباس
بعض الريبة لم يمهله ولا احتمله، وكاتبه بما هو مشهور سائر ظاهر، ولو لم
يجب على عثمان أن يعدل عن ولاية أقاربه إلا من حيث جعل عمر ذلك
سبب عدوله عن النص عليه وشرط عليه يوم الشورى أن لا يحمل أقاربه
على رقاب الناس، ولا يؤثرهم لمكان القرابة بما لا يؤثر به غيرهم، لكان
صارفا قويا فضلا عن أن ينضاف إلى ذلك ما انضاف من خصالهم
الذميمة، وطرائقهم القبيحة.
فأما سعيد بن العاص فإنه قال في الكوفة: إنما السواد بستان
لقريش تأخذ منه ما شاءت وتترك، حتى قالوا له: أتجعل ما أفاء الله علينا
بستانا لك ولقومك! ونابذوه وأفضى ذلك الأمر إلى تسييره من سير من
الكوفة والقصة مشهورة ثم انتهى الأمر إلى منع أهل الكوفة سعيدا من
دخولها، وتكلموا فيه وفي عثمان كلاما ظاهرا، حتى كادوا يخلعون عثمان
فاضطر حينئذ إلى إجابتهم إلى ولاية أبي موسى فلم يصرف سعيدا مختارا بل
ما صرفه جملة، وإنما صرفه أهل الكوفة عنهم.
فأما قوله: (إنه أنكر الكتاب المتضمن لقتل محمد بن أبي بكر
وأصحابه، وحلف إن الكتاب ليس كتابه، ولا الغلام غلامه، ولا
الراحلة راحلته، وإن أمير المؤمنين عليه السلام قبل عذره) فأول ما فيه أنه
حكى القصة بخلاف ما جرت عليه، لأن جميع من روى هذه القصة ذكر
إنه اعترف بالخاتم والغلام والراحلة، وإنما أنكر أن يكون أمر
بالكتاب (1) لأنه روي أن القوم لما ظفروا بالكتاب قدموا المدينة، فجمعوا
أمير المؤمنين عليه السلام وطلحة والزبير وسعدا وجماعة الأصحاب، ثم



(1) انظر العقد الفريد 4 / 289.
256
فكوا الكتاب بمحضر منهم وأخبروهم بقصة الغلام، فدخلوا على عثمان
والكتاب مع أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: هذا الغلام غلامك؟
قال نعم قال والبعير بعيرك قال نعم قال: فأنت كتبت هذا الكتاب قال:
لا وحلف بالله أنه ما كتب الكتاب ولا أمر به، فقال له: فالخاتم
خاتمك؟ فقال: نعم قال: كيف يخرج غلامك ببعيرك بكتاب عليه
خاتمك، ولا تعلم به؟
وفي رواية أخرى، إنه لما واقفه قال له عثمان: أما الخط فخط
كاتبي، وأما الخاتم فعلى خاتمي قال: فمن تتهم؟ قال: اتهمك، واتهم
كاتبي فخرج أمير المؤمنين مغضبا وهو يقول: بل هو أمرك، ولزم داره
وقعد عن توسط أمره حتى جرى ما جرى من أمره.
وأعجب الأمور قوله لأمير المؤمنين عليه السلام إني أتهمك،
وتظاهره بذلك، وتلقيه إياه في وجهه بهذا القول، مع بعد أمير المؤمنين
عليه السلام عن التهمة والظنة في كل شئ ثم في أمره خاصة، فإن القوم
في الدفعة الأولى أرادوا أن يعجلوا له ما أخروه، حتى قام أمير المؤمنين
عليه السلام بأمره وتوسطه، وأصلحه وأشار إليه بأن يقاربهم ويعتبهم،
حتى انصرفوا عنه، وهذا فعل النصيح المشفق الحدب المتحنن ولو كان
عليه السلام وحوشي من ذلك متهما عليه، لما كان للتهمة مجال عليه في أمر
الكتاب خاصة لأن الكتاب بخط عدو الله وعدو رسوله وعدو أمير المؤمنين
عليه السلام مروان، وفي يد غلام عثمان، ومختوم بخاتمه، ومحمول على
بعيره، فأي ظن تعلق بأمير المؤمنين عليه السلام في هذا المكان لولا
العداوة وقلة الشكر للنعمة، ولقد قال له المصريون لما جحد أن يكون
الكتاب كتابه شيئا لا زيادة عليه في باب الحجة، لأنهم قالوا: إذا كنت ما
كتبته ولا أمرت به فأنت ضعيف، من حيث تم عليك أن يكتب كاتبك

257
فيما يختمه بخاتمك، وينفذه بيد غلامك، على بعيرك بغير أمرك، ومن تم
عليه مثل ذلك لا يصلح أن يكون واليا على أمور المسلمين، فاختلع عن
الخلافة على كل حال، وقد كان يجب على صاحب الكتاب أن يستحيي
من قوله: (إن أمير المؤمنين عليه السلام قبل عذره) وكيف يقبل عذر
من يتهمه ويشنعه وهو له ناصح، وما قاله أمير المؤمنين عليه السلام بعد
سماع هذا القول منه معروف.
وقوله: (إن الكتاب يجوز فيه التزوير) وليس بشئ لأنه لا يجوز
التزوير في الكتاب والغلام والبعير، وهذه الأمور إذا انضاف بعضها إلى
بعض بعد فيها التزوير وقد كان يجب على كل حال أن يبحث عن القصة
وعمن زور الكتاب وأنفذ الرسول ولا ينام عن ذلك. ولا ينيم حتى يعرف
من أين دهي وكيف تمت الحيلة عليه فيحترز من مثلها؟ ولا يغضى عن
ذلك إغضاء خائف له ساتر عليه، مشفق من بحثه وكشفه.
فأما قوله: (إنه وإن غلب في الظن أن مروان كتب الكتاب، فإن
الحكم بالظن لا يجوز، وتسليمه إلى القوم على ما ساموه إياه ظلم
لأن الحد والتأديب إذا وجب عليه فالإمام يقيمه دونهم) فتعلل (1) منه
بالباطل، لأنا لا نعمل إلا على قوله: في أنه لم يعلم أن مروان هو الذي
كتب الكتاب وإنما غلب في ظنه، أما كان يستحق بهذا الظن بعض
التعنيف والزجر والتهديد؟ أو ما كان يجب مع وقوع التهمة وقوة الإمارات
في أنه جالب الفتنة وسبب الفرقة أن يبعده عنه، ويطرده من داره،
ويسلبه نعمته، وما كان يخصه به من إكرامه؟ وما في هذه الأمور أظهر
من أن ينبه عليه.



(1) التعلل: التلهي وفي ح " فتعلل بما لا يجدي ".
258
وأما قوله: (إن الأمر بالقتل لا يوجب قودا ولا دية ولا سيما قبل
وقوع القتل المأمور به) فهب أن ذلك على ما قال أما يوجب على الآمر
بالقتل تأديبا ولا تعزيرا ولا طردا ولا إبعادا؟.
وقوله: (لم يثبت ذلك) فقد مضى ما فيه وبينا أنه لم يستعمل فيه
ما يجب استعماله من البحث والكشف، وتهديد المتهم وطرده وإبعاده،
والتبرؤ من التهمة بما يتبرأ به من مثلها.
فأما قوله: (إن قتله ظلم، وكذلك حبسه في الدار ومنعه من
الماء، وإن استحق القتل أو الخلع، لا يحل أن يمنع الطعام والشراب
وأطنابه في ذلك وقوله: (إن من لم يدفع عن ذلك من الصحابة يجب أن
يكون مخطئا) وقوله: (إن قتله أيضا لو وجب لم يجز أن يتولاه العوام من
الناس) فباطل، لأن الذين قتلوه، لا ينكر أن يكونوا ما تعمدوا قتله،
وإنما طالبوه بأن يخلع نفسه لما ظهر من أحداثه، ويعتزل الأمر اعتزالا
يتمكنون معه من إقامة غيره، فلج وصمم على الامتناع، وأقام على أمر
واحد، فقصد القوم بحصره إلى أن يلجئوه إلى خلع نفسه، فاعتصم
بداره، واجتمع إليه نفر من أوباش بني أمية يدفعون عنه، ثم يرمون من
دنى من الدار، فانتهى الأمر إلى القتال بتدريج. ثم إلى القتل، ولم يكن
القتال ولا القتل مقصودا في الأصل، وإنما أفضى الأمر إليهما بتدريج
وترتيب، وجرى ذلك مجرى ظالم غلب انسانا على رحله ومتاعه،
فالواجب على المغلوب أن يمانعه ويدافعه ليخلص ماله من يده. ولا يقصد
إلى إتلافه، ولا قتله، فإن أفضى الأمر إلى ذلك، بلا قصد كان معذورا
وإنما خاف القوم في التأني به، والصبر عليه إلى أن يخلع نفسه من كتبه
التي طارت في الآفاق يستنصر عليهم، ويستقدم الجيوش إليه، ولم يأمنوا
أن يرد بعض من يدفع عنه، فيؤدي ذلك إلى الفتنة الكبرى، والبلية

259
العظمى.
وأما منع الماء والطعام فما فعل ذلك إلا تضييقا عليه ليحرج
ويحوج (1) إلى الخلع الواجب عليه، وقد يستعمل في الشريعة مثل ذلك
فيمن لجأ إلى الحرم من ذوي الجنايات، فتعذر إقامة الحد عليه، لمكان
الحرم، على أن أمير المؤمنين عليه السلام قد أنكر منع الماء والطعام،
وأنفذ من مكن من حمل ذلك. لأنه قد كان في الدار من النساء والحرم و
الصبيان من لا يحل منعه الطعام والشراب، ولو أن حكم المطالبة بالخلع والتجمع
عليه والتضافر (2) فيه حكم منع الطعام والشراب في القبح والمنكر لأنكره
أمير المؤمنين عليه السلام ومنع منه كما منع من غيره، فقد روي عنه عليه
السلام أنه لما بلغه أن القوم قد منعوا من في الدار من الماء قال عليه السلام لا
أرى ذلك في الدار صبيان وعيال لا أرى أن يقتل هؤلاء عطشا بجرم
عثمان، فصرح بالمعنى الذي ذكرناه، ومعلوم أن أمير المؤمنين عليه
السلام ما أنكر المطالبة بالخلع بل كان مساعدا على ذلك مشاورا فيه.
فأما قوله: (إن قتل الظالم إنما يحل على سبيل الدفع) فقد بينا أنه
لا ينكر أن يكون قتله وقع على هذا الوجه، لأن في تمسكه بالولاية عليهم
وهو لا يستحقها، في حكم الظالم لهم، فمدافعته واجبة.
فأما ما قصه من قصة الكتاب الموجودة، فقد حرفها لأنا قد ذكرنا
شرحها الذي وردت به الرواية وهو بخلاف ما ذكره.
وأما قوله: (أنه قال إن كنت أخطأت أو تعمدت فإني تائب إلى الله
مستغفر) فقد أجابه القوم عن هذا فقالوا: هكذا قلت في المرة الأولى



(1) ويجيب، خ ل.
(2) تضافروا على الشئ: تعاونوا.
260
وخطبت على المنبر بالتوبة والاستغفار، ثم وجدنا كتابك بما يقتضي
الاصرار على أقبح ما عتبنا منه فكيف نثق بتوبتك واستغفارك؟
فأما قوله: (إن القتل على وجه الغيلة لا يحل فيمن يستحق القتل
فكيف فيمن لا يستحقه؟) فقد بينا أنه لم يكن على سبيل الغيلة، وأنه لا
يمتنع أن يكون إنما وقع على سبيل المدافعة.
فأما ادعاؤه أنه منع من نصرته، وأقسم على عبيده في ترك القتال،
فقد كان ذلك لعمري في ابتداء الأمر طلبا للسلامة، وظنا منه بأن الأمر
يصلح، والقوم يرجعون عما هم عليه، وما هموا به، فلما اشتد الأمر
ووقع اليأس من الرجوع والنزوع لم يمنع أحدا من نصرته، والمحاربة
عنه، وكيف يمنع من ذلك وقد بعث إلى أمير المؤمنين عليه السلام يستنصره
ويستصرخه! والذي يدل على ذلك أنه لم يمنع في الابتداء من محاربتهم إلا
للوجه الذي ذكرناه دون غيره. أنه لا خلاف بين أهل الرواية في أن كتبه
تفرقت في الآفاق يستنصر ويستدعي الجيوش، فكيف يرغب عن نصرة
الحاضر من يستدعي نصرة الغائب،
فأما قوله: (إن أمير المؤمنين عليه السلام أراد أن يأتيه حتى منعه
ابنه محمد) فقول بعيد مما جاءت به الرواية جدا لأنه لا إشكال في أن أمير
المؤمنين عليه السلام لما واجهه عثمان بأنه يتهمه ويستغشه انصرف مغضبا
عاملا على أنه لا يأتيه أبدا قائلا فيه ما يستحقه من الأقوال.
فأما قوله في جواب سؤال من قال: إنهم اعتقدوا فيه أنه من
المفسدين في الأرض وآية المحاربين تتناوله (وقد كان يجب أن يتولى الإمام
ذلك الفعل بنفسه لأن يجري مجرى الحد) فطريف لأن الإمام يتولى ما
يجري هذا المجرى إذا كان منصوبا ثابتا، ولم يكن على مذهب أكثر القوم
هناك إمام يقوم بالدفع عن الدين، والذب عن الأمة، جاز أن تتولى

261
الأمة ذلك بنفوسها.
وما رأيت أعجب من ادعاء مخالفينا أن أصحاب رسول الله عليه
السلام كانوا كارهين لما جرى عليه، وأنهم كانوا يعتقدونه منكرا وظلما،
وهذا يجري عند من تأمله مجرى دفع الضرورة قبل النظر في الأخبار،
وسماع ما ورد من شرح هذه القصة، لأنه معلوم أن ما يكرهه جميع
الصحابة أو أكثرهم في دار عزهم، وبحيث ينفذ أمرهم ونهيهم، لا يجوز
أن يتم، ومعلوم أن نفرا من أهل مصر لا يجوز أن يقدموا المدينة، وأن
يغلبوا جميع المسلمين على آرائهم ويفعلوا ما يكرهونه بإمامهم بمرأى منهم
ومسمع، وهذا معلوم بطلانه بالبداهة والضرورات، قبل مجئ الآثار
وتصفح الأخبار، وتأملها.
وقد روى الواقدي عن ابن أبي الزناد عن ابن أبي جعفر القاري مولى بني
مخزوم قال: كان المصريون الذين حصروا عثمان ستمائة عليهم عبد الرحمن
ابن عديس البلوى (1) وكنانة بن بشر الكندي (2) وعمرو بن الحمق
الخزاعي (3) والذين قدموا من الكوفة مائتين عليهم مالك بن الحارث الأشتر



(1) عبد الرحمن بن عديس البلوي صحابي من أهل بيعة الشجرة، شهد فتح
مصر واختط بها، وكان من الفرسان، وكان رئيس الخيل التي سارت إلى عثمان، ولما
آل الأمر إلى معاوية سجنه بفلسطين فهرب من السجن فتبعه فارس فقتله سنة 36.
(انظر الإصابة، حرف العين ق 1).
(2) كنانة بن بشر بن عتاب له إدراك، قال في الإصابة حرف الكاف ق 3:
شهد فتح مصر وقتل بفلسطين سنة 36.
(3) عمرو بن الحمق الخزاعي صحابي دعا له النبي صلى الله عليه وآله أن يمتعه
بشبابه فمرت له ثمانون سنة ما فيه شعرة بيضاء، سكن الشام ثم الكوفة وكان ممن قام على
عثمان مع أهلها، وشهد مع علي عليه السلام حروبه، وكان من أعوان حجر بن
عدي الكندي، فلما قبض زياد على حجر هرب عمرو إلى الموصل فقتله عامل الموصل
وبعث برأسه إلى معاوية فكان أول رأس أهدي في الاسلام (انظر الإصابة حرف
العين، ق 1).
262
النخعي (1) والذين قدموا من البصرة مائة رجل رئيسهم حكيم بن جبلة
العبدي (2) وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين خذلوه لا
يرون أن الأمر يبلغ بهم إلى القتل، ولعمري لو قام بعضهم فحثا التراب
في وجوه أولئك لانصرفوا، وهذه الرواية تضمنت من عدد القوم الوافدين
في هذا الباب أكثر مما تضمنه غيرها.
وروى شعبة بن الحجاج عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن قال:
قلت له: كيف لم يمنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن



(1) مالك بن الحارث الأشتر من كبار التابعين ومن أشهر أصحاب أمير المؤمنين
علي عليه السلام، أما سبب تلقيبه بالأشتر فقد نقل الأمير أسامة بن منقذ الكناني في
كتابه الموسوم ب‍ " الاعتبار " ص 37 أنه لما ارتد العرب أيام أبي بكر (رض) جهز
العساكر إلى المرتدين، فكان أبو مسيكة الأيادي مع بني حنيفة، وكان أشد العرب
شوكة، وكان مالك في جيش أبي بكر فلما تواقفوا برز مالك بين الصفين وصاح يا أبا
مسيكة بعد الاسلام وقراءة القرآن رجعت إلى الكفر! فقال: إليك عني يا مالك إنهم
يحرمون الخمر ولا صبر لي عليها، قال: فهل لك في المبارزة؟ قال: نعم، فالتقيا
فضربه أبو مسيكة فشق رأسه وشتر عينه - وبتلك الضربة سمي الأشتر - (الشتر -
بفتحتين -: انقلاب في جفن العين) فرجع وهو معتنق فرسه إلى رحله فاجتمع عليه
قوم من أهله يبكون، فقال لأحدهم أدخل يدك في فمي فأدخل إصبعه في فمه فعضها
مالك فالتوى الرجل من العضة فقال مالك: لا بأس على صاحبكم، يقال:
" إذا سلمت الأضراس سلم الرأس " احشوها - يعني الضربة - سويقا فحشوها
وشدوها بعمامته ثم قال: هاتوا فرسي قالوا إلى أين؟ قال: إلى أبي مسيكة فبرز بين
الصفين وصاح يا أبا مسيكة فخرج إليه مثل السهم فضربه مالك بالسيف على كتفه
فشقها إلى سرجه فقتله فرجع إلى رحله فبقي أربعين يوما لا يستطيع الحراك ثم أبل
وعوفي، توفي مالك مسموما حيث دس إليه معاوية مولى لآل عمر عند توجهه إلى مصر
فسقاه عسلا مسموما في قصة معروفة.
(2) حكيم - بضم أوله مصغرا - بن جبلة العبدي أدرك النبي صلى الله عليه وآله
وسلم وكان عثمان بعثه إلى السند ثم نزل البصرة وقتل بها يوم الجمل (انظر الإصابة
حرف الحاء ق 3 بترجمته) ويعني بيوم الجمل يوم الجمل الأصغر الذي حدث قبل قدوم
أمير المؤمنين عليه السلام البصرة راجع في تفصيل ذلك شرح نهج البلاغة لابن أبي
الحديد ح 9 ص 218 - 223.
263
عثمان؟ قال إنما قتله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله.
وروي عن أبي سعيد الخدري أنه سئل عن مقتل عثمان هل شهده
واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: نعم
شهده ثمانمائة، وكيف يقال: إن القوم كانوا كارهين، وهؤلاء المصريون
كانوا يغدون إلى كل واحد منهم ويروحون ويشاورونه فيما يصنعونه، وهذا
عبد الرحمن بن عوف وهو عاقد الأمر لعثمان، وجالبه إليه، ومصيره في
يده، يقول على ما رواه الواقدي قد ذكر له عثمان في مرضه الذي مات
فيه: عاجلوه قبل أن يتمادى في ملكه فبلغ عثمان ذلك فبعث إلى بئر كان
يسقى منها نعم عبد الرحمن فمنع منها، ووصى عبد الرحمن أن لا يصلي
عليه عثمان، فصل عليه الزبير أو سعد بن أبي وقاص، وقد كان حلف
لما تتابعت أحداثه ألا يكلم عثمان أبدا.
وروى الواقدي قال: لما توفي أبو ذر بالربذة (1) تذاكر أمير المؤمنين
عليه السلام وعبد الرحمن فعل عثمان فقال أمير المؤمنين عليه السلام:
هذا عملك، فقال له عبد الرحمن فإذا شئت: فخذ سيفك وأخذ سيفي
أنه خالف ما أعطاني.
فأما محمد بن مسلمة (2) فإنه أرسل إليه عثمان يقول له عند قدوم
المصريين في الدفعة الثانية: أردد عني، فقال: لا والله لا اكذب الله في



(1) النعم واحدة الأنعام وهي الأموال الراعية وأكثر ما يقع هذا الاسم على
الإبل.
(2) الربذة بين المدينة وبدر وتسمى اليوم " الواسطة " تقع على يمين الذاهب إلى المدينة
بها قبر أبي ذر الغفاري والموضع معروف في تلك المنطقة وقد زرته مرارا عند العودة من
الحج إلى المدينة.
(3) محمد بن مسلمة الأنصاري الأوسي أسلم قديما وشهد بدرا فما بعدها كان
عند عمر معدا لكشف الأمور المعضلة في البلاد سكن الربذة بعد قتل عثمان
واعتزل أيام علي عليه السلام وتوفي سنة 46 (الإصابة حرف الميم ق 1).
264
سنة مرتين، وإنما عني بذلك أنه كان أحد من كلم المصريين في الدفعة
الأولى وضمن لهم عن عثمان الرضا.
وفي رواية الواقدي، إن محمد بن مسلمة كان يؤتى وعثمان محصور
فيقال له: عثمان مقتول فيقول: هو قتل نفسه أما كلام أمير المؤمنين
صلوات الله عليه وسلامه وطلحة والزبير وعائشة وجميع الصحابة واحدا
واحدا، فلو تعاطينا ذكره لطال به الشرح، ومن أراد أن يقف على أقوالهم
مفصلة، وما صرحوا به من خلعه والاجلاب عليه، فعليه بكتاب
الواقدي فقد ذكر هو وغيره من ذلك ما لا زيادة عليه في هذا الباب.
قال صاحب الكتاب: (فأما رده الحكم بن أبي العاص (1) فقد روى
عنه أنه لما عوتب في ذلك، ذكر أنه كان استأذن رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم، وإنما لم يقبل أبو بكر وعمر قوله لأنه شاهد واحد، وكذلك
روى عنهما فكأنهما جعلا ذلك بمنزلة الحقوق التي تخص فلم يقبلا فيه خبر
الواحد، وأجرياه مجرى الشهادة، فلما صار الأمر إلى عثمان حكم
بعلمه، لأن للحاكم أن يحكم بعلمه في هذا الباب وفي غيره عند شيخنا (2)
ولا يفصلان بين حد وحق لا أن يكون العلم قبل الولاية، أو حال
الولاية، ويقولان أنه أقوى في الحكم من البينة والاقرار (3) ثم ذكر عن
أبي علي أنه لا وجه يقطع به على كذب روايته في أذن الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم في رده، فلا بد من تجويز كونه معذورا ثم سأل نفسه في أن
الحاكم إنما يحكم بعلمه مع زوال التهمة، وأن التهمة كانت في رد الحكم



(1) الحكم بن أبي العاص بن أمية عم عثمان (رض) (انظر ترجمته في أسد
الغابة 3 / 34 / وانظر أسباب نفيه إلى الطائف بترجمته من الإصابة (حرف الحاء
ق 1).
(2) يريد الكعبي والجبائي وقد تكرر ذكرهما في الكتاب.
(3) المغني 20 ق 2 / 51.
265
قوية لقرابته، وأجاب (بأن الواجب على غيره أن لا يتهمه إذا كان لفعله
وجه يصح عليه، لأنه قد نصب منصبا يقتضي زوال التهمة عنه وحمل
أفعاله على الصحة ولو جوزنا امتناعه للتهمة لأدى إلى بطلان كثير من
الأحكام).
وحكي عن أبي الحسين الخياط (1) (إنه لو لم يكن في رده إذن من
رسول الله صلى الله عليه وآله لجاز أن يكون طريقه الاجتهاد، لأن
النفي إذا كان صلاحا في الحال لا يمتنع أن يتغير حكمه باختلاف الأوقات.
وتغير حال المنفي، وإذا جاز لأبي بكر أن يسترد عمر من جيش أسامة
للحاجة إليه، وإن كان قد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله بنفوذه
من حيث تغيرت الحال فغير ممتنع مثله في الحكم (2).
قال: (وأما ما ذكروه من إيثار أهل بيته بالأموال، فقد كان عظيم اليسار
كثير الأموال، فلا يمتنع أن يكون إنما أعطاهم من ماله، وإذا احتمل ذلك، وجب
حمله على الصحة (2) وحكي عن أبي علي (إن الذي روي من دفعه إلى ثلاثة نفر من
قريش زوجهم بناته مائة ألف دينار لكل واحد، إنما هو من ماله ولا رواية تصح في أنه
أعطاهم ذلك من بيت المال، ولو صح ذلك كان لا
يمتنع أن يكون أعطى من بيت المال ليرد عوضه من ماله، لأن للإمام عند
الحاجة أن يفعل ذلك، كما له أن يقرض غيره) ثم حكي عن أبي على
(إن ما روي من دفعه خمس إفريقية لما فتحت إلى مروان ليس بمحفوظ ولا
منقول على وجه يوجب قبوله وإنما يرويه من يقصد التشنيع على
عثمان (2) وحكي عن أبي الحسين الخياط (إن ابن أبي سرح لما غزا
البحر ومعه مروان في الجيش ففتح الله عليه، وغنموا غنيمة عظيمة



(1) ما حكاه القاضي عن الخياط ساقط من " المغني ".
(2) كل ما رمزنا إليه، برقم (2) فمن المغني 20 ق 2 / 51 علما بأن
المرتضى حذف ما لا يخل بالمعنى من كلام القاضي.
266
اشترى مروان الخمس من ابن أبي سرح بمائة ألف، وأعطاه أكثرها ثم
قدم على عثمان بشيرا بالفتح، وقد كانت قلوب المسلمين تعلقت بأمر
ذلك الجيش فرأى عثمان أن يهب له ما بقي عليه من المال، وللإمام فعل
ذلك ترغيبا في مثل هذه الأمور قال: وهذا الصنيع منه كان في السنة
الأولى من إمامته، ولم يتبرأ أحد منه فيها، فلا وجه للتعلق به، وذكر فيما
أعطاه لأقاربه إنه وصلهم لحاجتهم، ولا يمتنع مثله في الإمام إذا رآه
صلاحا (1)) وذكر في إقطاعه بني أمية القطائع (إن الأئمة قد تحصل في
أيديهم الضياع لا مالك لها من جهات ويعلمون أنه لا بد فيها ممن يقوم
بإصلاحها وعمارتها فيؤدي عنها ما يجب من الحق، وله أن يصرف ذلك
إلى من يقوم به، وله أيضا أن يزيد بعضا على بعض بحسب ما يعلم من
الصلاح والتآلف، وطريق ذلك الاجتهاد (1)).
قال: (وأما ما ذكروه من أنه حمى الحمى عن المسلمين، فجوابه:
أنه لم يحم الكلأ لنفسه، ولا استأثر به، لكنه حماه لإبل الصدقة التي
منفعتها نعود على المسلمين، وقد روي عنه هذا الكلام بعينه، وأنه قال
إنما فعلت ذلك لإبل الصدقة، وقد أطلقته الآن، وأنا استغفر الله، وليس
في الاعتذار ما يزيد على ذلك، فأما ما ذكروه من اعطائه من بيت مال
الصدقة المقاتلة فلو صح فإنما فعل ذلك لعلمه بحاجة المقاتلة إليه واستغناء
أهل الصدقات على طريق الاقتراض (2) وقد روي عن رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم أنه كان يفعل مثل ذلك سرا (3) وللإمام في مثل هذه الأمور أن



(1) كل ما رمزنا إليه برقم (1) فمن المغني 20 ق / 2 / 51.
(2) أي يعطيهم قرضا على عطاياهم وفي شرح نهج البلاغة " على سبيل
الأفراض؟؟ ".
(3) كلمة " سرا " ساقطة من " المغني ".
267
يفعل ما جرى هذا المجرى لأن عند الحاجة ربما يجوز له أن يقترض من
الناس فبان يجوز أن يتناول من مال في يده ليرده من المال الآخر أولى (1)).
وحكي عن أبي علي في قصة ابن مسعود وضربه أنه قال: (لم يثبت
عندنا ضربه إياه، ولا صح عندنا طعن عبد الله عليه، ولا إكفاره له،
والذي يصح في ذلك أنه كره منه جمع الناس على قراءة زيد بن ثابت
وإحراقه المصاحف، وثقل ذلك عليه كما يثقل على الواحد منا تقديم غيره
عليه.
وقيل: إن بعض موالي عثمان ضربه لما سمع منه الوقيعة في عثمان
[فإما أن يكون هو الذي ضربه أو أمر بضربه فلم يصح عندنا (2)] ولو
صح أنه أمر بضربه لم يكن بأن يكون طعنا في عثمان بأولى من أن يكون
طعنا في ابن مسعود (3) لأن للإمام تأديب غيره، وليس لغيره الوقيعة فيه إلا
بعد البيان) وذكر (أن الوجه في جمع الناس على قراءة واحدة تحصين
القرآن وضبطه، وقطع المنازة فيه والاختلاف) قال: (وليس لأحد أن
يقول: لو كان واجبا لفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك
أن الإمام إذا فعله صار كأنه فعله عليه السلام (4) ولأن الأحوال في ذلك
تختلف.
وقد روي عن عمر أنه كان قد عزم على ذلك فمات دونه، وليس
لأحد أن يقول أن إحراقه المصاحف إنما كان استخفافا بالدين وذلك لأنه



(1) المغني 20 ق 2 / 52.
(2) ما بين الحاصرتين من " المغني " علما بأن هذه الجملة في المغني أخرت عن
التي بعدها وأقحمت بين " جمع الناس على رواية واحد " وبين الرواية عن عمر.
(3) عبارة المغني " لم يكن بأن يكون طعنا في ابن مسعود بأولى من أن يكون
طعنا بعثمان " ولا ريب أن القاضي لا يريد هذا المعنى وما في المتن أوجه.
(4) الضمير " عليه السلام " لرسول الله صلى عليه وآله، والمعنى يصير
فعل الإمام فعلا له عليه السلام.
268
إذا جاز من الرسول صلى الله عليه وآله أن يخرب المسجد الذي بنى
ضرارا وكفرا فغير ممتنع إحراق المصاحف [إذا كان في تركه
مفسدة] (1) وحكي عن أبي الحسين الخياط أن ابن مسعود إنما عابه لعزله
إياه * ثم حكى صاحب الكتاب أن عثمان اعتذر إليه فلم يقبل عذره ولما
أحضره عطاه في مرضه قال ابن مسعود منعتني إياه إذ كان ينفعني وجئتني به
عند الموت لا أقبله وأنه طرح أم حبيبة عليه ليزيل ما في نفسه * (2) فلم يجب
قال: وهذا يوجب ذم ابن مسعود إذ لم يقبل الندم، ويوجب براءة عثمان
من هذا العيب لو صح ما رووه من ضربه).
يقال له: أما ما ادعيته وبنيت الأمر في قصة الحكم من أن عثمان لما
عوتب في رده ادعى أن الرسول صلى الله عليه وآله أذن له في ذلك
فهو شئ ما سمع إلا (3) منك ولا يدرى من أين نقلته، وفي أي كتاب
وجدته، وما رواه الناس كلهم بخلاف ذلك.
وقد روى الواقدي من طرق مختلفة، وغيره، أن الحكم بن أبي
العاص لما قدم المدينة بعد الفتح أخرجه النبي صلى الله عليه وآله
إلى الطائف وقال لا تساكنني في بلد أبدا، فجاءه عثمان فكلمه فأبى، ثم
كان من أبي بكر مثل ذلك، ثم كان من عمر مثل ذلك، فلما قام عثمان
أدخله ووصله وأكرمه، فمشى في ذلك علي عليه السلام والزبير وطلحة
وسعد وعبد الرحمن بن عوف وعمار بن ياسر، حتى دخلوا على عثمان
فقالوا له: إنك قد أدخلت هؤلاء القوم يعنون الحكم ومن معه وقد كان



(1) ما بين المعقوفين من المغني.
(2) ما بين النجمتين ساقط من " المغني " وكذا ما حكاه قبله عن الخياط.
(3) في شرح نهج البلاغة " فهو شئ لم يسمع إلا من قاضي القضاة، ولا
يدري من أين نقله، وفي أي كتاب وجده ".
269
النبي صلى الله عليه وآله أخرجه، وأبو بكر وعمر، وإنا نذكرك الله
والاسلام ومعادك، فإن لك معادا ومنقلبا، وقد أبت ذلك الولاة من
قبلك. ولم يطمع أحد أن يكلمهم فيه، وهذا سبب نخاف الله تعالى
عليك فيه، فقال: إن قرابتهم مني حيث تعلمون، وقد كان رسول الله
حيث كلمته أطمعني في أن يأذن له، وإنما أخرجهم لكلمة بلغته عن
الحكم. ولن يضركم مكانهم شيئا، وفي الناس من هو شر منهم، فقال
علي عليه السلام: " لا أحد شرا منه ولا منهم " ثم قال علي عليه
السلام: " هل تعلم أن عمر قال: والله ليحملن بني أبي معيط على رقاب
الناس، والله لئن فعل ليقتلنه " قال: فقال عثمان ما كان منكم أحد
يكون بينه وبينه من القرابة ما بيني وبينه، وينال من المقدرة ما أنال إلا
أدخله، وفي الناس من هو شر منه، قال: فغضب علي عليه السلام
قال: " والله لتأتينا بشر من هذا إن سلمت. وسترى يا عثمان غب ما
تفعل " ثم خرجوا من عنده.
وهذا كما ترى خلاف ما ادعاه صاحب الكتاب، لأن الرجل لما
احتفل ادعى أن الرسول كان أطمعه في ردة، ثم صرح بأن رعايته فيه من
القرابة هي الموجبة لرده ومخالفة الرسول صلى الله عليه وآله.
وقد روي من طرق مختلفة أن عثمان لما كلم أبا بكر وعمر في رد
الحكم أغلظا له وزبراه، وقال له عمر: يخرجه رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم وتأمرني أن أدخله، والله لو أدخلته لم آمن أن يقول قائل غير
عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والله لئن أشق باثنتين كما تنشق
الأبلمة (1) أحب إلي من أن أخالف لرسول الله صلى الله عليه وآله أمرا



(1) الأبلم: خوص النخل، واحدته أبلمة - بضم اللام - والمثل يضرب في
المساواة، ويريد لو أشق شقين.
270
وإياك يا ابن عفان أن تعاودني فيه بعد اليوم، وما رأينا عثمان قال في
جواب هذا التعنيف والتوبيخ من أبي بكر وعمر أن عندي عهدا من
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيه لا أستحق معه عتابا ولا
تهجينا (1) وكيف تطيب نفس مسلم موقر لرسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم معظم له بأن يأتي إلى عدو لرسول الله صلى الله عليه وآله،
مصرح بعداوته والوقيعة فيه حتى بلغ به الأمر إلى أن كان يحكي مشيته،
فطرده رسول الله صلى الله عليه وآله وأبعده ولعنه، حتى صار
مشهورا بأنه طريد رسول الله صلى الله عليه وآله فيؤويه ويكرمه
ويرده إلى حيث أخرج منه، ويصله بالمال العظيم، ويصله إما من مال
المسلمين، أو من ماله، إن هذا لعظيم كبير، قبل التصفح والتأمل،
والتعلل بالتأويل الباطل.
فأما قول صاحب الكتاب: (إن أبا بكر وعمر لم يقبلا قوله لأنه
شاهد واحد، وجعلا ذلك بمنزلة الحقوق التي تخص) فأول ما فيه أنه لم
يشهد عندهما بشئ في باب الحكم، على ما رواه جميع الناس ثم ليس
هذا من الباب الذي يحتاج فيه إلى الشاهدين، بل هو بمنزلة كل ما يقبل
فيه أخبار الآحاد، وكيف يجوز أن يجري أبو بكر وعمر مجرى الحقوق ما
ليس فيها؟
وقوله: (لا بد من تجويز كونه صادقا في روايته، لأن القطع على
كذب روايته لا سبيل إليه) ليس بشئ لأنا قد بينا أنه لم يرو عن الرسول
صلى الله عليه وآله إذنا، وإنما ادعى أنه أطمعه في ذلك، وإذا
جوزنا كونه صادقا في هذه الرواية، بل قطعنا على صدقه لم يكن معذورا.



(1) تهجين الأمر: تقبيحه.
271
فأما قوله: (الواجب على غيره أن لا يتهمه إذا كان لفعله وجه
يصح عليه لانتصابه منصبا يقضي إلى زوال التهمة) فأول ما فيه، أن
الحاكم لا يجوز أن يحكم بعلمه مع التهمة، والتهمة قد تكون لها إمارات
وعلامات، فما وقع فيها عن إمارات وأسباب تتهم في العادة كان مؤثرا
وما لم يكن كذلك وكان مبتدئا فلا تأثير له، والحكم هو عم عثمان،
وقريبه ونسيبه، ومن قد تكلم فيه وفي رده مرة بعد أخرى لوال بعد
وال، وهذه كلها أسباب التهمة، فقد كان يجب أن يتجنب الحكم بعلمه
في هذا الباب خاصة، لتطرق التهمة فيه.
فأما ما حكاه عن الخياط (من أن الرسول صلى الله عليه وآله
لو لم يأذن في رده لجاز أن يرده إذا أداه اجتهاده إلى ذلك، لأن الأحوال قد
تتغير) فظاهر البطلان لأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إذا حظر شيئا
أو أباحه لم يكن لأحد أن يجتهد في إباحة المحظور، أو حظر المباح، ومن
جوز الاجتهاد في الشريعة لا يقدم على مثل هذا، لأنه إنما يجوز عندهم فيما
لا نص فيه، ولو جوزنا الاجتهاد في مخالفة ما تناوله النص لم نأمن من أن
يؤدي اجتهاد مجتهد إلى تحليل الخمر وإسقاط الصلاة بأن يتغير الحال.
وهذا هدم للشريعة.
فأما استشهاده باسترداد عمر من جيش أسامة فالكلام في الأمرين
واحد، وقد مضى ما فيه.
فأما قوله في جواب ما يسأل عنه من إيثاره أهل بيته بالأموال (إنه لا
يمتنع أن يكون إنما أعطاهم من ماله) فالرواية بخلاف ذلك، وقد صرح
الرجل أنه كان يعطي من بيت المال صلة لرحمه، ولما وقف على ذلك لم
يعتذر منه بهذا الضرب من العذر، ولا قال إن هذه العطايا من مالي، ولا
اعتراض لأحد فيه، وقد روى الواقدي بإسناده عن الميسور بن عتبة أنه

272
قال: سمعت عثمان يقول: إن أبا بكر وعمر كانا يتأولان في هذا المال
ظلف (1) أنفسهما وذوي أرحامهما وإني تأولت فيه صلة رحمي وروي عنه أنه
كان بحضرته زياد بن عبيد الله الحارثي مولى الحارث بن كلدة الثقفي،
وقد بعث أبو موسى بمال عظيم من البصرة، فجعل عثمان يقسمه بين
أهله وولده بالصحاف، ففاضت عينا زياد دموعا لما رأى من صنيعه
بالمال، فقال: لا تبك فإن عمر كان يمنع أهله وذوي أرحامه ابتغاء وجه
الله، وأنا أعطي أهلي وقرابتي ابتغاء وجه الله، وقد روي هذا المعنى عنه
من عدة طرق بألفاظ مختلفة.
وروى الواقدي بإسناده قال: قدمت إبل من إبل الصدقة على
عثمان. فوهبها للحارث بن الحكم بن أبي العاص.
وروي أيضا أنه ولى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة فبلغت
ثلاثمائة ألف فوهبها له حين أتاه بها.
وروى أبو مخنف والواقدي جميعا أن الناس أنكروا على عثمان
اعطاءه سعيد بن أبي العاص مائة ألف فكلمه علي عليه السلام والزبير وطلحة
وسعد وعبد الرحمن في ذلك. فقال: إن لي قرابة ورحما، فقالوا: أما كان
لأبي بكر وعمر قرابة وذو رحم؟ فقال: إن أبا بكر وعمر كانا يحتسبان
في منع قرابتهما، وأنا أحتسب في عطاء قرابتي، قال: فهديهما والله أحب
إلينا من هديك.
وقد روى أبو مخنف أنه لما قدم على عثمان عبد الله بن خالد بن
أسيد بن أبي العاص (2) من مكة وناس معه أمر لعبد الله ثلاثمائة ألف.



(1) الظلف - بالتحريك - المنع.
(2) العيص خ ل.
273
ولكل واحد من القوم مائة ألف وصك (1) بذلك على عبد الله بن
الأرقم (2) وكان خازن بيت المال فاستكثره ورد الصك به، ويقال: إنه
سأل عثمان أن يكتب بذلك كتاب دين فأبي ذلك. وامتنع ابن الأرقم أن
يدفع المال إلى القوم. فقال له عثمان: إنما أنت خازن لنا، فما حملك على
ما فعلت؟ فقال ابن الأرقم: كنت أراني خازنا للمسلمين، وإنما خازنك
غلامك والله لا ألي لك بيت المال أبدا، فجاء بالمفاتيح فعلقها على المنبر،
ويقال: بل ألقاها إلى عثمان فدفعها عثمان إلى نائل مولاه،
وروى الواقدي أن عثمان أمر زيد بن ثابت أن يحمل من بيت المال
إلى عبد الله بن الأرقم في عقيب هذا الفعل ثلاثمائة ألف درهم، فلما
دخل بها عليه، قال له: يا أبا محمد إن أمير المؤمنين أرسل إليك يقول
لك: إنا قد شغلناك عن التجارة، ولك ذو رحم أهل حاجة ففرق هذا المال
فيهم، واستعن به على عيالك، فقال عبد الله بن الأرقم: ما لي إليه
حاجة، وما عملت لأن يثبتني عثمان، والله لئن كان هذا من مال
المسلمين ما بلغ قدر عملي على أن أعطى ثلاثمائة ألف درهم ولئن كان من
مال عثمان ما أحب أن أرزأه (3) من ماله شيئا وما في هذه الأمور أوضح
من أن يشار إليه وينبه عليه.



(1) صك: كتب، والصك: الكتاب.
(2) عبد الله بن الأرقم القرشي الزهري كانت آمنة أم رسول الله صلى الله عليه
وسلم عمة أبيه الأرقم أسلم عام الفتح وكتب للنبي وأبي بكر وعمر استعمله عمر على
بيت المال وعثمان بعده ثم إنه استعفى عثمان من ذلك فأعفاه، ولما استكتبه رسول الله
صلى الله عليه وسلم أمن إليه ووثق به وكان إذا كتب إلى بعض الملوك يأمره أن يختمه
ولا يقرؤه لأمانته عنده، وقد ذكر ابن الأثير قريبا مما نقله المرتضى عن الواقدي (انظر
أسد الغابة / 3 / 115).
(3) أرزأه: أي أصيب منه، كأنه مأخوذ من قولهم: رزأته رزيئة: أي أصابته
مصيبة.
274
وأما قوله: (لو صح أنه أعطاهم من بيت المال لجاز أن يكون ذلك
على طريق القرض) فليس بشئ لأن الروايات أولا تخالف ما ذكره، وقد
كان يجب لما نقم عليه وجوه الصحابة إعطاء أقاربه من بيت المال أن يقول
لهم هذا على سبيل القرض، وأنا أرد عوضه، ولا يقول ما تقدم ذكره،
من إنني أصل به رحمي، على أنه ليس للإمام أن يقترض من بيت مال
المسلمين إلا ما ينصرف في مصلحة لهم مهمة، يعود عليهم نفعا، أو في
سد خلة وفاقة لا يتمكنون من القيام بالأمر معها، فإما أن يقترض المال
ليتسع (1) ويمرح فيه مترفي بني أمية وفساقهم فلا حد يجيز ذلك.
فأما قوله حاكيا عن أبي علي: (إن دفعه خمس إفريقية إلى مروان،
ليس بمحفوظ ولا منقول) فتعلل منه بالباطل، لأن العلم بذلك يجري
مجرى الضروري مجرى العلم بسائر ما تقدم ومن قرأ الأخبار علم ذلك
على وجه لا يعترض فيه لك كما يعلم نظائره.
وقد روى الواقدي عن أسامة بن زيد عن نافع مولى الزبير عن عبد
الله بن الزبير قال أغزانا عثمان سنة سبع وعشرين إفريقية فأصاب عبد الله
ابن سعد بن أبي سرح غنائم جليلة فأعطى عثمان مروان بن الحكم تلك
الغنائم، وهذا كما ترى يتضمن الزيادة على الخمس ويتجاوز إلى إعطاء
الكل.
وروى الواقدي عن عبد الله بن جعفر عن أم بكر بنت
المسور (2) قالت: لما بنى مروان داره بالمدينة دعا الناس إلى طعامه، وكان



(1) لينتدح، خ ل والمعنى واحد لأن المندوحة: هي السعة.
(2) أم بكر هي بنت المسور بن مخرمة الزهري صحابي معروف ومن جملة من
روى عنه ابنته هذه ذكر ذلك ابن عبد البر في الإصابة حرف الميم ق 1 بترجمة المسور.
275
المسور ممن دعاه، فقال مروان وهو يحدثهم: والله ما أنفقت في داري هذه
من مال المسلمين درهما فما فوقه فقال المسور: لو أكلت طعامك وسكت كان
خيرا لك. لقد غزوت معنا إفريقية وإنك لأقلنا مالا ورقيقا وأعوانا وأخفنا
ثقلا، فأعطاك ابن عمك خمس إفريقية، وعملت على الصدقات فأخذت
أموال المسلمين.
وروى الكلبي عن أبيه عن أبي مخنف أن مروان ابتاع خمس إفريقية
بمائتي ألف، أو بمائة ألف دينار، وكلم عثمان فوهبها له، فأنكر الناس ذلك
على عثمان.
وهذا بعينه هو الذي اعترف به أبو الحسين الخياط واعتذر ب‍ (أن
قلوب المسلمين تعلقت بأمر ذلك الجيش فرأى عثمان أن يهب لمروان ثمن
ما ابتاعه من الخمس لما جاءه بشيرا بالفتح على سبيل الترغيب) وهذا
الاعتذار ليس بشئ.
ثم قال: (والذي رويناه في هذا الباب خال من البشارة، وإنما
يقتضي أنه سأله ترك ذلك عليه فتركه، أو ابتدأ هو بصلته، ولو أتى بشيرا
بالفتح كما ادعوا لما جاز أن يترك عليه خمس الغنيمة العائد نفعه على
المسلمين، وتلك البشارة لا يستحق أن يبلغ البشير بها مأتي ألف دينار ولا
اجتهاد في مثل هذا ولا فرق بين من جوز أن يؤدي الاجتهاد إلى مثله،
ومن جوز أن يؤدي الاجتهاد إلى دفع أصل الغنيمة إلى البشير بها، ومن
ارتكب ذلك ألزم جواز أن يؤدي الاجتهاد إلى جواز إعطاء هذا البشير
جميع أموال المسلمين في الشرق والغرب).
وأما قوله: (إنه فعل ذلك في السنة الأولى من أيامه ولم يتبرأ أحد
منه) فقد مضى الكلام فيه مستقصى.

276
فأما قوله: (إنه وصل بني عمه لحاجتهم، ورأى في ذلك صلاحا)
فقد بينا أن صلاته لهم كانت أكثر مما تقتضيه الحاجة والخلة، وأنه كان
يصل منهم المياسير وذوي الأحوال الواسعة، والضياع الكثيرة، ثم
الصلاح الذي زعم أنه رآه لا يخلو من أن يكون عائدا على المسلمين أو
على أقاربه، فإن كان على المسلمين، فمعلوم ضرورة أنه لا صلاح لأحد
من المسلمين في إعطاء مروان مأتي ألف دينار، والحكم بن أبي العاص
ثلاثمائة ألف درهم، وابن أسيد ثلاثمائة ألف درهم، إلى غير ذلك ممن
هو مذكور، بل على المسلمين في ذلك غاية الضرر، وإن أراد الصلاح
العائد على الأقارب فليس له أن يصلح أمر أقاربه بفساد أمر المسلمين
وبنفعهم بما يضر به المسلمين.
فأما قوله: (إن القطائع التي أقطعها بني أمية إنما أقطعهم إياها
لمصلحة تعود على المسلمين، لأنها كانت خرابا لا عامر لها فسلمها إلى من
يعمرها، ويؤدي الحق فيها) فأول ما فيه أنه لو كان الأمر على ما ذكره ولم
يكن هذه القطائع على سبيل الصلة والمعونة لأقاربه لما خفى ذلك على
الحاضرين، ولكانوا لا يعدون ذلك من مثالبه، ولا يواقفونه عليه في جملة
ما واقفوه عليه من أحداثه، ثم كان يجب لو فعلوا ذلك أن يكون جوابه لهم
بخلاف ما روي من جوابه، لأنه كان يجب أن يقول لهم: وأي منفعة في
هذه القطائع عائدة على قرابتي حتى تعدوا ذلك من جملة صلاتي لهم
وإيصال المنافع إليهم؟ وإنما جعلتهم فيها بمنزلة الأكرة الذين ينتفع بهم
أكثر من انتفاعهم، وما كان يجب أن يقول ما تقدمت روايته من أني
محتسب في إعطاء قرابتي، وأن ذلك على سبيل الصلة لرحمي إلى غير
ذلك مما هو خال من المعنى الذي ذكروه.
فأما اعتذاره في الحمى (إنه حماه الإبل الصدقة التي منفعتها تعود

277
على المسلمين، وإنه استغفر منه واعتذر) فالمروي أولا بخلاف ما ذكره لأن
الواقدي روى بإسناده قال: كان عثمان يحمي الربذة
والشرف (1) والنقيع (2) فكان لا يدخل في الحمى بعير له ولا فرس ولا لبني
أمية، حتى كان آخر الزمان فكان يحمي الشرف لإبله، وكانت ألف
بعير، ولإبل الحكم، وكان يحمي الربذة لإبل الصدقة، ويحمي النقيع
لخيل المسلمين، وخيله وخيل بني أمية، على أنه لو كان إنما حماه لإبل الصدقة لم يكن
بذلك مصيبا، لأن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله
أحلا الكلأ وأباحاه وجعلاه مشتركا، فليس لأحد أن يغير هذه الإباحة،
ولو كان في هذا الفعل مصيبا، وإنما حماه لمصلحة تعود على المسلمين، لما
جاز أن يستغفر منه ويعتذر، لأن الاعتذار إنما يكون من الخطأ دون
الصواب.
فأما اعتذاره من إعطائه المقاتلين (3) من بيت مال الصدقة، بأن ذلك
(إنما جاز لعلمه بحاجة المقاتلة إليه واستغناء أهل الصدقة عنه، وإن
الرسول صلى الله عليه وآله فعل مثله) فليس بشئ لأن المال الذي
جعل الله له جهة مخصوصة لا يجوز أن يعدل عن جهته بالاجتهاد ولو
كانت المصلحة في ذلك موقوفة على الحاجة لشرطها الله تعالى في هذا
الحكم لأنه تعالى أعلم بالمصالح واختلافها منا، ولكان لا يجعل لأهل



(1) الشرف - كما في معجم البلدان بهذه المادة عن الأصمعي - كبد نجد وكانت
من منازل بني آكل المرار ملوك كندة، قال: وفيه الربذة وهي الحمى الأيمن.
(2) النقيع -: كما في معجم البلدان - نقيع الخضمات موضع حماه عمر بن
الخطاب (رض) لخيل المسلمين وهو من أودية الحجاز يدفع سيله إلى المدينة يسلكه
العرب إلى مكة.
(3) المقاتلة خ ل.
278
الصدقة منها القسط مطلقا.
فأما قوله: (إن الرسول صلى الله عليه وآله فعله) فهو
دعوى مجردة من غير برهان وقد كان يجب أن يروي ما ذكر في ذلك
فأما ما ذكره من الاقتراض فأين كان عثمان عن هذا العذر لما وقف
عليه؟.
فأما ما حكاه عن أبي علي (من أن ضرب ابن مسعود لم يصح ولا
طعن ابن مسعود عليه وإنما كره جمع الناس على قراءة زيد وإحراقه
المصاحف وأنه قيل: إن بعض موالي عثمان ضربه لما سمع منه الوقيعة في
عثمان) فالمعلوم المروي خلافه، ولا يختلف أهل النقل في طعن ابن
مسعود عليه. وقوله فيه أشد القول وأعظمه، وذلك معلوم كالعلم بكل
ما يدعى فيه الضرورة.
وقد روى كل من روى السير من أصحاب الحديث على اختلاف
طرقهم أن ابن مسعود كان يقول: ليتني وعثمان برمل عالج (1) يحثي علي
وأحثي عليه حتى يموت الأعجز مني ومنه ورووا أنه كان يطعن عليه فيقال
له: ألا خرجت إليه لنخرج معك؟ فيقول: والله لئن أزاول جبلا راسيا
أحب إلي من أزاول ملكا مؤجلا، وكان يقول في كل يوم جمعة، بالكوفة
جاهرا معلنا: إن أصدق القول كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمد
صلى الله عليه وآله وسلم وشر الأمور محدثاتها، وكل محدث بدعة، وكل
بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإنما يقول ذلك معرضا بعثمان،



(1) عالج - كما في معجم البلدان -: رمال بين فيد والقريات، ينزلها بعض بنو
بحتر من طي متصلة بالثعلبية على طريق مكة.
279
حتى غضب الوليد من استمرار تعرضه، ونهاه عن خطبته هذه فأبى أن
ينتهي فكتب إلى عثمان فيه فكتب عثمان يستقدمه عليه.
وروي أنه لما خرج عبد الله بن مسعود إلى المدينة مزعجا عن الكوفة
خرج الناس معه يشيعونه، وقالوا: يا أبا عبد الرحمن ارجع، فوالله لا
يوصل إليك أبدا فإنا لا نأمنه عليك، فقال: أمر سيكون، ولا أحب أن
أكون أول من فتحه.
وقد روي عنه من طرق لا تحصى كثرة أنه كان يقول ما يزن عثمان
عند الله جناح ذباب وتعاطي شرح ما روى عنه في هذا الباب يطول، وهو
أظهر من أن يحتاج إلى الاستشهاد عليه وأنه بلغ من إصرار عبد الله على
مظاهرته بالعداوة أن قال لما حضره الموت من يتقبل مني وصية أوصيه بها
على ما بها، فسكت القوم، وعرفوا الذي يريد فأعادها فقال عمار بن
ياسر: فأنا أقبلها، فقال: ابن مسعود لا يصلي على عثمان، فقال ذلك
لك، فيقال: إنه لما دفن جاء عثمان منكرا لذلك، فقال له قائل: إن
عمارا ولى هذا الأمر، فقال لعمار: ما حملك على أن لم تؤذني؟ فقال
له: إنه عهد إلي ألا اؤذنك، فوقف على قبره وأثني عليه ثم انصرف وهو
يقول: رفعتم والله بأيديكم عن خير من بقي فتمثل الزبير بقول الشاعر:
لأعرفنك (1) بعد الموت تندبني * وفي حياتي ما زودتني زادي
ولما مرض ابن مسعود مرضه الذي مات فيه فأتاه عثمان عائدا، فقال: ما
تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، قال ألا
أدعو لك طبيبا؟ قال: الطبيب أمرضني، قال: أفلا آمر لك بعطائك؟



(1) ويروى " لألفينك " والبيت لعبيد بن الأبرص.
280
قال: منعتنيه، وأنا محتاج إليه، وتعطينيه وأنا مستغن عنه، قال: يكون
لولدك، قال: رزقهم على الله، قال استغفر لي يا أبا عبد الرحمن، فقال
أسأل الله أن يأخذ لي منك بحقي، وصاحب الكتاب قد حكى بعض هذا
الخبر في آخر الفصل الذي حكيناه من كلامه، قال: (يوجب ذم ابن
مسعود من حيث لم يقبل العذر) وهذا منه طريف لأن مذهبه لا يقتضي
قبول كل عذر ظاهر، وإنما يجب قبول العذر الصادق الذي يغلب في الظن
أن الباطن فيه كالظاهر فمن أين لصاحب الكتاب اعتذار عثمان إلى ابن
مسعود كان مستوفيا للشرائط التي يجب معها القبول؟ وإذا جاز ما ذكره لم
يكن على ابن مسعود لوم في الامتناع من قبول عذره.
فأما قوله: (إن عثمان لم يضربه، وإنما ضربه بعض مواليه لما سمع
وقيعته فيه) فالأمر بخلاف ذلك وكل من قرأ الأخبار، علم أن عثمان أمر
بإخراجه من المسجد على أعنف الوجوه، وبأمره جرى ما جرى عليه، ولو
لم يكن بأمره ورضاه، لوجب أن ينكر على مولاه كسره لضلعه، ويعتذر
إلى من عاتبه على فعله (1) بأن يقول إنني لم آمر بذلك، ولا رضيته من
فاعله، وقد أنكرت على من فعله، وفي علمنا بأن ذلك لم يكن دليل على
ما قلناه.
وقد روى الواقدي بإسناده وغيره، أن عثمان لما استقدمه المدينة
دخلها ليلة جمعة، فلما علم عثمان بدخوله، قال أيها الناس إنه قد
طرقكم الليلة دويبة من تمشي على طعامه يقئ ويسلح (2) فقال ابن مسعود
لست كذلك ولكنني صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله يوم



(1) على فعله بابن مسعود خ ل.
(2) السلاح - بالضم - النجو وهو ما يخرج من البطن.
281
بدر، وصاحبه يوم أحد، وصاحبه يوم بيعة الرضوان، وصاحبه يوم
الخندق، وصاحبه يوم حنين، قال: فصاحت عائشة: أيا عثمان. أتقول
هذا لصاحب رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: عثمان اسكتي
ثم قال لعبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى
ابن قصي (1): أخرجه إخراجا عنيفا، فأخذه ابن زمعة فاحتمله حتى جاء
به باب المسجد فضرب به الأرض فكسر ضلعا من أضلاعه، فقال ابن
مسعود قتلني ابن زمعة الكافر بأمر عثمان، وفي رواية آخر أن ابن زمعة
مولى لعثمان أسود وكان مسدما (2) طوالا وفي رواية أخرى أن فاعل ذلك
يحموم مولى عثمان، وفي رواية أنه لما احتمله ليخرجه من المسجد ناداه عبد
الله أنشدك الله أن تخرجني من مسجد خليلي رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم.
قال الراوي: فكأني أنظر إلى حموشة ساقي (3) عبد الله بن مسعود
ورجلاه يختلفان على عنق مولى عثمان، حتى أخرج من المسجد، وهو
الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وآله (لساقا ابن أم عبد
أثقل في الميزان يوم القيامة من جبل واحد).
وقد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي أن عثمان



(1) المعروف أن عبد الله بن زمعة شيعة لعلي عليه السلام فيبعد أن يفعل ذلك
بابن مسعود، وقد نص على تشيعه الشريف الرضي في نهج البلاغة وابن أبي الحديد في
شرح النهج رغم أن أباه وعمه وأخاه قتلوا يوم بدر وشارك علي عليه السلام في قتلهم
(انظر مصادر نهج البلاغة وأسانيده (2 / 177 و 178) والصحيح ما ذكره المرتضى في
الرواية الأخرى أن ابن زمعة عبد أسود من عبيد عثمان.
وقد تلتقي الأسماء في الناس والكنى * ولكنما قد ميزوا بالخلائق
(2) المسدم - كمقدم -: الأهوج.
(3) الحموشة: دقة الساقين.
282
ضرب ابن مسعود أربعين سوطا في دفنه أبا ذر، وهذه قصة أخرى وذلك
أن أبا ذر رحمه الله تعالى لما حضرته الوفاة بالربذة، وليس معه إلا امرأته
وغلامه (1) عهد إليهما أن غسلاني ثم كفناني، ثم ضعاني على قارعة
الطريق، فأول ركب يمر بكم فقولوا هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم فأعينونا على دفنه، فلما مات فعلوا ذلك. وأقبل ابن
مسعود في ركب من العراق عمارا (2) فلم ترعهم إلا الجنازة على قارعة
الطريق، قد كادت الإبل تطاؤها، فقام إليهم العبد، فقال: هذا أبو
ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله فأعينونا على دفنه، فأنهل
ابن مسعود يبكي، ويقول: صدق رسول الله صلى الله عليه وآله، قال
له: (تمشي وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك) ثم نزل هو وأصحابه
فواروه.
وأما قوله: (إن ذلك بأن يكون طعنا في عثمان بأولى من أن يكون
طعنا في ابن مسعود) فواضح البطلان، وإنما كان طعنا في عثمان دون ابن
مسعود، لأنه لا خلاف بين الأمة في طهارة ابن مسعود، وفضله وإيمانه،
ومدح رسول الله صلى الله عليه وآله وثنائه عليه وأنه مات على
الجملة المحمودة منه، وفي كل هذا خلاف بين المسلمين في عثمان، فلهذا
طعنا فيه.
فأما قوله: (إن ابن مسعود سخط جمعه الناس على قراءة زيد



(1) الصحيح أن أبا ذر لم يكن معه حين حضرته الوفاة إلا ابنته وأن امرأته
توفيت قبله وإذا صح أن غلامه كان معه فالمراد به جون الشهيد يوم الطف رضي الله
عنه فقد انضم إلى الحسن عليه السلام بعد وفاة أبي ذر ثم انضم بعد وفاة الحسن عليه
السلام إلى الحسين عليه السلام إلى أن استشهد بين يديه على ما ذكره المترجمون لأنصار
الحسين عليه السلام.
(2) معتمرين خ ل.
283
وإحراقه المصاحف) واعتذاره من جمع الناس على قراءة واحدة: (بأن فيه
تحصين القرآن، وقطع المنازعة، والاختلاف فيه) ليس بصحيح ولا شك
في أن ابن مسعود كره إحراق المصاحف كما كرهه جماعة من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتكلموا فيه، وذكر الرواة كلام كل
واحد منهم في ذلك مفصلا، وما كره عبد الله من تحريم قراءته، وقصر
الناس على قراءة غير إلا مكروها، وهو الذي يقول النبي صلى الله عليه
وآله وسلم: (من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن
أم عبد).
وروى عن ابن عباس أنه قال قراءة ابن أم عبد هي القراءة
الأخيرة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يعرض عليه
القرآن في كل سنة في شهر رمضان، فلما كان العام الذي توفي فيه عليه
السلام عرض عليه دفعتين، وشهد عبد الله ما نسخ منه، وما صح فهي
القراءة الأخيرة.
وروى شريك عن الأعمش قال: قال ابن مسعود: لقد أخذت
من في رسول الله صلى الله عليه وآله سبعين سورة، وأن زيد بن
ثابت لغلام يهودي في الكتاب له ذؤابة.
فأما اختلاف الناس في القراءة والأحرف فليس بموجب لما صنعه
عثمان لأنهم يروون أن النبي صلى الله عليه وآله قال: (نزل القرآن على
سبعة أحرف كلها شاف كاف) فهذا الاختلاف عندهم في القرآن مباح
مسند عن رسول الله صلى الله عليه وآله فكيف يحظر عليهم عثمان من
التوسع في الحروف ما هو مباح؟ فلو كان في القراءة الواحدة تحصين
القرآن كما ادعى لما أباح النبي صلى الله عليه وآله في الأصل إلا
القراءة الواحدة لأنه أعلم بوجوه المصالح من جميع أمته، من حيث كان

284
مؤيدا بالوحي، موفقا في كل ما يأتي ويذر، وليس له أن يقول: (حدث
من الاختلاف في أيامه ما لم يكن في أيام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
ولا من جملة ما أباحه، وذلك أن الأمر لو كان على هذا لوجب أن ينهى
عن القراءة الحادثة، والأمر المبتدع، ولا يحمله ما حدث من القراءة على
تحريم المتقدم المباح بلا شبهة.
وقول صاحب الكتاب: (إن الإمام إذا فعل ذلك فكأن الرسول
صلى الله عليه وآله فعله) فتعلل بالباطل منه، وكيف يكون ما
ادعى وهذا الاختلاف بعينه قد كان موجودا في أيام الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم وما نهى عنه؟ فلو كان سببا لانتشار الزيادة في القرآن وفي قطعه
تحصين له لكان عليه السلام بالنهي عن هذا الاختلاف أولى من غيره
اللهم إلا أن يقال: إنه حدث اختلاف لم يكن، فقد قلنا: (إن عمر كان
قد عزم على ذلك فمات دونه) فما سمعناه إلا منه فلو فعل ذلك أي فاعل
لكان ذلك منكرا.
فأما اعتذاره من (أن إحراق المصاحف لا يكون استخفافا بالدين)
بحمله إياه على تخريب مسجد الضرار والكفر فبين الأمرين بون بعيد،
لأن البنيان إنما يكون مسجدا وبيتا لله تعالى بنية الباني وقصده ولولا ذلك
لم يكن بعض البنيان بأن يكون مسجدا أولى من بعض، ولما كان قصده في
الموضع الذي ذكره غير القربة والعبادة، بل خلافها وضدها من الفساد
والمكيدة لم يكن في الحقيقة مسجدا وإن سمي بذلك مجازا، وعلى ظاهر
الأمر فهدمه لا حرج فيه، وليس كذلك ما بين الدفتين لأنه كلام الله
تعالى الموقر المعظم الذي يجب صيانته عن البذلة والاستخفاف، فأي
نسبة بين الأمرين؟
فأما حكايته عن الخياط أن ابن مسعود إنما عاب عثمان لعزله إياه،

285
فعبد الله عند كل من عرفه بخلاف هذه الصورة، وأنه لم يكن فيمن يحرج
دينه، ويطعن في إيمانه بأمر يعود إلى منفعة الدنيا، وإن كان عزله بمن لا
يشبهه في دين ولا أمانة عيبا لا يشك فيه أحد من المخلصين.
قال صاحب الكتاب: (فأما ما طعنوا به من ضربه عمارا حتى
صار به فتق، فقد قال شيخنا أبو علي: إن ذلك غير ثابت ولو ثبت أنه
ضربه للقول العظيم الذي كان يقوله فيه لم يجب أن يكون طعنا، لأن
للإمام تأديب من يستحق ذلك، ومما يبعد صحة ذلك، أن عمارا لا يجوز
أن يكفره، ولما يقع منه ما يستوجب الكفر، لأن الذي يكفر به الكافر
معلوم، ولأنه لو كان قد وقع ذلك منه لكان غيره من الصحابة أولى
بذلك، ولوجب أن يجتمعا على خلعه، ولوجب أن لا يكون قتله لهم
مباحا، بل كان يجب أن يقيموا إماما يقتله على ما قدمنا القول فيه،
وليس لأحد أن يقول إنما كفره من حيث وثب على الخلافة ولم يكن لها
أهلا، لأنا قد بينا القول في ذلك ولأنه كان مصوبا لأبي بكر وعمر على ما
قدمنا من قبل، وقد بينا أن صحة إمامتهما تقتضي صحة إمامة عثمان
وروي أن عمارا نازع الحسن عليه السلام في أمره فقال عمار: قتل عثمان
كافرا، وقال الحسن عليه السلام: قتل مؤمنا وتعلق بعضهما ببعض،
فصارا إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال ماذا تريد من ابن أخيك؟
فقال: إني قلت كذا، وقال الحسن عليه السلام كذا، فقال أمير المؤمنين
عليه السلام أتكفر برب كان يؤمن به عثمان؟ فسكت عمار (1)).
وحكي عن خياط (2) (إن عثمان لما نقم عليه ضربه لعمار



(1) المغني 20 ق 2 / 54.
(2) ما حكاه عن الخياط ساقط من " المغني ".
286
احتج لنفسه، فقال:
جاءني سعد وعمار، فأرسلا إلي أن ائتنا، فإنا نريد
أن نذاكرك أشياء فعلتها، فأرسلت إليهما أني مشغول فانصرفا
فموعدكما يوم كذا، فانصرف سعد، وأبى عمار أن ينصرف،
فأعدت الرسول إليه، فأبى أن ينصرف، فتناوله بعض غلماني بغير
أمري، ووالله ما أمرت به ولا رضيت، وها أنا فليقتص مني، قال وهذا
من أنصف القول وأعدله) وحكي عن أبي علي في نفي أبي ذر إلى الربذة
(أن الناس اختلفوا في أمره فروي عنه أنه قيل لأبي ذر: عثمان أنزلك
الربذة؟ فقال: لا بل اخترت لنفسي ذلك، وروي أن معاوية كتب
يشكوه وهو بالشام فكتب إليه عثمان أن صيره إلى المدينة (1) فلما صار إليها:
قال: ما أخرجك إلى الشام؟ قال: لأني سمعت الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم يقول: (إذا بلغت عمارة المدينة موضع كذا فاخرج عنها)
فلذلك خرجت، قال: فأي البلاد أحب إليك بعد الشام؟ فقال:
الربذة فقال: صر إليها، وإذا تكافأت الأخبار لم يكن لهم في ذلك حجة ولو
ثبت ذلك لكان لا يمتنع أن يخرج إلى الربذة لصلاح يرجع إلى الدين، فلا
يكون ظلما لأبي ذر، بل ربما يكون إشفاقا عليه وخوفا من أن يناله من
بعض أهل المدينة مكروه، فقد روي أنه كان يغلظ في القول ويخشن في
الكلام، ويقول: لم يبق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله
على ما عهدهم وينفر عنهم بهذا القول، فرأى أن إخراجه أصلح لما يرجع
إليهم وإليه من المصلحة وإلى الدين، وقد روي أن عمر أخرج عن المدينة



(1) في المغني " أن صيره إلى الخدمة " ولا أدري كيف غفل المحقق والمراجعون
والمشرفون عن هذا التصحيف!!
287
نصر بن حجاج (1) لما خاف ناحيته) قال: (وندب الله تعالى إلى خفض
الجناح للمؤمنين، وإلى القول اللين للكافرين، وبين للرسول صلى الله
عليه وآله وسلم أنه لو استعمل الفظاظة لانفضوا من حوله، فلما رأى
عثمان من خشونة كلام أبي ذر وما كان يورده مما يخشى منه التنفير فعل ما
فعل (2)).
قال: (وقد روي عن زيد بن وهب (3) قال: قلت: لأبي ذر وهو
بالربذة، ما أنزلك هذا المنزل؟ قال: أخبرك أني كنت بالشام فتذاكرت أنا
ومعاوية وقد ذكرت هذه الآية (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا



(1) نصر بن حجاج السلمي من أولاد الصحابة، كان من أحسن الناس
شعرا، وأصبحهم وجها فأمره عمر - لما سمع امرأة تتغنى به - أن يطم شعره ففعل
فظهرت جبهته فازداد حسنا، فأمره أن يعتم فازداد حسنا فصيره إلى البصرة مخافة أن
تفتن به النساء، فهوته بالبصرة امرأة مجاشع بن مسعود خليفة أبي موسى الأشعري والي
البصرة فلما علم أبو موسى يره إلى بلاد فارس، فخرج وكان عليها عثمان بن
أبي العاص، وأراد عثمان أن يخرجه من ولايته فقال: " والله لئن فعلتم بي هذا لألحقن
بأرض الشرك فكتب بذلك إلى عمر فكتب: احلقوا شعره، وشمروا قميصه وألزموه
المسجد (انظر الإصابة حرف النون ق 2) واتخذ من ذلك الطاعنون على عمر (رض)
ذريعة للنقد وزعموا: إن في ذلك نوعا من الظلم وكيف لم يخش على نساء البصرة كما
خشي على نساء المدينة، وإنه لو بقي تحت مراقبته لكان أولى من إبعاده وعلى كل
حال فهو أدرى بما فعل، وإلى الله مثال الأمور.
(2) المغني " فأورده ما أورده ".
(3) زيد بن وهب الجهني أدرك الجاهلية والاسلام، وأسلم في حياة النبي صلى
الله عليه وآله وسلم وهاجر إليه فبلغته وفاته في الطريق فهو معدود من كبار التابعين
سكن الكوفة وكان في الجيش الذي مع علي عليه السلام في حربه الخوارج وهو أول من
جمع خطب علي عليه السلام في الجمع والأعياد وغيرهما توفي سنة 96 وقد عمر طويلا
(اتقان المقال ص 192، أسد الغابة 2 / 42 الإصابة 1 / 597، حرف الزاي
ق 3).
288
ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) (1) فقال معاوية: هذه في
أهل الكتاب فقلت: فيهم وفينا فكتب معاوية إلى عثمان في ذلك فكتب
إلى أن أقدم علي، فقدمت عليه، فانثال الناس إلي كأنهم لم يعرفوني
فشكوت ذلك إلى عثمان فخيرني وقال: إن أحببت انزل حيث شئت
فنزلت (2) الربذة) وحكي عن الخياط قريبا مما تقدم من أن خروج أبي ذر
إلى الربذة كان باختياره قال: * (وأقل ما في ذلك أن تختلف الأخبار فتطرح
ونرجع إلى الأمر الأول في صحة إمامة عثمان وسلامة أحواله) * (3)
يقال له: قد وجدناك في قصة عثمان وعمار بين أمرين مختلفين بين
دفع لما روي من ضربه، وبين اعتراف بذلك، وتأول له واعتذار منه،
بأن التأدب المستحق لا حرج فيه، ونحن نتكلم على الأمرين: أما الدفع
لضرب عمار فهو كالانكار لوجود أحد يسمى عمارا، ولطلوع الشمس
ظهورا وانتشارا وكل من قرأ الأخبار وتصفح السير يعلم من هذا الأمر ما
لا تثنيه عنه مكابرة ولا مدافعة، وهذا الفعل يعني ضرب عمار لم يختلف
الرواة فيه، وإنما اختلفوا في سببه، فروى عباس عن هشام الكلبي عن
أبي مخنف في إسناده قال كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حلي وجوهر
فأخذ منه عثمان ما حلى به بعض أهله، فأظهر الناس الطعن عليه في
ذلك، وكلموه فيه بكل كلام شديد حتى أغضبوه، فخطب فقال:
لنأخذن حاجتنا من هذا الفئ وإن رغمت أنوف أقوام، فقال له علي عليه
السلام: " إذا تمنع ذلك ويحال بينك وبينه " فقال عمار: أشهد الله أن
أنفي أول راغم من ذلك، فقال عثمان أعلي يا ابن ياسر وسمية تجترئ؟



(1) التوبة: 34.
(2) المغني 20 ق 2 / 55.
(3) ما بين النجمتين ساقط من " المغني ".
289
خذوه فأخذوه فدخل عثمان فدعا به فضربه حتى غشي عليه، ثم أخرج
فحمل إلى منزل أم سلمة زوج النبي رحمة الله عليها فلم يصل الظهر
والعصر والمغرب، فلما أفاق توضأ وصلى وقال: الحمد لله ليس هذا أول
يوم أوذينا فيه في الله، فقال هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي وكان عمار
حليفا لبني مخزوم يا عثمان أما علي فاتقيته، وأما نحن فاجترأت علينا،
وضربت أخانا حتى أشفيت به (1) على التلف، أما والله لئن مات لأقتلن به
رجلا من بني أمية عظيم السيرة، فقال عثمان: وإنك لها هنا ابن القسرية
قال: فإنهما قسريتان وكانت أمه وجدته قسريتين بجيلة، فشتمه عثمان،
وأمره به فأخرج، فأتي به أم سلمة فإذا هي قد غضبت لعمار، وبلغ
عائشة ما صنع بعمار فغضبت، وأخرجت شعرا من شعر رسول الله
صلى الله عليه وآله ونعلا من نعاله، وثوبا من ثيابه، وقالت: ما
أسرع ما تركتم سنة نبيكم وهذا شعره وثوبه، ونعله لم يبل بعد.
وروى آخرون: أن السبب في ذلك أن عثمان مر بقبر جديد فسأل عنه
فقيل: عبد الله بن مسعود، فغضب على عمار لكتمانه إياه موته إذ كان المتولي
للصلاة عليه والقيام بشأنه فعندها وطئ عثمان عمارا حتى أصابه الفتق.
وروى آخرون: أن المقداد وطلحة والزبير وعمارا وعدة من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله كتبوا كتابا عددوا فيه أحداث
عثمان، وخوفوه ربه، وأعلموه أنهم مواثبوه إن لم يقلع، فأخذ عمار
الكتاب فأتاه به فقرأه منه صدرا، فقال عثمان: أعلي تقدم من بينهم؟
فقال: لأني أنصحهم لك، فقال: كذبت يا ابن سمية، فقال أنا والله
ابن سمية (2) وأنا ابن ياسر فأمر غلمانه فمدوا بيديه ورجليه، فضربه



(1) أشفيت به: أشرفت به على الهلاك.
(2) سمية بنت حناط - بالنون بعد الحاء المهملة، أو بالباء بعد الخاء المعجمة
- أم عمار بن ياسر كانت من السابقين إلى الاسلام، وممن يعذب في الله أشد
العذاب، طعنها أبو جهل بحربة فقتلها فكانت أول شهيدة في الاسلام وكان ذلك قبل
الهجرة (انظر أسد الغابة 5 / 481).
290
عثمان برجليه وهي في الخفين على مذاكيره فأصابه الفتق، وكان ضعيفا
كبيرا فغشي عليه، فضرب عمار على ما ترى غير مختلف فيه بين الرواة،
وإنما اختلفوا في سببه، والخبر الذي رواه صاحب الكتاب وحكاه عن
الخياط ما نعرفه، وكتب السير المعروفة خالية منه، ومن نظيره، وقد كان
يجب أن يضيفه إلى الموضع الذي أخذه منه، فإن قوله وقول من أسند إليه
ليسا بحجة، ولو كان صحيحيا لكان يجب أن يقول بدل قوله: ها أنا
فليقتص مني وإذا كان ما أمر بذلك ولا رضيه، وإنما ضربه الغلام: هذا
الغلام الجاني فليقتص منه، فإنه أولى وأعدل، وبعد فلا تنافي بين
الروايتين ولو كان ما رواه معروفا لأنه يجوز أن يكون غلامه ضربه في حال
أخرى، والروايات إذا لم تتعارض لم يجز إسقاط شئ منها.
فأما قوله: (إن عمارا لا يجوز أن يكفره، ولم يقع منه ما يوجب
الكفر) فإن تكفير عمار له معروف، قد جاءت به الروايات، وقد روي
من طرق مختلفة وبأسانيد كثيرة أن عمار كان يقول: ثلاثة يشهدون على
عثمان بالكفر وأنا الرابع، وأنا شر الأربعة (ومن لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك هم الكافرون (1)) وأنا أشهد أنه قد حكم بغير ما أنزل الله.
وروي عن زيد بن أرقم من طرق مختلفة، إنه قيل له بأي شئ
أكفرتم عثمان؟ قال: بثلاثة جعل المال دولة بين الأغنياء، وجعل
المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله بمنزلة من
حارب الله ورسوله، وعمل بغير كتاب الله، وروي عن حذيفة أنه كان



(1) المائدة / 44.
291
يقول ما في عثمان بحمد الله أشك، لكنني أشك في قاتله أكافر قتل كافرا
أم مؤمن خاض إليه الفتنة حتى قتله؟ وهو أفضل المؤمنين إيمانا.
فأما ما رواه من منازعة الحسن عليه السلام عمارا في ذلك وترافعهما
فهو أولا غير دافع لكون عمار مكفرا له بل هو شاهد من قوله بذلك،
وإن كان الخبر صحيحا فالوجه فيه أن عمارا أعلم من لحن كلام أمير
المؤمنين عليه السلام، وعدوله عن أن يقضي بينهما بصريح القول، أنه
متمسك بالتقية فأمسك عمار لما فهم من غرضه،
فأما قوله: (لا يجوز أن يكفره من حيث وثب على الخلافة لأنه كان
مصوبا لأبي بكر وعمر ولما تقدم من كلامه في ذلك) (1) فلا بد إذا حملنا تكفير
عمار للرجل على الصحة من هذا الوجه أن يكون عمار غير مصوب
للرجلين على ما ادعى وقد تقدم من الكلام في هذا المعنى ما يأتي على ما
أحال عليه صاحب الكتاب من كلامه.
فأما قوله عن أبي علي (إنه لو ثبت أنه ضربه للقول العظيم الذي
كان يقول فيه لم يكن طعنا لأن للإمام تأديب من يستحق ذلك) فقد كان
يجب أن يستوحش صاحب الكتاب، أو من حكى كلامه من أبي علي
وغيره من أن يعتذر من ضرب عمار ووقذه (2) حتى لحقه من الغشى ما ترك
له الصلاة، ووطئه بالأقدام امتهانا واستخفافا - بشئ من العذر فلا عذر
يسمع من إيقاع نهاية المكروه بمن روي أن النبي صلى الله عليه وآله
قال فيه: (عمار جلدة ما بين العين والأنف ومتى تنكأ (3) الجلد تدم



(1) في شرح نهج البلاغة " فإنا لا نسلم له أن عمار كان مصوبا لهما ".
(2) وقذه: ضربه حتى استرخى، وأشرف على الموت، ومنه الموقوذة وهي:
الشاة التي تقتل بالخشب.
(3) نكأ القرحة: قشرها قبل أن تبرأ.
292
الأنف) وروي أنه قال: (ما لهم ولعمار يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى
النار (1)) وروى العوام بن حوشب عن سلمة بن كهيل عن علقمة عن
خالد بن الوليد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من عادى
عمار عاداه الله، ومن أبغض عمار أبغضه (2) الله) وأي كلام غليظ سمعه من
عمار يستحق به ذلك المكروه العظيم، الذي يتجاوز المقدار الذي فرضه
الله تعالى في الحدود وإنما كان عمار وغيره أثبتوا عليه إحداثه ومعائبه أحيانا
على ما يظهر من سئ أفعاله، وقد كان يجب عليه أحد الأمرين إما أن
ينزع عما يواقف عليه من تلك الأفعال، أو أن يبين عذره فيها أو براءته
منها ما يظهر وينتشر ويشتهر فإن أقام مقيم بعد ذلك على توبيخه وتفسيقه
زجره عن ذلك بوعظ أو غيره ولا يقدم على ما تفعله الجبابرة والأكاسرة من
شفاء الغيظ بغير ما أنزل الله تعالى، وحكم به.
فأما قوله: (إن الأخبار متكافئة في أمر أبي ذر وإخراجه إلى
الربذة، وهل كان ذلك باختياره أو بغير اختياره) فمعاذ الله أن تتكافأ في
ذلك، بل المعروف الظاهر، أنه نفاه من المدينة إلى الشام فاستقدمه
إلى المدينة لما شكا منه معاوية ثم نفاه من المدينة إلى الربذة، وقد روى
جميع أهل السيرة على اختلاف طرقهم وأسانيدهم أن عثمان لما أعطى
مروان بن الحكم ما أعطاه، وأعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص



(1) يظهر مما أخرجه ابن هشام في السيرة 2 / 115 أن هذا الحديث والذي قبله
حديث واحد، أو أنه صلى الله عليه وآله قال ذلك في أكثر من موطن كما يبدو من
المسانيد الأخرى.
(2) في الإصابة ق 1 من حرف العين بترجمة عمار: عن خالد بن الوليد قال:
كان بيني وبين عمار كلام فأغلظت له فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وآله فجاء
خالد فرفع رسول الله صلى الله عليه وآله رأسه فقال: (من عادى عمارا عاداه الله...
الحديث).
293
ثلاثمائة ألف درهم، وأعطى زيد بن ثابت مائة ألف درهم، جعل أبو ذر
يقول: بشر الكافرين بعذاب أليم ويتلو قول الله تعالى: (والذين
يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب
أليم) (1) فرفع ذلك مروان إلى عثمان فأرسل إلى أبي ذر نائلا مولاه، أن
انته عما يبلغني عنك، فقال: أينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله تعالى،
وعيب من ترك أمر الله، فوالله لأن أرضي الله بسخط عثمان أحب إلي
وخير من أن أرضي عثمان بسخط الله فاغضب عثمان ذلك واحفظه،
فتصابر.
وقال عثمان يوما: أيجوز للإمام أن يأخذ من المال فإذا أيسر قضاه؟
فقال كعب الأحبار: لا بأس بذلك، فقال له أبو ذر: يا ابن
اليهوديين (2) أتعلمنا ديننا! فقال عثمان: قد كثر أذاك لي وتولعك
بأصحابي إلحق بالشام، فأخرجه إليها، وكان أبو ذر ينكر على معاوية
أشياء يفعلها فبعث إليه معاوية ثلاثمائة دينار، فقال أبو ذر: إن كانت
من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها، وإن كانت صلة فلا حاجة
لي فيها، وردها عليه.
وبنى معاوية الخضراء بدمشق، فقال أبو ذر: يا معاوية إن كانت
هذه من مال الله فهي الخيانة. وإن كان من مالك فهو الإسراف، وكان
أبو ذر رحمه الله تعالى يقول: والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما
هي في كتاب الله ولا سنة نبيه، والله إني لأرى حقا يطفأ وباطلا يحيى
وصادقا مكذبا، وأثرة بغير تقى، وصالحا مستأثرا عليه فقال حبيب بن



(1) التوبة / 34.
(2) يا بن اليهودي، خ ل.
294
مسلمة الفهري (1) لمعاوية إن أبا ذر لمفسد عليكم الشام، فتدارك أهله إن
كانت لكم فيه حاجة، فكتب معاوية إلى عثمان فيه فكتب عثمان إلى
معاوية أما بعد، فاحمل جندبا إلي على أغلظ مركب وأوعره فوجه به مع
من سار به الليل والنهار، وحمل على شارف (2) ليس عليها إلا قتب (3) حتى
قدم المدينة وقد سقط لحم فخذيه من الجهد، فلما قدم أبو ذر المدينة بعث
إليه عثمان بأن الحق بأي أرض شئت، فقال: بمكة؟ قال: لا، قال:
فببيت المقدس؟ قال: لا، قال: فبأحد المصرين (4) قال: لا، ولكني
مسيرك إلى الربذة، فسيره إليها، فلم يزل بها حتى مات رحمه الله.
وفي رواية الواقدي أن أبا ذر لما دخل على عثمان، فقال له: لا
أنعم الله عينا يا جنيدب، فقال أبو ذر: أنا جندب وسماني رسول الله
صلى الله عليه وآله عبد الله، فاخترت اسم رسول الله الذي سماني به
على اسمي، فقال له عثمان: أنت الذي تزعم أنا نقول: إن يد الله
مغلولة وإن الله فقير ونحن أغنياء، فقال أبو ذر: ولو كنتم لا تزعمون
لأنفقتم مال الله على عباده، ولكني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم يقول: (إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال
الله دولا (5) وعباد الله خولا ودين الله دخلا، ثم يريح الله العباد منهم)



(1) حبيب بن مسلمة الفهري الحجازي، نزل الشام، قال البخاري: له
صحبه، يقال له: حبيب الروم لكثرة جهاده فيهم، قال ابن سعد: لم يزل مع معاوية
في حروبه، ووجهه إلى إرمينية واليا فمات بها سنة 42 ولم يبلغ الخمسين (انظر
الإصابة حرف الحاء ق 1).
(2) الشارف: البعير المسن الهزيل.
(3) القتب: الأكاف الصغير على قدر سنام الناقة.
(4) أي الكوفة والبصرة.
(5) الدول " ما يتداول فيكون مرة لهذا ومرة لذاك ويطلق على المال والغلبة.
والحديث.
295
فقال عثمان لمن حضره أسمعتموها من نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
فقالوا: ما سمعناه، فقال عثمان: ويلك يا أبا ذر أتكذب على رسول
الله صلى الله عليه وآله فقال أبو ذر لمن حضره أما تظنون أني
صدقت؟ فقال عثمان ادعوا لي عليا، فلما جاء، قال عثمان لأبي ذر:
أقصص عليه حديثك في بني أبي العاص، فحدثه فقال عثمان لعلي عليه
السلام هل سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال علي
عليه السلام: لا، وقد صدق أبو ذر، فقال عثمان: كيف عرفت
صدقه؟ قال: " لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول:
(ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي
ذر) (1) "، فقال: من حضر من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله
جميعا: صدق أبو ذر، فقال أبو ذر: أحدثكم أني سمعته من رسول
الله صلى الله عليه وآله ثم تتهموني، ما كنت أظن أني أعيش حتى
أسمع هذا من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
وروى الواقدي في خبر آخر بإسناده عن صهبان (2) مولى الأسلميين
قال: رأيت أبا ذر يوم دخل به على عثمان، فقال له: أنت الذي فعلت
وفعلت؟ قال أبو ذر: إني نصحتك، فاستغششتني، ونصحت صاحبك
فاستغشني، فقال عثمان: كذبت، ولكنك تريد الفتنة وتحبها، قد قلبت
الشام علينا، فقال له أبو ذر: اتبع سنة صاحبيك لا يكون لأحد عليك
كلام، فقال له عثمان: مالك ولذلك لا أم لك؟ فقال أبو ذر: والله ما
.



(1) حديث (ما أظلت الخضراء...) تقدم تخريجه.
(2) صهبان لعله مولى العباس بن عبد المطلب (انظر تاريخ البخاري
4 / 316).
296
وجدت لي عذرا إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فغضب عثمان،
وقال: أشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب إما أن أضربه أو أحبسه أو
أقتله، فإنه قد فرق جماعة المسلمين، أو أنفيه من الأرض فتكلم علي عليه
السلام وكان حاضرا فقال: " أشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون (فإن
يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا
يهدي من هو مسرف كذاب (1)) فأجابه عثمان بجواب غليظ لم أحب أن
أذكره، وأجابه علي عليه السلام بمثله.
ثم إن عثمان حظر (2) على الناس يقاعدوا أبا ذر ويكلموه، فمكث
كذلك أياما ثم أمر أن يؤتى به فلما أتي به، وقف بين يديه، قال: ويحك
يا عثمان أما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله ورأيت أبا بكر
وعمر، هل رأيت هذا هديهم إنك تبطش بي بطش جبار! فقال اخرج
عنا من بلادنا فقال أبو ذر: فما أبغض إلى جوارك، قال: فإلى أين
اخرج، قال: حيث شئت. قال: فأخرج إلى الشام أرض الجهاد،
فقال إنما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها أفاردك إليها قال: أفأخرج إلى
العراق، قال: لا، قال: ولم؟ قال: تقدم على قوم أهل شبه، وطعن على
الأئمة، قال: فأخرج إلى مصر؟ قال: لا قال أين أخرج؟ قال: حيث
شئت، فقال أبو ذر: وهو أيضا التعرب بعد الهجرة. أخرج إلى نجد،
فقال عثمان: الشرف الشرف (3) الأبعد، أقصى فأقصى فقال أبو ذر قد
أبيت ذلك علي، قال: أمض على وجهك هذا ولا تعدون الربذة،



(1) غافر: 28.
(2) حظر عليهم: منعهم.
(3) الشرف: كبد نجد وقد تقدم.
297
وروى الواقدي عن مالك بن أبي الرحال عن موسى بن ميسرة، أن
أبا الأسود الدؤلي، قال: كنت أحب لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب
خروجه فنزلت به الربذة، فقلت له: ألا تخبرني خرجت من المدينة طائعا
أو أخرجت قال أما إني كنت في ثغر من الثغور أغنى عنهم، فأخرجت إلى
مدينة الرسول فقلت: دار هجرتي وأصحابي، فأخرجت منها إلى ما
ترى، ثم قال: بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد إذ مر بي رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم فضربني برجله فقال: (لا أراك نائما في المسجد)
فقلت: بأبي أنت وأمي غلبتني عيني فنمت فيه، فقال: (كيف تصنع إذا
أخرجوك منه)؟ فقلت: إذا الحق بالشام، فإنها أرض مقدسة، وأرض
بقية الاسلام، وأرض الجهاد، فقال: (كيف بك إذا أخرجوك منها)؟
قال: فقلت: أرجع إلى المسجد، قال: (كيف تصنع إذا أخرجوك منه)
قلت: آخذ سيفي فأضرب به، فقال: رسول الله صلى الله عليه وآله:
(ألا أدلك على خير من ذلك انسق معهم حيث ساقوك، وتسمع وتطيع)
فسمعت وأطعت، وأنا أسمع وأطيع، والله ليلقين الله عثمان وهو آثم في
جنبي، وكان يقول بالربذة ما ترك الحق لي صديقا، وكان يقول فيها:
ردني عثمان بعد الهجرة أعرابيا.
والأخبار في هذا الباب أكثر من أن نحصرها. وأوسع من أن
نذكرها. وما يحمل نفسه على ادعاء أن أبا ذر خرج مختارا إلى الربذة إلا
مكابر، ولسنا ننكر أن يكون ما أورده صاحب الكتاب من أنه خرج مختارا
قد روي، إلا أنه من الشاذ النادر، وبإزاء هذه الرواية الفذة كل الروايات
التي تتضمن خلافها ومن تصفح الأخبار علم أنها غير متكافئة على ما ظن
صاحب الكتاب، وكيف يجوز خروجه عن تخيير؟ وإنما أشخص من الشام
على الوجه الذي أشخص عليه من خشونة المركب، وقبح السير به للوجد
عليه، ثم لما قدم منع الناس من كلامه، وأغلظ له في القول، وكل هذا

298
لا يشبه أن يكون أخرجه إلى الربذة باختياره، وكيف يظن عاقل أن أبا ذر
يحب أن يختار الربذة منزلا مع جدبها وقحطها وبعدها عن الخيرات؟ ولم
يكن بمنزل مثله.
فأما قوله: (إنه أشفق عليه من أن يناله بعض أهل المدينة
بمكروه، من حيث كان يغلظ له القول) فليس بشئ يعول عليه لأنه لم
يكن في أهل المدينة إلا من كان راضيا بقوله، عاتبا بمثل عتبه، إلا أنهم
كانوا بين مجاهر بما في نفسه، ومخف ما عنده، وما في أهل المدينة إلا من
رثى مما حدث على أبي ذر واستفظعه، ومن رجع إلى كتب السير عرف ما
ذكرناه.
وأما قوله: (إن عمر أخرج من المدينة نصر بن حجاج) فما بعد ما
بين الأمرين، وما كنا نظن أن أحدا يسوي بين أبي ذر وهو وجه الصحابة
وعينهم، ومن أجمع المسلمون على توقيره وتعظيمه، وأن رسول الله صلى
الله عليه وآله وسلم مدحه من صدق اللهجة بما لم يمدح به أحدا، وبين نصر
ابن الحجاج الحدث الذي كان خاف عمر من افتتان النساء به وبشبابه،
ولاحظ له في فضل ولا دين، على أن عمر قد ذم بإخراجه نصر بن
الحجاج من غير ذنب كان منه، وإذا كان من أخرج نصر بن الحجاج
مذموما، فكيف بمن أخرج مثل أبي ذر رحمه الله تعالى؟!
فأما قوله: (إن الله تعالى والرسول صلى الله عليه وآله ندبا
إلى خفض الجناح، ولين القول للمؤمن والكافر، فهو كما قال، إلا أن
هذا أدب كان ينبغي أن يتأدب به عثمان في أبي ذر، ولا يقابله
بالتكذيب، وقد قطع الرسول صلى الله عليه وآله على صدقه، ولا
يسمعه مكروه الكلام، وإنما هو نصح له، وأهدى إليه عيوبه، وعاتبه على
ما لو نزع عنه لكان خيرا له في الدنيا والآخرة، وهذه جملة كافية.

299
قال صاحب الكتاب: (فأما جمعه الناس على قراءة واحدة، فقد
بينا أن ذلك من عظيم ما خص (1) بها القرآن، لأنه مع هذا الصنيع قد وقع
فيه من الاختلاف، ما وقع، فكيف لو لم يفعل ذلك، ولم لم يكن فيه إلا
إطباق الجميع على ما أتاه من أيام الصحابة إلى وقتنا هذا، لكان
كافيا).
ثم ذكر ما نسب إليه من تعطيل الحد في الهرمزان وحكي عن أبي
علي (إنه لم يكن للهرمزان ولي يطلب بدمه، والإمام ولي من لا ولي له،
وللولي أن يعفو كما له أن يقتل، وقد روي أنه سأل المسلمين أن يعفوا عنه
فأجابوا إلى ذلك).
قال: (وإنما أراد عثمان * بالعفو عنه ما يعود إلى عز الدين،
لأنه خاف أن يبلغ العدو قتله، فيقال قتلوا إمامهم وقتلوا ولده
ولا يعرفون الحال في ذلك، فيكون شماتة (2) * وحكي عن الخياط (3) أن عامة
المهاجرين أجمعوا على ألا يقاد بالهرمزان، وقالوا: هو دم سفك في غير
ولايتك، فليس له ولي يطلب به، وأمره إلى الإمام، فاقبل منه الدية،
فذلك صلاح المسلمين).
قال: (ولم يثبت أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يطلبه ليقتله
بالهرمزان، لأنه لا يجوز قتل من قد عفى عنه ولي المقتول، وإنما كان
يطلبه ليضع من قدره ويصغر من شأنه).



(1) غ " خص ".
ما بين النجمتين ساقط من " المغني ".
(3) حكاية الخياط ساقطة من " المغني ".
300
قال: (ويجوز أن يكون ما روي عن علي عليه السلام أنه قال:
" لو كنت بدل عثمان لقتلته " يعني أنه كان يرى ذلك أقوى في الاجتهاد
أو أقرب إلى التشدد في دين الله).
قال: (فأما ما يروون (1) أن عثمان ترك بعد القتل ثلاثة أيام لم
يدفن، وجعلهم ذلك طعنا (2) فليس بثابت، ولو صح ذلك لكان طعنا
على من لزمه القيام به) وحكي عن أبي علي (أنه لم يمتنع أن يشتغلوا بإبرام
البيعة لأمير المؤمنين عليه السلام خوفا على الاسلام من الفتنة فيؤخر
وقته) قال: (وبعيد مع حضور قريش وقبائل العرب وسائر بني أمية
ومواليهم أن يترك عثمان فلا يدفن في هذه المدة، ويبعد أن يكون
أمير المؤمنين لا يتقدم بدفنه فلو مات في جواره يهودي أو نصراني ولم يكن له
من يواريه ما تركه ألا يدفن، فكيف يجوز مثل ذلك في عثمان، وقد روي
أنه دفن في تلك الليلة وهو الأولى) قال: (فأما تعلقهم، بأن الصحابة لم
تنكر على القوم، ولا دفعت عنه، فقد بينا ما يسقط كل ذلك، وبينا أن
الصحيح عن أمير المؤمنين عليه السلام تبرؤه عن (3) قتل عثمان، ولعنه
قتلته في البر والبحر، والسهل والجبل (4) وإنما كان يجري من حديثه (5) هذا
القول على وجه المجاز، لأنا نعلم أن جميع من كان يقول: نحن قتلناه،
لم يقتله، لأن في الخبر أن العدد الكثير كانوا يصرحون بذلك، والذين
دخلوا عليه وقتلوه هم نفسان أو ثلاثة وإنما كانوا يريدون بهذا القول
احسبوا أنا قتلناه فما بالكم وهذا الكلام لأن الإمام هو الذي يقوم بأمر الدين



(1) غ " ما يروى ".
(2) في المغني " فعلى ما بيناه إن صح كان طعنا على من لزمه القيام به ".
(3) غ " من ".
(4) " السهل والجبل " ساقطة من المغني
(5) حيث خ ل.
301
في القود وغيره، وليس للخارج عليه أن يطالب بذلك ولم يكن لأمير
المؤمنين عليه السلام أن يقتل قتلته، ولو عرفهم ببينة أو إقرار، وميزهم
من غيرهم إلا عند مطالبة ولي الدم [فأما على جهة الابتداء فلم يكن] (1)
والذين كانوا أولياء الدم لم يكونوا يطالبونه، ولا كانت صفتهم صفة من
يطالب، لأنهم كلهم، أو بعضهم يدعون أن عليا عليه السلام (2) قتله،
وأنه ليس بإمام، ولا يحل لولي الدم مع هذا الاعتقاد أن يطالب بالقود،
فلذلك لم يقتلهم [أمير المؤمنين (3)] هذا لو صح أنه كان يميزهم. فكيف
وذلك غير صحيح.
فأما ما روي عنه من قوله عليه السلام (قتله الله وأنا معه) فإن
صح فمعناه مستقيم، يريد أن الله أماته ويميتني (4) معه، وسائر العباد.
ثم قال: (وكيف يقول ذلك وعثمان مات مقتولا من جهة
المكلفين).
ثم أجاب: (بأنه وإن قتل فالإماتة من قبله تعالى (2) ويجوز أن يكون
ما ناله من الجراح لا يوجب انتفاء الحياة لا محالة، فإذا مات صحت
الإماتة (6) على طريق الحقيقة).
يقال له: أما ما اعتذرت به من جمع الناس على قراءة واحدة فقد
مضى الكلام عليه مستقصى وبينا أن ذلك ليس تحصينا للقرآن ولو كان



(1) الزيادة من المغني.
(2) لفظة " قتله " ساقطة من نقل ابن أبي الحديد.
(3) الزيادة من المغني.
(4) ش " سيميتني ".
(5) غ " من فعل الله تعالى " (-)
(6) غ " الإضافة ".
302
تحصينا لما كان رسول الله صلى الله عليه وآله يبيح القراءات المختلفة.
وقوله: (لو لم يكن فيه إلا إطباق الجميع على ما أتاه من أيام
الصحابة إلى وقتنا هذا) ليس بشئ، لأنا نجد الاختلاف في القراءة
والرجوع فيها إلى الحروف مستمرا في جميع الأوقات التي ذكرها إلى وقتنا
هذا وليس نجد المسلمين يوجبون على أحد التمسك بحرف واحد،
فكيف يدعي إجماع الجميع على ما أتاه عثمان؟
فإن قال: لم أعن بجمعه الناس على قراءة واحدة إلا أنه جمعهم على
مصحف زيد، لأن ما عداه من المصاحف كان يتضمن من الزيادة
والنقصان مما عداه ما هو منكر.
قيل له: هذا بخلاف ما تضمنه ظاهر كلامك أولا، ولا تخلو تلك
المصاحف التي تعدو مصحف زيد من أن تتضمن من الخلاف في الألفاظ
والكلم، ما أقر رسول الله صلى الله عليه وآله عليه، وأباح
قراءته، فإن كان كذلك، فالكلام في الزيادة والنقصان يجري مجرى الكلام
في الحروف المختلفة، وأن الخلاف إذا كان مباحا ومرويا عن الرسول
ومنقولا فليس لأحد أن يحظره، وإن كانت هذه الزيادة والنقصان بخلاف
ما أنزل الله تعالى، وما لم يبح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تلاوته
فهو سوء ثناء على القوم الذين يقرءون بهذه المصاحف كابن مسعود وغيره،
وقد علمنا أنه لم يكن منهم إلا من كان علما في القراءة والثقة والإماتة
والنزاهة، عن أن يقرأ بخلاف ما أنزل الله، وقد كان يجب أن يتقدم هذا
الانكار منه ومن غيره ممن ولي الأمر قبله، لأن إنكار الزيادة في القرآن
والنقصان لا يجوز تأخيره.
فأما الكلام في قتل الهرمزان، وفي العدول عن قتل قاتله، واعتذاره
من ذلك بما اعتذر به من أنه لم يكن له ولي لأن الإمام ولي من لا ولي له،

303
وله أن يعفو كما له أن يستوفي القود، فليس بشئ لأن الهرمزان رجل من
أهل فارس، ولم يكن له ولي حاضر يطالب بدمه وقد كان يجب أن يبذل
الانصاف لأوليائه ويؤمنوا متى حضروا حتى إن كان له ولي يطالب حضر
وطالب، ثم لو لم يكن له ولي لم يكن عثمان ولي دمه لأنه قتل في أيام عمر
فصار عمر ولي دمه، وقد أوصى عمر على ما جاءت به الروايات الظاهرة بقتل ابنه
عبيد الله إن لم يقم البينة العادلة على الهرمزان وجفينه أنهما أمرا أبا لؤلؤة غلام المغيرة
ابن شعبة بقتله، وكانت وصيته بذلك إلى أهل الشورى،
فقال أيكم ولي هذا الأمر فليفعل كذا وكذا مما ذكرناه، فلما مات عمر
طلب المسلمون إلى عثمان إمضاء الوصية في عبيد الله بن عمر فدافع
عنها، وعللهم، فلو كان هو ولي الدم على ما ذكره، لم يكن له أن
يعفو، وأن يبطل حدا من حدود الله تعالى وأي شماتة للعدو في إقامة
حدود الله تعالى، وإنما الشماتة كلها من أعداء الاسلام في تعطيل الحدود،
وأي حرج في الجمع بين قتل الأب والابن حتى يقال: كره أن ينتشر الخبر
بأن الإمام وابنه قتلا، وإنما قتل أحدهما ظلما والآخر عدلا، أو أحدهما
بغير أمر الله والآخر بأمر الله تعالى.
وقد روى زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق، عن أبان
ابن صالح أن أمير المؤمنين عليه السلام أتى عثمان بعد ما استخلف فكلمه
في عبيد الله، ولم يكلمه أحد غيره، فقال: اقتل هذا الفاسق الخبيث
الذي قتل امرءا مسلما، فقال عثمان: قتلوا أباه بالأمس واقتله اليوم،
وإنما هو رجل من أهل الأرض، فلما أبي عليه مر عبيد الله على علي عليه
السلام فقال له: (يا فاسق إيه أما والله لئن ظفرت بك يوما من الدهر
لأضربن عنقك) فلذلك خرج مع معاوية على أمير المؤمنين عليه السلام.
وروى القناد، عن الحسن بن عيسى بن زيد، عن أبيه، أن

304
المسلمين لما قال عثمان: إني قد عفوت عن عبيد الله بن عمر، قالوا:
ليس لك أن تعفو عنه، قال: بلى إنه ليس لجفينة والهرمزان قرابة من أهل
الاسلام، وأنا أولى بهما لأني ولي أمر المسلمين، وقد عفوت فقال علي عليه
السلام: " أنه ليس كما تقول إنما أنت في أمرهما بمنزلة أقصى المسلمين،
وإنما قتلهما في إمرة غيرك، وقد حكم الوالي الذي قبلك الذي قتلا في
إمارته بقتله، ولو كان قتلهما في إمارتك، لم يكن لك العفو عنه، فاتق
الله فإن الله سائلك عن هذا " فلما رأى عثمان أن المسلمين قد أبوا إلا قتل
عبيد الله أمره فارتحل إلى الكوفة وابتنى بها دارا وأقطعه أرضا، وهي التي
يقال لها كويفة (1) بن عمر فعظم ذلك عند المسلمين وأكبروه وكثر
كلامهم فيه.
وروي عن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب عليه
السلام أنه قال: ما أمسى عثمان يوم ولي حتى نقموا عليه في أمر عبيد الله
ابن عمر، حيث لم يقتله بالهرمزان.
فأما قوله: (إن أمير المؤمنين عليه السلام لم يطلبه ليقتله، بل
ليضع من قدره) (2) فهو بخلاف ما صرح به عليه السلام من أنه لم يكن إلا
لضرب عنقه.
وبعد فإن ولي الدم إذا عفى عنه على ما ادعوا لم يكن لأحد أن
يستخف به، ويضع من قدره، كما ليس له أن يقتله.



(1) ما تقدم من كلام القاضي في هذا الباب نقله المرتضى بحذف ما لا يخل
بالمعنى أو لا يرى طائلا في نقله ولا حاجة في إيراده (انظر المغني ج 2 ق 2 / 54 - 57).
(2) في معجم البلدان 7 / 304: كويفة ابن عمر منسوبة إلى عبيد الله بن عمر
بن الخطاب، نزلها حين قتل بنت أبي لؤلؤة والهرمزان، وجفينة العبادي.
305
وقوله: (إن أمير المؤمنين عليه السلام لا يجوز أن يتوعده مع عفو
الإمام عنه) فإنما يكون صحيحا لو كان ذلك العفو مؤثرا وقد بينا أنه غير
مؤثر.
وقوله: (يجوز أن يكون عليه السلام ممن يرى قتله أقوى في
الاجتهاد، وأقرب إلى التشدد في دين الله) فلا شك أنه كذلك. وهذا بناء
منه على أن كل مجتهد مصيب، وقد بينا أن الأمر بخلاف ذلك. وإذا كان
اجتهاد أمير المؤمنين عليه السلام يقتضي قتله فهو الذي لا يسوغ خلافه.
وأما تضعيفه أن يكون عثمان ترك بعد القتل ثلاثة أيام لم يدفن ليس
بحجة لأن ذلك قد رواه جماعة الرواة وليس يخالف في مثله أحد يعرف
الرواية به. وقد ذكر ذلك الواقدي وغيره، وروي أن أهل المدينة منعوا
الصلاة عليه حيث حمل حتى حمل بين المغرب والعشاء، ولم يشهد جنازته
غير مروان وثلاثة من مواليه ولما أحسوا بذلك رموه بالحجارة، وذكروه
بأسوء الذكر، ولم يقع التمكن من دفنه إلا بعد أن أنكر أمير المؤمنين عليه
السلام المنع من دفنه وأمر أهله بتولي ذلك منه.
فأما قوله: (إن ذلك إن صح كان طعنا على من لزمه القيام بأمره)
فليس الأمر على ما ظنه بل يكون طعنا عليه من حيث لا يجوز أن يمنع أهل
المدينة، وفيها وجوه الصحابة من دفنه والصلاة عليه إلا لاعتقاد قبيح،
ولأن أكثرهم وجمهورهم يعتقد ذلك. وهذا طعن لا شبهة فيه واستبعاد
صاحب الكتاب لذلك، مع ظهور الرواية لا يلتفت إليه، فأما أمير المؤمنين
عليه السلام واستبعاد صاحب الكتاب منه ألا يتقدم بدفنه، فقد بينا أنه
تقدم بذلك بعد مماكسة ومراوضة (1).



(1) غ " بعد مماكسته ومراوضته " وما في المتن أوجه.
306
وأعجب من كل شئ قول صاحب الكتاب: (إنهم أخروا دفنه
تشاغلا بالبيعة لأمير المؤمنين عليه السلام) وأي شغل في البيعة يمنع من
دفنه، والدفن فرض على الكفاية إذا قام به البعض وتشاغل الباقون
بالبيعة لجاز، وليس الدفن ولا البيعة مفتقرة إلى تشاغل جميع المدينة بها،
وبهذا الكلام من الضعف ما لا يخفى على متأمل.
فأما قوله: (إنه روي أن عثمان دفن في تلك الليلة) فما نعرف
هذه الرواية، وقد كان يجب أن يسندها ويعزوها إلى راويها، والكتاب
الذي أخذها منه، والذي ظهر في الرواية هو ما ذكرناه.
فأما إحالته على ما تقدم من كلامه في أن الصحابة لم تنكر على القوم
[المجلبين على عثمان (1)] فقد بينا فساد ما أحال عليه ولا معنى
لإعادته.
فأما روايته عن أمير المؤمنين تبروءه من قتل عثمان، ولعنه قتلته في
البر والبحر والسهل والجبل، فلا شك في أنه عليه السلام كان بريئا من
قتله، وقد روي أنه قال: " والله ما قتلته ولا مالأت في قتله " والممالاة
هي المعاونة والموازرة، وقد صدق عليه السلام في أنه ما قتل
ولا وازر على القتل.
فأما لعنه قتلته، فضعيف في الرواية، وإن كان قد روى فأظهر منه
ما رواه الواقدي عن الحكم بن الصلت، عن محمد بن عمار بن ياسر عن
أبيه، قال: رأيت عليا عليه السلام على منبر رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم حين قتل عثمان، وهو يقول: " ما أحببت قتله ولا كرهته ولا



(1) ما بين الحاصرتين من (شرح نهج البلاغة).
307
أمرت به ولا نهيت عنه " وقد روى محمد بن سعد عن عفان عن جوين بن
بشير عن أبي جلدة أنه سمع عليا عليه السلام يقول وهو يخطب فذكر
عثمان وقال: " والله الذي لا إله إلا هو ما قتلته ولا مالأت على قتله، ولا
سائني " ورواه ابن بشير عن عبيدة السلماني قال سمعت عليا عليه السلام
يقول: " من كان سائلي عن دم عثمان فإن الله قتله وأنا معه " وقد روي
هذا اللفظ من طرق كثيرة، وقد روى شعبة عن أبي حمزة الضبعي قال:
قلت لابن عباس: إن أبي أخبرني أنه سمع عليا عليه السلام يقول:
" ألا من كان سائلي عن دم عثمان، فإن الله قتله وأنا معه " فقال: صدق
أبوك، هل تدري ما يعني بقوله، إنما عني أن الله قتله وأنا مع الله؟.
فإن قيل: كيف يصح الجمع بين معاني هذه الأخبار؟
قلنا: لا تنافي بين الجميع لأنه تبرأ من مباشرة قتله والمؤازرة عليه،
ثم قال: " ما أمرت بذلك ولا نهيت عنه " يريد أن قاتليه لم يرجعوا إلي ولم
يكن مني قول في ذلك ولا نهي.
فأما قوله: " الله قتله وأنا معه " فيجوز أن يكون المراد الله حكم
بقتله وأوجبه وأنا كذلك لأن من المعلوم أن الله لم يقتله على الحقيقة،
فإضافة القتل إلى الله لا تكون إلا بمعنى الحكم والرضا، وليس يمنع أن
يكون مما حكم الله به ما لم يتوله بنفسه، ولا آزر عليه، ولا شايع فيه.
فإن قال: هذا ينافي ما روي عنه " ما أحببت قتله ولا كرهته " وكيف
يكون من حكم الله وفي حكمه بأن يقتل وهو لا يحب قتله.
قلنا يجوز: أن يريد بقوله: ما أحببت قتله ولا كرهته، أن ذلك لم يكن
مني على سبيل التفصيل ولا خطر لي ببال، وإن كان على سبيل الجملة
يجب قتل من غلب على أمور المسلمين، وطالبوه بأن يعزل لأنه بغير حق

308
مستول عليهم، فامتنع من ذلك ويكون فائدة هذا الكلام التبروء من
مباشرة قتله، والأمر به على سبيل التفضيل، أو النهي، ويجوز أن يريد إنني
ما أحببت قتله إن كانوا تعمدوا القتل، ولم يقع على سبيل الممانعة، وهو
غير مقصود ويريد بقوله: ما كرهته، إني لم أكرهه على كل حال ومن كل
وجه.
فأما لعنه قتلته فقد بينا أن ذلك ليس بظاهر ظهور ما ذكرناه، فإن
صح وهو مشروط بوقوع القتل على الوجه المحظور من تعمد له، وقصد
إليه وغير ذلك، على أن المتولي للقتل على ما صحت به الرواية كنانة بن
بشير التجيبي (1) وسودان بن حمران المرادي (2) وما منهما من كان غرضه في
القتل صحيحا، ولا له أن يقدم عليه فهو ملعون به.
فأما محمد بن أبي بكر فما تولى قتله، وإنما روي أنه لما جثا بين يديه
قابضا على لحيته، قال يا ابن أخي دع لحيتي فإن أباك لو كان حيا لم يقعد
مني هذا المقعد، فقال محمد: إن أبي لو كان حيا ثم رآك تعمل هذا
العمل لأنكره عليك، ثم وجأه بجماعة قداح كانت في يده فخزت في
جلده، ولم تقطع وبادره من ذكرناه بما كان فيه القتل.
فأما تأول صاحب الكتاب ما روي من قوله عليه السلام: " الله
قتله وأنا معه " على (أن المراد به الله أماته وسيميتني معه) فبعيد من
الصواب لأنه لفظة " أنا " لا تكون كناية عن المفعول وإنما تكون كناية عن



(1) كنانة بن بشير التجيبي له إدراك شهد فتح مصر وقتل بفلسطين سنة 36
(انظر الإصابة حرف الكاف ق 1).
(2) سودان بن حمران المرادي (ممن شرك في قتل عثمان رضي الله عنه (انظر
التاريخ لابن الأثير 3 / 155 و 158 و 178.
309
الفاعل، ولو أراد ما ذكره لكان يقول: وإياي معه، وليس له أن يقول
إنما يجعل قوله وأنا معه مبتدأ محذوف الخبر، ويكون تقدير كلامه وأنا معه
مقتول، وذلك لأن هذا ترك للظاهر، وإحالة على ما ليس فيه، والكلام
إذا أمكن حمله على معنى يستقبل ظاهره به من غير تقدير وحذف كان أولى
مما يتعلق بمحذوف، على أنهم إذا جعلوه مبتدأ وقدروا خبرا لم يكونوا بأن
يقدروا ما يوافق مذهبهم بأولى من تقدير خلافه، وجعل بدلا من لفظ
المقتول المحذوف لفظ معين أو ظهير فإذا تكافأ القولان في التقدير وتعارضا
سقطا ووجب الرجوع إلى ظاهر الخبر على أن عثمان مضى مقتولا، وكيف
يقال: إن الله أماته، والقتل كاف في انتقام الحياة، وليس يحتاج معه إلى
ناف لحياة يسمى موتا.
وقول صاحب الكتاب: (ويجوز أن يكون ما ناله من الجراح لا
يوجب انتفاء الحياة) فليس ذلك بجائز لأن المروي أنه ضرب على رأسه
بعمود حديد عظيم، وأن أحد قتلته قال: جلست على صدره فوجأته
تسع وجاءات (1) علمت أنه مات في ثلاث منهن، ولكن وجأته الست
الأخر لما كان في نفسي عليه من الحنق والغيظ.
وبعد، فإذا كان ذلك جائزا من أين علمه أمير المؤمنين عليه السلام حتى
يقول: الله أماته وإن الحياة لم تنتف بما فعلت القتلة، وإنما انتفت بشئ
زاد على فعلهم من قبل الله تعالى مما لا يعلمه على التفصيل إلا الله علام
الغيوب تعالى وهذا واضح لمن تأمله (2).



(1) ش " طعنات ".
(2) كلام القاضي في أمر عثمان (رض) ورد المرتضى عليه، نقله ابن أبي
الحديد عن الشافي في شرح نهج البلاغة ج 2 / 324 فما بعدها و ج 3 ص 3 - 69 ولكنه
قطع كلام القاضي فصولا جعل في قبال كل فصل نقض المرتضى له مع اختلاف في
بعض الحروف والكلمات.
310
فصل
في تتبع كلامه في إثبات إمامة أمير المؤمنين صلوات الله عليه
إعلم إنا وإن كنا نقول بإمامة أمير المؤمنين عليه السلام على استقبال
وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وإلى حين وفاته هو عليه السلام
فعندنا أن من لم يسلك في إمامته طريقتنا، ولم يعتمد أدلتنا، فإن إمامته لا
تثبت له، وصاحب الكتاب إنما اعتمد في هذا الفصل على أن من بايعه
واحد برضا أربعة على الصفات التي ذكرها كان إماما، وإن لم تجتمع الأمة
على الرضا به، وهذه الطريقة مما قد بينا فسادها فيما تقدم، فيجب فساد
ما فرعه عليها، وليس يمكنه أن يدعي الإجماع على إمامته، وإنما الخلاف
في ذلك ظاهر، وإذا كان ما ذكره من الطريقة ليس بصحيح، والاجماع
غير ثابت، فلم يبق في يد من نفى النص عن أمير المؤمنين عليه السلام من
إمامته شئ، ثم ذكر في هذا الفصل عن أبي جعفر الإسكافي رحمه
الله (1) من شرح ما وقعت عليه البيعة، وأن طلحة والزبير بايعا طائعين



(1) نقل القاضي ذلك من كتاب المقامات لأبي جعفر الإسكافي (انظر المغني 20
ق 2 / 65 - 68، وأبو جعفر الإسكافي: هو محمد بن عبد الله من أكابر علماء المعتزلة
ومتكلميهم صنف سبعين كتابا في الكلام ومن كتبه كتاب " المقامات في مناقب أمير
المؤمنين عليه السلام، وهو الذي نقض كتاب " العثمانية " لأبي عثمان الجاحظ وقد
لخص الكتابين ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة 13 / 215 - 295، وكان يقول
بالتفضيل على قاعدة معتزلة بغداد، توفي الإسكافي سنة 240 وقد طبعت رسالة
العثمانية في دار الكتاب العربي بتحقيق الأستاذ عبد السلام هارون والحق به بعض ما
عثر عليه من نقض الإسكافي لها.
311
راغبين فالرواية بخلافه، فإن الواقدي روى في كتاب الجمل من طرق
مختلفة:
إن أمير المؤمنين عليه السلام لما قتل عثمان خرج إلى موضع يقال
له بئر سكن وطلحة والزبير معه لا يشكان الأمر شورى، فقام الأشتر
مالك بن الحارث النخعي فطرح عليه خميصة (1) وقال: هل تنتظرون من
أحد وأخذ السيف، ثم قال يا علي: أبسط يدك فبسط يده فبايعه، ثم
قال: قوموا فبايعوا، قم يا طلحة، قم با زبير، والله لا ينكل منكما،
أحد إلا ضربت عنقه تحت قرطه فقاما وبايعا.
وفي بعض الروايات عن عبد الله بن الطفيل أن طلحة قام ليبايع،
وأنا أنظر إليه يجر رجليه، فكان أول من بايع، ثم انصرف هو والزبير
يقولان:
" إنما بايعناه واللج على رقابنا فأما الأيدي فقد بايعت، وأما
القلوب فلم تبايع ".
وروى الواقدي بإسناده عن المنذر بن جهم قال: سألت عبد الله بن
تغلبة:
كيف كانت بيعة علي عليه السلام؟
قال: أرأيت بيعة رأسها الأشتر، يقول: من لم يبايع ضربت عنقه وحكيم بن
جبلة وذووهما، فما ظنك بها، ثم قال: أشهد لرأيت الناس يجرون إلى بيعته



(1) الخميصة: ثوب من خز أو صوف ولا تكون خميصة إلا أن تكون سوداء،
معلمة وجمعها الخمائص.
312
فيعثرون، فيؤتى بهم فيضربون ويعنفون، فبايع من بايع، وانفلت من
انفلت (1).
وروى الواقدي بإسناده عن سعيد بن المسيب (2) أنه قال لقيت سعيد
ابن زيد (3) فقلت: بايعت؟ فقال: ما أصنع إن لم أفعل قتلني الأشتر،
وقد روي من طرق مختلفة أن ابن عمر لما طولب بالبيعة لأمير المؤمنين عليه
السلام قال: لا والله لا أبايع حتى تجتمع الأمة، فأفرج عنه، ولو كان
الأمر على ما يراه المخالفون، لوجب أن يقول له: أليس الإجماع معتبرا في
عقد الإمامة ولا اعتبرتموه في عقد إمامة أحد ممن تقدمني فتعتبرونه في العقد
وفي بعض من عقد لي كفاية، وفي عدوله عن أن يقول ذلك لابن عمر
ونظرائه وتهاونه بهم، وتمكينه من تهديد طلحة والزبير وحملهما على البيعة
دلالة على أنه عليه السلام لم يعتبر في صحة إمامته بالبيعة، وإنما كانت
ثابتة بالنص المتقدم.



(1) غ " وانقلب من انقلب " خ ل.
(2) سعيد بن المسيب ولد لسنتين من خلافة عمر، ورباه علي عليه السلام
لأن جده أوصى به إليه، ويعد سعيد من كبار التابعين جمع بين الحديث والفقه وسمع
جماعة من الصحابة، وأكثر روايته المسندة عن أبي هريرة وكان زوج ابنته، واتفقوا على
أن مرسلاته أصح المراسيل، واضطربت كلمات علماء الإمامية فيه، فبعضهم يرى أنه
شديد الانحراف عن أهل البيت عليهم السلام، وبعضهم يرى أنه من حواري زين
العابدين عليه السلام، وثقاة أصحابه، وكل ما صدر عنه من قول يوهم الخلاف
والانحراف إنما صدر إبقاء على نفسه، وإبعادا لها عن التهمة بالتشيع (انظر إتقان
المقال 3 / 36) توفي بالمدينة واختلف في سنة وفاته على أقوال هي بين 92 و 150
والمسيب - بفتح الياء - وكان سعيد يكسرها ويقول: سيب الله من سيب أبي (مصادر
نهج البلاغة 4 / 66).
(3) العدوي، تقدمت ترجمته.
313
فأما قول صاحب الكتاب في هذا الفصل: (إن تخلف ابن عمرو
سعد ومحمد بن مسلمة عن البيعة لم يكن على سبيل الخلاف، وإنما كرهوا
قتال المسلمين، ولم يتشدد أمير المؤمنين صلوات الله عليه عليهم، بل
تركهم (1) فليس بصحيح لأن المروي المعروف أن بعضهم اعتذر بحديث
القتال، وبعضهم التمس أن تكون البيعة بالاجماع، ويكون الاختيار بعد
الشورى، وإجالة الرأي وليس الامتناع من المقاتلة، بموجب أن يمتنعوا من
البيعة، وقد كان يجب أن يبايعوه ولا يمتنعوا من الدخول فيما وجب عليهم
عند صاحب الكتاب الدخول فيه، فإذا التمس منهم القتال اعتذروا
وامتنعوا، وإن كانت البيعة تشتمل على القتال وغيره. فقد كان يجب أن
يبايعوا ويستثنوا القتال، وفي ترك أمير المؤمنين عليه السلام حملهم على
الواجب في هذا الباب وإظهار التهاون بهم. وقلة الفكر فيهم، دلالة على
ما قدمناه من أن بيعته لم تنعقد بالاختيار.
فأما تعاطي صاحب الكتاب في هذا الفصل إبطال قول من ادعى في
ثبوت الإمامة مراعاة الإجماع فلو صح لم يكن نافعا له، لأنه إذا بطل بما
ذكره مراعاة الإجماع، وبطل بما ذكرناه مراعاة العدد المخصوص الذي بينه
فيجب أن يكون ذلك دليلا على فساد الاختيار، وعلما على أن الإمامة لا
تثبت إلا بالنص فكيف وما ذكره غير صحيح؟ ويمكن من راعى الإجماع
في الإمامة أن يطعن في قوله أنه لو كان لا يثبت عقد الإمامة إلا بالإجماع
لا يتم أبدا لأن الناس يختلفون في المذاهب وبعضهم يكفر بعضا، ويفسقه
ولا يرضى كل فريق بما يختاره الآخر بأن يقول الإجماع المعتبر هو إجماع
أهل الحق والمؤمنين، ولا اعتبار بالكفار ولا بالفساق إذا كانوا ليسوا



(1) المغني 20 ق 2 / 68.
314
مؤمنين فمن أجمع أهل الإيمان عليه كان إماما، ولم يلتفت إلى خلاف غيره
بل الواجب على غيرهم أن يرجعوا إلى الحق في باب الاعتقاد كما يجب
عليهم أن يسلموا إلى أهله ومن امتنع من ذلك كان عاصيا، وعلى قريب
من هذا الكلام اعتمد صاحب الكتاب فيما مضى عند نصرته لصحة
الاختيار، ورده الكلام على الطاعن منه بذكر الاختلاف بين الأمة، وأن
بعضهم. لا يرضى بما فعله بعض.
وأما قوله: (إن نصب الإمام واجب على أهل المدينة التي مات فيها
وهم بوجوب ذلك أولى لأنه لا يجوز أن يجب ذلك عليهم على وجه لا يتم
ولو لم يتم إلا بالإجماع لكان قد لزمهم على وجه لا يتم (1)) فليس بشئ
وذلك أن من خالف في هذا الباب لا يسلم له أن نصب الإمام يتعين
وجوبه على أهل المدينة التي مات فيها ولا يجعلهم بذلك أولى من غيرهم،
ثم لو سلم هذا لم يمتنع أن يجب عليهم ما يقف في صحته وتمامه على
إمضاء غيرهم ورضاه، وليس ذلك بتكليف لما لا يطاق على ما ظنه، لأنه
إنما يلزمهم أن يختاروا ويتفقوا على واحد بعينه، لتسكن النفوس إلى ارتياد
الإمام والعدول عن باب الاهمال، ثم استقرار إمامته وثبوتها يعتبر فيه رضا
جميع المؤمنين، فما في هذا من المنكر.
فأما قوله: (بأن هذا يقتضي أن يكون تقديم البيعة من القوم
كعدمه في أن الاختيار قائم، ولو كان كذلك لم يصح دخوله في فروض
الكفايات، لأن الفائدة في ذلك، أن قيام فريق به يسقط عن الباقين)
فليس بصحيح لأن تقدم البيعة وإن كان رضا الجميع معتبرا له معنى أو فيه



(1) المغني: 20 ق 2 /
68.
315
فائدة لأن الرضا من الجماعة يقتضي صحة ذلك العقد المتقدم ولا يحتاج
معه إلى استيناف عقد جديد وهذا يقتضي أن وجوده بخلاف عدمه، فأما
التعلق بأنه من فروض الكفايات فيمكن أن يقال: إنه منها بهذا الشرط
لأن عقد النفر للإمامة من رضى الجميع يكون ماضيا ولا يحتاج كل واحد
إلى أن يعقد بنفسه وبعد فإن كان معنى فروض الكفاية هو ما فسروه فلمن
خالفه أن يقول له ليس له عقد الإمامة من فروض الكفايات.
فأما قوله: (لو وجب اعتبار الإجماع لكان موت بعض من يدخل
في الإجماع في حال البيعة يقدح في تمامها وصحتها وإن اتفق الباقون
عليها) (1) فواضح البطلان لأن الإجماع إذا كان المعتبر منه باهل العصر، لم
يكن موت من دخل فيه مخلا بالاجماع، ولا مخرجا لاتفاق الباقين من أن
يكون إجماعا، وهذا المعنى لو قدح في اعتبار الإجماع في باب الإمامة لقدح
في اعتباره في كل موضع،
ثم وجدنا صاحب الكتاب في هذا الفصل لما حكى اعتراض من
اعترض بخلاف معاوية، ومن كان معه في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام
اعتمد على سب معاوية ورجمه بالكفر والفسق جملة بغير تفصيل، وإنه
مبغض للحسن والحسين عليهما السلام وأن الرسول قال: (من أبغضهما
أبغضته ومن أبغضته أبغضه الله (2)) وبأنه كان يبغض أمير المؤمنين عليه
السلام وقد شهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن بغضه نفاق (3) وذكر ما



(1) المغني 20 ق 2 / 68.
(2) روي هذا الحديث بطرق متعددة، ووجوه مختلفة ولكنها لا تخرج عما نقله
المرتضى عن القاضي (انظر مسند أحمد 2 / 288، وكنز العمال، عن ابن أبي شيبة
والطبراني، والخطيب 1 / 288).
(3) حديث (لا يحب عليا إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق) رواه مسلم في كتاب
الإيمان من صحيحه 1 / 47 باب الدليل على أن حب الأنصار وعلي رضي الله عنه من
الإيمان، والترمذي 2 / 301 والمتقي في الكنز 6 / 394 وقال أخرجه الحميدي وابن
أبي شيبة وأحمد بن حنبل والعدني والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان وأبو نعيم
وابن أبي عاصم.
316
فعله بحجر وأصحابه، واستلحاق زياد، وتفويض الأمر إلى يزيد،
وتحكيمه على أموال المسلمين، ووضعها في غير مواضعها، وأنه كان
يستهزئ بالدين في كثير من أحواله (1) وأن كثيرا من الصحابة شكوا في
إسلامه، وأنه بعث أصناما إلى بلاد الروم * وروي عنه القول بالجبر (2) * وأن
النبي صلى الله عليه وآله قال: (سباب المؤمن فسوق وقتله
كفر (3) وإن معاوية داخل في ذلك لا محالة، وكل هذا ليس بشئ يعتمد
عليه، في هذا الموضع، ولا يغني عن صاحب الكتاب شيئا فيما قصده،
لأن أكثر ما ذكره مما طعن به عليه إنما ظهر منه بعد هذا الوقت الذي
تكلمنا عليه لأنه إنما استلحق زيادا، وحكم يزيد في أموال المسلمين،
وقاتل أمير المؤمنين عليه السلام إلى غير ذلك، مما عدده بعد حال البيعة
لأمير المؤمنين عليه السلام وخلافه فيها بأزمان طويلة، وكثير منه إنما فعله
لما صار الأمر إليه، ولم يبق له مخالف، وليس ظهور الفسق في حال من
الأحوال بمؤثر فيما تقدمها، فهب أنه كان فاسقا بقتال أمير المؤمنين عليه
السلام وبسائر ما عدده، مما استأنف فعله من أين يجب أن يكون
خلافه قبل هذا الحال غير معتد به؟ وأما الثاني مما ذكره من الطعون فيه
فغير مسلم له ولا معترف له بوقوعه، وما يقوم في دعوى ذلك مع دفع



(1) ما نقله القاضي في المغني من استهزاء معاوية بالدين أطبق عليه المعتزلة
(انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 / 340).
(2) ما بين النجمتين ساقط من المغني.
(3) أخرجه السيوطي في الجامع الصغير 2 / 30 هكذا (سباب المؤمن فسوق،
وقتاله كفر وحرمة ماله كحرمة دمه).
317
خصومة إلا مقام من يسميه بالرفض فيما يدعونه على أبي بكر وعمر
وعثمان، ويدفعهم هو عنه، ومن هذا الذي يسلم له أن كثيرا من
الصحابة شكوا في إسلامه وقد كان يجب ألا يرسل هذا القول إرسالا حتى
كأنه لا خلاف فيه، وهو يعلم أن من دونه خرط القتاد وحز الحلاقيم (1).
وأما ما يروى عنه من الجبر فشاذ ضعيف، وكان صاحب الكتاب
ومن رافقه فيه بين أمرين بين دفع لما لا يحتمل التأويل والتخريج، وبين
تأويل المحتمل فألا فعل ذلك فيما يروون عن معاوية لولا قلة
الانصاف؟
فأما بعثه الأصنام إلى بلد الروم فما كنا نظن أن مثل صاحب الكتاب
يصححه، ويحتج به، لأن هذا وأمثاله لا يكاد يحتج به إلا من هو معترف
بالترفض معرق فيه، ولا يزال من سمع الأخبار بهذا وأمثاله من المعتزلة
وغيرهم يتضاحكون، ويستهزئون، ويقولون كيف يظن بمعاوية تجهيز
الأصنام! وهو وإن شككنا في دينه، فليس نشك في عقله، وجودة
تحصيله، فكيف يستجيز ذلك الفعل من يتسمى بإمرة المؤمنين، وخلافة
رسول رب العالمين، ويجعلون هذا في حيز الممتنع المستبعد، ومن قبيل ما
يورده من لا يتأمل موارد الأمور ومصادرها، فإن كان قد نشط صاحب
الكتاب للتصديق لما جرى هذا المجرى، فقد فتح للخصوم طريقا لا يملك
سدها، وما يلزمونه إياه في مقابلة ذلك معروف.
فأما جعله قتال المسلمين كفرا فكيف نسي ذلك في أصحاب
الجمل؟ وما فعل معاوية من قتال المسلمين إلا كفعلهم، والخبر الذي



(1) القتاد: شجر صلب له شوك كالأبر وقد مر معنى هذا المثل، والحلاقيم
جمع حلقوم وهو الحلق، والحز القطع.
318
رواه عام لا استثناء فيه.
فأما إدخاله معاوية في النفاق بقوله: (لا يحبك إلا مؤمن ولا
يبغضك إلا منافق) فمن أين له أن معاوية كان يبغض أمير المؤمنين عليه
السلام؟
فإن قال: من حيث حاربه. قلنا: فقد حاربه عندك من لم يكن مبغضا
له، ولا تسميه منافقا كطلحة والزبير وعائشة فإن قال: لست أعول في أنه
مبغض له على فعل بعينه لأنني أعلم ضرورة، قيل له: علم الضرورة لا
يختص بك مع مساواة غيرك لك في طريقه، فما بال السفيانية، وجميع
أصحاب الحديث لا يشركونك في هذا العلم الضروري، وقد سمعوا
الأخبار كسماعك وأكثر، وما الفصل بينك وبين من ادعى في أهل الجمل
وغيرهم العلم الضروري، بأنهم كانوا يبغضون أمير المؤمنين عليه
السلام ولم يحفل بخلافك في ذلك كما لم تحفل أنت بخلاف من ذكرناه.
وأما دعواه بأنه كان يبغض الحسن والحسين عليهما السلام (1) فالكلام
عليه في ذلك كالكلام فيما ذكره من بغض أمير المؤمنين عليه السلام،
والذي ظهر من بعض عائشة خاصة لأمير المؤمنين عليه السلام سالفا وآنفا
في أيام الرسول صلى الله عليه وآله وبعد وفاته وما روي عنها في ذلك من
الأقوال والأفعال، والتصريح والتلويح، هو الذي لا يمكن أحدا دفعه،
ولعلنا أن نذكر طرفا من ذلك عند الكلام فيما ادعاه من توبتها.
وبعد، فلم يكن معاوية وحده مخالفا له في العقد، بل كان جميع أهل
الشام ومن انضوى إليهم، ممن خرج عن المدينة، فهب له معاوية كان



(1) انظر المعنى 20 ق 2 / 71.
319
كافرا وفاسقا ولا يعتد بخلافه، ما تقول في خلاف من عداه ممن لا
يمكنك أن ترميه بذلك؟ فإن قال: من عداه أيضا فاسق ببيعته لمعاوية،
ومشايعته على قتال المسلمين، قيل له: إنما كلامنا عليهم قبل البيعة
لمعاوية، وقبل أن يحاربوا المسلمين، فإن قال: لا أعتد بخلافهم لأن
فيمن عقد له كفاية من حيث زاد عددهم على العدد المطلوب في عقد
الإمامة، قيل له كلامنا الآن معك في غير هذا المعنى لأنك ادعيت في
خلال كلامك الإجماع، وهذا كلام على دعوى الإجماع، فأما فساد قولك
في اعتبار العدد الذي عينته وادعيت أنه به تثبت الإمامة ولو خالف سائر
الناس فقد مضى مستقصى.

320
فصل
في الكلام على ما أورده صاحب المغني
في توبة طلحة والزبير وعائشة (1)
قال صاحب الكتاب بعد فصلين (2) تكلم في أحدهما على من طعن
في إمامته (3) بمقاتلة أهل القبلة، وفي الفصل الآخر على من وقف فيه عليه
السلام وفي القوم لا وجه لتتبعهما (4):
(قد صح بما قدمناه أن الذي أقدموا عليه عظيم فلا بد من بيان
توبتهم، لأنا قد تعبدنا فيهم بالمدح والتعظيم فهذا فائدة توبتهم) قال:
(وأخرى وهو أن في بيان توبتهم إبطال قول من وقف فيهم وفي أمير
المؤمنين عليه السلام، لأن توبتهم تدل على كونه محقا، وكونه محقا



(1) إنما وقع كلام القاضي ورد المرتضى في التوبة، لأن المعتزلة - كما نقل عنهم
ابن أبي الحديد - يذهبون إلى أن أصحاب الجمل كلهم هالكون إلا عائشة وطلحة
والزبير رحمهم الله قال " ولأنهم تابوا، ولولا التوبة لحكم لهم بالنار لإصرارهم على
البغي " (انظر شرح نهج البلاغة ج 1 ص 9).
(2) الفصل الأول في المغني 20 ق 2 ص 73 - 77 والفصل الثاني من 78 إلى
83.
(3) أي إمامة أمير المؤمنين عليه السلام.
(4) أي تتبع الفصلين.
321
وكونهم مبطلين، وفيه إبطال قول من يقول إنه عليه السلام لم يكن مصمما
في محاربتهم، لما قدمناه وفيه تحقيق ما روي من خبر البشارة للعشرة
بالجنة، وما روي في عائشة وغيرها من أنهن أزواجه صلى الله عليه وآله
وسلم في الجنة، وفيه بيان زوال الخلاف في إمامة أمير المؤمنين عليه
السلام لأن من يذكر بالخلاف ممن يعتد به إذا صحت التوبة عنه، فقد
ثبتت طريقة الإجماع، فليس لأحد أن يقول: ما الفائدة في ذكر ذلك في
هذا الموضع؟)
قال: (إعلم أن طريق معرفة التوبة لا يكون إلا غالب الظن، ولا
يعلم صحتها من أحد إلا بالسمع، لأنها وإن علمت فلا يصح أن يعلم
بشروطها على وجه يقطع عليها (1) ولا يعلم هل تناولت كل ذنوبه أم
البعض، وهل تناولته على الوجه الذي يصح عليه أم لا؟ لأن ذلك مما
يلطف فلا يعرفه الإنسان من غيره، وإن جاز أن يعرفه من نفسه، وقد
ثبت أن أحدنا وإن شاهد من غيره إظهار التوبة، واضطر من جهته إلى
الندم، فليس يقطع على أنه في الحقيقة تائب، وعلى أنه قد أزال
العقاب، فلو لم يحكم بتوبة أحد إلا مع العلم لما عرفنا أحدا تائبا من جهة
العقل (2) والعادة، ولما صح أن نزيل الذم عنه والمدح) قال: (وثبت أنها في هذا
الوجه بمنزلة الطاعات والواجبات، لأن طريق المدح فيها غالب الظن
من حيث لا يقطع على وقوعها على وجه يستحق به الثواب إلا من جهة
السمع) ثم قال: (واعلم أن ما طريقه الظن يعتمد فيه على الإمارات فإذا
صح كونه إمارة من جهة العقل (2) يجب أن يعمل عليه، وقد ثبت أن
إظهاره لندمه بالقول والفعل اللذين نشاهدهما نعمل عليه، فيجب أن



(1) غ " على وجه يصح عليه ".
(2) غ " من جهة الفعل " في الموضعين.
322
نعمل على خبر الثقة * ونقبل ذلك لصلاح الرجل ووجوب توليه في أنه تارة
إلى العلم وتارة إلى (1) * الظن وأن الأمر لو كان بخلاف ذلك لوجب (2) فيمن
غاب عنا، وقد شاهدنا منه الفسق ألا نعدل عن ذمه بأخبار الثقات وأن
نعتبر في ذلك التواتر والمشاهدة) قال: (على أنه لا خلاف أن الواجب أن
نرجع إلى ما يحل هذا المحل في باب ما يلزم من المدح والتعظيم في صلاح
الرجل، وفي توبته، وليس لأحد أن يقول: إذا كان فسقه متيقنا فيجب
أن لا نزول عن ذمه إلا بأمر متيقن لأن ذلك ما لا سبيل إليه البتة، فلو
صح اعتباره لوجب ألا نزول عن ذم أحد) ثم أكد ذلك بكلام كثير وفرق
بينه وبين الشهادة التي فيها العدد من حيث كانت من باب الحقوق،
والتوبة ليست كذلك، ثم قال: (وإن صحت هذه الجملة لم يبق إلا أن
تبين بالأخبار توبة القوم، فإن صح في الخبر طريقة الاشتهار والتواتر فهي
أقوى، وإن لم يتم وجب أيضا إذا كان خبر من الثقات أن يعمل به وقد
ظهر من إمارات توبة الزبير ما يقطع به، لأن الخبر متواتر بأنه فارق
القوم، وخرج عن جملتهم بعد ما جرى له من المخاطبات، وبعد ما تحمل
العار الذي قد أضافوه إليه من الجبن والجزع، وصح أيضا بالتواتر أن
سبب ذلك موافقة أمير المؤمنين عليه السلام له على الخبر الذي كان سمعه
من رسول الله صلى الله عليه وآله أنه يقاتله وهو له ظالم (3) وروي أنه
عند مفارقة القوم وسيره (4) إلى المدينة انشد هذين البيتين:
ترك الأمور التي تخشى عواقبها * لله (5) أحمد في الدنيا وفي الدين



(1) ما بين النجمتين ساقط من " المغني "
(2) غ " ولولا أن الأمر كذلك لوجب ".
(3) انظر مستدرك الحاكم 3 / 366 وأسد الغابة 2 / 199.
(4) غ " وخروجه ".
(5) غ " لله أسلم ".
323
اخترت عارا على نار مؤججة * ما إن يقوم بها خلق من الطين
وروي عنه عند نزول أمير المؤمنين عليه السلام البصرة أنه قال: ما
كان أمر قط إلا عرفت أين أضع فيه قدمي إلا هذا الأمر فإني لا أدري
أمقبل أنا فيه أم مدبر، فقال له ابنه، لا ولكنك خشيت رايات ابن أبي
طالب (1) وعرفت أن الموت الناقع تحتها، فقال له الزبير: مالك أخزاك
الله وذكر عن ابن عباس أنه قال: بعثني أمير المؤمنين عليه السلام يوم
الجمل إلى الزبير، فقلت له: إن أمير المؤمنين عليه السلام يقرئك
السلام ويقول لك: ألم تبايعني طائعا غير مكره! فما الذي رأيت
مني مما استحللت به قتالي؟ قال: فأجابني إنا مع الخوف الشديد
لنطمع (2) وروي أن عليا عليه السلام لما تصاف الفريقان يوم
الجمل نادى أين الزبير بن العوام؟ وقد خرج في إزار وعمامة متقلدا سيفه
سيف رسول الله على بغلته دلدل فقيل له: يا أمير المؤمنين تخرج إليه
حاسرا! فقال: " ليس علي منه بأس " فخرج الزبير فقال له: ما حملك يا
أبا عبد الله على ما صنعت؟ قال الطلب بدم عثمان قال: " فأنت
وأصحابك قتلتموه، فأنشدك بالذي نزل القرآن على محمد أما تذكر يوما
قال لك رسول الله صلى الله عليه وآله " أتحب عليا " قلت: وما
يمنعني من ذلك، وهو بالمكان الذي علمت، فقال لك: " أما والله
لتقاتلنه يوما في فئة وأنت له ظالم " فقال الزبير: اللهم نعم، قال له:



(1) غ " ورأيت ".
(2) في المغني " إنا مع الجود الشديد لنطمع " وقد فسر ابن عباس هذا القول
وقد سئل عن معناه فقال: يقول: إنا مع الخوف لنطمع أن نلي ما وليتم، وفسره قوم
بتفسير آخر: قالوا: إنه أراد إنا مع الخوف من الله لنطمع أن يغفر لنا هذا الذنب،
والرسالة - هنا - نقلها القاضي باقتضاب، تجدها مفصلة في " مصادر نهج البلاغة
وأسانيده " 1 / 410 مع ذكر مصادرها هناك.
324
" أمعك نساؤك " قال لا، قال: " فهذا قلة الانصاف أخرجتم حليلة
رسول الله صلى الله عليه وآله وصنتم حلائلكم " إلى كلام طويل في
هذا الباب نذكر فيه مبايعته له طوعا وغير ذلك، فبكى الزبير وانصرف
وأتى عائشة فقال: يا أمه ما شهدت قط موطنا في جاهلية ولا إسلام إلا
ولي فيه داع، غير هذا الموطن مالي فيه بصيرة، وإني لعلى باطل، قالت
له: أبا عبد الله حذرت سيوف ابن أبي طالب وبني عبد المطلب، وقال له
ابنه: لا والله ما ذلك زهد منك ولكنك رأيت الموت الأحمر، فلعن ابنه
وقال: ما أشأمك من ابن، ثم انصرف بعد ذلك الزبير راجعا إلى المدينة
على ما حكيناه وقال فقد كانت أحوالهم أحوال من يظهر عليه التحير، بل
كان يعلم إنه مخطئ وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال في
خطبة له لما بلغه خروج القوم إلى البصرة عند ذكره لهم: " كل واحد
منهم يدعي الأمر دون صاحبه لا يرى طلحة إلا أن الخلافة له لأنه ابن
عن عائشة، ولا يرى الزبير إلا أنه أحق بالأمر منه لأنه ختن (1) عائشة،
والله لئن ظفروا بما يريدون ولا يرون ذلك (2) أبدا ليضربن طلحة عنق
الزبير والزبير عنق طلحة ".
ثم قال بعد كلام طويل: " والله إن طلحة والزبير ليعلمان أني على
الحق وأنهما لمخطئان، وما يجهلان، ورب عالم قتله جهله، ولم ينفعه
علمه " (3)...).



(1) الختن: من كانت قرابته من قبل المرأة مثل أبيها وأخيها والزبير زوج أسماء
أخت أم المؤمنين عائشة.
(2) هذا مثل قوله تعالى: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) وهو من المغيبات التي
أخبر أمير المؤمنين عليه السلام بها قبل وقوعها.
(3) خطبة أمير المؤمنين عليه السلام رواها أبو مخنف في كتاب الجمل - كما في
شرح نهج البلاغة 1 / 233 - وإرشاد المفيد ص 114.
325
قال: (وكل ما ذكرناه من أمر الزبير يدل على ندمه وتوبته (1)).
يقال له: أما قولك في تعاطيك ذكر فوائد الكلام في توبة القوم:
(إنا قد تعبدنا فيهم بالمدح والتعظيم فلا بد من بيان توبتهم) فليس بشئ
لأنا إنما نمدحهم ونعظمهم إذا تابوا، فالمدح والتعظيم يتبعان التوبة لا
تتبعهما، وأنت قد عكست القضية فجعلت التابع متبوعا.
فإن قال: لم أرد ما ظننتموه وإنما أردت أن التوبة تقتضي المدح
والتعظيم، فالكلام في إثباتها يثمر هذه الفائدة.
قلنا: ليس هكذا يقتضي كلامك، ولو قلت بدلا من ذلك: إن
للتوبة فيهم وفي غيرهم من المذنبين أحكاما تعبدنا بها فلا بد من الكلام في
إثباتها لنعمل بأحكامها وننتقل عما كنا عليه قبلها لكان صحيحا.
فأما قوله: (في بيان توبتهم إبطال قول من وقف فيهم وفي أمير
المؤمنين عليه السلام) فغير صحيح، لأن العلم بكونه عليه السلام محقا في
قتالهم وكونهم مبطلين في حربه لا يقف على وقوع التوبة منهم، بل ذلك
معلوم بالأدلة الصحيحة، ولو لم يتب أحد من الجماعة.
فأما قوله: (وفيه تحقيق لخبر البشارة بالجنة) للعشرة فطريف لأن خبر
البشارة لو صح فبأن يكون محققا للتوبة، ومزيلا للشبهة فيها أولى، ألا
ترى أنه لا يجوز أن يقطع النبي صلى الله عليه وآله بالجنة عليهم،
ومع هذا يموتون على إصرارهم، وقد يجوز أن يتوبوا من القبيح الذي
فعلوه، وإن لم يكن النبي صلى الله عليه وآله بشرهم بالجنة، يبين
ما ذكرناه أن راويا لو روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه خبر



(1) المغني 20 ق 2 / 77.
326
بدخول رجل بعينه إلى مكان معين لم يكن محققا للخبر وموجبا للقطع على
صدقه دخول ذلك الرجل في الوقت المعين إلى المكان، بل متى علمنا أنه
عليه السلام خبر بذلك وكنا من قبل شاكين في دخول الرجل المكان
المخصوص فلا بد من تحقق دخوله والقطع عليه.
فأما قوله: (وفيه زوال الخلاف في إمامة أمير المؤمنين عليه السلام)
فأي فائدة في ذلك على مذهبه وعنده أن الإجماع لا معتبر به في باب الإمامة
وأن ببعض من عقد لأمير المؤمنين عليه السلام تثبت الإمامة، على أنه
ليس يمكنه أن يدعي توبة جميع من حاربه، وقتل في المعركة بسيفه على
خلافه، فالاجماع على كل حال ليس يثبت له.
فإن قال: لا اعتبار بمن قتل على الفسق في باب الإجماع لأنه لا
يدخل فيه إلا المؤمنون.
قيل له: فهذا المعنى قائم فيمن تكلف الكلام في توبته، وزعمت
أن الفائدة فيها ثبوت الإجماع.
فأما المقدمة التي قدمها أمام كلامه من أن التوبة لا يكون الطريق
إليها إلا غالب الظن، ولا نعلم صحتها بشروطها من أحد إلا
بالسمع، وأن أخبار الآحاد في باب التوبة تقوم مقام التواتر والمشاهدة،
وإجراؤه بذلك إلى إبطال قول من يقول من كان فسقه متيقنا فلا نزول عن
ذمة إلا بأمر متيقن، وادعاؤه في خلال ذلك الإجماع على ما رتبه وقرره
فأول ما فيه أنه كالمناقض لما أطلقه عنده اعتذاره من أحداث عثمان، لأنه
قال هناك: (إن من تثبت عدالته يجب توليه، إما على القطع أو على
الظاهر) فغير جائز أن يعدل فيه عن هذه الطريقة إلا بأمر معلوم متيقن
يقتضي العدول، وهو في هذا الموضع يجعله كالمتيقن في أنه يعدل به عن

327
المتيقن، وادعاؤه الإجماع في هذا الباب غير صحيح، لأن فيما ذكره خلافا
ظاهرا، وفي الناس من يذهب إلى أن المعلوم من فسق وصلاح لا يرجع
عنه إلا بمعلوم مثله، ويمكن أن يقال له فيما اعتمده إنا جاز أن نرجع في
شرائط التوبة إلى غالب الظن لأنه لا يمكن أن يتناولها العلم على سبيل
التفصيل إلا من جهة السمع فقام الظن مقام العلم لما تعذر العلم، وكون
المذنب نادما يمكن أن نعلمه ونتحققه ونضطر في كثير من المواضع إليه فلا
يجوز أن نقيم الظن فيه مقام العلم، وهكذا القول في افعال الخير الموجبة
للولاية والتعظيم أن نرجع في وقوعها وحصولها من الفاعل حتى نتولاه
ونحكم له بأحكام الصالحين إما بالمشاهدة أو غيرها، ولا نرجع في وقوع
تلك الأفعال على الوجوه التي يستحق بها الثواب من إخلاص وغيره إلى
العلم لما تعذر العلم وجاز لما ذكرناه أن يقوم الظن ها هنا مقامه فليس
يجيب إذا رجع فيما يمكن فيه العلم إلى العلم أن يرجع إليه فيما لا يمكن فيه
على ما ألزمه صاحب الكتاب، وأحال في هذا الباب عليه ثم إذا سلمنا
هذه الطريقة على ما اقترحه ووافقناه، على أن المعلوم يرجع عنه للمظنون كان
لنا في الكلام على ما يدعي من توبة القوم طريقان أحدهما أن يبين أن
الأخبار التي رواها في ذلك معارضة بأخبار إن لم تزد في القوة والظهور
عليها لم تنقص، والطريق الآخر أن يبين جميع ما روي من أخبار التوبة
محمولا، محتمل غير صحيح، ولا شبهة في أنه لا يرجع بالمحتمل عن الأمور
التي لا تحتمل، وعلى هذا عول صاحب الكتاب لما تقدم لعثمان من
التي لا تحتمل، وعلى هذا عول صاحب الكتاب لما تقدم لعثمان من
أحداثه لأنه قال: (إن الحدث يوجب الانتقال عن التعظيم ولكن من
باب ما يجعل أن يكون واقعا على وجه يقبح فيكون عظيما، وعلى وجه
يحسن، ولا يكون قبيحا فغير جائز أن ننتقل من أجله إلى البراءة، بل
يجب الثبات على التولي والتعظيم) وراعى في الخروج عن التولي ما يتقن
وقوعه كثيرا، ولم يحفل بما يتقن وقوعه، ويجوز أن يكون قبيحا وحسنا هذا

328
الذي اعتبره صحيح، ومثله يراعى فيما ينتقل به عن البراءة إلى التولي
والتعظيم.
ونحن نبدأ بالكلام فيما يخص توبة الزبير لابتداء صاحب الكتاب
بها، ونذكر ما روي من الأخبار مما يدل على إصراره قبل الكلام على ما
تحتمله الأخبار التي رواها صاحب الكتاب واعتمدها في توبته ما رواه
الواقدي بإسناده: إن أمير المؤمنين لما فتح البصرة كتب إلى أهل الكوفة:
" بسم الله الرحمن الرحيم، عن عبد الله علي أمير المؤمنين، إلى
أهل الكوفة، سلام عليكم، فأني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو.
أما بعد فإن الله تعالى حكم عدل لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما
بأنفسهم (وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له وما لهم من دونه من وال)
أخبركم عنا وعمن سرنا إليه من جموع أهل البصرة، من تأشب (1) إليهم
من قريش وغيرهم مع طلحة والزبير ونكثهم صفقة أيمانهم وتنكبهم عن
الحق فنهضت من المدينة حين انتهى إلي خبرهم حين ساروا إليها في
جماعتهم، وما صنعوا بعاملي عثمان بن حنيف حتى قدمت ذا قار فبعثت
الحسن بن علي، وعمار بن ياسر، وقيس بن سعد، فاستنفرتكم بحق
الله، وحق رسوله، فأقبل إلي إخوانكم سراعا حتى قدموا علي فسرت
إليهم بهم، حتى نزلت ظهر البصرة، فأعذرت بالدعاء وقدمت الحجة،
وأقلت العثرة والزلة واستتبتهم من نكثهم بيعتي وعهد الله عليهم، فأبوا
إلا قتالي وقتال من معي، والتمادي في الغي فناهضتهم بالجهاد في سبيل
الله، وقتل من قتل منهم ناكثا، وولى من ولى إلى مصرهم، فسألوني ما



(1) تأشب إليهم: اجتمع حولهم.
329
دعوتهم قبل القتال فقبلت منهم. وأغمدت السيف، وأخذت بالعفو
فيهم. وأجريت الحق والسنة بينهم، واستعملت عليهم عبد الله بن
عباس على البصرة، وأنا سائر إلى الكوفة إن شاء الله، وقد بعثت إليكم
زحر بن قيس الجعفي (1) لتسألوه فيخبركم عني وعنهم، وردهم بالحق علينا
فردهم الله وهم كارهون، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وكتب
عبيد الله بن أبي رافع في جمادى سنة ست وثلاثين " فكيف يكون الزبير
تائبا؟ وقد صرح أمير المؤمنين عليه السلام بأنه تمادى في الغي حتى قتل
ناكثا، ومن تاب لا يوصف بالنكث، وتقبيح ما كان عليه قبل التوبة،
وقد روى أبو مخنف لوط بن يحيى هذا الكتاب بخلاف هذه الألفاظ وروى
في جملته بعد الثناء عليه وذكر بغي القوم ونكثهم " وحاكمناهم إلى الله
فأدالنا عليهم فقتل طلحة والزبير وقد قدمت إليهما بالمعذرة، وأبلغت إليهما
في النصيحة، واستشهدت عليهما الأمة، فما أطاعا المرشدين، ولا أجابا
الناصحين ولاذ أهل البغي بعائشة، فقتل حولها عالم جم، وضرب الله
وجه بقيتهم فأدبروا فما كانت ناقة الحجر (2) بأشأم عليها منها على أهل ذلك
المصر مع ما جاءت به من الحوب الكبير (3) في معصية ربها واغترارها في
تفريق المسلمين، وسفك دماء المؤمنين، بلا بينة، ولا معذرة، ولا حجة
ظاهرة، فلما هزمهم الله أمرت أن لا يتبع مدبر، ولا يجهز على (4) جريح
ولا تكشف عورة، ولا يهتك ستر، ولا تدخل دار إلا بإذن، وأمنت
الناس، وقد استشهد منا رجال صالحون ضاعف الله حسناتهم، ورفع



(1) انظر سفينة البحار 1 / 46 مادة زحر.
(2) الحجر - بالكسر - اسم الأرض ثمود قوم صالح عليه السلام قال تعالى:
(كذب أصحاب الحجر المرسلين).
(3) الحوب: الإثم.
(4) أجهز على الجريح: أتم قتله.
330
درجاتهم. وأثابهم ثواب الصالحين، الصادقين الصابرين ".
وليست هذه أوصاف من تاب وقبض على الطهارة والإنابة، وفي
تفريقه عليه السلام من الخبر عن قتلاه وقتلاهم، ووصف من قتل من
عسكره بالشهادة، دون من قتل منهم، وفي دعائه لقتلى عسكره، دون
طلحة والزبير، دلالة على ما قلناه ولو كانا مضيا تائبين لكانا أحق الناس
بالوصف بالشهادة، والترحم والدعاء.
وقد روى الواقدي أيضا كتاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى أهل
المدينة يتضمن مثل معاني كتابه إلى أهل الكوفة، وقريبا من ألفاظه،
ويصفهم بأنهم قتلوا على النكث والبغي ولولا الإطالة لذكرناه بعينه.
وقد روى الواقدي أن ابن جرموز لما قتل الزبير واحتز رأسه، وأخذ
سيفه، ثم أقبل حتى وقف على باب أمير المؤمنين، فقال: أنا رسول
الأحنف فتلا هذه الآية: (الذين يتربصون بكم) فقال هذا رأس الزبير
وسيفه، وأنا قاتله، فتناول أمير المؤمنين عليه السلام سيفه، وقال:
" لطال ما جلى به الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله
ولكن الحين (1) ومصارع السوء " ولو كان تائبا لم يكن مصرع سوء، لا
سيما وقد قتله غادرا به. وهذه شهادة لو كان تائبا مقلعا عما كان عليه
وروى الشعبي عن أمير المؤمنين عليه السلام، أنه قال: " الآن إن أئمة الكفر
في الاسلام خمسة طلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص وأبو موسى
الأشعري ".
وقد روي مثل ذلك عن عبد الله بن مسعود.



(1) الحين - بفتح الحاء - الهلاك.
331
وروى نوح بن دراج (1) عن محمد بن مسلم (2) عن حبة العرني (3) قال
سمعت عليا عليه السلام حين برز إلى أهل الجمل وهو يقول: " والله لقد
علمت صاحبة الهودج أن أصحاب الجمل ملعونون على لسان النبي الأمي
وقد خاب من افترى " قد روي هذا المعنى بهذا اللفظ أو قريبا منه من
طرق مختلفة.
وروى البلاذري في تاريخه بإسناده عن جويرية بن أسماء أنه قال:
بلغني أن الزبير حين ولى ولم يكن بسط يده بسيف اعترضه عمار بن ياسر
بالرمح وقال: أين يا أبا عبد الله، والله ما أنت بجبان، ولكني أحسبك
شككت؟ قال: هو ذاك، ومضى حتى نزل بوادي السباع (4) واعترضه ابن
جرموز فقتله، واعترافه بالشك يدل على خلاف التوبة، لأنه لو كان تائبا



(1) نوح بن دراج أخو جميل بن دراج قاضي الكوفة ولي القضاء بفتوى من أخيه
جميل، وكان جميل وجها من وجوه الشيعة وثقاة رواتها ولنوح ولد اسمه أيوب شهد له
الإمام الهادي عليه السلام بأنه من أهل الجنة (سفينة البحار مادة أوب وجمل ونوح).
(2) هو محمد بن مسلم بن رباح الأوقص الطحان مولى ثقيف ووجه من وجوه
الشيعة بالكوفة، وفقيه من فقهائهم، وثقة من ثقاتهم روى عن الإمامين الباقر والصادق
عليهما السلام انظر الفائدة الثانية عشرة من خاتمة الوسائل.
(3) حبة - بفتح الحاء وتشديد الباء - بن جوين - بجيم مصغرا - العرني - بضم
العين المهملة وضم الراء - من بجيله من أصحاب علي عليه السلام، وروى عنه وعن
ابن مسعود توفي سنة 76 أو 79.
(4) وادي السباع: الموضع الذي قتل فيه الزبير، ومن لطيف ما يروى في تسميته
أن أسماء بنت دريم مر بها رجل فنظر إليها نظرة مريبة فقالت لئن لم تنته لأستصرخن
عليك أسبعي قال: أوتفهم السباع عنك؟ قالت: نعم، ورفعت صوتها ونادت يا كلب
يا ذئب، يا فهد، يا أسد يا سرحان، وكان أبناؤها بمنحاة عنها يرعون فأقبلوا يتعادون فقالت
إياكم أحسنوا مثواه، فذبحوا له وأطعموه فذهب، وقد أخذه العجب مما رأى،
وسمي ذلك الوادي بوادي السباع (المرأة العربية ج 1 / 81).
332
لقال له في الجواب: ما شككت، بل تحققت أنك وصاحبك على الحق، وأنا
على الباطل، وقد ندمت على ما كان مني، وأي توبة تكون لشاك غير
متحقق، فهذه الأخبار وما شاكلها تعارض أخبارهم التي كان لها ظاهر
يشهد بالتوبة، وإذا تعارضت الأخبار في التوبة والاصرار سقط الجميع،
وتمسكنا بما كنا عليه من الكلام في أحكام فسقهم، وعظيم ذنبهم، وليس
لهم أن يقولوا إن كل ما رويتموه من طريق الآحاد، وذلك أن جميع
أخبارهم بهذه المثابة وكثير مما رويناه أظهر من الذي رووه، وأفشى وإن
كان من طريق الآحاد، ولو كان لهم في التوبة خبر يقطع العذر، ويوجب
العلم لما تكلفوا في أنه يرجع عن المعلوم بالظنون.
فأما الكلام على ما عقده في توبة الزبير فأول ما تعلق به أنه فارق
القوم، وخرج عن جملتهم، ورجع عن الحرب وهذا المقدار غير كاف في
التوبة، لأن الراجع عن الحرب قد يرجع لأغراض كثيرة، الندم على
الحرب من جملتها فمن أين أن رجوعه كان لهذا الوجه دون غيره، بل
الظاهر من كيفية رجوعه أنه يقتضي أنه رجع لغير التوبة، لأنه لو كان
راجعا لوجب أن يصير إلى حيز أمير المؤمنين عليه السلام معترفا على نفسه
بالخطأ، مظهرا للإقلاع عما كان عليه من نكث بيعته، وخلع إمامته
ومناصبته ومجاهدته وباذلا أيضا نصرته على من أقام على البغي كما يقتضيه
شروط إمامته، لأنه إن كان تائبا على ما ادعوه فلن تصح توبته إلا بأن
يكون معترفا له عليه السلام بالإمامة، ووجوب الطاعة ولا حال يتعين
فيها نصرة الإمام على من بغى عليه إلا وحال أمير المؤمنين عليه السلام
هناك أضيق منها فالظاهر من تنكبه وعدوله عن حرب أمير المؤمنين عليه
السلام وتركه الاعتذار إليه أن رجوعه لم يكن للتوبة، وإنه كان لغيرها
من الأغراض، ولو لم يكن ما ذكرناه مرجحا لكون الرجوع غير مقصود
به التوبة لكان محتملا، ومع الاحتمال لا حجة فيه، ولا فرق بين من

333
حكم للزبير بالتوبة من حيث رجع عن الحرب وبين من حكم بالتوبة لكل
من انصرف عن حروب النبي صلى الله عليه وآله من غير أن يصير
إليه، فيعترف بالاسلام بين يديه، ويظهر الندم عما كان عليه، حتى
يجعل ذلك ناقلا لنا عن ذمه إلى مدحه، وعن القطع عليه بالعذاب إلى
القطع له بالثواب، على أنه قد روي سبب رجوع الزبير عن الحرب أن
ابنه عبد الله قال له: عائشة تريد أن تصليك بالحرب، ثم تقضي بالأمر إلى
ابن عمها، يعني طلحة، وما أرى لك إلا الرجوع، وإنما قال له هذا
لأنهم أمروه ما دامت الحرب قائمة فإذا انقضت استأثروا.
وروى البلاذري في كتابه أن معاوية كاتب الزبير: أقبل حتى أبايعك
ومن يحضرني، فلعله رجع لهذا ولأنه أيس من الظفر، فإن رجوعه كان بعد
قتل طلحة وتلوح إمارات الفتح على أن رجوعه إنما كان عن الحرب عقيب
مواقفة أمير المؤمنين عليه السلام له وتذكيره بقول الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم في حربه، وأكثر ما في هذا أن يدل على أنه قد ندم عن
الحرب، وفسقه لم يكن بالحرب دون غيرها، بل كان لما تقدمها من نكث
البيعة والخروج عن طاعة الإمام، والبغي عليه، ورميه بما هو برئ منه
من دم عثمان، ومطالبته بما لا يجب عليه من تسليم كل من اتهم بقتله،
ورد الأمر في الإمامة شورى ليستأنف الناس الاختيار وطلب الإمام، وهذه
ضروب من الفسق، من أين أن رجوعه عن الحرب وندمه عليها يقتضي
ندمه على جميع ما ذكرناه، وليس يمكن أن يدعي في ظاهر الرجوع عن
الحرب أكثر من الندم عليها، ولو كان الكف عن الحرب دليلا على التوبة
من سائر ما عددناه لوجب أن يشهد له بالندم والتوبة لما كان مقيما بمكة،
فإنه كان ههنا كافا عن الحرب ولم يمنع من أن يكون مقيما على غيرها مما
ذكرناه.
فأما اعتماده على أن السبب في الرجوع إنما كان مواقفة أمير المؤمنين

334
عليه السلام له على الخبر الذي كان سمعه من الرسول صلى الله عليه وآله
وسلم وادعاؤه في ذلك على التواتر ثم إنشاده في ذلك البيتين اللذين
أنشدهما، فأول ما في ذلك أنه قال: لا تواتر فيما ادعاه، ومن تصفح
الأخبار علم أن ذلك من طريق الآحاد، ومع ذلك فقد روي في سبب
الرجوع غير ذلك وهو ما ذكرناه آنفا.
وبعد، فمن روى أن السبب ما ذكره صاحب الكتاب قد رواه
على وجه يخرجه من أن يكون توبة، ويقتضي الاصرار على الذنب فروى
الطبري في تاريخه بإسناده عن قتادة القصة أن الزبير لما واقفه أمير المؤمنين
عليه السلام وذكره بقول الرسول في قتاله قال لو ذكرت ذلك ما سرت
سيري هذا، والله لا أقاتلك أبدا فانصرف علي صلوات الله عليه إلى
أصحابه فقال: " أما الزبير فقد أعطى الله عهدا أن لا يقاتلكم " ورجع
الزبير إلى عائشة فقال لها: ما كنت في موطن مذ عقلت إلا وأنا أعرف فيه
أمري غير موقفي (1) هذا قالت فما تريد أن تصنع؟ قال أريد أن أدعهم،
وأذهب عنهم، فقال له ابنه عبد الله: جمعت بين هذين الغارين (2) حتى
إذا جرد بعضهم لبعض أردت أن تتركهم خشيت (3) رايات ابن أبي طالب،
وعلمت أنها تحملها فتية أمجاد (3) قال: إني حلفت ألا أقاتله وأحفظه (4)
قال: كفر عن يمينك فقاتله فدعا غلاما له يقال مكحول فأعتقه، فقال
عبد الله بن سليمان (5).



(1) في الطبري " موطني ".
(2) الغاران - هنا - الجيشان.
(3) في الطبري " أحسست " بدل " خشيت " و " أنجاد " مكان " أمجاد ".
(4) أحفظه: أغضبه.
(5) في الطبري " عبد الله بن سليمان التيمي ".
335
لم أر كاليوم أخا إخوان * أعجب من مكفر الإيمان
بالعتق في معصية الرحمن
وقال رجل من شعرائهم:
يعتق مكحولا لصون دينه * كفارة لله عن يمينه
والنكث قد لاح على جبينه (1)
وهذا يدل كما ترى على الرجوع عن التوبة واليمين جميعا وأنه أقام
بعد ذلك وقاتل، وأن انصرافه لم يكن عقيب التذكير، وإنما كان بعد
اليأس من الظفر، وخوف الأسر أو القتل.
وقد روى الواقدي هذا الخبر وذكر في صدره التقاء أمير المؤمنين
عليه السلام بالزبير، وتذكيره له بقول الرسول صلى الله عليه وآله
فيه، وأن الزبير انصرف إلى عائشة فقال لها: ما شهدت موطنا في
الجاهلية والاسلام إلا ولي فيه رأي وبصيرة إلا هذا المشهد فقلت له فرقت
من سيوف آل أبي طالب إنها والله طوال حداد تحملها فتية أنجاد فاستحيى
الزبير فأقام.
وروى البلاذري عن أحمد بن إبراهيم الدورقي، عن وهب بن
جوين، عن أبيه عن يونس بن يزيد، عن الزهري عن معنى هذين
الخبرين المتقدمين، وأن ابن الزبير لما جبن أباه وعيره قال له: قد حلفت
ألا أقاتله، قال: فكفر عن يمينك، فأعتق غلاما له يقال له سرخس،
وقام في الصف معهم وكل هذه الأخبار تدل على أنه أقام بعد التذكير
والمواقفة وأن رجوعه كان بعد ذلك ولعل أصحابنا المخالفين في هذا الباب



(1) انظر تاريخ الطبري 4 / 502 حوادث سنة 36.
336
لما رووا أنه وقف وذكر، ورووا أنه رجع عن الحرب ظنوا أن الرجوع كان
عقب المواقفة، فأكثر ما في هذا الباب أن يكون في أيديهم رواية بأن
الرجوع كان عقيب المواقفة والتذكير فقد بينا أن بإزائها روايات تتضمن أنه
أقام بعد ذلك وقاتل، فلا يجب مع هذا التعارض أن يقطعوا على أن
الانصراف كان عقيب المواقفة حتى يجعلوه ذريعة إلى التوبة.
فأما البيتان اللذان ذكرهما فما رأينا أحدا ممن صنف في السيرة وذكر
هذه القصة بعينها وشرح حديث المواقفة والتذكير ذكرهما، كأبي مخنف
والواقدي والبلاذري والطبري وغير من ذكرناه ممن عني بجميع الروايات
المختلفة في السيرة، ولو كانا معروفين في الرواية لذكرهما بعض من ذكرناه
والأشبه أن يكونا موضوعين.
فإن قيل: ليس لي ترك من ذكرتم روايتهما دلالة على بطلانهما ولا
معارضة لخبر من رواهما لأن الخبر إذا كان يتضمن زيادة فهو أولى من الخبر
الوارد بخلافها وحذفها، قلنا: قد روينا أخبارا تتضمن من الزيادة ما
ليس في الخبر الذي يتضمن البيتين نحو الرواية التي تتضمن أنه رجع
وقاتل وأعتق عبده حتى قيل في ذلك من الشعر ما ذكرنا ونحو الخبر الآخر الذي
يتضمن أنه استحيى وأقام، وكل هذه زيادات على ما في خبرهم، فإن
اعتبرت الزيادة، ووقع الترجيح بها فهي موجودة في أخبارنا فأقل الأحوال
أن تتعارض الأخبار لما يتضمن من الزيادات وسقط ترجيحهم بالزيادة.
فأما ما رواه من قوله ما كان أمر قط إلا أعرف أين أضع قدمي
فيه إلا هذا فإني لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر، فما تدري من أي وجه
يدل على التوبة والندم لأنه ليس في صريحه ولا فحواه ما يدل على شئ
منها وأكثر ما يدل عليه هذا الخبر أنه متحير لا يدري أيظفر أم يخيب وأن
الأمر عليه ملتبس وطريقه إليه مظلم فأما الندم والاقلاع فبعيد من تأويل

337
هذا القول.
فأما ما رواه من قول الزبير أنا مع الخوف الشديد لنطمع (1) فلا دلالة
فيه على التوبة لأنه لا بيان فيه لمتعلق الخوف والطمع، وقد يجوز أن يريد أنا
مع الخوف من قتالكم لنطمع في الظفر بكم، وإن حملناه على العقاب
والخوف منه لم يكن أيضا فيه دليل التوبة (2) لأنه لا يجوز أن يكون
ممن يطمع في العفو مع الاصرار، وكيف يكون واثقا من نفسه بالتوبة وهو
يخاف العقاب، ويطمع في الثواب، والتوبة يقطع منها على اتقاء العقاب
وحصول الثواب.
فأما الخبر الذي رواه بعد ذلك وأن الزبير رجع عقيب المواقفة
والتذكير، فقد بينا الروايات الواردة بخلاف ذلك، وأنه بعد ذلك الكلام
أقام وقاتل وكان رجوعه عند ظهور علامات الفتح.
فأما قوله: قد كانت أحوالهم أحوال من يظهر عليه التحير بل من
كان يعلم أنه مخطئ فالأمر على ما ذكر وليس في تحير الإنسان في الأمر
وشكه فيه دلالة على توبته بل التوبة لا تكون إلا مع اليقين والعلم بقبح
الفعل، ثم الندم عليه على شرطها وكذلك العلم بأنه مخطئ لا يدل على



(1) استدلال القاضي بهذا القول على توبة طلحة ليس بصحيح لأن كلام طلحة
هذا كان مع ابن عباس لما أرسله إليه أمير المؤمنين - وذلك قبل الحرب - يقول له:
" يقول لك ابن خالك: عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق فما عدا مما بدا؟ " فروى
محمد بن إسحاق والكلبي عن ابن عباس، قال: قلت الكلمة للزبير فلم يزدني على
أن قال: إنا مع الخوف الشديد لنطمع، وسئل ابن عباس عما يعني بقوله هذا،
فقال: يقول: أنا مع الخوف لنطمع أن نلي من الأمر ما وليتم، والرسالة رواها الجاحظ
في " البيان والتبيين " 2 / 115 وابن قتيبة في " عيون الأخبار " 1 / 115 وابن عبد
ربه في العقد الفريد وغيرهم وانظر (مصادر نهج البلاغة وأسانيده 1 / 410 و 411)
(2) المغني " الندم ".
338
التوبة لأن الإنسان قد يرتكب ما يعلم أنه خطأ ويقدم على ما يعلم أنه
قبيح. وليس يستشهد في ذلك إلا ما ختم به صاحب الكتاب هذا الفصل
فإنه روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه خطب لما بلغه خروج القوم إلى
البصرة فقال بعد كلام طويل: " والله إن طلحة والزبير ليعلمان أنهما
مخطئان وما يجهلان ورب عالم قتله جهله، ولم ينفعه علمه " فشهد عليه
السلام عليهما بأنهما يعلمان خطأهما في حال لا شبهة في أنهما لم يكونا
نادمين، ولا تائبين، فكيف يستدل صاحب الكتاب بكونهما عالمين
بالخطأ، على أنهما كانا نادمين، وهو يروي عقيب هذا الكلام الخبر الذي
رويناه ولا شئ أعجب من ذكر صاحب الكتاب هذا الخبر في جملة
الاعتذار عن القوم والتزكية لهم لأنه صرح في ذمهم. وأن اعتقاد أمير
المؤمنين عليه السلام كان فيهم شيئا قبيحا، وأنه كان يعلم منهم خلاف
طريقة الدين، وأن غرض الرجلين فيما ارتكباه طلب الدنيا وحطامها،
ونيل الرئاسة والتأمر على الناس والتوصل إلى ذلك بالقبيح والحسن
والصغير من الذنوب والكبير، ولهذا قال عليه السلام، " لئن ظفروا
ليضربن طلحة عنق الزبير والزبير عنق طلحة، وهذا يبين لمن تأمله بطلان
ما ذكره.
قال صاحب الكتاب: [فأما طلحة فإنه أصابه في المعركة سهم
فأظهر عند ذلك التوبة (1) ويروى أنه قال لما أصابه السهم:
ندمت ندامة الكسعي لما * رأت عيناه ما صنعت يداه
وقال: والله ما رأيت مصرع شيخ أضيع من مصرعي هذه اللهم



(1) المغني " الندم ".
339
خذ لعثمان مني حتى يرضى، وروي أن عليا وقف عليه يوم الحرب وهو
مقتول فقال: " يرحمك الله أبا محمد " وترحمه عليه يدل على توبته، وروي
عنه صلوات الله عليه أنه قال: " إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة
والزبير من الذين قال الله عز وجل: (ونزعنا ما في صدورهم من غل
إخوانا على سرر متقابلين) (1) ولو لم يكن التوبة حصلت منهما لم يجز أن
يقول ذلك، وروي عن الزبير أنه لما نظر إلى عمار في أصحاب أمير
المؤمنين عليه السلام، قال: وانقطاع ظهراه، فقال له بعض أصحابه:
مم ذاك يا أبا عبد الله، قال: سمعت رسول الله يقول: " ما لهم ولعمار
يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار " وعند ذلك لحق بأمير المؤمنين عليه
السلام ثم إنه انصرف، وليس لأحد أن يقول: " لو كان تائبا لوجب أن
يعدل إلى علي صلوات الله وسلامه عليه ويحارب معه [ويصلح ما أفسده
حتى تصح توبته (2)] لأن ذلك هو الذي يكون التوبة من الندامة. وذلك
لأن عدوله إلى حيث يملك الأمر فيه كعدوله في أنه ترك للبغي، دلالة
للندامة، وإنما يجب أن يحارب معه لو طلب ذلك منه، فأما إذا لم يتشدد
عليه فليس ذلك بواجب حتى يقدح تركه في التوبة) وحكي عن أبي علي:
(إن الخبر المروي عن علي عليه السلام في بشارة طلحة والزبير بالجنة يدل
على توبتهما، لأنه لا يجوز أن يريد أنهما من أهل الجنة في الحال لأن من
يستحق الجنة لا يقال له إنه في الجنة وكذلك إذا كان مصيره إلى النار لأن
الخبر يكون كذبا فوجب أن يكون في وقت الخبر في الدنيا في آخر الأمر في
النار ولا يحصل وقت يكون فيه في الجنة فلا بد إذا من أن نحمل البشارة



(1) الأعراف / 43.
(2) التكملة من " المغني ".
340
على العاقبة فلو لم يتوبا لم يصح ذلك).
وحكي عنه: (إن الخبر مما لا خلاف فيه بين أهل الروايات ولا
فرق بين من أنكر ذلك فيهما، وبين من أنكره في أبي بكر وعمر وفي ذلك
إبطال خبر البشارة وروي أيضا: أن الزبير حيث ولى تبعه عمار بن ياسر
حتى لحقه فعرض عمار وجه فرس الزبير بالرمح، ثم قال: أين أبا عبد
الله، فوالله ما أنت بجبان، ولكني أراك شككت؟ فقال: هو ذاك أيها
الرجل فقال له عمار يغفر الله لك، وروى وهب بن جرير قال: قال
رجل من أهل البصرة لطلحة والزبير: إن لكما فضلا وصحبة فأخبراني عن
مسيركما هذا وقتالكما، أشئ هو أمركما به رسول الله؟ أم رأي رأيتماه
فأما طلحة فسكت، وجعل ينكث في الأرض وأما الزبير فقال: ويحك
حدثنا أن ها هنا دراهم كثيرة فجئنا لنأخذ لأنفسنا منها) (1)
يقال له: قد نبهنا عند الكلام عليك فيما ادعيته من توبة الزبير
أخبارا أكثرها يعارض لما ترويه في توبة طلحة والزبير جميعا نحو ما رويناه
من كتاب أمير المؤمنين عليه السلام بالفتح إلى أهل المدينة والكوفة وذكرهما
وذكر كل من حضر الحرب وقتل فيهما بأنهم قتلوا على النكث والبغي، وأنه
ترحم على قتلاه ووصفهم بالبشارة، ولم يترحم في الكتاب على طلحة
والزبير ولا وصفهما بالشهادة ونحو قوله عليه السلام: (لقد علمت
صاحبة الهودج أنهم ملعونون على لسان النبي الأمي) ومن تأمل ما
ذكرناه من الأخبار بأن له ما يشترك الرجلان فيه منهما، وما ينفرد
أحدهما به.



(1) المغني 20 ق 2 / 88، 89.
341
فأما الكلام في توبة طلحة فهو على المخالف أضيق وأحرج من
الكلام في توبة الزبير، لأن طلحة قتل بين الصفين، وهو مباشر
للحرب مجتهد فيها، ولم يرجع عنها حتى أصابه السهم، فأتى على نفسه
وادعاء توبة مثل هذا مكابرة.
فأما قوله: (إنه لما أصابه السهم انشد البيت الذي ذكره وأنه يدل
على توبته) فبعيد من الصواب، بل البيت المروي بأنه يدل على خلاف
التوبة أولى لأنه جعل ندمه مثل ندامة الكسعي وخبر الكسعي
معروف (1) لأنه ندم حيث لا ينفعه الندامة، وحيث فات الأمر وخرج عن
يده، ولو كان ندم طلحة واقعا على وجه التوبة الصحيحة لم يكن مثل
ندامة الكسعي، بل كان شبيها لندامة من تلافى ما فرط على وجه ينتفع
به.
فأما قوله: (ما رأيت مصرع شيخ أضيع من مصرعي) فهو أيضا
دليل على ضد التوبة النافعة لأنه لو كان واثقا بأن ندمه قد وقع موقعه لم
يقل هذا القول، ويجوز أن يريد بأن مصرعه ضائع أنه قتل دون بلوغ



(1) الكسعي: غامد بن الحرث كان لديه قوس وخمسة أسهم فمر به قطيع من
الظباء فكمن في قترة وهي ناموس الصائد - فرمى ظبيا فأمخطه السهم أي نفذ فيه -
وصدم الجبل فأورى نارا فظن أنه قد أخطأ فرمى ثانيا وثالثا إلى آخرها وهو يظن خطأه
فعمد إلى قوسه فكسرها ثم بات فلما أصبح فإذا الظباء مطرحة، وأسهمه بالدم
مضرجة فعض إبهامه وأنشد:
ندمت ندامة لو أن نفسي * تطاوعني إذا لقطعت خمسي
تبين لي سفاه الرأي مني * لعمر أبيك حين كسرت قوسي
فضرب بندمه المثل قال الفرزدق:
ندمت ندامة الكسعي لما * غدت مني مطلقة نوار
(انظر العقد الفريد 6 / 125 والقاموس المحيط مادة " كسع ").
342
أمله، ولم يظفر بمراده، وخاب مما كان يأمله، وقوله: " اللهم خذ لعثمان
حتى يرضى دليل على الإصرار أيضا فإن فسقه إنما كان بأن طلب بدم
عثمان، وليس له ذلك وطالب به من لا صنع له فيه فإذا كان يقول وهو
يجود (1) بنفسه اللهم خذ لعثمان حتى يرضى فكأنه مصر على ما ذكرناه،
فإن قال: إنما أراد بهذا القول إنني كنت من المجلبين عليه والمؤازرين على
قتله، وما لحقني كالعقوبة على ذلك، قيل له: الذي ذكرناه أولى بأن
يكون مراده، وهب أن القول محتمل الأمرين من أين لك أنه أراد ما ظننته
وبعد فلو حملناه على ما اقترحت ولم يكن فيه حجة لأنه لا يجوز أن يكون
نادما على ما صنعه لعثمان وإن لم يكن نادما على غيره وهما فعلان
منفصلان.
ثم يقال له: أليس ما ظهر من طلحة مما ادعيت أنه ندم إنما كان
بعد وقوع السهم به، وفي الحال التي كان يجود بنفسه فيها فإذا قال:
نعم، لأن الرواية هكذا وردت، قيل له: من أين لك أن ذلك كان في حال
تقبل في مثلها التوبة، ألا جوزت وقوعه في حال الإياس من الحياة؟ فإن
رام أن يذكر شيئا يقطع على أنه في ذلك الحال كان مكلفا (2) متردد الدواعي
لم يجده.
فأما ما رواه من ترحم أمير المؤمنين عليه السلام وقوله: " إني
لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير إخوانا على سرر متقابلين " خبر ضعيف
لا يوجب العلم ويعارضه ما قدمناه من الأخبار التي تدل على الاصرار



(1) يجود بنفسه: أي يخرجها ويدفعها كما يدفع الإنسان ماله يجود به والمراد
قارب أن يقضي.
(2) ر " متكلفا ".
343
ونفي التوبة مما هو أظهر في الرواية وأشهر وأولى من غيره من حيث كانت
تلك الأخبار قد تلقتها الفرق المختلفة بالقبول، وأخباره يرويها قوم
وينكرها آخرون، ويعارض هذين الخبرين، مضافا إلى ما تقدم ما رواه
حسن الأشقر عن أبي يعقوب يوسف البزاز عن جابر عن أبي جعفر محمد
بن علي عليه السلام قال: " مر علي أمير المؤمنين عليه السلام بطلحة وهو
صريع فقال: أقعدوه، فأقعدوه، فقال: لقد كانت لك سابقة ولكن
دخل الشيطان منخريك فأدخلك النار " وروى معاوية بن هشام عن
صاحب المزني عن الحارث بن حضيرة عن إبراهيم مولى قريش أن عليا عليه
السلام مر بطلحة قتيلا يوم الجمل فقال لرجلين اجلسا طلحة، فأجلساه
فقال: يا طلحة هل وجدت ما وعد ربك حقا " ثم قال: " خليا عن
طلحة " ثم مر بكعب بن سرر قتيلا فقال: اجلسا كعبا فأجلساه فقال:
" يا كعب هل وجدت ما وعد ربك حقا " ثم قال: " خليا عن كعب ".
فقال بعض من كان معه وهل يعلمان شيئا مما تقول أو يسمعانه؟ فقال:
" نعم والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنهما ليسمعان ما أقول كما سمع أهل
القليب ما قال لهم رسول الله " وكيف يترحم على طلحة بلسانه من لم
يترحم عليه في كتابه، مع ترحمه على المستشهدين في الحرب؟ وكيف
يكون ذلك وهو يذكره مع الزبير بأسوأ الذكر في كتبه التي سارت بها
الركبان؟
فأما قوله: (إن الزبير لما رأى عمارا رحمه الله قال: وا انقطاع
ظهراه، وذكر قول النبي صلى الله عليه وآله " ما لهم ولعمار يدعوهم
إلى الجنة ويدعونه إلى النار " وإنه عند ذلك لحق بأمير المؤمنين عليه السلام
ثم انصرف) فأول ما فيه أنه قد غلط بقوله فلحق بأمير المؤمنين عليه
السلام ثم انصرف لأن أحدا لم يرو أن الزبير صار إلى أمير المؤمنين قبل
منصرفه فلا يقدر أن يورد في ذلك خبرا واحدا وهذا الخبر مخالف لما رواه

344
صاحب الكتاب وغيره من أن سبب انصرافه كان مواقفة أمير المؤمنين عليه
السلام له وتذكيره بكلام النبي صلى الله عليه وآله وبما رويناه من
أنه أقام بين الصفين وقاتل وكفر عن يمينه، فهذا الخبر معارض لكل هذه
الأخبار، وقد بينا أن نفس الرجوع لا يكون توبة، ودللنا عليه وبينا أيضا
أنه لو كان لم يكن توبة إلا عما رجع عنه من القتال دون غيره، وذكرنا أن
الفسق لم يكن بالقتال وحده.
فأما قوله: (إن عدول الزبير إلى حيث يملك الأمر كعدوله إليه في
أنه ترك للبغي) فليس يخلو من أن يريد حيث يملك الزبير فيه أو حيث
يملك أمير المؤمنين عليه السلام فإن أراد الأول فأي دلالة فيه على الندم
والتوبة، وترك البغي إنما عدل عن موضع إلى موضع، وهما يتساويان في
هذا الحكم، لأنه قد كان يملك أمره في الموضع الذي عدل عنه، وإن أراد
الثاني وهو الأشبه فمن أين له أن عدوله كان إلى موضع بهذه الصفة، وإنما
قتل متوجها سائرا غير مستقر، ولعله كان قاصدا إلى معاوية وحيزه، وهو
حيث لا يملك أمير المؤمنين عليه السلام الأمر فيه، وقد جرت العادة بأن
من أراد الاعتذار من حرب غيره، وخلافه وشقاقه، وندم على ذلك أنه
يصير إليه، ويصرح بالاعتذار، ويبذل جهده في التنصل وغسل درن (1) ما
كان يستعمله وأنه إذا فعل ذلك وبالغ فيه غلب في الظن توبته، وسقطت
لائمته، وكيف خرج الزبير في توبته هذه المدعاة عن عادات جميع
العقلاء.



(1) الدرن: الوسخ.
345
فأما قوله: (إنه إنما يجب أن يحارب معه لو طلب ذلك معه وتشدد
عليه) فقد بينا أن نصرة الإمام وجبة من حيث كان إماما وأن لم يطلب هو
النصرة. وذكرنا أن الحال التي كان دفع إليها مستدعية للنصرة من كل
مسلم لتضايقها وشدتها أو ما كفى الزبير في طلبه عليه السلام النصرة كتبه
النافذة إلى الآفاق يستنصر فيها ويستصرخ ويدعو الناس إلى القتال معه.
فأما ما تعلق به من خبر البشارة بالجنة، فقد بينا فيما تقدم الكلام
على بطلان هذا الخبر لما احتج به صاحب الكتاب في جملة فضائل أبي
بكر، وقلنا أنه لا يجوز أن يعلم الله تعالى مكلفا ليس بمعصوم من الذنوب
بأن عاقبته الجنة، لأن ذلك مغر بالقبيح. وليس يمكن أحد أن يدعي
عصمة التسعة (1) ولو لم يكن إلا ما وقع من طلحة والزبير من الكبير
تكفي، وليس لأحد أن يقول: " ما أنكرتم أن يكون الله تعالى قد علم
أن من واقع القبيح من هؤلاء المبشرين بالجنة، يواقعه على كل حال بشر
أو لم يبشروا وأنه لا يفعل بعد البشارة قبيحا. ما كان يفعله، لولاها
فتخرج البشارة من أن تكون إغراء وذلك أن الأمر متى فرضناه على هذا
الوجه، فليس يخرج البشارة من أن تكون مغيرة لداعي القبيح. ومعلوم
ضرورة أن من علم وتحقق أن عاقبته الجنة، وأن كل قبيح وقع منه لا بد
أن يتوب منه لا يكون إقدامه على القبيح وخوفه من إقدام من يجوز أن يخترم (2)
قبل التوبة وتقوية داعي القبيح إغراء به، وذلك أقبح لا محالة.
وإن لم يرد لهذا المبشر فعلا قبيحا وقد ذكرنا فيما تقدم أن هذا الخبر لو كان



(1) يعني بالتسعة الباقين من العشرة إذ أخرج منهم عليا عليه السلام باعتبار
عصمته.
(2) يخترم: يهلك.
346
صحيحا لاحتج به أبو بكر لنفسه واحتج له به في السقيفة وغيرها وكذلك
عمر وعثمان، فهو أقوى من كل شئ احتجوا به في مواطن كثيرة لو كان
صحيحا.
ومما يبين أيضا بطلانه إمساك طلحة والزبير عن الاحتجاج به لما دعوا
الناس إلى نصرتهما واستنفارهم إلى الحرب معهما، وأي فضيلة أعظم
وأفخم من الشهادة لهما بالجنة؟ وكيف يعدلان مع العلم والحاجة عن ذكر
إلا لأنه باطل، ويمكن أن يسلم مسلم هذا الخبر ويحمل على الاستحقاق
في الحال لا العاقبة، فكأنه عليه السلام أراد أنهم يدخلون الجنة إن وافوا
بما هم عليه الآن وتكون فائدة الخبر إعلامنا أنهم مستحقون للثواب في
الحال، وقول صاحب الكتاب: (إن من يستحق الجنة لا يقال له: إنه
في الجنة) ليس بصحيح لأن الظاهر في الاستعمال أن الكافر في النار،
والمؤمن في الجنة، والقاتل في جهنم، وليس له أن يقول: إن ذلك مجاز
لأنه الأغلب الأكثر في الاستعمال وليس يمتنع أن يكون في الأصل مجازا ثم
ينتقل إلى الحقيقة بكثرة الاستعمال لنظائره.
فأما ادعاؤه (إن الخبر لا خلاف فيه بين الرواة) فمكابرة لأنا كلنا
نخالف فيه، ومعلوم أنا من أهل الرواية،
فأما جمعه بين من أنكر ذلك فيهما وبين من أنكره في أبي بكر وعمر،
فالأمر على ما ذكره، وقد بينا أنا منكرون للخبر من أصله.
فأما الخبر الذي رواه من معارضة عمار للزبير، وقوله: (أراك
شككت) فقد ذكرناه فيما تقدم إلا أنه زاد فيه قول عمار: (يغفر الله
لك) فلم نجد الزيادة في المواضع التي تضمنت هذا الخبر من كتب أهل
السيرة، وكيف يستغفر عمار لشاك غير موقن ولا متحقق.
ومن أعجب الأمور استدلاله بالخبر الذي رواه بعد هذا وختم به،
وأي دليل في عي طلحة عن جواب المسائل له عن مسيره وقتاله على توبته

347
وندامته؟ وأي دليل في قول الزبير: بلغنا أن هاهنا دراهم فجئنا
لنأخذها، وذلك دليل إصراره لأن قصده إلى أخذ ما ليس له فسق كبير،
ولا سيما إذا كان على سبيل البغي على الإمام، والخروج عن طاعته.
ومما تعلق المخالفون به في توبة الزبير وإن لم يذكره صاحب الكتاب.
ولعله إنما عدل عنه استضعافا له إلا أنه مشهور، وما روي عن أمير
المؤمنين عليه السلام من قوله لما جاء ابن جرموز (1) برأس الزبير: " بشر
قاتل ابن صفية بالنار " وأنه لو لم يكن تائبا لما استحق النار بقتله.
والجواب عن ذلك أن ابن جرموز غدر بالزبير بعد أن أعطاه
الأمان، وكان قتله على وجه الغيلة والمكر، وهذه منه معصية، لا شبهة
فيها، وقد تظاهر الخبر بما ذكرناه، حتى روي أن عاتكة بنت زيد بن
عمرو بن نفيل (2) وكانت تحت عبد الله بن أبي بكر فخلف عليها عمر ثم
الزبير قالت في ذلك.



(1) * عمرو بن جرموز مذموم عند أهل السنة والشيعة لقتله الزبير وغدره به ولأنه
خرج على علي عليه السلام مع الخوارج.
(2) عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل القرشية العدوية، أخت سعيد بن زيد
وابنة عم عمر بن الخطاب من المهاجرات إلى المدينة كانت تحت عبد الله بن أبي بكر
وكانت حسناء جميلة فأحبها حبا شديدا حتى غلبت عليه وشغلته عن مغازيه، فأمره
أبوه بطلاقها فتبعتها نفسه فارتجعها ثم شهد عبد الله الطائف فرمي بسهم فمات منه
بالمدينة فتزوجها زيد بن الخطاب فقتل عنها باليمامة فتزوجها عمر سنة 12 فأولم وليمة
دعا إليها جماعة فيهم علي بن أبي طالب، فقال دعني أكلم عاتكة، قال: أفعل،
فقال لها باعدية؟؟ نفسها.
فآليت لا تنفك عني حزينة * عليك ولا ينفك جلد أغبر
(يعني عليه السلام في رثائها لزيد) فبكت، فقال عمر ما دعاك لهذا يا أبا الحسن كل النساء
يفعلن هذا فقال: قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا
عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) فقتل عنها عمر فتزوجها الزبير فقتل عنها ثم خطبها علي
عليه السلام فقالت يا أمير المؤمنين أنت سيد المسلمين وأنا أنفس بك عن الموت - يعني القتل -
وقد ذكر لها ابن الأثير في أسد الغابة مراثيها لأزواجها ومنه الرثاء المذكور في المتن (انظر أسد
الغابة 5 / 497).
348
غدر ابن جرموز بفارس بهمة * يوم اللقاء وكان غير معرد (1)
يا عمرو لو نبهته لوجدته * لا طائشا رعش الجنان ولا اليد (2)
وإنما استحق ابن جرموز النار بقتله إياه غدرا لا أن المقتول في الجنة.
وهذا الجواب يتضمن قولهم: إن بشارته بالنار مع الإضافة إلى قتل الزبير
يدل على أنه إنما استحق النار بقتله، لأنا قد بينا في الجواب أنه من حيث
قتله غدرا استحق النار.
وقد قيل في هذا الخبر أن ابن جرموز كان من جملة الخوارج
الخارجين على أمير المؤمنين عليه السلام في النهروان وأن النبي صلى الله
عليه وآله قد خبره بحالهم. ودله على جماعة منهم بأعيانهم وأوصافهم،
فلما جاءهم برأس الزبير أشفق أمير المؤمنين عليه السلام من أن يظن به
لعظم ما فعله الخير، ويقطع على سلامة العاقبة، ويكون قتله الزبير شبهة
فيما يصير إليه من الخارجية فقطع عليه بالنار، لتزول الشبهة في أمره ليعلم
أن هذا الفعل الذي فعله لا يساوي شيئا مما يرتكبه في المستقبل، وجرى
ذلك مجرى شهادة النبي صلى الله عليه وآله على رجل من الأنصار يقال له
قزمان (3) أبلى في يوم أحد بلاء شديدا وقتل بيده جماعة - بالنار فعجب من ذلك



(1) بهمة إذا كانت صفة للفارس فالمراد به الشجاع وإذا كانت مضاف إليها فهي
صفة للفرس يقال: فرس بهيم إذا كان على لون واحد، وعرد الرجل عن الطريق
(مال وانحرف وفي مروج الذهب 2 / 372 " غير مسدد " فيكون المراد ابن ترموز.
(2) الطيش: النزق والخفة ورعش أخذته الرعدة.
(3) هو قزمان بن الحرث قال ابن الأثير في الكامل 2 / 162: " كان في المسلمين رجل
اسمه قزمان - بضم القاف - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه من أهل النار
فقاتل يوم أحد قتالا شديدا فقتل من المشركين ثمانية أو تسعة ثم جرح فحمل إلى داره.
وقال له المسلمون: أبشر قزمان! قال: بم أبشر وأنا ما قاتلت إلا عن أحساب قومي، ثم
اشتد عليه جرحه فأخذ بهما فقطع رواهشه فنزف الدم، فمات، فأخبر رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم فقال: (أشهد أني رسول الله).
والرواهش: أعصاب في باطن الذراع واحدها راهش وفي الإصابة إنه لما قيل له: هنيئا لك
بالجنة قال: جنة من حرمل.
349
السامعون حتى كشفوا عن حاله، فوجدوه أنه لما احتمل جريحا إلى منزله،
ووجد ألم الجراح قتل نفسه بمشقص فإنما شهد النبي صلى الله عليه وآله
وسلم بالنار عقيب بلائه للوجه الذي ذكرناه، والذي يدل على أن بشارته
بالنار لم تكن لكون الزبير تائبا مقلعا، بل لبعض ما ذكرناه هو أنه لو كان
كما ادعوه لأقاده أمير المؤمنين عليه السلام به، ولماطل دمه (1) وفي عدوله عن
ذلك دلالة على ما ذكرناه.
قال صاحب الكتاب: (فأما توبة عائشة فمشهورة لأن عمرها امتد
بعد الصنيع الذي كان منها، وتواتر عنها ما كانت تذكره من الندامة حالا
بعد حال، فروي عن عمار أنه أتاها فقال: سبحان الله ما أبعد هذا من
الأمر الذي عهد إليك، أمرك الله إلا أن تقري في بيتك، فقالت: من
هذا أبو اليقظان؟ قال: نعم قالت: أما والله ما علمت إلا أنك لقوال
بالحق، فقال الحمد لله الذي قضي لي على لسانك (2) والمشهور عن عمار أنه
خطب بالكوفة عند الاستنفار فذكر عائشة. فقال أما إنها زوجته في الدنيا
والآخرة، ولكن الله ابتلاكم بها لشقوة (3) وإياها وذكر عن ابن عباس أنه
قال لعائشة ألست إنما سميت أم المؤمنين بنا، قالت بلى أولسنا أولياء
زوجك قالت بلى، قال: فلم خرجت بغير إذننا؟ فقالت أيها الرجل كان



(1) طل دمه: ذهب هدرا.
(2) تاريخ الطبري 4 / 545.
(3) غ " لتبتغوه " أو يبدو أنه تصحيف.
350
قضاء وأمر خديعة ويروي عنها عبد الله بن عبيد الله بن عمير أنها قالت:
والله لوددت أني كنت غصنا رطبا وأني لم التبس في هذا الأمر، تعني يوم
الجمل وروي أن سائلا سأل أبا جعفر محمد بن علي عليهما السلام عن
عائشة ومسيرها في تلك الحرب فاستغفر لها فقال له: أتستغفر لها وتتولاها
فقال نعم أما علمت ما كانت تقول يا ليتني كنت شجرة يا ليتني كنت
مدرة. وذلك توبة وروى أبو الحسن عن الحسن (1) أنه قال قالت عائشة
لأن أكون جلست (2) من مسيري الذي سرت أحب إلي من أن يكون لي
عشرة أولاد من رسول الله صلى الله عليه وآله كلهم مثل ولد الحارث
ابن هشام. وثكلتم وروي عن حذيفة أنه قال: (إني لأعلم قائد فتنة في
الجنة، وأتباعه في النار) (3) وروي أن عائشة أرسلت إلى أبي بكرة (4) رجلا
من بني جمح. فقالت: ما يمنعك من إتياني أعهد عهده إليك رسول الله
صلى الله عليه وسلم أم أحدثت بدعة. فأرسل إليها لا هذا ولا هذا
ولكن تذكرين يوما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندك فبشر بظفر
أصحابه (5) فخر ساجدا، ثم قال الرسول (حدثني) فقال كان الذي يلي
أمرهم امرأة، فقال النبي صلى الله عليه وآله: (هلكت الرجال
حيث أطاعت النساء) قالها ثلاثا فلما رجع الرسول إلى عائشة بكت حتى
بلت خمارها. وكل ذلك يبين ما وصفناه من توبتها وقد كانت وجدت في
قلبها، ما كان من أمير المؤمنين صلوات الله عليه يوم الإفك عند استشارة
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما يحكي عنها بعد ذلك، لا يدل على



(1) أبو الحسن الظاهر أنه المدائني والحسن البصري.
(2) غ " جلست في منزلي ".
(3) في المغني " ومن اتبعه في النار ".
(4) غ " بكر " تحريف.
(5) غ " أصحاب له ".
351
خلاف التوبة، وإنما كانت تائبة لهذا الوجه. ولم يكن الذي تأتيه مما يقدح
في إعظامها لأمير المؤمنين عليه السلام، لأن الواحد قد يعظم الواحد في
الدين ومع ذلك (1) يجد في قلبه الألم والغم من بعض أفعاله) (2)
يقال له: ما بيناه من الطرق الثلاث من قبل في الكلام على توبة
طلحة والزبير وما يدعونه منها هي المعتمدة فيما يدعونه من توبة عائشة
فأول الطرق أن جميع ما رويته من الأخبار وليس يمكنك ولا أحد أن يدعي
أنه معلوم ولا مقطوع على صحته، وأحسن أحواله أن يوجب ذلك
استقصاء لا يحتاج إلى إعادته.
فأما ما يعارض الأخبار ليس يمكنك ولا أحد أن يدعي أنه معلوم
ولا مقطوع على صحته، وأحسن أحواله أن يوجب ذلك استقصاء لا
يحتاج إلى إعادته.
فأما ما يعرض الأخبار التي رواها فإن الواقدي، روى بإسناده عن
شعبة عن ابن عباس قال: أرسلني علي عليه السلام إلى عائشة بعد
الهزيمة، وهي في دار الخزاعيين يأمرها أن ترجع إلى بلادها، قال:
فجئتها، فوقفت على بابها ساعة لا يؤذن لي، ثم أذنت فدخلت ولم
توضع لي وسادة، ولا شئ أجلس عليه، فالتفتت فإذا وسادة في ناحية
البيت على متاع فتناولتها وضعتها، ثم جلست عليها، فقالت عائشة: يا
ابن عباس أخطأت السنة تجلس على متاعنا بغير إذننا، فقلت لها ليست
بوسادتك تركت متاعك في بيتك الذي لم يجعل الله لك بيتا غيره
فقالت والله ما أحب أن أصبحت في منزل غيره، قلت أما حين اخترت
لنفسك فقد كان الذي رأيت، فقالت: أيها الرجل أنت رسول فهلم ما



(1) غ " وأي كان ذلك "
(2) المغني 20 ق 2 / 90.
352
قيل لك قال: فقلت: إن أمير المؤمنين يأمرك أن ترحلي إلى منزلك وبلدك
فقالت: ذاك أمير المؤمنين عمر (1) قال ابن عباس فقلت: أمير المؤمنين
عمر والله يرحمه، وهذا والله أمير المؤمنين فقالت: أبيت ذلك. فقلت:
أما والله ما كان إلا فواق عنز (2) حتى ما تأمرين ولا تنهين كما قال الشاعر
الأسدي:
ما زال أعداء القصائد بيننا * شتم الصديق وكثرة الألقاب
حتى تركت كأن أمرك فيهم * في كل مجمعة طنين ذباب (3)
قال ابن عباس فوالله يعلم لبكت حتى سمعت نشيجها، فقالت:
أفعل ما بلد أبغض إلي من بلد لصاحبك مملكة بعد، وبلد قتل فيه أبو محمد
وأبو سليمان، تعني طلحة بن عبيد الله وابنه. فقلت: أنت والله قتلتهما
قالت: وأجلهما إلي قلت: لا ولكنك لما شجعوك على الخروج خرجت،
فلو أقمت ما خرجا، قال: فبكت مرة أخرى أشد من بكائها الأول،
ثم قالت: والله لئن لم يغفر الله لنا لنهلكن، نخرج لعمري من بلدك،
فأبغض بها والله بلد إلي وبمن فيها، فقلت: الله ما هذا جزاؤنا بأيدينا (4)
عندك ولا عند أبيك، لقد جعلنا أباك صديقا، وجعلناك للناس أما،
فقالت: أتمنون علي برسول الله؟ قلت إي والله لأمتنن به عليك، والله لو



(1) غ " عمر يرحمه الله ".
(2) الفواق - بضم الفاء وفتحها - ما بين الحلبتين في الوقت لأنها تحلب ثم تترك سويعة
يرضعها الجدي لتدر ثم تحلب. ويضرب ذلك مثلا: في قصر المدة فيقال: ما أقام عنده إلا
فواقا، وفي الحديث " العيادة فواق ناقة، وكان في الأصل " فواق عنز غدير " والتصحيح من ر.
(3) المجمعة " موضع الإجماع.
(4) غ " جزاء أيدينا عندك ".
353
كان لك لمننت به، قال ابن عباس: فقمت وتركتها فجئت عليا عليه
السلام فأخبرته خبرها وما قلت لها فقال عليه السلام: (ذرية بعضها من
بعض والله سميع عليم) (1).
فإن قيل: في الخبر دليل على توبتها، وهو قولها عقيب بكائها: لئن لم
يغفر الله لنا لنهلكن.
قلنا: قد كشف الأمر ما عقبت هذا الكلام به، من اعترافها
ببغض أمير المؤمنين عليه السلام وبغض أصحابه المؤمنين، وقد أوجب
الله عليها محبتهم وتعظيمهم. وهذا دليل على الاصرار وأن بكائها إنما كان
للخيبة لا للتوبة، وما في قولها: لئن لم يغفر الله لنا لنهلكن، من دليل
للتوبة، وقد يقول المصر مثل ذلك إذا كان عارفا بخطئه فيما ارتكبه وليس
كل من ارتكب ذنبا يعتقد أنه حسن حتى لا يكون خائفا من العقاب
عليه، وأكثر مرتكبي الذنوب يخاف المصاب مع الاصرار ويظهر منهم مثل
ما يحكى عن عائشة ولا يكون توبة.
وروى الواقدي بإسناده أن عمارا استأذن على عائشة بالبصرة بعد
الفتح فأذنت له فدخل فقال: يا أمة كيف رأيت صنع الله حين جمع الحق
والباطل، ألم يظهر الحق على الباطل، وزهق الباطل؟ فقالت: إن
الحرب دول وسجال (2) وقد اديل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
ولكن انظر يا عمار كيف تكون في عاقبة أمرك.



(1) آل عمران.
(2) دول - بكسر الدال - جمع دولة بالضم - وهي الشئ الذي يتداول، وقال أبو عمرو
ابن العلاء: بالضم في المال وبالفتح في الحرب " وقال عيسى بن عمر " كلتاهما تكونان في المال
والحرب سواء " (انظر المادة في صحاح الجوهري).
354
وروى الواقدي أنها لما دخل عليها عمار أيضا فقال: كيف رأيت
ضرب بنيك على الحق وعلى دينهم فقالت: استبصرت من أجل إنك
غلبت فقال: أنا أشد استبصارا من ذلك والله لو غلبتمونا حتى تبلغونا
سعفات هجر لعلمنا أنا على الحق وأنكم على الباطل فقالت عايشة:
هكذا تخيل إليك إتق الله يا عمار إن سنك قد كبرت ودق عظمك ودنى
أجلك إذ وهبت دينك لابن أبي طالب قال: أي والله اخترت لنفسي في
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله فرأيت عليا عليه السلام
أقرأهم لكتاب الله، وأعلمهم بتأويله، وأشدهم تعظيما لحق الله
وحرمته، مع قرابته وعظم بلائه وعنائه في الاسلام قال فسكتت.
وروى الطبري في تاريخه إنما لما انتهى قتل أمير المؤمنين عليه السلام
إلى عائشة قالت:
فألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قر عينا بالإياب المسافر
فمن قتله؟ فقيل: رجل من مراد لعنه الله فقالت:
فإن يك نائيا فلقد نعاه * تباع ليس في فيه التراب
فقالت زينب بنت سلمة ابن أبي سلمة (1): العلي تقولين هذا؟ فقالت إني
انسي فإذا نسيت فذكروني (2).



(1) تاريخ الطبري 5 / 150 حوادث سنة 40.
(2) زينب بنت أبي سلمة المخزومية يقال: ولدت بأرض الحبشة، وضعتها أمها بعد مقتل
ابن سلمة وتزوج رسول الله صلى الله عليه وآله أمها وهي ترضعها، وكان اسمها برة فغيره النبي
صلى الله عليه وآله وسلم، كانت من أفقه نساء المدينة، (انظر كتاب النساء من الإصابة حرف
الزاي ق 1 بترجمتها).
355
وهذه سخرية منها بزينب وتمويه عليها تخوفا من شناعتها، ومعلوم
ضرورة أن الناسي الساهي لا يتمثل بالشعر في الأغراض التي تطابق
مراده، ولم يكن ذلك منها إلا عن قصد ومعرفة.
وروي أيضا عن ابن عباس أنه قال لأمير المؤمنين عليه السلام لما
أبت عايشة الرجوع إلى المدينة: أرى أن تدعها يا أمير المؤمنين بالبصرة ولا
ترحلها فقال صلوات الله عليه له: إنها لا تألو شرا ولكني أردها إلى
بيتها الذي تركها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه، فإن الله بالغ
أمره.
وروى محمد بن إسحاق أن عائشة لما وصلت إلى المدينة راجعة من
البصرة، لم تزل تحرض الناس على أمير المؤمنين عليه السلام وكتبت إلى
معاوية وإلى أهل الشام مع الأسود بن أبي البختري (1) لتحرضهم عليه،
وروي عن مسروق أنه قال: دخلت على عائشة فجلست إليها فحدثني
واستدعت غلاما لها أسود يقال له: عبد الرحمن حتى وقف، فقالت: يا
مسروق أتدري لم سميته عبد الرحمن فقلت: لا فقالت: حبا مني لعبد
الرحمن بن ملجم.
فأما قصتها لدفن الحسن عليه السلام (2) ومنعها من مجاورته عليه
السلام لجده وخروجها على بغلة تأمر الناس بالقتال، وتقول: لا تدخلوا
بيتي من لا أهوى، فمشهورة حتى قال لها عبد الله بن عباس رضي الله
عنه: يوما على بغل ويوما على جمل فقالت: ما نسيتم يوم الجمل يا ابن
عباس إنكم ذوو حقد، ولو ذهبنا إلى ذكر ما روي عن هذه المرأة من



(1) الأسود بن أبي البختري واسم أبي البختري العاص قتل أبوه يوم بدر كافرا أسلم يوم
الفتح سيره معاوية مع بسر بن أرطاة ليقتل شيعة علي بالمدينة (انظر أسد الغابة 1 / 82).
(2) ر " في دفن "
356
الكلام الغليظ الشديد الدال على بقاء العداوة واستمرار الحقد والعصبية،
لأطلنا وأكثرنا، فأي دليل أدل على أنها معاوية لأمير المؤمنين عليه السلام
عداوة قديمة لا سبب لها من تهمته بقتل عثمان وغيره مع (1) أنها كانت
تؤلب على عثمان، فتأمر صريحا بقتله، ولم يكن عليه السلام إلا بريئا،
ولم يكن على عثمان أشد منها ولا أغلظ، فلما قتل كما أرادت أظهرت
السرور والابتهاج، ظنا منها أن الأمر يعدل به إلى طلحة أو غيره، وأن
أمير المؤمنين عليه السلام لا يحظى بطائل، فلما عرفت الأمر على حقيقته
رجعت على أدراجها تزكي عثمان وتبكيه وتندبه، فما الذي بان لها من
أمره بعد الأقوال المسموعة منها فيه! وهل هذا إلا شح منها على أمير
المؤمنين عليه السلام بالأمر؟
وروى البلاذري عن عباس بن هشام الكلبي، عن أبيه، عن أبي
مخنف، قال: حدثني أبو يوسف الأنصاري أنه سمع أهل الكوفة يحدثون
أن الناس لما بايعوا عليا عليه السلام بالمدينة بلغ عائشة أن الناس قد بايعوا
طلحة فقالت: إيه ذا الإصبع (2) لله أنت لقد وجدوك لها مجلسا وأقبلت
جذلة مسرورة، حتى انتهت إلى سرف (3) استقبلها عبيد بن سلمة الذي
يدعى ابن أم كلاب (4) فسألته عن الخبر، فقال: قتل الناس عثمان،
قالت: نعم ما صنعوا قال: خيرا جازت بهم الأمور إلى خير مجاز بايعوا
ابن عم نبيها عليه السلام فقالت: أو فعلوها، وددت بأن هذه انطبقت
على هذه، إن تمت الأمور لصاحبك الذي ذكرت، فقال لها: ولم والله ما
أرى اليوم في الأرض مثله، فلم تكرهين سلطانه؟ فلم ترجع إليه



(1) في الأصل " من "
(2) تعني طلحة لأنه أشل.
(3) سرف - بكسر الراء - موضع من مكة على عشرة أميال (نهاية ابن الأثير مادة
" سرف ".
(4) قال ابن حجر في القسم الرابع من حرف العين من الإصابة: " عبيد بن أم كلاب له
رواية عن عمر ".
357
جوابا، وانصرفت إلى مكة فاتت الحجر فاستبرزت (1) فقالت: إنا عبنا على
عثمان في أمور سميناها له، ووقفناه عليها، وتاب منها واستغفر الله،
فقبل المسلمون منه ذلك. ولم يجدوا من ذلك بدا فوثب عليه من إصبع
من أصابع عثمان خير منه فقتله، فقتل والله وقد ماصوه كما يماص الثوب
الرحيض (2) وصفوه كما يصفى القليب، ومن تأمل ما روي عنها في هذا
المعنى وهو كثير حق تأمله وانقلابها في عثمان مادحة بعد أن كانت في
الحال ذامة لا لشئ سوى حصول الأمر لمن يستحقه علم من أمرها ما لا
يخرجه من قلبه تأويل، ولا يدفعه تذليق (3) وفي بعض ما ذكرناه من
الأخبار كفاية، في معارضته أخباره لو لم يكن فيها تأويل ولا احتمال
ونحن نتكلم الآن على ما تعلق به صاحب الكتاب في توبتها من الأخبار.
أما الأخبار فالخبر الذي تضمن موافقة عمار لها إنك لقوال بالحق،
فأبعد شئ من حجة في التوبة أو شبهه، وما روي من اعترافها بصدق
عمار بأنها مأمورة بأن تقر في بيتها من الدلالة على التوبة والندم، وهل
كانت من جحد ذلك متمكنة، وأي منافاة بين الاعتراف بذلك. وبين
الاصرار.
فأما ما حكاه بعد عن عمار من أنها زوجته في الدنيا والآخرة فظاهر
البطلان. لأن أقوال عمار المشهورة بخلاف ذلك، وبعد فإن عمارا إنما
قال ذلك بالكوفة عند الاستنفار وقبل الحرب، ويجوز أن يكون ظانا أن
الأمر لا يفضي إلى ما أفضى إليه فقال: إنها زوجته في الدنيا والآخرة على



(1) استبرزت: ظهرت بعد خفاء.
(2) ماص الشئ دلكه، وموص الثوب غسله، والرحيض: المغسول.
(3) في المطبوعة، " تزليق " واخترنا ما في ر فيكون من الذلاقة وهي الفصاحة والبلاغة.
358
ما ظنه في الحال ولم يسند خبره إلى النبي صلى الله عليه وآله فيقطع به
وليس كل ما ظنه كان يكون صحيحا وكيف يقول عمار ومذهبه معروف في
تنزيه الله عن القبيح: إن الله ابتلاكم بها، وكيف يبتلي الله بالمعاصي وبما
قد نهى عنه وحذر منه.
وأما الخبر الثاني وقولها مجيبة لابن عباس أيها الرجل كان قضاء وأمر
خديعة فأول ما فيه أن يحيل على الله بذنبه، ويدعي أنه هو الذي
قضاه عليه لا يقبل توبته عند جماعتنا، وليس له أن يحمل القضاء ها هنا
على العلم دون الخلق والحكم، ليخرجها من أن تكون غالطة، وذلك أن
المعلوم إنها كانت معتذرة بكلامها، ولا عذر لها في أن يعلم الله منها
القبيح، وإنما العذر في القضاء المخالف العلم ألا ترى أنها ضمت إلى ذلك
ذكر الخديعة لتلقي اللوم على غيرها، ولا مطابقة بين الخديعة والقضاء
الذي هو العلم، فكيف تكون مخدوعة وقد ظهر منها بعد التمكن منها،
وزوال كل شبهة عنها، من الكلام الغليظ في أمير المؤمنين عليه السلام وفي
متبعيه ما يدل على استبصارها في عداوته، وإصرارها على مشاقته.
فأما قولها: وددت أني كنت غصنا رطبا، وفي بعض الأخبار:
شجرة أو مدرة، فإنه لا يدل على التوبة، وإنما يدل على التلهف
والتحسر، ويجوز أن يكون من حيث خابت عن طلبتها، ولم تظفر
ببغيتها، مع الذل الذي لحقها وألحقها العار في الدنيا، والإثم في
الآخرة. فمن أين أن ذلك ندم على الفعل القبيح من الوجه الذي يسقط
الذم؟ وليس فيه أكثر من لفظ التمني الذي يستعمله المستبصر المحقق
وتارة يكون ندما وتوبة، إذا كان خوفا من ضرر الآخرة، وندما على
القبيح لقبحه، وتارة يكون على الاستضرار في الدنيا لفوت غرض أو خيبة
أو بعض ما ذكرناه، وهذا هو الجواب عن تعلقهم ببكائها وتمنيها الموت،
وقولها لأن لا أكون شهدت هذا اليوم أحب إلي من أن يكون لي من رسول

359
الله صلى الله عليه وسلم عشرة أولاد كعبد الرحمن بن الحارث بن
هشام (1) على إنه قد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك اليوم أنه
قال: (وددت أنني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة) فلو كان تمنى الموت
دليل التوبة لوجب أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام مقلعا به عن قبيح،
وقد خبر الله تعالى عن مريم عليها السلام أنها قالت: (يا ليتني مت قبل
هذا وكنت نسيا منسيا) (2) ومعلوم أن ذلك لم يكن منها على سبيل التوبة
من قبيح، وأنها خافت الضرر العاجل بالتهمة.
فأما أمير المؤمنين عليه السلام فمعنى كلامه إن صحت الرواية أنه
كان صلوات الله وسلامه عليه محزونا بقتل شيعته وأصحابه، وفقد أنصاره
والمخلصين في ولايته، وبوقوع الفتنة في الجمهور، ودخول الشبهة على
كثير من أهل الاسلام، حتى أداهم إلى الاختلاف والتحارب الذي يشمت
الأعداء، ويسوء الأولياء، وكيف تكون عائشة تائبة نادمة، ولم ينقل عنها
مع امتداد الزمان بها شئ من ألفاظ التوبة المختصة بها، ولا صرحت في
وقت من الأوقات بأني نادمة على ما كان مني من حرب الإمام العادل،
وخلع طاعته وقتل شيعته، ورميه بدم عثمان وهو برئ منه، وعالمة بقبح
جميع ذلك، وعازمة على ترك معاودة أمثاله، أو معنى هذه الألفاظ،
وكيف عدلت عن هذا كله إلى تمني الموت وقولها: يا ليتني كنت شجرة أو
مدرة، وما فيه شئ يختص التوبة من لفظ ولا معنى، وهو محتمل على
ما ذكرناه.
فأما ما رواه عن أبي جعفر عليه السلام من الاستغفار لها من بعيد



(1) عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي وقولها هذا نقله ابن الأثير في
أسد الغابة 3 / 284 بترجمة عبد الرحمن وزاد عليه " أو مثل عبد الله بن الزبير " توفي عبد الرحمن
في أيام معاوية.
(2) مريم / 34.
360
الرواية عن الحق، وبإزاء هذا الخبر ما لا يحصى كثرة عن أبي جعفر وآبائه
وأبنائه عليهم السلام مما يتضمن خلاف الاستغفار، ويقتضي غاية
الاصرار مما لم تذكره استغناء عن ذكره لشهرته في أماكنه. على أنه لا حجة
له في ذلك على مذاهبنا لأنا نجيز عليه التقية، ويجوز أن يكون ذلك
السائل من أهل العداوة فاتقاه بهذا القول وورى فيه تورية تخرجه من أن
يكون كذبا. وبعد فإن علق توبتها بتمنيها أن تكون شجرة أو مدرة، وقد
بينا أن ذلك لا يكون توبة وهو عليه السلام بهذا أعلم منا.
فأما ما رواه عن حذيفة فهو خبر عن مذهبه واعتقاده وليسا على من
خالفه رحمه الله بحجة.
فأما ما عقب به ذلك من خبرها مع أبي بكرة وبكائها حتى بلت
خمارها. فقد بينا أن البكاء دليل التحسر والتلهف، وأنه يحتمل غير التوبة
كاحتماله لها.
فأما قوله: (إنها كانت وجدت في قلبها من مشورة أمير المؤمنين
عليه السلام في بابها بما أشار به في قصة الإفك، فإن الذي يحكى عنها
بعد ذلك لا يدل على خلاف التوبة) إلى آخر الفصل، فإنما هو إرهاص وتأسيس
وتأويل ما روي عنها من الأخبار الدالة على إصرارها ومقتها وعداوتها وصرفها إلى
غير وجهها، لأن صاحب الكتاب أحس بما أورده أصحابنا
عليه من معارضة أخباره. فقدم هذه الرواية، والمقدمة لأجل ذلك،
وليس يبلغ ألم ما ذكره من المشورة ونقل عليها إلى أن تمتنع من تسميته بأمير
المؤمنين وتصرح بأنها تبغض البلد الذي يحله لأجله، وتظهر السرور
بقتله وقد حز ذلك في - ب؟؟ الاسلام وأهله وتضعضعت له أركانه
ودعائمه. ومن تأمل ما روي عنها في هذا الباب علم أنه أكثر مما يقتضيه ثقل



(1) انظر مروج الذهب 2 / 377.
(2) بريرة مولاه عائشة أم المؤمنين (انظر ترجمتها في أسد الغابة 5 / 409).
361
القلب والوجد اللذان لا ينتهيان إلى العداوة والشحناء، ولم يجر من أمير
المؤمنين عليه السلام في قصة الإفك ما يقتضي وجدا لأن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم استشاره فأشار بم يقتضيه ظاهر الحال من مسألة
بريرة (1) عن الأمر فسألها الرسول صلى الله عليه وآله
فقالت: ما علمت إلا خيرا. فلو كان أمير المؤمنين عليه السلام
أشار بخلاف الصواب، وبما فيه تحامل عليها لما فعله الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم وليس في المشورة التي ذكرها ما يقتضي حقدا ولا غضبا.
قال صاحب الكتاب: (أما سعد بن أبي وقاص. فقد بينا أنه
رضي بيعته عليه السلام، وإنما ترك القتال معه. ولم يضيق أمير المؤمنين
عليه السلام عليه فلا إثم عليه، وإن (كان ضيق عليه وعلى أمثاله في المحاربة
معهم فهم آثمون، ولا ندري ما يبلغ هذا الإثم (2) لأنهم الذين يعظم
قعودهم والحاجة إليهم ماسة).
قال: (وقد روي مع ذلك ما يدل على الندامة مما لا يحصى في
الوقت ذكره وروى [جندب ابن أبي ثابت (3)] عن ابن عمر أنه كان يقول
ما ندمت على شئ كندامتي ألا أكون قاتلت الفئة الباغية وروى خبر آخر
يجري هذا المجري عن الزهري أن معاوية قال: من أحق بهذا الأمر مني
قال ابن عمر فهممت أن أقول من ضربك وأباك (4)) قال:
(والكلام في محمد بن مسلمة، وأسامة بن زيد كالكلام فيمن تقدم،
وإنما وجب التشدد في ذكر توبة طلحة والزبير وعائشة لأن العلم محيط



(1) كلام القاضي في ابن عمر نقله المرتضى باقتضاب (انظر المغني 20 ق 2 / 92).
(2) ر " لأن ".
(3) الزيادة من المغني.
(4) الارهاص - في الأصل - أول صف من الحائط ثم استعمل في مقدمة الشئ.
362
بعظم خطبهم (1) فكان لا بد من ذكر ما يزول به الذم، فأما غيرهم ممن
ذكرناه فلا وجه يقطع به على أن الذي فعلوه كبيرة (2).
وذكر: (إن سعد بن أبي وقاص من العشرة وخبر البشارة يدل على
توبته).
وحكي عن ابن علي (إن أبا موسى الأشعري تاب بعد ما عمله في
التحكيم) وروي أن أمير المؤمنين عليه السلام قال له: وقد دخل إلى
الحسن عليه السلام يعوده من علة: " أشامت يا أبا موسى أم عائد؟
قال: بل عائد، قال: " أما إنه لا يمنعني ما في نفسي عليك أن أقول لك
ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (من عاد
مريضا كان في رحمة الله ماشيا حتى إذا قعد غمرته التوبة " فإن صح ذلك
وما شاكله من الأخبار. فقد أزال عن نفسه ما يستحقه وإلا فالذم
والعقاب لا زمان له على الأمر العظيم الذي ارتكبه (3)).
يقال له: أما سعد بن أبي وقاص وابن عمرو من يجري مجراهما ما في
التخلف عن بيعته أمير المؤمنين عليه السلام فلم يفسقوا عندنا على الحقيقة
بما كان منهم من القعود عن بيعته عليه السلام في تلك الحال وإنما كانوا
فساقا بما تقدم من جحودهم النص، وشكهم في إمامته بعد الرسول صلى
الله عليه وآله بلا فصل، وقد بينا فيما تقدم أن إمامة أمير المؤمنين لا طريق
إليها إلا بالنص، وأن من دفع النص لا يمكنه أن يثبتها بالاختيار، وبينا



(1) الخطب: الأمر العظيم، وفي المغني " خطأهم ".
(2) المغني 20 ق 2 / 92.
(3) نقل المرتضى كلام القاضي في أبي موسى باختصار، والذي في المغني: فقد كان قبل
التحكيم منه بالكوفة ما كان لكن الذي ظهر منه قعوده عن الحرب وذلك محتمل، أما ما علمه
بعد التحكيم فعظيم يوجب البراءة لا محالة لكن شيخنا أبا علي ذكر أنه تاب بعد ذلك ورجع إلى
أمير المؤمنين بالكوفة بعد ما كان تنحى عنه وخرج إلى الحجاز وفي ذلك أخبار مروية، ثم نقل
عيادة للحسن عليه السلام الخ.
363
أن هؤلاء الممتنعين لم يكن لهم عذر في الامتناع عن المحاربة جميعهم، بل
فيهم من اعتذر بذلك. وفيهم من التمس أن يكون الاختيار بعد الشورى
وإجالة الرأي، وفيهم من راعى الإجماع وامتنع من البيعة لفقده.
وبعد، فأي عذر لهم في تأخرهم عن المحاربة معه إذا كانوا على ما
ادعاه صاحب الكتاب قد بايعوه، ورضوا بإمامته. والبيعة تشتمل على
النصرة والمحاربة فكيف يدخل فيها من يخرج عن بعضها؟! وأن يحتاج في
وجوب المحاربة إلى التشدد لأن سبب وجودها متقدم وهو البيعة. على أنه
عليه السلام قد استنصر الناس، ودعاهم إلى القتال معه في الجمل
وصفين، ولم يترك غاية في التشدد فينبغي أن يأثموا بالقعود عن المحاربة
على كل حال.
فأما ابن عمر فإن كان قد ندم على ترك جهاد الفئة الباغية فما ندم
على غيره مما يجب فسقه، وكيف لا يكون ما فعلوه من القعود عن
بيعته، أو من المحاربة - وقد وجب عليهم - كبيرا، وفي ذلك مشاقة الإمام
وخروج عن طاعته. ولئن جاز أن لا يكون فسقا ليجوزن أن لا يكون
محاربته كذلك.
فأما خبر البشارة (1) فقد مضى الكلام عليه.
فأما أبو موسى فلم يذكر في توبته (على تصحيفه فيها وتشككه - إلا
الخبر الذي رواه في العيادة. وليس فيه دليل على التوبة. وإنما روى أمير
المؤمنين عليه السلام ما سمع، ومعلوم أنه لا يصح حمله على العموم.
لأن فيمن يعود المرضى الكافر والفاسق، فهم مستثنون منه. على أن أمير
المؤمنين عليه السلام قد صرح بما في نفسه عليه، وإن لم يمنعه ذلك أن
يخبره بما سمع. ولو كان تائبا قبل ذلك لكان ما في النفس عليه زائلا غير



(1) يعني حديث العشرة المبشرة.
364
ثابت.
وهذه جملة كافية ولم يبق بعد هذا الفصل من فصول صاحب
الكتاب في الإمامة ما يحتاج إلى تتبعه لأنه تكلم على بغي معاوية ووجوب
محاربته (1) ثم تكلم على الخوارج بجملة من الكلام واقعة موقعها (2) ثم تكلم
في فضل أمير المؤمنين عليه السلام ونصر أنه الأفضل بكلام أيضا
صحيح (3) وتكلم في إمامة الحسن والحسين عليهما السلام بكلام بناه
على صحة الاختيار (4) وقد مضى ما في الاختيار، ثم تكلم فيما يختص به
الإمام لكونه إماما، وما يخرجه من كونه إماما وما لا يخرجه من ذلك
بكلام طويل وفيه صحيح وباطل (5) والباطل مبني على أصول قد قدمنا
الكلام عليها وأفسدناها، ثم ذكر جملة من مذاهب الغلاة وأشار إلى جملة
من الرد عليهم (6) وذكر اختلاف الإمامية في أعيان الأئمة (7) من غير
احتجاج به لهم أو عليهم. وأحال في الكلام عليهم إلى ما تقدم من كلامه
الذي تتبعناه ونقضناه، ثم ختم بفصل الفصول يتضمن ذكر أقاويل
الزيدية واختلافهم (8) مما لا وجه لحكايته وتتبعه.
ونحن الآن قاطعون كتابنا على هذا الموضع لوفائنا بما شرطناه
وقصدناه، ولم نأل جهدا وتحريا للحق فيما اشتمل عليه هذا الكتاب من



(1) 20 ق 2 / 93.
(2) 20 ق 2 / 95.
(3) 20 ق 122.
(4) المغني 20 ق 1 / 165.
(5) المغني 20 ق 2 / 173.
(6) المغني 20 ق 2 / 177.
(7) المغني 20 ق 2 / 177 - 183.
(8) المغني 20 ق 2 / 185، ومما يجدر التنبيه عليه أن كلام القاضي في أقاويل الزيدية رد
عليه الشيخ محي الدين محمد بن أحمد بن علي بن الوليد برسالة سماها " المفني لشبه المغني " وطبع
هذا الرد ملحقا بالجزء العشرين من المغني.
365
كلامنا بحسب ما بلغته أفهامنا، واتسعت له طاقتنا، ونحن نقسم على
من تصفحه وتأمله لا يقلدنا في شئ منه، وأن لا يعتقد بشئ مما
ذكرناه إلا ما صح في نفسه بالحجة، وقامت عليه عنده الأدلة.
ومن تأمل هذا الكتاب وجد بين ابتدائه وانتهائه تفاوتا في باب
الاختصار والشرح، والعلة في ذلك أن النية اختلفت فيه فابتدأناه بنية
مختصر عازم على حكاية أوائل كلام صاحب الكتاب وأطراف فصوله.
وإيجاز الكلام واختصاره ورأينا من بعد أن نبسط الكلام ونشرحه،
ونحكي كلامه على وجهه من غير حذف (1) لشئ منه فعملنا على ذلك بعد
أن مضت قطعة من الكتاب على الرأي الأول، وقد كان الواجب أن
نعطف على ما تقدم من الكتاب فنشرحه ليلحق بأواسطه وآخره (2) لكن منع
من ذلك أن الذي خرج منه سار في البلاد، وتناوله الناس قبل كمال
الكتاب وتمامه، ولم يكن تلافيه لهذا الوجه وأشفقنا من أن تتغير النسخ مما
تقدم منه فتختلف وتتفاوت.
والحمد لله رب العالمين على ما وهبه من المعونة. ورزقه من
البصيرة. وإياه نسأل أن يؤيدنا بتوفيقه وتسديده، وأن يجعل أقوالنا
وأعمالنا مقربة من ثوابه، مبعدة من عقابه إنه سميع الدعاء قريب
مجيب، وصلاته على خيرته من خلقه محمد نبيه، والطيبين من عترته
وذريته، وسلامه ورحمته وبركاته.
إلى هنا انتهى الجزء الرابع من كتاب " الشافي في الإمامة " لعلم
الهدى الشريف المرتضى بحسب تجزئة هذه الطبعة وبانتهائه تم الكتاب.
وآخر دعوانا (أن الحمد لله رب العالمين).



(1) ر " خلف " والظن أنه تحريف.
(2) ر " وأواخره ".
366
/ 1