بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد (تحقيق الآملي) المؤلف: العلامة الحلي الجزء: الوفاة: 726 المجموعة: من مصادر العقائد عند الشيعة الإمامية تحقيق: آية الله حسن زاده الآملي الطبعة: السابعة سنة الطبع: 1417 المطبعة: مؤسسة نشر الإسلامي - قم الناشر: مؤسسة نشر الإسلامي - قم ردمك: ملاحظات: كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد تأليف العلامة الحلي قدس سره صححه وقدم له وعلق عليه آية الله الشيخ حسن حسن زادة الآملي مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
1 شابك 6 - 006 - 470 - 964 6 - 006 - 470 - ISBN 964 كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد تأليف: العلامة الحلي قدس سره تحقيق وتعليق: الأستاذ آية الله الشيخ حسن حسن زادة الآملي الموضوع: كلام عدد الصفحات: 592 طبع ونشر: مؤسسة النشر الاسلامي الطبعة: السابعة المنقحة المطبوع 2000 نسخة التاريخ: 1417 ه. ق مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
2 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف أنبيائه وخاتم رسله محمد وعترته المنتجبين. لا شك في أن علم الكلام من أمهات العلوم وأشرفها وذلك باعتبار موضوعه وما يبحث فيه من المسائل كمعرفة الخالق وصفاته الجلالية والجمالية والمعاد وسائر أصول الدين التي لا بد للإنسان أن يؤمن بها عن معرفة وإيقان وإذعان، ولا يجوز له التقليد فيها. ولأهمية هذا العلم وعظمته وجلالة موضوعه وأبحاثه ألفت الكتب وصرفت فيه جهود أكابر العلماء وأساطين الفن. ويعتبر المحقق البارع الخواجة نصير الدين الطوسي قدس الله روحه الزكية من أول مروجي هذا العلم، حيث ألف كتاب تجريد الاعتقاد وهو كتاب دقيق متقن، ولهذا نرى أن مثل العلامة على الإطلاق - يعني الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي رضوان الله تعالى عليه صاحب العلوم العقلية والنقلية - قد أقدم على شرحه وتوضيح مرامه وسماه ب (كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد) ولله دره على شرحه، وحقا كما قيل (ولولا شرحه لما شرح هذا المتن). فعظمة هذا الكتاب تعرف من شخصية الماتن والشارح، وبما أنه من الكتب الدراسية في الحوزات العلمية ومحط أنظار أهل العلم والفضل
3 فلا بد أن يكون سالما من الأغلاط وخاليا من التشويهات والأوهام التي حصلت فيه إثر مرور الأزمنة المتمادية. لذلك قام المحقق الكبير سماحة الأستاذ آية الله الشيخ حسن حسن زاده الآملي أدام الله أيام إفاضاته بجهود كثيرة وطاقات مشكورة، وبذل وقته الشريف في مقابلة الكتاب لنسخ خطية قيمة عزيزة الوجود، وعلق عليه بتعليقات أنيقة أزاح عنه التشويشات وأنار بقلمه المبهمات. وبما أن المؤسسة رغبت - كعادتها - أن تقدم خدمة لطلبة العلم والحوزات العلمية في هذا المجال قامت بإعادة طبع هذا الكتاب بحلة جديدة وذلك بإدخال بعض التعديلات في تشكيلة الكتاب، فأدرجت التعليقات في ذيل الموارد المعلق عليها تسهيلا للمطالع وتسريعا للمراجع بعد أن كانت في الطبعات السابقة ملحقة بآخر الكتاب، مضافا إلى تدارك ما فات من الأغلاط المطبعية، فأضحى وبحمد الله متينا ونافعا، شاكرين للمحقق الأستاذ الآملي مساعيه المباركة، وسائلين الله له ولنا مزيدا من التوفيق في بث المعارف الإسلامية وإيصالها إلى النفوس التواقة للاستزادة منها والاستضاءة بنورها إنه خير موفق ومعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة
4 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لمن لا نفاد لكلماته، والصلاة على من شرف الصلاة بالصلاة عليه وآله تراجم آياته. وبعد، فمما هو مشهود ذوي البصائر والأبصار ولا يعتريه امتراء ولا إنكار أن كتاب (تجريد الاعتقاد) من مصنفات سلطان المحققين الخواجة نصير الدين الطوسي رضوان الله تعالى عليه أم الكتب الكلامية وإمامها، وقد احتوى أصول مسائلها على أجمل ترتيب وأحسن نظام لم يسبقه أحد قبله، ولم ينسج من جاء بعده على منواله بل كلهم عياله. وأن (كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد) من مؤلفات العلامة على الإطلاق، أدل شرح عليه كما هو أول شرح عليه، وقد أنصف الفاضل الشارح القوشجي في قوله وأجاد: لولا كشف المراد لما فهمنا مراد تجريد الاعتقاد. هذا الذي نقلنا عن القوشجي هو من مسموعاتنا، ولكن مؤلف الذريعة إلى تصانيف الشيعة قال في عنوان تجريد الكلام (ج 3 ص 352) ما هذا لفظه: وعليه حواش لا تحصى وشروح كثيرة، فأول الشروح شرح تلميذ المصنف آية الله العلامة الحلي المتوفى سنة 726 ه - إلى أن قال رضوان الله تعالى عليه: - الثالث شرح الشيخ شمس الدين محمود بن عبد الرحمن أحمد العامي الأصفهاني المتوفى
5 سنة 746 ه، قال في أوله: إن العلامة الحلي هو أول من شرحه، ولولا شرحه لما شرح هذا المتن، إنتهى فراجع. وأقول: لنا نسختان من هذا الشرح للأصفهاني إحداهما كاملة وتاريخ كتابتها 890 ه، والأخرى عادمة من أولها عدة أوراق وتاريخ كتابتها 816 ه، وما وجدنا العبارة المذكورة في أوله ولعلها من كلام الشيخ شمس الدين محمد الإسفرايني البيهقي في شرحه عليه. ثم إن ما حدى المحقق الطوسي على تحرير تجريد الاعتقاد يعلم بما أبانه هو نفسه في فاتحة نقد المحصل حيث قال قدس سره العزيز: فإن أساس العلوم الدينية علم أصول الدين الذي يحوم سائله حول اليقين ولا يتم بدونه الخوض في سائرها كأصول الفقه وفروعه، فإن الشروع في جميعها يحتاج إلى تقديم شروعه حتى لا يكون الخائض فيها وإن كان مقلدا لأصولها كبان على غير أساس، وإذا سئل عما هو عليه لم يقدر على إيراد حجة أو قياس. وفي هذا الزمان لما انصرفت الهمم عن تحصيل الحق بالتحقيق، وزلت الأقدام عن سواء الطريق، بحيث لا يوجد راغب في العلوم ولا خاطب للفضيلة، وصارت الطباع كأنها مجبولة على الجهل والرذيلة، اللهم إلا بقية يرمون فيما يرومون رمية رام في ليلة ظلماء، ويخبطون فيما ينحون نحوه خبط عشواء، ولم تبق في الكتب التي يتداولونها من علم الأصول عيان ولا خبر، ولا من تمهيد القواعد الحقيقية عين ولا أثر، سوى كتاب المحصل الذي اسمه غير مطابق لمعناه، وبيانه غير موصل إلى دعواه، وهم يحسبون أنه في ذلك العلم كاف وعن أمراض الجهل والتقليد شاف. والحق أن فيه من الغث والسمين ما لا يحصى، والمعتمد عليه في إصابة اليقين بطائل لا يحظى، بل يجعل طالب الحق بنظره فيه كعطشان يصل إلى السراب، ويصير المتحير في الطرق المختلفة آيسا عن الظفر بالصواب، رأيت أن أكشف القناع عن وجوه أبكار مخدراته وأبين الخلل في مكامن شبهاته، وأدل على غثه وسمينه، وأبين ما يجب أن يبحث عنه من شكه ويقينه. وإن كان قد
6 اجتهد قوم من الأفاضل في إيضاحه وشرحه، وقوم في نقض قواعده وجرحه، ولم يجر أكثرهم على قاعدة الأنصاف ولم تخل بياناتهم عن الميل والاعتساف.. الخ. فكلماته المنبئة عما جرى على الناس من الزيغ والالتباس حتى اعتنوا على غير المحصل وبنوا كبان على غير أساس، تدلك على أن التجريد حرر بعد النقد نسخا للمحصل لتحصيل الحق بالتحقيق وإزهاق الباطل بالحقيق ووزان التجريد إلى المحصل وزان شرحه على كتاب إشارات الشيخ إلى شرحه عليه، فقد قال في أوله بما فعله بشرحه عليه ما هذا لفظه: فهو بتلك المساعي لم يزده إلا قدحا، ولذلك سمى بعض الظرفاء شرحه جرحا. والكتابان الكشف وشرح الخواجة على الإشارات قد تناولتهما أيادي أرباب العلوم العقلية في الأكناف، وتداولتهما ألسنة أصحاب التحصيل في الأطراف من زمن تأليفهما إلى الآن، وقد خلى أكثر من سبعة قرون، وهما سناما الكتب الدرسية من الكلامية والحكمة المشائية. ولم يأت أحد بعدهما مع طول العهد بتأليف يضاهيهما بل الكل يباهي بتعليمهما وتعلمهما، اللهم إلا بالتعليق الإيضاحي على طائفة من مسائلهما، أو الشرح التفصيلي عليهما. ثم لا يعجبني أن أصف لك ما كابدته طول مدد مديدة في عمل هذا الكتاب القيم حتى استقام على هذا النهج القويم. فكأنك تظن بالنظرة الأولى أنه تأليف جديد عرضناه عليك، ولكنه (كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد) للعلمين الآيتين على الإطلاق المحقق الطوسي والعلامة الحلي رضوان الله تعالى عليهما، وقد قيض الله سبحانه لنا وأنفذ إنقاذه من دياجير تحريفات مظلمة مشوهة موحشة ينبئك عنها عرضه على ما طبع منه من قبل أي طبع كان. ولما كان شهرة الكتاب وعظم شأنه وجلالة قدر ماتنه وشارحه المشتهرين في الآفاق قد أغنتنا عن الوصف والتعريف فإنما الحري بنا إراءة ما جرى على الكتاب وعمل فيه من جدد التصحيح بعون الهادي إلى الصواب، وهو ما يلي: أولا: أن أستاذنا العلامة الشعراني قدس سره الشريف كان شديد الاعتناء
7 بالتجريد وكشف المراد، فقد شرح آخر الأمر التجريد بالفارسية شرحا مجديا كثير الجدوى جدا، وهو مطبوع مستفاد. ولا أنسى إيصاءه لنا غير مرة في تضاعيف كلماته السامية في حضرته العالية بالعناية بذلك الكتاب المستطاب - أعني (كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد) - فقد اقتفينا أثره وأخذنا في سالف الزمان حين اشتغالنا في مدرسة المروي بطهران على واقفها التحية والرضوان، وقد مضى إلى الآن أكثر من خمس وعشرين سنة، في تدريسه وتصحيحه والتعليق عليه، فقد صححناه بقدر الإمكان وعلقنا عليه تعليقات وحواش من بدوه إلى ختمه، وقد استنسخها غير واحد من الفضلاء بعد الاطلاع عليها والإقبال إليها. وثانيا: كلما مست الحاجة في آونة دروسنا أو أثناء تأليفاتنا الحكمية والكلامية بل الرياضية إليه فحصنا مطالب البحث على التحقيق وزدنا عليها إضافات مما يليق وتصحيحات بما هو جدير وحقيق. وثالثا: قد حصلت لنا بتوفيق الله سبحانه مرة بعد أخرى عدة نسخ مخطوطة عتيقة وغير عتيقة من التجريد وشروحه من كشف المراد وشرح الإصبهاني وشرح القوشجي والشوارق وغيرها، فقد استفدنا منها لتصحيح الكتاب متنا وشرحا. ولكن لم يكن الكتاب بعد خاليا من الأغلاط والتحريف. وأما النسخ المطبوعة منه فكلها غير صالحة للاعتماد، وقد طبع بعضها من بعض بالتقليد، إلا أن بعضها أقل أغلاطا من الآخر من حيث الأغلاط المطبعية وهو كما ترى. ورابعا: قد بلغ التصحيح كماله وطلع كالبدر المنير جماله بما أقدمت مؤسسة النشر الإسلامي في دار العلم قم - زادها الله تعالى توفيقا في إحياء آثار الغابرين لنشر المعارف الإلهية - إلى طبع هذا السفر الكريم وإعادة نشره على الوجه الوجيه والنهج القويم، فقد بذلت جهدها لإنجازه وإنفاذه فهيأت عدة نسخ نفيسة عتيقة جدا من خزائنها القيمة من المكاتب العامة ثم فوضت ذلك الخطير إلى هذا الحقير فأصبح على وجه نرجو الله سبحانه أن يجعله مشكورا.
8 وتلك النسخ الآتي وصفها غير واحدة منها مصححة قراءة وقبالا، وتنميق بعضها يحاكي عهد التأليف والآخر ينادي قرب العهد منه، وكلها لسان واحد ناص على أن الكتاب متنا وشرحا قد ناله صرف الدهر، فكأنما فعل به ما فعل بالكلام العجمي في تضاعيف العربي بقولهم عجمي فالعب به ما شئت. فتبين لنا أولا أن ما جرى في سالف الأيام على كشف المراد للطبعة الأولى ثم على منوالها تبعتها طبعات أخرى هو أن نسخة من التجريد كانت عباراتها الوجيزة قد قيدت بكلمات وجمل كأنهما مأخوذتان من كشف المراد للتبيين والإيضاح فظن بها أنها نسخة أصيلة فجعلوها متنا، فليس المتن في المطبوع من كشف المراد - أي طبع كان - متنا ناصعا، بل الدخيل فيه ليس بأقل من الأصيل حتى أن المتن الذي آثره الأستاذ العلامة الشعراني روحي فداه في شرحه عليه ففي مواضع منه كلام ودغدغة. وثانيا: أن كشف المراد لما كان إلى الآن - وقد خلت من تأليفه قرون - كتابا متداولا للدراسة عند محصلي العلوم فكثرت عليه تعليقات للشرح والإيضاح إما بإيجاز وهو أكثر، وإما بإطناب وهو قليل، أدرج الحشو في الكشف فطبع الخليط مع الصريح. ومما يشهد بذلك أن كل نسخة لاحقة منه تحوي زوائد تخلو عنها سابقتها، على أن سياق العبارات وحده حاكم على الزيادات. وثالثا: قد حرفوا كثيرا من الأقاويل عن فحاويها، وعرفوا بإزائها الأباطيل في مجاريها كأن الناظر يظن في تمادي المس أن الكتاب قد أصابه دس. كما أنك ترى عبارة الماتن في مطاعن الثاني هكذا: وقضى في الحد بمائة قضيب، والصواب: وقضى في الجد مائة قضية، أي قضى في ميراث الجد بمائة حكم مختلفة، يعني أنه كان يتلون في الأحكام. وترى عبارة الشارح في المقام هكذا: أقول هذه مطاعن أخر وهو أن عمر لم يكن عارفا بأحكام الشريعة، فقضى في الحد بمائة قضيب، وروى تسعين قضيبا، وهو يدل على قلة معرفته بالأحكام الظاهرة.
9 والصواب: أقول هذه مطاعن أخر، وهو أن عمر غير عارف بأحكام الشريعة فقضى في الجد بمائة قضية، وروى تسعين قضية، وهذا يدل على قلة معرفته بالأحكام الظاهرة. وقد قال علم الهدى في الشافي (ص 256 ط 1) في عد مطاعن الثاني عن الكتاب المغني للقاضي عبد الجبار: قال صاحب الكتاب (يعني به القاضي المذكور في الكتاب المغني) وأحد ما نقموا عليه أنه كان يتلون في الأحكام حتى روي عنه أنه قضى في الجد بسبعين قضية، وروي مائة قضية.. الخ. وفي تلخيص الشافي لشيخ الطائفة (ص 438 ط 1) ومما طعنوا عليه أنه كان يتلون في الأحكام حتى روي أنه قضى في الجد سبعين قضية، وروي مائة قضية.. الخ. والمحقق الطوسي في إمامة التجريد ناظر إلى الشافي وتلخيصه كما يعلم بعرضه عليهما. وعلم الهدى وشيخ الطائفة من سلسلة مشايخه لأنه قرأ المنقول على والده محمد بن الحسن وهو تلميذ فضل الله الراوندي وهو تلميذ السيد المرتضى علم الهدى والشيخ الطوسي. ورابعا: قد وجدنا من أساليب عبارات بعض النسخ سيما في فصول الإمامة منه أن الكاتب كان من العامة وكلما كان مثلا ذكر اسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يكتب الكاتب بعده ذكر الصلوات على ما هو المتعارف بينهم، ثم رأينا نسخا أخرى كان ذكر الصلوات فيها بحيث اشتهر بين الإمامية أي صلى الله عليه وآله وسلم وهكذا الكلام في ذكر الوصي وسائر الأوصياء عليهم السلام وفي غير الوصي فتدبر. إعلم أنا لم نكتف باقتفاء السيرة من جعل نسخة أصلا وإماما ونقل اختلافات النسخ الأخرى في ذيل الصفحات، وهذا الدأب وإن لم يكن فيه بأس ولكن رأينا الأحرى منه أنه كلما أقبل أمر الاختلاف أن يرد إلى مآخذه الأصيلة التي يعلم بها ما يحسم به مادة الاختلاف، لأن كل فن له اصطلاحات خاصة يجب مراعاتها، فمن زاغ عنها فقد أزاغ. نماذج في ذلك:
10 ألف: في المسألة السابعة والثلاثين من الفصل الأول من المقصد الأول في تصور العدم كانت العبارة في النسخ المطبوعة من الكتاب هكذا: ويمكنه أن يقيسه إلى جميع الماهيات فيمكنه أن يلحظه باعتبار نفسه، فيتصور الذهن عدم نفسه، وكذلك يمكنه أن يلحظ نفس العدم. والصواب: ويمكنه أن ينسبه إلى جميع الماهيات فيمكنه أن يلحظه باعتبار نفسه فيتصور عدم الذهن نفسه، وكذلك يمكنه أن يلحقه نفس العدم. (ص 101). قوله (وكذلك يمكنه أن يلحقه نفس العدم) أي وكذلك يمكن الذهن أن يلحق العدم نفس العدم، فيكون يلحق من الإلحاق وكل واحد من العدم ونفس العدم منصوب على المفعولية. ب: في المسألة الثالثة والأربعين من ذلك الفصل في أن الحكم بحاجة الممكن إلى المؤثر ضروري، كانت العبارة هكذا: وتقرير السؤال أن الممكن لو افتقر إلى المؤثر لكانت مؤثرية المؤثر لكونها وصفا محتاجا إلى الموصوف ممكنا محتاجا إلى المؤثر في ذلك إن كانت وصفا ثبوتيا في الذهن. (ص 114). والصواب: وتقرير السؤال أن الممكن لو افتقر إلى المؤثر لكانت مؤثرية المؤثر في ذلك الأثر إن كانت وصفا ثبوتيا في ذلك. والعبارة الباقية تعليقة أدرجت في الكتاب، ثم حرفت عبارة الكتاب كي يستقيم ربط بعضها مع بعض، كما أن السياق ينادي بذلك أيضا. ج: في المسألة العاشرة من ثاني ذلك المقصد في أقسام الواحد، كانت العبارة عند قول الماتن والوحدة في الوصف العرضي.. الخ هكذا: أقول فإن الوصف العرضي. (ص 153). والصواب: أقول الوحدة في الوصف العرضي والذاتي تتغاير أسماؤها بتغاير المضاف إليه فإن الوصف العرضي. فقد أسقط من الكتاب سطر كامل. د: في أول المسألة الثانية من ثاني المقصد الثاني، قد أدرجت تعليقة في
11 الشرح تنتهي إلى صفحة كاملة من الكتاب فراجع (ص 241) وهكذا في شرح قوله (والهواء حار رطب.. الخ). قد أدرجت تعليقة في عبارة الشرح تنتهي إلى نصف صفحة (ص 246). ه: وفي آخر تلك المسألة (ص 248) في طبقات الأرض كانت العبارة هكذا: الخامس في طبقاتها وهي ثلاث: طبقة هي أرض محضة وهي المركز وما يقاربه، وطبقة طينية، وطبقة مخلوطة بغيرها، بعضها منكشف هو البر، وبعضها أحاط به البحر. والصواب: الخامس في طبقاتها وهي ثلاث: طبقة هي أرض محضة وهي المركز وما يقاربه، وطبقة طينية، وطبقة بعضها منكشف هو البر، وبعضها أحاط به البحر. كما في النسخ الأصلية المعتبرة الآتي ذكرها. عبارة الشيخ قدس سره في الشفاء كذلك: فيشبه لذلك أن تكون الأرض ثلاث طبقات: طبقة تميل إلى محوضة الأرضية، وتغشيها طبقة مختلطة من الأرضية والمائية وهو طين، وطبقة منكشفة عن الماء جفف وجهها الشمس وهو البر والجبل وما ليس بمنكشف فقد ساح عليه البحر. (ج 1 ص 227 ط 1). وعبارة القاضي زادة الرومي في شرحه على الملخص في الهيأة للجغميني هكذا: وهي - يعني بها العناصر - تسع طبقات في المشهور عند الجمهور كالأفلاك: طبقة الأرض الصرفة المحيطة بالمركز، ثم طبقة الطينية، ثم طبقة الأرض المخالطة التي تتكون فيها المعادن وكثير من النباتات والحيوانات، ثم طبقة الماء، ثم طبقة الهواء المجاور للأرض والماء.. الخ. (ص 18 من طبع الشيخ أحمد الشيرازي). و: في المسألة الثالثة عشرة من رابع المقصد الثاني في أنواع الإحساس، كانت عبارة الماتن في البصر هكذا: ومنه البصر، وهي قوة مودعة في العصبتين المجوفتين اللتين تتلاقيان وتتفارقان إلى العينين بعد تلاقيهما بتلك، ويتعلق بالذات بالضوء واللون. (ص 292). والصواب: ومنه البصر، ويتعلق بالذات بالضوء واللون.
12 والعبارات الباقية زيادة أدرجت في المتن. ز: المسألة الثالثة من مسائل المضاف في أن الإضافة ليست ثابتة في الأعيان (ص 258)، يعلم ما فيها من وجوه التحريف بمقابلتها مع النسخ الرائجة المطبوعة ولمزيد الاستبصار والاطمئنان راجع الشفاء (ج 2 ص 108 ط 1). ح: في المسألة السابعة من المقصد الثالث في نبوة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم (ص 480)، ترى تحريفات كثيرة يطول بذكرها الكلام، فليعلم أن راعي الغنم هو أهبان بن أوس. وفي منتهى الأرب: أهبان كعثمان صحابي بوده است. وفي الخصائص الكبرى للسيوطي: أهبان بن أوس (ج 2 ص 268 من طبع مصر، و ج 2 ص 61 من طبع حيدرآباد) وفي أسد الغابة أيضا (ج 1 ص 161). وكذلك العنسي بالعين المهملة المفتوحة والنون الساكنة، ففي الخصائص للسيوطي: الأسود العنسي (ج 2 ص 116 من طبع مصر) وكذلك العنسي من الأنساب للسمعاني. ط: في المسألة السادسة من المقصد الخامس في مطاعن الأول (ص 507) عند قوله (ولقوله إن له شيطانا يعتريه) كانت عبارة الشارح العلامة هكذا: أقول هذا دليل آخر على عدم صلاحيته للإمامة وهو قوله (إن لي شيطانا يعتريني) وهذا يدل على اعتراض الشيطان له.. الخ. والصواب: أقول هذا دليل آخر على عدم صلاحيته للإمامة وهو ما روي عنه أنه قال مختارا: وليتكم ولست بخيركم، فإن استقمت فاتبعوني، وإن اعوججت فقوموني، فإن لي شيطانا عند غضبي يعتريني، فإذا رأيتموني مغضبا فاجتنبوني لئلا أؤثر في أشعاركم وأبشاركم. وهذا يدل على اعتراض الشيطان له.. الخ. وهذه الزيادة موجودة في النسخ المخطوطة وإنما أسقطت من النسخ المطبوعة، ونحو هذا الدس على الكتاب كثير، وإنما التعرض بها ينجر إلى الإسهاب وراجع في ذلك تلخيص الشافي المذكور أيضا. (ص 415 ط 1). إعلم أن هذا الكتاب الكريم - أعني كشف المراد - مع عظم شأنه في الكلام
13 وإفصاحه عن حق المرام، وكانت دراسته طول قرون سائرة بين الأعلام، ودائرة بين طالبي الأيقان من أهل الاسلام، كأنه كاد أن يكون منسيا، وينحى عن الكتب الدرسية منحيا ومرميا، مع أنك لا تجد كتابا آخر في الكلام كان له بديلا، فأقول لك قاطعا: ليس هذا إلا لمكان فصول الإمامة فيه وقد توازرت أياد وازرة بأفواه منكرة وآراء فائلة على إنسائه فتبصر. وأنت ترى مؤلف الشرح القديم العامي الإصبهاني يصف التجريد أولا ثم يعزى المحقق الطوسي إلى العدول عن سمت الاستقامة في مباحث الإمامة، وهذا ما أتى به في أول كتابه بألفاظه: وقد صنف فيه - يعني في علم أصول الدين - مصنفات شريفة ومختصرات لطيفة من جملتها المختصر الموسوم بالتجريد المنسوب إلى المولى الأمام المحقق العلامة النحرير المدقق الحبر الفاخر والبحر الزاخر، المكمل علوم الأولين أفضل المتقدمين والمتأخرين سلطان الحكماء المتألهين نصير الملة والحق والدين مطاع الملوك والسلاطين محمد الطوسي كساه الله جلابيب رضوانه وأسكنه أعلى غرف جنانه، وهو صغير الحجم غزير العلم. يحتوي من الرقائق الأصولية على أسناها، وينطوي من الحقائق العلمية على أجلاها، يشتمل على بدائع شريفة وغرائب لطيفة، لكن لغاية الإيجاز نازل منزلة الألغاز فأشار إلى من طاعته فرض بأن أشرح له شرحا أحرر معاقده وأقرر قواعده وأشير إلى أجوبة ما أورد فيه من الشبهات خصوصا على مباحث الإمامة، فإنه قد عدل فيها عن سمت الاستقامة وسميته بتسديد العقائد في شرح تجريد القواعد. إنتهى ما أردنا من نقل كلامه ملخصا. ثم إن الكتاب بشهادة جميع نسخه والتذكرة الرجالية موسوم بتجريد الاعتقاد، فما ترى من تسمية شرحه بتسديد العقائد في شرح تجريد القواعد، وما أوجب العدول عن الاعتقاد بالقواعد فاحدس أن تحذلق فئة نكراء واقتفاء أغمار عمياء دار فيما أشرنا إليه من الإنساء. ولكن الله متم نوره ويهدي من يشاء. نعم قد نقل في الذريعة (ج 3 ص 354) أنه سماه: تسديد القواعد في شرح تجريد
14 العقائد، وسيأتي كلامنا فيه أيضا والله تعالى نسأل العصمة والسداد. ي: عبارة الشارح العلامة في مطاعن الثالث حيث يقول: واستعمل الوليد بن عقبة حتى ظهر منه شرب الخمر وصلى بالناس وهو سكران (ص 515) قد حرفت في بعض النسخ بالوليد بن عتبة. والوليد بن عقبة - بالقاف - هو الوليد بن عقبة بن أبي معيط بالتصغير وهو ممن أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه من أهل النار، فراجع مروج الذهب للمسعودي (ج 2 ص 343 ط مصر) وهو الذي ولاه عثمان أمور المسلمين. وأما الوليد بن عتبة - بالتاء - فهو الوليد بن عتبة بن ربيعة قتله أمير المؤمنين علي عليه السلام في غزاة بدر، فراجع سيرة ابن كثير (ج 2 ص 413 ط مصر). يا: في عبارات الشارح العلامة في إخبار أمير المؤمنين عليه السلام بالغيب كإخباره بقتل ذي الثدية (ص 531) تحريفات عجيبة تعلم بمقابلة هذه النسخة مع ما طبع من قبل، أي طبع كان، وراجع في ذلك مروج الذهب للمسعودي (ج 2 ص 417 ط مصر) أو مآخذ أخرى أصيلة. يب: عبارات الشارح العلامة في خبر الطائر والمنزلة والغدير (ص 535) محرفة جدا يعلم بالمقابلة، وهكذا في مواضع أخرى كثيرة ينجر التعرض بها إلى الإسهاب والخروج عن مقدمة الكتاب، وغرضنا كما قلنا أولا هو إراءة نماذج فيما جرى على ذلك الكتاب المستطاب. نسخ الكتاب: وأما النسخ التي هي أصول مصادر تصحيح الكتاب ومآخذه فهي ما يلي: 1 - نسخة فريدة مصورة من أصلها المحفوظ في خزانة مكتبة المجلس بطهران، وهذه النسخة النفيسة القيمة هي أقدم الأصول المعتبرة التي آثرناها واعتمدنا عليها في تصحيح كشف المراد، وقد نال عدة مواضع منها صرف الدهر فكتبت ثانيا، منها صحيفة آخر الكتاب حيث نمقت كرة أخرى وتنتهي بهذه
15 العبارات: قد عمرت وأتممت وفتنت من نسخة العالم الأستاذ العالم الرباني مولانا محمد باقر المجلسي طالبا لوجه الله الغني في أوان أتوطن في المدرسة السليمانية وأشتغل مع تشتت الحال وتراكم الأشغال في سنة تسع وتسعين بعد ألف من الهجرة.. الخ. والنسخة وإن كانت بتراء ولا تاريخ لكتابتها الأولى، لكن أسلوبها لسان ناص على أنها باقية من عهد تأليفها وقد صينت من حوادث الدهور. وحرف (م) جعلناه علامة لها، أي النسخة المؤثرة. وتضاعيفها حاكية على أن كاتبها الأول لم يكن من الإمامية. والنسخة على رغم قدمها لم تكن مقروة على نسخة مصححة ولا قوبلت بها ولا يرى فيها أثر الإجازة في القراءة على الوجوه المأثورة من السلف الصالح، ولذا لا تخلو من الإسقاط والأغلاط. والعجب أن رسم خطها على الرسم الدارج الآن في مملكة تونس، كما أن رسم القرآن الكريم المطبوع التونسي يضاهي رسمها ويحاكيه. 2 - نسخة عتيقة فريدة من تجريد الاعتقاد فقط، وهي أقدم نسخة رأيناها من تجريد الاعتقاد حتى تفوه بأنها من خط المحقق الطوسي قدس سره لما كتب في آخرها هكذا: خط خواجة نصير. ولكن النسخة قوبلت وصححت بعد الكتابة ثانيا وبلغ تصحيحها ومقابلتها إلى قريب من النصف ولم يتم، وتوجد في نصفه الثاني أغلاط وأسقاط أيضا، فحصل لنا القطع بأنها ليست من خطه ولكنها كالأولى باقية من عهد تأليفها أو قريبة العهد منه، وهي ومتن الأولى متطابقتان إلا نادرا، ولذا كانت النسخة في تصحيح المتن عونا جدا بل الحق أن تصحيح تجريد الاعتقاد بتلك النسخة بلغ كماله. والأسف أنها - مع كونها كاملة - فاقدة للتاريخ، وقد بقي أثر من خط في آخر الصفحة بعد تمام النسخة قد محي أكثره وكأنما أصابه ماء وكتب في جانبه الأيمن هذه العبارة: (خط خواجة نصير) فلا يبعد أن تكون هذه العبارة - أعني خط خواجة نصير - ناظرة إليه وقد أمضاه كما كان من سيرة السلف، أو الخط الآخر من هذه النسخة وهو خط الخواجة قدس سره أمضاه بذلك كما هو
16 أيضا كان من دأب علمائنا الغابرين، ولنا نسخة من كتاب مصائب النواصب في الرد على كتاب النواقض لبعض العامة مما صنفه الشهيد القاضي نور الله الحسيني المرعشي الشوشتري رفع الله درجاته وآخرها ثلاثة أسطر ونصف من خطه الشريف. وكيف كان فالنسخة مصورة من أصلها المحفوظ في مكتبة المجلس بطهران. وحرف (ت) علامة لها، أي تجريد الاعتقاد. والنسخة مكتوبة بخط واحد على كمالها، ومزدانة بتعليقات موجزة مفيدة عليها. 3 - نسخة مصورة من أصلها المصون في المكتبة المركزية بطهران تحت رقم 1865، تاريخ كتابتها 851 ه. ق وهي نسخة كاملة مصححة مقروة مزدانة بعلامة القراءة من البدء إلى الختم بهذه العبارة: (بلغت قراءة أبقاه الله تعالى) إلا أن رسم خطها ليس بحسن بل نازل ردئ جدا وإنما يمكن قراءة أكثر مواضعها بالعرض على نسخ أخرى وتتم النسخة بما كتبه كاتبها هكذا: وفرغ من كماله أضعف العباد وأحوجهم إلى رحمة الله محمد بن علي بن ناصر العينعاني عفا الله عنه وعمن نظر فيه ودعا له بالمغفرة ولسائر المؤمنين، وذلك في سلخ شهر رمضان المعظم من شهور سنة 851، إحدى وخمسين وثمانمائة هجرية نبوية على هاجرها أفضل الصلاة والسلام، أيها الناظرون في رسم خطي أعذروني.. الخ. والنسخة مكتوبة بخط واحد، مصونة على هيئتها الأولى من غير عروض عارض عليها. وجعلنا حرف (ص) علامة لها تدل على صحتها. وهذه النسخة الكريمة القيمة تطابق الأوليين متنا وشرحا وقلما يوجد اختلاف. 4 - نسخة مصورة من أصلها المحفوظ في خزانة مكتبة آية الله المرعشي دامت بركاته الوافرة في دار العلم قم صينت في حصن واليها ووليها بقية الله قائم آل محمد أرواحنا فداه تحت رقم 727، وهذه الصحيفة الثمينة مزدانة من بدئها إلى ختمها بعلامة القراءة بهذه العبارة (بلغت قراءة أبقاه الله) وفي موضع (أعز الله
17 نصره) وفي آخر (أيده الله) وفي آخر (أدام الله بقاءه) وفي آخر (بلغ) فقط وتاريخ كتابتها 731 ه. ق. وعبارة الكاتب في آخرها هكذا: فرغت من تسويده يوم السبت وقت الظهر لخمس بقين من شهر ربيع الآخر سنة إحدى وثلاثين وسبع مائة. ولفظة (ق) جعلناها علامة لها. ومن محاسن هذه النسخة أن كل كلمة كررت في العبارة كتبت فوق الثانية منها لفظة (صح) حتى لا تتوهم أن الثانية زائدة، مثلا في آخر المسألة الثالثة من أول الكتاب يقول الشارح العلامة: وتقرير الجواب أن نقول الوجود قائم بالماهية من حيث هي هي لا باعتبار كونها موجودة ولا باعتبار كونها معدومة، فمكتوبة فوق كلمة (هي) الثانية لفظة (صح). ونظائره في الكتاب كثيرة، وهذه السيرة الحسنة كانت جارية معمولا بها بين علمائنا السلف في قراءة الروايات وصحف الأدعية المأثورة عن وسائط الفيض الإلهي صلوات الله عليهم، حيث إن كل كلمة كانت قراءتها مروية على وجهين كانوا يعربونها مشكولة على الوجهين ثم يكتبون فوقها لفظة (معا) تدل على رواية القراءتين معا، كما لا يخفى على العارف بها. لكن الأسف أن النسخة قد ناولتها أيادي الآفات فسقطت منها مواضع كثيرة ثم كتبت وكملت ثانيا لا تضاهي الأول بوجه، وأواسطها ساقطة تنتهي إلى خمسين صفحة من تلك النسخة وبقيت كما كانت على حالها ولم تكمل بعد. ومما ينبغي أن يشار إليه في المقام أن سائر النسخ في المسألة الأولى من ثاني المقصد الثاني في البحث عن الأجسام الفلكية تحوز زيادة، وهذه النسخة خالية عنها، وليس الخلو بإصابة آفة أو إزالة مزيل بل النسخة من أصلها هكذا. ولا يبعد أن كانت الزيادة حاشية أدرجت في الشرح وزادت في النسخ الأخرى، وكم لها من نظير في هذا الكتاب، ولكن لما كانت النسخة بذلك الخلو متفردة لم نسقطها وأبقيناها على وزان سائر النسخ. وعبارة هذه النسخة في المقام هي هكذا:
18 قال: خالية من الكيفيات الفعلية والانفعالية ولوازمها. أقول: هذا حكم آخر للأفلاك، وهو أنها غير متصفة بالكيفيات الفعلية - أعني الحرارة والبرودة وما ينسب إليهما - ولا الكيفيات الانفعالية - أعني الرطوبة واليبوسة وما ينسب إليهما - وغير متصفة بلوازمها - أعني الثقل والخفة - قال شفافة. أقول: استدلوا على شفافية الأفلاك بوجهين.. الخ. وأما العبارات الباقية كما تراها في الكتاب فتلك النسخة عارية عنها. واعلم أن هذه النسخ الأربع هي الأصول الأولية لنا في تصحيح الكتاب. وكل واحدة منها وإن كانت لا تخلو من أسقاط وأغلاط لكنها معا تعطي نسخة كاملة منقحة غاية التنقيح ألا وهي هذه الطبعة التي بين يديك. 5 - نسخة مصورة من أصلها المحفوظ في مكتبة المجلس بطهران أيضا تحت رقم 530 / 14310 مكتوبة بعدة خطوط قديمة وحديثة تدل على أنها قد تداولتها أيادي الآفات، على أن ما صينت منها عارية عن إجازة القراءة ونحوها، والظاهر أن تاريخ كتابتها من القرن السابع أو الثامن. وفي ظهر صحيفته الأولى مكتوبة تارة هكذا: في نوبة المفتقر إلى الله الواحد عبده إبراهيم بن راشد بن يوسف بن محمد سنة خمس وخمسين وتسعمائة. وأخرى هكذا: من عواري الزمان عند العبد المذنب الجاني حيدر علي بن عزيز الله المجلسي الأصفهاني. ثم مختوم بخاتمه ونقشه: عبده حيدر علي. وجعلنا حرف (د) علامة لها. 6 - نسخة مصورة من أصلها المحفوظ في الشعبة الإلهية من جامعة المشهد الرضوي عليه السلام تحت رقم 452. والنسخة كاملة مكتوبة بخط واحد، مزدانة بتعليقات، وتاريخ كتابتها 1089 ه. ق. وآخرها مكتوبة هكذا: وقع الفراغ من تحرير هذا الكتاب في أواخر شهر محرم الحرام سنة سبعين وسبعمائة 770 على يد أضعف عباد الله علي بن الحسن. كذا في نسخة كتبت هذه النسخة منها.
19 وبعد عبارة الفوق كتب كاتب هذه النسخة في ذيل الصفحة هكذا: هو الموفق قد شرف بتكتيب هذه النسخة الشريفة - إلى قوله: - في شهور سنة تسع وثمانين بعد الألف هجرية.. الخ. وحرف (ش) علامة لها. والنسخة أيضا عارية عن إجازة القراءة ونحوها، إلا أن في آخرها مكتوبة في هامشها الوحشي: بلغ قبالا. وصورة رسم هذه الجملة - أعني بلغ قبالا - تضاهي رسم خط الكتاب، بل الكاتب واحد ولا دغدغة فيه. والنسخة متفردة بحسن الخط. 7 - نسخة مصورة من أصلها المصون في المكتبة المركزية بطهران تحت رقم 1869، وتاريخ كتابتها 1093 ه. ق. والنسخة مكتوبة بخط واحد وعليها تعليقات. ويتم آخرها بما حرره الكاتب بقوله هكذا: وقد وفق الله سبحانه وتعالى العبد الحقير الجاني علي بن أحمد بن سليمان البلادي البحراني لنفسه ولمن شاء الله من بعده في مدة آخرها اليوم الثاني والعشرين في شهر جمادى الآخر من السنة الثالثة والتسعين وألف وصلعم. والنسخة عارية أيضا عن إجازة القراءة ونحوها. وحرف (ز) علامة لها. إعلم أن هذه النسخ الثلاث وإن لم تكن في رتبة الأربع الأولى ولكنها كانت كالمتممة في تصحيح الكتاب واستفدنا منها كثيرا. ثم تلي النسخ المذكورة عدة نسخ أخرى مخطوطة مما يتعلق بالراقم، من تجريد الاعتقاد وكشف المراد وشرح الإصبهاني المعروف بالشرح القديم والمسمى بتسديد العقائد في شرح تجريد القواعد وشرح القوشجي المعروف بالشرح الجديد وشرح اللاهيجي المسمى بشوارق الإلهام، وقد راجعناها في مواضع اللزوم، وهكذا كثير من الكتب الحكمية والكلامية كالشفاء والأسفار والمواقف وشرح المقاصد وغيرها مما استفدنا منها في مواضع الحاجة لتصحيح الكتاب.
20 تبصرة: قال محي آثار الإمامية مؤلف الذريعة رضوان الله تعالى عليه في الجزء الثالث منه في عنوان تجريد الكلام ما هذا لفظه: تجريد الكلام في تحرير عقائد الاسلام لسلطان الحكماء والمتكلمين خواجة نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي المتوفى سنة 672 هو أجل كتاب في تحرير عقائد الإمامية، أوله: أما بعد حمد واجب الوجود على نعمائه.. فإني مجيب إلى ما سئلت من تحرير مسائل الكلام وترتيبها على أبلغ نظام - إلى قوله: - وسميته بتحرير العقائد ورتبته على ستة مقاصد. فيظهر منه أنه سماه تحرير العقائد لكنه اشتهر بالتجريد.. الخ. (ج 3 ص 352). أقول: ما أدى إليه نظره الشريف من تسمية الكتاب بتحرير العقائد، وإن كان يؤيده عمل السلف والخلف من تأليف الكتاب باسم التحرير كتحرير الأحكام الشرعية على مذاهب الإمامية للشارح العلامة وسيما عدة تحريرات أصول رياضية من الأوليات كتحرير أصول إقليدس والمتوسطات كتحرير اكرمانا لاؤس إلى النهايات كتحرير المجسطي، ولكن النسخ المذكورة الأصلية كلها ناصة من غير التباس على قوله: وسميته بتجريد الاعتقاد، أو: وسمته بتجريد الاعتقاد، حتى أن النسخة الأولى بل أكثر النسخ صريحة على التجريد في قوله أولا: فإني مجيب إلى ما سئلت من تجريد مسائل الكلام. على أن تسمية العلامة شرحه بكشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد وهو تلميذه، وكذلك كلام الخواجة تسجيعا: وسميته بتجريد الاعتقاد والله أسأل العصمة والسداد وأن يجعله ذخرا ليوم المعاد، وكذلك تسمية شمس الدين الإسفرايني شرحه بتعريد الاعتماد في شرح تجريد الاعتقاد كلها ينادي بأن الكتاب موسوم بتجريد الاعتقاد، لا تجريد العقائد أو القواعد كما في نسخة من الشرح القديم متعلقة بنا.
21 وليكن هذا آخر ما رأينا تقديمه في المقدمة، وكان شروعنا في التصحيح الجديد في السادس عشر من شهر الله المبارك من شهور سنة 1403 من الهجرة النبوية على هاجرها آلاف التحية والثناء، وقد حصل الفراغ منه في غرة شعبان المعظم من سنة 1404 ه. ق. دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين. الخامس من شهر الله المبارك من عام 1404 ه. ق المصادف ل 15 / 3 / 1363 ه. ش. قم حسن حسن زاده الآملي
22 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله القاهر سلطانه العظيم شأنه الواضح برهانه العام إحسانه (1) الذي أيد العباد بمعرفته وهداهم إلى حجته ليفوزوا بجزيل الثواب العظيم المخلد، ويخلصوا من العقاب الأليم السرمد، وصلى الله على أكمل نفس إنسانية وأزكى طينة عنصرية محمد المصطفى، وعلى عترته الأبرار وذريته الأخيار وسلم تسليما. أما بعد، فإن كمال الانسان أنما هو بحصول المعارف الإلهية، وإدراك الكمالات الربانية، إذ بصفة العلم يمتاز عن عجم الحيوانات، ويفضل على الجمادات، ولا معلوم أشرف من واجب الوجود تعالى، فالعلم به أكمل من كل
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله مفيض الكلم والحكم، وصلى الله على الاسم الأعظم سيد ولد آدم، وآله المصطفين على العرب والعجم. وبعد، فيقول العبد الحسن بن عبد الله الطبري الآملي (المدعو بحسن زاده آملي): هذه نبذة من تعليقاتنا على (كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد) مما أفاضها رب ن والقلم علينا وهدانا إليها حينما قيض لنا تدريس معانيه والتحقيق حول مبانيه، وهو سبحانه ولي التوفيق وبيده أزمة التحقيق. ونشير في أثنائها إلى بعض ما في النسخ من اختلاف العبارات التي ينبغي أن يعتنى بها. (1) كما في (م) وفي (ص): الغامر إحسانه، والظن المتاخم بالعلم في رسم خطوط النسخ أن أسلوب رسم الخط أوجب توهم تبديل العام بالغامر. وقوله: وطلب الحق بالتعيين، وفي عدة نسخ: وطلب الحق باليقين. وقوله: سالكا جدد التدقيق، وفي نسخ: سالكا جدد التوفيق. 23 مقصود، وإنما يتم بعلم الكلام فإنه المتكفل بحصول هذا المرام، فوجب على كل مكلف من أشخاص الناس الاجتهاد في إزالة الالتباس بالنظر الصحيح في البراهين، وطلب الحق بالتعيين، ووجب على كل عارف من العلماء إرشاد المتعلمين وتسليك الناظرين، وقد كنا صرفنا مدة من العمر في وضع كتب متعددة في هذه العلوم الجليلة وإحراز هذه الفضيلة، والآن حيث وفقنا الله تعالى للاستفادة من مولانا الأفضل العالم الأكمل نصير الملة والحق والدين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي قدس الله تعالى روحه الزكية في العلوم الإلهية والمعارف العقلية، ووجدناه راكبا نهج التحقيق سالكا جدد التدقيق، معرضا عن سبيل المغالبة، تاركا طريق المغالطة تتبعنا مطارح أقدامه في نقضه وإبرامه، ولما عرج إلى جوار الرحمن ونزل بساحة الرضوان، وجدنا كتابه الموسوم بتجريد الاعتقاد قد بلغ فيه أقصى المراد، وجمع جل مسائل الكلام على أبلغ نظام، كما ذكر في خطبته وأشار في ديباجته، إلا أنه أوجز ألفاظه في الغاية وبلغ في إيراد المعاني إلى طرف النهاية، حتى كل عن إدراكه المحصلون، وعجز عن فهم معانيه الطالبون، فوضعنا هذا الكتاب الموسوم بكشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد موضحا لما استبهم من معضلاته، وكاشفا عن مشكلاته، راجيا من الله تعالى جزيل الثواب وحسن المآب إنه أكرم المسؤولين (1)، عليه نتوكل وبه نستعين. قال: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد حمد واجب الوجود على نعمائه والصلاة على سيد أنبيائه محمد المصطفى وعلى أكرم أمنائه (2) فإني مجيب إلى ما سئلت من تحرير مسائل الكلام (3) وترتيبها على أبلغ نظام مشيرا إلى غرر فوائد
(1) وفي (م) وحدها: أكرم مسؤول، بالأفراد. (2) أي على علي أكرم أمنائه، ولا يعاد الجار في المعطوف على المجرور الظاهر، ويؤيده ما يوجد في بعض النسخ من التصريح باسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. (3) كما في (ص ق د ت) والنسخ الباقية: من تجريد مسائل الكلام. واعلم أنه حكي عن مالك وأحمد بن حنبل بل الشافعي وجميع أصحاب الحديث، النهي عن علم الكلام، وقالوا: إنه بدعة. فكان هذا العلم في الصدر الأول عند المتشرعين بمنزلة الفلسفة في العصر الأخير، وقد أفرط في ذلك كثير ممن تأخر كابن حزم وابن تيمية والمتعصبين لمذهب السلف من بعده، حتى أنهم ينكرون التلفظ بمصطلحات علم الكلام كالجسم والجوهر والعرض والتحيز والمكان وأمثال ذلك. والحق أن تقييد فكر الانسان بغل الجمود خلاف فطرة الله تعالى التي خلق الناس عليها. وكما لم يتوقف النحو والعروض والأدب، بل اصطلاح المحدثين والقراء على ما كان عليه السلف بل زاد وتفنن وتفرق كذلك اصطلاح الكلام والأصول. قالوا: لم يبحث السلف عن الصفات وأنه عين ذاته أو غيره، ولم يتكلموا في أنه تعالى جسم أو جوهر أو متحيز أو علة تامة أو ناقصة، وليس في كلامهم هيولي وصورة ولا نفس وأمثال ذلك. نقول: كما أنهم لم يبحثوا عن أسناد الحديث أنه مسلسل أو مرفوع أو مقطوع أو مرسل، ولم يتكلموا في موانع صرف الاسم أنها تسع، ولم يتكلموا في تواتر القراءات والاكتفاء بالسبع أو العشر، بل لم نر لفظ التجويد في كلام السلف، ولا أقسام الوقف التام والكافي، فإذا جازت زيادة الاصطلاح في ذلك جاز في الكلام والأصول، إلا أن يقال: إن ذاك سهل نفهمه، والكلام أو الأصول دقيق لا نفهمه، فالإيراد على قصور الفهم لا على المعنى. ولم نر في أمة ولا طائفة من يجوز أن يجتمع سفهاؤهم ويمنعوا عقلاءهم عن التدبر في أمور لا يفهمونها، ولم يوجب أحد أن يكون الكلام والفكر منحصرا فيما يفهمه جميع الناس من العامة والخاصة لأن في ذلك إبطالا لجميع العلوم. ونظير ذلك الأخباريون منا، فإنهم يستبشعون اصطلاحات الأصول كالاستصحاب وأصل البراءة، ولا يستبشعون المناولة والوجادة والمدابجة في اصطلاح المحدثين مع أنها لم تكن معهودة بين أصحاب الأئمة عليهم السلام. هذا ما أفاده الأستاذ العلامة الشعراني قدس سره في تعليقته على شرح الكافي للمولى صالح المازنداني (ج 3 ص 198 ط 1). 24 الاعتقاد ونكت مسائل الاجتهاد، مما قادني الدليل إليه وقوى اعتقادي عليه وسميته (1) بتجريد الاعتقاد، والله أسأل العصمة والسداد وأن يجعله ذخرا ليوم المعاد، ورتبته على مقاصد:
(1) وفي (م): ووسمته، قد تقدم كلامنا حول التجريد في تبصرة آخر المقدمة فراجع. ثم يعاضد ما حققناه هناك تسميته كتابه في المنطق بالتجريد وكلامه في أوله: وبعد فإنا أردنا أن نجرد أصول المنطق، وكذا تسمية الشارح العلامة شرحه عليه بالجوهر النضيد في شرح كتاب التجريد. 25 المقصد الأول في الأمور العامة (1) وفيه فصول:
(1) أي في ما لا يختص بقسم من أقسام الموجودات سواء كانت شاملة لجميعها كالوجود والوحدة، أو لا كالإمكان الخاص والوجوب بالغير، فإن الأولين شاملان للواجب والجوهر والعرض، والأخيرين للأخيرين، وبحثها المستوفى يطلب في المطولات كالفصل الأول من أولى الأسفار. 27 الفصل الأول في الوجود والعدم وتحديدهما بالثابت العين والمنفي العين أو الذي يمكن أن يخبر عنه ونقيضه (1) أو بغير ذلك يشتمل على دور ظاهر. أقول: في هذا الفصل مسائل مهمة جليلة، هذه أولاها وهي أن الوجود والعدم لا يمكن تحديدهما. وأعلم أن جماعة من المتكلمين والحكماء حدوا الوجود والعدم، أما المتكلمون فقالوا: الموجود هو الثابت العين، والمعدوم هو المنفي العين. والحكماء قالوا: الموجود هو الذي يمكن أن يخبر عنه، والمعدوم هو الذي لا يمكن أن يخبر عنه، إلى غير ذلك من حدود فاسدة لا فائدة في ذكرها، وهذه الحدود كلها باطلة لاشتمالها على الدور، فإن الثابت مرادف للموجود، والمنفي للمعدوم، ولفظة (الذي) إنما يشار بها إلى متحقق ثابت، فيؤخذ الوجود في حد نفسه. قال: بل المراد تعريف اللفظ إذ لا شئ أعرف من الوجود (2).
(1) أي نقيض الذي يمكن أن يخبر عنه، وذلك النقيض هو الذي لا يمكن أن يخبر عنه. وهو تعريف للمعدوم. وقوله: أو بغير ذلك، مثل قولهم: الموجود هو الذي يكون فاعلا أو منفعلا، أو الذي ينقسم إلى الفاعل والمنفعل، أو ينقسم إلى الحادث والقديم، والمعدوم على خلافها. (2) لا شئ أعرف من الوجود إذ لا معنى أعم منه، والأعم لكون شروطه ومعانداته أقل يناسب جوهر النفس الناطقة البسيطة، كما أن كل قوة مدركة تجانس مدركها، وحكم المجانسة بين الغذاء والمغتذي سار في كل واحدة منهما، لذا قال الشيخ في إلهيات الشفاء (ج 2 ص 75 ط 1): يشبه أن تكون الكثرة أعرف عند تخيلنا، والوحدة أعرف عند عقولنا. وفي الحكمة المنظومة للمتأله السبزواري (ص 103): وسر أعرفية الأعم سنخية لذاتك الأتم ووحدة عند العقول أعرف وكثرة عند الخيال أكشف واعلم أن التعبير عن متن الأعيان وحقيقة الحقائق وجوهر الجواهر عسير جدا، والتعبير عنه بالوجود تعبير عن الشئ بأخص أوصافه الذي هو أعم المفهومات، إذ لو وجد لفظ يكون ذا مفهوم محصل أشمل من ذلك وأبين لكان أقرب إليه وأخص به، وكان ذلك هو الصالح لأن يعبر به عنه. ولما لم يكن بين الألفاظ المتداولة لفظ أحق من الوجود إذ معناه أعم المفهومات حيطة وشمولا وأبينها تصورا وأقدمها تعقلا وحصولا، اختاروه وعبروا به عنه. ويعبرون عنه بالحق أيضا فالوجود هو الحق، وإن شئت قلت: الوجود من حيث هو هو، هو الحق سبحانه، والوجود الذهني والخارجي والأسمائي ظلاله. فالوجود هو عين كل شئ في الظهور، ما هو عين الأشياء في ذواتها، سبحانه وتعالى بل هو هو، والأشياء أشياء، فتدبر. والخوض غير حري بالمقام. وينبغي ها هنا الفرق بين المفهوم والعين، والتوجه إلى عدم المناسبة بين المتناهي وغير المتناهي. والمطلق ومقيده، وإن كان كل واحد من المطلق والمقيد مرآة للآخر بوجه، فافهم. 29 أقول: لما أبطل تحديد الوجود والعدم، أشار إلى وجه الاعتذار للقدماء من الحكماء والمتكلمين في تحديدهم له، فقال: إنهم أرادوا بذلك تعريف لفظ الوجود، ومثل هذا التعريف سائغ في المعلومات الضرورية، إذ هو بمنزلة تبديل لفظ بلفظ أوضح منه (1)، وإن لم تستفد منه صورة غير ما هو معلوم عند التحديد، وإنما كان كذلك لأنه لا شئ أعرف من الوجود، إذ لا معنى أعم منه. قال: والاستدلال (2) بتوقف التصديق بالتنافي عليه، أو بتوقف الشئ على
(1) أي لا يكون تعريفا معنويا، كما يأتي في المسألة السابعة من الفصل الثاني من هذا المقصد. والماتن والشارح ناظران في المقام إلى الفصل الخامس من المقالة الأولى من إلهيات الشفاء (ج 2 ط 1 ص 27) فراجع. (2) مبتدأ وخبره باطل وبالتنافي عليه، أي بالتنافي بين الوجود والعدم، وعليه صلة للتوقف كتاليه، والضمير راجع إلى الوجود أي على تصور الوجود. 30 نفسه، أو عدم تركيب الوجود مع فرضه أو إبطال الرسم باطل. أقول: ذكر فخر الدين (1) في إبطال تعريف الوجود وجهين، والمصنف رحمه الله لم يرتض بهما، ونحن نقررهما ونذكر ما يمكن أن يكون وجه الخلل فيهما. الأول: أن التصديق بالتنافي بين الوجود والعدم بديهي، إذ كل عاقل على الإطلاق يعلم بالضرورة أنه لا يمكن اجتماع وجوده وعدمه، والتصديق متوقف على التصور، وما يتوقف عليه البديهي أولى بأن يكون بديهيا فيكون تصور الوجود والعدم بديهيا. الثاني: أن تعريف الوجود (2) لا يجوز أن يكون بنفسه وإلا دار، ولا بأجزائه
(1) ويقال له الإمام فخر الدين الرازي، وفي تاريخ ابن خلكان هو أبو عبد الله محمد بن عمر الطبرستاني الرازي المولد الملقب فخر الدين المعروف بابن الخطيب الفقيه الشافعي له التصانيف المفيدة في علوم عديدة، توفي سنة 606 ه (ج 2 ص 48 ط 1). (2) تقريره على ما في شرح المقاصد أن الوجود معلوم بحقيقته، وحصول العلم به إما بالضرورة، أو الاكتساب، وطريق الاكتساب إما بالحد أو الرسم. والوجود يمتنع اكتسابه أما بالحد فلأنه أنما يكون للمركب والوجود ليس بمركب، وإلا فأجزاؤه إما وجودات أو غيرها. فإن كانت وجودات لزم تقدم الشئ على نفسه ومساواة الجزء للكل في تمام ماهيته، وكلاهما محالان. أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأن الجزء داخل في ماهية الكل وليس بداخل في نفسه. وهذا اللزوم بناء على أن الوجود المطلق الذي فرض التركيب فيه ليس خارجا عن الوجودات الخاصة، بل إما نفس ماهيتها ليلزم الثاني، أو مقوم لها ليلزم الأول، وإلا فيجوز أن تكون الأجزاء وجودات خاصة هي نفس الماهيات، أو زائدة عليها، والمطلق خارج عنها، فلا يلزم شئ من المحالين. وإن لم تكن الأجزاء وجودات، فأما أن يحصل عند اجتماعها أمر زائد يكون هو الوجود، أو لا يحصل. فإن لم يحصل كان الوجود محض ما ليس بوجود وهو محال، وإن حصل لم يكن التركيب في الوجود الذي هو نفس ذلك الزائد العارض بل في معروضه هف، إلى أن قال: وأما بالرسم فلما ثبت في موضعه من أنه إنما يفيد بعد العلم باختصاص الخارج بالمرسوم، وهذا متوقف على العلم به وهو دور، وبما عداه مفصلا وهو محال.. الخ. أقول: ما أتى به الشارح المذكور أولى من تقرير ما في الكتاب، لأن الكلام في تركيب الوجود ليس معنونا فيه، وإن كان يستفاد منه بدقة النظر أن البحث ينجر إلى أن التركيب في قابل الوجود أو فاعله لا فيه. 31 لأن تلك الأجزاء إن كانت وجودات لزم تعريف الشئ بنفسه، وإن لم تكن وجودات فعند اجتماعها إن لم يحصل أمر زائد، كان الوجود محض ما ليس بوجود هذا خلف، وإن حصل أمر زائد هو الوجود، كان التركيب في قابل الوجود أو فاعله لا فيه (1)، ولا بالأمور الخارجة عنه (2)، لأن الخارجي أنما يصلح للتعريف لو كان مساويا للمعرف، لأن الأعم لا يفيد التمييز الذي هو أقل مراتب التعريف، والأخص أخفى، وقد حذر في المنطق عن التعريف به، لكن العلم بالمساواة يتوقف على العلم بالماهية فيلزم الدور. وهذان الوجهان باطلان، أما الأول فلأن التصديق البديهي لا يجب أن تكون تصوراته بديهية، لما ثبت في المنطق من جواز توقف البديهي من التصديقات على التصور الكسبي، سلمنا لكن جاز أن يكون التصور للمفردات ناقصا، أي يكون معلوما، باعتبار ما من الاعتبارات، وذلك يكفي في باب التصديقات، ويكون المراد من الحد حصول كمال التصور. وأما الثاني فلأن ما ذكره في نفي تركيب الوجود عائد في كل ماهية مركبة على الاطلاق (3) وهو باطل بالضرورة، سلمنا لكن جاز التعريف (4) بالخارجي، وشرطه المساواة في نفس الأمر لا العلم بالمساواة، فالناظر في اكتساب الماهية إذا عرض على ذهنه (5) عوارضها فاستفاد من بعضها، تصور تلك الماهية علم بعد ذلك
(1) قابل الوجود هو الأجزاء التي هي معروضات الوجود، والتعبير بالفاعل أو القابل باعتبارين ظاهرين. قوله: لا فيه، أي لا في الوجود لأن الوجود حينئذ هو الأمر الزائد العارض على معروضاته وهي الأجزاء، وذلك الزائد واحد ليس بمركب. (2) بيان لإبطال الرسم، عطف على قوله: بنفسه وإلا دار، أي ولا بالأمور الخارجة عن الوجود. (3) مثلا أن يقال: أجزاء البيت إما بيوت وهو محال، وإما غير بيوت وحينئذ إما أن يحصل عند اجتماعها أمر زائد هو البيت فلا يكون التركيب في البيت هف، أو لا يحصل فيكون البيت محض ما ليس ببيت. (4) جواب لإبطال الرسم، أي إنا نختار اكتسابه بالرسم ولا ضير فيه. (5) وفي (م، ص) إذا أعرض على ذهنه. 32 أن ذلك العارض مساو لها، ثم يفيد غيره تصورها (1) بذكر ذلك العارض ولا دور في ذلك، سلمنا لكن العلم بالمساواة لا يستلزم العلم بالماهية من كل وجه، بل من بعض الوجوه على ما قدمناه (2)، ويكون الاكتساب لكمال التصور، فلا دور حينئذ. المسألة الثانية في أن الوجود مشترك قال: وتردد الذهن حال الجزم بمطلق الوجود واتحاد مفهوم نقيضه وقبوله القسمة يعطي اشتراكه (3). أقول: لما فرغ من البحث عن ماهية الوجود، شرع في البحث عن أحكامه،
(1) أي يفيد الناظر، فالكلمتان منصوبتان على المفعولية. (2) وهو قوله: جاز أن يكون التصور للمفردات ناقصا.. الخ. (3) أي كل واحد من هذه الوجوه الثلاثة يعطي الاشتراك. وفي (ت): يعطي الشركة، والشرح مطابق للأول. وفي منظومة الحكيم السبزواري: يعطي اشتراكه صلوح المقسم، واعلم أن جمهور المحققين من الحكماء والمتكلمين أجمعوا على أن للوجود مفهوما واحدا مشتركا بين الوجودات، ولكن خالفهم في هذا الحكم أبو الحسن الأشعري وأبو الحسين البصري حيث ذهبا إلى أن وجود كل شئ عين ماهيته، ولا اشتراك إلا في لفظ الوجود حذرا من المشابهة والسنخية بين العلة والمعلول. واستدل الجمهور بوجوه ثلاثة أشار إليها المصنف، والحق أن كون الوجود مشتركا بين الماهيات فهو قريب من الأوليات، والقول بكون اشتراك الوجود لفظيا بمعنى أن المفهوم من الوجود المضاف إلى الانسان غير مفهوم الوجود المضاف إلى الفرس، ولا اشتراك بينهم في مفهوم الكون أي الوجود مكابرة ومخالفة لبديهة العقل. ثم إن توهم المشابهة والسنخية بين العلة والمعلول وهم، لأن تلك السنخية كسنخية الشئ والفئ من شرائط العلية والمعلولية، على أن الأمر عند النظر التام فوق التفوه بالعلية والمعلولية لأن الكل فيضه، سبحان الله عما يصفون، إلا عباد الله المخلصين. ثم القول بأن وجود كل ماهية عبارة عن نفس حقيقتها، أخص من الاشتراك اللفظي، لاحتمال الاشتراك أن يكون الوجود في كل ماهية أمرا زائدا على الماهية مختصا بها لأنفسها. 33 فبدأ باشتراكه، واستدل عليه بوجوه ثلاثة، ذكرها الحكماء والمتكلمون. الأول: إنا قد نجزم بوجود ماهية، ونتردد في خصوصياتها مع بقاء الجزم بالوجود، فإنا إذا شاهدنا أثرا حكمنا بوجود مؤثره، فإذا اعتقدنا أنه ممكن، ثم زال اعتقادنا بإمكانه، وتجدد اعتقادنا بوجوبه، لم يزل الحكم الأول، فبقاء الاعتقاد بالوجود عند زوال اعتقاد الخصوصيات يدل على الاشتراك. الثاني: أن مفهوم السلب واحد لا تعدد فيه ولا امتياز، فيكون مفهوم نقيضه الذي هو الوجود واحدا، وإلا لم ينحصر التقسيم بين السلب والإيجاب (1). الثالث: أن مفهوم الوجود قابل للتقسيم بين الماهيات، فيكون مشتركا بينها، أما المقدمة الأولى فلأنا نقسمه إلى الواجب والممكن، والجوهر والعرض، والذهني والخارجي، والعقل يقبل هذه القسمة، وأما المقدمة الثانية فلأن القسمة عبارة عن ذكر جزيئات الكلي الصادق عليها بفصول متعاندة أو ما يشابه الفصول، ولهذا لا يقبل العقل قسمة الحيوان إلى الانسان والحجر لما لم يكن صادقا عليهما، ويقبل قسمته إلى الانسان والفرس. المسألة الثالثة في أن الوجود زائد على الماهيات قال: فيغاير (2) الماهية وإلا اتحدت الماهيات أو لم تنحصر أجزاؤها. أقول: هذه المسألة فرع على المسألة الأولى، واعلم إن الناس اختلفوا في أن
(1) وذلك مراد من قال وإلا ارتفع النقيضان، وذلك لأنه لو كان أحد طرفي التناقض مفهوما واحدا والطرف الآخر مفهومات متعددة كل منها نقيض للطرف الأول لأمكن خلو الموضوع عنهما بأن يكون واحدا آخر من تلك المفهومات، مثلا لو فرضنا أن الحمرة والصفرة نقيضان للبياض كالسواد، لم يكن في الحمرة الصفرة والبياض وهو ارتفاع النقيضين. (2) أي فيغاير الوجود الماهية، وإلا اتحدت الماهيات إن كان الوجود عينها، أو لم تنحصر أجزاؤها إن كان جزء لها. 34 الوجود هل هو نفس الماهية، أو زائد عليها؟ فقال أبو الحسن الأشعري وأبو الحسين البصري وجماعة تبعوهما: إن وجود كل ماهية نفس تلك الماهية (1). وقال جماعة من المتكلمين والحكماء: إن وجود كل ماهية مغاير لها إلا واجب الوجود تعالى، فإن أكثر الحكماء قالوا: إن وجوده نفس حقيقته، وسيأتي تحقيق كلامهم فيه. وقد استدل الحكماء على الزيادة بوجوه: الأول: أن الوجود مشترك على ما تقدم، فإما أن يكون نفس الماهية أو جزءا منها، أو خارجا عنها. والأول باطل وإلا لزم اتحاد الماهيات في خصوصياتها لما تبين من اشتراكه. والثاني باطل وإلا لم تنحصر أجزاء الماهية، بل تكون كل ماهية على الاطلاق مركبة من أجزاء لا تتناهى، واللازم باطل، فالملزوم مثله، بيان الشرطية أن الوجود إذا كان جزءا من كل ماهية، فإنه يكون جزءا مشتركا بينها، ويكون كمال الجزء المشترك، فيكون جنسا فتفتقر كل ماهية إلى فصل يفصلها عما يساويها فيه، لكن كل فصل فإنه يكون موجودا، لاستحالة انفصال الموجودات بالأمور العدمية، فيفتقر الفصل إلى فصل آخر، هو جزء منه ويكون جزءا من الماهية، لأن جزء الجزء جزء أيضا، فإن كان موجودا افتقر إلى فصل آخر ويتسلسل، فتكون للماهية أجزاء لا تتناهى. وأما استحالة التالي فلوجوه: أحدها: أن وجود ما لا يتناهى محال على ما يأتي. الثاني: يلزم منه تركب واجب الوجود تعالى، لأنه موجود فيكون ممكنا هذا خلف. الثالث: يلزم منه انتفاء الحقائق (2) أصلا، لأنه يلزم منه تركب الماهيات
(1) فالماهيات بأسرها متخالفة، وكذلك الوجود لأنه عينها في كل مرتبة، ولذا قالوا باشتراكه اللفظي حذرا من المشابهة والسنخية بين العلة ومعلولها، وقد دريت ما فيه. (2) أي لو كان الوجود جزءا من الماهية ولم يكن زائدا عليها للزم أن لا يتحقق شئ من الحقائق، لأن المركب يتحصل بالبسيط، فإذا انتفى البسيط انتفى المركب. 35 البسيطة، فلا يكون البسيط متحققا فلا يكون المركب متحققا، وهذا كله ظاهر البطلان. قال: ولانفكاكهما تعقلا (1). أقول: هذا هو الوجه الثاني الدال على زيادة الوجود، وتقريره إنا قد نعقل الماهية ونشك في وجودها الذهني والخارجي والمعقول مغاير للمشكوك فيه، وكذلك قد نعقل وجودا مطلقا ونجهل خصوصية الماهية فيكون مغايرا لها. لا يقال: إنا قد نتشكك في ثبوت الوجود فيلزم أن يكون ثبوته زائدا عليه ويتسلسل. لأنا نقول: التشكك ليس في ثبوت وجود للوجود، بل في ثبوت الوجود نفسه للماهية، وذلك هو المطلوب. قال: وتحقق الامكان الخاص. أقول: هذا وجه ثالث يدل على الزيادة، وتقريره أن ممكن الوجود متحقق بالضرورة، والإمكان أنما يتحقق على تقدير الزيادة (2). لأن الوجود لو كان نفس الماهية أو جزءها، لم تعقل منفكة عنه، فلا يجوز عليها العدم حينئذ وإلا لزم جواز اجتماع النقيضين وهو محال، وانتفاء جواز العدم يستلزم الوجوب فينتفي الإمكان حينئذ للمنافاة بين الامكان الخاص والوجوب الذاتي، ولأن الإمكان نسبة (3) بين الماهية والوجود، والنسبة لا تتعقل إلا بين شيئين. قال: وفائدة الحمل. أقول: هذا وجه رابع يدل على المغايرة بين الماهية والوجود، وتقريره أنا نحمل الوجود على الماهية فنقول ماهية موجودة فنستفيد منه فائدة معقولة لم
(1) أي لانفكاك الوجود والماهية، وقد ذكره الفارابي في الفص الأول من فصوصه، وفي شرحنا عليه في المقام مطالب عسى أن تنفعك. (2) أي على تقدير زيادة الوجود على الماهية. (3) النسبة إنما تتحقق بين المتغايرين، والامكان عبارة عن تساوي نسبة الماهية إلى الوجود والعدم، فلو كان الوجود نفس الماهية أو جزء منها لم تتصور نسبة فرضا عن تساويها. 36 تكن حاصلة لنا قبل الحمل، وإنما تتحقق هذه الفائدة على تقدير (1) المغايرة، إذ لو كان الوجود نفس الماهية لكان قولنا ماهية موجودة (2) بمنزلة قولنا: ماهية ماهية أو موجودة موجودة، والتالي باطل فالمقدم مثله. قال: والحاجة إلى الاستدلال. أقول: هذا وجه خامس يدل على أن الوجود ليس هو نفس الماهية ولا جزء منها، وتقريره أنا نفتقر في نسبة الوجود إلى الماهية إلى الدليل في كثير من الماهيات، ولو كان الوجود نفس الماهية أو جزءها لم نحتج إلى الدليل، لافتقار الدليل إلى المغايرة بين الموضوع والمحمول، والتشكك في النسب الممتنع تحققه (3) في الذاتي. قال: وانتفاء التناقض. أقول: هذا وجه سادس يدل على الزيادة وتقريره أنا قد نسلب الوجود عن الماهية فنقول: ماهية معدومة، ولو كان الوجود نفس الماهية لزم التناقض، ولو كان جزء منها لزم التناقض أيضا، لأن تحقق الماهية يستدعي تحقق أجزائها التي من جملتها الوجود، فيستحيل سلبه عنها، وإلا لزم اجتماع النقيضين فتحقق انتفاء التناقض يدل على الزيادة. قال: وتركب الواجب (4).
(1) وسيأتي البحث عن الحمل في المسألة الثامنة والثلاثين من هذا الفصل حيث يقول: والحمل يستدعي اتحاد الطرفين من وجه وتغايرهما من آخر، ثم إن الوجهين الرابع والسادس على فرض كون الوجود عين الماهية، والخامس والسابع على فرض كونه جزء منها. (2) وكذلك لو قلنا مثلا سواد موجود لكان بمنزلة سواد سواد وموجود موجود وليس كذلك، وهكذا في غيرهما. (3) كما في (م). والباقية بعضها التشكك في النسبة، وبعضها التشكيك في النسبة، كيف كان هو عطف على المغايرة، والممتنع صفة للتشكك، وتحققه فاعله. (4) مجرور معطوف على التناقض أي انتفاء تركب الوجود. 37 أقول: هذا وجه سابع وهو أن تركب الواجب منتف، وإنما يتحقق (1) لو كان الوجود زائدا على الماهية، لأنه يستحيل أن يكون نفس الماهية لما تقدم، فلو كان جزءا منها لزم أن يكون الواجب مركبا وهو محال. قال: وقيامه بالماهية من حيث هي. أقول: هذا جواب عن استدلال الخصم على أن الوجود نفس الماهية وتقرير استدلالهم أنه لو كان زائدا على الماهية لكان صفة قائمة بها، لاستحالة أن يكون جوهرا قائما بنفسه مستغنيا عن الماهية واستحالة قيام الصفة بغير موصوفها، وإذا كان كذلك فإما أن يقوم بالماهية حال وجودها أو حال عدمها، والقسمان باطلان، أما الأول: فلأن الوجود الذي هو شرط في قيام هذا الوجود بالماهية، إما أن يكون هو هذا الوجود فيلزم اشتراط الشئ بنفسه، أو يكون مغايرا له فيلزم قيام الوجودات المتعددة بالماهية الواحدة، ولأنا ننقل البحث إلى الوجود الذي هو شرط. وأما الثاني: فلأنه يلزم قيام الصفة الوجودية بالمحل المعدوم (2) وهو باطل، وإذا بطل القسمان انتفت الزيادة. وتقرير الجواب أن نقول: الوجود قائم بالماهية من حيث هي هي (3)، لا
(1) أي إنما يتحقق انتفاء التركب لو كان الوجود زائدا على الماهية لأنه يستحيل أن يكون نفس الماهية واتحدت الماهية، فلو كان جزء لزم أن يكون الواجب مركبا لأنه حينئذ مشترك بين الواجب والممكن، فيلزم تركب الواجب، إذ كل ما له جزء فله جزء آخر بالضرورة، كما مر وهو معنى التركيب. (2) ويلزم اجتماع النقيضين أيضا. (3) سيأتي قوله في المسألة الخامسة: وليس الوجود معنى به.. الخ، وهو يجديك في المقام، وكذلك قوله في المسألة الثامنة والثلاثين: وإثبات الوجود للماهية لا يستدعي وجودها أولا. وكذلك قوله في المسألة الثانية والأربعين: والحكم على الممكن بإمكان الوجود حكم على الماهية لا باعتبار العدم والوجود. واعلم أنه ليس للماهية ثبوت في الخارج دون وجودها، أي ثبوت منفك عن الوجود في الخارج ثم الوجود يحل فيها كما ظن وهو ظن فاسد لأن كون الماهية هو وجودها والماهية لا تتجرد عن الوجود إلا في العقل لا بأن تكون في العقل منفكة عن الوجود فإن تخليتها عنه عين تحليتها به، والكون في العقل أيضا وجود عقلي كما أن الكون في الخارج وجود خارجي، بل بأن العقل من شأنه أن يلاحظها وحدها من غير ملاحظة الوجود وعدم اعتبار الشئ ليس باعتبار لعدمه، فإذن اتصاف الماهية بالوجود أمر عقلي ليس كاتصاف الجسم بالبياض، فإن الماهية ليس لها وجود منفرد ولعارضها المسمى بالوجود وجود آخر حتى يجتمعا اجتماع القابل والمقبول، بل الماهية إذا كانت فكونها هو وجودها. 38 باعتبار كونها معدومة أو موجودة، فالحصر ممنوع. قال: فزيادته في التصور (1). أقول: هذا نتيجة ما تقدم، وهو أن قيام الوجود بالماهية من حيث هي هي أنما يعقل في الذهن والتصور لا في الوجود الخارجي لاستحالة تحقق (2) ماهية من الماهيات في الأعيان منفكة عن الوجود، فكيف تتحقق الزيادة في الخارج والقيام بالماهية فيه، بل وجود الماهية زائد عليها في نفس الأمر والتصور لا في الأعيان وليس قيام الوجود بالماهية كقيام السواد بالمحل. المسألة الرابعة في انقسام الوجود إلى الذهني والخارجي قال: وهو ينقسم إلى الذهني والخارجي وإلا بطلت الحقيقة. أقول: اختلف العقلاء هاهنا، فجماعة منهم نفوا الوجود الذهني وحصروا الوجود في الخارجي، والمحققون منهم أثبتوه وقسموا الوجود إليه وإلى الخارجي قسمة معنوية. واستدل المصنف رحمة الله عليه بأن القضية الحقيقية صادقة قطعا، لأنا نحكم بالأحكام الإيجابية على موضوعات معدومة في الأعيان، وتحقق الصفة يستدعي تحقق الموصوف، وإذ ليس ثابتا في الأعيان فهو متحقق في الأذهان. واعلم أن القضية تطلق (3) على الحقيقية وهي التي يؤخذ موضوعها من حيث
(1) لم لم يقل في الذهن؟ فراجع تعليقة المتأله السبزواري على الغرر (ط 1 - ص 13). (2) كما في (م د) والباقية: ماهية ما من الماهيات منفكة عن الوجود، وفي بعض النسخ: منفردة عن الوجود. (3) الحكم في الحقيقية ليس مقصورا على ما له وجود في الخارج فقط، بل على كل ما قدر وجوده سواء كان موجودا في الخارج أو معدوما فيه، فإن لم يكن موجودا فيه فالحكم فيه على أفراده المقدرة الوجود كقولنا: كل عنقاء طائر، وإن كان موجودا فالحكم فيه ليس مقصورا على أفراده الموجودة، بل عليها وعلى أفراده المقدرة الوجود أيضا كقولنا: كل انسان حيوان. وأما الخارجية فالحكم فيها على الموجود في الخارج سواء كان اتصافه في الخارج حال الحكم أو قبله أو بعده، فهي تستدعي وجود الموضوع في الخارج والحكم فيها مقصور على الأفراد الخارجية. ثم في المقام بحث منطقي حول موضوع القضايا يطلب في محله. 39 هو هو لا باعتبار الوجود الخارجي، بل باعتبار ما صدق عليه الموضوع بالفعل. وتطلق على الخارجية، وهي التي يؤخذ موضوعها باعتبار الخارج، وهو مذهب سخيف قد أبطل في المنطق، فتحقق الحقيقية يدل على الثبوت الذهني كما ذكرناه. قال: والموجود في الذهن أنما هو الصورة المخالفة في كثير من اللوازم. أقول: هذا جواب عن استدلال من نفي الوجود الذهني وتقرير استدلالهم، أنه لو حلت الماهية في الأذهان لزم أن يكون الذهن حارا باردا أسود أبيض، فيلزم مع اتصاف الذهن بهذه الأشياء المنفية عنه اجتماع الضدين. والجواب أن الحاصل في الذهن ليس هو ماهية الحرارة والسواد، بل صورتها ومثالها (1) المخالفة للماهية في لوازمها وأحكامها، فالحرارة الخارجية تستلزم السخونة وصورتها لا تستلزمها، والتضاد أنما هو بين الماهيات لا بين صورها وأمثلتها. المسألة الخامسة في أن الوجود ليس هو معنى زائدا على الحصول العيني قال: وليس الوجود معنى به تحصل الماهية في العين بل الحصول. أقول: قد ذهب قوم غير محققين إلى أن الوجود معنى قائم بالماهية يقتضي
(1) كما في (م) والباقية: بل صورتهما ومثالهما على التثنية. 40 حصول الماهية في الأعيان، وهذا مذهب سخيف يشهد العقل ببطلانه، لأن قيام ذلك المعنى بالماهية في الأعيان يستدعي تحقق الماهية في الخارج، فلو كان حصولها في الخارج مستندا إلى ذلك المعنى لزم الدور المحال، بل الوجود هو نفس تحقق الماهية في الأعيان، ليس ما به تكون الماهية في الأعيان. المسألة السادسة في أن الوجود لا تزايد فيه ولا اشتداد قال: ولا تزايد فيه ولا اشتداد (1)
(1) التزايد في المقدار، والاشتداد في الكيف. معنى الاشتداد هو اعتبار المحل الثابت إلى حال فيه غير قار يتبدل نوعيته إذا قيس ما يوجد منها في آن ما إلى ما يوجد في آن آخر، بحيث يكون ما يوجد في كل آن متوسطا بين ما يوجد في آنين يحيطان بذلك الآن ويتجدد جميعها على ذلك المحل المتقوم دونها من حيث هو متوجه بتلك التجددات إلى غاية ما. ومعنى الضعف هو ذلك المعني بعينه إلا أنه يؤخذ من حيث هو منصرف بها عن تلك الغاية. فالآخذ في الشدة والضعف هو المحل لا الحال المتجدد المتصرم، ولا شك أن مثل هذا الحال يكون عرضا لتقوم المحل دون كل واحد من تلك الهويات. وأما الحال الذي يتبدل هوية المحل المتقوم بتبدله فلا يتصور فيه اشتداد ولا ضعف لامتناع تبدلها على شئ واحد متقوم يكون هو هو في الحالتين، ولامتناع وجود حالة متوسطة بين كون الشئ هو وبين كونه ليس هو. هذا ما حرره الماتن في شرحه على الإشارات، وقال الشارح ببيان أخصر في الجوهر النضيد: إن معنى الاشتداد هو اعتبار المحل الواحد الثابت إلى حال فيه غير قار يتبدل نوعيته ويوجد في كل آن نوع من تلك الأنواع من غير أن يبقى آنين بحيث يكون في كل آن متوسطا بين ما يوجد في ذلك الآن وما يكون قبله وبعده، وهذا لا يعقل إلا في العرض، إنتهى. إذا دريت ذلك فاعلم أن الماهية لا يتصور كونها متقومة وموجودة من دون الوجود حتى يتصور توارد الوجود عليها، كما لا يمكن أن تتحرك الهيولى في الصورة، إذ ليس لها تقوم بدون الصورة حتى يمكن توارد الصور عليها، فلا تزايد في الوجود ولا اشتداد لأن التزايد في الوجود هو حركة الماهية متوجهة من وجود ناقص إلى وجود أزيد منه، وعكس ذلك هو النقص أي حركتها من زائد إلى أنقص منه. والاشتداد في الوجود هو حركة الماهية من وجود ضعيف إلى وجود أشد منه، وعكسه هو الضعف، وقد علمت أن الماهية ليست متقومة بذاتها في الخارج بدون الوجود. ثم بما ذكرنا قد دريت مراد الشارح من قوله وهذا الدليل ينفي قبول الأعراض كلها للاشتداد والنقص، وفي (م): للاشتداد والضعف، وفي عدة نسخ: للاشتداد والتنقص. 41 أقول: ذهب قوم إلى أن الوجود قابل للزيادة والنقصان، وفيه نظر لأن الزيادة إن كانت وجودا لزم اجتماع المثلين، وإلا لزم اجتماع النقيضين، وأما نفي الاشتداد فهو مذهب أكثر المحققين قال بعضهم لأنه بعد الاشتداد إن لم يحدث شئ آخر لم يكن الاشتداد إشتدادا، بل هو باق كما كان، وإن حدث فالحادث إن كان غير الحاصل فليس إشتدادا للموجود الواحد، بل يرجع إلى أنه حدث شئ آخر معه، وإلا فلا اشتداد، وكذا البحث في جانب النقصان، وهذا الدليل ينفي قبول الأعراض كلها للاشتداد والضعف. المسألة السابعة في أن الوجود خير والعدم شر قال: وهو خير محض. أقول: إذا تأملنا كل ما يقال له خير وجدناه وجودا، وإذا تأملنا ما يقال له شر وجدناه عدما، ألا ترى القتل فإن العقلاء حكموا بكونه شرا، وإذا تأملناه وجدنا شريته باعتبار ما يتضمن من العدم، فإنه ليس شرا من حيث قدرة القادر عليه، فإن القدرة كمال الانسان، ولا من حيث إن الآلة قاطعة (1) فإنها أيضا كمال لها، ولا من حيث حركة أعضاء القاتل، ولا من حيث قبول العضو المنقطع للتقطيع، بل من حيث هو إزالة كمال الحياة عن الشخص، فليس الشر إلا هذا العدم وباقي القيود الوجودية خيرات، فحكموا بأن الوجود خير محض والعدم شر محض، ولهذا كان واجب الوجود تعالى أبلغ في الخيرية والكمال من كل موجود، لبراءته عن القوة والاستعداد وتفاوت غيره من الوجودات فيه (2) باعتبار القرب من العدم والبعد عنه.
(1) وفي عدة نسخ: الآلة قطاعة فإنها. (2) أي في الخيرية والكمال. 42 المسألة الثامنة في أن الوجود لا ضد له قال: ولا ضد له. أقول: الضد ذات (1) وجودية تقابل ذاتا أخرى في الوجود، ولما استحال أن يكون الوجود ذاتا وأن يكون له وجود آخر استحال أن يكون ضدا لغيره، ولأنه عارض لجميع المعقولات، لأن كل معقول إما خارجي فيعرض له الوجود الخارجي، أو ذهني فيعرض له الذهني، ولا شئ من أحد الضدين بعارض لصاحبه، ومقابلته للعدم ليس تقابل الضدين على ما يأتي تحقيقه في نفي المعدوم، بل تقابل السلب والإيجاب إن أخذا مطلقين، وإلا تقابل العدم والملكة. المسألة التاسعة في أنه لا مثل للوجود قال: ولا مثل. أقول: المثلان ذاتان وجوديتان يسد كل واحد منهما مسد صاحبه، ويكون المعقول منهما شيئا واحدا بحيث إذا سبق أحدهما إلى الذهن ثم لحقه الآخر لم يكتسب العقل من الحاصل ثانيا غير ما اكتسبه أولا، والوجود ليس بذات فلا
(1) أي ماهية وأمر، وجملة القول في ذلك أن كل واحد من الضد والمثل والمخالف يقال لما له ماهية ويكون مشاركا لغيره في الموضوع ولا يجتمعان فيه، والوجود ليس بماهية بل هو تحقق الماهية وكونها. ثم إن الوجود الحق الصمدي لا جوف له حتى يكون له ثان ضده أو مثله أو نده، والتقابل بأقسامه إنما يتحقق في شؤونه المسماة بالوجودات الخاصة باعتبار تخصصها بالمعاني والماهيات التي هي غير حقيقة الوجود. ويأتي البحث عن ذلك في المقصد الثالث عند قوله: وجوب الوجود يدل على سرمديته ونفي الزائد والشريك والمثل. 43 يماثل شيئا آخر وأيضا فليس هاهنا معقول يساويه في التعقل على معنى ما ذكرناه إذ كل معقول مغاير لمعقول الوجود. لا يقال: إن كليه وجزءيه متساويان في التعقل، فكان له مثل وهو الجزئي. لأنا نقول: إنهما ليسا بمتساويين في المعقولية، وإن كان أحد جزئي الجزئي هو الكلي. لكن الاتحاد ليس تماثلا، وأيضا فإنه عارض لكل المعقولات على ما قررناه أولا، ولا شئ من المثلين بعارض لصاحبه. المسألة العاشرة في أنه مخالف لغيره من المعقولات وعدم منافاته لها قال: فتحققت مخالفته للمعقولات. أقول: لما انتفت نسبة التضاد والتماثل بينه وبين غيره من المعقولات، وجبت المخالفة بينهما، إذ القسمة حاصرة في كل معقولين بين التماثل والاختلاف، وقد انتفى التماثل فوجب الاختلاف، ولهذا جعله نتيجة لما سبق. قال: ولا ينافيها. أقول: المتنافيان لا يمكن اجتماعهما، وقد بينا أن كل معقول على الاطلاق فإنه يمكن عروض مطلق الوجود له واجتماعه معه وصدقه عليه، فكيف ينافيه. لا يقال: العدم أمر معقول، وقد قضى العقل بمنافاته له، فكيف يصح قوله على الاطلاق أنه لا ينافيها؟ لأنا نقول: نمنع أولا كون العدم المطلق معقولا والعدم الخاص له حظ من الوجود، ولهذا افتقر إلى موضوع خاص كافتقار الملكة إليه، سلمنا لكن نمنع استحالة عروض الوجود المطلق للعدم المعقول فإن العدم المعقول ثابت في الذهن فيكون داخلا تحت مطلق الثابت فيصدق عليه مطلق الثابت ومنافاته للوجود المطلق لا باعتبار صدق مطلق الثبوت عليه، بل من حيث أخذ مقابلا له ولا امتناع
44 في عروض أحد المتقابلين للآخر (1) إذا أخذا لا باعتبار التقابل كالكلية والجزئية (2) فإنهما قد يصدق أحدهما على الآخر باعتبار مغاير لا باعتبار تقابلهما، وهذا فيه دقة. المسألة الحادية عشرة في تلازم الشيئية والوجود قال: ويساوق الشيئية (3) فلا تتحقق بدونه والمنازع مكابر مقتضى عقله.
(1) وسيأتي البحث عنه في المسألة الرابعة عشرة عند قوله ثم الوجود قد يؤخذ على الاطلاق.. الخ. (2) يعني بالجزئية الإضافي غير الحقيقي والمتن مطابق لنسختي (م ص) وفي (ق ش): باعتبار مغاير لاعتبار تقابلهما. (3) أي يلازم الوجود المطلق الشيئية كما فسر الشارح، وسيأتي في المسألة الثامنة عشرة أن الشيئية من المعقولات الثانية، وفي المسألة السادسة والثلاثين أن الوجود من المعقولات الثانية فتبصر. وإنما عبر بالمساوقة إشارة إلى تغاير الوجود والشئ مفهوما وتلازمهما خارجا، وسيأتيك في السادسة من ثاني هذا المقصد ما يعينك في المساوقة بمعنى التلازم. ثم إن القول بالثبوت إن كان اصطلاح القوم على أن يسمي الصورة العلمية ثبوتا، والخارجية وجودا فلا مشاحة فيه، وإلا فالمنازع مكابر مقتضى عقله، والواسطة بين الموجود والمعدوم في الخارج في غاية السخافة. واعلم أن الداعي لهم على هذا القول أمران: الأول: وهو الأهم في نظرهم تصحيح مسألة العلم الأزلي، إذ قالوا: لو لم يكن في الأزل وجود الأشياء ولا ماهيتها امتنع العلم ولو كان وجودها فيه لزم قدمها فبقي أن يكون الممتنع لزوم موجود قديم سوى الله لا ثابت قديم على أنه وجب قدم علمه تعالى كصفاته الأخرى. والثاني: تصحيح الإمكان للماهيات لأنها في حال الوجود محفوفة بالضرورتين فلا بد أن تكون الماهية ثابتة قبل الوجود ليصح الإمكان. وأقول: إن الماهيات في اصطلاح الحكيم هي الأعيان الثابتة في اصطلاح العارف وهي الصور العلمية بوجودها الأحدي الذي هو عين الذات الصمدية، ويتراءى من أقوال هذا الفريق القائلين بالفرق بين الثبوت والوجود كما أشرنا إليه، أن الوجود هو العين المقابل للعلم، وإلا فالأمران كل واحد منهما وهم، ومسألة العلم أشرف من هذه الآراء الفائلة وبمعزل عنها بمراحل، كما سنشير إليها في محلها. ثم يكفي في إمكان الماهيات سلب الضرورتين عن مرتبة ذاتها عند العقل وانفكاكها عن الوجود بالتعمل العقلي، وإن كان تخليتها عن الوجود عين تحليتها به. ويؤيد ما أشرنا إليه من أن الفرق المذكور مجرد اصطلاحهم على ذلك ما قاله الشارح القوشجي في المقام من أن المعتزلة ذهبت إلى أن المعدوم الممكن شئ وثابت على معنى أن الماهية يجوز تقررها في الخارج منفكة عن الوجود، خلافا لسائر المتكلمين والحكماء مع اتفاقهم على أن الممتنع ويخصه المعتزلي باسم المنفي، ليس بشئ، فهم يجعلون الثبوت مقابلا للنفي أعم من الوجود والعدم أعم من النفي. ولعلهم إنما وقعوا فيه بما وقع الحكماء في إثبات الوجود الذهني، وهو أنا نحكم حكما إيجابيا بأمور ثبوتية على ما ليس بموجود في الخارج، ومعنى الايجاب الحكم بثبوت أمر لأمر وثبوت شئ لشئ فرع ثبوت المثبت له، فللمثبت له ثبوت وهو معدوم فالمعدوم ثابت. فثبوت الماهيات على وجهين: أحدهما ثبوتها في حد ذاتها بحيث لا يترتب عليها آثارها المطلوبة منها، والمعدوم ثابت بهذا الوجه من الثبوت، والآخر ثبوتها بحيث يترتب عليها الآثار ويظهر منها الأحكام. فهم يوافقون الحكماء في أن ثبوت الماهيات وتحققها على وجهين، لكنهم ينسبون الوجهين إلى الخارج ويخصون الوجه الأخير من الثبوت باسم الوجود. والحكماء يسمون كلا وجهي الثبوت وجودا، ويقولون: إن الوجه الأول من الثبوت لا يتصور إلا في قوة مدركة ويسمونه بالوجود الذهني. إنتهى ما أردنا من نقل كلامه في المقام، فتدبر في قوله: ولعلهم إنما وقعوا فيه.. الخ، حتى يظهر لك وجه التأييد. 45 أقول: اختلف الناس في هذا المقام، فالمحققون كافة من الحكماء والمتكلمين اتفقوا على مساوقة الوجود الشيئية وتلازمهما حتى أن كل شئ على الإطلاق فهو موجود على الإطلاق، وكل ما ليس بموجود فهو منتف وليس بشئ، وبالجملة لم يثبتوا للمعدوم ذاتا متحققة، فالمعدوم الخارجي لا ذات له في الخارج، والذهني لا ذات له ذهنا. وقال جماعة من المتكلمين (1): إن للمعدوم الخارجي ذاتا ثابتة في الأعيان متحققة في نفسها ليست ذهنية لا غير، وهؤلاء يكابرون في الضرورة فإن العقل قاض بأنه لا واسطة بين الموجود والمعدوم فإن الثبوت هو الوجود.
(1) إنما قال جماعة: لأن أبا الحسين البصري وأبا هذيل العلاف والكعبي ومن تبعهم من البغداديين خالفوهم وقالوا بالمساوقة. 46 قال: وكيف تتحقق بدونه مع إثبات القدرة وانتفاء الاتصاف (1). أقول: لما استبعد مقالة هؤلاء القوم ونسبهم إلى الجهل (2)، شرع في الاستدلال على بطلان قولهم واعلم أن هؤلاء يذهبون إلى أن القدرة لا تأثير لها في الذوات (3) أنفسها، لأنها ثابتة في العدم، مستغنية عن المؤثر في جعلها ذواتا ولا في الوجود لأنه عندهم حال (4)، والحال غير مقدورة، وقد ثبت في نفس الأمر أن اتصاف الماهية بالصفة غير ثابت في الأعيان، بل هو أمر اعتباري، وإلا لزم التسلسل، لأن ذلك الاتصاف لو كان ثابتا لكان مشاركا لغيره من الموجودات في الثبوت، وممتازا عنها بخصوصية، وما به الاشتراك مغاير لما به الامتياز، فيكون اتصاف ذلك الاتصاف بالثبوت أمرا زائدا عليه، ويلزم التسلسل. إذا ثبت هذا فاعلم أن المصنف رحمه الله تسلم مذهبهم، وما ثبت في نفس الأمر وألزمهم المحال، وتقريره: أن الماهيات لو كانت ثابتة في العدم لاستغنت الممكنات في وجودها عن المؤثر، فانتفت القدرة أصلا ورأسا، والتالي باطل. فالمقدم مثله بيان الشرطية، أن القدرة حينئذ لا تأثير لها في الذوات، ولا في الوجود على مذهبهم، ولا في اتصاف الماهية بالوجود على ما ثبت في نفس الأمر، وذلك يستلزم نفي التأثير أصلا. وأما بطلان التالي فبالإتفاق والبرهان دل عليه على ما يأتي. فلهذا استبعد المصنف رحمه الله هذه المقالة مع إثبات القدرة المؤثرة، والقول بكون الاتصاف أمرا ذهنيا، وأنه منتف في الخارج. قال: وانحصار الموجود مع عدم تعقل الزائد. أقول: هذا برهان آخر دال على انتفاء الماهيات في العدم، وتقريره أن
(1) أي اتصاف الماهية بالوجود. (2) كما في (م) وذلك لأن المكابر في الضرورة جاهل، وفي نسخ أخرى: نسبهم إلى المكابرة. (3) أي في الماهيات. (4) يسمون المعاني الانتزاعية والصفات الاعتبارية نفس الأمرية حالا، وسيأتي بيانه في المسألة الثانية عشرة. 47 مذهبهم: أن كل ماهية نوعية فإنه يثبت من أشخاصها في العدم ما لا يتناهى، كالسواد والبياض والجواهر وغيرها من الحقائق، فألزمهم المصنف المحال، وهو القول بعدم انحصار الموجودات، لأن تلك الماهيات ثابتة، وهي غير محصورة في عدد متناه. والثبوت هو الوجود لانتفاء تعقل أمر زائد على الكون في الأعيان، فلزمهم القول بوجود ما لا يتناهى من الماهيات، وهو عندهم باطل (1). فإن جعلوا الوجود أمرا مغايرا للكون في الأعيان، كان نزاعا في عبارة وقولا بإثبات ما لا يعقل، مع أنا نكتفي في إبانة محالية قولهم بالثبوت الذي هو الكون (2) في الأعيان، وهم يسلمونه لنا. والبراهين الدالة على استحالة ما لا يتناهى، كما تدل على استحالته في الوجود تدل على استحالته في الثبوت، إذ دلالتها أنما هي على انحصار الكائن في الأعيان. وقول المصنف رحمه الله (وانحصار الموجود) عطف على الانتفاء، أي وكيف تتحقق الشيئية بدون الوجود مع إثبات القدرة وانتفاء الاتصاف، ومع انحصار الموجود مع عدم تعقل الزائد هكذا ينبغي أن يفهم كلامه ها هنا. قال: ولو اقتضى التميز الثبوت عينا لزم منه محالات. أقول: لما أبطل مذهب المثبتين، شرع في إبطال حججهم، ولهم حجتان رديتان ذكرهما المصنف وأبطلهما، (أما الحجة الأولى) فتقريرها: أن كل معدوم متميز وكل متميز ثابت فكل معدوم ثابت. أما المقدمة الأولى فيدل عليها أمور ثلاثة: أحدها: أن المعدوم معلوم، والمعلوم متميز. الثاني: أن المعدوم مراد، فإنا نريد اللذات، ونكره الآلام، فلا بد وأن يتميز المراد عن المكروه.
(1) أي وجود ما لا يتناهى عندهم باطل، وذلك لأنهم اتفقوا على أن الموجودات منحصرة متناهية. ودليلهم على ذلك إجراء براهين امتناع التسلسل مطلقا من غير اشتراط الاجتماع والترتيب، كما سيأتي البحث عنه في محله. (2) صلة لقوله: نكتفي. 48 الثالث: أن المعدوم مقدور، وكل مقدور متميز، فإنا نميز بين الحركة يمنة ويسرة، وبين الحركة إلى السماء، ونحكم بقدرتنا على إحدى الحركتين دون الأخرى، فلولا تميز كل واحدة منهما عن الأخرى، لاستحال هذا الحكم. وأما المقدمة الثانية فلأن التميز صفة ثابتة للمتميز، وثبوت الصفة يستدعي ثبوت الموصوف لأنه فرع عليه. والجواب: أن التميز لا يستدعي الثبوت عينا، وإلا لزم منه محالات: أحدها (1): أن المعلوم قد يكون مستحيل الوجود لذاته، كشريك الباري تعالى، واجتماع الضدين وغيرهما، ويتميز أحدهما عن الآخر. فلو اقتضى التميز الثبوت العيني لزم ثبوت المستحيلات، مع أنهم وافقونا على انتفاء المستحيل. الثاني: أن المعلوم قد يكون مركبا (2) ووجودا، وليس بثابت في العدم اتفاقا. الثالث: أن المقدورية لو استدعت الثبوت لانتفت، إذ لا قدرة على الثابت (3) وكذا المرادية. قال: والإمكان اعتباري يعرض لما وافقونا على انتفائه. أقول: هذه الحجة الثانية لهم على ثبوت المعدوم، وهو أنهم قالوا: إن المعدوم ممكن (4)، وإمكانه ليس أمرا عدميا، وإلا لم يبق فرق بين نفي الإمكان وبين
(1) هكذا في النسخ كلها، والصواب: إحداها.. الثانية.. الثالثة. (2) يعني به المركبات الخيالية كجبل من الياقوت وبحر من الزيبق، وفي بعض النسخ مركبا خياليا، ولكن الصواب أن خياليا تعليقة أدرجت في الكتاب. ثم إن النسخ كلها متفقة على قوله: (وليس بثابت في العدم اتفاقا)، وفي المطبوعة ليس بثابت في العين اتفاقا، وكان العدم بدل بالعين من ظاهر قوله: ولو اقتضى التمييز الثبوت عينا. والصواب هو العدم، لأن المثبتين قائلون بثبوت المعدومات في العدم، وقد تقدم كلام الشارح العلامة آنفا: هذا برهان آخر دال على انتفاء الماهيات في العدم. بل وسيأتي تصريح المحقق الطوسي في ذلك في أول المسألة الثالثة عشرة. (3) وقد مرت الإشارة إليه في قوله: وكيف تتحقق الشيئية.. الخ. (4) يعني به المعدوم الممكن الذي سموه ثابتا لا المعدوم الممتنع المسمى عندهم بالمنفي. 49 الإمكان المنفي، فيكون أمرا ثبوتيا وليس جوهرا قائما بذاته، فلا بد له من محل ثبوتي هو الممكن لاستحالة قيام الصفة بغير موصوفها، فيكون الممكن العدمي ثابتا وهو المطلوب. وأجاب المصنف عنه: بأن الإمكان أمر اعتباري ليس شيئا خارجيا، وإلا لزم التسلسل. وأن يكون الثبوتي حالا في محل عدمي (1) وهو باطل قطعا. وأيضا فإن الإمكان يعرض للممكنات العدمية كالمركبات: وهم وافقونا على انتفائها خارجا، فيبطل قولهم كل ممكن ثابت. المسألة الثانية عشرة في نفي الحال قال: وهو يرادف الثبوت، والعدم النفي، فلا واسطة. أقول: ذهب أبو هاشم (2) وأتباعه من المعتزلة والقاضي والجويني من
(1) لأن الثابت عندهم ليس بثابت عند المصنف، فأبطل قولهم بالواسطة. وقوله: كالممكنات العدمية، يعني بها المنفي عندهم وهو العدم الممتنع. وقوله: كالمركبات، يعني بها المركبات الخيالية كما مضت الإشارة إليها آنفا. (2) هو أبو هاشم عبد السلام بن أبي علي محمد الجبائي، كان هو وأبوه من كبار المعتزلة، ولد أبو هاشم سنة 247 من الهجرة، وتوفي سنة 321 ببغداد، والجبائي بضم الجيم وتشديد الباء الموحدة وهذه النسبة إلى قرية من قرى البصرة (تاريخ ابن خلكان ج 1 ط 1 ص 317). والقاضي هو أبو بكر محمد بن الطبيب المعروف بالباقلاني البصري المتكلم المشهور، كان على مذهب الشيخ ابن الحسن الأشعري وناصرا طريقته، توفي ببغداد سنة 403 ه (تاريخ ابن خلكان ج 2 ط 1 ص 56). والجويني هو أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله الجويني الشافعي الملقب ضياء الدين المعروف بإمام الحرمين، مات سنة 478 ه (تاريخ ابن خلكان ج 1 ص 312 ط 1). وفي معجم ياقوت: جوين (كزبير) اسم كورة جليلة نزهة على طريق القوافل من بسطام إلى نيسابور، يسميها أهل خراسان كويان فعربت فقيل: جوين.. ينسب إلى جوين خلق كثير من الأئمة والعلماء منهم الإمام حقا أبو المعالي عبد الملك بن أبي محمد عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف الجويني إمام الحرمين، أشهر من علم في رأسه نار - إلى أن قال - ومات بنيسابور في شهر ربيع الآخر سنة 478 ه. 50 الأشاعرة إلى أن هاهنا واسطة بين الموجود والمعدوم، وهي ثابتة وسموها الحال (1)، وحدوها بأنها صفة لموجود لا توصف بالوجود والعدم، فيكون الثابت
(1) قال ابن الحزم في الفصل: وأما الأحوال التي ادعتها الأشعرية فإنهم قالوا إن ها هنا أحوالا ليست حقا ولا باطلا ولا هي مخلوقة ولا غير مخلوقة ولا هي موجودة ولا معدومة ولا هي معلومة ولا هي مجهولة ولا هي أشياء ولا هي لا أشياء، إنتهى. واعلم أن القائلين بالأحوال جعلوها واسطة بين الأعيان الموجودة في الخارج بالاستقلال وبين الصور العلمية التي لا توصف بأنها مجعولة، لأنها من حيث هي صور علمية معدومة في الخارج، فالأحوال لكونها صفات للأعيان المجعولة في الخارج وليست ذوات مستقلة وأعيانا جوهرية، بل لها وجود تبعي لا تكون موجودة ولا معدومة، أي لا تكون موجودة جوهرية مستقلة خارجية، ولا هي معدومة لأنها موجودة بالتبع. وهذا صرف اصطلاح، فالتشنيع غير وارد عليهم، كيف والأوحدي من أساطين التحقيق الذين لا يرون إلا الوجود الصمدي والحق الأحدي، قائلون بأن الأعيان من حيث أنها صور علمية أعيان ثابتة، أي لا توصف بأنها مجعولة لأنها حينئذ معدومة في الخارج والمجعول لا يكون إلا موجودا كما لا توصف الصور العلمية والخيالية التي في أذهاننا بأنها مجعولة ما لم توجد في الخارج، ولو كانت كذلك لكانت الممتنعات أيضا مجعولة، لأنها صور علمية فالجعل أنما يتعلق بها بالنسبة إلى الخارج وليس جعلها إلا إيجادها في الخارج، كما في التنبيه الأول من الفصل الثالث من فصول شرح القيصري على فصوص الحكم (ص 20 ط 1). بل صاحب فصوص الحكم يبحث في الفص الزكراوي منه عن الأحكام التي هي حاكمة حقيقة في الموصوفين بها على غيرهم، وتلك الأحكام كالمناصب التي في أصحابها، فما داموا منصوبين ومتصفين بها كانوا حاكمين كالسلطان والقاضي والوزير وغيرهم، ففي الحقيقة تلك الأحكام حاكمة لا أنفس هؤلاء، وتلك الأحكام هي معان قائمة في محالها وهي واسطة بين الوجود والعدم. بذلك الوجه الذي أشرنا إليه وإنما سميت حالا، إذ بها يتحول الذات فيقول صاحب الفصوص في تلك الأحكام التي هي أحوال ما هذا لفظه: والحكم لا يتصف بالخلق لأنه أمر توجبه المعاني لذواتها، فالأحوال لا موجودة ولا معدومة، أي لا عين لها في الوجود لأنها نسب، ولا معدومة في الحكم لأن الذي قام به العلم يسمى عالما وهو الحال، فعالم ذات موصوفة بالعلم، فما هو عين الذات ولا عين العلم وما ثم إلا علم وذات قام بها هذا العلم، وكونه عالما حال لهذه الذات باتصافها بهذا المعنى، فحدثت نسبة العلم إليه وهو المسمى عالما. وقال الشارح المذكور: (فالأحوال والأحكام كلها لا موجودة في الأعيان بمعنى أن لها أعيانا في الخارج ولا معدومة بمعنى أنها معدومة الأثر في الخارج) - إلى قوله: - (وهذا هو المسمى بالحال في مذهب المعتزلة الذي هو واسطة بين الوجود والعدم) (ص 408 ط 1). فعلى ما حققنا يظهر لك مفاد كلامهم المنقول في الشوارق حيث قال: (ذهب أبو هاشم وأتباعه من المعتزلة وإمام الحرمين والقاضي أبو بكر من الأشاعرة إلى أن المعلوم إن لم يكن له ثبوت في الخارج فهو المعدوم، وإن كان له ثبوت في الخارج، فأما باستقلاله وباعتبار ذاته فهو الموجود وأما باعتبار التبعية لغيره فهو حال، فالحال واسطة بين الموجود والمعدوم لأنه عبارة عن صفة للموجود لا تكون موجودة ولا معدومة، مثل العالمية والقادرية ونحو ذلك. والمراد بالصفة ما لا يعلم ولا يخبر عنه بالاستقلال بل بتبعية الغير والذات تخالفها وهي لا تكون إلا موجودة أو معدومة بل لا معنى للموجود إلا ذات لها صفة الوجود، والصفة لا تكون ذاتا فلا تكون موجودة، فلذا قيدوا بالصفة، وإذا كانت صفة للموجود لا تكون معدومة أيضا لكونها ثابتة في الجملة، فهي واسطة بين الموجود والمعدوم) إنتهى. فقول الشارح: وهذا المذهب باطل بالضرورة، أو قول الماتن: فلا واسطة، فمما ينبغي التأمل فيه جدا. ومما هو أصدق شاهد على التحقيق الذي تفردنا به في المقام أن الكون في اصطلاح أهل التوحيد القائلين بالوحدة الشخصية في الوجود الحق اللا بشرط الاطلاقي الصمدي، هو عبارة عن وجود العالم من حيث هو عالم، أي من حيث التعين والماهية لا من حيث أنه حق، أي لا من حيث الوجود، وإن كان الكون مرادفا للوجود المطلق عند أهل النظر. نعم، لو ذهب القائل بالثبوت إلى الثبوت في الخارج فهو خطأ بلا كلام، كما ذهب إليه المعتزلي على ما صرح به القيصري في فصول شرحه على فصوص الحكم (ص 21 ط 1). 51 أعم من الموجود، والمعدوم أعم من المنفي. وهذا المذهب باطل بالضرورة، فإن العقل قاض بأنه لا واسطة بين الوجود والعدم، وأن الثبوت والوجود مترادفان، وكذا العدم والنفي مترادفان، ولا شئ أظهر عند العقل من هذه القضية، فلا يجوز الاستدلال عليها. قال: والوجود لا ترد عليه القسمة والكلي ثابت ذهنا ويجوز قيام العرض بالعرض. أقول: لما أبطل مذهبهم أشار إلى بطلان ما احتجوا به، وهو وجهان: الأول:
52 قالوا قد تبين أن الوجود زائد على الماهية، فإما أن يكون موجودا أو معدوما، أو لا موجودا ولا معدوما، والأولان باطلان، أما الأول فلأنه يلزم التسلسل، وأما الثاني فلأنه يلزم منه اتصاف الشئ بنقيضه، فبقي الثالث. والجواب: أن الوجود غير قابل لهذه القسمة لاستحالة انقسام الشئ إلى نفسه وإلى غيره، فكما لا يقال السواد إما أن يكون سوادا أو بياضا، كذلك لا يقال الوجود إما أن يكون موجودا أو لا يكون، ولأن المنقسم إلى الشيئين أعم منهما، ويستحيل أن يكون الشئ أعم من نفسه. الوجه الثاني: أن اللونية أمر ثابت مشترك بين السواد والبياض، فيكون كل واحد من السواد والبياض ممتازا عن الآخر بأمر زائد على ما به الاشتراك، ثم الوجهان إن كانا موجودين (1)، لزم قيام العرض بالعرض، وإن كانا معدومين لزم أن يكون السواد أمرا عدميا وكذلك البياض، وهو باطل بالضرورة فثبتت الواسطة. والجواب من وجهين: الأول: أن الكلي ثابت في الذهن فلا ترد عليه هذه القسمة. الثاني: إن العرض قد يقوم بالعرض على ما يأتي (2). وأيضا فإن قيام الجنس بالفصل ليس هو قيام عرض بعرض. قال: ونوقضوا بالحال نفسها. أقول: إعلم أن نفاة الأحوال قالوا: وجدنا ملخص أدلة مثبتي الحال يرجع إلى أن هاهنا حقائق تشترك في بعض ذاتياتها، وتختلف في البعض الآخر، وما به الاشتراك مغاير لما به الامتياز، ثم قالوا: وذلك ليس بموجود ولا معدوم، فوجب القول بالحال. وهذا ينتقض عليهم بالحال نفسها، فإن الأحوال عندهم متعددة
(1) باتفاق النسخ كلها. فالمراد بالوجهين الأمران المذكوران في الوجه الثاني، ولذا بدل في المطبوعة الوجهان بالأمرين. (2) وذلك كالسرعة العارضة للحركة العارضة للجسم، ويأتي في المسألة الخامسة من الفصل الأول من المقصد الثاني. 53 متكثرة فلها جهتا اشتراك، هي مطلق الحالية، وامتياز هي خصوصيات تلك الأحوال وجهة الاشتراك مغايرة لجهة الامتياز فيلزم أن تكون للحال حال أخرى ويتسلسل. قال: والعذر بعدم قبول التماثل والاختلاف والتزام التسلسل باطل. أقول: اعتذر المثبتون عن إلزام النفاة بوجهين: الأول: أن الحال لا توصف بالتماثل والاختلاف. الثاني: القول بالتزام التسلسل. والعذران باطلان، أما الأول فلأن كل معقول إذا نسب إلى معقول آخر، فإما أن يتحدا في المعقولية ويكون المتصور من أحدهما هو المتصور من الآخر، وإنما يتميزان (1) بعوارض لاحقة لهما، وهما المثلان، أو لا يكون كذلك وهما المختلفان، فلا يتصور نفيهما. وأما الثاني فلأنه يبطل الاستدلال بوجود الصانع تعالى، وبراهين إبطال التسلسل آتية هاهنا. أجاب بعض المتأخرين بأن المختلفين إذا اشتركا في أمر ثبوتي، لزم ثبوت أمرين بهما يقع الاختلاف والتماثل، أما إذا اتحدا في أمر سلبي فلا يلزم ذلك، والأحوال وإن اشتركت في الحالية كالسوادية والبياضية، إلا أن ذلك المشترك أمر سلبي، فلا يلزم التسلسل، وهو غير مرضي عندهم، لأن الأحوال عندهم ثابتة. المسألة الثالثة عشرة في التفريع على القول بثبوت المعدوم والأحوال قال: فبطل ما فرعوا عليهما من تحقق الذوات الغير المتناهية في العدم،
(1) كما في (م). والنسخ الأخرى: وإنما يتعددان. وقوله: فلا يتصور نفيهما، أي نفي التماثل والاختلاف في الحال. 54 وانتفاء تأثير المؤثر فيها وتباينها، واختلافهم في إثبات صفة الجنس وما يتبعها في الوجود، ومغايرة التحيز للجوهرية، وإثبات صفة المعدوم بكونه معدوما، وإمكان وصفه بالجسمية، ووقوع الشك في إثبات الصانع بعد اتصافه بالقدرة والعلم والحياة. أقول: لما أبطل مذاهب القائلين بثبوت المعدوم والحال، أبطل ما فرعوا عليهما، وقد ذكر من فروع إثبات الذوات في العدم أحكاما اختلفوا في بعضها: الأول: اتفقوا على أن تلك الذوات غير متناهية في العدم، فلكل نوع عدد غير متناه، وأن تلك الأعداد متباينة بأشخاصها (1). الثاني: أن الفاعل لا تأثير له في جعل الجوهر جوهرا والعرض عرضا، وإنما تأثير الفاعل في جعل تلك الذوات موجودة، لأن تلك الذوات ثابتة في العدم لم تزل، والمؤثر إنما يؤثر على طريقة الأحداث. وقد صار إلى هذا الحكم جماعة من الحكماء قالوا: لأن كل ما بالفاعل ينتفي بانتفاء الفاعل، فلو كان الجوهر جوهرا بالفاعل لانتفى بانتفائه، لكن انتفاء الجوهر عن ذاته يستلزم التناقض. الحكم الثالث: اتفقوا على انتفاء التباين في الذوات، بل جعلوا الذوات كلها متساوية في كونها ذواتا، وإنما تختلف بصفات عارضة لها. وهذا المذهب باطل، لأن الصفات إن كانت لازمة كان اختلافها دليلا على اختلاف الملزومات، وإلا جاز أن ينقلب السواد جوهرا وبالعكس، وذلك باطل بالضرورة. الرابع: اختلفوا في صفات الأجناس (2)، هل هي ثابتة في العدم أم لا؟
(1) وفي بعض النسخ متناهية بأشخاصها، والقوشجي فسر على هذا الوجه ولكن الصواب هو الوجه الأول المختار. (2) ذهب الشحام إلى اتصاف الذوات المعدومة في حال العدم بصفات الأجناس وغيرها أيضا حتى التزم رجلا معدوما ركب على فرس معدوم ركوبا معدوما وبيده سيف معدوم يحركه بحركات معدومة وعلى رأسه قلنسوة معدومة ذات ألوان معدومة. 55 والمراد بصفات الأجناس ما يقع بها الاختلاف والتماثل كصفة الجوهرية في الجوهر والسوادية في السواد إلى غير ذلك من الصفات، فذهب ابن عياش إلى عراء تلك الماهيات عن الصفات في العدم، وأما الجبائيان (1) وعبد الجبار وابن متويه (2) فإنهم قالوا: صفات الجوهر إما أن تكون عائدة إلى الجملة كالحيية (3) وما يشترط بها، وإما أن تكون عائدة إلى الأفراد وهي أربعة: إحداهما: الصفة الحاصلة حالتي الوجود والعدم وهي الجوهرية. والثانية: الوجود وهي الصفة الحاصلة بالفاعل. والثالثة: التحيز وهي الصفة التابعة للحدوث الصادرة عن صفة الجوهرية بشرط الوجود. والرابعة: الحصول في الحيز وهي الصفة المعللة بالمعنى، وليس له صفة زائدة على هذه الأربع فليس له بكونه أسود أو أبيض صفات. وأما الأعراض فلا صفات لها عائدة إلى الجملة، بل لها ثلاث صفات راجعة إلى الأفراد: إحداها: الصفة الحاصلة حالتي الوجود والعدم وهي صفة الجنس. الثانية: الصفة الصادرة عنها بشرط الوجود. الثالثة: صفة الوجود. الخامس: ذهب أبو يعقوب الشحام وأبو عبد الله البصري وأبو إسحاق بن عياش (4) إلى أن الجوهرية هي التحيز، ثم قال الشحام والبصري: إن الذات
(1) هما أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي المتوفى سنة 303 ه (تاريخ ابن خلكان ج 2 ص 56 ط 1) وابنه أبو هاشم المذكور آنفا. (2) وفي (م): ابن مستويه، والصواب هو الأول وكأن كاتب الثاني قصد المطايبة والمزاح. (3) وفي (م): إلى الجمل، وفي (ص ق ش ز د) كما اخترناه في الكتاب، وفي بعض النسخ كالحياة. والجمل جمع الجملة أي مجموع ما يتركب منه البنية، وما يشترط بالحياة كالعلم والقدرة لأن الحياة أمام الأئمة من الأسماء وأم الأمهات من الصفات، فالحياة عائدة إلى مجموع ما يتركب منه البنية وتتصف أجزاؤه بها أيضا، وإذا تفرقت الأجزاء وانتفت البنية انتفت الحياة عنها بخلاف باقي الصفات المعدودة في الكتاب. (4) ابن عياش هذا هو غير أبي بكر بن عياش الراوي عن العاصم القارئ المعروف بابن عياش أيضا، وهو أيضا غير أحمد بن محمد بن عبيد الله بن الحسن بن عياش الجوهري المعروف بابن عياش أيضا. بل هو الذي قال ابن النديم في الفهرست: ومن المعتزلة ممن لا نعرف من أمره غير ذكره أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن عياش. 56 موصوفة بالتحيز كما توصف بالجوهرية، ثم اختلفا فقال الشحام: إن الجوهر حال عدمه حاصل في الحيز، وقال البصري: شرط الحصول في الحيز الوجود، فهو حال العدم موصوف بالتحيز لا الحصول في الحيز، وزعم ابن عياش أنه حال العدم غير موصوف بأحدهما ولا بغيرهما. السادس: اتفق المثبتون إلا أبا عبد الله البصري على أن المعدوم لا صفة له (1) بكونه معدوما، والبصري أثبت له صفة بذلك. السابع: اتفقوا إلا أبا الحسين الخياط على أن الذوات المعدومة لا توصف بكونها أجساما وجوزه الخياط. الثامن: اتفقوا على أن من علم أن للعالم صانعا قادرا حكيما مرسلا للرسل قد يشك في أنه هل هو موجود أم لا، ويحتاج في ذلك إلى دليل بناء منهم على جواز اتصاف المعدوم بالصفات المتغايرة والعقلاء كافة منعوا من ذلك، وأوجبوا وجود الموصوف بالصفة الموجودة لأن ثبوت الشئ لغيره فرع على ثبوت ذلك الغير في نفسه. قال: وقسمة الحال (2) إلى المعلل وغيره وتعليل الاختلاف بها وغير ذلك مما لا فائدة بذكره (3). أقول: لما ذكر تفاريع القول بثبوت المعدوم شرع في تفاريع القول بثبوت
(1) يعني أن المعدومية هل هي صفة ثابتة للمعدوم ويتصف المعدوم بها في العدم كما ذهب إليه البصري أم لا كما ذهب إليه جمهورهم. (2) مجرور عطفا على قوله المتقدم: تحقق الذوات، أي فبطل ما فرعوا عليهما من تحقق الذوات غير المتناهية في العدم، ومن قسمة الحال إلى المعلل وغيره. (3) كالصفات العائدة إلى الجملة والأفراد في الجواهر والأعراض مما قد تقدم الكلام فيه. 57 الحال وذكر منها فرعين: الأول: قسمة الحال إلى المعلل وغيره، قالوا: ثبوت الحال للشئ إما أن يكون معللا بموجود قائم بذلك الشئ كالعالمية المعللة بالعلم، أو لا يكون كذلك كسوادية السواد، فقسموا الحال إلى المعلل وغيره. الثاني: اتفقوا على أن الذوات كلها متساوية في الماهية، وإنما تختلف بأحوال تنضاف إليها. واتفق أكثر العقلاء على بطلان هذا لوجوب استواء المتماثلين في اللوازم، فيجوز على القديم الانقلاب إلى المحدث وبالعكس، ولأن التخصيص لا بد له من مرجح وليس ذاتا وإلا تسلسل، ولا صفة ذات وإلا تسلسل. المسألة الرابعة عشرة في الوجود المطلق والخاص قال: ثم الوجود قد يؤخذ على الإطلاق فيقابله عدم مثله، وقد يجتمعان لا باعتبار التقابل ويعقلان معا، وقد يؤخذ مقيدا فيقابله مثله (1). أقول: إعلم أن الوجود عبارة عن الكون في الأعيان (2)، ثم هذا الكون في الأعيان قد يؤخذ عارضا لماهية ما فيتخصص الوجود حينئذ، وقد يؤخذ مجردا (3) من غير التفات إلى ماهية خاصة فيكون وجودا مطلقا، إذا عرفت هذا
(1) باتفاق النسخ كلها، أي فيقابله عدم مثله فحذف العدم هنا بقرينة قوله: في المطلق. (2) أي باعتبار أنه وجه من وجوه الوجود الحق المطلق الصمدي وشأن من شؤونه المنفطرة منه، كما أنك تبحث عن عين انسان وقواه أو أنوار أغصان مثلا وهي منفطرة من أصولها وهو سبحانه وتعالى فاطر السماوات والأرض. (3) ينبغي في المقام التدبر التام في الفرق بين العين والمفهوم، والعين هو الحق الصمدي الذي هو الأول والآخر والظاهر والباطن لا يحيطون به علما والمفهوم وعاؤه الذهن، ثم إن تميز المحيط عن المحاط إنما هو بالتعين الإحاطي لا بالتعين التقابلي، والمبحوث عنه في الكتاب هو مفهوم الوجود المطلق، فافهم. 58 فالوجود العام يقابله عدم مطلق غير متخصص بماهية خاصة، وهذا الوجود المطلق والعدم المطلق قد يجتمعان على الصدق فإن المعدوم في الخارج الموجود في الذهن يصدق عليه أنه معدوم مطلقا وأنه موجود مطلقا (1). نعم إذا نظر إلى وحدة الاعتبار امتنع اجتماعهما في الصدق على شئ واحد، وإنما يجتمعان إذا أخذا لا باعتبار التقابل (2)، ولهذا كان المعدوم مطلقا متصورا للحكم عليه بالمقابلة للموجود المطلق وكل متصور ثابت في الذهن، والثابت في الذهن أحد أقسام مطلق الثابت، فيكون الثابت المطلق صادقا على المعدوم مطلقا لا باعتبار التقابل، وهذا الوجود المطلق والعدم المطلق أمران معقولان، وإن كان قد نازع (3) قوم في أن المعدوم مطلقا متصور. وأما الوجود الخاص وهو وجود الملكات المتخصص (4) باعتبار تخصصها فإنه يكون مقيدا كوجود الانسان مثلا المقيد بقيد الانسان وغيره من الماهيات، فإنه يقابله عدم مثله خاص. المسألة الخامسة عشرة في أن عدم الملكة يفتقر إلى الموضوع قال: ويفتقر (5) إلى الموضوع كافتقار ملكته.
(1) أي معدوم باعتباره في الخارج بالحمل الأولي الذاتي، وموجود باعتباره في الذهن بالحمل الشائع الصناعي. (2) وذلك كالكلية والجزئية، أي الجزئي الإضافي غير الحقيقي كما تقدم في المسألة العاشرة. (3) سيأتي في المسألة السابعة والثلاثين (ص 101) أن الذهن يتصور العدم المطلق. (4) صفة للوجود، أي الوجود متخصص باعتبار تخصص تلك الملكات، وفي (م ز) باعتبار تخصيص تلك الملكات الوجود، فيصير الوجود متخصصا بها وهو الوجود الخاص المأخوذ في قبال الوجود المطلق. (5) أي ذلك العدم المقيد وهو عدم الملكة، وكذلك ضمير ملكته. 59 أقول: عدم الملكة ليس عدما مطلقا، بل له حظ ما من الوجود، ويفتقر إلى الموضوع كافتقار الملكة إليه، فإنه عبارة عن عدم شئ عن شئ آخر مع إمكان اتصاف الموضوع بذلك الشئ كالعمي فإنه عدم البصر لا مطلقا ولكن عن شئ من شأنه أن يكون بصيرا فهو يفتقر إلى الموضوع الخاص المستعد للملكة كما تفتقر الملكة إليه، ولهذا لما امتنع البصر على الحائط لعدم استعداده امتنع العمي عليه. قال: ويؤخذ الموضوع شخصيا ونوعيا وجنسيا. أقول: لما فسر عدم الملكة بأنه عدم شئ عن موضوع من شأنه أن يكون له وجب عليه أن يبين الموضوع، وقد اختلف الناس في ذلك، فذهب قوم إلى أن ذلك الموضوع موضوع شخصي فعدم اللحية عن الأمرد عدم ملكة وعدمها عن الأثط (1) ليس عدم الملكة. وقوم جعلوه أعم من ذلك بحيث يدخل فيه الموضوع النوعي، فعدم اللحية عن الأثط إيجاب وعدم ملكة وعدمها عن الحيوان ليس عدم ملكة (2). وقوم جعلوه أعم من ذلك بحيث يدخل فيه الموضوع الجنسي أيضا، ولا مشاحة في ذلك لعدم فائدته. المسألة السادسة عشرة في أن الوجود بسيط قال: ولا جنس له بل هو بسيط فلا فصل له (3).
(1) في منتهى الإرب: رجل أثط مرد كوسه لغت عامي است، ثط بر وزن خط كوسه راگويند. (2) مطابق لنسخ (م ص ق ز) والثلاث الأولى أصحها وأقدمها، وأسلوب البحث يقتضي ذلك أيضا. وفي (د): وعدمها عن الحيوانات، وهي تؤيدها، وفي (ش) وحدها: وعدمها عن الحمار. وله وجه أيضا. (3) كما يأتي في المسألة الرابعة من الفصل الثاني أن ما لا جنس له فلا فصل له. 60 أقول: قد بينا أن الوجود عارض لجميع المعقولات فلا معقول أعم منه فلا جنس له فلا فصل له، لأن الفصل هو المميز لبعض أفراد الجنس عن البعض، فإذا انتفت الجنسية انتفت الفصلية بل هو بسيط. لا يقال: لم لا يجوز (1) أن يكون مركبا لا من الأجناس والفصول كتركب العدد من الآحاد؟ لأنا نقول: تلك الأجزاء إما أن تكون موجودة أو لا تكون كذلك، وعلى التقدير الأول تكون طبيعة الجزء والمركب واحدة فلا يقع الامتياز إلا بالمقدار وهو منتف، وعلى التقدير الثاني لا يكون الوجود عارضا لجميع المعقولات مع فرضنا إياه كذلك هذا خلف. المسألة السابعة عشرة في مقوليته على ما تحته من الجزئيات قال: ويتكثر بتكثر الموضوعات (2) ويقال بالتشكيك على عوارضها. أقول: الوجود طبيعة معقولة كلية واحدة غير متكثرة، فإذا اعتبر عروضه
(1) يعني ما قلتم من أن الوجود بسيط حيث لا جنس له فلا فصل له، لأن ما لا جنس له لا فصل له ممنوع، وذلك لجواز أن يكون الموجود مركبا من أجزاء لا تكون جنسا له ولا فصلا له تركب العدد من الآحاد مثلا أن العشرة مركبة من الآحاد وليس بعض تلك الآحاد جنسا لبعض آخر ولا فصلا له. (2) وهذه المسألة وأترابها، موضوعها مفهوم الوجود المطلق كما صرح به الشارح في قوله: الوجود طبيعة معقولة كلية واحدة غير متكثرة. وحقيقة الأمر أشمخ من ذلك بمراحل إلا أن أمثال هذه المباحث أظلالها وحكايات لها ومجدية النفس في الاعتلاء إليها. ثم إن هذا التشكيك هو ما تفوه به المشاء وإن كان يمكن بين ما في الكتاب وبين قولهم بيان وجوه من الفرق، ولكن نظرهما ينتهي إلى وجود منزه عن الماهية هو فوق التمام وما سواه زوج تركيبي من الوجود والماهية، فينجر الكلام إلى تنزيه هو عين التشبيه، وهو سبحانه منزه عن هذا التنزيه أيضا. وتفصيل هذه المباحث وتحقيق الحق فيها يطلب في رسالتنا الفارسية الموسومة ب (وحدت از ديدگاه عارف وحكيم) وسيأتي البحث عنه في المسألة السادسة والثلاثين أيضا. 61 للماهيات يتكثر بحسب تكثرها لاستحالة عروض العرض الشخصي لماهيات متعددة وتكون طبيعته متحققة في كل واحدة من عوارض تلك الماهيات، أعني أن طبيعة الوجود متحققة في وجود الانسان ووجود الفرس وغيرهما من وجودات الحقائق، ويصدق عليها صدق الكلي على جزئياته، وعلى تلك الماهيات صدق العارض على معروضاته، ويقال على تلك الوجودات العارضة للماهيات بالتشكيك وذلك أن الكلي إن كان صدقه على أفراده على السواء كان متواطيا وإن كان لا على السواء، بل يكون بعض تلك الأفراد أولى بالكلي من الآخر أو أقدم منه أو يوجد الكلي في ذلك البعض أشد منه في الآخر كان مشككا والوجود من حيث هو (1) بالنسبة إلى كل وجود خاص كذلك، لأن وجود العلة أولى بطبيعة الوجود من المعلول، والوجود في العلة سابق على الوجود في المعلول وأشد عند بعضهم فيكون مشككا. قال: فليس جزء من غيره مطلقا. أقول: هذا نتيجة ما تقدم وذلك لأن المقول بالتشكيك لا يكون جزء مما يقال عليه ولا نفس حقيقته لامتناع التفاوت في الماهية وأجزائها على ما يأتي فيكون البتة عارضا لغيره فلا يكون جزء من غيره على الإطلاق، أما بالنسبة إلى الماهيات فلأنه عارض لها على ما تقدم من امتناع كونه جزء من غيره وأنه زائد على الحقائق، وأما بالنسبة إلى وجوداتها فلأنه مقول عليها بالتشكيك، فلهذا قال رحمه الله: مطلقا. المسألة الثامنة عشرة في الشيئية قال: والشيئية من المعقولات الثانية (2) وليست متأصلة في الوجود فلا شئ
(1) باتفاق النسخ كلها، أي الوجود المطلق. (2) لعل التنصيص بأن الشيئية من المعقولات الثانية لدفع التوهم بأنها جنس الأجناس كما توهمه بعض الناس حتى ذهب بعض من قارب عصرنا إلى ذلك الوهم. أو الظاهر أن البحث عنها في المقام ناظر إلى قوله في المسألة الحادية عشرة: أن الوجود يساوق الشيئية فلا تتحقق بدونه فهاهنا صرح بأن الشيئية من المعقولات الثانية، وفي المسألة السادسة والثلاثين: بأن الوجود من المعقولات الثانية ثم عد عدة أخرى منها. والمراد بالوجود هو الوجود المطلق، فتبصر. واعلم إن المعقول الثاني عند الحكيم أعم منه عند المنطقي، بيان ذلك أن ما يعرض لشئ فهناك ينتزع أمران: عروض واتصاف، أما العروض فمن العارض، وأما الاتصاف فمن الموضوع، مثلا إذا عرض بياض جسما عرض ذلك البياض الجسم واتصف الجسم به بأن صار أبيض، وعروض الشئ في بادئ الرأي يتصور بأحد الوجوه الأربعة: الأول: أن يكون العروض والاتصاف كلاهما في الخارج كعروض بياض لجسم واتصاف الجسم بذلك البياض. والثاني: أن يكون كلاهما في الذهن كالكلية والجزئية والذاتية والعرضية والجنسية والفصلية والموضوعية والمحمولية والقياس والقضية والمعرف وغيرها من المعاني التي جعلت موضوعا للمنطق على أحد القولين. والثالث: أن يكون الاتصاف في الخارج والعروض في الذهن كالشيئية والإمكان والجوهرية والعرضية. والرابع عكس الثالث: بأن يكون الاتصاف في الذهن والعروض في الخارج. والأول عند كلا الفريقين ليس من المعقولات الثانية بلا خلاف، والثاني عندهما من المعقولات الثانية كذلك، والثالث عند الحكيم منها وعند المنطقي ليس منها، والرابع لا تحقق له، فالشيئية من المعقولات الثانية عند الحكيم. وإنما سميت تلك المعقولات بالثانية لأنها مستندة إلى معقولات أولى متقدمة منها، وذلك لأنه يتصور الانسان أولا مثلا ثم تعرضه الكلية، فلما كانت تلك المعقولات متأخرة عن معقولات أخر سميت بالمعقولات الثانية. والمراد بالثانية ما ليست بالأولى أعم من أن تعرض معقولا أولا أو ثانيا. وقد أشبعنا البحث عنها في تعليقاتنا على اللآلي المنظومة في المنطق للمتأله السبزواري. 62 مطلقا ثابت بل هي تعرض لخصوصيات الماهيات. أقول: قال أبو علي بن سينا (1): الوجود إما ذهني وإما خارجي، والمشترك
(1) الحسين بن عبد الله بن سينا الشيخ الرئيس الحكيم المشهور، اسم أمه (ستارة) كان أبوه من أهل بلخ وانتقل منها إلى بخارى وتوفي سنة 428 بهمدان (تاريخ ابن خلكان ج 1 ط 1 ص 168). 63 بينهما هو الشيئية فإن أراد حمل الشيئية على القدر المشترك وصدقها عليه فهو صواب وإلا فهو ممنوع، إذا عرفت هذا فنقول: الشيئية والذاتية والجزئية وأشباهها من المعقولات الثانية التي تعرض للمعقولات الأولى، لأنها لا تعقل إلا عارضة لغيرها من الماهيات وليست متأصلة في الوجود كتأصل الحيوانية والانسانية فيه، بل هي تابعة لغيرها في الوجود وليس يمكن وجود شيئية مطلقة فلا شئ مطلقا ثابت، إنما الثبوت يعرض للماهيات المخصوصة الشخصية. المسألة التاسعة عشرة في تمايز الإعدام قال: وقد يتمايز الإعدام ولهذا استند عدم المعلول إلى عدم العلة لا غير، ونافى (1) عدم الشرط وجود المشروط وصحح عدم الضد وجود الآخر بخلاف باقي الإعدام. أقول: لا شك في أن الملكات متمايزة، وأما العدمات فقد منع قوم من تمايزها بناء على أن التميز أنما يكون للثابت خارجا وهو خطأ فإنها تتمايز بتمايز ملكاتها، واستدل المصنف رحمة الله عليه بوجوه ثلاثة: الأول: أن عدم المعلول يستند إلى عدم العلة ولا يستند إلى عدم غيرها فلولا امتياز عدم العلة من عدم غيرها لم يكن عدم المعلول مستندا إليه دون غيره، وأيضا فإنا نحكم بأن عدم المعلول لعدم علته ولا يجوز العكس، فلولا تمايزهما لما كان كذلك. الثاني: أن عدم الشرط ينافي وجود المشروط لاستحالة الجمع بينهما، لأن المشروط لا يوجد إلا مع شرطه، وإلا لم يكن الشرط شرطا وعدم غيره لا
(1) فعل ماض من المنافاة، عطف على استند، وعدم الشرط مرفوع على الفاعلية، ووجود المشروط منصوب على المفعولية، وعلى هذا المنوال الجملة التالية. 64 ينافيه (1) فلولا الامتياز لم يكن كذلك. الثالث: أن عدم الضد عن المحل يصحح وجود الضد الآخر فيه لانتفاء صحة وجود الضد الطارئ مع وجود الضد الباقي، وعدم غيره لا يصحح ذلك فلا بد من التمايز. قال: ثم العدم قد يعرض لنفسه فيصدق النوعية والتقابل عليه باعتبارين. أقول: العدم قد يفرض عارضا لغيره وقد يلحظ لا باعتبار عروضه للغير فيكون أمرا معقولا قائما برأسه ويكون له تحقق في الذهن، ثم إن العقل يمكنه فرض عدمه (2) لأن الذهن يمكنه إلحاق الوجود والعدم بجميع المعقولات حتى بنفسه، فإذا اعتبر العقل للعدم ماهية معقولة وفرضها معدومة كان العدم عارضا لنفسه ويكون العدم العارض للعدم مقابلا لمطلق العدم باعتبار كونه رافعا له وعدما له ونوعا منه، باعتبار أن العدم المعروض أخذ مطلقا على وجه يعم العارض له ولغيره، فيصدق نوعية العدم العارض للمعروض والتقابل بينهما باعتبارين. قال: وعدم المعلول ليس علة لعدم العلة في الخارج وإن جاز في الذهن على أنه برهان إني وبالعكس لمي. أقول: لما بين أن الإعدام متمايزة بأن عدم المعلول مستند إلى عدم العلة ذكر ما يصلح جوابا لتوهم من يعكس القول ويجعل عدم المعلول علة لعدم العلة فأزال هذا الوهم وقال: إن عدم المعلول ليس علة بل الأمر بالعكس على ما يأتي (3)، ثم قيد النفي بالخارج لأن عدم المعلول قد يكون علة لعدم العلة في الذهن كما في برهان إن بأن يكون عدم المعلول أظهر عند العقل من عدم العلة فيستدل العقل
(1) اي عدم غير الشرط لا ينافي المشروط. (2) ضمير عدمه راجع إلى العدم الذي لوحظ لا باعتبار عروضه، أعني العدم المطلق الذي يكون معروضا للعدم العارض له. (3) يأتي في المسألة الثالثة والأربعين من هذا الفصل، وفي المسألة السادسة عشرة من الفصل الثالث. 65 عليه ويكون علة له باعتبار التعقل لا باعتبار الخارج، ولا يفيد العلية في نفس الأمر بل في الذهن، ولهذا سمي إنيا لأنه لا يفيد إلا الوجود (1)، أما الاستدلال بعدم العلة على عدم المعلول فهو برهان لمي مطابق للأمر نفسه. المسألة العشرون في أن عدم الأخص أعم من عدم الأعم قال: والأشياء المترتبة في العموم والخصوص وجودا تتعاكس عدما. أقول: إذا فرض أمران أحدهما أعم من الآخر كالحيوان والانسان، ونسب عدم أحدهما إلى الآخر بالعموم والخصوص وجد عدم الأخص أعم من عدم الأعم فإن الحيوان يشمل الانسان وغيره، فغير الانسان لا يصدق عليه أنه انسان بل يصدق عليه عدمه ولا يصدق عليه عدم الحيوان لأنه أحد أنواعه، ويصدق أيضا عدم الانسان على ما ليس بحيوان وهو ظاهر، فعدم الحيوان لا يشمل أفراد عدم الانسان وعدم الانسان شامل لأفراد ما ليس بحيوان فيكون عدم الأخص أعم من عدم الأعم، فإذا ترتب شيئان في العموم والخصوص وجودا ترتبا في العكس عدما، بأن يصير الأخص أعم في طرف العدم. المسألة الحادية والعشرون في قسمة الوجود والعدم إلى المحتاج والغني قال: وقسمة كل منهما إلى الاحتياج والغنى حقيقة. أقول: كل واحد من الوجود والعدم إما أن يكون محتاجا إلى الغير وإما أن يكون مستغنيا عنه، والأول ممكن والثاني واجب أو ممتنع، وهذه القسمة حقيقية تمنع الجمع لاستحالة كون المستغني عن الغير محتاجا إليه وبالعكس، وأما منع
(1) باتفاق النسخ كلها، أي الوجود في الذهن. 66 الخلو فلأنه لا قسم ثالث لهما، فقد ظهر أن هذه القسمة حقيقية (1). المسألة الثانية والعشرون في الوجوب والامكان والامتناع قال: وإذا حمل الوجود أو جعل رابطة ثبتت مواد ثلاث في أنفسها جهات في التعقل دالة على وثاقة الربط وضعفه هي الوجوب والامتناع والامكان. أقول: الوجود قد يكون محمولا بنفسه كقولنا: الانسان موجود، وقد يكون رابطة بين الموضوع والمحمول كقولنا: الانسان يوجد حيوانا، وعلى كلا التقديرين لا بد لهذه النسبة، أعني نسبة المحمول فيهما إلى الموضوع من كيفية هي الوجوب والامكان والامتناع، وتلك الكيفية تسمى مادة وجهة باعتبارين، فإنا إن أخذنا الكيفية في نفس الأمر سميت مادة، وإن أخذناها عند العقل وما تدل عليه العبارات سميت جهة، وقد تتحدان كقولنا: الانسان يجب أن يكون حيوانا، وقد تتغايران كقولنا: الانسان يمكن أن يكون حيوانا، فالمادة ضرورية لأن كيفية نسبة الحيوانية إلى الانسانية هي الوجوب، وأما الجهة فهي ممكنة وهذه الكيفيات تدل على وثاقة الربط وضعفه، فإن الوجوب يدل على وثاقة الربط في طرف الثبوت والامتناع على وثاقته في طرف العدم والامكان على ضعف الربط. قال: وكذلك العدم.
(1) أي منفصلة حقيقية دائرة بين الاثبات والنفي، وفي بعض النسخ منفصلة حقيقية ولكن الزيادة أدرجت في عبارة الكتاب. وعبارة الشرح كما في (م)، جاءت هكذا: وهذه القسمة حقيقية تمنع الجمع لاستحالة كون المستغني.. الخ. والنسخ الأخرى كلها كانت هكذا: وهذه القسمة حقيقية أي تمنع الجمع والخلو، أما منع الجمع فلاستحالة.. الخ، ونظير ما في هذه النسخ يأتي في المسألة الرابعة والعشرين ومواضع أخرى، ولكن العبارة في المقام هي ما اخترناها، ولا يبعد أن تصرف فيها بقرينة تلك المواضع، والخطب سهل. 67 أقول: إذا جعل العدم محمولا أو رابطة كقولنا: الانسان معدوم أو معدوم عنه الكتابة، تكثرت الجهات التي عند العقل (1) والمواد في نفس الأمر. المسألة الثالثة والعشرون في أن هذه القضايا الثلاث لا يمكن تعريفها قال: والبحث في تعريفها كالوجود. أقول: إن جماعة من العلماء أخطأوا هاهنا حيث عرفوا الواجب والممكن والممتنع لأن هذه الأشياء معلومة للعقلاء لا تحتاج إلى اكتساب، نعم قد يذكر في تعريف ألفاظها ما يكون شارحا لها لا على أنه حد حقيقي بل لفظي، ومع ذلك فتعريفاتهم دورية لأنهم عرفوا الواجب بأنه الذي يستحيل عدمه أو الذي لا يمكن عدمه، ثم عرفوا المستحيل بأنه الذي لا يمكن وجوده أو الذي يجب عدمه، ثم عرفوا الممكن بأنه الذي لا يجب وجوده ولا يجب عدمه أو الذي لا يستحيل وجوده ولا عدمه فقد أخذ كل واحد منها في تعريف الآخر، وهو دور ظاهر. المسألة الرابعة والعشرون في القسمة إلى هذه الثلاث قال: وقد تؤخذ (2) ذاتية فتكون القسمة حقيقية لا يمكن انقلابها. أقول: إذا أخذنا الوجوب والامتناع والامكان على أنها ذاتية لا بالنظر إلى الغير كانت المعقولات منقسمة إليها قسمة حقيقية، أي تمنع الجمع والخلو، وذلك
(1) حرف التعريف في الجهات للعهد ناظر إلى قوله المقدم: جهات في التعقل في الوجود. والمختار مطابق لنسخة (م)، والنسخ الأخرى: الكتابة حدثت الجهات الثلاث عند التعقل. (2) أي تلك الثلاثة من الوجوب والامكان والامتناع، وقرئ أيضا: وقد يؤخذ، أي كل واحد منها. وقوله: لا يمكن انقلابها، بدل من قوله: فتكون القسمة حقيقية، كقوله الآتي: يمكن انقلابها، بدل من قوله: فالقسمة مانعة الجمع بينهما. 68 لأن كل معقول على الإطلاق إما أن يكون واجب الوجود لذاته أو ممتنع الوجود لذاته أو ممكن الوجود لذاته، لا يخلو عنها ولا يجتمع اثنان منها في واحد، لاستحالة أن يكون شئ واحد واجبا لذاته ممتنعا لذاته أو ممكنا لذاته، أو يكون ممتنعا لذاته ممكنا لذاته، فالقسمة حينئذ حقيقية. واعلم أن القسمة الحقيقية قد تكون لكلي (1) بفصول أو لوازم تميزه وتفصله إلى الأقسام المندرجة تحته، وقد تكون بعوارض مفارقة والقسمة الأولى لا يمكن انقلابها ولا يصير أحد القسمين معروضا لمميز الآخر الذي به وقعت القسمة كقولنا: الحيوان إما ناطق أو صامت، فإن الحيوان بالناطق والصامت قد انقسم إلى طبيعتين ويستحيل انقلاب هذه القسمة، بمعنى أن الحيوان الذي هو ناطق يستحيل زوال النطق عنه وعروض الصمت له، وكذا الحيوان الذي هو صامت. وأما القسمة الثانية فإنه يمكن انقلابها ويصير أحد القسمين معروضا لمميز الآخر الذي به وقعت القسمة: كقولنا: الحيوان إما متحرك أو ساكن، فإن كل واحد من قسمي المتحرك والساكن قد يتصف بعارض الآخر فينقلب المتحرك ساكنا وبالعكس، وقسمة المعقول بالوجوب الذاتي والامتناع الذاتي والامكان الذاتي من قبيل القسم الأول لاستحالة انقلاب الواجب لذاته ممتنعا لذاته أو ممكنا لذاته، وكذا الباقيان. قال: وقد يؤخذ الأولان (2) باعتبار بالغير، فالقسمة مانعة الجمع بينهما يمكن انقلابها، ومانعة الخلو بين الثلاثة في الممكنات. أقول: إذا أخذنا الواجب والممتنع باعتبار الغير لا بالنظر إلى الذات انقسم المعقول إليهما على سبيل منع الجمع لا الخلو، وذلك لأن المعقول حينئذ إما أن يكون واجبا لغيره أو ممتنعا لغيره على سبيل منع الجمع لا الخلو لامتناع الجمع بين الوجوب بالغير والامتناع بالغير، وإمكان الخلو عنهما لا بالنظر إلى وجود
(1) كما في (م) والنسخ الأخرى: قد تكون للكلي. (2) أي الوجوب والامتناع، على ما في عبارة المتن. 69 العلة ولا عدمها (1). وهذه القسمة يمكن انقلابها لأن واجب الوجود بالغير قد يعرضه عدم علته فيكون ممتنع الوجود بالغير فينقلب أحدهما إلى الآخر، وإذا لحظنا الإمكان الذاتي في هذه القسمة في الممكنات انقلبت مانعة الخلو لا الجمع لعدم خلو كل معقول ممكن عن الوجوب الغير والامتناع بالغير والإمكان الذاتي، ويجوز الجمع بينها، فإن الممكن (2) الذاتي واجب أو ممتنع بالغير. المسألة الخامسة والعشرون في أقسام الضرورة والإمكان قال: ويشترك الوجوب والامتناع في اسم الضرورة وإن اختلفا بالسلب والإيجاب. أقول: الضرورة تطلق على الوجوب والامتناع وتشملهما، فإن كل واحد من الوجوب والامتناع يقال له ضروري، لكنهما يختلفان بالسلب والإيجاب، فالوجوب ضرورة الوجود والامتناع ضرورة السلب، واسم الضرورة شامل لهما. قال: وكل منهما يصدق على الآخر إذا تقابلا في المضاف إليه. أقول: كل واحد من الوجوب والامتناع يصدق على الآخر، فإن وجوب الوجود يصدق عليه امتناع العدم ويستلزمه، وبالعكس، وكذلك امتناع الوجود يصدق عليه وجوب العدم ويستلزمه، فالوجوب والامتناع كل واحد منهما يصدق عليه الآخر إذا تقابلا في المضاف إليه، يعني بالمضاف إليه الوجود أو العدم اللذين يضاف الوجود والامتناع إليهما. وإنما اشترطنا تقابل المضاف إليه لأنه يستحيل صدقهما على مضاف واحد (3)، فإن وجوب الوجود لا يصدق عليه امتناع الوجود وبالعكس ولا وجوب العدم يصدق عليه امتناع العدم بل إنما يصدق كل واحد منهما على صاحبه
(1) أي بل بالنظر إلى نفس الماهية التي من حيث هي ليست إلا هي. (2) وسيأتي في المسألة السابعة والعشرين أن معروض ما بالغير منهما ممكن. (3) باتفاق النسخ كلها. 70 مع التقابل، كما قلنا: وجوب الوجود يصدق عليه امتناع العدم، فالوجوب أضيف إلى الوجود والامتناع إلى العدم والوجود والعدم متقابلان. قال: وقد يؤخذ الإمكان بمعنى سلب الضرورة عن أحد الطرفين (1) فيعم الأخرى والخاص. أقول: القسمة العقلية ثلاثة (2): واجب وممتنع وممكن ليس بواجب ولا ممتنع، هذا بحسب اصطلاح الخاصة (3). وقد يؤخذ الإمكان على معنى أعم من ذلك وهو سلب الضرورة عن أحد الطرفين، أعني طرفي الوجود والعدم لا عنهما معا بل عن الطرف المقابل للحكم حتى يكون ممكن الوجود هو ما ليس بممتنع ويكون قد رفعنا فيه ضرورة العدم (4) وممكن العدم هو ما ليس بواجب ويكون قد رفعنا فيه ضرورة الوجود، فإذا أخذ بهذا المعنى كان أعم من الأول ومن الضرورة الأخرى التي لا تقابله، فإن رفع إحدى الضرورتين يشمل ثبوت الأخرى والامكان الخاص. قال: وقد يؤخذ بالنسبة إلى الاستقبال.
(1) أي الطرف المخالف فيعم الأخرى، أي ضرورة الجانب الموافق والامكان الخاص. وقد اتفقت النسخ على نقل قوله: فيعم الأخرى والخاص، بهذه الصورة التي اخترناها. (2) هكذا رويت العبارة في النسخ كلها، ولعل تأنيث العدد بلحاظ الواجب والممتنع والممكن، وإلا فالصواب أن يقال: القسمة العقلية ثلاث. (3) أي الإمكان بهذا المعنى. (4) فإن كان وجوده ضروريا فيشمل الواجب، وإن كان وجوده كعدمه غير ضروري فيشمل الإمكان الخاص، فالمراد من الضرورة الأخرى التي لا تقابله هو ضرورة الجانب الموافق، لأن الضرورة التي تقابله هي ضرورة العدم، وذلك لأن الإمكان بمعنى العام الوجودي فهو يسلب ضرورة العدم فلا محالة تقابله ضرورة العدم. فممكن الوجود بالامكان العام أعم من الواجب وممكن الوجود بالامكان الخاصي، وكذلك ممكن العدم بالامكان العام أعم من الممتنع وممكن العدم بالامكان الخاصي. وقوله: إذا أخذ بهذا المعنى، أي إذا أخذ الإمكان بهذا المعنى. وقوله: والامكان الخاص منصوب معطوف على ثبوت الأخرى. والعبارة موافقة لنسخ (م ص ق د) والثلاث الأول أصحها وأقدمها، وفي (ز): فإن رفع الضرورتين يستلزم ثبوت الأخرى، وفي (ش): لا يستلزم، وهذه ليست بصواب لأن نفيها منفي. 71 أقول: قد يؤخذ الإمكان لا بالنظر إلى ما في الحال، بل بالنظر إلى الاستقبال حتى يكون ممكن الوجود هو الذي يجوز وجوده في الاستقبال (1) من غير التفات إلى ما في الحال، وهذا الإمكان أحق الإمكانات باسم الإمكان. قال: ولا يشترط العدم في الحال وإلا اجتمع النقيضان. أقول: هذا الإمكان (2) لا يشترط عدمه في الحال على المذهب الحق. وذهب بعضهم إلى الاشتراط فقال: لأنه لو كان موجودا في الحال لكان واجبا فلا يكون ممكنا وهو خطأ، لأن الوجود (3) إن أخرجه إلى الوجوب أخرجه العدم إلى الامتناع. وأيضا إذا اشترط في إمكان الوجود في المستقبل العدم في الحال اشترط في إمكان العدم الوجود في الحال، لكن ممكن الوجود هو بعينه ممكن العدم، فيلزم اشتراط وجوده وعدمه في الحال هذا خلف، وإليه أشار بقوله: وإلا اجتمع النقيضان. وأيضا العدم في الحال لا ينافي الوجود في المستقبل وإمكانه في الحال، فالأولى أن لا ينافي (4) إمكانه في المستقبل. المسألة السادسة والعشرون في أن الوجوب والامكان والامتناع ليست ثابتة في الأعيان قال: والثلاثة اعتبارية لصدقها على المعدوم واستحالة التسلسل.
(1) سيشير الشارح إليه في المسألة السادسة والعشرين، ويأتي تفصيله في المسألة الثانية والثلاثين. (2) كما في (م) وهي أقدم النسخ، وأما النسخ الأخرى فهكذا: ذهب قوم غير محققين إلى أن الممكن الاستقبالي شرطه العدم في الحال، قالوا: لأنه لو كان.. الخ. (3) قال الشيخ في منطق الإشارات (ص 49 ط 1): ومن يشترط في هذا - يعني به الإمكان الاستقبالي - أن يكون معدوما في الحال، فيشترط ما لا ينبغي وذلك لأنه يحسب أنه إذا جعله موجودا أخرجه إلى ضرورة الوجود، ولا يعلم أنه إذا لم يجعله موجودا بل فرضه معدوما فقد أخرجه إلى ضرورة العدم، فإن لم يضر هذا لم يضر ذاك. (4) كما في (م) وفي (ص ق د): فأولى أن لا ينافي، وفي (ش) وحدها: فبالأولى أن لا ينافي. 72 أقول: هذه الجهات الثلاث أعني الوجوب والامكان والامتناع أمور اعتبارية يعتبرها العقل عند نسبة الوجود إلى الماهية، وليس لها تحقق في الأعيان لوجوه: منها ما هو مشترك ومنها ما هو مختص بكل واحد، أما المشترك فأمران: الأول: أن هذه الأمور تصدق على المعلوم، فإن الممتنع يصدق عليه أنه مستحيل الوجود وأنه واجب العدم، والممكن قبل وجوده يصدق عليه أنه ممكن وهو معدوم، وإذا اتصف المعدوم بها كانت عدمية لاستحالة اتصاف العدمي بالثبوتي. الثاني: يلزم التسلسل لأن كل متحقق فله وجود يشارك به غيره من الموجودات ويختص بنفس ماهيته وما به الاشتراك مغاير لما به الامتياز، فوجوده غير ماهيته، فاتصاف ماهيته بوجوده لا يخلو عن أحد هذه الأمور الثلاثة، فلو كانت هذه الأمور ثبوتية لزم اتصافها بأحد الثلاثة ويتسلسل، وهو محال. قال: ولو كان الوجوب ثبوتيا لزم إمكان الواجب. أقول: لما ذكر الأدلة الشاملة في الدلالة على أن هذه الأمور ليست ثبوتية في الأعيان شرع في الدلالة على كل واحد من الثلاثة، فبدأ بالوجوب الذي هو أقربها إلى الوجود إذ هو تأكده (1)، فبين أنه ليس ثبوتيا، والدليل عليه أنه لو كان موجودا لكان ممكنا وبالتالي باطل فالمقدم مثله بيان الشرطية أنه صفة للغير والصفة مفتقرة إلى الموصوف فالوجوب مفتقر إلى ذات الواجب فيكون الوجوب ممكنا. وأما بطلان التالي فلأنه لو كان الوجوب ممكنا لكان الواجب ممكنا، لأن الواجب أنما هو واجب بهذا الوجوب الممكن، والوجوب الممكن يمكن زواله فيخرج الواجب عن كونه واجبا فيكون ممكنا هذا محال. قال: ولو كان الامتناع ثبوتيا لزم إمكان الممتنع.
(1) على صيغة المصدر من باب التفعل أي الوجوب هو تأكده الوجود، كما يأتي في المسألة الحادية والثلاثين أن الوجوب تأكد الوجود وقوته، والامكان ضعف فيه. 73 أقول: هذا حكم ضروري وهو أن الامتناع أمر عدمي، وقد نبه هاهنا على طريق التنبيه لا الاستدلال، فإن الامتناع لو كان ثبوتيا لزم إمكان الممتنع، لأن ثبوت الامتناع يستدعي ثبوت موصوفه - أعني الممتنع - فيكون الممتنع ممكنا (1) هذا خلف. قال: ولو كان الإمكان ثبوتيا لزم سبق وجود كل ممكن على إمكانه. أقول: اختلف الناس في أن الإمكان الخاص هل هو ثبوتي أم لا؟ وتحرير القول فيه أن الإمكان قد يؤخذ بالنسبة إلى الماهية نفسها لا بالقياس إلى الوجود وهو الإمكان الراجع إلى الماهية، وقد يؤخذ بالنسبة إلى الوجود من حيث القرب والبعد من طرف العدم إليه وهو الإمكان الاستعدادي. أما الأول: فالمحققون كافة على أنه أمر اعتباري لا تحقق له عينا، وأما الثاني: فالأوائل قالوا: إنه من باب الكيف، وهو قابل للشدة والضعف، والحق يأباه (2)، والدليل على عدمه في الخارج أنه لو كان ثابتا مع أنه إضافة بين أمرين أو ذو إضافة لزم ثبوت مضافيه اللذين هما الماهية والوجود، فيلزم تأخره عن الوجود في الرتبة هذا خلف. قال: والفرق بين نفي الإمكان والامكان المنفي لا يستلزم ثبوته (3).
(1) كما في (م) والنسخ الأخرى: فيكون الممتنع ثابتا، والأول هو الحق كما قال في المتن: لزم إمكان الممتنع، والغور في أسلوب الدليل أيضا يحكم بذلك. (2) أقول: والحق يأباه لأن الإمكان الاستعدادي صفة حقيقية وجودية كامنة في المركبات قابلة للشدة والضعف والزيادة والنقصان، بل ويعدم ويوجد بخلاف الإمكان الذاتي للممكنات المتصور في العقل لا يمكن زواله عنها، كما يأتي بيان الفرق بينهما في المسألة الثانية والثلاثين، والشارح أنكره هاهنا وأقر به هناك. وأما قوله هاهنا: (والدليل على عدمه.. الخ) فالحق أن الاستعداد أمر وجودي وهو غير إمكانه، كما أفاده المتأله السبزواري بقوله: قد يوصف الإمكان باستعدادي وهو بعرفهم سوى استعداد والامكان الاستعدادي دال على وحدة الصنع والتدبير في العالم الكياني على نظامه بالعلم العنائي الرباني. (3) راجع الأسفار (ط 1 - ج 1 - ص 32 و 42) فإنه في قوله: (في بعض المسطورات الكلامية) ناظر إلى هذا المقام من هذا الكتاب. 74 أقول: هذا جواب عن استدلال الشيخ أبي علي بن سينا على ثبوت الإمكان، فإنه قال: لو كان الإمكان عدميا لما بقي فرق بين نفي الإمكان والامكان المنفي لعدم التمايز في العدمات، والجواب المنع من الملازمة فإن الفرق واقع ولا يستدعي الفرق الثبوت كما في الامتناع. المسألة السابعة والعشرون في الوجوب والامكان والامتناع المطلقة قال: والوجوب شامل للذاتي وغيره وكذا الامتناع. أقول: الوجوب قد يكون ذاتيا وهو المستند إلى نفس الماهية من غير التفات إلى غيرها، وقد يكون بالغير وهو الذي يحصل باعتبار حصول الغير والنظر إليه، فإن المعلول لولا النظر إلى علته لم يكن واجبا بها، فالوجوب المطلق قد انقسم إلى ما بالذات وإلى ما بالغير وهو شامل لهما، وكذا الامتناع شامل للامتناع الذاتي وللعارض باعتبار الغير، وليس عموم الوجوب عموم الجنسية وإلا تركب الوجوب الذاتي بل عموم عارض ذهني لمعروض ذهني. قال: ومعروض ما بالغير منهما ممكن. أقول: الذات التي يصدق عليها أنها واجبة بالغير أو ممتنعة بالغير فإنها تكون ممكنة بالذات، لأن الممكن الذاتي هو الذي يعتوره الوجوب والامتناع ولا يمكن أن يكون الواجب بالغير واجبا بالذات ولا ممتنعا بالذات، وكذا الممتنع بالغير فقد ظهر أن معروض ما بالغير من الوجوب والامتناع ممكن بالذات. قال: ولا ممكن بالغير لما تقدم (1) في القسمة الحقيقية. أقول: لا يمكن أن يكون هاهنا ممكن بالغير كما أمكن واجب وممتنع بالغير، لأنه لو كان كذلك لكان المعروض للامكان بالغير إما واجبا لذاته أو ممتنعا لذاته،
(1) تقدم في المسألة الحادية والعشرين. 75 وكل ممكن بالغير ممكن بالذات فيكون ذلك المعروض تارة واجبا لذاته وتارة ممكنا، فيلزم انقلاب القسمة الحقيقية التي فرضنا أنها لا تنقلب هذا خلف. المسألة الثامنة والعشرون في عروض الإمكان وقسيميه للماهية قال: وعروض الإمكان عند عدم اعتبار الوجود والعدم بالنظر إلى الماهية وعلتها. أقول: الإمكان إنما يعرض للماهية من حيث هي هي، لا باعتبار وجودها ولا باعتبار عدمها ولا باعتبار وجود علتها ولا باعتبار عدم علتها، بل إنما يعرض لها عند عدم اعتبار الوجود والعدم بالنظر إلى الماهية نفسها، وعند عدم اعتبار الوجود والعدم بالنظر إلى علة الممكن، فإن الماهية إذا أخذت موجودة كانت واجبة ما دامت موجودة، وكذا إذا أخذت معدومة تكون ممتنعة ما دامت معدومة، وإذا أخذت باعتبار وجود علتها كانت واجبة ما دامت العلة موجودة، وإذا أخذت باعتبار عدم علتها كانت ممتنعة ما دامت العلة معدومة. قال: وعند اعتبارهما بالنظر إليهما يثبت ما بالغير. أقول: إذا اعتبرنا الوجود والعدم بالنظر إلى الماهية أو إلى علتها ثبت الوجوب بالغير والامتناع بالغير، وهو ظاهر مما تقدم. قال: ولا منافاة بين الإمكان والغيري (1). أقول: قد بينا أن الممكن باعتبار وجوده أو وجود علته يكون واجبا، وباعتبار عدمه أو عدم علته يكون ممتنعا، لكن الوجوب والامتناع ليسا ذاتيين، بل باعتبار الغير ومعروضهما الممكن فلا منافاة بينهما وبين الإمكان.
(1) أي بين الإمكان والوجوب بالغير والامتناع بالغير، إذ لا معنى للامكان بالغير كما تقدم، والمتن مطابق للنسخ كلها. 76 قال: وكل ممكن العروض ذاتي ولا عكس. أقول: الممكن قد يكون ممكن الثبوت في نفسه وقد يكون ممكن الثبوت لشئ آخر، وكل ممكن الثبوت لشئ آخر - أعني ممكن العروض - فهو ممكن ذاتي، أي يكون في نفسه ممكن الثبوت لأن إمكان ثبوت الشئ لغيره فرع على إمكانه في نفسه ولا ينعكس، فقد يكون الشئ ممكن الثبوت في نفسه وممتنع الثبوت لغيره كالمفارقات، أو واجب الثبوت لغيره كالأعراض والصفات. المسألة التاسعة والعشرون في علة الاحتياج إلى المؤثر قال: وإذا لحظ الذهن (1) الممكن موجودا طلب العلة وإن لم يتصور غيره وقد
(1) الكلام في أن علة احتياج الأثر إلى مؤثره هي الإمكان لا غير، وهذا هو القول القويم والحكم الحكيم لا يعتريه ريب ولا يشوبه عيب، فالممكن في بقائه محتاج إلى مؤثره كما أنه في حدوثه مفتاق إليه على سواء، والعلة الموجدة هي المبقية بلا مراء. والرأي الآخر بأنها الحدوث أو الإمكان مع الحدوث شطرا أو شرطا فائل جدا. ثم الحدوث على رأيهم ذلك هو الحدوث الزماني وهما منهم أن الحدوث لو لم يكن زمانيا لزم منه القول بقدم العالم واستغنائه عن المؤثر، لأن العالم قديم وكل قديم مستغن عن المؤثر فالعالم مستغن عن المؤثر، والأوسط لم يكرر في القياس. لأن الحكيم القائل بقدمه يعني به الزماني لا الذاتي والقديم المستغني عن المؤثر هو الذاتي لا الزماني. والمصنف شنع عليهم بأن الحدوث ليس علة الاحتياج حتى لو قلنا بقدم العالم لم يستغن عن المؤثر، لأن علة الاحتياج هو الإمكان وهذا الفقر لا يفارق الممكن أينما كان وأيما كان، كما قال في المسألة الرابعة والأربعين: والممكن الباقي مفتقر إلى المؤثر لوجود علته والمؤثر يفيد البقاء بعد الإحداث، ولهذا جاز استناد القديم الممكن إلى المؤثر الموجب لو أمكن ولا يمكن استناده إلى المختار. ثم إن الحدوث لا يكون زمانيا فقط، بل الحدوث الذاتي متحقق كما يأتي في المسألة الرابعة والثلاثين، والحدوث الذاتي لا ينافي القدم الزماني على أن الأمر الحري بالمقام فوق أمثال هذه المسائل بدرجات وهو سبحانه رفيع الدرجات ذو المعارج. وسيأتي قوله في المسألة الخامسة والأربعين بأنه لا قديم سوى الله، فالقديم الذاتي ليس إلا الله، والقديم الذاتي هو الوجود الأحدي والحق الصمدي، أي هو الأول والآخر والظاهر والباطن. والتوحيد الصمدي يطرد كثيرا من المسائل الكلامية بل المشائية أيضا. ثم اعلم أن أكثر ما احتج به أئمتنا عليهم السلام على الزنادقة لا يشتمل التمسك بالحدوث، ينبئك الجوامع الروائية، وذلك لأن إثبات الواجب تعالى لا يتوقف على إثبات الحدوث للعالم، فتبصر. وسيأتي تمام الكلام في مسألتي الرابعة والأربعين والخامسة والأربعين من هذا الفصل وفي أول الفصل الثالث من هذا المقصد. 77 يتصور وجود الحادث فلا يطلبها، ثم الحدوث كيفية الوجود فليس علة لما يتقدم عليه بمراتب. أقول: اختلف الناس هنا في علة احتياج الأثر إلى مؤثره، فقال جمهور العقلاء: إنها الإمكان لا غير، وقال آخرون: إنها الحدوث لا غير، وقال آخرون: هما معا. والحق الأول لوجهين: الأول: العقل إذا لحظ الماهية الممكنة وأراد حمل الوجود أو العدم عليها افتقر في ذلك إلى العلة وإن لم ينظر شيئا آخر سوى الإمكان والتساوي، إذ حكم العقل بالتساوي الذاتي كاف في الحكم بامتناع الرجحان الذاتي فاحتاج إلى العلة من حيث هو ممكن وإن لم يلحظ غيره، ولو فرضنا حادثا وجب وجوده وإن كان فرضا محالا فإن العقل يحكم بعدم احتياجه إلى المؤثر، فعلم أن علة الحاجة أنما هي الإمكان لا غير. الثاني: أن الحدوث كيفية للوجود فيتأخر عنه تأخرا ذاتيا والوجود متأخر عن الايجاد والايجاد متأخر عن الاحتياج والاحتياج متأخر عن علة الاحتياج، فلو كان الحدوث علة الحاجة لزم تقدم الشئ على نفسه بمراتب وهو محال. المسألة الثلاثون في أن الممكن محتاج إلى المؤثر قال: والحكم باحتياج الممكن ضروري.
78 أقول: اختلف الناس هنا، فقال قوم: إن هذا الحكم ضروري، أعني أن احتياج الممكن لا يحتاج إلى برهان فإن كل من تصور تساوي طرفي الممكن جزم بالضرورة أن أحدهما لا يترجح من حيث هو متساو أعني من حيث ذاته، بل من حيث إن المرجح ثابت، وهذا الحكم قطعي لا يقع فيه شك. وقال آخرون: إنه استدلالي، وهو خطأ وسبب غلطهم أنهم لم يتصوروا الممكن على ما هو عليه. المسألة الحادية والثلاثون في وجوب الممكن المستفاد من الفاعل قال: ولا تتصور الأولوية (1) لأحد الطرفين بالنظر إلى ذاته. أقول: قد بينا أن الممكن من حيث هو هو لا باعتبار وجود علته أو عدمها، فإن وجوده وعدمه متساويان بالنسبة إليه، وإنما يحصل الترجيح من الفاعل الخارجي، فإذا لا يمكن أن تتصور أولوية لأحد الطرفين على الآخر بالنظر إلى ذاته. قال: ولا تكفي الخارجية لأن فرضها لا يحيل المقابل فلا بد من الانتهاء إلى الوجوب. أقول: أولوية أحد الطرفين بالنظر إلى وجود العلة أو عدمها هي الأولوية الخارجية، فإن كانت العلة مستجمعة لجميع الشرائط منتفيا عنها جميع الموانع كانت الأولوية وجوبا وإلا كانت أولوية يجوز معها وقوع الطرف الآخر، وهذه الأولوية
(1) سواء كانت الأولوية ذاتية أي بالنظر إلى ذات الممكن، أو خارجية. فعلى رد الأول قال: ولا يتصور الأولوية لأحد الطرفين بالنظر إلى ذاته أي بالنظر إلى الممكن من حيث هو هو، لأن وجوده وعدمه بالنسبة إليه متساويان فلا يكون أحدهما أولى له من الآخر. وعلى رد الثاني قال: ولا تكفي الخارجية لأن الممكن ما لم يجب وجوده من العلة ولم يطرد جميع أنحاء العدم منه لم يوجد فلا بد من الانتهاء إلى الوجوب أي إلى مرجح يجب به وجوده، وكذا ما لم يجب عدمه من العلة لم يعدم. 79 الخارجية لا تكفي في وجود الممكن أو عدمه، لأن فرضها لا يحيل المقابل. وبيان ذلك: أنا إذا فرضنا هذه الأولوية متحققة ثابتة فإما أن يمكن معها وجود الطرف الآخر المقابل لطرف الأولوية أو لا يمكن، والثاني يقتضي أن تكون الأولوية وجوبا، والأول يلزم منه المحال وهو ترجيح أحد طرفي الممكن المتساوي على الآخر لا لمرجح، لأنا إذا فرضنا الأولوية ثابتة يمكن معها وجود الطرف الراجح والمرجوح، فتخصيص أحد الوقتين (1) بالوقوع دون الثاني ترجيح من غير مرجح وهو محال، فقد ظهر أن الأولوية لا تكفي في الترجيح بل لا بد من الوجوب، وأن كل ممكن على الإطلاق لا يمكن وجوده إلا إذا وجب، فلا بد من الانتهاء إلى الوجوب. قال: وهو سابق (2) ويلحقه وجوب آخر لا يخلو عنه قضية فعلية. أقول: كل ممكن موجود أو معدوم فإنه محفوف بوجوبين: أحدهما: الوجوب السابق سبقا ذاتيا الذي استدللنا على تحققه. والثاني: الوجوب اللاحق وهو المتأخر عن تحقق القضية، فإن الحكم بوجود المشي للانسان يكون واجبا ما دام المشي موجودا له، وهذه الضرورة تسمى ضرورة بحسب المحمول ولا يخلو عنها قضية فعلية. قال: والامكان لازم (3) وإلا تجب الماهية أو تمتنع. أقول: الإمكان للممكن واجب، لأنه لولا ذلك لأمكن زواله وحينئذ تبقى الماهية واجبة أو ممتنعة، وقد بينا امتناعه فيما سلف.
(1) كما في (م ص ز ق د) وفي (ش) وحدها: أحد الطرفين. (2) أي هذا الوجوب هو وجوب سابق لأنه وجب أولا من علته فوقع سبقا ذاتيا لا زمانيا الذي استدللنا على تحققه بأن الممكن ما لم يجب وجوده أو عدمه عن العلة لم يقع، وبعبارة أخرى استدل على تحققه بأنه لا بد من الانتهاء إلى الوجوب. (3) أي لازم لماهية الممكن وإلا لزم انقلاب الممكن إلى الوجوب أو الامتناع، لأن المواد ثلاث فعند انفكاكه عنها تبقى إحدى الأخريين، وقد بين امتناعه في المسألة الرابعة والعشرين. 80 قال: ووجوب الفعليات (1) يقارنه جواز العدم فليس بلازم. أقول: يريد أن يبين أن الوجوب اللاحق وهو الذي ذكر أنه لا يخلو عنه قضية فعلية، ولهذا سماه وجوب الفعليات يقارن جواز العدم وذلك لأن الوجود لا يخرجه عن الإمكان الذاتي بل هو باق على طبيعة الإمكان لأن وجوبه بشرط لا مطلقا (2)، فلهذا حكم بجواز مقارنة وجوب الوجود لجواز العدم، وهذا الوجوب ليس بلازم بل ينفك عن الماهية عند فرض عدم العلة. قال: ونسبة الوجوب إلى الإمكان نسبة تمام إلى نقص. أقول: الوجوب هو تأكد الوجود وقوته والامكان ضعف فيه، فنسبة الوجوب إلى الإمكان نسبة تمام إلى نقص، لأن الوجوب تمام الوجود والإمكان نقص له. المسألة الثانية والثلاثون في الإمكان الاستعدادي قال: والاستعدادي قابل للشدة والضعف ويعدم ويوجد للمركبات (3) وهو غير الإمكان الذاتي. أقول: الإمكان إما أن يلحظ باعتبار الماهية نفسها وهو الإمكان الذاتي، وإما أن يلحظ باعتبار قربها من الوجود وبعدها عنه وهو الإمكان الاستعدادي، وهذا الإمكان قابل للشدة والضعف والزيادة والنقصان، فإن استعداد النطفة للانسانية أضعف وأبعد من استعداد العلقة لها، وكذا استعداد النطفة للكتابة أبعد وأضعف من استعداد الانسانية لها، فهذا هو الإمكان الاستعدادي الحاصل لكل ماهية سبق
(1) أي الوجوب اللاحق في الممكنات. (2) أي ذلك الوجوب اللاحق لا يكون للممكن مطلقا بل بشرط وهو وجوب وجود العلة والامكان حال للماهية وصفة لها من حيث هي لا بشرط. (3) كما في (م ت ش) والنسخ الأخرى: ويوجد للممكنات، ولكن الصواب هو ما في النسخ الأولى كما قد اخترناه. 81 عدمها وجودها، وهذا الإمكان الاستعدادي يعدم ويوجد بعد عدمه للمركبات، فإن الماء بعد تسخنه يستعد لصيرورته هواء بعد أن لم يكن، فقد تجدد له هذا الاستعداد، ثم إذا برد زال ذلك الاستعداد. وأما الإمكان الذاتي فقد بينا أنه لا يمكن زواله (1) عن الممكن فتغايرا (2). المسألة الثالثة والثلاثون في القدم والحدوث قال: والموجود إن أخذ (3) غير مسبوق بالغير أو بالعدم فقديم وإلا فحادث. أقول: هذه قسمة للموجود إلى القديم والحادث، وذلك لأن الموجود إما أن يسبقه الغير أو لا يسبقه الغير، فالأول هو الحادث والثاني هو القديم، وقد يقال: إن القديم هو الذي لا يسبقه العدم والحادث هو الذي يسبقه العدم. قال: والسبق ومقابلاه (4) إما بالعلية أو بالطبع أو بالزمان أو بالرتبة الحسية أو العقلية أو بالشرف أو بالذات، والحصر استقرائي (5) أقول: لما ذكر أن القديم هو الذي لا يسبقه الغير أو العدم على اختلاف التفسيرين، والمحدث هو الذي يسبقه الغير أو العدم، وجب عليه أن يبين أقسام التقدم والسبق ومقابليه أعني التأخر والمعية.
(1) بين في المسألة الرابعة والعشرين. (2) أي تغاير الإمكان الاستعدادي والإمكان الذاتي. (3) وفي (ص م ت ق ز د): والوجود إن أخذ، وفي (ش) وحدها: والموجود إن أخذ، كما في الشرح باتفاق النسخ كلها: هذه قسمة للموجود. (4) مقابلا السبق هما التأخر والمعية. (5) وإن كان دائرا بين الأثبات والنفي كقولهم المتقدم إن احتاج إليه المتأخر فإن كان علة تامة له فهو بالعلية وإلا فبالطبع، وإن لم يحتج فإن لم يمكن اجتماعهما في الوجود فبالزمان، وإن أمكن فإن اعتبر بينهما ترتب فبالرتبة وإلا فبالشرف، ولكن هذا الدوران ليس بحقيقي، بل عبروا تلك الأقسام على شهرتها بهذه الصورة الدائرة بينهما. 82 وقد ذكر الحكماء أن أقسام التقدم خمسة: الأول: التقدم بالعلية وهو كتقدم حركة الإصبع على حركة الخاتم، ولهذا فإنه لولا حركة اليد لم تحصل حركة الخاتم، فهذا الترتيب العقلي هو تقدم بالعلية. الثاني: التقدم بالطبع وهو (1) أن يكون المتقدم له حظ في التأثير في المتأخر ولا يكون هو كمال المؤثر (2) وهو كتقدم الواحد على الاثنين، والفرق بينه وبين الأول أن المتقدم هناك كان كافيا في وجود المتأخر والمتقدم هنا لا يكفي في وجوده. الثالث: التقدم بالزمان وهو أن يكون المتقدم موجودا في زمان متقدم على زمان المتأخر كالأب والابن. الرابع: التقدم بالرتبة وهي إما حسية كتقدم الأمام على المأموم، أو عقلية كتقدم الجنس على النوع إن جعل المبدأ الأعم (3).
(1) قال الشيخ في قاطيغورياس الشفاء: الأقدم عند الطبع هي الأشياء التي إذا رفعت ارتفعت ما بعدها من غير عكس، وكذا فسر التقدم بالطبع في الفصل الأول من المقالة الرابعة من إلهيات الشفاء (ج 2 ط 1 ص 465). (2) أي ليس علة تامة. (3) يعني إن أخذنا من جنس الأجناس إلى السافل وجعلناه مبدأ يكون كل جنس قريب بالمبدأ متقدما بالرتبة على نوعه، وإن جعلنا النوع السافل مبدأ فبالعكس. والمصنف قد ذكر في منطق التجريد الأقسام الخمسة من السبق على ما ذهب إليه الأوائل كما في منطق أرسطو وفصوص الفارابي وذكر السبق بالذات للمتقدم بالعلة، ولم يعتن بما مال إليه المتكلمون حيث جعلوا السابق غير المجامع مع المسبوق على قسمين: قسم يعرضه بسبب الزمان ويسمونه السبق الزماني، وقسم يعرضه لذاته ويسمونه السبق بالذات كسبق أجزاء الزمان بعضها على بعض، وعللوا بأن هذا السبق الذاتي ليس بأحد الوجوه الخمسة على الوتيرة التي في الشرح، بل جعل السبق بالزمان شاملا لكليهما كما أعرب ضميره في أساس الاقتباس حيث قال: تقدم وتأخر برپنج معنى إطلاق كنند أول بزمان مانند تقدم دى برامروز وپدر برپسر وقديم بر حادث، وتأخر امروز از دى وپسر از پدر وحادث از قديم وأين بالذات بود مانند تقدم دى برامروز، يالغيره مانند ديگر مثالها الخ. يعني أن تقدم أمس على اليوم تقدم بالزمان ولا يلزم أن يكون للزمان زمان حتى يتسلسل وإنما يلزم ذلك إذا كان هذا التقدم بزمان زائد على المتقدم والمتأخر بهذا التقدم نفس الزمان ويكون عروض التقدم والتأخر لهما لذاتيهما ولغير أجزاء الزمان بسبب أجزاء الزمان فتحقق أن التقدم الذاتي الذي زاده المتكلمون غير ثابت. 83 الخامس: التقدم بالشرف كتقدم العالم على المتعلم وكذا أصناف التأخر والمعية (1). ثم المتكلمون زادوا قسما آخر للتقدم وسموه التقدم الذاتي وتمثلوا فيه بتقدم أمس على اليوم فإنه ليس تقدما بالعلية ولا بالطبع ولا بالزمان وإلا لاحتاج الزمان إلى زمان آخر وتسلسل، وظاهر أنه ليس بالرتبة ولا بالشرف فهو خارج عن هذه الأقسام، وهذا الحصر استقرائي (2) لا برهاني إذ لم يقم برهان على انحصار التقدم في هذه الأنواع، والقسمة إنما تنحصر إذا ترددت بين النفي والإثبات. المسألة الرابعة والثلاثون في أن التقدم مقول بالتشكيك قال: ومقوليته بالتشكيك وتنحفظ الإضافة بين المضافين في أنواعه.
(1) والماتن في متن منطق التجريد بعد عد أقسام التقدم والتأخر الخمسة قال وكذلك المع (ص 28 ط 1) وقال الشارح في الشرح: وإذا عرفت أصناف المتقدم فاعرف منها أصناف المتأخر وهو ظاهر وكذا أصناف المعية إلا في المعية بالعلية لاستحالة اجتماع علتين مستقلتين على معلول واحد، والمصنف أطلق ذلك وليس بجيد، إنتهى. والعجب أنه أطلق في هذا المقام حيث قال: وكذا أصناف التأخر والمعية فإطلاقه ليس بجيد، والحق كما في الشوارق (ص 91 ج 1 ط 1) حيث قال: وأما أقسام المعية فلا خفاء في المعية الرتبية كمفهومين متساويين وكمتحاذيين، ولا في المعية بالطبع كعلتين ناقصتين لمعلول واحد، وكمعلولين مشروطين بشرط واحد، ولا بالعلية كعلتين مستقلتين لمعلول واحد نوعي.. الخ. يعني أن استحالة اجتماع علتين مستقلتين على معلول واحد يجري في المعلول الواحد الشخصي وأما في النوعي فلا استحالة فيها. (2) راجع في ذلك الفصل الأول من رابعة آلهيات الشفاء، والى الشوارق في المقام والحكمة المنظومة (ص 81) في أقسام السبق. 84 أقول: اختلف الحكماء هنا، فقال قوم: إن التقدم مقول على أنواعه الخمسة بالاشتراك البحت (1) وهو خطأ فإن كل واحد من التقدم بالعلية والطبع قد شارك الآخر في معنى التقدم، وهو أن كل واحد من المتقدم وجد له ما للمتأخر دون العكس. وقال آخرون: إنه مقول بالتشكيك لأن الأصناف تشترك في أن المتقدم بما هو متقدم له شئ ليس للمتأخر ولا شئ للمتأخر إلا وهو موجود للمتقدم، وهذا المعنى المشترك يقال لا بمعنى واحد فإن المتقدم بالعلية يوجد له التقدم قبل التقدم بالطبع والتقدم بالطبع قبل سائر أصناف التقدم، وفي هذا بحث ذكرناه في كتاب الأسرار (2).
(1) أي صرف الاشتراك اللفظي. (2) لم يحضرني هذا الكتاب، ولعل ذلك البحث هو بعض ما نشير إليه في المقام فاعلم إن الشيخ قال في الفصل الأول من المقالة الرابعة من آلهيات الشفاء (ص 464 ط 1): إن التقدم والتأخر إن كان مقولا على وجوه كثيرة فإنها يكاد أن يجتمع على سبيل التشكيك في شئ، وهو أن يكون للمتقدم من حيث هو متقدم شئ ليس للمتأخر ويكون لا شئ للمتأخر إلا للمتقدم. وأورد عليه المولى صدرا في تعليقاته على الشفاء (ص 154) بقوله: إن هذا منقوض بالمتقدم الذي بطل وجوده عند وجود المتأخر، إذ لا شك أنه متقدم بالزمان، ثم الذي للمتأخر بالزمان ليس موجودا للمتقدم عند وجود المتأخر، ولا أيضا كان موجودا له، كما أن ما للمتقدم من الزمان ما وجد للمتأخر أصلا بل كل جزء من أجزاء الزمان مختص بهوية لا توجد في غيره. قال: ويمكن الجواب بأن ملاك التقدم في كل قسم من الأقسام شئ من نوع ما فيه التقدم أو من جنسه، فملاك التقدم في المتقدم بالزمان نفس طبيعة الزمان، ولا شك أن هذه الطبيعة تكون متحققة فيما هو متقدم حين ما ليست متحققة فيما هو متأخر، ولا يتحقق في المتأخر إلا وقد تحققت في المتقدم، وليس الغرض هاهنا تعريف القدر المشترك ليلزم الدور بإيراد لفظ التقدم والتأخر بل التنبيه على القدر المشترك. وأقول: كأن هذا الجواب منه ليس بسديد، لأن الشيخ قال: أن يكون للمتقدم من حيث هو متقدم شئ ليس للمتأخر، وهو يقول: إن هذه الطبيعة تكون متحققة فيما هو متقدم حين ما ليست متحققة فيما هو متأخر، وأين معنى أحدهما من الآخر، فتأمل. ثم قال: إن قوله - يعني قول الشيخ في الشفاء - على الإطلاق ويكون لا شئ للمتأخر إلا وقد وجد للمتقدم ليس بسديد، فقد يوجد كثير من المعاني للمتأخر ولا يوجد مثلها للمتقدم كالجوهرية والجسمية في المبدعات والكائنات المتأخر وجودهما عن الأول تعالى، فكان ينبغي أن يقيد ذلك بما يكون من جنس ما فيه التقدم وكأنه المراد وإن لم يصرح في اللفظ، إنتهى ما أردنا من نقل كلامه. وقال المولى أولياء في تعليقته على الشفاء: قوله: وهو أن يكون للمتقدم.. الخ، فإن المتقدم بالزمان مثلا له مضي زمان أكثر منه للمتأخر وكذا المتقدم بالرتبة فإن له وصولا إلى المبدأ ليس للمتأخر، وقس على هذا قوله: ولا شئ للمتأخر، أي من هذا المعنى الذي يكون التقدم والتأخر باعتباره فلا يرد ما ذكر البعض أنه قد يوجد كثير من المعاني للمتأخر ولا يوجد مثلها للمتقدم كالجوهرية والجسمية في المبدعات والكائنات المتأخر وجودهما عن الأول تعالى، إنتهى. أقول: مفاد قوله أي من هذا المعنى الذي يكون التقدم والتأخر باعتباره، ومفاد قول صدر المتألهين فكان ينبغي أن يقيد ذلك بما يكون من جنس ما فيه التقدم واحد، فلا يرد قوله فلا يرد ما ذكر البعض. واعلم أن البحث عن أقسام السبق وكثير من مسائله ذكرناه في شرحنا على فصوص الفارابي بالفارسية، فراجع الفص التاسع والستين من ذلك الشرح. 85 وإذا ثبت أنه مقول بالتشكيك بمعنى أن بعض أنواع التقدم أولى بالتقدم من بعض، فاعلم إنا إذا فرضنا (أ) متقدما على (ب) بالعلية و (ج) متقدما على (د) بالطبع كان تقدم (أ) على (ب) أولى من تقدم (ج) على (د)، وحينئذ (ب) أحد المضافين أولى (1) بتأخره عن الألف المضاف الآخر من تأخر (د) عن (ج) فانحفظت الإضافة بين المضافين في الأولوية وهو أحد أنواع التشكيك. وكذلك لو فرضنا تقدم (أ) على (ب) أشد من تقدم (ج) على (د) كان تأخر (ب) عن (أ) أشد من تأخر (د) عن (ج)، وهذا نوع ثان للتشكيك. وكذا لو فرضنا تقدم (أ) على (ب) قبل تقدم (ج) على (د) كان تأخر (ب) عن (أ) قبل تأخر (د) عن (ج)، وهذا هو النوع الثالث وهذا معنى قوله: وتنحفظ الإضافة بين المضافين في أنواعه.
(1) خبر ل (ب). 86 قال: وحيث وجد التفاوت امتنع جنسيته. أقول: لما بين أن التقدم مقول على ما تحته من أصناف التقدمات بالتشكيك ظهر أنه ليس جنسا لما تحته، وأن مقوليته على ما تحته قول العارض على معروضه لا قول الجنس على أنواعه، لامتناع وقوع التفاوت في أجزاء الماهية. قال: والتقدم دائما بعارض زماني أو مكاني أو غيرهما. أقول: إذا نظر إلى الماهية من حيث هي هي لم تكن متقدمة على غيرها ولا متأخرة، وإنما يعرض لها التقدم والتأخر باعتبار أمر خارج عنها إما زماني كما في التقدم الزماني (1) أو مكاني كما في التقدم المكاني أو مغاير كما في تقدم العلة على معلولها باعتبار التأثير والتأثر وكما في تقدم العالم على المتعلم باعتبار الشرف وغير ذلك من أصناف التقدمات. قال: والقدم والحدوث الحقيقيان (2) لا يعتبر فيهما الزمان وإلا تسلسل. أقول: القدم والحدوث قد يكونان حقيقيين وقد لا يكونان حقيقيين بل
(1) سواء كان التقدم بزمان زائد على المتقدم والمتأخر، أو بنفس الزمان كما تقدم، فلا يرد ما تفوه بأن الإشكال في القسم السادس أي التقدم بالذات على ما ذهب إليه المتكلمون، فإن عروض التقدم لبعض أجزاء الزمان المفروضة إنما هو لذاته لا لأمر خارج. ثم إن قول الماتن كما اخترناه موافق لجميع النسخ بلا استثناء، وأما قول الشارح فقد روي في غير (م ص) هكذا: إما زمان كما في التقدم الزماني أو مكان كما في التقدم المكاني. (2) ناظر إلى الذاتيين منهما وأعرب ضميره في قوله الآتي: والحدوث الذاتي متحقق والحدوث الذاتي لا ينافي دوام الفيض أزلا وأبدا، فافهم. وكلامه هذا رد على من أنكر الحدوث الذاتي ولم يعقل سوى الحدوث الزماني. والشيخ الرئيس في الفصل الثاني عشر من النمط الخامس من الإشارات نقل مذاهب المتكلمين في حدوث العالم من جملتها أن من هؤلاء من قال: إن العالم وجد حين كان أصلح لوجوده، ومنهم من قال: لم يكن وجوده إلا حين وجد، ومنهم من قال: لا يتعلق وجوده بحين ولا بشئ آخر بل بالفاعل ولا يسأل عن لم، ثم قال الشيخ: فهؤلاء هؤلاء. والنسخ كلها جاءت: والقدم بالواو، كما اخترناه وفي (ت) وحدها: فالقدم بالفاء. 87 يقالان على ما يقالان عليه على سبيل المجاز، فالقدم والحدوث الحقيقيان وهما ما فسرناهما به من أن القديم هو الذي لا يسبقه الغير والمحدث هو المسبوق بالغير، وهما بهذا الاعتبار لا يفتقران إلى الزمان لأن الزمان إن كان قديما أو حادثا بهذا المعنى افتقر إلى زمان آخر وتسلسل، وأما القدم والحدوث بالمجاز فإنهما لا يتحققان بدون الزمان وذلك لأن القديم يقال بالمجاز لما يستطال زمان وجوده في جانب الماضي، والمحدث لما لا يستطال زمانه. قال: والحدوث الذاتي متحقق. أقول: قد بينا أن أصناف التقدم والتأخر خمسة أو ستة، ومن جملتها التقدم والتأخر بالطبع (1)، فالحدوث الذاتي هو الذي يكون الوجود فيه متأخرا عن العدم بالذات، وبيانه: أن الممكن يستحق من ذاته عدم استحقاق الوجود والعدم ويستحق من غيره استحقاق أحدهما وما بالذات أسبق مما بالغير فاللااستحقاقية - أعني التأخر الذاتي - متقدم على الاستحقاقية وذلك هو معنى الحدوث الذاتي. قال: والقدم والحدوث اعتباران عقليان ينقطعان بانقطاع الاعتبار. أقول: ذهب المحققون إلى أن القدم والحدوث ليسا من المعاني المتحققة في الأعيان، وذهب عبد الله بن سعيد من الأشعرية إلى أنهما وصفان زائدان على الوجود، والحق خلاف ذلك وأنهما اعتباران عقليان يعتبرهما الذهن عند مقايسة سبق الغير إليه وعدمه، لأنهما لو كانا ثبوتيين لزم التسلسل، لأن الموجود من كل واحد منهما إما أن يكون قديما أو حادثا، فيكون للقدم قدم آخر وكذا الحدوث هذا خلف، بل هما عقليان يعتبرهما العقل وينقطعان بانقطاع الاعتبار العقلي. وهذا جواب عن سؤال مقدر وهو أن يقال: إذا كان القدم والحدوث أمرين ثبوتيين في العقل أمكن عروض القدم والحدوث لهما ويعود المحذور من التسلسل، وتقرير الجواب أنهما اعتباران عقليان ينقطعان بانقطاع الاعتبار فلا يلزم التسلسل.
(1) فاللااستحقاقية متقدمة بالطبع على الاستحقاقية في الممكنات. 88 قال: وتصدق الحقيقية منهما. أقول: الموجود لا يخلو عن القدم والحدوث لأنه لا يخلو من أن يكون مسبوقا بغيره أو لا، والأول حادث والثاني قديم، ولا يجتمعان في شئ واحد لاستحالة اجتماع النقيضين، فإذن لا يجتمعان ولا يرتفعان فتتركب المنفصلة الحقيقية منهما. المسألة الخامسة والثلاثون في خواص الواجب قال: ومن الوجوب الذاتي والغيري (1). أقول: هذه إحدى الخواص وهو أن الشئ الواحد إذا كان واجبا لذاته استحال أن يكون واجبا بغيره، إذا عرفت هذا فنقول: المنفصلة الحقيقية التي تمنع الجمع والخلو صادقة على الموجود إذا أخذ جزءاها الوجوب بالذات والوجوب بالغير، بأن يقال: الموجود إما واجب لذاته أو واجب بغيره لامتناع صدقهما على شئ واحد وكذبهما عليه، وذلك لأن الموجود إما مستغن عن الغير أو محتاج إليه ولا واسطة بينهما، والأول واجب بالذات والثاني واجب بالغير. وإنما امتنع الجمع بينهما لأنه لو كان شئ واحد واجبا بذاته وبغيره معا لزم المحال، لأن الواجب بغيره يرتفع بارتفاع غيره، والواجب بالذات لا يرتفع بارتفاع غيره، فلو كان شئ واحد واجبا بذاته وبغيره لزم اجتماع النقيضين، وهو محال. وإنما امتنع الخلو عنهما لأن الموجود إن كان واجبا صدق أحد الجزئين (2)
(1) لا يخفى أن هذه العبارة عطف على قوله: منهما، أي تصدق القضية المنفصلة الحقيقية من الوجوب الذاتي والغيري، فهذا الكلام تتمة المسألة الرابعة والثلاثين، والعجب أن الشارح شرحه على هذا النهج القويم ولكن جعله أول المسألة الخامسة والثلاثين في خواص الواجب. والحق أن قوله الآتي: ويستحيل صدق الذاتي على المركب، أول المسألة في خواص الواجب كما في الشوارق. (2) أي أحد الجزئين من القضية المنفصلة. 89 وإن كان ممكنا استحال وجوده إلا بعد وجوبه بالفاعل على ما تقدم فيصدق الجزء الآخر. قال: ويستحيل صدق الذاتي على المركب (1). أقول: هذه خاصية ثانية للواجب الذاتي وهو أنه يستحيل أن يكون مركبا، فلا يمكن صدق الوجوب الذاتي على المركب لأن كل مركب يفتقر إلى أجزائه على ما يأتي، وكل مفتقر ممكن، فالواجب لذاته ممكن لذاته هذا خلف. قال بعض المتأخرين: هذه المسألة تتوقف على الوحدانية لأنه لو قال قائل: يجوز أن يكون كل واحد من أجزاء المركب واجبا لذاته ويكون المجموع مستغنيا عن الغير، أجبنا بأن الواجب لذاته يستحيل أن يكون متعددا. والحق أنه لا افتقار في هذه المسألة إلى الوحدانية لأن هذا المركب يستحيل أن يكون واجبا لذاته لافتقاره إلى أجزائه الواجبة، وكل مفتقر ممكن، فيكون المركب ممكنا فلا يكون واجبا، وهذا لا يتوقف على الوحدانية. قال: ولا يكون الذاتي جزءا من غيره. أقول: هذه خاصية ثالثة للواجب ظاهرة (2) وهي أن الواجب لذاته لا يتركب عنه غيره وهو ظاهر، لأن التركب إما حسي وهو إنما يكون بانفعال كالمزاج، أو عقلي كتركب الماهية من الأجناس والفصول، والكل ظاهر الاستحالة. المسألة السادسة والثلاثون في أن وجود واجب الوجود ووجوبه نفس حقيقته قال: ولا يزيد وجوده ونسبته عليه وإلا لكان ممكنا (3).
(1) البحث عن خواص الواجب أي لوازم وجوب الوجود لأن الوجود والحق والواجب وجوهر الجواهر وحقيقة الحقائق ونظائرها بمعنى واحد كما أومأنا إليه، فالمفاهيم متعددة والعين واحدة. (2) باتفاق النسخ كلها، والمراد بالواجب هو الواجب الذاتي كما هو ظاهر. (3) متعلق بالجميع، أي لكل واحد من الأحكام التي هي خواص الواجب، أي يستحيل صدق الذاتي على المركب وإلا لكان ممكنا، وهكذا في الخاصتين بعدها. 90 أقول: هذه المسألة تشتمل على بحثين: البحث الأول: في أن وجود واجب الوجود لذاته نفس حقيقته، وتقريره أن نقول: لو كان وجود (1) واجب الوجود لذاته زائدا على حقيقته لكان صفة لها فيكون ممكنا فيفتقر إلى علة، فتلك العلة إما أن تكون نفس حقيقته أو شيئا خارجا عن حقيقته، والقسمان باطلان، أما الأول فلأن تلك الحقيقة إما أن تؤثر فيه وهي موجودة أو تؤثر فيه وهي معدومة، فإن أثرت فيه وهي موجودة فإن كانت موجودة بهذا الوجود لزم تقدم الشئ على نفسه وهو محال، وإن كان بغير هذا الوجود عاد البحث إليه ويلزم وجود الماهية مرتين والجميع باطل، وإن أثرت فيه وهي معدومة كان المعدوم مؤثرا في الموجود وهو باطل بالضرورة. وأما الثاني فلأنه يلزم منه افتقار واجب الوجود في وجوده إلى غيره فيكون ممكنا وهو محال، وهذا دليل قاطع على هذا المطلوب. البحث الثاني: في أن الوجوب نفس حقيقته، وقد تقدم بيان ذلك فيما سلف. قال: والوجود المعلوم (2) هو المقول بالتشكيك أما الخاص به فلا. أقول: هذا جواب من استدل على زيادة الوجود في حق واجب الوجود، وتقرير الدليل أن نقول: ماهيته تعالى غير معلومة للبشر على ما يأتي، والوجود معلوم ينتج من الشكل الثاني أن الماهية غير الوجود.
(1) الكلام في أن واجب الوجود إنية محضة، فالحري بالتوحيد أن تعلم أن الوجود يساوق الحق والحق سبحانه هو الوجود الواجب وما سواه مرزوق بهذا الرزق ولولاه لما كان ما كان. قال مولانا سيد الساجدين عليه السلام في الدعاء الثاني والخمسين من الصحيفة: (أو كيف يستطيع أن يهرب منك من لا حياة له إلا برزقك). والممكن في حدوثه وبقائه مفتاق بهذا الرزق، وبدونه لا اسم له ولا رسم، وحيث إنه تعالى وجود صمدي فهو الواحد الجميع، أي هو الأول والآخر والظاهر والباطن، فافهم. (2) يعني مفهوم الوجود المطلق العام، والخاص به هو الوجود الواجب. 91 وتقرير الجواب عنه أن نقول: إنا قد بينا أن الوجود مقول بالتشكيك (1) على ما تحته والمقول على أشياء بالتشكيك يمتنع أن يكون نفس الحقيقة أو جزءا منها، بل يكون دائما خارجا عنها لازما لها كالبياض المقول على بياض الثلج وبياض العاج لا على السواء فهو ليس بماهية ولا جزء ماهية لهما، بل هو لازم من خارج، وذلك لأن بين طرفي التضاد الواقع في الألوان أنواعا من الألوان لا نهاية لها بالقوة ولا أسامي لها بالتفصيل يقع على كل جملة منها اسم واحد بمعنى واحد كالبياض والحمرة والسواد بالتشكيك، ويكون ذلك المعنى لازما لتلك الجملة غير مقوم، فكذلك الوجود في وقوعه على وجود الواجب وعلى وجودات الممكنات المختلفة بالهويات التي لا أسماء لها بالتفصيل، فإنه يقع عليها وقوع لازم خارجي غير مقوم، فالوجود يقع على ما تحته بمعنى واحد، ولا يلزم من ذلك تساوي ملزوماته التي هي وجود الواجب ووجودات الممكنات في الحقيقة، لأن مختلفات الحقيقة قد تشترك في لازم واحد، فالحقيقة التي لا تدركها العقول هي الوجود الخاص المخالف لسائر الوجودات بالهوية، الذي هو المبدأ الأول والوجود المعقول هو الوجود العام اللازم لذلك الوجود وسائر الوجودات وهو أولي التصور، وإدراك اللازم لا يقتضي إدراك الملزوم بالحقيقة وإلا لوجب من إدراك الوجود إدراك جميع الوجودات الخاصة، وكون حقيقته تعالى غير مدركة وكون الوجود مدركا يقتضي المغايرة بين حقيقته تعالى والوجود المطلق لا الوجود الخاص به تعالى، وهذا التحقيق مما نبه (2) عليه بهمنيار في التحصيل،
(1) قد بين في المسألة الرابعة والثلاثين. (2) نبه عليه في الفصل الأول من المقالة الأولى من الكتاب الثاني من التحصيل بقوله: ثم اعلم أن الوجود يحمل على ما تحته حمل التشكيك لا حمل التواطؤ ومعنى ذلك.. الخ (ص 281 ط 1). والمصنف حرره في الفصل السابع عشر من النمط الرابع من الإشارات ردا على وهم الفخر الرازي حيث زعم أن الوجود شئ واحد في الواجب والممكن على السواء بالتواطؤ، وبيان هذا التشكيك أن مختلفات الحقيقة - أي الواجب والممكنات - قد تشترك في لازم واحد وهو الوجود المحمول عليها، فالوجود بمعنى واحد في الجميع ولكن لا على السواء بل على الاختلاف. ذهب المتأخرون من المشاء إلى أن الوجودات العينية حقائق متباينة بتمام ذواتها البسيطة لا بالفصول ليلزم التركيب في الوجود ويكون الوجود المطلق جنسا، ولا بالمصنفات والمشخصات ليلزم التركيب في الوجود أيضا ويكون الوجود المطلق نوعا، بل المطلق عرضي لازم لها بمعنى أنه خارج محمول أي محمول من صميمه لا أنه عرضي بمعنى المحمول بالضميمة، لأن العارض والمعروض في المحمول بالضميمة شيئان والمعروض - أي المحمول - سابق على العارض أي الحامل. وحمل الوجود المطلق على أعيان الوجودات المتباينة حمل اللازم على الملزومات المتعددة المتباينة وهذا الحمل على سبيل التشكيك أي إطلاق الوجود المطلق العام اللازم على ملزوم وهو الوجود الواجب أولى وأقدم على ملزوم آخر كالعقل الأول مثلا وعلى هذا القياس، وفي هذه الملزومات ملزوم واحد فقط له تأكد وجودي وتوحد كذلك هو إنية محضة ووجود صرف وهو ذات الواجب وما سواه زوج تركيبي من الوجود والماهية، ولا منافاة بين أن يكون لازم واحد بمعنى واحد يطلق على ملزومات متباينة على سبيل التشكيك، فالوجود المطلق العام العارض اللازم هو معروض التشكيك، كما أن الوجودات العينية معروضاته فهي معروضات ذلك المعروض. وقد أومأنا من قبل إلى أن التوحيد أشمخ من ظاهر هذا الزعم، وهو تنزيه في عين التشبيه والتوحيد الصمدي منزه عن هذا التنزيه، فعلى هذا الزعم قالوا في علم الباري بالجزئيات أنه عالم بها على النحو الكلي، ووقعوا في صدور الكثرة عن الواحد الحقيقي وفي ربطها به وفي مسائل أخرى في خبط عظيم إلا أن يصحح آراؤهم بمعاونة كلماتهم الأخرى على غير ما اشتهر منهم ولا ضير كما أشرنا إلى طائفة منها في شرحنا على فصوص الفارابي، ولا يعجبني بني إسناد تلك الآراء الفائلة بظاهرها إليهم، ولا أعتقده فيهم بذلك الاسترسال والاطلاق. 92 وقرره المصنف رحمه الله في شرح الإشارات. قال: وليس طبيعة نوعية (1) على ما سلف فجاز اختلاف جزئياته في العروض وعدمه.
(1) كما ذهب الفخر الرازي إلى أن الوجود طبيعة نوعية، فراجع شرحه على الفصل السابع عشر من النمط الرابع من الإشارات (ص 303 ط مصر). قال شارح المقاصد سعد الدين التفتازاني: والعجب أن الإمام قد اطلع من كلام الفارابي وابن سينا على أن مرادهم أن حقيقة الواجب وجود مجرد هي محض الواجبية لا اشتراك فيه أصلا، والوجود العام المشترك المعلوم لازم له غير مقوم، بل صرح في بعض كتبه بأن الوجود مقول على الوجودات بالتشكيك، ثم استمر على شبهته التي زعم أنها من المتانة بحيث لا يمكن توجيه شك مخيل عليها وهي أن الوجود إن اقتضى العروض أو اللا عروض تساوى الواجب والممكن في ذلك، وإن لم يقتض شيئا منهما كان وجوب الواجب من الغير. وجملة الأمر أنه لم يفرق بين التساوي في المفهوم والتساوي في الحقيقة، فذهب إلى أنه لا بد من أحد الأمرين: إما كون اشتراك الوجود لفظيا، أو كون الوجودات متساوية في اللوازم . (ص 66 و 67 ط 1). وقد لخص المحقق نصير الدين الطوسي كلام الفخر الرازي في شرح الفصل المذكور من رابع الإشارات بقوله: والفاضل الشارح قد اضطرب في هذا الموضع اضطرابا ظن بسببه أن عقول العقلاء وأفهام الحكماء بأسرها مضطربة، وذلك لأنه استدل على أن الوجود لا يقع على الموجودات بالاشتراك اللفظي بدلائل كثيرة استفادها منهم، وحكم بعد ذلك بأن الوجود شئ واحد في الجميع على السواء حتى صرح بأن وجود الواجب مساو لوجود الممكنات تعالى عن ذلك، ثم إنه لما رأى وجود الممكنات أمرا عارضا لماهياتها وكان قد حكم بأن وجود الواجب مساو لوجود الممكنات حكم بأن وجود الواجب أيضا عارض لماهيته، فماهيته غير وجوده تعالى عن ذلك علوا كبيرا، وظن أنه إن لم يجعل وجود الواجب عارضا لماهيته لزمه إما كون ذلك الوجود مساويا للوجودات المعلولة، وإما وقوع الوجود على وجود الواجب ووجود غيره بالاشتراك اللفظي، ومنشأ هذا الغلط هو الجهل بمعنى الوقوع بالتشكيك.. الخ. ثم أخذ في بيان إطلاق الوجود على الموجودات بالتشكيك على الوجه المحقق عند المشاء، وقد حررناه آنفا مع مزيد إيضاح منا. وقد دريت أن الخطب أرفع مما ذهب إليه المشاء بمراحل فضلا عما توهم الفخر الرازي، ثم لنا في المقام حول كلمات الفخر وتحقيقات المحقق المذكور في شرحه على الإشارات مطالب مجدية لعلها تنجدك في هذه المباحث. 93 أقول: هذا جواب عن استدلال ثان استدل به الذاهبون إلى أن وجوده تعالى زائد على حقيقته، وتقرير الدليل أن الوجود طبيعة واحدة نوعية لما بيناه من اشتراكه، والطبائع النوعية تتفق في لوازمها، وقد بنى الحكماء على هذه القاعدة مطالب كثيرة كامتناع الخلاء ووجود الهيولى للأفلاك وغير ذلك من مباحثهم، فنقول: طبيعة الوجود إن اقتضت العروض وجب أن يكون وجود واجب الوجود عارضا لماهية مغايرة له، وإن اقتضت اللا عروض كانت وجودات الممكنات غير عارضة لماهياتها، فأما أن لا تكون موجودة أو يكون وجودها نفس حقائقها، والقسمان باطلان، وإن لم تقتض واحدا منهما لم تتصف بأحدهما إلا بأمر خارج عن طبيعة
94 الوجود، فيكون تجرد واجب الوجود محتاجا إلى المؤثر هذا خلف. وتقرير الجواب أن الوجود ليس طبيعة نوعية على ما حققناه، بل هو مقول بالتشكيك (1) على ما تقدم، والمقول على أشياء بالتشكيك لا يتساوى اقتضاؤه، فإن النور يقتضي بعض جزئياته أبصار الأعشى بخلاف سائر الأنوار والحرارة، كذلك فإن الحرارة الغريزية تقتضي استعداد الحياة بخلاف سائر الحرارات، فكذلك الوجود. قال: وتأثير الماهية من حيث هي في الوجود غير معقول. أقول: لما أبطل استدلالاتهم شرع في إبطال الاعتراض الوارد على دليله، وقد ذكر هاهنا أمرين: أحدهما: أنهم قالوا: لا نسلم انحصار أحوال الماهية حالة التأثير في الوجود والعدم (2)، بل جاز أن تكون الماهية من حيث هي هي مؤثرة في الوجود، فلا يلزم التسلسل ولا تأثير المعدوم في الموجود. والجواب أن الماهية من حيث هي هي (3) يجوز أن تقتضي صفات لها على سبيل العلية
(1) وصدقه على أفراده صدق عرضي كما دريت. واعلم أن الشيخ في الفصل الثالث من سادسة إلهيات الشفاء ناظر إلى هذا التحقيق في تشكيك الوجود على ممشي المشاء، حيث يقول: ثم الوجود بما هو وجود لا يختلف في الشدة والضعف، ولا يقبل الأقل والأنقص، وإنما يختلف في ثلاثة أحكام وهي التقدم والتأخر والاستغناء والحاجة والوجوب والإمكان، إلى آخر ما أفاد (ص 534 ج 2 ط 1). (2) متعلق بالانحصار. (3) ناظر إلى كلام الشيخ في الفصل السابع عشر من النمط الرابع من الإشارات حيث يقول: قد يجوز أن تكون ماهية الشئ سببا لصفة من صفاته، وأن تكون صفة له سببا لصفة أخرى مثل الفصل للخاصة، ولكن لا يجوز أن تكون الصفة التي هي الوجود للشئ إنما هي بسبب ماهيته التي ليست هي الوجود أو بسبب صفة أخرى، لأن السبب متقدم في الوجود ولا متقدم بالوجود قبل الوجود، إنتهى. وأقول: الماهية توجد بسبب الوجود والسنخية بين العلة ومعلولها توجب أن يكون معلول الماهية من سنخها في وعاء الذهن، مثلا كون الأثنينية سببا لزوجية الاثنين، وأنى للماهية أن توجب صفة الوجود وتكون سببا له وهي حد ينتزع من شأن من شؤون الوجود الأحدي الصمدي، والسبب متقدم في الوجود ولا متقدم بالوجود قبل الوجود. واعلم أن هذا الفصل من الإشارات وما حققه المحقق الطوسي في أمر الوجود ورد الشبهات الفخرية في المقام هو الأصل فيما أتى به المولى صدرا في الفصل الثالث من المنهج الثاني من المرحلة الأولى من الأسفار من أن واجب الوجود إنيته ماهيته. ثم يستشم من كلام المحقق الطوسي في هذا المقام من التجريد أنه صنف التجريد بعد شرحه على الإشارات. 95 والمعلولية إلا الوجود فإنه يمتنع أن تؤثر فيه من حيث هي هي، لأن الوجود لا يكون معلولا لغير الموجود بالضرورة فيلزم المحاذير المذكورة، والضرورة فرقت بين الوجود وسائر الصفات. قال: والنقض بالقابل (1) ظاهر البطلان. أقول: هذا جواب عن السؤال الثاني، وتقريره أنهم قالوا: إن العلة القابلية للوجود لا يجوز أن يكون باعتبار الوجود، فإن الممكن المعدوم لو لم يقبل الوجود إلا بشرط الوجود لزم تقدم الشئ على نفسه أو تعددت الوجودات للماهية الواحدة، والكل محال، وإذا كان كذلك فلم لا يعقل مثله في العلة الفاعلية؟ والجواب أن هذا إنما يتم لو قلنا إن الوجود عارض للماهية عروض السواد للجسم وأن للماهية ثبوتا في الخارج دون وجودها، ثم إن الوجود يحل فيها ونحن لا نقول كذلك، بل كون الماهية هو وجودها (2) وإنما تتجرد عن الوجود في العقل لا بمعنى أنها تكون في العقل منفكة عن الوجود، لأن الحصول في العقل نوع من الوجود، بل بمعنى أن العقل يلاحظها منفردة، فاتصاف الماهية بالوجود أمر عقلي، إذ ليس للماهية وجود منفرد ولعارضها المسمى بالوجود وجود آخر ويجتمعان اجتماع المقبول والقابل، بل الماهية إذا كانت فكونها وجودها، والحاصل من هذا أن الماهية إنما تكون قابلة للوجود عند وجودها في العقل فقط،
(1) جواب عن اعتراض الفخر الرازي بالنقض. (2) سيأتي هذا البحث في المسألة الثامنة والثلاثين حيث يقول: وإثبات الوجود للماهية لا يستدعي وجودها أولا. 96 ولا يمكن أن تكون فاعلة لصفة خارجية عند وجودها في العقل فقط. قال: والوجود من المحمولات العقلية (1) لامتناع استغنائه عن المحل وحصوله فيه. أقول: الوجود ليس من الأمور العينية بل هو من المحمولات العقلية الصرفة، وتقريره أنه لو كان ثابتا في الأعيان لم يخل إما أن يكون نفس الماهيات الصادق عليها أو مغايرا لها، والقسمان باطلان، أما الأول فلما تقدم من أنه زائد على الماهية ومشترك بين المختلفات فلا يكون نفسها. وأما الثاني فإما أن يكون جوهرا أو عرضا، والأول باطل وإلا لم يكن صفة لغيره، والثاني باطل لأن كل عرض فهو حاصل في المحل، وحصوله في المحل نوع من الوجود، فيكون للوجود وجود هذا خلف، ويلزم تأخره عن محله وتقدمه عليه هذا خلف. قال: وهو من المعقولات الثانية. أقول: الوجود كالشيئية في أنها من المعقولات الثانية، إذ ليس الوجود ماهية خارجية على ما بيناه، بل هو أمر عقلي يعرض للماهيات وهو من المعقولات الثانية المستندة إلى المعقولات الأولى، وليس في الموجودات شئ هو وجود أو شئ، بل الموجود إما الانسان أو الحجر أو غيرهما، ثم يلزم من معقولية ذلك أن يكون موجودا. قال: وكذلك العدم. أقول: يعني به أن العدم من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى كما
(1) أي مفهوم الوجود المطلق المحمول على الماهيات من الصفات العقلية الاعتبارية الموجودة في العقل فقط، ليست بصفة عينية خارجية فذلك الوجود المطلق المحمول من المعقولات الثانية، وأما الوجود المطلق الواجبي الحق الصمدي فهو الأول والآخر والظاهر والباطن سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين. 97 قلنا في الوجود، إذ ليس في الأعيان ماهية هي عدم مطلق فهو دائما عارض لغيره. قال: وجهاتهما. أقول: يعني به أن جهات الوجود والعدم من الوجوب والإمكان والامتناع الذاتية والمشروطة من المعقولات الثانية أيضا كما تقدم من أنها أمور اعتبارية لا تحقق لها في الخارج، وقد سبق البحث فيه. قال: والماهية. أقول: الماهية أيضا من المعقولات الثانية فإن الماهية تصدق على الحقيقة باعتبار ذاتها لا من حيث إنها موجودة أو معقولة، وإن كان ما يصدق عليه الماهية من المعقولات الأولى (1)، وليس البحث فيه بل في الماهية أعني العارض فإن كون الانسان ماهية أمر زائد على حقيقة الانسانية. قال: والكلية والجزئية. أقول: هذان أيضا من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى، فإن الماهية من حيث هي هي وإن كانت لا تخلو عنهما إلا أنها مغايرة لهما، وهما يصدقان عليها صدق العارض على معروضه، فإن الانسانية لو كانت لذاتها كلية لم تصدق جزئية وبالعكس، فالانسانية ليست من حيث هي هي كلية ولا جزئية، بل إنما تصدق عليه الكلية عند اعتبار صدق الحقيقة على أفراد متوهمة أو متحققة، والجزئية أنما تصدق عليها عند اعتبار أمور أخر مخصصة لتلك الحقيقة ببعض الأفراد فهما من المعقولات الثانية. قال: والذاتية والعرضية.
(1) يعني كما أن الأفراد الخارجية كزيد وعمرو وبكر مصاديق حقيقية للانسان كذلك الماهيات الذهنية كماهيات الانسان والبقر والغنم مصاديق ذهنية للماهية، فالماهية صادقة على كل واحدة منها، فالماهية من المعقولات الثانية العارضة على الأولى ومصاديقها أفراد ذهنية ليست بخارجية. 98 أقول: هذان أيضا من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى فإنه ليس في الأعيان ذاتية ولا عرضية وليس لهما تأصل في الوجود، وقد يكون الذاتي لشئ عرضيا لغيره فهما اعتباران عقليان عارضان لماهيات متحققة في أنفسها فهي من المعقولات الثانية. قال: والجنسية والفصلية والنوعية. أقول: هذه أيضا أمور اعتبارية عقلية صرفة من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى، فإن كون الانسان نوعا أمر مغاير لحقيقة الانسانية عارض لها وإلا لامتنع صدق الانسانية على زيد، وكذلك الجنسية للحيوان مثلا أمر عارض له مغاير لحقيقته وكذلك الفصلية للناطق، وهذا كله ظاهر. المسألة السابعة والثلاثون في تصور العدم (1) قال: وللعقل أن يعتبر النقيضين ويحكم بينهما بالتناقض ولا استحالة فيه. أقول: العقل يحكم بالمناقضة بين السلب والإيجاب فلا بد وأن يعتبرهما معا، لأن التناقض من قبيل النسب والإضافات لا يمكن تصوره إلا بعد تصور معروضيه، فيكون متصورا للسلب والإيجاب معا ولا استحالة في اجتماعهما في الذهن دفعة، لأن التناقض ليس بالقياس إلى الذهن بل بالقياس إلى الذهن بل بالقياس إلى ما في نفس الأمر فيتصور صورة ما ويحكم عليها بأنه ليس لها في الخارج ما يطابقها، ثم يتصور صورة أخرى فيحكم عليها بأن لها في الخارج
(1) الوجود باعتبار عمومه وانبساطه وإحاطته وسعة رحمته يعرض مفهوم عدم المطلق والمضاف كالعمى في الذهن عند تصورهما، ولذلك العروض يحكم العقل عليهما بالامتياز بينهما، وامتناع أحدهما أي العدم المطلق لا يمكن تحققه، وإمكان الآخر أي العدم المضاف الممكن تحققه وذلك لأن كل ما هو ممكن وجوده كالبصر يمكن عدمه وهو العمى، وكذلك يحكم على العدمين بغير ذلك من الأحكام ويميز أحدهما من الآخر. 99 ما يطابقها ثم يحكم على إحداهما بمقابلة الأخرى لا من حيث إنهما حاضرتان في العقل بل من حيث إن إحداهما استندت إلى الخارج دون الأخرى، وقد يتصور الذهن صورة ما ويتصور سلبها لأنه مميز على ما تقدم (1)، ويحكم على
(1) تقدم في المسألة التاسعة عشرة حيث قال: وقد يتمايز الإعدام.. الخ، ثم التحقيق في المقام أن يقال بالوجود - أي بالوجود الصمدي الذي هو متن الأعيان وحقيقة الحقائق وجوهر الجواهر - يتحقق الضدان ويتقوم المثلان، بل هو الذي يظهر بصورة الضدين وغيرهما ويلزم منه الجمع بين النقيضين لأن كلا من الضدين يستلزم سلب الآخر، فالضدان يؤولان إلى النقيضين من هذا السلب، مثلا إن الألم والراحة ضدان ليسا بنقيضين، ولما كان كل منهما يستلزم عدم الآخر يطلق اسم النقيضين عليهما أيضا، كأنه يقال الراحة وعدمها والألم وعدمه، واختلاف الجهتين إنما هو باعتبار العقل للمفهومين أو الماهيتين، وأما في الوجود فتتحد الجهات كلها فإن الظهور والبطون وجميع الصفات الوجودية المتقابلة مستهلكة في عين الوجود فلا مغايرة إلا في اعتبار العقل، والصفات السلبية مع كونها عائدة إلى العدم مفهوما وذلك العدم هو سلب الإمكان والنقص، أيضا راجعة إلى الوجود من وجه وذلك الوجه هو إما تأكد الوجود وتوحده الصمدي، وإما انبساط الوجود إلى العدم لأن الأعدام المتمايزة بعضها عن البعض تمايزها أيضا باعتبار وجوداتها في ذهن المعتبر لها أو باعتبار وجود ملكاتها لا أن لها ذوات متمايزة بذاوتها، فكل من الجهات المتغايرة من حيث وجودها العقلي عين باقيها، لأن الصفات الكمالية من الحياة والعلم والإرادة والقدرة وغيرها تدور مع الوجود حيثما دار ولا تنفك عنه تحققا بل هو عينها، فكل واحدة منها عين باقيها بوجودها الأحدي، فافهم. ثم نقول: ولكون الضدين مجتمعين في عين الوجود يجتمعان أيضا في العقل، إذ لولا وجودهما فيه لما اجتمعا فيه، وعدم اجتماعهما في الوجود الخارجي الذي هو نوع من أنواع الوجود المطلق لا ينافي اجتماعهما في الوجود من حيث هو هو، فتدبر. فالوجود الحق المطلق - أي المطلق عن الإطلاق والتقييد على ما ذهب إليه المحققون من أهل التوحيد - حقيقة واحدة ذات شؤون وشجون ولكل شأن حكم لا يتجافى عنه من حيث إن ذلك الحكم حكم ذلك الشأن وإن كان كل رقيقة محاكية عن حقيقتها وكل حقيقة هي واجدة كمال رقائقها مع ما هي عليها من الزيادة، فالوجود المطلق الحق منصبغ بتلك الأحكام في عز وحدته وغناه الذاتي، والانصباغ في الحقيقة هو الاتصاف الوجودي الأحدي، ولذا قال بعض مشايخ التوحيد: بأن الله لا يعرف إلا بجمعه بين الأضداد في الحكم عليها بها. واعلم أن نهاية كمال كل صفة هي أن لا يتطرق إليها زوال وفتور بعروض مقابلها، بل انتظم معه والتأم بحيث يزيد قوة وسلطانا وسعة، وقد جاء في الآيات القرآنية والمأثورات الروائية اتصافه سبحانه بالأسماء والصفات المتقابلة كالأول والآخر، والظاهر والباطن، واللطيف والقهار، والنافع والضار، والقابض والباسط، والخافض والرافع، والهادي والمضل، والمعز والمذل ونظائرها. 100 الصورتين بالتناقض لا باعتبار حضورهما في الذهن بل بالاعتبار الذي ذكرناه. قال: وأن يتصور عدم جميع الأشياء (1) حتى عدم نفسه وعدم العدم بأن يتمثل في الذهن ويرفعه وهو ثابت باعتبار، قسيم باعتبار، ولا يصح الحكم عليه من حيث هو ليس بثابت ولا تناقض. أقول: الذهن يمكنه أن يتصور جميع المعقولات وجودية كانت أو عدمية، ويمكنه أن يلحظ عدم جميع الأشياء لأنه يتصور العدم المطلق، ويمكنه أن ينسبه إلى جميع الماهيات فيمكنه أن يلحظه باعتبار نفسه فيتصور عدم الذهن نفسه، وكذلك يمكنه أن يلحقه نفس العدم (2) بمعنى أن الذهن يتخيل للعدم صورة ما معقولة متميزة عن صورة الوجود ويتصور رفعها ويكون ثابتا باعتبار تصوره، لأن رفع الثبوت الشامل للثبوت الخارجي والذهني تصور ما ليس بثابت ولا متصور أصلا وهو ثابت باعتبار تصوره وقسيم لمطلق الثابت باعتبار أنه سلبه ولا استبعاد
(1) قد اتفقت النسخ كلها على صورة العبارة في قوله: وعدم العدم بأن يتمثل في الذهن، ثم قوله هذا جواب عن الشبهة المشهورة وهي لزوم اجتماع النقيضين في قولنا: المعدوم المطلق يمتنع الحكم عليه. بيان اللزوم أن موضوع هذه القضية وهو المعدوم المطلق قد حكم عليه بامتناع الحكم عليه، فالمعدوم المطلق في القضية موصوف بصحة الحكم عليه، كما أنه موصوف بنقيضها الذي هو عدم صحة الحكم عليه فلزم اجتماع النقيضين، فأجاب بأن المعدوم المطلق ثابت باعتبار وغير ثابت باعتبار، فصحة الحكم عليه باعتبار أنه ثابت متصور، وامتناع الحكم عليه باعتبار أنه غير ثابت فلا تناقض. وفي بعض النسخ (يصح) مكان (لا يصح) ولكنه لا يصح بلا كلام. (2) من الالحاق أي يمكن الذهن أن يلحق العدم نفس العدم، فالعدم ونفس العدم منصوبان على المفعولية. 101 في ذلك، فإنا نقول: الموجود إما ثابت في الذهن أو غير ثابت في الذهن، فاللاوجود قسيم للوجود ومن حيث له مفهوم قسم من الثابت، والحكم على رفع الثبوت المطلق من حيث إنه متصور لا من حيث إنه ليس بثابت ولا يكون تناقضا لاختلاف الموضوعين. قال: ولهذا نقسم الموجود إلى ثابت في الذهن وغير ثابت فيه ونحكم بينهما بالتمايز وهو لا يستدعي (1) الهوية لكل من المتمايزين، ولو فرض له هوية (2) لكان حكمها حكم الثابت. أقول: هذا استدلال على أن الذهن له أن يتصور عدم جميع الأشياء، وبيانه أنا نقسم الموجود إلى ثابت في الذهن وغير ثابت فيه، ونحكم بامتياز أحدهما عن الآخر ومقابلته له، والحكم على شئ يستدعي تصوره وثبوته في الذهن، فيجب أن يكون ما ليس بثابت في الذهن ثابتا فيه، فقد تصور الذهن سلب ما وجد فيه باعتبارين على ما حققناه، فإن ما ليس بثابت في الذهن ثابت فيه من حيث إنه متصور، وغير ثابت فيه من حيث إنه سلب لما في الذهن. لا يقال: امتياز أحد الشيئين عن الآخر يستدعي أن يكون لكل من الممتازين هوية مغايرة لهوية الآخر حتى يحكم بينهما بالامتياز، فلو كان العدم ممتازا عن الوجود لكان له هوية متميزة عنه، لكن ذلك محال لأن العقل يمكنه رفع كل هوية، فيكون رفع هوية العدم قسيما للعدم وقسما منه وهذا محال. لأنا نقول: لا نسلم وجوب الهوية لكل من الممتازين، فإنا نحكم بامتياز الهوية عن اللاهوية وليس اللاهوية هوية سلمنا ثبوت الهوية لكل ممتازين لكن هوية العدم داخلة باعتبار الهوية في قسم الهوية وباعتبار ما فرض أنها لا هوية يكون مقابلة للهوية وقسيما لها، ولا امتناع في كون الشئ قسما من الشئ
(2) أي الحكم بامتياز أحد الشيئين عن الآخر لا يستدعي. (2) الضمير المخفوض راجع إلى قوله: غير ثابت، أي لو فرض لما ليس بثابت هوية. 102 وقسيما له باعتبارين على ما تقدم تحقيقه في باب الثبوت. قال: وإذا حكم الذهن على الأمور الخارجية بمثلها وجب التطابق في صحيحه وإلا فلا، ويكون صحيحه باعتبار مطابقته لما في نفس الأمر لإمكان تصور الكواذب. أقول: الأحكام الذهنية قد تؤخذ بالقياس إلى ما في الخارج، وقد تؤخذ لا بهذا الاعتبار، فإذا حكم الذهن على الأشياء الخارجية بأشياء خارجية مثلها كقولنا: الانسان حيوان في الخارج، وجب أن يكون مطابقا (1) لما في الخارج حتى يكون حكم الذهن حقا وإلا لكان باطلا، وإن حكم على أشياء خارجية بأمور معقولة كقولنا: الانسان ممكن، أو حكم على الأمور الذهنية بأحكام ذهنية كقولنا: الإمكان مقابل للامتناع، لم تجب مطابقته لما في الخارج، إذ ليس في الخارج إمكان وامتناع متقابلان ولا في الخارج انسان ممكن. إذا تقرر هذا فنقول: الحكم الصحيح في هذين القسمين لا يمكن أن يكون باعتبار مطابقته لما في الخارج لما تقدم من أن الحكم ليس مأخوذا بالقياس إلى الخارج ولا باعتبار مطابقته لما في الذهن، لأن الذهن قد يتصور الكواذب، فإنا قد نتصور كون الانسان واجبا مع أنه ممكن، فلو كان صدق الحكم باعتبار مطابقته لما في الذهن لكان الحكم بوجوب الانسان صادقا، لأن له صورة ذهنية مطابقة لهذا الحكم، بل يكون باعتبار مطابقته لما في نفس الأمر. وقد كان في بعض أوقات استفادتي منه (2) رحمه الله جرت هذه النكتة وسألته عن
(1) أي وجب أن يكون الحكم مطابقا، المستفاد من قوله: فإذا حكم الذهن، وكذا قوله الآتي: لم تجب مطابقته، الضمير راجع إلى الحكم. وسيصرح فيه بقوله: الحكم الصحيح في هذين القسمين لا يمكن أن يكون باعتبار مطابقته لما في الخارج. وقوله: حتى يكون حكم الذهن حقا، مطابق لنسخة (م) والنسخ الأخرى: حتى يكون حكم الذهن صحيحا وقوله: وإلا لكان باطلا يؤيد الأول، وقوله: الحكم الصحيح في هذين القسمين الثاني. (2) أقول: قد صنفنا رسالة في نفس الأمر وقد أوجب تصنيفها كلامه هذا من سؤاله وجواب المحقق الطوسي إياه، فلا بأس بالرجوع إليها في المقام لعلها تجديك مطالب حول ذلك الموضوع الشريف والله سبحانه ولي الأمر. 103 معنى قولهم: إن الصادق في الأحكام الذهنية هو باعتبار مطابقته لما في نفس الأمر والمعقول من نفس الأمر إما الثبوت الذهني أو الخارجي، وقد منع كل منهما هاهنا. فقال رحمه الله: المراد بنفس الأمر هو العقل الفعال، فكل صورة أو حكم ثابت في الذهن مطابق للصور المنتقشة في العقل الفعال فهو صادق وإلا فهو كاذب. فأوردت عليه أن الحكماء يلزمهم القول بانتقاش الصور الكاذبة في العقل الفعال، لأنهم استدلوا على ثبوته بالفرق بين النسيان والسهو، فإن السهو هو زوال الصورة المعقولة عن الجوهر العاقل وارتسامها في الحافظ لها، والنسيان هو زوالها عنهما معا، وهذا يتأتى في الصور المحسوسة، أما المعقولة فإن سبب النسيان هو زوال الاستعداد بزوال المفيد للعلم في باب التصورات والتصديقات، وهاتان الحالتان قد تعرضان في الأحكام الكاذبة فلم يأت فيه بمقنع، وهذا البحث ليس من هذا المقام وإنما انجر الكلام إليه وهو بحث شريف لا يوجد في الكتب. المسألة الثامنة والثلاثون في كيفية حمل الوجود والعدم على الماهيات قال: ثم الوجود والعدم قد يحملان وقد يربط بهما المحمولات. أقول: إعلم أن الوجود والعدم قد يحملان على الماهية كما يقال: الانسان معدوم، الانسان موجود، وقد يجعلان رابطة كقولنا: الانسان يوجد كاتبا، الانسان تعدم عنه الكتابة، فهاهنا المحمول هو الكتابة والوجود والعدم رابطتان إحداهما رابطة الثبوت والوصل والأخرى رابطة السلب والفصل. قال: والحمل يستدعي اتحاد الطرفين من وجه (1) وتغايرهما من آخر، وجهة
(1) أي يستدعي مناسبة ما بينهما ومغايرة ما بينهما، فالمناسبة تفيد الحمل والمغايرة الإفادة. ثم الحمل هو الاتحاد والاتحاد بين الموضوع والمحمول إما بتنزل الموضوع إلى مقام المحمول حتى يتحدا، أو بتصعد المحمول إلى مقام الموضوع. وبالجملة الحمل هو الاتحاد وهو يقتضي اثنينية ما ووحدة ما واتحاد الطرفين بحسب الذات والوجود، وتغايرهما بحسب المفهوم أي المتغايران مفهوما متحدان ذاتا. وإن شئت قلت في تعريف الحمل: إن الحمل المفيد هو أن المتغايرين مفهوما متحدان ذاتا، أو أن الحمل هو الحكم باتحاد المتغايرين مطلقا سواء كان بحسب المفهوم أو بحسب الاعتبار. 104 الاتحاد قد تكون أحدهما وقد تكون ثالثا. أقول: لما ذكر أن الوجود والعدم قد يحملان وقد يكونان رابطة بين الموضوع والمحمول شرع في تحقيق معنى الحمل، وتقريره أنا إذا حملنا وصفا على موصوف فلسنا نعني به أن ذات الموضوع هي ذات المحمول بعينها، فإنه لا يبقى حمل ولا وضع إلا في الألفاظ المترادفة وهو باطل، ولأن قولنا: الانسان حيوان، حمل صادق وليس الانسان والحيوان مترادفين، ولا نعني به أن ذات الموضوع مباينة لذات المحمول، فإن الشيئين المتباينين كالانسان والفرس يمتنع حمل أحدهما على الآخر، بل نعني به أن الموضوع والمحمول بينهما اتحاد من وجه وتغاير من وجه، فإذا قلنا: الضاحك كاتب، عنينا به أن الشئ الذي يقال له الضاحك هو الشئ الذي يقال له الكاتب، فجهة الاتحاد هي الشئ وجهة التغاير هي الضحك والكتابة. إذا عرفت هذا فاعلم إن جهة الاتحاد قد تكون أمرا مغايرا للموضوع والمحمول كما في هذا المثال، فإن الشئ الذي يقال له ضاحك وكاتب هو الانسان وهو غير الموضوع والمحمول، وقد تكون أحدهما كقولنا: الانسان ضاحك والضاحك انسان. قال: والتغاير لا يستدعي (1) قيام أحدهما بالآخر، ولا اعتبار عدم القائم في
(1) جواب شك يورد على الحمل الإيجابي مطلقا، تقريره كما في الشوارق أن الحمل محال وإلا وجب التغاير ليفيد، فإذا وجب وجب أن يكون أحدهما قائما بالآخر، إذ مع التغاير لولاه لم يكن بينهما مناسبة بل كان كل منهما أجنبيا عن الآخر، فلولا القيام لم يكن حمل أحدهما عليه أولى من حمل الآخر عليه، وإذا وجب قيام أحدهما بالآخر يجب أن لا يتصف به في نفسه وإلا اجتمع المثلان فيلزم قيام الشئ بما ليس بمتصف به، وهو جمع للنقيضين. وتقرير الجواب منع استدعاء الحمل القيام مطلقا لصحة قولنا: كل انسان ناطق، مع عدم تصور القيام بين الكل والجزء، والأجنبية إنما تلزم لو لم يكن مع عدم القيام اتحاد بالذات، ولو سلم فلا نسلم استدعاء اعتبار عدم ما هو قائم في قيامه بالآخر، بل الذي يستدعيه لئلا يلزم اجتماع المثلين هو عدم اعتبار القائم، وأين هو من اعتبار عدمه ليلزم اجتماع النقيضين. 105 القيام لو استدعاه. أقول: لما ذكر أن المحمول مغاير للموضوع من وجه صدق عليه مطلق التغاير وصدق التغاير لا يستدعي قيام أحدهما بالآخر قيام العرض بمحله، فإنا نقول: الانسان حيوان وليست الحيوانية قائمة بالانسانية، ثم لو فرضنا أن التغاير مع الحمل يقتضي قيام أحدهما بالآخر لكن لا يلزم من كون المحمول قائما بالموضوع كون الموضوع في نفسه مأخوذا باعتبار عدم القائم، فإنه حينئذ اعتبار زائد على نفس المحمول والموضوع لا يستدعي مجرد القيام (1). قال: وإثبات الوجود للماهية لا يستدعي وجودها أولا. أقول: إن الحكماء اتفقوا على أن الموصوف بالصفة الثبوتية يجب أن يكون ثابتا، وقد أورد على هذا أن الوجود ثابت للماهية فيجب أن تكون الماهية ثابتة (2) أولا حتى يتحقق لها ثبوت آخر ويتسلسل.
(1) مطابق لما في (م) والنسخ الباقية: والموضوع لا يستدعيه مجرد القيام، وفي بعضها بمجرد القيام. (2) لأن ثبوت شئ لشئ فرع ثبوت المثبت له، وتفصى الفخر الرازي عن هذا الايراد بتخصص القاعدة الفرعية بالاستثناء، والدواني بتبديل الفرعية بالاستلزام لأن ثبوت الشئ أي المثبت له في الفرعية يجب أن يكون مقدما، ولكنه في الاستلزام يتحقق مع المقارنة أيضا، فالاستلزام غير مستدع لتقدم ثبوت المثبت له على الثابت بخلاف الفرعية، والسيد المدقق تفصى بإنكار ثبوت الوجود لا ذهنا ولا عينا، والمحققون من أساطين الحكماء كالشيخ في التعليقات وصدر المتألهين في الأسفار بأن الوجود نفس ثبوت الماهية لا ثبوت شئ للماهية حتى يكون فرع ثبوت الماهية. 106 والجواب ما تقدم فيما حققناه أولا من أن الوجود ليس عروضه للماهيات عروض السواد للمحل، بل زيادته أنما هي في التصور والتعقل لا في الوجود الخارجي. قال: وسلبه عنها لا يقتضي تميزها وثبوتها، بل نفيها لا إثبات نفيها، وثبوتها في الذهن وإن كان لازما لكنه ليس شرطا. أقول: سلب الوجود عن الماهية لا يقتضي أن تكون الماهية متميزة عن غيرها وثابتة في نفسها، فإن التميز صفة غير الماهية وكذلك الثبوت والمسلوب عنه هو نفس الماهية ليس الماهية مع غيرها، بل سلب الوجود يقتضي نفي الماهية لا بمعنى أن تكون الماهية متحققة ويثبت لها النفي. لا يقال: المسلوب عنه الوجود موجود في الذهن، فالسلب يقتضي الثبوت. لأنا نقول: إنا لا نريد بذلك (1) أنه مسلوب عنه الوجود عند كونه موجودا في الذهن، فإن كونه موجودا في الذهن صفة مغايرة له والمسلوب عنه هو الموصوف فقط لا باعتبار كونه موصوفا بهذه الصفة أو غيرها وإن كان بحيث تلزمه هذه الصفة أو غيرها. قال: والحمل والوضع (2) من المعقولات الثانية يقالان بالتشكيك، وليست الموصوفية ثبوتية وإلا تسلسل. أقول: الحمل والوضع من الأمور المعقولة، وليس في الخارج حمل ولا وضع بل الثابت في الخارج هو الانسان والكتابة وأما صدق الكاتب على الانسان فهو أمر عقلي، ولهذا حكمنا بأن الحمل والوضع من المعقولات الثانية ويقالان بالتشكيك، فإن استحقاق بعض المعاني للحمل أولى من البعض الآخر وكذا الوضع،
(1) والحاصل الفرق بين الحينية والمشروطة. (2) أي كون الشئ محمولا وموضوعا. 107 فإذا قلنا: الجسم أسود، فقد حكمنا على الجسم بأنه موصوف بالسواد والموصوفية أمر اعتباري ذهني لا خارجي حقيقي، لأن الموصوفية لو كانت وجودية لزم التسلسل، وبيان الملازمة أنها لو كانت خارجية لكانت عرضا قائما بالمحل، فاتصاف محلها بها يستدعي موصوفية أخرى فننقل الكلام إليها ويتسلسل. المسألة التاسعة والثلاثون في انقسام الوجود إلى ما بالذات والى ما بالعرض قال: ثم الوجود قد يكون بالذات وقد يكون بالعرض. أقول: الموجود إما أن يكون له حصول مستقل في الأعيان أو لا يكون، والأول هو الموجود بالذات سواء كان جوهرا أو عرضا، فإن العرض وإن كان لا يوجد إلا بمحله لكنه موجود حقيقة، فإن وجود العرض ليس هو بعينه وجود المحل، إذ قد يوجد المحل بدون العرض ثم يوجد ذلك العرض فيه كالجسم إذا حل فيه السواد بعد أن لم يكن. والثاني هو الموجود بالعرض كأعدام الملكات والأمور الاعتبارية الذهنية التي لا تحقق لها في الأعيان، ويقال إنها موجودة في الأعيان بالعرض. قال: وأما الوجود في الكتابة (1) والعبارة فمجازي. أقول: للشئ وجود في الأعيان ووجود في الأذهان وقد سبق البحث فيهما، ووجود في العبارة ووجود في الكتابة، والذهن يدل على ما في العين والعبارة تدل على الأمر الذهني والكتابة تدل على العبارة، لكن الوجودان (2) الأولان حقيقيان والباقيان مجازيان، إذ لا يحكم العقل بأن الشئ موجود في اللفظ والكتابة، لكن لما دل عليه حكم على سبيل المجاز أنه موجود فيهما.
(1) كما في (ت، ق) وفي غيرهما: أما الموجود في الكتابة. (2) هكذا كانت العبارة في جميع النسخ المعتبرة، فلفظة (لكن) مخففة ملغاة عن العمل. 108 المسألة الأربعون في أن المعدوم لا يعاد قال: والمعدوم لا يعاد لامتناع الإشارة إليه، فلا يصح الحكم عليه بصحة العود. أقول: ذهب جماعة من الحكماء والمتكلمين إلى أن المعدوم لا يعاد، وذهب آخرون منهم إلى أنه ممكن أن يعاد، والحق الأول. واستدل المصنف رحمة الله عليه بوجوه: الأول: أن المعدوم لا تبقى له هوية ولا يتميز عن غيره، فلا يصح أن يحكم عليه بحكم ما من الأحكام فلا يمكن الحكم عليه بصحة العود، وهذا ينتقض بامتناع الحكم عليه بامتناع العود فإنه حكم ما، والتحقيق هنا أن الحكم يستدعي الحضور الذهني لا الوجود الخارجي. قال: ولو أعيد تخلل العدم بين الشئ ونفسه. أقول: هذا هو الوجه الثاني من الوجوه الدالة على امتناع إعادة المعدوم، وتقريره أن الشئ بعد عدمه نفي محض وعدم صرف وإعادته أنما تكون بوجود عينه الذي هو المبتدأ بعينه في الحقيقة فيلزم تخلل العدم بين الشئ ونفسه، وتخلل النفي بين الشئ الواحد ونفسه غير معقول. قال: ولم يبق فرق بينه وبين المبتدأ. أقول: هذا هو الوجه الثالث، وتقريره أن المعدوم لو أعيد لم يبق فرق بينه وبين المبتدأ، فإنا إذا فرضنا سوادين أحدهما معاد والآخر مبتدأ وجدا معا لم يقع بينهما افتراق في الماهية ولا المحل ولا غير ذلك من المميزات إلا كون أحدهما (1) كان موجودا ثم عدم والآخر لم يسبق عدمه وجوده، لكن هذا الفرق باطل لامتناع تحقق الماهية في العدم، فلا يمكن الحكم عليها بأنها هي هي حالة العدم، وإذا لم
(1) وفي (ش) وحدها: إلا أن أحدهما، والنسخ الأخرى كلها والثلاث الأول منها هي أقدم النسخ وأصحها: إلا كون أحدهما كان موجودا، والظاهر أن ما في (ش) تصرف من غير ضرورة. 109 يبق فرق بينهما لم يكن أحدهما أولى من الآخر بالإعادة أو الابتداء. قال: وصدق المتقابلان عليه دفعة. أقول: هذا وجه رابع، وهو أنه لو أعيد المعدوم لصدق المتقابلان على الشئ الواحد دفعة واحدة والتالي باطل فالمقدم مثله، بيان الشرطية أنه لو أعيد لأعيد مع جميع مشخصاته، ومن بعض المشخصات الزمان، فيلزم جواز الإعادة على الزمان فيكون مبتدأ معادا وهو محال، لأنهما متقابلان لا يصدقان على ذات واحدة. قال: ويلزم التسلسل في الزمان. أقول: هذا دليل على امتناع إعادة الزمان، وتقريره أنه لو أعيد الزمان لكان وجوده ثانيا مغايرا لوجوده أولا، والمغايرة ليست بالماهية ولا بالوجود وصفات الوجود بل بالقبلية والبعدية لا غير، فيكون للزمان زمان آخر يوجد فيه تارة ويعدم أخرى، وذلك يستلزم التسلسل. قال: والحكم بامتناع العود لأمر لازم للماهية. أقول: هذا جواب عن استدلال من ذهب إلى إمكان إعادة المعدوم، وتقرير الدليل أن الشئ بعد العدم إن استحال وجوده لماهيته أو لشئ من لوازمها وجب امتناع مثله الذي هو الوجود المبتدأ، وإن كان لأمر غير لازم بل لعارض فعند زوال ذلك العارض يزول الامتناع. وتقرير الجواب أن الشئ بعد العدم ممتنع الوجود المقيد ببعدية العدم، وذلك الامتناع لازم للماهية الموصوفة بالعدم بعد الوجود. المسألة الحادية والأربعون في قسمة الموجود إلى الواجب والممكن قال: وقسمة الموجود إلى الواجب والممكن ضرورية وردت على الوجود (1)
(1) أي وردت القسمة وذلك لأن مورد القسمة في كل تقسيم لا يقيد بشئ من القيود ولا بعدمه بل يؤخذ مطلقا وإلا لزم تقسيم الشئ إلى نفسه والى غيره، وفي (م ق): وردت على الموجود. 110 من حيث هو قابل للتقييد وعدمه. أقول: العقل يحكم حكما ضروريا بأن الموجود إما أن يكون مستغنيا عن غيره أو يكون محتاجا، والأول واجب والثاني ممكن، وهذه قسمة ضرورية لا يفتقر فيها إلى برهان، وليست القسمة واردة على مطلق الوجود من حيث هو وجود مطلق، فإن الشئ من حيث هو ذلك الشئ يستحيل أن ينقسم إلى متباينين هما غير ذلك الشئ، وإذا اعتبرت قسمته فلا يؤخذ مع هذه الحيثية بل يؤخذ الشئ بلا تقيد بشرط مع تجويز التقييد ويقسم فتنضاف إلى مفهومه مفهومات أخر، ويصير مفهومه مع كل واحد من تلك المفهومات قسما. المسألة الثانية والأربعون في البحث عن الإمكان قال: والحكم على الممكن بإمكان الوجود حكم على الماهية لا باعتبار العدم والوجود. أقول: الذهن إذا حكم بأمر على أمر فقد يلاحظ الوجود أو العدم للمحكوم عليه وهو الحكم بأحدهما أو بما يشترط فيه أحدهما، وقد لا يلاحظ أحدهما كالحكم بالامكان فإن الذهن إذا حكم على الممكن بإمكان الوجود أو العدم فإنه لا يحكم عليه باعتبار كونه موجودا لأنه بذلك الاعتبار يكون واجبا، ولا باعتبار كونه معدوما فإنه بذلك الاعتبار يكون ممتنعا، وإنما يتحقق الإمكان للممكن من حيث هو هو لا باعتبار الوجود ولا باعتبار العدم. وبهذا التحقيق يندفع السؤال الذي يهول به قوم وهو أن المحكوم عليه بالامكان إما أن يكون موجودا أو معدوما فإن كان موجودا استحال الحكم عليه بالامكان، لأن الموجود لا يقبل العدم لاستحالة الجمع بين الوجود والعدم، وإذا
111 امتنع حصول العدم امتنع حصول إمكان الوجود والعدم، وإن كان معدوما استحال عليه قبول الوجود كما تقدم، وإذا استحال مجامعة الإمكان لوصفي الوجود والعدم واستحال انفكاك الماهية عنهما استحال الحكم على الماهية بالامكان. وذلك لأن القسمة (1) في قولهم المحكوم عليه بالامكان إما أن يكون موجودا أو معدوما ليست بحاصرة، لأن المفهوم منه أن المحكوم عليه بالامكان إما أن يحكم عليه مع اعتبار الوجود أو مع اعتبار العدم، ويعوزه قسم آخر وهو أن يحكم عليه لا مع اعتبار أحدهما. وقولهم الموجود حال الوجود لا يقبل العدم وكذا المعدوم صحيح، لكن الموجود يقبل العدم في غير حال الوجود وكذا المعدوم، وليس حال الماهية إما حال الوجود أو حال العدم لأنهما حالان تحصلان عند اعتبار الماهية مع الغير، أما عند اعتبارها لا مع الغير فإنها تقبل أحدهما لا بعينه، وهذا الامتناع امتناع لاحق بشرط المحمول. قال: ثم الإمكان قد يكون آلة في التعقل، وقد يكون معقولا باعتبار ذاته. أقول: كون الشئ معقولا ينظر فيه العقل ويعتبر فيه وجوده ولا وجوده غير (2) كونه آلة للتعقل، ولا ينظر فيه حيث ينظر فيما هو آلة لتعقله بل إنما ينظر به مثلا العاقل يعقل السماء بصورة في عقله ويكون معقوله السماء، لا ينظر حينئذ في الصورة التي بها يعقل السماء ولا يحكم عليها بحكم، بل يعقل أن المعقول بتلك الصورة هو السماء وهو جوهر، ثم إذا نظر في تلك الصورة وجعلها معقولا منظورا إليها لا آلة في النظر إلى غيرها وجدها عرضا موجودا في محل هو عقله. إذا ثبت هذا فنقول: الإمكان كآلة للعاقل بها يعرف حال الممكن في أن وجوده على أي أنحاء العروض يعرض للماهية، ولا ينظر في كون الإمكان موجودا أو معدوما أو جوهرا أو عرضا أو واجبا أو ممكنا، ثم إذا نظر في وجوده أو إمكانه أو وجوبه أو جوهريته أو عرضيته لم يكن بذلك الاعتبار إمكانا لشئ،
(1) إشارة إلى دفع السؤال بهذا التحقيق. (2) خبر لقوله: كون الشئ. 112 بل كان عرضا في محل هو العقل وممكنا في ذاته ووجوده غير ماهيته، فالإمكان من حيث هو إمكان لا يوصف بكونه موجودا أو غير موجود أو ممكنا أو غير ممكن، وإذا وصف بشئ من ذلك لا يكون حينئذ إمكانا بل يكون له إمكان آخر يعتبره العقل والامكان أمر عقلي، فمهما اعتبر العقل للامكان ماهية ووجودا حصل فيه إمكان إمكان ولا يتسلسل، بل ينقطع عند انقطاع الاعتبار. وهكذا حكم جميع الاعتبارات العقلية من الوجوب والشيئية والحدوث وغيرها من ثواني المعقولات. قال: وحكم الذهن (1) على الممكن بالامكان اعتبار عقلي، فيجب أن تعتبر مطابقته لما في العقل. أقول: قد تقدم مواضع اعتبار المطابقة وعدمها، والامكان إذا اعتبر فيه المطابقة فيجب أن يكون مطابقا لما في العقل لأنه اعتبار عقلي على ما تقدم. المسألة الثالثة والأربعون في أن الحكم بحاجة الممكن إلى المؤثر ضروري قال: والحكم بحاجة الممكن ضروري (2) وخفاء التصديق لخفاء التصور غير قادح.
(1) قد تقدم تحقيقه في بيان نفس الأمر في المسألة السابعة والثلاثين. وهذا الكلام جواب عن استدلال من يقول: بأن الإمكان موجود في الخارج بأن حكم الذهن على الممكن بالامكان إن لم يكن مطابقا للخارج كان جهلا وكان الذهن قد حكم بالامكان على ما ليس بممكن، وإن كان مطابقا للخارج كان الإمكان موجودا فيه. والجواب أن الإمكان أمر عقلي وقد تقدم أن صحة الحكم بالأمور العقلية باعتبار مطابقته لما في نفس الأمر وهو أعم مما في الخارج ومما في العقل فقد يكون صحة الحكم بمطابقته لما في العقل والحكم بالامكان من هذا القبيل. (2) قال قدس سره في شرحه على الفصل العاشر من النمط الخامس من الإشارات: الممكن يفتقر في ترجح أحد طرفي وجوده وعدمه على الآخر إلى علة مرجحة لذلك الطرف، وهذا حكم أولي وإن كان قد يمكن للعقل أن يذهل عنه ويفزع إلى ضروب من البيان كما يفزع إلى التمثيل بكفتي الميزان المتساويين اللتين لا يمكن أن تترجح إحداهما على الأخرى من غير شئ آخر ينضاف إليها والى غير ذلك مما يجري مجراه ويذكر في هذا الموضع، إنتهى. وقد تقدم أيضا في المسألة الثلاثين من هذا الكتاب أن الحكم باحتياج الممكن ضروري. 113 أقول: كل عاقل إذا تصور الممكن ما هو والاحتياج إلى المؤثر حكم بنسبة أحدهما إلى الآخر حكما ضروريا لا يحتاج معه إلى برهان وخفاء هذا التصديق عند بعض العقلاء لا يقدح في ضروريته، لأن الخفاء في الحكم يسند إلى خفاء التصور لا لخفائه في نفسه، ولهذا إذا مثل للمتشكك في هذه القضية حال الوجود والعدم بالنسبة إلى الماهية بحال كفتي الميزان وأنهما كما يستحيل ترجح إحدى الكفتين على الأخرى بغير مرجح، كذلك الممكن المتساوي الطرفين حكم بالحاجة إلى المؤثر. قال: والمؤثرية اعتبار عقلي (1). أقول: هذا جواب عن سؤال أورده بعض المغالطين على احتياج الممكن إلى المؤثر. وتقرير السؤال: أن الممكن لو افتقر إلى المؤثر لكانت مؤثرية المؤثر في ذلك الأثر إن كانت وصفا ثبوتيا في الذهن من غير مطابقة الخارج لزم الجهل، ولأنها ثابتة قبل الذهن ويستحيل قيام صفة الشئ بغيره، وإن كانت بمطابقة الخارج أو
(1) أقول: القول الأقوم الأحكم في المقام أن الجعل أنما يتعلق بالوجود من حيث التعين لا من حيث ذاته وحقيقته، لأن الإمكان أنما يتعلق بالوجود من حيث التعين لا من حيث الحقيقة، فالتحقيق الأتم أن الماهية كما أنها ليست مجعولة بمعنى أن الجاعل لم يجعل الماهية ماهية كذلك الوجود ليس مجعولا بمعنى أن الجاعل لم يجعل الوجود وجودا بل الوجود وجود أزلا وأبدا وموجود أزلا وأبدا، والماهية ماهية أزلا وأبدا وغير موجودة ولا معدومة أزلا وأبدا وإنما تأثير الفاعل في خصوصية الوجود وتعينه لا غير. وبعبارة أخرى الممكن هو الوجود المتعين، فإمكانه من حيث تعينه، ووجوبه من حيث حقيقته فوجود الممكنات عبارة عن تعين الوجود الحقيقي في مرتبة من مراتب ظهوره بسبب تلبسه بأحكام الأعيان الثابتة وآثارها، وتلك الأعيان هي حقائق الممكنات. والايجاد عبارة عن تجلية فإنه في الماهيات الممكنة الغير المجعولة التي كانت مرايا لظهوره، فافهم. 114 كانت ثابتة في الخارج مغايرة للمؤثر والأثر لأنها نسبة بينهما لزم التسلسل وهو محال، وبتقدير تسليمه فهو غير معقول لأن التسلسل أنما يعقل لو فرضنا أمورا متتالية إلى غير النهاية، وذلك يستدعي كون كل واحد منها متلوا بصاحبه، وإنما يكون متلوا بصاحبه لو لم يكن بينه وبين متلوه غيره، لكن ذلك محال لأن تأثير المتلو في التالي متوسط بينهما وقد كان لا متوسط هذا خلف، وليست المؤثرية عدمية لأنها نقيض اللا مؤثرية المحمولة على المعدوم، والمحمول على المعدوم عدم، ونقيض العدم ثبوت، فالمؤثرية ثبوتية. وتقرير الجواب: أن المؤثرية أمر إضافي يثبت في العقل عند تعقل صدور الأثر عن المؤثر فإن تعقل ذلك يقتضي ثبوت أمر في العقل هو المؤثرية كما في سائر الإضافات، وعدم مطابقته للخارج لا يقتضي كونه جهلا لأن الجهل يلزم لو حكم بثبوته في الخارج ولم يثبت في الخارج. وقوله: والمؤثرية صفة قبل الذهن وصفة الشئ يستحيل قيامها بغيره، فجوابه أن كون الشئ بحيث لو عقله عاقل حصل في عقله إضافة لذلك الشئ إلى غيره هو الحاصل قبل الأذهان لا الذي يحصل في العقل فإن ذلك يستحيل وجوده قبل وجود العقل. قال: والمؤثر يؤثر في الأثر لا من حيث هو موجود ولا من حيث هو معدوم. أقول: هذا جواب عن سؤال آخر لهم، وتقرير السؤال أن المؤثر إما أن يؤثر في الأثر حال وجوده أو حال عدمه، والقسمان باطلان، فالتأثير باطل. أما بطلان الأول فلاستلزامه تحصيل الحاصل، وأما بطلان الثاني فلأن حال العدم لا أثر فلا تأثير لأن التأثير إن كان عين حصول الأثر عن المؤثر فحيث لا أثر فلا تأثير وإن كان مغايرا، فالكلام فيه كالكلام في الأول. وتقرير الجواب: أن نقول: إن أردت بحال وجود الأثر زمان وجوده فليس بمستحيل أن يؤثر المؤثر في الأثر في زمان وجود الأثر، لأن العلة مع المعلول
115 تكون بهذه الصفة، وإن أردت به مقارنة المؤثر للأثر الذاتية فذلك مستحيل (1)، وإنما يؤثر فيه لا من حيث هو موجود ولا من حيث هو معدوم. قال: وتأثيره في الماهية ويلحقه وجوب لاحق. أقول: هذا جواب عن سؤال ثالث لهم، وتقريره أن المؤثر إما أن يؤثر في الماهية أو في الوجود أو في اتصاف الماهية بالوجود، والأقسام بأسرها باطلة فالتأثير باطل. أما الأول: فلأن كل ما بالغير يرتفع بارتفاعه لكن ذلك محال، لأن صيرورة الماهية غير ماهية محال، لأن موضوع القضية يجب أن يتحقق حال ثبوت محمولها ولا تحقق للماهية حال الحكم عليها بالعدم. وأما الثاني: فلأنه يلزم ارتفاع الوجود عند ارتفاع المؤثر ويلزم ما تقدم من المحال. وأما الثالث: فلأن الموصوفية ليست ثبوتية وإلا لزم التسلسل فلا تكون أثرا سلمنا لكن المؤثر يؤثر في ماهيتها أو في وجودها أو في اتصاف ماهيتها بوجودها ويعود المحال. وتقرير الجواب: أن المؤثر يؤثر في الماهية، وعند فرض الماهية يجب تحققها وجوبا لاحقا بسبب الفرض مترتبا على الفرض، ومع ذلك الوجوب يمتنع تأثير المؤثر فيه فإنه يكون إيجادا لما فرض موجودا أما قبل فرضه ماهية فيمكن أن يوجدها المؤثر على سبيل الوجوب ويكون ذلك الوجوب سابقا على وجوده، والفرق بين الوجوبين ظاهر ذكر في المنطق، والغلط هنا نشأ من قبل اشتراك لفظ الوجوب لدلالته على المعنيين بالشركة اللفظية، وقولنا عدمت الماهية معناه أن الماهية الحاصلة في زمان ليست تحصل في زمان بعده ويكون ذلك حملا لغير الحاصل على المتصور منه لا على الموجود الخارجي، لأن الوضع والحمل من
(1) باتفاق النسخ كلها، فالذاتية صفة للمضاف في (مقارنة المؤثر)، أو للموصوف المحذوف أي المقارنة الذاتية. 116 ثواني المعقولات على ما مر ولا يكونان في الخارج، وكذا البحث في حصول الوجود من موجده ومن يجعل تأثير المؤثر في جعل الماهية موصوفة بالوجود وهم القائلون بثبوت المعدوم لم يتعلق ذلك بموصوفية الماهية بالوجود، لأن ذلك أمر إضافي يحصل بعد اتصافها به، والمراد من تأثير المؤثر هو ضم الماهية إلى الوجود، ولا يلزم من ذلك ما ذكروه من المحال. قال: وعدم الممكن يستند إلى عدم علته على ما مر. أقول: هذا جواب عن سؤال آخر، وتقريره أن يقال: إن الممكن لو افتقر في طرف الوجود إلى المؤثر لافتقر في طرف العدم لتساويهما بالنسبة إليه، والتالي باطل، لأن المؤثر لا بد له من أثر والعدم نفي محض، فيستحيل استناده إلى المؤثر، ولأنه نفي محض فلا تعدد فيه ولا امتياز. وتقرير الجواب: أن عدم الممكن المتساوي ليس نفيا محضا بل هو عدم ملكة، وتساوي طرفي وجوده وعدمه أنما يكون في العقل، والمرجح لطرف الوجود يكون موجودا في الخارج، وأما في العدم فلا يكون إلا عقليا، وعدم العلة ليس بنفي محض وهو يكفي في الترجيح العقلي ولامتيازه عن عدم المعلول في العقل يجوز أن يعلل هذا العدم بذلك العدم في العقل. المسألة الرابعة والأربعون في أن الممكن الباقي محتاج إلى المؤثر قال: والممكن الباقي مفتقر إلى المؤثر لوجود علته. أقول: ذهب جمهور الحكماء والمتأخرين من المتكلمين إلى أن الممكن الباقي محتاج إلى المؤثر، وبالجملة كل من قال بأن الإمكان (1) علة تامة في
(1) جمهور العقلاء مالوا إلى أن علة احتياج الأثر إلى مؤثره هي الإمكان لا غير، وقال آخرون: إنها الحدوث لا غير، وقال آخرون: هما معا. والشارح أشار إلى قول جمهور العقلاء بقوله: وبالجملة كل من قال.. الخ. وأما الفرقتان الأخريان فذهبتا إلى أن الممكن حال بقائه مستغن عن المؤثر، إذ لا حدوث حال البقاء فلا حاجة. وشنع عليهما الشيخ في النمط الخامس من الإشارات حاكيا كلامهم بقوله: وقد يقولون إنه إذا أوجد فقد زالت الحاجة إلى الفاعل حتى أنه لو فقد الفاعل جاز أن يبقى المفعول موجودا، كما يشاهدونه من فقدان البناء وقوام البناء وحتى أن كثيرا منهم لا يتحاشى أن يقول: لو جاز على الباري تعالى العدم لما ضر عدمه وجود العالم، لأن العالم عنده إنما احتاج إلى الباري تعالى في أن أوجده، أي أخرجه من العدم إلى الوجود حتى كان بذلك فاعلا، فإذ قد فعل وحصل له الوجود عن العدم فكيف يخرج بعد ذلك إلى الوجود عن العدم حتى يحتاج إلى الفاعل؟ وقالوا: لو كان يفتقر إلى الباري تعالى من حيث هو موجود لكان كل موجود مفتقرا إلى موجود آخر والباري أيضا موجود وكذلك إلى غير النهاية. ثم أخذ الشيخ في الرد عليهم فراجع الإشارات، وقال في حقهم: فهؤلاء هؤلاء، يعني أنهم علماء العوام وعوام العلماء. وقد تقدم الكلام في ذلك أيضا في المسألة التاسعة والعشرين. 117 احتياج الأثر إلى المؤثر حكم بأن الممكن الباقي مفتقر إلى المؤثر، والدليل عليه أن علة الحاجة إنما هي الإمكان وهو لازم للماهية ضروري اللزوم، فهي أبدا محتاجة إلى المؤثر، لأن وجود العلة يستلزم وجود المعلول. قال: والمؤثر يفيد البقاء بعد الإحداث (1). أقول: لما حكم باحتياج الممكن الباقي إلى المؤثر شرع في تحقيق الحال فيه، وأن الصادر عن المؤثر ما هو حال البقاء، وذلك لأن الشبهة دخلت على القائلين باستغناء الباقي عن المؤثر بسبب أن المؤثر لا تأثير له حال البقاء لأنه إما أن يؤثر في الوجود الذي كان حاصلا وهو محال لأن تحصيل الحاصل محال، أو في أمر جديد فيكون المؤثر مؤثرا في الجديد لا في الباقي. والتحقيق: أن قولهم: المؤثر حال البقاء إما أن يكون له في الأثر تأثير أو لا، يشتمل على غلط (2) فإن المؤثر في البقاء لا يكون له أثر البقاء حال البقاء
(1) سيأتي البحث عنه في المسألة الثالثة من الفصل الثالث من هذا المقصد. (2) أي أن قولهم يشتمل على غلط. 118 وتحصيل الحاصل أنما لزم منه. والحق أن المؤثر يفيد البقاء بعد الإحداث، وتأثيره بعد الإحداث في أمر جديد هو البقاء فإنه غير الإحداث فهو مؤثر في أمر جديد صار به باقيا لا في الذي كان باقيا (1). قال: فلهذا جاز استناد القديم الممكن إلى المؤثر الموجب (2) لو أمكن (3)، ولا
(1) جملة الأمر أن المؤثر جعله متصفا بالبقاء والممكن كما في اتصافه بالوجود محتاج إلى المؤثر كذلك في البقاء، وحاجته إليه في البقاء كحاجته إليه في الحدوث، لأن الممكن في ذاته لم يقتض شيئا منهما لاستواء نسبة ذاته إلى طرفي وجوده وعدمه في الحدوث، وكذلك اتصافه به في الزمان الثاني وما بعده من الأزمنة في البقاء. (2) الموجب بالفتح المضطر. (3) أي لو أمكن القديم الممكن، وكلمة (لو) للامتناع نحو قوله تعالى: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، أو لو أمكن مؤثر قديم موجب بالذات، ولكن الوجه الأول أولى بل المتعين كما يقتضيه سياق البحث، والكلام من أن كل ممكن حادث. وإنما لم يمكن القديم الممكن لأن الفاعل المختار على زعمهم هو الذي يفعل بواسطة القصد والاختيار.. إلى آخر ما قاله الشارح، يعني ولما قلنا من أن الممكن الباقي مفتقر إلى المؤثر لوجود علته، والمؤثر يفيد البقاء بعد الإحداث جاز استناد القديم الممكن إلى المؤثر لأنه ممكن باق فيحتاج إلى المؤثر في بقائه فقط لا في الحدوث لأنه القديم الممكن، فليس له حال حدوث كما للحادث الباقي المحتاج إلى المؤثر في حدوثه وبقائه كليهما. أقول: الفلاسفة الطبيعية كانوا قائلين بأن واجب الوجود بالذات هو الأصول الأزلية، أي الأجزاء التي لا تتجزأ الموسومة بالأتم وهي مادة هذه المحسوسات وعنصرها، أي أن هذه المحسوسات معلولة كائنة منها. والى تلك الأصول أشار برهان الموحدين أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة الواحدة والستين والمائة من نهج البلاغة بقوله: لم يخلق الأشياء من أصول أزلية ولا من أوائل أبدية بل خلق ما خلق فأقام حده وصور ما صور فأحسن صورته.. الخ. وفي المقام مذاهب أخرى نقلها الشيخ الرئيس في الفصل الثاني عشر من النمط الخامس من الإشارات والماتن المحقق الطوسي في شرحه عليه من القائلين بالمبادئ الاسطقسية وغيرها. وهؤلاء قائلون بأن المادة أو الاسطقس علة موجبة، أي مضطرة تكونت هذه المحسوسات منها بلا إرادة واختيار، وبيان الايجاب هو على النحو الذي نقله عنهم الشيخ الرئيس في الفصل الثالث عشر من المقالة الأولى من طبيعيات الشفاء (ص 26 ج 1 ط 1) حيث قال: إنهم يرون أن مبادئ الكل هي أجرام صغار لا تتجزأ لصلابتها ولعدمها الخلاء، وأنها غير متناهية بالعدد ومبثوثة في خلاء غير متناهي القدر، وأن جوهرها في طباعها متشاكل وبأشكالها مختلف، وأنها دائمة الحركة في الخلاء فيتفق أن يتصادم منها جملة فيجتمع على هيئة فيكون منه عالم، وأن في الوجود عوالم مثل هذا العالم غير متناهية بالعدد مترتبة في خلاء غير متناه، ومع ذلك فيرى أن الأمور الجزئية من الحيوانات والنباتات كائنة لا بحسب الاتفاق. وفرقة أخرى لم تقدم على أن يجعل العالم بكليته كائنا بالاتفاق، ولكنها جعلت الكائنات متكونة عن المبادئ الاسطقسية بالاتفاق، فما اتفق أن كان هيئة اجتماعه على نمط يصلح للبقاء والنسل بقي ونسل، وما اتفق أن لم يكن كذلك لم ينسل، وأنه قد كان في ابتداء النشور بما يتولد حيوانات مختلطة الأعضاء من أنواع مختلفة وكأن يكون حيوان نصفه أيل ونصفه عنز، وأن أعضاء الحيوان ليست هي على ما هي عليه من المقادير والخلق والكيفيات لأغراض بل اتفقت كذلك مثلا قالوا: ليست الثنايا حادة لتقطع ولا الأضراس عريضة لتطحن، بل اتفق أن كانت المادة تجتمع على هذه الصورة، واتفق أن كانت هذه الصورة نافعة في مصالح البقاء فاستفاد الشخص بذلك بقاء، وربما اتفق له من آلات النسل نسلا لا ليستحفظ به النوع بل اتفاقيا. إنتهى ما أردنا من نقل ما في الشفاء. بيان: قوله ولعدم الخلاء، أي ليس لها خلاء وتجويف. قوله في طباعها متشاكل، أي من نوع واحد. قوله كائنة لا بحسب الاتفاق، أي كائنة بحسب الطبيعة. قوله نصفه أيل ونصفه عنز، أيل بالفتح والتشديد على وزن الميت، وفي الصحاح الأيل الذكر من الأوعال وهو الذي يسميه بالفارسية (گوزن) وعنز بالفتح والسكون يقال بالفارسية (بز كوهى)، فلنرجع إلى ما كنا فيه: والغرض أن هؤلاء وأترابهم من الفرق الطبيعية قائلون بالإيجاب والاضطرار، لأن تلك المبادئ لا حياة لها ولا شعور وعلم وإرادة، واتفق أن تكونت منها هذه المحسوسات، وأما الفيلسوف الإلهي فقائل بالمبدأ الحي العالم القادر المريد السميع البصير المختار في جميع أفعاله وهو دائم الفضل على البرية، وحاشاهم عن التفوه بالايجاب والاضطرار وعدم الاختيار في المبدأ سبحانه وتعالى. ثم إن هذين العلمين يقولان ذلك ولا يمكن استناد القديم الممكن إلى المختار، وهذا يفسره ويعلله بقوله: لأن المختار هو الذي يفعل بواسطة القصد والاختيار، والقصد أنما يتوجه في التحصيل إلى شئ معدوم، لأن القصد إلى تحصيل الحاصل محال، وكل معدوم يجدد فهو حادث. وتفوها بحدوث العالم بدليل كونه مختارا، وبأن القول بقدمه يوجب أن يكون موجبا مضطرا. والمحقق الطوسي في رسالته الموسومة بتذكرة آغاز وانجام قد أفاد في التوحيد الصمدي الذي هو الأول والآخر والظاهر والباطن الفياض على الإطلاق أزلا وأبدا على ما يراه الموحدون الشامخون في معارف الحكمة المتعالية حقائق دالة على توغله في توحد الوجود الحق الصمدي الأزلي في ذاته وجميع صفاته وأفعاله، وقد بينا وأوضحنا كلماته الشريفة في تعليقاتنا على آغاز وانجام على التفصيل والاستيفاء معاضدة بمنطق الوحي فارجع إليها. وكان بعض مشايخنا يقول: كان المحقق الطوسي في التجريد جالسا على كرسي الكلام فتكلم على دأبهم وهديهم. ثم قد يأتي كلامه في الايجاب أيضا في المسألة الأولى من الفصل الأول من المقصد الثالث في صفاته تعالى حيث يقول: وجود العالم بعد عدمه ينفي الايجاب. 119 يمكن استناده إلى المختار. أقول: هذا نتيجة ما تقدم من أن الممكن الباقي إذا ثبت أنه محتاج إلى المؤثر ثبت جواز استناد القديم الممكن إلى المؤثر الموجب، أما استناده إلى المختار فغير ممكن لأن المختار هو الذي يفعل بواسطة القصد والاختيار، والقصد أنما يتوجه في التحصيل إلى شئ معدوم، لأن القصد إلى تحصيل الحاصل محال، وكل معدوم تجدد فهو حادث. المسألة الخامسة والأربعون في نفي قديم ثان قال: ولا قديم سوى الله تعالى (1) لما يأتي. أقول: قد خالف في هذا جماعة كثيرة، أما الفلاسفة فظاهر (2) لقولهم بقدم العالم.
(1) قدمه سبحانه يساوق قدم فيضه. (2) فقد دريت حق القول وتحقيقه في ذلك، والإيجاد وإن كان بحسب كل يوم في شأن وتجليه على الدوام بالاسمين الشريفين القابض والباسط وسائر أسمائه الحسنى متجددا آنا فآنا بتجليات غير متناهية خلقية، ولكن الوجود الحق قديم واجب بذاته حي عليم أزلي أبدي متصف بجميع الصفات الكمالية بوجوده الأحدي، فالوجود غير مجعول مطلقا كما أنه غير قابل للعدم مطلقا لاستحالة انفكاك الشئ عن نفسه وانقلابه إلى غيره. والآراء الأخرى كلها قابلة لمحمل صحيح بحيث لا تنافي ذلك التوحيد الصمدي بمعناه الأرفع الأشمخ. 121 وأما المسلمون (1)، فالأشاعرة أثبتوا ذاته تعالى وصفاته في الأزل كالقدرة والعلم والحياة والوجود والبقاء وغير ذلك من الصفات على ما يأتي. وأبو هاشم أثبت أحوالا خمسا فإنه علل القادرية والعالمية والحيية والموجودية بحالة خامسة (2) هي الإلهية. وأما الحرنانيون فقد أثبتوا خمسة من القدماء، اثنان حيان فاعلان هما الباري تعالى والنفس (3) وواحد منفعل غير حي هو الهيولى واثنان لا حيان ولا فاعلان ولا منفعلان هما الدهر والخلاء. أما قدمه تعالى فظاهر، وأما النفس والهيولى فلاستحالة تركبهما عن المادة وكل حادث مركب، وأما الزمان (4) فلاستحالة التسلسل اللازم على تقدير عدمه، وأما الخلاء فرفعه غير معقول. واختار ابن زكريا الرازي الطبيب هذا المذهب وصنف كتابا موسوما بالقول في القدماء الخمسة. وكل هذه المذاهب باطلة (5)، لأن كل ما سوى الله تعالى ممكن وكل ممكن حادث وسيأتي تقريرهما.
(1) كما في النسخ الأربع الأولى. وفي بعض النسخ: وأما المتكلمون. (2) متعلق بفعل علل. (3) أي النفس التي هي مبدأ الحياة من النفس الانسانية والفلكية. (4) أي الدهر. (5) ينبغي التأمل فيه، والقول بالحال والثبوت فقد علمت تحقيق الحق في ذلك، والكتب المدونة في الملل والنحل كالفصل لابن حزم الأندلسي، والملل والنحل لمحمد الشهرستاني وغيرهما في المذاهب والآراء والفرق أكثرها مما استفادوها من ظواهر بعض عباراتهم واخترعوا منها مذهبا أو رأيا وأسندوهما إلى قائليها ولا يرتضي غالبا صاحب القول بهما حيث إنه لم يعن ما استفيد من كلامه، ولم يصل مؤلف الملل والنحل إلى مغزى كلامه ولب مراده، ولنا على ما قلنا شواهد عديدة كثيرة نقل شرذمة منها ينجر إلى الإسهاب ويوجب تأليف كتاب عجاب. وينبغي لنا تصنيف مصنف في الجمع بين الآراء كما صنفه الفارابي في الجمع بين الرأيين، لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، وبالجملة أن أهل التحقيق في التوحيد - أعني المتألهين في التوحيد - قائلون بأن الحق سبحانه ليس له سوى فضلا عن أن يكون قديما أو حادثا، بل ليس الوجود إلا الحق وآياته. 122 المسألة السادسة والأربعون في عدم وجوب المادة والمدة للحادث قال: ولا يفتقر الحادث إلى المدة والمادة (1) وإلا لزم التسلسل. أقول: ذهبت الفلاسفة إلى أن كل حادث مسبوق بمادة ومدة، لأن كل حادث ممكن وإمكانه سابق عليه وهو عرض لا بد له من محل وليس المعدوم لانتفائه فهو ثبوتي هو المادة، ولأن كل حادث يسبقه عدمه سبقا لا يجامعه المتأخر، فالسبق بالزمان يستدعي ثبوته، وهذان الدليلان باطلان لأنه يلزم منهما التسلسل، لأن المادة ممكنة فمحل إمكانها مغاير لها فيكون لها مادة أخرى على أنا قد بينا إن الإمكان عدمي، لأنه لو كان ثبوتيا لكان ممكنا فيكون له إمكان ويلزم التسلسل، والزمان يتقدم أجزاؤه بعضها على بعض هذا النوع من التقدم فيكون للزمان زمان هذا خلف. أجابوا عن الأول: بأن الإمكان لفظ مشترك بين معنيين: الأول: ما يقابل
(1) المادة ما يكون موضوعا للحادث إن كان الحادث عرضا، أو هيولاة إن كان الحادث صورة، أو كان متعلقه إن كان الحادث نفسا، وبالجملة أن الحادث محتاج إلى محل سابق. وقوله: لأن كل حادث ممكن، دليل لمسبوقيته بمادة. وقوله: ولأن كل حادث يسبقه، دليل لمسبوقيته بمدة. وقوله: هذا النوع من التقدم، منصوب مفعول مطلق نوعي ليتقدم. وقوله: لفظ مشترك بين معنيين، كما بين في المسألة الثانية والثلاثين حيث قال: والاستعدادي قابل للشدة والضعف.. الخ. واعلم أن الحادث ينقسم إلى الحادث الذاتي وإلى الحادث الزماني، والثاني يحتاج إلى المادة والمدة دون الأول لأن العقول عند الإلهيين من الفلاسفة حادثة بالحدوث الذاتي كغيرها من الحادثات الزمانية ولكنها غير متصفة بالحدوث الزماني، فكل ما حادث بالزماني حادث بالذاتي أيضا ولا عكس كليا، والحدوث الذاتي يصدق على القديم الممكن الغير المفتقر إلى المدة والمادة، والمفتقر إليهما مسبوق بالامكان الاستعدادي. والتسلسل التعاقبي في المقام غير ضار لدوام الفيض وقدمه. والتحقيق موكول إلى البحث عن حق التوحيد الذي هو توحيد الوجود الحق الصمدي ذي المعارج. 123 الامتناع وهو صفة عقلية يوصف بها كل ما عدا الواجب والممتنع من المتصورات ولا يلزم من اتصاف الماهية بها كونها مادية. والثاني: الاستعداد وهو موجود معدود في نوع من أنواع جنس الكيف، وإذا كان موجودا وعرضا وغير باق بعد الخروج إلى الفعل فيحتاج لا محالة قبل الخروج إلى محل وهو المادة. وعن الثاني: أن القبلية والبعدية تلحقان الزمان لذاته فلا يفتقر إلى زمان آخر. قلنا: أما الأول فباطل، لأن ذلك العرض حادث فيتوقف على استعداد له ويعود البحث في التسلسل، وأما الثاني فكذلك لأن أجزاء الزمان لو كانت تتقدم بعضها على البعض لذاتها وتتأخر كذلك كانت أجزاء الزمان مختلفة بالحقيقة، فكان الزمان مركبا من الآنات وهو عندكم باطل. المسألة السابعة والأربعون في أن القديم لا يجوز عليه العدم قال: والقديم عليه العدم لوجوبه بالذات أو لاستناده إليه. أقول: القديم إن كان عدما جاز عليه العدم كعدم العالم وإن كان العدم لا يسمى قديما (1)، وإن كان وجودا استحال عدمه لأنه إما أن يكون واجب الوجود فيستحيل عدمه، أو ممكن الوجود فمؤثره لا يجوز أن يكون مختارا لأن كل أثر لمختار حادث فيكون موجبا، فإن كان واجبا استحال عدمه فاستحال عدم معلوله، وإن كان ممكنا تسلسل. قال:
(1) قد يوصف العدم بالقدم والحدوث، فيقال: العدم الغير المسبوق بالوجود قديم والمسبوق حادث. 124 الفصل الثاني في الماهية ولواحقها (1) وهي مشتقة عما هو وهو ما به يجاب (2) عن السؤال بما هو وتطلق غالبا على الأمر المتعقل، والذات والحقيقة عليها (3) مع اعتبار الوجود، والكل من ثواني المعقولات. أقول: في هذا الفصل مباحث شريفة جليلة نحن نذكرها في مسائل: المسألة الأولى في الماهية والحقيقة والذات أما الماهية فهي لفظة مأخوذة عن (ما هو) وهو ما به يجاب عن السؤال بما
(1) قال المصنف في شرح الفصل الخامس من سابع الإشارات في اشتقاق لفظ الماهية ومعناه: إن ماهية الشئ هي ما يحصل في العقل من ذلك الشئ نفسه دون عوارضه الخارجة، ولذلك اشتقت لفظة الماهية من لفظ ما هو، فإن الجواب عنها يكون بها، إنتهى. يعني أن الجواب عن لفظة ما هو يكون بالماهية. وقوله: لواحقها، يعني بها عوارضها من الوحدة والكثرة والكلية والجزئية والوجود والعدم وغيرها. (2) أي الماهية، وتذكير الضمير باعتبار الخبر كقوله تعالى (ولما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي). (3) أي تطلق الذات والحقيقة على الماهية مع اعتبار الوجود الخارجي، فلا يقال مثلا ذات العنقاء وحقيقتها بل يقال ماهية العنقاء. وقد يستعمل هذه الألفاظ الثلاثة أي الماهية والذات والحقيقة بلا اعتبار فرق بينها. 125 هو، فإنك إذا قلت: ما هو الانسان، فقد سألت عن حقيقته وماهيته، فإذا قلت: حيوان ناطق، كان هذا الجواب هو ماهية الانسان، وهذه اللفظة - أعني الماهية - أنما تطلق في الغالب من الاستعمال على الأمر المعقول، وإذا لحظ مع ذلك الوجود قيل له حقيقة وذات، والماهية والحقيقة والذات من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى، فإن حقيقة الانسان - أعني الحيوان الناطق - معروضة لكونها ماهية وذاتا وحقيقة، وهذه عوارض لها. قال: وحقيقة كل شئ واحدة مغايرة (1) لما يعرض لها من الاعتبارات وإلا لم تصدق على ما ينافيها. أقول: كل شئ له حقيقة هو بها ما هو، فالإنسانية من حيث هي إنسانية حقيقة وهي مغايرة لجميع ما يعرض لها من الاعتبارات، فإن الانسانية من حيث هي إنسانية لا يدخل في مفهومها الوجود والعدم ولا الوحدة والكثرة ولا الكلية والجزئية ولا غير ذلك من الاعتبارات اللاحقة بها، لأن الوحدة مثلا لو دخلت في مفهوم الانسانية لم تصدق الانسانية على ما ينافي الوحدة، لكنها تصدق عليه لصدقها على الكثرة، وكذلك القول في الكثرة وكذا الوجود والعدم والكلية والجزئية وغيرها، فهي إذن مغايرة لهذه الاعتبارات وقابلة لها قبول المادة للصور المختلفة والأعراض المتضادة. قال: وتكون الماهية مع كل عارض مقابلة لها مع ضده. أقول: إذا أخذت الماهية مع قيد الوحدة مثلا صارت واحدة، وإذا أخذت مع قيد الكثرة صارت كثيرة، فالواحدية أمر مضموم إليها مغاير لها تصير بها الماهية واحدة وتقابل باعتبارها الماهية باعتبار القيد الآخر، فإن الانسان الواحد مقابل للانسان الكثير باعتبار العارضين لا باعتبار الماهية نفسها. قال: وهي من حيث هي ليست إلا هي ولو سئل بطرفي النقيض فالجواب السلب لكل شئ قبل الحيثية لا بعدها.
(1) قوله: واحدة مغايرة، باتفاق (م ص ق ز د). 126 أقول: الانسانية من حيث هي هي ليست إلا الانسانية، وجميع ما يعرض لها من الاعتبارات مغاير لها كالوحدة والكثرة على ما تقدم، إذا عرفت هذا فإذا سئلنا عن الانسان بطرفي النقيض فقيل مثلا: هل الانسان ألف أم ليس؟ كان الجواب دائما بالسلب على أن يكون قبل من حيث لا بعد من حيث، فنقول: الانسان ليس من حيث هو انسان ألفا، ولا نقول: الانسان من حيث هو انسان ليس ألفا (1). ولو قيل: الانسانية التي في زيد لا تغاير التي في عمرو من حيث هي إنسانية لم يلزم منه أن تقول: فإذن تلك الوحدة بالعدد، لأن قولنا: من حيث هي إنسانية، أسقط جميع الاعتبارات، وقيد الوحدة زائد فيجب حذفه. المسألة الثانية في أقسام الكلي قال: وقد تؤخذ الماهية محذوفا عنها ما عداها بحيث لو انضم إليها شئ لكان زائدا ولا تكون مقولة على ذلك المجموع وهو الماهية (2) بشرط لا شئ ولا توجد إلا في الأذهان. أقول: الماهية كالحيوان مثلا قد تؤخذ محذوفا عنها جميع ما عداها بحيث لو انضم إليها شئ لكان ذلك الشئ زائدا على تلك الماهية، ولا تكون الماهية صادقة على ذلك المجموع وهو الماهية بشرط لا شئ، وهذا لا يوجد إلا في الأذهان لا في الخارج، لأن كل موجود في الخارج مشخص، وكل مشخص
(1) بل الانسان ليس هو من حيث هو انسان بألف ولا غير ألف، لأن الماهية من حيث هي هي ليست إلا هي، وقضية الانسان من حيث هو انسان ليس ألفا في حكم الايجاب العدولي، ومعناه الانسان من حيث هو لا ألف، أي هو شئ وذلك الشئ هو لا ألف، وهذا ليس بصحيح لأنه ليس إلا نفسه، والألف واللا ألف مغايران له وهو كما أنه ليس بألف، ليس بلا ألف وعبارة المقام مطابقة للنسخ كلها. (2) بإطباق النسخ كلها: وهو الماهية، بتذكير الضمير، وكذلك في الشرح. 127 فليس بمتجرد عن الاعتبارات. قال: وقد تؤخذ لا بشرط شئ وهو كلي طبيعي موجود في الخارج، وهو جزء من الأشخاص وصادق على المجموع الحاصل منه ومما يضاف إليه. أقول: هذا اعتبار آخر للماهية معقول، وهو أن تؤخذ الماهية من حيث هي هي لا باعتبار التجرد ولا باعتبار عدمه، كما يؤخذ الحيوان من حيث هو هو لا باعتبار تجرده عن الاعتبارات، بل مع تجويز أن يقارنه غيره مما يدخل في حقيقته، وهذا هو الحيوان لا بشرط شئ وهو الكلي الطبيعي، لأنه نفس الطبائع الأشياء وحقائقها وهذا الكلي موجود في الخارج، فإن الحيوان المقيد موجود في الخارج وكل موجود في الخارج فإن أجزاءه موجودة في الخارج، فالحيوان من حيث هو هو الذي هو جزء من هذا الحيوان موجود، وهذا الحيوان جزء من الأشخاص الموجودة وهو صادق على المجموع المركب منه ومن قيد الخصوصية المضاف إليه. قال: والكلية العارضة للماهية يقال لها كلي منطقي وللمركب منهما عقلي وهما ذهنيان، فهذه اعتبارات ثلاثة ينبغي تحصيلها في كل ماهية معقولة. أقول: هذان اعتباران آخران للكلي (أحدهما) الكلية العارضة لها وهو الكلي المنطقي لأن المنطقي يبحث عنه. (والثاني) العقلي وهو المركب من الماهية ومن الكلية العارضة لها، فإن هذا اعتبار آخر مغاير للأولين، وهذان الكليان عقليان لا وجود لهما في الخارج، أما المنطقي فلأنه لا يتحقق إلا عارضا لغيره، إذ الكلية من ثواني المعقولات ليست متأصلة في الوجود، إذ ليس في الخارج شئ هو كلي مجرد، فالكلية إذا عارضة لغيرها وكل معروض للكلي من حيث هو معروض له فهو ذهني، إذ كل موجود في الخارج شخصي وكل شخصي فليس بكلي فالكلي ذهني وكذا الكلي العقلي لهذا فهذه اعتبارات ثلاثة في كل معقول ينبغي تحصيلها (أحدها) الكلي الطبيعي وهو نفس الماهية (والثاني) الكلي المنطقي وهو العارض لها (والثالث) العقلي وهو المركب منهما.
128 المسألة الثالثة (1) في انقسام الماهية إلى البسيط والمركب قال: والماهية منها بسيط وهو ما لا جزء له، ومنها مركب وهو ما له جزء، وهما موجودان ضرورة. أقول: الماهية إما أن يكون لها جزء تتقوم منه ومن غيره، وإما أن لا تكون كذلك. والأول هو المركب كالانسان المتقوم من الحيوان والنطق، والثاني هو البسيط كالجوهر الذي لا جزء له، وهذان القسمان موجودان بالضرورة فإنا نعلم بالضرورة وجود المركبات كالجسم والانسان والفرس وغيرها من الحقائق المركبة، ووجود المركب يستلزم وجود أجزائه، فالبسائط موجودة بالضرورة. قال: ووصفاهما اعتباريان متنافيان وقد يتضايفان فيتعاكسان في العموم والخصوص مع اعتبارهما بما مضى (2).
(1) عبارات المتن والشرح موافقة للنسخ كلها. (2) من البسيط والمركب الحقيقين المستفادين من قوله قدس سره والماهية منها بسيط وهو ما لا جزء له، ومنها مركب وهو ما له جزء. واعلم أن البسيط يطلق بالاشتراك اللفظي على عدة معان، فيقال: إنه سبحانه بسيط كما أنه دائر في ألسنة الحكماء أن بسيط الحقيقة كل الأشياء، أي أنه تعالى صمد لا جوف له، وكثيرا ما يعبرون عن هذا المعنى بأنه تعالى غير متناه كما يعبرون عنه بوحدة الوجود أيضا. فالكلمات الأربع - أعني قولهم بسيط الحقيقة كل الأشياء والصمد وغير المتناهي ووحدة الوجود - معناها واحد. وعلى هذا المعنى من البساطة قال صاحب المنظومة في الحكمة: غرر في بساطته تعالى (ص 150). ويقال للمفارقات النورية: عقول بسيطة، وإطلاق البسيط عليها باعتبار كليتها أي سعة وجودها أيضا. قال الشيخ في الفصل الرابع من المقالة الخامسة من نفس الشفاء: إن الأشياء المركبة والأشياء البسيطة التي هي قائمة في المركب يجوز أن يجتمع فيها فعل أن يبقى وقوة أن يفسد، وفي الأشياء البسيطة المفارقة الذات لا يجوز أن يجتمع هذان الأمران (ص 355 ج 1 ط 1). ويطلق البسيط على الملكة العلمية أيضا، فيقال: إن حقيقة كل شئ مندمج في بسيطه كاندماج العلوم التفصيلية في الملكة البسيطة، وتلك الملكة البسيطة يقال لها: القوة العقلية المطلقة والعلم البسيط أيضا فراجع الفصل السادس من خامسة نفس الشفاء (ص 359)، وأطلق في ذلك الفصل العقل البسيط على الملكة أيضا، وعلى منواله قال المتأله السبزواري في تعليقة على آخر الفصل السابع من الطرف الأول من المسلك الخامس من الأسفار: سواء كان فياض العقول التفصيلية هو العقل البسيط الذي هو الملكة أو باطن ذات النفس أو العقل الفعال (ج 3 ص 321 ط 2)، ويعبر عن هذا العلم البسيط بالعقل البسيط الاجمالي، فراجع الموضع المذكور أخيرا من الشفاء والأسفار (ص 293 ج 1 ط 1) حيث يقول: إثبات هذا العقل البسيط لا يمكن إلا بالقول باتحاد العاقل بالمعقولات. ويطلق خصوصا على المعلول الأول أي العقل الأول البسيط، وهذا الوجه مندرج في الإطلاق السابق. ويطلق البسيط على العناصر الأولية للمركبات الطبيعية كثيرا. ويطلق على السطح أيضا كما قال الشيخ في الفصل الثامن والعشرين من النمط الأول من الإشارات: الجسم ينتهي ببسيطه وهو قطعه، والبسيط ينتهي بخطه وهو قطعه.. الخ. ويطلق على عضو الحيوان بالنسبة إلى بدنه المركب من الأعضاء، وإن كان كل عضو منه مركب من البسائط، كما في المباحث المشرقية للفخر الرازي (ج 2 ص 232 ط حيدر آباد) وفي الأسفار (ج 4 ط 1 ص 9) من أن مزاج العضو البسيط مشابه لمزاج جزئه. ويطلق على العرض المقابل للجوهر أيضا كالسطح والنقطة وغيرهما من البسائط العرضية، فما قدمنا من إطلاقه على السطح داخل في هذا الوجه أيضا. ويقال في الفن الرياضي للعدد الأول البسيط أيضا في قبال العدد المركب، ففي صدر المقالة السابعة من أصول إقليدس بتحرير المحقق الطوسي العدد الأول هو الذي لا يعده غير الواحد، والمركب هو الذي يعده آخر. ويطلق كثيرا في زبر المتقدمين على النفوس الناطقة الانسانية، ففي آخر الفصل الرابع من المقالة التاسعة من إلهيات الشفاء حيث قال: ومما لا نشك فيه أن هاهنا عقولا بسيطة مفارقة تحدث مع حدوث أبدان الناس ولا تفسد بل تبقى.. الخ (ج 2 ط 1 ص 269)، وكذلك يطلق في العلوم الأدبية وغيرها على الحروف والكلمات وغيرهما. 129 أقول: يعني أن وصف البساطة والتركيب اعتباريان عقليان عارضان لغيرهما من الماهيات، إذ لا موجود هو بسيط أو مركب محض، فالبساطة والتركيب لا يعقلان إلا عارضان فهما من ثواني المعقولات، ولو كانا موجودين لزم التسلسل.
130 إذا عرفت هذا فإنهما متنافيان، إذ لا يصدق على شئ أنه بسيط ومركب وإلا لزم اجتماع النقيضين فيه وهو محال. وقد يتضايفان أعني يؤخذ البسيط بسيطا بالنسبة إلى مركب مخصوص فيكون بساطته باعتبار كونه جزءا من ذلك المركب لا أنه لا جزء له هو المركب المخصوص (1)، ويكون المركب مركبا باعتبار القياس إليه فيتحقق الإضافة بينهما، وهذا كالحيوان فإنه بسيط بالنسبة إلى الانسان على معنى أنه جزء منه فيكون أبسط منه، وإذا أخذا باعتبار التضايف تعاكسا مع اعتبارهما الأول أعني (2) الحقيقي عموما وخصوصا، وذلك لأنهما بالمعنى الحقيقي متنافيان، لأن البسيط لا يصدق عليه أنه مركب بذلك المعنى، وإذا أخذا بالمعنى الإضافي جوزنا أن يكون البسيط مركبا، لأن بساطته ليست باعتبار نفسه بل باعتبار كونه جزءا من غيره، وإذا جاز كون البسيط بهذا المعنى مركبا كان أعم من البسيط بالمعنى الأول، فيكون المركب بهذا المعنى أخص منه بالمعنى الأول فقد تعاكسا (3) أعني البسيط
(1) كما في (ش)، والضمير في أنه وفي له راجع إلى البسيط، وضمير هو راجع إلى ذلك المركب، وقد جاءت العبارة على وجوه، ففي (م): من ذلك المركب لأنه - وله خ - لا جزء له هو المركب المخصوص. وفي (ص ز ق د): من ذلك المركب وأنه لا جزء له وهو المركب المخصوص. وفي أخرى: من ذلك المركب وإن كان له جزء آخر كما للمركب المخصوص. والأخير أوضح الوجوه معنى، والأول أمتنها لفظا ومعنى فقد اخترناه، وفي غيره يحتمل التحريف والتصحيح القياسي، على أن غير الطرفين لا يخلو عن تكلف ثخين. (2) بيان لقول المصنف بما مضى. (3) أي صارت النسبة بين البسيط الإضافي والبسيط الحقيقي على عكس النسبة بين المركب الإضافي والمركب الحقيقي، لأن البسيط الإضافي أعم مطلقا من البسيط الحقيقي، والمركب الإضافي أخص مطلقا من المركب الحقيقي، فلا يخفى أن هذه النسبة عكس النسبة بين البسيطين، أما الأول فلأن كل ما لا جزء له يصدق عليه أنه جزء لما تركب منه ومن غيره، وليس كل ما هو جزء لغيره يصدق عليه أنه لا جزء له لجواز أن يكون جزء شئ ذا أجزاء، وأما الثاني فلأن كل مركب إضافي مركب حقيقي، وليس كل مركب حقيقي مركبا إضافيا لجواز أن لا يعتبر إضافته إلى جزء. 131 والمركب في العموم والخصوص باختلاف الاعتبار. قال: وكما تتحقق الحاجة (1) في المركب فكذا في البسيط. أقول: الحاجة تعرض للبسيط وللمركب معا، فإن كل واحد منهما ممكن وكل
(1) قال الشارح القوشجي: اختلفوا في أن الماهيات الممكنة هل هي مجعولة بجعل جاعل أم لا؟ على أقوال ثلاثة: الأول: ما اختاره المصنف وهو أنها كلها مجعولة بجعل الجاعل سواء كانت مركبة أو بسيطة. الثاني: أنها غير مجعولة مطلقا مركبة كانت أو بسيطة. الثالث: أن المركبة مجعولة بخلاف البسيطة، إنتهى. أقول: المستفاد من كلامه في النمط الرابع من الإشارات ومن كلماته الأخرى ومما مضى منه في الكتاب، عدم اعتقاده في مجعولية الماهيات برأسها أصالة ومراده من تحقق الحاجة في المركب والبسيط باعتبار صيرورتها موجودة بتبعية الوجود بضرب من الاعتبار الذهني في تغايرهما. ومن ذهب إلى أنها غير مجعولة مطلقا ناظر إلى جعلها بالأصالة، فالقولان واحد. والقول الثالث ناظر إلى أن البسائط كالأعراض مجعولة بجعل الماهيات الموجودة في الخارج فهي موجودة بالتبع أيضا، فإن جعل زيد في الخارج هو جعله متكمما بكم كذا ومتلونا بلون كذا وهكذا، لا أن الجعل مرة يتعلق بالماهيات وأخرى بأعراضها، فالأقوال ناظرة إلى أمر فارد ولا تنازع بينها. واعلم أنه يصدق قولنا: الماهية ليست بموجودة، ولا يصدق قولنا: الوجود ليس بموجود، وذلك لأن الوجود ليس بمجعول بل هو الحق المتحقق في عظموت جلاله وجبروت كبريائه، والماهيات أوعية تحققها هي الأذهان لا غير وإنما تنتزع وتعتبر من حدود أطواره وشؤونه وآياته، وتلك الحدود تعتبر بما يلينا لا بما يليه لأنها بما يليه لا حد لها لقيامها بها، كأمواج البحر مثلا تعتبر حدودها بما يلينا لا بما يلي البحر لأنها لا حدود لها من تلك الجهة، فافهم. والفيلسوف الإلهي يبحث عن أجزاء الجسم فيجده مؤلفا من الهيولى والصورة، فينتقل من ازدواجهما إلى أصل مفارق يقيم أحدهما بالآخر، فيثبت من هذا الطريق خالقا مدبرا قيوما قائما على الأجسام، أو يجده مؤلفا من أجزاء صغار صلبة لا تتجزأ فينتقل من تأليفها إلى جامع لها مدبر فيها تدبيرا إراديا، فيثبت بهذا الطريق موجودا واجبا بذاته خالقا مريدا متصفا بجميع الكمالات الغير المتناهية، أو يبحث عن الممكن بأنه زوج تركيب من الوجود والماهية فينتقل من ازدواجهما إلى جاعل الماهية موجودة وهو الله سبحانه. والعارف ينظر بنور برهان الصديقين على وجهه الأتم أنه سبحانه هو الأول والآخر والظاهر والباطن، فيحتاج في إثبات العالم إلى دليل، فالماهيات في منظره الأعلى كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه. 132 ممكن على الإطلاق فإنه محتاج إلى السبب، فالحاجة ثابتة في كل واحد منهما. وقد منع بعض الناس احتياج البسيط إلى المؤثر، لأن علة الحاجة أنما هي الإمكان وهو أمر نسبي أنما يعرض لمنتسبين، فما لم تتحقق الاثنينية لم تتحقق الحاجة، ولا اثنينية في البسيط فلا احتياج له. والجواب: أن الإمكان أمر عقلي يعرض لمنتسبين عقليين هما الماهية والوجود وتتحقق باعتباره الحاجة لكل واحد منهما إلى المؤثر. قال: وهما قد يقومان بأنفسهما (1) وقد يفتقران إلى المحل. أقول: كل واحد من البسيط والمركب قد يكون قائما بنفسه كالجوهر والحيوان، وقد يكون مفتقرا إلى المحل كالكيف والسواد وهما ظاهران، إذا عرفت هذا فالمركب من الأول لا بد وأن يكون أحد أجزائه قائما بنفسه والآخر قائما به، والمركب من الثاني لا بد وأن يكون جميع أجزائه محتاجا إلى المحل، إما إلى ماحل فيه المركب أو البعض إليه والباقي إلى ذلك البعض. قال: والمركب أنما يتركب عما يتقدمه وجودا وعدما بالقياس إلى الذهن والخارج وهو علة الغنى عن السبب (2) فباعتبار الذهن بين وباعتبار الخارج غني، فتحصل خواص ثلاث، واحدة متعاكسة واثنتان أعم. أقول: المركب هو الذي تلتئم ماهيته عن عدة أمور، فبالضرورة يكون تحققه متوقفا على تحقق تلك الأمور، والمتوقف على الغير متأخر عنه فالمركب متأخر عن تلك الأمور فيتأخر عن كل واحد منها، فكل واحد منها موصوف بالتقدم في
(1) أنت بما قدمنا من معاني البسيط تدري أن بعض البسائط كالجوهر قائم بنفسه، وبعضه كالكيف مفتقر إلى المحل، ثم أن الحيوان والسواد في الشرح مثالان للمركب، أما الحيوان فظاهر، وأما السواد فباعتبار أن اللون جنس له وقابض نور البصر فصل له. وقوله: لا بد وأن يكون أحد أجزائه قائما بنفسه، كالناطق في الحيوان. (2) أي تقدم الأجزاء على الماهية المركبة، فالضمير راجع إلى المصدر المستفاد من قوله: عما يتقدم. 133 طرف الوجود، ثم إذا عدم أحدها لم تلتئم تلك الأمور فلا تحصل الماهية، فيكون عدم أي جزء كان من تلك الأمور علة لعدم المركب، والعلة متقدمة على المعلول، فكل واحد من تلك الأمور موصوف بالتقدم في طرف العدم أيضا، فقد ظهر أن جزء الحقيقة (1) متقدم عليها في الوجود والعدم، ثم إن الذهن مطابق للخارج فيجب أن يحكم بالتقدم في الوجود الذهني والعدم الذهني فقد تحقق أن المركب أنما يتركب عما يتقدمه وجودا وعدما بالقياس إلى الذهن والخارج. إذا عرفت هذا فنقول: هذا التقدم (2) الذي هو من خواص الجزء يستلزم استغناء الجزء عن السبب الجديد (3)، لسنا نقول: إنه يكون مستغنيا عن مطلق السبب، فإن فاعل الجزء هو فاعل الكل (4)، وذلك لأن المتقدم لا يعقل احتياجه إلى علة متأخرة عن المتأخر عنه، بل ولا خارجة عن علة المركب، فإن علة كل جزء داخلة في علة الكل، فإذا اعتبر هذا التقدم بالنسبة إلى الذهن فهو البين، وإذا اعتبر بالنسبة إلى الخارج فهو الغنى عن السبب، وهذه الخاصة أعم من الخاصة الأولى لأن الأولى هي الحصول الموصوف بالتقدم (5) والثانية هي الحصول المطلق (6)، ولهذا قيل: لا يلزم من كون الوصف بين الثبوت للشئ وكونه غنيا عن
(1) قد مضى في المسألة الأولى من هذا الفصل أن الذات والحقيقة تطلقان على الماهية مع اعتبار الوجود الخارجي. (2) بيان لمرجع الضمير في قول المصنف وهو علة الغناء المستفاد من قوله: عما يتقدم، كما تقدم. (3) لا عن السبب مطلقا فإن السبب الأول الذي للكل سبب له أيضا، فقوله: ولسنا نقول.. الخ جملة بيانية. (4) الظاهر أنه لو قال: فإن فاعل الكل هو فاعل الجزء، لكان أنسب. (5) وهو هو لا يكون إلا جزءا، لأن غير الجزء لا يتصف بالتقدم على الكل فهو ذاتي لا غير. (6) أعم من أن يكون جزءا أم لا، بأن يكون عرضا لازما فلا يلزم من أن يكون ذاتيا لا غير، وإن امتنع رفع هذا اللازم في الذهن فإنه لا يلزم أن يكون كل ما امتنع رفعه في الذهن ذاتيا مقوما، كما ذهب إليه قوم من المنطقيين، والشيخ ردهم في منطق الإشارات في ضمن قوله إشارة إلى العرضي اللازم (ص 19 ط 1). فإنما كان هذه الخاصة أعم من الخاصة الأولى، لأن كل ما هو متقدم على الكل مستغن عن سبب جديد، وليس كل ما هو مستغن عن سبب جديد فهو متقدم. 134 السبب الجديد كونه جزءا. فقد حصل لكل ذاتي على الإطلاق خواص ثلاث: الأولى: وجوب تقدمه في الوجودين والعدمين وهذه متعاكسة عليه. الثانية: استغناؤه عن السبب الجديد. الثالثة: امتناع رفعه عما هو ذاتي له، وهاتان الخاصتان إضافيتان أعم منه (1) لمشاركة بعض اللوازم له في ذلك. المسألة الرابعة في أحكام الجزء قال: ولا بد من حاجة ما (2) لبعض الأجزاء إلى البعض، ولا يمكن شمولها باعتبار واحد. أقول: كل مركب على الإطلاق فإنه يتركب من جزئين فصاعدا، ولا بد من أن يكون لأحد الأجزاء حاجة إلى جزء آخر مغاير له، فإنه لو استغنى كل جزء عن باقي الأجزاء لم تحصل منها حقيقة واحدة كما لا تحصل من الانسان الموضوع فوق الحجر مع الحجر حقيقة متحدة، فلا بد لكل مركب (3) على الإطلاق من حاجة لبعض أجزائه إلى بعض. ثم المحتاج قد يكون هو الجزء الصوري لا غير كالهيئة الاجتماعية في العسكر والبلدة في البيوت والعشرية في العدد والمعجون عن اجتماع الأدوية. وقد يكون هو الجزء المادي كالهيولى في الجسم، ولا يمكن شمول الحاجة بأن يكون الجزء المادي محتاجا إلى الصوري والصوري محتاجا إلى المادي إذا
(1) أي من الأول وهو وجوب تقدمه.. الخ، لمشاركة بعض اللوازم له أي للأول في ذلك أي في كل واحد من الاستغناء وامتناع الرفع. (2) أي لا بد في المركب من حاجة ما. (3) كما في (م)، والباقية في كل مركب. 135 أخذت الحاجة باعتبار واحد لأنه يلزم الدور المحال. وقد تشمل الحاجة الجزئين معا لا باعتبار واحد، كالمادة المحتاجة (1) في وجودها إلى الصورة والصورة المحتاجة في تشخصها إلى المادة. قال: وهي قد تتميز في الخارج وقد تتميز في الذهن. أقول: أجزاء الماهية (2) لا بد وأن تكون متمايزة، ثم التمايز قد يكون خارجيا كامتياز النفس والبدن اللذين هما جزءا الانسان، وقد يكون ذهنيا كامتياز جنس السواد عن فصله، فإنه لو كان خارجيا لم يخل إما أن يكون كل واحد منهما محسوسا أو لا، والأول باطل لأنه إن ماثل السواد استحال جعله مقوما لعدم الأولوية ولزوم كون الشئ مقوما لنفسه، وإن خالفه فإذا انضاف الفصل إلى الجنس فأما أن لا تحدث هيئة أخرى فيكون المحسوس هو اللونية المطلقة فالسوادية المحسوسة هي اللونية المطلقة هذا خلف، أو تحدث هيئة أخرى فلا يكون الاحساس بمحسوس واحد بل بمحسوسين هذا خلف، والثاني باطل (3) لأنه لم تحصل عند الاجتماع هيئة أخرى كان السواد غير محسوس، وإن حدث كان الحادث هو السواد وهو معلول الجزئين وهو خارج عنهما، فيكون التركيب في قابل السواد أو فاعله (4) لا فيه هذا خلف. قال: وإذا اعتبر عروض العموم ومضائفه (5) فقد تتباين وقد تتداخل. أقول: هذه القسمة باعتبار عروض العموم ومضائفه أعني الخصوص
(1) كما قيل بالفارسية: هيولى در بقاء محتاج صورت تشخص كرد صورت را گرفتار (2) بيان لمرجع الضمير وهو هي. (3) وهو (أو لا) مقابل المحسوس في قوله: إما أن يكون كل واحد منهما محسوسا أو لا. (4) قد مضى نظير ذلك الاحتجاج في الوجود في المسألة الأولى من الكتاب. وفي (م): في قابل السواد وفاعله، وأما النسخ الأخرى فكما اخترناه. (5) على صيغة اسم الفاعل. 136 للأجزاء (1) فإنا إذا اعتبرنا عروضهما (2) للأجزاء حدثت هذه القسمة، وذلك لأن أجزاء الماهية إما أن يكون بعضها أعم من البعض (3) فتسمى المتداخلة أو لا تكون فتسمى المتباينة (4). والمتداخلة قد يكون العام عاما مطلقا إما متقوما بالخاص وموصوفا به كالجنس ومضائفه الفصل، أو صفة له (5) كالموجود المقول على المقولات العشر، أو مقوما للخاص كالنوع الأخير المقوم لخواصه المطلقة، وقد يكون مضافا (6) كالحيوان والأبيض. والمتباينة ما يتركب عن الشئ وإحدى علله أو معلولاته أو غيرهما إما بعضها عدمي كالأول (7) أو كلها وجودية حقيقية متشابهة كالآحاد في العدد، أو مختلفة إما معقولة كالمادة والصورة والعفة والحكمة في العدالة، أو محسوسة كاللون والشكل في الخلقة والسواد والبياض في البلقة، أو بعضها إضافي كالسرير المعتبر في تحققه نوع نسبة، أو كلها كذلك كالأقرب والأبعد، فهذه أصناف المركبات. قال: وقد تؤخذ مواد وقد تؤخذ محمولة. أقول: أجزاء الماهية قد ينظر إليها باعتبار كونها مواد فتكون أجزاءا حقيقية، ولا تحمل على المركب حمل هو هو لاستحالة كون الكل هو الجزء، وقد ينظر إليها
(1) صلة للعروض، ولم يأت به المصنف لدلالة العروض والمقام عليها. (2) واعتبرنا عدم عروضهما لها أيضا ليتحقق التباين، والضمير راجع إلى العموم والخصوص المعبر بالمضائف في المتن. (3) أعم مطلقا أو من وجه. (4) وأما المتساوية فهي خارجة عن هذه القسمة، لأن تركب الماهية الحقيقية من أمرين متساويين ممتنع عند المصنف، لما يأتي من قوله قدس سره: وما لا جنس له فلا فصل له. (5) أي للخاص. (6) عطف على قد يكون أي وقد يكون العام عاما مضافا. (7) يعني كالعدد الأول، والعدد الأول مقابل العدد المركب، والأول كالخمسة والسبعة، والمركب كالستة والثمانية كما في صدر سابعة الأصول العدد الأول هو الذي لا يعده غير الواحد، والمركب هو الذي يعده آخر. 137 باعتبار كونها محمولة صادقة على المركب. مثاله الحيوان قد يؤخذ مع الناطق فيكون هو الانسان نفسه، وقد يؤخذ بشرط التجرد والخلو عن الناطق وهو الماهية بشرط لا شئ كما تقدم تحقيقه (1)، فيستحيل حمله على المجموع المركب منه ومن غيره، وإذا أخذ من حيث هو هو مع قطع النظر عن القيدين كان محمولا. قال: فتعرض لها الجنسية والفصلية. أقول: إذا اعتبرنا حمل الجزء على الماهية حصلت الجنسية والفصلية، لأن الجنس هو الجزء المشترك والفصل هو الجزء المميز والجزء المحمول يكون أحدهما قطعا، فإذا أخذ الجزء محمولا حصلت الجنسية أعني مقولية ذلك الجزء على كثيرين، أو الفصلية أعني تميز الجزئية، فجزء الماهية إما جنس أو فصل، والجنس هو الكلي المقول على كثيرين مختلفين بالحقائق في جواب ما هو، والفصل هو المقول على الشئ في جواب أي شئ هو في جوهره. قال: وجعلاهما واحد (2). أقول: يعني به جعل الجنس والفصل، ولم يكونا مذكورين صريحا بل أعاد الضمير إليهما لكونهما في حكم المصرح بهما. وإنما كان جعلاهما واحدا لأن الفاعل لم يفعل حيوانا مطلقا، ثم يميزه بانضمام الفصل إليه فإن المطلق لا وجود له بل جعل الحيوان هو بعينه جعل الناطق، واعتبر هذا في اللونية فإنها لو كان لها وجود مستقل فهي هيئة أما في السواد فيوجد السواد لا بها هذا خلف، أو في محله فالسواد عرضان لون وفصله لا واحد هذا خلف، فجعله لونا هو بعينه جعله سوادا. قال: والجنس هاهنا كالمادة، وهو معلول والآخر صورة وهو علة (3).
(1) تقدم في المسألة الثانية من هذا الفصل. (2) وسيأتي أيضا البحث عنه في آخر هذا الفصل حيث يقول: وجعل الجنس والفصل واحد. (3) الجنس من المعقولات الثانية، والطبيعة الجنسية أمر مبهم في العقل، بمعنى أنه مأخوذ لا بشرط متردد بين أشياء كثيرة، هي عين كل واحدة منها في الخارج بمعنى أنها جزء حقيقتها غير منطبقة على تمام حقيقة واحدة منها، فإذا انضم إليها الفصل زال عنها الابهام والتردد وتعينت وهي مع انضمامه منطبقة على تمام حقيقتها فيحصل النوع. فالفصل علة لصفة الجنس في الذهن وهي التعين أي زوال الابهام والتردد فيه لا أنه علة لوجود الجنس في الذهن أو في الخارج وإلا لوجب أن لا يعقل الجنس إلا مع علته وهو فصل ما على الأول، ووجب أن تغايرا في الوجود ويمتنع الحمل بالمواطاة على الثاني. وإلى هذا التحقيق يشير القطب في شرح المطالع (ص 92 ط 1) حيث قال بعد نقل كلام الشيخ من أن الفصل علة لحصة النوع، بهذه العبارة: ليس مراده أن الفصل علة لوجود الجنس وإلا لكان إما علة له في الخارج فيتقدم عليه في الوجود وهو محال لاتحادهما في الجعل والوجود، وإما علة له في الذهن وهو أيضا محال وإلا لم يعقل الجنس دون فصل، بل المراد أن الصورة الجنسية مبهمة في العقل يصلح أن يكون أشياء كثيرة هي عين كل واحد منها في الوجود غير محصلة في نفسها لا يطابق تمام ماهياتها المحصلة، وإذا انضاف إليها الصورة الفصلية عينها وحصلها أي جعلها مطابقة للماهية التامة فهي علة لرفع الابهام والتحصيل. 138 أقول: الجنس إذا نسب مع فصله إلى المادة والصورة وجد الجنس أشبه بالمادة من الفصل (1) والفصل أشبه بالصورة منه، وهذا الجنس هو المعلول والفصل هو العلة، وذلك لأن للفصل نسبة إلى الجنس المطلق وهي نسبة التقسيم، وإلى النوع - أعني الجنس المقيد بالفصل - وهي التقويم، وإلى حصة النوع من الجنس وهي نسبة العلية، وذلك لأن الشيخ أبا علي ادعى (2) أن الفصل علة لحصة النوع من
(1) بيان لتخلل الكاف في قوله: والجنس هاهنا كالمادة، يعني كما أن الهيولى لا تحصل لها في الخارج إلا بالصورة كذلك الجنس لا تحصل لها في الخارج إلا بالفصل. وإنما يكونان كالمادة والصورة لأنهما أجزاء خارجية للجسم وهما أمور ذهنية من المعقولات الثانية، والعبارة نقلت في (م ق د) هكذا: والجنس هاهنا كالمادة، وفي (ص): والجنس هنا كالمادة. (2) قال الشيخ في منطق الإشارات (ص 29 ط 1): وكل فصل فإنه بالقياس إلى النوع الذي هو فصله مقوم، وبالقياس إلى جنس ذلك النوع مقسم. وقال المحقق الماتن في شرحه عليه: يريد أن الفصل الذي يتحصل به الجنس نوعا أنما يكون له اعتباران: أحدهما: بقياسه إلى الجنس المتحصل به، والثاني: بقياسه إلى النوع المتحصل منه. والأول هو التقسيم فإن الناطق يقسم الحيوان إلى الانسان وغيره. والثاني هو التقويم فإنه يقوم الانسان لكونه ذاتيا له. وأما قولهم: الفصل مقوم لحصة من الجنس فذلك التقويم غير ما نحن فيه فإنه بمعنى كونه سببا لوجود الحصة لا بمعنى كونه جزءا منه. وقال القطب في تعليقته عليه على منوال كلامه توضيحا: وللفصل ثلاث نسب: نسبة إلى الجنس بالتقسيم، ونسبة إلى النوع بالتقويم، ونسبة إلى الحصة بالتقويم أيضا لكن بمعنى آخر فإنه مقوم للنوع، بمعنى أنه مقوم لماهيته ذاتي له، ومقوم للحصة لا بمعنى أنه مقوم لماهيته بل بمعنى أنه مقوم لوجوده فإنه إذا قارن الجنس تحصص فهو علة لوجود الجنس لا مطلقا بل للقدر الذي هو حصة النوع. 139 الجنس لأنه قد تقدم أنه لا بد من احتياج بعض الأجزاء إلى البعض، فالجزء المحتاج من النوع إن كان هو الجنس فهو المطلوب وإن كان هو الفصل كان الجنس مساويا للفصل، ويلزم وجود الفصل أينما يوجد الجنس لأنه علة فلا يكون الجنس أعم هذا خلف. قال: وما لا جنس له فلا فصل له. أقول: الفصل هو الجزء المميز للشئ عما يشاركه في الجنس على ما تقدم، فإذا لم يكن للشئ جنس لم يكن له فصل، هذا هو التحقيق في هذا المقام. وقد ذهب قوم غير محققين إلى أن الفصل هو المميز في الوجود، وجوزوا تركيب الشئ من أمرين متساويين كالجنس العالي (1) والفصل الأخير، وكل من
(1) أي ذلك الشئ هو كالجنس العالي وكالفصل الأخير، لأنهما لو كانا مركبين من الجنس والفصل يلزم المحال الذي يذكره الشارح بعيد هذا في ضمن قول المصنف ويجب تناهيهما، فكل من الجنس العالي والفصل الأخير مثال للشئ لا للأمرين المتساويين بأن يكون ذانك الأمران المتساويان هما الجنس العالي والفصل الأخير لوضوح بطلان هذا الكلام، فلا تغفل. ثم قوله: ولو جعل كل منهما - إلى آخره - موافق لنسختي (ش د) ووجهه ظاهر. وفي (م): لزم التسلسل ولم يكن جعل كل واحد منهما فصلا للمركب، ولم يكن المركب فصلا لكل منهما لتساوي نسبته ونسبتهما إلى الوجود، وهي أقدم النسخ وأصحها غالبا، ومعنى العبارة ظاهر، وهي في النسخ مضطربة أشد من اضطراب المضطربة. وهي في (ش د) هكذا: لزم التسلسل ولو جعل كل منهما فصلا للمركب ولم يكن المركب فصلا لكل منهما لزم الترجيح من غير مرجح لتساوي نسبته ونسبتهما إلى الوجود. والظاهر أن هذا تحرير آخر من غير الشارح العلامة. وفي (ز): لزم التسلسل ولم يجعل كل منهما فصلا للمركب ولم يكن المركب فصلا لكل منهما لتساوي نسبته ونسبتهما إلى الوجود. وفي (ق): لزم التسلسل ولم جعل كل منهما - ثم إلى آخر مثل ما في (ز) - ونسخة (د) كانت نحو ما في (ز) ثم صحح مثل ما في (ش). 140 الأمرين ليس جنسا فيكون فصلا يتميز به المركب عما يشاركه في الوجود. وهذا خطأ، لأن الأشياء المختلفة لا تفتقر في تمايزها عما يشاركها في الوجود وغيره من العوارض إلى أمر مغاير لذواتها، فإن كل واحد من الجزئين المتساويين كما يمتاز بنفسه عما يشاركه في الوجود كذلك المركب منهما، ولو افتقر كل مشارك في الوجود أو في غيره من الأعراض إلى فصل لزم التسلسل، ولم يكن جعل كل واحد منهما فصلا للمركب، ولم يكن المركب فصلا لكل منهما لتساوي نسبته ونسبتهما إلى الوجود. قال: وكل فصل تام فهو واحد. أقول: الفصل منه ما هو تام وهو كمال الجزء المميز، ومنه غير تام وهو المميز الذاتي مطلقا. والأول لا يكون إلا واحدا لأنه لو تعدد لزم امتياز المركب بكل واحد منهما فيستغني عن الآخر في التميز فلا يكون فصلا، ولأن الفصل علة للحصة فيلزم تعدد العلل على المعلول الواحد وهو محال. أما الفصل الناقص وهو جزء الفصل فإنه يكون متعددا. قال: ولا يمكن وجود جنسين في مرتبة واحدة لماهية واحدة. أقول: الجنس للماهية قد يكون واحدا كالجسم الذي له جنس واحد هو الجوهر، وقد يكون كثيرا كالحيوان الذي له أجناس كثيرة، لكن هذه الكثرة لا يمكن أن تكون في مرتبة واحدة بل يجب أن تكون مترتبة في العموم والخصوص، فلا يمكن وجود جنسين في مرتبة واحدة لنوع واحد لأن فصلهما إن كان واحدا كان جعل الجنسين جعلا واحدا وهو محال، وأن تغاير لم يكن النوع الواحد نوعا واحدا بل نوعين هذا خلف. قال: ولا تركيب عقلي إلا منهما.
141 أقول: التركيب قد يكون عقليا وقد يكون خارجيا كتركيب العشرة من الآحاد، والتركيب العقلي لا يكون إلا من الجنس والفصل، لأن الجزء إما أن يكون مختصا بالمركب أو مشتركا، والأول هو الفصل القريب، والثاني إما أن يكون تمام المشترك أو جزءا منه، والأول هو الجنس، والثاني إما أن يكون مساويا له أو أعم منه، والأول يلزم منه كونه (1) فصلا للجنس فيكون فصلا مطلقا وهو المطلوب. والثاني إما أن يكون تمام المشترك أو لا يكون، والأول جنس والثاني فصل جنس وإلا لزم التسلسل وهو محال، فقد ثبت أن كل جزء محمول إما أن يكون جنسا أو فصلا وهو المطلوب. قال: ويجب تناهيهما. أقول: الجنس والفصل قد يترتبان في العموم والخصوص كالحيوانية والجسمية وقد لا يترتبان، والمترتبة يجب تناهيها في الطرفين فإنه لولا تناهي الأجناس (2) لم تتناه الفصول التي هي العلل، فيلزم وجود علل ومعلولات لا نهاية لها وهو محال. قال: وقد يكون منهما عقلي وطبيعي ومنطقي كجنسيهما. أقول: يعني أن من الأجناس ما هو عقلي وهو الحيوانية مع قيد الجنسية، ومنها ما هو طبيعي وهو الحيوان من حيث هو هو لا باعتبار الجنسية ولا باعتبار عدمها، ومنها ما هو منطقي وهي الجنسية العارضة للحيوانية، وهذه الثلاثة أيضا قد تحصل في الفصل، وذلك كما أن جنسيهما يعني جنس الجنس وجنس الفصل وهو الكلي
(1) أي ما يكون مساويا له يلزم منه أن يكون فصلا للجنس. وسيأتي زيادة بيان وتوضيح في كون المساوي فصلا في قوله بعيد هذا: وإذا نسبا إلى ما يضافان إليه.. الخ. (2) على أنه لزم من ذلك تركب الماهية من أجزاء غير متناهية فلزم منه عدم تحصل الأشخاص أيضا وقد جمعهما الشارح في الجوهر النضيد بقوله: وإنما وجب انتهاء الأجناس في التصاعد لأنه لولا ذلك لزم تركب الماهية من أجزاء غير متناهية ويلزم وجود علل ومعلولات لا يتناهى وهو محال (ص 14 ط 1). 142 من حيث هو كلي قد انقسم إلى هذه الثلاثة كذلك هذان - أعني الجنس والفصل - ينقسمان إليها. قال: ومنهما عوال وسوافل ومتوسطات. أقول: الجنس قد يكون عاليا وهو الجنس الذي ليس فوقه جنس آخر كالجوهر ويسمى جنس الأجناس، وقد يكون سافلا وهو الجنس الأخير الذي لا جنس تحته كالحيوان وقد يكون متوسطا وهو الذي فوقه جنس وتحته جنس كالجسم. والفصل أيضا قد يكون عاليا وهو فصل الجنس العالي، وقد يكون سافلا وهو فصل النوع السافل، وقد يكون متوسطا وهو فصل الجنس السافل والمتوسط. قال: ومن الجنس ما هو مفرد (1) وهو الذي لا جنس له وليس تحته جنس، وهما إضافيان وقد يجتمعان مع التقابل. أقول: من أقسام الجنس المفرد وهو الذي لا جنس فوقه ولا تحته ويذكر في مثاله العقل بشرط أن لا يكون الجوهر جنسا وأن يكون صدقه (2) على أفراده صدق الجنس على أنواعه. إذا عرفت هذا فالجنس والفصل إضافيان وكذا باقي المقولات الخمس أعني النوع والخاصة والعرض العام، فإن الجنس ليس جنسا لكل شئ بل لنوعه، وكذا الفصل وسائرها وقد يجتمع الجنس والفصل في شئ واحد مع تقابلهما لأن الجنس مشترك والفصل خاص وذلك كالإدراك الذي هو جنس للسمع والبصر وباقي الحواس وفصل للحيوان بل قد تجتمع الخمس (3) في شئ واحد لا باعتبار
(1) كما في (م) وحدها، والنسخ الأخرى كلها: وفي الجنس ما هو مفرد. والشرح يناسب الأول حيث قال: من أقسام الجنس المفرد. وباقي المتن كان باتفاق النسخ كلها. (2) أي صدق العقل على أفراده صدق الجنس على أنواعه لا صدق النوع على أفراده حتى يصير الجوهر جنسا للعقل. (3) قال الشيخ في منطق الإشارات: وقد يكون الشئ بالقياس إلى كلي خاصة، وبالقياس إلى ما هو أخص منه عرضا عاما، فإن المشي والأكل من خواص الحيوان ومن الأعراض العامة وفي (ق): لزم التسلسل ولم جعل كل منهما - ثم إلى آخر مثل ما في (ز) - ونسخة (د) كانت نحو ما في (ز) ثم صحح مثل ما في (ش). 143 واحد لتقابلها، فإن الجنس لشئ يستحيل أن يكون فصلا لذلك الشئ أو نوعا له أو خاصة أو عرضا بالقياس إليه. قال: ولا يمكن أخذ الجنس بالنسبة إلى الفصل. أقول: لا يمكن أن يؤخذ الجنس بالنسبة إلى الفصل فيكون الجنس جنسا له كما هو جنس للنوع وإلا لم يكن فصلا (1) لاحتياجه إلى فصل يفصله عن غيره، فالوجه الذي به احتاج النوع إليه هو بعينه محتاج إلى آخر، فليس الجنس جنسا للفصل بل عرضا عاما بالنسبة إليه وإنما هو جنس باعتبار النوع. قال: وإذا نسبا إلى ما يضافان إليه كان الجنس أعم والفصل مساويا. أقول: إذا نسبنا الجنس والفصل إلى ما يضافان إليه أعني النوع كان الجنس أعم من المضاف إليه أعني النوع، لوجوب شركة الكثيرين المختلفين في الحقائق في الجنس دون النوع، وأما الفصل فإنه يكون مساويا للنوع الذي يضاف الفصل إليه بأنه فصل ولا يجوز أن يكون أعم من النوع لاستحالة استفادة التميز من الأعم. المسألة الخامسة في التشخص قال: والتشخص من الأمور الاعتبارية (2) فإذا نظر إليه من حيث هو أمر عقلي
(1) لأن الجنس حينئذ يصير مقوما للفصل أي يكون جزء لماهيته. وأيضا لزم اعتبار جزء واحد في الماهية مرتين وأنه باطل قطعا. (2) أي من الاعتباريات التي لها نفسية وواقعية، لا كالاعتباريات التي لا نفسية لها كما تحقق في البحث عن نفس الأمر، ولا يلزم من كونه ذا نفسية أن يكون صفة زائدة على الذات المتشخصة كما أن زيدا موجود جزئي خارجي مثلا وليس صفة الجزئية صفة زائدة على ذاته وهذا هو المراد من أن التشخص أمر اعتباري لا وجود له في الخارج. ثم لا يخفى عليك أن التشخص أمر زائد على الماهية في كل واحد من أشخاص تلك الماهية لأن هذه الماهية النوعية من حيث هي هي نفس تصورها غير مانع من صدقها على كثيرين، وأما الشخص فنفس تصوره مانع من الشركة ففي الشخص أمر زائد على الماهية وهو التشخص. نعم إن هاهنا دقيقة في أمر الجزئي الذهني وهي أن الصورة العلمية وإن كانت مثالية جزئية كصورة الشمس مثلا فهي من تلك الحيثية قابلة للصدق على الكثيرين من أمثالها أي الصورة العلمية كلية مطلقا، وقد تحقق البحث عن ذلك في الحكمة المتعالية وإلهيات الشفاء، فتدبر. 144 وجد مشاركا لغيره من التشخصات فيه (1) ولا يتسلسل بل ينقطع بانقطاع الاعتبار. أقول: التشخص من ثواني المعقولات ومن الأمور الاعتبارية لا من العينية (2) وإلا لزم التسلسل، ثم إذا نظر إليه من حيث هو أمر عقلي كان مشاركا لغيره من التشخصات في التشخص ولا يتسلسل ذلك بل ينقطع بانقطاع الاعتبار. وهذا كأنه جواب عن سؤال مقدر وهو أن التشخص ليس من الأمور العينية وإلا لزم التسلسل، لأن أفراد التشخصات قد اشتركت في مطلق التشخص فيحتاج إلى تشخص آخر (3) مغاير لما وقع به الاشتراك، ولا يجوز أن يكون عدميا لأفادته الامتياز ولأنه يلزم أن تكون الماهية المتشخصة (4) عدمية لعدم أحد جزئيها. والجواب أنه أمر اعتباري عقلي ينقطع بانقطاع الاعتبار. قال: أما ما به التشخص فقد يكون نفس الماهية فلا تكثر وقد يستند إلى المادة المتشخصة بالأعراض الخاصة الحالة فيها. أقول: لما حقق أن التشخص من الأمور الاعتبارية لا العينية شرع في البحث عن علة التشخص، واعلم أنه قد يكون نفس الماهية المتشخصة وقد يكون غيرها. (أما الأول) فلا يمكن أن يتكثر نوعه في الخارج فلا يوجد منه البتة إلا شخص
(1) ضمير فيه راجع إلى التشخص والظرف متعلق بقوله: مشاركا. (2) أي الخارجية. (3) وفي (م، ق) إلى مخصص آخر. (4) ففيهما الماهية المشخصة. 145 واحد، لأن الماهية علة لذلك التشخص، فلو وجدت مع غيره انفكت العلة عن المعلول هذا خلف. (وأما الثاني) فلا بد له من مادة قابلة لا تكثر فيها (1) وتلك المادة تتشخص بانضمام أعراض خاصة إليها تحل فيها مثل الكم المعين والكيف المعين والوضع المعين، وباعتبار تشخص تلك المادة تتشخص هذه الماهية الحالة فيها. قال: ولا يحصل التشخص بانضمام كلي عقلي إلى مثله (2). أقول: إذا قيد الكلي العقلي بالكلي العقلي لا يحصل الجزئية، فإنا إذا قلنا لزيد أنه انسان ففيه شركة، فإذا قلنا العالم الزاهد ابن فلان الذي تكلم يوم كذا في موضع كذا لم يزل احتمال الشركة فلا يكون جزئيا. وإنما قيد بالعقلي لأنه ليس في الخارج شركة ولا كلية. قال: والتميز يغاير التشخص ويجوز امتياز كل من الشيئين بالآخر. أقول: التشخص للشئ أنما هو في نفسه، وامتيازه أنما هو له باعتبار القياس إلى ما يشاركه في معنى كلي بحيث لو لم يشاركه غيره لما احتاج إلى مميز زائد على حقيقته مع أنه متشخص، فالتميز والتشخص متغايران ويجوز أن يمتاز كل واحد من الشيئين بصاحبه لا بامتيازه فلا دور. قال: والمتشخص قد لا تعتبر مشاركته (3) والكلي قد يكون إضافيا فيتميز والشخص المندرج تحت عام متميز.
(1) كما في (م) والنسخ الأخرى: قابلة للتكثر وتلك المادة.. الخ. (2) كلمة الكلي تطلق باشتراك اللفظ على معاني عديدة جمعناها في كتابنا ألف نكتة ونكتة والنكتة الرابعة والتسعين والثلاثمائة منها في ذلك الإطلاق. والقيد بالعقلي إما للاحتراز على الطبيعي المقابل للطبيعي والمنطقي، أو المراد منه ما يحصل في العقل ولكل منهما وجه كما في الشوارق على التفصيل. وقال القوشجي: ولم يظهر لي بعد فائدة تقييد الكلي بالعقلي. (3) والكلي قد يكون إضافيا فيتميز، فلا تشخص. والشخص المندرج تحت عام متميز، فاجتمع التشخص والتميز. 146 أقول: لما ذكر أن التشخص والتميز متغايران انتفى العموم المطلق بينهما، وذلك لأن كل واحد منهما يصدق بدون الآخر ويصدقان معا على شئ ثالث وكل شيئين هذا شأنهما فبينهما عموم من وجه أما صدق التشخص بدون التميز ففي الشخص الذي لا تعتبر مشاركته لغيره وإن كان لا بد له من المشاركة في نفس الأمر ولو في الأعراض العامة. وأما صدق التميز بدون التشخص ففي الكلي إذا كان جزئيا إضافيا يندرج تحت كلي آخر فإنه يكون ممتازا عن غيره وليس بمتشخص. وأما صدقهما على شئ واحد ففي التشخص المندرج تحت غيره إذا اعتبر اندراجه فإنه متشخص ومتميز. المسألة السادسة في البحث عن الوحدة والكثرة قال: والتشخص يغاير الوحدة. أقول: الوحدة عبارة عن كون المعقول غير قابل للقسمة من حيث هو واحد، وهو مغاير للتشخص لأن الوحدة قد تصدق على الكلي غير المتشخص، وعلى الكثرة نفسها من دون صدق التشخص عليهما. قال: وهي تغاير الوجود لصدقه على الكثير من حيث هو كثير بخلاف الوحدة، وتساوقه. أقول: قد ظن قوم أن الوجود والوحدة عبارتان عن شئ واحد لصدقهما على جميع الأشياء وهو خطأ، فإنه لا يلزم من الملازمة الاتحاد. ثم الدليل على تغايرهما أن الكثير من حيث إنه كثير يصدق عليه أنه موجود وليس بواحد، فالموجود غير الواحد من الشكل الثالث. نعم، الوحدة تساوق الوجود وتلازمه، فكل موجود فهو واحد والكثرة يصدق عليها الواحد لا من حيث هي كثرة على معنى أن الوحدة تصدق على العارض
147 أعني الكثرة لا على ما عرضت له الكثرة، وكذلك كل واحد فهو موجود إما في الأعيان أو في الأذهان فهما متلازمان. المسألة السابعة في أن الوحدة غنية عن التعريف قال: ولا يمكن تعريفها إلا باعتبار اللفظ. أقول: الوحدة والكثرة من المتصورات البديهية فلا يحتاج في تصورهما إلى اكتساب، فلا يمكن تعريفهما إلا باعتبار اللفظ بمعنى أن يبدل لفظ بلفظ آخر أوضح منه، لا أنه تعريف معنوي (1). قال: وهي والكثرة عند العقل والخيال تستويان في كون كل منهما أعرف بالاقتسام. أقول: الوحدة والكثرة عند العقل والخيال تستويان في كون كل منهما أعرف من صاحبتها بالاقتسام، فإن الوحدة أعرف (2) عند العقل والكثرة أعرف عند الخيال لأن الخيال يدرك الكثرة أولا ثم العقل ينزع منها أمرا واحدا، والعقل يدرك أعم الأمور أولا وهو الواحد ثم يأخذ بعد ذلك في التفصيل، فقد ظهر أن الكثرة والوحدة مستويتان في كون كل واحدة منهما أعرف من صاحبتها لكن بالاقتسام فإن الكثرة أعرف عند الخيال والوحدة أعرف عند العقل، فقد اقتسم العقل
(1) كما تقدم البحث عنه مفصلا في المسألة الأولى من صدر الكتاب. (2) في أول الفصل الثالث من ثالثة إلهيات الشفاء (ص 339 ط 1): يشبه أن تكون الكثرة أعرف عند تخيلنا والوحدة أعرف عند عقولنا. ويشبه أن تكون الوحدة والكثرة من الأمور التي نتصورها بديا لكن الكثرة نتخيلها أولا والوحدة نعقلها أولا والوحدة نعقلها من غير مبدأ لتصورها عقلي بل إن كان ولا بد فخيالي. وفي الحكمة المنظومة (ص 103). وسر أعرفية الأعم سنخية لذاتك الأتم ووحدة عند العقول أعرف وكثرة عند الخيال أكشف 148 والخيال وصف الأعرفية لهما، فإذا حاولنا تعريف الوحدة عند الخيال عرفناها بالكثرة، وإذا حاولنا تعريف الكثرة عند العقل عرفناها بالوحدة. المسألة الثامنة في أن الوحدة ليست ثابتة في الأعيان (1) قال: وليست الوحدة أمرا عينيا بل هي من ثواني المعقولات وكذا الكثرة. أقول: الوحدة إن كانت سلبية لم تكن سلب أي شئ كان بل سلب مقابلها أعني الكثرة، فالكثرة إن كانت عدمية كانت الوحدة عدما للعدم فتكون ثبوتية (2)، وإن كانت وجودية (3) كان مجموع العدمات (4) أمرا وجوديا وهو محال، وإن كانت ثبوتية (5) فإن كانت ثابتة في الخارج لزم التسلسل وإن كانت ثابتة في الذهن فهو المطلوب، فإذن الوحدة أمر عقلي اعتباري يحصل في العقل عند فرض عدم انقسام الملحوق وهي من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى، وكذا الكثرة لأنه لا يمكن أن تتصور وحدة أو كثرة قائمة بنفسها بل إنما تتصور عارضة لغيرها. المسألة التاسعة في التقابل بين الوحدة والكثرة قال: وتقابلهما لإضافة العلية (6) والمعلولية والمكيالية والمكيلية لا لتقابل
(1) وفي الأسفار: (ولا تصغ إلى من يقول الوحدة من الاعتبارات..) (ط 1 ج 1 ص 131). (2) أي الوحدة. (3) أي الكثرة، فالجملة عطف على قوله: إن كانت عدمية، لأن الوجود مقابل العدم. (4) أي مجموع الوحدات السلبية لأن الكلام في أن تكون الوحدة سلبيا فلا تغفل. (5) أي الوحدة، فالجملة عطف على قوله: إن كانت سلبية، لأن الثبوت مقابل السلب. (6) أقسام التقابل غير جارية بين الوحدة والكثرة وإنما التقابل بينهما بالعرض والشيخ قد بحث عن تقابل الوحدة والكثرة في سادس ثالثة إلهيات الشفاء (ص 88 - 92 ط 1) على التفصيل وبعد البيان في عدم أصناف التقابل فيهما قال: فبالحري أن تجزم أن لا تقابل بينهما في ذاتيهما ولكن يلحقهما تقابل وهو أن الوحدة من حيث هي مكيال تقابل الكثرة من حيث هي مكيل، وليس كون الشئ وحدة وكونه مكيلا شيئا واحدا بل بينهما فرق، والوحدة يعرض لها أن تكون مكيالا كما أنها يعرض لها أن تكون علة، الخ. ومعنى كون الوحدة مكيالا للكثرة أنها تفنيها مرة بعد أخرى كما أن العاد في الكم المنفصل، والمقدر في الكم المتصل كذلك إلا أن الواحد لا يكون عادا وإن كان مفنيا كما حقق في العلوم الرياضية. وستعلم أصناف التقابل في المسألة الحادية عشرة من هذا الفصل. 149 جوهري بينهما. أقول: إن الوحدة وإن كانت تعرض لجميع الأشياء حتى الكثرة نفسها لكنها لا تجامع الكثرة في موضوع واحد بالقياس إلى شئ واحد، فإن موضوع الكثرة من حيث صدق الكثرة عليه لا يمكن صدق الوحدة عليه فبينهما تقابل قطعا. إذا عرفت هذا فنقول: إنك ستعلم أن أصناف التقابل أربعة: إما تقابل السلب والإيجاب أو العدم والملكة أو التضايف أو التضاد، وليس بين الوحدة والكثرة تقابل جوهري أي ذاتي يستند إلى ذاتيهما بوجه من الوجوه الأربعة، لأن الوحدة مقومة للكثرة ومبدأ لها، وهما ثبوتيتان فليستا بسلب وإيجاب، ولا عدم وملكة، ولا متضايفتين لأن المقوم متقدم والمضايف مصاحب، ولا متضادتين لامتناع تقوم أحد الضدين بالآخر فلم يبق بينهما إلا تقابل عرضي وهو باعتبار عروض العلية والمعلولية والمكيالية والمكيلية العارضتين لهما، فإن الوحدة علة للكثرة ومكيال لها والكثرة معلولة ومكيلة، فبينهما هذا النوع من التضايف فكان التقابل عرضيا لا ذاتيا. المسألة العاشرة في أقسام الواحد (1) قال: ثم معروضهما قد يكون واحدا فله جهتان بالضرورة، فجهة الوحدة إن
(1) باتفاق النسخ كلها. 150 لم تقوم جهة الكثرة ولا تعرض لها فالوحدة عرضية، وإن عرضت كانت موضوعا أو محمولات عارضة لموضوع أو بالعكس، وإن قومت فوحدة جنسية أو نوعية أو فصلية، وقد يتغاير (1) فموضوع مجرد عدم الانقسام لا غير وحدة بقول مطلق (2) وإلا نقطة إن كان له مفهوم زائد ذو وضع، أو مفارق إن لم يكن ذا وضع، هذا إن لم يقبل القسمة وإلا فهو مقدار أو جسم بسيط أو مركب. أقول: قد بينا أن الوحدة والكثرة من المعقولات الثانية (3) العارضة للمعقولات الأولى، إذا عرفت هذا فموضوعهما أعني المعروض إما أن يكون واحدا أو كثيرا، فإن كان واحدا كانت جهة وحدته غير جهة كثرته (4) بالضرورة لاستحالة كون الشئ الواحد بالاعتبار الواحد واحدا وكثيرا، وإذا ثبت أنه ذو جهتين فإما أن تكون جهة الوحدة مقومة لجهة الكثرة أو لا، فإن لم تكن مقومة فإما أن تكون عارضة لها أو لا، فإن لم تكن عارضة فهي الوحدة بالعرض كما تقول نسبة الملك إلى المدينة كنسبة الرائس (5) إلى السفينة، وكذلك حال النفس إلى البدن (6) كحال الملك إلى المدينة فإنه ليس هناك نسبة واحدة ولا حالة واحدة
(1) عطف على قوله قد يكون واحدا، أي وقد يتغاير معروضهما. (2) وفي بعض النسخ وحدة شخصية بقول مطلق، أي وحدة هي شخص من أشخاص مفهوم الوحدة، فإن مفهوم الوحدة واحد من حيث الذات كثير من حيث الأفراد فهو غير داخل في المقسم. والمراد بقول مطلق أنها وحدة من غير إضافة إلى شئ، بأن يقال مثلا وحدة النقطة أو وحدة العقل وغير ذلك. (3) بينه في المسألة الثامنة قبيل ذلك. (4) وذلك كأفراد الانسان مثلا فإنها كثيرة من حيث أشخاصها وواحدة من حيث إنها انسان. (5) كما في (م) والباقية: كنسبة الربان، الربان بالباء الموحدة كرمان هو الفلاح ويقال له الملاح أيضا وهو بالفارسية ناخدا. وفي منتهى الإرب: ربان كرمان مهتر كشتيبان كه كشتى راند. (6) التحقيق أن حال النفس إلى البدن أرفع من نحو هذا القول، فإن البدن من حيث هو بدن مرتبة نازلة للنفس والإنسان الواحد الشخصي له مرتبة طبيعية ومرتبة مثالية ومرتبة عقلية ومرتبة لاهوتية (ما لكم لا ترجون لله وقارا × وقد خلقكم أطوارا). ثم مراد الشارح أن التدبير وهو جهة الوحدة بين النسبتين ليس مقوما ولا عارضا لأنه غير محمول عليهما، إذ المدبر هو النفس والملك لا نسبتاهما. 151 بل هما نسبتان وحالتان، فالوحدة بينهما عرضية (1). وإن كانت الوحدة عارضة للكثرة فأقسامه ثلاثة: أحدها: أن تكون موضوعا كما تقول، الانسان هو الكاتب، فإن جهة الوحدة هنا هي الانسانية وهي موضوع. الثاني: أن تكون محمولات عرضت لموضوع واحد كقولنا: الكاتب هو الضاحك، فإن جهة الوحدة ما هو موضوع لهما أعني الانسان. الثالث: أن تكون موضوعات لمحمول واحد كقولنا: القطن هو الثلج (2)، فإن جهة الوحدة هي صفة لهما أعني البياض. وأما إن كانت جهة الوحدة مقومة لجهة الكثرة فهي جنس إن كانت مقولة على كثرة مختلفة (3) بالحقائق في جواب ما هو، ونوع إن كانت الحقائق متفقة (4)، وفصل إن كانت مقولة (5) في جواب أي ما هو في جوهره. وإن كان موضوعهما كثيرا أعني يكون موضوع الوحدة شخصا واحدا فإما أن يكون ذلك الموضوع هو موضوع مجرد عدم الانقسام لا غير أعني أن يكون وجود ذلك الشخص هو أنه شئ غير منقسم وليس له مفهوم وراء ذلك وهو الوحدة نفسها (6)، أو يكون له مفهوم آخر فإن كان ذا وضع فهو النقطة وإلا فهو العقل والنفس. هذا إن لم يقبل القسمة، وإن كان الموضوع للوحدة قابلا للقسمة فإما أن تكون أجزاؤه مساوية لكله أو لا، والأول هو المقدار إن كان قبوله للانقسام لذاته وإلا فهو الجسم البسيط، والثاني الأجسام المركبة.
(1) كما في (م) والنسخ الأخرى: فالوحدة فيهما عرضية. (2) فإنهما كثير بذاتهما وواحد من حيث أنهما أبيض، فالأبيض جهة الوحدة وهو عارض ذاتي للقطن والثلج اللذين هما جهتا الكثرة. (3) كوحدة الانسان والفرس من حيث إنهما حيوان. (4) كوحدة زيد وعمرو من حيث إنهما انسان. (5) كوحدة زيد وعمرو من حيث إنهما ناطق. (6) كما سيأتي في آخر هذه المسألة من أن الوحدة قد تعرض لذاتها. 152 قال: وبعض هذه أولى من بعض بالوحدة. أقول: الواحد من المعاني المقول على ما تحته بالتشكيك فإن بعض أفراده أولى باسمه من بعض، فإن نفس الوحدة الحقيقية أولى بالواحد من العرضية، والواحد بالشخص أولى به من الواحد بالنوع، وهو أولى به من الواحد بالجنس، والوحدة من أقسام الواحد أولى به من غيرها وهذا ظاهر. قال: والهو هو على هذا النحو (1). أقول: الهو هو أن يكون للكثير من وجه وحدة من وجه، فقياس الهو هو قياس الوحدة، فكما يقال: الوحدة إما في وصف عرضي أو ذاتي كذلك الهو هو، وبالجملة أقسام الوحدة هي أقسام الهو هو لكن مع الكثرة فلا يعرض (2) للشخص الواحد بخلاف الوحدة. قال: والوحدة في الوصف (3) العرضي والذاتي تتغاير أسماؤها بتغاير المضاف إليه. أقول: الوحدة في الوصف العرضي والذاتي تتغاير أسماؤها بتغاير المضاف إليه، فإن الوصف العرضي وهو المضاف إليه الوحدة إن كان كيفا سمي مشابهة، وإن كان في الكم سمي مساواة، وإن كان في الإضافة سمي مناسبة، وإن كان في الخاصة سمي مشاكلة، وإن كان في اتحاد الأطراف سمي مطابقة، وإن كان في اتحاد وضع الأجزاء سمي موازاة، وباقي الأعراض ليس لها أسماء خاصة.
(1) الهو هو لفظ مركب جعل اسما فعرف باللام والمراد به الحمل الإيجابي بالمواطاة. (2) ضمير الفعل راجع إلى الهو هو أي لا يعرض الهو هو للشخص الواحد بخلاف الوحدة. (3) المتن والشرح مطابقان للنسخ كلها، وما في المطبوعة قد سقط منها سطر. والمراد من قوله هذا أن الشيئين المتغايرين إن اتحدا في الوصف العرضي كالثلج والعاج في البياض، أو اتحدا في الوصف الذاتي كالانسان والفرس في الحيوانية، فإن أسماء الوحدة تتغاير بتغير المضاف إليه الوحدة لأن الوحدة تضاف إلى ذلك الوصف كوحدة البياض في الأولين، ووحدة الحيوانية في الأخيرين، وغيرهما. 153 وأما الوصف الذاتي الذي تضاف إليه الوحدة أيضا إن كان في الجنس سمي مجانسة وإن كان في النوع سمي مماثلة. قال: والاتحاد محال فالهو هو يستدعي جهتي تغاير واتحاد على ما سلف (1). أقول: اتحاد الاثنين غير معقول لأنهما بعد الاتحاد إن بقيا فهما اثنان وإن عدما فلا اتحاد، وإن عدم أحدهما دون الآخر فلا اتحاد لاستحالة اتحاد المعدوم بالموجود، وليس قولنا: هو هو اتحادا مطلقا بل معناه أن الشيئين يتحدان من وجه ويتغايران من وجه، بمعنى أن الشئ الذي يقال له أحدهما يقال له الآخر. قال: والوحدة مبدأ العدد المتقوم بها لا غير (2).
(1) سلف في المسألة الثامنة والثلاثين من الفصل الأول. (2) أقول العدد إن عرف بأنه كمية تطلق على الواحد وما تألف منه قيل فيدخل الواحد فيه، وإن عرف بأنه نصف مجموع حاشيتيه - كالأربعة مثلا حيث إن حاشيتها التحتانية ثلاثة، والفوقانية خمسة فالمجموع من الحاشيتين ثمانية فالأربعة نصف مجموع هاتين الحاشيتين منها - قيل: فيخرج الواحد منه. وعرف أيضا بأنه كمية تحصل من الواحد بالتكرير أو بالتجزية حتى يشمل التعريف الكسور أيضا فهذا التعريف عندهم هو الجامع دون الأولين. ويرد على الأول بأن العدد كم منفصل والكم يقبل الانقسام، والوحدة لا تقبله. وعلى الثاني بأن الواحد أيضا نصف مجموع حاشيتيه لأن الحاشية أعم من الصحيح والكسر والواحد حاشيته التحتانية نصف، والفوقانية واحد ونصف إذ الحاشية التحتانية لكل عدد تنقص عنه بمقدار زيادة الفوقانية والمجموع من النصف والواحد والنصف اثنان فالواحد نصف مجموع حاشيتيه، فتأمل. فالحق كما قال العلامة البهائي في أول خلاصة الحساب: إن الواحد ليس بعدد وإن تألف منه الأعداد، كما أن الجوهر الفرد عند مثبتيه ليس بجسم وإن تألفت منه الأجسام، وذلك لما قلنا إن العدد لكونه كما يقبل الانقسام والوحدة لا تقبله. وفي الشفاء لم تكن الوحدة غير عدد لأنها لا انفصال فيها إلى وحدات (ج 2 ط 1 ص 441). تبصرة: قال مولانا الإمام سيد الساجدين عليه السلام في دعائه متفزعا إلى الله تعالى من الصحيفة الكاملة: لك يا إلهي وحدانية العدد. ولا يخفى على البصير لطائف كلامه ودقائق أسراره، ولعل ما في الفص الإدريسي من فصوص الحكم، وما في أوائل المرحلة الخامسة من الأسفار في بعض أحكام الوحدة والكثرة (ص 134 ج 1 ط 1) وما في علم اليقين للفيض في الوحدة والعدد وخواصه (ص 260 من الطبع الرحلي) وكذلك بعض رسائلنا كلقاء الله تعالى والوحدة في نظر العارف والحكيم يفيدك في ذلك إفادة تامة إن أخذت الفطانة بيدك. 154 أقول: هاهنا بحثان: الأول: الوحدة مبدأ العدد فإن العدد إنما يحصل منها ومن فرض غيرها من نوعها، فإنك إذا عقلت وحدة مع وحدة عقلت اثنينية، ونبه بهذا أيضا على أنها ليست عددا. الثاني: العدد أنما يتقوم بالوحدات لا غير، فليست العشرة متقومة بخمسة وخمسة ولا بستة وأربعة ولا بسبعة وثلاثة ولا بثمانية واثنين بل بالواحد عشر مرات، وكذلك كل عدد فإن قوامه من الوحدات التي تبلغ جملتها ذلك النوع وتكون كل واحدة من تلك الوحدات جزءا من ماهيته فإنه ليس تركب العشرة من الخمستين أولى من تركبها من الستة والأربعة وغيرها من أنواع الأعداد التي تحتها، ولا يمكن أن يكون الكل مقوما لحصول الاكتفاء بنوع واحد من التركيب، وإلى هذا أشار أرسطو (1) بقوله: لا تحسبن أن ستة ثلاثتان بل ستة مرة واحدة. قال: وإذا أضيف إليها مثلها حصلت الاثنينية وهي نوع من العدد ثم تحصل أنواع لا تتناهى بتزايد واحد واحد مختلفة الحقائق هي أنواع العدد. أقول: إذا أضيف إلى الوحدة وحدة أخرى حصلت الاثنينية وهي نوع من العدد - وقد ذهب قوم غير محققين إلى أن الاثنين ليس من العدد لأنه الزوج الأول، فلا يكون نوعا من العدد كالواحد الذي هو الفرد الأول. وهذا خطأ لأن خواص العدد موجودة فيه (2) وتمثيله بالواحد لا يفيد اليقين ولا الظن - فإذا انضم إليهما واحد آخر حصلت الثلاثة وهي نوع آخر من العدد، فإذا انضم آخر حصلت الأربعة وهي نوع آخر مخالف للأول، وعلى هذا كلما زاد العدد واحدا حصل نوع
(1) قاله الشيخ في الخامس من ثالثة إلهيات الشفاء بعد البحث عن حد العدد: ولهذا ما قال الفيلسوف المقدم لا تحسبن أن ستة ثلاثة وثلاثة بل هو ستة مرة واحدة (ص 340 ط 1). (2) من خواصه أنه كم منفصل والاثنان كذلك، وأنه نصف مجموع حاشيتيه والاثنان كذلك لأن حاشيته الفوقانية ثلاث والتحتانية واحدة ومجموعهما أربعة والاثنان نصفها، وأن الاثنين صحيح وجذر للأربعة، وأنه مضعف واحدة، وأنه تام، وأنه منطق. 155 آخر من العدد، وهذه الأعداد أنواع مختلفة في الحقيقة لاختلافها في لوازمها كالصمم والمنطقية (1) وأشباههما ولما كان التزايد غير متناه بل كل مرتبة يفرضها العقل يمكنه أن يزيد عليها واحدا فيحصل عدد آخر مخالف لما تقدمه بالنوع كانت أنواع العدد غير متناهية. قال: وكل واحد منها أمر اعتباري يحكم به العقل على الحقائق إذا انضم بعضها إلى بعض في العقل انضماما بحسبه. أقول: كل واحد من أنواع العدد أمر اعتباري ليس بثابت في الأعيان بل في الأذهان يحكم به العقل على الحقائق كأفراد الانسان أو الفرس (2) أو الحجر أو غيرها إذا انضم بعض تلك الأفراد إلى البعض سواء اتحدت في الماهية أو اختلفت فيها، بل يؤخذ مجرد الانضمام في العقل انضماما بحسب ذلك النوع من العدد، فإنه إذا انضم واحد إلى واحد حصل اثنان ولو انضمت حقيقة مع حقيقة مع ثالثة حصلت الثلاثة وهكذا. وإنما لم يكن العدد ثابتا في الخارج لأنه لو كان كذلك لكان عرضا قائما بالمحل لاستحالة جوهريته واستقلاله في القيام بنفسه لأنه لا يعقل إلا عارضا لغيره فذلك الغير إما أن تكون له وحدة باعتبارها يحل فيه العرض الواحد أو لا
(1) إعلم أن العدد إما مطلق أو مضاف، والأول يسمى الصحيح لأنه غير مضاف إلى غيره، والثاني يقابله لأن الجزء يضاف إلى ما فرض واحدا له ولذلك سمي كسرا. والمطلق إن كان له أحد الكسور التسعة أو جذر فمنطق - بالفتح - وإلا فأصم. والجذر هو العدد المضروب في نفسه كالثلاثة فإنها إذا ضربت في نفسه حصلت منه تسعة فيسمى الثلاثة جذرا والتسعة مجذورا. وإنما سمي منطقا لنطقه بكسره أو جذره، وأصم لعدم نطقه بأحدهما. والمنطق إن ساوى أجزاؤه فتام كالستة فإن لها نصفا وثلثا وسدسا أي الثلاثة والاثنان والواحد ومجموعها ستة، وسمي تاما لتمامية عدده بالنسبة إلى أجزائه. وإن زاد عليها فناقص كالثمانية فإن لها نصفا وربعا وثمنا ومجتمعها سبعة، سمي ناقصا لنقصان أجزائه منه. وإن نقص عنها فزائد كالاثني عشر فإن له نصفا وربعا وثلثا وسدسا ومجموعها خمسة عشر، سمي زائدا لزيادة أجزائه عنه. (2) تمثيل للحقائق. 156 يكون، فإن كان الأول فتلك الوحدة إن وجدت في الآحاد لزم قيام العرض الواحد بالمحال المتعددة، وإن قام بكل واحد وحدة على حدته لم يكن لذلك المجموع وحدة باعتبارها يكون محلا للعدد وقد فرض خلافه، وإن كان الثاني فالعدد إما أن يكون موجودا في كل واحد من الأجزاء أو في أحدها، وعلى التقديرين يكون الواحد عددا هذا خلف. قال: والوحدة قد تعرض لذاتها ومقابلها وتنقطع بانقطاع الاعتبار. أقول: قد بينا (1) أن الوحدة والكثرة من ثواني المعقولات، فالوحدة تعرض لكل شئ يفرض العقل فيه عدم الانقسام حتى أنها تعرض لنفس الوحدة فيقال وحدة واحدة، لكن تنقطع بانقطاع الاعتبار وتعرض الوحدة أيضا لما يقابلها فيقال كثرة واحدة. قال: وقد تعرض لها شركة فتتخصص بالمشهوري وكذا المقابل. أقول: الذي يفهم من هذا الكلام (2) أن الوحدة قد تعرض لها الشركة مع غيرها من الوحدات في مفهوم عدم الانقسام أعني مفهوم مطلق الوحدة، وذلك إذا أخذت الوحدات متخصصة بموضوعاتها، فإن وحدة زيد تشارك وحدة عمرو في مفهوم كونها وحدة، وحينئذ تتخصص كل وحدة عن الأخرى بما تضاف إليه، فإن وحدة زيد تتخصص عن وحدة عمرو بإضافتها إلى زيد، وزيد هو المضاف المشهوري لأنه واحد بالوحدة، والوحدة مضاف حقيقي فإن الوحدة وحدة للواحد والواحد واحد بالوحدة، وذات الواحد مضاف مشهوري أعني ذات زيد وعمرو وغيرهما، فإذا أخذت الوحدة مضافة إلى زيد تخصصت وامتازت عن وحدة عمرو. وكذلك مقابل الوحدة أعني الكثرة فإن عشرية الأناسي (3) مساوية لعشرية
(1) بينه في ثامنة هذا الفصل. (2) قال في الشوارق: هذا أحسن ما قيل في توجيه المتن (ص 178 ط 1 ج 1). (3) إنس بالكسر مردم، أنسي بالتحريك وإنسي يكى، أناسي بالتشديد والتخفيف وأناسية وأناس جمع (منتهى الإرب). 157 الأفراس في مفهوم العشرية والكثرة، وإنما تتمايزان بالمضاف إليه - أعني الأناسي والأفراس - وهما المضافان المشهوريان. وقد يمكن أن يفهم من هذا الكلام أن مجرد الوحدة - أعني نفس عدم الانقسام - أمر مشترك بين كل ما يطلق عليه الواحد فليس واحدا حقيقيا، أما الذات التي يصدق عليها أنها واحدة - أعني المشهوري - فإنها ممتازة عن غيرها فهي أحق باسم الواحد فيخصص المشهوري بالواحد الحقيقي وكذا البحث في الكثرة، والأول أنسب. قال: وتضاف إلى موضوعها (1) باعتبارين وإلى مقابلها بثالث وكذا المقابل. أقول: أقرب ما يمكن أن يفسر به هذا الكلام أن الوحدة وحدة للواحد أعني الموضوع لها الذي تقوم الوحدة به فلها إضافة بهذا الاعتبار وهي عرض قائم بالموضوع فلها إضافة الحلول، وهاتان إضافتان عرضتا لها بالنسبة إلى موضوعها وتعرض لها إضافة ثالثة بالنسبة إلى ما يقابلها أعني الكثرة وهي نسبة التقابل. ومثل هذا النسب الثلاث تعرض لمقابل الوحدة أعني الكثرة. المسألة الحادية عشرة في البحث عن التقابل قال: ويعرض له ما يستحيل عروضه لها من التقابل. أقول: يعني به أن المقابل للوحدة - أعني الكثرة - يعرض له ما يستحيل عروضه للوحدة وهو التقابل، فإن التقابل لا يمكن أن يعرض للواحد وإنما يعرض للكثير من حيث هو كثير، ومفهوم التقابل هو عدم الاجتماع في شئ واحد في
(1) وفي (ت) وحدها: وتضاف إلى معروضها، والنسخ الأخرى كلها: وتضاف إلى موضوعها. وقد مضى في أول هذه المسألة كلام الشارح في تفسير الموضوع بالمعروض حيث قال: إذا عرفت هذا فموضوعهما أعني المعروض، بل كان عبارة الماتن هناك المعروض أيضا حيث قال: ثم معروضهما قد يكون واحدا.. الخ. 158 زمان واحد من جهة واحدة. قال: المتنوع إلى أنواعه الأربعة (1) أعني السلب والإيجاب وهو راجع (2) إلى القول والعقد، والعدم والملكة وهو الأول مأخوذا باعتبار خصوصية ما، وتقابل الضدين وهما وجوديان ويتعاكس هو وما قبله في التحقيق والمشهورية، وتقابل التضايف. أقول: ذكر الحكماء أن أصناف التقابل أربعة، وذلك لأن المتقابلين إما أن يكون أحدهما وجوديا والآخر عدميا، أو يكونا وجوديين، ولا يمكن أن يكونا عدميين لعدم التقابل بين الأمور العدمية، إذ السلب المطلق أنما يقابله الايجاب إما مطلق أو خاص، ولا يقابله سلب مطلق لأنه نفسه، ولا سلب خاص لأنه جزئي تحته والسلب الخاص إنما يقابله إيجاب خاص، لا سلب مطلق لأنه جزئي له ولا سلب خاص لأن مقابليهما (3) إن لم يتقابلا فظاهر أنهما لا يتقابلان، وكذلك إن
(1) المتنوع مجرور صفة للتقابل، وكل واحد من السلب والإيجاب والعدم والملكة وتقابل الضدين وتقابل التضايف منصوب بقوله: أعني. ثم الظاهر من شرح الشارح أنه جعل القول والعقد مترادفين. وفي مصنفات القوم فسر القول بالوجود اللفظي، والعقد بالوجود الذهني فالعقد بمعنى المعتقد. ونقل صاحب الشوارق العقل باللام بدل العقد بالدال ثم فسر القول بالوجود اللفظي، والعقل بالوجود الذهني. وفي غوص القضايا من اللآلي المنظومة: والعقد والقضية ترادفا إذ ارتباطا واعتقادا صادفا وقال في الشرح: والمقصود أن العقد الذي يطلق على القضية إما بمعنى الربط أو بمعنى الاعتقاد وكل منهما يناسب القضية، إنتهى. ثم إطلاق القول على القضية سائر في عبارات القوم وفي هذا الغوص من اللآلي أيضا: أن القضية لقول محتمل للصدق والكذب وطار ما أخل. ثم إن النسخ كلها كانت العبارة كما اخترناه إلا نسخة (ت) ففيها: في التحقيق والمشهوري، ثم كتبت فوق المشهوري والمشهورية خ ل. (2) والحق أن التقابل بحسب الإيجاب والسلب لا يختص بالقضايا بل جار فيهما وفي المفردات أيضا كما حقق في أول الفصل السادس من المرحلة الخامسة من الأصفار (ط 1 - ج 1 - ص 136). (3) أي مقابل السلب الخاص الأصل، ومقابل السلب الخاص المقابل له. توضيح هذا الكلام أن السلب الخاص لا يقابله سلب خاص، مثلا أن عدم الناطق لا يقابله عدم الانسان، وكذلك عدم الفرس لا يقابله عدم البقر، وذلك لأن مقابليهما أي مقابل السلب الخاص الأصل، ومقابل السلب الخاص المقابل للأصل إن لم يتقابلا كالمثال الأول حيث إن عدم الانسان سلب خاص مقابل لسلب خاص آخر وهو عدم الناطق ومقابلاهما وهما الانسان والناطق لم يتقابلا كما لا يخفى، فالظاهر أنهما أعني السلب الخاص الأصل والسلب الخاص المقابل له لا يتقابلان كما هو ظاهر، لأن نقيض المتساويين متساويان. وكذلك إن تقابلا - أي تقابل مقابلا السلبين الخاصيين الأصل والمقابل، كالمثال الثاني حيث إن الفرس مقابل للبقر والفرس والبقر مقابلا السلبين الخاصين - لا يتقابلان أيضا لصدقهما معا أي لصدق السلب الخاص الأصل والسلب الخاص المقابل له معا على غير المتقابلين، المتقابلان الفرس والبقر مثلا وغيرهما كل ما كان غيرهما مثلا يصدق على الإبل بأنه عدم الفرس كما يصدق عليه بأنه عدم البقر الذي كان مقابلا لعدم الفرس. 159 تقابلا لصدقهما معا على غير المتقابلين، وهذا كله ظاهر. إذا ثبت هذا فنقول: المتقابلان إما أن يؤخذا باعتبار القول والعقد، أو بحسب الحقائق أنفسها، والأول هو تقابل السلب والإيجاب كقولنا: زيد كاتب، زيد ليس بكاتب. والثاني إما أن يكون أحدهما عدميا أو يكونا وجوديين، والأول هو تقابل العدم والملكة وهو يقارب تقابل السلب والإيجاب، لكن الفرق بينهما أن السلب والإيجاب في الأول مأخوذ باعتبار مطلق والثاني مأخوذ باعتبار شئ واحد. واعلم أن الملكة هو وجود الشئ في نفسه والعدم هو انتفاء تلك الملكة عن شئ من شأنه أن يكون له كالعمى والبصر. وإن كانا وجوديين فإن عقل أحدهما بالقياس إلى الآخر فهو تقابل التضايف كالأبوة والبنوة وإلا فهو تقابل التضاد كالسواد والبياض. واعلم أن تقابل التضاد يعاكس تقابل العدم والملكة في التحقيق والمشهورية، وذلك لأن الضدين في المشهور (1) يطلقان على كل وجوديين متقابلين لا يعقل
(1) هذا التفسير منه للضدين في المشهور هاهنا ليس بسديد، والحق ما قاله في شرحه على منطق التجريد للمصنف الموسوم بالجوهر النضيد من أن تقابل الضدين يطلق في المشهور على معنى وفي التحقيق على معنى آخر. أما في المشهور فيطلق الضدان على كل أمرين ينسبان إلى موضوع واحد ولا يمكن أن يجتمعا فيه سواء كانا وجوديين أو أحدهما، وسواء اندرجا تحت جنس قريب أو لا كما يجعلون الذكورة ضد الأنوثة، وأما بحسب التحقيق مصطلح الحكماء فيطلق الضدان على كل وجوديين بينهما غاية التباعد بشرط اندراجهما تحت جنس قريب يصح منهما أن يتعاقبا على موضوع واحد وارتفاعهما معا عنه، وكذلك المصنف في أساس الاقتباس والمتأله الشيرازي في الأسفار وغيرهم في غيرها من الكتب المنطقية والحكمية. 160 أحدهما بالقياس إلى الآخر وفي التحقيق على أخص من ذلك وهو أن يقيد ما ذكر بأن يكون بينهما غاية التباعد، فالسواد والحمرة ضدان بالمعنى الأول لا الثاني. وأما تقابل العدم والملكة فيطلق العدم فيه بحسب التحقيق على عدم شئ عن شئ وبحسب الشهرة على معنى أخص من ذلك وهو أن يقيد الشئ بأن يكون نوعا أو جنسا قريبا أو بعيدا على اختلاف التفسير، فيقال: هو عدم شئ عما من شأنه أن يكون له بحسب نوعه أو جنسه القريب، فعدم البصر عن الحائط عدم ملكة بحسب المعنى الأول وسلب بالمعنى الثاني، فقد ظهر أن تقابل الضدين بحسب التحقيق أخص منه بحسب الشهرة، وتقابل العدم والملكة بالعكس. قال: ويندرج تحته الجنس (1) باعتبار عارض. أقول: لما بين انقسام التقابل إلى الأنواع الأربعة حتى صار كالجنس لها (2)
(1) المراد من الجنس التقابل، وضمير تحته راجع إلى التضايف، يعني أن التقابل مع أنه جنس لأنواعه الأربعة ومنها التضايف، فهو أحد أنواع التضايف أيضا باعتبار آخر فجنس النوع صار نوعا لنوعه ونوعه صار جنسا له، وكم له من نظير باعتبار طرو الحيثيات على المعاني. ثم لا يخفى على البصير المتدرب بأسلوب الكلام أن قول الماتن: التقابل المتنوع إلى أنواعه الأربعة صريح بأن التقابل جنس أو كالجنس لتلك الأربعة، وأن الضمير في أي موطن كان ينظر إلى المرجع القريب إلا أن يدل دليل على خلافه، فالمعنى بالجنس التقابل، والمراد بالضمير في تحته التضايف كما أن الشارح حمله على هذا النمط وكذلك صاحب الشوارق إلا أن القوشجي أرجع الضمير إلى التقابل وفسر الجنس بالتضايف، ثم قال ما قال وبعد ذلك نقل التفسير الذي قاله الشارح ثم أورد عليه، وصاحب الشوارق أجابه وشنع عليه بأنه أخطأ في الجواب، فراجع الكتابين حتى تجد الصواب في البين. (2) أتى بالكاف تنبيها على أن التقابل ليس جنسا على الحقيقة لما تحته بوجه من الوجوه، وقد دل عليه الشيخ بقوله: وذلك لأن المتضايف ماهيته أنه معقول بالقياس إلى غيره، ثم يلحق هذه الماهية أن يكون مقابلا ليس أنها يتقوم بهذا فإنه ليس هذا من المعاني التي يجب أن يتقدم في الذهن أولا حتى يتقرر في الذهن أن الشئ ماهيته مقولة بالقياس إلى غيره بل إذا صار الشئ متضايفا لزم في الذهن أن يكون على صفة التقابل، فالذاتية بشرائطها غير موجودة بين التقابل وبين الأشياء التي هي كالأنواع للتقابل، إنتهى. ثم إن صاحب الشوارق بعد نقل كلام الشيخ المذكور قال: أتى الشيخ بالتضايف على سبيل التمثيل لجريانه في التضاد وغيره ويدل عليه قول المصنف أيضا ومقوليته عليها بالتشكيك لما سيأتي من نفي التشكيك في الذاتيات وسواء في ذلك الاعتباريات وغيرها، إنتهى. وقول الفخر الرازي على ما نقله القوشجي من أنا نعقل ماهية المتضايفين وإن لم يخطر ببالنا امتناع اجتماعهما وذلك يعرفنا عدم تقوم المتضايفين، بالتقابل مأخوذ من دليل الشيخ كما لا يخفى. ثم إن المحقق الماتن قال في أساس الاقتباس (ص 58 ط 1) بعبارة أوضح وأوجز ما هذا لفظه: وحمل تقابل بر أين أقسام نه چون حمل اأناس بود چه ماهيت بعضي بي تعقل تقابل معقول است بل چون لوازم بود. 161 ذكر أن مطلق التقابل يندرج تحت أحد أنواعه أعني التضايف، فإن التقابل من حيث هو تقابل نوع من التضايف، وذلك لأن المقابل لا يعقل إلا مقيسا إلى غيره لكن باعتبار عروض التقابل، فإن المقابل لا من هذه الحيثية قد لا يكون مضايفا فإن ذات السواد وذات البياض لا باعتبار التقابل ليسا من المتضايفين، فإذا اخذ السواد مقابلا للبياض كان نوعا من المضاف المشهوري، فقد ظهر أن الجنس أعني المقابل من حيث هو مقابل يندرج تحت التضايف باعتبار عروض التقابل ولا استبعاد في أن يكون الشئ أخص أو مساويا من نوعه باعتبار عارض يعرض له. قال: ومقوليته عليها بالتشكيك وأشدها فيه الثالث (1).
(1) قد أصاب العبارة في سائر النسخ تحريف فاحش، حيث حرف فيها الثالث بالسلب أو السالب. الصواب الثالث بدل السلب أو السالب بلا دغدغة كما في (ت)، أي الثالث من أنواع التقابل الأربعة في العبارة المتقدمة وهو تقابل الضدين، على أن السلب لا يوافق شرح العلامة الحلي أيضا لأنه قال: فإن تقابل الضدين أشد في التقابل من تقابل السلب والإيجاب، وبعد ذلك قال: وقيل إن تقابل السلب والإيجاب أشد من تقابل التضاد. ثم إن تقابل الضدين أشد لأن محلهما في الاتصاف بأحدهما يفتقر إلى سلب الآخر ويستلزمه وهو - أي ثبوت الضد - أخص من السلب دون العكس، لأن السلب لا يستلزم الضد، فهو - أي ثبوت الضد - أشد في العناد للآخر من سلبه، فالضدان فيهما سلب ضمي مع كونهما في غاية الخلاف، ولذلك كان أشدها في التقابل الثالث. وفي الأصفار (ط 1 - ج 1 - ص 135): (إعلم أن مقولية التقابل على أقسامه بالتشكيك، وأشدها في بابه السلب والإيجاب). 162 أقول: التقابل يقال على أصنافه الأربعة لا بالسوية بل بالتشكيك، فإن تقابل الضدين أشد في التقابل من تقابل السلب والإيجاب، وذلك لأن ثبوت الضد يستلزم سلب الآخر وهو أخص منه دون العكس فهو أشد في العناد للآخر من سلبه. وقيل: إن تقابل السلب والإيجاب أشد من تقابل التضاد، لأن الخير لذاته خير وهو ذاتي وأنه ليس بشر وأنه عرضي، واعتقاد أنه شر يرفع العرضي وأنه ليس بخير يرفع الذاتي، فيكون منافاة السلب أشد. قال: ويقال للأول تناقض ويتحقق في القضايا بشرائط ثمان. أقول: تقابل السلب والإيجاب إن أخذ في المفردات كقولنا: زيد لا زيد، فهو تقابل العدم والملكة، وإن أخذ في القضايا سمي تناقضا كقولنا: زيد كاتب، زيد ليس بكاتب، وهو إنما يتحقق في القضايا بثمان شرائط: الأول: وحدة الموضوع فيهما، فلو قلنا: زيد كاتب، عمرو ليس بكاتب، لم تتناقضا وصدقتا معا. الثاني: وحدة المحمول، فلو قلنا: زيد كاتب، زيد ليس بنجار، لم تتناقضا وصدقتا معا. الثالث: وحدة الزمان، فلو قلنا: زيد موجود الآن، زيد ليس بموجود أمس، أمكن صدقهما. الرابع: وحدة المكان، فلو قلنا: زيد موجود في الدار، زيد ليس بموجود في السوق، أمكن صدقهما. الخامس: وحدة الإضافة، فلو قلنا: زيد أب أي لخالد، زيد ليس بأب أي لعمرو، أمكن صدقهما. السادس: وحدة الكل والجزء، فلو قلنا: الزنجي أسود أي بعضه، الزنجي ليس
163 بأسود أي ليس كل أجزائه كذلك، أمكن صدقهما. السابع: وحدة الشرط، فلو قلنا: الأسود قابض للبصر (1) أي بشرط السواد، الأسود ليس بقابض للبصر أي لا بشرط السواد، أمكن صدقهما. الثامن: وحدة القوة والفعل، فلو قلنا: الخمر في الدن مسكر بالقوة، الخمر في الدن ليس بمسكر بالفعل، لم تتناقضا وصدقتا معا. قال: هذا في القضايا الشخصية، أما المحصورة فبشرط تاسع وهو الاختلاف فيه فإن الكلية ضد (2)، والجزئيتان صادقتان. أقول: إعلم أن القضية إما شخصية أو مسورة أو مهملة، وذلك لأن الموضوع إن كان شخصيا كزيد سميت القضية شخصية، وإن كان كليا يصدق على كثيرين فإما أن يتعرض للكلية والجزئية فيه أو لا، والأول هو القضية المسورة كقولنا: كل انسان حيوان، بعض الانسان حيوان، لا شئ من الانسان بحجر، بعض الانسان ليس بكاتب. والثاني هو المهملة كقولنا: الانسان ضاحك، وهذه في قوة الجزئية فالبحث عن الجزئية يغني عن البحث عنها. إذا عرفت هذا فنقول: الشرائط الثمان كافية في القضية الشخصية، أما المحصورة فلا بد فيها من شرط تاسع وهو الاختلاف في الكم، فإن الكليتين متضادتان لا تصدقان، ويمكن كذبهما كقولنا: كل حيوان انسان، لا شئ من الحيوان بانسان، والجزئيتان قد تصدقان كقولنا: بعض الحيوان انسان، بعض
(1) لو ذكر المثال هكذا - كما في سائر الكتب -: الجسم مفرق للبصر بشرط كونه أبيض، وليس بمفرق بشرط كونه أسود، لكان أولى. (2) كما في النسخ كلها إلا نسخة (ت) ففي هامشها: فإن الكلية ضد الكلية وكأن تعليقة أدرجت في المتن، وذلك لأن الكلام في تناقض القضايا، وصرح بأن شرطه في المحصورة الاختلاف ومع الاختلاف لا يصدق الضدية، فهذا قرينة بينة في أن المراد من قوله الكلية ضد هو أن الكلية ضد الكلية فلا حاجة إلى ذكرها مع بناء الرسالة على الإيجاز. 164 الحيوان ليس بانسان، أما الكلية والجزئية فلا يمكن صدقهما البتة ولا كذبهما كقولنا: كل انسان حيوان، بعض الانسان ليس بحيوان، فهما المتناقضان. قال: وفي الموجهات عاشر وهو الاختلاف فيها (1) بحيث لا يمكن اجتماعهما صدقا ولا كذبا. أقول: لا بد في القضايا الموجهة من الاختلاف في الجهة بحيث لا يمكن صدقهما معا ولا كذبهما، ونعني بالجهة كيفية القضية من الضرورة والدوام، والإمكان والأطلاق فإنهما لو لم يختلفا في الجهة أمكن صدقهما أو كذبهما كالممكنتين فإنهما تصدقان مع الشرائط التسع كقولنا: بعض الانسان كاتب بالإمكان، لا شئ من الانسان بكاتب بالإمكان، وكالضرورتين فإنهما تكذبان كقولنا: بعض الانسان بالضرورة كاتب، لا شئ من الانسان بالضرورة كاتب، وليس مطلق الاختلاف في الجهة كافيا في التناقض ما لم يكن اختلافا لا يمكن اجتماعهما معه، فإن الممكنة والمطلقة المتخالفتين كما وكيفا لا تتناقضان كما قلنا في الممكنتين، أما الممكنة والضرورية إذا اختلفتا كما وكيفا فإنهما تتناقضان وكذا المطلقة والدائمة. قال: وإذا قيد العدم بالملكة في القضايا سميت معدولة وهي تقابل الوجودية (2) صدقا لا كذبا لإمكان عدم الموضوع فيصدق مقابلاهما. أقول: لما ذكر حكما من أحكام التناقض شرع في بيان حكم من أحكام تقابل العدم والملكة، وهو أن العدم إذا اعتبر في القضايا سميت القضية معدولة وهو ما يتأخر فيها حرف السلب عن الربط كقولنا: زيد هو ليس بكاتب، وهي تقابل
(1) قد حرفت العبارة في سائر النسخ بهذه الصورة: وهو الاختلاف أيضا بحيث. ولكن الصواب: وهو الاختلاف فيها بحيث، كما اخترناه في المتن موافقا لنسخة (ت) وضمير فيها راجع إلى الجهة بقرينة الموجهات، كما في الشرح وكما أن العبارة السابقة وهو الاختلاف فيه راجع إلى الحصر بقرينة المحصورة. (2) أي الموجبة المعدولة تقابل الموجبة المحصلة. 165 الوجودية في الصدق لامتناع صدق الكتابة وعدمها على موضوع واحد في وقت واحد من جهة واحدة، ويجوز كذبهما معا عند عدم الموضوع، وإذا كذبا حينئذ صدق مقابل كل واحد منهما فيصدق مقابل الموجبة المعدولة وهي السالبة المعدولة، ومقابل الموجبة المحصلة وهي السالبة المحصلة لإمكان صدق السلب في الطرفين عن الموضوع المنفي. قال: وقد يستلزم الموضوع أحد الضدين بعينه أو لا بعينه، أو لا يستلزم شيئا منهما عند الخلو أو الاتصاف بالوسط (1). أقول: هذه أحكام التضاد وهي أربعة: الأول أن أحد الضدين بعينه قد يكون لازما للموضوع كسواد القار، وقد لا يكون فإما أن يكون أحدهما لا بعينه لازما للموضوع كالصحة والمرض للبدن، أو لا يكون فإما أن يخلو عنهما معا كالفلك الخالي عن الحرارة والبرودة أو يتصف بالوسط كالفاتر (2). قال: ولا يعقل للواحد ضدان. أقول: هذا حكم ثان للتضاد وهو أنه لا يعرض (3) بالنسبة إلى شئ واحد إلا لواحد فلا يضاد الواحد الاثنين لأن الواحد إذا ضاد اثنين فإما بجهة واحدة أو بجهتين، فإن كان بجهة واحدة فهو المطلوب وهو أن ضد الواحد واحد هو ذلك القدر المشترك بينهما، وإن كان بجهتين كان ذلك وجوها من التضاد لا وجها واحدا وليس البحث فيه. قال: وهو منفي (4) عن الأجناس. أقول: هذا حكم ثالث للتضاد وهو أنه منفي عن الأجناس ولا ينتقض بالخير
(1) أي أو عند الاتصاف بالوسط. (2) وهو المتوسط بين الحرارة والبرودة. (3) هذا الدليل بأسره خلاصة ما ذكره الشيخ في إلهيات الشفاء وكذا الحكمان الاتيان (ج 2 ط 1 ص 425 وص 551). (4) أي التضاد منفي عنها. وقال الشارحان صاحب الشوارق والقوشجي: إن مستند هذا الحكم والحكم الآتي وهو قوله: ومشروط في الأنواع باتحاد الجنس، هو الاستقراء. 166 والشر لأنهما ليسا جنسين (1) ولا ضدين من حيث ذاتيهما بل تقابلهما من حيث الكمالية والنقص. قال: ومشروط في الأنواع باتحاد الجنس. أقول: هذا حكم رابع للتضاد العارض للأنواع وهو اندراج تلك الأنواع تحت جنس واحد أخير ولا ينتقض بالشجاعة والتهور (2) لأن تقابلهما من حيث الفضيلة والرذيلة العارضتين لا من حيث ذاتيهما. قال: وجعل الجنس والفصل واحد (3). أقول: الجنس والفصل في الخارج شئ واحد لأنه لا يعقل حيوانية مطلقة موجودة بانفرادها انضمت إليه الناطقية فصارت انسانا بل الحيوانية في الخارج هي الناطقية فوجودهما واحد، وهذه قاعدة قد مضى تقريرها، والذي يخطر لنا أن الغرض بذكرها هاهنا الجواب عن إشكال يورد على اشتراط دخول الضدين تحت جنس واحد، وتقريره أن كل واحد من الضدين قد اشتمل على جنس وفصل والجنس لا يقع به التضاد لأنه واحد فيهما، فإن وقع التضاد فإنما يقع بالفصول لكن الفصول لا يجب اندراجها تحت جنس واحد وإلا لزم التسلسل، فلا تضاد حقيقي في النوعين بل في الفصلين الذين لا يجب دخولهما تحت جنس واحد. وتقرير الجواب أن الفصل والجنس واحد في الأعيان، وإنما يتميزان في العقل فجعلاهما واحد هو النوع فكان التضاد عارضا في الحقيقة للأنواع لا للفصول الاعتبارية، لأن التضاد إنما هو في الوجود لا في الأمور المتعلقة، فهذا ما فهمته من هذا الكلام ولعل غيري يفهم منه غير ذلك.
(1) لأنا قد نعقل الأشياء التي يطلق عليها الخير أو الشر مع الذهول عن كونها خيرات أو شرورا وقد تقدم آنفا توضيح ذلك تفصيلا عن الشيخ والطوسي. (2) بأن يقال: إنهما ضدان مع كونهما تحت جنسين هما الفضيلة والرذيلة. (3) قد تقدم في المسألة الرابعة من هذا الفصل أيضا حيث قال: وجعلاهما واحد، ثم إن العبارة في (م ت ص) منصوبة هكذا: وجعل الجنس والفصل واحدا بالنصب والباقية بالرفع. والظاهر أن الرفع صواب. 167 الفصل الثالث في العلة والمعلول قال: كل شئ يصدر عنه أمر (1) إما بالاستقلال أو الانضمام فإنه علة لذلك
(1) أورد عليه المحقق الشريف بأن هذا التعريف بظاهره لا يتناول غير الفاعلية، إذ لا صدور من غير الفاعلية فالأولى أن تعرف بالاحتياج فيقال: العلة ما يحتاج إليه أمر. قال صاحب الشوارق: إنما قال بظاهره لإمكان تأويل الصدور إلى الاحتياج كما يشعر به أيضا قوله: فالأولى، ثم حمل الصدور على معنى عام حتى يجري في العلل كلها، ثم قال: لا بأس بالتعريف، لأن قوله: بالانضمام يشمل العلل الثلاث أيضا، ثم قال: أو يكون التعريف للفاعلية ويفهم غيرها منه بالمقايسة. أقول: الأمر الأهم في المقام هو أن يعلم أن العلة والمعلول بمعناهما المتعارف في الأذهان لا يجري على الأول تعالى وآياته التي هي مظاهر أسمائه التي هي شؤون ذاته الصمدية التي لا جوف لها، وأن التمايز بين الحق سبحانه وبين الخلق ليس تمايزا تقابليا، بل التمايز هو تميز المحيط عن المحاط بالتعين الإحاطي والشمول الاطلاقي الذي هو الوحدة بمعناها الحقيقي، بل إطلاق الوحدة من باب التفخيم وهذا الإطلاق الحقيقي الإحاطي حائز للجميع ولا يشذ عن حيطته شئ فهو الكمال الحقيقي وهو سبحانه محيط بكل شئ لأنه الحي القيوم أي القائم لذاته والمقيم لغيره لا أنه محيط على كل شئ فقط. فيجب تلطيف السر في معنى الصدور والتميز بين الحق والخلق وكون العلة والمعلول على النحو المعهود المتعارف في الأذهان السافلة ليس على ما ينبغي بعز جلاله وعظموته سبحانه وتعالى. وبالجملة، يجب الوصول إلى نيل التوحيد القرآني حتى يعلم أن البينونة بين العلة ومعلولها في المقام ليست عزلية بل وصفية بمعنى سلب السلوب والحدود والنواقص عنه تعالى حتى يعلم أن إطلاق العلة والمعلول في المقام على ضرب من التوسع في التعبير أرفع وأشمخ من المعنى المعهود. 168 الأمر والأمر معلول له. أقول: لما فرغ من البحث عن لواحق الماهية شرع في البحث عن العلة والمعلول لأنهما من لواحق الماهية وعوارضها وهما من الأمور العامة أيضا، ونفس اعتبار العلية والمعلولية من المعقولات الثانية ومن أنواع المضاف. وفي هذا الفصل مسائل: المسألة الأولى في تعريف العلة والمعلول وهما وإن كانا من المتصورات القطعية لكن قد يعرض اشتباه ما فيذكر على سبيل التنبيه والتمييز ما يزيل ذلك الاشتباه، فإذا فرضنا صدور شئ عن غيره كان الصادر معلولا والمصدور عنه علة سواء كان الصدور على سبيل الاستقلال كما في العلل التامة (1)، أو على سبيل الانضمام كجزء العلة، فإن جزء العلة شئ يصدر عنه أمر آخر لكن لا على سبيل الاستقلال فهو داخل في الحد. المسألة الثانية في أقسام العلة قال: وهي فاعلية ومادية وصورية وغائية. أقول: العلة هي ما يحتاج الشئ إليه، وهي إما أن تكون جزءا من المعلول أو خارجة عنه، والأول إما أن يكون جزءا يحصل به الشئ بالفعل أو بالقوة والأول الصورة والثاني المادة، وإن كانت خارجة فإما أن تكون مؤثرة أو يقف التأثير عليها فالأول فاعل والثاني غاية. المسألة الثالثة في أحكام العلة الفاعلية قال: فالفاعل مبدأ التأثير وعند وجوده بجميع جهات التأثير يجب وجود المعلول.
(1) هكذا في النسخ الأصيلة المعتبرة على صورة الجمع، وفي بعض النسخ جاءت الكلمة بالإفراد أي العلة التامة. 169 أقول: الفاعل هو المؤثر والغاية ما لأجله الأثر والمادة والصورة جزءاه (1) وإذا وجد المؤثر بجميع جهات التأثير وجب وجود المعلول، لأنه لو لم يجب لجاز وجود الأثر عند وجود الجهات بأجمعها وعدمه، فتخصيص وقت الوجود به إما أن يكون لأمر زائد أو لا يكون، فإن كان الأول لم يكن المؤثر المفروض أولا تاما هذا خلف، وإن كان الثاني لزم ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال. قال: ولا تجب مقارنة العدم. أقول: ذهب قوم إلى أن التأثير أنما يكون لما سبق بالعدم وهو على الإطلاق غير سديد، بل المؤثر إن كان مختارا (2) وجب فيه ذلك لأن المختار أنما يفعل بواسطة القصد وهو أنما يتوجه إلى شئ معدوم وإن كان موجبا لم يجب فيه ذلك. قال: ولا يجوز بقاء المعلول بعده (3) وإن جاز في المعد. أقول: ذهب قوم غير محققين (4) إلى أن احتياج الأثر إلى المؤثر أنما هو آن حدوثه، فإذا أوجد الفاعل الفعل استغني الفعل عنه فجاز بقاؤه بعده، وتمثلوا في ذلك بالبناء الباقي بعد الباني (5) وغيره من الآثار وهو خطأ، لأن علة الحاجة وهي الإمكان ثابتة بعد الإيجاد فثبتت الحاجة والبناء ليس علة مؤثرة في وجود البناء الباقي، وإنما حركته علة لحركة الأحجار ووضعها على نسبة معينة، ثم بقاء الشكل
(1) أي جزءا الأثر الذي هو معلول. (2) وقد تقدم الكلام فيه في المسألة الرابعة والأربعين من الفصل الأول. (3) أي بعد الفاعل في قوله: فالفاعل مبدأ التأثير. (4) وأما قول المحققين فقد تقدم في المسألة التاسعة والعشرين من الفصل الأول من أن علة احتياج الأثر إلى مؤثره هو الإمكان لا غير. (5) وكذا بالابن الباقي بعد الأب وبالسخونة الباقية بعد النار، وقالوا: لو جاز على الباري العدم لما أضر عدمه بقاء العالم، وشنع عليهم الشيخ في كتابي الإشارات والشفاء. أما الإشارات فقد تقدم نقل كلامه منه في تلك المسألة المذكورة، وأما كلامه في الشفاء فيطلب في الثاني من سادسة الإلهيات (ص 524 ج 2 ط 1). 170 معلول لأمر آخر. هذا في العلل الفاعلية، أما العلل المعدة فإنها تعدم وإن كانت معلولاتها موجودة كالحركة المعدة للوصول والحرارة. قال: ومع وحدته يتحد المعلول (1).
(1) يعني مع وحدة الفاعل الذي هو مبدأ التأثير يتحد المعلول، ويعبرون عنه بأن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد. والشيخ في الإشارات وسم هذا المطلب بالتنبيه حيث قال في الفصل الحادي عشر من خامس الإشارات: تنبيه مفهوم أن علة ما يجب عنها - أ - غير مفهوم أن علة ما بحيث يجب عنها - ب - الخ. وقال المحقق الماتن في شرحه عليه: يريد بيان أن الواحد الحقيقي لا يوجب من حيث هو واحد إلا شيئا واحدا بالعدد وكان هذا الحكم قريب من الوضوح، ولذلك وسم الفصل بالتنبيه وإنما كثرت مدافعة الناس إياه لإغفالهم معنى الوحدة الحقيقية. أقول: وللراقم في هذا المقام من شرحه على الإشارات تعليقة هي العمدة والأصل في بيان صدور الواحد عن المبدأ الأول الواحد الأحدي الصمدي سبحانه وتعالى فعليك بالغور فيها وهي ما يلي: إن هذه المسألة أي الواحد الأحدي لا يصدر عنه إلا واحد من أمهات المسائل الفلسفية وقد تعاضد العقل والنقل فيها فإنه تحقق عن الشرع أول ما خلق الله العقل، ثم إن لهذه المسألة الرصينة شأنا آخر أجل وأدق مما ذكر في هذا الكتاب وأترابه، وقد برهن في الحكمة المتعالية والصحف العرفانية، والوصول إلى إدراك حقيقته يحتاج إلى تلطيف سر وتدقيق فكر وتجريد نظر. وذلك الشأن هو الفرق بين أول ما صدر وبين أول ما خلق، فإن أول ما خلق هو العقل والخلق هو التقدير فالعقل هو تعين تقديري من التعينات التقديرية، وهذا التعين شأن من شؤون الصادر الأول ونقش من نقوشه وكلمة من كلماته العليا، وبتعبير آخر على نحو توسع في التعبير أن هذا التعين عارض على مادة الممكنات وتلك المادة هو الوجود المطلق بمعنى نفس الرحمن لا الوجود المطلق الحق الأحدي المنزه عن هذا الإطلاق. والصادر الأول هو الوجود المنبسط الساري في الممكنات ومنها العقل. فأول ما خلقه الله تعالى هو العقل، وأما أول ما صدر عنه تعالى فهو الوجود المنبسط الذي هو مادة العقل ومادة جميع الممكنات. وفي آخر نصوص الصدر القونوي: والحق سبحانه وتعالى من حيث وحدة وجوده لم يصدر عنه إلا واحد لاستحالة إظهار الواحد وإيجاده من حيث كونه واحدا ما هو أكثر من واحد، لكن ذلك الواحد عندنا هو الوجود العام المفاض على أعيان المكونات وما وجد منها وما لم يوجد مما سبق العلم بوجوده، وهذا الوجود مشترك بين القلم الأعلى الذي هو أول موجود المسمى أيضا بالعقل الأول وبين سائر الوجودات، الخ. فراجع في تلك الغاية القصوى إلى المرحلة السادسة من الحكمة المتعالية أعني الأسفار في العلة والمعلول، سيما الفصل المعنون بقوله في الكشف عما هو البغية القصوى. وقد شرح هذا الفصل الحكيم الإلهي آقا علي المدرس في بدائع الحكم (ص 184)، وهكذا إلى الأسفار (ج 1 ص 193 ط 1) والى المقام الخامس من مصباح الأنس لابن الفناري في شرح مفتاح الغيب (ص 69 ط 1) ورسالتنا الفارسية الموسومة بوحدت از ديدگاه عارف وحكيم تجديك في المقام جدا، والله سبحانه ولي التوفيق. 171 أقول: المؤثر إن كان مختارا (1) جاز أن يتكثر أثره مع وحدته، وإن كان موجبا ذهب الأكثر إلى استحالة تكثر معلوله باعتبار واحد، وأقوى حججهم أن نسبة المؤثر إلى أحد الأثرين مغايرة لنسبته إلى الآخر، فإن كانت النسبتان جزئيه (2) كان مركبا وإلا تسلسل. وهي عندي ضعيفة (3) لأن نسبة التأثير والصدور تستحيل أن تكون وجودية
(1) المؤثر الأول سبحانه وتعالى مختار باتفاق المتألهين في التوحيد، والفاعل الموجب هو المبدأ الطبيعي أعني الأصول الأزلية المادية التي هي أجزاء لا تتجزأ وجواهر فردة على ما ذهب إليه القائلون بها في تكون صورة العالم ولم يتفوه حكيم إلهي بأن الواجب سبحانه فاعل موجب، كما لم يذهب إلى جواز صدور الكثرة عن الواحد بالوحدة الحقة الحقيقية لبراءته عن الحيثيات الكثيرة، ومع ذلك كله يقول بسيط الحقيقة كل الأشياء، فافهم. (2) كلمة جزئيه على التثنية المضافة إلى الضمير. (3) كذا قال رحمه الله في كشف الفوائد في شرح قواعد العقائد للمصنف قدس سره حيث قال الخواجة: ويكون مقدوره عند الحكماء بلا توسط شيئا واحدا والباقي بتوسط، قال الشارح: أقول: ذهب الأوائل إلى أن الله تعالى يفعل بذاته لا بتوسط شئ آخر واحدا لا أزيد والباقي بتوسط ذلك الصادر عنه، لأنه تعالى واحد من كل جهة والواحد من كل جهة لا يصدر عنه شيئان، لأن مفهوم صدور الأول عنه مغاير لمفهوم صدور الثاني. وهذان المفهومان إن كانا مقومين لزم تركيب واجب الوجود فلا يكون واجبا، وكذا إن كان أحدهما داخلا. وإن كانا خارجين كان مفهوم صدور أحدهما عنه غير مفهوم صدور الآخر ويتسلسل. ثم قال ردا عليهم: وهذا الكلام في غاية السقوط، لأن مفهوم الصدور اعتباري لا تحقق له في الخارج وإلا لزم التسلسل ويلزم امتناع اتصاف البسيط بأكثر من واحد لأن مفهوم اتصافه بأحد الشيئين مغاير لمفهوم اتصافه بالآخر وامتناع سلب شيئين عن واحد (ص 44 ط 1). وكذا في كتابه المسمى نهج المسترشدين الذي شرحه الفاضل المقداد وسمى ذلك الشرح إرشاد الطالبين حيث قال في النهج: ويمكن استناد معلولين إلى علة بسيطة إلى آخر ما قال. والفاضل المقداد بعد ما نقل مذهب الحكماء قال على مذهب العلامة: والجواب - يعني الجواب عن الحكماء - من وجهين: الأول من حيث النقض وهو أنا نمنع القسمة وحصرها فإن ذلك أنما يتم على تقدير كون الصدورين موجودين في الخارج، فيقال فيهما إما أن يكونا داخلين أو خارجين، إلى آخر الكلام. وأما إذا كانا مفهومين ذهنيين لا تحقق لهما في الخارج فإنا نختار حينئذ أنهما خارجان ولا يلزم التسلسل لعدم احتياجهما إلى العلة. ثم قال: ثم المصنف - يعني صاحب النهج - استدل على كون الصدور أمرا اعتباريا لا وجود له في الخارج فإنه لو كان موجودا في الخارج لزم التسلسل واللازم باطل فكذا الملزوم. بيان الملازمة أنه لا جائز أن يكون واجبا لاستحالة تعدد الواجب، واستحالة كونه عرضا فيكون ممكنا فيكون له صدور وننقل الكلام إلى صدوره ونقول فيه كما قلنا في الأول فيلزم التسلسل. الثاني من حيث المعارضة وهي هنا نقض إجمالي وذلك من وجهين (الأول) أنه يلزم أن لا يصدر عن ذلك البسيط شئ أصلا، وذلك لأنكم تسلمون صدور أمر واحد عن تلك العلة البسيطة، وحينئذ نقول: ذلك الواحد له صدور فيكون مغايرا للعلة ولذلك الواحد لكونه نسبة إليهما فإما أن يكون داخلا في العلة أو خارجا، فمن الأول يلزم التركيب، ومن الثاني يلزم التسلسل. (الثاني) أنه لو صح ما ذكرتم لزم أن لا يسلب من الواحد أكثر من واحد، وأن لا يتصف إلا بشئ واحد. أما الأول فلأن سلب (ا) عن (ج) مغاير لسلب (ب) عنه، لأنا نعقل أحد السلبين ونغفل عن الآخر فإما أن يكونا داخلين أو خارجين إلى آخره. وأما الثاني فلأن اتصاف (ا) ب (ب) غير اتصافه ب (ج) وهما أيضا مغايران لما قلنا فإما أن يكونا داخلين أو خارجين - إلى آخر الكلام - ويلزم ما قلتم، إنتهى (ص 86 ط 1). أقول: إن السنخية بين الفاعل وفعله مما لا يعتريه ريب ولا يتطرق إليه شائبة دغدغة ويعبرون عنها بالسنخية بين العلة ومعلولها وكل فعل يصدر من فاعله على جهة خاصة فيه وإلا يلزم صدور كل شئ عن كل شئ وظهور كل أثر عن كل شئ وهو كما ترى، فإن صدر عن فاعل أثران فلا شك أن فيه جهتين صدر كل واحد منهما عن كل واحدة منهما. وهذه الجهة هي الحيثية الواقعية المتحققة في ذات الفاعل وهو مبدأ صدور الأثر ومنشأ ظهوره والأمر الاعتباري المحض الذي يفرض في الذهن فرضا بلا واقع أنى له شأنية الاصدار. فما قالوا في صدور الكثرة عن الواحد محقق في الفاعل ذي الحيثيات النفس الأمرية لا الفاعل الصمد الذي هو الأول والآخر والظاهر والباطن. وحيث علمنا وأيقنا بأن نضد الكلمات الإلهية على نظم أتم وأحسن فلا يصدر من فاعلها القيوم إلا واحد هو نور مرشوش ورق منشور، ثم تصور بصور الكثرة غير المتناهية الأشرف فالأشرف نزولا والأخس فالأخس صعودا على وفق علمه العنائي الذي هو عين ذاته، والكثرات مرايا آياته ومظاهر أسمائه وصفاته. ثم إن كلام الخواجة ليس إلا في صدور الفعل عن فاعله وأما إن كان الفاعل واجب الوجود لذاته فهو غير مصرح في كلامه، فتأمل. 172 وإلا لزم التسلسل، وإذا كانت من الأمور الاعتبارية استحالت هذه القسمة عليها. قال: ثم تعرض الكثرة (1) باعتبار كثرة الإضافات. أقول: لما بين أن العلة الواحدة لا يصدر عنها إلا معلول واحد لزم أن تكون الموجودات بأسرها في سلسلة واحدة بحيث يكون أي موجود فرضته علة لأي موجود فرضته أو معلولا له إما قريبة أو بعيدة فلا يوجد شيئان يستغني أحدهما عن الآخر والوجود يكذب هذا فأوجبوا وقوع كثرة في المعلول الأول غير حقيقية بل إضافية يمكن أن يتكثر بها التأثير، قالوا: لأن المعلول الأول بالنظر إلى ذاته ممكن وبالنظر إلى علته واجب وله ماهية ووجود مستفاد من فاعله وهو يعقل ذاته لتجرده ويعقل مبدأه، وهذه جهات كثيرة إضافية يقع بها التكثر ولا تثلم وحدته ويصدر عنه باعتبار كل جهة شئ. وهذا الكلام عندنا في غاية السقوط، لأن هذه الجهات لا تصلح للتأثير (2)
(1) إشارة إلى جواب ما قاله المتكلمون من أنه لو لم يصدر عن الواحد إلا الواحد لما يصدر عن المعلول الأول إلا واحد هو الثاني، وعنه واحد هو الثالث وهلم جرا، فيكون الموجودات سلسلة واحدة طولية فكيف ظهرت الكثرات العرضية. (2) هذا الاعتراض أورده الفخر الرازي أيضا. والحق أن الفاعل في الوجود هو الحق سبحانه وتلك الجهات هي شؤون ظهور آثاره. وما قالوه من أن العقل يعقل ذاته لتجرده ويعقل مبدأه فليس عقلا مباينا وموجودا متمايزا عن فاعله سبحانه وإلا كان الواجب واحدا بالعدد وهو سبحانه في السماء إله وفي الأرض إله وقيوم لهما وله ما في السماوات والأرض بالملكية الحقيقية التي يعبرون عنها بالإضافة النورية الاشراقية. نعم لو تفوه بأن الماهيات متأصلة في تحققها، أو الموجودات حقائق متمايزة متباينة لكان الاعتراض واردا ولكن الأمر أرفع من تأصلها رأسا وأشمخ من تباينها أصلا. والحكم على التوحيد الصمدي محكم غاية الإحكام. 174 لأنها أمور اعتبارية ومساوية لغيرها ولا تكون شروطا فيه. قال: وهذا الحكم ينعكس على نفسه (1).
(1) النسخ كلها على نفسه إلا (ت) فهي: إلى نفسه. يعني أن قولنا مع وحدته يتحد المعلول ينعكس على نفسه أي مع وحدة المعلول تتحد العلة، أي كما أنه لا يصدر عن الواحد إلا الواحد كذلك لا يصدر الواحد إلا عن الواحد. واعلم أن كلا من الأصل والعكس مستدل على حياله فلا إشكال على عكسه إلى نفسه في الظاهر. وهذا مثل أن يقال على مبنى الحكمة المتعالية: أن كل عاقل معقول وأن كل معقول عاقل، فإنهما حكمان برهن كل واحد منهما في محله لا أن الحكم الثاني استفيد من العكس فيقال: أن الموجبة الكلية لا تنعكس كنفسها. لا بأس بنقل كلام كامل رصين من الماتن المحقق في الرد على زعم الفخر الرازي تأييدا للمرام وتسديدا للحكم المبحوث عنه في الصدور في المقام قال في شرح الفصل الحادي عشر من خامس حكمة الإشارات: إن الفاضل الشارح - يعني به الفخر الرازي - عارض به دليل الحكماء بأن الواحد قد يسلب عنه أشياء كثيرة كقولنا: هذا الشئ ليس بحجر وليس بشجر، وقد يوصف بأشياء كثيرة كقولنا: هذا الرجل قائم وقاعد، وقد يقبل أشياء كثيرة كالجوهر للسواد والحركة، ولا شك في أن مفهومات سلب تلك الأشياء عنه واتصافه بتلك الأشياء وقبوله لتلك الأشياء مختلفة ويعود التقسيم المذكور حتى يلزم أن يكون الواحد لا يسلب عنه إلا واحد ولا يوصف إلا بواحد ولا يقبل إلا واحدا. وأجاب الخواجة عنه بأن سلب الشئ عن الشئ واتصاف الشئ بالشئ وقبول الشئ للشئ أمور لا تتحقق عند وجود شئ واحد لا غير فإنه لا يلزم الشئ الواحد من حيث هو واحد بل يستدعي وجود أشياء فوق واحدة تتقدمها حتى يلزم تلك الأمور لتلك الأشياء باعتبارات مختلفة وصدور الأشياء الكثيرة عن الأشياء الكثيرة ليس بمحال. بيانه أن السلب يفتقر إلى ثبوت موصوف وصفة والقابلية إلى قابل ومقبول أو إلى قابل وشئ يوجد المقبول فيه واختلاف المقبول كالسواد والحركة يفتقر إلى اختلاف حال القابل فإن الجسم يقبل السواد من حيث ينفعل عن غيره ويقبل الحركة من حيث يكون له حال لا يمتنع خروجه عنها. وأما صدور الشئ عن الشئ أمر يكفي في تحققه فرض شئ واحد هو العلة وإلا لامتنع استناد جميع المعلولات إلى مبدأ واحد. لا يقال: الصدور أيضا لا يتحقق إلا بعد تحقق شئ يصدر عنه وشئ صادر، لأنا نقول: الصدور يطلق على معنيين: أحدهما: أمر إضافي يعرض للعلة والمعلول من حيث يكونان معا وكلامنا ليس فيه. والثاني: كون العلة بحيث يصدر عنه المعلول وهو بهذا المعنى متقدم على المعلول ثم على الإضافة العارضة لهما وكلامنا فيه، وهو أمر واحد إن كان المعلول واحدا. وذلك الأمر قد يكون هو ذات العلة بعينها إن كانت العلة علة لذاتها، وقد يكون حالة تعرض لها إن كانت علة لا لذاتها بل بحسب حالة أخرى أما إذا كان المعلول فوق واحد فلا محالة يكون ذلك الأمر مختلفا ويلزم منه التكثر في ذات العلة، إنتهى. ثم إن في المقام مباحثات أخرى رأينا الذب عنها أجدر وإن شئت فراجع الأسفار (ج 7 ط 2 ص 219). 175 أقول: يريد بذلك أن مع وحدة المعلول تتحد العلة وهو عكس الحكم الأول، فلا يجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان بالتأثير لأنه بكل واحد منهما واجب مستغن عن الآخر فيكون حال الحاجة إليهما مستغنيا عنهما هذا خلف. قال: وفي الوحدة النوعية لا عكس. أقول: إذا كانت العلة واحدة بالنوع كان المعلول كذلك ولا يجب من كون المعلول واحدا بالنوع كون العلة كذلك فإن الأشياء المختلفة تشترك في لازم واحد كاشتراك الحركة والشمس والنار في السخونة لأن المعلول يحتاج إلى مطلق العلة وتعين العلة جاء من جانب العلة لا المعلول. قال: والنسبتان من ثواني المعقولات (1) وبينهما مقابلة التضايف.
(1) إعلم أن صاحب الشوارق جعل قوله: والنسبتان إلى قوله: تتكافى النسبتان مسألة ثالثة فقال: هذه المسألة في أحوال العلة مطلقا سواء كانت تامة أو غير تامة مع معلولها: فمنها: أن العلية والمعلولية من الأمور الغير المتأصلة في الخارج على ما قاله والنسبتان.. الخ. ومنها: أن بينهما مقابلة التضايف، ومنها أنهما قد يجتمعان.. الخ. ومنها: أنهما أي العلة والمعلولة لا يتعاكسان فيهما أي في العلية والمعلولية، وهذا المعنى يقال له الدور وهذه الأحكام كلها ضرورية. ومنها: أنه لا يجوز الترتيب بينهما إلى غير النهاية ويقال له التسلسل، وإليه أشار بقوله: ولا يتراقى.. الخ. وقد احتج على بطلانه بوجوه: الأول قوله لأن كل واحد.. الخ، والثاني برهان التطبيق.. الخ. 176 أقول: يعني أن نسبة العلية والمعلولية من المعقولات الثانية لاستحالة وجود شئ في الأعيان هو مجرد علية أو معلولية وإن كان معروضهما موجودا وبينهما مقابلة التضايف فإن العلة علة المعلول، والمعلول معلول العلة وقد نبه بقوله: وبينهما مقابلة التضايف على امتناع كون الشئ الواحد بالنسبة إلى شئ واحد علة ومعلولا، وهو الدور المحال، لأن كونه علة يقتضي الاستغناء والتقدم وكونه معلولا يقتضي الحاجة والتأخر فيكون الشئ الواحد مستغنيا عن الشئ الواحد متقدما عليه، ومحتاجا إليه متأخرا عنه هذا خلف. قال: وقد يجتمعان في الشئ الواحد بالنسبة إلى أمرين لا يتعاكسان فيهما. أقول: قد تجتمع نسبة العلية والمعلولية في الشئ الواحد بالنسبة إلى أمرين فيكون علة لأحد الشيئين ومعلولا للآخر كالعلة المتوسطة فإنها معلولة العلة الأولى، وعلة المعلول الأخير لكن بشرط أن لا يكون ذانك الأمران يتعاكسان في النسبتين بأن تكون العلة الأولى معلولة للمعلول الأخير والمعلول الأخير علة لها وإلا جاء الدور المحال. المسألة الرابعة في إبطال التسلسل قال: ولا يتراقى (1) معروضاهما في سلسلة واحدة إلى غير النهاية، لأن كل واحد منها (2) ممتنع الحصول بدون علة واجبة، لكن الواجب بالغير ممتنع أيضا
(1) في نسخ (ص، ق، ش): ولا يترامى، بالميم على وضوح. (2) قال صاحب الشوارق: هذا إشارة منه إلى طريقة مخترعة له مشهورة عنه وهي أن الممكن لا يجب لذاته وما لا يجب لذاته لا يكون له وجود وما لم يكن له وجود لا يكون لغيره عنه وجود، فلو كانت الموجودات بأسرها ممكنة لما كان في الوجود موجود فلا بد من واجب لذاته فقد ثبت واجب الوجود وانقطع السلسلة أيضا. ثم قال: وهذه الطريقة حسنة حقة مستقيمة خفيفة المؤونة ومبناها على مقدمة ظاهرة جدا وهي أن الشئ ما لم يمتنع جميع أنحاء عدمه لم يجب وجوده، ثم أخذ في تقرير الطريقة ببيان مبسوط. وأقول: قوله: وهذه الطريقة حسنة حقة مستقيمة.. الخ تعريضات على ما في الشرح أعني كشف المراد من قوله وفي هذا الوجه عندي نظر. ولعل وجه نظره ما قاله القوشجي في الشرح: من يجوز ذهاب سلسلة الممكنات إلى غير النهاية يقول: كل منها يجب بغيره ويوجد بغيره ولا ينتهي إلى ما هو واجب بذاته، فدعوى أنه لا بد من وجود علة واجبة لذاتها مصادرة. ثم يجب أن يعتقد أو يلاحظ في هذه الوجوه من الأدلة أن سلسلة الممكنات الموجودة بالفعل معا قائمة بذاتها لا بد أن تنتهي إلى واجب قائم لذاته مقيم لغيره أي الوجود القيوم ومع التوجه إلى هذا الأصل القويم كان النظر فيه غير مستقيم، وتعليله بالمصادرة عليل. 177 فيجب وجود علة لذاتها هي طرف. أقول: لما أبطل الدور شرع في إبطال التسلسل، وهو وجود علل ومعلولات في سلسلة واحدة غير متناهية، ونبه على الدعوى بقوله: ولا يتراقى معروضاهما يعني معروض العلية والمعلولية في سلسلة واحدة إلى غير النهاية واحتج عليه بوجوه: الأول أن كل واحد من تلك الجملة ممكن وكل ممكن ممتنع حصوله بدون علته الواجبة فكل واحد من تلك الآحاد ممتنع حصوله بدون علته الواجبة ثم تلك العلة الواجبة إن كانت واجبة لذاتها فهو المطلوب لانقطاع السلسلة حينئذ، وإن كانت واجبة بغيرها كانت ممكنة لذاتها فكانت مشاركة لباقي الممكنات في امتناع الوجود بدون العلة الواجبة فيجب وجود علة واجبة لذاتها هي طرف السلسلة فتكون السلسلة منقطعة، وفي هذا الوجه عندي نظر. قال: وللتطبيق بين جملة قد فصل منها آحاد متناهية وأخرى لم تفصل منها. أقول: هذا هو الوجه الثاني من الوجوه الدالة على امتناع التسلسل وهو المسمى ببرهان التطبيق وهو دليل مشهور، وتقريره أنا إذا أخذنا جملة العلل والمعلولات إلى ما لا يتناهى ووضعناها جملة ثم قطعنا منها جملة متناهية ثم أطبقنا إحدى الجملتين بالأخرى بحيث يكون مبدأ كل واحدة من الجملتين
178 واحدا، فإن استمرتا إلى ما لا يتناهى كانت الجملة الناقصة مثل الزائدة هذا خلف، وإن انقطعت الناقصة تناهت ويلزم تناهي الزائدة لأن ما زاد على المتناهي بمقدار متناه فهو متناه. قال: ولأن التطبيق باعتبار النسبتين (1) بحيث يتعدد كل واحد منها باعتبارهما يوجب تناهيهما لوجوب ازدياد إحدى النسبتين على الأخرى من حيث السبق. أقول: هذا وجه ثالث وهو راجع إلى الثاني وهو برهان التطبيق لكن على نحو آخر استخرجه المصنف رحمه الله مغاير للنحو الذي ذكره القدماء، وتقريره أنا إذا أخذنا العلل والمعلولات سلسلة واحدة غير متناهية فإن كل واحد من تلك السلسلة علة باعتبار ومعلول باعتبار، فيصدق عليه النسبتان باعتبارين ويحصل له التعدد
(1) أي نسبة العلية ونسبة المعلولية. واعلم أن طريق هذا البرهان أن تعزل المعلول المحض من السلسلة إذا كان التسلسل في جانب العلل كما هو ظاهر هذا الشرح وصريح الشوارق والأسفار، أو العلة المحضة إذا كان التسلسل في جانب المعلولات كما أن القوشجي أقام البرهان بهذا الوجه أيضا، ثم تجعل كلا من الآحاد التي فوقه على الأول أو تحتها على الثاني متعددا باعتبار وصفي العلية والمعلولية، فيلزم زيادة وصف العلية على الأول والمعلولية على الثاني فتنقطع السلسلتان. فقوله: من حيث السبق، أي من حيث وجوب سبق العلية على المعلولية، أو بالعكس على الوجهين المذكورين في طريق العزل وكان الكلام في تناهي معروضي العلية والمعلولية، فلا تغفل. وهذا الوجه كما أفاده الشارح راجع إلى الثاني وقد استخرجه المصنف من برهان التطبيق، ثم الظاهر من قول الشارح ولا يحتاج في تطابقهما إلى توهم تطبيق، أنه ناظر إلى كون هذا البرهان أقل مؤونة من برهان التطبيق كما يستفاد من الشوارق حيث قال: وهذا البرهان أقل مؤونة من برهان التطبيق لأنه مستغن عن توهم تطبيق كل واحد من آحاد إحدى السلسلتين بواحد من آحاد السلسلة الأخرى كما احتاج إليه برهان التطبيق وذلك لكونهما متطابقتين بلا تعمل من الوهم. وكذلك هو أتم فائدة منه لأنه يجري في المتعاقبات أيضا دون برهان التطبيق. واعلم أن العزل إن أختص بالمعلول الأخير فقط كان المراد من إحدى النسبتين هي النسبة بالعلية كما في الأسفار والشوارق وكان المراد من السبق السبق بالعلية، وإن لم يختص به كان قوله: إحدى النسبتين جاريا على العلة والمعلول كليهما، وكذلك السبق. 179 باعتبار النسبتين، فإن الواحد من تلك السلسلة (1) من حيث إنه علة مغاير له من حيث إنه معلول، فإذا أطبقنا كل ما صدق عليه نسبة المعلولية على كل ما صدق عليه نسبة العلية واعتبرت هذه السلسلة من حيث كل واحد منها علة تارة ومن حيث كل واحد منها معلول أخرى كانت العلل والمعلولات المتباينات بالاعتبار متطابقتين في الوجود ولا يحتاج في تطابقهما إلى توهم تطبيق، ومع ذلك يجب أن تكون العلل أكثر من المعلولات من حيث إن العلل سابقة على المعلولات في طرف المبتدأ، فإذن المعلولات قد انقطعت قبل انقطاع العلل، والعلل الزائدة عليها إنما زادت بمقدار متناه فتكون الجملتان متناهيتين. قال: ولأن المؤثر في المجموع إن كان بعض أجزائه كان الشئ مؤثرا في نفسه وعلله ولأن المجموع له علة تامة وكل جزء ليس علة تامة إذ الجملة لا تجب به وكيف تجب الجملة بشئ هو محتاج إلى ما لا يتناهى من تلك الجملة. أقول: هذا وجه (2) رابع على إبطال التسلسل، وتقريره أنا إذا فرضنا جملة
(1) دليل لحصول التعدد. (2) هذا الوجه هو ما ذكره الشيخ في الفصل الثاني عشر من رابع الإشارات وقد صدره بالتنبيه. وكذا ذكره في الفصل السادس عشر من المبدأ والمعاد، وكلام الشارح هنا قريب مما ذكره الشيخ فيه فلا بأس بما أتى به في المبدأ والمعاد توضيحا للمراد، قال: فصل في أنه لا يمكن أن يكون لكل ممكن الوجود علة معه ممكنة إلى غير نهاية: وقبل ذلك فإنا نقدم مقدمات، فمن ذلك أنه لا يمكن أن يكون في زمان واحد لكل ممكن الذات علل ممكنة الذات بلا نهاية، وذلك لأن جميعها إما أن يكون موجودا معا وإما أن لا يكون موجودا معا. فإن لم يكن موجودا معا لم يكن الغير المتناهي في زمان واحد ولكن واحد قبل الآخر أو بعد الآخر وهذا لا نمنعه. وأما أن يكون موجودا معا (1) ولا واجب وجود فيها فلا يخلو إما أن تكون تلك الجملة بما نهي تلك الجملة واجبة الوجود بذاتها، أو ممكنة الوجود في ذاتها. فإن * 1 - قوله: وأما أن يكون موجودا معا.. الخ هذا المطلب الجسيم كان مرادنا في قولنا آنفا من أنه يجب أن يلاحظ أن سلسلة الممكنات الموجودة بالفعل معا.. الخ. كانت واجبة الوجود بذاتها وكل واحد منها ممكن الوجود يكون الواجب الوجود يتقوم بممكنات الوجود، هذا محال، وأما إن كانت ممكنة الوجود بذاتها فالجملة محتاجة في الوجود إلى مفيد الوجود. فإما أن يكون خارجا منها أو داخلا فيها. فإن كان داخلا فيها فإما أن يكون كل واحد واجب الوجود - وكان كل واحد منها ممكن الوجود - هذا خلف. وإما أن يكون ممكن الوجود فيكون هو علة للجملة ولوجود نفسه لأنه أحد الجملة. وما ذاته كافية في أن توجد ذاته فهو واجب الوجود، وكان ليس واجب الوجود هذا خلف. فبقي أن يكون خارجا عنها، ولا يجوز أن يكون علة ممكنة، فإنا جمعنا كل علة ممكنة الوجود في هذه الجملة، فهي إذا خارجة عنها وواجبة الوجود بذاتها، فقد انتهت الممكنات إلى علة واجبة الوجود فليس لكل ممكن علة ممكنة معه. إنتهى ما أفاده في المبدأ والمعاد. 180 مترتبة من علل ومعلولات إلى ما لا يتناهى، فتلك الجملة من حيث هي جملة ممكنة لتركبها من الآحاد الممكنة وكل ممكن له مؤثر فلتلك الجملة مؤثر فإما أن يكون المؤثر هو نفس تلك الجملة وهو محال لاستحالة كون الشئ مؤثرا في نفسه، وإما أن يكون خارجا عنها والخارج عن جملة الممكنات واجب فتنقطع السلسلة وإما أن يكون جزءا من تلك الجملة وهذا محال وإلا لزم كون الشئ مؤثرا في نفسه وفي علله التي لا تتناهى وذلك من أعظم المحالات. وأيضا فإن المجموع لا بد له من علة تامة وكل جزء ليس علة تامة إذ الجملة لا تجب به وكل جزء لا يصلح أن يكون علة تامة للمجموع، وكيف تجب الجملة بجزء من أجزائها وذلك الجزء محتاج إلى ما لا يتناهى من تلك الجملة. المسألة الخامسة في متابعة المعلول للعلة في الوجود والعدم قال: وتتكافى النسبتان في طرفي النقيض. أقول: الذي يفهم من هذا الكلام أن نسبة العلية مكافئة لنسبة المعلولية في طرفي الوجود والعدم بالنسبة إلى معروضيهما على معنى أن نسبة العلية إذا صدقت
181 على معروض ثبوتي كانت نسبة المعلولية صادقة على معروض ثبوتي وبالعكس، وإذا صدقت نسبة العلية على معروض عدمي صدقت نسبة المعلولية على معروض عدمي وبالعكس وذلك يتم بتقرير مقدمة هي أن عدم المعلول أنما يستند إلى عدم العلة لا غير، وبيانه أن عدم المعلول لا يستند إلى ذاته وإلا لكان ممتنعا لذاته هذا خلف، بل لا بد له من علة إما وجودية أو عدمية، والأول باطل لأن عند وجود تلك العلة الوجودية إن لم يختل شئ من أجزاء العلة المقتضية لوجود المعلول، ولا من شرائطها لزم وجود المعلول نظرا إلى تحقق علته التامة، وإن اختل شئ من ذلك لزم عدم المعلول فيكون عدم المعلول مستندا إلى ذلك العدم لا غير. وإذا تقررت هذه المقدمة فنقول: العلة الوجودية يجب أن يكون معلولها وجوديا لأنه لو كان عدميا لكان مستندا إلى عدم علته على ما قلنا لا إلى وجود هذه العلة، والمعلول الوجودي يستند إلى العلة الوجودية لا العدمية لأن تأثير المعدوم في الموجود غير معقول. المسألة السادسة في أن القابل لا يكون فاعلا قال: والقبول والفعل متنافيان مع اتحاد النسبة لتنافي لازميهما. أقول: ذهب الأوائل إلى أن الشئ الواحد لا يكون قابلا وفاعلا لشئ واحد، وعبر عنه المصنف بقوله: القبول والفعل متنافيان يعني لا يجتمعان بل يتنافيان لكن مع اتحاد النسبة يعني أن يكون المفعول الذي تقع نسبة الفعل إليه هو بعينه المقبول الذي تقع نسبة القبول إليه لتنافي لازميهما وهو الإمكان والوجوب وذلك لأن نسبة القابل إلى المقبول نسبة الإمكان (1)، ونسبة الفاعل إلى المفعول نسبة
(1) كما في (ص) وفي (م، ق، ش) نسبة إمكان. ويأتي قوله في المسألة الأولى من الفصل الرابع من المقصد الثاني في شرح قول الماتن: (وأدلة وجوده مدخولة) على تعريف الإمكان باتفاق النسخ كلها حيث يقول: لأن نسبة القبول نسبة الإمكان ونسبة الفاعل نسبة الوجوب. 182 الوجوب فلو كان الشئ الواحد مقبولا لشئ ومعلولا له أيضا لزم أن تكون نسبة ذلك الشئ إلى فاعله بالوجوب والإمكان هذا خلف. المسألة السابعة في نسبة العلة إلى المعلول قال: وتجب المخالفة بين العلة والمعلول (1) إن كان المعلول محتاجا لذاته إلى تلك العلة وإلا فلا. أقول: العلة إن كان معلولها محتاجا لماهيته إليها وجب كونها مخالفة لها لاستحالة تأثير الشئ في نفسه، وإن كانت علة لشخصيتها (2) كتعليل إحدى النارين بالأخرى فإن المعلول لا يجب أن يكون مخالفا للعلة في الماهية ولا يكون أقوى منها ولا يساويها عند فوات شرط أو حضور مانع ويساويها لا مع ذلك (3)، والإحساس بسخونة الأجسام الذائبة أشد من سخونة النار لعدم الانفصال بسرعة للزوجته ولبطء حركة اليد فيه لغلظه. المسألة الثامنة في أن مصاحب العلة ليس بعلة وكذا مصاحب المعلول ليس معلولا قال: ولا يجب صدق إحدى النسبتين على المصاحب. أقول: يعني به أن نسبة العلية (4) لا يجب صدقها على ما يصاحب العلة
(1) ذكره الشيخ في ثالث من سادسة إلهيات الشفاء (ص 527 ج 2 ط 1) قال في عنوان البحث: الفصل الثالث في مناسبة ما بين العلل الفاعلية ومعلولاتها، فراجع. (2) وفي (ص ق): لتشخصها. (3) أي يساوي المعلول العلة لا مع فوات شرط أو حضور مانع. وقوله: والاحساس مثال لعدم التساوي عند فوات شرط أو حضور مانع. (4) وبعبارة أخرى لا يجوز ما مع العلة علة وإلا لزم اجتماع العلتين في مرتبة واحدة، ولا أن يكون ما مع المعلول معلولا. 183 ويلازمها فإن مع العلة شرائط كثيرة ولوازم لا مدخل لها في العلية كحمرة النار (1) فإنها لا تأثير لها في الاحراق وكذا ما يصاحب المعلول ويلازمه لا يجب صدق نسبة المعلولية عليه، قال الشيخ أبو علي ابن سينا (2): إن الفلك الحاوي يصاحب علة المحوي ولا يجب أن يكون متقدما بالعلية على المحوي لأجل مصاحبته لعلة المحوي فقد جعل ما مع القبل ليس قبلا، ثم قال: وجود الخلاء وعدم المحوي متقارنان (3)، فلو كان الحاوي علة للمحوي لكان متقدما عليه فيكون متقدما على ما يصاحبه أعني عدم الخلاء، فيكون عدم الخلاء (4) متأخرا عنه من حيث إنه مصاحب للمتأخر، وهذا يدل على أن ما مع البعد يجب أن يكون بعدا، فتوهم بعضهم (5) أن الشيخ أوجب أن يكون ما مع البعد بعدا من حيث المعية والبعدية ولم يوجب أن يكون ما مع القبل قبلا وهذا فاسد لأنه لا فرق بين ما مع القبل وما مع البعد من حيث البعدية والمعية والقبلية، والشيخ حكم في هذه الصورة الخاصة وكل ما يساويها بأن ما مع البعد يجب أن يكون بعدا لتحقق الملازمة الطبيعية بين عدم الخلاء ووجود المحوي بخلاف العقل والفلك (6) المتباينين بالذات والاعتبار.
(1) بالحاء المهملة والمعجمة كما في بعض النسخ مهملة. (2) راجع في ذلك شرح الماتن على الفصل الحادي والعشرين من النمط الأول من كتاب الإشارات قوله: يجب أن يعلم في الجملة أن الصورة الجرمية وما يصحبها ليس شئ منهما سببا لقوام الهيولى مطلقا.. الخ، وكذا شرحه على الفصل الحادي والثلاثين من النمط السادس منه قوله هداية إذا فرضنا جسما يصدر عنه فعل.. الخ. (3) وبالعكس أي وجود المحوي وعدم الخلاء متقارنان. (4) أقول وهو الصواب وما في بعض النسخ أعني وجود الخلاء فيكون وجود الخلاء، غلط جدا. (5) هذا البعض هو الفخر الرازي وتفصيل كلامه في ذلك وجواب المحقق الطوسي إياه يطلبان في الموضعين المذكورين من الإشارات. (6) العقل هو علة المحوي في المقام، فلا تغفل. 184 المسألة التاسعة في أن العناصر ليست عللا ذاتية بعضها لبعض قال: وليس الشخص من العنصريات علة (1) ذاتية لشخص آخر منها وإلا لم تتناه الأشخاص (2)، ولاستغنائه عنه بغيره. أقول: الشخص من العناصر كهذه النار مثلا ليس علة ذاتية لشخص آخر منها أي يكون علة لوجوده وإلا لوجدت أشخاص لا تتناهى دفعة واحدة، لأن العلل الذاتية تصاحب المعلولات. وأيضا فإن الشخص (3) من العناصر يستغني عن الشخص الآخر بغيره، إذ ليس شخص ما من أشخاص النار مثلا أولى بأن يكون علة لشخص آخر من بقية أشخاص النوع بل الشخص الذي هو معلول سبيله سبيل سائر الأشخاص في أن الشخصن الذي هو العلة ليس هو أولى بالعلية من الشخص الذي هو معلوله وما يستغنى عنه بغيره لا يكون علة بالذات، فهو إذن علة بالعرض بمعنى أنه معد.
(1) وفي (ت): لشخص منها، بدون كلمة آخر، وإنما خص هذا الحكم بالعنصريات لأن الأفلاك لا يجوز فيها الكثرة الإفرادية، فإن كل نوع منها منحصر في فرده الشخصي بخلاف العنصريات لأن كل نوع منها يجوز فيه تكثر الأفراد وتحققه. (2) أقول: بل لم تتحقق الأشخاص رأسا لأن العلة الذاتية إذا تحققت كان معلولها معها ولا ينفك عنها، والفرض أن معلولها أيضا من سنخ هذا الشخص فهو أيضا علة ذاتية فكون الشخص العنصري علة ينجر حكمه إلى كونه مقتضيا للكثرة بحسب ذاته والطبيعة التي تقتضي ذاته الكثرة محال أن يوجد لها فرد في الخارج وكأن مراده من قوله وإلا لم تتناه الأشخاص، كان هذا المعنى الذي أشرنا إليه فتدبر، على أن في كون الشخص العنصري علة ذاتية لشخص آخر مفاسد أخرى. (3) تقرير القوشجي أوضح وأخصر حيث قال: إن العناصر ليس بعضها أولى بأن يكون علة ذاتية لبعضها من غيره، بل نسبة كلها في ذلك سواء فيستغني ما فرضناه معلولا عما فرضناه علة بغير ذلك المفروض هذا خلف. 185 قال: ولعدم تقدمه. أقول: هذا وجه ثالث (1) على امتناع تعليل أحد الشخصين بالآخر، وتقريره أن العلة متقدمة على المعلول بالذات، والشخصان إذا كانا من نوع واحد استحال تقدم أحدهما على الآخر تقدما ذاتيا، لأن التقدم الذاتي ما يبقى (2) للعلة مع وجود المعلول، لأنه مقوم لها والتقدم بالزمان يبطل مع وجود المعلول لأنهما إذا اجتمعا في زمان واحد فقد عدم تقدم ما فرض علة. قال: ولتكافؤهما (3). أقول: هذا دليل رابع، وتقريره أن الماء والنار مثلا متكافئان في أنه ليس النار أولى بأن تكون علة للماء من العكس، والمتكافئان لا يصح (4) أن يكون أحدهما علة للآخر. قال: ولبقاء أحدهما مع عدم صاحبه. أقول: هذا دليل خامس، وتقريره أن ما يفرض علة من شخصيات النار فقد يعدم وما يفرض معلولا يكون باقيا بعده ويستحيل بقاء المعلول بعد علته الذاتية وبالعكس قد يعدم (5) ما يفرض معلولا وما يفرض علة يكون باقيا بعده، ويستحيل بقاء العلة (6) منفكة عن المعلول.
(1) والوجه الثاني هو قوله: ولاستغنائه عنه بغيره، وقد شرحه الشارح العلامة بقوله: وأيضا فإن الشخص من العناصر.. الخ. (2) كلمة (ما) إما موصولة أو موصوفة. (3) قرره صاحب الشوارق هكذا: الرابع أن أفراد النوع الواحد متكافئة لتماثلها، فليس بعضها أولى بالعلية من بعض وهذا معنى قوله: ولتكافؤهما. وكذلك القوشجي في شرحه. ولكن يرد عليهما على هذا التقرير أن كون هذا الوجه غير السابق فيه تأمل كما أورده بعض الأجلة على الشوارق، وأما ما قرره الشارح العلامة فلا غبار عليه ومتين غاية المتانة. (4) كما في (م)، والباقية: لا يصلح. (5) أتى به تحقيقا لقول الماتن: لبقاء أحدهما. (6) كما تقدم في المسألة الثالثة من هذا الفصل قوله في ذلك: ولا يجوز بقاء المعلول بعده وإن جاز في المعد. 186 المسألة العاشرة في كيفية صدور الأفعال منا قال: والفاعل منا يفتقر إلى تصور جزئي (1) ليتخصص الفعل ثم شوق ثم إرادة (2) ثم حركة من العضلات (3) ليقع منا الفعل. أقول: القوة البشرية أنما تفعل أثرها مع شعور وإدارك على الوجه النافع علما
(1) لأن الرأي الكلي لا ينبعث منه شئ مخصص جزئي، وراجع في ذلك شرحه على الفصل التاسع والعشرين من ثالث الإشارات. (2) وتسمى الإجماع أيضا وفي (م) وحدها: ثم تشوق، مكان قوله: ثم شوق. (3) بين قدس سره حق المطلب في المقام في شرحه على الفصل الخامس والعشرين من ثالث الإشارات عند قول الشيخ وأما الحركات الاختيارية فهي أشد نفسانية ولها مبدأ عازم مجمع، بما هذا لفظه: إعلم أن لهذه الحركات مبادئ أربعة مترتبة أبعدها عن الحركات هو القوى المدركة وهي الخيال أو الوهم في الحيوان، والعقل العملي بتوسطهما في الانسان. وتليها قوة الشوق فإنها تنبعث عن القوى المدركة، وتنشعب إلى شوق نحو طلب إنما ينبعث عن إدراك الملائمة في الشئ اللذيذ أو النافع إدراكا مطابقا أو غير مطابق وتسمى شهوة، وإلى شوق نحو دفع وغلبة أنما تنبعث عن إدراك منافاة في الشئ المكروه أو الضار وتسمى غضبا. ومغايرة هذه القوة للقوى المدركة ظاهرة وكما أن الرئيس في القوى المدركة الحيوانية هو الوهم فالرئيس في القوى المحركة هو هذه القوة. ويليها الاجماع وهو العزم الذي ينجزم بعد التردد في الفعل والترك وهو المسمى بالإرادة والكراهة. ويدل على مغايرته للشوق كون الانسان مريدا لتناول ما لا يشتهيه، وكارها لتناول ما يشتهيه. وعند وجود هذا الاجماع يترجح أحد طرفي الفعل والترك اللذين تتساوى نسبتهما إلى القادر عليهما. وتليها القوى المنبثة في مبادئ العضل المحركة للأعضاء، ويدل على مغايرتها لسائر المبادئ كون الانسان المشتاق العازم غير قادر على تحريك أعضائه، وكون القادر على ذلك غير مشتاق ولا عازم. وهي المبادئ القريبة للحركات وفعلها تشنيج العضل وإرسالها ويتساوى الفعل والترك بالنسبة إليها، إنتهى. بيان: مبادئ العضل هي الأعصاب والقوى المنبثة فيها هي المبادئ القريبة للحركات. 187 أو ظنا، فافتقر الفعل الصادر عنها إلى مباد أربعة تصور لذلك الفعل الجزئي، فإن التصور الكلي لا يكون سببا لفعل جزئي لأن نسبة كل كلي إلى جزئياته واحدة فإما أن يقع كلها وهو محال أو لا يقع شئ منها وهو المطلوب، فلا بد من تصور جزئي يتخصص به الفعل فيصير جزئيا، فإذا حصل التصور بالنفع الحاصل من الأثر اشتاقت النفس إلى تحصيله فحصلت الإرادة (1) الجازمة بعد التردد فتحركت العضلات إلى الفعل فوجد. قال: والحركة إلى مكان (2) تتبع إرادة بحسبها، وجزئيات تلك الحركة تتبع تخيلات وإرادات جزئية، فيكون السابق من هذه علة للسابق من تلك، المعدة لحصول أخرى فتتصل الإرادت في النفس والحركات في المسافة إلى آخرهما. أقول: الفاعل منا لحركة ما من الحركات أنما يفعلها بواسطة القصد والإرادة المتعلقة بتلك المسافة، فتلك الحركة تتبع إرادة بحسبها يعني الحركة إلى مكان مفروض تتبع إرادة متعلقة بالحركة إلى ذلك المخصوص، وكل حركة فعلى مسافة منقسمة تكون الحركة في كل مسافة من تلك المسافات جزءا من الحركة الأولى، وكل جزء من تلك الأجزاء يتبع تخيلا خاصا وإرادة جزئية متعلقة به، فإذا تعلقت الإرادة بإيجاد الجزء الأول من الحركة ثم وجد الجزء الأول كان وصول الجسم إلى ذلك الجزء مع الإرادة الكلية المتعلقة بكمال الحركة علة لتجدد إرادة أخرى
(1) فإن قلت: الانسان قد يريد ولا يشتاق كما في إرادة تناول الدواء البشع، فالجواب أن المنفي هناك الشهوة لا الشوق مطلقا فإن من اعتقد النفع ينبعث من اعتقاده شوق عقلي لا محالة وإن لم يسم شهوة. (2) هذا الكلام لدفع إيراد يتوهم في المقام وهو أن صدور الأفعال الجزئية عن الانسان لا يتوقف على تصورات وإرادات جزئية، مثلا من تصور الحركة على مسافة ينشئ إرادة متعلقة بقطع جميع المسافة من غير أن يتصور المتحرك الحدود الجزئية من المسافة حتى يتعلق بها الإرادات الجزئية. واعلم أن هذه المسألة العاشرة وشرحها خلاصة ما في آخر النمط الثالث من الإشارات وشرح الماتن عليه فراجع الفصلين الخامس والعشرين والتاسع والعشرين منه. 188 تتعلق بجزء آخر، فإذا وجدت تلك الإرادة تعلقت بذلك الجزء فيتحرك الجسم، وعلى هذا تتصل التخيلات والإرادات في النفس والحركة في الخارج فتكون كل حركة جزئية علة لإرادة خاصة، وكل إرادة خاصة علة لحركة جزئية من غير دور. المسألة الحادية عشرة في أن القوى الجسمانية أنما تؤثر بمشاركة الوضع قال: ويشترط في صدق التأثير على المقارن الوضع (1). أقول: يشترط في صدق التأثير (2) أعني صدق كون الشئ علة على المقارن أعني الصور والأعراض، الوضع أعني الإشارة الحسية وهو كونه بحيث يشار إليه أنه هنا أو هناك وذلك لأن القوى الجسمانية أعني الصور والأعراض المؤثرة إنما تؤثر بواسطة الوضع على معنى أنها تؤثر في محلها أولا، ثم فيما يجاور محلها بواسطة تأثيرها في محلها، ثم فيما يجاور ذلك المجاور بواسطة المجاور وهكذا،
(1) كلمة على الجارة صلة للصدق. والمقارن بكسر الراء أي المقارن للمادة وذلك المقارن هو الصور القائمة بالمواد والأعراض الحالة في الأجسام، والمقارن مقابل المفارق في اصطلاح أهل المعقول كما سيأتي في أول المقصد الثاني. والوضع مرفوع أي يشرط الوضع. واعلم أن ما يشترط في تأثيره الوضع مادي لا محالة لأن قوامه بمواد الأجسام فيؤثر أولا لمادته وجرمه ثم للأقرب فالأقرب منه على وسعه، فإن النار تسخن وتضئ على سعتها والشمس كذلك لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وأما ما ليس بمادي فلا يشترط به وله الإحاطة كالمجردات. ثم إن المفارق إما مجرد بذاته وفعله أو مجرد بذاته فقط، الأول العقل والثاني النفس، فالنفوس الفلكية والانسانية في النشأة الأولى ليست بغنية عن الأجرام والأجسام وإن لم تكن مادية. وجملة الأمر أن القوي المتعلقة بالأجسام إما محتاجة في ذاتها إليها كالقوة النارية والمائية مثلا، أو محتاجة إليها لا في ذاتها بل في فعلها كالنفوس مطلقا، وسيأتي البحث عن الجوهر المفارق في أولى الأول من المقصد الثاني. ثم كان الصواب أن يجعل المسألة الحادية عشرة واللتان بعدها مسألة واحدة. (2) تقرير الشارح هذه المسألة بأسرها ملخص ما قرره المصنف في شرحه على الفصل الخامس عشر من سادس الإشارات. 189 إنما تؤثر في البعيد بواسطة تأثيرها في القريب، فإن النار لا تسخن كل شئ بل مادتها أولا ثم ما يجاورها، وهذا الحكم بين لا يحتاج إلى برهان. المسألة الثانية عشرة في تناهي القوى الجسمانية قال: والتناهي بحسب المدة والعدة والشدة التي باعتبارها (1) يصدق التناهي وعدمه الخاص على المؤثر. أقول: قوله والتناهي عطف على الوضع أي يشترط في صدق التأثير على المقارن - أعني الصور والأعراض - التناهي، لأنه لا يمكن وجود قوة جسمانية تقوى على ما لا يتناهى. وقبل الخوض في الدليل مهد قاعدة في كيفية عروض التناهي وعدمه للقوى، وأعلم أن التناهي وعدمه الخاص به - أعني عدم الملكة وهو عدم التناهي عما من شأنه أن يكون متناهيا - أنما يعرضان بالذات للكم إما المتصل كتناهي المقدار ولا تناهيه، أو المنفصل كتناهي العدد ولا تناهيه، ويعرضان لغيره بواسطته كالجسم ذي المقدار والعلل ذوات العدد، فإن عروض التناهي وعدمه لهما ظاهر، وأما ما يتعلق به شئ ذو مقدار أو عدد كالقوى التي يصدر عنها عمل متصل في زمان أو أعمال متوالية، ففرض النهاية واللانهاية فيه يكون بحسب مقدار ذلك العمل أو عدد تلك الأعمال (2) والذي بحسب مقدار ذلك العمل يكون إما مع وحدة العمل واتصال زمانه (3) أو مع فرض الاتصال (4) في العمل نفسه من غير نظر إلى وحدته أو كثرته، فأصناف القوى ثلاثة:
(1) كلمة الموصول صفة للكلمات الثلاث والضمير راجع إليها. (2) هذا هو الصنف الثالث الآتي ذكره. (3) هذا هو الصنف الأول. (4) هذا هو الصنف الثاني. والمراد من فرض الاتصال في العمل أنه لا تعدد له أي المعتبر في هذا القسم هو امتداد الزمان فقط. 190 الأول: قوى يفرض صدور عمل واحد منها في أزمنة مختلفة كرماة تقطع سهامهم مسافة محدودة في أزمنة مختلفة، وهاهنا الشدة بحسب قلة الزمان، فيكون ما لا يتناهى في الشدة واقعا لا في زمان وإلا لكان الواقع في نصفه أشد مما لا يتناهى في الشدة، وهذه قوة بحسب الشدة. والثاني: قوى يفرض صدور عمل ما منها على الاتصال (1) في أزمنة مختلفة كرماة تختلف أزمنة حركات سهامهم في الهواء، وهاهنا تكون التي زمانها أكثر أقوى من التي زمانها أقل فيقع عمل غير المتناهية في زمان غير متناه، وهذه قوة بحسب المدة. والثالث: قوى يفرض صدور أعمال متوالية عنها مختلفة بالعدد كرماة يختلف عدد رميهم، ولا محالة تكون التي يصدر عنها عدد أكثر أقوى من التي يصدر عنها عدد أقل، وهاهنا يقع لغير المتناهية عمل غير متناهي العدد، وهذه قوة بحسب العدة. فقد ظهر من هذا أن التناهي وعدمه الخاص به أنما صدقا على المؤثر بأحد الاعتبارات الثلاثة.
(1) أي من غير اعتبار وحدته وكثرته كما في الأول والثالث حيث اعتبر الأول في الأول والثاني في الثالث. بقي في المقام كلام وهو أن الشارح جعل التناهي عطفا على الوضع، وهذا الكلام بظاهره يقتضي توقف التأثير على التناهي، وفيه دغدغة كما قال الشريف: الظاهر من هذا العطف توقف تأثير القوة الجسمانية على التناهي كتوقفه على الوضع، لكن الظاهر كما هو المفهوم من كلامهم أن التأثير متوقف على الوضع ومستلزم للتناهي. وقال المولى إسماعيل في تعليقته على الشوارق في بيان كلامهم ومستلزم للتناهي ما هذا لفظه: أي لا يتوقف التأثير على التناهي وإلا يلزم تحقق تناهي الأثر قبل تحقق التأثير وهو مستلزم لتحقق التأثير بعد تحقق الأثر وتحقق الأثر قبل تحقق التأثير وهو محال. لكن صاحب الشوارق سلك سبيل الشارح العلامة فقال ما هذه خلاصة مقاله: كل مقارن مؤثر ما لم يعلم تناهي أثره لم يحكم بأنه مؤثر ذلك الأثر ولو كان الأثر غير متناه نجزم بأن المؤثر مجرد متعلق بذلك المقارن ثم شنع على القوم بأنهم لم يتفطنوا ما ذكره فتحيروا في العطف. ولا يخفى عليك حسن رؤيته وجودة دقته في بيان العطف. 191 قال: لأن القسري يختلف باختلاف القابل ومع اتحاد المبدأ يتفاوت مقابله (1). أقول: لما مهد قاعدة في كيفية عروض التناهي وعدمه في القوى شرع في الدليل على مطلوبه الأول أعني وجوب تناهي تأثير القوى الجسمانية. وتقريره أن القوى الجسمانية إما أن تكون قسرية أو طبيعية، وكلاهما يستحيل صدور ما لا يتناهى عنهما. أما الأول (2) فلأن صدور ما لا يتناهى بحسب الشدة من الحركات (3) عن القوتين (4) محال لما مر، وإما بحسب المدة أو العدة فلأنا لو فرضنا جسما متناهيا يحرك جسما آخر متناهيا من مبدأ مفروض حركات (5) لا تتناهى بحسب المدة أو العدة ثم حرك بتلك القوة جسما أصغر (6) من ذلك الجسم من ذلك المبدأ فإن
(1) أي مقابل المبدأ وهو الطرف الآخر في الشرح، فيلزم التناهي بحسب التفاوت. (2) أي القسرية. (3) بيان لما في قوله: ما لا يتناهى. (4) صلة للصدور في قوله: صدور ما لا يتناهى. والقوتان القسرية والطبيعية. ثم إن قوله: محال لما مر، ناظر إلى قوله: فيكون ما لا يتناهى في الشدة واقعا لا في زمان.. الخ، وإلا ما مر صريحا في هذا المعنى شئ غير ذكره الأصناف الثلاثة، وقوله: لا يمكن وجود قوة جسمانية تقوى على ما يتناهى وهو لا يقتضي حجة له فقط دونهما. نعم، إن اللاتناهي في الشدة ظاهر البطلان، ولذلك لم يشتغلوا بالاحتجاج عليه وأقاموا الحجة على اللاتناهي بحسب المدة والعدة. وقال صاحب الشوارق: وأما بحسب الشدة فليس بمقصود إما لظهور بطلانه وإما لعدم فساده، وذلك إذا كان يجوز انتهاء زمان الحركة في القلة إلى حيث لا يمكن بالامكان الوقوعي تنصيفه وتجزيته. أقول: والصواب هو ظهور بطلانه، وأما الشق الثاني فمجرد فرض غير معتبر ولا يتوهم أحد أن تكون في الأجسام قوة جسمانية تقوى على ما لا يتناهى شدة، وهذا الفرض الموهوم خارج عن البحث العلمي رأسا، ولذلك لم يقم الشيخ في الإشارات الحجة على التناهي في الشدة، وقال الخواجة في شرحه عليه بعد ذكر الأصناف الثلاثة - كما أتى به الشارح العلامة في هذا الكتاب -: وكان مراد الشيخ ما يختلف في النهاية واللانهاية بحسب المدة أو العدة فقط. إنتهى وإنما كان مراده ما يختلف فيهما لأن اللاتناهي في الشدة ظاهر البطلان. (5) منصوب بقوله: يحرك. (6) جاءت العبارة في غير واحدة من النسخ المطبوعة وغيرها هكذا: ثم حركت تلك القوة جسما أصغر، بتأنيث الفعل وحذف الجارة وهي محرفة بلا دغدغة، والصحيحة ما اخترناها. وعبارة الشيخ في الإشارات هكذا: ثم فرضنا أنه يحرك أصغر من ذلك بتلك القوة. وعبارة الخواجة في شرحه عليها هكذا: إذا حرك جسم بقوته جسما آخر من مبدأ مفروض حركات لا نهاية لها ثم فرضنا أن ذلك الجسم المحرك يحرك جسما آخر شبيها بالجسم الأول في الطبيعة وأصغر منه بالمقدار بتلك القوة بعينها من ذلك المبدأ المفروض.. الخ. ونظائر هذا التحريف في الكتاب كثيرة جدا. 192 تحريكه للأصغر أكثر من تحريكه للأكبر لقلة المعاوقة هنا ولكن المبدأ واحد فالتفاوت في الطرف الآخر فيجب تناهي الناقص مع فرض عدم تناهيه هذا خلف (1). وهاهنا سؤال صعب (2) وهو أن التفاوت في التحريكين جاز أن يكون بحسب
(1) إعلم أن المصنف الماتن سلك في إقامة هذا البرهان مسلك الشيخ في الإشارات وبعد تقرير الحجة في الشرح قال: واعلم أن هذا البرهان أعم مأخذا مما استعمله الشيخ، فإن الحاصل منه أن القوة الغير المتناهية لو حركت بالفرض جسمين مختلفين لوجب أن يكون تحريكها إياهما متفاوتا ويلزم منه كونها متناهية بالقياس إلى أحدهما بعد أن فرضت غير متناهية مطلقا هذا خلف، فإذن القوة الغير المتناهية سواء كانت جسمانية أو غير جسمانية يمتنع أن تكون مباشرة لتحريك الأجسام بالقسر، والشيخ خصصه بالقوة الجسمانية لأن غرضه في هذا الموضع هو نفي اللا نهاية عن القوى الجسمانية، إنتهى. أقول: إنما كان البرهان أعم مأخذا لأن القوة الغير المتناهية تعم الجسمانية وغير الجسمانية، وقوله: سواء كانت جسمانية أو غير جسمانية بيان لكونه أعم مأخذا. (2) السائل هو الفخر الرازي في ذلك المقام، هذا السؤال والجواب وإيراد التلميذ وجواب الشيخ والايراد عليه كلها مذكورة في شرح الماتن المحقق الطوسي على الفصل التاسع عشر من النمط السادس من الإشارات، وراجع في ذلك أيضا الفصل الأخير من المرحلة الثامنة من الأسفار (ج 1 ط 1 ص 259). والسؤال كان رائجا قبل الفخر كما هو نص كلام الخواجة في المقام حيث قال: والاعتراض المشهور الذي أورده الفاضل الشارح عليه بتجويز أن يكون التفاوت في التحريكين بالسرعة والبطء.. الخ. ثم ما قال الشارح بعد نقل كلام الماتن من الإشارات: وفيه نظر لأن أخذ القوة بحسب الاعتبارين لا ينافي وقوع التفاوت بالاعتبار الثالث، ليس كما ينبغي لأن ذلك النظر مجرد فرض غير معتبر في البحث العلمي، وكما قلنا آنفا أن اللاتناهي في الشدة ظاهر البطلان ولذلك لم يشتغلوا بالاحتجاج عليه على أن الخواجة قال: إن هذا الاعتراض أي السؤال الصعب مندفع، لأن المراد بالقوة المذكورة هاهنا هي التي لا نهاية لها باعتبار المدة والعدة دون الشدة على ما مر. وقوله: على ما مر ناظر إلى ما قاله في الفصل الخامس عشر من النمط المذكور وقال هناك: كان مراد الشيخ في النهاية واللانهاية بحسب المدة والعدة فقط، وقيد فقط لإخراج ما بحسب الشدة وذلك كما قلنا لشدة ظهور بطلانه، ولذا لم يبحثوا عنه بنظر علمي. 193 الشدة، وأجاب المصنف قدس الله روحه عن هذا السؤال في شرحه للإشارات بأن المراد بالقوة هاهنا هي التي لا نهاية لها بحسب المدة أو العدة لا الشدة. وفيه نظر لأن أخذ القوة بحسب الاعتبارين لا ينافي وقوع التفاوت بالاعتبار الثالث. وأورد بعض تلامذة أبي علي عليه أنه لا وجود للحركات دفعة فلا يجوز الحكم عليها بالزيادة فضلا عن كون الزيادة مقتضية لتناهيها كما قاله الشيخ اعتراضا على المتكلمين حيث حكموا بتناهي الحوادث لازديادها كل يوم. وأجاب الشيخ عنه بالفرق فإن الحوادث ليس لها كل موجود (1) حتى يحكم عليها بالتناهي وعدمه، والزيادة والنقصان بخلاف القوة هاهنا فإنها موجودة يحكم عليها بكونها قوية على تحريك الكل أو البعض ولا شك في أن كون القوة قوية على تحريك الكل أعظم من كونها قوية على تحريك الجزء فأمكن الحكم بالتناهي هاهنا لوجود المحكوم عليه وتحققه بخلاف الحوادث. وللسائل أن يعود فيقول: التفاوت في القوة إنما هو باعتبار التفاوت في المقوى عليه أعني الحركات، فإذا لم يكن الحكم على الحركات بالزيادة والنقصان لم يكن الحكم على القوة بالتفاوت. قال: والطبيعي (2) يختلف باختلاف الفاعل لتساوي الصغير والكبير في القبول، فإذا تحركا (3) مع اتحاد المبدأ عرض التناهي.
(1) أي ليس لها مجموع موجود، فكلمة (كل) مرفوعة على أنها اسم ليس بمعنى المجموع، وموجود صفة لها. وعبارة الخواجة في شرحه على الإشارات في المقام هكذا: رد الشيخ عليهم بأن قال لما لم يكن لها مجموع موجود في وقت من الأوقات. (2) منصوب بقوله: لأن، معطوف على القسري. (3) كما في النسخ كلها إلا نسخة (ت) ففيها: وإذا تحركا. 194 أقول: هذا بيان استحالة القسم الثاني (1) وهو أن تكون القوة المؤثرة فيما لا يتناهى طبيعية. وتقريره أنه يجب أن يكون قبول الجسم العظيم للتحريك عنها مثل قبول الصغير وإلا لكان التفاوت بسبب المانع وهو إما أن تكون الجسمية أو لوازمها أو أمرا طبيعيا والكل محال، أو غريبا وقد فرضنا عدمه فلو حصل اختلاف لكان بسبب الفاعل فإن القوة في العظيم أكثر من القوة في الصغير لانقسام
(1) الخواجة قدس سره قرر البرهان في شرحه على الإشارات (من الفصل 20 إلى 23 من النمط السادس) بعد بيان تمهيد ثلاث مقدمات أتى بها الشيخ ينبغي التدبر فيه نيلا إلى المراد. الأولى: أن الجسم من حيث هو جسم لما لم يكن مقتضيا لتحريك ولا لمنع عنه بل كان ذلك لقوة تحله فإذن كبيره وصغيره إذا فرضنا مجردين عن تلك القوة كانا متساويين في قبول التحريك وإلا لكان الجسم من حيث هو جسم مانعا عنه. الثانية: أن القوة الجسمانية المسماة بالطبيعية إذا حركت جسمها ولا محالة يكون ذلك الجسم خاليا عن المعاوقة وإلا لم تكن الطبيعة طبيعة لذلك الجسم فلا يجوز أن يعرض بسبب كبر الجسم وصغره تفاوت في القبول لما مر في المقدمة الأولى، بل أن عرض تفاوت فهو بسبب القوة فإنها تختلف باختلاف محلها على ما سيأتي في المقدمة الثالثة وهناك يستبين أن التفاوت كما كان في الحركات القسرية بسبب القوابل لا غير فهو في الطبيعة بحسب الفواعل لا غير. الثالثة: أن القوى الجسمانية المتشابهة تختلف باختلاف الأجسام ويتناسب بتناسب محالها المختلفة بالكبر والصغر لأنها حالة فيها متجزية بتجزئتها. فنقول: إنه لا يجوز أن يكون في جسم من الأجسام قوة طبيعية تحرك ذلك الجسم حركات بلا نهاية، وذلك لأن قوة ذلك الجسم أكثر وأقوى من قوة بعضه لو انفرد بالمقدمة الأخيرة، وليس زيادة جسمه في القدر تؤثر في منع التحريك حتى تكون نسبة المحركين والمتحركين واحدة بالمقدمة الأولى، وفي هذا القول إشارة أيضا إلى سبب الاحتياج إلى هذه المقدمة، وذلك السبب هو أن المعاوقة لو كانت في الكبير أكثر منها في الصغير مع أن القوة في الكبير أيضا أقوى منها في الصغير لكانت نسبة المحركين والمتحركين واحدة لكن ليس كذلك لما مر في المقدمة الأولى، بل المتحركان في حكم ما لا يختلفان والمحركان مختلفان بالمقدمة الثانية، فإن حركتا جسميهما من مبدأ مفروض حركات بغير نهاية لزم منه تناهي الأقل. أقول: لما ثبت أن صدق التأثير على المقارن مشروط بالوضع والتناهي المذكورين، وأن القوى الجسمانية مطلقا تكون مدة آثارها وكذلك عدد آثارها متناهية كما أنها بحسب الشدة متناهية فلا بد أن ينتهي الأمر إلى المفارق. 195 القوى الطبيعية بانقسام محالها، فإذا حركت قوة الكل وقوة البعض جسميهما من مبدأ واحد مفروض فإن حركت الصغرى حركات غير متناهية كانت حركات الكبرى أكثر لأنها أعظم فتكون أقوى وإلا لكان حال الشئ مع غيره كحاله لا مع غيره هذا خلف، فيقع التفاوت في الجانب الذي حكم فيه بعدم التناهي هذا خلف، وإن تناهت حركات الأصغر تناهت حركات الأكبر لأن نسبة الأثر إلى الأثر كنسبة المؤثر إلى المؤثر، وهذه نسبة متناه إلى متناه فكذا الأولى. المسألة الثالثة عشرة في العلة المادية قال: والمحل المتقوم بالحال قابل له ومادة للمركب. أقول: المحل إما أن يتقوم بالحال أو يقوم الحال، وإلا لزم استغناء أحدهما عن الآخر فلا حلول، فالمحل المتقوم بالحال هو الهيولى والمقوم للحال هو الموضوع والهيولى باعتبار الحال تسمى قابلا، وباعتبار المركب تسمى مادة. قال: وقبوله ذاتي. أقول: كون المادة قابلة أمر ذاتي لها لا غريب يعرض بواسطة الغير لأنه لولا ذلك لكان عروض ذلك القبول في وقت حصوله يستدعي قبولا آخر ويلزم التسلسل وهو محال، فهو إذن ذاتي يعرض للمادة لذاتها. قال: وقد يحصل القرب والبعد باستعدادات يكتسبها (1) باعتبار الحال فيه. أقول: لما ذكر أن قبول المادة لما يحل فيها ذاتي استشعر أن يعترض عليه بما يظن أنه مناقض له، وهو أن يقال: إن المادة قد تقبل شيئا ولا تقبل آخر، ثم يعرض لها قبول الآخر ويزول عنها القبول الأول، وهذا يعطي أن القبول من الأمور
(1) هذا الاستعداد ليس ذاتيا بل يحصل من جهة العوارض الطارية وبه يحصل القرب والبعد دون الاستعداد الذاتي الأول كان للمادة لذاتها. 196 العارضة الحاصلة بسبب الغير لا من الأمور الذاتية اللازمة لها لذاتها. وتحقيق الجواب أن نقول: إن القبول ثابت في كلتا الحالتين لكن القبول منه قريب ومنه بعيد، فإن قبول النطفة للصورة الانسانية بعيد وقبول الجنين قريب، فإذا حصل القرب بالنظر إلى عرض من الأعراض نسب القبول إليه وعدمه عن غيره، وفي الحقيقة إنما حصل قرب القبول بعد بعده وسبب القرب والبعد هو الأعراض والصور الحالة في المادة، فإن الحرارة إذا حلت المادة واشتدت أعدتها لقرب قبول الصورة النارية وخلع غيرها. المسألة الرابعة عشرة في العلة الصورية قال: وهذا الحال صورة للمركب وجزء فاعل لمحله (1). أقول: هذا الحال يعني به الحال في المادة وهو صورة للمركب لا للمادة، لأنه بالنظر إلى المادة جزء فاعل لأن الفاعل في المادة هو المبدأ الفياض بواسطة الصورة المطلقة. قال: وهو واحد. أقول: ذكر الأوائل أن الصورة المقومة للمادة لا تكون فوق واحدة، لأن
(1) كلمة الجزء مضافة إلى الفاعل أي جزء علة لمحله، والفاعل هو معطي الوجود وذلك لأن الصورة شريكة للفاعل الذي هو المفارق على ما سلك إليه المشاء وبسط الكلام فيه الشيخ في النمط الأول من الإشارات وتقدم الإشارة إليه. قال القوشجي: واعلم أن ما نقلناه عن الحكماء في هذا المبحث كلها من فروع الهيولى والصورة، والمصنف لما كان منكرا لهما كما سيجئ كان المناسب أن لا يذكر هذه المباحث ويذكرها على سبيل النفي والانكار لا على طريق الاثبات والاقرار. وقال صاحب الشوارق تعريضا له: إن هذه الأمور المتفرعة على ثبوت الهيولى ذكرها المصنف هاهنا على سبيل الحكاية، وبمعنى أنه على تقدير ثبوتها وعند القائلين بها يكون الحال هكذا فلا منافاة بينها وبين ما سيأتي من نفيه الهيولى في هذا الكتاب. 197 الواحدة إن استقلت بالتقويم استغنت المادة عن الأخرى، وإن لم تستقل كان المجموع هو الصورة وهو واحد، فالصورة واحدة. المسألة الخامسة عشرة في العلة الغائية قال: والغاية علة بماهيتها (1) لعلية العلة الفاعلية، معلولة في وجودها للمعلول. أقول: الغاية لها اعتباران يحصل لها باعتبارهما التقدم والتأخر بالنسبة إلى المعلول، وذلك لأن الفاعل إذا تصور الغاية فعل الفعل ثم حصلت الغاية بحصول الفعل، فماهية الغاية علة لعلية الفاعل، إذ لولا تلك الماهية وحصولها في علم الفاعل لما أثر ولا فعل الفعل، فإن الفاعل للبيت يتصور الاستكنان أولا فيتحرك إلى إيجاد البيت ثم يوجد الاستكنان بحصول البيت، فماهية الاستكنان علة لعلية الفاعل ووجوده معلول للبيت، ولا امتناع في أن يكون الشئ الواحد متقدما ومتأخرا باعتبارين. قال: وهي ثابتة لكل قاصد (2).
(1) قريب من كلام الشيخ في الفصل السابع من رابع الإشارات في تعريف الغاية حيث قال: والعلة الغائية التي لأجلها الشئ علة بماهيتها ومعناها لعلية العلة الفاعلية ومعلولة لها في وجودها.. الخ. أي الغاية بصورتها الذهنية وحصولها في علم الفاعل علة لعلية العلة الفاعلية، وهي معلولة في وجودها الخارجي للمعلول، وأرادوا بقولهم أول الفكر آخر العمل هذا المعنى. قال الشيخ في إلهيات الشفاء: ونعني بالغائية العلة التي لأجلها يحصل وجود شئ مبائن لها. والمبائن هو المعلول الخارجي وإنما كان مبائنا لها لأنه لا يكون حالا فيها ولا محلا لها، وللعارف الرومي في المثنوي: ظاهرا آنشاخ أصل ميوه است باطنا بهر ثمر شد شاخ هست گرنبودى ميل واميد ثمر كي نشاندى باغبان بيخ شجر أول فكر آخر آمد در عمل خاصه فكرى كو بود وصف أزل (2) الضمير راجع إلى الغاية، والغاية عرفت بأنها علة لعلية الفاعلية فلا بد أن يكون معنى هذه الجملة أن الغاية بهذا المعنى ثابتة لكل فاعل يفعل بالقصد أعني الفاعل بالقصد على اصطلاح الحكماء، لأن الغنى التام والجواد والملك الحق لا غرض ولا غاية له مطلقا. والفاعل الذي يفعل لغاية إما أن يكون وجود تلك الغاية أولى به فيكون الفاعل مستكملا بوجود الغاية، أو أن فاعليته يتم بتلك الغاية فيلزم أن يكون الفاعل ناقصا في عليته ويستكمل بتلك الغاية، فالفاعل لغاية فقير والله سبحانه هو الغني فليس بفاعل لغاية وغرض كما أنه ليس بعابث أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا (المؤمنون 15). قال الخواجة في شرحه على الفصل السادس من النمط السادس من الإشارات: الغرض هو غاية فعل فاعل يوصف بالاختيار فهو أخص من الغاية. والقائلون بأن الباري تعالى أنما يفعل لغرض ذهبوا إلى أنه أنما يفعله لغرض يعود إلى غيره لا إلى ذاته وذلك لا ينافي كونه غنيا وجوادا، فأشار الشيخ إلى أن من يفعل لغرض فلا بد من أن يكون ذلك الفعل أحسن به من تركه، لأن الفعل الحسن في نفسه إن لم يكن أحسن بالفاعل لم يمكن أن يصير غرضا له، ثم أنتج من ذلك أن الملك الحق لا غرض له مطلقا. 198 أقول: كل فاعل بالقصد والإرادة فإنه أنما يفعل لغرض ما وغاية ما وإلا لكان عابثا على أن العبث لا يخلو عن غاية، أما الحركات الاسطقسية (1) فقد أثبت الأوائل لها غايات لأن الحبة من البر إذا رميت في الأرض الطيبة وصادفها الماء وحر الشمس فإنها تنبت سنبلة، وهذه التأدية على سبيل الدوام أو الكثرة فيكون ذلك غاية طبيعية. ومنع ذلك جماعة لعدم الشعور في الطبيعة فلا يعقل لها غاية،
(1) في أقرب الموارد: الأسطقس بفتح الألف وسكون السين وفتح الطاء وكسر القاف: أعجمية معناها الأصل وتسمى العناصر الأسطقسات (بكسر الألف) وهي الماء والأرض والهواء والنار. وفي المنجد: بفتح الألف وكسرها، وفي غياث اللغات: بضم الأول والثالث والرابع وسكون الثاني لفظ يوناني بمعنى العنصر. أقول: الكلمة إذا كانت عجمية تلعب بها العرب ما شاءت، وهذا المثل سائر بينهم: عجمي فالعب به ما شئت. والغرض العمدة أن الشارح أراد منها الحركات الطبيعية مطلقا في قبال الإرادية سواء كانت لعناصر بسيطة أو لم تكن، كما يستفاد التعميم من تمثيله بالبر وجعله مقابلا للفاعل بالقصد والإرادة، ومن قول الماتن بعيد هذا وأثبتوا للطبيعيات غايات، ومن قول الشارح هناك أما إثبات الغايات للحركات الطبيعية فقد تقدم. فقوله: فقد تقدم إشارة إلى ما قاله في هذا المقام. وفي الشوارق أن الحكماء أثبتوا لكل تحريك وفعل سواء كان إراديا أو طبيعيا غاية والمصنف خص هذا الحكم بالإراديات. 199 وأجابوا بأن الشعور يفيد تعيين الغاية لا تحصيلها. قال: أما القوة الحيوانية (1) المحركة فغايتها الوصول إلى المنتهى وهو قد يكون (2) غاية الشوقية وقد لا يكون، فإن لم تحصل فالحركة باطلة وإلا فهو إما خير أو عادة (3) أو قصد ضروري أو عبث وجزاف (4). أقول: القوة الحيوانية لها مباد على ما تقدم (5): أحدها: القوة المحركة المنبثة في العضلات، وثانيها: القوة الشوقية، وثالثها: التخيل أو الفكر. وغاية القوة المحركة أنما هي الوصول إلى المنتهى وقد تكون هي بعينها (6) غاية القوة الشوقية كمن طلب مفارقة مكانه والحصول في آخر (7) لإزالة ضجره، وقد تكون غيرها كمن يطلب غريما في موضع معين، وفي هذا القسم إن لم تحصل غاية القوة الشوقية سميت الحركة باطلة بالنسبة إليها (8)، وإن حصلت الغايتان (9) وكان المبدأ التخيل لا غير فهو الجزاف والعبث (10). وإن كان مع طبيعة كالتنفس فهو القصد
(1) قيد القوة بالحيوانية لإخراج الفلكية وذلك لأن القوة المحركة الفلكية ليست غايتها الوصول إلى المنتهى بل غايتها الدوام على الحركة كما سيأتي. (2) أي الوصول. (3) أي تلك الحركة والتذكير باعتبار الخبر. وفي (ت) وحدها: وهو قد يكون غاية الشرقية. والنسخ الأخرى: غاية الشوقية. (4) قال قدس سره في شرحه على الفصل الأخير من خامس الإشارات: الجزاف لفظة معربة معناه الأخذ بكثرة من غير تقدير، وقد يطلق بحسب الاصطلاح على فعل يكون مبدأه شوقا تخيليا من غير أن يقتضيه فكر كالرياضة، أو طبيعة كالتنفس، أو مزاج كحركات المرضى، أو عادة كاللعب باللحية مثلا وهو باعتبار من الفاعل كما أن العبث يكون باعتبار من الغاية. (5) تقدم في المسألة العاشرة من هذا الفصل. (6) أي تكون غاية القوة المحركة بعينها. (7) فاجتمعت الغايتان أي غاية القوة المحركة وغاية القوة الشوقية. (8) وأما بالنسبة إلى القوة المحركة فالغاية حاصلة وليست بباطلة، لأن غايتها هي الوصول إلى المنتهى. (9) أي غاية القوة المحركة وغاية القوة الشوقية. (10) الشيخ جعلهما اثنين حيث قال في الخامس من سادسة إلهيات الشفاء في إثبات الغاية (ج 2 ط 1 ص 541): كل نهاية ينتهي إليها الحركة وتكون هي بعينها الغاية المتشوقة التخييلية ولا يكون المتشوقة بحسب الفكرة، فهي التي تسمى العبث. وكل غاية ليست هي نهاية الحركة ومبدأها تشوق تخيلي غير فكري، فلا يخلو إما أن يكون التخييل وحده هو المبدأ لحركة الشوق سمي ذلك الفعل جزافا ولم يسم عبثا الخ. وكذلك الخواجة في شرحه على الفصل الأخير من خامس الإشارات جعلهما اثنين وقد تقدم آنفا. 200 الضروري، وإن كان مع خلق وملكة نفسانية فهو العادة، وإن كان المبدأ الفكر فهو الخير المعلوم أو المظنون. قال: وأثبتوا للطبيعيات غايات (1) وكذا للاتفاقيات.
(1) قال الشيخ في الفصل التاسع عشر من ثامن الإشارات: إذا نظرت في الأمور وتأملتها وجدت لكل شئ من الأشياء الجسمانية كمالا يخصه وعشقا إراديا أو طبيعيا لذلك الكمال وشوقا طبيعيا أو إراديا إليه إذا فارقه رحمة من العناية الأولى على النحو الذي هو به عناية. وقال الخواجة في الشرح: وللشيخ رسالة لطيفة في العشق بين فيها سريانه في جميع الكائنات. أقول: هذه الرسالة قد طبعت مع عدة رسائل أخرى للشيخ مترجمة بالفرنسية أيضا، وكتبها الشيخ باسم تلميذه أبي عبد الله المعصومي الذي قال ابن سينا في حقه: أبو عبد الله مني بمنزلة أرسطا طاليس من أفلاطون. وكذا قال الخواجة في شرح الفصل السابع من رابع الإشارات في البحث عن العلة الغائية ما هذا لفظه: اعترض الفاضل الشارح بأنهم يثبتون للأفعال الطبيعية عللا غائية والقوى الطبيعية لا شعور لها فلا يمكن أن يقال تلك الغايات موجودة في أذهانها، ولا أن يقال إنها موجودة في الخارج لأن وجودها متوقف على وجود المعلولات، فإذن تلك الغايات غير موجودة، وغير الموجود لا يكون علة للموجود ولا خلاص عنه إلا بأن يقال: ليس للأفعال الطبيعية غايات. والجواب أن الطبيعة ما لم تقتض لذاتها شيئا كأين ما مثلا لا تحرك الجسم إلى حصول ذلك الشئ فكون ذلك الشئ مقتضاها أمر ثابت دال على وجود ذلك الشئ لها بالقوة وشعور ما لها به قبل وجوده بالفعل فهو العلة الغائية لفعلها، إنتهى. أقول: الحق أن الطبائع لها غايات وكل طبيعة تحب بقاءها وتعرج إلى كمالها والكل تسعى إلى غاية الغايات ومبدأ المبادئ الله رب العالمين، ونعم ما قال صاحب الحكمة المنظومة: وكل شئ غاية مستتبع حتى فواعل هي الطبائع وفي الأسفار: أن الله تعالى قد جعل لواجب حكمته في طبع النفوس محبة الوجود والبقاء وجعل في جبلتها كراهة الفناء والعدم، وهذا حق لأن طبيعة الوجود خير محض ونور صرف وبقاءه خيرية الخير ونورية النور (ج 4 ط 1 ص 163) بل أفاد الشيخ المعظم في الأول من ثانية نفس الشفاء أن حب الدوام أمر فائض من الإله على كل شئ (ج 1 ط 1 ص 294). أقول: ومما ينادى بأعلى صوتها أن الطبيعيات أيضا لها غايات هي وحدة النظام الحاكية عن وحدة الصنع والتدبير الدالة على أن الحياة والشعور سارية في الكل، وينتهي الأمر إلى أن الوجود المطلق الحق القيوم هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وأن الخلق هو الموجود المقدر القائم به قيام الفعل بفاعله والكلام بمتكلمه، وأن ما نزل من الموجودات من الصقع الربوبي ما نزل بكليته بل ملكوته بيده سبحانه وتعالى. وعليك بالتدبر فيما نتلوه عليك من منطق الوحي وبيان السنة تراجمه: (الذي خلق فسوى × والذي قدر فهدى) (الأعلى 3 و 4). (قال ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) (طه 51). (وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون) (الرعد 5). الباب السادس والثلاثون من توحيد الصدوق في الرد على الثنوية والزنادقة بإسناده عن هشام بن الحكم قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما الدليل على أن الله واحد؟ قال: اتصال التدبير وتمام الصنع، كما قال عز وجل: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا. وفي توحيد المفضل: يا مفضل إن اسم هذا العالم بلسان اليونانية الجاري المعروف عندهم قوسموس وتفسيره الزينة، وكذلك سمته الفلاسفة ومن ادعى الحكمة فكانوا يسمونه بهذا الاسم إلا لما رأوا فيه من التقدير والنظام فلم يرضوا أن يسموه تقديرا ونظاما حتى سموه زينة، ليخبروا أنه مع ما هو عليه من الصواب والاتقان على غاية الحسن والبهاء (البحار ج 2 ط 1 ص 45). 201 أقول: أما إثبات الغايات للحركات الطبيعية فقد تقدم البحث فيه (1) وأما العلل الاتفاقية فقد نفاها قوم (2) لأن السبب إن استجمع جهات المؤثرية لزم حصول
(1) في هذه المسألة حيث قال آنفا: أما الحركات الاسطقسية فقد أثبت الأوائل لها غايات.. الخ. (2) الحق أن كل ممكن فله سبب، والاتفاق في نظام العالم منفي، وكل ما يتوهم أنه اتفاقي فهو حق وجب وجوده إلا أن العامة يسمون نادر الوجود أو الذي سببه مجهول لهم اتفاقيا والنادر له سبب، والشئ ما لم يجب وجوده لا يتحقق قط، وما لم ينف جميع أنحاء العدم عنه لا يوجد. ونعم ما قال المتأله السبزواري في الحكمة المنظومة (ص 122). وليس في الوجود الاتفاقي إذ كل ما يحدث فهو راقي لعلل بها وجوده وجب يقول الاتفاق جاهل السبب وقال في تعليقته عليه: قولنا وليس في الوجود الاتفاقي رد على القائل بالاتفاق فيزعم لسوء ظنه أن المطر مثلا لضرورة المادة كائن إذ الشمس بخرت من البحار والأراضي الرطبة فإذا ارتفع البخار ووصل إلى الزمهرير برد وصار ماءا ونزل ضرورة فاتفق أن يتحقق مصالح شتى من غير قصد، ولم يعلم هذا الجاهل أنه لا يقع شئ في العالم ولو كان أحقر ما يتصور بدون علم الله وإرادته وقدرته المحيطة، وقد مر أن كل القوى والمبادئ مجالي مشيته وقدرته، فهب أن الشمس تبخر فمن الذي يسخرها ويديرها ويسيرها والنفس المتعلقة بها التي تجرها إلى الجنوب والشمال وتفعل الفصول الأربعة من أمر من هو وتجلى من عليه وبنور من يستضئ. وقوله: يقول الاتفاق جاهل السبب، ناظر إلى عبارة المحقق الطوسي في شرحه على منطق الإشارات في الفصل المبحوث فيه عن العرضي اللازم غير المقوم، حيث قال: لازم الشئ بحسب اللغة هو ما لا ينفك الشئ عنه، وهو إما داخل فيه أو خارج عنه، والأول هو الذاتي المقوم، والثاني هو المصاحب الدائم فإن المصاحب منه ما يصاحبه دائما، ومنه ما يصاحب وقتا ما، وسبب المصاحبة إما أن يكون بحيث يمكن أن يعلم أو لا يكون، والأول ينسب إلى اللزوم في العرف، والثاني ينسب إلى الاتفاق، فإن الاتفاق لا يخلو عن سبب ما إلا أن الجاهل بسببه ينسبه إلى الاتفاق (ص 18 ط 1). ونحوه ما قال في آخر شرح الفصل التاسع من النمط الثاني من الإشارات في بيان قول الشيخ وستعلم أن الاتفاق يستند إلى أسباب غريبة: الاتفاق ليس على ما يظن أنه لا يستند إلى سبب بل هو الذي يستند إلى سبب غريب يندر وجوده ولا يتفطن له فينسب إلى الاتفاق (ص 53 ط 1). أقول: تفصيل البحث عن ذلك يطلب في النمطين الرابع والخامس من الإشارات، ثم يجب عليك التمييز بين الاتفاق الذي يقول به المنطقي، وبين قول الحكيم من أن ما يوجد في الخارج ليس بإتفاقي، فالمنطقي يبحث عن اللزوم بين القضيتين وعدمها فما لم يكن بينهما لزوم يقول: إن القضية اتفاقية، كقولك: إذا كانت الشمس طالعة كانت الحمامة طائرة. وأما الفلسفي فيحكم بأن كل واحد من طرفي القضية في النظام الوجودي وجب وجوده فوجد، فتبصر. واعلم أن لمولانا مبين الحقائق الإمام الصادق صلوات الله عليه في المقام كلاما في توحيد المفضل ينبغي أن نتشرف بتبرك نقله، قال عليه السلام (البحار ج 2 ط 1 ص 46 و 47): فأما أصحاب الطبائع فقالوا: إن الطبيعة لا تفعل شيئا لغير معنى ولا [تتجاوز] عما فيه تمام الشئ في طبيعته، وزعموا أن المحنة تشهد بذلك فقيل لهم: فمن أعطى الطبيعة هذه الحكمة والوقوف على حدود الأشياء بلا مجاوزة لها، وهذا قد تعجز عنه العقول بعد طول التجارب؟ فإن أوجبوا للطبيعة الحكمة والقدرة على مثال هذه الأفعال فقد أقروا بما أنكروا لأن هذه هي صفات الخالق، وإن أنكروا أن يكون هذا للطبيعة فهذا وجه الخلق يهتف بأن الفعل للخالق الحكيم. وقد كان من القدماء طائفة أنكروا العمد والتدبير في الأشياء، وزعموا أن كونها بالعرض والاتفاق، وكانوا مما احتجوا به هذه الإناث التي تلد غير مجرى العرف والعادة كالانسان يولد ناقصا أو زائدا إصبعا ويكون المولود مشوها مبدل الخلق، فجعلوا هذا دليلا على أن كون الأشياء ليس بعمد وتقدير بل بالعرض كيف ما اتفق أن يكون. وقد كان أرسطا طاليس رد عليهم فقال: إن الذي يكون بالعرض والاتفاق إنما هو شئ في الفرط مرة مرة لأعراض تعرض للطبيعة فتزيلها عن سبيلها وليس بمنزلة الأمور الطبيعية الجارية على شكل واحد جريا دائما متتابعا. وأنت يا مفضل ترى أصناف الحيوان أن يجري أكثر ذلك على مثال ومنهاج واحد كالانسان يولد وله يدان ورجلان وخمس أصابع كما عليه الجمهور من الناس. فأما ما يولد على خلاف ذلك فإنه لعلة تكون في الرحم أو في المادة التي ينشأ منها الجنين، كما يعرض في الصناعات حين يتعمد الصانع الصواب في صنعته فيعوق دون ذلك عائق في الأداة، أو في الآلة التي يعمل فيها الشئ، فقد يحدث مثل ذلك في أولاد الحيوان للأسباب التي وصفنا فيأتي الولد زائدا أو ناقصا أو مشوها ويسلم أكثرها فيأتي سويا لا علة فيه، فكما أن الذي يحدث في بعض الأعمال الأعراض لعلة فيه لا توجب عليها جميعا الاهمال وعدم الصانع، كذلك ما يحدث على بعض الأفعال الطبيعية لعائق يدخل عليها لا يوجب أن يكون جميعها بالعرض والاتفاق. فقول من قال في الأشياء أن كونها بالعرض والاتفاق من قبل أن شيئا منها يأتي على خلاف الطبيعة يعرض له خطأ وخطل. فإن قالوا: ولم صار مثل هذا يحدث في الأشياء؟ قيل لهم: ليعلم أنه ليس كون الأشياء باضطرار من الطبيعة ولا يمكن أن يكون سواه كما قال قائلون، بل هو تقدير وعمد من خالق حكيم، إذ جعل الطبيعة تجري أكثر ذلك على مجرى ومنهاج معروف، ويزول أحيانا عن ذلك لأعراض تعرض لها فيستدل بذلك على أنها مصرفة مدبرة فقيرة إلى إبداء الخالق وقدرته في بلوغ غايتها وإتمام عملها تبارك الله أحسن الخالقين. أقول: تبجيل الإمام عليه السلام أرسطا طاليس بما نطق فيه من لسان العصمة حجة على المتقشفين الذين ليس لهم إلا إزراء العلم وذويه بما أوهم فيهم نفوسهم الأمارة بالسوء والإيذاء فهؤلاء بمعزل عن سبيل الولاية وإلا فهذا ولي الله الأعظم يبجل العلم والعالم. وكفى بأرسطا طاليس فخرا أن حجة الله على خلقه نطق باسمه تبجيلا وارتضى سيرته السنية المضيئة بأنه كان يسلك الناس إلى بارئهم من طريق وحدة الصنع والتدبير، ويوقظ عقولهم بأن الاتفاقي لا يكون جاريا دائما متتابعا وما هو سنة دائمة لا تبدل ولا تحول فهو تحت تدبير الملكوت، فكأن الأصل ما هو قبل الطبيعة وفوقها وبعدها. قال العالم الأوحدي محمد الديلمي في محبوب القلوب (ص 14 ط 1): يروى أن عمرو بن العاص قدم من الإسكندرية على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسأله عما رأى؟ فقال: رأيت قوما يتطلسون ويجتمعون حلقا ويذكرون رجلا يقال له أرسطو طاليس لعنه الله. فقال صلوات الله وتسليماته عليه وآله: مه يا عمرو! إن أرسطو طاليس كان نبيا فجهله قومه. قال الديلمي: قال الفاضل الشهرزوري في تأريخ الحكماء: هكذا سمعناه. ثم قال الديلمي: أقول ويؤيد هذه الرواية ما نقل السيد الطاهر ذو المناقب والمفاخر رضي الدين علي بن طاووس قدس الله روحه في كتابه فرج المهموم في معرفة الحلال والحرام من علم النجوم قولا بأن ابرخس وبطليموس كانا من الأنبياء، وأن أكثر الحكماء كانوا كذلك وإنما التبس على الناس أمرهم لأجل أسمائهم اليونانية، أي لما كانت أسماؤهم موافقة لأسماء بعض حكماء يونان الذين ينسب إليهم فساد الاعتقاد اشتبه على الناس حالهم وظنوا أن أصحاب تلك الأسامي بأجمعهم على نهج واحد من الاعتقاد. واعلم أن الشيخ سلك في الشفاء مسلك وحدة الصنع والتدبير على رد القائلين بالبخت والاتفاق أيضا. وقد أشبع البحث عن ذلك وأجاد في الفصلين الثالث عشر والرابع عشر من المقالة الأولى منه في الفرق القائلين بالبخت والاتفاق ونقض حججهم (ج 1 ط 1 ص 25 - 33) وهذان الفصلان من غرر فصول الشفاء جدا، ومن كلماته السامية في الثاني منهما: ولنمعن النظر في مثل تكون السنبلة عن البرة باستمداد المادة عن الأرض، والجنين عن النطفة باستمداد المادة عن الرحم هل ذلك بالاتفاق؟ ونجده ليس بإتفاقي بل أمرا توجبه الطبيعة وتستدعيه قوة. وكذلك لنساعد أيضا على قولهم: إن المادة التي للثنايا لا تقبل إلا هذه الصورة، لكنا نعلم أنها لم يحصل لهذه المادة هذه الصورة لأنها لا تقبل إلا هذه الصورة بل حصلت هذه المادة لهذه الصورة لأنها لا تقبل إلا هذه الصورة فإنه ليس البيت إنما رسب فيه الحجر وطفى الخشب، لأن الحجر أثقل والخشب أخف، بل هناك صنعة صانع لم يصلح لها إلا أن يكون نسب مواد ما تفعله هذه النسبة فجاء بها على هذه النسبة، والتأمل الصادق يظهر صدق ما قلناه وهو أن البقعة الواحدة إذا سقط فيها حبة برة أنبتت سنبلة برة أو حبة شعير أنبتت سنبلة شعير، ويستحيل أن يقال: إن الأجزاء الأرضية والمائية تتحرك بذاتها وتنفذ في جوهر البرة وتربيه فإنه سيظهر أن تحركها عن مواضعها ليس لذاتها، والحركات التي لذاتها معلومة فيجب أن يكون تحركها أنما هو يجذب قوى مستكنة في الحبات جاذبة بإذن الله. وإن كانت الأمور تجري اتفاقا فلم لا ينبت البرة شعيرة؟ ولم لا يتولد شجرة مركبة من تين وزيتون كما يتولد عندهم بالاتفاق عنز أيل؟ ولم لا يتكرر هذه النوادر بل يبقى الأنواع محفوظة على أكثر؟ إلى آخر ما أفاد. وقال العارف الرومي في المثنوي: هيچ گندم كارى وجوبردهد ديده اى اسبى كه كره خر دهد 202 مسببه قطعا وإلا كان منتفيا فلا مدخل للاتفاق. والجواب أن المؤثر قد يتوقف تأثيره على أمور خارجة عن ذاته غير دائمة الحصول معه، فيقال لمثل ذلك السبب من دون الشرائط أنه اتفاقي إذا كان انفكاكه مساويا أو راجحا، ولو أخذناه مع تلك الشرائط كان سببا ذاتيا. المسألة السادسة عشرة في أقسام العلة قال: والعلة مطلقا قد تكون بسيطة وقد تكون مركبة. أقول: يعني بالاطلاق ما يشتمل العلل الأربع أعني المادية والصورية والفاعلية والغائية، فإن كل واحدة من هذه الأربع تنقسم إلى هذه الأقسام، فالعلة الفاعلية عند المحققين قد تكون بسيطة كتحريك الواحد منا جسما ما، وقد تكون مركبة كتحريك جماعة جسما أكبر. ومنع بعض الناس من التركيب في العلل وإلا لزم نفيها، لأن كل مركب فإن عدم كل جزء من أجزائه علة مستقلة في عدمه، فلو عدم جزء من العلة المركبة لزم
206 عدم العلة، فإذا عدم جزء ثان لم يكن له تأثير البتة لتحقق العدم بالجزء الأول، ولأن الموصوف بالعلة (1) إما كل واحد من أجزائه فيلزم تعدد العلل وانتفاء التركيب وهو المطلوب، أو بعضها (2) وهو المطلوب أيضا مع انتفاء الأولوية، أو المجموع وهو باطل لأن كل جزء لم يكن علة فعند الاجتماع إن لم يحصل أمر لم يكن المجموع علة، وإن حصل عاد الكلام في علة حصوله. وهذان ضعيفان (3) لاقتضائهما انتفاء المركبات سواء كانت عللا أم لا وهو باطل (4) بالضرورة والمادة المركبة (5) كالزاج والعفص في الحبر، والصورة المركبة كالإنسانية المركبة من أشكال مختلفة (6)، والغاية المركبة كالحركة لشراء المتاع ولقاء الحبيب. قال: وأيضا بالقوة أو بالفعل. أقول: هذه المبادئ الأربعة قد تكون بالقوة فإن الخمر فاعل للإسكار في الدن بالقوة، وقد تكون بالفعل كالخمر مع الشرب. والمادة قد تكون بالفعل كالجنين للانسانية، وقد تكون بالقوة كالنطفة. والصورة بالقوة كالمائية الحالة في الهواء بالقوة، وقد تكون بالفعل كالمائية الحالة في مادتها.
(1) دليل آخر. (2) عطف على كل واحد، وكذلك قوله: أو المجموع. (3) أي الدليلان. (4) أي ذلك الاقتضاء باطل. (5) والمادة البسيطة كهيوليات البسائط العنصرية، والصورة البسيطة كصور هذه البسائط، والغاية البسيطة كوصول كل منها إلى مكانه الطبيعي، ولعلها لوضوحها لم يذكرها الشارح. عبارة الشيخ في الثاني من أولى طبيعيات الشفاء (ص 8 ط 1 ج 1) كقولنا عن الزاج والعفص كان المداد (كان الحبر - خ -)، وفي الثالث منها: والعفص والزاج للحبر. (6) أي من صور أعضائها الآلية وإلا فالصورية لا تكون مركبة، وقد مضى في آخر المسألة الرابعة عشرة من هذا الفصل أن الصورة واحدة. قال الشيخ في الثاني عشر من أولى طبيعيات الشفاء: الصورة المركبة مثل صورة الانسانية التي تحصل من عدة قوى وصور تجتمع، فتدبر. 207 والغاية بالقوة هي التي يمكن جعلها كذلك وبالفعل هي التي حصل منها ذلك. قال: وكلية أو جزئية. أقول: هذه العلل (1) قد تكون كلية كالبناء مطلقا، وقد تكون جزئية كهذا البناء وكذلك البواقي. قال: وذاتية أو عرضية. أقول: العلة قد تكون ذاتية وهي التي يستند المعلول إليها بالحقيقة كالنارية في الاحراق، وقد تكون عرضية وهي أن تقتضي العلة شيئا ويتبع ذلك الشئ شئ آخر كقولنا: السقمونيا مبرد، فإنه بالعرض كذلك لأنه يقتضي بالذات إزالة السخونة ويتبعها حصول البرودة. وكذلك البواقي فإن المادة الذاتية هي محل الصورة والعرضية هي تلك مأخوذة مع عوارض خارجة، والصورة الذاتية هي المقومة كالإنسانية والعرضية هي ما يلحقها من الأعراض اللازمة أو المفارقة، والغاية الذاتية هي المطلوبة لذاتها والعرضية هي ما يتبع المطلوب. وقد تطلق العلة العرضية على ما مع العلة (2). قال: وعامة أو خاصة. أقول: العلة العامة هي التي تكون جنسا للعلة الحقيقية كالصانع في البناء والخاصة كالباني فيه ولا يتحقق العموم والخصوص في الصور (3).
(1) قد ذكر مثالا للفاعلية الكلية والجزئية فقط، وأمثلة البواقي غير خفية. (2) أي وصف ملازم للعلة كما يأتي في المسألة الآتية قوله: ومن العلة العرضية ما هو معد، وجعله ثاني الاعتبارين هناك. (3) قال الشيخ في الفصل الثاني عشر من أولى طبيعيات الشفاء: الصورة الخاصة لا تخالف الجزئية وهو مثل حد الشئ أو فصل الشئ أو خاصة الشئ. والعامة فلا تفارق الكلية وهو مثل الجنس للخاصة: إنتهى ما أردنا من نقل كلامه. الظاهر أن مراد الشيخ من قوله: الصورة الخاصة لا تفارق الجزئية والعامة الكلية، هو أن الأقسام بأسرها غير جارية في الصورة. وبعبارة أخرى أن الأقسام المذكورة وهي أن العلة مطلقا بسيطة ومركبة، وبالقوة أو بالفعل، وكلية وجزئية، وذاتية وعرضية، وعامة وخاصة، وقريبة وبعيدة، ومشتركة أو خاصة، جارية بأسرها في غير الصورة وأما في الصورة فالكلية والجزئية والعموم والخصوص فيها واحد. والمراد من التمثيل هو أن حد الشئ أو فصل الشئ أو خاصة الشئ كما لا يوجد في غير هذا الشئ المخصوص فكذلك الصورة الجزئية كصورة هذا الكرسي لا توجد إلا جزئية. وقوله وهو مثل الجنس للخاصة، ولم يقل: للنوع، لأن الجنس بالنسبة إلى النوع ليس صورة له بل مادة، فنقول: إن قول الشارح العلامة ولا يتحقق العموم والخصوص في الصورة، يشبه أن يكون مشيرا إلى ما قاله الشيخ من أنه لما كانت الصورة الخاصة والجزئية وكذلك العامة والكلية بمعنى فلا حاجة بعد ذكر أحدهما إلى ذكر الآخر، فتأمل. وقيل: إنه لا فرق بين الصورة العامة والصورة الكلية كذلك لا فرق بين المادة العامة والكلية، والفاعل العام والكلي، والغاية العامة والكلية، فلا حاجة إلى اعتبار العامة بعد الكلية. ولكن لا يبعد أن يكون مراد الشارح من عدم تحققهما فيها ما قاله بعضهم من أن الفاعل العام والغاية والمادة العامتان، يصح وجود فرد مخصوص من أحدها يكون فاعلا أو مادة أو غاية لأشياء كثيرة بخلاف الصورة فإنه لا يمكن وجود فرد منها مخصوص يصلح لكونه صورة لأشياء كثيرة وإلا لزم اتحاد الاثنين، ويشبه أن يكون حمل كلامه على هذا الوجه أولى وألزم. 208 قال: وقريبة أو بعيدة. أقول: العلة القريبة هي التي لا واسطة بينها وبين المعلول كالميل في الحركة، والبعيدة هي علة العلة كالقوة الشوقية وكذا البواقي. قال: ومشتركة أو خاصة. أقول: المشتركة كالنجار لأبواب متعددة، والخاصة كالنجار لهذا الباب. قال: والعدم للحادث (1) من المبادئ العرضية. أقول: الحادث هو الموجود بعد أن لم يكن، وهو أنما يتحقق بعد سبق عدم علته، فلما توقف تحققه على العدم السابق أطلقوا على العدم اسم المبدأ بالعرض ومبدئه بالذات هو الفاعل لا غير. قال: والفاعل في الطرفين واحد.
(1) وفي (ت): فالعدم. والباقية: والعدم للحادث بالواو. 209 أقول: الفاعل في الوجود هو بعينه الفاعل في العدم على ما بينا (1) أولا من أن علة العدم هي عدم العلة لا غير، والمؤثر في طرفي المعلول هو العلة لا غير لكن مع حضورها تقتضي الوجود ومع عدمها تقتضي العدم. قال: والموضوع كالمادة. أقول: الموضوع أيضا من العلل التي يتوقف وجود الحال عليها ونسبته إلى الحال نسبة المادة إلى الصورة فهو من جملة العلل. المسألة السابعة عشرة في أن افتقار المعلول أنما هو في الوجود أو العدم قال: وافتقار الأثر أنما هو في أحد طرفيه أقول: الأثر له ماهية وله وجود وعدم، وافتقاره إلى المؤثر أنما هو في أن يجعله موجودا أو معدوما، إذ التأثير أنما يعقل في أحد الطرفين أما الماهية فلا يعقل التأثير فيها، فليس السواد سوادا بالفاعل بل وجوده وعدمه بالفاعل. قال: وأسباب الماهية غير أسباب الوجود. أقول: أسباب الماهية باعتبار الوجود الذهني هي الجنس والفصل وباعتبار الخارج هي المادة والصورة وأسباب الوجود هي الفاعل والغاية. قال: ولا بد للعدم من سبب وكذا في الحركة. أقول: قد بينا أن نسبة طرفي الوجود والعدم إلى الممكن واحدة، فلا يعقل اتصافه بأحدهما إلا بسبب، فكما افتقر الممكن في وجوده إلى السبب افتقر في عدمه إليه وإلا لكان ممتنع الوجود لذاته.
(1) بين في المسألتين الثامنة عشرة والثالثة والأربعين من الفصل الأول، وسيذكره في المسألة الآتية أيضا. 210 لا يقال: الموجود منه ما هو باق (1) ومنه ما هو غير باق كالحركات والأصوات، والأول يفتقر عدمه إلى السبب، أما النوع الثاني فإنه يعدم لذاته. لأنا نقول: يستحيل أن يكون العدم ذاتيا لشئ وإلا لم يوجد، والحركة لها علة في الوجود فإذا عدمت أو عدم أحد شروطها عدمت وكذا الأصوات، فلا فرق بين الحركات وغيرها. قال: ومن العلل المعدة ما يؤدي إلى مثل أو خلاف أو ضد. أقول: العلل تنقسم إلى المعد وإلى المؤثر، والمعد يعني به ما يقرب العلة إلى معلولها بعد بعدها عنه وهو قريب من الشرط. والعلة المعدة إما أن تؤدي إلى ما يماثلها كالحركة إلى المنتصف فإنها معدة للحركة إلى المنتهى وليست فاعلة لها بل الفاعل للحركة إما الطبيعة أو النفس لكن فعل كل واحد منهما في الحركة إلى المنتهى بعيد وعند حصول الحركة إلى المنتصف يقرب تأثير أحدهما في المعلول الذي هو الحركة إلى المنتهى، وإما أن تؤدي إلى خلافها كالحركة المعدة للسخونة، وإما أن تؤدي إلى ضد كالحركة المعدة للسكون عند الوصول إلى المنتهى. قال: والأعداد قريب وبعيد. أقول: الأعداد منه ما هو قريب وذلك كالجنين المستعد لقبول الصورة الانسانية، ومنه ما هو بعيد كالنطفة لقبولها وكذلك العلة المعدة قد تكون قريبة وهي التي يحصل المعلول عقيبها وقد تكون بعيدة وهي التي لا تكون كذلك، وتتفاوت العلل في القرب والبعد على حسب تفاوت الأعداد وهو قابل للشدة والضعف. قال: ومن العلل العرضية ما هو معد. أقول: قد بينا (2) أن العلة العرضية تقال باعتبارين: أحدهما: أن تؤثر العلة
(1) كما في (م). والنسخ الأخرى كلها: منه ما هو قار ومنه ما هو غير قار. (2) بين في المسألة السابقة عند قوله: وذاتية وعرضية. الاعتبار الأول هو قوله: وهي أن تقتضي العلة شيئا، والثاني في آخر الشرح وهو قوله: وقد تطلق العلة العرضية.. الخ. ثم عبارة المتن أعني قوله: ومن العلل العرضية ما هو معد، موافقة لنسخة (ز). والباقية: ومن العلة العرضية، بالأفراد. 211 شيئا ويتبع ذلك الشئ شئ آخر كقولنا: الحرارة تقتضي الجمع بين المتماثلات فإنها لذاتها تقتضي الخفة، فما هو أخف في المركب يقبل السخونة أشد فينفصل عن صاحبه ويطلب الصعود فيعرض له أن يجتمع مع مماثله، والثاني أن يكون للعلة وصف ملازم، فيقال له علة عرضية والأول علة معدة.
212 قال: المقصد الثاني في الجواهر والأعراض وفيه فصول:
213 الأول في الجواهر الممكن إما أن يكون (1) موجودا في الموضوع وهو العرض أو لا وهو الجوهر. أقول: لما فرغ من البحث عن الأمور الكلية المعقولة شرع في البحث عن الموجودات الممكنة وهي الجواهر والأعراض، وفي هذا الفصل مسائل: المسألة الأولى في قسمة الممكنات بقول كلي كل ممكن موجود إما أن يكون موجودا لا في موضوع وهو الجوهر، وإما أن يكون موجودا في موضوع وهو العرض، ونعني بالموضوع المحل المتقوم بذاته المقوم لما يحل فيه، فإن المحل إما أن يتقوم بالحال أو يقوم الحال، إذ لا بد من حاجة أحدهما إلى الآخر، فالأول يسمى المادة والثاني يسمى الموضوع، والحال في الأول يسمى صورة وفي الثاني يسمى عرضا، فالموضوع والمادة يشتركان اشتراك أخصين تحت أعم واحد هو المحل، والصورة والعرض يشتركان اشتراك أخصين تحت أعم واحد هو الحال. والموضوع أخص من المحل، وعدم الخاص
(1) حرف التعريف للعهد، وقد تقدم في المسألة الحادية والعشرين من الفصل الأول من المقصد الأول قوله: وقسمة كل منهما إلى الاحتياج والغنى حقيقية، وفي مواضع أخرى أيضا. 214 أعم من عدم العام، فكل ما ليس في محل فهو ليس في موضوع ولا ينعكس، ولهذا جاز أن يكون بعض الجواهر حالا في غيره، ولما كان تعريف العرض يشتمل على القيد الثبوتي قدمه في القسمة على الجوهر. قال: وهو إما مفارق في ذاته وفعله وهو العقل، أو في ذاته وهو النفس، أو مقارن فإما أن يكون محلا (1) وهو المادة، أو حالا وهو الصورة، أو ما يتركب منهما وهو الجسم. أقول: هذه قسمة الجوهر إلى أنواعه، فإن الجوهر إما أن يكون مفارقا في ذاته وفعله للمادة وهو المسمى بالعقل، أو مفارقا في ذاته لا فعله وهو النفس الناطقة فإنها مفارقة للمادة في ذاتها ووجودها دون فعلها لاحتياجها إلى الآلة في التأثير، ولا يمكن أن يكون مفارقا في فعله دون ذاته لأن الاستغناء في التأثير يستدعي * (هامش ثان) * 1 - يعني على تقدير تفسير المفارق بالمفارق عن المادة، والمقارن بالمقارن لها. 2 - ذلك المعنى الأعم هو القابل الذي يكون ذا وضع. 3 - وذلك لأن الجسم على رأيه ليس مركبا من الهيولى والصورة بل الجسم عنده هو نفس الصورة الجسمية كما يأتي. (* *)
(1) أورد القوشجي عليه بأن جعل المادة من أقسام المقارن للمادة نوع حزازة، فالأولى أن يقال: أو غير مفارق بدل قوله: أو مقارن. وكذا في استعمال المادة قبل أن يخرج من التقسيم فالأولى تأخير تقسيم الجواهر إلى المفارق وغيره عن تقسيمه إلى المادة والصورة. وصاحب الشوارق فسره هكذا: إما مفارق عن الوضع أو مقارن للوضع، ولا يخفى أن إيراد القوشجي لا يرد على هذا التفسير. ثم قال في الشوارق تعريضا عليه: وأنت خبير بأنه على هذا التقدير (1) أيضا لا يجب أن يكون المراد من المادة هو المحل المتقوم بالحال ليرد ما ذكره فإن للمادة معنى أعم منه (2) ومن الموضوع ومن نفس الجسم ومن الأجزاء التي لا تتجزأ، ألا ترى أن الطوائف كلها يطلقون لفظي المادة والمادي مع أن غير المشائين لا يقولون بالمادة بمعنى المحل المتقوم بالحال، بل تفسير المفارق بالمفارق عن المادة هنا غير صحيح وإلا لزم كون الجسم على مذهب المصنف غير مادي (3) بل من المجردات إذ يصدق عليه المفارق بهذا المعنى، إنتهى. 215 الاستغناء في الذات، وإما أن يكون مقارنا للمادة فإما يكون محلا وهو الهيولى أو حالا وهو الصورة، أو ما يتركب منهما وهو الجسم، فهذه أقسام الجواهر. قال: والموضوع والمحل يتعاكسان وجودا وعدما في العموم والخصوص، وكذا الحال والعرض. أقول: قد بينا أن الموضوع أخص من المحل فعدمه يكون أعم من عدم المحل، فقد تعاكس الموضوع والمحل في العموم والخصوص باعتبار الوجود والعدم، وكذا الحال والعرض فإن العرض أخص من الحال فعدمه أعم. قال: وبين الموضوع والعرض مباينة. أقول: الموضوع هو المحل المتقوم بذاته المقوم لما يحل فيه والعرض لا يتقوم بذاته، فبينهما مباينة. قال: ويصدق العرض على المحل والحال جزئيا (1). أقول: المحل قد يكون جوهرا وهو ظاهر، وقد يكون عرضا (2) على خلاف بين الناس فيه فيصدق بعض المحل عرض، والحال أيضا قد يكون جوهرا كالصورة الحالة في المادة، وقد يكون عرضا وهو ظاهر فيصدق بعض الحال
(1) أي لا كليا فإن الحركة القائمة بالجسم محل السرعة والبطء عند المتكلم كما يأتي في المسألة الخامسة من هذا الفصل، وأما عند الحكيم المشائي أن السرعة مثلا ليست عرضا قائما بالحركة بل هي فصل مقوم لها. ومن المحل ما هو جوهر وكذا الحال كالمادة والصورة عند المشاء، فبين المحل والعرض عموم وخصوص من وجه، فمادة الاجتماع هي الحركة فإنها عرض على الجسم ومحل للسرعة والبطء. ومادتا الافتراق الجسم والسرعة فإن الأول محل ليس بعرض، والثانية عرض ليس بمحل، وكذا بين المحل والحال عموم وخصوص من وجه كما لا يخفى. والحال يصح أن يكون عطفا على المحل كما يصح أن يكون عطفا على العرض، أي ويصدق الحال أيضا على المحل جزئيا لا كليا. واختار صاحب الشوارق الثاني لأن النسبة بين الحال والعرض قد مرت فيلزم التكرار. (2) كالحركة بالنسبة إلى السرعة والبطء، والمحل أعم من الموضوع. 216 عرض فقد ظهر صدق العرض على المحل والحال جزئيا. المسألة الثانية في أن الجوهر والعرض ليسا جنسين لما تحتهما قال: والجوهرية والعرضية من ثواني المعقولات (1) لتوقف نسبة إحداهما
(1) جعل المعلم الأول المعولات منحصرة في العشر: إحداها مقولة الجوهر حيث إنه جنس لأنواعه الخمسة، والتسع الباقية الأعراض التسعة المشهورة. ولكن بعضهم كابن سهلان الساوجي صاحب البصائر، والشيخ الإشراقي وغيرهما كل أخذ مذهبا ولا يهمنا نقل تلك المذاهب. وأما ما ذهب إليه المصنف من نفي جنسية الجوهر والعرض لما تحتهما بأدلته الثلاثة فأورد عليها بأسرها بأن ما ذكره في الدليل الأول من احتياج إثبات كثير من الجواهر كالنفوس الناطقة والصور النوعية، وكذا في إثبات عرضية كثير من الأعراض كالمقادير والألوان والأضواء مثلا إلى وسط أي نظر واستدلال، ولو كانا جنسين لما تحتهما لما احتجنا إليه لأن ذاتي الشئ يكون بين الثبوت لذلك الشئ، فهو يتم لو كان الشئ متصورا بالكنه ولو تصور بالكنه لأمكن أن لا نحتاج إلى وسط أصلا. وبأن ما أتى به في الدليل الثاني من أنهما مقولان على ما تحتهما من الأنواع بالتشكيك، لأن بعض أنواع الجوهر كالمجرد أولى بالجوهرية من آخر كالمادة مثلا، وكذلك العرض بعضه كغير القار أولى بالعرضية من البعض كالقار والذاتي لا يكون مقولا بالتشكيك، فهو لا يتم لأن التشكيك ناش من الوجود فإن الجوهر من حيث الوجود أقدم وأقوم من آخر. وأما بلحاظ الجوهر فليس فيه تقديم وتأخير لأن معنى الجوهر هو الموجود لا في موضوع أنه ماهية يلزمها في الأعيان إذا وجدت أن يكون وجودها لا في موضوع، لا أنه كان الموجود بالفعل، مثل ما يقال: فلان ضاحك، أي من شأنه عند التعجب أن يضحك فلا ريب أنا إذا قلنا في شئ: موجود أو معدوم، نجد أنه ماهية إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع، وأن هذا المعنى مقوم لذلك الشئ وذاتي له والجنس يدل على طبيعة الأشياء وماهياتها بخلاف العرض ولو عبرنا عنه بأنه ماهية من شأنها الوجود في الموضوع كان هذا المعنى لا يدل على طبيعة الأعراض وحقيقتها، فإن معنى العرض سلب القيام بنفسه ونسبته إلى شئ آخر وهذا ما يلحق ويعرض ماهية الأعراض ولا يدل على ماهيتها، مثلا أن العرض لا يدل على طبيعة البياض والسواد وغيرها بل على أن له نسبة إلى ما هو فيه، وعلى أنه ذاتي يقتضي هذه النسبة كما أفاده الشيخ في منطق الشفاء والنمط الرابع من الإشارات. وأما ما أتى به في الثالث من أنا لا نعقل من الجوهر سوى المستغنى عن الموضوع، ومن العرض المحتاج إليه وهما مفهومان إضافيان ومثل ذلك لا يمكن أن يكون إلا عرضيا، فهو في العرض صحيح لا كلام فيه، وأما في الجوهر فلا، وذلك لما قلنا من أنا نتصور من الجوهر ماهية شأنها إذا وجدت في الخارج لا يكون في موضوع وهذا المعنى هو حقيقة الجوهر وكنهه، والاستغناء عن الموضوع المتصور من الجوهر وجه من وجوهه وعارض من عوارضه. فتبين لك أن نفي الجنسية في العرض صحيح إلا أن الدليلين الأولين عليلان، والجوهر جنس والأدلة الثلاثة في نفيه مردودة. 217 على وسط. أقول: اتفق العقلاء على أن العرض من حيث هذا المفهوم ليس جنسا لما تحته بل هو أمر عرضي، واختلفوا في الجوهر هل هو جنس لما تحته أو عارض؟ والذي اختاره المصنف رحمه الله أنه عارض وجعل الجوهرية والعرضية من المعقولات الثانية، فإن كون الذات مستغنية عن المحل أو محتاجة إليه أمر زائد على نفس الذات من الأمور الاعتبارية وحكم من أحكامها الذهنية، واستدل عليه بأن الذهن يتوقف في نسبة إحداهما إلى الذات على وسط (1) ولهذا احتجنا إلى الاستدلال على عرضية الكميات والكيفيات وجوهرية النفوس وأشباه ذلك، وجنس الشئ لا يجوز أن يتوقف ثبوته له على البرهان، وهذا الذي ذكره رحمه الله يدل على الزيادة لا على كونه من المعقولات الثانية. قال: واختلاف الأنواع بالأولوية. أقول: هذا دليل ثان على كون الجوهر عرضا عاما لجزئياته لا جنسا لها، وذلك لأن بعض الجزئيات أولى بالجوهرية من بعض، فإن الشخصيات أولى بالجوهرية من الكليات ولا تفاوت في الأجناس، وهو أيضا يدل على كون العرض عرضيا لوقوع التفاوت فيه بين جزئياته، فإن الأعراض القارة أولى بالعرضية من غيرها.
(1) أي على دليل، لأن الوسط ما يقارن قولنا لأنه. 218 قال: والمعقول اشتراكه عرضي. أقول: إنا نعقل بين الجسم والعقل والنفس والمادة والصورة أمرا مشتركا هو الاستغناء عن المحل ولا نعقل بينها اشتراكا في غيره وهذا القدر أمر عرضي، فالجوهرية إن جعلت عبارة عن هذا الاعتبار كانت عرضا عاما، وإن جعلت عبارة عن الماهية المقتضية لهذا الاعتبار فليس هنا ماهية للجسم وراء كونه جسما وكذلك البواقي، وهذه الماهيات تقتضي هذا الاعتبار وإن اختلفت مع اشتراكه، وكذلك البحث في العرض فإنا نعقل الاشتراك بين الكم والكيف وباقي الأعراض في الحاجة إلى المحل والعرضية في الوجود وهذا المعنى أمر اعتباري فليست العرضية جنسا. المسألة الثالثة في نفي التضاد عن الجواهر قال: ولا تضاد بين الجواهر ولا بينها وبين غيرها (1). أقول: لما فرغ من تعريف الجوهر والعرض وبيان أنهما ليسا بجنسين شرع في باقي أحكامهما فبين انتفاء الضدية عن الجواهر على معنى أنه لا ضد للجوهر من الجواهر ولا من غيرها، وبيانه أن الضد هو الذات الوجودية المعاقبة لذات أخرى وجودية في الموضوع مع كونها في غاية البعد عنها (2) وقد بينا أن الجوهر لا موضوع له فلا يعقل فيه هذا المعنى لا بالنظر إلى جوهر آخر ولا بالنظر إلى غيره من الأعراض. قال: والمعقول من الفناء العدم. أقول: لما بين انتفاء الضد عن الجوهر أخذ يرد على أبي هاشم وأتباعه حيث
(1) وفي (ت) وحدها: ولا بينها وبين عرضها، وأما النسخ الأخرى كلها فالعبارة: ولا بينها وبين غيرها. (2) هذا هو تقابل الضدين بحسب التحقيق أي التضاد الحقيقي مقابل المشهوري، وقد تقدم الكلام في ذلك في الحادية عشرة من ثاني الأول. 219 جعلوا للجواهر أضدادا هي الفناء، فقال: إن المعقول من الفناء العدم وليس الفناء أمرا وجوديا يضاد الجوهر لأنه إما جوهر أو عرض، والقسمان باطلان فلا تحقق له. قال: وقد يطلق التضاد على البعض باعتبار آخر. أقول: إن بعض الجواهر قد يطلق عليه أنه ضد للبعض الآخر لكن يؤخذ التضاد باعتبار آخر وهو التنافي في المحل مطلقا (1) وحينئذ يكون بعض الصور الجوهرية يضاد البعض الآخر. المسألة الرابعة في أن وحدة المحل لا تستلزم وحدة الحال قال: ووحدة المحل لا تستلزم وحدة الحال إلا مع التماثل بخلاف العكس. أقول: المحل الواحد قد يحل فيه أكثر من حال واحد مع الاختلاف كالجسم الذي يحله السواد والحركة والحرارة، وكالمادة التي تحل فيها الصور الجسمية والنوعية. هذا مع الاختلاف، أما مع التماثل فإنه لا يجوز أن يحل المثلان محلا واحدا لاستلزامه رفع الاثنينية لانتفاء الامتياز بالذاتيات واللوازم لاتفاقهما فيهما، وبالعوارض لتساوي نسبتهما إليها. فقد ظهر أن وحدة المحل لا تستلزم وحدة الحال إلا مع التماثل، وأما العكس فإنه يستلزم فإن وحدة الحال تستلزم وحدة المحل لاستحالة حلول عرض واحد أو صورة واحدة في محلين وهو ضروري، وكلام أبي هاشم في التأليف (2) وبعض
(1) أي تقابل الضدين بحسب الشهرة، وقد تقدم الفرق بين المحل والموضوع آنفا في أول هذا المقصد. (2) إن أبا هاشم ذهب إلى أن التأليف عرض واحد قائم بجوهرين فردين وأن هذا هو الموجب لصعوبة الانفكاك بين أجزاء الجسم. 220 الأوائل في الإضافات (1) خطأ. قال: وأما الانقسام فغير مستلزم في الطرفين. أقول: انقسام المحل لا يستلزم (2) انقسام الحال، فإن الوحدة والنقطة والإضافات كالأبوة والبنوة أعراض قائمة بمحال منقسمة وهي غير منقسمة، أما الوحدة والنقطة فظاهر، وكذا الإضافة فإنه لا يعقل حلول نصف الأبوة أو البنوة في نصف ذات الأب أو الأبن. وذهب قوم إلى أن انقسام المحل يقتضي انقسام الحال لاستحالة قيامه مع وحدته بكل واحد من الأجزاء وتوزيعه عليها وانتفاء حلوله فيها، وأما الحال فإنه لا يقتضي انقسامه انقسام المحل، فإن الحرارة والحركة إذا حلا محلا واحدا لم يقتض ذلك أن يكون بعض المحل حارا غير متحرك وبعضه متحركا غير حار. واعلم أن الأعراض السارية (3) إذا حلت محلا منقسما انقسمت بانقسامه، والأعراض المنقسمة بالمقدار لا بالحقائق إذا حلت محلا انقسم بانقسامها. المسألة الخامسة في استحالة انتقال الأعراض قال: والموضوع من جملة المشخصات (4).
(1) أي في الإضافات المتشابهة الأطراف كالتقارب والتجاور والأخوة ونظائرها. (2) قضية مهملة في قوة الجزئية، فلا تنافي قوله الآتي: واعلم أن الأعراض السارية.. الخ. (3) الأعراض السارية هي التي تقبل القسمة بانقسام محالها كالسواد والبياض، والمنقسمة بالمقدار كالخط، وهذه داخلة في الأولى بوجه، والحقائق الماهيات ولا يخفى عليك أن ماهيات المركبات لا تقبل الانقسام باعتبار محالها فضلا عن البسائط. (4) إعلم أن هذا الحكم غير مختص بالعرض بل شامل للصورة أيضا بالنسبة إلى المادة لكن المصنف لما ذهب إلى بساطة الجسم وعدم تركبه من المادة والصورة كما يأتي عن قريب خص هذا الحكم بالعرض كما أفاده في الشوارق. وقول الشارح: وإلا لكان نوعه في شخصه، أي لكان نوعه منحصرا في شخصه. وفي بعض النسخ: لكان نوعه منحصرا في شخصه. والمتن مطابق لنسخ (م، ق، ش). 221 أقول: الحكم بامتناع انتقال الأعراض قريب من البين، والدليل عليه أن العرض إن لم يتشخص لم يوجد، فتشخصه ليس معلول ماهيته ولا لوازمها وإلا لكان نوعه في شخصه، ولا ما يحل فيه وإلا لاكتفى بموجده ومشخصه (1) عن موضوعه فيقوم بنفسه وهو محال، فبقي أن يكون معلول محله فيستحيل انتقاله عنه وإلا لم يكن ذلك الشخص ذلك الشخص. قال: وقد يفتقر الحال إلى محل متوسط (2). أقول: الحال قد يحل الموضوع من غير واسطة كالحركة القائمة بالجسم وقد يفتقر إلى محل متوسط فيحل فيه ثم يحل ذلك المحل في الموضوع كالسرعة القائمة بالجسم فإنها تفتقر إلى حلولها في الحركة ثم تحل الحركة في الجسم. المسألة السادسة في نفي الجزء الذي لا يتجزأ قال: ولا وجود لوضعي لا يتجزأ بالاستقلال. أقول: هذه مسألة اختلف الناس فيها، فذهب جماعة من المتكلمين والحكماء إلى أن الجسم مركب من أجزاء لا تتجزأ فذهب بعضهم إلى تناهيها وبعضهم إلى عدمه، وذهب الباقون إلى أن الجسم بسيط في نفسه متصل كاتصاله عند الحس لكنه يقبل الانقسام إما إلى ما يتناهى كما ذهب إليه من لا تحقيق له، أو إلى ما لا يتناهى كما ذهب إليه الحكماء. وقد نفى المصنف رحمه الله الجزء الذي لا يتجزأ بقوله: لا وجود لوضعي لا يتجزأ بالاستقلال، وذلك لأن ما لا يتجزأ من ذوات الأوضاع أعني الأشياء المشار إليها
(1) وفي (م) وحدها: بموجده وتشخصه. (2) أي يتوسطه، وفي (م، ق): إلى محل يتوسطه. والباقية إلى محل متوسط، كالشرح بالاتفاق. 222 بالحس قد توجد لا بالاستقلال كوجود النقطة في طرف الخط أو مركز الدائرة ولا يمكن وجوده بالاستقلال، وقد استدل عليه بوجوه: قال: لحجب المتوسط. أقول: هذا أحد الأدلة على نفي الجزء، وتقريره أنا إذا فرضنا جوهرا متوسطا بين جوهرين فإما أن يحجبهما عن التماس أو لا، والثاني باطل وإلا لزم التداخل، والأول يوجب الانقسام لأن الطرف الملاقي لأحدهما مغاير للطرف الملاقي للآخر. قال: ولحركة الموضوعين (1) على طرفي المركب من ثلاثة. أقول: هذا وجه ثان، وتقريره أنا إذا فرضنا خطا مركبا من ثلاثة جواهر وعلى طرفيه جزئين ثم تحركا على السواء في السرعة والبطء والابتداء فلا بد وأن يتلاقيا، وإنما يمكن بأن يكون نصف كل واحد منهما على نصف الطرف والنصف الآخر على نصف المتوسط فتنقسم الخمسة. قال: أو من أربعة على التبادل. أقول: هذا وجه ثالث، وتقريره أنا إذا فرضنا خطا مركبا من أربعة جواهر وفوق أحد طرفيه جزء وتحت طرفه الآخر جزء وتحركا على التبادل كل منهما من أول الخط إلى آخره حركة على السواء في الابتداء والسرعة فإنهما لا يقطعان الخط إلا بعد المحاذاة، فموضع المحاذاة إن كان هو الثاني أو الثالث كان أحدهما قد قطع أكثر فلا بد وأن يكون بينهما وذلك يقتضي انقسام الجميع. قال: ويلزمهم ما يشهد الحس بكذبه من التفكك وسكون المتحرك وانتفاء الدائرة. أقول: هذه وجوه أخرى تدل على نفي الجزء. أحدها: إن الحس يشهد بأن المتحرك على الاستدارة باق على وضعه ونسبة
(1) يعني أنا لو فرضنا خمسة جواهر أفراد متساوية، فركب خط من ثلاثة منها، ووضع الآخران على فوق طرفيه ثم تحرك الموضوعان إلى الوسط، إلى آخر ما في الشرح. 223 أجزائه، ومع القول بالجزء يلزم التفكك لأن الجزء القريب من المنطقة إذا تحرك جزءا فإن تحرك القريب من القطب (1) جزءا تساوى المداران وهو باطل بالضرورة، وإن تحرك أقل من جزء لزم الانقسام، وإن لم يتحرك أصلا لزم التفكك. الثاني: أن السرعة والبطء كيفيتان قائمتان بالحركة لا باعتبار تخلل السكنات وعدمه، لأنه لو كان بسبب تخلل السكنات لزم أن يكون فضل سكنات الفرس السائر من أول النهار إلى آخره خمسين فرسخا على حركاته بإزاء فضل حركات الشمس من أول النهار إلى آخره على حركات الفرس، لكن فضل حركات الشمس أضعاف أضعاف حركات الفرس فتكون سكنات الفرس أضعاف أضعاف حركاته، لكن الحس يكذب ذلك. إذا ثبت هذا فإذا تحرك السريع جزءا فإن تحرك البطئ جزءا تساويا هذا خلف، وإن تحرك أقل لزم الانقسام وإن لم يتحرك أصلا لزم المحال. هذا ما خطر لنا الآن من تفسير قوله رحمه الله: وسكون المتحرك. الثالث: أن الدائرة موجودة بالحس فإن كانت حقيقية لزم إبطال الجزء لأن الدائرة القطبية (2) إن تلاقت أجزاؤها بظواهرها وبواطنها ساوت الدائرة المنطقية هذا خلف، وإن تلاقت ببواطنها خاصة لزم الانقسام، وإن لم تكن حقيقية كان ذلك لارتفاع بعض أجزائها وانخفاض البعض الآخر، لكن المنخفض إذا ملئ بالجزء ولم يفضل كانت الدائرة حينئذ ولزم ما ذكرنا وإلا لزم الانقسام. قال: والنقطة عرض قائم بالمنقسم باعتبار التناهي. أقول: هذا جواب عن حجة من أثبت الجزء، وتقريرها أن النقطة موجودة لأنها نهاية الخط فإن كانت جوهرا فهو المطلوب، وإن كانت عرضا فمحلها إن
(1) إنما قال: القريب من القطب، لأن نقطة القطب من حيث هي قطب ساكنة لا يتصور فيها الحركة مطلقا لا الاستدارية ولا الاستقامية، ولو فرضت فيه حركة استدارية لكانت نقطة أخرى هي القطب وتدور هذه حولها، ثم إن العبارة في (م) كانت (من التفكيك) في المتن والشرح كليهما، وفي النسخ الأخرى: التفكك مطلقا. (2) الدائرة القطبية في المقام ما تلي جانب القطب وإن كانت مجاورة ومماسة للمنطقية، فتبصر. 224 انقسم انقسمت، لأن الحال في أحد الجزئين مغاير للحال في الآخر، وإن لم ينقسم فهو المطلوب. والجواب أنها عرض قائم بالمنقسم، ولا يلزم انقسامها لانقسام المحل لأن الحال في المنقسم باعتبار لحوق طبيعة أخرى به لا يلزم انقسامه بانقسام محله، وهاهنا النقطة حلت في الخط المنقسم باعتبار عروض التناهي له. قال: والحركة لا وجود لها في الحال ولا يلزم نفيها مطلقا (1). أقول: هذا جواب عن حجة أخرى لهم وهي أن الحركة موجودة بالضرورة وهي من الموجودات الغير القارة فإما أن يكون لها في الحال وجود أو لا، والثاني باطل لأن الماضي والمستقبل معدومان، فلو لم تكن في الحال موجودة لزم نفيها مطلقا، وإذا كانت موجودة في الحال فإن كانت منقسمة كان أحد طرفيها سابقا على الآخر فلا يكون الحاضر كله حاضرا هذا خلف، وإن لم تكن منقسمة كانت المسافة غير منقسمة لأنها لو انقسمت لانقسمت الحركة لأن الحركة في أحد الجزئين مغايرة للحركة في الجزء الآخر فتكون الحركة منقسمة مع أنا فرضناها غير منقسمة. والجواب: أن الحركة لا وجود لها في الحال ولا يلزم من نفيها في الحال نفيها مطلقا، لأن الماضي والمستقبل وإن كانا معدومين في الحال لكن كل منهما له وجود في حد نفسه. قال: والآن لا تحقق له خارجا. أقول: هذا جواب عن حجة أخرى لهم وهي أن الآن موجود لانتفاء الماضي والمستقبل، فإن كان الآن منتفيا كان الزمان منتفيا مطلقا ويستحيل انقسامه وإلا لزم أن يكون الحاضر بعضه فلا يكون الآن كله آنا هذا خلف، وإذا كان موجودا
(1) وفي (م) بدون كلمة (مطلقا). 225 فالحركة الواقعة فيه غير منقسمة وإلا لكان أحد طرفيها واقعا في زمان والآخر في زمان آخر فينقسم ما فرضناه غير منقسم هذا خلف، ويلزم من عدم انقسام الحركة عدم انقسام المسافة على ما مر تقريره. وتقرير الجواب: أن الماضي والمستقبل موجودان في حد أنفسهما معدومان في الآن لا مطلقا والآن لا تحقق له في الخارج. قال: ولو تركبت الحركة مما لا يتجزأ لم تكن موجودة. أقول: لما فرغ من النقض شرع في المعارضة فاستدل على أن الحركة لا تتركب مما لا يتجزأ، لأنها لو تركبت مما لا يتجزأ لم تكن موجودة، والتالي باطل اتفاقا فكذا المقدم، بيان الشرطية أن الجزء إذا تحرك من حيز إلى حيز فإما أن يوصف بالحركة حال كونه في الحيز الأول وهو باطل لأنه حينئذ لم يأخذ في الحركة، أو حال كونه في الحيز الثاني وهو باطل أيضا لأن الحركة حينئذ قد انتهت وانقطعت ولا واسطة بين الأول والثاني، وهذا المحال نشأ من إثبات الجوهر الفرد لأنه على تقدير عدمه تثبت الواسطة. ويمكن أن يقرر بيان الشرطية من وجه آخر وهو أن الحركة إما أن تكون عبارة عن المماسة الأولى أو الثانية، وهما محالان لما مر أو مجموعهما وهو محال لانتفائه. قال: والقائل بعدم تناهي الأجزاء يلزمه مع ما تقدم النقض بوجود المؤلف مما يتناهى ويفتقر في التعميم إلى التناسب. أقول: لما فرغ من إبطال مذهب القائلين بالجوهر الفرد شرع في إبطال مذهب القائلين بعدم تناهي الأجزاء فعلا، وقد استدل عليه بما تقدم، فإن الأدلة التي ذكرناها تبطل الجوهر الفرد مطلقا سواء قيل بتركب الجسم من أفراد متناهية منه أو غير متناهية. واستدل عليه أيضا بوجوه: الأول: إنا نفرض أعدادا متناهية من الجواهر
226 الأفراد ونؤلفها في جميع الأبعاد، فإما أن يزيد مقدارها على مقدار الواحد أو لا، والثاني باطل وإلا لم يكن تأليفها مفيدا للمقدار ولا للعدد وهو باطل قطعا، وإن زاد مقدارها على مقدار الواحد حتى حصلت أبعاد ثلاثة حصل جسم من أجزاء متناهية وهو يبطل قولهم: إن كل جسم متألف من أعداد غير متناهية، فهذا معنى لزوم النقض بوجود المؤلف مما يتناهى. وأما قوله: ويفتقر في التعميم إلى التناسب، فمعناه أنا إذا أردنا تعميم القضية بأن نحكم بأنه لا شئ من الأجسام بمؤلف من أجزاء غير متناهية فطريقه أن ينسب هذا المؤلف الذي ألفناه من الأجزاء المتناهية إلى بقية الأجسام (1) فنقول: كل جسم فإنه متناه في المقدار فله إلى هذا المؤلف نسبة وهي نسبة متناهي المقدار إلى متناهي المقدار، لكنا نعلم أن المقدار يزيد بزيادة الأجزاء وينقص بنقصانها، فنسبة المقدار إلى المقدار كنسبة الأجزاء إ لي الأجزاء، لكن نسبة المقدار إلى المقدار نسبة متناه إلى متناه فكذا نسبة الأجزاء إلى الأجزاء. قال: ويلزم عدم لحوق السريع البطئ. أقول: هذا هو الوجه الثاني الدال على إبطال القول بعدم تناهي الأجزاء، وتقريره أن الجسم لو تركب من أجزاء غير متناهية لم يلحق السريع البطئ، والتالي باطل بالضرورة فكذا المقدم، بيان الشرطية أن البطئ إذا قطع مسافة ثم ابتدأ السريع وتحرك فإنه مع قطع تلك المسافة يكون البطئ قد قطع شيئا آخر فإذا قطعه السريع يقطع البطئ شيئا آخر وهكذا إلى ما لا يتناهى فلا يلحق السريع البطئ. قال: وأن لا يقطع المسافة المتناهية في زمان متناه. أقول: هذا وجه ثالث قريب من الوجه الثاني، وتقريره أنا لو فرضنا الجسم يشتمل على ما لا يتناهى من الأجزاء لزم أن لا يقطع المتحرك المسافة المتناهية
(1) أي بقية الأجسام التي كان الفرض أنها مؤلفة من أجزاء غير متناهية. 227 في زمان متناه، لأنه لا يمكنه قطعها إلا بعد قطع نصفها ولا يمكنه قطع نصفها إلا بعد قطع ربعها وهكذا إلى ما لا يتناهى فيكون هناك أزمنة غير متناهية، وقد تكلمنا على هذه الوجوه في كتاب الأسرار بما لم يسبقنا إليه أحد. قال: والضرورة قضت ببطلان الطفرة والتداخل. أقول: إعلم أن القائلين بعدم تناهي الأجزاء اعتذروا عن الوجه الأول بالتداخل، فقالوا: لا يلزم من عدم تناهي الأجزاء عدم تناهي المقدار لأن الأجزاء تتداخل فيصير جزءان وأزيد في حيز واحد وفي قدره فلا يلزم بقاء النسبة. واعتذروا عن الوجهين الأخيرين بالطفرة، فإن المتحرك إذا قطع مسافة غير متناهية الأجزاء في زمان متناه فإنه يطفر بعض تلك الأجزاء ويتحرك على البعض الآخر، وكذلك السريع يطفر بعض الأجزاء ليلحق البطئ، وهذان العذران باطلان بالضرورة. قال: والقسمة بأنواعها تحدت اثنينية يساوي طباع كل واحد منهما (1) طباع المجموع. أقول: يريد أن يبطل مذهب ذيمقراطيس في هذا الموضع، وهو أن الجسم ينتهي في القسمة الانفكاكية إلى أجزاء قابلة للقسمة الوهمية لا الانفكاكية. وبيانه أن القسمة بأنواعها الثلاثة - أعني الانفكاكية والوهمية والتي باختلاف الأعراض الإضافية أو الحقيقية - تحدث في المقسوم اثنينية تكون طبيعة كل واحد من القسمين مساوية لطبيعة المجموع ولطبيعة الخارج عنه، وكل واحد من القسمين لما صح عليه (2) الانفكاك عن صاحبه فكذلك كل واحد من قسمي
(1) الطباع أعم من الطبيعة فيشمل الفلك أيضا، وذلك لأن الطباع يقال لمصدر الصفة الذاتية الأولية لكل شئ، والطبيعة قد تختص بما يصدر عنه الحركة والسكون فيما هو فيه أولا وبالذات من غير إرادة، وقوله: في هذا الموضع، باتفاق النسخ كلها. (2) كما في (م ز ش ق د). وفي (ص) وحدها: كما صح عليه. 228 القسمين إلى ما لا يتناهى. قال: وامتناع الانفكاك لعارض لا يقتضي الامتناع الذاتي. أقول: بعض الأجسام قد تمتنع عليها القسمة الانفكاكية لا بالنظر إلى ذاتها بل بالنظر إلى عارض خارج عن الحقيقة الجسمية، إما لصغر المقسوم بحيث لا تتناوله الآلة القاسمة أو صلابته أو وصول صورة تقتضي ذلك كما في الفلك عندهم ولكن ذلك الامتناع لا يقتضي الامتناع الذاتي. قال: فقد ثبت أن الجسم شئ واحد متصل يقبل الانقسام إلى ما لا يتناهى. أقول: هذا نتيجة ما مضى لأنه قد بطل القول بتركب الجسم من الجواهر الأفراد سواء كانت متناهية أو غير متناهية، فثبت أنه واحد في نفسه متصل لا مفاصل له بالفعل ولا شك في أنه يقبل الانقسام فإما أن يكون قابلا لما يتناهى من الأقسام لا غير وهو باطل لما تقدم في إبطال مذهب ذيمقراطيس، أو لما لا يتناهى وهو المطلوب. المسألة السابعة في نفي الهيولى قال: ولا يقتضي ذلك ثبوت مادة سوى الجسم لاستحالة التسلسل ووجود ما لا يتناهى. أقول: يريد أن يبين أن الجسم البسيط لا جزء له، وقد ذهب إلى ذلك جماعة من المتكلمين وأبو البركات البغدادي. وقال أبو علي: إن الجسم مركب من الهيولى والصورة، واحتج عليه بأن الجسم متصل في نفسه وقابل للانفصال ويستحيل أن يكون القابل هو الاتصال نفسه لأن الشئ لا يقبل عدمه فلا بد للاتصال من محل يقبل الانفصال والاتصال وذلك هو الهيولى والاتصال هو الصورة فاستدرك المصنف رحمه الله ذلك وقال: إن
229 ذلك - أي قبول الانقسام - لا يقتضي ثبوت مادة كما قررناه في كلام أبي علي، لأن الجسم المتصل له مادة واحدة (1) فإذا قسمناه استحال أن تبقى المادة على وحدتها اتفاقا بل يحصل لكل جزء مادة، فإن كانت مادة كل جزء حادثة بعد القسمة لزمه التسلسل لأن كل حادث عندهم لا بد له من مادة، وإن كانت موجودة قبل القسمة لزم وجود مواد لا نهاية لها بحسب ما في الجسم من قبول الانقسامات التي لا تتناهى. المسألة الثامنة في إثبات المكان لكل جسم قال: ولكل جسم مكان طبيعي يطلبه عند الخروج على أقرب الطرق. أقول: كل جسم على الإطلاق فإنه يفتقر إلى مكان يحل فيه لاستحالة وجود جسم مجرد عن كل الأمكنة، ولا بد وأن يكون ذلك المكان طبيعيا له لأنا إذا جردنا الجسم عن كل العوارض فإما أن لا يحل في شئ من الأمكنة وهو محال، أو يحل في الجميع وهو أيضا باطل بالضرورة، أو يحل في البعض فيكون ذلك البعض طبيعيا، ولهذا إذا أخرج عن مكانه عاد إليه وإنما يرجع إليه على أقرب الطرق وهو الاستقامة. قال: فلو تعدد انتفى. أقول: يريد أن يبين أن المكان الطبيعي واحد، لأنه لو كان لجسم واحد مكانان طبيعيان لكان إذا حصل في أحدهما كان تاركا للثاني بالطبع وكذا بالعكس فلا يكون واحد منهما طبيعيا له، فلهذا قال: فلو تعدد - يعني الطبيعي - انتفى ولم يكن له مكان طبيعي.
(1) المادة من حيث هي ليست إلا هي فلا توصف بالوحدة والكثرة بذاتها بل بتبع الصورة فلا يرد الايراد. 230 قال: ومكان المركب (1) مكان الغالب أو ما اتفق وجوده فيه. أقول: المركب أن تركب من جوهرين (2) فإن تساويا وتمانعا وقف في الوسط بينهما وإلا تفرقا، وإن غلب أحدهما كان مكانه مكان الغالب، وإن تركب من ثلاثة وغلب أحدها كان مكانه مكان الغالب وإلا كان في الوسط، وإن تركب من أربعة متساوية حصل في الوسط أو ما اتفق وجوده فيه وإن غلب أحدها كان في مكانه ولا استمرار للمعتدل لسرعة انفعاله بالأمور الغريبة. قال: وكذا الشكل والطبيعي منه الكرة. أقول: قيل في تعريف الشكل (3): إنه ما أحاط به حد واحد أو حدود، وفي
(1) ناظر إلى عبارة الشيخ في الفصل الخامس من النمط الثاني من الإشارات حيث قال: وللبسيط مكان واحد يقتضيه طبعه وللمركب ما يقتضيه الغالب فيه إما مطلقا وإما بحسب مكانه أو ما اتفق وجوده فيه إذا تساوت المجاذبات عنه، فكل جسم له مكان واحد. (2) كالبخار فإنه أجزاء صغار مائية كثيرة مختلطة بالهواء، وكالدخان فإنه أجزاء صغار أرضية كثيرة مختلطة بالهواء، بل وكل واحد منهما مركب من ثلاثة والجزء الثالث فيهما هي النار، ثم لو فرض تحقق المركب من جوهرين أو من ثلاثة مع التساوي والتمانع وقف المركب حيثما اتفق وجوده فيه. ولعل هذا المعنى هو مراد الشارح من الوسط، فتأمل. وعبارة الماتن في شرحه على الفصل المذكور من الإشارات هكذا: المركب إما أن يكون أحد أجزائه غالبا على الباقية بالاطلاق، أو لا يكون، والثاني لا يخلو إما أن تكون الأجزاء التي أمكنتها في جهة واحدة كالأرض والماء مثلا غالبة على الأجزاء الباقية وحينئذ يكون تلك الأجزاء معا غالبة بحسب طلب جهة المكان، أو لا يكون. فالمركبات بحسب هذه القسمة ثلاثة أقسام: ومكان القسم الأول ما يقتضيه الغالب في المركب مطلقا، ومكان القسم الثاني ما يقتضيه الغالب فيه بحسب مكانه إذ لا غالب فيه مطلقا لكن فيه غالب بالاعتبار المذكور، ومكان القسم الثالث وهو الذي لا يغلب فيه جزء لا على الإطلاق ولا مع الغير بالاعتبار المذكور فهو ما اتفق وجوده فيه ويكون ذلك عند تساوي المجاذبات فيه عن المكان الذي اتفق وجوده فيه فإن ذلك يقتضي بقاءه ثمة كالحديدة التي تجذبها قطع متساوية من المغناطيس عن جوانبها. (3) الشكل عند المهندسين هو ما أحاط به حد أو حدود، كما في صدر المقالة الأولى من الأصول. ولكنه عند التحقيق من الكيفيات المختصة بالكم المتصل وهو هيئة إحاطة حد أو حدود بالشئ. 231 التحقيق أنه من الكيفيات المختصة بالكميات وهو هيئة إحاطة الحد الواحد أو الحدود بالجسم وهو طبيعي وقسري، لأن كل جسم متناه على ما يأتي وكل متناه مشكل بالضرورة، فإذا فرض خاليا عن جميع العوارض لم يكن له بد من شكل فيكون طبيعيا، ولما كانت الطبيعة واحدة لم تقتض أمورا مختلفة ولا شكل أبسط من الاستدارة فيكون الشكل الطبيعي هو المستدير وباقي الأشكال قسري. المسألة التاسعة في تحقيق ماهية المكان قال: والمعقول من الأول البعد فإن الأمارات تساعد عليه. أقول: الأول يعني به المكان لأنه قد تبين أن الجسم يقتضي بطبعه شيئين: المكان والشكل، ولما كان الشكل ظاهرا وكان طبيعيا ذكره بعقب المكان ثم عاد إلى تحقيق ماهية المكان وقد اختلف الناس فيه، والذي عليه المحققون أمران: أحدهما: البعد المساوي لبعد المتمكن وهذا مذهب أفلاطون. والثاني: السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي وهو مذهب أرسطو وأبي علي بن سينا. وقد اختار المصنف الأول وهو اختيار أبي البركات ومذهب المتكلمين قريب منه، والدليل على ما اختاره المصنف أن المعقول من المكان أنما هو البعد فإنا إذا فرضنا الكوز خاليا من الماء تصورنا الأبعاد التي يحيط بها جرم الكوز بحيث إذا ملئ ماء شغلها الماء بجملتها، والأمارات المشهورة في المكان من قولهم إنه ما يتمكن المتمكن فيه ويستقر عليه ويساويه وما يوصف بالخلو والامتلاء يساعد على أن المكان هو البعد. قال: واعلم أن البعد منه ملاق للمادة وهو الحال في الجسم ويمانع مساويه، ومنه مفارق تحل فيه الأجسام ويلاقيها بجملتها ويداخلها بحيث ينطبق على بعد
232 المتمكن ويتحد به ولا امتناع لخلوه عن المادة. أقول: لما فرغ من بيان ماهية المكان شرع في الجواب عن شبهة مقدرة تورد على كون المكان بعدا، وهي أن المكان لو كان هو البعد لزم اجتماع البعدين، والتالي محال فالمقدم مثله، بيان الشرطية أن المتمكن له بعد فإن بقيا معا لزم الاجتماع والاتحاد إذ لا يزيد بعد الحاوي عند حلول المحوي، وإن عدم أحدهما كان المعدوم حالا في الموجود أو بالعكس وهما محالان. وأما بيان استحالة التالي فضروري لما تقدم من امتناع الاتحاد، ولأن المعقول من البعد الشخصي أنما هو البعد الذي بين طرفي الحاوي، فلو تشكك العقل في تعدده لزم السفسطة. وتقرير الجواب أن البعد ينقسم إلى قسمين: أحدهما: بعد مقارن للمادة وحال فيها وهو البعد المقارن للجسم، والثاني: مفارق للمادة وهو الحاصل بين الأجسام المتباعدة. والأول يمانع مساويه يعني البعد المقارن للمادة أيضا فلا يجامعه لاستحالة التداخل بين بعدين مقارنين، والثاني لا يستحيل عليه مداخلة بعد مادي بل يداخله ويطابقه ويتحد به وهو محل الجسم المداخل بعده له، فلا امتناع في هذه المداخلة والاتحاد لأن هذا البعد خال عن المادة. قال: ولو كان المكان سطحا لتضادت الأحكام. أقول: لما بين حقيقة المكان شرع في إبطال مذهب المخالفين القائلين بأن المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوي، وتقرير البطلان أن المكان لو كان هو السطح لتضادت الأحكام الثابتة للجسم الواحد، فإن الحجر الواقف في الماء والطير الواقف في الهواء يفارقان سطحا بعد سطح مع كونهما ساكنين، ولو كان المكان هو السطح لكانا متحركين لأن الحركة هي مفارقة الجسم لمكان إلى مكان آخر، ولكانت الشمس المتحركة الملازمة لسطحها ساكنة، فيلزم سكون المتحرك وحركة الساكن وذلك تضاد في الأحكام محال. قال: ولم يعم المكان. أقول: هذا وجه ثان دال على بطلان القول بالسطح، وتقريره أن العقلاء
233 حكموا باحتياج كل جسم إلى مكان، ولو كان المكان عبارة عن السطح الحاوي لزم أحد الأمرين وهو إما عدم تناهي الأجسام حتى يكون كل جسم محاطا بغيره، أو حصول جسم لا في مكان بأن يكون محيطا بجميع الأجسام، والقسمان باطلان فالمقدم مثله (1). المسألة العاشرة في امتناع الخلاء قال: وهذا المكان لا يصح عليه الخلو من شاغل وإلا لساوت حركة ذي المعاوق حركة عديمه عند فرض معاوق أقل بنسبة زمانيهما. أقول: اختلف الناس في هذا المكان، فذهب قوم إلى جواز الخلاء وذهب آخرون إلى امتناعه وهو اختيار المصنف واستدل عليه بأن الخلاء لو كان ثابتا لكانت الحركة مع العائق كالحركة مع عدم العائق، والتالي باطل بالضرورة فالمقدم مثله، وبيان الشرطية أنا إذا فرضنا متحركا يقطع مسافة ما خالية في ساعة ثم نفرض تلك المسافة ممتلية فإن زمان الحركة يكون أطول لأن الملاء الموجود في المسافة معاوق المتحرك عن الحركة، فلنفرضه يقطعها في ساعتين ثم نفرض ملاء آخر أرق من الأول على نسبة زمان الحركة في الخلاء إلى زمانها في الملاء وهو النصف، فيكون معاوقته نصف المعاوقة الأولى فيتحركها المتحرك في ساعة لكن الملاء الرقيق معاوق أيضا فتكون الحركة مع المعاوق كالحركة بدونه وهو باطل. المسألة الحادية عشرة في البحث عن الجهة قال: والجهة طرف الامتداد الحاصل في مأخذ الإشارة.
(1) كما في جميع النسخ الست المعتبرة بلا استثناء. وأما ما في المطبوعة من قوله: فالملزوم مثله، فكأنه تصحيح قياسي أوجبه قوله: لزم أحد الأمرين. 234 أقول: لما بحث عن المكان وكانت الجهة ملائمة (1) له حتى ظن أنهما واحد عقبه بالبحث عنها وهي على ما فسرها جماعة من الأوائل عبارة عن طرف الامتداد الحاصل في مأخذ الإشارة وذلك لأنا نتوهم امتدادا آخذا من المشير ومنتهيا إلى المشار إليه فذلك المنتهى هو طرف الامتداد الحاصل في مأخذ الإشارة. قال: وليست منقسمة. أقول: لما كانت الجهة عبارة عن الطرف لم تكن منقسمة لأن الطرف لو كان منقسما لم يكن الطرف كله طرفا بل متناهية (2) فلا يكون الطرف طرفا هذا خلف، ولأن المتحرك إذا وصل إلى المنتصف لم يخل إما أن يكون متحركا عن الجهة فلا يكون ما تخلف من الجهة أو يكون متحركا إليها فلا يكون المتروك من الجهة. قال: وهي من ذوات الأوضاع المقصودة بالحركة للحصول فيها وبالإشارة. أقول: الجهة ليست أمرا مجردا عن المواد وعلائقها بل هي من ذوات الأوضاع التي تتناولها الإشارة الحسية وتقصد بالحركة وبالإشارة فتكون موجودة. وإنما قيد القصد بالحركة بقوله: للحصول فيها، لأن ما يقصد بالحركة قد يكون موجودا كالجهة فإنها تقصد بالحركة لأنها تقصد الحصول فيها، وقد يكون معدوما كالبياض الذي يتحرك الجسم إليه من السواد فإنه معدوم وليس مقصودا بالحركة للحصول فيه بل لتحصيله. قال: والطبيعي منها فوق وسفل (3) وما عداهما غير متناه.
(1) باتفاق النسخ كلها. (2) كما في (م) وهو اسم مكان، وغيرها: بل نهايته. (3) ولم يتعرض بأن محددهما ما هو، واعلم أن كثيرا منهم ذهبوا إلى أن محدد الجهات هو تاسع الأفلاك الموسوم بالأطلس ومعدل النهار وفلك الأفلاك أيضا، وبعضهم كمعاصرينا إلى أنه الأرض والبحث على المذهب الأول يطلب في النمط الثاني من الإشارات، وعلى الثاني في مؤلفات المعاصرين، ولا يهمنا الورود في البحث عن ذلك. 235 أقول: الجهة منها ما هو طبيعي وهو ثنتان لا غير: الفوق والسفل، ومنها ما هو غير طبيعي وهو ما عداهما، ونعني بالطبيعي ما يستحيل تغيره وانتقاله عن هيئته، وبغير الطبيعي ما يمكن تغيره فإن القدام قد يصير خلفا وكذا اليمين قد يصير يسارا، وأما الفوق والسفل فلا، وهذه الجهات التي ليست طبيعية غير متناهية لأنها أطراف الخطوط المفروضة في الامتداد وتلك الخطوط غير متناهية.
236 الفصل الثاني في الأجسام قال: الفصل الثاني في الأجسام وهي قسمان: فلكية وعنصرية، أما الفلكية فالكلية منها تسعة واحد غير مكوكب محيط بالجميع وتحته فلك الثوابت، ثم أفلاك الكواكب السيارة السبعة، وتشتمل على أفلاك تداوير وخارجة المراكز، والمجموع أربعة وعشرون وتشتمل على سبعة متحيرة (1) وألف ونيف وعشرين كوكبا ثوابت. أقول: لما فرغ من البحث عن مطلق الجوهر شرع في البحث عن جزئياته وبدأ بالجسم لأنه أقرب إلى الحس، وفي هذا الفصل مسائل: المسألة الأولى في البحث عن الأجسام الفلكية اعلم أن الأجسام تنقسم قسمين: فلكية وعنصرية، والأفلاك إما كلية تظهر
(1) هكذا في جميع النسخ التي عندنا، والصواب على سبعة سيارة بدل على سبعة متحيرة، إلا أن نسخة واحدة كانت خمسة متحيرة مكان سبعة متحيرة ولكنها صواب بحسب الصورة لأن المتحيرة خمسة، وليست بصواب بحسب المعنى لأن تلك الأفلاك تشتمل على سبعة سيارة وألف ونيف وعشرين كوكبا ثوابت، لا على الخمسة المتحيرة وتلك الكواكب، وإلا فأين النيران. وتصدى بعض لتصحيح العبارة فقد غفل عن تحريف المعنى. والخمسة المتحيرة هي الخنس الجوار الكنس. 237 منها حركة واحدة إما بسيطة أو مركبة، وإما جزئية. أما الكلية فتسعة واحد منها محيط بالجميع يسمى الفلك المحيط وهو غير مكوكب ويسمى الفلك الأطلس بهذا الاعتبار، وتحته فلك الثوابت ويسمى فلك البروج يماس المحيط بمقعره محدب هذا الفلك وتحت هذا زحل وتحته المشتري وتحته المريخ وتحته الشمس وتحته الزهرة وتحته عطارد وتحته القمر يماس العالي بمقعره محدب السافل، وهذه التسعة متوافقة المراكز وموافقة للأرض في مركزها. ثم إن كل فلك من هذه الأفلاك السبعة ينفصل إلى أجسام كثيرة يقتضيه اختلاف حركات ذلك الكواكب في الطول والعرض والاستقامة والرجوع والسرعة والبطء والبعد والقرب من الأرض فاثبتوا لكل كوكب فلكا ممثلا بفلك البروج مركزه مركز العالم يماس بمحدبه مقعر ما فوقه وبمقعره محدب ما تحته وهو فلكه الكلي المشتمل على سائر أفلاكه إلا القمر فإن ممثله محيط بآخر يسمى المائل. وأثبتوا أيضا فلكا خارج المركز عن مركز الأرض ينفصل عن الممثل أو المائل يتماس محدباهما ومقعراهما على نقطتين يسمى الأبعد عن الأرض أوجا والأقرب منه حضيضا. وأثبتوا فلكا آخر يسمى فلك التدوير غير محيط بالأرض بل هو في ثخن الخارج المركز يماس محدبة سطحيه على نقطتين تسمى الأبعد ذروة والأقرب إلى الأرض حضيضا في السبعة عدا الشمس فإنهم أثبتوا لها فلكا خارج المركز خاصة. وأثبتوا لعطارد فلكين خارجي المركز يسمى أحدهما المدير والثاني الحامل، فالمجموع مع الفلكين العظيمين أربعة وعشرون فلكا تشتمل سبعة أفلاك منها على خمسة كواكب متحيرة. وفلك البروج يحتوي على ألف ونيف وعشرين كوكبا ثابتة، وكون الثوابت في فلك واحد غير معلوم وكذلك انحصار الأفلاك فيما ذكروه
238 غير معلوم بل يجوز أن توجد أفلاك كثيرة إما وراء المحيط أو بين هذه الأفلاك. وقول بعضهم إن أبعد بعد كل سافل مساو لأقرب قرب العالي باطل، لأن بين أبعد بعد القمر وأقرب قرب عطارد ثخن فلك جوزهر القمر. قال: والكل بسائط. أقول: ذهبوا إلى أن الفلك بسيط، لأن كل مركب يتطرق إليه الانحلال والفلك لا يتطرق إليه الانحلال في هذه المدد المتطاولة فيكون بسيطا، وهذا حكم واجب عندهم وممكن عندنا، لأن الأجسام عندنا حادثة يمكن تطرق التغير إليها والانحلال. قال: خالية من الكيفيات الفعلية والانفعالية ولوازمها. أقول: هذا حكم آخر للأفلاك وهو أنها غير متصفة بالكيفيات الفعلية أعني الحرارة والبرودة وما ينسب إليهما، ولا الكيفيات الانفعالية أعني الرطوبة واليبوسة وما ينسب إليهما، وغير متصفة بلوازمها أعني الثقل والخفة. واستدلوا على ذلك بأن الأفلاك (1) لو كانت حارة لكانت في غاية الحرارة،
(1) هذه العبارة إلى قوله: انتفى لازمهما أعني الثقل والخفة، لا توجد في نسخة معتبرة من النسخ المخطوطة المعتبرة عندنا وهي نسخة (ق) والظاهر أنها تعليقة أدرجت في الكتاب، ونسخة (م) قد أصابتها سوانح من أول هذا الفصل الرابع وكتبت ثانيا من النسخ الرائجة. واعلم أن المتفكرين في خلق السماوات والأرض أثبتوا بأفهامهم الرصينة أفلاكا مجسمة لتنظيم حركات الكواكب، ولذا قالوا: إنا لا نثبت فضلا في الفلكيات وعند التحقيق العالم الفلكي لا يحتاج أولا إلى إثبات الفلك المجسم بل الفلك عنده هو مدار الكوكب، وفرض الفلك مجسما لسهولة التعليم والتعلم، والبحث عن عدد الأفلاك أنما هو بحث رياضي هيوي أدرج في الكلام والفلسفة وقصارى ما يثبت الطبيعي في المقام هو محدد الجهات الذي يعين الجهتين الطبيعتين وهما فوق وسفل، اللهم إلا أن يقال: إن فرض الفلك المجسم انتشأ من تعريف الفلسلفة بأنها علم بأحوال الأعيان فإن الفيلسوف تفطن باختلاف الأفلاك على اختلاف أوضاع الكواكب وحركاتها المختلفة، فتدبر. وقد بسطنا الكلام في الفلك عند الطبيعي والرياضي في الدرس الثامن عشر من كتابنا الموسوم بدروس معرفة الوقت والقبلة فراجع. وما قاله الشارح العلامة من أن كون الثوابت في فلك واحد غير معلوم، فالصواب أن كونها في فلك واحد من فرض العالم الهيوي لأنه لا يحتاج إلى أكثر من ذلك ولا يثبت فضلا في الفلكيات. ومن فرض كونها في فلك واحد ينتظم به أمر حركاتها فإنها تتحرك في كل سبعين سنة درجة واحدة فلكية، نعم أن للحكيم الرياضي الرصدي المولوي أبي القاسم غلام حسين ابن المولى فتح محمد الكربلائي الجينوري صاحب الزيج البهادري بيانا على التفصيل في حركاتها المختلفة في ذلك الزيج ينجر نقله وشرحه إلى الإطناب وأن شئت فراجعه (ص 565). ثم إن الشارح كأنما ناظر في قوله المذكور إلى ما قاله الشيخ في الفصل السادس من الفن الثاني من طبيعيات الشفاء: على أني لم يتبين لي بيانا واضحا أن الكواكب الثابتة في كرة واحدة، أو في كرات ينطبق بعضها على بعض إلا بإقناعات، وعسى أن يكون ذلك واضحا لغيري (ص 175 ج 1 ط 1). 239 والتالي باطل فالمقدم مثله، بيان الشرطية أن الفاعل موجود في مادة بسيطة لا عائق لها فيجب حصول كمال الأثر، وبيان بطلان التالي أن الهواء العالي أبرد من الهواء الملاصق لوجه الأرض. وكذا لو اقتضت البرودة لبلغت الغاية فيها فكان يستولي الجمود على العناصر فما كان يتكون شئ من الحيوان. ولقائل أن يقول: لا يلزم من اقتضاء الحرارة حصول النهاية، لأن الشديد والضعيف مختلفان بالنوع ولا يلزم من اقتضاء الماهية نوعا ما اقتضائها النوع الآخر، ولهذا كان الهواء مقتضيا للسخونة ولم يقتض البالغ منها. ولا يصح الاعتذار بأن الرطوبة مانعة عن الكمال، لأن الرطوبة أنما تمنع عن كمال السخونة إذا أخذت بمعنى البلة لا بمعنى الرقة واللطافة ولا مكان أن تكون الطبيعة الفلكية تقتضي ما يمنع عن الكمال، ولأن الرطوبة إذا منعت عن كمال الحرارة كانت الطبيعة الواحدة تقتضي أمرين متنافيين، إذا عرفت هذا فنقول: لما انتفت الحرارة والبرودة انتفى لازمهما، أعني الثقل والخفة. قال: شفافة. أقول: استدلوا على شفافية الأفلاك بوجهين: أحدهما: أنها بسائط وهو منقوض بالقمر. والثاني: أنها لا تحجب ما ورائها عن الأبصار، فإنا نبصر الثوابت
240 وهي في الفلك الثامن وهذا أيضا ظني لا يفيد اليقين لجواز أن يكون لها لون ضعيف غير حاجب كما في البلور. المسألة الثانية في البحث عن العناصر البسيطة قال: وأما العناصر البسيطة فأربعة: كرية النار والهواء والماء والأرض، واستفيد عددها من مزاوجات الكيفيات الفعلية والانفعالية. أقول: لما فرغ من البحث عن الأجرام الفلكية شرع في البحث عن الأجسام العنصرية، وهي إما بسيطة أو مركبة، ولما كان البسيط جزءا من المركب وكان البحث عن الجزء متقدما على البحث عن الكل قدم البحث عن البسائط. وأعلم أن البسائط العنصرية أربعة، وأقربها إلى الفلك النار ثم الهواء ثم الماء ثم الأرض، ومركزها مركز العالم (1) لأن النار حارة في الغاية فطلبت العلو، والهواء حار
(1) هاهنا زيادة في النسخ المطبوعة بعد قوله: ومركزها مركز العالم، تقرب من ستة عشر سطرا ولكن النسخ المخطوطة كلها خالية عنها، وإنما هي تعليقة أدرجت في الكتاب بلا ارتياب، ولا بأس بنقلها هاهنا تتميما للفائدة وهي ما يلي: ومركزها مركز العالم لا غير، بيان ذلك أن العنصريات نجد فيها قوى مهيأة نحو الفعل أي كيفيات تجعل موضوعاتها معدة للتأثير في شئ آخر مثل الحرارة والبرودة والطعوم والروائح، وقوى مهيأة نحو الانفعال السريع أو البطئ أي كيفيات تجعل موضوعاتها معدة للتأثر عن الغير بحسب السرعة أو البطء مثل الرطوبة واليبوسة واللين والصلابة وغير ذلك. ثم فتشنا فوجدناها قد تخلو عن جميع الكيفيات الفعلية إلا الحرارة والبرودة والمتوسطة التي تستبرد بالقياس إلى الحار، وتستسخن بالقياس إلى البارد. فإنا نجد جسما خاليا عن اللون، وجسما خاليا عن الطعم، ولم نجد جسما خاليا عن الحرارة أو البرودة أو المتوسطة، وكذلك فتشنا فوجدناها خالية عن جميع الكيفيات الانفعالية إلا الرطوبة واليبوسة والمتوسطة بينهما، فعلم بهذا الاستقراء أن العناصر البسيطة لا تخلو عن إحدى الكيفيتين الفعليتين أي الحرارة والبرودة، ولا عن إحدى الكيفيتين الانفعاليتين أي الرطوبة واليبوسة. ولما كانت الازدواجات الممكنة الثنائية غير زائدة على أربعة: الحرارة مع اليبوسة، والحرارة مع الرطوبة، والبرودة مع الرطوبة، والبرودة مع اليبوسة، كانت البسائط الموضوعة لتلك المزدوجات أربعة: الموضوع للحرارة واليبوسة وهو النار، والموضوع للحرارة والرطوبة وهو الهواء، والموضوع للبرودة والرطوبة وهو الماء، والموضوع للبرودة واليبوسة وهو الأرض. والدليل على أنها كرات هو أنها بسائط، وقد علمت أن الشكل الذي تقتضيه البساطة هو الكرى، انتهت تلك الزيادة. 241 لا في الغاية فطلب العلو فوق باقي العناصر، والأرض أبرد العناصر فطلبت المركز. وهذه الأربعة كرات منطبق بعضها على بعض لبساطتها، ولأن خسوف القمر إذا اعتبر (1) في وقت بعينه في بعض البلاد لم يوجد في البلد المخالف لذلك البلد في الطول في ذلك الوقت بعينه، والسائر على خط من خطوط نصف النهار (2) إلى
(1) ولذلك كانوا بخسوف القمر يحصلون مقادير أطوال البلاد. وهذا الطريق في تحصيل الطول قد أتى به من المتأخرين صاحب الزيج البهادري في الباب الخامس عشر من المقالة الثالثة منه (ص 80) وأما في أزياج المتقدمين وصحفهم النجومية الهيوية فكثير ذكره، منها المجسطي الاسلامي قانون أبي ريحان البيروني تغمده الله برحمته فإن الباب الأول من المقالة الخامسة منه في بيان تصحيح أطوال البلدان بالخسوفات، وقد بسط القول فيه وأحسن وأجاد وأفاد وهذا الأثر القويم العظيم لم تجد له بديلا بل عديلا في موضوعه. واعلم أن الطريق المذكور في تحصيل أطوال الآفاق جار في خسوف القمر فقط، ولا يمكن تحصيلها من كسوف الشمس لأن كسوفها ليس بانمحاء نورها واقعا بل بحيلولة القمر بينها وبين الأرض، ولذا يختلف الكسوف باختلاف الآفاق بسبب اختلاف المنظر اختلافا يتفق في أفق أن ينكسف الشمس كليا، وفي أفق آخر أن ينكسف جزئيا، أو لم ينكسف أصلا، بخلاف القمر فإن انخسافه انمحاء نوره واقعا لوقوعه في ظل الأرض وعدم إمكان كسبه النور من الشمس، فمتى تحقق خسوف القمر في أفق كانت الآفاق الأخرى على سواء في رؤيته على التفصيل الذي بين في محله. ثم إن من أدلة أرسطو على كروية الأرض ما يرى من ظل الأرض على صفحة القمر حين الخسوف، فإن الظل يرى مدورا وظل الكرة فقط مدور فالأرض كرة. وفي المقام أدلة أخرى ذكرناها مع الإشارة إلى مصادرها ومأخذها في كتابنا الموسوم بدروس معرفة الوقت والقبلة فراجع الدرس السادس عشر منه بل عدة مواضع أخرى من سائر دروسه أيضا. (2) أقول: وبذلك الارتفاع والانخفاض حصلوا مساحة الأرض على التفصيل الذي ذكرناه في الدرس المذكور آنفا (ص 101 من دروس معرفة الوقت والقبلة ط 1). 242 الجانب الشمالي يزداد عليه ارتفاع القطب الشمالي وانخفاض الجنوبي وبالعكس وهذا يدل على كرية الأرض، والأغوار والأنجاد (1) لا تؤثر في الكرية لصغرها بالنسبة إليها. وأما الماء فلأن راكب البحر إذا قرب من جبل ظهرت له قلته أولا ثم أسفله ثانيا، والبعد بينه وبين القلة أكثر مما بينه وبين الأسفل، والسبب فيه منع حدبة الماء عن إبصار الأسفل وأما الباقيان فلما مر من بساطتهما وهي تقتضي الكرية. وإنما استفيد عدد هذه العناصر وانحصارها في أربعة من مزاوجات الكيفيات الفعلية والانفعالية أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة. قال: وكل منها ينقلب إلى الملاصق، وإلى الغير بواسطة أو بوسائط. أقول: هذه العناصر الأربعة كل واحد منها ينقلب إلى الآخر إما ابتداءا كصيرورة النار هواءا أو بواسطة واحدة كصيرورتها ماءا بواسطة انقلابها هواءا ثم انقلاب الهواء ماءا، أو بوسائط كصيرورتها أرضا بواسطة انقلابها هوءا ثم ماءا ثم أرضا، والأصل فيه أن غالب الأمر انقلاب العنصر إلى ملاصقه كانقلاب النار هواءا ابتداءا، وإلى البعيد بواسطة، ويدل على انقلاب كل واحد منها إلى صاحبه ما يشاهد من صيرورة النار هواءا عند الانطفاء وصيرورة الهواء نارا عند إلحاح النفخ وصيرورة الهواء ماءا عند حصول البرد في الجو وانعقاد السحاب الماطر من
(1) وذلك لأن تضاريس الأرض أوهادها وأنجادها لا تخرجها عن الاستدارة حسا إذ لا نسبة محسوسة لها إلى جملتها كبيضة من حديد ألزقت بها حبات شعير فلا تقدح في كونها كروية الشكل. بل قالوا: إن نسبة تلك التضاريس إلى كرة الأرض أصغر بكثير من نسبة الشعير إلى البيضة إذ برهنوا أن نسبة ارتفاع أعظم الجبال إلى قطر الأرض كنسبة سبع عرض شعيرة إلى كرة قطرها ذراع كما بين في محله. وبرهن المتأخرون أيضا إلى أن ارتفاع أعظم الجبال لا يتجاوز جزءا من سبعمائة جزء من نصف قطر الأرض، نعم أن المتأخرين ذهبوا إلى أن الأرض ليست بكرة تامة بل شبيهة بالكرة شكلها في الحقيقة شلجمي بسبب تطامن طرفيها. والمباحث عن ذلك بطولها تطلب في الدرس المذكور من دروس معرفة الوقت والقبلة. 243 غير وصول بخار إليه، وصيرورة الماء هواءا عند إسخانه، وصيرورة الماء أرضا كما يعقد أهل الحيل (1) المياه الجارية أحجارا صلبة، وصيرورة الأرض ماءا كما يتخذون مياها حارة ويحلون فيها أجسادا صلبة حجرية حتى تصير مياها جارية. قال: فالنار حارة يابسة شفافة متحركة بالتبعية لها طبقة واحدة وقوة على إحالة المركب إليها. أقول: لما فرغ من الأحكام المشتركة بين العناصر شرع في البحث عن الكيفيات المختصة بكل عنصر عنصر وبدأ بالنار وذكر من أحكامها ستة: الأول: أنها حارة والحس يدل على حرارة النار الموجودة عندنا، وأما النار البسيطة التي هي الفلك الأثير (2) فإنها كذلك لوجود الطبيعة خالية عن العائق ولبساطتها فإن الحرارة موجودة في النار التي عندنا مع امتزاجها بالضد فكيف
(1) أهل الحيل هم أرباب الأكسير أي طلاب الكيمياء، والأجساد هي الأجسام الذائبة بحسب مصطلحات أصحاب الحيل أي الفلزات. وإنما يعبرون عنها بالأجساد لا الأجسام لأن الجسد هو برزخ بين الطرفين ليس بغلاظة ما دونه، ولا بلطافة ما فوقه، كما يعبر أرباب المعقول عن التمثلات في الخيال المتصل والمنفصل بالأجساد، وبعضهم يعبرون عن الأبدان الأخروية مطلقا بالأجساد، وبعضهم قائلون بأن معراج الخاتم صلى الله عليه وآله كان جسدانيا. وبالجملة لما كانت الفلزات مما تكونت من العناصر وهي مركبات معدنية ذوات أمزجة، ولها أيضا استحالات ألطف مما هي بالفعل عبروا عنها بالأجساد فهي ذائبة بالنسبة إلى بعدها كما هي ذائبة بالنسبة إلى قبلها. والأكسير هو الكيمياء وأهل العصر يقولون: الشيمي، وهي كلمة فرنسية أصلها Chimic ولها فروع لغوية كثيرة وحرف C يتلفظ كثيرا بالكاف وإن كان مع حرف h بعدها يتلفظ بالشين. وما تذاب بها تلك الأجساد من الزيبق والكبريت والنوشادر وغيرها تسمى في اصطلاح أهل الكيمياء أرواحا، صرح بذلك ابن الفناري في مصباح الأنس (ص 209 ط 1) والشارح العلامة ناظر في أغلب هذه المباحث إلى كلمات الماتن في شرحه على كتاب الإشارات. فراجع شرحه على الفصل العشرين من النمط الثاني منه في المقام. (2) الأثير هي النار الخالصة الصرفة، وقد يطلق على الفلك أيضا بل أكثر استعماله في الفلكيات. والشارح قد أطلق الفلك على كرة الأثير، وقد أطلقه عليها غيره أيضا. 244 بالنار الصرفة. الثاني: أنها يابسة وهو معلوم بالحس أيضا إن عنى باليبوسة ما لا يلتصق بغيره، أما إن عنى بها ما يعسر تشكله بالأشكال القريبة فالنار ليست يابسة بهذا المعنى. الثالث: أنها شفافة وإلا لحجبت الثوابت عن الأبصار، ولأن النار كلما كانت أقرب إلى الشفافية كانت أقوى كما في أصول الشعل (1). الرابع: أنها متحركة بالتبعية وهو حكم ظني لأنهم لما رأوا الشهب (2) متحركة حكموا بحركة كرة النار ثم طلبوا العلة فقالوا: إن كل جزء من الفلك تعين مكانا لجزء من النار فإذا انتقل ذلك الجزء انتقل المتمكن فيه كالساكن في السفينة. وهذا ضعيف، لأن الشهب لا تتحرك إلى جهة واحدة بل قد يكون إلى الشمال تارة وإلى الجنوب أخرى، وما ذكروه من العلة فهو بعيد وإلا لزم حركة كرة الهواء والماء والأرض مع أن الفلك بسيط لا جزء له، ولو فرض له أجزاء لكانت متساوية فكيف يصح اختلافها في كون بعضها مكانا لبعض أجزاء النار البسيطة والبعض
(1) ناظر إلى عبارة الشيخ في الفصل الخامس والعشرين من النمط الثاني من الإشارات قال: إعلم أن النار الساترة لما وراءها أنما يكون ذلك لها إذا علقت شيئا أرضيا ينفعل بالضوء عنها ولذلك أصول الشعل وحيث النار قوية هي شفافة لا يقع لها ظل ويقع لما فوقها ظل عن مصباح آخر. (2) الشهب والنيازك ليستا بمتحركتين بل يظن من نحو حدوثهما أنهما متحركتان، وبيان حدوثهما هو كما حرره الماتن في شرحه على الفصل المذكور أخيرا من الإشارات أن المتخلل اليابس المتصعد لاكتساب الحرارة أعني الدخان المرتفع من الأرض أنما يعلو البخار لأن اليابس أكثر حفظا للكيفية الفعلية وأشد إفراطا فيها لذلك، فإذا بلغ الجو الأقصى الحار بالفعل لبعده عن مجاورة الماء والأرض ومخالطة أبخرتهما وقربه من الأثير اشتعل طرفه العالي أولا ثم ذهب الاشتعال فيه إلى آخره فرأى الاشتعال ممتدا على سمت الدخان إلى طرفه الآخر وهو المسمى بالشهاب، فإذا استحالت الأجزاء الأرضية نارا صرفة صارت غير مرئية لعدم الاستضاءة فظن أنها طفئت فليس ذلك بطفوء. نعم أن حدوث النيازك والشهب عند القطبين يدل على أن النار كروية الشكل صحيحة الاستدارة تحديبا وتقعيرا، فتأمل. 245 الآخر مكانا للآخر. الخامس: أنها ذات طبقة واحدة وذلك لقوتها على إحالة ما يمازجها فلا يوجد في مكانها غيرها. السادس: أنها قوية على إحالة المركب إليها، وذلك ظاهر. قال: والهواء حار رطب شفاف له أربع طبقات. أقول: لما فرغ من البحث عن أحكام النار شرع في البحث عن الهواء الملاصق لها، وذكر له أحكاما أربعة: الأول: أنه حار وذلك فيما يرجع إلى الكيفية الفعلية وقد وقع التشاجر فيه، فأكثر الناس ذهب إلى أنه حار لا في الغاية لأن الماء إذا أريد جعله هواءا سخن فضل تسخين ومع استحكام التسخين ينقلب هواءا، وآخرون منعوا من ذلك لأنه لو اقتضى السخونة لطبعه لبلغ فيها الغاية لوجود العلة الخالية عن المعاوق. الثاني: أنه رطب بمعنى سهولة قبول الأشكال لا بمعنى البلة وذلك ظاهر، وهذا فيما يرجع إلى الكيفية الانفعالية. الثالث: أنه شفاف وهو ظاهر لعدم إدراكه صرفا بالبصر. الرابع: أنه ذو طبقات أربع: الطبقة الأولى الملاصقة للأرض، الثانية الطبقة الباردة بسبب ما يخالطها من الأبخرة، الثالثة الطبقة الصرفة، الرابعة الطبقة الممتزجة بشئ من النار (1). قال: والماء بارد رطب شفاف محيط بثلاثة أرباع الأرض له طبقة واحدة.
(1) في النسخ المطبوعة زيادة أسطر هاهنا وهي تعليقة أدرجت في المتن نأتي بها تتميما للفائدة وهي هذه: الطبقة الأولى: المجاور للأرض، المتسخن لمجاورة الأرض، المشعشعة بشعاع النير، وهي بخارية حارة. والبخار هو المتخلل الرطب وهو أجزاء مائية اكتسبت حرارة فتصاعدت لأجلها وخالطت الهواء الملاصق للأرض. الطبقة الثانية: وهي الهواء المتباعد عن الأرض الذي انقطع عنه تأثير الشعاع لبعده عن الأرض وهي بخارية باردة، ويقال لها: الطبقة الزمهريرية، وذلك بسبب ما يخالطها من الأبخرة. الطبقة الثالثة: الهواء الصرف. الطبقة الرابعة: طبقة دخانية فإن البخار وإن صعد في الهواء لكن الدخان يجاوزه ويعلوه لأنه أخف حركة وأقوى نفوذا لشدة الحرارة، والدخان هو المتخلل اليابس. انتهت الزيادة. 246 أقول: ذكر للماء خمسة أحكام: الأول: أنه بارد والحس يدل عليه لأنه مع زوال المسخنات الخارجية يحس ببرده. واختلفوا فالأكثر على أن الأرض أبرد منه لأنها أكثف وأبعد عن المسخنات والحركة الفلكية، وقال قوم: إن الماء أبرد لأنا نحس بذلك وهو ضعيف لأن الشئ قد يكون أشد بردا في الحس ولا يكون في نفس الأمر كذلك كما في جانب السخونة، ولهذا كانت السخونة في الأجسام الذائبة كالرصاص وغيره أشد في الحس من النار الصرفة الخالية عن الضد لسرعة انفصال النار الصرفة عن اليد لأجل لطافتها فلا يدوم أثرها كذلك هاهنا أثر الماء للطافته ينبسط على العضو ويصل إلى عمق كل جزء منه ويلتصق به بخلاف التراب المتناثر عنه سريعا فكان الاحساس ببرد الماء أكثر. الثاني: أنه رطب وهو ظاهر بمعنى البلة، وقيل: إنه يقتضي الجمود لأنه بارد بالطبع والبرد يقتضي الجمود وإنما عرض السيلان له بسبب سخونة الأرض والهواء، ولو خلي وطبعه لاقتضى الجمود. الثالث: أنه شفاف لأنه مع صرافته لا يحجب عن الأبصار. وقيل: إنه ملون وإلا لم يكن مرئيا ولضعف لونه لم يحجب عن الأبصار. الرابع: أنه محيط بأكثر الأرض وهو حكم ظني لأنهم جعلوا العناصر متعادلة (1) وإلا لاستحال الأضعف وعدم عنصره، فلو لا إحاطته بثلاثة أرباع الأرض لكان أقل من الأرض وإذا كان محيطا بأكثر الأرض كان هو البحر وإلا فإما أن يكون فوق الأرض أو تحتها (2)، والثاني باطل وإلا لكان أصغر من الأرض فبقي الأول وهو البحر.
(1) أي متعادلة في الحجم. (2) المراد من التحت جوفها وباطنها، ولذا كان أصغر من الأرض لأن ما في بطن الجسم أقل منه. 247 الخامس: أنه ذو طبقة واحدة هو البحر، وهو ظاهر. قال: والأرض باردة يابسة ساكنة في الوسط شفافة لها ثلاث طبقات. أقول: ذكر للأرض أحكاما خمسة: الأول: أنها باردة لأنها كثيفة، وقد سلف البحث في أنها أبرد العناصر. الثاني: أنها يابسة، وهو أيضا ظاهر. الثالث: أنها ساكنة في الوسط، وقد نازع في ذلك جماعة فذهب قوم إلى أنها متحركة إلى السفل، وآخرون إلى العلو، وآخرون بالاستدارة، والحق خلاف ذلك كله وإلا لما وصل الحجر المرمى إليها إن كانت هاوية، ولما نزل الحجر المرمى إلى فوق إن كانت صاعدة، ولما سقط على الاستقامة (1) إن كانت متحركة على الاستدارة. وقد أشار في هذا الحكم إلى فائدة بقوله: في الوسط، وهو الرد على من زعم أنها ساكنة بسبب عدم تناهيها من جانب السفل لا من حيث الطبع، وبيان بطلان هذا القول ظاهر لأن الأجسام متناهية. الرابع: أنها شفافة، وقد وقع فيه منازعة بين القوم فذهب جماعة إليه لأنها بسيطة، وذهب آخرون إلى المنع لأنا نشاهد الأرض فإن كانت بسيطة فالمطلوب وإن كانت ممتزجة بغيرها كانت الأرضية عليها أغلب فكانت الشفافية أغلب وليس كذلك، ثم نقضوا كبرى أولئك بالقمر. الخامس: في طبقاتها وهي ثلاث (2): طبقة هي أرض محضة وهي المركز
(1) بل هو كذلك لا يسقط عليها على الاستقامة على نقطة رمي الحجر منها إلى فوق، وقريب من هذا المنهج حركة الفاندول على الوجه الذي انتقل به فوكولة وعمل به في مرصد باريس وبيان تفصيله يطلب من تحفة الأفلاك (ص 27 - 30 ط 1) وغيره من كتب الفن منها كتاب السماء بالفرنسية تأليف الفنس برژت (ص 13 - 16 ط باريس). (2) عبارة الشفاء في المقام هكذا: فيشبه لذلك أن تكون الأرض ثلاث طبقات: طبقة تميل إلى محوضة الأرضية، وتغشيها طبقة مختلطة من الأرضية والمائية وهو طين، وطبقة منكشفة عن الماء جفف وجهها الشمس وهو البر والجبل وما ليس بمنكشف فقد ساح عليه البحر (ج 1 ط 1 ص 227). وعبارة الفاضل الرومي في شرحه على الملخص في الهيئة للجغميني هكذا: انحصار العناصر في الأربعة مستفاد من ازدواجات الكيفيات الفعلية والانفعالية على ما ذكر في الطبيعي لكن التعويل على الاستقراء، وهي تسع طبقات في المشهور عند الجمهور كالأفلاك: طبقة الأرض الصرفة المحيطة بالمركز، ثم الطبقة الطينية، ثم طبقة الأرض المخالطة التي تتكون فيها المعادن وكثير من النباتات والحيوانات، ثم طبقة الماء، ثم طبقة الهواء المجاور للأرض والماء، ثم الطبقة الزمهريرية الباردة بسبب ما تخالط الهواء من الأبخرة وعدم ارتقاء انعكاس الأشعة إليها وهي منشأ السحب والرعد والبرق والصواعق، ثم طبقة الهواء الغالب القريب من الخلوص، ثم الطبقة الدخانية التي تتلاشى فيها الأدخنة المرتفعة من السفل وتتكون فيها ذوات الأذناب والنيازك وما يشبههما من الأعمدة ونحوها وربما توجد متحركة بحركة الفلك تشييعا له، ثم طبقة النار. ومنهم من قسم الهواء باعتبار مخالطة الأبخرة وعدمها بقسمين: أحدهما: الهواء اللطيف الصافي من الأبخرة لأنها تنتهي في ارتفاعها إلى حد لا يتجاوزه وهو قريب من سبعة عشر فرسخا. وثانيهما: الهواء الكثيف المخلوط بالأبخرة ويسمى كرة البخار وعالم النسيم وكرة الليل والنهار إذ هي مهب الرياح والقابلة للظلمة والنور، والزرقة التي يظن أنها لون السماء أنما يتخيل فيها. وبهذا الاعتبار يمكن أن يؤخذ الطبقات سبعا كالسماوات (ص 18 ط 1). 248 وما يقاربه، وطبقة طينية، وطبقة بعضها منكشف هو البر وبعضها أحاط به البحر. المسألة الثالثة في البحث عن المركبات قال: وأما المركبات فهذه الأربعة أسطقساتها. أقول: لما فرغ من البحث عن البسائط شرع في البحث عن المركبات وبدأ من ذلك بالبحث عن بسائطها. واعلم أن المركبات أنما تتركب من هذه العناصر الأربعة لأن العنصر الواحد بسيط لا يقع به التفاعل فلا بد من كثرة، ولما دل الاستقراء على انتفاء صلاحية ما عدا الكيفيات الأربع أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة أو ما ينسب
249 إليها للفعل والانفعال وجب أن يكون التفاعل إنما هو في هذه الأربعة وحواملها وكانت الاسطقسات هذه العناصر الأربعة لاغير. وهذه العناصر من حيث هي أجزاء العالم تسمى أركانا، ومن حيث إنها تتركب منه المركبات من المعادن والنباتات تسمى أسطقسات. قال: وهي حادثة عند تفاعل بعضها في بعض. أقول: المركبات عند محققي الأوائل تحدث عند تفاعل هذه العناصر الأربعة بعضها في بعض إلى أن تستقر الكيفية المتوسطة المسماة بالمزاج. وذهب أصحاب الخليط مثل انكساغورس وأتباعه إلى نفي ذلك، وقال: إن هنا أجزاءا هي لحم وأجزاءا هي عظام وأجزاءا هي حنطة (1) وغير ذلك من جميع المركبات وهي مختلطة مبثوثة في العالم غير متناهية، فإذا اجتمع أجزاء من طبيعة
(1) وفى غير واحدة من النسخ المعتبرة أيضا: وأجزاءا هي شحمة بدل قوله: واجزاءا هي حنطة. وقد ذهب أصحاب الخليط إلى أن مادة هذه المحسوسات أي أعيان الموجودات هي تلك الأجزاء المختلفة بالنوع كما قاله الخواجة في شرحه على الثاني عشر من خامس الإشارات. وقال أيضا في شرحه على الفصل الثالث والعشرين من ثاني الإشارات: إن انكساغورس وأصحابه القائلين بالخليط كانوا ينكرون التغير في الكيفية وفي الصورة - أي كانوا ينكرون الاستحالة والكون - ويزعمون أن الأركان الأربعة لا يوجد شئ منها صرفا بل هي مختلطة من تلك الطبائع ومن سائر الطبائع النوعية. وإنما تسمى بالغالب الظاهر منها ويعرض لها عند ملاقاة الغير أن يبرز منها ما كان كامنا فيها فيغلب ويظهر للحس بعد ما كان مغلوبا غائبا عنه لا على أنه حدث بل على أنه برز ويكمن فيها ما كان بارزا فيصير مغلوبا وغائبا بعد ما كان غالبا وظاهرا. وبإزائهم قوم زعموا أن الظاهر ليس على سبيل بروز بل على سبيل نفوذ من غيره فيه كالماء مثلا فإنه إنما يتسخن بنفوذ أجزاء نارية فيه من النار المجاورة له. والمذهبان متقاربان فإنهما يشتركان في أن الماء مثلا لم يستحل حارا لكن الحار نار تخالطه ويفترقان بأن أحدهما يرى أن النار برزت من داخل الماء، والثاني يرى أنها وردت عليه من خارجه. وإنما دعاهم إلى ذلك الحكم بامتناع كون الشئ عن لا شئ، وامتناع صيرورة الشئ شيئا آخر. 250 واحدة ظن أن تلك الطبيعة حدثت وليس كذلك بل تلك الطبيعة كانت موجودة والحادث التركيب لا غير، والضرورة قاضية ببطلان هذه المقالة فإنا نشاهد تبدل ألوان وطعوم وروائح وغير ذلك من الصفات الحادثة. قال: فتفعل الكيفية في المادة فتكسر صرافة كيفيتها (1) وتحصل كيفية متشابهة في الكل متوسطة هي المزاج. أقول: لما ذكر أن المركبات أنما تحصل عند تفاعل هذه العناصر بعضها في بعض شرع في كيفية هذا التفاعل، واعلم أن الحار والبارد، أو الرطب واليابس إذا اجتمعا وفعل كل منهما في الآخر لم يخل إما أن يتقدم فعل أحدهما على انفعاله أو يقترنا ويلزم من الأول صيرورة المغلوب غالبا وهو محال، ومن الثاني كون الشئ الواحد غالبا مغلوبا دفعة واحدة وهو محال فلم يبق إلا أن يكون الفاعل في كل واحد منهما غير المنفعل، فقيل: الفاعل هو الصورة والمنفعل هو المادة، وينتقض بالماء الحار إذا مزج بالماء البارد واعتدلا، فإن الفعل والانفعال بين الحار والبارد هناك موجود مع أنه لا صورة تقتضي الحرارة في الماء البارد. وقيل: الفاعل هو الكيفية والمنفعل هو المادة مثلا تفعل حرارة الماء الحار في مادة الماء البارد فتكسر البرودة التي هي كيفية الماء البارد وتحصل كيفية متشابهة متوسطة بين الحرارة والبرودة هي المزاج، وهذا اختيار المصنف رحمه الله وفيه نظر لأن المادة إنما تنفعل في الكيفية الفاعلة لا في غيرها ويعود البحث من كون المغلوب يصير غالبا أو اجتماع الغالبية والمغلوبية للشئ الواحد في الوقت الواحد بالنسبة إلى شئ واحد وهو باطل. قال: مع حفظ صور البسائط.
(1) وفي (ت): فتكسر ما فيه كيفيتها. والباقية كلها: فتكسر صرافة كيفيتها، كما اخترناه. والضمير في كيفيتها راجع إلى الاسطقسات، وإن كان راجعا إلى المادة فبالإضمار أي تكسر هذه الكيفية صرافة كيفية الصورة التي حالة في المادة. 251 أقول: نقل الشيخ (1) في هذا الموضوع في كتاب الشفاء أن هنا مذهبا غريبا عجيبا وهو أن البسائط إذا اجتمعت وتفاعلت بطلت صورها النوعية المقومة لها وحدثت صورة أخرى نوعية مناسبة لمزاج ذلك المركب واحتجوا بأن العناصر لو بقيت على طبائعها حتى اتصف الجزء الناري مثلا بالصورة اللحمية أمكن أن يعرض للنار بانفرادها عارض ينتهي بها إلى أن تصير حرارتها إلى ذلك الحد الذي حصل لها عند كونها جزءا من المركب فتصير النار البسيطة لحما. وأبطله الشيخ بأن ذلك يكون كونا وفسادا لا مزاجا (2)، ولأن الكاسر باق مع الانكسار فالطبائع باقية مع انكسار الكيفيات. ونقض ما ذكروه بوروده عليهم لأن مذهبهم أن الجزء الناري تبطل ناريته عند امتزاجه ويتصف بالصورة اللحمية فيجوز عروض هذا العارض للنار البسيطة فإن شرطوا التركيب كان هو جوابنا. قال: ثم تختلف الأمزجة في الأعداد بحسب قربها وبعدها من الاعتدال.
(1) نقله في الفصل السابع من الفن الثالث من طبيعيات الشفاء (ص 205 ج 1 ط 1). وقد ذهب صاحب الأسفار إلى ذلك المذهب الذي استغربه الشيخ فراجع الفصل الأول من الباب الثاني من كتاب النفس منه (ص 6 ج 4 ط 1)، وكذلك الفصل التاسع من الفن السادس من الجواهر والأعراض منه (ج 2 ط 1 ص 194)، وكذلك الفصل الرابع عشر من الفن السادس منه (ج 2 ص 202)، وتفصيل ذلك يطلب في الفصل الخامس عشر من ذلك الفن (ج 2 ص 206). وخلاصة كلام الشيخ في الشفاء وغيره من طائفة المشاء ما ذكره بهمنيار في التحصيل من أن الجواهر العنصرية ثابتة في الممتزج بصورها متغيرة في كيفياتها فقط وكيف لا تكون ثابتة فيه والمركب أنما هو مركب عن أجزاء فيه مختلفة وإلا لكان بسيطا لا يقبل الأشد والأضعف. وأما كيفياتها ولواحقها فتكون قد توسطت ونقصت عن حد الصرافة (ص 693 ط 1). (2) وفي (م ق): لا امتزاجا. ومفادهما في المقام واحد. وعنوان الفصل في الشفاء كان: في إبطال مذهب محدث في المزاج. وما في الفصل من عبارات الشيخ تارة يناسب المزاج، وأخرى الامتزاج. وتعبير الخواجة في شرح الإشارات والقوشجي وصاحب الشوارق في شرح التجريد هو المزاج. 252 أقول: الأمزجة في المركبات هي المعدة لقبول المركب للصور والقوى المعدنية والنباتية والحيوانية، إذ المركبات كلها اشتركت في طبيعة الجسمية ثم اختلفت في هذه القوى فبعضها اتصف بصورة حافظة لبسائطه عن التفرق جامعة لمتضادات مفرداته من غير أن يكون مبدأ لشئ آخر وهذه هي الصور المعدنية، وبعضها اتصف بصورة تفعل مع ما تقدم التغذية والتنمية والتوليد لا غير وهي النفس النباتية، وبعضها يفعل مع ذلك الحس والحركة الإرادية وهي النفس الحيوانية، فلا بد وأن يكون هذا الاختلاف بسبب اختلاف القوابل المستند إلى اختلاف الاستعداد المستفاد من اختلاف الأمزجة بسبب بعدها وقربها من الاعتدال، وكل من كان مزاجه أقرب (1) إلى الاعتدال قبل نفسا أكمل. قال: مع عدم تناهيها بحسب الشخص وإن كان لكل نوع طرفا إفراط وتفريط وهي تسعة.
(1) وأتم منه ما أفاد الخواجة في شرحه على الفصل الأخير من النمط الثاني من الإشارات ونأتي بكلامه السامي تبركا ثم نتبعه بما نشير إليه في المقام لنفاسة البحث عن ذلك المطلب الأسنى، قال قدس سره: اعلم أن انكسار تضاد الكيفيات واستقرارها على كيفية متوسطة وحدانية نسبة ما لها إلى مبدئها الواحد، وبسببها تستحق لأن يفيض عليها صورة أو نفسا تحفظها فكلما كان الانكسار أتم كانت النسبة أكمل والنفس الفائضة بمبدئها أشبه، إنتهى. أقول: كلامه السامي في اعتدال المزاج حكم محكم واصل رصين في النفس المكتفية التي هي المركز والقطب وما سواها من النفوس وغيرها تدور حولها، فما كان أقرب منها فهو ذو مزاج أعدل فهكذا الأقرب فالأقرب، وعلى خلافه الأبعد فالأبعد. وبهذا المطلب الأسنى تقدر أن تفهم أسرارا في علم الانسان الكامل الإمام وما جاء في الجوامع الروائية من أن النفوس المكتفية إذا شاؤوا أن يعلموا علموا، فتدبر حق التدبر. ثم اعلم أن التوحد أيضا هو ملاك تعلقنا الحقائق لأن التعقل هو التوحد والتعلق هو التفرق، والتعقل لا يتحقق مع التعلق، ولذا قال أصحاب التوحيد: إن حقائق الأشياء في الحضرة العلمية بسيطة فلا ندركها على نحو تعينها فيها إلا من حيث أحديتنا كما أفاده في مصباح الأنس (ص 9 ط 1). 253 أقول: الأمزجة تختلف باختلاف صغر أجزاء البسائط وكبرها، وهذا الاختلاف بسبب الصغر والكبر غير متناه فكانت الأمزجة لذلك غير متناهية بحسب الشخص وإن كان لكل نوع طرفا إفراط وتفريط فإن نوع الانسان مثلا له مزاج خاص معتدل بين طرفين هما إفراط وتفريط لكن ذلك المزاج الخاص (1) يشتمل على ما لا يتناهى من الأمزجة الشخصية ولا يخرج عن حد المزاج الانساني وكذلك كل نوع. إذا عرفت هذا فاعلم أن الأمزجة تسعة لأن البسائط إما أن تتساوى فيه وهو المعتدل، أو يغلب أحدها فإما الحار مع اعتدال الانفعاليين أو البارد معه أو الحار مع غلبة الرطب أو اليابس أو البارد معهما أو يغلب الرطب مع اعتدال الفعليين أو اليابس معه. قال:
(1) أي ذلك المزاج الخاص النوعي. 254 الفصل الثالث في بقية أحكام الأجسام وتشترك الأجسام في وجوب التناهي لوجوب اتصاف ما فرض له ضده به عند مقايسته بمثله مع فرض نقصانه عنه. أقول: لما فرغ عن البحث في الأجسام شرع في البحث عن باقي أحكامها إذ قد كان سبق البحث عن بعض أحكامها، وهذا الفصل يشتمل على مسائل: المسألة الأولى في تناهي الأجسام (1) وقد اتفق أكثر العقلاء على ذلك وإنما خالف فيه حكماء الهند، واستدل المصنف رحمه الله على ذلك بوجهين: الأول برهان التطبيق، وتقريره أن الأبعاد لو كانت
(1) أقول: أما تناهي الأبعاد الجزئية أي الأجسام الجزئية فهو قريب من الأوليات كتناهي كرة الأرض وغيرها من العناصر والكواكب، وأما تناهي الأبعاد بمعنى أن العالم الجسماني ينتهي في جميع الجهات إلى محدب محدد الجهات وبعده لا خلاء ولا ملاء فدون إثباته خرط القتاد. والأدلة التي ذكروها كلها مدخولة. وتلك الأدلة هي البرهان السلمي، والترسي، وبرهان التطبيق، والبرهان الذي أقامه السيد السمرقندي، والبرهان اللام الفي، والذي أقامه صاحب التلويحات، وبرهان التخليص، وبرهان المسامته. وقد حررتها وبينت وجوه عدم تماميتها في المدعى في كتابنا الموسوم بألف نكتة ونكتة فاطلبها من النكتة الثالثة والثمانين والستمائة منه. 255 غير متناهية لأمكننا أن نفرض خطين غير متناهيين مبدأهما واحد ثم نفصل من أحدهما قطعة ثم نطبق أحد الخطين على الآخر بأن نجعل أول أحدهما مقابلا لأول الآخر، وثاني الأول مقابلا لثاني الثاني والثالث للثالث وهكذا إلى ما لا يتناهى، فإن استمرا كذلك كان الناقص مثل الزائد وهو محال بالضرورة، وإن انقطع الناقص انقطع الزائد لأن الزائد إنما زاد بمقدار متناه هو القدر المقطوع والزائد على المتناهي بمقدار متناه يكون متناهيا، فالخطان متناهيان وهو المطلوب. إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تتبع ألفاظ الكتاب، فقوله: وتشترك الأجسام في وجوب التناهي، إشارة إلى الدعوى مع التنبيه على كون هذا الحكم واجبا لكل جسم. وقوله: لوجوب اتصاف ما فرض له ضده به، معناه لوجوب اتصاف الخط الناقص الذي فرض له ضد التناهي لأنا فرضنا الخطين غير متناهيين بالتناهي (1). وقوله: عند مقايسته بمثله، معناه عند مقايسة الخط الناقص بالخط الكامل المماثل له في عدم التناهي. ومعنى المقايسة هنا مقابلة كل جزء من الناقص بجزء من الكامل. وقوله: مع فرض نقصانه عنه، يعني مع فرض قطع شئ من الخط الناقص حتى صار ناقصا، فهذا ما خطر لنا في معنى هذا الكلام. قال: ولحفظ النسبة بين ضلعي الزاوية وما اشتملا عليه مع وجوب اتصاف الثاني به. أقول: هذا هو الدليل الثاني على تناهي الأبعاد، وتقريره أنا إذا فرضنا زاوية خرج ضلعاها إلى ما لا يتناهى على الاستقامة فإن النسبة بين زيادة الضلعين
(1) صلة لقوله: اتصاف الخط، وهو بيان به في قول الماتن. 256 وزيادة الأبعاد التي اشتمل الضلعان عليها محفوظة بحيث كلما زاد الضلعان زادت الأبعاد على نسبة واحدة، فإذا استمرت زيادة الضلعين إلى ما لا يتناهى استمرت زيادة البعد بينهما إلى ما لا يتناهى مع وجوب اتصاف الثاني أعني البعد بينهما بالتناهي لامتناع انحصار ما لا يتناهى بين حاصرين. المسألة الثانية في أن الأجسام متماثلة قال: واتحاد الحد وانتفاء القسمة فيه يدل على الوحدة. أقول: ذهب الجمهور من الحكماء والمتكلمين إلى أن الأجسام متماثلة في حقيقة الجسمية وإن اختلفت بصفات وعوارض، وذهب النظام إلى أنها مختلفة لاختلاف خواصها وهو باطل لأن ذلك يدل على اختلاف الأنواع لا على اختلاف المفهوم من الجسم من حيث هو جسم. وقد استدل المصنف رحمه الله على قوله بأن الجسم من حيث هو جسم يحد بحد واحد عند الجميع، أما عند الأوائل فإن حده الجوهر القابل للأبعاد، وأما المتكلمون فإنهم يحدونه بأنه الطويل العريض العميق وهذا الحد الواحد لا قسمة فيه، فالمحدود واحد لاستحالة اجتماع المختلفات في حد واحد من غير قسمة بل متى جمعت المختلفات في حد واحد وقع فيه التقسيم ضرورة، كقولنا: الحيوان إما ناطق أو صاهل، ويراد بهما الانسان والفرس. المسألة الثالثة في أن الأجسام باقية قال: والضرورة قضت ببقائها. أقول: المشهور عند العقلاء ذلك، ونقل عن النظام خلافه بناء منه على امتناع
257 استناد العدم إلى الفاعل وأنه لا ضد للأجسام مع وجوب فنائها يوم القيامة، فالتزم بعدم بقائها وأنها تتجدد حالا فحالا كالأعراض غير القارة، والمحققون على خلاف ذلك واعتمادهم على الضرورة فيه. وقيل: إن النظام (1) ذهب إلى احتياج الجسم حال بقائه إلى المؤثر، فتوهم الناقل أنه كان يقول بعدم بقاء الأجسام. المسألة الرابعة في أن الأجسام يجوز خلوها عن الطعوم والروائح والألوان قال: ويجوز خلوها عن الكيفيات المذوقة والمرئية والمشومة كالهواء. أقول: ذهب المعتزلة إلى جواز خلو الأجسام عن الطعوم والروائح والألوان،
(1) أقول: ذهب النظام إلى أن الأجسام متجددة آنا فآنا كالأعراض كما في شرح المواقف (ص 447 ط قسطنطنية). فقد تفوه النظام بالقول الحق أعني القول بحركة الجوهر لأن الأعراض هي المرتبة النازلة للجوهر فإذا كانت متجددة آنا فآنا كانت موضوعاتها متجددة أيضا وهذه حجة من حجج إثبات الحركة في الجوهر، كما قال الحكيم السبزواري في الحكمة المنظومة. وجوهرية لدينا واقعة إذ كانت الأعراض كلا تابعة فالأجسام ليست بباقية بالبرهان فهي متجددة آنا فآنا فلا بد لها من جامع حافظ يجمع أجزاءها ويحفظ صورها على الاتصال والدوام كما يقوله القائل بتجدد الأمثال أيضا، وذلك الجامع الحافظ ليس إلا أصلا مفارقا ولولاه لاضمحلت الأجسام وتفرقت الصور والهيئات لاقتضاء الحركة ذلك. وادعاء الضرورة في بقائها ليس إلا من شهادة الحس باستمرار الأجسام ولا يصلح الحس وشهادته بالبقاء للتعويل عليه والوثوق به. وقال الآمدي كما في شرح المواقف: نحن نعلم بالضرورة العقلية أن ما شاهدناه بالأمس من الجبال الراسيات والأرضين والسماوات هو عين ما نشاهده اليوم، وكذا نعلم بالاضطرار أن من فاتحناه بالكلام هو عين من ختمناه معه، وأن أولادنا ورفقاءنا الآن هم الذين كانوا معنا من قبل، إنتهى. وأقول: التعبير بالضرورة العقلية محض ادعاء، والحق أن يقال: نحن نعلم بالضرورة الحسية. 258 ومنعت الأشعرية منه، أما المعتزلة فاحتجوا بمشاهدة بعض الأجسام كذلك كالهواء، واحتجت الأشعرية بقياس اللون على الكون وبما قبل الاتصاف على ما بعده، وهما ضعيفان لأن القياس المشتمل على الجامع لا يفيد اليقين فكيف الخالي عنه مع قيام الفرق، فإن الكون لا يعقل خلو متحيز عنه بالضرورة بخلاف اللون فإنه يمكن أن يتصور الجسم خاليا عنه، وأما امتناع الخلو عنها بعد الاتصاف فممنوع ولو سلم لظهر الفرق أيضا لأن الخلو بعد الاتصاف أنما امتنع لافتقار الزائل بعد الاتصاف إلى طريان الضد بخلاف ما قبل الاتصاف لعدم الحاجة إليه. المسألة الخامسة في أن الأجسام يجوز رؤيتها قال: ويجوز رؤيتها بشرط الضوء واللون وهو ضروري. أقول: ذهب الأوائل إلى أن الأجسام مرئية لكن لا بالذات بل بالعرض، فإنها لو كانت مرئية بالذات لرؤي الهواء والتالي باطل فالمقدم مثله، وإنما يمكن رؤيتها بتوسط الضوء واللون وهذا حكم ضروري يشهد به الحس وجمهور العقلاء على ذلك ولم أعرف فيه مخالفا. المسألة السادسة في أن الأجسام حادثة قال: والأجسام كلها حادثة لعدم انفكاكها من جزئيات متناهية حادثة فإنها لا تخلو عن الحركة والسكون وكل منهما حادث وهو ظاهر. أقول: هذه المسألة من أجل المسائل وأشرفها في هذا الكتاب وهي المعركة العظيمة بين الأوائل والمتكلمين، وقد اضطربت أنظار العقلاء فيها وعليها مبنى
259 القواعد الاسلامية (1) وقد اختلف الناس فيها، فذهب المسلمون والنصارى واليهود والمجوس إلى أن الأجسام محدثة، وذهب جمهور الحكماء إلى أنها قديمة، وتفصيل قولهم في ذلك ذكرناه في كتاب المناهج. إذا عرفت هذا فنقول: الدليل على أن الأجسام حادثة أنها لا تخلو عن أمور متناهية حادثة، وكل ما لم يخل عن أمور متناهية حادثة فهو حادث، فالأجسام حادثة أما الصغرى فلأن الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون وهي أمور حادثة متناهية، أما بيان عدم انفكاك الجسم عنهما فضروري لأن الجسم لا يعقل موجودا في الخارج منفكا عن المكان فإن كان لابثا فيه فهو الساكن، وإن كان منتقلا عنه فهو المتحرك. وأما بيان حدوثهما فظاهر لأن الحركة هي حصول الجسم في الحيز بعد أن كان في حيز آخر، والسكون هو الحصول في الحيز بعد إن كان في ذلك الحيز، فماهية كل واحد منهما تستدعي المسبوقية بالغير والأزلي غير مسبوق بالغير فماهية كل واحد منهما ليست قديمة. وأيضا فإن كل واحد منهما يجوز عليه العدم، والقديم لا يجوز عليه العدم أما الصغرى فلأن كل متحرك على الإطلاق فإن كل جزء من حركته يعدم ويوجد عقيبه جزء آخر منها، وكل ساكن فإنه إما بسيط أو مركب، وكل بسيط ساكن يمكن عليه الحركة لتساوي الجانب الملاقي منه لغيره من الأجسام والجانب الذي لا يلاقيه في قبول الملاقاة فأمكن على غير الملاقي الملاقاة كما أمكنت على
(1) أي وهو مبنى قواعد جميع الأديان الإلهية لأن الدين عند الله الاسلام، ولا شك في حدوثها آنا فآنا لأنه سبحانه وتعالى دائم الفضل على ما سواه بشؤون جميع أسمائه الحسنى وصفاته العليا كما أخبر عن نفسه بأنه كل يوم هو في شأن، فلا تعطيل في اسم من أسمائه أزلا وأبدا لأنه الحق الأحدي الصمدي الغني المغني، فلا حالة انتظار له في فعل من أفعاله وإيفاء حكم اسم من أسمائه المنتشأة من ذاته بل الأسماء عين المسمى كما أنها غيره وكل يوم هو في شأن، وإذا كان هو في شأن فأسماؤه غير المتناهية أزلا وأبدا في شؤونهم. الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. 260 الملاقي لكن ذلك أنما يكون بواسطة الحركة فكانت الحركة جائزة عليه، وأما المركب فإنه مركب من البسائط، ونسوق الدليل الذي ذكرناه في البسيط إلى كل جزء من أجزاء المركب، وأما الكبرى فلأن القديم إن كان واجب الوجود لذاته استحال عدمه، وإن كان جائز الوجود استند إلى علة موجبة لاستحالة صدور القديم عن المختار لأن المختار أنما يفعل بواسطة القصد والداعي والقصد أنما يتوجه إلى إيجاد المعدوم فكل أثر لمختار حادث، فلو كان القديم أثرا لمؤثر لكان ذلك المؤثر موجبا، فإن كان واجبا لذاته استحال عدمه فاستحال عدم معلوله، وإن كان ممكنا نقلنا الكلام إليه فإما أن يتسلسل وهو محال أو ينتهي إلى مؤثر موجب يستحيل عدمه فيستحيل عدم معلوله، فقد ظهر أن القديم يستحيل عليه العدم، وقد بينا جواز العدم على الحركة والسكون فيستحيل قدمهما. قال: وأما تناهي جزئياتها (1) فلأن وجود ما لا يتناهى محال للتطبيق، ولوصف كل حادث بالإضافتين المتقابلتين ويجب زيادة المتصف بإحداهما من حيث هو كذلك على المتصف بالأخرى فينقطع الناقص والزائد أيضا.
(1) كما في (ت، ق، ز) والضمير راجع إلى الأجسام وذلك لأن المصنف بين حدوث الأجسام من جهة عدم انفكاكها من جزئيات متصفة بوصفين: أحدهما كونها متناهية، وثانيهما كونها حادثة. فما لم يتبين تناهي الجزئيات وحدوثها لم يتبين حدوث الأجسام فأخذ المصنف في بيانهما فبدأ بحدوث الجزئيات مع أن ترتيب العبارة يوجب تقديم بيان تناهيها لأن الحدوث مأخوذ في بيان التناهي، فقال: فإنها - يعني الجزئيات - لا تخلو من الحركة والسكون وكل منهما حادث. ثم تصدى لبيان تناهي الجزئيات فقال: وأما تناهي جزئياتها.. الخ. فكان ينبغي في الشرح أن يقال: لما بين حدوث الجزئيات شرع الآن في بيان تناهيها، إلا أن الشارح قرأ جزئياتها على التثنية فأرجع الضمير إلى الحركة والسكون والنساخ كتبوا المتن على منواله على صورة التثنية وهو كما ترى. ثم المراد من قوله: فيجب زيادة المتصف بإحداهما، هو الذي اتصف بالإضافتين أي السبوق واللحوق أو العلية والمعلولية كليهما، والناقص هو الذي اتصف بالسبق مثلا وحده، والزائد ما اتصف بالسبق واللحوق معا. 261 أقول: لما بين حدوث الحركة والسكون شرع الآن في بيان تناهيهما لأن بيان حدوثهما غير كاف في الدلالة، وهذا المقام هو المعركة بين الحكماء والمتكلمين، فإن المتكلمين يمنعون من اتصاف الجسم بحركات لا تتناهى، والأوائل جوزوا ذلك. والمتكلمون استدلوا على قولهم بوجوه: أحدها: أن كل فرد حادث فالمجموع كذلك، وهو ضعيف إذ لا يلزم من حدوث كل فرد حدوث المجموع. الثاني: إنها قابلة للزيادة والنقصان فتكون متناهية، وهو ضعيف بمعلومات الله تعالى ومقدوراته، فإن الأولى أزيد من الثانية (1) ولا يلزم تناهيهما. الثالث: التطبيق وهو (2) أن تؤخذ جملة الحركات من الآن إلى الأزل جملة، ومن زمان الطوفان إلى الأزل جملة أخرى ثم تطبق إحدى الجملتين بالأخرى فإن استمرا إلى ما لا يتناهى كان الزائد مثل الناقص هذا خلف، وإن انقطع الناقص تناهى وتناهى الزائد لأنه إنما زاد بمقدار متناه والزائد على المتناهي بمقدار متناه
(1) الحق أن معلوماته تعالى ومقدوراته غير متناهيتين بالفعل لأنه صمد غير متناه فكذلك معلوماته ومقدوراته فلا تجري النسبة فيهما فلا تتطرق الزيادة والنقصان فيهما، فتبصر. (2) أقول: الأمر المهم في التناهي هو أن جميع أعيان الموجودات المتحققة في الخارج مستندة في وجوداتها إلى الغني الواجب بالذات بالفعل وهذا معنى انتهاؤها واستنادها الوجودي إلى الواجب كان على وزان قوله سبحانه لكليمه: أنا بدك اللازم يا موسى. والحركات الماضية ليست عللا فاعلية لوجودها والأمر أرفع من المباحث العادية. قالت المتكلمة: إن دوام الشئ مع الشئ يقتضي مساواتهما وعدم أولوية أحدهما بالعلية وهو ممنوع فإن الشعاع المحسوس من النير لا النير منه وهو معه يدوم بدوامه، وكذا حركة الخاتم مع حركة الإصبع فلأن يدوم أثر أقوى المؤثرات وما له كل التأثير في الحقيقة كان أولى، والخلو عن التأثير تعطيل. ثم كون الحركات دائمة أزلية لا يلزم منه أن يكون كل حادث متوقفا على حصول ما لا يتناهى فيقال: إن كل ما كان كذلك فلا يحصل، وذلك أعني عدم اللزوم لأن المتوقف على غير المتناهي وجودا يلزم منه عدم حصوله، لا على غير المتناهي إعدادا له. والأهم من ذلك الأمر هو النيل بمعنى توحيده سبحانه. ورأينا التعرض بواحدة واحدة من شبههم والرد عليها موجبا للإسهاب فالأعراض عنها أنسب بالتعليقة على الكتاب. 262 يكون متناهيا. الرابع: أن كل حادث يوصف بإضافتين متقابلتين هما السابقية والمسبوقية، لأن كل واحد من الحوادث غير المتناهية يكون سابقا على ما بعده ولاحقا لما قبله، والسبق واللحوق إضافتان متقابلتان وإنما صح اتصافه بهما لأنهما أخذا بالنسبة إلى شيئين. إذا عرفت هذا فنقول: إذا اعتبرنا الحوادث الماضية المبتدئة من الآن تارة من حيث إن كل واحد منها سابق، وتارة من حيث هو بعينه لاحق، كانت السوابق واللواحق المتبائنتان بالاعتبار متطابقتين في الوجود ولا يحتاج في تطابقهما إلى توهم تطبيق، ومع ذلك يجب كون السوابق أكثر من اللواحق في الجانب الذي وقع فيه النزاع، وإلى هذا أشار بقوله: ويجب زيادة المتصف بإحداهما، أعني بإحدى الإضافتين وهو إضافة السبق على المتصف بالأخرى أعني إضافة اللحوق، فإذن اللواحق منقطعة في الماضي قبل انقطاع السوابق فتكون متناهية، والسوابق أيضا تكون متناهية لأنها زادت بمقدار متناه، وهذا الوجه الأخير استنبطه المصنف رحمه الله ولم نعثر عليه في كلام القدماء. قال: والضرورة قضت بحدوث ما لا ينفك عن حوادث متناهية. أقول: لما بين أن الأجسام لا تنفك عن الحركة والسكون وبين حدوثهما وتناهيهما وجب القول بحدوث الأجسام لأن الضرورة قضت بحدوث ما لا ينفك عن حوادث متناهية. قال: فالأجسام حادثة ولما استحال قيام الأعراض إلا بها ثبت حدوثها. أقول: هذا نتيجة ما ذكر من الدليل وهو القول بحدوث الأجسام، وأما الأعراض فإنه يستحيل قيامها بأنفسها وتفتقر في الوجود إلى محل تحل فيه وهي إما جسمانية أو غير جسمانية والكل حادث، أما الجسمانية فلامتناع قيامها بغير الأجسام وإذا كان الشرط حادثا كان المشروط كذلك بالضرورة، وأما غير
263 الجسمانية فبالدليل الدال على حدوث كل ما سوى الله تعالى. والمصنف رحمه الله إنما قصد الأعراض الجسمانية لقوله: لما استحال قيام الأعراض إلا بها ثبت حدوثها. قال: والحدوث اختص بوقته إذ لا وقت قبله، والمختار يرجح أحد مقدوريه لا لأمر عند بعضهم (1). أقول: لما بين حدوث العالم شرع في الجواب عن شبه الفلاسفة، وأقوى شبههم ثلاثة أجاب المصنف رحمه الله عنها في هذا الكتاب. الشبهة الأولى وهي أعظمها قالوا: المؤثر التام في العالم إما أن يكون أزليا أو حادثا، فإن كان أزليا لزم قدم العالم لأن عند وجود المؤثر التام يجب وجود الأثر، لأنه لو تأخر عنه ثم وجد لم يخل إما أن يكون لتجدد أمر أو لا، والأول يستلزم كون ما فرضناه مؤثرا تاما ليس بتام هذا خلف، والثاني يستلزم ترجيح أحد طرفي الممكن لا لمرجح لأن اختصاص وجود الأثر بالوقت الذي وجد فيه دون ما قبله وما بعده مع حصول المؤثر التام يكون ترجيحا من غير مرجح. وإن كان المؤثر في العالم حادثا نقلنا الكلام إلى علة حدوثه ويلزم التسلسل أو الانتهاء إلى المؤثر القديم وهو محال لتخلف الأثر عنه، وهذا المحال أنما نشأ من فرض حدوث العالم. وقد أجاب المتكلمون عن هذه الشبهة بوجوه: أحدها: أن المؤثر التام قديم لكن الحدوث اختص بوقت الإحداث لانتفاء وقت قبله، فالأوقات التي يطلب فيها الترجيح معدومة ولا يتمايز إلا في الوهم، وأحكام الوهم في مثل ذلك غير مقبولة بل الزمان يبتدأ وجوده مع أول وجود العالم ولم يمكن وقوع ابتداء سائر
(1) كما في (ت، ق، ش، ز، د) وذلك الأمر هو الداعي والمرجح. وفي بعض النسخ: أحد مقدوريه بلا داع ومرجح عند بعضهم والمظنون أن تفسير الأمر جعل موضعه في المتن. وفي (ص): أحد مقدوريه لا لمرجح عند بعضهم، وفي هامشه لا لأمر - خ ل. وقوله: لأن عند وجود المؤثر التام يجب وجود الأثر، باتفاق النسخ كلها. 264 الموجودات قبل ابتداء وجود الزمان أصلا. الثاني: أن المؤثر التام أنما يجب وجود أثره معه لو كان موجبا، أما إذا كان مختارا فلا لأن المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر لا لمرجح، فالعالم قبل وجوده كان ممكن الوجود وكذا بعد وجوده لكن المؤثر المختار أراد إيجاده وقت وجوده دون ما قبله وما بعده لا لأمر. الثالث: أنه لم لا يجوز اختصاص بعض الأوقات بمصلحة تقتضي وجود العالم فيه بها دون ما قبل ذلك الوقت وبعده، فالمؤثر التام وإن كان حاصلا في الأزل لكن لا يجب وجود العالم فيه تحصيلا لتلك المصلحة. الرابع: أن الله تعالى علم وجود العالم وقت وجوده وخلاف علمه محال، فلم يمكن وجوده قبل وقت وجوده. الخامس: أن الله تعالى أراد إيجاد العالم وقت وجوده والإرادة مخصصة لذاتها. السادس: أن العالم محدث لما تقدم فيستحيل وجوده في الأزل لأن المحدث هو ما سبقه العدم والأزل ما لم يسبقه العدم والجمع بينهما محال، ثم عارضوهم بالحادث اليومي فإنه معلول إما لقديم فيلزمه قدمه أو لحادث فيتسلسل. قال: والمادة منفية. أقول: هذا جواب عن الشبهة الثانية، وتقريرها أنهم قالوا: كل حادث فهو مسبوق بإمكان وجوده وذلك الإمكان ليس أمرا عدميا وإلا فلا فرق بين نفي الإمكان والامكان المنفي، ولا قدرة القادر لأنا نعللها به فهو مغاير، وليس جوهرا لأنه نسبة وإضافة فهو عرض فمحله يكون سابقا عليه وهو المادة، فتلك المادة إن كانت قديمة ويستحيل انفكاكها عن الصورة لزم قدم الصورة فيلزم قدم الجسم وإن كانت حادثة تسلسل. والجواب قد بينا أن المادة منفية وقد سلف تحقيقه.
265 قال: والقبلية لا تستدعي الزمان وقد سبق تحقيقه. أقول: هذا جواب عن الشبهة الثالثة، وتقريرها أنهم قالوا: كل حادث فإن عدمه سابق على وجوده، وأقسام السبق منفية هنا إلا الزماني، فكل حادث يستدعي سابقة الزمان عليه فالزمان إن كان حادثا لزم أن يكون زمانيا وهو محال، وإن كان قديما وهو مقدار الحركة لزم قدمها لكن الحركة صفة للجسم فيلزم قدمه. والجواب ما تقدم من أن السبق لا يستدعي الزمان وإلا لزم التسلسل. قال:
266 الفصل الرابع في الجواهر المجردة أما العقل فلم يثبت دليل على امتناعه (1). أقول: لما فرغ من البحث عن الجواهر المقارنة شرع في البحث عن الجواهر المجردة ولبعدها عن الحس أخرها عن البحث عن المقارنات وفي هذا الفصل مسائل: المسألة الأولى في العقول المجردة (واعلم) أن جماعة من المتكلمين نفوا هذه الجواهر واحتجوا بأنه لو كان هاهنا موجود ليس بجسم ولا جسماني لكان مشاركا لواجب الوجود في هذا الوصف فيكون مشاركا له في ذاته. وهذا الكلام سخيف لأن الاشتراك في الصفات السلبية لا يقتضي الاشتراك في الذوات فإن كل بسيطين يشتركان في سلب ما عداهما عنهما مع انتفاء الشركة بينهما في الذات، بل الاشتراك في الصفات الثبوتية لا يقتضي اشتراك الذوات لأن الأشياء المختلفة قد يلزمها لازم واحد فإذا ثبت ذلك لم يلزم من كون هذه الجواهر المجردة مشاركة للواجب تعالى في
(1) بل الأدلة الرصينة العقلية والنقلية قائمة على تحققه وجودا. 267 وصف التجرد وهو سلبي مشاركتها له في الحقيقة فلهذا لم يجزم المصنف رحمه الله بنفي هذه الجواهر المجردة. قال: وأدلة وجوده مدخولة كقولهم: الواحد لا يصدر عنه أمران، ولا سبق لمشروط باللاحق في تأثيره أو وجوده، ولا لما انتفت صلاحية التأثير عنه لأن المؤثر هنا مختار. أقول: لما بين انتفاء الجزم بعدم الجوهر المجرد الذي هو العقل شرع في بيان انتفاء الجزم بثبوته وذلك ببيان ضعف أدلة المثبتين. واعلم أن أكثر الفلاسفة ذهبوا إلى أن المعلول الأول هو العقل الأول (1) وهو موجود مجرد عن الأجسام والمواد في ذاته وتأثيره معا، ثم إن ذلك العقل يصدر عنه عقل وفلك لتكثيره باعتبار كثرة جهاته الحاصلة من ذاته ومن فاعله، ثم يصدر عن العقل الثاني عقل ثالث وفلك ثان وهكذا إلى أن ينتهي إلى العقل الأخير وهو المسمى بالعقل الفعال، وإلى الفلك الأخير التاسع وهو فلك القمر. واستدلوا على إثبات الجواهر المجردة التي هي العقول بوجوه: الأول: قالوا: إن الله تعالى واحد فلا يكون علة للمتكثر فيكون الصادر عنه واحدا فلا يخلو إما أن يكون جسما أو مادة أو صورة أو نفسا أو عرضا أو عقلا، والأقسام كلها باطلة سوى الأخير. أما الأول فلأن كل جسم مركب من المادة والصورة، وقد بينا أن المعلول الأول يكون واحدا وإلى هذا القسم أشار بقوله: الواحد لا يصدر عنه أمران. وأما الثاني: فلأن المادة هي الجوهر القابل فلا تصلح للفاعلية، لأن نسبة
(1) المعلول هو المخلوق وقد اعتبر في الخلق التقدير فينبغي أن يفرق ويميز في هذا المقام بين أول ما صدر وبين أول ما خلق. أما الصادر الأول فهو نور مرشوش ورق منشور عليها جميع الكلمات النورية الخلقية من العقل الأول إلى آخر الخلق. والبحث عن ذلك بالتفصيل والاستيفاء موكول إلى محله. ولعل ما في رسالتنا الفارسية الموسومة بالوحدة في نظر الحكيم والعارف يجديك في المقام. 268 القبول نسبة الإمكان ونسبة الفاعل نسبة الوجوب، ويستحيل أن تكون نسبة الشئ الواحد إلى الواحد نسبة إمكان ووجوب، فإذا لم تصلح المادة للفاعلية لم تكن هي المعلول الأول السابق على غيره لأن المعلول الأول يجب أن يكون علة فاعلية لما بعده، وإلى هذا القسم أشار بقوله: ولا لما انتفت صلاحية التأثير عنه، أي لا سبق للمادة التي لا تصلح أن تكون فاعلا وإذا لم تكن سابقة لم تكن هي المعلول الأول لما بينا أن المعلول الأول سابق على غيره من المعلولات. وأما الثالث فلأن الصورة مفتقرة في فاعليتها وتأثيرها إلى المادة لأنها إنما تؤثر إذا كانت موجودة مشخصة، وإنما تكون كذلك إذا كانت مقارنة للمادة فلو كانت الصورة هي المعلول الأول السابق على غيره لكانت مستغنية في عليتها عن المادة وهو محال، فالحاصل أن الصورة محتاجة في وجودها الشخصي إلى المادة فلا تكون سابقة عليها وعلى غيرها من الممكنات لاستحالة اشتراط السابق باللاحق، وإلى هذا القسم أشار بقوله: ولا سبق لمشروط، أي الصورة باللاحق أي بالمادة في وجوده. وأما الرابع فلأن النفس أنما تفعل بواسطة البدن، فلو كانت هي المعلول الأول لكانت علة لما بعدها من الأجسام فتكون مستغنية في فعلها عن البدن فلا تكون نفسا بل عقلا وهو محال، فهي إذا مشروطة بأسرها (1) بالأجسام، فلو كانت سابقة عليها لكان السابق مشروطا باللاحق في تأثيره المستند إليه وهو محال، وإلى هذا أشار بقوله: ولا سبق لمشروط أي النفس باللاحق أي الجسم في تأثيره. وأما الخامس فلأن العرض محتاج في وجوده إلى الجوهر، فلو كان المعلول الأول عرضا لكان علة للجواهر كلها فيكون السابق مشروطا في وجوده باللاحق وهو باطل بالضرورة، وإليه أشار بقوله: ولا سبق لمشروط باللاحق في وجوده، فالحاصل أن الصورة والعرض مشروطان بالمادة والجوهر فلا يكونان سابقين
(1) كما في (م، د) وفي (ص، ق، ز، ش): مشروط تأثيرها. 269 عليهما، والنفس أنما تؤثر بواسطة الجسم فلا تكون متقدمة عليه تقدم العلة على المعلول وإلا استغنت في تأثيرها عنه. إذا عرفت هذا الدليل فنقول: بعد تسليم أصوله أنه إنما يلزم لو كان المؤثر موجبا، أما إذا كان مختارا فلا فإن المختار تتعدد آثاره وأفعاله، وسيأتي الدليل على أنه مختار. قال: وقولهم استدارة الحركة توجب الإرادة المستلزمة للتشبه بالكامل، إذ طلب الحاصل فعلا أو قوة يوجب الانقطاع، وغير الممكن محال لتوقفه على دوام ما أوجبنا انقطاعه، وعلى حصر أقسام الطلب، مع المنازعة في امتناع طلب المحال. أقول: هذا هو الوجه الثاني من الوجوه التي استدلوا بها على إثبات العقول المجردة مع الجواب عنه. وتقرير الدليل أن نقول: حركات السماوات إرادية (1) لأنها مستديرة، وكل حركة مستديرة إرادية لأن الحركة إما طبيعية أو قسرية، والمستديرة لا تكون طبيعية لأن المطلوب بالطبع لا يكون متروكا بالطبع، وكل جزء من المسافة في الحركة المستديرة فإن تركه بعينه هو التوجه إليه، وإذا انتفت الطبيعة انتفت القسرية لأن القسر على خلاف الطبع وحيث لا طبع فلا قسر فثبت أنها إرادية وكل حركة إرادية فإنها تستدعي مطلوبا، ولأن العبث لا يدوم وذلك المطلوب يجب أن يستكمل الطالب به وإلا لم يتوجه بالطلب نحوه، فإما أن يكون كما لا في نفسه أو لا، والثاني محال وإلا لجاز انقطاع الحركة لأنه لا بد وأن يظهر لذلك الطالب أن
(1) قال عز من قائل: (إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين (يوسف 6) والساجدون صيغة جمع لذوي العقول. وفي الدعاء الثالث والأربعين من الصحيفة الكاملة السجادية وهو دعاؤه عليه السلام إذا نظر إلى الهلال: أيها الخلق المطيع الدائب السريع المتردد في منازل التقدير المتصرف في فلك التدبير.. الخ. 270 ذلك المطلوب ليس بكمال في ذاته فيترك الطلب، وإذا كان المطلوب كمالا حقيقيا فإما أن يحصل بالكلية وهو محال وإلا لوقفت الحركة فيجب أن يحصل على التعاقب، ولما كانت كمالات الفلك حاضرة بأسرها سوى الوضع لأنه كامل في جوهره وباقي مقولاته غير الوضع فإن أوضاعه الممكنة ليست حاضرة بأسرها، إذ لا وضع يحصل له إلا وهناك أوضاع لا نهاية لها معدومة عنه، ولا يمكن حصولها دفعة فهي أنما تحصل على التعاقب. ثم إن الفلك لما تصور كمال العقل وأنه لم يبق فيه شئ بالقوة إلا وقد خرج إلى الفعل اشتاق إلى التشبه به في ذلك ليستخرج ما فيه بالقوة إلى الفعل، ولما تعذر ذلك دفعة استخرج كماله في أوضاعه على التعاقب فقد ظهر من هذا وجود عقل يتشبه به الفلك في حركته فإن كان واحدا لزم تشابه الحركات الفلكية في الجهات والسرعة والبطء وليس كذلك فيجب وجود عقول متكثرة بحسب تكثر الحركات في الجهة (1) والسرعة والبطء. لا يقال: لم لا يتحرك لأجل نفع السافل أو لم لا يختلف في السرعة والبطء والجهة لذلك؟ لأنا نقول: الفلكيات أشرف من هذا العالم ويستحيل أن يفعل العالي شيئا لأجل السافل وإلا لكان مستكملا به فالكامل مستكمل بالناقص هذا خلف، فلا يمكن أن تكون الحركة في أصلها ولا في هيئتها لأجل نفع السافل فهذا تقرير الدليل. والجواب أن هذا مبني على دوام الحركة، ونحن قد بينا حدوث العالم فيجب انقطاعها فبطل هذا الدليل من أصله. وأيضا فهذا الدليل يتوقف على حصر أقسام الطلب والأقسام التي ذكروها ليست حاصرة، سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون الطلب لما يستحيل حصوله أو لما هو حاصل ولا شعور للطالب بذلك ونمنع وجوب الشعور بذلك؟ ثم نقول: لا نسلم أن الحركة الفلكية دورية فلم لا يتحرك على الاستقامة؟ سلمنا أنها دورية فلم لا تكون قسرية قوله: انتفاء الطبع يقتضي
(1) وفي (م): الحركات والجهة، وفي غيرها: في الجهة. وهذا هو الصواب المختار. 271 انتفاء القسر؟ قلنا: ممنوع فإن حركة المحوي بالحاوي حركة قسرية وإن كانت بالعرض وهي دورية، سلمنا لكن الحركة ليست مقصودة بالذات بل إنما تراد لغيرها فلم حصرتم ذلك الغير في استخراج الأوضاع ولم؟ لا يجوز أن تكون للفلك كمالات غير الأوضاع معدومة كالتعقلات المتجددة؟ وأيضا فإنه على قدر خاص فباقي أنواع الكم عنه معدومة، وكذا كثير من أنواع الكيف فلم أوجبتم الحركة في الوضع للتشبه باستخراج أنواع الأوضاع ولم توجبوا استخراج باقي الأعراض من الكم والكيف؟ بل الأيون (1) عنه معدومة مع استحالة حصولها له عندكم فلم لا يجوز مثله في الأوضاع؟ سلمنا ذلك لكن لم أوجبتم وجود عقل يتشبه به الفلك؟ ولم لا يقال: إن خروج الأوضاع كمال مقصود له (2) فيتحرك لطلبه من غير حاجة إلى متشبه به؟ سلمنا لكن لم أحلتم نفع السافل وحديث الاستفادة مع أنه خطابي غير لازم؟ وبالجملة فهذا الوجه ضعيف جدا. إذا عرفت هذا فنرجع إلى تتبع ألفاظ الكتاب، فقوله: وقولهم يقرأ بالجر عطفا على قوله: كقولهم. وقوله: استدارة الحركة توجب الإرادة، إشارة إلى ما نقلناه عنهم من أن الحركة المستديرة لا تكون إلا إرادية. وقوله: المستلزمة للتشبه بالكامل، إشارة إلى أن الغاية من الحركة ليس كما لا يحصل دفعة ولا يمتنع من الحصول بل هو التشبه الحاصل على التعاقب. وقوله: إذ طلب الحاصل فعلا أو قوة يوجب الانقطاع، إشارة إلى أن ذلك الكمال ليس حاصلا بالفعل وإلا لوقفت
(1) كما في غير (م) وأما في (م) - وهي أقدم النسخ - فالعبارة: بل الألوان. والمراد من الأيون أمكنة الأفلاك التي هي غير أمكنتها الفعلية. وقال الشيخ في التعليقات: هذه الأوضاع والأيون كلها طبيعية للفلك. وقال في إلهيات الشفاء (ج 2 ط 1 ص 615): فهذه الحركة لا تشبه سائر الحركات إلى قوله: لأنها نفس استبقاء الأوضاع والأيون على التعاقب.. الخ، ونحوه في طبيعيات الشفاء (ج 1 ط 1 ص 46) فكلماته فيهما يؤيد الأيون في الكشف، بل المحقق هو الأيون لا الألوان. (2) وفي غير واحدة من النسخ المعتبرة: كمال مفقود له. 272 الحركة ولا بالقوة التي يمكن حصولها دفعة لذلك أيضا. وقوله وغير الممكن محال، إشارة إلى أن الكمال إذا كان ممتنع الحصول استحال طلبه. وقوله: لتوقفه على دوام ما أوجبنا انقطاعه، إشارة إلى بيان ضعف هذا الدليل فإنه مبني على دوام الحركة، وقد بينا وجوب انقطاعه. وقوله: وعلى حصر أقسام الطلب، إشارة إلى اعتراض ثان وهو أن نمنع حصر أقسام الطلب في أنه إما أن يكون كما لا حاصلا أو ممتنع الحصول أو يحصل على التعاقب. وقوله: مع المنازعة في امتناع طلب المحال، إشارة إلى اعتراض آخر وهو أنا نمنع استحالة طلب المحال لجواز الجهل على الطالب. قال: وقولهم لا علية بين المتضائفين (1) وإلا لأمكن الممتنع أو علل الأقوى بالأضعف لمنع الامتناع الذاتي. أقول: هذا هو الوجه الثالث من الوجوه التي استدلوا بها على إثبات العقول، وتقريره أن نقول: الأفلاك ممكنة فلها علة فهي إن كانت غير جسم ولا جسماني ثبت المطلوب، وإن كانت العلة جسمانية لزم الدور، وإن كانت جسما فإما أن يكون الحاوي علة للمحوي أو بالعكس، والثاني محال لأن المحوي أضعف من الحاوي فلو كان المحوي علة لزم تعليل الأقوى الذي هو الحاوي بالأضعف الذي هو المحوي وهو محال، والأول وهو أن يكون الحاوي علة في المحوي (2) محال أيضا، وبيانه يتوقف على مقدمات: إحداها: أن الجسم لا يكون علة إلا بعد صيرورته شخصا معينا، وهو ظاهر لأنه إنما يؤثر إذا صار موجودا بالفعل ولا وجود لغير الشخصي. الثانية: أن المعلول حال فرض وجود العلة يكون ممكنا وإنما يلحقه الوجوب بعد وجود العلة ووجوبها. الثالثة: أن الأشياء المتصاحبة لا تتخالف في الوجوب والإمكان، إذا عرفت هذا فنقول: لو كان الحاوي علة
(1) وفي (م): قال لا علية بين المتضائفين. وظاهر الشرح يوافقها. (2) باتفاق النسخ كلها، وأسلوب الكلام يقتضي أن يقال: علة للمحوي. 273 للمحوي لكان متقدما بشخصه المعين علي وجود المحوي فيكون المحوي حينئذ ممكنا فيكون انتفاء الخلاء ممكنا لأنه مصاحب لوجود المحوي لكن الخلاء ممتنع لذاته، والجواب بعد تسليم امتناع الخلاء لا نسلم كون الامتناع ذاتيا. إذا عرفت هذا فنرجع إلى تتبع ألفاظ الكتاب، فنقول: قوله: لا علية بين المتضائفين، الذي يفهم من هذا الكلام أنه لا علية بين الحاوي والمحوي وسماهما المتضائفين لأنه أخذهما من حيث هما حاو ومحوي، وهذان الوصفان من باب المضاف. وقوله: وإلا لأمكن الممتنع، إشارة إلى ما بيناه من إمكان الخلاء الممتنع لذاته على تقدير كون الحاوي علة. وقوله: أو علل الأقوى بالأضعف، إشارة إلى ما بيناه من كون الضعيف علة في القوي على تقدير كون المحوي علة للحاوي. وقوله: لمنع الامتناع الذاتي، إشارة إلى ما بيناه في الجواب من المنع من كون الخلاء ممتنعا لذاته، فهذا ما فهمناه من هذا الموضع. المسألة الثانية في النفس الناطقة قال: وأما النفس فهي كمال (1) أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة. أقول: هذا هو البحث عن أحد أنواع الجوهر وهو البحث عن النفس الناطقة، وقبل البحث عن أحكامها شرع في تعريفها وقد عرفها الحكماء بأنها كمال أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة، لأن الجسم إذا أخذ بمعنى المادة كانت النفس المنضمة إليه الذي يحصل من اجتماعهما (2) نبات أو حيوان أو انسان صورة، وإذا أخذ بمعنى الجنس كانت كمالا لأن طبيعة الجنس ناقصة قبل الفصل، وقد عرفوا
(1) أقول يناسب المقام الرجوع إلى رسالتنا الموسومة بعيون مسائل النفس مما برز من قلم الراقم. وهي تنشعب إلى ستة وستين عينا في كل عين تنهمر حقائق نورية في معرفة النفس، ونرجوا أن تكون تامة الفائدة لأهل التحقيق وأن تقع موقع قبول أرباب البحث والتنقيب، والله سبحانه ولي التوفيق. (2) هكذا بإفراد الموصول بإطباق النسخ وكأن الصواب الذين على التثنية أي الجسم والنفس الذين يحصل من اجتماعها.. الخ (الشفاء ج 1 ط 1 ص 278). 274 النفس بالكمال دون الصورة لأن النفس الانسانية غير حالة في البدن فليست صورة له وهي كمال له، واعلم أن الكمال منه أول وهو الذي يتنوع به الشئ كالفصول، ومنه ثان وهو ما يعرض للنوع بعد كماله من صفاته اللازمة والعارضة، فالنفس من القسم الأول وهي كمال لجسم طبيعي غير صناعي كالسرير وغيره، وليست كمالا لكل طبيعي حتى البسائط بل هي كمال لجسم طبيعي آلي تصدر عنه أفعاله بواسطة الآلات ومعناه كونه ذا آلات يصدر عنه بتوسطها وغير توسطها (1) ما يصدر من أفاعيل الحياة التي هي التغذي والنمو والتوليد والادراك والحركة الإرادية والنطق. المسألة الثالثة في أن النفس الناطقة ليست هي المزاج قال: وهي مغايرة لما هي شرط فيه لاستحالة الدور. أقول: ذهب المحققون إلى أن النفس الناطقة مغايرة للمزاج، وعليه ثلاثة أوجه (2): الأول: ما ذكر الأوائل أن النفس الناطقة شرط في حصول المزاج، لأن المزاج أنما يحصل من اجتماع العناصر المتضادة فعلة ذلك الاجتماع يجب أن تكون متقدمة عليه وكذا شرط الاجتماع وهو النفس الناطقة فلا تكون هي المزاج المتأخر عن الاجتماع لاستحالة الدور. وفي هذا الوجه نظر (1) لأنهم عللوا حدوث النفس بالاستعداد الحاصل من المزاج فكيف جعلوا الآن حدوث الاجتماع من النفس. وللشيخ هنا كلام طويل ليس هذا موضع ذكره.
(1) وذلك كعلم النفس بنفسها وبآلاتها من القوى ومحالها، وإدراكها الحقائق المرسلة والكليات المطلقة. (2) باتفاق النسخ كلها، أي يستدل عليه، أو يدل عليه، أو نحوهما. (3) والماتن في شرحه على الفصل الخامس من نفس الإشارات أورد هذا النظر ثم أجابه على أسلوب الحكمة المشائية. والشارح العلامة ناظر إلى كلامه هناك فراجع العين الخامسة عشر من عيون مسائل النفس. 275 قال: وللممانعة في الاقتضاء. أقول: هذا هو الوجه الثاني، وتقريره أن المزاج يمانع النفس في مقتضاها كما في الرعشة، فإن مقتضي النفس الحركة إلى جانب ومقتضي المزاج الحركة إلى جانب آخر وتضاد الآثار يستدعي تضاد المؤثر فهاهنا الممانعة بين النفس والمزاج في جهة الحركة. وكذلك قد يقع بينهما الممانعة في نفس الحركة إما بأن تكون الحركة نفسانية لا يقتضيها المزاج كما في حال حركة الانسان على وجه الأرض فإن مزاجه يقتضي السكون عليها ونفسه تقتضي الحركة، أو بأن تكون طبيعية لا تقتضيها النفس كما في حال الهوي. قال: ولبطلان أحدهما مع ثبوت الآخر. أقول: هذا هو الوجه الثالث الدال على أن النفس مغايرة للمزاج، وتقريره أن الادراك أنما يكون بواسطة الانفعال فإن اللامس إذا أدرك شيئا لا بد وأن ينفعل عن الملموس (1) فلو كان اللامس هو المزاج لبطل عند انفعاله وحدثت كيفية مزاجية أخرى، وليس المدرك هو الكيفية الأولى لبطلانها ووجوب بقاء المدرك عند الادراك، ولا الثانية لأن المدرك لا بد وأن ينفعل عن المدرك والشئ لا ينفعل عن نفسه. المسألة الرابعة في أن النفس ليست هي البدن قال: ولما تقع الغفلة عنه. أقول: ذهب من لا تحصيل له إلى أن النفس الناطقة هي البدن، وقد أبطله المصنف بوجوه ثلاثة: الأول: أن الانسان قد يغفل (2) عن بدنه وأعضائه وأجزائه الظاهرة والباطنة
(1) هكذا جاءت العبارة في جميع النسخ وكان الصواب: فلا بد وأن ينفعل لأن في إذا معنى الشرط. (2) إن شئت فراجع في ذلك الدرس الرابع والخمسين من كتابنا الموسوم بدروس معرفة النفس (ص 172 ط 1) بل يجديك ذلك الكتاب في مسائل النفس الموردة في هذه المباحث من التجريد وشرحه غاية الجدوى. 276 وهو متصور لذاته ونفسه فوجب أن يغايرها، فقوله: ولما تقع الغفلة عنه عطف على قوله: لما هي شرط فيه أي والنفس مغايرة لما هي شرط فيه ولما تقع الغفلة عنه أعني البدن. قال: والمشاركة به. أقول: هذا هو الوجه الثاني الدال على أن النفس ليست هي البدن، وتقريره أن البدن جسم وكل جسم على الإطلاق فإنه مشارك لغيره من الأجسام في الجسمية فالانسان يشارك غيره من الأجسام في الجسمية ويخالفه في النفس الانسانية وما به المشاركة غير ما به المباينة فالنفس غير الجسم، فقوله: والمشاركة به عطف على قوله: الغفلة عنه أي وهي مغايرة لما تقع الغفلة عنه والمشاركة به. قال: والتبدل فيه. أقول: هذا هو الوجه الثالث، وتقريره أن أعضاء البدن وأجزائه تتبدل كل وقت ويستبدل ما ذهب بغيره فإن الحرارة الغريزية تقتضي تحليل الرطوبات البدنية، فالبدن دائما في التحلل والاستخلاف والهوية باقية من أول العمر إلى آخره، والمتبدل مغاير للباقي فالنفس غير البدن، فقوله: والتبدل فيه عطف على قوله: والمشاركة به أي وهي مغايرة لما تقع المشاركة به والتبدل فيه. المسألة الخامسة في تجرد النفس قال: وهي جوهر مجرد لتجرد عارضها. أقول: اختلف الناس في ماهية النفس وأنها هل هي جوهر أم لا، والقائلون بأنها جوهر اختلفوا في أنها هل هي مجرد أم لا، والمشهور عند الأوائل وجماعة
277 من المتكلمين كبني نوبخت من الإمامية والمفيد منهم والغزالي والحليمي (1) والراغب من الأشاعرة أنها جوهر مجرد ليس بجسم ولا جسماني، وهو الذي اختاره المصنف رحمه الله واستدل على تجردها بوجوه (2): الأول: تجرد عارضها وهو العلم، وتقرير هذا الوجه أن هاهنا معلومات مجردة عن المواد فالعلم المتعلق بها يكون لا محالة مطابقا لها فيكون مجردا لتجردها، فمحله وهو النفس يجب أن يكون مجردا لاستحالة حلول المجرد في المادي. قال: وعدم انقسامه. أقول: هذا هو الوجه الثاني وهو أن العارض للنفس أعني العلم غير منقسم فمحله أعني المعروض كذلك، وتقرير هذا الدليل يتوقف على مقدمات: إحداهما: أن هاهنا معلومات غير منقسمة وهو ظاهر فإن واجب الوجود غير منقسم وكذا الحقائق البسيطة. الثانية: أن العلم بها غير منقسم لأنه لو انقسم لكان كل واحد من جزئيه إما أن يكون علما أو لا يكون، والثاني باطل لأنه عند الاجتماع إما أن يحصل أمر زائد أو لا، فإن كان الثاني لم يكن ما فرضناه علما بعلم هذا خلف، وإن كان الأول فذلك الزائد إما أن يكون منقسما فيعود البحث، أو لا يكون فيكون
(1) هذا الرجل يذكر في البحث عن المعاد الجسماني من هذا الكتاب أيضا، والنسخ المطبوعة عارية عن اسمه وغير واحدة من المخطوطة الموثوق بها واجدة إياه، وكذلك الراغب في الموضعين لكن لم نظفر بالحليمي في غير واحد من تراجم الرجال. ولعل الحليمي هو الحكيمي وفي الفهرست لابن النديم (ص 168 ط تجدد): أبو عبد الله محمد بن أحمد بن إبراهيم بن قريش الحكيمي. وكان أخباريا قد سمع من جماعة.. الخ. (2) قد جمعنا أدلة تجردها العقلية من مصادرها العلمية تنتهي إلى أكثر من سبعين دليلا عدة منها ناطقة في تجردها البرزخي، وطائفة منها في تجردها العقلي، وبعضها في فوق طور تجردها. ثم قوله لاستحالة حلول المجرد في المادي، كان على ممشى المشاء والمتكلمة والأمر أشمخ من الحلول وأرفع منه كما حقق في الحكمة المتعالية. وهكذا كثير من التعبيرات الآتية من الحال والمحل والعروض والعارض والمعروض أو القبول والقابل والمقبول ونظائرها. 278 العلم غير منقسم وهو المطلوب، وإن كان كل جزء علما فإما أن يكون علما بكل ذلك المعلوم فيكون الجزء مساويا للكل هذا خلف، أو ببعضه فيكون ما فرضناه غير منقسم منقسما هذا خلف. الثالثة: أن محل العلم غير منقسم لأنه لو انقسم لانقسم العلم لأنه إن لم يحل في شئ من أجزائه لم يحل في ذلك المحل، وإن حل فإما أن يكون في جزء غير منقسم وهو المطلوب، أو في أكثر من جزء فإما أن يكون الحال في أحدهما عين الحال في الآخر وهو محال بالضرورة، أو غيره فيلزم الانقسام. الرابعة: أن كل جسم وكل جسماني فهو منقسم لأنا قد بينا أن لا وجود لوضعي غير منقسم وإذا ثبتت هذه المقدمات ثبت تجرد النفس. وفيه نظر للمنع (1) من المساواة مطلقا عند المساواة في تعلق الجزء بكل المعلوم كالكل. قال: وقوتها على ما تعجز المقارنات عنه. أقول: هذا هو الوجه الثالث، وتقريره أن النفوس البشرية تقوى على ما لا تقوى عليه المقارنات للمادة فلا تكون مادية لأنها تقوى على ما لا يتناهى لأنها تقوى على تعقلات الأعداد غير المتناهية، وقد بينا أن القوة الجسمانية لا تقوى على ما لا يتناهى فتكون مجردة، وفيه نظر لأن التعقل (2) قبول لا فعل وقبول ما لا يتناهى للجسمانيات ممكن. قال: ولحصول عارضها بالنسبة إلى ما يعقل محلا منقطعا. أقول: هذا هو الوجه الرابع، وتقريره أن النفس لو حلت جسما من قلب أو دماغ لكانت دائمة التعقل له أو كانت لا تعقله البتة، والتالي باطل بقسميه فكذا
(1) وفي نظره نظر لأن الحكم لم يجر على صرف التعلق حتى يرد اعتراضه بل التعلق الذي يكون العلم بالجزء علما بكل ذلك المعلوم فيلزم على هذا أن يكون الجزء مساويا للكل بلا كلام. (2) وفي (م): لأن التعقل قبول الفعل. والنسخ الأخرى: لأن التعقل قبول لا فعل. ثم إن نظر الشارح منظور فيه، فتدبر. 279 المقدم، بيان الشرطية أن القوة العاقلة إذا حلت في قلب أو دماغ لم يخل إما أن تكفي صورة ذلك المحل في التعقل أو لا تكفي، فإن كفت لزم حصول التعقل دائما لدوام تلك الصورة للمحل، وإن لم تكف لم تعقله البتة لاستحالة أن يكون تعقلها مشروطا بحصول صورة أخرى لمحلها فيها وإلا لزم اجتماع المثلين وأما بطلان التالي فظاهر لأن النفس تعقل القلب والدماغ في وقت دون وقت. ولنرجع إلى ألفاظ الكتاب فقوله رحمه الله: ولحصول عارضها يعني بالعارض التعقل. قوله: بالنسبة إلى ما يعقل محلا منقطعا، أي ولحصول العارض وهو التعقل بالنسبة إلى ما يعقل محلا من قلب أو دماغ حصولا منقطعا لا دائما. قال: ولاستلزام استغناء العارض استغناء المعروض. أقول: هذا وجه خامس يدل على تجرد النفس العاقلة، وتقريره أن النفس تستغني في عارضها وهو التعقل عن المحل فتكون في ذاتها مستغنية عنه، لأن استغناء العارض يستلزم استغناء المعروض لأن العارض محتاج إلى المعروض، فلو كان المعروض محتاجا إلى شئ لكان العارض أولى بالاحتياج إليه، فإذا استغنى العارض وجب استغناء المعروض. وبيان استغناء التعقل عن المحل أن النفس تدرك ذاتها لذاتها لا لآلة وكذا تدرك آلتها وتدرك إدراكها لذاتها ولآلتها، كل ذلك من غير آلة متوسطة (1) بينها وبين هذه المدركات، فإذن هي مستغنية في إدراكها لذاتها ولآلتها ولإدراكها عن الآلة فتكون في ذاتها مستغنية عن الآلة أيضا، فقوله رحمه الله: ولاستلزام استغناء العارض، عنى بالعارض هنا التعقل. وقوله: استغناء المعروض، عنى به النفس التي يعرض لها التعقل.
(1) كما في (م، ش) والنسخ الأخرى تتوسط، وقوله الآتي: التي يعرض لها التعقل، جاءت العبارة في (م) يحصل مكان يعرض. ولكن سياق الكلام في المتن والشرح بقرينة العارض والمعروض يوافق المختار. 280 قال: ولانتفاء التبعية. أقول: الذي فهمناه من هذا الكلام أن هذا وجه آخر دال على تجرد النفس، وتقريره أن القوة المنطبعة في الجسم تضعف بضعف ذلك الجسم الذي هو شرط فيها والنفس بالضد من ذلك فإنها حال ضعف الجسم كما في وقت الشيخوخة تقوى وتكثر تعقلاتها، فلو كانت جسمانية لضعفت بضعف محلها وليس كذلك فلما انتفت تبعية النفس للجسم في حال ضعفه دل ذلك على أنها ليست جسمانية. قال: ولحصول الضد. أقول: هذا وجه سابع يدل على تجرد النفس، وتقريره أن القوة الجسمانية مع توارد الأفعال عليها وكثرتها تضعف وتكل لأنها تنفعل عنها، ولهذا فإن من نظر طويلا إلى قرص الشمس لا يدرك في الحال غيرها إدراكا تاما والقوى النفسانية بالضد من ذلك، فإن عند تكثر التعقلات تقوى وتزداد، فالحاصل عند كثرة الأفعال هو ضد ما يحصل للقوة الجسمانية عند كثرة الأفعال، فهذا ما خطر لنا في معنى قوله رحمه الله: ولحصول الضد. المسألة السادسة في أن النفس البشرية متحدة بالنوع (1) قال: ودخولها تحت حد واحد يقتضي وحدتها. أقول: اختلف الناس في ذلك، فذهب الأكثر إلى أن النفوس البشرية متحدة بالنوع متكثرة بالشخص وهو مذهب أرسطا طاليس. وذهب جماعة من القدماء إلى أنها مختلفة بالنوع، واحتج المصنف رحمه الله على وحدتها بأنها يشملها حد واحد والأمور المختلفة يستحيل اجتماعها تحت حد واحد.
(1) بل التحقيق أن النفس في النشأة الأولى نوع وتحتها أفراد، وفي النشأة الأخرى جنس وتحتها أنواع، فتبصر. 281 وعندي في هذا نظر، فإن التحديد ليس لجزئيات النفس حتى يلزم ما ذكره بل لمفهوم النفس وهو المعنى الكلي، وذاك كما يحتمل أن يكون نوعا يحتمل أن يكون جنسا، فإن قال: إن حد الكلي حد لكل نفس نفس إذ لا يعقل من كل نفس سوى ما قلناه في التحديد منعنا ذلك وألزمناه الدور لأن الأشياء المتكثرة أنما يصح جعلها (1) في حد واحد لو كانت متحدة في الماهية، فلو استفدنا وحدتها من الدخول في الحد الواحد لزم الدور، والتحديد ليس راجعا إلى المفهوم من النفس بل إلى حقيقتها في نفس الأمر وإلا لكان الحد حدا بحسب الاسم لا حدا بحسب الحقيقة. قال: واختلاف العوارض لا يقتضي اختلافها. أقول: هذا جواب عن شبهة من استدل على اختلافها، وتقرير الدليل أنهم قالوا: وجدنا النفوس البشرية تختلف في العفة والفجور والذكاء والبلادة، وليس ذلك من توابع المزاج لأن المزاج قد يكون واحدا والعوارض مختلفة، فإن بارد المزاج قد يكون في غاية الذكاء وكذا حار المزاج قد يكون في غاية البلادة وقد يتبدل والصفة النفسانية باقية، ولا من الأشياء الخارجية لأنها قد تكون بحيث تقتضي خلقا والحاصل ضده فعلمنا أنها لوازم للماهية، وعند اختلاف اللوازم يختلف الملزوم. والجواب أن الملزومات مختلفة، وليست هي النفس وحدها بل النفس والعوارض المختلفة، ومجموع النفس مع العوارض إذا كان مختلفا لا يلزم أن يكون كل جزء أيضا مختلفا فهذه الحجة مغالطية، هذا صورة ما أجاب به المصنف في بعض كتبه عن هذه الحجة، وفي هذا نظر والأقرب في الجواب ما ذكره هنا وهو أن هذه عوارض مفارقة غير لازمة، فاختلافها لا يقتضي اختلاف معروضها.
(1) كما في (م). وفي غيرها: يصح جمعها. 282 المسألة السابعة في أن النفوس البشرية حادثة (1) قال: وهي حادثة وهو ظاهر على قولنا، وعلى قول الخصم لو كانت أزلية لزم اجتماع الضدين أو بطلان ما ثبت أو ثبوت ما يمتنع. أقول: اختلف الناس في ذلك، فالمليون ذهبوا إلى أنها حادثة وهو ظاهر على قواعدهم لما ثبت من حدوث العالم وهي من جملة العالم، ولأجل ذلك قال المصنف رحمه الله: وهو ظاهر على قولنا. وأما الحكماء فقد اختلفوا هاهنا، فقال أرسطو: إنها حادثة. وقال أفلاطون: إنها قديمة (2). والمصنف رحمه الله ذكر هاهنا حجة أرسطو أيضا على الحدوث. وتقرير هذه الحجة أن النفوس لو كانت أزلية لكانت إما واحدة أو كثيرة، والقسمان باطلان، فالقول بقدمها باطل أما الملازمة فظاهرة، وأما بطلان وحدتها فلأنها لو كانت واحدة أزلا فإما أن تتكثر فيما لا يزال أو لا تتكثر، والثاني باطل وإلا لزم أن يكون ما يعلمه زيد يعلمه كل أحد وكذا سائر الصفات النفسانية، لكن الحق خلاف ذلك فإنه قد يعلم زيد شيئا وعمرو جاهل به، ولو اتحدت نفساهما لزم اتصاف كل واحد بالضدين. والأول باطل أيضا لأنها لو تكثرت لكانت النفسان الموجودتان الآن إما أن يقال: كانتا حاصلتين قبل الانقسام فقد كانت الكثرة حاصلة قبل فرض حصولها هذا خلف، وإما أن يقال: حدثتا بعد الانقسام وهو محال وإلا لزم حدوث النفسين وبطلان النفس التي كانت موجودة، وأظن أن
(1) التحقيق أنها حادثة بحدوث الأبدان لا مع حدوثها. (2) والحق أن مراده من قدمها قدم مبدعها ومنشئها الذي ستعود إليه بعد انقطاعها عن الدنيا كما في الفصل السابع من الطرف الثاني من المسلك الخامس من الأسفار (ط 1 ج 1 ص 319) وراجع في ذلك الدرس الثالث من كتابنا اتحاد العاقل بالمعقول (ص 42 ط 1). 283 قوله رحمه الله: وإلا لزم اجتماع الضدين، إشارة إلى هذه اللوازم الناشئة عن هذا القسم من المنفصلة لأن القول بالوحدة فيما لا يزال يستلزم اتصاف النفوس بالضدين، والقول بالكثرة فيما لا يزال مع حصولها يستلزم تكثر ما فرضناه واحدا وهو جمع بين الضدين أيضا، والقول بالكثرة مع تجددها يستلزم بطلان النفس الواحدة وحدوث هاتين النفسين مع فرض قدمهما وهو جمع بين الضدين أيضا. وأما بطلان كثرتها أزلا فلأن التكثر إما بالذاتيات أو باللوازم أو بالعوارض، والكل باطل. أما الأول فلما ثبت من وحدتها بالنوع، وكذا الثاني لأن كثرة اللوازم تستلزم كثرة الملزومات، وأظن أن قوله: أو بطلان ما ثبت، إشارة إلى هذا لأن القول بالكثرة الذاتية يستلزم بطلان وحدتها بالنوع وقد أثبتناه. وأما الثالث فلأن اختلاف العوارض للذوات المتساوية أنما يكون عند تغاير المواد لأن نسبة العارض إلى المثلين واحدة ومادة النفس البدن لاستحالة الانطباع عليها وقبل البدن لا مادة وإلا لزم التناسخ وهو محال. وأظن أن قوله: أو ثبوت ما يمتنع، إشارة إلى هذا. المسألة الثامنة في أن لكل نفس بدنا واحدا وبالعكس قال: وهي مع البدن على التساوي. أقول: هذا حكم ضروري أو قريب من الضروري، فان كل انسان يجد ذاته ذاتا واحدة (1) فلو كان لبدن نفسان لكان تلك الذات ذاتين وهو محال، فيستحيل تعلق النفوس الكثيرة ببدن واحد. وكذا العكس فإنه لو تعلقت نفس واحدة ببدنين لزم أن يكون معلوم أحدهما معلوما للآخر وبالعكس وكذا باقي الصفات النفسانية وهو باطل بالضرورة.
(1) كما قال سبحانه وتعالى: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه (الأحزاب 5). 284 المسألة التاسعة في أن النفس لا تفنى بفناء البدن (1) قال: ولا تفنى بفنائه. أقول: اختلف الناس هاهنا، فالقائلون بجواز إعادة المعدوم جوزوا فناء النفس مع فناء البدن، والمانعون هناك منعوا هنا. أما الأوائل فقد اختلفوا أيضا والمشهور أنها لا تفنى، أما أصحابنا فإنهم استدلوا على امتناع فنائها بأن الإعادة واجبة على الله تعالى على ما يأتي، ولو عدمت النفس لامتنعت إعادتها لما ثبت من امتناع إعادة المعدوم فيجب أن لا تفنى، وأما الأوائل فاستدلوا بأنها لو عدمت لكان إمكان عدمها محتاجا إلى محل مغاير لها لأن القابل يجب وجوده مع المقبول ولا يمكن وجود النفس مع العدم فذلك المحل هو المادة فتكون النفس مادية فتكون مركبة هذا خلف، على أن تلك المادة يستحيل عدمها لاستحالة التسلسل. وهذه الحجة ضعيفة لأنها مبنية على ثبوت الإمكان واحتياجه إلى المحل الوجودي وهو ممنوع، سلمنا لكن ذلك ينتقض بالجواهر البسيطة فإنها ممكنة ومعنى إمكانها قبولها للعدم فتكون مادية، سلمنا لكن لم لا يجوز القول بكون النفوس مركبة من جوهرين مجردين أحدهما يجري مجرى المادة والآخر يجري مجرى الصورة، وبقاء الجوهر المادي لا يكفي في بقاء جوهر النفس، ثم ينتقض ذلك بإمكان الحدوث فإنه قد تحقق هناك إمكان من دون مادة قابلة فكذا إمكان الفساد. المسألة العاشرة في إبطال التناسخ قال: ولا تصير مبدأ صورة لآخر وإلا بطل (2) ما أصلناه من التعادل.
(1) هذا الحكم المحكم نتيجة أدلة تجردها مطلقا. (2) وفي (ت) وحدها: وإلا لبطل. والنسخ الأخرى كما اخترناه. 285 أقول: اختلف الناس هاهنا، فذهب جماعة من العقلاء إلى جواز التناسخ (1) في النفوس بأن تنتقل النفس التي كانت مبدأ صورة لزيد مثلا إلى بدن عمرو وتصير مبدأ صورة له، ويكون بينهما من العلاقة كما كان بين البدن الأول وبينها. وذهب أكثر العقلاء إلى بطلان هذا المذهب، والدليل عليه أنا قد بينا أن النفوس حادثة وعلة حدوثها قديمة فلا بد من حدوث استعداد وقت حدوثها ليتخصص ذلك الوقت بالايجاد فيه، والاستعداد أنما هو باعتبار القابل فإذا حدث وتم وجب حدوث النفس المتعلقة به، فإذا حدث بدن تعلقت به نفس تحدث عن مباديها، فإذا انتقلت إليه نفس أخرى مستنسخة لزم اجتماع النفسين لبدن واحد، وقد بينا بطلانه ووجوب التعادل في الأبدان والنفوس حتى لا توجد نفسان لبدن واحد وبالعكس. المسألة الحادية عشرة في كيفية تعقل النفس وإدراكها (2) قال: وتعقل بذاتها وتدرك بالآلات للامتياز بين المختلفين وضعا من غير إسناد. أقول: إعلم أن التعقل هو إدراك الكليات والادراك هو الاحساس بالأمور الجزئية، وقد ذهب جماعة من القدماء إلى أن النفس تعقل الأمور الكلية بذاتها من غير احتياج إلى آلة، وتدرك الأمور الجزئية بواسطة قوى جسمانية هي محال الادراك، والحكم الأول ظاهر فإنا نعلم قطعا أنا ندرك الأمور الكلية مع اختلال
(1) القول الحق المحقق في التناسخ هو ما حررناه بعون الفياض على الإطلاق في كتابنا المسمى بألف نكتة ونكتة، فراجع النكتتين 637 و 849 منه. (2) هذه المسألة من أغمض المسائل الحكمية، وقد حررنا البحث عنها والفحص عن مبانيها في الدرس التاسع عشر من كتابنا الموسوم باتحاد العاقل بالمعقول. 286 كل عضو يتوهم آلة للتعقل وقد سلف تحقيق ذلك، وأما الحكم الثاني وهو افتقارها في الإدارك الجزئي إلى الآلات فلأنا نميز بين الأمور المتفقة بالماهية المختلفة بالوضع لا غير، كما أنا نفرق بين العين اليمنى واليسرى من الصورة التي نتخيلها ونميز بينهما مع اتحادهما في الحقيقة واختلافهما في الوضع، فليس الامتياز بينهما بذاتي ولا بما يلزم الذات لفرض تساويهما بل بأمور عارضة، ثم اختصاص كل واحدة منهما بعارضها ليس في الوجود الخارجي، لأن المتخيل قد لا يكون موجودا في الخارج فليس الامتياز إذن للمأخوذ عنه بل للآخذ، فإن كان محل إحداهما هو بعينه محل الأخرى استحال اختصاص إحداهما بكونها يمنى والأخرى بكونها يسرى، لأن نسبة العارض إليهما واحدة فبقي أن يكون المحل مختلفا حتى يكون الجانب الذي تحل فيه إحداهما غير الجانب الذي تحل فيه الأخرى. إذا عرفت هذا فقوله: وتعقل بذاتها، إشارة إلى ما ذكرناه من أن التعقل للأمور الكلية لذات النفس من غير آلة. وقوله: وتدرك بالآلات، إشارة إلى أن إدراك الأمور الجزئية أنما يكون بواسطة قوى جسمانية. وقوله: للامتياز بين المختلفين وضعا، إشارة إلى ما مثلناه من الامتياز بين العينين. وقوله: من غير إسناد، أي من غير إسناد إلى الخارج. المسألة الثانية عشرة في القوى النباتية قال: وللنفس قوى تشارك بها غيرها وهي الغاذية والنامية والمولدة. أقول: لما كان البدن آلة للنفس في أفاعيلها المنوطة به كان صلاحها بصلاحه، ولما كان البدن مركبا من العناصر المتضادة وكان تأثير الجزء الناري فيه الإحالة احتج في بقائه إلى إيراد بدل ما يتحلل منه، فاقتضت حكمة الله تعالى جعل النفس
287 ذات قوة يمكنها بها استخلاف ما ذهب بما يأتي وذلك أنما يكون بالغذاء. ثم لما كان البدن أول خلقته محتاجا إلى زيادة في مقداره على ما يناسب في أقطاره بأجسام تنضم إليه من خارج وجب في حكمة الله تعالى جعل النفس ذات قوة يمكنها بها تحصيل جواهر قابلة للتشبه بالبدن تنضم إليه على تناسب في أقطاره (1) هي النامية. ثم لما كان البدن ينقطع ويعدم واقتضت عناية الله تعالى الاستحفاظ بهذا النوع وجب في حكمة الله تعالى جعل النفس ذات قوة تحيل بعض الجواهر المستعدة لقبول الصورة الانسانية إلى تلك الصورة وهي القوة المولدة، فكانت النفس ذات قوى ثلاث: الغاذية والنامية والمولدة، وهذه القوى مشتركة بين الانسان والحيوان والنبات. فالغاذية هي التي تحيل الغذاء إلى مشابهة المغتذي ليخلف بدل ما يتحلل، والنامية هي التي تزيد في أقطار الجسم على التناسب الطبيعي ليبلغ إلى تمام النشوء، والمولدة هي التي تفيد المني بعد استحالته في الرحم الصور والقوى والأعراض. واعلم أن إسناد التصوير إلى هذه القوة باطل، وسيأتي بيانه (2) إن شاء الله. قال: وأخرى أخص يحصل بها الادراك إما للجزئي أو للكلي. أقول: للنفس أيضا قوى أخص من الأولى هي الادراك إما للجزئي وهو الاحساس، وإما للكلي وهو التعقل، فالإحساس مشترك بينه وبين الحيوان خاصة فهو أخص من القوى الأولى المشتركة بينها وبين النبات، والتعقل أخص من الاحساس لأنه لا يحصل للحيوان بل للانسان. قال: فللغاذية الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة. أقول: القوة الغاذية يتوقف فعلها على أربع قوى ليتم الاغتذاء (3) وهي:
(1) أي في أبعاده الثلاثة من الطول والعرض والعمق على تناسبه الطبيعي. (2) وهو قوله الآتي بعيد هذا: والمصورة عندي باطلة. (3) كما في غير (م) من النسخ الخمس، وأما (م) ففيها: ليتم الغذاء. 288 الجاذبة للغذاء، والماسكة له لتهضمه الهاضمة، والهاضمة وهي التي تحيل الغذاء الذي جذبته الجاذبة وأمسكته الماسكة إلى قوام يتهيأ لأن تجعله الغاذية جزءا بالفعل من المغتذى، والدافعة للفضلات. قال: وقد تتضاعف هذه لبعض الأعضاء. أقول: قد تتضاعف هذه القوى لبعض الأعضاء كالمعدة التي تجذب بقوتها غذاء كلية البدن، والتي تمسكه هناك، والتي تغيره إلى ما يصلح لأن يصير دما، والتي تدفعه إلى الكبد. وفيها أيضا قوة جاذبة لما تغتذي به المعدة خاصة وقوة ماسكة وقوة هاضمة وقوة دافعة. قال: والنمو مغاير للسمن. أقول: النمو هو زيادة الجسم بسبب اتصال جسم آخر به من نوعه، وتكون الزيادة مداخله (1) في أجزاء المزيد عليه وهو مغاير للسمن وكذا الذبول مغاير للهزال، فإن الواقف في النمو قد يسمن كالشيخ إذا صار سمينا فإن أجزاءه الأصلية قد جفت وصلبت فلا يقوى الغذاء على تفريقها فلا يتحقق النمو، وكذلك النامي قد يهزل. قال: والمصورة عندي باطلة (2) لاستحالة صدور هذه الأفعال المحكمة المركبة عن قوة بسيطة ليس لها شعور أصلا. أقول: أثبت الحكماء للنفس قوة يصدر عنها التصوير والتشكيل بشكل نوع ذي القوة، والحق ما ذهب إليه المصنف من أن ذلك محال، لأن هذه الأشكال والصور أمور محكمة متقنة فلا تصدر عن طبيعة غير شاعرة بما يصدر عنها بل
(1) جمع المدخل، والضمير راجع إلى جسم آخر. والكلمة حرفت تارة بمداخلة، وأخرى بمتداخلة. (2) التحقيق التام في هذه المسألة مذكور في العين الثانية والثلاثين من كتابنا عيون مسائل النفس فراجع. 289 يجب إسنادها إلى مدبر حكيم. وأيضا فإن هذه التشكيلات أمور مركبة، والقوة البسيطة لا تصدر عنها أشياء كثيرة بل شكلها في محلها البسيط هو الكرة، فتكون هذه المركبات على شكل الكرات وهو باطل بالضرورة. المسألة الثالثة عشرة في أنواع الإحساس قال: وأما قوة الإدراك للجزئي فمنه اللمس وهو قوة منبثة في البدن كله. أقول: لما فرغ من البحث عن الأمر العام - أعني القوة النباتية - شرع الآن في البحث عما هو أخص منه وهو القوة الحيوانية أعني الإحساس المشترك بين الانسان وغيره من الحيوانات، وبدأ باللمس لأن باقي الحواس يراد لجلب النفع وهذا لدفع الضرر، ولما كان دفع الضرر أولى من جلب النفع لا جرم قدم البحث فيه على غيره من القوى الحساسة. واعلم أن اللمس كيفية قائمة بالبدن منبثة في ظاهره أجمع يدرك بها المنافي والملائم. قال: وفي تعدده نظر (1). أقول: اختلف الناس في أن اللمس هل هو قوة واحدة أو قوى كثيرة، فالجمهور على أنها قوى أربع: الأولى: الحاكمة بين الحار والبارد. الثانية: الحاكمة بين الرطب واليابس. الثالثة: الحاكمة بين الصلب واللين. الرابعة: الحاكمة بين الخشن والأملس، لأن القوة الواحدة لا يصدر عنها أكثر من أمر واحد. قال: ومنه الذوق ويفتقر إلى توسط الرطوبة اللعابية الخالية عن المثل والضد. أقول: الذوق قوة قائمة بسطح اللسان لا يكفي فيه الملامسة بل لا بد من متوسط من الرطوبة اللعابية الخالية عن الطعوم، لأنها إن كانت ذات طعم مماثل
(1) وفي (ت) كتب في هامشها على صورة النسخة: وهي متعددة. وفي (د) بالعكس أعني جعل قوله: وفي تعدده نظر، نسخة. وكأن ما في الشرح يستشم منه صحة قوله: وهي متعددة. 290 للمدرك لم يتحقق الإدراك، لأن الإدراك أنما يكون بالانفعال والشئ لا ينفعل عن مماثله، وإن كانت ذات طعم مضاد لم تؤد الكيفية على صرافتها بصحة كما في المرضى. قال: ومنه الشم ويفتقر إلى وصول الهواء المنفعل أو ذي الرائحة (1) إلى الخيشوم. أقول: الشم قوة في الدماغ تحملها زائدتان شبيهتان بحلمتي الثدي نابتتان من مقدم الدماغ وقد فارقتا لين الدماغ قليلا ولم تلحقهما صلابة العصب، ويفتقر إلى وصول الهواء المنفعل عن ذي الرائحة إلى الخيشوم أو وصول أجزاء من ذي الرائحة إليه، لأنه أنما يدرك بالملاقاة. وقد ذهب قوم إلى أن الشم أنما يكون بأن تتحلل أجزاء الجسم ذي الرائحة وتنتقل مع الهواء المتوسط إلى الحاسة، لأن الدلك والتبخير يهيج (2) الرائحة ويذكيها. وقال آخرون: إن الهواء المتوسط يتكيف بتلك الكيفية لا غير وإلا لنقص وزن الجسم ذي الرائحة مع استنشاقها، والمصنف رحمه الله قد نبه بكلامه على تجويز الأمرين، فإن الشم قد يحصل بكل واحد منهما. قال: ومنه السمع ويتوقف على وصول الهواء المنضغط إلى الصماخ. أقول: ذهب قوم إلى أن السمع أنما يحصل عند تأدي الهواء (3) المنضغط بين القارع والمقروع إلى الصماخ ولهذا تدرك الجهة، ويتأخر السماع عن الأبصار لتوقف الأول على حركة الهواء دون الثاني، والمصنف رحمه الله مال إلى هذا هاهنا، وفيه نظر لأن الصوت قد يسمع من وراء الجدار مع امتناع بقاء الشكل (4) على
(1) باتفاق النسخ كلها كما هو صريح الشرح أيضا. وما في المطبوعة: (المنفعل من ذي الرائحة) فهو وهم. (2) كما في (م)، وفي نسخة: يفيح والباقية: يفتح. (3) النسخ كلها إلا (م) ففيها: عند بادي الهواء. وفي النسخ المطبوعة: عند تعدي الهواء. (4) أي شكل تموج الهواء وهيئة الصوت. وقوله: لهذا تدرك الجهة ويتأخر السماع عن الإبصار، استدلال على أن الصوت له وجود في الخارج. وفي المباحث المشرقية للفخر الرازي لمعتقد أن يعتقد أن الصوت لا وجود له في الخارج بل إنما يحدث في الحس من ملامسة الهواء المتموج، وهذا باطل لأنا كما أدركنا الصوت أدركنا مع ذلك جهته.. الخ (ج 1 ط 1 ص 306). واعلم أن صفتي القرب والبعد في الأصوات أمران معنويان، فإدراك النفس إياهما تدل على تجردها عن الأحياز وسائر أوصاف المادة كما حررناه في رسالتنا المصنوعة في براهين تجردها، وجملة الأمر في المقام ما أفادها صدر المتألهين في الفصل الثاني من الباب الرابع من الجواهر والأعراض من الأسفار (ج 2 ط 1 ص 32) من أن التحقيق أن يقال: إن تعلق النفس بالبدن يوجب تعلقها بما اتصل به كالهواء المجاور بحيث كأنهما شئ تعلقت به النفس تعلقا ولو بالعرض، فكلما حدث فيه شئ مما يمكن للنفس إدراكه بشئ من الحواس من الهيئات والمقادير والأبعاد بينها والجهة التي لها وغيرها فأدركت النفس له كما هو عليه. أقول: هذا التحقيق الأنيق هو أحد البراهين على أن النفس الناطقة تصير بعد تكاملها الجوهري عارية عن المواد، وهو كلام سام سامك يعقله من كان له قلب. وقد حررناه بالتقرير الأبين في الدرس الثمانين من دروس معرفة النفس، وأما نظر الشارح العلامة ففيه أن الصوت المسموع من وراء الجدار يدل على بقاء الشكل على حاله. 291 حاله لو أمكن نفوذ الهواء. قال: ومنه البصر (1) ويتعلق بالذات بالضوء واللون. أقول: المبصرات إما أن يتعلق الأبصار بها أولا وبالذات أو ثانيا وبالعرض، والأول هو الضوء واللون لا غير والثاني ما عداهما من سائر المبصرات كالشكل والحجم والمقدار والحركة والوضع والحسن والقبح وغير ذلك من أصناف المرئيات. قال: وهو راجع فينا إلى تأثر الحدقة (2). أقول: الإدراك عند جماعة من الفلاسفة والمعتزلة راجع إلى تأثر الحاسة، فالإبصار بالعين معناه تأثر الحدقة وانفعالها عن الشئ المرئي، هذا في حقنا نحن
(1) في النسخ المطبوعة زيادة كانت تعليقة أدرجت في المتن على هذه الصورة ومنه البصر وهي قوة مودعة في العصبتين المجوفتين اللتين تتلاقيان وتتفارقان إلى العينين بعد تلاقيهما بتلك ويتعلق بالذات بالضوء واللون. (2) وفي (ت) وهو راجع فيهما إلى تأثر الحدقة. 292 ولهذا قيده المصنف رحمه الله بقوله: فينا (1)، لأن الإدراك ثابت في حقه تعالى ولا يتصور فيه التأثر، وذهبت الأشاعرة إلى أنه معنى زائد على تأثر الحدقة. قال: ويجب حصوله مع شرائطه. أقول: شروط الإدراك (2) سبعة: الأول: عدم البعد المفرط. الثاني: عدم القرب المفرط، ولهذا لا يبصر ما يلتصق بالعين. الثالث: عدم الحجاب. الرابع: عدم الصغر المفرط. الخامس: أن يكون مقابلا أو في حكم المقابل. السادس: وقوع الضوء على المرئي إما من ذاته أو من غيره. السابع: أن يكون المرئي كثيفا، بمعنى وجود الضوء واللون له. إذا عرفت هذا فنقول: عند المعتزلة والأوائل أن عند حصول هذه الشرائط يجب الإدراك بالضرورة، فإن سليم الحاسة يشاهد الشمس إذا كانت على خط نصف النهار بالضرورة، ولو تشكك العقل في ذلك جاز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة وأصوات هائلة وإن كنا لا ندركها وذلك سفسطة. أما الأشاعرة فلم يوجبوا ذلك وجوزوا حصول جميع الشرائط مع انتفاء الإدراك، واحتجوا بأنا نرى الكبير صغيرا، والسبب فيه رؤية بعض أجزائه دون البعض مع تساوي الجميع في الشرائط وهو خطأ لوقوع التفاوت بالقرب والبعد، فلهذا أدركنا بعض الأجزاء وهي القريبة دون الباقي، ويتحقق التفاوت بخروج خطوط ثلاثة من الحدقة إلى المرئي، أحدها عمود والباقيان ضلعا مثلث قاعدته المرئي، فالعمود أقصر لأنه يوتر الحادة والضلعان أطول لأنهما يوتران القائمة.
(1) أقول: بل لا يصح فينا على الإطلاق أيضا، لأنا نبصر في منامنا بل في يقظتنا في أحوالنا الأخرى أبصارا أرفع وأشد مما في يقظتنا مع أنه لا يتحقق بتأثر الحدقة، فعلى هذا اقرأ وأرقه. (2) أي الإدراك البصري ولكن الأبصار في الرؤيا بل في كثير من أحوالنا حالة اليقظة أيضا لا يشترط فيه واحدة من تلك الشرائط. ثم جاءت النسخ كلها هكذا: شرائط الإدراك سبعة: الأول.. الثاني.. الثالث. والصواب: شروط الإدراك سبعة: الأول.. الخ. أو شرائط الإدراك سبع: الأولى.. الثانية.. الثالثة.. الخ. 293 قال: بخروج الشعاع (1). أقول: اختلف الناس في كيفية الأبصار، فقال قوم: إنه بخروج شعاع متصل من العين إلى المرئي على هيئة مخروط رأسه عند الحدقة وقاعدته عند المرئي، وهو اختيار المصنف رحمه الله. وقال أبو علي: إن الأبصار أنما يكون بانطباع صورة المرئي في الرطوبة الجليدية (2). والقولان عندي باطلان، أما الأول فلأن الشعاع إما جسم أو عرض، والثاني يستحيل عليه الانتقال، والأول باطل لامتناع أن يخرج من العين على صغرها حجم متصل منها إلى كرة الثوابت، وأيضا فإن حركة الشعاع ليست طبيعية لعدم اختصاصها بجهة دون أخرى فلا تكون قسرية وظاهر أنها ليست إرادية، ولأن الشعاع جسم لطيف جدا فيلزم تشوشه عند هبوب الرياح فلا يحصل الأبصار للمقابل، وأما الثاني فلأنه يستحيل انطباع العظيم في الصغير. قال: فإن انعكس إلى المدرك أبصر وجهه. أقول: الشعاع إذا خرج (3) من العين واتصل بالمرئي وكان صقيلا كالمرآة انعكس عنه إلى كل ما نسبته إلى المرئي كنسبة العين إليه، ولهذا وجب تساوي زاويتي الشعاع والانعكاس ووجب أن يشاهد بالمرآة (4) كل ما وضعه إليها كوضع الرائي فإن انعكس الشعاع إلى الرائي نفسه أدرك وجهه، وإذا انتفت الصقالة لم
(1) الأمر الأهم في الأبصار أن تعلم أن المقصود من خروج الشعاع عند قائليه خروج الشعاع من المرئي إلى البصر لا بالعكس كما اشتهر في صحف المتأخرين وراجع في ذلك العين الثلاثين من عيون مسائل النفس. (2) الرطوبة الجليدية هي رطوبة نيرة تشبه الجليد، مستديرة غير صحيحة الاستدارة وبها يكون البصر. (3) عبارة القوشجي في المقام هكذا: الشعاع إذا وقع على صقيل كالمرآة مثلا ينعكس منه إلى شئ آخر وضعه من ذلك الصقيل كوضعه مما خرج عنه الشعاع فزاوية الانعكاس كزاوية الشعاع على ما ذكر في المناظر. (4) كما في (ز). والباقية: في المرآة. ولكن الأولى أنسب بكلام أصحاب الشعاع من الثانية. 294 يحصل الانعكاس كالأشياء الخشنة التي نشاهدها فإنه لا ينعكس عنها شعاع إلى غيرها لعدم الملاسة. هذا علة أصحاب الشعاع في رؤية الانسان وجهه بالمرآة، وأما القائلون بالانطباع فقالوا: إنه تنطبع في المرآة صورة الرائي ثم تنطبع في العين من تلك الصورة صورة أخرى. وهو باطل لأن الصورة لو انطبعت في المرآة لم تتغير بتغير وضع الرائي. قال: وإن عرض تفرق السهمين تعدد المرئي. أقول: هذا إشارة إلى علة الحول عند القائلين بالشعاع، والسبب في الحول عندهم أن النور الممتد من العين على شكل المخروط قوته في سهم المخروط، فإذا خرج من العينين مخروطان والتقى سهماهما عند المبصر واتحدا أدرك المدرك الشئ كما هو، وإن لم يلتق السهمان عند شئ واحد بل حصل الإدراك بطرف المخروط لا بوقوع السهم عليه رأى الرائي الشئ الواحد شيئين. أما القائلون بالانطباع فإنهم قالوا: الصورة تنطبع أولا في الرطوبة الجليدية وليس الإدراك عندها وإلا لأدركنا الشئ الواحد شيئين، كما إذا لمسنا باليدين كان لمسين لكن الصورة التي في الجليدية تتأدى بواسطة الروح المصبوب في العصبتين المجوفتين إلى ملتقاهما على هيئة مخروط فيلتقي المخروطان هناك وعند الملتقى روح مدرك وحينئذ تتحد عند الروح من الصورتين صورة واحدة، وإن لم ينفذ المخروطان نفوذا على سبيل التقاطع انطبع من كل شبح ينفذ عن الجليدية خيال بانفراده وهو الحول. المسألة الرابعة عشرة في أنواع القوى الباطنة المتعلقة بإدراك الجزئيات قال: ومن هذه القوى بنطاسيا الحاكمة بين المحسوسات.
295 أقول: أثبت الأوائل للنفس قوى جزئية خمس باطنة: الأولى: بنطاسيا (1) وهي الحس المشترك وهو المدرك للصور الجزئية التي تجتمع عنده مثل المحسوسات. الثانية: خزانته وهي الخيال. الثالثة: الوهم وهو قوة تدرك المعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوسات كالصداقة الجزئية والعداوة الجزئية. الرابعة: خزانته وهي الحافظة. الخامسة: القوة المتصرفة في الصور الجزئية والمعاني الجزئية بالتركيب والتحليل فتركب صورة انسان يطير وجبل ياقوت، وهذه القوة تسمى متخيلة إن استعملتها القوة الوهمية، ومتفكرة (2) إن استعملتها القوة الناطقة. إذا عرفت هذا فنقول: الدليل على ثبوت الحس المشترك وجوه: أحدها أنا نحكم على صاحب لون معين بطعم معين فلا بد من حضور هذين المعينين عند الحاكم، لكن الحاكم وهو النفس أنما يدرك الجزئيات بواسطة الآلات على ما تقدم فيجب حصولهما معا في آلة واحدة وليس شئ من الحواس الظاهرة لذلك فلا بد (3) من إثبات قوة باطنة هي الحس المشترك، وإلى هذا الدليل أشار بقوله: الحاكمة بين المحسوسات. قال: لرؤية القطرة خطا والشعلة دائرة. أقول: هذا دليل ثان على إثبات الحس المشترك، وتقريره أنا نرى القطرة النازلة خطا مستقيما، والشعلة التي تدار بسرعة دائرة مع أنه ليس في الخارج كذلك ولا في القوة الباصرة، لأن البصر أنما يدرك الشئ على ما هو عليه، ولا النفس لأنها لا تدرك الجزئيات فلا بد من قوة أخرى يحصل بها إدراك القطرة
(1) ويقال لها الخيال أيضا. والأطباء يسمونها المصورة، تفصيل البحث يطلب في عيون مسائل النفس. (2) كما في (ش) وفي (ق ص د ز) مفكرة. المفكرة صفة للقوة الناطقة من حيث إنها استعملت القوة المتصرفة، والمتفكرة صفة للمتصرفة من تلك الحيثية كالمتخيلة. (3) كما في (ص). والباقية: كذلك فلا بد. 296 حال حصولها في المكان الأول ثم إدراكها حال حصولها في المكان الثاني، ويرتسم الحصول الثاني قبل انمحاء الصورة الأولى عن القوة الشاعرة فتتصل الصورتان في الحس المشترك فترى النقطة كالخط والشعلة كالدائرة. قال: والمبرسم ما لا تحقق له (1). أقول: هذا دليل ثالث على إثبات هذه القوة، وتقريره أن صاحب البرسام يشاهد صورا لا وجود لها في الخارج وإلا لشاهدها كل ذي حس سليم فلا بد من قوة ترتسم فيها تلك الصور حال المشاهدة، وكذا النائم يشاهد صورا لا تحقق لها في الخارج والسبب فيه ما ذكرناه، وقد بينا أن تلك القوة لا يجوز أن تكون هي النفس فلا بد من قوة جسمانية ترتسم فيها هذه الصور. قال: والخيال لوجوب المغايرة بين القابل والحافظ. أقول: هذه القوة الثانية المسماة بالخيال وهي خزانة الحس المشترك الحافظة لما يزول عنه بعد غيبوبة الصور التي باعتبارها تحكم النفس بأن ما شوهد ثانيا هو الذي شوهد أولا، واستدلوا على مغايرتها الحس المشترك بأن هذه القوة حافظة والحس المشترك قابل والحافظ مغاير للقابل لامتناع صدور الأثرين عن علة واحدة، ولأن الماء فيه قوة القبول وليس فيه قوة الحفظ فدل على المغايرة. وهذا كلام ضعيف بينا ضعفه في كتاب الأسرار. قال: والوهم المدرك للمعاني الجزئية (2).
(1) المبرسم على هيئة المفعول معرب من كلمتين فارسيتين إحداهما بر بمعنى الجنب والأخرى سام بمعنى المرض. وفي البرسام من بحر الجواهر للهروي قال نفيس أنه قد خالف جمهور القوم في تعريف هذا المرض فإنهم اتفقوا على أنه ورم في الحجاب الحاجز نفسه وهو الحجاب المعترض الذي بين القلب والمعدة. وفي بعض النسخ المخطوطة المسرسم مكان المبرسم وأصله من السرسام كالبرسام. (2) والحق أن الأمر في الإدراك تثليث لا تربيع، والوهم عقل ساقط، والبحث عن تحقيق هذا المطلب الأسنى يطلب في كتابنا الموسوم بألف نكتة ونكتة فراجع النكتة 515 منه. 297 أقول: هذه القوة الثالثة المدركة للمعاني الجزئية وتسمى الوهم وهي مغايرة للنفس الناطقة لما تقدم من أن النفس لا تدرك الجزئيات لذاتها وأشار إليه بقوله: الجزئية، وللحس المشترك لأن هذه القوة تدرك المعاني والحس يدرك الصور المحسوسة (1) وأشار إليه بقوله: للمعاني، وللخيال لأن الخيال شأنه الحفظ والوهم شأنه الإدراك فتغايرا كما قلنا الحس والخيال وأشار إليه بقوله: المدرك. قال: والحافظة. أقول: هذه القوة الرابعة المسماة بالحافظة وهي خزانة الوهم ودليل إثباتها كما قلناه في الخيال سواء. وهذه تسمى المتذكرة باعتبار قوتها على استعادة الغائبات ولهم خلاف في أن المتذكرة هي الحافظة أو غيرها. قال: والمتخيلة المركبة للصور والمعاني بعضها مع بعض (2). أقول: هذه القوة الخامسة المسماة بالمتخيلة باعتبار استعمال الحس لها والمتفكرة باعتبار استعمال العقل لها وهي التي تركب بعض الصور مع بعض كما تركب صورة جذع عليه رأس انسان، وتركب بعض المعاني مع بعض وتركب بعض الصور مع بعض المعاني. ويدل على مغايرتها لما تقدم صدور هذا الفعل عنها دون غيرها من القوى لامتناع صدور أكثر من فعل واحد عن قوة واحدة. قال:
(1) أي الحس المشترك يدركها. (2) وفي بعض النسخ بعضها ببعض، ولكن الصواب هو ما اخترناه لأن التركيب ليس بمزجي بل انضمامي، فتدبر. 298 الفصل الخامس في الأعراض وتنحصر في تسعة. أقول: لما فرغ من البحث عن الجواهر انتقل إلى البحث عن الأعراض، وفي هذا الفصل مسائل: المسألة الأولى في أن الأعراض منحصرة في تسعة هذا رأي أكثر الأوائل فإنهم قسموا الموجود إلى واجب وممكن، والواجب هو الله تعالى لا غير، والممكن إما غني عن الموضوع وهو الجوهر أو محتاج إليه وهو العرض (وأقسامه تسعة): الكم والكيف والأين والوضع والملك والإضافة وأن يفعل وأن ينفعل والمتى. والمتكلمون حصروه في أحد وعشرين هي: الكون واللون والطعوم والروائح والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والتأليف والاعتماد والحياة والقدرة والاعتقاد والظن والنظر والإرادة والكراهة والشهوة والنفرة والألم واللذة. وأثبت بعضهم أعراضا أخر يأتي البحث عنها وهذه الأعراض مندرجة تحت تلك، لأن الكون هو الأين أو ما يقاربه وباقي الأعراض التي ذكروها مندرجة تحت الكيف، فلأجل هذا بحث المصنف رحمه الله عن الأعراض التسعة لدخول هذه تحتها، ومع ذلك فالأوائل لم يوجد لهم دليل على حصر
299 الأعراض في التسعة، وبعضهم جعل أجناس الممكنات منحصرة في أربعة: الجوهر والكم والكيف والنسبة، وبالجملة فالحصر لم يقم عليه برهان. المسألة الثانية في قسمة الكم قال: الأول الكم فمتصله القار جسم وسطح وخط وغيره الزمان ومنفصله العدد. أقول: الكم إما متصل أو منفصل، ونعني بالمتصل ما يوجد فيه جزء مشترك يكون نهاية لأحد القسمين وبداية للآخر كالجسم إذا نصف فإن موضع التنصيف حد مشترك بين النصفين هو نهاية لأحدهما وبداية للآخر، والمنفصل ما لا يكون كذلك كالأربعة المنقسمة إلى اثنين واثنين فإنه ليس بينهما حد مشترك وكذا الثلاثة، ولا يتوهم أن الوسط نهاية لأحد القسمين وبداية للآخر لأنه إن عد فيهما صارت الثلاثة أربعة وإن أسقط منها صارت اثنين ولا أولوية لأحدهما دون الآخر. إذا عرفت هذا فنقول: المتصل إما قار الذات وهو الذي تجتمع أجزاؤه في الوجود كالجسم، أو غير قار الذات وهو الذي لا يكون كذلك كالزمان فإنه لا يمكن أن يكون أحد الزمانين مجامعا للآخر، والقار الذات إما أن ينقسم في جهة واحدة وهو الخط، أو في جهتين وهو السطح أو في ثلاث جهات وهو الجسم التعليمي. وغير قار الذات هو الزمان لا غير. والمنفصل هو العدد خاصة لأن تقومه من الوحدات التي إذا جردت عن معروضاتها كانت أجزاء العدد لا غير. المسألة الثالثة في خواصه قال: ويشملها قبول المساواة وعدمها والقسمة وإمكان وجود العاد (1).
(1) والعاد يطلق على الكم المنفصل، والمقدر على المتصل والعدد الأول هو الذي لا يعده غير الواحد، والمركب هو الذي يعده عدد آخر كما في صدر تاسعة الأصول، والظاهر أنه أراد معناه الأعم كما هو المستفاد من كلام الشارح أيضا. ثم إن أصول النسخ المعتبرة التي عندنا مطبقة على لفظة ويشملها، كما في (ت د ص ق ش ز) وأما (م) فناقصة هنا. فالضمير راجع إلى الجسم والسطح والخط والزمان والعدد، وفي غيرها جاءت اللفظة ويشملهما، فالضمير راجع إلى الكمين المتصل والمنفصل. 300 أقول: ذكر للكم ثلاث خواص: الأولى: قبول المساواة وعدمها عدم الملكة، فإن أحد الشيئين أنما يساوي غيره أو يفارقه باعتبار مقداره لا باعتبار ذاته، فإن كل الجسم وبعضه متساويان في الطبيعة ومتفاوتان في المقدار. الثانية: قبول القسمة، وذلك لأن الماهية أنما يعرض لها الانقسام والإثنينية بواسطة المقدار، وهذا الانقسام قد يعني به كون الشئ بحيث يوجد فيه شئ غير شئ وهذا المعنى يلحق المقدار لذاته، والثاني قبول الافتراق وهو من توابع المادة عندهم على ما سلف البحث فيه، ومرادهم هنا الأول. الثالثة: إمكان وجود العاد، وذلك لأن المنقسم أنما ينقسم إلى آحاد هي أجزاؤه فتلك الآحاد عادة له، ولما كان الانقسام قد يكون بالفعل كما في الكم المنفصل وقد يكون بالقوة كما في المتصل كان اللازم لمطلق الكم هو إمكان وجود واحد عاد لا الوجود بالفعل. قال: وهو ذاتي وعرضي. أقول: الكم منه ما هو بالذات كالأقسام التي عددناها له، ومنه ما هو بالعرض وهو معروضها كالجسم الطبيعي أو عارضها (1) كالسواد الحال في السطح فإنه متقدر بقدرة فكميته عرضية لا ذاتية، أو ما يجامعه في المحل أو ما يتعلق بما يعرض له كقولنا: قوة متناهية أو غير متناهية بسبب تناهي المقوى عليه في العدة أو المدة أو الشدة وعدم تناهيه.
(1) وفي المطبوعة زيادة تقرب من سطر كانت تعليقة أدرجت في الكتاب وهي هذه: كالجسم الطبيعي الذي هو معروض للكم المتصل، وكالمعدود الذي هو معروض للكم المنفصل، أو عارضها كالسواد. 301 المسألة الرابعة في أحكامه قال: ويعرض ثاني القسمين فيهما لأولهما (1). أقول: قد بينا أن الكم إما متصل وإما منفصل، وأيضا إما ذاتي أو عرضي، والثاني من القسمين في القسمين معا يعرض للأول منهما فإن الجسم التعليمي يعرض له الانقسام فيحصل له التعدد فيصير معدودا قد عرض له النوع الثاني من الكم وهو المنفصل، وكذا الزمان يقسم إلى الساعات والشهور والأيام والأعوام فيحصل له التعدد، وأيضا الزمان متصل بذاته ويعرض له التقدير بالمسافة أيضا كما يقال زمان حركة فرسخ فظهر معنى قوله: ويعرض ثاني القسمين فيهما لأولهما. قال: وفي حصول المنافي وعدم الشرط دلالة على انتفاء الضدية. أقول: يريد أن الكم لا تضاد فيه، والدليل عليه وجهان: أحدهما: أن المنافي للضدية حاصل فلا تكون الضدية موجودة، بيانه أن أنواع الكم المنفصل يتقوم بعضها ببعض فأحد النوعين إما مقوم لصاحبه أو متقوم به ويستحيل تقوم أحد الضدين بالآخر. وأما المتصل فلأن أحد النوعين إما قابل للآخر كالسطح للخط والجسم للسطح أو مقبول له كالعكس والضد لا يكون قابلا لضده ولا مقبولا له، فحصول التقويم والقابلية المنافيان للضدية يقتضي انتفاء الضدية. الثاني: أن الشرط في التضاد مفقود في الكم فلا تضاد فيه، بيانه أن للتضاد شرطين أحدهما اتحاد الموضوع، الثاني أن يكون بينهما غاية التباعد، وهما منتفيان هنا أما عدم اتحاد الموضوع في العدد فلأنه ليس لشئ من العددين
(1) كما في (ق) وفي (ز ت د ص ش): منهما لأولهما. ولكن الشرح موافق للوجه الأول لأن المراد من قوله الثاني من القسمين هو المنفصل والعرضي، والمراد من قوله: في القسمين معا هو قسما الكم، أحدهما: إما متصل ومنفصل، وثانيهما: إما ذاتي أو عرضي. 302 موضوع قريب مشترك، وكذا المتصل فإن الجسم الطبيعي معروض للتعليمي وللسطح بواسطة التعليمي وكذا للخط بواسطة السطح، وأما عدم كونهما في غاية التباعد فلأنه لا مقدار يوجد إلا ويمكن أن يفرض ما هو أكبر منه أو أصغر فلا غاية في التباعد وكذا العدد. قال: ويوصف بالزيادة والكثرة ومقابليهما دون الشدة ومقابلها. أقول: الكم بأنواعه يوصف بأن بعضا منه زائد على بعض آخر، فإن الستة أزيد من الثلاثة وكذا الخط الذي طوله عشرة أزيد من الذي طوله خمسة، فيصدق عليه وصف الزيادة ومقابلها أعني النقصان لأن الزائد أنما يعقل بالقياس إلى الناقص. وكذا يوصف بالكثرة والقلة ويمتنع اتصافه بالشدة والضعف، وبيانه ظاهر فإنه لا يعقل أن خطا أشد من خط آخر في الخطية، ولا ثلاثة أشد من ثلاثة أخرى في الثلاثية. والفرق بين الكثرة والشدة ظاهر، وكذا بين الزيادة والشدة، فإن الكثرة والزيادة أنما تتحققان بالنسبة إلى أصل موجود لا يتغير فصله بسبب الزيادة ولا حقيقته بخلاف الشدة. قال: وأنواع متصله قد تكون تعليمية. أقول: الأنواع الثلاثة للكم المتصل القار الذات قد تؤخذ باعتبار ما فتسمى تعليمية، وقد تؤخذ باعتبار آخر، مثلا إذا أخذ المقدار باعتبار ذاته لا من حيث اقترانه بالمواد وأعراضها من الألوان وغيرها كان ذلك مقدارا تعليميا كالسطح التعليمي والخط التعليمي والجسم التعليمي وكذا النقطة، وإنما سميت هذه الأنواع تعليمية لأن علم التعاليم (1) إنما يبحث عنها مجردة عن المواد وتوابعها.
(1) أي علم الرياضي سيما الهندسة، فإنهم أول ما كانوا يتعلمونه هو علم الهندسة لأنه يقوم الفكر ويعدله ويقيمه على الوسط ويحفظه من الانحراف والشطط، وهذا العلم نعم العون لتعديل الفكر. قال ابن خلدون في مقدمة تاريخه ونعم ما قال: إعلم أن الهندسة تفيد صاحبها إضاءة في عقله واستقامة في فكره لأن براهينها كلها بينة الانتظام، جلية الترتيب لا يكاد الغلط يدخل أقيستها لترتيبها وانتظامها فيبعد الفكر بممارستها عن الخطأ، وينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهيع. وقد زعموا أنه كان مكتوبا على باب أفلاطون: من لم يكن مهندسا فلا يدخلن منزلنا. وكان شيوخنا رحمهم الله يقولون: ممارسة علم الهندسة للفكر بمثابة الصابون للثوب الذي يغسل منه الأقذار وينقيه من الأوضار والأدران وإنما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه وانتظامه، إنتهى، (ص 486 ط مصر). 303 قال: وإن كانت تختلف بنوع ما من الاعتبار. أقول: الظاهر من هذا الكلام أن كون الجسم تعليميا يفارق كون السطح والخط كذلك، وبيانه أن الجسم يمكن أن يؤخذ لا بشرط غيره، أو بشرط لا غيره وأما السطح والخط فلا يمكن أخذهما إلا بالاعتبار الأول فلهذا اختلفت الأنواع بنوع ما من الاعتبار. قال: وتخلف الجوهرية عما يقال في جواب ما هو في كل واحد يعطي عرضيته. أقول: يريد أن يبين أن هذه الأنواع بأسرها أعراض، واستدل بطريقين أحدهما عام في الجميع والثاني مختص بكل واحد واحد، أما العام فتقريره أن معنى الجوهرية في حد كل واحد من السطح والخط والجسم التعليمي والزمان والعدد غير داخل في جواب ما هو إذا سئل عن حقيقته فيكون خارجا عن الحقيقة فيكون كل واحد من هذه عرضا. قال: والتبدل (1) مع بقاء الحقيقة وافتقار التناهي إلى برهان وثبوت الكرة
(1) الغرض أن الجسم التعليمي والسطح والخط والزمان والعدد أعراض فلا يكون واحد منها جزءا لماهية الجسم الطبيعي لأنه جوهر. والبرهان الأول للأول وهكذا على الترتيب أي التبدل مع بقاء الحقيقة يعطي عرضية الجسم التعليمي، وافتقار التعليمي إلى برهان يعطي عرضية السطح - إلى قوله: - والتقوم به أي التقوم بالعرض يعطي عرضية العدد. وفي (ت) وحدها: والتقوم به، والنسخ الأخرى كلها: والتقويم به. ووجههما ظاهر. ولكن قول الشارح: وأما العدد فلأنه متقوم بالآحاد على إطباق النسخ، ظاهر في الأول إن لم يكن نصا صريحا عليه. 304 الحقيقية والافتقار إلى عرض والتقوم به، يعطي عرضية الجسم التعليمي والسطح والخط والزمان والعدد. أقول: هذا هو الوجه الدال على عرضية كل واحد واحد بخصوصيته، أما الجسم التعليمي فإنه عرض لأن الجسم قد يتبدل في كل واحد من أبعاده والحقيقة باقية، فإن الشمعة تقبل الأشكال المختلفة مع بقاء حقيقتها، فزوال كل واحد من الأبعاد وبقاء الجسمية يدل على عرضية الأبعاد أعني الجسم التعليمي. وأما السطح فإنه عرض لأن ثبوته للجسم إنما هو بواسطة التناهي العارض للجسم لافتقاره إلى برهان يدل عليه مع أن أجزاء الحقيقة لا تثبت بالبرهان، وإذا كان التناهي عارضا كان ما يثبت بواسطته أولى بالعرضية. وأما الخط فإنه عرض لأنه غير واجب الثبوت للجسم وما كان كذلك كان عرضا، وبيان عدم وجوبه أنه أنما يثبت للسطح بواسطة تناهيه والسطح قد لا يفرض فيه النهاية كما في الكرة الحقيقية الساكنة فإنه لا خط فيها بالفعل. وأما الزمان فإنه يفتقر إلى الحركة لأنه مقدارها والمقدار مفتقر إلى المتقدر والحركة عرض والمفتقر إلى العرض أولى بالعرضية فالزمان عرض. وأما العدد فلأنه متقوم بالآحاد على ما تقدم والآحاد عرض فالعدد كذلك. قال: وليست الأطراف أعداما وإن اتصفت بها مع نوع من الإضافة. أقول: ذهب جماعة من المتكلمين إلى أن السطح الذي هو طرف الجسم والخط الذي هو طرف السطح والنقطة التي هي طرف الخط اعدام صرفة لا تحقق لها في الخارج وإلا لانقسمت لانقسام محلها، ولأن الطرف عبارة عن نهاية الشئ التي هي عبارة عن فنائه وعدمه، ولأن السطحين إذا التقيا عند تلاقي الأجسام إن كان بالأسر لزم التداخل وإلا فالانقسام (1)، وكذا الخط والنقطة.
(1) كما في النسخ كلها إلا (ص) ففيها: وإلا لزمه الانقسام. ولكنها تصحيح قياسي وتصرف وهمي من غير لزوم وضرورة. 305 وهذه الوجوه لا تخلو من دخل، أما الأول فإنما يلزم ذلك في الأعراض السارية، أما غيرها فلا. وأما الثاني فلأن النهاية ليست عدما محضا ولا فناء صرفا (1) لأن العدم لا يشار إليه، والأطراف يشار إليها بل هاهنا أمور ثلاثة: أحدها: السطح وهو مقدار ذو طول وعرض قابل للإشارة موجود. والثاني: فناء الجسم بمعنى انقطاعه في جهة معينة من جهات الامتداد وليس بعدم صرف بل هو عدم أحد أبعاد الجسم وهو ثخنه. والثالث: إضافة تعرض تارة للسطح فيقال: سطح مضاف إلى ذي السطح، وتارة للفناء فيقال: نهاية لجسم ذي نهاية، والإضافة عارضة لهما متأخرة عنهما، وقد يؤخذ السطح عاريا عن هذه الإضافة فيكون موضوعا لعلم الهندسة، وكذا البحث في الخط والنقطة. وأما الثالث فأن الجسمين (2) إذا التقيا عدم السطحان وصارا جسما واحدا إن اتصلا، وإن تماسا فالسطحان باقيان. قال: والجنس معروض التناهي وعدمه. أقول: يريد بالجنس الكم من حيث هو هو، فإنه جنس لنوعي المتصل والمنفصل، وهو الذي يلحقه لذاته التناهي وعدم التناهي عدم الملكة لا العدم المطلق، فإن العدم المطلق قد يصدق على الشئ الذي سلب عنه ما باعتباره يصدق أنه متناه كالمجردات. وإنما يلحقان أعني التناهي وعدمه العدم الخاص ما عدا الكم بواسطة الكم، فيقال للجسم أنه متناه أو غير متناه باعتبار مقداره، ويقال للقوة ذلك باعتبار عدد الآثار (3) وامتداد زمانها وقصره، ويقال للبعد
(1) وفي النسخ الست الأولى: ولا نفيا صرفا. (2) وفي عدة نسخ معتبرة: وعن الثالث أن الجسمين، ولكن سياق العبارة يقتضي ما اخترناه من نسخ أخرى. (3) وفي (م) باعتبار عدد الآنات، ولا معنى للآنات في المقام. 306 والزمان والعدد أنها متناهية أو غير متناهية لا باعتبار لحوق طبيعة بها بل لذاتها. قال: وهما اعتباريان. أقول: يريد به أن التناهي وعدمه من الأمور الاعتبارية لا العينية فإنه ليس في الخارج ماهية يقال لها أنها تناه أو عدم تناه، بل إنما يعقلان عارضين لغيرهما في الذهن. قال: الثاني الكيف ويرسم بقيود عدمية تخصه جملتها (1) بالاجتماع. أقول: لما فرغ من البحث عن الكم شرع في البحث عن الكيف وهو الثاني من الأعراض التسعة، وفيه مسائل: المسألة الأولى في رسمه إعلم أن الأجناس العالية لا يمكن تحديدها لبساطتها بل ترسم بأمور أعرف منها عند العقل، والرسم أنما يتألف من خواص الشئ وعوارضه، ولما كانت العوارض قد تكون عامة وقد تكون خاصة والعام لا يفيد التميز الذي هو أقل مراتب التعريف لم تصلح العوارض العامة للتعريف إلا إذا اختصت بالاجتماع بالماهية المرسومة، كما يقال في تعريف الخفاش: إنه الطائر الولود، ولما لم يوجد لهذا الجنس خاصة تفيد تصوره توصلوا إلى تعريفه بعوارض عدمية كل واحد منها أعم منه لكنها باجتماعها خاصة به، فقالوا في تعريفه: إنه هيئة قارة لا يتوقف تصورها على تصور غيرها ولا تقتضي القسمة واللاقسمة في محلها اقتضاء أوليا. فقولنا: هيئة، يشمل جميع الأعراض التسعة ويخرج عنها الجوهر. وقولنا: قارة، يخرج عنه الحركة وما ليس بقار من الأعراض. وقولنا: لا يتوقف تصورها على تصور غيرها، يخرج عنه الأعراض النسبية.
(1) وفي (م): تحصر جملتها. وفي (ت) تخص جملتها. 307 وقولنا: ولا تقتضي القسمة واللاقسمة في محلها، يخرج عنه الكم والوحدة والنقطة. وقولنا: اقتضاء أوليا، ليدخل في المحدود العلم بالأشياء التي لا تنقسم فإنه يقتضي اللاقسمة مع أنه من الكيف لأن اقتضاءه لذلك ليس أوليا بل لوحدة المعلوم. المسألة الثانية في أقسامه قال: وأقسامه أربعة. أقول: الكيف له أنواع أربعة: أحدها: الكيفيات المحسوسة كالسواد والحرارة، الثاني: الكيفيات المختصة بذوات الأنفس كالعلوم والإرادات والظنون، الثالث: الكيفيات الاستعدادية كالصلابة واللين، الرابع: الكيفيات المختصة بالكميات كالزوجية والانحناء والاستقامة وغيرها. المسألة الثالثة في البحث عن المحسوسات قال: فالمحسوسات إما إنفعاليات أو إنفعالات. أقول: الكيفيات المحسوسة إن كانت راسخة عسرة الزوال سميت انفعاليات لانفعال الحواس عنها أولا، وإن كانت غير راسخة بل سريعة الزوال سميت انفعالات وهي وإن لم تكن في أنفسها انفعالات لكنها لقصر مدتها وسرعة زوالها منعت اسم جنسها واقتصر في تسميتها على الانفعالات. المسألة الرابعة في مغايرة الكيفيات للأشكال والأمزجة قال: وهي مغايرة للأشكال لاختلافهما في الحمل.
308 أقول: ذهب قوم من القدماء إلى أن هذه الكيفيات نفس الأشكال، قالوا: لأن الأجسام تنتهي في التحليل إلى أجزاء صغار تقبل القسمة الوهمية لا الانفكاكية وتلك الأجزاء مختلفة في الأشكال، فالتي تحيط (1) بها أربعة مثلثات تكون مفرقة لاتصال العضو فيحس منها بالحرارة، والتي تحيط بها ستة مربعات تكون غليظة غير نافذة فيحس منها بالبرد، والذي يقطع العضو إلى أجزاء صغار ويكون شديد النفوذ هو المحرق الحريف والملاقي لذلك التقطيع هو الحلو، والذي ينفصل منه شعاع مفرق للبصر هو الأبيض، والذي ينفصل منه شعاع قابض للبصر هو السواد ويحصل من اختلاطهما باقي أنواع الألوان. والمحققون أبطلوا هذه المقالة بأن الأشكال والألوان مختلفة في المحمولات فيحمل على أحدهما بالايجاب ما يحمل على الآخر بالسلب فيلزم تغايرهما بالضرورة، وبيانه أن الأشكال ملموسة وغير متضادة والألوان متضادة غير ملموسة، وأيضا الأشكال مبصرة والحرارة والبرودة ليستا كذلك. قال: والمزاج لعمومها.
(1) أي الأجزاء التي تحيط بها.. الخ. وقوله الآتي: والذي يقطع، وكذا والذي ينفصل أي الجزء الذي كان كذلك. وعبارة النسخ مضطربة، وعبارة القوشجي في المقام موافقة للمختار، وصاحب الشوارق نقل عبارة القوشجي أيضا حرفا بحرف، قال: زعم جمع من الأوائل أن هذه الكيفيات نفس الأشكال قالوا: إن الأجسام ينتهي تحليلها إلى أجزاء صلبة قابلة للانقسام الوهمي دون الانقسام الفعلي، وزعموا أن تلك الأجزاء متخالفة الأشكال فالأجزاء التي يحيط بها أربع مثلثات تكون متحدة الأطراف مفرقة لاتصال العضو فتحس منها بالحرارة. والأجزاء التي يحيط بها ست مربعات تكون غليظة الأطراف غير نافذة في العضو فتحس منها بالبرودة. وكذا الحال في الطعوم فإن الجزء الذي يقطع العضو إلى أجزاء صغار وتكون شديدة النفوذ فيه هو الحريف، والجزء الذي يتلاقى هذا التقطيع هو الحلو. وكذا القول في الألوان فإن الجزء الذي ينفصل منه شعاع مفرق للبصر هو الأبيض، والذي ينفصل منه شعاع جامع للبصر هو الأسود، ويتحصل من اختلاط هذين النوعين من الشعاع الألوان المتوسطة بين السواد والبياض. 309 أقول: ذهب آخرون من الأوائل إلى أن الكيفيات هي الأمزجة وهو خطأ، لأن المزاج كيفية متوسطة بين الحار والبارد يحصل من تفاعلهما والحرارة والبرودة من الكيفيات الملموسة فيكون المزاج منها، فاللون والطعم مما ليس بملموس يكون مغايرا للمزاج وإن كان تابعا له لكن التابع مغاير للمتبوع. المسألة الخامسة في البحث عن الملموسات قال: فمنها أوائل الملموسات وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، والبواقي منتسبة إليها. أقول: لما كانت الكيفيات الملموسة أظهر عند الطبيعة لعمومها بالنسبة إلى كل حيوان قدم البحث عنها. واعلم أن الكيفيات الملموسة إما فعلية أو انفعالية أو ما ينسب إليهما، فالفعلية كيفيتان هما الحرارة والبرودة، والمنفعلة اثنتان هما الرطوبة واليبوسة، ونعني بالفعلية ما تفعل الصورة بواسطتها في المادة، وبالمنفعلة ما تنفعل المادة باعتبارها. وإنما كانت الأوليان فعليتين والأخريان منفعلتين وإن كانت المادة تنفعل باعتبارهما لأن الأوليين تفعلان في الأخريين دون العكس، وأما باقي الكيفيات الملموسة كاللطافة والكثافة واللزوجة والهشاشة والجفاف والبلة والثقل والخفة فإنها تابعة لهذه الأربعة. قال: فالحرارة جامعة للمتشاكلات، مفرقة للمختلفات، والبرودة بالعكس. أقول: الحرارة من شأنها إحداث الخفة والميل الصاعد ويحصل بسبب ذلك الحركة، فإذا وردت الحرارة على المركب وسخنته طلب الألطف الصعود قبل غيره لسرعة انفعاله فاقتضى ذلك تفريق أجزاء المركب المختلفة، فإذا صعد الألطف جامع مشاكله، فمن هاهنا قيل: إنها تقتضي جمع المتشاكلات وتفريق المختلفات، وأما البرودة فإنها بالعكس من ذلك.
310 قال: وهما متضادتان. أقول: الحرارة والبرودة كيفيتان وجوديتان بينهما غاية التباعد فهما متضادتان، ولم يخالف في هذا الحكم أحد من المحققين، وقد ذهب قوم غير محققين إلى أن البرودة عدم الحرارة عما من شأنه أن يكون حارا، فيكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة وهو خطأ، لأنا ندرك من الجسم البارد كيفية زائدة على الجسمية المطلقة والعدم غير مدرك، فالبرودة صفة وجودية. قال: وتطلق الحرارة على معان أخر مخالفة للكيفية في الحقيقة. أقول: لفظة الحرارة تطلق على معان: أحدها: الكيفية المحسوسة من حرارة النار، والثاني: الحرارة المناسبة للحياة وهي شرط فيها وتسمى الحرارة الغريزية (1) وهي مخالفة لتلك في الحقيقة لأن تلك مضادة للحياة والثانية شرط فيها، والثالث: حرارة الكواكب النيرة وهي مخالفة لما تقدم. قال: والرطوبة كيفية تقتضي سهولة التشكل، واليبوسة بالعكس. أقول: الرطوبة فسرها الشيخ بأنها كيفية تقتضي سهولة التشكل والاتصال والتفرق، والجمهور يطلقون الرطوبة على البلة لا غير فالهواء ليس برطب عندهم، وعند الشيخ أنه رطب وجعل البلة هي الرطوبة الغريبة الجارية على ظاهر الجسم، كما أن الانتفاع هو الرطوبة الغريبة النافذة إلى باطنه والجفاف عدم البلة عما من شأنه أن يبتل واليبوسة مقابلة للرطوبة. قال: وهما مغايرتان للين والصلابة. أقول: اللين والصلابة من الكيفيات الاستعدادية، فاللين كيفية يكون الجسم بها مستعدا للانغمار، ويكون للشئ بها قوام غير سيال فينفصل عن موضوعه ولا يمتد كثيرا ولا يتفرق بسهولة وإنما يكون قبوله للغمر من الرطوبة وتماسكه من
(1) الغريزية في قبال الغريبة. ويقال للغريزية: الروح البخاري. 311 اليبوسة والصلابة كيفية تقتضي مقابل ذلك. قال: والثقل كيفية تقتضي حركة الجسم إلى حيث ينطبق مركزه على مركز العالم إن كان مطلقا، والخفة بالعكس، ويقالان بالإضافة باعتبارين. أقول: لما كان الثقل والخفة من الكيفيات المحسوسة صادرتين عن الحرارة والبرودة بحث عنهما. واعلم أن كل واحد منهما يقال بمعنيين: حقيقي وإضافي، فالثقل الحقيقي كيفية تقتضي حركة الجسم إلى أسفل بحيث ينطبق مركزه على مركز العالم إذا لم يعقه عائق، والخفة بالعكس وهي كيفية تقتضي حركة الجسم إلى فوق بحيث يطفو على العناصر وينطبق سطحه على سطح الفلك إن لم يعقه عائق. وأما الإضافي فإنه يقال بمعنيين في كل واحد منهما، فالخفيف بالإضافة يقال بمعنيين: أحدهما الذي في طباعه أن يتحرك في أكثر المسافة الممتدة بين المركز والمحيط حركة إلى المحيط وقد يعرض له أن يتحرك عن المحيط ولا تتضاد هاتان الحركتان، والثاني الذي إذا قيس إلى النار نفسها كانت النار سابقة له إلى المحيط فهو عند المحيط ثقيل وخفيف بالإضافة. قال: والميل طبيعي وقسري ونفساني. أقول: الميل هو الذي يسميه المتكلمون اعتمادا، وينقسم بانقسام معلوله أعني الحركة إلى طبيعي كميل الحجر المسكن في الهواء والزق في الماء، وإلى قسري كميل الحجر إلى فوق عند قسره على الصعود، وإلى نفساني كميل الحيوان إلى الحركة حال اندفاعه الإرادي. قال: وهو العلة القريبة للحركة، وباعتباره يصدر عن الثابت متغير. أقول: الميل هو العلة القريبة للحركة، وباعتبار تحققه يصدر عن الثابت شئ متغير وذلك لأن الطبيعة أمر ثابت، وكذا القوة القسرية والنفسانية فيستحيل صدور الحركة المتغيرة عنها فلا بد من أمر يشتد ويضعف بسبب مصادمات الموانع الخارجية والداخلية هو الميل يصدر عن الطبيعة ويقتضي الحركة فيحصل
312 باشتداده سرعة الحركة وشدتها وبضعفه ضد ذلك. قال: ومختلفه متضاد. أقول: يشير إلى عدم إمكان اجتماع ميلين مختلفين، وذلك لأن الميل يقتضي الحركة إلى جهة والصرف عن أخرى، فلو اجتمع في الجسم ميلان لاقتضى حركته وتوجهه إلى جهتين مختلفتين وذلك غير معقول، نعم كما يجوز أن يجتمع في جسم واحد حركتان مختلفتان أحداهما بالذات والأخرى بالعرض، كذلك يجوز اجتماع ميل ذاتي وعرضي كحجر يحمله انسان متحرك فإن الثقل موجود فيه وهو ميله الذاتي حال خرق الهواء به وهو ميله العرضي الذي هو للانسان ذاتي، فإذا تجدد على ذي ميل طبيعي ميل قسري تقاوم السببان أعني الطبيعة والقاسر وحدث ميل القاهر منهما فإن كان القاسر غالبا أخذت الطبيعة والموانع الخارجية في إفنائه قليلا قليلا ثم تقوى الطبيعة ويأخذ الميل القسري في النقص والطبيعة في الزيادة إلى أن يتعادلا، فيبقى الجسم عديم الميل ثم تأخذ الطبيعة في الازدياد على التعادل فتوجد ميلا مشوبا بآثار الضعف (1) ثم يشتد الميل ويزداد الضعف فلا
(1) وفي (م ص): فتوجد ميلا مستويا بإزاء الضعف. وعبارته الآتية بعد بضع أسطر: فإذا فرضناه ممنوا بالمعاوقة: حرفت هكذا: محفوفا، وفي بعضها ممنوعا وفي بعضها مستوا، وفي بعضها بكلمات أخرى، ونظائر هذا التحريف في الكتاب كثيرة جدا. وكذا الإضافات التي هي إلحاقات الحواشي بالكتاب، وكذا الاسقاط الأخرى رأينا عدم التعرض بها أجدر وأولى واعلم أن عبارة المحقق الطوسي في شرحه على الإشارات المطبوع الرائج موافقة لما اخترناها حيث قال في شرح الفصل السادس من النمط الثاني: فإذا طرأ على جسم ذي ميل طبيعي بالفعل ميل قسري تقاوم السببان أعني القاسر والطبيعة فإن غلب القاسر وصارت الطبيعة مقهورة حدث ميل قسري وبطل الطبيعي، ثم تأخذ الموانع الخارجية والطبيعية معا في إفنائه قليلا قليلا وتقوى الطبيعة بحسب ذلك، ويأخذ الميل القسري في الانتقاص وقوة الطبيعة في الازدياد إلى أن تقاوم الطبيعة الباقي من الميل القسري فيبقى الجسم عديم الميل، ثم تجدد الطبيعة ميلها مشوبا بآثار الضعف الباقية فيها ويشتد الميل بزوال الضعف فيكون الأمر بين قوة الطبيعة والميل القسري قريبا من الامتزاج الحادث بين الكيفيات المتضادة (ص 49 ط شيخ رضا). 313 يمكن اجتماع ميلين طبيعي وقسري على حد الصرافة بل يكون الجسم أبدا ذا حال متوسط بين الميل القسري الشديد والطبيعي الشديد. قال: ولولا ثبوته لتساوى ذو العائق وعادمه. أقول: هذا إشارة إلى الدليل على وجود الميل الطبيعي في كل جسم (1) قابل للحركة القسرية، وتقريره أن المتحرك إذا كان خاليا عن المعاوقة وقطع بميله القسري مسافة ما فإنه يقطعها في زمان، فإذا فرضناه ممنوا بالمعاوقة قطعها في زمان أطول، فإذا فرضناه مع معاوقة أقل من الأولى على نسبة الزمانين قطعها في زمان مساو لزمان عديم المعاوقة، وذلك محال قطعا لامتناع تساوي زماني عديم المعاوقة وواجدها. قال: وعند آخرين هو جنس بحسب عدد الجهات ومتماثل ومختلف باعتبارها. أقول: لما فرغ من البحث عن الميل وأحكامه على رأي الأوائل شرع في
(1) هذا لو لم يكن القول بقوة جاذبة الأرض حاكما عليه. وقد ذهب ثابت بن قرة من علماء صدر الاسلام إلى القول بتجاذب الأرض كما نص به المتأله السبزواري في شرح الأسماء حيث قال في شرح الفصل السادس من الجوشن الكبير عند قوله عليه السلام: يا من استقرت الأرضون بإذنه: وقال ثابت بن قرة: سببه - أي سبب ميل الأجزاء الثقيلة من جميع الجوانب إلى المركز - طلب كل جزء موضعا يكون فيه قربه من جميع الأجزاء قربا متساويا إذ عنده ميل المدرة إلى السفل ليس لكونها طالبة للمركز بالذات بل لأن الجنسية منشأ الانضمام، فقال: لو فرض أن الأرض تقطعت وتفرقت في جوانب العالم ثم أطلقت أجزاؤها لكان يتوجه بعضها إلى بعض ويقف حيث يتهيأ تلاقيها (ص 53 ط 1) فبما قلنا دريت أن مذهب نيوتن في القوة الجاذبة للأرض ليس بمذهب بديع لم يكن قبل ولم يذهب إليه أحد وهو ممن نطق به وليس إلا. وأكثر الآراء الغربية الرائجة الدارجة في أصول المسائل العلمية كانت هكذا وما منها إلا وله أصل رصين في الصحف الاسلامية إلا أن الناس لغفلتهم عما في أيديهم يأكلون نعمهم ويشكرون الأغيار. 314 البحث عنه على رأي المتكلمين وهو جنس على رأيهم تحته ستة أنواع بحسب عدد الجهات الست ثم قالوا: إن منه ما هو متماثل وهو كل ما اختص بجهة واحدة لأن تساوي المعلول يستلزم تساوي العلة، ومنه مختلف وهو ما تعددت جهاته. واختلف أبو علي وأبو هاشم في مختلفه، فقال أبو هاشم: إنه غير متضاد لاجتماع الميلين في الحجر الصاعد قسرا وفي الحلقة التي يتجاذبها اثنان، وقال أبو علي: إنه متضاد. قال: ومنه الثقل وآخرون منهم جعلوه مغايرا. أقول: من أجناس الاعتماد عند أبي هاشم الثقل وهو الاعتماد اللازم الموجب للحركة سفلا، وقال أبو علي (1): إن الثقل راجع إلى تزايد أجزاء الجسم فجعله مغايرا لجنس الاعتماد، وهو خطأ لأن تزايد الأجزاء الحقيقية حاصل في الخفيف ولا ثقل له. قال: ومنه لازم ومفارق. أقول: ذهب المتكلمون إلى أن الاعتماد منه ما هو لازم وهو الاعتماد نحو الفوق والسفل، ومنه ما هو مفارق وهو المختلف (2) وهو المقتضي للحركة إلى إحدى الجهات الأربع، وإنما كان مفارقا لعدم وجوب وقوف الجسم في إحداها أو ذهابه عنها بخلاف الجهتين. قال: ويفتقر إلى محل لا غير (3). أقول: لما كان الاعتماد عرضا وكان كل عرض مفتقرا إلى محل كان الاعتماد مفتقرا إلى المحل، ولما امتنع حلول عرض في محلين كان الاعتماد كذلك، فلأجل
(1) هو أبو علي الجبائي المعتزلي. (2) كما في (م ق) والنسخ الأخرى: المجتلب. وقد تقدم ذكر المختلف في هذه المسألة غير مرة، وسيأتي أيضا. (3) أي يحتاج الاعتماد إلى محل واحد، أما إلى محل فلكونه عرضا، وأما إلى محل واحد فلامتناع حلول عرض في محلين، والقياس بالتأليف وهم. ومدافعة محله أي خفظه. 315 هذا قال: إنه يفتقر إلى محل لا غير. وبعض المتكلمين لما طعن في كلية الحكمين افتقر إلى الاستدلال عليهما هنا، واستدلوا على الأول بأن صفة ذاته وجوب مدافعة محله لصفة ذاته، فلو انتفى المحل انتفت صفة الذات وذلك يقتضي نفي الذات، وعلى الثاني بأنه يكون مساويا للتأليف لأن الافتقار إلى أزيد من محل واحد من خواص التأليف، والاشتراك في أخص الصفات يستلزم الاشتراك في الذات. قال: وهو مقدور لنا. أقول: ذهب المتكلمون إلى أن الاعتماد مقدور لنا، لأنه يقع بحسب دواعينا وينتفي بحسب صوارفنا فيكون صادرا عنا. قال: وتتولد عنه أشياء بعضها لذاته من غير شرط، وبعضها بشرط، وبعضها لا لذاته. أقول: قسم المتكلمون الاعتماد بالنسبة إلى ما يتولد عنه إلى أقسام ثلاثة، أحدها: ما يتولد عنه لذاته من غير حاجة إلى شرط وإن كان قد يحتاج إليه أحيانا وهو الأكوان والاعتماد في محله وإن كان يولدهما في غير محله بشرط التماس. وإنما قلنا: إنه يتولد عنه الأكوان، لأن الجسم يختص بجهة دون أخرى حال حركته فلا بد من مخصص لتلك الجهة وهو الاعتماد. وقلنا إنه يولد الاعتماد لوجود الحركة القسرية شيئا بعد شئ، فإن المتحرك يوجد (1) فيه الاعتماد والاعتماد يولد الحركة الأولى والاعتماد معا ثم إذا تحرك ولد الاعتماد حركة أخرى واعتمادا آخر. وثانيها: ما يتولد عنه بشرط ولا يصح بدونه وهو الأصوات فإنها تتولد عنه
(1) كما في (د، ش) وفي نسخ أخرى المحرك مكان المتحرك، ولكن الحق هو الأول، والأكوان هي الأكوان الأربعة على اصطلاح المتكلمين وهي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق. وسيأتي البحث عنها في مقولة الأين. 316 بشرط المصاكة لأن الصدى موجود في غير محل القدرة وما يتعدى محل القدرة لا يولده إلا الاعتماد وإذا كان ما يتعدى محل القدرة يتولد عن الاعتماد فما يحل محلها أولى. وثالثها: ما يتولد عنه لا بنفسه بل بتوسط وهو الألم والتأليف، فإن الاعتماد يولد المجاورة والتفريق، والمجاورة تولد التأليف، والتفريق يولد الألم. المسألة السادسة في البحث عن المبصرات قال: ومنها أوائل المبصرات وهي اللون والضوء. أقول: من الكيفيات المحسوسة المبصرات، وقد نبه بقوله: أوائل المبصرات على أن من المبصرات ما يتناوله الحس البصري أولا وبالذات وهو ما ذكره هنا من اللون والضوء، ومنها ما يتناوله بواسطة كغيرهما من المرئيات، فإن البصر إنما يدركها بواسطة هذين وهذا كما قال في الأول، ومنها أوائل الملموسات فإن فيه تنبيها على أن هناك كيفيات تدرك باللمس بواسطة غيرها. قال: ولكل منهما طرفان. أقول: لكل واحد من اللون والضوء طرفان، ففي اللون السواد والبياض وفي الضوء النور الخارق والظلمة، وما عدا هذه فإنها متوسطة بين هذه كالحمرة والخضرة والصفرة والغبرة وغيرها من الألوان وكالظل وشبهه من الأضواء. قال: وللأول حقيقة. أقول: ذهب من لا مزيد تحصيل له إلى أن الألوان لا حقيقة لها، فإن البياض المتخيل أنما يحصل من مخالطة الهواء للأجسام الشفافة المنقسمة إلى الأجزاء الصغار كما في زبد الماء والثلج، والسواد المتخيل أنما يتخيل لعدم غور الجسم (1)
(1) هذه هي العبارة الصحيحة. والعدم بضم العين وسكون الدال المهملتين. والغور بفتح الغين المعجمة، والضوء منصوب على المفعولية. وقد حرفت العبارة في النسخ المطبوعة بصور مشوهة. وعبارة الشيخ في الشفاء هكذا: قالوا فأما السواد فيتخيل لعدم غور الجسم وعمقه الضوء والإشفاف معا (أول الفصل الرابع من المقالة الثالثة من نفس الشفاء، ص 313 ج 1 ط 1). 317 الضوء. والشيخ اضطرب كلامه في البياض، فتارة جعله كيفية حقيقية وأخرى أنه غير حقيقية بل سبب حصوله ما ذكر. والحق أنه كيفية حقيقية قائمة بالجسم في الخارج لأنه محسوس كما في بياض البيض المسلوق فإنه ليس لنفوذ الهواء فيه لزيادة ثقله بعد الطبخ، وبالجملة فالأمور المحسوسة غنية عن البرهان. قال: وطرفاه السواد والبياض المتضادان. أقول: طرفا اللون هما السواد والبياض، وقيدهما بالمتضادين لأن الضدين هما اللذان بينهما غاية التباعد فلأجل ذلك ذكر هذا القيد في الطرفين، وهذا تنبيه على أن ما عداهما متوسط بينهما وليس نوعا قائما بانفراده كما ذهب إليه بعض الناس من أن الألوان الحقيقية خمسة: السواد والبياض والحمرة والصفرة والخضرة، ونبه بقوله: المتضادان على امتناع اجتماعهما خلافا لبعض الناس حيث ذهب إلى أنهما يجتمعان كما في الغبرة وهو خطأ. قال: ويتوقف على الثاني في الادراك لا الوجود. أقول: ذهب أبو علي ابن سينا إلى أن الضوء شرط وجود اللون، فالأجسام الملونة حال الظلمة تعدم عنها ألوانها لأنا لا نراها في الظلمة فإما أن يكون لعدمها وهو المراد، أو لحصول المانع وهو ما يقال من أن الظلمة كيفية قائمة بالمظلم مانعة من الأبصار وهو باطل وإلا لمنعت من هو بعيد عن النار عن مشاهدة القريب منها ليلا وليس كذلك وهو خطأ جدا، لأنا نقول: إنما لم تحصل الرؤية لعدم الشرط وهو الضوء لا لانتفاء المرئي في نفسه، ونبه المصنف على ذلك بقوله: ويتوقف - أي اللون - على الثاني - أي الضوء - في الإدراك لا الوجود.
318 قال: وهما متغايران حسا. أقول: يريد أن اللون والضوء متغايران خلافا لقوم غير محققين ذهبوا إلى أن الضوء هو اللون، قالوا: إن الظهور المطلق هو الضوء، والخفاء المطلق هو الظلمة، والمتوسط بينهما هو الظل، والحس يدل على المغايرة. قال: قابلان للشدة والضعف، المتباينان نوعا. أقول: كل واحد من هذين - أعني اللون والضوء - قابل للشدة والضعف وهو ظاهر محسوس، فإن البياض في الثلج أشد من البياض في العاج، وضوء الشمس أشد من ضوء القمر. إذا عرفت هذا فاعلم أن الشديد في كل نوع يخالف الضعيف منه بالنوع، وذهب قوم إلى أن سبب الشدة والضعف ليس الاختلاف بالحقيقة بل باختلاط بعض أجزاء الشديد بأجزاء الضد فيحصل الضعف وإن لم يختلط حصلت الشدة، وقد بينا خطأهم فيما تقدم. قال: ولو كان الثاني جسما لحصل ضد المحسوس. أقول: ذهب من لا تحصيل له إلى أن الضوء جسم، وسبب غلطه ما يتوهم من كونه متحركا بحركة المضئ، وإنما كان ذلك باطلا لأن الحس يحكم بافتقاره إلى موضوع يقوم به ولا يمكنه تجريده عن محل يقومه، فلو كان جسما لحصل ضد هذا الحكم المحسوس وهو قيامه بنفسه واستغناؤه عن موضوع يحل فيه. ويحتمل أن يكون قوله: لحصل ضد المحسوس، أن الضوء إذا أشرق على الجسم ظهر وكلما ازداد إشراقا ازداد ظهورا في الحس، فلو كان جسما لكان ساترا لما يشرق عليه فكان يحصل ضد المحسوس أعني ضد الاشراق، ويكون كلما ازداد إشراقه ازداد ستره، لكن الحس يشهد بضد ذلك. أو نقول: إن الحس يشهد بسرعة ظهور ما يشرق عليه الضوء، فإن الشمس إذا طلعت على وجه الأرض أشرقت دفعة واحدة، ولو كان الضوء جسما افتقر إلى زمان يقطع فيه هذه المسافة الطويلة فكان يحصل ضد السرعة المحسوسة، فهذه
319 الاحتمالات كلها صالحة لتفسير قوله: لحصل ضد المحسوس. وأما سبب وهم أولئك (1) من أنه متحرك فهو خطأ، لأن الضوء يحدث عند المقابلة لا أنه يتحرك من الجسم المقابل إلى غيره. قال: بل هو عرض قائم بالمحل معد لحصول مثله في المقابل. أقول: لما أبطل كونه جسما ثبت كونه عرضا قائما بالمحل، إذ العرض لا يقوم بنفسه وإذا قام بالمحل حصل منه استعداد للجسم المقابل لمحله لتكيفه بمثل كيفيته كما في الأجسام النيرة الحاصل منها النور في المقابل، وقد نبه بذلك على أن المضئ أنما يضئ ما يقابله. قال: وهو ذاتي وعرضي، أول وثان. أقول: الضوء منه ذاتي ومنه عرضي، وأيضا منه ما هو أول ومنه ما هو ثان، فالذاتي يسمى ضوءا بقول مطلق وأما العرضي وهو الحاصل من المضئ لذاته في غيره فإنه يسمى نورا، والأول من الضوء ما حصل عن المضئ لذاته، والثاني ما حصل عن المقابل له كالأرض قبل طلوع الشمس فإنها مضيئة لمقابلتها الهواء المضئ لمقابلة الشمس. قال: والظلمة عدم ملكة (2). أقول: الظلمة عدم الضوء عما من شأنه أن يكون مضيئا، ومثل هذا العدم المقيد بموضوع خاص يسمى عدم ملكة، وليست الظلمة كيفية وجودية قائمة
(1) باتفاق النسخ كلها وهو ناظر إلى قوله: وسبب غلطه ما يتوهم من كونه متحركا. (2) ولكن قال الأمام سيد الساجدين عليه السلام: سبحانك تسمع أنفاس الحيتان في قعور البحار، سبحانك تعلم وزن السماوات، سبحانك تعلم وزن الأرض (الأرضين - خ ل)، سبحانك تعلم وزن الشمس والقمر، سبحانك تعلم وزن الظلمة والنور، سبحانك تعلم وزن الفئ والهواء، سبحانك تعلم وزن الريح كم هي من مثقال ذرة. (الصحيفة الثانية السجادية مما جمعه المحدث الثقة الجليل صاحب الوسائل الشيخ الحر العاملي رضوان الله تعالى عليه ص 277 ط 1 مصر. وكان من دعائه عليه السلام في التسبيح). 320 بالمظلم كما ذهب إليه من لا تحقيق له، لأن المبصر لا يجد فرقا بين حالتيه عند فتح العين في الظلمة وبين تغميضها في عدم الإدراك، فلو كانت كيفية وجودية لحصل الفرق. وفي هذا نظر فإنه يدل على انتفاء كونها كيفية وجودية مدركة لا على أنها وجودية مطلقا (1). المسألة السابعة في البحث عن المسموعات قال: ومنها المسموعات وهي الأصوات الحاصلة من التموج المعلول للقرع والقلع. أقول: من الكيفيات المحسوسة الأصوات وهي المدركة بالسمع. واعلم أن الصوت عرض قائم بالمحل، وقد ذهب قوم غير محققين إلى أن الصوت جوهر (2) ينقطع بالحركة وهو خطأ، لأن الجوهر يدرك باللمس والبصر والصوت ليس كذلك. وذهب آخرون إلى أنه عبارة عن التموج الحاصل في الهواء من القلع أو القرع، وآخرون قالوا: إنه القلع أو القرع. وهذان المذهبان باطلان، وسبب غلطهم أخذ سبب الشئ مكانه فإن الصوت معلول للتموج المعلول للقرع أو القلع وليس هو أحدها لأنها تدرك بحس البصر بخلاف الصوت. إذا عرفت هذا فاعلم أن القلع أو القرع إذا حصل حدث تموج بين القارع والمقروع في الهواء وانتقل ذلك التموج إلى سطح الصماخ فأدرك الصوت، ولا نعني بذلك أن تموجا واحدا ينتقل بعينه إلى الصماخ بل يحصل تموج بعد تموج عن صدم بعد آخر كما في تموج الماء إلى أن يصل إلى الحس.
(1) وهي العبارة الصحيحة اتفقت النسخ الست الأصلية وما في المطبوعة: (لا على انتفاء كونها وجودية مطلقا) مصحفة جدا، وكم لها من نظير في الكتاب أعرضنا عن التعرض بها خوفا للإسهاب. (2) باتفاق النسخ الست الأولى: الصوت جواهر، على صيغة الجمع. 321 قال: بشرط المقاومة. أقول: القرع أنما يحصل معه الصوت إذا حصلت المقاومة بين القارع والمقروع، فإنك لو ضربت خشبة على وجه الماء بحيث تحصل المقاومة فإنه يحدث الصوت، ولو وضعتها عليه بسهولة لم يحصل الصوت، ولا يشترط الصلابة لحصول الصوت من الماء والهواء ولا صلابة هناك. قال: في الخارج. أقول: ذهب قوم إلى أن الصوت ليس بحاصل في الخارج بل إنما يحصل عند الصماخ، وهو ما إذا تموج الهواء وانتهى التموج إلى قرع سطح الصماخ فيحصل الصوت وهو خطأ، وإلا لم تدرك الجهة ولا البعد كما في اللمس حيث كان إدراكه بالملاقاة. ولا يمكن أن يقال: إن إدراك الجهة أنما كان لأن القرع توجه من تلك الجهة وإدراك البعد، لأن ضعف الصوت وقوته يدل على القرب والبعد (1) لأنا لو سددنا الأذن اليسرى لأدركنا باليمنى جهة الصوت الحاصل من الجهة اليسرى والضعف لو كان للبعد لم نفرق بين القوي البعيد والضعيف القريب. قال: ويستحيل بقاؤه لوجوب إدراك الهيئة الصورية. أقول: الصوت يستحيل عليه البقاء خلافا للكرامية، والدليل عليه أنا إذا سمعنا لفظة زيد (2) أدركنا الهيئة الصورية أعني ترتيب الحروف وتقديم بعضها على بعض، ولو كانت أجزاء الحروف باقية لم يكن إدراك هذا الترتيب أولى من باقي التركيبات الخمسة. قال: ويحصل منه آخر. أقول: الصوت أنما يحصل باعتبار التموج في الهواء الواصل إلى سطح
(1) تقدم كلامنا فيهما. (2) وفي (م): إذا وضعنا لفظة زيد، والتركيبات الخمسة هي غير كلمة زيد من حروف زيد وهي: يزد، ديز، زدي، دزي، يدز. 322 الصماخ، وقد بينا وجوده في الخارج فإذا تأدى التموج إلى جسم كثيف مقاوم لذلك التموج رده، فحصل منه تموج آخر وحصل من ذلك التموج الآخر صوت آخر هو الصدى، والظاهر أن هذا الصدى أنما يحصل من تموج الهواء الحاصل بين الهواء المتموج المتوجه إلى المقاوم وبين ذلك المقاوم لا من الهواء المتوجه بعد صدمه للمقابل وإن كان فيه احتمال، وكلام المصنف رحمه الله محتمل لهما لأن قوله: ويحصل منه آخر يحتمل كلا المعنيين. قال: وتعرض له كيفية مميزة، تسمى باعتبارها حرفا. قوله: تعرض للصوت كيفية يتميز بها عن صوت آخر مثله تميزا في المسموع يسمى الصوت باعتبار تلك الكيفية حرفا وهي حروف التهجي وحصرها غير معلوم بالبرهان. قال: إما مصوت أو صامت، متماثل أو مختلف بالذات أو بالعرض. أقول: تنقسم الحروف إلى قسمين (1): مصوت وصامت، فالمصوت هو حرف المد واللين أعني الواو والألف والياء، وهي أنما تحصل في زمان، وإما صامت وهو ما عداها. والصامت إما متماثل كالجيم والجيم أو مختلف، والمختلف إما بالذات كالجيم والحاء أو بالعرض وهو إما أن يكون أحد الجيمين مثلا ساكنا والآخر متحركا أو يكون أحدهما متحركا بحركة والآخر بضدها. قال: وينتظم منها الكلام بأقسامه. أقول: هذه الحروف المسموعة إذا تألفت تأليفا مخصوصا أي بحسب الوضع سميت كلاما، فحد الكلام على هذا هو ما انتظم من الحروف المسموعة ويدخل
(1) ينبغي التوجه إلى التميز بين الحروف المصوتة أو الصامتة هاهنا وبين ما في العلم الارثماطيقي، لأن في ذلك العلم اصطلاحا آخر في الصامتة ففيه تسمى أربعة عشر حرفا صامتة تجمعها هذه الكلمات الأربع: أحد، رسص، طعكل، موهلا. وذكروا لها خواص وآثارا معجبة وراجع في المقام الأسفار أيضا (ج 2 ط 1 ص 33). 323 فيه المفرد وهو الكلمة الواحدة، والمؤلف التام وهو المحتمل للصدق والكذب، وغير المحتمل لهما من الأمر والنهي والاستفهام والتعجب والنداء وغير التام التقييدي وغيره، وإلى هذا أشار بقوله: بأقسامه. قال: ولا يعقل غيره (1).
(1) رد على الأشاعرة إعلم أنما الأوائل ذهبوا - من قوله سبحانه: (وكلم الله موسى تكليما) ونحوه - إلى القول بأن الله متكلم والقرآن كلام الله ثم إلى أن القرآن قديم، إجلالا للقرآن ثم اقتفاهم الأشاعرة فانجر الأمر إلى أن أفتوا بأن من قال بخلق القرآن أي حدوثه فهو مبدع بل كافر. ثم لما قابلوا الاعتراضات الكثيرة من أرباب العقول القائلين بأن القرآن مخلوق أي حادث تمسكوا لتثبيت اعتقادهم وإنفاذه ردا على المعترضين عليهم بالكلام النفسي. وقالوا: إن الكلام نفسي ولفظي، والقرآن كلام قديم بالمعنى الأول، والثاني المخلوق الحادث دال عليه وهذا متصرم الحدوث دون الأول. ثم لما واجهوا اعتراضات القول في الكلام النفسي بأنه أي نحو من الكلام تمسكوا بأنه كلام ليس بخبر ولا أمر ولا نهي ولا يدخل فيه ماض ولا حال ولا استقبال ولا غيرها من أحكام الكلام اللفظي ولا أحكام الكلام الخيالي. وقد تمسك الفخر الرازي في المحصل في إثبات الكلام النفسي بقول الأخطل (ص 126 ط الآستانة): إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا وقال المصنف أعني المحقق الطوسي في نقد المحصل ردا عليه: الاستدلال بهذا البيت ركيك وهو يقتضي أن يقال للأخرس: متكلم، لكونه بهذه الصفة. وقال في النقد أيضا: فقد صارت مسألة قدم الكلام إلى أن قام العلماء وقعدوا وضرب الخلفاء الأكابر لأجلها بالسوط بل بالسيف مبتنية على هذا البيت الذي قاله الأخطل، والأعجب تكفيرهم من يأبى القول بهذا الأمر المحال. وقد أصر الفخر في محصله بأن كلام الله تعالى قديم وهو إمام الأشاعرة، ومرادهم من الكلام هذا هو النفسي. وقال شارح المقاصد: وعلى البحث والمناظرة في ثبوت الكلام النفسي وكونه هو القرآن ينبغي أن يحمل ما نقل من مناظرة أبي حنيفة وأبي يوسف ستة أشهر ثم استقر رأيهما على أن من قال بخلق القرآن فهو كافر. وفي شرح القوشجي: الحنابلة قالوا: كلامه تعالى حروف وأصوات يقومان بذاته وأنه قديم، وقد بالغوا فيه حتى قال بعضهم جهلا: الجلد والغلاف أيضا قديمان فضلا عن المصحف. وفي الملل والنحل للشهرستاني: قال أبو الحسن الأشعري: الباري تعالى متكلم بكلام وكلامه واحد، والعبارات والألفاظ المنزلة على لسان الملائكة إلى الأنبياء عليهم السلام دلالات على الكلام الأزلي والدلالة مخلوقة محدثة والمدلول قديم أزلي، والفرق بين القراءة والمقرو والتلاوة والمتلو كالفرق بين الذكر والمذكور، فالذكر محدث والمذكور قديم. انتهى ملخصا (ص 96 ج 1 ط مصر). فما يعني بقوله: وكلامه واحد؟ فإن أراد علمه البسيط الأحدي القرآني الجمعي فلم يجعل الكلام قسيم العلم، ثم ما يعني في قوله: والعبارات والألفاظ المنزلة على لسان الملائكة. والأمر: أرفع من هذه الأقاويل، وبعض إشاراتنا في رسالتنا الفارسية المسماة بالقرآن والانسان يجديك في المقام. وبالجملة إن أرادوا بالكلام النفسي علمه الأزلي الذاتي البسيط الأحدي القرآني الجمعي، وباللفظي الفرقان المحدث الكتبي أو اللفظي وإلا فلا فائدة في قيل وقال. 324 أقول: يريد أن الكلام أنما هو المنتظم من الحروف المسموعة ولا يعقل غيره وهو ما أطبق عليه المعتزلة. والأشاعرة أثبتوا معنى آخر سموه الطلب والكلام (1) النفساني غير مؤلف من الحروف والأصوات يدل هذا الكلام عليه وهو مغاير للإرادة، لأن الانسان قد يأمر بما لا يريد إظهارا لتمرد العبد عند السلطان فيحصل عذره في ضربه، ومغاير لتخيل الحروف لأن تخيلها تابع لها ومختلف باختلافها، وهذا المعنى لا يختلف وظاهر أنه مغاير للحياة والقدرة وغيرهما من الأعراض، والمعتزلة بالغوا في إنكار هذا المعنى وادعوا الضرورة في نفيه وقالوا: الأمر أنما يعقل مع الإرادة وليس الطلب مغايرا لها (2) وحينئذ يصير النزاع هنا لفظيا. المسألة الثامنة في البحث عن المطعومات قال: ومنها المطعومات التسع الحادثة من تفاعل الثلاث في مثلها.
(1) كما في (م)، والنسخ الأخرى خالية عن الطلب إلا الثانية منها بعد كتابته مد على وجهه خط البطلان. ولكن ذيل الشرح يؤيد ما في نسخة (م) حيث يقول: وليس الطلب مغايرا لها. (2) وهذا البحث عن الطلب والإرادة تطرق في أصول الفقه أيضا، وقد بسطوا الكلام فيهما في كتبهم غاية البسط بل ألفوا فيه رسائل. 325 أقول: المشهور عند الأوائل أن الجسم إن كان عديم الطعم فهو التفه، وتعد التفاهة من الطعوم التسعة، وإن كان ذا طعم لم ينفك عن أحد الطعوم الثمانية وهي: الحلاوة والحموضة والملوحة والحرافة والمرارة والعفوصة والقبض والدسومة. وهذه الطعوم التسعة تحصل من تفاعل ثلاث كيفيات هي: الحرارة والبرودة والكيفية المعتدلة في مثلها في العدد، أعني ثلاث كيفيات لا مثلها في الحقيقة وهي: الكثافة واللطافة والكيفية المعتدلة. فإن الحار إن فعل في الكثيف حدثت المرارة، وفي اللطيف الحرافة، وفي المعتدل الملوحة. والبارد إن فعل في الكثيف حدثت العفوصة، وفي اللطيف الحموضة، وفي المعتدل القبض. والمعتدل إن فعل في اللطيف حدثت الدسومة، وفي الكثيف الحلاوة، وفي المعتدل التفاهة. المسألة التاسعة في البحث عن المشمومات قال: ومنها المشمومات ولا أسماء لأنواعها إلا من حيث الموافقة والمخالفة. أقول: من أنواع الكيفيات المحسوسة الروائح المدركة بحاسة الشم، ولم يوضع لأنواعها أسماء مختصة بها كما وضعوا لغيرها من الأعراض، بل ميزوا بينها من حيث الموافقة والمخالفة، فيقال: رائحة طيبة ورائحة منتنة، أو من حيث إضافتها إلى المحل كرائحة المسك. المسألة العاشرة في البحث عن الكيفيات الاستعدادية قال: والاستعدادات المتوسطة بين طرفي النقيض. أقول: لما فرغ من البحث عن الكيفيات المحسوسة شرع في القسم الثاني من أقسام الكيف الأربعة وهي الكيفيات الاستعدادية وهي ما يترجح به القابل في
326 أحد جانبي قبوله وهي متوسطة بين طرفي النقيض - أعني الوجود والعدم - وذلك لأن الرجحان لا يزال يتزايد في أحد طرفي الوجود والعدم إلى أن ينتهي إليهما، فذلك الرجحان القابل للشدة والضعف المتوسط بين طرفي الوجود والعدم هو الكيف الاستعدادي وطرفاه الوجود والعدم، وهذا الرجحان إن كان نحو الفعل فهو القوة، وإن كان نحو الانفعال فهو اللاقوة. المسألة الحادية عشرة في البحث عن الكيفيات النفسانية قال: والنفسانية حال أو ملكة. أقول: هذا هو القسم الثالث من أقسام الكيف وهو الكيفيات النفسانية، ونعني بها المختصة بذوات الأنفس وهي إما أن تكون سريعة الزوال وتسمى حالا لسرعة زوالها، وإما بطيئة الزوال وتسمى ملكة، والفرق بينهما ليس بفصول مميزة بل بعوارض خارجية وربما كان الشئ حالا ثم صار بعينه ملكة. المسألة الثانية عشرة في البحث عن العلم بقول مطلق قال: منها العلم وهو إما تصور أو تصديق (1) جازم مطابق ثابت.
(1) العلم المقسم للتصور والتصديق هو الحصولي الارتسامي لا مطلق العلم. والبحث عن العلم على شعوبه من أغمض المسائل الحكمية، ولنا رسالة فيه لعلها مفيدة في موضوعها. ثم عد العلم من الكيفيات فيه ما فيه لأن الكيف عرض والعرض لا يكون مؤثرا في حقيقة الموضوع وجوهره والعلم يخرج النفس من الظلمة إلى النور ويصير عينها وأنى للعرض هذه الشأنية؟! بل العلم من حيث إنه يجعل وجود النفس قويا ويخرجها من الضيق إلى السعة فهو من حيث الوجود خارج عن المقولات. اللهم إلا أن يقال: مفهومه كيف نفساني، تفصيل البحث يطلب في رسالتنا في العلم. 327 أقول: من الكيفيات النفسانية العلم، وقسمه إلى التصور وهو عبارة عن حصول صورة الشئ في الذهن، وإلى التصديق الجازم المطابق الثابت وهو الحكم اليقيني بنسبة أحد المتصورين إلى الآخر إيجابا أو سلبا. وإنما شرط في التصديق الجزم لأن الخالي منه ليس بعلم بهذا المعنى وإن كان قد يطلق عليه اسم العلم بالمجاز وأنما هو الظن، وشرط المطابقة لأن الخالي منها هو الجهل المركب، وشرط الثبات لأن الخالي منه هو التقليد، أما الجامع لهذه الصفات فهو العلم خاصة. قال: ولا يحد. أقول: اختلف العقلاء في العلم، فقال قوم: إنه لا يحد لظهوره، فإن الكيفيات الوجدانية لظهورها لا يمكن تحديدها لعدم انفكاكه عن تحديد الشئ بالأخفى والعلم منها، ولأن غير العلم إنما يعلم بالعلم فلو علم العلم بغيره لزم الدور. وقال آخرون: يحد. فقال بعضهم: إنه اعتقاد أن الشئ كذا مع اعتقاد أنه لا يكون إلا كذا. وقال آخرون: إنه اعتقاد يقتضي سكون النفس، وكلاهما غير مانعين. قال: ويقتسمان الضرورة والاكتساب. أقول: يريد أن كل واحد من التصور والتصديق ينقسم إلى الضروري والمكتسب، يريد بالضروري من التصور ما لا يتوقف على طلب وكسب، ومن التصديق ما يكفي تصور طرفيه في الحكم بنسبة أحدهما إلى الآخر إيجابا أو سلبا، وبالمكتسب ضد ذلك فيهما. المسألة الثالثة عشرة في أن العلم يتوقف على الانطباع قال: ولا بد فيه من الانطباع (1).
(1) بل الأمر أرفع من الانطباع. وقول الشارح: لا تحقق لها في الخارج، كثيرا ما يراد من الخارج نفس الأمر، فالصور العلمية المحققة لها نفسية في متن الحقائق الوجودية بمراتبها ومدارجها، ثم إن استدلالهم هذا من إحدى الدلالات على إثبات الوجود الذهني على مذاق القوم. 328 أقول: اختلف العلماء في ذلك، فذهب جمهور الأوائل إلى أن العلم يستدعي انطباع المعلوم في العالم وأنكره آخرون، احتج الأولون بأنا قد ندرك أشياء لا تحقق لها في الخارج، فلو لم تكن منطبعة في الذهن كانت عدما صرفا ونفيا محضا فيستحيل الإضافة إليها. واحتج الآخرون بوجهين: الأول: أن التعقل لو كان هو حصول صورة المعقول في العاقل لزم أن يكون الجدار المتصف بالسواد متعقلا له، والتالي باطل فكذا المقدم. الثاني: أن الذهن قد يتصور أشياء متقدرة فيلزم حصول المقدار فيه فيكون متقدرا، والجواب عنهما سيأتي. قال: في المحل المجرد القابل (1). أقول: هذا إشارة إلى الجواب عن الإشكالين، وتقريره أن المحل الذي جعلناه عاقلا مجرد عن المواد كلها، والمجرد لا يتصف بالمقدار باعتبار حلول صورته فيه، فإن صورة المقدار لا يلزم أن تكون مقدارا، وأيضا هذه الصورة القائمة بالعاقل حالة في محل قابل لها فلهذا كان عاقلا لها، أما الجسم فليس محلا قابلا لتعقل السواد فلا يلزم أن يكون متعقلا له. قال: وحلول المثال مغاير. أقول: هذا إشارة إلى كيفية حلول الصورة في العاقل، وتقريره أن الحال في العاقل أنما هو مثال المعقول وصورته (2) لا ذاته ونفسه، ولهذا جوزنا حصول
(1) القبول والانطباع والارتسام ونظائرها رائجة في ألسنة المشاء، والأمر كما قلنا فوق هذه العبارات، ثم إن العلم صورة عارية عن المادة وأحكامها فوعاؤه أعم من الواهب والمتهب يجب أن يكون من سنخه، فالنفس ومخرجها من النقص والكمال ليسا من هذه النشأة الأولى الطبيعية. (2) الصورة بمعنى ما هو الشئ بالفعل فالعلم هو إدراك النفس صورة الشئ بهذا المعنى وعطف على المثال الصورة ليفيد أن المثال بمعنى ما هو الشئ بالفعل. وراجع في تفصيل ذلك الفصل السابع من نفس الإشارات حيث يقول الشيخ: إدراك الشئ هو أن يكون حقيقته متمثلة عند المدرك يشاهدها ما به يدرك. والى بيان الخواجة في الشرح حيث يقول: يقال تمثل كذا عند كذا إذا حضر منتصبا عنده بنفسه أو بمثاله. والى الفصل التاسع من النمط السادس منه حيث يقول: لا تجد إن طلبت مخلصا إلا أن تقول أن تمثل النظام الكلي في العلم السابق مع وقته الواجب اللائق يفيض منه ذلك النظام على ترتيبه.. الخ. والى الفصل التاسع من النمط الثامن منه حيث يقول: وكمال الجوهر العقل أن تتمثل فيه جلية الحق الأول قدر ما يمكنه أن ينال منه ببهائه الذي يخصه ثم يتمثل فيه الوجود كله على ما هو عليه مجردا عن الشوب.. الخ. ومع الغور والخوض في تلك الكلمات الكاملة تحصل أن ما شنع القوم على المشاء بأنهم ذهبوا إلى أن ذات الأول تعالى محل الصور والارتسام ليس على ما ينبغي، فإن التشنيع يرد عليهم لو كان المثال بمعنى الشبح والشكل ونحوهما، فتدبر. 329 صورة الأضداد في النفس ولم نجوز حصول الأضداد في محل واحد في الخارج، فعلم أن حلول مثال الشئ وصورته مغاير لحلول ذلك الشئ، ولما كان هذا الكلام مما يستعان به على حل ما تقدم من الشكوك ذكره عقيبه. قال: ولا يمكن الاتحاد (1). أقول: ذهب قوم من أوائل الحكماء إلى أن التعقل أنما يكون باتحاد صورة المعقول والعاقل وهو خطأ فاحش فإن الاتحاد محال على ما تقدم، ويلزمه أيضا المحال من وجه آخر وهو اتحاد الذوات المعقولة. وكذلك ذهب آخرون إلى أن التعقل يستدعي اتحاد العاقل بالعقل الفعال وهو خطأ لما تقدم ولاستلزامه تعقل كل شئ عند تعقل شئ واحد. قال: ويختلف باختلاف المعقول. أقول: اختلف الناس هنا، فذهب قوم إلى جواز تعلق علم واحد بمعلومين
(1) بل الاتحاد محقق وليس إلا. وكتابنا دروس اتحاد العاقل بالمعقول كافل أنحاء المباحث عنه في المسألتين أي مسألة اتحاد صورة المعقول والعاقل، ومسألة اتحاد العاقل بالعقل الفعال. 330 ومنعه آخرون وهو الحق، لأنا قد بينا أن التعقل هو حصول صورة مساوية للمعلوم في العالم، وصور الأشياء المختلفة تختلف باختلافها فلا يمكن أن تكون صورة واحدة لمختلفين فلا يتعلق علم واحد باثنين وإنما جوز ذلك من جعل العلم أمرا وراء الصورة. قال: كالحال والاستقبال. أقول: هذا إشارة إلى إبطال مذهب جماعة من المعتزلة ذهبوا إلى أن العلم بالاستقبال علم بالحال عند حضور الاستقبال، فقالوا: إن العلم بأن الشئ سيوجد علم بوجوده إذا وجد. وإنما دعاهم إلى ذلك ما ثبت من أن الله تعالى عالم بكل معلوم، فإذا علم أن زيدا سيوجد ثم وجد فإن زال العلم الأول وتجدد علم آخر لزم كونه تعالى محلا للحوادث وإن لم يزل كان هو المطلوب. وهذا خطأ فاحش فإن العلم بأن الشئ سيوجد علم بالعدم الحالي والوجود في ثاني الحال، والعلم بأن الشئ موجود غير مشروط بالعدم الحالي بل هو مناف له فيستحيل اتحادهما. والوجه في حل الشبهة المذكورة ما التزمه أبو الحسين هنا من أن الزائل هو التعلقات الحاصلة بين العلم والمعلوم لا العلم نفسه، وسيأتي زيادة تحقيق في هذا الموضع (1) إن شاء الله تعالى. قال: ولا يعقل إلا مضافا فيقوى الإشكال مع الاتحاد. أقول: اعلم أن العلم وإن كان من الكيفيات الحقيقية القائمة بالنفس فإنه لا يعقل إلا مضافا إلى الغير، فإن العلم علم بالشئ ولا يعقل تجرده عن الإضافة حتى أن بعضهم توهم أنه نفس الإضافة (2) الحاصلة بين العالم والمعلوم ولم يثبت
(1) كما في (م ش ز د) وفي (ص) وحدها: في هذا الموضوع. (2) وهو الفخر الرازي وأتباعه، قال الفخر: لست أفتي أن العلم من أي مقولة إن لم يكن من مقولة الإضافة، إنتهى. أقول: لو سئل الفخر عن علمه بنفسه فيقال له: هل العلم حاصل لنفسك بذاتها أم لا؟ فيقر بعدم الإضافة لأن بين الشئ ونفسه لا يتحقق إضافة. ثم العجب أنه كيف ذهب إلى أن أشرف البضاعة الانسانية هو أضعف المقولات الاعتباري، وإنما ذهب في العلم إلى الإضافة ليندفع عنه بعض الشكوك الموردة على كون الادراك صورة وتفصيل ذلك يطلب في شرح الخواجة على الفصل السابع من نفس الإشارات في العلم. قال صدر المتألهين في الفصل الحادي عشر من الطرف الأول من المسلك الخامس من الأسفار (ج 1 ط 1 ص 288) والعجب من هذا المسمى بالإمام كيف زلت قدمه في باب العلم حتى صار الشئ الذي به كمال كل حي وفضيلة كل ذي فضل والنور الذي يهتدي به الانسان إلى مبدئه ومعاده، عنده من أضعف الأعراض وأنقص الموجودات التي لا استقلال لها في الوجود؟ أما تأمل في قوله تعالى في حق السعداء: (نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم)؟ أما تدبر في قول الله سبحانه ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور)؟ وفي قوله: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون)؟ ألم ينظر في معنى قول رسوله عليه وآله السلام: الإيمان نور يقذفه الله في قلب المؤمن؟ فهذا وأمثاله كيف تكون حقيقتها حقيقة الإضافة التي لا تحصل لها خارجا وذهنا إلا بحسب تحصل حقيقة الطرفين؟!. وقال في الفصل الرابع من القسم الثاني من الجواهر والأعراض من الأسفار (ج 2 ط 1 ص 39): قال فخر المناظرين - إلى قوله: - وأما العلم والإدراك مطلقا فليس كما زعمه هذا النحرير - يعني به فخر المناظرين - عبارة عن إضافة محضة بين العالم ومعلومه من غير حاجة إلى وجود صورة، وإلا فلم يكن منقسما إلى التصور والتصديق، ولا أيضا متعلقا بالمعدوم حين عدمه، ولا أيضا حصل علم الشئ بنفسه، إذ لا إضافة بين الشئ والمعدوم، ولا بينه وبين نفسه، بل المراد بالعلم هو نفس الصورة الموجودة المجردة.. الخ. 331 أمرا حقيقيا مغايرا للإضافة. إذا عرفت هذا فإن الأشكال يقوى مع الاتحاد هكذا قاله المصنف رحمه الله والذي يلوح منه أن العاقل والمعقول إذا كانا شيئا واحدا كما إذا عقل نفسه توجه الإشكال عليه بأن يقال: أنتم قد جعلتم العلم صورة مساوية للمعلوم في العالم، وهذا لا يتأتى هاهنا لاستحالة اجتماع الأمثال، ويقوى الإشكال باعتبار الإضافة إذ الإضافة أنما تعقل بين شيئين لا بين الشئ الواحد ونفسه فلا يتحقق علم الشئ بذاته. والجواب عن الأول أن العلم أنما يستدعي الصورة لو كان العالم عالما بغيره، أما عالم ذاته فإن ذاته يكفي في علمه من غير احتياج إلى صورة أخرى. وعن الثاني أن العاقل من حيث أنه عاقل مغاير له من حيث إنه معقول
332 فأمكن تحقق الإضافة، ولأن العالم هو الشخص والمعلوم هو الماهية الكلية. وهذان رديان، أما الأول فلأن المغايرة بين العاقل من حيث إنه عاقل والمعقول من حيث إنه معقول متوقفة على التعقل، فلو جعلنا التعقل متوقفا على هذا النوع من التغاير دار. وأما الثاني فلأن العالم هاهنا يكون عالما بجزئه وليس البحث فيه. قال: وهو عرض (1) لوجود حده فيه. أقول: ذهب المحققون إلى أن العلم عرض وأكثر الناس كذلك في العلم بالعرض، واختلفوا في العلم بالجوهر فالذين قالوا: إن العلم إضافة بين العالم والمعلوم، قالوا: إنه عرض أيضا. والذين قالوا: إن العلم صورة اختلفوا فقال بعضهم: إنه جوهر لأن حده صادق عليه إذ الصورة الذهنية ماهية إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضوع وهذا معنى الجوهر، والمحققون قالوا: إنه عرض أيضا لوجود حد العرض فيه فإنه موجود حال في النفس لا كجزء منها وهذا معنى العرض. واستدلال القائلين بأنه جوهر خطأ، لأن الصورة الذهنية يمتنع وجودها في الخارج وإنما الموجود ما هي مثال له. المسألة الرابعة عشرة في أقسام العلم قال: وهو فعلي وانفعالي وغيرهما. أقول: العلم منه ما هو فعلي وهو المحصل للأشياء الخارجية كعلم واجب الوجود تعالى بمخلوقاته، وكما إذا تصورنا نقشا لم نستفد صورته من الخارج ثم أوجدنا في الخارج ما يطابقه، ومنه انفعالي وهو المستفاد من الأعيان الخارجية كعلمنا بالسماء والأرض وأشباههما، ومنه ما ليس أحدهما كعلم واجب الوجود
(1) بل هو فوق المقولة وجودا. 333 تعالى بذاته. قال: وضروري أقسامه ستة، ومكتسب. أقول: قد تقدم أن العلم إما ضروري وإما كسبي، ومضى تفسيرهما، وأقسام الضروري ستة: البديهيات وهي قضايا يحكم بها العقل لذاته لا لسبب خارجي سوى تصور طرفيها كالحكم بأن الكل أعظم من الجزء وغيره من البديهيات. الثاني: المشاهدات وهي إما مستفادة من حواس ظاهرة كالحكم بحرارة النار أو من الحواس الباطنة وهي القضايا الاعتبارية بمشاهدة قوى غير الحس الظاهر، أو بالوجدان من النفس لا باعتبار الآلات مثل شعورنا بذواتنا وبأفعالنا. الثالث: المجربات وهي قضايا تحكم بها النفس باعتبار تكرار المشاهدات كالحكم بأن الضرب بالخشب مؤلم، وتفتقر إلى أمرين المشاهدة المتكررة والقياس الخفي وهو أنه لو كان الوقوع على سبيل الاتفاق لم يكن دائما ولا أكثريا، والفارق بين هذه وبين الاستقراء هو القياس. الرابع: الحدسيات وهي قضايا مبدأ الحكم بها حدس قوي من النفس يزول معه الشك كالحكم باستفادة نور القمر من الشمس، وتفتقر إلى المشاهدة المتكررة والقياس الخفي إلا أن الفارق بين هذه وبين المجربات أن السبب في المجربات معلوم السببية غير معلوم الماهية، وفي الحدسيات معلوم بالاعتبارين. الخامس: المتواترات وهي قضايا تحكم بها النفس لتوارد أخبار المخبرين عليها بحيث يزول معه الشك بعدم الاتفاق بين المخبرين والتواطؤ. السادس: فطرية القياس وهي قضايا تحكم بها النفس باعتبار وسط لا ينفك الذهن عنه. قال: وواجب وممكن. أقول: العلم ينقسم إلى واجب وهو علم واجب الوجود بذاته، وإلى ممكن وهو ما عداه، وإنما كان الأول واجبا لأنه نفس ذاته الواجبة.
334 قال: وهو تابع (1) بمعنى أصالة موازيه (2) في التطابق. أقول: إعلم أن التابع يطلق على ما يكون متأخرا عن المتبوع، وعلى ما يكون مستفادا منه، وهما غير مرادين في قولنا: العلم تابع للمعلوم، فإن العلم قد يتقدم المعلوم زمانا وقد يفيد وجوده كالعلم الفعلي. وإنما المراد هنا كون العلم والمعلوم متطابقين بحيث إذا تصورهما العقل حكم بأصالة المعلوم في هيئة التطابق وأن العلم تابع له وحكاية عنه وأن ما عليه العلم فرع على ما عليه المعلوم، وعلى هذا التقدير يجوز تأخر المعلوم الذي هو الأصل عن تابعه فإن العقل يجوز تقدم الحكاية على المحكي. قال: فزال الدور. أقول: الذي يفهم من هذا الكلام أمران: أحدهما: أن يقال: قد قسمتم العلم إلى أقسام من جملتها الفعلي الذي هو العلة في وجود المعلوم، وهاهنا جعلتم جنس العلم تابعا فلزمكم الدور، إذ تبعية الجنس تستلزم تبعية أنواعه. وتقرير الجواب عن هذا أن نقول: نعني بتبعية العلم ما قررناه من كون العلم والمعلوم متطابقين على وجه إذا تصورهما العقل حكم بأن الأصل في هيئة التطابق هو ما عليه المعلوم وأن
(1) وبمعنى آخر العلم تابع حيث يعطي الأعيان الثابتة ما يطلبه كل واحد منها باقتضاء عينه الثابت فلا دور، والبحث عنه يطلب في عدة مواضع من شرح القيصري على فصوص الحكم (ص 17، 104، 179، 200، 270 ط 1) وفي مصباح الأنس (ص 83 ط 1). (2) كما في (م ز). وهو الصواب على موازاة قوله الآتي في المسألة الرابعة عشرة من الفصل الثالث من المقصد الثالث: (فلا يجوز تمكين الظالم من الظلم من دون عوض في الحال يوازي ظلمه). باتفاق النسخ كلها، ص 354. وفي (ت): موازنه، بالنون، وفي (ش): موازنته. وفي (د): موازاته. وفي بعض النسخ: مقارنه. ويؤيد المختار تعبير الشيخ في إلهيات الشفاء (ج 2 ط 1 ص 636) حيث قال في كمال النفس الناطقة: فتنقلب عالما معقولا موازيا للعالم الموجود كله. وكذا قوله في رابع النمط الخامس من الإشارات: مثل هذا الاتصال الذي يوازي الحركات في المقادير. 335 ما عليه العلم فرع عليه (1)، ووجه الخلاص من الدور بهذا التحقيق أن العلم الفعلي محصل للمعلوم في الخارج لا مطلقا. الثاني: أن يقال: المتبوع يجب أن يتقدم التابع بأحد أنواع التقدم الخمسة، وهاهنا لا تقدم بالشرف ولا بالوضع لأنهما غير معقولين فبقي أن يكون التقدم هنا بالذات أو بالعلية أو بالزمان، وعلى هذه التقادير الثلاثة يمتنع الحكم بتأخر المتبوع عن التابع في الزمان ولا شك في أن علم الله تعالى الأزلي، والعلوم السابقة على الصور الموجودة في الخارج متقدمة بالزمان، والمتأخر عن غيره بالزمان يمتنع أن يكون متقدما عليه بنوع ما من أنواع التقدمات بالاعتبار الذي كان به متأخرا عنه، والجواب عنه ما تقدم أيضا. المسألة الخامسة عشرة في توقف العلم على الاستعداد قال: ولا بد فيه من الاستعداد أما الضروري فبالحواس وأما الكسبي فبالأول. أقول: قد بينا أن العلم إما ضروري وإما كسبي، وكلاهما حصل بعد عدمه إذ الفطرة البشرية خلقت أولا عارية عن العلوم ثم يحصل لها العلم بقسميه، فلا بد من استعداد سابق مغاير للنفس وفاعل للعلم، فالضروري فاعله هو الله تعالى إذ القابل لا يخرج المقبول من القوة إلى الفعل بذاته وإلا لم ينفك عنه، وللقبول درجات مختلفة في القرب والبعد. وإنما تستعد النفس للقبول على التدريج فتنتقل من أقصي مراتب البعد إلى أدناها قليلا قليلا لأجل المعدات التي هي الإحساس بالحواس على اختلافها والتمرن عليها وتكرارها مرة بعد أخرى، فيتم الاستعداد
(1) ولكن في (ص): هو فاعلية المعلوم وأن فاعلية العلم فرع عليه، وهي لا تفيد معنى محصلا والظاهر أنها محرفة. 336 لإفاضة العلوم البديهية الكلية من التصورات والتصديقات فهي كليات تلك المحسوسات (1). وأما النظرية فإنها مستفادة من النفس أو من الله تعالى على اختلاف الآراء لكن بواسطة الاستعداد بالعلوم البديهية، أما في التصورات فبالحد والرسم، وأما في التصديقات فبالقياسات المستندة إلى المقدمات الضرورية. المسألة السادسة عشرة في المناسبة بين العلم والادراك قال: وباصطلاح يفارق (2) الإدراك مفارقة الجنس النوع وباصطلاح آخر مفارقة النوعين. أقول: إعلم أن العلم يطلق على الإدراك للأمور الكلية كاللون والطعم مطلقا، ويطلق الإدراك على الحضور عند المدرك مطلقا فيكون شاملا للعلم وللإدراك الجزئي - أعني المدرك بالحس - كهذا اللون وهذا الطعم، ولا يطلق العلم على هذا النوع من الادراك، ولذلك لا يصفون الحيوانات العجم بالعلم وإن وصفوها بالإدراك، فيكون الفرق بين العلم والإدراك مطلقا على هذا الاصطلاح فرق ما بين النوع والجنس النوع هو العلم والجنس هو الادراك. وقد يطلق الإدراك باصطلاح آخر على الاحساس لا غير فيكون الفرق بينه وبين العلم هو الفرق ما بين النوعين الداخلين تحت الجنس وهو الإدراك مطلقا هنا. المسألة السابعة عشرة في أن العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول قال: وتعلقه على التمام بالعلة يستلزم تعلقه كذلك بالمعلول.
(1) كما في (م). والباقية: بين كليات تلك المحسوسات. (2) كما في (ت) والباقية: وفي الاصطلاح يفارق. 337 أقول: العلم بالعلة يقع باعتبارات ثلاثة، الأول: العلم بماهية العلة من حيث هي ذات وحقيقة لا باعتبار آخر، وهذا لا يستلزم العلم بالمعلول لا على التمام ولا على النقصان. الثاني: العلم بها من حيث هي مستلزمة لذات أخرى وهو علم ناقص بالعلة فيستلزم علما ناقصا بالمعلول من حيث إنه لازم للعلة لا من حيث ماهيته. الثالث: العلم بذاتها وماهيتها ولوازمها وملزوماتها وعوارضها ومعروضاتها وما لها في ذاتها وما لها بالقياس إلى الغير، وهذا هو العلم التام بالعلة وهو يستلزم العلم التام بالمعلول فإن ماهية المعلول وحقيقته لازمة لماهية العلة، وقد فرض تعلق العلم بها من حيث ذاتها ولوازمها. المسألة الثامنة عشرة في مراتب العلم قال: ومراتبه ثلاث. أقول: ذكر الشيخ أبو علي (1) أن للتعقل ثلاث مراتب: الأولى: أن يكون بالقوة المحضة وهو عدم التعقل عما من شأنه ذلك. الثانية: أن يكون بالفعل التام كما إذا علم الشئ علما تفصيليا. الثالثة: العلم بالشئ إجمالا كمن علم مسألة ثم غفل عنها ثم سئل عنها فإنه يحضر الجواب عنها في ذهنه، وليس ذلك بالقوة المحضة لأنه في الوقت عالم باقتداره على الجواب وهو يتضمن علمه بذلك الجواب وليس علما بها على جهة التفصيل وهو ظاهر. المسألة التاسعة عشرة في كيفية العلم بذي السبب قال: وذو السبب إنما يعلم به كليا.
(1) في الفصل السادس من المقالة الخامسة من نفس الشفاء في البحث عن العقل البسيط (ص 358 ط 1) حيث قال: فنقول إن تصور المعقولات على وجوه ثلاثة.. الخ. 338 أقول: إعلم أن الشئ إذا كان ذا سبب فإنه أنما يعلم بسببه لأنه بدون السبب ممكن وإنما يجب بسببه، فإذا نظر إليه من حيث هو هو لم يحكم العقل بوقوعه ولا بعدمه وإنما يحكم بأحدهما إذا عقل وجود السبب أو عدمه، فذو السبب إنما يحكم بوجوده أو عدمه بالنظر إلى سببه. إذا ثبت هذا فإن ذا السبب أنما يعلم كليا لأن كونه صادرا عن الشئ تقييد له بأمر كلي أيضا، وتقييد الكلي بالكلي لا يقتضي الجزئية. وتحقيق هذا أنك إذا عقلت كسوفا شخصيا من جهة سببه وصفاته الكلية التي يكون كل واحد منها نوعا مجموعا في شخصه كان العلم به كليا، والكسوف وإن كان شخصيا فإنه عند ذلك يصير كليا ويكون نوعا مجموعا في شخص، والنوع المجموع في شخص، له معقول كلي لا يتغير وما يستند إليه من صفاته وأحواله يكون مدركا بالعقل فلا يتغير فإنه كلما حصلت علل الشخصي وأسبابه وجب حصول ذلك الجزئي، فيقال: إن هذا الشخصي أسبابه كذا، وكلما حصلت هذه الأسباب كان هذا الشخصي أو مثله فيكون كليا بعلله. المسألة العشرون في تفسير العقل قال: والعقل غريزة يلزمها العلم بالضروريات عند سلامة الآلات. أقول: هذا هو المحقق في تفسير العقل، وقد فسره قوم بأنه العلم بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات لامتناع انفكاك أحدهما عن الآخر، وهو ضعيف لعدم الملازمة بين التلازم والاتحاد. قال: ويطلق على غيره بالاشتراك. أقول: لفظة العقل مشتركة بين قوى النفس الانسانية وبين الموجود المجرد في ذاته وفعله معا، ويندرج تحته عند الأوائل عقول عشرة سبق البحث فيها.
339 أما القوى النفسانية فيقال: عقل علمي وعقل عملي، أما العلمي فأول مراتبه الهيولاني وهو الذي من شأنه الاستعداد المحض من غير حصول علم ضروري أو كسبي. وثانيها العقل بالملكة وهو الذي استعد بحصول العلوم الضرورية لإدراك النظريات فصار له بتلك الأوليات ملكة الانتقال إلى النظريات، وأعلى درجات هذه المرتبة ما يسمى القوة القدسية، وأدناها مرتبة البليد الذي تثبت أفكاره دون حصول مطالبه، وبين هاتين الدرجتين درجات متفاوتة في القرب والبعد بحسب شدة الاستعداد وضعفه. وثالثها العقل بالفعل وهو أن تكون النفس بحيث متى شاءت استحضرت العلوم النظرية المكتسبة من العلوم الضرورية لا على أنها بالفعل موجودة. ورابعها العقل المستفاد وهو حصول تلك النظريات بالفعل وهو آخر درجات كمال النفس في هذه القوة. وأما العملي فيطلق على القوة التي باعتبارها يحصل التمييز بين الأمور الحسنة والقبيحة، وعلى المقدمات التي يستنبط بها الأمور الحسنة والقبيحة، وعلى فعل الأمور الحسنة والقبيحة. المسألة الحادية والعشرون في الاعتقاد والظن وغيرهما قال: والاعتقاد يقال لأحد قسميه. أقول: الاعتقاد من الأمور الضرورية، لكن اختلفوا في أنه هل هو من قبيل العلوم أو جنس مغاير لها؟ فقال جماعة بالأول، وذهب أبو الهذيل العلاف إلى الثاني، وأبطله أبو علي الجبائي بأنه لو كان كذلك لكان إما مثلا للعلم وهو المطلوب أو ضدا فلا يجتمعان مع أنهما قد يجتمعان أو مخالفا فلا ينتفيان بالضد الواحد.
340 والتحقيق هنا أن نقول: إن الاعتقاد أحد قسمي العلم، وذلك لأنا قد بينا أن العلم يقال على التصور وعلى التصديق كأنه جنس لهما، والاعتقاد هو التصديق وهو قسم من قسمي العلم. قال: فيتعاكسان في العموم والخصوص. أقول: هذا نتيجة ما مضى، والذي نفهم منه أن الاعتقاد قد ظهر أنه أحد قسمي العلم فهو أخص منه بهذا الاعتبار، لأن العلم شامل للتصور والتصديق الذي هو الاعتقاد، والاعتقاد باعتبار آخر أعم من العلم لأنه شامل للظن والجهل المركب واعتقاد المقلد. فهذا ما ظهر لنا من قوله: فيتعاكسان أي الاعتقاد والعلم في العموم والخصوص. واعلم أن لنا في هذا الكلام على هذا التفسير نظرا، وذلك لأن الاعتقاد أنما يكون قسما من العلم لو أخذ العلم التصديقي بالاعتبار الأعم الشامل للعلم بمعنى اليقين والظن والجهل المركب واعتقاد المقلد، وحينئذ لا يتم التعاكس لأن الاعتقاد لا يكون أعم من العلم بهذا الاعتبار فالواجب أن يراد باعتبار اصطلاحين أو ما يؤدي معناه. قال: ويقع فيه التضاد بخلاف العلم. أقول: إعلم أن الاعتقاد منه ما هو متماثل ومنه ما هو مختلف، والمختلف على قسمين متضاد وغير متضاد، وهذا ظاهر لكن وجه التضاد عند أبي علي الجبائي تعلقه بالضدين فحكم بتضاد اعتقادي الضدين، وقال به أبو هاشم أولا ثم حكم بأن تضاده أنما هو لتعلقه بالايجاب والسلب لا غير، أما العلم فلا يقع فيه تضاد لوجوب المطابقة فيه. قال: والسهو عدم ملكة العلم (1) وقد يفرق بينه وبين النسيان.
(1) وفي (ت): والسهو عدم ملكته، والباقية كلها كما اخترناه. 341 أقول: هذا هو المشهور عند الأوائل والمتكلمين، وذهب الجبائيان إلى أن السهو معنى يضاد العلم، وقد فرق الأوائل بينه وبين النسيان فقالوا: إن السهو زوال الصورة عن المدرك خاصة دون الحافظ والنسيان زوالها عنهما معا. قال: والشك تردد الذهن بين الطرفين. أقول: الشك هو سلب الاعتقاد وتردد الذهن بين طرفي النقيض على التساوي وليس معنى قائما بالنفس وهو مذهب الأوائل وأبي هاشم. وقال أبو علي: إنه معنى يضاد العلم، واختاره البلخي لتجدده بعد أن لم يكن، وهو خطأ لعدم اتحاد المتعلق الذي هو شرط في تضاد المتعلقات. قال: وقد يصح تعلق كل من الاعتقاد والعلم بنفسه وبالآخر فيتغاير الاعتبار لا الصور. أقول: إعلم أن العلم والاعتقاد من قبيل النسب والإضافات يصح تعلقهما بجميع الأشياء حتى بأنفسهما فيصح تعلق الاعتقاد بالاعتقاد وبالعلم وكذا العلم يتعلق بنفسه وبالاعتقاد، إذا عرفت هذا فإذا تعلق العلم بنفسه وجب تعدد الاعتبار إذ العلم كان آلة ينظر به، وباعتبار تعلق العلم به يصير شيئا منظورا فيه، وكون الشئ معلوما مغاير لاعتبار كونه علما فلا بد من تغاير الاعتبار، أما الصور فلا وإلا لزم وجود صور لا تتناهى بالنسبة إلى معلوم واحد، لأن العلم بالشئ لا ينفك عن العلم بالعلم بذلك الشئ عند اعتبار المعتبرين. (واعلم) أن العلم بالعلم علم بكيفية وهيئة للعالم يقتضي النسبة إلى معلوم ذلك العلم وليس علما بالمعلوم كما ذهب إليه الجبائيان. قال: والجهل بمعنى يقابلهما وآخر (1) قسم لأحدهما. أقول: إعلم أن الجهل يقال على معنيين: بسيط ومركب، فالبسيط هو عدم
(1) أي بمعنى آخر. وفي (م ش ص د): وبآخر. وفي (ز): وتأخر. 342 العلم عما من شأنه أن يكون عالما، وبهذا المعنى يقابل العلم والاعتقاد مقابلة العدم والملكة. والمركب هو اعتقاد الشئ على خلاف ما هو عليه وهو قسم للاعتقاد إذ الاعتقاد جنس للجهل وغيره، ويسمى الأول بسيطا نظرا إلى عدم تركبه والثاني مركبا لتركبه من اعتقاد وعدم مطابقة. قال: والظن ترجيح أحد الطرفين وهو غير اعتقاد الرجحان. أقول: الظن ترجيح أحد الطرفين - أعني طرف الوجود وطرف العدم - ترجيحا غير مانع من النقيض، ولا بد من هذا القيد ليخرج الاعتقاد الجازم. واعلم أن رجحان الاعتقاد مغاير لاعتقاد الرجحان، لأن الأول ظن لا غير والثاني قد يكون علما. قال: ويقبل الشدة والضعف وطرفاه علم وجهل. أقول: لما كان الظن عبارة عن ترجيح الاعتقاد من غير منع النقيض وكان للترجيح مراتب داخلة بين طرفي شدة في الغاية وضعف في الغاية كان قابلا للشدة والضعف، وطرفاه العلم الذي لا مرتبة بعده للرجحان والجهل البسيط الذي لا ترجيح معه البتة أعني الشك المحض. المسألة الثانية والعشرون في النظر وأحكامه قال: وكسبي العلم يحصل بالنظر مع سلامة جزئيه ضرورة. أقول: قد بينا أن العلم ضربان: ضروري لا يفتقر إلى طلب وكسب، ونظري يفتقر إليه. فالثاني هو المكتسب بالنظر وهو ترتيب أمور ذهنية للتوصل إلى أمر مجهول، فالترتيب جنس بعيد لأنه كما يقع في الأمور الذهنية كذلك يقع في الأشياء الخارجية، فالتقييد بالأمور الذهنية يخرج الأخير عنه. ثم الترتيب الخاص قد يراد لاستحصال ما ليس بحاصل، وقد لا يكون كذلك.
343 فالثاني ليس بنظر وهذا الحد قد اشتمل على العلل الأربع للنظر أعني المادة والصورة والغاية وفيه إشارة إلى الفاعل، وهذه الأمور قد تكون تصورات هي إما حدود أو رسوم يستفاد منها علم بمفرد، وقد تكون تصديقات يكتسب بها تصديق. واعلم أن النظر لما كان مركبا اشتمل بالضرورة على جزء مادي وجزء صوري، فالمادي هو المقدمات والصوري هو الترتيب بينها، فإذا سلم هذان الجزءان بأن كان الحمل والوضع والربط والجهة على ما ينبغي وكان الترتيب على ما ينبغي حصل العلم بالمطلوب بالضرورة هذا في التصديقات، وكذا في التصورات فإنه إذا كان الحد مشتملا على جنس قريب وفصل أخير وقدم الجنس على الفصل حصل تصور المحدود قطعا، وإليه أشار المصنف بقوله: مع سلامة جزئيه يعني الجزء المادي والجزء الصوري. واعلم أن الناس اختلفوا هنا، فقال من لا مزيد تحصيل له: إن النظر لا يفيد العلم لأن العلم بإفادته للعلم إن كان ضروريا لزم اشتراك العقلاء فيه، وإن كان نظريا تسلسل، ولأن النظر لو استلزم العلم لم يختلف الناس في آرائهم لاشتراكهم في العلوم الضرورية التي هي مبادئ النظرية. وذهب المحققون إلى أنه يفيد العلم بالضرورة فإنا متى اعتقدنا أن العالم ممكن وأن كل ممكن محدث حصل لنا العلم بالضرورة بأن العالم محدث فخرج الجواب عن الشبهة الأولى بقوله: ضرورة، ولا يجب اشتراك العقلاء في الضروريات فإن كثيرا من الضروريات يتشكك فيها بعض الناس إما لخفاء في التصور أو لغير ذلك، وخرج الجواب عن الشبهة الثانية بقوله: مع سلامة جزئيه، وذلك لأن اختلاف الناس في الاعتقاد أنما كان بسبب تركهم الترتيب الصحيح وغفلتهم عن شرائط الحمل وغير ذلك من أسباب الغلط، أما في الجزء المادي أو الصوري فإذا سلما حصل المطلوب لكل من حصل له سلامة الجزئين. قال: ومع فساد أحدهما قد يحصل ضده.
344 أقول: النظر إذا فسد إما من جهة المادة أو من جهة الصورة لم يحصل العلم، وقد يحصل ضده أعني الجهل وقد لا يحصل، والضابط في ذلك أن نقول: إن كان الفساد من جهة الصورة لم تلزم النتيجة الباطلة وإن كان من جهة المادة لا غير كان القياس منتجا، فإن كانت الصغرى في الشكل الأول صادقة والكبرى كاذبة في كل واحد (1) كانت النتيجة كاذبة قطعا وإلا جاز أن تكون صادقة وأن تكون كاذبة. وبهذا التحقيق ظهر بطلان ما يقال من أن النظر الفاسد لا يستلزم الجهل وإلا لكان المحق إذا نظر في شبهة المبطل أفاده الجهل وليس كذلك مع أنه معارض بالنظر الصحيح، فإن شرط اعتقاد حقية المقدمات في الصحيح شرطناه نحن في الفاسد أيضا. قال: وحصول العلم عن الصحيح واجب. أقول: اختلف الناس هنا، فالمعتزلة على أن النظر مولد للعلم وسبب له، والأشاعرة قالوا: إن الله تعالى أجرى عادته بخلق العلم عقيب النظر وليس النظر موجبا ولا سببا للعلم، واستدلوا على ذلك بأن العلم الحادث أمر ممكن والله تعالى قادر على كل الممكنات فاعل لها على ما يأتي في خلق الأعمال، فيكون العلم من فعله، والمعتزلة لما أبطلوا القول باستناد الأفعال الحيوانية إلى الله تعالى بطل عندهم هذا الاستدلال، ولما رأوا العلم يحصل عقيب النظر وبحسبه وينتفي عند انتفائه حكموا عليه بأنه سبب له كما في سائر الأسباب. والحق أن النظر الصحيح يجب عنده حصول العلم ولا يمكن تخلفه عنه، فإنا نعلم قطعا أنه متى حصل لنا اعتقاد المقدمتين فإنه يجب حصول النتيجة، قالت الأشاعرة: التذكر لا يولد العلم فكذا النظر بالقياس عليه والجواب الفرق بينهما ظاهر. قال: ولا حاجة إلى المعلم.
(1) أي في كل واحد من الضروب. وفي (م): في كل واحدة. ولكن الصواب ما اخترناه كما في النسخ الأخرى كلها. 345 أقول: ذهبت الملاحدة إلى أن النظر غير كاف في حصول المعارف بل لا بد من معونة من المعلم للعقل لتعذر العلم بأظهر الأشياء وأقربها من دون مرشد، وأطبق العقلاء على خلافه لأنا متى حصلت المقدمتان لنا على الترتيب المخصوص حصل لنا الجزم بالنتيجة سواء كان هناك معلم أو لا، وصعوبة تحصيل المعرفة بأظهر الأشياء لا يدل على امتناعها مطلقا من دون المعلم، وقد ألزمهم المعتزلة الدور والتسلسل لتوقف العلم بصدقه على العلم بتصديق الله تعالى إياه بواسطة المعجزة، فلو توقفت المعرفة بالله تعالى عليه دار، ولأن احتياج كل عارف إلى معلم يستلزم حاجة المعلم إلى آخر ويتسلسل. وهذان الإلزامان ضعيفان، لأن الدور لازم على تقدير استقلال المعلم بتحصيل المعارف وليس كذلك بل هو مرشد إلى استنباط الأحكام من الأدلة التي من جملتها ما يدل على صدقه من المقدمات والتسلسل يلزم لو وجب مساواة عقل المعلم لعقولنا، أما على تقدير الزيادة فلا. قال: نعم لا بد من الجزء الصوري. أقول: يشير بذلك إلى ترتيب المقدمات فإنه لا بد مع حصول المقدمتين في الذهن من ترتيب حاصل بينهما ليحصل العلم بالنتيجة وهو الجزء الصوري للنظر، إذ لولا الترتيب لحصلت العلوم الكسبية لجيمع العقلاء ولم يقع خلل لأحد في اعتقاده. وقيل: لا حاجة إليه وإلا لزم التسلسل أو اشتراط الشئ بنفسه وهو سهو، فإن التسلسل يلزم لو قلنا بافتقار كل زائد إلى ترتيب وليس كذلك بل المفتقر إلى الترتيب إنما هو الأجزاء المادية خاصة. قال: وشرطه عدم الغاية وضدها وحضورها. أقول: الذي فهمناه من هذا الكلام أن شرط النظر عدم العلم بالمطلوب الذي هو غاية النظر وإلا لزم تحصيل الحاصل، ويشترط أيضا عدم ضدها أعني الجهل المركب لأنه باعتقاده حصول العلم له لا يطلبه فلا يتحقق النظر في طرفه،
346 ويشترط أيضا حضورها (1) أعني حضور المطلوب الذي هو الغاية، إذ الغافل عن الشئ لا يطلبه والنظر نوع من الطلب. قال: ولوجوب ما يتوقف عليه العقليان (2) وانتفاء ضد المطلوب على تقدير ثبوته كان التكليف به عقليا. أقول: اختلف الناس في وجوب النظر هل هو عقلي أو سمعي؟ فذهبت المعتزلة إلى الأول والأشاعرة إلى الثاني، أما المعتزلة فاستدلوا على وجوب النظر عقلا بأن معرفة الله تعالى واجبة مطلقا ولا تتم إلا بالنظر وما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب، فهاهنا ثلاث مقدمات: إحداها: أن معرفة الله تعالى واجبة مطلقا، واستدلوا على ذلك بوجهين: الأول: أن معرفة الله تعالى دافعة للخوف الحاصل من الاختلاف وغيره ودفع الخوف واجب عقلا، الثاني: أن شكر الله تعالى واجب لأن نعمه على العبد كثيرة، والمقدمتان ضروريتان والشكر لا يتم إلا بالمعرفة ضرورة. الثانية: أن معرفة الله تعالى لا تتم إلا بالنظر وذلك قريب من الضرورة إذ المعرفة ليست ضرورية قطعا فهي كسبية ولا كاسب سوى النظر إذ التقليد يستند إليه وتصفية الخاطر إن انفلت عن ترتيب المقدمات لم يحصل منها علم بالضرورة. الثالثة: أن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به فهو واجب وإلا لخرج الواجب المطلق عن كونه واجبا أو لزم تكليف ما لا يطاق، لأن الشرط إذا لم يكن واجبا جاز تركه، فحينئذ إما أن يجب على المكلف المشروط أو لا، والثاني يلزم منه خروجه عن كونه واجبا مطلقا، والأول يلزم منه تكليف ما لا يطاق، إذ وجوب المشروط حال عدم الشرط إيجاب لغير المقدور وهو محال، فثبت أن وجوب النظر عقلي ولا يجب سمعا خاصة وإلا لم يجب، والتالي باطل فالمقدم مثله. بيان الشرطية أن النظر إذا لم يجب إلا بالسمع لزم إفحام الأنبياء لأن النبي إذا جاء إلى
(1) وذلك لأن طلب المجهول المطلق محال، فمن يطلب شيئا فلا بد من أن يدرك منه أولا شيئا. (2) وفي (م ز): العقليات بالجمع. والنسخ الأخرى كلها بالتثنية كما في الشرح. 347 المكلف وأمره باتباعه لم يجب على المكلف الامتثال حتى يعلم صدقه ولا يعلم صدقه إلا بالنظر، فإذا امتنع المكلف من النظر حتى يعرف وجوبه عليه لم يجز استناد الوجوب إلى النبي لعدم العلم بصدقه حينئذ ولا وجوب عقلي فينتفي الوجوب على تقدير الوجوب السمعي. إذا عرفت هذا فنقول: قوله: ولوجوب ما يتوقف عليه العقليان، أشار بلفظة ما إلى المعرفة والعقليان أشار به إلى وجوب الشكر ووجوب دفع الخوف عن النفس. وقوله: وانتفاء ضد المطلوب على تقدير ثبوته، يشير به إلى انتفاء الوجوب السمعي الذي هو ضد المطلوب لأن المطلوب هو الوجوب العقلي وضده هو الوجوب السمعي. وقوله: على تقدير ثبوته، يعني لو فرض الوجوب سمعيا لم يكن واجبا، فهذا ما فهمناه من كلامه في هذا الموضع. وأما الأشعرية فقد احتجوا بوجهين: الأول: قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) نفى التعذيب بدون البعثة فلا يكون النظر واجبا قبلها. الثاني: لو وجب النظر فإما لفائدة عاجلة والواقع مقابلها أو آجلة وحصولها ممكن بدون النظر، فتوسط النظر عبث وكذا إن لم يكن لفائدة، ثم قالوا: ما ألزمتمونا به من الافحام على تقدير الوجوب السمعي لازم لكم على تقدير الوجوب العقلي، لأن وجوب النظر وإن كان عقليا إلا أنه كسبي، فالمكلف إذا جاءه النبي وأمره باتباعه كان له أن يمتنع حتى يعرف صدقه، ولا يعرف صدقه إلا بالنظر، والنظر لا يجب عليه بالضرورة بل بالنظر، فقبل النظر لا يعرف وجوبه فله أن يقول: لا أنظر حتى أعرف وجوب النظر، وذلك يستلزم الافحام أيضا. والجواب عن الأول التخصيص، وهو حمل نفي التعذيب المتوقف على الرسالة على ترك التكليف السمعي، أو تأول الرسول بالعقل جمعا بين الأدلة. وعن الثاني أن الفائدة عاجلة وهي زوال الخوف وآجلة وهي نيل الثواب بالمعرفة الذي لا يمكن الابتداء به في الحكمة. وعن الثالث أن وجوب النظر وإن كان نظريا إلا أنه فطري القياس، فكان الإلزام عائدا على الأشاعرة دون المعتزلة.
348 قال: وملزوم العلم دليل والظن أمارة. أقول: لما كان النظر متعلقا بما يستلزم العلم من الاعتقادات أو الظن وجب البحث عن المتعلق، فالمستلزم للعلم يسمى دليلا والمستلزم للظن يسمى أمارة، وقد يقال الدليل على معنى أخص من المذكور وهو الاستدلال بالمعلول على العلة. قال: وبسائطه عقلية ومركبة لاستحالة الدور. أقول: بسائط الدليل يعني به مقدماته فإن الدليل لما كان مركبا من مقدمتين كانت كل واحدة من تينك المقدمتين جزءا بسيطا بالنسبة إلى الدليل وإن كانت مركبة في نفس الأمر. إذا عرفت هذا فالمقدمات قد تكون عقلية محضة وقد تكون مركبة من عقلي وسمعي، ولا يمكن تركبها من سمعيات محضة وإلا لزم الدور لأن السمعي المحض ليس بحجة إلا بعد معرفة صدق الرسول، وهذه المقدمة لو استفيدت بالسمع دار بل هي عقلية محضة، فإذن إحدى مقدمات النقليات كلها عقلية، والضابط في ذلك أن كل ما يتوقف عليه صدق الرسول لا يجوز إثباته بالنقل، وكل ما يتساوى طرفاه بالنسبة إلى العقل لا يجوز إثباته بالعقل وما عدا هذين يجوز إثباته بهما. قال: وقد يفيد اللفظي القطع. أقول: قيل: إن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين لتوقفه على أمور كلها ظنية وهي: اللغة والنحو والتصريف وعدم الاشتراك والمجاز والنقل والتخصيص والاضمار والنسخ والتقديم والتأخير والمعارض العقلي، والحق خلاف هذا فإن كثيرا من الأدلة اللفظية تعلم دلالتها على معانيها قطعا وانتفاء هذه المفاسد عنها. قال: ويجب تأويله عند التعارض. أقول: إذا تعارض دليلان نقليان أو دليل عقلي ونقلي وجب تأويل النقل، أما مع تعارض النقلين فظاهر لامتناع تناقض الأدلة، وأما مع تعارض العقلي والنقلي
349 فكذلك أيضا. وإنما خصصنا النقلي بالتأويل لامتناع العمل بهما وإلغائهما والعمل بالنقلي وإبطال العقلي لأن العقلي أصل للنقلي، فلو أبطلنا الأصل لزم إبطال الفرع أيضا، فوجب العدول إلى تأويل النقلي وإبقاء الدليل العقلي على مقتضاه. قال: وهو قياس وقسيماه. أقول: الضمير في وهو عائد على الدليل مطلقا، واعلم أن الدليل ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قياس واستقراء وتمثيل، وإلى الأخيرين أشار بقوله: وقسيماه، وذلك لأن الاستدلال إما أن يكون بالعام على الخاص أو بالعكس أو بأحد المتساويين المندرجين تحت عام شامل لهما على الآخر. فالأول هو أجلى الأدلة وأشرفها لأفادته اليقين وهو المسمى بالقياس أخذا من المحاذاة، كأن القائس يطلب محاذاة النتيجة للمقدمتين في العلم، والثاني الاستقراء أخذا من قصد القرى قرية فقرية، كأن المستقرئ يتبع الجزئيات، والثالث التمثيل. قال: فالقياس اقتراني واستثنائي. أقول: القياس إما أن يكون المطلوب أو نقيضه مذكورا فيه بالفعل أو بالقوة، والأول يسمى الاستثنائي والثاني الاقتراني، مثال الأول: إن كان هذا انسانا فهو حيوان لكنه انسان ينتج أنه حيوان فالنتيجة مذكورة بالفعل، أو نقول: لكنه ليس بحيوان ينتج أنه ليس بانسان، فالنقيض مذكور في القياس بالفعل. ومثال الثاني: كل انسان حيوان وكل حيوان جسم، ينتج كل انسان جسم وهو مذكور في القياس بالقوة. قال: فالأول باعتبار الصورة القريبة أربعة والبعيدة اثنان. أقول: الذي فهمناه من هذا الكلام أن القياس الاقتراني له اعتباران: أحدهما بحسب مادته أعني مقدماته، والثاني بحسب صورته أعني الهيئة والترتيب اللاحقين به العارضين لمجموع المقدمات وهو ما يسمى باعتباره شكلا، وهو بهذا الاعتبار على أربعة أقسام كل قسم سموه شكلا، لأن الحد الأوسط إن كان محمولا
350 في الصغرى موضوعا في الكبرى فهو الشكل الأول كقولنا: كل (ج ب) وكل (ب ا)، وإن كان محمولا فيهما فهو الثاني كقولنا: كل (ج ب) ولا شئ من (ا ب)، وإن كان موضوعا فيهما فهو الثالث كقولنا: كل (ج ب) وكل (ج ا)، وإن كان موضوعا في الصغرى محمولا في الكبرى فهو الرابع كقولنا: كل (ج ب) وكل (ا ج)، وهذه القسمة باعتبار الصورة القريبة. وأما بالنظر إلى المادة فله اعتباران أيضا: أحدهما باعتبار صورة كل مقدمة والثاني باعتبار مادتها، فبالاعتبار الأول وهو اعتباره بالنظر إلى الصورة البعيدة ينقسم إلى قسمين: حملي وشرطي، فالحملي كما قلنا، والشرطي كقولنا: كلما كان (أب) ف (ج د) وكلما كان (ج د) ف (ه ز) ينتج كلما كان (أب) ف (ه ز) أو نقول: كلما كان (أب) ف (ج د) وليس البتة إذا كان (ه ز) ف (ج د) أو نقول: كلما كان (أب) ف (ج د) وكلما كان (أب) ف (ه ز) أو نقول: كلما كان (أب) ف (ج د) وكلما كان (ه ز) ف (أب). قال: وباعتبار المادة القريبة خمسة والبعيدة أربعة. أقول: مقدمات القياس هي المادة البعيدة له باعتبار مقدمة مقدمة ومجموعها لا باعتبار صورة خاصة وشكل معين هي المادة القريبة، ومقدمات القياس أربع: مسلمات ومظنونات ومشبهات ومخيلات، هذا باعتبار المادة البعيدة. وأما باعتبار المادة القريبة فأقسام القياس خمسة: البرهان والجدل والخطابة والسفسطة والشعر. قال: والثاني متصل فناتجه أمران وكذا غير الحقيقي من المنفصل، ومنه ضعفه. أقول: الثاني هو الاستثنائي وهو ضربان: الأول: أن تكون مقدمته الشرطية متصلة وينتج منه قسمان: أحدهما: استثناء عين المقدم لعين التالي، والثاني: استثناء نقيض التالي لنقيض المقدم. والثاني: أن تكون منفصلة وهو قسمان أيضا: أحدهما أن تكون غير حقيقية، والثاني أن تكون حقيقية، فغير الحقيقية ضربان:
351 مانعة الجمع وينتج قسمان منها استثناء عين المقدم لنقيض التالي واستثناء عين التالي لنقيض المقدم، ومانعة الخلو وينتج قسمان منها أيضا استثناء نقيض المقدم لعين التالي واستثناء نقيض التالي لعين المقدم. وأما الحقيقة فإنها تنتج أربع نتائج من استثناء عين المقدم لنقيض التالي وبالعكس، ومن استثناء عين التالي لنقيض المقدم وبالعكس. قال: والأخيران يفيدان الظن، وتفاصيل هذه الأشياء مذكورة في غير هذا الفن. أقول: يريد بالأخيرين الاستقراء والتمثيل وهما يفيدان الظن لا العلم، واعلم أن تفاصيل هذه الأشياء وبيان شرائطها مذكورة في علم المنطق وإنما انساق الكلام إليه هنا. قال: والتعقل والتجرد متلازمان لاستلزام انقسام المحل انقسام الحال، فإن تشابهت (1) عرض الوضع للمجرد وإلا تركب مما لا يتناهى. أقول: هذه المسألة وما بعدها من تتمة مباحث التعقل، وقد ادعى هنا أن التعقل والتجرد متلازمان بمعنى أن كل عاقل مجرد وبالعكس (أما الأول) فاستدل عليه بعد ما تقدم بأن التعقل حال في ذات العاقل فذلك المحل إما أن ينقسم أو لا، والثاني هو المراد والأول باطل لأن انقسام المحل يستدعي انقسام الحال، إذ الحال إما أن يحل بتمامه في جزئي المحل أو في أحد جزئيه أو لا يحل في شئ منه، والأول يلزم منه الانقسام إن كان الحال في أحد الجزئين غير الحال في الآخر أو تعدد الواحد إن اتحدا، والثاني يفيد المطلوب والثالث خلاف الفرض. فإذا ثبت ذلك فالجزءان إما أن يتشابها أو يختلفا، والأول يستلزم وجود المقدار لما فرض مجردا والثاني يستلزم وجود ما لا يتناهى من الأجزاء للصورة العقلية
(1) أي فإن تشابهت أقسام المحل المستفادة من قوله: لاستلزام انقسام المحل انقسام الحال. والمحل هو القوة العاقلة في المقام. 352 وذلك بحسب ما في المحل من الانقسامات الممكنة. قال: ولاستلزام التجرد صحة المعقولية المستلزمة لإمكان المصاحبة. أقول: هذا دليل الحكم الثاني وهو أن كل مجرد عاقل، وتقريره أن كل مجرد فإنه يصح أن يكون معقولا بالضرورة، إذ العائق عن التعقل أنما هو المادة لا غير وكلما صح أن يكون معقولا وحده صح أن يكون معقولا مع غيره وهو قطعي، فإذن كل مجرد فإنه يصح أن يقارن غيره فنقول: هذه الصحة إما أن تتوقف على ثبوت المجرد في العقل أو لا، والأول محال لأن الثبوت في العقل نوع من المقارنة فيلزم توقف إمكان الشئ على وقوعه وهو باطل بالضرورة والثاني هو المطلوب. وهذا الدليل عندي في غاية الضعف، لأن توقف إمكان مقارنة المجرد المعقول للصورة المعقولة على ثبوت مقارنة المجرد للعقل لا يقتضي توقف الإمكان على الوقوع، إذ الإمكان هنا عائد إلى مقارنة المعقول للمعقول وهي غير، والثبوت عائد إلى مقارنة المعقول للعاقل وهي غير فلا يلزم ما ذكر من المحال. المسألة الثالثة والعشرون في أحكام القدرة قال: ومنها القدرة وتفارق الطبيعة والمزاج بمقارنة الشعور والمغايرة في التابع. أقول: لما فرغ من البحث عن العلم شرع في البحث عن القدرة، وأشار بقوله: ومنها أي ومن الكيفيات النفسانية لأنها صفة قائمة بذوات الأنفس. واعلم أن الجسم من حيث هو غير مؤثر وإلا لتساوت الأجسام في ذلك، وإنما يؤثر باعتبار صفة قائمة به، والصفة المؤثرة إما أن تؤثر مع الشعور أو بدونه وعلى كلا التقديرين إما أن يتشابه التأثير أو يختلف، فالأقسام أربعة: أحدها: الصفة المقترنة بالشعور المتفقة في التأثير وهي القوة الفلكية. الثاني: المقترنة
353 بالشعور المختلفة في التأثير وهي القوة الحيوانية أعني القدرة التي يأتي البحث عن أحكامها. الثالث: الصفة المؤثرة غير المقترنة بالشعور المتشابهة في التأثير وهي القوة الطبيعية. الرابع: غير المقترنة بالشعور المختلفة في التأثير وتسمى النفس النباتية. إذا عرفت هذا فنقول: القدرة مغايرة للطبيعة والمزاج، أما الأول فلوجوب اقترانها بالشعور بخلاف الطبيعة، وأما الثاني فلأن المزاج كيفية متوسطة بين الحرارة والبرودة فيكون من جنسهما فتكون تابعة أعني تأثيره من جنس تأثيرهما، وأما القدرة فإن تأثيرها مضاد لتأثيرهما وإلى هذا أشار بقوله: والمغايرة في التابع. قال: مصححة للفعل بالنسبة. أقول: القدرة صفة تقتضي صحة الفعل من الفاعل لا إيجابه، فإن القادر هو الذي يصح منه الفعل والترك معا فلو اقتضت الايجاب لزم المحال، ومعنى قوله: بالنسبة أي باعتبار نسبة الفعل إلى الفاعل وذلك لأن الفعل صحيح في نفسه لا يجوز أن يكون للقدرة مدخل في صحته الذاتية لأن الإمكان للممكن واجب وأما نسبته إلى الفاعل فجاز أن يكون معللا، هذا الذي فهمناه من قوله: بالنسبة. قال: وتعلقها بالطرفين. أقول: هذا هو المشهور من مذهب الحكماء والمعتزلة وهو أن القدرة متعلقة بالضدين، وقالت الأشاعرة: إنما تتعلق بطرف واحد، وهو خطأ لوقوع الفرق بين القادر والموجب. قال: وتتقدم الفعل لتكليف الكافر وللتنافي ولزوم أحد محالين لولاه. أقول: هذا مذهب الحكماء والمعتزلة، وقالت الأشاعرة: إنها مقارنة للفعل، والضرورة قاضية ببطلان هذا فإن القاعد يمكنه القيام قطعا، والأشاعرة بنوا مقالتهم على أصل لهم سيأتي بطلانه وهو أن العرض لا يبقى.
354 ثم المعتزلة استدلوا على مقالتهم بوجوه ثلاثة: الأول: أن القدرة لو لم تتقدم الفعل قبح تكليف الكافر، والتالي باطل بالاجماع فالمقدم مثله، وبيان الملازمة أن تكليف ما لا يطاق قبيح فلو لم يكن الكافر متمكنا من الإيمان حال كفره لزم تكليف ما لا يطاق. الثاني: لو لم تكن القدرة متقدمة على الفعل لزم استغناء الفعل عن القدرة مع فرض الحاجة إليها وهو تناف ظاهر، وبيان الملازمة أن الحاجة إلى القدرة أنما هي لإخراج الفعل من العدم إلى الوجود وحالة الاخراج يستغني عن القدرة وقبله لا قدرة فلا حاجة إليها مع أن الفعل إنما يخرج بالقدرة، وإلى هذا أشار المصنف بقوله: وللتنافي. الثالث: لو لم تكن القدرة متقدمة لزم إما حدوث قدرة ا لله تعالى أو قدم الفعل، والقسمان محالان فالمقدم باطل، وإلى هذا أشار بقوله: ولزوم أحد محالين لولاه أي لولا التقدم، هذا ما خطر لنا في تفسير هذا الكلام. ويمكن أن يكون قوله: وللتنافي، إشارة إلى دليل مغاير للدليل الثاني الذي ذكرناه وهو أن القدرة لو قارنت الفعل وقد بينا أن القدرة تتعلق بالضدين فيلزم حصول الضدين معا وهو تناف، فيكون قوله: ولزوم أحد محالين من تتمة هذا الكلام، وهو أن نقول: لو كانت القدرة مقارنة لزم اجتماع الضدين للقدرة عليهما وهو تناف، فيلزم أحد محالين إما اجتماعهما مع تضادهما وتنافيهما أو إيجاب أحدهما فيتقدم على الآخر مع فرض المقارنة. قال: ولا يتحد وقوع المقدور مع تعدد القادر. أقول: لا يمكن وقوع مقدور واحد بقادرين وهو مما قد اختلف فيه، والدليل عليه أنه لو وقع بهما لزم استغناؤه بكل واحد منهما عن كل واحد منهما حال حاجته إليه وهو باطل بالضرورة، ويمكن تعلق القادرين بمقدور واحد بأن يكون ذلك الشئ مقدورا لكل واحد منهما وإن لم يقع إلا بأحدهما، ولهذا قال: ولا يتحد وقوع المقدور، ولم يقل: ولا يتحد المقدور. قال: ولا استبعاد في تماثلها.
355 أقول: ذهب قوم من المعتزلة إلى أن القدر (1) مختلفة وبنوه على أصل لهم وهو أنه لا تجتمع قدرتان على مقدور واحد وإلا لأمكن اتصاف ذاتين بهما فيجتمع على المقدور الواحد قادران وهو محال، وإذا ثبت امتناع اجتماع قدرتين على مقدور واحد ثبت اختلاف القدر لأن التماثل في المتعلق يستلزم اتحاد المتعلق، ونحن لما جوزنا تعلق القادرين بمقدور واحد اندفع هذا الدليل وحينئذ جاز وقوع التماثل فيها كغيرها من الأعراض. قال: وتقابل العجز تقابل الملكة والعدم. أقول: العجز عند الأوائل وجمهور المعتزلة أنه عدم القدرة عما من شأنه أن يكون قادرا فهو عدم ملكة القدرة، وذهبت الأشعرية إلى أنه معنى يضاد القدرة لأنه ليس جعل العجز عدما للقدرة أولى من العكس، وهو خطأ فإنه لا يلزم من عدم الأولوية عندهم عدمها في نفس الأمر ولا من عدمها في نفس الأمر ثبوت العجز معنى. قال: وتغاير الخلق (2) لتضاد أحكامهما والفعل. أقول: الخلق ملكة نفسانية تصدر بها عن النفس أفعال بسهولة من غير سابقة فكر وروية، وهو مغاير للقدرة لتضاد أحكامهما، لأن القدرة تتساوى نسبتها إلى الضدين والخلق ليس كذلك، والخلق أيضا يغاير الفعل لأنه قد يكون تكليفا. المسألة الرابعة والعشرون في الألم واللذة قال: ومنها الألم واللذة وهما نوعان من الادراك تخصصا بإضافة تختلف بالقياس.
(1) كما في (م ص ز د) وكذا في العبارة الآتية. وهي جمع القدرة كثقبة وثقب، وغرفة وغرف. (2) وفي (ت) وحدها: وتضاد الخلق. والشرح يوافق الوجه الأول الموافق لسائر النسخ كلها. 356 أقول: من الكيفيات النفسانية الألم واللذة والمرجع بهما إلى الإدراك، فهما نوعان منه تخصصا بإضافة تختلف بالقياس، لأن اللذة عبارة عن إدراك الملائم والألم عبارة عن إدراك المنافي، فهما نوعان من الادراك تخصص كل واحد منهما بإضافة إلى الملائمة والمنافرة، وهما أمران يختلفان بالقياس إلى الأشخاص، إذ قد يكون الشئ ملائما لشخص ومنافرا لآخر. قال: وليست اللذة خروجا عن الحالة الطبيعية لا غير (1). أقول: نقل عن محمد بن زكريا الطبيب (أن اللذة هي الخروج عن الحالة الطبيعية لأنها أنما تعرض بانفعال يعرض للحاسة يقتضيه تبدل حال) وهو غير جيد فإنه أخذ ما بالعرض مكان ما بالذات، ولهذا نلتذ بصورة نشاهدها من غير سابقة إبصار لها حتى لا تجعل اللذة عبارة عن الخلاص عن ألم الشوق. قال: وقد يستند الألم إلى التفرق. أقول: للألم سببان: أحدهما: تفرق الاتصال فإن مقطوع اليد يحس بالألم
(1) كما في (م ت د ص ش) وهذه عبارة صحيحة اخترناها. وكلمة غير كما في المطبوعة زائدة. وهذا التصحيف قد تطرق في كتب أخرى كالأسفار حيث قال: وزعم بعض الأطباء كمحمد بن زكريا الرازي أن اللذة عبارة عن الخروج عن الحال الغير الطبيعية.. الخ (ج 2 ط 1 ص 38)، وكالمباحث المشرقية للفخر الرازي حيث قال: زعم محمد بن زكريا أن اللذة عبارة عن الخروج عن الحالة الغير الطبيعية، والألم عبارة عن الخروج عن الحالة الطبيعية، وسبب هذا الظن أخذ ما بالعرض مكان ما بالذات.. الخ (ج 1 ط 1 ص 387) وعبارة الأسفار مأخوذة من المباحث. ولكن العبارة محرفة وقد تصرف فيها من لا دربة له في فهم أساليب العبارات العلمية. والعبارة في نسخة مخطوطة من المباحث عندنا هكذا: زعم محمد بن زكريا أن اللذة عبارة عن الخروج عن الحالة الطبيعية، وسبب هذا الظن أخذ ما بالعرض مكان ما بالذات.. الخ. وعبارة الخواجة موافقة لها، ونسخة التجريد المنسوبة إلى خط الخواجة أيضا موافقة لما اخترناه. ثم قد نقل الفخر في المحصل عبارة الرازي هكذا: ثم قال محمد بن زكريا اللذة عبارة عن الخلاص عن الألم (ص 75 ط مصر). 357 بسبب تفرق اتصالها عن البدن، وقد نازع في ذلك بعض المتأخرين بأن التفرق عدمي فلا يكون علة للوجودي، وفيه نظر لأن التفرق ليس عدما محضا فجاز التعليل به على أن التفرق أنما كان علة بالعرض، فإن العلة بالذات أنما هي سوء المزاج. الثاني: سوء المزاج المختلف (1) لأن الحمى توجب الألم ولا تفرق هناك، وإنما قلنا المختلف لأن سوء المزاج المتفق لا يقتضي التألم. قال: وكل منهما حسي وعقلي وهو أقوى. أقول: يريد قسمة الألم واللذة بالنسبة إلى الحس والعقل، وذلك لأن جماعة أنكروا العقلي منهما، والحق خلافه فإنا نلتذ بالمعارف وهي لذات عقلية لا تعلق للحس بها ونتألم بفقدانها بل هذه اللذة أقوى من اللذة الحسية، ولهذا كثيرا ما تترك اللذة الحسية لأجل اللذة الوهمية لا العقلية فكيف العقلية، وأيضا فإن الحس إنما يدرك ظواهر الأجسام ولا تعلق له بالأمور الكلية، والعقل يدرك باطن الشئ ويميز بين الذاتيات والعوارض ويفرق بين الجنس والفصل، فيكون إدراكه أتم فتكون اللذة فيه أقوى. المسألة الخامسة والعشرون في الإرادة والكراهة قال: ومنها الإرادة والكراهة وهما نوعان من العلم. أقول: من الكيفيات النفسانية الإرادة والكراهة، وهما نوعان من العلم بالمعنى الأعم، وذلك لأن الإرادة عبارة عن علم الحي أو اعتقاده أو ظنه بما في الفعل من المصلحة، والكراهة علمه أو ظنه أو اعتقاده بما فيه من المفسدة، هذا مذهب جماعة. وقال آخرون: إن الإرادة والكراهة زائدتان على هذا العلم
(1) لأن المتفق أي المستوى صارت حرارة الحمى متمكنة فيه كالمزاج له (الأسفار ج 2 ط 1 ص 38). 358 مترتبتان عليه، لأنا نجد من أنفسنا ميلا إلى الشئ أو عنه مترتبا على هذا العلم، وهي تفارق الشهوة فإن المريض يريد شرب الدواء ولا يشتهيه. قال: وأحدهما لازم مع التقابل. أقول: الذي فهمناه من هذا الكلام أن أحدهما أي إرادة الشئ تستلزم كراهة ضده فإن الكراهة للضد أحدهما يعني أحد الأمرين إما الإرادة أو الكراهة لازم للإرداة للشئ مع تقابل المتعلقين أعني الشئ والضد. وهذا حكم قد اختلف فيه فذهب الأكثر إليه، وذهب قوم إلى أن إرادة الشئ نفس كراهة الضد وهو غلط من باب أخذ ما بالعرض مكان ما بالذات. ويحتمل أن يكون معنى قوله: وأحدهما لازم مع التقابل، أي أن أحدهما لازم للعلم قطعا إذ المعلوم إما أن يشتمل فعله على نوع من المصلحة أو على نوع من المفسدة، فأحد الأمرين لازم لكن لا يلزمه أحدهما بعينه للتقابل بينهما بل اللازم واحد لا بعينه. قال: ويتغاير اعتبارهما بالنسبة إلى الفاعل وغيره. أقول: الذي يظهر لنا من هذا الكلام أن الإرادة والكراهة يتغاير اعتبارهما بالنسبة إلى الفاعل بالإرادة وغيره، وذلك لأن الإرادة إن كانت لنفس فعل الفاعل من نفسه فهي عبارة عن صفة تقتضي تخصيصه بالايجاد دون غيره مما عداه من الأفعال في وقت خاص دون غيره من سائر الأوقات، وإن كانت لفعل الغير فإنها لا تؤخذ بهذا المعنى. قال: وقد تتعلقان بذاتيهما بخلاف الشهوة والنفرة. أقول: الإرادة قد تراد والكراهة قد تكره، وهذا حكم ظاهر لكن الإرادة المتعلقة بالإرادة ليست هي الإرادة المتعلقة بالفعل لأن اختلاف المتعلقات يقتضي اختلاف المتعلقات (1) أما الشهوة والنفرة فلا يصح تعلقهما بذاتيهما فالشهوة لا
(1) الأول بالفتح والثاني بالكسر. 359 تشتهي وكذلك النفرة لا ينفر عنها، لأن الشهوة والنفرة أنما تتعلقان بالمدرك لا بمعنى أنه يجب أن يكون موجودا، فقد تتعلق الشهوة والنفرة بالمعدوم وهما غير مدركين. قال: فهذه الكيفيات تفتقر إلى الحياة وهي صفة تقتضي الحس والحركة مشروطة باعتدال المزاج عندنا. أقول: هذه الكيفيات النفسانية التي ذكرها مشروطة بالحياة وهو ظاهر، ثم فسر الحياة بأنها صفة تقتضي الحس والحركة، وزادها إيضاحا بقوله: مشروطة باعتدال المزاج، ثم قيد ذلك بقوله: عندنا، ليخرج عنه حياة واجب الوجود فإنها غير مشروطة باعتدال المزاج ولا تقتضي الحس والحركة. قال: فلا بد من البنية. أقول: هذا نتيجة ما تقدم من اشتراط الحياة باعتدال المزاج، فإن ذلك أنما يتحقق مع البنية وهذا ظاهر، والأشاعرة أنكروا ذلك وجوزوا وجود حياة في محل غير منقسم بانفراده وهو ظاهر البطلان. قال: وتفتقر إلى الروح (1). أقول: الحياة تفتقر إلى الروح، وهي أجسام لطيفة متكونة من بخارية الاخلاط سارية في العروق تنبعث من القلب، وحاجة الحياة إليها ظاهرة. قال: وتقابل الموت تقابل العدم والملكة. أقول: الموت هو عدم الحياة عن محل وجدت فيه فهو مقابل للحياة مقابلة العدم والملكة، وذهب أبو علي الجبائي إلى أنه معنى وجودي يضاد الحياة لقوله تعالى: الذي خلق الموت والحياة والخلق يستدعي الايجاد وهو ضعيف، لأن
(1) أي الروح البخاري وهي من صفوة الاخلاط الأربعة ولا جسم ألطف منه وهي المطية الأولى للنفس. 360 الخلق هو التقدير وذلك لا يستدعي كون المقدور وجوديا. المسألة السادسة والعشرون في باقي الكيفيات النفسانية قال: ومن الكيفيات النفسانية الصحة والمرض. أقول: الصحة والمرض من الكيفيات النفسانية عند الشيخ، أما الصحة فقد حدها في الشفاء بأنها ملكة في الجسم الحيواني تصدر عنه لأجلها أفعاله الطبيعية وغيرها على المجرى الطبيعي غير مأوفة، والمرض حالة أو ملكة مقابلة لتلك (1). وهنا إشكال فإن المتضادين يدخلان تحت جنس واحد، فالصحة إن دخلت في الحال والملكة فكذا المرض لكن أجناس المرض سوء المزاج وسوء التركيب وتفرق الاتصال، فسوء المزاج إن كان هو الحرارة الزائدة مثلا فهو من الكيفيات الفعلية لا من الحال والملكة، وإن كان هو اتصاف البدن بها فهو من مقولة أن ينفعل، وسوء التركيب عبارة عن مقدار أو عدد أو وضع أو شكل أو انسداد مجرى يخل بالأفعال، ولا شئ من هذه بحال ولا ملكة وتفرق الاتصال عدمي لا يدخل تحت مقولة. قال: والفرح والغم. أقول: الفرح أحد الكيفيات النفسانية وكذا الغم، والسبب المعد للفرح كون
(1) أي مقابلة للصحة. وفي (م) وحدها: مقابلة لذلك أي مقابلة لذلك الحد. والوجه الأول مطابق لعبارة الشيخ كما في نسخة عتيقة من الشفاء عندنا حيث قال في الفصل الثاني من المقالة السابعة من قاطيغورياس منطق الشفاء: الصحة وهي ملكة في الجسم الحيواني تصدر عنه لأجلها أفعاله الطبيعية وغيرها على المجرى الطبيعي غير مؤوفة، وسواء نسبت إلى البدن كله أو إلى عضو واحد، وسواء كانت بالحقيقة أو بحسب الحس، فإن الذي بحسب الحس رسمه بحسب الحس. والمرض حالة أو ملكة مقابلة لتلك فلا تكون أفعاله من كل الوجوه كذلك بل تكون هناك آفة في الفعل.. الخ. 361 حامله الذي هو الروح على أفضل أحواله في الكم والكيف، والفاعل تخيل الكمال (1)، وأضداد هذه أسباب للغم. قال: والغضب والحزن والهم والخجل والحقد. أقول: هذه أيضا من الأعراض النفسانية، واعلم أن جميع العوارض النفسانية تسلتزم حركة الروح إما إلى داخل أو خارج، والأول إن كانت كثيرة فكما في الفزع أو قليلة فكما في الحزن، والثاني إما دفعة فكما في الغضب أو يسيرا يسيرا فكما في اللذة، وقد يتفق أن يتحرك إلى جهتين دفعة واحدة إذا كان العارض يلزمه عارضان كالهم فإنه يوجد معه غضب وحزن فتختلف الحركتان، وكالخجل الذي تنقبض الروح معه أولا إلى الباطن ثم يخطر بالبال انتفاء الضرر فتنبسط ثانيا، ويعتبر في الحقد غضب ثابت وعدم سهولة الانتقام وعدم صعوبته. المسألة السابعة والعشرون في الكيفيات المختصة بالكميات قال: والمختصة بالكمية إما المتصلة كالاستقامة والاستدارة والانحناء والتقعير والتقبيب والشكل والخلقة، أو المنفصلة كالزوجية والفردية. أقول: لما فرغ من البحث عن الكيفيات النفسانية شرع في الكيفيات المختصة بالكميات، ونعني بها الكيفية التي تعرض للكمية أولا وبالذات وللجسم ثانيا وبالعرض، واعلم أن الكم على قسمين: متصل ومنفصل، أما المتصل فقد يعرض له الكيف مثل الاستقامة والاستدارة والانحناء والتقعير والتقبيب والشكل والخلقة، وأما المنفصل فقد يعرض له أيضا أنواع أخر من الكيف كالزوجية والفردية وغيرهما. قال: فالمستقيم أقصر الخطوط الواصلة بين نقطتين، وكما أنه موجود فكذا
(1) التخيل مصدر مضاف خبر للفاعل. 362 الدائرة. أقول: رسم ارشميدس الخط المستقيم بأنه أقصر خط يصل بين نقطتين لأن كل نقطتين يمكن أن يوصل بينهما بخطوط غير مستقيمة مختلفة في الطول والقصر وبخط واحد مستقيم هو أقصرها. إذا عرفت هذا فنقول: الخط المستقيم موجود بالضرورة، أما الدائرة وهي سطح مستو يحيط به خط واحد في داخله نقطة كل الخطوط المستقيمة الخارجة منها إلى المحيط متساوية، فقد اختلف الناس في وجودها فالذين أثبتوا ما لا ينقسم من ذوات الأوضاع نفوها، والباقون أثبتوها وهو اختيار المصنف رحمه الله لأن الدائرة المحسوسة موجودة، فإذا وصلنا بين المركز المحسوس منها وبين المحيط بخط ثم نقلنا طرف الخط الذي عند المحيط إلى جزء آخر، فإن لم ينطبق عليه فإن كان لزيادة جزء أزلناه وإن كان لنقصان جزء ملأناه به وإن كان لنقصان أقل من جزء أو لزيادة أقل منه لزم انقسام الجوهر وإمكان العمل أيضا. قال: والتضاد منتف عن المستقيم والمستدير فكذا عن عارضيهما. أقول: إنه ربما توهم بعض الناس أن الخط المستقيم يضاد الخط المستدير للتنافي بينهما، والتحقيق خلاف هذا فإن الضدين يجب اتحاد موضوعهما والموضوع هنا ليس بواحد إذ المستقيم يستحيل أن ينقلب إلى المستدير وبالعكس، وأيضا فإن المستقيم قد يكون وترا لقسي غير متناهية (1) كثرة وضد
(1) كما في (م ص ز ذ ش) وفي بعض النسخ: غير متشابهة. والوجهان يفيدان معنى صحيحا إلا أن الأول متعين ولا تكون القسي غير المتناهية على وتر إلا غير المتشابهة، وأظن أن تعليقة أقيمت مقام غير المتناهية ثم بدلت الكثرة بالكثيرة ليستقيم المعنى. والقسي المتشابهة هي التي تقبل الزوايا المتساوية، كما يرشدك بذلك العاشر من ثانية اكرثا وذوسيوس بتحرير المحقق الماتن: إذا كانت في كرة دوائر متوازية ورسمت دوائر عظيمة تمر بأقطابها فإن القسي من الدوائر المتوازية التي فيما بين الدوائر العظيمة متشابهة. 363 الواحد واحد لا غير، وإذا انتفى التضاد عنهما فكذا عن عارضيهما، ويفهم منه أمران: أحدهما: أن التضاد منتف عن الاستقامة والاستدارة العارضتين للخط المستقيم والمستدير. والثاني: أن التضاد منتف عن الحركتين الواقعتين على الخطين المستقيم والمستدير. قال: والشكل هيئة إحاطة الحد أو الحدود بالجسم ومع انضمام اللون تحصل الخلقة. أقول: ذكر القدماء أن الشكل ما أحاط به حد أو حدود، والتحقيق أنه من باب الكيف فإنه هيئة تعرض للجسم بسبب إحاطة الحد الواحد أو الحدود به كالكرية والتربيع وهو مغاير للوضع بمعنى المقولة، وإذا اعتبر الشكل واللون معا حصلت الخلقة. قال: الثالث المضاف. أقول: لما فرغ من البحث عن الكيف وأقسامه شرع في المضاف وهو المقولة الثالثة من المقولات العشر، وهذه المقولة مع ما بعدها من المقولات كلها نسبية وهو قسم مقابل لما تقدم من المقولات، وفي هذا القسم مسائل: المسألة الأولى في أقسامه قال: وهو حقيقي ومشهوري. أقول: المضاف قد يقال لنفس الإضافة أعني العارضة للشئ باعتبار قياسه إلى غيره كالأبوة والبنوة، ويقال له: المضاف الحقيقي فإنه لذاته يقتضي الإضافة، وغيره أنما يقتضي الإضافة بواسطته، ويقال للذات التي عرضت لها الإضافة بالفعل كالأب والابن ويسمى المضاف المشهوري، وقد يقال للذات نفسها مضاف مشهوري باعتبار كونها معروضة للإضافة.
364 المسألة الثانية في خواصه قال: ويجب فيه الانعكاس والتكافؤ بالفعل أو القوة. أقول: هاتان خاصتان مطلقتان للمضاف لا يشاركه فيهما غيره، إحداهما: وجوب الانعكاس فإنه كما أن الأب أب للابن فكذا الابن ابن للأب، والمراد بالانعكاس الحكم بإضافة كل واحد منها إلى صاحبه من حيث كان مضافا إليه كما مثلناه، فإن لم تراع هذه الحيثية لم يجب الانعكاس كما تقول: الأب أب للانسان. الثانية: التكافؤ في الوجود بالفعل أو القوة والمتقدم مصاحب للمتأخر ذهنا. قال: ويعرض للموجودات أجمع. أقول: المضاف الحقيقي يعرض لجميع الموجودات، كما يقال للواجب تعالى: قادر عالم خالق رازق، ويقال لنوع من الجواهر: إنه أب وابن وغيرهما، ويقال للخط: طويل وقصير، وللعدد: قليل وكثير، وللكيف: أسخن وأبرد، وللمضاف: كالأقرب والأبعد (1)، وللأين: أعلى وأسفل، وللمتى: أقدم وأحدث، وللوضع: أشد استقامة وانحناء، وللملك: أكسى وأعرى، وللفعل: أقطع وأصرم، وللانفعال: أشد تسخنا وتقطعا. المسألة الثالثة في أن الإضافة ليست ثابتة في الأعيان قال: وثبوته ذهني وإلا تسلسل ولا ينفع تعلق الإضافة بذاتها. أقول: اختلف العقلاء هنا، فذهب قوم إلى أن الإضافة ثابتة في الأعيان، لأن فوقية السماء ليست عدما محضا ولا أمرا ذهنيا غير مطابق. وقال آخرون: إنها
(1) باتفاق النسخ كلها. 365 عدمية في الأعيان ثابتة في الأذهان، وهو اختيار المصنف رحمه الله وأكثر المحققين. والدليل عليه وجوه ذكرها المصنف: أحدها أن الإضافة لو كانت ثابتة في الأعيان لزم التسلسل، لأن حلولها في المحل إضافة أخرى وحلول ذلك الحلول ثابت يستدعي محلا وحلولا وذلك يوجب التسلسل. أجاب الشيخ أبو علي ابن سينا عن هذا (1) بأن قال: يجب أن نرجع في حل
(1) أجاب عنه الشيخ في الفصل العاشر من ثالثة إلهيات الشفاء (ج 2 ط 1 ص 462) عبارة الشيخ المنقولة في نسخ كشف المراد تغاير عبارة الشفاء في الجملة. وقول الشارح بعد نقل كلام الشيخ: (وهذا الكلام على طوله غير مفيد للمطلوب) يعطي أنه نقل كلامه من غير تصرف فيه وتحرير آخر، ولكن عرضها على الشفاء يوهم أن ما في الكشف كأنه تحرير آخر من كلام الشيخ. كيف كان فقد نأتي هنا بعبارة الشيخ من نسخة مصححة عندنا صححناها في أثناء تدريسنا إياها بمقابلتها على عدة نسخ مخطوطة كريمة موجودة في مكتبتنا المحقرة على غاية الدقة والاتقان في العمل فهي ما يلي: يجب أن نرجع في حل هذه الشبهة إلى حد المضاف المطلق فنقول: إن المضاف هو الذي ماهيته معقولة بالقياس إلى غيره فكل شئ في الأعيان يكون بحيث ماهيته أنما يعقل بالقياس إلى غيره فذلك الشئ من المضاف، لكن في الأعيان أشياء كثيرة بهذه الصفة فالمضاف في الأعيان موجود فإن كان للمضاف ماهية أخرى فينبغي أن يجرد ما له من المعنى المعقول بالقياس إلى غيره فذلك المعنى هو بالحقيقة المعقول بالقياس إلى غيره، وغيره إنما هو معقول بالقياس إلى غيره بسبب هذا المعنى وهذا المعنى ليس معقولا بالقياس إلى غيره بسبب شئ غير نفسه بل هو مضاف لذاته فليس هناك ذات وشئ هو الإضافة بل هناك مضاف بذاته لا بإضافة أخرى فتنتهي من هذا الطريق الإضافات. وأما كون هذا المعنى المضاف بذاته في هذا الموضوع فهو من حيث إنه في هذا الموضوع ماهية معقولة بالقياس إلى هذا الموضوع وله وجود آخر، مثلا وهو وجود الأبوة وذلك الوجود أيضا مضاف لكن ليس ذلك هذا فليكن هذا عارضا من المضاف لذي المضاف وكل واحد منهما مضاف لذاته إلى ما هو مضاف إليه بلا إضافة أخرى فالكون محمولا مضاف لذاته، والكون أبوة مضاف لذاته، إنتهى. أقول: إن الشارح في البحث عن التقابل وهو المسألة الحادية عشرة من ثاني المقصد الأول قال في تعريف التضايف ما هذا لفظه: المتقابلان إن كانا وجوديين فإن عقل أحدهما بالقياس إلى الآخر فهو تقابل التضايف كالأبوة والبنوة.. إلى قوله في تعريف الضدين في المشهور: إن الضدين في المشهور يطلقان على كل وجوديين متقابلين لا يعقل أحدهما بالقياس إلى الآخر.. الخ. وعلى هذا الوزن ينبغي أن يقال هاهنا في تعريف الإضافة نحو عبارات الشيخ من يعقل، والمعقول ونظائرهما في عبارة الشفاء والشارح عدل عنها إلى مقولة ونظائرهما كما في الكتاب. 366 هذه الشبهة إلى حد المضاف المطلق فنقول: المضاف هو الذي ماهيته مقولة بالقياس إلى غيره، فكل شئ في الأعيان يكون بحسب ماهيته (1) إنما يقال بالقياس إلى غيره فذلك الشئ هو المضاف، لكن في الأعيان أشياء كثيرة بهذه الصفة فالمضاف في الأعيان موجود. ثم إن كان في المضاف ماهية أخرى فينبغي أن يجرد ما له من المعنى المقول بالقياس إلى غيره فذلك المعنى هو بالحقيقة المعنى المقول بالقياس إلى غيره، وغيره أنما هو مقول بالقياس إلى غيره بسبب هذا المعنى، وهذا المعنى ليس مقولا بالقياس إلى غيره بسبب شئ غير نفسه بل هو مضاف لذاته فليس هناك ذات وشئ هو الإضافة بل هناك مضاف بذاته لا بإضافة أخرى فتنتهي من هذا الطريق الإضافات. وأما كون هذا المعنى المضاف بذاته في هذا الموضع (2) فله وجود آخر - مثلا وجود الأبوة في الأب - أمر زائد على ذات الأب، وذلك الموجود أمر مضاف أيضا فليكن هذا عارضا من المضاف لذي المضاف (3) وكل واحد منهما مضاف لذاته إلى ما هو مضاف إليه لا لإضافة أخرى. فالكون محمولا مضاف لذاته، والكون أبوة مضاف لذاته. وهذا الكلام على طوله غير مفيد للمطلوب، لأن التسلسل الذي ألزمناه ليس من حيث إن المضاف الذي هو المقولة يكون مضافا بإضافة أخرى حتى تقسم
(1) كما في (م). وفي غيرها: يكون بحيث ماهيته. (2) كما في (م). وفي غيرها في هذا الموضوع. (3) كما في (م). وفي عدة نسخ مخطوطة من الشفاء وكشف المراد: فليكن هذا عارضا من المضاف لزم المضاف. وما في (م) أمتن وأوفق بأسلوب العبارة. بل ينبغي أن يقال هو متعين ولزم محرف. 367 الأشياء إلى ما هو مضاف بذاته وإلى ما هو مضاف بغيره بل من حيث إن المضاف الحقيقي كالأبوة تفتقر إلى محل تتقوم به لعرضيتها وحلولها في ذلك المحل إضافة لها إلى ذلك المحل يستدعي محلا وحلولا ويتسلسل، وإلى هذا أشار المصنف رحمه الله بقوله: ولا ينفع تعلق الإضافة بذاتها، أي تعلق الإضافة بالمضاف إليه لذاتها لا لإضافة أخرى. قال: ولتقدم وجودها عليه (1). أقول: هذا وجه ثان دال على أن الإضافة ليست ثابتة في الأعيان، وتقريره أنها لو كانت ثبوتية لشاركت الموجودات في الوجود وامتازت عنها بخصوصية ما، فاتصاف وجودها بتلك الخصوصية إضافة سابقة على وجود الإضافة فيلزم تقدم وجود الإضافة على وجودها وهو محال، فالضمير في (عليه) يرجع إلى وجودها. ويحتمل عوده إلى المحل ويكون معنى الكلام أن الإضافة لو كانت موجودة لزم تقدمها على محلها لأن وجود محلها حقيقة له، فاتصافه به نوع إضافة سابق على وجود الإضافة، وأعاد الضمير إليه من غير ذكر لفظي لظهوره. قال: ولزم عدم التناهي في كل مرتبة من مراتب الأعداد. أقول: هذا وجه ثالث، وتقريره أن الإضافات لو كانت ثابتة في الأعيان لزم أن تكون كل مرتبة من مراتب الأعداد تجتمع فيه إضافات وجودية لا تتناهى، لأن الاثنين مثلا له اعتبار بالنسبة إلى الأربعة وتعرض له بذلك الاعتبار إضافة النصفية، وإلى الستة وتعرض له بحسبه إضافة الثلثية، وهكذا إلى ما لا يتناهى وهو محال. أما أولا فلما بينا من امتناع وجود ما لا يتناهى مطلقا، وأما ثانيا فلأن تلك الإضافات موجودة دفعة ومترتبة في الوجود باعتبار تقدم بعض المضاف إليه على بعض فيلزم اجتماع أعداد لا تتناهى دفعة مترتبة وهو محال اتفاقا، وأما ثالثا
(1) برفع الوجود فاعل تقدم، وتقدم فعل ماض. 368 فلأن وجود الإضافات يستلزم وجود المضاف إليه فيلزم وجود ما لا يتناهى من الأعداد دفعة من ترتبها، وكل ذلك مما برهن على استحالته. قال: وتكثر (1) صفاته تعالى. أقول: هذا وجه رابع، وتقريره أن الإضافات لو كانت وجودية لزم وجود صفات الله تعالى متكثرة لا تتناهى، لأن له إضافات لا تتناهى وذلك محال. المسألة الرابعة في باقي مباحث الإضافة قال: ويخص كل مضاف مشهوري مضاف حقيقي (2) فيعرض له الاختلاف والاتفاق إما باعتبار زائد أو لا. أقول: المضاف المشهوري كالأب يعرض له مضاف حقيقي كالأبوة وكذا الابن تعرض له البنوة، فكل مضاف مشهوري يعرض له مضاف حقيقي ولا يمكن أن يكون مضاف حقيقي واحد عارضا لمضافين مشهوريين لامتناع قيام عرض واحد بمحلين، فإذا كان كل مضاف مشهوري يعرض له مضاف حقيقي عرض حينئذ الاختلاف في المضاف الحقيقي كالأبوة والبنوة والاتفاق كالأخوة والجوار. ثم إن هذا المضاف الحقيقي يعرض للمضاف المشهوري إما باعتبار زائد يحصل فيهما كالعاشق والمعشوق فإن في العاشق هيئة مدركة وفي المعشوق هيئة يتعلق بها الإدراك فيحصل حينئذ إضافة العشق باعتبار هذا الزائد، وقد يكون الزائد في أحدهما إذ العالم المضاف إلى المعلوم باعتبار قيام صفة العلم به، وقد لا يكون باعتبار زائد كالميامن والمياسر (3) فإنهما يتضايفان لا لأجل صفة زائدة
(1) برفع التكثر وإضافته عطفا على عدم التناهي، أي لزم تكثر صفاته. (2) باتفاق النسخ كلها، فمضاف حقيقي فاعل. (3) على هيئة اسم الفاعل فيهما. وفي نسخ قد حرفا بالتيامن والتياسر. ولا يخفى عليك وجه التحريف لأن الكلام في المضاف المشهوري وعروض إضافة حقيقية. 369 على الإضافة، هذا خلاصة ما فهمناه من هذا الكلام. المسألة الخامسة في مقولة الأين قال: الرابع الأين وهي النسبة إلى المكان (1). أقول: لما فرغ من البحث عن المضاف شرع في البحث عن الأين وهي نسبة الشئ إلى مكانه بالحصول فيه وهو حقيقي وهو نسبة الشئ إلى مكانه الخاص به، وغير حقيقي وهو نسبته إلى مكان عام كقولنا: زيد في الدار، وهذه النسبة مغايرة للوجود ولكل واحد من الجسم والمكان ولا تقبل الشدة والضعف. قال: وأنواعه أربعة عند قوم هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق. أقول: أنواع الكون عند المتكلمين أربعة: الحركة والسكون وهما حالتا الجسم بانفراده باعتبار المكان، والاجتماع والافتراق وهما حالتاه باعتبار انضمامه إلى الغير من الأجسام. قال: فالحركة كمال أول لما بالقوة من حيث هو بالقوة أو حصول الجسم في مكان بعد آخر. أقول: هذان تعريفان للحركة، الأول منهما للحكماء والثاني للمتكلمين. أما التعريف الأول فاعلم أن الحركة حال حصول الجسم في المكان المنتقل عنه معدومة عنه ممكنة له فهي كمال للجسم، ثم إن حصوله في المكان الثاني حينئذ معدوم عنه ممكن له فهو كمال أيضا، والجسم في تلك الحال بالقوة في المكان الثاني لكن الحركة أسبق الكمالين، فالحركة كمال أول لما بالقوة أعني الجسم الذي هو بالقوة في المكان الثاني. وإنما قيدنا بقولنا: من حيث هو بالقوة،
(1) باتفاق النسخ كلها. 370 لأن الحركة تفارق سائر الكمالات بأن جميع الكمالات إذا حصلت خرج ذو الكمال من القوة إلى الفعل، وهذا الكمال من حيث إنه كمال يستلزم كون ذي الكمال بالقوة. وأما الثاني فإن المتكلمين قالوا: ليست الحركة هي الحصول في المكان الأول، لأن الجسم لم يتحرك بعد، ولا واسطة بين الأول والثاني وإلا لم يكن ما فرضناه ثانيا بثان فهي الحصول في المكان الثاني لا غير. قال: ووجودها ضروري. أقول: اتفق أكثر العقلاء على أن الحركة موجودة وادعوا الضرورة في ذلك، وخالفهم جماعة من القدماء كزينون وأتباعه قالوا: إنها ليست موجودة واستدلوا على ذلك بوجوه: أحدها: أن الحركة لو كانت موجودة لكانت إما منقسمة فيكون الماضي غير المستقبل أو غير منقسمة فيلزم تركبها من الأجزاء التي لا تتجزأ، واللازمان باطلان. الثاني: أن الحركة ليست هي الحصول في المكان الأول لأن الجسم حينئذ لم يتحرك بعد، ولا في المكان الثاني لأن الحركة انتهت وانقطعت، ولا المجموع لامتناع تحقق جزئيه معا في الوجود فلا تكون موجودة. الثالث: أن الحركة ليست واحدة فلا تكون موجودة. وهذه الاستدلالات في مقابلة الحكم الضروري فلا تكون مسموعة. قال: يتوقف على المتقابلين والعلتين والمنسوب إليه والمقدار. أقول: وجود الحركة يتوقف على أمور ستة: أحدها: ما منه الحركة. والثاني: ما إليه الحركة أعني مبدأ الحركة ومنتهاها، والظاهر أن مراده بالمتقابلين هذان لأن المبدأ والمنتهى متقابلان لا يجتمعان في شئ واحد باعتبار واحد. الثالث: ما به الحركة وهو السبب والعلة الفاعلية لوجودها. الرابع: ما له الحركة أعني الجسم المتحرك وهو العلة القابلية، وهذان هما المرادان بقوله: والعلتين. الخامس: ما فيه
371 الحركة أعني المقولة التي ينتقل الجسم فيها من نوع إلى نوع، والظاهر أنه المراد بقوله: والمنسوب إليه، إذ المقولة تنسب الحركة إليها بالتبعية (1). السادس: الزمان الذي تقع فيه الحركة وهو المراد بقوله: والمقدار، فإن الزمان مقدار الحركة. قال: فما منه وما إليه قد يتحدان محلا وقد يتضادان ذاتا وعرضا. أقول: ما منه وما إليه قد يكون محلهما واحدا لكن لا باعتبار واحد كالنقطة في الحركة المستديرة فإنها بعينها مبدأ للحركة المستديرة ومنتهى لها لكن باعتبارين، وقد يتغاير محلهما كالحركات المستقيمة ثم قد يتضاد المحل في المتكثر إما ذاتا كالحركة من السواد إلى البياض أو عرضا كالحركة من اليمين إلى الشمال. قال: ولهما اعتباران (2) متقابلان أحدهما بالنظر إلى ما يقالان له. أقول: الذي فهمناه من هذا الكلام أن لكل واحد مما منه وما إليه اعتبارين: أحدهما بالقياس إلى ما يقال له أعني ذا المبدأ وذا المنتهى، والثاني بقياس كل واحد إلى صاحبه. فالأول قياس التضايف والثاني قياس التضاد، وذلك لأن المبدأ لا يضايف المنتهى لانفكاكهما تصورا بل يضايف ذا المبدأ، فإن المبدأ مبدأ لذي المبدأ وكذا المنتهى، وأما اعتبار المبدأ إلى المنتهى فإنه مضاد له إذ ليس مضايفا، ولا سلبا وإيجابا، ولا عدما وملكة فلم يبق إلا التضاد، وهذان الاعتباران أعني التضايف والتضاد متقابلان. (واعلم) أن هاهنا إشكالا وهو أن يقال: الضدان لا يعرضان لموضوع واحد مجتمعين فيه، والمبدأ والمنتهى قد يعرضان لجسم واحد.
(1) كما في نسخة (م) والنسخ الأخرى كلها بالفيئية. (2) العبارة في الشوارق هكذا: ولهما اعتباران متقابلان أحدهما بالنظر إلى ما يقالان له، وثانيهما اعتبار كل منهما بالنظر إلى الآخر (ص 376 ج 2 ط 1) ولكن نسخ كشف المراد كلها مطبقة على ما نقلناه، وكأنه لم يأت بالاعتبار الآخر لدلالة أسلوب الكلام عليه. 372 والجواب أن الضدين قد يجتمعان في جسم واحد إذا لم يكن الجسم موضوعا قريبا لهما، وحال المبدأ والمنتهى هنا كذلك لأن موضوعهما الأطراف في الحركات المستقيمة وتلك متغايرة، بقي أن يقال: هذا لا يتأتى في الحركات المستديرة، وقد نبه المصنف رحمه الله على ذلك بقوله: قد يتحدان محلا، فيكون وجه الخلاص عدم اجتماع الوصفين إذ حال وصفه بكونه منتهى ينتفي عنه كونه مبدأ، وفيه ما فيه. قال: ولو اتحدت العلتان انتفى المعلول. أقول: قد بينا أنه يريد بالعلتين هنا الفاعلية أعني المحرك والقابلية أعني المتحرك، وادعى تغايرهما على معنى أنه لا يجوز أن يكون الشئ محركا لنفسه بل إنما يتحرك بقوة موجودة أما فيه كالطبيعة أو خارجة عنه (1) لأنه لو تحرك لذاته لانتفت الحركة إذ بقاء العلة يستلزم بقاء المعلول، فإذا فرضنا الجسم لذاته علة للحركة كان علة لأجزائها فيكون كل جزء منها باقيا ببقاء الجسم، لكن بقاء الجزء الأول منها يقتضي أن لا يوجد الثاني لامتناع اجتماع أجزائها في الوجود فلا توجد الحركة وقد فرضناها موجودة هذا خلف، وإلى نفي الحركة أشار بقوله: انتفى المعلول. قال: وعم. أقول: هذه حجة ثانية على أن الفاعل للحركة ليس هو القابل أعني نفس الجسمية، وتقريره أن نقول: الأجسام متساوية في الماهية، فلو اقتضت لذاتها الحركة لزم عمومها لكل جسم فكان كل جسم متحركا (هف) ثم إن الجسمية إن اقتضت الحركة إلى جهة معينة لزم حركة كل الأجسام إليها وهو باطل بالضرورة، وإن كان إلى جهة غير معينة انتفت الحركة، وأشار إلى هذا الدليل بقوله: (وعم) أي
(1) باتفاق النسخ كلها. وفي المطبوعة: أو خارجة عنه كالنفس. والظاهر أن المثال أعني قوله: كالنفس تعليقة أدرجت في الكتاب. 373 وعم ما فرضناه معلولا وهو الحركة إما مطلقا أو إلى جهة معينة على ما قررنا الوجهين فيه. قال: بخلاف الطبيعة المختلفة المستلزمة في حال ما. أقول: هذا جواب عن إشكال يورد على هذين الدليلين، وتقريره أن نقول: الطبيعة قد تقتضي الحركة ولا يلزم دوامها بدوام الطبيعة ولا عمومها بعمومها. وتقرير الجواب أن نقول: الطبائع مختلفة فجاز اقتضاء بعضها الحركة إلى جهة معينة بخلاف غيرها، وإلى هذا أشار بقوله: المختلفة. وأيضا الطبيعة لم نقل إنها مطلقا علة للحركة وإلا لزم المحال بل إنما تقتضيها في حال ما وهو حال خروج الجسم عن مكانه الطبيعي، أما حال بقاء الجسم في مكانه الطبيعي فلا تقتضي الحركة، وإليه أشار بقوله: المستلزمة في حال ما. قال: والمنسوب إليه أربع، فإن بسائط الجواهر توجد دفعة ومركباتها تعدم بعدم أجزائها. أقول: يريد بالمنسوب إليه ما توجد فيه الحركة على ما تقدم تفسيره، والحركة تقع في أربع مقولات لا غير (1) هي: الكم والكيف والأين والوضع، ولا تقع فيما سوى ذلك أما الجوهر فقسمان: بسيط ومركب، فالبسيط يوجد دفعة فلا تتحقق فيه حركة، والمركب يعدم بعدم أحد أجزائه فلا تقع فيه حركة إذ المتحرك باق حال الحركة والمركب ليس بباق حال الحركة فلا تقع فيه حركة أيضا. قال: والمضاف تابع. أقول: المضاف لا تقع فيه حركة بالذات لأنه أبدا تابع لغيره، فإن كان متبوعه قابلا للشدة والضعف قبلهما هو وإلا فلا. قال: وكذا متى. أقول: ذكر الشيخ في النجاة أن متى يوجد للجسم بتوسط الحركة فكيف
(1) التحقيق في المقام يطلب في كتابنا الفارسي الموسوم ب (گشى در حركت). 374 يكون فيه حركة فإن كل حركة في متى فلو كان فيه حركة لكان لمتى متى آخر، وقال في الشفاء: يشبه أن يكون حال متى كحال الإضافة في أن الانتقال لا يكون فيه بل يكون في كم أو كيف ويكون الزمان لازما لذلك التغير فيعرض بسببه فيه التبدل. قال: والجدة دفعة. أقول: مقولة الملك لا تتحقق فيها حركة، لأنا قد بينا أنها عبارة عن نسبة التملك فإن حصل وقع دفعة وإلا فلا حصول له فلا تعقل فيه حركة. قال: ولا تعقل حركة في مقولتي الفعل والانفعال. أقول: هاتان المقولتان لا توجد الحركة فيهما، لأن الانتقال من التبرد إلى التسخن إن كان بعد كمال التبرد وانتهائه لم يكن الانتقال من التبرد بل من البرودة إذ التبرد قد عدم وانقطع، وإن كان قبل كماله كان الجسم في حال واحد أعني حال الحركة متوجها إلى كيفيتين متضادتين هذا خلف. قال: ففي الكم باعتبارين لدخول (1) الماء القارورة المكبوبة عليه، وتصدع الانية عند الغليان. أقول: لما بين أن الحركة تقع في أربع مقولات وأبطل وقوعها في الزائد شرع في تفصيل وقوع الحركة في مقولة مقولة، فابتدأ بالكم وذكر أن الحركة تقع فيه باعتبارين: أحدهما التخلخل والتكاثف، والثاني النمو والذبول. أما الأول فالمراد به زيادة مقدار الجسم ونقصانه من غير ورود أجزاء جسمانية عليه، أو انفصال أجزاء منه بناء على أن المقدار أمر زائد على الجسم
(1) كما في (ش د ق) والنسخ الأخرى بالكاف أي كدخول. وقول الشارح: (واستدل على وقوع الحركة بهذا الاعتبار بوجهين) موافق للام فإن اللام للاستدال والتعليل. وإن قيل: إن الكاف تأتي للتعليل أيضا نحو قوله تعالى (واذكروه كما هداكم). وقوله: (وتصدع) مصدر مجرور مضاف إلى الآنية، عطفا على الدخول. 375 وأن الجسم قابل للانتقال من نوع منه إلى نوع آخر على التدريج، واستدل على وقوع الحركة بهذا الاعتبار بوجهين: الأول: أن القارورة إذا كبت على الماء فإن كان بعد المص دخلها الماء وإلا فلا، مع أن الخلاء أو الملاء في البابين واحد (1) فليس ذلك إلا لأن الهواء المحتقن داخل القارورة له مقدار طبيعي وبسبب المص يخرج شئ من الهواء فيكتسب الباقي لضرورة الخلاء (2) مقدارا أكثر غير طبيعي فإذا كبت القارورة على الماء
(1) كما في (ش د ق ص). وفي (ز): مع أن الخلاء والملاء في البابين واحد. وفي (م) مع أن الخلاء والملاء في المائين واحد. وفي نسخة أخرى مع أن الخلاء والملاء في التأثير واحد. وفي المطبوعة: مع أن الخلاء والماء في البابين واحد. (المباحث المشرقية للفخر الرازي ج 1 ص 569). (2) كما في النسخ كلها إلا (ص) ففيها: لصيرورة الخلاء، وما في المطبوعة: لضرورة امتناع الخلاء وهم، وإن كان عبارة القوشجي ونحوها عبارة صاحب الشوارق أيضا: ضرورة امتناع الخلاء. ومعنى لضرورة الخلاء أن الخلاء يوجب ذلك، أي يوجب أن يكتسب الباقي مقدارا أكثر غير طبيعي. وعبارة القوشجي في تقرير الدليل الأول هكذا: إن القارورة الضيقة الرأس يكب على الماء فلا يدخلها أصلا، فإذا مصت مصا قويا وسد رأسها بالإصبع بحيث لا يتصل برأسها هواء من خارج ثم تكب عليه دخلها، وبهذا الطريق يملأون الرشاشات الطويلة الأعناق الضيقة المنافذ جدا بماء الورد، وما ذلك الدخول لخلاء حدث فيها بأن يخرج المص منها بعض الهواء ويبقى مكان ذلك البعض الخارج خاليا لامتناعه على رأيهم، بل لأن المص أخرج بعض الهواء وأحدث في الهواء الباقي تخلخلا فكبر حجمه بحيث يشتغل مكان الخارج أيضا، ثم أوجد في ذلك الهواء المتخلخل البرد الذي في الماء تكاثفا فصغر حجمه وعاد بطبعه إلى مقداره الذي كان له قبل المص فدخل فيها الماء ضرورة امتناع الخلاء. وفي المباحث للفخر (ج 1 ص 569): أن القارورة تمص فتكب على الماء فيدخلها الماء فإما أن يكون قد وقع الخلاء وهو محال، وإما أن يكون الجسم الكائن فيها قد تخلخل بالقسر الحامل إياه على تخلية المكان ثم كثفه برد الماء أو تكاثف بطبعه فرجع إلى حجمه الطبيعي عند زوال السبب المخلخل إياه خارجا عن طبعه وذلك هو المطلوب. وفي الدليل بعض شبهات أوردوها في الكتب المطولة أشار إلى جوابها صاحب المنظومة في الحكمة في التعليقة بقوله: فيتكاثف هواء القارورة ببرد الماء أو لتنافرهما أو شبه ذلك فيرجع إلى الخلف ويتبعه الماء أو المائع الآخر لمحالية الخلاء بخلاف ما إذا كانت غير ممصوصة (ص 243 ط 1 أعلى). 376 داخلها الماء فعاد الهواء إلى مقداره الطبيعي لوجود المستخلف عن الهواء الخارج بالمص. الثاني: أن الآنية إذا ملئت ماءا وسد رأسها سدا محكما وغليت بالنار فإنها تنشق، وليس ذلك لمداخلة أجزاء النار لعدم الثقب في الآنية فبقي أن يكون ذلك لزيادة مقدار ما فيها، وعندي في هذين الوجهين نظر وإن أفادا الظن. قال: وحركة أجزاء المغتذي في جميع الأقطار (1) على التناسب. أقول: هذا هو الاعتبار الثاني وهو الحركة في الكم باعتبار النمو، (واعلم) أن النامي يزداد جسمه بسبب اتصال جسم آخر به وتلك الزيادة ليست مطلقا بل إذا داخلت أجزاء المزيد عليه وتشبهت به، فضد هذه الحالة الذبول وقد يشتبه هذا بالسمن، والفرق بينهما أن الواقف في النمو قد يسمن كما أن المتزايد في النمو قد يهزل، وذلك لأن الزيادة إذا أحدثت المنافذ في الأصل ودخلت فيها وتشبهت بطبيعة الأصل واندفعت أجزاء الأصل إلى جميع الأقطار على نسبة واحدة في نوعه فذاك هو النمو، والشيخ قد يسمن لأن أجزاءه الأصلية قد جفت وصلبت فلا يقوى المغتذى على تفريقها والنفوذ فيها، فلا تتحرك أجزاؤه الأصلية إلى الزيادة فلا يكون ناميا وإن تحرك لحمه إلى الزيادة، فيكون ذلك في الحقيقة نموا في اللحم لكن المسمى باسم النمو أنما هو حركة الأعضاء الأصلية. قال: وفي الكيف للاستحالة المحسوسة مع الجزم ببطلان الكمون والورود (2) لتكذيب الحس لهما.
(1) أي في جميع الأبعاد. (2) مقابل الكمون هو البروز، ووجه الورود ظاهر أيضا وفي الشرح ما يدل عليه، والنسخ كلها ببطلان الكمون والورود مكان الكمون والبروز، وفي بعضها كلمة البروز مكتوبة على صورة خ ل. والنسخة المنسوبة إلى خط الخواجة أيضا: ببطلان الكمون والورود. وفي المباحث المشرقية: أصحاب الكمون والظهور (ج 1 ط 1 ص 576). وعبارة الخواجة في شرحه على الفصل الثالث والعشرين من النمط الثاني من الإشارات كانت بلفظة البروز والورود، وتقدم الكلام فيهما (ص 250). 377 أقول: لما فرغ من البحث عن الحركة في الكم شرع في الحركة في الكيف أعني الاستحالة، واستدل على ذلك بالحس فإنه يقضي بصيرورة الماء البارد حارا على التدريج وبالعكس وكذا في الألوان وغيرها من الكيفيات المحسوسة. واعلم أن الآراء لم تتفق على هذا، فإن جماعة من القدماء أنكروا الاستحالة وافترقوا في الاعتذار عن الحرارة المحسوسة في الماء إلى قسمين: أحدهما ذهب إلى أن في الماء أجزاء نارية كامنة فيه فإذا ورد عليه نار من خارج برزت تلك الأجزاء وظهرت للحس، والثاني ذهب إلى أن الأجزاء النارية ترد عليه من خارج وتداخله فيحس منه بالحرارة. والقولان باطلان فإن الحس يكذبهما، أما الأول فلأن الأجزاء الكامنة يجب الاحساس بها عند مداخلة اليد لجميع أجزاء الماء وتفرقها قبل ورود الحرارة عليه، ولما لم يكن كذلك دل على بطلان الكمون. وأما الثاني فلأنا نشاهد جبلا من كبريت تقرب منه نار صغيرة فيحترق، مع أنا نعلم أنه لم يكن في تلك النار الصغيرة من الأجزاء النارية ما يلاقي الجبل ويغلب عليه حسا. قال: وفي الأين والوضع ظاهر. أقول: وقوع الحركة في هاتين المقولتين أعني الأين والوضع ظاهر، لكن الشيخ ادعى أنه الذي استخرج وقوع الحركة في الوضع، وقد وجد في كلام أبي نصر الفارابي وقوعها فيه. (واعلم) أن الحركة في الوضع وإن استلزمت حركة الأجزاء في الأين لكن ذلك باعتبار آخر مغاير لاعتبار حركة الجميع في الوضع. قال: وتعرض لها وحدة باعتبار وحدة المقدار والمحل والقابل. أقول: الحركة منها واحدة بالعدد ومنها كثيرة، أما الواحدة فهي الحركة
378 المتصلة من مبدأ المسافة إلى نهايتها، وقد بينا تعلق الحركة بأمور ستة والمقتضي لوحدتها إنما هو ثلاثة منها لا غير: الأول: وحدة الموضوع وهو أمر ضروري في وحدة كل عرض لاستحالة قيام العرض بمحلين، وإليه أشار بقوله: والمحل. الثاني: وحدة الزمان وهو كذلك أيضا لاستحالة إعادة المعدوم بعينه، وإليه أشار بقوله: المقدار. الثالث: وحدة المقولة التي فيها الحركة فإن الجسم الواحد قد يتحرك في الزمان الواحد حركتي كيف وأين، وإليه أشار بقوله: والقابل. ويحتمل أن يكون القابل هو الموضوع والمحل هو المقولة، ووحدة المحرك غير شرط فإن المتحرك بقوة ما مسافة إذا تحرك بأخرى قبل انقطاع فعل الأولى اتحدت الحركة، وإذا اتحدت الأشياء الثلاثة اتحد ما منه وما إليه، لكن كل واحد منهما غير كاف فإن المتحرك من مبدأ واحد قد ينتهي إلى شيئين والمنتهي إلى شئ واحد قد يتحرك من مبدأين. قال: واختلاف المتقابلين والمنسوب إليه يقتضي الاختلاف (1). أقول: إذا اختلف أحد الأمور الثلاثة أعني ما منه وما إليه وما فيه، اختلفت الحركة بالنوع فإن الحركة في الكيف تغاير الحركة في الأين وهذا ظاهر، وأيضا الصاعدة ضد الهابطة. وأراد بالمتقابلين ما منه وما إليه وبالمنسوب إليه ما فيه ولا يشترط اختلاف الموضوع فإن الحجر والنار قد يتحركان حركة واحدة بالنوع، ولا الفاعل لأن الطبيعية والقسرية قد تصدر عنهما حركة واحدة به، ولا الزمان لعدم اختلافه، وفي هذه المباحث نظر ذكرناه في كتاب الأسرار. قال: وتضاد الأولين التضاد.
(1) كما في (ش ص ز د) وفي (م ق ت) ونسخ أخرى: مقتض للاختلاف، ولكن الصواب هو الأول كما نص به الشارح في بيان المتن التالي حيث يقول: أي وتضاد الأولين يقتضي التضاد. 379 أقول: من الحركات ما هو متضاد وهي الداخلة تحت جنس أخير كالصاعدة والهابطة، فعلة تضادهما ليس تضاد المتحرك لإمكان صعود الحجر والنار، ولا تضاد المحرك لصدور الصعود عن الطبع والقسر، ولا الزمان لعدم تضاده، ولا ما فيه لاتحاد المسافة فيهما فلم يبق إلا ما منه وما إليه، وإليه أشار بقوله: وتضاد الأولين التضاد أي وتضاد الأولين يقتضي التضاد وعنى بالأولين ما منه وما إليه. ولا يمكن التضاد بالاستقامة والاستدارة لأنهما غير متضادين. قال: ولا مدخل للمتقابلين والفاعل في الانقسام. أقول: الحركة تنقسم بانقسام الزمان، فإن الحركة في نصف الزمان نصف الحركة في جميعه مع التساوي في السرعة والبطء، وبانقسام المتحرك فإنها عرض حال فيه والحال في المنقسم يكون لا شك منقسما، وبانقسام ما فيه أعني المسافة فإن الحركة إلى منتصفها نصف الحركة إلى منتهاها ولا مدخل للمتقابلين أعني ما منه وما إليه في الانقسام ولا للفاعل، وذلك كله ظاهر. قال: وتعرض لها كيفية تشتد فتكون الحركة سريعة، وتضعف فتكون بطيئة ولا تختلف بهما الماهية. أقول: تعرض للحركة كيفية واحدة تشتد تارة وتضعف أخرى، فتكون الحركة باعتبار شدتها سريعة وباعتبار ضعفها بطيئة وتلك الكيفية هي السرعة والبطء، ولا تختلف ماهية الحركة بهاتين الكيفيتين لوجهين: الأول: أن هذه الكيفية واحدة وإنما تختلف بالقياس إلى غيرها فما هو سريع بالنسبة إلى شئ قد يكون بطيئا بالنسبة إلى غيره. الثاني: أنا نقسم الجنس الواحد من الحركة إلى الصاعد والهابط مثلا ونقسمه أيضا إلى السريع والبطئ، وهاتان القسمتان ليستا مرتبتين حتى يكون عروض إحداهما للجنس بواسطة الأخرى بل يعرضان أولا لذلك الجنس، وقد تبين أن الجنس الواحد لا يعرض له فصلان من غير ترتيب بل الفصل أحدهما خاصة.
380 قال: وسبب البطء الممانعة الخارجية أو الداخلية لا تخلل السكنات وإلا لما أحس بما اتصف بالمقابل. أقول: اعلم أن المتكلمين ذهبوا إلى أن تخلل السكنات بين أجزاء الحركة سبب للاحساس بالبطء، والأوائل لما امتنع عندهم وجود جزء لا يتجزأ في الحركة امتنع إسناد البطء إلى تخلل السكنات بل أسندوه إلى الموانع الخارجية كالملاء في الحركات الطبيعية، وإلى الداخلية كالميول الطبيعية في الحركات القسرية لأنه لو كان تخلل السكنات سبب البطء لما أحس بما اتصف بالمقابل يعني أنه يلزم عدم الاحساس بالحركات المتصفة بالسرعة التي هي مقابلة البطء لما تقدم في مسألة الجزء الذي لا يتجزأ. قال: ولا اتصال لذوات الزوايا والانعطاف لوجود زمان بين آني الميلين. أقول: يريد أن كل حركتين مستقيمتين مختلفتين فإن بينهما زمان سكون كما بين الصاعدة والهابطة، وعبر عن ذلك بذوات الزوايا وهي الحركة الحاصلة على خطين أحدهما متصل بالآخر على غير الاستقامة، والانعطاف وهي الحركة الراجعة من المنتهى إلى المبدأ. وإنما وجب السكون بينهما لأن لكل حركة علة تقتضي إيصال الجسم إلى المطلوب والوصول موجود آنا فعلته كذلك، وهذا الآن الذي يوجد فيه الميل المقتضي للوصول ليس هو آن الميل الذي يقتضي المفارقة لاستحالة اجتماع الميلين ولا يتصل الآنان فلا بد من فاصل هو زمان عدم الميل فيكون الجسم ساكنا فيه وهو المطلوب. قال: والسكون حفظ النسب فهو ضد. أقول: اختلف الناس في تحقيق ماهية السكون وأنها هل هي وجودية أو عدمية؟ فالمتكلمون على الأول، فجعلوه عبارة عن حصول الجسم في حيز واحد أكثر من زمان واحد، والحكماء على الثاني قالوا: إنه عدم الحركة عما من شأنه أن يتحرك، والمصنف رحمه الله اختار قول المتكلمين وهو أنه وجودي وأن مقابلته
381 للحركة تقابل الضدية لا تقابل العدم والملكة وجعله عبارة عن حفظ النسب بين الأجسام الباقية (1) على حالها. قال: يقابل الحركتين. أقول: يمكن أن يفهم من هذا الكلام معنيان: أحدهما: إنه إشارة إلى الصحيح من الخلاف الواقع بين الأوائل من أن المقابل للحركة هو السكون في مبدأ الحركة لا نهايتها، أو أن السكون مقابل للحركة من مكان السكون وإليه، والحق هو الأخير لأن السكون ليس عدم حركة خاصة وإلا لكان المتحرك إلى جهة ساكنا في غير تلك الجهة بل هو عدم كل حركة ممكنة في ذلك المكان، واحتج الأولون بأن السكون في النهاية كمال للحركة وكمال الشئ لا يقابله. والجواب أن السكون ليس كمالا للحركة بل للمتحرك. الثاني: أن السكون ضد يقابل الحركة المستقيمة والمستديرة معا، وذلك لأنه لما بين أن السكون عبارة عن حفظ النسب وكان حفظ النسب أنما يتم ببقاء الجسم في مكانه على وضعه وجب أن يكون السكون مقابلا للحركة المستقيمة والمستديرة معا لانتفاء حفظ النسب فيهما. قال: وفي غير الأين حفظ النوع. أقول: لما بين أن السكون عبارة عن حفظ النسب وكان ذلك أنما يتحقق في السكون في المكان لكن ليس كل سكون في مكان، وجب عليه أن يفسر السكون في غير الأين من المقولات فجعله عبارة عن حفظ النوع في المقولة، التي تقع فيها الحركة. قال: ويتضاد لتضاد ما فيه (2).
(1) كما في (م) والنسخ الباقية: الأجسام الثابتة. والصواب الأول كما يصرح به في شرح المتن التالي. (2) كما في غير (م) وفيها: ويتضادان لتضاد ما فيه، على التثنية. ولعلها باعتبار السكونين أي يتضاد سكون سكونا لتضاد ما فيه. 382 أقول: قد يعرض في السكون التضاد كما يعرض في الحركة، فإن السكون في المكان الأعلى يضاد السكون في المكان الأسفل فعلة تضاده ليست تضاد الساكن ولا المسكن ولا الزمان لما تقدم في الحركة، ولا تعلق له بما منه وما إليه فوجب أن تكون علة تضاده هو تضاد ما فيه. قال: ومن الكون طبيعي وقسري وإرادي. أقول: الكون يريد به هنا الجنس الشامل للحركة والسكون كما اصطلح عليه المتكلمون، وقسمه إلى أقسام ثلاثة وذلك لأنه عبارة عن حصول الجسم في الحيز، وذلك الحصول قد بينا أنه لا يجوز استناده إلى ذات الجسم فلا بد من قوة يستند إليها، وتلك القوة إما أن تكون مستفادة من الخارج وهي القسرية، أو لا وهي الطبيعية إن لم تقارن الشعور، والإرادية إن قارنته. قال: فطبيعي الحركة أنما يحصل عند مقارنة أمر غير طبيعي. أقول: الطبيعية أمر ثابت والحركة غير ثابتة فلا تستند إليها لذاتها بل لا بد من اقتران الطبيعة بأمر غير طبيعي، ويفتقر في الرد إليه إلى الانتقال فيكون ذلك الانتقال طبيعيا أما في الأين فكالحجر المرمى إلى فوق، وأما في الكيف فكالماء المسخن، وأما في الكم فكالذابل بالمرض. قال: ليرد الجسم إليه فيقف. أقول: غاية الحركة الطبيعية أنما هي حصول الحالة الملائمة الطبيعية التي فرضنا زوالها حتى اقتضت الطبيعة الحركة ورد الجسم إليها بعد عدمها عنه، لا الهرب عن الحالة غير الطبيعية، قيل لعدم الاختصاص وهو ممنوع، إذ كل طريق غير طبيعي مهروب عنه فيختص بالطبيعي، وعلى كل تقدير فإذا حصلت الحالة الطبيعية وقف الجسم وعدمت الحركة الطبيعية لزوال الشرط وهو عدم الحالة غير الطبيعية. قال: فلا تكون دورية. أقول: هذا نتيجة ما تقدم، فإن الحركة الطبيعية تطلب استرداد الحالة الطبيعية
383 بعد زوالها، والحركة الدورية تطلب بالحركة عين ما هربت عنه فلا تكون طبيعية وهو ظاهر. واعلم أن الحركة الطبيعية قد بينا أنها أنما تصدر عن الطبيعة لا بانفرادها بل بمشاركة الأحوال الغير الطبيعية، ولتلك الأحوال درجات متفاوتة (1) في القرب والبعد، فإذا حركت الطبيعة الجسم إلى نقطة معينة كانت مع حال مخصوصة غير ملائمة، فإذا وصل الجسم إلى تلك النقطة لم تبق تلك الحالة بل حصلت حالة أخرى هي الحصول في حد آخر، فعلة الحركة الأولى التامة غير علة الحركة الثانية فلا يقال: الطبيعة في منتصف المسافة مثلا تهرب عما طلبته بالطبيعة. قال: وقسريها مستند إلى قوة مستفادة قابلة للضعف. أقول: الحركة القسرية إما أن تكون مع ملازمة المتحرك أو مع مفارقته، والأول لا إشكال فيه وإنما البحث في الثاني، فالمشهور أن المحرك كما يفيد المقسور حركة كذلك يفيده قوة فاعلة لتلك الحركة قابلة للضعف بسبب الأمور الخارجية والطبيعة المقاومة، وكلما ضعفت القوة القسرية بسبب المصادمات قويت الطبيعة إلى أن تفنى تلك القوة بالكلية. وعندي هنا إشكال، فإن الواحد بالشخص لا يبقى حال ضعفه، فالقوة القسرية إذا عدمت عند ضعفها افتقر المتجدد منها إلى علة كافتقار الحركة، والأقرب هنا أن نثبت في المتحرك قسرا أمورا ثلاثة: الحركة القسرية والميل القسري وهو القابل للشدة والضعف والقوة المستفادة من القاسر وهي باقية لا تشتد ولا تضعف وتجدد الميول ما لم يحصل للهواء الذي يتحرك فيه المتحرك تلبد وتصلب يمنع عن النفوذ فيه فتبطل القوة القسرية بالكلية. قال: وطبيعي السكون يستند إلى الطبيعة مطلقا. أقول: السكون منه طبيعي كاستقرار الأرض في المركز، ومنه قسري كالحجر
(1) هكذا في جميع النسخ إلا (م) ففيها: درجات متقاربة. 384 الواقف في الهواء قسرا، ومنه إرادي كسكون الحيوان بإرادته في مكان ما. والطبيعي من السكون ما يستند إلى الطبيعة مطلقا بخلاف الحركة الطبيعية المستندة إلى الطبيعة لا مطلقا بل عند مقارنة أمر غير ملائم. قال: وتعرض البساطة ومقابلها للحركة خاصة. أقول: من الحركات ما هو بسيط كحركة الحجر إلى أسفل، ومنها ما هو مركب كحركة النملة على الرحى إذا اختلفتا في المقصد، فإن حركة كل من النملة والرحى وإن كانت بسيطة لكن إذا نظر إلى حركة النملة الذاتية باعتبار حصولها في محل متحرك بالعرض حصل لها تركيب، ثم إن كانت إحدى الحركتين مساوية للأخرى حدث للنملة ثبات بالنسبة إلى الأمور الثابتة وإن فضلت إحداهما الأخرى حصل لها حركة بقدر فضل إحداهما على الأخرى، وهذا أنما يكون في متحرك يتحرك بالعرض إذ يستحيل تحرك الجسم الواحد بالذات حركتين إلى جهة أو جهتين. قال: ولا يعلل الجنس (1) ولا أنواعه بما يقتضي الدور. أقول: الذي خطر لنا في تفسير هذا الكلام الرد على أبي هاشم حيث قال: إن حصول الجسم في المكان معلل بمعنى وإن الحركة معللة بمعنى، والدليل على بطلانه أن المعنى الذي جعل علة في الحصول إما أن يوجد قبل الحصول أو لا، فإن كان الثاني لزم الدور، وإن كان الأول فإن اقتضى اندفاع الجسم إلى مكان ما فهو الميل وهو ثابت، وإلا لم يكن علة. المسألة السادسة في المتى قال: الخامس المتى وهو النسبة إلى الزمان أو طرفه.
(1) المراد بالجنس في المقام الكون أي الأين كما تقدم في كلام الشارح آنفا بيان قوله: (ومن الكون طبيعي وقسري وإرادي) من أن الكون هو الجنس، فإن الكون عند المعتزلة هو الجنس لأنواعه الأربعة: الحركة والسكون والاجتماع والافتراق. 385 أقول: لما فرغ من البحث عن مقولة الأين شرع في البحث عن المتى، والمراد بها نسبة الشئ إلى الزمان أو طرفه بالحصول فيه وهو إما حقيقي وهو الذي لا يفضل عن كون الشئ كالصيام في النهار، وإما غير حقيقي كالصلاة فيه. والفرق بين المتى الحقيقي والأين الحقيقي في النسبة أن المتى الواحد قد يشترك فيه كثيرون بخلاف الأين الحقيقي. قال: والزمان مقدار الحركة من حيث التقدم والتأخر العارضين لها (1) باعتبار آخر. أقول: الحركة يعرض لها نوعان من التقدم والتأخر وتتقدر باعتبارهما، فإن الحركة لا بد لها من مسافة تزيد بزيادتها وتنقص بنقصانها ولا بد لها من زمان كذلك، ويعرض لأجزائها تقدم وتأخر باعتبار تقدم بعض أجزاء المسافة على بعض، فإن الجزء من الحركة الحاصل في الحيز المتقدم من المسافة متقدم على الحاصل في المتأخر منها، وكذلك الحاصل في المتقدم من الزمان متقدم على الحاصل في متأخره، لكن الفرق بين تقدم المسافة وتقدم الحركة أن المتقدم من المسافة يجامع المتأخر بخلاف أجزاء الحركة، ويحصل للحركة عدد بالاعتبارين فالزمان هو مقدار الحركة وعددها من حيث التقدم والتأخر العارضين لها باعتبار المسافة لا باعتبار الزمان وإلا لزم الدور، وإلى هذا أشار بقوله: باعتبار آخر، أي باعتبار آخر مغاير لاعتبار الزمان. قال: وإنما تعرض المقولة بالذات للمتغيرات، وبالعرض لمعروضها. أقول: هذه المقولة التي هي المتى إنما تعرض بالذات للمتغيرات كالحركات، وإنما تعرض لغيرها بالعرض وبواسطتها، فإن ما لا يتغير لا تعرض له هذه النسبة إلا باعتبار عروض صفات متغيرة له كالأجسام التي تعرض لها الحركات
(1) كما في (ز) وفي عدة نسخ مخطوطة مصححة معتبرة (م ق ص ش د): العارضان لها، وكذا في عبارة الشارح. ومتن الشوارق والقوشجي والشرح القديم للأصفهاني والنسخة المنسوبة إلى خط الخواجة كلها: العارضان لها فالنعت مقطوع تنبيها على أن الزمان يلحقه التقدم والتأخر لذاته. 386 فتلحقها هذه النسبة. قال: ولا يفتقر وجود معروضها وعدمه إليه. أقول: الذي فهمناه من هذا الكلام أمران: (أحدهما) أن وجود معروض المتغيرات وعدمه لا يفتقر إلى الزمان لأنه متأخر عن المتغيرات لأنه مقدارها وهي متأخرة عن المتغيرات التي هي معروضها، فلو افتقر وجود المعروض وعدمه إليه لزم الدور. (الثاني) أن هذه النسبة التي هي المقولة عارضة للمنتسبين اللذين أحدهما الزمان، فالزمان معروض لهذه النسبة ووجود هذا المعروض وعدمه لا يفتقران إلى الزمان وإلا لزم التسلسل. قال: والطرف كالنقطة وعدمه في الزمان لا على التدريج. أقول: الطرف يعني به الآن فإنه طرف الزمان ووجوده فرضي على ما اختاره المصنف رحمه الله من نفي الجوهر الفرد كوجود النقطة في الجسم، وعدمه في جميع الزمان الذي بعده لا على التدريج وذلك لأن عدم الشئ قد يكون في آن كالأجسام وغيرها من الأعراض القارة، وقد يكون في زمان وهذا على قسمين: الأول: أن يكون العدم على التدريج كعدم الحركة، والثاني: أن يكون لا على التدريج كاللامماسة وكعدم الآن. قال: وحدوث العالم يستلزم حدوثه. أقول: قد بينا فيما تقدم أن العالم حادث والزمان من جملته فيكون حادثا بالضرورة، والأوائل نازعوا في ذلك وقد تقدم كلامهم والجواب عنه. المسألة السابعة في الوضع قال: السادس الوضع وهو هيئة تعرض للجسم باعتبار نسبتين.
387 أقول: الوضع من جملة الأعراض النسبية، واعلم أن لفظة الوضع تقال على معان بالاشتراك: أحدها: كون الشئ بحيث يشار إليه إشارة حسية أنه هنا أو هناك، فالنقطة ذات وضع بهذا الاعتبار دون الوحدة. وثانيها: هيئة تعرض للجسم بسبب نسبة أجزائه بعضها إلى بعض. والثالث: هيئة تعرض للجسم بسبب نسبة أجزائه بعضها إلى بعض وبسبب نسبة أجزائه إلى الأمور الخارجة عنه، وهذا هو المقولة المذكورة هنا كالقيام فإنه يفتقر إلى حصول نسبة الأجزاء ونسبة لها إلى الأمور الخارجية مثل كون رأس القائم من فوق ورجلاه من أسفل ولولا هذه النسبة لكان الانتكاس قياما، وإلى هذا أشار بقوله: باعتبار نسبتين، أي باعتبار نسبة الأجزاء بعضها إلى بعض وباعتبار نسبة الأجزاء إلى الأمور الخارجية. قال: وفيه تضاد وشدة وضعف. أقول: قد يقع في الوضع تضاد كالقيام والانتكاس، فإنهما هيئتان وجوديتان بينهما غاية الخلاف متعاقبتان على موضوع واحد فيكونان متضادين، وقد يقع فيه أيضا شدة وضعف فإن الانتصاب والانتكاس قد يقبلان الشدة والضعف. المسألة الثامنة في الملك قال: السابع الملك وهو نسبة التملك. أقول: قال أبو علي: إن مقولة الملك لم أحصلها إلى الآن، ويشبه أن تكون عبارة عن نسبة الجسم إلى حاو له أو لبعض أجزائه كالتسلح (1) والتختم، فمنه
(1) بالحاء المهملة، والمعجمة مهملة. أما عبارة الشيخ فقال في الفصل الثالث من ثانية طبيعيات الشفاء في بيان المقولات التي تقع الحركة فيها: وأما مقولة الجدة فإني إلى هذه الغاية لم أتحققها، والذي يقال: إن هذه المقولة تدل على نسبة الجسم إلى ما يشمله ويلزمه في الانتقال، فيكون تبدل هذه النسبة على الوجه الأول أنما هو في السطح الحاوي وفي المكان فلا يكون فيها على ما أظن لذاتها وأولا حركة (ج 1 ط 1 ص 47). 388 ذاتي كحال الهرة عند أهابها، ومنه عرضي كبدن الانسان عند قميصه. وأما المصنف رحمه الله فإنه حصل هذه المقولة وبين أنها عبارة عن نسبة التملك قال رحمه الله: ولخفائها عبر المتقدمون عنها بعبارات مختلفة كالجدة والملك وله. المسألة التاسعة في مقولتي الفعل والانفعال قال: الثامن والتاسع أن يفعل وأن ينفعل. أقول: هاتان مقولتان ذهب الأوائل إلى أنهما ثابتان عينا وهما عبارة عن تأثير الشئ في غيره وتأثره عنه ما دام التأثير والتأثر موجودين، وإذا انقطعا قيل لهما: فعل وانفعال، فإن الجسم ما دام في الاحتراق قيل له هو ذا يحترق (1) فإذا
(1) هو ذا كلمة واحدة معناها بالفارسية: اينك، اكنون، آنك. وفي طبيعيات أرسطو (ص 465 ط 1 القاهرة): وأما هو ذا فإنه الجزء من الزمان المستقبل القريب من الآن الحاضر غير المنقسم، مثال ذلك أن تقول: متى تمضي؟ فيقال لك: هو ذا يمضي، أي الوقت الذي هو مزمع بالمضي فيه قد أزف. ومن الزمان السالف ما ليس ببعيد من الآن، مثال ذلك أن تقول: متى تمضي؟ فيقال لك: هو ذا قد مضيت. ولسنا نقول: إن مدينة ايليون هو ذا قد فتحت، لأن فتحها كان بعيدا جدا من الآن. أقول: فكلمة هو ذا يونانية دخيلة في كلمات العرب لا أنها مؤلفة من كلمتين هما: هو وذا، ثم استعملت مفردة كما يظن، ونحوها كلمة هب بمعنى سلمنا الرائجة في الصحف العربية فإنها يونانية أيضا دخلت في لغة العرب من قلم المترجمين في أوائل الاسلام، لا أنها من وهب كما يظن أيضا. وقال الشيخ في آخر المقالة الثانية من طبيعيات الشفاء (ج 1 ط 1 ص 81): ومن هذه الألفاظ - يعني الألفاظ الزمانية - قولهم: هو ذا، وهو ما يدل على آن قريب في المستقبل من الآن الحاضر لا يشعر بمقدار البعد بينهما قصرا شعورا يعتد به. والشيخ عقد في الموضع المذكور من الشفاء فصلا في بيان الألفاظ الزمانية نحو: بغتة ودفعة وقبيل ونحوها. وقال في منطق الشفاء: شكل الكلمة التي في المستقبل بعينه شكل الكلمة التي للحاضر فيقال: إن زيدا يمشي أي في الحال، ويمشي أي في الاستقبال، فإذا حاولوا زيادة البيان قالوا: إن زيدا هو ذا يمشي فأقتضى الحال، أو قالوا: سوف يمشي فاقتضى الاستقبال. وهذه الكلمة في الروايات أيضا غير عزيزة ففي كتاب الطب لأبي عتاب وأخيه أحمد بن العباس بن المفضل قال: حدثني أخي المفضل قال: لدغتني عقرب فكادت شوكته حين ضربتني تبلغ بطني من شدة ما ضربتني، وكان أبو الحسن العسكري عليه السلام جارنا، فصرت إليه فقال [أبي]: إن ابني عبد الله لدغته وهو ذا يتخوف عليه، فقال: أسقوه من دواء الجامع فإنه دواء الرضا عليه السلام، الحديث. وفي الباب الحادي والعشرين من أبواب التيمم من وسائل الشيعة (ج 1 ص 189 من الطبع البهادري): عبد الله بن عاصم قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل لا يجد الماء فيتيمم ويقوم في الصلاة فجاء الغلام فقال: هو ذا الماء، فقال: إن كان لم يركع فلينصرف ويلتوضأ وإن كان قد ركع فليمض في صلاته. وقال الشيخ في الفصل الخامس من النمط الثالث من الإشارات في إثبات أن نفس الانسان غير الجسمية والمزاج ما هذا لفظه: هو ذا يتحرك الحيوان بشئ غير جسميته.. الخ. وترجمه عبد السلام الفارسي هكذا: آنك جانور جنبش مى كند بچيزى جز جسم أو. وللسيد الأفخم محمد باقر المعروف بالمير الداماد تعليقة في ذلك المقام من الإشارات في بيان كلمة هو ذا، قال: هو ذا - بفتح الهاء وتسكين الواو - كلمة مفردة تستعمل للاستمرار والتأكيد ومرادفها في لغة الفرس همي، ومقابلتها في لغة العرب بغتة.. الخ. أقول: والصواب أن مرادفها في لغة الفرس اينك واكنون وآنك، كما علمت من كلمات أرسطو والشيخ ومواضع استعمالها في الرواية وغيرها، ثم إن قوله: تستعمل للاستمرار والتأكيد ففيه ما فيه أيضا كما دريت، ولما فسرها للاستمرار والتأكيد قال: إن مرادفها في لغة الفرس همي، وقد فهمت معناها الصحيح ومرادفها كذلك. 389 انقطع احتراقه واستقر أطلق عليه لفظة المصدر. قال: والحق ثبوتهما ذهنا وإلا لزم التسلسل. أقول: المصنف رحمه الله ذهب هنا إلى ما ذهب إليه المتكلمون، وخالف الأوائل في ذلك وجعل هاتين المقولتين أمرين ذهنيين لا ثبوت لهما عينا وإلا لزم التسلسل. ووجه اللزوم أن ثبوتهما يستدعي علة مؤثرة فيهما، فلتلك العلة نسبة التأثير إليهما ولهما نسبة التأثر عنها، وذلك يستدعي ثبوت نسبتين أخريين وهكذا إلى ما لا يتناهى.
390 المقصد الثالث في إثبات الصانع تعالى وصفاته وآثاره وفيه فصول:
391 الأول في وجوده تعالى قال: الموجود إن كان واجبا وإلا استلزمه لاستحالة الدور والتسلسل. أقول: يريد إثبات واجب الوجود تعالى وبيان صفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز وبيان أفعاله وآثاره وابتدأ بإثبات وجوده لأنه الأصل في ذلك كله، والدليل على وجوده أن نقول هنا موجود بالضرورة فإن كان واجبا فهو المطلوب، وإن كان ممكنا افتقر إلى مؤثر موجود بالضرورة فذلك المؤثر إن كان واجبا فالمطلوب، وإن كان ممكنا افتقر إلى مؤثر موجود فإن كان واجبا فالمطلوب وإن كان ممكنا تسلسل أو دار، وقد تقدم بطلانهما وهذا برهان قاطع أشير إليه في الكتاب العزيز بقوله: (أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد) (1) وهو استدلال لمي. والمتكلمون سلكوا طريقا آخر فقالوا: العالم حادث فلا بد له من محدث، فلو كان محدثا تسلسل أو دار، وإن كان قديما ثبت المطلوب لأن القدم يستلزم الوجوب، وهذه الطريقة أنما تتمشى بالطريقة الأولى، فلهذا اختارها المصنف رحمه الله على هذه.
(1) فصلت: 53. 392 الفصل الثاني في صفاته تعالى وفيه مسائل المسألة الأولى: في أنه تعالى قادر (1) قال: الثاني في صفاته. وجود العالم بعد عدمه ينفي الإيجاب. أقول: لما فرغ من البحث عن الدلالة على وجود الصانع تعالى شرع في الاستدلال على صفاته تعالى وابتدأ بالقدرة، والدليل على أنه تعالى قادر أنا قد بينا أن العالم حادث، فالمؤثر فيه إن كان موجبا لزم حدوثه أو قدم ما فرضناه حادثا أعني العالم والتالي بقسميه باطل، بيان الملازمة أن المؤثر الموجب يستحيل تخلف أثره عنه، وذلك يستلزم إما قدم العالم وقد فرضناه حادثا أو حدوث المؤثر ويلزم التسلسل، فظهر أن المؤثر للعالم قادر مختار. قال: والواسطة غير معقولة. أقول: لما فرغ من الاستدلال على مطلوبه شرع في أنواع من الاعتراضات للخصم مع وجه المخلص منها، وتقرير هذا السؤال أن يقال: دليلكم يدل على أن
(1) باتفاق النسخ كلها، بدون كلمة مختار وفي آخر البحث: فظهر أن المؤثر للعالم قادر مختار، أيضا باتفاق النسخ كلها، فأوهم ذيل البحث زيادة مختار في العنوان كما في المطبوعة. 393 مؤثر العالم مختار وليس يدل على أن الواجب مختار بل جاز أن يكون الواجب تعالى موجبا لذاته معلولا يؤثر (1) في العالم على سبيل الاختيار، وتقرير الجواب أن هذه الواسطة غير معقولة (2) لأنا قد بينا حدوث العالم بجملته وأجزائه، والمعني بالعالم كل موجود سوى الله تعالى، وثبوت واسطة بين ذات الله تعالى وبين ما سواه غير معقول. قال: ويمكن عروض الوجوب والامكان للأثر باعتبارين. أقول: هذا جواب عن سؤال آخر، وتقريره أن المؤثر إما أن يستجمع جميع جهات المؤثرية أو لا، فإن كان الأول كان وجود الأثر عنه واجبا وإلا لافتقر ترجيحه إلى مرجح زائد فلا تكون الجهات بأسرها موجودة هذا خلف، أو لزم الترجيح من غير مرجح وهو باطل بالضرورة، وإن لم يكن مستجمعا لجميع الجهات استحال صدور الأثر عنه، وحينئذ لا يمكن تحقق القادر لأنه على تقدير حصول جميع الجهات يمتنع الترك، وعلى تقدير انتفاء بعضها يمتنع الفعل فلا تتحقق المكنة من الطرفين. وتقرير الجواب أن الأثر تعرض له نسبتا الوجوب والإمكان باعتبارين فلا يتحقق الموجب ولا يلزم الترجيح من غير مرجح، وبيانه أن فرض استجماع المؤثر جميع ما لا بد منه في المؤثرية هو بأن يكون المؤثر المختار مأخوذا مع قدرته التي يستوي طرفا الوجود والعدم بالنسبة إليها ومع داعيه الذي يرجح أحد طرفيه، وحينئذ يجب الفعل بعدهما نظرا إلى وجود الداعي والقدرة ولا تنافي بين
(1) كما في (م ص ش د) فقوله: معلولا، مفعول لقوله: موجبا، بالكسر على هيئة الفاعل. وفي (ق ز): موجبا لذاته وله معلول يؤثر. فعلى هذه النسخة كان قوله: موجبا، بالفتح. ولكنها تصرف من غير لزوم ومفادهما واحد لكن ما في النسخ الأولى وهي أمتنها وأقدمها متعين بلا كلام. (2) وفي (م)، وحدها وهي أقدم النسخ: أو بواسطة غير معقولة. والنسخ الأخرى كلها كما في المتن، وأسلوب كلام الخواجة في التجريد يعطي الأول. 394 هذا الوجوب وبين الإمكان نظرا إلى مجرد القدرة والاختيار، وهذا كما إذا فرضنا وقوع الفعل من المختار فإنه يصير واجبا من جهة فرض الوقوع ولا ينافي الاختيار، وبهذا التحقيق يندفع جميع المحاذير اللازمة لأكثر المتكلمين في قولهم القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر لا لمرجح. قال: واجتماع القدرة على المستقبل مع العدم. أقول: هذا جواب عن سؤال آخر، وتقريره أن نقول: الأثر إما حاصل في الحال فواجب فلا يكون مقدورا، أو معدوم فممتنع فلا قدرة. وتقرير الجواب أن الأثر معدوم حال حصول القدرة ولا نقول: أن القدرة حال عدم الأثر تفعل الوجود في تلك الحال بل في المستقبل، فيمكن اجتماع القدرة على الوجود في المستقبل مع العدم في الحال. لا يقال: الوجود في الاستقبال غير ممكن في الحال لأنه مشروط بالاستقبال الممتنع في الحال، وإذا كان كذلك فلا قدرة عليه في الحال وعند حصول الاستقبال يعود الكلام، لأنا نقول: القدرة لا تتعلق بالوجود في الاستقبال في الحال بل في الاستقبال. قال: وانتفاء الفعل ليس فعل الضد. أقول: هذا جواب عن سؤال آخر، وتقريره أن القادر لا يتعلق فعله بالعدم فلا يتعلق فعله بالوجود. أما بيان المقدمة الأولى فلأن الفعل يستدعي الوجود والامتياز وهما ممتنعان في حق المعدوم، وأما الثانية فلأنكم قلتم القادر هو الذي يمكنه الفعل والترك وإذا انتفى إمكان الترك انتفى إمكان الفعل. وتقرير الجواب أن القادر هو الذي يمكنه أن يفعل وأن لا يفعل، وليس لا يفعل عبارة عن فعل الضد. قال: وعمومية العلة تستلزم عمومية الصفة. أقول: يريد بيان أنه تعالى قادر على كل مقدور وهو مذهب الأشاعرة، وخالف أكثر الناس في ذلك فإن الفلاسفة قالوا: إنه تعالى قادر على شئ
395 واحد (1) لأن الواحد لا يتعدد أثره، وقد تقدم بطلان مقالتهم. والمجوس ذهبوا إلى أن الخير من الله تعالى والشر من الشيطان، لأن الله تعالى خير محض وفاعل الشر شرير. والمانوية ذهبوا (2) إلى أن الخير من النور والشر من الظلمة. والنظام قال: إن الله تعالى لا يقدر على القبيح لأنه يدل على الجهل أو الحاجة. وذهب البلخي إلى أن الله لا يقدر على مثل مقدور العبد لأنه إما طاعة أو سفه (3). وذهب الجبائيان إلى أنه تعالى لا يقدر على عين مقدور العبد وإلا لزم اجتماع الوجود والعدم على تقدير أن يريد الله إحداثه والعبد عدمه. وهذه المقالات كلها باطلة، لأن المقتضي لتعلق القدرة بالمقدور أنما هو الإمكان، إذ مع الوجوب والامتناع لا تعلق والإمكان ثابت في الجميع فثبت الحكم وهو صحة التعلق، وإلى هذا أشار المصنف رحمه الله بقوله: عمومية العلة أي الإمكان تستلزم عمومية الصفة، أعني القدرة على كل مقدور. والجواب عن شبهة المجوس أن المراد من الخير والشرير إن كان من فعلهما فلم لا يجوز إسنادهما إلى شئ واحد، وأيضا الخير والشر ليسا ذاتيين للشئ فجاز أن يكون الشئ خيرا بالقياس إلى شئ وشرا بالقياس إلى آخر، وحينئذ يصح إسنادهما إلى ذات واحدة. وعن شبهة النظام أن الإحالة حصلت بالنظر إلى الداعي، فلا تنافي الإمكان الذاتي المقتضي لصحة تعلق القادر.
(1) الفيلسوف الإلهي لا يقول أن ذلك الشئ واحد عددي فلا ردع ولا بطلان. (2) قال الماتن في نقد المحصل (ص 130 ط مصر): المجوس من الثنوية يقولون: إن فاعل الخير يزدان، وفاعل الشر اهرمن ويعنون بهما ملكا وشيطانا، والله تعالى منزه عن فعل الخير والشر. والمانوية يقولون: إن فاعلهما النور والظلمة. والديصانية يذهبون إلى مثل ذلك.. الخ فيستفاد من كلامه أن الثنوية في الشرح كما في المطبوعة محرفة والصواب المانوية. (3) وفي (م) إما طاعة أو سنة، والنسخ الباقية سفه، والشارح العلامة قال في الشرح: إن الطاعة والعبث وصفان.. الخ والعبث هو السفه. 396 وعن شبهة البلخي أن الطاعة والعبث وصفان لا يقتضيان الاختلاف الذاتي. وعن شبهة الجبائيين أن العدم أنما يحصل إذا لم يوجد داع لقادر آخر إلى إيجاده. المسألة الثانية في أنه تعالى عالم قال: والأحكام والتجرد (1) واستناد كل شئ إليه دلائل العلم. أقول: لما فرغ من بيان كونه تعالى قادرا وكيفية قدرته شرع في بيان كونه تعالى عالما وكيفية علمه، واستدل على كونه تعالى عالما بوجوه ثلاثة، الأول منها للمتكلمين والأخيران للحكماء: الوجه الأول: أنه تعالى فعل الأفعال المحكمة وكل من كان كذلك فهو عالم، (أما المقدمة الأولى) فحسية لأن العالم إما فلكي أو عنصري، وآثار الحكمة والإتقان فيهما ظاهرة مشاهدة، (وأما الثانية) فضرورية لأن الضرورة قاضية بأن غير العالم يستحيل منه وقوع الفعل المحكم المتقن مرة بعد أخرى. الوجه الثاني: أنه تعالى مجرد وكل مجرد عالم بذاته وبغيره، أما الصغرى فإنها وإن كانت ظاهرة لكن بيانها يأتي فيما بعد عند الاستدلال على كونه تعالى ليس بجسم ولا جسماني، وأما الكبرى فلأن كل مجرد فإن ذاته حاصلة لذاته لا لغيره وكل مجرد حصل له مجرد فإنه عاقل لذلك المجرد، لأنا لا نعني بالتعقل إلا الحصول فإذن كل مجرد فإنه عاقل لذاته. وأما إن كل مجرد عالم بغيره فلأن كل مجرد أمكن أن يكون معقولا وحده وكل ما يمكن أن يكون معقولا وحده أمكن أن يكون معقولا مع غيره وكل مجرد
(1) الأحكام هو إتقان الصنع ووحدة التدبير، والحكم بالأحكام محكم، وأما تجرده تعالى فتنزيه في عين التشبيه تعالى الله عن ذلك بل هو في السماء إله وفي الأرض إله وهو الصمد الحق العالي في دنوه والداني في علوه. 397 يعقل مع غيره فإنه عاقل لذلك الغير، أما ثبوت المعقولية لكل مجرد فظاهر لأن المانع من التعقل أنما هو المادة لا غير، وأما صحة التقارن في المعقولية فلأن كل معقول فإنه لا ينفك عن الأمور العامة، وأما وجوب العاقلية (1) حينئذ فلأن إمكان مقارنة المجرد للغير لا يتوقف على الحضور في العقل لأنه نوع من المقارنة فيتوقف إمكان الشئ على ثبوته فعلا وهو باطل، وإمكان المقارنة هو إمكان التعقل، وفي هذا الوجه أبحاث مذكورة في كتبنا العقلية. الوجه الثالث: أن كل موجود سواه ممكن على ما يأتي في باب الوحدانية، وكل ممكن فإنه مستند إلى الواجب إما ابتداءا أو بوسائط على ما تقدم، وقد سلف أن العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول، والله تعالى عالم بذاته على ما تقدم فهو عالم بغيره. قال: والأخير عام. أقول: الوجه الأخير من الأدلة الثلاثة الدالة على كونه تعالى عالما يدل على عمومية علمه بكل معلوم، وتقريره أن كل موجود سواه ممكن وكل ممكن مستند إليه فيكون عالما به سواء كان جزئيا أو كليا، وسواء كان موجودا قائما بذاته أو عرضا قائما بغيره، وسواء كان موجودا في الأعيان أو متعقلا في الأذهان لأن وجود الصورة في الذهن من الممكنات أيضا فيستند إليه، وسواء كانت الصورة الذهنية صورة أمر وجودي أو عدمي ممكن أو ممتنع، فلا يعزب عن علمه شئ من الممكنات ولا من الممتنعات، وهذا برهان شريف قاطع. قال: والتغاير اعتباري. أقول: لما فرغ من الاستدلال على كونه تعالى عالما بكل معلوم شرع في الجواب عن الاعتراضات الواردة عن المخالفين وابتدأ باعتراض من نفى علمه
(1) كما في (م ص) وهما أصح النسخ والأولى أقدمها. وفي (ش ق ز د): وأما ثبوت العاقلية. ولا يخفى عليك أن قوله: فإنه عاقل لذلك الغير، يناسب الوجوب أشد مناسبة من الثبوت. 398 تعالى بذاته ولم يذكر الاعتراض صريحا بل أجاب عنه وحذفه للعلم به. وتقرير الاعتراض أن نقول: العلم إضافة بين العالم والمعلوم أو مستلزم للإضافة، وعلى كلا التقديرين فلا بد من المغايرة بين العالم والمعلوم ولا مغايرة في علمه بذاته. والجواب أن المغايرة قد تكون بالذات وقد تكون بنوع من الاعتبار، وهاهنا ذاته تعالى من حيث إنها عالمة مغايرة لها من حيث إنها معلومة وذلك كاف في تعلق العلم. قال: ولا يستدعي العلم صورا مغايرة للمعلومات عنده، لأن نسبة الحصول إليه أشد من نسبة الصور المعقولة لنا. أقول: هذا جواب عن اعتراض آخر أورده من نفي علم الله تعالى بالماهيات المغايرة له، وتقرير الاعتراض أن العلم صورة مساوية للمعلوم في العالم، فلو كان الله تعالى عالما بغيره من الماهيات لزم حصول صور تلك المعلومات في ذاته تعالى وذلك يستلزم تكثره تعالى، وكونه قابلا وفاعلا ومحلا لآثاره، وأنه تعالى لا يوجد شيئا مما يباين ذاته بل بتوسط الأمور الحالة فيه (1) وكل ذلك باطل. وتقرير الجواب أن العلم لا يستدعي صورا مغايرة للمعلومات عنده تعالى لأن العلم هو الحصول عند المجرد على ما تقدم، ولا ريب في أن الأشياء كلها حاصلة له لأنه مؤثرها وموجدها، وحصول الأثر للمؤثر أشد من حصول المقبول لقابله مع أن الثاني لا يستدعي حصول صورة مغايرة لذات الحاصل، فإنا إذا عقلنا ذواتنا لم نفتقر إلى صورة مغايرة لذواتنا، ثم إذا أدركنا شيئا ما بصورة
(1) وفي (م): بل بتوسط الأمور الخارجية، فالأمور الخارجية هي تلك الصور الحالة في الذات فهي من حيث إنها تغاير الذات خارجية عنها، فتدبر. والنسخ الباقية بعضها: بل يتوسط الأمور الحالة فيه، وبعضها: أو بتوسط الأمور الحالة فيه. وما اخترناه موافق لعبارة الخواجة في الفصل السابع عشر من النمط السابع من شرحه على الإشارات (ص 192 ط الشيخ رضا) حيث قال: وبأنه تعالى لا يوجد شيئا مما يباينه بذاته بل بتوسط الأمور الحالة فيه. والشارح العلامة ناظر إلى عباراته في ذلك المقام من شرح الإشارات، فراجع. 399 تحصل في أذهاننا فإنا ندرك تلك الصورة الحاصلة في الذهن بذاتها لا باعتبار صورة أخرى وإلا لزم تضاعف الصور مع أن تلك الصورة حاصلة لذاتنا لا بانفرادها بل بمشاركة من المعقولات، فحصول العلم بالموجودات لواجب الوجود الذي تحصل له الأشياء من ذاته بانفراده من غير افتقار إلى صور لها أولى، ولما كانت ذاته سببا لكل موجود وعلمه بذاته علة لعلمه بآثاره وكانت ذاته وعلمه بذاته العلتان متغايرتين بالاعتبار متحدتين بالذات فكذا معلوله والعلم به متحدان بالذات متغايران بنوع من الاعتبار، وهذا بحث شريف أشار إليه صاحب التحصيل وبسطه المصنف رحمه الله في شرح الإشارات، وبهذا التحقيق يندفع جميع المحالات لأنها لزمت باعتبار حصول صور في ذاته تعالى عن ذلك. قال: وتغير الإضافات ممكن. أقول: هذا جواب عن اعتراض الحكماء القائلين بنفي علمه تعالى بالجزئيات الزمانية، وتقرير الاعتراض أن العلم يجب تغيره عند تغير المعلوم وإلا لانتفت المطابقة، لكن الجزئيات الزمانية متغيرة فلو كانت معلومة لله تعالى لزم تغير علمه تعالى، والتغير في علم الله تعالى محال. وتقرير الجواب أن التغير هنا أنما هو في الإضافات لا في الذات ولا في الصفات الحقيقية كالقدرة التي تتغير نسبتها وإضافتها إلى المقدور عند عدمه وإن لم تتغير في نفسها، وتغير الإضافات جائز لأنها أمور اعتبارية لا تحقق لها في الخارج. قال: ويمكن اجتماع الوجوب والامكان باعتبارين. أقول: هذا جواب عن احتجاج من نفى علمه تعالى بالمتجددات قبل وجودها، وتقرير كلامهم أن العلم لو تعلق بالمتجدد قبل تجدده لزم وجوبه وإلا لجاز أن لا يوجد، فينقلب علمه تعالى جهلا وهو محال.
400 والجواب إن أردتم بوجوب ما علمه تعالى (1) أنه واجب الصدور عن العلم فهو باطل، لأنه تعالى يعلم ذاته ويعلم المعدومات (2) وإن أردتم وجوب المطابقة لعلمه فهو صحيح لكن ذلك وجوب لاحق لا سابق فلا ينافي الإمكان الذاتي، وإلى هذا أشار بقوله: ويمكن اجتماع الوجوب والإمكان باعتبارين. المسألة الثالثة في أنه تعالى حي قال: وكل قادر عالم حي بالضرورة. أقول: اتفق الناس على أنه تعالى حي واختلفوا في تفسيره، فقال قوم: إنه عبارة عن كونه تعالى لا يستحيل أن يقدر ويعلم. وقال آخرون: إنه من كان على صفة لأجله عليها يجب أن يعلم ويقدر. والتحقيق أن صفاته تعالى إن قلنا بزيادتها على ذاته فالحياة صفة ثبوتية زائدة على الذات وإلا فالمرجع بها إلى صفة سلبية وهو الحق، وقد بينا أنه تعالى قادر عالم فيكون بالضرورة حيا لأن ثبوت الصفة فرع عدم استحالتها. المسألة الرابعة في أنه تعالى مريد قال: وتخصيص بعض الممكنات بالايجاد في وقت يدل على إرادته تعالى (3). أقول: اتفق المسلمون على أنه تعالى مريد لكنهم اختلفوا في معناه، فأبو الحسين جعله نفس الداعي على معنى أن علمه تعالى بما في الفعل من المصلحة
(1) باتفاق النسخ كلها. (2) أي يعلم المتجددات قبل وجودها. (3) التحقيق هو أن العلم والإرادة والشوق والميل معنى واحد يوجد في عوالم أربعة إنسانية، وأن إرادته تعالى للأشياء عين علمه بها وهما عين ذاته. (الأسفار ج 3 ط 1 ص 76 و 80) وراجع في ذلك رسالتنا في الجعل. 401 الداعية إلى الايجاد هو المخصص والإرادة. وقال النجار: إنه سلبي وهو كونه تعالى غير مغلوب ولا مستكره وعن الكعبي أنه راجع إلى أنه عالم بأفعال نفسه وآمر بأفعال غيره. وذهبت الأشعرية والجبائيان إلى أنه صفة زائدة على العلم. والدليل على ثبوت الصفة مطلقا أن الله تعالى أوجد بعض الممكنات دون بعض مع تساوي نسبتها إلى القدرة، فلا بد من مخصص غير القدرة التي شأنها الايجاد مع تساوي نسبتها إلى الجميع، وغير العلم التابع للمعلوم وذلك المخصص هو الإرادة، وأيضا بعض الممكنات يخصص بالايجاد في وقت دون ما قبله وبعده مع التساوي فلا بد من مرجح غير القدرة والعلم. قال: وليست زائدة على الداعي وإلا لزم التسلسل أو تعدد القدماء. أقول: اختلف الناس هنا، فذهبت الأشعرية إلى إثبات أمر زائد على ذاته قديم هو الإرادة، والمعتزلة اختلفوا فقال أبو الحسين: إنها نفس الداعي، وهو الذي اختاره المصنف. وقال أبو علي وأبو هاشم: إن إرادته حادثة لا في محل. وقالت الكرامية: إن إرادته حادثة في ذاته، والدليل على ما اختاره المصنف أن إرادته لو كانت قديمة لزم تعدد القدماء، والتالي باطل فالمقدم مثله، ولو كانت حادثة إما في ذاته أو لا في محل لزم التسلسل، لأن حدوث الإرادة في وقت دون آخر يستلزم ثبوت إرادة مخصصة، والكلام فيها كالكلام هنا. المسألة الخامسة في أنه تعالى سميع بصير قال: والنقل دل على اتصافه بالإدراك والعقل على استحالة الآلات. أقول: اتفق المسلمون كافة على أنه تعالى مدرك واختلفوا في معناه، فالذي ذهب إليه أبو الحسين أن معناه علمه تعالى بالمسموعات والمبصرات، وأثبت الأشعرية وجماعة من المعتزلة صفة زائدة على العلم.
402 والدليل على ثبوت كونه تعالى سميعا بصيرا السمع، فإن القرآن قد دل عليه وإجماع المسلمين على ذلك. إذا عرفت هذا فنقول: السمع والبصر في حقنا أنما يكون بآلات جسمانية وكذا غيرهما من الادراكات، وهذا الشرط ممتنع في حقه تعالى بالعقل فإما أن يرجع بالسمع والبصر إلى ما ذهب إليه أبو الحسين، وإما إلى صفة زائدة غير مفتقرة إلى الآلات في حقه تعالى. المسألة السادسة في أنه تعالى متكلم قال: وعمومية قدرته تدل على ثبوت الكلام والنفساني غير معقول. أقول: ذهب المسلمون كافة إلى أنه تعالى متكلم واختلفوا في معناه، فعند المعتزلة أنه تعالى أوجد حروفا وأصواتا في أجسام جمادية دالة على المراد، وقالت الأشاعرة: إنه متكلم بمعنى أنه قام بذاته معنى غير العلم والإرادة وغيرهما من الصفات تدل عليها العبارات وهو الكلام النفساني، وهو عندهم معنى واحد (1) ليس بأمر ولا نهي ولا خبر ولا غير ذلك من أساليب الكلام، والمصنف رحمه الله حينئذ استدل على ثبوت الكلام بالمعنى الأول بما تقدم من كونه تعالى قادرا على كل مقدور لا شك في إمكان خلق أصوات في أجسام تدل على المراد، وقد اتفقت المعتزلة والأشاعرة على إمكان هذا لكن الأشاعرة أثبتوا معنى آخر، والمعتزلة نفوا هذا المعنى لأنه غير معقول إذ لا يعقل ثبوت معنى غير العلم ليس بأمر ولا نهي ولا خبر ولا استخبار وهو قديم والتصديق موقوف على التصور. قال: وانتفاء القبح عنه تعالى يدل على صدقه. أقول: لما أثبت كونه تعالى متكلما وبين معناه شرع في بيان كونه تعالى
(1) قد تقدم البحث عن الكلام النفسي، وكونه معنى واحدا بسيطا كأنه ناظر إلى علمه الأحدي، إلا أنهم جعلوه مقابل العلم، فلا يصح بناء كلام النفسي على العلم وتصحيحه. 403 صادقا، وقد اتفق المسلمون عليه لكن لا يتمشى على أصول الأشاعرة، أما المعتزلة فهذا المطلب عندهم ظاهر الثبوت لأن الكذب قبيح بالضرورة، والله تعالى منزه عن القبائح لأنه تعالى حكيم على ما يأتي فلا يصدر الكذب عنه تعالى. المسألة السابعة في أنه تعالى باق قال: ووجوب الوجود يدل على سرمديته ونفي الزائد. أقول: اتفق المثبتون للصانع تعالى على أنه باق أبدا واختلفوا فذهب الأشعري إلى أنه باق ببقاء يقوم به. وذهب آخرون إلى أنه باق لذاته وهو الحق الذي اختاره المصنف، والدليل على أنه باق ما تقدم من بيان وجوب وجوده لذاته وواجب الوجود لذاته يستحيل عليه العدم وإلا لكان ممكنا. والاعتراض الذي يورد هنا - وهو أنه يجوز أن يكون واجبا لذاته في وقت وممتنعا في وقت آخر - يدل على سوء فهم مورده لأن ماهيته حينئذ بالنظر إليها مجردة عن الوقتين تكون قابلة لصفتي الوجود والعدم ولا نعني بالممكن سوى ذلك. (واعلم) أن هذا الدليل كما يدل على وجوب البقاء يدل على انتفاء المعنى الذي أثبته أبو الحسن الأشعري، لأن وجوب الوجود يقتضي الاستغناء عن الغير، فلو كان باقيا بالبقاء كان محتاجا إليه فيكون ممكنا هذا خلف. المسألة الثامنة في أنه تعالى واحد قال: والشريك. أقول: هذا عطف على الزائد، أي ووجوب الوجود يدل على نفي الزائد ونفي الشريك. (واعلم) أن أكثر العقلاء اتفقوا على أنه تعالى واحد، والدليل على ذلك
404 العقل والنقل، أما العقل فما تقدم من وجوب وجوده تعالى فإنه يدل على وحدته، لأنه لو كان هناك واجب وجود آخر لتشاركا في مفهوم كون كل واحد منهما واجب الوجود فإما أن يتميزا أو لا، والثاني يستلزم المطلوب وهو انتفاء الشركة والأول يستلزم التركيب وهو باطل وإلا لكان كل واحد منهما ممكنا، وقد فرضناه واجبا هذا خلف، وأما النقل فظاهر. المسألة التاسعة في أنه تعالى مخالف لغيره من الماهيات قال: والمثل. أقول: هذا عطف على الزائد أيضا، أي ووجوب الوجود يدل على نفي الزائد ونفي الشريك ونفي المثل وهذا مذهب أكثر العقلاء، وخالف فيه أبو هاشم فإنه جعل ذاته مساوية لغيرها من الذوات، وإنما تخالفها بحالة توجب أحوالا أربعة وهي: الحيية والعالمية والقادرية والموجودية، وتلك الحالة هي صفة آلهية، وهذا المذهب لا شك في بطلانه فإن الأشياء المتساوية تتشارك في لوازمها، فلو كانت الذوات متساوية جاز انقلاب القديم محدثا وبالعكس وذلك باطل بالضرورة. المسألة العاشرة في أنه تعالى غير مركب قال: والتركيب بمعانيه. أقول: هذا عطف على الزائد، بمعنى أن وجوب الوجود يقتضي نفي التركيب أيضا، والدليل على ذلك أن كل مركب فإنه مفتقر إلى أجزائه لتأخره وتعليله بها وكل جزء من المركب فإنه مغاير له وكل مفتقر إلى الغير ممكن، فلو كان الواجب تعالى مركبا كان ممكنا هذا خلف فوجوب الوجود يقتضي نفي التركيب.
405 واعلم أن التركيب قد يكون عقليا وهو التركيب من الجنس والفصل، وقد يكون خارجيا كتركيب الجسم من المادة والصورة وتركيب المقادير من غيرها، والجميع منفي عن الواجب تعالى لاشتراك المركبات في افتقارها إلى الأجزاء فلا جنس له ولا فصل له ولا غيرهما من الأجزاء العقلية والحسية. المسألة الحادية عشرة في أنه تعالى لا ضد له قال: والضد. أقول: هذا عطف على الزائد أيضا، فإن وجوب الوجود يقتضي نفي الضد لأن الضد يقال بحسب المشهور على ما يعاقب غيره من الذوات على المحل أو الموضوع مع التنافي بينهما، وواجب الوجود يستحيل عليه الحلول فلا ضد له بهذا المعنى، ويطلق أيضا على مساو في القوة ممانع، وقد بينا أنه تعالى لا مثل له فلا مشارك له تعالى في القوة. المسألة الثانية عشرة في أنه تعالى ليس بمتحيز قال: والتحيز. أقول: هذا عطف على الزائد أيضا، فإن وجوب الوجود يقتضي نفي التحيز عنه تعالى، وهذا حكم متفق عليه بين أكثر العقلاء وخالف فيه المجسمة، والدليل على ذلك أنه لو كان متحيزا لم ينفك عن الأكوان الحادثة وكل ما لا ينفك عن الحادث (1) فهو حادث وقد سبق تقرير ذلك وكل حادث ممكن فلا يكون واجبا هذا خلف، ويلزم من نفي التحيز نفي الجسمية.
(1) بالأفراد كما في (م). والنسخ الأخرى كلها عن الحوادث، بالجمع. 406 المسألة الثالثة عشرة في أنه تعالى ليس بحال في غيره قال: والحلول. أقول: هذا عطف على الزائد، فإن وجوب الوجود يقتضي كونه تعالى ليس حالا في غيره، وهذا حكم متفق عليه بين أكثر العقلاء وخالف فيه بعض النصارى القائلين بأنه حل في المسيح وبعض الصوفية القائلين بأنه حال في أبدان العارفين، وهذا المذهب لا شك في سخافته لأن المعقول من الحلول قيام موجود آخر على سبيل التبعية بشرط امتناع قيامه بذاته، وهذا المعنى منتف في حقه تعالى لاستلزامه الحاجة المستلزمة للإمكان. المسألة الرابعة عشرة في نفي الاتحاد عنه تعالى قال: والاتحاد. أقول: هذا عطف على الزائد، فإن وجود الوجوب ينافي الاتحاد لأنا قد بينا أن وجوب الوجود يستلزم الوحدة فلو اتحد بغيره لكان ذلك الغير ممكنا فيكون الحكم الصادق على الممكن صادقا على المتحد به فيكون الواجب ممكنا، وأيضا فلو اتحد بغيره لكانا بعد الاتحاد إما أن يكون موجودين كما كانا فلا اتحاد وإن عدما أو عدم أحدهما فلا اتحاد أيضا ويلزم عدم الواجب فيكون ممكنا هذا خلف. المسألة الخامسة عشرة في نفي الجهة عنه تعالى قال: والجهة. أقول: هذا حكم من الأحكام اللازمة لوجوب الوجود وهو معطوف على
407 الزائد، وقد نازع فيه جميع المجسمة فإنهم ذهبوا إلى أنه تعالى جسم في جهة وأصحاب أبي عبد الله بن كرام اختلفوا، فقال محمد بن الهيصم: إنه تعالى في جهة فوق العرش لا نهاية لها والبعد بينه وبين العرش أيضا غير متناه. وقال بعضهم: البعد متناه. وقال قوم منهم: إنه تعالى على العرش كما تقوله المجسمة، وهذه المذاهب كلها فاسدة لأن كل ذي جهة فهو مشار إليه ومحل للأكوان الحادثة فيكون حادثا فلا يكون واجبا. المسألة السادسة عشرة في أنه تعالى ليس محلا للحوادث قال: وحلول الحوادث فيه. أقول: وجوب الوجود ينافي حلول الحوادث في ذاته تعالى وهو معطوف على الزائد، وقد خالف فيه الكرامية، والدليل على الامتناع أن حدوث الحوادث فيه تعالى يدل على تغيره وانفعاله في ذاته وذلك ينافي الوجوب، وأيضا فإن المقتضي للحادث إن كان ذاته كان أزليا وإن كان غيره كان الواجب مفتقرا إلى الغير وهو محال، ولأنه إن كان صفة كمال استحال خلو الذات عنه وإن لم يكن استحال اتصاف الذات به. المسألة السابعة عشرة في أنه تعالى غني قال: والحاجة. أقول: وجوب الوجود ينافي الحاجة وهو معطوف على الزائد، وهذا الحكم ظاهر فإن وجوب الوجود يستدعي الاستغناء عن الغير في كل شئ فهو ينافي
408 الحاجة، ولأنه لو افتقر إلى غيره لزم الدور، لأن ذلك الغير محتاج إليه لإمكانه. (لا يقال) الدور غير لازم لأن الواجب مستغن في ذاته وبعض صفاته عن ذلك الغير وبهذا الوجه يؤثر في ذلك الغير، فإذا احتاج في جهة أخرى إلى ذلك الغير انتفى الدور (لأنا نقول) هذا بناء على أن صفاته تعالى زائدة على الذات وهو باطل لما سيأتي، وأيضا فالدور لا يندفع لأن ذلك الممكن بالجهة التي يؤثر في الواجب تعالى صفة يكون محتاجا إليه، وحينئذ يلزم الدور المحال، ولأن افتقاره في ذاته يستلزم إمكانه وكذا في صفاته، لأن ذاته موقوفة على وجود تلك الصفة أو عدمها المتوقفين على الغير فيكون متوقفا على الغير فيكون ممكنا، وهذا برهان عول عليه الشيخ ابن سينا. المسألة الثامنة عشرة في استحالة الألم واللذة عليه تعالى قال: والألم مطلقا واللذة المزاجية. أقول: هذا أيضا عطف على الزائد، فإن وجوب الوجود يستلزم نفي اللذة والألم. واعلم أن اللذة والألم قد يكونان من توابع المزاج، فإن اللذة من توابع اعتدال المزاج والألم من توابع سوء المزاج، وهذان المعنيان أنما يصحان في حق الأجسام وقد ثبت بوجوب الوجود أنه تعالى يستحيل أن يكون جسما فينتفيان عنه. وقد يعني بالألم إدراك المنافي وباللذة إدراك الملائم، فالألم بهذا المعنى منفي عنه لأن واجب الوجود لا منافي له، وأما اللذة بهذا المعنى فقد اتفق الأوائل على ثبوتها لله تعالى لأنه مدرك لأكمل الموجودات أعني ذاته فيكون ملتذا به، والمصنف رحمه الله كأنه قد ارتضى هذا القول، وهو مذهب ابن نوبخت وغيره من المتكلمين إلا أن إطلاق الملتذ عليه يستدعي الأذن الشرعي.
409 المسألة التاسعة عشرة في نفي المعاني والأحوال والصفات الزائدة في الأعيان قال: والمعاني والأحوال والصفات الزائدة عينا. أقول: ذهبت الأشاعرة إلى أن لله تعالى معاني قائمة بذاته هي القدرة والعلم وغيرهما من الصفات تقتضي القادرية والعالمية والحيية إلى غيرها من باقي الصفات. وأبو هاشم أثبت أحوالا غير معلومة لكن تعلم الذات عليها (1) وجماعة من المعتزلة أثبتوا لله تعالى صفات زائدة على الذات، وهذه المذاهب كلها ضعيفة لأن وجوب الوجود يقتضي نفي هذه الأمور عنه لأنه تعالى يستحيل أن يتصف بصفة زائدة على ذاته سواء جعلناها معنى أو حالا أو صفة غيرهما لأن وجوب الوجود يقتضي الاستغناء عن كل شئ فلا يفتقر في كونه قادرا إلى صفة القدرة ولا في كونه عالما إلى صفة العلم ولا غير ذلك من المعاني والأحوال، وإنما قيد الصفات بالزائدة عينا لأنه تعالى موصوف بصفات الكمال لكن تلك الصفات نفس الذات في الحقيقة وإن كانت مغايرة لها بالاعتبار. المسألة العشرون في أنه تعالى ليس بمرئي قال: والرؤية (2).
(1) وفي (ش) علتها، أعربها بتشديد اللام والتاء المنقوطتين من فوق. وفي (د) بدون تشديد وإعجام، وفي النسخ الأخرى: عليها، على الجار والمجرور بالإعجام. وفي نسخة أخرى عندنا صححت العبارة وأعربت هكذا: (لكن بعلم الذات عللها) بإضافة العلم إلى الذات المجرور بالباء، وعللها على هيئة الجمع. والصواب هو الأوسط المختار أعني عليها على الجار والمجرور كما في نسختين من شرح القديم لمؤلفه محمود بن أحمد الأصفهاني حيث قال في المقام: ومذهب أبي هاشم أن لله تعالى أحوالا مثل العالمية والقادرية وغيرهما، والحال لا يعلم ولكن يعلم الذات عليها، إنتهى. وكلام الفخر الرازي في المحصل أيضا يفيد هذا المعنى (ص 136 ط 1 مصر). (2) الحق أن الرؤية بمعنى لقائه سبحانه هي غاية آمال العارفين بالله وقد ندب إليه الشرع بأنحاء عديدة، وأما الرؤية بمعنى الأبصار بالعين فلا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار. والراقم قد صنف في كل واحدة من المسألتين رسالة على حدة لعلها وافية في شعوب مباحثها العقلية والنقلية. قال الشيخ الأجل الصدوق في باب رؤية كتاب التوحيد ما هذا لفظه: والأخبار التي رويت في هذا المعنى - يعني في الرؤية - صحيحة وإنما تركت إيرادها في هذا الباب خشية أن يقرأها جاهل بمعانيها فيكذب بها فيكفر بالله عز وجل وهو لا يعلم. والأخبار التي ذكرها أحمد بن محمد بن عيسى في نوادره، والتي أوردها محمد بن أحمد بن يحيى في جامعه في معنى الرؤية صحيحة لا يردها إلا مكذب بالحق أو جاهل به، وألفاظها ألفاظ القرآن، ولكل خبر منها معنى ينفي التشبيه والتعطيل ويثبت التوحيد، وقد أمرنا الأئمة صلوات الله عليهم أن لا نكلم الناس إلا على قدر عقولهم. ومعنى الرؤية الواردة في الأخبار العلم، وذلك أن الدنيا دار شكوك وارتياب وخطرات فإذا كان يوم القيامة كشف للعباد من آيات الله وأموره في ثوابه وعقابه ما تزول به الشكوك كوك ويعلم حقيقة قدرة الله عز وجل، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد). إنتهى ما أردنا من نقل كلامه - رضوان الله تعالى عليه - في التوحيد، ولكن لا يخفى عليك أن الأئمة عليهم السلام أمرونا أن نكلم الناس على قدر عقولهم، وما أمرونا أن لا نروي أحاديثهم التي حدثوا بها. والشيخ الأكرم المفيد قدس سره قال في تصحيح الاعتقادات نقدا عليه: ولو اقتصر على الأخبار ولم يتعاط ذكر معانيها كان أسلم له من الدخول في باب يضيق عنه سلوكه. والمتأله السبزواري في شرح الأسماء عند قوله عليه السلام في الفصل الخمسين من الجوشن الكبير: يا من يرى ولا يرى، حرر أقوال القوم في الرؤية أتم تحرير فراجعه إليه (ص 185 ط 1). 410 أقول: وجوب الوجود يقتضي نفي الرؤية أيضا، (واعلم) أن أكثر العقلاء ذهبوا إلى امتناع رؤيته تعالى، والمجسمة جوزوا رؤيته لاعتقادهم أنه تعالى جسم، ولو اعتقدوا تجرده لم تجز رؤيته عندهم، والأشاعرة خالفوا العقلاء كافة هنا وزعموا أنه تعالى مع تجرده تصح رؤيته، والدليل على امتناع الرؤية أن وجوب وجوده يقتضي تجرده ونفي الجهة والحيز عنه فينتفي الرؤية عنه بالضرورة، لأن كل مرئي فهو من جهة يشار إليه بأنه هنا أو هناك، ويكون مقابلا أو في حكم المقابل، ولما انتفى هذا المعنى عنه تعالى انتفت الرؤية.
411 قال: وسؤال موسى لقومه. أقول: لما استدل على نفي الرؤية شرع في الجواب عن احتجاج الأشاعرة، وقد احتجوا بوجوه أجاب المصنف عنها، الأول: أن موسى عليه السلام سأل الرؤية ولو كانت ممتنعة لم يصح منه السؤال. والجواب أن السؤال كان من موسى عليه السلام لقومه ليبين لهم امتناع الرؤية لقوله تعالى: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة) وقوله: (أفتهلكنا بما فعل السفهاء منا). قال: والنظر لا يدل على الرؤية مع قبوله التأويل. أقول: تقرير الوجه الثاني لهم أنه تعالى حكى عن أهل الجنة النظر إليه فقال: (إلى ربها ناظرة) والنظر المقرون بحرف (إلى) يفيد الرؤية لأنه حقيقة في تقليب الحدقة نحو المطلوب التماسا لرؤيته، وهذا متعذر في حقه تعالى لانتفاء الجهة عنه فبقي المراد منه مجازه وهو الرؤية التي هي معلول النظر الحقيقي واستعمال لفظ السبب في المسبب من أحسن وجوه المجاز. والجواب المنع من إرادة هذا المجاز، فإن النظر وإن اقترن به حرف (إلى) لا يفيد الرؤية، ولهذا يقال: نظرت إلى الهلال فلم أره، وإذا لم يتعين هذا المعنى للإرادة أمكن حمل الآية على غيره، وهو أن يقال: إن (إلى) واحد الآلاء ويكون معنى ناظرة أي منتظرة، أو نقول: إن المضاف هنا محذوف وتقديره: إلى ثواب ربها. (لا يقال) الانتظار سبب الغم والآية سيقت لبيان النعم، (لأنا نقول) سياق الآية يدل على تقدم حال لأهل الثواب والعقاب على استقرارهم في الجنة والنار بقوله: (وجوه يومئذ ناضرة) بدليل قوله تعالى: (ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة) فإن في حال استقرار أهل النار في النار قد فعل لها فاقرة فلا يبقى للظن معنى، وإذا كان كذلك فانتظار النعمة بعد البشارة بها لا يكون سببا للغم بل سببا للفرح والسرور ونضارة الوجه، كمن يعلم وصول نفع إليه يقينا في وقت
412 فإنه يسر بذلك وإن لم يحضر الوقت كما أن انتظار العقاب بعد الانذار بوروده يوجب الغم ويقتضي بسارة الوجه. قال: وتعليق الرؤية (1) على استقرار الجبل المتحرك لا يدل على الإمكان. أقول: هذا جواب عن الوجه الثالث للأشعرية، وتقرير احتجاجهم أن الله سبحانه وتعالى علق الرؤية في سؤال موسى عليه السلام على استقرار الجبل والاستقرار ممكن، لأن كل جسم فسكونه ممكن والمعلق على الممكن ممكن. والجواب أنه تعالى علق الرؤية على الاستقرار لا مطلقا بل على استقرار الجبل حال حركته واستقرار الجبل حال الحركة محال فلا يدل على إمكان المعلق. قال: واشتراك المعلولات لا يدل على اشتراك العلل مع منع التعليل والحصر. أقول: هذا جواب عن شبهة الأشاعرة من طريق العقل استدلوا بها على جواز رؤيته تعالى، وتقريرها أن الجسم والعرض قد اشتركا في صحة الرؤية وهذا حكم مشترك يستدعي علة مشتركة ولا مشترك بينهما إلا الحدوث أو الوجود، والحدوث لا يصلح للعلية لأنه مركب من قيد عدمي فيكون عدميا فلم يبق إلا الوجود فكل موجود تصح رؤيته والله تعالى موجود. وهذا الدليل ضعيف جدا لوجوه: الأول: المنع من رؤية الجسم بل المرئي هو اللون والضوء لا غير. الثاني: لا نسلم اشتراكهما في صحة الرؤية فإن رؤية الجوهر مخالفة لرؤية العرض. الثالث: لا نسلم أن الصحة ثبوتية بل هي أمر عدمي لأن جنس صحة الرؤية وهو الإمكان عدمي فلا يفتقر إلى العلة. الرابع: لا نسلم أن المعلول المشترك يستدعي علة مشتركة فإنه يجوز اشتراك العلل المختلفة في المعلولات المتساوية. الخامس: لا نسلم الحصر في الحدوث والوجود وعدم العلم لا يدل على العدم مع أنا نتبرع بذكر قسم آخر وهو الإمكان وجاز التعليل به وإن
(1) كما في (م) وفي (ق، ص، ش، د): وتعليق الرؤية باستقرار المتحرك لا يدل على الإمكان. وفي (ز): لاستقرار المتحرك. وفي (ت): والتعليق باستقرار الجبل لا يدل على الإمكان. 413 كان عدميا لأن صحة الرؤية عدمية. السادس: لا نسلم أن الحدوث لا يصلح للعلية، وقد بينا أن صحة الرؤية عدمية على أنا نمنع من كون الحدوث عدميا لأنه عبارة عن الوجود المسبوق بالغير لا المسبوق بالعدم. السابع: لم لا يجوز أن تكون العلة هي الوجود بشرط الإمكان أو بشرط الحدوث، والشروط يجوز أن تكون عدمية. الثامن: المنع من كون الوجود مشتركا لأن وجود كل شئ نفس حقيقته، ولو سلم كون الوجود الممكن مشتركا لكن وجود الله تعالى مخالف لغيره من الوجودات لأنه نفس حقيقته، ولا يلزم من كون بعض الماهيات (1) علة لشئ كون ما يخالفه علة لذلك الشئ. التاسع: المنع من وجود الحكم عند وجود المقتضي فإنه جاز وجود مانع في حقه تعالى إما ذاته أو صفة من صفاته أو قبول الحكم يتوقف على شرط كالمقابلة هنا وهي تمتنع في حقه تعالى فلا يلزم وجود الحكم فيه. المسألة الحادية والعشرون في باقي الصفات قال: وعلى ثبوت الجود. أقول: هذا عطف على قوله: على سرمديته، أي أن وجوب الوجود يدل على سرمديته وعلى ثبوت الجود، واعلم أن الجود هو إفادة ما ينبغي للمستفيد من غير استعاضة منه، والله تعالى قد أفاد الوجود الذي ينبغي للممكنات من غير أن يستعيض منها شيئا من صفة حقيقية أو إضافية فهو جواد، وجماعة الأوائل نفوا الغرض عن الجواد وهو باطل وسيأتي بيانه في باب العدل.
(1) أي بعض الماهيات بوجوده علة لشئ كما هو ظاهر. أو أن الكون في الموضعين بمعنى الوجود. وفي المطبوعة: ولا يلزم من كون وجود بعض الماهيات، ولكن النسخ كلها عارية عن الوجود والكلمة كانت تعليقة أدرجت في المتن. 414 قال: والملك. أقول: وجوب الوجود يدل على كونه تعالى ملكا لأنه غني عن الغير في ذاته وصفاته الحقيقية المطلقة والحقيقية المستلزمة للإضافة وكل شئ مفتقر إليه، لأن كل ما عداه ممكن إنما يوجد بسببه وله ذات كل شئ لأنه مملوك له مفتقر إليه في تحقق ذاته فيكون ملكا، لأن الملك هو المستجمع لهذه الصفات الثلاث. قال: والتمام وفوقه. أقول: وجوب الوجود يدل على كونه تعالى تاما وفوق التمام، أما كونه تاما فلأنه واحد على ما سلف، واجب من كل جهة يمتنع تغيره وانفعاله وتجدد شئ له، فكل ما من شأنه أن يكون له فهو حاصل له بالفعل، وأما كونه فوق التمام فلأن ما حصل لغيره من الكمالات فهو منه مستفاد. قال: والحقية. أقول: وجوب الوجود يدل على ثبوت الحقية له تعالى، واعلم أن الحق يقال للثابت مطلقا والثابت دائما، ويقال على حال القول والعقد بالنسبة إلى المقول والمعتقد إذا كان مطابقا وهو الصادق أيضا لكن باعتبار نسبة القول والعقد إليه، والله تعالى واجب الثبوت والدوام غير قابل للعدم والبطلان، فذاته أحق من كل حق وهو محقق كل حقيقة. قال: والخيرية. أقول: وجوب الوجود يدل على ثبوت وصف الخيرية لله تعالى، لأن الخير عبارة عن الوجود والشر عبارة عن عدم كمال الشئ من حيث هو مستحق له، وواجب الوجود يستحيل أن يعدم عنه شئ من الكمالات فلا يتطرق إليه الشر بوجه من الوجوه فهو خير محض. قال: والحكمة. أقول: وجوب الوجود يقتضي وصف الله تعالى بالحكمة، لأن الحكمة قد يعني
415 بها معرفة الأشياء وقد يراد بها صدور الشئ على الوجه الأكمل، ولا عرفان أكمل من عرفانه تعالى فهو حكيم بالمعنى الأول، وأيضا فإن أفعاله تعالى في غاية الأحكام والإتقان ونهاية الكمال فهو حكيم بالمعنى الثاني أيضا. قال: والتجبر. أقول: وجوب الوجود يقتضي وصفه تعالى بكونه جبارا، لأن وجوب الوجود يقتضي استناد كل شئ إليه فهو يجبر ما بالقوة بالفعل والتكميل كالمادة بالصورة فهو جبار من حيث إنه واجب الوجود. قال: والقهر. أقول: وجوب الوجود يقتضي وصفه تعالى بكونه قهارا بمعنى أنه يقهر العدم بالوجود والتحصيل. قال: والقيومية. أقول: وصفه تعالى بكونه واجب الوجود يقتضي وصفه بكونه قيوما بمعنى أنه قائم بذاته ومقيم لغيره، لأن وجوب الوجود يقتضي استغناءه عن غيره وهو معني قيامه بذاته ويقتضي استناد غيره إليه وهو المعنى بكونه مقيما لغيره. قال: وأما اليد والوجه والقدم والرحمة والكرم والرضا والتكوين فراجعة إلى ما تقدم. أقول: ذهب أبو الحسن الأشعري إلى أن اليد صفة وراء القدرة، والوجه صفة مغايرة للوجود، وذهب عبد الله بن سعيد إلى أن القدم صفة مغايرة للبقاء وأن الرحمة والكرم والرضا صفات مغايرة للإرادة، وأثبت جماعة من الحنفية التكوين صفة مغايرة للقدرة، والتحقيق أن هذه الصفات راجعة إلى ما تقدم.
416 الفصل الثالث في أفعاله وفيه مسائل المسألة الأولى في إثبات الحسن والقبح العقليين قال: الثالث في أفعاله، الفعل المتصف بالزائد إما حسن أو قبيح، والحسن أربعة. أقول: لما فرغ من إثباته تعالى وبيان صفاته شرع في بيان عدله وأنه تعالى حكيم لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب وما يتعلق بذلك من المسائل، وبدأ بقسمة الفعل إلى الحسن والقبيح وبين أن الحسن والقبح أمران عقليان، وهذا حكم متفق عليه بين المعتزلة. وأما الأشاعرة فإنهم ذهبوا إلى أن الحسن والقبح أنما يستفادان من الشرع فكل ما أمر الشارع به فهو حسن وكل ما نهى عنه فهو قبيح، ولولا الشرع لم يكن حسن ولا قبح، ولو أمر الله تعالى بما نهى عنه لا نقلب القبيح إلى الحسن. والأوائل ذهبوا إلى أن من الأشياء ما هو حسن ومنها ما هو قبيح بالنظر إلى العقل العملي، وقد شنع أبو الحسين على الأشاعرة بأشياء ردية وما شنع به فهو حق إذ لا تتمشى قواعد الاسلام بارتكاب ما ذهب إليه الأشعرية من تجويز القبائح عليه تعالى وتجويز إخلاله بالواجب، وما أدري كيف يمكنهم الجمع بين المذهبين. واعلم: أن الفعل من التصورات الضرورية، وقد حده أبو الحسين بأنه ما
417 حدث عن قادر مع أنه حد القادر بأنه الذي يصح أن يفعل وأن لا يفعل فلزمه الدور، على أن الفعل أعم من الصادر عن قادر وغيره. إذا عرفت هذا، فالفعل الحادث إما أن لا يوصف بأمر زائد على حدوثه وهو مثل حركة الساهي والنائم وإما أن يوصف وهو قسمان حسن وقبيح، فالحسن ما لا يتعلق بفعله ذم القبيح بخلافه، والحسن إما أن لا يكون له وصف زائد على حسنه وهو المباح ويرسم بأنه ما لا مدح فيه على الفعل والترك، وإما أن يكون له وصف زائد على حسنه فإما أن يستحق المدح بفعله والذم بتركه وهو الواجب، أو يستحق المدح بفعله ولا يتعلق بتركه ذم وهو المندوب، أو يستحق المدح بتركه ولا يتعلق بفعله ذم وهو المكروه، فقد انقسم الحسن إلى الأحكام الأربعة: الواجب والمندوب والمباح والمكروه ومع القبيح تبقى الأحكام الحسنة والقبيحة خمسة. قال: وهما عقليان للعلم بحسن الإحسان وقبح الظلم من غير شرع. أقول: استدل المصنف رحمه الله على أن الحسن والقبح أمران عقليان بوجوه، هذا أولها وتقريره أنا نعلم بالضرورة حسن بعض الأشياء وقبح بعضها من غير نظر إلى شرع، فإن كل عاقل يجزم بحسن الإحسان ويمدح عليه، وبقبح الإساءة والظلم ويذم عليه، وهذا حكم ضروري لا يقبل الشك وليس مستفادا من الشرع لحكم البراهمة والملاحدة به من غير اعتراف منهم بالشرائع. قال: ولانتفائهما مطلقا لو ثبتا شرعا. أقول: هذا وجه ثان يدل على أن الحسن والقبح عقليان، وتقريره أنهما لو ثبتا شرعا لم يثبتا لا شرعا ولا عقلا، والتالي باطل إجماعا فالمقدم مثله، بيان الشرطية أنا لو لم نعلم حسن بعض الأشياء وقبحها عقلا لم نحكم بقبح الكذب فجاز وقوعه من الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا، فإذا أخبرنا في شئ أنه قبيح لم نجزم بقبحه وإذا أخبرنا في شئ أنه حسن لم نجزم بحسنه لتجويز الكذب ولجوزنا أن يأمرنا بالقبيح وأن ينهانا عن الحسن لانتفاء حكمته تعالى على هذا التقدير.
418 قال: ولجاز التعاكس. أقول: الذي خطر لنا في تفسير هذا الكلام أنه لو لم يكن الحسن والقبح عقليين لجاز أن يقع التعاكس في الحسن والقبح بأن يكون ما نتوهمه حسنا قبيحا وبالعكس، فكان يجوز أن يكون هناك أمم عظيمة تعتقد حسن مدح من أساء إليهم وذم من أحسن كما حصل لنا اعتقاد عكس ذلك، ولما علم كل عاقل بطلان ذلك جزمنا باستناد هذه الأحكام إلى القضايا العقلية لا الأوامر والنواهي الشرعية ولا العادات. قال: ويجوز التفاوت في العلوم لتفاوت التصور. أقول: لما استدل على مذهبه من إثبات الحسن والقبح العقليين شرع في الجواب عن شبهة الأشاعرة، وقد احتجوا بوجوه: الأول: لو كان العلم بقبح بعض الأشياء وحسنها ضروريا لما وقع التفاوت بينه وبين العلم لزيادة الكل على الجزء، والتالي باطل بالوجدان فالمقدم مثله، والشرطية ظاهرة لأن العلوم الضرورية لا تتفاوت. (والجواب) المنع من الملازمة فإن العلوم الضرورية قد تتفاوت لوقوع التفاوت في التصورات، فقوله: (ويجوز التفاوت في العلوم لتفاوت التصور) إشارة إلى هذا الجواب. قال: وارتكاب أقل القبيحين مع إمكان المخلص (1). أقول: هذا يصلح أن يكون جوابا عن شبهتين للأشعرية: إحداهما: قالوا: لو
(1) مع إمكان التخلص كما في (ش، ت) وفي (م، ص، ز) مع إمكان المخلص. وفي (د) مع عدم إمكان المخلص. وفي (ق) مع عدم إمكان التخلص. يعني إذا اضطر إلى ارتكاب القبيحين ولم يمكنه الخلاص عنهما ارتكب أقل القبيحين كالمثال الثاني في الكتاب فإنه أن يكذب غدا فالكذب قبيح، وإن لم يكذب فخلاف الوعد قبيح، لكنه يرتكب أقل القبيحين. وظاهر الشرح حيث قال: وأيضا قد يمكن التخلص عن الكذب، يوافق عدم العدم وإن كان للعدم معنى صحيح، وكذا التخلص في المتن، ولكن قد تكرر ذكر المخلص في الكتاب ونسخ (م ص) متفقة فيه والشرح تعبير بعبارة أخرى. 419 كان الكذب قبيحا لكان الكذب المقتضي لتخليص النبي من يد ظالم قبيحا، والتالي باطل لأنه يحسن تخليص النبي فالمقدم مثله. الثانية: قالوا: لو قال الانسان: لأكذبن غدا، فإن حسن منه الصدق بإيفاء الوعد لزم حسن الكذب، وإن قبح كان الصدق قبيحا فيحسن الكذب. والجواب فيهما واحد، وذلك لأن تخليص النبي أرجح من الصدق فيكون تركه أقبح من الكذب، فيجب ارتكاب أدنى القبيحين وهو الكذب لاشتماله على المصلحة العظيمة الراجحة على الصدق. وأيضا يجب عليه ترك الكذب في غد لأنه إذا كذب في الغد فعل شيئا فيه جهتا قبح وهو العزم على الكذب وفعله، ووجها واحدا من وجوه الحسن وهو الصدق وإذا ترك الكذب يكون قد ترك تتمة العزم والكذب وهما وجها حسن، وفعل وجها واحدا من وجوه القبح وهو الكذب. وأيضا قد يمكن التخلص عن الكذب في الصورة الأولى بأن يفعل التورية أو يأتي بصورة الإخبار الكذب من غير قصد إليه، ولأن جهة الحسن هي التخلص (1) وهي غير منفكة عنه وجهة القبح هي الكذب وهي غير منفكة عنه فما هو حسن لم ينقلب قبيحا وكذا ما هو قبيح لم ينقلب حسنا. قال: والجبر باطل. أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى لهم وهي أنهم قالوا: الجبر حق فينتفي الحسن والقبح العقليان والملازمة ظاهرة وبيان صدق المقدم ما يأتي والجواب الطعن في الصغرى وسيأتي البحث فيها. المسألة الثانية في أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب قال: واستغناؤه وعلمه يدلان على انتفاء القبح عن أفعاله تعالى.
(1) دليل للصورتين كلتيهما وإن كان بظاهره يناسب الثانية، فما في (م) من قوله: ولأن جهة الحسن هي التخليص، كان مفاده بينا مناسبا للصورة الأولى. 420 أقول: اختلف الناس هنا، فقالت المعتزلة: إنه تعالى لا يفعل قبيحا ولا يخل بواجب، ونازع الأشعرية في ذلك وأسندوا القبائح إليه تعالى الله عن ذلك، والدليل على ما اختاره المعتزلة أن له داعيا إلى فعل الحسن وليس له صارف عنه، وله صارفا عن فعل القبيح وليس له داع إليه وهو قادر على كل مقدور، ومع وجود القدرة والداعي يجب الفعل، وإنما قلنا ذلك لأنه تعالى غني يستحيل عليه الحاجة وهو عالم بحسن الحسن وقبح القبيح، ومن المعلوم بالضرورة أن العالم بالقبيح الغني عنه لا يصدر عنه وأن العالم بالحسن القادر عليه إذا خلا من جهات المفسدة فإنه يوجده، وتحريره أن الفعل بالنظر إلى ذاته ممكن وواجب بالنظر إلى علته، وكل ممكن مفتقر إلى قادر فإن علته أنما تتم بواسطة القدرة والداعي، فإذا وجدا فقد تم السبب، وعند تمام السبب يجب وجود الفعل. وأيضا لو جاز منه فعل القبيح أو الاخلال بالواجب لارتفع الوثوق بوعده ووعيده لإمكان تطرق الكذب عليه ولجاز منه إظهار المعجزة على يد الكاذب وذلك يفضي إلى الشك في صدق الأنبياء ويمتنع الاستدلال بالمعجزة عليه. المسألة الثالثة في أنه تعالى قادر على القبيح قال: مع قدرته عليه لعموم النسبة ولا ينافي الامتناع اللاحق. أقول: ذهب العلماء كافة إلى أنه تعالى قادر على القبيح إلا النظام، والدليل على ذلك أنا قد بينا عموم نسبة قدرته إلى الممكنات والقبيح منها فيكون مندرجا تحت قدرته. احتج بأن وقوعه منه يدل على الجهل أو الحاجة وهما منفيان في حقه تعالى. والجواب أن الامتناع هنا بالنظر إلى الحكمة فهو امتناع لاحق لا يؤثر في الإمكان الأصلي، ولهذا عقب المصنف رحمه الله الاستدلال على مراده بالجواب عن الشبهة التي له وإن لم يذكرها صريحا.
421 المسألة الرابعة في أنه يفعل لغرض قال: ونفي الغرض يستلزم العبث ولا يلزم عوده إليه. أقول: اختلف الناس هنا، فذهبت المعتزلة إلى أنه تعالى يفعل لغرض ولا يفعل شيئا لغير فائدة، وذهبت الأشاعرة إلى أن أفعاله تعالى يستحيل تعليلها بالأغراض والمقاصد. والدليل على مذهب المعتزلة أن كل فعل لا يفعل لغرض فإنه عبث والعبث قبيح، والله تعالى يستحيل منه فعل القبيح. احتج المخالف بأن كل فاعل لغرض وقصد فإنه ناقص بذاته مستكمل بذلك الغرض، والله تعالى يستحيل عليه النقصان. (والجواب) النقص أنما يلزم لو عاد الغرض والنفع إليه، أما إذا كان النفع عائدا إلى غيره فلا كما نقول: إنه تعالى يخلق العالم لنفعهم. المسألة الخامسة في أنه تعالى يريد الطاعات ويكره المعاصي قال: وإرادة القبيح قبيحة وكذا ترك إرادة الحسن وللأمر والنهي (1). أقول: مذهب المعتزلة أن الله تعالى يريد الطاعات من المؤمن والكافر سواء وقعت أو لا، ويكره المعاصي سواء وقعت أو لا. وقالت الأشاعرة: كل ما هو واقع فهو مراد سواء كان طاعة أو معصية. والدليل على ما ذهب إليه المعتزلة وجهان: الأول: أنه تعالى حكيم لا يفعل القبيح على ما تقدم، فكما أن فعل القبيح قبيح
(1) كما في (م) وهو الصواب والشرح يوافقه. والنسخ الباقية كلها: والأمر والنهي. وعلى هذه النسخ كان معنى العبارة هكذا: وكذا ترك إرادة الحسن قبيح، وكذا ترك الأمر والنهي قبيح. لأنه سبحانه يجب عليه الأمر بالحسن والنهي عن القبيح، ولكن شرح العلامة ناص على صحة النسخة الأولى. 422 فكذا إرادته قبيحة، وكما أن ترك الحسن قبيح فكذا إرادة تركه. الثاني: أنه تعالى أمر بالطاعات ونهى عن المعاصي والحكيم إنما يأمر بما يريده لا بما يكرهه، وينهى عما يكرهه لا عما يريده، فلو كانت الطاعة من الكافر مكروهة لله تعالى لما أمر بها، ولو كانت المعصية مرادة لله تعالى لما نهاه عنها، وكان الكافر مطيعا بكفره وعدم إيمانه لأنه فعل ما أراده الله تعالى منه وهو المعصية وامتنع عما كرهه وذلك باطل قطعا. قال: وبعض الأفعال مستندة إلينا والمغلوبية غير لازمة والعلم تابع. أقول: لما فرغ من الاستدلال شرع في إبطال حجج الخصم، وهي ثلاثة: الأولى: قالوا: الله تعالى فاعل لكل موجود فتكون القبائح مستندة إليه بإرادته. والجواب ما يأتي من كون بعض الأفعال مستندة إلينا. الثانية: إن الله تعالى لو أراد من الكافر الطاعة، والكافر أراد المعصية وكان الواقع مراد الكافر لزم أن يكون الله تعالى مغلوبا، إذ من يقع مراده من المريدين هو الغالب. والجواب أن هذا غير لازم لأن الله تعالى أنما يريد الطاعة من العبد على سبيل الاختيار وهو أنما يتحقق بإرادة المكلف، ولو أراد الله تعالى إيقاع الطاعة من الكافر مطلقا سواء كانت عن إختيار أو إجبار لوقعت. الثالثة: قالوا: كل ما علم الله تعالى وقوعه وجب وما علم عدمه امتنع، فإذا علم عدم وقوع الطاعة من الكافر استحال إرادتها منه وإلا لكان مريدا لما يمتنع وجوده. والجواب أن العلم تابع لا يؤثر في إمكان الفعل، وقد مر تقرير ذلك. المسألة السادسة في أنا فاعلون قال: والضرورة قاضية باستناد أفعالنا إلينا (1).
(1) ينبغي في المقام الفرق بين إسناد الفعل وإيجاده والموجد هو الوجود الحق سبحانه وتعالى، وأفعالنا مستندة إلينا، بحول الله وقوته أقوم وأقعد. وسلطانه لا يرفع عن ممكن ولا معنى للرفع أصلا وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين، فتدبر في قوله سبحانه: وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى وأن عليه النشأة الأخرى وأنه هو أغنى وأقنى فالأفعال الستة موجدها هو سبحانه واستنادها إلى الخلق. والمسائل والبحث عنها حول هذا المطلب تطلب في رسالتنا المصنوعة في رد الجبر والتفويض وإثبات أمر بين الأمرين. 423 أقول: اختلف العقلاء هنا، فالذي ذهب إليه المعتزلة أن العبد فاعل لأفعال نفسه، واختلفوا فقال أبو الحسين: إن العلم بذلك ضروري، وهو الحق الذي ذهب إليه المصنف رحمه الله. وقال آخرون: إنه إستدلالي. وأما جهم بن صفوان فإنه قال: إن الله تعالى هو الموجد لأفعال العباد وإضافتها إليهم على سبيل المجاز، فإذا قيل: فلان صلى وصام، كان بمنزلة قولنا: طال وسمن. وقال ضرار بن عمرو والنجار وحفص الفرد (1) وأبو الحسن الأشعري: إن الله تعالى هو المحدث لها والعبد مكتسب، ولم يجعل لقدرة العبد أثرا في الفعل بل القدرة والمقدور واقعان بقدرة الله تعالى، وهذا الاقتران هو الكسب، وفسر القاضي الكسب بأن ذات الفعل واقعة بقدرة الله تعالى، وكونه طاعة ومعصية صفتان واقعتان بقدرة العبد. وقال أبو إسحاق الإسفرايني من الأشاعرة: إن الفعل واقع بمجموع القدرتين. والمصنف التجأ إلى
(1) في غير واحد من كتب الملل والنحل: وحفص بن الفرد. والفرد بالفاء، وبالقاء تصحيف. قال الأستاذ في شرحه على التجريد بالفارسية ما هذا لفظه: وحفص القرد يعني بوزينه لقب است. أقول الظاهر أن تحريف الفرد بالقرد نشأ من تكفير الشافعي إياه. وفي أول المقالة الخامسة من الفن الثالث من الفهرست لابن النديم (ص 229 ط رضا تجدد): وكان حفص الفرد من المجبرة من أكابرهم نظيرا للنجار. ويكنى أبا عمرو. وكان من أهل مصر، قدم البصرة فسمع بأبي الهذيل واجتمع معه وناظره فقطعه أبو الهذيل، وكان أولا معتزليا ثم قال بخلق الأفعال وكان يكنى أبا يحيى، ثم عد كتبه. وفي لسان الميزان للعسقلاني (ص 330 ج 1 ط حيدرآباد، الترجمة رقم 1355) حفص القرد (معجمة بالقاف) مبتدع. قال النسائي صاحب كلام لا يكتب حديثه وكفره الشافعي في مناظرته. وفي ميزان الاعتدال (1 / 564 الترجمة رقم 2143) مثل ما في اللسان. 424 الضرورة هاهنا فإنا نعلم بالضرورة الفرق بين حركة الحيوان اختيارا وبين حركة الحجر الهابط، ومنشأ الفرق هو اقتران القدرة في أحد الفعلين به وعدمه في الآخر. قال: والوجوب للداعي (1) لا ينافي القدرة كالواجب. أقول: لما فرغ من تقرير المذهب شرع في الجواب عن شبه الخصم، وتقرير الشبهة الأولى أن صدور الفعل من المكلف إما أن يقارن تجويز لا صدوره أو امتناع لا صدوره، والثاني يستلزم الجبر والأول إما أن يترجح منه الصدور على لا صدوره لمرجح أو لا لمرجح، والثاني يلزم منه الترجيح لأحد طرفي الممكن من غير مرجح وهو محال، والأول يستلزم التسلسل أو الانتهاء إلى ما يجب معه الترجيح، وهو ينافي التقدير ويستلزم الجبر. والجواب أن الفعل بالنظر إلى قدرة العبد ممكن وواجب بالنظر إلى داعيه وذلك لا يستلزم الجبر، فإن كل قادر فإنه يجب عنه الأثر عند وجود الداعي كما في حق الواجب تعالى فإن هذا الدليل قائم في حقه تعالى ووجه المخلص ما ذكرناه، على أن هذا غير مسموع من أكثرهم حيث جوزوا من القادر ترجيح أحد مقدوريه على الآخر من غير مرجح، وبه أجابوا عن الشبهة التي أوردها الفلاسفة عليهم، فما أدري لم كان الجواب مسموعا هناك ولم يكن مسموعا هاهنا. قال: والإيجاد لا يستلزم العلم إلا مع اقتران القصد فيكفي الاجمال (2). أقول: هذا الجواب عن شبهة أخرى لهم، وتقريرها أن العبد لو كان موجدا لأفعال نفسه لكان عالما بها، والتالي باطل فالمقدم مثله، والشرطية ظاهرة. وبيان بطلان التالي أنا حال الحركة نفعل حركات جزئية لا نعقلها وإنما نقصد الحركة إلى المنتهى وإن لم نقصد جزئيات تلك الحركة.
(1) كما في (ق ش د ز) وفي (م ت): والوجوب الداعي. وفي (ص): والوجوب والداعي. والشرح يوافق ما اخترناه وهي النسخ الأربع المذكورة. (2) كما في (م د). والنسخ الأخرى: فيكفي الاجمالي، مع الياء. 425 والجواب أن الايجاد لا يستلزم العلم، فإن الفاعل قد يصدر عنه الفعل بمجرد الطبع كالاحراق الصادر عن النار من غير علم فلا يلزم من نفي العلم نفي الايجاد، نعم الايجاد مع القصد يستلزم العلم لكن العلم الاجمالي كاف فيه وهو حاصل في الحركات الجزئية بين المبدأ والمنتهى. قال: ومع الاجتماع يقع مراده تعالى. أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى لهم، وتقريرها أن العبد لو كان قادرا على الفعل لزم اجتماع قادرين على مقدور واحد، والتالي باطل فالمقدم مثله، بيان الشرطية أنه تعالى قادر على كل مقدور، فلو كان العبد قادرا على شئ لاجتمعت قدرته وقدرة الله تعالى عليه. وأما بطلان التالي فلأنه لو أراد الله تعالى إيجاده وأراد العبد إعدامه فإن وقع المرادان أو عدما لزم اجتماع النقيضين، وإن وقع مراد أحدهما دون الآخر لزم الترجيح من غير مرجح. والجواب أن نقول: يقع مراد الله تعالى لأن قدرته أقوى من قدرة العبد وهذا هو المرجح، وهذا الدليل أخذه بعض الأشاعرة من الدليل الذي استدل به المتكلمون على الوحدانية وهناك يتمشى لتساوي قدرتي الإلهين المفروضين، أما هنا فلا. قال: والحدوث اعتباري. أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى ذكرها قدماء الأشاعرة وهي أن الفاعل يجب أن يخالف فعله في الجهة التي بها يتعلق فعله وهو الحدوث، ونحن محدثون فلا يجوز أن نفعل الحدوث. (وتقرير الجواب) أن الفاعل لا يؤثر الحدوث لأنه أمر اعتباري ليس بزائد على الذات وإلا لزم التسلسل، وإنما يؤثر في الماهية وهي مغايرة له. قال: وامتناع الجسم لغيره.
426 أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى لهم وهي أنا لو كنا فاعلين في الإحداث لصح منا إحداث الجسم لوجود العلة المصححة للتعلق وهي الحدوث. والجواب أن الجسم يمتنع صدوره عنا لا لأجل الحدوث حتى يلزم تعميم الامتناع بل إنما امتنع صدوره عنا لأننا أجسام والجسم لا يؤثر في الجسم على ما مر. قال: وتعذر المماثلة (1) في بعض الأفعال لتعذر الإحاطة. أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى ذكرها قدماؤهم وهي أنا لو كنا فاعلين لصح منا أن نفعل مثل ما فعلناه أولا من كل جهة لوجود القدرة والعلم، والتالي باطل فالمقدم مثله، وبيان بطلان التالي أنا لا نقدر على أن نكتب في الزمان الثاني مثل ما كتبناه في الزمان الأول من كل وجه بل لا بد من تفاوت بينهما في وضع الحروف ومقاديرها. (وتقرير الجواب) أن بعض الأفعال تصدر عنا في الزمان الثاني مثل ما صدرت في الزمان الأول مثل كثير من الحركات والأفعال، وبعضها يتعذر علينا فيه ذلك لا لأنه ممتنع ولكن لعدم الإحاطة الكلية بما فعلناه أولا، فإن مقادير الحروف إذا لم نضبطها لم يصدر عنا مثلها إلا على سبيل الاتفاق. قال: ولا نسبة في الخيرية بين فعلنا وفعله تعالى. أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى لهم قالوا: لو كان العبد فاعلا للإيمان لكان بعض أفعال العبد خيرا من فعله تعالى، لأن الإيمان خير من القردة والخنازير، والتالي باطل بالاجماع فالمقدم مثله. والجواب أن نسبة الخيرية هنا منتفية لأنكم إن عنيتم بأن الإيمان خير أنه أنفع فليس كذلك لأن الأيمان أنما هو فعل شاق مضر على البدن ليس فيه خير عاجل، وإن عنيتم به أنه خير لما فيه من استحقاق المدح والثواب به بخلاف القردة والخنازير فحينئذ لا يكون الإيمان خيرا بنفسه وإنما الخير هو ما يؤدي إليه
(1) والحق أن الجواب الحاسم للشبهة هو التحقيق في تجدد الأمثال وعدم تكرار التجلي. 427 الإيمان من فعل الله تعالى بالعبد وهو المدح والثواب، وحينئذ يكون المدح والثواب خيرا وأنفع للعبد من القردة والخنازير لكن ذلك من فعله تعالى. (واعلم) أن هذه الشبهة ركيكة جدا، وإنما أوردها المصنف رحمه الله هنا لأن بعض الثنوية أورد هذه الشبهة على ضرار بن عمرو فأذعن لها والتزم بالجبر لأجلها. قال: والشكر على مقدمات الإيمان. أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى لهم قالوا: لو كان العبد فاعلا للإيمان لما وجب علينا شكر الله تعالى عليه، والتالي باطل بالاجماع فالمقدم مثله، والشرطية ظاهرة فإنه لا يحسن منا شكر غيرنا على فعلنا. والجواب أن الشكر ليس على فعل الإيمان بل على مقدماته من تعريفنا إياه (1) وتمكيننا منه وحضور أسبابه والأقدار على شرائطه. قال: والسمع متأول ومعارض بمثله والترجيح معنا. أقول: هذا جواب عن الشبه النقلية بطريق إجمالي، وتقريره أنهم قالوا: قد ورد في الكتاب العزيز ما يدل على الجبر كقوله تعالى: (الله خالق كل شئ) (والله خلقكم وما تعملون) (ختم الله على قلوبهم) (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا. والجواب أن هذه الآيات متأولة، وقد ذكر العلماء تأويلاتها في كتبهم. وأيضا فهي معارضة بمثلها وقد صنفها (2) أصحابنا على عشرة أوجه: أحدها: الآيات الدالة على إضافة الفعل إلى العبد كقوله تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) (إن يتبعون إلا الظن) (حتى يغيروا ما بأنفسهم) (بل سولت لكم أنفسكم) (فطوعت له نفسه) (ومن يعمل سوءا يجز به) (كل نفس بما كسبت رهينة) (كل امرئ بما كسب رهين) (ما كان لي عليكم من
(1) كما في (ص). وفي (ش ز د): وتعريفنا إياه. (2) النسخة الثانية: وقد وضعتها، والباقية: وقد صنفها. 428 سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي) إلى آخرها. الثاني: الآيات الدالة على مدح المؤمنين على الإيمان وذم الكفار على الكفر والوعد والوعيد كقوله تعالى: (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت) (اليوم تجزون بما كنتم تعملون) (وإبراهيم الذي وفى) (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (لتجزى كل نفس بما تسعى) (هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) (من أعرض عن ذكري) (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا) (إن الذين كفروا بعد إيمانهم). الثالث: الآيات الدالة على تنزيه أفعاله تعالى عن مماثلة أفعالنا في التفاوت والاختلاف والظلم كقوله تعالى: (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) (الذي أحسن كل شئ خلقه) والكفر ليس بحسن وكذا الظلم، (وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما إلا بالحق) (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) (وما ربك بظلام للعبيد) (وما ظلمناهم) (لا ظلم اليوم) (ولا يظلمون فتيلا). الرابع: الآيات الدالة على ذم العباد على الكفر والمعاصي والتوبيخ على ذلك كقوله تعالى: (كيف تكفرون بالله) (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى) (وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر) (ما منعك أن تسجد) (فما لهم عن التذكرة معرضين) (لم تلبسون الحق بالباطل) (لم تصدون عن سبيل الله). الخامس: الآيات الدالة على التهديد والتخيير كقوله: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) (اعملوا ما شئتم) (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر) (فمن شاء ذكره) (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) (فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا) (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا) (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم). السادس: الآيات الدالة على المسارعة إلى الأفعال قبل فواتها كقوله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) (أجيبوا داعي الله) (استجيبوا لله وللرسول)
429 (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم) (وأنيبوا إلى ربكم). السابع: الآيات التي حث الله تعالى فيها على الاستعانة به وثبوت اللطف منه كقوله تعالى: (وإياك نستعين) (فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) (استعينوا بالله) (أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون) (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة) (ولو بسط الله الرزق لعباده) (فبما رحمة من الله لنت لهم) (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر). الثامن: الآيات الدالة على استغفار الأنبياء (ربنا ظلمنا أنفسنا) (سبحانك إني كنت من الظالمين) (رب إني ظلمت نفسي) (رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم). التاسع: الآيات الدالة على اعتراف الكفار والعصاة بنسبة الكفر إليهم كقوله تعالى: (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم - إلى قوله: - بل كنتم مجرمين) وقوله: (ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين) (كلما القي فيها فوج). العاشر: الآيات الدالة على التحسر والندامة على الكفر والمعصية وطلب الرجعة كقوله: 0 وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا منها) (رب ارجعون) (ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم) (أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة وهي معارضة لما ذكروه (1) على أن الترجيح معنا، لأن التكليف إنما يتم بإضافة الأفعال إلينا وكذا الوعد والوعيد والتخويف والانذار، وإنما طول المصنف رحمه الله في هذه المسألة لأنها من المهمات. المسألة السابعة في المتولد قال: وحسن المدح والذم على المتولد يقتضي العلم بإضافته إلينا. أقول: الأفعال تنقسم إلى المباشر والمتولد والمخترع، فالأول هو الحادث
(1) وفي النسخة الثانية: بما ذكروه. 430 ابتداء بالقدرة في محلها. والثاني هو الحادث الذي يقع بحسب فعل آخر كالحركة الصادرة عن الاعتماد ويسمونه المسبب ويسمون الأول سببا سواء كان الثاني حادثا في محل القدرة أو في غير محلها. والثالث ما يفعل لا لمحل فالأول مختص بنا والثالث مختص به تعالى والثاني مشترك. واعلم أن الناس اختلفوا في المتولد هل يقع بنا (1) أم لا؟ فجمهور المعتزلة على أنه من فعلنا كالمباشر. وقال معمر: إنه لا فعل للعبد إلا الإرادة وما عداها من الحوادث فهي واقعة بطبع المحل، والانسان عنده جزء في القلب توجد فيه الإرادة وما عداها يضيفه إلى طبع المحل. وقال آخرون: لا فعل للعبد إلا الفكر وهم بعض المعتزلة. وقال أبو إسحاق النظام: إن فعل الانسان هي الحركات الحادثة فيه بحسب دواعيه والإنسان عنده هو شئ منساب (2) في الجملة، والإرادة والاعتقادات حركات القلب، وما يوجد منفصلا عن الجملة كالكتابة وغيرها فإنه من فعله تعالى بطبع المحل. وقال ثمامة: إن فعل الانسان هو ما يحدثه في محل قدرته فأما ما تعدى محل القدرة فهو حادث لا محدث له وفعل لا فاعل له. وقالت الأشعرية: المتولد من فعله تعالى، والجماهير من المعتزلة التجأوا في هذا المقام إلى الضرورة فإنا نعلم استناد المتولدات إلينا كالكتابة والحركات وغيرهما من الصنائع، ويحسن منا مدح الفاعل وذمه كما في المباشر، والمصنف رحمه الله استدل بحسن المدح والذم على العلم بأنا فاعلون للمتولد لا عليه، لأن الضروريات لا يجوز الاستدلال عليها، نعم يجوز الاستدلال على كونها ضرورية إذا لم يكن هذا الحكم ضروريا، وجماعة من المعتزلة ذهبوا إلى أنه كسبي واستدلوا بحسن المدح والذم عليه فلزمهم الدور لأن حسن المدح والذم مشروط بالعلم بالاستناد إلينا فلو جعلنا الاستناد إلينا مستفادا منه لزوم الدور.
(1) وفي غير واحدة من النسخ: هل يقع منا. (2) وفي (ص) وحدها: هو شئ سار. 431 قال: والوجوب باختيار السبب لاحق. أقول: هذا جواب عن إشكال يورد هنا وهو أن يقال: إن المتولد لا يقع بقدرتنا لأن المقدور هو الذي يصح وجوده وعدمه عن القادر، وهذا المعنى منفي في المتولد لأن عند اختيار السبب يجب المسبب فلا يقع بالقدرة المصححة. والجواب أن الوجوب في المسبب عند اختيار السبب وجوب لاحق كما أن الفعل يجب عند وجود القدرة والداعي وعند فرض وقوعه وجوبا لاحقا لا يؤثر في الإمكان الذاتي والقدرة فكذا هنا. قال: والذم في إلقاء الصبي عليه لا على الاحراق. أقول: هذا جواب عن شبهة لهم وهي أن المدح والذم لا يدلان على العلم باستناد المتولد إلينا، فإنا نذم على المتولد وإن علمنا استناده إلى غيرنا، فإنا نذم من ألقى الصبي في النار إذا احترق بها وإن كان المحرق هو الله تعالى. والجواب أن الذم هنا على الالقاء لا على الاحراق، فإن الاحراق من الله تعالى عند الالقاء حسن لما يشتمل عليه من الأعواض لذلك الصبي ولما فيه من مراعاة العادات وعدم انتقاضها في غير زمان الأنبياء، ووجوب الدية حكم شرعي لا يجب تخصيصه بالفعل فإن الحافر للبئر يلزمه الدية وإن كان الوقوع غير مستند إليه. المسألة الثامنة في القضاء والقدر قال: والقضاء والقدر (1) إن أريد بهما خلق الفعل لزم المحال أو الإلزام صح
(1) القدر هو تفصيل قضائه. قال قدس سره في شرح الفصل الواحد والعشرين من سابع الإشارات: إن القضاء عبارة عن وجود جميع الموجودات في العالم العقلي مجتمعة ومجملة على سبيل الابداع. والقدر عبارة عن وجودها في موادها الخارجية بعد حصول شرائطها مفصلة واحدا بعد واحد، كما جاء في التنزيل في قوله عز من قائل: (وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم. وقال الشيخ - رضوان الله عليه -: ويجب أن يكون عالما بكل شئ لأن كل شئ لازم له بوسط أو غير وسط يتأدى إليه بعينه قدره الذي هو تفصيل قضائه الأول تأديا واجبا إذ كان ما لا يجب لا يكون. 432 في الواجب خاصة أو الأعلام صح مطلقا وقد بينه أمير المؤمنين عليه السلام في حديث الأصبغ. أقول: يطلق القضاء على الخلق والاتمام، قال الله تعالى: (فقضاهن سبع سماوات في يومين) أي خلقهن وأتمهن، وعلى الحكم والإيجاب كقوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) أي أوجب وألزم، وعلى الإعلام والإخبار كقوله تعالى: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب) أي أعلمناهم وأخبرناهم، ويطلق القدر على الخلق كقوله تعالى: (وقدر فيها أقواتها) والكتابة كقول الشاعر: واعلم بأن ذا الجلال قد قدر في الصحف الأولى التي كان سطر والبيان كقوله تعالى: (إلا امرأته قدرناها من الغابرين) أي بينا وأخبرنا بذلك. إذا ظهر هذا فنقول للأشعري: ما تعني بقولك: إنه تعالى قضى أعمال العباد وقدرها، إن أردت به الخلق والإيجاد فقد بينا بطلانه وإن الأفعال مستندة إلينا، وإن عني به الإلزام لم يصح إلا في الواجب خاصة، وإن عني به أنه تعالى بينها وكتبها وأعلم أنهم سيفعلونها فهو صحيح، لأنه تعالى قد كتب ذلك أجمع في اللوح المحفوظ وبينه لملائكته، وهذا المعنى الأخير هو المتعين للاجماع على وجوب الرضا بقضاء الله تعالى وقدره ولا يجوز الرضا بالكفر وغيره من القبائح ولا ينفعهم الاعتذار بوجوب الرضا به من حيث إنه فعله تعالى وعدم الرضا به من حيث الكسب لبطلان الكسب أولا، وثانيا فلأنا نقول: إن كان كون الكفر كسبا بقضائه تعالى وقدره وجب الرضا به من حيث هو كسب وهو خلاف قولكم، وإن
433 لم يكن بقضاء وقدر بطل استناد الكائنات بأجمعها إلى القضاء والقدر. واعلم أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (1) صلوات الله عليه وسلامه قد بين معنى القضاء والقدر وشرحهما شرحا وافيا في حديث الأصبغ بن نباتة لما انصرف من صفين فإنه قام إليه شيخ فقال له: أخبرنا يا أمير المؤمنين عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء الله تعالى وقدره، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما وطأنا موطئا ولا هبطنا واديا ولا علونا تلعة إلا بقضاء وقدر، فقال له الشيخ: عند الله احتسب عنائي ما أرى لي من الأجر شيئا، فقال له: مه أيها الشيخ بل عظم الله أجركم في مسيركم وأنتم سائرون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا في شئ من حالاتكم مكرهين ولا إليها مضطرين، فقال الشيخ: كيف والقضاء والقدر ساقانا، فقال: ويحك لعلك ظننت قضاء لازما وقدرا حتما لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والوعد والوعيد والأمر والنهي ولم تأت لائمة من الله لمذنب ولا محمدة لمحسن ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسئ ولا المسئ أولى بالذم من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان وشهود الزور وأهل العمى عن الصواب، وهم قدرية هذه الأمة ومجوسها، أن الله تعالى أمر تخييرا ونهى تحذيرا وكلف يسيرا لم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها ولم يرسل الرسل عبثا ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا (ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار) فقال الشيخ: وما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلا بهما، فقال: هو الأمر من الله تعالى والحكم وتلا قوله تعالى:
(1) راجع في بيان الحديث الوافي للفيض - قدس الله سره - فإنه قد أتى ببيان من المحقق الخواجة في بيانه وفوائد أخرى مطلوبة جدا (ص 117 ج 1 ط 1). وفيه كان المصراع الأخير هكذا: جزاك ربك بالاحسان إحسانا. وفي نسخة: جزاك ربك عنا منه إحسانا. وللشيخ الكراجكي رضي الله عنه في كنز الفوائد في القضاء والقدر لطائف عذبة (ص 168 ط 1) وإن شئت فراجع الاحتجاج للطبرسي - رضوان الله عليه - (ص 109 ط 1). وفي باب الرضا بالقضاء من الوافي أيضا إشارات لطيفة في ذلك (ص 55 ج 3 ط 1). 434 (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) فنهض الشيخ مسرورا وهو يقول: أنت الأمام الذي نرجو بطاعته يوم النشور من الرحمن رضوانا أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا جزاك ربك عنا فيه إحسانا قال أبو الحسن البصري ومحمود الخوارزمي: وجه تشبيهه عليه السلام المجبرة بالمجوس من وجوه: أحدها: أن المجوس اختصوا بمقالات سخيفة واعتقادات واهية معلومة البطلان وكذلك المجبرة. وثانيها: أن مذهب المجوس أن الله تعالى يخلق فعله ثم يتبرأ منه كما خلق إبليس ثم انتفى منه وكذلك المجبرة قالوا: إنه تعالى يفعل القبائح ثم يتبرأ منها. وثالثها: أن المجوس قالوا: إن نكاح الأخوات والأمهات بقضاء الله وقدره وإرادته، ووافقهم المجبرة حيث قالوا: إن نكاح المجوس لأخواتهم وأمهاتهم بقضاء الله وقدره وإرادته. ورابعها: أن المجوس قالوا: إن القادر على الخير لا يقدر على الشر وبالعكس، والمجبرة قالوا: إن القدرة موجبة للفعل غير متقدمة عليه، فالانسان القادر على الخير لا يقدر على ضده وبالعكس. المسألة التاسعة في الهدى والضلالة قال: والإضلال الإشارة (1) إلى خلاف الحق وفعل الضلالة والاهلاك والهدى مقابل والأولان منفيان عنه تعالى. أقول: يطلق الإضلال على الإشارة إلى خلاف الحق وإلباس الحق بالباطل كما تقول: أضلني فلان عن الطريق، إذا أشار إلى غيره وأوهم أنه هو الطريق، ويطلق على فعل الضلالة في الانسان كفعل الجهل فيه حتى يكون معتقدا خلاف
(1) إسناد الإضلال إليه سبحانه بالعرض، وقد قررنا بيانه في النكتة السابعة من ألف نكتة ونكتة. 435 الحق. ويطلق على الاهلاك والبطلان كما قال تعالى: (فلن يضل أعمالهم) يعني يبطلها. والهدى يقال لمعان ثلاثة مقابلة لهذه المعاني فيقال بمعنى نصب الدلالة على الحق كما تقول: هداني إلى الطريق، وبمعنى فعل الهدى في الانسان حتى يعتقد الشئ على ما هو به، وبمعنى الإثابة كقوله تعالى: (سيهديهم) يعني سيثيبهم، والأولان منفيان عنه تعالى يعني الإشارة إلى خلاف الحق وفعل الضلالة، لأنهما قبيحان والله تعالى منزه عن فعل القبيح، وأما الهداية فالله تعالى نصب الدلالة على الحق وفعل الهداية الضرورية في العقلاء ولم يفعل الإيمان فيهم لأنه كلفهم به ويثيب على الإيمان، فمعاني الهداية صادقة في حقه تعالى إلا فعل ما كلف به، وإذا قيل: إنه تعالى يهدي ويضل فإن المراد به أنه يهدي المؤمنين بمعنى أنه يثيبهم ويضل العصاة بمعنى أنه يهلكهم ويعاقبهم، وقول موسى عليه السلام: إن هي إلا فتنتك فالمراد بالفتنة الشدة والتكليف الصعب، يضل بها من يشاء أي يهلك من يشاء وهم الكفار. المسألة العاشرة في أنه تعالى لا يعذب الأطفال قال: وتعذيب غير المكلف قبيح وكلام نوح عليه السلام مجاز والخدمة ليست عقوبة له والتبعية في بعض الأحكام جائزة. أقول: ذهب بعض الحشوية إلى أن الله تعالى يعذب أطفال المشركين ويلزم الأشاعرة تجويزه والعدلية كافة على منعه، والدليل عليه أنه قبيح عقلا فلا يصدر منه تعالى. احتجوا بوجوه: الأول: قول نوح عليه السلام: (ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) والجواب: أنه مجاز والتقدير أنهم يصيرون كذلك لا حال طفوليتهم. الثاني: قالوا: إنا نستخدمه لأجل كفر أبيه فقد فعلنا فيه ألما وعقوبة فلا يكون
436 قبيحا. والجواب أن الخدمة ليست عقوبة للطفل وليس كل ألم ومشقة عقوبة، فإن الفصد والحجامة ألمان وليسا عقوبة، نعم استخدامه عقوبة لأبيه وامتحان له يعوض عليه كما يعوض على أمراضه. الثالث: قالوا: إن حكم الطفل يتبع حكم أبيه في الدفن ومنع التوارث والصلاة عليه ومنع التزويج. والجواب أن المنكر عقابه لأجل جرم أبيه وليس بمنكر أن يتبع حكم أبيه في بعض الأشياء إذا لم يحصل له بها ألم وعقوبة ولا ألم له في منعه من الدفن والتوارث وترك الصلاة عليه. المسألة الحادية عشرة في حسن التكليف وبيان ماهيته ووجه حسنه وجملة من أحكامه قال: والتكليف حسن (1) لاشتماله على مصلحة لا تحصل بدونه. أقول: التكليف مأخوذ من الكلفة وهي المشقة، وحده إرادة من تجب طاعته
(1) التكليف يتعلق في العبادة الصفاتية لا الذاتية، وفي مصباح الأنس في المقام فوائد نفيسة، منها قوله: لا تكليف في العبادة الذاتية وليست من نتائج الأمر إنما متعلقه الصفاتية رأفة من الله واحتياطا من ميله بجاذب إحدى صفاته من الاعتدال الموقوف عليه الاستكمال إذ القلوب وإن كانت مفطورة على معرفته والعبادة له واللجأ إليه فإن الشواغل والغفلات التي هي من خواص هذه النشأة تشغله عن ذكر ما يجب استحضاره فاحتاج إلى التذكير لا جرم أمره بها وإليه الإشارة بقوله عليه وآله السلام: كل مولود يولد على الفطرة، الحديث (ص 149 ط 1). ثم إن كلامه والتكليف حسن، رد على أصحاب المعارف يشابه قولهم قول البراهمة الآتي رد عقيدتهم في البحث عن حسن البعثة. قال الطبرسي في مجمع البيان في تفسير قوله سبحانه: (ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون) (البقرة 103) وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول أصحاب المعارف لأنه نفى ذلك العلم عنهم. وفي نسخة مخطوطة مصححة من المجمع عندنا فسر أصحاب المعارف في هامشها هكذا: الظاهر أن المراد بأصحاب المعارف الذين يقولون لا حاجة بنا إلى بعثة الأنبياء لأن عقولنا مستقلة بما يحتاج إليه في المعاش والمعاد. 437 على جهة الابتداء ما فيه مشقة بشرط الإعلام ويدخل تحت واجب الطاعة الواجب تعالى والنبي عليه السلام والإمام والسيد والوالد والمنعم ويخرج البواقي. وشرطنا الابتداء لأن إرادة هؤلاء أنما تكون تكليفا إذا لم يسبقه غيره إلى إرادة ما أراده، ولهذا لا يسمى الوالد مكلفا بأمر الصلاة ولده لسبق إرادة الله تعالى لها منه. والمشقة لا بد من اعتبارها ليتحقق المحدود، إذ التكليف مأخوذ من الكلفة. وشرطنا الإعلام لأن المكلف إذا لم يعلم إرادة المكلف بالفعل لم يكن مكلفا. إذا عرفت هذا فنقول: التكليف حسن لأن الله تعالى فعله والله تعالى لا يفعل القبيح، ووجه حسنه اشتماله على مصلحة لا تحصل بدونه وهي التعريض لمنافع عظيمة لا تحصل بدون التكليف، لأن التكليف إن لم يكن لغرض كان عبثا وهو محال، وإن كان لغرض فإن كان عائدا إليه تعالى لزم المحال، وإن كان إلى غيره فإن كان إلى غير المكلف كان قبيحا، وإن كان إلى المكلف فإن كان حصوله ممكنا بدون التكليف لزم العبث، وإن لم يمكن فإن كان لنفع انتقض بتكليف من علم الله كفره وإن كان للتعريض فهو المطلوب. إذا عرفت هذا فنقول: الغرض من التكليف هو التعريض لمنفعة عظيمة لأنه تعريض للثواب، وللثواب منافع عظيمة خالصة دائمة واصلة مع التعظيم والمدح، ولا شك أن التعظيم أنما يحسن للمستحق له، ولهذا يقبح منا تعظيم الأطفال والأرذال كتعظيم العلماء، وإنما يستحق التعظيم بواسطة الأفعال الحسنة وهي الطاعات، ومعنى قولنا: إن التكليف تعريض للثواب، أن المكلف جعل المكلف على الصفات التي تمكنه الوصول إلى الثواب وبعثه على ما به يصل إليه وعلم أنه سيوصله إليه إذا فعل ما كلفه. قال: بخلاف الجرح ثم التداوي، والمعاوضات والشكر باطل. أقول: هذه إيرادات على ما اختاره المصنف: الأول: أن التكليف للنفع يتنزل
438 منزلة من جرح غيره ثم داراه طلبا للدواء (1) وكما أن ذلك قبيح فكذا التكليف. الثاني: أن التكليف طلبا للنفع يتنزل منزلة المعاوضات كالبيوع والإجارات وغيرها، ولا شك أن المعاوضات تفتقر إلى رضا المتعاوضين حتى أن من عاوض بغير إذن صاحبه فعل قبيحا والتكليف عندكم لا يشترط فيه رضا المكلف. الثالث: لم لا يجوز أن يكون التكليف شكرا للنعم السابقة؟ والجواب عن الأول بالفرق من وجهين: أحدهما: أن الجرح مضرة والتكليف نفسه ليس بمضرة وإنما المشقة في الأفعال التي يتناولها التكليف. الثاني: أن الجرح والتداوي إنزال مضرة لا غرض فيه إلا التخلص من تلك المضرة بخلاف التكليف. وعن الثاني أن المراضاة تعتبر في المعاوضات لاختلاف أغراض الناس في التعامل جنسا ووصفا، أما إذا لم يكن هناك معاوضة وبلغ النفع حدا يكون غاية ما يطلبه العقلاء لم يختلف العقلاء في اختيار المشقة بسببه حتى أن العقلاء يسفهون الممتنع منه. وعن الثالث أن الشكر لا يشترط فيه المشقة، والله تعالى قادر على إزالة صفة المشقة عن هذه الأفعال، فلو كان التكليف شكرا لزم العبث في صفة المشقة ولأن طلب الفعل الشاق شكرا يخرج النعمة عن كونها نعمة. قال: ولأن النوع محتاج إلى التعاضد المستلزم للسنة النافع استعمالها في الرياضة وإدامة النظر في الأمور العالية، وتذكر الإنذارات المستلزمة لإقامة العدل مع زيادة الأجر والثواب. أقول: لما ذكر المصنف رحمه الله حسن التكليف على رأي المتكلمين شرع في طريق الاسلاميين من الفلاسفة فبدأ بذكر الحاجة إلى التكليف، ثم ذكر منافعه الدنيوية والأخروية، وتحقيقه أن نقول: إن الله خلق الانسان مدنيا بالطبع (2) لا
(1) كما في النسخة الثالثة وهي الصحيحة، والباقية كلها داواه بالواو وهي عليلة. (2) ناظر إلى كلمات الشيخ في الفصل الرابع من النمط التاسع من الإشارات في إثبات النبوة حيث قال: إشارة لما لم يكن الانسان بحيث يستقل وحده بأمر نفسه.. الخ، بل الشيخ ناظر في هذا الفصل إلى كلام الشيخ اليوناني زينون الكبير تلميذ ارسطا طاليس في الفصل الرابع من رسالته في المبدأ والمعاد وقد حررها المعلم الثاني أبو نصر الفارابي أتم تحرير وقد طبعت مع عدة رسائل أخرى للفارابي في حيدرآباد الدكن. قال زينون: النبي يضع السنن والشرائع ويأخذ الأمة بالترغيب والترهيب يعرفهم أن لهم إلها مجازيا لهم على أفعالهم، يثيب الخير ويعاقب على الشر ولا يكلفهم بعلم ما لا يحتملونه فإن هذه الرتبة التي هي رتبة العلم أعلى من أن يصل إليها كل أحد. قال معلمي أرسطا طاليس حكاية عن معلمه أفلاطن: إن شاهق المعرفة أشمخ من أن يطير إليه كل طائر وسرادق البصيرة أحجب من أن يحوم حوله كل سائر. 439 كغيره من الحيوانات، لا يمكن أن تبقى أشخاصه ولا تحصل لهم كمالاتهم إلا بالتعاضد والتعاون، لأن الأغذية والملبوسات أمور صناعية يحتاج كل منهم إلى صاحبه في عمل يستعيضه عن عمله له حتى يتم كمال ما يحتاج إليه واجتماعهم مع تباين شهواتهم وتغاير أمزجتهم واختلاف قواهم المقتضية للأفعال الصادرة عنهم مظنة التنازع والفساد ووقوع الفتن، فوجب وضع قانون وسنة عادلة يتعادلون بها فيما بينهم، ثم تلك السنة لو استند وضعها إليهم لزم المحذور فوجب استنادها إلى شخص متميز عنهم بكمال قواه واستحقاقه للانقياد إليه والطاعة له، وذلك أنما يكون بمعجزات تدل على أنها من عند الله تعالى، ثم من المعلوم تفاوت أشخاص الناس في قبول الخير والشر والرذائل والنقصان والفضائل بحسب اختلاف أمزجتهم وهيئات نفوسهم، فوجب أن يكون هذا الشارع مؤيدا لا يعجز عن أحكام شريعته في جمهور الناس، بعضهم بالبرهان وبعضهم بالوعظ وبعضهم بتأليف القلب وبعضهم بالزجر والقتال، ولما كان النبي لا يتفق في كل زمان وجب أن تبقى السنن المشروعة إلى وقت اضمحلالها واقتضاء الحكمة الإلهية تجديد غيرها، ففرضت عليهم العبادات المذكرة لصاحب الشرع وكررت عليهم حتى يستحكم التذكير بالتكرير، فيحصل لهم من تلقي الأوامر والنواهي الإلهية منافع ثلاث: إحداها: رياضة النفس باعتبار الإمساك عن الشهوات ومنعها
440 عن القوة الغضبية المكدرة لصفاء القوة العقلية. الثانية: تعويد النفس النظر في الأمور الإلهية والمطالب العالية وأحوال المعاد والتفكر في ملكوت الله تعالى وكيفية صفاته وأسمائه وتحقق فيضان الموجودات عنه تعالى متسلسلة في الترتيب الذي اقتضته الحكمة الإلهية بالبراهين القطعية الخالية عن المغالطة. والثالثة: تذكرهم ما وعدهم الشارع من الخير والشر الأخرويين بحيث ينحفظ النظام المقتضي للتعادل والترافد، ثم زاد الله تعالى لمستعملي الشرائع الأجر والثواب في الآخرة فهذه مصالح التكليف عند الأوائل. قال: وواجب لزجره عن القبائح. أقول: هذا مذهب المعتزلة وأنكرت الأشاعرة ذلك، والدليل على وجوب التكليف أنه لو لم يكلف الله تعالى من كملت شرائط التكليف فيه لكان مغريا بالقبيح، والتالي باطل لقبحه فالمقدم مثله، بيان الشرطية أن الله تعالى إذا أكمل عقل الانسان وجعل فيه ميلا إلى القبيح وشهوة له ونفورا عن الحسن فلو لم يقرر في عقله وجوب الواجب وقبح القبيح والمؤاخذة على الاخلال بالواجب وفعل القبيح لكان وقوع القبيح من المكلف دائما، وإلى هذا أشار بقوله: لزجره عن القبائح، أي لزجر التكليف عن القبائح. قال: وشرائط حسنه انتفاء المفسدة وتقدمه وإمكان متعلقه وثبوت صفة زائدة على حسنه وعلم المكلف بصفات الفعل وقدر المستحق وقدرته عليه وامتناع القبيح عليه وقدرة المكلف على الفعل وعلمه به أو إمكانه وإمكان الآلة. أقول: لما ذكر أن التكليف حسن شرع في بيان ما يشترط في حسن التكليف، وقد ذكر أمورا لا يحسن التكليف بدونها منها ما يرجع إلى نفس التكليف، ومنها ما يرجع إلى متعلق التكليف أعني الفعل والمكلف والمكلف. أما ما يرجع إلى التكليف فأمران: أحدهما: انتفاء المفسدة فيه بأن لا يكون مفسدة لنفس المكلف به في فعل آخر داخل في تكليفه أو مفسدة لمكلف آخر.
441 والثاني: أن يكون متقدما على الفعل قدرا يتمكن المكلف فيه من الاستدلال به فيفعل الفعل في الوقت الذي يجب إيقاعه فيه. وأما ما يرجع إلى الفعل فأمران: أحدهما: إمكان وجوده. والثاني: كون الفعل قد اشتمل على صفة زائدة على حسنه بأن يكون واجبا أو مندوبا، وإن كان التكليف ترك فعل فإما أن يكون الفعل قبيحا أو يكون الإخلال به أولى من فعله. وأما ما يرجع إلى المكلف فأن يكون عالما بصفات الفعل لئلا يكلف إيجاد القبيح وترك الواجب، وأن يكون عالما بقدر ما يستحق على الفعل من الثواب لئلا يخل ببعضه، وأن يكون القبيح ممتنعا عليه لئلا يخل بالواجب فلا يوصل الثواب إلى مستحقه. وأما ما يرجع إلى المكلف فأن يكون قادرا على الفعل وأن يكون عالما به أو متمكنا من العلم به وإمكان الآلة أو حصولها إن كان الفعل ذا آلة. قال: ومتعلقه إما علم إما عقلي أو سمعي وإما ظن وإما عمل. أقول: متعلق التكليف قد يكون علما وقد يكون عملا، أما العلم فقد يكون عقليا محضا نحو العلم بوجود الله تعالى وكونه قادرا عالما إلى غير ذلك من المسائل التي (1) يتوقف السمع عليها، وقد يكون سمعيا نحو التكاليف السمعية. وأما الظن فنحو كثير من الأمور الشرعية كظن القبلة وغيرها. وأما العمل فقد يكون عقليا كرد الوديعة وشكر المنعم وبر الوالدين وقبح الظلم والكذب وحسن التفضل والعفو، وقد يكون سمعيا كالصلاة وغيرها، وهذه الأفعال تنقسم إلى الواجب والمندوب والحرام والمكروه. قال: وهو منقطع للاجماع ولإيصال الثواب. أقول: يريد أن التكليف منقطع، ويدل عليه الاجماع والمعقول، أما الاجماع فظاهر إذ الاتفاق بين المسلمين وغيرهم واقع على أن التكليف منقطع، وأما
(1) وفي عدة نسخ: إلى غير ذلك من الصفات التي. 442 المعقول فنقول: لو كان التكليف دائما لم يمكن إيصال الثواب إلى المطيع، والتالي باطل قطعا فالمقدم مثله، بيان الشرطية أن التكليف مشروط بالمشقة، والثواب مشروط بخلوصه عن الأكدار والمشاق، والجمع بينهما محال ولا بد من تراخ بين التكليف والثواب وإلا لزم الالجاء. قال: وعلة حسنه عامة. أقول: لما بين أولا حسن التكليف مطلقا شرع في بيان حسنه في حق الكافر، والدليل عليه أن العلة في حسن التكليف وهي التعريض للثواب عامة في حق المؤمن والكافر فكان التكليف حسنا فيهما وهو ظاهر. قال: وضرر الكافر من اختياره. أقول: هذا جواب عن سؤال مقدر، وتقريره أن تكليف الكافر ضرر محض لا مصلحة فيه فلا يكون حسنا، بيان المقدمة الأولى أن التكليف نوع مشقة في العاجل وحصل العقاب بتركه وهو ضرر عظيم فانتفت المصلحة فيه إذ لا ثواب له فكان قبيحا قطعا. والجواب: أن التكليف نفسه ليس بضرر ولا يستلزم من حيث هو تكليف ضررا وإلا لكان تكليف المؤمن كذلك، بل الضرر أنما نشأ من سوء اختيار الكافر لنفسه. قال: وهو مفسدة لا من حيث التكليف بخلاف ما شرطناه. أقول: الذي يخطر لنا في تحليل هذا الكلام أنه جواب عن سؤال مقدر أيضا وهو أن يقال: إنكم شرطتم في التكليف أن لا يكون مفسدة للمكلف ولا لغيره، وهذا التكليف يستلزم الضرر بالمكلف فيكون قبيحا، كما أن تكليف زيد لو استلزم مفسدة راجعة إلى عمرو كان قبيحا. والجواب: أن الضرر هنا مفسدة لا من حيث التكليف بل من حيث اختيار المكلف على ما تقدم بخلاف ما شرطناه أعني انتفاء المفسدة اللازمة للتكليف.
443 قال: والفائدة ثابتة. أقول: هذا جواب عن سؤال مقدر، وتقريره أن تكليف الكافر لا فائدة فيه، لأن الفائدة من التكليف هي الثواب ولا ثواب له فلا فائدة في تكليفه فكان عبثا. والجواب لا نسلم أن الفائدة هي الثواب بل التعريض له وهو حاصل في حقه كالمؤمن. المسألة الثانية عشرة في اللطف وماهيته وأحكامه قال: واللطف واجب لتحصيل الغرض به (1). أقول: اللطف هو ما يكون المكلف معه أقرب إلى فعل الطاعة وأبعد من فعل المعصية ولم يكن له حظ في التمكين ولم يبلغ حد الالجاء. واحترزنا بقولنا: ولم يكن له حظ في التمكين عن الآلة، فإن لها حظا في التمكين وليست لطفا. وقولنا: ولم يبلغ حد الالجاء، لأن الالجاء ينافي التكليف واللطف لا ينافيه. هذا اللطف المقرب. وقد يكون اللطف محصلا وهو ما يحصل عنده الطاعة من المكلف على سبيل الاختيار، ولولاه لم يطع مع تمكنه في الحالين، وهذا بخلاف التكليف الذي يطيع عنده لأن اللطف أمر زائد على التكليف فهو من دون اللطف يتمكن بالتكليف من أن يطيع أو لا يطيع، وليس كذلك التكليف لأن عنده يتمكن من أن يطيع وبدونه لا يتمكن من أن يطيع أو لا يطيع، فلم يلزم أن يكون التكليف الذي يطيع عنده لطفا. إذا عرفت هذا فنقول: اللطف واجب خلافا للأشعرية، والدليل على وجوبه أنه يحصل غرض المكلف فيكون واجبا وإلا لزم نقض الغرض، بيان الملازمة أن
(1) كما في (م ص ز ق). والباقية: ليحصل الغرض به. 444 المكلف إذا علم أن المكلف لا يطيع إلا باللطف، فلو كلفه من دونه كان ناقضا لغرضه كمن دعا غيره إلى طعام وهو يعلم أنه لا يجيبه إلا إذا فعل معه نوعا من التأدب، فإذا لم يفعل الداعي ذلك النوع من التأدب كان ناقضا لغرضه، فوجوب اللطف يستلزم تحصيل الغرض. قال: فإن كان من فعله تعالى وجب عليه وإن كان من المكلف وجب أن يشعره به ويوجبه وإن كان من غيرهما شرط في التكليف العلم بالفعل. أقول: لما ذكر وجوب اللطف شرع في بيان أقسامه وهو ثلاثة: الأول: أن يكون من فعل الله تعالى، فهذا يجب على الله تعالى فعله لما تقدم. الثاني: أن يكون من فعل المكلف، فهذا يجب على الله تعالى أن يعرفه إياه ويشعره به ويوجبه عليه. الثالث: أن يكون من فعل غيرهما، فهذا ما يشترط في التكليف بالملطوف فيه العلم بأن ذلك الغير يفعل اللطف. قال: ووجوه القبح منتفية والكافر لا يخلو من لطف والأخبار بالسعادة والشقاوة ليس مفسدة. أقول: لما ذكر أقسام اللطف شرع في الاعتراضات على وجوبه مع الجواب عنها، وقد أورد من شبهات الأشاعرة ثلاثة: الأولى: قالوا: اللطف أنما يجب إذا خلا من جهات المفسدة لأن جهات المصلحة لا تكفي في الوجوب ما لم تنتف جهات المفسدة، فلم لا يجوز أن يكون اللطف الذي توجبونه مشتملا على جهة قبح لا تعلمونه فلا يكون واجبا. وتقرير الجواب أن جهات القبح معلومة لنا لأنا مكلفون بتركها وليس هنا وجه قبح وليس ذلك استدلالا بعدم العلم على العلم بالعدم. الثانية: أن الكافر إما أن يكلف مع وجود اللطف أو مع عدمه، والأول باطل وإلا لم يكن لطفا لأن معنى اللطف هو ما حصل الملطوف فيه عنده، والثاني إما أن يكون عدمه لعدم القدرة عليه فيلزم تعجيز الله تعالى وهو باطل، أو مع وجودها
445 فيلزم الاخلال بالواجب. والجواب أن اللطف ليس معناه هو ما حصل الملطوف فيه فإن اللطف لطف في نفسه سواء حصل الملطوف فيه أو لا بل كونه لطفا من حيث إنه يقرب إلى الملطوف فيه ويرجح وجوده على عدمه، وامتناع ترجيحه أنما يكون لمعارض أقوى هو سوء اختيار المكلف فيكون اللطف في حقه مرجوحا. ويمكن أن يكون ذلك جوابا عن سؤال آخر لهم، وتقريره أن اللطف لو كان واجبا لم تقع معصية من مكلف أصلا لأنه تعالى قادر على كل شئ، فإذا قدر على اللطف لكل مكلف في كل فعل لم تقع معصية لأنه تعالى لا يخل بالواجب لكن الكفر والمعاصي موجودة. وتقرير الجواب أن نقول: إنما يصح أن يقال: يجب أن يلطف للمكلف إذا كان له لطف يصلح عنده ولا استبعاد في أن يكون بعض المكلفين لا لطف له سوى العلم بالمكلف والثواب مع الطاعة والعقاب مع المعصية والكافر له هذا اللطف. الثالثة: أن الأخبار بأن المكلف من أهل الجنة أو من أهل النار مفسدة لأنه إغراء بالمعاصي وقد فعله تعالى وهو ينافي اللطف. والجواب أن الأخبار بالجنة ليس إغراء مطلقا لجواز أن يقترن به من الألطاف ما يمتنع عنده من الإقدام على المعصية وإذا انتفى كونه إغراء على هذا التقدير بطل قولهم إنه مفسدة على الإطلاق وأما الأخبار بالنار فليس مفسدة أيضا لأن الأخبار إن كان للجاهل كأبي لهب انتفت المفسدة فيه لأنه لا يعلم صدق إخباره تعالى فلا يدعوه ذلك إلى الإصرار على الكفر، وإن كان عارفا كإبليس لم يكن إخباره تعالى بعاقبته (1) داعيا إلى الاصرار على الكفر لأنه يعلم أنه بإصراره عليه يزداد عقابه فلا يصير مغريا عليه. قال: ويقبح منه تعالى التعذيب مع منعه دون الذم. أقول: المكلف إذا منع المكلف من اللطف قبح منه عقابه لأنه بمنزلة الأمر بالمعصية والملجئ إليها، كما قال الله تعالى: (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله
(1) وفي (ص ش): إخباره تعالى بمعاقبته. 446 لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا) فأخبر أنهم لو منعهم (1) اللطف في بعثه الرسول لكان لهم أن يسألوا بهذا السؤال ولا يكون لهم هذا السؤال إلا مع قبح إهلاكهم من دون البعثة ولا يقبح ذمه لأن الذم حق مستحق على القبيح غير مختص بالمكلف بخلاف العقاب المستحق للمكلف، ولهذا لو بعث الانسان غيره على فعل القبيح ففعله لم يسقط حق الباعث من الذم كما أن لإبليس ذم أهل النار وإن كان هو الباعث على المعاصي. قال: ولا بد من المناسبة وإلا ترجح بلا مرجح بالنسبة إلى المنتسبين. أقول: لما فرغ من الاعتراضات على وجوب اللطف شرع في ذكر أحكامه وقد ذكر منها خمسة: الأول: أنه لا بد وأن يكون بين اللطف والملطوف فيه مناسبة، والمراد بالمناسبة هنا كون اللطف بحيث يكون حصوله داعيا إلى حصول الملطوف فيه، وهذا ظاهر لأنه لولا ذلك لم يكن كونه لطفا أولى من كون غيره لطفا فيلزم الترجيح من غير مرجح، ولم يكن كونه لطفا في هذا الفعل أولى من كونه لطفا في غيره من الأفعال وهو ترجيح من غير مرجح أيضا، وإلى هذين أشار بقوله: وإلا ترجح بلا مرجح بالنسبة إلى المنتسبين، وعنى بالمنتسبين اللطف والملطوف فيه، هذا ما فهمناه من هذا الكلام. قال: ولا يبلغ الإلجاء. أقول: هذا الحكم الثاني من أحكام اللطف وهو أن لا يبلغ في الدعاء إلى الملطوف فيه إلى حد الالجاء، لأن الفعل الملجئ إلى فعل آخر يشبه اللطف في كون كل منهما داعيا إلى الفعل غير أن المتكلمين لا يسمون الملجئ إلى الفعل لطفا، فلهذا شرطنا في اللطف زوال الالجاء عنه إلى الفعل. قال: ويعلم الملكف اللطف إجمالا أو تفصيلا.
(1) كما في (م ص). والباقية: فأخبر أنه لو منعهم. 447 أقول: هذا هو الحكم الثالث من أحكام اللطف وهو وجوب كونه معلوما للمكلف إما بالاجمال أو بالتفصيل، لأنه إذا لم يعلمه ولم يعلم الملطوف فيه ولم يعلم المناسبة بينهما لم يكن داعيا له إلى الفعل الملطوف فيه (1) فإن كان العلم الاجمالي كافيا في الدعاء إلى الفعل لم يجب التفصيل كما يعلم على الجملة كون الألم الواصل إلى البهيمة لطفا لنا وإن كان اللطف لا يتم إلا بالتفصيل وجب حصوله ويكفي العلم الاجمالي في المناسبة التي بين اللطف والملطوف فيه. قال: ويزيد اللطف على جهة الحسن. أقول: هذا هو الحكم الرابع وهو كون اللطف مشتملا على صفة زائدة على الحسن من كونه واجبا كالفرائض أو مندوبا كالنوافل هذا فيما هو من فعلنا، وأما ما كان من فعله تعالى فقد بينا وجوبه في حكمته. قال: ويدخله التخيير. أقول: هذا هو الحكم الخامس وهو أن اللطف لا يجب أن يكون معينا بل يجوز أن يدخله التخيير بأن يكون كل واحد من الفعلين قد اشتمل على جهة من المصلحة المطلوبة من الآخر فيقوم مقامه ويسد مسده، أما في حقنا فكما في الكفارات الثلاث، وأما في حقه تعالى فلجواز أن يخلق لزيد ولدا يكون لطفا له وإن كان يجوز حصول اللطفية بخلق ولد غير ذلك الولد من أجزاء غير أجزاء الولد الأول وعلى صورة غير صورته، وحينئذ لا يجب أحد الفعلين بعينه بل يكون حكمه حكم الواجب المخير. قال: بشرط حسن البدلين (2). أقول: لما ذكر أن اللطف يجوز أن يدخله التخيير نبه على شرط كل واحد من
(1) كما في (م) والباقية: إلى فعل الملطوف فيه. (2) كما في جميع النسخ التي عندنا، وكذا في شرح القوشجي وشرح القديم، ولكن في (ت): بشرط حسن التذكير. والظاهر أن التذكير تحريف البدلين فإنه لا معنى للتذكير. 448 البدلين أعني اللطف وبدله، وأطلق على كل واحد منهما اسم البدل بالنظر إلى صاحبه، إذ ليس أحدهما بالأصالة أولى من الآخر، وذلك الشرط كون كل واحد منهما حسنا ليس فيه وجه قبح، وهذا مما لم تتفق الآراء عليه فإن جماعة من العدلية ذهبوا إلى تجويز كون القبيح كالظلم منا لطفا قائما مقام إمراض الله تعالى. واستدلوا بأن وجه كون الألم من فعله تعالى لطفا هو حصول المشاق وتذكر العقاب وذلك حاصل بالظلم منا فجاز أن يقوم مقامه. وهذا ليس بجيد لأن كونه لطفا جهة وجوب والقبيح ليس له جهة وجوب واللطف إنما هو في علم المظلوم بالظلم لا في نفس الظلم، كما نقول: إن العلم بحسن ذبح البهيمة لطف لنا وإن لم يكن الذبح نفسه لطفا. المسألة الثالثة عشرة في الألم ووجه حسنه قال: وبعض الألم قبيح يصدر منا خاصة وبعضه حسن يصدر منه تعالى ومنا وحسنه إما لاستحقاقه أو لاشتماله على النفع أو دفع الضرر الزائدين أو لكونه عاديا أو على وجه الدفع. أقول: في هذا الكلام مباحث: الأول: في مناسبة هذا البحث وما بعده لما قبله. إعلم أنا قد بينا وجوب الألطاف والمصالح وهي ضربان: مصالح في الدين ومصالح في الدنيا أعني المنافع الدنياوية، ومصالح الدين إما مضار أو منافع، والمضار منها آلام وأمراض وغيرها كالآجال والغلاء، والمنافع الصحة والسعة في الرزق والرخص، فلأجل هذا بحث المصنف رحمه الله عقيب اللطف عن هذه الأشياء، ولما كانت الآلام تستلزم الأعواض وجب البحث عنها أيضا. البحث الثاني: اختلف الناس في قبح الألم وحسنه، فذهبت الثنوية إلى قبح جميع الآلام، وذهبت المجبرة إلى حسن جميعها من الله تعالى، وذهبت البكرية وأهل التناسخ والعدلية إلى حسن بعضها وقبح الباقي.
449 البحث الثالث: في علة الحسن، اختلف القائلون بحسن بعض الألم في وجه الحسن، فقال أهل التناسخ: إن علة الحسن هي الاستحقاق لا غير لأن النفوس البشرية إذا كانت في أبدان قبل هذه الأبدان وفعلت ذنوبا استحقت الألم عليها، وهذا أيضا قول البكرية. وقالت المعتزلة: إنه يحسن عند شروط: أحدها: أن يكون مستحقا، وثانيها: أن يكون فيها نفع عظيم يوفى عليها، وثالثها: أن يكون فيها دفع ضرر أعظم منها، ورابعها: أن يكون مفعولا على مجرى العادة كما يفعله الله تعالى بالحي إذا ألقيناه في النار، وخامسها: أن يكون مفعولا على سبيل الدفع عن النفس كما إذا آلمنا (1) من يقصد قتلنا، لأنا متى علمنا اشتمال الألم على أحد هذه الوجوه حكمنا بحسنه قطعا. قال: ولا بد في المشتمل على النفع من اللطف. أقول: هذا شرط لحسن الألم المبتدأ الذي يفعله الله تعالى لاشتماله على نفع المتألم وهو كونه مشتملا على اللطف إما للمتألم أو لغيره، لأن خلو الألم عن النفع الزائد الذي يختار المولم معه الألم يستلزم الظلم وخلوه عن اللطف يستلزم العبث وهما قبيحان فلا بد من هذين الاعتبارين في هذا النوع من الألم، وهنا اختلف الشيخان فقال أبو علي: إن علة قبح الألم كونه ظلما لا غير فلم يشترط هذا الشرط. وقال أبو هاشم: إنه يقبح لكونه ظلما أو لكونه عبثا فأوجب في الأمراض التي يفعلها الله تعالى في الصبيان مع الأعواض الزائدة اشتمالها على اللطف لمكلف آخر، ولهذا يقبح منا تخليص الغريق بشرط كسر يده واستيجار من ينزح ماء البئر ويقذفه فيها لغير غرض مع توفية الأجرة، ويمكن الجواب هنا لأبي علي بما ذكرناه في كتاب نهاية المرام (2). قال: ويجوز في المستحق كونه عقابا.
(1) من الإيلام. (2) كتاب نهاية المرام في علم الكلام للعلامة، نسخة منه موجودة في مكتبة المجلس. 450 أقول: هذا مذهب أبي الحسين البصري فإنه جوز أن تقع الأمراض (1) في الكفار والفساق عقابا للكافر والفاسق، لأنه ألم واصل إلى المستحق فأمكن أن يكون عقابا ويكون تعجيله قد اشتمل على مصلحة لبعض المكلفين كما في الحدود. ومنع قاضي القضاة من ذلك وجزم بكون أمراضهم محنا لا عقوبات لأنه يجب عليهم الرضا والصبر عليها والتسليم وترك الجزع ولا يلزمهم ذلك في العقاب. والجواب المنع من عدم اللزوم في العقاب لأن الرضا يطلق على معنيين: أحدهما: الاعتقاد لحسن الفعل وهو مشترك بين العقاب والمحنة، والثاني: موافقة الفعل للشهوة وهذا غير مقدور للعبد (2) فلا يجب في المحنة ولا في العقاب، وإذا كان الرضا بالمعنى الأول واجبا في العقاب فكذلك الصبر على ذلك الاعتقاد واجب بأن لا يظهر خلاف الرضا وهو الجزع، ويجب أيضا التسليم بأن يعتقد أنه لو تمكن من دفع المرض الذي هو مصلحة له لا يدفعه ولا يمتنع منه. قال: ولا يكفي اللطف في ألم المكلف في الحسن. أقول: هذا مذهب الشيخين وقاضي القضاة، وجوز بعض المشايخ إدخال الألم على المكلف إذا اشتمل على اللطف والاعتبار وإن لم يحصل في مقابلته عوض، لأن الألم كما يحسن لنفع يقابله فكذا يحسن لما يؤدي إليه الألم، ولهذا حسن منا تحمل مشاق السفر لربح يقابل السلعة ولا يقابل مشاق السفر، ولما كان مشاق السفر علة في حصول الربح المقابل للسلعة فكذا الألم الذي هو لطف لولاه لما حصل الثواب المقابل للطاعة فحسن فعله وإن خلى عن العوض لأدائه إلى النفع. وحجة الأوائل أن الألم غير المستحق لولا اشتماله على النفع أو دفع الضرر كان قبيحا والطاعة المفعولة لأجل الألم ليست بنفع والثواب المستحق عليها يقابل
(1) كذا في جميع النسخ التي عندنا إلا في (م) ففيها: تقع الآلام. (2) كذا في (م) والباقية: بدون للعبد. 451 الطاعة دون الألم فيبقى الألم مجردا عن النفع وذلك قبيح. قال: ولا يحسن مع اشتمال اللذة على لطفيته (1). أقول: هذا مذهب أبي الحسين البصري خلافا لأبي هاشم، وتقرير مذهب أبي هاشم أنا لو فرضنا اشتمال اللذة على اللطف الذي اشتمل عليه الألم هل يحسن منه تعالى فعل الألم بالحي لأجل لطف الغير مع العوض الزائد الذي يختاره المتألم لو عرض عليه؟ قال أبو هاشم: نعم لأن الألم المشتمل على المنفعة الموفية في حكم المنفعة عند العقلاء، ولهذا لا يعد العقلاء مشاق السفر الموصلة إلى الأرباح مضارا، وإذا كان الألم في حكم المنفعة صار حصول اللطف في تقدير منفعتين فيتخير الحكيم في أيهما شاء. وأبو الحسين منع ذلك لأن الألم أنما يصير في حكم المنفعة إذا لم يكن طريق لتلك المنفعة إلا ذلك الألم، ولو أمكن الوصول إلى تلك المنفعة بدون ذلك الألم كان ذلك الألم ضررا وعبثا، ولهذا يعد العقلاء السفر ضررا مع حصول الربح بدونه. قال: ولا يشترط في الحسن اختيار المتألم بالفعل. أقول: لا يشترط في حسن الألم المفعول ابتداء من الله تعالى اختيار المتألم للعوض الزائد عليه بالفعل، لأن اعتبار الاختيار أنما يكون في النفع الذي يتفاوت فيه اختيار المتألمين، فأما النفع البالغ إلى حد لا يجوز اختلاف الاختيار فيه فإنه يحسن وإن لم يحصل الاختيار بالفعل وهذا هو العوض المستحق عليه تعالى. المسألة الرابعة عشرة في الأعواض قال: والعوض نفع مستحق خال عن تعظيم وإجلال.
(1) كما في (ت، م، ص، ق، ز، د، ش) أي باتفاق النسخ كلها. 452 أقول: لما ذكر حسن الألم المبتدأ مع تعقبه بالعوض الزائد وجب عليه البحث عن العوض وأحكامه وبدأ بتحديده، فالنفع جنس للمتفضل به وللمستحق وقيد المستحق فصل يميزه عن النفع المتفضل به وقيد الخلو عن التعظيم والاجلال يخرج به الثواب. قال: ويستحق عليه تعالى بإنزال الآلام وتفويت المنافع لمصلحة الغير وإنزال الغموم سواء استندت إلى علم ضروري أو مكتسب أو ظن لا ما تستند إلى فعل العبد وأمر عباده بالمضار أو إباحته وتمكين غير العاقل. أقول: هذه الوجوه التي يستحق بها العوض على الله تعالى: الأول: إنزال الآلام بالعبد كالمرض وغيره، وقد سبق بيان وجوب العوض به (1) من حيث اشتماله على الظلم لو لم يجب العوض. الثاني: تفويت المنافع إذا كانت منه تعالى لمصلحة الغير، لأنه لا فرق بين تفويت المنافع وإنزال المضار، فلو أمات الله تعالى ابنا لزيد وكان في معلومه تعالى أنه لو عاش لانتفع به زيد لاستحق عليه تعالى العوض عما فاته من منافع ولده، ولو كان في معلومه تعالى عدم انتفاعه به لأنه يموت قبل الانتفاع به لم يستحق به عوضا لعدم تفويته المنفعة منه تعالى. وكذلك لو أهلك ماله استحق العوض بذلك سواء شعر بهلاك ماله أو لم يشعر، لأن تفويت المنفعة كإنزال الألم ولو آلمه ولم يشعر به لاستحق العوض، فكذا إذا فوت عليه منفعة لم يشعر بها، وعندي في هذا الوجه نظر. الثالث: إنزال الغموم بأن يفعل الله تعالى أسباب الغم، لأن الغم يجري مجرى الضرر في العقل سواء كان الغم علما ضروريا بنزول مصيبة أو وصول ألم، أو كان ظنا بأن يغتم عند أمارة لوصول مضرة أو فوات منفعة، أو كان علما مكتسبا لأن الله
(1) أي العوض بإنزال الآلام بالعبد. وفي (م): العوض بها، فالضمير راجع إلى الآلام، ولكن الأول أنسب بأسلوب الكلام. 453 تعالى هو الناصب للدليل والباعث على النظر فيه وكذا هو الناصب لأمارة الظن فلما كان سبب الغم منه تعالى كان العوض عليه، وأما الغم الحاصل من العبد نفسه من غير سبب منه تعالى نحو أن يبحث العبد فيعتقد جهلا نزول ضرر به أو فوات منفعة فإنه لا عوض فيه عليه تعالى، ولو فعل به تعالى فعلا لو شعر به لاغتم نحو أن يهلك له مالا وهو لا يشعر به إلى أن يموت فإنه لا يستحق العوض عليه تعالى لأنه إذا لم يشعر به لم يغتم به. الرابع: أمر الله تعالى عباده بإيلام الحيوان أو أباحه سواء كان الأمر للايجاب كالذبح في الهدي والكفارة والنذر أو للندب كالضحايا، فإن العوض في ذلك كله على الله تعالى لاستلزام الأمر والإباحة الحسن والألم أنما يحسن إذا اشتمل على المنافع العظيمة البالغة في العظم حدا يحسن الألم لأجله. الخامس: تمكين غير العاقل مثل سباع الوحش وسباع الطير والهوام، وقد اختلف أهل العدل هنا على أربعة أقوال: فذهب بعضهم إلى أن العوض على الله تعالى مطلقا ويعزى هذا القول إلى أبي علي الجبائي. وقال آخرون: إن العوض على فاعل الألم وهو قول يحكي عن أبي علي أيضا (1). وقال آخرون: لا عوض هنا على الله تعالى ولا على الحيوان. وقال قاضي القضاة: إن كان الحيوان ملجأ إلى الإيلام كان العوض عليه تعالى وإن لم يكن ملجأ كان العوض على الحيوان نفسه. احتج الأولون بأنه تعالى مكنه وجعل فيه ميلا شديدا إلى الإيلام مع إمكان عدم الميل ولم يجعل له عقلا يميز به حسن الألم من قبحه ولم يزجره بشئ من أسباب الزجر مع إمكان ذلك كله، فكان ذلك بمنزلة الإغراء فلولا تكفله تعالى بالعوض لقبح منه ذلك.
(1) كذا في جميع النسخ، وفي (م) يحيى مكان يحكي، ولم نجد يحيى هذا في تراجم الرجال مع طول فحصنا. 454 واحتج الآخرون بقوله عليه السلام: إن الله تعالى ينتصف للجماء من القرناء. واحتج النافون للعوض بقوله عليه السلام: جرح العجماء جبار. واحتج القاضي بأن التمكين لا يقتضي انتقال العوض من الفاعل إلى الممكن وإلا لوجب عوض القتل على صانع السيف بخلاف الإلجاء المقتضي لاستناد الفعل في الحقيقة إلى الملجئ، ولهذا يحسن ذمه دون الملجأ، وبأن العوض لو كان عليه تعالى لما حسن منعها عن الأكل. والجواب عن الأول أنه لا دلالة في الحديث على أنه تعالى ينتصف للجماء بأن ينقل أعواض القرناء إليها وهو يصدق بتعويض الله تعالى إياها كما أن السيد إذا غرم ما أتلفه عبده يقال: قد أنصف المظلوم من عبده، مع أنه يحتمل المجاز بتشبيه الظالم لتمكنه من الظلم بالقرناء والمظلوم بالجماء لضعفه. وعن الثاني أن المراد انتفاء القصاص. وعن الثالث بالفرق، فإن القاتل ممنوع من القتل وعنده اعتقاد عقلي يمنعه عن الأقدام عليه، فلهذا لم نقل بوجوب العوض على صانع السيف بخلاف السبع. وعن الرابع أنه قد يحسن المنع عن الأكل إذا (1) كان لذلك المنع وجه حسن، كما أنه يحسن منا منع الصبيان عن شرب الخمر ومنع المعاقب عن العقاب. قال: بخلاف الاحراق (2) عند الألقاء في النار والقتل عند شهادة الزور. أقول: إذا طرحنا صبيا في النار فاحترق فإن الفاعل للألم هو الله تعالى والعوض علينا نحن، لأن فعل الألم واجب في الحكمة من حيث إجراء العادة والله تعالى قد منعنا من طرحه ونهانا عنه، فصار الطارح كأنه الموصل إليه الألم فلهذا كان العوض علينا دونه تعالى. وكذلك إذا شهد عند الأمام شاهدا زور بالقتل فإن العوض على الشهود وإن كان الله تعالى قد أوجب القتل والأمام تولاه وليس
(1) كذا في (م). والباقية: قد يحسن المنع منا عن الحسن إذا. (2) بخلاف الأحرار (م). 455 عليهما عوض لأنهما أوجبا بشهادتهما على الإمام إيصال الألم إليه من جهة الشرع فصار كأنهما فعلاه. (لا يقال) هذا يوجب العوض (1) عليه تعالى لأنه هو الموجب على الإمام قتله. (لأنا نقول) قبول الشاهدين عادة شرعية يجب إجراؤها على قانونها كالعادات الحسيات، فكما وجب العوض على الملقي للطفل في النار قضاء لحق العادة الحسية كذلك وجب العوض هنا على الشاهدين قضاء لحق العادة الشرعية، والمناط هو الحكمة المقتضية لاستمرار العادات. قال: والانتصاف عليه تعالى واجب عقلا وسمعا. أقول: اختلف أهل العدل في ذلك، فذهب قوم منهم إلى أن الانتصاف للمظلوم من الظالم واجب على الله تعالى عقلا لأنه هو المدبر لعباده فنظره كنظر الوالد لولده، فكما يجب على الوالد الانتصاف كذلك يجب عليه تعالى قياسا للغائب على الشاهد. وقال آخرون منهم: إنه يجب سمعا لأن الوالد يجب عليه تدبير أولاده وتأديبهم أما الانتصاف بأخذ الأرش من الظالم ودفعه إلى المظلوم فلا نسلم وجوبه عقلا بل يحسن منا تركهم إلى أن تكمل عقولهم لينتصف بعضهم من بعض، والمصنف رحمه الله اختار وجوبه عقلا وسمعا أما من حيث العقل فلأن ترك الانتصاف منه تعالى يستدعي ضياع حق المظلوم لأنه تعالى مكن الظالم وخلى بينه وبين المظلوم مع قدرته تعالى على منعه ولم يمكن المظلوم من الانتصاف، فلولا تكلفه تعالى بالانتصاف لضاع حق المظلوم وذلك قبيح عقلا. وأما من حيث السمع فلورود القرآن بأنه تعالى يقضي بين عباده ولوصف المسلمين له تعالى بأنه الطالب أي الذي يطلب حق الغير من الغير. قال: فلا يجوز تمكين الظالم من الظلم من دون عوض في الحال يوازي ظلمه.
(1) كما في (م) وفي عدة نسخ: هلا وجب العوض. 456 أقول: هذا تفريع علي وجوب الانتصاف وهو أنه هل يجوز تمكين الله (1) تعالى من الظلم من لا عوض له في الحال يوازي ظلمه فمنع منه المصنف رحمة الله وقد اختلف أهل العدل هنا، فقال أبو هاشم والكعبي: إنه يجوز، لكنهما اختلفا فقال الكعبي: يجوز أن يخرج من الدنيا ولا عوض له يوازي ظلمه، وقال: إن الله تعالى يتفضل عليه بالعوض المستحق عليه ويدفعه إلى المظلوم. وقال أبو هاشم: لا يجوز بل يجب التبقية لأن الانتصاف واجب والتفضل ليس بواجب فلا يجوز تعليق الواجب بالجائز. قال السيد المرتضى: إن التبقية تفضل أيضا فلا يجوز تعليق الانتصاف بها، فلهذا وجب العوض في الحال واختاره المصنف رحمه الله لما ذكرناه. قال: فإن كان المظلوم من أهل الجنة فرق الله تعالى (2) أعواضه على الأوقات أو تفضل عليه بمثلها وإن كان من أهل العقاب أسقط بها جزءا من عقابه بحيث لا يظهر له التخفيف بأن يفرق الناقص على الأوقات. أقول: لما بين وجوب الانتصاف ذكر كيفية إيصال العوض إلى مستحقه. (واعلم) أن المستحق للعوض إما أن يكون مستحقا للجنة أو للنار فإن كان مستحقا للجنة فإن قلنا: إن العوض دائم فلا بحث، وإن قلنا: إنه منقطع توجه الإشكال بأن يقال: لو أوصل العوض إليه ثم انقطع عنه حصل له الألم بانقطاعه. والجواب من وجهين: الأول: أنه يوصل إليه عوضه متفرقا على الأوقات بحيث لا يبين له انقطاعه فلا يحصل له الألم. الثاني: أن يتفضل الله تعالى عليه بعد انقطاعه بمثله دائما فلا يحصل الألم، وإن كان مستحقا للعقاب جعل الله تعالى عوضه جزءا من عقابه بمعنى أنه يسقط من عقابه بإزاء ما يستحقه من الأعواض،
(1) كما في (م). والنسخ الأخرى: هل يجوز أن يمكن الله. (2) كما في النسخ كلها إلا (ت) ففيها: عرف الله تعالى. وكان الشرح على الأولى أعني فرق أنسب من الثانية. 457 إذ لا فرق في العقل بين إيصال النفع ودفع الضرر في الإيثار، فإذا خفف عقابه وكانت آلامه عظيمة علم أن آلامه بعد إسقاط ذلك القدر من العقاب أشد ولا يظهر له أنه كان في راحة، أو نقول: إنه تعالى ينقص من آلامه ما يستحقه من أعواضه متفرقا على الأوقات بحيث لا يظهر له الخفة من قبل. قال: ولا يجب دوامه لحسن الزائد بما يختار معه الألم وإن كان منقطعا ولا يجب حصوله في الدنيا لاحتمال مصلحة التأخير، والألم على القطع ممنوع مع أنه غير محل النزاع. أقول: لما ذكر وجوب العوض شرع في بيان أحكامه، وقد اختلف الشيخان هنا فقال أبو علي الجبائي: إنه يجب دوامه. وقال أبو هاشم: لا يجب، واختاره المصنف رحمه الله، والدليل عليه أن العوض أنما حسن لاشتماله على النفع الزائد على الألم أضعافا يختار معه المولم ألمه، ومثل هذا يتحقق في المنقطع فكان وجه الحسن فيه ثابتا فلا تجب إدامته. وقد احتج أبو علي بوجهين أشار المصنف إلى الجواب عنهما: الأول: أنه لو كان العوض منقطعا لوجب إيصاله في الدنيا، لأن تأخير الواجب بعد وجوبه وانتفاء الموانع منع للواجب، وإنما قلنا بانتفاء الموانع لأن المانع هو الدوام مع انقطاع الحياة المانع من دوامه. (والجواب) لا نسلم أن المانع من تقدمه في الدنيا إنما هو انقطاع الحياة لجواز أن يكون في تأخيره مصلحة خفية. الثاني: لو كان العوض منقطعا لزم دوامه والتالي لا يجامع المقدم، بيان الملازمة أنه بانقطاعه يتألم صاحب العوض والألم يستلزم العوض فيلزم من انقطاعه دوامه. والجواب من وجهين: الأول: يجوز انقطاعه من غير أن يشعر صاحبه بانقطاعه إما لإيصاله إليه على التدريج في الأوقات بحيث لا يشعر بانتفائه لكثرة غيره من منافعه، أو بأن يجعله ساهيا ثم يقطعه فلا يتألم حينئذ. الثاني: أنه غير
458 محل النزاع لأن البحث في العوض المستحق على الألم هل يجب إدامته، وليس البحث في استلزام الألم الحاصل بالانقطاع لعوض آخر وهكذا دائما. قال: ولا يجب إشعار صاحبه بإيصاله عوضا. أقول: هذا حكم آخر للعوض يفارق به الثواب وهو أنه لا يجب إشعار مستحقه بتوفيته عوضا له بخلاف الثواب، إذ يجب في الثواب مقارنة التعظيم ولا فائدة فيه إلا مع العلم به، أما هنا فلأنه منافع وملاذ وقد ينتفع ويلتذ من لا يعلم ذلك، فما يجب إيصاله إلى المثاب في الآخرة من الأعواض يجب أن يكون عالما به من حيث إنه مثاب لا من حيث إنه معوض، وحينئذ أمكن أن يوفيه الله تعالى في الدنيا على بعض المعوضين غير المكلفين وأن ينتصف لبعضهم من بعض في الدنيا فلا تجب إعادتهم في الآخرة. قال: ولا يتعين منافعه. أقول: هذا حكم ثالث للعوض وهو أنه لا يتعين منافعه، بمعنى أنه لا يجب إيصاله في منفعة معينة دون أخرى بل يصلح توفيته بكل ما يحصل فيه شهوة المعوض، وهذا بخلاف الثواب لأنه يجب أن يكون من جنس ما ألفه المكلف من ملاذه كالأكل والشرب واللبس والمنكح لأنه رغب به في تحمل المشاق، بخلاف العوض فإنا قد بينا أنه يصح إيصاله إليه وإن لم يعلم أنه عوض عما وصل إليه من الألم فصح إيصاله إليه بكل منفعة. قال: ولا يصح إسقاطه. أقول: هذا حكم آخر للعوض وهو أنه لا يصح إسقاطه ولا هبته ممن وجب عليه في الدنيا ولا في الآخرة سواء كان العوض عليه تعالى أو علينا، هذا قول أبي هاشم وقاضي القضاة. وجزم أبو الحسين بصحة إسقاط العوض علينا إذا استحل الظالم من المظلوم وجعله في حل بخلاف العوض عليه تعالى فإنه لا يسقط لأن إسقاطه عنه تعالى عبث لعدم انتفاعه به.
459 واحتج القاضي بأن مستحق العوض لا يقدر على استيفائه ولا على المطالبة به. ولا يعرف مقداره ولا صفته فصار كالصبي المولى عليه لا يصح له إسقاط حقه عن غريمه. والوجه عندي (1) جواز ذلك لأنه حقه وفي هبته نفع للموهوب، ويمكن نقل هذا الحق إليه فكان جائزا. والحمل على الصبي غير تام لأن الشرع منع الصبي من التصرف في ماله لمصلحة شرعية حتى أنا لولا الشرع لجوزنا من الصبي المميز إذا علم دينه، وأن هبته (2) إحسان إلى الغير وآثر هذا الإحسان لانتفاء الضرر عنه مع اشتماله على الاختيار في الهبة لأنه كالبالغ لكن الشرع فرق بينهما، وعلى هذا لو كان العوض مستحقا عليه تعالى أمكن هبته مستحقة لغيره من العباد لما ذكرنا من أنه حقه، وفي هبته انتفاع الموهوب وإمكان نقل هذا الحق، أما الثواب المستحق عليه تعالى فلا يصح منا هبته لغيرنا لأنه مستحق بالمدح فلا يصح نقله إلى من لا يستحقه. قال: والعوض عليه تعالى يجب تزايده إلى حد الرضا عند كل عاقل وعلينا يجب مساواته. أقول: هذا حكم آخر للعوض وهو أنه إما أن يكون علينا أو عليه تعالى، أما العوض الواجب عليه تعالى فإنه يجب أن يكون زائدا عن الألم الحاصل بفعله أو بأمره أو بإباحته أو بتمكينه لغير العاقل زيادة تنتهي إلى حد الرضا من كل عاقل بذلك العوض في مقابلة ذلك الألم لو فعل به، لأنه لولا ذلك لزم الظلم، أما مع مثل هذا العوض فإنه يصير كأنه لم يفعل، وأما العوض علينا فإنه يجب مساواته لما
(1) هو كلام الشارح العلامة خالف المصنف وأبا هاشم وقاضي القضاة في عدم صحة إسقاط العوض علينا، واختار رأي أبي الحسين في صحة إسقاط العوض علينا، ثم صرح بالفرق بين العوض والثواب بأن الأول يصح إسقاطه علينا دون الثاني، فتبصر. (2) باتفاق النسخ كلها إلا (ز) ففيها: من الصبي المميز إذا علم دينه بأن هبته.. الخ، ثم الظاهر أن دينه فتح الدال. 460 فعله من الألم أو فوته من المنفعة، لأن الزائد على ما يستحق عليه من الضمان يكون ظلما، ولا يخرج ما فعلناه بالضمان عن كونه ظلما قبيحا فلا يلزم أن يبلغ الحد الذي شرطناه في الآلام الصادرة منه تعالى. المسألة الخامسة عشرة في الآجال قال: وأجل الحيوان (1) الوقت الذي علم الله تعالى بطلان حياته فيه. أقول: لما فرغ من البحث عن الأعواض انتقل إلى البحث عن الآجال، وإنما بحث عنه المتكلمون لأنهم بحثوا عن المصالح والألطاف، وجاز أن يكون موت انسان في وقت مخصوص لطفا لغيره من المكلفين فبحثوا عنه بعد بحثهم عن المصالح. (واعلم) أن الأجل هو الوقت، ونعني بالوقت هو الحادث أو ما يقدر تقدير الحادث، كما يقال: جاء زيد عند طلوع الشمس، فإن طلوع الشمس أمر حادث معلوم لكل أحد فجعل وقتا لغيره، ولو فرض جهالة طلوع الشمس وعلم مجئ زيد لبعض الناس صح أن يقال: طلعت الشمس عند مجئ زيد. إذا عرفت هذا فأجل الحيوان هو الوقت الذي علم الله تعالى بطلان حياة ذلك الحيوان فيه، وأجل الدين هو الوقت الذي جعله الغريمان محلا له. قال: والمقتول يجوز فيه الأمران لولاه. أقول: اختلف الناس في المقتول لو لم يقتل، فقالت المجبرة: إنه كان يموت قطعا، وهو قول أبي الهذيل العلاف. وقال بعض البغداديين: إنه كان يعيش قطعا. وقال أكثر المحققين: إنه كان يجوز أن يعيش ويجوز أن يموت. ثم اختلفوا فقال قوم منهم: إن من كان المعلوم منه البقاء لو لم يقتل له أجلان. وقال الجبائيان
(1) وفي (ت): وأجل الحيوان الموقت الذي على الله تعالى بطلان حياته فيه. والشرح يوافق الأول. وكلمة على في (ت) تحريف علم لأن رسم الخط القديم كان علم قريبا من على. 461 وأصحابهما وأبو الحسين البصري: إن أجله هو الوقت الذي قتل فيه وليس له أجل آخر لو لم يقتل فما كان يعيش إليه ليس بأجل له الآن حقيقي بل تقديري. واحتج الموجبون لموته بأنه لولاه لزم خلاف معلوم الله تعالى وهو محال. واحتج الموجبون لحياته بأنه لو مات لكان الذابح غنم غيره محسنا إليه، ولما وجب القود لأنه لم يفوت حياته. والجواب عن الأول ما تقدم من أن العلم لا يؤثر في المعلوم، وعن الثاني بمنع الملازمة إذ لو ماتت الغنم استحق مالكها عوضا زائدا على الله تعالى فبذبحه فوت عليه الأعواض الزائدة، والقود من حيث مخالفة الشارع إذ قتله حرام عليه وإن علم موته، ولهذا لو أخبر الصادق بموت زيد لم يجز لأحد قتله. قال: ويجوز أن يكون الأجل لطفا للغير لا للمكلف. أقول: لا استبعاد في أن يكون أجل الانسان لطفا لغيره من المكلفين ولا يمكن أن يكون لطفا للمكلف نفسه، لأن الأجل يطلق على عمره وحياته، ويطلق على أجل موته. (أما الأول) فليس بلطف لأنه تمكين له من التكليف واللطف زائد على التمكين، (وأما الثاني) فهو قطع التكليف فلا يصح أن يكلف بعده فيكون لطفا له فيما يكلفه من بعد واللطف لا يصح أن يكون لطفا فيما مضى. المسألة السادسة عشرة في الأرزاق قال: والرزق ما صح الانتفاع به ولم يكن لأحد منعه منه. أقول: الرزق عند المجبرة ما أكل سواء كان حراما أو حلالا، وعند المعتزلة أنه ما صح الانتفاع به ولم يكن لأحد منع المنتفع به لقوله تعالى: (وأنفقوا مما رزقناكم) والله تعالى لا يأمر بالإنفاق من الحرام، قالوا: ولا يوصف الطعام المباح في الضيافة أنه رزقه ما لم يستهلكه لأن للمبيح منعه قبل استهلاكه بالمضغ والبلع،
462 وكذا طعام البهيمة ليس رزقا لها قبل أن تستهلكه لأن للمالك منعها منه إلا إذا وجب رزقها عليه والغاصب إذا استهلك الطعام المغصوب بالأكل لا يوصف بأنه رزقه لأن الله تعالى منعه من الانتفاع به بعد مضغه وبلعه، لأن تصرفاته أجمع محرمة بخلاف من أبيح له الطعام لأنه بعد المضغ والبلع لا يحسن من أحد تفويته الانتفاع به لأنه معدود فيما تقدم من الأسباب المؤدية إلى الانتفاع به. وليس الرزق هو الملك لأن البهيمة مرزوقة وليست مالكة والله تعالى مالك، ولا يقال: إن الأشياء رزق له تعالى والولد والعلم رزق لنا وليسا ملكا لنا، فحينئذ الأرزاق كلها من قبله تعالى لأنه خالق جميع ما ينتفع به وهو الممكن من الانتفاع والتوصل إلى اكتساب الرزق وهو الذي يجعل العبد أخص بالانتفاع به بعد الحيازة أو غيرها من الأسباب الموصلة إليه، ويحظر على غيره منعه من الانتفاع وهو خالق الشهوة التي بها يتمكن من الانتفاع. قال: والسعي في تحصيله قد يجب ويستحب ويباح ويحرم (1). أقول: ذهب جمهور العقلاء إلى أن طلب الرزق سائغ، وخالف فيه بعض الصوفية لاختلاط الحرام بالحلال بحيث لا يتميز، وما هذا سبيله يجب الصدقة به فيجب على الغني دفع ما في يده إلى الفقير بحيث يصير فقيرا ليحل له أخذ الأموال الممتزجة بالحرام ولأن في ذلك مساعدة للظالمين بأخذ العشور والخراجات ومساعدة الظالم محرمة. والحق ما قلناه ويدل عليه المعقول والمنقول، أما المعقول فلأنه دافع للضرر فيكون واجبا. وأما المنقول فقوله تعالى: (وابتغوا من فضل الله) إلى غيرها من الآيات، وقوله عليه السلام: (سافروا تغنموا) أمر بالسفر لأجل الغنيمة. والجواب عن الأول بالمنع من عدم التميز، إذ الشارع ميز الحلال من الحرام
(1) كذا في النسخ كلها إلا في (م) ففيها: ويباح ويكره ويحرم. والشرح على وزان النسخ الأولى. 463 بظاهر اليد ولأن تحريم التكسب من هذه الحيثية يقتضي تحريم التناول واللازم باطل اتفاقا (1)، وعن الثاني أن المكتسب غرضه الانتفاع بزراعته أو تجارته لا تقوية الظلمة (2). (إذا عرفت هذا) فالسعي في طلب الرزق قد يجب مع الحاجة، وقد يستحب إذا طلب التوسعة عليه وعلى عياله، وقد يباح مع الغنى عنه، وقد يحرم مع منعه عن الواجب. المسألة السابعة عشرة في الأسعار قال: والسعر تقدير العوض الذي يباع به الشئ وهو رخص وغلاء ولا بد من اعتبار العادة واتحاد الوقت والمكان ويستند (3) إليه تعالى وإلينا أيضا. أقول: السعر هو تقدير العوض الذي يباع به الشئ وليس هو الثمن ولا المثمن وهو ينقسم إلى رخص وغلاء، فالرخص هو السعر المنحط عما جرت به العادة مع اتحاد الوقت والمكان، والغلاء زيادة السعر عما جرت به العادة مع اتحاد الوقت والمكان. وإنما اعتبرنا الزمان والمكان لأنه لا يقال: إن الثلج قد رخص سعره في الشتاء عند نزول الثلج لأنه ليس أوان بيعه، ويجوز أن يقال: رخص في الصيف إذا نقص سعره عما جرت به عادته في ذلك الوقت، ولا يقال: رخص سعره في الجبال التي يدوم نزوله فيها لأنها ليست مكان بيعه، ويجوز أن يقال: رخص سعره في البلاد التي اعتيد بيعه فيها.
(1) باتفاق النسخ كلها. (2) وفي (ش): لا معونة الظلمة. وفي (د): لا معونة، نسخة. والنسخ الأخرى هي ما اخترناه في الكتاب. (3) أي السعر، وإن شئت قلت: كل واحد من الرخص والغلاء. وفي (ش ق د): ويستندان، أي الرخص والغلاء، والمال واحد. وفي (م ص ز ت): ويستند. وظاهر الشرح يوافق الوجهين، والنسخ الثانية أمتن من الأولى غالبا كما اخترناه. 464 (واعلم) أن كل واحد من الرخص والغلاء قد يكون من قبله تعالى، بأن يقلل جنس المتاع المعين ويكثر رغبة الناس إليه فيحصل الغلاء لمصلحة المكلفين، وقد يكثر جنس ذلك المتاع ويقلل رغبة الناس إليه تفضلا منه تعالى وإنعاما أو لمصلحة دينية فيحصل الرخص، وقد يحصلان من قبلنا بأن يحمل السلطان الناس على بيع تلك السلعة بسعر غال ظلما منه أو لاحتكار الناس أو لمنع الطريق خوف الظلمة أو لغير ذلك من الأسباب المستندة إلينا فيحصل الغلاء، وقد يحمل السلطان الناس على بيع السلعة برخص ظلما منه أو يحملهم على بيع ما في أيديهم من جنس ذلك المتاع فيحصل الرخص. المسألة الثامنة عشرة في الأصلح قال: والأصلح قد يجب لوجود الداعي وانتفاء الصارف. أقول: اختلف الناس هنا، فقال الشيخان أبو علي وأبو هاشم وأصحابهما: إن الأصلح ليس بواجب على الله تعالى. وقال البلخي: إنه واجب، وهو مذهب البغداديين وجماعة من البصريين. وقال أبو الحسين البصري: إنه يجب في حال دون حال، وهو اختيار المصنف رحمه الله. وتحرير صورة النزاع أن الله تعالى إذا علم لم انتفاع زيد بإيجاد قدر من المال له وانتفاء الضرر به في الدين عنه وعن غيره من المكلفين هل يجب إيجاد ذلك القدر له أم لا؟ احتج الموجبون بأن لله تعالى داعيا إلى إيجاده وليس له صارف عنه، فيجب ثبوته لأن مع ثبوت القدرة ووجود الداعي وانتفاء الصارف يجب الفعل. وبيان تحقق الداعي أنه إحسان خال عن جهات المفسدة، وبيان انتفاء الصارف أن المفاسد منتفية ولا مشقة فيه. واحتج النفاة بأن وجوبه يؤدي إلى المحال فيكون محالا، بيان الملازمة أنا لو فرضنا انتفاء المفسدة في الزائد على ذلك القدر وثبوت المصلحة فإن وجب
465 إيجاده لزم وقوع ما لا نهاية له، لأنا نفرض ذلك في كل زائد، وإن لم يجب ثبت المطلوب. قال أبو الحسين: إذا كان ذلك القدر مصلحة خالية عن المفسدة وكان الزائد عليه مفسدة وجب عليه أن يعطيه ذلك القدر لوجود الداعي وانتفاء الصارف، وإذا لم يكن في الزائد مفسدة إلى غير النهاية فإنه تعالى قد يفعل ذلك القدر وقد لا يفعله، لأن من دعاه الداعي إلى الفعل وكان ذلك الداعي حاصلا في فعل ما يشق فإن ذلك يجري مجرى الصارف عنه فيصير الداعي مترددا بين الداعي والصارف فلا يجب الفعل ولا الترك، وتمثل بأن من دعاه الداعي على دفع درهم إلى فقير ولم يظهر له ضرر في دفعه فإنه يدفعه إليه، فإن حضره من الفقراء جماعة يكون الدفع إليهم مساويا للدفع إلى الأول ويشق عليه الدفع إليهم لحصول الضرر فإنه قد يدفع الدرهم إلى الفقير منهم وقد لا يدفعه، فإذا كان حصول الداعي فيما يشق يقتضي تجويز العدم فحصوله فيما يستحيل وجوده أولى لانتفاء الفعل معه، فلهذا قال: قد يجب الأصلح في بعض الأحوال دون بعض. وللنفاة وجوه أخر ذكرناها في كتاب نهاية المرام على الاستقصاء.
466 قال: المقصد الرابع في النبوة
467 البعثة حسنة لاشتمالها على فوائد كمعاضدة العقل فيما يدل عليه واستفادة الحكم فيما لا يدل وإزالة الخوف واستفادة الحسن والقبح والنافع والضار (1) وحفظ النوع الانساني وتكميل أشخاصه بحسب استعداداتهم المختلفة وتعليمهم الصنائع الخفية والأخلاق والسياسات والأخبار بالعقاب والثواب فيحصل اللطف للمكلف. أقول: في هذا المقصد مسائل: المسألة الأولى في حسن البعثة اختلف الناس في ذلك، فذهب المسلمون كافة وجميع أرباب الملل وجماعة من الفلاسفة إلى ذلك ومنعت البراهمة منه، والدليل على حسن البعثة أنها قد اشتملت على فوائد وخلت عن المفاسد فكانت حسنة قطعا، وقد ذكر المصنف رحمه الله جملة من فوائد البعثة: منها: أن يعتضد العقل بالنقل فيما يدل العقل عليه من الأحكام كوحدة الصانع وغيرها، وأن يستفاد الحكم من البعثة فيما لا يدل العقل عليه كالشرائع وغيرها من
(1) كما في (ق ش د ز ت) وفي (م ص): والمنافع والمضار. ونسخ الشرح القديم موافقة للأولى. 468 مسائل الأصول. ومنها: إزالة الخوف الحاصل للمكلف عند تصرفاته، إذ قد علم بالدليل العقلي أنه مملوك لغيره وأن التصرف في ملك الغير بغير إذنه قبيح، فلولا البعثة لما علم حسن التصرفات فيحصل الخوف بالتصرف وبعدمه، إذ يجوز العقل طلب المالك من العبد فعلا لا سبيل إلى فعله إلا بالبعثة فيحصل الخوف. ومنها: أن بعض الأفعال حسنة وبعضها قبيحة، ثم الحسنة منها ما يستقل العقل بمعرفة حسنه ومنها ما لا يستقل وكذا القبيحة ومع البعثة يحصل معرفة الحسن والقبح اللذين لا يستقل العقل بمعرفتهما. ومنها: أن بعض الأشياء نافعة لنا مثل كثير من الأغذية والأدوية وبعضها ضار لنا مثل كثير من السموم والحشائش والعقل لا يدرك ذلك كله، وفي البعثة تحصل هذه الفائدة العظيمة. ومنها: أن النوع الانساني خلق لا كغيره من الحيوانات فإنه مدني بالطبع يحتاج إلى أمور كثيرة في معاشه لا يتم نظامه إلا بها وهو عاجز عن فعل الأكثر منها إلا بمشاركة ومعاونة والتغلب موجود في الطبائع البشرية بحيث يحصل التنافر المضاد لحكمة الاجتماع فلا بد من جامع يقهرهم على الاجتماع وهو السنة والشرع، ولا بد للسنة من شارع يسنه ويقرر ضوابطها ولا بد وأن يتميز ذلك الشخص من غيره من بني نوعه لعدم الأولوية، وذلك المائز لا يجوز أن يكون مما يحصل من بني النوع لوقوع التنافر في التخصيص فلا بد وأن يتميز من قبل الله تعالى بمعجزة ينقاد البشر إلى تصديق مدعيها ويخوفهم من مخالفته ويعدهم على متابعته بحيث يتم النظام ويستقر حفظ النوع الإنساني على كماله الممكن له. ومنها: أن أشخاص البشر متفاوتة في إدراك الكمالات وتحصيل المعارف واقتناء الفضائل، فبعضهم مستغن عن معاون لقوة نفسه وكمال إدراكه وشدة استعداده للاتصال بالأمور العالية، وبعضهم عاجز عن ذلك بالكلية، وبعضهم متوسط الحال وتتفاوت مراتب الكمال في هذه المرتبة بحسب قربها من أحد
469 الطرفين وبعدها عن الآخر، وفائدة النبي تكميل الناقص من أشخاص النوع بحسب استعداداتهم المختلفة في الزيادة والنقصان. ومنها: أن النوع الإنساني محتاج إلى آلات وأشياء نافعة في بقائه كالثياب والمساكن وغيرها وذلك مما يحتاج في تحصيله إلى معرفة عمله والقوة البشرية عاجزة عنه، ففائدة النبي في ذلك تعليم هذه الصنائع النافعة الخفية. ومنها: أن مراتب الأخلاق وتفاوتها معلوم يفتقر فيه إلى مكمل بتعليم الأخلاق والسياسات بحيث تنتظم أمور الانسان بحسب بلده ومنزله. ومنها: أن الأنبياء يعرفون الثواب والعقاب على الطاعة وتركها فيحصل للمكلف اللطف ببعثتهم فتجب بعثتهم لهذه الفوائد. قال: وشبهة البراهمة باطلة بما تقدم. أقول: احتجت البراهمة على انتفاء البعثة بأن الرسول إما أن يأتي بما يوافق العقول أو بما يخالفها، فإن جاء بما يوافق العقول لم يكن إليه حاجة ولا فائدة فيه، وإن جاء بما يخالف العقول وجب رد قوله. وهذه الشبهة باطلة بما تقدم في أول الفوائد وذلك أن نقول: لم لا يجوز أن يأتوا بما يوافق العقول وتكون الفائدة فيه التأكيد لدليل العقل؟ أو نقول: لم لا يجوز أن يأتوا بما لا تقتضيه العقول ولا تهتدي إليه وإن لم يكن مخالفا للعقول؟ بمعنى أنهم لا يأتون بما يقتضي العقل نقيضه مثل كثير من الشرائع والعبادات التي لا يهتدي العقل إلى تفصيلها. المسألة الثانية في وجوب البعثة قال: وهي واجبة لاشتمالها على اللطف في التكاليف العقلية. أقول: اختلف الناس هنا، فقالت المعتزلة: إن البعثة واجبة. وقالت الأشعرية: إنها غير واجبة. احتجت المعتزلة بأن التكاليف السمعية ألطاف في التكاليف العقلية
470 واللطف واجب فالتكليف السمعي واجب، ولا تمكن معرفته إلا من جهة النبي فيكون وجود النبي واجبا لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. واستدلوا على كون التكليف السمعي لطفا في العقلي بأن الانسان إذا كان مواظبا على فعل الواجبات السمعية وترك المناهي الشرعية كان من فعل الواجبات العقلية والانتهاء عن المناهي العقلية أقرب، وهذا معلوم بالضرورة لكل عاقل، وقد بينا فيما تقدم أن اللطف واجب. المسألة الثالثة في وجوب العصمة قال: ويجب في النبي العصمة (1) ليحصل الوثوق فيحصل الغرض ولوجوب متابعته وضدها والإنكار عليه (2). أقول: اختلف الناس هنا، فجماعة المعتزلة جوزوا الصغائر على الأنبياء إما على سبيل السهو كما ذهب إليه بعضهم، أو على سبيل التأويل كما ذهب إليه قوم منهم، أو لأنها تقع محبطة بكثرة ثوابهم. وذهبت الأشعرية والحشوية إلى أنه يجوز عليهم الصغائر والكبائر إلا الكفر والكذب. وقالت الإمامية: إنه تجب عصمتهم عن الذنوب كلها صغيرها وكبيرها والدليل عليه وجوه: أحدها: إن الغرض من بعثة الأنبياء عليهم السلام أنما يحصل بالعصمة فتجب العصمة تحصيلا للغرض. وبيان ذلك أن المبعوث إليهم لو جوزوا الكذب على الأنبياء والمعصية جوزوا في
(1) الحق أن السفير الإلهي مؤيد بروح القدس، معصوم في جميع أحواله وأطواره وشؤونه قبل البعثة أو بعدها، فالنبي معصوم في تلقي الوحي وحفظه وإبلاغه كما أنه معصوم في أفعاله مطلقا بالأدلة العقلية والنقلية فمن أسند إليه الخطأ فهو مخطئ، ومن أسند إليه السهو فهو أولى به. ونقل الروايات والأخبار بل الآيات القرآنية في ذلك يؤدي إلى الإسهاب وتنزيه الأنبياء لعلم الهدى السيد المرتضى أغنانا عن ورود البحث عن هذه المسائل. (2) وفي (ق د): للانكار عليه. والباقية كلها: والانكار عليه. 471 أمرهم ونهيهم وأفعالهم التي أمروهم باتباعهم فيها ذلك، وحينئذ لا ينقادون إلى امتثال أوامرهم وذلك نقض للغرض من البعثة. الثاني: أن النبي تجب متابعته فإذا فعل معصية فإما أن تجب متابعته أو لا، والثاني باطل لانتفاء فائدة البعثة والأول باطل لأن المعصية لا يجوز فعلها، وأشار بقوله: لوجوب متابعته وضدها، إلى هذا الدليل لأنه بالنظر إلى كونه نبيا تجب متابعته، وبالنظر إلى كون الفعل معصية لا يجوز اتباعه. الثالث: أنه إذا فعل معصية وجب الانكار عليه لعموم وجوب النهي عن المنكر وذلك يستلزم إيذاءه وهو منهي عنه، وكل ذلك محال. قال: وكمال العقل والذكاء والفطنة وقوة الرأي وعدم السهو وكلما ينفر عنه من دناءة الآباء وعهر الأمهات والفظاظة والغلظة والابنة وشبهها والأكل على الطريق وشبهه. أقول: يجب أن يكون في النبي هذه الصفات التي ذكرها، وقوله: وكمال العقل، عطف على العصمة أي ويجب في النبي كمال العقل وذلك ظاهر، وأن يكون في غاية الذكاء والفطنة وقوة الرأي بحيث لا يكون ضعيف الرأي مترددا في الأمور متحيرا، لأن ذلك من أعظم المنفرات عنه، وأن لا يصح عليه السهو لئلا يسهو عن بعض ما أمر بتبليغه، وأن يكون منزها عن دناءة الآباء وعهر الأمهات لأن ذلك منفر عنه، وأن يكون منزها عن الفظاظة والغلظة لئلا يحصل النفرة عنه، وأن يكون منزها عن الأمراض المنفرة (1) نحو الابنة وسلس الريح والجذام والبرص وعن
(1) في خصال الصدوق وخامس البحار في كتاب النبوة (ص 204 ط 1). في خبر القطان عن السكري عن الجوهري عن ابن عمارة عن أبيه عن جعفر بن محمد عن أبيه عليه السلام قال: إن أيوب عليه السلام ابتلى سبع سنين من غير ذنب (بغير ذنب - خ ل) وإن الأنبياء عليهم السلام لا يذنبون لأنهم معصومون مطهرون لا يذنبون ولا يزيغون ولا يرتكبون ذنبا لا صغيرا ولا كبيرا، وقال: إن أيوب عليه السلام من جميع ما ابتلي به لم تنتئن له رائحة ولا قبحت له صورة ولا خرجت منه مدة من دم ولا قيح ولا استقذره أحد رآه ولا استوحش منه أحد شاهده ولا تدود شئ من جسده، وهكذا يصنع الله عز وجل بجميع من يبتليه من أنبيائه وأوليائه المكرمين عليه، وإنما اجتنبه الناس لفقره وضعفه في ظاهر أمره لجهلهم بما له عند ربه تعالى من التأييد والفرج. وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أعظم الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، وإنما ابتلاه الله عز وجل بالبلاء العظيم الذي يهون معه على جميع الناس لئلا يدعوا له الربوبية إذا شاهدوا ما أراد الله أن يوصله إليه من عظائم نعمه تعالى متى شاهدوه وليستدلوا بذلك على أن الثواب من الله تعالى على ضربين: استحقاق واختصاص، ولئلا يحتقروا ضعيفا لضعفه ولا فقيرا لفقره ولا مريضا لمرضه وليعلموا أنه يسقم من يشاء ويشفي من يشاء متى شاء كيف شاء بأي سبب شاء ويجعل ذلك عبرة لمن شاء وشقاوة لمن شاء وسعادة لمن شاء، وهو عز وجل في جميع ذلك عدل في قضائه وحكيم في أفعاله لا يفعل بعباده إلا الأصلح لهم ولا قوة لهم إلا به، إنتهى. قوله صلى الله عليه وسلم: أعظم الناس بلاء الأنبياء. ومن ذلك العظم الضر بالضم قال عز من قائل: (وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين) إذ الضر بالفتح الضر في كل شئ، وبالضم الضرر في النفس، ذكره في الكشاف. قال علم الهدى في تنزيه الأنبياء: فإن قيل أفتصحون ما روي من أن الجذام أصابه حتى تساقطت أعضاؤه؟ قلنا: أما العلل المستقذرة التي تنفر من رآها وتوحشه كالبرص والجذام فلا يجوز شئ منها على الأنبياء عليهم السلام لأن النفور ليس بواقف على الأمور القبيحة بل قد يكون من الحسن والقبح معا وليس ينكر أن يكون أمراض أيوب عليه السلام وأوجاعه ومحنه في جسمه ثم في أهله وماله بلغت مبلغا عظيما تزيد في الغم والألم على ما ينال المجذوم وليس ينكر تزايد الألم فيه عليه السلام وإنما ينكر ما اقتضى التنفير. قال في مجمع البيان عند قوله سبحانه: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) (آل عمران 159). في هذه الآية دلالة على اختصاص نبينا بمكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، ومن عجيب أمره صلى الله عليه وسلم أنه كان أجمع الناس لدواعي الترفع ثم كان أدناهم إلى التواضع وذلك أنه كان أوسط الناس نسبا وأوفرهم حسبا وأسخاهم وأشجعهم وأزكاهم وأفصحهم، وهذه كلها من دواعي الترفع. ثم كان من تواضعه أنه كان يرقع الثوب ويخصف النعل ويركب الحمار ويعلف الناضح ويجيب دعوة المملوك ويجلس في الأرض ويأكل على الأرض وكان يدعو إلى الله من غير زئر وكهر ولا زجر. ولقد أحسن من مدحه في قوله: فما حملت من ناقة فوق ظهرها أبر وأوفى ذمة من محمد إلى أن قال رحمه الله: وفيها أيضا دلالة على ما نقوله في اللطف لأنه سبحانه نبه على أنه لولا رحمته لم يقع اللين والتواضع ولو لم يكن كذلك لما أجابوه فبين أن الأمور المنفرة منفية عنه وعن سائر الأنبياء ومن يجري مجراهم في أنه حجة على الخلق، وهذا يوجب تنزيههم أيضا عن الكبائر لأن التنفير في ذلك أكثر. 472 كثير من المباحات الصارفة عن القبول منه القادحة في تعظيمه نحو الأكل على الطريق (1) وغير ذلك لأن ذلك كله مما ينفر عنه فيكون منافيا للغرض من البعثة. المسألة الرابعة في الطريق إلى معرفة صدق النبي قال: وطريق معرفة صدقه (2) ظهور المعجز على يده وهو ثبوت (3) ما ليس بمعتاد أو نفي ما هو معتاد مع خرق العادة ومطابقة الدعوى. أقول: لما ذكر صفات النبي وجب عليه ذكر بيان معرفة صدقه وهو شئ واحد وهو ظهور المعجز على يده، ونعني بالمعجز ثبوت ما ليس بمعتاد أو نفي ما هو معتاد مع خرق العادة ومطابقة الدعوى، لأن الثبوت والنفي سواء في الإعجاز فإنه لا فرق بين قلب العصا حية وبين منع القادر على رفع أصغر الأشياء. وشرطنا
(1) في الكافي عن الصادق عليه السلام قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الغداة ومعه كسرة قد غمسها في اللبن وهو يأكل ويمشي وبلال يقيم الصلاة. وفيه عن أمير المؤمنين عليه السلام: لا بأس أن يأكل الرجل وهو يمشي وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك. نقله الشيخ بهاء الدين رحمه الله في الكشكول (ص 571 ط 1) فتدبر في الروايتين فإن في الأولى ناصا على أنه خرج قبل الغداة فهي تقيد الثانية على وجه لا ينافي التنافر العقلي. (2) الحق أنه نفسه دليل لنفسه كما أن الدليل دليل لنفسه أي دليل كل أمر فإنما هو دليل لنفسه. كما أن الوحي إذا أنزل إليه وجبرئيل نزل به على قلبه أدرك النبوة بنفسه وصدقها بذاته إدراكا ما اعتراه وسوسة، وتصديقا ما اعتوره دغدغة بل هو على بينة من ربه رأى نبوته على بصيرة أشد من رؤية الشمس البازغة على بصر. (3) المعجز أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي مع عدم المعارضة. 474 خرق العادة لأن فعل المعتاد أو نفيه لا يدل على الصدق، وقلنا مع مطابقة الدعوى لأن من يدعي النبوة ويسند معجزته إلى إبراء الأعمى فيحصل له الصمم مع عدم برء العمى (1) لا يكون صادقا. ولا بد في المعجز من شروط: أحدها: أن يعجز عن مثله أو ما يقاربه الأمة المبعوث إليها. الثاني: أن يكون من قبل الله تعالى أو بأمره. الثالث: أن يكون في زمان التكليف، لأن العادة تنتقض عند أشراط الساعة. الرابع: أن يحدث عقيب دعوى المدعي للنبوة أو جاريا مجرى ذلك، ونعني بالجاري مجرى ذلك أن يظهر دعوى النبي في زمانه وأنه لا مدعي للنبوة غيره ثم يظهر المعجز بعد أن ظهر معجز آخر عقيب دعواه فيكون ظهور الثاني كالمتعقب لدعواه لأنه يعلم تعلقه بدعواه وأنه لأجله ظهر كالذي ظهر عقيب دعواه. الخامس: أن يكون خارقا للعادة. المسألة الخامسة في الكرامات قال: وقصة مريم (2) وغيرها تعطي جواز ظهوره على الصالحين. قال: اختلف الناس هنا، فذهب جماعة من المعتزلة إلى المنع من إظهار
(1) كما في (م) والنسخ الأخرى: مع عدم برء عماه. (2) حكم حكيم وكلام كامل رصين لأن النفوس الانسانية مجبولة ومفطورة على الاعتلاء إلى مقاماتها الشامخة التي تعطي المفاتيح وتصرف في مادة الكائنات بإذن الله سبحانه، والأنبياء والأوصياء دعوا ما سواهم من النفوس الانسانية إلى الارتقاء إلى معارجهم كما يناديك بذلك القرآن الفرقان بقوله السلام الصدق تعالوا، فلولا هذه الشأنية لهم لما وقعوا في محل الخطاب بذلك الأمر المستطاب، وهم عليهم السلام معصومون في جميع شؤون أحوالهم، فحاشاهم أن يدعوا الذين ليسوا بمستحقين لذلك الخطاب وقابلين له فإن هذا من أعمال الجهال قال تعالى شأنه: (قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) (البقرة 68) نعم يجب الفرق في المقام بين النبوة الإنبائية والنبوة التشريعية على ما حررناهما في سائر رسائلنا، والإشارات القرآنية والمأثورات المتظافرة معاضدة على أفصح لسان وأنطق بيان في ذلك. 475 المعجز على الصالحين كرامة لهم ومن إظهاره على العكس على الكذابين إظهارا لكذبهم، وجوزه أبو الحسين منهم وجماعة أخرى من المعتزلة والأشاعرة وهو الحق، واستدل المصنف رحمه الله بقصة مريم فإنها تدل على ظهور معجزات عليها وغيرها مثل قصة آصف وكالأخبار المتواترة المنقولة عن علي عليه السلام وغيره من الأئمة، وحمل المانعون قصة مريم على الإرهاص لعيسى عليه السلام (1) وقصة آصف على أنه معجز لسليمان عليه السلام مع بلقيس كأنه يقول: إن بعض اتباعي يقدر على هذا مع عجزكم عنه، ولهذا أسلمت بعد الوقوف على معجزاته، وقصة علي عليه السلام على تكملة معجزات النبي عليه السلام. قال: ولا يلزم خروجه عن الأعجاز ولا التنفير ولا عدم التميز ولا إبطال دلالته ولا العمومية. أقول: هذه وجوه استدل بها المانعون من المعتزلة: الأول: قالوا: لو جاز ظهور المعجزة على غير الأنبياء إكراما لهم لجاز ظهورها عليهم وإن لم يعلم بها غيرهم، لأن الغرض هو سرورهم، وإذا جاز ذلك بلغت في الكثرة إلى خروجها عن الإعجاز. والجواب المنع من الملازمة، لأن خروجها عن حد الإعجاز وجه قبح ونحن أنما نجوز ظهور المعجزة إذا خلا عن جهات القبح فنجوز ظهورها ما لم تبلغ في الكثرة إلى حد خروجها عن الإعجاز. الثاني: قالوا: لو جاز ظهور المعجزة على غير النبي لزم التنفير عن الأنبياء، إذ علة وجوب طاعتهم ظهور المعجزة عليهم، فإذا شاركهم في ذلك من لا تجب طاعته هان موقعه، ولهذا لو أكرم (2) الرئيس بنوع ما كل أحد هان موقع ذلك النوع
(1) الرهص بالكسر العرق الأسفل من الحائط، يقال: رهصت الحائط بما يقيمه، قاله الجوهري في الصحاح. وفي منتهى الإرب: رهص بالكسر چينه بن ديوار. والإرهاص إحداث معجزات تدل على بعثته وكأنه تأسيس لقاعدة نبوته فكأنه العرق الأسفل من الحائط يقال له الرهص بالنسبة إلى ما يبنى عليه ويأتي بعده. (2) أي هان موقع الإعجاز. والنسخ كلها متفقة على ما اخترناه، وضمير موقعهم كما في المطبوعة من قبل راجع إلى الأنبياء. 476 لمن يستحق الاكرام. والجواب بمنع انحطاط مرتبة الإعجاز كما لو ظهر على نبي آخر فإنه لو لم يظهر إلا على نبي واحد لكان موقعه أعظم، فكما لا تلزم الإهانة مع ظهوره على جماعة من الأنبياء كذا لا تلزم الإهانة مع ظهوره على الصالحين. الثالث: احتجاج أبي هاشم قال: المعجز يدل بطريق الإبانة والتخصيص، وفسره قاضي القضاة بأن المعجز يدل على تميز النبي عن غيره، إذ الأمة مشاركون له في الانسانية ولوازمها فلولا المعجز لما تميز عنهم فلو شاركه غيره فيه لم يحصل الامتياز. والجواب أن امتياز النبي يحصل بالمعجز واقتران دعوى النبوة، وهذا شئ يختص به دون غيره ولا يلزم من مشاركة غيره له في المعجزة مشاركته له في كل شئ. الرابع: لو جاز إظهار المعجز على غير النبي لبطلت دلالته على صدق مدعي النبوة، والتالي باطل فالمقدم مثله، بيان الملازمة أن ثبوت المعجز في غير صورة النبوة ينفي اختصاصه بها، وحينئذ لا يظهر الفرق بين مدعي النبوة وغيرها في المعجز فبطلت دلالته، إذ لا دلالة للعام على الخاص. (والجواب) المنع من الملازمة، لأن المعجز مع الدعوى مختص بالنبي، فإذا ظهرت المعجزة على شخص فإما أن يدعي النبوة أو لا، فإن ادعاها علمنا صدقه إذ اظهار المعجزة على يد الكاذب قبيح عقلا، وإن لم يدع النبوة لم يحكم بنبوته. والحاصل أن المعجزة لا تدل على النبوة ابتداء بل تدل على صدق الدعوى، فإن تضمنت الدعوى النبوة دلت المعجزة على تصديق المدعي في دعواه ويستلزم ذلك ثبوت النبوة. الخامس: قالوا: لو جاز إظهار المعجز على صادق ليس بنبي لجاز إظهاره على كل صادق، فجاز إظهار المعجز على المخبر بالجوع والشبع وغيرهما. والجواب لا يلزم (1) العمومية أي لا يلزم إظهار المعجز على كل صادق إذ نحن أنما نجوز إظهاره على مدعي النبوة أو الصلاح إكراما له وتعظيما، وذلك لا يحصل
(1) النسخ كلها متفقة على ما اخترناه في المقام. 477 لكل مخبر بصدق. قال: ومعجزاته عليه السلام قبل النبوة تعطي الإرهاص. أقول: اختلف الناس هنا، فالذين منعوا الكرامات منعوا من إظهار المعجزة على سبيل الارهاص إلا جماعة منهم وجوزه الباقون، واستدل المصنف رحمه الله على تجويزه بوقوع معجزات الرسول صلى الله عليه وآله قبل النبوة كما نقل من انشقاق إيوان كسرى، وغور ماء بحيرة ساوا (1)، وانطفاء نار فارس وقصة أصحاب الفيل والغمام الذي كان يظله عن الشمس وتسليم الأحجار عليه، وغير ذلك مما ثبت له عليه السلام قبل النبوة. قال: وقصة مسيلمة وفرعون إبراهيم تعطي جواز إظهار المعجزة على العكس. أقول: اختلف الناس هنا، فالذين منعوا الكرامات منعوا من إظهار المعجزة على يد الكاذبين على العكس من دعواهم إظهارا لكذبهم، واستدل المصنف رحمه الله بالوقوع على الجواز كما نقل عن مسيلمة الكذاب لما ادعى النبوة، فقيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وآله دعا لأعور فرد الله عينه الذاهبة، فدعا لأعور فذهبت عينه الصحيحة. وكما نقل أن إبراهيم عليه السلام لما جعل الله تعالى عليه النار بردا وسلاما قال نمرود عند ذلك (2): إنما صارت كذلك هيبة مني فجاءته نار في تلك الحال فأحرقت لحيته. لا يقال: يكفي في التكذيب ترك المعجز عقيب دعواهم فيبقى إظهار المعجز على العكس خرقا للعادة من غير فائدة فيكون عبثا، لأنا نقول: قد يتضمن
(1) البحيرة تصغير البحر يعني بها درياچه ساوة، وهي معروفة في زماننا ببحيرة قم. (2) كما في النسخ كلها إلا (ق) ففيها: قال عمه عند ذلك. ولكن كلام الخواجة حيث قال: وفرعون إبراهيم، يعطي الأول. نعم جاءت العبارة في (ق ت) بالواو بعد فرعون، أي: وفرعون وإبراهيم. فعلى هذا الوجه يمكن أن يقال: وقصة عم إبراهيم، فكان فرعون هو فرعون موسى كما يقال في قصة فرعون موسى إنه قال انفلق البحر هيبة مني فأدركه الغرق. ولكن الصواب هو الإضافة أي: فرعون إبراهيم، كما في (م ص د ش ز) على أن الشارح لم يشر إلى فرعون موسى أصلا. 478 المصلحة إظهاره على العكس إظهارا لتكذيبه في الحال بحيث يزول الشك لتجويز أن يقال: تأخير المعجز عقيب الدعوى قد يكون لمصلحة ثم يوجد بعد وقت آخر فلا يحصل الجزم التام بالتكذيب. المسألة السادسة في وجوب البعثة في كل وقت قال: ودليل الوجوب يعطي العمومية. أقول: اختلف الناس هنا، فقال جماعة من المعتزلة: إن البعثة لا تجب في كل وقت بل في حال دون حال وهو ما إذا كانت المصلحة في البعثة. وقال علماء الإمامية: إنه تجب البعثة في كل وقت بحيث لا يجوز خلو زمان من شرع نبي. وقالت الأشاعرة: لا تجب البعثة في كل وقت لأنهم ينكرون الحسن والقبح العقليين، وقد مضى البحث معهم. واستدل المصنف رحمه الله على وجوب البعثة في كل وقت بأن دليل الوجوب يعطي العمومية، أي دليل وجوب البعثة يعطي عمومية الوجوب في كل وقت لأن في بعثته زجرا عن القبائح وحثا على الطاعة فتكون لطفا، ولأن فيه تنبيه الغافل وإزالة الاختلاف ودفع الهرج والمرج، وكل ذلك من المصالح الواجبة التي لا تتم إلا بالبعثة فتكون واجبة في كل وقت. قال: ولا تجب الشريعة. أقول: اختلف الشيخان هنا، فقال أبو علي: تجوز بعثة نبي لتأكيد ما في العقول ولا يجب أن تكون له شريعة. وقال أبو هاشم وأصحابه: لا يجوز أن يبعث إلا بشريعة لأن العقل كاف في العلم بالعقليات فالبعثة تكون عبثا. والجواب يجوز أن تكون البعثة قد اشتملت على نوع من المصلحة بأن يكون العلم بنبوته ودعائه إياهم إلى ما في العقول مصلحة لهم فلا تكون البعثة عبثا ويجب عليهم النظر في
479 معجزته (1) فيحصل لهم مصلحة لا تحصل بدون البعثة. واحتج أبو علي بأنه يجوز بعثة نبي بعد نبي بشريعة واحدة وكذا تجوز بعثة نبي بمقتضى ما في العقول. المسألة السابعة في نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله قال: وظهور معجزة القرآن وغيره مع اقتران دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله يدل على نبوته، والتحدي (2) مع الامتناع وتوفر الدواعي يدل على الإعجاز، والمنقول معناه متواترا من المعجزات يعضده. أقول: لما فرغ من البحث في النبوة مطلقا شرع في إثبات نبوة نبينا محمد عليه السلام، والدليل عليه أنه ظهرت المعجزة على يده وادعى النبوة فيكون صادقا، أما ظهور المعجزة على يده فلوجهين: الأول: أن القرآن معجز (3) وقد ظهر
(1) كما في (ص). والباقية: النظر في معجزتهم. (2) قال الجوهري في الصحاح: تحديت فلانا إذا ماريته في فعل ونازعته الغلبة. (3) لا يخفى عليك أن معجزات السفراء الإلهية على قسمين: قولي وفعلي، والقولي أقوى الحجتين على حجيتهم، وقد استوفينا البحث عن ذلك في رسالتنا نهج الولاية (ص 195 - 202 ط 1 من 11 رسالة فارسي)، فإن شئت فراجعه. ثم إن من معجزاته الفعلية الباقية إلى الآن قبلة المدينة الطيبة زادها الله تعالى شرفا بيان ذلك يطلب في الدرس السادس والخمسين من كتابنا دروس معرفة الوقت والقبلة (ص 365 - 384 ط 1). ثم إن معجزته الفعلية الأخرى هي بناء جدار مسجده كان يعلم المسلمون من ظله وقت زوال كل يوم في غاية الاستواء والتعديل على أساس رصين علمي بني بنور الله صار دليلا لمهرة الفنون الرياضية على استنباط الشكلين الظلي والمغني منه، كما أن نفس بناء الجدار على ذلك الوجه صار دليلا للمراصد الكبار لاستعلام الظهر الحقيقي معتقدين بأنه أوثق الطرق وأحسنها وأتقنها لذلك والبحث على الاستقصاء عن ذلك يطلب أيضا من الدرس الثاني والسبعين من كتابنا المذكور. وقد حررناه بالفارسية في رسالتنا (قرآن وإنسان) وفي النكتة المائة من ألف نكتة ونكتة. 480 على يده، أما إعجاز القرآن فلأنه تحدى (1) به فصحاء العرب لقوله تعالى: (فأتوا بسورة من مثله) (فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) (قل لئن اجتمعت الأنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا)، والتحدي مع امتناعهم عن الإتيان بمثله مع توفر الدواعي عليه إظهارا لفضلهم وإبطالا لدعواه وسلامة (2) من القتل يدل على عجزهم وعدم قدرتهم على المعارضة. وأما ظهوره على يده فبالتواتر. الثاني: أنه نقل عنه معجزات كثيرة كنبوع الماء (3) من بين أصابعه صلى الله عليه وآله حتى اكتفى الخلق الكثير من الماء القليل بعد رجوعه من غزاة تبوك. وكعود ماء بئر الحديبية لما استقاه أصحابه بالكلية وتنشف البئر فدفع سهمه إلى البراء بن عازب فأمره بالنزول وغرزه في البئر فغرزه فكثر الماء في الحال حتى خيف على البراء بن عازب من الغرق. ونقل عنه عليه السلام في بئر قوم شكوا إليه ذهاب مائها في الصيف فتفل فيها حتى انفجر الماء الزلال منها فبلغ أهل اليمامة ذلك فسألوا مسيلمة لما قل ماء بئرهم ذلك فتفل فيها فذهب الماء أجمع. ولما نزل قوله تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين قال لعلي عليه السلام: شق فخذ شاة وجئني بعس من لبن وادع لي من بني أبيك بني هاشم، ففعل علي عليه السلام ذلك ودعاهم وكانوا أربعين رجلا فأكلوا حتى شبعوا ما يري فيه إلا أثر أصابعهم وشربوا من العس حتى اكتفوا واللبن على حاله، فلما أراد أن يدعوهم إلى الاسلام قال أبو لهب: كاد أن يسحركم محمد، فقاموا قبل أن يدعوهم إلى الله تعالى، فقال
(1) كأنه تحدى أولا بمثل القرآن، ثم خفف فتحدى بعشر سور، ثم خفف فتحدى بسورة من مثله ولو كانت مثل الكوثر. (2) بالإضافة باتفاق النسخ كلها، أي مع سلامته صلى الله عليه وسلم من القتل. (3) وفي (م): كنبع الماء. والنبوع والنبع بمعنى. وما في المطبوعة من قوله: (كينبوع الماء) فهو محرف كنبوع الماء. 481 لعلي عليه السلام: افعل مثل ما فعلت، ففعل في اليوم الثاني كالأول فلما أراد أن يدعوهم عاد أبو لهب إلى كلامه، فقال لعلي عليه السلام: افعل مثل ما فعلت، ففعل مثله في اليوم الثالث فبايع عليا عليه السلام (1) على الخلافة بعده ومتابعته. وذبح له جابر بن عبد الله عناقا يوم الخندق وخبز له صاع شعير ثم دعاه عليه السلام فقال أنا وأصحابي، فقال: نعم، ثم جاء إلى امرأته وأخبرها بذلك فقالت له: أأنت قلت امض وأصحابك؟ فقال: لا بل هو لما قال أنا وأصحابي قلت نعم، فقالت: هو أعرف بما قال، فلما جاء عليه السلام قال: ما عندكم، قال جابر: ما عندنا إلا عناق في التنور وصاع من شعير خبزناه فقال له عليه السلام: أقعد أصحابي عشرة عشرة، ففعل فأكلوا كلهم. وسبح الحصى في يده عليه السلام وشهد الذئب له بالرسالة: فإن أهبان بن أوس (2) كان يرعى غنما له فجاء ذئب فأخذ شاة منها فسعى نحوه فقال له الذئب: أتعجب من أخذي شاة، هذا محمد يدعو إلى الحق فلا تجيبونه، فجاء إلى النبي وأسلم وكان يدعي مكلم الذئب. وتفل في عين علي عليه السلام لما رمدت فلم ترمد بعد ذلك أبدا، ودعا له بأن يصرف الله تعالى عنه الحر والبرد، فكان لباسه في الصيف والشتاء واحدا. وانشق له القمر. ودعا الشجرة فأجابته وجاءته تخد الأرض من غير جاذب ولا دافع ثم رجعت إلى مكانها. وكان يخطب عند الجذع فاتخذ له منبرا فانتقل إليه فحن الجذع إليه حنين الناقة إلى ولدها فالتزمه فسكن. وأخبر بالغيوب في مواضع كثيرة كما أخبر بقتل الحسين عليه السلام وموضع الفتك به فقتل في ذلك الموضع. وأخبر بقتل ثابت بن قيس بن الشماس فقتل بعده عليه السلام. وأخبر أصحابه بفتح مصر وأوصاهم بالقبط خيرا فإن لهم ذمة ورحما. وأخبرهم
(1) باتفاق النسخ كلها. (2) أهبان بضم الأول كعثمان صحابي. في الخصائص الكبرى للسيوطي: أهبان بن أوس (ج 2 مصر ص 268 و ط حيدرآباد الدكن ج 2 ص 61) وفي أسد الغابة: ج 1 ص 161 ط مصر. 482 بادعاء مسيلمة النبوة باليمامة وادعاء العنسي (1) النبوة بصنعاء وأنهما سيقتلان فقتل فيروز الديلمي العنسي قرب وفاة النبي صلى الله عليه وآله، وقتل خالد بن الوليد مسيلمة. وأخبر عليا عليه السلام بخبر ذي الثدية وسيأتي. ودعا على عتبة بن أبي لهب لما تلا عليه السلام والنجم فقال عتبة: كفرت برب النجم، بتسليط كلب الله عليه فخرج عتبة إلى الشام فخرج الأسد فارتعدت فرائصه فقال له أصحابه: من أي شئ ترتعد، فقال: إن محمدا دعا علي فوالله ما أظلت السماء على ذي لهجة أصدق من محمد فأحاط القوم بأنفسهم (2) ومتاعهم عليه فجاء الأسد فلحس (3) رؤوسهم واحدا واحدا حتى إنتهى إليه فضغمه ضغمة ففزع منه ومات. وأخبر بموت النجاشي (4) وقتل زيد ابن حارثة بموته فأخبر عليه السلام بقتله في المدينة، وأن جعفرا أخذ الراية ثم قال: قتل جعفر، ثم توقف وقفة ثم قال: وأخذ الراية عبد الله بن رواحة، ثم قال: وقتل عبد الله ابن رواحة، وقام عليه السلام إلى بيت جعفر واستخرج ولده ودمعت عيناه ونعى جعفرا إلى أهله ثم ظهر الأمر كما أخبر عليه السلام. وقال لعمار: تقتلك الفئة الباغية، فقتله أصحاب معاوية ولاشتهار هذا الخبر لم يتمكن معاوية من دفعه واحتال على العوام، فقال: قتله من جاء به، فعارضه ابن عباس وقال: لم يقتل الكفار إذن حمزة وإنما قتله رسول الله لأنه هو الذي جاء به إليهم حتى قتلوه. وقال لعلي عليه السلام: ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين، فالناكثون طلحة وزبير لأنهما بايعاه ونكثا، والقاسطون هم الظالمون وهم معاوية وأصحابه لأنهم ظلمة بغاة،
(1) بالعين المهملة والنون الساكنة، الأسود العنسي في الخصائص الكبرى ج 2 ص 116 ط مصر. والعنسي من الأنساب للسمعاني. (2) في الخصائص الكبرى للسيوطي فحاطوا أنفسهم بمتاعهم ووسطوه بينهم (ج 1 ط مصر ص 369). والكلب هو الحيوان المفترس فيشمل الأسد والذئب ونحوها. (3) كما في (م) والنسخ الأخرى: يهمش مكان فلحس. (4) ثم جمع المسلمين في البقيع فصلى على جنازة النجاشي عن بعد، وقد كان النجاشي قد آوى المسلمين في الحبشة وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا. 483 والمارقون هم الخارجون عن الملة وهم الخوارج. وهذه المعجزات بعض ما نقل واقتصرنا على هذا القدر لكثرتها وبلوغ الغرض بهذه، وقد أوردنا معجزات أخرى منقولة في كتاب نهاية المرام. قال: وإعجاز القرآن قيل لفصاحته، وقيل لأسلوبه وفصاحته، وقيل للصرفة (1). والكل محتمل.
(1) قال في نقد المحصل: إعجاز القرآن على قول قدماء المتكلمين وبعض المحدثين في فصاحته. وعلى قول بعض المتأخرين في صرف عقول الفصحاء القادرين على المعارضة عن إيراد المعارضة. قالوا: كل أهل صناعة اختلفوا في تجويد تلك الصناعة فلا محالة يكون فيهم واحد لا يبلغ غيره شأوه، وعجز الباقون عن معارضته ولا يكون ذلك معجزا له لأن ذلك لا يكون خرقا للعادة لكن صرف عقول أقرانه القادرين على معارضته عن معارضته يكون خرقا للعادة فذلك هو المعجز. والاستدلال بالأخلاق والأفعال أيضا قوي وهو معنى قوله تعالى: ويتلوه شاهد منه فإن ذلك يشهد على صدقه في دعواه وهو صادر منه، إنتهى كلامه. وقال ياقوت في معجم الأدباء: قرأت بخط عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي في كتاب له ألفه في الصرفة زعم فيه أن القرآن لم يخرق العادة بالفصاحة حتى صار معجزة للنبي صلى الله عليه وآله وأن كل فصيح بليغ قادر على الإتيان بمثله إلا أنهم صرفوا عن ذلك لا أن يكون القرآن في نفسه معجز الفصاحة، وهو مذهب لجماعة من المتكلمين والرافضة منهم بشر المريسي والمرتضى أبو القاسم قال في تضاعيفه: وقد حمل جماعة من الأدباء قول أصحاب هذا الرأي على أنه لا يمكن أحد من المعارضة بعد زمان التحدي على أن ينظموا على أسلوب القرآن وأظهر ذلك قوم وأخفاه آخرون، إنتهى. فزعم أصحاب الصرفة أن الله تعالى صرف القوى البشرية عن المعارضة ولذلك عجزوا ولولا صرفه تعالى لهم لاستطاعوا أن يأتوا بمثله. والحق أن القرآن معجز في بلاغته وأسلوبه وكماله اللفظي والمعنوي في جميع جهاته وليس إعجازه منحصرا في البلاغة والأديب ينظر إليه من حيث صناعته، فيقول من هذه الجهة معجز، وكل ذي فن في الفنون يخبر عنه بحسب فنه ويظهر العجز عن الاتيان بمثله كذلك. وعلى القول بالصرفة أيضا إعجازه تام بل يمكن التفوه بالأولوية وذلك لأنهم عاجزون عن إتيان ما هو كان مقدورا لهم فبصرفه سبحانه إياهم عجزوا عن ذلك فكل من اهتم عن الإتيان بمثله يصرفه الله تعالى عن ذلك. ثم لما كان الشريف المرتضى من أعاظم الإمامية قائلا بالصرفة أسندوا القول بالصرفة إليهم وإلا لم يذهب الإمامية - أنار الله برهانهم - على الإطلاق إلى الصرفة. ثم لما كان الشريف المرتضى من أعاظم الإمامية قائلا بالصرفة أسندوا القول بالصرفة إليهم وإلا لم يذهب الإمامية - أنار الله برهانهم - على الإطلاق إلى الصرفة. 484 أقول: اختلف الناس هنا، فقال الجبائيان: إن سبب إعجاز القرآن فصاحته. وقال الجويني: هو الفصاحة والأسلوب معا (1)، وعنى بالأسلوب الفن والضرب. وقال النظام والمرتضى: هو الصرفة، بمعنى أن الله تعالى صرف العرب ومنعهم عن المعارضة. واحتج الأولون بأن المنقول عن العرب أنهم كانوا يستعظمون فصاحته، ولهذا أراد النابغة الاسلام لما سمع القرآن وعرف فصاحته فرده أبو جهل وقال له: يحرم عليك الأطيبين (2)، وأخبر الله تعالى عنهما بذلك بقوله: (انه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر) إلى آخر الآية، ولأن الصرفة لو كانت (3) سببا في إعجازه لوجب أن يكون في غاية الركاكة، لأن الصرفة عن الركيك أبلغ في الإعجاز، والتالي باطل بالضرورة. واحتج السيد المرتضى بأن العرب كانوا قادرين على الألفاظ المفردة وعلى التركيب، وإنما منعوا عن الإتيان بمثله تعجيزا لهم عما كانوا قادرين عليه، وكل هذه الأقسام محتملة. قال: والنسخ تابع للمصالح. أقول: هذا إشارة إلى الرد على اليهود حيث قالوا بدوام شرع موسى عليه السلام، قالوا: لأن النسخ باطل، إذ المنسوخ إن كان مصلحة قبح النهي عنه وإن كان مفسدة قبح الأمر به، وإذا بطل النسخ لزم القول بدوام شرع موسى عليه السلام. وتقرير الجواب أن نقول: الأحكام منوطة بالمصالح والمصالح تتغير بتغير الأوقات وتختلف باختلاف المكلفين فجاز أن يكون الحكم المعين مصلحة لقوم في زمان فيؤمر به،
(1) هكذا نقلت العبارة بإطباق جميع النسخ التي عندنا. وما في المطبوعة: وقال أهل الحق هو الفصاحة والأسلوب معا، يعد من تحريفات الكتاب. (2) كما في (م ص) والنسخ الأخرى: فصده. وفي صحاح الجوهري: الأطيبان الأكل والجماع. (3) هكذا كانت العبارة في جميع النسخ وسياق العبارة يقتضي أن يقال: وبأن الصرفة لو كانت بالباء الجارة لا اللام، أي واحتج الأولون بأن المنقول عن العرب.. وبأن الصرفة لو كانت.. 485 ومفسدة لقوم في زمان آخر فينهى عنه. قال: وقد وقع حيث حرم على نوح بعض ما أحل لمن تقدمه وأوجب الختان بعد تأخيره وحرم الجمع بين الأختين وغير ذلك من الأحكام (1). أقول: هذا تأكيد لأبطال قول اليهود المانعين من النسخ فإنه بين أولا جواز وقوعه، وهاهنا بين وقوعه في شرعهم وذلك في مواضع منها: أنه جاء في التوراة أن الله تعالى قال لآدم وحواء عليهما السلام: قد أبحت لكما كل ما دب على وجه الأرض فكانت له نفس حية، وورد فيها أنه قال لنوح عليه السلام: خذ معك من الحيوان الحلال كذا ومن الحيوان الحرام كذا فحرم على نوح عليه السلام بعض ما أباحه لآدم عليه السلام. ومنها: أنه أباح نوحا عليه السلام تأخير الختان (2) إلى وقت الكبر وحرمه على غيره من الأنبياء، وأباح إبراهيم عليه السلام تأخير ختان ولده إسماعيل عليه السلام إلى حال كبره وحرم على موسى عليه السلام تأخير الختان عن سبعة أيام. ومنها: أنه أباح آدم عليه السلام الجمع بين الأختين وحرمه على موسى عليه السلام. قال: وخبرهم عن موسى عليه السلام بالتأبيد مختلق (3) ومع تسليمه لا يدل على المراد قطعا. أقول: إن جماعة اليهود جوزوا وقوع النسخ عقلا ومنعوا من نسخ شريعة موسى عليه السلام وتمسكوا بما روي عن موسى عليه السلام أنه قال: تمسكوا بالسبت أبدا، والتأبيد يدل على الدوام ودوام الشرع بالسبت ينفي القول بنبوة محمد صلى الله عليه وآله، والجواب من وجوه: الأول: أن هذا الحديث مختلق ونسب إلى ابن الراوندي (4).
(1) هكذا نقلت العبارة باتفاق جميع النسخ. (2) باتفاق النسخ كلها. (3) كما في (م، ص، ق، ز) وفي (ت): مختل. وفي (د، ش) مختلف. والشرح يوافق الأول. (4) في جميع النسخ المعتبرة عندنا ابن الروندي، بلا الف. ولكن الصحيح مع الألف، ولعل رسم الخط كان بدونه نحو إسماعيل وإسحق. وابن الراوندي هو أحمد بن يحيى المروزي معروف مذكور في التراجم والفهارس. ففي تاريخ ابن خلكان: أبو الحسين أحمد بن يحيى ابن إسحاق الراوندي العالم المشهور له مقام في علم الكلام وكان من الفضلاء في عصره وله من الكتب المصنفة نحو من مائة وأربعة عشر كتابا - إلى قوله: ونسبته إلى راوند بفتح الراء والواو وبينهما ألف وسكون النون وبعدها دال مهملة وهي قرية من قرى قاسان بنواحي أصفهان، وراوند أيضا ناحية ظاهر نيسابور - توفي سنة خمس وأربعين ومائتين (ج 1 ط 1 ص 28). 486 الثاني: لو سلمنا نقله لكن اليهود انقطع تواترهم لأن بخت نصر استأصلهم وأفناهم حتى لم يبق منهم من يوثق بنقله. الثالث: أن لفظة التأبيد لا تدل على الدوام قطعا فإنها قد وردت في التوراة لغير الدوام، كما في العبد أنه يستخدم ست سنين ثم يعرض عليه العتق في السابعة فإن أبى العتق ثقبت أذنه واستخدم أبدا، وفي موضع آخر يستخدم خمسين سنة. وأمروا في البقرة التي كلفوا بذبحها أن يكون لهم ذلك سنة أبدا ثم انقطع تعبدهم بها. وفي التوراة قربوا إلي كل يوم خروفين خروف غدوة وخروف عشية بين المغارب قربانا دائما لاحقا بكم وانقطع تعبدهم به، وإذا كان التأبيد في هذه الصور لا يدل على الدوام انتفت دلالته هنا قطعا، أقصى ما في الباب أنه يدل ظاهرا لكن ظواهر الألفاظ قد تترك لوجود الأدلة المعارضة لها. قال: والسمع دل على عموم نبوته صلى الله عليه وآله. أقول: ذهب قوم من النصارى إلى أن محمدا صلى الله عليه وآله مبعوث إلى العرب خاصة، والسمع يكذب قولهم هذا قال الله تعالى: (لأنذركم ومن بلغ) وقال تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس) وسورة الجن (1) تدل على بعثه عليه السلام إليهم، وقال عليه السلام: (بعثت إلى الأسود والأحمر). لا يقال: كيف يصح إرساله إلى من لا يفهم خطابه وقد قال تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه)؟ لأنا نقول: لا استبعاد
(1) بل وسور أخرى أيضا والبحث عن ذلك يطلب في المجلد الثالث من كتابنا تكملة منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (ص 286 - 295). والجن من ذوي العقول ولهم استنباط عقلي في الأمور كما ترى أنهم قالوا: إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به. والآية في سورة الجن. والفاء في فآمنا به للنتيجة أي القرآن يهدي إلى الرشد وما يهدي إلى الرشد يجب أن يؤمن به فآمنا به. على أن وصفهم القرآن بالعجب والهداية إلى الرشد فرع التمييز العقلاني، ولكنهم في القوة العاقلة دون الانسان والانسان الكامل الإلهي في كل عصر وزمان إما خائفا مغمورا أو ظاهرا مشهورا، فكما هو إمام الإنس وهو إمام الجن أيضا بل هو قطب عالم الإمكان مطلقا كبقية الله وتتمة النبوة مولانا المنتظر القائم في هذا العصر المحمدي. 487 في ذلك بأن يترجم خطابه لمن لا يفهم لغته مترجم، وليس في الآية أنه تعالى ما أرسل رسولا إلا إلى من يفهم لسانه وإنما أخبر بأنه ما أرسله إلا بلسان قومه. وجوز قاضي القضاة في يأجوج ومأجوج احتمالين: أحدهما: أن لا يكونوا مكلفين أصلا وإن كانوا مفسدين في الأرض كالبهائم المفسدة في الأرض. والثاني: أن يكونوا مكلفين وقد بلغتهم دعوته عليه السلام بأن يقربوا من الأمكنة التي يسمعون فيها كلام من هو وراء السد. وجوز بعض الناس أن يكون في بعض البقاع من لم تبلغه دعوته عليه السلام فلا يكون مكلفا بشريعته. وعندي أن المراد بذلك إن كان عدم تكليفهم مطلقا سواء بلغتهم بعد ذلك الدعوة أم لا فهو باطل قطعا لما بينا من عموم نبوته عليه السلام، وإن كان المراد أنهم غير مكلفين ما داموا غير عالمين فإذا بلغتهم الدعوة صاروا مكلفين بها فهو حق. قال: وهو أفضل من الملائكة (1) وكذا غيره من الأنبياء عليهم السلام لوجود المضاد للقوة العقلية وقهره على الانقياد عليها. أقول: اختلف الناس هنا، فذهب أكثر المسلمين إلى أن الأنبياء عليهم السلام أفضل من الملائكة عليهم السلام. وذهب آخرون منهم وجماعة الأوائل إلى أن الملائكة أفضل، واستدل الأولون بوجوه ذكر المصنف رحمه الله منها وجها للاكتفاء به وهو أن الأنبياء قد وجد فيهم القوة الشهوية والغضبية وسائر القوى الجسمانية كالخيالية والوهمية وغيرهما وأكثر أحكام هذه القوى تضاد حكم القوة العقلية وتمانعها حتى أن أكثر الناس يلتجئ إلى قوة الشهوة والغضب والوهم ويترك مقتضى القوة العقلية، والأنبياء عليهم السلام يقهرون قوى طبائعهم ويفعلون بحسب مقتضى قواهم العقلية ويعرضون عن القوى الشهوانية وغيرها من القوى الجسمانية فتكون عباداتهم وأفعالهم أشق من عبادات الملائكة حيث خلوا عن هذه القوى، وإذا كانت عباداتهم أشق كانوا أفضل لقوله عليه السلام: أفضل الأعمال أحمزها. وهاهنا وجوه أخرى من الطرفين ذكرناها في كتاب نهاية المرام.
(1) الفص العيسوي من فصوص الحكم: (فالانسان في الرتبة فوق الملائكة..) وقال القيصري في الشرح: (قال في الفتوحات: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله فسألته أن الانسان أفضل أم الملائكة..) (ط 1 ص 336). 488 قال: المقصد الخامس في الإمامة
489 الإمام لطف فيجب نصبه على الله تعالى تحصيلا للغرض. أقول: في هذا المقصد مسائل: المسألة الأولى في أن نصب الإمام واجب على الله تعالى. اختلف الناس هنا فذهب الأصم من المعتزلة وجماعة من الخوارج إلى نفي وجوب نصب الإمام، وذهب الباقون إلى الوجوب لكن اختلفوا، فالجبائيان وأصحاب الحديث والأشعرية قالوا: إنه واجب سمعا لا عقلا. وقال أبو الحسين البصري والبغداديون والإمامية: إنه واجب عقلا، ثم اختلفوا فقالت الإمامية: إن نصبه واجب على الله تعالى. وقال أبو الحسين والبغداديون: إنه واجب على العقلاء. واستدل المصنف رحمه الله على وجوب نصب الإمام على الله تعالى بأن الإمام لطف واللطف واجب، أما الصغرى فمعلومة للعقلاء إذ العلم الضروري حاصل بأن العقلاء متى كان لهم رئيس يمنعهم عن التغالب والتهاوش (1) ويصدهم عن المعاصي ويعدهم على فعل الطاعات ويبعثهم على التناصف والتعادل، كانوا إلى الصلاح أقرب ومن الفساد أبعد، وهذا أمر ضروري لا يشك فيه العاقل، وأما الكبرى فقد تقدم بيانها. قال: والمفاسد معلومة الانتفاء وانحصار اللطف فيه معلوم للعقلاء ووجوده
(1) بالواو كما في (ق، ص، ش، ز) والتهارش بالراء كما في (م، د) والوجه الأول أنسب بل هو المتعين. 490 لطف وتصرفه آخر وعدمه منا (1). أقول: هذه اعتراضات على دليل أصحابنا مع الإشارة إلى الجواب عنها: الأول: قال المخالف: كون الإمامة قد اشتملت على وجه اللطف لا يكفي في وجوبها على الله تعالى بخلاف المعرفة التي كفى وجه الوجوب فيه علينا لانتفاء المفاسد في ظننا، أما في حقه تعالى فلا يكفي وجه الوجوب ما لم يعلم انتفاء المفاسد ولا يكفي الظن بانتفائها، فلم لا يجوز اشتمال الإمامة على مفسدة لا نعلمها فلا تكون واجبة على الله تعالى؟ (والجواب) أن المفاسد معلومة الانتفاء عن الإمامة، لأن المفاسد محصورة معلومة يجب علينا اجتنابها أجمع، وإنما يجب علينا اجتنابها إذا علمناها لأن التكليف بغير المعلوم محال، وتلك الوجوه منتفية عن الإمامة فيبقى وجه اللطف خاليا عن المفسدة فيجب عليه تعالى، ولأن المفسدة لو كانت لازمة للإمامة لم تنفك عنها، والتالي باطل قطعا، ولقوله تعالى: (إني جاعلك للناس إماما) وإن كانت مفارقة جاز انفكاكها عنها فيجب على تقدير الانفكاك. الثاني: قالوا: الإمامة أنما تجب لو انحصر اللطف فيها، فلم لا يجوز أن يكون هناك لطف آخر يقوم مقام الإمامة فلا تتعين الإمامة للطفية فلا يجب على التعيين؟ (والجواب) أن انحصار اللطف الذي ذكرناه في الإمامة معلوم للعقلاء ولهذا يلتجئ العقلاء في كل زمان وكل صقع إلى نصب الرؤساء دفعا للمفاسد الناشئة من الاختلاف. الثالث: قالوا: الإمام إنما يكون لطفا إذا كان متصرفا بالأمر والنهي، وأنتم لا
(1) هكذا جاءت العبارة في جميع النسخ إطباقا. قوله: وتصرفه آخر، أي تصرفه لطف آخر. وزيادة لطف في العبارة ليست بمنقولة في نسخة من تلك النسخ المصححة المعتبرة عندنا. وقوله: وعدمه منا، أي وعدم تصرفه منا وذلك بأن يكون غائبا ولكن عدمه هذا منا. ورسائلنا الأربع: الإمامة بالعربية والثلاث الأخرى بالفارسية: نهج الولاية، انسان كامل ازديدگاه نهج البلاغة، انسان وقرآن، لعلها تجديك في المقام. 491 تقولون بذلك فما تعتقدونه لطفا لا تقولون بوجوبه وما تقولون بوجوبه ليس بلطف. (والجواب) أن وجود الإمام نفسه لطف لوجوه: أحدها: أنه يحفظ الشرائع ويحرسها عن الزيادة والنقصان. وثانيها: أن اعتقاد المكلفين لوجود الإمام وتجويز إنفاذ حكمه عليهم في كل وقت سبب لردعهم عن الفساد ولقربهم إلى الصلاح، وهذا معلوم بالضرورة. وثالثها: أن تصرفه لا شك أنه لطف ولا يتم إلا بوجوده فيكون وجوده نفسه لطفا وتصرفه لطفا آخر. والتحقيق أن نقول: لطف الإمامة يتم بأمور: (منها) ما يجب على الله تعالى وهو خلق الإمام وتمكينه بالقدرة والعلم والنص عليه باسمه ونسبه، وهذا قد فعله الله تعالى. (ومنها) ما يجب على الإمام وهو تحمله للإمامة وقبوله لها، وهذا قد فعله الإمام. (ومنها) ما يجب على الرعية وهو مساعدته والنصرة له وقبول أوامره وامتثال قوله، وهذا لم تفعله الرعية فكان منع اللطف الكامل منهم لا من الله تعالى ولا من الإمام. المسألة الثانية في أن الإمام يجب أن يكون معصوما قال: وامتناع التسلسل يوجب عصمته ولأنه حافظ للشرع ولوجوب الانكار عليه لو أقدم على المعصية فيضاد أمر الطاعة ويفوت الغرض من نصبه ولانحطاط درجته عن أقل العوام. أقول: ذهبت الإمامية والإسماعيلية إلى أن الإمام يجب أن يكون معصوما وخالف فيه جميع الفرق، والدليل على ذلك وجوه: الأول: أن الإمام لو لم يكن معصوما لزم التسلسل، والتالي باطل فالمقدم مثله، بيان الشرطية أن المقتضي لوجوب نصب الإمام هو تجويز الخطأ على الرعية، فلو كان هذا المقتضي ثابتا في حق الإمام وجب أن يكون له إمام آخر ويتسلسل أو ينتهي إلى إمام لا يجوز عليه الخطأ فيكون هو الإمام الأصلي.
492 الثاني: أن الإمام حافظ للشرع فيجب أن يكون معصوما، أما المقدمة الأولى فلأن الحافظ للشرع ليس هو الكتاب لعدم إحاطته (1) بجميع الأحكام التفصيلية ولا السنة لذلك أيضا ولا إجماع الأمة، لأن كل واحد منهم على تقدير عدم المعصوم فيهم يجوز عليه الخطأ فالمجموع كذلك، ولأن إجماعهم ليس لدلالة وإلا لاشتهرت ولا لأمارة إذ يمتنع اتفاق الناس في سائر البقاع على الأمارة الواحدة، كما نعلم بالضرورة عدم اتفاقهم على أكل طعام معين في وقت واحد، أو لا لهما (2) فيكون باطلا، ولا القياس لبطلان القول به على ما ظهر في أصول الفقه وعلى تقدير تسليمه فليس بحافظ للشرع بالاجماع، ولا البراءة الأصلية لأنه لو وجب المصير إليها لما وجب بعثة الأنبياء وللاجماع على عدم حفظها للشرع فلم يبق إلا الإمام فلو جاز الخطأ عليه لم يبق وثوق بما تعبدنا الله تعالى به وما كلفناه، وذلك مناقض للغرض من التكليف وهو الانقياد إلى مراد الله (3) تعالى. الثالث: أنه لو وقع منه الخطأ لوجب الانكار عليه وذلك يضاد أمر الطاعة له بقوله تعالى: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم. الرابع: لو وقع منه المعصية لزم نقض الغرض من نصب الإمام، والتالي باطل فالمقدم مثله، بيان الشرطية أن الغرض من إقامته (4) انقياد الأمة له وامتثال أوامره واتباعه فيما يفعله، فلو وقعت المعصية منه لم يجب شئ من ذلك وهو مناف لنصبه.
(1) بل الحق أنه نور وتبيان لكل شئ كما نطق به لسانه الصدق ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ (النحل 90) والصواب فيه ما قاله الوصي عليه السلام في الخطبة 123 من النهج: وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين الدفتين لا ينطق بلسان ولا بد له من ترجمان وإنما ينطق عنه الرجال. (2) باتفاق النسخ كلها، والضمير راجع إلى الدلالة والأمارة. (3) كما في (م، ق، ش، د) وفي (ص، ز): إلى أمر الله. (4) هكذا جاءت العبارة في النسخ الثلاث الأولى أي (م، ص، ق) وهي توافق قوله: ويفوت الغرض من نصبه فإن نصبه هو إقامته. وفي (ش، د، ز): من إمامته. 493 الخامس: أنه لو وقع منه المعصية لزم أن يكون أقل درجة من العوام، لأن عقله أشد ومعرفته بالله تعالى وثوابه وعقابه أكثر، فلو وقع منه المعصية كان أقل حالا من رعيته، وكل ذلك باطل قطعا. قال: ولا تنافي العصمة القدرة. أقول: اختلف القائلون بالعصمة في أن المعصوم هل يتمكن من فعل المعصية أم لا؟ فذهب قوم منهم إلى عدم تمكنه من ذلك، وذهب آخرون إلى تمكنه منها. أما الأولون فمنهم من قال: إن المعصوم مختص في بدنه أو نفسه بخاصية تقتضي امتناع إقدامه على المعصية، ومنهم من قال: إن العصمة هو القدرة على الطاعة وعدم القدرة على المعصية، وهو قول أبي الحسين البصري. وأما الآخرون الذين لم يسلبوا القدرة فمنهم من فسرها بأنه الأمر الذي يفعله الله تعالى بالعبد من الألطاف المقربة إلى الطاعات التي يعلم معها أنه لا يقدم على المعصية بشرط أن لا ينتهي ذلك الأمر إلى الالجاء، ومنهم من فسرها بأنها ملكة نفسانية لا يصدر عن صاحبها معها المعاصي. وآخرون قالوا: العصمة لطف يفعله الله تعالى بصاحبها لا يكون له معه داع إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية، وأسباب هذا اللطف أمور أربعة: أحدها: أن يكون لنفسه أو لبدنه خاصية تقتضي ملكة مانعة من الفجور وهذه الملكة مغايرة للفعل. الثاني: أن يحصل له علم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات. الثالث: تأكيد هذه العلوم بتتابع الوحي والإلهام من الله تعالى. الرابع: مؤاخذته على ترك الأولى بحيث يعلم أنه لا يترك مهملا بل يضيق عليه الأمر في غير الواجب من الأمور الحسنة. فإذا اجتمعت هذه الأمور كان الانسان معصوما (1) والمصنف رحمه الله اختار المذهب الثاني وهو أن العصمة لا تنافي القدرة بل المعصوم قادر على فعل
(1) وفي نسخة (م) وحدها كان الإمام معصوما، والنسخ الأخرى كلها كان الانسان معصوما والانسان أنسب بأسلوب الكلام من الإمام. 494 المعصية وإلا لما استحق المدح على ترك المعصية ولا الثواب ولبطل الثواب والعقاب في حقه فكان خارجا عن التكليف، وذلك باطل بالاجماع وبالنقل في قوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي). المسألة الثالثة في أن الإمام يجب أن يكون أفضل من غيره قال: وقبح تقديم المفضول معلوم ولا ترجيح في المساوئ (1). أقول: الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته لأنه إما أن يكون مساويا لهم أو أنقص منهم أو أفضل. والثالث هو المطلوب، والأول محال لأنه مع التساوي يستحيل ترجيحه على غيره بالإمامة، والثاني أيضا محال لأن المفضول يقبح عقلا تقديمه على الفاضل، ويدل عليه أيضا قوله تعالى: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) ويدخل تحت هذا الحكم كون الإمام أفضل في العلم والدين والكرم والشجاعة وجميع الفضائل النفسانية والبدنية. المسألة الرابعة في وجوب النص على الإمام قال: والعصمة تقتضي النص وسيرته عليه السلام. أقول: ذهبت الإمامية خاصة إلى أن الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه. وقالت العباسية: إن الطريق إلى تعيين الإمام النص أو الميراث. وقالت الزيدية: تعيين الإمام بالنص أو بالدعوة إلى نفسه. وقال باقي المسلمين: الطريق أنما هو
(1) كما في (ص، ق، ش، ز، د) وفي (ت): وإلا يرجح في التساوي. وفي (م) ولا ترجيح المتساوي، ولكل وجهة هو موليها. 495 النص أو اختيار أهل الحل والعقد. والدليل على ما ذهبنا إليه وجهان: الأول: أنا قد بينا أنه يجب أن يكون الإمام معصوما والعصمة أمر خفي لا يعلمها إلا الله تعالى، فيجب أن يكون نصبه من قبله تعالى لأنه العالم بالشرط دون غيره. الثاني: إن النبي صلى الله عليه وآله كان أشفق على الناس من الوالد على ولده حتى أنه عليه السلام أرشدهم إلى أشياء لا نسبة لها إلى الخليفة بعده كما أرشدهم في قضاء الحاجة إلى أمور كثيرة مندوبة وغيرها من الوقائع، وكان عليه السلام إذا سافر عن المدينة يوما أو يومين استخلف فيها من يقوم بأمر المسلمين، ومن هذه حاله كيف ينسب إليه إهمال أمته وعدم إرشادهم في أجل الأشياء (1) وأسناها وأعظمها قدرا وأكثرها فائدة وأشدهم حاجة إليها، وهو المتولي لأمورهم بعده فوجب من سيرته عليه السلام نصب إمام بعده والنص عليه وتعريفهم إياه، وهذا برهان لمي. المسألة الخامسة في أن الإمام بعد النبي عليه السلام بلا فصل علي بن أبي طالب عليه السلام قال: وهما مختصان بعلي عليه السلام (2).
(1) وفي (م)، إلى أجل الأشياء، والنسخ الأخرى كلها هي ما اخترناه. (2) قال ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة المتوفى 665 في ضمن شرح الخطبة الخامسة والثمانين من نهج البلاغة حيث قال الوصي عليه السلام: (بل كيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم وهم أزمة الحق وأعلام الدين وألسنة الصدق فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن وردوهم ورود الهيم العطاش) ما هذا نصه (ج 1 ص 341 من الطبع الحجري): فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن تحته سر عظيم وذلك أنه أمر المكلفين بأن يجروا العترة في إجلالها وإعظامها والانقياد لها والطاعة لأوامرها مجرى القرآن. ثم قال: فإن قلت: فهذا القول منه يشعر بأن العترة معصومة فما قول أصحابكم في ذلك؟ قلت: نص أبو محمد بن متويه رحمه الله في كتاب الكفاية على أن عليا معصوم، وأدلة النصوص قد دلت على عصمته وأن ذلك أمر اختص هو به دون غيره من الصحابة. هذا ما حكاه الشارح المذكور في شرحه على النهج، وأقول: لو تفوه ابن متويه بخلاف ذلك لكان خلافا، أن الأمير عليه السلام بتعبير الشيخ الرئيس في رسالته المعراجية: كان بين الخلق مثل المعقول بين المحسوس، وبتعبير الشيخ الأكبر في الباب السادس من فتوحاته المكية: إمام العالم وسر الأنبياء أجمعين (ج 1 ص 132 ط بولاق). ثم لنا في بيان كلام الوصي صلوات الله عليه في إنزال العترة بأحسن منازل القرآن تقرير رفيع في عصمتهم في رسالتنا نهج الولاية فارجع إليها (ص 205 - 208، 11 رسالة ط 1). 496 أقول: العصمة والنص مختصان بعلي عليه السلام، إذ الأمة بين قائلين أحدهما لم يشترطهما والثاني المشترطون، وقد بينا بطلان قول الأولين (1) فانحصر الحق في قول الفريق الثاني، وكل من اشترطهما قال: إن الإمام هو علي عليه السلام. قال: والنص الجلي (2) في قوله سلموا عليه بإمرة المؤمنين وأنت الخليفة من بعدي وغيرهما. أقول: هذا دليل ثان على أن الإمام هو علي عليه السلام، وهو النص الجلي من رسول الله صلى الله عليه وآله في مواضع تواترت بها الإمامية ونقلها غيرهم (3) نقلا شائعا ذائعا: (منها) لما نزل (4) قوله تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين أمر رسول الله صلى الله عليه وآله
(1) كما في (م)، والباقية: بطلان قول الأوائل. (2) كما في (م ت ش ص) وهو الصحيح. والنسخ الأخرى: وللنص الجلي. وكلامه هذا أعني النص الجلي ذكر مورد لقوله آنفا: والعصمة تقتضي النص. (3) بل أقول: إن الجوامع الروائية لأهل السنة وحدها كافية في إثبات المذهب الحقة الإمامية. (4) في مجمع البيان: وقد فعل ذلك النبي صلى الله عليه وآله واشتهرت القصة بذلك عند الخاص والعام، وفي الخبر المأثور عن البراء بن عازب أنه قال: لما نزلت هذه الآية جمع رسول الله صلى الله عليه وآله بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلا، الرجل منهم يأكل المسنة ويشرب العس، فأمر عليا برجل شاة فأدمها، ثم قال: ادنوا بسم الله، فدنا القوم عشرة عشرة فأكلوا حتى صدروا، ثم دعا بقعب من لبن فجرع منه جرعة، ثم قال: هلموا اشربوا بسم الله فشربوا حتى رووا، فبدرهم أبو لهب فقال: هذا ما سحركم به الرجل، فسكت صلى الله عليه وآله يومئذ ولم يتكلم. ثم دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام والشراب، ثم أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: يا بني عبد المطلب إني أنا النذير إليكم من الله عز وجل والبشير فأسلموا وأطيعوني تهتدوا، ثم قال: من يواخيني ويوازرني ويكون وليي ووصيي بعدي وخليفتي في أهلي ويقضي ديني؟ فسكت القوم، ويقول علي: أنا، فقال في المرة الثالثة: أنت. فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب: أطع ابنك فقد أمر عليك. أورده الثعلبي في تفسيره. وروي عن أبي رافع هذه القصة وأنه جمعهم في الشعب فصنع لهم رجل شاة فأكلوا حتى تضلعوا، وسقاهم عسا فشربوا كلهم حتى رووا. ثم قال: إن الله أمرني أن أنذر عشيرتك الأقربين، وأنتم عشيرتي ورهطي، وإن الله لم يبعث نبيا إلا جعل له من أهله أخا ووزيرا ووارثا ووصيا وخليفة في أهله، فأيكم يقوم فيبايعني على أنه أخي ووارثي ووزيري ووصيي ويكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟ فسكت القوم، فقال: ليقومن قائمكم أو ليكونن في غيركم ثم لتندمن، ثم أعاد الكلام ثلاث مرات، فقام علي فبايعه فأجابه، ثم قال: أدن مني فدنا منه ففتح فاه ومج في فيه من ريقه وتفل بين كتفيه وثدييه. فقال أبو لهب: بئس ما حبوت به ابن عمك أن أجابك فملأت فاه ووجهه بزاقا، فقال النبي صلى الله عليه وآله: ملأته حكمة وعلما. هذا ما أردنا نقله من المجمع. 497 أبا طالب أن يصنع له طعاما، وجمع بني عبد المطلب فقال لهم: أيكم يوازرني ويعينني فيكون أخي وخليفتي ووصيي من بعدي، فقال علي عليه السلام: أنا أبايعك وأوازرك، فقال عليه السلام: هذا أخي ووصيي وخليفتي من بعدي ووارثي فاسمعوا له وأطيعوا، وبقوله صلوات الله عليه: أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني. (ومنها) لما آخى بين الصحابة ولم يتخلف سوى علي عليه السلام فقال: يا رسول الله آخيت بين الصحابة دوني، فقال له عليه السلام: ألم ترض أن تكون أخي وخليفتي من بعدي، وآخى بينه وبينه. (ومنها) أن رسول الله صلى الله عليه وآله تقدم إلى الصحابة بأن يسلموا عليه بإمرة المؤمنين، وقال له: أنت سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين، وقال فيه: هذا ولي كل مؤمن ومؤمنة، والنصوص في ذلك كثيرة أكثر من أن تحصى ذكرها المخالف والمؤالف إلى أن بلغ مجموعها التواتر. قال: ولقوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله) الآية، وإنما اجتمعت الأوصاف في علي عليه السلام. أقول: هذا دليل آخر على إمامة علي عليه السلام وهو قوله تعالى: (إنما وليكم الله
498 ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون والاستدلال بهذه الآية يتوقف على مقدمات، إحداها: أن لفظة (إنما) للحصر ويدل عليه المنقول والمعقول. أما المنقول فلإجماع أهل العربية عليه، وأما المعقول فلأن لفظة (إن) للاثبات و (ما) للنفي قبل التركيب فيكون كذلك بعد التركيب عملا بالاستصحاب وللاجماع على هذه الدلالة (1) ولا يصح تواردهما على معنى واحد ولا صرف الاثبات إلى غير المذكور والنفي إلى المذكور للاجماع فبقي العكس وهو صرف الاثبات إلى المذكور والنفي إلى غيره وهو معنى الحصر. الثانية: إن الولي يفيد الأولى بالتصرف، والدليل عليه نقل أهل اللغة واستعمالهم كقولهم: السلطان ولي من لا ولي له، وكقولهم: ولي الدم وولي الميت، وكقوله عليه السلام: أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل. الثالثة: إن المراد بذلك بعض المؤمنين لأنه تعالى وصفهم بوصف مختص ببعضهم، ولأنه لولا ذلك لزم اتحاد الولي والمتولي (2). وإذ قد تمهدت هذه المقدمات فنقول: المراد بهذه الآية هو علي عليه السلام للاجماع الحاصل على أن من خصص بها بعض المؤمنين قال إنه علي عليه السلام، فصرفها إلى غيره خرق الإجماع، ولأنه عليه السلام إما كل المراد أو بعضه للاجماع، وقد بينا عدم العمومية فيكون هو كل المراد، ولأن المفسرين اتفقوا على أن المراد بهذه الآية علي عليه السلام لأنه لما تصدق بخاتمه حالة ركوعه نزلت هذه الآية فيه، ولا خلاف في ذلك. قال: ولحديث الغدير المتواتر. أقول: هذا دليل آخر على إمامة علي عليه السلام، وتقريره أن النبي صلى الله عليه وآله قال في غدير خم وقد رجع من حجة الوداع: معاشر المسلمين ألست أولى بكم من
(1) وفي (ق) وحدها: وللاجماع على بقاء الدلالة. (2) كما في (م ق ش د) وفي (ص ز) اتحاد الولي والمولى. وفي المطبوعة: اتحاد الولي والمولى عليه. 499 أنفسكم، قالوا: بلى، قال صلى الله عليه وآله: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله. وقد نقل المسلمون كافة هذا الحديث نقلا متواترا لكنهم اختلفوا في دلالته على الإمامة، ووجه الاستدلال به أن لفظة (مولى) تفيد الأولى لأن مقدمة الحديث تدل عليه ولأن عرف اللغة يقتضيه وكذا الاستعمال لقوله تعالى: (النار هي مولاكم) أي أولى بهم، وقول الأخطل: (فأصبحت مولاها من الناس كلهم)، وقولهم مولى العبد أي الأولى بتدبيره والتصرف فيه ولأنها مشتركة بين معان غير مرادة هنا إلا الأولى، ولأنه إما كل المراد أو بعضه ولا يجوز خروجه عن الإرادة لأنه حقيقة فيه ولم يثبت إرادة غيره. قال: ولحديث المنزلة المتواتر. أقول: هذا دليل آخر على إمامة علي عليه السلام، وتقريره أن النبي صلى الله عليه وآله قال: (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) وتواتر المسلمون بنقل هذا الحديث لكنهم اختلفوا في دلالته على الإمامة، وتقرير الاستدلال به أن عليا عليه السلام له جميع منازل هارون من موسى بالنسبة إلى النبي صلى الله علية وآله لأن الوحدة منفية هنا للاستثناء المشروط بالكثرة وغير العموم ليس بمراد للاستثناء المخرج ما لولاه لوجب دخوله كالعدد، والأصل عدم الاشتراك ولانتفاء القائل بالكثرة من دون العموم ولعدم فهم المراد من خطاب الحكيم لولاه ومن جملة منازله الخلافة بعده لو عاش لثبوتها له في حياته. قال: ولاستخلافه على المدينة (1) فيعم للاجماع. أقول: هذا دليل آخر على إمامته عليه السلام، وتقريره أن النبي صلى الله عليه وآله استخلفه على المدينة وأرجف المنافقون بأمير المؤمنين عليه السلام فخرج إلى النبي وقال: يا رسول الله
(1) أقول: ولاستخلافه على مكة المكرمة ليلة المبيت، وللمواخاة بينهما حيث أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله بيده وقال: هذا أخي. حينما قرن كل شبه إلى شبهه كما هو مقتضى المواخاة ويوم المواخاة يوم مشهور. والبحث عن ذلك اليوم المشهود يطلب على الاستقصاء في شرحنا على نهج البلاغة. 500 إن المنافقين زعموا أنك خلفتني استثقالا وتحرزا مني، فقال عليه السلام: (كذبوا إنما خلفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفني أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) وإذا كان خليفته على المدينة في تلك الحال ولم يعزله قبل موته ولا بعده استمرت ولايته عليها فلا يكون غيره خليفة عليها، وإذا انتفت خلافة غيره عليها انتفت خلافته على غيرها للاجماع فثبت الخلافة له عليه السلام. (لا يقال) قد استخلف النبي صلى الله عليه وآله جماعة على المدينة وعلى غيرها ومع ذلك فليسوا أئمة عندكم، لأنا نقول: إن بعضهم عزله عليه السلام والباقون لم يقل أحد بإمامتهم. قال: ولقوله عليه السلام: أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي (1) وقاضي ديني بكسر الدال. أقول: هذا دليل آخر على إمامة علي عليه السلام، وتقريره أن النبي صلى الله عليه وآله قال: أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني بكسر الدال، وهذا نص صريح على الولاية والخلافة على ما تقدم. قال: ولأنه أفضل وإمامة المفضول قبيحة عقلا. أقول: هذا دليل آخر على إمامة علي عليه السلام، وتقريره أنه أفضل من غيره على ما يأتي فيكون هو الإمام، لأن تقديم المفضول على الفاضل قبيح عقلا وللسمع على ما تقدم.
(1) أقول: كان عليه السلام في صدر الاسلام معروفا بالوصي، وغير واحد من سنام الصحابة وكبار التابعين وصفوه في أشعارهم ومقالاتهم بالوصي، وقد جمعنا أشعار جمع منهم مع ذكر مأخذها في المجلد الثاني من تكملة المنهاج في شرح النهج (ص 19 - 29) وفي عدة مواضع أخرى منها، إلا - كما جرى الحق على لسان الفخر الرازي في تفسيره الكبير (ج 1 ص 160 ط استانبول) - أن الدولة لما وصلت إلى بني أمية بالغوا سعيا في إبطال آثار علي عليه السلام. 501 قال: ولظهور المعجزة على يده كقلع باب خيبر (1) ومخاطبة الثعبان ورفع الصخرة العظيمة عن القليب (2) ومحاربة الجن ورد الشمس وغير ذلك وادعى الإمامة فيكون صادقا. أقول: هذا دليل آخر على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، وتقريره أنه قد ظهر على يده معجزات كثيرة وادعى الإمامة له دون غيره فيكون صادقا، أما المقدمة الأولى فلما تواتر عنه أنه فتح باب خيبر وعجز عن إعادته سبعون رجلا من أشد الناس قوة وخاطبه الثعبان على منبر الكوفة فسئل عنه فقال: إنه من حكام الجن أشكل عليه مسألة أجبته عنها.
(1) والسر العظيم لأهل السر في هذا القلع أن أعضاءه لم تحس بباب خيبر. هذا هو تعالي النفس الناطقة حيث تتصرف في مادة الكائنات بلا إعمال آلات وأدوات جسمانية، وتصير أعيان الأكوان بمنزلة أعضائه وجوارحه يتصرف فيها بإذن الله تعالى. روى عماد الدين الطبري وهو من أعلام القرن السادس الهجري في كتابه القيم بشارة المصطفى لشيعة المرتضى مسندا، أنه عليه السلام قال: والله ما قلعت باب خيبر وقذفت به أربعين ذراعا لم تحس به أعضائي بقوة جسدية ولا حركة غذائية ولكن أيدت بقوة ملكوتية ونفس بنور ربها مضيئة (مستضيئة - خ ل) (ص 235 ط النجف). وذلك هو السعادة التي بحثوا عنها في الصحف العلمية في بيان ارتقاء النفس الناطقة الانسانية. قال الفارابي في المدينة الفاضلة (ص 66 ط مصر): وذلك هو السعادة وهي أن تصير نفس الانسان من الكمال في الوجود إلى حيث لا تحتاج في قوامها إلى مادة، وذلك أن تصير في جملة الأشياء البريئة عن الأجسام وفي جملة الجواهر المفارقة للمواد.. الخ. ونعم ما أفاد العارف الرومي في أول ثالث المثنوي: أين چراغ شمس كو روشن بود نزفتيله پنبه وروغن بود سقف گردون كوچنين دائم بود نزطناب واستنى قائم بود قوت جبرئيل از مطبخ نبود بود از ديدار خلاق ودود همچنين أين قوت ابدال حق هم زحق دان نزطعام واز طبق جسمشان رآهم زنور اسرشته اند تا ز روح واز ملك بگذشته اند (2) قد ورد هذا الأمر في موضعين من شرحنا على النهج مع بيانه وإشارات إلى لطائف نورية، الأول في أول التكملة (ص 362 ط 1) والآخر في الثاني منها (ص 24 ط 1). 502 ولما توجه إلى صفين أصابهم عطش عظيم فأمرهم فحفروا بئرا قريبا من دير، فوجدوا صخرة عظيمة عجزوا عن قلعها فنزل عليه السلام فاقتلعها ودحا بها مسافة بعيدة فظهر الماء فشربوا، ثم أعادها فنزل صاحب الدير وأسلم فسئل عن ذلك فقال: بني هذا الدير على قالع هذه الصخرة ومضى من قبلي ولم يدركوه واستشهد معه عليه السلام في الشام وحارب الجن وقتل منهم جماعة كثيرة لما أرادوا وقوع الضرر بالنبي صلى الله عليه وآله حيث سار إلى بني المصطلق وردت له الشمس مرتين، وغير ذلك من الوقائع المشهورة الدالة على صدق فاعلها. وأما المقدمة الثانية فظاهرة منقولة بالتواتر إذ لا يشك أحد في أنه عليه السلام ادعى الإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله. قال: ولسبق كفر غيره فلا يصلح للإمامة فتعين هو عليه السلام. أقول: هذا دليل آخر على إمامة علي عليه السلام وهو أن غيره ممن ادعى لهم الإمامة كالعباس وأبي بكر كانا كافرين قبل ظهور النبي صلى الله عليه وآله، فلا يصلحان للإمامة لقوله تعالى: (لا ينال عهدي الظالمين) والمراد بالعهد هنا عهد الإمامة لأنه جواب دعاء إبراهيم عليه السلام. قال: ولقوله تعالى: (وكونوا مع الصادقين). أقول: هذا دليل آخر على إمامة علي عليه السلام وهو قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) أمر تعالى بالكون مع الصادقين أي المعلوم منهم الصدق ولا يتحقق ذلك إلا في حق المعصوم، إذ غيره لا يعلم صدقه ولا معصوم غير علي عليه السلام بالاجماع. قال: ولقوله تعالى: (وأولي الأمر منكم). أقول: هذا دليل آخر على إمامة علي عليه السلام وهو قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) أمر بالاتباع والطاعة لأولي الأمر، والمراد منه المعصوم إذ غيره لا أولوية له تقضي وجوب طاعته ولا معصوم غير علي عليه السلام بالاجماع.
503 المسألة السادسة في الأدلة الدالة على عدم إمامة غير علي عليه السلام قال: ولأن الجماعة غير علي عليه السلام غير صالح للإمامة لظلمهم بتقدم كفرهم. أقول: هذه أدلة تدل على أن غير علي عليه السلام لا يصلح للإمامة: الأول: أن أبا بكر وعمر وعثمان قبل ظهور النبي صلى الله عليه وآله كانوا كفرة فلا ينالوا عهد الإمامة للآية وقد تقدمت. قال: وخالف أبو بكر كتاب الله تعالى في منع إرث رسول الله صلى الله عليه وآله بخبر رواه هو. أقول: هذا دليل آخر على عدم صلاحية أبي بكر للإمامة، وتقريره أنه خالف كتاب الله تعالى في منع إرث رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يورث فاطمة عليها السلام واستند إلى خبر رواه هو عن النبي في قوله: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة) وعموم الكتاب يدل على خلاف ذلك، وأيضا قوله تعالى: (وورث سليمان داود) وقوله في قصة زكريا: (يرثني ويرث من آل يعقوب) ينافي هذا الخبر، وقالت له فاطمة عليها السلام: أترث أباك ولا أرث أبي لقد جئت شيئا فريا. ومع ذلك فهو خبر واحد لم نعرف أحدا من الصحابة وافقه على نقله فكيف يعارض الكتاب المتواتر وكيف بين رسول الله صلى الله عليه وآله هذا الحكم لغير ورثته وأخفاه عن ورثته، ولو كان هذا الحديث صحيحا عند أهله لم يمسك أمير المؤمنين عليه السلام سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وبغلته وعمامته (1) ونازع العباس عليا عليه السلام بعد موت فاطمة عليها السلام، ولو كان هذا
(1) كما في (ص ق ز) والنسخ الثلاث سيما الأولين منها مصححة بالقراءة والإجازة. وفي (م ش د): ونعليه وعمامته. وهذه الثلاث عارية عن علامة التصحيح والقراءة والإجازة. وقال في ناسخ التواريخ: چگونه أبو بكر آلات ودابه وبعضى أشياء را.. الخ (ج 2 ط 1 ص 100) والظاهر أن الدابة ترجمة البغلة بل صريح البخاري: ما ترك رسول الله صلى الله عليه وآله.. إلا بغلته البيضاء التي كان يركبها.. الخ (سيرة ابن كثير، ج 4 ص 560 ط مصر). وفي الكافي والتهذيب بإسنادهما عن حمزة بن حمران قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: من ورث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال فاطمة ورثته متاع البيت والخرثى وكل ما كان له. وفي الفقيه بإسناده عن الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: لا والله ما ورث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العباس ولا علي ولا ورثه إلا فاطمة عليها السلام وما كان أخذ علي عليه السلام السلاح وغيره إلا أنه قضى عنه دينه. ثم قال وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله. الخرثى بالضم أثاث البيت وأسقاطه، والخبر الأخير رد لما زعمته العامة أن وارثه صلى الله عليه وآله وسلم كان مع فاطمة عليها السلام عمه العباس بناء على ما يرونه من التعصيب. وعندنا أنه لولا فاطمة عليها السلام لكان وارثه أمير المؤمنين صلوات الله عليه لأنه كان ابن عمه أخي أبيه لأبيه وأمه دون العباس، لأنه كان أخا أبيه لأبيه دون أمه. هذا ما أفاده الفيض في الوافي (ج 13 ص 115). 504 الحديث معروفا عندهم لم يجز لهم ذلك، وروي أن فاطمة عليها السلام قالت: يا أبا بكر أنت ورثت رسول الله أم ورثه أهله، قال: بل ورثه أهله، فقالت: ما بال سهم رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إن الله إذا أطعم نبيا طعمة كانت لولي الأمر بعده، وذلك يدل على أنه لا أصل لهذا الخبر. قال: ومنع فاطمة عليها السلام فدكا مع ادعاء النحلة لها وشهد علي عليه السلام (1) وأم أيمن وصدق الأزواج في ادعاء الحجرة لهن ولهذا ردها عمر بن عبد العزيز. أقول: هذا دليل آخر على الطعن في أبي بكر وعدم صلاحيته للإمامة وهو أنه أظهر التعصب على أمير المؤمنين عليه السلام وعلى فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله لأنها ادعت فدكا، وذكرت أن النبي عليه السلام أنحلها إياها فلم يصدقها في قولها مع أنها معصومة ومع علمه بأنها من أهل الجنة واستشهدت عليا عليه السلام وأم أيمن فقال: رجل مع رجل أو امرأة مع امرأة (2) وصدق أزواج النبي عليه السلام في ادعاء أن الحجرة لهن ولم يجعل الحجرة صدقة، ولما عرف عمر بن عبد العزيز كون فاطمة عليها السلام مظلومة رد على أولادها فدكا، ومع ذلك فإن فاطمة عليها السلام كان ينبغي لأبي بكر إنحالها فدكا ابتداء لو لم تدعه أو يعطيها إياها بالميراث.
(1) كما في (ص ق ش د) وفي غيرها بدون لها. (2) النسخ المطبوعة عارية عنه، وهو مذكور في النسخ التي عندنا كلها متفقة، إلا أن في (م، ص) فقال، بالفاء، والباقية: وقال، بالواو. 505 قال: وأوصت أن لا يصلي عليها أبو بكر فدفنت ليلا. أقول: هذا وجه آخر يدل على الطعن في أبي بكر وهو أن فاطمة عليها السلام لما حضرتها الوفاة أوصت أن لا يصلي عليها أبو بكر غيظا عليه ومنعا له عن ثواب الصلاة عليها فدفنت ليلا، ولم يعلم أبو بكر بذلك وأخفي قبرها لئلا يصلي على القبر (1) ولم يعلم بقبرها إلى الآن. قال: ولقوله: أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم. أقول: هذا وجه آخر في الطعن على أبي بكر وهو أنه قال يوم السقيفة: أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم، وهذا الأخبار إن كان (2) حقا لم يصلح للإمامة لاعترافه بعدم الصلاحية مع وجود علي عليه السلام وإن لم يكن حقا فعدم صلاحيته للإمامة حينئذ أظهر. قال: ولقوله: إن له شيطانا يعتريه.
(1) وفي (م) حتى لا يصلي عليها. وفي (ص) ولم يعلم قبرها إلى الآن. والنسخ الأخرى موافقة لما نقلناه. (2) الأخبار بالكسر أي إخبار أبي بكر من نفسه بأنه ليس بخير من علي عليه السلام إن كان حقا أي صدقا ومطابقا للواقع فلاعترافه بعدم الصلاحية للإمامة لم يصلح لها، وإن لم يكن حقا وصدقا فعدم صلاحيته للإمامة حينئذ أظهر لأن إخباره لم يكن حقا ومطابقا للواقع فهو كاذب في إخباره من نفسه والكاذب لعدم عصمته لا يصلح للإمامة على الأمة. هذا هو قول أبي بكر في أوله، ومثله قول عمر في آخره كما رواه البخاري في مقتل عمر بن الخطاب من جامعه أنه قال لعبد الله: انطلق إلى عائشة أم المؤمنين فقل يقرأ عليك عمر السلام ولا تقل أمير المؤمنين فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا البتة. فأقر عمر بأنه بعد ضربة أبي لؤلؤة إياه ليس بأمير المؤمنين فيكون كغيره من آحاد الناس. فهذا الأخبار إن كان كذبا فعدم صلاحيته للإمامة أظهر وأهل السنة يدعون إجماعهم على تقدمه وفضله وعدله وعلمه وصدقه واجتهاده ووصوله إلى حقائق الأحكام واتصاله بروح النبي صلى الله عليه وسلم. وإن كان صدقا فكيف يصح له تأسيس الشورى وتعيين أمر الخلافة في ستة نفر وحكمه بقتل جماعة وهو تصرف في أهم أمور المؤمنين وجرأة على خراب الدين. 506 أقول: هذا دليل آخر (1) على عدم صلاحيته للإمامة وهو ما روي عنه أنه قال مختارا: وليتكم ولست بخيركم فإن استقمت فاتبعوني، وإن اعوججت فقوموني، فإن لي شيطانا عند غضبي يعتريني، فإذا رأيتموني مغضبا فاجتنبوني لئلا أوثر في أشعاركم وأبشاركم. وهذا يدل على اعتراض الشيطان (2) له في كثير من الأحكام
(1) سقطت العبارة في النسخ المطبوعة من قبل، عبارة الشرح تقرب من أربعة أسطر الكتاب وأكملناها من عبارة النسخة الأولى. وراجع في بيان تفصيل هذا الدليل (الشافي) لعلم الهدى الشريف المرتضى، أو تلخيصه لشيخ الطائفة محمد الطوسي - قدس سرهما القدوسي -. (ص 415 ط 1) فإن العلمين المحقق والعلامة في إمامة التجريد ناظران كثيرا إليهما، وإن كانت تلك المطاعن بلغت الأسماع وملأت الأصقاع. واعلم أن العلامة أبا الريحان البيروني المتوفى في سنة أربعين وأربعمائة من الهجرة في البحث عن الفئ والظل من رسالته الكريمة الموسومة بإفراد المقال في أمر الظلال أفاد في معنى ما ورد من الخبر أن السلطان ظل الله في أرضه بقوله (ص 8 ط حيدرآباد الدكن): .. وإليه يرجع ما روي عن أبي الدرداء أنه قال: (إن شئتم لأقسمن لكم إن أحب عباد الله إلى الله الذين يرعون الشمس والقمر والنجوم والأظلة لذكر الله) يعني الفئ فإنه بفضل التفكر في خلق السماوات والأرض واستعماله في التوحيد وفي أوقات العبادة. وأما ما ورد في الخبر أن السلطان ظل الله في أرضه فمعناه متجه على الذي يكون حجة لا على المتسلط بالغلبة، وكيف يتوجه إليه مع ما ورد (أن لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق) وإنما قصر الخبر على من يتقبل فعله تعالى في إبقاء العالم على نظام التعادل وحملهم على مناهج المصلحة حتى تشابه بفعله ظل الشخص يتحرك بحركته ويسكن بسكونه إلا أن يسهو بما في جبلته، كما قال أبو بكر الصديق في قوته الغضبية: (إن لي شيطانا يعتريني فإذا مال بي فقوموني). فأما من يبعث في الأرض قصدا ويخرب البلاد عمدا ويخالف فعل الله مضرا فتعالى الله عن أن يكون مثله ظله أو حجة على خلقه من عنده، إنتهى. وقد أفاد وأجاد ويا ليته كان يورد البحث عن المقوم أيضا بأن مقوم من يعتريه الشيطان هل يعتريه الشيطان أيضا أم يجب أن يكون معصوما من ذلك الاعتراء الخبيث، أي يكون ممن ليس للشيطان عليه سبيل. (2) جاءت العبارة منقولة في جميع النسخ: على اعتراض الشيطان. وهي عبارة أخرى عن اعتراء الشيطان وفي النسخ المطبوعة هاهنا سقط يقرب من ثلاثة أسطر وما اخترناه موافق لنسختي (م ص) وراجع في ذلك الشافي لعلم الهدى (ص 415 و 416 ط 1). 507 ومثل هذا لا يصلح للإمامة. قال: ولقول عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله (1) شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه. أقول: هذا دليل آخر يدل على الطعن فيه، لأن عمر كان إماما عندهم وقال في حقه: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، فبين عمر أن بيعته كانت خطأ على غير الصواب وأن مثلها مما يجب فيه المقاتلة، وهذا من أعظم ما يكون من الذم والتخطئة. قال: وشك عند موته في استحقاقه للإمامة. أقول: هذا وجه آخر يدل على عدم إمامة أبي بكر وهو أنه قال لما حضرته الوفاة: ليتني كنت سألت رسول الله هل للأنصار في هذا الأمر حق؟ وقال أيضا: ليتني كنت في ظل بني ساعدة ضربت يدي على يد أحد الرجلين فكان هو الأمير وكنت الوزير، وهذا كله يدل على تشككه في استحقاقه للإمامة واضطراب أمره فيها وأنه كان يرى أن غيره أولى بها منه. قال: وخالف الرسول صلى الله عليه وآله في الاستخلاف عندهم وفي تولية من عزله صلى الله عليه وآله. أقول: هذا طعن آخر في أبي بكر وهو أنه خالف الرسول عليه السلام في الاستخلاف عندهم، لأنهم زعموا أن النبي صلى الله عليه وآله لم يستخلف أحدا فباستخلافه يكون مخالفا للنبي صلى الله عليه وسلم عندهم، ومخالفة النبي صلى الله عليه وسلم توجب الطعن. وأيضا فإنه خالف النبي صلى الله عليه وسلم في استخلاف من عزله النبي عليه السلام، لأنه استخلف عمر بن الخطاب، وقد كان النبي لم يوله عملا سوى أنه بعثه في خيبر فرجع منهزما، وولاه
(1) وفي (ت) وحدها: فوقى الله. وفي قوله الآتي: في استحقاقه للإمامة، وفي (ت) وحدها أيضا: في استحقاقه الإمامة. وقوله الآتي: وخالف الرسول صلى الله عليه وسلم في الاستخلاف عندهم باتفاق النسخ السبع كلها. وفي المطبوعة: وخالف الرسول في الاختلاف عندهم. وفي قوله الآتي: مع علمهم بقصد البعد، باتفاق النسخ كلها. 508 أمر الصدقات فشكاه العباس إلى النبي صلى الله عليه وآله فعزله وأنكرت الصحابة على أبي بكر ذلك حتى قال له طلحة: وليت علينا فظا غليظا. قال: وفي التخلف عن جيش أسامة مع علمهم بقصد البعد وولى أسامة عليهم فهو أفضل وعلي عليه السلام لم يول عليه أحدا وهو أفضل من أسامة. أقول: هذا دليل آخر على الطعن في أبي بكر وهو أنه خالف النبي صلى الله عليه وآله حيث أمره هو وعمر بن الخطاب وعثمان في تنفيذ جيش أسامة (1) لأنه صلى الله عليه وآله قال في مرضه حالا بعد حال نفذوا جيش أسامة، وكان الثلاثة في جيشه وفي جملة من يجب عليه النفوذ معه فلم يفعلوا ذلك مع أنهم عرفوا قصد النبي صلى الله عليه وآله، لأن غرضه بالتنفيذ من المدينة بعد الثلاثة عنها بحيث لا يتوثبوا على الإمامة (2) بعد موت النبي صلى الله عليه وآله ولهذا جعل الثلاثة في الجيش ولم يجعل عليا عليه السلام معه، وجعل النبي صلى الله عليه وآله أسامة أمير الجيش وكان فيه أبو بكر وعمر وعثمان، فهو أفضل منهم وعلي عليه السلام أفضل من أسامة، ولم يول عليه أحدا فيكون هو عليه السلام أفضل الناس كافة. قال: ولم يتول (3) عملا في زمانه وأعطاه سورة براءة فنزل جبرئيل فأمره برده وأخذ السورة منه وأن لا يقرأها إلا هو أو أحد من أهل بيته فبعث بها عليا عليه السلام. أقول: هذا طعن آخر على أبي بكر وهو أنه لم يوله النبي صلى الله عليه وآله عملا في حياته أصلا سوى أنه أعطاه سورة براءة وأمره بالحج بالناس فلما مضى بعض الطريق نزل جبرئيل عليه السلام على النبي وأمره برده وأخذ السورة منه وأن لا يقرأها إلا هو عليه السلام أو أحد من أهل بيته فبعث بها عليا عليه السلام وولاه الحج بالناس، وهذا يدل على أن أبا بكر لم يكن أهلا لأمارة الحج فكيف يكون أهلا للإمامة بعده ولأن من
(1) باتفاق النسخ كلها. (2) في (م) بحيث لا يتفشوا على الإمامة. وفي (د): بحيث لا يتوثقوا على الإمامة. وهذه تحريف لا يتوثبوا. (3) عبارة المتن هي ما في (م، ص) بلا اختلاف إلا أن العبارة في (م) جاءت: فنزل جبرئيل فأمر برده. وفي (ق ش ت ز د): إلا هو أو أحد من أهله. 509 لا يؤمن على أداء سورة في حياته عليه السلام كيف يؤمن على الإمامة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قال: ولم يكن عارفا بالأحكام حتى قطع يسار سارق وأحرق بالنار ولن يعرف الكلالة ولا ميراث الجدة واضطرب في أحكامه ولم يحد خالدا ولا اقتص منه. أقول: هذا طعن آخر في أبي بكر وهو أنه لم يكن عارفا بالأحكام فلا يجوز نصبه للإمامة، أما المقدمة الثانية فقد مرت، وأما الأولى فلأنه قطع سارقا من يساره وهو خلاف الشرع وأحرق الفجائة السلمي بالنار وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: لا يعذب بالنار إلا رب النار. وسئل عن الكلالة فلم يعرف ما يقول فيها ثم قال: أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والحكم بالرأي باطل. وسألته جدة عن ميراثها فقال: لا أجد لك شيئا في كتاب الله ولا سنة نبيه ارجعي حتى أسأل (1) فأخبره المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وآله أعطاها السدس. واضطرب في كثير من الأحكام وكان يستفتي الصحابة فيها، وذلك يدل على قصور علمه وقلة معرفته. وقتل خالد بن الوليد (2) مالك بن نويرة وواقع امرأته ليلة قتله وضاجعها فلم يحده على الزنا ولا
(1) في النسخة الأولى أعني (م) وكذا في النسخة الرابعة وهي (ق) بإضافة الجلالة، أي ارجعي حتى أسال الله فأخبره المغيرة بن شعبة.. الخ. فهذه الإضافة ناصة على أن كاتب النسختين كان من محبيه أضاف الجلالة رفعا لنقص ممدوحه وترفيعا لمقامه ولم يرزق المحب المسكين فهم عبارة الكتاب بأن المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة أخبراه بذلك، على أين هو والتفوه بذلك. المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بضم الميم وكسر الغين المعجمة كان موصوفا بالدهاء، مذكور في رقم 5064 من أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير (ص 247 ج 5 ط دار الشعب بالقاهرة). ومحمد بن مسلمة، هو محمد بن مسلمة بن خالد بفتح الميم واللام وسكون ما بينهما أخو محمود بن مسلمة الأنصاري، وهو مذكور في رقم 4761 من أسد الغابة (ص 112 ج 5). وفي نسخ كشف المراد قد حرف محمد بن مسلمة تارة بمحمد بن سلمة وأخرى بمحمد بن مسلم. (2) في (م ص): وواقع امرأته. وفي غيرهما: وتزوج امرأته. وفي تلخيص الشافي (ص 422 ط 1) إن خالدا قتل مالك بن نويرة وهو على ظاهر الاسلام، وضاجع امرأته من ليلته، وترك إقامة الحد عليه وزعم أنه سيف من سيوف الله سله الله على أعدائه. 510 قتله بالقصاص، وأشار عليه عمر (1) بقتله وعزله فقال: لا أغمد سيفا شهره الله على الكفار. قال: ودفن في بيت (2) رسول الله صلى الله عليه وآله وقد نهى الله تعالى دخوله في حياته بغير إذن وبعث إلى بيت أمير المؤمنين عليه السلام لما امتنع من البيعة فأضرم فيه النار وفيه فاطمة والحسن والحسين وجماعة من بني هاشم ورد عليه الحسنان لما بويع وندم على كشف بيت فاطمة عليها السلام. أقول: هذه مطاعن أخر في أبي بكر وهو أنه دفن في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وقد نهى الله تعالى عن الدخول إليه بغير إذن النبي صلى الله عليه وآله حال حياته فكيف بعد موته، وبعث إلى بيت أمير المؤمنين عليه السلام لما امتنع من البيعة فأضرم فيه النار وفيه فاطمة والحسن والحسين وجماعة من بني هاشم وأخرجوا عليا عليه السلام كرها وكان معه الزبير في البيت فكسروا سيفه وأخرجوه من الدار (3) وضربت فاطمة عليها السلام فألقت جنينا اسمه محسن ولما بويع أبو بكر صعد المنبر فجاءه الحسنان عليهما السلام مع جماعة من بني هاشم وغيرهم وأنكروا عليه وقال له الحسن والحسين عليهما السلام: هذا مقام جدنا لست له أهلا، ولما حضرته الوفاة قال: ليتني تركت بيت فاطمة لم أكشفه، وهذا يدل على خطائه في ذلك (4). قال: وأمر عمر برجم امرأة حامل وأخرى مجنونة فنهاه علي عليه السلام فقال: لولا
(1) أي أمره ودله عليه لأن الإشارة إذا كانت صلتها على تفيد هذا المعنى. واعلم أن مطاعن أبي بكر مذكورة أيضا في شرح ابن أبي الحديد على نهج البلاغة فراجع الجزء السابع عشر من ذلك الشرح (ص 336 - 349 ج 2 من الطبع الحجري سنة 1304). (2) المتن والشرح كلاهما موافقان لنسختي (م، ص) وهما أصح النسخ، وأولاهما أقدمها. (3) كما في (م، ص) وفي (ش، ق، د، ز): فكسروا سيفه وأخرجوا من الدار من أخرجوا. (4) بل على.. 511 علي لهلك عمر. أقول: هذا طعن على عمر يمتنع معه الإمامة له وهو أن عمر أتي إليه بامرأة قد زنت وهي حامل فأمر برجمها، فقال له علي عليه السلام: إن كان لك عليها سبيل فليس لك على حملها سبيل فأمسك، وقال: لولا علي لهلك عمر. وأتي إليه بامرأة مجنونة قد زنت فأمر برجمها، فقال له علي عليه السلام: إن القلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق فأمسك، وقال: لولا علي لهلك عمر. ومن يخفى عليه هذه الأمور الظاهرة في الشريعة كيف يستحق الإمامة؟! قال: وتشكك في موت النبي صلى الله عليه وسلم حتى تلا عليه أبو بكر (1): (إنك ميت وإنهم ميتون فقال: كأني لم أسمع هذه الآية. أقول: هذا طعن آخر وهو أن عمر لم يكن حافظا للكتاب العزيز ولم يكن متدبرا لآياته فلا يستحق الإمامة، وذلك أنه قال عند موت النبي صلى الله عليه وسلم: والله ما مات محمد حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم، فلما نبهه أبو بكر بقوله تعالى: (إنك ميت وإنهم ميتون) وبقوله (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم قال: كأني ما سمعت بهذه الآية وقد أيقنت بوفاته. قال: وقال: كل أفقه (2) من عمر حتى المخدرات، لما منع من المغالاة في الصداق. أقول: هذا طعن آخر وهو أن عمر قال يوما في خطبته: من غالى في صداق ابنته جعلته في بيت المال، فقالت له امرأة: كيف تمنعنا ما أحله الله لنا في كتابه بقوله: وآتيتم إحداهن قنطارا الآية، فقال عمر: كل أفقه من عمر حتى المخدرات في البيوت (3) ومن يشتبه عليه مثل هذا الحكم الظاهر لا يصلح للإمامة. قال: وأعطى أزواج النبي صلى الله عليه وآله واقترض ومنع أهل البيت عليهم السلام من خمسهم.
(1) وفي (ت): حتى علمه أبو بكر. وفي الشرح: فلما نبهه أبو بكر. (2) المتن والشرح متطابقان للنسخ كلها. (3) باتفاق النسخ كلها. 512 أقول: هذا طعن آخر وهو أن عمر كان يعطي أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بيت المال حتى كان يعطي عائشة وحفصة عشرة آلاف درهم كل سنة وأخذ من بيت المال ثمانين ألف درهم فأنكروا عليه ذلك فقال: أخذته على جهة القرض ومنع أهل البيت عليهم السلام الخمس الذي أوجبه الله تعالى لهم في الكتاب العزيز. قال: وقضى في الجد مائة قضية (1) وفضل في القسمة ومنع المتعتين. أقول: هذه مطاعن أخر وهو أن عمر غير عارف بأحكام الشريعة (2) فقضى في الجد بمائة قضية وروي تسعين قضية، وهذا يدل على قلة معرفته بالأحكام الظاهرة. وأيضا فضل في القسمة والعطاء والواجب التسوية. وقال: (متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما) مع أن النبي صلى الله عليه وسلم تأسف على فوات المتعة ولو لم تكن أفضل من غيرها من أنواع الحج لما فعل النبي عليه السلام سلام ذلك، وجماعة كانوا قد ولدوا من المتعة في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعد وفاته ولو لم تكن سائغة لم يقع منهم ذلك. قال: وحكم في الشورى بضد الصواب. أقول: هذا طعن آخر وهو أن عمر خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم حيث لم يفوض الأمر إلى اختيار الناس، وخالف أبا بكر حيث لم ينص على إمام بعده ثم
(1) أي قضى في ميراث الجد بمائة حكم مختلفة فكان يتلون ولم يدر الصواب، والعبارة المذكورة قد حرفت في النسخ المطبوعة بل وفي غير واحدة من المخطوطة أيضا تحريفا فاحشا بهذه العبارة: وقضى في الحد بمائة قضيب، ثم على وزانها حرفت عبارات الشرح أيضا. ففي تلخيص الشافي: ومما طعنوا عليه أنه كان يتلون في الأحكام حتى روي أنه قضى في الجد سبعين قضية وروي مائة قضية (ص 438 ط 1). وكذا في شرح ابن أبي الحديد على النهج في مطاعنه قال: الطعن السابع أنه كان يتلون في الأحكام حتى روي أنه قضى في الجد بسبعين قضية وروي مائة قضية، ومطاعنه مذكورة في الجزء الثاني عشر من ذلك الشرح (ص 80 - 99 ج 2 من الطبع المذكور آنفا). (2) كما في النسخ كلها إلا نسخة (ص) ففيها: وهو أنه لم يكن عارفا بأحكام الشريعة. 513 إنه طعن في كل واحد ممن اختاره للشورى وأظهر كراهية أن يتقلد أمر المسلمين ميتا كما تقلده حيا، ثم تقلده وجعل الإمامة في ستة نفر ثم ناقض نفسه فجعلها في أربعة بعد الستة ثم في ثلاثة ثم في واحد فجعل إلى عبد الرحمن بن عوف الاختيار بعد أن وصفه بالضعف، ثم قال: (إن اجتمع علي وعثمان فالأمر كما قالاه وإن صاروا ثلاثة ثلاثة فالقول للذين فيهم عبد الرحمن) لعلمه بعدم الاجتماع من علي وعثمان وعلمه بأن عبد الرحمن لا يعدل بها عن أخيه عثمان ابن عمه (1) ثم أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة ثلاثة أيام، وأمر بقتل من خالف الأربعة منهم أو الذين فيهم عبد الرحمن، وكيف يسوغ له قتل علي عليه السلام وعثمان وغيرهما
(1) وفي شرح ابن أبي الحديد على النهج: لعلمه بأن عليا وعثمان لا يجتمعان، وأن عبد الرحمن لا يكاد يعدل بالأمر عن ختنه وابن عمه (الجزء الثاني عشر ص 92 ج 2 ط 1). وفي الشافي: لعلمه بأن عبد الرحمن لا يعدل بالأمر عن أخيه وابن عمه (ص 439 ط 1). وفي (م): لا يعدل بها عن زوج أخته عثمان ابن عمه. وفي أول كتاب عثمان من وقائع الأقاليم السبعة من ناسخ التواريخ.. أهل شورى از نزد عمر بيرون شدند هركس طريق سراى خويش گرفت، عباس بن عبد المطلب با علي عليه السلام مى رفت، پس علي باعباس فرمود: سوگند باخداى كه اينكار از ما بيرون شد، عباس گفت: از كجا گويى؟ فرمود: مگر ندانستى سخن عمر راكه گفت از آنسوى رويد كه عبد الرحمن مى رود؟ عبد الرحمن پسر عم عثمان است وبا أو سمت مصاهرت دارد چه أم كلثوم دختر عقبة ابن أبي معيط كه بشرط زنى در سراى عبد الرحمن است با عثمان از جانب مادر خواهر است، وأروى دختر كريز مادر عثمان ومادر أم كلثوم است، وبزيادت رسول خداى ميان عثمان وعبد الرحمن عقد مواخات بست لاجرم أو هرگز جانب عثمان را فرونگذارد ونگران أو باشد (ج 2 ط 1 ص 444 و 445). وفي أسد الغابة: عثمان بن عفان بن أبي العاص، أمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وأم أروى: البيضاء بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وآله. فما في (م) لا يستقيم لأن عبد الرحمن كان زوج أخت عثمان من قبل أمه لا بالعكس، وأما كون عثمان ختن عبد الرحمن فلأن الختن يطلق على كل من كان من قبل المرأة كما في صحاح الجوهري، فلا بأس بما في نسخة شرح النهج لابن أبي الحديد، وأما كونه أخاه فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهما. 514 وهما من أكابر المسلمين. قال: وخرق كتاب فاطمة عليها السلام. أقول: هذا طعن آخر وهو أن فاطمة عليها السلام لما طالت المنازعة بينها وبين أبي بكر رد أبو بكر عليها فدكا وكتب لها بذلك كتابا، فخرجت والكتاب في يدها فلقيها عمر فسألها عن شأنها فقصت قصتها، فأخذ منها الكتاب وخرقه فدعت عليه ودخل على أبي بكر وعاتبه على ذلك فاتفقا على منعها عن فدك. قال: وولى عثمان من ظهر فسقه حتى أحدثوا في أمر المسلمين ما أحدثوا. أقول: هذا طعن على عثمان وهو أنه ولى أمور المسلمين من ظهر منه الفسق والخيانة وقسم الولايات بين أقاربه، وقد كان عمر حذره وقال له: إذا وليت هذا الأمر فلا تسلط آل أبي معيط على رقاب المسلمين، وصدق عمر فيه في قوله أنه كلف بأقاربه واستعمل الوليد بن عقبة (1) حتى ظهر منه شرب الخمر وصلى بالناس وهو سكران. واستعمل سعيد بن العاص على الكوفة فظهر منه ما أخرجه به أهل الكوفة عنها. وولى عبد الله بن أبي سرح مصر حتى تظلم منه أهلها وكاتب ابن أبي سرح أن يستمر على ولايته سرا بخلاف ما كتب إليه جهرا وأمره بقتل محمد بن أبي بكر وولى معاوية الشام فأحدث من الفتن ما أحدث. قال: وآثر أهله بالأموال. أقول: هذا طعن آخر على عثمان هو أنه كان يؤثر أهل بيته وأقاربه بالأموال العظيمة من بيت مال المسلمين، فإنه دفع إلى أربعة نفر من قريش أربعمائة ألف
(1) الوليد بن عقبة بالقاف ابن أبي معيط بالتصغير، وعتبة بالتاء محرفة وتقدم بيان التحريف في المقدمة عند ذكر نماذج التحريف في رقم ي. ثم إن مطاعن عثمان مذكورة في الجزء الثالث من شرح ابن أبي الحديد على النهج (ص 129 - 142 ج 1 من الطبع المذكور). والمجلد الثاني من تكملة منهاج البراعة قد تصدى لعرض كثير منها مع ذكر مصادرها وإشارات تاريخية ودينية في ذلك. 515 دينار حيث زوجهم ببناته، ودفع إلى مروان (1) ألف ألف درهم حين فتح أفريقية ومن قبله كان يعطي بقدر الاستحقاق ولا يتخطى الأجانب إلى الأقارب. قال: وحمى لنفسه. أقول: هذا طعن آخر وهو أن عثمان حمى الحمي لنفسه عن المسلمين ومنعهم عنه، وذلك مناف للشرع لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الناس في الماء والكلاء والنار شرعا سواء. قال: ووقع منه أشياء منكرة في حق الصحابة فضرب ابن مسعود حتى مات وأحرق مصحفه وضرب عمارا حتى أصابه فتق وضرب أبا ذر ونفاه إلى الربذة. أقول: هذا طعن آخر وهو أن عثمان ارتكب من الصحابة ما لا يجوز وفعل بهم ما لا يحل، فضرب ابن مسعود حتى مات عند إحراقه المصاحف وأحرق مصحفه وأنكر عليه قراءته، وقد قال صلى الله عليه وآله: من أراد أن يقرأ القرآن غضا فليقرأ بقراءة ابن مسعود (2)، وكان ابن مسعود يطعن في عثمان ويكفره. وضرب عمار ابن ياسر حتى صار به فتق وكان يطعن في عثمان وكان يقول: قتلناه كافرا. واستحضر أبا ذر من الشام لهوى معاوية وضربه ونفاه إلى الربذة مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مقربا لهؤلاء الصحابة وشاكرا لهم. قال: وأسقط القود (3) عن ابن عمر والحد عن الوليد مع وجوبهما. أقول: هذا طعن آخر وهو أن عثمان كان يترك الحدود ويعطلها ولا يقيمها لأجل هوى نفسه، ومثل هذا لا يصلح للإمامة فإنه لم يقتل عبد الله بن عمر لما قتل الهرمزان بعد إسلامه، ولما ولي أمير المؤمنين عليه السلام طلبه لإقامة القصاص عليه
(1) كما في (م) وفي النسخ الأخرى: دفع إلى مروان ألف ألف لأجل فتح أفريقية. (2) وفي النسخ الأخرى غير (ص): فليقرأ بقراءة ابن أم عبد. وفي (ص): فليقرأ بقراءة ابن أم عبد يعني ابن مسعود. (3) المتن والشرح موافقان للنسخ كلها إلا في (ش ز) ففيهما: لا تبطل حدود الله وأنا حاضر. 516 فلحق بمعاوية، ولما وجب على الوليد بن عقبة حد الشرب أراد أن يسقطه عنه فحده علي عليه السلام وقال: لا يبطل حد الله وأنا حاضر. قال: وخذله الصحابة حتى قتل، وقال أمير المؤمنين عليه السلام: الله قتله ولم يدفن إلا بعد ثلاثة أيام (1) وعابوا غيبته عن بدر وأحد والبيعة. أقول: هذه مطاعن أخر في عثمان وهو أن الصحابة خذلوه حتى قتل وقد كان يمكنهم الدفع عنه، فلولا علمهم باستحقاقه لذلك وإلا لما ساغ لهم التأخر (2) عن نصرته. وقال أمير المؤمنين عليه السلام: الله قتله، وتركوه بعد القتل ثلاثة أيام ولم يدفنوه، وذلك يدل على شدة غيظهم عليه وأفراطهم في الحنق لما أصابهم من ضرره وظلمه وعابت الصحابة عليه غيبته عن بدر وأحد ولم يشهد بيعة الرضوان. المسألة السابعة في أن عليا عليه السلام أفضل من الصحابة قال: وعلي عليه السلام أفضل لكثرة جهاده وعظم بلائه في وقائع النبي صلى الله عليه وسلم بأجمعها ولم يبلغ أحد درجته في غزاة بدر وأحد ويوم الأحزاب وخيبر وحنين وغيرها. أقول: اختلف الناس هنا، فقال عمر وعثمان وابن عمر وأبو هريرة من الصحابة: إن أبا بكر أفضل من علي عليه السلام، وبه قال من التابعين الحسن البصري وعمرو بن عبيد وهو اختيار النظام وأبي عثمان الجاحظ. وقال الزبير وسلمان والمقداد وجابر بن عبد الله وعمار وأبو ذر وحذيفة من الصحابة: إن عليا عليه السلام
(1) كما في (ص). والنسخ الأخرى كلها: بعد ثلاث وعابوا. وفي الإمامة والسياسة للدينوري: ثم احتملوه على باب ليلا وانطلقوا مسرعين ويسمع من وقع رأسه على اللوح طق طق (ج 1 ص 45 ط مصر). (2) باتفاق النسخ كلها، أي فلولا علمهم باستحقاقه لذلك من الخذلان والقتل لما خذلوه حتى قتل، وإلا لما ساغ لهم التأخر عن نصرته. 517 أفضل، وبه قال في التابعين عطاء ومجاهد وسلمة بن كهيل وهو اختيار البغداديين كافة (1) والشيعة بأجمعهم وأبي عبد الله البصري. وتوقف الجبائيان وقاضي
(1) كذا في جميع النسخ إلا نسخة (م) وكذا في ابتداء شرح ابن أبي الحديد على النهج حيث قال: وقال البغداديون قاطبة قدماؤهم ومؤخروهم كأبي سهل بشر بن المعمر، وأبي موسى عيسى بن صبيح، وأبي عبد الله جعفر بن مبشر، وأبي جعفر الإسكافي، وأبي الحسين الخياط، وأبي القاسم عبد الله بن محمود البلخي وتلامذته: إن عليا عليه السلام أفضل من أبي بكر.. الخ (ص 3 ط 1 ج 1 الحجري). وقال في انتهاء شرحه عليه عند قوله عليه السلام: يهلك في رجلان محب مطر وباهت مفتر، ما هذا لفظه (ص 491 ج 2 من الطبع الحجري): والحاصل أنا لم نجعل بينه عليه السلام وبين النبي صلى الله عليه وسلم إلا رتبة النبوة وأعطينا كل ما عدا ذلك من الفضل المشترك بينه وبينه - إلى أن قال - والقول بالتفضيل قول قديم قد قال به كثير من الصحابة والتابعين، فمن الصحابة عمار والمقداد وأبو ذر وسلمان وجابر بن عبد الله وأبي بن كعب وحذيفة وبريدة وأبو أيوب وسهل بن حنيف وعثمان بن حنيف وأبو الهيثم بن التيهان وخزيمة بن ثابت وأبو الطفيل عامر بن واثلة والعباس بن عبد المطلب وبنوه وبنو هاشم كافة وبنو المطلب كافة، وكان من بني أمية قوم يقولون بذلك منهم خالد بن سعيد بن العاص ومنهم عمر بن عبد العزيز - إلى أن قال: - فأما من قال بتفضيله على الناس كافة من التابعين فخلق كثير كأويس القرني وزيد بن صوحان وصعصعة أخيه وجندب الخير وعبيدة السلماني وغيرهم ممن لا يحصى كثرة ولم تكن لفظة الشيعة تعرف في ذلك العصر إلا لمن قال بتفضيله ولم تكن مقالة الإمامية ومن نحا نحوها من الطاعنين في إمامة السلف مشهورة حينئذ على هذا النحو من الاشتهار فكان القائلون بالتفضيل هم المسمون الشيعة وجميع ما ورد من الآثار والأخبار في فضل الشيعة وأنهم موعودون بالجنة فهؤلاء هم المعينون به دون غيرهم. قال: ولذلك قال أصحابنا المعتزلة في كتبهم وتصانيفهم نحن الشيعة حقا فهذا القول هو أقرب إلى السلامة وأشبه بالحق من القول المقتسمين طرفي الافراط والتفريط إن شاء الله، إنتهى كلام ابن أبي الحديد. وفي نسخة (م) وحدها: وهو اختيار البغداديين من المعتزلة كافة. أقول: ومن المعتقدين بأن عليا أمير المؤمنين عليه السلام أفضل من أبي بكر وغيره، الشيخ العارف مجدود بن آدم السنائي الغزنوي حيث قال في قصيدته النونية في ذلك (ص 100 من الطبع الحجري من ديوانه): كار عاقل نيست در دل مهر دلبر داشتن جان نگين مهر مهرشاخ بي برداشتن تا دل عيسى مريم باشد اندربند تو كي روا باشد دل اندر سم هر خر داشتن يوسف مصرى نشسته باتو در هر انجمن زشت باشد چشم را در نقش آذر داشتن احمد مرسل نشسته كي روا دارد خرد دل أسير سيرت بوجهل كافر داشتن بحر پر كشتى است ليكن جمله در گرداب خوف بي سفينة نوح نتوان چشم معبر داشتن گرنجات دين ودل خواهى همى تا چند از أين خويشتن چون دائره بي پا وبى سرداشتن من سلامت خانه نوح نبي بنمايمت تاتوانى خويشتن را أيمن از شرداشتن شومدينه علم را درجوى پس دروى خرام تا كي آخر خويشتن چون حلقه بردر داشتن چون همى دانى كه شهر علم را حيدر دراست خوب نبود جز كه حيدرمير ومهتر داشتن كي رواباشد به ناموس وحيل درراه دين ديو را برمسند قاضى أكبر داشتن من چه گويم توچه دانى مختصر عقلي بود قدرخاك افزون تر از گوگرد احمر داشتن از تو خود چون مى پسندد عقل نابيناى تو پارگين را قابل تسنيم وكوثر داشتن مرمرا باورنكو نايد زروى اعتقاد حق زهرا بردن ودين پيمبر داشتن آن كه اورا برسر حيدر همى خوانى أمير كافرم گرمى تواند كفش قنبر داشتن تا سليمان وارباشد حيدراندر صدر ملك زشت باشد ديورا برتارك أفسر داشتن خضر فرخ پى دليلي را ميان بسته چوكلك جاهلي باشد ستور لنگ رهبر داشتن چون درخت دين بباغ شرع هم حيدر نشاند باغبانى زشت باشد جز كه حيدر داشتن از گذشت مصطفى مجتبى جز مرتضى عالم دين را نيارد كس معمر داشتن هشت بستانرا كجا هرگز توانى يافتن جز به حب حيدر وشبير وشبر داشتن گر همى مؤمن شمارى خويشتن را بايدت مهر زر جعفري بردين جعفر داشتن إلى آخر أبيات القصيدة وهي كثيرة وفي ديوانه مسطورة، وسبب انشائه هذه القصيدة هو أن السلطان سنجر بعد وفاة أبيه ملكشاه كتب اليه وطلب منه معرفة الدين الحق الإلهي فأنشأها وأرسلها اليه وقال فيها مخاطبا له: از پس سلطان ملكشه چون نمى دارى روا تاج وتخت پادشاهى جزكه سنجر داشتن از پس سلطان دين پس چون روادارى همى جزعلى وعترتش محراب ومنبر داشتن وراجع في ذلك المجلس السادس من مجالس المؤمنين للقاضي السعيد نور الله الشهيد نور الله نفسه ورمسه (ص 294 ط الحجري). ثم إن لهذا المتمسك بذيل ولاية الوصي مذهبا آخر تفرد به وهو أنه لا يقول بذلك التفضيل أبدا ولا يتفوه به قط، وذلك لأن التفضيل شرطه مشاركة الطرفين في صفات الفضيلة وتجانسهما في جميع المقايسات إلا أن أحدهما في تلك الصفات أفضل من الآخر كما ينبئك عن هذه الدقيقة قوله علت كلمته: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض (البقرة 254) وقوله: ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض (الإسراء 22) ونحوهما من آيات أخرى، فحيث إن التشارك والتجانس شرط في المقايسة فلا يقاس الخط بالنقطة، ولا السطح بالخط، ولا الجسم بالسطح، ولا النور بالظلمة، ولا العلم بالجهل، ولا الحق بالباطل، ولا المعصوم بغير المعصوم. ولست أدري أي مشاركة بين الوصي أمير المؤمنين علي عليه السلام وبين الثلاثة في العصمة التي اختص هو بها دون غيره من الصحابة؟! وأي مجانسة بينه وبينها في الفضائل القرآنية والحقائق العقلية الملكوتية وقد كان عليه السلام بين الصحابة المعقول بين المحسوس، وعدل النبي إلا درجة النبوة، وما سبقه الأولون إلا بفضل النبوة ولا يدركه الآخرون. وأين الذرة من المجرة، والحصباء من الشعرى، ونار الحباحب من نور البيضاء حتى يتفوه بذلك التفضيل؟! أرأيت هل تجوز التفوه بتفضيل رسول الله صلى الله عليه وآله على أبي بكر بأن تقول: كان هو أفضل من أبي بكر كما تجوز القول بأنه عليه السلام أفضل الأنبياء والمرسلين. وإنما منزلة الذي كان عدله إلا بفضل النبوة، هي هكذا بلا دغدغة ولا مراء. فشرط المناسبة في المقايسة يوجب مقايسته عليه السلام مع سائر الأنبياء وقاطبة الأوصياء والأولياء الكاملين لا مع آحاد الرعية وغاغة الناس، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وآخى بين الصحابة وقرن كل شخص إلى مماثله في الشرف والفضيلة وآخاه عليه السلام من دون الصحابة. وأنه صلى الله عليه وسلم قال: من أحب أن ينظر إلى آدم في علمه، والى نوح في تقواه، والى إبراهيم في حلمه، والى موسى في هيبته، والى عيسى في عبادته فلينظر إلى علي بن أبي طالب، رواه البيهقي عن النبي صلى الله عليه وآله فالوصي عليه السلام كان مساويا للأنبياء المتقدمين. 518 القضاة: قال أبو علي الجبائي: إن صح خبر الطائر فعلي أفضل، ونحن نقول: إن الفضائل إما نفسانية أو بدنية وعلي عليه السلام كان أكمل وأفضل من باقي الصحابة فيهما، والدليل على ذلك وجوه ذكرها المصنف رحمه الله: الأول إن عليا عليه السلام كان أكثر جهادا وأعظم بلاء في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم بأجمعها ولم يبلغ أحد درجته في ذلك: منها في غزاة بدر وهي أول حرب امتحن بها المؤمنون لقلتهم وكثرة المشركين، فقتل علي عليه السلام الوليد بن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة (1) ثم العاص بن سعيد بن العاص
(1) ولكن الرواية جاءت في السيرة لابن كثير هكذا.. فحمى عند ذلك عتبة بن ربيعة، وأراد أن يظهر شجاعته، فبرز بين أخيه شيبة وابنه الوليد، فلما توسطوا بين الصفين دعوا إلى البراز - إلى أن قال: - فقال النبي صلى الله عليه وآله: (قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة، وقم يا علي) - إلى قوله: - فبارز عبيدة - وكان أسن القوم - عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد بن عتبة، فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما بضربتين، كلاهما أثبت صاحبه، وكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فدففا عليه، واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابهما (ج 2 ص 413 ط مصر). والغرض من النقل أن قاتل شيبة بن ربيعة كان حمزة عليه السلام لا أمير المؤمنين علي عليه السلام فإنه كان قاتل ابن أخيه الوليد بن عتبة. 520 ثم حنظلة بن أبي سفيان ثم طعيمة بن عدي ثم نوفل بن خويلد وكان شجاعا وسأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يكفيه أمره فقتله علي عليه السلام ولم يزل يقاتل حتى قتل نصف المشركين المقتولين (1) والباقي من المسلمين وثلاثة آلاف من الملائكة مسومين قتلوا النصف الآخر ومع ذلك كانت الراية في يد علي عليه السلام. ومنها في غزاة أحد جمع له الرسول صلى الله عليه وآله بين اللواء والراية وكانت راية المشركين مع طلحة بن أبي طلحة وكان يسمى كبش الكتيبة فقتله علي عليه السلام فأخذ الراية غيره فقتله عليه السلام ولم يزل يقتل واحدا بعد واحد حتى قتل تسعة نفر فانهزم المشركون واشتغل المسلمون بالغنائم فحمل خالد بن الوليد بأصحابه (2) على النبي صلى الله عليه وسلم فضربوه بالسيوف والرماح والحجر حتى غشي عليه فانهزم الناس
(1) كما في (ص) وحدها وهو الصواب والنسخ الأخرى عارية عن الوصف أعني المقتولين. قال اليعقوبي في تاريخه (ص 33 ج 22 ط النجف) في نقل وقعة بدر العظمى: وأقبلت قريش مستعدة لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدتهم ألف رجل، وقيل: تسعمائة وخمسون، إنتهى. وفي السيرة النبوية لابن هشام (ص 706 ج 1 ط مصر): جميع من شهد بدرا من المسلمين ثلاث مائة رجل وأربعة عشر رجلا - إلى أن قال (ص 714): - إن قتلى بدر من المشركين كانوا سبعين رجلا، والأسرى كذلك، وهو قول ابن عباس وسعيد بن المسيب. وفي كتاب الله تبارك وتعالى: أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها يقوله لأصحاب أحد - وكان من استشهد منهم سبعين رجلا - يقول: قد أصبتم يوم بدر مثلي من استشهد منكم يوم أحد، سبعين قتيلا وسبعين أسيرا، وأنشدني أبو زيد الأنصاري لكعب بن مالك: فأقام بالعطن المعطن منهم سبعون، عتبة منهم والأسود يعني قتلى بدر، إنتهى باختصار. والغرض من النقل أن الصحيح هو ما اخترناه من (ص)، وعبارة النسخ الخالية عن الوصف المذكور لا توافق الواقع. (2) وفي (م ص): وأصحابه. 521 عنه سوى علي عليه السلام فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم بعد إفاقته وقال له اكفني هؤلاء فهزمهم عنه وكان أكثر المقتولين منه عليه السلام. ومنها يوم الأحزاب وقد بالغ في قتل المشركين وقتل عمرو بن عبد ود وكان بطل المشركين ودعا إلى البراز مرارا فامتنع عنه المسلمون وعلي عليه السلام يروم مبارزته والنبي صلى الله عليه وسلم يمنعه من ذلك لينظر صنع المسلمين، فلما رأى امتناعهم أذن له وعممه بعمامته ودعا له، قال حذيفة: لما دعا عمرو إلى المبارزة أحجم المسلمون عنه كافة ما خلا عليا عليه السلام فإنه برز إليه فقتله الله على يديه والذي نفس حذيفة بيده لعمله في ذلك اليوم أعظم أجرا من عمل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة وكان الفتح في ذلك اليوم على يدي علي عليه السلام، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لضربة علي خير من عبادة الثقلين. ومنها في غزاة خيبر واشتهار جهاده فيها غير خفي وفتح الله تعالى على يديه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حصر حصنهم بضعة عشر يوما وكانت الراية بيد علي عليه السلام فأصابه رمد فسلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الراية إلى أبي بكر مع جماعة فرجعوا منهزمين خائفين فدفعها الغد إلى عمر ففعل مثل ذلك فقال عليه السلام: لأسلمن الراية غدا إلى رجل يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله، كرار غير فرار لا يرجع حتى يفتح على يده، فلما أصبح قال: إئتوني بعلي، فقيل: به رمد، فتفل في عينه (1) ودفع الراية إليه فقتل مرحبا فانهزم أصحابه وغلقوا الأبواب ففتح علي عليه السلام الباب واقتلعه وجعله جسرا على الخندق وعبروا وظفروا، فلما انصرفوا أخذه بيمينه ودحاه أذرعا وكان يغلقه عشرون وعجز المسلمون عن نقله حتى نقله سبعون رجلا وقال عليه السلام: (والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية ولكن قلعته بقوة ربانية). ومنها في غزاة حنين وقد سار النبي صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف فارس من المسلمين فتعجب أبو بكر من كثرتهم وقال: لن نغلب اليوم من قلة (2) فانهزموا
(1) كما في (ش م ز د) وفي (ق ص): في عينيه. (2) كما في أول باب غزاة حنين من سادس البحار ط 1: إن بعضهم حين رأى المسلمين لن نغلب اليوم من قلة. وكذا في (م ص ز د) وفي (ش) وحدها: لن نغلب القوم من قلة. 522 بأجمعهم ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم سوى تسعة نفر علي عليه السلام والعباس وابنه الفضل وأبو سفيان بن الحرث ونوفل بن الحرث وربيعة بن الحرث وعبد الله بن الزبير وعتبة ومعتب ابنا أبي لهب، فخرج أبو جرول فقتله علي عليه السلام فانهزم المشركون وأقبل المسلمون بعد نداء النبي صلى الله عليه وسلم وصافوا العدو فقتل علي عليه السلام أربعين وانهزم الباقون وغنمهم المسلمون، وغير ذلك من الوقائع المأثورة والغزوات المشهورة التي نقلها أرباب السير وكانت الفضيلة في ذلك بأجمعه (1) لعلي عليه السلام وإذا كان أكثر جهادا كان أفضل من غيره وأكثر ثوابا. قال: ولأنه أعلم (2) لقوة حدسه وملازمته للرسول صلى الله عليه وآله ورجعت الصحابة إليه في أكثر الوقائع بعد غلطهم، وقال النبي صلى الله عليه وآله: أقضاكم علي، واستند الفضلاء في جميع العلوم إليه وأخبر هو عليه السلام بذلك. أقول: هذا هو الوجه الثاني في بيان أن عليا عليه السلام أفضل من غيره، وهو أنه عليه السلام أعلم من غيره فيكون أفضل، أما المقدمة الأولى فيدل عليها وجوه: الأول: أنه عليه السلام كان شديد الذكاء في غاية قوة الحدس، ونشأ في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ملازما له مستفيدا منه والرسول صلى الله عليه وسلم كان أكمل الناس وأفضلهم، ومع حصول القبول التام والمؤثر الكامل يكون الفعل أقوى وأتم وبالخصوص وقد مارس المعارف الإلهية من صغره، وقد قيل: إن العلم في الصغر كالنقش في الحجر وهذا برهان لمي. الثاني: أن الصحابة كانت تشتبه الأحكام عليهم وربما أفتى بعضهم بالغلط وكانوا يراجعونه في ذلك، ولم ينقل أنه عليه السلام راجع أحدا منهم في شئ البتة، وذلك يدل على أنه أفضل من الجماعة فإنه نقل عن أبي بكر أن بعض اليهود لقيه
(1) كما في (م) والنسخ الأخرى كلها: وكانت الفضيلة بأجمعها في ذلك. (2) المتن مطابق للنسخ كلها إلا أن العبارة في (م) جاءت: (وشدة ملازمته للنبي) مكان (شدة ملازمته للرسول). 523 فقال له: أين الله تعالى، فقال: على العرش، فقال اليهودي: خلت الأرض منه حيث اختص ببعض الأمكنة، فانصرف اليهودي مستهزئ بالاسلام فلقيه علي عليه السلام فقال له: إن الله أين الأين فلا أين له.. إلى آخر الحديث، فأسلم على يده، وسئل عن الكلالة والأب فلم يعرف ما يقول حتى أوضح علي عليه السلام الجواب. وسئل عمر عن أحكام كثيرة (1) فحكم فيها بضد الصواب فراجعه فيها علي عليه السلام فرجع إلى قوله، كما نقل عنه من إسقاط حد الشرب عن قدامة لما تلي عليه قوله تعالى: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) فقال علي عليه السلام: الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يستحلون محرما، وأمره برده واستتابته فإن تاب فاجلده وإلا فأقتله، فتاب ولم يدر عمر كم يحده (2) فأمره عليه السلام بحده ثمانين. وأمر عمر برجم مجنونة زنت فرده عليه السلام بقوله: رفع القلم عن المجنون حتى يفيق، فقال: لولا علي لهلك عمر. وولدت امرأة لستة أشهر فأمر عمر برجمها، فقال له عليه السلام: إن أقل الحمل ستة أشهر بقوله تعالى: (وفصاله في عامين) وقوله تعالى: (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا و) أمر عمر برجم حامل فقال له علي عليه السلام: إن كان لك سبيل عليها فليس لك على ما في بطنها سبيل، فامتنع، وغير ذلك من الوقائع الشهيرة (3). الثالث: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حقه: أقضاكم علي، والقضاء يستلزم العلم فيكون أفضل منهم. الرابع: استناد العلماء بأسرهم إليه، فإن النحو مستند إليه وكذا أصول المعارف الإلهية وعلم الأصول (4) فإن أبا الحسن الأشعري تلميذ أبي علي الجبائي من
(1) وفي (م) فقط: عن أشياء كثيرة. (2) كما في النسخ كلها، وأما ما في المطبوعة من زيادة (وقال عليه السلام) بعد (واستتابته) فيشبه أن تكون تعليقة أدرجت في الكتاب. (3) كما في (م ص) وفي غيرهما: من الوقائع الكثيرة. (4) وفي (ص) وحدها: وكذا أصول الفقه وعلم أصول المعارف الإلهية. 524 المعتزلة وكافة المعتزلة ينتسبون إليه ويدعون أخذ معارفهم منه، وأهل التفسير رجعوا إلى ابن عباس فيه وهو تلميذ علي عليه السلام والفقهاء ينتسبون إليه والخوارج مع بعدهم عنه (1) ينتسبون إلى أكابرهم وهم تلامذة علي عليه السلام. الخامس: أنه عليه السلام أخبر بذلك في عدة مواضع كقوله: سلوني (2) عن طرق السماء فإني أعرف بها من طرق الأرض، وقال: والله لو كسرت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الزبور بزبورهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم. وذلك يدل على كمال معرفته بجميع هذه الشرائع، وبالجملة فلم ينقل عن أحد من الصحابة ولا عن غيرهم ما نقل عنه من أصول العلم. قال: ولقوله تعالى: (وأنفسنا) أقول: هذا هو الوجه الثالث الدال على أنه عليه السلام أفضل من غيره، وهو قوله تعالى: (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم)، واتفق المفسرون كافة على أن الأبناء إشارة إلى الحسن والحسين عليهما السلام والنساء إشارة إلى فاطمة عليها السلام والأنفس إشارة إلى علي عليه السلام، ولا يمكن أن يقال: إن نفسيهما واحدة فلم يبق المراد من ذلك إلا المساوي (3) ولا شك في أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الناس فمساويه كذلك أيضا. قال: ولكثرة سخائه على غيره. أقول: هذا وجه رابع يدل على أن عليا عليه السلام أفضل من غيره وهو أنه كان أسخى الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أنه جاد بقوته وقوت عياله وبات طاويا هو وإياهم ثلاثة أيام (4) حتى أنزل الله تعالى في حقهم (ويطعمون الطعام على
(1) وفي (م) مع بعد عنهم. (2) كما في (ش). والنسخ الأخرى كلها: اسألوني. وفي (ق) كتبت فوق اسألوني، لفظة بخطه. (3) وفي (م) وحدها: إلا التساوي. (4) كذا في جميع النسخ بالاتفاق. 525 حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) وتصدق مرة أخرى بجميع ما يملكه وقد كان حينئذ يملك أربعة دراهم لا غير فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية فأنزل الله تعالى في حقه (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية) وكان يعمل بالأجرة ويتصدق بها ويشد على بطنه الحجر من شدة الجوع، وشهد له بذلك أعداؤه فضلا عن أوليائه، قال معاوية: لو ملك علي بيتا من تبر وبيتا من تبن لأنفد تبره قبل تبنه ولم يخلف شيئا أصلا، وقال: يا بيضاء ويا صفراء غري غيري، وكان يكنس بيوت الأموال ويصلي فيها مع أن الدنيا كانت بيده. قال: وكان أزهد الناس بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. أقول: هذا هو الوجه الخامس، وتقريره أن عليا عليه السلام كان أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون أفضل من غيره، بيان المقدمة الأولى ما نقل بالتواتر عنه أنه عليه السلام كان سيد الأبدال واليه تشد الرحال في معرفة الزهد والتسليك فيه وترتيب أحوال الرياضيات وذكر مقامات العارفين، وكان أخشن الناس مأكلا وملبسا ولم يشبع من طعام قط، قال عبيد الله بن أبي رافع: دخلت عليه يوما فقدم جرابا مختوما فوجدنا فيه خبز شعير يابسا مرضوضا فأكل منه، فقلت يا أمير المؤمنين: كيف تختمه، فقال: خفت هذين الولدين يلتانه بزيت أو سمن. وهذا شئ اختص به علي عليه السلام لم يشاركه فيه غيره ولم ينل أحد بعض درجته، وكان نعلاه من ليف ويرقع قميصه بجلد تارة وبليف أخرى، وقل أن يأتدم فإن فعل فبالملح أو بالخل فإن ترقى فبنبات الأرض فإن ترقى فبلبن، وكان لا يأكل اللحم إلا قليلا ويقول: لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان، وطلق الدنيا ثلاثا، والمقدمة الثانية ظاهرة. قال: وأعبدهم. أقول: هذا وجه سادس، وتقريره أن عليا عليه السلام كان أعبد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنه تعلم الناس صلاة الليل واستفادوا منه ترتيب النوافل
526 والدعوات، وكانت جبهته كثفنة البعير (1) لطول سجوده، وكان يحافظ على النافلة حتى أنه بسط له بين الصفين نطع ليلة الهرير فصلى عليه السلام النافلة والسهام تقع بين يديه وإلى جوانبه، وكانوا يستخرجون النصول (2) من جسده وقت الصلاة لالتفاته بالكلية إلى الله تعالى حتى لا يبقى له التفات إلى غيره.
(1) في (ص) وحدها: كركبة البعير، والنسخ الأخرى كلها: كثفنة البعير. (2) قال السيد الجزائري في الأنوار النعمانية (ص 300 ط الحاج موسى): نور في الحب ودرجاته - إلى قوله: - العشق هو الافراط في المحبة، واشتقاقه من العشقة وهي نبت يلتف على الشجرة من أصلها إلى فرعها فهو محيط بها كما أن العشق محيط بمجامع القلب. وأما اشتغال النفس بهذه المرتبة عن قواها الشهوانية وعن النوم فإنما جاء من فرط نار المحبة الكامنة في القلب، الشاغلة له عما عداه حتى أنه في هذه الحالة ربما شغل قلبه وحسه عن آلام البدن وأوجاعها. وهذه الحالة قد كانت في الحب الحقيقي وذلك أن أمير المؤمنين عليه السلام لما كانت النصال تلج في بدنه الشريف من الحروب كان الجراح يخرجها منه إذا اشتغل بالصلاة لعدم إحساسه بها ذلك الوقت لاشتغال قلبه بعالم القدس وملك الجبروت، إنتهى باختصار. وقد أجاد العارف الجامي في المقام نظما حيث قال: شير خدا شاه ولايت علي صيقلى شرك خفي وجلي روز أحد چون صف هيجا گرفت تير مخالف به تنش جا گرفت غنچه پيكان بگل أو نهفت صد گل محنت زگل أو شكفت روى عبادت سوى محراب كرد پشت بدرد سراصحاب كرد خنجر الماس چو بنداختند چاك بتن چون گلشن انداختند غرقه بخون غنچه زنگارگون آمد از آن گلشن احسان برون گل گل خونش بمصلى چكيد گشت چو فارغ زنماز آن بديد أين همه گل چيست ته پاى من ساخته گلزار مصلاى من صورت حالش چونمودند باز گفت كه سوگند به داناى راز كز ألم تيغ ندارم خبر گرچه زمن نيست خبر دارتر طاير من سدرة نشين شد چه باك گر شودم تن چو قفس چاك چاك جامى از آلايش تن پاك شو در قدم پاك روان خاك شو شايد از آن خاك بگردى رسى گرد شكافى وبمردى رسى 527 قال: وأحلمهم. أقول: هذا وجه سابع وهو أن عليا عليه السلام كان أحلم الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقابل أحدا بإسائته، فعفى عن مروان بن الحكم يوم الجمل وكان شديد العداوة له عليه السلام، وعفا عن عبد الله بن الزبير لما استأسره (1) يوم الجمل وكان يشتمه عليه السلام ظاهرا، وقال عليه السلام: لم يزل الزبير رجلا منا أهل البيت حتى شبه عبد الله، وعفا عن سعيد بن العاص وكان عدوا له عليه السلام، وأكرم عائشة وبعثها إلى المدينة مع عشرين مرأة عقيب حربها له، وصفح عن أهل البصرة مع محاربتهم له، ولما حارب معاوية سبق أصحاب معاوية إلى الشريعة فمنعوه من الماء فلما اشتد العطش بأصحابه حمل عليهم وفرقهم وملك الشريعة فأراد أصحابه أن يفعلوا بهم كذلك فنهاهم عن ذلك، وقال: افسحوا بعض الشريعة (2) ففي حد السيف ما يغني عن ذلك. قال: وأشرفهم خلقا. أقول: هذا وجه ثامن، وتقريره أن عليا عليه السلام كان أشرف الناس خلقا وأطلقهم وجها حتى نسبه عمر إلى الدعابة مع شدة بأسه وهيبته، قال صعصعة بن صوحان: كان فينا كأحدنا لين جانب وشدة تواضع وسهولة قياد، وكنا نهابه مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف على رأسه. وقال معاوية لقيس بن سعد: رحم الله أبا حسن فلقد كان هشا بشا ذا فكاهة، فقال قيس: أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوى، تلك هيبة التقوى ليس كما يهابك طغام الشام فيكون أفضل من غيره حيث جمع بين المتضادات من حسن الخلق وطلاقة الوجه وعظم شجاعته وشدة بأسه وكثرة حروبه. قال: وأقدمهم إيمانا. أقول: هذا وجه تاسع، وتقريره أن عليا عليه السلام كان أقدم الناس إيمانا، روى
(1) كما في النسخ كلها إلا نسخة (م) ففيها: لما استأمره. (2) كما في (م) وفي غيرها: افسحوا لهم عن بعض الشريعة. 528 سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أولكم ورودا على الحوض أولكم إسلاما علي بن أبي طالب عليه السلام (1). وقال أنس: بعث النبي يوم الاثنين وأسلم علي يوم الثلاثاء. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة عليها السلام: زوجتك أقدمهم إسلاما وأكثرهم علما. وقال عليه السلام يوما على المنبر: أنا الصديق الأكبر وأنا الفاروق الأعظم آمنت قبل أن آمن أبو بكر وأسلمت قبل أن أسلم، وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد. وروى عبد الله بن الحسن قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: أنا أول من صلى وأول من آمن بالله ورسوله ولم يسبقني بالصلاة إلا نبي الله، ولأنه عليه السلام كان في منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الاختصاص به عظيم الامتثال لأوامره لم يخالفه قط، وأبو بكر كان بعيدا عنه مجانبا له فيبعد عرض الاسلام عليه قبل عرضه على علي عليه السلام وبالخصوص وقد نزل قوله تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين. (لا يقال) إن إسلامه عليه السلام كان قبل البلوغ فلا اعتبار به. (لأنا نقول) المقدمتان ممنوعتان. (أما الأول) فلأن سن علي عليه السلام كان ستا وستين سنة أو خمسا وستين والنبي صلى الله عليه وسلم بقي بعد الوحي ثلاثا وعشرين سنة وعلي عليه السلام بقي بعد النبي نحوا من ثلاثين سنة فيكون سن علي عليه السلام وقت نزول الوحي فيما بين اثنتي عشرة سنة وبين ثلاث عشرة سنة، والبلوغ في هذا الوقت ممكن فيكون واقعا لقوله صلى الله عليه وسلم: زوجتك أقدمهم إسلاما وأكثرهم علما. (وأما الثانية) فلأن الصبي قد يكون رشيدا (2) كامل العقل قبل سن البلوغ فيكون مكلفا، ولهذا حكم أبو حنيفة بصحة إسلام الصبي وإذا كان كذلك دل على كمال الصبي، (أما الأول) فلأن الطباع في الصبيان مجبولة على حب الأبوين والميل إليهما، فإعراض الصبي
(1) هكذا روي باتفاق النسخ كلها. (2) قال عز من قائل: (وآتيناه الحكم صبيا) و (كيف نكلم من كان في المهد صبيا) (مريم 12، 29). 529 عنهما والتوجه إلى الله تعالى يدل على قوة كماله، (وأما ثانيا) فلأن طبائع الصبيان منافية للنظر في الأمور العقلية والتكاليف الإلهية وملائمة للعب واللهو، فإعراض الصبي عما يلائم طباعه إلى ما ينافره يدل على عظم منزلته في الكمال، فثبت بذلك أن عليا عليه السلام كان أقدمهم إيمانا فيكون أفضل لقوله تعالى: (والسابقون السابقون أولئك المقربون). قال: وأفصحهم (1). أقول: هذا دليل عاشر، وتقريره أن عليا عليه السلام كان أبلغ الناس في الفصاحة وأعظمهم منزلة فيها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال البلغاء كافة: إن كلامه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق، ومنه تعلم الناس أصناف البلاغة حتى قال معاوية: ما سن الفصاحة لقريش غيره. وقال ابن نباتة (2): حفظت من خطبه مائة خطبة. وقال عبد الحميد بن يحيى: حفظت سبعين خطبة من خطبه. قال: وأسدهم رأيا. أقول: هذا دليل حادي عشر، وتقريره أن عليا عليه السلام كان أسد الناس رأيا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجودهم تدبيرا وأعرفهم بمزايا الأمور (3) ومواقعها، وهو الذي
(1) باتفاق النسخ كلها. وما في المطبوعة: وأفصحهم لسانا، زيادة من النساخ، أو هو تصحيح قياسي. (2) في وفيات الأعيان لابن خلكان: أبو يحيى عبد الرحيم بن نباتة صاحب الخطب المشهورة، كان إماما في علوم الأدب، قال: حفظت من الخطابة كنزا لا يزيده الأنفاق إلا سعة وكثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب عليه السلام. وفيه أيضا: أبو غالب عبد الحميد الكاتب البليغ المشهور كان كاتب مروان بن حكم الأموي آخر ملوك بني أمية، وبه يضرب المثل في البلاغة حتى قيل: فتحت الرسائل بعبد الحميد وختمت بابن العميد. وكان في الكتابة وفي كل فن من العلم والأدب إماما، قال: حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ففاضت ثم فاضت. أقول: يعني بالأصلع أمير المؤمنين عليا عليه السلام. (3) وفي (ق) وحدها: وأعرفهم تمييزا بالأمور. والنسخ الأخرى كلها كما في الكتاب. 530 أشار على عمر بالتخلف عن حرب الروم والفرس وبعث نوابه، وأشار على عثمان بما فيه صلاحه وصلاح المسلمين فخالفه حتى قتل فيكون أفضل من غيره. قال: وأكثرهم حرصا على إقامة حدود الله تعالى. أقول: هذا وجه ثاني عشر، وتقريره أن عليا عليه السلام كان أكثر الناس حرصا على إقامة حدود الله تعالى، لم يراقب في ذلك أحدا ولم يلتفت إلى قرابة بل كان شديد السياسة (1) خشنا في ذات الله تعالى، لم يراقب ابن عمه ولا أخاه، ونقض دار مصقلة بن هبيرة ودار جرير بن عبد الله البجلي وصلب جماعة وقطع آخرين، ولم يساوه في ذلك أحد من الصحابة فيكون أفضل من غيره. قال: وأحفظهم للكتاب العزيز. أقول: هذا وجه ثالث عشر وهو أن عليا عليه السلام كان يحفظ كتاب الله تعالى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن أحد يحفظه وهو أول من جمعه، ونقل الجمهور أنه تأخر عن البيعة بسبب اشتغاله بجمع القرآن العظيم، وأئمة القراء يسندون قراءاتهم إليه كأبي عمرو بن أبي العلاء وعاصم وغيرهما لأنهم يرجعون إلى أبي عبد الرحمن السلمي وهو تلميذه عليه السلام فيكون أفضل من غيره. قال: ولإخباره بالغيب. أقول: هذا وجه رابع عشر، وتقريره أن عليا عليه السلام أخبر بالغيب في مواضع كثيرة، ولم تحصل هذه المرتبة لأحد من الصحابة فيكون أفضل منهم قطعا، وذلك كإخباره بقتل ذي الثدية ولما لم يجده أصحابه بين القتلى قال: والله ما كذبت ولا كذبت، فاعتبرهم عليه السلام حتى وجده وشق قميصه (2) ووجد على كتفه سلعة كثدي المرأة عليها شعرات تنحدر (3) كتفه مع جذبها وترجع مع تركها.
(1) كما في النسخ كلها إلا (م) ففيها: بل كان شديد الشوكة. (2) وفي (ص): وفتق قميصه. (3) هذه العبارة الصحيحة قد حرفت في النسخ المطبوعة وغيرها بوجوه مشوهة. وراجع في أمر ذي الثدية المجلد الثاني من مروج الذهب للمسعودي (ص 417 ط مصر). 531 وقال له أصحابه: إن أهل النهروان قد عبروا، فقال عليه السلام: لم يعبروا، فأخبروه مرة ثانية فقال: لم يعبروا، فقال جندب بن عبد الله الأزدي في نفسه: إن وجدت القوم قد عبروا كنت أول من يقاتله فلما وصلنا النهر لم نجدهم عبروا، فقال عليه السلام: يا أخا الأزد أتبين لك الأمر، وذلك يدل على اطلاعه على ما في ضميره. وأخبر عليه السلام بقتل نفسه في شهر رمضان وبولاية الحجاج وانتقامه وبقطع يد جويرية بن مسهر ورجله وصلبه على جذع ففعل به ذلك في أيام معاوية، وبصلب ميثم التمار على باب عمرو بن حريث عاشر عشرة وأراه النخلة التي يصلب على جذعها فكان كما قال، وبذبح قنبر فذبحه الحجاج. وقيل له: قد مات خالد بن عرفطة بوادي القرى، فقال: لم يمت ولا يموت حتى يقود جيش ضلالة صاحب رايته حبيب بن جماز، فقام رجل من تحت المنبر فقال: والله إني لك لمحب وأنا حبيب، قال: إياك أن تحملها ولتحملنها فتدخل بها من هذا الباب، وأومأ إلى باب الفيل فلما بعث ابن زياد عمر بن سعد إلى قتال الحسين عليه السلام جعل على مقدمته خالدا وحبيب صاحب رايته فسار بها حتى دخل المسجد من باب الفيل. وقال عليه السلام يوما على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني فوالله لا تسألوني عن فئة تضل (1) مائة وتهدي مائة إلا نبأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة، فقام إليه رجل فقال: أخبرني كم في رأسي ولحيتي من طاقة شعر، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: لقد حدثني خليلي بما سألت عنه وأن على كل طاقة شعر في رأسك ملكا يلعنك وعلى كل طاقة شعر في لحيتك شيطانا يستفزك وأن في بيتك لسخلا يقتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كان من أمر الحسين عليه السلام ما كان تولى قتله، والأحاديث في ذلك أكثر من أن تحصى نقلها المخالف والمؤالف. قال: واستجابة دعائه.
(1) كما في النسخ كلها إلا نسخة (م) ففيها: عن فتنة تضل. 532 أقول: هذا وجه خامس عشر، وتقريره أن عليا عليه السلام كان مستجاب الدعوة سريعا دون غيره من الصحابة فيكون أفضل منهم، وتقرير المقدمة الأولى ما نقل بالتواتر عنه عليه السلام في ذلك كما دعا على بسر بن أرطأة فقال: (اللهم إن بسرا باع دينه بالدنيا فاسلبه عقله ولا تبق له من دينه ما يستوجب به عليك رحمتك) فاختلط عقله. واتهم العيزار برفع أخباره إلى معاوية فأنكر فقال له عليه السلام: إن كنت كاذبا فأعمى الله بصرك فعمي قبل أسبوع. واستشهد جماعة من الصحابة عن حديث الغدير فشهد له اثنا عشر رجلا من الأنصار وسكت أنس بن مالك فقال له: يا أنس ما يمنعك أن تشهد وقد سمعت ما سمعوا؟ فقال: يا أمير المؤمنين كبرت ونسيت، فقال: اللهم إن كان كاذبا فاضربه ببياض الوضح لا تواريه العمامة (1) فصار أبرص. وكتم زيد بن أرقم فذهب بصره وغير ذلك من الوقائع المشهورة. قال: وظهور المعجزات عنه. أقول: هذا وجه سادس عشر، وتقريره أنه عليه السلام ظهرت عنه معجزات كثيرة وقد تقدم ذكر بعضها ولم يحصل لغيره من الصحابة ذلك فيكون أفضل منهم. قال: واختصاصه بالقرابة. أقول: هذا وجه سابع عشر، وتقريره أن عليا عليه السلام كان أقرب الناس نسبا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيكون أفضل من غيره، ولأنه كان هاشميا فيكون أفضل لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله اصطفى من ولد إسماعيل قريشا ومن قريش هاشما. قال: والأخوة. أقول: هذا وجه ثامن عشر، وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما وآخى بين الصحابة وقرن كل شخص إلى مماثله في الشرف والفضيلة رأى عليا عليه السلام متكدرا فسأله عن سبب ذلك فقال: إنك آخيت بين الصحابة وجعلتني منفردا، فقال له
(1) الوضح بفتحتين: البرص، أي فاضربه ببياض البرص لا تواريه العمامة. 533 رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أخرتك إلا لنفسي ألا ترضى أن تكون أخي ووصيي وخليفتي من بعدي؟ فقال: بلى يا رسول الله، فواخاه من دون الصحابة فيكون أفضل منهم. قال: ووجوب المحبة. أقول: هذا وجه تاسع عشر، وتقريره أن عليا عليه السلام كان محبته ومودته واجبة دون غيره من الصحابة فيكون أفضل منهم قطعا، وبيان المقدمة الأولى أنه كان من اولي القربى فتكون مودته واجبة لقوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى). قال: والنصرة. أقول: هذا وجه عشرون، وتقريره أن عليا عليه السلام اختص بفضيلة النصرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون غيره من الصحابة فيكون أفضل منهم، بيان المقدمة الأولى قوله تعالى: (فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين) وقد اتفق المفسرون على أن المراد بصالح المؤمنين هو علي عليه السلام، والمولى هنا هو الناصر لأنه القدر المشترك بين الله تعالى وجبرئيل وجعله ثالثهم وحصر المولى في الثلاثة بلفظة (هو) في قوله تعالى: (فإن الله هو مولاه). قال: ومساواة الأنبياء. أقول: هذا وجه حادي وعشرون، وتقريره أن عليا عليه السلام كان مساويا للأنبياء المتقدمين فيكون أفضل من غيره من الصحابة بالضرورة، لأن المساوي للأفضل أفضل، بيان المقدمة الأولى ما رواه البيهقي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من أحب أن ينظر (1) إلى آدم في علمه وإلى نوح في تقواه وإلى إبراهيم في حلمه وإلى موسى في هيبته وإلى عيسى في عبادته فلينظر إلى علي بن أبي طالب.
(1) كما رووا في جوامعهم الروائية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من أراد أن ينظر إلى ميت يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى أبي بكر. 534 قال: وخبر الطائر والمنزلة والغدير وغيرها. أقول: هذا وجه ثاني وعشرون، وتقريره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبر في مواضع كثيرة ببيان فضله وزيادة كماله على غيره ونص على إمامته: (منها) ما ورد في خبر الطائر وهو أنه قال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر، فجاء علي بن أبي طالب عليه السلام فأكل معه، وفي رواية: اللهم أدخل إلي أحب أهل الأرض إليك، رواه أنس وسعد بن أبي وقاص وأبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن عباس، وعول أبو جعفر الإسكافي وأبو عبد الله البصري على هذا الحديث في أنه عليه السلام أفضل من غيره وادعى أبو عبد الله شهرة هذا الحديث وظهوره بين الصحابة ولم ينكره أحد منهم فيكون متواترا. (ومنها) خبر المنزلة وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، وقد كان هارون أفضل أهل زمانه عند أخيه فكذا علي عليه السلام عند محمد صلى الله عليه وآله وسلم. (ومنها) خبر الغدير وهو قوله صلى الله عليه وآله لما خطب الناس بغدير خم في عوده من حجة الوداع: معاشر المسلمين ألست أولى منكم بأنفسكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، فأخذ بيد علي عليه السلام وقال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره وأخذل من خذله وأدر الحق مع علي كيف ما دار، وقد بينا أن المراد بالمولى هاهنا الأولى بالتصرف، وإذا كان علي عليه السلام أولى من كل أحد بالتصرف في نفسه كان أفضل منهم قطعا. اعترض بعضهم على هذا بجواز أن يكون المراد به الولاء لأنه وقع مشاجرة بين أمير المؤمنين عليه السلام وبين زيد بن حارثة فقال له علي عليه السلام: أنت مولاي، فقال زيد: أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولست بمولاك، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه. والجواب من وجوه: الأول: ما ذكره أبو عبد الله البصري وهو أنه لا اختصاص لعلي عليه السلام بالولاء دون غيره من أقارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يجوز حمله على هذا المعنى. الثاني: ما ذكره أبو عبد الله أيضا وهو أن عمر قال له بعد هذا الحديث: هنيئا
535 لك أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، وقالت عائشة والأنصار بعد ذلك: يا مولانا فلا يجوز حمله على الولاء. الثالث: أن مقدمة الحديث تنفي هذا المعنى وهو قوله عليه السلام: ألست أولى منكم بأنفسكم. (ومنها) قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذي الثدية: يقتله خير الخلق والخليفة، وفي رواية أخرى: يقتله خير هذه الأمة. وقال لفاطمة عليها السلام: إن الله اطلع على أهل الأرض فاختار منهم أباك فاتخذه نبيا ثم اطلع ثانية فاختار منهم بعلك فأمرني أن أنكحك إياه وأن أتخذه وصيا، وقالت عائشة: كنت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأقبل علي عليه السلام فقال: هذا سيد العرب، قالت: قلت: بأبي أنت وأمي ألست أنت سيد العرب، فقال: أنا سيد العالمين وهذا سيد العرب. وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي عليه السلام: أنت أخي ووزيري وخير من أتركه بعدي تقضي ديني وتنجز موعدي. وسأل رجل عائشة عن مسيرها فقالت: كان قدرا من الله، فسألها عن علي عليه السلام فقالت: لقد سألتني عن أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وزوج أحب الناس إليه وقال لفاطمة عليها السلام: أما ترضين أني زوجتك خير أمتي؟. وعن سلمان أنه قال رسول الله: خير من أترك بعدي علي بن أبي طالب. وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: علي خير البشر فمن أبى فقد كفر. وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أفضل أمتي علي بن أبي طالب. قال: ولانتفاء سبق كفره. أقول: هذا وجه ثالث وعشرون، وتقريره أن عليا عليه السلام لم يكفر بالله تعالى أصلا بل من حين بلوغه كان مؤمنا موحدا، بخلاف باقي الصحابة فإنهم كانوا في زمن الجاهلية كفرة، ولا ريب في فضل من لم يزل موحدا على من سبق كفره على إيمانه. قال: ولكثرة الانتفاع به. أقول: هذا وجه رابع وعشرون، وتقريره أن عليا عليه السلام انتفع به المسلمون أكثر
536 من نفعهم بغيره فيكون ثوابه أكثر وفضله أعظم، بيان المقدمة الأولى ما تقدم من كثرة حروبه وشدة بلائه في الاسلام وفتح الله البلاد على يديه وقوة شوكة الاسلام به حتى قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الأحزاب: لضربة علي خير من عبادة الثقلين، وبلغ في الزهد مرتبة لم يلحقها أحد بعده واستفاد الناس منه طرائق الرياضة والترك للدنيا والانقطاع إلى الله تعالى، وكذا في السخاوة وحسن الخلق والعبادة والتهجد، وأما العلم فظاهر استناد كافة العلماء إليه واستفادتهم منه وعاش بعد أبي بكر زمانا طويلا يفيد الناس الكمالات النفسانية والبدنية وابتلي بما لم يحصل لغيره من المشاق. قال: وتميزه بالكمالات النفسانية والبدنية والخارجية. أقول: هذا وجه خامس وعشرون، وتقريره أن الكمالات إما نفسانية وإما بدنية وإما خارجية، أما الكمالات النفسانية والبدنية فقد بينا بلوغه فيها إلى الغاية إذ كان العلم والزهد والشجاعة والسخاء وحسن الخلق والعفة فيه أبلغ من غيره بل لا يجاريه في واحد منها أحد، وبلغ في القوة البدنية والشدة مبلغا لا يساويه أحد حتى قيل: إنه عليه السلام كان يقط الهام قط الأقلام لم يخط في ضربه قط ولم يحتج إلى المعاودة، وقلع باب خيبر وقد عجز عن نقلها سبعون رجلا من أشد الناس قوة مع أنه عليه السلام كان قليل الغذاء جدا بأخشن مأكل وملبس كثير الصوم مداوم العبادة. وأما الخارجية فمنها: النسب الشريف الذي لا يساويه أحد في القرب من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنه كان أقرب الناس إليه، فإن العباس كان عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأب خاصة وعلي عليه السلام كان ابن عمه من الأب والأم ومع ذلك فإنه كان هاشميا من الأب والأم لأنه علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم. ومنها: المصاهرة ولم يحصل لأحد ما حصل له منها فإنه زوج سيدة نساء العالمين، وعثمان وإن شاركه في كونه ختنا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن فاطمة عليها السلام
537 أشرف بناته، وكان لها من المنزلة والقرب من قلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مبلغ عظيم وكان يعظمها حتى أنه كان إذا جاءت إليه نهض لها قائما ولم يفعل ذلك بأحد من النساء (1)، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: سيدة نساء العالمين في الجنة أربع وعد منهن فاطمة عليها السلام. ومنها: الأولاد ولم يحصل لأحد من المسلمين مثل أولاده في الشرف والكمال، فإن الحسن والحسين عليهما السلام إمامان سيدا شباب أهل الجنة، وكان حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهما في الغاية حتى أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يتطأطأ لهما ليركباه ويبعبع لهما ثم أولد كل واحد منهما عليهما السلام أولادا بلغوا في الشرف إلى الغاية فالحسن عليه السلام أولد مثل الحسن المثنى والمثلث وعبد الله بن الحسن المثنى والنفس الزكية وغيرهم وأولد الحسين عليه السلام مثل زين العابدين والباقر والصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والعسكري والحجة، وقد نشروا من العلم والفضل والزهد والانقطاع والترك شيئا عظيما حتى أن الفضلاء من المشايخ كانوا يفتخرون بخدمتهم عليهم السلام فأبو يزيد البسطامي كان يفتخر بأنه يسقي الماء (2) لدار جعفر الصادق عليه السلام، ومعروف الكرخي أسلم على يدي الرضا عليه السلام وكان بواب داره إلى أن مات، وكان أكثر الفضلاء يفتخرون بالانتساب إليهم في العلم فإن مالكا كان إذا سئل في الدرب عن مسألة لم يجب السائل فقيل له في ذلك فقال: إني أخذت العلم من جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام وكنت إذا أتيت إليه لأستفيد منه نهض ولبس أفخر ثيابه وتطيب وجلس في أعلى منزله وحمد الله تعالى وأفادني شيئا. واستفادة أبي حنيفة من الصادق عليه السلام ظاهرة غنية عن البرهان، وهذه الفضائل لم تحصل لأحد من الصحابة فيكون علي عليه السلام أفضل منهم.
(1) يستوي في الأحد الواحد والجمع والمؤنث. قال تعالى: (لستن كأحد من النساء) وقال تعالى: (فما منكم من أحد عنه حاجزين). (2) كما في (م) والنسخ الأخرى: يستقي الماء. 538 المسألة الثامنة في إمامة باقي الأئمة الاثني عشر عليهم السلام قال: والنقل المتواتر دل على الأحد عشر ولوجوب العصمة وانتفائها عن غيرهم ووجود الكمالات فيهم. أقول: لما بين أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو علي بن أبي طالب عليه السلام شرع في إمامة الأئمة الأحد عشر وهم الحسن بن علي ثم أخوه الحسين ثم علي بن الحسين زين العابدين ثم محمد بن علي الباقر ثم جعفر بن محمد الصادق ثم موسى بن جعفر الكاظم ثم ولده علي الرضا ثم ولده محمد الجواد ثم ولده علي الهادي ثم ولده الحسن العسكري ثم الإمام المنتظر. واستدل على ذلك بوجوه ثلاثة: الأول: النقل المتواتر من الشيعة خلفا عن سلف فإنه يدل على إمامة كل واحد من هؤلاء بالتنصيص، وقد نقل المخالفون ذلك من طرق متعددة تارة على الإجمال وأخرى على التفصيل، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متواترا أنه قال للحسين عليه السلام: هذا ابني إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمة تسعة تاسعهم قائمهم، وغير ذلك من الأخبار. وروي عن مسروق وقال: بينا نحن عند عبد الله بن مسعود إذ قال له شاب: هل عهد إليكم نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم كم يكون من بعده خليفة، قال: إنك لحديث السن وإن هذا شئ ما سألني أحد عنه نعم عهد إلينا نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون بعده اثنا عشر خليفة عدد نقباء بني إسرائيل. الوجه الثاني: قد بينا أن الإمام يجب أن يكون معصوما وغير هؤلاء ليسوا معصومين إجماعا، فتعينت العصمة لهم وإلا لزم خلو الزمان عن المعصوم، وقد بينا استحالته. الوجه الثالث: أن الكمالات النفسانية والبدنية بأجمعها موجودة في كل واحد منهم، وكل واحد منهم كما هو كامل في نفسه كذا هو مكمل لغيره، وذلك يدل على
539 استحقاقه الرياسة العامة لأنه أفضل من كل أحد في زمانه ويقبح عقلا تقديم المفضول على الفاضل فيجب أن يكون كل واحد منهم إماما، وهذا برهان لمي. المسألة التاسعة في أحكام المخالفين قال: ومحاربوا علي عليه السلام كفرة ومخالفوه فسقة. أقول: المحارب لعلي عليه السلام كافر لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: حربك يا علي حربي، ولا شك في كفر من حارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأما مخالفوه في الإمامة فقد اختلف قول علمائنا فيهم، فمنهم من حكم بكفرهم لأنهم دفعوا ما علم ثبوته من الدين ضرورة وهو النص الجلي الدال على إمامته مع تواتره، وذهب آخرون إلى أنهم فسقة وهو الأقوى. ثم اختلف هؤلاء على أقوال ثلاثة: أحدها: أنهم مخلدون في النار لعدم استحقاقهم الجنة. الثاني: قال بعضهم: إنهم يخرجون من النار إلى الجنة. الثالث: ما ارتضاه ابن نوبخت وجماعة من علمائنا أنهم يخرجون من النار لعدم الكفر الموجب للخلود ولا يدخلون الجنة لعدم الأيمان المقتضي لاستحقاق الثواب.
540 قال: المقصد السادس في المعاد (1) والوعد والوعيد وما يتصل بذلك
(1) قد ذكرنا فيه أصولا وأمهات وإشارات لطيفة في تعليقاتنا على رسالته الفارسية الموسومة بتذكرة آغاز وانجام، فراجع ولا حاجة إلى نقلها هاهنا. 541 حكم المثلين واحد والسمع دل على إمكان المماثل (1) أقول: في هذا المقصد مسائل: المسألة الأولى في إمكان خلق عالم آخر وأعلم أن إيجاب المعاد يتوقف على هذه المسألة ولأجل ذلك صدرها في أول المقصد، وقد اختلف الناس في ذلك وأطبق المليون عليه وخالف فيه الأوائل واحتج المليون بالعقل والسمع، أما العقل فنقول: العالم المماثل لهذا العالم ممكن الوجود لأن هذا العالم ممكن الوجود وحكم المثلين واحد، فلما كان هذا العالم ممكنا وجب الحكم على الآخر بالإمكان، وإلى هذا البرهان أشار بقوله: حكم المثلين واحد. وأما السمع فقوله تعالى: (أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم). قال: والكرية ووجوب الخلاء واختلاف المتفقات ممنوعة. أقول: هذا إشارة إلى ما احتج الأوائل به على امتناع خلق عالم آخر، وتقريره من وجهين: الأول: أنه لو وجد عالم آخر لكان كرة لأنه الشكل الطبيعي فإن تلاقت الكرتان أو تباينتا لزم الخلاء. والجواب لا نسلم وجوب الكرية في
(1) وفي (م ت ز): إمكان التماثل. 542 العالم الثاني، سلمنا لكن لا نسلم وجوب الخلاء لإمكان ارتسام الثاني في ثخن بعض الأفلاك أو إحاطة المحيط (1) بالعالمين. الثاني: لو وجد عالم آخر فيه نار وأرض وغيرهما فإن طلبت أمكنة هذه العناصر لزم قسرها دائما وإلا اختلف المتفقات في الطباع في مقتضاها، (والجواب) لم لا يجوز أن يكون العالم الآخر مخالفا لهذا العالم في الحقيقة؟ سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون المكانان طبيعيين لهما؟ فهذا ما خطر لنا في تطبيق كلام المصنف - رحمة الله عليه -. المسألة الثانية في صحة العدم على العالم قال: والإمكان يعطي جواز العدم. أقول: اختلف الناس في أن العالم هل يصح عدمه أم لا؟ فذهب المليون أجمع إلى ذلك إلا من شذ ومنع منه القدماء واختلفوا فذهب قوم منهم إلى أن الامتناع ذاتي وجعلوا العالم واجب الوجود، ونحن قد بينا خطأهم وبرهنا على حدوثه فيكون ممكنا بالضرورة، وذهب آخرون إلى أن الامتناع باعتبار الغير وذلك أن العالم معلول علة واجب الوجود فلا يمكن عدمه إلا بعدم علته ويستحيل عدم واجب الوجود، ونحن قد بينا خطأهم في ذلك وبرهنا على أن المؤثر في العالم قادر مختار، وذهبت الكرامية والجاحظ إلى استحالة عدم العالم بعد وجوده بعد اعترافهم بالحدوث، لأن الأجسام باقية فلا تفنى بذاتها ولا بالفاعل لأن شأنه الإيجاد لا الأعدام، إذ لا فرق في العقل بين نفي الفعل وبين فعل العدم ولا ضد للأجسام لأنه بعد وجوده ليس إعدامه للباقي أولى من عدمه به لوقوع التضاد من الطرفين، وأولوية الحادث بالتعلق بالسبب مشتركة وبكثرته باطلة لامتناع اجتماع المثلين، وباسلتزام الجمع بين النقيضين باطلة لانتفائه على تقدير القول
(1) باتفاق النسخ كلها. وقوله: في مقتضاها، كما في (م) والنسخ الأخرى: في مقتضياتها. 543 بعدم دخول الحادث في الوجود ولا بانتفاء الشرط لعود الكلام عليه وهو خطأ، فإن الإعدام يستند إلى الفاعل كما يستند الوجود إليه والامتياز واقع بين نفي الفعل وفعل العدم، سلمنا لكن لم لا يجوز أن يعدم بوجود الضد ويكون الضد أولى بإعدامه وإن كان سبب الأولوية مجهولا؟ سلمنا لكن لم لا يجوز اشتراط الجواهر بأعراض غير باقية يوجدها الله تعالى حالا فحالا، فإذا لم يجدد العرض انتفت الجواهر؟ ودليل المصنف رحمه الله على مطلوبه من صحة العدم حجة على الجميع وهو أنا بينا أن العالم ممكن الوجود فيستحيل انقلابه إلى الامتناع أو الوجوب فيجوز عدمه كما جاز وجوده. المسألة الثالثة في وقوع العدم وكيفيته قال: والسمع دل عليه. أقول: يدل على وقوع العدم السمع وهو قوله تعالى: (هو الأول والآخر) وقوله تعالى: (كل شئ هالم إلا وجهه) وقال تعالى: (كل من عليها فإن) وقد وقع الاجماع على الفناء وإنما الخلاف في كيفيته على ما يأتي. قال: ويتأول في المكلف (1) بالتفريق كما في قصة إبراهيم عليه السلام. أقول: المحققون على امتناع إعادة المعدوم وسيأتي البرهان على وجوب المعاد، وهاهنا قد بين أنه تعالى يعدم العالم وذلك ظاهر المناقضة فبين المصنف مراده من الإعدام، أما في غير المكلفين وهم من لا يجب إعادته فلا اعتبار به إذ لا يجب إعادته فجاز إعدامه بالكلية ولا يعاد، وأما المكلف الذي يجب إعادته فقد تأول المصنف رحمه الله معنى إعدامه بتفريق أجزائه ولا امتناع في ذلك، فإن المكلف
(1) في (ت م): ويتناول في المكلف. والنسخ الأخرى كلها بالاتفاق: ويتأول في المكلف بالتفريق. 544 بعد تفريق أجزائه يصدق عليه أنه هالك بمعنى أنه غير منتفع به، أو يقال: إنه هالك بالنظر إلى ذاته، إذ هو ممكن وكل ممكن فإنه بالنظر إلى ذاته لا يجب له الوجود فلا يوجد، إذ لا وجود إلا للواجب بذاته أو بغيره فهو هالك بالنظر إلى ذاته، فإذا فرق أجزاءه كان هو العدم فإذا أراد الله تعالى إعادته جمع تلك الأجزاء وألفها كما كانت فذلك هو المعاد، ويدل على هذا التأويل قوله تعالى في سؤال إبراهيم عليه السلام عن كيفية الإحياء للأجزاء في الآخرة، لأنه تعالى لا يحيي الموتى في دار التكليف وإنما الإحياء يقع في الآخرة، فسأل عليه السلام عن كيفية ذلك الإحياء وهو يشتمل على السؤال عن جميع المقدمات التي يفعلها الله تعالى حتى يهيئهم ويعدهم لنفخ الروح، فأمره الله تعالى بأخذ أربعة من الطير وتقطيعها وتفريق أجزائها ومزج بعض الأجزاء ببعض ثم يفرقها ويضعها على الجبال ثم يدعوها، فلما دعاها ميز الله تعالى أجزاء كل طير عن الآخر وجمع أجزاء كل طير وفرقها عن أجزاء الآخر حتى كملت البنية التي كانت عليها أولا ثم أحياها الله تعالى ولم يعدم تلك الأجزاء فكذا في المكلف، هذا ما فهمناه من قوله: كما في قصة إبراهيم عليه السلام، فهذا هو كيفية الإعدام. قال: وإثبات (1) الفناء غير معقول لأنه إن قام بذاته لم يكن ضدا وكذا إن قام بالجوهر. أقول: لما ذكر المذهب الحق في كيفية الإعدام شرع في إبطال مذهب المخالفين في ذلك. واعلم أن من جملة من خالف في كيفية الإعدام جماعة من المعتزلة ذهبوا إلى أن الإعدام ليس هو التفريق بل الخروج عن الوجود بأن يخلق الله تعالى للجواهر (2) ضدا هو الفناء، وقد اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال: أحدها:
(1) في (م) وحدها: وامتياز الفناء. والنسخ الأخرى كلها: وإثبات الفناء كذلك في متون شرح القديم للأصفهاني وشروح أخرى: وإثبات الفناء. وكل واحد منهما صواب يفيد معنى فاردا. (2) باتفاق النسخ على هيأة الجمع. 545 قال ابن الأخشيد: إن الفناء ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز (1) إلا أنه يكون حاصلا في جهة معينة، فإذا أحدثه الله تعالى فيها عدمت الجواهر بأسرها. الثاني: قال ابن شبيب: إن الله يحدث في كل جوهر فناءا ثم ذلك الفناء يقتضي عدم الجوهر في الزمان الثاني فيجعله قائما بالمحل. الثالث: قال أبو علي وأبو هاشم ومن تابعهما: إن الفناء يحدث لا في محل فيفني الجواهر كلها حال حدوثه، ثم اختلفوا فذهب أبو هاشم وقاضي القضاة إلى أن الفناء الواحد كاف في عدم كل الجواهر، وذهب أبو علي وأصحابه إلى أن لكل جوهر فناءا مضادا له لا يكفي ذلك الفناء في عدم غيره. فإذا عرفت هذا فنقول: القول بالفناء على كل تقدير فرضوه باطل (2) لأن الفناء إن قام بذاته كان جوهرا، إذ معنى الجوهر ذلك فلا يكون ضدا للجوهر وإن كان غير قائم بذاته كان عرضا إذ هو معناه فيكون حالا في الجوهر إما ابتداء أو بواسطة، وعلى كلا التقديرين فيستحيل أن يكون منافيا للجواهر. قال: ولانتفاء الأولوية (3). أقول: يفهم من هذا الكلام أمران: أحدهما: إقامة دليل ثان على امتناع قيام الفناء بالجوهر، وتقريره أن نقول: لو كان الفناء قائما بالجوهر لكان عرضا حالا فيه ولم يكن اقتضاؤه لنفي محله أولى من اقتضاء محله لنفيه بل كان انتفاء هذا الحال بالمحل أولى، إذ منع الضد دخول الضد الآخر في الوجود مع إمكان إعدامه له أولى من اعدام المتجدد للضد الباقي وبالخصوص إذا كان محلا له. الثاني: إقامة دليل ثان على انتفاء الفناء، وتقريره أن نقول: لو كان الفناء ضدا للجواهر لم يكن إعدامه للجوهر الباقي أولى من اعدام الجوهر الباقي له بمعنى منعه عن الدخول
(1) وفي (م) فقط: ولا حال في المتحيز: والنسخ الأخرى كلها: ولا قائم بالمتحيز. (2) باتفاق النسخ كلها إلا (ش) ففيها: كان في ضده، أصلا، وفرضوه نسخة بدل في ضده. (3) وفي (م) وحدها: وانتفاء الأولوية، بدون الجارة، والنسخ الأخرى كلها معها كما في الكتاب. 546 في الوجود بل هو أولى لما تقدم. قال: ولاستلزامه انقلاب الحقائق أو التسلسل. أقول: القول بالفناء يستلزم أحد أمرين محالين: أحدهما: انقلاب الحقائق، والثاني: التسلسل، وكل مستلزم للمحال فإنه محال قطعا، أما استحالة الأمرين فظاهر، وأما بيان الملازمة فلأن الفناء إما أن يكون واجب الوجود بذاته أو ممكن الوجود، والقسمان باطلان. أما الأول فلأنه قد كان معدوما وإلا لم توجد الجواهر ثم صار موجودا وذلك يعطي إمكانه، وأما الثاني فلأنه يصح عليه العدم وإلا لم يكن ممكنا، فعدمه إن كان لذاته كان ممتنعا بعد أن كان ممكنا، وذلك يستلزم انقلاب الحقائق وإن كان بسبب الفاعل بطل أصل دليلكم، وإن كان بوجود ضد آخر لزم التسلسل، هذا ما خطر لنا في معنى هذا الكلام. قال: وإثبات بقاء لا في محل يستلزم الترجيح من غير مرجح أو اجتماع النقيضين. أقول: ذهب قوم منهم ابن شبيب إلى أن الجوهر باق ببقاء موجود لا في محل، فإذا انتفى ذلك البقاء انتفى ذلك الجوهر، والمصنف رحمه الله أحال هذا المذهب أيضا باستلزامه المحال، وذكر أن القول بذلك يستلزم أمرين: أحدهما: الترجيح من غير مرجح، والثاني: اجتماع النقيضين. والذي يخطر لنا في تفسير ذلك أمران: أحدهما: أن يقال: البقاء إما جوهر أو عرض، والقسمان باطلان فالقول به باطل، أما الأول فلأنه لو كان جوهرا لم يكن جعله شرطا لجوهر آخر أولى من العكس، فإما أن يكون كل واحد منهما شرطا لصاحبه وهو دور، أو لا يكون أحدهما شرطا للآخر وهو المطلوب. وأما الثاني فلأنه لو كان عرضا قائما بذاته لزم اجتماع النقيضين، إذ العرض هو الموجود في المحل، فلو كان البقاء قائما لا في محل مع كونه عرضا لزم ما ذكرناه. الثاني: أن يقال: البقاء إما واجب لذاته أو ممكن لذاته، والقسمان باطلان، أما
547 الأول فلأن وجوده بعد العدم يستلزم جواز عدمه والوجوب يستلزم عدم جوازه وذلك جمع بين النقيضين، وأما الثاني فلأن عدمه في وقت دون آخر ترجيح من غير مرجح لاستحالة استناده إلى ذاته وإلا لكان ممتنع الوجود مع إمكانه وذلك جمع بين النقيضين، ولا إلى الفاعل ولا إلى الضد وإلا لجاز مثله في الجواهر، فالقول بذلك هنا مع استحالته في الجواهر ترجيح من غير مرجح، ولا إلى انتفاء الشرط وإلا لزم أن يكون للبقاء بقاء آخر فليس أحدهما بكونه صفة للآخر أولى من العكس وذلك ترجيح من غير مرجح. قال: وإثباته في المحل يستلزم توقف الشئ على نفسه إما ابتداء أو بواسطة. أقول: ذهب جماعة من الأشاعرة والكعبي إلى أن الجواهر تبقى ببقاء قائم بها، فإذا أراد الله تعالى إعدامها لم يفعل البقاء فانتفت الجواهر، والمصنف رحمه الله أبطل ذلك باستلزامه توقف الشئ على نفسه إما ابتداء أو بواسطة. وتقريره أن حصول البقاء في المحل يتوقف على وجود المحل في الزمان الثاني، لكن حصوله في الزمان الثاني إما أن يكون هو البقاء أو معلوله، ويستلزم من الأول توقف الشئ على نفسه ابتداء ومن الثاني توقفه على معلوله المتوقف عليه، وذلك يقتضي توقف الشئ على نفسه بواسطة، فهذا ما يمكن حمل كلامه عليه. المسألة الرابعة في وجوب المعاد الجسماني قال: ووجوب إيفاء الوعد والحكمة يقتضي وجوب البعث، والضرورة قاضية بثبوت الجسماني من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع إمكانه. أقول: اختلف الناس هنا، فذهب الأوائل إلى نفي المعاد الجسماني وأطبق المليون عليه، واستدل المصنف رحمه الله على وجوب المعاد مطلقا بوجهين: الأول: أن
548 الله تعالى وعد بالثواب وتوعد بالعقاب مع مشاهدة الموت للمكلفين، فوجب القول بعودهم ليحصل الوفاء بوعده ووعيده. الثاني: أن الله تعالى قد كلف وفعل الألم، وذلك يستلزم الثواب والعوض وإلا لكان ظالما تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فإنا قد بينا حكمته تعالى ولا ريب في أن الثواب والعوض أنما يصلان إلى المكلف في الآخرة لانتفائهما في الدنيا. واستدل على ثبوت المعاد الجسماني بأنه معلوم بالضرورة من دين محمد (1) صلى الله عليه وآله وسلم، والقرآن دل عليه في آيات كثيرة بالنص مع أنه ممكن فيجب المصير إليه، وإنما قلنا بأنه ممكن لأن المراد من الإعادة جمع الأجزاء المتفرقة وذلك جائز بالضرورة. قال: ولا تجب إعادة فواضل المكلف. أقول: اختلف الناس في المكلف ما هو على مذاهب عرفت منها قول من يعتقد أن المكلف هو النفس المجردة وهو مذهب الأوائل والنصارى والتناسخية والغزالي والحليمي والراغب من الأشاعرة وابن الهيصم (2) من الكرامية وجماعة من الإمامية والصوفية. (ومنها) قول جماعة من المحققين أن المكلف هو أجزاء أصلية في هذا البدن لا يتطرق إليها الزيادة والنقصان، وإنما تقعان في أجزاء المضافة إليها. إذا عرفت هذا فنقول: الواجب في المعاد هو إعادة تلك الأجزاء الأصلية أو النفس المجردة مع الأجزاء الأصلية، أما الأجسام المتصلة بتلك الأجزاء فلا تجب إعادتها بعينها، وغرض المصنف رحمه الله بهذا الكلام الجواب عن اعتراضات الفلاسفة على المعاد الجسماني وتقرير قولهم إن انسانا لو أكل آخر أو اغتذى (1) بأجزائه فإن أعيدت أجزاء الغذاء إلى الأول عدم الثاني وإن أعيدت إلى الثاني عدم الأول.
(1) في (م) والنسخ الأخرى: بأنه أمر معلوم بالضرورة في دين النبي. (2) بالصاد المهملة هو محمد بن الهيصم الكرامي. وما في المطبوعة من الثاء المثلثة فمحرف. (3) كما في (م)، والنسخ الأخرى: لو أكل آخر واغتذى. 549 وأيضا إما أن يعيد الله تعالى جميع الأجزاء البدنية الحاصلة من أول العمر إلى آخره أو القدر الحاصل له عند موته، والقسمان باطلان. أما الأول فلأن البدن دائما في التحلل والاستخلاف، فلو أعيد البدن مع جميع الأجزاء منه لزم عظمه في الغاية ولأنه قد يتحلل منه أجزاء تصير أجساما غذائية ثم يأكلها ذلك الانسان بعينه حتى تصير أجزاء من عضو آخر غير العضو الذي كانت أجزاء له أولا، فإذا أعيدت أجزاء كل عضو إلى عضوه لزم جعل ذلك الجزء جزءا من العضوين وهو محال، وأما الثاني فلأنه قد يطيع العبد حال تركبه من أجزاء بعينها ثم تتحلل تلك الأجزاء ويعصي في أجزاء أخرى فإذا أعيد في تلك الأجزاء بعينها وأثابها على الطاعة لزم إيصال الحق إلى غير مستحقه. وتقرير الجواب واحد وهو أن لكل مكلف أجزاءا أصلية لا يمكن أن تصير جزءا من غيرها بل تكون فواضل من غيره لو اغتذى بها (1) فإذا أعيدت جعلت أجزاء أصلية لما كانت أصلية له أولا، وتلك الأجزاء هي التي تعاد وهي باقية من أول العمر إلى آخره. قال: وعدم انخراق الأفلاك وحصول الجنة فوقها ودوام الحياة مع الاحتراق وتولد البدن من غير التوالد وتناهي القوى الجسمانية استبعادات. أقول: احتج الأوائل على امتناع المعاد الجسماني بوجوه: أحدها: أن السمع قد دل على انتثار الكواكب وانخراق الأفلاك وذلك محال. الثاني: أن حصول الجنة فوق الأفلاك كما ذهب إليه المسلمون يقتضي عدم الكرية. الثالث: أن بقاء الحياة مع دوام الاحتراق في النار محال. الرابع: أن تولد الأشخاص وقت الإعادة من غير توالد الأبوين باطل. الخامس: أن القوى الجسمانية متناهية والقول بدوام نعيم أهل الجنة قول بعدم التناهي. والجواب عن الكل واحد وهو أن هذه استبعادات، أما الأفلاك فلأنها حادثة
(1) وفي (م) وحدها: ولو أعيد بها. والنسخ الأخرى كلها متفقة على ما في الكتاب، ولا يفيد ما في (م) معنى صحيحا. 550 على ما تقرر أولا فيمكن انخراقها كما يمكن عدمها، فكذا حصول الجنة فوق الأفلاك، ودوام الاحتراق مع بقاء الجسم ممكن ولأنه تعالى قادر على كل مقدور فيمكن استحالة الجسم إلى أجزاء نارية ثم يعيدها الله تعالى هكذا دائما، والتولد ممكن كما في آدم عليه السلام، والقوى الجسمانية قد لا يتناهى أثرها إذا كانت واسطة في التأثير. المسألة الخامسة في الثواب والعقاب قال: ويستحق الثواب (1) والمدح بفعل الواجب والمندوب وفعل ضد القبيح والاخلال به بشرط فعل الواجب لوجوبه أو لوجه وجوبه والمندوب كذلك والضد لأنه ترك القبيح والاخلال به لأنه إخلال لأن المشقة من غير عوض ظلم ولو أمكن الابتداء به كان عبثا. أقول: المدح قول ينبئ عن ارتفاع حال الغير مع القصد إلى الرفع منه، والثواب هو النفع المستحق المقارن للتعظيم والاجلال، والذم قول ينبئ عن اتضاع حال الغير مع قصده، والعقاب هو الضرر المستحق المقارن للاستخفاف والإهانة. والمدح والثواب يستحقان بفعل الواجب وفعل المندوب وفعل ضد القبيح وهو الترك له على ما ذهب من يثبت الترك ضدا (2) والاخلال بالقبيح. ومنع
(1) المتن موافق للنسخ كلها. (2) أي ضدا للفعل. وفي النسخ الأخرى على مذهب من يثبت. إلا أن نسخة (م) متفردة بزيادة به بعد الاخلال الأول، وهو الحق المطابق للشرح بل المتن أيضا وقد جاء في هامش (ش) بعد لفظة (كان) في المتن كلمة التكليف بدون بيان أنه من الأصل أو نسخة. وبالجملة عبارة المتن على ما اخترناه لا ريب في صحتها، بيانها: أنه ذكر استحقاق الثواب والمدح بإزاء الأفعال الأربعة وهي: فعل الواجب، وفعل المندوب، وفعل ضد القبيح، وفعل الاخلال بالقبيح. ثم قال: إن الاستحقاق المذكور بإزاء تلك الأفعال مشروط بشرط. وذكر الشرط في قبال تلك الأفعال على الترتيب بقوله: بشرط فعل الواجب لوجوبه أو لوجه وجوبه. والمندوب كذلك أي بشرط فعل المندوب لندبه أو لوجه ندبه. والضد لأنه ترك القبيح أي بشرط فعل ضد القبيح لأنه ترك القبيح. والاخلال به لأنه إخلال به أي بشرط فعل الاخلال بالقبيح لأنه إخلال به. ثم علل الاستحقاق بقوله: لأن المشقة من غير عوض ظلم. ثم قال: إن الابتداء بذلك العوض أي الاستحقاق عبث فيجب أن يكون بإزاء تلك الأفعال أي بإزاء التكليف. 551 أبو علي وجماعة من المعتزلة استحقاق المدح والثواب بالاخلال بالقبيح وصارا إلى ذلك لأن المكلف يمتنع خلوه من الأخذ والترك الذي هو فعل الضد، والحق ما ذكره المصنف رحمه الله فإن العقلاء يستحسنون ذم المخل بالواجب وإن لم يتصوروا منه فعلا كما يستحسنون ذمه على فعل القبيح. واعلم أنه يشترط في استحقاق الفاعل المدح والثواب إيقاع الواجب لوجوبه أو لوجه وجوبه، وكذا المندوب يفعله لندبه أو لوجه ندبه، وكذا في ترك القبيح يتركه لكونه ترك قبيح أو لوجه ذلك والاخلال بالقبيح لكونه إخلالا بالقبيح فإنه لو فعل الواجب أو المندوب لا لما ذكرناه لم يستحق مدحا ولا ثوابا عليهما، وكذا لو ترك القبيح لغرض آخر من لذة أو غيرها لم يستحق المدح والثواب. والدليل على استحقاق الثواب بفعل الطاعة أنها مشقة قد ألزمها الله تعالى المكلف، فإن لم يكن لغرض كان عبثا وظلما وهو قبيح لا يصدر عن الحكيم، وإن كان لغرض فأما الإضرار وهو ظلم وأما النفع وهو إما أن يصح الابتداء به أو لا، والأول باطل وإلا لزم العبث في التكليف، والثاني هو المطلوب وذلك النفع هو المستحق بالطاعة المقارن للتعظيم والاجلال فإنه يقبح الابتداء بذلك لأن تعظيم من لا يستحقه قبيح. قال: وكذا يستحق العقاب والذم بفعل القبيح والاخلال بالواجب لاشتماله على اللطف وللسمع (1). أقول: كما أن الطاعة سبب لاستحقاق الثواب فكذا المعصية وهي فعل القبيح
(1) باتفاق النسخ كلها. 552 وترك الواجب سبب لاستيجاب العقاب (1) لوجهين: أحدهما: عقلي كما ذهب إليه جماعة من العدلية، وتقريره أن العقاب لطف واللطف واجب، أما الصغرى فلأن المكلف إذا عرف أن مع المعصية يستحق العقاب (2) فإنه يبعد عن فعلها ويقرب إلى فعل ضدها وهو معلوم قطعا، وأما الكبرى فقد تقدمت. الثاني: سمعي وهو الذي ذهب إليه باقي العدلية، وهو متواتر معلوم من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم. إذا عرفت هذا فنقول: ذهب جماعة إلى أن الاخلال بالواجب لا يقتضي استحقاق ذم ولا عقاب، بل المقتضي لذلك هو فعل القبيح أو ضد فعل الواجب وهو تركه، وقد تقدم بيان ذلك. قال: ولا استبعاد في اجتماع الاستحقاقين باعتبارين. أقول: هذا جواب عن حجة من منع من كون الإخلال بالواجب سببا لاستحقاق الذم، وتقريره أنه لو كان ذلك سببا والاخلال بالقبيح سبب للمدح لكان المكلف إذا خلا من الأمرين مستحقا للذم والمدح. والجواب لا استبعاد في اجتماع الاستحقاقين باعتبارين فيذم على أحدهما ويمدح على الآخر، كما إذا فعل طاعة ببعض أعضائه ومعصية بالبعض الآخر. قال: وإيجاب المشقة في شكر النعمة قبيح (3). أقول: ذهب أبو القاسم البلخي إلى أن هذه التكاليف وجبت شكرا للنعمة فلا تستلزم وجوب الثواب ولا يستحق بفعلها نفع وإنما الثواب تفضل من الله تعالى، وذهب جماعة من العدلية إلى خلاف هذا القول، واحتج المصنف رحمه الله على إبطاله بأنه يقبح عند العقلاء أن ينعم الانسان على غيره ثم يكلفه ويوجب عليه شكره
(1) كما في (م) وفي (ص ش ز د): وهي فعل القبيح أو الاخلال بالواجب سبب لاستحقاق العقاب. (2) هكذا كانت العبارة في النسخ كلها إلا (ص) ففيها (أن بالمعصية) كيف ما كان اسم أن يجب أن يكون هو الشأن. (3) باتفاق النسخ كلها. 553 ومدحته على تلك النعمة من غير إيصال ثواب إليه ويعدون ذلك نقصا في المنعم وينسبون إلى الرياء، وذلك قبيح لا يصدر من الحكيم فوجب القول باستحقاق الثواب. قال: ولقضاء العقل به مع الجهل. أقول: هذا دليل ثان على إبطال قول البلخي، وتقريره أن العقلاء بأسرهم يجزمون بوجوب شكر المنعم، وإذا كان وجوب الشكر معلوما بالعقل مع أن العقل لا يدرك التكاليف الشرعية وجب القول بكونها ليست شكرا. قال: ويشترط في استحقاق الثواب (1) كون الفعل أو الاخلال به شاقا لا رفع الندم على فعله ولا انتفاء النفع العاجل إذا فعل للوجه. أقول: يشترط في استحقاق الثواب كون الفعل المكلف به الواجب أو المندوب شاقا وكون الاخلال بالقبيح شاقا، إذ المقتضي لاستحقاق الثواب هو المشقة فإذا انتفت انتفى المقتضي للاستحقاق، ولا يشترط رفع الندم على فعل الطاعة فإن الطاعة سبب لاستحقاق الثواب، وقد وجدت منفكة عنه لأنه في حال الفعل يستحيل أن يكون نادما عليه. نعم نفي الندم شرط في بقاء استحقاق الثواب، وكذا لا يشترط في الثواب عدم النفع العاجل إذا أوقعه المكلف لوجه الوجوب أو للوجوب أو لوجه الندب أو للندب. المسألة السادسة في صفات الثواب والعقاب قال: ويجب اقتران الثواب بالتعظيم والعقاب بالإهانة للعلم الضروري
(1) المتن توافقه النسخ كلها والزيادات في المطبوعة تعليقات أدرجت في المتن. قوله: لا رفع الندم على فعله أي يشترط في استحقاق الثواب ما قلنا لا رفع الندم ولا انتفاء النفع العاجل أي لا يشترط ذاك ولا ذلك كما في الشرح. 554 باستحقاقهما مع فعل موجبهما. أقول: ذهبت المعتزلة إلى أن الثواب نفع عظيم مستحق يقارنه التعظيم، والعقاب ضرر عظيم مستحق يقارنه الإهانة، واحتجوا على وجوب اقتران التعظيم بالثواب واقتران الإهانة بالعقاب بأنا نعلم بالضرورة أن فاعل الفعل الشاق (1) المكلف به فإنه يستحق التعظيم والمدح، وكذلك من فعل القبيح فإنه يستحق الإهانة والاستخفاف. قال: ويجب دوامهما لاشتماله على اللطفية (2) ولدوام المدح والذم ولحصول نقيضيهما لولاه. أقول: ذهب المعتزلة إلى أن الثواب والعقاب دائمان، واختلف في العلم بدوامهما هل هو عقلي أو سمعي؟ فذهبت المعتزلة إلى أنه عقلي، وذهبت المرجئة إلى أنه سمعي. واحتج المصنف رحمه الله على دوامهما بوجوه: أحدها: أن العلم بدوام الثواب والعقاب يبعث العبد على فعل الطاعة ويبعده عن المعصية وذلك ضروري، وإذا كان كذلك كان لطفا واللطف واجب على ما مر. الثاني: أن المدح والذم دائمان، إذ لا وقت إلا ويحسن مدح المطيع وذم العاصي إذا لم يظهر منه ندم على ما فعل، وهما معلولا الطاعة والمعصية فيجب كون الطاعة والمعصية في حكم الدائمتين، فيجب دوام الثواب والعقاب لأن دوام أحد المعلولين يستلزم دوام المعلول الآخر، لأن العلة تكون دائمة أو في حكم الدائمة. الثالث: أن الثواب لو كان منقطعا لحصل لصاحبه الألم بانقطاعه، ولو كان العقاب منقطعا لحصل لصاحبه السرور (3) بانقطاعه، وذلك ينافي الثواب والعقاب لأنهما خالصان عن الشوائب، هذا ما
(1) كما في (م)، والنسخ الأخرى كلها: إن من فعل الفعل الشاق. (2) باتفاق النسخ كلها. (3) كما في النسخ كلها إلا (م) ففيها: لحصل له السرور. 555 فهمناه من كلام المصنف رحمه الله. وقوله: لحصول نقيضيهما، يعني نقيضي الثواب والعقاب، لولاه أي لولا الدوام. قال: ويجب خلوصهما وإلا لكان الثواب أنقص حالا من العوض والتفضل على تقدير حصوله فيهما وهو أدخل في باب الزجر. أقول: يجب خلوص الثواب والعقاب عن الشوائب، أما الثواب فلأنه لولا ذلك لكان العوض والتفضل أكمل منه لأنه يجوز خلوصهما عن الشوائب وحينئذ يكون الثواب أنقص درجة وأنه غير جائز، وأما العقاب فلأنه أعظم في الزجر (1) فيكون لطفا. قال: وكل ذي مرتبة في الجنة (2) لا يطلب الأزيد ويبلغ سرورهم بالشكر إلى حد انتفاء المشقة وغناؤهم بالثواب ينفي مشقة ترك القبائح وأهل النار يلجأون إلى ترك القبيح. أقول: لما ذكر أن الثواب خالص عن الشوائب ورد عليه أن أهل الجنة يتفاوتون في الدرجات، فالأنقص إذا شاهد من هو أعظم ثوابا حصل له الغم بنقص درجته عنه وبعدم اجتهاده في العبادة وأيضا، فإنه يجب عليهم الشكر لنعم الله تعالى والاخلال بالقبائح وفي ذلك مشقة. والجواب عن الأول أن شهوة كل
(1) باتفاق النسخ كلها. وفي المطبوعة فلأنه أدخل في الزجر. وهذا تحريف سنح من ظاهر قول الماتن: (وهو أدخل في باب الزجر). والصواب أعظم، وهو تفسير أدخل. يعني يجب خلوص الثواب من شوائب الألم أي يجب أن لا يكون مشوبا بألم من مثل الحزن والغم والخوف ونحوها، وكذا يجب خلوص العقاب من شوائب اللذة أي يجب أن لا يكون مشوبا باللذة. (2) وذلك لأن الدرجات هنالك ليست إلا مراتب الأعمال الصالحة والحقائق الايقانية النورية المكسوبة هاهنا. وعن مولانا إمام الملك والملكوت الصادق عليه السلام: لا تقولن الجنة واحدة إن الله يقول: ومن دونهما جنتان، ولا تقولن درجة واحدة إن الله يقول: درجات بعضها فوق بعض، إنما تفاضل القوم بالأعمال، رواه في الصافي في سورة الرحمن في تفسير قوله سبحانه: (ومن دونهما جنتان). 556 مكلف مقصورة على ما حصل له ولا يغتم بفقد الأزيد لعدم اشتهائه له، وعن الثاني أنه يبلغ سرورهم بالشكر على النعمة إلى حد تنتفي المشقة معه. وأما الاخلال بالقبائح فإنه لا مشقة عليهم فيها لأنه تعالى يغنيهم بالثواب ومنافعه عن فعل القبيح فلا تحصل لهم مشقة، أما أهل النار فإنهم يلجأون إلى فعل ما يجب عليهم وترك القبائح فلا تصدر عنهم، وليس ذلك تكليفا لأنه بالغ حد الالجاء ويحصل من ذلك نوع من العقاب أيضا. قال: ويجوز توقف الثواب على شرط وإلا لأثيب العارف بالله تعالى خاصة. أقول: ذهب جماعة إلى أن الثواب يجوز أن يكون موقوفا على شرط ومنعه آخرون، والأول هو الحق، والدليل عليه أنه لولا ذلك لكان العارف بالله تعالى وحده مثابا مع عدم نظره في المعجزة وعدم تصديقه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والتالي باطل إجماعا فكذا المقدم، بيان الشرطية أن المعرفة طاعة مستقلة بنفسها فلو لم يتوقف الثواب عليها على شرط لوجبت إثابة من لم يصدق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث لم ينظر في معجزته. قال: وهو مشروط بالموافاة (1) لقوله تعالى: (لئن أشركت ليحبطن عملك)
أي الثواب مشروط بأن عامل الخير يوافي إيمانه الموت أي يدوم إيمانه إلى حال الموت ويوافي بالطاعة سليمة إلى الموت. قال في تفسير المجمع عند قوله سبحانه: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) (البقرة 34): وأما قوله تعالى: (وكان من الكافرين) قيل: معناه كان كافرا في الأصل، وهذا القول يوافق مذهبنا في الموافاة. وفي نسخة مخطوطة مصححة من المجمع عندنا مزدانة بتعليقات عتيقة، جاءت عبارة التعليقة في المقام هكذا: اختلف المعتزلة في اشتراط الموافاة في الثواب والعقاب فقال بهما مشائخ بغداد وأنكره الباقون. والقائلون بالموافاة اختلفوا فمنهم من قال: لا يثبت الاستحقاق بهما إلا في الآخرة وهو إذا وافى العبد بالطاعة سليمة إلى دار الآخرة. ومنهم من قال: يثبت في حال الموت وهو إذا وافى العبد بها إلى الموت. ومنهم من قال: بل في حال الطاعة أو المعصية بشرط الموافاة وهو إذا كان معلوم الحكم منه أنه لا محبط الطاعة إلى حالة الموت. احتج المشترطون بأن ثواب الأيمان دائم فلو لم يتوقف على الموافاة لكان المرتد إما أن يستحق العقاب الدائم مع استحقاق دوام الثواب، أو يكون أحدهما زائلا بالآخر وهو المطلوب. واعلم أن استحقاق الثواب يتوقف على الاستمرار على الإيمان وعلامة ذلك الموافاة. 557 وقوله تعالى: (ومن يرتدد منكم عن دينه). أقول: اختلف المعتزلة على أربعة أقوال: فقال بعضهم: إن الثواب والعقاب يستحقان في وقت وجود الطاعة والمعصية وأبطلوا القول بالموافاة. وقال آخرون: إنهما يستحقان في الدار الآخرة. وقال آخرون: إنهما يستحقان حال الاخترام. وقال آخرون: إنهما يستحقان في الحال بشرط الموافاة، فإن كان في علم الله تعالى أنه يوافي الطاعة سليمة إلى حال الموت أو الآخرة استحق بها الثواب في الحال وكذا المعصية وإن كان في علمه تعالى أنه يحبط الطاعة أو يتوب من المعصية قبل الموافاة لم يستحق الثواب ولا العقاب بهما، واستدل المصنف رحمه الله على القول بالموافاة بقوله تعالى: (لئن أشركت ليحبطن عملك) وبقوله تعالى: (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم) وتقريره أن نقول (1): إما أن يكون المراد بالاحباط هنا كون العمل باطلا في أصله أو أن
(1) العبارة قد حرفت في النسخ المطبوعة والمخطوطة تحريفا فاحشا، ومختارنا مطابق لما في نسخة (م) وهو الحق محققا. فنقول في بيانه على وزان كلام الشارح العلامة في تقرير هذا المطلب القويم الأصيل: إن الثواب مشروط بالموافاة على ما تقدم منا تفسيرها آنفا، وذلك بالكريمتين اللتين استدل بهما المحقق الطوسي على الموافاة، فإن المراد بالاحباط والحبط فيهما يتصور على وجوه ثلاثة: أحدها: أن يكون العمل باطلا في أصله. وثانيها: أن الثواب يسقط بعد ثبوته. وثالثها: أن الكفر أي الشرك والارتداد أبطله، أي لم يتحقق الموافاة. والوجه الأول باطل بدليلين: الأول: أن الله سبحانه علق بطلان العمل بالشرك المتجدد حيث قال: لئن أشركت ليحبطن عملك، وقال: ومن يرتدد منكم.. الآية. الدليل الثاني: أن قوله سبحانه في الآيتين شرط وجزاء، والشرط والجزاء أنما يقعان في المستقبل، فبالأول أي الشرط يبطل الثاني أي الجزاء، يعني إذا سنح الشرك والارتداد يحبط الأعمال فلا يكون العمل باطلا في أصله. والوجه الثاني باطل لأنه إحباط كما يأتي في المسألة الآتية. فإذا بطل الوجهان الأولان تعين الوجه الثالث وهو صحة القول بالموافاة. فبما بينا دريت أن المراد من قوله: وبالأول يبطل الثاني، هو الشرط والجزاء، وقد توهم بعضهم أن المراد بهما هو الوجه الأول والثاني. ثم أوجب هذا الوهم السوء تبديل الثاني بالثالث وإسقاط قوله فتعين الثالث. والصورة المحرفة هكذا: والأولان باطلان أما الأول لأنه علق بطلانه بالشرك ولأنه شرط وجزاؤهما أنما يقعان في المستقبل وبالأول يبطل الثاني وأما الثالث فلما يأتي من بطلان التحابط. 558 الثواب يسقط بعد ثبوته أو أن الكفر أبطله، والأولان باطلان. أما الأول فلأنه علق بطلانه بالشرك المتجدد ولأنه شرط وجزاء وهما أنما يقعان في المستقبل وبالأول يبطل الثاني، وأما الثاني فلما يأتي من بطلان التحابط فتعين الثالث. المسألة السابعة في الإحباط والتكفير قال: والاحباط باطل (1) لاستلزامه الظلم ولقوله تعالى: (فمن يعمل مثقال
(1) وهو في الحقيقة الكشف عن عدم اليقين في الإيمان، وعدم الاخلاص في العبادة كالمرائي فيرى لا ثواب له لأنه عمل لغير وجه الله واقعا كما قال سبحانه: (كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شئ مما كسبوا) (البقرة 264). وقال عز من قائل: (ألا لله الدين الخالص) (الزمر 3) والروايات في بطلان عمل المرائي أيضا دالة على ذلك، وليس هاهنا إحباط بمعناه الحقيقي. قال الطبرسي في المجمع في تفسير قوله تعالى: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) الآية (البقرة 35): وإنما قلنا لا يجوز مواقعة الكبائر على الأنبياء عليهم السلام من حيث أن القبيح يستحق فاعله به الذم والعقاب لأن المعاصي عندنا كلها كبائر وإنما تسمى صغيرة بإضافتها إلى ما هو أكبر عقابا منها لأن الاحباط قد دل الدليل عندنا على بطلانه وإذا بطل ذلك فلا معصية إلا ويستحق فاعلها الذم والعقاب وإذا كان الذم والعقاب منفيين عن الأنبياء عليهم السلام وجب أن ينتفي عنهم سائر الذنوب.. الخ. وقال فيه عند كلامه سبحانه: قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون (البقرة 139): فصل في ذكر الاخلاص: روي عن حذيفة بن اليمان قال: سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الاخلاص ما هو؟ قال: سألت جبرئيل عليه السلام عن ذلك قال: سألت رب العزة عن ذلك فقال: هو سر من سري استودعته قلب من أحببته من عبادي. وروي عن ابن إدريس الخولاني عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن لكل حق حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الاخلاص حتى لا يحب أن يحمد على شئ من عمل الله. وقال سعيد بن جبير: الاخلاص أن يخلص العبد دينه وعمله لله ولا يشرك به في دينه ولا يرائي بعمله أحدا. وقيل: الاخلاص أن تستوي أعمال العبد في الظاهر والباطن. وقيل: هو ما استتر من الخلائق واستصفى من العلائق. وقيل: هو أن يكتم حسناته كما يكتم سيئاته. 559 ذرة خيرا يره). أقول: اختلف الناس هنا، فقال جماعة من المعتزلة بالاحباط والتكفير، ومعناهما أن المكلف يسقط ثوابه المتقدم بالمعصية المتأخرة أو تكفر ذنوبه المتقدمة بطاعته المتأخرة ونفاهما المحققون، ثم القائلون بهما اختلفوا فقال أبو علي: إن المتأخر يسقط المتقدم ويبقى على حاله. وقال أبو هاشم: إنه ينتفي الأقل بالأكثر وينتفي من الأكثر بالأقل ما ساواه ويبقى الزائد مستحقا وهذا هو الموازنة، ويدل على بطلان الاحباط أنه يستلزم الظلم لأن من أساء وأطاع وكانت إساءته أكثر يكون بمنزلة من لم يحسن وإن كان إحسانه أكثر يكون بمنزلة من لم يسئ وإن تساويا يكون مساويا لمن لم يصدر عنه أحدهما وليس كذلك عند العقلاء، ولقوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) والايفاء بوعده ووعيده واجب. قال: ولعدم الأولوية إذا كان الآخر ضعفا (1) وحصول المتناقضين مع التساوي.
(1) الضعف بالكسر فالسكون وما في بعض النسخ: (ضعيفا) فمحرف بلا حرف. وفي (ت) بعد قوله ضعفا: وحصولها لمتناقضين والنسخ الأخرى كما اخترناه وحصول المتناقضين مجرور معطوف على عدم الأولوية. ونسخة (م) قد نقصت منها عدة صفحات من هذه المسألة إلى المسألة الخامسة عشرة. الكلام في رد قول أبي هاشم بالموازنة وقد دريت أنه ذهب إلى أنه ينتفي الأقل بالأكثر، وينتفي من الأكثر بالأقل ما ساواه ويبقى الزائد مستحقا، فالمحقق أتى بدليلين في إبطال قوله أحدهما بعدم الأولوية على فرض أحد من الثواب والعقاب ضعفا للآخر كما مثل الشارح العلامة بقوله: إذا فرضنا استحق المكلف خمسة أجزاء من الثواب وعشرة أجزاء من العقاب. والثاني حصول المتناقضين أي جمعهما على فرض تساوي الثواب والعقاب كما مثل في الشرح بقوله: ولو فرضنا أنه فعل خمسة أجزاء من الثواب وخمسة أجزاء من العقاب. وتقرير الشارح في بيان الدليلين خال عن التكلف جار على أسلوبه الطبيعي. والأستاذ العلامة الشعراني عدل من الضعف إلى الضعيف ففسر العبارة بما ليس بمراد وقد تكلف بما استفاد، وأسند بيان الشارح إلى التكلف وعدم السداد. 560 أقول: هذا دليل على إبطال قول أبي هاشم بالموازنة، وتقريره أنا إذا فرضنا أنه استحق المكلف خمسة أجزاء من الثواب وعشرة أجزاء من العقاب، فليس إسقاط إحدى الخمستين من العقاب بالخمسة من الثواب أولى من الأخرى، فإما أن يسقطا معا وهو خلاف مذهبه أو لا يسقط شئ منهما وهو المطلوب، ولو فرضنا أنه فعل خمسة أجزاء من الثواب وخمسة أجزاء من العقاب فإن تقدم إسقاط أحدهما للآخر لم يسقط الباقي بالمعدوم لاستحالة صيرورة المغلوب والمعدوم غالبا ومؤثرا، وإن تقارنا لزم وجودهما معا لأن وجود كل منهما نفي وجود الآخر فيلزم وجودهما حال عدمهما، وذلك جمع بين المتناقضين. المسألة الثامنة في انقطاع عذاب أصحاب الكبائر قال: والكافر مخلد (1) وعذاب صاحب الكبيرة منقطع لاستحقاقه الثواب بإيمانه ولقبحه عند العقلاء. أقول: أجمع المسلمون كافة على أن عذاب الكافر مؤبد لا ينقطع، واختلفوا
(1) فإنه بإبطال نفسه وجعلها بتراء صار من سنخ الجحيم فلا ترد النعيم، كما لو كان في هذه النشأة مخلدا فأزال مرة بصره بسوء عمله آنا ما، فإنه في هذه النشأة أعمى مخلدا فلا يسمع منه أن يقول إن سوء عملي كان آنا ما فلماذا كنت أعمى بالخلود المؤبد. 561 في أصحاب الكبائر من المسلمين فالوعيدية على أنه كذلك، وذهبت الإمامية وطائفة كثيرة من المعتزلة والأشاعرة إلى أن عذابه منقطع، وينبغي أن يعرف هنا الصغير والكبير من الذنب (1) أما الصغير فيقال على وجوه: (منها): ما يقال بالإضافة إلى الطاعة، فيقال: هذه المعصية صغيرة في مقابلة الطاعة أو هي أصغر من هذه الطاعة، باعتبار أن عقابها ينقص في كل وقت عن ثواب تلك الطاعة في كل وقت، وإنما شرطنا عموم الوقت لأنه متى اختلف الحال في ذلك بأن يزيد تارة ثواب الطاعة عن عقاب المعصية وتارة ينقص لم نقل إن تلك صغيرة بالإضافة إلى تلك الطاعة على الإطلاق، بل تقيد بالحالة التي يكون عقابها أقل من ثواب الطاعة وحصول الاختلاف بما يقترن بالطاعة والمعصية، فإن الإنفاق في سبيل الله مختلف كما قال تعالى: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح). (ومنها) أن يقال بالنسبة إلى معصية أخرى، فيقال: هذه المعصية أصغر من تلك، بمعنى أن عقاب هذه ينقص في كل وقت عن عقاب الأخرى. (ومنها) أن يقال بالإضافة إلى ثواب فاعلها، بمعنى أن عقابها ينقص في كل وقت عن ثواب فاعلها في كل وقت، هذا هو الذي يطلقه العلماء عليه، والكبير يقال على وجوه مقابلة لهذه الوجوه. إذا عرفت هذا فنقول: الحق أن عقاب أصحاب الكبائر منقطع، والدليل عليه وجهان: الأول: أنه يستحق الثواب بإيمانه لقوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) والإيمان أعظم أفعال الخير، فإذا استحق العقاب بالمعصية فإما أن يقدم الثواب على العقاب وهو باطل بالاجماع لأن الثواب المستحق بالإيمان دائم على ما تقدم أو بالعكس وهو المراد والجمع محال. الثاني: يلزم أن يكون من عبد الله
(1) قد تقدم آنفا عن المجمع أن المعاصي عندنا كلها كبائر وإنما تسمى صغيرة بإضافتها إلى ما هو أكبر عقابا منها، فلا تنظر إلى الذنب أنه محقر بل انظر إلى من عصيته. 562 تعالى مدة عمره بأنواع القربات إليه ثم عصى في آخر عمره معصية واحدة مع بقاء إيمانه مخلدا في النار كمن أشرك بالله تعالى مدة عمره، وذلك محال لقبحه عند العقلاء. قال: والسمعيات متأولة ودوام العقاب مختص بالكافر. أقول: هذا إشارة إلى الجواب عن حجج الوعيدية واحتجوا بالنقل والعقل. (أما النقل) فالآيات الدالة على خلودهم كقوله تعالى: (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها) وقوله تعالى: (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) إلى غير ذلك من الآيات. (وأما العقل) فما تقدم من أن العقاب والثواب يجب دوامهما. (والجواب) عن السمع التأويل إما بمنع العموم والتخصيص بالكفار وإما بتأويل الخلود بالبقاء المتطاول وإن لم يكن دائما، وعن العقل بأن دوام العقاب أنما هو في حق الكافر أما غيره فلا. المسألة التاسعة في جواز العفو قال: والعفو واقع لأنه حقه تعالى فجاز إسقاطه ولا ضرر عليه في تركه مع ضرر النازل به فحسن إسقاطه ولأنه إحسان. أقول: ذهب جماعة من معتزلة بغداد إلى أن العفو جائز عقلا غير جائز سمعا، وذهب البصريون إلى جوازه سمعا وهو الحق، واستدل عليه المصنف رحمه الله بوجوه (1)، الأول أن العقاب حق لله تعالى فجاز تركه والمقدمتان ظاهرتان.
(1) بوجوه، كما في (ص). وفي (ق ش ز د): بوجوه ثلاثة. وعبارة المتن أيضا جاءت في غير (ت): ولأنه إحسان، بالواو، وأما نسخة (ت) ففيها: فحسن إسقاطه لأنه إحسان بدون الواو. ونسخة (م) هاهنا ساقطة وقد كتبت ثانية وكانت هي أقدم النسخ. فالوجوه محمولة على أقل الجمع، ولكن الشارح القوشجي في شرحه بعد بيان الوجهين قال: الثالث العفو إحسان والاحسان على الله تعالى واجب، وكلامه هذا بيان لقول المحقق الطوسي ولأنه إحسان كما هو ظاهر. وظني أن كلام الشارح العلامة في الوجه الثالث سقط عن قلم النساخ وقد رأيت نظيره في الكتاب، فيجب أن يضاف إليه نحو قول القوشجي بأن يقال: الثالث العفو إحسان والاحسان على الله تعالى واجب، بيانا لقوله: ولأنه إحسان. 563 الثاني: أن العقاب ضرر بالمكلف ولا ضرر في تركه على مستحقه وكل ما كان كذلك كان تركه حسنا، أما أنه ضرر بالمكلف فضروري وأما عدم الضرر في تركه فقطعي لأنه تعالى غني بذاته عن كل شئ وأما إن ترك مثل هذا حسن فضروري. قال: وللسمع. أقول: هذا دليل الوقوع سمعا وهو الآيات الدالة على العفو كقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) فإما أن يكون هذان الحكمان مع التوبة أو بدونها، والأول باطل لأن الشرك يغفر مع التوبة فتعين الثاني، (وأيضا) المعصية مع التوبة يجب غفرانها وليس المراد في الآية المعصية التي يجب غفرانها، لأن الواجب لا يعلق بالمشيئة فما كان يحسن قوله لمن يشاء فوجب عود الآية إلى معصية لا يجب غفرانها كقوله تعالى: وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم و (على) تدل على الحال أو الغرض كما يقال: ضربت زيدا على عصيانه، أي لأجل عصيانه وهو غير مراد هنا قطعا فتعين الأول. (وأيضا) فالله تعالى قد نطق في كتابه العزيز بأنه عفو غفور، وأجمع المسلمون عليه ولا معنى له إلا إسقاط العقاب عن العاصي. المسألة العاشرة في الشفاعة (1) قال: والاجماع على الشفاعة فقيل لزيادة المنافع ويبطل بنا في حقه صلى الله عليه وآله.
(1) المحقق في الشفاعة أن المؤمن يكسبها في هذه النشأة باتباع سيرة الشفيع فما حرثه في مزرعة نفسه هاهنا يرى نتيجته في نشأته الأخرى التي هي يوم حصاده والنتيجة في طول العمل بل الجزاء نفس العمل، فافهم. 564 أقول: اتفقت العلماء على ثبوت الشفاعة للنبي صلى الله عليه وآله، ويدل عليه قوله تعالى: (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) قيل: إنه الشفاعة، واختلفوا فقالت الوعيدية: إنها عبارة عن طلب زيادة المنافع للمؤمنين المستحقين للثواب، وذهبت التفضلية إلى أن الشفاعة للفساق من هذه الأمة في إسقاط عقابهم وهو الحق، وأبطل المصنف الأول بأن الشفاعة لو كانت في زيادة المنافع لا غير لكنا شافعين في النبي صلى الله عليه وآله حيث نطلب له من الله تعالى علو الدرجات، والتالي باطل قطعا لأن الشافع أعلى من المشفوع فيه فالمقدم مثله. قال: ونفي المطاع لا يسلتزم نفي المجاب وباقي السمعيات متأولة بالكفار (1). أقول: هذا إشارة إلى جواب من استدل على أن الشفاعة أنما هي في زيادة المنافع، وقد استدلوا بوجوه: الأول: قوله تعالى: (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) نفى الله تعالى قبول الشفاعة عن الظالم والفاسق ظالم. (والجواب) أنه تعالى نفى الشفيع المطاع ونحن نقول به لأنه ليس في الآخرة شفيع يطاع لأن المطاع فوق المطيع والله تعالى فوق كل موجود ولا أحد فوقه، ولا يلزم من نفي الشفيع المطاع نفي الشفيع المجاب، سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون المراد بالظالمين هنا الكفار جمعا بين الأدلة؟ الثاني: قوله تعالى: (وما للظالمين من أنصار) ولو شفع عليه السلام في الفاسق لكان ناصرا له. الثالث: قوله تعالى: (ولا تنفعها شفاعة) (يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا) (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) والجواب عن هذه الآيات كلها أنها مختصة بالكفار جمعا بين الأدلة. الرابع: قوله تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) نفي شفاعة الملائكة عن غير المرتضى لله تعالى والفاسق غير مرتضى (2) والجواب لا نسلم أن الفاسق غير مرتضى بل هو
(1) في الكفار، كما في (ت)، والنسخ الأخرى: متأولة بالكفار. (2) وفي نسخة (ق) كتبت فوق غير مرتضى هذه اللفظة: بخطه. يعني أن غير مرتضى بخط الشارح العلامة. 565 مرتضى لله تعالى في إيمانه. قال: وقيل في إسقاط المضار والحق صدق الشفاعة فيهما وثبوت الثاني له صلى الله عليه وآله بقوله: ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي. أقول: هذا هو المذهب الثاني الذي حكيناه أولا وهو أن الشفاعة في إسقاط المضار، ثم بين المصنف رحمه الله أنها تطلق على المعنيين معا، كما يقال: شفع فلان في فلان إذا طلب له زيادة منافع أو إسقاط مضار وذلك متعارف عند العقلاء، ثم بين أن الشفاعة بالمعنى الثاني - أعني إسقاط المضار - ثابتة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، وذلك حديث مشهور. المسألة الحادية عشرة في وجوب التوبة قال: والتوبة واجبة (1) لدفعها الضرر ولوجوب الندم على كل قبيح أو إخلال بواجب. أقول: التوبة هي الندم على المعصية لكونها معصية والعزم على ترك المعاودة في المستقبل لأن ترك العزم يكشف عن نفي الندم، وهي واجبة بالاجماع لكن اختلفوا فذهب جماعة من المعتزلة إلى أنها تجب من الكبائر المعلوم كونها كبائر أو المظنون فيها ذلك ولا يجب من الصغائر المعلوم منها أنها صغائر. وقال آخرون: إنها لا تجب من ذنوب تاب عنها من قبل. وقال آخرون: إنها تجب من كل صغير وكبير من المعاصي أو الاخلال بالواجب سواء تاب عنها قبل أو لم يتب. وقد استدل المصنف على وجوبها بأمرين: الأول: أنها دافعة للضرر الذي هو العقاب أو الخوف منه ودفع الضرر واجب. الثاني: أنا نعلم قطعا وجوب الندم على
(1) قد بحثنا عن وجوب التوبة على الاستقصاء في ثلاثة عشر مبحثا في المجلد الأول من تكملة المنهاج (ص 171 - 209 ج 1 ط 1) فراجع. 566 فعل القبيح أو الاخلال بالواجب. إذا عرفت هذا فنقول: إنها تجب عن كل ذنب لأنها تجب من المعصية لكونها معصية ومن الاخلال بواجب لكونه كذلك، وهذا عام في كل ذنب وإخلال بواجب. قال: ويندم على القبيح لقبحه وإلا انتفت وخوف النار إن كان الغاية فكذلك وكذا الاخلال. أقول: يجب على التائب أن يندم على القبيح لقبحه وأن يعزم على ترك المعاودة إليه، إذ لولا ذلك انتفت التوبة كمن يتوب عن المعصية حفظا لسلامة بدنه أو لعرضه بحيث لا ينثلم عند الناس، فإن مثل هذا لا يعد توبة لانتفاء الندم فيه. وأما التائب خوفا من النار فإن كان الخوف من النار هو الغاية في توبته بمعنى أنه لولا خوف النار لم يتب فكذلك أي لا يصح منه التوبة لأنها ليست توبة عن القبيح لقبحه، فجرى مجرى طالب سلامة البدن وإن لم يكن هو الغاية بأن يندم عليه لأنه قبيح وفيه عقاب النار ولولا القبح لما ندم عليه وإن كان فيه خوف النار صحت توبته، وكذا الاخلال بالواجب إن ندم عليه لأنه إخلال بواجب وعزم على فعل الواجب في المستقبل لأجل كونه إخلالا بواجب، فهي توبة صحيحة وإن كان خوفا من النار أو من فوات الجنة، فإن كان هو الغاية لم تصح توبته وإلا كانت صحيحة، ولهذا إن المسئ لو اعتذر إلى المظلوم لا لأجل إساءته بل لخوفه من عقوبة السلطان لم يقبل العقلاء عذره. قال: فلا تصح من البعض ولا يتم القياس على الواجب. أقول: اختلف شيوخ المعتزلة فذهب أبو هاشم إلى أن التوبة لا تصح من قبيح دون قبيح، وذهب أبو علي إلى جواز ذلك، والمصنف رحمه الله استدل على مذهب أبي هاشم بأنا قد بينا أنه يجب أن يندم على القبيح لقبحه ولولا ذلك لم تكن مقبولة على ما تقدم والقبح حاصل في الجميع، فلو تاب من قبيح دون قبيح كشف ذلك عن كونه تائبا عنه لا لقبحه.
567 واحتج أبو علي بأنه لو لم تصح التوبة عن قبيح دون قبيح لم يصح الاتيان بواجب دون واجب، والتالي باطل فالمقدم مثله، بيان الشرطية أنه كما يجب عليه ترك القبيح لقبحه كذا يجب عليه فعل الواجب لوجوبه، فلو لزم من اشتراك القبائح في القبح عدم صحة التوبة من بعض القبائح دون بعض لزم من اشتراك الواجبات في الوجوب عدم صحة الاتيان بواجب دون آخر. وأما بطلان التالي فبالاجماع، إذ لا خلاف في صحة صلاة من أخل بالصوم. وأجاب أبو هاشم بالفرق بين ترك القبيح لقبحه وفعل الواجب لوجوبه بالتعميم في الأول دون الثاني، فإن من قال: لا آكل الرمانة لحموضتها، فإنه لا يقدم على أكل كل حامض لاتحاد الجهة في المنع، ولو أكل الرمانة لحموضتها لم يلزم أن يتناول كل رمانة حامضة فافترقا، وإليه أشار المصنف رحمه الله بقوله: ولا يتم القياس على الواجب، أي لا يتم قياس ترك القبيح لقبحه على فعل الواجب لوجوبه. قال: ولو اعتقد فيه الحسن صحت. أقول: قد تصح التوبة من قبيح دون قبيح إذا اعتقد التائب في بعض القبائح أنها حسنة وتاب عما يعتقده قبيحا، فإنه يقبل توبته لحصول الشرط فيه وهو ندمه على القبيح لقبحه، ولهذا إذا تاب الخارجي عن الزنا فإنه يقبل توبته وإن كان اعتقاده قبيحا، لأنه لا يعتقده كذلك فيصدق في حقه أنه تاب عن القبيح لقبحه. قال: وكذا المستحقر (1). أقول: إذا كان هناك فعلان: أحدهما عظيم القبح والآخر صغيره وهو مستحقر بالنسبة إليه حتى لا يكون معتدا به، ويكون وجوده بالنسبة إلى العظيم كعدمه حتى تاب فاعل القبيح من العظيم فإنه تقبل توبته، مثال ذلك: إن الانسان إذا قتل ولد غيره وكسر له قلما ثم تاب وأظهر الندم على قتل الولد دون كسر القلم فإنه تقبل
(1) وفي (ت) فقط: وكذا المستخف. وقوله في آخر الشرح: فكذا الندم، كما في (ص) والنسخ الأخرى: وكذا العزم. 568 توبته ولا يعتد العقلاء بكسر القلم وإن كان لا بد من أن يندم على جميع إساءته، وكما أن كسر القلم حال قتل الولد لا يعد إساءة فكذا الندم. قال: والتحقيق (1) أن ترجيح الداعي إلى الندم عن البعض يبعث عليه وإن اشترك الداعي في الندم على القبيح كما في الدواعي إلى الفعل، ولو اشترك الترجيح اشترك وقوع الندم وبه يتأول كلام أمير المؤمنين وأولاده عليهم السلام وإلا لزم الحكم ببقاء الكفر على التائب منه المقيم على صغيرة. أقول: لما شرع في تقرير كلام أبي هاشم ذكر التحقيق في هذا المقام، وتقريره أن نقول: الحق أنه تجوز التوبة عن قبيح دون قبيح، لأن الأفعال تقع بحسب الدواعي وتنتفي بحسب الصوارف، فإذا ترجح الداعي وقع الفعل. إذا عرفت هذا فنقول: يجوز أن يرجح فاعل القبائح دواعيه إلى الندم على بعض القبائح دون بعض، وإن كانت القبائح مشتركة في أن الداعي يدعو إلى الندم عليها، وذلك بأن تقترن ببعض القبائح قرائن زائدة كعظم الذنب أو كثرة الزواجر عنه أو الشناع عند العقلاء عند فعله، ولا تقترن هذه القرائن ببعض القبائح فلا يندم عليها، وهذا في دواعي الفعل فإن الأفعال الكثيرة قد تشترك في الدواعي ثم يؤثر صاحب الدواعي بعض تلك الأفعال على بعض بأن يترجح دواعيه إلى ذلك الفعل بما يقترن به من زيادة الدواعي، فلا استبعاد في كون قبح الفعل داعيا إلى الندم، ثم تقترن ببعض القبائح زيادة الدواعي إلى الندم عليه فيترجح لأجلها الداعي إلى الندم على ذلك البعض، ولو اشتركت القبائح في قوة الدواعي اشتركت في وقوع الندم ولم يصح الندم على البعض دون الآخر. وعلى هذا ينبغي أن يحمل كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وكلام أولاده كالرضا وغيره عليهم السلام حيث نقل عنهم نفي تصحيح التوبة عن بعض القبائح
(1) المتن موافق للنسخ كلها إلا نسخة (ص) ففيها: وبهذا يتأول، مكان وبه يتأول. وما في المطبوعة حواش إيضاحية أدرجت في المتن. 569 دون بعض، لأنه لولا ذلك لزم خرق الاجماع، والتالي باطل فالمقدم مثله، بيان الملازمة أن الكافر إذا تاب عن كفره وأسلم وهو مقيم على الكذب إما أن يحكم بإسلامه وتقبل توبته عن الكفر أو لا، والثاني خرق الاجماع لاتفاق المسلمين على إجراء أحكام المسلمين عليه، والأول هو المطلوب وقد التزم أبو هاشم استحقاقه عقاب الكفر وعدم قبول توبته وإسلامه لكن يمنع إطلاق الاسم عليه (1). المسألة الثانية عشرة في أقسام التوبة قال: والذنب إن كان في حقه تعالى من فعل قبيح كفى فيه الندم والعزم وفي الاخلال بالواجب اختلف حكمه من بقائه وقضائه وعدمهما، وإن كان في حق آدمي استتبع إيصاله إن كان ظلما أو العزم عليه مع التعذر أو الارشاد إن كان إضلالا وليس ذلك أجزاء (2). أقول: التوبة إما أن تكون من ذنب يتعلق به تعالى خاصة أو يتعلق به حق
(1) كما في (ص ش) أي يمنع أبو هاشم إطلاق اسم الكافر على الكافر الذي تاب عن كفره وأسلم وهو مقيم على الكذب مثلا. وفي (ق) لكن لا يمتنع إطلاق اسم الاسلام عليه. وفي (ز د): لكن يمتنع إطلاق اسم الاسلام عليه. والصواب هو الأول، لفظا ومعنى، والثاني معنى فقط. وقد سقطت كلمة لا في العبارة في الثالث. (2) على صيغة الجمع. وفي بعض النسخ: أجرا، وفي بعضها: جزاء. ولكنهما محرفان. وهذا رد على المعتزلة لأنهم ذهبوا إلى أن رد المظالم شرط في صحة التوبة فقالوا: لا تصح التوبة عن مظلمة دون الخروج عن تلك المظلمة. وذهب أصحابنا الإمامية ووافقهم الأشعرية إلى أن ذلك واجب برأسه لا مدخل له في الندم على ذنب آخر. قال الشيخ البهائي في كتاب الأربعين: إعلم أن الاتيان بما يستتبعه الذنوب من قضاء الفوائت وأداء الحقوق والتمكين من القصاص والحد ونحو ذلك ليس شرطا في صحة التوبة بل هذه واجبات برأسها والتوبة صحيحة بدونها وبها تصير أكمل وأتم، إنتهى. وراجع في ذلك شرح الروضة الحادية والثلاثين من رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين عليه الصلاة والسلام (ص 329 ط 1) وكذلك شرحنا على النهج المذكور آنفا. 570 الآدمي، والأول إما أن تكون عن فعل قبيح كشرب الخمر والزنا أو إخلال بواجب كترك الصلاة والزكاة. (فالأول) يكفي في التوبة منه الندم عليه والعزم على ترك العود إليه، (وأما الثاني) فتختلف أحكامه بحسب القوانين الشرعية فمنه ما لا بد مع التوبة منه من فعله أداءا كالزكاة، ومنه ما يجب معه القضاء كالصلاة اليومية، ومنه ما يسقطان عنه كالعيدين (1) وهذا الأخير يكفي فيه الندم والعزم على ترك المعاودة كما في فعل القبيح. وأما ما يتعلق به حق الآدمي فيجب فيه الخروج إليهم منه، فإن كان أخذ مال وجب رده على مالكه أو على ورثته إن مات ولو لم يتمكن من ذلك وجب العزم عليه، وكذا إن كان حد قذف وإن كان قصاصا وجب الخروج إليهم منه بأن يسلم نفسه إلى أولياء المقتول، فإما أن يقتلوه أو يعفوا عنه بالدية أو بدونها، وإن كان في بعض الأعضاء وجب تسليم نفسه ليقتص منه في ذلك العضو إلى المستحق من المجني عليه أو الورثة، وإن كان إضلالا وجب إرشاد من أضله ورجوعه عما اعتقده (2) بسببه من الباطل إن أمكن ذلك. واعلم أن هذه التوابع ليست أجزاء من التوبة فإن العقاب يسقط بالتوبة، ثم إن قام المكلف بالتبعات كان ذلك إتماما للتوبة من جهة المعنى، لأن ترك التبعات لا يمنع من سقوط العقاب بالتوبة عما تاب منه بل يسقط العقاب ويكون ترك القيام بالتبعات بمنزلة ذنوب مستأنفة تلزمه التوبة منها، نعم التائب إذا فعل التبعات بعد إظهار توبته كان ذلك دلالة على صدق الندم، وإن لم يقم بها أمكن جعله دلالة على عدم صحة الندم. قال: ويجب الاعتذار إلى المغتاب مع بلوغه. أقول: المغتاب إما أن يكون قد بلغه اغتيابه أو لا، ويلزم على الفاعل للغيبة في الأول الاعتذار منه إليه لأنه أوصل إليه ضرر الغم فوجب عليه الاعتذار منه
(1) باتفاق النسخ كلها. (2) باتفاق النسخ كلها. 571 والندم عليه، وفي الثاني لا يلزمه الاعتذار ولا الاستحلال منه لأنه لم يفعل به ألما، وفي كلا القسمين يجب الندم لله تعالى لمخالفته النهي والعزم على ترك المعاودة. قال: وفي إيجاب التفصيل مع الذكر إشكال. أقول: ذهب قاضي القضاة إلى أن التائب إن كان عالما بذنوبه على التفصيل وجب عليه التوبة عن كل واحد منها مفصلا، وإن كان يعلمها على الاجمال وجب عليه التوبة كذلك مجملا، وإن كان يعلم بعضها على التفصيل وبعضها على الاجمال وجب عليه التوبة عن المفصل بالتفصيل وعن المجمل بالاجمال، واستشكل المصنف رحمه الله إيجاب التفصيل مع الذكر لإمكان الاجزاء بالندم على كل قبيح وقع منه وإن لم يذكره مفصلا. قال: وفي وجوب التجديد إشكال (1). أقول: إذا تاب المكلف عن معصية ثم ذكرها هل يجب عليه تجديد التوبة؟ قال أبو علي: نعم بناء على أن المكلف القادر بقدرة لا ينفك عن الضدين إما الفعل أو الترك، فعند ذكر المعصية إما أن يكون نادما عليها أو مصرا عليها، والثاني قبيح فيجب الأول. وقال أبو هاشم: لا يجب لجواز خلو القادر بقدرة عنهما. قال: وكذا المعلول مع العلة. أقول: إذا فعل المكلف العلة قبل وجود المعلول هل يجب عليه الندم على المعلول أو على العلة أو عليهما، مثاله الرامي إذا رمى قبل الإصابة؟ قال الشيوخ:
(1) أقول: لا كلام في أن التوبة تكون من الذنب فمتى عمل ذنبا وتاب عنه ثم تذكر ذلك الذنب لا يكون صرف تذكره ذنبا بالاتفاق فلم يفعل قبيحا ولم يترك ذنبا حتى يتوب عنه، فما قال أبو علي فهو بمعزل عن التحقيق، على أنا نعلم - كما قاله الآمدي - بالضرورة أن الصحابة ومن أسلم بعد كفره كانوا يتذكرون ما كانوا عليه في الجاهلية من الكفر ولم يجب عليهم تجديد الاسلام ولا أمروا بذلك وكذلك في كل ذنب وقعت التوبة عنه. 572 يجب الندم على الإصابة لأنها هي القبيح وقد صارت في حكم الموجود لوجوب حصوله عند حصول السبب. وقال القاضي: يجب عليه ندمان: أحدهما على الرمي لأنه قبيح، والثاني على كونه مولدا للقبيح، ولا يجوز أن يندم على المعلول لأن الندم على القبيح أنما هو لقبحه، وقبل وجوده لا قبح. قال: ووجوب سقوط العقاب بها. أقول: المصنف رحمه الله استشكل وجوب سقوط العقاب بها. (واعلم) أن الناس اتفقوا على سقوط العقاب بالتوبة، واختلفوا فقالت المعتزلة: إنه يجب سقوط العقاب بها. وقالت المرجئة: إن الله تعالى يتفضل عليه بإسقاط العقاب لا على جهة الوجوب. احتجت المعتزلة بوجهين: الأول: أنه لو لم يجب إسقاط العقاب لم يحسن تكليف العاصي، والتالي باطل إجماعا فالمقدم مثله، بيان الشرطية أن التكليف إنما يحسن للتعريض للنفع وبوجود (1) العقاب قطعا لا يحصل الثواب وبغير التوبة لا يسقط العقاب فلا يبقى للعاصي طريق إلى إسقاط العقاب عنه، ويستحيل اجتماع الثواب والعقاب فيكون التكليف قبيحا. الثاني: أن من أساء إلى غيره واعتذر إليه بأنواع الاعتذارات وعرف منه الاقلاع عن تلك الإساءة بالكلية فإن العقلاء يذمون المظلوم إذا ذمه بعد ذلك. (والجواب عن الأول) لا نسلم انحصار سقوط العقاب في التوبة لجواز سقوطه بالعفو أو بزيادة الثواب، سلمنا لكن نمنع عدم اجتماع الاستحقاقين لأن عقاب الفاسق عندنا منقطع، (وعن الثاني) بالمنع من قبح الذم، سلمنا لكن نمنع المساواة بين الشاهد والغائب، وأما المرجئة فقد احتجوا بأنه لو وجب سقوط العقاب لكان إما لوجوب قبولها أو لكثرة ثوابها، والقسمان باطلان. أما الأول فلأن من أساء إلى غيره بأنواع الإساءات وأعظمها كقتل الأولاد ونهب الأموال ثم اعتذر إليه فإنه لا يجب قبول عذره، وأما الثاني فلما بينا من إبطال التحابط.
(1) اتفاق النسخ كلها على الوجود بالدال. 573 المسألة الثالثة عشرة في باقي المباحث المتعلقة بالتوبة قال: والعقاب يسقط بها لا بكثرة ثوابها لأنها قد تقع محبطة ولولاه لا يبقى الفرق بين التقدم والتأخر ولا اختصاص ولا تقبل في الآخرة لانتفاء الشرط. أقول: اختلف الناس هنا، فقال قوم: إن التوبة تسقط العقاب بذاتها لا على معنى أنها لذاتها تؤثر في إسقاط العقاب، بل على معنى أنها إذا وقعت على شروطها والصفة التي بها تؤثر في إسقاط العقاب أسقطت العقاب من غير اعتبار أمر زائد. وقال آخرون: إنها تسقط العقاب لكثرة ثوابها، واستدل المصنف رحمه الله على الأول بوجوه: الأول: إن التوبة قد تقع محبطة بغير ثواب كتوبة الخارجي من الزنا فإنه يسقط بها عقابه من الزنا ولا ثواب لها. الثاني: أنه لو أسقطت العقاب بكثرة ثوابها لم يبق فرق بين تقدم التوبة على المعصية وتأخرها عنها كغيرها من الطاعات التي تسقط العقاب بكثرة ثوابها، ولو صح ذلك لكان التائب عن المعاصي إذا كفر أو فسق أسقط عنه العقاب. الثالث: لو أسقطت العقاب لعظم ثوابها لما اختص بها بعض الذنوب عن بعض فلم يكن إسقاطها لما هي توبة عنه بأولى من غيره، لأن الثواب لا اختصاص له ببعض العقاب دون بعض. ثم إن المصنف رحمه الله أجاب عن حجة المخالف، وتقريرها أن التوبة لو أسقطت العقاب لذاتها لأسقطته في حال المعاينة في الدار الآخرة. (والجواب) أنها أنما تؤثر في الاسقاط إذا وقعت على وجهها وهي أن تقع ندما على القبيح لقبحه وفي الآخرة يقع الالجاء فلا يكون الندم للقبح. المسألة الرابعة عشرة في عذاب القبر والميزان والصراط قال: وعذاب القبر واقع (1) لإمكانه وتواتر السمع بوقوعه.
(1) راجع في بيانه شرح الحديث التاسع والثلاثين من كتاب الأربعين للعلامة البهائي، وفي بيانه على الاستقصاء كتبنا دروس اتحاد العاقل بمعقوله، وشرحنا على فصوص الحكم الموسوم بنصوص الحكم على فصوص الحكم، وتعليقاتنا على رسالة آغاز وانجام للمحقق الطوسي. 574 أقول: نقل عن ضرار أنه أنكر عذاب القبر والاجماع على خلافه، وقد استدل المصنف رحمه الله بإمكانه عقلا فإنه لا استبعاد في أن يعجل الله تعالى العقاب في دار التكليف على وجه لا يمتنع مع التكليف كما في قطع يد السارق كما قال تعالى: (فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا) وقال في قطاع الطريق: (ذلك لهم خزي في الدنيا) وقال تعالى: (ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده) وحكى تعالى في كتابه إهلاك الفرق الذين كفروا به، وإذا كان ممكنا والله تعالى قادر على كل ممكن، وقد أخبر الله تعالى بوقوعه في قوله: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) فذكر الرجوع بعد إحيائين، وإنما يكون بإحياء ثالث وقال تعالى: (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا) فذكر موتتين إحداهما في الدنيا والأخرى في القبر، وذكر إحيائين أحدهما في الدنيا والآخر في القبر ولم يذكر الثالث لأنه معلوم وقع فيه الكلام وغير الحي لا يتكلم، وقيل: إنما أخبروا عن الإحيائين اللذين عرفوا الله تعالى فيهما ضرورة فأحدهما في القبر والآخر في الآخرة، ولهذا عقب بقوله: (فاعترفنا بذنوبنا) وقال تعالى في حق آل فرعون: (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة) وهذا نص في الباب. قال: وسائر السمعيات من الميزان والصراط والحساب وتطاير الكتب (1) ممكنة دل السمع على ثبوتها فيجب التصديق بها. أقول: أحوال القيامة من الميزان والصراط والحساب وتطاير الكتب أمور ممكنة، وقد أخبر الله تعالى بوقوعها فيجب التصديق بها، لكن اختلفوا في كيفية الميزان، فقال شيوخ المعتزلة: إنه يوضع ميزان حقيقي له كفتان يوزن به ما يتبين
(1) وفي (ص ت) والصراط وتطائر الكتب، بدون لفظة الحساب. 575 من حال المكلفين في ذلك الوقت لأهل الموقف، إما بأن يوضع كتاب الطاعات في كفة الخير ويوضع كتاب المعاصي في كفة الشر، ويجعل رجحان أحدهما دليلا على إحدى الحالتين، أو بنحو من ذلك لورود الميزان سمعا والأصل في الكلام الحقيقة مع إمكانها. وقال عباد وجماعة من البصريين وآخرون من البغداديين: المراد بالموازين العدل دون الحقيقة، وأما الصراط فقد قيل إن في الآخرة طريقين: إحداهما إلى الجنة (1) يهدي الله تعالى أهل الجنة إليها، والأخرى إلى النار يهدي الله تعالى أهل النار إليها، كما قال تعالى في أهل الجنة: (سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم) وقال في أهل النار: (فاهدوهم إلى صراط الجحيم) وقيل: إن هناك طريقا واحدا على جهنم يكلف الجميع المرور عليه، ويكون أدق من الشعر وأحد من السيف، فأهل الجنة يمرون عليه لا يلحقهم خوف ولا غم والكفار يمرون عليه عقوبة لهم وزيادة في خوفهم، فإذا بلغ كل واحد إلى مستقره من النار سقط من ذلك الصراط. قال: والسمع دل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن والمعارضات متأولة. أقول: اختلف الناس في أن الجنة والنار هل هما مخلوقتان الآن أم لا؟ فذهب جماعة إلى الأول وهو قول أبي علي، وذهب أبو هاشم والقاضي إلى أنهما غير مخلوقتين. احتج الأولون بقوله تعالى: (أعدت للمتقين)، (أعدت للكافرين)، (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة)، (عندها جنة المأوى) وجنة المأوى هي دار الثواب فدل على أنها مخلوقة الآن في السماء. احتج أبو هاشم بقوله تعالى: (كل شئ هالك إلا وجهه) فلو كانت الجنة مخلوقة الآن لوجب هلاكها، والتالي باطل لقوله تعالى: (أكلها دائم) والجواب دوام الأكل إشارة إلى دوام المأكول بالنوع بمعنى دوام خلق مثله (2) وأكل الجنة
(1) لأن الطريق يذكر ويؤنث. (2) كما في النسخ كلها إلا نسخة (ش) ففيها: خلف مثله، بالفاء. 576 يفنى بالأكل إلا أنه تعالى يخلق مثله، والهلاك هو الخروج عن الانتفاع ولا ريب أن مع فناء المكلفين يخرج الجنة عن حد الانتفاع فتبقى هالكة بهذا المعنى. المسألة الخامسة عشرة في الأسماء والأحكام (1) قال: والإيمان التصديق بالقلب واللسان ولا يكفي الأول لقوله تعالى: (واستيقنتها أنفسهم) ونحوه ولا الثاني لقوله: (قل لم تؤمنوا). أقول: اختلف الناس في الإيمان على وجوه كثيرة ليس هذا موضع ذكرها، والذي اختاره المصنف رحمه الله أنه عبارة عن التصديق بالقلب واللسان معا ولا يكفي أحدهما فيه، أما التصديق القلبي فإنه غير كاف لقوله تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) وقوله تعالى: (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) فأثبت لهم المعرفة والكفر، وأما التصديق اللساني فإنه غير كاف أيضا لقوله تعالى: (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) ولا شك في أن أولئك الأعراب صدقوا بألسنتهم. قال: والكفر عدم الأيمان إما مع الضد أو بدونه والفسق الخروج عن طاعة الله تعالى مع الأيمان والنفاق إظهار الأيمان وإخفاء الكفر. أقول: الكفر في اللغة هو التغطية، وفي العرف الشرعي هو عدم الأيمان، إما مع الضد بأن يعتقد فساد ما هو شرط في الأيمان أو بدون الضد كالشاك الخالي من الاعتقاد الصحيح والباطل. والفسق لغة الخروج مطلقا وفي الشرع عبارة عن الخروج عن طاعة الله تعالى فيما دون الكفر، والنفاق في اللغة هو إظهار خلاف الباطن وفي الشرع إظهار الأيمان وإبطان الكفر. قال: والفاسق مؤمن لوجود حده فيه.
(1) باتفاق النسخ كلها إلا نسخة (ز) ففيها: في الإيمان والأحكام. فبدل الأسماء بالإيمان، أي في أسماء المؤمن والمسلم والكافر والفاسق والمنافق وأحكامها. 577 أقول: اختلف الناس هاهنا، فقالت المعتزلة: إن الفاسق لا مؤمن ولا كافر، وأثبتوا منزلة بين المنزلتين. وقال الحسن البصري: إنه منافق. وقالت الزيدية: إنه كافر نعمة. وقالت الخوارج: إنه كافر. والحق ما ذهب إليه المصنف وهو مذهب الإمامية والمرجئة وأصحاب الحديث وجماعة الأشعرية، والدليل عليه أن حد المؤمن وهو المصدق بقلبه ولسانه في جميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم موجود فيه فيكون مؤمنا. المسألة السادسة عشرة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قال: والأمر بالمعروف الواجب واجب وكذا النهي عن المنكر، والمندوب (1) مندوب سمعا وإلا لزم خلاف الواقع أو الاخلال بحكمته تعالى. أقول: الأمر بالمعروف هو القول الدال على الحمل على الطاعة (2) أو نفس الحمل على الطاعة أو إرادة وقوعها من المأمور، والنهي عن المنكر هو المنع من فعل المعاصي أو القول المقتضي لذلك أو كراهة وقوعها، وإنما قلنا ذلك للاجماع على أنهما يجبان باليد واللسان والقلب، والأخير يجب مطلقا بخلاف الأولين فإنهما مشروطان بما يأتي. وهل يجبان سمعا أو عقلا؟ اختلف الناس في ذلك، فذهب قوم إلى أنهما يجبان سمعا للقرآن والسنة والاجماع، وآخرون ذهبوا إلى وجوبهما عقلا، واستدل المصنف على إبطال الثاني بأنهما لو وجبا عقلا لزم أحد الأمرين وهو إما خلاف الواقع أو الاخلال بحكمة الله تعالى، والتالي بقسميه باطل فالمقدم مثله، بيان الشرطية (3) أنهما لو وجبا عقلا لوجبا على الله تعالى، فإن كل واجب عقلي يجب على كل من حصل في حقه وجه الوجوب، ولو وجبا عليه تعالى لكان إما
(1) مجرور معطوف على الواجب صفة للمعروف أي الأمر بالمعروف المندوب، وفي (ص ز ش د ق): وبالمندوب. (2) وفي (م) وحدها بدون (على الحمل). (3) كما في (ص م) وفي غيرهما: بيان الملازمة. 578 فاعلا لهما فكان يلزم وقوع المعروف قطعا لأنه تعالى يحمل المكلفين عليه وانتفاء المنكر قطعا لأنه تعالى يمنع المكلفين منه، وإما غير فاعل لهما فيكون مخلا بالواجب وذلك محال لما ثبت من حكمته تعالى. قال: وشروطهما علم فاعلهما بالوجه وتجويز التأثير وانتفاء المفسدة. أقول: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثلاثة: الأول: أن يعرف الأمر والناهي وجه الفعل، فيعرف أن المعروف معروف وأن المنكر منكر وإلا لأمر بالمنكر ونهى عن المعروف. الثاني: تجويز التأثير، فلو عرف أن أمره ونهيه لا يؤثران لم يجبا. الثالث: انتفاء المفسدة فلو عرف أو غلب على ظنه حصول مفسدة له أو لبعض إخوانه في أمره ونهيه سقط وجوبهما دفعا للضرر. فهذا ما حصل لنا من شرح هذا الكتاب ونحن نسأل الله تعالى أن يجعله ذخرا لنا يوم المعاد (1) وأن يوفقنا للرشاد بمنه وكرمه، والحمد لله وحده
(1) وفي (ص) وحدها: ذخرا ليوم المعاد، نحو قول الخواجة في صدر الكتاب. قال الطبرسي في مجمع البيان في تفسير الآية (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) (آل عمران 104): في هذه الآية دلالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعظم موقعهما ومحلهما من الدين لأنه تعالى علق الفلاح بهما، وأكثر المتكلمين على أنهما من فروض الكفايات. ومنهم من قال: إنهما من فروض الأعيان واختاره الشيخ أبو جعفر رحمه الله. والصحيح أن ذلك أنما يجب بالسمع وليس في العقل ما يدل على وجوبه إلا إذا كان على سبيل دفع الضرر. وقال أبو علي الجبائي: يجب عقلا والسمع يؤكده.. الخ. أقول: فليتدبر في ذلك في قوله عز من قائل: بسم الله الرحمن الرحيم والعصر إن الانسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر جعلنا الله وإياكم من العاملين به إنه ولي التوفيق. وإلى هنا ختمت تعليقاتنا على تجريد الاعتقاد وشرحه كشف المراد بعون الفياض على الإطلاق، وقد فرغنا من تسويدها صبيحة الأحد ثامن شهر الله المبارك من سنة 1406 ه ق الموافق 28 / 2 / 1365 ه ش في دار العلم قم، دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين. وأنا العبد حسن حسن زاده الآملي. 579