كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد (تحقيق الزنجاني) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد (تحقيق الزنجاني) - نسخه متنی

حسن بن یوسف علامه حلی؛ محقق: ابراهیم موسوی زنجانی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد (تحقيق الزنجاني)
المؤلف: العلامة الحلي
الجزء:
الوفاة: 726
المجموعة: من مصادر العقائد عند الشيعة الإمامية
تحقيق: السيد إبراهيم الموسوي الزنجاني
الطبعة: الرابعة
سنة الطبع: 1373 ش
المطبعة: إسماعيليان -قم
الناشر: انتشارات شكوري - قم
ردمك:
ملاحظات:
كشف المراد
في
شرح تجريد الاعتقاد
تصنيف:
سلطان المحققين الخواجة نصير الدين
محمد بن الحسن الطوسي المتوفى سنة 672 ه‍
شرح:
العالم الرباني جمال الدين الحسن بن يوسف
ابن علي بن المطهر المشتهر بالعلامة الحلي المتوفى سنة 726 ه‍
مع حواشي وتعليقات قيمة:
لآية الله السيد إبراهيم الموسوي الزنجاني
منشورات
شكورى - قم

1
شناسنامه كتاب
* نام كتاب: كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد
* مؤلف: علامة المحقق الخواجة نصير الدين طوسي
* ناشر: انتشارات شكورى، پاساژ قدس، پلاك 47 تلفن 715439
* تعداد: 1600 جلد
* نوبت چاپ: چهارم
* تاريخ چاپ: زمستان 1373
* قطع: وزيري
* تعداد صفحات: 466 صفحه
* چاپخانه: اسماعيليان

2
موجز من حياة المصنف قدس سره
وهو سلطان العلماء ونابغة الدهر
وأفضل الحكماء والمتكلمين ممدوح
أكابر الآفاق ومجمع مكارم الأخلاق الذي
لا يحتاج إلى التصريف لغاية شهرته مع أن
كل ما يقال في وصفه فهو دون مرتبته
حجة الفرقة الناجية الإمامية الاثنا عشرية
وقدوة المحققة الجعفرية محمد بن محمد بن
الحسن الجهرودي القمي الطوسي (ره)
ولد قدس سره بمشهد طوس في تاريخ
11 جمادى الأولى سنة 597 وتوفي يوم
الغدير سنة 672 ه‍ ودفن في البقعة
المقدسة الكاظمية في الرواق.
قرء المعقول على أستاذه فريد الدين النيسابوري، وغيره، والمنقول على
والده محمد بن الحسن وهو تلميذ فضل الله الراوندي وهو تلميذ السيد المرتضى
علم الهدى والشيخ الطوسي وغيرهما من فطاحل الفقهاء والفلاسفة الجعفرية وذكر
ترجمته الصفدي في تاريخه للتراجم محمد بن محمد بن الحسن نصير الدين أبو عبد الله
الطوسي الفيلسوف صاحب علوم الرياضة والرصد كان رأسا في علم الأوائل لا سيما
في الأرصاد والحساب فإنه فاق الكبار قرأ على المعين سالم بن بدران وكان ذا

5
حرمة وافرة ومنزلة عالية عند هولاكو وكان الملك يطيع الخواجة فيما يشير به
عليه والأموال في تصريفه فابتنى بمدينة مراغة قبة ورصدا عظيما وكان حسن
الصورة سمحا كريما جوادا حليما حسن العشرة عزيز الفضل جليل القدر
داهية.
قال جرجي زيدان في آداب اللغة العربية في ترجمته قدس سره: أنه قد
جمع في خزانة كتبه ما ينوف على أربعمائة ألف مجلد وأنه أقام المنجمين
والفلاسفة ووقف عليهم الأوقاف فزهى العلم في بلاد المغول على يد هذا الفارس
كأنه قبة منيرة في ظلمة مدلهمة. انتهى
ولائه بالنسبة إلى أمير المؤمنين عليه السلام بشعره المعروف:
لو أن عبدا أتى بالصالحات غدا * وود كل نبي مرسل وولي
وصام ما صام صواما بلا ملل * وقام ما قام قواما بلا كسل
وعاش ما عاش آلافا مؤلفة * عار من الذنب معصوما من الزلل
ما كان في الحشر يوم البعث منتفعا * إلا بحب أمير المؤمنين علي
أخلاقه
منها أن كتب له شخص مكتوبا مشتملا على فحش وسباب كثيرة وكان من
عباراته (يا كلب بن الكلب) فكتب في جوابه له بكل لين ورأفة أما قولك يا كذا
فليس بصحيح لأن الكلب من ذوات الأربع وهو نابح طويل الأظفار وأما أنا
فمنتصب القامة بادي البشرة عريض الأظافر ناطق ضاحك فهذه الفصول والخواص
غير تلك الفصول والخواص، إلى آخر ما أطال في نقض ما اشتمل عليه المكتوب
من غير انزعاج ولا ذكر كلمة قبيحة.
تلامذته
يروي عنه جماعة منهم العلامة الحلي والسيد عبد الكريم ابن طاوس

6
وقطب الدين محمد بن مسعود الشيرازي وشهاب الدين أبو بكر الكازروني
وغيرهم.
وأما مصنفاته الفائقة ومؤلفاته الرائقة
وهي كثيرة في أقسام العلوم شتى منها كتاب تجريد العقائد في التوحيد
والمعرفة والنبوة والإمامة والمعاد وشرحه جماعة كثيرة من الأعاظم منهم
العلامة الحلي من أكابر علماء الشيعة والشيخ شمس الدين الإصفهاني والمولى علي
القوشجي الشافعي والملا عبد الرزاق الاهيجاني الكيلاني بل بلغ شراح كتاب
التجريد إلى ستين رجلا من أكابر الفلاسفة.

7
مجمل حياة الشارح العلامة الحلي (قدس سره)
هو الشيخ الإمام قدرة علماء الإسلام جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف
ابن زيد الدين علي بن محمد بن المطهر الحلي المشتهر بالعلامة كان مقداما وقدوة في
جل العلوم الإسلامية اعترف بفضله المخالف والمؤالف وأورده أرباب التراجم من
الفريقين في معاجمهم مع الثناء الجميل عليه لا سيما مفخر الطائفة آية الله السيد
شهاب الدين المرعشي في مقدمته لإحقاق الحق.
ميلاده
ليلة الجمعة 27 رمضان سنة 648 كما صرح بذلك نفسه في الخلاصة في الرجال.
وفاته
ليلة السبت 21 محرم 726 بالحلة المزيدية بين الكوفة والمحمودية ونقل
إلى الغري الشريف النجف الأشرف ودفن في الحجرة الواقعة على يمين الداخل إلى
الحضرة الشريفة العلوية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سلام الله عليه من جهة
الشمال وقبره ظاهر يزار (زرته مرارا) ويقابله قبر المحقق ملا أحمد الأردبيلي
(ره) فأكرم بهما من بوابين لتلك القبة السامية.
كلمات العلماء في حقه
قال العلامة البحاثة الميرزا عبد الله أفندي في رياض العلماء ما لفظه الإمام
الهمام العالم العامل الفاضل الكامل الشاعر الماهر علامة العلماء وفهامة الفضلاء

8
أستاد الدنيا المعروف فيما بين الأصحاب بالعلامة عند الاطلاق، الموصوف بغاية
العلم ونهاية الفهم والكمال وهو ابن أخت المحقق صاحب الشرايع وكان (قده) آية
الله لأهل الأرض وله حقوق عظيمة على زمرة الإمامية والطائفة الشيعة الحقة
الاثنا عشرية لسانا وبيانا تدريسا وتأليفا وكان جامعا لأنواع العلوم مصنفا في
أقسامها حكميا متكلما فقيها محدثا أصوليا أديبا شاعرا ماهرا وقد رأيت
بعض أشعاره ببلدة أردبيل.
وهي تدل على جودة طبعه في أنواع النظم أيضا وكان وافر التصنيف متكاثر
التأليف أخذ واستفاد عن جم غفير من علماء عصره من الخاصة والعامة وقال
العلامة السيد محسن الأمين في أعيان الشيعة ما لفظه: هو العلامة على الاطلاق
الذي طار صيته في الآفاق ولم يتفق لأحد من علماء الإمامية أن لقب بالعلامة على
الاطلاق غيره ويطلق عليه أيضا آية الله برع في المعقول والمنقول وتقدم وهو في
عصر الصبى على العلماء الفحول وقال فقيه الشيعة الشيخ يوسف البحراني صاحب
الحدائق في كتاب لؤلؤة البحرين وكان العلامة وحيد عصره وفريد دهره الذي
لم تكتحل حدقة الزمان له بمثيل ولا نظير إلى أن قال ومن لطائفه أنه ناظر أهل
الخلاف في سلطانية زنجان في مجلس السلطان محمد خدابنده وأفهم العلماء الموجودين
من العامة فراجع إلى تاريخ زنجان تأليف كاتب الترجمة، وقال صاحب الوسائل
في حقه: فاضل عالم علامة العلماء محقق مدقق ثقة فقيه محدث إلى غير
ذلك من تعريف الفقهاء والعلماء وأهل التراجم.
مؤلفاته (قده):
بلغ مؤلفاته في العقائد وأصول الفقه والفقه والرجال والكلام خمسة مائة مؤلف
ذكرها صاحب مجمع البحرين في مادة علم. * بتاريخ 1399
إبراهيم الموسوي الزنجاني

9
موجز من ترجمة
صاحب الحواشي
هو السيد إبراهيم بن سيد ساجدين بن السيد باقر ولد في قصبة صائن قلعة
أبهر زنجان ودرس السطوح في قم وهاجر إلى النجف الأشرف سنة 1364 وتلمذ
عند المراجع والفقهاء وأساطين الفلسفة وحصل على درجة الاجتهاد وألف 45 كتابا في
الفقه والأصول والفلسفة والعقائد والتراجم والحواشي على الكفاية والمكاسب
والرسائل وشرح التجريد ودرس عنده كثير من طلاب الحوزة العلمية وكان يصلي
في رواق حضرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إلى أن خرج من
النجف سنة 1395 ه‍ وسكن في الكويت.

10
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القاهر سلطانه العظيم شأنه الواضح برهانه الغامر إحسانه الذي
أيد العباد بمعرفته وهداهم إلى محجته ليفوزوا بجزيل الثواب العظيم المخلد
ويخلصوا من العقاب الأليم السرمد، وصلى الله على أكمل نفس إنسانية وأطيب
طينة عنصرية محمد المصطفى وعلى عترته الأبرار وذريته الأخيار وسلم تسليما.
أما بعد فإن كمال الإنسان إنما هو بحصول المعارف الإلهية وإدراك الكمالات
الربانية إذ بصفة العلم يمتاز عن عجم الحيوانات ويفضل على الجمادات ولا معلوم
أكمل من واجب الوجود تعالى والعلم به أكمل من كل مقصود وإنما يتم بعلم الكلام
فإنه المتكفل بحصول هذا المرام فوجب على كل مكلف من أشخاص الناس
الاجتهاد في إزالة الالتباس بالنظر الصحيح في البراهين وطلب الحق باليقين
وواجب على كل عارف من العلماء إرشاد المتعلمين وتسليك الناظرين وقد كنا
صرفنا مدة من العمر في وضع كتب متعددة في هذه العلوم الجليلة وإحراز هذه
الفضيلة والآن حيث وفقنا الله تعالى للاستفادة من مولانا الأفضل العالم الأكمل
نصير الحق والملة والدين محمد بن محمد بن الحسن الطوسي قدس الله تعالى روحه
الزكية في العلوم الإلهية والمعارف العقلية ووجدناه راكبا نهج التحقيق سالكا
جدد التدقيق معرضا عن سبيل المغالبة تاركا طريق المغالطة اتبعنا مطارح
أقدامه في نقضه وإبرامه ولما عرج إلى جوار الرحمن ونزل بساحة
الرضوان وجدنا كتابه الموسوم بتجريد الاعتقاد قد بلغ فيه أقصى
المرام وجمع جل مسائل الكلام على أبلغ نظام كما ذكر في خطبته وأشار

11
في ديباجته إلا أنه (قده) أوجز ألفاظه في الغاية وبلغ في إيراده المعاني إلى طرف
(طرق - خ) النهاية حق كل عن إدراكه المحصلون وعجز عن فهم معانيه
الطالبون فوضعنا هذا الكتاب الموسوم بكشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد موضحا
لما استبهم من معضلاته وكاشفا عن مشكلاته راجيا من الله تعالى جزيل
الثواب وحسن المآب إنه أكرم المسؤولين وعليه نتوكل وبه نستعين.
قال: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد حمد واجب الوجود على نعمائه
والصلاة على سيد أنبيائه محمد المصطفى وعلى أكرم أحبائه فإني مجيب إلى
ما سئلت من تجريد مسائل الكلام وترتيبها على أبلغ النظام مشيرا إلى غرر
فرائد الاعتقاد و؟ كت مسائل الاجتهاد مما قادني الدليل إليه وقوى اعتمادي
عليه وسميته بتجريد الاعتقاد والله أسئل العصمة والسداد وأن يجعله ذخرا
ليوم المعاد ورتبته على ستة مقاصد (1) (المقصد الأول) في الأمور العامة
وفيه فصول (الفصل الأول) في الوجود والعدم - وتحديدهما بالثابت العين
والمنفي العين أو الذي يمكن أن يخبر عنه ونقيضه أو بغير ذلك يشتمل على
دور ظاهر -.
أقول: في هذا الفصل مسائل مهمة جليلة هذه أوليها وهي أن الوجود
والعدم لا يمكن تحديدهما واعلم أن جماعة من المتكلمين والحكماء حدوا الوجود
والعدم أما المتكلمون فقالوا الموجود هو الثابت العين والمعدوم هو المنفي العين
والحكماء قالوا الموجود هو الذي يمكن أن يخبر عنه والمعدوم هو الذي لا يمكن
أن يخبر عنه إلى غير ذلك (2) حدود فاسدة لا فائدة في ذكرها وهذه الحدود



(1) قوله (ره) على ستة مقاصد المقصد الأول في الأمور العامة الثاني في الجواهر والأعراض
الثالث في إثبات الصانع وصفاته والرابع في النبوة الخامس في الإمامة السادس في المعاد.
(2) قوله إلى غير ذلك وهو قولهم الموجود هو الذي يكون فاعلا أو منفعلا والمعدوم لا يكون
فاعلا ولا منفعلا.
12
كلها باطلة لاشتمالها على الدور فإن الثابت مرادف للموجود والمنفي للمعدوم
ولفظة (الذي) إنما يشار بها إلى متحقق ثابت فيؤخذ الوجود في حد نفسه.
قال: بل المراد تعريف اللفظ إذ لا شئ أعرف من الوجود.
أقول: لما أبطل تحديد الوجود والعدم أشار إلى وجه الاعتذار للقدماء من
الحكماء والمتكلمين في تحديدهم له فقال إنهم أرادوا بذلك تعريف لفظة الوجود
ومثل هذا التعريف شائع في المعلومات الضرورية إذ هو بمنزلة تبديل لفظ بلفظ
أوضح منه وإن لم يستفد منه صورة غير ما هو معلوم عند التحديد وإنما كان
كذلك لأنه لا شئ أعرف من الوجود إذ لا معنى أعم منه.
قال: والاستدلال بتوقف التصديق بالتنافي عليه أو بتوقف الشئ على
نفسه أو عدم تركب الوجود مع فرضه مركبا وإبطال الرسم باطل.
أقول: ذكر فخر الدين في إبطال تعريف الوجود وجهين والمصنف لم يرتض
بهما ونحن نقررهما ونذكر ما يمكن أن يكون وجه الخلل فيهما الأول أن
التصديق بالتنافي بين الوجود والعدم بديهي إذ كل عاقل على الاطلاق يعلم
بالضرورة أنه لا يمكن اجتماع وجود وعدمه والتصديق موقوف على التصور
وما يتوقف عليه البديهي أولى (لا بد - خ ل) أن يكون بديهيا فيكون تصور
الوجود والعدم بديهيا الثاني إن تعريف الوجود لا يجوز أن يكون بنفسه
وإلا دار ولا بأجزائه لأن تلك الأجزاء إن كانت وجودات لزم تعريف الشئ
بنفسه وإن لم يكن وجودات فعند اجتماعها (إن لم يحصل) أمر زائد كان
الوجود محضا ما ليس بوجود هذا خلف (وإن حصل) أمر زائد هو الوجود
كان التركيب في قابل الوجود (1) أو فاعله لا فيه ولا بالأمور الخارجية عنه



(1) أي تلك الأجزاء التي حصل الوجود عند اجتماعها إما قابلة للوجود إن كان فاعله أمرا
آخر أو فاعلة له إن كان قابله أمرا آخر فالوجود الذي فرضناه ذا أجزاء وأردنا تعريفه بها
ليس بذي أجزاء بل ذر الأجزاء إما فاعله أو قابله وهذا خلف أيضا.
13
لأن الخارجي إنما يصلح للتعريف لو كان مساويا للمعرف لأن الأعم لا يفيد
التميز الذي هو أقل مراتب التعريف والأخص أخفى وقد حذر في المنطق عن
التعريف به لكن العلم بالمساواة يتوقف على العلم بالماهية (1) فيلزم الدور وهذان
الوجهان باطلان أما الأول فلأن التصديق البديهي لا يجب أن يكون تصوراته
بديهية لما ثبت في المنطق من جواز توقف البديهي من التصديقات على التصور
الكسبي، سلمنا لكن جاز أن يكون التصور للمفردات ناقصا أي تكون معلومة
باعتبار ما من الاعتبارات وذلك يكفي في باب التصديقات ويكون المراد من
الحد حصول كمال التصور وأما الثاني فلأن ما ذكره في نفي تركيب الوجود
عائد إلى كل ماهية مركبة على الاطلاق وهو باطل بالضرورة، سلمنا لكن جاز
التعريف بالخارجي وشرطه المساواة في نفس الأمر لا العلم بالمساواة فالناظر في
اكتساب الماهية إذا عرض على ذهنه عوارضها واستفاد من بعضها تصور تلك
الماهية علم بعد ذلك أن ذلك العارض مساو لها ثم يفيد غيره تصورها بذكر ذلك
العارض ولا دور في ذلك سلمنا لكن العلم بالمساواة لا يستلزم العلم بالماهية من
كل وجه بل من بعض الوجوه على ما قدمناه ويكون الاكتساب لكمال التصور
فلا دور حينئذ.
المسألة الثانية في أن الوجود مشترك
قال: وتردد الذهن حال الجزم بمطلق الوجود واتحاد مفهوم نقيضه وقبوله
القسمة يعطي الشركة.
أقول: لما فرغ من البحث عن ماهية الوجود شرع في البحث عن أحكامه
فبدأ باشتراكه واستدل عليه بوجوه ثلاثة ذكرها الحكماء والمتكلمون الأول



(1) وبيان ذلك أن المساواة نسبة بين الماهية وما يساويها والعلم بالنسبة يتوقف على
العلم بالمنتسبين.
14
إنا قد نجزم بوجود ماهية ونتردد في خصوصياتها مع بقاء الجزم بالوجود فإنا إذا
شاهدنا أثرا حكمنا بوجود مؤثره فإذا اعتقدنا بأنه ممكن ثم زال اعتقادنا
بإمكانه وتجدد اعتقادنا بوجوبه لم يزل الحكم الأول فبقاء الاعتقاد بالوجود عند
زوال اعتقاد الخصوصيات يدل على الاشتراك الثاني أن مفهوم السلب واحد
لا تعدد فيه ولا امتياز فيكون مفهوم نقيضه الذي هو الوجود واحدا وإلا لم
ينحصر التقسيم بين السلب والإيجاب الثالث إن مفهوم الوجود قابل للتقسيم
بين الماهيات فيكون مشتركا بينها أما المقدمة الأولى فلأنا نقسمه إلى الواجب
والممكن وإلى الجوهر والعرض وإلى الذهني والخارجي والعقل يقبل هذه القسمة
وأما المقدمة الثانية فلأن القسمة عبارة عن ذكر جزئيات الكلي الصادق عليها
بفصول متغايرة أو ما يشابه الفصول ولهذا لا يقبل العقل قسمة الحيوان إلى الإنسان
والحجر لما لم يكن صادقا عليهما ويقبل قسمته إلى الإنسان والفرس.
المسألة الثالثة في أن الوجود زائد على الماهيات
قال: فيغاير الماهية وإلا اتحدت الماهيات أو لم تنحصر أجزائها
أقول: هذه المسألة فرع على المسألة الأولى واعلم أن الناس اختلفوا في أن
الوجود هل هو نفس الماهية أو زائد عليها فقال أبو الحسن الأشعري وأبو الحسين
البصري وجماعة تبعوهما أن وجود كل ماهية نفس تلك الماهية وقال جماعة من
المتكلمين والحكماء أن وجود كل ماهية مغاير لها إلا وجود واجب الوجود
تعالى فإن أكثر الحكماء قالوا إن وجوده نفس حقيقته وسيأتي تحقيق كلامهم
فيه وقد استدل الحكماء على الزيادة بوجوه الأول: أن الوجود مشترك على ما
تقدم فإما أن يكون نفس الماهية أو جزءا منها أو خارجا عنها والأول باطل
وإلا لزم اتحاد الماهيات في خصوصياتها لما تبين من اشتراكه والثاني باطل وإلا لم
تنحصر أجزاء الماهية بل يكون كل ماهية على الاطلاق مركبة من أجزاء

15
لا تتناهى واللازم باطل فالملزوم مثله بيان الشرطية إن الوجود إذا كان جزء من
كل ماهية فإنه يكون جزءا مشتركا بينها ويكون كمال الجزء المشترك فيكون
جنسا فتفتقر كل ماهية إلى فصل يفصلها عما يساويها فيه لكن كل فصل فإنه
يكون موجودا لاستحالة انفصال بالموجودات بالأمور العدمية فيفتقر الفصل إلى
فصل آخر هو جزء منه ويكون جزءا من الماهية لأن جزء الجزء يكون جزءا
أيضا موجودا فيفتقر إلى فصل آخر يتسلسل فيكون للماهية أجزاء لا تتناهى
وأما استحالة التالي فلوجوه أحدها أن وجود ما لا يتناهى محال على ما يأتي.
الثاني يلزم منه تركب واجب الوجود تعالى لأنه موجود فيكون ممكنا بسبب
التركب هذا خلف. الثالث: يلزم منه انتفاء الحقائق أصلا لأنه يلزم منه تركب
الماهيات البسيطة فلا يكون البسيط متحققا فلا يكون المركب متحققا وهذا
كله ظاهر البطلان.
قال: ولانفكاكهما تعقلا.
أقول: هذا هو الوجه الثاني الدال على زيادة الوجود وتقريره إنا قد نعقل
الماهية ونشك في وجودها الذهني والخارجي والمعقول مغاير للمشكوك فيه
وكذلك قد نعقل وجودا مطلقا ونجهل خصوصية الماهية فيكون مغايرا لها.
لا يقال: إنا قد نتشكك في ثبوت الوجود فيلزم أن يكون ثبوته زائدا
عليه ويتسلسل.
لأنا نقول: التشكك ليس في ثبوت وجود للوجود بل في ثبوت الوجود
نفسه للماهية وذلك هو المطلوب.
قال: ولتحقق الإمكان.
أقول: هذا وجه ثالث يدل على الزيادة وتقريره أن ممكن الوجود متحقق

16
بالضرورة والإمكان إنما يتحقق على تقدير الزيادة لأن الوجود لو كان نفس الماهية
أو جزءها لم تعقل منفكة عنه فلا يجوز عليها العدم حينئذ وإلا لزم جواز اجتماع
النقيضين وهو محال وانتفاء جواز العدم يستلزم الوجوب فينتفي الإمكان حينئذ
للمنافاة بين الإمكان الخاص والوجوب الذاتي ولأن الإمكان نسبة بين الماهية
والوجود والنسبة لا تعقل إلا بين شيئين.
قال: وفائدة الحمل.
أقول: هذا هو الوجه الرابع الدال على المغايرة بين الماهية والوجود وتقريره
إنا نحمل الوجود على الماهية فنقول الماهية موجودة فنستفيد منه فائدة معقولة لم
تكن لنا حاصلة قبل الحمل وإنما تتحقق هذه الفائدة على تقدير المغايرة إذ لو كان
الوجود نفس الماهية لكان قولنا الماهية موجودة بمنزلة قولنا الماهية ماهية أو الموجودة
موجودة والتالي باطل فكذا المقدم.
قال: والحاجة إلى الاستدلال.
أقول: هذا وجه خامس يدل على أن الوجود ليس هو نفس الماهية ولا جزء
منها وتقريره إنا نفتقر في نسبة الوجود إلى الماهية إلى الدليل في كثير من الماهيات
ولو كان الوجود نفس الماهية أو جزئها لم تحتج إلى الدليل لافتقار الدليل إلى
المغايرة بين الموضوع والمحمول والتشكيك في النسبة الممتنع تحققه في الذاتي.
قال: وانتفاء التناقض.
أقول: هذا وجه سادس يدل على الزيادة وتقريره إنا قد نسلب الوجود عن
الماهية فنقول: الماهية معدومة ولو كان الوجود نفس الماهية لزم التناقض ولو
كان جزء منها لزم التناقض أيضا لأن تحقق الماهية يستدعي تحقق أجزاءها التي
من جملتها الوجود فيستحيل سلبه عنها وإلا لزم اجتماع النقيضين فتحقق انتفاء
التناقض يدل على الزيادة.

17
قال: وتركب الواجب.
أقول: هذا وجه سابع وهو أن تركب الواجب منتف وإنما يتحقق لو كان
الوجود زائدا على الماهية لأنه يستحيل أن يكون نفس الماهية لما تقدم فلو كان
جزءا من الماهية لزم أن يكون الواجب مركبا وهو محال.
قال: وقيامه بالماهية من حيث هي هي.
أقول: هذا جواب عن استدلال الخصم على أن الوجود نفس الماهية وتقرير
استدلالهم أنه لو كان زائدا على الماهية لكان صفة قائمة بها لاستحالة أن يكون
جوهرا قائما بنفسه مستقلا عن الماهية واستحالة قيام الصفة بغير موصوفها وإذا
كان كذلك فإما أن يقوم بالماهية حال وجودها أو حال عدمها والقسمان باطلان
أما الأول فلأن الوجود الذي هو شرط في قيام هذا الوجود بالماهية أن يكون
هو هذا الوجود فيلزم اشتراط الشئ بنفسه أو يكون مغايرا له فيلزم قيام
الوجودات المتعددة بالماهية الواحدة ولأنا ننقل البحث إلى الوجود الذي هو
شرطه فيتسلسل وأما الثاني فلأنه يلزم قيام الصفة الوجودية بالمحل المعدوم وهو
باطل وإذا بطل القسمان انتفت الزيادة وتقرير الجواب أن نقول الوجود قائم
بالماهية من حيث هي هي لا باعتبار كونها موجودة ولا باعتبار كونها معدومة
فالحصر ممنوع.
قال: فزيادته في التصور.
أقول: هذا نتيجة ما تقدم وهو أن قيام الوجود بالماهية من حيث هي هي
إنما يعقل في الذهن والتصور لا في الوجود الخارجي لاستحالة تحقق ماهية ما من
الماهيات في الأعيان منفردة عن الوجود فكيف تتحقق الزيادة في الخارج والقيام
بالماهية فيه بل وجود الماهية زائد عليها في نفس الأمر والتصور لا في الأعيان
وليس قيام الوجود بالماهية كقيام السواد بالمحل.

18
المسألة الرابعة في انقسام الوجود إلى الذهني والخارجي
قال: وهو ينقسم إلى الذهني والخارجي وإلا لبطلت الحقيقية.
أقول: اختلف العقلاء هيهنا فجماعة منهم نفوا الوجود الذهني وحصروا
الوجود في الخارجي والمحققون منهم أثبتوه وقسموا الوجود إلى الخارجي والذهني
قسمة حقيقية واستدل المصنف رحمة الله عليه بأن القضية الحقيقة صادقة قطعا
لأنا نحكم بالأحكام الإيجابية على موضوعات معدومة في الأعيان وتحقق الصفة
يستدعي تحقق الموصوف وإذ ليس ثابتا في الأعيان فهو متحقق في الذهن.
واعلم أن القضية تطلق على الحقيقية وهي التي يؤخذ موضوعها من حيث هو
هو لا باعتبار الوجود الخارجي بل باعتبار ما صدق عليه الموضوع بالفعل وتطلق
على الخارجية وهي التي يؤخذ موضوعها باعتبار الخارج وهو مذهب سخيف قد
أبطل في المنطق فتحقق الحقيقية يدل على الثبوت الذهني كما قررناه.
قال: والموجود في الذهن إنما هو الصورة المخالفة في كثير من اللوازم.
أقول: هذا جواب عن استدلال من نفي الوجود الذهني وتقرير استدلالهم أنه
لو حلت الماهية في الأذهان لزم أن يكون الذهن حارا باردا أسود أبيض فيلزم
مع اتصاف الذهن بهذه الأشياء المنتفية عنه اجتماع الضدين والجواب أن الحاصل
في الذهن ليس هو ماهية الحرارة والسواد بل صورتهما ومثالهما المخالفة للماهية في
لوازمها وأحكامها فالحرارة الخارجية تستلزم السخونة وصورتها لا تستلزمها
والتضاد إنما هو بين الماهيات لا بين صورها وأمثلتها.
المسألة الخامسة في أن الوجود ليس هو معنى زائدا
على الحصول العيني
قال: وليس الوجود معنى به تحصل الماهية في العين بل الحصول
أقول: قد ذهب قوم غير محققين إلى أن الوجود معنى قائم بالماهية يقتضي

19
حصول الماهية في الأعيان وهذا مذهب سخيف يشهد العقل ببطلانه لأن قيام
ذلك المعنى بالماهية في الأعيان يستدعي تحقق الماهية في الخارج فلو كان حصولهما
في الخارج مستندا إلى ذلك المعنى لزم الدور المحال بل الوجود هو نفس تحقق
الماهية في الأعيان وليس ما به تكون الماهية في الأعيان.
المسألة السادسة في أن الوجود لا تزايد فيه ولا اشتداد
قال: ولا تزايد فيه ولا اشتداد
أقول: ذهب قوم إلى أن الوجود قابل للزيادة والنقصان وفيه نظر لأن
الزيادة إن كانت وجودا لزم اجتماع المثلين وإلا لزم اجتماع النقيضين وأما نفي
الاشتداد فهو مذهب أكثر المحققين قال بعضهم لأنه بعد الاشتداد إن لم يحدث
شئ آخر لم يكن الاشتداد اشتدادا بل هو باق كما كان وإن حدث فالحادث
إن كان غير الحاصل فليس اشتدادا للموجود الواحد بل يرجع إلى أنه حدث
شئ آخر معه وإلا فلا اشتداد وكذا البحث في جانب النقصان وهذا الدليل
ينفي قبول الأعراض كلها للاشتداد والتنقص.
المسألة السابعة في أن الوجود خير والعدم شر
قال: وهو خير محض.
أقول: إنا إذا تأملنا في كل ما يقال له خير وجدناه وجودا وإذا تأملنا في
كل ما يقال له شر وجدناه عدما ألا ترى القتل فإن العقلاء حكموا بكونه شرا
وإذا تأملناه وجدنا شريته فاعتبار ما يتضمن من العدم فإنه ليس شرا من حيث
قدرة القادر عليه فإن القدرة كمال الإنسان ولا من حيث إن الآلة قطاعة فإنه
أيضا كمال لها ولا من حيث حركة أعضاء القاتل ولا من حيث قبول العضو
المنقطع للتقطيع بل من حيث هو إزالة كمال الحياة عن الشخص فليس الشر
إلا هذا العدم وباقي القيود الوجودية خيرات فحكموا بأن الوجود خير محض

20
والعدم شر محض ولهذا كان واجب الوجود تعالى أبلغ في الخيرية والكمال من
كل موجود لبرائته عن القوة والاستعداد وتفاوت غيره من الوجودات فيه باعتبار
القرب من العدم والبعد عنه.
المسألة الثامنة في أن الوجود لا ضد له
قال: ولا ضد له.
أقول: الضد ذات وجودية تقابل ذاتا أخرى في الوجود ولما استحال أن
يكون الوجود ذاتا وأن يكون له وجود آخر استحال أن يكون ضدا لغيره
ولأنه عارض لجميع المعقولات لأن كل معقول إما خارجي فيعرض له الوجود
الخارجي أو ذهني فيعرض له الوجود الذهني ولا شئ من أحد الضدين يعرض
لصاحبه ومقابلته للعدم ليس تقابل الضدين على ما يأتي تحقيقه في نفي المعدوم
بل تقابل السلب والإيجاب إن أخذا مطلقين وإلا تقابل العدم والملكة
المسألة التاسعة في أنه لا مثل للوجود
قال: ولا مثل له.
أقول: المثلان ذاتان وجوديتان يسد كل واحدة منهما مسد صاحبه ويكون
المعقول منهما شيئا واحدا بحيث إذا سبق أحدهما إلى الذهن ثم لحقه الآخر لم
يكتسب العقل من الحاصل ثانيا غير ما اكتسبه أولا والوجود ليس بذات فلا
يماثل شيئا آخر وأيضا فليس هيهنا معقول يساويه في التعقل على معنى ما ذكرناه
إذ كل معقول مغاير لمعقول الوجود.
لا يقال: إن كليه وجزئيه متساويان في التعقل فكان له مثل وهو الجزئي.
لأنا نقول: أنهما ليسا متساويين في المعقولية وإن كان أحد جزئي الجزئي
هو الكلي لكن الاتحاد ليس تماثلا (وأيضا) فإنه عارض لكل المعقولات على
ما قررناه أولا ولا شئ من المثلين يعارض لصاحبه.

21
المسألة العاشرة في أنه مخالف لغيره من المعقولات وعدم منافاته لها
قال: فتحققت مخالفته للمعقولات.
أقول: لما انتفت نسبة التماثل والتضاد بينه وبين غيره من المعقولات وجبت
المخالفة بينهما إذ القسمة حاصرة في كل معقولين بين التماثل والتضاد والاختلاف
وقد انتفي التماثل والتضاد فوجب الاختلاف ولهذا جعله نتيجة لما سبق.
قال: ولا ينافيها:
أقول: المتنافيان لا يمكن اجتماعهما وقد بينا أن كل معقول على الاطلاق
فإنه يمكن عروض مطلق الوجود له واجتماعه معه وصدقه عليه فكيف ينافيه.
لا يقال: العدم المطلق أمر معقول وقد قضى العقل بمنافاته له فكيف يصح
قوله على الاطلاق أنه لا ينافيها.
لأنا نقول: نمنع أولا كون العدم المطلق (1) معقولا والعدم الخاص له حظ
من الوجود ولهذا افتقر إلى موضوع خاص كافتقار الملكة إليه (سلمنا) لكن
نمنع استحالة عروض الوجود المطلق للعدم المعقول فإن العدم المعقول ثابت في
الذهن فيكون داخلا تحت مطلق الثابت فيصدق عليه مطلق الثابت ومنافاته
للوجود المطلق لا باعتبار صدق مطلق الثبوت عليه بل من حيث إنه أخذ مقابلا
له ولا امتناع في عروض أحد المتقابلين للآخر إذا أخذا لا باعتبار التقابل



(1) التقابل بين الوجود والعدم بأحد الاعتبارين كالعدم فإنه من حيث هو متمثل ذهني ليس
مقابلا للوجود بل معروض له وإنما يقابله من حيث هو عدم وسلب وكذلك الوجود مقابل له من
حيث هو هو وأما من حيث هو مفهوم ذهني فيعرض عليه العدم فهما من حيث هما هما يتقابلان
ومن حيث هما مفهومان ذهنيان يعرض كل منهما على الآخر وكذا الكلية والجزئية فإن الكلي من حيث
هو متمثل في الذهن وعرض قائم بالنفس جزئي ومن حيث هو هو كلي صادق على كثيرين والجزئي
أيضا من حيث هو هو ليس بكلي بل مقابله ومن حيث مفهوم من المفاهيم كلي له مصاديق كثيرة.
22
كالكلية والجزئية فإنهما قد يصدق أحدهما على الآخر باعتبار تغاير هما لا باعتبار
تقابلهما وهذا فيه دقة.
المسألة الحادية عشرة في تلازم الشيئية والوجود
قال: ويساوق الشيئية فلا تتحقق بدونه والمنازع مكابر مقتضى عقله.
أقول: اختلف الناس في هذا المقام فالمحققون كافة من الحكماء والمتكلمين
اتفقوا على مساوقة الوجود للشيئية وتلازمهما حتى أن كل شئ على الاطلاق فهو
موجود على الاطلاق وكل ما ليس بموجود فهو منتف وليس بشئ وبالجملة
لم يثبتوا للمعدوم ذاتا متحققة فالمعدوم الخارجي لا ذات له في الخارج والذهني
لا ذات له ذهنا وقال جماعة من المتكلمين أن للمعدوم الخارجي ذاتا ثابتة
في الأعيان متحققة في نفسها ليست ذهنية ولا غيرها وهؤلاء مكابرون
في الضرورة فإن العقل قاض بأنه لا واسطة بين الموجود والمعدوم فإن
الثبوت هو الوجود.
قال: وكيف تتحقق الشيئية بدونه مع إثبات القدرة وانتفاء الاتصاف.
أقول: لما استبعد مقالة هؤلاء القوم ونسبهم إلى المكابرة شرع في الاستدلال
على بطلان قولهم واعلم أن هؤلاء يذهبون إلى أن القدرة لا تأثير لها في
الذوات أنفسها لأنها ثابتة في العدم مستغنية عن المؤثر في جعلها ذواتا ولا في
الوجود لأنه عندهم حال والحال غير مقدورة وقد ثبت في نفس الأمر أن اتصاف
الماهية بالصفة غير ثابت في الأعيان بل هو أمر اعتباري وإلا لزم التسلسل لأن
ذلك الاتصاف لو كان ثابتا لكان مشاركا لغيره من الموجودات في الثبوت وممتازا
عنها بخصوصية وما به الاشتراك مغاير لما به الامتياز فيكون اتصاف ذلك
الاتصاف بالثبوت أمرا زائدا عليه ويلزم التسلسل.

23
إذا ثبت هذا فاعلم أن المصنف (قده) قد تسلم مذهبهم وما ثبت في نفس
الأمر وألزمهم المحال (وتقريره أن الماهيات لو كانت ثابتة في العدم لاستغنت
الممكنات في وجودها عن المؤثر فانتفت القدرة أصلا ورأسا والتالي باطل فالمقدم
مثله بيان الشرطية إن القدرة حينئذ لا تأثير لها في الذوات ولا في الوجود على
مذهبهم ولا في اتصاف الماهية بالوجود على ما ثبت في نفس الأمر وذلك يستلزم
نفي التأثير أصلا وأما بطلان التالي فبالاتفاق والبرهان ودل عليه على ما يأتي
فلهذا استبعد المصنف (قده) هذه المقالة مع إثبات القدرة المؤثرة والقول بكون
الاتصاف أمرا ذهنيا وإنه منتف في الخارج.
قال: وانحصار الموجود مع عدم تعقل الزائد.
أقول: هذا برهان آخر دال على انتفاء الماهيات في العدم وتقريره أن
مذهبهم إن كل ماهية نوعية فإنه ثبت من أشخاصها في العدم ما لا يتناهى
كالسواد والبياض والجواهر وغيرها من الحقائق فألزمهم المصنف (قده) المحال
وهو القول بعدم انحصار الموجودات لأن تلك الماهيات ثابتة وهي غير محصورة
في عدد متناه والثبوت هو الوجود لانتفاء تعقل أمر زائد على الكون في الأعيان
فلزمهم القول بوجود ما لا يتناهى من الماهيات وهو عندهم باطل فإن جعلوا الوجود
أمرا مغايرا للكون في الأعيان كان نزاعا في العبارة وقولا بإثبات ما لا يعقل مع
إنا نكتفي في إثبات محالية قولهم بالثبوت الذي هو الكون في الأعيان وهم يسلمونه
لنا والبراهين الدالة على استحالة ما لا يتناهى كما تدل على استحالته في الوجود
تدل على استحالته في الثبوت إذ دلالتها إنما هي على انحصار الكائن في الأعيان
وقول المصنف (قده) (وانحصار الموجود) عطف على الانتفاء أي وكيف
تتحقق الشيئية بدون الوجود مع إثبات القدرة وانتفاء الاتصاف ومع انحصار الموجود
مع عدم تعقل الزائد هكذا ينبغي أن يفهم كلامه هينها.

24
قال: ولو اقتضى التميز الثبوت عينا لزم منه محالات.
أقول: لما أبطل مذهب المثبتين شرع في إبطال حججهم ولهم حجتان
قويتان (رديتان - خ ل) ذكر هما المصنف وأبطلهما (أما الحجة الأولى)
فتقريرها أن كل معدوم متميز وكل متميز ثابت فكل معدوم ثابت (أما المقدمة
الأولى) فيدل عليها أمور ثلاثة أحدها أن المعدوم معلوم وكل معلوم متميز
الثاني أن المعدوم مرادفا لأنا نريد اللذات ونكره الآلام فلا بد وأن يتميز المراد عن
المكروه الثالث أن المعدوم مقدور وكل مقدور متميز فإنا نميز بين الحركة يمنة
ويسرة وبين الحركة إلى السماء ونحكم بقدرتنا على إحدى الحركتين دون الأخرى
فلولا تميز كل واحدة منهما عن الأخرى لاستحال هذا الحكم وأما (المقدمة
الثانية) فلأن التميز صفة ثابتة للتميز وثبوت للصفة يستدعي ثبوت الموصوف
لأنه فرع عليه والجواب أن التميز لا يستدعي الثبوت عينا والإلزام منه محالات
أحدها أن المعلوم قد يكون مستحيل الوجود لذاته كشريك الباري تعالى
واجتماع الضدين وغيرهما ويتميز أحدهما عن الآخر فلو اقتضى التميز الثبوت عينا
لزم ثبوت المستحيلات مع أنهم وافقونا على انتفاء المستحيل الثاني أن المعلوم قد
يكون مركبا خياليا ووجودا وليس بثابت في العين اتفاقا الثالث أن المقدورية
لو استدعت الثبوت لانتفت إذ لا قدرة على الثابت وكذا المرادية
قال: والإمكان اعتباري يعرض لما وافقونا على انتفائه.
أقول: هذه الحجة الثانية لهم على ثبوت المعدوم وهي أنهم قالوا إن المعدوم
ممكن وإمكانه ليس أمرا عدميا وإلا لم يبق فرق بين نفي الإمكان وبين الإمكان
المنفي؟ فيكون أمرا ثبوتيا وليس جوهرا قائما بذاته فلا بد له من محل ثبوتي
وهو الممكن لاستحالة قيام الصفة بغير موصوفها فيكون الممكن العدم ثابتا
وهو المطلوب وأجاب المصنف (قده) عنه بأن الإمكان أمر اعتباري ليس شيئا

25
خارجيا وإلا لزم التسلسل وأن يكون الثبوتي حالا في محل عدمي وهو باطل
قطعا وأيضا فإن الإمكان يعرض للممكنات العدمية كالمركبات وهم وافقونا على
انتفائها خارجا فيبطل قولهم كل ممكن ثابت.
المسألة الثانية عشرة في نفي الحال
قال: وهو يرادف الثبوت والعدم يرادف النفي فلا واسطة.
أقول: ذهب أبو هاشم وأتباعه من المعتزلة والقاضي والجويني من الأشاعرة
إلى أن هيهنا واسطة بين الموجود والمعدوم وهي ثابتة وسموها الحال وحدوها
بأنها صفة لموجود لا يوصف بالوجود والعدم فيكون الثابت أعم من الموجود
والمعدوم أعم من المنفي وهذا المذهب باطل بالضرورة فإن العقل قاض بأنه
لا واسطة بين الوجود والعدم وأن الثبوت هو الوجود ومرادف له وأن العدم
والنفي مترادفان ولا شئ عند العقل أظهر من هذه القضية فلا يجوز
الاستدلال عليها.
قال: والوجود لا يرد عليه القسمة والكلي ثابت ذهنا ويجوز قيام
العرض بالعرض.
أقول: لما أبطل مذهبهم أشار إلى بطلان ما احتجوا به وهو وجهان
الأول قالوا قد تبين أن الوجود زائد على الماهية فإما أن يكون موجودا
أو معدوما ولا موجودا ولا معدوما والأولان باطلان أما الأول فلأنه يلزم منه
التسلسل وأما الثاني فلأنه يلزم منه اتصاف الشئ بنقيضه فبقي الثالث والجواب
أن الوجود غير قابل لهذه القسمة لاستحالة انقسام الشئ إلى نفسه وإلى غيره
فكما لا يقال السواد إما أن يكون سوادا أو بياضا كذلك لا يقال الوجود
إما أن يكون موجودا أو لا يكون ولأن المنقسم إلى الشيئين أعم منهما ومستحيل
أن يكون الشئ أعم من نفسه الوجه الثاني أن اللونية أمر ثابت مشترك بين

26
السواد والبياض فيكون كل واحد من السواد والبياض ممتازا عن الآخر بأمر
زائد على ما به الاشتراك ثم الأمران إن كانا موجودين (1) لزم قيام العرض بالعرض
وإن كانا معدومين لزم أن يكون السواد أمرا عدميا وكذلك البياض وهو باطل
بالضرورة فثبتت الواسطة والجواب من وجهين الأول أن الكلي ثابت في
الذهن فلا يرد عليه هذه القسمة الثاني أن العرض قد يقوم بالعرض على ما يأتي
وأيضا فإن قيام الجنس بالفصل ليس قو قيام عرض بعرض.
قال: ونوقضوا بالحال نفسها.
أقول: إعلم أن نفاة الأحوال قالوا وجدنا ملخص أدلة مثبتي الحال يرجع إلى أن
هيهنا حقائق تشترك في بعض ذاتياتها وتختلف في البعض والآخر وما به الاشتراك
مغاير لما به الامتياز ثم قالوا إن ذلك ليس بموجود ولا معدوم فوجب القول
بالحال وهذا ينتقض عليهم بالحال نفسها فوجب القول بالحال للحال نفسها فإن
الأحوال عندهم متعددة متكثرة فلها جهتا اشتراك هي مطلق الحالية وامتياز هي
خصوصيات تلك الأحوال وجهة الاشتراك مغايرة لجهة الامتياز فيلزم أن يكون
للحال حال أخرى ويتسلسل.
قال: والعذر بعدم قبول التماثل والاختلاف والتزام التسلسل باطل.
أقول: إعتذر المثبتون عن إلزام النفاة بوجهين الأول أن الحال لا يوصف
بالتماثل والاختلاف الثاني القول بالتزام التسلسل والعذران باطلان أما الأول
فلأن كل معقول إذا نسب إلى معقول آخر فأما أن يتحدا في المعقولية ويكون
المتصور من أحدهما هو المتصور من الآخر وإنما يتعددان بعوارض لاحقة لهما وهما



(1) بيان ذلك فهذان الأمران إن كانا موجودين فإما أن يكونا جوهرين وإما أن يكونا
عرضين والأول باطل للزوم كون الألوان جوهرا والثاني كذلك للزوم قيام العرض بالعرض وإن
كانا معدومين لزم عدم وجود الألوان وهو باطل بالضرورة.
27
المثلان أولا يكون كذلك وهما المختلفان فلا يتصور نفيهما وأما الثاني فلأنه يبطل
الاستدلال بوجود الصانع تعالى وبراهين إبطال التسلسل آتية هيهنا وأجاب
بعض المتأخرين بأن المختلفين إذا اشتركا في أمر ثبوتي لزم ثبوت أمرين بهما يقع
الاختلاف والتماثل وأما إذا اتحدا في أمر سلبي فلا يلزم ذلك والأحوال وإن
اشتركت في الحالية كالسوادية والبياضية إلا أن ذلك المشترك أمر سلبي فلا يلزم
التسلسل وهو غير مرضي عندهم لأن الأحوال عندهم ثابتة.
المسألة الثالثة عشرة: في التفريع على القول
بثبوت المعدوم والأحوال
قال: فبطل ما فرعوا عليهما من تحقق الذوات الغير المتناهية في العدم
وانتفاء تأثير المؤثر فيها وتباينها واختلافهم في إثبات صفة الجنس وما يتبعها
في الوجود ومغايرة التحيز للجوهرية؟ وإثبات صفة المعدوم بكونه معدوما
وإمكان وصفه بالجسمية ووقوع الشك في إثبات الصانع بعد اتصافه بالقدرة
والعلم والحياة.
أقول: لما أبطل مذهب القائلين بثبوت المعدوم والحال أبطل ما فرعوا
عليهما وقد ذكر من فروع إثبات الذوات في العدم أحكاما اختلفوا في بعضها
الأول اتفقوا على أن تلك الذوات غير متناهية في العدم ولكل نوع عدد غير
متناه وإن كانت تلك الأعداد متناهية باشخاص الثاني إن الفاعل لا تأثير له في
جعل الجوهر جوهرا والعرض عرضا وإنما تأثير الفاعل في جعل تلك الذوات
موجودة لأن تلك الذوات ثابتة في العدم لم تزل والمؤثر إنما يؤثر على طريقة
الأحداث وقد صار إلى هذا الحكم جماعة من الحكماء وقالوا إن كل ما بالفاعل
ينتفي بانتفاء الفاعل فلو كان الجوهر جوهرا بالفاعل لانتفى بانتفائه لكن انتفاء
الجوهر عن ذاته يستلزم التناقض الثالث اتفقوا على انتفاء التباين في الذوات بل
جعلوا الذوات كلها متساوية في كونها ذواتا وإنما تختلف بصفات عارضة لها

28
وهذا المذهب باطل لأن الصفات إن كانت لازمة كان اختلافها دليلا على اختلاف
الملزومات وإلا جاز أن ينقلب السواد جوهرا وبالعكس وذلك باطل بالضرورة
الرابع اختلفوا في صفات الأجناس هل هي ثابتة في العدم أم لا والمراد بصفات
الأجناس ما يقع به الاختلاف والتماثل كصفة الجوهرية في الجواهر والسوادية في
السواد إلى غير ذلك من الصفات فذهب ابن عياش إلى عراء تلك الماهيات عن
الصفات في العدم وأما الجبائيان وعبد الجبار وابن مثويه فإنهم قالوا صفات
الجوهر أما أن تكون عائدة إلى الجملة (1) كالحياة وما يشترط بها وأما أن تكون
عائدة إلى الأفراد وهي أربعة إحديها الصفة الحاصلة حالتي الوجود والعدم وهي
الجوهرية والثانية الوجود وهي الصفة الحاصلة بالفاعل الثالثة التحيز وهي الصفة
التابعة للحدوث الصادرة عن صفة الجوهرية بشرط الوجود الرابعة الحصول في
الحيز وهي الصفة المعللة بالمعنى وليس له صفة (2) زائدة على هذه الأربع فليس
له بكونه أسود أو أبيض صفات وأما الأعراض فلا صفات لها عائدة إلى الجملة
بل لها ثلاث صفات راجعة إلى الأفراد إحديها الصفة الحاصلة حالتي الوجود
والعدم وهي صفة الجنس (3) الثانية الصفة الصادرة عنها بشرط الوجود الثالثة
صفة الوجود الخامس ذهب أبو يعقوب الشحام وأبو عبد الله البصري
وأبو إسحاق بين عياش إلى أن الجوهرية هي التحيز ثم قال الشحام والبصري
إن الذات موصوفة بالتحيز كما توصف بالجوهرية ثم اختلفا فقال الشحام إن
الجوهر حال عدمه حاصل في الحيز وقال البصري شرط الحصول في الحيز



(1) أي إلى مركب من حقائق من حيث هو مركب كالإنسان فإنه من حيث هو مركب
متصف بالحياة وليست الحياة صفة لكل واحد من الحقائق المتحققة فيه.
(2) أي الصفات التي هي الأحوال.
(3) وهي العرضية كالكمية والكيفية والإضافية وما هو مندرج تحتها كالكونية وغيرها.
29
الوجود فهو حال العدم موصوف بالتحيز لا الحصول في الحيز وزعم ابن عياش
أنه حال العدم غير موصوف بأحدهما ولا بغيرهما السادس اتفق المثبتون
إلا أبا عبد الله البصري على أن المعدوم لا صفة له بكونه معدوما والبصري أثبت
له صفة بذلك السابع اتفقوا إلا أبا الحسين الخياط على أن الذوات المعدومة
لا توصف بكونها أجساما وجوزه الخياط الثامن اتفقوا على أن من علم أن للعالم
صانعا قادرا حكيما مرسلا الرسل قد يشك في أنه هل هو موجود أم لا ويحتاج
في ذلك إلى دليل بناء منهم على جواز اتصاف المعدوم بالصفات المتغايرة
والعقلاء كافة منعوا من ذلك وأوجبوا وجود الموصوف بالصفة الموجودة لأن
ثبوت الشئ لغيره فرع ثبوت ذلك الغير في نفسه.
قال: وقسمة الحال إلى المعلل وغيره وتعليل الاختلاف بها وغير ذلك مما
لا فائدة بذكرها.
أقول: لما ذكر تفاريع القول بثبوت المعدوم شرع في تفاريع القول بثبوت
الحال وذكر منها فرعين الأول قسمة الحال إلى المعلل وغيره قالوا ثبوت الحال
للشئ أما يكون معللا بموجود قائم بذلك الشئ كالعالمية المعللة بالعلم
أولا يكون كذلك كسوادية السواد فقسموا الحال إلى المعلل وغيره الثاني
اتفقوا على أن الذوات كلها متساوية في الماهية وإنما تختلف بأحوال تنضاف إليها
واتفق أكثر العقلاء على بطلان هذا الوجوب استواء المتماثلين في اللوازم فيجوز
على القديم الانقلاب إلى المحدث وبالعكس ولأن التخصيص لا بد له من مرجح
وليس ذاتا ولا صفة ذات وإلا تسلسل.
المسألة الرابعة عشرة: في الوجود المطلق والخاص
قال: ثم الوجود قد يؤخذ على الاطلاق فيقابله عدم مثله وقد يجتمعان
لا باعتبار التقابل ويعقلان معا وقد يؤخذ مقيدا فيقابله عدم مثله.

30
أقول: إعلم أن الوجود عبارة عن الكون في الأعيان ثم إن هذا الكون
في الأعيان قد يؤخذ عارضا لماهية ما فيتخصص الوجود حينئذ وقد يؤخذ مجردا
من غير التفات إلى ماهية خاصة فيكون وجودا مطلقا إذا عرفت هذا فالوجود
العام يقابله عدم مطلق غير متخصص بماهية خاصة وهذا الوجود المطلق والعدم
المطلق قد يجتمعان على الصدق فإن المعدوم في الخارج الموجود في الذهن يصدق
عليه أنه معدوم مطلق وأنه موجود مطلق نعم إذا نظر إلى وحدة الاعتبار
امتنع اجتماعهما في الصدق على شئ واحد وإنما يجتمعان إذا أخذا لا باعتبار
التقابل ولهذا كان المعدوم مطلقا متصورا للحكم عليه بالمقابلة للموجود المطلق
وكل متصور ثابت في الذهن والثابت في الذهن أحد أقسام مطلق الثابت
فيكون الثابت مطلقا صادقا على المعدوم المطلق لا باعتبار التقابل وهذا
الوجود المطلق والعدم المطلق أمران معقولان وإن كان قد نازع قوم في أن
المعدوم المطلق غير متصور وأما الوجود الخاص وهو وجود الملكات المتخصص
باعتبار تخصصها فإنه يكون مقيدا كوجود الإنسان مثلا المقيد بقيد الإنسان
وغيره من الماهيات فإنه يقابله عدم مثله خاص.
المسألة الخامسة عشرة: في أن عدم الملكة
يفتقر إلى الموضوع
قال: ويفتقر إلى الموضوع كافتقار ملكته
أقول: عدم الملكة ليس عدما مطلقا بل له حظ ما من الوجود ويفتقر إلى
الموضوع كإفتقار الملكة إليه فإنه عبارة عن عدم شئ آخر مع إمكان
اتصاف ذلك الموضوع بذلك الشئ كالعمى فإنه عدم البصر لا مطلقا ولكن عن
شئ من شأنه أن يكون بصيرا فهو يفتقر إلى الموضوع الخاص المستعد للملة

31
كما تفتقر الملكة إليه ولهذا لما امتنع البصر على الحائط لعدم استعداده امتنع
العمى عليه.
قال: ويؤخذ الموضوع شخصيا ونوعيا وجنسيا.
أقول: لما فسر عدم الملكة بأنه عدم شئ عن موضوع من شأنه أن يكون
له وجب عليه أن يبين الموضوع وقد اختلف الناس في ذلك فذهب قوم إلى أن
ذلك الموضوع موضوع شخصي فعدم اللحية عن الأمرد عدم ملكة وعدمها عن
الأنثى (الاثط خ ل) ليس عدم الملكة وقوم جعلوه أعم من ذلك بحيث يدخل
فيه الموضوع النوعي فعدم اللحية عن الأنثى (الاثط خ - ل) إيجاب وعدم
ملكة وعدمها عن الحمار ليس عدم ملكة وقوم جعلوه أعم من ذلك بحيث يدخل
فيه الموضوع الجنسي أيضا ولا مشاحة في ذلك لعدم فائدة فيه.
المسألة السادسة عشرة: في أن الوجود بسيط
قال: ولا جنس له بل هو بسيط فلا فصل له
أقول: قد بينا أن الوجود عارض لجميع المعقولات فلا معقول أعم منه فلا
جنس له فلا فصل له لأن الفصل هو المميز لبعض أفراد الجنس عن البعض فإذا
انتفت الجنسية انتفت الفصلية بل هو بسيط لا يقال لم لا يجوز أن يكون
مركبا لا من الأجناس والفصول كتركب العدد من الآحاد لأنا نقول تلك
الأجزاء أما أن تكون موجودة أو لا تكون كذلك وعلى التقدير الأول يكون
طبيعة الجزء والمركب واحدة فلا يقع الامتياز إلا بالمقدار وهو منتف وعلى التقدير
الثاني لا يكون الوجود عارضا لجميع المعقولات مع فرضنا إياه كذلك هذا خلف.
المسألة السابعة عشرة: في مقوليته على ما تحته من الجزئيات
قال: ويتكثر بتكثر الموضوعات ويقال بالتشكيك على عوارضها.

32
أقول: الوجود طبيعة معقولة (مقولة - ظ) كلية واحدة غير متكثرة
فإذا اعتبر عروضه للماهيات تكثر بحسب تكثرها لاستحالة عروض العرض
الشخصي لما هيات متعددة ويكون طبيعة متحققة في كل واحدة من عوارض
تلك الماهيات أعني أن طبيعة الوجود متحققة في وجود الإنسان ووجود الفرس
وغيرهما من وجودات الحقائق ويصدق عليها صدق الكلي على جزئياته وعلى
تلك الماهيات صدق العارض على معروضاته ويقال على تلك الوجودات العارضة
للماهيات وبالتشكيك وذلك أن الكلي إن كان صدقه على أفراده على السواء
كان متواطيا وإن كان لا على السواء بل يكون بعض تلك الأفراد أولى بالكلي
من الآخر أو أقدم منه أو يوجد الكلي في ذلك البعض أشد منه في الآخر كان
مشككا والوجود المطلق من حيث هو بالنسبة إلى كل وجود خاص كذلك لأن
وجود العلة أولى بطبيعة الوجود من المعلول والوجود في العلة سابق على الوجود
في المعلول وأشد عند بعضهم فيكون مشككا.
قال: فليس جزء من غيره مطلقا.
أقول: هذا نتيجة ما تقدم وذلك لأن المقول بالتشكيك لا يكون جزء مما
يقال عليه ولا نفس حقيقته لامتناع التفاوت في الماهية وأجزاءها على ما يأتي
فيكون البتة عارضا لغيره فلا يكون جزء من غيره على الاطلاق أما بالنسبة إلى
الماهيات فلأنه عارض لها على ما تقدم من امتناع كونه جزءا من غيره وأنه زائد
على الحقائق وأما بالنسبة إلى وجوداتها فلأنه مقول عليها بالتشكيك فلهذا قال
رحمه الله: مطلقا
المسألة الثامنة عشرة: في الشيئية
قال: والشيئية من المعقولات الثانية وليست متأصلة في الوجود فلا
شئ مطلقا ثابت بل هي تعرض خصوصيات الماهيات.

33
أقول: قال أبو علي بن سينا الوجود أما ذهني وأما خارجي والمشترك بينهما
هو الشيئية فإن أراد حمل الشيئية على القدر المشترك وصدقها عليه فهو صواب
وإلا فهو ممنوع إذا عرفت هذا فنقول الشيئية والذاتية والجزئية وأشباهها من
المعقولات الثانية التي تعرض للمعقولات الأولى لأنها لا تعقل إلا عارضة لغيرها
من الماهيات وليست متأصلة في الوجود كتأصل الحيوانية والإنسانية فيه بل
هي تابعة لغيرها في الوجود وليس يمكن وجود شيئية مطلقة فلا شئ مطلقا ثابت إنما
الثبوت يعرض للماهيات الشخصية المخصوصة.
المسألة التاسعة عشرة: في تمايز الأعدام
قال: وقد يتمايز الأعدام ولهذا استند عدم المعلول إلى عدم العلة لا غير
ونافى عدم الشرط وجود المشروط وصحح عدم الضد وجود الآخر بخلاف
باقي الأعدام.
أقول: لا شك في أن الملكات متمايزة وأما العدميات فقد منع قوم من تمايزها
بناء على أن التميز إنما يكون للثابت خارجا وهو خطأ فإنها تتمايز بتمايز ملكاتها
واستدل المصنف (قده) بوجوه ثلاثة الأول أن عدم المعلول يستند إلى عدم العلة
ولا يستند إلى عدم غيرها فلولا امتياز عدم العلة عن عدم غيرها لم يكن عدم المعلول
مستندا إليه دون غيره وأيضا فإنا نحكم بأن عدم المعلول لعدم علته ولا يجوز العكس
فلولا تمايزها لما كان كذلك الثاني أن عدم الشرط ينافي وجود المشروط لاستحالة
الجمع بينهما لأن المشروط لا يوجد إلا مع شرطه وإلا لم يكن الشرط شرطا وعدم
غيره لا ينافيه فلولا الامتياز لم يكن كذلك الثالث أن عدم الضد عن المحل
يصحح وجود الضد الآخر فيه لانتفاء صحة وجود الضد الطاري مع وجود الضد
الباقي وعدم غيره لا يصحح ذلك فلا بد من التمايز.

34
قال: ثم العدم قد يعرض لنفسه فيصدق النوعية والتقابل عليه
باعتبارين.
أقول: العدم قد يفرض عارضا لغيره وقد يلحظ لا باعتبار عروضه للغير
فيكون أمرا معقولا قائما برأسه ويكون له تحقق في الذهن ثم إن العقل يمكنه
فرض عدمه لأن الذهن يمكنه إلحاق الوجود والعدم بجميع المعقولات حتى
بنفسه فإذا اعتبر العقل للعدم ماهية معقولة وفرضها معدومة كان العدم عارضا
لنفسه ويكون العدم العارض للعدم مقابلا لمطلق العدم باعتبار كونه رافعا له
وعدما له ونوعا منه باعتبار أن العدم المعروض أخذ مطلقا على وجه يعم العارض
له ولغيره فيصدق نوعية العدم العارض للمعروض والتقابل بينهما باعتبارين.
قال: وعدم المعلول ليس علة لعدم العلة في الخارج وإن جاز في الذهن
على أنه برهان آني وبالعكس لمي.
أقول: لما بين أن الأعدام متمايزة بأن عدم المعلول يستند إلى عدم العلة ذكر
ما يصلح جوابا لتوهم من يعكس القول ويجعل عدم المعلول علة لعدم العلة
فأزال هذا الوهم وقال وعدم المعلول ليس علة لعدم العلة بل الأمر بالعكس كما
يأتي ثم قيد النفي بالخارج لأن عدم المعلول قد يكون علة لعدم العلة لكن لا
في الخارج بل في الذهن كما في برهان آني بأن يكون عدم المعلول أظهر عند
العقل من عدم العلة فيستدل العقل عليه ويكون علة له باعتبار التعقل لا باعتبار
الخارج ولا يفيد العلية في نفس الأمر بل في الذهن ولهذا سمى آنيا لأنه لا يفيد
إلا الوجود في الذهن أما الاستدلال بعدم العلة على عدم المعلول فهو برهان لمي
مطابق للأمر نفسه.
المسألة العشرون: في أن عدم الأخص أعم من عدم الأعم
قال: والأشياء المترتبة في العموم والخصوص وجودا تتعاكس عدما.

35
أقول: إذا فرض أمران أحدهما أعم من الآخر كالإنسان والحيوان ونسب
عدم أحدهما إلى الآخر بالعموم والخصوص وجد عدم الأخص أعم من عدم الأعم
فإن الحيوان يشمل الإنسان وغيره فغير الإنسان لا يصدق عليه أنه إنسان بل
يصدق عليه عدمه ولا يصدق عليه عدم الحيوان لأنه أحد أنواعه ويصدق أيضا
عدم الإنسان على ما ليس بحيوان وهو ظاهر فعدم الحيوان لا يشمل أفراد عدم
الإنسان وعدم الإنسان شامل لأفراد ما ليس بحيوان فيكون عدم الأخص
أعم من عدم الأعم فإذا ترتب شيئان في العموم والخصوص وجودا ترتبا على
العكس عدما بأن يصير الأخص أعم في طرف العدم.
المسألة الحادية والعشرون: في قسمة الوجود والعدم
إلى المحتاج والغني
قال: وقسمة كل منهما إلى الاحتياج والغنى حقيقية.
أقول: كل واحد من الوجود والعدم أما أن يكون محتاجا إلى الغير وأما
أن يكون مستغنيا عنه والأول ممكن والثاني واجب أو ممتنع وهذه القسمة
حقيقية أي تتنع الجمع والخلو أما منع الجمع فلاستحالة كون المستغني عن الغير
محتاجا إليه وبالعكس وأما منع الخلو فلأنه لا قسم ثالث لهما فقد ظهر أن هذه
القسمة حقيقية.
المسألة الثانية والعشرون: في الوجوب والإمكان والامتناع
قال: وإذا حمل الوجود أو جعل رابطة تثبت مواد ثلاث في أنفسها
وجهات في التعقل دالة على وثاقة الربط وضعفه هي الوجوب والامتناع
والإمكان.
أقول: الوجود قد يكون محمولا بنفسه كقولنا الإنسان موجود وقد يكون
رابطة بين الموضوع والمحمول كقولنا الإنسان يوجد حيوانا (وعلى كلا

36
التقديرين) لا بد لهذه النسبة أعني نسبة المحمول فيهما إلى الموضوع من كيفية هي
الوجوب والإمكان والامتناع وتلك الكيفية تسمى مادة وجهة باعتبارين فإنا
إن أخذنا الكيفية في نفس الأمر سميت مادة وإن أخذناها عند العقل وما تدل
عليه العبارات سميت جهة وقد تتحدان كقولنا الإنسان يجب أن يكون حيوانا
وقد تتغايران كقولنا الإنسان يمكن أن يكون حيوانا فالمادة ضرورية لأن
كيفية نسبة الحيوانية إلى الإنسانية هي الوجوب وأما الجهة فهي ممكنة وهذه
الكيفيات تدل على وثاقة الربط وضعفه فإن الوجوب يدل على وثاقة الربط في
طرف الثبوت والامتناع على وثاقته في طرف العدم والإمكان على ضعف الربط.
قال: وكذلك العدم.
أقول: إذا جعل العدم محمولا أو رابطة كقولنا الإنسان معدوم أو معدوم
عنه الكتابة حدثت الجهات الثلاث عند التعقل والمواد في نفس الأمر.
المسألة الثالثة والعشرون: في أن هذه القضايا الثلاث لا يمكن تعريفها
قال: والبحث في تعريفها كالوجود.
أقول: إن جماعة من العلماء أخطأوا هيهنا حيث عرفوا الواجب والممكن
والممتنع لأن هذه الأشياء معلومة للعقلاء لا تحتاج إلى اكتساب نعم قد يذكر في
تعريف ألفاظها ما يكون شارحا لها لا على أنه حد حقيقي بل لفظي ومع ذلك
فتعريفاتهم دورية لأنهم عرفوا الواجب بأنه الذي يستحيل عدمه أو الذي لا
يمكن عدمه ثم عرفوا المستحيل بأنه الذي لا يمكن وجوده أو الذي يجب
عدمه ثم عرفوا الممكن بأنه الذي لا يجب وجوده ولا يجب عدمه أو الذي لا
يستحيل وجوده ولا عدمه فقد أخذوا كل واحد منهما في تعريف الآخر وهو
دور ظاهر.

37
المسألة الرابعة والعشرون: في القسمة إلى هذه الثلاثة
قال: وقد تؤخذ ذاتية فتكون القسمة حقيقية لا يمكن انقلابها.
أقول: إذا أخذنا الوجوب والامتناع والإمكان على أنها ذاتية لا بالنظر إلى
الغير كانت المعقولات منقسمة إليها قسمة حقيقية أي تمنع الجمع والخلو وذلك لأن
كل معقول على الاطلاق أما أن يكون واجب الوجود لذاته أو ممتنع الوجود
لذاته أو ممكن الوجود لذاته لا يخلو عنها ولا يجتمع اثنان منها في واحد لاستحالة
أن يكون شئ واحد واجبا لذاته وممتنعا لذاته أو واجبا لذاته
وممكنا لذاته أو ممتنعا لذاته وممكنا لذاته فالقسمة حينئذ حقيقية (واعلم) أن
القسمة الحقيقية قد تكون للكلي بفصول أو لوازم تميزه وتفصله إلى الأقسام
المندرجة تحته وقد تكون بعوارض مفارقة والقسمة الأولى لا يمكن انقلابها
ولا يصير أحد القسمين معروضا للمميز الآخر الذي به وقعت القسمة كقولنا
الحيوان أما ناطق أو صامت فإن الحيوان بالناطق والصامت قد انقسم إلى
الطبيعتين ويستحيل انقلاب هذه القسمة بمعنى أن الحيوان الذي هو ناطق يستحيل
زوال النطق عنه وعروض الصمت له وكذا الحيوان الذي هو صامت وأما القسمة
الثانية فيمكن انقلابها ويصير أحد القسمين معروضا للمميز الآخر الذي به وقعت
القسمة كقولنا الحيوان أما متحرك أو ساكن فإن كل واحد من قسمي المتحرك
والساكن قد يتصف بعارض الآخر فينقلب المتحرك ساكنا وبالعكس وقسمة
المعقول بالوجوب الذاتي والامتناع الذاتي والإمكان الذاتي من قبيل القسم
الأول لاستحالة انقلاب الواجب لذاته ممتنعا لذاته أو ممكنا لذاته وكذا
الباقيان.
قال: وقد يؤخذ الأولان باعتبار الغير فالقسمة مانعة الجمع بينهما يمكن
انقلابها ومانعة الخلو بين الثلاثة في الممكنات

38
أقول: إذا أخذنا الواجب والممتنع باعتبار الغير لا بالنظر إلى الذات انقسم
المعقول إليهما على سبيل منع الجمع لا الخلو وذلك لأن المعقول حينئذ إما أن يكون
واجبا لغيره أو ممتنعا لغيره على سبيل منع الجمع لا الخلو لامتناع الجمع بين الوجوب
بالغير والامتناع بالغير والإمكان الخلو عنهما لا بالنظر إلى وجود العلة ولا عدمها
وهذه القسمة يمكن انقلابها لأن واجب الوجود بالغير قد يعرضه عدم العلة
فيكون ممتنع الوجود بالغير فينقلب أحدهما إلى الآخر وإذا لا حظنا الإمكان
الذاتي في هذه القسمة في الممكنات انقلبت مانعة الخلو لا الجمع لعدم خلو كل
معقول ممكن عن الوجوب بالغير والامتناع بالغير والإمكان الذاتي فيجوز الجمع
بينهما فإن الممكن الذاتي واجب أو ممتنع بالغير.
المسألة الخامسة والعشرون: في أقسام الضرورة والإمكان
قال: ويشترك الوجوب والامتناع في اسم الضرورة وإن اختلفا في
السلب والإيجاب.
أقول: الضرورة تطلق على الوجوب والامتناع وتشملهما فإن كل واحد من
الوجوب والامتناع يقال له ضروري لكنهما يختلفان بالسلب والإيجاب فالوجوب
ضرورة الوجود والامتناع ضرورة السلب واسم الضرورة شامل لهما.
قال: وكل منهما يصدق على الآخر إذا تقابلا في المضاف إليه.
أقول: كل واحد من الوجوب والامتناع يصدق على الآخر فإن وجوب
الوجود يصدق إليه امتناع العدم ويستلزمه وبالعكس وكذلك امتناع الوجود
يصدق عليه وجوب العدم ويستلزمه فالوجوب والامتناع كل واحد منهما يصدق
على الآخر إذا تقابلا في المضاف (1) إليه أي الوجود والعدم اللذان يضاف



(1) بأن يقال للباري واجب الوجود والممتنع العدم ويقال لشريك الباري واجب العدم
وممتنع الوجود وهذا الشرط بديهي إذ لا يصدق على شئ واحد أنه واجب الوجود وممتنع
الوجود أو واجب العدم وممتنع العدم.
39
الوجوب والامتناع إليهما وإنما اشترطنا تقابل المضاف إليه لأنه يستحيل صدقهما
على مضاف إليه واحد فإن وجوب لا يصدق عليه امتناع الوجود
وبالعكس ولا وجوب العدم يصدق عليه امتناع العدم بل إنما يصدق كل واحد
منهما على صاحبه مع التقابل كما قلنا وجوب الوجود يصدق عليه امتناع العدم
فالوجوب أضيف إلى الوجود والامتناع إلى العدم والوجود والعدم متقابلان.
قال: وقد يؤخذ الإمكان بمعنى سلب الضرورة عن أحد الطرفين فيعم
الأخرى والإمكان الخاص.
أقول: القسمة العقلية ثلاثة واجب وممتنع وممكن ليس بواجب ولا ممتنع
هذا بحسب اصطلاح الخاصة وقد يؤخذ الإمكان على معنى أعم من ذلك وهو
سلب الضرورة عن أحد الطرفين أعني طرفي الوجود والعدم لا عنهما معا بل
عن الطرف المقابل للحكم حتى يكون ممكن الوجود هو ما ليس بممتنع
ويكون قد رفعنا فيه ضرورة العدم وممكن العدم هو ما ليس بواجب ويكون
قد رفعنا فيه ضرورة الوجود فإذا أخذ بهذا المعنى كان أعم من الأول ومن
الضرورة الأخرى التي لا تقابله فإن رفع إحدى الضروريتين لا يستلزم ثبوت
الأخرى والإمكان الخاص.
قال: وقد يؤخذ بالنسبة إلى الاستقبال.
أقول: قد يؤخذ الإمكان لا بالنظر إلى ما في الحال بل بالنظر إلا الاستقبال
حتى يكون ممكن الوجود هو الذي يجوز وجوده في الاستقبال من غير التفات
إلى ما في الحال وهذا الإمكان أحق الإمكانات باسم الإمكان.
قال: ولا يشترط العدم في الحال وإلا اجتمع النقيضان.
أقول: ذهب قوم غير محققين إلى أن الممكن في الاستقبال شرطه العدم في
الحال قالوا لأنه لو كان موجودا في الحال لكان واجبا فلا يكون ممكنا وهو

40
خطأ لأن الوجود كما أخرجه إلى الوجوب أخرجه العدم إلى الامتناع وأيضا إذا
اشترط في إمكان الوجود في المستقبل العدم في الحال اشترط في إمكان العدم
الوجود في الحال لكن ممكن الوجود هو بعينه ممكن العدم فيلزم اشتراط وجوده
وعدمه في الحال هذا خلف وإليه أشار بقوله وإلا اجتمع النقيضان وأيضا العدم
في الحال لا ينافي الوجود في المستقبل وإمكانه في الحال فبالأولى لا ينافي إمكانه
في المستقبل.
المسألة السادسة والعشرون:
في أن الوجود والإمكان والامتناع ليست ثابتة في الأعيان
قال: والثلاثة اعتبارية لصدقها على المعدوم ولاستحالة التسلسل.
أقول: هذه الجهات الثلاث أعني الوجوب والإمكان والامتناع أمور
اعتبارية يعتبرها العقل عند نسبة الوجود إلى الماهية وليس لها تحقق في الأعيان
لوجوه: منها ما هو مشترك ومنها ما هو مختص بكل واحد أما المشترك فأمران:
الأول أن هذه الأمور تصدق على المعدوم فإن الممتنع يصدق عليه أنه مستحيل
الوجود وأنه واجب العدم والممكن قبل وجوده يصدق عليه أنه ممكن الوجود
وهو معدوم فإذا اتصف المعدوم بها كانت عدمية لاستحالة اتصاف العدمي
بالثبوتي الثاني أنه يلزم التسلسل لأن كل متحقق فله وجود يشارك به غيره من
الموجودات ويختص بنفس ماهيته وما به الاشتراك مغاير له لما به الامتياز فوجوده
غير ماهيته فاتصاف ماهيته بوجوده لا يخلو عن أحد هذه الأمور الثلاثة فلو
كانت هذه الأمور ثبوتية لزم اتصافها بأحد الثلاثة ويتسلسل وهو محال.
قال: ولو كان الوجوب ثبوتيا لزم إمكان الواجب.
أقول: لما ذكر الأدلة الشاملة في الدلالة على أن هذه الأمور ليست ثبوتية

41
في الأعيان شرع في الدلالة على كل واحد من الثلاثة فبدأ بالوجوب الذي هو
أقربها إلى الوجود إذ هو يؤكده فبين أنه ليس ثبوتيا والدليل عليه أنه لو كان
موجودا لكان ممكنا والتالي باطل فالمقدم مثله بيان الشرطية إنه صفة المغير والصفة
مفتقرة إلى الموصوف فالوجوب مفتقر إلى ذات الواجب فيكون الوجوب ممكنا
وأما بطلان التالي فلأنه لو كان الوجوب ممكنا لكان الواجب ممكنا لأن الواجب
إنما هو واجب بهذا الوجوب الممكن والوجوب الممكن يمكن زواله فيخرج
الواجب عن كونه واجبا فيكون ممكنا هذا خلف.
قال ولو كان الامتناع ثبوتيا لزم إمكان الممتنع.
أقول: هذا حكم ضروري وهو أن الامتناع أمر عدمي وقد نبه هيهنا على
طريق التنبيه لا الاستدلال بأن الامتناع لو كان ثبوتيا لزم إمكان الممتنع
لأن ثبوت الامتناع يستدعي ثبوت موصوفه أعني الممتنع فيكون الممتنع ثابتا
هذا خلف.
قال. ولو كان الإمكان ثبوتيا لزم سبق وجود كل ممكن على إمكانه.
أقول: اختلف الناس في أن الإمكان الخاص هل هو ثبوتي أم لا وتحرير
القول فيه أن الإمكان قد يؤخذ بالنسبة إلى الماهية نفسها لا بالقياس إلى الوجود
وهو الإمكان الراجع إلى الماهية وقد يؤخذ بالنسبة إلى الوجود من حيث القرب
والبعد من طرف العدم إليه وهو الإمكان الاستعدادي أما الأول فالمحققون كافة
على أنه أمر اعتباري لا تحقق له عينا وأما الثاني فالأوائل قالوا إنه من باب
الكيف وهو قابل للشدة والضعف والحق يأباه والدليل على عدمه في الخارج أنه
لو كان ثابتا مع أنه إضافة بين أمرين أو ذو إضافة لزم ثبوت مضافيه اللذين هما
الماهية والوجود فيلزم تأخره عن الوجود في الرتبة هذا خلف.
قال: والفرق بين نفي الإمكان والإمكان المنفي لا يستلزم ثبوته.

42
أقول: هذا جواب عن استدلال أبي علي بن سينا على ثبوت الإمكان فإنه
قال لو كان الإمكان عدميا لما بقي فرق بين نفي الإمكان والإمكان المنفى لعدم
التمايز في العدمات والجواب المنع من الملازمة فإن الفرق واقع ولا يستدعي الفرق
الثبوت كما في الامتناع.
المسألة السابعة والعشرون:
في الوجوب والإمكان والامتناع المطلقة
قال: والوجوب شامل للذاتي وغيره وكذا الامتناع.
أقول: الوجوب قد يكون ذاتيا وهو المستند إلى نفس الماهية من غير التفات
إلى غيرها وقد ويكون بالغير وهو الذي يحصل باعتبار حصول الغير والنظر
إليه فإن المعلول لولا النظر إلى علته لم يكن واجبا بها فالوجوب المطلق قد
انقسم إلى ما بالذات وإلى ما بالغير وهو شامل لهما وكذا الامتناع شامل للامتناع
الذاتي والعارض باعتبار الغير وليس عموم الوجوب عموم الجنسية وإلا تركب
الوجوب الذاتي بل عموم عارض ذهني لمعروض ذهني.
قال: ومعروض ما بالغير منهما ممكن.
أقول: الذات التي يصدق عليها أنها واجبة بالغير أو ممتنعة بالغير فإنها
ممكنة بالذات لأن الممكن الذاتي هو الذي يعتريه الوجوب بالغير والامتناع
بالغير ولا يمكن أن يكون الواجب بالغير واجبا بالذات ولا ممتنعا بالذات
وكذا الممتنع بالغير فقد ظهر أن معروض ما بالغير من الوجوب والامتناع
ممكن بالذات.
قال: ولا ممكن بالغير لما تقدم في القسمة الحقيقية.
أقول: لا يمكن أن يكون هيهنا ممكن بالغير كما أمكن واجب وممتنع

43
بالغير لأنه لو كان كذلك لكان المعروض للإمكان بالغير أو واجبا لذاته أو ممتنعا لذاته
وكل ممكن بالغير ممكن بالذات فيكون ذلك المعروض تارة واجبا لذاته وتارة ممكنا
فيلزم انقلاب القسمة الحقيقية التي فرضنا أنها لا تنقلب هذا خلف.
المسألة الثامنة والعشرون: في عروض الإمكان وقسيميه للماهية
قال: وعروض الإمكان عند عدم اعتبار الوجود والعدم بالنظر إلى
الماهية وعلتها.
أقول: الإمكان إنما يعرض للماهية من حيث هي هي لا باعتبار وجودها
ولا باعتبار عدمها ولا باعتبار وجود علتها ولا باعتبار عدم علتها بل إنما
يعرض لها عند عدم اعتبار الوجود والعدم بالنظر إلى الماهية نفسها وعند عدم
اعتبار الوجود والعدم بالنظر إلى علة الممكن فإن الماهية إذا أخذت موجودة
كانت واجبة ما دامت موجودة وكذا إذا أخذت معدومة تكون ممتنعة ما
دامت معدومة وإذا أخذت باعتبار وجود علتها كانت واجبة ما دامت العلة
موجودة وإذا أخذت باعتبار عدم علتها كانت ممتنعة ما دامت العلة معدومة.
قال: وعند اعتبارهما بالنظر إليهما يثبت ما بالغير.
أقول: إذا اعتبرنا الوجود والعدم بالنظر إلى الماهية أو إلى علتها ثبت
الوجوب بالغير والامتناع بالغير وهو ظاهر مما تقدم.
قال: ولا منافاة بين الإمكان الذاتي والغيري.
أقول: قد بينا أن الممكن باعتبار وجوده أو وجود علته يكون واجبا
وباعتبار عدمه أو عدم علته يكون ممتنعا لكن الوجوب والامتناع ليسا ذاتيين
بل باعتبار الغير ومعروضهما الممكن فلا منافاة بينهما وبين الإمكان.

44
قال: وكل ممكن العروض (1) ذاتي ولا عكس (2)
أقول: الممكن قد يكون ممكن الثبوت في نفسه وقد يكون ممكن الثبوت
لشئ آخر وكل ممكن الثبوت لشئ آخر عني ممكن العروض فهو ممكن ذاتي
أي يكون في نفسه ممكن الثبوت لأن إمكان ثبوت الشئ لغيره فرع على إمكانه
في نفسه ولا ينعكس فقد يكون الشئ ممكن الثبوت في نفسه وممتنع الثبوت لغيره
كالمفارقات أو واجب الثبوت لغيره كالأعراض والصفات.
المسألة التاسعة والعشرون: في علة الاحتياج إلى المؤثر
قال: وإذا لاحظ الذهن الممكن موجودا طلب العلة وإن لم يتصور غيره
وقد يتصور وجود الحادث فلا يطلبها ثم الحدوث كيفية الوجود فليس علة
لما يتقدم عليه بمراتب.
أقول: اختلف الناس هيهنا في علة احتياج الأثر إلى مؤثره فقال جمهور العقلاء
إنها الإمكان لا غير وقال آخرون إنها الحدوث لا غير وقال آخرون هما معا والحق هو
الأول لوجهين الأول أن العقل إذا لحظ الماهية الممكنة وأراد حمل الوجود أو العدم
عليها افتقر في ذلك إلى العلة وأن لم ينظر شيئا آخر سوى الإمكان والتساوي إذ حكم
العقل بالتساوي الذاتي كاف في الحكم بامتناع الرجحان الذاتي فاحتاج إلى العلة من
حيث هو ممكن وإن لم يلحظ غيره ولو فرضنا حادثا (3) وجب وجوده وإن



(1) وبعبارة أخرى أن المدعى أن كل ممكن الوجود لشئ آخر فهو ممكن الوجود في حد
ذاته إذ لو كان ممتنع الوجود لامتنع وجوده لغيره.
(2) أي ليس كل ما هو ممكن الوجود في ذاته ممكن الوجود لشئ آخر فإن الشئ قد
يكون ممكن الوجود في ذاته وممتنع الوجود لغيره كالمفارقات.
(3) ويدل على أن علة الحاجة ليست الحدوث أن الذهن قد يتصور وجود الحادث فلا
يطلب العلة فإنا قد نتصور حدوث زيد ولا يحصل لنا العلم بافتقاره إلى المؤثر ما لم نلاحظ إمكانه
45
كان فرضا محالا فإن العقل يحكم بعدم احتياجه إلى المؤثر فعلم أن علة الحاجة
هي الإمكان لا غير الثاني أن الحدوث كيفية للوجود فيتأخر عنه تأخرا ذاتيا
والوجود متأخر عن الايجاد والإيجاد متأخر عن الاحتياج والاحتياج متأخر
عن علة الاحتياج فلو كان الحدوث علة الحاجة لزم تقدم الشئ على نفسه
بمراتب وهو محال.
المسألة الثلاثون: في أن الممكن محتاج إلى المؤثر
أقول: اختلف الناس هيهنا فقال قوم إن هذا الحكم ضروري أعني أن
احتياج الممكن لا يحتاج إلى برهان فإن كل من تصور تساوي طرفي الممكن
جزم بالضرورة أن أحدهما لا يترجح من حيث هو مساو أعني من حيث ذاته
بل من حيث إن المرجح ثابت وهذا الحكم قطعي لا يقع فيه شك وقال آخرون
أنه استدلالي وهو خطأ وسبب غلطهم أنهم لم يتصوروا الممكن على ما هو هو.
المسألة الحادية والثلاثون: في وجوب وجود الممكن
المستفاد من الفاعل
قال: ولا يتصور الأولوية لأحد الطرفين بالنظر إلى ذاته.
أقول: قد بينا أن الممكن من حيث هو هو لاعتبار وجود علته أو عدمها
فإن وجوده وعدمه متساويان بالنسبة إليه وإنما يحصل ترجيح أحدهما من
الفاعل الخارجي فإذا لا يمكن أن يتصور أولوية لأحد الطرفين على الآخر
بالنظر إلى ذاته.
قال: ولا يكفي الخارجية لأن فرضها لا يحيل المقابل فلا بد من الانتهاء
إلى الوجوب.
أقول: أولوية أحد الطرفين بالنظر إلى وجود العلة أو عدمها هي الأولوية
الخارجية فإن كانت العلة مستجمعة لجميع الشرائط منتفيا عنها جميع الموانع

46
كانت الأولوية وجوبا وإلا كانت أولوية يجوز معها وقوع الطرف الآخر وهذه
الأولوية الخارجية لا تكفي في وجود الممكن أو عدمه لأن فرضها لا يحيل
المقابل (وبيان ذلك) إنا فرضنا هذه الأولوية متحققة ثابتة فإما أن يمكن معها
وجوب الطرف الآخر المقابل لطرف الأولوية متحققة ثابتة فإما أن يمكن معها
وجوب الطرف الآخر المقابل لطرف الأولوية أو لا يمكن والثاني يقتضي أن
تكون الأولوية وجوبا والأول يلزم منه المحال وهو ترجيح أحد طرفي الممكن
المتساوي على الآخر لا لمرجح لأنا إذا فرضنا الأولوية ثابتة يمكن معها وجود
الطرف الراجح والمرجوح فتخصيص أحد الطرفين بالوقوع دون الثاني ترجيح
من غير مرجح وهو محال فقد ظهر أن الأولوية لا تكفي في الترجيح بل لا بد
من الوجوب وأن كل ممكن على الاطلاق لا يمكن وجوده إلا إذا وجب فلا بد
من الانتهاء إلى الوجوب.
قال: وهو سابق ويلحقه وجوب آخر لا يخلو عنه قضية فعلية.
أقول: كل ممكن موجود أو معدوم فإنه محوف بوجوبين (أحدهما)
الوجوب السابق سبقا ذاتيا الذي استدللنا على تحققه (والثاني) الوجوب اللاحق
وهو المتأخر عن تحقق القضية فإن الحكم بوجود المشي للإنسان يكون واجبا
ما دام المشي موجودا له وهذه الضرورة تسمى ضرورة بحسب المحمول ولا يخلو
عنها قضية فعلية.
قال: والإمكان لازم وإلا تجب الماهية أو تمتنع.
أقول: الإمكان للممكن واجب لأنه لولا ذلك لأمكن زواله وحينئذ تبقى
الماهية واجبة أو ممتنعة وقد بينا امتناعه فيما سلف.
قال: وجوب الفعليات يقارنه جواز العدم وليس بلا ذم.
أقول: يريد أن يبين أن الوجوب اللاحق وهو الذي ذكر أنه لا يخلو عنه قضية فعلية
لهذا سماه بوجوب الفعليات يقارنه جواز العدم وذلك لأن الوجود

47
لا يخرجه عن الإمكان الذاتي بل هو باق على طبيعة الإمكان لأن وجوبه بشرط
لا مطلقا فلهذا حكم بجواز مقارنة وجوب الوجود لجواز العدم وهذا الوجوب
ليس بلازم بل ينفك عن الماهية عند فرض عدم العلة.
قال: ونسبة الوجوب إلى الإمكان نسبة تمام إلى نقص.
أقول: الوجوب هو تأكد الوجود وقوته والإمكان ضعف فيه فنسبة
الوجوب إلى الإمكان نسبة تمام إلى نقص لأن الوجوب تمام الوجود والإمكان
نقص له.
المسألة الثانية والثلاثون: في الإمكان الاستعدادي
قال: والاستعداد قابل للشدة والضعف ويعدم ويوجد للممكنات وهو غير
الإمكان الذاتي.
أقول: الإمكان أما أن يلحظ باعتبار الماهية نفسها وهو الإمكان الذاتي
وأما أن يلحظ باعتبار قربها من الوجود وبعدها عنه وهو الإمكان الاستعدادي
وهذا الإمكان قابل للشدة والضعف والزيادة والنقصان فإن استعداد النطفة
للإنسانية أضعف وأبعد من استعداد العلقة لها وكذا استعداد العلقة للكتابة
أبعد وأضعف من استعداد الإنسانية لها فهذا هو الاستعداد الحاصل لكل ماهية
سبق عدمها وجودها وهذا الإمكان استعدادي يعدم ويوجد بعد عدمه
للممكنات فإن الماء بعد تسخنه يستعد لصيرورته هواء - بعد أن لم يكن - فقد
تجدد هذا الاستعداد ثم إذا برد زال ذلك الاستعداد وأما الإمكان الذاتي فقد
بينا أنه لا يمكن زواله عن ذلك الممكن فيغايره.
المسألة الثالثة والثلاثون: في القدم والحدوث
قال: والموجود إن أخذ غير مسبوق بالغير أو بالعدم فقديم وإلا فحادث.
أقول: هذه قسمة للموجود إلى القديم والحادث وذلك لأن الموجود إما أن

48
يسبقه الغير أو لا يسبقه الغير فالأول هو الحادث والثاني هو القديم وقد يقال
أن القديم هو الذي لا يسبقه العدم والحادث هو الذي يسبقه العدم.
قال: والسبق ومقابلاه إما بالعلية أو بالطبع أو بالزمان أو بالرتبة الحسية
أو العقلية أو بالشرف أو بالذات والحصر استقرائي.
أقول: لما ذكر أن القديم هو الذي لا يسبقه الغير أو العدم على اختلاف
التفسيرين والمحدث هو الذي يسبقه الغير أو العدم وجب عليه أن يبين أقسام
التقدم والسبق ومقابليه أعني التأخر والمعية وقد ذكر الحكماء أن أقسام التقدم
خمسة (الأول) التقديم بالعلية وهو كتقدم حركة الإصبع على حركة الخاتم
فإنه لولا حركة اليد لم تحصل حركة الخاتم فهذا الترتيب العقلي هو التقدم بالعلية
(الثاني) التقدم بالطبع وهو أن المتقدم له حظ في التأثير في المتأخر ولا يكون
هو كمال المؤثر وهو كتقدم الواحد على الاثنين والفرق بينه وبين الأول أن
المتقدم هناك كان كافيا في وجود المتأخر والمتقدم هنا لا يكفي في وجود المتأخر
(الثالث) التقدم بالزمان وهو أن يكون المتقدم موجودا في زمان متقدم على
زمان المتأخر كالأب والابن (الرابع) التقدم بالرتبة وهي إما حسية كتقدم
الإمام على المأموم أو عقلية كتقدم الجنس عن النوع إن جعل المبدء الأعم
(الخامس) التقدم بالشرف كتقدم العالم على المتعلم وكذا أصناف التأخر والمعية
ثم المتكلمون زادوا قسما آخر للتقدم وسموه التقدم الذاتي وتمثلوا فيه بتقدم
الأمس على اليوم فإنه ليس تقدما بالعلية ولا بالطبع ولا بالزمان وإلا
لاحتاج الزمان إلى زمان آخر وتسلسل وظاهر أنه ليس بالرتبة ولا
بالشرف فهو خارج عن هذه الأقسام وهذا الحصر استقرائي لا برهاني
إذ لم يقم برهان على انحصار التقدم في هذه الأنواع والقسمة إنما تنحصر إذا
ترددت بين النفي والإثبات.

49
المسألة الرابعة والثلاثون في أن التقدم مقول بالتشكيك
قال: ومقوليته بالتشكيك وتنحفظ الإضافة بين المضافين في أنواعه.
أقول: اختلفت الحكماء هنا فقال قوم إن التقدم مقول على أنواعه الخمسة
بالاشتراك البحث وهو خطأ فإن كل واحد من المتقدم بالعلية والطبع قد
شارك الآخر في معنى التقدم وهو أن كل واحد من المتقدم وجد له ما وجد
للمتأخر دون العكس وقال آخرون إنه مقول بالتشكيك لأن الأصناف تشترك
في أن المتقدم بما هو متقدم له شئ ليس للمتأخر ولا شئ للمتأخر إلا وهو
موجود للمتقدم وهذا المعنى المشترك يقال لا بمعنى واحد فإن المتقدم بالعلية
يوجد له التقدم قبل المتقدم بالطبع والتقدم بالطبع قبل سائر أصناف التقدم
وفي هذا بحث ذكرناه في كتاب الأسرار وإذا ثبت أنه مقول بالتشكيك
بمعنى أن بعض أنواع التقدم أولى بالتقدم من بعض (فاعلم) إنا إذا فرضنا (1)
(أ) متقدما على (ب) بالعلية و (ج) متقدما على (د) بالطبع كان تقدم
(أ) على (ب) أولى من تقدم (ج) على (د) فحينئذ (ب) أحد المضافين (2)
أولى بتأخره عن (أ) المضاف الآخر من تأخر (د) عن (ج) فانحفظت
الإضافة بين المضافين في الأولوية وهو أحد أنواع التشكيك وكذلك لو فرضنا
تقدم (أ) على (ب) أشد من تقدم (ج) على (د) كان تأخر (ب) عن
(أ) أشد من تأخر (د) عن (ج) وهذا نوع فإن للتشكيك وكذا لو
فرضنا تقدم (أ) على (ب) قبل تقدم (ج) على (د) كان تأخر (ب) عن



(1) ومثال المطلب القريب إلى الذهن أنه لو كان زيد مقدما على عمرو في المسافة بقدر فرسخ
وبكر مقدما على خالد بقدر نصف فرسخ فكما أن تقدم زيد على عمرو أكثر من تقدم بكر على
خالد كذلك تأخر عمرو عن زيد أكثر من تأخر خالد عن بكر وهذا واضح لا يحتاج إلى البرهان.
(2) أي (ب) الذي هو أحد المضافين.
50
(أ) قبل تأخر (د) عن (ج) وهذا هو النوع الثالث وهذا معنى قوله وتنحفظ
الإضافة بين المضافين في أنواعه.
قال: وحيث وجد التفاوت امتنع جنسيته.
أقول: لما بين أن التقدم مقول على ما تحته من أصناف التقدمات بالتشكيك
ظهر أنه ليس جنسا لما تحته وأن مقوليته على ما تحته قول العارض على معروضه
لا قول الجنس على أنواعه لامتناع وقوع التفاوت في أجزاء الماهية.
قال: والتقدم دائما بعارض زماني أو مكاني أو غيرهما.
أقول: إذا نظرت إلى الماهية من حيث هي هي لم تكن متقدمة على غيرها
ولا متأخرة وإنما يعرض لها التقدم والتأخر باعتبار أمر خارج عنها إما زمان
كما في التقدم الزماني أو مكان كما في التقدم المكاني أو مغاير كما في تقدم
العلة على معلولها باعتبار التأثير والتأثر وكما في تقدم العالم على المتعلم باعتبار
الشرف وغير ذلك من أصناف التقدمات.
قال: والقدم والحدوث الحقيقيان لا يعتبر فيهما الزمان وإلا تسلسل.
أقول: القدم والحدوث قد يكونان حقيقين وقد لا يكونان حقيقين بل
يقالان على ما يقال عليه على سبيل المجاز فالقدم والحدوث الحقيقيان هما ما
فسرنا هما به من أن القديم هو الذي لا يسبقه الغير والمحدث هو المسبوق بالغير
أو المسبوق بالعدم كما قال المصنف رحمه الله في المسألة الثالثة والثلاثين وهما
بهذا الاعتبار لا يفتقران إلى الزمان لأن الزمان إن كان قديما أو حادثا بهذا
المعنى افتقر إلى زمان آخر وتسلسل وأما القدم والحدوث بالمجاز فإنهما يتحققان
بدون الزمان وذلك لأن القديم يقال بالمجاز لما يستطال زمان وجوده في جانب
الماضي والمحدث لما لا يستطال زمانه.

51
قال: والحدوث الذاتي متحقق.
أقول: قد بينا أن أصناف التقدم والتأخر خمسة أو ستة ومن جملتها
التقدم والتأخر بالطبع فالحدوث الذاتي هو الذي يكون الوجود فيه متأخرا
عن العدم بالذات وبيانه أن الممكن يستحق من ذاته عدم استحقاق
الوجود والعدم ويستحق من غيره استحقاق أحدهما وما بالذات أسبق
مما بالغير فاللا استحقاقية أعني التأخر الذاتي متقدم على الاستحقاقية وذلك هو
هو معنى الحدوث الذاتي.
قال: والقدم والحدوث اعتبار أن عقليان ينقطعان بانقطاع الاعتبار.
أقول: ذهب المحققون إلى أن القدم والحدوث ليسا من المعاني المتحققة في
الأعيان وذهب عبد الله بن سعيد من الأشعرية إلى أنهما وصفان زائدان على الوجود
والحق خلاف ذلك وأنهما اعتباران عقليان يعتبر هما الذهن عند مقايسة سبق الغير
إليه وعدمه لأنهما لو كانا ثبوتيين للزم التسلسل لأن الموجود من كل واحد منهما
إما أن يكون قديما أو حادثا فيكون للقدم قدم وكذا للحدوث هذا خلف بل
هما عقليان يعتبر هما العقل وينقطعان بانقطاع الاعتبار العقلي وهذا جواب عن
سؤال مقدر وهو أن يقال إذا كان القدم والحدوث أمرين ثبوتيين في العقل أمكن
عروض القدم والحدوث لهما ويعود المحذور من التسلسل وتقرير الجواب أنهما
اعتباران عقليان ينقطعان بانقطاع الاعتبار فلا يلزم التسلسل.
قال: وتصدق الحقيقية منهما.
أقول: الموجود لا يخلو عن القدم والحدوث لأنه لا يخلو من أن يكون
مسبوقا بغيره أولا والأول حادث والثاني قديم ولا يجتمعان في شئ واحد
لاستحالة اجتماع النقيضين فإذن لا يجتمعان ولا يرتفعان فتركبت المنفصلة
الحقيقية منهما.

52
المسألة الخامسة والثلاثون: في خواص الواجب
قال: ومن الوجوب الذاتي والغيري.
أقول: هذه إحدى الخواص وهو أن الشئ الواحد إذا كان واجبا لذاته
استحال أن يكون واجبا لغيره إذا عرفت هذا (فنقول) المنفصلة الحقيقية
التي تمنع الجمع والخلو صادقة على الموجود إذا أخذ جزءها الوجوب بالذات
والوجوب بالغير بأن يقال الموجود إما واجب لذاته أو واجب لغيره لامتناع
صدقهما على شئ واحد وكذبهما عليه وذلك لأن الموجود إما مستغن عن الغير
أو محتاج إليه ولا واسطة بينهما والأول واجب بالذات والثاني واجب بالغير
وإنما امتنع الجمع بينهما لأنه لو كان شئ واحد واجبا بذاته وبغيره معا لزم
المحال لأن الواجب لغيره يرتفع بارتفاع غيره والواجب بالذات لا يرتفع
بارتفاع غيره فلو كان شئ واحد واجبا بذاته وبغيره معا لزم اجتماع النقيضين
وهو محال وإنما امتنع الخلو عنهما لأن الموجود إن كان واجبا صدق أحد
الجزئين وإن كان ممكنا استحال وجوده إلا بعد وجوبه بالفاعل على ما تقدم
فيصدق الجزء الآخر.
قال: ويستحيل صدق الذاتي على المركب.
أقول: هذه خاصية ثانية للواجب الذاتي وهو أنه يستحيل أن يكون مركبا
فلا يمكن صدق الوجوب الذاتي على المركب لأن كل مركب مفتقر إلى أجزائه
على ما يأتي وكل مفتقر ممكن فالواجب لذاته ممكن لذاته هذا خلف قال بعض
المتأخرين هذه المسألة تتوقف على الوحدانية لأنه لو قال قائل يجوز أن يكون
كل واحد من أجزاء المركب واجبا لذاته ويكون المجموع مستغنيا عن الغير
أجبنا بأن الواجب لذاته يستحيل أن يكون متعددا والحق أنه لا افتقار في هذه
المسألة إلى الوحدانية لأن هذا المركب يستحيل أن يكون واجبا لذاته لافتقاره

53
إلى أجزائه الواجبة وكل مفتقر ممكن فيكون المركب ممكنا فلا يكون واجبا
وهذا لا يتوقف على الوحدانية.
قال: ولا يكون الذاتي جزءا من غيره.
أقول: هذه خاصية ثالثة للواجب الذاتي ظاهرة وهي أن الواجب لذاته لا
يتركب عنه غيره وهو ظاهر لأن التركب إما حسي وهو إنما يكون بانفعال
كالمزاج أو عقلي كتركب الماهية من الأجناس والفصول والكل ظاهر الاستحالة.
المسألة السادسة والثلاثون في أن وجود واجب
الوجود ووجوبه نفس حقيقته
قال: ولا يزيد وجوده ونسبته عليه وإلا لكان ممكنا.
أقول: هذه المسألة تشتمل عن بحثين (البحث الأول) في أن وجود واجب
الوجود نفس حقيقته وتقريره أن نقول لو كان وجود واجب الوجود لذاته زايدا
على حقيقته لكان صفة لها فيكون ممكنا فيفتقر إلى علة فتلك العلة إما أن
تكون نفس حقيقته أو شيئا خارجا عن حقيقته والقسمان باطلان أما الأول
فلأن تلك الحقيقة إما أن تؤثر فيه وهي موجودة أو تؤثر فيه وهي معدومة فإن
أثرت فيه وهي موجودة فإن كانت موجودة بهذا الوجود لزم تقدم الشئ على
نفسه وهو محال وإن كان بغير هذا الوجود عاد البحث إليه ويلزم وجود الماهية
مرتين والجميع باطل وإن أثرت فيه وهي معدومة كان المعدوم مؤثرا في الموجود
وهو باطل بالضرورة وأما الثاني فيلزم منه افتقار واجب الوجود في وجوده إلى
غيره فيكون ممكنا وهو محال وهذا دليل قاطع على هذا المطلوب (البحث
الثاني) في أن الوجوب نفس حقيقته وقد تقدم بيان ذلك فيما سلف.
قال: والوجود المعلوم هو المقول بالتشكيك أما الخاص به فلا.
أقول: هذا جواب من استدل على زيادة الوجود على الماهية في حق واجب

54
الوجود وتقرير الدليل أن نقول ماهيته تعالى غير معلومة للبشر على ما يأتي
والوجود معلوم ينتج من الشكل الثاني أن الماهية غير الوجود وتقرير الجواب
عنه أن نقول إنا قد بينا أن الوجود مقول بالتشكيك على ما تحته والمقول
بالتشكيك على أشياء يمتنع أن يكون نفس الحقيقة أو جزءا منها بل يكون
دائما خارجا عنها لازما لها كالبياض المقول على بياض الثلج وبياض العاج لا على
السواء فهو ليس بماهية ولا جزء ماهية لها بل هو لازم من خارج وذلك لأن بين
طرفي التضاد الواقع في الألوان أنواعا من الألوان لا نهاية لها بالقوة ولا أسامي
لها بالتفصيل بل يقع على كل جملة منها اسم واحد بمعنى واحد كالبياض
والحمرة والسواد بالتشكيك ويكون ذلك المعنى لازما لتلك الجملة غير مقوم
فكذلك الوجود في وقوعه على وجود الواجب وعلى وجود الممكنات المختلفة
بالهويات التي لا أسماء لها بالتفصيل فإنه يقع عليها وقوع لازم خارجي غير مقوم
فالوجود يقع على ما تحته بمعنى واحد ولا يلزم من ذلك تساوي ملزوماته التي
هي وجود الواجب ووجود الممكنات في الحقيقة لأن مختلفات الحقيقة قد تشترك
في لازم واحد فالحقيقة التي لا تدركها العقول هي الوجود الخاص المخالف لسائر
الوجودات بالهوية التي هو المبدء الأول والوجود المعقول هو الوجود العام
اللازم لذلك الوجود ولسائر الوجودات وهو أولي التصور وإدراك اللازم لا
يقتضي إدراك الملزوم بالحقيقة وإلا لوجب من إدراك الوجود إدراك جميع
الوجودات الخاصة وكون حقيقته تعالى غير مدركة وكون الوجود مدركا
يقتضي المغايرة بين حقيقته تعالى وبين الوجود المطلق لا الوجود الخاص
به تعالى وهذا التحقيق مما نبه عليه بهمنيار في التحصيل وحرره المصنف
في شرح الإشارات.
قال: وليس طبيعة نوعية على ما سلف فجاز اختلاف جزئياته في

55
العروض وعدمه.
أقول:
هذا جواب عن استدلال ثان استدل به الذاهبون إلى أن وجوده
تعالى زايد على حقيقته وتقرير الدليل أن الوجود طبيعة واحدة نوعية لما
بيناه من اشتراكه والطبايع النوعية تتفق في لوازمها وقد بنى الحكماء على
هذه القاعدة مطالب كثيرة كامتناع الخلاء ووجود الهيولي للأفلاك وغير ذلك
من مباحثهم فنقول طبيعة الوجود من حيث هي أن اقتضت العروض وجب
أن يكون وجود واجب الوجود عارضا لماهيته مغايرة له وإن اقتضت عدمه
كانت وجودات الممكنات غير عارضة لماهياتها فإما أن لا تكون موجودة
أو يكون وجودها نفس حقايقها والقسمان باطلان وإن لم تقتض واحدا منهما
لم تتصف بأحدهما إلا بأمر خارج عن طبيعة الوجود فيكون تجرد واجب
الوجود محتاجا إلى المؤثر هذا خلف وتقرير الجواب أن الوجود ليس طبيعة
نوعية على ما حققناه بل هو مقول بالتشكيك على ما تقدم والمقول على أشياء
بالتشكيك لا يتساوى اقتضاؤه فإن النور يقتضي بعض جزئياته إبصار الأعشى
بخلاف سائر الأنوار والحرارة كذلك فإن الحرارة الغريزية تقتضي استعداد الحياة
بخلاف سائر الحرارات فكذلك الوجود.
قال: وتأثير الماهية من حيث هي في الوجود غير معقول.
أقول: لما أبطل استدلاليهم شرع في إبطال الاعتراض الوارد على دليله
وقد ذكر هيهنا أمرين أحدهما أنهم قالوا لا نسلم انحصار أحوال الماهية حالة
التأثير في الوجود والعدم بل جاز أن يكون الماهية من حيث هي هي مؤثرة في
الوجود ولا يلزم التسلسل ولا تأثير المعدوم في الوجود والجواب أن الماهية من
حيث هي هي يجوز أن تقتضي صفات لها على سبيل العلية والمعلولية لا الوجود
فإنه يمتنع أن تؤثر فيه من حيث هي هي لأن الوجود لا يكون معلولا لغير

56
الموجود بالضرورة فيلزم المحاذير المذكورة والضرورة فرقت بين الوجود
وسائر الصفات.
قال: والنقض بالقابل ظاهر البطلان (1).
أقول: هذا جواب عن السؤال الثاني وتقريره أنهم قالوا إن العلة القابلية
للوجود لا يجوز أن يكون باعتبار الوجود فإن الممكن المعدوم لو لم يقبل
الوجود إلا بشرط الوجود لزم تقدم الشئ على نفسه أو تعدد الوجودات للماهية
الواحدة والكل محال فإذا كان كذلك فلم لا يعقل مثله في العلة الفاعلية والجواب
أن هذا أنى يتم لو قلنا إن الوجود عارض للماهية عروض السواد للجسم وإن
للماهية ثبوتا في الخارج دون وجودها ثم إن الوجود يحل فيها ونحن لا نقول
ذلك بل كون الماهية هو وجودها وإنما تتجرد عن الوجود والحصول في العقل
لا بمعنى أنها تكون في العقل منفكة عن الوجود لأن الحصول في العقل نوع
من الوجود بل بمعنى أن العقل يلاحظها منفردة فاتصاف الماهية بالوجود أمر
عقلي إذ ليس للماهية وجود منفرد ولعارضها المسمى بالوجود وجود آخر
ويجتمعان اجتماع المقبول والقابل بل الماهية إذا كانت فكونها هو وجودها
والحاصل من هذا أن الماهية إنما تكون قابلة للوجود عند وجودها في
العقل فقط ولا يمكن أن تكون فاعلة لصفة خارجية عند وجودها في
العقل فقط.
قال: والوجود من المحمولات العقلية لامتناع استغنائه عن المحل
وحصوله فيه.



(1) وبيان ذلك أن قابل الوجود مستفيد له فلا بد أن يلحظ العقل خاليا عن الوجود أي
غير معتبر فيه الوجود لئلا يلزم حصول الحاصل بل وعن العدم أيضا لئلا يلزم اجتماع المتنافيين
بخلاف معطي الوجود.
57
أقول: الوجود ليس من الأمور العينية بل هو من المحمولات العقلية الصرفة
وتقريره أنه لو كان ثابتا في الأعيان لم يخل إما أن يكون نفس الماهيات الصادق
عليها أو مغايرا لها والقسمان باطلان أما الأول فلما تقدم من أنه زائد على الماهية
ومشترك بين المختلفات فلا يكون نفسها وأما الثاني فإما أن يكون جوهرا
أو عرضا والأول باطل وإلا لم يكن صفة لغيره والثاني باطل لأن كل عرض فهو
حاصل في المحل وحصوله في المحل نوع من الوجود فيكون للوجود وجود هذا
خلف ويلزم تأخره عن محله وتقدمه عليه هذا خلف.
قال: وهو من المعقولات الثانية.
أقول: الوجود كالشيئية في أنها من المعقولات الثانية المستندة إلى المعقولات
الأولى وليس الوجود ماهية خارجية على ما بيناه بل هو أمر عقلي يعرض للماهيات
وهو من المعقولات الثانية المستندة إلى المعقولات الأولى وليس في الموجودات
شئ هو وجود أو شئ بل الموجود إما حجر أو شجر أو غيرهما ثم يلزم من
معقولية ذلك أن يكون موجودا.
قال: وكذلك العدم.
أقول: يعني به أن العدم من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى
كما قلنا في الوجود إذ ليس في الأعيان ماهية هي عدم مطلق فهو دائما
عارض لغيره.
قال: وجهاتهما.
أقول: يعنى به أن جهات الوجود والعدم من الوجوب والإمكان والامتناع
الذاتية والمشروطة من المعقولات الثانية أيضا كما تقدم من أنها أمور اعتبارية لا
تمق؟ لها في الخارج وقد سبق البحث فيه.

58
قال: والماهية.
أقول: وكذا الماهية أيضا من المعقولات الثانية فإن الماهية تصدق على
الحقيقة باعتبار ذاتها لا من حيث إنها موجودة أو معقولة وإن كان ما يصدق
عليه الماهية من المعقولات الأولى وليس البحث فيه بل في الماهية أعني العارض
فإن كون الإنسان ماهية أمر زائد على حقيقة الإنسانية.
قال: والكلية والجزئية
أقول: هذان أيضا من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى فإن
الماهية من حيث هي هي وإن كانت لا تخلو عنهما إلا أنها مغايرة لهما وهما
يصدقان عليها صدق العارض على معروضه فإن الإنسانية لو كانت لذاتها كلية
لم تصدق جزئية وبالعكس فالإنسانية ليست من حيث هي هي كلية ولا جزئية
بل إنما يصدق عليه الكلية عند اعتبار صدق الحقيقة على أفراد متوهمة أو متحققة
والجزئية إنما تصدق عليها عند اعتبار أمور أخر مخصصة لتلك الحقيقة ببعض
الأفراد فهما من المعقولات الثانية.
قال: والذاتية والعرضية.
أقول: هذان أيضا من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى فإنه
ليس في الأعيان ذاتية ولا عرضية وليس لهما تأصل في الوجود وقد يكون
الذاتي لشئ عرضيا لغيره فهما اعتباران عقليان عارضان لماهيات متحققة في
أنفسهما فهي من المعقولات الثانية.
قال: والجنسية والفصلية والنوعية.
أقول: هذه أيضا أمور اعتبارية عقلية صرفة من المعقولات الثانية العارضة
للمعقولات الأولى فإن كون الإنسان نوعا أمر مغاير لحقيقة الإنسانية عارض لها
وإلا لامتنع صدق الإنسانية على زيد وكذلك الجنسية للحيوان مثلا أمر عارض
له مغاير لحقيقته وكذلك الفصلية للناطق وهذا كله ظاهر.

59
المسألة السابعة والثلاثون: في تصور العدم
قال: وللعقل أن يعتبر النقيضين ويحكم بينهما بالتناقض ولا استحالة
فيه (1).
أقول: للعقل أن يحكم بالمناقضة بين السلب والإيجاب فلا بد أن يعتبر هما معا
لأن التناقض من قبيل النسب والإضافات لا يمكن تصوره إلا بعد تصور معروضه
فيكون متصورا للسلب والإيجاب معا ولا استحالة في اجتماعهما في الذهن دفعة
لأن التناقض ليس بالقياس إلى الذهن بل بالقياس إلى ما في نفس الأمر فيتصور
صورة ما ويحكم عليها بأنه ليس لها في الخارج ما يطابقها ثم يتصور صورة أخرى
فيحكم عليها بأن لها في الخارج ما يطابقها ثم يحكم على أحديهما بمقابلة الأخرى لا
من حيث إنهما حاضرتان في العقل بل من حيث إن أحديهما استندت إلى
الخارج بدون الأخرى وقد يتصور الذهن صورة ما ويتصور سلبها لأنه
متميز على ما تقدم ويحكم على الصورتين بالتناقض لا باعتبار حضور هما
في الذهن بل بالاعتبار الذي ذكرناه.
قال: وأن يتصور عدم جميع الأشياء حتى عدم نفسه وعدم العدم بأن
يمثل في الذهن ويرفعه وهو ثابت باعتبار وقسيم باعتبار ولا يصح الحكم عليه
من حيث هو ليس بثابت ولا تناقض (2).



(1) فيتصور وجود زيد وعدمه ويحكم بالتناقض بينهما في الخارج لا من الذهن إذ لو كان
بينهما تناقض في الذهن لم يجتمعا فيه.
(2) وتوضيح ذلك بأن يتمثل في الذهن نفس العدم ويرفعه وهذا ضروري لكل من لاحظ
نعم فرق بين العدم وغيره ففي غيره يتصور الذهن صورة وفي العدم يتصور الذهن اللفظ إذ لا
صورة للعدم وهو المعدوم المطلق الذي تصوره الذهن أولا ثم أضاف إليه العدم ثابت أي باعتبار
أنه موجود في الذهن إذ كل متصور ثابت وقسيم للثابت باعتبار آخر وهو اعتبار كونه معدوما.
60
أقول: الذهن يمكنه أن يتصور جميع المعقولات وجودية كانت أو عدمية
ويمكنه أن يلحظ عدم جميع الأشياء لأنه يتصور العدم المطلق ويمكنه أن يقيسه
إلى جميع الماهيات فيمكنه أن يلحظه باعتبار نفسه فيتصور الذهن عدم نفسه
وكذلك يمكنه أن يلحظ نفس العدم بمعنى أن الذهن يمثل العدم صورة ما
معقولة متميزة عن صورة الوجود ويتصور رفعها ويكون ثابتا باعتبار تصوره
لأن رفع الثبوت الشامل للثبوت الخارجي والذهني تصور لما ليس بثابت ولا
متصور أصلا وهو ثابت باعتبار تصوره وقسيم لمطلق الثابت باعتبار أنه سلبه
ولا استبعاد في ذلك فإنا نقول الموجود إما ثابت في الذهن أو غير ثابت في
الذهن فاللاوجود قسيم للوجود ومن حيث إنه مفهوم قسم من الثابت والحكم
على رفع الثبوت المطلق من حيث إنه متصور لا من حيث إنه ليس بثابت ولا
يكون متناقضا لاختلاف الموضوعين.
قال: ولذا يقسم الموجود إلى ثابت في الذهن وغير ثابت فيه ويحكم بينهما
بالتمايز وهو لا يستدعي الهوية لكل من المتمايزين ولو فرض له هوية لكان حكمها
حكم الثابت.
أقول: هذا استدلال على أن للذهن أن يتصور عدم جميع الأشياء وبيانه
إنا نحكم بقسمة الموجود إلى ثابت في الذهن وغير ثابت فيه ونحكم
بامتياز أحدهما عن الآخر ومقابلته له والحكم على شئ يستدعي
تصوره وثبوته في الذهن فيجب أن يكون ما ليس بثابت في الذهن
ثابتا فيه فقد تصور الذهن سلب ما وجد فيه باعتبارين على ما حققناه
فإن ما ليس بثابت في الذهن ثابت فيه من حيث إنه متصور وغير ثابت فيه من
حيث إنه سلب لما في الذهن

61
لا يقال: امتياز أحد الشيئيين عن الآخر يستدعى أن يكون لكل من
المتمايزين هوية مغايرة لهوية الآخر حتى يحكم بينهما بالامتياز فلو كان العدم
متمازا عن الوجود لكان له هوية متميزة عنه لكن ذلك محال لأن العقل يمكنه
رفع كل هوية فيكون رفع هوية العدم قسيما للعدم وقسمنا منه وهذا محال.
لأنا نقول: لا نسلم وجوب الهوية لكل من الممتازين فإنا نحكم بامتياز الهوية
عن اللاهوية فليس اللاهوية هوية سلمنا ثبوت الهوية لكل من الممتازين لكن
هوية العدم داخلة باعتبار الهوية في قسم الهوية وباعتبار ما فرض أنها لا هوية
يكون مقابلة للهوية وقسيما لها ولا امتناع في كون الشئ قسما من الشئ وقسيما
له باعتبارين على ما تقدم تحقيقه في باب الثبوت.
قال: وإذا حكم الذهن على الأمور الخارجية بمثلها وجب التطابق في
صحيحه وإلا فلا ويكون صحيحة باعتبار المطابقة لما في نفس الأمر لامكان
تصور الكواذب.
أقول: الأحكام الذهنية قد تؤخذ بالقياس إلى ما في الخارج وقد تؤخذ
لا بهذا الاعتبار فإذا حكم الذهن على الأشياء الخارجية بمثلها كقولنا الإنسان
حيوان في الخارج وجب أن يكون مطابقا لما في الخارج حتى يكون حكم الذهن
صحيحا وإلا لكان باطلا وإن حكم على الأشياء الخارجية بأمر ومعقولة كقولنا
الإنسان ممكن أو حكم على الأمور الذهنية بأحكام ذهنية كقولنا الإمكان مقابل
للامتناع لم يجب مطابقته لما في الخارج إذ ليس في الخارج إمكان وامتناع
متقابلان ولا في الخارج إنسان ممكن.
إذا تقرر هذا (فنقول) الحكم الصحيح في هذين القسمين لا يمكن أن يكون
باعتبار مطابقته لما في الخارج لما تقدم من أن الحكم ليس مأخوذا بالقياس إلى
الخارج ولا باعتبار مطابقته لما في الذهن لأن الذهن قد يتصور الكواذب فإنا

62
قد نتصور كون الإنسان واجبا مع أنه ممكن فلو كان صدق الحكم باعتبار
مطابقته لما في الذهن لكان الحكم بوجوب الإنسان صادقا لأن له صورة ذهنية
مطابقة لهذا الحكم بل يكون باعتبار مطابقته لما في نفس الأمر وقد كان في
بعض أوقات استفادتي منه (قده) جرت هذه النكتة وسئلته عن معنى قولهم
إن الصادق في الأحكام الذهنية هو باعتبار مطابقته لما في نفس الأمر والمعقول
من نفس الأمر إما الثبوت الذهني أو الخارجي وقد منع كل منهما هيهنا فقال
(ره) المراد بنفس الأمر هو العقل الفعال فكل صورة أو حكم ثابت في الذهن
مطابق للصور المنتقشة في العقل الفعال فهو صادق وإلا فهو كاذب فأوردت
عليه أن الحكماء يلزمهم القول بانتقاش الصور الكاذبة في العقل الفعال لأنهم
استدلوا على ثبوته بالفرق بين النسيان والسهو فإن السهو هو زوال الصورة المعقولة
عن الجوهر العاقل وارتسامها في الحافظ لها والنسيان هو زوالها عنهما معا وهذا يتأتى
في الصور المحسوسة أما المعقولة فإن سبب النسيان هو زوال الاستعداد
بزوال المفيد للعلم في باب التصورات والتصديقات وهاتان الحالتان قد تعرضان في
الأحكام الكاذبة فلم يأت فيه بمقنع وهذا البحث ليس من هذا المقام وإنما انجر
الكلام إليه وهو بحث شريف لا يوجد في الكتب.
المسألة الثامنة والثلاثون:
في كيفية حمل الوجود والعدم على الماهيات
قال: ثم الوجود والعدم قد يحملان وقد يربط بهما المحمولات.
أقول: الوجود والعدم قد يحملان على الماهيات كما تقول الإنسان موجود
والإنسان معدوم وقد يجعلان رابطة كقولنا الإنسان يوجد كاتبا والإنسان يعدم
عنه الكتابة فهيهنا المحمول هو الكتابة والوجود والعدم رابطتان أحديهما رابطة

63
الثبوت والوصل والأخرى رابطة السلب والفصل.
قال: والحمل يستدعي اتحاد الطرفين من وجه وتغايرهما من آخر وجبة
الاتحاد قد تكون أحدهما وتكون ثالثا.
أقول: لما ذكر أن الوجود والعدم قد يحملان وقد يكونان رابطة بين الموضوع
والمحمول شرع في تحقيق معنى الحمل وتحريره إنا إذا حملنا وصفا على موصوف
فلسنا نعني به أن ذات الموضوع هي ذات المحمول بعينها فإنه لا يبقى حمل ولا
وضع إلا في الألفاظ المترادفة وهو باطل لأن قولنا الإنسان حيوان صادق وليس
الإنسان والحيوان مترادفين ولا نعني به أن ذات الموضوع مباينة لذات المحمول
فإن الشيئين المتباينين كالإنسان والفرس يمتنع حمل أحدهما على الآخر بل نعني
به أن المحمول والموضوع بينهما اتحاد من وجه وتغاير من وجه فإنا إذا قلنا الضاحك
كاتب عنينا به أن الشئ الذي يقال له الضاحك هو الشئ الذي يقال له الكاتب
فجهة الاتحاد هي الشئ وجهة التغاير هي الضحك والكتابة.
إذا عرفت هذا (فاعلم) أن جهة الاتحاد قد تكون أمرا مغايرا للموضوع
والمحمول كما في المثال فإن الشئ الذي يقال له ضاحك وكاتب هو الإنسان وهو
غير الموضوع والمحمول وقد تكون أحدهما كقولنا الإنسان ضاحك والضاحك
إنسان.
قال: والتغاير (1) لا يستدعي قيام أحدهما بالآخر ولا اعتبار عدم القائم



(1) هذه جواب شبهة أوردت على الحمل الإيجابي بيانها أن الحمل الإيجابي محال لأنه يستدعي
التغاير والتغاير يستدعي قيام المجهول بالموضع إذ مع التغاير لولا القيام لم يكن بين الطرفين
مناسبة ليكونا مرتبطين فإذا وجب القيام فإما أن يكون الموضوع متصفا بوجود القائم فهذا
اجتماع المثلين أو متصفا بعدم القائم فهذا اجتماع النقيضين الجواب أن الحمل الإيجابي لا يستدعي
قيام المجهول بالموضع كلية لا بل يكفي عدم اعتباره كما هو شأن كل موضوع.
64
في القيام لو استدعاه.
أقول: لما ذكر أن المحمول مغاير للموضوع من وجه صدق عليه مطلق
التغاير وصدق التغاير لا يستدعي قيام أحدهما بالآخر قيام العرض بمحله فإنا نقول
الإنسان حيوان وليست الحيوانية قائمة بالإنسانية ثم لو فرضنا أن التغاير مع
الحمل يقتضي قيام أحدهما بالآخر لكن لا يلزم من كون المحمول قائما بالموضوع
كون الموضوع في نفسه مأخوذا باعتبار عدم القائم فإنه حينئذ اعتبار زائد على
نفس المحمول والموضوع لا يستدعيه بمجرد القيام.
قال: وإثبات الوجود للماهية لا يستدعي وجودها أولا.
أقول: إن الحكماء أطبقوا على أن الموصوف بالصفة الثبوتية يجب أن
يكون ثابتا وقد أورد على هذا أن الوجود ثابت للماهية فيجب أن تكون الماهية
ثابتة أولا حتى يتحقق لها ثبوت آخر ويتسلسل والجواب ما تقدم فيما حققناه
أولا من أن الوجود ليس عروضه للماهيات عروض السواد للمحل بل زيادته إنما
هي في التصور والتعقل لا في الوجود الخارجي.
قال: وسلبه عنها لا يقتضي تميزها وثبوتها بل نفيها لا إثبات نفيها
وثبوتها في الذهن (1) وإن كان لازما لكنه ليس شرطيا.
أقول: سلب الوجود عن الماهية لا يقتضي أن تكون الماهية متميزة عن
غيرها وثابتة في نفسها فإن التميز صفة غير الماهية وكذلك الثبوت والمسلوب



(1) أي ثبوت الماهية في الذهن وإن كان لازما لسلب الوجود عنه لأنها ما لم تتصور لم
يمكن حمل شئ عليها ولا سلب شئ عنها لكن ثبوتها في الذهن ليس شرطا بمعنى أن يكون
من شرط سلب الوجود عنها أن يلاحظ العقل موصوفة بصفة الوجود وإن كان تصورها هو
ثبوتها في الذهن لكنه ليس بملحوظ للعقل حال الحمل.
65
عنه هو نفس الماهية ليس الماهية مع غيرها بل سلب الوجود يقتضي نفي الماهية
لا بمعنى أن تكون الماهية متحققة ويثبت لها النفي (لا يقال) المسلوب عنه
الوجود موجود في الذهن فالسلب يقتضي الثبوت (لأنا نقول) إنا لا نريد
بذلك أنه مسلوب عنه الوجود عند كونه موجودا في الذهن فإن كونه موجودا
في الذهن صفة مغايرة له والمسلوب عنه هو الموصوف فقط لا باعتبار كونه
موصوفا بهذه الصفة أو بغيرها وإن كان بحيث يلزمها هذه الصفة أو غيرها.
قال: والحمل والوضع من المعقولات الثانية يقالان بالتشكيك وليست
الموصوفية ثبوتية ولا تسلسل.
أقول: الحمل والوضع من الأمور المعقولة وليس في الخارج حمل ولا وضع بل
الثابت في الخارج هو الإنسان والكتابة وأما صدق الكاتب على الإنسان فهو أمر
عقلي ولهذا حكمنا بأن الحمل والوضع من المعقولات الثانية ويقالان بالتشكيك
فإن استحقاق بعض المعاني للحمل أولى من البعض الآخر وكذا الوضع وإذا
قلنا الجسم أسود فقد حكمنا على الجسم بأنه موصوف بالسواد والموصوفية أمر
اعتباري ذهني لا خارجي حقيقي لأن الموصوفية لو كانت وجودية لزم التسلسل
وبيان الملازمة أنها لو كانت خارجية لكانت عرضا قائما بالمحل فاتصاف محلها بها
يستدعي موصوفية أخرى وينقل الكلام إليها ويتسلسل.
المسألة التاسعة والثلاثون:
في انقسام الوجود إلى ما بالذات وإلى ما بالعرض
قال: ثم الوجود قد يكون بالذات وقد يكون بالعرض.
أقول: الموجود أما أن يكون له حصول مستقل في الأعيان أولا يكون
والأول هو الموجود بالذات سواء كان جوهرا أو عرضا فإن العرض وإن كان

66
لا يوجد إلا بمحله لكنه موجود حقيقة فإن وجود العرض ليس هو بعينه وجود
المحل إذ قد يوجد المحل بدون العرض ثم يوجد ذلك العرض فيه كالجسم إذا
حل فيه السواد بعد أن لم يكن والثاني هو الموجود بالعرض كإعدام الملكات
والأمور الاعتبارية الذهنية التي لا تحقق لها في الأعيان ويقال إنها موجودة في
الأعيان بالعرض.
قال: وأما الموجود في الكتابة والعبارة فمجازي.
أقول: للشئ وجود في الأعيان ووجود في الأذهان وقد سبق البحث فيهما
ووجود في العبارة ووجود في الكتابة والذهن يدل على ما في العين والعبارة تدل
على الأمر الذهني والكتابة تدل على العبارة لكن الوجودين الأولين حقيقيان
والباقيين مجازيان إذ لا يحكم العقل بأن الشئ موجود في اللفظ والكتابة لكن
لما دل عليه حكم على سبيل المجاز أنه موجود فيهما.
المسألة الأربعون: في أن المعدوم لا يعاد
قال: والمعدوم لا يعاد لامتناع الإشارة إليه فلا يصح الحكم عليه بصحة العود.
أقول: ذهب جماعة من الحكماء والمتكلمين إلى أن المعدوم لا يعاد وذهب
آخرون منهم إلى أنه يمكن أن يعاد والحق الأول واستدل المصنف عليه بوجوه
الأول أن المعدوم لا يبقى له هوية ولا يتميز عن غيره فلا يصح أن يحكم عليه بحكم
ما من الأحكام فلا يمكن الحكم عليه بصحة العود وهذا ينتقض بامتناع الحكم
عليه بامتناع العود فإنه حكم ما والتحقيق هيهنا إن الحكم يستدعي الحضور
الذهني لا الوجود الخارجي.
قال: ولو أعيد تخلل العدم بين الشئ ونفسه.

67
أقول: هذا هو الوجه الثاني من الوجوه الدالة على امتناع إعادة المعدوم
وتقريره أن الشئ بعد عدمه نفي محض وعدم صرف وإعادته إنما يكون بوجود
عينه الذي هو المبتدء بعينه في الحقيقة فيلزم تخلل العدم بين الشئ ونفسه وتخلل
النفي بين الشئ الواحد ونفسه غير معقول.
قال: ولم يبق فرق بينه وبين المبتدء.
أقول:
هذا هو الوجه الثالث وتقريره أن المعدوم لو أعيد لم يبق فرق بينه
وبين المبتدء فإنا إذا فرضنا سوادين أحدهما معاد والآخر مبتدء وجدا معا لم يقع
بينهما فرق في الماهية ولا المحل ولا غير ذلك من المميزات إلا أن أحدهما كان
موجودا ثم عدم والآخر لم يسبق عدمه وجوده لكن هذا الفرق باطل لامتناع
تحقق الماهية في العدم فلا يمكن الحكم عليها بأنها هي هي حالة العدم وإذا لم يبق
فرق بينهما لم يكن أحدهما أولى من الآخر بالإعادة أو الابتداء.
قال: وصدق المتقابلان عليه دفعة.
أقول: هذا وجه رابع وهو أنه لو أعيد المعدوم لصدق المتقابلان على الشئ
الواحد دفعة واحدة والتالي باطل فالمقدم مثله بأن الشرطية أنه لو أعيد لأعيد مع
جميع مشخصاته ومن بعض المشخصات الزمان فيلزم جواز الإعادة على الزمان
فيكون المبتدء معادا وهو محال لأنهما متقابلان لا يمكن صدقهما على ذات واحدة.
قال: ويلزم التسلسل في الزمان.
أقول: هذا دليل على امتناع إعادة الزمان وتقريره أنه لو أعيد الزمان
لكان وجوده ثانيا مغايرا لوجوده أولا والمغايرة ليست بالماهية ولا بالوجود
وصفات الوجود بل بالقبلية والبعدية لا غير فيكون للزمان زمان آخر يوجد فيه
تارة ويعدم أخرى وذلك يستلزم التسلسل.
قال: والحكم بامتناع العود لأمر لازم للماهية.

68
أقول: هذا جواب عن استدلال من ذهب إلى إمكان إعادة المعدوم وتقرير
الدليل أن الشئ بعد العدم إن استحال وجوده لماهيته أو لشئ من لوازمها
وجب امتناع مثله الذي هو الوجود المبتدء وإن كان الأمر غير لازم بل لعارض
فعند زوال ذلك العارض يزول الامتناع وتقرير الجواب أن الشئ بعد العدم
ممتنع الوجود المقيد ببعدية العدم وذلك الامتناع لازم للماهية الموصوفة بالعدم
بعد الوجود.
المسألة الحادية والأربعون:
في قسمة الموجود إلى الواجب والممكن
قال: وقسمه الموجود إلى الواجب والممكن ضرورية وردت على الوجود
من حيث هو قابل للتقييد وعدمه
أقول: العقل يحكم حكما ضروريا بأن الموجود أما أن يكون مستغنيا عن
غيره أو يكون محتاجا والأول واجب والثاني ممكن وهذه القسمة ضرورية
لا يفتقر فيها إلى برهان وليست القسمة (1) واردة على مطلق الوجود من حيث
هو وجود مطلق فإن الشئ من حيث هو ذلك الشئ يستحيل أن ينقسم إلى
متباينين هما غير ذلك الشئ وإذا اعتبرت قسمة فلا يؤخذ مع هذه الحيثية بل
يؤخذ الشئ (2) بلا تقييد بشرط مع تجوير التقييد ويقسم فيضاف إلى مفهومه
مفهومات أخر ويصير مفهومه مع كل واحد من تلك المفهومات قسما.



(1) يعني مع التقيد بقيد الاطلاق فإن القيد يمنعه من التقيد بالوجوب أو الإمكان فلا
ينقسم.
(2) أي يؤخذ المقسم لا بشرط من كل قيد حتى يكون قابلا للقيود التي بإضافة كل منها
يصير مقسما.
69
المسألة الثانية والأربعون: في البحث عن الإمكان
قال: والحكم على الممكن بإمكان الوجود حكم على الماهية لا باعتبار
العدم والوجود.
أقول: الذهن إذا حكم بأمر على أمر فقد يلاحظ الوجود أو العدم للمحكوم عليه
وهو الحكم بأحدهما أو بما (1) يشترط فيه أحدهما وقد لا يلاحظ أحدهما كالحكم
بالإمكان فإن الذهن إذا حكم على الممكن بإمكان الوجود والعدم فإنه لا يحكم
عليه باعتبار كونه موجودا لأنه بذلك الاعتبار يكون واجبا ولا باعتبار كونه
معدوما فإنه بذلك الاعتبار يكون ممتنعا وإنما يتحقق الإمكان للممكن من حيث
هو هو لا باعتبار الوجود ولا باعتبار العدم وبهذا التحقيق يندفع السؤال الذي يهول (2)
به قوم وهو أن المحكوم عليه بالإمكان إما أن يكون موجودا أو معدوما فإن كان
موجودا استحال الحكم عليه بالإمكان لأن الموجود لا يقبل العدم لاستحالة
الجمع بين الوجود والعدم وإذا امتنع حصول العدم امتنع حصول إمكان الوجود
والعدم وإن كان معدوما استحال عليه قبول الوجود لما تقدم وإذا استحال
مجامعة الإمكان لوصفي الوجود والعدم واستحال انفكاك الماهية عنهما فاستحال
الحكم على الماهية بالإمكان وذلك لأن القسمة في قولهم المحكوم عليه بالإمكان
إما أن يكون موجودا أو معدوما ليست بحاصرة لأن المفهوم منه أن المحكوم
عليه بالإمكان إما أن يحكم عليه مع اعتبار الوجود أو مع اعتبار العدم
ويعوزه (3) قسم آخر وهو أن يحكم عليه لا مع اعتبار أحدهما وقولهم الموجود



(1) يعني أن الحكم الذي يلاحظ الوجود أو العدم لموضوعه هو حكم بالوجود كقولنا
الإنسان موجود أو بالعدم كقولنا العنقاء معدوم أو حكم بما يشترط فيه الوجود كقولنا
الإنسان كاتب أو الإنسان ليس بطائر.
(2) يعجبون به من هالت المرأة بحسنها.
(3) عاز الشئ فلانا احتاج فلان إليه فلم يجده (المنجد).
70
حال الوجود لا يقبل العدم وكذا المعدوم صحيح لكن الموجود يقبل العدم في
غير حال الوجود وكذا المعدوم وليس حال الماهية إما حال الوجود أو حال
العدم لأنهما حالان يحصلان عند اعتبار الماهية مع الغير أما عند اعتبارها لا مع
الغير فإنها يقبل أحدهما لا بعينه وهذا الامتناع امتناع لاحق بشرط المحمول.
قال: ثم الإمكان قد يكون آلة في التعقل وقد يكون معقولا باعتبار ذاته (1)
أقول: كون الشئ معقولا بذاته ينظر فيه العقل ويعتبر فيه وجوده
ولا وجوده غير كونه آلة للتعقل ولا ينظر فيه من حيث ينظر فيما هو آلة لتعقله
بل إنما ينظر به مثلا العاقل يعقل السماء بصورة في عقله ويكون معقوله السماء
ولا ينظر حينئذ في الصورة التي بها يعقل السماء ولا يحكم عليها بحكم بل يعقل
أن المعقول بتلك الصورة هو السماء وهو جوهر ثم إذا نظر في تلك الصورة
وجعلها معقولا منظورا إليها لا آلة في النظر إلى غيرها وجدها عرضا موجودا
في محل هو عقله.
إذا ثبت هذا (فنقول) الإمكان قد يكون آلة للعاقل بها يعرف حال
الممكن في أن وجوده على أي أنحاء العروض يعرض للماهية ولا ينظر في كون
الإمكان موجودا أو معدوما أو جوهرا أو عرضا أو واجبا أو ممكنا ثم إذا
نظر في وجوده أو إمكانه أو وجوبه أو جوهريته أو عرضيته لم يكن بذلك



(1) وإيراد المصنف هذا الكلام لدفع إشكال أورد على اتصاف الماهية بالإمكان وهو أن
الماهية لو اتصف بالإمكان لاتصف الإمكان بالوجود ضرورة امتناع انفكاك الإمكان عن ماهية
الممكن ولكان ذلك الوجوب متصفا بوجوب آخر وهكذا ويلزم التسلسل في الوجوبات وهو
باطل وملزومه الذي هو اتصاف الماهية باطل أيضا والجواب أن الإمكان حين كونه ملحوظا
تبعا وآلة لتعرف حال الماهية لا يكون محكوما وموصوفا بالوجوب ولا غيره من الأوصاف
والأحكام فلا يلزم التسلسل.
71
الاعتبار إمكانا لشئ بل كان عرضا في محل هو العقل وممكنا في ذاته ووجوده
غير ماهيته فالإمكان من حيث هو إمكان لا يوصف بكونه موجودا أو غير
موجود أو ممكنا أو غير ممكن وإذا وصف بشئ من ذلك لا يكون حينئذ
إمكانا بل يكون له إمكان آخر يعتبره العقل والإمكان أمر عقلي فمهما يعتبر
العقل للإمكان ماهية ووجودا حصل فيه إمكان إمكان ولا يتسلسل (1) بل
ينقطع عند انقطاع الاعتبار وهكذا حكم جميع الاعتبارات العقلية من الوجوب
والشيئية والحدوث وغيرها من ثواني المعقولات.
قال: وحكم الذهن على الممكن بالإمكان اعتبار عقلي فيجب أن يعتبر
مطابقته لما في العقل.
أقول: قد تقدم مواضع اعتبار المطابقة وعدمها والإمكان إذا اعتبر فيه
المطابقة فيجب أن يكون مطابقا لما في العقل لأنه اعتبار عقلي على ما تقدم.
المسألة الثالثة والأربعون:
في أن الحكم بحاجة الممكن إلى المؤثر ضروري
قال: والحكم بحاجة الممكن ضروري وخفاء التصديق لخفاء التصور
غير قادح.
أقول: كل عاقل إذا تصور الممكن ما هو والاحتياج إلى المؤثر حكم بنسبة
أحدهما إلى الآخر حكما ضروريا لا يحتاج معه إلى برهان وخفاء هذا التصديق
عند بعض العقلاء لا يقدح في ضرورته لأن الخفاء في هذا الحكم يستند إلى خفاء
التصور لا لخفائه في نفسه ولهذا إذا مثل للمتشكك في هذه القضية حال الوجود
والعدم بالنسبة إلى الماهية بحال كفتي الميزان وأنهما كما يستحيل ترجح إحدى



(1) مثلا فيقال لو لزم الشئ شيئا لزم لزومه وكذلك لزوم لزومه وهكذا ويجاب فيقطع
التسلسل بعدم الاعتبار.
72
الكفتين على الأخرى بغير مرجح كذلك الممكن المتساوي الطرفين حكم بالحاجة
إلى المؤثر.
قال: والمؤثرية اعتبار عقلي.
أقول: هذا جواب عن سؤال أورده بعض المغالطين (1) على احتياج الممكن
إلى المؤثر (وتقرير السؤال) أن الممكن لو افتقر إلى المؤثر لكانت مؤثرية المؤثر
لكونها وصفا محتاجا إلى الموصوف ممكنا محتاجا إلى المؤثر في ذلك الأثر فإن
كانت وصاف ثبوتيا في الذهن من غير مطابقة الخارج لزم الجهل ولأنها ثابتة قبل
الذهن ويستحيل قيام صفة الشئ بغيره وإن كانت بمطابقة الخارج أو كانت ثابتة
في الخارج مغايرة للمؤثر والأثر لأنها نسبة بينهما لزم التسلسل وهو محال وبتقدير
تسليمه فهو غير معقول لأن التسلسل إنما يعقل لو فرضنا أمورا متتالية إلى غير
النهاية وذلك يستدعي كون كل واحد منها متلو بصاحبه وإنما يكون متلوا
بصاحبه لو لم يكن بينه وبين متلوه غيره لكن ذلك محال لأن تأثير المتلو في
التالي متوسط بينهما وقد كان لا يتوسط هذا خلف وليست المؤثرية عدمية
لأنها نقيض اللامؤثرية المحمولة على المعدوم والمحمول على المعدوم عدم ونقيض
العدم ثبوت فالمؤثرية ثبوتية.
وتقرير الجواب أن المؤثرية أمر إضافي يثبت في العقل عند تعقل صدور
الأثر عن المؤثر فإن ذلك يقتضي ثبوت أمر في العقل هو المؤثرية كما في سائر
الإضافات وعدم مطابقته للخارج لا يقتضي كونه جهلا لأن الجهل يلزم لو حكم
بثبوته في الخارج ولم يثبت في الخارج وقوله المؤثرية صفة قبل الذهن وصفة
الشئ يستحيل قيامها بغيره فجوابه أن كون (2) الشئ بحيث لو عقله عاقل



(1) هو الفخر الرازي.
(2) الجواب أنك إن أردت من المحال زمان الوجود والعدم فنختار أن تأثير المؤثر في حال
الوجود وقولك هو تحصيل للحاصل ممنوع لأن التحصيل فيما نحن فيه هو الايجاد والحاصل هو الوجود وهما
مقارنان بحسب الزمان بمعنى ابتداء الايجاد هو ابتداء الوجود.
73
حصل في عقله إضافة لذلك الشئ إلى غيره هو الحاصل قبل الأذهان لا الذي
يحصل في العقل فإن ذلك يستحيل قبل وجود العقل.
قال: والمؤثر (1) يؤثر في الأثر لا من حيث هو موجود ولا من حيث
هو معدوم.
أقول: هذا جواب عن سؤال آخر لهم وتقرير السؤال أن المؤثر إما أن
يؤثر في الأثر حال وجوده أو حال عدمه والقسمان باطلان فالتأثير باطل أما
بطلان الأول فلاستلزامه تحصيل الحاصل وأما بطلان الثاني فلأن حال العدم لا أثر
فلا تأثير لأن التأثير إن كان عين حصول الأثر عن المؤثر فحيث لا أثر فلا تأثير
وإن كان مغايرا فالكلام فيه كالكلام في الأول.
وتقرير الجواب أن نقول إن أردت بحال وجود الأثر زمان وجوده فليس
يستحيل أن يؤثر المؤثر في الأثر في زمان وجود الأثر لأن العلة مع المعلول
تكون بهذه الصفة وإن أردت به مقارنة المؤثر للأثر المقارنة الذاتية فذلك
مستحيل وإنما يؤثر فيه لا من حيث هو موجود ولا من حيث هو معدوم.
قال: وتأثيره في الماهية ويلحقه وجوب لاحق.
أقول: هذا جواب عن سؤال ثالث لهم (وتقريره) أن المؤثر إما أن يؤثر
في الماهية أو في الوجود أو في اتصاف الماهية بالوجود والأقسام كلها باطلة
فالتأثير باطل (أما الأول) فلأن كل ما بالغير (2) يرتفع بارتفاعه لكن



(1) أي ذات المؤثر التي هي منشأ لأن ينتزع منه العقل عنوان المؤثرية هي الحاصلة
الموجودة قبل الأذهان لا وصف المؤثرية الذي يحصل في العقل باعتباره وانتزاعه.
(2) توضيحه أن معنى تأثير المؤثر في الماهية هو جعل الماهية ماهية فلو كانت بتأثير الغير
ماهيته لزم أن لا تكون عند ارتفاع ذلك الغير ماهية لكن ذلك محال لأن الماهية ماهية يستحيل
أن تكون غير ماهية سواء كان غيرها ثابتا أو مرتفعا ويثبت ذلك أن سلب الشئ عن نفسه محال.
74
ذلك محال لأن صيرورة الماهية غير ماهية محال لأن موضوع القضية يجب أن
يتحقق حال ثبوت محمولها ولا تحقق للماهية حال الحكم (1) عليها بالعدم (وأما
الثاني) فلأنه يلزم منه ارتفاع الوجود عند ارتفاع المؤثر ويلزم ما تقدم من المحال
(وأما الثالث) فلأن الموصوفية ليست ثبوتية وإلا لزم التسلسل فلا يكون أثرا
سلمنا لكن المؤثر إما يؤثر في ماهيتها أو في وجودها أو في اتصاف ماهيتها بوجودها
ويعود المحال.
وتقرير الجواب (2) أن المؤثر يؤثر في الماهية (3) وعند فرض الماهية (4) يجب تحققها وجوبا لاحقا بسبب الفرض مترتبا على الفرض ومع ذلك الوجوب
يمتنع تأثير المؤثر فيه فإنه يكون إيجادا لما فرض موجودا أما قبل فرضه ماهية
فيمكن أن يوجدها المؤثر على سبيل الوجوب ويكون ذلك الوجوب سابقا على
وجوده والفرق بين الوجوبين ظاهر ذكر في المنطق والغلط هيهنا نشأ من قبل



(1) أي بعدم كونها ماهية بسبب ارتفاع الغير
(2) ومعنى تأثيره فيها أن يجعلها موجودة لا أن يجعل إياها تلك الماهية فإنه محال غير معقول إذ
لا مغايرة بين الماهية ونفسها ليتصور توسط جعل بينهما فيكون أحديهما مجعولة والأخرى مجعولا
إليها وهذا معنى قول الحكماء بأن الماهيات ليست مجعولة بجعل الجاعل على ما نقل عن ابن سينا
أنه سئل عن هذه المسألة وكان يأكل الشمس؟ فقال إلى آخرها.
(3) توضيحه إنا نختار أن التأثير في الماهية ولكن لا بجعلها ماهية جعلا مركبا لأنه إثبات
الشئ لنفسه وعند ارتفاع الجاعل يلزم سلب الشئ عن نفسه كما قلت ولا بجعلها موجودة جعلا
مركبا يتبعه وجوب لا حق ومعنى الجعل البسيط أن الماهية تصدر من العلة إلى الخارج وبعد
صدورها موجودة واجبة بوجوب لاحق هو الضرورة بشرط المحمول ووجود الماهية ووجوبها أمران
ينتزعان من الماهية الصادرة ومع هذا الوجوب يمتنع تأثير المؤثر فيها بأن يجعلها موجودة لأنه
تحصيل حاصل.
(4) أي عند فرضها مجعولة بالجعل البسيط.
75
اشتراك لفظ الوجوب لدلالته على المعنيين (1) بالشركة اللفظية وقولنا عدمت
الماهية معناه أن الماهية الحاصلة في زمان ليست تحصل في زمان بعده ويكون
ذلك حملا لغير الحاصل على المتصور منه لا على الوجود الخارجي لأن الوضع
والحمل من ثواني المعقولات على ما مر ولا يكونان في الخارج وكذا البحث في
حصول الوجود من موجده ومن يجعل تأثير المؤثر في جعل الماهية موصوفة
بالوجود وهم القائلون بثبوت المعدوم لم يتعلق ذلك بموصوفية الماهية بالوجود لأن
ذلك أمر إضافي يحصل بعد اتصافها به والمراد من تأثير المؤثر هو ضم الماهية إلى
الوجود ولا يلزم من ذلك ما ذكروه من المحال
قال: وعدم الممكن يستند إلى عدم علته على ما مر (2).
أقول: هذا جواب عن سؤال آخر (وتقريره) إن الممكن لو افتقر في
طرف الوجود إلى المؤثر لافتقر في طرف العدم لتساويهما بالنسبة إليه والتالي
باطل لأن المؤثر لا بد له من أثر والعدم نفي محض فيستحيل استناده إلى المؤثر
ولأنه نفي محض فلا تعدد فيه ولا امتياز (وتقرير الجواب) أن عدم الممكن
المتساوي ليس نفيا محضا والمرجح لطرف الوجود يكون موجودا في الخارج وأما في
العدم فلا يكون إلا عقليا وعدم العلة ليس بنفي محض وهو يكفي في الترجيح
العقلي ولامتيازه عن عدم المعلول في العقل يجوز أن يعلل هذا العدم بذلك العدم
في العقل.



(1) معنى الوجوب السابق هو تمامية العلة بحيث يستلزم المعلول أو كون المعلول بحيث يلزم
من العلة التامة ومعنى الوجوب اللاحق هو ضرورة الثبوت.
(2) أي في المسألة التاسعة عشر.
76
المسألة الرابعة والأربعون: في أن الممكن الباقي محتاج إلى المؤثر
قال: والممكن الباقي مفتقر إلى المؤثر لوجود علته.
أقول: ذهب جمهور الحكماء والمتأخرون من المتكلمين إلى أن الممكن الباقي
محتاج إلى المؤثر وبالجملة كل من قال بأن الإمكان علة تامة في احتياج الأثر إلى
المؤثر حكم بأن الممكن الباقي مفتقر إلى المؤثر والدليل عليه أن علة الحاجة إنما
هي الإمكان وهو لازم للماهية ضروري اللزوم فهي أبدا محتاجة إلى المؤثر لأن
وجود العلة يستلزم وجود المعلول.
قال: والمؤثر يفيد البقاء بعد الإحداث.
أقول: لما حكم باحتياج الممكن الباقي إلى المؤثر شرع في تحقيق الحال
فيه وأن الصادر عن المؤثر ما هو حال البقاء وذلك لأن الشبهة دخلت على
القائلين باستغناء الباقي عن المؤثر بسبب أن المؤثر لا تأثير له حال البقاء لأنه إما
أن يؤثر في الوجود الذي كان حاصلا له وهو محال لأن تحصيل الحاصل محال
أو في أمر جديد فيكون المؤثر مؤثرا في الجديد لا في الباقي والتحقيق أن قولهم
المؤثر حال البقاء إما أن يكون له في الأثر تأثير أو لا يشتمل على غلط فإن
المؤثر في البقاء لا يكون له أثر البقاء حال البقاء وإلا لزم منه تحصيل الحاصل
والحق أن المؤثر يفيد البقاء بعد الإحداث وتأثيره بعد الإحداث في أمر جديد
هو البقاء فإنه غير الإحداث فهو مؤثر في أمر جديد صار به باقيا لا في الذي
كان باقيا.
قال: ولهذا جاز استناد القديم الممكن إلى المؤثر الموجب لو أمكن ولا
يمكن استناده إلى المختار.
أقول: هذه نتيجة ما تقدم من أن الممكن الباقي إذا ثبت أنه محتاج إلى
المؤثر ثبت جواز إسناد القديم الممكن إلى المؤثر الموجب وأما استناده إلى المختار

77
فغير ممكن لأن المختار هو الذي يفعل بواسطة القصد والاختيار والقصد إنما
يتوجه في التحصيل إلى شئ معدوم لأن القصد إلى تحصيل الحاصل محال وكل
معدوم يجدد فهو حادث.
المسألة الخامسة والأربعون: في نفي قديم ثان
قال: ولا قديم سوى الله تعالى لما يأتي (1):
أقول: قد خالف في هذا جماعة كثيرة أما الفلاسفة فظاهر لقولهم بقدم
العالم وأما المتكلمون فالأشاعرة أثبتوا ذاته تعالى وصفاته في الأزل كالقدرة
والعلم والحياة والوجود والبقاء وغير ذلك من الصفات على ما يأتي وأبو هاشم
أثبت أحوالا خمسا فإنه علل القادرية والعالمية والحيية والموجودية بحالة خامسة
هي الإلهية وأما الحرنانيون فقد أثبتوا خمسة من القدماء اثنان حيان فاعلان
هما الباري تعالى والنفس وواحد منفعل غير حي هو الهيولي واثنان لا حيان
ولا فاعلان ولا منفعلان هما الدهر والخلاء أما قدمه تعالى فظاهر وأما النفس
والهيولي فلاستحالة تركبهما عن المادة وكل حادث مرك وأما الزمان فلاستحالة
التسلسل اللازم على تقدير عدمه وأما الخلاء فرفعه غير معقول واختار ابن
زكريا الرازي الطبيب هذا المذهب وصنف كتابا موسوما بالقول في القدماء
الخمسة وكل هذه المذاهب باطلة لأن كل ما سوى الله تعالى ممكن وكل ممكن
حادث وسيأتي تقريرها.
المسألة السادسة والأربعون: في عدم وجوب المادة والمدة للحادث
قال: ولا يفتقر الحادث إلى المدة والمادة وإلا لزم التسلسل.
أقول: ذهبت الفلاسفة إلى أن كل حادث مسبوق بمادة ومدة لأن كل
حادث ممكن فإمكانه سابق عليه وهو عرض لا بد له من محل وليس المعدوم



(1) من أدلة التوحيد.
78
لانتفائه فهو ثبوتي هو المادة ولأن كل حادث ممكن يسبقه عدمه سقا لا يجامعه
المتأخر فالسبق بالزمان يستدعي ثبوته وهذان الدليلان باطلان لأنه يلزم منهما
التسلسل لأن المادة ممكنة فمحل إمكانها مغاير لها فيكون لها مادة أخرى على
إنا قد بينا أن الإمكان عدمي لأنه لو كان ثبوتيا لكان ممكنا فيكون له إمكان
ويلزم التسلسل والزمان يتقدم أجزاؤه بعضها على بعض هذا النوع من التقدم
فيكون للزمان زمان هذا خلف أجابوا عن الأول بأن الإمكان لفظ مشترك بين
معنيين الأول ما يقابل الامتناع وهو صفة عقلية يوصف بها كل ما عدا الواجب
والممتنع من المتصورات ولا يلزم من اتصاف الماهية بها كونها مادية والثاني
الاستعداد وهو موجود معدود في نوع من أنواع جنس الكيف وإذا كان
موجودا وعرضا وغير باق بعد الخروج إلى الفعل فيحتاج لا محالة قبل الخروج
إلى محل وهو المادة وعن الثاني أن القبلية والبعدية تلحقان الزمان لذاته فلا يفتقر
إلى زمان آخر قلنا أما الأول فباطل لأن ذلك العرض حادث فيتوقف على
استعداد له ويعود البحث في التسلسل وأما الثاني فكذلك لأن أجزاء الزمان
لو كانت يتقدم بعضها على بعض لذاتها ويتأخر كذلك كانت أجزاء الزمان
مختلفة بالحقيقة فكان الزمان مركبا من الآنات وهو عندكم باطل.
المسألة السابعة والأربعون: في أن القديم لا يجوز عليه العدم
قال: والقديم لا يجوز عليه العدم لوجوبه بالذات أو لاستناده إليه.
أقول: القديم إن كان عدما جاز عليه العدم كعدم العالم وإن كان العدم لا
يسمى قديما وإن كان وجودا استحال عدمه لأنه إما أن يكون واجب الوجود
فيستحيل عدمه أو ممكن الوجود فمؤثره لا يجوز أن يكون مختارا لأن كل أثر
لمختار حادث فيكون موجبا وإن كان واجبا استحال عدمه فاستحال عدم
معلوله وإن كان ممكنا تسلسل.

79
قال: الفصل الثاني في الماهية ولواحقها وهي مشتقة عما هو وهو ما به
يجاب عن السؤال بما هو تطلق غالبا على الأمر المتعقل ويطلق الذات والحقيقة
عليها مع اعتبار الوجود الخارجي والكل من ثواني المعقولات.
أقول: في هذا الفصل مباحث شريفة جليلة نحن نذكرها في مسائل المسألة
الأولى في الماهية والحقيقة والذات أما الماهية فهي لفظة مأخوذة عن (ما هو)
وهو ما به يجاب عن السؤال بما هو فإنك إذا قلت الإنسان ما هو فقد سئلت
عن حقيقته وماهيته فإذا قلت حيوان ناطق كان هذا الجواب هو ماهية الإنسان
وهذه اللفظة أعني الماهية إنما تطلق في الغالب من الاستعمال على الأمر المعقول
وإذا لحظ مع ذلك الوجود قيل له حقيقة وذات والماهية والحقيقة والذات من
المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى فإن حقيقة الإنسان أعني الحيوان
الناطق معروضة لكونها ماهية وذاتا وحقيقة وهذه عوارض لها.
قال: وحقيقة كل شئ مغايرة لما يعرض لها من الاعتبارات وإلا لم تصدق
على ما ينافيها.
أقول: كل شئ فإن له حقيقة هو بها هو فالإنسانية من حيث هي إنسانية
ماهية وهي مغايرة لجميع ما يعرض لها من الاعتبارات فإن الإنسانية من حيث هي
إنسانية لا يدخل في مفهومها الوجود والعدم ولا الوحدة والكثرة ولا الكلية
والجزئية ولا غير ذلك من الاعتبارات اللاحقة بها لأن الوحدة مثلا لو دخلت
في مفهوم الإنسان لم يصدق الإنسانية على ما ينافي الوحدة لكنها تصدق عليه
لصدقها على الكثرة وكذلك القول في الكثرة والوجود والعدم والكلية والجزئية
وغيرها فهي إذن مغايرة لهذه الاعتبارات وقابلة لها قبول المادة للصور المختلفة
والأعراض المتضادة.
قال: وتكون الماهية مع كل عارض مقابلة لها مع ضده.

80
أقول: إذا أخذت الماهية مع قيد الوحدة مثلا صارت واحدة وإذا أخذت
مع قيد الكثرة صارت كثيرة فالواحدية أمر مضموم إليها مغاير لها تصير بها
الماهية واحدة وتقابل باعتبارها الماهية باعتبار القيد الآخر فإن الإنسان الواحد
مقابل للإنسان الكثير باعتبار العارضين لا باعتبار الماهية نفسها.
قال: وهي من حيث هي ليست إلا هي ولو سئل بطرفي النقيض فالجواب
السلب لكل شئ قبل الحيثية لا بعدها.
أقول: الإنسانية من حيث هي هي ليست إلا الإنسانية وجميع ما يعرض
لها من الاعتبارات مغاير لها كالوحدة والكثرة على ما تقدم إذا عرفت هذا فإذا
سئلنا عن الإنسان بطرفي النقيض فقيل مثلا هل الإنسان ألف أوليس بألف
كان الجواب (1) دائما بالسلب على أن يكون قبل (من حيث) لا بعد (من حيث)
فنقول الإنسان ليس هو من حيث هو إنسان ألفا ولا شيئا من الأشياء ولا نقول
الإنسان من حيث هو إنسان ليس ألفا ولو قيل (2) الإنسانية التي في زيد لا تغاير
التي في عمر ومن حيث هي إنسانية لم يلزم منه أن نقول فإذن تلك وهي واحدة
بالعدد لأن قولنا من حيث هي إنسانية أسقط جميع الاعتبارات وقيد الوحدة
زائد فيجب حذفه.
المسألة الثانية: في أقسام الكلي
قال: وقد تؤخذ الماهية محذوفا عنها ما عداها بحيث لو انضم إليها شئ



(1) مثل الإنسان ليس من حيث هو إنسان بكاتب ولا غير كاتب.
(2) يعني لو قال قائل كيف ليست الماهية من حيث هي هي إلا هي مع أن طبيعة الإنسان
مثلا في زيد هي عين ما هي في عمرو ويحمل عليها واحدة فأجيب أن الماهية في هذه القضية اعتبر
معها شئ آخر صح به حمل واحده عليها وهو حيثية كونها غير متغايرة باعتبار كونها في زيد وفي
عمرو فإذا أخذتها من حيث هي هي وأسقطت جميع الاعتبارات لم يصح حمل واحدة عليها.
81
لكان زائدا ولا تكون مقولة على ذلك المجموع وهي الماهية بشرط لا شئ ولا
توجد إلا في الأذهان.
أقول: الماهية كالحيوان مثلا قد تؤخذ محذوفا عنها جميع ما عداها بحيث
لو انضم إليها شئ لكان ذلك الشئ زائدا على تلك الماهية ولا يكون الماهية
صادقة على ذلك المجموع وهي الماهية بشرط لا شئ وهذا لا يوجد إلا في
الأذهان لا في الخارج لأن كل موجود في الخارج متشخص فليس بمجرد عن
الاعتبارات.
قال: وقد تؤخذ لا بشرط شئ وهو كلي طبيعي موجود في الخارج وهو
جزء من الاشخاص وصادق على المجموع الحاصل منه ومما أضيف إليه.
أقول: هذا اعتبار آخر للماهية معقول وهو أن تؤخذ الماهية من حيث هي
هي لا باعتبار التجرد ولا باعتبار عدمه كما يؤخذ الحيوان من حيث هو هو لا
باعتبار تجرده عن الاعتبارات بل مع تجويز أن يقارنه غيره مما يدخل في حقيقته
وهذا هو الحيوان لا بشرط شئ وهو الكلي الطبيعي لأنه نفس طبائع الأشياء
وحقائقها وهذا الكلي موجود في الخارج فإن الحيوان المقيد موجود في الخارج
وكل موجود في الخارج فإن أجزائه موجودة في الخارج فالحيوان من حيث هو
هو الذي هو جزء من هذا الحيوان موجود وهذا الحيوان جزء من
الاشخاص الموجودة وهو صادق على المجموع المركب منه ومن قيد الخصوصية
المضاف إليه.
قال: والكلية العارضة للماهية يقال لها كلي منطقي وللمركب كلي عقلي
وهما ذهنيان فهذه اعتبارات ثلاثة ينبغي تحصيلها في كل ماهية معقولة.
أقول: هذان اعتباران آخران للكلي (أحدهما) الكلية العارضة لها وهو
الكلي المنطقي لأن المنطقي يبحث عنه (والثاني) العقلي وهو المركب من الماهية

82
ومن الكلية العارضة لها فإن هذا اعتبار آخر مغاير للأولين وهذان الكليان
عقليان لا وجود لهما في الخارج أما المنطقي فلأنه لا يتحقق إلا عارضا لغيره إذ
الكلية من ثواني المعقولات ليست متأصلة في الوجود إذ ليس في الخارج شئ
هو كلي مجرد فالكلية إذا عارضة لغيرها وكل معروض للكلي من حيث هو
معروض له فهو ذهني إذ كل موجود في الخارج شخصي وكل شخصي فليس
بكلي فالكلي ذهني وكذا الكلي العقلي لهذا فهذه اعتبارات ثلاثة في كل معقول
ينبغي تحصيلها (أحدها) الكلي الطبيعي وهو نفس الماهية (والثاني) الكلي
المنطقي وهو العارض لها (والثالث) العقلي وهو المركب منهما.
المسألة الثالثة في انقسام الماهية إلى البسيطة والمركبة
قال: والماهية منها بسيطة وهي ما لا جزء له ومنها مركبة وهي ما له جزء
وهما موجودان ضرورة.
أقول: الماهية أما أن يكون لها جزء تتقوم منه ومن غيره وأما أن لا تكون
كذلك والأول هو المركب كالإنسان المتقوم من الحيوان والنطق والثاني هو
البسيط كالجوهر الذي لا جزء له وهذان القسمان موجودان بالضرورة فإنا
نعلم قطعا وجود المركبات كالجسم والإنسان والفرس وغيرها من
الحقائق المركبة ووجود المركب يستلزم وجود أجزائه فالبسائط موجودة
بالضرورة.
قال: ووصفاهما اعتباريان متنافيان وقد يتضايفان فيتعاكسان في العموم
والخصوص مع اعتبار هما بما مضى.
أقول: يعني أن وصف البساطة والتركيب اعتباريان عقليان عارضان لغيرهما
من الماهيات إذ لا موجود هو بسيط أو مركب محض (1) فالبساطة والتركيب



(1) أي ليس في الخارج موجود يكون هو بسيط فردا لنفس البساطة والتركيب فهما اعتباريان.
83
لا يعقلان إلا عارضان فهما من ثواني المعقولات ولو كانا موجودين لزم التسلسل
إذا عرفت هذا فإنهما متنافيان إذ لا يصدق (1) على شئ أنه بسيط ومركب
وإلا لزم اجتماع النقيضين فيه وهو محال وقد يتضايفان (2) أي يؤخذ البسيط
بسيطا بالنسبة إلى مركب مخصوص فيكون بساطته باعتبار كونه جزءا من ذلك
المركب وإن كان له جزء آخر كما للمركب المخصوص ويكون المركب مركبا
باعتبار القياس إليه فيتحقق الإضافة بينهما وهذان كالحيوان فإنه بسيط بالنسبة
إلى الإنسان على معنى أنه جزء منه فيكون أبسط منه وإذا أخذا باعتبار التضايف
تعاكسا مع اعتبارهما الأول أعني الحقيقي عموما وخصوصا وذلك لأنهما بالمعنى
الحقيقي متنافيان لأن البسيط لا يصدق عليه أنه مركب بذلك المعنى وإذا
أخذنا بالمعنى الإضافي جوزنا أن يكون البسيط مركبا لأن بساطته ليست
باعتبار نفسه بل باعتبار كونه جزءا من غيره وإذا جاز كون البسيط بهذا
المعنى مركبا كان أعم من البسيط بالمعنى الأول فيكون المركب بهذا المعنى



(1) أي لا يصدق على شئ واحد من حيث هو واحد أنه بسيط ومركب معا.
(2) قوله وقد يتضايفان فيكون البسيط بسيطا بالنظر إلى المركب منه ومن غيره وإن كان
بالنظر إلى ذاته مركبا كالحيوان الذي هو بسيط بالنسبة إلى الإنسان وإن كان مركبا في نفسه
وكذلك يكون المركب مركبا بالنظر إلى البسيط الذي تحته قوله فيتعاكسان في العموم والخصوص
مع اعتبار هما بما مضى، يعني البسيط والمركب الإضافي يتعاكس في العموم والخصوص بالنسبة
إلى البسيط والمركب بالمعنى الماضي أي الحقيقي فبسيط الإضافي أعم من بسيط الحقيقي ومركب
الحقيقي أعم من مركب الإضافي، بيان ذلك أن البسيط الإضافي له فردان الأول البسيط الحقيقي
كالجوهر إذ هو مع كونه بسيطا في نفسه بسيط بالنظر إلى المركبات، الثاني المركب الحقيقي
كالجسم فإنه بسيط إضافي بالنظر إلى الحيوان ومركب حقيقي بالنظر إلى نفسه وكذلك المركب
الحقيقي له فردان: الأول البسيط الإضافي كالمثال المتقدم وهو الجسم، الثاني المركب الإضافي
كالإنسان الذي هو مركب بالإضافة إلى الحيوان فتحصل أن البسيط الإضافي يشمل البسيط
والمركب الحقيقيين فالبسيط الإضافي أعم من الحقيقي والمركب الحقيقي يشمل البسيط والمركب
الإضافيين فالمركب الحقيقي أعم من الإضافي.
84
أخص منه بالمعنى الأول فقد تعاكسا أعني البسيط والمركب في العموم والخصوص
باختلاف الاعتبار.
قال: وكما تتحقق الحاجة في المركب فكذا في البسيط.
أقول: الحاجة تعرض للبسيط وللمركب معا فإن كل واحد منهما ممكن
وكل ممكن على الاطلاق فإنه محتاج إلى السبب فالحاجة ثابتة في كل واحد
منهما وقد منع بعض الناس احتياج البسيط إلى المؤثر لأن علة الحاجة إنما هي
الإمكان وهو أمر نسبي إنما يعرض للمنتسبين فما لم تتحقق الاثنينية لم تتحقق
الحاجة ولا اثنينية في البسيط فلا احتياج له والجواب أن الإمكان أمر عقلي
يعرض لمنتسبين عقليين هما الماهية والوجود ويتحقق باعتباره الحاجة لكل واحد
منهما إلى المؤثر في الخارج.
قال: وهما قد يقومان بأنفسهما وقد يفتقران إلى المحل.
أقول: كل واحد من البسيط والمركب قد يكون قائما بنفسه كالجوهر
والحيوان وقد يكون مفتقرا إلى المحل كالكيف والسواد وهما ظاهران إذا
عرفت هذا فالمركب من الأول لا بد وأن يكون أحد أجزائه قائما بنفسه والآخر
قائما به والمركب من الثاني لا بد وأن يكون جميع أجزائه محتاجا إلى المحل
إما إلى ما حل فيه المركب أو البعض إليه والباقي إلى ذلك البعض.
قال: والمركب إنما يتركب عما يتقدمه وجودا وعدما بالقياس إلى الذهن
والخارج وهو علة الغناء عن السبب فباعتبار الذهن بين وباعتبار الخارج
غني ويستحيل دفعه عما هو ذاتي له فيحصل خواص ثلاث واحدة متعاكسة
واثنتان أعم.
أقول: المركب هو الذي تلتئم ماهيته عن عدة أمور فبالضرورة يكون
تحققه متوقفا على تحقق تلك الأمور والمتوقف على الغير متأخر عنه فالمركب

85
متأخر عن تلك الأمور فيتأخر عن كل واحد منها فكل واحد منها موصوف
بالتقديم في طرف الوجود ثم إذا عدم أحدها لم تلتئم تلك الأمور فلا تحصل
الماهية فيكون عدم أي جزء كان من تلك الأمور علة لعدم المركب والعلة
متقدمة على المعلول فكل واحد من تلك الأمور موصوف بالتقدم في طرف
العدم أيضا فقد ظهر أن جزء الحقيقة متقدم عليها في الوجود والعدم ثم إن الذهن
مطابق للخارج فيجب أن يحكم بالتقدم في الوجود الذهني والعدم الذهني فقد
تحقق أن المركب إنما يتركب عما يتقدمه وجودا وعدما بالقياس إلى الذهن
والخارج إذا عرفت هذا فنقول هذا التقدم الذي هو من خواص الجزء يستلزم
استغناء الجزء عن السبب الجديد ولسنا نقول أنه يكون مستغنيا عن مطلق
السبب فإن فاعل الجزء هو فاعل الكل وذلك لأن المتقدم لا يعقل احتياجه إلى
علة متأخرة عن المتأخر عنه بل ولا خارجة عن علة المركب فإن علة كل
جزء داخلة في علة الكل فإذا اعتبر هذا التقدم بالنسبة إلى الذهن فهو البين وإذا
اعتبر بالنسبة إلى الخارج فهو الغني عن السبب (1) وهذه الخاصة أعني التقدم
أخص من الخاصة الثانية أعني الاستغناء عن السبب الجديد لأن الأولى هي
الحصول الموصوف بالتقدم والثانية هي الحصول المطلق ولهذا قيل لا يلزم
من كون الوصف بين الثبوت للشئ وكونه غنيا عن السبب الجديد كونه جزءا
فقد حصل لكل ذاتي على الاطلاق خواص ثلاث (الأولى) وجوب تقدمه في
الوجودين والعدمين وهذه متعاكسة (2) عليه (الثانية) استغناؤه (3) عن السبب



(1) وهذه الخاصة أعم من الخاصة الأولى (خ ل).
(2) ومعنى التعاكس أن كل جزء متقدم على الكل وكل ما هو متقدم على الكل جزء له.
(3) ومعناه أنه كلما تحقق تقدم الجزء تحقق استغنائه عن السبب الجديد وليس كلما تحقق
الاستغناء عن السبب الجديد تحقق التقدم لأن لوازم الماهية مستغنية عن السبب الجديد وليست
متقدمة على الماهية.
86
الجديد (الثالثة) امتناع رفعه عما هو ذاتي (1) له وهاتان الخاصتان إضافيتان
أعم منه لمشاركة بعض اللوازم له في ذلك.
المسألة الرابعة: في أحكام الجزء
قال: ولا بد من حاجة ما لبعض الأجزاء إلى البعض ولا يمكن شمولها
باعتبار واحد.
أقول: كل مركب على الاطلاق فإنه مركب من جزئين فصاعدا ولا بد من
أن يكون لأحد الأجزاء حاجة إلى جزء آخر مغاير له فإنه لو استغنى كل جزء
عن باقي الأجزاء لم يحصل منها حقيقة واحدة كما لا يحصل من الإنسان الموضوع
فوق الحجر مع الحجر حقيقة متحدة فلا بد في كل مركب على الاطلاق من
حاجة لبعض أجزائه إلى بعض ثم المحتاج قد يكون هو الجزء الصوري لا غير
كالهيئة الاجتماعية في العسكر والبلدة في البيوت والعشرية في العدد والمعجون عن
اجتماع الأدوية وقد يكون هو الجزء المادي كالهيولي في الجسم ولا يمكن شمول
الحاجة بأن يكون الجزء المادي محتاجا إلى الصوري والصوري محتاجا إلى
المادي إذا أخذت الحاجة باعتبار واحد لأنه يلزم الدور المحال وقد تشمل الحاجة
الجزئين معا لا باعتبار واحد كالمادة المحتاجة في وجودها إلى الصورة والصورة
المحتاجة في تشخصها إلى المادة.
قال: وهي قد تتميز في الخارج وقد تتميز في الذهن
أقول: أجزاء الماهية لا بد وأن تكون متمايزة ثم التمايز قد يكون خارجيا
كامتياز النفس والبدن اللذين هما جزء الإنسان وقد يكون ذهنيا كامتياز جنس
السواد عن فصله فإنه لو كان خارجيا لم يخل إما أن يكون كل واحد منهما



(1) يستحيل دفع الجزء عن المركب الذي هذا الجزء ذاتي له يعني لا يمكن أن يتحقق
الكل من دون تحقق الجزء لأن الجزء ذاتي له وذاتي الشئ لا ينفك عنه.
87
محسوسا أو لا والأول باطل لأنه إن ماثل السواد استحال جعله مقوما لعدم
الأولوية ولزوم كون الشئ مقوما لنفسه وإن خالفه فإذا انضاف الفصل إلى
الجنس فإما أن لا تحدث هيئة أخرى فيكون المحسوس هو اللونية المطلقة
فالسوادية المحسوسة هي اللونية المطلقة هذا خلف أو تحدث هيئة أخرى فلا
يكون الاحساس بمحسوس واحد بل بمحسوسين هذا خلف والثاني باطل لأنه
لم يحصل عند الاجتماع هيئة أخرى كان السواد غير محسوس وإن حدث كان
الحادث هو السواد وهو معلول الجزئين وهو خارج عنهما فيكون التركيب في
قابل السواد وفاعله لا فيه هذا خلف.
قال: وإذا اعتبر عروض العموم ومضايفه فقد تباين وقد تتداخل.
أقول: هذه القسمة باعتبار عروض العموم ومضايفه أعني الخصوص للأجزاء
فإنا إذا اعتبرنا عروضهما للأجزاء حدثت هذه القسمة وذلك لأن أجزاء الماهية
إما أن يكون بعضها أعم من البعض فتسمى المتداخلة أو لا يكون فتسمى
المتباينة والمتداخلة قد يكون العام عاما مطلقا إما متقوما بالخاص وموصوفا به
كالجنس ومضافه الفصل أو صفة له كالموجود المقول على المقولات العشر
أو مقوما للخاص كالنوع الأخير المقوم لخواصه المطلقة وقد يكون مضافا
كالحيوان والأبيض والمتباينة (1) ما يتركب عن الشئ وإحدى علله أو معلولاته
أو غيرهما إما بعضها وجودي وبعضها عدمي كالأول أو كلها وجودية حقيقية
متشابهة كالآحاد في العدد أو مختلفة إما معقولة كالمادة والصورة والعفة والحكمة



(1) قوله المتباينة فهي أما متماثلة كما في العشرة من الآحاد وأما متخالفة محسوسة كما في
البلقة من السواد والبياض أو معقولة كما في الجسم من الهيولي والصورة وكما في العدالة المركبة
من العفة والحكمة والشجاعة أو مختلفة كما في الإنسان من البدن المحسوس والنفس المعقولة وقد
يقسم المتباينة إلى ما يكون للشئ ما يكون مع ما عرض له من الإضافة إلى الفاعل كالعطاء
فإنه فائدة مقرونة وإلى ما يكون للشئ مع إضافة إلى المعلول كالخالق والرازق.
88
في العدالة أو محسوسة كاللون والشكل في الخلقة والسواد والبياض في البلقة
أو بعضها إضافي كالسرير المعتبر في تحققه نوع نسبة أو كلها كذلك كالأقرب
والأبعد فهذه أصناف المركبات.
قال: وقد تؤخذ مواد وقد تؤخذ محمولة.
أقول: أجزاء الماهية قد ينظر إليها باعتبار كونها مواد حقيقية فتكون
أجزاءا حقيقية ولا تحمل على المركب حمل هو هو لاستحالة كون الكل هو
الجزء وقد ينظر إليها باعتبار كونها محمولة صادقة على المركب مثاله الحيوان قد
يؤخذ مع الناطق فيكون هو الإنسان نفسه وقد يؤخذ بشرط التجرد والخلو
عن الناطق وهو الماهية بشرط لا شئ على ما تقدم تحقيقه فيستحيل حمله على
المجموع المركب منه ومن غيره وإن أخذ من حيث هو هو مع قطع النظر عن
القيدين كان محمولا.
قال: فيعرض لها الجنسية والفصلية.
أقول: إذا اعتبرنا حمل الجزء على الماهية حصلت الجنسية والفصلية لأن
الجنس هو الجزء المشترك والفصل هو الجزء المميز والجزء المحمول يكون أحدهما
قطعا فإذا أخذ الجزء محمولا حصلت الجنسية أعني مقولية ذلك الجزء على كثيرين
أو الفصلية أعني تميز الجزئية فجزء الماهية إما جنس أو فصل والجنس هو الكلي
المقول على كثيرين مختلفين بالحقائق في جواب ما هو والفصل هو المقول على الشئ
في جواب أي شئ هو في جوهره.
قال: وجعلاهما واحد (1).
أقول: يعني به جعل الجنس والفصل ولم يكونا مذكورين صريحا بل أعاد



(1) أي بحسب الوجود الخارجي يعني أحدهما مجعول بالذات والآخر مجعول بالعرض بل
المجعول بالذات هو الشخص.
89
الضمير إليهما لكونهما في حكم المصرح بهما وإنما كان جعلاهما واحدا لأن الفاعل لم
يفعل حيوانا مطلقا ثم يميزه بانضمام الفصل إليه فإن المطلق لا وجود له بل جعل
الحيوان بعينه هو جعل الناطق واعتبر هذا في اللونية فإنها لو كان لها وجود
مستقل فهي هيئة إما في السواد (1) فيوجد السواد لا بها هذا خلف أو في محله (2)
فالسواد عرضان لون وفصله لا واحد هذا خلف فجعله لونا هو بعينه
جعله سوادا.
قال: والجنس منهما كالمادة وهو معلول والآخر صورة وهو علة.
أقول: الجنس إذا نسب مع فصله إلى المادة والصورة وجد الجنس أشبه بالمادة
من الفصل والفصل أشبه بالصورة منه وهذا الجنس هو المعلول والفصل هو العلة
وذلك لأن للفصل نسبة إلى الجنس المطلق وهي نسبة التقسيم وإلى النوع أعني
الجنس المقيد بالفصل وهي التقويم وإلى حصة النوع من الجنس وهي نسبة العلية
وذلك لأن الشيخ أبا علي ادعى أن الفصل علة لحصة النوع من الجنس لأنه قد
تقدم أنه لا بد من احتياج بعض الأجزاء إلى البعض فالجزء المحتاج من النوع
إن كان هو الجنس فهو المطلوب وإن كان هو الفصل كان الجنس مساويا
للفصل ويلزم وجود الفصل أينما يوجد الجنس لأنه علة فلا يكون الجنس
أعم هذا خلف.
قال: وما لا جنس له فلا فصل له.
أقول: الفصل هو الجزء المميز للشئ عما يشاركه في الجنس على ما تقدم



(1) قوله فهي هيئة أما في السواد أي عرض فيه بأن يكون السواد كالجسم موضوعا لنفس
اللونية فيلزم ذلك إمكان أن يوجد السواد من دون اللونية كما يمكن أن يوجد الجسم من
دون السواد.
(2) قوله أو في محله أي في محل السواد بأن يكون السواد واللونية حالين في ذلك المحل.
90
فإذا لم - يكن للشئ جنس لم يكن له فصل هذا هو التحقيق في هذا المقام وقد
ذهب قوم غير محققين إلى أن الفصل هو المميز في الوجود وجوزوا تركيب الشئ
من أمرين متساويين كالجنس العالي والفصل الأخير وكل من الأمرين ليس جنسا
فيكون فصلا يتميز به المركب عما يشاركه في الوجود خطأ لأن الأشياء
المختلفة لا تفتقر في تمايزها عما يشاركها في الوجود وغيره من العوارض إلى أمر
مغاير لذواتها فإن كل واحد من الجزئين المتساويين كما يتمايز بنفسه عما يشاركه في
الوجود كذلك المركب منهما ولو افتقر كل مشارك في الوجود أو في غيره من
الأعراض إلى فصل للزم التسلسل ولو جعل كل منهما فصلا للمركب ولم يكن
المركب فصلا لكل منهما لتساوت (1) نسبته ونسبتهما إلى الوجود؟.
قال: وكل فصل تام فهو واحد.
أقول: الفصل منه ما هو تام وهو كمال الجزء المميز ومنه غير تام وهو المميز
الذاتي مطلقا والأول لا يكون إلا واحدا لأنه لو تعدد لزم امتياز المركب بكل
واحد منهما فيستغني عن الآخر في التميز فلا يكون فصلا ولأن الفصل علة للحصة
فيلزم تعدد العلل على المعلول الواحد وهو محال أما الفصل الناقص وهو جزء
الفصل فإنه يكون متعددا.
قال: ولا يمكن وجود جنسين في مرتبة واحدة لماهية واحدة.
أقول: الجنس للماهية قد يكون واحدا كالجسم الذي له جنس واحد هو
الجوهر وقد يكون كثيرا كالحيوان الذي له أجناس كثيرة لكن هذه الكثرة
لا يمكن أن تكون في مرتبة واحدة بل يجب أن تكون مترتبة في العموم



(1) قوله لتساوت: في العبارة سقط من قلم الناسخ وعبارة الصحيح هذا، ولو جعل كل
واحد منهما فصلا ولم يكن المركب فصلا لكل منهما لزم الترجيح من غير مرجح لمساواة نسبته
ونسبتهما إلى الوجود.
91
والخصوص فلا يمكن وجود جنستين في مرتبة واحدة لنوع واحد لأن فصلهما
إن كان واحدا كان جعل الجنسين جعلا واحدا وهو محال وإن تغاير لم يكن
النوع نوعا واحدا بل نوعين هذا خلف (1).
قال: ولا تركيب عقلي بينهما.
أقول: التركيب قد يكون عقليا وقد يكون خارجيا كتركيب العشرة
من الآحاد والتركيب العقلي لا يكون إلا من الجنس والفصل لأن الجزء إما
أن يكون مختصا بالمركب أو مشتركا والأول هو الفصل القريب والثاني إما
أن يكون تمام المشترك أو جزءا منه والأول هو الجنس القريب والثاني إما أن
يكون مساويا له أو أعم منه والأول يلزم منه أن يكون فصلا للجنس القريب فيكون
فصلا مطلقا وهو المطلوب والثاني إما أن يكون تمام المشترك بين تمام المشترك
وما لا يصدق عليه تمام المشترك أولا يكون والأول جنس والثاني (2) فصل
جنس وإلا لزم التسلسل وهو محال فقد ثبت أن كل جزء محمول إما أن يكون
جنسا أو فصلا وهو المطلوب.
قال: ويجب تناهيهما.
أقول: الجنس والفصل قد يترتبان في العموم والخصوص كالحيوانية والجسمية
وقد لا يترتبان والمترتبة يجب تناهيها في الطرفين لأنه لولا تناهي الأجناس لم



(1) تقرير الدليل أنه لو كان لنوع واحد جنسان في مرتبة واحدة فإما أن يكون لهما جميعا
فصل واحد أو يكون لكل منهما فصل فيتحقق حينئذ نوعان فلم يكن الجنسان لنوع واحد
بل لنوعين وهذا خلف وعلى الأول فأما أن يتحصل (الخ).
(2) أي الأعم من الجنس القريب الذي لا يكون تمام المشترك له يكون فصلا لجنس ذلك
الجنس القريب كالناس الذي هو فصل للجسم النامي الذي هو جنس للحيوان الذي هو جنس قريب
للإنسان فإنه أعم من الحيوان وليس بتمام المشترك له.
92
تتناه الفصول التي هي العلل فيلزم وجود علل ومعلولات لا نهاية لها وهو محال.
قال: وقد يكون منهما عقلي وطبيعي ومنطقي كجنسهما (1).
أقول: يعني إن من الأجناس ما هو عقلي وهو الحيوانية مع قيد الجنسية
ومنها ما هو طبيعي وهو الحيوانية من حيث هي هي لا باعتبار الجنسية ولا
باعتبار عدمها ومنها ما هو منطقي وهي الجنسية العارضة للحيوانية وهذه
الثلاثة أيضا قد تحصل في الفصل وذلك كما أن جنسهما (2) أعني جنس الجنس
وجنس الفصل وهو الكلي من حيث هو كلي قد انقسم إلى هذه الثلاثة كذلك هذان
أعني الجنس والفصل ينقسمان إليها.
قال: ومنهما عوال وسوافل ومتوسطات.
أقول: الجنس قد يكون عاليا وهو الجنس الذي ليس فوقه جنس آخر
كالجوهر ويسمى جنس الأجناس وقد يكون سافلا وهو الجنس الأخير الذي
لا جنس تحته كالحيوان وقد يكون متوسطا وهو الذي فوقه جنس وتحته
جنس كالجسم والفصل أيضا قد يكون عاليا وهو فصل الجنس العالي (3) وقد
يكون سافلا وهو فصل النوع السافل وقد يكون متوسطا وهو فصل الجنس
السافل والمتوسط.
قال: ومن الجنس ما هو مفرد وهو الذي لا جنس فوقه ولا تحته وهما
إضافيان وقد يجتمعان مع التقابل.



(1) فلو قلت الحيوان جنس كان الموضوع فقط جنسا طبيعيا والمحمول فقد مع قطع النظر
عن الموضوع جنسا منطقيا والمجموع جنسا عقليا ولو قلت الناطق فصل.
(2) أي أن جنسهما أي الكلي الصادق على الجنس والفصل صدق الجنس على فرديه قد انقسم
إلى هذه الثلاثة مثلا مفهوم الكلي يسمى كليا إلى آخره.
(3) أي فصل يقسم الجنس العالي كالقابل للأبعاد الثلاثة المقسم للجوهر إلى الجسم وغير
الجسم فإنه فصل عال ليس فوقه فصل.
93
أقول: من أقسام الجنس المفرد وهو الذي لا جنس له فوقه ولا تحته
ويذكر في مثاله العقل بشرط أن لا يكون الجوهر جنسا وأن يكون صدقه
على أفراده صدق الجنس على أنواعه إذا عرفت هذا فالجنس والفصل إضافيان
وكذا باقي المقولات الخمس أعني النوع والخاصة والعرض العام فإن الجنس ليس
جنسا لكل شئ بل لنوعه وكذا الفصل وسائرها وقد يجتمع الجنس والفصل في
شئ واحد مع تقابلهما لأن الجنس مشترك والفصل خاص وذلك كالإدراك (1)
الذي هو جنس للسمع والبصر وباقي الحواس وفصل للحيوان بل قد تجتمع
الخمس في شئ واحد لا باعتبار واحد لتقابلها فإن الجنس لشئ يستحيل أن
يكون فصلا لذلك الشئ أو نوعا له أو خاصة أو عرضا عاما بالقياس إليه.
قال: ولا يمكن أخذ الجنس بالنسبة إلى الفصل.
أقول: لا يمكن أن يؤخذ الجنس بالنسبة إلى الفصل فيكون الجنس جنسا
له كما هو جنس للنوع وإلا لم يكن فصلا لاحتياجه إلى ما يفصله عن غيره فالوجه
الذي به احتاج النوع إليه هو بعينه محتاج إلى آخر فليس الجنس جنسا للفصل
بل عرضا عاما بالنسبة إليه وإنما هو جنس باعتبار النوع.
قال: وإذا نسبا إلى ما يضافان إليه أعني النوع كان الجنس أعم
والفصل مساويا.
أقول: إذا نسب الجنس والفصل إلى ما يضافان إليه أعني النوع كان
الجنس أعم من المضاف إليه أعني النوع لوجوب شركة الكثيرين المختلفين في
الحقائق في الجنس دون النوع وأما الفصل فإنه يكون مساويا للنوع الذي
يضاف الفصل إليه بأنه فصل ولا يجوز أن يكون أعم من النوع لاستحالة استفادة
التميز من الأعم.



(1) فإنه فصل للحيوان وجنس للسميع والبصير
94
المسألة الخامسة: في التشخص
قال: والتشخص من الأمور الاعتبارية فإذا نظر إليه من حيث هو أمر
عقلي وجد مشاركا لغيره من التشخصات فيه ولا يتسلسل بل ينقطع
بانقطاع الاعتبار.
أقول: التشخص من ثواني المعقولات ومن الأمور الاعتبارية لا من العينية
وإلا لزم التسلسل ثم إذا نظر إليه من حيث هو أمر عقلي كان مشاركا لغيره من
التشخصات في التشخص ولا يتسلسل ذلك بل ينقطع بانقطاع الاعتبار وهذا
كأنه جواب عن سؤال مقدر وهو أن التشخص ليس من الأمور العينية وإلا لزم
التسلسل لأن أفراد التشخصات قد اشتركت في مطلق التشخص فيحتاج إلى
تشخص آخر مغاير لما وقع به الاشتراك ولا يجوز أن يكون عدميا لإفادته الامتياز
ولأنه يلزم أن تكون الماهية المتشخصة عدمية لعدم أحد جزئيها والجواب أنه
أمر اعتيادي عقلي ينقطع بانقطاع الاعتبار.
قال: أما ما به التشخص فقد يكون نفس الماهية فلا يتكثر وقد يستند
إلى المادة المتشخصة بالأعراض الخاصة الحالة فيها.
أقول: لما حقق أن التشخص من الأمور الاعتبارية لا العينية شرع في
البحث عن علة التشخص واعلم أنه قد يكون نفس الماهية المتشخصة وقد يكون
غيره (أما الأول) فلا يمكن أن يتكثر نوعه في الخارج فلا يوجد منه البتة إلا
شخص واحد لأن الماهية علة لذلك التشخص فلو وجدت مع غيره انفكت
العلة عن المعلول هذا خلف (وأما الثاني) فلا بد له من مادة قابلة للتكثر
وتلك المادة متشخصة بانضمام أعراض خاصة إليها تحل فيها مثل الكم المعين
والكيف المعين والوضع المعين وباعتبار تشخص تلك المادة تشخص هذه الماهية
الحالة فيها.

95
قال: ولا يحصل التشخص بانضمام كلي عقلي إلى مثله.
أقول: إذا قيد الكلي العقلي بالكلي العقلي لا يحصل الجزئية فإنا إذا قلنا
لزيد أنه إنسان ففيه شركة فإذا قلنا العالم الزاهد ابن فلان الذي تكلم يوم كذا
في موضع كذا لم يزل احتمال الشركة فلا يكون جزئيا وإنما قيدنا بالعقلي لأنه
ليس في الخارج شركة ولا كلية.
قال: والتميز يغاير التشخص ويجوز امتياز كل من الشيئين
بالآخر.
أقول: التشخص للشئ إنما هو في نفسه وامتيازه إنما هو له باعتبار القياس
إلى ما يشاركه في معنى كلي بحيث لو لم يشاركه غيره لما احتاج إلى مميز زائد
على حقيقته مع أنه متشخص فالتميز والتشخص متغايران ويجوز أن يمتاز كل
واحد من الشيئين بصاحبه لا بامتيازه فلا دور.
قال: والمتشخص قد لا يعتبر مشاركته والكلي قد يكون إضافيا فيتميز
والشخص المندرج تحت غيره متميزة.
أقول: لما ذكر أن التشخص والتميز متغايران بين هيهنا عدم العموم المطلق
بينهما وذلك لأن كل واحد منهما يصدق بدون الآخر ويصدقان معا على شئ
ثالث وكل شيئين هذا شأنهما فبينهما عموم من وجه أما صدق التشخص بدون
التمييز ففي المتشخص الذي لا تعتبر مشاركته لغيره وإن كان لا بد له من
المشاركة في نفس الأمر ولو في الأعراض العامة وأما صدق التمييز بدون التشخص
ففي الكلي إذا كان جزئيا إضافيا يندرج تحت كلي آخر فإنه يكون ممتازا عن
غيره وليس بمتشخص وأما صدقهما على شئ واحد ففي المتشخص المندرج تحت
غيره إذا اعتبر اندراجه فإنه متشخص ومتميز.

96
المسألة السادسة: في البحث عن الوحدة والكثرة
قال: والتشخص يغاير الوحدة التي هي عبارة عن عدم الانقسام.
أقول: الوحدة عبارة عن كون المعقول غير قابل للقسمة من حيث هو واحد
وهو مغاير التشخص لأن الوحدة قد تصدق على الكلي غير المتشخص وعلى الكثرة
نفسها من دون صدق التشخص عليهما.
قال: وهي تغاير الوجود لصدقه على الكثير من حيث هو كثير بخلاف
الوحدة وتساوقه.
أقول: قد ظن قوم أن الوجود والوحدة عبارتان عن شئ واحد
لصدقهما على جميع الأشياء وهو خطأ فإنه لا يلزم من الملازمة الاتحاد
ثم الدليل على تغايرهما أن الكثير من حيث إنه كثير يصدق عليه أنه
موجود وليس بواحد فالموجود غير الواحد من الشكل الثالث نعم الوحدة
تساوق الوجود وتلازمه وكل موجود فهو واحد والكثرة يصدق عليها
الواحد لا من حيث هي كثرة على معنى أن الوحدة تصدق على العارض
أعني الكثرة لا على ما عرضت له الكثرة وكذلك كل واحد فهو موجود إما في
الأعيان أو في الأذهان فهما متلازمان.
المسألة السابعة في أن الوحدة غنية عن التعريف
قال: ولا يمكن تعريفها إلا باعتبار اللفظ.
أقول: الوحدة والكثرة من المتصورات البديهية فلا يحتاج في تصورهما إلى
اكتساب فلا يمكن تعريفهما إلا باعتبار اللفظ بمعنى أن تبدل لفظا بلفظ آخر
أوضح منه لا أنه تعريف معنوي.
قال: وهي والكثرة عند العقل والخيال يستويان في كون كل منهما أعرف
من صاحبه بالاقتسام.

97
أقول: الوحدة والكثرة عند العقل والخيال يستويان في كون كل منهما
أعرف من صاحبه بالاقتسام فإن الوحدة أعرف عند العقل والكثرة أعرف
عند الخيال لأن الخيال يدرك الكثرة أولا ثم العقل ينتزع منها أمرا واحدا
والعقل يدرك أعم الأمور أولا وهو الواحد ثم يأخذ بعد ذلك في التفصيل فقد
ظهر أن الكثرة والوحدة متساويان في كون كل واحدة منهما أعرف من
صاحبتها لكن بالاقتسام فإن الكثرة أعرف عند الخيال والوحدة أعرف عند
العقل فقد اقتسم العقل والخيال وصف الأعرفية لهما فإذا حاولنا تعريف
الوحدة عند الخيال عرفناها بالكثرة وإذا حاولنا تعريف الكثرة عند العقل
عرفناها بالوحدة.
المسألة الثامنة
في أن الوحدة ليست ثابتة في الأعيان
قال: وليست الوحدة أمرا عينا بل هي من ثواني المعقولات وكذا
الكثرة.
أقول: الوحدة إن كانت سلبية لم تكن سلبا لأي شئ كان بل سلب مقابلها
أعني الكثرة فالكثرة إن كانت عدمية كانت الوحدة عدما للعدم فتكون
ثبوتية وإن كانت وجودية كان مجموع العدمات أمرا وجوديا وهو محال وإن
كانت ثبوتية فإن كانت ثابتة في الخارج لزم التسلسل وإن كانت ثابتة في الذهن
فهو المطلوب فإذن الوحدة أمر عقلي اعتباري تحصل في العقل عند فرض عدم
انقسام الملحوق وهي من المعقولات الثانية العارضة للمعقولات الأولى وكذا
الكثرة لأنه لا يمكن أن يتصور وحدة أو كثرة قائمة بنفسها بل إنما تتصور
عارضة لغيرها.

98
المسألة التاسعة: في التقابل بين الوحدة والكثرة
قال: وتقابلهما لإضافة العلية والمعلولية والمكيالية والمكيلية لا لتقابل
جوهري بينهما.
أقول: إن الوحدة وإن كانت تعرض لجميع الأشياء حتى الكثرة نفسها لكنها
لا تجامع الكثرة في موضوع واحد بالقياس إلى شئ واحد لأن موضوع الكثرة
من حيث صدق الكثرة عليه لا يمكن صدق الوحدة عليه فبينهما تقابل قطعا.
فإذا عرفت هذا فنقول إنك ستعلم أن أصناف التقابل أربعة إما تقابل السلب
والإيجاب أو العدم والملكة أو التضايف أو التضاد وليس بين الكثرة والوحدة
تقابل جوهري أي ذاتي يستند إلى ذاتيهما بوجه من الوجوه الأربعة لأن
الوحدة مقومة للكثرة ومبدء لها وهما ثبوتيان فليستا بسلب وإيجاب ولا عدم
وملكة ولا متضايفتين لأن المقوم متقدم والمضايف مصاحب ولا متضادتين
لامتناع تقوم أحد الضدين بالآخر فلم يبق بينهما إلا تقابل عرضي وهو باعتبار
عروض العلية والمعلولية والمكيالية والمكيلية العارضتين لهما فإن الوحدة علة
للكثرة ومكيال لها والكثرة معلولة ومكيلة فبينهما هذا النوع من التضايف
فكان التقابل عرضيا لا ذاتيا.
المسألة العاشرة: في أقسام الوحدة
قال: ثم معروضهما قد يكون واحدا فله (1) جهتان بالضرورة فجهة



(1) بمعنى أن الوحدة والكثرة كليهما عرضا على موضوع واحد فيصدق أنه واحد وأنه
كثير فله أي لهذا المعروض جهتان بالضرورة فهو كثير باعتبار وواحد باعتبار آخر لامتناع أن
يكون الشئ الواحد بجهة واحدة واحدا وكثيرا وذلك كالإنسان فإنه واحد بالنظر إلى ذاته
كثير بالنظر إلى أفراده.
99
الوحدة إن لم تقوم جهة الكثرة ولم تعرض لها فالوحدة عرضية وإن عرضت (1)
كانت موضوعات أو محمولات عارضة لموضوع واحد أو بالعكس وإن قومت
فوحدة جنسية أو نوعية أو فصلية وقد يتغاير فموضوع مجرد عدم الانقسام
لا غير وحدة شخصية بقول مطلق والانقطة؟ إن كان له مفهوم زائد ذو وضع
أو مفارق إن لم يكن ذا وضع هذا إن لم يقبل القسمة وإلا فهو مقدار أو جسم
بسيط أو مركب.
أقول: قد قدمنا أن الوحدة والكثر من المعقولات الثانية العارضة
للمعقولات الأولى إذا عرفت هذا فموضوعهما أعني المعروض إما أن يكون واحدا
أو كثيرا فإن كان واحدا كانت جهة وحدته غير جهة كثرته بالضرورة
لاستحالة كون الشئ الواحد بالاعتبار الواحد واحدا وكثيرا وإذا ثبت أنه
ذو جهتين فأما أن تكون جهة الوحدة مقومة لجهة الكثرة أو لا فإن لم تكن
مقومة فأما أن تكون عارضة لها أو لا فإن لم تكن عارضة فهي الوحدة بالعرض
كما تقول نسبة الملك إلى المدينة كنسبة الربان إلى السفينة وكذلك حال النفس
إلى البدن كحال الملك إلى المدينة فإنه ليس هناك نسبة واحدة ولا حالة واحدة
بل هما نسبتان وحالتان فالوحدة فيهما عرضية وإن كانت الوحدة عارضة
للكثرة فأقسامه ثلاثة: (أحدها) أن يكون موضوعا كما تقول الإنسان
هو الكاتب (2) فإن جهة الوحدة هنا هي الإنسانية وهي موضوع (الثاني)
أن يكون محمولات عرضت لموضوع واحد كقولنا الكاتب هو الضاحك فإن
جهة الوحدة ما هو موضوع لهما أعني الإنسان (الثالث) أن تكون موضوعات



(1) قوله وإن عرضت أي جهة الوحدة على جهة الكثرة بمعنى أن جهة الوحدة خارجة عن
الكثرة ولكن محمولة عليها حقيقة وتسمى الواحد بالعرض مقابل الواحد بالجوهر كانت جهة
الكثرة موضوعات لقولنا القطن والعاج والثلج أبيض.
(2) الكاتب ضاحك فإنهما كثير من حيث الذات واحد من حيث إنهما إنسان
100
لمحمول واحد كقولنا القطن هو الثلج فإن جهة الوحدة هي صفة لهما أعني
البياض وأما أن كانت جهة الوحدة مقومة لجهة الكثرة فهي جنس إن كانت
مقولة على كثرة مختلفة بالحقائق في جواب ما هو ونوع إن كانت الحقائق متفقة
وفصل إن كانت مقولة في جواب أي ما هو في جوهره وإن كان موضوعهما
كثيرا أعني يكون موضوع الوحدة شخصا واحدا فأما أن يكون ذلك الموضوع
هو موضوع مجرد عدم الانقسام لا غير أعني أن يكون وجود ذلك الشخص هو
أنه شئ غير منقسم وليس له مفهوم وراء ذلك وهو الوحدة نفسها أو يكون
له مفهوم آخر فإن كان ذا وضع فهو النقطة وإلا فهو العقل والنفس هذا إن لم
يقبل القسمة وإن كان الموضوع للوحدة قابلا للقسمة فإما أن تكون أجزاؤه
متساوية لكله أو لا والأول هو المقدار إن كان قبوله للانقسام لذاته وإلا فهو
الجسم البسيط والثاني الأجسام المركبة.
قال: وبعض هذه أولى من بعض بالوحدة.
أقول: الواحد من المعاني المقول على ما تحته بالتشكيك فإن بعض أفراده
أولى به من بعض باسمه فإن الوحدة الحقيقية أولى بالواحد من العرضية والواحد
بالشخص أولى به من الواحد بالنوع وهو أولى به من الواحد بالجنس والوحدة
من أقسام الواحد أولى به من غيرها وهذا ظاهر.
قال: والهو هو على هذا النحو (1).
أقول: الهو هو أن يكون للكثير من وجه وحدة من وجه فقياس الهو هو
قياس الوحدة فكما يقال الوحدة إما في وصف عرضي أو ذاتي كذلك الهو هو
وبالجملة أقسام الوحدة هي أقسام الهو هو لكن مع الكثرة فلا تعرض للشخص
الواحد بخلاف الوحدة.



(1) والمراد به الحمل الإيجابي على ستة أقسام للوحدة المجتمعة مع الكثرة آتية في الهو هو
إذ للحمل جهة اتحاد وجهة تعدد وجهة الاتحاد إما بالعرض أو عارضة أو حقيقية.
101
قال: والوحدة في الوصف العرضي والذاتي تتغاير أسماؤها بتغاير
المضاف إليه.
أقول: فإن الوصف العرضي وهو المضاف إليه الوحدة إن كان كيفما سمي
مشابهة وإن كان في الكم سمي مساواة وإن كان في الإضافة سمي مناسبة وإن
كان في الخاصة سمي مشاكلة وإن كان في اتحاد الأطراف سمي مطابقة وإن كان
في اتحاد وضع الأجزاء سمي موازاة وباقي الأعراض ليس لها أسماء خاصة وأما
الوصف الذاتي الذي تضاف إليه الوحدة أيضا إن كان في الجنس سمي مجانسة
وإن كان في النوع سمي مماثلة.
قال: والاتحاد محال فالهو هو يستدعي جهتي تغاير واتحاد على ما سلف.
أقول: اتحاد الاثنين غير معقول لأنهما بعد الاتحاد أن بقيا فهما اثنان وإن
عدما فلا اتحاد وإن عدم أحدهما دون الآخر فلا اتحاد لاستحالة اتحاد المعدوم
بالموجود وليس قولنا هو هو اتحادا مطلقا بل معناه إن الشيئين يتحدان من وجه
ويتغايران من وجه بمعنى أن الشئ الذي يقال له أحدهما يقال له الآخر.
قال: والوحدة ليست بعدد بل هي مبدأ للعدد المتقوم بها لا غير.
أقول: هنا بحثان الأول أن الوحدة مبدأ العدد فإن العدد إنما يحصل منها
ومن فرض غيرها من نوعها فإنك إذا عقلت وحدة مع وحدة عقلت اثنينية ولهذا
نبه أيضا على أنها ليست عددا (الثاني) أن العدد إنما يتقوم بالوحدات لا غير
فليست العشرة متقومة بخمسة وخمسة ولا بستة وأربعة ولا بسبعة وثلاثة ولا
بثمانية واثنين بل بالواحد عشر مرات وكذلك كل عدد فإن قوامه من الوحدات
التي تبلغ جملتها ذلك النوع ويكون كل واحدة من تلك الوحدات جزءا من
ماهيته فإنه ليس تركب العشرة من الخمستين أولى من تركبها من الستة والأربعة
وغيرها من أنواع الأعداد التي تحتها ولا يمكن أن يكون الكل مقوما لحصول

102
الاكتفاء بنوع واحد من التركيب وإلى هذا أشار أرسطو بقوله لا تحسبن أن ستة
ثلاثتان بل ستة مرة واحدة.
قال: وإذا أضيف إليها مثلها حصلت الاثنينية وهي نوع من العدد ثم
تحصل أنواع لا تتناهى بتزايد واحد واحد مختلفة الحقائق هي أنواع العدد.
أقول: إذا أضيف إلى الوحدة وحدة أخرى حصلت الاثنينية وهي نوع
من العدد وقد ذهب قوم غير محققين إلى أن الاثنين ليس من العدد لأنه الزوج
الأول ولا يكون نوعا من العدد كالواحد الذي هو الفرد الأول وهذا خطأ لأن
خواص العدد موجودة فيه وتمثيله بالواحد لا يفيد اليقين ولا الظن فإذا انضم
إليهما واحد آخر حصلت الثلاثة وهي نوع آخر من العدد فإذا انضم إليها آخر
حصلت الأربعة وهي نوع آخر مخالف للأول وعلى هذا كلما زاد العدد واحدا
حصل نوع آخر من العدد وهذه الأعداد أنواع مختلفة في الحقيقة لاختلافها في
لوازمها كالصم والمنطقية وأشباههما ولما كان التزايد غير متناه بل كل مرتبة
يفرضها العقل يمكنه أن يزيد عليها واحدا فيحصل عدد آخر مخالف لما تقدم
به بالنوع كانت أنواع العدد غير متناهية.
قال: وكل واحد منها أمر اعتباري يحكم به العقل على الحقائق إذا انضم
بعضها إلى بعض في العقل انضماما بحسبه.
أقول: كل واحد من أنواع العدد أمر اعتباري ليس بثابت في الأعيان بل
في الأذهان يحكم به العقل على الحقايق كأفراد الإنسان أو الفرس أو الحجر
أو غيرها إذا انضم بعض تلك الأفراد إلى البعض سواء اتحدت في الماهية
أو اختلفت فيها بل يؤخذ مجرد الانضمام في العقل انضماما بحسب ذلك النوع
من العدد فإنه إذا انضم واحد إلى واحد حصل اثنان ولو انضمت حقيقة مع
حقيقة مع ثالثة حصلت الثلاثة وهكذا وإنما لم يكن العدد ثابتا في الخارج لأنه

103
لو كان كذلك لكان عرضا قائما بالمحل لاستحالة جوهريته واستقلاله في القيام
بنفسه لأنه لا يعقل إلا عارضا لغيره فذلك الغير إما أن تكون له وحدة باعتبارها
يحل فيه العرض الواحد (1) أو لا يكون فإن كان الأول فتلك الوحدة إن
وجدت في الآحاد لزم قيام العرض الواحد بالحال المتعددة وإن قام بكل واحد
وحدة على حدة لم - يكن لذلك المجموع وحدة باعتبارها يكون محلا للعدد وقد
فرض خلافه وإن كان الثاني فالعدد إما أن يكون موجودا في كل واحد من
الأجزاء أو في أحدها وعلى التقديرين يكون الواحد عددا هذا خلف.
قال: والوحدة قد تعرض لذاتها ومقابلها وتنقطع بانقطاع الاعتبار.
أقول: قد بينا أن الوحدة والكثرة من ثواني المعقولات فالوحدة تعرض
لكل شئ يفرض العقل فيه عدم الانقسام حتى أنها تعرض لنفس الوحدة فيقال
وحدة واحدة لكن تنقطع بانقطاع الاعتبار وتعرض الوحدة أيضا لمقابلها
فيقال كثرة واحدة.
قال: وقد تعرض لها شركة فيتخصص (2) بالمشهوري وكذا المقابل.
أقول: الذي يفهم من هذا الكلام أن الوحدة قد تعرض لها الشركة مع
غيرها من الوحدات في مفهوم عدم الانقسام أعني مفهوم مطلق الوحدة وذلك إذا
أخذت الوحدات متخصصة بموضوعاتها فإن وحدة زيد تشارك وحدة عمرو في
مفهوم كونها وحدة وحينئذ يتخصص كل وحدة عن الأخرى بما تضاف إليه فإن
وحدة زيد تتخصص عن وحدة عمرو بإضافتها إلى زيد وزيد هو المضاف



(1) كالاثنينية أو الأربعية.
(2) فإن وحدة زيد تشارك وحدة عمرو في مطلق الوحدة كما أن بياض زيد يشارك بياض
عمرو في البياضية المطلقة فتخصص أي تميز وحدة عمرو عن وحدة زيد بالمشهوري بمضاف إليه
الوحدة فوحدة زيد تمتاز عن وحدة عمرو بإضافة الأولى إلى زيد والثانية إلى عمرو وزيد وعمر ومضافان
مشهوران والمضاف إليه الحقيقي هو نفس الإضافة كما أن الأبيض الحقيقي هو نفس البياض.
104
المشهوري لأنه واحد بالوحدة والوحدة مضاف حقيقي (1) فإن الوحدة وحدة
للواحد والواحد واحد بالوحدة وذات الواحد مضاف مشهوري أعني ذات
زيد وعمرو وغيرهما فإذا أخذت الوحدة مضافة إلى زيد تخصصت وامتازت عن
وحدة عمرو وكذلك مقابل الوحدة (2) أعني الكثرة فإن عشرية الأناسي مساوية
لعشرية الأفراس في مفهوم العشرية والكثرة وإنما يتمايزان بالمضاف إليه أعني
الأناسي والأفراس وهما المضافان المشهوريان وقد يمكن أن يفهم من هذا الكلام
أن مجرد الوحدة أعني نفس عدم الانقسام أمر مشترك (3) بين كل ما يطلق عليه
الواحد فليس واحدا حقيقيا أما الذات (4) التي يصدق عليها أنها واحدة فإنها
ممتازة عن غيرها فهي أحق باسم الواحد فيخصص المشهوري بالواحد الحقيقي
وكذا البحث في الكثرة والأول أنسب.
قال: وتضاف إلى موضوعها (5) باعتبارين وإلى مقابلها بثالث وكذا
المقابل.



(1) بالقياس إلى معروضها.
(2) أي للوحدة أي الكثرة فإن كثرة هذا الجند مشاركة لكثرة ذاك الجند في أصل الكثرة
وامتياز الأولى عن الثانية بإضافة الأولى إلى الثانية إلى ذاك الجند.
(3) أمر كلي محمول على كل ما يكون مصداقا للواحد.
(4) أما ذات الوحدة وحقيقتها التي ينتزع منها مفهوم الوحدة الكلية ويحمل عليها فهي أحق من
سائر الموضوعات باسم الواحد وبأن يحمل عليها ذلك المفهوم لأنها واحدة بالذات ويميزها واحد
بها كالوجود الخاص الذي موجود بالذات وغيره موجود به.
(5) قوله وتضاف أي الوحدة إلى موضوعها الذي أضيفت إليها باعتبارين أحدهما من حيث
أنها مضافة إليه وثانيهما من حيث إنها حالة فيه وتضاف الوحدة إلى مقابلها بثالث أي باعتبار
ثالث اثنتان بالنظر إلى موضوعها وواحدة بالنظر إلى الكثرة فوحدة زيد مثلا مضافة إلى زيد
وحالة فيه ومقابلة للكثرة.
105
أقول: أقرب ما يمكن أن يفسر به هذا الكلام أن الوحدة وحدة للواحد
أعني الموضوع لها الذي تقوم الوحدة به فلها إضافة بهذا الاعتبار وهي عرض
قائم بالموضع قلها إضافة الحلول وهاتان إضافتان عرضتا لها بالنسبة إلى
موضوعها وتعرض لها إضافة ثالثة بالنسبة إلى ما يقابلها أعني الكثرة وهي نسبة
التقابل ومثل هذه النسب الثلاث تعرض لمقابل الوحدة أعني الكثرة.
المسألة الحادية عشرة:
في البحث عن التقابل
قال: ويعرض له ما يستحيل عروضه لها من التقابل.
أقول: يعني به أن المقابل للوحدة أعني الكثرة يعرض له ما يستحيل عروضه
للوحدة وهو التقابل فإن لا يمكن أن يعرض للواحد وإنما يعرض للكثير من
حيث هو كثير ومفهوم التقابل هو عدم الاجتماع في شئ واحد في زمان واحد
من جهة واحدة.
قال المتنوع إلى أنواعه الأربعة أعني تقابل السلب والإيجاب وهو راجع
إلى القول والعقد والعدم والملكة وهو الأول مأخوذا باعتبار خصوصية
ما وتقابل الضدين وهما وجوديان ويتعاكس هو وما قبله في التحقق
والمشهورية وتقابل التضايف.
أقول: ذكر الحكماء أن أصناف التقابل أربعة وذلك أن المتقابلين إما أن
يكون أحدهما وجوديا والآخر عدميا أو يكونا وجوديين ولا يمكن أن يكونا
عدميين لعدم التقابل بين الأمور العدمية إذ السلب المطلق إنما يقابله إيجاب إما
مطلق أو خاص ولا يقابله سلب مطلق لأنه نفسه ولا سلب خاص لأنه جزئي

106
تحته والسلب الخاص إنما يقابله إيجاب خاص لا سلب مطلق لأنه جزئي له ولا سلب
خاص لأن مقابليهما إن لم يتقابلا (1) فظاهر أنهما لا يتقابلان وكذلك أن تقابلا
لصدقهما معا على غير المتقابلين وهذا كله ظاهر.
إذا ثبت هذا فنقول المتقابلان إما أن يؤخذا باعتبار القول والعقد أو بحسب
الحقائق أنفسها والأول هو تقابل السلب والإيجاب كقولنا زيد كاتب وزيد ليس
بكاتب (والثاني) إما أن يكون أحدهما عدميا أو يكونا وجوديين والأول
هو تقابل العدم والملكة وهو يقارب تقابل السلب والإيجاب لكن الفرق بينهما
أن السلب والإيجاب في الأول مأخوذ باعتبار مطلق والثاني مأخوذ باعتبار
شئ واحد واعلم أن الملكة هو وجود الشئ في نفسه والعدم هو انتفاء تلك
الملكة عن شئ من شأنه أن يكون له كالعصمى والبصران كانا وجوديين فإن عقل
أحدهما بالقياس إلى الآخر فهو تقابل التضايف كالأبوة والبنوة وإلا فهو تقابل
التضاد كالسواد والبياض واعلم أن تقابل التضاد يعاكس تقابل العدم والملكة في
التحقيق والمشهورية وذلك لأن الضدين في المشهور يطلقان على كل وجوديين
متقابلين لا يعقل أحدهما بالقياس إلى الآخر وفي التحقيق على أخص من ذلك
وهو أن يقيد ما ذكر بأن يكون بينهما غاية التباعد فالسواد والحمرة ضدان بالمعنى
الأول لا الثاني وأما تقابل العدم والملكة فيطلق العدم فيه بحسب التحقيق على
عدم شئ عن شئ وبحسب الشهرة على معنى أخص من ذلك وهو أن يقيد
الشئ بأن يكون نوعا أو جنسا قريبا أو بعيدا على اختلاف التفسير فيقال هو
عدم شئ عما من شأنه أن يكون له بحسب نوعه أو جنسه القريب فعدم البصر



(1) يعني لأن مقابلي السلبين الخاصين وهما الإيجابان الخاصان إن لم يتقابلا كحلاوة السكر
وبياضه فظاهران السلبين لا يتقابلان لاجتماعهما في غير ذلك الموضوع كالخبث فإنه ليس فيه
حلاوة السكر ولا بياضه فاجتمع فيه السلبان وإن تقابلا الإيجابان الخاصان كحلاوة التفاح
وحموضته فكذلك أيضا يصدق سلبيهما وتحققهما في كل موضع لم يكن فيه ذانك المتقابلان أي
الحلاوة والحموضة الخاصتان كالماء.
107
عن الحايط عدم ملكة بحسب المعنى الأول وسلب بالمعنى الثاني فقد ظهر أن
تقابل الضدين بحسب التحقيق أخص منه بحسب الشهرة وتقابل العدم والملكة
بالعكس (1).
قال: ويندرج تحته (2) الجنس باعتبار عارض.
أقول: لما بين انقسام التقابل إلى الأنواع الأربعة حتى صار كالجنس لها ذكر
أن مطلق التقابل يندرج تحت أحد أنواعه أعني التضايف فإن التقابل من حيث
هو تقابل نوع من التضايف وذلك لأن المقابل لا يعقل إلا مقيسا إلى غيره لكن
باعتبار عروض التقابل فإن المقابل لا من هذه الحيثية قد لا يكون مضايفا فإن
ذات السواد وذات البياض لا باعتبار التقابل ليسا من المتضايفين فإذا أخذ السواد
مقابلا للبياض كان نوعا من المضاف المشهوري فقد ظهر أن الجنس أعني المقابل من حيث
هو مقابل يندرج تحت التضايف (3) باعتبار عروض التقابل ولا استبعاد في أن يكون



(1) أي تقابل السلب والإيجاب.
(2) قوله ويندرج تحته أي تحت التضايف وغيره باعتبار عارض فإن مفهوم التقابل من حيث
هو هو فرد من أفراد التضايف إذ لا يتصور الأبوة إلا عند تصور البنوة وأما من حيث المصداق
فالتضايف أخص إذ هو مختص بمثل الأب والابن ونحوهما والتقابل يشمل الأبيض والأسود
والعمى والبصر.
(3) أي ثبوت الضدين يسلب الضد الآخر لأن ثبوت الضد لا يتحقق من دون سلب الآخر
وأما سلب الآخر فيتحقق من دون ثبوت الضد بأن يكون موضوع خال عن الضدين فسلب الآخر
أعم من ثبوت الضد، قوله دون العكس أي لا يستلزم سلب الآخر ثبوت الضد. وحاصل الكلام
أن للخير رافعين الشر الذي هو مقابل له تقابل التضاد واللاخير الذي هو مقابل له تقابل السلب
والإيجاب والرافع الأول لا يرفع ذات الخير بل يرفع أمرا عرضيا لازما له وهو اللاشر فهو رافع
للخير بالعرض والالتزام والرافع الثاني يرفع ذات الخير فهو رافع له بالذات والمطابقة والرافع
لذات الشر أشد منافاة له من رافع لازمه فالتنافي من السلب والإيجاب أشد من التنافي في
تقابل التضاد.
108
الشئ أخص أو مساويا من نوعه باعتبار عارض يعرض له.
قال: ومقوليته عليها بالتشكيك وأشدها فيه السلب.
أقول: التقابل يقال على أصنافه الأربعة لا بالسوية بل بالتشكيك فإن
تقابل الضدين أشد في التقابل من تقابل السلب والإيجاب وذلك لأن ثبوت الضد
يستلزم سلب الآخر وهو أخص منه دون العكس فهو أشد في العناد للآخر من
سلبه وقيل إن تقابل السلب والإيجاب أشد من تقابل التضاد لأن الخير لذاته خير
وهو ذاتي وأنه ليس بشر وأنه عرضي واعتقاداته شر يرفع العرضي وأنه ليس
بخير يرفع الذاتي فيكون منافاة السلب أشد.
قال: ويقال للأول تناقض ويتحقق في القضايا بشرايط ثمانية.
أقول: تقابل السلب والإيجاب إن أخذ في المفردات كقولنا زيد لا زيد
فهو تقابل العدم والملكة وإن أخذ في القضايا سمي تناقضا كقولنا زيد كاتب
وزيد ليس بكاتب وهو إنما يتحقق في القضايا بثمانية شرائط (الأول) وحدة
الموضوع فيهما فلو قلنا زيد كاتب وعمرو ليس بكاتب لم تتناقضا وصدقتا معا
(الثاني) وحدة المحمول فلو قلنا زيد كاتب وزيد ليس بنجار لم تتناقضا وصدقتنا
معا (الثالث) وحدة الزمان فلو قلنا زيد موجود الآن وزيد ليس بموجود أمس
أمكن صدقها (الرابع) وحدة المكان فلو قلنا زيد موجود في الدار وزيد
ليس بموجود في السوق أمكن صدقهما (الخامس) وحدة الإضافة فلو قلنا زيد
أب أي لخالد وليس بأب أي لعمرو أمكن صدقهما (السادس) وحدة الكل
والجزء فلو قلنا الزنجي أسود أي بعض أجزائه والزنجي ليس بأسود أي ليس كل
أجزائه كذلك أمكن صدقهما (السابع) وحدة الشرط فلو قلنا الأسود قابض
للبصر أي بشرط السواد والأسود ليس بقابض للبصر أي لا بشرط السواد أمكن
صدقهما (الثامن) وحدة القوة والفعل فلو قلنا الخمر في الدن مسكر بالقوة والخمر

109
في الدن ليس بمسكر بالفعل لم تتناقضا وصدقتا معا.
قال: هذا في القضايا الشخصية أما المحصورة فيشترط فيها تاسع
وهو الاختلاف فيه فإن الكلية ضد الكلية والجزئيتان صادقتان.
أقول: اعلم أن القضية أما شخصية أو مسورة أو مهملة وذلك لأن الموضوع
إن كان شخصا كزيد سميت القضية شخصية وإن كان كليا يصدق على كثيرين
فأما أن يتعرض الكلية والجزئية فيه أولا والأول هو القضية المسورة كقولنا كل
إنسان حيوان وبعض الحيوان إنسان ولا شئ من الإنسان بحجر وبعض الإنسان
ليس بكاتب والثاني هو المهملة كقولنا الإنسان ضاحك وهذه في قوة الجزئية
فالبحث عن الجزئية يغنى عن البحث عنها إذا عرفت هذا فنقول هذه الشرايط
كافية في القضية الشخصية أما المحصورة فلا بد فيها من شرط تاسع وهو الاختلاف
في الكم فإن الكليتين متضادتان لا تصدقان ويمكن كذبهما كقولنا كل حيوان
إنسان ولا شئ من الحيوان بانسان والجزئيتان قد تصدقان كقولنا بعض الحيوان
إنسان وبعض الحيوان ليس بانسان أما الكلية والجزئية فلا يمكن صدقهما
البتة ولا كذبهما كقولنا كل إنسان حيوان وبعض الإنسان ليس بحيوان فهما
المتناقضان.
قال: وفي الموجهات عاشر والاختلاف في الجهة أيضا بحيث لا يمكن
اجتماعهما صدقا ولا كذبا.
أقول: لا بد في القضايا الموجهة من الاختلاف في الجهة بحيث لا يمكن
صدقهما ولا كذبهما ويعني بالجهة كيفية القضية من الضرورة والدوام والإمكان
والإطلاق فإنهما لو لم يختلفا في الجهة أمكن صدقهما أو كذبهما كالممكنتين فإنهما
تصدقان مع الشرائط التسعة كقولنا بعض الإنسان كاتب بالإمكان ولا شئ من
الإنسان بكاتب بالإمكان وكالضرورتين فإنهما تكذبان كقولنا بعض الإنسان

110
بالضرورة كاتب ولا شئ من الإنسان كاتب بالضرورة وليس مطلق الاختلاف
في الجهة كافيا في التناقض ما لم يكن اختلافا لا يمكن اجتماعهما معه فإن
الممكنة والمطلقة المتخالفتين كما وكيفا لا تتناقضان كما بين في الممكنتين أما الممكنة
والضرورية إذا اختلفا كما وكيفا فإنهما متناقضتان وكذا المطلقة والدائمة.
قال: وإذا قيد العدم بالملكة في القضايا سميت معدولة وهي تقابل
الوجودية (1) صدقا لا كذبا لإمكان عدم الموضوع فيصدق مقابلاهما.
أقول: لما ذكر حكما من أحكام التناقض شرع في بيان حكم من أحكام
تقابل العدم والملكة وهو أن العدم إذا اعتبر في القضايا سميت القضية معدولة
وهو ما يتأخر فيها حرف السلب عن الربط كقولنا زيد هو ليس بكاتب وهي
تقابل الوجودية في الصدق لامتناع صدق الكتابة وعدمها على موضوع واحد في
وقت واحد من جهة واحدة ويجوز كذبهما معا عند عدم الموضوع وإذا كذبا
حينئذ صدق مقابل كل واحد منهما فيصدق (2) مقابل الموجبة المعدولة وهي
السالبة المعدولة ومقابل الموجبة المحصلة وهي السالبة المحصلة لإمكان صدق
السلب في الطرفين عن الموضوع المنفى.
قال: وقد يستلزم الموضوع أحد الضدين بعينه أو لا بعينه وقد لا يستلزم
شيئا منهما عند الخلو أو الاتصاف بالوسط.



(1) أي الموجبة المحصلة صدقا لامتناع أن يصدق الكاتب واللاكاتب مثلا على موضوع واحد
في زمان واحد من جهة واحدة فلا يصدقان معا لا كذبا لإمكان عدم الموضوع فيكذبان معا
لاستدعاء الايجاب وجود الموضوع مثلا لو لم يكن زيد موجودا لم يصدق عليه قائم ولا لا قائم لأنه
ليس بشئ حتى يحمل عليهما.
(2) قوله فيصدق حين عدم الموضوع أي مقابل زيد قائم وزيد لا قائم وهما زيد ليس بكاتب
وزيد ليس بلا كاتب.
111
أقول: هذه أحكام التضاد وهي أربعة (الأول) أن أحد الضدين بعينه قد
يكون لازما للموضوع كسواد القار وقد لا يكون فأما أن يكون أحدهما لا بعينه
لازما كالصحة والمرض للبدن أو لا يكون فأما أن يخلو عنهما معا كالفلك الخالي
عن الحرارة والبرودة أو يتصف بالوسط كالفاتر.
قال: ولا يعقل للواحد ضدان (1).
أقول: هذا حكم ثان للتضاد وهو أنه لا يفرض بالنسبة إلى شئ واحد إلا
الواحد فلا يضاد الواحد الاثنين لأن الواحد إذا ضاد اثنين فإما بجهة واحدة أو
بجهتين فإن كان بجهة واحدة فهو المطلوب وهو أن ضد الواحد واحد هو ذلك
القدر المشترك بينهما وإن كان بجهتين كان ذلك وجوها من التضاد لا وجها
واحدا وليس البحث فيه.
قال: وهو منفى عن الأجناس (2).
أقول: هذا حكم ثالث للتضاد وهو أنه منفى عن الأجناس ولا ينتقض بالخير
والشر لأنهما ليسا جنسين ولا ضدين من حيث ذاتيهما بل تقابلهما من حيث
الكمالية والنقص.
قال: ومشروط في الأنواع باتحاد الجنس.
أقول: هذا حكم رابع للتضاد العارض للأنواع وهو اندراج تلك الأنواع تحت
جنس واحد أخير ولا ينتقض (3) بالشجاعة والتهور لأن تقابلهما من حيث
الفضلة والرذيلة العارضتان لا من حيث ذاتيهما.



(1) قال القوشجي لأن الأضداد وإن تكثرت لا يتصور غاية الخلاف إلا بين اثنين منهما.
(2) لأنه يمتنع كون جنسين في مرتبة واحدة.
(3) لأنهما ليستا جنسين لهما بل هما نوعان متنازعان كالخيرية والشرية وجنسهما هو الكيف النفساني
وهو واحد ودليل هذا الحكم أيضا الاستقراء.
112
قال: وجعل الجنس والفصل واحد.
أقول: الجنس والفصل في الخارج شئ واحد لأنه لا يعقل حيوانية مطلقة
موجودة بانفرادها انضمت إليه الناطقية وصارت إنسانا بل الحيوانية في الخارج
هي الناطقية ووجودهما واحد وهذه قاعدة قد مضى تقريرها والذي يخطر لنا
أن الغرض بذكرها هيهنا الجواب عن إشكال ورد على اشتراط دخول الضدين
تحت جنس واحد وتقريره إن كل واحد من الضدين قد اشتمل على جنس وفصل
والجنس لا يقع به التضاد لأنه واحد فيهما وإن وقع التضاد فإنما يقع بالفصول
لكن الفصول لا يجب اندراجها تحت جنس واحد وإلا لزم التسلسل فلا تضاد
حقيقي في النوعين بل في الفصلين الذين لا يجب دخولهما تحت جنس واحد وتقرير
الجواب أن الفصل والجنس واحد في الأعيان وإنما يتميزان في العقل فجعلا هما
واحد هو النوع فكان التضاد عارضا في الحقيقة للأنواع لا للفصول الاعتبارية لأن
التضاد إنما هو في الوجود لا في الأمور المتعقلة فهذا ما فهمته من هذا الكلام ولعل
غيري يفهم منه غير ذلك.
قال: الفصل الثالث في العلة والمعلول - كل شئ يصدر عنه أمر إما
بالاستقلال أو الانضمام فإنه علة لذلك الأمر والأمر معلول له.
أقول: لما فرغ من البحث عن لواحق الماهية شرع في البحث عن العلة
والمعلول لأنهما من لواحق الماهية وعوارضها وهما من الأمور العامة أيضا ونفس
اعتبار العلية والمعلولية من المعقولات الثانية ومن أنواع المضاف وفي هذا الفصل
مسائل - (الأولى) - في تعريف العلة والمعلول وهما وإن كانا من المتصورات
القطعية لكن قد يعرض اشتباه ما فذكر على سبيل التنبيه والتميز ما يزيل ذلك
الاشتباه فإذا فرضنا صدور شئ عن غيره كان الصادر معلولا والمصدور عنه

113
علة سواء كان الصدور على سبيل الاستقلال كما في العلة التامة أو على سبيل
الانضمام كجزء العلة فإن جزء العلة شئ يصدر عنه أمر آخر لكن لا على سبيل
الاستقلال فهو داخل في الحد.
المسألة الثانية: في أقسام العلة
قال: وهي فاعلية ومادية وصورية وغائية (1).
أقول: العلة هي ما يحتاج الشئ إليه وهي أما أن تكون جزءا من المعلول
أو خارجة عنه والأول أما أن تكون جزءا يحصل به الشئ بالفعل أو بالقوة
والأول الصورة والثاني المادة وإن كانت خارجية فأما أن تكون مؤثرة أو يقف
التأثير عليها فالأول فاعل والثاني غاية.
المسألة الثالثة: في أحكام العلة الفاعلية
قال: فالفاعل مبدء التأثير وعند وجوده بجميع حيات التأثير يجب
وجود المعلول.
أقول: الفاعل هو المؤثر والغاية ما لأجله الأثر والمادة والصورة جزءاه وإذا
وجد المؤثر بجميع جهات التأثير وجب وجود المعلول لأنه لو لم يجب لجاز وجود
الأثر عند وجود الجهات بأجمعها وعدمه فتخصيص وقت الوجود به إما أن
يكون لأمر زائد أو لا يكون فإن كان الأول لم يكن المؤثر المفروض أولا تاما
هذا خلف وإن كان الثاني لزم ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح
وهو محال.



(1) فالصواب أن يقال العلة ما تحتاج إليه أمر في وجود في ثم المحتاج إليه إما جزء للمحتاج
أوامر خارج عنه والأول أما أن يكون به الشئ بالفعل لهيئة سرير فهو الصورة.
114
قال: ولا يجب مقارنة العدم.
أقول: ذهب قوم إلى أن التأثير إنما يكون لما سبق بالعدم وهو على الاطلاق
غير سديد بل المؤثر إن كان مختارا وجب فيه ذلك لأن المختار إنما يفعل بواسطة
القصد وهو إنما يتوجه إلى شئ معدوم وإن كان موجبا لم يجب فيه ذلك.
قال: ولا يجوز بقاء المعلول بعده (1) وإن جاز في المعد.
أقول: ذهب قوم غير محققين إلى أن احتياج الأثر إلى المؤثر إنما هو آن
حدوثه فإذا أوجد الفاعل الفعل استغنى الفعل عنه فجاز بقاؤه بعده وتمثلوا في
ذلك بالبناء الباقي بعد البناء وغيره من الآثار وهو خطأ لأن علة الحاجة وهي
الإمكان ثابتة بعد الايجاد فثبتت الحاجة والبناء ليس علة مؤثرة في وجود البناء
الباقي وإنما حركته علة لحركة الأحجار ووضعها على نسبة معينة ثم بقاء الشكل
معلول لأمر آخر (2) هذا في العلل الفاعلية أما العلل المعدة فإنها تعدم (3) وإن
كانت معلولاتها موجودة كالحركة (4) المعدة للوصول والحرارة.



(1) أي بعد انعدام الفاعل المستجمع لجميع الشرائط وهذا حكم ثان للعلة التامة.
(2) هو تماسك الأجزاء.
(3) قوله فإنها تعدم أي العلة المعدة يجوز عدمها وبقاء المعلول بعدها لأنها ليست بعلة حقيقية
بل هي تقرب الفاعل إلى التأثير أو القابل إلى القبول فلذا ما عدوه من العلل.
(4) أي كالحركة المعدة للتحرك لوصوله إلى غاية من غايات الحركة والحرارة المعدة لبعض
الأجسام كالحديد مثلا لقبول الأشكال مثلا والأول مثال للمعدة المقرب للفاعل والثاني مثال للمعدة
المقرب للقابل وهذا الحكم أي قولنا لا يصدر عن الواحد إلا الواحد ينعكس على نفسه أي فلا
يصدر الواحد إلا عن الواحد على سبيل الاستقلال.
115
قال: ومع وحدته (1) يتحد المعلول.
أقول: المؤثر إن كان مختارا جاز أن يتكثر أثره مع وحدته وإن كان
موجبا فذهب الأكثر إلى استحالة تكثر معلوله باعتبار واحد وأقوى حججهم
إن نسبة المؤثر إلى أحد الأثرين مغايرة لنسبته إلى الآخر فإن كانت النسبتان
جزئية كان مركبا وإلا تسلسل وهي عندي ضعيفة لأن نسبة التأثير والصدور
يستحيل أن تكون وجودية وإلا لزم التسلسل وإن كانت من الأمور الاعتبارية
استحالت هذه القسمة عليها.
قال: ثم تعرض الكثرة باعتبار كثرة الإضافات.
أقول: لما بين أن العلة الواحدة لا يصدر عنها إلا معلول واحد لزم أن
تكون الموجودات بأسرها في سلسلة واحدة بحيث يكون أي موجود فرضته
علة علة لأي موجود فرضته أو معلولا له إما قريبة أو بعيدة فلا يوجد شيئان
يستغني أحدهما عن الآخر والوجود (2) يكذب هذا فأوجبوا وقوع كثرة في
المعلول الأول غير حقيقية بل إضافية يمكن أن يتكثر بها التأثير قالوا لأن المعلول
الأول بالنظر إلى ذاته ممكن وبالنظر إلى علته واجب وله ماهية ووجود مستفاد
من فاعله وهو يعقل ذاته لتجرده وبعقل مبدأه وهذه جهات كثيرة إضافية



(1) قوله ومع وحدته يتحد المعلول: هذا حكم ثالث للفاعل التام إذا كان واحدا من جميع
الجهات وهو القاعدة المشهورة الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد قال صاحب الشوارق ومنها أي
احكام العلة إن الفاعل المستقل إذا كان واحدا من جميع الجهات بحيث لا يكون فيه كثرة
الأجزاء ولا كثرة الوجود والماهية ولا يكون متصفا بصفة حقيقية زائدة في الخارج أو اعتبارية
زائدة من العقل وهذا ما ذهب إليه الحكماء فلا يمكن في مرتبة واحدة أن يصدر عنه إلا
معلول واحد.
(2) أي وجود موجودات عرضية لا يتعلق بعضها ببعض تعلق العلية والمعلولية.
116
يقع بها التكثير ولا تنثلم وحدته ويصدر عنه باعتبار كل جهة شئ وهذا الكلام
عندنا في غاية السقوط لأن هذه الجهات لا تصلح للتأثير لأنها أمور اعتبارية ومساوية
لغيرها ولا يكون شروطا فيه.
قال: وهذا الحكم ينعكس على نفسه.
أقول: يريد بذلك أن مع وحدة المعلول تتحد العلة وهو عكس الحكم
الأول فلا يجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان بالتأثير لأنه بكل واحد
منهما واجب مستغن عن الآخر فيكون حال حاجته إليهما مستغنيا عنهما
هذا خلف.
قال: وفي الوحدة النوعية لا عكس (1).
أقول: إذا كانت العلة واحدة بالنوع كان المعلول كذلك ولا يجب من كون
المعلول واحد بالنوع كون العلة كذلك فإن الأشياء المختلفة تشترك في لازم واحد
كاشتراك الحركة والشمس والنار في السخونة لأن المعلول يحتاج إلى مطلق العلة
وتعين العلة من جانب العلة لا المعلول.
قال: والنسبتان من ثواني المعقولات وبينهما مقابلة التضايف.
أقول: يعني أن نسبة العلية والمعلولية من المعقولات الثانية لاستحالة وجود
شئ في الأعيان هو مجرد علية أو معلولية وإن كان معروضهما موجودا وبينهما
مقابلة التضايف فإن العلة علة للمعلول والمعلول معلول للعلة وقد نبه بقوله
وبينهما مقابلة التضايف على امتناع كون الشئ الواحد بالنسبة إلى شئ واحد
علة ومعلولا وهو الدور المحال لأن كونه علة يقتضي الاستغناء والتقدم وكونه



(1) أي لا يمتنع اجتماع العلتين المستقلتين النوعيتين على المعلول الواحد النوعي بمعنى أن
يقع بعض أفراده بهذه وبعضها بتلك.
117
معلولا يقتضي الحاجة والتأخر فيكون الشئ الواحد مستغنيا عن الشئ الواحد
متقدما عليه متأخرا عنه هذا خلف.
قال: وقد يجتمعان في الشئ الواحد بالنسبة إلى أمرين ولا يتعاكسان (1)
فيهما.
أقول: قد تجتمع نسبة العلية والمعلولية في الشئ الواحد بالنسبة إلى أمرين
فيكون علة لأحد الشيئين ومعلولا للآخر كالعلة المتوسطة فإنها معلولة للعلة
الأولى وعلة للمعلول الأخير لكن بشرط أن لا يكون ذانك الأمران متعاكسين
في النسبتين بأن تكون العلة الأولى معلولة للمعلول الأخير والمعلول الأخير علة
لها وإلا عاد الدور المحال.
المسألة الرابعة: في إبطال التسلسل
قال: ولا يتراقى (2) معروضاهما في سلسلة واحدة إلى غير النهاية لأن كل
واحد منها ممتنع الحصول بدون علة واجبة لكن الواجب بالغير ممتنع أيضا
فيجب وجود علة لذاتها هي طرف للسلسلة.



(1) أي في العلية والمعلولية بأن يكون ما هو علة لشئ معلولا له أيضا وهذا المعنى
يقال له الدور.
(2) أي معروض العلية والمعلولية في سلسلة واحدة إلى غير النهاية بأن توجد علل ومعلولات
مترتبة كأن يكون زيد معلولا لعمرو وعمرو لخالد وخالد لبكر وهكذا إلى غير النهاية والدليل
على بطلان التسلسل وجوه الأول لأن كل واحد منها من تلك السلسلة ممتنع الحصول بدون علية
واجبة لأنه ممكن والممكن يحتاج إلى علة فعلته أما واجب بالغير وأما واجب بالذات لكن الواجب
بالغير ممتنع الحصول أيضا لكونه ممكنا فيحتاج هو إلى علة أخرى فيجب وجود علة
واجبة لذاتها.
118
أقول: لما أبطل الدور شرع في إبطال التسلسل وهو وجود علل ومعلولات
في سلسلة واحدة غير متناهية ونبه على الدعوى بقوله ولا يتراقى معروضا هما
يعني معروض العلية والمعلولية في سلسلة واحدة إلى غير النهاية واحتج عليه
بوجوه (الأول) أن كل واحدة من تلك الجملة ممكن وكل ممكن (1) يمتنع حصوله
بدون علته الواجبة فكل واحد من تلك الآحاد يمتنع حصوله بدون العلة الواجبة
ثم تلك العلة الواجبة إن كانت واجبة لذاتها فهو المطلوب لانقطاع السلسلة وإن
كانت واجبة لغيرها كانت ممكنة لذاتها فكانت مشاركة لباقي الممكنات في
امتناع الوجود بدون العلة الواجبة فيجب وجود علة واجبة لذاتها هي طرف
السلسلة فتكون السلسلة منقطعة وفي هذا الوجه عندي (2) نظر.
قال: وللتطبيق بين جملة قد فصل منها آحاد متناهية وأخرى لم
يفصل منها.
أقول: هذا هو الوجه الثاني من الوجوه الدالة على امتناع التسلسل وهو
المسمى ببرهان التطبيق وهو دليل مشهور وتقريره إنا إذا أخذنا جملة العلل
والمعلولات إلى ما لا يتناهى ووضعناها جملة ثم قطعنا منها جملة متناهية ثم
أطبقنا إحدى الجملتين بالأخرى بحيث يكون مبدء كل واحدة من الجملتين واحدا



(1) وهذا إشارة من الخواجة إلى طريقة مخترعة له مشهورة عنه وهي أن الممكن لا يجب
لذاته وما لا يجب لذاته لا يكون له وجود وما لم يكن له وجود لا يكون لغيره وجود فلو كانت
الموجودات بأسرها ممكنة لما كان في الوجود موجود فلا بد من واجب لذاته فقد ثبت واجب
الوجود وانقطعت السلسلة أيضا وهذه طريقة حسنة متيقنة خفيفة المؤنة وبناها على مقدمة ظاهرة
جدا وهي أن الشئ ما لم يمتنع جميع أنحاء عدمه لم يجب وجوده.
(2) أقول من يجوز ذهاب سلسلة الممكنات إلى غير النهاية يقول كل منا يجب بغيره ويوجد
بغيره ولا ينتهى إلى ما هو واجب بذاته فدعوى أنه لا بد من وجود علة واجبة لذاتها مصادرة.
119
فإن استمرنا إلى ما لا يتناهى كانت الجملة الزائدة مثل الناقصة هذا خلف وإن
انقطعت الناقصة تناهت ويلزم تناهى الزائدة لأن ما زاد على المتناهي بمقدار
متناه فهو متناه.
قال: ولأن التطبيق باعتبار النسبتين بحيث يتعدد كل واحد منهما
باعتبارهما يوجب تناهيهما لوجوب ازدياد إحدى النسبتين على الأخرى من
حيث السبق.
أقول: هذا وجه ثالث وهو راجع إلى الثاني وهو برهان التطبيق لكن على
وجه آخر استخرجه المصنف مغاير للنحو الذي ذكره القدماء وتقريره إنا إذا
أخذنا العلل والمعلولات سلسلة واحدة غير متناهية فإن كل واحد من تلك
السلسلة علة باعتبار ومعلول باعتبار فيصدق عليه النسبتان باعتبارين ويحصل له
التعدد باعتبار النسبتين فإن الواحد من تلك السلسلة من حيث إنه علة مغاير له
من حيث إنه معلول فإذا أطبقنا كل ما صدق عليه نسبة المعلولية على كل ما
صدق عليه نسبة العلية واعتبرت هذه السلسلة من حيث كل واحد منها علة تارة
ومن حيث كل واحد منها معلول أخرى كانت العلل والمعلولات المتباينتان
بالاعتبار متطابقتين في الوجود ولا يحتاج في تطابقهما إلى توهم تطبيق ومع ذلك
يجب كون العلل أكثر من المعلولات من حيث إن العلل سابقة على المعلولات في
طرف المبدء فإذن المعلولات قد انقطعت قبل انقطاع العلل والعلل الزائدة عليها
إنما زادت بمقدار متناه فتكون الجملتان متناهيتين.
قال: ولأن المؤثر (1) في المجموع إن كان بعض أجزائه كان الشئ
مؤثرا في نفسه وعلله ولأن المجموع له علة تامة وكل جزء ليس علة تامة



(1) وبيان ذلك والمؤثر في المجموع إن كان نفس المجموع لزم تأثير الشئ في نفسه وهو محال
وإن كان أثرا خارجا عنها ثبت المطلوب إذ الخارج عن سلسلة الممكنات واجب.
120
إذ الجملة لا تجب هب وكيف تجب الجملة بشئ هو محتاج إلى ما لا يتناهى من
تلك الجملة.
أقول: هذا وجه رابع على إبطال التسلسل وتقريره إنا إذا فرضنا جملة
مترتبة من علل ومعلولات إلى ما لا يتناهى فتلك الجملة من حيث هي جملة
ممكنة لتركبها من الآحاد الممكنة وكل ممكن له مؤثر فلتلك الجملة مؤثر فإما
أن يكون المؤثر هو نفس تلك الجملة وهو محال لاستحالة كون الشئ مؤثرا في
نفسه وإما أن يكون خارجا عنها والخارج عن جملة الممكنات واجب فينقطع
التسلسل وإما أن يكون جزءا من تلك الجملة وهذا محال وإلا لزم كون الشئ
مؤثرا في نفسه وفي علله التي لا تتناهى وذلك من أعظم المحالات وأيضا فإن
المجموع لا بد له من علة تامة وكل جزء ليس علة تامة إذ الجملة لا تجب به وكل
جزء لا يصلح أن يكون علة تامة للمجموع وكيف تجب الجملة بجزء من أجزائها
وذلك الجزء محتاج إلى ما لا يتناهى من تلك الجملة.
المسألة الخامسة: في مطابقة المعلول للعلة في الوجود والعدم
قال: ويتكافى النسبتان في طرفي النقيض.
أقول: الذي يفهم من هذا الكلام أن نسبة العلية مكافئة لنسبة المعلولية في
طرفي الوجود والعدم بالنسبة إلى معروضهما على معنى أن نسبة العلية إذا صدقت
على معروض ثبوتي كانت نسبة المعلولية صادقة على معروض ثبوتي وبالعكس
وإذا صدقت نسبة العلية على معروض عدمي صدقت نسبة المعلولية على أمر
عدمي وبالعكس وذلك يتم بتقرير مقدمة هي أن عدم المعلول إنما يستند إلى
عدم العلة لا غير وبيانه أن عدم المعلول لا يستند إلى ذاته وإلا لكان ممتنعا
لذاته هذا خلف بل لا بد له من علة إما وجودية أو عدمية والأول باطل لأن
عند وجود تلك العلة الوجودية إن لم يختل شئ من أجزاء العلة المقتضية لوجود

121
المعلول ولا شئ من شرائطها لزم وجود المعلول نظرا إلى تحقق علته
التامة وإن اختل شئ من ذلك لزم عدم المعلول فيكون عدم المعلول
مستندا إلى ذلك العدم لا غير وإذا تقررت هذه المقدمة فنقول العلة
الوجودية يجب أن يكون معلولها وجوديا لأنه لو كان عدميا لكان
مستندا إلى عدم علته على ما قلنا لا إلى وجود هذه العلة والمعلول
الوجودي يستند إلى العلة الوجودية لا العدمية لأن تأثير المعدوم في الموجود
غير معقول.
المسألة السادسة: في أن القابل لا يكون فاعلا
قال: والقبول والفعل متنافيان مع اتحاد النسبة لتنافي لازميهما.
أقول: ذهب الأوائل إلى أن الشئ الواحد لا يكون قابلا وفاعلا لشئ
واحد وعبر عنه المصنف بقوله القبول والفعل متنافيان يعني لا يجتمعان بل
يتنافيان لكن مع اتحاد النسبة يعني أن يكون المفعول الذي تقع نسبة الفعل إليه
هو بعينه المقبول الذي تقع نسبة القبول إليه لتنافي لازميهما وهو الإمكان والوجوب
وذلك لأن نسبة للقابل إلى المقبول نسبة الإمكان ونسبة الفاعل إلى المفعول نسبة
الوجوب فلو كان الشئ الواحد مقبولا لشئ ومعلولا له أيضا لزم أن تكون
نسبة ذلك الشئ إلى فاعله بالوجود والإمكان هذا خلف.
المسألة السابعة: في نسبة العلة إلى المعلول
قال: وتجب المخالفة (1) بين العلة والمعلول إن كان المعلول محتاجا لذاته إلى
تلك العلة وإلا فلا.



(1) وهذا المطلب يتم على القول بأصالة الماهية وإنكار وجوب السنخية بين المصدر والصادر
وإن لم يكن المعلول محتاجا إلى العلة في حقيقته وذاته بل في تشخصه فلا يجب المخالفة بينهما من
جهة الذات بل يجوز الموافقة كاحتياج أفراد النوع بعضها إلى بعض فإن فردا من النار محتاج إلى
فرد آخر منها لكن في تشخصه لا في حقيقته فإن حقيقة النار معطاة للمادة من المبادئ العالية.
122
أقول: العلة إن كان معلولها محتاجا لماهيته إليها وجب كونها مخالفة لها
لاستحالة تأثير الشئ في نفسه وإن كانت علة لتشخصها كتعليل إحدى النارين
بالأخرى فإن المعلول لا يجب أن يكون مخالفا للعلة في الماهية ولا يكون أقوى
منها ولا مساويها (1) عند فوات شرط أو حضور مانع ويساويها لا مع ذلك
والإحساس بسخونة الأجسام (2) الذائبة أشد من سخونة النار لعدم الانفصال
بسرعة للزوجته ولبطؤ حركة اليد فيه لغلظه.
المسألة الثامنة:
في أن مصاحب العلة (3) ليس بعلة وكذا مصاحب المعلول ليس معلولا.
قال: ولا يجب صدق إحدى النسبتين على المصاحب.
أقول: يعني به أن نسبة العلة لا يجب صدقها على ما يصاحب العلة ويلازمها
فإن مع العلة شرايط كثيرة ولوازم لا مدخل لها في العلية كحمرة النار فإنها



(1) ولا يكون المعلول الموافق للعلة في الذات والحقيقة مساويا لها عند فوات شرط أو حضور
مانع وهذا جواب عن سؤال مقدر كأن قائلا قال كيف حكمت بأن الفردين اللذين أحدهما علة
لتشخص الآخر لا يكون أقوى من الآخر مع أنا نشاهد الاختلاف الكثير بين أفراد الحقيقة الواحدة
من حيث القوة والضعف فأجاب بأن هذا الاختلاف المشاهد في أفراد النوع إنما هو من جهة
فوات شرط أو حضور مانع.
(2) مثال للفردين المتفاوتين في الآثار فإن النار الحاصلة في الجسم الفلزي الذائب أشد حرارة
من النار الحاصلة في غيره وذلك لوجود الشرطين في محل الأولى دون محل الأولى دون محل الثانية وهما لزوجته لعدم
انفصال العضو الحاصل بسرعة وغلظته المتكزمة لبطؤ الحركة العضو الحاس فيه.
(3) فمصاحب العلة ليس بعلة ومصاحب المعلول ليس بمعلول مثلا حمرة النار المصاحبة لها
ليست علة للإحراق وكذا لو كان بين الاحراق وبين شئ آخر لا يجب أن تكون النار علة
لذلك المصاحب.
123
لا تأثير لها في الاحراق وكذا ما يصاحب المعلول ويلازمه لا يجب صدق نسبة
المعلولية عليه قال الشيخ أبو علي بن سينا إن الفلك الحاوي يصاحب علة المحوي
ولا يجب أن يكون متقدما بالعلية على المحوي لأجل مصاحبته لعلة المحوي فقد
جعل ما مع القبل ليس قبلا ثم قال وجود الخلاء وعدم المحوي متقارنان فلو كان
الحاوي علة للمحوي لكان متقدما عليه فيكون متقدما على ما يصاحبه أعني
عدم الخلاء فيكون عدم الخلاء متأخرا عنه من حيث إنه مصاحب للمتأخر وهذا
يدل على أن ما مع البعد يجب أن يكون بعدا فتوهم بعضهم إن الشيخ أوجب
أن يكون ما مع البعد بعدا من حيث المعية والبعدية ولم يوجب أن يكون ما مع
القبل قبلا وهذا فاسد لأنه لا فرق بين ما مع القبل وما مع البعد من حيث
البعدية والمعية والقبلية والشيخ (1) حكم في هذه الصورة الخاصة وكل ما يساويها
بأن ما مع البعد يجب أن يكون بعدا لتحقق الملازمة الطبيعية بين عدم الخلاء
ووجود المحوي بخلاف العقل والفلك المتبائنين بالذات والاعتبار.
المسألة التاسعة: في أن العناصر ليست عللا ذاتية بعضها لبعض:
قال: وليس الشخص من العنصريات علة ذاتية لشخص آخر منها
وإلا لم تتناه الأشخاص ولاستغنائه عنه بغيره.
أقول: الشخص من العناصر كهذه النار مثلا ليس علة ذاتية لشخص آخر
منها أي لا يكون علة لوجوده وإلا لوجدت أشخاص لا تتناهى دفعة واحدة
لأن العلل الذاتية تصاحب المعلولات وأيضا فإن الشخص من العناصر يستغنى



(2) يعني أن الشيخ استثنى من هذا الحكم ما إذا كان مصاحب المعلول لازما له فالعلة حينئذ
علة له ولمصاحبه الذي هو لازمه ثم إن الناس يأخذون ما مع العلة مكان العلة وكذا ما مع
المعلول مكان المعلول وأمثلة ذلك كثيرة متداولة بهم والخواص يطلقون العلة والمعلول عليهما
تجوزا وتسامحا.
124
عن الشخص الآخر بغيره إذ ليس شخص ما من أشخاص النار مثلا أولى بأن
يكون علة لشخص آخر من بقية أشخاص النوع بل الشخص الذي هو معلول
سبيله سبيل سائر الأشخاص في أن الشخص الذي هو العلة ليس هو أولى بالعلية
من الشخص الذي هو معلوله وما يستغنى عنه بغيره لا يكون علة بالذات فهو
إذن علة بالعرض بمعنى أنه معد.
قال: ولعدم تقدمه.
أقول: هذا وجه ثالث على امتناع تعليل أحد الشخصين بالآخر وتقريره
أن العلة متقدمة على المعلول بالذات والشخصان إذا كانا من نوع واحد استحال
تقدم أحدهما على الآخر تقدما ذاتيا لأن التقدم الذاتي ما يبقى للعلة مع وجود
المعلول لأنه مقوم لها والتقدم بالزمان يبطل مع وجود المعلول لأنهما إذا اجتمعا
في زمان واحد فقد عدم تقدم ما فرض علة.
قال: ولتكافؤهما.
أقول: هذا دليل رابع وتقريره أن الماء والنار مثلا متكافئان في أنه ليس
النار أولى بأن يكون علة للماء من العكس والمتكافئان لا يصلح أن يكون
أحدهما علة للآخر.
قال: ولبقاء أحدهما مع عدم صاحبه.
أقول: هذا دليل خامس وتقريره أن ما يفرض علة من شخصيات النار
فقد يعدم وما يفرض معلولا يكون باقيا بعده ويستحيل بقاء المعلول بعد علته
الذاتية وبالعكس قد يعدم ما يفرض معلولا وما يفرض علة يكون باقيا بعده
ويستحيل بقاء العلة منفكة عن المعلول.
المسألة العاشرة: في كيفية صدور الأفعال منا
قال: والفعل منا يفتقر إلى تصور جزئي ليتخصص به الفعل ثم شوق

125
ثم إرادة ثم حركة من العضلات ليقع منا الفعل.
أقول: القوة البشرية إنما تفعل أثرها مع شعور إدراك على الوجه النافع علما
أو ظنا فافتقر الفعل الصادر عنها إلى مباد أربعة تصور لذلك الفعل الجزئي فإن
التصور الكلي لا يكون سببا لفعل جزئي لأن نسبة كل كلي إلى جزئياته واحدة
فأما أن يقع كلها وهو محال أو لا يقع شئ منها وهو المطلوب فلا بد من تصور
جزئي يتخصص به الفعل فيصير جزئيا فإذا حصل التصور بالنفع الحاصل من
الأثر اشتاقت النفس إلى تحصيله فحصلت الإرادة الجازمة بعد التردد فتحركت
العضلات إلى الفعل فوجد.
قال: والحركة الاختيارية إلى مكان تتبع إرادة بحسبها وجزئيات تلك
الحركة تتبع تخيلات وإرادات جزئية يكون السابق من هذه التخيلات علة
للسابق (1) من تلك المعدة لحصول تخيلات وإرادات أخرى فتتصل الإرادات
في النفس والحركات في المسافة إلى آخرها.
أقول: الفاعل منا لحركة ما من الحركات إنما يفعلها بواسطة القصد والإرادة
المتعلقة بتلك المسافة فتلك الحركة تتبع إرادة بحسبها يعني الحركة إلى مكان
مفروض تتبع إرادة متعلقة بالحركة إلى ذلك المخصوص وكل حركة فعلى مسافة
منقسمة تكون الحركة في كل مسافة من تلك المسافات جزء من الحركة الأولى
وكل جزء من تلك الأجزاء يتبع تخيلا خاصا وإرادة جزئية متعلقة به فإذا
تعلقت الإرادة بإيجاد الجزء الأول من الحركة ثم وجد الجزء الأول كان وصول



(1) فكل قدم من هذه الأقدام مسبوق بإرادة جزئية بحيث يكون السابق من هذه
التخيلات علة للسابق من تلك الأقدام المعدة لحصول تخيلات وإرادات أخرى فالإرادة الجزئية
لوضع القدم الأول علة لوضع هذا القدم وهذا القدم معد لحصول إرادة أخرى جزئية لوضع القدم
الثاني وهذا القدم معد لحصول إرادة أخرى فتصل الإرادات الجزئية من النفس والحركات.
126
الجسم إلى ذلك الجزء مع الإرادة الكلية المتعلقة بكمال الحركة علة لتجدد
إرادة أخرى تتعلق بجزء آخر فإذا وجدت تلك الإرادة وتعلقت بذلك الجزء
فيتحرك الجسم وعلى هذا تتصل التخيلات والإرادات في النفس والحركة في
الخارج فيكون كل حركة جزئية علة لإرادة خاصة وكل إرادة خاصة علة لحركة
جزئية من غير دور.
المسألة الحادية عشرة: في أن القوى الجسمانية إنما تؤثر بمشاركة الوضع
قال: ويشرط في صدق التأثير على المقارن الوضع.
أقول: يشترط في صدق التأثير أعني صدق كون الشئ علة على المقارن
أعني الصور والأعراض الوضع أعني الإشارة الحسية وهو كونه بحيث يشار إليه
أنه هيهنا أو هناك وذلك لأن القوى الجسمانية أعني الصور والأعراض المؤثرة
إنما تؤثر بواسطة الوضع على معنى أنها تؤثر في محلها أولا ثم فيما يجاور محلها
بواسطة تأثيرها في محلها ثم فيما يجاور ذلك المجاور بواسطة المجاور وهكذا إنما
يؤثر في البعيد بواسطة تأثيرها في القريب فإن النار لا تسخن كل شئ بل
مادتها أولا ثم ما يجاورها وهذا الحكم بين لا يحتاج إلى برهان.
المسألة الثانية عشرة: في تناهي القوى الجسمانية
قال: والتناهي بحسب المدة والعدة والشدة التي باعتبارها يصدق التناهي
وعدمه الخاص على المؤثر.
أقول: قوله والتناهي عطف على الوضع أي يشترط في صدق التأثير على
المقارن أعني الصور والأعراض التناهي لأنه لا يمكن وجود قوة جسمانية تقوى
على ما لا يتناهى وقبل الخوض في الدليل مهد قاعدة في كيفية عروض التناهي
وعدمه الخاص للقوى (واعلم) أن التناهي وعدمه الخاص به أعني عدم الملكة
وهو عدم التناهي عما من شأنه أن يكون متناهيا إنما يعرضان بالذات للكم

127
إما المتصل كتناهي المقدار ولا تناهيه أو المنفصل كتناهي العدد ولا تناهيه
ويعرضان لغيره بواسطته كالجسم ذي المقدار والعلل ذوات العدد فإن عروض
التناهي وعدمه لهما ظاهر وإما ما يتعلق به شئ ذو المقدار أو عدد كالقوى
التي يصدر عنها عمل متصل في زمان أو أعمال متوالية فعروض النهاية واللانهاية
فيه يكون بحسب مقدار ذلك العمل أو عدد تلك الأعمال والذي بحسب مقدار
ذلك العمل إما مع وحدته واتصال زمانه أو مع فرض الاتصال في العمل نفسه
من غير نظر إلى وحدته أو كثرته فأصناف القوي ثلاثة (الأول) قوى
يفرض صدور عمل واحد منها في أزمنة مختلفة كرماة تقطع سهامهم مسافة
محدودة في أزمنة مختلفة وهيهنا الشدة بحسب قلة الزمان فيكون ما لا تتناهى
في الشدة واقعا لا في زمان وإلا لكان الواقع (1) في نصفه أشد مما لا يتناهى
في الشدة وهذه قوة بحسب الشدة (والثاني) قوى يفرض صدور عمل ما منها
على الاتصال في أزمنة مختلفة كرماة تختلف أزمنة حركات سهامهم في الهواء
وهيهنا تكون التي زمانها أكثر أقوى من التي زمانها أقل فيقع عمل غير
المتناهية في زمان غير متناه وهذه قوة بحسب المدة (والثالث) قوى يفرض
صدور أعمال متوالية عنها مختلفة بالعدد كرماة يختلف عدد رميهم ولا محالة
تكون التي يصدر عنها عدد أكثر أقوى من التي يصدر عنها عدد أقل وهيهنا
يقع لغير المتناهية عمل غير متناهي العدد وهذه قوة بحسب العدة فقد
ظهر من هذا أن التناهي وعدمه الخاص به إنما صدقا على المؤثر بأحد



(1) أي ولو وقع ما لا يتناهى شدة في زمان وكل زمان قابل للتنصيف لكان الواقع في
نصف ذلك الزمان أشبه مما فرض أنه ما لا يتناهى في الشدة فيتناهى ما فرض أنه غير المتناهى
وهذا خلف.
128
الاعتبارات الثلاثة (1).
قال: لأن القسري يختلف باختلاف القابل ومع اتحاد المبدء يتفاوت مقابله.
أقول: لما مهد قاعدة في كيفية عروض التناهي وعدمه في القوى شرع في
الدليل على مطلوبه الأول أعني وجوب تناهي تأثير القوى الجسمانية وتقريره إن
القوى الجسمانية أما أن تكون قسرية أو طبيعية وكلاهما يستحيل صدور ما
لا يتناهى عنهما أما الأول فلأن صدور ما لا يتناهى بحسب الشدة من الحركات
عن القوتين محال لما مر وأما بحسب المدة أو العدة فلأنا لو فرضنا جسما متناهيا
يحرك جسما آخر متناهيا من مبدء مفروض حركات لا تتناهي بحسب المدة
أو العدة ثم حرك بتلك القوة جسما أصغر من ذلك الجسم من ذلك المبدء كان
تحريكه للأصغر أكثر من تحريكه للأكبر لقلة المعاوقة هنا لكن المبدأ واحد
فالتفاوت في الطرف الآخر فيجب تناهي الناقص مع فرض عدم تناهيه
هذا خلف وهيهنا سؤال صعب وهو أن التفاوت في التحريكين جاز أن يكون
بحسب الشدة، وأجاب المصنف قدس سره عن هذا السؤال في شرحه للإشارات
بأن المراد بالقوة هيهنا هي التي لا نهاية لها بحسب المدة أو العدة لا الشدة وفيه
نظر لأن أخذ القوة بحسب الاعتبارين لا ينافي وقوع التفاوت بالاعتبار الثالث
وأورد بعض تلامذة أبي علي عليه أنه لا وجود للحركات دفعة فلا يجوز الحكم
عليها بالزيادة فضلا عن كون الزيادة مقتضية لتناهيها كما قاله الشيخ اعتراضا على



(1) آثار المؤثر على ثلاثة أقسام فالوصف بالتناهي واللا تناهي يقع في ثلاثة مواضع الأول
باعتبار المدة فما يكون زمانه أكثر يكون أقوى فالتناهي فيه عبارة عن محدوديته بالزمان وعدم
التناهي عبارة عن عدم انتهائه مثلا لو فرض راميان يذهب سهم أحدهما ساعة ويذهب سهم
الآخر نصف ساعة كان الأول أقوى وعدم التناهي في هذه الصورة عبارة عن ذهاب سهم أحدهما
إلى الأبد.
129
المتكلمين حيث حكموا بتناهي الحوادث لازديادها كل يوم وأجاب الشيخ عنه
بالفرق بأن الحوادث ليس لها كل موجود حتى يحكم عليها بالتناهي وعدمه
أو الزيادة والنقصان بخلاف القوة هيهنا فإنها موجودة يحكم عليها بكونها قوية
على تحريك الكل أو البعض ولا شك في أن كون القوة قوية على تحريك الكل
أعظم من كونها قوية على تحريك الجزء فأمكن الحكم بالتناهي هيهنا لوجود
المحكوم عليه وتحققه بخلاف الحوادث وللسائل أن يعود فيقول التفاوت في القوة
نما هو باعتبار التفاوت في المقوى عليه أعني الحركات فإذا لم يكن الحكم على
الحركات بالزيادة والنقصان لم يكن الحكم على القوة بالتفاوت.
قال: والطبيعي يختلف باختلاف الفاعل لتساوي الصغير والكبير في القبول
فإذا تحركا مع اتحاد المبدء عرض التناهي.
أقول: هذا بيان استحالة القسم الثاني وهو أن تكون القوة المؤثرة فيما
لا يتناهى طبيعية وتقريره أنه يجب أن يكون قبول الجسم العظيم للتحريك
عنها مثل قبول الصغير وإلا لكان التفاوت بسبب لمانع وهو إما الجسمية
أو لوازمها أو أمر طبيعي والكل محال أو غريبا وقد فرضنا عدمه فلو حصل
اختلاف لكان بسبب الفاعل فإن القوة في العظيم أكثر من القوة في الصغير
لانقسام القوى الطبيعية بانقسام محالها فإذا حركت قوة الكل وقوة البعض
جسميهما من مبدأ واحد مفروض فإن حركت الصغرى حركات غير متناهية
كانت حركات الكبرى أكثر لأنها أعظم فيكون أقوى وإلا لكان حال الشئ
مع غيره كحاله لا مع غيره هذا خلف فيقع التفاوت في الجانب الذي حكم
فيه بعدم التناهي هذا خلف وإن تناهت حركات الأصغر تناهت حركات
الأكبر لأن نسبة الأثر إلى الأثر كنسبة المؤثر إلى المؤثر وهذه نسبة متناه إلى
متناه فكذا الأولى.

130
المسألة الثالثة عشرة: في العلة المادية
قال: والمحل المتقوم بالحال قابل له ومادة للمركب.
أقول: المحل إما أن يتقوم بالحال أو يقوم الحال به وإلا لزم استغناء أحدهما
عن الآخر فلا حلول فالمحل المتقوم بالحال هو الهيولي والمقوم للحال هو الموضوع
والهيولي باعتبار الحال يسمى قابلا وباعتبار المركب تسمى مادة.
قال: وقبوله ذاتي.
أقول: كون المادة قابلة أمر ذاتي لها لا غريب يعرض بواسطة الغير لأنه
لولا ذلك لكان عروض ذلك القبول في وقت حصوله يستدعي قبولا آخر
ويلزم التسلسل وهو محال فهو إذن ذاتي يعرض للمادة لذاتها.
قال: وقد يحصل القرب والبعد باستعدادات يكتسبها باعتبار
الحال فيه.
أقول: لما ذكر أن قبول المادة لما يحل فيها ذاتي استشعر أن يعترض عليه
بما يظن أنه مناقض له وهو أن يقال إن المادة قد تقبل شيئا ولا تقبل آخر
ثم يعرض لها قبول الآخر ويزول عنها القبول الأول وهذا يعطي أن القبول
من الأمور العارضة الحاصلة بسبب الغير لا من الأمور الذاتية اللازمة لها لذاتها
وتحقيق الجواب أن نقول إن القبول ثابت في كلا الحالين لكن القبول منه قريب
ومنه بعيد فإن قبول النطفة للصورة الإنسانية بعيد وقبول الجنين قريب فإذا
حصل القرب بالنظر إلى عرض من الأعراض نسب القبول إليه وعدمه عن غيره
وفي الحقيقة إنما يحصل قرب القبول بعد بعده وسبب القرب والبعد هو الأعراض
والصور الحالة في المادة فإن الحرارة إذا حلت المادة واشتدت أعدتها لقرب
قبول الصورة النارية وخلع غيرها.

131
المسألة الرابعة عشر: في العلة الصورية
قال: وهذا الحال صورة للمركب وجزء فاعل لمحله.
أقول: هذا الحال يعني به الحال في المادة وهو صورة للمركب لا للمادة لأنه
بالنظر إلى المادة جزء فاعل لأن الفاعل في المادة هو المبدء الفياض بواسطة
الصورة المطلقة.
قال: وهو واحد.
أقول: ذكر الأوائل أن الصورة المقومة للمادة لا يكون فوق واحدة لأن
الواحدة إن استقلت بالتقويم استغنت المادة عن الأخرى وإن لم تستقل كان
المجموع هو الصورة وهو واحد فالصورة واحدة.
المسألة الخامسة عشر: في العلة الغائبة
قال: والغاية علة بماهيتها (1) لعلية العلة الفاعلية معلولة في وجودها
للمعلول.
أقول: الغاية لها اعتبار أن يحصل لها باعتبار هما التقدم والتأخر بالنسبة إلى
المعلول وذلك لأن الفاعل إذا تصور الغاية فعل الفعل ثم حصلت الغاية بحصول
الفعل فماهية الغاية علة لعلية الفاعل إذ لولا تلك الماهية وحصولها في علم الفاعل



(1) أي بصورتها الذهنية لا وجودها الخارجي إذ الفاعل إنما يفعل الفعل بعد تصور الغاية
فتصور الغاية بسبب فاعلية الفاعل معلولة هذه الغاية في وجودها الخارجي للمعلول إذ لا تحصل
الغاية إلا إذا أثر الفاعل في إيجاد المعلول ولذا يقال أول الفكر آخر العمل.
132
لما أثر ولا فعل الفعل فإن الفاعل للبيت يتصور الاستكنان أولا فيتحرك إلى
إيجاد البيت ثم يوجد الاستكنان بحصول البيت فماهية الاستكنان علة لعلية
الفاعل ووجوده معلول للبيت ولا امتناع في أن يكون الشئ الواحد متقدما
ومتأخرا باعتبارين.
قال: وهي ثابتة لكل قاصد.
أقول: كل فاعل بالقصد والإرادة فإنه إنما يفعل لغرض وغاية ما وإلا لكان
عابثا على أن العبث لا يخلو من غاية أما الحركات الا سطقسية فقد أثبت الأوائل
لها غايات لأن الحبة من البراذار ميت في الأرض الطيبة وصادفها الماء وحر الشمس
فإنها تنبت سنبلة وهذه التأدية على سبيل الدوام أو الكثرة فيكون ذلك غاية
طبيعية ومنع ذلك جماعة لعدم الشعور في الطبيعة فلا يعقل لها غاية وأجابوا بأن
الشعور يفيد تعيين الغاية لا تحصيلها.
قال: أما القوة الحيوانية المحركة فغايتها الوصول إلى المنتهى وقد
يكون غاية للشوقية وقد لا يكون فإن لم تحصل فالحركة باطلة وإلا فهو إما
خير أو عادة أو قصد ضروري أو عبث وجزاف.
أقول: القوة الحيوانية لها مباد على ما تقدم أحدها القوة المحركة المنبثة في
العضلات وثانيها القوة الشوقية وثالثها التخيل أو الفكر وغاية القوة المحركة
إنما هي الوصول إلى المنتهى وقد تكون هي بعينها غاية الشوقية كمن طلب
مفارقة مكانه والحصول في آخر لإزالة ضجره وقد يكون غيرها كمن يطلب
غريما في موضع معين وفي هذا القسم إن لم - تحصل غاية الشوقية سميت الحركة
باطلة (1) بالنسبة إليها وإن حصلت الغايتان وكان المبدء التخيل لا غير فهو



(1) وذلك لعدم حصول غايتها وذلك كما لو تحرك إلى بلد كذا للقاء حبيبه فلم يجده.
133
الجزاف والعبث (1) وإن كان مع طبيعة كالتنفس فهو القصد (2) الضروري وإن
كان مع خلق وملكة نفسانية (3) فهو العادة وإن كان المبدء الفكر فهو الخير
المعلوم أو المظنون.
قال: واثبتوا للطبيعيات غايات وكذا للاتفاقيات.
أقول: أما إثبات الغايات للحركات الطبيعية فقد تقدم البحث فيه وأما
العلل الاتفاقية فقد نفاها قوم لأن السبب إن استجمع جهات المؤثرية لزم حصول
مسببه قطعا وإلا كان ممتنعا فلا مدخل للاتفاق (والجواب) أن المؤثر قد يتوقف
تأثيره على أمور خارجة عن ذاته غير دائمة الحصول معه فيقال لمثل ذلك السبب
من دون الشرائط أنه اتفاقي إذا كان انفكاكه مساويا أو راجحا ولو أخذناه
مع تلك الشرائط كان سببا ذاتيا.
المسألة السادسة عشرة: في أقسام العلة
قال: والعلة مطلقا قد تكون بسيطة (4) وقد تكون مركبة.
أقول: يعني بالإطلاق ما يشتمل العلل الأربع أعني المادية والصورية



(1) إن مكان المبدأ هو التخيل وحده من غير انضمام شئ آخر إليه كمن يخط الأرض عبثا
فإن غاية القوة الشوقية وهي الخط على الأرض تغاير الوصول إلى المنتهى الذي هو عبارة عن
وصول اليد المتحركة إلى الأرض.
(2) إن كان المبدأ هو التخيل مع طبيعة كحركة المريض فإن الغاية تخفيف الألم أو الحرارة
وهي مغايرة للوصول إلى المنتهى الذي هو كون جسمه في محل غير محله الأول.
(3) إن كان المبدأ هو التخيل مع خلق وملكة نفسانية يوجبان هذه الحركة كاللعب باللحية
فإن الوصول إلى المنتهى الذي هو عبارة عن وصول اليد المتحركة إلى اللحية يغاير غاية القوة
الشوقية التي هي اللعب.
(4) العلة المادية البسيطة كالهويولي الأولى والصورة البسيطة كالصورة المائية والعلة الغائية
كالشبع للأكل والعلة الفاعلية البسيطة كالواجب تعالى.
134
والفاعلية والغائية فإن كل واحد من هذه الأربع ينقسم إلى هذه الأقسام فالعلة
الفاعلية عند المحققين قد تكون بسيطة كتحريك الواحد منا جسما ما وقد
تكون مركبة كتحريك جماعة جسما أكبر ومنع بعض الناس من التركيب في
العلل وإلا لزم نفيها (1) لأن كل مركب فإن عدم كل جزء من أجزائه علة مستقلة
في عدمه فلو عدم جزء من العلة المركبة لزم عدم العلة فإذا عدم جزء ثان لم
يكن له تأثير البتة لتحقق العدم بالجزء الأول ولأن الموصوف بالعلية أما كل
واحد من أجزائه فيلزم تعدد العلل وانتفاء التركب وهو المطلوب أيضا مع انتفاء
الأولوية أو المجموع وهو باطل لأن كل جزء لم يكن علة فعند الاجتماع إن لم
يحصل أمر لم يكن المجموع علة وإن حصل عاد الكلام في علة حصوله وهذان
ضعيفان لاقتضائهما انتفاء المركب سواء كانت عللا أو لا وهو باطل بالضرورة
والمادة المركبة كالزاج والعفص في الحبر والصورة المركبة كالإنسانية المركبة
من أشكال مختلفة والغاية المركبة كالحركة لشراء المتاع ولقاء الحبيب.
قال: وأيضا بالقوة أو بالفعل.
أقول: هذه المبادئ الأربع قد تكون بالقوة فإن الخمر فاعل للإسكار في
البدن بالقوة وقد تكون بالفعل كالخمر مع الشرب والمادة قد تكون بالفعل
كالجنين للإنسانية وقد تكون بالقوة كالنطفة والصورة بالقوة كالمائية الحالة في
الهواء بالقوة وقد تكون بالفعل كالمائية الحالة في مادتها والغاية بالقوة هي التي
يمكن جعلها كذلك وبالفعل هي التي حصل فيها ذلك.
قال: وكلية أو جزئية (2).



(1) أي لو كانت العلة مركبة لزم من التركيب نفيها.
(2) وبيان ذلك أن العلية الفاعلية العامة كالبناء للبيت والجزئية كهذا البناء الخاص والغاية
كلقاء مطلق الحبيب والجزئية كلقاء هذا الحبيب الخاص والمادية كالنطفة مطلقا والجزئية كهذه
النطفة المعينة والصورة كصورة الماء مطلقا والجزئية كصورة هذا الماء.
135
أقول: هذه العلل قد تكون كلية كالبناء مطلقا وقد تكون جزئية كهذا
البناء وكذلك البواقي.
قال: وذاتية أو عرضية.
أقول: العلة قد تكون ذاتية وهي التي يستند المعلول إليها بالحقيقة كالنارية
في الاحراق وقد تكون عرضية وهي أن تقتضي العلة شيئا ويتبع ذلك الشئ
شئ آخر كقولنا السقمونيا مبرد فإنه بالعرض كذلك لأنه يقتضي بالذات إزالة
السخونة ويتبعها حصول البرودة وكذلك البواقي فإن المادة الذاتية هي محل
الصورة بالذات والعرضية هي تلك مأخوذة مع عوارض خارجية والصورة
الذاتية هي المقومة كالإنسانية والعرضية هي ما يلحقها من الأعراض اللازمة أو
المفارقة والغاية الذاتية هي المطلوبة لذاتها والعرضية هي ما يتبع المطلوب وقد تطلق
العلة العرضية على ما مع العلة
قال: وعامة أو خاصة (1).
أقول: العلة العامة هي التي تكون جنسا للعلة الحقيقية كالصانع في البناء
والخاصة كالباني فيه ولا يتحقق العموم والخصوص في الصور.
قال: وقريبة أو بعيدة (2).



(1) الفرق بين العموم والخصوص والكلية والجزئية واضح إذ المراد بالعامة جنس العلة
وبالخاصة نوعها والمراد بالكلية نوع العلة وبالجزئية شخصها فنتيجة هذين التقسيمين أن العامة إما
جنس أو نوع أو شخص فالفاعلية العامة كالصانع للبيت والخاصة كالبناء له والغاية العامة كحصول
الفائدة للذهاب والخاصة كثراء المتاع والمادية كالحيوانية لزيد والخاصة كالإنسانية له والصورة
العامة كصورة الما؟ ع مطلقا والخاصة كصورة هذا الماء.
(2) بيان ذلك أن العلة القريبة هي ما لا واسطة بينها وبين المعلول والبعيدة ما لها واسطة
فالفاعلية القريبة كالحركة بالنسبة إلى الضرب والبعيدة كالشوق إليه والغائية القريبة كلقاء الحبيب
والبعيدة كالتكلم معه والمادية القريبة كالأعواد المنحوتة المركبة للسرير والبعيدة كالأعواد قبل
النحت والصورة القريبة كصورة السرير والبعيدة كصورة الأعواد قبل التركيب.
136
أقول: العلة القريبة هي التي لا واسطة بينها وبين المعلول كالميل في الحركة
والبعيدة هي علة العلة كالقوة الشوقية وكذا البواقي.
قال: ومشتركة أو خاصة.
أقول: المشتركة كالنجار للأبواب المتعددة والخاصة كالنجار لهذا الباب.
قال: والعدم للحادث من المبادئ العرضية (1).
أقول: الحادث هو الموجود بعد أن لم يكن وهو إنما يتحقق بعد سبق عدم
علته فلما توقف تحققه على العدم السابق أطلقوا على العدم اسم المبدأ بالعرض ومبدئه
بالذات الفاعل لا غير.
قال: والفاعل في الطرفين واحد.
أقول: الفاعل في الوجود هو بعينه الفاعل في العدم على بينا أولا من أن
علة العدم هي عدم العلة لا غير والمؤثر في طرفي المعلول هو العلة لا غير لكن مع
حضورها يقتضي الوجود ومع عدمها يقتضي العدم.
قال: والموضوع كالمادة.
أقول: الموضوع أيضا من العلل التي يتوقف وجود الحال عليها ونسبته إلى
الحال نسبة المادة إلى الصورة فهو من جملة العلل.



(1) إذا قيل مبدأ زيد مثلا عدمه كان هذا القول بالعرض إذ العدم ليس مبدأ بل العدم
مقارن لما هو المبدأ أعني العلة فحيث كان عدم زيد مقارنا لمبدئه أي علته أطلق
عليه المبدأ.
137
المسألة السابعة عشرة
في أن افتقار المعلول إنما هو في الوجود أو العدم
قال: وافتقار الأثر إنما هو في أحد طرفيه.
أقول: الأثر له ماهية وله وجود وعدم فافتقاره إلى المؤثر إنما هو في أن
يجعله موجودا أو معدوما إذ التأثير إنما يعقل في أحد الطرفين أما الماهية فلا يعقل
التأثير فيها فليس السواد سوادا بالفاعل بل وجوده وعدمه بالفاعل.
قال: وأسباب الماهية غير أسباب الوجود.
أقول: أسباب الماهية باعتبار الوجود الذهني هي الجنس والفصل وباعتبار
الخارج هي المادة والصورة وأسباب الوجود هي الفاعل والغاية.
قال: ولا بد للعدم من سبب وكذا في الحركة.
أقول: قد بينا أن نسبة طرفي الوجود والعدم إلى الممكن واحدة فلا يعقل
اتصافه بأحدهما إلا بسبب فكما افتقر الممكن في وجوده إلى السبب افتقر في
عدمه إليه وإلا لكان ممتنع الوجود في ذاته (لا يقال) الوجود منه ما هو قار
ومنه ما هو غير قار كالحركات والأصوات والأول يفتقر عدمه إلى السبب أما
النوع الثاني فإنه يعدم لذاته (لأنا نقول) يستحيل أن يكون العدم ذاتيا لشئ
وإلا لم يوجد والحركة لها علة في الوجود فإذا عدمت أو عدم أحد شروطها عدمت
وكذا الأصوات فلا فرق بين الحركات وغيرها.
قال: ومن العلل المعدة ما يؤدي إلى مثل أو خلاف أو ضد.
أقول: العلل تنقسم إلى المعد وإلى المؤثر والمعد نعني به ما يقرب
العلة إلى معلولها بعد بعدها عنه وهو قريب من الشرط والعلة المعدة إما

138
أن تؤدي إلى ما يماثلها كالحركة إلى المنتصف فإنها معدة للحركة إلى
المنتهى وليست فاعلة لها بل الفاعل للحركة إما الطبيعة أو النفس لكن
فعل كل واحد منهما في الحركة إلى المنتهى بعيد وعند حصول الحركة إلى المنتصف
يقرب تأثير أحدهما في المعلول الذي هو الحركة إلى المنتهى وأما أن تؤدي إلى
خلافها كالحركة المعدة للسخونة وأما أن تؤدي إلى ضدها كالحركة المعدة للسكون
عند الوصول إلى المنتهى.
قال: والأعداد قريب وبعيد.
أقول: الأعداد منه ما هو قريب وذلك كالجنين المستعد لقبول الصورة
الإنسانية ومنه ما هو بعيد كالنطفة لقبولها وكذلك العلة المعدة قد تكون
قريبة وهي التي يحصل المعلول عقبيها وقد تكون بعيدة وهي التي لا تكون
كذلك وتتفاوت العلل في القرب والبعد على حسب تفاوت الأعداد وهو قابل
للشدة والضعف.
قال: ومن العلة العرضية ما هو معد.
أقول: قد بينا أن العلة العرضية تقال باعتبارين: أحدهما أن تؤثر العلة
شيئا ويتبع ذلك الشئ شئ آخر كقولنا الحرارة تقتضي الجمع بين المتماثلات
فإنها لذاتها تقتضي الخفة فما هو أخف في المركب يقبل السخونة أشد فينفصل عن
صاحبه ويطلب الصعود فيعرض له أن يجتمع مع مماثله والثاني أن يكون للعلة
وصف ملازم فيقال له علة عرضية (1) والأول علة معدة.
قال: المقصد الثاني في الجواهر والأعراض وفيه فصول (الأول) في



(1) قال صاحب الشوارق يعني أن بعض العلل الفاعلية العرضية يكون علة معدة ذاتية
بالنسبة إلى ما هي علة فاعلية عرضية فإن شرب السقمونيا علة فاعلية عرضية لحصول البرودة
وعلة معدة ذاتية له.
139
الجواهر الممكن أما أن يكون موجودا في الموضوع وهو العرض أولا
وهو الجوهر.
أقول: لما فرغ من البحث عن الأمور الكلية المعقولة شرع في البحث عن
الموجودات الممكنة وهي الجواهر والأعراض وفي هذا الفصل مسائل.
المسألة الأولى: في قسمة الممكنات بقول كلي
أن كل ممكن موجود أما أن يكون موجودا لا في موضوع وهو الجوهر
وأما أن يكون موجودا في موضوع وهو العرض ونعني بالموضوع المحل المتقوم
بذاته المقوم لما يحل فيه فإن المحل أما أن يتقوم بالحال أو يقوم الحال إذ لا بد
من حاجة أحدهما إلى الآخر فالأول يسمى المادة والثاني يسمى الموضوع والحال
في الأول يسمى صورة وفي الثاني يسمى عرضا فالموضوع والمادة يشتركان اشتراك
اخصين تحت أعم واحد هو المحل والصورة والعرض يشتركان اشتراك أخصين
تحت أعم واحد وهو الحال والموضوع أخص من المحل وعدم الخاص
أعم من عدم العام فكل ما ليس في محل فهو ليس في موضوع ولا
ينعكس ولهذا جاز أن يكون بعض الجواهر حالا في غيره ولما كان تعريف العرض
يشتمل على القيد الثبوتي قدمه في القسمة على الجوهر.
قال: وهو إما مفارق في ذاته وفعله وهو العقل أو في ذاته وهو النفس
أو مقارن فأما أن يكون محلا وهو المادة أو حالا وهو الصورة أو ما يتركب
منهما وهو الجسم.
أقول: هذه قسمة الجوهر إلى أنواعه فإن الجوهر أما أن يكون مفارقا
في ذاته وفعله للمادة وهو المسمى بالعقل أو مفارقا في ذاته لا في فعله وهو النفس
الناطقة فإنها مفارقة للمادة في ذاتها وجوهرها دون فعلها لاحتياجها إلى الآلة
في التأثير ولا يمكن أن يكون مفارقا في فعله دون ذاته لأن الاستغناء في

140
التأثير يستدعي الاستغناء في الذات وأما أن يكون مقارنا للمادة فأما
يكون محلا وهو الهيولي أو حالا وهو الصورة أو ما يتركب منهما وهو الجسم
فهذه أقسام الجواهر.
قال: والمحل والموضوع (1) يتعاكسان وجودا وعدما في العموم والخصوص
وكذا الحال والعرض.
أقول: قد تبين أن الموضوع أخص من المحل فعدمه يكون أعم من عدم
المحل فتعاكس الموضوع والمحل في العموم والخصوص باعتبار الوجود والعدم
وكذا الحال والعرض فإن العرض أخص من الحال فعدمه أعم.
قال: وبين الموضوع والعرض مباينة.
أقول الموضوع هو المحل المتقوم بذاته المقوم لما يحل فيه والعرض لا يتقوم
بذاته فبينهما مباينة.
قال: ويصدق العرض على المحل والحال جزئيا.
أقول: المحل قد يكون جوهرا وهو ظاهر وقد يكون عرضا على خلاف
بين الناس فيه فيصدق بعض المحل عرض والحال أيضا قد يكون جوهرا كالصورة
الحالة في المادة وقد يكون عرضا وهو ظاهر فيصدق بعض الحال عرض فقد
ظهر صدق العرض على المحل والحال جزئيا.
المسألة الثانية في أن الجوهر والعرض ليسا جنسين لما تحتهما
قال: والجوهرية والعرضية من ثواني المعقولات لتوقف نسبة إحداهما
على وسط.



(1) فالموضوع أخص مطلقا من المحل إذ كل موضوع محل ولا عكس واللاموضوع أعم
مطلقا من اللامحل إذ بانتفاع الموضوع يمكن انتفاع المحل وعدم انتفائه كما هو شأن كل عام
وخاص فإن عدم الخاص أعم من عدم العام.
141
أقول: اتفق العقلاء على أن العرض من حيث هذا المفهوم ليس جنسا لما تحته
بل هو عارض واختلفوا في الجوهر هل هو جنس لما تحته أو عارض فالذي
اختاره المصنف أنه عارض وجعل الجوهرية والعرضية من المعقولات الثانية فإن
كون الذات مستغنية عن المحل أو محتاجه اليه أمر زائد على نفس الذات من
الأمور الاعتبارية وحكم من أحكامها الذهنية واستدل عليه بأن الذهن يتوقف
في نسبة إحداهما إلى الذات على وسط ولهذا احتجنا إلى الاستدلال على عرضية
الكميات والكيفيات وجوهرية النفوس وأشباه ذلك وجنس الشئ لا يجوز أن
يتوقف ثبوته له على البرهان وهذا الذي ذكره المصنف (ره) يدل على الزيادة.
لا على كونه من المعقولات الثانية.
قال: واختلاف الأنواع بالأولوية.
أقول: هذا دليل ثان على كون الجوهر عرضا عاما لجزئياته لا جنسا لها
وذلك لأن بعض الجزئيات أولى بالجوهرية من بعض فإن الشخصيات أولى
بالجوهرية من الكليات ولا تفاوت في الأجناس وهو أيضا يدل على كون العرض
عرضيا لوقوع التفاوت فيه بين جزئياته فإن الأعراض القارة أولى بالعرضية
من غيرها.
قال: والمعقول اشتراكه عرضي.
أقول: أنا نعقل من الجسم والعقل والنفس والمادة والصورة أمرا مشتركا
هو الاستغناء عن المحل ولا نعقل بينهما اشتراكا في غيره وهذا القدر أمر عرضي
فالجوهرية إن جعلت عبارة عن هذا الاعتبار كانت عرضا عاما وإن جعلت
عبارة عن الماهية المقتضية لهذا الاعتبار فليس هيهنا ماهية للجسم وراء كونه
جسما وكذلك البواقي وهذه الماهيات نقتضي هذا الاعتبار وإن اختلفت مع
اشتراكه وكذا البحث في العرض فإنا نعقل الاشتراك بين الكم والكيف وباقي

142
الأعراض في الحاجة إلى المحل والعرضية في الوجود وهذا المعنى أمر اعتباري
فليست العرضية جنسا.
المسألة الثالثة: في نفي التضاد عن الجواهر
قال: ولا تضاد بين الجواهر ولا بينهما وبين غيرها
أقول: لما فرغ من تعريف الجوهر والعرض وبيان أنهما ليسا بجنسين شرع
في باقي أحكامهما فبين انتفاء الضدية عن الجواهر على معنى أنه لا ضد لجوهر
من الجواهر ولا من غيرها وبيانه أن الضد هو الذات الوجودية المعاقبة لذات
أخرى وجودية في الموضوع مع كونها في غاية البعد عنها وقد بينا أن الجوهر
لا موضوع له فلا يعقل فيه هذا المعنى لا بالنظر إلى جوهر آخر ولا بالنظر إلى
غيره من الأعراض.
قال: والمعقول من الفناء العدم.
أقول: لما بين انتفاء الضد عن الجواهر أخذ يرد على أبي هاشم واتباعه
حيث جعلوا للجواهر أضدادا هي الفناء فقال إن المعقول من الفناء العدم وليس
الفناء أمرا وجوديا يضاد الجواهر لأنه إما عرض أو جوهر (1) والقسمان باطلان
فلا تحقق له.
قال: وقد يطلق التضاد على بعض باعتبار آخر.
أقول: إن بعض الجواهر قد يطلق عليه أنه ضد للبعض الآخر لكن يؤخذ



(1) أي الأمر الوجودي أما عرض أو جوهر والفناء ليس بعرض ولا جوهر أما أنه ليس
بجوهر فظاهر وأما أنه ليس بعرض فلأن العرض لا ينافي وجود موضوعه والفناء ينافيه فهو
ليس بأمر وجودي والضد لا بد أن يكون أمرا وجوديا فهو ليس بضد لشئ بل تقابله مع غير
تقابل السلب والإيجاب.
143
التضاد باعتبار آخر وهو التنافي في المحل (1) مطلقا وحينئذ يكون بعض الصور
الجوهرية يضاد لبعض الآخر.
المسألة الرابعة في أن وحدة المحل لا تستلزم وحدة الحال
قال: ووحدة المحل لا تستلزم وحدة الحال إلا مع التماثل بخلاف العكس.
أقول: المحل الواحد قد يحل فيه أكثر من حال واحد مع الاختلاف
كالجسم الذي يحله السواد والحركة والحرارة وكالمادة التي يحل فيها الصورة
الجسمية والنوعية هذا مع الاختلاف أما مع التماثل فإنه لا يجوز أن يحل المثلان
محلا واحدا لاستلزامه رفع الاثنينية لانتفاء الامتياز بالذاتيات واللوازم لاتفاقهما
فيهما وبالعوارض لتساوي نسبتهما إليها فقد ظهر أن وحدة المحل لا تستلزم
وحدة الحال إلا مع التماثل وأما العكس فإنه يستلزم فإن وحدة الحال تستلزم
وحدة المحل لاستحالة حلول عرض واحد أو صورة واحدة في محلين وهو
ضروري وكلام أبي هاشم في التأليف وبعض الأوائل في الإضافات خطأ (2)
قال: وما الانقسام فغير مستلزم في الطرفين
أقول: انقسام المحل لا يستلزم انقسام الحال فإن الوحدة والنقطة
والإضافات كالأبوة والبنوة أعراض قائمة بمحال منقسمة وهي غير منقسمة
أما الوحدة والنقطة فظاهر وكذا الإضافة فإنه لا يعقل حلول نصف الأبوة



(1) كما لو أخذ على المحل سواء كان موضوعا أو مادة فتكون الصورة الهوائية الواردة
على المادي عقيب الصورة المائية مثلا مضادة.
(2) قال أبو هاشم إن التأليف عرض واحد قائم به محال متعددة لأن التأليف لا يعقل
من شئ واحد وجوابه أن التأليف أمر انتزاعي ينتزعه العقل من عدة أمور مجسمة في الخارج
وهي بهذا الاعتبار شئ واحد. قال بعض الفلاسفة الأقدمين أن الجوار قائم بالمتجاورين
والأخوة قائم بالأخوين والجواب أن كلا من الطرفين معروض لشخص من الإضافة كالأخوة مثلا.
144
أو البنوة في نصف ذات الأب والابن وذهب قوم إلى أن انقسام المحل يقتضي انقسام
الحال لاستحالة قيامه مع وحدته بكل واحد من الأجزاء أو توزيعه عليها أو انتفاء
حلوله فيها وأما الحال فإنه لا يقتضي انقسامه انقسام المحل فإن الحرارة والحركة
إذا حلا محلا واحدا لم يقتض ذلك أن يكون بعض المحل حارا غير متحرك وبعضه
متحركا غير حار (واعلم) أن الأعراض السارية إذا حلت محلا منقسما
انقسمت بانقسامه والأعراض المنقسمة بالمقدار لا بالحقائق إذا حلت محلا
انقسم بانقسامه.
المسألة الخامسة: في استحالة انتقال الأعراض
قال: والموضوع من جملة المشخصات.
أقول: الحكم بامتناع انتقال الأعراض قريب من البين والدليل عليه أن
العرض إن لم يتشخص لم يوجد فتشخصه ليس معلول ماهيته ولا لوازمها
وإلا لكان نوعه منحصرا في شخصه ولا ما يحل فيه وإلا لاكتفى بموجده
ومشخصه عن موضوعه فيقوم بنفسه وهو محال فيبقى أن يكون معلول محله
فيستحيل انتقاله عنه وإلا لم يكن ذلك الشخص ذلك الشخص.
قال: وقد يفتقر الحال إلى محل متوسط.
أقول: الحال قد يحل الموضوع من غير واسطة كالحركة القائمة بالجسم وقد
يفتقر إلى محل متوسط فيحل فيه ثم يحل ذلك المحل في الموضوع كالسرعة
القائمة بالجسم فإنها تفتقر إلى حولها في الحركة ثم تحل الحركة في الجسم.
المسألة السادسة: في نفي الجزء الذي لا يتجزى
قال: ولا وجود لوضعي لا يتجزى بالاستقلال.
أقول: هذه مسألة اختلف الناس فيها فذهب جماعة من المتكلمين والحكماء
إلى أن الجسم مركب من أجزاء إلا تتجزى فذهب بعضهم إلى تناهيها وبعضهم

145
إلى عدمه وذهب الباقون إلى أن الجسم بسيط في نفسه متصل كاتصاله عند الحس
لكنه يقبل الانقسام إما إلى ما يتناهى كما ذهب إليه من لا تحقيق له أو إلى
ما لا يتناهى كما ذهب إليه الحكماء ونفى المصنف الجزء الذي لا يتجزى بقوله
لا وجود لوضعي لا يتجزى بالاستقلال وذلك لأن ما لا يتجزى من ذوات
الأوضاع أعني الأشياء المشار إليها بالحس قد يوجد لا بالاستقلال كوجود النقطة
في طرف الخط ومركز الدائرة ولا يمكن وجوده بالاستقلال وقد استدل
عليه بوجوه:
قال لحجب المتوسط.
أقول: هذا أحد الأدلة على نفي الجزء وتقريره أنا إذا فرضنا جوهرا
متوسطا بين جوهرين فأما أن يحجبهما عن التماس أولا والثاني باطل وإلا لزم
التداخل والأول يوجب الانقسام لأن الطرف الملاقي لأحدهما مغاير للطرف
الملاقي للآخر.
قال: ولحركة الموضوعين على طرفي المركب من ثلاثة.
أقول: هذا وجه ثان وتقريره أنا إذا فرضنا خطا مركبا من ثلاثة جواهر
وعلى طرفيه جزئين ثم تحركا (1) على السواء في السرعة والبطؤ والابتداء فلا بد
وأن يتلاقيا وإنما يمكن بأن يكون نصف كل واحد منهما على النصف الطرف
والنصف الآخر على النصف المتوسط فتقسم الخمسة.
قال: أو من أربعة على التبادل (2).



(1) أي متوجهين من طرفي الخط المركب من ثلاثة أجزاء إلى وسطه كلاهما من فوق أو من
تحته لا أحدهما من فوقه والآخر من تحته ويكونان متساويين بحسب السرعة والبطؤ وابتداء
زمان الحركة.
(2) أي متوجها كل منهما إلى الطرف المقابل للطرف الذي هو عليه حتى يكون ما كان فوق
أحد الطرفين فوق الطرف وما كان تحت أحد الطرفين تحت الطرف الآخر.
146
أقول: هذا وجه ثالث وتقريره إنا إذا فرضنا خطأ مركبا من أربعة جواهر
وفوق أحد طرفيه (1) جزء وتحت طرفه الآخر جزء وتحركا على التبادل كل
منهما من أول الخط إلى آخره حركة على السواء في الابتداء والسرعة فإنهما لا
يقطعان الخط إلا بعد المحاذاة فموضع المحاذاة إن كان هو الثاني أو الثالث كان
أحدهما قد قطع أكثر فلا بد وأن يكون بينهما وذلك يقتضي انقسام
الجميع (2).
قال: ويلزمهم ما يشهد الحس بكذبه من التفكك وسكون المتحرك
وانتفاء الدائرة.
أقول: هذه وجوه أخرى تدل على نفي الجزء (أحدها) أن الحس يشهد
بأن المتحرك على الاستدارة باق على وضعه وشكله ونسبة أجزائه ومع القول
بالجزء يلزم التفكك لأن الجزء القريب من المنطقة إذا تحرك جزءا فإن تحرك
القريب من القطب جزءا تساوى المداران وهو باطل بالضرورة وإن تحرك أقل
من جزء لزم الانقسام وهو المطلوب وإن لم يتحرك أصلا لزم التفكك (3) (الثاني)



(1) وفوق أحد طرفيه جزء بأن يكون خط مركب من أربعة أجزاء ويكون فوق الأول
من طرف جزء وتحت الأول من طرف آخر جزء.
(2) لأن كلا من المتحركين في أوائل الحركة يقع على ملتقى الأول والثاني فيقع نصفه على نصف
الأول ونصفه الآخر على نصف الثاني في كل من الطرفين بهذا الشكل (= =) فينقسم كل من
الستة بنصفين ثم إذا وصلا بموضع المحاذاة ينقسم كل من الأربعة المتحركين والوسطين بنصفين.
(3) بيانه إنا لو فرضنا خطأ خارجا من مركز الرحى إلى الطرف العظيم منها فذلك الخط
يكون مركبا لا تتجزئ فإذا تحرك الجزء الأبعد من هذا الخط وهو الذي على الطرف بمقدار
جزء لا يتجزء فالجزء المتصل بالمركز من ذلك الخط لا يخلو أمره من ثلاثة إما أن لا يتحرك وهو
باطل حسا لأنه يلزم التفكيك في الحركة وأما أن يتحرك بمقدار الجزء الفوقاني وهو باطل أيضا.
147
أن السرعة والبطؤ كيفيتان قائمتان بالحركة لا باعتبار تخلل السكنات وعدمه
لأنه لو كان بسبب تخلل السكنات لزم أن يكون فضل سكنات الفرس الساير
من أول النهار إلى آخره خمسين فرسخا على حركاته بإزاء فضل حركات الشمس
من أول النهار إلى آخره على حركات الفرس لكن فضل حركات الشمس
أضعاف أضعاف حركات الفرس فتكون سكنات الفرس أضعاف أضعاف
حركاته لكن الحس يكذب ذلك إذا ثبت هذا فإذا تحرك السريع جزءا فإن
تحرك البطئ جزءا تساويا هذا خلف وإن تحرك أقل لزم الانقسام وإن لم
يتحرك أصلا لزم المحال (1) هذا ما خطر لنا الآن من تفسير قوله وسكون
المتحرك (الثالث) أن الدائرة (2) موجود بالحس فإن كانت حقيقية لزم إبطال
الجزء لأن الدائرة القطبية إذا تلاقت أجزاؤها بظواهرها وبواطنها ساوت
الدائرة المنطقية هذا خلف وإن تلاقت ببواطنها خاصة لزم الانقسام وإن لم
تكن حقيقية كان ذلك لارتفاع بعض أجزائها وانخفاض البعض الآخر لكن
المنخفض إذا ملئ بالجزء ولم يفضل كانت الدائرة حقيقية ولزم ما ذكرنا
وإلا لزم الانقسام (3).
قال: والنقطة عرض قائم فالمنقسم باعتبار التناهي.
أقول: هذا جواب عن حجة من أثبت الجزء وتقريرها إن النقطة موجودة
لأنها نهاية الخط فإن كانت جوهرا فهو المطلوب وإن كانت عرضا فمحلها إن
انقسم انقسمت لأن الحال في أحد الجزئين مغاير للحال في الآخر وإن لم ينقسم
فهو المطلوب والجواب أنها عرض قائم بالمنقسم ولا يلزم انقسامها لانقسام المحل



(1) أي سيكون المحرك.
(2) يعني أن الدائرة الصغيرة المحيطة بالمركز المركبة من أجزاء إذا تلاقت المركز بظواهر
أجزائها أي بجوانبها التي إلى المنطقة وبواطنها أي جوانبها التي إلى المركز.
(3) أي لكون كل جزء واقع في الدائرة ذا طرفين.
148
لأن الحال في المنقسم باعتبار لحوق طبيعة أخرى به لا يلزم انقسامه بانقسام محله
وهيهنا النقطة حلت في الخط المنقسم باعتبار عروض التناهي له.
قال: والحركة لا وجود لها في الحال ولا يلزم نفيها مطلقا.
أقول: هذا جواب عن حجة أخرى لهم وهي أن الحركة موجودة بالضرورة
وهي من الموجودات الغير القارة فإما أن يكون لها في الحال وجود أو لا والثاني
باطل لأن الماضي والمستقبل معدومان فلو لم تكن في الحال موجودة لزم نفيها
مطلقا وإذا كانت موجودة في الحال فإن كانت منقسمة كان أحد طرفيها سابقا
على الآخر فلا يكون الحاضر كله حاضرا هذا خلف وإن لم تكن منقسمة كانت
المسافة غير منقسمة لأنها لو انقسمت الحركة لأن الحركة في أحد
الجزئين مغايرة للحركة في الجزء الآخر فتكون الحركة منقسمة مع إنا فرضناها
غير منقسمة والجواب أن الحركة لا وجود لها في الحال ولا يلزم من نفيها في
الحال نفيها (1) مطلقا لأن الماضي والمستقبل وإن كانا معدومين في الحال لكن
كل منهما له وجود في حد نفسه.
قال: والآن لا تحقق له خارجا (2).
أقول: هذا جواب عن حجة أخرى لهم وهي أن الآن موجود لانتفاء
الماضي والمستقبل فإن كان الآن منفيا كان الزمان منفيا مطلقا ويستحيل
انقسامه وإلا لزم أن يكون الحاضر بعضه فلا يكون الآن كله إنا هذا خلف وإن
كان موجودا فالحركة الواقعة فيه غير منقسمة وإلا لكان أحد طرفيها واقعا
في زمان والآخر في زمان آخر فينقسم ما فرضناه غير منقسم هذا خلف ويلزم



(1) نقول الحركة الماضية والمستقبلة موجودتان في موطنهما.
(2) لأن الآن هو الحد المفروض بين القطعتين من الزمان وهو ليس من الزمان في شئ
فعدمه في الخارج لا يستلزم عدم الزمان.
149
من عدم انقسام الحركة عدم انقسام المسافة على ما مر تقريره والجواب أن
الماضي والمستقبل موجودان في حد أنفسهما معدومان في الآن لا مطلقا والآن
لا تحقق له في الخارج.
قال: ولو تركبت الحركة مما لا يتجزى لم تكن موجودة.
أقول: لما فرغ من النقض شرع في المعارضة فاستدل على أن الحركة
لا تتركب مما لا يتجزى لأنها لو تركبت مما لا يتجزى لم تكن موجودة والتالي
باطل اتفاقا فكذا المقدم بيان الشرطية إن الجزء المتحرك (1) إذا تحرك من
جزء إلى جزء فأما أن يوصف بالحركة حال كونه في الجزء الأول وهو باطل
لأنه حينئذ لم يتحرك بعد أو حال كونه في الجزء الثاني وهو باطل أيضا لأن
الحركة حينئذ قد انتهت وانقطعت ولا واسطة بين الأول والثاني وهذا المحال
نشأ من إثبات الجوهر الفرد لأنه على تقدير عدمه (2) تثبت الواسطة ويمكن
أن يقرر بيان الشرطية من وجه آخر وهو أن الحركة إما أن تكون عبارة
عن المماسة الأولى أو الثانية وهما محالان لما مر أو مجموعهما وهو باطل لانتفائه.
قال: والقائل بعدم تناهي الأجزاء يلزمه مع ما تقدم النقض بوجود
المؤلف مما يتناهى ويفتقر في التعميم إلى التناسب.
أقول: لما فرغ من إبطال مذهب القائلين بالجوهر الفرد شرع في إبطال
مذهب القائلين بعدم تناهي الأجزاء فعلا وقد استدل عليه بما تقدم فإن الأدلة
التي ذكرناها تبطل الجوهر الفرد مطلقا سواء قيل بتركب الجسم من أفراد
متناهية منه أو غير متناهية واستدل عليه أيضا بوجوه ثلاثة الأول إنا نفرض



(1) أي الجزء المتحرك المفروض عدم انقسامه إذا تحرك من جزء من المسافة إلى جزء
آخر منها.
(2) وهي الحدود المتوسطة بين ابتداء محل الحركة وانتهائه.
150
أعدادا متناهية (1) من الجواهر الأفراد ونؤلفها في جميع الأبعاد فأما أن يزيد
مقدارها على مقدار الواحد أولا والثاني باطل وإلا لم يكن تأليفها مفيدا للمقدار
ولا للعدد وهو باطل قطعا وإن زاد مقدارها على مقدار الواحد حتى حصلت
أبعاد ثلاثة حصل جسم من أجزاء متناهية وهو يبطل قولهم إن كل جسم
يتألف من أجزاء غير متناهية فهذا معنى لزوم النقض بوجود المؤلف مما يتناهى
وأما قوله ويفتقر في التعميم إلى التناسب فمعناه إنا إذا أردنا تعميم القضية بأن
نحكم بأنه لا شئ من الأجسام بمؤلف من أجزاء غير متناهية فطريقه أن
ننسب (2) هذا المؤلف الذي الفناه من الأجزاء المتناهية إلى الجسم المتناهي
المؤلف من أجزاء غير متناهية فنقول كل جسم فإنه متناه في المقدار فله إلى
هذا المؤلف نسبة وهي نسبة متناهي المقدار إلى متناهي المقدار لكنا نعلم أن
المقدار يزيد بزيادة الأجزاء وينقص بنقصانها فنسبة المقدار إلى المقدار كنسبة
الأجزاء إلى الأجزاء لكن نسبة المقدار إلى المقدار نسبة متناه إلى متناه فكذا
نسبة الأجزاء إلى الأجزاء.
قال: ويلزم عدم لحوق السريع البطئ.
أقول: هذا هو الوجه الثاني الدال على إبطال القول بعدم تناهي الأجزاء



(1) بيانه إنا لو فرضنا جسما مركبا من ثمانية جواهر فرده طوله جوهران وعرضه جوهران
وعمقه جوهران فإنه جسم وقد تركب مما يتناهى وهذا نقض لقول النظام إذ هو يدعي أن؟ ل
جسم غير متناه نقيض الموجبة الكلية سالبة الجزئية.
(2) إذا أردنا تعميم الدليل إلى جميع الأجسام قلنا أن كل جسم كبير أو صغير فلا بد وأن
يكون له نسبة مع هذا الجسم المركب من ثمانية ومن المعلوم أن نسبة الأجزاء إلى الأجزاء
كنسبة الحجم إلى الحجم لكن نسبة الحجم إلى الحجم متناهية فنسبة الأجزاء إلى الأجزاء متناهية
وهو يقتضي تناهي الأجزاء.
151
وتقريره أن الجسم لو تركب من أجزاء غير متناهية لم يلحق السريع البطئ
والتالي باطل بالضرورة فكذا المقدم بيان الشرطية إن البطئ إذا قطع مسافة
ثم ابتدء السريع وتحرك فإنه إذا قطع تلك المسافة يكون البطئ قد قطع شيئا
آخر وإذا قطعه السريع يقطع البطئ شيئا آخر وهكذا إلى ما لا يتناهى
فلا يلحق السريع البطئ.
قال: وأن لا يقطع المسافة المتناهية في زمان متناه.
أقول: هذا وجه ثالث قريب من الوجه الثاني وتقريره إنا لو فرضنا الجسم
يشتمل على ما لا يتناهى من الأجزاء لزم أن لا يقطع المتحرك المسافة المتناهية
في زمان متناه لأنه لا يمكن قطعها (1) إلا بعد قطع نصفها ولا يمكن قطع نصفها
إلا بعد قطع ربعها وهكذا إلى ما لا يتناهى فيكون هناك أزمنة غير متناهية
وقد تكلمنا على هذه الوجوه في كتاب الأسرار بما لم يسبقنا إليه أحد.
قال: والضرورة قضت ببطلان الطفرة والتداخل.
أقول: إعلم أن القائلين بعدم تناهي الأجزاء اعتذروا عن الوجه الأول
بالتداخل فقالوا لا يلزم من عدم تناهي الأجزاء عدم تناهي المقدار لأن الأجزاء
تتداخل فيصير جزءان وأزيد في حيز جزء واحد وفي قدره فلا يلزم بقاء
النسبة واعتذروا عن الوجهين الأخيرين بالطفرة فإن المتحرك إذا قطع مسافة
غير متناهية الأجزاء في زمان متناه فإنه يطفر بعض الأجزاء ويتحرك على
البعض الآخر وكذلك السريع يطفر بعض الأجزاء ليلحق البطئ وهذان
العذران باطلان بالضرورة.



(1) بيان ذلك على نحو أحسن أن التحرك على مسافة إنما يقطعها جزء بعد جزء لامتناع الطفرة
في المكان فلو كانت مركبة من أجزاء غير متناهية فإلى متى سار عليها لم يصل إلى منتهاها
لعدم تناهيها فلا يمكنه أن يقطع مسافة من المسافات في زمان متناه.
152
قال: والقسمة بأنواعها (1) تحدث اثنينية تساوي طباع كل واحد منهما
طباع المجموع.
أقول: يريد أن يبطل مذهب ذيمقراطيس في هذا الموضوع وهو أن الجسم
ينتهي في القسمة الانفكاكية إلى أجزاء قابلة للقسمة الوهمية لا الانفكاكية
وبيانه أن القسمة بأنواعها الثلاث أعني الانفكاكية والوهمية والتي باختلاف
العوارض الإضافية أو الحقيقية تحدث في المقسوم اثنينية تكون طبيعة كل واحد
من القسمين مساويا لطبيعة المجموع ولطبيعة الخارج عنه وكل واحد من
القسمين كما صح عليه الانفكاك عن صاحبه فكذا كل واحد من قسمي القسمين
إلى ما لا يتناهى.
قال: وامتناع الانفكاك لعارض لا يقتضي الامتناع الذاتي
أقول: بعض الأجسام قد يمتنع عليه القسمة الانفكاكية لا بالنظر إلى ذاتها
بل بالنظر إلى عارض خارج عن الحقيقة الجسمية إما صغر المقسوم بحيث
لا تتناوله الآلة القاسمة أو صلابته أو حصول صورة يقتضي ذلك كما في الفلك
عندهم ولكن ذلك الامتناع لا يقتضي الامتناع الذاتي.
قال: فقد ثبت أن الجسم شئ واحد متصل يقبل الانقسام إلى ما
لا يتناهى.
أقول: هذا نتيجة ما مضى لأنه قد أبطل القول بتركب الجسم من الجواهر
الأفراد سواء كانت متناهية أو لا فثبت أنه واحد في نفسه متصل لا مفاصل



(1) هي المنقسمة إلى القطع الذي هو الانفصال بآلة نفاذة في محل الانفصال كما في اللحم
والثانية هي انقسام الشئ بسبب عروض عارضين مختلفين مستقرين فيه كالجسم المتلون بلونين
كالتفاح الواحد المنقسم إلى الأحمر والأصفر العارض الإضافي كالجسم الذي وقع الضوء على
بعضه فإنه ينقسم إلى المضئ والمظلم.
153
له بالفعل ولا شك في أنه يقبل الانقسام فإما أن يكون قابلا لما يتناهى من
الأقسام لا غير وهو باطل لما تقدم في إبطال مذهب ذيمقراطيس أو لما لا يتناهى
وهو المطلوب.
المسألة السابعة: في نفي الهيولي
قال: ولا يقتضي ذلك ثبوت مادة سوى الجسم لاستحالة التسلسل
ووجود ما لا يتناهى.
أقول: يريد أن يبين أن الجسم البسيط لا جزء له وقد ذهب إلى ذلك جماعة
من المتكلمين وأبو البركات البغدادي وقال أبو علي أن الجسم مركب من الهيولي
والصورة واحتج عليه بأن الجسم متصل في نفسه وقابل للانفصال ويستحيل أن
يكون القابل هو الاتصال نفسه لأن الشئ لا يقبل عدمه فلا بد للاتصال من
محل يقبل الانفصال والاتصال وذلك هو الهيولي والاتصال هو الصورة فاستدركت
المصنف (ره) ذلك وقال إن ذلك أي قبول الانقسام لا يقتضي ثبوت مادة
كما قررناه في كلام أبي علي لأن الجسم المتصل له مادة واحدة فإذا قسمناه استحال
أن تبقى المادة على وحدتها اتفاقا بل يحصل لكل جزء مادة فإن كانت مادة كل
جزء حادثة بعد القسمة لزم التسلسل لأن كل حادث عندهم لا بد له من مادة
وإن كانت موجودة قبل القسمة لزم وجود مواد لا نهاية لها بحسب ما في الجسم
من قبول الانقسامات التي لا تتناهى.
المسألة الثامنة: في إثبات المكان لكل جسم
قال: ولكل جسم مكان طبيعي يطلبه عند الخروج على أقرب الطرق.
أقول: كل جسم على الاطلاق فإنه يفتقر إلى مكان يحل فيه لاستحالة وجود
جسم مجرد عن كل الأمكنة ولا بد أن يكون ذلك المكان طبيعيا له لأنا إذا
جردنا الجسم عن كل العوارض فإما أن لا يحل في شئ من الأمكنة وهو محال

154
أو يحل في الجميع وهو أيضا باطل بالضرورة أو يحل في البعض (1) فيكون
ذلك البعض طبيعيا ولهذا إذا أخرج عن مكانه عاد إليه وإنما يرجع إليه على
أقرب الطرق وهو استقامة (2).
قال: ولو تعدد انتفى.
أقول: يريد أن يبين أن المكان الطبيعي واحد لأنه لو كان لجسم واحد
مكانان طبيعيان لكان إذا حصل في أحدهما كان تاركا للثاني بالطبع وكذا
بالعكس فلا يكون واحد منهما طبيعيا له فلهذا قال فلو تعدد يعني الطبيعي
انتفى ولم يكن له مكان طبيعي.
قال: ومكان المركب (3) مكان الغالب أو ما اتفق وجوده فيه
أقول: المركب إن تركب من جوهرين (4) فإن تساويا (5) وتمانعا وقف في
الوسط بينهما وإلا تفرقا وإن غلب أحدهما كان مكانه مكان الغالب وإن
تركب من ثلاثة وغلب أحدها كان مكانه مكان الغالب وإلا كان في الوسط



(1) لأن الجسم لو حل مكانا دون مكان بلا اقتضاء من طبيعته لزم الترجيح بلا مرجح.
(2) لأن الخط المستقيم هو أقصر الخطوط المفروضة بين نقطتين فإذا رجع على الاستقامة
لكان على أقصر الخطوط وأقرب الطرق وإنما يرجع على الاستقامة لأن مطلوب الطبيعة ليس
إلا الوصول بمكانها.
(3) أي ليس وراء أمكنة بساطة بل إما يتمكن من مكان الغالب من الأجزاء إن كان
أحدها غالبا أو ما اتفق وجوده فيه إن لم يكن غالبا بل كانت الأجزاء متساوية والمراد بقوله
أو ما اتفق (الخ) أنه لو كانت الأجزاء متساوية فأما أن يكون الركب بعيدا عن جميع أمكنة
الأجزاء بعدا بالنسبة فإنه إذا لم يعقه عائق وقف في الوسط.
(4) كالدخان المركب من الأجزاء الأرضية والنارية.
(5) أي من قوة الميل والجذب إلى مكانها الطبيعي.
155
وإن تركب من أربعة متساوية حصل في الوسط أو ما اتفق وجوده فيه وإن
غلب أحدها كان في مكانه ولا استمرار للمعتدل لسرعة انفعاله
بالأمور الغريبة.
قال: وكذا الشكل والطبيعة منه هو الكرة.
أقول: قيل في تعريف الشكل أنه ما أحاط به حد واحد أو حدود وفي
التحقيق أنه من الكيفيات المختصة بالكميات وهو هيئة إحاطة الحد الواحد
أو الحدود بالجسم وهو طبيعي وقسري لأن كل جسم متناه على ما يأتي وكل
متناه مشكل بالضرورة فإذا فرض خاليا عن جميع العوارض لم يكن له بد من
شكل فيكون طبيعيا ولما كانت الطبيعية واحدة لم تقتض أمورا مختلفة ولا شكل
أبسط من الاستدارة فيكون الشكل الطبيعي هو المستدير وباقي الأشكال قسري.
المسألة التاسعة: في تحقيق ماهية المكان
قال: والمعقول من الأول البعد (1) فإن الأمارات تساعد عليه.
أقول: الأول يعني به المكان لأنه قد تبين أن الجسم يقتضي بطبعه شيئين
المكان والشكل ولما كان الشكل ظاهرا وكان طبيعيا ذكره بعقب المكان ثم
عاد إلى تحقيق ماهية المكان وقد اختلف الناس فيه والذي عليه المحققون أمران
أحدهما البعد المساوي لبعد المتمكن وهذا مذهب أفلاطون والثاني السطح
الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوي وهو مذهب
أرسطو وأبي علي بن سينا وقد اختار المصنف من المكان الأول وهو اختيار



(1) قوله والمعقول من الأول أي المكان البعد وهو موجود والدليل عليه بأن المكان
مقصد المتحرك وكل ما كان كذلك فهو موجود وحيث لا يكون جزءا للجسم ولا حالا فيه لأن
يسكن فيه الجسم فهو مغاير للجسم وأيضا المكان يقدر له نصف وثلث ونحوهما وأيضا فإنه يشار
إليه بالحس فيقال الجسم هناك وكل مشار إليه بالحث موجود.
156
أبي البركات ومذهب المتكلمين قريب منه والدليل على ما اختاره المصنف أن
المعقول من المكان إنما هو البعد فإنا إذا فرضنا الكوز خاليا من الماء تصورنا
الأبعاد التي يحيط بها جرم الكوز بحيث إذا ملئ ماء شغلها الماء بجملتها
والأمارات المشهورة في المكان من قولهم إنه ما يتمكن المتمكن فيه ويستقر
عليه ويساويه (1) وما يوصف بالخلو والامتلاء يساعد على أن المكان هو البعد.
قال: واعلم (2) أن البعد منه ملاق للمادة وهو الحال في الجسم ويمانع



(1) اختلف الحكماء في أن المكان ما هو: فذهب أفلاطون إلى أن المكان البعيد المساوي
لبعد المتمكن بحيث يساوي هذا البعد الكمية السارية في الجسم المتمكن وأنه أمر موجود
وذهب أرسطاليس والمشاؤون وأبو نصر الفارابي والشيخ ابن سينا إلى القول بأن الجسم هو السطح
الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من الجسم المحوى كالسطح الباطن من الكوز
المماس لأطراف الماء ويدل على القول الأول ما في السنة الناس من أن الماء في الكوز وأن الطائر
في الهواء، فإذا سئلوا عن تفسير قولهم هذا يفسرونه بفطرتهم وبداهة عقولهم بأن الماء فيما بين
أطراف الكوز ولا ريب أنهم يريدون بأطراف الكوز أطرافه الداخلة هو البعد الممتد إلى السطح
الباطن وأيضا يقولون إن المكان خلا من المتمكن وإن المكان امتلئ من المتمكن.
(2) حاصله: أن البعد الذي هو الكمية السارية في الجسم التي يعبر عنها بالجسم التعليمي الحال
في الجسم الطبيعي ملاق ومقارن للمادة وأما البعد الذي هو المكان هو جوهر مجرد مفارق عن
المادة يحل فيه الجسم ويتخذ في الوضع والإشارة مع البعد العرضي الحال في الجسم وهذا
الجوهر شئ متوسط بين المجرد المحض والمادي المحض لأن له بعض خواص المادة وهو الوضع
والإشارة، بيان الأشكال وهو أن المكان بعد كما هو المفروض والجسم الحال في المكان أيضا له
بعد قطعا فحين حلول الجسم في المكان إن بقي البعد إن لزم اجتماع المثلين وأن عدم البعد الحال
لزم كون الجسم بلا بعد وهو محال وإن عدم بعد المكان لزم انعدام المكان والجواب أن البعد
قسمان منه ملاق للمادة وهو البعد الحال في الجسم ويمانع هذا القسم من البعد مساويه إذ يستحيل
تداخل الجسمين فلا يمكن اجتماع البعدين المقارنين للمادة ومنه مفارق عن المادة وهذا البعد هو
الذي يحل فيه الأجسام وتلاقيها بجملتها بحيث ينطبق على بعد الممكن وتتحد به ولا امتناع لخلوه
عن المادة.
157
مساويه ومنه مفارق تحل فيه الأجسام ويلاقيها بجملتها وبداخلها بحيث
ينطبق على بعد المتمكن ويتحد به ولا امتناع لخلوه عن المادة.
أقول: لما فرغ من بيان ماهية المكان شرع في الجواب عن شبهة مقدرة
تورد على كون المكان بعدا وهي أن المكان لو كان هو البعد لزم اجتماع البعدين
والتالي محال فالمقدم مثله بيان الشرطية إن المتمكن له بعد فإن بقيا معا لزم
الاجتماع والاتحاد إذ لا يزيد بعد الحاوي عند حلول المحوي وإن عدم أحدهما
كان المعدوم حالا في الموجود أو بالعكس وهما محالان وأما بيان استحالة التالي
فضروري لما تقدم من امتناع الاتحاد ولأن المعقول من البعد الشخصي إنما هو البعد
الذي بين طرفي الحاوي فلو تشكك العقل (1) في تعدده لزم السفسطة وتقرير
الجواب أن البعد ينقسم إلى قسمين أحدهما بعد مقارن للمادة وحال فيها وهو
البعد المقارن للجسم والثاني مفارق للمادة وهو الحاصل بين الأجسام المتباعدة
والأول يمانع مساويه يعني البعد المقارن للمادة أيضا فلا يجامعه لاستحالة
التداخل بين بعدين مقارنين والثاني لا يستحيل عليه مداخلة بعد مادي بل
يداخله ويطابقه ويتحد به وهو محل الجسم المداخل بعده له فلا امتناع في هذه
التداخل والاتحاد لأن هذا البعد خال عن المادة.
قال: ولو كان المكان سطحا لتضادت الأحكام.
أقول: لما بين حقيقة المكان شرع في إبطال مذهب المخالفين القائلين بأن
المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوي
وتقرير البطلان إن المكان لو كان هو السطح لتضادت الأحكام الثابتة للجسم
الواحد فإن الحجر الواقف في الماء والطير الواقف في الهواء يفارقان سطحا بعد



(1) يعني لو تشكك إنسان من أن هذا البعد الذي بين أطراف الحاوي هل هو واحد
أو متعدد لزم السفسطة لأن البديهة تشهد بأنه واحد.
158
سطح مع كونهما ساكنين ولو كان المكان هو السطح لكانا متحركين لأن
الحركة هي مفارقة الجسم لمكان إلى مكان آخر ولكانت الشمس المتحركة
الملازمة لسطحها ساكنة فيلزم سكون المتحرك وحركة الساكن وذلك تضاد
في الأحكام محال (1).
قال: ولم يعم المكان (2)
أقول: هذا وجه ثان دال على بطلان القول بالسطح وتقريره أن العقلاء
حكموا باحتياج كل جسم إلى مكان ولو كان المكان عبارة عن السطح الحاوي
لزم أحد الأمرين وهو إما عدم تناهي الأجسام حتى يكون كل جسم محاطا
بغيره أو حصول جسم لا في مكان بأن يكون محيطا بجميع الأجسام والقسمان
باطلان فالملزوم مثله.
المسألة العاشرة: في امتناع الخلاء
قال وهذا المكان لا يصح عليه الخلو عن شاغل وإلا لتساوت حركة ذي
المعاوق وحركة عديمه عند فرض معاوق أقل بنسبة زمانيهما.
أقول: اختلف الناس في هذا المكان فذهب قوم إلى جواز الخلاء وذهب
آخرون إلى امتناعه وهو اختيار المصنف واستدل عليه بأن الخلاء لو كان ثابتا
لكانت الحركة مع العائق كالحركة مع عدم العائق والتالي باطل بالضرورة



(1) وأيضا المسافر في الطائرة التي لا تدخلها الهواء متحرك بالضرورة مع أنه على مبنى
أرسطو ساكن إذ لا تتبدل عليه السطوح بل السطح المحيط به واحد.
(2) وتقريره أنه لو كان المكان عبارة عن السطح الباطن للمحاط يلزم أحد أمرين على سبيل
منع الخلو لأنه إما أنه يكون كل جسم محاطا بجسم آخر حتى يكون له مكان أم لا وعلى الثاني
لم يعم المكان لكل جسم بل كان المحاط فقط له مكان دون غيره وعلى الأول يلزم عدم تناهي
الأجسام وكلا الأمرين باطل باعتقاد هؤلاء.
159
فالمقدم مثله وبيان الشرطية إنا إذا فرضنا متحركا يقطع مسافة ما خالية في
ساعة ثم نفرض تلك المسافة ممتلية فإن زمان تلك الحركة يكون أطول لأن
الملاء الموجود في المسافة معاوق للمتحرك عن الحركة فلنفرضه يقطعها في ساعتين
ثم نفرض ملاء آخر أرق من الأول على نسبة زمان الحركة في الخلاء إلى زمانها
في الملاء وهو النصف فيكون معاوقته نصف العاوقة الأولى فيتحركها المتحرك
في ساعة لكن الملاء الرقيق معاوق أيضا فتكون الحركة مع العاوق كالحركة
بدونه وهو باطل.
المسألة الحادية عشرة: في البحث عن الجهة
قال: والجهة طرف الامتداد (1) الحاصل في مأخذ الإشارة.
أقول: لما بحث عن المكان وكانت الجهة مناسبة له حتى ظن أنهما واحد
عقبه بالبحث عنها وهي على ما فسرها جماعة من الأوايل عبارة عن طرف
الامتداد الحاصل في مأخذ الإشارة وذلك لأنا نتوهم امتدادا آخذا من المشير
منتهيا إلى المشار إليه وذلك المنتهى هو طرف الامتداد الحاصل في
مأخذ الإشارة.
قال: وليست منقسمة (1)
أقول: لما كانت الجهة عبارة عن الطرف لم تكن منقسمة لأن الطرف لو كان
منقسما لم يكن الطرف كله طرفا بل نهايته فلا يكون الطرف طرفا هذا



(1) طرف الامتداد له اعتباران فبالنسبة إلى الامتداد تسمى نهاية وطرفا وبالنسبة إلى
الحركة والإشارة تسمى جهة وحيث إن الامتداد لا بد له من مأخذ فالجهة إنما يعبر طرف
الامتداد المبدو من المشير.
(2) يعني ليست منقسمة أصلا إن كان الامتداد المشار به خطا لأن نهاية الخط نقطة وهي
لا تنقسم أصلا.
160
خلف ولأن المتحرك إذا وصل إلى النصف لم يخل إما أن يكون متحركا عن
الجهة فلا يكون ما تخلف من الجهة أو يكون متحركا إليها فلا يكون المتروك
من الجهة.
قال: وهي من ذوات الأوضاع المقصودة بالحركة للحصول فيها وبالإشارة.
أقول: الجهة ليست أمرا مجردا عن المواد وعلائقها بل هي من ذوات
الأوضاع التي تتناولها الإشارة الحسية وتقصد بالحركة وبالإشارة فتكون موجودة
وإنما قيد القصد بالحركة بقوله للحصول فيها لأن ما يقصد بالحركة قد يكون
موجودا كالجهة فإنها تقصد بالحركة لأنها يقصد الحصول فيها وقد يكون معدوما
كالبياض الذي يتحرك الجسم إليه من السواد فإنه معدوم وليس مقصودا بالحركة
للحصول فيه بل لتحصيله.
قال: والطبيعي أنها فوق وسفل وما عداهما غير متناه.
أقول: الجهة منها ما هو طبيعي وهو الفوق والسفل لا غير ومنها ما هو
غير طبيعي وهو ما عداهما ونعني بالطبيعي ما يستحيل تغيره وانتقاله عن
هيئة وبغير الطبيعي ما يمكن تغيره فإن القدام قد يصير خلفا وكذا اليمين
والشمال وأما الفوق والسفل فلا وهذه الجهات التي ليست طبيعية غير متناهية
لأنها أطراف الخطوط المفروضة في الامتداد وتلك الخطوط غير متناهية.
قال: الفصل الثاني في الأجسام وهي قسمان فلكية وعنصرية أما الفلكية
فالكلية منها تسعة واحد غير مكوكب محيط بالجميع وتحته فلك الثوابت ثم
أفلاك الكواكب السيارة السبعة (1) وتشتمل على أفلاك أخرى جزئية تداوير



(1) أفلاك السبعة السيارة قمر وعطارد وزهرة وشمس ومريخ ومشتري وزحل.
161
وخارجة المراكز والمجموع أربعة وعشرون وتشتمل على سبعة متحيرة
وألف ونيف وعشرين كوكبا ثوابت.
أقول: لما فرغ من البحث عن مطلق الجوهر شرع في البحث عن جزئياته
وبدء بالجسم لأنه أقرب إلى الحس وفي هذا الفصل مسائل المسألة الأولى في
البحث عن الأجسام الفلكية (1). إعلم أن الأجسام تنقسم قسمين فلكية وعنصرية
والأفلاك أما كلية يظهر منها حركة واحدة أما بسيطة أو مركبة وأما جزئية
أما الكلية فتسع واحد منها محيط بالجميع يسمى الفلك المحيط وهو غير
مكوكب ويسمى الفلك الأطلس بهذا الاعتبار وتحته فلك الثوابت ويسمى فلك
البروج يماس المحيط بمقعره محدب هذا الفلك وتحت هذا زحل وتحته المشتري
وتحته المريخ وتحته الشمس وتحته الزهرة وتحته عطارد وتحته القمر يماس العالي
بمقعره محدب السافل وهذه التسعة متوافقة المراكز وموافقة للأرض في مركزها
ثم إن كل فلك من هذه الأفلاك السبعة ينفصل إلى أجسام كثيرة يقتضيه اختلاف
حركات ذلك الكواكب في الطول والعرض والاستقامة والرجوع والسرعة
والبطؤ والبعد والقرب من الأرض فأثبتوا لكل كوكب فلكا ممثلا بفلك البروج
مركزه مركز العالم يماس بمحدبه مقعر ما فوقه وبمقعره محدب ما تحته وهو الفلك
الكلي المشتمل على سائر أفلاكه إلا القمر فإن ممثله محيط بآخر يسمى المائل
وأثبتوا أيضا فلكا خارج المركز عن مركز العالم الأرض (خ ل) ينفصل عن
الممثل أو المائل يتماس محدبا هما مقعرا هم على نقطتين يسمى الأبعد عن الأرض
أوجا والأقرب منه حضيضا وأثبتوا فلكا آخر يسمى فلك التدوير غير محيط



(1) بيان ذلك أن الأفلاك الكلية تسعة والخارجة المراكز ثمانية والتداوير ستة ولفلك القمر
فلك آخر هو قشره المسمى بالمثل فللقمر أربعة أفلاك الممثل المحيط بالمائل والمائل الشامل على
الخارج المركز والخارج المركز الحامل للتدوير والتدوير.
162
بالأرض بل هو في ثخن الخارج المركز يماس محدبة سطحيه على نقطتين تسمى
الأبعد ذروة والأقرب إلى الأرض حضيضا في السبعة عدا الشمس فإنهم أثبتوا
لها فلكا خارج المركز خاصة وأثبتوا لعطارد فلكين خارجي المركز يسمى
أحدهما المدير والثاني الحامل فالمجموع مع الفلكين العظيمين أربعة وعشرون
فلكا تشتمل سبعة أفلاك منها على خمسة كواكب متحيرة وفلك البروج تحتوي
على ألف ونيف وعشرين كوكبا ثابتة وكون الثوابت في فلك واحد غير معلوم
وكذلك انحصار الأفلاك فيما ذكروا غير معلوم بل يجوز أن توجد أفلاك كثيرة
أما وراء المحيط أو بين هذه الأفلاك وقول بعضهم (1) ن أبعد بعد كل سافل
مساو لأقرب قرب العالي باطل لأن بين أبعد بعد القمر وأقرب قرب عطارد
ثخن فلك جوزهر القمر.
قال: والكل بسائط.
أقول: ذهبوا إلى أن الفلك بسيط لأن كل مركب يتطرق إليه الانحلال
والفلك لا يتطرق إليه الانحلال في هذه المدد المتطاولة فيكون بسيطا وهذا
حكم واجب عندهم وممكن عندنا لأن الأجسام عندنا حادثة يمكن تطرق التغير
إليها والانحلال.
قال: خالية من الكيفيات الفعلية والانفعالية ولوازمها.
أقول: هذا حكم آخر للأفلاك وهو أنها غير متصفة بالكيفيات الفعلية أعني
الحرارة والبرودة وما ينسب إليهما ولا الكيفيات الانفعالية أعني الرطوبة



(1) أي قول بعضهم أن بعد السطح المحدب لكل فلك كلي من مركز العالم الذي هو مركز
الأرض كبعد السطح المقعر لفلك كلي فوقه لعدم الفاصلة بين السطحين باطل أي منقوض بفلك
القمر لأن بين سطحه المحدب وسطح عطارد المقعر جسم فاصل هو ممثل القمر الذي يسمى
بالجوزهر.
163
واليبوسة وما ينسب إليهما وغير متصفة بلوازمها أعني الثقل والخفة واستدلوا
على ذلك بأن الأفلاك لو كانت حاوة لكانت في غاية الحرارة والتالي باطل
فالمقدم مثله بيان الشرطية إن الفاعل موجود في مادة بسيطة لا عايق لها فيجب
حصول كمال الأثر وبيان بطلان التالي أن الهواء العالي أبرد من الهواء الملاصق لوجه
الأرض وكذا لو اقتضت البرودة لبلغت الغاية فيها فكان يستولي الجمود على
العناصر فما كان يتكون شئ من الحيوان ولقائل أن يقول لا يلزم من اقتضاء
الحرارة حصول النهاية لأن الشديد والضعيف مختلفان بالنوع ولا يلزم من اقتضاء
الماهية نوعا ما اقتضائها النوع الآخر ولهذا كان للهواء اقتضاء للسخونة ولم يقتض
البالغ منها ولا يصح الاعتذار بأن الرطوبة مانعة عن الكمال لأن الرطوبة إنما
تمنع عن كمال السخونة إذا أخذت بمعنى البلة لا بمعنى الرقة واللطافة ولإمكان
أن تكون الطبيعة الفلكية تقتضي ما يمنع عن الكمال ولأن الرطوبة إذا منعت
عن كمال الحرارة (1) كانت الطبيعة الواحدة تقتضي أمرين متنافيين إذا عرفت
هذا فنقول لما انتفت الحرارة والبرودة انتفى لازمهما أعني الثقل والخفة.
قال: شفافة:
أقول: استدلوا على شفافية الأفلاك بوجهين (أحدهما) أنها بسائط وهو
منقوض بالقمر (2) (والثاني) أنها لا تحجب ما ورائها عن الأبصار فإنا نبصر
الثوابت وهي في الفلك الثامن وهذا أيضا ظني لا يفيد اليقين لجواز أن يكون لها
لون ضعيف غير حاجب عن الأبصار كما في البلور.



(1) أي الرطوبة بمعنى الرقة واللطافة إذا منعت عن كمال الحرارة كانت طبيعة الهواء الذي
هو حار ورقيق تقتضي أمرين متنافيين لأن منع أحد الأمرين للآخر ليس إلا للتنافي بينهما.
(2) لأن له لونا وما له لون ليس بشفاف.
164
المسألة الثانية: في البحث عن العناصر البسيطة
قال: وأما العناصر البسيطة فأربعة كرة النار والهواء والماء والأرض
واستفيد عددها من مزاوجات الكيفيات الفعلية والانفعالية (1).
أقول: لما فرغ من البحث عن الأجرام الفلكية شرع في البحث عن الأجسام
العنصرية وهي أما بسيطة أو مركبة ولما كان البسيط جزءا من المركب وكان
البحث عن الجزء متقدما على البحث عن الكل قدم البحث عن البسايط واعلم
أن البسائط العنصرية أربعة فأقربها إلى الفلك النار ثم الهواء ثم الماء ثم الأرض
ومركزها ومركز العالم لا غير بيان ذلك أن العنصريات نجد فيها قوى مهيئة نحو
الفعل أي كيفيات تجعل موضوعاتها معدة للتأثير في شئ آخر مثل الحرارة
والبرودة والطعوم والروائح وقوى مهيئة نحو الانفعال السريع أو البطئ أي
كيفيات تجعل موضوعاتها معدة للتأثر عن الغير بحسب السرعة أو البطؤ مثل
الرطوبة واليبوسة واللين والصلابة وغير ذلك ثم فتشنا فوجدناها قد تخلو عن
جميع الكيفيات الفعلية إلا الحرارة والبرودة والمتوسطة التي تستبرد بالقياس
إلى الحار وتستسخن بالقياس إلى البارد فإنا نجد جسما خاليا عن اللون وجسما
خاليا عن الطعم ولم نجد جسما خاليا عن الحرارة أو البرودة أو المتوسطة
وكذلك فتشنا فوجدناها خالية عن جميع الكيفيات الانفعالية إلا الرطوبة
واليبوسة والمتوسطة بينهما فعلم بهذا الاستقراء أن العناصر البسيطة لا تخلو عن



(1) واستفيد عددها أي كونها أربعة من مزاوجات الخ فإنهم رأوا العناصر مهما خلت
من كيفية لا تخلو عن اثنين من هذه الكيفيات الأربع فالحرارة إما مع الرطوبة وإما مع اليبوسة
والبرودة إما مع الرطوبة وإما مع اليبوسة فالمزدوجات أربع الحار اليابس هو النار والحار
الرطب هو الهواء والبارد الرطب هو الماء والبارد اليابس هو الأرض.
165
إحدى الكيفيتين الفعليتين أي الحرارة والبرودة ولا عن إحدى الكيفيتين
الانفعاليتين أي الرطوبة واليبوسة ولما كانت الازدواجات الممكنة الثنائية غير
زائدة على أربعة الحرارة مع اليبوسة والحرارة مع الرطوبة والبرودة مع الرطوبة
والبرودة مع اليبوسة كانت البسايط الموضوعة لتلك المزدوجات أربعة الموضوع
للحرارة واليبوسة كانت وهو النار والموضوع للحرارة والرطوبة وهو الهواء والموضوع
للبرودة والرطوبة وهو الماء والموضوع للبرودة واليبوسة وهو الأرض والدليل
على أنها كرات هو أنها بسايط وقد علمت أن الشكل الذي تقتضيه البساطة هو
الكرى والنار حارة في الغاية فطلبت العلو والهواء حار لا في الغاية فطلب العلو
فوق باقي العناصر والماء بارد فطلب السفل والأرض أبرد العناصر فطلبت
المركز وهذه الأربع كرات ينطبق بعضها على بعض لبساطتها ولأن خسوف
القمر إذا اعتبر في وقت بعينه في بعض البلاد لم يوجد في البلد المخالف لذلك
البلد في الطول في ذلك الوقت بعينه والسائر على خط من خطوط نصف النهار
إلى الجانب الشمالي يزداد عليه ارتفاع القطب الشمالي وانخفاض الجنوبي وبالعكس
وهذا يدل على كرية الأرض والأغوار والانجاد لا تؤثر في الكرية لصغرها بالنسبة
إليها وأما الماء فلأن راكب البحر إذا قرب من جبل ظهرت له قلته أولا ثم أسفله
ثانيا والبعد بينه وبين القلة أكثر مما بينه وبين الأسفل والسبب فيه منع حدبة
الماء عن إبصار الأسفل وأما الباقيات فلما مر من بساطتها وهي تقتضي الكرية
وإنما استفيد عدد هذه العناصر وانحصارها في أربع من مزاوجات الكيفيات
الفعلية والانفعالية أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة.
قال: وكل منها ينقلب إلى الملاصق (1) وإلى الغير بواسطة أو بوسائط (2).



(1) والصور ستة الماء إلى الأرض وبالعكس والماء إلى الهواء وبالعكس والهواء إلى النار
وبالعكس وهناك صورتان أخريان الأرض إلى الهواء وبالعكس.
(2) كأن ينقلب الماء إلى الهواء ثم إلى النار وبالعكس أو وساطة كأن ينقلب الأرض ماء
ثم الماء هواء ثم الهواء نارا.
166
أقول: هذه العناصر الأربعة كل واحد منها ينقلب إلى الآخر أما ابتداءا
كصيرورة النار هواء أبو بواسطة واحدة كصيرورتها ماءا بواسطة انقلابها هواءا
ثم انقلاب الهواء ماءا أو بوسائط كصيرورتها أرضا بواسطة انقلابها هواءا ثم ماءا
ثم أرضا والأصل فيه أن غالب الأمر انقلاب العنصر إلى ملاصقه كانقلاب النار
هواءا ابتداء وإلى البعيد بواسطة ويدل على انقلاب كل واحد منها إلى صاحبه
ما نشاهده من صيرورة النار هواءا عند الانطفاء وصيرورة الهواء نارا عند
إلحاح (1) النفخ وصيرورة الهواء ماء عند حصول البرد في الجو وانعقاد السحاب
الماطر من غير وصول البخار إليه وصيرورة الماء هواءا عند إسخانه وصيرورة
الماء أرضا كما يعقد أهل الحيل المياه الجارية التي تشرب بحيث يصير أحجارا
صلبة وأما صيرورة الأرض ماءا كما يتخذون مياها حارة ويحلون فيها أجسادا
صلبة حجرية حتى تصير مياها جارية.
قال: فالنار حارة يابسة شفافة متحركة بالتبعية لها طبقة واحدة وقوة على
إحالة المركب إليها.
أقول: لما فرغ من الأحكام المشتركة بين العناصر شرع في البحث عن
الكيفيات المختصة بكل عنصر عنصر وبدء بالنار وذكر من أحكامها ستة:
(الأول) أنها حارة والحس يدل على حرارة النار الموجودة عندنا وأما النار
البسيطة التي هي الفلك الأثير فنها كذلك لوجود الطبيعة خالية عن العائق
لبساطتها فإن الحرارة موجودة في النار التي عندنا مع امتزاجها بالضد فكيف
بالنار الصرفة (الثاني) أنها يابسة وهو معلوم بالحس أيضا إن عنى باليبوسة
ما لا يلصق بغيره وأما إن عنى بها ما تعسر تشكله بالأشكال القريبة فالنار ليست



(1) كما يصنع الحداد الفحم. في الكور وينفخ عليه بالكير شديدا فإذن يشتمل الفحم من دون
تقريب نار منه.
167
يابسة بهذا المعنى (الثالث) أنها شفافة (1) وإلا لحجبت الثوابت عن الإبصار
ولأن النار كلما كانت أقرب إلى الشفافية كانت أقوى كما في أصول الشعل
(الرابع) أنها متحركة بالتبعية وهو حكم ظني لأنهم لما رأوا الشهب متحركة
حكموا بحركة كرة النار ثم طلبوا العلة فقالوا إن كل جزء من الفلك تعين
مكانا لجزء من النار فإذا انتقل ذلك الجزء انتقل المتمكن فيه كالساكن في
السفينة وهذا ضعيف لأن الشهب لا تتحرك إلى جهة واحدة بل قد يكون إلى
الشمال تارة وإلى الجنوب أخرى وما ذكروه من العلة فهو بعيد وإلا لزم حركة
كرة الهواء والماء والأرض مع أن الفلك بسيط لا جزء له ولو فرض له أجزاء
لكانت متساوية فكيف يصح اختلافها في كون بعضها مكانا لبعض أجزاء النار
البسيطة والبعض الآخر مكانا للآخر (الخامس) أنها ذات طبقة واحدة وذلك
لقوتها على إحالة ما يمازجها فلا يوجد في مكانها غيرها (السادس) أنها قوية
على إحالة المركب إليها وذلك ظاهر.
قال: والهواء حار رطب شفاف له أربع طبقات.
أقول: لما فرغ من البحث عن أحكام النار شرع في البحث عن الهواء
الملاصق لها وذكر له أحكاما أربعة (الأول) أنه حار وذلك فيما يرجع إلى
الكيفية الفعلية وقد وقع التشاجر فيه فأكثر الناس ذهب إلى أنه حار لا في
الغاية لأن الماء إذا أريد جعله هواء سخن فضل تسخين ومع استحكام التسخين
ينقلب هواء وآخرون منعوا من ذلك لأنه لو اقتضى السخونة لطبعه لبلغ فيها



(1) قوله الشفافة لا يمنع الشعاع عن النفوذ فيه وكذلك كرة النار لأنها لا تحجب الكواكب
عن الإبصار وأما النار التي تلينا فقد حكى عن الشيخ الرئيس ابن سينا على أنها ليست بشفافة
لحجبها ما وراءها عن الإبصار متحركة بالتبعية لحركة الفلك لأن السطح المقعر لفلك القمر مكان
للنار والمكين يتحرك بالمكان.
168
الغاية لوجود العلة الخالية عن المعاوق (الثاني) أنه رطب بمعنى سهولة قبول
الأشكال لا بمعنى البلة وذلك ظاهر وهذا إنما يرجع إلى الكيفية الانفعالية
(الثالث) أنه شفاف وهو ظاهر لعدم إدراكه صرفا بالبصر (الرابع) أنه ذو
طبقات أربع (الطبقة الأولى) المجاور للأرض المتسخن (1) لمجاورة الأرض
المتشعشعة بشعاع النير وهي بخارية حارة والبخار هو المتحلل الرطب وهو أجزاء
مائية اكتسبت حرارة فتصاعدت لأجلها وخالطت الهواء الملاصق للأرض
(الطبقة الثانية) وهي الهواء المتباعد عن الأرض الذي انقطع عنه تأثير الشعاع
لبعده عن الأرض وهي بخارية باردة ويقال لها الطبقة الزمهريرية وذلك بسبب
ما يخالطها من الانجرة (الطبقة الثالثة) الهواء الصرف (الطبقة الرابعة) طبقة
دخانية فإن البخار وإن صعد في الهواء لكن الدخان يجاوزه ويعلوه لأنه أخف
حركة وأقوى نفوذا لشدة الحرارة والدخان هو المتحلل اليابس.
قال: والماء بارد رطب شفاف محيط بثلاثة أرباع الأرض له طبقة
واحدة.
أقول: ذكر للماء خمسة أحكام (الأول) أنه بارد والحس يدل عليه لأنه
مع زوال المسخنات الخارجية يحس برده واختلفوا فالأكثر على أن الأرض أبرد
منه لأنها أكثف وأبعد من المسخنات والحركة الفلكية وقال قوم آخرون أن
الماء أبرد لأنا نحس ذلك وهو ضعيف لأن الشئ قد يكون أشد بردا في الحس
ولا يكون في نفس الأمر كذلك كما في جانب السخونة ولهذا كانت السخونة
في الأجسام الذائبة كالرصاص وغيره أشد في الحس من النار الصرفة الخالية
عن الضد لسرعة انفصال النار الصرفة عن اليد لأجل لطافتها فلا يدوم أثرها



(1) أي الطبقة الأولى هو الهواء تتسخن بسبب شعاع الشمس المنعكس والهواء المجاور لها يصير
متسخنا لذلك.
169
كذلك هيهنا أثر الماء للطافته ينبسط على العضو ويصل إلى عمق كل جزء منه
ويلتصق به بخلاف التراب المتناثر عنه (1) سريعا فكان الاحساس ببرد الماء أكثر
(الثاني) أنه رطب وهو ظاهر بمعنى البلة وقيل أنه يقتضي الجمود لأنه بارد
بالطبع والبرد يقتضي الجمود وإنما عرض السيلان له بسبب سخونة الأرض والهواء
ولو خلي وطبعه لاقتضى الجمود (الثالث) أنه شفاف لأنه مع صرافته لا يحجب
عن الإبصار وقيل إنه ملون وإلا لم يكن مرئيا ولضعف لونه لم يحجب عن
الإبصار (الرابع) أنه محيط بأكثر الأرض (2) وهو حكم ظني لأنهم جعلوا
العناصر متعادلة وإلا لاستحال الأضعف وعدم عنصره فلولا إحاطته بثلاثة
أرباع الأرض لكان أقل من الأرض وإذا كان محيطا بأكثر الأرض كان هو
البحر وإلا فأما أن يكون (3) فوق الأرض أو تحتها والتالي باطل وإلا لكان
أصغر من الأرض فيبقى الأول وهو البحر (الخامس) أنه ذو طبقة واحدة وهو
البحر وهو ظاهر.
قال: والأرض باردة يابسة ساكنة في الوسط شفافة لها ثلاث طبقات.
أقول: ذكر للأرض أحكاما خمسة (الأول) أنها باردة لأنها كثيفة وقد
سلف البحث في أنها أبرد العناصر (الثاني) أنها يابسة وهو أيضا ظاهر (الثالث)
أنها ساكنة في الوسط وقد تنازع في ذلك جماعة فذهب قوم إلى أنها متحركة إلى
السفل وآخرون إلى العلو وآخرون بالاستدارة والحق خلاف ذلك كله وإلا لما



(1) أي التراب الذي ينفصل ويتناثر عن العضو سريعا.
(2) إنما قال بأكثر الأرض مع أن المصنف قال بثلاثة أرباع الأرض إشارة إلى أن ثلاثة
أرباع تقريبية لا تحقيقية قوله متعادلة أي في الكمية والمقدار.
(3) أي وإن لم يكن كرة الماء هذا البحر المشاهد المحيط بثلاثة أرباع الأرض فإما أن تكون
فوقها أو تحتها والتالي باطل بقسميه.
170
وصل الحجر المرمى إليها إن كانت هابطة ولما نزل الحجر المرمى إلى الفوق إن
كانت صاعدة ولما سقط على الاستقامة إن كانت متحركة على الاستدارة وقد
أشار في هذا الحكم إلى فائدة بقوله في الوسط وهو الرد على من زعم أنها
ساكنة بسبب عدم تناهيها من جانب السفل لا من حيث الطبع وبيان بطلان
هذا القول ظاهر لأن الأجسام متناهية (الرابع) أنها شفافة وقد وقع فيه منازعة
بين القوم فذهب جماعة إليه لأنها بسيطة وذهب آخرون إلى المنع لأنا نشاهد
الأرض فإن كانت بسيطة فالمطلوب وإن كانت ممتزجة بغيرها كانت الأرضية
عليها أغلب فكانت الشفافية أغلب وليس كذلك ثم نقضوا كبرى ذلك بالقمر (1)
(الخامس) في طبقاتها وهي ثلاث: طبقة هي أرض محضة وهي المركز وما
يقاربه وطبقة طينية وطبقة مخلوطة بغيرها بعضها منكشف وهو البر وبعضها
أحاط به البحر.
المسألة الثالثة: في البحث عن المركبات
قال: وأما المركبات فهذه الأربعة اسطقساتها.
أقول: لما فرغ من البحث عن البسائط شرع في البحث عن المركبات وبدء
من ذلك بالبحث عن بسائطها واعلم أن المركبات إنما تتركب من هذه العناصر
الأربعة لأن العنصر الواحد بسيط لا يقع به التفاعل فلا بد من كثرة ولما دل
الاستقراء على انتفاء صلاحية ما عدا الكيفيات الأربع أعني الحرارة والبرودة
والرطوبة واليبوسة أو ما ينسب إليها الفعل والانفعال وجب أن يكون التفاعل
إنما هو في هذه الأربعة وحواملها فكانت الاسطقسات هذه العناصر الأربعة لا



(1) يعني نقضوا قول خصمهم أن الأرض بسيطة وكل بسيط شفاف بالقمر فإنه بسيط
وليس بشفاف لكونه ملونا.
171
غير وهذه العناصر من حيث هي أجزاء العالم تسمى أركانا ومن حيث إنها
تتركب منه المركبات من المعادن والنباتات تسمى اسطقسات.
قال: وهي حادثة عند تفاعل بعضها في بعض.
أقول: المركبات عند محققي الأوائل تحدث عند تفاعل هذه العناصر
الأربعة بعضها في بعض إلى أن تستقر الكيفية المتوسطة المسماة بالمزاج وذهب
أصحاب الخليط مثل انكساغورس وأتباعه إلى نفي ذلك وقال إن هنا أجزاءا
هي لحم وأجزاءا هي عظام وأجزاءا هي شحمة وغير ذلك من جميع المركبات
وهي مختلفة مبثوثة في العالم غير متناهية فإذا اجتمع أجزاء من طبيعة واحدة
ظن أن تلك الطبيعة حدثت وليس كذلك بل تلك الطبيعة كانت موجودة
والحادث التركيب لا غير والضرورة قاضية ببطلان هذه المقالة فإنا نشاهد تبدل
ألوان وطعوم وروائح وغير ذلك من الصفات الحادثة.
قال: وتفعل الكيفية في المادة فتكسر صرافة كيفيتها وتحصل كيفية
مشابهة في الكل متوسطة هي المزاج.
أقول: لما ذكر أن المركبات إنما تحصل عند تفاعل هذه العناصر (1) بعضها
في بعض شرع في كيفية هذا التفاعل واعلم أن الحار والبارد والرطب واليابس
إذا اجتمعا وفعل كل منهما في الآخر لم يخل أما أن يتقدم (2) فعل أحدهما على



(1) إعلم أن كلا من هذه العناصر الأربعة له مادة وصورة وكيفية ولا ريب أنه عند التركيب
يفعل في الباقية وينفعل عنها ولا يمكن أن يكون فاعلا من حيث هو منفعل وتحصل أن الفاعل
إحدى الثلاث أي المادة والصورة والكيفية.
(2) إذ معنى الغلبة حفظ الشئ ميزانية نفسه وزيادته عليها ومعنى المغلوبية عدم حفظ الشئ
ميزانية نفسه.
172
انفعاله أو يقترنا ويلزم من الأول (1) صيرورة المغلوب غالبا وهو محال ومن الثاني
كون الشئ الواحد غالبا ومغلوبا دفعة واحدة وهو محال فلم يبق إلا أن
يكون الفاعل في كل واحد منهما غير المنفعل فقيل الفاعل هو الصورة والمنفعل
هو المادة وينتقض بالماء الحار إذا مزج بالبارد واعتدلا فإن الفعل والانفعال بين
الحار والبارد هناك موجود مع أنه لا صورة تقتضي الحرارة في الماء البارد وقيل
الفاعل هو الكيفية والمنفعل هو المادة مثلا يفعل حرارة الماء الحار في مادة الماء
البارد فتكسر البرودة التي هي كيفية البارد وتحصل كيفية متشابهة متوسطة
بين الحرارة والبرودة هي المزاج وهذا اختيار المصنف وفيه نظر (2) لأن المادة
المنفعلة إنما تنفعل في كيفية الفاعلة لا في غيرها ويعود البحث من كون المغلوب
بحيث يصير غالبا أو اجتماع الغالبية والمغلوبية للشئ الواحد في الوقت الواحد
بالنسبة إلى شئ واحد وهو باطل.
قال: مع حفظ صور البسائط.
أقول: نقل الشيخ في هذا الموضوع في كتاب الشفا إن هيهنا مذهبا غريبا
عجيبا وهو أن البسائط إذا اجتمعت وتفاعلت بطلت صورها النوعية المقومة
لها وحدثت صورة أخرى نوعية مناسبة لمزاج ذلك المركب واحتجوا بأن
العناصر لو بقيت على طبائعها حتى اتصفت الجزء الناري مثلا بالصورة اللحمية



(1) لو فرضنا الفاعل والمنفعل في كل من العناصر الأربعة شيئا واحدا.
(2) لأن المادة لا تتغير ولا تستحيل عن كونها مادة إذ هي باقية بحالها أولا وأخيرا بل إنما
تنفعل في الكيفية الفاعلة التي هي الحرارة الفاعلة في مادة الماء البارد مثلا بمعنى أن الحرارة
تستحيل من الشدة إلى الضعف وتنكسر سورتها ومدتها وكذا الحال في مادة الماء البارد فالفاعل
والمنفعل في الحقيقة والواقع هما الحرارة والبرودة في آن واحد يلزم الشئ الواحد غالبا
ومغلوبا.
173
أمكن أن يعرض للنار بانفرادها عارضى؟ ينتهي بها إلى أن تصير حرارتها إلى ذلك
الحد الذي حصل لها عند كونها جزءا من المركب فتصير النار البسيطة لحمار وأبطله
الشيخ بأن ذلك يكون كونا وفسادا لا مزاجا (1) ولأن الكاسر باق مع الانكسار
فالطبائع باقية مع انكسار الكيفيات ونقض ما ذكروه بوروده عليهم لأن مذهبهم
أن الجزء الناري تبطل ناريته عند امتزاجه ويتصف بالصورة اللحمية فيجوز
عروض هذا العارض للنار البسيطة فإن شرطوا التركيب كان هو جوابنا.
قال: ثم تختلف الأمزجة في الاعداد بحسب قربها وبعدها من الاعتدال.
أقول: الأمزجة في المركبات هي المعدة لقبول المركب للصور والقوى (2)
المعدنية والنباتية والحيوانية إذ المركبات كلها اشتركت في الطبيعة الجسمية ثم
اختلف في هذه القوى فبعضها اتصف بصورة حافظة لبسائطه عن التفرق جامعة
لمتضادات مفرداته من غير أن يكون مبدءا لشئ آخر وهذه هي الصور المعدنية
وبعضها اتصف بصور تفعل مع ما تقدم التغذية والتنمية والتوليد لا غير وهي
النفس النباتية وبعضها يفعل مع ذلك الحس والحركة والإرادة وهي النفس
الحيوانية فلا بد أن يكون هذا الاختلاف بسبب اختلاف القوابل المستند إلى
اختلاف الاستعداد المستفاد من اختلاف الأمزجة بسبب بعدها وقربها من الاعتدال
وكل من كان مزاجه أقرب إلى الاعتدال قبل نفسا أكمل.
قال: مع عدم تناهيها بحسب الشخص وإن كان لك نوع من المركبات



(1) لأنه إنما يكون عند بقاء الممتزجات بأعيانها.
(2) واعلم أن الأنواع الأولية للمركبات التامة هي المعدن والنبات والحيوان المسماة بالمواليد
الثلاثة واختلاف هذه الأنواع لا يكون بسبب الهيولي ولا بسبب الجسمية المشتركة لأن كلا منها
حقيقة واحدة في الجميع ولا بسبب المبدأ الفياض ولا بسبب العناصر فهو إذن بسبب التركيب
وما يعرض بعده من المزاج فإن الأمزجة تختلف باختلاف التراكيب.
174
مزاج ذو عرض له طرفا إفراط وتفريط وهي تسعة.
أقول: الأمزجة تختلف باختلاف صغر أجزاء البسائط وكبرها وهذا
الاختلاف بسبب الصغر والكبر وغير متناه فكانت الأمزجة كذلك غير متناهية
بحسب الشخص وإن كان لك نوع طرفا إفراط وتفريط فإن نوع الإنسان مثلا
له مزاج خاص معتدل بين طرفين هما إفراط وتفريط لكن ذلك المزاج الخاص
يشتمل على ما لا يتناهى من الأمزجة الشخصية ولا يخرج عن حد مزاج الإنسان
وكذلك كل نوع إذا عرفت هذا (فاعلم) أن الأمزجة تسعة لأن البسائط أما أن
تتساوى فيه وهو المعتدل أو يغلب أحدها أما الحار مع اعتدال الانفعاليين أو
البارد مع أو الحار مع غلبة الرطب (1) أو اليابس أو البارد معهما أو يغلب الرطب
مع اعتدال الفعليين أو اليابس معه.
قال: الفصل الثالث في بقية أحكام الأجسام وتشترك الأجسام في وجوب
التناهي لوجوب اتصاف ما فرض له ضده به عند مقايسته بمثله مع فرض
نقصانه عنه.
أقول: لما فرغ عن البحث في الأجسام شرع في البحث عن باقي أحكامها إذ
قد كان سبق البحث عن بعض أحكامها وهذا الفصل يشتمل على مسائل:



(1) الغالب إما واحد من الأربعة هو أحد الفعليين أو أحد الانفعاليين مع اعتدال الآخرين
وهذه أربعة أقسام لأن الغالب إما الحار على البارد أو البارد على الحار مع اعتدال الآخرين
الانفعاليين وإما الرطب على اليابس أو اليابس على الرطب مع اعتدال الآخرين الفعليين وإما اثنان
هما أحد الفعليين وأحد الانفعاليين من دون الاعتدال بينهما وهذا أيضا أربعة أقسام لأن الغالب
في الفعليين إما الحار وإما البارد وعلى كل من التقديرين فالغالب في الانفعاليين إما الرطب وإما
اليابس.
175
المسألة الأولى: في تناهي الأجسام
وقد اتفق أكثر العقلاء عليه وإنما خالف فيه حكماء الهند واستدل المصنف
على ذلك بوجهين (الأول) برهان التطبيق وتقريره أن الأبعاد لو كانت غير
متناهية لأمكننا أن نفرض خطين غير متناهيين مبدأهما واحد ثم نفصل من
أحدهما قطعة ثم نطبق أحد الخطين على الآخر بأن نجعل أول أحدهما مقابلا لأول
الآخر وثاني الأول مقابلا لثاني الثاني والثالث للثالث وهكذا إلى ما لا يتناهى
فإن استمر كذلك كان الناقص مثل الزائد وهو محال بالضرورة وإن انقطع
الناقص انقطع الزائد لأن الزائد إنما زاد بمقدار متناه وهو القدر المقطوع والزائد
على المتناهي بمقدار متناه يكون متناهيا فالخطان متناهيان وهو المطلوب إذا
عرفت هذا فلنرجع إلى تتبع ألفاظ الكتاب (فقوله) وتشترك الأجسام في
وجوب التناهي إشارة إلى الدعوى مع التنبيه على كون هذا الحكم واجبا لكل
جسم وقوله لوجوب اتصاف ما فرض له ضده به معناه لوجوب اتصاف الخط
الناقص الذي فرض له ضد التناهي إذا فرضنا الخطين غير متناهيين بالتناهي
وقوله عند مقايسته بمثله معناه عند مقايسة الخط الناقص بالخط الكامل المماثل
له في عدم التناهي ومعنى المقايسة هيهنا مقابلة كل جزء من الناقص بجزء من
الكامل وقوله مع فرض نقصانه عنه يعنى مع فرض قطع شئ من الخط الناقص
حتى صار ناقصا فهذا ما خطر لنا في معنى هذا الكلام.
قال: ولحفظ النسبة بين ضلعي الزاوية وما اشتملا عليه مع وجوب اتصاف
الثاني به.
أقول: هذا هو الدليل الثاني على تناهي الأبعاد وتقريره إنا إذا فرضنا زاوية
خرج ضلعاها إلى ما لا يتناهى على الاستقامة فإن النسبة بين زيادة الضلعين وزيادة

176
الأبعاد التي اشتمل الضلعان عليها محفوظة بحيث كلما زاد الضلعان
زادت الأبعاد على نسبة واحدة فإذا استمرت زيادة الضلعين إلى ما لا يتناهى
استمرت زيادة البعد بينهما إلى ما لا يتناهى مع وجوب اتصاف الثاني أعني
البعد بينهما بالتناهي لامتناع انحصار ما لا يتناهى بين حاصرين.
المسألة الثانية: في أن الأجسام متماثلة
قال: واتحاد الحد وانتفاء القسمة فيه يدل على الوحدة.
أقول: ذهب الجمهور من الحكماء والمتكلمين إلى أن الأجسام متماثلة في حقيقة
الجسمية وإن اختلفت بصفات وعوارض وذهب النظام (1) إلى أنها مختلفة
خواصها وهو باطل لأن ذلك يدل على اختلاف الأنواع لا على اختلاف المفهوم من
الجسم من حيث هو جسم وقد استدل المصنف على قوله بأن الجسم من حيث هو
جسم يحد بحد واحد عند الجميع أما عند الأوائل فإن حده الجوهر القابل
للأبعاد وأما المتكلمون فإنهم يحدونه بأنه الطويل العريض العميق وهذا الحد
الواحد لا قسمة فيه فالمحدود واحد لاستحالة اجتماع المختلفات في حد واحد من
غير قسمة بل متى جمعت المختلفات في حد واحد وقع فيه التقسيم ضرورة
كقولنا الحيوان أما ناطق أو صاهل ويراد بهما الإنسان والفرس.
المسألة الثالثة: في أن الأجسام باقية
قال: والضرورة قضت ببقائها.



(1) هو أبو إسحق إبراهيم بن سيار البصري ابن أخت ابن العلاف شيخ المعتزلة وكان
في زمن هارون الرشيد وكان يتعنف أبا نواس الشاعر وإياه عني أبو نواس بقوله:
فقل لمن يدعي من العلم فلسفة * حفظت شيئا وغابت عنك أشياء
177
أقول: المشهور عند العقلاء ذلك ونقل عن النظام (1) خلافه بناء منه
على امتناع استناد العدم إلى الفاعل وأنه لا ضد للأجسام مع وجوب فنائها يوم
القيامة فالتزم بعدم بقائها وأنها تتجدد حالا فحالا كالأعراض الغير القارة
والمحققون على خلاف ذلك واعتمادهم على الضرورة فيه وقيل أن النظام
ذهب إلى احتياج الجسم حال بقائه إلى المؤثر فتوهم الناقل أنه كان يقول بعدم
بقاء الأجسام.
المسألة الرابعة:
في أن الأجسام يجوز خلوها عن الطعوم والروائح والألوان
قال: ويجوز خلوها عن الكيفيات المذوقة والمرئية والمشمومة كالهواء.
أقول: ذهب المعتزلة إلى جواز خلو الأجسام عن الطعوم والروائح والألوان
ومنعت الأشعرية (2) منه أما المعتزلة فاحتجوا بمشاهدة بعض الأجسام كذلك



(1) إعلم أن الجسم باق في زمانين لا أن زيدا في هذا الزمان والآن غير نفس هذا الزيد في
الآن الثاني ويعبر عن هذا المبحث ببقاء الأجسام فإننا نعلم أن ثيابنا وكتبنا وبيوتنا ودوابنا هي
بعينها التي كانت من غير تبدل في الذات وإنما التغير في العوارض وحكى عن بعض القول
بتجددها آنا فآنا واستدل لذلك بأن يوم القيامة تفنى الأجسام ففنائها لا تخلو عن أحد ثلاث
الأول خلق الفناء المعدم؟ للجسم وهو باطل إذ لا ضد للجسم يسبب وجوده عدم الجسم الثاني إعدام
الأجسام بنفسها وهو باطل لأن العدم لا يمكن أن يستند إلى العلة الثالث كون الجسم مما يتجدد
آنا آنا فإذا لم يجدده الفاعل.
(2) يعني أن الأشعري قاس وقال كما لا يجوز خلو الجسم عن الكون أي الحركة أو
السكون والاجتماع أو الافتراق لا يجوز خلوها عن اللون فالمقيس اللون والمقيس عليه الكون والحكم
المشترك بينهما هو وجوب اتصاف الجسم بكل منهما والجامع بينهما الذي هو علة الحكم عرضية منعت كل
من الكون واللون فرد عليه العلامة (ره) أولا بأن القياس لا يفيد اليقين فلا يليق بالمباحث العقلية
وثانيا بأن هذا القياس خال عن الجامع إذ الكون هو من مقولة الأين واللون من مقولة الكيف
وثالثا بأن الفرق حاصل بين المقيس عليه فإن الكون معلوله نفس الحقيقة الجسمية فلا يعقد خلو
متحيز عنه.
178
كالهواء واحتجت الأشعرية بقياس اللون على الكون وبما قبل الاتصاف
على ما بعده وهما ضعيفان لأن القياس المشتمل على الجامع لا يفيد اليقين فكيف
الخالي عنه مع قيام الفرق فإن الكون لا يعقل خلو متحيز عنه بالضرورة بخلاف
اللون فإنه يمكن أن يتصور الجسم خاليا عنه وأما امتناع الخلو عنها بعد
الاتصاف فممنوع (1) ولو سلم لظهر الفرق أيضا لأن الخلو بعد الاتصاف إنما
امتنع لافتقار الزائل بعد الاتصاف إلى طريان الضد بخلاف ما قبل الاتصاف
لعدم الحاجة إليه.
المسألة الخامسة: في أن الأجسام يجوز رؤيتها
قال: ويجوز رؤيتها بشرط الضوء واللون وهو ضروري.
أقول: ذهب الأوائل إلى أن الأجسام مرئية لكن لا بالذات بل بالعرض
فإنها لو كانت مرئية بالذات لرؤى الهواء والتالي باطل فالمقدم مثله وأنما
يمكن رؤيتها بتوسط الضوء واللون وهذا حكم ضروري يشهد به الحس والضرورة
وجمهور العقلاء على ذلك ولم أعرف فيه مخالفا.
المسألة السادسة: في أن الأجسام حادثة
قال: والأجسام كلها حادثة لعدم انفكاكها من جزئيات متناهية حادثة
فإنها لا تخلو من الحركة والسكون وكل منهما حادث وهو ظاهر.



(1) إذ يمكن عروض التخلخل في الجسم الملون فيزد له لونه.
179
أقول: هذه المسألة من أجل المسائل وأشرفها في هذا الكتاب وهي المعركة
العظيمة بين الأوائل والمتكلمين وقد اضطربت أنظار العقلاء فيها وعليها مبنى
القواعد الإسلامية وقد اختلف الناس فيها فذهب المسلمون واليهود والنصارى
والمجوس إلى أن الأجسام محدثة وذهب جمهور الحكماء إلى أنها قديمة وتفصيل
أقوالهم في ذلك ذكرناه في كتاب المناهج إذا عرفت هذا (فنقول) الدليل
على أن الأجسام حادثة أنها لا تخلو عن جزئيات متناهية حادثة وكلما هذا شأنه
فهو حادث فالأجسام حادثة أما الصغرى فلأن الأجسام لا تخلو عن الحركة
والسكون وهي أمور حادثة متناهية وأما بيان عدم انفكاك الجسم عنهما
فضروري لأن الجسم لا يعقل موجودا في الخارج منفكا عن المكان فإن كان
ثابتا فيه فهو الساكن وإن كان منفكا عنه فهو المتحرك وأما بيان حدوثهما فظاهر
لأن الحركة هي حصول الجسم في الحيز بعد أن كان في حيز آخر والسكون
هو الحصول في الحيز بعد أن كان في ذلك الحيز فماهية كل واحد منهما تستدعي
المسبوقية بالغير والأزلي غير مسبوق بالغير فماهية كل واحد منهما ليست قديمة
وأيضا فإن كل واحد منهما يجوز عليه العدم والقديم لا يجوز عليه العدم أما
الصغرى فلأن كل متحرك على الاطلاق فإن كل جزء من حركته يعدم ويوجد
عقيبه جزء آخر منها وكل ساكن فإنه إما بسيط أو مركب وكل بسيط
ساكن يمكن عليه الحركة لتساوي الجانب الملاقي منه لغيره من الأجسام والجانب
الذي لا يلاقيه في قبول الملاقاة فأمكن على غير الملاقي الملاقاة كما أمكنت على
الملاقي لكن ذلك إنما يكون بواسطة الحركة فكانت الحركة جائزة عليه
وأما المركب فإنه مركب من البسائط ونسوق الدليل الذي ذكرناه في البسيط
إلى كل جزء من أجزاء المركب وأما الكبرى فلأن القديم إن كان واجب الوجود
لذاته استحال عدمه وإن كان جائز الوجود استند إلى علة موجبة لاستحالة

180
صدور القديم عن المختار لأن المختار إنما يفعل بواسطة القصد والداعي والقصد
إنما يتوجه إلى إيجاد المعدوم فكل أثر لمختار حادث فلو كان القديم أثرا لمؤثر
لكان ذلك المؤثر موجبا فإن كان واجبا لذاته استحال عدمه فاستحال عدم
معلوله وإن كان ممكنا نقلنا الكلام إليه فإما أن يتسلسل وهو محال أو ينتهي
إلى مؤثر موجب يستحيل عدمه فيستحيل عدم معلوله فقد ظهر أن القديم
يستحيل عليه العدم وقد بينا جواز العدم على الحركة والسكون فيستحيل
قدمهما.
قال: وأما تناهي جزئياتهما فلأن وجود ما لا يتناهى محال للتطبيق على
ما مر ويوصف كل حادث بالإضافتين المتقابلتين ويجب زيادة المتصف بإحديهما
من حيث هو كذلك على المتصف بالأخرى فينقطع الناقص والزائد أيضا.
أقول: لما بين حدوث الحركة والسكون شرع الآن في بيان تناهيهما لأن
بيان حدوثهما غير كاف في الدلالة وهذا المقام هو المعركة بين الحكماء والمتكلمين
فإن المتكلمين يمنعون من اتصاف الجسم بحركات لا تتناهى والأوائل جوزوا
ذلك والمتكلمون استدلوا على قولهم بوجوه (أحدهما) أن كل فرد موجود حادث
فالمجموع كذلك وهو ضعيف إذ لا يلزم من حدوث كل فرد حدوث المجموع
(الثاني) أنها قابلة للزيادة والنقصان فتكون متناهية وهو ضعيف بمعلومات الله
تعالى ومقدوراته فإن الأولى أزيد من الثانية ولا يلزم تناهيهما (الثالث) التطبيق
وهو أن تؤخذ جملة الحركات من الآن إلى الأزل جملة ومن زمان الطوفان إلى
الأزل جملة أخرى ثم تطبق إحدى الجملتين بالأخرى فإن استمر إلى ما لا يتناهى
كان الزائد مثل الناقص هذا خلف وإن انقطع الناقص تناهى وتناهى الزائد
لأنه إنما زاد بمقدار متناه والزائد على المتناهي بمقدار متناه يكون متناهيا
(الرابع) أن كل حادث يوصف بإضافتين متقابلتين هما السابقية والمسبوقية لأن

181
كل واحد من الحوادث الغير المتناهية يكون سابقا على ما بعده ولا حقا
لما قبله والسبق واللحق إضافتان متقابلتان وإنما يصح اتصافه بهما لأنهما
آخذا بالنسبة إلى شيئين.
إذا عرفت هذا (فنقول) إذا اعتبرنا الحوادث الماضية المبتدئة من الآن
تارة من حيث إن كل واحد منهما سابق وتارة من حيث هو بعينه لاحق كانت
السوابق واللواحق المتبائنان بالاعتبار متطابقين في الوجود ولا يحتاج في تطابقهما
إلى توهم تطبيق ومع ذلك يجب كون السوابق أكثر من اللواحق في الجانب
الذي وقع فيه النزاع وإلى هذا أشار بقوله ويجب زيادة المتصف بإحديهما أعني
بإحدى الإضافتين وهو إضافة السبق على المتصف بالأخرى أعني إضافة اللحوق
فإذن اللواحق منقطعة في الماضي قبل انقطاع السوابق فتكون متناهية والسوابق
أيضا تكون متناهية لأنها زادت بمقدار متناه وهذا الوجه الأخير استنبطه
المصنف ولم نعثر عليه في كلام القدماء.
قال: والضرورة قضت بحدوث ما لا ينفك عن حوادث متناهية.
أقول: لما بين أن الأجسام لا تنفك عن الحركة والسكون وبين حدوثهما
وتناهيهما وجب القول بحدوث الأجسام لأن الضرورة قضت بحدوث
ما لا ينفك عن حوادث متناهية.
قال: فالأجسام حادثة ولما استحال قيام الأعراض إلا بها ثبت حدوثها.
أقول: هذا نتيجة ما ذكر من الدليل وهو القول بحدوث الأجسام وأما
الأعراض فإنه يستحيل قيامها بأنفسها وتفتقر في الوجود إلى محل تحل فيه وهي
إما جسمانية أو غير جسمانية والكل حادث أما الجسمانية فلامتناع قيامها بغير
الأجسام وإذا كان الشرط حادثا كان المشروط كذلك بالضرورة وأما غير
الجسمانية فبالدليل الدال على حدوث كل ما سوى الله تعالى والمصنف إنما قصد

182
الأعراض الجسمانية بقوله لما استحال قيام الأعراض إلا بها ثبت حدوثها.
قال: والحدوث اختص بوقته إذ لا وقت قبله والمختار يرجح أحد مقدوريه
بلا داع ومرجح عند بعضهم.
أقول: لما بين حدوث العالم شرع في الجواب عن شبه الفلاسفة وأقوى
شبههم ثلاثة أجاب المصنف عنها في هذا الكتاب (الشبهة الأولى) وهي أعظمها
قالوا المؤثر التام في العالم إما أن يكون أزليا أو حادثا فإن كان أزليا لزم قدم
العالم لأن عند وجود المؤثر التام يجب وجود الأثر معه لأنه لو تأخر عنه ثم وجد
لم يخل إما أن يكون لتجدد أمر أو لا والأول يستلزم كون ما فرضناه مؤثرا
تاما ليس بتام هذا خلف والثاني يستلزم ترجيح أحد طرفي الممكن لا لمرجح لأن
اختصاص وجود الأثر بالوقت الذي وجد فيه دون ما قبله وما بعده مع حصول
المؤثر التام يكون ترجيحا من غير مرجح وإن كان المؤثر في العالم حادثا نقلنا
الكلام إلى علة حدوثه ويلزم التسلسل والانتهاء إلى المؤثر القديم وهو محال
لتخلف الأثر عنه وهذا المحال إنما نشأ من فرض حدوث العالم وقد أجاب
المتكلمون عن هذه الشبهة بوجوه (أحدها) أن المؤثر التام قديم لكن
الحدوث اختص بوقت الاحداث لانتفاء وقت قبله فالأوقات التي يطلب فيها
الترجيح معدومة ولا يتمايز إلا في الوهم وأحكام الوهم في مثل ذلك غير مقبولة بل الزمان
يبتدء وجوده مع أول وجود العالم ولم يكن وقوع ابتداء ساير الموجودات قبل
ابتداء وجود الزمان أصلا (الثاني) أن المؤثر التام إنما يجب وجود أثره معه
لو كان موجبا أما إذا كان مختارا فلا لأن المختار يرجح أحد مقدريه على الآخر
لا لمرجح فالعالم قبل وجوده كان ممكن الوجود وكذا بعد وجوده لكن المؤثر
المختار أراد إيجاده وقت وجوده دون ما قبله وما بعده لا لأمر (الثالث) أنه
لم لا يجوز اختصاص بعض الأوقات بمصلحة تقتضي وجود العالم فيه دون ما قبل

183
ذلك الوقت وما بعده فالمؤثر التام وإن كان حاصلا في الأزل لكن لا يجب
وجود العالم فيه تحصيلا لتلك المصلحة (الرابع) أن الله تعالى عالم بوجود العالم
وقت وجوده وخلاف علمه محال فلم يمكن وجوده قبل وقت وجوده (الخامس)
أن الله تعالى أراد إيجاد العالم وقت وجوده والإرادة مخصصة لذاتها (السادس)
أن العالم محدث لما تقدم فيستحيل وجوده في الأزل لأن المحدث هو ما سبقه
العدم والأزلي ما لم يسبقه العدم والجمع بينهما محال ثم عارضوهم بالحادث اليومي
فإنه معلول فعلته إما القديم فيلزم قدمه أو الحادث فيلزم التسلسل.
قال: والمادة منتفية (1).
أقول: هذا جواب عن الشبهة الثانية وتقريرها أنهم قالوا كل حادث فهو
مسبوق بإمكان وجوده وذلك الإمكان ليس أمرا عدميا وإلا فلا فرق بين نفي
الإمكان والإمكان المنفي ولا قدرة القادر لأنا نعللها به فهو مغاير وليس جوهرا
لأنه نسبة وإضافة فهو عرض فمحله يكون سابقا عليه وهو المادة فتلك المادة إن
كانت قديمة ويستحيل انفكاكها عن الصورة لزم قدم الصورة فيلزم قدم
الجسم وإن كانت حادثة تسلسل والجواب قد بينا أن المادة منتفية وقد
سلف تحقيقه.
قال: والقبلية لا تستدعي الزمان وقد سلف تحقيقه.



(1) الثاني من أدلة الحكماء أن الجسم مركب من المادة والصورة كذلك فالمركب فيهما
قديم أما الصغرى فلما تقدم في بحث مبدأ الجسم وأما الكبرى فلما بين الشارح في الكتاب وعلى
هذا فالمادة إن كانت قديمة ثبت المطلوب وقد ذهب أفلاطون إلى أن ذلك الجوهر المتصل قائم
بذاته غير خال من شئ آخر فهو شئ بسيط قابل لطريان الاتصال والانفصال عليه مع بقائه في
الحالين في ذاته فهو من حيث ذاته يسمى جسما ومن حيث قبوله للصور النوعية التي لأنواع
الأجسام يسمى هيولي وهذا القول هو مختار الخواجة (ره).
184
أقول: هذا جواب عن الشبهة الثالثة وتقريرها أنهم قالوا كل حادث فان
عدمه سابق على وجوده وأقسام السبق منتفية هيهنا إلا الزماني فكل حادث
يستدعي سابقية الزمان عليه فالزمان إن كان حادثا لزم أن يكون زمانيا
وهو محال وإن كان قديما وهو مقدار الحركة لزم قدمها لكن الحركة صفة
للجسم فيلزم قدمه والجواب ما تقدم من أن السبق لا يستدعي الزمان
وإلا لزم التسلسل.
قال: الفصل الرابع في الجواهر المجردة أما العقل فلم يثبت دليل
على امتناعه.
أقول: لما فرغ من البحث عن الجواهر المقارنة شرع في البحث عن الجواهر
المجردة ولبعدها عن الحس أخرها عن البحث عن المقارنات وفي هذا
الفصل مسائل:
المسألة الأولى: في العقول المجردة
(واعلم) أن جماعة من المتكلمين نفوا هذه الجواهر واحتجوا بأنه لو كان
هيهنا موجود ليس بجسم ولا جسماني لكان مشاركا لواجب الوجود في هذا
الوصف فيكون مشاركا له في ذاته وهذا الكلام سخيف لأن الاشتراك في
الصفات السلبية لا يقتضي الاشتراك في الذوات فإن كل بسيطين يشتركان في
سلب ما عداهما عنهما مع انتفاء الشركة بينهما في الذات بل الاشتراك في الصفات
الثبوتية لا يقتضي الاشتراك في الذوات لأن الأشياء المختلفة قد يلزمها لازم
واحد فإذا ثبت ذلك لم يلزم من كون هذه الجواهر المجردة مشاركة للواجب
تعالى في وصف التجرد وهو سلبي مشاركتها له في الحقيقة فلهذا لم يجزم المصنف
؟ نفي هذه الجواهر المجردة.
قال: وأدلة وجوده مدخولة كقولهم الواحد لا يصدر عنه أمران

185
ولا سبق لمشروط باللاحق في تأثيره أو وجوده وإلا لما انتفت صلاحية التأثير
عنه لأن المؤثر هيهنا مختار.
أقول: لما بين انتفاء الجزم بعدم الجوهر المجرد الذي هو العقل شرع في بيان
انتفاء الجزم بثبوته وذلك ببيان ضعف أدلة المثبتين له (واعلم) أن أكثر
الفلاسفة ذهبوا إلى أن المعلول الأول هو العقل الأول وهو موجود مجرد عن
الأجسام والمواد في ذاته وتأثيره معا ثم أن ذلك العقل يصدر عنه عقل وفلك
لتكثره باعتبار كثرة جهاته الحاصلة من ذاته ومن فاعله (ثم) يصدر من العقل
الثاني عقل ثالث وفلك ثان وهكذا إلى أن ينتهي إلى العقل الآخر وهو المسمى
بالعقل الفعال وإلى الفلك الآخر التاسع وهو فلك القمر واستدلوا على إثبات
الجواهر المجردة التي هي العقول بوجوه (الأول) قالوا إن الله تعالى واحد فلا
يكون علة للمتكثر فيكون الصادر عنه واحدا فلا يخلو إما أن يكون جسما
أو مادة أو صورة أو نفسا أو عرضا أو عقلا والأقسام كلها باطلة سوى الأخير
(أما الأول) فلأن كل جسم مركب من المادة والصورة وقد بينا أن المعلول
الأول واحد وإلى هذا القسم أشار بقوله الواحد لا يصدر عنه أمران (وأما
الثاني) فلأن المادة هي الجوهر القابل فلا تصلح للفاعلية لأن نسبة الإمكان
ونسبة الفاعل نسبة الوجوب ويستحيل أن تكون نسبة الشئ الواحد إلى
الواحد نسبة إمكان ووجوب فإذا لم تصلح المادة للفاعلية لم تكن هي المعلول
الأول السابق على غيره لأن المعلول الأول يجب أن يكون علة فاعلة لما بعده
وإلى هذا القسم أشار بقوله وإلا لما انتفت صلاحية التأثير عنه أي لا سبق للمادة
التي لا تصلح أن تكون فاعلا وإذا لم تكن سابقة لم تكن هي المعلول الأول
لما بينا أن المعلول الأول سابق على غيره من المعلولات.
وأما (الثالث) فلأن الصورة مفتقرة في فاعليتها وتأثيرها إلى المادة لأنها

186
إنما تؤثر إذا كانت موجودة مشخصة وإنما تكون كذلك إذا كانت مقارنة
للمادة فلو كانت الصورة هي المعلول الأول السابق على غيره لكانت مستغنية
في عليتها عن المادة وهو محال فالحاصل أن الصورة محتاجة في وجودها الشخصي
إلى المادة فلا تكون سابقة عليها وعلى غيرها من الممكنات لاستحالة اشتراط
السابق باللاحق وإلى هذا أشار بقوله ولا سبق لمشروط أي للصورة باللاحق أي
بالمادة في وجوده (وأما الرابع) فلأن النفس إنما تفعل بواسطة البدن فلو كانت
هي المعلول الأول لكانت علة لما بعدها من الأجسام فتكون مستغنية في فعلها
عن البدن فلا تكون نفسا بل عقلا وهو محال فهي إذا مشروط تأثيرها بالأجسام
فلو كانت سابقة عليها لكان السابق مشروطا باللاحق في تأثير المستند إليه
وهو محال وإلى هذا أشار بقوله ولا سبق لمشروط أي النفس باللاحق أي الجسم
في تأثيره (وأما الخامس) فلأن العرض محتاج في وجوده إلى الجوهر فلو كان
المعلول الأول عرضا لكان علة للجواهر كلها فيكون السابق مشروطا باللاحق
في وجوده وهو باطل بالضرورة وإليه أشار بقوله ولا سبق لمشروط باللاحق في
وجوده فالحاصل أن الصورة والعرض مشروطان بالمادة والجوهر فلا يكونان
سابقين عليهما والنفس إنما تؤثر بواسطة الجسم فلا تكون متقدمة عليه تقدم
العلة على المعلول وإلا لاستغنت في تأثيرها عنه إذا عرفت هذا الدليل فنقول
بعد تسليم أصوله أنه إنما يلزم لو كان المؤثر موجبا وأما إذا كان مختارا فلا
فإن المختار تتعدد آثاره وأفعاله وسيأتي الدليل على أنه مختار.
قال: وقولهم استدارة الحركة توجب الإرادة المستلزمة للتشبه بالكامل
إذا طلب الحاصل (1) فعلا أو قوة يوجب الانقطاع وغير الممكن محال لتوقفه



(1) يعني أن الكمال المطلوب ليس حاصلا وإلا انقطعت الحركة ولا حاصلا بالقوة وإلا
لانقطعت أيضا ولا غير الممكن لأن شعور الفلك مانع عن طلب غير الممكن فتعين أن تكون
الحركة لطلب كمال يحصل بالتدريج إلى الأبد.
187
على دوام ما أوجبنا انقطاعه وعلى حصر أقسام الطلب مع المنازعة في امتناع
طلب المحال.
أقول: هذا هو الوجه الثاني من الوجوه التي استدلوا بها على إثبات العقول
المجردة مع الجواب عنه وتقرير الدليل أن نقول حركات السماوات إرادية لأنها
مستديرة وكل حركة مستديرة إرادية لأن الحركة إما طبيعية أو قسرية
والمستدير لا تكون طبيعية لأن المطلوب (1) بالطبع لا يكون متروكا بالطبع
وكل جزء من المسافة في الحركة المستديرة فإن تركه بعينه هو التوجه إليه
وإذا انتفت الطبيعة انتفت القسرية لأن القسر على خلاف الطبع وحيث لا طبع
فلا قسر فثبت أنها إرادية وكل حركة إرادية فإنها تستدعي مطلوبا لأن العبث
لا يدوم وذلك المطلوب يجب أن يستكمل الطالب به وإلا لم يتوجه بالطلب نحوه
فإما أن يكون كمالا في نفسه أو لا والثاني محال وإلا لجاز انقطاع الحركة لأنه
لا بد أن يظهر لذلك الطالب أن ذلك المطلوب ليس بكمال في ذاته فيترك
الطلب وإذا كان المطلوب كما لا حقيقة فأما أن يحصل بالكلية وهو محال وإلا
لانقطعت الحركة فيجب أن يحصل على التعاقب وإلا لما كانت كمالات الفلك
حاضرة بأسرها سوى الوضع لأنه كامل في جوهره وباقي معقولاته غير الوضع
فإن أوضاعه الممكنة ليست حاضرة بأسرها إذ لا وضع يحصل له إلا وهناك
أوضاع لا نهاية لها معدومة عنه ولا يمكن حصولها دفعة فهي إنما تحصل على
التعاقب ثم أن الفلك لما تصور كمال العقل وأنه لم يبق فيه شئ بالقوة إلا وقد



(1) وبيان ذلك أن الحركة إما طبيعية أو قسرية أو إرادية وحركة الفلك ليست طبيعية
لأنها مستديرة وكل مستدير ليس طبيعيا بيانه أن الحركة المستديرة تترك جزءا وتطلب ذلك
الجزء بعينه والمطلوب بالطبع لا يكون متروكا بالطبع وإذا ثبت أنها ليست طبيعية ثبت أنها
ليست قسرية.
188
خرج إلى الفعل اشتقاق إلى التشبه به في ذلك ليستخرج ما فيه بالقوة إلى الفعل
ولما تعذر ذلك دفعة استخراج كماله في أوضاعه على التعاقب فقد ظهر من هذا
وجود عقل يتشبه به الفلك في حركته فإن كان واحدا لزم تشابه الحركات
الفلكية في الجهات والسرعة والبطؤ وليس كذلك فيجب وجود عقول متكثرة
بحسب تكثر الحركات في الجهة والسرعة والبطؤ لا يقال لم لا يتحرك لأجل
نفع السافل أو لم لا يختلف في السرعة والبطؤ والجهة لذلك لأنا نقول الفلكيات
أشرف من هذا العالم ويستحيل أن يفعل العالي شيئا لأجل السافل وإلا لكان
مستكملا به فالكامل مستكمل بالناقص هذا خلف فلا يمكن أن تكون
الحركة في أصلها ولا في هيئتها لأجل نفع السافل فهذا تقرير الدليل (1)
والجواب أن هذا مبني على دوام الحركة ونحن قد بينا حدوث العالم فيجب
انقطاعها فيبطل هذا الدليل من أصله وأيضا فهذا الدليل يتوقف على حصر
أقسام الطلب والأقسام التي ذكروها ليست حاصرة سلمنا لكن لم لا يجوز أن
يكون الطلب لما يستحيل حصوله أو لما هو حاصل ولا شعور للطالب بذلك
ونحن نمنع وجوب الشعور بذلك ثم نقول لا نسلم إن الحركة الفلكية دورية فلم
لا يتحرك على الاستقامة سلمنا إنها دورية فلم لا تكون قسرية قوله انتفاء الطبع
يقتضي انتفاء القسر قلنا ممنوع فإن حركة المحوي بالحاوي حركة قسرية وإن
كانت بالعرض وهي دورية سلمنا لكن الحركة ليست مقصودة بالذات بل
إنما تراد لغيرها فلم حصرتهم ذلك الغير في استخراج الأوضاع ولم لا يجوز أن
يكون للفلك كمالات غير الأوضاع معدومة كالتعقلات المتجددة وأيضا فإنه على



(1) هذا الدليل موقوف على دوام الحركة التي أوجبنا انقطاعها حيث بينما حدوث العالم
وأيضا موقوف على حصر الأقسام الطلب فيما ذكر وهو ممنوع فإنا لا نتسلم أن طلب المحسوس
لا يكون إلا للجذب أو للدفع لم لا يجوز أن يكون بمعرفته أو غيرها.
189
قدر خاص فباقي أنواع الكم عنه معدومة وكذا كثير من أنواع الكيف فلم
أوجبتم الحركة في الوضع للتشبه باستخراج أنواع الأوضاع ولم توجبوا استخراج
باقي الأعراض من الكم والكيف بل الايون (1) عنه معدومة مع استحالة حصولها
له عندكم فلم لا يجوز مثلها في الأوضاع سلمنا ذلك لكن لم أوجبتم وجود عقل
يتشبه به الفلك ولم لا يقال إن خروج (2) الأوضاع كمال مقصود له فيتحرك
لطلبه منه غير حاجة إلى متشبه به سلمنا لكن لم أحلتم نفع السافل وحديث
الاستكمال مع أنه خطابي غير لازم وبالجملة فهذا الوجه ضعيف جدا إذا عرفت
هذا فنرجع إلى تتبع ألفاظ الكتاب فقوله وقولهم يقرء بالجر عطفا على قوله
كقولهم وقوله استدارة الحركة توجب الإرادة إشارة إلى ما نقلناه عنهم من أن
الحركة المستديرة لا تكون إلا إرادية (وقوله) المستلزمة للتشبه بالكامل إشارة
إلى أن الغاية من الحركة ليس كما لا يحصل دفعة ولا ممتنع الحصول بل هو التشبه
الحاصل على التعاقب (وقوله) إذ طلب الحاصل فعلا أو قوة يوجب الانقطاع
إشارة إلى أن ذلك الكمال ليس حاصلا بالفعل وإلا لانقطعت الحركة ولا بالقوة
التي يمكن حصولها دفعة لذلك أيضا (وقوله) وغير الممكن محال إشارة إلى
أن الكمال إذا كان ممتنع الحصول استحال طلبه (وقوله) لتوقفه على دوام
ما أوجبنا انقطاعه إشارة إلى بيان ضعف هذا الدليل فإنه مبني على دوام
الحركة وقد بينا وجوب انقطاعه (وقوله) وعلى حصر أقسام الطلب إشارة
إلى اعتراض ثان وهو أن نمنع حصر أقسام الطلب في أنه إما أن يكون كمالا
حاصلا أو ممتنع الحصول أو يحصل على التعاقب (قوله) مع المنازعة في امتناع
طلب المحال إشارة إلى اعتراض آخر وهو إنا نمنع استحالة طلب المحال لجواز
الجهل على الطالب.



(1) أي الأمكنة التي من غير أمكنة الأفلاك.
(2) قوله خروج الأوضاع كمال مفقود له فيكون مطلوبه كمالا محسوسا لا أمرا معقولا.
190
قال: وقولهم لا علية بين المتضايفين وإلا لأمكن الممتنع أو علل الأقوى
بالأضعف لمنع الامتناع الذاتي.
أقول: هذا هو الوجه الثالث من الوجوه التي استدلوا بها على إثبات العقول
وتقريره (1) أن نقول الأفلاك ممكنة فلها علة فهي إن كانت غير جسم ولا جسماني
ثبت المطلوب وإن كانت العلة جسمانية لزم الدور وإن كانت جسما فإما أن
يكون الحاوي علة للمحوي أو بالعكس والثاني محال لأن المحوي أضعف من
الحاوي فلو كان المحوي علة لزم تعليل الأقوى الذي هو الحاوي بالأضعف
الذي هو المحوي وهو محال والأول وهو أن يكون الحاوي علة
للمحوي محال أيضا وبيانه يتوقف على مقدمات (إحديها) أن الجسم لا يكون
علة إلا بعد صيرورته شخصا معينا وهو ظاهر لأنه إنما يؤثر إذا صار موجودا
بالفعل ولا وجود لغير الشخصي) (الثانية) أن المعلول حال فرض وجود العلة
يكون ممكنا وإنما يلحقه الوجوب بعد وجود العلة ووجوبها (الثالثة) إن
الأشياء المتصاحبة لا تتخالف في الوجوب والإمكان إذا عرفت هذا فنقول
لو كان الحاوي علة للمحوي لكان متقدما بشخصه المعين على وجود المحوي
فيكون المحوي حينئذ ممكنا فيكون انتفاء الخلاء ممكنا لأنه مصاحب لوجود
المحوي لكن الخلاء ممتنع لذاته والجواب بعد تسليم امتناع الخلاء لا نسلم كون



(1) وتقريره أنه لا يخلو إما أن يكون موجدا لفلك الجسم أو العقل والأول مستحيل فيتعين
الثاني وهو المطلوب ووجه استحالة كون الموجد جسما أن الموجد لا يخلو إما أن يكون
محويا بالفلك أو حاويا له وكلاهما محال أما الأول فلأن الحاوي أشرف من المحوي فلا يمكن
أن يكون الأحسن علة للأشرف وإلى هذا أشار بقوله أو علل الأقوى بالأضعف وأما الثاني فلأن
الحاوي لكونه علة مقدم على المحوي ففي رتبة عدم المحوي في ظرف وجود الحاوي يلزم الخلاء
فحيث إن الخلاء محال يستحيل أن تكون علة الفلك الجسم الحاوي، وإليه أشار وإلا لأمكن
الممتنع فيكون انتفاع الخلاء واجبا لا ممكنا.
191
الامتناع ذاتيا إذا عرفت هذا فنرجع إلى تتبع ألفاظ الكتاب فنقول (قوله)
لا علية بين المتضايفين معناه الذي يفهم من هذا الكلام أنه لا علية بين الحاوي
والمحوي وسماها المتضايفين لأن أحدهما من حيث هو حاو مضائف للآخر
والآخر من حيث هو محوي مضائف له وهذان الوصفان من باب المضاف و (قوله)
وإلا لأمكن الممتنع إشارة إلى ما بيناه من إمكان الخلاء الممتنع لذاته على تقدير
كون الحاوي علة و (قوله) أو علل الأقوى بالأضعف إشارة إلى ما بيناه من
كون الضعيف علة في القوي على تقدير كون المحوي علة للحاوي و (قوله) لمنع
الامتناع الذاتي إشارة إلى ما بيناه في الجواب من المنع من كون الخلاء ممتنعا لذاته
فهذا ما فهمناه من هذا الموضع.
المسألة الثانية: في النفس الناطقة
قال: وأما النفس فهي كمال أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة.
أقول: هذا هو البحث عن أحد أنواع الجوهر وهو البحث عن النفس
الناطقة وقبل البحث عن أحكامها شرع في تعريفها وقد عرفها الحكماء بأنها
كمال أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة لأن الجسم إذا أخذ بمعنى المادة
كانت النفس المتضمنة إليه الذي يحصل من اجتماعهما نبات أو حيوان أو إنسان
صورة وإذا أخذ بمعنى الجنس كانت كمالا لأن طبيعة الجنس ناقصة قبل الفصل
وعرفوا النفس بالكمال دون الصورة لأن النفس الإنسانية غير حالة في البدن
فليست صورة له وهي كمال له واعلم أن الكمال منه أول وهو الذي يتنوع به
الشئ كالفصول ومنه ثان وهو ما يعرض للنوع بعد كماله من صفاته اللازمة
والعارضة فالنفس من القسم الأول وهي كمال لجسم طبيعي لا صناعي كالسرير
وغيره وليست كمالا لكل طبيعي حق البسائط بل هي كمال لجسم طبيعي آلي
يصدر عنه أفعاله بواسطة الآلات ومعناه كونه ذا آلات يصدر عنه بتوسطها

192
وبغير توسطها ما يصدر عنه من أفاعيل الحياة التي هي التغذي والنمو والتوليد
والإدراك والحركة الإرادية والنطق.
المسألة الثالثة: في أن النفس الناطقة ليست هي المزاج
قال: وهي مغايرة لما هي شرط فيه لاستحالة الدور.
أقول: ذهب المحققون إلى أن النفس الناطقة مغايرة للمزاج ويدل عليه ثلاثة
أوجه (الأول) ما ذكره الأوائل أن النفس الناطقة شرط في حصول المزاج
لأن المزاج إنما يحصل من اجتماع العناصر المتضادة فعلة ذلك الاجتماع يجب أن
تكون متقدمة عليه وكذا شرط الاجتماع وهو النفس الناطقة فلا تكون هي
المزاج المتأخر عن الاجتماع لاستحالة الدور (1) وفي هذا الوجه نظر لأنهم عللوا
حدوث النفس بالاستعداد الحاصل من المزاج فكيف جعلوا الآن حدوث
الاجتماع من النفس وللشيخ هيهنا كلام طويل ليس هذا موضع ذكره.
قال: وللممانعة في الاقتضاء (2)
أقول: هذا هو الوجه الثاني وتقريره أن المزاج يمانع النفس في مقتضاها
كما في الرعشة فإن مقتضى النفس الحركة إلى جانب ومقتضى المزاج الحركة
إلى جانب آخر وتضاد الآثار يستدعي تضاد المؤثر فهيهنا الممانعة بين النفس والمزاج
في جهة الحركة وكذلك قد يقع بينهما الممانعة في نفس الحركة أما بأن تكون



(1) لو كانت النفس هي المزاج كما حكي عن جالينوس لزم توقف الشئ على نفسه إذ النفس
أما شرط للمزاج أو مشروط بالمزاج فلو كانا شيئا واحدا لزم توقف الشئ على نفسه الذي يعبر
عنه بالدور النفسي الدور في نفس الشئ وهو محال لالتزامه كون الشئ الواحد موجودا
ومعدوما في وقت واحد.
(2) فإن النفس تقتضي شيئا والمزاج يقتضي شيئا آخر فإن الماشي مزاجه يقتضي السكون
ونفسه تقتضي الحركة فتبين أنهما شيئان إذ لا يعقل أن يقتضي شئ واحد أمرين متقابلين.
كشف المراد - 13
193
الحركة نفسانية لا يقتضيها المزاج كما في حال حركة الإنسان على وجه الأرض
فإن مزاجه يقتضي السكون عليها ونفسه تقتضي الحركة أو بأن تكون طبيعية
لا تقتضيها النفس كما في حال الهوى.
قال: ولبطلان (1) أحدهما مع ثبوت الآخر.
أقول: هذا هو الوجه الثالث الدال على أن النفس مغايرة للمزاج وتقريره
أن الادراك إنما يكون بواسطة الانفعال فاللامس إذا أدرك شيئا فلا بد من أن
ينفعل عن الملموس فلو كان اللامس هو المزاج لبطل عند انفعاله وحدثت كيفية
مزاجية أخرى وليس المدرك هو الكيفية الأولى لبطلانها ووجوب بقاء المدرك
عند الادراك ولا الثانية لأن المدرك لا بد وأن ينفعل عن المدرك والشئ
لا ينفعل عن نفسه.
المسألة الرابعة: في أن النفس ليست هي البدن
قال: ولما يقع الغفلة عنه.
أقول: ذهب من لا تحصيل له إلى أن النفس الناطقة هي البدن وقد أبطله
المصنف بوجوه ثلاثة (الأول) أن الإنسان قد يغفل عن بدنه وأعضائه
وأجزائه الظاهرة والباطنة وهو متصور لذاته ونفسه فيجب أن تغايرها فقوله
ولما يقع الغفلة عنه عطف على قوله لما هي شرط فيه أي والنفس مغايرة لما هي
شرط فيه ولما يقع الغفلة عنه أعني البدن.
قال: والمشاركة به.
أقول: هذا هو الوجه الثاني الدال على أن النفس ليست هي البدن وتقريره



(1) وتقريره على ما في القوشجي إن النفس تبقى عند بطلان المزاج فإن زيدا مثلا له
مزاج عند طفولته ككون مزاجه حارا لا يبقى ذلك المزاج عند بلوغه إلى؟ ن الشباب فيصبر
مزاجه باردا مثلا ولا شك أن الباقي غير الزائل.
194
أن البدن جسم وكل جسم على الاطلاق فإنه مشارك لغيره من الأجسام في الجسمية
فالإنسان يشارك غيره من الأجسام في الجسمية ويخالفه في النفس الإنسانية وما
به المشاركة غير ما به المباينة فالنفس غير الجسم فقوله المشاركة به عطف على
قوله الغفلة عنه أي وهي مغايرة لما يقع الغفلة عنه والمشاركة به.
قال: والتبدل فيه.
أقول: هذا هو الوجه الثالث وتقريره أن أعضاء البدن وأجزائه تتبدل
كل وقت وتستبدل ما ذهب بغيره فإن الحرارة الغريزية تقتضي تحليل الرطوبات
البدنية فالبدن دائما في التحلل والاستخلاف والهوية باقية من أول العمر إلى آخره
والمتبدل مغاير للباقي فالنفس غير البدن فقوله والتبدل فيه عطف على قوله
والمشاركة به أي وهي مغايرة لما يقع المشاركة به والتبدل فيه.
المسألة الخامسة: في تجرد النفس
قال: وهي جوهر مجرد لتجرد عارضها.
أقول: اختلف الناس في ماهية النفس وإنها هل هي جوهر أم لا والقائلون
بأنها جوهر اختلفوا في أنها هل هي مجرد أم لا والمشهور عند الأوائل وجماعة
من المتكلمين كبني نوبخت من الإمامية والمفيد منهم والغزالي من الأشاعرة
أنها جوهر مجرد ليست بجسم ولا جسماني وهو الذي اختاره المصنف (ره)
واستدل على تجردها بوجوه الأول تجرد عارضها وهو العلم وتقرير هذا الوجه
إن هيهنا معلومات مجردة عن المواد فالعلم المتعلق بها يكون لا محالة مطابقا
لها فيكون مجردا لتجردها فمحله وهو النفس يجب أن يكون مجردا لاستحالة
حلول المجرد في المادي.
قال: وعدم انقسامه.
أقول: هذا هو الوجه الثاني وهو أن العارض للنفس أعني العلم غير منقسم
فمحله أعني المعروض كذلك وتقرير هذا الدليل يتوقف على مقدمات (إحديها)

195
إن هيهنا معلومات غير منقسمة وهو ظاهر فإن واجب الوجود غير منقسم
وكذا الحقائق البسيطة (الثانية) العلم بها غير منقسم لأنه لو انقسم لكان كل
واحد من أجزائه إما أن يكون علما أو لا والثاني باطل لأنه عند الاجتماع إما
أن يحصل أمرا زايد أو لا فإن كان الثاني لم يكن ما فرضناه علما بعلم هذا
خلف وإن كان الأول فذلك الزايد إما أن يكون منقسما فيعود البحث
أو لا يكون فيكون العلم غير منقسم وهو المطلوب وإن كان كل جزء علما فإما
أن يكون علما بكل ذلك المعلوم فيكون الجزء مساويا للكل هذا خلف
أو ببعضه فيكون ما فرضناه غير منقسم منقسما هذا خلف (الثالثة) إن محل
العلم غير منقسم لأنه لو انقسم لانقسم العلم لأنه إن لم يحل في شئ من أجزائه
لم يحل في ذلك المحل وإن حل فإما أن يكون في جزء غير منقسم وهو
المطلوب أو في أكثر من جزء فإما أن يكون الحال في أحدهما عين الحال
في الآخر وهو محال بالضرورة أو غيره فيلزم الانقسام (الرابعة) إن كل
جسم وكل جسماني فهو منقسم لأنا قد بينا (1) أن لا وجود لوضعي غير منقسم
وإذا ثبتت هذه المقدمات ثبت تجرد النفس وفيه نظر (2) للمنع من
المساواة (3) مطلقا عند المساواة في تعلق الجزء بكل المعلوم كالكل.
قال: وقوتها على ما تعجز المقارنات عنه.



(1) في المسألة السادسة من الفصل الأول.
(2) قوله وفيه نظر واعتراض الشارح العلامة على الخواجة على القول بأن حقيقة العلم هي
نفس الإضافة وأما على القول بأنه حقيقة ذات الإضافة فمساواته له في الإضافة تستلزم مساواته
له في المقدار الذي هو مفروض على تقدير الانقسام والمساواة في المقدار بين الجزء والكل
باطلة بالضرورة.
(3) وجه النظر بين نمنع إذا كان كل جزء من العلم علما وكان بكل ذلك المعلوم أن يكون
مساويا لكل العلم ومساواة جزء الشئ لكله في المتعلق بشئ ليست بباطلة.
196
أقول: هذا هو الوجه الثالث وتقريره أن النفوس البشرية تقوى على
ما لا تقوى عليه المقارنات للمادة فلا تكون مادية لأنها تقوى على ما لا يتناهى
لأنها تقوى على تعقلات الأعداد الغير المتناهية وقد بينا (1) أن القوة الجسمانية
لا تقوى على ما لا يتناهى فتكون مجردة وفيه نظر لأن التعقل قبول لا فعل
وقبول ما لا يتناهى في الجسمانيات ممكن.
قال: ولحصول عارضها بالنسبة إلى ما يعقل محلا منقطعا
أقول: هذا هو الوجه الرابع وتقريره أن النفس لو حلت جسما من قلب
أو دماغ لكانت دائمة التعقل له أو كانت لا تعقله البتة والتالي باطل بقسميه
فكذا المقدم بيان الشرطية إن القوة العاقلة إذا حلت في قلب أو دماغ لم يخل
إما أن تكفي صورة ذلك المحل في التعقل أو لا تكفي فإن كفت لزم حصول
التعقل دائما لدوام تلك الصورة للمحل وإن لم تكف لم تعقله البتة لاستحالة أن
يكون تعقلها مشروطا بحصول صورة أخرى لمحلها فيها وإلا لزم اجتماع المثلين
وأما بطلان التالي فظاهر لأن النفس تعقل القلب والدماغ في وقت دون وقت
ولنرجع إلى ألفاظ الكتاب فقوله (ره) ولحصول عارضها يعني بالعارض التعقل
وقوله بالنسبة إلى ما يعقل محلا منقطعا أي ولحصول العارض وهو التعقل بالنسبة
إلى ما يعقل محلا من قلب أو دماغ حصولا منقطعا لا دائما.
قال: ولاستلزام استغناء العارض استغناء المعروض.
أقول: هذا وجه خامس يدل على تجرد النفس العاقلة وتقريره: إن النفس
تستغني في عارضها وهو التعقل عن المحل فتكون في ذاتها مستغنية عنه لأن
استغناء العارض يستلزم استغناء المعروض لأن العارض محتاج إلى المعروض فلو
كان المعروض محتاجا إلى شئ لكان العارض أولى بالاحتياج إليه فإذا استغنى
العارض وجب استغناء المعروض وبيان استغناء التعقل عن المحل إن النفس تدرك



(1) في المسألة الثانية عشرة من الفصل الثالث من المقصد الأول.
197
ذاتها لذاتها لا لآلة وكذا تدرك آلتها وتدرك إدراكها لذاتها ولآلتها كل ذلك
من غير آلة متوسطة بينها وبين هذه المدركات فإذن هي مستغنية في إدراكها
لذاتها ولآلتها ولإدراكها عن الآلة فتكون في ذاتها مستغنية عن الآلة أيضا
فقوله ولاستلزام استغناء العارض عنى بالعارض هيهنا التعقل وقوله استغناء
المعروض عنى به النفس التي يعرض لها التعقل.
قال: ولانتفاء التبعية.
أقول: الذي فهمناه من هذا الكلام أن هذا وجه آخر دال على تجرد النفس
وتقريره أن القوة المنطبعة في الجسم تضعف بضعف ذلك الجسم الذي هو شرط
فيها والنفس بالضد من ذلك فإنها حال ضعف الجسم كما في وقت الشيخوخة
تقوى وتكثر تعقلاتها فلو كانت جسمانية لضعف بضعف محلها وليس كذلك
فلما انتفت تبعية النفس للجسم في حال ضعفه دل ذلك على أنها ليست جسمانية.
قال: ولحصول الضد.
أقول: هذا وجه سابع يدل على تجرد النفس وتقريره أن القوة الجسمانية
مع توارد الأفعال عليها وكثرتها تضعف وتكل لأنها تنفعل عنها فإن من نظر
طويلا إلى قرص الشمس لا يدرك في الحال غيرها إدراكا تاما والقوى النفسانية
بالضد من ذلك فإن عند كثرة التعقلات تقوى وتزداد فالحاصل لها عند كثرة
الأفعال هو ضد ما يحصل للقوة الجسمانية عند كثرة الأفعال فهذا ما خطر لنا
في معنى قوله ولحصول الضد.
المسألة السادسة: في أن النفس البشرية متحدة في النوع
قال: ودخولها تحت حد واحد يقتضي وحدتها.
أقول: اختلف الناس في ذلك فذهب الأكثر إلى أن النفوس البشرية متحدة

198
بالنوع متكثرة بالشخص وهو مذهب أرسطاطاليس وذهب جماعة من القدماء إلى
أنها مختلفة بالنوع واحتج المصنف على وحدتها بأنها يشملها حد واحد والأمور
المختلفة يستحيل اجتماعها تحت حد واحد وعندي في هذا نظر فإن التحديد ليس
لجزئيات النفس حتى يلزم ما ذكروه بل لمفهوم النفس وهو المعنى الكلي وذاك
كما يحتمل أن يكون نوعا يحتمل أن يكون جنسا فإن قال إن حد الكلي حد لكل
نفس إذ لا يعقل من كل نفس سوى ما قلناه في التحديد منعنا ذلك وألزمناه
الدور لأن الأشياء المتكثرة إنما يصح جمعها في حد واحد لو كانت متحدة في الماهية
فلو استفدنا وحدتها من الدخول في الحد الواحد لزم الدور والتحديد ليس راجعا
إلى المفهوم من النفس بل إلى حقيقتها في نفس الأمر وإلا لكان الحد حدا بحسب
الاسم لا حدا بحسب الحقيقة.
قال: واختلاف العوارض لا يقتضي اختلافها.
أقول: هذا جواب عن شبهة من استدل على اختلافها وتقرير الدليل أنهم
قالوا وجدنا النفوس البشرية تختلف في العفة والفجور والذكاء والبلادة وليس
ذلك من توابع المزاج لأن المزاج قد يكون واحدا والعوارض مختلفة فإن بارد المزاج قد
يكون في غاية الذكاء وكذا حار المزاج قد يكون في غاية البلادة وكذلك المزاج
قد يتبدل والصفة النفسانية باقية ولا من الأسباب الخارجة لأنها قد تكون بحيث
تقتضي خلقا والحاصل ضده فعلمنا أنها لوازم للماهية وعند اختلاف اللازم يختلف
الملزوم والجواب أن الملزومات مختلفة وليست هي النفس وحدها بل النفس
والعوارض المختلفة ومجموع النفس مع العوارض إذا كان مختلفا لا يلزم أن يكون
كل جزء أيضا مختلفا فهذه الحجة مغالطة هذا صورة ما أجاب به المصنف في بعض
كتبه عن هذه الحجة وفي هذا نظر والأقرب في الجواب ما ذكره هيهنا وهو أن
هذه عوارض مفارقة غير لازمة فاختلافها لا يقتضي اختلاف المعروض.

199
المسألة السابعة: في أن النفوس البشرية حادثة
قال: وهي حادثة وهو ظاهر على قولنا وعلى قول الخصم لو كانت أزلية
لزم اجتماع الضدين أو بطلان ما ثبت أو ثبوت ما يمتنع.
أقول: اختلف الناس في ذلك فالمليون ذهبوا إلى أنها حادثة وهو ظاهر على
قواعدهم لما ثبت من حدوث العالم وهي من جملة العالم ولأجل ذلك قال المصنف
وهو ظاهر على قولنا وأما الحكماء فقد اختلفوا هيهنا فقال أرسطو إنها حادثة
وقال أفلاطون إنها قديمة والمصنف ذكر هيهنا حجة أرسطو أيضا على الحدوث
وتقرير هذه الحجة أن النفوس لو كانت أزلية لكانت أما واحدة أو كثيرة
والقسمان باطلان فالقول بقدمها باطل أما الملازمة فظاهر وأما بطلان وحدتها
فلأنها لو كانت واحدة أزلا فإما أن تتكثر فيما لا يزال أو لا تتكثر والثاني باطل
وإلا لزم أن يكون ما يعلمه زيد يعلمه كل أحد وكذا ساير الصفات النفسانية لكن
الحق خلاف ذلك فإنه قد يعلم زيد شيئا وعمرو جاهل به ولو اتحدت نفساهما لزم
اتصاف كل واحد بالضدين والأول باطل أيضا لأنها لو تكثرت لكانت النفسان
الموجودتان الآن أما إن كانتا حاصلتين قبل الانقسام فقد كانت الكثرة حاصلة
قبل فرض حصولها هذا خلف وأما أن يقال حدثتا بعد الانقسام وهو محال وإلا
لزم حدوث النفسين وبطلان النفس التي كانت موجودة وأظن أن قوله (ره) وإلا
لزم اجتماع الضدين إشارة إلى هذه اللوازم الناشئة عن هذا القسم من المنفصلة لأن
القول بالوحدة فيما لا يزال يستلزم اتصاف النفوس بالضدين والقول بالكثرة فيما
لا يزال مع حصولها يستلزم تكثر ما فرضناه واحدا وهو جمع بين الضدين أيضا
والقول بالكثرة مع تجددها يستلزم بطلان النفس الواحدة وحدوث هاتين النفسين
مع فرض قدمهما وهو جمع بين الضدين أيضا وأما بطلان كثرتها أزلا فلان التكثر
أما بالذاتيات أو باللوازم أو بالعوارض والكل باطل أما الأول فلما ثبت من

200
وحدتها بالنوع وكذا الثاني لأن كثرة اللوازم تستلزم كثرة الملزومات وأظن أن
قوله أو بطلان ما ثبت إشارة إلى هذا لأن القول بالكثرة الذاتية يستلزم بطلان
وحدتها بالنوع وقد أثبتناه (وأما الثالث) فلأن اختلاف العوارض للذوات
المتساوية بالنوع إنما يكون عند تغاير المواد لأن نسبة العارض (1) إلى المثلين
واحدة ومادة النفس البدن لاستحالة الانطباع (2) عليها وقبل البدن لا مادة وإلا
لزم التناسخ وهو محال وأظن أن قوله أو ثبوت ما يمتنع إشارة إلى هذا.
المسألة الثامنة: في أن لكل نفس بدنا واحدا وبالعكس
قال: وهي مع البدن على التساوي.
أقول: هذا حكم ضروري أو قريب من الضروري فإن كل إنسان يجد
ذاته ذاتا واحدة فلو كان لبدن نفسان لكان تلك الذات ذاتين وهو محال
فيستحيل تعلق النفوس الكثيرة ببدن واحد وكذا العكس فإنه لو تعلقت نفس
واحدة ببدنين لزم أن يكون معلوم أحدهما معلوما للآخر وبالعكس وكذا باقي
الصفات النفسانية وهو باطل بالضرورة.
المسألة التاسعة: في أن النفس لا تفنى بفناء البدن
قال: ولا تفنى بفنائه.
أقول: اختلف الناس هيهنا فالقائلون بجواز إعادة المعدوم جوزوا فناء
النفس مع فناء البدن والمانعون هناك منعوا هيهنا أما الأوائل فقد اختلفوا أيضا



(1) أي نسبة كل عارض إلى فردين من النفس واحدة فلا ترجيح لأن يوجد في أحدهما
دون الآخر من دون مرجح والمرجح ليس إلا المادة وهي البدن.
(2) أي يستحيل أن ينطبع النفس في المادة كانطباع اللون في الموضوع وانطباع الصورة
المائية مثلا في الجسم لأن ذلك ينافي تجردها الذي يثبت في المسألة الخامسة.
201
والمشهور أنها لا تفنى أما أصحابنا فإنهم استدلوا على امتناع فنائها بأن الإعادة
واجبة على الله تعالى على ما يأتي ولو عدمت النفس لامتنعت إعادتها لما ثبت من
امتناع إعادة المعدوم فيجب أن لا تفنى وأما الأوائل فاستدلوا بأنها لو عدمت
لكان إمكان عدمها محتاجا إلى محل مغاير لها لأن القابل يجب وجوده مع المقبول
ولا يمكن وجود النفس مع العدم فذلك المحل هو المادة فتكون النفس مادية
فتكون مركبة هذا خلف على أن تلك المادة (1) يستحيل عدمها لاستحالة التسلسل
وهذه الحجة ضعيفة لأنها مبنية (2) على ثبوت الإمكان واحتياجه إلى المحل
الوجودي وهو ممنوع سلمنا لكن ذلك ينتقض بالجواهر البسيطة فإنها ممكنة
ومعنى إمكانها قبولها للعدم فتكون مادية سلمنا لكن لم لا يجوز القول بكون
النفوس مركبة من جوهرين مجردين أحدهما يجري مجرى المادة والآخر يجري
مجرى الصورة وبقاء جوهر المادة لا يكفي في بقاء جوهر النفس ثم ينتقض ذلك
بإمكان الحدوث فإنه يتحقق هناك إمكان من دون مادة قابلة فكذا
إمكان الفساد.
المسألة العاشرة: في إبطال التناسخ
قال: ولا يصير مبدء صورة لآخر وإلا بطل ما أصلناه من التعادل.
أقول: اختلف الناس هيهنا فذهب جماعة من العقلاء إلى جواز التناسخ في



(1) توضيحه أن النفس لو كانت لها مادة فإما أن يستحيل الفساد والعدم على تلك المادة أو لا
الأول يستلزم المطلوب إذ نقول أن النفس هي تلك المادة إذ لا نعني بالنفس إلا جوهرا مجردا
يستحيل عليه الفساد ويكون محلا للصور المجردة والثاني يستلزم أن تكون لتلك المادة مادة
أخرى فننقل الكلام إلى تلك المادة الأخرى فيلزم التسلسل أي وجود مواد غير متناهية.
(2) هذا الإشكال غير وارد لأن المراد بالإمكان المذكور في هذه الحجة هو استعداد الفساد
والاستعداد سواء كان للفساد أو الكون أمر موجود حال في المادة أو الموضوع.
202
النفوس بأن تنتقل النفس التي كانت مبدء صورة لزيد مثلا إلى بدن عمرو يصير
مبدء صورة له ويكون بينهما من العلاقة كما كان بين البدن الأول وبينها وذهب
الأكثر من العقلاء إلى بطلان هذا المذهب والدليل عليه إنا قد بينا أن النفوس
حادثة وعلة حدوثها قديمة فلا بد من حدوث استعداد وقت حدوثها ليتخصص
ذلك الوقت بالإيجاد فيه والاستعداد إنما هو باعتبار القابل فإذا حدث الاستعداد
وتم وجب حدوث النفس المتعلقة به فإذا حدث بدن تعلقت به نفس تحدث عن
مباديها فإذا انتقلت إليه نفس أخرى (1) مستنسخة لزم اجتماع النفسين لبدن
واحد وقد بينا بطلانه ووجوب التعادل في الأبدان والنفوس حتى لا توجد
نفسان لبدن واحد وبالعكس.
المسألة الحادية عشرة: في كيفية تعقل النفس وإدراكها
قال: وتعقل بذاتها وتدرك بالآلات للامتياز بين المختلفين وضعا من
غير استناد.
أقول: إعلم أن التعقل هو إدراك الكليات والإدراك هو الاحساس بالأمور
الجزئية وقد ذهب جماعة من القدماء إلى أن النفس تعقل الأمور الكلية بذاتها
من غير احتياج إلى آلة وتدرك الأمور الجزئية بواسطة قوى جسمانية هي
محال الإدراكات والحكم الأول ظاهر فإنا نعلم قطعا إنا ندرك الأمور الكلية مع
اختلال كل عضو يتوهم أنه آلة للتعقل وقد سلف تحقيق ذلك وأما الحكم الثاني
وهو افتقارها في الادراك الجزئي إلى الآلات فلأنا نميز بين الأمور المتفقة بالماهية



(1) ثم اعلم لهم في انتقال النفس بعد الموت إلى شئ آخر اصطلاحات الأول النسخ وهو
الانتقال إلى بدن إنساني آخر الثاني المسخ وهو الانتقال إلى بدن حيوان الثالث الفسخ وهو
الانتقال إلى نبات أو شجر الرابع الرسخ وهو الانتقال إلى معدن أو جماد.
203
المختلفة بالوضع لا غير كما إنا نفرق بين العين اليمنى واليسرى من الصورة التي
نتخيلها ونميز بينهما مع اتحادهما في الحقيقة واختلافهما في الوضع فليس الامتياز
بينهما بذاتي ولا بما يلزم الذات لفرض تساويهما بل بأمور عارضة ثم اختصاص
كل واحدة منهما بعارضها ليس في الوجود الخارجي لأن المتخيل قد لا يكون
موجودا في الخارج فليس الامتياز إذن للمأخوذ عنه بل للآخذ فإن كان محل
أحديهما هو بعينه محل الأخرى استحال اختصاص أحديهما بكونها يمنى والأخرى
بكونها يسرى لأن نسبة العارض إليهما واحدة فبقي أن يكون المحل مختلفا
حتى يكون الجانب الذي تحل فيه أحديهما غير الجانب الذي تحل فيه الأخرى
إذا عرفت هذا (فقوله) وتعقل بذاتها إشارة إلى ما ذكرناه من أن التعقل
للأمور الكلية لذات النفس من غير آلة (وقوله) وتدرك بالآلات إشارة إلى
أن إدراك الأمور الجزئية إنما يكون بواسطة قوى جسمانية (وقوله) للامتياز
بين المختلفين وضعا إشارة إلى ما مثلناه من الامتياز بين العينين (وقوله) من
غير استناد أي من غير استناد إلى الخارج.
المسألة الثانية عشرة: في القوى النباتية
قال: وللنفس قوى تشارك بها غيرها هي الغاذية والنامية والمولدة.
أقول: لما كان البدن آلة للنفس في أفاعيلها المنوطة به كان صلاحها بصلاحه
ولما كان البدن مركبا من العناصر المتضادة وكان تأثير الجزء الناري فيه الإحالة
احتيج في ثباته إلى إيراد بدل ما يتحلل منه فاقتضت حكمة الله تعالى جعل النفس
ذات قوة يمكنها بها استخلاف ما ذهب بما يأتي وذلك إنما يكون بالغذاء ثم لما
كان البدن أول خلقته محتاجا إلى زيادة في مقداره على تناسب في أقطاره
بأجسام تنضم إليه من خارج وجب في حكمة الله تعالى جعل النفس ذات قوة
يمكنها بها تحصيل جواهر قابلة للتشبه بالبدن تنضم إليه على تناسب في أقطاره

204
هي النامية ثم لما كان البدن ينقطع ويعدم واقتضت عناية الله تعالى الاستحفاظ
بهذا النوع وجب في حكمة الله تعالى جعل النفس ذات قوة تجبل بعض الجواهر
المستعدة لقبول الصور الإنسانية إلى إحالة تلك الصورة وهي القوة المولدة فكانت
النفس ذات قوى ثلاث الغاذية والنامية والمولدة وهذه القوى مشتركة بين الإنسان
والحيوان والنبات فالغاذية هي التي تحيل الغذاء إلى مشابهة المغتذي ليخلف بدل
ما يتحلل والنامية هي التي تزيد في أقطار الجسم على التناسب الطبيعي ليبلغ إلى
تمام النشوء والمولدة هي التي تفيد المني بعد استحالته في الرحم الصور والقوى
والأعراض واعلم أن إسناد التصوير إلى هذه القوى باطل وسيأتي بيانه إن شاء
الله تعالى.
قال: وأخرى أخص بها يحصل الادراك أما للجزئي أو للكلي.
أقول: للنفس أيضا قوى أخص من الأولى هي الادراك أما للجزئي وهو
الاحساس وأما للكلي وهو التعقل فالإحساس مشترك بينه وبين الحيوان خاصة
فهو أخص من القوى الأولى المشتركة بينها وبين النبات والتعقل أخص من
الاحساس لأنه لا يحصل للحيوان بل للإنسان.
قال: وللغاذية الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة.
أقول: القوة الغاذية يتوقف فعلها على أربع قوى ليتم الاغتذاء وهي الجاذبة
للغذاء والماسكة له لتهضمه الهاضمة وهي التي تحيل الغذاء الذي جذبته
الجاذبة وأمسكته الماسكة إلى قوام يتهيأ لأن تجعله الغاذية جزء بالفعل من المغتذى
والدافعة للفضلات.
قال: وقد تتضاعف هذه لبعض الأعضاء.
أقول: قد تتضاعف هذه القوى لبعض الأعضاء كالمعدة التي تجذب بقوتها
غذاء كلية البدن والتي تمسكه هناك والتي تغيره إلى ما يصلح لأن يصير دما

205
تدفعه إلى الكبد وفيها أيضا قوة جاذبة لما يغتذي به المعدة خاصة وقوة ماسكة
وقوة هاضمة وقوة دافعة.
قال: والنمو مغاير للسمن.
أقول: النمو هو زيادة الجسم بسبب اتصال جسم آخر به من نوعه وتكون
الزيادة متداخلة في أجزاء المزيد عليه (1) وهو مغاير للسمن وكذا الذبول مغاير
للهزال فإن الواقف في النمو قد يسمن كالشيخ إذا صار سمينا فإن أجزائه
الأصلية قد جفت وصلبت فلا يقوى الغذاء على تفريقها فلا يتحقق النمو وكذلك
النامي قد يهزل.
قال: والمصورة عندي باطلة لاستحالة صدور هذه الأفعال المحكمة المركبة
عن قوة بسيطة ليس لها شعور أصلا.
أقول: أثبت الحكماء للنفس قوة يصدر عنها التصوير والتشكيل بشكل
نوع ذي القوة والحق ما ذهب إليه المصنف من أن ذلك محال لأن هذه الأشكال
والصور أمور محكمة متقنة فلا تصدر عن طبيعة غير شاعرة بما يصدر عنها بل
يجب استنادها إلى مدير حكيم وأيضا فإن هذه التشكيلات أمور مركبة والقوة
البسيطة لا يصدر عنها أشياء كثيرة بل شكلها في محلها البسيط هو الكرة فتكون
هذه المركبات على شكل الكرات (2) وهو باطل بالضرورة.
المسألة الثالثة عشرة. في أنواع الاحساس
قال: وأما قوة الادراك للجزئي فمنه اللمس وهو قوة منبثة في
البدن كله.



(1) يعني عند النمو تجذب الأجزاء الأصلية جوهر الغذاء وهو يداخلها ويزيد عليها.
(2) أي كل جنين يكون شكله كرويا لوحدة الفاعل ووحدة المحل القابل.
206
أقول: لما فرغ من البحث عن الأمر العام أعني القوة النباتية شرع الآن في
البحث عما هو أخص منه وهو القوة الحيوانية أعني الاحساس المشترك بين
الإنسان وغيره من الحيوانات وبدء باللمس لأن باقي الحواس يراد لجلب النفع وهو
لدفع الضرر ولما كان دفع الضرر أولى من جلب النفع لا جرم قدم البحث فيه على
غيره من القوى الحساسة واعلم أن اللمس كيفية قائمة بالبدن منبثة في ظاهره أجمع
يدرك به المنافي والملائم.
قال: وفي تعدده نظر.
أقول: اختلف الناس في أن اللمس هل هو قوة واحدة أو قوى كثيرة
فالجمهور على أنها قوى أربع (الأولى) الحاكمة بين الحار والبارد (الثانية)
الحاكمة بين الرطب واليابس (الثالثة) الحاكمة بين الصلب واللين (الرابعة)
الحاكمة بين الخشن والأملس لأن القوة الواحدة لا يصدر عنها أكثر من
أمر واحد.
قال: ومنه الذوق ويفتقر إلى توسط الرطوبة اللعابية الخالية عن
المثل والضد.
أقول: الذوق قوة قائمة بسطح اللسان لا يكفي فيه الملامسة بل لا بد من
متوسط من الرطوبة اللعابية الخالية عن الطعوم لأنها إن كانت ذات طعم مماثل
للمدرك لم يتحقق الادراك لأن الادراك إنما يكون بالانفعال والشئ لا ينفعل
عن مماثله وإن كانت ذات طعم مضاد لم تؤد الكيفية على صرافتها في الصحة كما
في المرض.
قال: ومنه الشم ويفتقر إلى وصول الهواء المنفعل من ذي الرائحة إلى
الخيشوم.
أقول: الشم قوة في الدماغ يحملها زائدتان شبيهتان بحلمتي الثدي نابتتان من

207
مقدم الدماغ قد فارقتا لين الدماغ قليلا ولم يلحقهما صلابة العصب ويفتقر إلى
وصول الهواء المنفعل عن ذي الرائحة إلى الخيشوم أو وصول أجزاء من ذي
الرائحة إليه لأنه إنما يدرك بالملاقاة وقد ذهب قوم إلى أن الشم إنما يكون بأن
يتحلل أجزاء الجسم ذي الرائحة وتنتقل مع الهواء المتوسط إلى الحاسة لأن الدلك
والتبخير يفتح الرائحة ويذكيها وقال آخرون إن الهواء المتوسط يتكيف بتلك
الكيفية لا غير وإلا لنقص وزن الجسم ذي الرائحة مع استنشاقها والمصنف (ره)
نبه بكلامه على تجويز الأمرين وإن الشم قد يحصل بكل واحد منهما.
قال: ومنه السمع ويتوقف على وصول الهواء المنضغط إلى الصماخ.
أقول: ذهب قوم إلى أن السمع إنما يحصل عند تعدي الهواء المنضغط بين
القارع والمقروع إلى الصماغ ولهذا تدرك الجهة ويتأخر السماع عن الإبصار لتوقف
الأول على حركة الهواء دون الثاني والمصنف (ره) مال إلى هذا هيهنا وفيه نظر
لأن الصوت قد يسمع من وراء الجدار مع امتناع بقاء الشكل على حاله لو أمكن
نفوذ الهواء.
قال: ومنه البصر وهي قوة مودعة في العصبتين المجوفتين اللتين
تتلاقيان وتتفارقان إلى العينين بعد تلاقيهما بتلك ويتعلق بالذات بالضوء
واللون.
أقول: المبصرات أما أن يتعلق الإبصار بها أولا وبالذات أو ثانيا
وبالعرض والأول هو الضوء واللون لا غير والثاني ما عداهما من سائر المبصرات
كالشكل والحجم والمقدار والحركة والوضع والحسن والقبح وغير ذلك من
أصناف المرئيات.
قال: وهو راجع فينا إلى تأثر الحدقة.
أقول: الادراك عند جماعة من الفلاسفة والمعتزلة راجع إلى تأثر الحاسة

208
فالإبصار بالعين معناه تأثر الحدقة وانفعالها عن الشئ المرئي هذا في حقنا نحن
ولهذا قيده المصنف بقوله فينا لأن الادراك ثابت في حقه تعالى ولا يتصور فيه
التأثر وذهبت الأشاعرة إلى أنه معنى زائد على تأثر الحدقة.
قال: ويجب حصوله مع شرائطه.
أقول: شرائط الادراك سبعة (الأول) عدم البعد المفرط (الثاني) عدم
القرب المفرط ولهذا لا يبصر ما يلتصق بالعين (الثالث) عدم الحجاب (الرابع)
عدم الصغر المفرط (الخامس) أن يكون مقابلا أو في حكم المقابل (السادس)
وقوع الضوء على المرئي إما من ذاته أو من غيره (السابع) أن يكون المرئي
كثيفا بمعنى وجود الضوء واللون له، إذا عرفت هذا فنقول عند المعتزلة والأوائل
أن عند حصول هذه الشرايط يجب الادراك بالضرورة فإن سليم الحاسة يشاهد
هذه الشمس إذا كانت على خط نصف النهار بالضرورة ولو تشكك العقل في
ذلك جاز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة وأصوات هائلة كنا لا ندركها وذلك
سفسطة أما الأشاعرة فلم يوجبوا ذلك وجوزوا حصول جميع الشرائط مع
انتفاء الادراك واحتجوا بأنا نرى الكبير صغيرا والسبب فيه رؤية بعض أجزائه
دون البعض مع تساوي الجميع في الشرايط وهو خطأ لوقوع التفاوت بالقرب
والبعد فلهذا أدركنا بعض الأجزاء وهي القريبة دون الباقي ويتحقق التفاوت
بخروج خطوط ثلاثة من الحدقة إلى المرئي أحدها عمود والباقيان ضلعا مثلث
قاعدته المرئي فالعمود أقصر لأنه يوتر الحادة والضلعان أطول لأنهما
يوتران القائمة.
قال: بخروج الشعاع.
أقول: اختلف الناس في كيفية الإبصار فقال قوم إنه بخروج شعاع متصل

209
من العين إلى المرئي على هيئة مخروط رأسه عند الحدقة وقاعدته عند المرئي وهو
اختيار المصنف، وقال أبو علي أن الإبصار إنما يكون بانطباع صورة المرئي في
الرطوبة الجليدية والقولان عندي باطلان أما الأول فلأن الشعاع إما جسم أو
عرض والثاني يستحيل عليه الانتقال والأول باطل لامتناع أن يخرج من العين
على صغرها حجم متصل منها إلى كرة الثوابت وأيضا فإن حركة الشعاع ليست
طبيعية لعدم اختصاصها بجهة دون أخرى فلا تكون قسرية وظاهر أنها ليست
إرادية لأن الشعاع جسم لطيف جدا فيلزم تشوشه عند هبوب الرياح فلا يحصل
الإبصار للمقابل وأما الثاني فلأنه يستحيل انطباع العظيم في الصغير.
قال: فإن انعكس إلى المدرك أبصر وجهه (1).
أقول: الشعاع إذا خرج من العين واتصل بالمرئي وكان صيقليا كالمرآة
انعكس عنه إلى كل (2) ما نسبته إلى المرئي كنسبة العين إليه ولهذا وجب تساوي
زاويتي الشعاع والانعكاس ووجب أن يشاهد بالمرآة كلما وضعه إليها كوضع
المرئي فإن انعكس الشعاع إلى الرائي نفسه أدرك وجهه وإذا انتفت الصقالة لم
يحصل الانعكاس كالأشياء الخشنة التي نشاهدها فإنه لا ينعكس عنها شعاع إلى
العين لعدم الملاسة وهذا علة أصحاب الشعاع في رؤية الإنسان وجهه في المرآة.



(1) وذلك فيما إذا كان المقابل الواقع عليه الشعاع صيقليا كالمرآة البصر المدرك وجهه لحصول
شرط الرؤية وهو اتصال الشعاع بالمرئي والمدرك أي الناظر في المرآة يبصر حينئذ وجهه
فنسبة الوجه إلى المرآة المرئية كنسبة العين إليها.
(2) يعني انعكس الشعاع في المرئي الصيقلي إلى كل جسم نسبت إليه في الوضع والمحاذاة
كنسبة العين إليه في ذلك فإذا وضعت المرآة في مقابل العين بحيث يكون الخط الشعاعي الخارج
إليها قائما عليها انطبق الخط الشعاعي المنعكس على الخط الشعاعي الخارج من العين إلى المرآة
وحدثت زاويتان من جانب الخط يكتنف على أحدهما هذا الخط وخط آخر على نصف السطح
من المرئي.
210
وأما القائلون بالانطباع فقالوا أنه ينطبع في المرآة صورة الرائي ثم ينطبع في
العين من تلك الصورة صورة أخرى وهو باطل لأن الصورة لو انطبعت في المرآة
لم تتغير بتغير وضع الرائي.
قال: وإن عرض تعدد السهمين تعدد المرئي.
أقول: هذا إشارة إلى علة الحول عند القائلين بالشعاع والسبب في الحول
عندهم أن النور الممتد من العين على شكل المخروط قوته في سهم المخروط فإذا
خرج من العينين مخروطان والتقى سهمهما عند المبصر واتحدا أدرك المدرك
الشئ كما هو وإن لم يلتق السهمان عند شئ واحد بل حصل الادراك بطرف
المخروط لا بوقوع السهم عليه رأى الرائي الشئ الواحد شيئين. أما القائلون
بالانطباع فإنهم قالوا الصورة تنطبع أولا في الجليدية وليس الادراك عندها وإلا
لأدركنا الشئ الواحد شيئين كما إذا لمسنا باليدين كان لمسين لكن الصورة التي
في الجليدية تتأدى بواسطة الروح المصبوب في العصبتين المجوفتين إلى ملتقاهما
على هيئة مخروط فيلتقي المخروطان هناك وعند الملتقى روح مدرك وحينئذ
يتحد عند الروح من الصورتين صورة واحدة وإن لم ينفذ المخروطان نفوذا على
سبيل التقاطع انطبع من كل شبح ينفذ عن الجليدية خيال بانفراده
وهو الحول.
المسألة الرابعة عشرة:
في أنواع القوى الباطنية المتعلقة بإدراك الجزئيات
قال: ومن هذه القوى بنطاسيا الحاكمة بين المحسوسات.
أقول: أثبت الأوايل للنفس قوى جزئية خمسة باطنية (الأولى) بنطاسيا
وهي الحس المشترك وهو المدرك للصور الجزئية التي تجمع عنده مثل المحسوسات

211
(الثانية) خزانته وهي الخيال (الثالثة) الوهم وهي قوة تدرك المعاني الجزئية
المتعلقة بالمحسوسات كالصداقة الجزئية والعداوة الجزئية (الرابعة) خزانته
وهي الحافظة (الخامسة) القوة المتصرفة في الصور الجزئية والمعاني الجزئية
بالتركيب والتحليل فتركب صورة إنسان يطير وجبل من ياقوت وهذه
القوة سميت متخيلة إن استعملتها القوة الوهمية ومتفكرة إن استعملتها
القوة الناطقة.
إذا عرفت هذا فنقول الدليل على ثبوت الحس المشترك وجوه (أحدها) إنا
نحكم على صاحب لون معين بطعم معين فلا بد من حضور هذين المعنين عند
الحاكم لكن الحاكم وهو النفس إنما تدرك الجزئيات بواسطة الآلات على ما
تقدم فيجب حصولهما معا في آلة واحدة وليس شئ من الحواس الظاهرة كذلك
فلا بد من إثبات قوة باطنة هي الحس المشترك وإلى هذا الدليل أشار بقوله
الحاكمة بين المحسوسات.
قال: لرؤية القطرة خطأ والشعلة دائرة.
أقول: هذا دليل ثان على إثبات الحس المشترك وتقريره إنا نرى القطرة
النازلة خطا والشعلة التي تدار بسرعة دائرة مع أنه ليس في الخارج كذلك ولا
في القوة الباصرة لأن البصر إنما يدرك الشئ على ما هو عليه ولا النفس لأنها لا
تدرك الجزئيات فلا بد من قوة أخرى يحصل بها إدراك القطرة حال حصولها
في المكان الأول ثم إدراكها حال حصولها في المكان الثاني ويرتسم الحصول
الثاني قبل انمحاء الصورة الأولى عن القوة الشاعرة فتتصل الصورتان في الحس
المشترك فيرى النقطة كالخط والشعلة كالدائرة.
قال: والمبرسم ما لا تحقق له.
أقول: هذا دليل ثالث على إثبات هذه القوة وتقريره أن صاحب البرسام

212
يشاهد صورا لا وجود لها في الخارج وإلا لشاهدها كل ذي حس سليم فلا بد من
قوة ترتسم فيها تلك الصور حال المشاهدة وكذا النائم يشاهد صورا لا تحقق لها
في الخارج والسبب فيه ما ذكرناه وقد بينا أن تلك القوة لا يجوز أن تكون هي
النفس فلا بد من قوة جسمانية ترتسم فيها هذه الصور.
قال: والخيال لوجوب المغايرة بين القابل والحافظ.
أقول: هذه القوة الثانية المسماة بالخيال وهي خزانة الحس المشترك الحافظة
لما يزول عنه بعد غيبوبة الصورة التي باعتبارها تحكم النفس بأن ما شوهد ثانيا
هو الذي شوهد أولا واستدلوا على مغايرتها للحس المشترك بأن هذه القوة حافظة
والحس المشترك قابل والحافظ يغاير القابل لامتناع صدور الأثرين عن علة
واحدة ولأن الماء فيه قوة القبول وليس فيه قوة الحفظ فدل على المغايرة وهذا
كلام ضعيف بينا ضعفه في كتاب الأسرار.
قال: والوهم المدرك للمعاني الجزئية.
أقول: هذه القوة الثالثة المدركة للمعاني الجزئية وتسمى الوهم وهي مغايرة
للنفس الناطقة لما تقدم من أن النفس لا تدرك الجزئيات لذاتها وأشار إليه بقوله
الجزئية وللحس المشترك لأن هذه القوة تدرك المعاني والحس المشترك يدرك
الصور المحسوسة وأشار إليه بقوله للمعاني وللخيال لأن الخيال شأنه الحفظ
والوهم شأنه الادراك فتغايرا كما قلنا في الحس والخيال وأشار إليه بقوله المدرك.
قال: والحافظة.
أقول: هذه القوة الرابعة المسماة بالحافظة وهي خزانة الوهم والدليل على
إثباتها كما قلنا في الخيال سواء وهذه تسمى المذكرة باعتبار قوتها على استعادة
الغايبات ولهم خلاف في أن المذكرة هل هي الحافظة أو غيرها.
قال: والمتخيلة المركبة للصور والمعاني بعضها مع بعض.

213
أقول: هذه القوة الخامسة المسماة بالمتخيلة باعتبار استعمال الحس لها
وبالمتفكرة باعتبار استعمال العقل لها وهي التي تركب بعض الصور مع بعض
كما تركب صورة جذع عليه رأس إنسان وتركب بعض المعاني مع بعض
وتركب بعض الصور مع بعض المعاني ويدل على مغايرتها لما تقدم صدور هذا
الفعل عنها دون غيرها من القوى لامتناع صدور أكثر من فعل واحد عن
قوة واحدة.
قال: الفصل الخامس في الأعراض وتنحصر في تسعة.
أقول: لما فرغ من البحث عن الجواهر انتقل إلى البحث عن الأعراض وفي
هذا الفصل مسائل:
المسألة الأولى: في أن الأعراض منحصرة في تسعة
هذا رأي أكثر الأوائل فإنهم قسموا الموجود إلى واجب وممكن والواجب
هو الله تعالى لا غير والممكن إما غني عن الموضوع وهو الجوهر أو محتاج إليه
وهو العرض (وأقسامه تسعة) الكم والكيف والأين والوضع والملك والإضافة
وأن يفعل وأن ينفعل والمتى والمتكلمون حصروه في أحد وعشرين هي الكون
واللون والطعوم والروائح والحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والتأليف
والاعتماد والحياة والقدرة والاعتقاد والظن والنظر والإرادة والكراهة والشهوة
والنفرة والألم واللذة وأثبت بعضهم أعراضا أخر يأتي البحث عنها وهذه
الأعراض مندرجة تحت تلك لأن الكون هو الأين أو ما يقارنه وباقي الأعراض
التي ذكروها مندرجة تحت الكيف فلأجل هذا بحث المصنف (قده) عن
الأعراض التسعة لدخول هذه تحتها ومع ذلك فالأوائل لم يوجد لهم دليل على
حصر الأعراض في التسعة وبعضهم جعل أجناس الممكنات منحصرة في أربعة
الجوهر والكم والكيف والنسبة وبالجملة فالحصر لم يقم عليه برهان.

214
المسألة الثانية: في قسمة الكم
قال: الأول الكم فمتصله القار جسم وسطح وخط وغيره الزمان
ومنفصله العدد.
أقول: الكم إما متصل أو منفصل ونعني بالمتصل ما يوجد فيه جزء مشترك
يكون نهاية لأحد القسمين وبداية للآخر كالجسم إذا نصف فإن موضع التنصيف
حد مشترك بين النصفين هو نهاية لأحدهما وبداية للآخر والمنفصل ما لا يكون
كذلك كالأربعة المنقسمة إلى اثنين واثنين فإنه ليس بينهما حد مشترك وكذلك
الثلاثة ولا يتوهم أن الوسط بداية لأحد القسمين ونهاية للآخر لأنه لو عد فيهما
صارت الثلاثة أربعة وإن أسقط منها صارت اثنين ولا أولوية لأحدهما دون
الآخر إذا عرفت هذا فنقول المتصل إما قار الذات وهو الذي تجتمع أجزاؤه
في الوجود كالجسم أو غير قار الذات وهو الذي لا يكون كذلك كالزمان فإنه
لا يمكن أن يكون أحد الزمانين مجامعا للآخر والقار الذات إما أن ينقسم في
جهة واحدة وهو الخط أو في جهتين وهو السطح أو في ثلاث جهات وهو الجسم
التعليمي وغير قار الذات هو الزمان لا غير والمنفصل هو العدد خاصة لأن تقومه
من الوحدات التي إذا جردت عن معروضاتها كانت أجزاء العدد لا غير.
المسألة الثالثة: في خواصه
قال: ويشملهما قبول المساواة وعدمها والقسمة وإمكان وجود العاد.
أقول: ذكر للكم ثلاث خواص (الأولى) قبول المساواة وعدمها عدم
الملكة فإن أحد الشيئين إنما يساوي غيره أو يفارقه باعتبار مقداره لا باعتبار
ذاته فإن كل الجسم وبعضه متساويان في الطبيعة ومتفاوتان في المقدار (الثانية)
قبول القسمة وذلك لأن الماهية إنما يعرض لها الانقسام والاثنينية بواسطة
المقدار وهذا الانقسام قد نعني به كون الشئ بحيث يوجد فيه شئ غير شئ

215
وهذا المعنى يلحق المقدار لذاته والثاني قبول الافتراق وهو من توابع المادة
عندهم على ما سلف البحث فيه ومرادهم هيهنا الأول (الثالثة) إمكان وجود
العاد وذلك لأن المنقسم إنما ينقسم إلى آحاد هي أجزائه فتلك الآحاد عادة له
ولما كان الانقسام قد يكون بالفعل كما في الكم المنفصل وقد يكون بالقوة
كما في المتصل فإن اللازم المطلق الكم هو إمكان وجود واحد عاد
لا الوجود بالفعل.
قال: وهو ذاتي وعرضي (1)
أقول: الكم منه ما هو بالذات كالأقسام التي عددناها له ومنه ما هو بالعرض
وهو معروضها كالجسم الطبيعي الذي هو معروض للكم المتصل وكالمعدود الذي
هو معروض للكم المنفصل أو عارضا كالسواد الحال في السطح فإنه متقدر بقدره
فكميته عرضية لا ذاتية أو ما يجامعه في المحل أو ما يتعلق بما يعرض له كقولنا
قوة متناهية أو غير متناهية بسبب تناهي المقوى عليه في المدة أو العدة
أو الشدة وعدم تناهيه.
المسألة الرابعة: في أحكامه
قال: ويعرض ثاني القسمين فيهما لأولهما (2)
أقول: قد بينا أن الكم أما متصل وأما منفصل وأيضا أما ذاتي أو عرضي
فالثاني من القسمين في القسمين معا يعرض للأول منهما فإن الجسم التعليمي قد



(1) الكم بالعرض هو ما له ارتباط بالكم الذاتي مصحح لإجراء أوصافه عليه وهو أما محل
للكم بالذات كالجسم فإنه محل للمقدار والعدد أو حال في الكم بالذات كالشكل أو حال في محله
كاللون الحال في الجسم.
(2) أي ويعرض الكم المنفصل الذي هو ثاني القسمين في تقسيمه للكم إلى المتصل
والمنفصل للكم المتصل الذي هو أو القسمين فيهما أي في الذاتي والعرضي.
216
يعرض له الانقسام فيحصل له التعدد فيصير معدودا قد عرض له النوع الثاني
من الكم وهو المنفصل وكذا الزمان يقسم إلى الساعات والشهور والأيام والأعوام
فيحصل له التعدد وأيضا الزمان متصل بذاته ويعرض له التقدير بالمسافة أيضا
كما يقال زمان حركة فرسخ فظهر معنى قوله ويعرض ثاني القسمين فيهما لا ولهما.
قال: وفي حصول المنافي وعدم الشرط دلالة على انتفاء الضدية.
أقول: يريد أن الكم (1) لا تضاد فيه والدليل عليه وجهان (أحدهما)
إن المنافي للضدية حاصل فلا تكون الضدية موجودة. بيانه أن أنواع الكم المنفصل
يتقوم بعضها ببعض فأحد النوعين إما مقوم لصاحبه أو متقوم به ويستحيل تقوم
أحد الضدين بالآخر وأما المتصل فلأن أحد النوعين إما قابل للآخر كالسطح
للخط والجسم للسطح أو مقبول له كالعكس والضد لا يكون قابلا لضده
ولا مقبولا له فحصول التقويم (2) والقابلية المنافيان للضدية يقتضي انتفاء الضدية
(الثاني) أن الشرط في التضاد مفقود في الكم فلا تضاد فيه. بيانه أن للتضاد
شرطين (أحدهما) اتحاد الموضوع (الثاني) أن يكون بينهما غاية التباعد
وهما منتفيان هنا أما عدم اتحاد الموضوع في العدد فلأنه ليس لشئ من العددين
موضوع قريب مشترك وكذا المتصل فإن الجسم الطبيعي معروض للتعليمي
وللسطح بواسطة التعليمي وكذا للخط بواسطة السطح وأما عدم كونهما في غاية
التباعد إذ لا مقدار يوجد إلا ويمكن أن يفرض ما هو أكبر منه أو أصغر فلا
غاية في التباعد وكذا العدد.



(1) يعني أنه لا تضاد بين الكميات لآمرين الأول أن المنافي للضدية حاصل فإن الضدية
تقضي عدم قيام بعض الأضداد ببعض والكم بالعكس فإن الخط قائم بالسطح وهو قائم بالجسم.
(2) أي حصول التقويم في أنواع الكم المنفصل وحصول القابلية في أنواع الكم المتصل
يقتضي انتفاء التضاد بين الأنواع من كل منهما.
217
قال: ويوصف بالزيادة والكثرة ومقابليهما دون الشدة ومقابلهما.
أقول: الكم بأنواعه يوصف بأن بعضا منه زائد على بعض آخر فإن الستة
أزيد من الثلاثة وكذا الخط الذي طوله عشرة أزيد من الذي طوله خمسة
فيصدق عليه وصف الزيادة ومقابلها أعني النقصان لأن الزائد إنما يعقل بالقياس
إلى الناقص وكذا يوصف بالكثرة والقلة ويمتنع اتصافه بالشدة والضعف وبيانه
ظاهر فإنه لا يعقل أن يكون خطا أشد من خط آخر في الخطية ولا ثلاثة أشد
من ثلاثة أخرى في الثلاثية والفرق بين الشدة والكثرة ظاهر وكذا بين الزيادة
والشدة فإن الكثرة والزيادة إنما تتحققان بالنسبة إلى أصل موجود لا يتغير فصله
بسبب الزيادة ولا حقيقته بخلاف الشدة.
قال: وأنواع المتصل القار قد تكون تعليمية (1)
أقول: الأنواع الثلاثة للكم المتصل القار الذات قد تؤخذ باعتبار ما تسمى
تعليمية وقد يؤخذ باعتبار آخر مثلا إذا أخذ المقدار باعتبار ذاته لا من حيث
اقترانه بالمواد وأعراضها من الألوان وغيرها كان ذلك مقدارا تعليميا كالسطح
التعليمي والخط التعليمي والجسم التعليمي وكذا النقطة؟ وإنما سميت هذه الأنواع
تعليمية لأن علم التعاليم إنما يبحث عنها مجردة عن المواد وتوابعها.
قال: وإن كانت تختلف (2) بنوع ما من الاعتبار



(1) وإنما سميت الأنواع المأخوذة على هذا الوجه تعليمية لأن العلوم التعليمية أعني الرياضة
تبحث عن هذه الأنواع المأخوذة على هذا الوجه وإنما سميت العلوم الرياضية الباحثة عن
أحوال الكميات المتصلة والمنفصلة أعني الهندسة والحساب تعليمية ورياضية لأنهم كانوا يبتدون
بها في التعليم ورياضة النفوس.
(2) يعني يخالف الجسم التعليمي السطح والخط في أنه يمكن تخيله بشرط لا دونهما لأن السطح
والخط حيث إنهما لا يتحققان إلى نهاية الجسم والسطح من الخارج وفي الخيال فلا يمكن تخيلهما
بشرط لا عنهما إذ التقيد بعدم الشئ ينافي وجوده.
218
أقول: الظاهر من هذا الكلام أن كون الجسم تعليميا يفارق كون السطح
والخط كذلك وبيانه أن الجسم يمكن أن يؤخذ بشرط غيره وبشرط لا غيره
وأما السطح والخط فلا يمكن أخذهما إلا بالاعتبار الأول فلهذا اختلفت الأنواع
بنوع ما من الاعتبار.
قال: وتخلف الجوهرية عما يقال في جواب ما هو في كل واحد
يعطي عرضيته.
أقول: يريد أن يبين أن هذه الأنواع بأسرها إعراض واستدل بطريقين
(أحدهما) عام في الجميع (والثاني) مختص بكل واحد واحد أما العام فتقريره
أن معنى الجوهرية في حد كل واحد من السطح والخط والجسم التعليمي والزمان
والعدد غير داخل في جواب ما هو إذا سئل عن حقيقته فيكون خارجا عن
الحقيقة فيكون كل واحد من هذه عرضا.
قال: والتبدل مع بقاء الحقيقة وافتقار التناهي إلى برهان وثبوت الكرة
الحقيقية والافتقار إلى عرض والتقوم به يعطي عرضية الجسم التعليمي
والسطح والخط والزمان والعدد.
أقول: هذا هو الوجه الدال على عرضية كل واحد واحد بخصوصيته أما
الجسم التعليمي فإنه عرض لأن الجسم قد يتبدل في كل واحد من أبعاده والحقيقة
باقية فإن الشمعة تقبل الأشكال المختلفة مع بقاء حقيقتها فزوال كل واحد من
الأبعاد وبقاء الجسمية يدل على عرضية الأبعاد أعني الجسم التعليمي وأما السطح
فإنه عرض لأن ثبوته للجسم إنما هو بواسطة التناهي العارض للجسم لافتقاره
إلى برهان يدل عليه مع أن أجزاء الحقيقة لا تثبت بالبرهان وإذا كان التناهي
عارضا كان ما يثبت بواسطته أولى بالعرضية وأما الخط فإنه عرض لأنه غير
واجب الثبوت للجسم وما كان كذلك كان عرضا، وبيان عدم وجوبه أنه إنما

219
يئبت للسطح بواسطة تناهيه والسطح قد لا يفرض فيه النهاية كما في الكرة
الحقيقية الساكنة فإنه لا خط فيها بالفعل وأما الزمان فإنه يفتقر إلى الحركة لأنه
مقدارها والمقدار يفتقر إلى المقدر والحركة عرض والمفتقر إلى العرض أولى
بالعرضية فالزمان عرض وأما العدد فلأنه يتقوم بالآحاد على ما تقدم والآحاد
عرض فالعدد كذلك.
قال: وليست الأطراف إعداما وإن اتصفت بها مع نوع من الإضافة (1).
أقول: ذهب جماعة من المتكلمين إلى أن السطح الذي هو طرف الجسم
والخط الذي هو طرف السطح والنقطة التي هي طرف الخط إعدام صرفة
لا تحقق لها في الخارج وإلا لانقسمت لانقسام محلها ولأن الطرف عبارة عن نهاية
الشئ ونهاية الشئ هي عبارة عن فنائه وعدمه ولأن السطحين إذا التقيا عند
تلاقي الأجسام فإن كان بالأسر لزم التداخل وإلا فالانقسام وكذا الخط والنقطة
وهذه الوجوه لا تخلو من دخل أما الأول فإنما يلزم في الأعراض السارية أما
غيرها فلا وأما الثاني فلأن النهاية ليست عدما محضا ولا فناء صرفا لأن العدم
لا يشار إليه والأطراف يشار إليها بل هيهنا أمور ثلاثة (أحدها) السطح وهو
مقدار ذو طول وعرض قابل للإشارة موجود (والثاني) فناء الجسم بمعنى
انقطاعه في جهة معينة من جهات الامتداد وليس بعدم صرف بل هو عدم أحد
أبعاد الجسم وهو ثخنه (والثالث) إضافة تعرض تارة للسطح فيقال سطح
مضاف إلى ذي السطح وتارة للفناء فيقال نهاية لجسم ذي نهاية والإضافة عارضة
لهما متأخرة عنهما وقد يؤخذ السطح عاريا عن هذه الإضافة فيكون موضوعا لعلم



(1) أما أنها متصفة بالإعدام مع نوع ما بين الإضافة فلأن السطح مثلا يوصف بأن الجسم
ينتهى به والانتهاء أمر عدمي يعرض للسطح بالإضافة إلى الجسم. والجواب أن الأطراف ليست
نهايات بل أمور معروضة للنهايات.
220
الهندسة وكذا البحث في الخط والنقطة وأما الثالث فإن الجسمين إذا القيام عدم
السطحان وصارا جسما واحدا إن اتصلا وإن تماسا فالسطحان باقيان.
قال: والجنس معروض التناهي وعدمه.
أقول: يريد بالجنس الكم من حيث هو هو فإنه جنس لنوعي المتصل
والمنفصل وهو الذي يلحقه لذاته التناهي وعدم التناهي وإنه عدم الملكة لا العدم
المطلق فإن العدم المطلق قد يصدق على الشئ الذي سلب عنه ما باعتباره
يصدق أنه متناه كالمجردات وإنما يلحقان أعني التناهي وعدمه العدم الخاص
ما عدا الكم بواسطة الكم فيقال للجسم أنه متناه أو غير متناه باعتبار مقداره
ويقال للقوة ذلك باعتبار عدد الآثار وامتداد زمانها وقصره ويقال للبعد
والزمان والعدد أنها متناهية وغير متناهية لا باعتبار لحوق طبيعة بها
بل لذاتها.
قال: وهما اعتباريان.
أقول: يريد به أن التناهي وعدمه من الأمور الاعتبارية لا العينية فإنه
ليس في الخارج ماهية يقال لها إنها تناه أو عدم تناه بل إنما يعقلان عارضا
لغيرهما في الذهن.
قال: الثاني الكيف ويرسم بعقيود عدمية تخصه جملتها بالاجتماع.
أقول: لما فرغ من البحث عن الكم شرع في البحث عن الكيف وهو الثاني
من الأعراض التسعة وفيه مسائل:
الأولى في رسمه اعلم أن الأجناس العالية لا يمكن تحديدها لبساطتها بل ترسم
بأمور أعرف منها عند العقل والرسم إنما يتألف من خواص الشئ وعوارضه ولما
كانت العوارض قد تكون عامة وقد تكون خاصة والعام لا يفيد التميز الذي
هو أقل مراتب التعريف لم تصلح العوارض العامة للتعريف إلا إذا اختصت

221
بالاجتماع بالماهية المرسومة كما يقال في تعريف الخفاش أنه الطاير الولود ولما لم
يوجد لهذا الجنس خاصة تفيد تصوره توصلوا إلى تعريفه بعوارض عدمية كل
واحد منها أعم منه لكنها باجتماعها خاصة به فقالوا في تعريفه إنه هيئة قارة
لا يتوقف تصورها على تصور غيرها ولا يقتضي القسمة واللاقسمة في محلها
اقتضاء أوليا فقولنا هيئة يشمل جميع الأعراض التسعة ويخرج عنها الجوهر
وقولنا قارة يخرج عنه الحركة وما ليس بقار من الأعراض وقولنا لا يتوقف
تصورها على تصور غيرها يخرج عنه الأعراض النسبية وقولنا ولا يقتضي القسمة
واللاقسمة في محلها يخرج عنه الكم والوحدة والنقطة وقولنا اقتضاء القسمة
واللاقسمة في محلها يخرج عنه الكم والوحدة والنقطة وقولنا اقتضاء أوليا
ليدخل في المحدود العلم بالأشياء التي لا تنقسم فإنه يقتضي اللاقسمة مع أنه من
الكيف لأن اقتضاءه كذلك ليس أوليا بل لوحدة المعلوم.
المسألة الثانية: في أقسامه
قال: وأقسامه أربعة.
أقول: الكيف له أنواع أربعة (أحدها) الكيفيات المحسوسة كالسواد
والحرارة (الثاني) الكيفيات المختصة بذوات الأنفس كالعلوم والإرادات
والظنون (الثالث) الكيفيات الاستعدادية كالصلابة واللين (الرابع) الكيفيات
المختصة بالكميات كالزوجية والانحناء والاستقامة وغيرها.
المسألة الثالثة: في البحث عن المحسوسات
قال: فالمحسوسات إما انفعاليات أو انفعالات.
أقول: الكيفيات المحسوسة إن كانت راسخة عسرة الزوال سميت انفعاليات
لانفعال الحواس عنها أولا وإن كانت غير راسخة بل سريعة الزوال سميت
انفعالات وهي وإن لم تكن في أنفسها انفعالات لكنها لقصر مدتها وسرعة زوالها
منعت اسم جنسها واقتصر في تسميتها على الانفعالات.

222
المسألة الرابعة: في مغايرة الكيفيات للأشكال والأمزجة
قال: وهي مغايرة للأشكال لاختلافهما في المحل.
أقول: ذهب قوم من القدماء إلى أن هذه الكيفيات نفس الأشكال قالوا
الأجسام تنتهي في التحليل إلى أجزاء صغار تقبل القسمة الوهمية لا الانفكاكية
وتلك الأجزاء مختلفة في الأشكال فالتي يحيط بها أربعة مثلثات تكون مفرقة
لاتصال العضو فيحس منها بالحرارة والتي يحيط بها ستة مربعات تكون غليظة
غير نافذة فيحس منها بالبرودة والذي يقطع العضو إلى أجزاء صغار ويكون
شديد النفوذ هو المحرق الحريف والمتلاقي لذلك التقطيع هو الحلو والذي ينفصل
منه شعاع مفرق للبصر هو الأبيض والذي ينفصل منه شعاع قابض للبصر هو
السواد ويحصل من اختلاطهما باقي أنواع الألوان، والمحققون (1) أبطلوا هذه
المقالة بأن الأشكال والألوان مختلفة في المحمولات فيحمل على أحدهما بالإيجاب
ما يحمل على الآخر بالسلب فيلزم تغيرهما بالضرورة. وبيانه أن الأشكال ملموسة
وغير متضادة والألوان متضادة غير ملموسة وأيضا الأشكال مبصرة والحرارة
والبرودة ليستا كذلك.
قال: وللمزاج لعمومها.
أقول: ذهب آخرون من الأوايل إلى أن الكيفيات هي الأمزجة (2) وهو
خطأ لأن المزاج كيفية متوسطة بين الحار والبارد يحصل من تفاعلهما والحرارة



(1) والجواب أن الأشكال والألوان والطعوم والملموسات مختلفة في المجهول والأشكال غير
متضادة لأنها من الكم وقد تقدم عدم التضاد في الكم والألوان متضادة وكذا الطعوم والملموسات
فالحلو والحامض متضاد وكذا الأسود والأبيض والحار والبارد فاختلاف المحمولات دليل على
اختلاف الموضوعات.
(2) حيث ذهبوا إلى أن الكيفيات عبارة عن الأمزجة فحصول المزاج من اختلاط الحار والبارد.
223
والبرودة من الكيفيات الملموسة فيكون المزاج منها فاللون والطعم مما ليس بملموس
يكون مغايرا للمزاج وإن كان تابعا له (1) لكن التابع مغاير للمتبوع.
المسألة الخامسة: في البحث عن الملموسات
قال: فمنها أوايل الملموسات وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة
والبواقي منتسبة إليها.
أقول: لما كانت الكيفيات الملموسة أظهر عند الطبيعة لعمومها بالنسبة إلى
كل حيوان قدم البحث عنها. واعلم أن الكيفيات الملموسة إما فعلية أو انفعالية
أو ما ينسب إليهما فالفعلية كيفيتان هما الحرارة والبرودة والمنفعلة اثنتان هما
الرطوبة واليبوسة ونعني بالفعلية ما تفعل الصورة بواسطتها في المادة وبالمنفعلة
ما تنفعل المادة باعتبارها وإنما كانت الأوليان فعليتان والأخريان منفعلتين وإن
كانت المادة تنفعل باعتبار هما لأن الأولين تفعلان في الآخرين دون العكس وأما
باقي الكيفيات الملموسة كاللطافة والكثافة واللزوجة والهشاشة والجفاف والبلة
والثقل والخفة فإنها تابعة لهذه الأربعة.
قال: فالحرارة (2) جامعة للمتشاكلات مفرقة للمختلفات والبرودة بالعكس



(1) وإن كان اللون والطعم وغيرهما من الكيفيات التي تحصل في المركب ولا تكون في
الملبوسات وإن كانت تابعة للمزاج الحاصل فيه لكن التابع مغاير للمتبوع.
(2) فإن الأجسام مركبة من اللطيف والكثيف وكان اللطيف أخف فإذا عملت الحرارة في
المركب تصاعدت أجزائه اللطيفة وبقيت الكثيفة فإذا صعد الألطف جامع متشاكله وفارق مخالفه
وقد تمثل ذلك بما إذا تسخن الماء فإنه تصعد الأجزاء الهوائية الكائنة فيه فتجتمع مع مثلها
وتفترق عن مخالفها وأما البرودة بالعكس فإنها جامعة للمختلفات متفرقة للمتشاكلات فإنها إذا عملت
في المركبات المتخالفة الأجزاء أوجبت تكاثفها والتصاق بعضها ببعض ولذا يتجمد الماء المدخول
فيه الهواء بالبرودة.
224
أقول: الحرارة من شأنها إحداث الخفة والميل الصاعد ويحصل بسبب ذلك
الحركة فإذا وردت الحرارة على المركب وسخنته طلب الألطف الصعود قبل
غيره لسرعة انفعاله فاقتضى ذلك تفريق أجزاء المركب المختلفة فإذا صعد
الألطف جامع مشاكله فمن هيهنا قيل إنها تقتضي جمع المتشاكلات وتفريق
المختلفات وأما البرودة فإنها بالعكس من ذلك.
قال: وهما متضادتان.
أقول: الحرارة والبرودة كيفيتان وجوديتان بينهما غاية التباعد فهما
متضادتان ولم يخالف في هذا الحكم أحد من المحققين وقد ذهب قوم غير محققين
إلى أن البرودة عدم الحرارة عما من شأنه أن يكون حارا فيكون التقابل بينهما
تقابل العدم والملكة وهو خطأ لأنا ندرك من الجسم البارد كيفية زايدة على
الجسمية المطلقة والعدم غير مدرك فالبرودة صفة وجودية.
قال: وتطلق الحرارة (1) على معان أخر مخالفة للكيفية في الحقيقة.
أقول: لفظة الحرارة تطلق على معان أحدها الكيفية المحسوسة من حرارة
النار والثاني الحرارة المناسبة للحيوة وهي شرط فيها وتسمى الحرارة الغريزية
وهي مخالفة لتلك في الحقيقة لأن تلك مضادة للحيوة والثانية شرط فيها والثالث
حرارة الكواكب النيرة وهي مخالفة لما تقدم.
قال: والرطوبة كيفية تقتضي سهولة التشكل واليبوسة بالعكس:



(1) قالوا الحرارة تطلق على أربعة معان الأول الحرارة المحسوسة من النار الثاني المستفادة من
الكواكب كالحرارة الحاصلة من الشمس الثالث الحرارة الحاصلة من الحركة الرابع الحرارة الغريزة
الموجودة في بدن الإنسان وإنما قلنا باختلافها لأن بعضها يفيد الاحراق والطبخ ونحوها وبعضها
يفيد توليد النبات ونضج الفواكه ونحوها وبعضها يفيد الهضم وبعضها يفيد الحس والحركة
واختلاف اللوازم يدل على اختلاف الملزومات.
225
أقول: الرطوبة فسرها الشيخ بأنها كيفية تقتضي سهولة التشكل والاتصال
والتفرق والجمهور يطلقون الرطوبة على البلة لا غير فالهواء ليس برطب عندهم
وعند الشيخ أنه رطب وجعل البلة هي الرطوبة الغريبة الجارية على ظاهر الجسم
كما أن الانتفاع هو الرطوبة الغريبة النافذة إلى باطنه والجفاف عدم البلة عما من
شأنه أن يبتل واليبوسة مقابلة للرطوبة.
قال: وهما مغايرتان للين والصلابة.
أقول: اللين والصلابة من الكيفيات الاستعدادية فاللين كيفية يكون الجسم
بها مستعدا للانغمار ويكون للشئ بها قوام غير سيال فينفصل عن موضوعه
ولا يمتد كثيرا ولا يتفرق بسهولة وإنما يكون قبوله للغمر من الرطوبة وتماسكه
من اليبوسة والصلابة كيفية تقتضي مقابل ذلك.
قال: والثقل كيفية تقتضي حركة الجسم إلى حيث ينطبق مركزه على
مركز العالم إن كان مطلقا والخفة بالعكس ويقالان بالإضافة باعتبارين.
أقول: لما كان الثقل (1) والخفة من الكيفيات المحسوسة صادرتين عن الحرارة
والبرودة بحث عنهما (واعلم) أن كل واحد منهما يقال بمعنيين حقيقي وإضافي
فالثقل الحقيقي كيفية تقتضي حركة الجسم إلى أسفل بحيث ينطبق مركزه
على مراكز العالم إذا لم يعقه عائق والخفة بالعكس وهي كيفية تقتضي حركة
الجسم إلى فوق بحيث يطفو على العناصر وينطبق سطحه على سطح الفلك إن لم
يعقه عائق وأما الإضافي فإنه يقال بمعنيين في كل واحد منهما فالخفيف بالإضافة
يقال بمعنيين (أحدهما) الذي في طباعه أن يتحرك في أكثر المسافة الممتدة بين



(1) الثقل أما مطلق وأما مضاف وكذا الخفة والثقيل المطلق هو الأرض والمضاف هو الماء
والخفيف المطلق هو النار والمضاف هو الهواء وعبر عنهما العلامة بالحقيقي والإضافي.
226
المركز والمحيط حركة إلى المحيط وقد يعرض له أن يتحرك عن المحيط (1)
ولا يتضاد هاتان الحركتان (والثاني) الذي إذا قيس إلى النار نفسها كانت
النار سابقة له إلى المحيط فهو عند المحيط ثقيل وخفيف بالإضافة.
قال: والميل طبيعي وقسري نفساني.
أقول: الميل هو الذي يسميه المتكلمون اعتمادا وينقسم بانقسام معلوله
أعني الحركة إلى طبيعي كميل الحجر المسكن في الهواء والزق في الماء وإلى قسري
كميل الحجر إلى فوق عند قسره على الصعود، وإلى نفساني كميل الحيوان إلى
الحركة حال اندفاعه الإرادي.
قال: وهو العلة القريبة للحركة وباعتباره يصدر عن الثابت متغير.
أقول: الميل هو العلة القريبة للحركة وباعتبار تحققه يصدر عن الثابت
شئ متغير (2) وذلك لأن الطبيعة أمر ثابت وكذا القوة القسرية والنفسانية
فيستحيل صدور الحركة المتغيرة عنها فلا بد من أمر يشتد ويضعف بسبب
مصادمات الموانع الخارجية والداخلية هو الميل يصدر عن الطبيعة ويقتضي
الحركة فيحصل باشتداده سرعة الحركة وشدتها وبضعفه ضد ذلك.
قال: ومختلفه متضاد (3)
أقول: يشير إلى عدم إمكان اجتماع ميلين مختلفين وذلك لأن الميل يقتضي



(1) أي الهواء ثقيل بالإضافة إلى النار والأرض كما أن الماء خفيف بالإضافة إلى الأرض
ثقيل بالإضافة إلى الهواء والنار، وحاصل الكلام إلى هنا أن الخفيف ما تحرك بطبعه نحو المحيط
سواء وصل به فيكون مطلقا أو لا فيكون مضافا والثقيل ما تحرك نحو المركز.
(2) يعني أن الحركة لها مراتب متفاوتة في الشدة والضعف وهذه المراتب المختلفة لا يمكن
أن تكون معلولة للطبيعة الواحدة لامتناع صدور الكثير عن الواحد.
(3) أي مختلف الميل الذاتي كالميل إلى فوق والميل إلى تحت.
227
الحركة إلى جهة والصرف عن أخرى فلو اجتمع في الجسم ميلان لاقتضى حركته
وتوجهه إلى جهتين مختلقتين؟ وذلك غير معقول، نعم كما يجوز أن يجتمع في جسم
واحد حركتان مختلفتان إحداهما بالذات والأخرى بالعرض كذلك يجوز
اجتماع ميل ذاتي وعرضي كحجر يحمله إنسان متحرك فإن الثقل موجود فيه
وهو ميله الذاتي حال خرق الهواء به وهو ميله العرضي الذي هو للإنسان ذاتي
فإذا تجدد على ذي ميل طبيعي ميل قسري يقاوم السببان أعني الطبيعة والقاسر
وحدث ميل القاهر منهما فإن كان القاسر غالبا أخذت الطبيعة والموانع الخارجية
في إفنائه قليلا ثم تقوى الطبيعة ويأخذ الميل القسري في النقص والطبيعة في
الزيادة إلى أن يتعادلا فيبقى الجسم عديم الميل ثم تأخذ الطبيعة في الازدياد على
التعادل فتوجد ميلا مشوبا بآثار الضعف ثم يشتد الميل ويزداد الضعف فلا
يمكن اجتماع ميلين طبيعي وقسري على حد الصرافة بل يكون الجسم أبدا
ذا حال متوسط بين الميل القسري الشديد والطبيعي الشديد.
قال: ولولا ثبوته لتساوي ذو العائق وعادمه (1)
أقول: هذا إشارة إلى الدليل على وجود الميل الطبيعي في كل جسم قابل
للحركة القسرية وتقريره أن المتحرك إذا كان خاليا عن المعاوقة وقطع بميله
القسري مسافة ما فإنه يقطعها في زمان فإذا فرضناه محفوفا بالمعاوقة قطعها



(1) بيانه كما تقدم وحاصله أنه لو كان هناك ثلاثة أجسام فالأول لا ميل له، لا طبيعي ولا
نفساني وترك بالقاسر مقدار فرسخ في ساعة والثاني له ميل مساوي وعائق ما تحرك بالقاسر في
مقدار فرسخ في ساعتين والثالث له ميل وعائق بنسبة عدم الميل والعائق إلى الجسم الثاني الذي
فيه ميل وعائق فإنه لا بد وأن يتحرك بالقاسر في مقدار الفرسخ في ساعة فيلزم تساوي الجسم
الثالث الذي فيه ميل وعائق للجسم الأول الخال عنهما في أن كلا منهما تحرك في مقدار الفرسخ
في ساعة وهو بديهي الاستحالة وهذا المحال نشأ من عدم الميل.
228
في زمان أطول فإذا فرضناه مع معاوقة أقل من الأولى على نسبة الزمانين قطعها
في زمان مساو لزمان عديم المعاوقة وذلك محال قطعا لامتناع تساوي زمان
عديم المعاوقة وواجدها.
قال: وعند آخرين هو جنس بحسب عدد الجهات ويتماثل ويختلف
باعتبارها.
أقول: لما فرغ من البحث عن الميل وأحكامه على رأي الأوائل شرع في
البحث عنه على رأي المتكلمين وهو جنس على رأيهم تحته ستة أنواع بحسب عدد
الجهات الست ثم قالوا إن منه ما هو متماثل وهو كل ما اختص بجهة واحدة لأن
تسوي المعلول يستلزم تساوي العلة ومنه مختلف وهو ما تعددت جهاته
واختلف أبو علي وأبو هاشم في مختلفه فقال أبو هاشم إنه غير متضاد لاجتماع
الميلين في الحجر الصاعد قسرا وفي الحلقة التي يتجاذبها اثنان، وقال أبو علي
إنه متضاد.
قال: ومنه الثقل (1) وآخرون منهم جعلوه مغايرا.
أقول: من أجناس الاعتماد عند أبي هاشم الثقل وهو الاعتماد اللازم الموجب
للحركة سفلا، وقال أبو علي إن الثقل راجع إلى تزايد أجزاء الجسم فجعله
مغايرا لجنس الاعتماد وهو خطأ لأن تزايد الأجزاء الحقيقية حاصل في الخفيف
ولا ثقل له.
قال: ومنه لازم ومفارق.
أقول: ذهب المتكلمون إلى أن الاعتماد (2) منه ما هو لازم وهو الاعتماد



(1) يعني عند طائفة أخرى منهم الثقل مغاير لجنس الاعتماد وهو عبارة عن كثرة الأجزاء
فكل ما زاد انضمام أجزائه كان الثقل.
(2) قسموا الاعتماد إلى اعتماد لازم وهو اعتماد الثقيل من جهة السفل واعتماد الخفيف
في جهة العلو وإلى اعتماد مفارق كالميل إلى أسفل من الثقيل والميل إلى العلو في الخفيف فإنهما
لازمان إذ لا يمكن مفارقة الميل إلى السفل من الأرض وإلى العلو من الهواء.
229
نحو الفوق والسفل ومنه ما هو مفارق وهو المجتلب وهو المقتضي للحركة
إلى إحدى الجهات الأربع وإنما كان مفارقا لعدم وجوب وقوف الجسم في
إحداها أو ذهابه به عنها بخلاف الجهتين.
قال: ويفتقر إلى محل لا غير (1).
أقول: لما كان الاعتماد عرضا وكان كل عرض مفتقرا إلى محل كان الاعتماد
مفتقرا إلى المحل ولما امتنع حلول عرض في محلين كان الاعتماد كذلك فلأجل
هذا قال إنه يفتقر إلى محل لا غير وبعض المتكلمين لما طعن في كلية الحكمين (2)
افتقر إلى الاستدلال عليهما هنا واستدلوا على الأول بأن صفة ذاته (3) وجوب
مدافعة محله لصفة ذاته فلو انتفى المحل انتفت صفة الذات وذلك يقتضي نفي
الذات وعلى الثاني بأنه يكون مساويا للتأليف لأن الافتقار إلى أزيد من محل
واحد من خواص التأليف والاشتراك في أخص الصفات يستلزم الاشتراك
في الذات (4).
قال: وهو مقدور لنا.
أقول: ذهب المتكلمون إلى أن الاعتماد مقدور لنا لأنه يقع بحسب دواعينا
وينتفي بحسب صوارفنا فيكون صادرا عنا.



(1) لأن الاعتماد عرض وكل عرض مفتقر إلى محل لامتناع حلول عرض في محلين.
(2) أي من أن كل عرض مفتقر إلى محل وأن كل عرض يمتنع حلوله في محلين والطاعن
هو أبو هاشم.
(3) وحاصل الاستدلال أنه لو لم يكن له وجود لأن مدافعة المحل من ذاتيته فلو انتفى المحل
انتفعت المدافعة فانتفعت ذاته.
(4) أي فيكون التأليف والاعتماد حقيقة واحدة وهو باطل قطعا.
230
قال: ويتولد (1) عنه أشياء بعضها لذاته من غير شرط وبعضها بشرط
وبعضها لا لذاته.
أقول: قسم المتكلمون الاعتماد بالنسبة إلى ما يتولد عنه إلى أقسام ثلاثة
(أحدها) ما يتولد عنه لذاته من غير حاجة إلى شرط وإن كان قد يحتاج إليه
أحيانا وهو الأكوان والاعتماد في محله وأن كان تولدهما (2) في غير محله
بشرط التماس وإنما قلنا أنه يتولد عنه الأكوان لأن الجسم يختص بجهة دون
أخرى حال حركته فلا بد من مخصص لتلك الجهة وهو الاعتماد وقلنا إنه يولد
الاعتماد لوجود الحركة القسرية شيئا بعد شئ فإن المتحرك يوجد فيه الاعتماد
والاعتماد يولد الحركة الأولى والاعتماد معا ثم إذا تحرك ولد الاعتماد حركة
أخرى واعتمادا آخر (وثانيها) ما يتولد عنه بشرط ولا يصح بدونه وهو
الأصوات فإنها تتولد عنه بشرط المصاكة لأن الصداء موجود في غير محل
القدرة وما يتعدى محل القدرة لا يولده إلا الاعتماد وإذا كان ما يتعدى محل
القدرة يتولد عن الاعتماد فما يحل محلها أولى (وثالثها) ما يتولد عنه لا بنفسه



(1) ويتولد عن الميل أشياء ثلاثة بعضها لذاته من غير شرط كالأكوان الأربعة أعني الحركة
والسكون والاجتماع والافتراق فالحجر يكون ساكنا إذا كان في الأرض وسكونه معلول الميل
إذ لولا ميله لم يسكن ومتحركا إذا ألقي من سطح وحركته معلولة للميل إذ لولا ميله لم يتحرك
ووقف في الهواء وإن الأكوان الأربعة تتولد عن الاعتماد بلا واسطة ولا بشرط الثاني ما يتولد
عنه لذاته بشرط كالأصوات فإنها تتولد عن الاعتماد بلا واسطة لكن بشرط المصاكة والثالث
ما يتولد لا لذاته لكن بواسطة كالألم.
(2) وإن كان تولد الأكوان والاعتماد في غير محل الاعتماد يحتاج إلى التماس كما إذا
أوجد جسم في جسم اعتمادا أو حركة أو سكونا أو اجتماعا مع جسم ثالث أو افتراقا عن
جسم ثالث.
231
بل بتوسط وهو الألم والتأليف فإن الاعتماد يولد المجاورة والتفريق والمجاورة
تولد التأليف والتفريق يولد الألم.
المسألة السادسة: في البحث عن المبصرات
قال: ومنها أوائل المبصرات وهي اللون والضوء
أقول: من الكيفيات المحسوسة المبصرات وقد نبه بقوله أوائل المبصرات
على أن من المبصرات ما يتناوله الحس البصري أولا وبالذات وهو ما ذكره هنا
من اللون والضوء ومنها ما يتناوله بواسطة كغيرهما من المرئيات فإن البصر
إنما يدركها بواسطة هذين وهذا كما قال في الأول ومنها أوائل الملموسات فإن
فيه تنبيها على أن هناك كيفيات تدرك باللمس بواسطة غيرها.
قال: ولكل منهما طرفان.
أقول: لكل واحد من اللون والضوء طرفان ففي اللون السواد والبياض
وفي الضوء النور الخارق والظلمة وما عدا هذا فإنها متوسطة بين هذه كالحمرة
والخضرة والصفرة والغبرة وغيرها من الألوان وكالظل وشبهه من الأضواء.
قال: وللأول حقيقة.
أقول: ذهب من لا مزيد تحصيل له إلى أن الألوان لا حقيقة لها فإن البياض
المتخيل إنما يحصل من مخالطة الهواء للأجسام الشفافة المنقسمة إلى الأجزاء
الصغار كما في زبد الماء والثلج والسواد المتخيل إنما يتخيل لعدم غور الضوء
في عمق الجسم، والشيخ اضطرب كلامه في البياض فتارة جعله كيفية حقيقية
وأخرى أنه غير حقيقية بل سبب حصوله ما ذكر والحق أنه كيفية حقيقية
قائمة بالجسم في الخارج لأنه محسوس كما في بياض البيض المسلوق فإنه ليس
لنفوذ الهواء فيه لزيادة ثقله بعد الطبخ وبالجملة فالأمور المحسوسة غنية
عن البرهان.

232
قال: وطرفاه السواد والبياض المتضادان.
أقول: طرفا اللون هما السواد والبياض وقيدهما بالمتضادين لأن الضدين
هما اللذان بينهما غاية التباعد فلأجل ذلك ذكر هذا القيد في الطرفين وهذا
تنبيه على أن ما عداهما متوسط بينهما وليس نوعا قائما بانفراده كما ذهب إليه
بعض الناس من أن الألوان الحقيقية خمسة السواد والبياض والحمرة والصفرة
والخضرة ونبه بقوله المتضادان على امتناع اجتماعها خلافا لبعض الناس حيث
ذهب إلى أنهما يجتمعان كما في الغبرة وهو خطأ.
قال: ويتوقف على الثاني في الادراك لا الوجود.
أقول: ذهب أبو علي ابن سينا إلى أن الضوء شرط وجود اللون فالأجسام
الملونة حال الظلمة يعدم عنها ألوانها لأنا لا نراها في الظلمة فإما أن يكون
لعدمها وهو المراد أو لحصول مانع وهو ما يقال من أن الظلمة كيفية قائمة
بالمظلم مانعة من الإبصار وهو باطل وإلا لمنعت من هو بعيد عن النار عن مشاهدة
القريب منها ليلا وليس كذلك وهو خطأ جدا لأنا نقول إنما لم تحصل الرؤية
لعدم الشرط وهو الضوء لا لانتفاء المرئي في نفسه، ونبه المصنف على ذلك بقوله
ويتوقف أي اللون على الثاني أي الضوء في الادراك لا الوجود.
قال: وهما متغايران حسا.
أقول: يريد أن الضوء واللون متغايران خلافا لقوم غير محققين ذهبوا إلى
أن الضوء هو اللون قالوا إن الظهور المطلق هو الضوء والخفاء المطلق هو الظلمة
والمتوسط بينهما هو الظل والحس يدل على المغايرة.
قال: قابلان للشدة والضعف المتباينان نوعا.
أقول: كل واحد من هذين أعني اللون والضوء قابل للشدة والضعف
وهو ظاهر محسوس فإن البياض في الثلج أشد من البياض في العاج وضوء

233
الشمس أشد من ضوء القمر إذا عرفت هذا فاعلم أن الشديد في كل نوع مغاير
للضعيف منه بالنوع، وذهب قوم إلى أن سبب الشدة والضعف ليس الاختلاف
بالحقيقة بل باختلاط بعض أجزاء الشديد بأجزاء الضد فيحصل الضعف وإن لم
يختلط حصلت الشدة وقد بينا خطأهم فيما تقدم.
قال: ولو كان الثاني جسما لحصل ضد المحسوس.
أقول: ذهب من لا تحصيل له إلى أن الضوء جسم وسبب غلطه ما يتوهم
من كونه متحركا بحركة المضئ وإنما كان ذلك باطلا لأن الحس يحكم بافتقاره إلى
موضوع يقوم فيه ولا يمكنه تجريده عن محل يقوم فيه فلو كان جسما لحصل ضد
هذا الحكم المحسوس وهو قيامه بنفسه واستغناؤه عن موضوع يحل فيه ويحتمل
أن يكون قوله لحصل ضد المحسوس إن الضوء إذا أشرق على الجسم ظهر وكلما ازداد
اعترافه ازداد ظهوره في الحس فلو كان جسما لكان ساترا لما يشرق عليه فكان يحصل
ضد المحسوس أعني ضد الاشراق ويكون كلما ازداد إشراقه ازداد ستره لكن
الحس يشهد بضد ذلك، أو نقول أن الحس يشهد بسرعة ظهور ما يشرق عليه
الضوء فإن الشمس إذا طلعت على وجه الأرض أشرقت دفعة واحدة ولو كان
الضوء جسما افتقر إلى زمان يقطع فيه هذه المسافة الطويلة وكان يحصل ضد
السرعة المحسوسة فهذه الاحتمالات كلها صالحة لتفسير قوله لحصل ضد المحسوس
وأما سبب توهم أولئك من أنه متحرك فهو خطأ لأن الضوء يحدث عند المقابلة
لا أنه يتحرك من الجسم المقابل إلى غيره.
قال: بل هو عرض قائم بالمحل معد لحصول مثله في المقابل.
أقول: لما أبطل كونه جسما ثبت كونه عرضا قائما بالمحل إذ العرض لا
يقوم بنفسه وإذا قام بالمحل حصل منه استعداد للجسم المقابل لمحله لتكيفه بمثل
كيفيته كما في الأجسام النيرة الحاصل منها النور في المقابل وقد نبه بذلك على أن

234
المضئ إنما يضئ ما يقابله.
قال: وهو ذاتي وعرضي (1) وأول وثان.
أقول: الضوء منه ذاتي ومنه عرضي وأيضا منه ما هو أول ومنه ما هو
ثان فالذاتي يسمى ضوء بقول مطلق وأما العرضي وهو الحاصل من المضئ لذاته
في غيره فإنه يسمى نورا والأول من الضوء ما حصل عن المضئ لذاته والثاني ما
حصل عن المقابل له كالأرض قبل طلوع الشمس فإنها مضيئة لمقابلتها الهواء
المضئ لمقابله الشمس.
قال: والظلمة عدم ملكة.
أقول: والظلمة عدم الضوء عما من شأنه أن يكون مضيئا ومثل هذا العدم
المقيد بموضوع خاص يسمى عدم ملكة وليست الظلمة كيفية وجودية قائمة بالمظلم
كما ذهب إليه من لا تحقيق له لأن المبصر لا يجد فرقا بين حالتيه عند فتح العين في
الظلمة وتغميضها في عدم الادراك فلو كانت كيفية وجودية مدركة لحصل له
الفرق وفي هذا نظر فإنه يدل على انتفاء كونها كيفية وجودية مدركة لا على
انتفاء كونها وجودية مطلقا.
المسألة السابعة: في البحث عن المسموعات قال: ومنه المسموعات وهي الأصوات الحاصلة من التموج المعلول للقرع
أو القلع.



(1) وهو ذاتي وهو القائم بالمضي نفسه كالشمس وعرض وهو القائم بالمضي بغيره كالقمر
ويسمى الأول ضياء والثاني نورا، وأول وهو الحاصل من المضي لذاته كضوء الهواء
بالشمس قبل طلوعها وثاني وهو الحاصل على مقابلة المضئ لغيره كالأرض المقابلة للهواء والهواء
مضئ للشمس قبل طلوعها.
235
أقول: من الكيفيات المحسوسة الأصوات وهي المدركة بالسمع (واعلم)
أن الصوت عرض قائم بالمحل وقد ذهب قوم غير محققين إلى أن الصوت جوهر
ينقطع بالحركة وهو خطأ لأن الجوهر يدرك باللمس والبصر والصوت ليس كذلك
وذهب آخرون إلى أنه عبارة عن التموج الحاصل في الهواء من القلع أو القرع
وآخرون قالوا إنه القلع أو القرع وهذان المذهبان باطلان وسبب غلطهم أخذ
سبب الشئ مكانه فإن الصوت معلول للتموج المعلول للقرع أو القلع وليس هو
أحدها لأنها تدرك بحس البصر بخلاف الصوت، إذا عرفت هذا (فاعلم) أن القلع
أو القرع إذا حصل حدث تموج بين القارع والمقروع في الهواء وانتقل ذلك التموج
إلى سطح الصماخ فأدرك الصوت ولا نعني بذلك أن تموجا واحدا ينتقل بعينه إلى
الصماخ بل يحصل تموج بعد تموج عن صدم بعد آخر كما في تموج الماء إلى أن يصل
إلى الحس.
قال: بشرط المقاومة.
أقول: القرع إنما يحصل معه الصوت إذا حصلت المقاومة بين القارع والمقروع
فإنك لو ضربت خشبة على وجه الماء بحيث تحصل المقاومة فإنه يحدث الصوت
ولو وضعتها عليه بسهولة لم يحصل الصوت ولا يشترط الصلابة لحصول الصوت
من الماء والهواء ولا صلابة هناك.
قال: في الخارج.
أقول: ذهب قوم إلى أن الصوت ليس بحاصل في الخارج بل إنما يحصل عند
الصماخ وهو ما إذا تموج الهواء وانتهى التموج إلى قرع سطح الصماخ فيحصل
الصوت وهو خطأ وإلا لم تدرك الجهة ولا البعد كما في اللمس حيث كان إدراكه
بالملاقاة ولا يمكن أن يقال أن إدراك الجهة إنما كان لأن القرع توجه من تلك الجهة
وإدراك البعد لأن ضعف الصوت وقوته يدل على القرب والبعد لأنا لو سددنا

236
الأذن اليسرى لأدركنا باليمنى جهة الصوت الحاصل من الجهة اليسرى والضعف
لو كان للبعد لم نفرق بين القوى البعيد والضعيف القريب.
قال: ويستحيل بقاؤه لوجوب إدراك الهيئة الصورية.
أقول: الصوت يستحيل عليه البقاء خلافا للكرامية والدليل عليه إنا إذا
سمعنا لفظة زيد أدركنا الهيئة الصورية أعني ترتيب الحروف وتقديم بعضها على
بعض فلو كانت أجزاء الحروف باقية لم يكن إدراك هذا الترتيب أولى من باقي
التركيبات الخمسة (1).
قال: ويحصل منه آخر (2).
أقول: الصوت إنما يحصل باعتبار التموج في الهواء الواصل إلى سطح
الصماخ وقد بينا وجوده في الخارج فإذا تأدى التموج إلى جسم كثيف مقاوم
لذلك التموج رده فحصل منه تموج آخر وحصل من ذلك التموج الآخر صوت
آخر هو الصداء والظاهر أن هذا الصداء إنما يحصل من تموج الهواء الحاصل
المتموج المتوجه إلى المقاوم وبين ذلك المقاوم لا من الهواء المتوجه بعد صدمه
للمقابل وإن كان فيه احتمال، وكلام المصنف (ره) محتمل لهما لأن قوله ويحصل
منه آخر يحتمل كلا المعنيين.
قال: ويعرض له كيفية مميزة يسمى باعتبارها حرفا.
قوله: يعرض للصوت كيفية يتميز بها عن صوت آخر مثله تميزا في المسموع
يسمى الصوت باعتبار تلك الكيفية حروفا وهي حروف التهجي وحصرها غير
معلوم بالبرهان.



(1) لأن المفروض أن جميع التراكيب موجود في الهواء.
(2) لأنه إذا صادم الهواء المتموج الحاصل للصوت جسما كجبل أو جدار رجع الهواء المتموج
إلى الخلف فيدرك الصوت مرة ثانية وهو المسمى بالصداء.
237
قال: إما مصوت أو صامت متماثل أو مختلف بالذات أو بالعرض.
أقول: ينقسم الحروف إلى قسمين مصوت وصامت فالمصوت هو حرف
المد واللين أعني الواو والألف والياء وهي إنما تحصل في زمان وأما صامت وهو
ما عداها والصامت إما متماثل كالجيم والجيم أو مختلف والمختلف إما بالذات
كالجيم والحاء أو بالعرض وهو إما أن يكون أحد الجيمين مثلا ساكنا والآخر
متحركا أو يكون أحدهما متحركا بحركة والآخر بضدها.
قال: وينتظم منهما الكلام بأقسامه.
أقول: هذه الحروف المسموعة إذا تألفت تأليفا مخصوصا أي بحسب الوضع
سميت كلاما فحد الكلام على هذا هو ما انتظم من الحروف المسموعة ويدخل
فيه المفرد وهو الكلمة الواحدة والمؤلف التام وهو المحتمل للصدق والكذب وغير
المحتمل لهما من الأمر والنهي والاستفهام والتعجب والنداء وغير التام التقييدي
وغيره وإلى هذا أشار بقوله بأقسامه.
قال: ولا يعقل غيره.
أقول: يريد أن الكلام إنما هو المنتظم من الحروف المسموعة ولا يعقل
غيره وهو ما أطبق عليه المعتزلة، والأشاعرة أثبتوا معنى آخر سموه الكلام
النفساني غير مؤلف من الحروف والأصوات يدل هذا الكلام عليه وهو مغاير
للإرادة لأن الإنسان قد يأمر بما لا يريد إظهارا لتمرد العبد عند السلطان فيحصل
عذره في ضربه ومغاير لتخيل الحروف لأن تخيلها تابع لها ومختلف باختلافها
وهذا المعنى لا يختلف وظاهر أنه مغاير للحياة والقدرة وغيرهما من الأعراض
والمعتزلة بالغوا في ا؟ كار هذا المعنى وادعوا الضرورة في نفيه وقالوا الأمر إنما
يعقل مع الإرادة وليس الطلب مغايرا لها وحينئذ يصير النزاع هنا لفظيا.

238
المسألة الثامنة: في البحث عن المطعومات
قال: ومنها المطعومات التسعة الحادثة من تفاعل الثلاثة في مثلها (1).
أقول: المشهور عند الأوائل أن الجسم إن كان عديم الطعم فهو التفه وتعد
التفاهة من الطعوم التسعة وإن كان ذا طعم لم ينفك عن أحد الطعوم الثمانية وهي
الحلاوة والحموضة والملوحة والحرافة والمرارة والعفوصة والقبض والدسومة وهذه
الطعوم التسعة تحصل من تفاعل ثلاث كيفيات هي الحرارة والبرودة والكيفية
المعتدلة في مثلها في العدد أعني ثلاث كيفيات لا مثلها في الحقيقة وهي الكثافة
واللطافة والكيفية المعتدلة فإن الحار إن فعل في الكثيف حدثت المرارة وفي
اللطيف الحرافة وفي المعتدل الملوحة والبارد إن فعل في الكثيف حدثت العفوصة
وفي اللطيف الحموضة وفي المعتدل القبض والمعتدل إن فعل في اللطيف حدثت
الدسومة وفي الكثيف الحلاوة وفي المعتدل التفاهة.
المسألة التاسعة: في البحث عن المشمومات
قال: ومنها المشمومات ولا أسماء لأنواعها إلا من حيث الموافقة
والمخالفة.
أقول: من أنواع الكيفيات المحسوسة الروائح المدركة بحاسة الشم ولم
يوضع لأنواعها أسماء مختصة بها كما وضعوا لغيرها من الأعراض بل ميزوا بينها
من حيث الموافقة والمخالفة فيقال رائحة طيبة ورائحة منتنة أو من حيث
إضافتها إلى المحل كرائحة المسك.



(1) وبيان ذلك أن الطعوم البسيطة تسعة لأن الطعم لا بد له من فاعل هو الحرارة والبرودة
أو الكيفية المتوسطة بينهما ومن قابل هو الكشف أو اللطف أو المعتدل بينهما فإذا ضرب أقسام
الفاعل في أقسام القابل حصل أقسام تسعة ينقسم الطعوم بحسبها.
239
المسألة العاشرة: في البحث عن الكيفيات الاستعدادية
قال: والاستعدادات المتوسطة بين طرفي النقيض.
أقول: لما فرغ من البحث عن الكيفيات المحسوسة شرع في القسم الثاني
من أقسام الكيف الأربعة وهي الكيفيات الاستعدادية وهي ما يرجح به القابل
في أحد جانبي قبوله وهي متوسطة بين طرفي النقيض أعني الوجود والعدم وذلك
لأن الرجحان لا يزال يتزايد في أحد طرفي الوجود والعدم إلى أن ينتهي إليهما
فذلك الرجحان القابل للشدة والضعف المتوسط بين طرفي الوجود والعدم هو
الكيف الاستعدادي وطرفاه الوجود والعدم وهذا الرجحان إن كان نحو الفعل
فهو القوة وإن كان نحو الانفعال فهو اللاقوة.
المسألة الحادية عشرة: في البحث عن الكيفيات النفسانية
قال: والنفسانية حال أو ملكة.
أقول: هذا هو القسم الثالث من أقسام الكيف وهو الكيفيات النفسانية
ونعني بها المختصة بذوات الأنفس وهي ضربان إما أن تكون سريعة الزوال
وتسمى حالا لسرعة زوالها وأما بطيئة الزوال وتسمى ملكة والفرق بينهما
ليس بفصول مميزة بل بعوارض خارجية وربما كان الشئ حالا ثم صار
بعينه ملكة.
المسألة الثانية عشرة: في البحث عن العلم بقول مطلق
قال: منها العلم وهو إما تصور أن تصديق جازم مطابق ثابت.
أقول: من الكيفيات النفسانية العلم وقسمه إلى التصور وهو عبارة عن
حصول صورة الشئ في الذهن وإلى التصديق الجازم المطابق الثابت وهو الحكم
اليقيني بنسبة أحد المتصورين إلى الآخر إيجابا أو سلبا وإنما شرط في التصديق

240
الجزم لأن الخالي منه ليس بعلم بهذا المعنى وإن كان قد يطلق عليه اسم العلم
بالمجاز وإنما هو الظن وشرط المطابقة لأن الخالي منها هو الجهل المركب
وشرط الثبات لأن الخالي منه هو التقليد أما الجامع لهذه الصفات فهو
العلم خاصة.
قال: ولا يجد.
أقول: اختلف العقلاء في العلم فقال قوم لا يحد لظهوره فإن الكيفيات
الوجدانية لظهورها لا يمكن تحديدها لعدم انفكاكه عن تحديد الشئ بالأخفى
والعلم منها ولأن غير العلم إنما يعلم بالعلم فلو علم العلم بغيره لزم الدور وقال
آخرون يحد فقال بعضهم إنه اعتقاد أن الشئ كذا مع اعتقاد أنه لا يكون إلا
كذا وقال آخرون إنه اعتقاد يقتضي سكون النفس وكلاهما غير ما نعين.
قال: ويقتسمان الضرورة والاكتساب.
أقول: يريد أن كل واحد من التصور والتصديق ينقسم إلى الضروري
والمكتسب ويريد بالضروري من التصور ما لا يتوقف على طلب وكسب ومن
التصديق ما يكفي تصور طرفيه في الحكم بنسبة أحدهما إلى الآخر إيجابا أو
سلبا وبالمكتسب ضد ذلك فيهما.
المسألة الثالثة عشرة: في أن العلم يتوقف على الانطباع
قال: ولا بد فيه من الانطباع.
أقول: اختلف العلماء في ذلك فذهب جمهور الأوائل إلى أن العلم يستدعي انطباع
المعلوم في العالم وأنكره آخرون، احتج الأولون بأنا قد ندرك أشياء لا تحقق
لها في الخارج ولو لم تكن منطبعة في الذهن كانت عدما صرفا ونفيا محضا فيستحيل

241
الإضافة إليها، واحتج الآخرون بوجهين (الأول) أن التعقل لو كان هو حصول
صورة المعقول في العاقل لزم أن يكون الجدار المتصف بالسواد متعقلا له والتالي
باطل فكذا المقدم (الثاني) أن الذهن قد يتصور أشياء متقدرة فيلزم حلول
المقدار فيه فيكون متقدرا والجواب عنهما سيأتي.
قال: في المحل المجرد القابل.
أقول: هذا إشارة إلى الجواب عن الإشكالين وتقريره أن المحل الذي
جعلناه عاقلا مجرد عن المواد كلها والمجرد لا يتصف بالمقدار باعتبار حلول
صورته فيه فإن صورة المقدار لا يلزم أن تكون مقدارا وأيضا هذه الصورة
القائمة بالعاقل حالة في محل قابل لها فلهذا كان عاقلا لها أما الجسم فليس محلا
قابلا لتعقل السواد فلا يلزم أن يكون متعقلا له.
قال: وحلول المثال مغاير.
أقول: هذا إشارة إلى كيفية حصول الصورة في العاقل وتقريره أن الحال
في العاقل إنما هو مثال المعقول وصورته لا ذاته ونفسه ولهذا جوزنا حصول
صورة الأضداد في النفس ولم نجوز حصول الأضداد في محل واحد في الخارج فعلم
أن حلول مثال الشئ وصورته مغاير لحلول ذلك الشئ ولما كان هذا الكلام مما
يستعان به على حل ما تقدم من الشكوك ذكره عقيبه.
قال: ولا يمكن الاتحاد.
أقول: ذهب قوم من أوائل الحكماء إلى أن التعقل إنما يكون باتحاد صورة
المعقول والعاقل وهو خطأ فاحش فإن الاتحاد محال على ما تقدم ويلزم أيضا
المحال من وجه آخر وهو اتحاد الذوات المعقولة وكذلك ذهب آخرون إلى أن
التعقل يستدعي اتحاد العاقل بالعقل الفعال وهو خطأ لما تقدم ولاستلزامه تعقل
كل شئ عند تعقل شئ واحد.

242
قال: ويختلف باختلاف المعقول.
أقول: اختلف الناس هنا فذهب قوم إلى جواز تعلق علم واحد بمعلومين
ومنعه آخرون وهو الحق لأنا قد بينا أن التعقل هو حصول صورة مساوية للمعلوم
في العالم وصور الأشياء المختلفة تختلف باختلافها فلا يمكن أن تكون صورة
واحدة لمختلفين فلا يتعلق علم واحد باثنين وإنما جوز ذلك من جعل العلم أمرا
وراء الصورة.
قال: كالحال والاستقبال.
أقول: هذا إشارة إلى إبطال مذهب جماعة من المعتزلة حيث ذهبوا إلى أن العلم
بالاستقبال علم بالحال عند حضور الاستقبال فقالوا إن العلم بأن الشئ سيوجد علم
بوجوده إذا وجد وإنما دعاهم إلى ذلك ما ثبت من أن الله تعالى عالم بكل معلوم
فإذا علم أن زيدا سيوجد ثم وجد فإن زال العلم الأول وتجدد علم آخر لزم كونه
تعالى محلا للحوادث وإن لم يزل كان هو المطلوب وهذا خطأ فإن العلم بان الشئ
سيوجد علم بالعدم الحالي والوجود في ثاني الحال والعلم بأن الشئ موجود غير
مشروط بالعدم الحالي بل هو مناف له فيستحيل اتحادهما والوجه في حل الشبهة
المذكورة ما التزمه أبو الحسين هنا من أن الزايل هو التعلقات الحاصلة بين
العلم والمعلوم لا العلم نفسه، وسيأتي زيادة تحقيق في هذا الموضوع إن شاء
الله تعالى.
قال: ولا يعقل إلا مضافا فيقوى الإشكال مع الاتحاد.
أقول: إعلم أن العلم وإن كان من الكيفيات الحقيقية القائمة بالنفس فإنه لا
يعقل إلا مضافا إلى الغير فإن العلم علم بالشئ ولا يعقل تجرده عن الإضافة حتى
بعضهم توهم أنه نفس الإضافة الحاصلة بين العالم والمعلوم ولم يثبت أمرا حقيقيا
مغايرا للإضافة إذا عرفت هذا فإن الإشكال يقوى مع الاتحاد هكذا قال

243
المصنف (ره) والذي يلوح منه أن العاقل والمعقول إذا كانا شيئا واحدا كما إذا
عقل نفسه توجه الإشكال عليه بأن يقال أنتم قد جعلتم العلم صورة مساوية للمعلوم
في العالم وهذا لا يتأتى هيهنا لاستحالة اجتماع الأمثال ويقوى الإشكال باعتبار
الإضافة إذ الإضافة إنما يعقل بين الشيئين لا بين الشئ الواحد ونفسه فلا يتحقق
علم الشئ بذاته، والجواب عن الأول أن العلم إنما يستدعي الصورة لو كان العالم
عالما بغيره أما عالم ذاته فإن ذاته يكفي في علمه من غير احتياج إلى صورة أخرى
وعن الثاني أن العاقل من حيث إنه عاقل مغاير له من حيث إنه معقول فأمكن
تحقق الإضافة ولأن العالم هو الشخص والمعلوم هو الماهية الكلية وهذان رديان (1)
أما الأول فلأن المغايرة بين العاقل من حيث إنه عاقل والمعقول من حيث إنه
معقول متوقفة على التعقل فلو جعلنا التعقل (2) متوقفا على هذا النوع من التغاير
دار وأما الثاني فلأن العالم هيهنا يكون عالما (3) بجزئه وليس البحث فيه.
قال: وهو عرض لوجود حده فيه.
أقول: ذهب المحققون إلى أن العلم عرض وأكثر الناس كذلك في العلم
بالعرض واختلفوا في العلم بالجوهر فالذين قالوا إن العلم إضافة بين العالم والمعلوم
قالوا إنه عرض أيضا والذين قالوا إن العلم صورة اختلفوا فقال بعضهم إنه جوهر
لأن حده صادق عليه إذ الصورة الذهنية ماهية إذا وجدت في الأعيان كانت لا



(1) أي المذكوران في الجواب عن الإشكال الثاني الذي هو الإضافة.
(2) أي لو جعلنا التعقل الذي هو نفس الإضافة على القول به أو صورة ذاته الإضافة متوقفا
على التغاير الاعتباري لدار أما توقف المغايرة على التعقل فلأن التعقل لو لم يكن فلا عاقل ولا
معقول حتى تحصل المغايرة وأما توقف التعقل على المغايرة فلأن التعقل هو نفس الإضافة.
(3) لأن الماهية الكلية الإنسانية مثلا هو جزء لشخص الإنسان العاقل لنفسه وليس البحث
فيه بل البحث في علم الإنسان بذاته الشخصية.
244
في موضوع وهذا معنى الجوهر والمحققون قالوا إنه عرض أيضا لوجود حد
العرض فيه فإنه موجود حال في النفس لا كجزء منها وهذا معنى
العرض واستدلال القائلين بأنه جوهر خطأ لأن الصورة الذهنية يمتنع وجودها
في الخارج وإنما الموجود ما هي مثال له (1).
المسألة الرابعة: في أقسام العلم
قال: وهي فعلي وانفعالي وغيرهما.
أقول: العلم منه ما هو فعلي وهو المحصل للأشياء الخارجية كعلم واجب
الوجود تعالى بمخلوقاته وكما إذا تصورنا نقشا لم نستفد صورته من الخارج ثم
أوجدنا في الخارج ما يطابقه، ومنه انفعالي وهو المستفاد من الأعيان الخارجية
كعلمنا بالسماء والأرض وأشباههما ومنه ما ليس أحدهما كعلم واجب الوجود
تعالى بذاته.
قال: وضروري أقسامه ستة ومكتسب.
أقول: قد تقدم أن العلم أما ضروري وأما كسبي ومضى تفسيرهما وأقسام
الضروري ستة البديهيات وهي قضايا يحكم بها العقل لذاته لا بسبب خارجي
سوى تصور طرفيها كالحكم بأن الكل أعظم من الجزء وغيره من البديهيات
(الثاني) المشاهدات وهي إما مستفادة من حواس ظاهرة كالحكم بحرارة النار
أو من الحواس الباطنة وهي القضايا الاعتبارية بمشاهدة قوى غير الحس الظاهر
أو بالوجدان من النفس لا باعتبار الآلات مثل شعورنا بذواتنا وبأفعالنا
(الثالث) المجربات وهي قضايا يحكم بها النفس باعتبار تكرار المشاهدات كالحكم
بأن الضرب بالخشب مؤلم ويفتقر إلى أمرين المشاهدة المتكررة والقياس الخفي



(1) يعني أن الموجود في الخارج تكون تلك الصورة الذهنية مثالا له فهو كالموجود في الذهن
بحسب الماهية.
245
وهو أنه لو كان الوقوع على سبيل الاتفاق لم يكن دائما ولا أكثريا والفارق بين
هذه وبين الاستقراء هذا القياس (الرابع) الحدسيات وهي قضايا مبدء الحكم
بها حدس قوي من النفس يزول معه الشك كالحكم باستفادة نور القمر من الشمس
ويفتقر إلى المشاهدة المتكررة والقياس الخفي إلا أن الفارق بين هذه وبين
المجربات إن السبب في المجربات معلوم السببية غير معلوم الماهية وفي الحدسيات
معلوم بالاعتبارين (الخامس) المتواترات وهي قضايا يحكم بها النفس لتوارد
أخبار المخبرين عليها بحيث يزول معه الشك بعدم الاتفاق بين المخبرين والتواطؤ
على الكذب (السادس) فطرية القياس وهي قضايا يحكم بها النفس باعتبار أوسط
لا ينفك الذهن عنه.
قال: وواجب وممكن:
أقول: العلم ينقسم إلى واجب وهو علم واجب الوجود بذاته وإلى ممكن وهو
ما عداه وإنما كان الأول واجبا لأنه نفس ذاته الواجبة.
قال: وهو تابع بمعنى أصالة موازنة في التطابق (1).
أقول: إعلم أن التابع يطلق على ما يكون متأخرا عن المتبوع وعلى ما
يكون مستفادا منه وهما غير مرادين في قولنا العلم تابع للمعلوم فإن العلم قد
يتقدم المعلوم زمانا وقد يفيد وجوده كالعلم الفعلي وإنما المراد هيهنا كون العلم
والمعلوم متطابقين بحيث إذا تصورهما العقل حكم بأصالة المعلوم في هيئة
التطابق وإن العلم تابع له وحكاية عنه وإن ما عليه العلم فرع على ما عليه المعلوم



(1) أي أن موازن العلم وهو المعلوم أصل والعلم فرع بيان ذلك أن العلم وإن كان سابقا على
المعلوم في بعض الموارد إلا أن العقل إذا تصورهما رأى أن المعلوم هو الأصل بحيث لولا كونه
في موطنه ولو بعد حين لم يتعلق العلم به من حيث السالبة بانتفاع الموضوع.
246
وعلى هذا التقدير يجوز تأخر المعلوم الذي هو الأصل عن تابعه فإن العقل يجوز
تقدم الحكاية على المحكى.
قال: فزال الدور (1).
أقول: الذي يفهم من هذا الكلام أمران (أحدهما) أن يقال قد قسمتم
العلم إلى أقسام من جملتها الفعلي الذي هو العلة في وجود المعلوم وهيهنا جعلتم
جنس العلم تابعا فلزمكم الدور إذ تبعية الجنس تستلزم تبعية أنواعه وتقرير
الجواب عن هذا أن نقول نعني بتبعية العلم ما قررناه من كون العلم والمعلوم
متطابقين على وجه إذا تصورهما العقل حكم بأن الأصل في هيئة التطابق هو ما
عليه المعلوم (2) وأن ما عليه العلم فرع عليه ووجه الخلاص من الدور بهذا التحقيق
أن العلم الفعلي محصل للمعلوم في الخارج لا مطلقا (الثاني) أن يقال المتبوع يجب
أن يتقدم التابع بأحد أنواع التقدم الخمسة وهيهنا لا تقدم بالشرف ولا بالوضع
لأنهما غير معقولين فيبقى أن يكون التقدم هنا بالذات أو بالعلية أو بالزمان
وعلى هذه التقادير الثلاثة يمتنع الحكم بتأخر المتبوع عن التابع في الزمان ولا شك
أن علم الله تعالى أزلي والعلوم السابقة على الصور الموجودة في الخارج متقدمة
بالزمان والمتأخر عن غيره بالزمان يمتنع أن يكون متقدما عليه بنوع ما من



(1) وتقرير الدور أن العلم إذا كان تابعا لم يكن علمه تعالى فعليا بل يلزم انتفاء هذا القسم
من العلم رأسا لأن العلم الفعلي علة للمعلوم ولا شبهة في أصالة العلة بالنسبة إلى المعلول فلو كان
المعلوم أيضا علة لدار، وجوابه أن العلم الفعلي علة على الاطلاق للمعلوم بحيث يكون له
اقتضاء لوجوده بل هو محصل له في الخارج بمعنى أن هذا العلم يصير سببا لإرادة الفاعل المعلول
من الخارج.
(2) ومراده بما عليه المعلوم هو حالة المقتضى لكونه أصلا وهو ثباته وعدم تحيزه بزوال
العلم ومراده بما عليه العلم هو حالة المقتضى لمقابل ذلك.
247
أنواع التقدمات بالاعتبار الذي كان به متأخرا عنه والجواب عنه ما
تقدم أيضا.
المسألة الخامسة عشرة: في توقف العلم على الاستعداد
قال: ولا بد فيه من الاستعداد أما الضروري فبالحواس وأما الكسبي
فبالأول.
أقول: قد بينا أن العلم أما ضروري وأما كسبي وكلاهما حصل بعد عدمه
إذ الفطرة البشرية خلقت أولا عارية عن العلوم ثم يحصل لها العلم بقسميه فلا بد
من استعداد سابق مغاير للنفس وفاعل للعلم فالضروري فاعله هو الله تعالى إذ
القابل لا يخرج المقبول من القوة إلى الفعل بذاته وإلا لم ينفك عنه وللقبول درجات
مختلفة في القرب والبعد وإنما تستعد النفس للقبول على التدريج فتنتقل من أقصى
مراتب البعد إلى أدناها قليلا لأجل المعدات التي هي الاحساس بالحواس
على اختلافها والتمرن عليها وتكرارها مرة بعد أخرى فيتم الاستعداد لإفاضة
العلوم البديهية الكلية من التصورات والتصديقات بين كليات تلك المحسوسات
وأما النظرية فإنها مستفادة من النفس أو من الله تعالى على اختلاف الآراء لكن
بواسطة الاستعداد بالعلوم البديهية أما في التصورات فبالحد والرسم وأما في
التصديقات فبالقياسات المستندة إلى المقدمات الضرورية.
المسألة السادسة عشرة: في المناسبة بين العلم والإدراك
قال: وفي الاصطلاح يفارق الادراك مفارقة الجنس النوع (1) و باصطلاح



(1) بيان ذلك أن العلم يفارق الادراك مفارقة الجنس النوع فالجنس هو الادراك والنوع هو
العلم وباصطلاح آخر مفارقة النوعين فكل من العلم والإدراك نوع تحت جنس وهو الادراك مطلق‍؟
والحاصل أن في الادراك اصطلاحين الأول أن يكون بمعنى الادراك المطلق الأعم من الجزئي
كإدراك الكون بالبصر وهكذا والكلي كالعلم بالكليات وبهذا المعنى يكون الادراك المطلق
من العلم.
248
مفارقة النوعين.
أقول: إعلم أن العلم يطلق على الادراك للأمور الكلية كاللون والطعم
مطلقا ويطلق الادراك على الحضور عند المدرك مطلقا فيكون شاملا للعلم
والإدراك الجزئي أعني المدرك بالحس كهذا اللون وهذا الطعم ولا يطلق العلم
على هذا النوع من الادراك ولذلك لا يصفون الحيوانات العجم بالعلم وأن
وصفوها بالإدراك فيكون الفرق بين العلم والإدراك مطلقا على هذا الاصطلاح
فرق ما بين النوع والجنس، النوع هو العلم والجنس هو الادراك وقد يطلق
الادراك باصطلاح آخر على الاحساس لا غير فيكون الفرق بينه وبين العلم هو
هو الفرق ما بين النوعين الداخلين تحت الجنس وهو الادراك مطلقا هنا.
المسألة السابعة عشرة: في أن العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول
قال: وتعلقه على التمام بالعلة يستلزم تعلقه كذلك بالمعلول.
أقول: العلم بالعلة يقع باعتبارات ثلاثة (الأول) العلم بماهية العلة من
حيث هي ذات وحقيقة لا باعتبار آخر وهذا لا يستلزم العلم بالمعلول بالمعلول لا على التمام
ولا على النقصان (الثاني) العلم بها من حيث هي مستلزمة لذات أخرى وهو
علم ناقص بالعلة فيستلزم علما ناقصا بالمعلول من حيث إنه لازم للعلة لا من
حيث ماهيته (الثالث) العلم بذاتها وماهيتها ولوازمها وملزوماتها وعوارضها
ومعروضاتها وما لها في ذاتها وما لها بالقياس إلى الغير وهذا هو العلم التام بالعلة
وهو يستلزم العلم التام بالمعلول فإن ماهية المعلول وحقيقته لازمة لماهية العلة
وقد فرض تعلق العلم بها من حيث ذاتها ولوازمها.
المسألة الثامنة عشرة: في مراتب العلم
قال: ومراتبه ثلاث.

249
أقول: ذكر الشيخ أبو علي أن للتعقل ثلاث مراتب (الأولى) أن يكون
بالقوة المحضة وهو عدم التعقل عما من شأنه ذلك (الثانية) أن يكون بالفعل
التام كما إذا علم الشئ علما تفصيليا (الثالثة) العلم بالشئ إجمالا كمن علم
مسألة ثم غفل عنها ثم سئل عنها فإنه يحضر الجواب عنها في ذهنه وليس ذلك
بالقوة المحضة لأنه في الوقت عالم باقتداره على الجواب وهو يتضمن علمه بذلك
الجواب وليس علما بها على جهة التفصيل وهو ظاهر.
المسألة التاسعة عشرة: في كيفية العلم بذي السبب
قال: وذو السبب إنما يعلم به كليا (1).
أقول: إعلم أن الشئ إذا كان ذا سبب فإنه إنما يعلم بسببه لأنه بدون
السبب ممكن وإنما يجب بسببه فإذا نظر إليه من حيث هو هو لم يحكم العقل
بوقوعه ولا بعدمه وإنما يحكم بأحدهما إذا عقل وجود السبب أو عدمه فذو
السبب إنما يحكم بوجوده أو عدمه بالنظر إلى سببه إذا ثبت هذا فإن ذا السبب
إنما يعلم كليا لأن كونه صادرا عن الشئ تقييد له بأمر كلي أيضا وتقييد الكلي
بالكلي لا يقتضي الجزئية، وتحقيق هذا أنك إذا عقلت كسوفا شخصيا من جهة
سببه وصفاته الكلية التي يكون كل واحد منها نوعا مجموعا في شخصه كان



(1) وذو السبب أي المعلول إنما يعلم به كليا وفي هذا إشارة إلى أمرين الأول أن العلم بشئ
ذا سبب لا يمكن إلا بعد العلم بسببه إذ الشئ ذو السبب ممكن فإذا نظر إليه من حيث هو مع
قطع النظر عن سببه امتنع الجزم برجحان أحد طرفيه على الآخر وإنما يحكم بأحدهما إذا
عقل وجود السبب أو عدمه الثاني إن العلم به جزئيا بل إنما هو علم كلي فلو علمنا أن النار علة
للإحراق كان علمنا بالإحراق الكلي لا الجزئي لأن نفس تصور الاحراق لا يمنع عن وقوع
الشركة وكذلك علمنا بصدوره عن النار لا يمنع الشركة وسره أن الشئ ما لم يجب لم يتشخص
إذ تقيد الكلي بألف كلي لا يوجب الجزئية إذ لا يرتفع احتمال الشركة.
250
العلم به كليا والكسوف وإن كان شخصيا فإنه عند ذلك يصير كليا ويكون نوعا
مجموعا في شخص والنوع المجموع في شخص له معلول كلي لا يتغير وما يستند
إليه من صفاته وأحواله ويكون مدركا بالعقل فال يتغير فإنه كلما حصلت علل
الشخصي وأسبابه وجب حصول ذلك الجزئي فيقال إن هذا الشخصي أسبابه
كذا وكلما حصلت هذه الأسباب كان هذا الشخصي أو مثله فيكون
كليا بعلله.
المسألة العشرون: في تفسير العقل
قال: والعقل غريزة يلزمها العلم بالضروريات عند سلامة الآلات.
أقول: هذا هو المحقق في تفسير العقل وقد فسره قوم بأنه العلم بوجوب
الواجبات واستحالة المستحيلات لامتناع انفكاك أحدهما عن الآخر وهو ضعيف (1)
لعدم الملازمة بين التلازم والاتحاد.
قال: ويطلق على غيره بالاشتراك.
قوله: لفظة العقل مشتركة بين قوى النفس الإنسانية وبين الموجود المجرد
في ذاته وفعله معا ويندرج تحته عند الأوائل عقول عشرة سبق البحث فيها أما
القوى النفسانية فيقال عقل علمي وعقل عملي أما العلمي (فأول) مراتبه
الهيولاني وهو الذي من شأنه الاستعداد المحض من غير حصول علم ضروري
أو كسبي (وثانيها) العقل بالملكة وهو الذي استعد لحصول العلوم الضرورية
لإدراك النظريات فصار له بتلك الأوليات ملكة الانتقال إلى النظريات وأعلى
درجات هذه المرتبة ما يسمى القوة القدسية وأدناها مرتبة البليد الذي تثبت



(1) يعني تلازم يصحح العقل والعلم ولا يفسر أن أحدهما بالآخر لأن الاتحاد بين المفسر
والمفسر به واجب والتلازم بين الشيئين لا يلازم الاتحاد بينهما.
251
أفكاره دون حصول مطالبه وبين هاتين الدرجتين درجات متفاوتة في القرب
والبعد بحسب شدة الاستعداد وضعفه (وثالثها) العقل بالفعل وهو أن تكون
النفس بحيث متى شائت استحضرت العلوم النظرية المكتسبة من العلوم
الضرورية لا على أنها بالفعل موجودة (ورابعها) العقل المستفاد وهو حصول
تلك النظريات بالفعل وهو آخر درجات كمال النفس في هذه القوة وأما العملي
فيطلق على القوة التي باعتبارها يحصل التمييز بين الأمور الحسنة والقبيحة وعلى
المقدمات التي يستنبط بها الأمور الحسنة والقبيحة وعلى فعل الأمور
الحسنة والقبيحة.
المسألة الحادية والعشرون: في الاعتقاد والظن وغيرهما
قال: والاعتقاد يقال لأحد قسميه.
أقول: الاعتقاد من الأمور الضرورية لكن اختلفوا في أنه هل هو من
قبيل العلوم أو جنس مغاير لها فقال جماعة بالأول وذهب أبو الهذيل العلاف إلى
الثاني وأبطله أبو علي الجبائي بأنه لو كان كذلك لكان أما مثلا للعلم وهو
المطلوب أو ضدا فلا يجتمعان مع أنهما قد يجتمعان أو مخالفا فلا ينتفيان بالضد
الواحد (1) (والتحقيق) هنا أن نقول أن الاعتقاد أحد قسمي العلم وذلك لأنا
قد بينا أن العلم يقال على التصور وعلى التصديق كأنه جنس لهما والاعتقاد هو
التصديق وهو قسيم أحد قسمي العلم.
قال: فيتعاكسان في العموم والخصوص.
أقول: هذا نتيجة ما مضى والذي نفهم منه إن الاعتقاد قد ظهر أنه أحد
قسمي العلم فهو أخص منه بهذا الاعتبار لأن العلم شامل للتصور والتصديق



(1) مع أنهما ينتفيان بالضد الواحد.
252
الذي هو الاعتقاد والاعتقاد باعتبار آخر أعم من العلم لأنه شامل للظن والجهل
المركب واعتقاد المقلد فهذا ما ظهر لنا من قوله فيتعاكسان أي الاعتقاد والعلم
في العموم والخصوص (واعلم) أن لنا في هذا الكلام على هذا التفسير نظرا
وذلك لأن الاعتقاد إنما يكون قسما من العلم لو أخذ العلم التصديقي بالاعتبار
الأعم الشامل للعلم بمعنى اليقين والظن والجهل المركب واعتقاد المقلد وحينئذ
لا يتم التعاكس لأن الاعتقاد لا يكون أعم من العلم بهذا الاعتبار فالواجب أن
يراد باعتبار اصطلاحين أو ما يؤدي معناه (1).
قال: ويقع فيه التضاد بخلاف العلم.
أقول: إعلم أن الاعتقاد منه ما هو متماثل ومنه ما هو مختلف والمختلف
على قسمين متضاد وغير متضاد وهذا ظاهر لكن وجه التضاد عند أبي علي
الجبائي تعلقه بالضدين فحكم بتضاد اعتقادي الضدين وقال به أبو هاشم أولا
ثم حكم بأن تضاده إنما هو لتعقله بالإيجاب والسلب لا غير أما العلم فلا يقع
فيه تضاد لوجوب المطابقة فيه.
قال: والسهو عدم ملكة العلم وقد يفرق بينه وبين النسيان.
أقول: هذا هو المشهور عند الأوائل والمتكلمين وذهب الجبائيان إلى أن
السهو معنى يضاد العلم وقد فرق الأوائل بينه وبين النسيان فقالوا إن السهو
زوال الصورة عن المدرك خاصة دون الحافظ والنسيان زوالها عنهما معا.
قال: والشك تردد الذهن بين الطرفين.
أقول: الشك هو سلب الاعتقاد وتردد الذهن بين طرفي النقيض على



(1) وبيانه أن الاعتقاد بأحد الاصطلاحين وهو اعتبار معناه الأخص من العلم المطلق إذ هو شامل
له وللتصور وبالاصطلاح الآخر أعم من العلم إذ شامل له وللظن والجهل المركب والتقليد.
253
التساوي وليس معنى قائما بالنفس وهو مذهب الأوائل وأبي هاشم وقال أبو
علي أنه معنى يضاد العلم واختاره البلخي لتجدده بعد أن لم يكن وهو خطأ
لعدم اتحاد المتعلق الذي هو شرط في تضاد المتعلقات.
قال: وقد يصح تعلق كل من العلم (1) والاعتقاد بنفسه وبالآخر فيتغاير
الاعتبار لا الصور (2).



(1) قوله وقد يصح تعلق كل إلى آخره، بيان ذلك أن الاعتقاد والعلم يصح كل منهما بجميع
الأشياء فيصح تعلق كل منهما بنفسه وبالآخر فحينئذ لا يكون بين العلم والمعلوم تغاير إلا
بالاعتبار إذ لا حاجة حينئذ إلى صورة أخرى حاصلة من المعلوم في العالم كما هو عند علم
النفس بذاتها وسائر صفاتها القائمة بذاتها، أقول ذلك ظاهر في تعلق العلم التصوري بالعلم تصورا
أو تصديقا وكذا في تعلقه بالاعتقاد فإنه إذا حصل لنا تصور أو تصديق وأردنا أن نتصور ذلك
التصور أو التصديق يكفي لنا في ذلك حصول هذا التصور والتصديق عندنا ولا حاجة لنا إلى
حصول صورة ذهنية أخرى منتزعة عنهما كما في علم النفس بصفاتها القائمة بذاتها وذلك يسمى
علما حضوريا أما إذا تعلق الاعتقاد أو العلم التصديقي بالعلم أو الاعتقاد كان يحكم على تصور
الإنسان مثلا أو على التصديق بحال من أحواله بأنه كذا كان العلم بالمحكوم عليه من قبيل التصور
بالتصور أو التصديق غير محتاج إلى صورة أخرى منتزعة منه وكان العلم متحدا مع المعلوم
بالذات مغايرا له بالاعتبار لكن باقي أجزاء التصديق كتصور المحكوم به وتصور النسبة والحكم
لا يكون إلا بحصول صور من تلك المدركات عند المدرك بالكسر ويكون العلم حينئذ مغايرا
للمعلوم بالذات.
(2) أي بأن نعلم إنا عالم بالشئ الفلاني وهذا مقابل الجهل المركب وكذلك يصبح تعلقه
بالاعتقاد بأن نعلم إنا نعتقد برسالة محمد بن عبد الله وكذا بالنسبة إلى الاعتقاد فيصح تعلق
الاعتقاد بنفسه بأن نعتقد إنا نعتقد بنبوة النبي (ع) مثلا ويصح تعلقه بالعلم بأن نعتقد بأنا عالم
بقيام زيد فيتغاير الاعتبار لا الصور.
254
أقول: إعلم أن العلم والاعتقاد من قبيل النسب والإضافات يصح تعلقهما بجميع
الأشياء حتى بأنفسهما فيصح تعلق الاعتقاد بالاعتقاد وبالعلم وكذا العلم يتعلق
بنفسه وبالاعتقاد إذا عرفت هذا فإذا تعلق العلم بنفسه وجب تعدد الاعتبار إذ
العلم كان آلة ينظر به وباعتبار تعلق العلم به يصير شيئا منظورا فيه وكون
الشئ معلوما مغاير لاعتبار كونه علما فلا بد من تغاير الاعتبار أما الصور فلا
وإلا لزم وجود صور لا يتناهى بالنسبة إلى معلوم واحد لأن العلم بالشئ لا
ينفك عن العلم بالعلم بذلك الشئ عند اعتبار المعتبرين (واعلم) أن العلم
بالعلم علم بكيفيته وهيئته للعالم يقتضي النسبة إلى معلوم ذلك العلم وليس علما
بالمعلوم كما ذهب إليه الجبائيان.
قال: والجهل بمعنى يقابلهما وبآخر قسم لأحدهما.
أقول: إعلم أن الجهل يقال على معنيين بسيط ومركب فالبسيط هو عدم
العلم عما من شأنه أن يكون عالما وبهذا المعنى يقابل العلم والاعتقاد مقابلة العدم
والملكة والمركب هو اعتقاد الشئ على خلاف ما هو عليه وهو قسم للاعتقاد
إذ الاعتقاد جنس للجهل وغيره وسمي الأول بسيطا نظرا إلى عدم تركبه والثاني
مركبا لتركبه من اعتقاد وعدم مطابقة.
قال: والظن ترجيح أحد الطرفين وهو غير اعتقاد الرجحان.
أقول: الظن ترجيح أحد الطرفين أعني طرف الوجود وطرف العدم
ترجيحا غير مانع من النقيض ولا بد من هذا القيد ليخرج الاعتقاد الجازم
(واعلم) أن رجحان الاعتقاد مغاير لاعتقاد الرجحان لأن الأول ظن لا غير
والثاني قد يكون علما.
قال: ويقبل الشدة والضعف وطرفاه علم وجبل.
أقول: لما كان الظن عبارة عن ترجيح الاعتقاد من غير منع للنقيض وكان
للترجيح مراتب داخلة بين طرفي شدة في الغاية كان قابلا للشدة والضعف

255
وطرفاه العلم الذي لا مرتبة بعده للرجحان والجهل البسيط الذي لا ترجيح معه
البتة أعني الشك المحض.
المسألة الثانية والعشرون: في النظر وأحكامه
قال: وكسبي العلم يحصل بالنظر مع سلامة جزئيه ضرورة.
أقول: قد بينا أن العلم ضربان ضروري لا يفتقر إلى طلب وكسب ونظري
يفتقر إليه فالثاني هو المكتسب بالنظر وهو ترتيب أمور ذهنية للتصور إلى
أمر مجهول فالترتيب جنس بعيد لأنه كما يقع في الأمور الذهنية كذلك يقع في
الأشياء الخارجية فالتقييد بالأمور الذهنية يخرج الآخر عنه (ثم) الترتيب
الخاص قد يراد لاستحصال ما ليس بحاصل وقد لا يكون كذلك (1) فالثاني
ليس بنظر وهذا الحد قد اشتمل على العلل الأربع للنظر أعني المادة والصورة
والغاية وفيه إشارة إلى الفاعل وهذه الأمور قد تكون تصورات هي إما حدود
أو رسوم يستفاد منها العلم بمفرد وقد تكون تصديقات يكتسب بها تصديق
(واعلم) أن النظر لما كان مركبا اشتمل بالضرورة على جزء مادي وجزء
صوري فالمادي هو المقدمات والصوري هو الترتيب بينها فإذا سلم هذان الجزءان
بأن كان الحمل والوضع والربط والجهة على ما ينبغي وكان الترتيب على ما ينبغي
حصل العلم بالمطلوب بالضرورة هذا في التصديقات وكذا في التصورات فإنه
كان الحد مشتملا على جنس قريب وفصل أخير وقدم الجنس على الفصل حصل
تصور المحدود قطعا، وإليه أشار المصنف (ره) بقوله مع سلامة جزئية يعني
الجزء المادي والجزء الصوري (واعلم) أن الناس اختلفوا هنا فقال من لا مزيد
تحصيل له أن النظر لا يفيد العلم لأن العلم بإفادته للعلم إن كان ضروريا لزم
اشتراك العقلاء فيه وإن كان نظريا تسلسل ولأن النظر لو استلزم العلم لم



(1) أي بل يراد لاستحضار ما هو حاصل في الخزانة.
256
يختلف الناس في آرائهم لاشتراكهم في العلوم الضرورية التي هي مباد للنظرية
وذهب المحققون إلى أنه يفيد العلم بالضرورة فإنا متى اعتقدنا أن العالم ممكن
وأن كل ممكن محدث حصل لنا العلم بالضرورة بأن العالم محدث فخرج الجواب
عن الشبهة الأولى بقوله ضرورة ولا يجب اشتراك العقلاء في الضروريات فإن
كثيرا من الضروريات يتشكك فيها بعض الناس إما لخفاء في التصورات أو لغير
ذلك وخرج الجواب عن الشبهة الثانية بقوله مع سلامة جزئيه وذلك لأن
اختلاف الناس في الاعتقاد إنما كان بسبب تركهم الترتيب الصحيح وغفلتهم
عن شرائط الحمل وغير ذلك من أسباب الغلط إما في الجزء المادي أو الصوري
فإذا سلما حصل المطلوب لكل من حصل له سلامة الجزئين.
قال: ومع فساد أحدهما قد يحصل ضده (1)
أقول: النظر إذا فسد إما من جهة المادة أو من جهة الصورة لم يحصل العلم
وقد يحصل ضده أعني الجهل وقد لا يحصل والضابطة في ذلك أن نقول إن كان
الفساد من جهة الصورة لم تلزم النتيجة الباطلة وإن كان من جهة المادة لا غير
كان القياس منتجا فإن كانت الصغرى في الشكل الأول صادقة والكبرى كاذبة
في كل واحد كانت النتيجة كاذبة قطعا وإلا جاز أن تكون صادقة وأن تكون
كاذبة وبهذا التحقيق ظهر بطلان ما يقال من أن النظر الفاسد لا يستلزم الجهل
وإلا لكان المحق إذا نظر في شبهة المبطل أفاده الجهل وليس كذلك مع أنه



(1) وقد يحصل ضده أي العلم بمعنى أنه ينتج شيئا مخالفا للواقع الذي هو الجهل نحو كل
إنسان حجر وكل حجر جماد فالنتيجة كاذبة وهي كل إنسان جماد وقد يحصل العلم أي
تكون النتيجة مطابقة للواقع نحو كل إنسان حجر وكل حجر ناطق فكل إنسان ناطق وقد لا يحصل
شئ أصلا نحو كل إنسان حيوان وبعض الحيوان صاهل فإنه لا ينتج أصلا لعدم كونه على طبق أحد
الأشكال الأربعة.
257
معارض (1) بالنظر الصحيح فإن شرط اعتقاد حقية المقدمات في الصحيح
شرطناه نحن في الفاسد أيضا.
قال: وحصول العلم عن الصحيح واجب.
أقول: اختلف الناس هنا فالمعتزلة على أن النظر مولد للعلم وسبب له
والأشاعرة قالوا إن الله تعالى أجرى عادته بخلق العلم عقيب النظر وليس النظر
موجبا ولا سببا للعلم واستدلوا على ذلك بأن العلم الحادث أمر ممكن والله تعالى
قادر على كل الممكنات فاعل لها على ما يأتي في خلق الأعمال فيكون العلم من فعله
والمعتزلة لما أبطلوا القول باستناد الأفعال الحيوانية إلى الله تعالى بطل عندهم هذا
الاستدلال ولما رأوا العلم يحصل عقيب النظر وبحسبه وينتفي عند انتفائه
حكموا عليه بأنه سبب له كما في سائر الأسباب والحق أن النظر الصحيح يجب
عنده حصول العلم ولا يمكن تخلفه عنه فإنا نعلم قطعا أنه متى حصل لنا اعتقاد
المقدمتين فإنه يجب حصول النتيجة قالت الأشاعرة التذكر لا يولد العلم فكذا
النظر بالقياس عليه والجواب الفرق بينهما.
قال: ولا حاجة إلى المعلم.
أقول: ذهبت الملاحدة إلى أن النظر غير كاف في حصول المعارف بل لا بد
من معونة من المعلم للعقل لتعذر العلم بأظهر الأشياء وأقربها من دون مرشد وأطبق
العقلاء على خلافه لأنه متى حصلت المقدمتان لنا على الترتيب المخصوص حصل
لنا الجزم بالنتيجة سواء كان هناك معلم أو لا وصعوبة تحصيل المعرفة بأظهر
الأشياء لا يدل على امتناعها مطلقا من دون المعلم وقد ألزمهم المعتزلة والأشاعرة
الدور والتسلسل لتوقف العلم بصدقه على العلم بتصديق الله تعالى إياه بواسطة
المعجزة فلو توقفت المعرفة بالله تعالى عليه دار ولأن احتياج كل عارف إلى معلم



(1) بيان المعارضة بأن يقال إن النظر الصحيح لا يستلزم العلم وإلا لكان المبطل إذا
نظر في دليل المحق أفاده العلم ولكنه لا يفيده لأنه معتقد ببطلان الدليل.
258
يستلزم حاجة المعلم إلى آخر ويتسلسل وهذان الإلزامان ضعيفان لأن الدور لازم
على تقدير استقلال المعلم بتحصيل المعارف وليس كذلك بل هو مرشد (1) إلى
استنباط الأحكام من الأدلة التي من جملتها ما يدل على صدقه من المقدمات
والتسلسل يلزم لو وجب مساواة عقل المعلم لعقولنا أما على تقدير الزيادة فلا.
قال: نعم لا بد من الجزء الصوري.
أقول: يشير بذلك إلى ترتيب المقدمات فإنه لا بد مع حضور المقدمتين
في الذهن من ترتيب حاصل بينهما ليحصل العلم بالنتيجة وهو الجزء الصوري
للنظر إذ لولا الترتيب لحصلت العلوم الكسبية لجميع العقلاء ولم يقع خلل (2)
لأحد في اعتقاده وقيل لا حاجة إليه وإلا لزم التسلسل (3) أو اشتراط الشئ
بنفسه وهو سهو فإن التسلسل يلزم لو قلنا بافتقار كل زائد إلى ترتيب وليس
كذلك بل المفتقر إلى الترتيب إنما هو الأجزاء المادية خاصة.
قال: وشرطه عدم الغاية وضدها وحضورها.
أقول: الذي فهمناه من هذا الكلام أن شرط النظر عدم العلم بالمطلوب
الذي هو غاية النظر وإلا لزم تحصيل الحاصل ويشترط أيضا عدم ضدها أعني
الجهل المركب لأنه باعتقاده حصول العلم له لا يطلبه فلا يتحقق النظر في طرفه
ويشترط أيضا حضورها يعني حضور المطلوب الذي هو الغاية إذ الغافل عن



(1) يعني أن المعلم يرتب المقدمات التي يعجز الإنسان عن ترتيبها فبعد أن يرتبها ينظر
الإنسان فيها ويستنبط الحكم منهما بعقله.
(2) أي الحلل الواقع من جهة الصورة.
(3) أي القياس لو احتاج إلى الجزء الصوري فإما أن تحتاج إلى الجزء الصوري الخارج من
نفس هذا القياس فيلزم التسلسل إذ ذلك الجزء الصوري الخارج يكون أيضا في ضمن قياس محتاج
إلى جزء صوري آخر وهكذا وإما أن يحتاج إلى الجزء الصوري في نفس هذا القياس فهو احتياج
الشئ إلى نفسه واشتراطه بها.
259
الشئ لا يطلبه والنظر نوع من الطلب.
قال: ولوجوب ما يتوقف عليه العقليان وانتفاء ضد المطلوب على تقدير
ثبوته كان التكليف به عقليا.
أقول: اختلف الناس في وجوب النظر هل هو عقلي أو سمعي فذهبت
المعتزلة إلى الأول والأشاعرة إلى الثاني أما المعتزلة فاستدلوا على وجوب النظر
عقلا بأن معرفة الله تعالى واجبة مطلقا ولا تتم إلا بالنظر وما لا يتم الواجب
المطلق إلا به فهو واجب فهيهنا ثلاث مقدمات (إحديها) أن معرفة الله تعالى
واجبة مطلقا واستدلوا على ذلك بوجهين (الأول) أن معرفة الله تعالى دافعة
للخوف الحاصل من الاختلاف وغيره ودفع الخوف واجب عقلا (الثاني) أن
شكر الله تعالى واجب لأن نعمه على العبد كثيرة والمقدمتان ضروريتان
والشكر لا يتم إلا بالمعرفة ضرورة (الثانية) أن معرفة الله تعالى لا تتم إلى بالنظر
وذلك قريب من الضرورة إذ المعرفة ليست ضرورية قطعا فهي كسبية ولا
كاسب سوى النظر إذ التقليد يستند إليه وتصفية الخاطر إن انفكت من ترتيب
المقدمات لم يحصل منها علم بالضرورة (الثالثة) أن ما لا يتم الواجب المطلق
إلا به فهو واجب وإلا لخرج الواجب المطلق عن كونه واجبا أو لزم تكليف
ما لا يطاق لأن الشرط إذا لم يكن واجبا جاز تركه فحينئذ أما أن يجب على
المكلف المشروط أولا والثاني يلزم منه خروجه عن كونه واجبا مطلقا
والأول يلزم منه تكليف ما لا يطاق إذ وجوب المشروط حال عدم الشرط
إيجاب لغير المقدور وهو محال فثبت أن وجوب النظر عقلي ولا يجب سمعا خاصة
وإلا لم يجب والتالي باطل فالمقدم مثله بيان الشرطية إن النظر إذا لم يجب
إلا بالسمع لزم إقحام الأنبياء لأن النبي إذا جاء إلى المكلف وأمره باتباعه لم
يجب على المكلف الامتثال حق يعلم صدقه ولا يعلم صدقه إلا بالنظر فإذا امتنع
المكلف من النظر حتى يعرف وجوبه عليه لم يجز استناد الوجوب إلى النبي

260
لعدم العلم بصدقه حينئذ ولا وجوب عقلي فينتفي الوجوب على تقدير الوجوب
السمعي (إذا عرفت هذا) فنقول قوله ولوجوب ما يتوقف عليه العقليان أشار
بلفظة ما إلى المعرفة والعقليان أشار به إلى وجوب الشكر ووجوب دفع الخوف
عن النفس وقوله وانتفاء ضد المطلوب على تقدير ثبوته يشير به إلى انتفاء
الوجوب السمعي الذي هو ضد المطلوب لأن المطلوب هو الوجوب العقلي وضده
الوجوب السمعي وقوله على تقدير ثبوته يعني لو فرض الوجوب سمعيا لم يكن
واجبا فهذا ما فهمناه من كلامه في هذا الموضع وإما الأشعرية فقد احتجوا
بوجهين (الأول) قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا نفى التعذيب
بدون البعثة فلا يكون النظر واجبا قبلها (الثاني) لو وجب النظر لوجب إما
لفائدة عاجلة والواقع مقابلها (1) أو آجلة وحصولها ممكن (2) بدون النظر
فتوسط النظر عبث وكذا لم يكن الفائدة ثم قالوا ما ألزمتمونا به من الافحام
على تقدير الوجوب السمعي لازم لكم على تقدير الوجوب العقلي لأن وجوب
النظر وإن كان عقليا إلا أنه كسبي فالمكلف إذا جائه النبي وأمره باتباعه كان
له أن يمتنع حتى يعرف صدقة ولا يعرفه إلا بالنظر والنظر لا يجب عليه بالضرورة
بل بالنظر فقبل النظر لا يعرف وجوبه فله أن يقول لا أنظر حتى أعرف وجوب
النظر وذلك يستلزم الافحام أيضا والجواب عن الأول التخصيص وهو حمل نفي
التعذيب المتوقف على الرسالة على ترك التكليف السمعي أو يأول الرسول



(1) أي مقابل العاجلة يعني أن الإنسان إذا اعتقد وحصل له اليقين امتنع عن المحرمات
ولم يمتنع عن المحرمات بخلاف ما لم يكن له يقين بالآخرة تمتع بأكثر المحرمات إذ الإنسان بسبب
النظر ومعرفته بالله يستنكف عن كثير من اللذات الدنيوية التي لولا المعرفة لتمتع بها.
(2) بأن يثيب الله عباده في الآخرة ابتداء من دون أن يعملوا بالواجبات ويتركوا المحرمات
أقول هذه الحكمة فلا يقع من الحكيم نعم إن لله تعالى فضلا وزيادة كثيرة على أجور العباد التي
جعل لهم جزاء من الحكيم تعالى.
261
بالعقل جمعا بين الأدلة وعن الثاني أن الفائدة عاجلة وهي زوال الخوف وآجلة
وهي نيل الثواب بالمعرفة الذي لا يمكن الابتداء به في الحكمة وعن الثالث أن
وجوب النظر وأن كان نظريا إلا أنه فطري القياس فكان الالزام عائدا على
الأشاعرة دون المعتزلة.
قال: وملزوم العلم دليل والظن أمارة.
أقول: لما كان النظر متعلقا بما يستلزم العلم من الاعتقادات أو الظن وجب
البحث عن المتعلق فالمستلزم للعلم يسمى دليلا والمستلزم للظن يسمى أمارة وقد
يقال الدليل على معنى أخص من المذكور وهو الاستدلال بالمعلول على العلة.
قال: وبسائطه عقلية ومركبة لاستحالة الدور.
أقول: بسائط الدليل يعني به مقدماته فإن الدليل لما كان مركبا من
مقدمتين كانت كل واحدة من تينك المقدمتين جزءا بسيطا بالنسبة إلى الدليل
وإن كانت مركبة في نفس الأمر إذا عرفت هذا فالمقدمات قد تكون عقلية
محضة وقد تكون مركبة من عقلي وسمعي ولا يمكن تركبها من سمعيات محضة
وإلا لزم الدور لأن السمعي المحض ليس بحجة إلا بعد معرفة صدق الرسول
وهذه المقدمة إذا استفيدت بالسمع دار بل هي عقلية محضة فإذن إحدى
مقدمات النقليات كلها عقلية والضابط في ذلك أن كل ما يتوقف عليه صدق
الرسول لا يجوز إثباته بالنقل وكل ما يتساوى طرفاه بالنسبة إلى العقل لا يجوز
إثباته بالعقل وما عدا هذين يجوز إثباته بهما.
قال: وقد يفيد اللفظي للقطع.
أقول: قيل إن الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين لتوقفه على أمور كلها
ظنية وهي اللغة والنحو والتصريف وعدم الاشتراك والمجاز والنقل والتخصيص
والإضمار والنسخ والتقديم والتأخير والمعارض العقلي والحق خلاف هذا فإن
كثيرا من الأدلة اللفظية يعلم دلالتها على معانيها قطعا وانتفاء هذه المفاسد عنها.

262
قال: ويجب تأويله عند التعارض.
أقول: إذا تعارض دليلان نقليان أو دليل عقلي ونقلي وجب تأويل النقل
أما مع تعارض النقلين فظاهر لامتناع تناقض الأدلة وأما مع تعارض العقلي
والنقلي فكذلك أيضا وإنما خصصنا النقلي بالتأويل لامتناع العمل بهما والقائمهما
والعمل بالنقلي وإبطال العقلي لأن العقلي أصل للنقلي فلو أبطلنا الأصل لزم
إبطال الفرع أيضا فوجب العدول إلى تأويل النقلي وإبقاء الدليل العقلي
على مقتضاه.
قال: وهو قياس وقسيماه.
أقول: الضمير في وهو عائد إلى الدليل مطلقا واعلم أن الدليل ينقسم إلى
ثلاثة أقسام قياس واستقراء وتمثيل وإلى الأخيرين أشار بقوله وقسيماه وذلك لأن
الاستدلال إما أن يكون بالعام على الخاص أو بالعكس أو بأحد المتساويين
المندرجين تحت عام شامل لهما على الآخر (1) فالأول هو أجل الأدلة وأشرفها
لإفادة اليقين وهو المسمى بالقياس أخذا من المحاذاة كأن القايس يطلب محاذاة
النتيجة للمقدمتين في العلم والثاني الاستقراء أخذا من قصد القرى قرية فقرية
كأن المستقري يتبع الجزئيات والثالث التمثيل.
قال: فالقياس اقتراني واستثنائي.
أقول: القياس إما أن يكون المطلوب أو نقيضه مذكورا فيه بالفعل
أو بالقوة والأول يسمى الاستثنائي والثاني الاقتراني مثال الأول إن كان هذا
إنسانا فهو حيوان لكنه إنسان ينتج أنه حيوان فالنتيجة مذكورة بالفعل (2)
أو نقول لكنه ليس بحيوان ينتج أنه ليس بانسان فالنقيض مذكور في القياس



(1) مثل النبيذ حرام لأن الخمر حرام.
(2) ومثال الاشتمال على نقيض النتيجة إن كان هذا حيوانا فهو متحرك لكنه ليس بحيوان
فليس بمتحرك.
263
بالفعل ومثال الثاني كل إنسان حيوان وكل حيوان جسم ينتج كل إنسان جسم
وهو مذكور في القياس بالقوة.
قال: فالأول باعتبار الصورة القريبة أربعة والبعيدة اثنان (1)
أقول: الذي فهمناه من هذا الكلام أن القياس الاقتراني له اعتباران
(أحدهما) بحسب مادته أعني مقدماته (والثاني) بحسب صورته أعني الهيئة
والترتيب اللاحقين به العارضين لمجموع المقدمات وهو ما يسمى باعتباره شكلا
وهو بهذا الاعتبار على أربعة أقسام كل قسم سموه شكلا لأن الحد الأوسط إن كان
محمولا في الصغرى وموضوعا في الكبرى فهو الشكل الأول كقولنا كل (ج ب)
وكل (ب ا) وإن كان محمولا فيهما فهو (الثاني) كقولنا (2) كل (ج ب)
ولا شئ من (ا ب) وإن كان موضوعا فيهما فهو (الثالث) كقولنا (3) كل
(ج ب) وكل (ج ا) وإن كان موضوعا في الصغرى ومحمولا في الكبرى فهو
(الرابع) كقولنا (4) كل (ج ب) وكل (د ج) وهذه القسمة باعتبار الصورة
القريبة وأما بالنظر إلى المادة فله اعتباران أيضا أحدهما باعتبار صورة كل
مقدمة والثاني باعتبار مادتها فبالاعتبار الأول وهو اعتباره بالنظر إلى الصورة
البعيدة ينقسم إلى قسمين حملي وشرطي فالحملي كما قلنا والشرطي كقولنا (5)
كلما كان (ا ب فج د) وكلما كان (ج د ف ه‍ ز) ينتج كلما كان (ا ب ف ه‍ ز)
أو نقول كلما كان (أ ب) (فج د) وليس البتة إذا كان (ه‍ ز فج د) أو نقول
كلما كان (أب فج د) وكلما كان (أف ب ف ه‍ ز) أو نقول كلما كان (أ ب فج د)



(1) أي صورة كل واحدة واحدة من المقدمتين بلحاظها منفردة.
2) كل إنسان حيوان ولا شئ من الحجر بحيوان.
(3) كل إنسان ناطق وكل إنسان ضاحك فكل ناطق ضاحك.
(4) كل إنسان ناطق وكل ضاحك إنسان فكل ناطق ضاحك.
(5) كلما كانت الشمس طالعة فالغرفة مضيئة.
264
وكلما كان (ه‍ ز ف ا ب).
قال: وباعتبار المادة القريبة خمسة والبعيدة أربعة.
أقول: مقدمات القياس هي المادة البعيدة له باعتبار مقدمة مقدمة ومجموعها
لا باعتبار صورة خاصة وشكل معين هي المادة القريبة ومقدمات القياس أربعة
مسلمات ومظنونات ومشبهات ومخيلات هذا باعتبار المادة البعيدة وأما باعتبار
المادة القريبة فأقسام القياس خمسة البرهان والجدل والخطابة والسفسطة والشعر.
قال: والثاني متصل وناتجه أمران وكذا غير الحقيقي من المنفصل
وفيه ضعفه.
أقول: الثاني هو الاستثنائي وهو ضربان (الأول) أن تكون مقدمة الشرطية
متصلة وينتج منه قسمان (أحدهما) استثناء عين المقدم لعين التالي (والثاني) استثناء
نقيض التالي لنقيض المقدم (والثاني) أن تكون منفصلة وهو قسمان أيضا (أحدهما)
أن يكون غير حقيقية (والثاني) أن يكون حقيقية فغير الحقيقية ضربان مانعة الجمع
وينتج قسمان منها استثناء عين المقدم لنقيض التالي واستثناء عين التالي لنقيض المقدم
ومانعة الخلو وينتج قسمان منها أيضا استثناء نقيض المقدم لعين التالي واستثناء
نقيض التالي لعين المقدم وأما الحقيقية فإنها تنتج أربع نتائج من استثناء عين
المقدم لنقيض التالي وبالعكس ومن استثناء عين التالي لنقيض المقدم وبالعكس.
قال: والأخيران يفيدان الظن وتفصيل هذه الأشياء مذكورة في غير
هذا الفن.
أقول: يريد بالآخرين الاستقراء والتمثيل وهما يفيدان الظن لا العلم (واعلم)
أن تفصيل هذه الأشياء وبيان شرائطها مذكور في علم المنطق وإنما انساق
الكلام إليه هيهنا.
قال: والتعقل والتجرد متلازمان لاستلزام انقسام الحال فإن تشابهت
عرض الوضع للمجرد وإلا تركب مما لا يتناهى.

265
أقول: هذه المسألة وما بعدها من تتمة مباحث التعقل وقد ادعى هيهنا
أن التعقل والتجرد متلازمان يعني أن كل عاقل مجرد (1) وبالعكس (أما
الأول) فاستدل عليه بعد ما تقدم (2) بأن التعقل حال في ذات العاقل فذلك
المحل إما أن ينقسم أو لا والثاني هو المراد والأول باطل لأن انقسام المحل
يستدعي انقسام الحال إذا الحال إما أنه يحل بتمامه في جزئي المحل أو في أحد
جزئيه أو لا يحل في شئ منه والأول يلزم منه الانقسام إن كان الحال في أحد
الجزئين غير الحال في الآخر أو تعدد الواحد إن اتحدا (3) والثاني يفيد المطلوب
والثالث خلاف الفرض فإذا ثبت ذلك فالجزءان إما أن يتشابها أو يختلفا
والأول يستلزم وجود المقدار لما فرض مجردا والثاني يستلزم وجود ما لا يتناهى
من الأجزاء للصورة العقلية وذلك بحسب ما في المحل من الانقسامات الممكنة.
قال: ولاستلزام التجرد صحة المعقولية المستلزمة لإمكان المصاحبة.
أقول: هذا دليل الحكم الثاني وهو أن كل مجرد عاقل وتقريره أن كل مجرد
فإنه يصح أن يكون معقولا بالضرورة إذا العائق عن التعقل إنما هو المادة لا غير وكلما
صح أن يكون معقولا (4) وحده صح أن يكون معقولا مع غيره وهو قطعي فإذن كل



(1) يعني أن كل عاقل مجرد وكل مجرد عاقل والتعقل عبارة عن إدراك شئ لم يعرضه العوارض
الجزئية التي تلحقه بسبب المادة في الوجود الخارجي من الكم والكيف والأين والوضع إلى غير
ذلك والتجرد عبارة عن كون الشئ بحيث لا يكون مادة ولا مقارنا للمادة مقارنة
الصور والأعراض. أما أن كل عاقل مجرد فلأن التعقل إنما يكون بارتسام صورة المعقول في
العاقل وكل ما هو محل لصورة المعقول فهو مجرد لأنه لو كان ماديا لكان منقسما ويلزم من
انقسامه انقسام الحال.
(2) في الفصل الرابع من مسألة الخامسة من تجرد النفس الناطقة.
(3) إن كان الحال في أحد الجزئين عين الحال في الجزء الأخير.
(4) فإذن يصح أن يقارن معقول معقولا أي يصح أن يقارن مجرد مجردا في العقل إذ كل معقول
مجرد فإذا ثبت صحة هذه المقارنة أي إمكانها فيقول إمكان هذه المقارنة لا يتوقف على وجودها
إذ إمكان الشئ متقدم على وجوده.
266
مجرد فإنه يصح أن يقارن غيره فنقول هذه الصحة إما أن تتوقف على ثبوت
مجرد في العقل أو لا والأول محال لأن الثبوت في العقل نوع من المقارنة فيلزم
توقف إمكان الشئ على وقوعه وهو باطل بالضرورة والثاني هو المطلوب
وهذا الدليل عندي في غاية الضعف لأن توقف إمكان مقارنة المجرد المعقول
للصورة المعقولة على ثبوت مقارنة المجرد للعقل لا يقتضي توقف الإمكان على
الوقوع إذ الإمكان هنا عايد إلى مقارنة المعقول للمعقول وهي غير والثبوت عايد
إلى مقارنة المعقول للعاقل وهي غير فلا يلزم ما ذكر من المحال.
المسألة الثالثة والعشرون: في أحكام القدرة
قال: ومنها القدرة وتفارق الطبيعة والمزاج بمقارنة الشعور والمغايرة
في التابع.
أقول: لما فرغ من البحث عن العلم شرع في البحث عن القدرة وأشار
بقوله ومنها أي ومن الكيفيات النفسانية لأنها صفة قائمة بذوات الأنفس (واعلم)
أن الجسم من حيث هو غير مؤثر وإلا لتساوت الأجسام في ذلك وإنما يؤثر
باعتبار صفة قائمة به فالصفة المؤثرة إما أن تؤثر مع الشعور أو بدونه وعلى كلا
التقديرين إما أن يتشابه التأثير أو يختلف فلأقسام أربعة أحدها الصفة المقترنة
بالشعور المتفقة في التأثير وهي القوة الفلكية الثاني المقترنة بالشعور المختلفة في
التأثير وهي القوة الحيوانية أعني القدرة التي يأتي البحث عن أحكامها (الثالث)
الصفة المؤثرة غير المقترنة بالشعور المتشابهة في التأثير وهي القوة الطبيعية (الرابع)
غير المقترنة بالشعور المختلفة في التأثير وتسمى النفس النباتية إذا عرفت هذا
فنقول القدرة مغايرة للطبيعة وللمزاج أما الأول فلوجوب اقترانها بالشعور
بخلاف الطبيعة وإما الثاني فلأن المزاج كيفية متوسطة بين الحرارة والبرودة
فيكون من جنسهما فتكون تابعة أعني تأثيره من جنس تأثير هما وإما القدرة فإن
تأثيرها مضاد لتأثيرهما وإلى هذا أشار بقوله والمغايرة في التابع.

267
قال: ومصححة للفعل بالنسبة (1).
أقول: القدرة صفة تقتضي صحة الفعل من الفاعل لا إيجابه فإن القادر
هو الذي يصح منه الفعل والترك معا فلو اقتضت الايجاب لزم المحال ويعني
بقوله بالنسبة اعتبار نسبة الفعل إلى الفاعل وذلك لأن الفعل صحيح في نفسه
لا يجوز أن يكون للقدرة مدخل في صحته الذاتية لأن الإمكان للممكن واجب
إما نسبته إلى الفاعل فجاز أن تكون معللة هذا هو الذي فهمناه من قوله بالنسبة.
قال: وتعلقها بالطرفين (2)
أقول: هذا هو المشهور من ذهب الحكماء والمعتزلة وهي أن القدرة متعلقة
بالضدين وقالت الأشاعرة إنها تتعلق بطرف واحد وهو خطأ لوقوع الفرق بين
القادر والموجب.
قال: وتقدم الفعل لتكليف الكافر وللتنافي ولزوم أحد محالين لولاه.
أقول: هذا مذهب الحكماء والمعتزلة وقالت الأشاعرة إنها مقارنة للفعل
وللضرورة قاضية ببطلان هذا فإن القاعدة يمكنه القيام قطعا والأشاعرة بنوا
مقالتهم على أصل لهم سيأتي بطلانه وهو أن العرض لا يبقى ثم إن المعتزلة
استدلوا على مقالتهم بوجوه ثلاثة (الأول) أن القدرة لو لم تتقدم الفعل قبح
تكليف الكافر والتالي باطل بالإجماع فالمقدم مثله وبيان الملازمة هو أن تكليف
ما لا يطاق قبيح فلو لم يكن الكافر متمكنا من الإيمان حال كفره لزم تكليف
ما لا يطاق (الثاني) لو لم تكن القدرة متقدمة على الفعل لزم استغناء الفعل
عن القدرة مع فرض الحاجة إليها وهو تناف ظاهر وبيان الملازمة أن



(1) فإن القادر هو الذي يصح منه الفعل والترك وهذا التصحيح بالنسبة إلى الفاعل وأما صحة
الفعل الذاتية أي إمكانه في نفسه فإنها لا تحتاج إلى الفاعل كما لا يخفى وإنما قيدنا بقولنا بالنسبة
إلى الفاعل لأن الفعل في نفسه ممكن صحيح ولم يجعله القدرة ممكنا صحيحا وإلا يلزم القلب.
(2) أي الفعل والترك.
268
الحاجة إلى القدرة إنما هي لإخراج الفعل من العدم إلى الوجود وحالة
الاخراج (1) يستغني عن القدرة وقبله لا قدرة فلا حاجة إليها مع أن الفعل إنما
خرج بالقدرة وإلى هذا أشار المصنف (ره) بقوله وللتنافي (الثالث) لو لم
تكن القدرة متقدمة لزم إما حدوث قدرة الله تعالى أو قدم الفعل والقسمان
محالان فالمقدم باطل وإلى هذا أشار بقوله ولزوم أحد محالين لولاه أي لولا
التقدم هذا ما خطر لنا في تفسير هذا الكلام ويمكن أن يكون قوله وللتنافي
إشارة إلى دليل مغاير للدليل الثاني الذي ذكرناه وهو أن القدرة لو قارنت الفعل
وقد بينا أن القدرة تتعلق بالضدين فيلزم (2) حصول الضدين معا وهو تناف
ويكون قوله ولزوم أحد محالين من تتمة هذا الكلام وهو أن نقول لو كانت
القدرة مقارنة لزم اجتماع الضدين للقدرة عليهما وهو تناف فيلزم أحد محالين
إما اجتماعهما مع تضادهما وتنافيهما أو إيجاب أحدهما فيتقدم على الآخر مع
فرض المقارنة.
قال: ولا يتحد وقوع المقدرة مع تعدد القادر. (3)
أقول: لا يمكن وقوع مقدور واحد بقادرين وهو مما قد اختلف فيه والدليل
عليه أنه لو وقع بهما لزم استغناؤه بكل واحد منهما عن كل واحد منهما حال
حاجته إليه وهو باطل بالضرورة ويمكن تعلق القادرين بمقدور واحد بأن يكون
ذلك للشئ مقدورا لكل واحد منهما وإن لم يقع إلا بأحدهما ولهذا قال



(1) لأن القدرة شرط صدور الفعل وشرط المصدور لا يمكن أن يكون مع الصادر زمانا.
(2) لأن القدرة إذا حصلت حين الفعل فقط لتعلقت به فقط ولو فرضنا تعلقها بالترك لزم
اجتماع الضدين أي الفعل والترك.
(3) بأن يكون مقدور واحد لشخص معلولا لقادرين كل واحد منهما مستقل بالتأثير وقد
تقدم بيانه وحاصله أن يستلزم استغناؤه عن كل واحد منهما في ظرف احتياجه إلى كل واحد
منهما نعم يمكن أن يكون لشئ واحد مقدورا لقادرين.
269
ولا يتحد وقوع المقدور ولم يقل ولا يتحد المقدور.
قال: ولا استبعاد في تماثلها (1)
أقول: ذهب قوم من المعتزلة إلى أن القدرة مختلفة وبنوه على أصل لهم
وهو أنه لا تجتمع قدرتان على مقدور واحد وإلا لأمكن اتصاف ذاتين بهما
فيجتمع على المقدور الواحد قادران وهو محال وإذا ثبت امتناع اجتماع قدرتين على
مقدور واحد ثبت اختلاف القدرة لأن التماثل في المتعلق يستلزم اتحاد المتعلق
ونحن لما جوزنا تعلق القادرين بمقدور واحد اندفع هذا الدليل (أي القدرة)
وحينئذ جاوز وقوع التماثل (أي المقدور) فيها كغيرها من الأعراض.
قال: وتقابل العجز تقابل العدم والملكة.
أقول: العجز عند الأوائل وجمهور المعتزلة عدم القدرة عما من شأنه أن
يكون قادرا فهو عدم ملكة القدرة وذهب الأشعرية إلى أنه معنى يضاد القدرة
لأنه ليس جعل العجز عدما للقدرة أولى من العكس وهو خطأ فإنه (2) لا يلزم من
عدم الأولوية عندهم عدمها في نفس الأمر ولا من عدمها في نفس الأمر ثبوت
العجز معنى.
قال: ويغاير الخلق لتضاد أحكامهما والفعل
أقول: الخلق ملكة نفسانية يصدر بها عن النفس أفعال بسهولة من غير
سابقة فكر وروية وهو مغاير للقدرة لتضاد أحكامهما لأن القدرة تقتضي تساوي
نسبتها إلى الضدين والخلق ليس كذلك والخلق أيضا يغاير الفعل لانة (3) قد



(1) أي في تماثل أفراد القدرة لشخص واحد أو لشخصين والشارح العلامة فرض الكلام في
شخصين وهو حسن.
(2) حاصله أن عدم أولوية كون العجز معنى ثبوتيا في الظاهر أو في الواقع لا يستلزم كونه
ثبوتيا كما هو مدعاهم بل أولويته ذلك وهي غير معلومة بل معلومة العدم.
(3) أي بخلاف الخلق وكذا سائر الملكات؟ والحالات النفسانية فإنها بنفسها خارجة عن قدرة
العبد واختياره فلا يتعلق بها التكليف.
270
يكون تكليفيا.
المسألة الرابعة والعشرون: في الألم واللذة
قال: ومنها الألم واللذة وهما نوعان من الادراك تخصصا بإضافة
تختلف بالقياس.
أقول: من الكيفيات النفسانية الألم واللذة والمرجع بهما إلى الادراك فهما
نوعان منه تخصصا بإضافة تختلف بالقياس لأن اللذة عبارة عن إدراك الملائم
والألم إدراك المنافي فهما نوعان من الادراك يخصص كل واحد منهما بإضافته
إلى الملائمة والمنافرة وهما أمران يختلفان بالقياس إلى الأشخاص إذ قد يكون
الشئ ملائما لشخص ومنافرا للآخر.
قال: وليست اللذة خروجا عن الحالة غير الطبيعية لا غير.
أقول: نقل عن محمد بن زكريا الطبيب (1) إن اللذة هي الخروج عن الحالة
الطبيعية لأنها إنما تحصل بانفعال يعرض للحاسة يقتضيه تبدل حال وهو غير جيد
فإنه (2) أخذ ما بالعرض مكان ما بالذات ولهذا تلتذ بصورة تشاهدها من غير
سابقة إبصار لها حتى لا يجعل اللذة عبارة عن الخلاص عن ألم الشوق.
قال: وقد يستند الألم إلى التفرق.



(1) ذهب محمد بن زكريا الطبيب الرازي الطهراني إلى أن اللذة ليست شيئا مستقلا بل هي
عبارة عن دفع الألم فإن الجائع يلتذ بالطعام وليس ذلك إلا لدفعه ألم الجوع وكذا من اجتمع
في مثانته الألم ثم خرج إلى غير ذلك ولكن الانحصار في ذلك باطل لبداهة أنه ليست اللذة خروجا
عن الحالة غير الطبيعية إلى الحالة الطبيعية لا غير بل هي على قسمين الأول دفع الألم الثاني إدراك
الملائم بدون سبق ألم كما إنا نلتذ بالمنظر الحسن وإن لم نكن قبل ذلك متألما لفقده لعدم سابقة
إبصار أو سماع أو تصور.
(2) قال الحكماء الألم يعني الحس منه سببه الذاتي تفرق الاتصال ولو كان تفريق الات‍؟
سببا ذاتيا للألم لما تخلف الألم عنه بل تفرق الاتصال بسوء المزاج.
271
أقول: للألم سببان (أحدهما) تفرق الاتصال فإن مقطوع اليد يحس بالألم
بسبب تفرق اتصالها عن البدن وقد نازع في ذلك بعض المتأخرين بأن التفرق
عدمي فلا يكون علة للوجودي وفيه نظر لأن التفرق ليس عدما محضا فجاز
التعليل به على أن التفرق إنما كان علة بالعرض فإن العلة بالذات إنما هي سوء
المزاج (الثاني) سوء المزاج المختلف لأن الحمى توجب الألم ولا تفرق هناك وإنما
قلنا المختلف لأن سوء المزاج المتفق لا يقتضي التألم.
قال: وكل منهما حسي وعقلي وهو أقوى.
أقول: يريد قسمة الألم واللذة بالنسبة إلى الحس والعقل وذلك لأن جماعة
أنكروا العقلي منهما والحق خلافه فإنا نلتذ بالمعارف وهي لذات عقلية لا تعلق
للحس بها ونتألم بفقدانها بل هذه اللذة أقوى من اللذة الحسية ولهذا كثيرا ما
نترك اللذة الحسية لأجل اللذة الوهمية لا العقلية فكيف العقلية وأيضا فإن الحس
إنما يدرك ظواهر الأجسام ولا تعلق له بالأمور الكلية والعقل يدرك باطن
الشئ ويميز بين الذاتيات والعوارض ويفرق بين الجنس والفصل فيكون إدراكه
أتم فتكون اللذة فيه أقوى.
المسألة الخامسة والعشرون: في الإرادة والكراهة
قال: ومنها الإرادة والكراهة وهما نوعان من العلم.
أقول: من الكيفيات النفسانية الإرادة والكراهة وهما نوعان من العلم بالمعنى
الأعم وذلك لأن الإرادة عبارة عن علم الحي أو اعتقاده أو ظنه بما في الفعل من
مصلحة والكراهة علمه أو ظنه أو اعتقاده بما فيه من المفسدة - هذا مذهب
جماعة - وقال آخرون إن الإرادة والكراهة زائدتان على هذا العلم مترتبتان عليه
لأنا نجد من أنفسنا ميلا إلى الشئ أو عنه مترتبا على هذا العلم وهو يفارق الشهوة
فإن المريض يريد شرب الدواء ولا يشتهيه.

272
قال: وأحدهما (1) لازم مع التقابل (2).
أقول: الذي فهمناه من هذا الكلام أمران: أحدهما إن إرادة الشئ تستلزم
كراهة ضده فالكراهة للضد أحدهما يعني أحد الأمرين أما الإرادة أو الكراهة
والكراهة لازم الإرادة للشئ مع تقابل المتعلقين أعني الشئ والضد وهذا حكم قد
اختلف فيه فذهب الأكثر إليه وذهب قوم (3) إلى أن إرادة الشئ نفس كراهة
الضد وهو غلط من باب أخذ ما بالعرض مكان ما بالذات ويحتمل أن يكون معنى
قوله وأحدهما لازم مع التقابل إن أحدهما لازم للعلم قطعا إذ المعلوم أما أن
يشتمل فعله على نوع من المصلحة أو على نوع من المفسدة فأحد الأمرين لازم لكن
لا يلزم أحدهما بعينه للتقابل بينهما بل اللازم واحد لا بعينه.
قال: ويتغاير اعتبارهما بالنسبة إلى الفاعل وغيره.
أقول: الذي يظهر لنا من هذا الكلام إن الإرادة والكراهة يتغاير اعتبارهما
بالنسبة إلى الفاعل بالإرادة وغيره وذلك لأن الإرادة إن كانت (4) لنفس فعل



(1) أي كل من الإرادة والكراهة تستلزم الأخرى مع تقابل تعلقهما بأن يتعلق الإرادة بالفعل
والكراهة بالترك.
(2) قوله (ره) وأحدهما لازم فإن الشخص إذا تصور الشئ فإما أن يريده وإما أن يكرهه
مع التقابل فلا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما ويمكن أن يريد بذلك أن كل واحد من الإرادة
والكراهة لازم للآخر فمريد الشئ كاره لضده وكاره الشئ مريد لضده فأحدهما يلزم الآخر لكن
مع تعلقهما بالمتقابلين كما قالوا من بحث الامتناع والوجوب أن امتناع الوجود يلازم وجوب العدم.
(3) بيان ذلك أنهم قالوا إن إرادة الشئ نفس كراهة تركه وهو غلط من باب أخذ لازم
الشئ مكان نفسه.
(4) فاعلم أن العلم إما أن يتعلق بالمصلحة أو المفسدة الواقعة في الفعل باعتبار صدوره عن
نفس العالم المعتقد بتلك المصلحة أو المفسدة أو باعتبار صدوره عن غيره فيقال بالاعتبار الأول
الإرادة والكراهة التكوينيتان وبالاعتبار الثاني التشريعيتان.
273
الفاعل من نفسه فهي عبارة عن صفة تقتضي تخصيصه بالإيجاد دون غيره مما عداه
من الأفعال في وقت خاص دون غيره من سائر الأوقات وإن كانت لفعل الغير
فإنها لا تؤخذ بهذا المعنى.
قال: وقد تتعلقان بذاتيهما (1) بخلاف الشهوة والنفرة.
أقول: الإرادة قد تراد والكراهة قد تكره وهذا حكم ظاهر لكن الإرادة
المتعلقة بالإرادة ليست هي الإرادة المتعلقة بالفعل لأن اختلاف المتعلقات يقتضي
تغاير المتعلقات أما الشهوة والنفرة فلا يصح تعلقهما بذاتيهما فالشهوة لا تشتهي
وكذلك النفرة لا ينفر عنها لأن الشهوة والنفرة إنما تتعلقان بالمدرك لا بمعنى أنه
يجب أن يكون موجودا فقد تتعلق الشهوة والنفرة بالمعدوم وهما غير مدركين.
قال: فهذه الكيفيات تفتقر إلى الحياة وهي صفة تقتضي الحس والحركة
مشروطة باعتدال المزاج عندنا.
أقول: هذه الكيفيات النفسانية التي ذكرها مشروطة بالحياة وهو ظاهر
ثم فسر الحياة بأنها صفة تقتضي الحس والحركة وزادها إيضاحا بقوله مشروطة
باعتدال المزاج ثم قيد ذلك بقوله عندنا يخرج عنه حياة واجب الوجود فإنها غير
مشروطة باعتدال المزاج ولا تقتضي الحس والحركة.



(1) قول المصنف وقد تتعلقان بذاتيهما أي تتعلق الإرادة بالإرادة كما يعلم الإنسان بالمصلحة
في علمه بالمصلحة في شئ وبالكراهة كما يعلم بالمصلحة من علمه بالمفسدة في شئ وتتعلق الكراهة
بالكراهة كما يعلم بالمفسدة في علمه بالمفسدة في شئ وبالإرادة كما يعلم بالمفسدة في علمه بالمصلحة
في شئ، قول الشارح لكن الإرادة جواب عن سؤال مقدر هو أن الإرادة لو تعلقت بالإرادة
أو أن الكراهة لو تعلقت بالكراهة لزم أن يكون الشئ مرادا أو مكروها مرتين.
قوله وقد تتعلقان بذاتيهما إذ قد يريد الإنسان أن يريد الشئ ويكره أن يكره الشئ ويكون
التغاير حينئذ بين الإرادتين والكراهتين إذ الإرادة الأولى متعلقة بالإرادة الثانية والثانية متعلقة
بالمراد بخلاف الشهوة والنفرة، فإن الشهوة وهي توقان النفس إلى الأمور المستلذة لا يعلق أن
تتعلق بتوقان آخر.
274
قال: فلا بد من البنية.
أقول: هذه نتيجة ما تقدم من اشتراط الحياة باعتدال المزاج فإن ذلك إنما
يتحقق مع البنية وهذا ظاهر والأشاعرة أنكروا ذلك وجوزوا وجود حياة في
محل غير منقسم بانفراده وهو ظاهر البطلان.
قال: وتفتقر إلى الروح.
أقول: الحياة تفتقر إلى الروح وهي أجسام لطيفة متكونة من بخارية
الاخلاط سارية في العروق تنبعث من القلب وحاجة الحياة إليها ظاهرة.
قال: وتقابل الموت تقابل العدم والملكة.
أقول: الموت هو عدم الحياة عن محل وجدت فيه فهو مقابل للحياة مقابلة
العدم والملكة وذهب أبو علي الجبائي إلى أنه معنى وجودي يضاد الحياة لقوله
تعالى الذي خلق الموت والحياة والخلق يستدعي الايجاد وهو ضعيف لأن الخلق
هو التقدير وذلك لا يستدعي كون المقدور وجوديا.
المسألة السادسة والعشرون: في باقي الكيفيات النفسانية
قال: ومن الكيفيات النفسانية الصحة والمرض.
أقول: الصحة والمرض من الكيفيات النفسانية عند الشيخ أما الصحة فقد
حدها في الشفاء بأنها ملكة في الجسم الحيواني يصدر عنها لأجلها أفعاله الطبيعية
وغيرها إلى المجرى الطبيعي غير مألوفة والمرض حالة أو ملكة مقابلة لتلك وهنا
إشكال فإن المتضادين يدخلان تحت جنس واحد فالصحة إن دخلت في الحال أو
الملكة فكذا المرض لكن أجناس المرض سوء المزاج وسوء التركيب وتفرق
الاتصال فسوء المزاج إن كان هو الحرارة الزائدة مثلا فمن الكيفيات الفعلية لا
من الحال والملكة وإن كان هو اتصاف البدن بها فمن مقولة أن ينفعل وسوء

275
التركيب عبارة عن مقدار أو عدد أو وضع أو شكل أو انسداد (1) مجرى
يخل بالأفعال ولا شئ من هذه بحال ولا ملكة وتفرق الاتصال عدمي لا يدخل
تحت مقولة.
قال: والفرح والغم.
أقول: الفرح أحد الكيفيات النفسانية وكذا الغم والسبب المعد في الفرح
كون حامله الذي هو الروح على أفضل أحواله في الكم والكيف والفاعل تخيل
الكمال وأضداد هذه أسباب للغم.
قال: والغضب والحزن والهم والخجل والحقد.
أقول: هذه أيضا من الأعراض النفسانية واعلم أن جميع العوارض النفسانية
تستلزم حركة الروح أما إلى داخل أو خارج والأول إن كانت كثيرة فكما في
الفزع أو قليلة فكما في الحزن والثاني أما دفعة فكما في الغضب أو يسيرا يسيرا
فكما في اللذة وقد يتفق أن يتحرك إلى جهتين دفعة واحدة إذا كان العارض
يلزمه عارضان كالهم فإنه يوجد معه غضب وحزن فتختلف الحركتان وكالخجل
الذي ينقبض الروح معه أولا إلى الباطن ثم يخطر بالبال انتفاء الضرر فينبسط
ثانيا ويعتبر في الحقد غضب ثابت وعدم سهولة الانتقام وعدم صعوبته.
المسألة السابعة والعشرون: في الكيفيات المختصة بالكميات
قال: والمختصة بالكمية أما المتصلة كالاستقامة والاستدارة والانحناء
والتقعير والتقبيب والشكل والخلقة أو المنفصلة كالزوجية والفردية.



(1) بيانه أما المقدار كتورم العضو وكبر الرأس وكبر البطن بسبب الاستسقاء وأما العدد
كغدد في العضو وثالول يظهر غالبا على اليد والقدم، والمراد من الوضع كالحول وسقوط المعدة
والمراد من الشكل كالقروح الواقعة على الجلد أو في باطن البدن وانسداد مجرى كحبس البول
وهذا داخل تحت مقولة الابن أو الانفعال.
276
أقول: لما فرغ من البحث عن الكيفيات النفسانية شرع في الكيفيات
المختصة بالكميات ونعني بها الكيفية التي تعرض للكمية أولا وبالذات وللجسم
ثانيا وبالعرض واعلم أن الكم على قسمين متصل ومنفصل أما المتصل فقد يعرض
له الكيف مثل الاستقامة والاستدارة والانحناء والتقعير والتقبيب والشكل
والخلقة وأما المنفصل قد يعرض له أيضا أنواع أخر من الكيف كالزوجية
والفردية وغيرهما.
قال: فالمستقيم أقصر الخطوط الواصلة بين نقطتين وكما أنه موجود
فكذا الدائرة.
أقول: رسم ارشميدس الخط المستقيم (1) بأنه أقصر خط يصل بين نقطتين
لأن كل نقطتين يمكن أن يوصل بينهما بخطوط غير مستقيمة مختلفة في الطول
والقصر وبخط واحد مستقيم وهو أقصرها (إذا عرفت هذا) فنقول الخط
المستقيم موجود بالضرورة أما الدائرة وهي سطح مستو محيط به خط واحد
في داخله نقطة كل الخطوط المستقيمة الخارجة منها إلى المحيط متساوية فقد
اختلف الناس في وجودها فالذين أثبتوا ما لا ينقسم من ذوات الأوضاع نفوها
والباقون أثبتوها وهو اختيار المصنف لأن الدائرة المحسوسة (2) موجودة فإذا
وصلنا بين المركز المحسوس منها وبين المحيط بخط ثم نقلنا طرف الخط الذي



(1) قوله الخط المستقيم، بيان ذلك: أنه لو فرض نقطتان أمكن إيصالهما بخطوط كثيرة
منحنية ومتكسرة ومستقيمة لكن أقصرها الخط المستقيم كما هو بديهي والمناقش في ذلك كما عن
بعض القدماء وأهل الغرب فعلا في هذا التاريخ قرن العشرين تصادم للبداهة.
(2) فكذا الدائرة وهي على ما عرفوها بسطح مستو يحيط به خط واحد يفرض في داخله
نقطة تسمى المركز وتكون بحيث يتساوى جميع الخطوط المستقيمة الواصلة وبين ذلك الخط
المحيط وبعبارة أخرى فكما لا شك في وجود الخط المستقيم وكما أنه موجود فالدائرة
أيضا موجودة.
277
عند المحيط إلى جزء آخر فإن لم ينطبق عليه فإن كان لزيادة جزء أزلناه وإن
كان لنقصان جزء ملأناه به وإن كان لنقصان أقل من جزء أو لزيادة أقل منه
لزم انقسام الجوهر وإمكان العمل أيضا.
قال: والتضاد منتف (1) عن المستقيم والمستدير فكذا عن عارضيهما.
أقول: إنه ربما توهم بعض الناس إن الخط المستقيم يضاد الخط المستدير
للتنافي بينهما والتحقيق خلاف هذا فإن الضدين يجب اتحاد موضوعهما والموضوع
هنا ليس واحد إذ المستقيم (2) يستحيل أن ينقلب إلى المستدير وبالعكس
وأيضا فإن المستقيم قد يكون وترا لقسي غير متشابهة كثيرة وضد الواحد
واحد لا غير وإذا انتفى التضاد عنهما فكذا عن عارضيهما ويفهم منه أمران
(أحدهما) أن التضاد منتف عن الاستقامة والاستدارة العارضتين للخط
المستقيم والمستدير (والثاني) أن التضاد منتف عن الحركتين والواقعتين على
الخطين المستقيم والمستدير.
قال: والشكل هيئة إحاطة الحد أو الحدود بالجسم ومع انضمام اللون
تحصل الخلقة.
أقول: ذكر القدماء أن الشكل ما أحاطت به حد واحد أو حدود والتحقيق
أنه من باب الكيف وأنه هيئة تعرض للجسم بسبب إحاطة الحد الواحد أو
الحدود به كالكرية والتربيع وهو مغاير للوضع بمعنى المقولة وإذا اعتبر الشكل



(1) وذلك لأن المتضادين لا بد وأن يتواردا على موضوع واحد بعينه والمستقيم والمستدير لا
يتواردان على موضوع واحد لأن موضوع الخط المستدير سطح مستدير وموضوع الخط المستقيم
سطح مستو وإذا اختلف الموضوع انتفى التضاد وكما لا تضاد بينهما كذا لا تضاد بين عارضيهما
أعني الاستقامة والاستدارة لما ذكر في انتفاء التضاد عن معروضيهما.
(2) أي الخط المستقيم يمكن أن يبقى ويعرض عليه الاستدارة كما هو الشأن في توارد
المتضادان.
278
واللون معا حصلت الخلقة.
قال: الثالث المضاف.
أقول: لما فرغ من البحث عن الكيف وأقسامه شرع في المضاف وهو المقولة
الثالثة من المقولات العشر وهذه المقولة مع ما بعدها من المقولات كلها نسبية
وهو قسم متقابل لما تقدم من المقولات وفي هذا القسم مسائل:
المسألة الأولى: في أقسامه
قال: وهو حقيقي ومشهوري.
أقول: المضاف قد يقال لنفس الإضافة أعني العارضة للشئ باعتبار قياسه
إلى غيره كالأبوة والبنوة ويقال له المضاف الحقيقي فإنه لذاته يقتضي الإضافة
وغيره إنما يقتضي الإضافة بواسطته ويقال للذات التي عرضت لها الإضافة
بالفعل كالأب والابن ويسمى المضاف المشهوري وقد يقال للذات نفسها مضاف
مشهوري باعتبار كونها معروضة للإضافة.
المسألة الثانية: في خواصه
قال: ويجب فيه الانعكاس والتكافؤ بالفعل أو بالقوة
أقول: هاتان خاصيتان مطلقتان للمضاف لا يشاركه فيهما غيره (أحديهما)
وجوب الانعكاس فإنه كما أن الأب أب للابن فكذا الابن ابن للأب والمراد
بالانعكاس الحكم بإضافة كل واحد منهما إلى صاحبه من حيث كان مضافا
إليه كما مثلناه فإن لم نراع هذه الحيثية لم يجب الانعكاس كما تقول الأب أب
للإنسان (1) (الثانية) التكافؤ في الوجود بالفعل أو بالقوة والمتقدم مصاحب
للمتأخر ذهنا.
قال: ويعرض للموجودات أجمع.



(1) أي فلا يقال الإنسان للأب لأنه لم ينعكس.
279
أقول: المضاف الحقيقي يعرض لجميع الموجودات كما يقال للواجب تعالى
قادر عالم خالق رازق ويقال لنوع من الجواهر أنه أب وابن وغيرهما ويقال
للخط طويل وقصير وللعدد قليل وكثير واللكيف أسخن وأبرد وللمضاف
كالقريب والبعيد والأقرب والأبعد وللأين أعلى وأسفل وللمتى أقدم وأحدث
وللوضع أشد انتصابا وانحناء وللملك أكسى وأعرى وللفعل أقطع وأصرم
وللانفعال أشد تسخنا وتقطعا.
المسألة الثالثة: في أن الإضافة ليست ثابتة في الأعيان
قال: وثبوته ذهني وإلا تسلسل ولا ينفع تعلق الإضافة.
أقول: اختلف العقلاء هيهنا فذهب قوم إلى أن الإضافة ثابتة في الأعيان
لأن فوقية السماء ليست عدما محضا ولا أمرا ذهنيا غير مطابق وقال آخرون
إنها عدمية في الأعيان ثابتة في الأذهان وهو اختيار المصنف (ره) وأكثر
المحققين والدليل على ذلك وجوه ذكرها المصنف (ره) (أحدها) إن الإضافة لو
كانت ثابتة في الأعيان لزم التسلسل لأن حلولها في المحل إضافة أخرى وحلول
ذلك الحلول ثابت يستدعي محلا وحلولا وذلك يوجب التسلسل (1) وأجاب
الشيخ أبو علي سينا عن هذا (2) بأن قال يجب أن يرجع في حل هذه الشبهة إلى



(1) لا يقال زيد مثلا يحتاج في كونه مضافا إلى عمرو (بالأبوة) إلى الأبوة أما نفس الأبوة
فلا تحتاج في إضافتها إلى زيد إلى إضافة أخرى فزيد مضاف بغيره والأبوة مضافة بذاتها فلا
يتسلسل وربما يمثل له بأن الماهية تحتاج في كونها خارجية إلى الوجود ولكن الوجود لا يحتاج إلى
الوجود فالماهية موجودة بالوجود والوجود موجود بذاته.
(2) قوله وأجاب الشيخ أبو علي سينا في الشفا حاصل كلام الشيخ في رد هذا الاستدلال أن
كل شئ في الخارج مضاف إلى ما يضايفه بالإضافة وأما الإضافة فبنفسها مضاف إلى شئ تضاف
فلا تحتاج إلى إضافة أخرى والجواب أن هذا غير منكر فإن الأبوة مضاف إلى البنوة بنفسها إلا
أن الخواجة (ره) يقول إن الأبوة مثلا إذا كانت عارضة حالة في الخارج في ذات الأب فهل يحصل
بين الأبوة التي هي عارضية وذات الأب التي هي معروضة إضافة العارضية والمعروضية أم لا
فباليقين أنها تحصل، فإن قلتم إن العارضية والمعروضية أيضا عارضتان حالتان في العارض
والمعروض في الخارج فيرجع الكلام ويتسلسل.
280
حد المضاف المطلق فنقول المضاف هو الذي ماهيته مقولة بالقياس إلى غيره فكل
شئ في الأعيان يكون بحيث ماهيته إنما يقال بالقياس إلى غيره فذلك الشئ
من المضاف ولكن في الأعيان أشياء كثيرة بهذه الصفة فالمضاف في الأعيان
موجود ثم إن كان في المضاف ماهية أخرى فينبغي أن نجرد ماله من المعنى المقول
بالقياس إلى غيره فذلك المعنى هو بالحقيقة المعنى المقول بالقياس إلى غيره وغيره
إنما هو مقول بالقياس إلى غيره بسبب هذا المعنى ليس مقولا بالقياس
إلى غيره بسبب شئ غير نفسه بل هو مضاف لذاته فليس هناك ذات وشئ هو
الإضافة بل هناك مضاف بذاته لا بإضافة أخرى فينتهي من هذا الطريق
الإضافات وأما كون هذا المعنى المضاف بذاته في هذا الموضع فله وجود آخر
مثلا وجود الأبوة في الأب أمر زائد على ذات الأب وذلك الموجود أمر مضاف
أيضا فليكن هذا عارضا (1) من المضاف لزم المضاف وكل واحد منهما مضاف
لذاته إلى ما هو مضاف إليه بلا إضافة أخرى فالكون محمولا (2) مضاف لذاته
والكون أبوة مضاف لذاته وهذا الكلام على طوله غير مفيد للمطلوب لأن التسلسل
الذي ألزمناه ليس من حيث إن المضاف الذي هو من المقولة يكون مضافا بإضافة
أخرى حتى تقسم الأشياء إلى ما هو مضاف بذاته وإلى ما هو مضاف بغيره بل
من حيث إن المضاف الحقيقي كالأبوة يفتقر إلى محل يقوم به لعرضيتها وحلولها



(1) قوله فليكن هذا عارضا بيانه أي فليكن العارضية عارضا من مقولة المضاف لزم المضاف
الذي هو الأبوة.
(2) أي فكون الأبوة محمولا وعارضا إضافة بنفسها لا بإضافة أخرى وكذا كون الأبوة
ونفسها إضافة بنفسها لا بإضافة أخرى.
281
في ذلك المحل إضافة لها إلى ذلك المحل يستدعي محلا وحلولا ويتسلسل وإلى
هذا أشار المصنف (ره) بقوله ولا ينفع تعلق الإضافة بذاتها أي تعلق الإضافة
بالمضاف إليه بذاتها لا بإضافة أخرى.
قال: ولتقدم وجودها عليه (1).
أقول: هذا وجه ثان دال على أن الإضافة ليست ثابتة في الأعيان وتقريره
أنها لو كانت ثبوتية لشاركت الموجودات في الوجود وامتازت عنها بخصوصية (2)
فاتصاف وجودها بتلك الخصوصية (3) إضافة سابقة على وجود الإضافة (4) فيلزم
تقدم وجود الإضافة على وجودها وهو محال فالضمير في عليه يرجع إلى وجودها
ويحتمل عوده إلى المحل ويكون معنى الكلام إن الإضافة لو كانت موجودة لزم
تقدمها على محلها لأن وجود محلها صفة له فاتصافه به نوع إضافة سابق على وجود
الإضافة وإعادة الضمير إليه من غير ذكر لفظي لظهوره.
قال: وللزم عدم التناهي في كل مرتبة من مراتب الأعداد.
أقول: هذا وجه ثالث وتقريره إن الإضافة لو كانت موجودة في الأعيان لزم
أن يكون كل مرتبة من مراتب الأعداد يجتمع فيه إضافات وجودية لا تتناهى
لأن الاثنين مثلا له اعتبار بالنسبة إلى الأربعة ويعرض له بذلك الاعتبار إضافة
النصفية وإلى الستة ويعرض له بحسبه إضافة الثلثية وهكذا إلى ما لا يتناهى وهو



(1) أي على وجودها فإنها لو كانت موجودة كان لها ماهية ووجودا فما لم تتصف الماهية
بالوجود لم توجد الإضافة لكن الاتصاف إضافية مخصوصة يتوقف وجودها على وجود مطلق
الإضافة فيلزم تقدمه على نفسه.
(2) تلك الخصوصية خصوصية ماهية الإضافة.
(3) أي صيرورة الوجود وصفا لتلك الخصوصية بعبارة أخرى فاتصاف ماهيتها المخصوصة
بوجودها.
(4) لأن الإضافة ما لم تتصف ماهيتها بالوجود لم تكن موجودة في الخارج.
282
محال (أما أولا) فلما بينا من امتناع وجود ما لا يتناهى مطلقا (وأما ثانيا)
فلأن تلك الإضافات موجودة دفعة ومترتبة في الوجود باعتبار تقدم بعض
المضاف إليه على بعض فيلزم اجتماع أعداد لا تتناهى دفعة مترتبة وهو محال
اتفاقا (وأما ثالثا) فلأن وجود الإضافات يستلزم وجود المضاف إليه فيلزم
وجود ما لا يتناهى من الأعداد دفعة مع ترتبها وكل ذلك مما برهن
على استحالته.
قال: وتكثر صفاته تعالى.
أقول: هذا وجه رابع وتقريره إن الإضافات لو كانت وجودية لزم وجود
صفات الله تعالى متكثرة لا تتناهى لأن له إضافات لا تتناهى وذلك محال.
المسألة الرابعة: في باقي مباحث الإضافة
قال: ويخص كل مضاف مشهوري بمضاف حقيقي فيعرض له الاختلاف
والاتفاق أما باعتبار زائد أولا.
أقول: المضاف المشهوري كالأب يعرض له مضاف حقيقي كالأبوة وكذا
الابن يعرض له البنوة فكذا فكل مضاف مشهوري يعرض له مضاف حقيقي
ولا يمكن أن يكون مضاف حقيقي واحد عارضا لمضافين مشهوريين (1) لامتناع
قيام عرض واحد بمحلين وإذا كان كل مضاف مشهوري يعرض له مضاف
حقيقي عرض حينئذ الاختلاف في المضاف الحقيقي كالأبوة والبنوة والاتفاق
كالأخوة والجوار ثم إن المضاف الحقيقي يعرض للمضاف المشهوري أما باعتبار
زائد يحصل فيهما كالعاشق والمعشوق فإن في العاشق هيئة (2) مدركة وفي



(1) بيان هذا المطلب: إذا قلنا زيد أب فذات زيد مضافا حقيقيا مشهوريا ومفهوم الأب
يسمى مضافا حقيقيا فلا يمكن أن يتعدد المضاف الحقيقي في مضاف مشهوري مثلا لا يعقل قيام
أبوتين بأب واحد وكذلك العكس فلا يعقل قيام أبوة واحدة بشخصين.
(2) أي قوة بها يدرك العاشق ما في المعشوق من الكمالات والعشق محبة مفرطة بحيث لا
يبالي المحب بشئ وفي المعشوق هيئة أي حسن أو جمال أو كمال.
283
المعشوق هيئة يتعلق بها الادراك فيحصل حينئذ إضافة العشق باعتبار هذا
الزائد وقد يكون الزائد في أحدهما كالعالم المضاف إلى المعلوم باعتبار قيام
صفة العلم به وقد لا يكون باعتبار زائد كالميامن والمياسر فإنهما يتضايفان لا
لأجل صفة زائدة على الإضافة هذا خلاصة ما فهمناه من هذا الكلام.
المسألة الخامسة: في مقولة الأين
قال: الرابع الأين وهو النسبة إلى المكان (1).
أقول: لما فرغ من البحث عن المضاف شرع في البحث عن الأين وهو نسبة
الشئ إلى مكانه بالحصول فيه وهو حقيقي وهو نسبة الشئ إلى مكانه الخاص به
وغير حقيقي وهو نسبته إلى مكان عام كقولنا زيد في الدار وهذه النسبة مغايرة
للوجود ولكل واحد من الجسم والمكان ولا تقبل الشدة والضعف.
قال: وأنواعه أربعة عند قوم هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق.
أقول: أنواع الكون عند المتكلمين أربعة الحركة والسكون وهما حالتا الجسم
بانفراده باعتبار المكان والاجتماع والافتراق وهما حالتاه باعتبار انضمامه إلى
الغير من الأجسام.
قال: فالحركة كمال أول لما بالقوة من حيث هو بالقوة أو حصول الجسم
في مكان بعد آخر.
أقول: هذان تعريفان للحركة الأول منهما للحكماء والثاني للمتكلمين أما
التعريف الأول فاعلم أن الحركة حال حصول الجسم في المكان المنتقل عنه
معدومة عنه ممكنة له فهي كمال للجسم ثم إن حصوله في المكان الثاني حينئذ
معدوم عنه ممكن له فهو كمال أيضا والجسم (2) في تلك الحال بالقوة في المكان



(1) لو قلنا زيد في الدار كان الأين غير الجسم وغير المكان ويسمى الأين بالكون لأن
الأين هو النسبة والكون الرابط بين الموضوع والمحمول إذا كان المحمول متمكن أو في المكان.
(2) أي أن الجسم في حال حصوله من المكاني المنتقل عنه أي أن المبدء يكون شيئا بالقوة
بالنسبة إلى حصوله من المكاني الثاني المنتهى.
284
الثاني لكن الحركة أسبق الكمالين (1) فالحركة كمال أول لما بالقوة أعني الجسم الذي
هو بالقوة في المكان الثاني وإنما قيدناه بقولنا من حيث هو بالقوة لأن الحركة
تفارق سائر الكمالات بأن جميع الكمالات إذا حصلت خرج ذو الكمال من
القوة إلى الفعل وهذا الكمال من حيث إنه كمال يستلزم كون ذي الكمال بالقوة
وأما الثاني فإن المتكلمين قالوا ليست الحركة هي الحصول في المكان الأول لأن
الجسم لم يتحرك بعد ولا واسطة بين الأول والثاني وإلا لم يكن ما فرضنا ثانيا
بثان فهي الحصول في المكان الثاني لا غير.
قال: ووجودها ضروري.
القول: اتفق أكثر العقلاء على أن الحركة موجودة وادعو الضرورة في ذلك
وخالفهم جماعة من القدماء كزينون وأتباعه قالوا إنها ليست موجودة واستدلوا
على ذلك بوجوه (أحدها) إن الحركة (2) لو كانت موجودة لكانت أما منقسمة
فيكون الماضي غير المستقبل أو غير منقسمة فيلزم تركبها من الأجزاء التي لا
تتجزى واللازمان باطلان (الثاني) إن الحركة ليست هي الحصول في المكان
الأول لأن الجسم حينئذ لم يتحرك بعد ولا في المكان الثاني لأن الحركة انتهت وانقطعت
ولا المجموع لامتناع تحقق جزئيه معا في الوجود فلا تكون موجودة (الثالث)
إن الحركة ليست واحدة فلا تكون موجودة وهذه الاستدلالات في مقابلة



(1) الجسم حال حصوله في المكان الأول يفرض له كمالان الأول الحركة الثاني الحصول من
المكان الثاني لكن الحركة أسبق.
(2) بيان ذلك: أن الحركة لو حصلت في الأعيان لا يخلو إما أن يكون شئ منها موجودا في
الحال أو لا يكون والثاني باطل لأنها لو لم يكن شئ منها موجودا في الحال لم يكن موجودا
في الماضي ولا في المستقبل أيضا لأن الموجود في الماضي هو الذي وجد في الحال والموجود في
المستقبل هو الذي يوجد في الحال وكذا الأول لأن الموجود في الحال إن كان منقسما كان أحد
جزئيه سابقا على الآخر وإن لم ينقسم لزم الجزء الذي لا يتجزى.
285
الحكم الضروري فلا تكون مسموعة.
قال: ويتوقف على المتقابلين والعلتين والمنسوب إليه والمقدار.
أقول: وجود الحركة يتوقف على أمور ستة (أحدها) ما منه الحركة
(والثاني) ما إليه الحركة أعني مبدء الحركة ومنتهاها والظاهر أن مراده
بالمتقابلين هذان لأن المبدء والمنتهى متقابلان لا يجتمعان في شئ واحد باعتبار
واحد (الثالث) ما به الحركة وهو السبب والعلة الفاعلية لوجودها (الرابع)
ما له الحركة أعني الجسم المتحرك وهو العلة القابلية وهذان هما المرادان بقوله
والعلتين (الخامس) ما فيه الحركة أعني المقولة التي ينتقل الجسم فيها من نوع
إلى نوع والظاهر أنه المراد بقوله والمنسوب إليه إذا المقولة تنسب الحركة إليها
بالتبعية (السادس) الزمان الذي يقع فيه الحركة وهو المراد بقوله والمقدار فإن
الزمان مقدار الحركة.
قال: فما منه وما إليه قد يتحدان محلا وقد يتضادان ذاتا وعرضا.
أقول: ما منه وما إليه قد يكون محلهما واحدا لكن لا باعتبار واحد
كالنقطة في الحركة المستديرة فإنها بعينها مبدء للحركة المستديرة ومنتهى لها
لكن باعتبارين (1) وقد يتغاير محلهما كالحركات المستقيمة ثم قد يتضاد المحل في
المتكثر (2) إما ذاتا كالحركة من السواد إلى البياض أو عرضا (3) كالحركة من
اليمين إلى الشمال.



(1) قوله باعتبارين أي تلك النقطة الواحدة التي هي مبدء للحركة الوضعية المستديرة ومنتهى
لها أيضا تكون مبدء باعتبار قبل الحركة ومنتهى باعتبار بعد الحركة.
(2) قوله في المتكثر أي فيما لا يكون المبدء والمنتهى واحدا متحدا.
(3) قوله أو عرضا فإن المبدء من هذه الحركة نقطة في طرف اليمين والمنتهى فيها نقطة في
طرف الشمال والنقطتان ليس فيهما التضاد بحسب الذات بل التضاد وعدم الاتحاد بينهما إن أحدهما
عارضية حالة في محل والأخرى عارضية حالة في محل آخر.
286
قال: ولهما اعتباران متقابلان أحدهما بالنظر إلى ما يقالان له.
أقول: الذي فهمناه من هذا الكلام إن لكل واحد مما منه وما إليه اعتبارين
(أحدهما) بالقياس إلى ما يقال له أعني ذا المبدء (1) وذا المنتهى (والثاني)
بقياس كل واحد إلى صاحبه فالأول قياس التضايف والثاني قياس التضاد وذلك
لأن المبدء لا يضايف المنتهى لانفكاكهما تصورا بل يضايف ذا المبدء فإن المبدء
مبدء لذي المبدء وكذا المنتهى وأما اعتبار المبدء إلى المنتهى فإنه مضاد له إذ
ليس مضايفا ولا سلبا ولا إيجابا ولا عدما وملكة فلم يبق إلا التضاد وهذان
الاعتباران أعني التضايف والتضاد متقابلان (واعلم) أن هيهنا إشكالا وهو أن
يقال الضدان لا يعرضان لموضوع واحد مجتمعين فيه والمبدء والمنتهى قد
يعرضان لجسم واحد والجواب أن الضدين قد يجتمعان في جسم واحد إذا لم يكن
الجسم موضوعا قريبا لهما وحال المبدء والمنتهى هنا كذلك لأن موضوعهما
الأطراف في الحركات المستقيمة وتلك مغايرة بقي أن يقال هذا لا يتأتى في
الحركات المستديرة وقد نبه المصنف (ره) على ذلك بقوله قد يتحدان محلا
فيكون وجه الخلاص عدم اجتماع الوصفين إذ حال وصفه بكونه منتهى ينتفي
عنه كونه مبدء وفيه ما فيه.
قال: ولو اتحدت العلتان انتفى المعلول.
أقول: قد بينا أنه يريد بالعلتين هنا الفاعلية أعني المحرك والقابلية أعني
المتحرك وادعى تغايرهما على معنى أنه لا يجوز أن يكون الشئ محركا لنفسه
بل إنما يتحرك بقوة موجودة أما فيه كالطبيعة أو خارجة عنه كالنفس لأنه لو
تحرك لذاته لانتفت الحركة إذ بقاء العلة يستلزم بقاء (2) المعلول فإذا فرضنا



(1) قوله أعز ذا المبدء والمنتهى أي الحركة فإنها ذات مبدء ومنتهى.
(2) قوله انتفى المعلول أي الحركة لأن الجسم إذا كان علة لحركة نفسه لكان علة لأجزاء
الحركة أي الواقعة منها في الآن الأول والثاني والثالث وهكذا وحينئذ يكون الجسم مقتضيا
لبقاء الجزء الأول وغيره إلى الأبد إذ يستمر المعلول باستمرار علته ولو بقي الجزء الأول من
الحركة اقتضى أن لا يوجد الجزء الثاني.
287
الجسم لذاته علة للحركة كان علة لأجزائها فيكون كل جزء منها باقيا ببقاء
الجسم لكن بقاء الجزء الأول منها يقتضي أن لا يوجد الثاني لامتناع اجتماع
أجزائها في الوجود فلا توجد الحركة وقد فرضناها موجودة (هف) وإلى نفي
الحركة أشار بقوله انتفى المعلول.
قال: وعم.
أقول: هذه حجة ثانية على أن الفاعل للحركة ليس هو القابل أعني نفس
الجسمية وتقريره أن نقول الأجسام متساوية في الماهية فلو اقتضت لذاتها الحركة
لزم عمومها لكل جسم فكان كل جسم متحركا (هف) ثم إن الجسمية إن
اقتضت الحركة إلى جهة معينة لزم حركة كل الأجسام إليها وهو باطل بالضرورة
وإن كان إلى جهة غير معينة انتفت الحركة وأشار إلى هذا الدليل بقوله
(وعم) أي عم ما فرضناه معلولا وهو الحركة أما مطلقا أو إلى جهة معينة على
ما قررنا الوجهين فيه.
قال: بخلاف الطبيعة المختلفة (1) المستلزمة في حال ما.
أقول: هذا جواب عن إشكال يورد على هذين الدليلين وتقريره أن نقول
الطبيعة قد تقتضي الحركة ولا يلزم دوامها بدوام الطبيعة ولا عمومها بعمومها
وتقرير الجواب أن نقول الطبائع مختلفة فجاز اقتضاء بعضها للحركة إلى جهة
معينة بخلاف غيرها وإلا هذا أشار بقوله المختلفة وأيضا الطبيعة لم يقل إنها
مطلقا علة للحركة وإلا لزم المحال بل إنما تقتضيها في حال ما وهو حال خروج
الجسم عن مكانه الطبيعي أما حال بقاء الجسم في مكانه الطبيعي فلا تقتضي
الحركة وإليه أشار بقوله المستلزمة في حال ما.



(1) يعني أن الطبيعة مختلفة في الأجسام مستلزمة للحركة لا مطلقا بل في حال من الأحوال
وهو الخروج من المكان الطبيعي مثلا.
288
قال: والمنسوب إليه أربع فإن بسائط الجواهر توجد دفعة ومركباتها
تعدم بعدم أجزائها.
أقول: يريد بالمنسوب إليه ما يوجد فيه الحركة على ما تقدم تفسيره
والحركة تقع في أربع مقولات لا غير هي الكم والكيف والأين والوضع ولا
تقع فيما سوى ذلك أما الجوهر فقسمان بسيط ومركب فالبسيط يوجد دفعة فلا
يتحقق فيه الحركة والمركب تعدم بعدم أحد أجزائه فلا يقع فيه حركة إذ
المتحرك باق حال الحركة والمركب ليس بباق حال الحركة فلا يقع فيه
حركة أيضا.
قال: والمضاف تابع.
أقول: المضاف لا يقع فيه حركة بالذات لأنه أبدا تابع لغيره فإن كان
متبوعه قابلا للشدة والضعف قبلهما هو وإلا فلا.
قال: وكذا متى.
أقول: ذكر الشيخ في النجاة أن متى يوجد للجسم بتوسط الحركة فكيف
يكون فيه حركة فإن كل حركة في متى فلو كان فيه حركة لكان لمتى متى
آخر وقال في الشفاء يشبه أن يكون حال متى كحال الإضافة في أن الانتقال
لا يكون فيه بل يكون في كم أو كيف ويكون الزمان لازما لذلك التغير
فيعرض بسببه فيه التبدل.
قال: والجدة دفعة.
أقول: مقولة الملك لا يتحقق فيها حركة لأنا قد بينا أنها عبارة عن نسبة
التملك فإن حصل وقع دفعة وإلا فلا حصول له فلا يعقل فيه حركة.
قال: ولا تعقل حركة في مقولتي الفعل والانفعال
أقول: هاتان المقولتان لا توجد الحركة فيهما لأن الانتقال من التبرد إلى

289
التسخن إن كان بعد كمال التبرد وانتهائه لم يكن الانتقال من التبرد بل من البرودة
إذ التبرد قد عدم وانقطع وإن كان قبل كماله كان الجسم في حال واحد أعني
حال الحركة متوجها إلى كيفيتين متضادتين (هف).
قال: ففي الكم باعتبارين لدخول الماء القارورة المكبوبة عليه وتصدع
الآنية عند الغليان.
أقول: لما بين أن الحركة تقع في أربع مقولات وأبطل وقوعها في الزايد
شرع في تفصيل وقوع الحركة في مقولة مقولة وابتدء بالكم وذكر أن الحركة
تقع فيه باعتبارين أحدهما التخلخل (1) والتكاثف والثاني النمو والذبول أما الأول
فالمراد به زيادة مقدار الجسم ونقصانه من غير ورود أجزاء جسمانية عليه
أو انفصال أجزاء منه بناء على أن المقدار أمر زايد على الجسم وأن الجسم قابل
للانتقال من نوع منه إلى نوع آخر على التدريج واستدل على وقوع الحركة بهذا
الاعتبار بوجهين (الأول) أن القارورة إذا كبت على الماء فإن كان بعد المص
دخلها الماء وإلا فلا مع أن الخلاء والماء في البابين واحد فليس ذلك إلا لأن
الهواء المحتقن داخل القارورة له مقدار طبيعي وبسبب المص يخرج شئ من
الهواء فيكتسب الباقي لضرورة امتناع الخلاء مقدارا أكبر غير طبيعي فإذا
كبت القارورة على الماء دخلها الماء فعاد الهواء إلى مقداره الطبيعي لوجود



(1) التخلخل عبارة عن زيادة مقدار الجسم من غير أن ينضم إليه غيره والتكاثف عبارة عن
نقصان مقدار الجسم من غير أن ينفصل منه جزء والدليل على ذلك أن القارورة إذا كبت على الماء
لم يدخلها الماء فإذا مصت مصا قويا وشد رأسها بشئ بحيث لم يدخلها الهواء ثم كبت على الماء
دخلها فعدم دخول الماء في الحالة الأولى ليس إلا لممانعة الهواء الذي فيه منع عن دخول الماء ودخوله
في الحالة الثانية لأن المص أخرج بعض الهواء وحيث يمتنع الخلاء يصير الهواء الباقي متخلخلا
فلا بد وأن يكبر حجمه لأن يأخذ مكان البعض الخارج منها بالمص فإذا كبت القارورة على
الماء دخلها الماء فعاد الهواء المتخلخل إلى مقداره الطبيعي.
290
المستخلف عن الهواء الخارج بالمص (الثاني) أن الآنية إذا ملئت ماءا وشد
رأسها محكما وغليت بالنار فإنها تنشق وليس ذلك بمداخلة أجزاء النار لعدم
الثقب في الآنية فبقي أن يكون ذلك لزيادة مقدار ما فيها وعندي في هذين
الوجهين نظر وإن أفاد الظن.
قال: وحركة أجزاء المغتذي في جميع الأقطار على التناسب
أقول: هذا هو الاعتبار الثاني وهو الحركة في الكم باعتبار النمو (واعلم)
أن النامي يزداد جسمه بسبب اتصال جسم آخر به وتلك الزيادة ليست مطلقا
بل إذا دخلت أجزاء المزيد عليه وتشبهت به وضد هذه الحالة الذبول وقد يشتبه
هذا بالسمن والفرق بينهما أن الواقف في النمو قد يسمن كما أن المتزايد في النمو قد
يهزل وذلك لأن الزيادة إذا أحدثت المنافذ في الأصل ودخلت فيها وتشبهت
بطبيعة الأصل واندفعت أجزاء الأصل إلى جميع الأقطار على نسبة واحدة في
نوعه فذاك هو النمو والشيخ قد يسمن لأن أجزائه الأصلية قد جفت وصلبت
فلا يقوى المغتذي على تفريقها والنفوذ فيها فلا تتحرك الأجزاء الأصلية إلى
الزيادة فلا يكون ناميا وإن تحرك لحمه إلى الزيادة فيكون ذلك في الحقيقة نموا في
اللحم لكن المسمى باسم النمو إنما هو حركة الأعضاء الأصلية.
قال: وفي الكيف للاستحالة (1) المحسوسة مع الجزم ببطلان الكمون
والبروز لتكذيب الحس لهما.
أقول: لما فرغ من البحث عن الحركة في الكم شرع في البحث عن الحركة
في الكيف أعني الاستحالة واستدل على ذلك بالحس فإنه يقضي بصيرورة الماء
البارد حارا على التدريج وبالعكس وكذا في الألوان وغيرها من الكيفيات
المحسوسة (واعلم) أن الآراء لم تتفق على هذا فإن جماعة من القدماء أنكروا



(1) فإن الماء البارد يصير حارا بالتدريج وبالعكس والحصرم (وآن قوره انكوراست)
ينتقل من الحموضة إلى الحلاوة ومن الخضرة إلى الحمرة.
291
الاستحالة وافترقوا في الاعتذار عن الحرارة المحسوسة في الماء إلى قسمين (أحدهما)
ذهب إلى أن في الماء أجزاء نارية كامنة فيه فإذا ورد عليه نار من خارج برزت
تلك الأجزاء وظهرت للحس (والثاني) ذهب إلى أن الأجزاء النارية ترد عليه
من خارج وتداخله فيحس منه بالحرارة والقولان باطلان فإن الحس يكذبهما
أما الأول فلأن الأجزاء الكامنة يجب الاحساس بها عند مداخلة اليد لجميع
أجزاء الماء وتفريقها قبل ورود الحرارة عليه ولما لم يكن كذلك دل على بطلان
الكمون وأما الثاني فلأنا نشاهد جبلا من كبريت يقرب منه نار صغيرة فتحرقه
مع إنا نعلم أنه لم يكن في تلك النار الصغيرة من الأجزاء النارية ما يلاقي الجبل
ويغلب عليه حسا.
قال: وفي الأين والوضع ظاهر.
أقول: وقوع الحركة في هاتين المقولتين أعني الأين والوضع ظاهر لكن
الشيخ ادعى أنه الذي استخرج وقوع الحركة في الوضع وقد وجد في كلام
أبي نصر الفارابي وقوعها فيه (واعلم) أن الحركة في الوضع وإن استلزمت
حركة الأجزاء في الأين لكن ذلك باعتبار آخر مغاير لاعتبار حركة الجميع
في الوضع.
قال: ويعرض لها وحدة باعتبار وحدة المقدار والمحل والقابل.
أقول: الحركة منها واحدة بالعدد ومنها كثيرة أما الواحدة فهي الحركة
المتصلة من مبدء المسافة إلى نهايتها وقد بينا تعلق الحركة بأمور ستة والمقتضي
لوحدتها إنما هو ثلاثة منها لا غير (الأول) وحدة الموضوع وهو أمر ضروري
في وحدة كل عرض لاستحالة قيام العرض بمحلين وإليه أشار بقوله والمحل
(الثاني) وحدة الزمان (1) وهو كذلك أيضا لاستحالة إعادة المعدوم بعينه



(1) أي وحدة الزمان كوحدة الموضوع لا بد منها في وحدة الحركة إذ لو كانت الحركة
الواحدة في زمانين لزم إعادة الحركة المعدومة بانقضاء الزمان الأول في الزمان الثاني وإعادة
المعدوم محال لما مر في مسألة الأربعين من الفصل الأول من المقصد الأول.
292
وإليه أشار بقوله المقدار (الثالث وحدة المقولة (1) التي فيها الحركة فإن الجسم
الواحد قد يتحرك في الزمان الواحد حركتي كيف وأين وإليه أشار بقوله والقابل
ويحتمل أن يكون القابل هو الموضوع والمحل هو المقولة ووحدة المتحرك غير
شرط فإن المتحرك بقوة مسافة إذا تحرك بأخرى قبل انقطاع فعل الأولى اتحدت
الحركة وإذا اتحدت الأشياء الثلاثة اتحد ما منه وما إليه لكن كل واحد منهما
غير كاف فإن المتحرك من مبدء واحد (2) قد ينتهي إلى شيئين والمنتهي إلى شئ
واحد قد يتحرك من مبدئين.
قال: واختلاف المتقابلين (3) والمنسوب إليه مقتض للاختلاف



(1) وحاصل كلامه أن وحدة الموضوع والزمان لا تكفي في وحدة الحركة بل لا بد فيها
من وحدة المقولة التي فيها الحركة لأن الجسم الواحد محال أين يتحرك بحركتين مختلفتين بحسب
المقولة وأما أصل المطلب وهو امتناع كون الحركتين المختلفتين بحسب المقولة فظاهر.
(2) توضيحه: أن وحدة هذه الثلاثة لا تستلزم وحدة المبدأ ووحدة المنتهى جميعا بل
تستلزم وحدة أحدهما إذ يمكن أن يكون الجسم الواحد في الزمان الواحد يتحرك في المقولة
الواحدة كما إذا تحرك الجسم من مركز الأرض مثلا إلى نقطة من سطح الأرض ومن تلك النقطة
إلى نقطة أخرى من سطحها من دون توقف على النقطة الأولى ففي هذا المثال يكون المتحرك
واحدا والزمان واحدا والمقولة واحدة.
(3) واختلاف المتقابلين أي مبدأ الحركة ومنتهاها والمنسوب إليه أي المقولة التي تقع فيها
الحركة مقتضى للاختلاف في الحركة فالمتحرك من اليمين إلى اليسار له حركة تخالف حركة
المتحرك بالعكس وذلك لاختلاف المبدأ والمنتهى للحركة فيهما بل مجرد اختلاف المبدأ أو المنتهى
موجب لاختلاف الحركة كما أن الاختلاف في المقولة كالحركة في الكيف والحركة في الأين مقتضي
لاختلاف الحركة.
293
أقول: إذا أختلف أحد الأمور الثلاثة أعني ما منه وما إليه وما فيه
اختلفت الحركة بالنوع فإن الحركة في الكيف تغاير الحركة في الأين وهذا ظاهر
وأيضا الصاعدة ضد الهابطة وأراد بالمتقابلين ما منه وما إليه وبالمنسوب إليه ما
فيه ولا يشترط اختلاف الموضوع فإن الحجر والنار قد يتحركان حركة واحدة
بالنوع ولا الفاعل لأن الطبيعية والقسرية قد يصدر عنهما حركة واحدة به ولا
الزمان لعدم اختلافه وفي هذه المباحث نظر ذكرناه في كتاب الأسرار.
قال: وتضاد الأولين (1) التضاد.
أقول: من الحركات ما هو متضاد وهي الداخلة تحت جنس آخر كالصاعدة
والهابطة فعلة تضادها ليس تضاد المتحرك لامكان صعود الحجر والنار ولا تضاد
المحرك لصدور الصعود عن الطبع والقسر ولا الزمان لعدم تضاده ولا ما فيه
لاتحاد المسافة فيهما فلم يبق إلا ما منه وما إليه وإليه أشار بقوله وتضاد الأولين
التضاد أي وتضاد الأولين يقتضي التضاد وعنى بالأولين ما منه وما إليه ولا يمكن
التضاد بالاستقامة والاستدارة لأنهما غير متضادين.
قال: ولا مدخل للمتقابلين والفاعل في الانقسام (2)
أقول: الحركة تنقسم بانقسام الزمان فإن الحركة في نصف الزمان نصف
الحركة في جميعه مع التساوي في السرعة والبطؤ وبانقسام المتحرك فإنها عرضي



(1) أي المبدأ والمنتهى.
(2) قول المصنف ولا مدخل إلى آخرها أي إن انقسام الحركة ليس بالمبدأ والمنتهى ولا
بالفاعل ولا مدخل للمتقابلين أي المبدأ والمنتهى والفاعل في الانقسام للحركة بل انقسام الحركة
تارة بانقسام الزمان فإن الحركة في نصف يوم نصف الحركة في يوم مع التساوي في السرعة
والبطء وتارة بانقسام المتحرك فإن الحركة عرض حال في المتحرك وبانقسام المحل ينقسم الحال
كانقسام البياض بانقسام الجسم الذي حل فيه البياض وتارة بانقسام المسافة فإن الحركة إلى نصف
فرسخ نصف الحركة إلى رأس فرسخ.
294
حال فيه والحال في المنقسم يكون لا شك منقسما وبانقسام ما فيه أعني المسافة
فإن الحركة إلى منتصفها نصف الحركة إلى منتهاها ولا مدخل للمتقابلين أعني
ما منه وما إليه في الانقسام ولا للفاعل وذلك كله ظاهر.
قال: ويعرض لها كيفية تشتد فتكون الحركة سريعة وتضعف وتكون
بطيئة ولا يختلف بهما الماهية.
أقول: يعرض للحركة كيفية واحدة تشتد تارة وتضعف أخرى فتكون
الحركة باعتبار شدتها سريعة وباعتبار ضعفها بطيئة وتلك الكيفية هي السرعة
والبطؤ ولا تختلف ماهية الحركة بهاتين الكيفيتين لوجهين (الأول) إن هذه
الكيفية واحدة وإنما تختلف بالقياس إلى غيرها فما هو سريع بالنسبة إلى شئ
قد يكون بطيئا بالنسبة إلى غيره (الثاني) إنا نقسم الجنس الواحد من الحركة
إلى الصاعد والهابط مثلا ونقسمه أيضا إلى السريع والبطئ وهاتان قسمتان
ليستا مترتبتين حتى يكون عروض إحديهما للجنس بواسطة الأخرى بل يعرضان
أولا لذلك الجنس وقد تبين أن الجنس الواحد لا يعرض له فصلان من غير ترتيب
بل الفصل أحدهما خاصة.
قال: وسبب البطؤ الممانعة الخارجية أو الداخلية (1) لا تخلل السكنات
وإلا لما أحس بما اتصف بالمقابل (2)



(1) قوله سبب البطء الممانعة الخارجية كرمي الحجر في الماء فإنه يسير بطيئا لوجود الماء
المانع عن السرعة أو الممانعة الداخلية كثقل الجسم فإنه سبب لبطء الحركة في الحجر المرمي إلى
فوق ولا يكون سبب البطء تخل السكنات كما عن المتكلمين فالحركة السريعة تكون السكنات
المتخللة فيها أقل من السكنات المتخللة في الحركة البطيئة فلو فرض سهمان يقطع أحدهما نصف
الميل في نصف ساعة ويقطع الآخر نصف الميل في ساعة وفرض أن السكنات المتخللة حركة
الأول عشرون تكون السكنات المتخللة في حركة الثاني أربعين.
(2) وإلا لما أحس بما اتصف بالمقابل أي ما أحس بالحركة المتصفة بالسرعة المقابلة للبطء.
295
أقول: إعلم أن المتكلمين ذهبوا إلى أن تخلل السكنات بين أجزاء الحركة
سبب للإحساس بالبطؤ والأوائل لما امتنع عندهم وجود جزء لا يتجزى في
الحركة امتنع استناد البطؤ إلى تخلل السكنات بل استندوه إلى الموانع الخارجية
كالملا في الحركات الطبيعية وإلى الداخلية كالميول الطبيعية في الحركات القسرية
لأنه لو كان تخلل السكنات سببا للبطؤ لما أحس بما اتصف بالمقابل يعني أنه
يلزم عدم الاحساس بالحركات المتصفة بالسرعة التي هي مقابلة البطؤ لما تقدم في
مسألة الجزء الذي يتجزى.
قال: والاتصال لذوات الزوايا والانعطاف لوجود زمان بين آني الميلين
أقول: يريد أن كل حركتين مستقيمتين (1) مختلفتين فإن بينهما زمان سكون
كما بين الصاعدة والهابطة وعبر عن ذلك بذوات الزوايا وهي الحركة الحاصلة
على خطين أحدهما متصل بالآخر على غير الاستقامة (2) والانعطاف وهي الحركة
الراجعة من المنتهى إلى المبدء وإنما وجب السكون بينهما لأن لكل حركة علة
تقتضي اتصال الجسم إلى المطلوب والوصول من موجود آنا فعلته كذلك (3) وهذا
الآن الذي يوجد فيه الميل المقتضي للوصول ليس هو آن الميل الذي يقتضي المفارقة
لاستحالة اجتماع الميلين ولا يتصل الآنان فلا بد من فاصل هو زمان عدم الميلين
فيكون الجسم ساكنا فيه وهو المطلوب.
قال: والسكون حفظ النسب فهو ضد.
أقول: اختلف الناس في تحقيق ماهية السكون وإنها هل هي وجودية
أو عدمية فالمتكلمون على الأول فجعلوه عبارة عن حصول الجسم في حيز واحد



(1) المراد بالحركة المستقيمة ما في قبال الحركة الدورية سواء كان المتحرك على خط مستقيم
أو على خط منحني ثم وقع على خط مستقيم أو على خط منحني بحيث تحدث زاوية بينهما.
(2) أي بحيث لا تكون الحركة الثانية مستقيمة من المنتهى إلى المبدء كما في صورة الانعطاف
بل من المنتهى إلى جهة أخرى.
(3) توضيح هذا الاستدلال أن وصول الجسم بمنتهى الحركة كوصوله بكل حد من الحدود
الوسطية في أثناء المسافة إنما هو في آن لا في زمان إذ لو كان في زمان لم يكن ما فرضناه منتهى
بمنتهى إذ بقي بعد من المسافة شئ ولهذا الوصول علة هي ميل الجسم الذي هو علة لوصول الجسم
بكل حد من الحدود الوسطية ولولا هذا الميل لم يكن وصول.
296
أكثر من زمان واحد والحكماء على الثاني قالوا إنه عدم الحركة عما من شأنه أن
يتحرك والمصنف (ره) اختار قول المتكلمين وهو أنه وجودي وأن تقابله
للحركة تقابل الضدية لا تقابل العدم والملكة وجعله عبارة عن حفظ النسب بين
لأجسام الثابتة على حالها.
قال: يقابل الحركتين (1)
أقول: يمكن أن يفهم من هذا الكلام معنيان (أحدهما) أنه إشارة إلى
الصحيح من الخلاف الواقع بين الأوائل من أن المقابل للحركة هو السكون في
مبدء الحركة لا نهايتها أو أن السكون (2) مقابل للحركة من مكان السكون وإليه
والحق هو الأخير لأن السكون ليس عدم حركة خاصة وإلا لكان المتحرك (3)
إلى جهة ساكنا في غير تلك الجهة بل هو عدم كل حركة ممكنة في ذلك المكان
واحتج الأولون بأن السكون في النهاية كمال للحركة وكمال الشئ لا يقابله
والجواب أن السكون ليس كمالا للحركة بل للمتحرك (الثاني) أن السكون
ضد يقابل الحركة المستقيمة والمستديرة معا وذلك لأنه لما بين أن السكون عبارة
عن حفظ النسب وكان حفظ النسب إنما يتم ببقاء الجسم في مكان على وضعه
وجب أن يكون السكون مقابلا للحركة المستقيمة والمستديرة معا لانتفاء
حفظ النسب فيهما.
قال: وفي غير الأين حفظ النوع.
أقول: لما بين أن السكون عبارة عن حفظ النسب وكان ذلك إنما يتحقق
في السكون في المكان لكن ليس كل سكون في مكان فوجب عليه أن يفسر
السكون في غير الأين من المقولات فجعله عبارة عن حفظ النوع في المقولة التي



(1) اختلف في أن ما يقابل الحركة الأينية هو السكون في المبدء أو المنتهى أو كلاهما فإذا
قيل بالأول فالحركة السابقة على هذا المبدء التي كانت إليه لا تقابل هذا السكون لأنه سكون في
المنتهى بالنسبة إليه بل التي تقابله هي الحركة التي كانت.
(2) قول الشارح أو أن السكون مقابل للحركة إشارة إلى القول الثالث وهو أن السكون
مقابل للمبدء والمنتهى.
(3) حاصله أنه لا واسطة بين الحركة والسكون فإذا لم تكن الحركة إلى المبدء مقابلة للسكون
فيه كما هو لازم القول الأول لم يكن المتحرك إليه متحركا لأنه لم يكن متصفا بمقابل السكون.
297
تقع عنها الحركة.
قال: ويتضاد لتضاد ما فيه.
أقول: قد يعرض في السكون التضاد كما يعرض في الحركة فإن السكون
في المكان الأعلى يضاد السكون في المكان الأسفل فعلة تضاده ليست تضاد
الساكن ولا المسكن ولا الزمان كما تقدم في الحركة ولا تعلق له (1) بما منه وما
إليه فوجب أن تكون علة تضاده هو تضاد ما فيه.
قال: ومن الكون طبيعي وقسري وإرادي.
أقول: الكون (2) يريد به هيهنا الجنس الشامل المحركة والسكون كما
اصطلح عليه المتكلمون وقسمه إلى أقسام ثلاثة وذلك لأنه عبارة عن حصول
الجسم في الحيز وذلك الحصول قد بينا أنه لا يجوز استناده إلى ذات الجسم فلا بد
من قوة تستند إليه وتلك القوة إما أن تكون مستفادة من الخارج وهي القسرية
أو لا هي الطبيعية إن لم تقارن الشعور والإرادية إن قارنته.
قال: فطبيعي (3) الحركة إنما يحصل عند مقارنة أمر غير طبيعي (4)



(1) أي للسكون مبدء ومنتهى بل إنما هما للحركة.
(2) أعني حصول الجوهر في الحيز أعني الجنس الشامل للحركة والسكون طبيعي بأن يكون
طبيعة الشئ تقضي الحركة أو السكون وقسري يسكن أو يتحرك بالجر على خلاف الطبيعة
والإرادة وإرادي يسكن أو يتحرك بالإرادة.
(3) لأن الحركة أمر غير مستمر والطبيعة أمر مستمر فلو كانت الطبيعة علة للحركة لزم أن
يتحرك الجسم دائما وحيث إن الحركة الدائمة غير موجودة فليست الطبيعة وحدها علة للحركة
بل شرط تأثير الطبيعة للحركة أن يقارن الجسم أمر غير طبيعي فتعمل الطبيعة حينئذ ليرد الجسم
إليه أي الأمر الطبيعي فيقف لزوال شرط الحركة.
(4) قوله عنه مقارنته أمر غير طبيعي، أي مقارنة الطبيعة لأمر غير طبيعي وذلك الأمر
في الحركة الأينية هو خروج الجسم عن مكانه الطبيعي وفي الكيفية خروجه عن كيفية الطبيعي
وفي الكمية خروجه عن مقداره الطبيعي وفي الوضعية خروجه عن وضعه الطبيعي وفي الثلاثة
الأولى يرجع الجسم إلى مكانه الطبيعي وكيفه الطبيعي.
298
أقول: الطبيعة أمر ثابت والحركة غير ثابتة فلا تستند إليها لذاتها بل لا بد
من اقتران الطبيعة بأمر غير طبيعي يفتقر في الرد إليه إلى الانتقال فيكون ذلك
الانتقال طبيعيا إما في الأين فكالحجر المرمي إلى فوق وأما في الكيف فكا لماء
المسخن وأما في الكم فكالذابل بالمرض.
قال: ليرد الجسم إليه فيقف
أقول: غاية الحركة الطبيعية إنما هي حصول الحالة الملائمة للطبيعة التي
فرضنا زوالها حتى اقتضت الطبيعة الحركة ورد الجسم إليها بعد عدمها عنه
لا الهرب عن الحالة غير الطبيعية قيل لعدم الاختصاص وهو ممنوع إذ كل طريق
غير طبيعي مهروب عنه فيختص بالطبيعي وعلى كل تقدير، فإذا حصلت الحالة
الطبيعية وقف الجسم وعدمت الحركة الطبيعية لزوال الشرط وهو عدم الحالة
غير الطبيعية.
قال: فلا تكون دورية (1)
أقول: هذا نتيجة ما تقدم فإن الحركة الطبيعية تطلب استرداد الحالة
الطبيعية بعد زوالها والحركة الدورية تطلب بالحركة عين ما هربت عنه فلا
تكون طبيعية وهو ظاهر (2) واعلم أن الحركة الطبيعية قد بينا أنها إنما تصدر
عن الطبيعة لا بانفرادها بل بمشاركة الأحوال الغير الطبيعية ولتلك الأحوال
درجات متفاوتة في القرب والبعد فإذا حركت الطبيعة الجسم إلى نقطة معينة



(1) قوله فلا تكون الحركة دورية الخ لأن نفس الحركة ليست مطلوبة بالطبع بل المطلوب بالطبع الرد
إلى الأمر الطبيعي عند حصول الأمر الغير الطبيعي بالحركة فكل حركة طبيعية فهي تستدعي هربا
عن حالة غير طبيعية وطلب الحالة ولا شئ من الحركات الدورية كذلك لأن كل نقطة تفرض
أن تكون هي.
(2) لأن الحركة أمر غير قار الذات والطبيعة ثابتة قار الذات وغير الثابت لا يكون مقتضيا
للثابت بالذات بل لا بد من مقارنة أمر آخر إلى الطبيعة ويكون ذلك غير طبيعي كحصول الماء
في مكان الهواء فإنه أمر غير طبيعي فالطبيعة تقتضي الرد.
299
كانت مع حال مخصوصة غير ملائمة فإذا وصل الجسم إلى تلك النقطة لم تبق
تلك الحالة بل حصلت حالة أخرى هي الحصول في حد آخر فعلة الحركة
الأولى التامة غير علة الحركة الثانية فلا يقال إن الطبيعة في منتصف المسافة مثلا
تهرب عما طلبتها بالطبيعة.
قال: وقسريتها مستندة إلى قوة مستفادة قابلة للضعف (1)
أقول: الحركة القسرية إما أن تكون مع ملازمة المتحرك أو مع مفارقته
والأول لا إشكال فيه وإنما البحث في الثاني فالمشهور أن المحرك كما يفيد
المقسور حركة كذلك يفيده قوة فاعلة لتلك الحركة قابلة للضعف بسبب
الأمور الخارجية والطبيعة المفارقة وكلما ضعف القوة القسرية بسبب المصادمات
قويت الطبيعة إلى أن تفنى تلك القوة بالكلية وعندي هنا إشكال فإن الواحد
بالشخص لا يبقى حال ضعفه فالقوة القسرية إذا عدمت عند ضعفها افتقر
المتجدد منها إلى علة كافتقار الحركة والأقرب هنا أن نثبت في المتحرك قسرا
أمورا ثلاثة الحركة القسرية والميل القسري وهو القابل للشدة والضعف والقوة
المستفادة من القاسر وهي باقية لا تشتد ولا تضعف وتجدد الميول ما لم يحصل
للهواء الذي يتحرك فيه المتحرك تلبد وتصلب يمنع عن النفوذ فيه فيبطل القوة
القسرية بالكلية.
قال: وطبيعي السكون يستند إلى الطبيعة مطلقا.
أقول: السكون منه طبيعي كاستقرار الأرض في المركز ومنه قسري
كالحجر الواقف في الهواء قسرا ومنه إرادي كسكون الحيوان بإرادته في
مكان ما والطبيعي من السكون ما يستند إلى الطبيعة مطلقا بخلاف الحركة



(1) يعني أن الحركة القسرية تستند إلى قوة في المتحرك مستفادة من مبدء خارجي وتلك
القوة قابلة للضعف فلا تضعف بمصادمات الجرم المحروق بالحركة إلى أن تصير مغلوبة فتستولي
الطبيعة ويعيد الجسم بالحركة الطبيعية إلى مكانه الطبيعي كما ذكره القوشجي في شرحه.
300
الطبيعية المستندة إلى الطبيعة لا مطلقا بل عند مقارنة أمر غير ملايم.
قال: وتعرض البساطة ومقابلها للحركة خاصة.
أقول: من الحركات ما هو بسيط كحركة الحجر إلى الأسفل ومنها ما هو
مركب كحركة النملة على الرحي إذا اختلفا في المقصد فإن حركة كل واحدة
من النملة والرحى وإن كانت بسيطة لكن إذا نظر إلى حركة النملة الذاتية
باعتبار حصولها في محل متحرك بالعرض حصل لها تركب ثم إن كانت إحدى
الحركتين مساوية للأخرى حدث للنملة ثبات بالنسبة إلى الأمور الثابتة وإن
فضلت إحديهما الأخرى حصل لها حركة بقدر فضل إحديهما على الأخرى وهذا
إنما يكون في متحرك يتحرك بالعرض إذ يستحيل تحرك الجسم الواحد بالذات
حركتين إلى جهة أو جهتين.
قال: ولا يعلل الجنس ولا أنواعه بما يقتضي الدور.
أقول: الذي خطر لنا في تفسير هذا الكلام الرد على أبي هاشم حيث قال
إن حصول الجسم في المكان معلل بمعنى وإن الحركة معللة بمعنى والدليل على
بطلانه أن المعنى الذي جعل علة في الحصول إما أن يوجد قبل الحصول أولا فإن
كان الثاني لزم الدور وإن كان الأول فإن اقتضى اندفاع الجسم إلى مكان
فهو الميل وهو ثابت وإلا لم يكن علة.
المسألة السادسة: في المتى
قال: الخامس المتى وهو النسبة إلى الزمان أو طرفه بالحصول فيه.
أقول: لما فرغ من البحث عن مقولة الأين شرع في البحث عن المتى والمراد
بها نسبة الشئ إلى الزمان أو طرفه بالحصول فيه وهو أما حقيقي وهو الذي
لا يفضل عن كون الشئ كالصيام في النهار وأما غير حقيقي كالصلاة فيه والفرق
بين المتى الحقيقي والأين الحقيقي في النسبة أن المتى الواحد قد يشترك فيه كثير
بخلاف الأين الحقيقي.

301
قال: والزمان مقدار الحركة من حيث التقدم والتأخر العارضين لها باعتبار آخر.
أقول: الحركة يعرض لها نوعان من التقدم والتأخر وتتقدر باعتبارهما فإن
الحركة لا بد لها من مسافة تزيد بزيادتها وتنقص بنقصانها ولا بد لها من زمان
كذلك ويعرض لأجزائها تقدم وتأخر باعتبار تقدم بعض أجزاء المسافة على
بعض فإن الجزء من الحركة الحاصلة في الجزء المتقدم من المسافة متقدم على
الحاصل في المتأخر منها وكذلك الحاصل في المتقدم من الزمان متقدم على
الحاصل في متأخره لكن الفرق بين تقدم المسافة وتقدم الحركة أن المتقدم من
المسافة يجامع المتأخر بخلاف أجزاء الحركة ويحصل للحركة عدد بالاعتبارين
فالزمان مقدار الحركة وتقدرها من حيث التقدم والتأخر العارضين لها باعتبار
المسافة لا اعتبار الزمان وإلا لزم الدور وإلى هذا أشار بقوله باعتبار آخر أي
باعتبار مغاير لاعتبار الزمان.
قال: وإنما تعرض المقولة بالذات للمتغيرات والعرض لمعروضها.
أقول: هذه المقولة التي هي المتى إنما تعرض بالذات للمتغيرات كالحركات
وإنما تعرض لغيرها بالعرض وبواسطتها فإن ما لا يتغير لا يعرض له هذه النسبة
إلا باعتبار عروض صفات متغيرة له كالأجسام التي يعرض لها الحركات فتلحقها
هذه النسبة.
قال: ولا يفتقر وجود معروضها وعدمه إليه.
أقول: الذي فهمناه من هذا الكلام أمران (أحدهما) أن وجود معروض
المتغيرات وعدمه لا يفتقر إلى الزمان لأنه متأخر عن المتغيرات لأنه مقدارها
وهي متأخرة عن المتغيرات التي هي معروضها فلو افتقر وجود المعروض وعدمه
إليه لزم الدور (الثاني) أن هذه النسبة التي هي المقولة عارضة للمنتسبين اللذين
أحدهما الزمان فالزمان معروض لهذه النسبة ووجود هذا المعروض وعدمه لا

302
يفتقران إلى الزمان وإلا لزم التسلسل.
قال: والطرف كالنقطة وعدمه في الزمان لا على التدريج.
أقول: الطرف يعني به الآن فإنه طرف الزمان ووجوده فرضي على ما
اختاره رحمه الله من نفي الجواهر الفردة كوجود النقطة في الجسم وعدمه في
جميع الزمان الذي بعده لا على التدريج وذلك لأن عدم الشئ قد يكون في آن
كالأجسام وغيرها من الأعراض القارة وقد يكون في زمان وهذا على قسمين
(الأول) أن يكون العدم على التدريج كعدم الحركة (والثاني) أن يكون لا
على التدريج كاللامماسة وكعدم الآن.
قال: وحدوث العالم يستلزم حدوثه.
أقول: قد بينا فيما تقدم أن العالم حادث والزمان من جملته فيكون حادثا
بالضرورة والأوائل نازعوا في ذلك وقد تقدم كلامهم والجواب عنه.
المسألة السابعة: في الوضع
قال: السادس الوضع وهو هيئة تعرض للجسم باعتبار نسبتين.
أقول: للوضع من جملة الأعراض النسبية واعلم أن لفظ الوضع يقال على
معان بالاشتراك (أحدها) كون الشئ بحيث يشار إليه إشارة حسية بأنه هنا أو
هناك فالنقطة ذات وضع بهذا الاعتبار دون الوحدة (وثانيها) هيئة تعرض
للجسم بسبب نسبة أجزائه بعضها إلى بعض (والثالث) هيئة تعرض للجسم
بسبب نسبة أجزائه بعضها إلى بعض وبسبب نسبة أجزائه إلى الأمور الخارجة
عنه وهذا هو المقولة المذكورة هنا كالقيام فإنه يفتقر إلى حصور نسبة للأجزاء
ونسبة لها إلى الأمور الخارجية مثل كون رأس القائم من فوق ورجلاه من
أسفل ولولا هذه النسبة لكان الانتكاس قياما وإلى هذا أشار بقوله باعتبار
نسبتين أي باعتبار نسبة الأجزاء بعضها إلى بعض وباعتبار نسبة الأجزاء إلى
الأمور الخارجية.

303
قال: وفيه تضاد وشدة وضعف.
أقول: قد يقع في الوضع تضاد كالقيام والانتكاس فإنهما هيئتان وجوديتان
بينهما غاية الخلاف ومتعاقبتان على موضوع واحد فتكونان متضادين وقد يقع
فيه أيضا شدة وضعف فإن الانتصاب والانتكاس قد يقبلان الشدة والضعف.
المسألة الثامنة: في الملك
قال: السابع الملك وهو نسبة التملك.
أقول: قال أبو علي أن مقولة الملك لم أحصلها إلى الآن ويشبه أن تكون
عبارة عن نسبة الجسم إلى حاوله أو لبعض أجزائه كالتسلخ والتختم فمنه ذاتي
كحال الهرة عند أهابها ومنه عرضي كبدن الإنسان عند قميصه وأما المصنف
(ره) فإنه حصل هذه المقولة وبين أنها عبارة عن نسبة التملك قال رحمه الله
ولخفائها عبر المتقدمون عنها بعبارات مختلفة كالجدة والملك وله.
المسألة التاسعة: في مقولتي الفعل والانفعال
قال: الثامن والتاسع أن يفعل وأن ينفعل.
أقول: هاتان مقولتان ذهب الأوائل إلى أنهما ثابتان عينا وهما عبارتان عن
تأثير الشئ في غيره والتأثر عنه ما دام التأثير والتأثر موجودين وإذا انقطعا قيل
لهما فعل وانفعل فإن الجسم ما دام في الاحتراق قيل له هو ذا يحترق فإذا انقطع
احتراقه واستقر أطلق عليه لفظة المصدر.
قال: والحق ثبوتهما ذهنا وإلا لزم التسلسل.
أقول: والحق ثبوتهما ذهنا وإلا لزم التسلسل.
أقول: المصنف (ره) ذهب هنا إلى ما ذهب إليه المتكلمون وخالف الأوائل
في ذلك وجعل هاتين المقولتين أمرين ذهنيين لا ثبوت لهما عينا وإلا لزم التسلسل
ووجه اللزوم أن ثبوتهما يستدعي علة مؤثرة فيهما فتلك العلة نسبة التأثير إليهما
ولهما نسبة التأثر عنها وذلك يستدعي ثبوت نسبتين أخريين وهكذا إلى ما
لا يتناهى.

304
المقصد الثالث:
في إثبات الصانع تعالى وآثاره وفيه فصول: الأول في وجوده تعالى
قال: المقصد الثالث في إثبات الصانع تعالى وصفاته وآثاره وفيه فصول
الفصل الأول في وجوده - الموجود إن كان واجبا فهو المطلوب ولا استلزامه
لاستحالة الدور والتسلسل.
أقول: يريد إثبات واجب الوجود تعالى وبيان صفاته وما يجوز عليه وما
لا يجوز وبيان أفعاله وآثاره وابتدء بإثبات وجوده لأنه الأصل في ذلك كله
والدليل على وجوده أن نقول هنا موجود بالضرورة فإن كان واجبا فهو المطلوب
وإن كان ممكنا افتقر إلى مؤثر موجود بالضرورة فإن كان واجبا فهو المطلوب
وإن كان ممكنا افتقر إلى مؤثر موجود بالضرورة فذلك المؤثران كان واجبا
فهو المطلوب وإن كان ممكنا افتقر إلى مؤثر فإن كان واجبا فالمطلوب وإن كان
ممكنا تسلسل أو دار وقد تقدم بطلانهما وهذا برهان قاطع أشار إليه في الكتاب
العزيز بقوله (أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد) وهو استدلال
لمي والمتكلمون سلكوا طريقا آخر فقالوا العالم حادث فلا بد له من محدث فلو
كان محدثا تسلسل أو دار وإن كان قديما ثبت المطلوب لأن القدم يستلزم
الوجوب وهذه الطريقة إنما يتمشى بالطريقة الأولى فلهذا اختارها المصنف (ره)
على هذه.
الفصل الثاني في صفاته تعالى وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في أنه تعالى قادر مختار
قال: الثاني في صفاته - وجود العالم بعد عدمه ينفي الايجاب.
أقول: لما فرغ من الدلالة على وجود الصانع تعالى شرع في الاستدلال على
صفاته تعالى وابتدء بالقدرة والدليل على أنه تعالى قادر إنا قد بينا أن العالم حادث

305
فالمؤثر فيه إن كان موجبا لزم حدوثه أو قدم ما فرضناه حادثا أعني العالم والتالي
بقسميه باطل بيان الملازمة أن المؤثر الموجب يستحيل تخلف أثره عنه وذلك
يستلزم أما قدم العالم وقد فرضناه حادثا أو حدوث المؤثر ويلزم التسلسل فظهر
أن المؤثر للعالم قادر مختار.
قال: والواسطة غير معقولة.
أقول: لما فرغ من الاستدلال على مطلوبه شرع في أنواع من الاعتراضات
للخصم مع وجه المخلص منها وتقرير هذا السؤال أن يقال دليلكم يدل على أن
مؤثر العالم مختار وليس يدل على أن الواجب مختار بل جاز أن يكون الواجب
تعالى موجبا لذاته وله معلول يؤثر في العالم على سبيل الاختيار وتقرير الجواب
أن هذه الواسطة غير معقولة لأنا قد بينا حدوث العالم بجملته وأجزائه والمعني
بالعالم كل موجود سوى الله تعالى وثبوت واسطة بين ذات الله تعالى وبين ما
سواه غير معقول.
قال: ويمكن عروض الوجوب والإمكان للأثر باعتبارين (1).
أقول: هذا جواب عن سؤال آخر وتقريره أن المؤثر أما أن يستجمع
جميع جهات المؤثرية أو لا فإن كان الأول كان وجود الأثر عنه واجبا وإلا افتقر
ترجيحه إلى مرجح زائد فلا تكون الجهات بأسرها موجودة هذا خلف أو لزم
الترجيح من غير مرجح وهو باطل بالضرورة وإن لم يكن مستجمعا لجميع
الجهات استحال صدور الأثر عنه وحينئذ لا يمكن تحقق القادر لأنه على تقدير



(1) وبيانه أن القدرة إن اجتمعت مع إرادة الفعل وجب وإن اجتمعت مع إرادة الترك
امتنع فالفعل في حد ذاته مما تشمله القدرة وإن كان يمكن عروض الوجوب أو الامتناع والإمكان
للأثر باعتبارين فاعتبار ذاته ممكن وباعتبار إرادة المؤثر ولا إرادته واجب أو ممتنع والحاصل أن
الفعل باعتبار القدرة وحدها ممكن وباعتبار الإرادة وانضمام الإرادة واجب أو ممتنع وهذا ما
يقال أن الوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار بل يحققه.
306
حصول جميع الجهات يمتنع الترك وعلى تقدير انتفاء بعضها يمتنع الفعل فلا
تتحقق المكنة من الطرفين وتقرير الجواب أن الأثر يعرض له نسبة الوجوب
والإمكان باعتبارين فلا يتحقق الموجب ولا يلزم الترجيح من غير مرجح وبيانه
أن فرض استجماع المؤثر جميع ما لا بد منه في المؤثرية هو بأن يكون المؤثر
المختار مأخوذا مع قدرته التي يستوي طرفا الوجود والعدم بالنسبة إليها ومع
داعيه الذي يرجح أحد طرفيه وحينئذ يجب الفعل بعدهما نظرا إلى وجود
الداعي والقدرة ولا تنافي بين هذا الوجوب وبين الإمكان نظرا إلى مجرد القدرة
والاختيار وهذا كما إذا فرضنا وقوع الفعل من المختار فإنه يصير واجبا من جهة
فرض الوقوع ولا ينافي الاختيار وبهذا التحقيق يندفع جميع المحاذير اللازمة
لأكثر المتكلمين في قولهم القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر لا لمرجح.
قال: واجتماع القدرة على المستقبل مع العدم (1).
أقول: هذا جواب عن سؤال آخر وتقريره أن نقول الأثر أما حاصل في
الحال فواجب فلا يكون مقدورا أو معدوما فممتنع فلا قدرة وتقرير الجواب (2)
أن الأثر معدوم حال حصول القدرة ولا نقول إن القدرة حال عدم الأثر تفعل
الوجود تلك الحال بل في المستقبل فيمكن اجتماع القدرة على الوجود في المستقبل
مع العدم في الحال لا يقال الوجود في الاستقبال غير ممكن في الحال لأنه مشروط
بالاستقبال الممتنع في الحال وإذا كان كذلك فلا قدرة عليه في الحال وعند حضور
الاستقبال يعود الكلام لأنا نقول القدرة لا تتعلق بالوجود في الاستقبال في الحال
بل في الاستقبال.



(1) أن الأثر إن كان حاصلا فهو واجب لأن الشئ ما لم يجب لم يوجد وإن كان معدوما فهو
ممتنع لأن الشئ ما لم يمتنع لا يعدم فلا قدرة في البين.
(2) وبيانه أن القادر يحصل الوجود في ثاني حال العدم ويحصل العدم في ثاني حال الوجود
فلا هو يحصل العدم في حال الوجود ولا الوجود في حالة العدم حتى يلزم تحصيل الحاصل.
307
قال: وانتفاء الفعل ليس فعل الضد (1).
أقول: هذا جواب عن سؤال آخر وتقريره أن القادر لا يتعلق فعله بالعدم
فلا يتعلق فعله بالوجود أما بيان المقدمة الأولى فلأن الفعل يستدعي الوجود
والامتياز وهما ممتنعان في المعدوم وأما الثانية فلأنكم قلتم القادر هو الذي
يمكنه الفعل والترك وإذا انتفى إمكان الترك انتفى إمكان الفعل وتقرير
الجواب (2) أن القادر هو الذي يمكنه أن يفعل وأن لا يفعل وليس لا يفعل عبارة
عن فعل الضد.
قال: وعمومية العلة تستلزم عمومية الصفة.
أقول: يريد بيان أن الله تعالى قادر على كل مقدور وهو مذهب الأشاعرة
وخالف أكثر الناس في ذلك فإن الفلاسفة قالوا إنه تعالى قادر على شئ واحد
لأن الواحد لا يتعدد أثره وقد تقدم بطلان مقالتهم والمجوس ذهبوا إلى أن الخير
من أن الله تعالى والشر من الشيطان لأن الله خير محض وفاعل الشر شرير
والثنوية ذهبوا إلى أن الخير من النور والشر من الظلمة والنظام إلى أن الله تعالى
لا يقدر على القبيح لأنه يدل على الجهل أو الحاجة وذهب البلخي إلى أن الله لا
يقدر على مثل مقدور العبد لأنه أما طاعة أو سفه وذهب الجبائيان إلى أنه تعالى
لا يقدر على عين مقدور العبد وإلا لزم اجتماع الوجود والعدم على تقدير أن
يريد الله إحداثه والعبد عدمه وهذه المقالات كلها باطلة لأن المقتضي لتعلق
القدرة بالمقدور إنما هو الإمكان إذ مع الوجوب والامتناع لا تعلق والإمكان سار
في الجميع فيثبت الحكم وهو صحة التعلق وإلى هذا أشار المصنف (ره) بقوله



(1) الأحسن في الجواب أن نقول إن القادر هو الذي يمكنه أن يفعل وأن لا يفعل وليس
لا يفعل عبارة عن فعل العدم حتى يقال العدم نفي بذاته فلا تتعلق به القدرة والفعل والحاصل
أن انتفاء الفعل ليس فعل الضد.
(2) يعني أن القادر هو الذي يصح منه أن يفعل وأن لا يفعل وعدم الفعل ليس فعلا للعدم.
308
عمومية العلة أي الإمكان يستلزم عمومية الصفة أعني القدرة على كل مقدور
والجواب عن شبهة المجوس أن المراد من الخير والشر إن كان عن فعلهما فلم لا
يجوز إسنادهما إلى شئ واحد وأيضا الخير والشر ليسا ذاتيين للشئ فجاز أن
يكون الشئ خيرا بالقياس إلى شئ وشرا بالقياس إلى آخر وحينئذ يصح
إسنادهما إلى ذات واحدة وعن شبهة النظام أن الإحالة حصلت بالنظر إلى
الداعي فلا ينافي الإمكان الذاتي المقتضي لصحة تعلق القادر وعن شبهة البلخي
أن الطاعة والعبث وصفان لا يقتضيان الاختلاف الذاتي وعن شبهة الجبائيين أن
العدم إنما يحصل إذا لم يوجد داع لقادر آخر على إيجاده.
المسألة الثانية: في أنه تعالى عالم
قال: والإحكام والتجرد وكيفية قدرته واستناد كل شئ إليه دلائل العلم.
أقول: لما فرغ من بيان كونه تعالى قادرا شرع في بيان كونه تعالى عالما
وكيفية علمه واستدل على كونه تعالى عالما بوجوه ثلاثة الأول منها للمتكلمين
والآخران للحكماء (الوجه الأول) أنه تعالى فعل الأفعال المحكمة وكل من
كان كذلك فهو عالم (أما المقدمة الأولى) فحسية لأن العالم أما فلكي أو
عنصري وآثار الحكمة والاتقان فيهما ظاهر مشاهد (وأما الثانية) فضرورية
لأن الضرورة قاضية بأن غير العالم يستحيل منه وقوع الفعل المحكم المتقن مرة
بعد أخرى (الوجه الثاني) أنه تعالى مجرد كل مجرد عالم بذاته وبغيره (1)



(1) قال القوشجي في بيان ذلك أن الباري مجرد وكل مجرد عاقل أي عالم والثاني أن الله
تعالى عالم بذاته وإذا علم ذاته علم ما عداه جميعا أما الأول فلأن العلم عبارة عن حصول المعلوم
عند العالم وهو؟ حاصل في شأنه لأن ذاته غير غائب عن ذاته تعالى فيكون عالما بذاته وأما الثاني
وهو علمه تعالى بما عداه وهو الموجودات لأنه مبدء بلا واسطة أو مع الواسطة والعلم بالعلة يوجب
العلم بالمعلول فراجع إلى كتب الفلسفة إن كنت أهلا لذلك.
309
أما الصغرى فإنها وإن كانت ظاهرة لكن بيانها يأتي فيما بعد (1) عند
الاستدلال على كونه تعالى ليس بجسم ولا جسماني وأما الكبرى
فلأن كل مجرد فإن ذاته حاصلة لذاته لا لغيره وكل مجرد حصل له مجرد فإنه
عاقل لذلك المجرد لأنا لا نعني بالتعقل إلا الحصول فإذن كل مجرد فإنه عاقل
لذاته وأما كل مجرد عالم بغيره فلأن كل مجرد أمكن أن يكون معقولا وكل
ما يمكن أن يكون معقولا وحده أمكن أن يكون معقولا مع غيره وكل مجرد
يعقل مع غيره فإنه عاقل لذلك الغير أما ثبوت المعقولية لكل مجرد فظاهر
لأن المانع من التعقل إنما هو المادة لا غير وأما صحة التقارن في المعقولية
فلأن كل معقول فإنه لا ينفك عن الأمور العامة (2) وأما ثبوت العاقلية (3)
حينئذ فلأن إمكان مقارنة المجرد للغير لا يتوقف على الحضور في العقل لأنه
نوع من المقارنة فيتوقف إمكان الشئ على ثبوته فعلا وهو باطل وإمكان المقارنة
هو إمكان التعقل وفي هذا الوجه أبحاث مذكورة في كتبنا العقلية (الوجه
الثالث) أن كل موجود سواه ممكن على ما يأتي في باب الوحدانية وكل ممكن
فإنه مستند إلى الواجب أما ابتداءا أو بوسائط على ما تقدم وقد سلف أن العلم
بالعلة يستلزم العلم بالمعلول والله تعالى عالم بذاته على ما تقدم فهو عالم بغيره.
قال: والأخير عام.
أقول: الوجه الأخير من الأدلة الثلاثة الدالة على كونه تعالى عالما يدل على
عمومية علمه بكل معلوم وتقريره أن كل موجود سواه ممكن وكل ممكن مستند
إليه فيكون عالما به سواء كان جزئيا أو كليا وسواء كان موجودا قائما بذاته أو
أو عرضا قائما بغيره وسواء كان موجودا في الأعيان أو متعقلا في الأذهان لأن
وجود الصورة في الذهن من الممكنات أيضا فيستند إليه وسواء كانت الصورة



(1) في مسألة الثانية عشرة.
(2) كالإمكان والوحدة والوجود وغيرها فإن كل معقول يصح أن يعقل معه أحد هذه الأمور
(3) أي ثبوت عاقلية المجرد لمجرد آخر قارنه
310
الذهنية صورة أمر وجودي أو عدمي ممكن أو ممتنع فلا يعزب عن علمه شئ
من الممكنات ولا من الممتنعات وهذا برهان شريف قاطع.
قال: والتغاير اعتباري.
أقول: لما فرغ من الاستدلال على كونه تعالى عالما بكل معلوم شرع في
الجواب عن الاعتراضات الواردة على المخالفين وابتدء باعتراض من نفى علمه
تعالى بذاته ولم يذكر الاعتراض صريحا بل أجاب عنه وحذفه للعلم به وتقدير
الاعتراض أن نقول العلم إضافة بين العالم والمعلوم أو مستلزم للإضافة وعلى كلا
التقديرين فلا بد من المغايرة بين العالم والمعلوم ولا مغايرة في علمه بذاته والجواب
أن المغايرة قد تكون بالذات وقد تكون بنوع من الاعتبار وهيهنا ذاته تعالى
من حيث إنها عالمة مغايرة لها من حيث إنها معلومة وذلك كاف في
تعلق العلم.
قال: ولا يستدعي العلم صورا مغايرة للمعلومات عنده لأن نسبة الحصول
إليه أشد من نسبة الصور المعقولة لنا.
أقول: هذا جواب عن اعتراض آخر أورده من نفي علم الله تعالى بالماهيات
المغايرة له وتقرير الاعتراض (1) أن العلم صورة مساوية للمعلوم في العالم فلو كان
الله تعالى عالما بغيره من الماهيات لزم حصول صور تلك المعلومات في ذاته تعالى
وذلك يستلزم تكثره تعالى وكونه قابلا فاعلا ومحلا لآثاره وأنه تعالى لا يوجد
شيئا مما يباين ذاته بل يتوسط الأمور الحالة فيه وكل ذلك باطل وتقرير
الجواب (2) أن العلم لا يستدعي صورا مغايرة للمعلومات عنده تعالى لأن العلم هو



(1) قول الشارح وتقرير الاعتراض توضيحه أن الله تعالى لو كان عالما بالجزئيات كما لو علم
أن زيدا حي ثم مات لزم له الجهل المركب أو تغير علمه لو لم يتغير عند تغير المعلوم لزم
الأول ولو تغير فهو الثاني وكلاهما محالان في حقه تعالى أما الأول فهو ظاهر وأما الثاني فلأن
العلم من الصفات الحقيقية ذات الإضافة وتغيرها يوجب تغير الذات وهو مستلزم للإمكان.
(2) قول الشارح وتقرير الجواب توضيحه إن التغير أو الجهل يلزم على القول بالعلم الحصولي
الذي هو حصول صورة المعلوم في ذات العالم وأما على القول بالعلم الحضوري فلا يلزم ذلك لأنه
ليس بارتسام الصورة في ذات العالم.
311
الحصول عند المجرد على ما تقدم (1) ولا ريب في أن الأشياء كلها حاصلة له لأنه
مؤثرها وموجدها وحصول الأثر للمؤثر أشد من حصول المقبول لقابله مع أن
الثاني لا يستدعي حصول صورة مغايرة للذات الحاصل (2) فإنا إذا عقلنا ذواتنا
لم نفتقر إلى صورة مغايرة لذواتنا ثم إذا أدركنا شيئا ما بصورة تحصل في أذهاننا
فإنا ندرك تلك الصورة الحاصلة في الذهن بذاتها لا باعتبار صورة أخرى وإلا
لزم تضاعف الصور (3) مع أن تلك الصور حاصلة لذاتنا لا بانفرادها بل
بمشاركة من المعقولات فحصول العلم بالموجودات لواجب الوجود الذي يحصل
له الأشياء من ذاته بانفراده من غير افتقاره إلى صور لها أولى ولما كانت ذاته
سببا لكل موجود وعلمه بذاته علة لعلمه بآثاره وكانت ذاته وعلمه بذاته العلتان
متغايرتين بالاعتبار متحدثين بالذات فكذا معلوله والعلم به متحدان بالذات
متغايران بنوع من الاعتبار وهذا بحث شريف أشار إليه صاحب التحصيل
وبسطه المصنف (ره) في شرح الإشارات وبهذا التحقيق يندفع جميع المحالات
لأنها لزمت باعتبار حصول صور في ذاته تعالى الله عن ذلك.
قال: وتغير الإضافات ممكن.
أقول: هذا جواب عن اعتراض الحكماء القائلين بنفي علمه تعالى بالجزئيات
الزمانية وتقرير الاعتراض أن العلم يجب تغيره عند تغير المعلوم وإلا لانتفت
المطابقة لكن الجزئيات الزمانية متغيرة فلو كانت معلومة لله تعالى لزم تغير



(1) لا الحصول في المجرد والفرق بينهما ظاهر ويعبر عن الأول بالحضور.
(2) أي مع أن الثاني الذي يكون الحصول فيه أضعف كحصول الصورة المعقولة في ذاتها
لا يستدعي علمنا به صورة أخرى بل علمنا به هو نفس حضور تلك الصورة عندنا وحصولها
لنا فعلم الباري تعالى بآثاره التي هي ظاهرة له وحاضرة عنده لا يستدعى صورا منها
بطريق أولى.
(3) قوله وإلا لزم تضاعف الصور المعقولة معلومة بنفسها من دون حاجة إلى صورة أخرى
لزم التسلسل وعدم تناهى الصور لأن كل صورة فرضت حالها حال الصورة الأولى.
312
علمه تعالى والتغير في علم الله تعالى محال وتقرير الجواب أن التغير هذا إنما
هو في الإضافات لا في الذات ولا في الصفات الحقيقية كالقدرة التي تتغير
نسبتها وإضافتها إلى المقدور عند عدمه وإن لم يتغير في نفسها وتغير الإضافات
جائز لأنها أمور اعتبارية لا تحقق لها في الخارج.
قال: ويمكن اجتماع الوجوب والإمكان باعتبارين.
أقول: هذا جواب عن احتجاج من نفى علمه تعالى بالمتجددات قبل
وجودها وتقرير كلامهم أن العلم لو تعلق بالمتجدد قبل تجدده لزم وجوبه وإلا
لجاز أن لا يوجد فينقلب علمه تعالى جهلا وهو محال والجواب إن أردتم بوجوب
علمه تعالى أنه واجب الصدور عن العلم فهو باطل لأنه تعالى يعلم ذاته ويعلم
المعلومات وإن أردتم وجوب المطابقة لعلمه فهو صحيح لكن ذلك وجوب
لاحق (1) لا سابق فلا ينافي الإمكان الذاتي وإلا هذا أشار بقوله ويمكن
اجتماع الوجوب والإمكان باعتبارين.
المسألة الثالثة: في أنه تعالى حي
قال: وكل قادر عالم حي بالضرورة.
أقول: اتفق الناس على أنه تعالى حي واختلفوا في تفسيره فقال قوم أنه
عبارة عن كونه تعالى لا يستحيل أن يقدر ويعلم وقال آخرون إنه من كان على
صفة لأجلها يصح أن يعلم ويقدر والتحقيق أن صفاته تعالى إن قلنا بزيادتها على
ذاته فالحياة صفة ثبوتية زائدة على الذات وإلا فالمرجح بها إلى صفة سلبية وهو
الحق وقد بينا أنه تعالى عالم قادر فيكون بالضرورة حيا لأن ثبوت الصفة فرع
عدم استحالتها.
المسألة الرابعة: في أنه تعالى مريد
قال: وتخصيص بعض الممكنات بالإيجاد في وقت يدل على إرادته تعالى.



(1) لا حق بالعلم من جهة المعلوم.
313
أقول: اتفق المسلمون على أنه تعالى مريد لكنهم اختلفوا في معناه
فأبو الحسين جعله نفس الداعي على معنى أن علمه تعالى بما في الفعل من المصلحة
الداعية إلى الايجاد وهو المخصص والإرادة وقال النجار إنه سلبي وهو كونه تعالى
غير مغلوب ولا مستكره وعن الكعبي أنه راجع إلى أنه تعالى عالم بأفعال نفسه
وآمر بأفعال غيره وذهبت الأشعرية والحنابلة والجبائيان إلى أنه صفة زائدة على
العلم والدليل على ثبوت الصفة مطلقا أن الله تعالى أوجد بعض الممكنات دون
بعض مع تساوي نسبتها إلى القدرة فلا بد من مخصص غير القدرة التي شأنها
الايجاد مع تساوي نسبتها إلى الجميع وغير العلم التابع للمعلوم وذلك المخصص
هو الإرادة وأيضا بعض الممكنات مخصص بالإيجاد في وقت دون ما قبله وبعده
مع التساوي فلا بد من مرجح غير القدرة والعلم.
قال: وليست زائدة على الداعي وإلا لزم التسلسل أو تعدد القدماء.
أقول: اختلف الناس هيهنا فذهبت الأشعرية إلى إثبات أمر زائد على ذاته
قديم هو الإرادة والمعتزلة اختلفوا فقال أبو الحسين إنها نفس الداعي وهو الذي
اختاره المصنف (ره) وقال أبو علي وأبو هاشم أن إرادته حادثة لا في محل
وقالت الكرامية أن إرادته حادثة في ذاته والدليل على ما اختاره المصنف (ره)
أن إرادته لو كانت قديمة لزم تعدد القدماء والتالي باطل فالمقدم مثله ولو كانت
حادثة إما في ذاته أو لا في محل لزم التسلسل لأن حدوث الإرادة في وقت دون
آخر يستلزم ثبوت إرادة مخصصة والكلام فيها كالكلام هيهنا.
المسألة الخامسة: في أنه تعالى سميع بصير
قال: والنقل دل على اتصافه بالإدراك والعقل على استحالة الآلات.
أقول: اتفق المسلمون كافة على أنه تعالى مدرك واختلفوا في معناه فالذي
ذهب إليه أبو الحسين أن معناه علمه بالمسموعات والمبصرات وأثبت الأشعرية
وجماعة من المعتزلة صفة زائدة على العلم والدليل على ثبوت كونه تعالى سميعا
بصيرا السمع فإن القرآن قد دل عليه وإجماع المسلمين على ذلك إذا عرفت هذا

314
فنقول السمع والبصر في حقنا إنما يكون بآلات جسمانية وكذا غيرهما من
الإدراكات وهذا الشرط ممتنع في حقه تعالى بالعقل فإما أن يرجع بالسمع
والبصر إلى ما ذهب إليه أبو الحسين وإما إلى صفات زائدة غير مفتقرة إلى
الآلات في حقه تعالى.
المسألة السادسة: في أنه تعالى متكلم
قال: وعمومية قدرته تدل على ثبوت الكلام والنفساني غير معقول.
أقول: ذهب المسلمون كافة إلى أنه تعالى متكلم فاختلفوا في معناه فعند
المعتزلة أنه تعالى أوجد حروفا وأصواتا في أجسام دالة على المراد وقالت
الأشاعرة أنه متكلم بمعنى أنه قائم بذاته معنى غير العلم والإرادة وغيرهما من
الصفات تدل عليها العبارات وهو الكلام النفساني وهو عندهم معنى واحد ليس
بأمر ولا نهي ولا خبر ولا غير ذلك من أساليب الكلام والمصنف (ره) حينئذ
استدل على ثبوت الكلام بالمعنى الأول بما تقدم من كونه تعالى قادرا على كل
مقدور ولا شك في إمكان خلق أصوات في أجسام تدل على المراد وقد اتفقت
المعتزلة والأشاعرة على إمكان هذا لكن الأشاعرة أثبتوا معنى آخر والمعتزلة
نفوا هذا المعنى لأنه غير معقول إذ لا يعقل ثبوت معنى غير العلم ليس بأمر
ولا نهي ولا خبر ولا استخبار وهو قديم والتصديق موقوف على التصور.
قال: وانتفاء القبح عنه تعالى يدل على صدقه.
أقول: لما أثبت كونه تعالى متكلما وبين معناه شرع في بيان كونه تعالى
صادقا، وقد اتفق المسلمون عليه لكنه لا يتمشى على أصول الأشاعرة وأما
المعتزلة فهذا المطلب عندهم ظاهر الثبوت لأن الكذب قبيح بالضرورة، والله
تعالى منزه عن القبائح لأنه تعالى حكيم على ما يأتي فلا يصور الكذب عنه تعالى.
المسألة السابعة: في أنه تعالى باق
قال: ووجوب الوجود يدل على سر مديته ونفي الزائد.

315
أقول: اتفق المثبتون للصانع على أنه تعالى باق أبدا واختلفوا فذهب الأشعري
إلى أنه باق ببقاء يقوم به وذهب آخرون إلى أنه باق لذاته وهو الحق الذي
اختاره المصنف (ره) والدليل على أنه تعالى باق ما تقدم من بيان وجوب
وجوده لذاته وواجب الوجود لذاته لا يجوز عليه العدم وإلا لكان ممكنا
والاعتراض الذي يورد هيهنا وهو أنه يجوز أن يكون واجبا لذاته في وقت
وممتنعا في وقت آخر يدل على سوء فهم المورد (1) لأن ماهيته حينئذ بالنظر
إليها مجردة عن الوقتين تكون قابلة لصفتي الوجود والعدم ولا نعني بالممكن سوى
ذلك (واعلم) أن هذا الدليل كما يدل على وجوب البقاء يدل على انتفاء المعنى
الذي أثبته أبو الحسن الأشعري لأن وجوب الوجود يقتضي الاستغناء عن الغير
فلو كان باقيا بالبقاء كان محتاجا إليه فيكون ممكنا هذا خلف.
المسألة الثامنة: في أنه تعالى واحد
قال: والشريك.
أقول: هذا عطف على الزائد أي وجوب الوجود يدل على نفي الزائد ونفي
الشريك (واعلم) أن أكثر العقلاء اتفقوا على أنه تعالى واحد والدليل على ذلك
النقل والعقل أما العقل فما تقدم من وجوب وجوده تعالى فإنه يدل على وحدته
لأنه لو كان هناك واجب وجود آخر لتشاركا في مفهوم كون كل واحد منهما
واجب الوجود فإما أن يتميزا أولا والثاني يستلزم المطلوب وهو انتفاء الشركة
والأول يستلزم التركيب وهو باطل وإلا لكان كل واحد منهما ممكنا وقد فرضناه
واجبا هذا خلف وأما النقل فظاهر.
المسألة التاسعة: في أنه تعالى مخالف لغيره من الماهيات
قال: والمثل.



(1) هذا المورد قاس الواجب بالذات على الواجب بالغير فإنه واجب في وقت وجود علته
ويمتنع في وقت عدم علته.
316
أقول: هذا عطف على الزائد أيضا أي وجوب الوجود يدل على نفي الزائد
ونفي الشريك ونفي المثل وهذا مذهب أكثر العقلاء وخالف فيه أبو هاشم فإنه
جعل ذاته مساوية لغيره من الذوات وإنما يخالفها بحالة توجب الأحوال الأربعة
وهي الحيية والعالمية والقادرية والسجودية وتلك الحالة هي صفة الإلهية وهذا
المذهب لا شك في بطلانه فإن الأشياء المتساوية تتشارك في لوازمها فلو كانت.
الذوات متساوية جاز انقلاب القديم محدثا وبالعكس وذلك باطل بالضرورة.
المسألة العاشرة: في أنه تعالى غير مركب
قال: والتركيب بمعانيه.
أقول: هذا عطف على الزائد بمعنى أن وجوب الوجود يقتضي نفي التركيب
أيضا والدليل على ذلك أن كل مركب فإنه مفتقر إلى أجزائه لتأخره وتعليله
بها وكل جزء من المركب فإنه مغاير له وكل مفتقر إلى الغير ممكن فلو كان
الواجب تعالى مركبا كان ممكنا هذا خلف فوجوب الوجود يقتضي نفي التركيب
واعلم أن التركيب قد يكون عقليا وهو التركيب من الجنس والفصل وقد
يكون خارجيا كتركيب الجسم من المادة والصورة وتركيب المقادير وغيرها
والجميع منتف عن الواجب تعالى لاشتراك المركبات في افتقارها إلى الأجزاء
فلا جنس له ولا فصل له ولا غيرهما من الأجزاء الحسية عقلية.
المسألة الحادية عشرة: في أنه تعالى لا ضد له
قال: والضد.
أقول: هذا عطف على الزائد أيضا فإن وجوب الوجود يقتضي نفي الضد
لأن الضد يقال بحسب المشهور على ما يعاقب غيره من الذوات على المحل
أو الموضوع مع التنافي بينهما وواجب الوجود يستحيل عليه الحلول فلا ضد له
بهذا المعنى ويطلق أيضا على مساو في القوة ممانع وقد بينا أنه تعالى لا مثل له
فلا مشارك له تعالى في القوة.

317
المسألة الثانية عشرة: في أنه تعالى ليس بمتحيز
قال: والتحيز.
أقول: هذا عطف على الزائد أيضا فإن وجوب الوجود يقتضي نفي التحيز
عنه تعالى وهذا حكم متفق عليه بين أكثر العقلاء وخالف فيه المجسمة والدليل
على ذلك أنه تعالى لو كان متحيزا لم ينفك عن الأكوان الحادثة وكل ما لا ينفك
عن الحوادث فهو حادث وقد سبق تقرير ذلك وكل حادث ممكن فلا يكون
واجبا هذا خلف ويلزم من نفي التحيز نفي الجسمية.
المسألة الثالثة عشرة: في أنه تعالى ليس بحال في غيره
قال: والحلول.
أقول: هذا عطف على الزائد فإن وجوب الوجود يقتضي كونه تعالى ليس
حالا في غيره وهذا حكم متفق عليه بين أكثر العقلاء وخالف فيه بعض النصارى
القائلين بأنه تعالى حال في المسيح وبعض الصوفية القائلين بأنه تعالى حال في بدن
العارفين وهذا المذهب لا شك في سخافته لأن المعقول من الحلول قيام موجود
بموجود آخر على سبيل التبعية بشرط امتناع قيامه بذاته وهذا المعنى منتف في
حقه تعالى لاستلزامه الحاجة المستلزمة للإمكان.
المسألة الرابعة عشرة: في نفي الاتحاد عنه تعالى
قال: والاتحاد.
أقول: هذا عطف على الزائد فإن وجوب الوجود ينافي الاتحاد لأنا قد
بينا أن وجوب الوجود يستلزم الوحدة فلو اتحد بغيره لكان ذلك الغير ممكنا
فيكون الحكم الصادق على الممكن صادقا على المتحد به فيكون الواجب ممكنا
وأيضا اتحد بغيره لكان بعد الاتحاد إما أن يكونا موجودين كما كانا فلا اتحاد
وإن عدما أو عدم أحدهما فلا اتحاد أيضا ويلزم عدم الواجب فيكون ممكنا
هذا خلف.

318
المسألة الخامسة عشرة: في نفي الجهة عنه تعالى
قال: والجبة.
أقول: هذا حكم من الأحكام اللازمة لوجوب الوجود وهو معطوف على
الزائد وقد نازع فيه جميع المجسمة فإنهم ذهبوا إلى أنه في جهة وأصحاب
أبي عبد الله بن الكرام اختلفوا فقال محمد بن هيثم أنه تعالى في جهة فوق العرش
لا نهاية لها والبعد بينه وبين العرش أيضا غير متناه وقال بعضهم البعد متناه
وقال قوم منهم أنه تعالى على العرش كما يقول المجسمة وهذه المذاهب كلها فاسدة
لأن كل ذي جهة فهو مشار إليه ومحل للأكوان الحادثة فيكون حادثا فلا
يكون واجبا.
المسألة السادسة عشرة: في أنه تعالى ليس محلا للحوادث
قال: وحلول الحوادث فيه.
أقول: وجوب الوجود ينافي حلول الحوادث في ذاته تعالى وهو معطوف
على الزائد وقد خالف فيه الكرامية والدليل على الامتناع أن حدوث الحوادث
فيه تعالى يدل على تغيره وانفعاله في ذاته وذلك ينافي الوجوب وأيضا فإن
المقتضي للحادث إن كان ذاته كان أزليا وإن كان غيره كان الواجب مفتقرا إلى
الغير وهو محال ولأنه إن كان صفة كمال استحال خلو الذات عنه وإن لم يكن
استحال اتصاف الذات به.
المسألة السابعة عشرة: في أنه تعالى غني
قال: والحاجة.
أقول: وجوب الوجود ينافي الحاجة وهو معطوف على الزائد وهذا الحكم
ظاهر فإن وجوب الوجود يستدعي الاستغناء عن الغير في كل شئ فهو ينافي
الحاجة ولأنه لو افتقر إلى غيره لزم الدور لأن ذلك الغير محتاج إليه لإمكانه
(لا يقال) الدور غير لازم لأن الواجب مستغن في ذاته وبعض صفاته عن ذلك

319
الغير وبهذا الوجه يؤثر في ذلك الغير فإذا احتاج في جهة أخرى إلى ذلك الغير
انتفى الدور (لأنا نقول) هذا بناء على أن صفاته تعالى زائدة على الذات وهو
باطل كما سيأتي وأيضا فالدور لا يندفع لأن ذلك الممكن بالجهة التي يؤثر في
الواجب تعالى صفة يكون محتاجا إليه وحينئذ يلزم الدور المحال ولأن افتقاره
في ذاته يستلزم إمكانه وكذا في صفاته لأن ذاته موقوفة على وجود تلك الصفة
أو عدمها المتوقفين على الغير فيكون متوقفا على الغير فيكون ممكنا وهذا
برهان عول عليه الشيخ ابن سينا.
المسألة الثامنة عشرة: في استحالة الألم واللذة عليه تعالى
قال: والألم مطلقا واللذة المزاجية.
أقول: هذا أيضا عطف على الزائد فإن وجوب الوجود يستلزم نفي الألم
واللذة اعلم أن اللذة والألم قد يكونان من توابع المزاج فإن اللذة من توابع اعتدال
المزاج والألم من توابع سوء المزاج وهذان المعنيان إنما يصحان في حق الأجسام
وقد ثبت بوجوب الوجود أنه تعالى يستحيل أن يكون جسما فينتفيان عنه وقد
يعني بالألم إدراك المنافي وباللذة إدراك الملائم فالألم بهذا المعنى منفى عنه لأن
واجب الوجود لا منافي له وأما اللذة بهذا المعنى فقد اتفق الأوائل على ثبوتها لله
تعالى لأنه مدرك لأكمل الموجودات أعني ذاته فيكون ملتذا به والمصنف كأنه
قد ارتضى هذا القول وهذا مذهب ابن نوبخت وغيره من المتكلمين إلا أن إطلاق
لفظ الملتذ عليه يستدعي الإذن الشرعي.
المسألة التاسعة عشرة:
في نفي المعاني (1) والأحوال (2) والصفات الزايدة في الأعيان



(1) والمراد من المعاني العلم والقدرة الزائدة على الذات بأن يكون الذات شيئا والعلم
شيئا آخر.
(2) والأحوال عبارة عن العالمية والقادرية الزائدة على الذات بأن يكون الذات شيئا والعالمية
شيئا آخر.
320
قال: والمعاني والأحوال والصفات (1) الزايدة عينا.
أقول: ذهبت الأشاعرة إلى أن لله تعالى معاني قائمة بذاته هي القدرة
والعلم وغيرهما من الصفات تقتضي القادرية والعالمية والحيية وغيرها من باقي
الصفات وأبو هاشم أثبت أحوالا غير معلومة لكن يعلم الذات عليها وجماعة من
المعتزلة أثبتوا لله تعالى صفات زايدة على الذات وهذه المذاهب كلها ضعيفة لأن
وجوب الوجود يقتضي نفي هذه الأمور عنه لأنه تعالى يستحيل أن يتصف بصفة
زايدة على ذاته سواء جعلناها معنى أو حالا أو صفة غيرهما لأن وجوب
الوجود يقتضي الاستغناء عن كل شئ فلا يفتقر في كونه قادرا إلى صفة القدرة
ولا في كونه عالما إلى صفة العلم ولا غير ذلك من المعاني والأحوال وإنما قيد
الصفات بالزايدة عينا لأنه تعالى موصوف بصفات الكمال لكن تلك الصفات نفس
الذات في الحقيقة وإن كانت مغايرة لها بالاعتبار.
المسألة العشرون: في أنه تعالى ليس بمرئي
قال: والرؤية.
أقول: وجوب الوجود يقتضي نفي الرؤية أيضا (واعلم) أن أكثر العقلاء
ذهبوا إلى امتناع رؤيته تعالى والمجسمة جوزوا رؤيته لاعتقادهم أنه تعالى جسم
ولو اعتقدوا تجرده لم يجوزوا رؤيته عندهم والأشاعرة خالفوا العقلاء كافة هنا
وزعموا أنه تعالى مع تجرده يصح رؤيته والدليل على امتناع الرؤية أن وجوب
الوجود يقتضي تجرده ونفي الجهة والحيز عنه فينتفى الرؤية عنه بالضرورة لأن
كل مرئي فهو في جهة يشار إليه بأنه هناك أو هنا ويكون مقابلا أو في حكم



(1) والمراد بها صفات خارجة عن الذات وإنما قلنا نبقي وجوب الوجود لها لأن هذه الأمور
إن كانت واجبة لزم؟ تعدد القدماء وإن كانت ممكنة فلا ربط لها بالواجب.
321
المقابل ولما انتفى هذا المعنى عنه تعالى انتفت الرؤية.
قال: وسؤال موسى لقومه.
أقول: لما استدل على نفي الرؤية شرع في الجواب عن الاحتجاج والأشاعرة
قد احتجوا بوجوه أجاب المصنف (ره) عنها الأول أن موسى (ع) سئل الرؤية
ولو كانت ممتنعة لم يصح عنه السؤال (والجواب) أن السؤال كان من موسى
(ع) لقومه ليبين لهم امتناع الرؤية لقوله تعالى (لن نؤمن لك حتى نرى الله
جهرة فأخذتهم الصاعقة) وقوله (أفتهلكنا بما فعل السفهاء منا).
قال: والنظر لا يدل على الرؤية مع قبوله التأويل (1).
أقول: تقرير الوجه الثاني لهم أنه تعالى حكى عن أهل الجنة النظر إليه
فقال (إلى ربها ناظرة) والنظر المقرون بحرف إلى يفيد الرؤية لأنه حقيقة في
تقليب الحدقة نحو المطلوب التماسا للرؤية وهذا متعذر في حقه تعالى لانتفاء الجهة
عنه فيتعين أن يكون المراد منه المجاز وهي الرؤية التي هي معلولة النظر الحقيقي
واستعمال لفظ السبب في المسبب من أحسن وجوه المجاز (والجواب) المنع من
إرادة هذا المجاز فإن النظر وإن اقترن به حرف إلى لا يفيد الرؤية ولهذا يقال
نظرت إلى الهلال فلم أره وإذا لم يتعين هذا المعنى للإرادة أمكن حمل الآية على
غيره وهو أن يقال إن إلى واحد الا لاء ويكون معنى ناظرة أي منتظرة أو



(1) عقيدة أهل السنة والعامة كلهم في رؤية الله تعالى قال في كتاب توضيح التوحيد من تحفة
المريد الجزء الثالث لطلبة الثالثة الثانوية بالمعاهدة الأزهرية تأليف حسين محمد المصري وكيل
معهد الإسكندرية تاريخ الطبع 1392 ه‍ صفحة 15 رأي أهل السنة: أما أهل السنة فقد رأوا
أن رؤية الله جائزة عقلا وشرعا دليلهم العقلي إن الله موجود وكل موجود يجوز أن يرى فالله
يجوز أن يرى، الجواب أن الكبرى لا تكون كليا لأن من جملة الموجودات الروح والنفس
والجاذبية والهواء موجودة ومع ذلك لا يمكن رؤيتها وعقيدة أهل السنة باطل أساسا فراجع إلى
كتاب عقائد الإمامية الاثنا عشرية تأليف المحشى
322
نقول إن المضاف هنا محذوف وتقديره إلى ثواب ربها ناظرة (لا يقال) الانتظار
سبب الغم والآية سيقت لبيان النعم (لأنا نقول) سياق الآية يدل على تقدم حال
أهل الثواب والعقاب على استقرارهم في الجنة والنار بقوله (وجوه يومئذ ناظرة)
بدليل قوله تعالى (ووجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة) فإن في حال
استقرار أهل النار في النار قد فعل بها فاقرة فلا يبقى للظن معنى وإذا كان
كذلك فانتظار النعمة بعد البشارة بها لا يكون سببا للغم بل سببا للفرح
والسرور ونضارة الوجه كمن يعلم وصول نفع إليه يقينا في وقت فإنه يسر
بذلك وإن لم يحضر الوقت كما أن انتظار العقاب بعد الانذار بوروده يوجب
الغم ويقتضي بسارة الوجه.
قال: وتعليق الرؤية باستقرار المتحرك لا يدل على الإمكان.
أقول: هذا جواب عن الوجه الثالث للأشعرية وتقرير احتجاجهم أن الله
سبحانه وتعالى علق الرؤية في سؤال موسى عليه السلام على استقرار الجبل والاستقرار
ممكن لأن كل جسم فسكونه ممكن والمعلق على الممكن ممكن والجواب أنه تعالى
علق الرؤية على الاستقرار لا مطلقا بل على استقرار الجبل حال حركته واستقرار
الجبل حال الحركة محال فلا يدل على إمكان المعلق (1).
قال: واشتراك المعلولات لا يدل على اشتراك العلل مع منع التعليل
والحصر.
أقول: هذا جواب عن شبهة الأشاعرة من طريق العقل استدلوا بها على
جواز رؤيته تعالى وتقريرها أن الجسم والعرض قد اشتركا في صحة الرؤية وهذا
حكم مشترك يستدعي علة مشتركة ولا مشترك بينهما إلا الحدوث أو الوجود
والحدوث لا يصلح للعلية لأنه مركب من قيد عدمي فيكون عدميا فلم يبق



(1) وحاصل كلامهم أن علة صحة رؤية الأجسام والأعراض هي الوجود لا غير والوجود
مشترك بين الواجب والممكن وكلما تحقق العلة تحقق المعلول.
323
إلا الوجود فكل موجود يصح رؤيته وأنه تعالى موجود وهذا الدليل ضعيف
جدا لوجوه (الأول) المنع من رؤية الجسم بل المرئي هو اللون أو الضوء لا
غير (الثاني) لا نسلم اشتراكهما في صحة الرؤية فإن رؤية الجوهر مخالفة
لرؤية العرض (الثالث) لا نسلم أن الصحة ثبوتية بل هي أمر عدمي لأن
جنس صحة الرؤية وهو الإمكان عدمي فلا يفتقر إلى العلة (الرابع) لا نسلم أن
المعلول المشترك يستدعي علة مشتركة فإنه يجوز اشتراك العلل المختلفة في
المعلولات المتساوية (الخامس) لا نسلم الحصر في الحدوث والوجود وعدم
العلم لا يدل على العدم مع إنا نتبرع قسما آخر وهو الإمكان وجاز التعليل به
وإن كان عدميا لأن صحة الرؤية عدمية (السادس) لا نسلم أن الحدوث لا
يصلح للعلية وقد بينا أن صحة الرؤية عدمية على إنا نمنع من كون الحدوث
عدميا لأنه عبارة عن الوجود المسبوق بالغير لا المسبوق بالعدم (السابع) لم لا
يجوز أن تكون العلة هي الوجود بشرط الإمكان أو بشرط الحدوث والشروط
يجوز أن تكون عدمية (الثامن) المنع من كون الوجود مشتركا لأن وجود كل
شئ نفس حقيقته ولو سلم كون الوجود الممكن مشتركا لكن وجود الله تعالى
مخالف لغيره من الوجودات لأنه نفس حقيقته ولا يلزم من كون وجود بعض
الماهيات علة لشئ كون ما يخالفه علة لذلك الشئ (التاسع) المنع من وجود
الحكم عند وجود المقتضي فإنه جاز وجود مانع في حقه تعالى أما ذاته أو صفة
من صفاته أو نقول الحكم يتوقف على شرط كالمقابلة هنا وهي تمتنع في حقه تعالى
فلا يلزم وجود الحكم فيه.
المسألة الحادية والعشرون: في باقي الصفات
قال: وعلى ثبوت الجود.
أقول: هذا عطف على قوله على سر مديته أي أن وجوب الوجود يدل على
سرمديته وعلى ثبوت الجود واعلم أن الجود هو إفادة ما ينبغي للمستفيد من غير

324
استعاضة منه والله تعالى قد أفاد الوجود الذي ينبغي للمكنات من غير أن
يستعيض منها شيئا من صفة حقيقية أو إضافية فهو جواد وجماعة الأوائل نفوا
الغرض عن الجواد وهو باطل وسيأتي بيانه في باب العدل.
قال: والملك.
أقول: وجوب الوجود يدل على كونه تعالى ملكا لأنه غني عن الغير في
ذاته وصفاته الحقيقية المطلقة والحقيقية المستلزمة للإضافة وكل شئ مفتقر إليه
لأن كل ما عداه ممكن إنما يوجد بسببه وله ذات كل شئ لأنه مملوك له مفتقر
إليه في تحقيق ذاته فيكون ملكا لأن الملك هو المستجمع لهذه الصفات الثلاث.
قال: والتمام وفوته.
أقول: وجوب الوجود يدل على كونه تعالى تاما وفوق التمام أما كونه تاما
فلأنه واحد على ما سلف واجب من كل جهة يمتنع تغيره وانفعاله وتجدد شئ
له فكل ما من شأنه أن يكون له فهو حاصل له بالفعل وأما كونه فوق التمام
فلأن ما يحصل لغيره من الكمالات فهو منه مستفاد.
قال: والحقية.
أقول: وجوب الوجود يدل على ثبوت الحقية له تعالى واعلم أن الحق يقال
للثابت مطلقا والثابت دائما ويقال على حال القول والعقد بالنسبة إلى المقول
والمعتقد إذا كان مطابقا وهو الصادق أيضا لكن باعتبار نسبة القول والعقد إليه
والله تعالى واجب الثبوت والدوام غير قابل للعدم والبطلان فذاته أحق من كل
حق وهو محقق كل حقيقة.
قال: والخيرية.
أقول: وجوب الوجود يدل على ثبوت وصف الخيرية لله تعالى لأن الخير
عبارة عن الوجود والشر عبارة عن عدم كمال الشئ من حيث هو مستحق له
وواجب الوجود يستحيل أن يعدم عنه شئ من الكمالات فلا يتطرق إليه الشرية

325
بوجه من الوجوه فهو خير محض.
قال: والحكمة.
أقول: وجوب الوجود يقتضي وصف الله تعالى بالحكمة لأن الحكمة قد
يعنى بها معرفة الأشياء وقد يراد بها صدور الشئ على الوجه الأكمل ولا عرفان
أكمل من عرفانه تعالى فهو حكيم بالمعنى الأول وأيضا فإن أفعاله تعالى في غاية
الإحكام والاتقان ونهاية الكمال فهو حكيم بالمعنى الثاني أيضا.
قال: والتجبر.
أقول: وجوب الوجود يقتضي وصفه تعالى بكونه جبارا لأن وجوب
الوجود يقتضي استناد كل شئ إليه فهو يجبر ما بالقوة بالفعل والتكميل كالمادة
بالصورة فهو جبار من حيث إنه واجب الوجود.
قال: والقهر.
أقول: وجوب الوجود يقتضي وصفه تعالى بكونه قهارا بمعنى أنه يقهر
العدم بالوجود والتحصيل.
قال: والقيومية.
أقول: وصفه تعالى بكونه واجب الوجود يقتضي وصفه بكونه قيوما
بمعنى أنه قائم بذاته ومقيم لغيره لأن وجوب الوجود يقتضي استغنائه عن
غيره وهو معنى قيامه بذاته ويقتضي استناد غيره إليه وهو المعنى بكونه
مقيما لغيره.
قال: وأما اليد والوجه والقدم والرحمة والكرم والرضا والتكوين فراجعة
إلى ما تقدم (1):
أقول: ذهب أبو الحسن الأشعري إلى أن اليد صفة وراء القدرة والوجه



(1) اليد عبارة عن القدرة يد الله فوق أيديهم والوجه عبارة عن وجود الله تعالى كل شئ
فإن إلا وجهه تعالى.
326
صفة مغايرة للوجود وذهب عبد الله بن سعيد إلى أن القدم صفة مغايرة للبقاء
وأن الرحمة والكرم والرضا صفات مغايرة للإرادة وأثبت جماعة من الحنفية
أن التكوين صفة مغايرة للقدرة والتحقيق إن هذه الصفات راجعة إلى ما تقدم.
الفصل الثالث في أفعاله تعالى وفيه مسائل
المسألة الأولى: في إثبات الحسن والقبح العقليين
قال: الفصل الثالث في أفعاله - الفعل المتصف بالزائد إما حسن أو قبيح
والحسن أربعة.
أقول: لما فرغ من إثباته تعالى وبيان صفاته شرع في بيان عدله وأنه تعالى
حكيم لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب وما يتعلق بذلك من المسائل وبدأ بقسمة
الفعل إلى الحسن والقبيح وبين أن الحسن والقبح أمران عقليان وهذا حكم
متفق عليه بين المعتزلة وأما الأشاعرة فإنهم ذهبوا إلى أن الحسن والقبح إنما
يستفادان من الشرع فكلما أمر الشرع به فهو حسن وكلما نهى عنه فهو قبيح ولولا
الشرع لم يكن حسن ولا قبيح ولو أمر الله تعالى بما نهى عنه لانقلب القبيح إلى
الحسن والأوائل ذهبوا إلى أن من الأشياء ما هو حسن ومنها ما هو قبيح بالنظر
إلى العقل العملي وقد شنع أبو الحسين على الأشاعرة بأشياء ردية وما شنع به فهو
حق إذ لا تتمشى قواعد الإسلام بارتكاب ما ذهب إليه الأشعرية من تجويز
القبائح عليه تعالى وتجويز إخلاله بالواجب وما أدري كيف يمكنهم الجمع بين
هذين المذهبين.
واعلم: أن الفعل من المتصورات الضرورية وقد حده أبو الحسين بأنه ما
حدث عن قادر مع أنه حد القادر بأنه الذي يصح أن يفعل وأن لا يفعل فلزم
الدور على أن الفعل أعم من الصادر عن قادر أو غيره إذا عرفت هذا فالفعل
الحادث أما أن لا يوصف بأمر زائد على حدوثه وهو مثل حركة الساهي والنائم

327
وأما أن يوصف وهو قسمان حسن وقبيح فالحسن ما لا يتعلق بفعله ذم والقبيح
بخلافه والحسن أما أن لا يكون له وصف زائد على حسنه وهو المباح ويرسم بأنه
ما لا مدح فيه على الفعل والترك وأما أن يكون له وصف زائد على حسنه فأما
أن يستحق المدح بفعله والذم بتركه وهو الواجب أو يستحق المدح بفعله ولا
يتعلق بتركه ذم وهو المندوب أو يستحق المدح بتركه ولا يتعلق بفعله ذم وهو
المكروه فقد انقسم الحسن إلى الأحكام الأربعة الواجب والمندوب والمباح والمكروه
ومع الحرام تصير الأحكام الحسنة والقبيح خمسة.
قال: وهما عقليان للعلم بحسن الاحسان وقبح الظلم من غير شرع.
أقول: استدل على أن الحسن والقبح أمران عقليان بوجوه هذا أولها وتقريره
إنا نعلم بالضرورة حسن بعض الأشياء وقبح بعضها من غير نظر إلى شرع فإن كل
عاقل يجزم بحسن الاحسان ويمدح عليه وبقبح الإسائة والظلم ويذم عليه وهذا
حكم ضروري لا يقبل الشك وليس مستفادا من الشرع لحكم البراهمة والملاحدة
به من غير اعتراف منهم بالشرائع.
قال: ولانتفائهما مطلقا لو ثبتا شرعا.
أقول: هذا وجه ثان يدل على أن الحسن والقبح عقليان وتقريره أنهما لو
ثبتا شرعا لم يثبتا لا شرعا ولا عقلا والتالي باطل إجماعا فالمقدم مثله بيان الشرطية
إنا لو لم نعلم حسن الأشياء وقبحها عقلا لم نحكم بقبح الكذب فجاز وقوعه من الله
تعالى عن ذلك علوا كبيرا فإذا أخبرنا في شئ أنه قبيح لم نجزم بقبحه وإذا
أخبرنا في شئ أنه حسن لم نجزم بحسنه لتجويز الكذب لجوزنا أن يأمرنا بالقبيح
وأن ينهانا عن الحسن لانتفاء حكمته تعالى على هذا التقدير.
قال: ولجاز التعاكس.
أقول: الذي خطر لنا في تفسير هذا الكلام أنه لو لم يكن الحسن والقبح
عقليين لجاز أن يقع التعاكس في الحسن والقبح بأن يكون ما نتوهمه حسنا

328
قبيحا وبالعكس وكان يجوز أن يكون هناك أمم عظيمة يعتقدون حسن مدح
من أساء إليهم وذم من أحسن كما حصل لنا اعتقاد عكس ذلك ولما علم كل عاقل
بطلان ذلك جزمنا باستناد هذه الأحكام إلى القضايا العقلية لا الأوامر والنواهي
الشرعية ولا العادات.
قال: ويجوز التفاوت في العلوم لتفاوت التصور.
أقول: لما استدل على مذهبه من إثبات الحسن والقبح العقليين شرع في
الجواب عن شبهة الأشاعرة وقد احتجوا بوجوه (الأول) لو كان العلم بقبح
الأشياء وحسنها ضروريا لما وقع التفاوت بينه وبين العلم بزيادة الكل على الجزء
والتالي باطل بالوجدان فالمقدم مثله والشرطية ظاهرة لأن العلوم الضرورية لا
تتفاوت (والجواب) المنع من الملازمة فإن العلوم الضرورية قد تتفاوت بوقوع
التفاوت في التصورات. فقوله: (ويجوز التفاوت في العلوم لتفاوت التصور)
إشارة إلى هذا الجواب.
قال: وارتكاب أقل القبيحين مع إمكان التخلص
أقول: هذا يصلح أن يكون جوابا عن شبهتين للأشعرية (أحديهما) قالوا
لو كان الكذب قبيحا لكان الكذب المقتضي لتخليص النبي من يد الظالم قبيحا
والتالي باطل لأنه يحسن تخليص النبي فالمقدم مثله (الثانية) قالوا لو قال
الإنسان لا كذبن غدا فإن حسن منه الصدق بإيفاء الوعد لزم حسن الكذب وإن
قبح كان الصدق قبيحا فيحسن الكذب (والجواب) فيهما واحد وذلك لأن
تخليص النبي أرجح من الصدق فيكون تركه أقبح من الكذب فيجب ارتكاب
أدنى القبيحين وهو الكذب لاشتماله على المصلحة العظيمة الراجحة على الصدق
وأيضا يجب ترك الكذب في غد لأنه إذا كذب في الغد فعل شيئا فيه جهتا قبح
وهو العزم على الكذب وفعله ووجها واحدا من وجوه الحسن وهو الصدق
وإذا ترك الكذب يكون قد ترك الكذب والعزم على الكذب وهما وجها حسن

329
وفعل وجها واحدا من وجوه القبح وهو الكذب وأيضا قد يمكن التخلص عن
الكذب في الصورة الأولى بأن يفعل التورية أو يأتي بصورة الإخبار الكذب
من غير قصد إليه ولأن جهة الحسن هو التخلص وهي غير منفكة عنه وجهة
القبح هو الكذب وهي منفكة عنه فما هو حسن لم ينقلب قبيحا وكذا ما هو
قبيح لم ينقلب حسنا.
قال: والجبر باطل.
أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى لهم وهي أنهم قالوا الجبر حق فينتفي
الحسن والقبح العقليان والملازمة ظاهرة وبيان صدق المقدم ما يأتي والجواب
الطعن في الصغرى وسيأتي البحث فيها.
المسألة الثانية في أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب
قال: واستغناؤه وعلمه يدلان على انتفاء القبح عن أفعاله تعالى.
أقول: اختلف الناس هنا فقالت المعتزلة أنه تعالى لا يفعل قبيحا ولا يخل
بواجب ونازع الأشعرية في ذلك وأسندوا القبايح إليه تعالى الله عن ذلك والدليل
على ما اختاره المعتزلة أن له داعيا إلى الفعل الحسن وليس له صارف عنه وله
صارف عن فعل القبيح وليس له داع إليه وهو قادر على كل مقدور ومع
وجود القدرة والداعي يجب الفعل وإنما قلنا ذلك لأنه تعالى غني يستحيل عليه
الحاجة وهو عالم بحسن الحسن وقبح القبيح ومن المعلوم بالضرورة أن العالم
بالقبيح الغني عنه لا يصدر عنه وأن العالم بالحسن القادر عليه إذا خلا من
جهات المفسدة فإنه يوجده وتحريره إن الفعل بالنظر إلى ذاته ممكن وبالنظر إلى
علته واجب وكل ممكن مستند إلى قادر فإن علته إنما تتم بواسطة القدرة والداعي
فإذا وجد فقد تم السبب وعند تمام السبب يجب وجود الفعل وأيضا لو جاز منه
فعل القبيح أو الاخلال بالواجب لارتفع الوثوق بوعده ووعيده لإمكان تطرق
الكذب عليه ولجاز منه إظهار المعجزة على يد الكاذب وذلك يفضي إلى الشك

330
في صدق الأنبياء ويمتنع الاستدلال بالمعجزة عليه.
المسألة الثالثة: في أنه تعالى قادر على القبيح
قال: مع قدرته عليه لعموم النسبة ولا ينافي الامتناع اللاحق.
أقول: ذهب العلماء كافة إلى أنه تعالى قادر على القبيح إلا النظام والدليل
على ذلك إنا قد بينا نسبة قدرته إلى الممكنات والقبيح منها فيكون مندرجا
تحت قدرته احتج بأن وقوعه منه يدل على الجهل أو الحاجة وهما منفيان في
حقه تعالى والجواب أن الامتناع هنا بالنظر إلى الحكمة فهو امتناع لاحق لا
يؤثر في الإمكان الأصلي ولهذا عقب المصنف (ره) الاستدلال على مراده بالجواب
عن الشبهة التي له وإن لم - يذكرها صريحا.
المسألة الرابعة: في أنه يفعل لغرض
قال: ونفي الغرض يستلزم العبث ولا يلزم عوده إليه.
أقول: اختلف الناس هنا فذهب المعتزلة إلى أنه تعالى يفعل لغرض ولا
يفعل شيئا لغير فائدة وذهبت الأشاعرة إلى أن أفعاله تعالى يستحيل تعليلها
بالأغراض والمقاصد والدليل على مذهب المعتزلة أن كل فعل لا يقع لغرض
فإنه عبث والعبث قبيح والله تعالى يستحيل منه القبيح احتج المخالف بأن كل
فاعل لغرض وقصد فإنه ناقص بذاته مستكمل بذلك الغرض والله تعالى
يستحيل عليه النقصان (والجواب) أن النقص إنما يلزم لو عاد الغرض والنفع
إليه أما إذا كان الغرض عائدا إلى غيره فلا كما تقول إنه تعالى يخلق العالم لنفعهم.
المسألة الخامسة:
في أنه تعالى يريد الطاعات ويكره المعاصي
قال: وإرادة القبيح قبيحة وكذا ترك إرادة الحسن والأمر والنهي.
أقول: مذهب المعتزلة إن الله تعالى يريد الطاعات من المؤمن والكافر سواء

331
وقعت أو لا ويكره المعاصي سواء وقعت أو لا وقالت الأشاعرة كل ما هو واقع
فهو مراد سواء كان طاعة أو معصية والدليل على ما ذهب إليه المعتزلة وجهان
(الأول) أنه تعالى حكيم لا يفعل القبيح على ما تقدم وكما أن فعل القبيح قبيح
فكذا إرادته قبيحة وكما أن ترك الحسن قبيح فكذا إرادة تركه (الثاني) أنه
تعالى أمر بالطاعات ونهى عن المعاصي والحكيم إنما يأمر بما يريد لا بما يكرهه
وينهى عما يكره لا عما يريده فلو كانت الطاعة من الكافر مكروهة لله تعالى لما
أمر بها ولو كانت المعصية مرادة لله تعالى لما نهاه عنها وكان الكافر مطيعا بكفره
وعدم إيمانه لأنه فعل ما أراده الله تعالى منه وهو المعصية وامتنع عما كرهه وهو
باطل قطعا.
قال: وبعض الأفعال مستندة إلينا والمغلوبية غير لازمة والعلم تابع.
أقول: لما فرغ من الاستدلال شرع في إبطال حجج الخصم وهي ثلاثة
(الأولى) قالوا الله تعالى فاعل لكل موجود فتكون القبائح مستندة إليه
بإرادته (والجواب) ما يأتي من كون بعض الأفعال مستندة إلينا (الثانية) أن
الله تعالى لو أراد من الكافر الطاعة والكافر أراد المعصية وكان الواقع مراد
الكافر لزم أن يكون الله تعالى مغلوبا إذ من يقع مراده من المريد هو الغالب
(والجواب) أن هذا غير لازم لأن الله تعالى إنما يريد الطاعة من العبد على
سبيل الاختيار وهو إنما يتحقق بإرادة المكلف ولو أراد الله تعالى إيقاع الطاعة
من الكافر مطلقا سواء كانت عن اختيار أو إجبار لوقعت (الثالثة) قالوا كلما
علم الله تعالى وقوعه وجب وما علم عدمه امتنع فإذا علم عدم وقوع الطاعة من
الكافر استحال إرادتها منه وإلا لكان مريدا لما يمتنع وجوده و (الجواب) أن
العلم تابع لا يؤثر في إمكان الفعل وقد مر تقرير ذلك.
المسألة السادسة: في إنا فاعلون
قال: والضرورة قاضية باستناد أفعالنا إلينا.

332
أقول: اختلف العقلاء هنا فالذي ذهب إليه المعتزلة أن العبد فاعل لأفعال
نفسه واختلفوا فقال أبو الحسين إن العلم بذلك ضروري وهو الحق الذي ذهب
إليه المصنف (ره) وقال آخرون إنه استدلالي وأما جهم بن صفوان فإنه قال إن
الله تعالى هو الموجد لأفعال العباد وإضافتها إليهم على سبيل المجاز فإذا قيل فلان
صلى وصام كان بمنزلة قولنا طال وغنى (وقال) ضرار بن عمرو والنجار وحفص
الفرد وأبو الحسن الأشعري أن الله تعالى هو المحدث لها والعبد مكتسب ولم
يجعل لقدرة العبد أثرا في الفعل بل القدرة والمقدور واقعان بقدرة الله تعالى
وهذا الاقتران هو الكسب وفسر القاضي الكسب بأن ذات الفعل واقعة بقدرة
الله تعالى وكونه طاعة ومعصية صفتان واقعتان بقدرة العبد (وقال) أبو
إسحق من الأشاعرة أن الفعل واقع بمجموع القدرتين والمصنف (ره) التجأ
إلى الضرورة هيهنا فإنا نعلم بالضرورة الفرق بين حركة الحيوان اختيارا وحركة
الحجر الهابط ومنشأ الفرق هو اقتران القدرة في أحد الفعلين به وعدمه
في الآخر.
قال: والوجوب للداعي لا ينافي القدرة كالواجب (1).
أقول: لما فرغ من تقرير المذهب شرع في الجواب عن شبهة الخصم وتقرير
الشبهة الأولى إن صدور الفعل من المكلف أما أن يقارن تجويز لا صدوره أو
امتناع لا صدوره والثاني يستلزم الجبر والأول أما أن يترجح فيه الصدور على
اللاصدور لمرجح أو لا لمرجح والثاني يلزم منه الترجيح لأحد طرفي الممكن من
غير مرجح وهو محال والأول يستلزم التسلسل أو الانتهاء إلى ما يجب معه



(1) الوجه الأول: أنه حين صدور الفعل من العبد إما أن يمتنع لا صدوره وهو الجبر أولا
يمتنع بل يجوز كل من الصدور واللاصدور وحينئذ فإما أن يتساوى الطرفان وهو مستلزم
للترجيح بلا مرجح أو يترجح جانب الصدور فنقل الكلام من ذلك المرجح فإن يكن ملزما للفعل
احتاج إلى مرجح آخر ولزم التسلسل وإن كان غير ملزما لزم الجبر.
333
الترجيح وهو ينافي التقدير ويستلزم الجبر والجواب أن الفعل بالنظر إلى قدرة
العبد ممكن وواجب بالنظر إلى داعيه وذلك لا يستلزم الجبر فإن كل قادر فإنه
يجب عنه الأثر عند وجود الداعي كما في حق الواجب تعالى فإن هذا الدليل
قائم في حقه تعالى (ووجه المخلص) ما ذكرناه على أن هذا غير مسموع من
أكثرهم حيث جوزوا من القادر ترجيح أحد مقدورية على الآخر من غير مرجح
وبه أجابوا عن الشبهة التي أوردها الفلاسفة عليهم فما أدري لم كان الجواب بذلك
مسموعا هناك ولم يكن مسموعا هيهنا.
قال: والإيجاد لا يستلزم العلم إلا مع اقتران القصد فيكفي الاجمال.
أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى لهم وتقريرها أن العبد لو كان موجدا
لأفعال نفسه لكان عالما بها والتالي باطل فالمقدم مثله والشرطية ظاهرة وبيان
بطلان التالي إنا حال الحركة نفعل حركات جزئية لا نعقلها وإنما نقصد الحركة
إلى المنتهى وإن لم نقصد جزئيات تلك الحركة (والجواب) أن الايجاد لا
يستلزم العلم فإن الفاعل قد يصدر عنه الفعل بمجرد الطبع كالإحراق الصادر
عن النار من غير علم فلا يلزم من نفي العلم نفي الايجاد نعم الايجاد مع القصد
يستلزم العلم لكن العلم الاجمالي كاف فيه وهو الحاصل في الحركات الجزئية بين
المبدء والمنتهى.
قال: ومع الاجتماع يقع مراده تعالى.
أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى لهم وتقريرها أن العبد لو كان قادرا
على الفعل لزم اجتماع قادرين على مقدور واحد والتالي باطل فالمقدم مثله بيان
الشرطية إنه تعالى قادر على كل مقدور فلو كان العبد قادرا على شئ لاجتمعت
قدرته وقدرة الله تعالى عليه وأما بطلان التالي فلأنه لو أراد الله إيجاده وأراد
العبد إعدامه فإن وقع المرادان أو عدما لزم اجتماع النقيضين وإن وقع مراد
أحدهما دون الآخر لزم الترجيح من غير مرجح (والجواب) أن نقول يقع

334
مراد الله تعالى لأن قدرته أقوى من قدرة العبد وهذا هو المرجح وهذا الدليل
أخذه بعض الأشاعرة من الدليل الذي استدل به المتكلمون على الوحدانية
وهناك يتمشى لتساوي قدرتي الإلهين المفروضين إما هيهنا فلا.
قال: والحدوث اعتباري.
أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى ذكرها قدماء الأشاعرة وهي أن
الفاعل يجب أن يخالف فعله في الجهة التي بها يتعلق فعله وهو الحدوث ونحن
محدثون فلا يجوز أن نفعل الحدوث (وتقرير الجواب) أن الفاعل لا يؤثر
الحدوث لأنه أمر اعتباري ليس بزائد على الذات وإلا لزم التسلسل وإنما يؤثر
في الماهية وهي مغايرة لنا.
قال: وامتناع الجسم لغيره.
أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى لهم وهي إنا لو كنا فاعلين في الإحداث
لصح منا إحداث الجسم لوجود العلة المصححة للتعلق وهي الحدوث والجواب
أن الجسم يمتنع صدوره عنا لا لأجل الحدوث حتى يلزم تعميم الامتناع بل إنما
ممتنع صدوره عنا لأننا أجسام والجسم لا يؤثر في الجسم على ما مر.
قال: وتعذر المماثلة في بعض الأفعال لتعذر الإحاطة.
أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى ذكرها قدماؤهم وهي إنا لو كنا فاعلين
الصح منا أن نفعل مثل ما فعلناه أولا من كل جهة لوجود القدرة والعلم والتالي
باطل فالمقدم مثله وبيان بطلان التالي إنا لا نقدر على أن نكتب في الزمان الثاني
مثل ما كتبناه في الزمان الأول من كل وجه بل لا بد من تفاوت بينهما في
وضع الحروف ومقاديرها (وتقرير الجواب) أن بعض الأفعال يصدر عنا في
الزمان الثاني مثل ما صدرت في الزمان الأول مثل كثير من الحركات
والأفعال وبعضها يتعذر علينا فيه ذلك لا لأنه ممتنع ولكن لعدم الإحاطة
الكلية بما فعلناه أولا فإن مقادير الحروف إذا لم نضبطها لم يصدر عنا مثلها

335
إلا على سبيل الاتفاق.
قال: ولا نسبة في الخيرية بين فعلنا وفعله تعالى.
أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى لهم قالوا لو كان العبد فاعلا للإيمان
لكان بعض أفعال العبد خيرا من فعله تعالى لأن الإيمان خير من القردة
والخنازير والتالي باطل بالإجماع فالمقدم مثله والجواب أن نسبة الخيرية هيهنا
منتفية لأنكم إن عنيتم بأن الإيمان خير إنه أنفع فليس كذلك لأن الإيمان إنما
هو فعل شاق مضر على البدن ليس فيه خير عاجل وإن عنيتم به إنه خير لما فيه
من استحقاق المدح والثواب به بخلاف القردة والخنازير فحينئذ لا يكون
الإيمان خيرا بنفسه وإنما الخير هو ما يؤدي إليه الإيمان من فعل الله تعالى
بالعبد وهو المدح والثواب وحينئذ يكون المدح والثواب خيرا وأنفع للعبد من
القردة والخنازير لكن ذلك من فعله تعالى (واعلم) أن هذه الشبهة ركيكة جدا
وإنما أوردها المصنف (ره) هنا لأن بعض الثنوية أورد هذه الشبهة على ضرار
ابن عمرو فإذ عن لها والتزام بالجبر لأجلها.
قال: والشكر على مقدمات الإيمان.
أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى لهم قالوا لو كان العبد فاعلا للإيمان
لما وجب علينا شكر الله تعالى عليه والتالي باطل بالإجماع فالمقدم مثله والشرطية
ظاهرة فإنه لا يحسن منا شكر غيرنا على فعلنا والجواب أن الشكر ليس على فعل
الإيمان بل على مقدماته وتعريفنا إياه وتمكيننا منه وحضور أسبابه والاقتدار
على شرايطه.
قال: والسمع متأول ومعارض بمثله والترجيح معنا.
أقول: هذا جواب عن الشبهة النقلية بطريق إجمالي وتقريره أنهم قالوا قد
ورد في الكتاب العزيز ما يدل على الجبر كقوله تعالى (الله خالق كل شئ)
(والله خلقكم وما تعملون) ختم الله على قلوبهم) (ومن يرد أن يضله يجعل

336
صدره ضيقا حرجا) والجواب أن هذه الآيات متأولة وقد ذكر العلماء تأويلاتها
في كتبهم وأيضا فهي معارضة بمثلها وقد صنفها أصحابنا على عشرة أوجه
(أحدها) الآيات الدالة على إضافة الفعل إلى العبد كقوله تعالى (فويل للذين
يكتبون الكتاب بأيديهم) (إن يتبعون إلا الظن) (حتى يغيروا ما بأنفسهم)
(بل سولت لكم أنفسكم) (فطوعت له نفسه) (من يعمل سوءا يجز به)
(كل نفس بما كسبت رهينة) (كل امرئ بما كسب رهين) (ما كان لي عليكم
من سلطان إلا أن دعوتكم) إلى آخرها (الثاني) الآيات الدالة على مدح المؤمنين
على الإيمان وذم الكفار على الكفر والوعد والوعيد كقوله تعالى (اليوم تجزى
كل نفس بما كسبت) (اليوم تجزون بما كنتم تعملون) (وإبراهيم الذي وفى)
(ولا تزر وازرة وزر أخرى) (لتجزى كل نفس بما تسعى) (هل تجزون
إلا ما كنتم تعملون) (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) (ومن أعرض عن
ذكرى) (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا) (إن الذين كفروا بعد إيمانهم)
(الثالث) الآيات الدالة على تنزيه أفعاله تعالى عن مماثلة أفعالنا في التفاوت
والاختلاف والظلم كقوله تعالى (ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت) (الذي
أحسن كل شئ خلقه) والكفر ليس بحسن وكذا الظلم (وما خلقنا السماء
والأرض وما بينهما إلا بالحق) (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) (وما ربك بظلام
للعبيد) (وما ظلمناهم) (لا ظلم اليوم) (ولا يظلمون فتيلا) (الرابع)
الآيات الدالة على ذم العباد على الكفر والمعاصي والتوبيخ على ذلك كقوله تعالى
(كيف تكفرون بالله) (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى) (وماذا
عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر) (ما منعك أن تسجد) (فما لهم عن التذكرة
معرضين) (لم تلبسون الحق بالباطل) (لم تصدون عن سبيل الله) (الخامس)
الآيات الدالة على التهديد والتخيير كقوله (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)

337
(اعملوا ما شئتم) (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر) (فمن شاء ذكره)
(فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) (فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا) (سيقول الذين
أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا) (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم)
(السادس) الآيات الدالة على المسارعة إلى الأفعال قبل فواتها كقوله تعالى
(وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) (أجيبوا داعي الله) (استجيبوا لله وللرسول)
(واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم) (وأنيبوا إلى ربكم) (السابع) الآيات
التي حث الله تعالى فيها على الاستعانة وثبوت اللطف منه كقوله تعالى (وإياك
نستعين) (فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) (استعينوا بالله) (أولا ترون
أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون) (ولولا أن
يكون الناس أمة واحدة) (ولو بسط الله الرزق لعباده) (فما رحمة من الله
لنت لهم) (إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر) (الثامن) الآيات الدالة
على استغفار الأنبياء (ربنا ظلمنا أنفسنا) (سبحانك إني كنت من الظالمين)
(رب إني ظلمت نفسي) (رب إني أعوذ بك أن أسئلك ما ليس لي به علم)
(التاسع) الآيات الدالة على اعتراف الكفار والعصاة بنسبة الكفر إليهم كقوله
تعالى (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم... إلى قوله... بل كنتم
مجرمين) وقوله (ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين) (كلما ألقي فيها
فوج) (العاشر) الآيات الدالة على التحسر والندامة على الكفر والمعصية
وطلب الرجعة كقوله (وهم يصطر خون فيها ربنا أخرجنا منها) (رب
ارجعون) ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم) (أو تقول حين ترى العذاب
لو أن لي كرة) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة وهي معارضة لما ذكروه على
أن الترجيح معنا لأن التكليف إنما يتم بإضافة الأفعال إلينا وكذا الوعد
والوعيد والتخويف والإنذار وإنما طول المصنف (ره) في هذه المسألة لأنها
من المهمات.

338
المسألة السابعة: في المتولد
قال: وحسن المدح والذم على المتولد يقتضي العلم بإضافته إلينا.
أقول: الأفعال تنقسم إلى المباشر والمتولد والمخترع (1) فالأول هو الحادث
ابتداء بالقدرة في محلها والثاني هو الحادث الذي يقع بحسب فعل آخر كالحركة
الصادرة عن الاعتماد ويسمونه المسبب ويسمون الأول سببا سواء كان الثاني
حادثا في محل القدرة أو في غير محلها والثالث ما يفعل لا لمحل فالأول مختص بنا
والثالث مختص به تعالى والثاني مشترك (واعلم) أن الناس اختلفوا في المتولد
هل يقع منا أم لا فجمهور المعتزلة على أنه من فعلنا كالمباشر وقال معمر أنه لا
فعل للعبد إلا الإرادة وما عداها من الحوادث فهي واقعة بطبع المحل والإنسان
عنده جزء في القلب توجد فيه الإرادة وما عداها يضيفه إلى طبع المحل وقال
آخرون لا فعل للعبد إلا الفكر وقال أبو إسحاق النظام إن فعل الإنسان هو
الحركات الحادثة فيه بحسب دواعيه والإنسان عنده هو شئ منساب في الجملة
والإرادة والاعتقادات حركات القلب وما يوجد منفصلا عن الجملة كالكتابة
وغيرها فإنه من فعله تعالى بطبع المحل وقال ثمامة إن فعل الإنسان هو ما يحدثه
في محل قدرته فأما ما تعدى محل القدرة فهو حادث لا محدث له وفعل لا فاعل
له وقالت الأشعرية المتولد من فعله تعالى والجماهير من المعتزلة التجأوا في هذا
المقام إلى الضرورة فإنا نعلم استناد المتولدات إلينا كالكتابة والحركات وغيرها
من الصنايع ويحسن منا مدح الفاعل وذمه كما في المباشر والمصنف (ره) استدل



(1) وقسم المتكلمون الفعل إلى ما ليس في محل وسموه المخترع وهو الجسم وإلى ما حدث
في الجسم والثاني إلى المباشر والمتولد والمباشر هو الفعل الحادث في الجسم أولا بلا واسطة فعل آخر
والمتولد ما يحدث بسبب فعل آخر سواء كان في محل الفعل الأول أو في جسم آخر كالميل المسمى
عند المتكلمين بالاعتماد الذي يحدث في الحجر الهابط وتحدث بسببه الحركة في الحجر كتحريك
الشجرة المتولد منها قطع الثمرة من الغصن.
339
بحسن المدح والذم على العلم بأنا فاعلون للمتولد لا عليه (1) لأن الضروريات لا يجوز
الاستدلال عليها نعم يجوز الاستدلال على كونها ضرورية إذا لم يكن هذا الحكم
ضروريا وجماعة من المعتزلة ذهبوا إلى أنه كسبي واستدلوا بحسن المدح والذم
عليه فلزمهم الدور لأن حسن المدح والذم مشروط بالعلم بالاستناد إلينا فلو جعلنا
الاستناد إلينا مستفادا منه لزوم الدور.
قال: والوجوب باختيار السبب لاحق.
أقول: هذا جواب عن إشكال يورد هيهنا وهو أن يقال إن المتولد لا يقع
بقدرتنا لأن المقدور هو الذي يصح وجوده وعدمه عن القادر وهذا المعنى منفي
في المتولد لأن عند اختيار السبب يجب المسبب فلا يقع بالقدرة المصححة
(والجواب) أن الوجوب في المسبب عند اختيار السبب وجوب لاحق كما أن
الفعل يجب عند وجود القدرة والداعي وعند فرض وقوعه وجوبا لاحقا لا يؤثر
في الإمكان الذاتي والقدرة فكذا هنا.
قال: والذم في إلقاء الصبي عليه لا على الاحراق.
أقول: هذا جواب عن شبهة لهم وهي أن المدح والذم لا يدلان على العلم
باستناد المتولد إلينا فإنا نذم على المتولد وإن علمنا استناده إلى غيرنا فإنا نذم من
ألقى الصبي في النار إذا احترق بها وإن كان المحرق هو الله تعالى (والجواب)
أن الذم هيهنا على الالقاء لا على الاحراق فإن الاحراق من الله تعالى عند الالقاء
حسن لما يشتمل عليه من الأعواض لذلك الصبي ولما فيه من مراعاة العادات
وعدم انتقاضها في غير زمان الأنبياء ووجوب الدية (2) حكم شرعي لا يجب
تخصيصه بالفعل فإن الحاضر البئر يلزمه الدية وإن كان الوقوع غير مستند إليه.



(1) أي لا على إنا فاعلون للمتولد لأنه ضروري والضروريات لا يجوز الاستدلال عليها لأنه
تحصيل للحاصل.
(2) جواب عن سؤال وهو أن المحروق لو كان غير الملقى فلم وجب الدية على الملقي.
340
المسألة الثامنة: في القضاء والقدر
قال: والقضاء والقدر إن أريد بهما خلق الفعل لزم المحال أو الالزام صح
في الواجب خاصة أو الإعلام صح مطلقا وقد بينه أمير المؤمنين (ع) في
حديث الأصبغ.
أقول: يطلق القضاء على الخلق والاتمام قال الله تعالى فقضيهن سبع
سماوات في يومين أي خلقهن وأتمهن وعلى الحكم والإيجاب لقوله تعالى وقضى
ربك ألا تعبدوا إلا إياه أي أوجب وألزم وعلى الإعلام والإخبار كقوله وقضينا
إلى بني إسرائيل في الكتاب أي أعلمناهم وأخبرناهم ويطلق القدر على الخلق
كقوله تعالى وقدر فيها أقواتها والكتابة كقول الشاعر:
واعلم بأن ذا الجلال قد قدر * في الصحف الأولى التي كان سطر
والبيان كقوله تعالى إلا امرأته قدرناها من الغابرين أي بينا وأخبرنا بذلك
إذا ظهر هذا فنقول للأشعري ما تعني بقولك إنه تعالى قضى أعمال العباد وقدرها
إن أردت به الخلق والإيجاب فقد بينا بطلانه وإن الأفعال مستندة إلينا وإن
عنى به الالزام لم يصح إلا في الواجب خاصة وإن عنى به أنه تعالى بينها وكتبها
واعلم أنهم سيفعلونها فهو صحيح لأنه تعالى قد كتب ذلك أجمع في اللوح المحفوظ
وبينه لملائكته وهذا المعنى الأخير هو المتعين للإجماع على وجوب الرضا بقضاء
الله تعالى وقدره ولا يجوز الرضا بالكفر وغيره من القبايح ولا ينفعهم الاعتذار
بوجوب الرضا به من حيث إنه فعله تعالى وعدم الرضا به من حيث الكسب
لبطلان الكسب أولا وثانيا فلأنا نقول إن كان كون الكفر كسبا بقضائه تعالى
وقدره وجب به الرضا من حيث هو كسب وهو خلاف قولكم (1) وإن لم يكن
بقضاء وقدر بطل استناد الكائنات بأجمعها إلى القضاء والقدر (واعلم) أن



(لأنكم قلتم في مقام الاعتذار لا يجب الرضا بالقبيح بل يحرم من حيث هو كسب بل يجب
به من حيث هو فعله تعالى.
341
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) قد بين معنى القضاء والقدر وشرحهما شرحا
وافيا في حديث الأصبغ بن نباته لما انصرف من صفين فإنه قام إليه شيخ فقال
أخبرنا يا أمير المؤمنين عن مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء الله تعالى وقدره فقال
أمير المؤمنين عليه السلام والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما وطأنا موطئا ولا هبطنا
واديا ولا علونا تلعة إلا بقضائه وقدره فقال له الشيخ عند الله احتسب عنائي
ما أرى لي من الأجر شيئا فقال له مه أيها الشيخ بل عظم الله أجركم في مسيركم
وأنتم سائرون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا في شئ من حالاتكم
مكرهين ولا إليها مضطرين فقال الشيخ كيف والقضاء والقدر ساقانا فقال ويحك
لعلك ظننت قضاء لازما وقدرا حتما لو كان كذلك ليطل الثواب والعقاب
والوعد والوعيد والأمر والنهي ولم تأت لائمة من؟ لله لمذنب ولا محمدة لمحسن ولم
يكن المحسن أولى بالمدح من المسئ ولا المسئ أولى بالذم من المحسن تلك مقالة
عبدة الأوثان وجنود الشيطان وشهود الزور وأهل العمى عن الصواب وهم قدرية
هذه الأمة ومجوسها أن الله تعالى أمر تخييرا ونهى تحذيرا وكلف يسيرا لم يعص
مغلوبا ولم يطع مكرها ولم يرسل الرسل عبثا ولم يخلق السماوات والأرض وما
بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار فقال الشيخ وما
القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلا بهما فقال هو الأمر من الله تعالى والحكم
وتلا قوله تعالى وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه فنهض الشيخ مسرورا
وهو يقول:
أنت الإمام الذي نرجو بطاعته * يوم النشور من الرحمن رضوانا
أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا * جزاك ربك عنا منه إحسانا
قال أبو الحسن البصري ومحمود الخوارزمي وجه تشبيهه عليه السلام المجبرة
بالمجوس من وجوه (أحدها) أن المجوس اختصوا بمقالات سخيفة واعتقادات
واهية معلومة البطلان وكذلك المجبرة (وثانيها) أن مذهب المجوس أن الله

342
تعالى يخلق فعله ثم يتبرأ منه كما خلق إبليس ثم انتفى منه وكذلك المجبرة قالوا
إنه تعالى يفعل القبائح ثم يتبرأ منها (وثالثها) أن المجوس قالوا إن نكاح
الأخوات والأمهات بقضاء الله وقدره وإرادته ووافقهم المجبرة حيث قالوا
إن نكاح المجوس لأخواتهم وأمهاتهم بقضاء الله وقدره وإرادته (ورابعها)
أن المجوس قالوا إن القادر على الخير لا يقدر على الشر وبالعكس والمجبرة
قالوا إن القدرة موجبة للفعل غير متقدمة عليه فالإنسان القادر على الخير لا يقدر
على ضده وبالعكس.
المسألة التاسعة: في الهدى والضلالة
قال: والإضلال إشارة إلى خلاف الحق وفعل الضلالة والإهلاك والهدى
مقابل له والأولان منفيان عن الله تعالى.
أقول: يطلق الاضلال على الإشارة إلى خلاف الحق والتباس الحق بالباطل
كما تقول أضلني فلان عن الطريق إذا أشار إلى غيره وأوهم أنه هو الطريق
ويطلق على فعل الضلالة في الإنسان كفعل الجهل فيه حتى يكون معتقدا خلاف
الحق ويطلق على الاهلاك والبطلان كما قال تعالى (فلن يضل أعمالهم) يعني
لن يبطلها والهدى يقال لمعان ثلاثة مقابلة لهذه المعاني فيقال بمعنى نصب الدلالة
على الحق كما تقول هداني إلى الطريق وبمعنى فعل الهدى في الإنسان حتى
يعتقد الشئ على ما هو به وبمعنى الإثابة كقوله تعالى (سيهديهم) يعني
سيثيبهم والأولان منفيان عنه تعالى يعني الإشارة إلى خلاف الحق وفعل الضلالة
لأنهما قبيحان والله تعالى منزه عن فعل القبيح وأما الهداية فالله تعالى نصب
الدلالة على الحق وفعل الهداية الضرورية في العقلاء ولم يفعل الإيمان فيهم لأنه
كلفهم به ويثبت على الإيمان فمعاني الهداية صادقة في حقه تعالى إلا فعل ما كلف
به وإذا قيل إنه تعالى يهدي ويضل فإن المراد به أنه يهدي المؤمنين بمعنى أنه
يثيبهم ويضل العصاة بمعنى أنه يهلكهم ويعاقبهم وقول موسى (ع) (إن هي

343
إلا فتنتك) فالمراد بالفتنة الشدة والتكلف الصعب يضل بها من يشاء أي يهلك
من يشاء وهم الكفار.
المسألة العاشرة: في أنه تعالى لا يعذب الأطفال
قال: وتعذيب غير المكلف قبيح وكلام نوح (ع) مجاز والخدمة ليست
عقوبة له والتبعية في بعض الأحكام جائزة.
أقول: ذهب بعض الحشوية إلى أن الله تعالى يعذب أطفال المشركين ويلزم
الأشاعرة تجويزه والعدلية كافة على منعه والدليل عليه أنه قبيح عقلا فلا يصدر
منه تعالى احتجوا بوجوه (الأول) قول نوح عليه السلام (ولا يلدوا إلا فاجرا
كفارا) والجواب أنه مجاز والتقدير أنهم يصيرون كذلك لا حال طفوليتهم
(الثاني) قالوا إنا نستخدمه لأجل كفر أبيه فقد فعلنا فيه ألما وعقوبة فلا
يكون قبيحا والجواب أن الخدمة ليست عقوبة للطفل وليس كل ألم ومشقة
عقوبة فإن الفصد والحجامة ألمان وليسا عقوبة نعم استخدامه عقوبة لأبيه
وامتحان له يعوض عليه كما يعوض على أمراضه (الثالث) قالوا إن حكم
الطفل يتبع حكم أبيه في الدفن ومنع التوارث والصلاة عليه ومنع التزويج
(والجواب) أن المنكر عقابه لأجل جرم أبيه وليس بمنكر أن يتبع حكم
أبيه في بعض الأشياء إذا لم يحصل له بها ألم وعقوبة ولا ألم له في منعه من
الدفن والتوارث وترك الصلاة عليه.
المسألة الحادية عشرة:
في حسن التكليف وبيان ماهيته ووجه حسنه وجملة من أحكامه
قال: والتكليف حسن لاشتماله على مصلحة لا تحصل بدونه.
أقول: التكليف مأخوذ من الكلفة وهي المشقة وحده إنه إرادة من تجب
طاعته على جهة الابتداء ما فيه مشقة بشرط الإعلام ويدخل تحت واجب الطاعة
الواجب تعالى والنبي (ص) والإمام والسيد والوالد والمنعم ويخرج البواقي

344
وشرطنا الابتداء لأن إرادة هؤلاء إنما يكون تكليفا إذا لم يسبقه غيره إلى إرادة
ما أراده ولهذا لا يسمى الوالد مكلفا بأمر الصلاة ولده لسبق إرادة الله تعالى
لها منه والمشقة لا بد من اعتبارها ليتحقق المحدود إذ التكليف مأخوذ من
مكلفا إذا عرفت هذا فنقول التكليف حسن لأن الله تعالى فعله والله تعالى
لا يفعل القبيح ووجه حسنه اشتماله على مصلحة لا تحصل بدونه وهي التعريض
لمنافع عظيمة لا تحصل بدون التكليف لأن التكليف لم يكن لغرض كان عبثا
وهو محال وإن كان لغرض فإن كان عائدا إليه تعالى لزم المحال وإن كان
إلى غيره فإن كان إلى غير المكلف كان قبيحا وإن كان إلى المكلف فإن كان
حصوله ممكنا بدون التكليف لزم العبث وإن لم يمكن فإن كان النفع انتقض
بتكليف من علم كفره وإن كان التعريض فهو المطلوب إذا عرفت هذا فنقول
الغرض من التكليف هو التعريض لمنفعة عظيمة لأنه تعريض للثواب والثواب
منافع عظيمة خالصة دائمة واصلة مع التعظيم والمدح ولا شك أن التعظيم إنما
يحسن للمستحق له ولهذا يقبح منا تعظيم الأطفال والأراذل كتعظيم العلماء وإنما
يستحق التعظيم بواسطة الأفعال الحسنة وهي الطاعات ومعنى قولنا إن التكليف
تعريض للثواب أن المكلف جعل المكلف على الصفات التي يمكنه الوصول إلى
الثواب وبعثه على ما به يصل إليه وعلم أنه سيوصله إليه إذا فعل ما كلفه.
قال: بخلاف الجرح ثم التداوي والماوضات والشكر باطل.
أقول: هذه إيرادات على ما اختاره (الأول) أن التكليف للنفع يتنزل
منزلة من جرح غيره ثم داواه طلبا للدواء وكما أن ذلك قبيح فكذا التكليف
(الثاني) أن التكليف طلبا للنفع يتنزل منزلة المعاوضات كالبيوع والإجارات
وغيرها ولا شك أن المعاوضات تفتقر إلى رضاء المتعاوضين حتى أن من عاوض
بغير إذن صاحبه فعل قبيحا والتكليف عندكم لا يشترط فيه رضاء المكلف

345
(الثالث) لم لا يجوزان أن يكون التكليف شكرا للنعم السابقة والجواب عن
الأول بالفرق من وجهين (أحدهما) أن الجرح مضرة والتكليف نفسه ليس بمضرة
وإنما المشقة في الأفعال التي يتناولها التكليف (الثاني) أن الجرح والتداوي إنزال
مضرة لا غرض فيه إلا التخلص من تلك المضرة بخلاف للتكليف وعن الثاني أن
المراضاة تعتبر في المعاوضات لاختلاف أغراض الناس في التعامل جنسا ووصفا
أما إذا لم - يكن هناك معاوضة وبلغ النفع حدا يكون غاية ما يطلبه العقلاء لم
يختلف العقلاء في اختيار المشقة بسببه حتى أن العقلاء يسفهون الممتنع منه وعن
الثالث أن الشكر لا يشترط فيه المشقة والله تعالى قادر على إزالة صفة المشقة عن
هذه الأفعال فلو كان التكليف شكرا لزم العبث في صفة المشقة ولأن طلب الفعل
الشاق شكرا يخرج النعمة عن كونها نعمة.
قال: ولأن النوع محتاج إلى التعاضد المستلزم للسنة النافع استعمالها في
الرياضة وإدامة النظر في الأمور العالية وتذكر الانذارات المستلزمة لإقامة
العدل مع زيادة الأجر والثواب.
أقول: لما ذكر المصنف (ره) حسن التكليف على رأي المتكلمين شرع في
طريق الإسلاميين من الفلاسفة فبدأ بذكر الحاجة إلى التكليف ثم ذكر منافعه
الدنيوية والأخروية وتحقيقه أن نقول إن الله خلق الإنسان مدنيا بالطبع لا كغيره
من الحيوانات ولا يمكن أن يبقى أشخاصه ولا يحصل لهم كمالاتهم إلا بالتعاضد
والتعاون لأن الأغذية والملبوسات أمور صناعية يحتاج كل منهم إلى صاحبه في عمل
يستعينه عن عمله له حتى يتم كمال ما يحتاج إليه واجتماعهم مع تباين شهواتهم
وتغاير أمزجتهم واختلاف قواهم المقتضية للأفعال الصادرة عنهم مظنة التنازع
والفساد ووقوع الفتن فوجب وضع قانون وسنة عادلة يتعادلون بها فيما بينهم ثم
تلك السنة لو استند وضعها إليها لزم المحذور فوجب استنادها إلى شخص متميز
عنهم بكمال قواه واستحقاقه للانقياد إليه والطاعة له وذلك إنما يكون بمعجزات

346
تدل على أنها من عند الله تعالى ثم من المعلوم تفاوت أشخاص الناس في قبول الخير
والشر والرذائل والنقصان والفضائل بحسب اختلاف أمزجتهم وهيئات نفوسهم
فوجب أن يكون هذا الشارع مؤيدا لا يعجز عن أحكام شريعته في جمهور الناس
بعضهم بالبرهان وبعضهم بالوعظ وبعضهم بتأليف القلب وبعضهم بالزجر والقتال
ولما كان النبي لا يتفق في كل زمان وجب أن يبقى السنن المشروعة إلى وقت
اضمحلالها واقتضاء الحكمة الإلهية تجديد غيرها ففرضت عليهم العبادات المذكرة
لصاحب الشرع وكررت عليهم حتى يستحكم التذكر بالتكرير فيحصل لهم من
تلقي الأوامر والنواهي الإلهية منافع ثلاث (أحديها) رياضة النفس باعتبار
الامساك عن الشهوات ومنعها عن القوة الغضبية المكدرة لصفاء القوة العقلية
(الثانية) تعويد النفس النظر في الأمور الإلهية والمطالب العالية وأحوال المعاد
والتفكر في ملكوت الله تعالى وكيفية صفاته وأسمائه وتحقق فيضان الموجودات
عنه تعالى متسلسلة في الترتيب الذي اقتضته الحكمة الإلهية بالبراهين القطعية
الخالصة عن شبهات المغالطة (والثالثة) تذكرهم ما وعدهم الشارع من الخير
والشر الأخرويين بحيث ينحفظ النظام المقتضي للتعادل والترافد ثم زاد الله
تعالى لمستعملي الشرائع الأجر والثواب في الآخرة فهذه مصالح التكليف
عند الأوايل.
قال: وواجب لزجره عن القبائح.
أقول: هذا مذهب المعتزلة وأنكرت الأشاعرة ذلك والدليل على وجوب
التكليف أنه لو لم يكلف الله تعالى من كملت شرائط التكليف فيه لكان مغربا
بالقبيح والتالي باطل لقبحه فالمقدم مثله بيان الشرطية إن الله تعالى إذا أكمل
عقل الإنسان وجعل فيه ميلا إلى القبيح وشهوة له ونفورا عن الحسن فلو لم يقرر
في عقله وجوب الواجب وقبح القبيح والمؤاخذة على الاخلال بالواجب وفعل

347
القبيح لكان وقوع القبيح من المكلف دائما وإلى هذا أشار بقوله لزجره
عن القبايح.
قال: وشرائط حسنه انتفاء المفسدة وتقدمه وإمكان متعلقه وثبوت
صفة زايدة على حسنه وعلم المكلف بصفات الفعل وقدر المستحق وقدرته
عليه وامتناع القبيح عليه وقدرة المكلف على الفعل وعلمه به أو إمكانه
وإمكان الآلة.
أقول: لما ذكر أن التكليف حسن شرع في بيان ما يشترط في حسن
التكليف وقد ذكر أمورا لا يحسن التكليف بدونها منها ما يرجع إلى نفس
التكليف ومنها ما يرجع إلى متعلق التكليف أعني الفعل والمكلف والمكلف أما
ما يرجع إلى التكليف فأمران (أحدهما) انتفاء المفسدة فيه بأن لا يكون
مفسدة لنفس المكلف به في فعل آخر داخل في تكليفه أو مفسدة لمكلف آخر
(والثاني) أن يكون متقدما على الفعل قدرا يتمكن المكلف فيه من الاستدلال
به فيفعل الفعل في الوقت الذي يجب إيقاعه فيه وأما ما يرجع إلى الفعل فأمران
(أحدهما) إمكان وجوده (والثاني) كون الفعل قد اشتمل على صفة زائدة على
حسنه بأن يكون واجبا أو مندوبا وإن كان التكليف ترك فعل فأما أن يكون
الفعل قبيحا أو يكون الاخلال به أولى من فعله وأما ما يرجع إلى المكلف فإن
يكون عالما بصفات العفل لئلا يكلف إيجاد القبيح وترك الواجب وأن يكون
عالما بقدر ما يستحق على الفعل من الثواب لئلا يخل ببعضه وأن يكون القبيح
ممتنعا عليه لئلا يخل بالواجب فلا يوصل الثواب إلى مستحقه وأما ما يرجع إلى
المكلف فإن يكون قادرا على الفعل وأن يكون عالما به أو متمكنا من العلم به
وإمكان الآلة أو حصولها إن كان الفعل ذا آلة.
قال: ومتعلقه أما علم أما عقلي أو سمعي وأما ظن وأما عمل.
أقول: متعلق التكليف قد يكون علما وقد يكون عملا أما العلم فقد يكون

348
عقليا محضا نحو العلم بوجود الله تعالى وكونه قادرا عالما إلى غير ذلك من
الصفات التي يتوقف السمع عليها وقد يكون سميعا نحو التكاليف السمعية وأما
الظن فنحو كثير من الأمور الشرعية كظن القبلة أو غيرها وأما العمل فقد يكون
عقليا كرد الوديعة وشكر المنعم وبر الوالدين وقبح الظلم والكذب وحسن
التفضل والعفو وقد يكون سميعا كالصلاة وغيرها وهذه الأفعال تنقسم إلى
الواجب والمندوب والحرام والمكروه.
قال: وهو منقطع للإجماع ولإيصال الثواب.
أقول: يريد أن التكليف منقطع ويدل عليه الاجماع والمعقول أما الاجماع
فظاهر إذ الاتفاق بين المسلمين وغيرهم واقع على أن التكليف منقطع وأما المعقول
فنقول لو كان التكليف دائما لم يمكن يصال الثواب إلى المطيع والتالي باطل
قطعا فالمقدم مثله بيان الشرطية إن التكليف مشروطا بالمشقة والثواب مشروط
بخلوصه عن الأكدار والمشاق والجمع بينهما محال ولا بد من تراخ بين التكليف
والثواب وإلا لزم الالجاء.
قال: وعلة حسنه عامة.
أقول: لما بين أولا حسن التكليف مطلقا شرع في بيان حسنه في حق الكافر
والدليل عليه أن العلة في حسن التكليف وهي التعريض للثواب عامة في حق
المؤمن والكافر فكان التكليف حسنا فيهما وهو ظاهر.
قال: وضرر الكافر من اختياره.
أقول: هذا جواب عن سؤال مقدر وتقريره إن تكليف الكافر ضرر محض
لا مصلحة فيه فلا يكون حسنا بيان المقدمة الأولى إن التكليف نوع مشقة في
العاجل ويحصل العقاب بتركه وهو ضرر عظيم وانتفت المصلحة فيه إذ لا ثواب
له فكان قبيحا قطعا والجواب أن التكليف نفسه ليس بضرر ولا مستلزم من
حيث هو تكليف ضررا وإلا لكان تكليف المؤمن كذلك بل الضرر إنما نشأ

349
من سوء اختيار الكافر لنفسه.
قال: وهو مفسدة لا من حيث التكليف بخلاف ما شرطناه.
أقول: الذي يخطر لنا في تحليل هذا الكلام إنه جواب عن سؤال مقدر
أيضا وهو أن يقال إنكم شرطتم في التكليف أن لا يكون مفسدة للمكلف ولا
لغيره وهذا التكليف يستلزم الضرر بالمكلف فيكون قبيحا كما أن تكليف (1)
زيد لو استلزم مفسدة راجعة إلى عمرو كان قبيحا والجواب أن الضرر هيهنا
مفسدة لا من حيث التكليف بل من حيث اختيار المكلف على ما تقدم بخلاف
ما شرطناه أعني انتفاء المفسدة اللازمة للتكليف.
قال: والفائدة ثابتة.
أقول: هذا جواب عن سؤال مقدر وتقريره أن تكليف الكافر لا فائدة
فيه لأن الفائدة من التكليف هي الثواب ولا ثواب له فلا فائدة في تكليفه فكان
عبثا والجواب لا نسلم أن الفائدة هي الثواب بل التعريض له وهو حاصل في
حقه كالمؤمن.
المسألة الثانية عشرة: في اللطف وماهيته وأحكامه
قال: واللطف واجب ليحصل الغرض به.
أقول: اللطف هو ما يكون المكلف معه أقرب إلى فعل الطاعة وأبعد من
فعل المعصية ولم يكن لم حظ (2) في التمكين ولم يبلغ حد الالجاء واحترزنا بقولنا



(1) وبيانه أن الكافر يتضرر من التكليف لأنه وإن لم يتحمل مشقته في الدنيا لكنه يعاقب
في الآخرة على ترك الامتثال وهذا الضرر مفسدة توجهت من قبل التكليف وإنكم شرطتم حسن
التكليف بخلوه عن المفسدة الجواب أن هذا الضرر الذي سميتموه بالمفسدة حاصل من سوء اختيار
الكافر لا من جهة التكليف والمفسدة التي شرطنا خلو التكليف عنها هو ما يلزم من نفس
التكليف.
(2) أي يكون المكلف بدونه متمكنا من فعل الطاعة وترك المعصية.
350
ولم يكن له حظ في التمكين عن الآلة (1) فإن لها حظا في التمكين وليست لطفا
وقولنا ولم يبلغ حد الالجاء لأن الالجاء ينافي التكليف واللطف لا ينافيه وهذا
هو اللطف المقرب وقد يكون اللطف محصلا وهو ما يحصل عنده الطاعة من
المكلف على سبيل الاختيار ولولاه لم يطع من تمكنه في الحالين وهذا بخلاف
التكليف (2) الذي يطيع عنده لأن اللطف أمر زائد على التكليف فهو من دون
اللطف يتمكن بالتكليف من أن يطيع أو لا يطيع وليس كذلك التكليف
لأن عنده يتمكن من أن يطيع وبدونه لا يتمكن من أن يطيع أو لا يطيع فلم
يلزم أن يكون التكليف الذي يطيع عنده لطفا إذا عرفت هذا فنقول اللطف
واجب خلافا للأشعرية والدليل على وجوبه أنه يحصل غرض المكلف فيكون
واجبا وإلا لزم نقض الغرض بيان الملازمة إن المكلف إذا علم أن المكلف لا يطيع
إلا باللطف فلو كلفه من دونه كان ناقضا لغرضه كمن دعا غيره إلى طعام وهو
يعلم أنه لا يجيبه إلا أن يستعمل معه نوعا من التأدب فإذا لم يفعل الداعي ذلك
النوع من التأدب كان ناقضا لغرضه فوجوب اللطف يستلزم تحصيل الغرض.
قال: فإن كان من فعله تعالى وجب عليه (3) وإن كان من المكلف وجب أن



(1) والمراد من الآلة هو كل ما له مدخلية في تمكن المكلف من فعل الطاعة وترك المعصية.
(2) حاصل كلامه في الفرق بين اللطف والتكليف أن التكليف إذا تحقق فالعبد يتمكن من
أن يطيع أولا يطيع وبدونه لا يتمكن لأن مناط الامتثال وعدمه هو وجود للتكليف سواء
كان مع اللطف أولا معه وأما اللطف فلا يناط به الطاعة وعدمها فمن الممكن أنه يتمكن العبد
منها بدونه لكنه معه يقرب من الامتثال.
(3) مثلا الصلاة طاعة وهي تتوقف على نصب الرسول حتى يبينها وعلى إتيان المكلف لها
وعلى علم العبد بيان النبي (ص) لها فنصب الرسول واجب على الله والبيان واجب على النبي (ص)
وتكليف الله للعبد بالصلاة مشروط بعلم العبد أن النبي (ص) بين الصلاة وإقامة الصلاة واجبة
على المكلف.
351
يشعره به ويوجبه وإن كان من غيرهما شرط في التكليف العلم بالفعل
أقول: لما ذكر وجوب اللطف شرع في بيان أقسامه وهو ثلاثة (الأول)
أن يكون من فعل الله تعالى فهذا يجب على الله تعالى فعله لما تقدم (والثاني)
أن يكون من فعل المكلف فهذا يجب على الله تعالى أن يعرفه إياه ويشعره به
ويوجبه عليه (الثالث) أن يكون من فعل غير هما فهذا ما يشترط في التكليف
بالملطوف فيه للعلم بأن ذلك الغير يفعل اللطف.
قال: ووجوه القبح منفية والكافر لا يخلو من اللطف والإخبار بالسعادة
والشقاوة ليس مفسدة.
أقول: لما ذكر أقسام اللطف شرع في الاعتراضات على وجوبه مع الجواب
عنها وقد أورد من شبهات الأشاعرة ثلاثة (الأول) قالوا اللطف إنما يجب إذا
خلا من جهات المفسدة لأن جهة المصلحة لا تكفي في الوجوب ما لم تنتف جهات
المفاسد فلم لا يجوز أن يكون اللطف الذي توجبونه مشتملا على جهة قبح لا
تعلمونه فلا يكون واجبا وتقرير الجواب أن جهات القبح معلومة لنا لأنا مكلفون
بتركها وليس هنا وجه قبح وليس ذلك استدلالا (1) بعدم العلم على العلم بالعدم (الثاني)
أن الكافر إما أن يكلف مع وجود اللطف أو مع عدمه والأول باطل وإلا لم
يكن لطفا لأن معنى اللطف هو ما حصل الملطوف فيه عنده والثاني أما أن
يكون عدمه لعدم القدرة عليه فيلزم تعجيز الله تعالى وهو باطل أو مع وجودها
فيلزم الاخلال بالواجب والجواب أن اللطف ليس معناه هو ما حصل الملطوف
فيه فإن اللطف لطف في نفسه سواء حصل الملطوف فيه أولا بل كونه لطفا من



(1) جواب عن سؤال هو أن كونكم مكلفين بترك القبيح لا يفيد إلا عدم علمكم بالقبح
فيما هو لطف ولا يثبت بذلك العلم بعدم القبح فيه ولا يكتفي احتمال وجود القبح فأجاب بأنا لم
نستدل بعدم العلم بالقبح على العلم بعدم القبح بل استدلنا بأن تكليفه تعالى بشئ يوجب العلم
بأنه لا قبح فيه.
352
حيث إنه يقرب إلى الملطوف فيه ويرجع وجوده على عدمه وامتناع ترجحه إنما
يكون لوجود معارض أقوى هو سوء اختيار المكلف فيكون اللطف في حقه
مرجوحا ويمكن أن يكون ذلك جوابا عن سؤال آخر وتقريره أن اللطف لو
كان واجبا لم يقع معصية من المكلف أصلا لأنه تعالى قادر على كل شئ فإذا قدر
على أن يلطف بكل مكلف في كل فعل لم تقع معصيته لأنه تعالى لا يخل بالواجب
لكن الكفر والمعاصي موجودة وتقرير الجواب أن نقول إنما يصح أن يقال يجب
أن يلطف للمكلف إذا كان له لطف يصلح عنده ولا استبعاد في أن يكون بعض
المكلفين من لا لطف له سوى العلم بالمكلف به والثواب مع الطاعة والعقاب مع
المعصية والكافر له هذا اللطف (الثالث) أن الإخبار بأن المكلف من أهل الجنة
أو من أهل النار مفسدة لأنه إغراء بالمعاصي وقد فعله تعالى وهو ينافي اللطف
والجواب أن الإخبار بالجنة ليس إغراء مطلقا لجواز أن يقترن به من الألطاف ما
يمتنع عنده من الإقدام على المعصية وإذا انتفى كونه إغراء على هذا التقدير بطل
إنه مفسدة على الاطلاق وأما الإخبار بالنار فليس مفسدة أيضا لأن الإخبار إن
كان للجاهل كأبي لهب انتفت المفسدة فيه لأنه لا يعلم صدق إخباره تعالى فلا
يدعوه ذلك إلى الاصرار على الكفر وإن كان عارفا كإبليس لم يكن إخباره
تعالى بعقابه داعيا إلى الاصرار على الكفر لأنه يعلم أنه بإصراره عليه يزداد عقابه
فلا يصير مغرى عليه.
قال: ويقبح منه تعالى (1) التعذيب مع منعه دون الذم.
أقول: المكلف إذا منع المكلف عن اللطف قبح منه عقابه لأنه بمنزلة الأمر



(1) بيان ذلك أنه لو كان اللطف دخيلا في عدم المعصية إذ العقاب تابع للمعصية التابعة
لعدم اللطف فلا يمكن إتيانه تعالى بسبب المعصية الذي هو ترك اللطف والجواب أنه لا يقبح الذم
مع منع اللطف لبداهة جواز ذم قاتل النفس الذي لم تبلغه الشريعة دون عقابه.
353
بالمعصية والملجئ إليها كما قال الله تعالى (ولو إنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا
ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا) فأخبر أنه لو منعهم اللطف في بعثة الرسول لكان
لهم أن يسألوا بهذا السؤال ولا يكون لهم هذا السؤال إلا مع قبح إهلاكهم من
دون البعثة ولا يقبح ذمه لأن الذم حق مستحق على القبيح غير مختص بالمكلف
بخلاف العقاب المستحق للمكلف ولهذا لو بعث الإنسان غيره على فعل القبيح
ففعله لم يسقط حق الباعث من الذم كما أن لإبليس ذم أهل النار وإن كان هو
الباعث على المعاصي.
قال: ولا بد من المناسبة وإلا ترجح بلا مرجح بالنسبة إلى المنتسبين.
أقول: لما فرغ من الاعتراضات على وجوب اللطف شرع في ذكر أحكامه
وقد ذكر منها خمسة (الأول) أنه لا بد من أن يكون بين اللطف والملطوف
فيه مناسبة والمراد بالمناسبة هنا كون اللطف بحيث يكون حصوله داعيا إلى
حصول الملطوف وهذا ظاهر لأنه لولا ذلك لم يكن كونه لطفا أولى من كون
غيره لطفا فيلزم الترجيح بلا مرجح ولم يكن كونه لطفا في هذا الفعل أولى من
كونه لطفا في غيره من الأفعال وهو ترجيح من غير مرجح أيضا وإلى هذين أشار
بقوله وإلا ترجح بلا مرجح بالنسبة إلى المنتسبين وعنى بالمنتسبين اللطف والملطوف
فيه هذا ما فهمناه من هذا الكلام.
قال: ولا يبلغ الالجاء.
أقول: هذا الحكم الثاني من أحكام اللطف وهو أن لا يبلغ في الدعاء إلى
الملطوف فيه إلى حد الالجاء لأن الفعل الملجئ إلى فعل آخر يشبه اللطف في
كون كل منهما داعيا إلى الفعل غير أن المتكلمين لا يسمون الملجئ إلى الفعل
لطفا فلهذا شرطنا في اللطف زوال الالجاء عنه إلى الفعل.
قال: ويعلم المكلف اللطف إجمالا أو تفصيلا.
أقول: هذا الحكم الثالث من أحكام اللطف وهو وجوب كونه معلوما

354
للمكلف أما بالإجمال أو بالتفصيل لأنه إذا لم يعلمه ولم يعلم الملطوف فيه ولم
يعلم المناسبة بينهما لم يكن داعيا له إلى فعل الملطوف فيه فإن كان العلم الاجمالي
كافيا في الدعاء إلى الفعل لم يجب التفصيل كما يعلم على الجملة كون الألم الواصل
إلى البهيمة لطفا لنا وإن كان اللطف لا يتم إلا بالتفصيل وجب حصوله ويكفي
العلم الاجمالي في المناسبة التي بين اللطف والملطوف فيه.
قال: ويزيد اللطف على جبة الحسن.
أقول: هذا الحكم الرابع وهو كون اللطف مشتملا على صفة زائدة على
الحسن من كونه واجبا كالفرائض أو مندوبا كالنوافل هذا هو من فعلنا وأما ما
كان من فعله تعالى فقد بينا وجوبه في حكمته.
قال: ويدخله التخيير.
أقول: هذا هو الحكم الخامس وهو أن اللطف لا يجب أن يكون معينا
بل يجوز أن يدخله التخيير بأن يكون كل واحد من الفعلين قد اشتمل على
جهة من المصلحة المطلوبة من الآخر فيقوم مقامه ويسد مسده أما في حقنا فكما
في الكفارات الثلاث وأما في حقه تعالى فلجواز أن يخلق لزيد ولدا يكون لطفا
له وإن كان يجوز حصول اللطفية بخلق ولد غير ذلك الولد من أجزاء غير أجزاء
الولد الأول وعلى صورة غير صورته وحينئذ لا يجب أحد الفعلين بعينه بل يكون
حكمه حكم الواجب المخير.
قال: ويشترط حسن البدلين.
أقول: لما ذكر أن اللطف يجوز أن يدخله التخيير نبه على شرط كل واحد
من البدلين أعني اللطف وبدله وأطلق على كل واحد منهما اسم البدل بالنظر
إلى صاحبه إذ ليس أحدهما بالأصالة أولى من الآخر وذلك الشرط كون كل
واحد منهما حسنا ليس فيه وجه قبح وهذا مما لم تتفق عليه الآراء فإن جماعة
من العدلية ذهبوا إلى تجويز كون القبيح كالظلم منا لطفا قائما مقام امراض

355
الله تعالى واستدلوا بأن وجه كون الألم من فعله تعالى لطفا هو حصول المشاق
وتذكر العقاب وذلك حاصل بالظلم منا فجاز أن يقوم مقامه وهذا ليس بجيد
لأن كونه لطفا جهة وجوب والقبيح ليس له جهة وجوب واللطف إنما هو في علم
المظلوم بالظلم لا في نفس الظلم كما تقول إن العلم بحسن ذبح البهيمة لطف لنا
وإن لم يكن الذبح نفسه لطفا.
المسألة الثالثة عشر: في الألم ووجه حسنه
قال: وبعض الألم قبيح يصدر عنا خاصة وبعضه حسن يصدر منه تعالى
ومنا وحسنه أما لاستحقاقه أو لاشتماله على النفع ودفع الضرر الزائدين أو
لكونه عاديا أو على وجه الدفع.
أقول: في هذا الكلام مباحث (الأول) في مناسبة هذا البحث وما بعده
لما قبله - إعلم إنا قد بينا وجوب الألطاف والمصالح وهي ضربان مصالح في
الدين ومصالح في الدنيا أعني المنافع الدنيوية ومصالح الدين أما مضار أو منافع
والمضار منها الألم والأمراض وغيرها كالآجال والغلاء والمنافع الصحة والسعة
في الرزق والرخص فلأجل هذا بحث المصنف (ره) عقيب اللطف عن هذه
الأشياء ولما كانت الآلام تستلزم الأعواض وجب البحث عنها أيضا (البحث
الثاني) اختلف الناس في قبح الألم وحسنه فذهبت الثنوية إلى قبح جميع
الآلام وذهبت المجبرة إلى حسن جميعها من الله تعالى وذهبت البكرية (1) وأهل
التناسخ (2) والعدلية إلى حسن بعضها وقبح الباقي (البحث الثالث) في علة
الحسن اختلف القائلون بحسن بعض الألم في وجه الحسن فقال أهل التناسخ إن



(1) هم أصحاب بكر بن أخت عبد الواحد بن زيد.
(2) أصل عقيدة التناسخ نشأ من قوم من الصائبة سموا الحرنانية وسرت في غيرهم حتى
الأمة الإسلامية وخلاصة القول في هذه العقيدة إبطال القيامة وإنكار الدار الآخرة.
356
علة الحسن هي الاستحقاق لا غير لأن النفوس البشرية إذا كانت في أبدان قبل
هذه الأبدان وفعلت ذنوبا استحقت الألم عليها وهذا أيضا قول البكرية وقالت
المعتزلة أنه يحسن عند شروط (أحدها) أن يكون مستحقا (وثانيها) أن
يكون فيها نفع عظيم يوفى عليها (وثالثها) أن يكون فيها دفع ضرر أعظم
منها (ورابعها) أن يكون مفعولا على مجرى العادة كما يفلعه الله تعالى بالحي
إذا ألقيناه في النار (وخامسها) أن يكون مفعولا على سبيل الدفع عن النفس
كما إذا ألمنا من يقصد قتلنا لأنا متى علمنا اشتمال الألم على أحد هذه الوجوه
حكمنا بحسنه قطعا.
قال: ولا بد في المشتمل على النفع من اللطف.
أقول: هذا شرط لحسن الألم المبتدء الذي يفعله الله تعالى لاشتماله على
نفع المتألم وهو كونه مشتملا على اللطف أما للمتألم ولغيره ولأن خلو الألم عن
النفع الزائد الذي يختار المولم معه الألم يستلزم الظلم وخلوه عن اللطف يستلزم
العبث وهما قبيحان فلا بد من هذين الاعتبارين في هذا النوع من الألم وهنا اختلف
الشيخان فقال أبو علي أن علة قبح الألم كونه ظلما لا غير فلم يشرط هذا الشرط
وقال أبو هاشم أنه يقبح لكونه ظلما أو لكونه عبثا فأوجب في الأمراض التي
يفعلها الله تعالى في الصبيان مع الأعراض الزائدة اشتمالها على اللطف لمكلف
آخر ولهذا يقبح منا تخليص الغريق بشرط كسر يده واستيجار من ينزح ماء
البئر ويقذفه فيها لغير غرض مع توفية الأجرة ويمكن الجواب هنا لأبي علي
بما ذكرناه في كتاب نهاية المرام.
قال: ويجوز في المستحق كونه عقابا
أقول: هذا مذهب أبي الحسين البصري فإنه جوز أن يقع الأمراض في
الكفار والفساق عقابا للكافر والفاسق لأنه ألم واصل إلى المستحق فإمكان
أن يكون عقابا ويكون تعجيله قد اشتمل على مصلحة لبعض المكلفين كما في

357
الحدود ومنع قاضي القضاة من ذلك وجزم بكون إمراضهم محنا لا عقوبات لأنه
يجب عليهم الرضا والصبر عليها والتسليم وترك الجزع ولا يلزمهم ذلك في العقاب
والجواب المنع من عدم اللزوم في العقاب لأن الرضا يطلق على معنيين (أحدهما)
الاعتقاد لحسن الفعل وهو مشترك بين العقاب والمحنة (والثاني) موافقة الفعل
للشهوة وهذا غير مقدور فلا يجب في المحنة ولا في العقاب وإذا كان الرضا
بالمعنى الأول واجبا في العقاب فكذلك الصبر على ذلك الاعتقاد واجب بأن
لا يظهر خلاف الرضا وهو الجزع ويجب أيضا التسليم بأن يعتقد أنه لو تمكن
من دفع المرض الذي هو مصلحة له لا يدفعه ولا يمتنع منه.
قال: ولا يكفي اللطف في ألم المكلف في الحسن.
أقول: هذا مذهب الشيخين (1) وقاضي القضاة وجوز بعض المشايخ
إدخال الألم على المكلف إذا اشتمل على اللطف والاعتبار وإن لم يحصل في
مقابلته عوض لأن الألم كما يحسن لنفع يقابله فكذا يحسن لما يؤدي إليه الألم
ولهذا حسن منا تحمل مشاق السفر لربح يقابل السلعة ولا يقابل مشاق السفر لما
كان مشاق السفر علة في حصول الربح المقابل للسلعة وكذا الألم الذي هو لطف
لولاه لما حصل الثواب المقابل للطاعة فحسن فعله وإن خلا عن العوض لأدائه
إلى النفع وحجة الأوائل أن الألم غير المستحق لولا اشتماله على النفع أو دفع



(1) حاصل كلام الطرفين إن منها ثلاثة أشياء الألم اللطفي والطاعة التي يفعلها العبد المتألم
لملطوف من جهة اللطف والثواب على هذه الطاعة، والخواجة ومن على مذهبه يقولون إن الثواب
في قبال الطاعة والألم يبقى مجردا ليس في قباله شئ وهو قبيح لأن الألم من دون عوض ظلم
فلا بد أن يكون هذا أمر آخر عوضا عن الألم فهو النفع أو دفع الضرر. والآخرون يقولون
إن الألم اللطفي حيث يكون للطاعة والطاعة علة للثواب فلا قبح منه وإن لم يكن معه نفع
آخر لأن العبد يتحمل هذا الألم للوصول إلى الثواب كما أن الإنسان يتحمل مشاق السفر وغيره
لبيع متاعه ليحصل له الربح.
358
الضرر كان قبيحا والطاعة المفعولة لأجل الألم ليست بنفع والثواب المستحق
عليها يقابل الطاعة دون الألم فيبقى الألم مجردا عن النفع وذلك قبيح.
قال: ولا يحسن مع اشتمال اللذة على لطفه (1)
أقول: هذا مذهب أبي الحسين البصري خلافا لأبي هاشم وتقرير مذهب
أبي هاشم إنا لو فرضنا اشتمال اللذة على اللطف الذي اشتمل عليه الألم هل يحسن
منه تعالى فعل الألم بالحي لأجل لطف الغير مع العوض الزائد الذي يختاره
المتألم لو عرض عليه قال أبو هاشم نعم لأن الألم المشتمل على المنفعة الموفية في
حكم المنفعة عند العقلاء ولهذا لا يعد العقلاء مشاق السفر الموصلة إلى الأرباح
مضارا وإذا كان الألم في حكم المنفعة صار حصول اللطف في تقدير منفعتين
فتخير الحكم في أيهما شاء وأبو الحسين منع من ذلك لأن الألم إنما يصير في حكم
المنفعة إذا لم يكن طريق لتلك المنفعة إلا ذلك الألم ولو أمكن الوصول إلى تلك
المنفعة بدون ذلك الألم كان ذلك الألم ضررا وعبثا ولهذا يعد العقلاء السفر
ضررا مع حصول الربح من دونه.
قال: ولا يشترط في الحسن اختيار المتألم بالفعل (2)
أقول: لا يشترط في حسن الألم المفعول ابتداء من الله تعالى اختيار المتألم
للعوض الزائد عليه بالفعل لأن اعتبار الاختيار إنما يكون في النفع الذي
يتفاوت فيه اختيار المتألمين فأما النفع البالغ إلى حد لا يجوز اختلاف الاختيار



(1) يعني أن الألم لا يحسن إذا كانت اللذة مشتملة على اللطف الذي في الألم لأن الألم إنما يصير
في حكم المنفعة إذا لم يكن طريق لتلك المنفعة إلا ذلك الألم ولو أمكن الوصول إلى المنفعة بدون
الألم كان الألم ضررا وهو قبيح.
(2) أي حسن الألم الواقع من الله تعالى ابتداء لاختيار المتألم بالفعل، لما تقدم من أن اشتراط
رضا الطرفين إنما يكون في النفع الذي يتفاوت فيه اختيارهما أما النفع البالغ إلى حد لا يجوز
فيه اختلاف الاختيار فلا يشترط فيه ذلك.
359
فيه فإنه يحسن وإن لم يحصل الاختيار بالفعل وهذا هو العوض المستحق
عليه تعالى.
المسألة الرابعة عشر: في الأعواض
قال: والعوض نفع مستحق خال عن تعظيم وإجلال.
أقول: لما ذكر حسن الألم المبتدأ مع تعقبه بالعوض الزائد وجب عليه
البحث عن العوض وأحكامه وبدا بتحديده فالنفع جنس للمتفضل به وللمستحق
وقيد المستحق فصل يميزه عن النفع المتفضل به وقيد الخلو عن التعظيم
والإجلال يخرج به الثواب.
قال: ويستحق عليه تعالى بإنزال الآلام وتفويت المنافع لمصلحة الغير
وإنزال الغموم سواء استندت إلى علم ضروري أو مكتسب أو ظن لا ما تستند
إلى فعل العبد وأمر عباده بالمضار وإباحته أو تمكين غير العاقل.
أقول: هذه الوجوه التي يستحق بها العوض على الله تعالى (الأول) إنزال
الآلام بالعبد كالمرض وغيره وقد سبق بيان وجوب العوض من حيث اشتماله
على الظلم لو لم يجب العوض (الثاني) تفويت المنافع إذا كانت منه تعالى
لمصلحة الغير لأنه لا فرق بين تفويت المنافع وإنزال المضار فلو أمات الله تعالى
ابنا لزيد وكان في معلومه تعالى أنه لو عاش لانتفع به زيد لاستحق عليه تعالى
العوض عما فاته من منافع ولده ولو كان في معلومه تعالى عدم انتفاعه به لأنه
يموت قبل الانتفاع به لم يستحق به عوضا لعدم تفويته المنفعة منه تعالى وكذلك
لو أهلك ماله استحق العوض بذلك سواء شعر بهلاك ما له أو لم يشعر لأن
تفويت المنفعة كإنزال الألم ولو ألمه ولم يشعر به لاستحق العوض وكذا إذا
فوت عليه منفعة لم يشعر بها وعندي في هذا الوجه نظر (الثالث) إنزال
الغموم بأن يفعل الله تعالى أسباب الغم لأن الغم يجري مجرى الضرر في العقل
سواء كان الغم علما ضروريا بنزول مصيبة أو وصول ألم أو كان ظنا بأن يغتم

360
عند أمارة لوصول مضرة أو فوات منفعة أو كان علما مكتسبا لأنه تعالى هو
الناصب للدليل والباعث على النظر فيه وكذا هو الناصب لأمارة الظن فلما كان
سبب الغم منه تعالى كان العوض عليه أما الغم الحاصل من العبد نفسه من غير
سبب منه تعالى نحو أن يبحث العبد فيعتقد جهلا بنزول ضرر به أو فوات منفعة
فإنه لا عوض فيه عليه تعالى ولو فعل به تعالى فعلا لو شعر به لاغتم نحو أن
يهلك له مالا وهو لا يشعر به إلى أن يموت فإنه لا يستحق العوض عليه تعالى لأنه
إذا لم يشعر به لم يغتم به (الرابع) أمر (1) الله تعالى عباده بإيلام الحيوان
وإباحته (2) سواء أكان الأمر للإيجاب كالذبح في الهدى والكفارة والنذر
أو للندب كالضحايا فإن العوض في ذلك كله عليه تعالى لاستلزام الأمر
والإباحة الحسن والألم إنما يحسن إذا اشتمل على المنافع العظيمة البالغة في العظم
حدا يحسن الألم لأجله (الخامس) تمكين غير العاقل مثل سباع الوحش وسباع
الطير والهوام وقد اختلف أهل العدل هنا على أربعة أقوال فذهب بعضهم إلى
أن العوض على الله تعالى مطلقا ويعزى هذا القول إلى أبي علي الجبائي وقال آخرون
أن العوض على فاعل الألم وهو قول يحكي عن ابن أبي علي أيضا وقال آخرون
لا عوض هنا على الله ولا على الحيوان وقال قاضي القضاة إن كان الحيوان ملجأ



(1) بيان ذلك أن أمره تعالى بالإيلام أو إباحته أما يكون بالإنسان كالختان؟ وبعض
المعالجات بالكي وقطع العضو وشرب الأدوية المرة وذبح إسماعيل (ع) فوجوب العوض في ذلك
ظاهر وأما يكون بالحيوان كالأمثلة التي في الكتاب وغيرها فالعوض في ذلك يتصور على أن
يكون الحيوان محشورا في الآخرة كما هو صريح بعض الآيات ومذهب بعض المتكلمين أو يكون باقيا
في الدنيا بعد التألم إلى حين وكذا الكلام في الوجه الخامس.
(2) ذكر في بعض الحواشي في قوله وإباحته، المضار فيهم كإباحة قلع السن ونتف الشعر
ونحوهما لاستلزام الإباحة الحسن والألم إنما يحسن إذا اشتمل على المنافع العظيمة البالغة حدا
يحسن الألم لأجلها.
361
إلى الايلام كان العوض عليه تعالى وإن لم يكن ملجأ كان العوض على الحيوان
نفسه (احتج الأولون) بأنه تعالى مكنه وجعل فيه ميلا شديدا إلى الايلام
مع إمكان عدم الميل ولم يجعل له عقلا يميز به حسن الألم من قبيحة ولم يزجره
بشئ من أسباب الزجر مع إمكان ذلك كله وكان ذلك بمنزلة الاغراء فلولا
تكفله تعالى بالعوض لقبح منه ذلك (واحتج الآخرون) بقوله عليه السلام إن الله
تعالى ينتصف للجماء من القرناء (واحتج النافون) للعوض بقوله عليه السلام (جرح
الجماء جبار) (1) واحتج القاضي بأن التمكين لا يقتضي انتقال العوض من الفاعل
إلى الممكن وإلا لوجب عوض القتل على صانع السيف بخلاف الالجاء المقتضي
لاستناد الفعل في الحقيقة إلى الملجئ ولهذا يحسن ذمه دون الملجأ وبأن العوض
لو كان عليه تعالى لما حسن منعها عن الألم (والجواب عن الأول) بأنه لا دلالة
في الحديث على أنه تعالى ينتصف للجماء بأن ينقل أعواض القرناء إليها وهو
يصدق بتعويض الله تعالى إياها كما أن السيد إذا غرم ما أتلفه عبده يقال قد
انتصف من عبده الظالم مع أنه يحتمل المجاز بتشبيه الظالم لتمكنه من الظلم
بالقرناء والمظلوم بالجماء لضعفه وعن الثاني (2) بأن المراد انتفاء القصاص وعن
الثالث (3) بالفرق فإن القاتل ممنوع من القتل وعنده اعتقاد عقلي يمنعه عن
الإقدام عليه فلهذا لم يقل بوجوب العوض على صانع السيف بخلاف السبع وعن
الرابع أنه قد يحسن المنع منا عن الحسن إذا كان لذلك المنع وجه حسن كما
أنه يحسن منا منع الصبيان عن شرب الخمر ومنع المعاقب عن العقاب.



(1) وهو مأخوذ من الجبران أي ليس جرح البهيمة كجرح الإنسان موجبا للجبران
بالقصاص على الحيوان بل هو ينجبر بدونه لعدم تكليفها وهو لا ينافي إيجابه عوضا على الله تعالى
أو على مالكها.
(2) أي الجواب عن استدلال النافين للعوض مطلقا.
(3) أي الجواب عن قول قاضي القضاة.
362
قال: بخلاف الاحراق عند الالقاء في النار والقتل عند شهادة الزور.
أقول: إذا طرحنا صبيا في النار فاحترق فإن الفاعل للألم هو الله تعالى
والعوض علينا لأن الألم واجب في الحكمة من حيث إجراء العادة والله تعالى
قد منعنا من طرحه ونهانا عنه فصار الطارح كأنه الموصل إليه الألم فلهذا كان
العوض علينا دونه تعالى وكذا إذا شهد عند الإمام شاهدا زور بالقتل فإن
العوض على الشهود وإن كان الله تعالى قد أوجب القتل والإمام تولاه وليس عليه
عوض لأنهما أوجبا لشهادتهما على الإمام إيصال الألم من جهة الشرع فصارا
كأنهما فعلاه (لا يقال) هلا وجب العوض عليه تعالى لأنه هو الموجب على
الإمام قتله (لأنا نقول) إن قبول الشاهدين عادة شرعية يجب اجزاؤها على
قانونها كالعادات الحسية وكما يجب العوض على الملقي للطفل في النار قضاء لحق
العادة الحسية كذلك وجب العوض هنا على الشاهدين قضاء لحق العادة الشرعية
والمناط هو الحكمة المقتضية لاستمرار العادات.
قال: والانتصاف عليه تعالى واجب عقلا وسمعا.
أقول: اختلف أهل العدل في ذلك فذهب قوم إلى الانتصاف للمظلوم من
الظالم واجب على الله تعالى عقلا لأنه هو المدبر لعباده فنظره كنظر الوالد
لأولاده فكما يجب على الوالد الانتصاف كذلك يجب عليه تعالى قياسا للغايب
على الشاهد وقال آخرون منهم أنه يجب سمعا لأن الوالد يجب عليه تدبير أمر
أولاده وتأديبهم أما الانتصاف بأخذ الأرش من الظالم ودفعه إلى المظلوم فلا
نسلم وجوبه عقلا بل يحسن منا تركهم إلى أن تكمل عقولهم لينتصف بعضهم
من بعض والمصنف (ره) اختار وجوبه عقلا وسمعا أما من حيث العقل فلأن
ترك الانتصاف منه تعالى يستدعي ضياع حق المظلوم لأنه تعالى مكن الظالم
وخلى بينه وبين الظلم قدرته تعالى على منعه ولم يمكن المظلوم من الانتصاف
فلولا تكفله تعالى بالانتصاف لضاع حق المظلوم وذلك قبيح عقلا وأما من حيث

363
السمع فلورود القرآن بأنه تعالى يقضي بين عباده ولوصف المسلمين له تعالى بأنه
الطالب أي يطلب حق الغير من الغير.
قال: فلا يجوز تمكين الظالم من الظلم من دون عوض في الحال يوازي ظلمه
أقول: هذا فرع على وجوب الانتصاف وهو أنه هل يجوز أن يمكن الله تعالى
من الظلم من لا عوض له في الحال يوازي ظلمه فمنع منه المصنف (ره) وقد
اختلف أهل العدل هنا فقال أبو هاشم والكعبي أنه يجوز لكنهما اختلفا فقال
الكعبي يجوز أن يخرج من الدنيا ولا عوض له يوازي ظلمه وقال إن الله تعالى
يتفضل عليه بالعوض المستحق عليه ويدفعه إلى المظلوم وقال أبو هاشم لا يجوز
بل يجب التبقية لأن الانتصاف واجب والتفضيل ليس بواجب فلا يجوز تعليق
الواجب بالجايز وقال السيد المرتضى (ره) إن التبقية تفضل أيضا فلا يجوز
تعليق الانتصاف بها فلهذا أوجب العوض في الحال واختاره المصنف (ره)
لما ذكرنا.
قال: فإن كان المظلوم من أهل الجنة فرق الله تعالى أعواضه على الأوقات
أو تفضل عليه بمثلها وإن كان من أهل العقاب أسقط بها جزء من عقابه بحيث
لا يظهر له التخفيف بأن يفرق الناقص على الأوقات.
أقول: لما ذكر وجوب الانتصاف بين كيفية إيصال العوض إلى مستحقه
(واعلم) أن المستحق للعوض إما أن يكون مستحقا للجنة أو النار فإن كان
مستحقا للجنة فإن قلنا إن العوض دائم فلا بحث وإن قلنا إنه منقطع توجه
الإشكال بأن يقال لو أوصل العوض إليه ثم انقطع عنه حصل له الألم بانقطاعه
والجواب من وجهين (الأول) أنه يوصل إليه عوضه متفرقا على الأوقات بحيث
لا يتعين له انقطاعه فلا يحصل له الألم (الثاني) أن يتفضل الله تعالى عليه بعد
انقطاعه بمثله دائما فلا يحصل له الألم وإن كان مستحقا للعقاب جعل الله تعالى
عوضه جزءا من عقابه بمعنى أنه يسقط من عقابه بإزاء ما يستحقه من الأعواض
إذ لا فرق في العقل بين إيصال النفع ودفع الضرر في الآثار فإذا خفف عقابه

364
وكانت آلامه عظيمة علم أن آلامه بعد إسقاط ذلك القدر من العقاب أشد
ولا يظهر له أنه كان في راحة أو نقول إنه تعالى ينقص من آلامه ما يستحقه
من أعواضه متفرقا على الأوقات بحيث لا يظهر له الخفة من قبل.
قال: ولا يجب دوامه لحسن الزائد بما يختار معه الألم وإن كان منقطعا
ولا يجب حصوله في الدنيا لاحتمال مصلحة التأخير والألم على القطع ممنوع
مع أنه غير محل النزاع.
أقول: لما ذكر وجوب العوض شرع في بيان أحكامه وقد اختلف الشيخان
فقال أبو علي الجبائي أنه يجب دوامه وقال أبو هاشم لا يجب دوامه واختاره
المصنف (ره) والدليل عليه أن العوض إنما حسن لاشتماله على النفع الزائد على الألم
أضعافا يختار معها المولم ألمه ومثل هذا متحقق في المنقطع فكان وجه الحسن فيه
ثابتا فلا يجب إدامته وقد احتج أبو علي بوجهين أشار المصنف (ره) إلى الجواب عنهما
(الأول) أنه لو كان العوض منقطعا لوجب إيصاله في الدنيا لأن تأخير الواجب
بعد وجوبه وانتفاء الموانع منع للواجب وإنما قلنا بانتفاء الموانع لأن المانع هو
الدوام مع انقطاع الحياة المانع من دوامه (والجواب) لا نسلم أن المانع من
تقدمه في الدنيا إنما هو انقطاع الحياة لجواز أن يكون في تأخيره مصلحة خفية
(الثاني) لو كان العوض منقطعا لزم دوامه والتالي لا يجامع المقدم بيان
الملازمة أنه بانقطاعه يتألم صاحب العوض والألم يستلزم العوض فيلزم من
انقطاعه دوامه والجواب من وجهين (الأول) يجوز انقطاعه من غير أن يشعر
صاحبه بانقطاعه أما لإيصاله إليه على التدريج في الأوقات بحيث لا يشعر بانتفائه
لكثرة غيره من منافعه أو بأن يجعله ساهيا ثم يقطعه فلا يتألم حينئذ (الثاني)
أنه غير محل النزاع لأن البحث في العوض المستحق على الألم هل يجب إدامته
وليس البحث في استلزام الألم الحاصل بالانقطاع لعوض آخر وهكذا دائما.
قال: ولا يجب إشعار صاحبه بإيصاله عوضا.

365
أقول: هذا حكم آخر للعوض يفارق به الثواب وهو أنه لا يجب إشعار
مستحقه بتوفيره عوضا له بخلاف الثواب إذ يجب في الثواب مقارنة التعظيم
ولا فايدة فيه إلا مع العلم به أما هنا فإنه منافع وملاذ وقد يلتذ وينتفع من (1)
لا يعلم ذلك فما يجب إيصاله إلى المثاب في الآخرة من الأعواض يجب أن يكون
عالما به من حيث إنه مثاب لا من حيث إنه معوض وحينئذ أمكن أن يوفره
الله تعالى في الدنيا على بعض المعوضين غير المكلفين وأن ينتصف لبعضهم من بعض
في الدنيا فلا يجب إعادتهم في الآخرة.
قال: ولا يتعين منافعه.
أقول: هذا حكم ثالث للعوض وهو أنه لا يتعين منافعه بمعنى أنه لا يجب
إيصاله في منفعة معينة دون أخرى بل يصح توفيره بكل ما يحصل فيه شهوة
المعوض وهذا بخلاف الثواب لأنه يجب أن يكون من جنس ما ألفه المكلف
من ملاذه كالأكل والشرب واللبس والمنكح لأنه رغب به في تحمل المشاق
بخلاف العوض فإنا قد بينا أنه يصلح إيصاله إليه وإن لم يعلم أنه عوض عما وصل
إليه من الألم فصح إيصاله إليه بكل منفعة.
قال: ولا يصح إسقاطه.
أقول: هذا حكم آخر للعوض وهو أنه يصح إسقاطه ولاهبته ممن
وجب عليه في الدنيا ولا في الآخرة سواء كان العوض عليه تعالى أو علينا هذا
قول أبي هاشم وقاضي القضاة وجزم أبو الحسين بصحة إسقاط العوض علينا إذا
استحل الظالم من المظلوم وجعله في حل بخلاف العوض عليه تعالى فإنه لا يسقط



(1) بل يجوز إيصاله إليه من غير إشعار المستحق نعم لو تألم لما ظن من أنه لم يصل إليه لم
يبعد لزوم الإشعار لاستناد الألم حينئذ إلى الموصل الذي لم يشعره ثم إنهم فرقوا بين الثواب والعوض
من هذه الجهة فقالوا بلزوم إشعار المثاب بالثواب لأنه يجب أن يقارن التعظيم ولا يحصل التعظيم
من هذه الجهة إلا بأن يشعر بأنه ثواب.
366
لأن اسقاعه عنه تعالى عبث لعدم انتفاعه به (واحتج) القاضي بأن مستحق
العوض لا يقدر على استيفائه ولا على المطالبة ولا يعرف مقداره ولا جنسه فصار
كالصبي المولى عليه لا يصح له إسقاط حقه عن غريمه (والوجه) عندي جواز
ذلك لأنه حقه وفي هبته نفع للموهوب ويمكن نقل هذه الحق إليه وكان جائزا
والحمل على الصبي غير تام لأن الشرع منع الصبي من التصرف في ماله لمصلحة
شرعية حتى إنا لولا الشرع لجوزنا من الصبي المميز هبته إذا علم دينه وإن هبته
إحسان إلى الغير وآثر هذا الاحسان لانتفاء الضرر عنه مع اشتماله على الاحسان
وإنه كالبالغ لكن الشرع فرق بينهما وعلى هذا لو كان العوض مستحقا عليه أمكن
هبته مستحقة لغيره من العباد لما ذكرنا من أنه حقه وفي هبته انتفاع الموهوب
وإمكان نقل هذا الحق أما الثواب المستحق عليه فلا يصح مناهبته لغيرنا لأنه
مستحق للمدح فلا يصح نقله إلا من لا يستحقه.
قال: والعوض عليه تعالى يجب تزايده (1) إلى حد الرضا عند كل عاقل
وعلينا يجب مساواته.
أقول: هذا حكم آخر للعوض وهو أنه أما أن يكون علينا أو على الله تعالى
أما العوض الواجب عليه تعالى فإنه يجب أن يكون زائدا عن الألم الحاصل بفعله
أو بأمره أو بإباحته أو بتمكينه لغير العاقل زيادة ينتهي إلى حد الرضا من كل
عاقل بذلك العوض في مقابلة ذلك الألم لو فعل به لأنه لولا ذلك لزم الظلم أما مع
مثل هذا العوض فإنه يصير كأنه (2) لم يفعل وأما العوض علينا فإنه يجب مساواته



(1) بمعنى أن العوض الواجب عليه تعالى يجب أن يكون زائدا عن الألم الحاصل من أجله
تعالى زيادة يرضى بها كل عامل كأن يعطي عوض ألمه دينار لأنه لولا ذلك لزم الظلم
أما مع مثل هذا العوض فإنه يصير كأنه لم يفعل، وأما العوض الذي علينا للألم الحاصل بفعلنا
فإنه يجب مساواته للألم لأن الزائد عليه ظلم بالنسبة إلى الظالم والناقص ظلم بالنسبة إلى المظلوم.
(2) أي كأنه تعالى لم يفعل الألم بمن يعطيه العوض فينتفي عوان الظلم.
367
لما فعله من الألم أو فوته من المنفعة لأن الزائد على ما يستحق عليه من الضمان
يكون ظلما ولا يخرج (1) ما فعلناه بالضمان عن كونه ظلما قبيحا فلا يلزم أن
يبلغ الحد الذي شرطناه في الآلام الصادرة منه تعالى.
المسألة الخامسة عشر: في الآجال
قال: وأجل الحيوان الوقت الذي علم الله تعالى بطلان حياته فيه.
أقول: لما فرغ من البحث عن الأعواض انتقل إلى البحث عن الآجال وإنما
بحث عنه المتكلمون لأنهم بحثوا عن المصالح والألطاف وجاز أن يكون موت
إنسان في وقت مخصوص لطفا لغيره من المكلفين فبحثوا عنه بعد بحثهم عن
المصالح (واعلم) أن الأجل هو الوقت ونعني بالوقت هو الحادث أو ما يقدر
تقدير الحادث كما يقال جاء زيد عند طلوع الشمس فإن طلوع الشمس أمر حادث
معلوم لكل أحد فجعل وقتا لغيره ولو فرض جهالة طلوع الشمس وعلم مجئ
زيد لبعض الناس صح أن يقال طلعت الشمس عند مجئ زيد إذا عرفت هذا
فأجل الحيوان هو الوقت الذي علم الله تعالى فيه بطلان حياة بذلك الحيوان
وأجل الدين هو الوقت الذي جعله الغريمان محلا له.
قال: والمقتول يجوز فيه الأمران لولاه.
أقول: اختلف الناس في المقتول لو لم يقتل فقالت المجبرة إنه كان يموت
قطعا وهو قول أبي الهذيل العلاف وقال بعض البغداديين إنه كان يعيش قطعا
وقال أكثر المحققين إنه كان يجوز أن يعيش ويجوز له أن يموت ثم اختلفوا فقال
قوم منهم إن كان من المعلوم منه البقاء لو لم يقتل له أجلان وقال الجبائيان
وأصحابهما وأبو الحسين البصري أن أجله هو الوقت الذي قتل فيه ليس له أجل



(1) أي لا يجب أن يخرج ما فعلناه عن كونه ظلما بل الواجب أداء الحق سواء بقي عنوان
الظلم أم لا ولذلك يجب علينا التوبة أيضا.
368
آخر لو لم يقتل فما كان يعيش إليه ليس بأجل له الآن حقيقي بل تقديري واحتج
الموجبون لموته بأنه لولاه لزم خلاف معلوم الله تعالى وهو محال (واحتج)
الموجبون لحياته بأنه لو مات لكان الذابح غنم غيره محسنا ولما وجب القود لأنه
لم يفت حياته (والجواب) عن الأول ما تقدم من أن العلم لا يؤثر في المعلوم
(وعن الثاني) بمنع الملازمة إذ لو ماتت الغنم استحق مالكها عوضا زائدا
على الله تعالى فبذبحه فوت عليه الأعواض الزائدة والقود من حيث مخالفة
الشرع إذ قتله حرام عليه وإن علم موته ولهذا لو أخبر الصادق بموت زيد لم
يجز لأحد قتله.
قال: ويجوز أن يكون الأجل لطفا للغير لا للمكلف.
أقول: لا استبعاد في أن يكون أجل الإنسان لطفا لغيره من المكلفين ولا
يمكن أن يكون لطفا للمكلف نفسه لأن الأجل يطلق على عمره وحياته ويطلق
على أجل موته (أما الأول) فليس بلطف لأنه تمكين له من التكليف واللطف
زائد على التمكين (وأما الثاني) فهو قطع للتكليف فلا يصح أن يكلف بعده
فيكون لطفا له فيما يكلفه من بعده واللطف لا يصح أن يكون لطفا فيما مضى.
المسألة السادسة عشر: في الأرزاق
قال: والرزق ما صح الانتفاع به ولم يكن لأحد منعه (1).
أقول: الرزق عند المجبرة ما أكل سواء أكان حراما أو حلالا وعند المعتزلة
أنه ما صح الانتفاع به ولم يكن لأحد منع المتفع به لقوله تعالى (وانفقوا مما
رزقناكم) والله لا يأمر بالإنفاق من الحرام قالوا ولا يوصف الطعام المباح في
الضيافة أنه رزقه ما لم يستهلك لأن للمبيح منعه قبل استهلاكهه بالمضغ والبلع



(1) والبحث عن الرزق لأنه فعل الله عز وجل ولأنه لطف بمعنى المحصل لغرضه تعالى وهو
تكويني وهو ما ينتفع به المخلوق في بقائه وتشريعي وهو ما فسره المصنف.
369
وكذا طعام البهيمة ليس رزقا لها قبل أن تستهلكه لأن للمالك منعها منه إلا إذا
أوجب رزقها عليه والغاصب إذا استهلك الطعام المغصوب بالأكل لا يوصف بأنه
رزقه الله تعالى لأنه تعالى منعه من الانتفاع به بعد مضغه وبلعه لأن تصرفاته
أجمع محرمة بخلاف من أبيح الطعام له لأنه بعد المضغ والبلع لا يحسن من أحد
تفويت الانتفاع به لأنه معذور فيما تقدم من الأسباب المؤدية إلى الانتفاع به
وليس الرزق هو الملك لأن البهيمة مرزوقة وليست مالكة والله تعالى مالك
ولا يقال إن الأشياء رزق له تعالى والولد والعلم رزق لنا وليسا ملكا لنا فحينئذ
الأرزاق كلها من قبله تعالى لأنه خالق جميع ما ينتفع به وهو الممكن من
الانتفاع والتوصل إلى اكتساب الرزق وهو الذي يجعل العبد أخص بالانتفاع به
بعد الحيازة أو غيرها من الأسباب الموصلة إليه ويحظر على غيره منعه من الانتفاع
وهو خالق الشهوة التي يتمكن بها من الانتفاع.
قال: والسعي في تحصيله قد يجب ويستحب ويباح ويحرم.
أقول: ذهب جمهور العقلاء إلى أن طلب الرزق سائغ وخالفهم بعض الصوفية
لاختلاط الحرام بالحلال بحيث لا يتميز وما هذا سبيله يجب الصدقة به فيجب
على الغنى دفع ما في يده إلى الفقير بحيث يصير فقيرا ليحل له أخذ الأموال
الممتزجة بالحرام ولأن في ذلك مساعدة للظالمين بأخذ العشور والخراجات ومساعدة
الظالم محرمة، والحق ما قلناه ويدل عليه المنقول والمعقول أما المعقول فلأنه دافع
للضرر فيكون واجبا وأما المنقول فقوله تعالى (وابتغوا من فضل الله)
إلى غيرها من الآيات وقوله عليه السلام (سافروا تغنموا) أمر بالسفر لأجل الغنيمة
(والجواب) عن الأول بالمنع من عدم التميز إذ الشارع ميز الحلال من الحرام
بظاهر اليد ولأن تحريم التكسب من هذه الحيثية يقتضي تحريم التناول واللازم
باطل بالاتفاق (وعن الثاني) إن المكتسب غرضه الانتفاع بزراعته أو تجارته
لا معونة الظلمة (إذا عرفت هذا) فالسعي في طلب الرزق قد يجب مع الحاجة

370
وقد يستحب إذا طلب التوسعة عليه وعلى عياله وقد يباح مع القناعة وقد يحرم
مع منعه عن الواجب.
المسألة السابعة عشر: في الأسعار
قال: والسعر تقدير العوض الذي يباع به الشئ وهو رخص وغلاء ولا بد
من اعتبار العادة واتحاد الوقت والمكان ويستندان إليه تعالى وإلينا أيضا.
أقول: السعر هو تقدير العوض الذي يباع به الشئ وليس هو الثمن ولا
المثمن وهو ينقسم إلى رخص وغلاء فالرخص هو السعر المنحط عما جرت به
العادة مع اتحاد الوقت والمكان، والغلاء زيادة السعر عما جرت به العادة مع اتحاد
الوقت والمكان وإنما اعتبرنا الزمان والمكان لأنه لا يقال إن الثلج قد رخص
سعره في الشتاء عند نزول الثلج لأنه ليس أوان بيعه ويجوز أن يقال إنه رخص
في الصيف إذا نقص سعره عما جرت عادته في ذلك الوقت ولا يقال رخص سعره
في الجبال التي يدوم نزوله فيها لأنها ليست مكان بيعه ويجوز أن يقال رخص
سعره في البلاد التي اعتيد بيعه فيها.
(واعلم) أن كل واحد من الرخص والغلاء قد يكون من قبله تعالى
بأن يقلل جنس المتاع المعين ويكثر رغبة الناس إليه فيحصل الغلاء لمصلحة المكلفين
وقد يكثر جنس ذلك المتاع ويقلل رغبة الناس إليه تفضلا منه وإنعاما أو لمصلحة
دينية فيحصل الرخص وقد يحصلان من قبلنا بأن يحمل السلطان الناس على
بيع تلك السلعة بسعر غال ظلما منه أو لاحتكار الناس أو لمنع الطريق خوف
الظلمة أو لغير ذلك من الأسباب المستندة إلينا فيحصل الغلاء وقد يحمل السلطان
الناس على بيع السلعة برخص ظلما منه أو يحملهم على بيع ما في أيديهم من
جنس ذلك المتاع فيحصل الرخص.

371
المسألة الثامنة عشر: في الأصلح
قال: والأصلح قد يجب لوجود الداعي وانتفاء الصارف.
أقول: اختلف الناس هنا فقال الشيخان أبو علي وأبو هاشم وأصحابهما إن
الأصلح ليس بواجب على الله تعالى، وقال البلخي إنه واجب وهو مذهب
البغداديين وجماعة من البصريين وقال أبو الحسين البصري أنه يجب في حال
دون حال وهو اختيار المصنف (ره) وتحرير صورة النزاع إن الله تعالى إذا علم
انتفاع زيد بإيجاد قدر من المال وانتفاء الضرر به في الدين عنه وعن غيره من
المكلفين هل يجب إيجاد ذلك القدر له أم لا، احتج الموجبون بأن لله تعالى داعيا
إلى إيجاده وليس له صارف عنه فيجب ثبوته لأن مع ثبوت القدرة ووجود
الداعي وانتفاء الصارف يجب الفعل، وبيان تحقيق الداعي أنه إحسان خال عن
جهات المفسدة، وبيان انتفاء الصارف إن المفاسد منتفية ولا مشقة فيه، واحتج
النفاة بأن وجوبه يؤدي إلى المحال فيكون محالا. بيان الملازمة إنا لو فرضنا
انتفاء المفسدة في الزائد على ذلك القدر وثبوت المصلحة فإن وجب إيجاده لزم
وقوع ما لا نهاية له لأنا نفرض ذلك في كل زائد وإن لم يجب ثبت المطلوب
قال أبو الحسين إذا كان ذلك القدر مصلحة خالية عن المفسدة وكان الزائد عليه
مفسدة وجب عليه أن يعطيه ذلك القدر لوجود الداعي وانتفاء الصارف وإذا
لم يكن في الزائد مفسدة إلى غير النهاية فإنه تعالى قد يفعل ذلك القدر وقد لا
يفعله لأن من دعاه الداعي إلى الفعل وكان ذلك الداعي حاصلا في فعل ما يشق
فإن ذلك يجري مجرى الصارف عنه فيصير الداعي مترددا بين الداعي والصارف
فلا يجب الفعل ولا الترك وتمثل بأن من دعاه الداعي على دفع درهم إلى فقير
بعينه ولم يظهر له ضرر في دفعه فإنه يدفعه إليه فإن حضره من الفقراء جماعة
يكون الدفع إليهم مساويا للدفع إلى الأول ويشق عليه الدفع إليهم لحصول الضرر
فإنه قد يدفع الدرهم إلى الفقير منهم وقد لا يدفعه فإذا كان حصول الداعي فيما

372
يشق يقتضي تجويز العدم فحصوله فيما يستحيل وجوده أولى لانتفاء الفعل فلهذا
قال قد يجب الأصلح في بعض الأوقات دون بعض وللنفاة وجوه أخر ذكرناها
في كتاب نهاية المرام على الاستقصاء.
قال: المقصد الرابع في النبوة (1) البعثة حسنة لاشتمالها على فوائد
كمعاضدة العقل فيما يدل عليه واستفادة الحكم فيما لا يدل وإزالة الخوف
واستفادة الحسن والقبح والمنافع والمضار وحفظ النوع الإنساني وتكميل
أشخاصه بحسب استعداداتهم المختلفة وتعليمهم الصنائع الخفية والأخلاق
والسياسات والإخبار بالعقاب والثواب فيحصل اللطف للمكلف.
أقول: في هذا المقصد مسائل:
المسألة الأولى: في حسن البعثة
اختلف الناس في ذلك فذهب المسلمون كافة وجميع أرباب الملل وجماعة من
الفلاسفة إلى ذلك ومنعت البراهمة منه والدليل على حسن البعثة أنها قد اشتملت
على فوائد وخلت عن المفاسد فكانت حسنة قطعا وقد ذكر المصنف (ره) جملة
من فوائد البعثة (منها) أن يعتضد العقل بالنقل فيما يدل العقل عليه من الأحكام
كوحدة الصانع وغيرها وأن يستفاد الحكم من البعثة فيما لا يدل العقل عليه
كالشرايع وغيرها من مسائل الأصول (ومنها) إزالة الخوف الحاصل للمكلف
عند تصرفاته إذ قد علم بالدليل العقلي إنه مملوك لغيره وإن التصرف في ملك الغير
بغير إذنه قبيح فلولا البعثة لم يعلم حسن التصرفات فيحصل الخوف بالتصرف
وبعدمه إذ يجوز العقل طلب المالك فعلا من العبد لا سبيل إلى فعله إلا بالبعثة
فيحصل الخوف (ومنها) إن بعض الأفعال حسنة وبعضها قبيحة ثم الحسنة منها



(1) وفي النسخ التي بأيدينا هكذا: المقصد الرابع في النبوة قال... وهذا مخالف لدأبه
في هذا الكتاب.
373
ما يستقل العقل بمعرفة حسنه ومنها ما لا يستقل وكذا القبيحة ومع البعثة يحصل
معرفة الحسن والقبح اللذين لا يستقل العقل بمعرفتهما و (منها) إن بعض الأشياء
نافعة لنا مثل كثير من الأغذية والأدوية وبعضها ضار لنا مثل كثير من السموم
والحشائش والعقل لا يدرك ذلك كله وفي البعثة تحصل هذه الفائدة العظيمة
(ومنها) إن النوع الإنساني خلق لا كغيره من الحيوانات فإنه مدني بالطبع
يحتاج إلى أمور كثيرة في معاشه لا يتم نظامه إلا بها وهو عاجز عن فعل
الأكثر منها إلا بمشاركة ومعاونة والتغلب موجود في الطبائع البشرية بحيث
يحصل التنافر المضاد لحكمة الاجتماع فلا بد من جامع يقهرهم على الاجتماع وهو
السنة والشرع ولا بد لسنة من شارع يسنها ويقرر ضوابطها ولا بد وأن يتميز
ذلك الشخص من غيره من بني نوعه لعدم الأولوية وذلك المائز لا يجوز أن يكون
مما يحصل من بني النوع لوقوع التنافر في التخصيص فلا بد وأن يتميز من قبل
الله تعالى بمعجزة ينقاد البشر إلى تصديق مدعيها ويخوفهم من مخالفته ويعدهم
على متابعته بحيث يتم النظام ويستقر حفظ النوع الإنساني على كماله الممكن
له (ومنها) إن أشخاص البشر متفاوتة في إدراك الكمالات وتحصيل المعارف
واقتناء الفضائل فبعضهم مستغن عن معاون لقوة نفسه وكمال إدراكه وشدة
استعداده للاتصال بالأمور العالية وبعضهم عاجز عن ذلك بالكلية وبعضهم متوسط
الحال وتتفاوت مراتب الكمال في هذه المرتبة بحسب قربها من أحد الطرفين
وبعدها عن الآخر وفائدة النبي تكميل الناقص من أشخاص النوع بحسب
استعداداتهم المختلفة في الزيادة والنقصان (ومنها) إن النوع الإنساني محتاج إلى
آلات وأشياء نافعة في بقائه كالثياب والمساكن وغيرها وذلك مما يحتاج في تحصيله
إلى معرفة عمله والقوة البشرية عاجزة عنه بفائدة (1) النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك تعليم
هذه الصنائع النافعة الخفية (ومنها) إن مراتب الأخلاق وتفاوتها معلوم يفتقر



(1) وفائدة (ظ).
374
فيه إلى مكمل لتعليم الأخلاق والسياسات بحيث تنتظم أمور الإنسان بحسب
بلده ومنزله (ومنها) إن الأنبياء يعرفون الثواب والعقاب على الطاعة وتركها
فيحصل للمكلف اللطف ببعثتهم فتجب بعثتهم لهذه الفوائد.
قال: وشبهة البراهمة باطلة بما تقدم.
أقول: احتجت البراهمة على انتفاء البعثة بأن الرسول إما أن يأتي بما
يوافق العقول أو بما يخالفها فإن جاء بما يوافق العقول لم يكن إليه حاجة ولا
فائدة فيه وإن جاء بما يخالف العقول وجب رد قوله وهذه الشبهة باطلة بما تقدم
في أول الفوائد وذلك أن نقول لم لا يجوز أن يأتوا بما يوافق بما يوافق العقول ويكون
الفائدة فيه التأكيد لدليل العقل أو نقول لم لا يجوز أن يأتوا بما لا تقتضيه العقول
ولا يهتدى إليه وإن لم يكن مخالفا للعقول بمعنى أنه لا يأتوا بما يقتضي العقل
نقيضه مثل كثير من الشرائع والعبادات التي لا يهتدي العقل إلى تفصيلها.
المسألة الثانية: في وجوب البعثة
قال وهي واجبة لاشتمالها على اللطف في التكاليف العقلية.
أقول: اختلف الناس هنا فقالت المعتزلة إن البعثة واجبة وقالت الأشاعرة
إنها غير واجبة، احتجت المعتزلة بأن التكاليف السمعية ألطاف في التكاليف العقلية
واللطف واجب فالتكليف السمعي واجب ولا يمكن معرفته إلا من جهة النبي
صلى الله عليه وآله فيكون وجود النبي واجبا لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، واستدلوا
على كون التكليف السمعي لطفا في العقلي بأن الإنسان إذا كان مواظبا على
فعل الواجبات السمعية وترك المناهي الشرعية كان من فعل الواجبات العقلية
والانتهاء عن المناهي العقلية أقرب وهذا معلوم بالضرورة لكل عاقل وقد بينا
فيما تقدم أن اللطف واجب.
المسألة الثانية: في وجوب العصمة
قال: ويجب في النبي العصمة ليحصل الوثوق فيحصل الغرض ولوجوب

375
متابعته وضدها والإنكار عليه.
أقول: اختلف الناس هيهنا فجماعة المعتزلة جوزوا الصغائر على الأنبياء إما
على سبيل السهو كما ذهب إليه بعضهم أو على سبيل التأويل كما ذهب إليه قوم
منهم أو لأنها تقع محبطة (1) بكثرة ثوابهم وذهبت الأشاعرة والحشوية إلى أنه
يجوز عليهم الصغائر والكبائر إلا الكفر والكذب وقالت الإمامية أنه يجب
عصمتهم عن الذنوب كلها صغيرة كانت أو كبيرة والدليل عليه بوجوه (أحدها)
أن الغرض من بعثة الأنبياء عليهم السلام إنما يحصل بالعصمة فيجب العصمة
تحصيلا للغرض، وبيان ذلك أن المبعوث إليهم لو جوزوا الكذب على الأنبياء
والمعصية جوزوا في أمرهم ونهيهم وأفعالهم التي أمروهم باتباعهم فيها ذلك
وحينئذ لا ينقادون إلى امتثال أوامرهم وذلك نقض للغرض من البعثة (الثاني)
أن النبي (ع) يجب متابعته فإذا فعل معصية فأما أن يجب متابعته أولا والثاني
باطل لانتفاء فائدة البعثة والأول باطل لأن المعصية لا يجوز فعلها وأشار بقوله
لوجوب متابعته وضدها إلى هذا الدليل لأنه بالنظر إلى كونه نبيا يجب متابعته
وبالنظر إلى كون الفعل معصية لا يجوز اتباعه (الثالث) أنه إذا فعل معصية
وجب الانكار عليه لعموم وجوب النهي عن المنكر وذلك يستلزم إيذائه وهو
منهى عنه وكل ذلك محال.
قال: وكمال العقل والذكاء والفطنة وقوة الرأي وعدم السهو وكلما ينفر
عنه من دنائة الآباء وعهر الأمهات والفظاظة والابنه وشبهها والأكل على
الطهر وشبهه.
أقول: يجب أن يكون في النبي (ع) هذه الصفات التي ذكرها وقوله وكمال
العقل عطف على العصمة أي ويجب في النبي كمال العقل وذلك ظاهر وأن
يكون في غاية الذكاء والفطنة وقوة الرأي بحيث لا يكون ضعيف الرأي مترددا



(1) من الحبط بالباء الموحدة.
376
في الأمور متحيرا لأن ذلك من أعظم المنفرات عنه وأن لا يصح عليه السهو لئلا
يسهو عن بعض ما أمر بتبليغه وأن يكون منزها عن دنائة الآباء وعهر الأمهات
لأن ذلك منفر عنه وأن يكون منزها عن الفظاظة والغلظة لئلا يحصل النفرة
عنه وأن يكون منزها عن الأمراض المنفرة نحو الابنة وسلس الريح والجذام
والبرص وعن كثير من المباحات الصارفة عن القبول منه القادحة في تعظيمه
نحو الأكل على الطريق وغير ذلك لأن كل ذلك مما ينفر عنه فيكون منافيا
للغرض من البعثة.
المسألة الرابعة: في الطريق إلى معرفة صدق النبي (ع)
قال: وطريق معرفة صدقة ظهور المعجزة على يده وهو ثبوت ما ليس
بمعتاد أو نفي ما هو معتاد مع خرق العادة ومطابقة الدعوى.
أقول: لما ذكر صفات النبي (ع) وجب عليه ذكر بيان معرفته وهو شئ
واحد هو ظهور المعجزة على يده ونعني بالمعجزة ثبوت ما ليس بمعتاد أو نفي
ما هو معتاد مع خرق العادة ومطابقة الدعوى لأن الثبوت والنفي سواء في
الاعجاز فإنه لا فرق بين قلب العصاء حية وبين منع القادر عن رفع أضعف
الأشياء وشرطنا خرق العادة لأن فعل المعتاد أو نفيه لا يدل على الصدق وقلنا
مع مطابقة الدعوى لأن من يدعي النبوة ويسند معجزته إلى إبراء الأعمى فيحصل
لم الصمم مع عدم برء الأعمى لا يكون صادقا ولا بد في المعجزة من شروط
(أحدها) أن يعجز عن مثله أو عما يقاربه الأمة المبعوث إليها (الثاني) أن
يكون من قبل الله تعالى أو بأمره (الثالث) أن يكون في زمان التكليف لأن
العادة تنتقض عند أشراط الساعة (الرابع) أن يحدث عقيب دعوى المدعي
للنبوة أو جاريا مجرى ذلك ونعني بالجاري مجرى ذلك أن يظهر دعوة النبي
في زمانه وأنه لا يدعي النبوة غيره ثم يظهر المعجزة بعد أن يظهر معجزا آخر

377
عقيب دعواه فيكون ظهور الثاني كالمتعقب لدعواه لأنه يعلم تعلقه بدعواه ولأنه
لأجله ظهر كالذي عقيب دعواه (الخامس) أن يكون خارقا للعادة.
المسألة الخامسة: في الكرامات
قال: وقصة مريم وغيرها تعطي جواز ظهورها على الصالحين.
أقول: اختلف الناس هنا فذهب جماعة من المعتزلة إلى المنع من إظهار
المعجزة على الصالحين كرامة لهم ومن إظهارها على العكس على الكذابين إظهارها
لكذبهم وجوزه أبو الحسين منهم وجماعة أخرى من المعتزلة والأشاعرة وهو الحق
واستدل المصنف (ره) بقصة مريم فإنها تدل على ظهور معجزات عليها وغيرها
مثل قصة آصف وكالأخبار المتواترة المنقولة عن علي وغيره من الأئمة عليهم
السلام وحمل المانعون قصة مريم على أنها إرهاص (1) لعيسى عليه السلام وقصة آصف
على أنها معجزة لسليمان عليه السلام مع بلقيس كأنه يقول إن بعض أتباعي يقدر
على هذا مع عجزكم عنه ولهذا أسلمت بعد الوقوف على معجزاته وقصة علي عليه السلام
تكملة معجزات النبي صلى الله عليه وآله.
قال: ولا يلزم خروجه عن الاعجاز ولا النفور ولا عدم التميز ولا
إبطال دلالته ولا العمومية.
أقول: هذه وجوه استدل بها المانعون من المعتزلة (الأول) أنه قالوا لو
جاز ظهور المعجزة على يد غير الأنبياء إكراما لهم لجاز ظهورها عليهم وإن لم
يعلم بها غيرهم لأن الغرض هو سرورهم وإذا جاز ذلك بلغت في الكثرة إلى



(1) اختلفوا في ظهور المعجزة على سبيل الارهاص وهو إحداث أمر خارق للعادة دال على
بعثة النبي (ص) قبل بعثة: أنه هل يجوز أم لا واختار المصنف فيما يأتي من كلامه الجواز بظهور
معجزات نبينا قبل نبوته مثل انكسار إيوان كسرى وانطفاء نار فارس وتظليل الغمام وتسليم
الأحجار عليه (ص).
378
خروجها عن حد الاعجاز، والجواب المنع عن الملازمة لأن خروجها عن حد
الاعجاز وجه قبيح ونحن إنما نجوز ظهور المعجزة إذا خلا عن جهات القبح
فيجوز ظهورها ما لم تبلغ في الكثرة إلى حد خروجها عن الاعجاز (الثاني)
قالوا لو جاز ظهور المعجزة على غير النبي لزم التنفير عن الأنبياء إذ علة وجوب
طاعتهم ظهور المعجزة عليهم فإذا شاركهم في ذلك من لا يجب طاعته هان
موقعهم ولهذا قالوا لو أكرم الرئيس بنوع ما كل أحد هان موقع ذلك النوع
بمن لا يستحق الاكرام، والجواب المنع من انحطاط مرتبة الاعجاز كما لو ظهر
على نبي آخر فإنه لو لم يظهر إلا على نبي واحد لكان موقعه أعظم وكما لا
يلزم الإهانة مع ظهوره على جماعة من الأنبياء كذا لا يلزم الإهانة مع ظهوره
على الصالحين (الثالث) احتجاج أبي هاشم قال المعجزة تدل بطريق الإبانة
والتخصيص وفسره قاضي القضاة بأن المعجزة تدل على تميز النبي (ع) عن غيره
إذ أفراد الأمة مشاركون له في الإنسانية ولوازمها فلولا المعجزة لما تميز عنهم
فلو شاركه غيره فيه لم يحصل الامتياز، والجواب أن امتياز النبي (ع) يحصل
بالمعجزة واقتران دعوى النبوة وهذا شئ يختص به دون غيره ولا يلزم من
مشاركة غيره له في المعجزة مشاركته له في كل شئ (الرابع) لو جاز إظهار
المعجزة على غير النبي لبطلت دلالته على صدق مدعي النبوة والتالي باطل
فالمقدم مثله، بيان الملازمة إن ثبوت المعجزة في غير صورة النبوة ينفي اختصاصه
بها وحينئذ لا يظهر الفرق بين مدعي النبوة وغيرها بالمعجزة فيبطل دلالته إذ
لا دلالة للعام على الخاص (وجوابه) المنع من الملازمة لأن المعجزة مع الدعوى
مختص بالنبي عليه السلام فإذا ظهرت المعجزة على شخص فأما أن يدعي النبوة أو لا
فإن ادعاها علمنا صدقه إذ إظهار المعجزة على يد الكاذب قبيح عقلا وإن لم
يدع النبوة لم يحكم بنبوته فالحاصل إن المعجزة لا تدل على النبوة ابتداء بل
تدل على صدق الدعوى فإن تضمنت الدعوى النبوة دلت المعجزة على تصديق

379
المدعي في دعواه ويستلزم ذلك ثبوت النبوة (الخامس) قالوا لو جاز إظهار
المعجزة على صادق ليس بني لجاز إظهارها على كل صادق فجاز إظهار المعجزة
على المخبر بالشبع والجوع وغيرهما، والجواب أنه لا يلزم العمومية أي لا يلزم
إظهار المعجزة على كل صادق إذ نحن إنما نجوز إظهارها على مدعي النبوة أو
الصالح إكراما لهما وتعظيما وذلك لا يحصل لكل مخبر بصدق.
قال: ومعجزاته عليه وآله السلام قبل النبوة تعطي الارهاص.
أقول اختلف الناس هنا فالذين منعوا الكرامات منعوا من إظهار المعجزة
على سبيل الارهاص إلا جماعة منهم وجوزه الباقون واستدل المصنف (ره) على
تجويزه بوقوع معجزات الرسول صلى الله عليه وآله قبل النبوة كما نقل من انشقاق إيوان
كسرى وغور ماء بحر ساوه وانطفاء نار فارس وقصة أصحاب الفيل والغمام
الذي كان يظلله عن الشمس وتسليم الأحجار عليه وغير ذلك مما ثبت له عليه
وآله السلام قبل النبوة.
قال: وقصة مسيلمة وفرعون وإبراهيم تعطي جواز إظهار المعجزة
على العكس.
أقول: اختلف الناس هنا فالذين منعوا الكرامات منعوا من إظهار المعجزة
على يد الكذابين على العكس من دعواهم إظهارا لكذبهم واستدل المصنف (ره)
بالوقوع على الجواز كما نقل عن مسيلمة الكذاب لما ادعي النبوة فقيل له إن
رسول الله صلى الله عليه وآله دعا لأعور فرد الله عينه الذاهبة فدعا لأعور فذهبت عينه
الصحيحة وكما نقل أن إبراهيم عليه السلام لما جعل الله تعالى عليه النار بردا وسلاما
قال عند ذلك نمرود إنما صارت النار كذلك هيبة مني فجائته نار في تلك الحال
فاحترقت لحيته (لا يقال) يكفي في التكذيب ترك المعجزة عقيب دعواهم فبقي
إظهار المعجزة على العكس خرقا للعادة من غير فائدة فيكون عبثا (لأنا نقول)
قد يتضمن المصلحة إظهاره على العكس إظهارا لتكذيبه في الحال بحيث يزول

380
الشك لتجويز أن يقال تأخر المعجزة عقيب الدعوى قد يكون لمصلحة ثم توجد
بعد وقت آخر فلا يحصل الجزم التام بالتكذيب.
المسألة السادسة: في وجوب البعثة في كل وقت
قال: ودليل الوجوب يعطي العمومية.
أقول: اختلف الناس هنا فقال جماعة من المعتزلة إن البعثة لا تجب في كل
وقت بل في حال دون حال وهو ما إذا كانت المصلحة في البعثة، وقال علماء
الإمامية أنه تجب البعثة في كل وقت بحيث لا يجوز خلو زمان من شرع نبي
وقالت الأشاعرة لا يجب البعثة في كل وقت لأنهم ينكرون الحسن والقبح العقليين
وقد مضى البحث معهم واستدل المصنف (ره) على وجوب البعثة في كل
وقت بان دليل الوجوب يعطي العمومية أي دليل وجوب البعثة يعطي عمومية
الوجوب في كل وقت لأن في بعثته زجرا عن القبائح وحثا على الطاعة
فيكون لطفا ولأن فيه تنبيه الغافل وإزالة الاختلاف ودفع الهرج والمرج وكل
ذلك من المصالح الواجبة التي لا تتم إلا بالبعثة فتكون واجبة في كل
وقت.
قال: ولا تجب الشريعة.
أقول: اختلف الشيخان هنا فقال أبو علي يجوز بعثة نبي لتأكيد ما في
العقول ولا يجب أن يكون له شريعة وقال أبو هاشم وأصحابه لا يجوز أن يبعث
إلا بشريعة لأن العقل كاف في العلم بالعقليات فالبعثة تكون عبثا والجواب أنه
يجوز أن يكون البعثة قد اشتملت على نوع من المصلحة بأن يكون العلم بنبوته
ودعائه إياهم إلى ما في العقول مصلحة لهم فلا تكون البعثة عبثا ويجب عليهم
النظر في معجزته فيحصل لهم مصلحة لا تحصل بدون البعثة واحتج أبو علي بأنه
يجوز بعثة النبي بعد النبي بشريعة واحدة وكذا يجوز بعثة نبي بمقتضى ما
في العقول.

381
المسألة السابعة: في نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله
قال: وظهور معجزة القرآن وغيره مع اقتران دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله
يدل على نبوته والتحدي مع الامتناع وتوفر الدواعي يدل على الاعجاز
والمنقول معناه متواترا من المعجزات يعضده.
أقول: لما فرغ من البحث في النبوة مطلقا شرع في إثبات نبوة نبينا محمد
عليه وآله الصلاة والسلام والدليل عليه أنه ظهرت المعجزة على يده وادعى
النبوة فيكون صادقا أما ظهور المعجزة على يده فلوجهين (الأول) أن القرآن
معجزة وقد ظهر على يده أما إعجاز القرآن فقد تحدى به فصحاء العرب لقوله
تعالى (فأتوا بسورة من مثله) (فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) (قل لئن
اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم
لبعض ظهيرا) والتحدي مع امتناعهم عن الاتيان بمثله مع توفر الدواعي عليه
إظهارا لفضلهم وإبطالا لدعواه وسلامته من القتل يدل على عجزهم وعدم قدرتهم
على المعارضة وأما ظهوره على يده فبالتواتر (الثاني) أنه نقل عنه معجزات
كثيرة كينبوع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وآله حتى اكتفى الخلق الكثير من الماء القليل
بعد رجوعه من غزوة تبوك وكغور ماء بئر الحديبية لما استسقاه أصحابه
بالكلية ونشفت البئر ودفع سهمه إلى البراء بن عازب وأمره بالنزول وغرزه في
البئر فغرزه فكثر الماء في الحال حتى خيف على البراء من الغرق وتفل عليه السلام
في بئر قوم شكوا إليه ذهاب ماءها في الصيف حتى انفجر الماء الزلال منها فبلغ
أهل اليمامة ذلك فسألوا مسيلمة لما قل ماء بئرهم ذلك فتفل فيها فذهب الماء
أجمع ولما نزل قوله تعالى (وأنذر عشيرتك الأقربين) قال لعلي شق فخذ شاة
وجئني بعس (1) من لبن وادع لي من بني أبيك بني هاشم ففعل علي ذلك ودعاهم
وكانوا أربعين رجلا وأكلوا حتى شبعوا ما يرى فيه إلا أثر أصابعهم وشربوا من



(1) العس: القدح أو الإناء الكبير.
382
العس حتى اكتفوا واللبن على حاله فلما أراد أن يدعوهم إلى الإسلام قال أبو لهب
كاد أن يسحركم محمد فقاموا قبل أن يدعوهم إلى الله تعالى فقال لعلي افعل مثل ما
فعلت ففعل مثل ذلك في اليوم الثاني فلما أراد أن يدعوهم عاد أبو لهب إلى
كلامه فقال لعلي عليه السلام افعل مثل ما فعلت ففعل مثل ذلك في اليوم الثالث
فبايع علي عليه السلام على الخلافة بعده ومتابعته وذبح له جابر بن عبد الله عناقا (1)
يوم الخندق وخبز له صاع شعير ثم دعاه عليه السلام فقال أنا وأصحابي فقال نعم ثم
جاء إلى امرأته وأخبرها بذلك فقالت له أنت قلت امض وأصحابك؟ فقال
لا بل هو لما قال أنا وأصحابي قلت نعم فقالت هو أعرف بما قال فلما جاء عليه
وآله السلام قال ما عندكم قال ما عندنا إلا عناق في التنور وصاع من شعير
خبزناه فقال أقعد أصحابي عشرة عشرة ففعل وأكلوا كلهم، وسبح الحصا في
كفه عليه السلام وشهد الذئب له بالرسالة فإن رهبان بن أوس كان يرعى غنما له
فجاء ذئب فأخذ شاة منها فسعى نحوه فقال له الذئب العجب من أخذي شاة
هذا محمد يدعو إلى الحق فلا تجيبونه فجاء إلى النبي وأسلم وكان يدعي مكلم
الذئب، وتفل في عين علي عليه السلام لما رمدت فلم ترمد بعد ذلك أبدا ودعا له بأن
يصرف الله تعالى عنه الحر والبرد وكان لباسه في الصيف والشتاء واحدا، وانشق
له القمر ودعا الشجرة فأجابته وجائته تخد الأرض من غير جاذب ولا دافع ثم
رجعت إلى مكانها وكان يخطب عند الجذع فاتخذ منبرا فانتقل إليه فحن الجذع
إليه حنين الناقة إلى ولدها فالتزمه فسكن، وأخبرنا بالغيوب في مواضع كثيرة
كما أخبر بقتل الحسين وموضع القتل به فقتل في ذلك الموضع وأخبر بقتل ثابت
ابن قيس بن شماس فقتل بعده وأخبر أصحابه بفتح مصر وأوصاهم بالقبط خيرا
فإن لهم ذمة ورحما وأخبرهم بادعاء مسيلمة النبوة باليمامة وادعاء العبسي النبوة
بصنعاء وإنهما سيقتلان فقتل فيروز الديلمي العبسي قرب وفاة النبي صلى الله عليه وآله وقتل



(1) العناق: الأنثى من أولاد المعز قبل استكمالها السنة (المنجد).
383
خالد بن الوليد مسيلمة وأخبر عليا عليه السلام بخبر ذي الثدية وسيأتي ودعا على
عتبة بن أبي لهب لما تلا عليه السلام والنجم فقال عتبة كفرت برب والنجم بتسليط
كلب الله عليه فخرج عتبة إلى الشام فخرج الأسد فارتعدت فرائصه فقال له
أصحابه من أي شئ ترتعد فقال إن محمدا دعا علي فوالله ما أظلت السماء على
ذي لهجة أصدق من محمد ثم حاط القوم بأنفسهم ومتاعهم عليه فجاء الأسد
يهمش رؤوسهم واحدا واحدا حتى انتهى إليه فضغمه ضغمة ففزع منه وأخبر
بموت النجاشي وقتل زيد بن حارثة بموته فأخبر عليه السلام بقتله في المدينة وإن
جعفرا أخذ الراية ثم قال قتل جعفر ثم توقف وقفة ثم قال وأخذ الراية عبد الله
ابن رواحة ثم قال وقتل عبد الله بن رواحة وقام عليه السلام إلى بيت جعفر واستخرج
ولده ودمعت عيناه ونعى جعفرا إلى أهله ثم ظهر الأمر كما أخبر عليه السلام
وقال لعمار تقتلك الفئة الباغية فقتله أصحاب معاوية ولاشتهار هذا الخبر لم
يتمكن معاوية من دفعه واحتال على العوام فقال قتله من جاء به فعارضه ابن عباس
وقال لم يقتل الكفار إذن حمزة وإنما قتله رسول الله صلى الله عليه وآله لأنه هو الذي جاء به
إليهم حتى قتلوه وقال لعلي عليه السلام ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين
فالناكثون طلحة وزبير لأنهما بايعاه ونكثا والقاسطون هم الظالمون وهم معاوية
وأصحابه لأنهم ظلمة بغاة والمارقون هم الخارجون عن الملة وهم الخوارج وهذه
المعجزات بعض ما نقل واقتصرنا على هذا القدر لكثرتها وبلوغ الغرض بهذه
وقد أوردنا معجزات أخرى في كتاب نهاية المرام.
قال: وإعجاز القرآن قيل لفصاحته وقيل لأسلوبه وفصاحته معا وقيل
للصرفة والكل محتمل.
أقول: اختلف الناس هنا فقال الجبائيان إن سبب إعجاز القرآن فصاحته
وقال أهل الحق هو الفصاحة والأسلوب معا وعني بالأسلوب الفن والضرب
وقال النظام والمرتضى هو الصرفة بمعنى أنه الله تعالى صرف العرب ومنعهم عن
المعارضة، واحتج الأولون بأن المنقول من العرب إنهم كانوا يستعظمون فصاحته

384
ولهذا أراد النابغة الإسلام لما سمع القرآن وعرف فصاحته فصده أبو جهل وقال
له يحرم عليك الأطيبين وأخبر الله تعالى عنهم بذلك في قوله (إنه فكر وقدر
فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر) إلى آخر الآية ولأن الصرفة لو كان
سببا في الاعجاز لوجب أن يكون في غاية الركاكة لأن الصرفة عن الركيك
أبلغ في الاعجاز والتالي باطل بالضرورة، واحتج السيد المرتضى بأن العرب
كانوا قادرين على الألفاظ المفردة وعلى التركيب وإنما منعوا عن الاتيان بمثله
تعجيزا لهم عما كانوا قادرين عليه وكل هذه الأقسام محتملة.
قال: والنسخ تابع للمصالح.
أقول: هذا إشارة إلى الرد على اليهود حيث قالوا بدوام شرع موسى عليه السلام
قالوا لأن النسخ باطل لأن المنسوخ إن كان مصلحة قبح النهى عنه وإن كان
مفسدة قبح الأمر به وإذا بطل النسخ لزم القول بدوام شرع موسى عليه السلام وتقرير
الجواب أن نقول الأحكام منوطة بالمصالح والمصالح تتغير بتغير الأوقات وتختلف
باختلاف المكلفين فجاز أن يكون الحكم المعين مصلحة لقوم وفي زمان فيؤمر
به ويكون مفسدة لقوم وفي زمان آخر فينهى عنه.
قال: وقد وقع حيث حرم على نوح بعض ما أحل لمن تقدم وأوجب
الختان بعد تأخره وحرم الجمع بين الأختين وغير ذلك.
أقول: هذا تأكيد لإبطال قول اليهود المانعين من النسخ فإنه بين أولا جواز
وقوعه وههنا بين وقوعه في شرعهم وذلك في مواضع منها أنه قد جاء في
التورية أن الله تعالى قال لآدم وحواء عليهما السلام قد أبحت لكما كلما دب على
وجه الأرض فكانت له نفس حية وورد فيها أنه قال لنوح عليه السلام خذ معك من
الحيوان الحلال كذا ومن الحيوان الحرام كذا فحرم على نوح عليه السلام بعض ما
أباحه لآدم عليه السلام ومنها أنه أباح لنوح تأخير الختان إلى وقت الكبر وحرمه
على غيره من الأنبياء وأباح لإبراهيم عليه السلام تأخير ختان ولده إسماعيل إلى حال

385
كبره وحرم على موسى عليه السلام تأخير الختان عن سبعة أيام، ومنها أنه أباح
لآدم عليه السلام الجمع بين الأختين وحرم على موسى عليه السلام.
قال: وخبرهم عن موسى عليه السلام بالتأبيد مختلق (1) ومع تسليمه لا يدل
على المراد قطعا.
أقول: إن جماعة اليهود جوزوا عقلا وقوع النسخ ومنعوا من نسخ شريعة
موسى عليه السلام وتمسكوا بما روي عن موسى عليه السلام أنه قال تمسكوا بالسبت أبدا
والتأبيد يدل على الدوام ودوام الشرع بالسبت ينفي القول بنبوة محمد صلى الله عليه وآله
والجواب من وجوه (الأول) إن هذا الحديث مختلق ونسب إلى ابن الراوندي
(الثاني) لو سلمنا نقله لكن اليهود انقطع تواترهم لأن بخت نصر استأصلهم
وأفناهم حتى لم يبق منهم من يوثق بنقله (الثالث) إن لفظة التأبيد لا تدل على
الدوام قطعا فإنها قد وردت في التورية لغير الدوام كما في العبد أنه يستخدم
ست سنين ثم يعرض عليه العتق في السابعة فإن أبى العتق ثقب أذنه واستخدم
أبدا وفي موضع آخر يستخدم خمسين سنة، وأمروا في البقرة التي كلفوا بذبحها
أن يكون لهم ذلك سنة أبدا ثم انقطع تعبدهم بها وفي التورية قربوا إلى كل يوم
خروفين خروف غدوة وخروف عشية بين المغارب قربانا دائما لاحقا بكم وانقطع
تعبدهم به وإذا كان التأبيد في هذه الصور لا يدل على الدوام انتفت دلالته
هنا قطعا وأقصى ما في الباب أنه يدل ظاهرا لكن ظواهر الألفاظ قد تترك
لوجود الأدلة المعارضة لها.
قال: والسمع يدل على عموم نبوته عليه وآله السلام.
أقول: ذهب قوم من النصارى إلى أن محمدا صلى الله عليه وآله مبعوث إلى العرب
خاصة والسمع يكذب قولهم هذا قال الله تعالى (لأنذركم ومن بلغ) وقال
تعالى (وما أرسلناك إلا كافة للناس) وسورة الجن تدل على بعثه عليه السلام إليهم



(1) اختلق الكذب: افتراه - (المنجد)
386
وقال عليه وآله السلام (بعثت إلى الأسود والأحمر) لا يقال كيف يصح إرساله
إلى من لا يفهم خطابه وقد قال تعالى (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه)
لأنا نقول لا استبعاد في ذلك بأن يترجم خطابه لمن لا يفهم لغته مترجم وليس
في الآية أنه تعالى ما أرسل رسولا إلا إلى من يفهم لسانه وإنما أخبر بأنه ما
أرسله إلا بلسان قومه وجوز قاضي القضاة في يأجوج ومأجوج احتمالين (أحدهما)
أن لا يكونا مكلفين أصلا وإن كانوا مفسدين في الأرض كالبهائم المفسدة في
الأرض (والثاني) أن يكونوا مكلفين وقد بلغتهم دعوته عليه وآله السلام
بأن يقربوا من الأمكنة التي يسمعون فيها كلام من هو وراء السد وجوز بعض
الناس أن يكون في بعض البقاع من لم يبلغه دعوته عليه السلام فلا يكون مكلفا
بشريعته وعندي أن المراد بذلك إن كان عدم تكليفهم مطلقا سواء بلغتهم بعد
ذلك الدعوة أم لا فهو باطل قطعا لما بينا من عموم نبوته عليه وآله السلام
وإن كان المراد أنهم غير مكلفين ما داموا غير عالمين فإذا بلغتهم الدعوة صاروا
مكلفين بها فهو حق.
قال: وهو أفضل من الملائكة وكذا غيره من الأنبياء (ع) لوجود المضاد
للقوة العقلية وقهره على الانقياد عليها.
أقول: اختلف الناس هنا فذهب أكثر المسلمين إلى أن الأنبياء عليهم السلام
أفضل من الملائكة وذهب آخرون منهم وجماعة الأوائل إلى أن الملائكة عليهم
السلام أفضل واستدل الأولون بوجوه ذكر المصنف منها وجها للاكتفاء به
وهو أن الأنبياء عليهم السلام قد وجد فيهم القوة الشهوية والقوة الغضبية وساير
القوى الجسمانية كالخيالية والوهمية وغير ذلك وأكثر أحكام هذه القوى يضاد
حكم القوة العقلية ويمانعها حتى أن أكثر الناس يلتجئ إلى قوة الشهوة والغضب
والوهم ويترك مقتضى القوة العقلية والأنبياء عليهم السلام يقهرون قوى طبائعهم
ويفعلون بحسب مقتضى قواهم العقلية ويعرضون عن القوى الشهوانية وغيرها

387
من القوى الجسمانية فتكون عباداتهم وأفعالهم أشق من عبادات الملائكة حيث
خلوا عن هذه القوى وإذا كانت عباداتهم أشق كانوا أفضل لقوله عليه وآله
السلام أفضل الأعمال أحمزها وهيهنا وجوه أخر من الطرفين ذكرناها في كتاب
نهاية المرام.
قال: المقصد الخامس: في الإمامة - الإمام لطف فيجب نصبه على الله
تعالى تحصيلا للغرض.
أقول: في هذا المقصد مسائل:
المسألة الأولى: في أن نصب الإمام واجب على الله تعالى
اختلف الناس هنا فذهب الأصم من المعتزلة وجماعة من الخوارج إلى نفي
وجوب نصب الإمام وذهب الباقون إلى الوجوب لكن اختلفوا فالجبائيان
وأصحاب الحديث والأشعرية قالوا إنه واجب سمعا لا عقلا، وقال أبو الحسين
البصري والبغداديون والإمامية إنه واجب عقلا ثم اختلفوا فقالت الإمامية إن
نصبه واجب على الله تعالى وقال أبو الحسين والبغداديون إنه واجب على العقلاء
واستدل المصنف (ره) على وجوب نصب الإمام على الله تعالى بأن الإمام لطف
واللطف واجب أما الصغرى فمعلومة للعقلاء إذ العلم الضروري حاصل بأن
العقلاء متى كان لهم رئيس يمنعهم عن التغالب والتهاوش ويصدهم عن المعاصي
ويعدهم ويحثهم على فعل الطاعات ويبعثهم على التناصف والتعادل كانوا إلى الصلاح
أقرب ومن الفساد أبعد وهذا أمر ضروري لا يشك فيه العاقل وأما الكبرى
فقد تقدم بيانها.
قال: والمفاسد معلومة الانتفاء وانحصار اللطف فيه معلوم للعقلاء ووجوده
لطف وتصرفه لطف آخر وعدمه منا.
أقول: هذه اعتراضات على دليل أصحابنا مع إشارة إلى الجوابات عنها

388
(الأول) قال المخالف: كون الإمامة قد اشتملت على وجه اللطف لا يكفي
في وجوبها على الله تعالى بخلاف المعرفة التي كفى وجه الوجوب فيه علينا لانتفاء
المفاسد في ظننا أما في حقه تعالى فلا يكفي وجه الوجوب ما لم يعلم انتفاء المفاسد
ولا يكفي الظن بانتفائها فلم لا يجوز اشتمال الإمامة على مفسدة لا نعلمها فلا
تكون واجبة عليه تعالى (والجواب) أن المفاسد معلومة الانتفاء عن الإمامة لأن
المفاسد محصورة معلومة إذ لا يجب علينا اجتنابها أجمع وإنما يجب اجتنابها إذا
علمناها لأن التكليف بغير المعلوم محال وتلك الوجوه منتفية عن الإمامة فيبقى
وجه اللطف خاليا عن المفسدة فيجب عليه تعالى ولأن المفسدة لو كانت لازمة
للإمامة لم ينفك عنها والتالي باطل قطعا ولقوله تعالى (إني جاعلك للناس إماما)
وإن كانت مفارقة جاز انفكاكها عنها فيجب على تقدير الانفكاك (الثاني)
قالوا الإمامة إنما تجب لو انحصر اللطف فيها فلم لا يجوز أن يكون هناك لطف
آخر يقوم مقام الإمامة فلا تتعين الإمامة اللطفية فلا تجب على التعيين (والجواب)
أن انحصار اللطف الذي ذكرناه في الإمامة معلوم للعقلاء ولهذا يلتجئ العقلاء
في كل زمان وكل صقع إلى نصب الرؤساء دفعا للمفاسد الناشئة من الاختلاف
(الثالث) قالوا الإمام إنما يكون لطفا إذا كان متصرفا بالأمر والنهي وأنتم
لا تقولون به فما تعتقدونه لطفا لا تقولون بوجوبه وما تقولون بوجوبه ليس
بلطف (والجواب) أن وجود الإمام بنفسه لطف لوجوه (أحدها) أنه يحفظ
الشرائع ويحرسها عن الزيادة والنقصان (وثانيها) أن اعتقاد المكلفين بوجود
الإمام وتجويز إنفاذ حكمه عليهم في كل وقت سبب لردعهم عن الفساد ولقربهم
إلى الصلاح وهذا معلوم بالضرورة (وثالثها) أن تصرفه لا شك أنه لطف وذلك
لا يتم إلا بوجوده فيكون وجوده بنفسه لطفا وتصرفه لطفا آخر والتحقيق أن
نقول لطف الإمامة يتم بأمور (منها) ما يجب على الله تعالى وهو خلق الإمام
وتمكينه بالتصرف والعلم والنص عليه باسمه ونسبه وهذا قد فعله الله تعالى

389
(ومنها) ما يجب على الإمام وهو تحمله للإمامة وقبوله لها وهذا قد فعله الإمام
(ومنها) ما يجب على الرعية وهو مساعدته والنصرة له وقبول أوامره وامتثال
قوله وهذا لم يفعله الرعية فكان منع اللطف الكامل منهم لا من الله تعالى ولا
من الإمام.
المسألة الثانية: في أن الإمام يجب أن يكون معصوما
قال: وامتناع التسلسل يوجب عصمته ولأنه حافظ للشرع ولوجوب
الانكار عليه لو أقدم على المعصية فيضاد أمر الطاعة ويفوت الغرض من نصبه
ولانحطاط درجته عن أقل العوام.
أقول: ذهبت الإمامية والإسماعيلية إلى أن الإمام يجب أن يكون معصوما
وخالف فيه جميع الفرق والدليل على ذلك وجوه (الأول) إن الإمام لو لم
يكن معصوما لزم التسلسل والتالي باطل فالمقدم مثله، بيان الشرطية إن المقتضى
لوجوب نصب الإمام هو تجويز الخطأ على الرعية فلو كان هذا المقتضى ثابتا في
حق الإمام وجب أن يكون له إمام آخر ويتسلسل أو ينتهي إلى إمام لا يجوز
عليه الخطأ فيكون هو الإمام الأصلي (الثاني) إن الإمام حافظ للشرع فيجب
أن يكون معصوما أما المقدمة الأولى فلأن الحافظ للشرع ليس هو الكتاب لعدم
إحاطته بجميع الأحكام التفصيلية ولا السنة لذلك أيضا ولا إجماع الأمة لأن كل
واحد منهم على تقدير عدم المعصوم فيهم يجوز على الخطأ فالمجموع كذلك ولأن
إجماعهم ليس لدلالة وإلا لاشتهرت ولا لأمارة إذ يمتنع اتفاق الناس في سائر
البقاع على الأمارة الواحدة كما يعلم بالضرورة عدم اتفاقهم على أكل طعام معين
في وقت واحد ولا لهما فيكون باطلا ولا للقياس لبطلان القول به على ما ظهر
في أصول الفقه وعلى تقدير تسليمه فليس بحافظ للشرع بالإجماع ولا للبراءة
الأصلية لأنه لو وجب المصير إليها لما وجب بعثة الأنبياء وللاجماع على عدم

390
حفظها للشرع فلم يبق إلا الإمام فلو جاز الخطأ عليه لم يبق وثوق بما تعبدنا الله
تعالى به وما كلفناه وذلك يناقض الغرض من التكليف وهو الانقياد إلى مراد
الله تعالى (الثالث) إنه لو وقع منه الخطأ لوجب الانكار عليه وذلك يضاد أمر
الطاعة له بقوله تعالى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (الرابع)
إنه لو وقع منه المعصية لزم نقض الغرض من نصب الإمام والتالي باطل فالمقدم
مثله بيان الشرطية إن الغرض من إمامته انقياد الأمة له وامتثال أوامره واتباعه
فيما يفلعه فلو وقعت المعصية منه لم يجب شئ من ذلك وهو مناف لنصبه
(الخامس) إنه لو وقع منه المعصية لزم أن يكون أقل درجة من العوام لأن عقله
أشد ومعرفته بالله تعالى وعقابه وثوابه أكثر فلو وقع منه المعصية كان أقل حالا
من الرعية وكل ذلك باطل قطعا.
قال: ولا ينافي العصمة القدرة.
أقول: اختلف القائلون بالعصمة في أن المعصوم هل يتمكن من فعل المعصية
أم لا فذهب قوم منهم إلى عدم تمكنه من ذلك وذهب آخرون إلى تمكنه منها
أما الأولون فمنهم من قال إن المعصوم مختص في بدنه أو نفسه بخاصة تقتضي
امتناع إقدامه على المعصية ومنهم من قال إن العصمة هو القدرة على الطاعة وعدم
القدرة على المعصية وهو قول أبي الحسين البصري وأما الآخرون الذين لم يسلبوا
القدرة فمنهم من فسرها بأنه الأمر الذي يفعله الله تعالى بالعبد من الألطاف
المقربة إلى الطاعات التي يعلم معها أنه لا يقدم على المعصية بشرط أن لا ينتهي
ذلك الأمر إلى الالجاء ومنهم من فسرها بأنها ملكة نفسانية لا يصدر عن صاحبها
معها المعاصي وآخرون قالوا المعصية لطف يفعله الله تعالى بصاحبه لا يكون
معه داع إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية وأسباب هذا اللطف أمور أربعة
(أحدها) أن يكون لنفسه أو لبدنه خاصة تقتضي ملكة مانعة من الفجور
وهذه الملكة مغايرة للفعل (الثاني) أن يحصل له علم بمثالب المعاصي ومناقب

391
الطاعات (الثالث) تأكيد هذا المعلوم بتتابع الوحي والإلهام من الله تعالى
(الرابع) مؤاخذته على ترك الأولى بحيث يعلم أنه لا يترك مهملا بل يضيق عليه
الأمر في غير الواجب من الأمور الحسنة فإذا اجتمعت هذه الأمور كان الإنسان
معصوما والمصنف (ره) اختار المذهب الثاني وهو أن العصمة لا تنافي القدرة
بل المعصوم قادر على فعل المعصية وإلا لما استحق المدح على ترك المعصية ولا
الثواب ولبطل الثواب والعقاب في حقه فكان خارجا عن التكليف وذلك باطل
بالإجماع وبالنقل في قوله تعالى (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي).
المسألة الثالثة: في أن الإمام يجب أن يكون أفضل من غيره
قال: وقبح تقديم المفضول معلوم ولا ترجيح في المساوي.
أقول: الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته لأنه إما أن يكون مساويا
لهم أو أنقص منهم أو أفضل والثالث هو المطلوب والأول محال لأنه مع التساوي
يستحيل ترجيحه على غيره بالإمامة والثاني أيضا محال لأن المفضول يقبح عقلا
تقديمه على الفاضل ويدل عليه أيضا قوله تعالى (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن
يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) ويدخل تحت هذا
الحكم كون الإمام أفضل في العلم والدين والكرم والشجاعة وجميع الفضائل
النفسانية والبدنية.
المسألة الرابعة: في وجوب النص على الإمام
قال: والعصمة تقتضي النص وسيرته (ع).
أقول: ذهبت الإمامية خاصة إلى أن الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه
وقالت العباسية إن الطريق إلى تعيين الإمام النص أو الميراث وقالت الزيدية
تعيين الإمام بالنص أو الدعوة إلى نفسه وقال باقي المسلمين الطريق إنما هو النص
أو اختيار أهل الحل والعقد والدليل على ما ذهبنا إليه وجهان (الأول) إنا قد
بينا أنه يجب أن يكون الإمام معصوما والعصمة أمر خفي لا يعلمها إلا الله تعالى

392
فيجب أن يكون نصبه من قبله تعالى لأنه العالم بالشرط دون غيره (الثاني) إن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أشفق على الناس من الوالد على ولده حتى أنه عليه وآله السلام
أرشدهم إلى أشياء لا نسبة لها إلى الخليفة بعده كما أرشدهم في قضاء الحاجة إلى
أمور كثيرة مندوبة وغيرها من الوقايع وكان عليه وآله السلام إذا سافر عن
المدينة يوما أو يومين استخلف فيها من يقوم بأمر المسلمين ومن هذه حاله كيف
ينسب إليه إهمال أمته وعدم إرشادهم في أجل الأشياء وأسناها وأعظمها قدرا
وأكثرها فائدة وأشد حاجة إليها وهو المتولي لأمورهم بعده فوجب من سيرته
عليه السلام نصب إمام بعده والنص عليه وتعريفهم إياه وهذا برهان لمي.
المسألة الخامسة: في أن الإمام بعد النبي (ص)
بلا فصل علي بن أبي طالب (ع)
قال: وهما مختصان بعلي
أقول: العصمة والنص مختصان بعلي إذ الأمة بين قائلين أحدهما لم يشترطهما
وقد بينا بطلان قول الأوايل فانحصر الحق في قول الفريق الثاني وكل من
اشترطهما قال إن الإمام هو علي (ع).
قال: للنص الجلي في قوله (ع) سلموا عليه بإمرة المؤمنين وأنت الخليفة
بعدي وغيرهما.
أقول: هذا دليل ثان على أن الإمام هو علي عليه السلام وهو النص الجلي من
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مواضع وتواترت به أحاديث الإمامية ونقلها غيرهم نقلا
شائعا ذائعا (منها) أنه لما نزل قوله تعالى (وأنذر عشيرتك الأقربين) أمر
رسول الله صلى الله عليه وآله أبا طالب عليه السلام أن يصنع له طعاما وجمع بني عبد المطلب
فقال لهم أيكم يوازرني ويعينني فيكون أخي وخليفتي من بعدي ووصيي فقال
علي عليه السلام أنا أبايعك وأوازرك فقال رسول الله هذا أخي ووصيي وخليفتي
من بعدي ووارثي فاسمعوا إليه وأطيعوا له ولقوله صلى الله عليه وآله له (أنت أخي ووصيي

393
وخليفتي بعدي وقاضي ديني) (ومنها) لما آخى بين الصحابة ولم يتخلف سوى
علي عليه السلام فقال يا رسول الله آخيت بين الصحابة دوني فقال له عليه السلام ألم ترض
أن تكون أخي وخليفتي من بعدي وآخى بينه وبينه (ومنها) أن رسول الله
صلى الله عليه وآله تقدم إلى أصحابه بأن سلموا على علي عليه السلام بإمرة المؤمنين وقال فيه إنه
سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين وقال فيه هذا ولي كل مؤمن
ومؤمنة والنصوص في ذلك كثيرة بل أكثر من أن تحصى ذكرها المخالف
والمؤالف إلى أن بلغ مجموعها التواتر.
قال: ولقوله تعالى إنما وليكم الله ورسوله الآية وإنما اجتمعت الأوصاف
في علي (ع).
أقول: هذا دليل آخر على إمامة علي عليه السلام وهو قوله تعالى (إنما وليكم
الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون)
والاستدلال بهذه الآية يتوقف على مقدمات (إحداها) أن لفظة إنما للحصر
ويدل عليه المنقول والمعقول أما المنقول فلإجماع أهل العربية عليه وأما المعقول
فلأن لفظة إن للإثبات وأما للنفي قبل التركيب فيكون كذلك بعد التركيب
عملا بالاستصحاب وللإجماع على هذه الدلالة ولا يصح تواردهما على معنى
واحد ولا صرف الإثبات إلى غير المذكور والنفي إلى المذكور للإجماع فبقي
العكس وهو صرف الإثبات إلى المذكور والنفي إلى غيره وهو معنى الحصر
(الثانية) أن الولي يفيد الأولى بالتصرف والدليل عليه نقل أهل اللغة
واستعمالهم كقولهم السلطان ولي من لا ولي له وكقولهم ولي الدم وولي الميت
وكقوله عليه السلام أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل (الثالثة) أن
المراد بذلك بعض المؤمنين لأنه تعالى وصفهم بوصف مختص ببعضهم ولأنه لولا
ذلك لزم اتحاد الولي والمولى عليه وإذا تمهدت هذه المقدمات فنقول المراد بهذه
الآيات هو علي عليه السلام للإجماع الحاصل على أن من خصص بها بعض المؤمنين

394
قال إنه علي عليه السلام فصرفها إلى غيره خرق للإجماع ولأنه عليه السلام إما كل المراد
أو بعضه للإجماع وقد بينا عدم العمومية فيكون هو كل المراد ولأن المفسرين
اتفقوا على أن المراد بهذه الآية علي عليه السلام لأنه لما تصدق بخاتمه حال ركوعه نزلت
هذه الآية فيه ولا خلاف في ذلك.
قال: ولحديث الغدير المتواتر.
أقول: هذا دليل آخر على إمامة علي عليه السلام وتقريره أن النبي صلى الله عليه وآله قال في
غدير خم وقد رجع من حجة الوداع معاشر المسلمين ألست أولى بكم من أنفسكم
قالوا بلى قال صلى الله عليه وآله من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه
وانصر من نصره واخذل من خذله. وقد نقل المسلمون كافة هذا الحديث نقلا
متواترا لكنهم اختلفوا في دلالته على الإمامة ووجه الاستدلال به أن لفظة مولى
تفيد الأولى لأن مقدمة الحديث تدل عليه ولأن عرف اللغة يقتضيه وكذا
الاستعمال لقوله تعالى (النار موليهم) أي أولى بهم وقول الأخطل (فأصبحت
مولاها من الناس كلهم) وقولهم مولى العبد أي الأولى بتدبيره والتصرف فيه
ولأنها مشتركة بين معان غير مرادة هنا إلا الأولى ولأنه إما كل المراد أو بعضه
ولا يجوز خروجه عن الإرادة لأنه حقيقة فيه ولم يثبت إرادة غيره.
قال: ولحديث المنزلة المتواتر.
أقول: هذا دليل آخر على إمامة علي (ع) وتقريره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال
(أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) وتواتر المسلمون بنقل
هذا الحديث لكنهم اختلفوا في دلالته على الإمامة وتقرير الاستدلال به أن عليا
(ع) له جميع منازل هارون من موسى بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن الوحدة منفية
هنا للاستثناء المشروط بالكثرة وغير العموم ليس بمراد للاستثناء المخرج ما
لولاه لوجب دخوله كالعدد والأصل عدم الاشتراك ولانتفاء القائل بالكثرة من
دون العموم ولعدم فهم المراد من خطاب الحكيم لولاه ومن جملة المنازل الخلافة

395
بعده لو عاش لثبوتها له في حياته.
قال: ولاستخلافه على المدينة فيعم للإجماع.
أقول: هذا دليل آخر على إمامته (ع) وتقريره أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استخلفه على
المدينة وأرجف المنافقون بأمير المؤمنين (ع) فخرج إلى النبي وقال يا رسول الله
إن المنافقين زعموا أنك خلفتني استثقالا وتحرزا مني فقال عليه وآله السلام
(كذبوا إنما خلفتك لما تركت ورائي فارجع يا خليفتي أفلا ترضى يا علي أن
تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) وإذا كان خليفته على
المدينة في تلك الحال ولم يعزله قبل موته ولا بعده استمرت ولايته عليها فلا
يكون غيره خليفته عليها وإذا انتفت خلافة غيره عليها انتفت خلافته على غيرها
للإجماع فثبت الخلافة له (ع) (لا يقال) قد استخلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم جماعة على
المدينة وعلى غيرها ومع ذلك فليسوا أئمة عندكم لأنا نقول إن بعضهم عزله (ع)
والباقون لم يقل أحد بإمامتهم.
قال: ولقوله (ع) أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني
بكسر الدال.
أقول: هذا دليل آخر على إمامة علي (ع) وتقريره أن النبي صلى الله عليه وآله قال
أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني بكسر الدال وهذا نص
صريح في الولاية والخلافة على ما تقدم.
قال: ولأنه أفضل وإمامة المفضول قبيحة عقلا.
أقول: هذا دليل آخر على إمامة علي (ع) وتقريره أنه أفضل من غيره
على ما يأتي فيكون هو الإمام لأن تقديم المفضول على الفاضل قبيح عقلا وللسمع
على ما تقدم.
قال: ولظهور المعجزة على يده كقلع باب خيبر ومخاطبة الثعبان ورفع
الصخرة العظيمة عن القليب ومحاربق‍؟ الجن ورد الشمس وغير ذلك وادعى

396
الإمامة فيكون صادقا.
أقول: هذا دليل آخر على إمامة أمير المؤمنين (ع) وتقريره أنه قد ظهر
على يده معجزات كثيرة وادعى الإمامة له دون غيره فيكون صادقا أما
المقدمة الأولى فلما تواتر عنه (ع) أنه فتح باب خيبر وعجز عن إعادته سبعون
رجلا من أشد الناس قوة وخاطبه الثعبان على منبر الكوفة وسئل عنه فقال
إنه كان من حكام الجن أشكل عليه مسألة أجبت عنها ولما توجه إلى صفين
أصابهم عطش عظيم فأمرهم فحفروا قريبا من دير فوجدوا صخرة عظيمة عجزوا
عن نقلها فنزل (ع) فقلعها ودحا بها مسافة بعيدة فظهر الماء فشربوا ثم أعادها
فنزل صاحب الدير وأسلم فسئل عنه ذلك فقال بنى هذا الدير على قالع هذه
الصخرة ومضى من قبلي ولم يدركوه واستشهد معه بالشام وحارب مع الجن
وقتل منهم جماعة كثيرة لما أرادوا وقوع الضرر بالنبي صلى الله عليه وآله حيث صار إلى بني
المصطلق وردت الشمس له مرتين وغير ذلك من الوقائع الشهيرة الدالة على صدق
فاعلها وأما المقدمة الثانية فظاهرة منقولة بالتواتر إذ لا يشك أحد في أنه (ع)
ادعى الإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله.
قال: ولسبق كفر غيره فلا يصلح للإمامة فيتعين هو (ع).
أقول: هذا دليل آخر على إمامة علي (ع) وهو أن غيره ممن ادعى لهم
الإمامة كالعباس وأبي بكر كانا كافرين قبل ظهور النبي فلا يصلحان للإمامة
لقوله تعالى (لا ينال عهدي الظالمين) والمراد بالعهد عهد الإمامة لأنه جواب
دعاء إبراهيم (ع).
قال: ولقوله تعالى وكونوا مع الصادقين.
أقول: هذا دليل آخر على إمامة علي (ع) وهو قوله تعالى (يا أيها
الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) أمر بالكون مع الصادقين أي المعلوم
منهم الصدق ولا يتحقق ذلك إلا في حق المعصوم إذ غيره لا يعلم صدقه ولا

397
معصوم غير علي (ع) بالإجماع.
قال: ولقوله تعالى وأولي الأمر منكم.
أقول: هذا دليل آخر على إمامة علي (ع) وهو قوله تعالى (يا أيها
الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) أمر بالاتباع
والطاعة لأولي الأمر والمراد منه المعصوم إذ غيره لا أولوية له تقضي وجوب
طاعته ولا معصوم غير علي (ع) بالإجماع.
المسألة السادسة: في الأدلة الدالة على عدم إمامة غير علي (ع)
قال: ولأن الجماعة غير علي (ع) غير صالح للإمامة لظلمهم لتقدم كفرهم.
أقول: هذه أدلة تدل على أن غير علي (ع) لا يصلح للإمامة (الأول)
أن أبا بكر وعمر وعثمان قبل ظهور النبي صلى الله عليه وآله كانوا كفرة فلا ينالوا عهد الإمامة
للآية وقد تقدمت.
قال: وقد خالف أبو بكر كتاب الله تعالى في منع إرث رسول الله
بخبر رواه.
أقول: هذا دليل آخر على عدم صلاحية أبي بكر للإمامة وتقريره أنه
خالف كتاب الله تعالى في منع إرث رسول الله صلى الله عليه وآله، ولم يورث فاطمة عليها السلام
واستند إلى خبر رواه هو عن النبي في قوله (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما
تركناه صدقة) وعموم الكتاب يدل على خلاف ذلك وأيضا قوله تعالى (وورث
سليمان داود) وقوله في قصة زكريا (يرثني ويرث من آل يعقوب) ينافي هذا
الخبر وقالت له فاطمة عليها السلام أترث أباك ولا إرث أبي لقد جئت شيئا فريا.
ومع ذلك فهو خبر واحد لم يعرف من أحد من الصحابة موافقته على نقله
فكيف يعارض الكتاب العزيز المتواتر وكيف بين رسول الله هذا الحكم لغير
ورثته ويخفيه عمن يرثه ولو كان هذا الحديث صحيحا عند أهله لم يمسك أمير
المؤمنين (ع) سيف رسول الله صلى الله عليه وآله وبغلته وعمامته ونازع العباس عليا بعد

398
فوت فاطمة عليها السلام ولو كان هذا الحديث معروفا عندهم لم يجز لهم ذلك
وروي أن فاطمة عليها السلام قالت يا أبا بكر أنت ورثت رسول الله أم ورثه
أهله قال بل ورثه أهله فقالت ما بال سهم رسول الله صلى الله عليه وآله فقال سمعت رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول إن الله إذا أطعم نبيا طعمة كانت لولي الأمر بعده وذلك يدل
على أنه لا أصل لهذا الخبر.
قال: ومنع فاطمة عليها السلام فدكا مع ادعاء النحلة لها وشهد بذلك علي
وأم أيمن وصدق الأزواج في ادعاء الحجرة لهن ولهذا ردها عمر بن عبد العزيز.
أقول: هذا دليل آخر على الطعن في أبي بكر وعدم صلاحيته للإمامة
وهو أنه أظهر التعصب على أمير المؤمنين (ع) وعلى فاطمة بنت رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم لأنها ادعت فدكا وذكرت أن النبي نحلها إياها فلم يصدقها في قولها مع أنها
معصومة ومع علمه بأنها من أهل الجنة واستشهدت عليا وأم أيمن وصدق أزواج
النبي في ادعاء أن الحجرة لهن ولم يجعل الحجرة صدقة ولما عرف عمر بن
عبد العزيز كون فاطمة مظلومة رد على أولادها فدكا ومع ذلك فإن فاطمة
عليها السلام كان ينبغي لأبي بكر انحالها فدكا ابتداء لو لم تدعه أو يعطيها
إياها بالميراث.
قال: وأوصت أن لا يصلي عليها أبو بكر فدفنت ليلا.
أقول: هذا وجه آخر يدل على الطعن في أبي بكر وهو أن فاطمة عليها
السلام لما حضرتها الوفاة أوصت أن لا يصلي عليها أبو بكر غيظا عليه ومنعا له
عن ثواب الصلاة عليها فدفنت ليلا ولم يعلم أبو بكر بذلك وأخفي قبرها لئلا
يصلي على القبر ولم يعلم قبرها إلى الآن (1).
قال: ولقوله أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم.



(1) فأنا أقول إلى زماننا هذا وهو سنة 1399 ألف وثلاثمائة وتسعة وتسعون أيضا لم يعلم قبرها
وهو موقوف على ظهور الحجة عجل الله فرجه الشريف.
399
أقول: هذا وجه آخر في الطعن على أبي بكر وهو أنه قال يوم السقيفة
أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم وهذا الإخبار إن كان حقا لم يصلح للإمامة
لاعترافه بعدم الصلاحية مع وجود علي عليه السلام وإن لم يكن حقا فعدم صلاحيته
للإمامة حينئذ أظهر.
قال: ولقوله إن له شيطانا يعتريه.
أقول: هذا دليل آخر على عدم صلاحيته للإمامة وهو قوله إن لي شيطانا
يعتريني وهذا يدل على اعتراض الشيطان له في كثير من الأحكام ومثل هذا
لا يصلح للإمامة.
قال: ولقول عمر كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها فمن عاد إلى
مثلها فاقتلوه.
أقول: هذا دليل آخر يدل على الطعن فيه لأن عمر عندهم كان إماما وقال
في حقه كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها فمن عاد إلى مثلها
فاقتلوه فبين عمر أن بيعته كانت خطأ على غير الصواب وأن مثلها مما يجب فيه
المقاتلة وهذا من أعظم ما يكون من الذم والتخطئة.
قال: وشك عند موته في استحقاقه للإمامة.
أقول: هذا دليل آخر يدل على عدم إمامة أبي بكر وهو أنه قال لما حضرته
الوفاة ليتني كنت سألت رسول الله هل للأنصار في هذا الأمر حق؟ وقال أيضا
ليتني في ظل بني ساعدة ضربت يدي على يد أحد الرجلين فكان هو الأمير
وكنت الوزير وهذا كله يدل على يدل على تشككه في استحقاقه للإمامة واضطراب أمره
فيها وأنه كان يرى أن غيره أولى بها.
قال: وخالف الرسول في الاختلاف عندهم وفي تولية من عزله.
أقول: هذا طعن آخر في أبي بكر وهو أنه خالف الرسول في الاستخلاف
عندهم لأن النبي عندهم لم يستخلف أحدا فباستخلافه يكون مخالفا للنبي عندهم

400
ومخالفة النبي توجب الطعن وأيضا فإنه خالف النبي في استخلاف من عزله النبي
لأنه استخلف عمر بن الخطاب وكان النبي لم يوله عملا سوى أنه بعثه في خيبر
فرجع منهزما وولاه أمر الصدقات فشكاه العباس إلى النبي فعزله وأنكرت
الصحابة على أبي بكر ذلك حتى قال له طلحة: وليت علينا فظا غليظا.
قال: وفي التخلف عن جيش أسامة مع علمهم لقصد البعد وولى أسامة
عليهم فهو أفضل وعلي لم يول عليه أحدا وهو أفضل من أسامة.
أقول: هذا دليل آخر على الطعن في أبي بكر وهو أنه خالف النبي حيث
أمره هو وعمر بن الخطاب وعثمان في تنفيذ جيش أسامة لأنه صلى الله عليه وآله قال في حال
مرضه حالا بعد حال نفذوا جيش أسامة وكان الثلاثة في جيشه وفي جملة من
يجب النفوذ معه فلم يفعلوا ذلك مع أنهم عرفوا قصد النبي لأن غرضه بالتنفيذ
من المدينة بعد الثلاثة عنها بحيث لا يتوثبوا على الإمامة بعد موت النبي ولهذا
جعل الثلاثة في الجيش ولم يجعل عليا معه وجعل النبي أسامة أمير الجيش وكان
فيه أبو بكر وعمر وعثمان فهو أفضل منهم وعلي أفضل من أسامة ولم يول عليه
أحدا فيكون هو أفضل الناس كافة.
قال: ولم يتول عملا في زمانه وأعطاه سورة براءة فنزل جبرئيل وأمره
برده وأخذ السورة منه وأن لا يقرأها إلا هو أو أحد من أهله فبعث
بها عليا.
أقول: هذا طعن آخر على أبي بكر وهو أنه لم يوله النبي عملا في حياته
أصلا سوى أنه أعطاه سورة براءة وأمره بالحج بالناس فلما مضى بعض الطريق
نزل جبرئيل على النبي وأمره برده وأخذ السورة منه وأن لا يقرأها إلا هو
وأحد من أهله فبعث بها عليا وولاه الحج بالناس وهذا يدل على أن أبا بكر لم
يكن أهلا لإمارة الحج فكيف يكون أهلا للإمامة بعده ولأن من لا يؤمن على
أداء سورة في حياته كيف يؤمن على الإمامة بعد النبي صلى الله عليه وآله.
كشف المراد - م 26

401
قال: ولم يكن عارفا بالأحكام حتى قطع يسار وأحرق بالنار
الفجائة السلمي ولم يعرف الكلالة ولا ميراث الجدة واضطرب في أحكامه ولم
يحد خالدا ولا اقتص منه.
أقول: هذا طعن آخر في أبي بكر وهو أنه لم يكن عارفا بالأحكام فلا
يجوز نصبه للإمامة أما المقدمة الثانية فقد مرت وأما الأولى فلأنه قطع سارقا
من يساره وهو خلاف الشرع وأحرق الفجائة السلمي بالنار وقد نهى
النبي صلى الله عليه وآله عن ذلك وقال لا يعذب بالنار إلا رب النار، وسئل عن الكلالة فلم
يعرف ما يقول فيها ثم قال أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان
خطأ فمني ومن الشيطان والحكم بالرأي باطل وسألته جدة عن ميراثها فقال لها
لا أجد لك شيئا في كتاب الله ولا سنة نبيه ارجعي حتى أسئل وأخبره المغيرة
ابن شعبة ومحمد بن سلمة إن النبي أعطاها السدس واضطرب في كثير من الأحكام
وكان يستفتي الصحابة فيها وذلك واضح على قصور علمه وقلة معرفته وقتل
خالد بن الوليد مالك بن نويرة وتزوج امرأته ليلة قتله وضاجعها فلم يحده على الزنا
ولا قتله بالقصاص وأشار عليه عمر بقتله وعزله فقال لا أغمد سيفا شهره الله
على الكفار.
قال: ودفن في بيت رسول الله (ص) وقد نهي الله تعالى دخوله في حياته
وبعث إلى بيت أمير المؤمنين لما امتنع من البيعة فأضرم فيه النار وفيه فاطمة
عليها السلام وجماعة من بني هاشم ورد عليه الحسنان (ع) لما بويع وندم على
كشف بيت فاطمة عليها السلام.
أقول: هذه مطاعن أخر في أبي بكر وهو أنه دفن في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله
وقد نهى الله تعالى عن الدخول بغير إذن النبي صلى الله عليه وآله حال حياته فكيف بعد موته
وبعث إلى بيت أمير المؤمنين عليه السلام لما امتنع من البيعة فأضرم فيه النار وفيه
فاطمة وجماعة من بني هاشم وأخرجوا عليا عليه السلام كرها وكان معه الزبير

402
في البيت فكسروا سيفه وأخرجوا من الدار من أخرجوا وضربت فاطمة وألقت
جنينا اسمه محسن ولما بويع أبو بكر صعد المنبر فجاء الحسن والحسين عليهما السلام
مع جماعة من بني هاشم وغيرهم فأنكروا عليه وقال له الحسن والحسين (ع) هذا
مقام جدنا ولست له أهلا ولما حضرته الوفاة قال ليتني كنت تركت بيت فاطمة
(ع) فلم أكشفه وهذا يدل على خطائه في ذلك.
قال: وأمر عمر برجم امرأة حامل وأخرى مجنونة فنهاه علي (ع) فقال
عمر لولا علي لهلك عمر.
أقول: هذا طعن على عمر يمتنع مع الإمامة له وهو أن عمر أتى إليه بامرأة
قد زنت وهي حامل فأمر برجمها فقال له علي عليه السلام إن كان لك عليها سبيل
فليس لك على حملها سبيل فامسك فقال لولا علي لهلك عمر وأتى بامرأة مجنونة
زنت فأمر برجمها فقال له علي عليه السلام إن القلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق فامسك
وقال لولا علي لهلك عمر ومن يخفي عليه هذه الأمور الظاهرة في الشريعة كيف
يستحق الإمامة.
قال: وتشكك في موت النبي (ص) حتى تلي عليه أبو بكر إنك ميت
وإنهم ميتون فقال كأني لم أسمع هذه الآية.
أقول: هذا طعن آخر وهو أن عمر لم يكن حافظا للكتاب العزيز ولم يكن
متدبرا للآيات فلا يستحق الإمامة وذلك أنه قال عند موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم والله ما
مات محمد حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم فلما نبهه أبو بكر بقوله تعالى (إنك
ميت وإنهم ميتون) وبقوله (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) قال
كأني ما سمعت بهذه الآية وقال أيقنت بوفاته.
قال: وقال كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات في الحجال لما منع من
المغالاة في الصداق.
أقول: هذا طعن آخر وهو أن عمر قال يوما في خطبته من غالى في صداق

403
ابنته جعلته في بيت المال فقالت له امرأة كيف تمنعنا ما أحل الله لنا في كتابه
بقوله وآتيتم إحداهن قنطارا فقال عمر كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات
في الحجال ومن يشتبه عليه مثل هذا الحكم الظاهر لا يصلح للإمامة.
قال: وأعطى أزواج النبي واقترض ومنع أهل البيت عليهم السلام من
خمسهم.
أقول: هذا طعن آخر وهو أن عمر كان يعطي أزواج النبي صلى الله عليه وآله بيت المال
حتى كان يعطي عائشة وحفصة عشرة آلاف درهم كل سنة وأخذ من بيت
المال ثمانين ألف درهم فأنكر عليه ذلك فقال أخذته على جهة القرض ومنع أهل
البيت عليهم السلام الخمس الذي أوجبه الله تعالى لهم في الكتاب العزيز.
قال: وقضى في الحد بمأة قضيب وفضل في القسمة ومنع المتعتين:
أقول: هذه مطاعن أخر وهو أن عمر لم يكن عارفا بأحكام الشريعة
فقضى في الحد بمأة قضيب وروى تسعين قضيبا وهو يدل على قلة معرفته بالأحكام
الظاهرة وأيضا فضل في القسمة والعطاء والواجب التسوية وقال (متعتان كانتا
على عهد رسول الله أنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما) مع أن النبي تأسف على
فوات المتعة ولو لم يكن أفضل من غيرها من أنواع الحج لما فعل النبي ذلك
وجماعة كانوا قد ولدوا من المتعة ولو لم يكن سائغة لم يقع منهم ذلك.
قال: وحكم في الشورى بضد الصواب.
أقول: هذا طعن آخر وهو أن عمر خالف رسول الله صلى الله عليه وآله عندهم حيث لم
يفوض الأمر إلى اختيار الناس وخالف أبا بكر حيث لم ينص على إمام بعده ثم
إنه طعن في كل واحد ممن اختاره للشورى وأظهر كراهية أن يتقلد أمر المسلمين
ميتا كما تقلده حيا ثم تقلده وجعل الإمامة في ستة نفر ثم ناقض نفسه فجعلها في
أربعة بعد الستة ثم في ثلاثة ثم في واحد فجعل إلى عبد الرحمن بن عوف الاختيار
بعد أن وصفه بالضعف ثم قال (إن اجتمع أمير المؤمنين عليه السلام وعثمان فالأمر ما

404
قالاه وإن صاروا ثلاثة ثلاثة فالقول للذين فيهم عبد الرحمان) لعلمه بعدم الاجتماع
من علي وعثمان وعلمه بأن عبد الرحمن لا يعدل بها عن أخيه عثمان ابن عمه ثم
أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة ثلاثة أيام وأمر بقتل من خالف الأربعة
منهم أو الذين فيهم عبد الرحمن وكيف يسوغ له قتل علي عليه السلام وعثمان
وغيرهما وهما من أكابر المسلمين.
قال: وخرق كتاب فاطمة عليها السلام.
أقول: هذا طعن آخر وهو أن فاطمة (ع) لما طالب المنازعة بينها وبين
أبي بكر رد أبو بكر عليها فدكا وكتب لها بذلك كتابا فخرجت والكتاب في
يدها فلقيها عمر فسألها عن شأنها فقصت قصتها فأخذ منها الكتاب وخرقه
ودعت عليه ودخل على أبي بكر وعاتبه على ذلك واتفقا على منعها عن فدك.
قال: وولي عثمان من ظهر فسقه حتى أحدثوا في أمر المسلمين ما
أحدثوا.
أقول: هذا طعن على عثمان وهو أنه أولى أمور المسلمين من ظهر منه
الفسق والخيانة وقسم الولايات بين أقاربه وقد كان عمر حذره وقال له إذا
وليت هذا الأمر فلا تسلط آل أبي معيط على رقاب الناس وصدق عمر فيه في
قوله إنه كلف بأقاربه واستعمل الوليد بن عقبة حتى ظهر منه شرب الخمر وصلى
بالناس وهو سكران واستعمل سعيد بن العاص على الكوفة فظهر منه ما أخرجه
به أهل الكوفة عنها وولى عبد الله بن أبي سرح مصر حتى تظلم منه أهلها وكاتب
ابن أبي سرح أن يستمر على ولايته سرا بخلاف ما كتب إليه جهرا وأمره بقتل
محمد بن أبي بكر وولى معاوية الشام فأحدث من الفتن ما أحدث.
قال: وآثر أهله بالأموال.
أقول: هذا طعن آخر على عثمان وهو أنه كان يؤثر أهل بيته وأقاربه
بالأموال العظيمة من بيت مال المسلمين فإنه دفع إلى أربعة نفر من قريش أربعمأة

405
ألف دينار حيث زوجهم ببناته ودفع إلى مروان ألف ألف لأجل فتح إفريقية
ومن قبله كان يعطي بقدر الاستحاق ولا يؤثر (ولا يعطى خ ل) الأقارب.
قال: وحمى لنفسه.
أقول: هذا طعن آخر وهو أن عثمان حمى الحمى لنفسه عن المسلمين ومنعهم
عنه وذلك مناف للشرع لأن النبي صلى الله عليه وآله جعل الناس في الماء والكلاء والنار
شرعا سواء.
قال: ووقع منه أشياء منكرة في حق الصحابة فضرب ابن مسعود حتى
مات وأحرق مصحفه وضرب عمارا حتى أصابه فتق وضرب أبا ذر ونفاه إلى
الربذة.
أقول: هذا طعن آخر وهو أن عثمان ارتكب من الصحابة ما لا يجوز
وجوز بهم ما لا يحل فضرب ابن مسعود حتى مات عند إحراق المصاحف وأحرق
مصحفه وأنكر عليه قرائته وقد قال صلى الله عليه وآله من أراد أن يقرأ القرآن
غضا فليقرأ بقراءة ابن أم عبد وكان ابن مسعود يطعن في عثمان ويكفره وضرب
عمار بن ياسر حتى صار به فتق وكان عمار يطعن في عثمان وكان يقول قتلناه
كافرا واستحضر أبا ذر من الشام لهوى معاوية وضربه ونفاه إلى الربذة مع أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مقربا لهؤلاء الصحابة وشاكرا لهم.
قال: وأسقط القود عن ابن عمر والحد عن الوليد مع وجوبهما.
أقول: هذا طعن آخر وهو أن عثمان كان يسقط الحدود ويعطلها ولا
يقيمها لأجل هوى نفسه ومثل هذا لا يصلح للإمامة فإنه لم يقتل عبد الله بن عمر
لما قتل الهرمزان بعد إسلامه ولما ولي أمير المؤمنين عليه السلام طلبه لإقامة القصاص
عليه فلحق بمعاوية ولما وجب على الوليد بن عقبة حد الشراب أراد أن يسقط عنه
فحده أمير المؤمنين عليه السلام وقال لا يبطل حدود الله وأنا حاضر.

406
قال: وخذلته الصحابة حتى قتل وقال أمير المؤمنين عليه السلام: قتله
الله ولم يدفن إلا بعد ثلاث وعابوا غيبته عن بدر وأحد والبيعة.
أقول: هذه مطاعن أخر وهو أن الصحابة خذلوا عثمان حتى قتل وقد
كان يمكنهم الدفع عنه فلولا علمهم باستحقاقه لذلك لما ساغ لهم التأخر عن
نصرته، وقال أمير المؤمنين عليه السلام الله قتله وتركوه بعد القتل ثلاثة أيام ولم
يدفنوه وذلك يدل على شدة غيظهم عليه وإفراطهم في الحنق لما أصابهم من
ضرره وظلمه وعابت الصحابة عليه غيبته عن بدر وأحد ولم يشهد بيعة الرضوان.
المسألة السابعة: في أن عليا أفضل الصحابة
قال: وعلي (ع) أفضل لكثرة جهاده وعظم بلائه في وقائع النبي
(ص) بأجمعها ولم يبلغ أحد درجته في غزوة بدر وأحد ويوم الأحزاب
وخيبر وحنين وغيرها.
أقول: اختلف الناس هيهنا فقال عمر وعثمان وابن عمر وأبو هريرة من
الصحابة أن أبا بكر أفضل من علي (ع) وبه قال من التابعين الحسن البصري
وعمرو بن عبيد وهو اختيار النظام وأبي عثمان الجاحظ وقال الزبير والمقداد
وسلمان وجابر بن عبد الله وعمار وأبو ذر وحذيفة من الصحابة أن عليا أفضل
وبه قال من التابعين عطاء ومجاهد وسلمة بن كهيل وهو اختيار البغداديين كافة
والشيعة بأجمعهم وأبي عبد الله البصري وتوقف الجبائيان وقاضي القضاة قال أبو
علي الجبائي إن صح خبر الطائر فعلى أفضل ونحن نقول أن الفضائل إما نفسانية
أو بدنية وعلي (ع) كان أكمل وأفضل من باقي الصحابة فيهما والدليل على ذلك
وجوه ذكرها المصنف (ره) (الأول) أن عليا (ع) كان أكثر جهادا وأعظم
بلاء في غزوات النبي صلى الله عليه وآله بأجمعها ولم يبلغ أحد درجته في ذلك (منها) في غزوة
بدر وهي أول حرب امتحن الله بها المؤمنين لقلتهم وكثرة المشركين فقتل على

407
الوليد بن عتبة بن ربيعة ثم شيبة ثم ابن ربيعة ثم العاص بن سعد بن العاص ثم
حنظلة بن أبي سفيان ثم طعمة بن عدي ثم نوفل بن خويلد وكان شجاعا وسأل
النبي صلى الله عليه وآله أن يكفيه أمره فقتله علي (ع) ولم يزل يقاتل حتى قتل نصف المشركين
والباقي من المسلمين وثلاثة آلاف من الملائكة مسومين قتلوا النصف الآخر ومع
ذلك كانت الراية في يد علي (ع) (ومنها) في غزوة أحد جمع له الرسول بين
اللواء والراية وكانت راية المشركين مع طلحة بن أبي طلحة وكان يسمى كبش
الكتيبة فقتله علي (ع) فأخذ الراية غيره فقتله (ع) ولم يزل يقتل واحدا بعد
واحد حتى قتل تسعة نفر فانهزم المشركون واشتغل المسلمون بالغنائم فحمل
خالد بن الوليد بأصحابه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فضربوه بالسيوف والرماح والحجر حتى
غشي عليه فانهزم الناس عنه سوى علي (ع) فنظر إليه النبي صلى الله عليه وآله بعد إفاقته وقال
له اكفني هؤلاء فهزمهم عنه وكان أكثر المقتولين من علي (ع) (ومنها) يوم
الأحزاب وقد بالغ في قتل المشركين وقتل عمرو بن عبد ود وكان بطل المشركين
ودعا إلى البراز مرارا فامتنع عنه المسلمون وعلي (ع) يروم مبارزته والنبي صلى الله عليه وآله وسلم
يمنعه من ذلك لينظر صنع المسلمين فلما رأى امتناعهم أذن له وعممه بعمامته
ودعا له، قال حذيفة لما دعا عمرو إلى المبارزة أحجم المسلمون عنه كافة ما خلا
عليا (ع) فإنه برز إليه فقتله الله يديه والذي نفس حذيفة بيده لعمله في
ذلك اليوم أعظم أجرا من عمل أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم القيمة وكان الفتح في
ذلك اليوم على يدي علي (ع) وقال النبي صلى الله عليه وآله لضربة على خير من عبادة الثقلين
(ومنها) في غزاة خيبر واشتهار جهاده فيها غير خفي وفتح الله تعالى على يديه
فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حصر حصنهم تسعة عشر يوما وكانت الراية بيد علي (ع) فأصابه
رمد فسلم النبي صلى الله عليه وآله الراية إلى أبي بكر وانصرف مع جماعة فرجعوا منهزمين
خائفين فدفعها من الغد إلى عمر ففعل مثل ذلك فقال (ع) لأسلمن الراية غدا
إلى رجل يحبه الله ورسوله كرار غير فرار فقال ايتوني بعلي (ع) فقيل به رمد

408
فتفل في عينه ودفع الراية إليه فقتل مرحبا فانهزم أصحابه وغلقوا الأبواب
ففتح علي الباب واقتلعه وجعله جسرا على الخندق وعبروا وظفروا فلما انصرفوا
أخذه بيمينه ودحاه أذرعا وكان يغلقه عشرون وعجز المسلمون عن نقله حتى
نقله سبعون رجلا وقال (ع) (والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية ولكن
قلعته بقوة ربانية) (ومنها) في غزاة حنين وقد سار النبي في عشرة آلاف من
المسلمين فتعجب أبو بكر من كثرتهم وقال لن يغلب القوم من قلة فانهزموا
بأجمعهم ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله سوى تسعة نفر علي (ع) والعباس وابنه الفضل
وأبو سفيان بن الحرث ونوفل بن الحرث وربيعة بن الحرث وعبد الله بن الزبير
وعتبة ومصعب ابنا أبي لهب فخرج أبو جرول فقتله علي (ع) فانهزم المشركون
وأقبل المسلمون بعد نداء النبي وضايقوا العدو فقتل علي أربعين وانهزم الباقون
وغنمهم المسلمون وغير ذلك من الوقائع المأثورة والغزوات المشهورة التي نقلها
أرباب السير وكانت الفضيلة بأجمعها في ذلك لعلي (ع) وإذا كان أكثر جهادا
كان أفضل من غيره وأكثر ثوابا.
قال: ولأنه أعلم لقوة حد؟؟ ه وشدة ملازمته للرسول (ص) وكثرة
استفادته عنه ورجعت الصحابة إليه في أكثر الوقايع بعد غلطهم وقال النبي
(ص) أقضاكم على واستند الفضلاء في جميع العلوم إليه وأخبر هو (ع) بذلك.
أقول: هذا هو الوجه الثاني في بيان أن عليا أفضل من غيره وهو أنه أعلم
من غيره فيكون أفضل أما المقدمة الأولى فيدل عليها وجوه (الأول) إنه كان
شديد الذكاء في غاية قوة الحدس ونشأ في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله ملازما له
مستفيدا منه والرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان أكمل الناس وأفضلهم ومع حصول القبول التام
والمؤثر الكامل يكون الفعل أقوى وأتم بالخصوص وقد مارس المعارف الإلهية
من صغره وقد قيل العلم في الصغر كالنقش في الحجر وهذا برهان لمي (الثاني)
إن الصحابة كانت تشتبه الأحكام عليهم وربما أفتى بعضهم بالغلط وكانوا يراجعونه

409
في ذلك ولم ينقل أنه عليه السلام راجع أحدا منهم في شئ البتة وذلك يدل على أنه
أفضل من الجماعة فإنه نقل عن أبي بكر أن بعض اليهود لقيه فقال له أين الله تعالى
فقال على العرش فقال اليهودي خلت الأرض منه حيث اختص ببعض الأمكنة
وانصرف عنه مستهزءا بالإسلام فلقيه علي عليه السلام فقال إن الله أين الأين فلا أين
له إلى آخر الحديث فأسلم على يده وسئل عن الكلالة والأب فلم يعلم ما يقول
حتى أوضح علي عليه السلام الجواب وسئل عمر عن أحكام كثيرة فحكم فيها بضد
الصواب فراجعه فيها علي عليه السلام فرجع إلى قوله كما نقل عنه من إسقاط حد
الشرب عن قدامة لما تلا عليه قوله تعالى (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات
جناح فيما طعموا) فقال علي عليه السلام الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يستحلون
محرما وأمره برده واستتابته وقال (ع) فإن تاب فاجلده وإلا فأقيله فلم يدر عمر
كم يحده فأمره (ع) بحد ثمانين وأمر عمر برجم مجنونة زنت فرده (ع) بقوله
(رفع القلم عن المجنون حتى يفيق) فقال لولا علي لهلك عمر وولدت امرأة
لستة أشهر فأمر برجمها فقال (ع) إن أقل الحمل ستة أشهر بقوله تعالى (وفصاله
في عامين) وقوله تعالى (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) وأمر برجم حامل
فقال علي (ع) إن كان لك سبيل عليها فليس لك على ما في بطنها سبيل فامتنع
وغير ذلك من الوقائع الكثيرة (الثالث) أنه قال رسول الله في حقه أقضاكم على
والقضاء يستلزم العلم وذلك أيضا يدل على أفضليته (الرابع) استناد العلماء
بأسرهم إليه فإن أصول النحاة مستندة إليه وكذا أصول المعارف الإلهية وعلم
الأصول فإن أبا الحسن الأشعري تلميذ أبي علي الجبائي من المعتزلة وكافة المعتزلة
ينتسبون إليه ويدعون أخذ معارفهم منه وأهل التفسير رجعوا إلى ابن عباس فيه
وهو تلميذ علي (ع) والفقهاء ينتسبون إليه والخوارج مع بعدهم ينتسبون إلى
أكابرهم وهم تلامذة علي (ع) (الخامس) أنه أخبر بذلك في عدة مواضع
كقوله (ع) سلوني عن طرق السماء فإني أعرف بها من طرق الأرض وقال والله

410
لو سندت لي الوسادة لحكمت بين أهل التورية بتوراتهم وبين أهل الزبور بزبورهم
وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الفرقان بفرقانهم وذلك يدل على كمال معرفته
بجميع هذه الشرائع (وبالجملة) فلم ينقل عن أحد من الصحابة ولا عن غيرهم ما
ينقل عنه في أصول العلم.
قال: ولقوله تعالى وأنفسنا.
أقول: هذا هو الوجه الثالث الدال على أنه (ع) أفضل من غيره وهو قوله
تعالى (قل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم)
واتفق المفسرون كافة أن الأبناء إشارة إلى الحسن والحسين عليهما السلام والنساء
إشارة إلى فاطمة عليها السلام والأنفس إشارة إلى علي (ع) ولا يمكن أن
يقال إن نفسهما واحدة فلم يبق المراد من ذلك إلا المساوي ولا شك في أن رسول
الله صلى الله عليه وآله أفضل الناس فمساويه كذلك أيضا.
قال: ولكثرة سخائه على غيره.
أقول: هذا وجه رابع يدل على أن عليا (ع) أفضل من غيره وهو أنه كان
أسخى الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله حتى أنه جاد بقوته وقوت عياله وبات طاويا
هو وإياهم ثلاثة أيام حتى أنزل الله تعالى في حقهم (ويطعمون الطعام على حبه
مسكينا ويتيما وأسيرا) وتصدق مرة أخرى بجميع ما يملكه وقد كان حينئذ
يملك أربعة دراهم لا غير فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم
علانية فأنزل الله تعالى في حقه (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية)
وكان يعمل بالأجرة ويتصدق بها ويشد على بطنه الحجر من شدة الجوع وشهد
له بذلك أعداؤه فضلا عن أوليائه، قال معاوية لو ملك علي (ع) بيتا من تبر
وبيتا من تبن لأنفد تبره قبل تبنه ولم يخلف شيئا أصلا وقال يا صفراء ويا بيضاء
غري غيري وكان يكنس بيوت الأموال ويصلي فيها مع أن الدنيا
كانت بيده.

411
قال: وكان أزهد الناس بعد النبي.
أقول: هذا هو الوجه الخامس وتقريره أن عليا (ع) كان أزهد الناس بعد
رسول الله صلى الله عليه وآله فيكون أفضل من غيره بيان المقدمة الأولى ما نقل بالتواتر عنه
أنه (ع) كان سيد الأبدال وإليه يستند الرجال في معرفة الزهد والتسليك فيه
وترتيب أحوال الرياضات وذكر مقامات العارفين وكان أخشن الناس مأكلا
وملبسا ولم يشبع من طعام قط قال عبيد الله بن أبي رافع دخلت يوما عليه فقدم
جرابا مختوما فوجدنا فيه خبز شعير يابسا مرضوضا فأكل منه فقلت يا أمير
المؤمنين كيف تختمه فقال خفت من هذين الولدين يلتانه بزيت أو سمن وهذا
شئ اختص به علي (ع) ولم يشاركه فيه غيره ولم ينل أحد بعض درجته
وكان نعلاه من ليف ويرقع قميصه بجلد تارة وبليف أخرى وقل أن يأتدم قان
فعل فبالملح أو الخل فإن ترقى فبنبات الأرض فإن ترقى فبلبن وكان لا يأكل
اللحم إلا قليلا ويقول لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوانات وطلق الدنيا ثلاثا
والمقدمة الثانية ظاهرة.
قال: وأعبدهم.
أقول: هذا وجه سادس وهو أن عليا عليه السلام كان أعبد الناس بعد رسول
الله صلى الله عليه وآله، ومنه تعلم الناس صلاة الليل واستفادوا منه ترتيب النوافل والدعوات
وكانت جبهته كركبة البعير لطول سجوده وكان يحافظ على النافلة حتى أنه
بسط له بين الصفين نطع ليلة الهرير فصلى عليه النافلة والسهام تقع بين يديه
والنصول إلى جوانبه وكانوا يستخرجون النصول من جسده في وقت الصلاة لالتفاته بالكلية إلى الله تعالى حتى لا يبقى له التفات إلى غيره.
قال: وأحلمهم.
أقول: هذا وجه سابع وهو أن عليا عليه السلام كان أحلم الناس بعد رسول الله
صلى الله عليه وآله ولم يقابل أحدا بإسائة. فعفى عن مروان بن الحكم يوم الجمل وكان

412
شديد العداوة لعلي عليه السلام وعفا عن عبد الله بن الزبير لما استأسره يوم الجمل
وكان يشتم عليا عليه السلام ظاهرا وقال عليه السلام لم يزل الزبير رجلا منا أهل البيت
حتى شب عبد الله بن الزبير وعفا عن سعيد بن العاص وكان عدوا له عليه السلام
وأكرم عائشة وبعثها إلى المدينة مع عشرين امرأة عقيب حربها له وصفح عن
أهل النصرة محاربتهم له ولما حارب معاوية سبق أصحاب معاوية إلى الشريعة
فمنعوه الماء فلما اشتد عطش أصحابه حمل عليهم وفرقهم وملك الشريعة فأراد
أصحابه أن يفعلوا بهم مثل ذلك فنهاهم عن ذلك وقال افسحوا لهم عن بعض
الشريعة ففي حد السيوف ما يغني عن ذلك.
قال: وأشرفهم خلقا.
أقول: هذا وجه ثامن وتقريره أن عليا عليه السلام كان أشرف الناس خلقا
وأطلقهم وجها حتى نسبه عمر إلى الدعابة مع شدة بأسه وهيته قال صعصعة بن
صوحان كان فينا كأحدنا في لين جانب وشدة تواضع وسهولة قياد وكنا نهابه
مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف على رأسه وقال معاوية لقيس بن سعد رحم
الله أبا حسن فلقد كان هشا بشا ذا فكاهة فقال قيس أما والله لقد كان في تلك
الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوى تلك هيبة التقوى
ليس كما يهابك طغام الشام وحينئذ فيكون أفضل من غيره حيث جمع بين
المتضادات من حسن الخلق وطلاقة الوجه وعظم شجاعته وشدة بأسه
وكثرة حروبه.
قال. وأقدمهم إيمانا.
أقول: هذا وجه تاسع وتقريره أن عليا عليه السلام كان أقدم الناس إيمانا وروى
سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال أولكم ورودا على الحوض وأولكم
إسلاما علي بن أبي طالب عليه السلام وقال أنس بعث الله النبي يوم الاثنين وأسلم علي
يوم الثلاثاء وقال رسول الله صلى الله عليه وآله لفاطمة عليها السلام زوجتك أقدمهم إسلاما

413
وأكثرهم علما وقال عليه السلام يوما على المنبر أنا الصديق الأكبر وأنا الفاروق الأعظم
آمنت قبل أن آمن أبو بكر وأسلمت قبل أن أسلم وكان ذلك بمحضر من
الصحابة ولم ينكر عليه أحد وروى عبد الله بن الحسن قال كان أمير المؤمنين
عليه السلام يقول أنا أول من صلى وأول من آمن بالله ورسوله ولم يسبقني بالصلاة إلا
نبي الله ولأنه كان في منزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شديد الاختصاص به عظيم الامتثال
لأوامره لم يخالفه قط وأبو بكر كان بعيدا عنه مجانبا له فيبعد عرض الإسلام
عليه قبل عرضه على علي عليه السلام بالخصوص وقد نزل قوله تعالى (وأنذر
عشيرتك الأقربين) (لا يقال) إن إسلامه كان قبل البلوغ فلا اعتبار له (لأنا
نقول) المقدمتان ممنوعتان (أما الأولى) فلأن سن علي عليه السلام كان ستة وستين
سنة أو خمسة وستين والنبي صلى الله عليه وآله بقي بعد الوحي ثلاثة وعشرين سنة وعلي
عليه السلام بقي بعد النبي نحوا من ثلاثين سنة فيكون سنه عليه السلام وقت نزول
الوحي فيما بين اثني عشر سنة وبين ثلاثة عشر سنة والبلوغ في هذا الوقت ممكن
فيكون واقعا لقوله صلى الله عليه وآله زوجتك أقدمهم إسلاما وأكثرهم علما (وأما المقدمة
الثانية) فلأن الصبي قد يكون رشيدا كامل العقل قبل سن البلوغ فيكون
مكلفا ولهذا حكم أبو حنيفة بصحة إسلام الصبي وإذا كان كذلك دل على
كمال الصبي (أما الأول) فلأن الطباع في الصبيان مجبولة على حب الأبوين
والميل إليها فإعراض الصبي عنهما والتوجه إلى الله تعالى يدل على قوة كماله (وأما
ثانيا) فلأن طبايع الصبيان منافية للنظر في الأمور العقلية والتكاليف الإلهية
ملائمة للعب واللهو فإعراض الصبي عما يلائم طباعه إلى ما ينافره يدل على عظيم
منزلته في الكمال فثبت بذلك أن عليا عليه السلام كان أقدمهم إيمانا فيكون أفضل
لقوله تعالى (والسابقون السابقون أولئك المقربون).
قال: وأفصحهم لسانا.
أقول: هذا دليل عاشر وتقريره أن عليا عليه السلام كان أبلغ الناس في الفصاحة

414
وأعظمهم منزلة فيها بعد رسول الله صلى الله عليه وآله حتى قال البلغاء كافة إن كلامه دون
كلام الخالق وفوق كلام المخلوق ومنه تعلم الناس أصناف البلاغة حتى قال
معاوية ما سن الفصاحة لقريش غيره وقال ابن نباتة حفظت من خطبه مائة
خطبة وقال عبد الحميد بن يحيى حفظت سبعين خطبة من خطبه.
قال: وأسدهم رأيا.
أقول: هذا دليل حادي عشر وتقريره أن عليا عليه السلام كان أسد الناس رأيا
بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأجودهم تدبيرا وأعرفهم بمزايا الأمور ومواقعها وهو
الذي أشار على عمر بالتخلف عن حرب الروم والفرس وبعث نوابه وأشار
على عثمان بما فيه صلاحه وصلاح المسلمين فخالفه حتى قتل فيكون أفضل
من غيره.
قال: وأكثرهم حرصا على إقامة حدود الله تعالى.
أقول: هذا وجه ثاني عشر وتقريره أن عليا (ع) كان أكثر الناس حرصا
على إقامة حدود الله تعالى لم يراقب في ذلك أحدا ولم يلتفت إلى قرابة بل كان
شديد السياسة خشنا في ذات الله تعالى لم يراقب ابن عمه ولا أخاه ونقض دار
مصقلة بن هبيرة ودار جرير بن عبد الله البجلي وصلب جماعة وقطع آخرين ولم
يلتفت ولم يساوه في ذلك أحد من الصحابة فيكون أفضل من غيره.
قال: وأحفظهم للكتاب العزيز.
أقول: هذا وجه ثالث عشر وهو أن عليا عليه السلام كان يحفظ كتاب الله
تعالى على عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن أحد يحفظه وهو أول من جمعه ونقل
الجمهور أنه تأخر عن البيعة بسبب اشتغاله بجمع القرآن العظيم وأئمة القراء
يستندون في قرائتهم إليه كأبي عمرو بن أبي العلاء وعاصم وغيرهما لأنهم
يرجعون إلى أبي عبد الرحمن السلمى وهو تلميذه عليه السلام فيكون أفضل
من غيره.

415
قال: ولإخباره بالغيب.
أقول: هذا وجه رابع عشر أن عليا عليه السلام أخبر بالغيب في مواضع كثيرة
ولم يحصل هذه المرتبة لأحد من الصحابة فيكون أفضل منهم قطعا وذلك كإخباره
بقتل ذي الثدية ولم يجده أصحابه بين القتلى قال والله ما كذبت فاعتبرهم حتى
وجده وشق قميصه ووجد على كتفه سلعة كثدي المرأة عليها شعر يجذب كتفه
مع جذبها ويرجع كتفه مع تركها وقال له أصحابه إن أهل النهروان قد عبروا
فقال عليه السلام لم يعبروا فأخبروه مرة ثانية فقال لم يعبروا فقال جندب بن عبد الله
الأزدي في نفسه إن وجدت القوم قد عبروا كنت أول من يقاتله قال فلما وصلنا
النهر لم نجدهم عبروا فقال يا أخا الأزد أتبين لك الأمر وذلك يدل على اطلاعه
على ما في ضميره وأخبر عليه السلام بقتل نفسه في شهر رمضان وبولاية الحجاج
وانتقامه وبقطع يد جويرية بن مسهر ورجله وصلبه على جذع ففعل به ذلك في
أيام معاوية وبصلب ميثم التمار على باب دار عمرو بن حريث عاشر عشرة وأراه
النخلة التي يصلب على جذعها وكان كما قال، وبذبح قنبر فذبحه الحجاج و قيل له
قد مات خالد بن عرفطة بوادي القرى فقال لم يمت ولا يموت حتى يقود جيش
ضلالة صاحب لوائه حبيب بن جماز فقال رجل من تحت المنبر وقال والله إني
لك لمحب وأنا حبيب قال إياك أن تحملها ولتحملنها فتدخل بها من هذا الباب
وأومى إلى باب الفيل فلما بعث ابن زياد عمر بن سعد إلى الحسين عليه السلام جعل
على مقدمته خالدا وحبيب صاحب رأيته فسار بها حتى دخل المسجد من باب
الفيل وقال عليه السلام يوما على المنبر سلوني قبل أن تفقدوني فوالله لا تسألوني عن
فئة تضل مأة وتهدي مأة إلا أنبأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة فقام إليه
رجل فقال أخبرني كم في رأسي ولحيتي من طاقة شعر فقال (ع) لقد حدثني
خليلي بما سألت عنه وإن على كل طاقة شعر في رأسك ملكا يلعنك وعلى كل
طاقة شعر في لحيتك شيطانا يستفزك وإن في بيتك لسخلا يقتل ابن رسول الله

416
صلى الله عليه وآله وسلم فلما كان من أمر الحسين (ع) ما كان تولى قتله والأحاديث في ذلك أكثر
من أن تحصى نقلها المخالف والمؤالف.
قال: واستجابة دعائه.
أقول: هذا وجه خامس عشر وتقريره أن عليا (ع) كان مستجاب الدعوة
سريعا دون غيره من الصحابة فيكون أفضل منهم وتقرير المقدمة الأولى ما نقل
بالتواتر عنه (ع) في ذلك كما دعا على بسر بن أرطاة فقال (اللهم إن بسرا باع
دينه بالدنيا فاسلبه عقله ولا تبق له من دينه ما يستوجب عليك به رحمتك
فاختلط عقله) واتهم العيران برفع إخباره إلى معاوية فأنكر فقال (ع) إن كنت
كاذبا فأعمى الله بصرك فعمي قبل أسبوع واستشهد جماعة من الصحابة عن
حديث الغدير فشهد اثنا عشر رجلا من الأنصار وسكت أنس بن مالك فقال له
يا أنس ما يمنعك أن تشهد وقد سمعت ما سمعوا فقال يا أمير المؤمنين كبرت
ونسيت فقال اللهم إن كان كاذبا فاضربه ببياض أو بوضح لا يواريه العمامة
فصار أبرص، وكتم زيد بن أرقم فذهب بصره وغير ذلك من الوقايع المشهورة.
قال: وظهور المعجزات عنه.
أقول: هذا وجه سادس عشر وتقريره أنه عليه السلام ظهرت منه معجزات
كثيرة، وقد تقدم ذكر بعضها ولم يحصل لغيره من الصحابة ذلك فيكون
أفضل منهم.
قال: واختصاصه بالقرابة.
أقول: هذا وجه سابع عشر وهو أن عليا (ع) كان أقرب الناس إلى رسول
الله صلى الله عليه وآله فيكون أفضل من غيره ولأنه كان هاشميا فيكون أفضل لقوله صلى الله عليه وآله
إن الله اصطفى من ولد إسماعيل (ع) قريشا واصطفى من قريش هاشما.
قال: والأخوة.

417
أقول: هذا وجه ثامن عشر وهو أن النبي (ص) لما آخى بين الصحابة
وقرن كل شخص إلى مماثله في الشرف والفضيلة رأى عليا (ع) متكدرا فسأله عن
سبب ذلك فقال إنك آخيت بين الصحابة وجعلتني متفردا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله
ألا ترضى أن تكون أخي ووصيي وخليفتي من بعدي فقال بلى يا رسول الله
فواخاه من دون الصحابة فيكون أفضل منهم.
قال: ووجوب المحبة.
أقول: هذا وجه تاسع عشر وتقريره أن عليا (ع) كان محبته ومودته واجبة
دون غيره من الصحابة فيكون أفضل منهم قطعا وبيان المقدمة الأولى إنه كان
من أولى القربى فتكون مودته واجبة لقوله تعالى (قل لا أسئلكم عليه أجرا
إلا المودة في القربى).
قال: والنصرة.
أقول: هذا وجه عشرون وتقريره أن عليا عليه السلام اختص بفضيلة النصرة
لرسول الله صلى الله عليه وآله دون غيره من الصحابة فيكون أفضل منهم وبيان المقدمة الأولى
قوله تعالى (فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين) وقد اتفق المفسرون على
أن المراد بصالح المؤمنين هو علي عليه السلام والمولى هنا هو الناصر لأنه القدر المشترك
بين الله تعالى وجبرئيل وجعله ثالثا لهم وحصر المولى في الثلاثة بلفظة هو في قوله
تعالى إن الله هو مولاه.
قال: ومساواة الأنبياء.
أقول: هذا وجه حادي وعشرون وتقريره أن عليا عليه السلام كان مساويا
للأنبياء المتقدمين فيكون أفضل من غيره من الصحابة بالضرورة لأن المساوي
للأفضل أفضل بيان المقدمة الأولى ما رواه البيهقي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال:
من أحب أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح عليه السلام في تقواه وإلى إبراهيم (ع)

418
في حلمه وإلى موسى عليه السلام في هيبته وإلى عيسى عليه السلام في عبادته فلينظر إلى
علي بن أبي طالب.
قال: وخبر الطاير والمنزلة والغدير وغيرها.
أقول: هذا وجه ثاني وعشرون وتقريره أن النبي صلى الله عليه وآله أخبر في مواضع
كثيرة ببيان فضله وزيادة كماله على غيره ونص على إمامته (منها) ما ورد في
خبر الطير وهو أنه قال اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا
الطير فجاء علي عليه السلام فأكل معه وفي رواية اللهم أدخل إلي أحب أهل الأرض
إليك رواه أنس وسعد بن أبي وقاص وأبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وابن عباس
وعول أبو جعفر الإسكافي وأبو عبد الله البصري على هذا الحديث في أنه عليه السلام
أفضل من غيره وادعى أبو عبد الله شهرة هذا الحديث وظهوره بين الصحابة ولم
ينكره أحد منهم فيكون متواترا (ومنها) خبر المنزلة وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم أنت
مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وقد كان هارون أفضل أهل
زمانه عند أخيه فكذا علي (ع) عند محمد صلى الله عليه وآله (منها) خبر الغدير وهو قوله
(ع) من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر
من نصره وأخذل من خذله وأدر الحق معه كيف ما دار وقد بينا أن المراد
بالمولى هنا الأولى بالتصرف وإذا كان علي (ع) أولى من كل أحد بالتصرف في
نفسه كان أفضل منهم قطعا. اعترض بعضهم على هذا الجواز أن يكون المراد
به الولاء لأنه وقع مشاجرة بين أمير المؤمنين وزيد بن حارثة فقال له علي (ع)
أنت مولاي فقال أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وآله ولست بمولاك فبلغ ذلك رسول الله
صلى الله عليه وآله وقال من كنت مولاه فعلي مولاه والجواب من وجوه (الأول) ما ذكره
أبو عبد الله البصري وهو أنه لا اختصاص لعلي (ع) بالولاء دون غيره من أقارب
النبي فلا يجوز حمله على هذا المعنى (الثاني) ما ذكره أبو عبد الله أيضا وهو
أن عمر قال له بعد هذا الحديث هنيئا لك أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن

419
ومؤمنة وقالت الأنصار بعد ذلك يا مولانا فلا يجوز حمله على الولاء (الثالث)
إن مقدمة الحديث تنفي هذا المعنى وهو قوله (ع) ألست أولى منكم بأنفسكم
(ومنها) قول رسول الله صلى الله عليه وآله في ذي الثدية يقتله خير الخلق والخليفة وفي رواية
أخرى يقتله خير هذه الأمة وقال لفاطمة عليها السلام إن الله اطلع على أهل
الأرض فاختار منهم أباك فأخذه نبيا ثم الطلع ثانية فاختار منهم بعلك وقالت
عائشة كنت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأقبل علي (ع) فقال هذا سيد العرب قالت قلت
بأبي أنت وأمي ألست أنت سيد العرب فقال أنا سيد العالمين وهذا سيد العرب
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله قال لعلي (ع) إن أخي ووزيري وخير من أتركه
بعدي يقضي ديني وينجز موعدي علي بن أبي طالب (ع) وسأل رجل عائشة
عن مسيرها فقالت كان قدرا من الله فسألها عن علي (ع) فقالت لقد سألتني
عن أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وزوج أحب الناس إليه وقال لفاطمة عليها
السلام أما ترضين أني زوجتك خير أمتي وعن سلمان أنه قال رسول الله خير من
أترك بعدي علي بن أبي طالب وعن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي خير
البشر فمن أبى فقد كفر، وعن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله أفضل
أمتي علي بن أبي طالب.
قال ولانتفاء سبق كفره.
أقول: هذا وجه ثالث وعشرون وتقريره أن عليا لم يكفر بالله تعالى بل
من حين بلوغه كان مؤمنا موحدا بخلاف باقي الصحابة فإنهم كانوا في زمن الجاهلية
كفرة ولا ريب في فضل من لم يزل موحدا على من سبق كفره على إيمانه.
قال: ولكثرة الانتفاع به.
أقول: هذا وجه رابع وعشرون وتقريره أن عليا (ع) انتفع به المسلمون
أكثر من نفعهم بغيره فيكون ثوابه أكثر وفضله أعظم، بيان المقدمة الأولى ما
تقدم من كثرة حروبه وشدة بلائه في الإسلام وفتح الله البلاد على يديه وقوة

420
شوكة الإسلام به حتى قال رسول الله يوم الأحزاب لضربة علي خير من عبادة
الثقلين وبلغ في الزهد رتبة لم يلحقه أحد بعدها واستفاد الناس منه طرائق
الرياضة والترك والانقطاع إلى الله وكذا في السخاوة وحسن الخلق والعبادة
والتهجد وأما العلم فظاهر استناد كافة العلماء إليه واستفادتهم منه وعاش بعد
أبي بكر زمنا طويلا يفيد الناس الكمالات النفسانية والبدنية وابتلى بما لم يحصل
لغيره من المشاق.
قال: وتميزه بالكمالات النفسانية والبدنية والخارجية.
أقول: هذا وجه خامس وعشرون وتقريره أن الكمالات أما نفسانية وأما
بدنية وأما خارجية أما الكمالات النفسانية والبدنية فقد بينا بلوغه إلى الغاية إذ
باب العلم والزهد والشجاعة والسخاوة وحسن الخلق والعفة فيه أبلغ من غيره
بل لا يحاذيه في واحد منها أحد وبلغ في القوة البدنية والشدة مبلغا لا يساويه
أحد حتى قيل إنه (ع) كان يقط الهام قط الأقلام لم يخط في ضربة ولم يحتج
إلى المعاودة وقلع باب خيبر وقد عجز عن نقلها سبعون نفسا من أشد الناس قوة
مع أنه (ع) كان قليل الغذاء جدا بأخشن مأكل وملبس كثير الصوم مداوم
العبادة (وأما الخارجية) فمنها النسب الشريف الذي لا يساويه أحد في القرب
من رسول الله صلى الله عليه وآله فإنه كان أقرب الناس إليه فإن العباس كان عم رسول الله
من الأب وعلي كان ابن عمه من الأب والأم ومع ذلك فإنه كان هاشميا من
الأب والأم لأنه علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم وأمه فاطمة بنت
أسد بن هاشم ومنها المصاهرة ولم يحصل لأحد ما حصل له منها فإنه زوج سيدة
النساء وعثمان وإن شاركه في كونه ختنا لرسول الله إلا أن فاطمة عليها السلام
أشرف بناته وكان لها من المنزلة والقرب من قلب الرسول مبلغ عظيم وكان
يعظمها حتى أنه إذا جاءت إليه نهض لها قائما ولم يفعل ذلك بإحدى من بناته
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله سيدة نساء العالمين بالجنة أربع وعد منهن فاطمة عليها

421
السلام (ومنها) الأولاد ولم يحصل لأحد من المسلمين مثل أولاده في الشرف
والكمال فإن الحسن والحسين عليهم السلام إمامان سيدا شباب أهل الجنة وكان
حب رسول الله لهما في الغاية حتى أنه صلى الله عليه وآله كان يتطأطأ لهما ليركباه ويبعبع لهما ثم
أولد كل واحد منهما عليهما السلام أولادا بلغوا في الشرف إلى الغاية فالحسن
عليه السلام أولد مثل الحسن المثنى والمثلث وعبد الله بن الحسن المثنى والنفس الزكية
وغيرهم وأولد الحسين عليه السلام مثل زين العابدين والباقر والصادق والكاظم
والرضا والجواد والهادي والعسكري والخلف الحجة القائم وقد نشروا من العلم
والفضل والزهد والترك للدنيا شيئا عظيما حتى أن الفضلاء من المشايخ كانوا
يفتخرون بخدمتهم (ع) فأبو يزيد البسطامي كان يفتخر بأنه يسقي الماء لدار
جعفر الصادق (ع) ومعروف الكرخي أسلم على يدي الرضا (ع) وكان بواب
داره إلى أن مات وكان أكثر الفضلاء يفتخرون بالانتساب إليهم في العلم فإن
مالكا كان إذا سئل في الدرب عن مسألة لم يجب السائل فقيل له في ذلك فقال
إني أخذت العلم من جعفر بن محمد الصادق (ع) وكنت إذا أتيت إليه لأستفيد منه
نهض ولبس أفخر ثيابه وتطيب وجلس في أعلى منزله وحمد الله تعالى وأفادني
شيئا واستفادة أبي حنيفة من الصادق ظاهرة غنية عن البرهان وهذه الفضائل لم
يحصل لأحد من الصحابة فيكون علي (ع) أفضل منهم.
المسألة الثامنة: في إمامة باقي الأئمة عليهم السلام
قال: والنقل المتواتر دل على الأحد عشر ولوجوب العصمة وانتفائها
عن غيرهم ووجود الكمالات فيهم.
أقول: لما بين أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله هو علي بن أبي طالب عليه السلام
شرع في بيان إمامة باقي الأئمة الأحد عشر وهم الحسن بن علي ثم أخوه الحسين
ثم علي بن الحسين زين العابدين ثم محمد بن علي بن الحسين الباقر ثم جعفر بن محمد
الصادق ابن علي بن الحسين ثم ولده موسى بن جعفر ثم علي بن موسى ثم محمد بن

422
علي الجواد ثم ولده علي الهادي ثم ولده الحسن العسكري ثم الإمام المنتظر (ع)
واستدل على ذلك بوجوه ثلاثة (الأول) النقل المتواتر من الشيعة خلفا عن سلف
فإنه يدل على إمامة كل واحد من هؤلاء بالتنصيص وقد نقل المخالفون ذلك من
طرق متعددة تارة على الاجمال وأخرى على التفصيل كما روي عنه صلى الله عليه وآله متواترا
أنه قال للحسين عليه السلام هذا ابني إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمة تسعة تاسعهم
قائمهم وغير ذلك من الأخبار وروى المخالف عن مسروق وقال بينا نحن عند
عبد الله بن مسعود إذ دخل علينا شاب وقال هل عهد إليكم نبيكم كم تكون من
بعده خليفة قال إنك لحدث السن وإن هذا ما سألني أحد عنه نعم عهد إلينا
نبينا أن يكون بعده اثني عشر خليفة عدد نقباء بني إسرائيل (الوجه الثاني)
قد بينا أن الإمام يجب أن يكون معصوما وغير هؤلاء ليسوا بمعصومين إجماعا
فتعينت العصمة لهم وإلا لزم خلو الزمان من المعصوم وقد بينا استحالته
(الوجه الثالث) إن الكمالات النفسانية والبدنية بأجمعها موجودة في كل واحد
منهم كما هو كامل في نفسه كذا هو مكمل لغيره وذلك يدل على استحقاقه
الرياسة العامة لأنه أفضل من كل أحد في زمانه ويقبح عقلا تقديم المفضول على
الفاضل فيجب أن يكون كل واحد منهم إماما وهذا برهان لمي.
المسألة التاسعة: في أحكام المخالفين
قال: محاربوا علي (ع) كفرة ومخالفوه فسقة.
أقول: المحارب لعلي (ع) كافر لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم يا علي حربك حربي
ولا شك في كفر من حارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأما مخالفوه في الإمامة فقد اختلف
قول علمائنا فمنهم من حكم بكفرهم لأنهم دفعوا ما علم ثبوته من الدين ضرورة
وهو النص الجلي الدال على إمامته مع تواتره وذهب آخرون إلى أنهم فسقة وهو
الأقوى ثم اختلف هؤلاء على أقوال ثلاثة (أحدها) إنهم مخلدون في النار لعدم
استحقاقهم الجنة (الثاني) قال بعضهم إنهم يخرجون من النار إلى الجنة (الثالث)

423
ما ارتضاه ابن نوبخت وجماعة من علمائنا أنهم يخرجون من النار لعدم الكفر
الموجب للخلود ولا يدخلون الجنة لعدم الإيمان المقتضي لاستحقاق الثواب.
قال: المقصد السادس في المعاد والوعد والوعيد وما يتصل بذلك - حكم
المثلين واحد والسمع دل على إمكان التماثل.
أقول: في هذا المقصد مسائل.
المسألة الأولى: في إمكان خلق عالم آخر
واعلم أن إيجاب المعاد يتوقف على هذه المسألة فلأجل ذلك صدرها في أول
المقصد وقد اختلف الناس في ذلك وأطبق المليون عليه وخالف فيه الأوائل
واحتج المليون بالعقل والسمع أما العقل فنقول العالم المماثل لهذا العالم ممكن
الوجود لأن هذا العالم ممكن الوجود وحكم المثلين واحد فلما كان هذا العالم
ممكنا وجب الحكم على الآخر بالإمكان وإلى هذا البرهان أشار بقوله حكم
المثلين واحد وأما السمع فقوله تعالى (أوليس الذي خلق السماوات والأرض
بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم.
قال: والكرية ووجوب الخلاء واختلاف المتفقات ممنوعة (1)
أقول: هذا إشارة إلى ما احتج الأوائل به على امتناع خلق عالم آخر



(1) قول المصنف والكرية الخ.
تقرير هذه الشبهة على وجه أبسط أن المعاد لو كان جسمانيا استلزم مكانا للحشر ومكانا لتنعم
المطيعين ومكانا لتعذيب العاصين وبالجملة فذلك أما في عالم آخر جسماني خارج عن هذا العالم
وأما في هذا العالم فعلى الأول لزم الخلاء للزوم الكروية ولزم اختلاف المتفقات وانخراق الأفلاك
وكل ذلك محال على ما بين في الفلسفة أما لزوم الخلاء فلأن العالم الآخر كرة لأن الشكل الطبيعي
للجسم لولا قسر قاسر كروي فإن تلاقت الكرتان بنقطة أو انفصلتا حصل الخلاء بينهما.
424
وتقريره من وجهين (الأول) (1) أنه لو وجد عالم آخر لكان كرة لأنه
الشكل الطبيعي فإن تلاقت الكرتان أو تباينتا لزم الخلاء والجواب لا نسلم
وجوب الكرية في العالم الثاني، سلمنا لكن لا نسلم وجوب الخلاء لامكان ارتسام
الثاني في ثخن بعض الأفلاك وإحاطة المحيط بالعالمين (الثاني) لو وجد عالم
آخر فيه نار وأرض وغيرهما فإن طلبت أمكنة هذه العناصر لزم قسرها دائما
وإلا اختلفت المتفقات في الطباع في مقتضياتها (والجواب) لم لا يجوز أن
يكون العالم الآخر مخالفا لهذا العالم في الحقيقة سلمنا لكن لم لا يجوز أن
يكون المكانان طبيعيين لهما فهذا ما خطر لنا في تطبيق كلام المصنف (ره) عليه.
المسألة الثانية: في صحة العدم على العالم
قال: والإمكان يعطي جواز العدم.
أقول: اختلف الناس في أن العالم هل يصح عدمه أم لا فذهب المليون أجمع إلى ذلك
إلا من شذ ومنع منه القدماء واختلفوا فذهب قوم منهم إلى أن
الامتناع ذاتي وجعلوا العالم واجب الوجود ونحن قد بينا خطائهم وبرهنا على
حدوثه فيكون ممكنا بالضرورة وذهب الآخرون إلى أن الامتناع باعتبار الغير
وذلك أن العالم معلول علة واجب الوجود فلا يمكن عدمه إلا بعدم علته
ويستحيل عدم واجب الوجود ونحن قد بينا خطائهم في ذلك وبرهنا على أن



(1) احتج القائلون بالامتناع بوجهين الأول أنه لو وجد عالم آخر لكان كرة مثل هذا العالم
ولا يمكن وجود كرتين متماثلين إلا بتحقيق وجه بينهما فيلزم الخلاء وهو محال والجواب إنا
لا نسلم وجوب الكروية في العالم فإن الشكل الطبيعي وإن كان كرة إلا الفاعل بالإرادة وهو الله
تعالى قادر على خلافها ولو سلمنا لزوم الكروية لا نسلم وجوب الخلاف بينهما فمن الممكن أن
العالمان في ثخن جسم آخر.
425
المؤثر في العالم قادر مختار وذهب الكرامية والجاحظ (1) إلى استحالة عدم
العالم بعد وجوده بعد اعترافهم بالحدوث لأن الأجسام باقية فلا تفنى بذاتها
ولا بالفاعل لأن شأنه الايجاد لا الإعدام إذ لا فرق في العقل بين نفي الفعل وبين
فعل العدم ولا ضد للأجسام (2) لأنه بعد وجوده ليس إعدامه للباقي أولى من
عدمه به لوقوع التضاد من الطرفين وأولوية الحادث بالتعلق بالسبب مشتركة
وبكثرته باطلة لامتناع اجتماع المثلين وباستلزام الجمع بين النقيضين باطلة لانتفائه
على تقدير القول بعدم دخول الحادث في الوجود ولا بانتفاء الشرط لعود الكلام
عليه وهو خطأ فإن الإعدام يستند إلى الفاعل كما يستند الوجود إليه والامتياز (3)
واقع بين نفي الفعل وفعل العدم سلمنا لكن لم لا يجوز أن يعدم بوجود الضد
ويكون الضد أولى بإعدامه وإن كان سبب الأولوية مجهولا، سلمنا لكن لم لا يجوز
اشتراط الجواهر بأعراض غير باقية يوجدها الله تعالى حالا فحالا فإذا لم يجد
العرض انتفت الجواهر، ودليل المصنف (ره) على مطلوبه من صحة العدم حجة



(1) إشارة قول الجاحظ والكرامية.
قول الشارح في كيفية عدم العالم وبيان ذلك أن الأقوال في كيفية عدم العالم ثلاثة الأول ما
عليه المصنف من أن الفاعل يعدمه باختياره الثاني ما قال المعتزلة من أن انعدام العالم بحدوث
ضد له هو الفناء والثالث ما عليه الجمهور الإشارة من أن انعدام العالم بانتفاء شرط لوجوده.
(2) قوله ولا ضد للأجسام الخ أي ليس بسبب عدم العالم وجود ضده الذي هو صفة الفناء
إذ لا ضد للأجسام لأن الجوهر لا ضد له ولو فرضنا له ضدا ليس إعدام الضد الذي وجد حادثا
للعالم أولى من انعدام الضد به لأن التضاد من الطرفين فكلما وجد ضد للعالم يمكن أن ينعدم الضد
ويوجد ضده فهذه الأولوية باطلة لأن تعلق كل من العالم وضده بالسبب شرك فلا أولوية وأما من
جهة تعدد الضد ووحدة العالم فإن تعدده فيما نحن فيه باطل لأن الاثنين من الضد وهو أقل من مراتب
الكثرة والتعدد مثلان.
(3) فإن كل عاقل يفرق بين إيجاد العدم وعدم الايجاد فإن الأول محال والثاني ممكن.
426
على الجميع وهو إنا بينا أن العالم ممكن الوجود فيستحيل انقلابه إلى الامتناع
والوجوب فيجوز عدمه كما جاز وجوده.
المسألة الثالثة: في وقوع العدم وكيفيته
قال: والسمع دل عليه.
أقول: يدل على وقوع العدم السمع وهو قوله تعالى (هو الأول والآخر)
وقوله (كل شئ هالك إلا وجهه) وقال تعالى (كل من عليها فان) وقد وقع
الاجماع على الفناء وإنما الخلاف في كيفيته على ما سيأتي.
قال: ويتأول في المكلف بالتفريق كما في قصة إبراهيم (ع).
أقول: المحققون على امتناع إعادة المعدوم وسيأتي البرهان على وجوب المعاد
وهيهنا قد بين أن الله تعالى يعدم العالم وذلك ظاهر المناقضة فبين المصنف (ره)
مراده من الإعدام إما في غير المكلفين وهو ما لا يجب إعادته فلا اعتبار به إذ
لا يجب إعادته فجاز إعدامه بالكلية ولا يعاد وأما المكلف الذي يجب إعادته
فقد تأول المصنف (ره) معنى الإعدام فيه بتفريق أجزائه ولا امتناع في ذلك
فإن المكلف بعد تفريق أجزائه يصدق عليه إنه هالك بمعنى إنه غير منتفع به
أو يقال إنه هالك بالنظر إلى ذاته إذ هو ممكن وكل ممكن بالنظر إلى ذاته
لا يجب له الوجود فلا يوجد إذ لا وجود إلا للواجب بذاته
أو بغيره فهو هالك بالنظر إلى ذاته فإذا فرق أجزائه كان هو العدم فإذا أراد
الله تعالى إعادته جمع تلك الأجزاء وألفها كما كانت فذلك هو المعاد ويدل على
هذا التأويل قوله تعالى في سؤال إبراهيم (ع) عن كيفية الإحياء للموتى لأنه
تعالى لا يحيي الموتى في دار التكليف وإنما الإحياء يقع في الآخرة فسأل (ع)
عن كيفية ذلك الإحياء وهو يشتمل على السؤال عن جميع المقدمات التي يفعلها
الله تعالى حتى يهيئهم ويعدهم لنفخ الروح فأمره الله تعالى بأخذ أربعة من الطير

427
وتقطيعها وتفريق أجزائها ومزج بعض الأجزاء ببعض ثم يفرقها ويضعها على
الجبال ثم يدعوها فلما دعاها ميز الله تعالى أجزاء كل طير عن الآخر وجمع
أجزاء كل طير وفرقها عن الأجزاء الأخرى حتى كملت البنية التي كانت عليها
أولا ثم أحياها ولم يعدم الله تعالى تلك الأجزاء فكذا في المكلف هذا ما فهمناه
من قوله كما في قصة إبراهيم (ع) فهذا هو كيفية الإعدام.
قال: وإثبات الفناء غير معقول لأنه إن قام بذاته لم يكن ضد أو كذا
إن قام بالجوهر.
أقول: لما ذكر المذهب الحق في كيفية الإعدام شرع في إبطال مذهب
المخالفين في ذلك واعلم أن من جملة من خالف في كيفية الإعدام جماعة من المعتزلة
فذهبوا إلى أن الإعدام ليس هو التفريق بل الخروج عن الوجود أن يخلق الله
تعالى للجوهر ضدا هو الفناء وقد اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال (أحدها) قال
ابن الأخشيد إن الفناء ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز إلا أنه يكون حاصلا في
جهة معينة فإذا أحدثه الله تعالى فيها عدمت الجواهر بأسرها (الثاني) قال
ابن شبيب إن الله يحدث في كل جوهر فناء ثم ذلك الفناء يقتضي عدم الجوهر
في الزمان الثاني فيجعله قائما بالمحل (الثالث) قال أبو علي وأبو هاشم ومن
تابعهما إن الفناء يحدث لا في محل فينتفي الجواهر كلها حال حدوثه ثم اختلفوا
فذهب أبو هاشم وقاضي القضاة إلى أن الفناء الواحد كاف في عدم كل الجواهر
وذهب أبو علي وأصحابه إلى أن لكل جوهر فناء مضادا له ولا يكفي ذلك
الفناء في عدم غيره إذا عرفت هذا فنقول القول بالفناء على كل تقدير فرضوه
في ضده باطل لأن الفناء إن قام بذاته كان جوهرا إذ معنى الجوهر ذلك فلا
يكون ضدا للجوهر وإن كان غير قائم بذاته كان عرضا إذ هو معناه فيكون
حالا في الجوهر إما ابتداء أو بواسطة وعلى كلا التقديرين يستحيل أن يكون
منافيا للجوهر.

428
قال: والانتفاء الأولوية.
أقول: يفهم من هذا الكلام أمران (أحدهما) إقامة دليل ثان على امتناع
قيام الفناء بالجوهر وتقريره أن نقول لو كان الفناء قائما بالجوهر لكان عرضا
حالا فيه ولم يكن اقتضائه لنفي محله أولى من اقتضاء محله لنفيه بل كان انتفاء
هذا الحال بالمحل أولى إذ منع الضد دخول الضد الآخر في الوجود مع إمكان
إعدامه له أولى من إعدام المتجدد للضد الباقي وبالخصوص إذا كان محلا له
(الثاني) إقامة دليل ثان على انتفاء الفناء وتقريره أن نقول لو كان الفناء ضدا
للجوهر لم يكن إعدامه للجوهر الباقي أولى من إعدام الجوهر الباقي له بمعنى
منعه عن الدخول في الوجود بل هو أولى لما تقدم.
قال: ولاستلزامه انقلاب الحقائق أو التسلسل.
أقول: القول بالفناء يستلزم أحد أمرين محالين (أحدهما) انقلاب الحقائق
(والثاني) التسلسل وكل مستلزم للمحال فإنه محال قطعا أما استحالة الأمرين
فظاهر وأما بيان الملازمة فلأن الفناء إما أن يكون واجب الوجود بذاته أو
ممكن الوجود والقسمان باطلان أما الأول فلأنه قد كان معدوما وإلا لم يوجد
الجواهر ثم صار موجودا وذلك يعطي إمكانه وأما الثاني فلأنه يصح عليه العدم
وإلا لم يكن ممكنا فعدمه إن كان لذاته كان ممتنعا بعد إن كان ممكنا وذلك
يستلزم انقلاب الحقائق وإن كان سبب الفاعل بطل أصل دليلكم وإن كان
بوجوب ضد آخر لزم التسلسل هذا ما حصلناه من هذا الكلام.
قال: وإثبات بقاء لا في محل يستلزم الترجيح من غير مرجح أو
اجتماع النقيضين.
أقول: ذهب قوم منهم ابن شبيب إلى أن الجوهر باق ببقاء موجود لا في
محل فإذا انتفى ذلك البقاء انتفى الجوهر والمصنف (ره) أحال هذا المذهب
أيضا باستلزامه المحال وذكر أن القول بذلك يستلزم أمرين (أحدهما) الترجيح

429
من غير مرجح (والثاني) اجتماع النقيضين والذي يخطر لنا في تقرير ذلك
أمران (أحدهما) أن نقول البقاء إما جوهر أو عرض والقسمان باطلان فالقول
به باطل أما الأول فلأنه لو كان جوهرا لم يكن جعله شرطا لجوهر آخر أولى
من العكس فإما أن يكون كل واحد منهما شرطا لصاحبه وهو دور أو لا
يكون أحدهما شرطا للآخر وهو المطلوب وأما الثاني فلأنه لو كان عرضا قائما
بذاته لزم اجتماع النقيضين إذ العرض هو الموجود في المحل فلو كان البقاء قائما
لا في محل مع كونه عرضا لزم ما ذكرناه (الثاني) أن يقال البقاء إما واجب
لذاته أو ممكن لذاته والقسمان باطلان أما الأولى فلأن وجوده بعد العدم يستلزم
جواز عدمه والوجوب يستلزم عدم جوازه وذلك جمع بين النقيضين وأما الثاني
فلأن عدمه في وقت دون آخر ترجيح من غير مرجح لاستحالة استناده إلى ذاته
وإلا لكان ممتنع الوجود مع إمكانه وذلك جمع بين النقيضين ولا إلى الفاعل
ولا إلى الضد وإلا لجاز مثله في الجواهر فالقول بذلك هنا مع استحالته في
الجواهر ترجيح من غير مرجح ولا إلى انتفاء الشرط وإلا لزم أن يكون للبقاء
بقاء آخر فليس أحدهما بكونه صفة للآخر أولى من العكس وذلك ترجيح
من غير مرجح.
قال: وإثباته في المحل يستلزم توقف الشئ على نفسه إما ابتداء أو بواسطة
أقول: ذهب جماعة من الأشاعرة والكعبي إلى أن الجواهر تبقى ببقاء قائم
بها فإذا أراد الله تعالى إعدامها لم يفعل البقاء فانتفت الجواهر والمصنف (ره)
أبطل ذلك باستلزامه توقف الشئ على نفسه إما ابتداء أو بواسطة، وتقريره أن
حصول البقاء في المحل يتوقف على وجود المحل في الزمان الثاني لكن حصوله في
الزمان الثاني إما أن يكون هو البقاء أو معلومه ويستلزم من الأول توقف الشئ
على نفسه ابتداء ومن الثاني توقفه على معلومه المتوقف عليه وذلك يقتضي
توقف الشئ على نفسه بواسطة فهذا ما يمكن حمل كلامه عليه.

430
المسألة الرابعة: في وجوب المعاد الجسماني
قال: ووجوب إيفاء الوعد والحكمة يقتضي وجوب البعث والضرورة
قاضية بثبوت الجسماني من دين النبي مع إمكانه.
أقول: اختلف الناس هنا فذهب الأوائل إلى نفي المعاد الجسماني وأطبق
المليون عليه واستدل المصنف (ره) على وجوب المعاد مطلقا بوجهين (الأول)
أن الله تعالى وعد بالثواب وتوعد بالعقاب مع مشاهدة الموت للمكلفين فوجب
القول بعودهم ليحصل الوفاء بوعده ووعيده (الثاني) أن الله تعالى قد كلف
وفعل الألم وذلك يستلزم الثواب والعوض وإلا لكان ظالما تعالى الله عن ذلك
علوا كبيرا فإنا قد بينا حكمته تعالى ولا ريب في أن الثواب والعوض إنما
يصلان إلى المكلف في الآخرة لانتفائهما في الدنيا واستدل على ثبوت المعاد الجسماني
بأنه أمر معلوم بالضرورة في دين النبي صلى الله عليه وآله والقرآن دل عليه في آيات كثيرة مع
أنه ممكن فيجب المصير إليه وإنما قلنا بأنه ممكن لأن المراد من الإعادة جمع
الأجزاء المتفرقة وذلك جائزة بالضرورة.
قال: ولا يجب إعادة فواضل المكلف.
أقول: اختلف الناس في المكلف ما هو على مذاهب على ما عرفت (1)
(منها) قول من يعتقد أن المكلف هو النفس المجردة وهو مذهب الأوائل
والنصارى والتناسخية والغزالي من الأشاعرة وابن الهيثم من الكرامية وجماعة
من الإمامية والصوفية (ومنها) قول جماعة من المحققين أن المكلف هو أجزاء
أصلية في هذا البدن لا يتطرق إليها الزيادة والنقصان وإنما تقعان في الأجزاء
المضافة إليها.
(إذا عرفت هذا فنقول) الواجب في المعاد هو إعادة تلك الأجزاء الأصلية



(1) في الفصل الرابع من المقصد الثاني المسألة الرابعة؟.
431
أو النفس المجردة مع الأجزاء الأصلية أما الأجسام المتصلة بتلك الأجزاء فلا
يجب أعادتها بعينها وغرض المصنف (ره) بهذا الكلام الجواب عن اعتراض
الفلاسفة على المعاد الجسماني وتقرير قولهم إن إنسانا لو أكل آخر واغتذى
بأجزائه فإن أعيدت أجزاء الغذاء إلى الأول عدم الثاني وإن أعيدت إلى الثاني
عدم الأول وأيضا ما أن يعيد الله تعالى جميع الأجزاء البدنية الحاصلة من أول
العمر إلى آخره أو القدر الحاصل له عند موته والقسمان باطلان (أما الأول) فلأن
البدن دائما في التحلل والاستخلاف فلو أعيد البدن مع جميع الأجزاء منه لزم
عظمه في الغاية وأنه قد يتحلل منه أجزاء تصير أجساما غذائية ثم يأكلها ذلك
الإنسان بعينه حق يصير أجزاء من عضو آخر غير العضو الذي كانت أجزاء له
أولا فإذا أعيد أجزاء كل عضو إلى عضوه لزم جعل ذلك الجزء جزءا من العضوين
وهو محال (وأما الثاني) فلأنه قد يطيع العبد حال تركبه من أجزاء ثم يتحلل
تلك الأجزاء ويعصى في أجزاء أخرى فإذا أعيد تلك الأجزاء بعينها وأثابها
على الطاعة لزم إيصال الحق إلى غير مستحقه، وتقرير الجواب واحد وهو أن
لكل مكلف أجزاء أصلية لا يمكن أن يصير جزءا من غيرها بل يكون فواضل
من غيره لو اغتذى بها فإذا أعيدت جعلت أجزاء أصلية لما كانت أصلية له أولا
في تلك الأجزاء وهي التي تعاد وهي باقية من أول العمر إلى آخره.
قال: وعدم انخراق الأفلاك وحصول (1) الجنة فوقها ودوام الحياة مع



(1) احتج المنكرون للمعاد على امتناع حشر الأجساد بأنه لو ثبت المعاد الجسماني فأما أن يكون
عود الروح إلى البدن في عالم العناصر وهو التناسخ أو في عالم الأفلاك وهو يوجب انخراق
الأفلاك وهو محال وبأنه يلزم توالد البدن من غير التوالد وذلك عند البعثة وهو ممتنع وعلى امتناع
وجود الجنة بأنه لا يمكن حصولها في عالم العناصر ولا في عالم الأفلاك لأنها لا يسعها لقوله
تعالى وجنة عرضها كعرض السماوات والأرض وعلى امتناع تأبيد الثواب والعقاب بأنه يلزم دوام
الحياة مع الاحتراق وأجاب المصنف (ره) كلها استعبادات.
432
الاحتراق وتوليد البدن من غير التوالد وتناهي القوى الجسمانية استبعادات.
أقول: احتج الأوائل على امتناع المعاد الجسماني بوجوه (أحدها) أن
السمع قد دل على انتشار الكواكب وانخراق الأفلاك وذلك محال (الثاني) أن
حصول الجنة فوق الأفلاك كما ذهب إليه المسلمون يقتضي عدم الكرية (الثالث)
أن دوام الاحتراق مع بقاء الحياة محال (الرابع) أن تولد الأشخاص وقت
الإعادة من غير توالد من الأبوين باطل (الخامس) أن القوى الجسمانية متناهية
والقول بدوام نعيم أهل الجنة قول بعدم التناهي والجواب عن الكل واحد وهو
؟ ن هذه الاستبعادات أما الأفلاك فإنها حادثة على ما تقرر أولا فيمكن انخراقها
كما يمكن عدمها وكذا حصول الجنة فوق الأفلاك ودوام احتراق الجسم مع بقاء
الجسم ممكن لأنه تعالى قادر على كل مقدور فيمكن استحالته إلى أجزاء نارية
ثم يعيدها الله تعالى هكذا دائما والتولد ممكن كما في آدم عليه السلام والقوى
الجسمانية قد لا يتناهى أثرها إذا كانت واسطة في التأثير.
المسألة الخامسة: في الثواب والعقاب
قال: ويستحق الثواب والمدح بفعل الواجب والمندوب وفعل ضد
القبيح والإخلال به بشرط فعل الواجب لوجوبه أو لوجه وجوبه والمندوب
كذلك والضد لأنه ترك القبيح والإخلال به وظاهر أن المشقة من غير
عوض ظلم وهو قبيح ولا يصح الابتداء به إذ لو أمكن الابتداء به كان
التكليف عبثا.
أقول: المدح قول ينبئ عن ارتفاع حال الغير مع القصد إلى الرفع منه
والثواب هو النفع المستحق المقارن للتعظيم والإجلال والذم قول ينبئ عن
اتضاع حال الغير مع قصده والعقاب هو الضرر المستحق المقارن للاستحقاق
والمدح والثواب يستحقان بفعل الواجب وفعل المندوب وفعل ضد القبيح وهو

433
الترك له على مذهب من يثبت الترك ضدا والإخلال بالقبيح ومنع أبو علي وجماعة
من المعتزلة استحقاق المدح والثواب بالإخلال بالقبيح وبفعل الواجب وصاروا
إلى ذلك لأن المكلف يمتنع خلوه من الأخذ والترك الذي هو فعل الضد والحق
ما ذكره المصنف (ره) فإن العقلاء يستحسنون ذم المخل بالواجب وإن لم يتصوروا
منه فعلا كما يستحسنون ذمه على فعل القبيح واعلم أنه يشترط في استحقاق الفاعل
المدح أو الثواب إيقاع الواجب لوجوبه أو لوجه وجوبه وكذا المندوب يفعله
لندبه أو لوجه ندبه وكذا في ترك القبيح يتركه لكونه ترك قبيح أو لوجه ذلك
والإخلال بالقبيح لكونه إخلالا بالقبيح فإنه لو فعل الواجب أو المندوب لا لما
ذكرنا لم يستحق مدحا ولا ثوابا عليهما وكذا لو ترك القبيح لغرض آخر من لذة
أو غيرها لم يستحق المدح والثواب والدليل على استحقاق الثواب بفعل الطاعة
إنها مشقة قد ألزمها الله تعالى المكلف فإن لم يكن لغرض كان ظلما وعبثا وهو
قبيح لا يصدر عن الحكيم وإن كان لغرض فأما الأضرار وهو ظلم وأما النفع وهو
إما أن يصح الابتداء به أولا والأول باطل وإلا لزم العبث في التكليف والثاني هو
المطلوب وذلك النفع هو المستحق بالطاعة المقارن للتعظيم والإجلال فإنه يقبح
الابتداء بذلك لأن تعظيم من لا يستحقه قبيح.
قال: وكذا يستحق العقاب والذم بفعل القبيح والإخلال بالواجب
لاشتماله على اللطف ولدلالة السمع.
أقول: كما أن الطاعة سبب لاستحقاق الثواب فكذا المعصية وهي فعل
القبيح أو الاخلال بالواجب لاشتماله على سبب استحقاق العقاب لوجهين (أحدهما)
عقلي كما ذهب إليه جماعة من العدلية وتقريره أن العقاب لطف واللطف واجب
أما الصغرى فلأن المكلف إذا عرف أن مع المعصية يستحق العقاب فإنه يبعد عن
فعلها ويقرب إلى فعل ضدها وهو معلوم قطعا وأما الكبرى فقد تقدمت
(والثاني) سمعي وهو الذي ذهب إليه باقي العدلية وهو متواتر معلوم من دين

434
النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا عرفت هذا فنقول ذهب جماعة إلى أن الاخلال بالواجب لا يقتضي
استحقاق ذم ولا عقاب بل المقتضي لذلك هو فعل القبيح أو فعل ضد الواجب
وهو تركه وقد تقدم بيان ذلك.
قال: ولا استبعاد في اجتماع الاستحقاقين باعتبارين.
أقول: هذا جواب عن حجة من منع من كون الاحلال بالواجب سببا
لاستحقاق الذم وتقريره أنه لو كان ذلك سببا والإخلال بالقبيح سبب للمدح
لكان المكلف إذا خلا من الأمرين مستحقا للذم والمدح والجواب أنه لا استبعاد
في اجتماع الاستحقاقين باعتبارين فيذم على أحدهما ويمدح على الآخر كما إذا فعل
طاعة ببعض أعضائه ومعصية بالآخر.
قال: وإيجاب المشقة في شكر المنعم قبيح.
أقول: ذهب أبو القاسم البلخي إلى أن هذه التكاليف وجبت شكرا
للنعمة فلا يستلزم وجوب الثواب ولا يستحق بفعلها نفع وإنما الثواب تفضل من
الله تعالى وذهب جماعة من العدلية إلى خلاف هذا القول واحتج المصنف (ره)
على أبطاله بأنه قبيح عند العقلاء أن ينعم الإنسان على غيره ثم يكلفه ويوجب
عليه شكره ومدحته على تلك النعمة من غير إيصال ثواب إليه ويعدون ذلك
نقصا في المنعم وينسبونه إلى الرياء وذلك قبيح لا يصدر من الحكيم فوجب القول
باستحقاق الثواب.
قال: ولقضاء العقل به مع الجهل.
أقول: هذا دليل ثان على إبطال قول البلخي وتقريره أن العقلاء بأسرهم
يجزمون بوجوب شكر المنعم وإذا كان وجوب الشكر معلوما بالعقل مع أن
العقل لا يدرك التكاليف الشرعية وجب القول بكونها ليست شكرا.

435
قال: ويشترط في استحقاق الثواب كون الفعل المكلف به أو الاخلال
بالقبيح شاقا ولا يشترط رفع الندم على فعل الطاعة ولا انتفاء النفع العاجل
إذا فعل للوجه.
أقول: يشترط في استحقاق الثواب كون الفعل المكلف به الواجب أو
المندوب شاقا وكون الاخلال بالقبيح شاقا إذ المقتضي لاستحقاق الثواب هو
المشقة فإذا انتفت انتفى المقتضي للاستحقاق ولا يشترط رفع الندم على فعل
الطاعة فإن الطاعة سبب لاستحقاق الثواب وقد وجدت منفكة عنه لأنه في حالة
الفعل يستحيل أن يكون نادما عليه، نعم نفي الندم شرط في بقاء استحقاق
الثواب وكذا لا يشترط في الثواب عدم النفع العاجل إذا أوقعه المكلف لوجه
الوجوب أو للوجوب أو لوجه الندب أو للندب.
المسألة السادسة: في صفات الثواب والعقاب
قال: ويجب اقتران الثواب بالتعظيم والعقاب بالإهانة للعلم الضروري
باستحقاقهما مع فعل موجبهما.
أقول: ذهبت المعتزلة إلى أن الثواب نفع عظيم مستحق يقارنه التعظيم
والعقاب ضرر عظيم مستحق يقارنه الإهانة واحتجوا على وجوب اقتران
التعظيم بالثواب واقتران الإهانة بالعقاب بأنا نعلم بالضرورة أن من فعل الفعل
الشاق المكلف به فإنه يستحق التعظيم والمدح وكذلك من فعل القبيح فإنه
يستحق الإهانة والاستخفاف.
قال: ويجب دوامهما لاشتماله على اللطف ولدوام المدح والذم ولحصول
نقيضهما لولاه.
أقول: ذهب المعتزلة إلى أن الثواب والعقاب دائمان واختلف في العلم
بدوامهما هل هو عقلي أو سمعي فذهبت المعتزلة إلى أنه عقلي وذهبت المرجئة

436
إلى أنه سمعي واحتج المصنف (ره) على دوامهما بوجوه (أحدها) إن العلم
بدوام الثواب والعقاب يبعث العبد على فعل الطاعة ويبعده عن المعصية وذلك
ضروري وإذا كان كذلك كان لطفا واللطف واجب على ما مر (الثاني) إن
الذم والمدح دائمان إذ لا وقت إلا ويحسن مدح المطيع وذم العاصي إذا لم يظهر
منه ندم على ما فعل وهما معلولا الطاعة والمعصية فيجب كون
الطاعة والمعصية في حكم الدائمتين فيجب دوام الثواب والعقاب
لأن دوام أحد المعلولين (1) يستلزم دوام المعلول الآخر لأن العلة تكون دائمة
أو بحكم الدائم (الثالث) أن الثواب لو كان منقطعا لحصل لصاحبه الألم بانقطاعه
ولو كان العقاب منقطعا لحصل لصاحبه السرور بانقطاعه وذلك ينافي الثواب
والعقاب لأنهما خالصان عن الشوائب هذا ما فهمناه من كلام المصنف (ره) ولحصول
نقيضيهما يعني نقيضي الثواب والعقاب لولاه أي لولا الدوام.
قال: ويجب خلوصهما وإلا لكان الثواب أنقص حالا من العوض والتفضل
على تقدير حصوله فيهما وهو أدخل في باب الزجر.
أقول: يجب خلوص الثواب والعقاب عن الشوائب أما الثواب فلأنه لولا
ذلك لكان العوض والتفضل أكمل منه لأنه يجوز خلوصهما عن الشوائب وحينئذ
يكون الثواب أنقص درجة وأنه غير جايز وأما العقاب فلأنه أدخل في الزجر
فيكون لطفا.
قال: وكل ذي مرتبة في الجنة لا يطلب الأزيد من مرتبة ويبلغ سرورهم
في الشكر إلى حد انتفاء المشقة وغنائهم بالثواب ينفي مشقة ترك القبائح
وأهل النار ليلجئون إلى ترك القبيح.
أقول: لما ذكر أن الثواب خالص عن الشوائب ورد عليه أن أهل الجنة



(1) المراد بالمعلولين المدح والثواب المعلولين للطاعة والذم والعقاب المعلولين للمعصية والحاصل
أن دوام المدح تدل على دوام علته ودوام قرينه الذي هو المعلول الآخر.
437
يتفاوتون في الدرجات والأنقص إذا شاهد من هو أعظم ثوابا حصل له الغم
بنقص درجته عنه ولعدم اجتهاده في العبادة وأيضا فإنه يجب عليهم الشكر لنعم
الله تعالى أو الاخلال بالقبايح وفي ذلك مشقة والجواب عن الأول إن شهوة كل
مكلف مقصورة على ما حصل له ولا يغتم لفقد الأزيد لعدم اشتهائه له وعن
الثاني أنه يبلغ سرورهم بالشكر على النعمة إلى حد ينتفي المشقة معه وأما
الاخلال بالقبائح فإنه لا مشقة عليهم فيه لأنه تعالى يغنيهم بالثواب ومنافعه عن
فعل القبيح فلا يحصل لهم مشقة أما أهل النار فإنهم يلجئون إلى فعل ما يجب
عليهم وترك القبائح فلا يصدر عنهم وليس ذلك تكليفا لأنه بالغ حد الالجاء
ويحصل من ذلك نوع من العقاب أيضا.
قال: ويجوز توقف الثواب على شرط وإلا لأثيب العارف بالله تعالى
خاصة.
أقول: ذهب جماعة إلى أن الثواب يجوز أن يكون موقوفا على شرط
ومنعه آخرون والأول هو الحق والدليل عليه أنه لولا ذلك لكان العارف بالله
وحده مثابا مع عدم نظره في المعجزة وعدم تصديقه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم والتالي باطل
فكذا المقدم، بيان الشرطية إن المعرفة طاعة مستقلة بنفسها فلو لم يتوقف الثواب
عليها على شرط لوجبت إثابة من لم يصدق بالنبي صلى الله عليه وآله حيث لم ينظر
في معجزته.
قال: وهو مشروط بالموافاة لقوله تعالى (لئن أشركت ليحبطن عملك)
وقوله تعالى (ومن يرتدد منكم عن دينه).
أقول: اختلف المعتزلة على أربعة أقوال؟ فقال بعضهم إن الثواب والعقاب
يستحقان في وقت وجود الطاعة والمعصية وأبطلوا القول بالموافاة وقال آخرون
إنهما يستحقان في الدار الآخرة وقال آخرون إنما يستحقان حال الاخترام وقال
آخرون إنما يستحقان في الحال بشرط الموافاة فإن كان في علم الله تعالى أنه يوافي

438
الطاعة ثابتة إلى حال الموت أو الآخرة استحق بها الثواب في الحال وكذا المعصية
وإن كان في علمه تعالى أنه يحبط الطاعة أو يتوب من المعصية قبل الموافاة لم
يستحق الثواب ولا العقاب وبهما استدل المصنف (ره) على القول بالموافاة بقوله
تعالى (لئن أشركت ليحبطن عملك) وبقوله تعالى (ومن يرتدد منكم عن
دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم) وتقريره أن نقول إما أن
يكون المراد بالإحباط هنا كون العمل باطلا من أصله أو أن الثواب يسقط بعد
ثبوته أو أن الكفر أبطله والأولان باطلان أما الأول لأنه علق بطلانه (1)
بالشرك ولأنه شرط وجزاءهما إنما يقعان في المستقبل وبالأول يبطل الثاني وأما
الثالث فلما يأتي من بطلان التحابط.
المسألة السابعة: في الاحباط والتكفير
قال: والإحباط باطل لاستلزامه الظلم ولقوله تعالى (فمن يعمل مثقال
ذرة خيرا يره).
أقول: اختلف الناس هنا فقال جماعة من المعتزلة بالإحباط والتكفير
ومعناهما أن المكلف يسقط ثوابه المتقدم بالمعصية المتأخرة أو يكفر ذنوبه
المتقدمة بطاعته المتأخرة ونفاهما المحققون ثم القائلون بهما اختلفوا فقال أبو علي
إن المتأخر يسقط المتقدم ويبقى على حاله، وقال أبو هاشم أنه ينتفي الأقل
بالأكثر وينتفي من الأكثر بالأقل ما ساواه ويبقى الزائد مستحقا وهذا هو الموازنة
ويدل على بطلان الاحباط أنه يستلزم الظلم لأن من أساء وأطاع وكانت إسائته
أكثر يكون بمنزلة من لم يحسن وإن كان إحسانه أكثر يكون بمنزلة من لم يسئ
وإن تساويا يكون مساويا لمن لا يصدر عنه أحدهما وليس كذلك عند العقلاء



(1) لأن بطلان العمل وحبطه معلق على الشرك والارتداد فكيف يكون باطلا مطلقا ولأن
الكلام شرط وجزاء أي الشرك والحبط وهما إنما يقعان في مستقبل العمل فكيف يكون العمل باطلا.
439
ولقوله تعالى (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره)
والإيفاء بوعده ووعيده واجب
قال: ولعدم الأولوية إذا كان الآخر ضعفا وحصول المتناقضين مع
التساوي.
أقول: هذا دليل على إبطال قول أبي هاشم بالموازنة وتقريره إنا إذا
فرضنا استحقاق المكلف خمسة أجزاء من الثواب وعشرة أجزاء من العقاب
وليس إسقاط إحدى الخمستين من العقاب الخمسة من الثواب أولى من الأخرى فأما
أن يسقطا معا وهو خلاف مذهبه أو لا يسقط شئ منهما وهو المطلوب ولو
فرضنا أنه فعل خمسة أجزاء من الثواب وخمسة أجزاء من العقاب فإن تقدم
إسقاط أحدهما للآخر لم يسقط الباقي بالمعدوم لاستحالة صيرورة المعدوم (1)
والمغلوب غالبا ومؤثرا وإن تقارنا لزم وجودهما معا لأن وجود كل منهما ينفي
وجود الآخر فيلزم وجودهما حال عدمهما وذلك جمع بين النقيضين.
المسألة الثامنة: في انقطاع عذاب أصحاب الكبائر
قال: والكافر مخلد وعذاب صاحب الكبيرة ينقطع لاستحقاقه الثواب
بإيمانه ولقبحه عند العقلاء.
أقول: أجمع المسلمون كافة على أن عذاب الكافر مؤبد لا ينقطع واختلفوا
في أصحاب الكبائر من المسلمين فالوعيدية على أنه كذلك وذهبت الإمامية
وطائفة كثيرة من المعتزلة والأشاعرة إلى أن عذابه منقطع وينبغي أن يعرف



(1) فلو فرض أن الثواب بقدر العقاب فإن تقدم إسقاط أحدهما للآخر لم يسقط الباقي
بالمعدوم لاستحالة ضرورة المعدوم والمغلوب غالبا ومؤثرا وإن تقارنا لزم وجودهما وعدمهما لأن
وجود كل منهما ينفي وجود الآخر فيلزم وجودهما وذلك جمع بين النقيضين.
440
صفة الصغيرة والكبيرة أما الصغيرة فتقال على وجوه (منها) ما يقال (1)
بالإضافة إلى الطاعة فيقال هذه المعصية صغيرة في مقابلة الطاعة أو هي أصغر من
هذه الطاعة باعتبار أن عقابها ينقص في كل وقت من ثواب تلك الطاعة في كل
وقت وإنما شرطنا عموم الوقت لأنه متى اختلف الحال في ذلك بأن يزيد تارة
ثواب تلك الطاعة عن عقاب المعصية وتارة ينقص لم يقل إن تلك صغيرة بالإضافة
إلى تلك الطاعة على الاطلاق بل تقيد بالحالة التي يكون عقابها أقل من ثواب
الطاعة وحصول الاختلاف بما يقترن بالطاعة والمعصية فإن الإنفاق في سبيل الله
يختلف كما قال تعالى (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل) (ومنها)
أن يقال بالنسبة إلى معصية أخرى فيقال هذه المعصية أصغر من تلك بمعنى أن
عقات هذه ينقص في كل وقت عن عقاب الأخرى (ومنها) أن يقال بالإضافة
إلى ثواب فاعلها بمعنى أن عقابها ينقص في كل وقت عن ثواب فاعلها في كل وقت
وهذا هو الذي أطبق العلماء عليه والكبيرة تقال على وجوه مقابلة لهذه الوجوه
(إذا عرفت هذا فنقول) الحق إن عقاب أصحاب الكبائر منقطع والدليل
عليه وجهان (الأول) أنه يستحق الثواب الدائم بإيمانه لقوله تعالى (فمن يعمل
مثقال ذرة خيرا يره) والإيمان أعظم أفعال الخير فإذا استحق العقاب فأما أن
يقدم الثواب على العقاب وهو باطل بالإجماع لأن الثواب المستحق بالإيمان
دائم على ما تقدم أو بالعكس وهو المراد والجمع محال (الثاني) يلزم أن يكون
من عبد الله تعالى مدة عمره بأنواع القربات إليه ثم يعصي في آخر عمره معصية
واحدة مع بقاء إيمانه مخلدا في النار كمن أشرك بالله تعالى مدة عمره وذلك



(1) هذا الوجه يتفرع على القول بالتحابط وحاصله أن العبد في أي وقت ارتكب معصية فأما
أن يكون له مقدارين الثواب أو العقاب وإما أن لا يكون فإن كان له ثواب قيس إلى عقاب
تلك المعصية فإن كان العقاب نقص من الثواب فتلك المعصية صغيرة وإن كان الأمر على العكس
فهي كبيرة.
441
محال لقبحه عند العقلاء.
قال: والسمعيات متأولة ودوام العقاب مختص بالكافر
أقول: هذا إشارة إلى الجواب عن حجج الوعيدية واحتجوا بالنقل والعقل
(أما النقل) فالآيات الدالة على خلودهم كقوله تعالى (ومن يعص الله ورسوله
ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها) وقوله تعالى (ومن يقتل مؤمنا متعمدا
فجزاؤه جهنم خالدا فيها إلى غير ذلك من الآيات (وأما العقل) فما تقدم من
أن العقاب والثواب يجب دوامهما (والجواب) عن السمع التأويل أما بمنع
العموم والتخصيص بالكفار وأما بتأويل الخلود بالبقاء المتطاول بأن لم يكن
دائما وعن العقل بأن دوام العقاب إنما هو في حق الكفار وأما غيرهم فلا.
المسألة التاسعة: في جواز العفو
قال: والعفو واقع لائه حقه تعالى فجاز إسقاطه ولا ضرر عليه في تركه
مع ضرر النازل به فحسن إسقاطه ولائه إحسان.
أقول: ذهب جماعة من معتزلة بغداد إلى أن العفو جائز عقلا وغير جائز
سمعا وذهب البصريون إلى جوازه سمعا وهو الحق واستدل المصنف (ره) بوجوه
ثلاثة (الأول) إن العقاب حق الله تعالى فجاز تركه والمقدمتان ظاهرتان
(الثاني) إن العقاب ضرر بالمكلف ولا ضرر في تركه على مستحقه وكلما
كان كذلك كان تركه حسنا أما أنه ضرر بالمكلف فضروري وأما عدم الضرر
في تركه فقطعي لأنه تعالى غني بذاته عن كل شئ وأما أن تركه مثل هذا
حسن فضروري.
قال: وللسمع.
أقول: هذا دليل الوقوع سمعا وهو الآيات الدالة على العفو لقوله تعالى (إن
الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر به ما دون ذلك لمن يشاء) فأما أن يكون هذان

442
لحكمان مع التوبة أو بدونها الأول باطل لأن الشرك يغفر مع التوبة فتعين الثاني
(وأيضا) المعصية مع التوبة يجب غفرانها وليس المراد في الآية المعصية التي
يجب غفرانها لأن الواجب لا يعلق بالمشيئة فما كان يحسن قوله لمن يشاء فوجب
عودة الآية إلى المعصية التي لا يجب غفرانها لقوله تعالى (وإن ربك لذو مغفرة
للناس علي ظلمهم) (وعلي) تدل على الحال أو الغرض كما يقال ضربت
زيدا على عصيانه أي لأجل عصيانه وهو غير مراد هنا قعطا فتعين الأول (وأيضا)
فالله تعالى قد نطق في كتابه العزير بأنه عفو غفور وأجمع المسلمون عليه ولا معنى
له إلا إسقاط العقاب عن المعاصي.
المسألة العاشرة: في الشفاعة
قال: والإجماع على الشفاعة فقيل لزيادة المنافع ويبطل منافي حقه.
أقول: اتفقت العلماء على ثبوت الشفاعة للنبي صلى الله عليه وآله ويدل عليه قوله تعالى
(عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) قيل إنه الشفاعة واختلفوا فقالت
الوعيدية أنها عبارة عن طلب زيادة المنافع للمؤمنين المستحقين للثواب وذهبت التفضلية إلى أن الشفاعة للفساق من هذه الأمة في إسقاط عقابهم وهو الحق
وأبطل المصنف (ره) الأول بأن الشفاعة لو كانت في زيادة المنافع لا غير لكنا
شافعين في النبي عليه وآله السلام حيث نطلب له من الله تعالى علو الدرجات
والتالي باطل قطعا لأن الشافع أعلى من المشفوع فيه فالمقدم مثله.
قال: ونفي المطاع لا يستلزم نفي المجاب وباقي السمعيات متأولة
بالكفار.
أقول: هذا إشارة إلى جواب من استدل على أن الشفاعة إنما هي في زيادة
منافع وقد استدلوا بوجوه (الأول) قوله تعالى (ما للظالمين من حميم ولا شفيع
يطاع) نفى الله تعالى قبول الشفاعة عن الظالمين والفاسق ظالم (والجواب) أنه
تعالى نفى الشفيع المطاع ونحن نقول به لأنه ليس في الآخرة شفيع يطاع لأن

443
المطاع فوق المطيع والله تعالى فوق كل موجود ولا أحد فوقه ولا يلزم من نفي
الشفيع المطاع نفي الشفيع المجاب سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون المراد
بالظالمين هنا الكفار جميعا بين الأدلة (الثاني) قوله تعالى (وما للظالمين من
أنصار) ولو شفع (ع) في الفاسق لكان ناصرا له (الثالث) قوله تعالى
(ولا تنفعها شفاعة) (يوم لا تجزى نفس عن نفس شيئا) (ولا تنفعهم شفاعة
الشافعين) والجواب عن هذه الآيات كلها أنها مختصة بالكفار جمعا بين الأدلة
(الرابع) قوله تعالى (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) نفي شفاعة الملائكة عن
غير المرضي لله تعالى والفاسق غير مرتضى والجواب لا نسلم أن الفاسق غير
مرتضى بل هو مرتضى لله تعالى في إيمانه.
قال: وقيل في إسقاط المضار والحق صدق الشفاعة فيهما وثبوت الثاني
له (ص) لقوله ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي.
أقول: هذا هو المذهب الثاني الذي حكيناه أولا وهو أن الشفاعة في
إسقاط المضار ثم بين المصنف (ره) إنها تطلق على المعنيين معا كما نقول شفع
فلان في فلان إذا طلب له زيادة منافع أو إسقاط مضار وذلك متعارف عند
العقلاء ثم بين أن الشفاعة بالمعنى الثاني أعني إسقاط المضار ثابتة للنبي لقوله صلى الله عليه وآله
ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي وهذا حديث مشهور.
المسألة الحادية عشر: في وجوب التوبة
قال: والتوبة واجبة لدفعها الضرر ولوجوب الندم على كل قبيح
أو إخلال بالواجب.
أقول: التوبة هي الندم على المعصية لكونها معصية والعزم على ترك المعاودة
في المستقبل لأن ترك العزم يكشف عن نفي الندم وهي واجبة بالإجماع لكن
اختلفوا فذهب جماعة من المعتزلة إلى أنها تجب من الكبائر المعلوم كونها كبائر
أو المظنون فيها ذلك ولا يجب من الصغائر المعلوم منها أنها صغائر وقال آخرون

444
أنها لا تجب من ذنوب تاب عنها من قبل وقال آخرون أنها تجب من كل صغير
وكبير من المعاصي والإخلال بالواجب سواء تاب عنها قبل أو لم يتب وقد استدل
المصنف (ره) على وجوبها بأمرين (الأول) أنها دافعة للضرر الذي هو العقاب
أو الخوف ودفع الضرر واجب (الثاني) إنا نعلم قطعا وجوب الندم على فعل
القبيح أو الاخلال بالواجب إذا عرفت هذا فنقول إنها تجب عن كل ذنب لأنها
تجب من المعصية لكونها معصية ومن الاخلال بواجب لكونه كذلك هذا
عام في كل ذنب وإخلال بالواجب.
قال: ويندم على القبيح لقبحه وإلا لانتفت التوبة وخوف النار إن
كانت الغاية فكذلك وكذا الاخلال بالواجب.
أقول: يجب على التائب أن يندم على القبيح لقبحه وأن يعزم على ترك
المعاودة إليه إذ لولا ذلك لانتفت التوبة كمن يتوب من المعصية حفظا لسلامة
بدنه أو لعرضه بحيث لا ينثلم عند الناس فإن مثل هذا لا يعد توبة لانتفاء الندم
أو أما التائب خوفا من النار فإن كان الخوف من النار هي الغاية في توبته بمعنى
؟ نه لولا خوف النار لم يتب فكذلك أي لا يصح منه التوبة لأنها ليست توبة عن
القبيح لقبحه فجرى مجرى طالب سلامة البدن وإن لم يكن هو الغاية بأن يندم
عليه لأنه قبيح وفيه عذاب النار فلولا القبح لما ندم عليه وإن كان فيه خوف
النار صح توبته وكذا الاخلال بالواجب إن ندم عليه لأنه إخلال بالواجب وعزم
على فعل الواجب في المستقبل لأجل كونه إخلالا بالواجب فهي توبة صحيحة
وإن كان خوفا من النار أو من فوات الجنة فإن كان هو الغاية لم تصح توبته
وإلا لكانت صحيحة ولهذا إن المسئ لو اعتذر إلى المظلوم لا لأجل إسائته بل
لخوفه من عقوبة السلطان لم يقبل العقلاء عذره.
قال: فلا يصح من البعض ولا يتم القياس على الواجب.
أقول: اختلف شيوخ المعتزلة فذهب أبو هاشم إلى أن الندم لا يصح من

445
قبيح دون قبيح وذهب أبو علي إلى جواز ذلك والمصنف (ره) استدل على
مذهب أبي هاشم بأنا قد بينا أنه يجب أن يندم على القبيح لقبحه ولولا ذلك لم
تكن مقبولة على ما تقدم والقبح حاصل في الجميع فلو تاب من قبيح دون قبيح
كشف ذلك عن كونه تائبا عنه لا لقبحه بل لأمر آخر يوجد في ذلك دون هذا
(واحتج) أبو علي بأنه لو لم يصح التوبة عن قبيح دون قبيح لم يصح الاتيان
بواجب والتالي باطل فالمقدم مثله بيان الشرطية إنه كما يجب عليه ترك القبيح
لقبحه كذا يجب عليه فعل الواجب لوجوبه فلو لزم من اشتراك القبائح في قبح
عدم صحة التوبة من بعض القبائح دون بعض لزم من اشتراك الواجبات في
الوجوب عدم صحة الاتيان بواجب دون واجب آخر وأما بطلان التالي
فبالإجماع إذ لا خلاف في صحة الصلاة ممن أخل بالصوم وأجاب أبو هاشم
بالفرق بين ترك القبيح لقبحه وفعل الواجب لوجوبه بالتعميم في الأول دون
الثاني فإن من قال لا آكل الرمانة لحموضتها فإنه لا يقدم على أكل كل حامض
لاتحاد الجهة في المنع ولو قال آكل الرمانة لحموضتها لم يلزم أن يتناول كل رمانة
حامضة فافترقا وإليه أشار المصنف (ره) بقوله ولا يتم القياس على الواجب أي
لا يتم قياس ترك القبيح لقبحه على فعل الواجب لوجوبه.
قال: ولو اعتقد فيه الحسن لصحت التوبة
أقول: قد يصح التوبة من قبيح دون قبيح إذا اعتقد التائب في بعض
القبائح إنها حسنة وتاب عما يعتقده قبيحا فإنه يقبل توبته لحصول الشرط فيه
وهو ندمه على القبيح لقبحه ولهذا إذا تاب الزاني عن الزنا فإنه يقبل توبته وإن
كان اعتقاده قبيحا لأنه لا يعتقده كذلك فيصدق في حقه إنه تاب عن
قبيح لقبحه.
قال: وكذا المستحقر.
أقول: إذا كان هناك فعلا (أحدهما) عظيم القبح (والآخر) صغيره وهو

446
مستحقر بالنسبة إليه حتى لا يكون معتدا به ويكون وجوده بالنسبة إلى العظيم
كعدمه حتى تاب فاعل القبيح من العظيم فإنه يقبل توبته مثال ذلك أن الإنسان
إذا قتل ولد غيره وكسر له قلما ثم تاب وأظهر الندم على قتل الولد دون كسر
القلم فإنه يقبل توبته ولا يعيبه العقلاء بكسر القلم وإن كان لا بد من أن يندم على
جميع إسائته وكما أن كسر القلم حال قتل الولد لا يعد إسائة فكذا العزم.
قال: والتحقيق إن ترجيح الداعي إلى الندم عن البعض يبعث عليه خاصة
وإن اشترك الداعي في الندم على القبيح لقبحه كما في الدواعي إلى الفعل ولو
اشترك الترجيح اشترك وقوع الندم فلا يصح الندم وبه يتأول كلام أمير
المؤمنين وأولاده عليهم السلام وهو أن التوبة لا تصح عن بعض دون بعض
وإلا لزم الحكم ببقاء الكفر على التائب منه المقيم على صغيرة.
أقول: لما فرغ عن تقرير كلام أبي هاشم ذكر التحقيق في هذا وتقريره أن
نقول الحق إنه تجوز التوبة عن قبيح دون قبيح لأن الأفعال تقع بحسب الدواعي
وتنتفي بحسب الصوارف فإذا ترجح الداعي وقع الفعل (إذا عرفت هذا)
فنقول يجوز أن يرجع فاعل القبائح دواعيه إلى الندم عن بعض القبائح دون بعض
وإن كانت القبائح مشتركة في الداعي الذي يدعو إلى الندم عليها وذلك بأن
يقترن ببعض القبائح قرائن زائدة كعظم الذنب أو كثرة الزواجر عنه أو الشناع
عند العقلاء عند فعله ولا يقترن هذه القرائن ببعض القبائح فلا يندم عليها وهذا
كما في دواعي الفعل فإن الأفعال الكثيرة قد تشترك في الدواعي ثم يؤثر صاحب
الدواعي بعض تلك الأفعال على بعض بأن يترجح دواعيه إلى ذلك الفعل بما يقترن
به من زيادة الدواعي فلا استعباد في كون قبح الفعل داعيا إلى الندم ثم يقترن
ببعض القبائح زيادة الدواعي إلى الندم عليه فيترجح لأجلها الداعي إلى الندم على
ذلك البعض ولو اشتركت القبائح في قوة الدواعي اشتركت في وقوع الندم ولم
يصح الندم على البعض دون الآخر وعلى هذا ينبغي أن يحمل كلام أمير المؤمنين

447
علي عليه السلام وكلام أولاده كالرضا وغيره عليهم السلام حيث نقل عنهم نفي
تصحيح التوبة عن بعض القبائح دون بعض لأنه لولا ذلك لزم خرق الاجماع
والتالي باطل فالمقدم مثله بيان الملازمة أن الكافر إذا تاب عن كفره وأسلم وهو
مقيم على الكذب فأما أن يحكم بإسلامه ويقبل توبته عن الكفر أولا والثاني
خرق للإجماع لاتفاق المسلمين على إجراء أحكام المسلمين عليه والأول هو المطلوب
وقد التزم أبو هاشم استحقاقه عقاب الكفر وعدم قبول توبته وإسلامه لكن لا
يمتنع إطلاق اسم الإسلام عليه.
المسألة الثانية عشر: في أقسام التوبة
قال: والذنب إن كان في حقه تعالى من فعل قبيح كفى فيه الندم والعزم
على العدم وفي الاخلال بالواجب اختلف حكمه في بقائه وقضائه وعدمهما
وإن كان في حق آدمي استتبع إيصاله إن كان ظلما أو العزم عليه مع التعذر أو
الإرشاد إن كان إضلالا وليس ذلك إجزاء
أقول: التوبة إما أن تكون من ذنب يتعلق به حقه تعالى خاصة أو يتعلق به
حق الآدمي والأول إما أن تكون من فعل قبيح كشرب الخمر والزنا أو إخلال
بواجب كترك الزكاة والصلاة (فالأول) يكفي في التوبة منه الندم عليه والعزم
على ترك العود إليه (وأما الثاني) فيختلف أحكامه بحسب القوانين الشرعية
فمنه ما لا بد مع التوبة منه أدائه كالزكاة ومنه ما يجب معه القضاء كالصلاة ومنه
ما يسقطان عنه كالعيدين وهذا الأخير يكفي فيه الندم على ترك المعاودة كما في
فعل القبيح وأما ما يتعلق به حق الآدمي فيجب فيه الخروج إليهم منه فإن كان
أخذ مال وجب رده على مالكه أو على ورثته إن مات ولو لم يتمكن من ذلك
وجب العزم عليه وكذا إن كان حد قذف وإن كان قصاصا وجب الخروج إليهم
منه بأن يسلم نفسه إلى أولياء المقتول فأما أن يقتلوه أو يعفوا عنه بالدية أو بدونها

448
وإن كان في بعض الأعضاء وجب تسليم نفسه ليقتص منه في ذلك العضو إلى
المستحق من المجني عليه أو الورثة وإن كان إضلالا وجب إرشاد من أضله وإرجاعه
عما اعتقده بسببه من الباطل إن أمكن ذلك (واعلم) أن هذه التوابع ليست
أجزائا من التوبة فإن العقاب يسقط بالتوبة ثم إن قام المكلف بالتبعات كان
ذلك إتماما للتوبة من جهة المعنى لأن ترك التبعات لا يمنع من سقوط العقاب بالتوبة
عما تاب منه بل يسقط العقاب ويكون ترك القيام بالتبعات بمنزلة ذنوب مستأنفة
يلزم التوبة منها نعم التائب إذا فعل التبعات بعد إظهار توبته كان ذلك دلالة على
صدق الندم وإن لم يقم بها أمكن جعله دلالة على عدم صحة الندم.
قال: ويجب الاعتذار إلى المغتاب مع بلوغه
أقول: المغتاب إما أن يكون قد بلغه اغتيابه أولا ويلزم على الفاعل للغيبة
في الأول الاعتذار عنه إليه لأنه أوصل إليه ضربا من الغم فوجب عليه الاعتذار
منه والندم عليه وفي الثاني لا يلزم الاعتذار ولا الاستحلال منه لأنه لم يفعل به
الما وفي كلا القسمين يجب الندم لله تعالى لمخالفته النهي والعزم على ترك المعاودة
قال: وفي إيجاب التفصيل مع الذكر إشكال.
أقول: ذهب قاضي القضاة إلى أن التائب إن كان عالما بذنوبه على التفصيل
وجب عليه التوبة عن كل واحد منها مفصلا وإن كان يعلمها على الاجمال وجب
عليه التوبة كذلك مجملا وإن كان يعلم بعضها على التفصيل وبعضها على الاجمال
وجب عليه التوبة عن المفصل بالتفصيل وعن المجمل بالإجمال واستشكل المصنف
(ره) إيجاب التفصيل مع الذكر لإمكان الإجزاء بالندم على كل قبيح وقع منه
وإن لم يذكره مفصلا.
قال: وفي وجوب التجديد أيضا إشكال.
أقول: إذا تاب المكلف عن معصية ثم ذكرها هل يجب عليه تجديد التوبة
قال أبو علي نعم بناء على أن المكلف القادر بقدرة لا ينفك عن الضدين إما الفعل

449
أو الترك فعند ذكر المعصية إما أن يكون نادما عليها أو مصرا عليها والثاني
قبيح فيجب الأول وقال أبو هاشم لا يجب لجواز خلو القادر بقدرة عنهما فجاز
أنه إذا ذكرها لم يندم عليها ولا يشتهي إليها ولا يبتهج بها.
قال: وكذا المعلول مع العلة.
أقول: إذا فعل المكلف العلة قبل وجود المعلول هل يجب عليه الندم على
المعلول أو على العلة أو عليهما مثاله الرامي إذا رمى قبل الإصابة قال الشيوخ
يجب الندم على الإصابة لأنها هي القبيح وقد صارت في حكم الموجود لوجوب
حصوله عند حصول السبب، وقال قاضي القضاة يجب عليه ندمان (أحدها؟)
على الرمي لأنه قبيح (والثاني) على كونه مولد القبيح ولا يجوز أن يندم على
المعلول لأن الندم على القبيح إنما هو لقبحه وقبل وجوده لا قبح.
قال: ووجوب سقوط العقاب بها.
أقول: المصنف (ره) استشكل وجوب سقوط العقاب بها (واعلم)
أن الناس اتفقوا على سقوط العقاب بالتوبة واختلفوا فقالت المعتزلة أنه يجب
سقوط العقاب بها وقالت المرجئة إن الله تعالى يتفضل عليه بإسقاط العقاب لا على
جهة الوجوب، احتجت المعتزلة بوجهين (الأول) أنه لو لم يجب إسقاط العقاب
لم يحسن تكليف العاصي والتالي باطل إجماعا فالمقدم مثله، بيان الشرطية إن
التكليف إنما يحسن للتعريض للنفع وبوجوب العقاب قطعا لا يحصل الثواب
وبغير التوبة لا يسقط العقاب فلا يبقى للعاصي طريق إلى إسقاط العقاب عنه
ويستحيل اجتماع الثواب والعقاب فيكون التكليف قبيحا (الثاني) أن من أساء
إلى غيره واعتذر إليه بأنواع الاعتذارات وعرف منه الاقلاع عن تلك الإسائة
بالكلية فإن العقلاء يذمون المظلوم إذا ذمه بعد ذلك (والجواب عن الأول) أنه
لا نسلم انحصار سقوط العقاب في التوبة لجواز سقوطه بالعفو أو بزيادة الثواب
(سلمنا) لكن نمنع عدم اجتماع الاستحقاقين لأن عقاب الفاسق عندنا منقطع

450
(وعن الثاني) بالمنع من قبح الذم سلمنا لكن نمنع المساواة بين الشاهد والغائب
وأما المرجئة فقد احتجوا بأنه لو وجب سقوط العقاب لكان إما لوجوب قبولها
أو لكثرة ثوابها والقسمان باطلان أما الأول فلأن من أساء إلى غيره بأنواع الإسائة
وأعظمها كقتل الأولاد ونهب الأموال ثم اعتذر إليه فإنه لا يجب قبول عذره
وأما الثاني فلما بينا من إبطال التحابط.
المسألة الثالثة عشر: في باقي المباحث المتعلقة بالتوبة
قال: والعقاب يسقط بها لا بكثرة ثوابها لأنها قد تقع محبطة ولولاه لانتفى
الفرق بين التقدم والتأخر والاختصاص ولا يقبل في الآخرة لانتفاء الشرط.
أقول: اختلف الناس هنا فقال قوم إن التوبة تسقط العقاب بذاتها لا على
معنى أنها لذاتها تؤثر في إسقاط العقاب بل على معنى إنا إذا وقعت على شروطها
والصفة التي بها تؤثر في إسقاط العقاب أسقطت العقاب من غير الاعتبار أمر زائد
وقال آخرون إنها تسقط العقاب لكثرة ثوابها واستدل المصنف (ره) على الأول
بوجوه (الأول) إن التوبة قد تقع محبطة بغير ثواب كتوبة الخارجي من الزنا
فإنه يسقط بها عقابه من الزنا ولا ثواب لها (الثاني) أنه لو أسقطت العقاب
بكثرة ثوابها لم يبق فرق بين تقدم التوبة على المعصية وتأخرها عنها كغيرها من
الطاعات التي يسقط العقاب بكثرة ثوابها ولو صح ذلك لكان التائب عن المعاصي
إذا كفر أو فسق أسقط عنه العقاب (الثالث) لو أسقطت العقاب لعظم ثوابها
لما اختص بها بعض الذنوب عن بعض فلم يكن إسقاطها لما هي توبة عنه بأولى من
غيره لأن الثواب لا اختصاص له ببعض العقاب دون بعض (ثم) إن المصنف (ره)
أجاب عن حجة المخالف وتقريرها أن التوبة لو أسقطت العقاب لذاتها لا سقطته
في حال المعاينة وفي الدار الآخرة (والجواب) أنها تؤثر في الاسقاط إذا وقعت
على وجهها وهي أن تقع ندما على القبيح لقبحه وفي الآخرة يقع الالجاء فلا يكون
الندم للقبيح.

451
المسألة الرابعة عشر: في عذاب القبر والميزان والصراط
قال: وعذاب القبر واقع للإمكان وتواتر السمع بوقوعه.
أقول: نقل عن ضرار أنه أنكر عذاب القبر والإجماع على خلافه وقد
استدل المصنف (ره) بإمكانه عقلا فإنه لا استبعاد في أن يعجل الله تعالى العقاب
في دار التكليف على وجه لا يمتنع معه التكليف كما في قطع يد السارق كما قال
تعالى (فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا) وقال في قطاع الطريق (ذلك
لهم خزي في الدنيا) وقال تعالى (ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من
عنده) وحكى تعالى في كتابه إهلاك الفرق الذين كفروا به وإذا كان ممكنا
والله تعالى قادر على كل ممكن وقد أخبر الله تعالى بوقوعه في قوله (كيف
تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون)
فذكر الرجوع بعد إحيائين وإنما يكون بإحياء ثالث وقال تعالى (قالوا ربنا أمتنا
اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا) فذكر موتتين إحداهما في الدنيا والأخرى
في القبر وذكر إحيائين أحدهما في الدنيا والآخر في القبر ولم يذكر الثالث لأنه
معلوم وقع فيه الكلام وغير الحي لا يتكلم وقيل إنما أخبروا عن الإحيائين
اللذين عرفوا الله تعالى فيهما ضرورة فأحدهما في الآخرة ولهذا عقب قوله بقوله
(فاعترفنا بذنوبنا) وقال تعالى في حق آل فرعون (النار يعرضون عليها
غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة) وهذا نص في الباب.
قال: وسائر السمعيات من الميزان والصراط والحساب وتطاير الكتب
ممكنة دل السمع على ثبوتها فيجب التصديق بها.
أقول: أحوال القيامة من الميزان والصراط والحساب وتطاير الكتب أمور ممكنة
وقد أخبر الله تعالى بوقوعها فيجب التصديق بها لكن اختلفوا في كيفية الميزان
وقال شيوخ المعتزلة أنه يوضع ميزان حقيقي له كفتان يوزن به ما يتبين من حال
المكلفين في ذلك الوقت لأهل الموقف بأن يوضع كتاب الطاعات في كفة الخير

452
ويوضع كتاب المعاصي في كفة الشر ويجعل رجحان أحدهما دليلا على إحدى
الحالتين أو بنحو من ذلك لورود الميزان سمعا والأصل في الكلام الحقيقة مع
إمكانها، وقال عباد وجماعة من البصريين وآخرون من البغداديين المراد بالموازين
العدل دون الحقيقة وأما الصراط فقد قيل إن في الآخرة طريقين (أحدهما)
إلى الجنة يهدي الله تعالى إليها أهل الجنة والأخرى إلى النار يهدي الله تعالى أهل
النار إليها كما قال تعالى في أهل الجنة (سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة
عرفها لهم) وقال في أهل النار (فاهدوهم إلى صراط الجحيم) وقيل إن هناك
طريقا واحدا على جهنم يكلف الجميع المرور عليه ويكون أدق من الشعر واحد
من السيف فأهل الجنة يمرون عليه لا يلحقهم خوف ولا غم والكفار يمرون
عليه عقوبة لهم وزيادة في خوفهم فإذا بلغ كل واحدا إلى مستقره من النار سقط
من ذلك الصراط.
قال: والسمع دل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن والمعارضات
متأولة.
أقول: اختلف الناس في أن الجنة والنار هل هما مخلوقتان الآن أم لا فذهب
جماعة إلى الأول وهو قول أبي علي وذهب أبو هاشم والقاضي إلى أنهما غير
مخلوقتين احتج الأولون بقوله تعالى (أعدت للمتقين) (أعدت للكافرين) (يا
آدم أسكن أنت وزوجتك الجنة) (عندها جنة المأوى) وجنة المأوى هي
دار الثواب فدل على أنها مخلوقة الآن في السماء، احتج أبو هاشم بقوله تعالى
(كل شئ هالك إلا وجهه) فلو كانت الجنة مخلوقة الآن لوجب هلاكها والتالي
باطل لقوله تعالى (أكلها دائم) والجواب أنه دوام الأكل إشارة إلى دوام
المأكول بالنوع بمعنى دوام خلق أمثاله وأكل الجنة يفنى بالأكل إلا أنه تعالى
يخلق مثلها والهلاك هو الخروج عن الانتفاع ولا ريب أن مع فناء المكلفين يخرج
الجنة عن حد الانتفاع فتبقى هالكة بهذا المعنى

453
المسألة الخامسة عشر: في الإيمان والأحكام
قال: والإيمان التصديق بالقلب واللسان ولا يكفي الأول لقوله تعالى
(وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) ونحوه ولا يكفي الثاني لقوله تعالى قل
لم تؤمنوا.
أقول: اختلف الناس في الإيمان على وجوه كثيرة ليس هذا موضع ذكرها
والذي اختاره المصنف (ره) إنه عبارة عن التصديق بالقلب واللسان معا ولا
يكفي أحدهما فيه أما التصديق القلبي فإنه غير كاف لقوله تعالى (واستيقنتها
أنفسهم) وقوله تعالى (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) فأثبت لهم المعرفة
والكفر وأما التصديق اللساني فإنه غير كاف أيضا لقوله تعالى (قالت الأعراب
آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) ولا شك في أن أولئك الأعراب
صدقوا بألسنتهم.
قال: والكفر عدم الإيمان إما مع الضد أو بدونه والفسق الخروج عن
طاعة الله مع الإيمان به والنفاق إظهار الإيمان وإخفاء الكفر.
أقول: الكفر في اللغة هو التغطية وفي العرف الشرعي هو عدم الإيمان أما
مع الضد بأن يعتقد فساد ما هو شرط في الإيمان أو بدون الضد كالشاك الخالي
من الاعتقاد الصحيح والباطل والفسق لغة الخروج مطلقا وفي الشرح عبارة عن
الخروج عن طاعة الله تعالى فيما دون الكفر والنفاق في اللغة هو إظهار خلاف
الباطن وفي الشرع إظهار الإيمان وإخفاء الكفر.
قال: والفاسق مؤمن لوجود حده فيه.
أقول: اختلف الناس هيهنا فقالت المعتزلة إن الفاسق لا مؤمن ولا كافر
وأثبتوا منزلة بين المنزلتين وقال الحسن البصري إنه منافق وقالت الزيدية إنه
كافر نعمة وقالت الخوارج إنه كافر والحق ما ذهب إليه المصنف (ره) وهو
مذهب الإمامية والمرجئة وأصحاب الحديث وجماعة الأشعرية من أنه مؤمن
والدليل عليه أن حد المؤمن وهو المصدق بقلبه ولسانه في جميع ما جاء النبي به
موجود فيه فيكون مؤمنا.

454
المسألة السادسة عشر: في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال: والأمر بالمعروف الواجب واجب وكذا النهي عن المنكر وبالمندوب
مندوب سمعا وإلا لزم ما هو خلاف الواقع أو الاخلال بحكمته تعالى.
أقول: الأمر بالمعروف وهو القول الدال على الحمل على الطاعة أو نفس
الحمل على الطاعة أو إرادة وقوعها من المأمور، والنهي عن المنكر هو المنع من
فعل المعاصي أو القول المقتضى لذلك أو كراهة وقوعها وإنما قلنا ذلك للإجماع
على أنهما يجبان باليد واللسان والقلب والأخير يجب مطلقا بخلاف الأولين
فإنهما مشروطان بما يأتي وهل يجبان سمعا أو عقلا اختلف الناس في ذلك
فذهب قوم إلى أنهما يجبان سمعا للقرآن والسنة والإجماع وآخرون ذهبوا إلى
وجوبهما عقلا واستدل المصنف (ره) على إبطال الثاني بأنهما لو وجبا عقلا لزم
أحد الأمرين وهو إما خلاف الواقع أو الاخلال بحكمته تعالى والتالي بقسميه
باطل فالمقدم مثله، بيان الملازمة أنهما لو وجبا عقلا لوجبا على الله تعالى فإن كل
واجب عقلي يجب على كل من حصل في حقه وجه الوجوب ولو وجبا عليه
تعالى لكان إما فاعلا لهما فكان يلزم وقوع المعروف قطعا لأنه تعالى يحمل
المكلفين عليه وانتفاء المنكر قطعا لأنه تعالى يمنع المكلفين منه وهذا خلاف ما هو
الواقع في الخارج وأما غير فاعل لهما فيكون مخلا بالواجب وذلك محال لما ثبت
من حكمته تعالى.
قال: وشروطهما علم فاعلهما بالوجه وتجويز التأثير وانتفاء المفسدة.
أقول: شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثلاثة (الأول) أن
يعرف الآمر والناهي وجه الفعل فيعرف أن المعروف معروف وأن المنكر
منكر وإلا لأمر بالمنكر ونهي عن المعروف (والثاني) تجويز التأثير فلو عرف
أن أمره ونهيه لا يؤثران لم يجبا (الثالث) انتفاء المفسدة فلو عرف أو غلب
على ظنه حصول مفسدة له أو لبعض إخوانه في أمره ونهيه سقط وجوبهما
دفعا للضرر فهذا ما حصل لنا من شرح هذا الكتاب ونحن نسأل الله تعالى أن
يجعله ذخرا لنا يوم المعاد وأن يوفقنا للرشاد بمنه وكرمه والحمد لله وحده.

455
/ 1