كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد (قسم الإلهيات) (تحقيق السبحاني) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد (قسم الإلهيات) (تحقيق السبحاني) - نسخه متنی

حسن بن یوسف علامه حلی؛ محقق: جعفر سبحانی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد (قسم الإلهيات) (تحقيق السبحاني)
المؤلف: العلامة الحلي
الجزء:
الوفاة: 726
المجموعة: من مصادر العقائد عند الشيعة الإمامية
تحقيق: تقديم وتعليق الشيخ السبحاني
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:
كشف المراد
في شرح
تجريد الاعتقاد
(قسم الإلهيات)
تأليف
العلامة الحلي
648 - 726 ه‍
قدم له وعلق عليه
جعفر السبحاني

1
قال المحقق الطوسي:
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد: حمد واجب الوجود على نعمائه والصلاة على سيد أنبيائه محمد
المصطفى وعلي أكرم أمنائه فإني مجيب إلى ما سئلت من تحرير مسائل الكلام
وترتيبها على أبلغ نظام مشيرا إلى غرر فوائد الاعتقاد ونكت مسائل الاجتهاد مما
قادني الدليل إليه وقوى اعتقادي عليه، وسميته بتجريد الاعتقاد، والله أسأل
العصمة والسداد وأن يجعله ذخرا ليوم المعاد، ورتبته على مقاصد (1):...
* * *
المقصد الثالث
في: إثبات الصانع (2) تعالى وصفاته وآثاره
وفيه فصول:
الأول
في وجوده تعالى
الموجود إن كان واجبا وإلا استلزمه، لاستحالة الدور والتسلسل.



(1) الخطبة مأخوذة من صدر الكتاب.
(2) إن الصانع تبارك وتعالى هو موضوع علم الكلام، وشأن العلم هو البحث عن عوارض
الموضوع المسلم وجوده، وعلى هذا يخرج إثبات الصانع تعالى عن مسائل علم الكلام، بل إثباته
على عاتق الفن الأعلى في الفلسفة حيث يبحث عن الموجود بما هو هو، ويصل في تقسيمه
وبرهنته إلى الواجب والممكن.
نعم البحث عن صفاته - بعد ثبوت وجوده - وأفعاله، يعد من مسائله، ويندرج في قوله: " وأفعاله "
البحث عن النبوة العامة والخاصة، والإمامة، والمعاد، وما فيها من مباحث لها صلة بأفعاله
سبحانه.
7
أقول: يريد إثبات واجب الوجود تعالى وبيان صفاته وما يجوز عليه وما
لا يجوز وبيان أفعاله وآثاره، وابتدأ بإثبات وجوده، لأنه الأصل في ذلك كله،
والدليل على وجوده أن نقول: هنا موجود بالضرورة، فإن كان واجبا فهو
المطلوب، وإن كان ممكنا افتقر إلى مؤثر موجود بالضرورة، فذلك المؤثر إن
كان واجبا فالمطلوب، وإن كان ممكنا افتقر إلى مؤثر موجود، فإن كان واجبا
فالمطلوب وإن كان ممكنا تسلسل أو دار وقد تقدم بطلانهما. وهذا برهان قاطع
أشير إليه في الكتاب العزيز بقوله: * (أو لم يكف بربك أنه على كل شئ
شهيد) * (1) وهو استدلال لمي (2).



(1) فصلت: 53.
(2) الاستدلال اللمي هو الاستدلال بالعلة على المعلول، والإني هو العكس، فهذا النوع من
الاستدلال الوارد في الكتاب ليس منهما، لأن الموضوع فيه هو الوجود المطلق من دون تقييد
بالوجوب والإمكان.
نعم الاستدلال بوجوب وجوده على صفاته كما سيأتي من الماتن استدلال لمي، بل الاستدلال
المذكور هو برهان الصديقين، وهو وإن قرر بوجوه مختلفة (1) ولكن المذكور أيضا أحدها، وقد
ذكره الشيخ في الإشارات بالنحو التالي: " كل موجود إذا التفت إليه من حيث ذاته من غير التفات
إلى غيره فإما أن يكون بحيث يجب له الوجود في نفسه أو لا يكون. فإن وجب فهو الحق بذاته،
الواجب وجوده من ذاته وهو القيوم، وإن لم يجب لم يجز أن يقال: إنه ممتنع بذاته بعدما فرض
موجودا، بلى إن قرن باعتبار ذاته شرط، مثل شرط عدم علته صار ممتنعا، أو مثل شرط وجود
علته صار واجبا، وإن لم يقرن بها شرط لا حصول علة ولا عدمها، بقي له في ذاته الأمر الثالث
وهو الإمكان. فيكون باعتبار ذاته، الشئ الذي لا يجب ولا يمتنع. فكل موجود إما واجب
الوجود بذاته أو ممكن الوجود بحسب ذاته " (2).
-
1 - الأسفار: 6 / 14 تعليقة الحكيم السبزواري والعلامة الطباطبائي - قدس سرهما -.
2 - شرح الإشارات للمحقق الطوسي قسم المتن: 3 / 18.
وقال - بعد بحوث مفصلة حول البرهان المذكور -: " تأمل كيف لم يحتج بياننا لثبوت الأول
ووحدانيته وبراءته من الصمات إلى تأمل لغير نفس الوجود، ولم يحتج إلى اعتبار من خلقه
وفعله وإن كان ذلك دليلا عليه لكن هذا الباب أوثق وأشرف، أي إذا اعتبرنا حال الوجود فشهد به
الوجود من حيث هو وجود وهو يشهد بعد ذلك على سائر ما بعده في الوجود، وإلى مثل هذا
أشير في الكتاب الإلهي: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)
(فصلت: 53).
أقول: إن هذا حكم لقوم ثم يقول: * (أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد) * (فصلت: 53).
أقول: إن هذا حكم للصديقين الذين يستشهدون به لا عليه " (1).
نعم هذا مسلكهم، وأما مسلك المتكلمين فهم يستدلون بحدوث العالم على وجود المحدث، كما أن
الباحثين عن الطبيعة يستدلون بالحركة فيها على وجود المحرك، وقد أشار الحكيم السبزواري
إلى الوجوه الثلاثة، قال:
" إذا الوجود كان واجبا فهو * ومع الإمكان قد استلزمه
ثم الطبيعي طريق الحركة * يأخذ للحق سبيلا سلكه
من في حدوث العالم قد انتهج * فإنه عن منهج الصدق خرج
[وأما ضعف الوجه الثالث] لأن مناط الحاجة إلى العلة هو الإمكان فقط لا الحدوث، ولا الإمكان مع
الحدوث " (2).
-
1 - شرح الإشارات للمحقق الطوسي قسم المتن: 3 / 66.
2 - الحكيم السبزواري: شرح المنظومة / 141 - 143.
8
والمتكلمون سلكوا طريقا آخر فقالوا: العالم حادث فلا بد له من محدث،
فلو كان محدثا تسلسل أو دار وإن كان قديما ثبت المطلوب لأن القدم يستلزم
الوجوب، وهذه الطريقة إنما تتمشى بالطريقة الأولى فلهذا اختارها
المصنف رحمه الله على هذه.

9
الفصل الثاني
في صفاته تعالى
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في أنه تعالى قادر (1)
قال: الثاني في صفاته. وجود العالم بعد عدمه ينفي الإيجاب.
أقول: لما فرغ من البحث عن الدلالة على وجود الصانع تعالى شرع في
الاستدلال على صفاته تعالى، وابتدأ بالقدرة.



(1) المقصود من القدرة هنا هو كونه فاعلا مختارا، لا فاعلا موجبا كالنار بالنسبة إلى الحرارة،
والذي يركز عليه هنا في تفسير القدرة هو كونه فاعلا بالاختيار. وأما الاستدلال على القدرة بإتقان
فعله سبحانه فهو يهدف إلى كونه فاعلا عن علم وحكمة، فلا يشتبه الغرضان في البحث.
والمقام أحد المواقف التي يفترق فيها التفكير الكلامي عن التفكير الفلسفي وإن لم يصرح به الماتن
والشارح، والإشكالات التي يذب عنها الماتن، للحكماء كما سيوافيك، وإليك بيان التفكيرين
في المقام:
عرف المتكلمون القدرة بصحة الفعل والترك (1)، وإن شئت قلت: إمكان الفعل والترك وكون نسبتها
إليه على السواء.
وأورد عليه: بأن هذا التعريف يصلح لتفسير القدرة في الوجود الإمكاني كالإنسان، ولا يصح تفسير
قدرته سبحانه به، لأن هذا الإمكان ليس قائما بذات الشئ (المقدور)
-
1 - الإلهيات: 1 / 134.
لأنه في حد ذاته ممكن بلا كلام وإنما هو قائم بالقادر، فلو أريد منه: الإمكان الماهوي لزم اتصافه
سبحانه بالماهية وهو أرفع من أن يكون له ماهية، وإن أريد: الإمكان الاستعدادي لزم أن يكون ذاته
محلا للتغير لوجود الإمكان الاستعدادي.
وقد ذكرنا في الإلهيات (1) ما يصلح جوابا للإشكال.
ويمكن أن يقال عاجلا: ليس المراد منه أحد الإمكانين بل المراد هو المعنى الثالث، وهو الإمكان
الصدوري، ويعلم مفاده إذا قيس الأثر إلى مؤثره، فلا يخلو أن نسبته إليه إما بالإيجاب، أو
بالامتناع، أو لا هذا ولا ذاك، والحاصل أن الفاعل إذا كان مقيدا بإحدى النسبتين، لا يسمى قادرا
بالنسبة إلى الفعل والترك، والقادر هو المتجرد عن النسبتين، وتفسير القدرة به لا يستلزم
المحذورين المتقدمين.
وعرفها الحكماء بأن قدرته تعالى هي كونه إذا شاء فعل ولو لم يشأ لم يفعل (2)، ولو اقتصر في
تعريف القدرة بهذا القدر لم يتوجه إشكال، فيكون معناه: إن القادر هو غير المجبور على أحد
الطرفين، لكن ربما يضاف إليه ويقال: " ولكنه شاء وفعل "، فتجعل الشرطية الأولى واجبة التحقق
أزلا وأبدا، وهذا يعطي كونه فاعلا موجبا، خصوصا إذا قلنا: إن مشيئته وإرادته قديمة، فيصبح عدم
العالم أمرا ممتنعا، بل واجب التحقق بالقياس إلى مشيئته القديمة، وهذا هو الذي جر المتكلمين
لاتهام الحكماء بأنه سبحانه عندهم فاعل موجب (بالفتح)، والحكماء وإن كانوا محترزين عن
وصف الله سبحانه بكونه فاعلا موجبا، بل يقولون: إنه فاعل موجب (بالكسر) فهو يعطي للفعل
وصف الوجوب، لكن بالنظر إلى قولهم: " ولكنه شاء وفعل " وقولهم بالمشيئة القديمة والإرادة
الذاتية يكون سبحانه فاعلا موجبا أي غير مختار.
هذا ما يرجع إلى بيان موقف المسألة بين المتكلمين والحكماء، وأما الدفاع عن أحد المنهجين فهو
خارج عن وضع التعليقة، وقد استدل الماتن على قدرته (اختياره) بحدوث العالم زمانا أو ذاتا،
على وجه يكون هناك انفكاك بين الذات والعالم، وهو دليل الاختيار.
-
1 - الإلهيات: 1 / 134.
2 - الحكيم السبزواري: شرح المنظومة: 172.
10
والدليل على أنه تعالى قادر أنا قد بينا أن العالم حادث، فالمؤثر فيه إن كان
موجبا لزم حدوثه أو قدم ما فرضناه حادثا أعني العالم، والتالي بقسميه باطل، بيان
الملازمة: أن المؤثر الموجب يستحيل تخلف أثره عنه، وذلك

11
يستلزم إما قدم العالم وقد فرضناه حادثا، أو حدوث المؤثر ويلزم التسلسل،
فظهر أن المؤثر للعالم قادر مختار.
قال: والواسطة غير معقولة.
أقول: لما فرغ من الاستدلال على مطلوبه شرع في أنواع من الاعتراضات
للخصم مع وجه المخلص منها.
وتقرير هذا السؤال أن يقال: دليلكم يدل على أن مؤثر العالم مختار وليس
يدل على أن الواجب مختار بل جاز أن يكون الواجب تعالى موجبا لذاته معلولا
، يؤثر في العالم على سبيل الاختيار (1).
وتقرير الجواب: أن هذه الواسطة غير معقولة، لأنا قد بينا حدوث العالم
بجملته وأجزائه، والمعني بالعالم كل موجود سوى الله تعالى، وثبوت واسطة
بين ذات الله تعالى وبين ما سواه غير معقول.



(1) هذه الشبهة وما يليها من الحكماء الذين يتراءى من كلماتهم أنه سبحانه فاعل موجب (بالفتح)
لا مختار.
ونجل الحكماء الإماميين عن هذه التهمة.
حاصل الشبهة: أنه من المحتمل أنه سبحانه يكون فاعلا موجبا ومع ذلك يكون العالم حادثا متأخرا
عنه، وذلك بأن يخلق عن إيجاب موجودا مختارا بالذات يقوم هو بخلق العالم، فيكون العالم
حادثا، لأن علته فاعل مختار، ومع ذلك يكون الواجب فاعلا موجبا بالنسبة إلى الصادر الأول.
فقوله: " موجبا " بالكسر بمعنى موجدا لذاته، معلولا يؤثر في العالم على سبيل الاختيار، فقوله:
" معلولا " مفعول لقوله " موجبا " بمعنى موجدا، وبذلك تستغني عما في بعض النسخ من إضافة
قوله: " وله معلول يؤثر " بعد قوله: " موجبا لذاته "، وعلى هذه النسخ يكون موجبا (بالفتح) ولا
يتم الكلام إلا بإضافة قوله: " وله... " كما لا يخفى.
12
قال: ويمكن عروض الوجوب والإمكان للأثر باعتبارين.
أقول: هذا جواب عن سؤال آخر، وتقريره: أن المؤثر إما أن يستجمع
جميع الجهات المؤثرية أو لا، فإن كان الأول كان وجود الأثر عنه واجبا، وإلا
لافتقر ترجيحه إلى مرجح زائد، فلا تكون الجهات بأسرها موجودة، هذا خلف،
أو لزم الترجيح من غير مرجح (1) وهو باطل بالضرورة، وإن لم يكن مستجمعا
لجميع الجهات استحال صدور الأثر عنه، وحينئذ لا يمكن تحقق القادر، لأنه
على تقدير حصول جميع الجهات يمتنع الترك، وعلى تقدير انتفاء بعضها
يمتنع الفعل، فلا تتحقق المكنة من الطرفين.
وتقرير الجواب: أن الأثر تعرض له نسبتا الوجوب والإمكان باعتبارين،
فلا يتحقق الموجب ولا يلزم الترجيح من غير مرجح. وبيانه أن فرض استجماع
المؤثر جميع ما لا بد منه في المؤثرية هو بأن يكون المؤثر المختار مأخوذا مع
قدرته التي يستوي طرفا الوجود والعدم بالنسبة إليها، ومع داعيه الذي يرجح
أحد طرفيه، وحينئذ يجب الفعل بعدهما نظرا إلى وجود الداعي والقدرة، ولا
تنافي بين هذا الوجوب وبين الإمكان نظرا إلى مجرد القدرة والاختيار، وهذا كما
إذا فرضنا وقوع الفعل من المختار، فإنه يصير واجبا من



(1) إذا كان المؤثر جامعا لجميع الجهات ومع ذلك لم يصدر المعلول لزم أحد المحذورين:
1 - إن عدم الصدور، إما لأجل افتقاره إلى مرجح.
2 - أو لا لافتقاره إليه ولكن ترجح جانب العدم على جانب الوجود.
فعلى الأول يلزم الخلف لأنا فرضناه جامعا للجهات المؤثرة غير محتاج إلى شئ، وعلى الثاني يلزم
الترجيح من غير مرجح، بل يلزم ترجيح المرجوح (أي العدم) على الراجح (الوجود)، لكون علته
موجودا.
13
جهة فرض الوقوع ولا ينافي الاختيار. وبهذا التحقيق يندفع جميع المحاذير
اللازمة لأكثر المتكلمين في قولهم: القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر
لا لمرجح.
قال: واجتماع القدرة على المستقبل مع العدم.
أقول: هذا جواب عن سؤال آخر، وتقريره أن نقول: الأثر إما حاصل في
الحال فواجب فلا يكون مقدورا، أو معدوم فممتنع فلا قدرة (1).
وتقرير الجواب: أن الأثر معدوم حال حصول القدرة ولا نقول إن القدرة
حال عدم الأثر تفعل الوجود في تلك الحال بل في المستقبل، فيمكن



(1) حاصل الشبهة أن الأثر إذا كان حاصلا في الحال لا تتعلق به القدرة لأنه، يكون واجبا بالوجوب
اللاحق لأنه ما لم يجب لم يوجد، وإن تعلقت به في حال العدم، يكون العدم واجبا كالوجود،
بالامتناع اللاحق فإذا كان كذلك لا تتعلق القدرة في كل حال على شئ.
والجواب: إنا نختار الشق الأول ونقول: إن القدرة في حال وجود الأثر، تؤثر في عدمه في المستقبل
(الآن الثاني) بمعنى أن الوجود يكون محدودا، ونختار الشق الثاني (كما عليه عبارة الشارح)
ونقول: إن القدرة تؤثر في وجود المقدور في المستقبل (الآن الثاني) ويكون العدم منتفضا غير
باق.
فإن قلت: كيف تتعلق القدرة في الحال (الشق الثاني)، بالمعدوم فعلا، الموجود في المستقبل؟
قلت: إن القدرة في الحال، موجودة لكنها لا تتعلق كذلك بما يتحقق في المستقبل، بل تتعلق في
الاستقبال بالفعل الاستقبالي فالقدرة حالية، ولكن التعلق والفعل استقباليان، وإلى هذا ينظر قول
الشارح: " لا تتعلق بالوجود في الاستقبال في الحال، بل في الاستقبال " وإن شئت قلت: القدرة لا
تتعلق في الحال بالوجود الاستقبالي، بل تتعلق في الاستقبال بالوجود الاستقبالي والحاصل أن
التعلق والفعل كلاهما استقباليان، وإن كانت القدرة موجودة حاليا.
14
اجتماع القدرة على الوجود في المستقبل مع العدم في الحال.
لا يقال: الوجود في الاستقبال غير ممكن في الحال لأنه مشروط
بالاستقبال الممتنع في الحال وإذا كان كذلك فلا قدرة عليه في الحال وعند
حصول الاستقبال يعود الكلام.
لأنا نقول: القدرة لا تتعلق بالوجود في الاستقبال في الحال بل في
الاستقبال.
قال: وانتفاء الفعل ليس فعل الضد (1).
أقول: هذا جواب عن سؤال آخر، وتقريره: أن القادر لا يتعلق فعله بالعدم
فلا يتعلق فعله بالوجود.
أما بيان المقدمة الأولى فلأن الفعل يستدعي الوجود والامتياز وهما
ممتنعان في حق المعدوم.
وأما الثانية فلأنكم قلتم: القادر هو الذي يمكنه الفعل والترك، وإذا



(1) حاصل الإشكال: أن القدرة عبارة عن كون الفاعل مؤثرا في أحد جانبي الفعل والعدم ولكن
العدم لا يقبل التأثير لأن التأثير يستلزم الامتياز وهو ليس بمتميز.
وحاصل الجواب: أن القادر ليس هو المؤثر في الفعل أو العدم بحيث يكون العدم طرف التأثير،
والقدرة عبارة عن صحة صدور الفعل وعدمه، وبالتالي القادر من يصح أن يصدر عنه وأن لا
يصدر، لا أن يصدر منه العدم، فتأثير القدرة في جانب العدم بمعنى عدم القيام بالفعل والوجود،
لا القيام بإيجاد العدم، فعدم تميز العدم ليس بمخل.
إلى هنا تبين أنه سبحانه قادر، والشبهات الأربع المذكورة في كلام الماتن مع أجوبتها ليست بتامة،
ولو صحت لاقتضى نفي القدرة عن صحيفة الوجود فيصبح كل الفواعل، فواعل بالإيجاب من
غير فرق بين الواجب والممكن لاشتراك الجميع في الشبهات وهو عجيب.
15
انتفى إمكان الترك انتفى إمكان الفعل.
وتقرير الجواب: أن القادر هو الذي يمكنه أن يفعل وأن لا يفعل وليس لا
يفعل عبارة عن فعل الضد.
قال: وعمومية العلة تستلزم عمومية الصفة (1).
أقول: يريد بيان أنه تعالى قادر على كل مقدور، وهو مذهب الأشاعرة،
وخالف أكثر الناس في ذلك، فإن الفلاسفة قالوا إنه تعالى قادر على شئ واحد،
لأن الواحد لا يتعدد أثره، وقد تقدم بطلان مقالتهم.
والمجوس ذهبوا إلى أن الخير من الله تعالى، والشر من الشيطان، لأن الله
تعالى خير محض وفاعل الشر شرير.
والثنوية ذهبوا إلى أن الخير من النور، والشر من الظلمة.



(1) هذه المسألة من فروع عموم خالقيته لكل شئ، كما هو مقتضى التوحيد في الخالقية الذي
آمنت به الأشاعرة والإمامية، فلو كان خالقا لكل شئ لكان قادرا عليه وقابلا لأن تتعلق به قدرته،
من غير فرق بين الخير والشر وأفعال العباد وغيرها، غير أن الإمامية تفترق عن الأشاعرة في تفسير
التوحيد في الخالقية، حيث تفسره على وجه لا ينافي عدله سبحانه، بخلاف الأشاعرة فهؤلاء
يفسرونه بشكل ينطبق على الجبر، فالمطلوب للأشاعرة هو حفظ التوحيد في الخالقية، سواء
أضر بعدله أم لا، بخلاف الإمامية فالمطلوب عندهم هو حفظ كلا الأصلين.
وأما غير هاتين الطائفتين فينكرون عموم قدرته لجهات مختلفة، وهؤلاء طوائف أربع: 1 - الفلاسفة.
2 - المجوس. 3 - الثنوية. 4 - المعتزلة. والدواعي لنفي عموم القدرة مختلفة، وإليك البيان:
1 - لما ذهبت الفلاسفة إلى أن الواحد (الواجب) لا يصدر عنه إلا الواحد، قالوا بأنه قادر على الشئ
الواحد فقط، وهو الصادر الأول، فنفوا عموم قدرته حسب نقل الشارح، ولكن النسبة غير
صحيحة، لأن القول به لا يستلزم تلك النتيجة كما لا يخفى على من له إلمام بمفاد القاعدة،
ولأجل ذلك قال الماتن في السابق: " ومع وحدته يتحد المعلول " (1)، ومع ذلك قال في المقام
بعمومية القدرة، وهو يعرب عن إمكان الجمع بين القاعدتين.
2 - لما ذهبت المجوس والثنوية إلى أنه سبحانه خير محض، فقالوا بعدم تعلق قدرته بالشرور، فهي
عند المجوس مستند إلى المبدأ الحادث، أعني: الشيطان، وعند الثنوية مستند إلى مبدأ قديم
كالظلمة، وبذلك افترقت المجوس عن الثنوية، حيث إن مبدأ الشر عند المجوس حادث وعند
الثنوية قديم، والظاهر من المحقق الطوسي في نقد المحصل أن عقيدة المجوس والثنوية واحد،
وهو أن الخير من " يزدان " والشر من " اهرمن " ويريدون من الأول: الملك، ومن الثاني:
الشيطان (2).
يقول الحكيم السبزواري:
والشر أعدام فكم قد ضل من يقول باليزدان ثم الأهرمن
وأما ما نسبه إلى الثنوية فهو عقيدة المانوية، وعلى هذا فالثنوية مصحف " المانوية ".
3 - لما قالت المعتزلة بخروج أفعال العباد عن كونه مخلوقا لله سبحانه، حفظا لعدله، ظهر بينهم قول
النظام (ت 231 ه‍) والكعبي (ت 317 ه‍) والجبائيين (أبي علي ت 302 ه‍ وأبي هاشم ت 321
ه‍)، والأقوال مذكورة في الشرح مع أجوبتها.
-
1 - كشف المراد: 116، المقصد الأول، الفصل الثالث، المسألة الثالثة.
2 - لاحظ نقد المحصل: 190.
16
والنظام قال: إن الله تعالى لا يقدر على القبيح، لأنه يدل على الجهل أو
الحاجة.
وذهب البلخي إلى أن الله لا يقدر على مثل مقدور العبد، لأنه إما طاعة أو
سفه.
وذهب الجبائيان إلى أنه تعالى لا يقدر على عين مقدور العبد وإلا لزم
اجتماع الوجود والعدم على تقدير أن يريد الله إحداثه والعبد عدمه.

17
وهذه المقالات كلها باطلة، لأن المقتضي لتعلق القدرة بالمقدور إنما هو
الإمكان، إذ مع الوجوب والامتناع لا تعلق، والإمكان ثابت في الجميع فثبت
الحكم وهو صحة التعلق، وإلى هذا أشار المصنف رحمه الله بقوله: عمومية العلة،
أي الإمكان، تستلزم عمومية الصفة، أعني القدرة على كل مقدور.
والجواب عن شبهة المجوس: أن المراد من الخير والشرير (1) إن كان
من فعلهما فلم لا يجوز إسنادهما إلى شئ واحد؟
وأيضا الخير والشر ليسا ذاتيين للشئ، فجاز أن يكون الشئ خيرا
بالقياس إلى شئ وشرا بالقياس إلى آخر، وحينئذ يصح إسنادهما إلى ذات
واحدة.
وعن شبهة النظام أن الإحالة حصلت بالنظر إلى الداعي، فلا تنافي
الإمكان الذاتي المقتضي لصحة تعلق القادر.
وعن شبهة البلخي: أن الطاعة والعبث وصفان لا يقتضيان الاختلاف
الذاتي.



(1) أجاب عن شبهة المجوس بوجهين:
الأول: إذا كان المراد من الخير من يفعله ومن الشرير من يصدر منه الشر، فلا مانع من كون شئ
واحد وهو الله مبدأ لهما، وهذا الجواب ليس حاسما للإشكال، لأن الإشكال بعد باق بحاله، إذ
الخصم يقول: إذا كان مقتضى صدور شئ من شئ، وجود رابطة بينهما فلازم صدور الأمرين
المتضادين اشتماله على أمرين متضادين، مع أنا فرضناه واحدا بسيطا، وعلى فرض جواز
التركيب، المتضادان لا يجتمعان.
الثاني وهو الجواب الحقيقي: أن الشر ليس له مصداق في الخارج وإنما هو أمر إضافي ينتزع من
قياس شئ إلى شئ آخر، فإذا كان بينهما عدم الملاءمة، يقال: إنه شر كما أوضح في محله،
وليس العدم إلا أمرا قياسيا.
18
وعن شبهة الجبائيين: أن العدم إنما يحصل إذا لم يوجد داع لقادر آخر
إلى إيجاده (1).
المسألة الثانية: في أنه تعالى عالم
قال: والإحكام والتجرد واستناد كل شئ إليه دلائل العلم.
أقول: لما فرغ من بيان كونه تعالى قادرا وكيفية قدرته شرع في بيان كونه
تعالى عالما وكيفية علمه.
واستدل على كونه تعالى عالما بوجوه ثلاثة: الأول منها للمتكلمين
والأخيران للحكماء.



(1) إذا كان المفروض في كلامهما هو ما جاء في الشرح من أن الله يريد الإحداث، والعبد لا يريده،
فالجواب هو ما جاء هنا، وهو أنه يقع الفعل دون العدم، إذ العدم رهن عدم الداعي إلى الفعل، فلو
كان هناك داع إلى الفعل يقع الفعل وتؤثر إرادة الله، وليس في ناحية العبد داع ولا إرادة حتى يكون
هناك تعارض.
وبعبارة أخرى: إذا كان المفروض في كلام الجبائيين أن أحد الفاعلين يريد الفعل دون الآخر، فالجواب
هو ما جاء في كلام الشارح، فيتحقق مراد من يريد دون من لا يريد، وإلى ذلك ينظر قوله: إن
العدم إنما يحصل إذا لم يوجد داع لقادر آخر إلى إيجاده.
نعم لكلامهما صور أخر لم يذكرها الشارح ولكل حكمه، والتفصيل موكول إلى مسألة برهان التمانع
الوارد في كلام المتكلمين على توحيده، وإجماله أنه إذا أرادا الفعل، أو أرادا العدم أو أراد أحدهما
الفعل والآخر العدم، ففي الصورتين الأوليين لا تزاحم بين الداعيين ولا بين الإرادتين، لكون إرادة
العبد في طول إرادة الله سبحانه، فيكون تعلق إرادة الواجب بالتسبيب وتعلق إرادة العبد
بالمباشرة، وأما عند المخالفة فلو كان زمانا الإرادتين مختلفين يتحقق كل في ظرفه وإلا فيتبع
الواقع أقوى الإرادتين وهو إرادة الواجب سبحانه.
19
الوجه الأول: أنه تعالى فعل الأفعال المحكمة، وكل من كان كذلك فهو
عالم.
أما المقدمة الأولى فحسية، لأن العالم إما فلكي أو عنصري، وآثار الحكمة
والإتقان فيهما ظاهرة مشاهدة.
وأما الثانية فضرورية، لأن الضرورة قاضية بأن غير العالم يستحيل منه
وقوع الفعل المحكم المتقن مرة بعد أخرى.
الوجه الثانية: أنه تعالى مجرد وكل مجرد عالم بذاته (1) وبغيره.



(1) إن هنا لونين من البحث:
أحدهما: كل عاقل مجرد، وكل مجرد عاقل، وقد أطرحه المحقق الطوسي في آخر " المسألة الثانية
والعشرون " من مباحث العلم وتبعه شراح المتن، وأقاموا البرهان على القاعدتين المعروفتين (1)
وقد ذكر أيضا بعض ما يرتبط بهما في الفصل الرابع، المسألة الخامسة في تجرد النفس (2) ولكن
بيان الشارح في المقام الأول في الكتاب غير خال عن التعقيد والصعوبة.
ثانيهما: ما ذكره الشارح في المقام استلهاما من قول المصنف في المتن حيث قال: " والتجرد "، وفسره
في المقام بالصورة التالية: إنه سبحانه مجرد وكل مجرد عالم بذاته
-
1 - لاحظ كشف المراد: 246 طبعة النشر الإسلامي.
2 - لاحظ المصدر نفسه: 184 طبعة النشر الإسلامي.
وبغيره. ولأجل أن لا تخرج التعليقة عن حدها، نشرح ما ذكره الشارح في المقام ونرجئ البحث
عن اللون الأول وما ذكره في تجرد النفس إلى آونة أخرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، فنقول:
هنا: دعويان:
الأولى: أنه سبحانه مجرد، وكل مجرد عالم بذاته.
الثانية: أنه سبحانه مجرد، وكل مجرد عالم بغيره.
أما الدعوى الأولى: فهي مركبة من صغرى مفروضة الصدق، لأنه ليس جسما ولا جسمانيا فيكون
مجردا، ومن كبرى، ومعناها أنه عالم بذاته. ويمكن توضيحه بالوجه التالي: إن العلم ليس إلا
حضور الشئ لدى الشئ، والعائق عن الحضور هو كون الشئ جسما أو جسمانيا، لأن لازمهما
التفرق والانبساط وعدم اجتماع الأجزاء وغيبوبة بعضها عن بعض، وهو مفقود بالفرض، لأنه
مجرد وليس له جزء يغيب بعضه عن بعض، فهو بوحدته وبساطته كمال مطلق ليس له جزء
يغيب بعضه عن بعض، وعند ذاك تكون ذاته حاضرة لدى ذاته، وقد عرفت أن العلم ليس إلا
الحضور. وما قاله الشارح: " وكل مجرد حصل له مجرد " يريد من المجرد الأول نفس الشئ ومن
قوله: " حصل له مجرد " حصول ذاته لذاته أي حضور ذاته لدى ذاته.
هذا كله حول الدعوى الأولى التي انتهت إلى علمه سبحانه بذاته.
وأما الدعوى الثانية: أنه مجرد، وكل مجرد عالم بغيره، التي تريد إثبات علمه سبحانه بما سواه من
أفعاله فبيانه يتوقف على ثبوت أمور ثلاثة:
1 - أن كل مجرد أمكن أن يكون معقولا وحده.
2 - وكل ما يمكن أن يكون معقولا وحده أمكن أن يكون معقولا مع غيره.
3 - وكل مجرد يعقل مع غيره فإنه عاقل لذلك الغير.
وإليك بيان الأمور الثلاثة:
أما الأول، أعني: كل مجرد يمكن أن يكون معقولا وحده، أي بلا وساطة صورة مرتسمة والشاهد عليه
قوله: " لأن المانع من التعقل إنما هو المادة لا غير " ومن المعلوم أنها تمنع عن المعقولية
المباشرية أي بلا واسطة، لا مع الواسطة وإلا يلزم امتناع حصول العلم بالمادة والماديات وهو
كما ترى، ولعل ما في الأمر الأول لا يتجاوز عما ثبت في الدعوى الأولى وهو أنه سبحانه مجرد
وكل مجرد عالم بذاته.
وأما الثاني: أعني كل ما يمكن أن يكون معقولا وحده أمكن أن يكون معقولا مع غيره، فإن كل معقول
لا ينفك عن الأمور العامة كالإمكان والوجود والوحدة وغيرها فإن كل معقول يصح أن يعقل مع
أحد هذه الأمور.
إلى هنا ثبت معقولية المجرد لنفسه وكونه معقولا مع كل ما يقارنه.
بقي الكلام في أن المجرد عاقل لذلك المقارن، وهذا هو الذي نبينه في الأمر الثالث، فإن إمكان مقارنة
معقول مجرد لمجرد، كاف في الحكم بعلمه به، وذلك أخذا بمقتضى التجرد، الذي يستلزم عدم
العائق والمانع، ولا يتوقف إمكان الشئ على وقوعه، فإمكان المقارنة مساوق لوقوع المقارنة،
وحيث إنه لا مانع من التعقل ينتج أنه سبحانه عالم بأفعاله التي هي بمنزلة المعقول الثاني.
وإن شئت قلت: إنه لا شك أن كل مجرد عاقل لنفسه فيكون معقولا، لأن المانع من المعقولية بالذات
هو المادة والمفروض عدمها.
وعلى ذلك كما يمكن أن يكون معقولا وحده، يمكن أن يكون معقولا مع الغير أي يصح أن يقارن
معقول معقولا في العقل، فإذا ثبت إمكان اقترانهما في العقل ثبت مطلق اقترانهما، لأن الاقتران
في العقل نوع من المقارنة وليست المقارنة منحصرة فيه، ولو توقف إمكان مقارنة المعقولين
على مقارنتهما في العقل لزم توقف إمكان الشئ على وجوده وهو كما ترى.
فإذا ثبت أن مطلق المقارنة ممكن، فلو تحققت تلك المقارنة وقارن مجرد مجردا لكان عاقلا له، إذ
المانع من التعقل هو المادية وهي في المقام منتفية، كل ذلك بشرط تحقق المقارنة.
يلاحظ عليه: أن البرهان على فرض تماميته يثبت علم المجرد بكل مجرد مقارن، والمقارنة تحصل
إما بالحلول أو بالصدور، والأول كالصور المرتسمة في النفس، والثاني هي نفسها أيضا على
القول بأن النفس خلاق لها.
ولكنه عقيم بالنسبة إلى علم البارئ للموجودات الإمكانية، من المجرد إلى الهيولي، لعدم تجرد
الجميع، والجسمانيات مغمورة في المادة والماديات، والعلم بصورها غير علمه بذواتها
والمقصود علمه بذواتها ولا بد من التماس دليل آخر.
20
أما الصغرى فإنها وإن كانت ظاهرة لكن بيانها يأتي فيما بعد عند
الاستدلال على كونه تعالى ليس بجسم ولا جسماني.
وأما الكبرى فلأن كل مجرد فإن ذاته حاصلة لذاته لا لغيره وكل مجرد
حصل له مجرد، فإنه عاقل لذلك المجرد لأنا لا نعني بالتعقل إلا الحصول، فإذن
كل مجرد فإنه عاقل لذاته.
وأما أن كل مجرد عالم بغيره فلأن كل مجرد أمكن أن يكون معقولا وحده،

21
وكل ما يمكن أن يكون معقولا وحده أمكن أن يكون معقولا مع غيره، وكل
مجرد يعقل مع غيره فإنه عاقل لذلك الغير، أما ثبوت المعقولية لكل مجرد
فظاهر لأن المانع من التعقل إنما هو المادة لا غير، وأما صحة التقارن في

22
المعقولية فلأن كل معقول فإنه لا ينفك عن الأمور العامة، وأما وجوب العاقلية
حينئذ فلأن إمكان مقارنة المجرد للغير لا يتوقف على الحضور في العقل لأنه
نوع من المقارنة فيتوقف إمكان الشئ على ثبوته فعلا وهو باطل، وإمكان
المقارنة هو إمكان التعقل، وفي هذا الوجه أبحاث مذكورة في كتبنا العقلية.

23
الوجه الثالث: أن كل موجود سواه ممكن، على ما يأتي في باب
الوحدانية، وكل ممكن فإنه مستند إلى الواجب إما ابتداء أو بوسائط على ما
تقدم، وقد سلف أن العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول والله تعالى عالم بذاته
على ما تقدم فهو عالم بغيره.
قال: والأخير عام.
أقول: الوجه الأخير من الأدلة الثلاثة الدالة على كونه تعالى عالما يدل
على عمومية علمه بكل معلوم، وتقريره: أن كل موجود سواه ممكن وكل ممكن
مستند إليه فيكون عالما به، سواء كان جزئيا أو كليا، وسواء كان موجودا قائما
بذاته أو عرضا قائما بغيره، وسواء كان موجودا في الأعيان أو متعقلا في الأذهان
لأن وجود الصورة في الذهن من الممكنات أيضا فيستند إليه، وسواء

24
كانت الصورة الذهنية صورة أمر وجودي أو عدمي ممكن أو ممتنع، فلا يعزب
عن علمه شئ من الممكنات ولا من الممتنعات، وهذا برهان شريف قاطع.
قال: والتغاير اعتباري.
أقول: لما فرغ من الاستدلال على كونه تعالى عالما بكل معلوم، شرع في
الجواب عن الاعتراضات الواردة عن المخالفين، وابتدأ باعتراض من نفي علمه
تعالى بذاته، ولم يذكر الاعتراض صريحا بل أجاب عنه وحذفه للعلم به.
وتقرير الاعتراض أن نقول: العلم إضافة (1) بين العالم والمعلوم أو
مستلزم للإضافة، وعلى كلا التقديرين فلا بد من المغايرة بين العالم والمعلوم
ولا مغايرة في علمه بذاته.
والجواب: أن المغايرة قد تكون بالذات وقد تكون بنوع من الاعتبار
وهاهنا ذاته تعالى من حيث إنها عالمة مغايرة لها من حيث إنها معلومة، وذلك
كاف في تعلق العلم.



(1) الأولى أن يقال: العلم وإن لم يكن من مقولة الإضافة - كما حقق في مبحث الوجود الذهني -
لكنه حسب الوجود من الأمور ذوات الإضافة، وهي تطلب لنفسها طرفين وهما غير متحققين في
علمه سبحانه بذاته.
والجواب أنا نمنع أنه من ذوات الإضافة الحقيقية في جميع المراحل حتى في علم النفس بذاته فضلا
عن علمه سبحانه بذاته، وإن أبيت نقول: إن التعدد - حفظا للإضافة - في المقام اعتباري فمن
حيث إنه مجرد، عالم، ومن حيث حضور ذاته لدى ذاته، معلوم.
25
قال: ولا يستدعي العلم صورا مغايرة للمعلومات
عنده (1) لأن نسبة الحصول إليه أشد من نسبة الصور
المعقولة لنا.
أقول: هذا جواب عن اعتراض آخر أورده من نفى علم الله تعالى
بالماهيات المغايرة له.
وتقرير الاعتراض: أن العلم صورة مساوية للمعلوم في العالم، فلو كان



(1) الإشكال في علمه سبحانه بالماهيات المغائرة له - على حد تعبير الشارح - أو الوجودات
المغائرة له - حسب تعبيرنا - مبني على حصر العلم بالقسم الحصولي أي الصور المرتسمة الحالة
في العالم وعندئذ يتوقف علمه سبحانه بها على توسط صورة بينه وبين الموجودات فيتسرب ما
ذكر من الإشكالات، وأما إذا كسرنا إطار الحصر وقلنا: إنه ينقسم إلى حضوري وحصولي ولا
يتوقف القسم الأول، على انتزاع صورة من المعلوم بل هو بنفسه وواقعه يكون حاضرا لدى العالم
بلا توسط صورة، فيرتفع الإشكال.
ويعلم حال علمه سبحانه بذاته من مقايسة علم النفس بالصورة المرتسمة الحاكية عن الخارج فإنها
عالمة بالخارج بتوسط الصور وأما علمها بها، فلا يتوقف على توسط صورة أخرى وإلا لزم
التسلسل.
والله سبحانه عالم بالوجودات الإمكانية بنفسها لأنها فعله القائم به قيام المعنى الحرفي، بالاسمي،
ولا يتوقف علمه بها على توسيط صور بينه وبينها. فمثل الوجودات الإمكانية بالنسبة إليه تعالى،
كمثل الصور المرتسمة لدى النفس ولكن حضورها عنده تعالى أشد من حضورها لديها. لأن
نسبته إليه، نسبة المؤثر إلى الأثر والموجد إلى موجده، بخلاف نسبتها إليها، إذ هو من قبيل نسبة
القابل إلى المقبول.
نعم بناء على أن النفس خلاق للصور، وموجدة لها بعد تحقق مقدمات ومعدات من الحواس، يكون
التشبيه أوضح إذ النفس تكون خلاقة للصور في ظل خلاقيته سبحانه لما سواه فيكون مثلا له في
عالم الشهادة، وإن كان سبحانه نزيها عن المثل.
26
الله تعالى عالما بغيره من الماهيات لزم حصول صور تلك المعلومات في ذاته
تعالى وذلك يستلزم تكثره تعالى، وكونه قابلا وفاعلا ومحلا لآثاره، وأنه تعالى
لا يوجد شيئا مما يباين ذاته بل بتوسط الأمور الحالة فيه، وكل ذلك باطل.
وتقرير الجواب: أن العلم لا يستدعي صورا مغايرة للمعلومات عنده
تعالى، لأن العلم هو الحصول عند المجرد على ما تقدم، ولا ريب في أن الأشياء
كلها حاصلة له لأنه مؤثرها وموجدها، وحصول الأثر للمؤثر أشد من حصول
المقبول لقابله مع أن الثاني لا يستدعي حصول صورة مغايرة لذات الحاصل،
فإنا إذا عقلنا ذواتنا لم نفتقر إلى صورة مغايرة لذواتنا ثم إذا أدركنا شيئا ما بصورة
تحصل في أذهاننا فإنا ندرك تلك الصورة الحاصلة في الذهن بذاتها لا باعتبار
صورة أخرى وإلا لزم تضاعف الصور مع أن تلك الصورة حاصلة لذاتنا لا
بانفرادها بل بمشاركة من المعقولات، فحصول العلم بالموجودات لواجب
الوجود الذي تحصل له الأشياء من ذاته بانفراده من غير افتقار إلى صور لها
أولى، ولما كانت ذاته سببا لكل موجود وعلمه بذاته علة لعلمه بآثاره وكانت ذاته
وعلمه بذاته العلتان، متغايرتين بالاعتبار متحدتين بالذات، فكذا معلوله والعلم
به متحدان بالذات متغايران بنوع من الاعتبار.
وهذا بحث شريف أشار إليه صاحب التحصيل وبسطه المصنف رحمه
الله في شرح الإشارات، وبهذا التحقيق يندفع جميع المحالات لأنها لزمت
باعتبار حصول صور في ذاته تعالى عن ذلك.
قال: وتغير الإضافات ممكن.
أقول: هذا جواب عن اعتراض الحكماء القائلين بنفي علمه تعالى

27
بالجزئيات الزمانية.
وتقرير الاعتراض: أن العلم يجب تغيره عند تغير المعلوم، وإلا لانتفت
المطابقة لكن الجزئيات الزمانية متغيرة فلو كانت معلومة لله تعالى لزم تغير
علمه تعالى والتغير في علم الله تعالى محال.
وتقرير الجواب: أن التغير هنا إنما هو في الإضافات لا في الذات (1) ولا
في الصفات الحقيقية، كالقدرة التي تتغير نسبتها وإضافتها إلى المقدور عند
عدمه، وإن لم تتغير في نفسها، وتغير الإضافات جائز لأنها أمور اعتبارية لا تحقق
لها في الخارج.



(1) ويعبر أيضا عن هذا الجواب بأن التغير في طرف العلم لا في نفسه، كالقدرة، فإن المتغير هو
المقدور، لا القدرة.
توضيحه: أنه لو كان علمه حصوليا ارتساميا حالا في ذاته، لزم التغير في الذات، حسب تغير الصور
كما إذا قام زيد ثم قعد، فتكون هناك صورة بعد صورة، لكن علمه سبحانه بالأشياء حضوري،
وعليه يكون هناك حضور بعد حضور، فالتغير إنما هو في الإضافة والنسبة (الحضور) لا في
العلم، والإضافات أمور اعتبارية كما قرره الماتن في مبحث المضاف من الأعراض (1).
والأولى أن يجاب بأن التغير إنما هو في علمه الفعلي لا في علمه الذاتي، فإن العالم بوجوده الخارجي
فعله وعلمه، كما أن الصورة المرتسمة فعل النفس وعلمها، والممنوع إنما هو التغير في علمه
الذاتي بالأشياء الموجب لحدوث التغير في ذاته سبحانه، لا في علمه الفعلي.
وأما عدم التغير في علمه الذاتي فلأنه لما لم يكن مكانيا كانت الأمكنة بالنسبة إليه سواء فلا قريب
ولا بعيد بالنسبة إليه، ولما لم يكن زمانيا كانت الأزمنة بالنسبة إليه سواء فلا ماضي ولا مستقبل
لديه بل هو واقف على الجميع من غير تقدم وتأخر، ومن تكن
-
1 - لاحظ كشف المراد، الفصل الخامس: المضاف، المسألة الثالثة في أن الإضافة ليست ثابتة في الأعيان ص 258،
وقال الماتن: وثبوته ذهني وإلا تسلسل.
حاله كذلك فالمتغيرات بأجمعها حاضرة لديه من دون أن يحدث التغير في الكون تغيرا في
العلم، ونستوضح ذلك بالمثال التالي: إذا نظرنا من الكوة إلى الشارع المليئة بالسيارات فلا نرى
في كل لحظة إلا سيارة واحدة فنصف السيارات بالسبق والتأخر، وأما إذا نظرنا إلى الشارع من أفق
عال رأينا الجميع دفعة واحدة ومحيطا بها من غير سبق ولا لحوق، والله سبحانه لتنزهه عن
الزمان والمكان يحيط بالأشياء متقدمها ومتأخرها بلا تقدم وتأخر وتكون نسبة الجميع إليه
واحدة.
28
قال: ويمكن اجتماع الوجوب والإمكان باعتبارين.
أقول: هذا جواب عن احتجاج من نفى علمه تعالى بالمتجددات قبل
وجودها.
وتقرير كلامهم: أن العلم لو تعلق بالمتجدد (1) قبل تجدده لزم وجوبه،
وإلا لجاز أن لا يوجد فينقلب علمه تعالى جهلا وهو محال.
والجواب: إن أردتم بوجوب ما علمه تعالى، أنه واجب الصدور عن العلم
فهو باطل لأنه تعالى يعلم ذاته ويعلم المعدومات، وإن أردتم وجوب المطابقة
لعلمه فهو صحيح لكن ذلك وجوب لاحق لا سابق فلا ينافي الإمكان الذاتي.
وإلى هذا أشار بقوله: ويمكن اجتماع الوجوب والإمكان باعتبارين.



(1) توضيح التقرير: أنه تعالى لا يعلم الحوادث قبل وقوعها، وإلا يلزم أن يكون تلك الحوادث
ممكنة وواجبة معا، والتالي باطل للتنافي بين الوجوب والإمكان، بيان اللزوم أنها ممكنة لكونها
حادثة، وواجبة أيضا وإلا أمكن أن لا يوجد فينقلب علمه جهلا وهو محال.
والجواب: أن العلم تابع للمعلوم، فلا يكون تعلق علمه به دليلا على وجوبه، ولو سلم فنقول: إنها
ممكنة لذواتها، وواجبة بغيرها وهو تعلق علم البارئ تعالى بوجودها ولا تنافي بين الإمكان
بالذات، والوجوب بالغير (1).
-
1 - لاحظ شرح علاء الدين للقوشجي: 414 ط تبريز عام 1307.
وقول الشارح: " إن أردتم بوجوب علمه تعالى أنه واجب الصدور عن العلم... " معناه: إن أردتم أن
علمه علة تامة لصدور هذه الجزئيات الزمانية فهو باطل وإلا لزم أن تكون ذاته علة لذاته و
المعدومات، لكون المفروض أنه يعلمهما. وإن أردتم وجوب كون الخارج مطابقا فهو صحيح
لكنه لا ينافي الإمكان، لأن هذا الوجوب وجوب متأخر لا سابق.
يلاحظ على الشق الأول في الجواب أنه ليس المراد من كون العلم علة تامة، كونه علة تامة مطلقا
لكل معلوم حتى يعم ذاته والمعدومات، بل علمه علة تامة في كل فعل يعد فعلا له سبحانه
ومتعلقا للداعي (حسب مصطلح المتكلمين) أو وقع في إطار إرادته، فعندئذ لا يصح النقض
بالعلم بالذات والمعدومات.
29
المسألة الثالثة: في أنه تعالى حي
قال: وكل قادر عالم حي بالضرورة (1).
أقول: اتفق الناس على أنه تعالى حي واختلفوا في تفسيره:
فقال قوم: إنه عبارة عن كونه تعالى لا يستحيل أن يقدر ويعلم.
وقال آخرون: إنه من كان على صفة لأجله عليها يجب أن يعلم ويقدر.
والتحقيق أن صفاته تعالى إن قلنا بزيادتها على ذاته فالحياة صفة ثبوتية
زائدة على الذات وإلا فالمرجع بها إلى صفة سلبية وهو الحق، وقد بينا أنه تعالى
قادر عالم فيكون بالضرورة حيا لأن ثبوت الصفة فرع عدم استحالتها.



(1) يريد أن بعض الصفات في مقام الإثبات يتولد من صفات أخر، فإن الحي عبارة عن الدراك
الفعال، والمدرك هو العالم، والفعال هو القادر، فإذا ثبت كونه عالما قادرا، فقد ثبت كونه حيا بلا
حاجة إلى برهان خاص.
30
المسألة الرابعة: في أنه تعالى مريد
قال: وتخصيص بعض الممكنات بالإيجاد في وقت يدل على إرادته
تعالى.
أقول: اتفق المسلمون على أنه تعالى مريد (1) لكنهم اختلفوا في معناه:
فأبو الحسين جعله نفس الداعي، على معنى أن علمه تعالى بما في الفعل
من المصلحة الداعية إلى الإيجاد هو المخصص والإرادة.
وقال النجار: إنه سلبي، وهو كونه تعالى غير مغلوب ولا مستكره.
وعن الكعبي: أنه راجع إلى أنه عالم بأفعال نفسه وآمر بأفعال غيره.
وذهبت الأشعرية والجبائيان إلى أنه صفة زائدة على العلم.
والدليل على ثبوت الصفة مطلقا أن الله تعالى أوجد بعض الممكنات
دون بعض مع تساوي نسبتها إلى القدرة فلا بد من مخصص غير القدرة التي
شأنها الإيجاد مع تساوي نسبتها إلى الجميع، وغير العلم التابع للمعلوم، وذلك
المخصص هو الإرادة. وأيضا بعض الممكنات يخصص بالإيجاد في وقت دون
ما قبله وبعده مع التساوي فلا بد من مرجح غير القدرة والعلم.



(1) نقل في تفسير الإرادة آراء أربعة:
1 - علمه بما في فعله من المصلحة.
2 - كونه غير مغلوب ولا مستكره.
3 - علمه بأفعال نفسه (الإرادة التكوينية) وأمره بأفعال غيره (الإرادة التشريعية).
4 - صفة وراء العلم.
والأقوى هو القول الرابع لكن لا بصورة صفة زائدة على الذات، بل متحدة مع الذات بمعنى كونه
مختارا، والتفصيل في محله.
31
قال: وليست زائدة على الداعي وإلا لزم التسلسل أو تعدد القدماء.
أقول: اختلف الناس هنا، فذهبت الأشعرية إلى إثبات أمر زائد على ذاته
قديم هو الإرادة. والمعتزلة اختلفوا:
فقال أبو الحسين: إنها نفس الداعي، وهو الذي اختاره المصنف.
وقال أبو علي وأبو هاشم: إن إرادته حادثة لا في محل.
وقالت الكرامية: إن إرادته حادثة في ذاته.
والدليل على ما اختاره المصنف: أن إرادته لو كانت قديمة لزم تعدد
القدماء والتالي باطل فالمقدم مثله، ولو كانت حادثة إما في ذاته أو لا في محل
لزم التسلسل لأن حدوث الإرادة في وقت دون آخر يستلزم ثبوت إرادة
مخصصة والكلام فيها كالكلام هنا.
المسألة الخامسة: في أنه تعالى سميع بصير
قال: والنقل دل على اتصافه بالإدراك والعقل على استحالة الآلات.
أقول: اتفق المسلمون كافة على أنه تعالى مدرك (1)، واختلفوا في معناه
فالذي ذهب إليه أبو الحسين أن معناه علمه تعالى بالمسموعات والمبصرات
وأثبت الأشعرية وجماعة من المعتزلة صفة زائدة على العلم.
والدليل على ثبوت كونه تعالى سميعا بصيرا: السمع، فإن القرآن قد



(1) يطلق المدرك ويراد منه تارة أنه سبحانه عالم بالمبصرات والمسموعات، وأخرى أنه عالم
بالجزئيات، والثاني أعم.
32
دل عليه، وإجماع المسلمين على ذلك.
إذا عرفت هذا فنقول: السمع والبصر في حقنا إنما يكون بآلات جسمانية،
وكذا غيرهما من الإدراكات، وهذا الشرط ممتنع في حقه تعالى بالعقل، فإما أن
يرجع بالسمع والبصر إلى ما ذهب إليه أبو الحسين، وإما إلى صفة زائدة غير
مفتقرة إلى الآلات في حقه تعالى.
المسألة السادسة: في أنه تعالى متكلم
قال: وعمومية قدرته تدل على ثبوت الكلام والنفساني غير معقول.
أقول: ذهب المسلمون كافة إلى أنه تعالى متكلم واختلفوا في معناه:
فعند المعتزلة أنه تعالى أوجد حروفا وأصواتا (1) في أجسام جمادية دالة
على المراد.



(1) الأقوال في كونه سبحانه متكلما ثلاثة:
الأول: للمعتزلة وأن المتكلم من أوجد الكلام لا من قام به الكلام.
الثاني: للأشاعرة وأنه من قام به الكلام وفسروه بالكلام النفسي، الذي هو من اللغز والأحاجي، حيث
يدعون أنه غير العلم في الأخبار، وغير الإرادة في الإنشائيات، وبما أن الإنشائيات أعم من الأمر
ويعم النهي والترجي والتمني والاستفهام، يلزم عليهم إثبات كلام نفسي في هذه الموارد غير
الكراهة والترجي والتمني والاستفهام، وهو كما ترى.
الثالث: للحكماء وحاصله: أن العالم بجواهره وأعراضه كلامه سبحانه، لأنه يعرب عن كماله وجماله
وعلمه وقدرته، وإنما يسمى الكلام اللفظي كلاما لأنه يعرب عما في ضمير المتكلم، وأي إظهار
أجلى وأوضح من الموجودات الإمكانية مجردها وماديها، التي تعرب عن الكمال المكنون. وهذا
هو رأي الحكماء، ويمكن استظهاره من بعض الآيات، وبه روايات، لاحظ الإلهيات: 1 / 194.
33
وقالت الأشاعرة: إنه متكلم بمعنى أنه قام بذاته معنى غير العلم والإرادة
وغيرهما من الصفات تدل عليها العبارات، وهو الكلام النفساني، وهو عندهم
معنى واحد ليس بأمر ولا نهي ولا خبر ولا غير ذلك من أساليب الكلام.
والمصنف رحمه الله حينئذ استدل على ثبوت الكلام بالمعنى الأول بما
تقدم من كونه تعالى قادرا على كل مقدور لا شك في إمكان خلق أصوات في
أجسام تدل على المراد.
وقد اتفقت المعتزلة والأشاعرة على إمكان هذا، لكن الأشاعرة أثبتوا معنى
آخر، والمعتزلة نفوا هذا المعنى لأنه غير معقول، إذ لا يعقل ثبوت معنى غير
العلم ليس بأمر ولا نهي ولا خبر ولا استخبار وهو قديم، والتصديق موقوف
على التصور.
قال: وانتفاء القبح عنه تعالى يدل على صدقه.
أقول: لما أثبت كونه تعالى متكلما وبين معناه شرع في بيان كونه
تعالى صادقا، وقد اتفق المسلمون عليه، لكن لا يتمشى على أصول الأشاعرة.
أما المعتزلة فهذا المطلب عندهم ظاهر الثبوت، لأن الكذب قبيح
بالضرورة، والله تعالى منزه عن القبائح لأنه تعالى حكيم على ما يأتي فلا يصدر
الكذب عنه تعالى.

34
المسألة السابعة: في أنه تعالى باق
قال: ووجوب الوجود يدل على سرمديته (1) ونفي الزائد.
أقول: اتفق المثبتون للصانع تعالى على أنه باق أبدا واختلفوا، فذهب
الأشعري إلى أنه باق ببقاء يقوم به، وذهب آخرون إلى أنه باق لذاته، وهو الحق
الذي اختاره المصنف.
والدليل على أنه باق، ما تقدم من بيان وجوب وجوده لذاته وواجب
الوجود لذاته يستحيل عليه العدم، وإلا لكان ممكنا.
والاعتراض الذي يورد هنا وهو أنه يجوز أن يكون واجبا لذاته في وقت
وممتنعا في وقت آخر يدل على سوء فهم مورده، لأن ماهيته حينئذ بالنظر إليها
مجردة عن الوقتين تكون قابلة لصفتي الوجود والعدم ولا نعني بالممكن سوى
ذلك.
واعلم أن هذا الدليل كما يدل على وجوب البقاء يدل على انتفاء المعنى



(1) إن وجوب الوجود، في كلام الماتن صار مبدأ برهان لمسائل عديدة، وهو يعرب عن مقدرة
علمية للمحقق الطوسي، فقد استخرج معارف عليا من مبدأ واحد وهو وجوب وجوده، فقد
استدل به على المسائل التالية:
1 - سرمديته. 2 - نفي الزائد عنه. 3 - نفي الشريك عنه. 4 - نفي المثل عنه. 5 - نفي التركيب بمعانيه عنه.
6 - نفي الضد عنه. 7 - نفي التحيز عنه. 8 - نفي الحلول عنه. 9 - نفي الاتحاد عنه. 10 - نفي الجهة
عنه. 11 - نفي حلول الحوادث فيه عنه. 12 - نفي الحاجة عنه (غني). 13 - نفي الألم واللذة
المزاجية عنه. 14 - نفي المعاني والأحوال والصفات الزائدة عنه. 15 - نفي الرؤية عنه. 16 - ثبوت
الجود له. 17 - والملك له. 18 - ثبوت التمام وفوقه له. 19 - ثبوت الحقية له. 20 - ثبوت الخيرية
له. 21 - ثبوت الحكمة له. 22 - ثبوت التجبر له. 23 - ثبوت القهر له. 24 - ثبوت القيومية له.
هذه الصفات التي هي بين سلبية وثبوتية، تثبت بثبوت أمر واحد وهو وجوب وجوده وأنه يمتنع
عليه العدم، وقام الشارح بشرح ما رامه المصنف، شكر الله مساعي الجميع.
35
الذي أثبته أبو الحسن الأشعري، لأن وجوب الوجود يقتضي الاستغناء عن الغير،
فلو كان باقيا بالبقاء كان محتاجا إليه فيكون ممكنا، هذا خلف.
المسألة الثامنة: في أنه تعالى واحد
قال: والشريك (1)
أقول: هذا عطف على الزائد، أي ووجوب الوجود يدل على نفي الزائد ونفي
الشريك.
واعلم أن أكثر العقلاء اتفقوا على أنه تعالى واحد.
والدليل على ذلك العقل والنقل. أما العقل فما تقدم من وجوب وجوده
تعالى، فإنه يدل على وحدته، لأنه لو كان هناك واجب وجود آخر لتشاركا في
مفهوم كون كل واحد منهما واجب الوجود، فإما أن يتميزا أو لا، والثاني يستلزم
المطلوب وهو انتفاء الشركة، والأول يستلزم التركيب وهو باطل وإلا لكان كل
واحد منهما ممكنا وقد فرضناه واجبا، هذا خلف، وأما النقل فظاهر.



(1) إن الشريكين يعتبر فيهما اختلافهما في الماهية، بخلاف المثل فإنه تعتبر فيه الوحدة في
الماهية ولذلك عقد لكل من نفي الشريك والمثل مسألة خاصة.
ثم الشريك عبارة عن اجتماع الاثنين أو أكثر على فعل أو حق أو مال أو غير ذلك، وعلى هذا كان على
الشارح في تعليقته على قول الماتن " ونفي الشريك " إقامة الدليل على وحدة الخالق في العالم،
وبعبارة أخرى كان عليه البحث حول التوحيد في الخالقية، بعد البحث عن التوحيد في الذات،
مع أنه في هذا المورد أقام البرهان على التوحيد في الذات، ولعل العدول إليه لأجل استلزام وحدة
الواجب وجودا وحدة الخالق أيضا. وهذا وإن كان صحيحا، لكنه فوت على الشارح البحث عن
مراتب التوحيد: الذاتي، التدبيري، و... على النحو الذي سلكناه في " الإلهيات " كما لا يخفى.
36
المسألة التاسعة: في أنه تعالى مخالف لغيره من الماهيات
قال: والمثل (1).
أقول: هذا عطف على الزائد أيضا، أي ووجوب الوجود يدل على نفي
الزائد ونفي الشريك ونفي المثل، وهذا مذهب أكثر العقلاء، وخالف فيه أبو
هاشم فإنه جعل ذاته مساوية لغيرها من الذوات وإنما تخالفها بحالة توجب
أحوالا أربعة، وهي الحيية والعالمية والقادرية والموجودية، وتلك الحالة هي
صفة إلهية، وهذا المذهب لا شك في بطلانه فإن الأشياء المتساوية تتشارك في
لوازمها فلو كانت الذوات متساوية جاز انقلاب القديم محدثا وبالعكس وذلك
باطل بالضرورة.



(1) قد عرفت أن المثل يطلق فيما إذا كان بين الأمرين وحدة في الماهية واختلاف في الأصناف
والخصوصيات، كفردين من إنسان، والله سبحانه تباين ماهيته ماهية الممكنات فلا يتصور له
مثل، والدليل على التباين أن مقتضى وجوب وجوده كون ماهيته عين الوجود، وإلا فلو كانت له
وراء الوجود ماهية خالية عن الوجود، لزم إمكان وجوده وهو خلف، بخلاف الممكنات فإن
ماهيتها وراء الوجود، إذ لو كان الوجود عين ماهيته أو جزء منها لما اتصف بالإمكان ومساواة
نسبة الوجود والعدم إليه. هذا هو الذي سلكه أكثر العقلاء.
وهناك بعض من يتصور لله سبحانه ماهية كمفاهيم الممكنات، غير أنه يتميز عنها بأحد أمرين:
1 - الصفات الحقيقية الزائدة كالعلم والقدرة التامتين. وعليه فريق من المتكلمين.
2 - الأحوال الأربعة، وهي الحيية والعالمية والقادرية والموجودية، وبطلان النظريتين واضح، لأن
لازم تساوي ذاته مع ذات الممكنات أن يوصف كل بصفات الآخر، فيتصف الواجب بصفات
الممكن، والممكن بصفات الواجب لأن حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد، ولازمه
انقلاب القديم محدثا وبالعكس، وإلى ما ذكرنا أشار الشارح بقوله: " فإن الأشياء المتساوية
تتشارك في لوازمها... ".
37
المسألة العاشرة: في أنه تعالى غير مركب
قال: والتركيب بمعانيه.
أقول: هذا عطف على الزائد، بمعنى أن وجوب الوجود يقتضي نفي
التركيب أيضا.
والدليل على ذلك أن كل مركب فإنه مفتقر إلى أجزائه لتأخره وتعليله بها
وكل جزء من المركب فإنه مغاير له وكل مفتقر إلى الغير ممكن، فلو كان الواجب
تعالى مركبا كان ممكنا، هذا خلف، فوجوب الوجود يقتضي نفي التركيب.
واعلم أن التركيب قد يكون عقليا وهو التركيب من الجنس والفصل، وقد
يكون خارجيا كتركيب الجسم من المادة والصورة وتركيب المقادير من غيرها،
والجميع منفي عن الواجب تعالى، لاشتراك المركبات في افتقارها إلى الأجزاء،
فلا جنس له ولا فصل له ولا غيرهما من الأجزاء العقلية والحسية.
المسألة الحادية عشرة: في أنه تعالى لا ضد له
قال: والضد.
أقول: هذا عطف على الزائد أيضا، فإن وجوب الوجود يقتضي نفي الضد
لأن الضد يقال بحسب المشهور على ما يعاقب غيره من الذوات على المحل أو
الموضوع مع التنافي بينهما، وواجب الوجود يستحيل عليه الحلول، فلا ضد له
بهذا المعنى، ويطلق أيضا على مساو في القوة ممانع وقد بينا أنه تعالى لا مثل له
فلا مشارك له تعالى في القوة.

38
المسألة الثانية عشرة: في أنه تعالى ليس بمتحيز
قال: والتحيز (1).
أقول: هذا عطف على الزائد أيضا، فإن وجوب الوجود يقتضي نفي
التحيز عنه تعالى، وهذا حكم متفق عليه بين أكثر العقلاء، وخالف فيه المجسمة.
والدليل على ذلك أنه لو كان متحيزا لم ينفك عن الأكوان الحادثة، وكل ما
لا ينفك عن الحادث فهو حادث - وقد سبق تقرير ذلك - وكل حادث ممكن فلا
يكون واجبا، هذا خلف، ويلزم من نفي التحيز نفي الجسمية.



(1) إن نفي التحيز المذكور في هذه المسألة ونفي الجهة المذكورة في المسألة الخامسة عشرة،
مسألتان متقاربتان وسيوافيك الفرق بينهما، واستدل الشارح على نفي الجسمية بقوله: لو كان
متحيزا لكان جسما، وكل جسم حادث لعدم انفكاكه عن الحركة والسكون والاتصال والانقطاع
(الأكوان الحادثة) وكل منها حادث كما جرى عليه الماتن في مسألة " أن الأجسام حادثة " فراجع
المسألة السادسة من الفصل الثالث من المقصد الثاني (1). وأما كون الحركة والسكون حادثين
فلأن الحركة هي حصول الجسم في الحيز بعد أن كان في حيز آخر والسكون هو الحصول في
الحيز بعد أن كان في ذلك الحيز، وماهية كل واحد منهما يستدعي المسبوقية بالغير، والأزلي غير
مسبوق بالغير فماهية كل واحد ليست قديمة ونظيرها الاتصال والانقطاع. وإذا كان اللازم حادثا
فالملزوم مثله.
أضف إلى ما ذكرنا أن المتحيز محتاج إلى الحيز، وهو لا يجتمع مع الغنى الذاتي.
-
1 - كشف المراد: 170 - 171.
39
المسألة الثالثة عشرة: في أنه تعالى ليس بحال في غيره
قال: والحلول.
أقول: هذا عطف على الزائد، فإن وجوب الوجود يقتضي كونه تعالى
ليس حالا في غيره، وهذا حكم متفق عليه بين أكثر العقلاء، وخالف فيه بعض
النصارى القائلين بأنه حل في المسيح، وبعض الصوفية القائلين بأنه حال في
أبدان العارفين.
وهذا المذهب لا شك في سخافته لأن المعقول من الحلول قيام موجود
بموجود آخر على سبيل التبعية بشرط امتناع قيامه بذاته وهذا المعنى منتف في
حقه تعالى لاستلزامه الحاجة المستلزمة للإمكان.
المسألة الرابعة عشرة: في نفي الاتحاد عنه تعالى
قال: والاتحاد.
أقول: هذا عطف على الزائد، فإن وجوب الوجود ينافي الاتحاد لأنا قد
بينا أن وجوب الوجود يستلزم الوحدة فلو اتحد بغيره لكان ذلك الغير ممكنا
فيكون الحكم الصادق على الممكن صادقا على المتحد به فيكون الواجب
ممكنا، وأيضا فلو اتحد بغيره لكانا بعد الاتحاد إما أن يكونا موجودين كما كانا
فلا اتحاد، وإن عدما أو عدم أحدهما فلا اتحاد أيضا ويلزم عدم الواجب فيكون
ممكنا، هذا خلف.

40
المسألة الخامسة عشرة: في نفي الجهة عنه تعالى
قال: والجهة (1).
أقول: هذا حكم من الأحكام اللازمة لوجوب الوجود، وهو معطوف على
الزائد، وقد نازع فيه جميع المجسمة فإنهم ذهبوا إلى أنه تعالى جسم في جهة.



(1) قد تقدم أن نفي التحيز والجهة متقاربان، ولكن الجهة أعم من التحيز، لأن النقطة لها جهة
وليست بمتحيزة. قال الماتن في المسألة الحادية عشرة من الفصل الأول من المقصد الثاني (1):
" الجهة طرف الامتداد الحاصل في مأخذ الإشارة ". وقال الشارح في ذلك الموضع: إنا نتوهم
امتدادا آخذا من المشير ومنتهيا إلى المشار إليه، فذلك المنتهى هو طرف الامتداد الحاصل في
مأخذ الإشارة.
وقال الماتن أيضا: " وهي من ذوات الأوضاع المقصودة بالحركة للحصول فيها وبالإشارة ".
وعلى كل تقدير فإن القائل بكونه سبحانه ذا جهة:
إما أن يقول بكونه جسما ذا جهة، فيرده ما دل على امتناع كونه جسما، وهو أن الجسم غير خال عن
الحركة والسكون كما تقدم بيانه.
وإما أن يقول به من دون وصفه بكونه جسما - (وإن لم يكن له قائل فإن الكرامية القائلة بالجهة تقول
بأنه سبحانه جسم) - فإن الجهة إذا لم يكن جسما ليست أمرا مجردا عن المادة وعلائقها، بل هي
من ذوات الأوضاع التي تتناولها الإشارة الحسية وتقصد بالحركة والإشارة، فتكون موجودة
مادية، وهي لا تخلو عن الأكوان الحادثة، وإليه أشار الشارح: " لأن كل ذي جهة فهو مشار إليه
ومحل للأكوان الحادثة فيكون حادثا فلا يكون واجبا ". وعلى ضوء ذلك، فلكل من الوجهين
دليل مستقل.
-
1 - كشف المراد: 154.
41
وأصحاب أبي عبد الله بن كرام اختلفوا:
فقال محمد بن الهيصم: إنه تعالى في جهة فوق العرش لا نهاية لها والبعد
بينه وبين العرش أيضا غير متناه.
وقال بعضهم: البعد متناه، وقال قوم منهم: إنه تعالى على العرش كما تقوله
المجسمة!
وهذه المذاهب كلها فاسدة، لأن كل ذي جهة فهو مشار إليه ومحل
للأكوان الحادثة فيكون حادثا فلا يكون واجبا.
المسألة السادسة عشرة: في أنه تعالى ليس محلا للحوادث
قال: وحلول الحوادث فيه.
أقول: وجوب الوجود ينافي حلول الحوادث في ذاته تعالى، وهو
معطوف على الزائد، وقد خالف فيه الكرامية.
والدليل على الامتناع أن حدوث الحوادث فيه تعالى يدل على تغيره
وانفعاله في ذاته، وذلك ينافي الوجوب، وأيضا فإن المقتضي للحادث إن كان
ذاته كان أزليا وإن كان غيره كان الواجب مفتقرا إلى الغير وهو محال، ولأنه إن كان
صفة كمال استحال خلو الذات عنه وإن لم يكن استحال اتصاف الذات به (1).



(1) إذا كان المقتضى لحلول الحوادث في ذاته، هو ذاته سبحانه، يلزم قدم الحادث وأزليته لأن أزلية
العلة توجب أزلية المعلول.
وإن كان المقتضي لحلول الحوادث غير ذاته، يكون الذات مفتقرا إلى الغير الذي هو السبب لحدوث
الحوادث في ذاته.
42
المسألة السابعة عشرة: في أنه تعالى غني
قال: والحاجة.
أقول: وجوب الوجود ينافي الحاجة، وهو معطوف على الزائد، وهذا
الحكم ظاهر فإن وجوب الوجود يستدعي الاستغناء عن الغير في كل شئ فهو
ينافي الحاجة، ولأنه لو افتقر إلى غيره لزم الدور لأن ذلك الغير محتاج إليه
لإمكانه.
لا يقال: الدور غير لازم (1) لأن الواجب مستغن في ذاته وبعض صفاته
عن ذلك الغير وبهذا الوجه يؤثر في ذلك الغير فإذا احتاج في جهة أخرى إلى
ذلك الغير انتفى الدور.
لأنا نقول: هذا بناء على أن صفاته تعالى زائدة على الذات وهو باطل



(1) يريد أن الدور إنما يلزم إذا توقف وجود الواجب على ذلك الغير، مع أنه ليس كذلك بل هو
مستغن في ذاته عن كل شئ، وإنما يحتاج إليه في بعض صفاته (لا في ذاته ولا في كل صفاته)،
فعندئذ يرتفع الدور، لأن الغير في وجوده محتاج إلى ذات الواجب، ولكن الواجب لا في ذاته
ولا في كل صفاته بل من جهة أخرى (بعض الصفات) محتاج إلى الغير، فارتفع الدور لتغاير
الموقوف عليه، وللتقريب نقول: إن الممكنات في وجودها يتوقف على ذات الواجب، وهو في
وصفه الإضافي (الخالقية) متوقف على وجودها.
ثم أجاب الشارح عن الدور بوجهين لأجل الاختلاف في عينية الصفات وزيادتها:
إن قلنا بالعينية يلزم الدور الصريح، لأن الصفة التي أعطاها ذلك الغير عين ذاته، فيتوقف ذات الواجب
على الغير، مع أنه متوقف على ذاته، وإلى هذا الجواب أشار بقوله: " هذا (أي ما ذكر من دفع الدور)
بناء على أن صفاته تعالى زائدة على الذات وهو باطل لما سيأتي "، يعني بما أن صفاته عين ذاته
يلزم الدور الصريح.
وإن قلنا بالثاني يأتي الدور أيضا لكن ببيان آخر، وهو أن الصفة التي يحتاج الواجب فيها إلى
الممكن، تتوقف على تأثير الممكن، وتأثيره يتوقف على جهة التأثير (ملاك التأثير) وجهة التأثير
يتوقف على وجود الممكن، ووجوده يتوقف على الواجب، فيكون الممكن محتاجا إلى الواجب
في تحقق تلك الصفة مع أن المفروض إن الواجب محتاج في تحقق تلك الصفة بعينها إلى
الممكن.
وإلى هذا الجواب أشار الشارح بقوله: " وأيضا فالدور لا يندفع لأن ذلك الممكن بالجهة التي يؤثر في
الواجب تعالى صفة يكون محتاجا إليه وحينئذ يلزم الدور المحال " وإليك تطبيق العبارة:
1 - المراد " بالجهة التي يؤثر " هو ملاك التأثير الذي يتوقف عليه التأثير، وقد مر أن الجهة أيضا متوقفة
على ذات الممكن توقف الفعل ومبادئه على ذات الفاعل. والجار في " بالجهة " بمعنى مع.
2 - " صفة " مفعول لقوله: يؤثر، أي يوجد صفة في الله، والمعنى أن الممكن مع الجهة التي يحقق
الصفة في الواجب محتاج إلى الواجب، فإذا كان الممكن مع تلك الجهة محتاجا إلى الواجب
كيف يكون الواجب محتاجا إليه في تحقق الصفة؟
43
لما سيأتي، وأيضا فالدور لا يندفع لأن ذلك الممكن بالجهة التي يؤثر في
الواجب تعالى صفة يكون محتاجا إليه وحينئذ يلزم الدور المحال.
ولأن افتقاره في ذاته يستلزم إمكانه (1) وكذا في صفاته لأن ذاته موقوفة
على وجود تلك الصفة أو عدمها المتوقفين على الغير فيكون متوقفا على الغير
فيكون ممكنا، وهذا برهان عول عليه الشيخ ابن سينا.



(1) هذا ناظر إلى أصل المطلب ولا صلة له بالدور ولا بدفعه واستدلال على أنه سبحانه غني لكن
ببيان جديد ربما أشار إليه في الجواب الأول بقوله: " لما سيأتي "، وهو أن واجب الوجود بالذات
واجب من جميع الجهات، ذاتا وصفة وفعلا، إذ لو لم يجب ذاتا لزم افتقاره وهو ينافي كونه
واجب الوجود، ولو لم يجب وصفا لزم إمكانه أيضا، لأن ذاته موقوفة على وجود تلك الصفة إذا
كانت الصفة ثبوتية أو على عدمها إذا كانت سلبية - وجه توقف الذات على الصفة هو عينيتها مع
الصفة - فإذا توقفت الصفة وبالتالي الذات على الغير، يكون ممكنا لا واجبا وهو كما ترى خلاف
المفروض.
44
المسألة الثامنة عشرة: في استحالة الألم واللذة عليه تعالى
قال: والألم مطلقا واللذة المزاجية.
أقول: هذا أيضا عطف على الزائد، فإن وجوب الوجود يستلزم نفي اللذة
والألم.
واعلم أن اللذة والألم قد يكونان من توابع المزاج، فإن اللذة من توابع
اعتدال المزاج والألم من توابع سوء المزاج، وهذان المعنيان إنما يصحان في
حق الأجسام، وقد ثبت بوجوب الوجود أنه تعالى يستحيل أن يكون جسما
فينتفيان عنه.
وقد يعنى بالألم إدراك المنافي وباللذة إدراك الملائم، فالألم بهذا المعنى
منفي عنه لأن واجب الوجود لا منافي له.
وأما اللذة بهذا المعنى (1) فقد اتفق الأوائل على ثبوتها لله تعالى لأنه
مدرك لأكمل الموجودات أعني ذاته فيكون ملتذا به، والمصنف رحمه الله كأنه
قد ارتضى هذا القول، وهو مذهب ابن نوبخت وغيره من المتكلمين إلا أن
إطلاق الملتذ عليه يستدعي الإذن الشرعي.



(1) ومن هذا الباب ما في كلماتهم: ابتهاجه سبحانه بذاته، والظاهر أن إسناد السرور والفرح والبهجة
وإدراك الملائم، مثل إسناد الغضب والرضا إليه سبحانه، ليس بحقيقي والجميع يفسر من باب
خذ الغايات واترك المبادئ، كل ذلك لابتعاده عن وصمة الانفعال، ولم يصرح الماتن بوجود هذا
النوع من اللذة في الله سبحانه وإنما نفى الإدراك غير الملائم، وهو بمفهومه دل على جواز هذا
النوع من الإدراك.
45
المسألة التاسعة عشرة: في نفي المعاني والأحوال
والصفات الزائدة في الأعيان
قال: والمعاني والأحوال والصفات الزائدة عينا.
أقول: ذهبت الأشاعرة إلى أن لله تعالى معاني قائمة بذاته (1) هي القدرة
والعلم وغيرهما من الصفات تقتضي القادرية والعالمية والحيية إلى غيرها من
باقي الصفات.



(1) قد أشار في الشرح إلى مذاهب أربعة في الصفات وترك النظرية الخامسة:
1 - نظرية الأشاعرة، أعني: زيادة الصفات، ولفظ " المعاني " عندهم عبارة أخرى عن الصفات.
2 - نظرية أبي هاشم: وهو أنه ليس صفاته عين ذاته (كما عليه الإمامية وبعض المعتزلة كأبي هذيل
العلاف على ما أوضحنا مذهبه في كتاب " بحوث في الملل والنحل) " (1) بل له أحوال مثل
العالمية والقادرية، والحال عنده صفة للموجود لا معدومة ولا موجودة ولا معلومة ولا مجهولة
بحيالها، ولكن تعلم الذات على هذه الأحوال، وهي غير معلومة وعلى كل تقدير فمذهبه أشبه
باللغز.
3 - ما أشار إليه بقوله: " وجماعة من المعتزلة أثبتوا لله صفات زائدة على الذات " كمعتزلة بغداد، قالوا
بأن البقاء صفة ثبوتية زائدة على الوجود.
4 - وأشار إلى المذهب الحق بقوله: " لأنه تعالى موصوف بصفات الكمال لكن تلك الصفات نفس
الذات ".
5 - ولم يشر إلى المذهب المنقول عن أعاظم المعتزلة، وهو القول بالنيابة، وقد أوضحنا حاله في
كتاب بحوث في الملل والنحل (2).
-
1 - بحوث في الملل والنحل: 2 / 87.
2 - المصدر نفسه: 2 / 85.
46
وأبو هاشم أثبت أحوالا غير معلومة لكن تعلم الذات عليها.
وجماعة من المعتزلة أثبتوا لله تعالى صفات زائدة على الذات.
وهذه المذاهب كلها ضعيفة، لأن وجوب الوجود يقتضي نفي هذه الأمور
عنه لأنه تعالى يستحيل أن يتصف بصفة زائدة على ذاته سواء جعلناها معنى أو
حالا أو صفة غيرهما لأن وجوب الوجود يقتضي الاستغناء عن كل شئ فلا
يفتقر في كونه قادرا إلى صفة القدرة ولا في كونه عالما إلى صفة العلم ولا غير
ذلك من المعاني والأحوال، وإنما قيد الصفات بالزائدة عينا لأنه تعالى موصوف
بصفات الكمال لكن تلك الصفات نفس الذات في الحقيقة وإن كانت مغايرة لها
بالاعتبار.
المسألة العشرون: في أنه تعالى ليس بمرئي
قال: والرؤية.
أقول: وجوب الوجود يقتضي نفي الرؤية أيضا.
واعلم أن أكثر العقلاء ذهبوا إلى امتناع رؤيته تعالى.
والمجسمة جوزوا رؤيته لاعتقادهم أنه تعالى جسم ولو اعتقدوا تجرده
لم تجز رؤيته عندهم.
والأشاعرة خالفوا العقلاء كافة هنا وزعموا أنه تعالى مع تجرده تصح
رؤيته.
والدليل على امتناع الرؤية أن وجوب وجوده يقتضي تجرده ونفي الجهة

47
والحيز عنه، فينتفى الرؤية عنه بالضرورة، لأن كل مرئي فهو في جهة يشار إليه
بأنه هنا أو هناك ويكون مقابلا أو في حكم المقابل ولما انتفى هذا المعنى عنه
تعالى انتفت الرؤية.
قال: وسؤال موسى لقومه.
أقول: لما استدل على نفي الرؤية شرع في الجواب عن احتجاج
الأشاعرة، وقد احتجوا بوجوه أجاب المصنف عنها:
الأول: أن موسى عليه السلام سأل الرؤية ولو كانت ممتنعة لم يصح منه
السؤال.
والجواب: أن السؤال كان من موسى عليه السلام لقومه ليبين لهم امتناع
الرؤية، لقوله تعالى: * (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم
الصاعقة) * (1)، وقوله: * (أتهلكنا بما فعل السفهاء منا (2) *.
قال: والنظر لا يدل على الرؤية مع قبوله التأويل.
أقول: تقرير الوجه الثاني لهم أنه تعالى حكى عن أهل الجنة، النظر إليه
فقال: * (إلى ربها ناظرة) * (3) والنظر المقرون بحرف * (إلى) * يفيد الرؤية لأنه
حقيقة في تقليب الحدقة نحو المطلوب التماسا لرؤيته، وهذا متعذر في حقه
تعالى لانتفاء الجهة عنه، فبقي المراد منه مجازه وهو الرؤية التي هي معلول النظر
الحقيقي واستعمال لفظ السبب في المسبب من أحسن وجوه المجاز.



(1) البقرة: 55.
(2) الأعراف: 155.
(3) القيامة: 23.
48
والجواب: المنع من إرادة هذا المجاز فإن النظر (1) وإن اقترن به حرف



(1) لما كان النظر عبارة عن تقليب الحدقة نحو المرئي لغاية الرؤية وكان النظر بهذا المعنى مستلزما
لكونه سبحانه ذا جهة، فسر المستدل النظر بالغاية والمسبب، أعني: أصل الرؤية وأخرج السبب
أي تقليب الحدقة عن مفاده ولذلك أسماه معنى مجازيا.
والحق أن الآية لا تدل على نظرية الأشاعرة، إذ أن الناظرة وإن كانت تتضمن الرؤية لكن ليس المراد
الرؤية بالأبصار بقرينة أن الناظرة في الآية هو الوجوه لا العيون. فالآية تخبر عن نظر الوجوه إلى
الرب، لا عن نظر العيون، فعندئذ يصبح نظر العيون كناية عن انتظار الرحمة.
وبعبارة أخرى: تفسير الآية لا يتوقف على تعيين معنى الناظرة لغة، وأنها هل هي بمعنى الرائية، أو
المنتظرة، بل نحن نفترض أنها بمعنى الرائية لغة ومستعملة في ذلك المعنى اللغوي قطعا ولكن
يجب أن يحقق أن المراد الاستعمالي هو المراد الجدي أو أنه كناية عن انتظار الرحمة، فتعيين أحد
الأمرين هو المفتاح لفهم معنى الآية، فنقول: لا سبيل إلى الأول وإلا كان اللازم إسناد النظر بمعنى
الرؤية التي هي المقصود الجدي أيضا إلى العيون، لا إلى الوجوه إذ الرؤية الحقيقية لا تتحقق
بالوجوه بل بالأبصار، والثاني هو المتعين يعني أن النظر بمعنى الرؤية كناية عن انتظار الرحمة
بشهادة إسناده إلى الوجوه.
وهناك طريق آخر لفهم معنى الآية، وهو فهمها بالنظر إلى مقابلتها، فإن الآية الثالثة تقابل الآية
الأولى، كما أن الرابعة تقابل الثانية، وعند المقابلة يرفع إبهام الثانية بالآية الرابعة، وإليك تنظيم
الآيات حسب المقابلة:
أ - * (وجوه يومئذ ناضرة) * يقابلها قوله: * (وجوه يومئذ باسرة) * (القيامة: 22 و 24).
ب - * (إلى ربها ناظرة) * يقابلها قوله: * (تظن أن يفعل بها فاقرة) * (القيامة: 23 و 25).
وبما أن مقابل الآية الثانية واضح المعنى فيكون قرينة على المراد منها، فإذا كان المقصود من المقابل
أن الطائفة العاصية تظن وتتوقع أن ينزل بها عذاب يكسر فقرها، ويقصم ظهرها، يكون المراد من
- عدله وقرينه، عكسه وضده، وليس هو إلا أن الطائفة المطيعة تكون مستبشرة برحمته، ومتوقعة
لفضله وكرمه، لا النظر إلى جماله وذاته وهويته، وإلا لخرج المقابلان عن التقابل وهو خلف.
وبعبارة أخرى: يجب أن يكون المقابلان - بحكم التقابل - متحدي المعنى والمفهوم، ولا يكونا
مختلفين في شئ سوى النفي والإثبات، فلو كان المراد من المقابل الأول، أعني: (إلى ربها
ناظرة) هو رؤية جماله سبحانه وذاته، فيجب أن يكون الجزاء في قرينه، أعني: (تظن أن يفعل بها
فاقرة) هو حرمان هؤلاء عن الرؤية أخذا بحكم التقابل. وبما أن تلك الجملة - أعني: القرين الثاني
- لا تحتمل ذلك المعنى، أعني: الحرمان من الرؤية، بل صريحة في انتظار العذاب الفاقر، يكون
ذلك قرينة على المراد من القرين الأول، هو رجاء رحمته وانتظار فرجه وكرمه.
49
* (إلى) * لا يفيد الرؤية ولهذا يقال: نظرت إلى الهلال فلم أره، وإذا لم يتعين هذا
المعنى للإرادة أمكن حمل الآية على غيره وهو أن يقال إن " إلى " واحد الآلاء
ويكون معنى ناظرة أي منتظرة.
أو نقول: إن المضاف هنا محذوف وتقديره: إلى ثواب ربها.
لا يقال: الانتظار سبب الغم والآية سيقت لبيان النعم.
لأنا نقول: سياق الآية يدل على تقدم حال لأهل الثواب والعقاب على
استقرارهم في الجنة والنار بقوله: * (وجوه يومئذ ناضرة) * (1) بدليل قوله تعالى:
* (ووجوه يومئذ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة) * (2) فإن في حال استقرار أهل
النار في النار قد فعل لها فاقرة فلا يبقى للظن معنى، وإذا كان كذلك فانتظار
النعمة بعد البشارة بها لا يكون سببا للغم بل سببا للفرح والسرور ونضارة الوجه،
كمن يعلم وصول نفع إليه يقينا في وقت فإنه يسر بذلك وإن لم يحضر الوقت،
كما أن انتظار العقاب بعد الإنذار بوروده يوجب الغم ويقتضي بسارة الوجه.



(1) القيامة: 22.
(2) القيامة: 24 - 25.
50
قال: وتعليق الرؤية على استقرار الجبل المتحرك لا يدل على
الإمكان.
أقول: هذا جواب عن الوجه الثالث للأشعرية، وتقرير احتجاجهم: أن الله
سبحانه وتعالى علق الرؤية في سؤال موسى عليه السلام على استقرار الجبل،
والاستقرار ممكن، لأن كل جسم فسكونه ممكن والمعلق على الممكن ممكن.
والجواب أنه تعالى علق الرؤية على الاستقرار لا مطلقا بل على استقرار
الجبل حال حركته، واستقرار الجبل حال الحركة محال، فلا يدل على إمكان
المعلق (1).
قال: واشتراك المعلولات لا يدل على اشتراك العلل مع منع التعليل
والحصر.
أقول: هذا جواب عن شبهة الأشاعرة من طريق العقل.
استدلوا بها على جواز رؤيته تعالى، وتقريرها: أن الجسم والعرض قد
اشتركا في صحة الرؤية وهذا حكم مشترك يستدعي علة مشتركة ولا مشترك
بينهما إلا الحدوث أو الوجود، والحدوث لا يصلح للعلية لأنه مركب من قيد



(1) هذا الجواب غير تام جدا، وحاصله: أنه سبحانه علق رؤيته على أمر محال، وهو استقرار الجبل
حال حركته، أي على اجتماع الضدين (الحركة في نفس السكون)، وهذا المعنى بعيد عن ظاهر
الآية، بل الجواب المطابق لظاهر الآية أنه سبحانه علقه على نفس استقرار الجبل، ولم يتحقق
المعلق عليه، لأنه سبحانه لما تجلى عليه جعله دكا.
51
عدمي فيكون عدميا، فلم يبق إلا الوجود، فكل موجود تصح رؤيته، والله تعالى
موجود.
وهذا الدليل ضعيف جدا لوجوه:
الأول: المنع من رؤية الجسم، بل المرئي هو اللون والضوء لا غير (1).
الثاني: لا نسلم اشتراكهما في صحة الرؤية فإن رؤية الجوهر مخالفة
لرؤية العرض.
الثالث: لا نسلم أن الصحة ثبوتية بل هي أمر عدمي لأن جنس صحة
الرؤية وهو الإمكان عدمي فلا يفتقر إلى العلة.
الرابع: لا نسلم أن المعلول المشترك يستدعي علة مشتركة فإنه يجوز
اشتراك العلل المختلفة في المعلولات المتساوية.
الخامس: لا نسلم الحصر في الحدوث والوجود، وعدم العلم لا يدل على
العدم، مع أنا نتبرع بذكر قسم آخر وهو الإمكان وجاز التعليل به وإن كان عدميا
لأن صحة الرؤية عدمية.
السادس: لا نسلم أن الحدوث لا يصلح للعلية وقد بينا أن صحة الرؤية
عدمية، على أنا نمنع من كون الحدوث عدميا لأنه عبارة عن الوجود المسبوق
بالغير لا المسبوق بالعدم.
السابع: لم لا يجوز أن تكون العلة هي الوجود بشرط الإمكان أو بشرط
الحدوث؟ والشروط يجوز أن تكون عدمية.



(1) هذا هو الجواب الحقيقي الذي يؤيده العلم الحديث، ثم إن الأجوبة التالية إما راجعة إلى منع
الصغرى أو إلى منع الكبرى فلاحظ.
52
الثامن: المنع من كون الوجود مشتركا (1) لأن وجود كل شئ نفس
حقيقته ولو سلم كون الوجود الممكن مشتركا لكن وجود الله تعالى مخالف
لغيره من الوجودات، لأنه نفس حقيقته، ولا يلزم من كون بعض الماهيات علة
لشئ كون ما يخالفه علة لذلك الشئ.
التاسع: المنع من وجود الحكم عند وجود المقتضي، فإنه جاز وجود مانع
في حقه تعالى إما ذاته أو صفة من صفاته، أو قبول الحكم يتوقف على شرط
كالمقابلة هنا وهي تمتنع في حقه تعالى فلا يلزم وجود الحكم فيه.
المسألة الحادية والعشرون: في باقي الصفات
قال: وعلى ثبوت الجود:
أقول: هذا عطف على قوله على سرمديته، أي إن وجوب الوجود يدل
على سرمديته وعلى ثبوت الجود.



(1) توضيح الجواب: أولا: نمنع أن حقيقة الوجود مشترك بل هو حقائق متباينة، كما عليه
المشاؤون. وإليه أشار بقوله: " لأن وجود كل شئ نفس حقيقته " وحقيقة كل شئ مباين مع
الآخر، فينتج أن وجود كل شئ مباين مع وجود الشئ الآخر.
وثانيا: سلمنا كون الوجود مشتركا لكن وجود الواجب مخالف لغيره، لأن وجوده عين ذاته دون
الآخرين.
وبما أن الوجود في الممكنات حقيقة واحدة لا يلزم من كون بعض الماهيات علة لشئ، كون ما
يخالفه علة لذلك الشئ، لأنا افترضنا وحدة حقيقة في الممكنات.
ومع ذلك يتوجه على هذا الجواب سؤال، وهو أنه إذا كانت حقيقة وجود الواجب مباينة مع الممكن،
فكيف تصح عليته للممكنات؟! فلاحظ.
53
واعلم أن الجود هو إفادة ما ينبغي للمستفيد من غير استعاضة منه، والله
تعالى قد أفاد الوجود الذي ينبغي للممكنات من غير أن يستعيض منها شيئا من
صفة حقيقية أو إضافية، فهو جواد، وجماعة الأوائل نفوا الغرض عن الجواد،
وهو باطل، وسيأتي بيانه في باب العدل.
قال: والملك.
أقول: وجوب الوجود يدل على كونه تعالى ملكا لأنه غني عن الغير في
ذاته وصفاته الحقيقية المطلقة والحقيقية المستلزمة للإضافة وكل شئ مفتقر
إليه لأن كل ما عداه ممكن إنما يوجد بسببه وله ذات كل شئ لأنه مملوك له
مفتقر إليه في تحقق ذاته فيكون ملكا لأن الملك هو المستجمع لهذه الصفات
الثلاث.
قال: والتمام وفوقه.
أقول: وجوب الوجود يدل على كونه تعالى تاما وفوق التمام.
أما كونه تاما فلأنه واحد، على ما سلف، واجب من كل جهة يمتنع تغيره
وانفعاله وتجدد شئ له، فكل ما من شأنه أن يكون له فهو حاصل له بالفعل.
وأما كونه فوق التمام فلأن ما حصل لغيره من الكمالات فهو منه مستفاد.
قال: والحقية.
أقول: وجوب الوجود يدل على ثبوت الحقية له تعالى.

54
واعلم أن " الحق " يقال للثابت مطلقا والثابت دائما، ويقال على حال القول
والعقد بالنسبة إلى المقول والمعتقد إذا كان مطابقا، وهو الصادق أيضا لكن
باعتبار نسبة القول والعقد إليه، والله تعالى واجب الثبوت والدوام غير قابل
للعدم والبطلان، فذاته أحق من كل حق وهو محقق كل حقيقة.
قال: والخيرية.
أقول: وجوب الوجود يدل على ثبوت وصف الخيرية لله تعالى، لأن
الخير عبارة عن الوجود والشر عبارة عن عدم كمال الشئ من حيث هو
مستحق له، وواجب الوجود يستحيل أن يعدم عنه شئ من الكمالات، فلا
يتطرق إليه الشر بوجه من الوجوه فهو خير محض.
قال: والحكمة.
أقول: وجوب الوجود يقتضي وصف الله تعالى بالحكمة، لأن الحكمة
قد يعنى بها معرفة الأشياء، وقد يراد بها صدور الشئ على الوجه الأكمل، ولا
عرفان أكمل من عرفانه تعالى فهو حكيم بالمعنى الأول.
وأيضا فإن أفعاله تعالى في غاية الإحكام والإتقان ونهاية الكمال فهو
حكيم بالمعنى الثاني أيضا.
قال: والتجبر.
أقول: وجوب الوجود يقتضي وصفه تعالى بكونه جبارا، لأن وجوب
الوجود يقتضي استناد كل شئ إليه، فهو يجبر ما بالقوة بالفعل والتكميل كالمادة
بالصورة، فهو جبار من حيث إنه واجب الوجود.

55
قال: والقهر.
أقول: وجوب الوجود يقتضي وصفه تعالى بكونه قهارا، بمعنى أنه يقهر
العدم بالوجود والتحصيل.
قال: والقيومية.
أقول: وصفه تعالى بكونه واجب الوجود يقتضي وصفه بكونه قيوما،
بمعنى أنه قائم بذاته ومقيم لغيره، لأن وجوب الوجود يقتضي استغناءه عن غيره
وهو معنى قيامه بذاته، ويقتضي استناد غيره إليه وهو المعنى بكونه مقيما لغيره.
قال: وأما اليد والوجه والقدم والرحمة والكرم والرضا والتكوين
فراجعة إلى ما تقدم.
أقول: ذهب أبو الحسن الأشعري إلى أن اليد صفة وراء القدرة، والوجه
صفة مغايرة للوجود.
وذهب عبد الله بن سعيد إلى أن القدم صفة مغايرة للبقاء، وأن الرحمة
والكرم والرضا صفات مغايرة للإرادة.
وأثبت جماعة من الحنفية التكوين صفة مغايرة للقدرة، والتحقيق أن هذه
الصفات راجعة إلى ما تقدم.

56
الفصل الثالث
في أفعاله
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في إثبات الحسن والقبح العقليين (1)
قال: الثالث في أفعاله. الفعل المتصف بالزائد إما حسن أو قبيح
والحسن أربعة.
أقول: لما فرغ من إثباته تعالى وبيان صفاته، شرع في بيان عدله وأنه تعالى
حكيم لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب وما يتعلق بذلك من المسائل.
وبدأ بقسمة الفعل إلى الحسن والقبيح، وبين أن الحسن والقبح أمران
عقليان، وهذا حكم متفق عليه بين المعتزلة.



(1) هذه المسألة من المسائل المهمة في علم الكلام وعليها يبتنى كثير من المسائل الكلامية:
1 - لزوم معرفته سبحانه عقلا 2 - وجوب تنزيه فعله عن العبث 3 - لزوم تكليف العباد 4 - لزوم بعث
الأنبياء 5 - لزوم النظر في برهان مدعي النبوة 6 - العلم بصدق مدعي النبوة 7 - الخاتمية واستمرار
أحكام الشريعة 8 - ثبات الأصول الأخلاقية ودوامها 9 - لزوم الحكمة في البلاء والمصائب 10 -
الله عادل لا يجور.
هذه مسائل عشر كلامية يعتمد إثباتها على الإيمان بالحسن والقبح العقليين، وإنكارهما مساوق
للشك في جميع هذه المسائل المترتبة عليهما.
بل يترتب على المسألة العاشرة: (الله عادل لا يجور) مسائل كثيرة نظير:
11 - قبح العقاب بلا بيان 12 - قبح التكليف بما لا يطاق 13 - القضاء والقدر لا يسلبان الاختيار 14 -
الإنسان المكلف مختار لا مسير، إلى غير ذلك من الفروع الكلامية فضلا عما يترتب عليه من
المسائل الأصولية من أبواب الملازمات، كالملازمة بين وجوب المقدمة وذيها، ووجوب الشئ
وحرمة ضده، والملازمة بين ثبوت حكم مع الشرط والوصف وإلى غاية، ارتفاعه عند ارتفاع هذه
القيود الثلاثة.
وللشارح قدس سره كلام في بعض كتبه نأتي به، قال:
اعلم أن هذا أصل عظيم تبتني عليه القواعد الإسلامية بل الأحكام الدينية مطلقا، وبدونه لا يتم شئ
من الأديان، ولا يمكن أن يعلم صدق نبي من الأنبياء على الإطلاق إلا به على ما نقرره فيما بعد إن
شاء الله تعالى، وبئس ما اختاره الإنسان لنفسه مذهبا خرج به عن جميع الأديان ولم يمكنه أن
يتعبد الله بشرع من الشرائع السابقة واللاحقة ولا يجزم به على نجاة نبي مرسل أو ملك مقرب أو
مطيع في جميع أفعاله من أولياء الله وخلصائه ولا على عذاب أحد من الكفار والمشركين وأنواع
الفساق والعاصين، فلينظر العاقل المقلد هل يجوز له أن يلقي الله تعالى بمثل هذه العقائد
الفاسدة والآراء الباطلة المستندة إلى اتباع الشهوة والانقياد للمطامع؟
وعلى ذلك فلازم على المحقق الإمعان الكثير في هذه المسألة الأساسية.
57
وأما الأشاعرة فإنهم ذهبوا إلى أن الحسن والقبح إنما يستفادان من الشرع،
فكل ما أمر الشارع به فهو حسن وكل ما نهى عنه فهو قبيح، ولولا الشرع لم يكن
حسن ولا قبح، ولو أمر الله تعالى بما نهى عنه لانقلب القبيح إلى الحسن.
والأوائل ذهبوا إلى أن من الأشياء ما هو حسن ومنها ما هو قبيح بالنظر إلى
العقل العملي.

58
وقد شنع أبو الحسين على الأشاعرة بأشياء ردية، وما شنع به فهو حق إذ
لا تتمشى قواعد الإسلام بارتكاب ما ذهب إليه الأشعرية من تجويز القبائح عليه
تعالى وتجويز إخلاله بالواجب، وما أدري كيف يمكنهم الجمع بين المذهبين؟!
واعلم أن الفعل من التصورات الضرورية، وقد حده أبو الحسين بأنه ما
حدث عن قادر، مع أنه حد القادر بأنه الذي يصح أن يفعل وأن لا يفعل فلزمه
الدور، على أن الفعل أعم من الصادر عن قادر وغيره.
إذا عرفت هذا فالفعل الحادث إما أن لا يوصف بأمر زائد على حدوثه وهو
مثل حركة الساهي والنائم، وإما أن يوصف وهو قسمان: حسن وقبيح.
فالحسن ما لا يتعلق بفعله ذم (1) والقبيح بخلافه، والحسن إما أن لا يكون
له وصف زائد على حسنه وهو المباح ويرسم بأنه ما لا مدح فيه على الفعل
والترك، وإما أن يكون له وصف زائد على حسنه، فإما أن يستحق المدح بفعله
والذم بتركه وهو الواجب، أو يستحق المدح بفعله ولا يتعلق بتركه ذم وهو
المندوب، أو يستحق المدح بتركه ولا يتعلق بفعله ذم وهو المكروه.
فقد انقسم الحسن إلى الأحكام الأربعة: الواجب والمندوب والمباح
والمكروه، ومع القبيح تبقى الأحكام الحسنة والقبيحة خمسة.



(1) يحاول بهذا التعريف إدخال المباح والمكروه تحت الحسن، نعم لو عرف الحسن بما يستحق
المدح، فلا يعم إلا الواجب والمستحب، ولا وجه لحصر الأفعال فيهما، بل يمكن تصوير قسم
ثالث لا يوصف بأحدهما كما هو الحال في المباح بل المكروه.
59
قال: وهما عقليان، للعلم بحسن الإحسان وقبح الظلم من غير شرع.
أقول: استدل المصنف رحمه الله على أن الحسن والقبح أمران عقليان
بوجوه:
هذا أولها، وتقريره: أنا نعلم بالضرورة حسن بعض الأشياء وقبح بعضها
من غير نظر إلى شرع، فإن كل عاقل يجزم بحسن الإحسان ويمدح عليه، وبقبح
الإساءة والظلم ويذم عليه، وهذا حكم ضروري لا يقبل الشك وليس مستفادا
من الشرع لحكم البراهمة والملاحدة به من غير اعتراف منهم بالشرائع.
قال: ولانتفائهما مطلقا لو ثبتا شرعا.
أقول: هذا وجه ثان يدل على أن الحسن والقبح عقليان، وتقريره: أنهما لو
ثبتا شرعا لم يثبتا لا شرعا ولا عقلا والتالي باطل إجماعا فالمقدم مثله.
بيان الشرطية: أنا لو لم نعلم حسن بعض الأشياء وقبحها عقلا لم نحكم
بقبح الكذب فجاز وقوعه من الله، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، فإذا أخبرنا في
شئ أنه قبيح لم نجزم بقبحه وإذا أخبرنا في شئ أنه حسن لم نجزم بحسنه
لتجويز الكذب ولجوزنا أن يأمرنا بالقبيح وأن ينهانا عن الحسن لانتفاء حكمته
تعالى على هذا التقدير.
قال: ولجاز التعاكس.
أقول: الذي خطر لنا في تفسير هذا الكلام أنه لو لم يكن الحسن والقبح
عقليين لجاز أن يقع التعاكس في الحسن والقبح، بأن يكون ما نتوهمه حسنا
قبيحا وبالعكس.

60
فكان يجوز أن يكون هناك أمم عظيمة تعتقد حسن مدح من أساء إليهم
وذم من أحسن كما حصل لنا اعتقاد عكس ذلك، ولما علم كل عاقل بطلان ذلك
جزمنا باستناد هذه الأحكام إلى القضايا العقلية لا الأوامر والنواهي الشرعية ولا
العادات.
قال: ويجوز التفاوت في العلوم لتفاوت التصور.
أقول: لما استدل على مذهبه من إثبات الحسن والقبح العقليين شرع في
الجواب عن شبهة الأشاعرة، وقد احتجوا بوجوه:
الأول: لو كان العلم بقبح بعض الأشياء وحسنها ضروريا لما وقع التفاوت
بينه وبين العلم لزيادة الكل على الجزء، والتالي باطل بالوجدان فالمقدم مثله،
والشرطية ظاهرة لأن العلوم الضرورية لا تتفاوت.
والجواب: المنع من الملازمة، فإن العلوم الضرورية قد تتفاوت لوقوع
التفاوت في التصورات. فقوله: " ويجوز التفاوت في العلوم لتفاوت التصور "
إشارة إلى هذا الجواب.
قال: وارتكاب أقل القبيحين مع إمكان المخلص.
أقول: هذا يصلح أن يكون جوابا عن شبهتين للأشعرية:
إحداهما: قالوا: لو كان الكذب قبيحا لكان الكذب المقتضي لتخليص
النبي من يد ظالم قبيحا، والتالي باطل لأنه يحسن تخليص النبي فالمقدم مثله.

61
الثانية: قالوا: لو قال الإنسان لأكذبن غدا فإن حسن منه الصدق بإيفاء
الوعد (1) لزم حسن الكذب، وإن قبح كان الصدق قبيحا فيحسن الكذب.
والجواب فيهما واحد، وذلك لأن تخليص النبي أرجح (2) من الصدق،
فيكون تركه أقبح من الكذب، فيجب ارتكاب أدنى القبيحين وهو الكذب
لاشتماله على المصلحة العظيمة الراجحة على الصدق.
وأيضا يجب عليه ترك الكذب في غد (3) لأنه إذا كذب في الغد فعل شيئا
فيه جهتا قبح وهو العزم على الكذب وفعله، ووجها واحدا من وجوه الحسن
وهو الصدق، وإذا ترك الكذب يكون قد ترك تتمة العزم والكذب وهما وجها
حسن، وفعل وجها واحدا من وجوه القبح وهو الكذب.



(1) توضيح الاستدلال: أنه إذا قال إنسان لأكذبن غدا يلزم حسن أحد الكذبين:
لأنه إن حسن العمل بوعده يجب عليه أن يكذب غدا، فيكون هذا الكذب المحقق للعمل بالوعد
الحسن، حسنا أيضا.
وإن قبح العمل بالوعد، وبالتالي يلزم عليه - إن أخبر - أن يخبر خبرا صادقا، فما أخبر به وإن كان بذاته
صادقا لكنه بالقياس إلى ما وعده كاذب والمخاطب يتصور أنه خبر كاذب، وإنما يكون صادقا لو
أخبر بخبر كاذب لا ما إذا أخبر بخبر صادق، ولو أخبر عن صدق يعد كاذبا بالنسبة إلى ما وعد.
وإلى هذا الشق أشار بقوله: " وإن قبح كان الصدق قبيحا، فيحسن الكذب ".
ومراده من الصدق هو الإخبار عن كذب، كما أن مراده من الكذب هو الإخبار عن صدق، الذي يعد
بالنسبة إلى ما وعد خبرا كاذبا.
(2) هذا توضيح لكون الكذب في القضية الأولى من باب ارتكاب أدنى القبيحين.
(3) بيان لكون الصدق في غد ارتكاب لأقل القبيحين، بخلاف الكذب فإنه ارتكاب للقبيحين، إلى
هنا تم الجواب الأول عن كلتا الشبهتين.
62
وأيضا قد يمكن التخلص (1) عن الكذب في الصورة الأولى بأن يفعل
التورية أو يأتي بصورة الإخبار الكذب من غير قصد إليه. ولأن جهة الحسن هي
التخلص (2) وهي غير منفكة عنه وجهة القبح هي الكذب وهي غير منفكة عنه،
فما هو حسن لم ينقلب قبيحا وكذا ما هو قبيح لم ينقلب حسنا.
قال: والجبر باطل.
أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى لهم، وهي أنهم قالوا: الجبر حق فينتفي
الحسن والقبح العقليان، والملازمة ظاهرة، وبيان صدق المقدم ما يأتي.
والجواب: الطعن في الصغرى وسيأتي البحث فيها.
المسألة الثانية: في أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يخل بالواجب
قال: واستغناؤه وعلمه يدلان على انتفاء القبح عن أفعاله تعالى.
أقول: اختلف الناس هنا، فقالت المعتزلة: إنه تعالى لا يفعل قبيحا ولا يخل
بواجب. ونازع الأشعرية في ذلك وأسندوا القبائح إليه، تعالى الله عن



(1) جواب ثان يختص بالشبهة الأولى.
(2) هذا جوا ب ثالث، وحاصله: أن هناك حسنا وهو تخليص النبي، وقبيحا وهو الكذب، فعند
دوران الأمر بين الأمرين يقدم أقوى ملاكا وهو تخليص النبي فيرتكب القبيح لأجل إحراز الحسن
والأقوى مصلحة.
والفرق بين الجواب الأول وهذا الجواب واضح، إذ كان الأول مبنيا على دوران الأمر بين ارتكاب أحد
القبيحين: قتل النبي والكذب فيختار الأقل قبحا، وهذا الجواب مبني على دوران الأمر بين الإتيان
بالحسن (نجاة النبي) وارتكاب القبيح فيؤخذ بأقوى الأمرين ملاكا وهو صيانة حياة النبي...
63
ذلك.
والدليل على ما اختاره المعتزلة: أن له داعيا إلى فعل الحسن وليس له
صارف عنه، وله صارفا عن فعل القبيح وليس له داع إليه، وهو قادر على كل
مقدور ومع وجود القدرة والداعي يجب الفعل.
وإنما قلنا ذلك لأنه تعالى غني يستحيل عليه الحاجة وهو عالم بحسن
الحسن وقبح القبيح، ومن المعلوم بالضرورة أن العالم بالقبيح الغني عنه لا يصدر
عنه وأن العالم بالحسن القادر عليه إذا خلا من جهات المفسدة فإنه يوجده.
وتحريره: أن الفعل بالنظر إلى ذاته ممكن، وواجب بالنظر إلى علته، وكل
ممكن مفتقر إلى قادر، فإن علته إنما تتم بواسطة القدرة والداعي، فإذا وجدا فقد
تم السبب وعند تمام السبب يجب وجود الفعل.
وأيضا لو جاز منه فعل القبيح أو الإخلال بالواجب لارتفع الوثوق بوعده
ووعيده، لإمكان تطرق الكذب عليه، ولجاز منه إظهار المعجزة على يد الكاذب
وذلك يفضي إلى الشك في صدق الأنبياء ويمتنع الاستدلال بالمعجزة عليه.
المسألة الثالثة: في أنه تعالى قادر على القبيح
قال: مع قدرته عليه لعموم النسبة ولا ينافي الامتناع اللاحق.
أقول: ذهب العلماء كافة إلى أنه تعالى قادر على القبيح، إلا النظام.
والدليل على ذلك أنا قد بينا عموم نسبة قدرته إلى الممكنات والقبيح
منها فيكون مندرجا تحت قدرته.

64
احتج بأن وقوعه منه يدل على الجهل أو الحاجة وهما منفيان في حقه
تعالى.
والجواب: أن الامتناع هنا بالنظر إلى الحكمة، فهو امتناع لاحق لا يؤثر في
الإمكان الأصلي، ولهذا عقب المصنف رحمه الله الاستدلال على مراده
بالجواب عن الشبهة التي له وإن لم يذكرها صريحا.
المسألة الرابعة: في أنه يفعل لغرض
قال: ونفي الغرض يستلزم العبث ولا يلزم عوده إليه.
أقول: اختلف الناس هنا، فذهبت المعتزلة إلى أنه تعالى يفعل لغرض ولا
يفعل شيئا لغير فائدة.
وذهبت الأشاعرة إلى أن أفعاله تعالى يستحيل تعليلها بالأغراض
والمقاصد.
والدليل على مذهب المعتزلة: أن كل فعل لا يفعل لغرض فإنه عبث
والعبث قبيح والله تعالى يستحيل منه فعل القبيح.
احتج المخالف (1) بأن كل فاعل لغرض وقصد فإنه ناقص بذاته
مستكمل بذلك الغرض والله تعالى يستحيل عليه النقصان.
والجواب: النقص إنما يلزم لو عاد الغرض والنفع إليه أما إذا كان النفع
عائدا إلى غيره فلا، كما نقول إنه تعالى يخلق العالم لنفعهم.



(1) الظاهر أن النزاع لفظي لاتفاق الطائفتين على أنه ليس لأفعاله سبحانه غرض يستكمل به الفاعل
كما هو الحال في أفعال الإنسان، ولو كان هناك غرض فإنما هو للفعل أي ليس الفعل بلا غاية
وهذا لا ينكره الأشعري لكن إذا عقل وفكر.
65
المسألة الخامسة: في أنه تعالى يريد الطاعات
ويكره المعاصي (1)
قال: وإرادة القبيح قبيحة وكذا ترك إرادة الحسن، وللأمر والنهي.
أقول: مذهب المعتزلة أن الله تعالى يريد الطاعات من المؤمن والكافر
سواء وقعت أو لا، ويكره المعاصي سواء وقعت أو لا.
وقالت الأشاعرة: كل ما هو واقع فهو مراد سواء كان طاعة أو معصية.
والدليل على ما ذهب إليه المعتزلة وجهان:



(1) العنوان الواقعي لهذه المسألة: تعلق إرادته سبحانه بأفعال العباد وعدمه، لا ما ذكره الشارح.
ثم إنه لو أريد من الإرادة، القسم التشريعي منها فلم يختلف في ذلك العنوان اثنان، فالمعتزلي
والأشعري متفقان على أنه سبحانه أمر بالطاعة ونهى عن المعاصي بضرورة الشريعة فلا معنى
للنزاع.
وإن أراد القسم التكويني منها - كما هو الظاهر - فهو غير منطبق على مذهب المعتزلي، لأن مذهبه
خروج أفعال العباد عن حريم الإرادة والكراهة التكوينيتين لله سبحانه ولا معنى لتعلق إرادته
التكوينية لطاعته، وكراهيته التكوينية لمعصيته، لأنه يستلزم الجبر إذا أطاع العبد، ومقهورية
كراهته سبحانه إذا عصاه العبد، كل ذلك يعرب عن كون العنوان والتعبير عن مذهب المعتزلة غير
واقعين موقعه.
ثم إن هذه المسألة وإن كانت لها صلة بكون الإنسان مختارا في فعله أو مجبرا، لكن ليست عينها،
ولأجل ذلك عاد المصنف إلى الثانية في المسألة السادسة وقال: " والضرورة قاضية باستناد
أفعالنا إلينا ".
ثم إن المقام من المواضع التي ترك الماتن فيه مذهب الحكماء وأخذ برأي المعتزلة وغفل عن
مذهب الإمامية الذي هو مذهبه واستدل على رأيهم بأمرين. وحاصل الأول: هو أن العبد إذا فعل
القبيح أو ترك الحسن، فلو كانا متعلقين بإرادته سبحانه لزم أن يريد فعل القبيح وترك الحسن
وكلاهما قبيحان.
ولكن الرد مبني على عقيدة الأشاعرة في مسألة تعلق إرادته سبحانه بأفعال العباد، من تعلقها بها
مباشرة وبلا واسطة، فيترتب عليه ما ذكر في الدليل، وأما على القول الحق من تعلقها بصدور كل
فعل عن سببه الخاص وتعلقها في أفعال العباد بصدورها عن الفواعل عن مبادئها ومنها الاختيار
الذي هو جوهر الإنسان وحقيقته، فلا يلزم أي محذور، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى محاضراتنا
" الإلهيات " (1)، كيف وقال سبحانه: (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين) (التكوير: 29).
ثم إن أئمة أهل البيت عليهم السلام نددوا بالقول بخروج أفعال العباد عن مجال إرادته تعالى، قال
الصادق عليه السلام: " من زعم أن الخير والشر بغير مشيئة الله فقد أخرج الله من سلطانه " (2).
وقال أيضا: " القدرية أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه عن سلطانه " (3).
فما ذهب إليه المعتزلي من خروج أفعال العباد عن مجال إرادته التكوينية على الإطلاق، أو ما ذهب
إليه الأشعري من كونها متعلقة بإرادته على وجه المباشرة باطلان، والحق القراح تعلق إرادته
بصدور كل فعل عن كل فاعل لكن عن مبادئه التي تعد علة مباشرية له ومنها الاختيار، فالإنسان
مختار في فعله، فله أن يفعل وأن لا يفعل، لكنه مضطر في حريته واختياره، فلاحظ.
-
1 - حسن العاملي: الإلهيات: 2 / 292.
2 - الصدوق: التوحيد باب نفي الجبر والتفويض، الحديث 2 ص 359.
3 - الصدوق: التوحيد باب القضاء، الحديث 29 ص 382.
66
الأول: أنه تعالى حكيم لا يفعل القبيح على ما تقدم، فكما أن فعل القبيح
قبيح فكذا إرادته قبيحة، وكما أن ترك الحسن قبيح فكذا إرادة تركه.
الثاني: أنه تعالى أمر بالطاعات ونهى عن المعاصي، والحكيم إنما يأمر بما
يريده لا بما يكرهه، وينهى عما يكرهه لا عما يريده، فلو كانت الطاعة من
الكافر مكروهة لله تعالى لما أمر بها، ولو كانت المعصية مرادة لله تعالى لما نهاه
عنها وكان الكافر مطيعا بكفره وعدم إيمانه لأنه فعل ما أراده الله تعالى منه وهو
المعصية وامتنع عما كرهه وذلك باطل قطعا.

67
قال: وبعض الأفعال مستندة إلينا، والمغلوبية غير لازمة، والعلم تابع.
أقول: لما فرغ من الاستدلال شرع في إبطال حجج الخصم وهي ثلاثة:
الأولى: قالوا: الله تعالى فاعل لكل موجود (1) فتكون القبائح مستندة إليه
بإرادته.
والجواب: ما يأتي من كون بعض الأفعال مستندة إلينا.
الثانية: أن الله تعالى لو أراد من الكافر الطاعة، والكافر أراد المعصية،
وكان الواقع مراد الكافر لزم أن يكون الله تعالى مغلوبا (2)، إذ من يقع مراده من
المريدين هو الغالب.
والجواب: أن هذا غير لازم، لأن الله تعالى إنما يريد الطاعة من العبد على
سبيل الاختيار، وهو إنما يتحقق بإرادة المكلف، ولو أراد الله تعالى إيقاع الطاعة
من الكافر مطلقا سواء كانت عن اختيار أو إجبار لوقعت.



(1) لو أراد من الموجود الجواهر فالصغرى صحيحة، وإن أراد ما يعم الأعراض أي أفعال المكلفين
فهو ممنوع، وعلى فرض الصحة إن أراد الفاعلية المباشرية فهي أيضا ممنوعة، وإن أراد الأعم فلا
يضر، لانتهاء الممكنات بجواهرها وأعراضها إلى الواجب ولكنه لا يستلزم استناد القبائح إليه
تعالى بل إلى السبب المباشر.
(2) الاستدلال مبهم جدا فلم يبين ماذا يريد من إرادة الله في قوله: إذا أراد الله من الكافر الطاعة، فهل
يريد بالإرادة، التشريعية، وعندئذ لو أراد الكافر الكفر بالإرادة التكوينية فتأثير إرادة العبد لا يكون
دليلا على مغلوبيته سبحانه، وإنما تتحقق المغلوبية لو كانت كلتا الإرادتين تكوينية ويجئ فرضه
في ذيل المسألة السادسة، أعني قوله: " ومع الاجتماع يقع مراده تعالى ".
68
الثالثة: قالوا: كل ما علم الله تعالى وقوعه وجب، وما علم عدمه امتنع، فإذا
علم عدم وقوع الطاعة من الكافر استحال إرادتها منه وإلا لكان مريدا لما يمتنع
وجوده.
والجواب: أن العلم تابع لا يؤثر في إمكان الفعل، وقد مر تقرير ذلك.
المسألة السادسة: في أنا فاعلون
قال: والضرورة قاضية باستناد أفعالنا إلينا.
أقول: اختلف العقلاء هنا، فالذي ذهب إليه المعتزلة أن العبد فاعل لأفعال
نفسه واختلفوا:
فقال أبو الحسين: إن العلم بذلك ضروري، وهو الحق الذي ذهب إليه
المصنف رحمه الله، وقال آخرون: إنه استدلالي.
وأما جهم بن صفوان فإنه قال: إن الله تعالى هو الموجد لأفعال العباد،
وإضافتها إليهم على سبيل المجاز، فإذا قيل: فلان صلى وصام كان بمنزلة قولنا:
طال وسمن.
وقال ضرار بن عمرو والنجار وحفص الفرد وأبو الحسن الأشعري: إن
الله تعالى هو المحدث لها والعبد مكتسب، ولم يجعل لقدرة العبد أثرا في
الفعل، بل القدرة والمقدور واقعان بقدرة الله تعالى، وهذا الاقتران هو الكسب،
وفسر القاضي الكسب بأن ذات الفعل واقعة بقدرة الله تعالى وكونه طاعة
ومعصية صفتان واقعتان بقدرة العبد.

69
وقال أبو إسحاق الإسفرايني (1) من الأشاعرة: إن الفعل واقع بمجموع
القدرتين.
والمصنف التجأ إلى الضرورة هاهنا، فإنا نعلم بالضرورة الفرق بين حركة
الحيوان اختيارا وبين حركة الحجر الهابط، ومنشأ الفرق هو اقتران القدرة في
أحد الفعلين به وعدمه في الآخر.
قال: والوجوب للداعي (2) لا ينافي القدرة كالواجب.
أقول: لما فرغ من تقرير المذهب شرع في الجواب عن شبه الخصم.
وتقرير الشبهة الأولى: أن صدور الفعل من المكلف إما أن يقارن تجويز لا
صدوره أو امتناع لا صدوره، والثاني يستلزم الجبر، والأول إما أن يترجح منه
الصدور على لا صدوره لمرجح أو لا لمرجح، والثاني يلزم منه الترجيح لأحد
طرفي الممكن من غير مرجح وهو محال، والأول يستلزم



(1) وهو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم، الذي أخذ عنه عامة شيوخ نيسابور، وهو أحد الأقطاب
لتبيين مذهب الأشعري بعد الباقلاني (ت 403 ه‍) وابن فورك (406 ه‍). (توفي أبو إسحاق عام
481 ه‍).
(2) المسألة السادسة وما تفرع عليها راجعة إلى مسألة الجبر والاختيار، وحاصل استدلال المجبرة
أن الفعل الممكن الذي يجوز صدوره ولا صدوره عن الإنسان لا يخرج عن الاستواء إلا بداع يجره
إلى اختيار الطرفين، وهو إما أن لا ينتهي ويكون للداع داع وهكذا، أو ينتهي، والأول محال، فتعين
الثاني وهو يضفي على الفعل وصف الوجوب.
والجواب ما ذكره من أن الوجوب اللاحق لا ينافي الإمكان والاختيار وأن قولهم: " الشئ ما لم يجب
لم يوجد " لا ينافي كون الفاعل مختارا إذ هو الذي يعطي للفعل الوجوب عن اختيار. ولنا في
تفسير عبارة الماتن نظر آخر أوردناه في الإلهيات ج 2 / 299 فلاحظ.
70
التسلسل أو الانتهاء إلى ما يجب معه الترجيح وهو ينافي التقدير ويستلزم الجبر.
والجواب: أن الفعل بالنظر إلى قدرة العبد ممكن وواجب بالنظر إلى داعيه
وذلك لا يستلزم الجبر، فإن كل قادر فإنه يجب عنه الأثر عند وجود الداعي كما
في حق الواجب تعالى فإن هذا الدليل قائم في حقه تعالى ووجه المخلص ما
ذكرناه، على أن هذا غير مسموع من أكثرهم حيث جوزوا من القادر ترجيح أحد
مقدوريه على الآخر من غير مرجح وبه أجابوا عن الشبهة التي أوردها الفلاسفة
عليهم (1)، فما أدري لم كان الجواب مسموعا هناك ولم يكن مسموعا هاهنا؟!
قال: والإيجاد لا يستلزم العلم إلا مع اقتران القصد فيكفي الإجمال.
أقول: هذا الجواب عن شبهة أخرى لهم، وتقريرها: أن العبد لو كان
موجدا لأفعال نفسه لكان عالما بها، والتالي باطل فالمقدم مثله، والشرطية
ظاهرة، وبيان بطلان التالي أنا حال الحركة نفعل حركات جزئية لا نعقلها وإنما
نقصد الحركة إلى المنتهى وإن لم نقصد جزئيات تلك الحركة.
والجواب: أن الإيجاد لا يستلزم العلم، فإن الفاعل قد يصدر عنه الفعل
بمجرد الطبع كالإحراق الصادر عن النار من غير علم، فلا يلزم من نفي العلم نفي
الإيجاد، نعم الايجاد مع القصد يستلزم العلم لكن العلم الإجمالي كاف فيه وهو
حاصل في الحركات الجزئية بين المبدأ والمنتهى.



(1) الشبهة التي أوردها الحكماء هي امتناع حدوث العالم زمانا، فقالت الأشاعرة في حلها بجواز
الترجيح بلا مرجح، لاحظ كشف المراد الفصل السادس من المقصد الثاني: المسألة السادسة ص
173 قول الماتن فيها: " والحدوث اختص بوقته ".
71
قال: ومع الاجتماع يقع مراده تعالى.
أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى لهم، وتقريرها: أن العبد لو كان قادرا
على الفعل (1) لزم اجتماع قادرين على مقدور واحد، والتالي باطل فالمقدم
مثله.
بيان الشرطية: أنه تعالى قادر على كل مقدور، فلو كان العبد قادرا على



(1) استدل على أن قدرة العبد غير صالح للإيجاد، وذلك فيما إذا أراد الله تسكين جسم وأراد العبد
تحريكه، فله صور ثلاث:
1 - أن يقع المرادان. وهو محال، استلزامه اجتماع النقيضين.
2 - أن لا يقع المرادان. وهو محال، لاستلزامه ارتفاعهما.
3 - أن يقع أحدهما دون الآخر، يلزم الترجيح بلا مرجح لأن المفروض أن كلا من القدرتين علة تامة
للمراد فلا ترجح إحداهما على الأخرى.
قال الرازي في أربعينه: " لو كانت قدرة العبد صالحة للإيجاد فإذا أراد الله تسكين جسم وأراد العبد
تحريكه فإما أن يقع المرادان أو لا يقع واحد منهما وهما محالان، أو يقع مراد الله تعالى دون
مراد العبد وهو أيضا محال لأن الله تعالى وإن كان قادرا على ما لا نهاية له، والعبد ليس كذلك، إلا
أن ذلك لا يوجب التفاوت بين قدرته تعالى وقدرة العبد في هذه الصورة، لأن الحركة الواحدة
والسكون الواحد ماهية غير قابلة للقسمة والتفاوت بوجه من الوجوه، وإذا كان المقدور غير قابل
للتفاوت لم يكن القدرة على مثل هذا المقدور قابلة للتفاوت، فيمتنع أن يكون قدرة الله تعالى
على إيجاد هذه الحركة أقوى من قدرة العبد على إيجاد السكون " (1).
وقد اشتبه الأمر على الرازي، فتخيل أن المورد أيضا من موارد برهان التمانع الذي أقاموه على وحدة
الخالق للعالم. وذلك لأن إرادته سبحانه في المقام من موانع ظهور إرادة العبد في لوح نفسه،
فكيف تعد الإرادتين متساويتين. بخلاف المورد الآخر فإن الإلهين المفروضين تامان في القدرة.
-
1 - الرازي: الأربعون: 232، لاحظ أيضا الإلهيات: 2 / 273.
72
شئ لاجتمعت قدرته وقدرة الله تعالى عليه.
وأما بطلان التالي: فلأنه لو أراد الله تعالى إيجاده وأراد العبد إعدامه فإن
وقع المرادان أو عدما لزم اجتماع النقيضين، وإن وقع مراد أحدهما دون الآخر
لزم الترجيح من غير مرجح.
والجواب أن نقول: يقع مراد الله تعالى لأن قدرته أقوى من قدرة العبد
وهذا هو المرجح، وهذا الدليل أخذه بعض الأشاعرة من الدليل الذي استدل به
المتكلمون على الوحدانية، وهناك يتمشى لتساوي قدرتي الإلهين المفروضين،
أما هنا فلا.
قال: والحدوث اعتباري. (1)
أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى ذكرها قدماء الأشاعرة، وهي: أن



(1) استدلت الأشاعرة على أنه لا تأثير لقدرة العبد في أفعاله الحادثة، قائلا بأنه تشترط مخالفة
الفاعل لفعله في الجهة التي بها يتعلق فعله، وهو (1) الحدوث، فيجب أن يكون الفاعل للحدوث
في مقام الوجود، مخالفا لفعله في الحدوث، مع أن العبد محدث، فلا يكون فاعلا للفعل الحادث.
وبعبارة أخرى: الجهة القائمة في الفاعل تجب أن تكون غير الجهة التي يتعلق بها الفعل، والجهة
القائمة في الفاعل هو الحدوث، والجهة التي يتعلق بها الفعل أيضا الحدوث، فلا يصح عد الأول
علة للثاني لوحدة الجهة، بل يجب أن يكون مثل الواجب والممكن، والجهة الموجودة في الأول
هو الوجوب والقدم، والجهة التي يتعلق بها الفعل في الثاني هو الحدوث والإمكان.
يلاحظ عليه: أنه لم تقم أية صورة برهان لهذه المغايرة فضلا عن البرهان، إذ لا
-
1 - الظاهر تأنيث الضمير لعوده إلى الجهة فإن فعله يتعلق بجهة الحدوث.
يشترط في التأثير إلا الأقوائية والتقدم الرتبي، لا التغاير في الجهة وإلا يلزم امتناع كونه سبحانه
فاعلا للممكنات مع وحدة الجهة، فإنه موجود وبوجوده يحدث الممكن الذي هو أيضا وجود
وموجود، فالمؤثر والأثر كلاهما وجود.
ويظهر من المحقق الطوسي أنه قبل الضابطة وأجاب بوجه آخر، وهو أن الأثر الصادر من الفاعل
هو التأثير في الماهية، والحدوث أمر انتزاعي ينتزع من وجود الشئ بعد العدم، وكان الأولى نفي
الضابطة.
73
الفاعل يجب أن يخالف فعله في الجهة التي بها يتعلق فعله، وهو الحدوث،
ونحن محدثون فلا يجوز أن نفعل الحدوث.
وتقرير الجواب: أن الفاعل لا يؤثر الحدوث، لأنه أمر اعتباري ليس بزائد
على الذات وإلا لزم التسلسل وإنما يؤثر في الماهية وهي مغايرة له.
قال: وامتناع الجسم لغيره.
أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى لهم، وهي: أنا لو كنا فاعلين في
الإحداث لصح منا إحداث الجسم، لوجود العلة المصححة للتعلق وهي
الحدوث.
والجواب: أن الجسم يمتنع صدوره عنا لا لأجل الحدوث حتى يلزم
تعميم الامتناع بل إنما امتنع صدوره عنا لأننا أجسام والجسم لا يؤثر في الجسم
(1) على ما مر.



(1) لاحظ كشف المراد، المقصد الأول، الفصل الثالث، المسألة التاسعة ص 122. وقد أدى الشارح
فيها حق المقال، وبوجه موجز نقول: إن تأثير الجسم يتوقف على المحاذاة، والجسم المعلول بعد
ليس موجودا فكيف يؤثر في إيجاده؟
74
قال: وتعذر المماثلة في بعض الأفعال لتعذر الإحاطة.
أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى ذكرها قدماؤهم، وهي: أنا لو كنا
فاعلين لصح منا أن نفعل مثل ما فعلناه أولا من كل جهة، لوجود القدرة والعلم،
والتالي باطل فالمقدم مثله.
وبيان بطلان التالي: أنا لا نقدر على أن نكتب في الزمان الثاني مثل ما كتبناه
في الزمان الأول من كل وجه بل لا بد من تفاوت بينهما في وضع الحروف
ومقاديرها.
وتقرير الجواب: أن بعض الأفعال تصدر عنا في الزمان الثاني مثل ما
صدرت في الزمان الأول مثل كثير من الحركات والأفعال وبعضها يتعذر علينا
فيه ذلك لا لأنه ممتنع ولكن لعدم الإحاطة الكلية بما فعلناه أولا فإن مقادير
الحروف إذا لم نضبطها لم يصدر عنا مثلها إلا على سبيل الاتفاق.
قال: ولا نسبة في الخيرية بين فعلنا وفعله تعالى.
أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى لهم، قالوا: لو كان العبد فاعلا للإيمان
لكان بعض أفعال العبد خيرا من فعله تعالى، لأن الإيمان خير من القردة
والخنازير، والتالي باطل بالإجماع فالمقدم مثله.
والجواب: أن نسبة الخيرية هنا منتفية، لأنكم إن عنيتم بأن الإيمان خير أنه
أنفع فليس كذلك لأن الإيمان إنما هو فعل شاق مضر على البدن (1) ليس فيه
خير عاجل، وإن عنيتم به أنه خير لما فيه من استحقاق المدح والثواب به



(1) لما أراد الشارح رد الشبهة على مسلك المعتزلة، من انقطاع فعل العبد عن الله سبحانه وكونه
مستقلا في الفعل، أتى بهذا الجواب الذي لا شك في عدم استقامته، إذ كيف يكون الإيمان فعلا
شاقا مع أنه سبحانه قال: * (ما جعل عليكم في الدين من حرج) * (الحج: 78) وكيف يكون مضرا
على البدن لو أراد الصلاة والصوم فإنهما ليسا بمضرين بالبدن، وإن أراد الحج فليس فيه أي ضرر
ولو كانت فيه مشقة، فربما يتحملها الإنسان لغايات عظيمة، على أن الأضرار الصغيرة على فرض
وجودها في مقابل غاياتها الكبيرة ليست أضرارا " ومن طلب العلى سهر الليالي ".
والأولى أن يجاب أن فعل الإنسان، كما هو فعله وهو في الوقت نفسه فعل الله سبحانه، " والفعل فعل
الله وهو فعلنا " فلو كان فيه حسن فهو أيضا مستند إليه، فلا يلزم أن يكون فعل الإنسان أحسن من
فعله سبحانه.
أضف إلى ذلك أن العلامة لم يشرح عبارة الماتن حيث قال: " ولا نسبة في الخيرية بين فعلنا وفعله "،
ومقصوده أن النسبة في الخيرية إنما يكون بين المتحدين نوعا، وما ذكرتم ليس كذلك.
75
بخلاف القردة والخنازير فحينئذ لا يكون الإيمان خيرا بنفسه وإنما الخير هو
ما يؤدى إليه الإيمان من فعل الله تعالى بالعبد وهو المدح والثواب وحينئذ يكون
المدح والثواب خيرا وأنفع للعبد من القردة والخنازير لكن ذلك من فعله تعالى.
واعلم: أن هذه الشبهة ركيكة جدا، وإنما أوردها المصنف رحمه الله هنا
لأن بعض الثنوية أورد هذه الشبهة على ضرار بن عمرو فأذعن لها والتزم بالجبر
لأجلها.
قال: والشكر على مقدمات الإيمان.
أقول: هذا جواب عن شبهة أخرى لهم، قالوا: لو كان العبد فاعلا للإيمان
لما وجب علينا شكر الله تعالى عليه، والتالي باطل بالإجماع، فالمقدم مثله،
والشرطية ظاهرة، فإنه لا يحسن منا شكر غيرنا على فعلنا.
والجواب: أن الشكر ليس على فعل الإيمان بل على مقدماته من تعريفنا
إياه وتمكيننا منه وحضور أسبابه والإقدار على شرائطه.

76
قال: والسمع متأول ومعارض بمثله (1) والترجيح معنا.
أقول: هذا جواب عن الشبه النقلية بطريق إجمالي، وتقريره أنهم قالوا:
قد ورد في الكتاب العزيز ما يدل على الجبر كقوله تعالى: * (الله خالق كل
شئ) * (2) * (والله خلقكم وما تعملون) * (3)، (4) * (ختم الله على قلوبهم) * (5)
* (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا) * (6).
والجواب: أن هذه الآيات متأولة وقد ذكر العلماء تأويلاتها في كتبهم.



(1) لا يخفى عدم صحة التعبير، إذ القرآن خال عن أي تناقض واختلاف، قال سبحانه: * (ولو كان من
عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * (النساء: 82) فاحتج بعدم الاختلاف على كونه منزلا من
الله سبحانه، ومعه كيف يمكن استعمال لفظ المعارض، بل كان عليه أن يقول: إن الآيات حول
الجبر والاختيار كثيرة، والمتشابهة منها تؤول أو تفسر ببركة المحكم ويرد الأولى إلى الثاني، كما
أمر به سبحانه في سورة آل عمران الآية 7.
(2) الرعد: 16، والزمر: 62.
(3) الصافات: 96.
(4) الاستدلال بالآية على الجبر، باطل جدا لأن المقصود من الموصول هو الأصنام التي كانوا
ينحتونها ثم يعبدونها، لا أفعال الإنسان، ويدل على ذلك سياق الآيات، قال سبحانه: (أتعبدون ما
تنحتون * والله خلقكم وما تعملون) (الصافات: 95 - 96) يريد أن الصنم الذي تتذللون دونه هو
مصنوعكم، وهو الذي عملتموه أمس، فكيف تعبدونه اليوم (أف لكم ولما تعبدون) (الأنبياء:
67).
نعم قد استدل غير واحد من المجبرة حتى الشيخ الأشعري (1) بالآية على الجبر غافلا عن مرمى
الآية.
-
1 - الأشعري: الإبانة: الأصل 17 ص 20.
(5) البقرة: 7.
(6) الأنعام: 125.
77
وأيضا فهي معارضة بمثلها وقد صنفها أصحابنا على عشرة أوجه:
أحدها: الآيات الدالة على إضافة الفعل إلى العبد كقوله تعالى: * (فويل
للذين يكتبون الكتاب بأيديهم) * (1) * (إن يتبعون إلا الظن) * (2) * (حتى يغيروا ما
بأنفسهم) * (3) * (بل سولت لكم أنفسكم) * (4) * (فطوعت له نفسه) * (5) * (من يعمل
سوء يجز به) * (6) * (كل نفس بما كسبت رهينة) * (7) * (كل امرئ بما كسب
رهين) * (8) * (ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي) * (9) إلى
آخرها.
الثاني: الآيات الدالة على مدح المؤمنين على الإيمان وذم الكفار على
الكفر والوعد والوعيد كقوله تعالى: * (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت) * (10)
* (اليوم تجزون ما كنتم تعملون) * (11) * (وإبراهيم الذي وفى) * (12) * (ولا تزر وازرة
وزر أخرى) * (13) * (لتجزى كل نفس بما تسعى) * (14) * (هل تجزون إلا ما كنتم
تعملون) * (15) * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) * (16) * (ومن أعرض عن
ذكري) * (17) * (أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا) * (18) * (إن الذين كفروا بعد
إيمانهم) * (19).
الثالث: الآيات الدالة على تنزيه أفعاله تعالى عن مماثلة أفعالنا في



(1) البقرة: 79.
(2) الأنعام: 116، ويونس: 66، والنجم: 23 و 28.
(3) الأنفال: 53.
(4) يوسف: 18 و 83.
(5) المائدة: 30
(6) النساء: 123.
(7) المدثر: 38.
(8) الطور: 21.
(9) إبراهيم: 22.
(10) غافر: 17.
(11) الجاثية: 28.
(12) النجم: 37.
(13) الأنعام: 164، والإسراء: 15، وفاطر: 18، والزمر: 7.
(14) طه: 15.
(15) النمل: 90.
(16) الأنعام: 160.
(17) طه: 124.
(18) البقرة: 86.
(19) آل عمران: 90.
78
التفاوت والاختلاف والظلم، كقوله تعالى: * (ما ترى في خلق الرحمن من
تفاوت) * (1) * (الذي أحسن كل شئ خلقه) * (2) والكفر ليس بحسن وكذا الظلم
* (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق) * (3) * (إن الله لا يظلم مثقال
ذرة) * (4) * (وما ربك بظلام للعبيد) * (5) * (وما ظلمناهم) * (6) * (لا ظلم اليوم) * (7)
* (ولا يظلمون فتيلا) * (8).
الرابع: الآيات الدالة على ذم العباد على الكفر والمعاصي والتوبيخ على
ذلك كقوله تعالى: * (كيف تكفرون بالله) * (9) * (وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم
الهدى) * (10) * (وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر) * (11) * (ما منعك أن
تسجد) * (12) * (فما لهم عن التذكرة معرضين) * (13) * (لم تلبسون الحق بالباطل) *
(14) * (لم تصدون عن سبيل الله) * (15).
الخامس: الآيات الدالة على التهديد والتخيير، كقوله: * (فمن شاء فليؤمن
ومن شاء فليكفر) * (16) * (اعملوا ما شئتم) * (17) * (لمن شاء منكم أن يتقدم أو
يتأخر) * (18) * (فمن شاء ذكره) * (19) * (فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا) * (20) * (فمن
شاء اتخذ إلى ربه مآبا) * (21) * (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما



(1) الملك: 3.
(2) السجدة: 7.
(3) الحجر: 85.
(4) النساء: 40.
(5) فصلت: 46.
(6) هود: 101، والنحل: 118، والزخرف: 76.
(7) غافر: 17.
(8) النساء: 49.
(9) البقرة: 28.
(10) الإسراء: 94.
(11) النساء: 39.
(12) ص: 75.
(13) المدثر: 49.
(14) آل عمران: 71.
(15) آل عمران: 99.
(16) الكهف: 29.
(17) فصلت: 40.
(18) المدثر: 37.
(19) المدثر: 55، وعبس: 12.
(20) المزمل: 19، والإنسان: 29.
(21) النبأ: 39.
79
أشركنا ولا آباؤنا) * (1) (2) * (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم) * (3).



(1) الأنعام: 148.
(2) يريد بذلك إثبات أن القول بالجبر هو عقيدة المشركين كما هو ظاهر الآية والآية التي بعدها. إن
التأمل في عقائد بعض العرب في الجاهلية يوحي بأنهم كانوا قائلين بالقدر ومثبتين له بشكل
يستنتجون منه سلب المسؤولية عن أنفسهم وإلقاءها على عاتق القدر. وهذا التفسير كان رائجا
بينهم وإن لم يعم الجميع، يقول سبحانه: (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا
ولا حرمنا من شئ كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم
فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون) (سورة الأنعام: 148).
ولعل قوله سبحانه: * (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر
بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون) * (الأعراف: 28) يشير إلى أنهم كانوا يعتذرون بأن
تقديره سبحانه يلازم الجبر ونفي الاختيار، والله سبحانه يرد على تلك المزعمة بقوله: * (قل إن
الله...) *.
فقد بقيت هذه العقيدة الموروثة من العصر الجاهلي في أذهان بعض الصحابة، فقد روى الواقدي في
مغازيه عن أم الحارث الأنصارية وهي تحدث عن فرار المسلمين يوم حنين قالت: " مر بي عمر بن
الخطاب (منهزما) فقلت: ما هذا؟ فقال عمر: أمر الله " (1).
والعجب أن تلك العقيدة بقيت في أذهان بعض الصحابة حتى بعد رحلة النبي صلى الله عليه وآله و
سلم فهذا السيوطي ينقل عن عبد الله بن عمر: جاء رجل إلى أبي بكر فقال: " أرأيت الزنا بقدر؟
قال: نعم، قال: فإن الله قدره علي ثم يعذبني؟ فقال: نعم يا بن اللخناء، أما والله لو كان عندي
إنسان أمرته أن يجأ أنفك " (2).
لقد كان السائل في حيرة من أمر القدر فسأل الخليفة عن كون الزنا مقدرا من الله أم لا، فلما أجاب
الخليفة بنعم، استغرب ذلك لأن العقل لا يسوغ تقديره سبحانه شيئا على وجه يسلب الاختيار
عن الإنسان في فعله أو تركه ثم تعذيبه عليه، ولذلك قال: " فإن الله قدره علي ثم يعذبني؟ " فعند
ذاك أقره الخليفة على ما استغربه وقال: " نعم يا بن اللخناء ".
-
1 - الواقدي: المغازي: 3 / 904.
2 - السيوطي: تاريخ الخلفاء: 95.
(3) الزخرف: 20.
80
السادس: الآيات الدالة على المسارعة إلى الأفعال قبل فواتها، كقوله
تعالى: * (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) * (1) * (أجيبوا داعي الله) * (2) * (استجيبوا لله
وللرسول) * (3) * (واتبعوا أحسن ما أنزل (4) إليكم) * * (وأنيبوا إلى ربكم) * (5).
السابع: الآيات التي حث الله تعالى فيها على الاستعانة به وثبوت اللطف
منه كقوله تعالى: * (وإياك نستعين) * (6) * (فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) * (7)
* (استعينوا بالله) * (8) * (أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا
يتوبون ولا هم يذكرون) * (9) * (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة) * (10) * (ولو بسط
الله الرزق لعباده) * (11) * (فبما رحمة من الله لن (12) ت لهم) * * (إن الصلاة تنهى عن
الفحشاء والمنكر) * (13).



(1) آل عمران: 133.
(2) الأحقاف: 31.
(3) الأنفال: 24.
(4) الزمر: 55.
(5) الزمر: 54.
(6) الفاتحة: 5.
(7) النحل: 98.
(8) الأعراف: 128.
(9) التوبة: 126.
(10) * (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج
عليها يظهرون) * (الزخرف: 33).
أي لأجل أن لا يجتمع الناس على الكفر فيكونوا كلهم كفارا على دين واحد لجعلنا لبيوت من يكفر
بالرحمن سقفا من فضة وجعلنا درجا وسلاليم من فضة لتلك السقف، عليها يعملون ويصعدون.
أي لولا ذلك التالي لأعطينا الكافر، ولو فعل لمال الناس إلى الكفر، ولكنه لم يفعل فصار الناس
فرقتين: مؤمنة وكافرة كل باختيارها.
وأما مسألة القضاء والقدر والهداية والضلالة في القرآن التي جعلتا ذريعتين لميل بعض الناس إلى
الجبر فسيوافيك الكلام فيهما في المسألتين: الثامنة والتاسعة فانتظر.
(11) الشورى: 27.
(12) آل عمران: 159.
(13) العنكبوت: 45.
81
الثامن: الآيات الدالة على استغفار الأنبياء: * (ربنا ظلمنا أنفسنا) * (1)
* (سبحانك إني كنت من الظالمين) * (2) * (رب إني ظلمت نفسي) * (3) * (رب إني
أعوذ بك أن أسئلك ما ليس لي به علم) * (4).
التاسع: الآيات الدالة على اعتراف الكفار والعصاة بنسبة الكفر إليهم،
كقوله تعالى: * (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم - إلى قوله: - بل كنتم
مجرمين) * (5) وقوله: * (ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين) * (6) * (كلما
ألقي فيها فوج) * (7).
العاشر: الآيات الدالة على التحسر والندامة على الكفر والمعصية وطلب
الرجعة كقوله: * (وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل) * (8) * (رب ارجعون) *
(9) * (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم) * (10) * (أو تقول حين ترى العذاب
لو أن لي كرة) * (11)
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة وهي معارضة بما ذكروه، على أن
الترجيح معنا لأن التكليف إنما يتم بإضافة الأفعال إلينا وكذا الوعد والوعيد
والتخويف والإنذار، وإنما طول المصنف رحمه الله في هذه المسألة لأنها من
المهمات.



(1) الأعراف: 23.
(2) الأنبياء: 87.
(3) القصص: 16.
(4) هود: 47.
(5) سبأ: 31 و 32.
(6) المدثر: 42 - 43.
(7) الملك: 8.
(8) فاطر: 37.
(9) المؤمنون: 99.
(10) السجدة: 12.
(11) الزمر: 58.
82
المسألة السابعة: في المتولد
قال: وحسن المدح والذم على المتولد يقتضي العلم بإضافته إلينا.
أقول: الأفعال تنقسم إلى المباشر والمتولد والمخترع:
فالأول: هو الحادث ابتداء بالقدرة في محلها (1).



(1) قد قسم الحكماء الأفعال إلى مبتدع ومخترع وكائن، وإلى تام وناقص، والناقص إلى مكتف
وغيره، وإلى زماني ودهري وسرمدي و... ().
وقسمها المتكلمون إلى المباشر، والمتولد، والمخترع:
1 - عرفوا المباشر بالحادث ابتداء بالقدرة في محلها. وهو يختص بغير الواجب لأنه تعالى لا يفعل
فعلا في ذاته.
2 - عرفوا المتولد بالحادث الذي يحدث بحسب فعل آخر كالحركة الصادرة عن الاعتماد، فالميل
الحادث في الحجر فعل مباشر، والحركة إلى السفل فعل متولد. وكالقوة الحادثة في العضلة
المتولدة منها حركة العضو، فالأولى فعل مباشر والثانية فعل متولد، سواء كان الثاني حادثا في
محل القدرة، كما في هذين المثالين أو في غير محلها كالحركة الحادثة في المفتاح بسبب حركة
اليد، وكتحريك الشجرة، المتولد منها انفصال الثمرة من الغصن، وبالرمي بالسهم لقتل الإنسان،
ثم المتولد قد يكون بلا واسطة كما في الحادث في محل القدرة، وأخرى بواسطة واحدة أو بأكثر،
كما في الحادث بغير محلها.
وأما المراد من " الاعتماد " في قوله: " الحركة الصادرة عن الاعتماد " هو الميل الذي يحدث في الحجر
وتحدث بسببه الحركة وهو اصطلاح لهم.
-
1 - لاحظ شرح المنظومة، قسم الإلهيات، الفريدة الثالثة: ص 182، وأسرار
الحكم: ص 143، وما ذكر في المتن تقسيم للفعل في منهج المشائين، وأما
الإشراقيون فلهم تقسيمات أخر حسب أذواقهم، لاحظ أسرار الحكم ص 147،
والغرض الإشارة العابرة إلى أن لكل فرقة تقسيما للفعل والمقصود شرح ما جاء
في المتن.
قال قطب الدين النيسابوري المقري: " الاعتماد معنى إذا وجد أوجب كون محله في حكم المدافع
لما يماسه مماسة مخصوصة - إلى أن قال -: إن أحدنا إذا وضع حجرا على يده، وجد اعتماد
الحجر حتى كأنه في يده فهذا طريق إلى إثبات الاعتماد " (1).
ونذكر نكتتين:
الأولى: أن تعريف الفعل المباشر (الحادث ابتداء بالقدرة في محلها) لا ينطبق على الميل
الموجود في الأجسام، فإنه أمر طبيعي لها لا فعل لها - على عقيدة القدماء حيث قالوا: إن في كل
جسم ميلا طبيعيا إلى مركزه (الأرض) - أو معلول جاذبية الأرض على المقرر في العلم الحديث،
مع أن الظاهر منهم أنه فعل، حيث قال: " هو الحادث الذي يقع بحسب فعل آخر كالحركة الصادرة
عن الاعتماد "، حيث سمى الاعتماد فعلا، نعم هو فعل الله بمعنى أنه أوجد الميل في الأجسام،
ولكن لا يعد فعلا للبشر إلا أن يكون المراد أنه فعل الله ومقدوره.
الثانية: أن حركة الأعضاء على هذا فعل متولد مع أنه من الأفعال المباشرية عند الحكماء
والأصوليين، وما هذا لأن الاعتماد والميل ليس عندهم فعلا.
3 - عرفوا المخترع بما يفعل لا لمحل. ومثاله الأجسام وبل خلق السماوات والأرض.
وينقض الحصر بالأعراض، فإنها ليست من الأقسام الثلاثة، إلا أن يدرج في المتولد، لأنه الحادث بعد
فعل وهو خلق الأجسام، وعلى كل تقدير التقسيم مبني على حصر الأفعال بالمادة والماديات،
مع أنه أعم منها ومن المجردات التي غفل عنه المتكلمون غير الواعين منهم.
ثم إن الفعل المباشر وقع مثارا للبحث وأنه فعل اختياري أو لا، ويتلوه في هذا النزاع: المتولد، فاختاره
الماتن أنه منسوب إلى الإنسان، فهو أيضا فعل اختياري، فعلم أن
-
1 - الحدود: المعجم الموضوعي للمصطلحات الكلامية: 36، ولاحظ شرح المقاصد: 2 / 244.
طرح هذا التقسيم في المقام لأجل تبيين حكمه من حيث الجبر والاختيار وقد ذكر الشارح في
المتولد أقوالا:
1 - خيرة جمهور المعتزلة وهو مختار الماتن.
2 - ما اختاره معمر بن عباد السلمي المتوفى عام 215 ه‍ خريج مدرسة الاعتزال في البصرة، وقد
نقل الشهرستاني منه ما يلي: " إن الله تعالى لم يخلق شيئا غير الأجسام فأما الأعراض فإنها من
اختراعات الأجسام إما طبعا كالنار التي تحدث الإحراق، وإما اختيارا كالحيوان الذي يحدث
الحركة والسكون والاجتماع والافتراق " (1). وهو قريب مما ذكره الشارح.
3 - ما قالته عدة من المعتزلة وهو: لا فعل للعبد إلا الفكر، ويفارق القول الثاني بأن الفكر أعم من
الإرادة، وطبع الحال يقتضي أنه يسند الباقي إلى المحل طبعا أو اختيارا.
4 - ما ذهب إليه أبو إسحاق النظام (وهو إبراهيم بن سيار المعتزلي) (160 - 232 ه‍) وهو جعل فعل
الإنسان نفس الحركات الحادثة فيه حسب دواعيه، والإرادة والاعتقادات حركات القلب (أي
مظاهر لحركته) والأفعال المنفصلة كالكتابة فعل الله عن طريق طبع المحل. وعقيدته في الروح
ما هو ذكره الشهرستاني عنه: أن الروح جسم لطيف مشابك للبدن مداخل للقلب بأجزائه مداخلة
المائية في الورد، والدهنية في السمسم (2) وبذلك يظهر معنى قوله " منساب " فإنه من ساب
الماء: أي جرى وفي بعض النسخ " سار " فالروح سار في القلب سريان الماء في الورد.
5 - قول ثمامة بن الأشرس المعتزلي المتوفى عام 234 خريج مدرسة الاعتزال في بغداد، وكلامه في
المقام عجيب منه، كيف يدعي إنسان إلهي، وجود الفعل بلا فاعل.
-
1 - الشهرستاني: الملل والنحل: 1 / 66 ط دار المعرفة بيروت. إقرأ آراءه فيها.
2 - الشهرستاني: الملل والنحل: 1 / 55 ط دار المعرفة بيروت. إقرأ آراءه فيها يزيدك إيضاحا لعبارات الكتاب.
83
والثاني: هو الحادث الذي يقع بحسب فعل آخر كالحركة الصادرة عن
الاعتماد، ويسمونه المسبب ويسمون الأول سببا سواء كان الثاني حادثا في
محل القدرة أو في غير محلها.

84
والثالث: ما يفعل لا لمحل، فالأول مختص بنا، والثالث مختص به تعالى
والثاني مشترك.
واعلم أن الناس اختلفوا في المتولد هل يقع بنا أم لا، فجمهور المعتزلة

85
على أنه من فعلنا كالمباشر.
وقال معمر: إنه لا فعل للعبد إلا الإرادة، وما عداها من الحوادث فهي
واقعة بطبع المحل، والإنسان عنده جزء في القلب توجد فيه الإرادة وما عداها
يضيفه إلى طبع المحل.
وقال آخرون: لا فعل للعبد إلا الفكر، وهم بعض المعتزلة.
وقال أبو إسحاق النظام: إن فعل الإنسان هي الحركات الحادثة فيه بحسب
دواعيه، والإنسان عنده هو شئ منساب في الجملة، والإرادة والاعتقادات
حركات القلب، وما يوجد منفصلا عن الجملة كالكتابة وغيرها فإنه من فعله
تعالى بطبع المحل.
وقال ثمامة: إن فعل الإنسان هو ما يحدثه في محل قدرته، فأما ما تعدى
محل القدرة فهو حادث لا محدث له وفعل لا فاعل له.
وقالت الأشعرية: المتولد من فعله تعالى. والجماهير من المعتزلة التجأوا
في هذا المقام إلى الضرورة فإنا نعلم استناد المتولدات إلينا كالكتابة والحركات
وغيرهما من الصنائع ويحسن منا مدح الفاعل وذمه كما في المباشر.
والمصنف رحمه الله استدل بحسن المدح والذم على العلم بأنا فاعلون
للمتولد لا عليه (1) لأن الضروريات لا يجوز الاستدلال عليها، نعم يجوز
الاستدلال على كونها ضرورية إذا لم يكن هذا الحكم ضروريا (2).



(1) لم يستدل على أنا فاعلون لأنه أمر ضروري وإنما استدل على العلم به، والضمير في " عليه "
يرجع إلى كوننا فاعلين.
(2) لا يخفى أنه إذا كان الشئ ضروريا، يكون العلم به كذلك، نعم ربما تعرض الغفلة، فالاستدلال
لأجل رفعها.
86
وجماعة من المعتزلة ذهبوا إلى أنه كسبي (1)، واستدلوا بحسن المدح
والذم عليه، فلزمهم الدور لأن حسن المدح والذم مشروط بالعلم بالاستناد إلينا
فلو جعلنا الاستناد إلينا مستفادا منه لزم الدور.
قال: والوجوب باختيار السبب لاحق.
أقول: هذا جواب عن إشكال يورد هنا، وهو أن يقال: إن المتولد لا يقع
بقدرتنا لأن المقدور هو الذي يصح وجوده وعدمه عن القادر، وهذا المعنى
منفي في المتولد لأن عند اختيار السبب يجب المسبب فلا يقع بالقدرة
المصححة.
والجواب: أن الوجوب في المسبب عند اختيار السبب وجوب لاحق كما
أن الفعل يجب عند وجود القدرة والداعي، وعند فرض وقوعه وجوبا لاحقا لا
يؤثر في الإمكان الذاتي والقدرة فكذا هنا.
قال: والذم في إلقاء الصبي عليه لا على الإحراق.
أقول: هذا جواب عن شبهة لهم، وهي: أن المدح والذم لا يدلان على



(1) ذهبت جماعة من المعتزلة إلى أن كوننا فاعلين أمر نظري كسبي يحتاج إلى إقامة البرهان،
واستدلوا بحسن المدح والذم، على المتولد، على كون الإنسان فاعلا له، وأورد عليه الشارح
بالدور، لأن إحراز كوننا فاعلين متوقف على حسن المدح والذم، وحسن المدح والذم متوقف
على ذلك الإحراز. وبذلك يعلم أن لفظ العلم في قوله: " مشروط بالعلم " ليس زائدا، إذ ليس
الاستناد بما هو هو موقوفا على حسن المدح والذم بل إحرازه موقوف عليهما، وأما قوله: " فلو
جعلنا الاستناد " فالمراد منه " العلم بالاستناد " والصدر قرينة على التصرف في الذيل لا العكس،
وبذلك يعلم ورود الدور على الماتن أيضا حيث استدل بحسن المدح والذم على العلم بأنا
فاعلون، وهو عبارة أخرى عن العلم بالاستناد إلينا في كلام المعتزلة.
87
العلم باستناد المتولد إلينا، فإنا نذم على المتولد وإن علمنا استناده إلى غيرنا، فإنا
نذم من ألقى الصبي في النار إذا احترق بها وإن كان المحرق هو الله تعالى.
والجواب: أن الذم هنا على الإلقاء لا على الإحراق فإن الإحراق من الله
تعالى عند الإلقاء حسن لما يشتمل عليه من الأعواض لذلك الصبي ولما فيه من
مراعاة العادات وعدم انتقاضها في غير زمان الأنبياء، ووجوب الدية حكم
شرعي (1) لا يجب تخصيصه بالفعل فإن الحافر للبئر يلزمه الدية وإن كان
الوقوع غير مستند إليه.
المسألة الثامنة: في القضاء والقدر (2)
قال: والقضاء والقدر إن أريد بهما خلق الفعل لزم المحال، أو الإلزام صح
في الواجب خاصة، أو الإعلام صح مطلقا، وقد بينه أمير المؤمنين عليه السلام
في حديث الأصبغ (3).
أقول: يطلق القضاء على الخلق والإتمام، قال الله تعالى: * (فقضاهن سبع
سماوات في يومين) * (4) أي خلقهن وأتمهن.



(1) جواب عن سؤال مقدر، وهو أنه إذا انحصر عمل الإنسان بالإلقاء، وكان الإحراق عمله سبحانه
فلماذا وجبت الدية على الملقي دون المحرق؟ فأجاب بأنه حكم تعبدي فتأمل.
(2) لما كانت مسألة القضاء والقدر كالهداية والضلالة من أدلة القول بالجبر، حاول الإجابة عنها في
المسألتين: الثامنة، والتاسعة، وقد ذكر في المقام للقضاء معاني مختلفة، والحق أن له معنى واحدا
وهو الفعل الصادر عن إتقان، والمعاني الأخر صور لهذا المعنى الأصيل، وقد أوضحناه في
رسالتنا في القضاء والقدر.
(3) الكافي: 1 / 155، وراجع الأسفار: 6 / 402 - 413.
(4) فصلت: 12.
88
وعلى الحكم والإيجاب، كقوله تعالى: * (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا
إياه) * (1) أي أوجب وألزم.
وعلى الإعلام والإخبار، كقوله تعالى: * (وقضينا إلى بني إسرائيل في
الكتاب) * (2) أي أعلمناهم وأخبرناهم.
ويطلق القدر على الخلق، كقوله تعالى: * (وقدر فيها أقواتها) * (3).
والكتابة، كقول الشاعر:
واعلم بأن ذا الجلال قد قدر * في الصحف الأولى التي كان سطر
والبيان، كقوله تعالى: * (إلا امرأته قدرناها من الغابرين) * (4) أي بينا وأخبرنا
بذلك.
إذا ظهر هذا فنقول للأشعري: ما تعني بقولك أنه تعالى قضى أعمال العباد
وقدرها؟ إن أردت به الخلق والإيجاد فقد بينا بطلانه وأن الأفعال مستندة إلينا،
وإن عنى به الإلزام لم يصح إلا في الواجب خاصة، وإن عنى به أنه تعالى بينها
وكتبها وأعلم أنهم سيفعلونها فهو صحيح لأنه تعالى قد كتب ذلك أجمع في
اللوح المحفوظ وبينه لملائكته، وهذا المعنى الأخير هو المتعين (5) للإجماع
على وجوب الرضا بقضاء الله تعالى وقدره، ولا يجوز الرضا



(1) الإسراء: 23.
(2) الإسراء: 4.
(3) فصلت: 10.
(4) النمل: 57.
(5) ولكن الوارد في كلام الإمام هو الثاني لا الثالث فتدبر، وعلى أي حال يجب الجمع بين لزوم
الرضا بقضاء الله وقدره من جانب ومن جانب لا يجوز الرضا بالكفر وغيره من القبائح، ولا يمكن
الجمع إلا بتفسير القضاء بإعلام الله سبحانه وبيانه وكتابته وأما إذا فسر بالمعنى الأول، (بمعنى
الخلق والإيجاد) فلا يمكن الجمع بين الأمرين.
89
بالكفر وغيره من القبائح، ولا ينفعهم الاعتذار (1) بوجوب الرضا به من حيث



(1) جواب عن اعتذار الخصم الذي يفسر القضاء بالخلق والإيجاد، بأنه يمكن الجمع بين الأمرين،
بان الرضا بالكفر له وجهين: فمن حيث إنه فعل الله نرضى به ومن حيث إن العبد يكسبه فلا
نرضى به، فأجاب بما في الشرح، وحاصله: أن الكسب إذا كان بقضائه عاد المحذور وهو الرضا
بالكفر، وإن لم يكن بقضائه انخرقت قاعدة أخرى وهي استناد كل ما في الكون إلى قضائه.
ثم إنه ربما يتوهم الجبر حتى على التفسير الثالث ويتصور أن علمه السابق موجب للإلجاء. ولكنه
مردود بأن علمه سبحانه لم يتعلق بصدور أي أثر من مؤثره على أي وجه اتفق، وإنما تعلق علمه
بصدور الآثار عن العلل مع الخصوصية الكامنة في نفس تلك العلل. فإن كانت العلة علة
طبيعية فاقدة للشعور والاختيار أو واجدة للعلم فاقدة للاختيار، فتعلق علمه سبحانه بصدور فعلها
وأثرها عنها بهذه الخصوصية، أي أن تصدر الحرارة من النار من دون أن تشعر فضلا عن أن تريد،
ويصدر الارتعاش من الإنسان المرتعش عن علم ولكن لا عن إرادة واختيار.، فالقول بصدور هذه
الظواهر عن عللها بهذه الخصوصية يستلزم انطباق علمه على الواقع وعدم تخلفه عنه قيد شعرة.
وإن كانت العلة عالمة وشاعرة ومريدة ومختارة كالإنسان فقد تعلق علمه بصدور أفعالها منها بتلك
الخصوصيات وانصباغ فعلها بصبغة الاختيار والحرية، فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية،
لكان علمه مطابقا للواقع غير متخلف عنه، وأما لو صدر فعله عنه في هذا المجال عن جبر
واضطرار بلا علم وشعور، أو بلا اختيار وإرادة فعند ذلك يتخلف علمه عن الواقع.
فنقول توضيحا لذلك: إن الأعمال الصادرة من الإنسان على قسمين: قسم يصدر منه بلا شعور ولا
إرادة كأعمال الجهاز الدموي والجهاز المعوي وجهاز القلب، التي تتسم في أفعال الإنسان بسمة
الأعمال الاضطرارية غير الاختيارية.
وقسم آخر يصدر منه عن إرادة واختيار، ويتسم بسمة الأعمال الاختيارية غير الاضطرارية كدراسته
وكتابته وتجارته وزراعته.
وعلى ما سبق من أن علم الله تعالى تعبير عن الواقع بما لا يتخلف عنه قيد شعرة، فتقع أعماله موردا
لتعلق علم الله بها على ما هي عليه من الخصائص والألوان، فتكون النتيجة أنه سبحانه يعلم من
الأزل بصدور فعل معين في لحظة معينة من إنسان معين إما بالاضطرار والإكراه، أو بالاختيار
والحرية، وتعلق مثل هذا العلم لا ينتج الجبر، بل يلازم الاختيار، ولو صدر كل قسم على خلاف
ما اتسم به، لكان ذلك تخلفا عن الواقع.
90
إنه فعله تعالى وعدم الرضا به من حيث الكسب، لبطلان الكسب أولا، وثانيا
فلأنا نقول: إن كان كون الكفر كسبا بقضائه تعالى وقدره وجب الرضا به من
حيث هو كسب وهو خلاف قولكم، وإن لم يكن بقضاء وقدر بطل استناد
الكائنات بأجمعها إلى القضاء والقدر.
واعلم أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - صلوات الله وسلامه عليه -
قد بين معنى القضاء والقدر وشرحهما شرحا وافيا في حديث الأصبغ بن نباتة
لما انصرف من صفين، فإنه قام إليه شيخ فقال له: أخبرنا يا أمير المؤمنين عن
مسيرنا إلى الشام أكان بقضاء الله تعالى وقدره؟
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: " والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما وطأنا
موطئا ولا هبطنا واديا ولا علونا تلعة إلا بقضاء وقدر ".
فقال له الشيخ: عند الله أحتسب عنائي، ما أرى لي من الأجر شيئا.
فقال له: " مه أيها الشيخ، بل عظم الله أجركم في مسيركم وأنتم سائرون،
وفي منصرفكم وأنتم منصرفون، ولم تكونوا في شئ من حالاتكم مكرهين ولا
إليها مضطرين ".
فقال الشيخ: كيف والقضاء والقدر ساقانا؟
فقال: " ويحك، لعلك ظننت قضاء لازما وقدرا حتما، لو كان كذلك لبطل
الثواب والعقاب والوعد والوعيد والأمر والنهي ولم تأت لائمة من الله لمذنب
ولا محمدة لمحسن ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسئ ولا المسئ
أولى بالذم من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان وشهود

91
الزور وأهل العمى عن الصواب، وهم قدرية هذه الأمة ومجوسها، إن الله تعالى
أمر تخييرا ونهى تحذيرا وكلف يسيرا، لم يعص مغلوبا ولم يطع مكرها، ولم
يرسل الرسل عبثا ولم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا، ذلك ظن
الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ".
فقال الشيخ: وما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلا بهما؟
فقال: " هو الأمر من الله تعالى والحكم. " وتلا قوله تعالى: * (وقضى ربك
ألا تعبدوا إلا إياه) * (1).
فنهض الشيخ مسرورا وهو يقول:
أنت الإمام الذي نرجو بطاعته * يوم النشور من الرحمن رضوانا
أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا * جزاك ربك عنا فيه إحسانا
قال أبو الحسن البصري ومحمود الخوارزمي: وجه تشبيهه عليه السلام
المجبرة بالمجوس من وجوه:
أحدها: أن المجوس اختصوا بمقالات سخيفة واعتقادات واهية معلومة
البطلان، وكذلك المجبرة.
وثانيها: أن مذهب المجوس أن الله تعالى يخلق فعله ثم يتبرأ منه كما خلق
إبليس ثم انتفى منه، وكذلك المجبرة قالوا: إنه تعالى يفعل القبائح ثم يتبرأ منها.
وثالثها: أن المجوس قالوا: إن نكاح الأخوات والأمهات بقضاء الله وقدره
وإرادته، ووافقهم المجبرة حيث قالوا: إن نكاح المجوس لأخواتهم وأمهاتهم
بقضاء الله وقدره وإرادته.



(1) الإسراء: 23.
92
ورابعها: أن المجوس قالوا: إن القادر على الخير لا يقدر على الشر
وبالعكس، والمجبرة قالوا: إن القدرة موجبة للفعل غير متقدمة عليه، فالإنسان
القادر على الخير لا يقدر على ضده وبالعكس.
المسألة التاسعة: في الهدى والضلالة
قال: والإضلال الإشارة إلى خلاف الحق وفعل الضلالة والإهلاك،
والهدى مقابل، والأولان منفيان عنه تعالى.
أقول: يطلق الإضلال على الإشارة (1) إلى خلاف الحق وإلباس الحق



(1) حاصل ما أفاده أن لكل من الضلالة والهداية معاني ثلاثة متقابلة، وتصح نسبة الهداية بمعانيها
الثلاثة إلى الله سبحانه، دون الضلالة بل تصح نسبة المعنى الثالث منها إليه تعالى. نعم: إيجاد
الهداية في العباد، مختص بغير ما كلفوا به كالإيمان فإنه فعل العبد، بقرينة التكليف به خلافا
للأشاعرة حيث ذهبوا إلى أنه يوجد الإيمان والكفر في العباد.
والذي ينبغي التنبيه عليه: أن إيجاد الهداية في العباد يرجع إلى إيجاد مقدماتها من الداخل كالعقل
والفطرة، والخارج كالرسل والكتب.
ثم إن حل عقد الجبر يحصل بالوقوف على أن لله هدايتين: عامة لجميع الناس، وخاصة لبعضهم،
ومصحح العقوبة والمثوبة هو الأولى منهما، فمن تمت الحجة في حقه تصح عقوبته، وإلا فلا،
وأما الهداية الثانية فهي مختصة بالمستفيدين من الهداية الأولى، وما في قوله سبحانه: (فيضل
الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم) (إبراهيم: 4) الذي وقع ذريعة للمجبرة ليس
يهدف إلى الهداية والضلالة العامتين، كما لا يهدف إلى وجود الفوضى في أمر الهداية والضلالة
لأنه يخالف كونه حكيما، ولأجل نقد تلك الفكرة وصف سبحانه نفسه في آخر الآية بقوله:
(العزيز الحكيم)، بل هو وأمثاله ناظر إلى أن من لم يهتد بالهداية العامة يضله ولا يوفقه بالاهتداء
إلى الدرجات العليا، وأما من اهتدى بالهداية العامة فيوفقه بتحصيل أعلى درجاتها، وإلى ذلك
يشير الكتاب العزيز ويقول: (الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) (الشورى: 13)
ويقول: (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم) (محمد: 17) ويقول تعالى: (إنهم فتية آمنوا
بربهم وزدناهم هدى) (الكهف: 13). (1)
ومما يدل على أن الضلالة والهداية بمعنى المثوبة والإهلاك قوله سبحانه: * (الذين كفروا وصدوا عن
سبيل الله أضل أعمالهم) * (محمد: 1).
* (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم * سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنة عرفها
لهم) * (محمد: 4 - 6).
-
1 - وإن أردت التفصيل فلاحظ الإلهيات: 2 / 387 - 394.
93
بالباطل كما تقول: أضلني فلان عن الطريق، إذا أشار إلى غيره وأوهم أنه هو
الطريق. ويطلق على فعل الضلالة في الإنسان كفعل الجهل فيه حتى يكون
معتقدا خلاف الحق.
ويطلق على الإهلاك والبطلان كما قال تعالى: * (فلن يضل أعمالهم) *
يعني يبطلها.
والهدى يقال لمعان ثلاثة مقابلة لهذه المعاني، فيقال بمعنى نصب الدلالة
على الحق كما تقول: هداني إلى الطريق، وبمعنى فعل الهدى في الإنسان حتى
يعتقد الشئ على ما هو به، وبمعنى الإثابة كقوله تعالى: * (سيهديهم) * يعني
سيثيبهم.
والأولان منفيان عنه تعالى، يعني الإشارة إلى خلاف الحق وفعل الضلالة،
لأنهما قبيحان والله تعالى منزه عن فعل القبيح.
وأما الهداية فالله تعالى نصب الدلالة على الحق وفعل الهداية الضرورية

94
في العقلاء، ولم يفعل الإيمان فيهم لأنه كلفهم به، ويثيب على الإيمان، فمعاني
الهداية صادقة في حقه تعالى إلا فعل ما كلف به.
وإذا قيل إنه تعالى يهدي ويضل فإن المراد به أنه يهدي المؤمنين بمعنى
أنه يثيبهم ويضل العصاة بمعنى أنه يهلكهم ويعاقبهم، وقول موسى عليه السلام
* (إن هي إلا فتنتك) * (1) فالمراد بالفتنة الشدة والتكليف الصعب، يضل بها من
يشاء أي يهلك من يشاء وهم الكفار.
المسألة العاشرة: في أنه تعالى لا يعذب الأطفال
قال: وتعذيب غير المكلف قبيح، وكلام نوح
عليه السلام مجاز، والخدمة ليست عقوبة له، والتبعية
في بعض الأحكام جائزة.
أقول: ذهب بعض الحشوية إلى أن الله تعالى يعذب أطفال المشركين،
ويلزم الأشاعرة تجويزه، والعدلية كافة على منعه، والدليل عليه أنه قبيح عقلا فلا
يصدر منه تعالى.
احتجوا بوجوه: الأول: قول نوح عليه السلام (2): * (ولا يلدوا إلا فاجرا
كفارا) * (3).



(1) الأعراف: 155.
(2) وجه الاستدلال أن الآية دلت على أن ولد الكافر كافر، وثبت أن كل كافر في النار، فينتج أن ولد
الكافر في النار، والجواب عدم تكرر الحد الأوسط، لأن المراد منه في الصغرى هو الكافر مجازا
والمراد منه في الكبرى هو الكافر حقيقة.
(3) نوح: 27.
95
والجواب: أنه مجاز، والتقدير: أنهم يصيرون كذلك، لا حال طفوليتهم.
الثاني: قالوا: إنا نستخدمه (1) لأجل كفر أبيه، فقد فعلنا فيه ألما وعقوبة فلا
يكون قبيحا.
والجواب: أن الخدمة ليست عقوبة للطفل، وليس كل ألم ومشقة عقوبة
فإن الفصد والحجامة ألمان وليسا عقوبة، نعم استخدامه عقوبة لأبيه (2) وامتحان
له يعوض عليه (3) كما يعوض على أمراضه.
الثالث: قالوا: إن حكم الطفل يتبع حكم أبيه في الدفن ومنع التوارث
والصلاة عليه ومنع التزويج.
والجواب: أن المنكر عقابه لأجل جرم أبيه، وليس بمنكر أن يتبع حكم
أبيه في بعض الأشياء إذا لم يحصل له بها ألم وعقوبة، ولا ألم له في منعه من
الدفن والتوارث وترك الصلاة عليه.



(1) حاصل الاستدلال أنه لو كان العقوبة بلا ذنب قبيحا فلماذا جاز في الشرع استخدام أولاد الكفار
بالاسترقاق والاستخدام عقوبة؟ والجواب أن استرقاقه لصالح الولد، حيث يدخل في حظيرة
الإسلام ويعيش مع المسلمين فيعود مسلما.
(2) أي استخدام ولده عقوبة للأب، لأنه ينظر إلى الظاهر ويتأذى كما يتأذى في استرقاق نفسه،
ولكن الاسترقاقين نعمة من الله عليهما.
(3) أي ابتلاء ومحنة، والضميران راجعان إلى الأب، والله سبحانه يعوض ذلك الابتلاء والمحنة
في الآخرة إذا قلنا بعمومية العوض للمسلم وغيره، أو قلنا بشرط أن يسلم إلى آخر عمره.
96
المسألة الحادية عشرة: في حسن التكليف وبيان
ماهيته ووجه حسنه وجملة من أحكامه
قال: والتكليف حسن لاشتماله على مصلحة لا تحصل بدونه.
أقول: التكليف مأخوذ من الكلفة، وهي المشقة. وحده إرادة من تجب
طاعته على جهة الابتداء ما فيه مشقة بشرط الإعلام، ويدخل تحت واجب
الطاعة الواجب تعالى والنبي عليه السلام والإمام والسيد والوالد والمنعم،
ويخرج البواقي.
وشرطنا الابتداء لأن إرادة هؤلاء إنما تكون تكليفا إذا لم يسبقه غيره إلى
إرادة ما أراده، ولهذا لا يسمى الوالد مكلفا بأمر الصلاة ولده لسبق إرادة الله تعالى
لها منه.
والمشقة لا بد من اعتبارها ليتحقق المحدود، إذ التكليف مأخوذ من
الكلفة.
وشرطنا الإعلام لأن المكلف إذا لم يعلم إرادة المكلف بالفعل لم يكن
مكلفا.
إذا عرفت هذا فنقول: التكليف حسن لأن الله تعالى فعله والله تعالى لا
يفعل القبيح، ووجه حسنه اشتماله على مصلحة لا تحصل بدونه، وهي
التعريض لمنافع عظيمة لا تحصل بدون التكليف، لأن التكليف إن لم يكن
لغرض كان عبثا وهو محال، وإن كان لغرض فإن كان عائدا إليه تعالى لزم
المحال، وإن كان إلى غيره فإن كان إلى غير المكلف كان قبيحا، وإن كان إلى
المكلف فإن كان حصوله ممكنا بدون التكليف لزم العبث، وإن لم يمكن فإن

97
كان لنفع انتقض بتكليف من علم الله كفره وإن كان للتعريض فهو المطلوب.
إذا عرفت هذا فنقول: الغرض من التكليف هو التعريض لمنفعة عظيمة
لأنه تعريض للثواب، وللثواب منافع عظيمة خالصة دائمة واصلة مع التعظيم
والمدح ولا شك أن التعظيم إنما يحسن للمستحق له ولهذا يقبح منا تعظيم
الأطفال والأرذال كتعظيم العلماء وإنما يستحق التعظيم بواسطة الأفعال الحسنة
وهي الطاعات.
ومعنى قولنا إن التكليف تعريض للثواب أن المكلف جعل المكلف على
الصفات التي تمكنه الوصول إلى الثواب وبعثه على ما به يصل إليه وعلم أنه
سيوصله إليه إذا فعل ما كلفه.
قال: بخلاف الجرح ثم التداوي، والمعاوضات والشكر باطل.
أقول: هذه إيرادات على ما اختاره المصنف:
الأول: أن التكليف للنفع يتنزل منزلة من جرح غيره ثم داراه طلبا للدواء،
وكما أن ذلك قبيح فكذا التكليف.
الثاني: أن التكليف طلبا للنفع يتنزل منزلة المعاوضات كالبيوع
والإجارات وغيرها، ولا شك أن المعاوضات تفتقر إلى رضا المتعاوضين حتى
أن من عاوض بغير إذن صاحبه فعل قبيحا، والتكليف عندكم لا يشترط فيه رضا
المكلف.
الثالث: لم لا يجوز أن يكون التكليف شكرا للنعم السابقة؟
والجواب عن الأول: بالفرق من الوجهين:

98
أحدهما: أن الجرح مضرة والتكليف نفسه ليس بمضرة وإنما المشقة في
الأفعال التي يتناولها التكليف.
الثاني: أن الجرح والتداوي إنزال مضرة لا غرض فيه إلا التخلص من تلك
المضرة بخلاف التكليف.
وعن الثاني: أن المراضاة تعتبر في المعاوضات لاختلاف أغراض الناس
في التعامل جنسا ووصفا أما إذا لم يكن هناك معاوضة وبلغ النفع حدا يكون
غاية ما يطلبه العقلاء لم يختلف العقلاء في اختيار المشقة بسببه حتى أن العقلاء
يسفهون الممتنع منه.
وعن الثالث: أن الشكر لا يشترط فيه المشقة والله تعالى قادر على إزالة
صفة المشقة عن هذه الأفعال، فلو كان التكليف شكرا لزم العبث في صفة
المشقة ولأن طلب الفعل الشاق شكرا يخرج النعمة عن كونها نعمة.
قال: ولأن النوع محتاج إلى التعاضد المستلزم للسنة النافع استعمالها في
الرياضة وإدامة النظر في الأمور العالية، وتذكر الإنذارات المستلزمة لإقامة العدل
مع زيادة الأجر والثواب.
أقول: لما ذكر المصنف رحمه الله حسن التكليف على رأي المتكلمين
شرع في طريق الإسلاميين من الفلاسفة، فبدأ بذكر الحاجة إلى التكليف، ثم ذكر
منافعه الدنيوية والأخروية.
وتحقيقه أن نقول: إن الله خلق الإنسان مدنيا بالطبع (1) لا كغيره من



(1) هذا البرهان مركب من أمور:
1 - بقاء النوع (الإنسان) ببقاء الأشخاص أمر حسن.
2 - لا تحصل تلك الغاية إلا بالتعاضد والتعاون.
3 - أن الحياة الجماعية، مظنة التنازع.
4 - لا محيص في رفعه من وضع قانون وسنة عادلة.
5 - لو اشترك الناس كلهم في وضع القانون عاد التنازع فلا بد أن يكون مستندا إلى شخص متميز عنهم
بكمال قواه.
6 - التعرف على ذلك الشخص يتحقق بمعجزات تدل على أنها (السنة) من عند الله.
7 - الناس مختلفون في قبول الخير والشر حسب اختلاف أمزجتهم. فوجب أن يكون هذا الشارع
(النبي) مؤيدا بالبرهان، والوعظ، و...
8 - بما أن النبي لا يتفق في كل زمان، لكن وجب بقاء الشريعة إلى وقت اضمحلالها، ففرضت عليهم
العبادات وفيها منافع ثلاث....
يلاحظ عليه: أولا: أن فرض كون الإنسان مدنيا بالطبع، يغني عن الأمر الثاني لأنه صورة عملية للأول،
ثم هل الإنسان مدني بالطبع كما عليه الحكماء الأقدمون، أو هو مسخر بالطبع، أي يسخر غيره
لقضاء حوائجه كما عليه العلامة الطباطبائي في بعض رسائله ولعله إلى هذا يشير قوله سبحانه:
(أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق
بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون) (الزخرف: 32)، أو
هو موجود محاسب يحاسب خيره وشره ونفعه وضره فيختار أقل الطرق ضررا وأكثرها نفعا وهو
التعايش الاجتماعي، فالحياة الاجتماعية وليد فكرته الحاسبة لا فطرته عن لا وعي، هذه هي
الأنظار المطروحة في المقام.
ثانيا: يظهر من الشارح أن النبي شارع مع أن الشارع بحكم التوحيد في التقنين هو الله سبحانه والنبي
الأكرم هو المبشر والمنذر الحامل لرسالات الله ونذره.
وثالثا: أن المهم في البرهان هو التركيز على شرائط المقنن وأنه لا بد أن يكون موجودا كاملا عارفا
بالإنسان بعامة خصوصياته وغرائزه الطبيعية، وما يفيده وما يضره ويصده عن الكمال، وأن يكون
منسلخا عن كل نفع وضرر فيما يضع ويسن، وألا يتأثر عن لا وعي فيقدم منافعه على منافع الغير
وليس المقنن بهذه الأوصاف إلا الله سبحانه.
وعلى ضوء ذلك فأكثر ما ذكره أخيرا لا حاجة إليه.
99
الحيوانات، لا يمكن أن تبقى أشخاصه ولا تحصل لهم كمالاتهم إلا
بالتعاضد

100
والتعاون، لأن الأغذية والملبوسات أمور صناعية يحتاج كل منهم إلى صاحبه في
عمل يستعيضه عن عمله له حتى يتم كمال ما يحتاج إليه، واجتماعهم مع تباين
شهواتهم وتغاير أمزجتهم واختلاف قواهم المقتضية للأفعال الصادرة عنهم
مظنة التنازع والفساد ووقوع الفتن، فوجب وضع قانون وسنة عادلة يتعادلون بها
فيما بينهم.
ثم تلك السنة لو استند وضعها إليهم لزم المحذور، فوجب استنادها إلى
شخص متميز عنهم بكمال قواه واستحقاقه للانقياد إليه والطاعة له، وذلك إنما
يكون بمعجزات تدل على أنها من عند الله تعالى.
ثم من المعلوم تفاوت أشخاص الناس في قبول الخير والشر والرذائل
والنقصان والفضائل بحسب اختلاف أمزجتهم وهيئات نفوسهم، فوجب أن
يكون هذا الشارع مؤيدا لا يعجز عن إحكام شريعته في جمهور الناس بعضهم
بالبرهان وبعضهم بالوعظ وبعضهم بتأليف القلب وبعضهم بالزجر والقتال.
ولما كان النبي لا يتفق في كل زمان وجب أن تبقى السنن المشروعة إلى
وقت اضمحلالها واقتضاء الحكمة الإلهية تجديد غيرها، ففرضت عليهم
العبادات المذكرة لصاحب الشرع وكررت عليهم حتى يستحكم التذكير
بالتكرير، فيحصل لهم من تلقي الأوامر والنواهي الإلهية منافع ثلاث:
إحداها: رياضة النفس باعتبار الإمساك عن الشهوات ومنعها عن القوة
الغضبية المكدرة لصفاء القوة العقلية.
الثانية: تعويد النفس النظر في الأمور الإلهية والمطالب العالية وأحوال
المعاد والتفكر في ملكوت الله تعالى وكيفية صفاته وأسمائه وتحقق فيضان
الموجودات عنه تعالى متسلسلة في الترتيب الذي اقتضته الحكمة الإلهية

101
بالبراهين القطعية الخالية عن المغالطة.
والثالثة: تذكرهم ما وعدهم الشارع من الخير والشر الأخرويين بحيث
ينحفظ النظام المقتضي للتعادل والترافد، ثم زاد الله تعالى لمستعملي الشرائع
الأجر والثواب في الآخرة، فهذه مصالح التكليف عند الأوائل.
قال: وواجب لزجره عن القبائح.
أقول: هذا مذهب المعتزلة، وأنكرت الأشاعرة ذلك، والدليل على
وجوب التكليف أنه لو لم يكلف الله تعالى من كملت شرائط التكليف فيه لكان
مغريا بالقبيح، والتالي باطل لقبحه فالمقدم مثله.
بيان الشرطية: أن الله تعالى إذا أكمل عقل الإنسان وجعل فيه ميلا إلى
القبيح وشهوة له ونفورا عن الحسن فلو لم يقرر في عقله وجوب الواجب وقبح
القبيح والمؤاخذة على الإخلال بالواجب وفعل القبيح لكان وقوع القبيح من
المكلف دائما، وإلى هذا أشار بقوله: لزجره عن القبائح، أي لزجر التكليف عن
القبائح.
قال: وشرائط حسنه انتفاء المفسدة وتقدمه وإمكان متعلقه وثبوت صفة
زائدة على حسنه وعلم المكلف بصفات الفعل وقدر المستحق وقدرته عليه
وامتناع القبيح عليه وقدرة المكلف على الفعل وعلمه به أو إمكانه وإمكان الآلة.
أقول: لما ذكر أن التكليف حسن شرع في بيان ما يشترط في حسن
التكليف، وقد ذكر أمورا لا يحسن التكليف بدونها (1)، منها ما يرجع إلى نفس



(1) أقول: التكليف من الأمور ذات الإضافة له إضافة إلى المكلف وإلى المكلف وإلى المكلف به،
وبوجه له إضافة إلى نفسه، فذكر الشارح ما يرجع إلى كل واحد.
102
التكليف، ومنها ما يرجع إلى متعلق التكليف أعني الفعل والمكلف والمكلف.
أما ما يرجع إلى التكليف فأمران:
أحدهما: انتفاء المفسدة فيه، بأن لا يكون مفسدة لنفس المكلف، به في
فعل آخر داخل في تكليفه (1)، أو مفسدة لمكلف آخر.
والثاني: أن يكون متقدما على الفعل قدرا يتمكن المكلف فيه من
الاستدلال به فيفعل الفعل في الوقت الذي يجب إيقاعه فيه.
وأما ما يرجع إلى الفعل فأمران:
أحدهما: إمكان وجوده.
والثاني: كون الفعل قد اشتمل على صفة زائدة على حسنه (2) بأن يكون
واجبا أو مندوبا، وإن كان التكليف ترك فعل فإن يكون الفعل قبيحا أو يكون
الإخلال به أولى من فعله.
وأما ما يرجع إلى المكلف: فإن يكون عالما بصفات الفعل لئلا يكلف
إيجاد القبيح وترك الواجب.
وأن يكون عالما بقدر ما يستحق على الفعل من الثواب لئلا يخل ببعضه.



(1) الضمير في قوله: " به " يرجع إلى التكليف، أي لا تكون مفسدة لنفس المكلف بهذا التكليف
كالأمر بصيام المريض ففيه مفسدة لنفس هذا المكلف في فعل آخر (كالصحة) داخل في تكليفه،
حيث يجب حفظ الصحة، أو كانت المفسدة لمكلف آخر، كما إذا أمر بالتوضؤ بماء مملوك لآخر
من دون رضاه.
(2) بناء على أن المباح داخل تحت الحسن.
103
وأن يكون القبيح ممتنعا عليه لئلا يخل بالواجب فلا يوصل الثواب إلى
مستحقه.
وأما ما يرجع إلى المكلف: فإن يكون قادرا على الفعل.
وأن يكون عالما به أو متمكنا من العلم به.
وإمكان الآلة أو حصولها إن كان الفعل ذا آلة.
قال: ومتعلقه إما علم إما عقلي أو سمعي وإما ظن وإما عمل.
أقول: متعلق التكليف قد يكون علما وقد يكون عملا.
أما العلم، فقد يكون عقليا محضا نحو العلم بوجود الله تعالى وكونه قادرا
عالما، إلى غير ذلك من المسائل التي يتوقف السمع عليها، وقد يكون سمعيا
نحو التكاليف السمعية. وأما الظن فنحو كثير من الأمور الشرعية كظن القبلة
وغيرها.
وأما العمل، فقد يكون عقليا كرد الوديعة وشكر المنعم وبر الوالدين وقبح
الظلم والكذب وحسن التفضل والعفو، وقد يكون سمعيا كالصلاة وغيرها،
وهذه الأفعال تنقسم إلى الواجب والمندوب والحرام والمكروه.
قال: وهو منقطع للإجماع ولإيصال الثواب (1).
أقول: يريد أن التكليف منقطع، ويدل عليه الإجماع والمعقول.



(1) استدل الماتن على انقطاع التكليف بوجهين وأضاف الشارح وجها ثالثا:
1 - الإجماع على الانقطاع. 2 - إيصال الثواب، لأنه مشروط بالخلوص عن المشاق، والتكليف مقترن
بالمشقة فلا يجتمعان. 3 - ما ذكره بقوله " ولا بد من تراخ بين التكليف والثواب وإلا لزم الإلجاء "
وذلك لأنه لو كان ثواب كل تكليف مقرونا بالجزاء لما انفك التكليف عن الطاعة ولكن لا عن
اختيار بل أشبه بالإلجاء، وهو بالنسبة إلى الغاية المتوخاة من التكليف في طرف النقيض، إذ
يجب أن يكون المكلف على حالة تكون نسبة الطاعة والعصيان إليه سواسية، حتى يمتاز المطيع
عن اختيار عن العاصي كذلك، وذلك لا يجتمع مع كون الجزاء مقرونا بالتكليف طول الحياة فإن
الأجير إذا عاين الجزاء لما انفك عنه العمل.
هذا ما ذكره الشارح، ولكن الظاهر من الشيخ المفيد انقطاع التكليف الشرعي في الآخرة دون التكليف
العقلي، ولعل مراد الماتن والشارح ذلك أيضا، أي يكون التكليف من جانب الشارع مقطوعا دون
التكليف من جانب العقل، قال المفيد: " إن أهل الآخرة مأمورون بعقولهم بالسداد، وما حسن لهم
في دار الدنيا من الرشاد - إلى أن قال -: إن أهل الآخرة صنفان: فصنف منهم في الجنة، وهم فيها
مأمورون بما يؤثرون ويخف على طباعهم ويميلون إليه ولا يثقل عليهم من شكر المنعم سبحانه
وتعظيمه وحمده على تفضله عليهم وإحسانه إليهم،... والصنف الآخر في النار... وليس يتعرون
من الأمر والنهي بعقولهم " (1).
-
1 - المفيد: أوائل المقالات: 67 (= ط. أخرى: 106).
104
أما الإجماع فظاهر، إذ الاتفاق بين المسلمين وغيرهم واقع على أن
التكليف منقطع.
وأما المعقول فنقول: لو كان التكليف دائما لم يمكن إيصال الثواب إلى
المطيع، والتالي باطل قطعا، فالمقدم مثله.
بيان الشرطية: أن التكليف مشروط بالمشقة، والثواب مشروط بخلوصه
عن الأكدار والمشاق، والجمع بينهما محال، ولا بد من تراخ بين التكليف
والثواب وإلا لزم الإلجاء.
قال: وعلة حسنه عامة.
أقول: لما بين أولا حسن التكليف مطلقا شرع في بيان حسنه في حق

105
الكافر.
والدليل عليه أن العلة في حسن التكليف وهي التعريض للثواب عامة في
حق المؤمن والكافر فكان التكليف حسنا فيهما وهو ظاهر.
قال: وضرر الكافر من اختياره.
أقول: هذا جواب عن سؤال مقدر وتقريره: أن تكليف الكافر ضرر
محض لا مصلحة فيه، فلا يكون حسنا.
بيان المقدمة الأولى: أن التكليف نوع مشقة في العاجل وحصل العقاب
بتركه وهو ضرر عظيم فانتفت المصلحة فيه إذ لا ثواب له فكان قبيحا قطعا.
والجواب: أن التكليف نفسه ليس بضرر ولا يستلزم من حيث هو تكليف
ضررا، وإلا لكان تكليف المؤمن كذلك، بل الضرر إنما نشأ من سوء اختيار
الكافر لنفسه.
قال: وهو مفسدة لا من حيث التكليف بخلاف ما شرطناه.
أقول: الذي يخطر لنا في تحليل هذا الكلام أنه جواب عن سؤال مقدر
أيضا، وهو أن يقال: إنكم شرطتم في التكليف أن لا يكون مفسدة للمكلف ولا
لغيره وهذا التكليف يستلزم الضرر بالمكلف فيكون قبيحا، كما أن تكليف زيد
لو استلزم مفسدة راجعة إلى عمرو كان قبيحا.
والجواب: أن الضرر هنا مفسدة لا من حيث التكليف بل من حيث اختيار
المكلف، على ما تقدم، بخلاف ما شرطناه أعني انتفاء المفسدة

106
اللازمة للتكليف.
قال: والفائدة ثابتة.
أقول: هذا جواب عن سؤال مقدر وتقريره: إن تكليف الكافر لا فائدة فيه
لأن الفائدة من التكليف هي الثواب ولا ثواب له فلا فائدة في تكليفه فكان عبثا.
والجواب: لا نسلم أن الفائدة هي الثواب بل التعريض له وهو حاصل في
حقه كالمؤمن.
المسألة الثانية عشرة: في اللطف وماهيته وأحكامه
قال: واللطف واجب لتحصيل الغرض به.
أقول: اللطف هو ما يكون المكلف معه أقرب إلى فعل الطاعة وأبعد من
فعل المعصية، ولم يكن له حظ في التمكين، ولم يبلغ حد الإلجاء.
واحترزنا بقولنا: " ولم يكن له حظ في التمكين " عن الآلة، فإن لها حظا في
التمكين وليست لطفا.
وقولنا: " ولم يبلغ حد الإلجاء " لأن الإلجاء ينافي التكليف واللطف لا
ينافيه.
هذا اللطف المقرب (1).



(1) قاعدة اللطف من القواعد الكلامية، ولها دور واسع في مسائلها، قبلتها العدلية ورفضتها
الأشاعرة، وهي من فروع القول بالحسن والقبح العقليين، فمن اعترف بهما أخذ بنتائجهما ومنها
لزوم اللطف على الله، ومن أنكرهما رد نتائجهما.
وقد قسم الشارح تبعا لغيره، اللطف إلى المقرب إلى الطاعة، والمحصل لها. فلو كان موجبا لقرب
المكلف إلى فعل الطاعة، والبعد عن فعل المعصية، فهو لطف مقرب، ولو ترتبت عليه الطاعة
فهو لطف محصل.
ثم إن بعض المتكلمين اكتفى بذكر المحصل وحده، واكتفى لفيف منهم بذكر المقرب وحده، وهناك
من ذكر كلا القسمين:
فمن الأول: المتكلم الشيعي النوبختي في الياقوت، حيث فسره بقوله: " اللطف أمر يفعله الله تعالى
بالمكلف لا ضرر فيه يعلم عند وقوع الطاعة منه ولولاه لم يطع " (1).
ومن الثاني: الشيخ المفيد، قال: " اللطف ما يقرب المكلف معه إلى الطاعة ويبعد عن المعصية،
ولاحظ له في التمكين، ولم يبلغ الإجبار " (2).
ومن الثالث: القاضي عبد الجبار، قال: " إن اللطف هو كل ما يختار عنده المرء الواجب ويتجنب عن
القبيح، أو يكون عنده أقرب إما إلى اختيار الواجب أو إلى ترك القبيح "، (3) والعلامة الحلي في
أنوار الملكوت (4)، وأشار الشارح إلى كلا القسمين.
وعلى ضوء ذلك فليس هنا لطفان مختلفان بل كلاهما في الحقيقة أمر واحد، غير أنه إن ترتبت عليه
الطاعة يكون محصلا، فكونه مقربا فعل الله سبحانه، وأما كونه محصلا أمر انتزاعي ينتزع منه بعد
حصول الغاية.
غير أن العناية باللطف المقرب في الكتب الكلامية أكثر من المحصل.
-
1 - لاحظ أنوار الملكوت في شرح الياقوت للعلامة الحلي: 152، وقوله يعلم بصيغة المجهول.
2 - المفيد: النكت الاعتقادية: 31، وتبعه المحقق الطوسي في تلخيص المحصل: 342، وابن ميثم في قواعد المرام:
117.
3 - القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة: 519.
4 - العلامة الحلي: أنوار الملكوت: 153 - 154، قال: وقسم المعتزلة اللطف إلى قسمين:
أحدهما: ما يختار عنده المكلف الطاعة ويسمى توفيقا أو يختار عنده ترك القبيح ويسمى عصمة.
ثانيهما: ما يقرب من الطاعة ويقوى داعيه إليها.
107
وقد يكون اللطف محصلا، وهو ما يحصل عنده الطاعة من المكلف على
سبيل الاختيار، ولولاه لم يطع (1) مع تمكنه في الحالين، وهذا بخلاف



(1) قال بعض الشراح: إنه قيد المقرب، وإن قوله: " وقد يكون - إلى قوله -: الاختيار " جملة
معترضة.
108
التكليف (1) الذي يطيع عنده، لأن اللطف أمر زائد على التكليف، فهو من دون
اللطف يتمكن بالتكليف من أن يطيع أو لا يطيع، وليس كذلك التكليف لأن
عنده يتمكن من أن يطيع وبدونه لا يتمكن من أن يطيع أو لا يطيع، فلم يلزم أن
يكون التكليف الذي يطيع عنده لطفا.
إذا عرفت هذا فنقول: اللطف واجب، خلافا للأشعرية.
والدليل على وجوبه (2) أنه يحصل غرض المكلف فيكون واجبا وإلا لزم
نقض الغرض.



(1) حاصله: أن اللطف غير مؤثر في التمكين بل أمر وراء القدرة، وإلا فلو كان مؤثرا في حصول
القدرة، لا يسمى لطفا، ومنه يظهر أن التكليف ليس لطفا لأنه مما له حظ في التمكين إذ لولاه لما
حصل الامتثال. ومع ذلك كله.
قالت العدلية: الواجبات الشرعية ألطاف في الواجبات العقلية، ولا بد من الجمع بين ما ذكره الشارح
من أن التكليف ليس لطفا وهذا الكلام الذي يعرف التكليف الشرعي لطفا، بنحو من الأنحاء
فتأمل.
(2) لا يخفى أن الالتزام بوجوب اللطف بكلا قسميه أمر مشكل، لاختلاف الدواعي إلى الامتثال،
فيلزم أن يقوم سبحانه في مورد كل فرد بما يكون معه أقرب إلى الطاعة، فتختلف الدواعي حسب
اختلاف الأمزجة والميول، فلو افترضنا أن إنسانا إنما يكون أقرب إلى الطاعة إذا كان ثريا، والآخر
إذا كان فقيرا، وثالثا إذا كان متزوجا بمرأة حسناء و... أترى أن من واجبه أن يقوم في حق كل إنسان
بما يكون معه أقرب إلى الطاعة؟!
بل الحق ما أوضحناه في الإلهيات وقلنا: إن كل ما هو دخيل في تحقق الرغبة بالطاعة، والابتعاد عن
المعصية في نفوس الأكثرية الساحقة من البشر يجب على الله سبحانه القيام به صونا للتكليف
عن اللغو (1)، دون ما هو دخيل في خصوص فرد، وإلا لن يقف أقسام اللطف عند حد.
-
1 - الإلهيات: 3 / 54 الطبعة الثانية ولا يذهب عليك أن لنا في هذا الكتاب اصطلاحا خاصا في تفسير المحصل
والمقرب في اللطف، لا يمت للاصطلاح المعروف بين المتكلمين فيهما بصلة، فلا تغفل.
109
بيان الملازمة: أن المكلف إذا علم أن المكلف لا يطيع إلا باللطف فلو
كلفه من دونه كان ناقضا لغرضه، كمن دعا غيره إلى طعام وهو يعلم أنه لا يجيبه
إلا إذا فعل معه نوعا من التأدب، فإذا لم يفعل الداعي ذلك النوع من التأدب كان
ناقضا لغرضه، فوجوب اللطف يستلزم تحصيل الغرض.
قال: فإن كان من فعله تعالى وجب عليه، وإن كان من المكلف وجب
أن يشعره به ويوجبه، وإن كان من غيرهما شرط في التكليف العلم بالفعل.
أقول: لما ذكر وجوب اللطف شرع في بيان أقسامه (1) وهو ثلاثة:
الأول: أن يكون من فعل الله تعالى، فهذا يجب على الله تعالى فعله لما
تقدم.
الثاني: أن يكون من فعل المكلف، فهذا يجب على الله تعالى أن يعرفه
إياه ويشعره به ويوجبه عليه.
الثالث: أن يكون من فعل غيرهما فهذا ما يشترط في التكليف بالملطوف
فيه العلم بأن ذلك الغير يفعل اللطف.



(1) ذكر الشارح أن للطف أقساما ثلاثة:
1 - ما يكون من فعل الله، كالتبشير والإنذار، وربما يمثل بإرسال الرسال وإنزال الكتب، ولكنه خارج
عن حد اللطف، لما عرفت أن ما كان مؤثرا في التمكين فهو ليس بلطف، والمثالان من هذا
القبيل، إذ لولاهما لما علمت الفرائض والتكاليف.
2 - ما يكون من فعل المكلف، ولعل منه الدعوة إلى التأمل في دعوة الأنبياء والإمعان في دلائلهم.
3 - ما يكون من فعل الغير كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
110
قال: ووجوه القبح منتفية والكافر لا يخلو من لطف والإخبار بالسعادة
والشقاوة ليس مفسدة.
أقول: لما ذكر أقسام اللطف شرع في الاعتراضات على وجوبه مع
الجواب عنها، وقد أورد من شبه الأشاعرة ثلاثا:
الأولى: قالوا: اللطف إنما يجب إذا خلا من جهات المفسدة لأن جهات
المصلحة لا تكفي في الوجوب ما لم تنتف جهات المفسدة، فلم لا يجوز أن
يكون اللطف الذي توجبونه مشتملا على جهة قبح لا تعلمونه؟ فلا يكون
واجبا.
وتقرير الجواب: أن جهات القبح معلومة لنا لأنا مكلفون بتركها وليس هنا
وجه قبح وليس ذلك استدلالا بعدم العلم على العلم بالعدم.
الثانية: أن الكافر إما أن يكلف (1) مع وجود اللطف أو مع عدمه، والأول
باطل وإلا لم يكن لطفا لأن معنى اللطف هو ما حصل الملطوف فيه



(1) للاستدلال شقوق ثلاثة وإليك بيانها:
1 - أن الكافر إما أن يكون مكلفا مع وجود اللطف.
2 - أن يكون مكلفا مع عدم اللطف مع عدم قدرته سبحانه عليه.
3 - أن يكون مكلفا مع عدم اللطف مع قدرته سبحانه عليه.
والأول باطل، إذ لو كان هناك لطف لوقع الملطوف فيه، فحيث لم يقع نستكشف عدمه.
والثاني مستلزم لوصفه سبحانه بالعجز عن إعطاء اللطف.
والثالث مستلزم لأن يخل الواجب سبحانه بالواجب وهو اللطف.
يلاحظ عليه: أولا: أن لازمه عدم تكليف الكفار والعصاة بالأحكام، لعدم خروج تكليفهم عن الشقوق
الثلاثة لا بطلان اللفظ.
وثانيا: أنا نختار الشق الأول ولكن ليس اللطف ملازما للامتثال بل هو مقرب للعبد إليه، أو لولاه لم
يمتثل، لا أنه يمتثل معه قطعا، ومما ذكرنا يعلم مفهوم التقرير الثاني لهذه الشبهة مع جوابها.
111
عنده، والثاني إما أن يكون عدمه لعدم القدرة عليه فيلزم تعجيز الله تعالى وهو
باطل، أو مع وجودها فيلزم الإخلال بالواجب.
والجواب: أن اللطف ليس معناه هو ما حصل الملطوف فيه، فإن اللطف
لطف في نفسه سواء حصل الملطوف فيه أولا، بل كونه لطفا من حيث إنه يقرب
إلى الملطوف فيه ويرجح وجوده على عدمه، وامتناع ترجيحه إنما يكون
لمعارض أقوى هو سوء اختيار المكلف فيكون اللطف في حقه مرجوحا.
ويمكن أن يكون ذلك جوابا عن سؤال آخر لهم، وتقريره: أن اللطف لو
كان واجبا لم تقع معصية من مكلف أصلا لأنه تعالى قادر على كل شئ فإذا قدر
على اللطف لكل مكلف في كل فعل لم تقع معصية لأنه تعالى لا يخل بالواجب
لكن الكفر والمعاصي موجودة.
وتقرير الجواب: أن نقول: إنما يصح أن يقال يجب أن يلطف للمكلف إذا
كان له لطف يصلح عنده، ولا استبعاد في أن يكون بعض المكلفين لا لطف له
سوى العلم بالمكلف والثواب مع الطاعة والعقاب مع المعصية، والكافر له هذا
للطف.
الثالثة: أن الإخبار بأن المكلف من أهل الجنة (1) أو من أهل النار مفسدة
لأنه إغراء بالمعاصي، وقد فعله تعالى وهو ينافي اللطف.



(1) حاصله أنه كيف يكون اللطف واجبا، مع أنه ربما يقوم سبحانه بما هو في مقابل اللطف، فيخبر
عن سعادة بعض الأفراد فيوجد الجرأة للمعاصي، وعن شقاء بعض آخر، فيوجد فيهم اليأس
والقنوط الملازم لإدامة العصيان. والجواب عن الأول بأن الإخبار مقارن لتمتع هؤلاء بملكات
رحمانية تصدهم عن اقتراف المعاصي. وعن الثاني بأن المخبر عنه إما أن يكون جاهلا غير مؤمن
بصدق القرآن، فليس فيه مفسدة أو يكون عارفا كإبليس فلا يتحقق فيه الاغراء لأنه عاين الحقائق
قبل الهبوط.
112
والجواب: أن الإخبار بالجنة ليس إغراء مطلقا، لجواز أن يقترن به من
الألطاف ما يمتنع عنده من الإقدام على المعصية وإذا انتفى كونه إغراء على هذا
التقدير بطل قولهم إنه مفسدة على الإطلاق.
وأما الإخبار بالنار فليس مفسدة أيضا، لأن الإخبار إن كان للجاهل كأبي
لهب انتفت المفسدة فيه، لأنه لا يعلم صدق إخباره تعالى، فلا يدعوه ذلك إلى
الإصرار على الكفر، وإن كان عارفا كإبليس لم يكن إخباره تعالى بعاقبته داعيا
إلى الاصرار على الكفر لأنه يعلم أنه بإصراره عليه يزداد عقابه، فلا يصير مغريا
عليه.
قال: ويقبح منه تعالى التعذيب مع منعه دون الذم.
أقول: المكلف إذا منع المكلف من اللطف قبح منه عقابه، لأنه بمنزلة
الأمر بالمعصية والملجئ إليها، كما قال الله تعالى: * (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من
قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا) * (1)، فأخبر أنهم - لو منعهم اللطف في
بعثه الرسول - لكان لهم أن يسألوا بهذا السؤال، ولا يكون لهم هذا السؤال إلا مع
قبح إهلاكهم من دون البعثة، ولا يقبح ذمه، لأن الذم حق مستحق على القبيح غير
مختص بالمكلف (2)، بخلاف العقاب المستحق للمكلف، ولهذا لو بعث
الإنسان غيره على فعل القبيح ففعله لم يسقط حق الباعث من الذم، كما أن
لإبليس ذم أهل النار وإن كان هو الباعث على المعاصي.



(1) طه: 134.
(2) تقدم أن اللطف غير مؤثر في التمكين وإنما هو شئ وراءه، فمنع المكلف عن اللطف أو عدم
منعه، إنما يتصور فيما إذا كان المكلف متمكنا من الامتثال في كلا الحالين، وعلى ضوء ذلك لا
يمكن التفكيك بين التعذيب والذم عند المنع عن اللطف بل يصح كلاهما. وبذلك يظهر عدم
صحة أمرين:
1 - الاستدلال بقوله سبحانه: * (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا) *
(طه: 134).
لأنه خارج عن محط البحث، إذ العلم بالتكليف من شرائط القدرة، ولولا إرسال الرسل لما وقف المكلف على التكليف.
2 - قوله: " لأن الذم حق مستحق على القبيح غير مختص بالمكلف "، وذلك لقبح ذم الجاهل بالتكليف المستند جهله إلى عدم بيان التكليف من جانب المولى.
ولعل كلام الماتن والشارح ناظر إلى المستقلات العقلية، التي لا يتوقف العلم بالتكليف على ورود بيان من المولى، ففيها يصح الذم دون التعذيب على تأمل في التفكيك أيضا إذا قلنا بالملازمة بين حكمي العقل والشرع.
113
قال: ولا بد من المناسبة وإلا ترجح بلا مرجح بالنسبة إلى المنتسبين.
أقول: لما فرغ من الاعتراضات على وجوب اللطف شرع في ذكر
أحكامه، وقد ذكر منها خمسة:
الأول: أنه لا بد وأن يكون بين اللطف والملطوف فيه مناسبة.
والمراد بالمناسبة هنا كون اللطف بحيث يكون حصوله داعيا إلى حصول
الملطوف فيه، وهذا ظاهر، لأنه لولا ذلك لم يكن كونه لطفا أولى من كون غيره
لطفا، فيلزم الترجيح من غير مرجح (1)، ولم يكن كونه لطفا في هذا



(1) حاصله: أنه إذا افترضنا أن الغنى والفقر كانا لطفا في دعوة المكلف إلى الصلاة، فلو اختار
سبحانه الأول يلزم الترجيح بلا مرجح.
ثم إذا لم تكن المناسبة معتبرة فلماذا صار الغنى لطفا في حق هذا الفعل (الصلاة) ولم يكن لطفا في
حق الفعل الآخر (الحج) وهو أيضا ترجيح من غير مرجح، فلا محيص عن اعتبار المناسبة، ولعله
إلى ذلك يشير قوله سبحانه: (وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون) (الأعراف: 168).
وقوله تعالى: * (فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون) * (الأنعام: 42).
ثم إن الماتن ذكر الشروط الباقية وهي أربعة:
1 - أن لا يبلغ حد الإلجاء، وأكثر من اعترض على قاعدة اللطف كصاحب المواقف، غفل عن هذا
الشرط ولو التفت هو أو غيره إلى هذا الشرط، لما سلوا سيوفهم عن أغمادها.
2 - أن يعلم المكلف بوجود اللطف إجمالا أو تفصيلا لأنه إنما يدعو إلى الطاعة بوجوده العلمي لا
بوجوده الواقعي فقط وإن لم يقف عليه المكلف، كما إذا وقف حابس الزكاة على أن المرض
الشائع في القطيعة، تنبيه من الله وعندئذ يقرب الالتفات من الطاعة، ويؤدي الفريضة.
3 - أن يكون فيه وراء الحسن، أمر آخر هو ملاك اللطفية، وإلا فالمباح بما هو حسن لا يكون لطفا، لكن
يمكن أن يقال: إن وجود المباحات الكثيرة التي وسعت الحياة للعباد، وجعلتهم في يسر ورفق،
لطف من الله ومقرب لدخول الناس في دين الإسلام ولولاه، لما دخل أكثرهم فيه، والحسن عبارة
عما ليس بقبيح فيشمل المباحات ولا يشترط وراء الحسن شئ زائد.
4 - اللطف يدخله التخيير كما في الكفارات المخيرة.
5 - اللطف يجب أن يكون حسنا بالذات، فلا يمكن عد تسلط الظالم على العباد لطفا من الله وإن كان
يترتب عليه التوجه إلى الله سبحانه وذلك لأن تسلطه عليهم نتيجة أعمالهم (ذلك بما قدمت
أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد) (الأنفال / 51).
114
الفعل أولى من كونه لطفا في غيره من الأفعال، وهو ترجيح من غير مرجح
أيضا، وإلى هذين أشار بقوله: وإلا ترجح بلا مرجح بالنسبة إلى المنتسبين، وعنى
بالمنتسبين اللطف والملطوف فيه، هذا ما فهمناه من هذا الكلام.
قال: ولا يبلغ الإلجاء.
أقول: هذا الحكم الثاني من أحكام اللطف، وهو أن لا يبلغ في الدعاء

115
إلى الملطوف فيه إلى حد الإلجاء، لأن الفعل الملجئ إلى فعل آخر يشبه اللطف في
كون كل منهما داعيا إلى الفعل، غير أن المتكلمين لا يسمون الملجئ إلى الفعل
لطفا، فلهذا شرطنا في اللطف زوال الإلجاء عنه إلى الفعل.
قال: ويعلم المكلف اللطف إجمالا أو تفصيلا.
أقول: هذا هو الحكم الثالث من أحكام اللطف، وهو وجوب كونه معلوما
للمكلف إما بالإجمال أو بالتفصيل، لأنه إذا لم يعلمه ولم يعلم الملطوف فيه ولم
يعلم المناسبة بينهما لم يكن داعيا له إلى الفعل الملطوف فيه.
فإن كان العلم الإجمالي كافيا في الدعاء إلى الفعل لم يجب التفصيل، كما
يعلم على الجملة كون الألم الواصل إلى البهيمة لطفا لنا.
وإن كان اللطف لا يتم إلا بالتفصيل وجب حصوله، ويكفي العلم
الإجمالي في المناسبة التي بين اللطف والملطوف فيه.
قال: ويزيد اللطف على جهة الحسن.
أقول: هذا هو الحكم الرابع، وهو كون اللطف مشتملا على صفة زائدة
على الحسن من كونه واجبا كالفرائض أو مندوبا كالنوافل، هذا فيما هو من فعلنا.
وأما ما كان من فعله تعالى فقد بينا وجوبه في حكمته.

116
قال: ويدخله التخيير.
أقول: هذا هو الحكم الخامس، وهو أن اللطف لا يجب أن يكون معينا،
بل يجوز أن يدخله التخيير، بأن يكون كل واحد من الفعلين قد اشتمل على جهة
من المصلحة المطلوبة من الآخر فيقوم مقامه ويسد مسده، أما في حقنا فكما في
الكفارات الثلاث، وأما في حقه تعالى فلجواز أن يخلق لزيد ولدا يكون لطفا له
وإن كان يجوز حصول اللطفية بخلق ولد غير ذلك الولد من أجزاء غير أجزاء
الولد الأول وعلى صورة غير صورته، وحينئذ لا يجب أحد الفعلين بعينه بل
يكون حكمه حكم الواجب المخير.
قال: بشرط حسن البدلين.
أقول: لما ذكر أن اللطف يجوز أن يدخله التخيير نبه على شرط كل واحد
من البدلين، أعني اللطف وبدله، وأطلق على كل واحد منهما اسم البدل بالنظر
إلى صاحبه إذ ليس أحدهما بالأصالة أولى من الآخر، وذلك الشرط كون كل
واحد منهما حسنا ليس فيه وجه قبح، وهذا مما لم تتفق الآراء عليه، فإن جماعة
من العدلية ذهبوا إلى تجويز كون القبيح كالظلم منا لطفا قائما مقام إمراض الله
تعالى.
واستدلوا بأن وجه كون الألم من فعله تعالى لطفا هو حصول المشاق
وتذكر العقاب وذلك حاصل بالظلم منا فجاز أن يقوم مقامه.
وهذا ليس بجيد لأن كونه لطفا جهة وجوب والقبيح ليس له جهة
وجوب، واللطف إنما هو في علم المظلوم بالظلم لا في نفس الظلم، كما
نقول: إن العلم بحسن ذبح البهيمة لطف لنا وإن لم يكن الذبح نفسه لطفا.

117
المسألة الثالثة عشرة: في الألم ووجه حسنه (1)
قال: وبعض الألم قبيح يصدر منا خاصة، وبعضه حسن يصدر منه تعالى
ومنا، وحسنه إما لاستحقاقه أو لاشتماله على النفع (2) أو دفع الضرر الزائدين، أو
لكونه عاديا أو على وجه الدفع.



(1) للبحث عن الآلام ملاكات مختلفة: تارة يبحث عنها في التوحيد الأفعالي في مقابل الثنوية،
حيث ذهبت إلى أن خالق الخير غير خالق الشر، فاعتقدوا بوجود مبدأين، وبما أن مقتضى
التوحيد الأفعالي أنه لا خالق إلا هو يبحث عن الشرور لغاية تصحيح صدور الشرور عنه سبحانه،
وأخرى في مقابل الأشاعرة، حيث أنكروا الحسن والقبح العقليين وقالوا: كل ما يصدر عنه
سبحانه فهو حسن ولا يصح تحديد فعله بالحسن العقلي إذ أي حسن عند العقل للآلام والنوازل
الواردة على العباد، فقامت العدلية بالدفاع عن الإشكال بتقسيم الآلام إلى ما يمتنع صدورها منه
سبحانه وإلى ما يجوز صدورها منه ومنا لما فيها من فوائد وأغراض وليست بقبيحة.
ولما كان المجوز لبعض الآلام - مضافا إلى اللطف - هو الأعواض التي ينالها الإنسان في الآخرة في
مقابل الحرمان، أردف المصنف البحث عنها بالبحث عن الأعواض التي لها دور عظيم في حل
بعض المشاكل. وهذه البحوث من خصائص المتكلمين دون الفلاسفة والحكماء، ولأجل ذلك
لا ترى أثرا منها في كتبهم.
وقد سلك المحقق الطوسي في هذا الكتاب مسلك المتكلمين، تاركا مسلك الحكماء كما لا يخفى.
وبذلك أصبح كتاب التجريد كتابا كلاميا، لا فلسفيا، وإن كان بعض بحوثه مشتركا بين العلمين.
(2) إن للألم الحسن عند العدلية أقساما خمسة:
1 - ما يحسن لأجل استحقاق المولم، كالإيلام في الحد وغيره.
2 - ما اشتمل على نفع زائد على الألم الوارد، كالألم الوارد في الجهاد.
3 - دفع الضرر الزائد على الألم، كقطع العضو الفاسد الذي يهدد صحة الإنسان كلها.
4 - ما كان على وفق سنة الله سبحانه، كإحراق النار لمن ألقي فيها ظلما أو غير ظلم، فإن إحراق النار
وإن كان بالنسبة إلى الملقى فيها شرا لكن الإحراق بما هو لا قبح فيه فإنها سنة قام عليها صرح
الحياة الإنسانية. نعم في إمكانه سبحانه سلب الأثر عنها في هذه الموارد، ولكن الاستثناء في
السنن (في غير مورد الإعجاز والكرامة) مستلزم للإلجاء في الإيمان، وانتفاء الاختيار والاختبار،
وذلك لأن سلب الأثر عن النار عند إحراق المؤمن لن يقف عند حد بل يستلزم سلب الأثر عن
السيف عند وروده على رأس المظلوم وهكذا...، ولازم ذلك خروج الحياة الدنيوية عن كونها
دنيوية، لأن معناها كون الحياة مبنية على السنن الطبيعية وهو خلاف المفروض، وبالجملة:
افتراض كون العالم ماديا يلازم سيادة القوانين المادية عليها، إلا إذا اقتضت المصلحة العامة
خلافها كما في مورد الإعجاز.
وهناك من يقول ليس للألم إلا قسم واحد، وهو الألم لغاية استحقاق المولم، وقالت به طائفتان:
التناسخية: وهم الذين يقولون لا دار إلا هذه الدنيا وأن الإنسان بعد الموت يرجع إلى هذه الدار ويرى
جزاء عمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وأن أصحاب العاهات والزمني والفقراء هم الذين عاشوا
في هذه الدنيا في دورة متقدمة، ظالمة، فرجعوا إلى الدنيا في هذه الدورة ليروا جزاء أعمالهم.
البكرية: أصحاب بكر بن زياد الذي كان معاصرا لواصل بن عطاء (80 - 130 ه‍) وصفوان بن الجهم
ت 128 ه‍.
118
أقول: في هذا الكلام مباحث:
الأول: في مناسبة هذا البحث وما بعده لما قبله.
اعلم أنا قد بينا وجوب الألطاف والمصالح، وهي ضربان: مصالح في
الدين، ومصالح في الدنيا، أعني المنافع الدنياوية، ومصالح الدين إما مضار أو
منافع، والمضار منها آلام وأمراض وغيرها كالآجال والغلاء، والمنافع الصحة
والسعة في الرزق والرخص، فلأجل هذا بحث المصنف رحمه الله عقيب

119
اللطف عن هذه الأشياء، ولما كانت الآلام تستلزم الأعواض وجب البحث عنها
أيضا.
البحث الثاني: اختلف الناس في قبح الألم وحسنه، فذهبت الثنوية إلى
قبح جميع الآلام، وذهبت المجبرة إلى حسن جميعها من الله تعالى، وذهبت
البكرية وأهل التناسخ والعدلية إلى حسن بعضها وقبح الباقي.
البحث الثالث: في علة الحسن، اختلف القائلون بحسن بعض الألم في
وجه الحسن:
فقال أهل التناسخ: إن علة الحسن هي الاستحقاق لا غير، لأن النفوس
البشرية إذا كانت في أبدان قبل هذه الأبدان وفعلت ذنوبا استحقت الألم عليها،
وهذا أيضا قول البكرية.
وقالت المعتزلة أنه يحسن عند شروط:
أحدها: أن يكون مستحقا.
وثانيها: أن يكون فيها نفع عظيم يوفى عليها.
وثالثها: أن يكون فيها دفع ضرر أعظم منها.
ورابعها: أن يكون مفعولا على مجرى العادة، كما يفعله الله تعالى بالحي
إذا ألقيناه في النار.
وخامسها: أن يكون مفعولا على سبيل الدفع عن النفس، كما إذا آلمنا من
يقصد قتلنا، لأنا متى علمنا اشتمال الألم على أحد هذه الوجوه حكمنا بحسنه
قطعا.
قال: ولا بد في المشتمل على النفع من اللطف.
أقول: هذا شرط لحسن الألم المبتدأ الذي يفعله الله تعالى لاشتماله على

120
نفع المتألم، وهو كونه مشتملا على اللطف إما للمتألم أو لغيره، لأن خلو الألم
عن النفع الزائد الذي يختار المولم معه الألم يستلزم الظلم، وخلوه عن اللطف
يستلزم العبث وهما قبيحان فلا بد من هذين الاعتبارين في هذا النوع من الألم،
وهنا اختلف الشيخان (1):
فقال أبو علي: إن علة قبح الألم كونه ظلما لا غير، فلم يشترط هذا الشرط.
وقال أبو هاشم: إنه يقبح لكونه ظلما أو لكونه عبثا، فأوجب في الأمراض
التي يفعلها الله تعالى في الصبيان مع الأعواض الزائدة اشتمالها على اللطف
لمكلف آخر، ولهذا يقبح منا تخليص الغريق بشرط كسر يده (2) واستيجار من
ينزح ماء البئر ويقذفه فيها لغير غرض مع توفية الأجرة.
ويمكن الجواب هنا لأبي علي بما ذكرناه في كتاب نهاية المرام.



(1) المراد أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم من شيوخ الاعتزال في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن
الرابع، واختلفت كلمتهم في الإيلام الابتدائي كآلام الأطفال، فاكتفى الوالد في جوازه بعدم كونه
ظلما، وهو يتحقق بالعوض يوم القيامة، وذهب الولد بأن انتفاء الظلم غير كاف ما لم يشتمل على
شئ زائد كالاعتبار واللطف وإلا يلزم العبث، وإلى اختلافهم أشار الشهرستاني بعبارة موجزة
وقال: " اختلف أبو علي وأبو هاشم في نقل الألم للعوض، فقال أبو علي: يجوز ذلك ابتداء لأجل
العوض، وعليه بنى آلام الأطفال، وقال ابنه: إنما يحسن ذلك بشرط العوض والاعتبار جميعا ".
(2) فإن نجاته من الغرق وإن كان أكثر نفعا من إيراد الضرر عليه بكسر يده، لكن الكسر أيضا قبيح،
ومثله المثال الثاني فإن إعطاء الأجرة كاملة وإن كان يرفع الظلم لكنه عمل عبث، ولو كان الغرض
الإحسان، ففي وسعه، دفعه بلا طلب عمل.
121
قال: ويجوز في المستحق كونه عقابا.
أقول: هذا مذهب أبي الحسين البصري، فإنه جوز أن تقع الأمراض في
الكفار والفساق عقابا للكافر والفاسق لأنه ألم واصل إلى المستحق فأمكن أن
يكون عقابا، ويكون تعجيله قد اشتمل على مصلحة لبعض المكلفين كما في
الحدود.
ومنع قاضي القضاة من ذلك وجزم بكون أمراضهم محنا لا عقوبات لأنه
يجب عليهم الرضا والصبر عليها والتسليم وترك الجزع ولا يلزمهم ذلك في
العقاب.
والجواب: المنع من عدم اللزوم في العقاب لأن الرضا يطلق على معنيين:
أحدهما: الاعتقاد لحسن الفعل، وهو مشترك بين العقاب والمحنة.
والثاني: موافقة الفعل للشهوة، وهذا غير مقدور للعبد فلا يجب في
المحنة ولا في العقاب، وإذا كان الرضا بالمعنى الأول واجبا في العقاب فكذلك
الصبر على ذلك الاعتقاد واجب بأن لا يظهر خلاف الرضا وهو الجزع، ويجب
أيضا التسليم بأن يعتقد أنه لو تمكن من دفع المرض الذي هو مصلحة له
لا يدفعه ولا يمتنع منه.
قال: ولا يكفي اللطف في ألم المكلف في الحسن. (1)
أقول: هذا مذهب الشيخين وقاضي القضاة، وجوز بعض المشايخ



(1) الفرق بين هذه المسألة وما تقدم من قوله: " ولا بد في المشتمل على النفع من اللطف " الذي
اختلف فيه الشيخان هناك ولكن اتفقا في المقام، هو أن البحث فيما تقدم كان مركزا على أن مجرد
العوض كاف في الألم الابتدائي أو لا بد من ضم أمر آخر كاللطف ليخرج عن العبث، فقال أبو علي
بالأول وأبو هاشم بالثاني، وأما المقام فالبحث مركز على أن مجرد اللطف كاف في الألم الابتدائي
وإن لم يرجع نفع إلى المولم أولا. وقد مثل القائلون بالجواز بالسفر الشاق إذا باع سلعته فيه بقيمة
غالية، فهناك أمور ثلاثة: 1 - السفر الشاق وليس في مقابله شئ. 2 - بيع السلعة. 3 - الربح الذي هو
في مقابل السلعة، مثل المقام، فإن فيه أمورا ثلاثة: الإيلام، الطاعة، الثواب.
122
إدخال الألم على المكلف إذا اشتمل على اللطف والاعتبار وإن لم يحصل في
مقابلته عوض، لأن الألم كما يحسن لنفع يقابله فكذا يحسن لما يؤدي إليه الألم،
ولهذا حسن منا تحمل مشاق السفر لربح يقابل السلعة ولا يقابل مشاق السفر،
ولما كان مشاق السفر علة في حصول الربح المقابل للسلعة فكذا الألم الذي هو
لطف لولاه لما حصل الثواب المقابل للطاعة فحسن فعله وإن خلا عن العوض
لأدائه إلى النفع.
وحجة الأوائل أن الألم غير المستحق لولا اشتماله على النفع أو دفع
الضرر كان قبيحا، والطاعة المفعولة لأجل الألم (1) ليست بنفع، والثواب
المستحق عليها يقابل الطاعة دون الألم، فيبقى الألم مجردا عن النفع وذلك
قبيح.



(1) حاصله: أن مجرد اللطف لا يكفي في الألم الابتدائي، وذلك لأن الألم ينتهي إلى الطاعة وهي
تلازم الثواب، فالثواب في مقابل الطاعة، ولا يكون في مقابل الألم شئ، وفي المقام أمور ثلاثة
(الألم، الطاعة، والثواب).
ولكن الحق أن يقال: إن كان الألم في طريق طاعة المتألم أو داعيا إليها، فالظاهر كفاية اللطف، لأنه هو
المؤثر في الطاعة المستلزمة للثواب، وكون الثواب لمجرد الطاعة لا يضر، إذ لولا اللطف بالألم،
ما كانت هناك طاعة ولم يترتب ثواب.
123
قال: ولا يحسن مع اشتمال اللذة على لطفيته.
أقول: هذا مذهب أبي الحسين البصري (1) خلافا لأبي هاشم.
وتقرير مذهب أبي هاشم: أنا لو فرضنا اشتمال اللذة على اللطف الذي
اشتمل عليه الألم هل يحسن منه تعالى فعل الألم بالحي لأجل لطف الغير (2) مع
العوض الزائد الذي يختاره المتألم لو عرض عليه؟ قال أبو هاشم: نعم لأن الألم
المشتمل على المنفعة الموفية في حكم المنفعة عند العقلاء، ولهذا لا يعد
العقلاء مشاق السفر الموصلة إلى الأرباح مضار، وإذا كان الألم في حكم المنفعة
صار حصول اللطف في تقدير (3) منفعتين فيتخير الحكيم في أيهما شاء.
وأبو الحسين منع ذلك، لأن الألم إنما يصير في حكم المنفعة إذا لم يكن
طريق لتلك المنفعة إلا ذلك الألم، ولو أمكن الوصول إلى تلك المنفعة بدون
ذلك الألم كان ذلك الألم ضررا وعبثا، ولهذا يعد العقلاء السفر ضررا مع حصول
الربح بدونه.



(1) لو كان هناك سببان للطف: اللذة والألم، والأول يشتمل على اللطف فقط، والثاني يشتمل عليه
وعلى الألم مع العوض (النفع) فهل يجوز له سبحانه الإيلام مع إمكان السبب الأول، كما عليه أبو
هاشم، أو لا يجوز كما عليه أبو الحسين؟
(2) الظاهر عدم الحاجة إلى كلمة الغير لو لم تكن مضرة، لأن الظاهر أن الكلام في الألم الابتدائي
وكونه لطفا في حق المتألم نفسه دون الغير.
(3) الألم سبب لأمرين: اللطف والمنفعة المفروضة في الألم (العوض)، واللذة مشتملة على اللطف
فقط والحكيم مخير بينهما.
124
قال: ولا يشترط في الحسن اختيار المتألم بالفعل.
أقول: لا يشترط في حسن الألم المفعول ابتداء من الله تعالى اختيار
المتألم للعوض الزائد عليه بالفعل، لأن اعتبار الاختيار (1) إنما يكون في النفع
الذي يتفاوت فيه اختيار المتألمين فأما النفع البالغ إلى حد لا يجوز اختلاف
الاختيار فيه فإنه يحسن وإن لم يحصل الاختيار بالفعل وهذا هو العوض
المستحق عليه تعالى.
المسألة الرابعة عشرة: في الأعواض
قال: والعوض نفع مستحق خال عن تعظيم وإجلال.
أقول: لما ذكر حسن الألم المبتدأ مع تعقبه بالعوض الزائد وجب عليه
البحث عن العوض وأحكامه، وبدأ بتحديده، فالنفع جنس للمتفضل به
وللمستحق، وقيد المستحق فصل يميزه عن النفع المتفضل به، وقيد الخلو عن
التعظيم والإجلال يخرج به الثواب.
قال: ويستحق عليه تعالى بإنزال الآلام وتفويت المنافع لمصلحة الغير
وإنزال الغموم، سواء استندت إلى علم ضروري أو مكتسب أو ظن، لا ما تستند
إلى فعل العبد وأمر عباده بالمضار أو إباحته وتمكين غير العاقل.



(1) يريد أن الاختيار إنما يعتبر إذا كان للنفع درجات وتعلقت إرادة المعطي بالدرجة النازلة،
والمتألم بالدرجة العالية، وأما إذا تعلقت إرادته من بدء الأمر بالدرجة العليا التي ليست وراءها
درجة فلا معنى لاشتراط الاختيار.
125
أقول: هذه الوجوه التي يستحق بها العوض على الله تعالى:
الأول: إنزال الآلام بالعبد كالمرض وغيره، وقد سبق بيان وجوب العوض
به من حيث اشتماله على الظلم لو لم يجب العوض.
الثاني: تفويت المنافع إذا كانت منه تعالى لمصلحة الغير، لأنه لا فرق بين
تفويت المنافع وإنزال المضار، فلو أمات الله تعالى ابنا لزيد وكان في معلومه
تعالى أنه لو عاش لانتفع به زيد لاستحق عليه تعالى العوض عما فاته من منافع
ولده، ولو كان في معلومه تعالى عدم انتفاعه به لأنه يموت قبل الانتفاع به لم
يستحق به عوضا لعدم تفويته المنفعة منه تعالى.
وكذلك لو أهلك ماله استحق العوض بذلك سواء شعر بهلاك ماله أو لم
يشعر (1) لأن تفويت المنفعة كإنزال الألم، ولو آلمه ولم يشعر به لاستحق
العوض فكذا إذا فوت عليه منفعة لم يشعر بها، وعندي في هذا الوجه نظر.
الثالث: إنزال الغموم، بأن يفعل الله تعالى أسباب الغم، لأن الغم يجري
مجرى الضرر في العقل، سواء كان الغم علما ضروريا بنزول مصيبة أو وصول
ألم أو كان ظنا بأن يغتم عند أمارة لوصول مضرة أو فوات منفعة أو كان علما
مكتسبا، لأن الله تعالى هو الناصب للدليل والباعث على النظر فيه



(1) هنا سؤال، وهو أنه ما الفرق بين إهلاك المال حيث يلزم فيه التعويض، شعر صاحب المال
بالإهلاك أم لا، وبين إنزال الغموم حيث اشترط الشارح فيه الشعور وقال: " نحو أن يهلك له مالا
وهو لا يشعر به إلى أن يموت فإنه لا يستحق العوض عليه تعالى ".
والجواب وجود الفرق بينهما، وهو اختلاف الحيثية، فإن ملاك البحث في الأول هو تفويت المنافع
أو الإضرار بالأموال، وهو أمر واقعي يستلزم العوض، شعر بذلك أم لم يشعر، بخلاف ملاكه في
الثاني فإن إنزال الغموم - وإن كان لأجل إهلاك المال - أمر نفسي متوقف على الشعور والعلم،
ولولاهما لما كان هناك موضوع للغم، وعلى ضوء ذلك ففي مورد واحد ربما يجب العوض من
جهة ولا يجب من جهة أخرى، فاغتنم.
126
وكذا هو الناصب لأمارة الظن، فلما كان سبب الغم منه تعالى كان العوض عليه.
وأما الغم الحاصل من العبد نفسه من غير سبب منه تعالى، نحو أن يبحث
العبد فيعتقد جهلا نزول ضرر به أو فوات منفعة، فإنه لا عوض فيه عليه تعالى،
ولو فعل به تعالى فعلا لو شعر به لاغتم نحو أن يهلك له مالا وهو لا يشعر به إلى
أن يموت فإنه لا يستحق العوض عليه تعالى لأنه إذا لم يشعر به لم يغتم به.
الرابع: أمر الله تعالى عباده بإيلام الحيوان أو إباحته، سواء كان الأمر
للإيجاب كالذبح في الهدي والكفارة والنذر، أو للندب كالضحايا، فإن العوض
في ذلك كله على الله تعالى، لاستلزام الأمر والإباحة الحسن، والألم إنما يحسن
إذا اشتمل على المنافع العظيمة البالغة في العظم حدا يحسن الألم لأجله.
الخامس: تمكين غير العاقل، مثل سباع الوحش وسباع الطير والهوام، وقد
اختلف أهل العدل هنا على أربعة أقوال:
فذهب بعضهم إلى أن العوض على الله تعالى مطلقا، ويعزى هذا القول
إلى أبي علي الجبائي.
وقال آخرون: إن العوض على فاعل الألم، وهو قول يحكى عن أبي علي
أيضا.
وقال آخرون: لا عوض هنا على الله تعالى ولا على الحيوان.
وقال قاضي القضاة: إن كان الحيوان ملجأ إلى الإيلام كان العوض عليه
تعالى، وإن لم يكن ملجأ كان العوض على الحيوان نفسه.
احتج الأولون: بأنه تعالى مكنه وجعل فيه ميلا شديدا إلى الإيلام مع

127
إمكان عدم الميل ولم يجعل له عقلا يميز به حسن الألم من قبحه ولم يزجره
بشئ من أسباب الزجر مع إمكان ذلك كله، فكان ذلك بمنزلة الإغراء، فلولا
تكفله تعالى بالعوض لقبح منه ذلك.
واحتج الآخرون (1): بقوله عليه السلام: إن الله تعالى ينتصف للجماء من
القرناء.
واحتج النافون للعوض: بقوله عليه السلام: جرح العجماء جبار.
واحتج القاضي بأن التمكين (2) لا يقتضي انتقال العوض من الفاعل إلى
الممكن وإلا لوجب عوض القتل على صانع السيف، بخلاف الإلجاء



(1) المقصود هو القول الثاني الذي أشار إليه بقوله: " إن العوض على فاعل الألم "، مستدلا بأنه
سبحانه ينتصف للجماء (ضد القرناء) من القرناء، ولا يخفى أنه لو صح الحديث يكون معناه أنه
ينتقم الله لها من القرناء، لا أن العوض على فاعل الألم وأنه سبحانه ينقل أعواض القرناء إليها كما
هو المدعى.
والمراد من القول الثالث عدم العوض مطلقا مستدلا بما روى: " جرح العجماء جبار " (1)، وقد استدل
بها الفقهاء على عدم الضمان لصاحبها، وأين هو من الدلالة على كون العوض على الحيوان أو
على خالقه؟
-
1 - أحمد بن حنبل: المسند: 5 / 326 والجبار هو الهدر الذي لا يغرم.
(2) لا يخفى أن ما ذكره القاضي من الفرق بين التمكين والإلجاء وإن كان متينا، لكن القسم الأول
منتف في الحيوان الذي هو المحور للبحث، فإن الافتراس أمر غريزي للسبع مطلقا بلا استثناء.
وأما قوله: " بأن العوض لو كان عليه تعالى لما حسن منعها عن الأكل " فمعناه: إذا كان العوض على الله
فلماذا نمنع السباع عن أكل الإنسان بعد افتراسه، فإن مقتضى المعاوضة فسح المجال لها ولو في
هذا الحد، وأجاب الشارح بأن هنا وجها للمنع وهو التحفظ على كرامة الإنسان ولو بأجزائه
المتفككة.
128
المقتضي لاستناد الفعل في الحقيقة إلى الملجئ، ولهذا يحسن ذمه دون الملجأ،
وبأن العوض لو كان عليه تعالى لما حسن منعها عن الأكل.
والجواب عن الأول: أنه لا دلالة في الحديث على أنه تعالى ينتصف
للجماء بأن ينقل أعواض القرناء إليها، وهو يصدق بتعويض الله تعالى إياها، كما
أن السيد إذا غرم ما أتلفه عبده يقال قد أنصف المظلوم من عبده، مع أنه يحتمل
المجاز بتشبيه الظالم لتمكنه من الظلم بالقرناء والمظلوم بالجماء لضعفه.
وعن الثاني: أن المراد انتفاء القصاص.
وعن الثالث: بالفرق فإن القاتل ممنوع من القتل وعنده اعتقاد عقلي يمنعه
عن الإقدام عليه، فلهذا لم نقل بوجوب العوض على صانع السيف بخلاف
السبع.
وعن الرابع: أنه قد يحسن المنع عن الأكل إذا كان لذلك المنع وجه
حسن، كما أنه يحسن منا منع الصبيان عن شرب الخمر ومنع المعاقب عن
العقاب.
قال: بخلاف الإحراق عند الإلقاء في النار (1) والقتل عند شهادة الزور.



(1) لما تقدم في البحث السابق أن العوض في إنزال الآلام والمضار على الله سبحانه، لزم منه -
حسب الظاهر - أن يكون العوض عند الإلقاء في النار، والقتل عند شهادة الزور، عليه سبحانه
أيضا، لأن الألم بالنار فعله سبحانه والقاضي منصوب من جانبه سبحانه وهو الموجب عليه القتل
مباشرة أو تسبيبا.
أجاب ما هذا توضيحه: بأن المباشر أقوى في الصورة الأولى، بخلاف الصورة الثانية، فإن السبب أعني
الملقي، أو شاهد الزور أقوى من المباشر، فلولا إلقاؤه أو شهادته لما كان هناك إحراق ولا قتل.
129
أقول: إذا طرحنا صبيا في النار فاحترق فإن الفاعل للألم هو الله تعالى
والعوض علينا نحن، لأن فعل الألم واجب في الحكمة من حيث إجراء العادة
والله تعالى قد منعنا من طرحه ونهانا عنه، فصار الطارح كأنه الموصل إليه الألم
فلهذا كان العوض علينا دونه تعالى.
وكذلك إذا شهد عند الإمام شاهدا زور بالقتل فإن العوض على الشهود
وإن كان الله تعالى قد أوجب القتل والإمام تولاه، وليس عليهما عوض لأنهما
أوجبا بشهادتهما على الإمام إيصال الألم إليه من جهة الشرع فصار كأنهما فعلاه.
لا يقال: هذا يوجب العوض عليه تعالى لأنه هو الموجب على الإمام قتله.
لأنا نقول: قبول الشاهدين عادة شرعية يجب إجراؤها على قانونها
كالعادات الحسيات، فكما وجب العوض على الملقي للطفل في النار قضاء
لحق العادة الحسية كذلك وجب العوض هنا على الشاهدين قضاء لحق العادة
الشرعية، والمناط هو الحكمة المقتضية لاستمرار العادات.
قال: والانتصاف عليه تعالى واجب عقلا وسمعا (1).
أقول: اختلف أهل العدل في ذلك، فذهب قوم منهم إلى أن الانتصاف



(1) الانتصاف هو الانتقام، والمقصود منه في المقام أخذ العوض من الظالم للمظلوم لا
القصاص، ولما ذكر المصنف في البحث السابق بأن عوض الآلام المستندة إلى الإنسان (كالإلقاء
في النار) عليه، لا على الله فرع هذا الكلام عليه وأنه يجب عليه سبحانه عند تمكين الظالم من
المظلوم أخذ العوض من الظالم ودفعه للمظلوم إما عقلا وسمعا كما عليه الماتن أو سمعا فقط
كما عليه الآخرون.
130
للمظلوم من الظالم واجب على الله تعالى عقلا، لأنه هو المدبر لعباده، فنظره
كنظر الوالد لولده فكما يجب على الوالد الانتصاف كذلك يجب عليه تعالى
قياسا للغائب على الشاهد.
وقال آخرون منهم: إنه يجب سمعا لأن الوالد يجب عليه تدبير أولاده
وتأديبهم، أما الانتصاف بأخذ الأرش من الظالم ودفعه إلى المظلوم فلا نسلم
وجوبه عقلا بل يحسن منا تركهم إلى أن تكمل عقولهم لينتصف بعضهم من
بعض.
والمصنف رحمه الله اختار وجوبه عقلا وسمعا.
أما من حيث العقل: فلأن ترك الانتصاف منه تعالى يستدعي ضياع حق
المظلوم لأنه تعالى مكن الظالم وخلى بينه وبين المظلوم مع قدرته تعالى على
منعه ولم يمكن المظلوم من الانتصاف فلولا تكفله تعالى بالانتصاف لضاع حق
المظلوم وذلك قبيح عقلا.
وأما من حيث السمع: فلورود القرآن بأنه تعالى يقضي بين عباده،
ولوصف المسلمين له تعالى بأنه الطالب، أي الذي يطلب حق الغير من الغير.
قال: فلا يجوز تمكين الظالم من الظلم (1) من دون عوض في الحال
يوازي ظلمه.
أقول: هذا تفريع على وجوب الانتصاف، وهو أنه هل يجوز تمكين الله



(1) لما حكم في البحث السابق بوجوب الانتصاف بمعنى أخذ العوض من الظالم ودفعه إلى
المظلوم لزم منه عدم جواز تمكين الظالم من الظلم إذا لم يكن عند الظالم عوض يوازي ظلمه،
من مال حلال أو عمل خير، وهذا من لوازم القول بوجوب الانتصاف، ولما كان ذلك مخالفا
لضرورة الحياة البشرية، فإن كثيرا من الظالمين ماتوا أو قتلوا ولم يكن عندهم درهم حلال ولا
عمل خير حتى ينقله سبحانه منهم إلى صحيفة المظلوم، وقع القائلون بالوجوب في حيص
وبيص فذكروا وجوها:
1 - قال الكعبي: إن الله يتفضل على الظالم بالعوض المستحق عليه، ويدفعه إلى المظلوم.
2 - قال أبو هاشم: تفضله سبحانه على الظالم أمر ليس بواجب، فكيف يمكن أن يترتب عليه أمر
واجب وهو الانتصاف؟ بل يجب عليه سبحانه أن يبقيه ويعمره حتى يكتسب عوضا وينتقل إلى
المظلوم.
3 - أورد عليه السيد المرتضى بأن ما أشكل على الكعبي من أن التفضل ليس بواجب وارد عليه
أيضا، لأن التبقية أيضا تفضل لا يمكن أن يترتب عليه أمر واجب وهو الانتصاف. وحق المقال
غير ما ذكراه، إذ كيف يمكن أن يقال: إنه يجب التفضل على الظالم مع أنه كافر جاحد أو منافق
معاند، وأما التبقية فيكذبها الحس والوجدان، فلا محيص عن القول بأنه يجب عليه سبحانه الأمر
بإجراء الحدود في الدنيا، أو تعذيبه في الآخرة، ورفع درجة المظلوم فيها إذا كان أهلا لذلك.
131
تعالى من الظلم من لا عوض له في الحال يوازي ظلمه؟ فمنع منه المصنف رحمه
الله، وقد اختلف أهل العدل هنا، فقال أبو هاشم والكعبي: إنه يجوز، لكنهما
اختلفا:
فقال الكعبي: يجوز أن يخرج من الدنيا ولا عوض له يوازي ظلمه، وقال:
إن الله تعالى يتفضل عليه بالعوض المستحق عليه ويدفعه إلى المظلوم.
وقال أبو هاشم: لا يجوز بل يجب التبقية لأن الانتصاف واجب والتفضل
ليس بواجب فلا يجوز تعليق الواجب بالجائز.
قال السيد المرتضى: إن التبقية تفضل أيضا فلا يجوز تعليق الانتصاف بها
فلهذا وجب العوض في الحال واختاره المصنف رحمه الله لما ذكرناه.

132
قال: فإن كان المظلوم من أهل الجنة (1) فرق الله تعالى أعواضه على الأوقات أو
تفضل عليه بمثلها، وإن كان من أهل العقاب أسقط بها جزء من عقابه بحيث لا
يظهر له التخفيف بأن يفرق الناقص على الأوقات.
أقول: لما بين وجوب الانتصاف ذكر كيفية إيصال العوض إلى مستحقه.



(1) السبب لعنوان هذا البحث هو التزامهم بخلو الجنة عن الغم، والجحيم عن الفرح، وهذا يطلب
لنفسه البحث عن كيفية انقطاع العوض عن أهل الجنة على وجه لا يورث الغم، ودفع العوض إلى
أهل الجحيم على وجه لا يورث الفرح والسرور ولو لأجل إحساس خفة العذاب، لكن الكلام في
وجود الدليل على الالتزام بهما على هذا الحد.
وذكر الماتن في كيفية إعطاء العوض إذا كان المظلوم من أهل الجنة وجهين، وإذا كان من أهل النار
وجها واحدا:
إذا كان من أهل الجنة وقلنا إن العوض دائم فلا بحث، إنما الكلام إذا كان العوض منقطعا فهنا وجهان:
1 - يفرق الله أعواضه على الأوقات، على وجه إذا انقطع العوض لا يدرك انقطاعه لقلته جدا لأجل
التوزيع على مدة طويلة لا قصيرة.
2 - يتفضل عليه بمثلها.
وإذا كان من أهل النار والمفروض أن العوض منقطع فالذي أجاب به الماتن نفس الجواب الأول
المذكور في حق أهل الجنة، قال: كما أنه سبحانه يفرق أعواض أهل الجنة على أوقاتهم حتى لا
يلزم الألم في الجنة لأجل الانقطاع فهكذا في المقام، يجعل العوض إسقاط جزء من عذابه لكن
مفرقا على أوقاته، وبما أن العوض كان مفرقا وقليلا لأجل التفريق، لا تظهر له الخفة مطلقا حتى
بعد الانقطاع، وإليه أشار الماتن بقوله: " اسقط بها جزء من عقابه بحيث لا يظهر له التخفيف "
والشارح أتى به في آخر الشرح بقوله: " أو نقول: إنه تعالى ينقص من آلامه ما يستحقه من أعواضه
متفرقا على الأوقات بحيث لا تظهر له الخفة من قبل ".
وأما الشارح فقد جاء بجواب آخر، وحاصله: أنه يسقط من عقابه في برهة خاصة من الزمان لا مفرقا
على الأوقات، ولما كان الإسقاط غير نفس العوض أولا، وكان الإسقاط في برهة خاصة يلازم
إحساس الراحة أو التخفيف ثانيا حاول إصلاح ذينك الأمرين وقال:
1 - إن طبع العوض وإن كان يقتضي إيصال النفع، لكنه لا فرق بينه وبين دفع الضرر في مقام الإيثار
والاختيار، وبذلك أجاب عن الإشكال الأول.
2 - إن عظمة الآلام - بعد الإسقاط - تمنع عن إحساس الراحة، بحيث لا يؤثر الإسقاط حتى في نفس
تلك البرهة في إحساس الراحة والتخفيف ويقف على أن آلامه بعد ذلك الإسقاط أشد، كل ذلك
يسلب منه ذكر الراحة وإحساس الخفة.
لكن الأساس غير ثابت، وما الدليل على أنه تعلقت مشيئته سبحانه بعدم إحساس أهل النار خفة
العذاب في برهة إذا كان التخفيف عوضا؟ وما ورد في الكتاب العزيز في غير واحد من السور من
أنه لا يخفف عنهم العذاب (1) ناظر إلى التخفيف من غير سبب.
-
1 - البقرة: 86، 162، آل عمران: 88، النحل: 85، فاطر: 36، غافر: 49.
133
واعلم: أن المستحق للعوض إما أن يكون مستحقا للجنة أو للنار، فإن كان
مستحقا للجنة فإن قلنا إن العوض دائم فلا بحث وإن قلنا إنه منقطع توجه
الإشكال بأن يقال: لو أوصل العوض إليه ثم انقطع عنه حصل له الألم بانقطاعه.
والجواب من وجهين: الأول: أنه يوصل إليه عوضه متفرقا على الأوقات
بحيث لا يبين له انقطاعه فلا يحصل له الألم.

134
الثاني: أن يتفضل الله تعالى عليه بعد انقطاعه بمثله دائما فلا يحصل الألم.
وإن كان مستحقا للعقاب جعل الله تعالى عوضه جزء من عقابه، بمعنى
أنه يسقط من عقابه بإزاء ما يستحقه من الأعواض، إذ لا فرق في العقل بين
إيصال النفع ودفع الضرر في الإيثار، فإذا خفف عقابه وكانت آلامه عظيمة علم
أن آلامه بعد إسقاط ذلك القدر من العقاب أشد ولا يظهر له أنه كان في راحة، أو
نقول: إنه تعالى ينقص من آلامه ما يستحقه من أعواضه متفرقا على الأوقات
بحيث لا يظهر له الخفة من قبل.
قال: ولا يجب دوامه لحسن الزائد بما يختار معه الألم وإن كان
منقطعا، ولا يجب حصوله في الدنيا لاحتمال مصلحة التأخير، والألم على
القطع ممنوع مع أنه غير محل النزاع.
أقول: لما ذكر وجوب العوض شرع في بيان أحكامه، وقد اختلف
الشيخان هنا:
فقال أبو علي الجبائي: إنه يجب دوامه، وقال أبو هاشم: لا يجب، واختاره
المصنف رحمه الله.
والدليل عليه أن العوض إنما حسن لاشتماله على النفع الزائد على الألم
أضعافا يختار معه المولم ألمه، ومثل هذا يتحقق في المنقطع، فكان وجه الحسن
فيه ثابتا فلا تجب إدامته.
وقد احتج أبو علي بوجهين أشار المصنف إلى الجواب عنهما:
الأول: أنه لو كان العوض منقطعا لوجب إيصاله في الدنيا لأن تأخير
الواجب بعد وجوبه وانتفاء الموانع منع للواجب، وإنما قلنا بانتفاء الموانع

135
لأن المانع هو الدوام (1) مع انقطاع الحياة المانع من دوامه.
والجواب: لا نسلم أن المانع من تقدمه في الدنيا إنما هو انقطاع الحياة
لجواز أن يكون في تأخيره مصلحة خفية.
الثاني: لو كان العوض منقطعا لزم دوامه والتالي لا يجامع المقدم، بيان
الملازمة: أنه بانقطاعه يتألم صاحب العوض والألم يستلزم العوض فيلزم من
انقطاعه دوامه.
والجواب من وجهين: الأول: يجوز انقطاعه من غير أن يشعر صاحبه
بانقطاعه إما لإيصاله إليه على التدريج في الأوقات بحيث لا يشعر بانتفائه لكثرة
غيره من منافعه، أو بأن يجعله ساهيا ثم يقطعه فلا يتألم حينئذ.
الثاني: أنه غير محل النزاع لأن البحث في العوض المستحق على الألم هل
يجب إدامته، وليس البحث في استلزام الألم الحاصل بالانقطاع لعوض آخر
وهكذا دائما.
قال: ولا يجب إشعار صاحبه بإيصاله عوضا.
أقول: هذا حكم آخر للعوض يفارق به الثواب، وهو أنه لا يجب



(1) زعم أبو علي أن القول بعدم دوام العوض يلازم أن يكون العوض واصلا في الدنيا، لا في الآخرة،
لأن الذي كان يمنع عن وصول العوض في الدنيا هو دوامه، ولكن المفروض انقطاعه، والعوض
المنقطع يناسب الحياة المؤقتة، وحيث إن الواقع على خلافه وإن كثيرا من الأعواض لا تصل في
الدنيا نحدس بأنه دائم يصل عند ابتداء الحياة الدائمة.
وأجاب الشارح بأن افتراض انقطاع العوض لا يلازم وصوله في الدنيا، إذ ليس المانع منحصرا في
انقطاع الحياة حتى يقال إنه ليس بمانع، لأن العوض أيضا منقطع، بل هناك مانع آخر، وهو وجود
المصلحة الخفية في تأخره.
136
إشعار مستحقه بتوفيته عوضا له، بخلاف الثواب إذ يجب في الثواب مقارنة
التعظيم ولا فائدة فيه إلا مع العلم به، أما هنا فلأنه منافع وملاذ وقد ينتفع ويلتذ
من لا يعلم ذلك، فما يجب إيصاله إلى المثاب (1) في الآخرة من الأعواض
يجب أن يكون عالما به من حيث إنه مثاب لا من حيث إنه معوض، وحينئذ
أمكن أن يوفيه الله تعالى في الدنيا على بعض المعوضين غير المكلفين وأن
ينتصف لبعضهم من بعض في الدنيا فلا تجب إعادتهم في الآخرة.
قال: ولا يتعين منافعه (2).
أقول: هذا حكم ثالث للعوض، هو أنه لا يتعين منافعه بمعنى أنه لا يجب
إيصاله في منفعة معينة دون أخرى بل يصلح توفيته بكل ما يحصل فيه شهوة
المعوض (3)، وهذا بخلاف الثواب لأنه يجب أن يكون من جنس ما ألفه
المكلف من ملاذه كالأكل والشرب واللبس والمنكح لأنه رغب به في تحمل
المشاق، بخلاف العوض فإنا قد بينا أنه يصح إيصاله إليه وإن لم يعلم أنه عوض
عما وصل إليه من الألم فصح إيصاله إليه بكل منفعة.



(1) المراد من المثاب صاحب المعوض لا المثاب المصطلح، ثم الداعي لاعتبار الاستشعار في
الثواب دون العوض هو تصوير دفع العوض إلى الحيوان، مع عدم شعوره بالعوض.
ثم إن الشارح ذكر أن دفع العوض لغير المكلفين كالحيوانات لا يتوقف على المعاد، بل يمكن أن يوفيه
الله تعالى في الدنيا على بعضهم، نعم من لم يوفه، يحشر ويعوض كما قال سبحانه:
* (وإذا الوحوش حشرت) * (التكوير: 5).
(2) الصحيح منافع، والمقصود أن العوض لا يشترط أن يكون مما ألفه المكلف بخلاف الثواب،
ولذلك كان عوض الكافر إسقاط العذاب، لا ما ألفه من الأكل والشرب.
(3) الصحيح: المعوض له.
137
قال: ولا يصح إسقاطه.
أقول: هذا حكم آخر للعوض وهو أنه لا يصح إسقاطه ولا هبته ممن
وجب عليه في الدنيا ولا في الآخرة، سواء كان العوض عليه تعالى أو علينا، هذا
قول أبي هاشم وقاضي القضاة.
وجزم أبو الحسين بصحة إسقاط العوض علينا إذا استحل الظالم من
المظلوم وجعله في حل، بخلاف العوض عليه تعالى فإنه لا يسقط لأن إسقاطه
عنه تعالى عبث لعدم انتفاعه به.
واحتج القاضي بأن مستحق العوض لا يقدر على استيفائه ولا على
المطالبة به ولا يعرف مقداره ولا صفته فصار كالصبي المولى عليه لا يصح له
إسقاط حقه عن غريمه.
والوجه عندي جواز ذلك (1) لأنه حقه وفي هبته نفع للموهوب ويمكن
نقل هذا الحق إليه فكان جائزا. والحمل على الصبي غير تام لأن الشرع منع
الصبي من التصرف في ماله لمصلحة شرعية حتى إنا لولا الشرع لجوزنا من



(1) إن الشارح خالف قول أبي هاشم وقاضي القضاة، حيث إنهما لم يجوزا إسقاط العوض مطلقا
سواء كان علينا أم على الله، ولكنه قال بإسقاط العوض في الجملة.
كما خالف أبا الحسين البصري، حيث إنه فصل في العوض بأنه لو كان علينا جاز الإسقاط
بالاستحلال، دون ما إذا كان على الله، لأن إسقاطه عندئذ عبث لأن الإيلام كان لغاية العوض،
والمفروض أن المكلف أسقطه، والشارح خالفه أيضا وقال بجواز إسقاط العوض مطلقا سواء كان
علينا أو على الله. ولا يلزم العبث، لأن أثر هذا الإسقاط هو الإحسان إلى الغير، إذا وهبه له لا
الإسقاط المطلق.
نعم ذهب إلى عدم جواز إسقاط الثواب لأنه مستحق مع المدح فلا يصح نقله إلى من لا يستحقه، وفيه
تأمل إذا كان العمل للغير من أول الأمر ونوى الإتيان به لأجله.
138
الصبي المميز إذا علم (1) دينه، وأن هبته إحسان إلى الغير (2) وآثر هذا الإحسان
(3) لانتفاء الضرر عنه مع اشتماله على الاختيار في الهبة لأنه كالبالغ لكن الشرع
فرق بينهما.
وعلى هذا لو كان العوض مستحقا عليه تعالى أمكن هبته مستحقة لغيره
من العباد، لما ذكرنا من أنه حقه وفي هبته انتفاع الموهوب (4) وإمكان نقل هذا
الحق، أما الثواب المستحق عليه تعالى فلا يصح منا هبته لغيرنا لأنه مستحق
بالمدح فلا يصح نقله إلى من لا يستحقه.
قال: والعوض عليه تعالى يجب تزايده إلى حد الرضا عند كل عاقل،
وعلينا يجب مساواته.
أقول: هذا حكم آخر للعوض، وهو أنه إما أن يكون علينا أو عليه تعالى.
أما العوض الواجب عليه تعالى فإنه يجب أن يكون زائدا عن الألم
الحاصل بفعله أو بأمره أو بإباحته أو بتمكينه لغير العاقل، زيادة تنتهي إلى حد
الرضا من كل عاقل بذلك العوض في مقابلة ذلك الألم لو فعل به لأنه لولا ذلك
لزم الظلم أما مع مثل هذا العوض فإنه يصير كأنه لم يفعل.
وأما العوض علينا فإنه يجب مساواته لما فعله من الألم أو فوته من
المنفعة لأن الزائد على ما يستحق عليه من الضمان يكون ظلما ولا يخرج ما



(1) بفتح الدال أي مقدار حقه، وهذا من الموارد التي افترق فيها حكم الشرع عن حكم العقل،
وبذلك ربما نوقضت القاعدة الملازمة فتأمل.
(2) تعليل لحسن إسقاطه لأن فيه إحسانا إلى الغير.
(3) أي إنما اختار هذا الإحسان لانتفاء الضرر عنه.
(4) الصحيح: الموهوب له.
139
فعلناه بالضمان عن كونه ظلما قبيحا فلا يلزم أن يبلغ الحد الذي شرطناه في
الآلام الصادرة منه تعالى.
المسألة الخامسة عشرة: في الآجال
قال: وأجل الحيوان (1) الوقت الذي علم الله تعالى بطلان حياته فيه.
أقول: لما فرغ من البحث عن الأعواض انتقل إلى البحث عن الآجال،
وإنما بحث عنه المتكلمون لأنهم بحثوا عن المصالح والألطاف وجاز أن يكون
موت إنسان في وقت مخصوص لطفا لغيره من المكلفين فبحثوا عنه (2) بعد
بحثهم عن المصالح.
واعلم أن الأجل هو الوقت، ونعني بالوقت هو الحادث (3) أو ما يقدر
تقدير الحادث (4)، كما يقال: جاء زيد عند طلوع الشمس، فإن طلوع الشمس
أمر حادث معلوم لكل أحد فجعل وقتا لغيره، ولو فرض جهالة طلوع



(1) الأجل يطلق ويراد منه تارة نهاية المدة كما في أجل الحيوان والإنسان، وأخرى مجموع المدة
مثل قوله سبحانه: (أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي...) (القصص: 28).
أي من الثماني والعشر حجج.
(2) أي بحثوا عن الموت بعد البحث عن حسنه لكونه سببا لنيل الكمال.
(3) والأولى أن يقيده بالمعلوم، ولأجله ربما يكون طلوع الشمس وقتا لمجئ زيد وأخرى يكون
مجئ زيد وقتا له كما يصرح بذلك.
(4) الظاهر أنه يريد تقسيم الوقت إلى وقت عام وخاص، والأول ما يقدر به أكثر الحوادث كالليل
والنهار وطلوع الشمس وغروبه، والثاني ما يقدر به بعض الحوادث، كنسبة بعض الحوادث إلى
مجئ زيد.
140
الشمس وعلم مجئ زيد لبعض الناس صح أن يقال: طلعت الشمس عند
مجئ زيد.
إذا عرفت هذا فأجل الحيوان هو الوقت الذي علم الله تعالى بطلان حياة
ذلك الحيوان فيه، وأجل الدين هو الوقت الذي جعله الغريمان محلا له (1).
قال: والمقتول يجوز فيه الأمران لولاه.
أقول: اختلف الناس في المقتول لو لم يقتل، فقالت المجبرة: إنه كان
يموت قطعا، وهو قول أبي الهذيل العلاف.
وقال بعض البغداديين: إنه كان يعيش قطعا.
وقال أكثر المحققين: إنه كان يجوز أن يعيش ويجوز أن يموت، ثم
اختلفوا: فقال قوم منهم (2) إن من كان المعلوم منه البقاء لو لم يقتل له أجلان.



(1) أي سببا لكون الدين حالا في مقابل كونه مؤجلا.
(2) المقصود بعض البغداديين القائلون بأنه كان يعيش قطعا لولا القتل، فذكروا أن له أجلين أجلا
مطلقا وأجلا مسمى فالوقت الذي قتل فيه أجل مسمى، والأجل الذي كان يعيش إليه لولا القتل،
أجل مطلق.
وإلى ذلك يشير قوله سبحانه: * (هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم
تمترون) * (الأنعام: 2)، فالأجل المطلق هو الذي كان في إمكان هذا الفرد أن يعيش إليه حسب
استعداد بدنه وقواه، والمسمى هو الأجل الذي لا يتقدم ولا يتأخر.
141
وقال الجبائيان وأصحابهما وأبو الحسين البصري: إن أجله هو الوقت
الذي قتل فيه وليس له أجل آخر (1) لو لم يقتل، فما كان يعيش (2) إليه ليس
بأجل له الآن حقيقي بل تقديري.
واحتج الموجبون لموته بأنه لولاه لزم خلاف معلوم الله (3) تعالى وهو
محال.
واحتج الموجبون لحياته بأنه لو مات لكان الذابح غنم غيره محسنا إليه،
ولما وجب القود لأنه لم يفوت حياته.
والجواب عن الأول: ما تقدم من أن العلم لا يؤثر في المعلوم (4).



(1) يريد أن الأجل الذي سميناه أجلا مطلقا ليس أجلا حقيقيا بل أجل تقديري وأنه لو لم يقتل
لعاش إلى هذا الحد.
(2) ما في قوله: " فما " زمانية أي المدة التي كان يعيش إليه لولا القتل.
(3) يريد: أنه إذا تعلق علمه بالمسبب أي القتل في وقت كذا، يجب أن يموت على كل تقدير، ولو لم
يقتل لمات بسبب آخر.
قال سبحانه: * (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم...) * (آل عمران
: 154).
(4) يعني أن علمه سبحانه ليس سببا للقتل، بل لوقوعه سبب خاص، والظاهر أن الجواب غير نافع
لأن الخصم لا يدعي أن علمه سبحانه سبب للقتل وعلة له حتى يقال العلم تابع كما قالوه عند رد
كون علمه سببا للجبر، بل يدعي أن علمه تعلق بموته، أي المسبب، وافتراض أنه يعيش لو لم
يقتل، يخالف علمه الكاشف غير المتخلف.
والأولى أن يقال: إنه صحيح إذا تعلق علمه القطعي بموته، فعند ذلك لو لم يقتل لمات بعامل آخر،
كما في الآية، ولكن المنكشف لنا، هو تعلق علمه بأنه يموت بالقتل وأما أنه يموت مطلقا ولو لم
يقتل فليس بمنكشف لنا.
142
وعن الثاني: بمنع الملازمة، إذ لو ماتت الغنم استحق مالكها عوضا زائدا
على الله تعالى، فبذبحه فوت عليه الأعواض (1) الزائدة، والقود من حيث
مخالفة الشارع إذ قتله حرام عليه وإن علم موته، ولهذا لو أخبر الصادق بموت
زيد لم يجز لأحد قتله.
قال: ويجوز أن يكون الأجل لطفا للغير لا للمكلف.
أقول: لا استبعاد في أن يكون أجل الإنسان لطفا لغيره من المكلفين ولا
يمكن أن يكون لطفا للمكلف نفسه لأن الأجل يطلق على عمره وحياته، ويطلق
على أجل موته.
أما الأول: فليس بلطف لأنه تمكين له من التكليف واللطف زائد على
التمكين.
وأما الثاني: فهو قطع التكليف، فلا يصح أن يكلف بعده فيكون لطفا له
فيما يكلفه من بعد، واللطف لا يصح أن يكون لطفا فيما مضى.
المسألة السادسة عشرة: في الأرزاق
قال: والرزق ما صح الانتفاع به ولم يكن لأحد منعه منه.



(1) يريد أن ذابح غنم الغير ليس محسنا لأنه فوت عليه الأعواض التي هي على الله إذا مات بغير
ذبح، كما عرفت من لزوم العوض على الله عند الآلام والمصائب إذا كانت مستندة إليه سبحانه.
143
أقول: الرزق عند المجبرة (1) ما أكل، سواء كان حراما أ
وحلالا.
وعند المعتزلة أنه ما صح الانتفاع به ولم يكن لأحد منع المنتفع به، لقوله
تعالى: * (وأنفقوا مما رزقناكم) * (2) والله تعالى لا يأمر بالإنفاق من الحرام، قالوا:
ولا يوصف الطعام المباح في الضيافة أنه رزقه ما لم يستهلكه لأن للمبيح منعه
قبل استهلاكه بالمضغ والبلع وكذا طعام البهيمة ليس رزقا لها قبل أن تستهلكه
لأن للمالك منعها منه إلا إذا وجب رزقها عليه، والغاصب إذا استهلك الطعام
المغصوب بالأكل لا يوصف بأنه رزقه لأن الله تعالى منعه من الانتفاع به بعد
مضغه وبلعه لأن تصرفاته أجمع محرمة، بخلاف من أبيح له الطعام لأنه بعد
المضغ والبلع لا يحسن من أحد تفويته الانتفاع به لأنه معدود فيما تقدم من
الأسباب المؤدية إلى الانتفاع به.
وليس الرزق هو الملك (3)، لأن البهيمة مرزوقة وليست مالكة، والله
تعالى



(1) عرف المجبرة الرزق بأنه ما أكل، سواء كان حراما أو حلالا، وعرفه المعتزلة بما صح الانتفاع به
ولم يكن لأحد منع المنتفع به، وبالقيد الأخير خرج الطعام المغصوب، وما يقدم إلى الضيف من
المأكول، وعلف البهيمة، لوجود المنع في الأول وجوازه في الأخيرين، ولأجل ذلك لا يعد الأول
رزقا حتى بعد الاستهلاك بخلافه في الأخيرين فلا يعد إلا بعد المضغ والبلع.
يلاحظ على ما ذكروه أن الباحثين لم يفرقوا بين الرزق التكويني والتشريعي، وعلى الأول لا فرق بين
الحلال والحرام، وقبل الاستهلاك وعدمه. وعلى الثاني فما ينتفع به الغاصب والفأرة والهرة رزق
لها، ويصدق عليها قوله: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها)
(هود: 6).
نعم الرزق التشريعي مخصوص بما ذكره المعتزلة، ثم الرزق أعم من الأكل، فهو يعم الملبوس
والمشموم والمسموع وغير ذلك.
(2) المنافقون: 10.
(3) النسبة بين الملك والرزق عموم وخصوص من وجه، والله سبحانه مالك الأشياء وليست
الأشياء رزقا له، وما ينتفع به الحيوان رزق له وليس مالكا له وما يملكه الإنسان وينتفع به فهو
رزق له.
144
مالك ولا يقال إن الأشياء رزق له تعالى، والولد والعلم رزق لنا وليسا ملكا لنا،
فحينئذ الأرزاق كلها من قبله تعالى لأنه خالق جميع ما ينتفع به وهو الممكن من
الانتفاع والتوصل إلى اكتساب الرزق وهو الذي يجعل العبد أخص بالانتفاع به
بعد الحيازة أو غيرها من الأسباب الموصلة إليه ويحظر على غيره منعه من
الانتفاع وهو خالق الشهوة التي بها يتمكن من الانتفاع.
قال: والسعي في تحصيله قد يجب ويستحب ويباح ويحرم.
أقول: ذهب جمهور العقلاء إلى أن طلب الرزق سائغ (1) وخالف فيه
بعض الصوفية، لاختلاط الحرام بالحلال بحيث لا يتميز، وما هذا سبيله يجب
الصدقة به فيجب على الغني دفع ما في يده إلى الفقير بحيث يصير فقيرا ليحل له
أخذ الأموال الممتزجة بالحرام، ولأن في ذلك مساعدة للظالمين بأخذ العشور
والخراجات ومساعدة الظالم محرمة.
والحق ما قلناه، ويدل عليه المعقول والمنقول:
أما المعقول فلأنه دافع للضرر فيكون واجبا.
وأما المنقول فقوله تعالى: * (وابتغوا من فضل الله) * (2) إلى غيرها من
الآيات، وقوله عليه السلام: " سافروا تغنموا " (3) أمر بالسفر لأجل الغنيمة.
والجواب عن الأول: بالمنع من عدم التميز، إذ الشارع ميز الحلال من



(1) دلت الآيات والروايات على كونه جائزا، والشاك في جوازه خارج عن الفطرة الإنسانية، وما
نسب إلى الصوفية غير واضح، وقد روى المفسرون في تفسير قوله سبحانه: (إن الله هو الرزاق ذو
القوة المتين) (الذاريات: 58) ما يشبه تلك النظرية، وملاك التقسيم جاء في آخر كلام الشارح،
وهو أن الحاجة ملاك الوجوب، وطلب التوسعة مناط الاستحباب، والغنى عن التوسعة ملاك
الإباحة، والمانع عن القيام بالواجب ملاك الحرمة ولم يذكر المكروه، وهو متصور باعتبار أسباب
الكسب المكروه.
(2) الجمعة: 10.
(3) البحار: 73 / 221.
145
الحرام بظاهر اليد، ولأن تحريم التكسب من هذه الحيثية يقتضي تحريم التناول
واللازم باطل اتفاقا.
وعن الثاني: أن المكتسب غرضه الانتفاع بزراعته أو تجارته لا تقوية
الظلمة.
إذا عرفت هذا فالسعي في طلب الرزق قد يجب مع الحاجة، وقد
يستحب إذا طلب التوسعة عليه وعلى عياله، وقد يباح مع الغنى عنه، وقد يحرم
مع منعه عن الواجب.
المسألة السابعة عشرة: في الأسعار
قال: والسعر تقدير العوض الذي يباع به الشئ (1)، وهو رخص وغلاء
ولا بد من اعتبار العادة واتحاد الوقت والمكان، ويستند إليه تعالى وإلينا أيضا.
أقول: السعر هو تقدير العوض الذي يباع به الشئ، وليس هو الثمن ولا
المثمن، وهو ينقسم إلى رخص وغلاء، فالرخص هو السعر المنحط عما جرت
به العادة مع اتحاد الوقت والمكان، والغلاء زيادة السعر عما جرت به العادة مع
اتحاد الوقت والمكان.



(1) لم يقل: الثمن، لأن العوض ربما يكون من غير النقدين، وهذا بخلاف الثمن، فكل ما يعادل
المعوض في التقويم، فهو عوض سواء كان من النقدين أو غيرهما، ثم السعر ينقسم إلى رخص
وغلاء، والتقسيم فرع وجود سعر محدد معلوم حتى ينسبا إليهما، وهذا هو الذي أشار إليه بقوله:
" ولا بد من اعتبار العادة "، أي جرت العادة في كل زمان ومكان على تقويم الشئ بسعر معين ثم
تنسيب السعر الثاني إليه، فعندئذ يكون إما رخيصا أو غاليا. ثم إنه يشترط في وصف السعر بأحد
الأمرين من الوحدة في الوقت والمكان كما أوضحه الشارح.
ثم إن رخص السعر وغلاءه يكون ناشئا غالبا من وفور المتاع وقلة الطلب فيكون رخيصا، أو بالعكس
فيكون غاليا، وهذا لا ينافي أن يكونا مستندين لإرادته سبحانه.
146
وإنما اعتبرنا الزمان والمكان لأنه لا يقال إن الثلج قد رخص سعره في
الشتاء عند نزول الثلج، لأنه ليس أوان بيعه، ويجوز أن يقال رخص في الصيف،
إذا نقص سعره عما جرت به عادته في ذلك الوقت، ولا يقال رخص سعره في
الجبال التي يدوم نزوله فيها، لأنها ليست مكان بيعه، ويجوز أن يقال رخص
سعره في البلاد التي اعتيد بيعه فيها.
واعلم أن كل واحد من الرخص والغلاء قد يكون من قبله تعالى، بأن
يقلل جنس المتاع المعين ويكثر رغبة الناس إليه فيحصل الغلاء لمصلحة
المكلفين، وقد يكثر جنس ذلك المتاع ويقلل رغبة الناس إليه تفضلا منه تعالى
وإنعاما أو لمصلحة دينية فيحصل الرخص، وقد يحصلان من قبلنا، بأن يحمل
السلطان الناس على بيع تلك السلعة بسعر غال ظلما منه أو لاحتكار الناس أو
لمنع الطريق خوف الظلمة أو لغير ذلك من الأسباب المستندة إلينا فيحصل
الغلاء، وقد يحمل السلطان الناس على بيع السلعة برخص ظلما منه أو يحملهم
على بيع ما في أيديهم من جنس ذلك المتاع فيحصل الرخص.
المسألة الثامنة عشرة: في الأصلح
قال: والأصلح قد يجب (1) لوجود الداعي وانتفاء الصارف.
أقول: اختلف الناس هنا: فقال الشيخان أبو علي وأبو هاشم وأصحابهما:
إن الأصلح ليس بواجب على الله تعالى.



(1) المقصود من الأصلح أنه سبحانه لا يفعل بعباده إلا الأصلح لهم، قال المفيد: " إن الله تعالى لا
يفعل بعباده ما داموا مكلفين إلا أصلح الأشياء لهم في دينهم ودنياهم، وإنه لا يدخرهم صلاحا ولا
نفعا، وإن من أغناه فقد فعل به الأصلح في التدبير، وكذلك من أفقره ومن أصحه ومن أمرضه
فالقول فيه كذلك " (1).
-
1 - المفيد: أوائل المقالات: 25 - 26، ط. تبريز.
147
وقال البلخي: إنه واجب، وهو مذهب البغداديين وجماعة من البصريين.
وقال أبو الحسين البصري: إنه يجب في حال دون حال، وهو اختيار
المصنف رحمه الله، وتحرير صورة النزاع: أن الله تعالى إذا علم انتفاع زيد
بإيجاد قدر من المال له وانتفاء الضرر به في الدين عنه وعن غيره من المكلفين
هل يجب إيجاد ذلك القدر له أم لا؟
احتج الموجبون: بأن لله تعالى داعيا إلى إيجاده وليس له صارف عنه
فيجب ثبوته لأن مع ثبوت القدرة ووجود الداعي وانتفاء الصارف يجب الفعل.
وبيان تحقق الداعي أنه إحسان خال عن جهات المفسدة، وبيان انتفاء
الصارف أن المفاسد منتفية ولا مشقة فيه.
واحتج النفاة: بأن وجوبه يؤدي إلى المحال فيكون محالا.
بيان الملازمة (1): أنا لو فرضنا انتفاء المفسدة في الزائد على ذلك القدر
وثبوت المصلحة فإن وجب إيجاده لزم وقوع ما لا نهاية له لأنا نفرض ذلك في
كل زائد، وإن لم يجب ثبت المطلوب.



(1) توضيحه أنه إذا كان إغناء إنسان على قدر خاص مقرونا بالمصلحة فيجب إيجاده، فلو فرض
وجود المصلحة في المقدار الزائد يجب أيضا إيجاده، وهكذا، فيلزم وجوب إيجاد ما لا نهاية له
وهو أمر ممتنع.
يلاحظ عليه بوجهين: أولا: إذا كان الزائد بالغا حد الممتنع فلا تتعلق به القدرة فيخرج عن موضوع
البحث.
وثانيا: لا ملازمة بين كون الأقل مصلحة، وكون الأكثر أيضا مثله، قال سبحانه: (إن الإنسان ليطغى * أن
رآه استغنى) (العلق: 6 - 7)، فربما يكون الزائد موجبا لكفره أو فسقه أو قلة مبالاته بالدين.
148
قال أبو الحسين: إذا كان ذلك القدر مصلحة (1) خالية عن المفسدة وكان
الزائد عليه مفسدة وجب عليه أن يعطيه ذلك القدر لوجود الداعي وانتفاء
الصارف، وإذا لم يكن في الزائد مفسدة إلى غير النهاية فإنه تعالى قد يفعل ذلك
القدر وقد لا يفعله لأن من دعاه الداعي إلى الفعل وكان ذلك الداعي حاصلا في
فعل ما يشق فإن ذلك يجري مجرى الصارف عنه فيصير الداعي مترددا بين
الداعي والصارف فلا يجب الفعل ولا الترك، وتمثل بأن من دعاه الداعي على
دفع درهم إلى فقير ولم يظهر له ضرر في دفعه فإنه يدفعه إليه، فإن حضره من
الفقراء جماعة يكون الدفع إليهم مساويا للدفع إلى الأول ويشق عليه الدفع إليهم
لحصول الضرر فإنه قد يدفع الدرهم إلى الفقير منهم وقد لا يدفعه، فإذا كان
حصول الداعي فيما يشق يقتضي تجويز العدم فحصوله فيما يستحيل وجوده
أولى لانتفاء الفعل معه، فلهذا قال قد يجب الأصلح في بعض الأحوال دون
بعض.
وللنفاة وجوه أخر، ذكرناها في كتاب نهاية المرام على الاستقصاء. قال:



(1) المذكور في كلامه الشقوق التالية:
1 - إذا كان ذلك القدر مصلحة وفي الزائد مفسدة فحينئذ يلزم الاكتفاء بالأقل.
2 - إذا لم تكن في الزائد مفسدة مطلقا في عامة المراحل لكن كان فعل الزائد على القدر شاقا على الله
سبحانه، فتكون المشقة بمنزلة الصارف عن الفعل.
3 - إذا لم يكن شاقا بل كان مستلزما للمحال إذا افترضنا إيجاد ما لا يتناهى.
ولا يخفى ما فيه من الوهن لعدم تصور القسم الثاني في حقه سبحانه، قال أمير المؤمنين: " وما الجليل
واللطيف، والثقيل والخفيف، والقوي والضعيف في خلقه إلا سواء " (1).
ثم ذكر الشارح أنه نقل أدلة النفاة في كتابه نهاية المرام (2)، وهي أبسط كتاب كلامي له ولكن النسخ
الموجودة بين أيدينا أقل من هذا، حيث لم تصل إلى الإلهيات، رزقنا الله النسخة الكاملة منها.
-
1 - نهج البلاغة، الخطبة: 185.
2 - وهي بقيد التحقيق.
149
المقصد الرابع في:
النبوة
[العامة والخاصة]

150
البعثة حسنة، لاشتمالها على فوائد: كمعاضدة العقل فيما يدل عليه
واستفادة الحكم فيما لا يدل، وإزالة الخوف، واستفادة الحسن والقبح والنافع
والضار، وحفظ النوع الإنساني، وتكميل أشخاصه بحسب استعداداتهم
المختلفة، وتعليمهم الصنائع الخفية، والأخلاق والسياسات، والإخبار بالعقاب
والثواب فيحصل اللطف للمكلف.
أقول: في هذا المقصد مسائل:
المسألة الأولى: في حسن البعثة (1)
اختلف الناس في ذلك، فذهب المسلمون كافة وجميع أرباب الملل
وجماعة من الفلاسفة إلى ذلك، ومنعت البراهمة منه.



(1) عقد الماتن بحثين: أحدهما في حسن البعثة وذكر له تسعة أوجه. ثانيهما في وجوب البعثة
وذكر له وجها واحدا كما سيوافيك، والمهم من هذه الأوجه التسعة هو الوجه الخامس الذي أشار
إليه بقوله: " وحفظ النوع الإنساني "، وقد أوضحناه في كتاب الإلهيات، فراجع (1).
وإنما عقد بحثين، لأجل أن الحسن ينقسم إلى أقسام أربعة تقدم ذكرها ص 56، فليس الحسن ملازما
للوجوب وإن كان في المقام ملازما معه.
ثم إنه فسر قولهم: التكاليف السمعية ألطاف في الأحكام العقلية، بأن الأولى توجد في الإنسان روح
الطاعة فيكون من امتثال الأحكام العقلية أقرب.
-
1 - الإلهيات: 3 / 23 - 29.
152
والدليل على حسن البعثة أنها قد اشتملت على فوائد وخلت عن
المفاسد فكانت حسنة قطعا، وقد ذكر المصنف رحمه الله جملة من فوائد البعثة:
منها: أن يعتضد العقل بالنقل فيما يدل العقل عليه من الأحكام كوحدة
الصانع وغيرها، وأن يستفاد الحكم من البعثة فيما لا يدل العقل عليه كالشرائع
وغيرها من مسائل الأصول.
ومنها: إزالة الخوف الحاصل للمكلف عند تصرفاته، إذ قد علم بالدليل
العقلي أنه مملوك لغيره وأن التصرف في ملك الغير بغير إذنه قبيح، فلولا البعثة
لما علم حسن التصرفات، فيحصل الخوف بالتصرف وبعدمه إذ يجوز العقل
طلب المالك من العبد فعلا لا سبيل إلى فعله إلا بالبعثة فيحصل الخوف.
ومنها: أن بعض الأفعال حسنة وبعضها قبيحة، ثم الحسنة منها ما يستقل
العقل بمعرفة حسنه ومنها ما لا يستقل، وكذا القبيحة، ومع البعثة يحصل معرفة
الحسن والقبح اللذين لا يستقل العقل بمعرفتهما.
ومنها: أن بعض الأشياء نافعة لنا مثل كثير من الأغذية والأدوية وبعضها
ضار لنا مثل كثير من السموم والحشائش والعقل لا يدرك ذلك كله وفي البعثة
تحصل هذه الفائدة العظيمة.
ومنها: أن النوع الإنساني خلق لا كغيره من الحيوانات، فإنه مدني بالطبع
يحتاج إلى أمور كثيرة في معاشه لا يتم نظامه إلا بها، وهو عاجز عن فعل الأكثر
منها إلا بمشاركة ومعاونة، والتغلب موجود في الطبائع البشرية بحيث يحصل
التنافر المضاد لحكمة الاجتماع، فلا بد من جامع يقهرهم على الاجتماع وهو
السنة والشرع، ولا بد للسنة من شارع يسنها ويقرر ضوابطها،

153
ولا بد وأن يتميز ذلك الشخص من غيره من بني نوعه لعدم الأولوية، وذلك
المائز لا يجوز أن يكون مما يحصل من بني النوع لوقوع التنافر في التخصيص،
فلا بد وأن يتميز من قبل الله تعالى بمعجزة ينقاد البشر إلى تصديق مدعيها
ويخوفهم من مخالفته ويعدهم على متابعته بحيث يتم النظام ويستقر حفظ
النوع الإنساني على كماله الممكن له.
ومنها: أن أشخاص البشر متفاوتة في إدراك الكمالات وتحصيل المعارف
واقتناء الفضائل، فبعضهم مستغن عن معاون لقوة نفسه وكمال إدراكه وشدة
استعداده للاتصال بالأمور العالية، وبعضهم عاجز عن ذلك بالكلية، وبعضهم
متوسط الحال وتتفاوت مراتب الكمال في هذه المرتبة بحسب قربها من أحد
الطرفين وبعدها عن الآخر، وفائدة النبي تكميل الناقص من أشخاص النوع
بحسب استعداداتهم المختلفة في الزيادة والنقصان.
ومنها: أن النوع الإنساني محتاج إلى آلات وأشياء نافعة في بقائه كالثياب
والمساكن وغيرها وذلك مما يحتاج في تحصيله إلى معرفة عمله والقوة
البشرية عاجزة عنه، ففائدة النبي في ذلك تعليم هذه الصنائع النافعة الخفية.
ومنها: أن مراتب الأخلاق وتفاوتها معلوم يفتقر فيه إلى مكمل بتعليم
الأخلاق والسياسات بحيث تنتظم أمور الإنسان بحسب بلده ومنزله.
ومنها: أن الأنبياء يعرفون الثواب والعقاب على الطاعة وتركها فيحصل
للمكلف اللطف ببعثتهم، فتجب بعثتهم لهذه الفوائد.
قال: وشبهة البراهمة باطلة بما تقدم.
أقول: احتجت البراهمة على انتفاء البعثة بأن الرسول إما أن يأتي بما

154
يوافق العقول أو بما يخالفها، فإن جاء بما يوافق العقول لم يكن إليه حاجة ولا
فائدة فيه، وإن جاء بما يخالف العقول وجب رد قوله.
وهذه الشبهة باطلة بما تقدم في أول الفوائد، وذلك أن نقول: لم لا يجوز
أن يأتوا بما يوافق العقول وتكون الفائدة فيه التأكيد لدليل العقل؟ أو نقول: لم لا
يجوز أن يأتوا بما لا تقتضيه العقول ولا تهتدي إليه وإن لم يكن مخالفا للعقول
بمعنى أنهم لا يأتون بما يقتضي العقل نقيضه، مثل كثير من الشرائع والعبادات
التي لا يهتدي العقل إلى تفصيلها.
المسألة الثانية: في وجوب البعثة
قال: وهي واجبة لاشتمالها على اللطف في التكاليف العقلية.
أقول: اختلف الناس هنا، فقالت المعتزلة: إن البعثة واجبة.
وقالت الأشعرية: إنها غير واجبة.
احتجت المعتزلة: بأن التكاليف السمعية ألطاف في التكاليف العقلية،
واللطف واجب فالتكليف السمعي واجب ولا تمكن معرفته إلا من جهة النبي
فيكون وجود النبي واجبا لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
واستدلوا على كون التكليف السمعي لطفا في العقلي بأن الإنسان إذا كان
مواظبا على فعل الواجبات السمعية وترك المناهي الشرعية كان من فعل
الواجبات العقلية والانتهاء عن المناهي العقلية أقرب، وهذا معلوم بالضرورة
لكل عاقل، وقد بينا فيما تقدم أن اللطف واجب.

155
المسألة الثالثة: في وجوب العصمة
قال: ويجب في النبي العصمة (1) ليحصل الوثوق فيحصل الغرض،
ولوجوب متابعته وضدها، والإنكار عليه.
أقول: اختلف الناس هنا: فجماعة المعتزلة جوزوا الصغائر على الأنبياء إما
على سبيل السهو كما ذهب إليه بعضهم أو على سبيل التأويل كما ذهب إليه قوم
منهم أو لأنها تقع محبطة بكثرة ثوابهم.
وذهبت الأشعرية والحشوية إلى أنه يجوز عليهم الصغائر والكبائر إلا
الكفر والكذب.
وقالت الإمامية: إنه تجب عصمتهم عن الذنوب كلها صغيرها وكبيرها،
والدليل عليه وجوه:



(1) كان اللازم على المحقق الطوسي - قدس سره - تعريف العصمة وتحقيق ماهيتها قبل الحكم
بوجوب اتصاف الأنبياء بها، ومن أراد الوقوف عليهما فليرجع إلى مفاهيم القرآن (1)، وقد أقام
- قدس سره - على عصمة الأنبياء براهين ثلاثة، والمهم هو الأول منها لإمكان مناقشة الدليل
الثاني بأن المطاوعة إنما تجب إذا كانت هناك موافقة بين القول والعمل فتخرج ما إذا كانت
مخالفة، وقوله سبحانه: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) (الأحزاب: 21) لا يتجاوز عن
كونه دليلا مطلقا فيقيد بالموافقة، فتخرج صورة المخالفة بحكم العقل.
ومثل الثاني، الدليل الثالث، لإمكان الالتزام بعدم حرمة الإيذاء إذا كان عن حق، وإلا فالمؤمن كالنبي
يحرم إيذاؤه، فلو حرم إيذاؤه في هذه الحالة يلزم عدم جواز أمره بالمعروف إذا تركه أو نهيه عن
المنكر إذا ارتكبه إذا كان الأمر أو النهي سببا للإيذاء.
-
1 - مفاهيم القرآن: 4 / 371 - 405.
156
أحدها: أن الغرض من بعثة الأنبياء عليهم السلام إنما يحصل بالعصمة،
فتجب العصمة تحصيلا للغرض.
وبيان ذلك أن المبعوث إليهم لو جوزوا الكذب على الأنبياء والمعصية
جوزوا في أمرهم ونهيهم وأفعالهم التي أمروهم باتباعهم فيها ذلك، وحينئذ لا
ينقادون إلى امتثال أوامرهم، وذلك نقض للغرض من البعثة.
الثاني: أن النبي تجب متابعته، فإذا فعل معصية فإما أن تجب متابعته أو لا
والثاني باطل لانتفاء فائدة البعثة، والأول باطل لأن المعصية لا يجوز فعلها،
وأشار بقوله: " لوجوب متابعته وضدها " إلى هذا الدليل لأنه بالنظر إلى كونه نبيا
تجب متابعته وبالنظر إلى كون الفعل معصية لا يجوز اتباعه.
الثالث: أنه إذا فعل معصية وجب الإنكار عليه لعموم وجوب النهي عن
المنكر وذلك يستلزم إيذاءه وهو منهي عنه وكل ذلك محال.
قال: وكمال العقل والذكاء والفطنة وقوة الرأي وعدم السهو وكل ما ينفر
عنه من دناءة الآباء وعهر الأمهات (1) والفظاظة والغلظة والأبنة وشبهها والأكل
على الطريق وشبهه.
أقول: يجب أن يكون في النبي هذه الصفات التي ذكرها وقوله: " وكمال
العقل " عطف على العصمة، أي ويجب في النبي كمال العقل، وذلك ظاهر.
وأن يكون في غاية الذكاء والفطنة وقوة الرأي، بحيث لا يكون ضعيف
الرأي مترددا في الأمور متحيرا لأن ذلك من أعظم المنفرات عنه.



(1) لم يذكر من صفات الآباء والأمهات إلا العهر وعدم الدناءة، وكان عليه أن يذكر كونهما موحدين،
غير عابدين للوثن كما ذكره المفيد (1).
-
1 - المفيد: أوائل المقالات: 12 - 13.
157
وأن لا يصح عليه السهو لئلا يسهو عن بعض ما أمر بتبليغه.
وأن يكون منزها عن دناءة الآباء وعهر الأمهات لأن ذلك منفر عنه.
وأن يكون منزها عن الفظاظة والغلظة لئلا يحصل النفرة عنه.
وأن يكون منزها عن الأمراض المنفرة نحو الأبنة وسلس الريح والجذام
والبرص، وعن كثير من المباحات الصارفة عن القبول منه القادحة في تعظيمه
نحو الأكل على الطريق وغير ذلك لأن ذلك كله مما ينفر عنه فيكون منافيا
للغرض من البعثة.
المسألة الرابعة: في الطريق إلى معرفة صدق النبي
قال: وطريق معرفة صدقه ظهور المعجز على يده، وهو ثبوت ما ليس
بمعتاد أو نفي ما هو معتاد (1) مع خرق العادة ومطابقة الدعوى.



(1) عرف المعجز بقيود ثلاثة:
1 - ثبوت ما ليس بمعتاد، أو نفي ما هو معتاد.
2 - مع خرق العادة.
3 - مطابقة الدعوى.
والظاهر إغناء القيد الأول عن الثاني، لأن ثبوت ما ليس بمعتاد يكون ملازما لخرق العادة، وهكذا نفي
ما هو معتاد مثله، والأولى أن يعرف بأنه أمر خارق العادة، مقرون بالتحدي، مع عدم المعارضة
ويكون عمله مطابقا لدعواه (1).
-
1 - الإلهيات: 3 / 69 - 72.
158
أقول: لما ذكر صفات النبي وجب عليه ذكر بيان معرفة صدقه، وهو شئ
واحد، وهو ظهور المعجز على يده، ونعني بالمعجز ثبوت ما ليس بمعتاد أو نفي
ما هو معتاد مع خرق العادة ومطابقة الدعوى، لأن الثبوت والنفي سواء في
الإعجاز فإنه لا فرق بين قلب العصا حية وبين منع القادر عن رفع أصغر الأشياء.
وشرطنا خرق العادة لأن فعل المعتاد أو نفيه لا يدل على الصدق.
وقلنا مع مطابقة الدعوى لأن من يدعي النبوة ويسند معجزته إلى إبراء
الأعمى فيحصل له الصمم مع عدم برء العمى لا يكون صادقا.
ولا بد في المعجز من شروط:
أحدها: أن يعجز عن مثله أو ما يقاربه الأمة المبعوث إليها.
الثاني: أن يكون من قبل الله تعالى أو بأمره.
الثالث: أن يكون في زمان التكليف لأن العادة تنتقض عند أشراط الساعة.
الرابع: أن يحدث عقيب دعوى المدعي للنبوة أو جاريا مجرى ذلك (1)،
ونعني بالجاري مجرى ذلك أن يظهر دعوى النبي في زمانه وأنه لا مدعي للنبوة
غيره (2) ثم يظهر المعجز بعد أن ظهر معجز آخر عقيب دعواه فيكون



(1) لما شرط ظهور المعجز عقيب دعوى النبوة، حاول أن يدخل المعجز الثاني بعد المعجز الأول
تحت التعريف قائلا بأن الثاني أيضا واقع عقيب دعوى النبوة باعتبار استمرار الدعوة، ولا يخفى
ما في العبارة من التعقيد.
(2) إذ لو كان نبي آخر وكان المعجز الآخر صادرا منه يكون صادرا عقيب دعواه لا جاريا مجراه وإنما
يكون من قبيل الثاني إذا كان المدعي واحدا.
159
ظهور الثاني كالمتعقب لدعواه لأنه يعلم تعلقه بدعواه وأنه لأجله ظهر (1) كالذي
ظهر عقيب دعواه.
الخامس: أن يكون خارقا للعادة.
المسألة الخامسة: في الكرامات
قال: وقصة مريم وغيرها تعطي جواز ظهوره على الصالحين.
أقول: اختلف الناس هنا: فذهب جماعة من المعتزلة إلى المنع من إظهار
المعجز على الصالحين كرامة لهم ومن إظهاره على العكس على الكذابين
إظهارا لكذبهم.
وجوزه أبو الحسين منهم وجماعة أخرى من المعتزلة والأشاعرة، وهو
الحق، واستدل المصنف رحمه الله بقصة مريم، فإنها تدل على ظهور معجزات
عليها وغيرها مثل قصة آصف، وكالأخبار المتواترة المنقولة عن علي عليه
السلام وغيره من الأئمة.
وحمل المانعون قصة مريم على الإرهاص لعيسى عليه السلام، وقصة
آصف على أنه معجز لسليمان عليه السلام مع بلقيس، كأنه يقول: إن بعض
أتباعي يقدر على هذا مع عجزكم عنه، ولهذا أسلمت بعد الوقوف على
معجزاته، وقصة علي عليه السلام على تكملة معجزات النبي عليه السلام.



(1) يريد أن المعجز ظهر بنفس السبب الذي ظهر لأجله، المعجز الأول، وما هو إلا إثبات دعواه،
فيكون الثاني والثالث مثل الأول جاريا مجراه.
160
قال: ولا يلزم خروجه عن الإعجاز، ولا التنفير، ولا عدم التميز، ولا
إبطال دلالته، ولا العمومية.

161
أقول: هذه وجوه استدل بها المانعون من المعتزلة:
الأول (1): قالوا: لو جاز ظهور المعجزة على غير الأنبياء إكراما لهم لجاز
ظهورها عليهم وإن لم يعلم بها غيرهم، لأن الغرض هو سرورهم، وإذا جاز ذلك
بلغت في الكثرة إلى خروجها عن الإعجاز.
والجواب: المنع من الملازمة لأن خروجها عن حد الإعجاز وجه قبح
ونحن إنما نجوز ظهور المعجزة إذا خلا عن جهات القبح فنجوز ظهورها ما لم
تبلغ في الكثرة إلى حد خروجها عن الإعجاز.
الثاني (2): قالوا: لو جاز ظهور المعجزة على غير النبي لزم التنفير عن



(1) الأولى استخدام الكرامة مكان الإعجاز في هذه الموارد، لاختصاص الثاني اصطلاحا بمدعي
النبوة.
وحاصل البرهان: لو صدر الإعجاز من غير النبي لكثر وقوعه فخرج عن كونه معجزا لخروجه عن كونه
أمرا خارقا للعادة لكثرة وقوعه.
والجواب واضح: لأن التجويز بنحو القضية الجزئية لا ينتهي إلى حد يخرج عن كونه أمرا خارجا عن
حد الإعجاز.
ولو بين الشارح البرهان والجواب مثل ما ذكرناه لكان أحسن لكنه قال: " لو جاز ظهور المعجزة على
غير الأنبياء إكراما لهم، لجاز ظهورها عليهم وإن لم يعلم بها غيرهم لأن الغرض هو سرورهم ".
توضيحه: إن ضماير الجمع المجرورة راجعة إلى " غير الأنبياء "، ولما كان الهدف من إعطاء الإعجاز
إلى غير الأنبياء هو سرورهم وهو موجود فيما يقف عليه الناس وما لا يقف فيكثر الإعجاز،
والكثرة مخرجة لها عن حده، وأنت خبير أنه لا حاجة في تقرير البرهان إلى هذا التطويل
الموجب للتعقيد.
ثم إذا فرضنا أن قسما من الإعجاز مما لا يعلم به الناس فكيف يخرج عن كونه معجزا.
(2) حاصله: أن وجود الإعجاز في غير الأنبياء موجب لقلة رغبة الناس إلى الأنبياء وتفرقهم عنهم.
والجواب تارة بالنقض كما إذا كان في عصر واحد نبيان أو أنبياء لأقوام مختلفة لكل آية معجزة،
وأخرى بالحل، فإن وجود الإعجاز في غيرهم لا يوجب تحقير الأنبياء، لأن لهم وراء الإعجاز
صفات وملكات توجد العظمة لهم في أعين الناس.
قال الشارح في تقرير البرهان: " ولهذا لو أكرم الرئيس بنوع مأكل أحد، هان موقع ذلك النوع لمن
يستحق الإكرام ".
الظاهر أن الفعل في " أكرم " مبني على المجهول، و " مأكل " بمعنى " المأكول " وقوله: " ذلك النوع "
إشارة إلى المأكول، والمقصود من " لمن يستحق الإكرام " هو الرئيس، والمعنى: لو أكرم الرئيس
بالمأكول المتوفر الذي يستفيد منه كل الناس لهان ذلك المأكول عند من يستحق الإكرام. ولعل
للعبارة معنى آخر لم نقف عليه.
162
الأنبياء، إذ علة وجوب طاعتهم ظهور المعجزة عليهم، فإذا شاركهم في ذلك من
لا تجب طاعته هان موقعه، ولهذا لو أكرم الرئيس بنوع ما كل أحد هان موقع
ذلك النوع لمن يستحق الاكرام.
والجواب: بمنع انحطاط مرتبة الإعجاز، كما لو ظهر على نبي آخر، فإنه لو
لم يظهر إلا على نبي واحد لكان موقعه أعظم، فكما لا تلزم الإهانة مع ظهوره
على جماعة من الأنبياء كذا لا تلزم الإهانة مع ظهوره على الصالحين.
الثالث (1): احتجاج أبي هاشم، قال: المعجز يدل بطريق الإبانة
والتخصيص، وفسره قاضي القضاة بأن المعجز يدل على تميز النبي عن غيره، إذ
الأمة مشاركون له في الإنسانية ولوازمها فلو لا المعجز لما تميز عنهم فلو شاركه
غيره فيه لم يحصل الامتياز.
والجواب: أن امتياز النبي يحصل بالمعجز واقتران دعوى النبوة، وهذا
شئ يختص به دون غيره ولا يلزم من مشاركة غيره له في المعجزة مشاركته له



(1) إن الإعجاز من سمات الأنبياء وبه يتميز عن سائر الناس، ويتخصص، فلو عم لما صار سمة
لهم، والجواب: أن الإعجاز المقارن بالدعوة من سمات الأنبياء، لا مطلق الإعجاز، وهي محفوظة.
163
في كل شئ.
الرابع (1): لو جاز إظهار المعجز على غير النبي لبطلت دلالته على صدق
مدعي النبوة، والتالي باطل فالمقدم مثله.
بيان الملازمة: أن ثبوت المعجز في غير صورة النبوة ينفي اختصاصه بها،
وحينئذ لا يظهر الفرق بين مدعي النبوة وغيرها في المعجز فبطلت دلالته إذ لا
دلالة للعام على الخاص.
والجواب: المنع من الملازمة، لأن المعجز مع الدعوى مختص بالنبي،
فإذا ظهرت المعجزة على شخص فإما أن يدعي النبوة أو لا، فإن ادعاها علمنا
صدقه إذ إظهار المعجزة على يد الكاذب قبيح عقلا، وإن لم يدع النبوة لم يحكم
بنبوته.
والحاصل أن المعجزة لا تدل على النبوة ابتداء بل تدل على صدق
الدعوى فإن تضمنت الدعوى النبوة دلت المعجزة على تصديق المدعي في
دعواه ويستلزم ذلك ثبوت النبوة.
الخامس (2): قالوا لو جاز إظهار المعجز على صادق ليس بنبي لجاز
إظهاره على كل صادق، فجاز إظهار المعجز على المخبر بالجوع والشبع



(1) حاصله أن الإعجاز دليل على صدق مدعي النبوة، لأن مبنى الدلالة اختصاصه بالنبي، ولو كان
أعم فلا يكون دليلا على الأخص.
وحاصل الجواب: أن الإعجاز المقارن لدعوى النبوة دليل على صدق دعوى النبوة لا مطلق الإعجاز.
(2) حاصله: لو جاز ظهوره على يد صادق عند غير النبي لجاز ظهوره عند كل صادق وإن كان صادقا
في مثل قوله: " أنا جائع ". والجواب: أن ملاك الإعجاز ليس كون صاحبه صادقا، بل له ملاك آخر،
وهو كونه إنسانا صالحا متعبدا ذا منزلة كبيرة عند الله.
164
وغيرهما.
والجواب: لا يلزم العمومية، أي لا يلزم إظهار المعجز على كل صادق إذ
نحن إنما نجوز إظهاره على مدعي النبوة أو الصلاح إكراما له وتعظيما وذلك لا
يحصل لكل مخبر بصدق.
قال: ومعجزاته عليه السلام قبل النبوة تعطي الإرهاص (1).
أقول: اختلف الناس هنا، فالذين منعوا الكرامات منعوا من إظهار المعجزة
على سبيل الإرهاص إلا جماعة منهم، وجوزه الباقون.
واستدل المصنف رحمه الله على تجويزه بوقوع معجزات الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم قبل النبوة، كما نقل من انشقاق إيوان كسرى، وغور ماء
بحيرة ساوة، وانطفاء نار فارس، وقصة أصحاب الفيل، والغمام الذي كان يظله
عن الشمس، وتسليم الأحجار عليه، وغير ذلك مما ثبت له عليه السلام قبل
النبوة.
قال: وقصة مسيلمة وفرعون إبراهيم تعطي جواز إظهار المعجزة على
العكس.
أقول: اختلف الناس هنا، فالذين منعوا الكرامات منعوا من إظهار المعجزة
على يد الكاذبين على العكس من دعواهم إظهارا لكذبهم.
واستدل المصنف رحمه الله بالوقوع على الجواز، كما نقل عن مسيلمة
الكذاب



(1) الإرهاص لغة: العرق الأسفل من الحائط، وفي الاصطلاح: الكرامات الصادرة عن الأنبياء قبل
بعثهم، وكأن الكرامات قبل البعثة تؤسس قاعدة لصرح نبوتهم الآتية.
وفي الختام نؤكد على ما ذكرنا في بدء البحث من التفريق بين الموردين في استخدام الألفاظ: فخارق
العادة مع ادعاء النبوة إعجاز، ولا معه كرامة لا معجز.
165
لما ادعى النبوة فقيل له: إن رسول صلى الله عليه وآله وسلم دعا لأعور فرد الله
عينه الذاهبة، فدعا لأعور فذهبت عينه الصحيحة!
وكما نقل أن إبراهيم عليه السلام لما جعل الله تعالى عليه النار بردا
وسلاما قال نمرود عند ذلك: إنما صارت كذلك هيبة مني فجاءته نار في تلك
الحال فأحرقت لحيته!
لا يقال: يكفي في التكذيب ترك المعجز عقيب دعواهم فيبقى إظهار
المعجز على العكس خرقا للعادة من غير فائدة فيكون عبثا.
لأنا نقول: قد يتضمن المصلحة إظهاره على العكس إظهارا لتكذيبه في
الحال بحيث يزول الشك، لتجويز أن يقال: تأخير المعجز عقيب الدعوى قد
يكون لمصلحة ثم يوجد بعد وقت آخر، فلا يحصل الجزم التام بالتكذيب.

166
المسألة السادسة: في وجوب البعثة في كل وقت
قال: ودليل الوجوب يعطي العمومية (1).



(1) ظاهر العنوان يعطي لزوم وجود نبي ظاهر بين الناس يدعو إلى الله في كل زمان. أخذا بالأدلة
التسعة الدالة على حسن البعثة أو لزومها، ولكنه ليس بمقصود، لختم النبوة برحيل سيدنا محمد
صلى الله عليه وآله وسلم، ولا نبي ولا رسول بعده، بل المقصود: وجود شريعة غير منسوخة
في كل زمان يعتنقها كل من أراده وقد كان متيسرا في الفترة بين المسيح ونبينا - وفي عصرنا -،
ولأجل ذلك فسر العلامة كلام الماتن بقوله: " بحيث لا يجوز خلو زمان من شرع نبي " ومع ذلك
أن الاستدلال على ذلك بما ورد في كلام الشارح ربما يساعد المعنى المتوهم، حيث يقول: " إن
في بعثته زجرا عن القبائح وحثا على الطاعة فتكون لطفا، ولأن فيه تنبيه الغافل... " فإن هذا كله
من آثار النبي الظاهر لا الشريعة الصامتة.
ولو أخذنا بما ذكر من البراهين فلا يلزم وجود نبي ظاهر في كل زمان، بل يجب وجود الحجة من نبي
أو ولي، أو عالم في كل زمان يحث على الطاعة وينبه الغافل.
167
أقول: اختلف الناس هنا: فقال جماعة من المعتزلة: إن البعثة لا تجب في
كل وقت، بل في حال دون حال وهو ما إذا كانت المصلحة في البعثة.
وقال علماء الإمامية: إنه تجب البعثة في كل وقت بحيث لا يجوز خلو
زمان من شرع نبي.
وقالت الأشاعرة: لا تجب البعثة في كل وقت لأنهم ينكرون الحسن
والقبح العقليين وقد مضى البحث معهم.
واستدل المصنف رحمه الله على وجوب البعثة في كل وقت بأن دليل
الوجوب يعطي العمومية، أي دليل وجوب البعثة يعطي عمومية الوجوب في
كل وقت، لأن في بعثته زجرا عن القبائح وحثا على الطاعة فتكون لطفا، ولأن فيه
تنبيه الغافل وإزالة الاختلاف ودفع الهرج والمرج، وكل ذلك من المصالح
الواجبة التي لا تتم إلا بالبعثة، فتكون واجبة في كل وقت.
قال: ولا تجب الشريعة (1).
أقول: اختلف الشيخان هنا: فقال أبو علي: تجوز بعثة نبي لتأكيد ما في
العقول ولا يجب أن تكون له شريعة.
وقال أبو هاشم وأصحابه: لا يجوز أن يبعث إلا بشريعة، لأن العقل كاف
في العلم بالعقليات فالبعثة تكون عبثا.
والجواب: يجوز أن تكون البعثة قد اشتملت على نوع من المصلحة، بأن
يكون العلم بنبوته ودعائه إياهم إلى ما في العقول مصلحة لهم فلا تكون



(1) هل يجب أن يكون كل نبي مبعوثا بشريعة سواء كانت لنفسه أو لمن تقدمه، أو تكفي الدعوة
إلى ما في العقول ولا تجب أن تكون له الشريعة؟ فيه خلاف بين أبي علي وابنه أبي هاشم،
والماتن اختار قول الوالد بما ذكره الشارح عنه.
168
البعثة عبثا ويجب عليهم النظر في معجزته فيحصل لهم مصلحة لا تحصل بدون
البعثة.
واحتج أبو علي بأنه يجوز بعثة نبي بعد نبي بشريعة واحدة وكذا تجوز
بعثة نبي بمقتضى ما في العقول.
المسألة السابعة: في نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم
قال: وظهور معجزة القرآن وغيره مع اقتران دعوة نبينا محمد صلى
الله عليه وآله وسلم يدل على نبوته.
والتحدي مع الامتناع وتوفر الدواعي يدل على الإعجاز.
والمنقول معناه متواترا من المعجزات يعضده.
أقول: لما فرغ من البحث في النبوة مطلقا شرع في إثبات نبوة نبينا
محمد عليه السلام.
والدليل عليه: أنه ظهرت المعجزة على يده وادعى النبوة فيكون صادقا أما
ظهور المعجزة على يده فلوجهين:
الأول: أن القرآن معجز وقد ظهر على يده، أما أعجاز القرآن (1) فلأنه



(1) القرآن معجز من جهات شتى، والذي كان يهم العرب يوم ذاك إعجازه البياني، دون سائر
الجهات ككونه مخبرا عن المغيبات أو مشتملا على معارف عقلية، أو سنن أخلاقية، وقوانين
اجتماعية وأصول اقتصادية أو قصص منزهة عما لا يليق بشأن الأنبياء وغير ذلك.
ومن المؤسف جدا أن الكتب الكلامية استدلوا على إعجازه البياني، من دون أن يحققوه حتى يكون
ملموسا للقراء، وحاصل استدلالهم يرجع إلى خضوع العرب لفصاحته وبلاغته وعجزهم عن
المقابلة، وهذا يورث العلم بكونه معجزا من دون أن يلمسه الإنسان خصوصا إذا كان غير العرب،
وقد فتحنا هذا الباب في الإلهيات: 3 / 259 - 324 بوجه موجز، فعلى الآخرين سلوك هذا الطريق
بشكل أوسع.
169
تحدى به فصحاء العرب، لقوله تعالى: * (فأتوا بسورة من مثله) * (1) * (فأتوا بعشر
سور مثله مفتريات) * (2) * (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل
هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) * (3).
والتحدي مع امتناعهم عن الإتيان بمثله مع توفر الدواعي عليه إظهارا
لفضلهم وإبطالا لدعواه وسلامة من القتل (4) يدل على عجزهم وعدم قدرتهم
على المعارضة.
وأما ظهوره على يده فبالتواتر.
الثاني: أنه نقل عنه معجزات كثيرة، كنبوع الماء من بين أصابعه صلى الله
عليه وآله وسلم حتى اكتفى الخلق الكثير من الماء القليل بعد رجوعه من غزوة
تبوك (5).
وكعود ماء بئر الحديبية لما استقاه أصحابه بالكلية وتنشف البئر (6)، فدفع
سهمه إلى البراء بن عازب فأمره بالنزول وغرزه في البئر، فغرزه فكثر الماء في
الحال حتى خيف على البراء بن عازب من الغرق (7).
ونقل عنه عليه السلام في بئر قوم شكوا إليه ذهاب مائها في الصيف فتفل
فيها



(1) البقرة: 23.
(2) هود: 13.
(3) الإسراء: 88.
(4) أي من أن يقتلوا لأجل كفرهم وشركهم بيد المسلمين.
(5) بحار الأنوار 17 / 188، تاريخ الإسلام للذهبي: 342.
وتفصيل ذلك في: دلائل النبوة للبيهقي: 5 / 227 - 232 و 236 عن صحيح البخاري وصحيح
مسلم و....
(6) انقطع ماؤها.
(7) دلائل النبوة للبيهقي: 4 / 110 - 130.
170
حتى انفجر الماء الزلال منها، فبلغ أهل اليمامة ذلك، فسألوا مسيلمة لما قل ماء
بئرهم ذلك، فتفل فيها فذهب الماء أجمع (1).
ولما نزل قوله تعالى: * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * (2) قال لعلي عليه
السلام: شق فخذ شاة وجئني بعس من لبن وادع لي من بني أبيك بني هاشم،
ففعل علي عليه السلام ذلك ودعاهم وكانوا أربعين رجلا، فأكلوا حتى شبعوا ما
يرى فيه إلا أثر أصابعهم وشربوا من العس حتى اكتفوا واللبن على حاله، فلما
أراد أن يدعوهم إلى الإسلام قال أبو لهب: كاد ما سحركم محمد، فقاموا قبل أن
يدعوهم إلى الله تعالى، فقال لعلي عليه السلام: افعل مثل ما فعلت، ففعل في
اليوم الثاني كالأول، فلما أراد أن يدعوهم عاد أبو لهب إلى كلامه، فقال لعلي عليه
السلام: افعل مثل ما فعلت، ففعل مثله في اليوم الثالث، فبايع عليا عليه السلام
على الخلافة بعده ومتابعته (3).
وذبح له جابر بن عبد الله عناقا (4) يوم الخندق وخبز له صاع شعير ثم
دعاه عليه السلام، فقال: أنا وأصحابي، فقال: نعم، ثم جاء إلى امرأته وأخبرها
بذلك، فقالت له: أأنت قلت امض وأصحابك؟ فقال: لا بل هو لما قال: أنا
وأصحابي، قلت: نعم، فقالت: هو أعرف بما قال، فلما جاء عليه السلام قال: ما
عندكم؟



(1) البحار: 18 / 28 ح 11.
(2) الشعراء: 214، انظر في تفسير الآية، مجمع البيان 4 / 206 والميزان 15 / 328 - 329، وما
نقله الشارح في شأن نزولها في غاية الإيجاز.
(3) تاريخ الطبري: 1 / 542 ط، دار الكتب العلمية بيروت، وتفصيل ذلك في الغدير: 2 / 278 -
279.
(4) " العناق " الأنثى من أولاد المعز قبل استكمالها السنة.
171
قال جابر: ما عندنا إلا عناق في التنور وصاع من شعير خبزناه.
فقال له عليه السلام: أقعد أصحابي عشرة عشرة، ففعل، فأكلوا كلهم (1).
وسبح الحصا في يده عليه السلام (2)، وشهد الذئب له بالرسالة، فإن
أهبان (3) بن أوس كان يرعى غنما له، فجاء ذئب فأخذ شاة منها، فسعى نحوه،
فقال له الذئب: أتعجب من أخذي شاة؟ هذا محمد يدعو إلى الحق فلا تجيبونه!
فجاء إلى النبي وأسلم، وكان يدعى مكلم الذئب. (4)
وتفل في عين علي عليه السلام لما رمدت فلم ترمد بعد ذلك أبدا (5)،
ودعا له بأن يصرف الله تعالى عنه الحر والبرد فكان لباسه في الصيف والشتاء
واحدا (6).
وانشق له القمر (7)، ودعا الشجرة فأجابته وجاءته تخد الأرض (8) من
غير جاذب ولا دافع ثم رجعت إلى مكانها (9).
وكان يخطب عند الجذع، فاتخذ له منبرا فانتقل إليه، فحن الجذع إليه
حنين الناقة إلى ولدها، فالتزمه فسكن (10).



(1) دلائل النبوة للبيهقي: 3 / 422 - 425، بحار الأنوار: 18 / 25، تفسير القمي: 2 / 178 - 179.
(2) دلائل النبوة: 6 / 64 - 65، بحار الأنوار: 17 / 373 و 377.
(3) " اهبان " وهو كلقمان صحابي.
(4) دلائل النبوة: 6 / 41 - 44، بحار الأنوار: 17 / 393 - 394.
(5) المناقب لابن شهرآشوب: 1 / 116، دلائل النبوة: 4 / 205 - 213.
(6) بحار الأنوار: 41 / 282.
(7) دلائل النبوة: 2 / 262 - 268، بحار الأنوار: 17 / 355.
(8) أي تشق الأرض من دون أن يجذبه أحد للشهادة في حضرة النبي أو يدفعه أحد ليستقر في
مكانه.
(9) دلائل النبوة: 6 / 13 - 17.
(10) دلائل النبوة: 6 / 66 - 68.
172
وأخبر بالغيوب في مواضع كثيرة، كما أخبر بقتل الحسين عليه السلام
وموضع الفتك به، فقتل في ذلك الموضع (1).
وأخبر بقتل ثابت بن قيس بن الشماس، فقتل بعده عليه السلام (2).
وأخبر أصحابه بفتح مصر وأوصاهم بالقبط خيرا فإن لهم ذمة ورحما (3).
وأخبرهم بادعاء مسيلمة النبوة باليمامة وادعاء العنسي (4) النبوة بصنعاء
وأنهما سيقتلان، فقتل فيروز الديلمي العنسي قرب وفاة النبي صلى الله عليه و
آله وسلم (5)، وقتل خالد بن الوليد مسيلمة (6).
وأخبر عليا عليه السلام بخبر ذي الثدية (7)، وسيأتي.
ودعا على عتبة بن أبي لهب - لما تلا عليه السلام والنجم فقال عتبة
كفرت برب النجم - بتسليط كلب الله عليه، فخرج عتبة إلى الشام، فخرج الأسد
فارتعدت فرائصه، فقال له أصحابه: من أي شئ ترتعد؟ فقال: إن محمدا دعا
علي فوالله ما أظلت السماء على ذي لهجة أصدق من محمد، فأحاط القوم
بأنفسهم ومتاعهم عليه، فجاء الأسد فلحس (8) رؤوسهم واحدا واحدا حتى



(1) دلائل النبوة للبيهقي: 6 / 468 - 472.
(2) دلائل النبوة: 6 / 354 - 357.
(3) دلائل النبوة: 6 / 321 - 322. وصحيح مسلم: 7 / 190، كتاب فضائل الصحابة، باب وصية
النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأهل مصر.
(4) بسكون النون. وهو أحد من ادعى النبوة في عصر الرسول.
(5) دلائل النبوة: 5 / 334 - 336 و 6 / 358.
(6) تاريخ الإسلام، عهد الخلفاء: 38.
(7) بحار الأنوار: 18 / 113، دلائل النبوة: 6 / 433.
(8) لحس القصعة: لعقها وأخذ ما علق بجوانبها بلسانه أو بإصبعه.
173
انتهى إليه فضغمه (1) ضغمة ففزع منه ومات (2).
وأخبر بموت النجاشي (3)، وقتل زيد بن حارثة بموتة فأخبر عليه السلام
بقتله في المدينة وأن جعفرا أخذ الراية، ثم قال: قتل جعفر، ثم توقف وقفة ثم
قال: وأخذ الراية عبد الله بن رواحة، ثم قال: وقتل عبد الله بن رواحة، وقام عليه
السلام إلى بيت جعفر واستخرج ولده ودمعت عيناه ونعى جعفرا إلى أهله، ثم
ظهر الأمر كما أخبر عليه السلام (4).
وقال لعمار: تقتلك الفئة الباغية، فقتله أصحاب معاوية، ولاشتهار هذا
الخبر لم يتمكن معاوية من دفعه واحتال على العوام، فقال: قتله من جاء به،
فعارضه ابن عباس وقال: لم يقتل الكفار إذن حمزة وإنما قتله رسول الله لأنه هو
الذي جاء به إليهم حتى قتلوه! (5)
وقال لعلي عليه السلام: ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين (6)،
فالناكثون طلحة وزبير لأنهما بايعاه ونكثا، والقاسطون هم الظالمون وهم معاوية
وأصحابه لأنهم ظلمة بغاة، والمارقون هم الخارجون عن الملة وهم الخوارج.



(1) عضه بملء ء ء فمه، يقال: ضغمه ضغمة الأسد، أي عضه عضة الأسد.
(2) تفسير گازر: 9 / 250، بحار الأنوار: 18 / 58، نقلا عن الخرائج للراوندي والمناقب لابن شهرآشوب.
(3) دلائل النبوة: 4 / 410 - 412.
(4) بحار الأنوار: 21 / 53 - 65، نقلا عن الخرائج: 188.
(5) بحار الأنوار: 33 / 16، 18 / 123 و 142، 22 / 334 و 354.
(6) دلائل النبوة للبيهقي: 6 / 410 - 436، وتفصيل ذلك في الغدير: 3 / 188 - 191 و 192 - 196 و
10 / 47 - 50، بحار الأنوار: 32 / 309، 33 / 19، 36 / 327.
174
وهذه المعجزات بعض ما نقل، واقتصرنا على هذا القدر لكثرتها وبلوغ
الغرض بهذه، وقد أوردنا معجزات أخرى منقولة في كتاب نهاية المرام.
قال: وإعجاز القرآن (1) قيل لفصاحته، وقيل لأسلوبه وفصاحته، وقيل
للصرفة، والكل محتمل.
أقول: اختلف الناس هنا، فقال الجبائيان: إن سبب إعجاز القرآن فصاحته.
وقال الجويني: هو الفصاحة والأسلوب (2) معا، وعنى بالأسلوب الفن
والضرب.
وقال النظام والمرتضى: هو الصرفة، بمعنى أن الله تعالى صرف العرب
ومنعهم عن المعارضة.
واحتج الأولون: بأن المنقول عن العرب أنهم كانوا يستعظمون فصاحته،
ولهذا أراد النابغة الإسلام لما سمع القرآن وعرف فصاحته فرده أبو جهل وقال له
يحرم عليك الأطيبين (3) وأخبر الله تعالى عنهما بذلك بقوله: * (إنه فكر



(1) راجع: الإقتصاد للشيخ الطوسي: 156، 172، 173، 182، إعجاز القرآن والبلاغة النبوية
لمصطفى صادق الرافعي: 141 - 165، البيان للسيد الخوئي قدس سره: 81 - 99. شرح جمل
العلم والعمل للشريف المرتضى: 175، 357 (ط دار الأسوة - طهران). الذخيرة في علم الكلام:
355 - 360.
(2) جاء القرآن بصورة من صور الكلام على وجه لم تعرفه العرب، وخالف بأسلوبه العجيب
وسبكه الغريب جميع الأساليب الدارجة بينهم ومناهج نظمهم ونثرهم.
أنظر في توضيحه كتاب الإلهيات الجزء 3 تحت عنوان: الأسلوب: بداعة المنهج وغرابة السبك.
(3) يريد: الخمر والنساء (1).
-
1 - ابن هشام: السيرة النبوية: 1 / 386.
175
وقدر * فقتل كيف قدر * ثم قتل كيف قدر * ثم نظر) * (1) إلى آخر الآية.
ولأن الصرفة (2) لو كانت سببا في إعجازه لوجب أن يكون في غاية
الركاكة (3) لأن الصرفة عن الركيك أبلغ في الإعجاز والتالي باطل بالضرورة.
واحتج السيد المرتضى: بأن العرب كانوا قادرين على الألفاظ المفردة
وعلى التركيب وإنما منعوا عن الإتيان بمثله تعجيزا لهم عما كانوا قادرين عليه،
وكل هذه الأقسام محتملة.
قال: والنسخ تابع للمصالح.
أقول: هذا إشارة إلى الرد على اليهود حيث قالوا بدوام شرع موسى عليه
السلام، قالوا: لأن النسخ باطل، إذ المنسوخ إن كان مصلحة قبح النهي عنه وإن
كان مفسدة قبح الأمر به وإذا بطل النسخ لزم القول بدوام شرع موسى عليه
السلام.
وتقرير الجواب أن نقول: الأحكام منوطة بالمصالح والمصالح تتغير بتغير
الأوقات وتختلف باختلاف المكلفين، فجاز أن يكون الحكم المعين مصلحة
لقوم في زمان فيؤمر به، ومفسدة لقوم في زمان آخر فينهى عنه.



(1) المدثر: 18 - 21.
(2) القائل بنظرية الصرفة يعترف بفصاحة القرآن وبلاغته لكن يقول ليس الإتيان بمثله خارجا عن
طوق الطاقة البشرية وإنما عجز في حلبة المبارزة، لأجل حيلولته سبحانه بين الناس والإتيان
بمثله، اقرأ تفصيل مذهب الصرفة ونقده في الإلهيات: 3 / 327 - 350.
(3) أي يأتي بكتاب ساقط في غاية الركاكة ثم يتحدى ويحول سبحانه بينهم وبين الإتيان بمثله، لأن
ذلك أبلغ في إثبات إعجازه، إذ عجزوا عن شئ كانوا يقومون به كل يوم وليلة، لأن إنشاء الكلام
الركيك منهل كل وارد.
176
قال: وقد وقع، حيث حرم على نوح بعض ما أحل لمن تقدمه (1)،
وأوجب الختان بعد تأخيره، وحرم الجمع بين الأختين، وغير ذلك من الأحكام.
أقول: هذا تأكيد لإبطال قول اليهود المانعين من النسخ، فإنه بين أولا
جواز وقوعه وهاهنا بين وقوعه في شرعهم، وذلك في مواضع:
منها: أنه قد جاء في التوراة أن الله تعالى قال لآدم وحواء عليهما السلام:
قد أبحت لكما كل ما دب على وجه الأرض، فكانت له نفس حية.
وورد فيها أنه قال لنوح عليه السلام: خذ معك من الحيوان الحلال كذا
ومن الحيوان الحرام كذا، فحرم على نوح عليه السلام بعض ما أباحه لآدم عليه
السلام.
ومنها: أنه أباح نوحا عليه السلام تأخير الختان إلى وقت الكبر وحرمه على
غيره من الأنبياء.
وأباح إبراهيم عليه السلام تأخير ختان ولده إسماعيل عليه السلام إلى
حال كبره، وحرم على موسى عليه السلام تأخير الختان عن سبعة أيام.
ومنها: أنه أباح آدم عليه السلام الجمع بين الأختين وحرمه على موسى
عليه السلام.
قال: وخبرهم عن موسى عليه السلام بالتأبيد مختلق، ومع تسليمه لا يدل
على المراد قطعا.
أقول: إن جماعة اليهود جوزوا وقوع النسخ عقلا ومنعوا من نسخ



(1) راجع: اللوامع الإلهية في المباحث الكلامية للشيخ مقداد السيوري الحلي: 231 - 240،
والفصل في الملل: 1 / 205، وأنوار الملكوت: 197، 198، والذخيرة للسيد المرتضى: 357 -
358.
177
شريعة موسى عليه السلام، وتمسكوا بما روي عن موسى عليه السلام أنه قال:
تمسكوا بالسبت أبدا، والتأبيد يدل على الدوام ودوام الشرع بالسبت ينفي القول
بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم (1).
والجواب في وجوه: الأول: أن هذا الحديث مختلق، ونسب إلى ابن
الراوندي.
الثاني: لو سلمنا نقله لكن اليهود انقطع تواترهم لأن بخت نصر
استأصلهم وأفناهم حتى لم يبق منهم من يوثق بنقله.
الثالث: أن لفظة التأبيد لا تدل على الدوام قطعا، فإنها قد وردت في التوراة
لغير الدوام كما في العبد أنه يستخدم ست سنين ثم يعرض عليه العتق في
السابعة فإن أبى العتق ثقبت أذنه واستخدم أبدا وفي موضع آخر يستخدم
خمسين سنة.
وأمروا في البقرة التي كلفوا بذبحها أن يكون لهم ذلك سنة أبدا ثم انقطع
تعبدهم بها.
وفي التوراة: قربوا إلي كل يوم خروفين: خروف غدوة وخروف عشية
بين المغارب قربانا دائما لاحقا بكم، وانقطع تعبدهم به.
وإذا كان التأبيد في هذه الصور لا يدل على الدوام انتفت دلالته هنا قطعا.
أقصى ما في الباب: أنه يدل ظاهرا لكن ظواهر الألفاظ قد تترك لوجود
الأدلة المعارضة لها.



(1) راجع: اللوامع الإلهية: 240 - 241، والذخيرة: 359، وشرح جمل العلم والعمل: 181 - 188،
والفصل: 1 / 98 - 104، وتلخيص المحصل للمحقق الطوسي: 358 و 365، وأنوار الملكوت:
198.
178
قال: والسمع دل على عموم نبوته صلى الله عليه وآله وسلم.
أقول: ذهب قوم من النصارى إلى أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم
مبعوث إلى العرب خاصة (1)، والسمع يكذب قولهم هذا، قال الله تعالى:
* (لأنذركم به ومن بلغ) * (2) وقال تعالى: * (وما أرسلناك إلا كافة للناس) * (3).
وسورة الجن تدل على بعثه عليه السلام إليهم، وقال عليه السلام: " بعثت
إلى الأسود والأحمر " (4).
لا يقال: كيف يصح إرساله إلى من لا يفهم خطابه وقد قال تعالى: * (وما
أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) * (5)؟
لأنا نقول: لا استبعاد في ذلك، بأن يترجم خطابه لمن لا يفهم لغته مترجم،
وليس في الآية أنه تعالى ما أرسل رسولا إلا إلى من يفهم لسانه وإنما أخبر بأنه ما
أرسله إلا بلسان قومه.
وجوز قاضي القضاة في يأجوج ومأجوج احتمالين:
أحدهما: أن لا يكونوا مكلفين أصلا وإن كانوا مفسدين في الأرض
كالبهائم المفسدة في الأرض.
والثاني: أن يكونوا مكلفين وقد بلغتهم دعوته عليه السلام بأن يقربوا من
الأمكنة التي يسمعون فيها كلام من هو وراء السد.
وجوز بعض الناس أن يكون في بعض البقاع من لم تبلغه دعوته عليه
السلام، فلا يكون مكلفا بشريعته.



(1) الفصل في الملل والنحل: 1 / 99.
(2) الأنعام: 19.
(3) سبأ: 28.
(4) كنز العمال: 11 / 438.
(5) إبراهيم: 4.
179
وعندي أن المراد بذلك إن كان عدم تكليفهم مطلقا سواء بلغتهم بعد ذلك
الدعوة أم لا فهو باطل قطعا لما بينا من عموم نبوته عليه السلام.
وإن كان المراد أنهم غير مكلفين ما داموا غير عالمين فإذا بلغتهم الدعوة
صاروا مكلفين بها فهو حق.
قال: وهو أفضل من الملائكة، وكذا غيره من الأنبياء عليهم السلام،
لوجود المضاد للقوة العقلية وقهره على الانقياد عليها (1).
أقول: اختلف الناس هنا، فذهب أكثر المسلمين إلى أن الأنبياء عليهم
السلام أفضل من الملائكة عليهم السلام.
وذهب آخرون منهم وجماعة الأوائل إلى أن الملائكة أفضل. واستدل
الأولون بوجوه ذكر المصنف رحمه الله، منها وجها للاكتفاء به، وهو أن الأنبياء قد
وجد فيهم القوة الشهوية والغضبية وسائر القوى الجسمانية كالخيالية والوهمية
وغيرهما، وأكثر أحكام هذه القوى تضاد حكم القوة العقلية وتمانعها، حتى إن
أكثر الناس يلتجئ إلى قوة الشهوة والغضب والوهم ويترك مقتضى القوة العقلية
والأنبياء عليهم السلام يقهرون قوى طبائعهم ويفعلون بحسب مقتضى قواهم
العقلية ويعرضون عن القوى الشهوانية وغيرها من القوى الجسمانية، فتكون
عباداتهم وأفعالهم أشق من عبادات الملائكة حيث خلوا عن هذه القوى، وإذا
كانت عباداتهم أشق كانوا أفضل لقوله عليه السلام: " أفضل الأعمال أحمزها ".
وهاهنا وجوه أخرى من الطرفين ذكرناها في كتاب نهاية المرام.



(1) تلخيص المحصل: 374 - 377، أنوار الملكوت: 187 - 188.
180
المقصد الخامس في:
الإمامة

182
قال:
الإمام لطف فيجب نصبه على الله تعالى تحصيلا للغرض (1)
أقول: في هذا المقصد مسائل:
الأولى: في أن نصب الإمام واجب على الله تعالى.
اختلف الناس هنا، فذهب الأصم من المعتزلة وجماعة من الخوارج إلى
نفي وجوب نصب الإمام، وذهب الباقون إلى الوجوب لكن اختلفوا:
فالجبائيان وأصحاب الحديث والأشعرية قالوا: إنه واجب سمعا لا عقلا.
وقال أبو الحسين البصري والبغداديون والإمامية: إنه واجب عقلا، ثم
اختلفوا: فقالت الإمامية: إن نصبه واجب على الله تعالى، وقال أبو الحسين
والبغداديون: إنه واجب على العقلاء.
واستدل المصنف رحمه الله على وجوب نصب الإمام على الله تعالى بأن
الإمام لطف واللطف واجب.
أما الصغرى فمعلومة للعقلاء، إذ العلم الضروري حاصل بأن العقلاء متى
كان لهم رئيس يمنعهم عن التغالب والتهاوش ويصدهم عن المعاصي ويعدهم
على فعل الطاعات ويبعثهم على التناصف والتعادل كانوا إلى



(1) تلخيص المحصل: 407، أنوار الملكوت: 202، اللوامع الإلهية: 262، الشافي في الإمامة:
ج 1 / 36 - 39، 47 - 54، 144 - 154، 164 - 167، الذخيرة: 190، الإقتصاد: 183، رسالة في
الإمامة للمحقق الطوسي: 426.
183
الصلاح أقرب ومن الفساد أبعد، وهذا أمر ضروري لا يشك فيه العاقل، وأما
الكبرى فقد تقدم بيانها.
قال: والمفاسد معلومة الانتفاء، وانحصار اللطف فيه معلوم للعقلاء،
ووجوده لطف، وتصرفه آخر، وعدمه منا.
أقول: هذه اعتراضات على دليل أصحابنا مع الإشارة إلى الجواب عنها:
الأول: قال المخالف: كون الإمامة قد اشتملت على وجه اللطف لا يكفي
في وجوبها على الله تعالى، بخلاف المعرفة التي كفى وجه الوجوب فيه علينا
لانتفاء المفاسد في ظننا، أما في حقه تعالى فلا يكفي وجه الوجوب ما لم يعلم
انتفاء المفاسد ولا يكفي الظن بانتفائها، فلم لا يجوز اشتمال الإمامة على مفسدة
لا نعلمها، فلا تكون واجبة على الله تعالى.
والجواب: أن المفاسد معلومة الانتفاء عن الإمامة، لأن المفاسد محصورة
معلومة يجب علينا اجتنابها أجمع، وإنما يجب علينا اجتنابها إذا علمناها، لأن
التكليف بغير المعلوم محال، وتلك الوجوه منتفية عن الإمامة فيبقى وجه
اللطف خاليا عن المفسدة فيجب عليه تعالى.
ولأن المفسدة لو كانت لازمة للإمامة لم تنفك عنها والتالي باطل قطعا.
ولقوله تعالى: * (إني جاعلك للناس إماما) * (1)، وإن كانت مفارقة جاز
انفكاكها عنها فيجب على تقدير الانفكاك.
الثاني: قالوا: الإمامة إنما تجب لو انحصر اللطف فيها، فلم لا يجوز أن
يكون هناك لطف آخر يقوم مقام الإمامة، فلا تتعين الإمامة للطفية فلا يجب
على التعيين.



(1) البقرة: 124.
184
والجواب: أن انحصار اللطف الذي ذكرناه في الإمامة معلوم للعقلاء،
ولهذا يلتجئ العقلاء في كل زمان وكل صقع إلى نصب الرؤساء دفعا للمفاسد
الناشئة من الاختلاف.
الثالث: قالوا: الإمام إنما يكون لطفا إذا كان متصرفا بالأمر والنهي، وأنتم لا
تقولون بذلك، فما تعتقدونه لطفا لا تقولون بوجوبه وما تقولون بوجوبه ليس
بلطف.
والجواب: أن وجود الإمام نفسه لطف لوجوه:
أحدها: أنه يحفظ الشرائع ويحرسها عن الزيادة والنقصان.
وثانيها: أن اعتقاد المكلفين لوجود الإمام وتجويز إنفاذ حكمه عليهم في
كل وقت سبب لردعهم عن الفساد ولقربهم إلى الصلاح وهذا معلوم بالضرورة.
وثالثها: أن تصرفه لا شك أنه لطف ولا يتم إلا بوجوده، فيكون وجوده
نفسه لطفا وتصرفه لطفا آخر.
والتحقيق أن نقول: لطف الإمامة يتم بأمور:
منها: ما يجب على الله تعالى، وهو خلق الإمام وتمكينه بالقدرة والعلم
والنص عليه باسمه ونسبه، وهذا قد فعله الله تعالى.
ومنها: ما يجب على الإمام، وهو تحمله للإمامة وقبوله لها، وهذا قد فعله
الإمام.
ومنها: ما يجب على الرعية، وهو مساعدته والنصرة له وقبول أوامره
وامتثال قوله، وهذا لم تفعله الرعية، فكان منع اللطف الكامل منهم لا من الله
تعالى ولا من الإمام.

185
المسألة الثانية: في أن الإمام يجب أن يكون معصوما (1)
قال: وامتناع التسلسل يوجب عصمته، ولأنه حافظ للشرع، ولوجوب
الإنكار عليه لو أقدم على المعصية فيضاد أمر الطاعة، ويفوت الغرض من نصبه،
ولانحطاط درجته عن أقل العوام.
أقول: ذهبت الإمامية والإسماعيلية إلى أن الإمام يجب أن يكون معصوما،
وخالف فيه جميع الفرق، والدليل على ذلك وجوه:
الأول: أن الإمام لو لم يكن معصوما لزم التسلسل، والتالي باطل فالمقدم
مثله.
بيان الشرطية: أن المقتضي لوجوب نصب الإمام هو تجويز الخطأ على
الرعية، فلو كان هذا المقتضي ثابتا في حق الإمام وجب أن يكون له إمام آخر،
ويتسلسل أو ينتهي إلى إمام لا يجوز عليه الخطأ فيكون هو الإمام الأصلي.
الثاني: أن الإمام حافظ للشرع فيجب أن يكون معصوما، أما المقدمة
الأولى فلأن الحافظ للشرع ليس هو الكتاب لعدم إحاطته بجميع الأحكام
التفصيلية، ولا السنة لذلك أيضا، ولا إجماع الأمة لأن كل واحد منهم على تقدير
عدم المعصوم فيهم يجوز عليه الخطأ فالمجموع كذلك، ولأن إجماعهم ليس
لدلالة وإلا لاشتهرت ولا لأمارة إذ يمتنع اتفاق الناس في سائر البقاع



(1) الإقتصاد في الاعتقاد للشيخ الطوسي: 189، أنوار الملكوت: 204، الشافي: 1 / 300، الذخيرة:
429، اللوامع الإلهية: 268، رسالة في الإمامة للمحقق نصير الدين، طبعت في آخر تلخيص
المحصل: 430.
186
على الأمارة الواحدة كما نعلم بالضرورة عدم اتفاقهم على أكل طعام معين في
وقت واحد، أو لا لهما فيكون باطلا، ولا القياس لبطلان القول به على ما ظهر في
أصول الفقه، وعلى تقدير تسليمه فليس بحافظ للشرع بالإجماع، ولا البراءة
الأصلية لأنه لو وجب المصير إليها لما وجب بعثة الأنبياء وللإجماع على عدم
حفظها للشرع، فلم يبق إلا الإمام، فلو جاز الخطأ عليه لم يبق وثوق بما تعبدنا الله
تعالى به وما كلفناه وذلك مناقض للغرض من التكليف وهو الانقياد إلى مراد الله
تعالى.
الثالث: أنه لو وقع منه الخطأ لوجب الإنكار عليه، وذلك يضاد أمر الطاعة
له بقوله تعالى: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) * (1).
الرابع: لو وقع منه المعصية لزم نقض الغرض من نصب الإمام، والتالي
باطل فالمقدم مثله.
بيان الشرطية: أن الغرض من إقامته انقياد الأمة له وامتثال أوامره واتباعه
فيما يفعله، فلو وقعت المعصية منه لم يجب شئ من ذلك وهو مناف لنصبه.
الخامس: أنه لو وقع منه المعصية لزم أن يكون أقل درجة من العوام، لأن
عقله أشد ومعرفته بالله تعالى وثوابه وعقابه أكثر، فلو وقع منه المعصية كان أقل
حالا من رعيته وكل ذلك باطل قطعا.
قال: ولا تنافي العصمة القدرة.
أقول: اختلف القائلون بالعصمة في أن المعصوم هل يتمكن من فعل
المعصية أم لا، فذهب قوم منهم إلى عدم تمكنه من ذلك، وذهب آخرون إلى
تمكنه منها.



(1) النساء: 59.
187
أما الأولون فمنهم من قال: إن المعصوم مختص في بدنه أو نفسه بخاصية
تقتضي امتناع إقدامه على المعصية.
ومنهم من قال: إن العصمة هو القدرة على الطاعة وعدم القدرة على
المعصية، وهو قول أبي الحسين البصري.
وأما الآخرون الذين لم يسلبوا القدرة فمنهم من فسرها بأنه الأمر الذي
يفعله الله تعالى بالعبد من الألطاف المقربة إلى الطاعات التي يعلم معها أنه لا
يقدم على المعصية بشرط أن لا ينتهي ذلك الأمر إلى الإلجاء، ومنهم من فسرها
بأنها ملكة نفسانية لا يصدر عن صاحبها معها المعاصي.
وآخرون قالوا: العصمة لطف يفعله الله تعالى بصاحبها لا يكون له معه
داع إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية، وأسباب هذا اللطف أمور أربعة:
أحدها: أن يكون لنفسه أو لبدنه خاصية تقتضي ملكة مانعة من الفجور
وهذه الملكة مغايرة للفعل.
الثاني: أن يحصل له علم بمثالب المعاصي ومناقب الطاعات.
الثالث: تأكيد هذه العلوم بتتابع الوحي والإلهام من الله تعالى.
الرابع: مؤاخذته على ترك الأولى، بحيث يعلم أنه لا يترك مهملا بل
يضيق عليه الأمر في غير الواجب من الأمور الحسنة، فإذا اجتمعت هذه الأمور
كان الإنسان معصوما.
والمصنف رحمه الله اختار المذهب الثاني، وهو أن العصمة لا تنافي
القدرة بل المعصوم قادر على فعل المعصية، وإلا لما استحق المدح على ترك
المعصية ولا الثواب، ولبطل الثواب والعقاب في حقه، فكان خارجا عن
التكليف، وذلك باطل بالإجماع.

188
وبالنقل في قوله تعالى: * (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي) * (1).
المسألة الثالثة: في أن الإمام يجب أن يكون أفضل من غيره (2)
قال: وقبح تقديم المفضول معلوم، ولا ترجيح في المساوي
أقول: الإمام يجب أن يكون أفضل من رعيته، لأنه إما أن يكون مساويا لهم
أو أنقص منهم أو أفضل، والثالث هو المطلوب، والأول محال لأنه مع التساوي
يستحيل ترجيحه على غيره بالإمامة، والثاني أيضا محال لأن المفضول يقبح
عقلا تقديمه على الفاضل.
ويدل عليه أيضا قوله تعالى: * (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا
يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) * (3).
ويدخل تحت هذا الحكم كون الإمام أفضل في العلم والدين والكرم
والشجاعة وجميع الفضائل النفسانية والبدنية.
المسألة الرابعة: في وجوب النص على الإمام (4)
قال: والعصمة تقتضي النص وسيرته عليه السلام.
أقول: ذهبت الإمامية خاصة إلى أن الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه.



(1) الكهف: 110.
(2) الشافي في الإمامة: 1 / 326، الذخيرة: 429، الإقتصاد: 190، رسالة في الإمامة للماتن: 431،
أنوار الملكوت: 206، اللوامع الإلهية: 261.
(3) يونس: 35.
(4) الشافي في الإمامة: 2 / 5، الذخيرة: 429، الإقتصاد: 194، أنوار الملكوت: 207، رسالة في
الإمامة: 430، اللوامع الإلهية: 272.
189
وقالت العباسية: إن الطريق إلى تعيين الإمام النص أو الميراث.
وقالت الزيدية: تعيين الإمام بالنص أو الدعوة إلى نفسه.
وقال باقي المسلمين: الطريق إنما هو النص أو اختيار أهل الحل والعقد.
والدليل على ما ذهبنا إليه وجهان:
الأول: أنا قد بينا أنه يجب أن يكون الإمام معصوما والعصمة أمر خفي لا
يعلمها إلا الله تعالى فيجب أن يكون نصبه من قبله تعالى لأنه العالم بالشرط
دون غيره.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أشفق على الناس من
الوالد على ولده حتى إنه عليه السلام أرشدهم إلى أشياء لا نسبة لها إلى الخليفة
بعده كما أرشدهم في قضاء الحاجة إلى أمور كثيرة مندوبة، وغيرها من الوقائع،
وكان عليه السلام إذا سافر عن المدينة يوما أو يومين استخلف فيها من يقوم
بأمر المسلمين، ومن هذه حاله كيف ينسب إليه إهمال أمته وعدم إرشادهم في
أجل الأشياء وأسناها وأعظمها قدرا وأكثرها فائدة وأشدهم حاجة إليها وهو
المتولي لأمورهم بعده؟! فوجب من سيرته عليه السلام نصب إمام بعده والنص
عليه وتعريفهم إياه، وهذا برهان لمي.
المسألة الخامسة: في أن الإمام بعد النبي عليه السلام بلا فصل علي
بن أبي طالب عليه السلام
قال: وهما مختصان بعلي عليه السلام
أقول: العصمة والنص مختصان بعلي عليه السلام: إذ الأمة بين قائلين:
أحدهما لم

190
يشترطهما والثاني المشترطون، وقد بينا بطلان قول الأولين فانحصر الحق في
قول الفريق الثاني، وكل من اشترطهما قال إن الإمام هو علي عليه السلام.
قال: والنص الجلي في قوله: " سلموا عليه بإمرة المؤمنين " و " أنت
الخليفة من بعدي " وغيرهما (1).
أقول: هذا دليل ثان على أن الإمام هو علي عليه السلام، وهو النص الجلي
من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مواضع تواترت بها الإمامية ونقلها
غيرهم نقلا شائعا ذائعا:
منها: لما نزل قوله تعالى: * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * (2) أمر رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم أبا طالب أن يصنع له طعاما، وجمع بني عبد المطلب
فقال لهم: " أيكم يوازرني ويعينني فيكون أخي وخليفتي ووصيي من بعدي؟ "
فقال علي عليه السلام: " أنا أبايعك وأوازرك " فقال عليه السلام: " هذا أخي
ووصيي وخليفتي من بعدي ووارثي فاسمعوا له وأطيعوا ". وبقوله صلوات الله
عليه: " أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي ديني " (3).
ومنها: لما آخى بين الصحابة ولم يتخلف سوى علي عليه السلام فقال: "
يا رسول الله آخيت بين الصحابة دوني ". فقال له عليه السلام: " ألم ترض أن
تكون أخي وخليفتي من بعدي؟ " وآخى بينه وبينه (4).



(1) تاريخ ابن عساكر: 2 / 260 برقم 777، الشافي في الإمامة: 2 / 67، الذخيرة: 437، أنوار
الملكوت: 209، الإقتصاد: 196، الغدير: 1 / 270.
(2) الشعراء: 214.
(3) العمدة لابن البطريق: 121 - 122، 133 - 134، غاية المرام: 320، شواهد التنزيل: 1 / 420،
الغدير: 2 / 278 - 279.
(4) العمدة: 215 - 223، الغدير: 3 / 112 - 125.
191
ومنها: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تقدم إلى الصحابة بأن
يسلموا عليه بإمرة المؤمنين (1) وقال له: " أنت سيد المسلمين وإمام المتقين وقائد
الغر المحجلين ". (2) وقال فيه: " هذا ولي كل مؤمن ومؤمنة "، والنصوص في
ذلك كثيرة أكثر من أن تحصى ذكرها المخالف والمؤالف إلى أن بلغ مجموعها
التواتر (3).
قال: ولقوله تعالى: (إنما وليكم الله ورسوله)
الآية، وإنما اجتمعت الأوصاف في علي عليه السلام
(4).
أقول: هذا دليل آخر على إمامة علي عليه السلام، وهو قوله تعالى: * (إنما
وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم
راكعون) * (5).
والاستدلال بهذه الآية يتوقف على مقدمات:
إحداها: أن لفظة إنما للحصر، ويدل عليه المنقول والمعقول.
أما المنقول فلإجماع أهل العربية عليه.
وأما المعقول فلأن لفظة إن للإثبات وما للنفي قبل التركيب، فيكون كذلك
بعد التركيب عملا بالاستصحاب وللإجماع على هذه الدلالة، ولا يصح
تواردهما على معنى واحد، ولا صرف الإثبات إلى غير المذكور والنفي إلى
المذكور للإجماع، فبقي العكس وهو صرف الإثبات إلى المذكور والنفي إلى
غيره وهو معنى الحصر.



(1) راجع ص 189، التعليقة 1.
(2) العمدة: 418، الغدير: 1 / 50 - 52، و 7 / 176.
(3) مناقب ابن المغازلي: 65 - 66.
(4) العمدة: 167، الغدير: 2 / 47 - 52 - 53، وص 59.
(5) المائدة: 55.
192
الثانية: أن الولي يفيد الأولى بالتصرف، والدليل عليه نقل أهل اللغة
واستعمالهم، كقولهم: السلطان ولي من لا ولي له، وكقولهم: ولي الدم وولي
الميت، وكقوله عليه السلام: " أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل "
(1).
الثالثة: أن المراد بذلك بعض المؤمنين، لأنه تعالى وصفهم بوصف
مختص ببعضهم، ولأنه لولا ذلك لزم اتحاد الولي والمتولي.
وإذ قد تمهدت هذه المقدمات فنقول: المراد بهذه الآية هو علي عليه
السلام، للإجماع الحاصل على أن من خصص بها بعض المؤمنين قال إنه علي
عليه السلام، فصرفها إلى غيره خرق الإجماع (2).
ولأنه عليه السلام إما كل المراد أو بعضه للإجماع وقد بينا عدم العمومية
فيكون هو كل المراد، ولأن المفسرين اتفقوا على أن المراد بهذه الآية علي عليه
السلام لأنه لما تصدق بخاتمه حالة ركوعه نزلت هذه الآية فيه ولا خلاف في
ذلك.
قال: ولحديث الغدير المتواتر.
أقول: هذا دليل آخر على إمامة علي عليه السلام، وتقريره: أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم قال في غدير خم وقد رجع من حجة الوداع: " معاشر
المسلمين ألست أولى بكم من أنفسكم؟ " قالوا: بلى، قال صلى الله عليه وآله و
سلم: " من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من
نصره واخذل من خذله " (3).
وقد نقل المسلمون كافة هذا الحديث نقلا متواترا لكنهم اختلفوا في
دلالته على الإمامة.



(1) بحار الأنوار: 37 / 239.
(2) تفسير الثعلبي المخطوط: 74، مناقب ابن المغازلي: 311.
(3) العمدة: 139، مناقب ابن المغازلي: 25 - 26، الغدير: 1 / 14 - 151.
193
ووجه الاستدلال به أن لفظة مولى تفيد الأولى، لأن مقدمة الحديث تدل عليه،
ولأن عرف اللغة يقتضيه، وكذا الاستعمال، لقوله تعالى: * (النار هي مولاكم) * (1)
أي أولى بهم، وقول الأخطل: " فأصبحت مولاها من الناس كلهم " وقولهم: مولى
العبد أي الأولى بتدبيره والتصرف فيه، ولأنها مشتركة بين معان غير مرادة هنا إلا
الأولى، ولأنه إما كل المراد أو بعضه ولا يجوز خروجه عن الإرادة لأنه حقيقة فيه
ولم يثبت إرادة غيره.
قال: ولحديث المنزلة المتواتر.
أقول: هذا دليل آخر على إمامة علي عليه السلام، وتقريره: أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم قال: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي
بعدي " (2) وتواتر المسلمون بنقل هذا الحديث، لكنهم اختلفوا في دلالته على
الإمامة.
وتقرير الاستدلال به أن عليا عليه السلام له جميع منازل هارون من
موسى بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن الوحدة منفية هنا
للاستثناء المشروط بالكثرة، وغير العموم ليس بمراد للاستثناء المخرج ما لولاه
لوجب دخوله كالعدد، والأصل عدم الاشتراك، ولانتفاء القائل بالكثرة من دون
العموم، ولعدم فهم المراد من خطاب الحكيم لولاه، ومن جملة منازله الخلافة
بعده لو عاش لثبوتها له في حياته.
قال: ولاستخلافه على المدينة فيعم للإجماع.
أقول: هذا دليل آخر على إمامته عليه السلام، وتقريره: أن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم استخلفه على المدينة وأرجف المنافقون بأمير المؤمنين عليه
السلام فخرج إلى النبي وقال: " يا



(1) الحديد: 15.
(2) العمدة: 173 - 185، مسند أحمد: 3 / 32، وفضائل الصحابة: 2 / 633، الغدير: 1 / 51،
وج 3 / 197 - 201.
194
رسول الله إن المنافقين زعموا أنك خلفتني استثقالا وتحرزا مني "، فقال عليه
السلام: " كذبوا، إنما خلفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني، أفلا ترضى
يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " (1) وإذا كان
خليفته على المدينة في تلك الحال ولم يعزله قبل موته ولا بعده استمرت
ولايته عليها، فلا يكون غيره خليفة عليها، وإذا انتفت خلافة غيره عليها انتفت
خلافته على غيرها للإجماع فثبت الخلافة له عليه السلام.
لا يقال: قد استخلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم جماعة على
المدينة وعلى غيرها ومع ذلك فليسوا أئمة عندكم.
لأنا نقول: إن بعضهم عزله عليه السلام والباقون لم يقل أحد بإمامتهم.
قال: ولقوله عليه السلام: " أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي
وقاضي ديني " بكسر الدال (2).
أقول: هذا دليل آخر على إمامة علي عليه السلام، وتقريره: أن النبي صلى
الله عليه وآله وسلم قال: " أنت أخي ووصيي وخليفتي من بعدي وقاضي
ديني " بكسر الدال، وهذا نص صريح على الولاية والخلافة على ما تقدم.
قال: ولأنه أفضل وإمامة المفضول قبيحة عقلا (3).
أقول: هذا دليل آخر على إمامة علي عليه السلام، وتقريره: أنه أفضل من
غيره



(1) العمدة: 173 - 185، مسند أحمد: 1 / 177، الغدير: 3 / 199.
(2) الشافي في الإمامة: 3 / 76، مصادر نهج البلاغة: 1 / 121 - 151، المراجعات: 223 نقلا عن كنز
العمال ومسند أحمد بن حنبل وغيره.
(3) الشافي في الإمامة: 1 / 326، الذخيرة: 429، الإقتصاد: 190، رسالة في الإمامة: 431، أنوار
الملكوت: 206، اللوامع الإلهية: 261.
195
على ما يأتي فيكون هو الإمام لأن تقديم المفضول على الفاضل قبيح عقلا،
وللسمع على ما تقدم.
قال: ولظهور المعجزة على يده، كقلع باب خيبر (1)، ومخاطبة الثعبان (2)،
ورفع الصخرة العظيمة عن القليب (3)، ومحاربة الجن (4)، ورد الشمس (5)،
وغير ذلك، وادعى الإمامة فيكون صادقا.
أقول: هذا دليل آخر على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، وتقريره: أنه قد
ظهر على يده معجزات كثيرة وادعى الإمامة له دون غيره فيكون صادقا.
أما المقدمة الأولى: فلما تواتر عنه أنه فتح باب خيبر وعجز عن إعادته
سبعون رجلا من أشد الناس قوة.
وخاطبه الثعبان على منبر الكوفة، فسئل عنه، فقال: " إنه من حكام الجن
أشكل عليه مسألة أجبته عنها ".
ولما توجه إلى صفين أصابهم عطش عظيم، فأمرهم فحفروا بئرا قريبا



(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: 1 / 21 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (20 ج)، الإرشاد
للمفيد: 175 - 177، تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام علي: 1 / 156 - 226 برقم 218 - 290.
(2) مدينة المعاجز: 2 / 40 - 41.
(3) شرح النهج لابن أبي الحديد: 1 / 21 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم (20 ج)، الإرشاد
للمفيد: 175 - 177، تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام علي: 1 / 156 - 226 برقم 218 - 290.
(4) مدينة المعاجز: 2 / 64 - 66 والبحار 39 / 175 - 177، نقلا عن المناقب وإرشاد المفيد
والخرائج، وتاريخ ابن عساكر: 2 / 361 برقم 862.
(5) فتح الباري في شرح صحيح البخاري: 6 / 168، الصواعق المحرقة: 128، العمدة: 435
برقم 665 - 666، السيرة الحلبية: 3 / 44، تاريخ ابن عساكر: 2 / 283 برقم 807، الغدير: 3 / 126 -
141.
196
من دير، فوجدوا صخرة عظيمة عجزوا عن قلعها، فنزل عليه السلام فاقتلعها
ودحا بها مسافة بعيدة فظهر الماء فشربوا ثم أعادها، فنزل صاحب الدير وأسلم،
فسئل عن ذلك فقال: بني هذا الدير على قالع هذه الصخرة ومضى من قبلي ولم
يدركوه، واستشهد معه عليه السلام في الشام.
وحارب الجن وقتل منهم جماعة كثيرة لما أرادوا وقوع الضرر بالنبي
صلى الله عليه وآله وسلم حيث سار إلى بني المصطلق، وردت له الشمس
مرتين (1)، وغير ذلك من الوقائع المشهورة الدالة على صدق فاعلها.
وأما المقدمة الثانية فظاهرة منقولة بالتواتر، إذ لا يشك أحد في أنه عليه
السلام ادعى الإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: ولسبق كفر غيره فلا يصلح للإمامة (2) فتعين هو عليه السلام.
أقول: هذا دليل آخر على إمامة علي عليه السلام، وهو أن غيره ممن ادعي
لهم الإمامة كالعباس وأبي بكر كانا كافرين قبل ظهور النبي صلى الله عليه وآله و
سلم فلا يصلحان للإمامة لقوله تعالى: * (لا ينال عهدي الظالمين) * (3).
والمراد بالعهد هنا عهد الإمامة لأنه جواب دعاء إبراهيم عليه السلام.



(1) الإرشاد للمفيد: 181 - 183، الصواعق المحرقة: 128، تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام علي:
2 / 283 - 306، المناقب للخوارزمي: 306، ينابيع المودة للقندوزي: 138 - 139، وقعة صفين:
151 - 152، الطبعة الأولى بالقاهرة.
(2) العمدة لابن البطريق: 222، 416، صحيح البخاري: 6 / 143 - 144، ط مطابع الشعب - بيروت
1378، الشافي في الإمامة: 3 / 137 - 142، الغدير: 7 / 306 - 329.
(3) البقرة: 124.
197
قال: ولقوله تعالى: * (وكونوا مع الصادقين) * (1).
أقول: هذا دليل آخر على إمامة علي عليه السلام (2)، وهو قوله تعالى: * (يا
أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) * أمر تعالى بالكون مع الصادقين،
أي المعلوم منهم الصدق، ولا يتحقق ذلك إلا في حق المعصوم إذ غيره لا يعلم
صدقه ولا معصوم غير علي عليه السلام بالإجماع.
قال: ولقوله تعالى: * (وأولي الأمر منكم) * (3).
أقول: هذا دليل آخر على إمامة علي عليه السلام، وهو قوله تعالى: * (يا
أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) * (4) أمر بالاتباع
والطاعة لأولي الأمر.
والمراد منه المعصوم إذ غيره لا أولوية له تقضي وجوب طاعته ولا
معصوم غير علي عليه السلام بالإجماع.
المسألة السادسة: في الأدلة الدالة على عدم إمامة غير علي عليه
السلام
قال: ولأن الجماعة غير علي عليه السلام غير صالح للإمامة لظلمهم بتقدم
كفرهم (5).
أقول: هذه أدلة تدل على أن غير علي عليه السلام لا يصلح للإمامة:



(1) التوبة: 119.
(2) شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: 1 / 341 الحديث 350 - 357، الدر المنثور لجلال
الدين السيوطي: 4 / 316.
(3) النساء: 59.
(4) شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: 1 / 189 الحديث 202 و 203 و 204.
(5) صحيح البخاري: 6 / 143 - 144 و 9 / 17 - 18، ط مطابع الشعب - بيروت 1378، العمدة لابن
البطريق: 416 برقم 612، الغدير: 7 / 306 - 329.
198
الأول: أن أبا بكر وعمر وعثمان قبل ظهور النبي صلى الله عليه وآله و
سلم كانوا كفرة فلا ينالوا عهد الإمامة للآية وقد تقدمت.
قال: وخالف أبو بكر كتاب الله تعالى في منع إرث رسول صلى الله
عليه وآله وسلم بخبر رواه هو (1).
أقول: هذا دليل آخر على عدم صلاحية أبي بكر للإمامة، وتقريره: أنه
خالف كتاب الله تعالى في منع إرث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم
يورث فاطمة عليها السلام واستند إلى خبر رواه هو عن النبي في قوله: " نحن
معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة "، وعموم الكتاب يدل على خلاف
ذلك.
وأيضا قوله تعالى * (وورث سليمان داود) * (2) وقوله في قصة زكريا
* (يرثني ويرث من آل يعقوب) * (3) ينافي هذا الخبر، وقالت له فاطمة عليها
السلام " أترث أباك ولا أرث أبي؟! * (لقد جئت شيئا فر (4) يا) *.
ومع ذلك فهو خبر واحد لم نعرف أحدا من الصحابة وافقه على نقله،
فكيف يعارض الكتاب المتواتر؟ وكيف بين رسول الله صلى الله عليه وآله و
سلم هذا الحكم لغير ورثته وأخفاه عن ورثته؟! ولو كان هذا الحديث صحيحا
عند أهله لم يمسك أمير المؤمنين عليه السلام سيف رسول الله صلى الله عليه
وآله وسلم وبغلته وعمامته، ونازع العباس عليا عليه السلام (5) بعد موت
فاطمة عليها السلام، ولو كان هذا الحديث معروفا عندهم لم يجز لهم ذلك.



(1) صحيح البخاري: 4 / 96 - 98، باب فرض الخمس، ط مطابع الشعب، والخبر منقول عن عائشة
وعمر لا أبي بكر، وأيضا صحيح البخاري: 5 / 177 - 178، باب غزوة خيبر، ط مطابع الشعب -
بيروت 1378، وراجع لبقية المصادر: الغدير: 7 / 226 - 227.
(2) النمل: 16.
(3) مريم: 6.
(4) مريم: 27.
(5) بحار الأنوار: 38 / 3 - 4.
199
وروي أن فاطمة عليها السلام قالت: " يا أبا بكر أنت ورثت رسول الله أم
ورثه أهله؟ " قال: بل ورثه أهله، فقالت: " ما بال سهم رسول الله صلى الله عليه و
آله وسلم! " فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إن الله إذا
أطعم نبيا طعمة كانت لولي الأمر بعده! (1)
وذلك يدل على أنه لا أصل لهذا الخبر.
قال: ومنع فاطمة عليها السلام فدكا مع ادعاء النحلة لها وشهد علي عليه
السلام وأم أيمن، وصدق الأزواج في ادعاء الحجرة لهن، ولهذا ردها عمر بن
عبد العزيز.
أقول: هذا دليل آخر على الطعن في أبي بكر وعدم صلاحيته للإمامة،
وهو أنه أظهر التعصب على أمير المؤمنين عليه السلام وعلى فاطمة بنت رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنها ادعت فدكا وذكرت أن النبي صلى الله عليه
وآله وسلم أنحلها إياها، فلم يصدقها في قولها مع أنها معصومة ومع علمه بأنها
من أهل الجنة، واستشهدت عليا عليه السلام وأم أيمن فقال: رجل مع رجل أو
امرأة مع امرأة! (2)، وصدق أزواج النبي عليه السلام في ادعاء أن الحجرة لهن
ولم يجعل الحجرة (3) صدقة!.
ولما عرف عمر بن عبد العزيز كون فاطمة عليها السلام مظلومة رد على
أولادها فدكا (4)، ومع ذلك فإن فاطمة عليها السلام كان ينبغي لأبي بكر إنحالها
فدكا ابتداء لو



(1) مسند أحمد بن حنبل: 1 / 9 ح 15 (الطبعة الجديدة، دار إحياء التراث العربي - لبنان).
(2) شرح النهج لابن أبي الحديد: 16 / 268 - 278. وتفصيل ذلك في كتاب فدك للسيد محمد
حسن القزويني الحائري.
(3) شرح النهج لابن أبي الحديد: 16 / 268.
(4) شرح النهج لابن أبي الحديد: 16 / 278 و 216.
200
لم تدعه أو يعطيها إياها بالميراث.
قال: وأوصت أن لا يصلي عليها أبو بكر، فدفنت ليلا!!
أقول: هذا وجه آخر يدل على الطعن في أبي بكر، وهو أن فاطمة عليها
السلام لما حضرتها الوفاة أوصت أن لا يصلي عليها أبو بكر، غيظا عليه ومنعا له
عن ثواب الصلاة عليها، فدفنت ليلا ولم يعلم أبو بكر بذلك، وأخفي قبرها لئلا
يصلي على القبر (1)، ولم يعلم بقبرها إلى الآن.
قال: ولقوله: أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم!!
أقول: هذا وجه آخر في الطعن على أبي بكر، وهو أنه قال يوم السقيفة:
أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم! (2)
وهذا الإخبار إن كان حقا لم يصلح للإمامة لاعترافه بعدم الصلاحية مع
وجود علي عليه السلام، وإن لم يكن حقا فعدم صلاحيته للإمامة حينئذ أظهر.
قال: ولقوله إن له شيطانا يعتريه.
أقول: هذا دليل آخر على عدم صلاحيته للإمامة، وهو ما روي عنه أنه قال
مختارا: وليتكم ولست بخيركم! فإن استقمت فاتبعوني، وإن اعوججت
فقوموني، فإن لي شيطانا عند غضبي يعتريني!!، فإذا رأيتموني مغضبا



(1) صحيح البخاري: 5 / 177، ط مطابع الشعب - بيروت 1378، المستدرك للحاكم: 3 / 162 -
163، طبعة دار المعرفة - بيروت.
(2) شرح النهج لابن أبي الحديد: 1 / 169، التمهيد: 190، 193، 195. منهاج البراعة للخوئي:
3 / 57، الصواعق المحرقة: 11، الإمامة والسياسة: 1 / 14 طبع مطبعة مصطفى محمد، شرح النهج
لابن أبي الحديد: 6 / 20.
201
فاجتنبوني لئلا أوثر في أشعاركم وأبشاركم! (1)
وهذا يدل على اعتراض الشيطان له في كثير من الأحكام، ومثل هذا
لا يصلح للإمامة.
قال: ولقول عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها! فمن عاد إلى
مثلها فاقتلوه.
أقول: هذا دليل آخر يدل على الطعن فيه لأن عمر كان إماما عندهم وقال
في حقه: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها! فمن عاد إلى مثلها
فاقتلوه (2).
فبين عمر أن بيعته كانت خطأ على غير الصواب وأن مثلها مما يجب فيه
المقاتلة، وهذا من أعظم ما يكون من الذم والتخطئة.
قال: وشك عند موته في استحقاقه للإمامة.
أقول: هذا وجه آخر يدل على عدم إمامة أبي بكر، وهو أنه قال لما
حضرته الوفاة: ليتني كنت سألت رسول الله هل للأنصار في هذا الأمر حق؟ (3)



(1) الإمامة والسياسة في ضمن خطبة لأبي بكر: 1 / 16، مطبعة مصطفى محمد - مصر، الصواعق
المحرقة لابن حجر خطبة أبي بكر ص 12، طبع شركة الطباعة الغنية المتحدة: 1385.
راجع لبقية المصادر: شرح النهج لابن أبي الحديد: 6 / 20، السبعة من السلف للسيد الفيروزآبادي: ص
9 - 12.
(2) مسند أحمد: 1 / 55، أفست دار الفكر، التمهيد للباقلاني: 184 - 196، صحيح البخاري: 8 / 208
- 211، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت، ط مطابع الشعب - بيروت 1378، الصواعق
المحرقة: 10 - 14.
(3) الإمامة والسياسة لابن قتيبة: ص 17 - 18، تحت عنوان: مرض أبي بكر واستخلافه عمر.
202
وقال أيضا: ليتني كنت في ظل بني ساعدة ضربت يدي على يد أحد
الرجلين فكان هو الأمير وكنت الوزير.
وهذا كله يدل على تشككه في استحقاقه للإمامة واضطراب أمره فيها
وأنه كان يرى أن غيره أولى بها منه.
قال: وخالف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الاستخلاف عندهم،
وفي تولية من عزله صلى الله عليه وآله وسلم.
أقول: هذا طعن آخر في أبي بكر، وهو أنه خالف الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم في الاستخلاف عندهم لأنهم زعموا أن النبي صلى الله عليه وآله و
سلم لم يستخلف أحدا، فباستخلافه يكون مخالفا للنبي صلى الله عليه وآله و
سلم عندهم ومخالفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم توجب الطعن.
وأيضا فإنه خالف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في استخلاف من
عزلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنه استخلف عمر بن الخطاب وقد كان
النبي لم يوله عملا سوى أنه بعثه في خيبر فرجع منهزما وولاه أمر الصدقات
فشكاه العباس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعزله، وأنكرت الصحابة
على أبي بكر ذلك حتى قال له طلحة: وليت علينا فظا غليظا (1).
قال: وفي التخلف عن جيش أسامة مع علمهم بقصد البعد وولى
أسامة عليهم فهو أفضل وعلي عليه السلام لم يول عليه أحدا وهو أفضل من
أسامة (2).
أقول: هذا دليل آخر على الطعن في أبي بكر، وهو أنه خالف النبي صلى
الله عليه وآله وسلم



(1) الإمامة والسياسة: 18 - 19، التمهيد للباقلاني: / 165 - 169، باب الكلام في إبطال النص
وتصحيح الاختيار، فيه: تولى علينا فظا غليظا، وأيضا ص 201.
(2) التمهيد: 193، الشافي: 4 / 144، شرح النهج لابن أبي الحديد: 17 / 175 - 194.
203
حيث أمره هو وعمر بن الخطاب وعثمان في تنفيذ جيش أسامة لأنه صلى الله
عليه وآله وسلم قال في مرضه حالا بعد حال: " نفذوا جيش أسامة "، وكان الثلاثة
في جيشه وفي جملة من يجب عليه النفوذ معه، فلم يفعلوا ذلك، مع أنهم عرفوا
قصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأن غرضه بالتنفيذ من المدينة بعد الثلاثة
عنها بحيث لا يتوثبوا على الإمامة بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
ولهذا جعل الثلاثة في الجيش ولم يجعل عليا عليه السلام معه، وجعل النبي
صلى الله عليه وآله وسلم أسامة أمير الجيش وكان فيه أبو بكر وعمر وعثمان،
فهو أفضل منهم وعلي عليه السلام أفضل من أسامة، ولم يول عليه أحدا فيكون
هو عليه السلام أفضل الناس كافة.
قال: ولم يتول عملا في زمانه، وأعطاه سورة براءة فنزل جبرئيل فأمره
برده وأخذ السورة منه وأن لا يقرأها إلا هو أو أحد من أهل بيته فبعث بها عليا
عليه السلام (1).
أقول: هذا طعن آخر على أبي بكر، وهو أنه لم يوله النبي صلى الله عليه و
آله وسلم عملا في حياته أصلا سوى أنه أعطاه سورة براءة وأمره بالحج بالناس،
فلما مضى بعض الطريق نزل جبرئيل عليه السلام على النبي وأمره برده وأخذ
السورة منه وأن لا يقرأها إلا هو عليه السلام أو أحد من أهل بيته، فبعث بها عليا
عليه السلام وولاه الحج بالناس.
وهذا يدل على أن أبا بكر لم يكن أهلا لإمارة الحج فكيف يكون أهلا
للإمامة بعده، ولأن من لا يؤمن على أداء سورة في حياته عليه السلام كيف
يؤمن على



(1) شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: 1 / 303، الحديث 307 و 308 و 309 و 310 و 311 و 312
و 313 و 314 و 315 و 327، الشافي في الإمامة: 3 / 61، جامع البيان (تفسير الطبري): 10 / 41 -
55.
204
الإمامة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قال: ولم يكن عارفا بالأحكام حتى قطع يسار سارق، وأحرق بالنار (1)،
ولم يعرف الكلالة ولا ميراث الجدة (2) واضطرب في أحكامه، ولم يحد خالدا
ولا اقتص منه (3).
أقول: هذا طعن آخر في أبي بكر، وهو أنه لم يكن عارفا بالأحكام فلا
يجوز نصبه للإمامة.
أما المقدمة الثانية فقد مرت، وأما الأولى فلأنه قطع سارقا من يساره وهو
خلاف الشرع، وأحرق الفجاءة السلمي بالنار وقد نهى النبي صلى الله عليه وآله
وسلم عن ذلك وقال: " لا يعذب بالنار إلا رب النار ".
وسئل عن الكلالة فلم يعرف ما يقول فيها ثم قال: أقول فيها برأيي فإن
كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والحكم بالرأي باطل.
وسألته جدة عن ميراثها فقال: لا أجد لك شيئا في كتاب الله ولا سنة نبيه،
ارجعي حتى أسأل، فأخبره المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة أن النبي



(1) السنن الكبرى للبيهقي: 8 / 273 باب السارق..، المستدرك للحاكم: 2 / 303 و 304، وسنن ابن
ماجة باب الكلالة: 2 / 910، الحديث 2726 و 2727 و 2728.
(2) سنن ابن ماجة: 2 / 909 رقم الحديث: 2724.
(3) تاريخ الإسلام للذهبي (عهد الخلفاء الراشدين): 32 - 37، تاريخ الطبري: 2 / 502 - 503، أفست
ليدن - بيروت مؤسسة الأعلمي، وتفصيل كل هذه الفصول في الغدير: 7 / 73 - 330، الشافي:
4 / 161.
205
صلى الله عليه وآله وسلم أعطاها السدس.
واضطرب في كثير من الأحكام، وكان يستفتي الصحابة فيها، وذلك يدل
على قصور علمه وقله معرفته.
وقتل خالد بن الوليد مالك بن نويرة وواقع امرأته ليلة قتله وضاجعها، فلم
يحده على الزنا ولا قتله بالقصاص، وأشار عليه عمر بقتله وعزله، فقال: لا أغمد
سيفا شهره الله على الكفار.
قال: ودفن في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد نهى الله
تعالى دخوله في حياته بغير إذن (1)، وبعث إلى بيت أمير المؤمنين عليه السلام
لما امتنع من البيعة فأضرم فيه النار وفيه فاطمة والحسن والحسين وجماعة من
بني هاشم (2)، ورد عليه الحسنان لما بويع، وندم على كشف بيت فاطمة عليها
السلام (3).
أقول: هذه مطاعن أخر في أبي بكر، وهو أنه دفن في بيت رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم وقد نهى الله تعالى عن الدخول إليه بغير إذن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم حال حياته فكيف بعد موته؟!
وبعث إلى بيت أمير المؤمنين عليه السلام لما امتنع من البيعة فأضرم فيه
النار وفيه فاطمة والحسن والحسين وجماعة من بني هاشم، وأخرجوا عليا عليه
السلام كرها وكان معه الزبير في البيت فكسروا سيفه وأخرجوه من الدار،
وضربت فاطمة



(1) الشافي: 4 / 168، شرح النهج لابن أبي الحديد: 17 / 214.
(2) الشافي: 4 / 112، والإمامة والسياسة: 12، باب كيف كانت بيعة علي بن أبي طالب، الغدير:
5 / 372، السبعة من السلف: 62.
(3) تاريخ الطبري لابن جرير: 2 / 619، الغدير: 7 / 170 - 174، السبعة من السلف: 16.
206
عليها السلام فألقت جنينا اسمه محسن!!!. (1)
ولما بويع أبو بكر صعد المنبر فجاءه الحسنان عليهما السلام مع جماعة
من بني هاشم وغيرهم وأنكروا عليه، وقال له الحسن والحسين عليهما السلام:
" هذا مقام جدنا، لست له أهلا ".
ولما حضرته الوفاة قال: ليتني تركت بيت فاطمة لم أكشفه، وهذا يدل
على خطائه في ذلك.
قال: وأمر عمر برجم امرأة حامل وأخرى مجنونة فنهاه علي عليه
السلام فقال: لولا علي لهلك عمر (2).
أقول: هذا طعن على عمر يمتنع معه الإمامة له، وهو أن عمر أتي إليه
بامرأة قد زنت وهي حامل، فأمر برجمها، فقال له علي عليه السلام: " إن كان لك
عليها سبيل فليس لك على حملها سبيل "، فأمسك وقال: لولا علي لهلك عمر.
وأتي إليه بامرأة مجنونة قد زنت، فأمر برجمها، فقال له علي عليه السلام:
" إن القلم مرفوع عن المجنون حتى يفيق "، فأمسك وقال: لولا علي لهلك عمر.
ومن يخفى عليه هذه الأمور الظاهرة في الشريعة كيف يستحق الإمامة؟!



(1) بحار الأنوار: 43 / 170 برقم 11 والملل والنحل للشهرستاني: 1 / 59 ط القاهرة مكتبة الاغلو
المصرية.
(2) ذخائر العقبى: 81 - 80، وتفصيل ذلك في الغدير: 6 / 110.
207
قال: وتشكك في موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى تلا
عليه أبو بكر: * (إنك ميت وإنهم ميتون) * فقال: كأني لم أسمع هذه الآية! (1).
أقول: هذا طعن آخر، وهو أن عمر لم يكن حافظا للكتاب العزيز ولم
يكن متدبرا لآياته فلا يستحق الإمامة، وذلك أنه قال عند موت النبي صلى الله
عليه وآله وسلم: والله ما مات محمد حتى يقطع أيدي رجال وأرجلهم.
فلما نبهه أبو بكر بقوله تعالى: * (إنك ميت وإنهم ميتون) * (2)، وبقوله:
* (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) * (3)، قال: كأني ما سمعت بهذه الآية وقد
أيقنت بوفاته!
قال: وقال: كل أفقه من عمر حتى المخدرات، لما منع من المغالاة في
الصداق.
أقول: هذا طعن آخر، وهو أن عمر قال يوما في خطبته: من غالى في
صداق ابنته جعلته في بيت المال.
فقالت له امرأة: كيف تمنعنا ما أحله الله لنا في كتابه بقوله: * (وآتيتم
إحداهن قنطارا) * (4) الآية؟!
فقال عمر: كل أفقه من عمر حتى المخدرات في البيوت (5)، ومن يشتبه
عليه مثل هذا الحكم الظاهر لا يصلح للإمامة.



(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: 2 / 40، تاريخ الطبري: 2 / 442، أفست مؤسسة الأعلمي، وراجع
الغدير: 7 / 74 لبقية المصادر.
(2) الزمر: 30.
(3) آل عمران / 144.
(4) النساء: 20.
(5) السنن الكبرى للبيهقي: 7 / 233، تفسير القرطبي: 5 / 99، وتفصيل ذلك في الغدير: 6 / 95 - 99.
208
قال: وأعطى أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واقترض، ومنع
أهل البيت عليهم السلام من خمسهم (1).
أقول: هذا طعن آخر، وهو أن عمر كان يعطي أزواج النبي صلى الله عليه
وآله وسلم [من] بيت المال حتى كان يعطي عائشة وحفصة عشرة آلاف درهم
كل سنة، وأخذ من بيت المال ثمانين ألف درهم فأنكروا عليه ذلك فقال: أخذته
على جهة القرض، ومنع أهل البيت عليهم السلام الخمس الذي أوجبه الله
تعالى لهم في الكتاب العزيز.
قال: وقضى في الجد مائة قضية، وفضل في القسمة، ومنع
المتعتين (2):
أقول: هذه مطاعن أخر، وهو أن عمر غير عارف بأحكام الشريعة: فقضى
في الجد بمائة قضية وروى تسعين قضية، وهذا يدل على قلة معرفته بالأحكام
الظاهرة.
وأيضا فضل في القسمة والعطاء، والواجب التسوية.
وقال: " متعتان كانتا على عهد رسول الله أنا أنهى عنهما وأعاقب عليها "،
مع أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تأسف على فوات المتعة، ولو لم تكن
أفضل من غيرها من أنواع الحج لما فعل النبي عليه السلام ذلك.
وجماعة كانوا قد ولدوا من المتعة في زمن رسول الله صلى الله عليه و
آله وسلم وبعد وفاته ولو لم تكن سائغة لم يقع منهم ذلك.



(1) الشافي في الإمامة: 4 / 185، شرح النهج لابن أبي الحديد: 12 / 210، حلية الأولياء: 3 / 205.
مسند أحمد: 1 / 248 - 294.
(2) الشافي في الإمامة: 4 / 193 - 199، شرح النهج لابن أبي الحديد: 12 / 246، 251، 254،
وتفصيل ذلك في الغدير: 6 / 129، و 198 - 240.
209
قال: وحكم في الشورى بضد الصواب (1).
أقول: هذا طعن آخر، وهو أن عمر خالف رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم عندهم، حيث لم يفوض الأمر إلى اختيار الناس، وخالف أبا بكر حيث لم
ينص على إمام بعده، ثم إنه طعن في كل واحد ممن اختاره للشورى، وأظهر
كراهية أن يتقلد أمر المسلمين ميتا كما تقلده حيا، ثم تقلده وجعل الإمامة في
ستة نفر، ثم ناقض نفسه فجعلها في أربعة بعد الستة، ثم في ثلاثة، ثم في واحد
فجعل إلى عبد الرحمان بن عوف الاختيار بعد أن وصفه بالضعف، ثم قال: " إن
اجتمع علي وعثمان فالأمر كما قالاه وإن صاروا ثلاثة ثلاثة فالقول للذين فيهم
عبد الرحمان "، لعلمه بعدم الاجتماع من علي وعثمان، وعلمه بأن عبد الرحمان
لا يعدل بها عن أخيه عثمان ابن عمه، ثم أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة
ثلاثة أيام وأمر بقتل من خالف الأربعة منهم أو الذين فيهم عبد الرحمان، وكيف
يسوغ له قتل علي عليه السلام وعثمان وغيرهما وهما من أكابر المسلمين؟!
قال: وخرق كتاب فاطمة عليها السلام (2).
أقول: هذا طعن آخر، وهو أن فاطمة عليها السلام لما طالت المنازعة بينها
وبين أبي بكر رد أبو بكر عليها فدكا وكتب لها بذلك كتابا، فخرجت والكتاب في



(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: 12 / 256، الشافي: 4 / 199.
(2) السيرة الحلبية: 3 / 362، المكتبة الإسلامية و 3 / 400 من طبعة مطبعة مصطفى محمد، بحار
الأنوار: 29 / 121، 128، 134، تفسير العياشي: 2 / 287 رقم الحديث 49. الإحتجاج للطبرسي:
1 / 234 برقم 47 تحقيق البهادري وهادي به. ط. قم، تفسير علي بن إبراهيم القمي: 2 / 155 ط
أفست قم، الغدير: 8 / 238، فدك للسيد محمد حسن القزويني: 89.
210
يدها، فلقيها عمر فسألها عن شأنها، فقصت قصتها، فأخذ منها الكتاب وخرقه!!
فدعت عليه، ودخل على أبي بكر وعاتبه على ذلك فاتفقا على منعها عن فدك!
قال: وولى عثمان من ظهر فسقه حتى أحدثوا في أمر المسلمين ما
أحدثوا (1).
أقول: هذا طعن على عثمان، وهو أنه ولى أمور المسلمين من ظهر منه
الفسق والخيانة، وقسم الولايات بين أقاربه، وقد كان عمر حذره وقال له: إذا
وليت هذا الأمر فلا تسلط آل أبي معيط على رقاب المسلمين، وصدق عمر فيه
في قوله إنه كلف بأقاربه.
واستعمل الوليد بن عقبة حتى ظهر منه شرب الخمر وصلى بالناس وهو
سكران.
واستعمل سعيد بن العاص على الكوفة فظهر منه ما أخرجه به أهل الكوفة
عنها.
وولى عبد الله بن أبي سرح مصر حتى تظلم منه أهلها، وكاتب ابن أبي
سرح أن يستمر على ولايته سرا بخلاف ما كتب إليه جهرا، وأمره بقتل محمد بن
أبي بكر.
وولى معاوية الشام فأحدث من الفتن ما أحدث!!.
قال: وآثر أهله بالأموال.
أقول: هذا طعن آخر على عثمان، وهو أنه كان يؤثر أهل بيته وأقاربه



(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: 1 / 198 و 200، 2 / 129 - 160، 3 / 11 - 39، والغدير: 9 / 179.
211
بالأموال العظيمة من بيت مال المسلمين، فإنه دفع إلى أربعة نفر من قريش
أربعمائة ألف دينار حيث زوجهم ببناته.
ودفع إلى مروان ألف ألف درهم حين فتح إفريقية، ومن قبله كان يعطي
بقدر الاستحقاق ولا يتخطى الأجانب إلى الأقارب.
قال: وحمى لنفسه (1).
أقول: هذا طعن آخر، وهو أن عثمان حمى الحمى لنفسه عن المسلمين
ومنعهم عنه وذلك مناف للشرع لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل
الناس في الماء والكلاء والنار شرعا سواء.
قال: ووقع منه أشياء منكرة في حق الصحابة: فضرب ابن مسعود حتى
مات وأحرق مصحفه، وضرب عمارا حتى أصابه فتق (2)، وضرب أبا ذر
ونفاه إلى الربذة (3).
أقول: هذا طعن آخر، وهو أن عثمان ارتكب من الصحابة ما لا يجوز
وفعل بهم ما لا يحل: فضرب ابن مسعود حتى مات عند إحراقه المصاحف،
وأحرق مصحفه وأنكر عليه قراءته، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: " من
أراد أن يقرأ القرآن غضا فليقرأ بقراءة ابن مسعود "، وكان ابن مسعود يطعن في
عثمان ويكفره.
وضرب عمار بن ياسر حتى صار به فتق، وكان يطعن في عثمان وكان
يقول: قتلناه كافرا.
واستحضر أبا ذر من الشام لهوى معاوية وضربه ونفاه إلى الربذة، مع أن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مقربا لهؤلاء الصحابة وشاكرا لهم.



(1) الغدير: 8 / 234 برقم 28.
(2) الغدير: 9 / 15 برقم 42.
(3) شرح النهج لابن أبي الحديد: 3 / 40 - 52، الغدير: 8 / 292 برقم 40.
212
قال: وأسقط القود عن ابن عمر والحد عن الوليد مع وجوبهما (1).
أقول: هذا طعن آخر، وهو أن عثمان كان يترك الحدود ويعطلها ولا
يقيمها لأجل هوى نفسه، ومثل هذا لا يصلح للإمامة، فإنه لم يقتل عبد الله بن
عمر لما قتل الهرمزان بعد إسلامه.
ولما ولي أمير المؤمنين عليه السلام طلبه لإقامة القصاص عليه فلحق
بمعاوية.
ولما وجب على الوليد بن عقبة حد الشرب أراد أن يسقطه عنه فحده
علي عليه السلام وقال: " لا يبطل حد الله وأنا حاضر ".
قال: وخذله الصحابة حتى قتل، وقال أمير المؤمنين عليه السلام:
" الله قتله " (2).
ولم يدفن إلا بعد ثلاثة أيام، وعابوا غيبته عن بدر وأحد والبيعة (3).
أقول: هذه مطاعن أخر في عثمان، وهو أن الصحابة خذلوه حتى قتل،
وقد كان يمكنهم الدفع عنه فلولا علمهم باستحقاقه لذلك وإلا لما ساغ لهم
التأخر عن نصرته.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: " الله قتله ".
وتركوه بعد القتل ثلاثة أيام ولم يدفنوه، وذلك يدل على شدة غيظهم
عليه وإفراطهم في الحنق لما أصابهم من ضرره وظلمه، وعابت الصحابة عليه
غيبته عن بدر وأحد ولم يشهد بيعة الرضوان.



(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: 3 / 11 - 29 و 59 - 62.
(2) شرح النهج: 2 / 128.
(3) شرح النهج: 3 / 11 - 69.
213
المسألة السابعة: في أن عليا عليه السلام أفضل من الصحابة
قال: وعلي عليه السلام أفضل، لكثرة جهاده وعظم بلائه في وقائع
النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأجمعها (1)، ولم يبلغ أحد درجته في
غزاة بدر وأحد ويوم الأحزاب وخيبر وحنين وغيرها.
أقول: اختلف الناس هنا: فقال عمر وعثمان وابن عمر وأبو هريرة من
الصحابة: إن أبا بكر أفضل من علي عليه السلام!
وبه قال من التابعين الحسن البصري وعمرو بن عبيد، وهو اختيار النظام
وأبي عثمان الجاحظ.
وقال الزبير وسلمان والمقداد وجابر بن عبد الله وعمار وأبو ذر وحذيفة
من الصحابة: إن عليا عليه السلام أفضل.
وبه قال في التابعين عطاء ومجاهد وسلمة بن كهيل، وهو اختيار
البغداديين كافة والشيعة بأجمعهم وأبي عبد الله البصري.
وتوقف الجبائيان وقاضي القضاة، قال أبو علي الجبائي: إن صح خبر
الطائر فعلي أفضل.
ونحن نقول: إن الفضائل إما نفسانية أو بدنية، وعلي عليه السلام كان أكمل
وأفضل من باقي الصحابة فيهما، والدليل على ذلك وجوه ذكرها المصنف رحمه
الله:
الأول: أن عليا عليه السلام كان أكثر جهادا وأعظم بلاء في غزوات النبي
صلى الله عليه وآله وسلم



(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: 1 / 7 - 10، وحديث الطائر المشوي، تذكرة الخواص
للخوارزمي: 44 ط بيروت، فرائد السمطين: 1 / 209 برقم 165 و 166 و 167.
214
بأجمعها ولم يبلغ أحد درجته في ذلك:
منها: في غزاة بدر، وهي أول حرب امتحن بها المؤمنون لقلتهم وكثرة
المشركين، فقتل علي عليه السلام الوليد بن عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ثم
العاص بن سعيد بن العاص، ثم حنظلة بن أبي سفيان، ثم طعيمة بن عدي، ثم
نوفل بن خويلد وكان شجاعا وسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكفيه
أمره فقتله علي عليه السلام، ولم يزل يقاتل حتى قتل نصف المشركين
المقتولين، والباقي من المسلمين وثلاثة آلاف من الملائكة مسومين قتلوا
النصف الآخر ومع ذلك كانت الراية في يد علي عليه السلام (1).
ومنها: في غزاة أحد، جمع له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين
اللواء والراية، وكانت راية المشركين مع طلحة بن أبي طلحة وكان يسمى كبش
الكتيبة فقتله علي عليه السلام، فأخذ الراية غيره فقتله عليه السلام، ولم يزل
يقتل واحدا بعد واحد حتى قتل تسعة نفر، فانهزم المشركون واشتغل المسلمون
بالغنائم فحمل خالد بن الوليد بأصحابه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فضربوه بالسيوف والرماح والحجر حتى غشي عليه، فانهزم الناس عنه سوى
علي عليه السلام، فنظر إليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد إفاقته وقال له:
" اكفني هؤلاء "، فهزمهم عنه وكان أكثر المقتولين منه عليه السلام (2).
ومنها: يوم الأحزاب، وقد بالغ في قتل المشركين، وقتل عمرو بن عبد ود
وكان بطل المشركين ودعا إلى البراز مرارا فامتنع عنه المسلمون وعلي عليه
السلام يروم مبارزته والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يمنعه من ذلك لينظر
صنع المسلمين فلما رأى امتناعهم أذن له وعممه بعمامته ودعا له.



(1) تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام علي عليه السلام: 1 / 145 برقم 206 - 208، المناقب
للخوارزمي: 167 تحقيق مالك المحمودي، المغازي للواقدي: 1 / 19 - 152.
(2) البحار: 20 / 137.
215
قال حذيفة: لما دعا عمرو إلى المبارزة أحجم المسلمون عنه كافة ما خلا
عليا عليه السلام فإنه برز إليه فقتله الله على يديه، والذي نفس حذيفة بيده
لعمله في ذلك اليوم أعظم أجرا من عمل أصحاب محمد صلى الله عليه وآله و
سلم إلى يوم القيامة وكان الفتح في ذلك اليوم على يدي علي عليه السلام (1).
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " لضربة علي خير من عبادة
الثقلين " (2).
ومنها: في غزاة خيبر، واشتهار جهاده فيها غير خفي، وفتح الله تعالى
على يديه، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حصر حصنهم بضعة عشر يوما،
وكانت الراية بيد علي عليه السلام فأصابه رمد، فسلم النبي صلى الله عليه وآله
وسلم الراية إلى أبي بكر مع جماعة فرجعوا منهزمين خائفين، فدفعها الغد إلى
عمر ففعل مثل ذلك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: " لأسلمن الراية غدا إلى
رجل يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله، كرار غير فرار لا يرجع حتى يفتح،
على يده "، فلما أصبح قال: " ايتوني بعلي "، فقيل: به رمد، فتفل في عينه ودفع
الراية إليه، فقتل مرحبا، فانهزم أصحابه وغلقوا الأبواب، ففتح علي عليه السلام
الباب واقتلعه وجعله جسرا على الخندق وعبروا وظفروا، فلما انصرفوا أخذه
بيمينه ودحاه أذرعا، وكان يغلقه عشرون وعجز المسلمون عن نقله حتى نقله
سبعون رجلا. وقال عليه السلام: " والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية ولكن
قلعته بقوة ربانية " (3).



(1) تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام علي عليه السلام: 1 / 150 - 155 برقم 216 و 217، المستدرك
للحاكم: 3 / 32، كنز العمال: 11 / 623 برقم 33035، شواهد التنزيل: 2 / 7 - 17 برقم 629 إلى
636، التفسير الكبير للفخر الرازي: 32 / 31.
(2) البحار: 39 / 2.
(3) تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام علي عليه السلام: 1 / 156 - 225، المناقب للخوارزمي: 166.
216
ومنها: في غزاة حنين، وقد سار النبي صلى الله عليه وآله وسلم في
عشرة آلاف فارس من المسلمين، فتعجب أبو بكر من كثرتهم وقال: لن نغلب
اليوم من قلة فانهزموا بأجمعهم، ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم
سوى تسعة نفر: علي عليه السلام والعباس وابنه الفضل وأبو سفيان بن الحارث
ونوفل بن الحارث، وربيعة بن الحارث وعبد الله بن الزبير وعتبة ومعتب ابنا أبي
لهب.
فخرج أبو جرول فقتله علي عليه السلام، فانهزم المشركون، وأقبل
المسلمون بعد نداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصافوا العدو فقتل علي
عليه السلام أربعين وانهزم الباقون وغنمهم المسلمون (1).
وغير ذلك من الوقائع المأثورة والغزوات المشهورة التي نقلها أرباب
السير.
وكانت الفضيلة في ذلك بأجمعه لعلي عليه السلام، وإذا كان أكثر جهادا
كان أفضل من غيره وأكثر ثوابا.
قال: ولأنه أعلم، لقوة حدسه، وشدة ملازمته للرسول صلى الله عليه وآله
وسلم، ورجعت الصحابة إليه في أكثر الوقائع بعد غلطهم، وقال النبي صلى الله
عليه وآله وسلم: " أقضاكم علي " (2)، واستند الفضلاء في جميع العلوم إليه،
وأخبر هو عليه السلام بذلك.
أقول: هذا هو الوجه الثاني في بيان أن عليا عليه السلام أفضل من غيره،
وهو



(1) السيرة الحلبية: 3 / 67.
(2) الشافي في الإمامة: 1 / 201 - 206، مستدرك الحاكم: 3 / 500، الرياض النضرة: 2 / 160 -
170، ومسند أحمد: 5 / 26.
217
أنه عليه السلام أعلم من غيره فيكون أفضل.
أما المقدمة الأولى فيدل عليها وجوه:
الأول: أنه عليه السلام كان شديد الذكاء في غاية قوة الحدس، ونشأ في
حجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ملازما له مستفيدا منه والرسول
صلى الله عليه وآله وسلم كان أكمل الناس وأفضلهم، ومع حصول القبول التام
والمؤثر الكامل يكون الفعل أقوى وأتم وبالخصوص وقد مارس المعارف
الإلهية من صغره، وقد قيل: إن العلم في الصغر كالنقش في الحجر، وهذا برهان
لمي.
الثاني: أن الصحابة كانت تشتبه الأحكام عليهم وربما أفتى بعضهم بالغلط،
وكانوا يراجعونه في ذلك، ولم ينقل أنه عليه السلام راجع أحدا منهم في شئ
البتة، وذلك يدل على أنه أفضل من الجماعة:
فإنه نقل عن أبي بكر أن بعض اليهود لقيه فقال له: أين الله تعالى؟ فقال:
على العرش، فقال اليهودي: خلت الأرض منه حيث اختص ببعض الأمكنة!
فانصرف اليهودي مستهزئا بالإسلام، فلقيه علي عليه السلام فقال له: " إن الله أين
الأين فلا أين له " إلى آخر الحديث، فأسلم على يده، وسئل عن الكلالة والأب
فلم يعرف ما يقول حتى أوضح علي عليه السلام الجواب.
وسئل عمر عن أحكام كثيرة فحكم فيها بضد الصواب، فراجعه فيها علي
عليه السلام فرجع إلى قوله، كما نقل عنه من إسقاط حد الشرب عن قدامة لما
تلي عليه قوله تعالى: * (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما
طعموا) * (1) فقال علي عليه السلام: " الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا
يستحلون محرما "، وأمره برده واستتابته فإن تاب فاجلده وإلا فاقتله، فتاب ولم
يدر عمر كم يحده، فأمره عليه السلام بحده ثمانين.



(1) المائدة: 93.
218
وأمر عمر برجم مجنونة زنت، فرده عليه السلام بقوله: " رفع القلم عن
المجنون حتى يفيق " فقال: لولا علي لهلك عمر (1).
وولدت امرأة لستة أشهر، فأمر عمر برجمها، فقال له عليه السلام: " إن أقل
الحمل ستة أشهر بقوله تعالى: * (وفصاله في عامين) * (2) وقوله: * (وحمله وفصاله
ثلاثون شهرا) * " (3). (4)
وأمر عمر برجم حامل، فقال له عليه السلام: " إن كان لك سبيل عليها
فليس لك على ما في بطنها سبيل " فامتنع، وغير ذلك من الوقائع الشهيرة (5).
الثالث: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حقه: " أقضاكم
علي "، والقضاء يستلزم العلم فيكون أفضل منهم.
الرابع: استناد العلماء بأسرهم إليه، فإن النحو مستند إليه، وكذا أصول
المعارف الإلهية وعلم الأصول، فإن أبا الحسن الأشعري تلميذ أبي علي الجبائي
من المعتزلة وكافة المعتزلة ينتسبون إليه ويدعون أخذ معارفهم منه، وأهل
التفسير رجعوا إلى ابن عباس فيه وهو تلميذ علي عليه السلام، والفقهاء ينتسبون
إليه والخوارج مع بعدهم عنه ينتسبون إلى أكابرهم وهم تلامذة علي عليه السلام
.
الخامس: إنه عليه السلام أخبر بذلك في عدة مواضع، كقوله: " سلوني عن
طرق السماء، فإني أعرف بها من طرق الأرض " (6).
وقال: " والله لو كسرت لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم



(1) الغدير: 6 / 101 برقم 7.
(2) لقمان: 14.
(3) الأحقاف: 15.
(4) الغدير: 6 / 93 - 95 برقم 4 و 3.
(5) الغدير: 6 / 110 برقم 16.
(6) البحار: 39 / 108، برقم 13، نقلا عن الفضائل، تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام علي عليه السلام:
3 / 23 - 25، الحديث 1043، 1047، وفرائد السمطين: 1 / 340 برقم 263، الغدير: 6 / 148.
219
وبين أهل الزبور بزبورهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الفرقان
بفرقانهم ".
وذلك يدل على كمال معرفته بجميع هذه الشرائع، وبالجملة فلم ينقل
عن أحد من الصحابة ولا عن غيرهم ما نقل عنه من أصول العلم.
قال: ولقوله تعالى: * (وأنفسنا) * (1).
أقول: هذا هو الوجه الثالث الدال على أنه عليه السلام أفضل من غيره،
وهو قوله تعالى: * (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا
وأنفسكم) * (2)، واتفق المفسرون كافة على أن الأبناء إشارة إلى الحسن
والحسين عليهما السلام، والنساء إشارة إلى فاطمة عليها السلام، والأنفس إشارة
إلى علي عليه السلام، ولا يمكن أن يقال إن نفسيهما واحدة، فلم يبق المراد من
ذلك إلا المساوي ولا شك في أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أفضل
الناس فمساويه كذلك أيضا.
قال: ولكثرة سخائه على غيره (3).
أقول: هذا وجه رابع يدل على أن عليا عليه السلام أفضل من غيره، وهو
أنه كان أسخى الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إنه جاد
بقوته وقوت عياله وبات



(1) فرائد السمطين: 1 / 377 - 378 الحديث 307، تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي:
2 / 479 طبعة دار الفكر، روح المعاني للعلامة الآلوسي البغدادي: 3 / 187 - 190، طبعة دار إحياء
التراث العربي، الغدير: 1 / 393 برقم 5.
(2) آل عمران: 61.
(3) الرياض النضرة لمحب الدين الطبري: 2 / 208، دار الكتب العلمية - بيروت، البحار: 41 / 144،
شرح النهج لابن أبي الحديد: 1 / 21، فضائل الخمسة من الصحاح الستة: 1 / 301 - 305، ذخائر
العقبى لمحب الدين الطبري: 102 طبعة مكتبة القدسي بالقاهرة.
220
طاويا هو وإياهم ثلاثة أيام حتى أنزل الله تعالى في حقهم: * (ويطعمون الطعام
على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) * (1)، وتصدق مرة أخرى بجميع ما يملكه، وقد
كان حينئذ يملك أربعة دراهم لا غير فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم
سرا وبدرهم علانية، فأنزل الله تعالى في حقه: * (الذين ينفقون أموالهم بالليل
والنهار سرا وعلانية) * (2)، وكان يعمل بالأجرة ويتصدق بها، ويشد على بطنه
الحجر من شدة الجوع، وشهد له بذلك أعداؤه فضلا عن أوليائه، قال معاوية: لو
ملك علي بيتا من تبر وبيتا من تبن لأنفد تبره قبل تبنه (3) ولم يخلف شيئا أصلا،
وقال: " يا بيضاء ويا صفراء غري غيري "، وكان يكنس بيوت الأموال ويصلي
فيها مع أن الدنيا كانت بيده (4).
قال: وكان أزهد الناس بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم (5).
أقول: هذا هو الوجه الخامس، وتقريره: أن عليا عليه السلام كان أزهد
الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيكون أفضل من غيره:
بيان المقدمة الأولى: ما نقل بالتواتر عنه أنه عليه السلام كان سيد الأبدال،
وإليه تشد الرحال في معرفة الزهد والتسليك فيه وترتيب أحوال الرياضات



(1) الإنسان: 8.
(2) البقرة: 274، راجع شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: 1 / 140 ط إيران، مجمع إحياء الثقافة
الإسلامية، البحار: 41 / 144، شرح النهج لابن أبي الحديد: 1 / 21 - 22، الرياض النضرة: 2 / 207.
(3) البحار: 41 / 144، شرح النهج لابن أبي الحديد: 1 / 22.
(4) الرياض النضرة لمحب الدين الطبري: 2 / 210 - 211، البحار: 41 / 144، وذخائر العقبى:
101.
(5) شرح النهج لابن أبي الحديد: 1 / 26، ذخائر العقبى للطبري: 100، الرياض النضرة: 2 / 210 -
217.
221
وذكر مقامات العارفين.
وكان أخشن الناس مأكلا وملبسا ولم يشبع من طعام قط، قال عبيد الله بن
أبي رافع: دخلت عليه يوما فقدم جرابا مختوما فوجدنا فيه خبز شعير يابسا
مرضوضا، فأكل منه، فقلت: يا أمير المؤمنين كيف تختمه؟ فقال: " خفت هذين
الولدين يلتانه بزيت أو سمن "، وهذا شئ اختص به علي عليه السلام لم
يشاركه فيه غيره ولم ينل أحد بعض درجته.
وكان نعلاه من ليف ويرقع قميصه بجلد تارة وبليف أخرى، وقل أن
يأتدم فإن فعل فبالملح أو بالخل فإن ترقى فبنبات الأرض فإن ترقى فبلبن،
وكان لا يأكل اللحم إلا قليلا ويقول: " لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان "، وطلق
الدنيا ثلاثا.
والمقدمة الثانية ظاهرة.
قال: وأعبدهم (1).
أقول: هذا وجه سادس، وتقريره: أن عليا عليه السلام كان أعبد الناس بعد
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومنه تعلم الناس صلاة الليل واستفادوا
منه ترتيب النوافل والدعوات، وكانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده، وكان
يحافظ على النافلة حتى إنه بسط له بين الصفين نطع ليلة الهرير فصلى عليه
السلام النافلة والسهام تقع بين يديه وإلى جوانبه، وكانوا يستخرجون النصول
من جسده وقت الصلاة لالتفاته بالكلية إلى الله تعالى حتى لا يبقى له التفات إلى
غيره.



(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: 1 / 27، حلية الأبرار للسيد البحراني: 2 / 179 برقم 17، إرشاد
القلوب للديلمي: 2 / 11 طبعة بيروت وفي طبعة قم ص 217.
222
قال: وأحلمهم.
أقول: هذا وجه سابع، وهو أن عليا عليه السلام كان أحلم الناس بعد
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقابل أحدا بإساءته.
فعفا عن مروان بن الحكم يوم الجمل وكان شديد العداوة له عليه السلام
(1).
وعفا عن عبد الله بن الزبير لما استأسره يوم الجمل وكان يشتمه عليه
السلام ظاهرا (2) وقال عليه السلام: " لم يزل الزبير رجلا منا أهل البيت حتى
شبه عبد الله ".
وعفا عن سعيد بن العاص وكان عدوا له عليه السلام (3).
وأكرم عائشة وبعثها إلى المدينة مع عشرين امرأة عقيب حربها له (4).
وصفح عن أهل البصرة مع محاربتهم له، ولما حارب معاوية سبق
أصحاب معاوية إلى الشريعة فمنعوه من الماء، فلما اشتد العطش بأصحابه حمل
عليهم وفرقهم وملك الشريعة، فأراد أصحابه أن يفعلوا بهم كذلك فنهاهم عن
ذلك وقال: " افسحوا بعض الشريعة ففي حد السيف ما يغني عن ذلك " (5).
قال: وأشرفهم خلقا (6).
أقول: هذا وجه ثامن، وتقريره: أن عليا عليه السلام كان أشرف الناس
خلقا وأطلقهم وجها حتى نسبه عمر إلى الدعابة مع شدة بأسه وهيبته.



(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: 1 / 22.
(2) شرح النهج: 1 / 22 - 3 2.
(3) شرح النهج: 1 / 23.
(4) شرح النهج: 1 / 23.
(5) شرح النهج: 1 / 23 - 24. بحار الأنوار: 41 / 146.
(6) شرح النهج: 1 / 25.
223
قال صعصعة بن صوحان: كان فينا كأحدنا لين جانب وشدة تواضع
وسهولة قياد، وكنا نهابه مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف على رأسه.
وقال معاوية لقيس بن سعد: رحم الله أبا حسن فلقد كان هشا بشا
ذا فكاهة، فقال قيس: أم والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي
لبدتين قد مسه الطوى، تلك هيبة التقوى ليس كما يهابك طغام الشام.
فيكون أفضل من غيره حيث جمع بين المتضادات من حسن الخلق
وطلاقة الوجه وعظم شجاعته وشدة بأسه وكثرة حروبه.
قال: وأقدمهم إيمانا (1).
أقول: هذا وجه تاسع، وتقريره: أن عليا عليه السلام كان أقدم الناس إيمانا:
روى سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه
قال: " أولكم ورودا على الحوض أولكم إسلاما علي بن أبي طالب عليه السلام ".
وقال أنس: بعث النبي يوم الاثنين وأسلم علي يوم الثلاثاء.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة عليها السلام:
" زوجتك أقدمهم سلما وأكثرهم علما ".
وقال عليه السلام يوما على المنبر: " أنا الصديق الأكبر وأنا الفاروق
الأعظم، آمنت قبل أن آمن أبو بكر وأسلمت قبل أن أسلم "، وكان ذلك بمحضر
من الصحابة ولم ينكر عليه أحد.
وروى عبد الله بن الحسن قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: " أنا
أول من صلى وأول من آمن بالله ورسوله، ولم يسبقني بالصلاة إلا نبي الله ".



(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: 13 / 227 - 229 - 251، المستدرك للحاكم: 3 / 136، شرح
النهج لابن أبي الحديد: 1 / 30، وتفصيل ذلك في الغدير: 3 / 220.
224
ولأنه عليه السلام كان في منزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
شديد الاختصاص به عظيم الامتثال لأوامره لم يخالفه قط، وأبو بكر كان بعيدا
عنه مجانبا له، فيبعد عرض الإسلام عليه قبل عرضه على علي عليه السلام
وبالخصوص وقد نزل قوله تعالى: * (وأنذر عشيرتك الأقربين) * (1).
لا يقال: إن إسلامه عليه السلام كان قبل البلوغ فلا اعتبار به.
لأنا نقول: المقدمتان ممنوعتان:
أما الأولى: فلأن سن علي عليه السلام كان ستا وستين سنة أو خمسا
وستين، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بقي بعد الوحي ثلاثا وعشرين سنة،
وعلي عليه السلام بقي بعد النبي نحوا من ثلاثين سنة، فيكون سن علي عليه
السلام وقت نزول الوحي فيما بين اثنتي عشرة سنة وبين ثلاث عشرة سنة،
والبلوغ في هذا الوقت ممكن، فيكون واقعا لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
" زوجتك أقدمهم سلما وأكثرهم علما ".
وأما الثانية: فلأن الصبي قد يكون رشيدا كامل العقل قبل سن البلوغ
فيكون مكلفا، ولهذا حكم أبو حنيفة بصحة إسلام الصبي، وإذا كان كذلك دل
على كمال الصبي.
أما أولا: فلأن الطباع في الصبيان مجبولة على حب الأبوين والميل إليهما،
فإعراض الصبي عنهما والتوجه إلى الله تعالى يدل على قوة كماله.
وأما ثانيا: فلأن طبائع الصبيان منافية للنظر في الأمور العقلية والتكاليف
الإلهية، وملائمة للعب واللهو، فإعراض الصبي عما يلائم طباعه إلى ما ينافره
يدل على عظم منزلته في الكمال، فثبت بذلك أن عليا عليه السلام كان أقدمهم
إيمانا فيكون أفضل لقوله تعالى: * (والسابقون السابقون * أولئك المقربون) * (2).



(1) الشعراء: 214.
(2) الواقعة: 10 - 11.
225
قال: وأفصحهم (1).
أقول: هذا دليل عاشر، وتقريره أن عليا عليه السلام كان أبلغ الناس في
الفصاحة وأعظمهم منزلة فيها بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى
قال البلغاء كافة: إن كلامه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق، ومنه تعلم
الناس أصناف البلاغة حتى قال معاوية: ما سن الفصاحة لقريش غيره.
وقال ابن نباتة: حفظت من خطبه مائة خطبة.
وقال عبد الحميد بن يحيى: حفظت سبعين خطبة من خطبه.
قال: وأسدهم رأيا (2).
أقول: هذا دليل حادي عشر، وتقريره: أن عليا عليه السلام كان أسد الناس
رأيا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأجودهم تدبيرا وأعرفهم بمزايا
الأمور ومواقعها، وهو الذي أشار على عمر بالتخلف عن حرب الروم والفرس
وبعث نوابه، وأشار على عثمان بما فيه صلاحه وصلاح المسلمين فخالفه حتى
قتل، فيكون أفضل من غيره.
قال: وأكثرهم حرصا على إقامة حدود الله تعالى (3).
أقول: هذا وجه ثاني عشر، وتقريره: أن عليا عليه السلام كان أكثر الناس
حرصا على إقامة حدود الله تعالى، لم يراقب في ذلك أحدا ولم يلتفت إلى
قرابة، بل كان شديد السياسة خشنا في ذات الله تعالى، لم يراقب ابن عمه ولا
أخاه



(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: 1 / 24 - 25.
(2) شرح النهج: 1 / 28.
(3) شرح النهج: 1 / 28.
226
ونقض دار مصقلة بن هبيرة ودار جرير بن عبد الله البجلي وصلب جماعة
وقطع آخرين، ولم يساوه في ذلك أحد من الصحابة فيكون أفضل من غيره.
قال: وأحفظهم للكتاب العزيز (1).
أقول: هذا وجه ثالث عشر، وهو أن عليا عليه السلام كان يحفظ كتاب الله
تعالى على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن أحد يحفظه،
وهو أول من جمعه.
ونقل الجمهور أنه تأخر عن البيعة بسبب اشتغاله بجمع القرآن العظيم،
وأئمة القراء يسندون قراءاتهم إليه كأبي عمرو بن أبي العلاء وعاصم وغيرهما،
لأنهم يرجعون إلى أبي عبد الرحمن السلمي وهو تلميذه عليه السلام، فيكون
أفضل من غيره.
قال: ولإخباره بالغيب (2).
أقول: هذا وجه رابع عشر، وتقريره: أن عليا عليه السلام أخبر بالغيب في
مواضع كثيرة ولم تحصل هذه المرتبة لأحد من الصحابة فيكون أفضل منهم
قطعا، وذلك كإخباره بقتل ذي الثدية، ولما لم يجده أصحابه بين القتلى قال:
" والله ما كذبت ولا كذبت "، فاعتبرهم عليه السلام حتى وجده وشق قميصه
ووجد على كتفه سلعة كثدي المرأة عليها شعرات تنحدر كتفه مع جذبها وترجع
مع تركها.
وقال له أصحابه: إن أهل النهروان قد عبروا، فقال عليه السلام: " لم
يعبروا "، فأخبروه مرة ثانية فقال: " لم يعبروا " فقال جندب بن عبد الله الأزدي في
نفسه:



(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: 1 / 27.
(2) تاريخ بغداد: 1 / 159 و 7 / 236 و 237، والإرشاد للشيخ المفيد: 167، طبعة منشورات
بصيرتي قم، فضائل الخمسة من الصحاح الستة: 2 / 444 - 453.
227
إن وجدت القوم قد عبروا كنت أول من يقاتله، فلما وصلنا النهر لم نجدهم
عبروا، فقال عليه السلام: " يا أخا الأزد، أتبين لك الأمر؟ "، وذلك يدل على
اطلاعه على ما في ضميره (1).
وأخبر عليه السلام بقتل نفسه في شهر رمضان (2)، وبولاية الحجاج
وانتقامه (3)، وبقطع يد جويرية بن مسهر ورجله وصلبه على جذع ففعل به ذلك
في أيام معاوية (4)، وبصلب ميثم التمار على باب عمرو بن حريث عاشر عشرة
وأراه النخلة التي يصلب على جذعها فكان كما قال (5)، وبذبح قنبر فذبحه
الحجاج (6).
وقيل له: قد مات خالد بن عرفطة بوادي القرى، فقال: " لم يمت ولا
يموت حتى يقود جيش ضلالة صاحب رايته حبيب بن جماز "، فقام رجل من
تحت المنبر فقال: والله إني لك لمحب وأنا " حبيب " قال: " إياك أن تحملها
ولتحملنها فتدخل بها من هذا الباب "، وأومأ إلى باب الفيل، فلما بعث ابن زياد
عمر بن سعد إلى قتال الحسين عليه السلام جعل على مقدمته خالدا وحبيب
صاحب رايته، فسار بها حتى دخل المسجد من باب الفيل (7).
وقال عليه السلام يوما على المنبر: " سلوني قبل أن تفقدوني فوالله لا
تسألوني



(1) الإرشاد للمفيد: 167 - 168، تاريخ بغداد: 7 / 249، مجمع الزوائد للهيثمي: 6 / 241، البحار:
41 / 284 الحديث 3.
(2) الصواعق المحرقة لابن حجر: 134 - 135، طبعة مكتبة القاهرة بمصر، البحار: 41 / 300
الحديث 31، الرياض النضرة لمحب الدين الطبري 2 / 234 والإرشاد: 168.
(3) شرح النهج لابن أبي الحديد: 2 / 289، مدينة المعاجز: 2 / 216 - 217.
(4) الإرشاد: ص 170، البحار: 41 / 301، شرح النهج: 2 / 290 - 291.
(5) الإرشاد: 170 - 171، شرح النهج: 2 / 291.
(6) الإرشاد: 173، كشف الغمة في معرفة الأئمة: 1 / 383.
(7) الإرشاد: 173 - 174، شرح النهج: 2 / 286 و 287، البحار: 41 / 288 - 289.
228
عن فئة تضل مائة وتهدي مائة إلا نبأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة ".
فقام إليه رجل فقال: أخبرني كم في رأسي ولحيتي من طاقة شعر؟
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: " لقد حدثني خليلي بما سألت عنه وأن
على كل طاقة شعر في رأسك ملكا يلعنك وعلى كل طاقة شعر في لحيتك
شيطانا يستفزك وأن في بيتك لسخلا يقتل ابن بنت رسول الله صلى الله عليه و
آله وسلم "، فلما كان من أمر الحسين عليه السلام ما كان تولى قتله (1).
والأحاديث في ذلك أكثر من أن تحصى نقلها المخالف والمؤالف.
قال: واستجابة دعائه.
أقول: هذا وجه خامس عشر، وتقريره: أن عليا عليه السلام كان مستجاب
الدعوة سريعا دون غيره من الصحابة فيكون أفضل منهم:
وتقرير المقدمة الأولى: ما نقل بالتواتر عنه عليه السلام في ذلك، كما دعا
على بسر بن أرطاة فقال: " اللهم إن بسرا باع دينه بالدنيا فاسلبه عقله ولا تبق له
من دينه ما يستوجب به عليك رحمتك "، فاختلط عقله (2).
واتهم العيزار برفع أخباره إلى معاوية فأنكر، فقال له عليه السلام: " إن
كنت كاذبا فأعمى الله بصرك "، فعمي قبل أسبوع (3).
واستشهد جماعة من الصحابة عن حديث الغدير، فشهد له اثنا عشر
رجلا من الأنصار، وسكت أنس بن مالك، فقال له: " يا أنس، ما يمنعك أن تشهد
وقد سمعت ما سمعوا؟ " فقال: يا أمير المؤمنين، كبرت ونسيت،



(1) الإرشاد للشيخ المفيد: 174، شرح النهج لابن أبي الحديد: 2 / 286.
(2) شرح النهج: 2 / 18، الإرشاد للشيخ المفيد: 169.
(3) الإرشاد: 184 - 185، كشف الغمة: 1 / 390.
229
فقال: " اللهم إن كان كاذبا فاضربه ببياض الوضح لا تواريه العمامة "، فصار
أبرص (1).
وكتم زيد بن أرقم فذهب بصره (2)، وغير ذلك من الوقائع المشهورة.
قال: وظهور المعجزات عنه.
أقول: هذا وجه سادس عشر، وتقريره: أنه عليه السلام ظهرت عنه
معجزات كثيرة، وقد تقدم ذكر بعضها، ولم يحصل لغيره من الصحابة ذلك
فيكون أفضل منهم.
قال: واختصاصه بالقرابة.
أقول: هذا وجه سابع عشر، وتقريره: أن عليا عليه السلام كان أقرب الناس
نسبا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيكون أفضل من غيره ولأنه كان
هاشميا فيكون أفضل لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله اصطفى من
ولد إسماعيل قريشا ومن قريش هاشما " (3).
قال: والأخوة (4).
أقول: هذا وجه ثامن عشر، وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما
واخى بين الصحابة



(1) تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام علي بن أبي طالب: 2 / 12 - 13 برقم 508، شرح النهج لابن
أبي الحديد: 4 / 74. إحقاق الحق: 6 / 333 - 340.
(2) تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام علي: 2 / 5 برقم 501 و 35 برقم 533 - 544، شرح النهج:
4 / 74، إحقاق الحق: 6 / 315 - 320.
(3) ذخائر العقبى لمحب الدين الطبري: 10، المستدرك على الصحيحين: 4 / 73، شرح النهج
لابن أبي الحديد: 1 / 30، فضائل الخمسة من الصحاح الستة: 1 / 11 - 13، الرياض النضرة لمحب
الدين الطبري: 2 / 119.
(4) المستدرك على الصحيحين: 3 / 14، الرياض النضرة: 2 / 124 - 138، شرح النهج: 4 / 96،
الغدير: 3 / 111 - 125.
230
وقرن كل شخص إلى مماثله في الشرف والفضيلة رأى عليا عليه السلام متكدرا
فسأله عن سبب ذلك فقال: " إنك آخيت بين الصحابة وجعلتني منفردا ".
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " ما أخرتك إلا لنفسي، ألا
ترضى أن تكون أخي ووصيي وخليفتي من بعدي؟ " فقال: " بلى يا رسول الله "،
فواخاه من دون الصحابة فيكون أفضل منهم.
قال: ووجوب المحبة (1).
أقول: هذا وجه تاسع عشر، وتقريره: أن عليا عليه السلام كان محبته
ومودته واجبة دون غيره من الصحابة فيكون أفضل منهم قطعا:
وبيان المقدمة الأولى: أنه كان من أولي القربى فتكون مودته واجبة لقوله
تعالى: * (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) * (2).
قال: والنصرة (3).
أقول: هذا وجه عشرون، وتقريره: أن عليا عليه السلام اختص بفضيلة
النصرة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون غيره من الصحابة فيكون
أفضل منهم:
بيان المقدمة الأولى: قوله تعالى: * (فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح
المؤمنين) * (4) وقد اتفق المفسرون على أن المراد بصالح المؤمنين هو علي
عليه السلام،



(1) ذخائر العقبى لمحب الدين الطبري: 25، شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: 2 / 189 - 211
برقم 822 - 844، الغدير: 2 / 306 - 311.
(2) الشورى: 23.
(3) شواهد التنزيل: 2 / 341 - 352، الدر المنثور: 8 / 224 من طبعة دار الفكر - بيروت - تاريخ ابن
عساكر، ترجمة الإمام علي: 2 / 425.
(4) التحريم: 4.
231
والمولى هنا هو الناصر لأنه القدر المشترك بين الله تعالى وجبرئيل، وجعله
ثالثهم وحصر المولى في الثلاثة بلفظة هو في قوله تعالى: * (فإن الله هو مولاه) *.
قال: ومساواة الأنبياء.
أقول: وهذا وجه حادي وعشرون، وتقريره: أن عليا عليه السلام كان
مساويا للأنبياء المتقدمين فيكون أفضل من غيره من الصحابة بالضرورة لأن
المساوي للأفضل أفضل:
بيان المقدمة الأولى: ما رواه البيهقي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم
أنه قال: " من أحب أن ينظر إلى آدم في علمه وإلى نوح في تقواه وإلى إبراهيم في
حلمه وإلى موسى في هيبته وإلى عيسى في عبادته فلينظر إلى علي بن أبي
طالب " (1).
قال: وخبر الطائر، والمنزلة، والغدير وغيرها.
أقول: هذا وجه ثاني وعشرون، وتقريره: أن النبي صلى الله عليه وآله و
سلم أخبر في مواضع كثيرة ببيان فضله وزيادة كماله على غيره ونص على
إمامته:
منها: ما ورد في خبر الطائر، وهو أنه قال: " اللهم ائتني بأحب خلقك إليك
يأكل معي من هذا الطائر "، فجاء علي بن أبي طالب عليه السلام فأكل معه (2).



(1) تاريخ ابن عساكر: 2 / 280 برقم 804، في الهامش ينقل عن البيهقي، والغدير: 3 / 355 عن
البيهقي في فضائل الصحابة، فرائد السمطين للجويني: 1 / 170، برقم 131، شواهد التنزيل
للحاكم الحسكاني: 1 / 100 برقم 116.
(2) تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام: 2 / 110 - 158، من رقم 613 - 642، فرائد السمطين: 1 / 209 -
215 برقم 165 و 166 و 167.
232
وفي رواية: اللهم أدخل إلي أحب أهل الأرض إليك "، رواه أنس وسعد بن
أبي وقاص وأبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن عباس،
وعول أبو جعفر الإسكافي وأبو عبد الله البصري على هذا الحديث في أنه عليه
السلام أفضل من غيره وادعى أبو عبد الله شهرة هذا الحديث وظهوره بين
الصحابة ولم ينكره أحد منهم فيكون متواترا.
ومنها: خبر المنزلة، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " أنت مني
بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " (1)، وقد كان هارون أفضل أهل
زمانه عند أخيه فكذا علي عليه السلام عند محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
ومنها: خبر الغدير، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم لما خطب الناس
بغدير خم في عوده من حجة الوداع: " معاشر المسلمين، ألست أولى منكم
بأنفسكم؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، فأخذ بيد علي عليه السلام وقال: " من كنت
مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره
وأخذل من خذله وأدر الحق مع علي كيفما دار " (2).
وقد بينا أن المراد بالمولى هاهنا الأولى بالتصرف، وإذا كان علي عليه
السلام أولى من كل أحد بالتصرف في نفسه كان أفضل منهم قطعا.
اعترض بعضهم على هذا بجواز أن يكون المراد به الولاء، لأنه وقع
مشاجرة بين أمير المؤمنين عليه السلام وبين زيد بن حارثة فقال له علي عليه
السلام: " أنت



(1) فرائد السمطين: 1 / 122 - 127 برقم 85 - 89، تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام: 1 / 281 - 364
من رقم 336 - 456.
(2) لا أظن أن أحدا ينكر حديث الغدير وتواتره فقد رواه من أعلام الصحابة 110 صحابيا ومن
التابعين 84 شخصا وتواصلت حلقات النقل إلى يومنا، لاحظ الغدير: تمام الجزء 1.
233
مولاي "، فقال زيد: أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولست
بمولاك، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: " من كنت مولاه
فعلي مولاه ".
والجواب من وجوه:
الأول: ما ذكره أبو عبد الله البصري، وهو أنه لا اختصاص لعلي عليه
السلام بالولاء دون غيره من أقارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يجوز
حمله على هذا المعنى.
الثاني: ما ذكره أبو عبد الله أيضا، وهو أن عمر قال له بعد هذا الحديث:
هنيئا لك، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، وقالت عائشة والأنصار
بعد ذلك: يا مولانا، فلا يجوز حمله على الولاء.
الثالث: أن مقدمة الحديث تنفي هذا المعنى، وهو قوله عليه السلام:
" ألست أولى منكم بأنفسكم ".
ومنها: قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذي الثدية: " يقتله
خير الخلق والخليفة "، وفي رواية أخرى: " يقتله خير هذه الأمة " (1).
وقال لفاطمة عليها السلام: " إن الله اطلع على أهل الأرض فاختار منهم
أباك فاتخذه نبيا، ثم اطلع ثانية فاختار منهم بعلك فأمرني أن أنكحك إياه وأن
أتخذه وصيا " (2)، وقالت عائشة: كنت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم
فأقبل علي عليه السلام فقال: " هذا سيد العرب " قالت: قلت: بأبي أنت وأمي
ألست أنت سيد العرب؟ فقال: " أنا سيد العالمين وهذا سيد العرب " (3).



(1) المناقب لابن المغازلي: 56 برقم 79، التفضيل للكراجكي: 20، ط طهران مؤسسة بعثت
1403، مجمع الزوائد: 6 / 239.
(2) المناقب للخوارزمي: 346 برقم 364، مجمع الزوائد: 9 / 165 و 8 / 253، كنز العمال: 11 / 604
برقم 32923.
(3) تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام: 2 / 261 - 265 برقم 780 - 785.
234
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لعلي عليه السلام:
" أنت أخي ووزيري وخير من أتركه بعدي تقضي ديني وتنجز موعدي " (1).
وسأل رجل عائشة عن مسيرها، فقالت: كان قدرا من الله (2)، فسألها عن
علي عليه السلام فقالت: لقد سألتني عن أحب الناس إلى رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم وزوج أحب الناس إليه (3)، وقال لفاطمة عليه السلام: " أما
ترضين أني زوجتك خير أمتي " (4).
وعن سلمان أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " خير
من أترك بعدي علي بن أبي طالب " (5).
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
" علي خير البشر فمن أبى فقد كفر " (6).
وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
أفضل أمتي علي بن أبي طالب " (7).
قال: ولانتفاء سبق كفره (8).
أقول: هذا وجه ثالث وعشرون، وتقريره: أن عليا عليه السلام لم يكفر
بالله تعالى



(1) الإصابة: 1 / 208 برقم 992 (ثابت بن معاذ)، كنز العمال: 11 / 610 برقم 32952، فضائل
الخمسة: 1 / 382.
(2) تاريخ بغداد: 1 / 159 - 160، برقم 10 (أبو قتادة الأنصاري)، تذكرة الخواص: 100.
(3) تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام: 2 / 162 - 170 من رقم 641 - 653.
(4) خصائص النسائي: 228 - 260 من رقم 123 - 145، تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام: 1 / 226 -
250 برقم 291 - 319.
(5) تاريخ ابن عساكر: 3 / 5 - 9، برقم 1021 و 1022.
(6) تاريخ ابن عساكر: 2 / 444 - 448 من رقم 954 - 965.
(7) فتح الباري: 8 / 136 باختلاف يسير.
(8) العمدة لابن البطريق: 222 برقم 284، الشافي في الإمامة: 3 / 137 - 144، و 3 / 220 - 242،
صحيح البخاري: 6 / 143 - 144 و 9 / 17 - 18، الغدير: 7 / 91 - 92.
235
أصلا، بل من حين بلوغه كان مؤمنا موحدا، بخلاف باقي الصحابة فإنهم كانوا
في زمن الجاهلية كفرة، ولا ريب في فضل من لم يزل موحدا على من سبق
كفره على إيمانه.
قال: ولكثرة الانتفاع به.
أقول: هذا وجه رابع وعشرون، وتقريره: أن عليا عليه السلام انتفع به
المسلمون أكثر من نفعهم بغيره فيكون ثوابه أكثر وفضله أعظم:
بيان المقدمة الأولى: ما تقدم من كثرة حروبه وشدة بلائه في الإسلام
وفتح الله البلاد على يديه وقوة شوكة الإسلام به حتى قال رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم يوم الأحزاب: " لضربة علي خير من عبادة الثقلين " (1).
وبلغ في الزهد مرتبة لم يلحقها أحد بعده، واستفاد الناس منه طرائق
الرياضة والترك للدنيا والانقطاع إلى الله تعالى.
وكذا في السخاوة وحسن الخلق والعبادة والتهجد.
وأما العلم فظاهر استناد كافة العلماء إليه واستفادتهم منه، وعاش بعد أبي
بكر زمانا طويلا يفيد الناس الكمالات النفسانية والبدنية وابتلي بما لم يحصل
لغيره من المشاق.



(1) المستدرك للحاكم: 3 / 32، فرائد السمطين: 1 / 255 - 256 برقم 197، تاريخ ابن عساكر:
1 / 150 - 155، برقم 216 و 217، البحار: 39 / 1 - 19، شرح التجريد للقوشجي: 486 طق، كنز
العمال: 11 / 623 برقم 33035، التفسير الكبير للفخر الرازي: 32 / 31 في تفسير ليلة القدر،
شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: 2 / 7 - 17 برقم 629 - 636.
236
قال: وتميزه بالكمالات النفسانية والبدنية والخارجية (1).



(1) شرح النهج لابن أبي الحديد: 1 / 11 - 30.
237
أقول: هذا وجه خامس وعشرون، وتقريره: أن الكمالات إما نفسانية وإما
بدنية وإما خارجية:
أما الكمالات النفسانية والبدنية فقد بينا بلوغه فيها إلى الغاية، إذ كان العلم
والزهد والشجاعة والسخاء وحسن الخلق والعفة فيه أبلغ من غيره بل لا يجاريه
في واحد منها أحد.
وبلغ في القوة البدنية والشدة مبلغا لا يساويه أحد حتى قيل إنه عليه
السلام كان يقط الهام قط الأقلام، لم يخط في ضربه قط ولم يحتج إلى المعاودة،
وقلع باب خيبر وقد عجز عن نقلها سبعون رجلا من أشد الناس قوة، مع أنه
عليه السلام كان قليل الغذاء جدا بأخشن مأكل وملبس، كثير الصوم، مداوم
العبادة.
وأما الخارجية فمنها النسب الشريف الذي لا يساويه أحد في القرب من
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه كان أقرب الناس إليه فإن العباس كان
عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الأب خاصة وعلي عليه السلام
كان ابن عمه من الأب والأم، ومع ذلك فإنه كان هاشميا من الأب والأم لأنه علي
بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم.
ومنها: المصاهرة (1)، ولم يحصل لأحد ما حصل له منها، فإنه زوج سيدة
نساء العالمين، وعثمان وإن شاركه في كونه ختنا لرسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم إلا أن فاطمة عليها السلام أشرف بناته، وكان لها من المنزلة والقرب من
قلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مبلغ عظيم وكان يعظمها حتى إنه كان
إذا جاءت إليه نهض لها قائما ولم



(1) الخصائص للنسائي: 228 - 261 من رقم 123 - 145، تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام: 1 / 226
- 250 من رقم 291 - 319.
238
يفعل ذلك بأحد من النساء، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " سيدة
نساء العالمين في الجنة أربع "، وعد منهن فاطمة عليها السلام.
ومنها: الأولاد (1)، ولم يحصل لأحد من المسلمين مثل أولاده في الشرف
والكمال، فإن الحسن والحسين عليهما السلام إمامان سيدا شباب أهل الجنة،
وكان حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهما في (2) الغاية حتى إنه
صلى الله عليه وآله وسلم كان يتطأطأ لهما ليركباه ويبعبع لهما (3)، ثم أولد كل
واحد منهما عليهما السلام أولادا بلغوا في الشرف إلى الغاية: فالحسن عليه
السلام أولد مثل الحسن المثنى والمثلث وعبد الله بن الحسن المثنى والنفس
الزكية (4) وغيرهم.



(1) قال الرازي في تفسير سورة الكوثر: إنه يعطيه نسلا يبقون على مر الزمان، فانظر كم قتل من أهل
البيت!!، ثم العالم ممتلئ منهم، ولم يبق من بني أمية في الدنيا أحدا يعبأ به، ثم انظر كم كان فيهم
من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا عليهم السلام والنفس الزكية وأمثالهم -
التفسير الكبير: 32 / 124.
(2) تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسن عليه السلام: 34 - 61 من رقم 71 - 112، المناقب لابن
شهرآشوب: 4 / 26 - 27، تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام الحسين عليه السلام.
(3) تارخ ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسن عليه السلام 91 - 96، 154 - 160، ذخائر العقبى لمحب
الدين الطبري: 130 - 132، المناقب لابن شهرآشوب: 4 / 26 - 27، بحار الأنوار: 43 / 261 -
317، تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام الحسين عليه السلام.
(4) سير أعلام النبلاء: 4 / 483 برقم 185 - مات 99 -، مختصر تاريخ ابن عساكر لابن منظور:
6 / 329 برقم 207، تاريخ الإسلام للذهبي في الحسن المثنى: 328 برقم 236 (حوادث 81 -
100)، مقاتل الطالبيين: 185، مات 145، تاريخ الإسلام للذهبي: 107 (حوادث 141 - 160)،
في الحسن المثلث وفي عبد الله بن الحسن المثنى راجع: مقاتل الطالبيين: 179، قتل 145،
تاريخ الإسلام للذهبي: 191 (حوادث 141 - 160)، العبر: 1 / 151، وفي النفس الزكية وهو
محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن عليهم السلام راجع: العبر: 1 / 152، تاريخ الإسلام
للذهبي: 271 (حوادث 141 - 160) مقاتل الطالبيين: 232.
239
وأولد الحسين عليه السلام مثل زين العابدين (1) والباقر (2) والصادق (3)
والكاظم (4) والرضا (5) والجواد (6) والهادي (7) والعسكري (8) والحجة (9)،
وقد نشروا من العلم والفضل والزهد والانقطاع والترك شيئا عظيما، حتى إن
الفضلاء من المشايخ كانوا يفتخرون بخدمتهم عليهم السلام، فأبو يزيد
البسطامي كان يفتخر بأنه يسقي الماء لدار جعفر الصادق عليه السلام (10)،
ومعروف الكرخي أسلم على يدي الرضا عليه السلام وكان بواب داره إلى أن
مات (11)، وكان أكثر الفضلاء يفتخرون بالانتساب إليهم في العلم فإن مالكا كان
إذا سئل في الدرب عن مسألة لم يجب السائل، فقيل له في ذلك، فقال: إني
أخذت العلم من جعفر بن محمد



(1) تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام زين العابدين: 1 / 120، تاريخ الإسلام للذهبي: 431 برقم 352
(حوادث 81 - 100)، العبر: 1 / 82.
(2) تاريخ ابن عساكر، ترجمة الإمام زين العابدين والإمام محمد بن علي الباقر: 121 - 173، سير
أعلام النبلاء للذهبي: 4 / 401 برقم 158.
(3) تاريخ الإسلام للذهبي: 88 (حوادث 141 - 160)، سير أعلام النبلاء للذهبي: 6 / 255 برقم
117.
(4) سير أعلام النبلاء: 6 / 270 برقم 118.
(5) سير أعلام النبلاء: 9 / 387 برقم 125.
(6) سير أعلام النبلاء: 13 / 121.
(7) سير أعلام النبلاء: 12 / 248.
(8) سير أعلام النبلاء: 12 / 265.
(9) سير أعلام النبلاء: 13 / 119 برقم 60.
(10) روضات الجنات: 4 / 150 برقم 371، نقلا عن جامع الأنوار وأربعين فخر الدين الرازي.
(11) روضات الجنات: 8 / 123 برقم 717.
240
الصادق عليهما السلام وكنت إذا أتيت إليه لأستفيد منه نهض ولبس أفخر ثيابه
وتطيب وجلس في أعلى منزله وحمد الله تعالى وأفادني شيئا (1)، واستفادة أبي
حنيفة من الصادق عليه السلام ظاهرة غنية عن البرهان. (2)
وهذه الفضائل لم تحصل لأحد من الصحابة فيكون علي عليه السلام
أفضل منهم.
المسألة الثامنة: في إمامة باقي الأئمة الاثني عشر عليهم السلام
قال: والنقل المتواتر دل على الأحد عشر، ولوجوب العصمة
وانتفائها عن غيرهم ووجود الكمالات فيهم.
أقول: لما بين أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو
علي بن أبي طالب عليه السلام شرع في إمامة الأئمة الأحد عشر، وهم: الحسن
بن علي ثم أخوه الحسين ثم علي بن الحسين زين العابدين ثم محمد بن علي
الباقر ثم جعفر بن محمد الصادق ثم موسى بن جعفر الكاظم ثم ولده علي الرضا
ثم ولده محمد الجواد ثم ولده علي الهادي ثم ولده الحسن العسكري ثم الإمام
المنتظر.
واستدل على ذلك بوجوه ثلاثة:
الأول: النقل المتواتر من الشيعة خلفا عن سلف، فإنه يدل على إمامة كل
واحد من هؤلاء بالتنصيص (3)، وقد نقل المخالفون ذلك من طرق متعددة تارة
على الاجمال وأخرى على التفصيل، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه و
آله وسلم متواترا أنه



(1) روضات الحنات: 7 / 211 برقم 627.
(2) روضات الجنات: 8 / 153 برقم 731.
(3) الإرشاد للشيخ المفيد: 187 - 188، إثبات الهداة للشيخ الحر: 1 / 675.
241
قال للحسين عليه السلام: " هذا ابني إمام ابن إمام أخو إمام أبو أئمة تسعة تاسعهم
قائمهم "، وغير ذلك من الأخبار (1).
وروي عن مسروق وقال: بينا نحن عند عبد الله بن مسعود إذ قال له
شاب: هل عهد إليكم نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم كم يكون من بعده
خليفة؟ قال: إنك لحديث السن وإن هذا شئ ما سألني أحد عنه، نعم عهد إلينا
نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أن يكون بعده اثنا عشر خليفة عدد نقباء بني
إسرائيل (2).
الوجه الثاني: قد بينا أن الإمام يجب أن يكون معصوما وغير هؤلاء ليسوا
معصومين إجماعا فتعينت العصمة لهم وإلا لزم خلو الزمان عن المعصوم وقد
بينا استحالته (3).
الوجه الثالث: أن الكمالات النفسانية والبدنية بأجمعها موجودة في
كل واحد منهم، وكل واحد منهم كما هو كامل في نفسه كذا هو مكمل لغيره (4).
وذلك يدل على استحقاقه الرياسة العامة لأنه أفضل من كل أحد في زمانه
ويقبح عقلا تقديم المفضول على الفاضل فيجب أن يكون كل واحد منهم إماما
وهذا برهان لمي.



(1) فرائد السمطين: 2 / 132 برقم 430 و 431 وأيضا حديث اللوح برقم 432 - 435، وأيضا برقم
442 - 445 و 447، إثبات الهداة: 1 / 573 برقم 475 - 478.
(2) إثبات الهداة: 1 / 580 برقم 500 و 522 و 524.
(3) إثبات الهداة: 1 / 580 برقم 500، رسالة في الإمامة في آخر تلخيص المحصل: 428، فرائد
السمطين: 2 / 132 برقم 430، 431.
(4) الشافي: 2 / 41، رسالة في الإمامة: 428، إثبات الهداة: 1 - 3، كشف الغمة في معرفة الأئمة:
1 / 54 - 59.
242
المسألة التاسعة: في أحكام المخالفين
قال: ومحاربو علي عليه السلام كفرة ومخالفوه فسقة (1).
أقول: المحارب لعلي عليه السلام كافر، لقول النبي صلى الله عليه وآله و
سلم: " حربك يا علي حربي "، ولا شك في كفر من حارب النبي صلى الله عليه
وآله وسلم.
وأما مخالفوه في الإمامة فقد اختلف قول علمائنا فيهم، فمنهم من حكم
بكفرهم لأنهم دفعوا ما علم ثبوته من الدين ضرورة، وهو النص الجلي الدال
على إمامته مع تواتره، وذهب آخرون إلى أنهم فسقة، وهو الأقوى. ثم اختلف
هؤلاء على أقوال ثلاثة:
أحدها: أنهم مخلدون في النار لعدم استحقاقهم الجنة.
الثاني: قال بعضهم إنهم يخرجون من النار إلى الجنة.
الثالث: ما ارتضاه ابن نوبخت وجماعة من علمائنا أنهم يخرجون من النار
لعدم الكفر الموجب للخلود ولا يدخلون الجنة لعدم الإيمان المقتضي
لاستحقاق الثواب (2).
* * *



(1) شرح النهج لابن ميثم: 3 / 338، مناقب ابن المغازلي: 50 برقم 73، العمدة لابن البطريق: 382
ذيل الحديث 563 وأصل الحديث في ص 343 برقم 479.
(2) الذخيرة للسيد المرتضى: 495 - 502، تحقيق السيد أحمد الحسيني بذكر المصادر في
الهامش.
243
المقصد السادس في:
المعاد والوعد والوعيد
وما يتصل بذلك

244
قال:
حكم المثلين واحد والسمع دل على إمكان المماثل
أقول: في هذا المقصد مسائل:
المسألة الأولى: في إمكان خلق عالم آخر
واعلم أن إيجاب المعاد يتوقف على هذه المسألة (1) ولأجل ذلك
صدرها في أول المقصد، وقد اختلف الناس في ذلك، وأطبق المليون عليه،
وخالف فيه الأوائل واحتج المليون بالعقل والسمع:
أما العقل فنقول: العالم المماثل لهذا العالم ممكن الوجود لأن هذا العالم
ممكن الوجود وحكم المثلين واحد، فلما كان هذا العالم ممكنا وجب الحكم
على الآخر بالإمكان، وإلى هذا البرهان أشار بقوله حكم المثلين واحد.
وأما السمع فقوله تعالى: * (أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر



(1) إثبات المعاد لا يتوقف على مسألة إمكان عالم آخر، مثل هذا العالم بعينه من الأفلاك التسعة
والكرات الأربع، بل يتوقف على إثبات مكان للحشر والنشر، والجنة والنار، وظاهر الكتاب
الكريم أن العالم الثاني يتحقق بتدمير العالم الفعلي فيحدث عالم جديد. قال سبحانه: (يوم نطوي
السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين) (الأنبياء: 104)
إلى غير ذلك من الآيات الدالة على فناء الدنيا وحدوث عالم جديد، وعلى ذلك يسقط كثير من
الأدلة التي أقاموها على امتناع خلق عالم آخر، لأنها مبنية على حدوث عالم آخر في عرض هذا
العالم وتشابههما في عامة الخصوصيات، وأساس الوهم تصور امتناع الخرق والالتيام في
الأفلاك التسعة الذي بنوا عليه كثيرا من المسائل العقلية المخالفة للوحي.
246
على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم) * (1).
قال: والكرية ووجوب الخلاء واختلاف المتفقات ممنوعة (2).



(1) يس: 81، الاستدلال مبني على عود الضمير في مثلهم إلى السماوات والأرض لكنه يرجع إلى
المنكرين للمعاد لا إلى السماوات والأرض، فالآية من أدلة إمكان معاد الإنسان لا خلق عالم
جديد والأولى الاستدلال بما مر في سورة الأنبياء كما عرفت.
(2) استدل القائل على امتناع خلق عالم آخر لتنعم المطيعين وتعذيب المذنبين بأنه إما يكون في
عالم آخر جسماني خارج هذا العالم وإما في ثخن هذا العالم.
فعلى الأول يلزم محاذير ثلاثة:
1 - لزوم الخلاء. لأنه يكون العالم الثاني كرويا مثل هذا العالم، لأن الشكل الطبيعي للجسم هو الكرة
لولا القسر، فعندئذ يلزم الخلاء سواء تلاقت الكرتان في نقطة من هذا العالم أو تباينتا والخلاء
محال للبرهان المذكور في محله.
2 - لزوم اختلاف المتفقات. لو وجد عالم آخر فيه نار وأرض وغيرهما فإن طلبت أمكنة عناصر هذا
العالم لزم قسرها دائما - وعدم وصولها إلى أمكنتها الطبيعية أبدا لاستقرار عناصر كل عالم في
نفسه - وإن لم تطلب أمكنة عناصر هذا العالم ولم تقتضها بطباعها لزم أن يكون المتفقات في
الطباع مختلفة في الاقتضاء وهذا محال لأن حكم الأمثال فيما يجوز وما لا يجوز واحد.
3 - لزوم الانخراق إذا كان في ثخن هذا العالم.
وقد أشار الماتن إلى الوجهين الأولين والشارح إلى الثلاثة، ولفظ " الكرية " في المتن جاء لبيان تحقق
الخلاء.
والجواب: نختار وجود العالم الثاني في ثخن هذا العالم، فلا يلزم الخلاء، ولا يلزم أن يكون المتفقات
مختلفين، إذ لم لا يجوز أن يكون المكانان طبيعيين لهما. نعم تبقى مشكلة الخرق والالتيام، وقد
تبين عدم بطلانهما. واعلم أن مسألة الأفلاك بهذا المعنى قد أكل الدهر عليه وشرب، فلا يصح أن
يكون مبدأ للبرهان.
247
أقول: هذا إشارة إلى ما احتج الأوائل به على امتناع خلق عالم آخر،
وتقريره من وجهين:
الأول: أنه لو وجد عالم آخر لكان كرة لأنه الشكل الطبيعي فإن تلاقت
الكرتان أو تباينتا لزم الخلاء.
والجواب: لا نسلم وجوب الكرية في العالم الثاني، سلمنا لكن لا نسلم
وجوب الخلاء لإمكان ارتسام الثاني في ثخن بعض الأفلاك أو إحاطة المحيط
بالعالمين.
الثاني: لو وجد عالم آخر فيه نار وأرض وغيرهما فإن طلبت أمكنة هذه
العناصر لزم قسرها دائما وإلا اختلف المتفقات في الطباع في مقتضاها.
والجواب: لم لا يجوز أن يكون العالم الآخر مخالفا لهذا العالم في
الحقيقة، سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون المكانان طبيعيين لهما، فهذا ما خطر
لنا في تطبيق كلام المصنف رحمة الله عليه.
المسألة الثانية: في صحة العدم على العالم (1)
قال: والإمكان يعطي جواز العدم.
أقول: اختلف الناس في أن العالم هل يصح عدمه أم لا؟ فذهب المليون
أجمع إلى ذلك إلا من شذ، ومنع منه القدماء واختلفوا:



(1) من قال بامتناع عدم العالم، اختلفوا إلى طوائف ثلاث:
1 - من قال بالامتناع الذاتي لكون نفس العالم واجب الوجود، وهم الماديون.
2 - من قال بقدم العالم لقدم علته فيمتنع عليه العدم لوجوب علته، والقائلون به لفيف من الإلهيين.
3 - من قال بحدوث العالم وفي الوقت نفسه يمنع فناءه، لأن فناءه يتصور في ظل أسباب أربعة:
ألف - فناؤه من قبل ذاته وهو محال، لأن الشئ لا يوجد ولا يفنى من قبل ذاته قضاء لمعنى الإمكان.
ب - فناؤه بالفاعل بلا واسطة وهو باطل، لأن أثر الفاعل هو الإيجاد لا الإعدام، ولا فرق في العقل بين
نفي الفعل الذي هو المقصود في المقام، وفعل العدم الذي هو محال بالاتفاق. وفناء العالم بصوره
نفي الفعل يرجع إلى الثاني فيكون محالا.
ج - فناؤه من جانب الضد.
د - فناؤه من جانب انتفاء الشرط.
وقد ذكر الشارح الأسباب لا على هذا النظام فلاحظ.
248
فذهب قوم منهم إلى أن الامتناع ذاتي وجعلوا العالم واجب الوجود، ونحن قد
بينا خطأهم وبرهنا على حدوثه فيكون ممكنا بالضرورة.
وذهب آخرون إلى أن الامتناع باعتبار الغير وذلك أن العالم معلول علة
واجب الوجود فلا يمكن عدمه إلا بعدم علته ويستحيل عدم واجب الوجود،
ونحن قد بينا خطأهم في ذلك وبرهنا على أن المؤثر في العالم قادر مختار.
وذهبت الكرامية والجاحظ إلى استحالة عدم العالم بعد وجوده بعد
اعترافهم بالحدوث، لأن الأجسام باقية فلا تفنى بذاتها، ولا بالفاعل لأن شأنه
الإيجاد لا الإعدام إذ لا فرق في العقل بين نفي الفعل وبين فعل العدم، ولا ضد
للأجسام (1) لأنه بعد وجوده ليس إعدامه للباقي أولى من عدمه به



(1) هذا هو السبب الثالث لفناء العالم لكن أبطله بأن التضاد لأجل المطاردة يوجب عدم العالم،
لكنه بالنسبة إلى العالم الموجود غير متصور وذلك بوجوه:
1 - أن التضاد من مقولة الكيف، والأجسام من مقولة الجوهر، ولا تضاد في الأجسام، وقد بينه في
المسألة الثالثة من الفصل الأول من المقصد الثاني من مقاصد الكتاب.
2 - على فرض وجوده فلماذا لا يعدم بالتضاد نفس الضد دون العالم لأن التضاد من الجانبين ورفعه
يحصل بانعدام أحد الضدين ولا يختص بفناء العالم.
ويضيف المستدل على امتناع فناء العالم بأنه ربما يتوهم أن الأولى للانعدام هو العالم لا الضد وهو
باطل لأن للأولوية وجوها كلها غير ناهضة لإثباتها، وإليك بيانها:
ألف - تعلق الضد الحادث بالسبب (الواجب)، والجواب أنها مشتركة، إذ العالم وضده الحادث
متعلقان بالسبب.
ب - الضد الحادث كثير متعدد، والجواب عنه بأنه يستلزم اجتماع المثلين.
ج - لو بقي العالم مع وجود الضد الحادث يلزم اجتماع الضدين، ومرجع اجتماعهما إلى اجتماع
النقيضين لأن كل ضد يقتضي عدم الآخر كما حرر في محله. والجواب بأن رفع اجتماع الضدين
يتحقق أيضا بعدم دخول الضد في حيز الوجود، إلى هنا تم بيان السبب الثالث لفناء العالم
استدلالا وإشكالا وجوابا.
249
لوقوع التضاد من الطرفين، وأولوية الحادث بالتعلق بالسبب مشتركة، وبكثرته
باطلة لامتناع اجتماع المثلين، وباستلزام الجمع بين النقيضين باطلة لانتفائه على
تقدير القول بعدم دخول الحادث في الوجود، ولا بانتفاء الشرط لعود الكلام
عليه (1).
وهو خطأ (2) فإن الأعدام يستند إلى الفاعل كما يستند الوجود إليه،



(1) هذا هو السبب الرابع لفناء العالم، ورده بأنه ينقل الكلام إلى فناء الشرط لماذا انتفى، فتأتي فيه
الوجوه الأربعة: هل الانتفاء مستند إلى ذاته أو الفاعل، أو الضد، أو انتفاء الشرط، إلى آخر
الاستدلال بشقوقه الأربعة. إلى هنا تم استدلال الخصم القائل بالامتناع فناء العالم.
(2) شروع في رد الاستدلال بعد نقله بتفصيله، وقد سلم أنه يمكن أن يكون السبب في فناء العالم
أحد الأسباب الثلاثة الأخيرة وقد أجاب عما أورد عليه من التوالي الفاسدة في كلام المستدل،
ولم يفترض السبب الأول لعدم صحته، لأن العالم ممكن، ولا يجوز أن يكون العدم مستندا إلى
ذاته وإلا يلزم كونه ممتنع الوجود.
وعلى ضوء هذا اختار السبب الثاني بقوله: " فإن الإعدام يستند إلى الفاعل "، وأجاب عن الإشكال
بوجود الفرق بين نفي الفعل وفعل العدم والممتنع هو الثاني دون الأول.
واختار السبب الثالث وهو فناء العالم بالضد، وأجاب عن الإشكال بقوله: " لم لا يجوز أن يعدم بوجود
الضد، ويكون الضد أولى بإعدامه وإن كان سبب الأولوية مجهولا ".
واختار السبب الرابع وهو فقدان شرط بقاء العالم وأشار إليه بقوله: " سلمنا لكن لم لا يجوز اشتراط
الجواهر بأعراض غير باقية يوجدها الله تعالى حالا فحالا فإذا لم يجدد العرض انتفت الجواهر ".
وحاصل الكلام أن الكرامية والجاحظ استدلوا على امتناع فناء العالم بأن للفناء أسبابا أربعة وتأثير كل
سبب في فناء العالم مقرون بالإشكال.
والشارح افترض صحة الأسباب الثلاثة الأخيرة ودفع الإشكالات.
وفي الختام نقول: رحم الله الشارح، فإن ما ذكره في هذا المقام أشبه بالطلسم من حيث تفكيك
الاستدلال عن إشكاله، ثم عن جوابه، ولولا أن الطلاب انكبوا على دراسة هذا الكتاب لما صرفت
وقتي في حل طلاسمه.
250
والامتياز واقع بين نفي الفعل وفعل العدم، سلمنا لكن لم لا يجوز أن يعدم
بوجود الضد ويكون الضد أولى بإعدامه وإن كان سبب الأولوية مجهولا؟ سلمنا
لكن لم لا يجوز اشتراط الجواهر بأعراض غير باقية يوجدها الله تعالى حالا
فحالا فإذا لم يجدد العرض انتفت الجواهر؟
ودليل المصنف رحمه الله على مطلوبه من صحة العدم حجة على
الجميع، وهو أنا بينا أن العالم ممكن الوجود، فيستحيل انقلابه إلى الامتناع أو
الوجوب، فيجوز عدمه كما جاز وجوده.
* * *

251
المسألة الثالثة: في وقوع العدم وكيفيته
قال: والسمع دل عليه.
أقول: يدل على وقوع العدم السمع، وهو قوله تعالى: * (هو الأول
والآخر) * (1) وقوله تعالى: * (كل شئ هالك إلا وجهه) * (2) وقال تعالى: * (كل من
عليها فان) * (3) وقد وقع الإجماع على الفناء وإنما الخلاف في كيفيته على ما
يأتي.
قال: ويتأول في المكلف بالتفريق كما في قصة إبراهيم عليه السلام.
أقول: المحققون على امتناع إعادة المعدوم، وسيأتي البرهان على وجوب
المعاد (4)، وهاهنا قد بين أنه تعالى يعدم العالم، وذلك ظاهر المناقضة، فبين
المصنف مراده من الإعدام: أما في غير المكلفين وهم من لا يجب إعادته فلا
اعتبار به إذ لا يجب إعادته فجاز إعدامه بالكلية ولا يعاد.
وأما المكلف الذي يجب إعادته فقد تأول المصنف رحمه الله معنى إعدامه
بتفريق أجزائه، ولا امتناع في ذلك، فإن المكلف بعد تفريق أجزائه يصدق عليه
أنه هالك بمعنى أنه غير منتفع به، أو يقال: إنه هالك بالنظر إلى ذاته،



(1) الحديد: 3.
(2) القصص: 88.
(3) الرحمن: 26.
(4) سيأتي البرهان على وجوب المعاد في المسألة الرابعة، وحاصل الكلام وجود التهافت بين
المسألتين، فمن جانب دل الدليل على وجوب المعاد، ومن جانب دل الدليل عقلا ونقلا على أنه
سبحانه يعدم العالم، وعند ذاك تكون إعادته أمرا محالا لما دل الدليل على امتناع إعادة المعدوم،
فأجاب بأن المقصود من الإعدام في غير المكلفين هو الإعدام المطلق، وأما فيهم فبتفريق أجزاء
وجودهم، ويدل عليه - مضافا إلى قصة إبراهيم - ما جاء في الذكر الحكيم في عزير النبي في
سورة البقرة الآية 259.
252
إذ هو ممكن وكل ممكن فإنه بالنظر إلى ذاته لا يجب له الوجود فلا يوجد إذ لا
وجود إلا للواجب بذاته أو بغيره، فهو هالك بالنظر إلى ذاته، فإذا فرق أجزاءه كان
هو العدم، فإذا أراد الله تعالى إعادته جمع تلك الأجزاء وألفها كما كانت، فذلك
هو المعاد.
ويدل على هذا التأويل قوله تعالى في سؤال إبراهيم عليه السلام عن
كيفية الإحياء للأجزاء في الآخرة، لأنه تعالى لا يحيي الموتى في دار التكليف
وإنما الإحياء يقع في الآخرة فسأل عليه السلام عن كيفية ذلك الإحياء، وهو
يشتمل على السؤال عن جميع المقدمات التي يفعلها الله تعالى حتى يهيئهم
ويعدهم لنفخ الروح، فأمره الله تعالى بأخذ أربعة من الطير وتقطيعها وتفريق
أجزائها ومزج بعض الأجزاء ببعض ثم يفرقها ويضعها على الجبال ثم يدعوها،
فلما دعاها ميز الله تعالى أجزاء كل طير عن الآخر وجمع أجزاء كل طير وفرقها
عن أجزاء الآخر حتى كملت البنية التي كانت عليها أولا ثم أحياها الله تعالى ولم
يعدم تلك الأجزاء، فكذا في المكلف.
هذا ما فهمناه من قوله: كما في قصة إبراهيم عليه السلام، فهذا هو كيفية
الإعدام.
قال: وإثبات الفناء غير معقول لأنه إن قام بذاته لم يكن ضدا وكذا إن
قام بالجوهر.
أقول: لما ذكر المذهب الحق في كيفية الإعدام (1) شرع في إبطال مذهب



(1) اتفق المصنف والمعتزلة على إمكان الإعدام، وقد فسر المصنف الإعدام بتفريق الأجزاء في
المكلفين والإعدام المطلق في غيرهم، ولكن المعتزلة فسروا إعدام كل شئ بخلق ضد له وهو
الفناء، وهم - بعد الاتفاق على هذا التفسير - اختلفوا إلى مذاهب ثلاثة:
1 - ما ذكره ابن الإخشيد (أبو بكر بن علي من أفاضل المعتزلة، توفي سنة 426): أن الفناء الذي هو ضد
للجواهر ليس بمتحيز (جسم) ولا قائم به إلا أنه يكون حاصلا في جهة معينة.
يلاحظ عليه بأنه غير معقول، لأن كل ما يحصل في جهة إما جسم أو قائم به.
2 - ما ذكره ابن شبيب (محمد بن شبيب البصري من أصحاب النظام الذي توفي سنة 236 ومن
متكلمي القرن الثالث) من أن الله يحدث في كل جوهر فناء.
3 - ما نقل عن أبي علي وأبي هاشم: أن الفناء يحدث لا في محل فيفني الجواهر كلها حال حدوثه.
ولا يظهر الفرق بين الأول والثالث سوى اشتمال الأول على كون الفناء في جهة معينة.
وحاصل الدليل الأول للمصنف على بطلان هذا الفرض بصوره الثلاث أن الفناء إن كان جوهرا لا
يضاد الجواهر إذ التضاد من شؤون الكيف الذي قسم من العرض وقد عرفوه بأنه أمران وجوديان
لا يجتمعان في موضوع واحد ويتعاقبان عليه بينهما غاية الخلاف، والجوهر لا موضوع له، وإن
كان الفناء عرضا فالعرض لا يضاد الجوهر.
253
المخالفين في ذلك.
واعلم أن من جملة من خالف في كيفية الإعدام جماعة من المعتزلة،
ذهبوا إلى أن الإعدام ليس هو التفريق بل الخروج عن الوجود، بأن يخلق الله
تعالى للجواهر ضدا هو الفناء، وقد اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال:
أحدها: قال ابن الإخشيد: إن الفناء ليس بمتحيز ولا قائم بالمتحيز إلا أنه
يكون حاصلا في جهة معينة فإذا أحدثه الله تعالى فيها عدمت الجواهر بأسرها.
الثاني: قال ابن شبيب: إن الله يحدث في كل جوهر فناء ثم ذلك الفناء
يقتضي عدم الجوهر في الزمان الثاني فيجعله قائما بالمحل.
الثالث: قال أبو علي وأبو هاشم ومن تابعهما: إن الفناء يحدث لا في

254
محل فيفني الجواهر كلها حال حدوثه، ثم اختلفوا فذهب أبو هاشم وقاضي
القضاة إلى أن الفناء الواحد كاف في عدم كل الجواهر، وذهب أبو علي وأصحابه
إلى أن لكل جوهر فناء مضادا له لا يكفي ذلك الفناء في عدم غيره.
فإذا عرفت هذا فنقول: القول بالفناء على كل تقدير فرضوه باطل، لأن
الفناء إن قام بذاته كان جوهرا إذ معنى الجوهر ذلك فلا يكون ضدا للجوهر، وإن
كان غير قائم بذاته كان عرضا إذ هو معناه فيكون حالا في الجوهر إما ابتداء أو
بواسطة، وعلى كلا التقديرين فيستحيل أن يكون منافيا للجواهر.
قال: ولانتفاء الأولوية (1).
أقول: يفهم من هذا الكلام أمران:
أحدهما: إقامة دليل ثان على امتناع قيام الفناء بالجوهر، وتقريره أن نقول:
لو كان الفناء قائما بالجوهر لكان عرضا حالا فيه ولم يكن اقتضاؤه لنفي محله
أولى من اقتضاء محله لنفيه بل كان انتفاء هذا الحال بالمحل أولى إذ منع الضد
دخول الضد الآخر في الوجود مع إمكان إعدامه له أولى من إعدام



(1) إعلم أن الماتن استمد في هذا الدليل من البرهان السابق للكرامية والجاحظ القائلين بامتناع
العدم للعالم، وقد شرحنا برهانهم، وخلاصة الدليل: أن الفناء لو كان عرضا حالا، فانتفاء الحال
بالمحل أولى من انتفاء المحل بالحال، إذ منع دخول الضد الآخر في الوجود مع إمكان إعدامه
أولى من إعدام المتجدد للضد الباقي، لأن الأول بعد لم يوجد، فصد باب تحققه أسهل من إعدام
الموجود، وإن كان جوهرا فانتفاء الجوهر الثاني (الفناء) بالجوهر الأول أولى، بمعنى منعه في
الدخول في الوجود بمثل البيان السابق.
255
المتجدد للضد الباقي وبالخصوص إذا كان محلا له.
الثاني: إقامة دليل ثان على انتفاء الفناء، وتقريره أن نقول: لو كان الفناء ضدا
للجواهر لم يكن إعدامه للجوهر الباقي أولى من إعدام الجوهر الباقي له بمعنى
منعه عن الدخول في الوجود بل هو أولى لما تقدم.
قال: ولاستلزامه انقلاب الحقائق أو التسلسل.
أقول: القول بالفناء يستلزم أحد أمرين محالين:
أحدهما: انقلاب الحقائق.
الثاني: التسلسل، وكل مستلزم للمحال فإنه محال قطعا، أما استحالة
الأمرين فظاهر، وأما بيان الملازمة فإن الفناء إما أن يكون واجب الوجود بذاته أو
ممكن الوجود والقسمان باطلان:
أما الأول: فلأنه قد كان معدوما وإلا لم توجد الجواهر (1) ثم صار
موجودا، وذلك يعطي إمكانه.
وأما الثاني: فلأنه يصح عليه العدم وإلا لم يكن ممكنا، فعدمه إن كان لذاته
كان ممتنعا بعد أن كان ممكنا وذلك يستلزم انقلاب الحقائق، وإن كان بسبب
الفاعل بطل أصل دليلكم، وإن كان بوجود ضد آخر لزم التسلسل. هذا ما خطر لنا
في معنى هذا الكلام.



(1) تقدير الكلام: " وقد كان معدوما ثم صار موجودا وإلا لم توجد الجواهر " فلو كان فناء العالم
واجب الوجود فبما أنه ضد العالم يلزم أن لا يوجد العالم (الجواهر) لكون ضده قديما. وبعبارة
أخرى: الفناء كان معدوما، لو كان موجودا فبما أنه ضد للعالم يلزم أن لا يوجد العالم أبدا مع أن
المفروض وجوده فيستكشف عدمه والمعدوم لا يكون واجب الوجود.
256
قال: وإثبات بقاء لا في محل (1) يستلزم الترجيح من غير مرجح أو
اجتماع النقيضين.
أقول: ذهب قوم منهم ابن شبيب إلى أن الجوهر باق ببقاء موجود لا في
محل، فإذا انتفى ذلك البقاء انتفى ذلك الجوهر.
والمصنف رحمه الله أحال هذا المذهب أيضا باستلزامه المحال، وذكر أن
القول بذلك يستلزم أمرين:
أحدهما: الترجيح من غير مرجح.



(1) إعلم أن الماتن قد أورد في المقصد السادس مسائل أربع ليست بذات أهمية ولا تصلح للدراسة
في هذا العصر إلا من جهة الوقوف على تاريخ علم الكلام والآراء الموجودة في مسائله من لدن
تكونه إلى يومنا، وهذه المسائل عبارة عن الأمور التالية:
1 - إمكان خلق عالم آخر وعدمه، وقد ذهب الأوائل إلى امتناعه.
2 - هل يمكن إعدام العالم أولا، حيث ذهبت الكرامية والجاحظ إلى استحالة عدم العالم بعد وجوده.
3 - أن فناء العالم هو خلق ضد للجواهر باسم الفناء، والقائل به هو المعتزلة.
4 - أن الجوهر الحادث بعد حدوثه باق بشئ غير وجوده وغير فاعله، والقائل به الأشاعرة وبعض
المعتزلة كأبي شبيب.
وهؤلاء اعتمدوا في هذه المسائل على مبادئ ومقدمات وهي من البطلان بمكان.
وقد ذهب ابن شبيب في المسألة الرابعة إلى أن الجوهر باق ببقاء موجود لا في محل، فإذا انتفى ذلك
البقاء انتفى ذلك الجوهر، وقد أورد عليه الماتن بإشكالين:
1 - الترجيح بلا مرجح.
2 - اجتماع النقيضين.
وقد أوضح الشارح كلا ببيانين.
257
والثاني: اجتماع النقيضين.
والذي يخطر لنا في تفسير ذلك أمران:
أحدهما: أن يقال: البقاء إما جوهر أو عرض، والقسمان باطلان فالقول به
باطل:
أما الأول فلأنه لو كان جوهرا لم يكن جعله شرطا لجوهر آخر أولى من
العكس، فإما أن يكون كل واحد منهما شرطا لصاحبه وهو دور، أو لا يكون
أحدهما شرطا للآخر وهو المطلوب.
وأما الثاني فلأنه لو كان عرضا قائما بذاته لزم اجتماع النقيضين، إذ العرض
هو الموجود في المحل، فلو كان البقاء قائما لا في محل مع كونه عرضا لزم ما
ذكرناه.
الثاني: أن يقال: البقاء (1) إما واجب لذاته أو ممكن لذاته، والقسمان
باطلان:



(1) هذا هو التفسير الثاني لقول الماتن من لزوم الترجيح بلا مرجح أو اجتماع النقيضين.
أما الأول ففيما إذا كان البقاء الموجود لا في محل جوهرا، وأما الثاني ففيما إذا كان البقاء الموجود لا
في محل عرضا، فإنهما متناقضان.
لا يقال: إن افتراض كون البقاء موجودا لا في محل أوجب التناقض، لماذا لا نفترض كونه موجودا في
محل؟
فإنه يقال: ما ذكرته من الفرض هو نظرية الأشاعرة والكعبي، وسوف يذكرها المصنف في البحث
الآتي، والكلام مركز على نظرية ابن شبيب القائل بأن البقاء موجود لا في محل.
وهناك تفسير ثان للشارح لكلا الأمرين، فالثاني أي اجتماع النقيضين مبني على كون البقاء واجبا
لذاته وفي الوقت نفسه وجد بعد العدم، وهذا عين التناقض، وأما الأول أي الترجيح من غير
مرجح فهو مبني على القول بكونه ممكنا، فإن كونه في وقت دون وقت ترجيح من غير مرجح،
واحتمال أن المرجح أحد الأمور التالية:
1 - ذاته. 2 - فاعله. 3 - ضده. 4 - انتفاء شرطه، احتمال باطل.
أما الأول: فلو كان عدمه في وقت خاص مستندا إلى ذاته يلزم أن تقتضيه مطلقا، فيكون ممتنع
الوجود، مع أنه ممكن الوجود.
أما الثاني: فلما مر من أنه لا فرق في الامتناع للفاعل بين نفي الفعل وفعل العدم، وكلاهما باطلان، وقد
مر من الشارح وجود الفرق بينهما، وعلى هذا يكون الاستدلال جدليا مبنيا على مسلمات القوم.
أما الثالث: فلما تقدم في المسألة الثانية من أن اقتضاء الضد المتقدم لنفي البقاء المتأخر أولى من
انعدام الضد بالبقاء المتأخر، كما أوضحه عند شرح قول الماتن " ولانتفاء الأولوية "، أو لعل المراد
أنه لا ضد للجواهر.
وأما الرابع: أعني انتفاء الشرط فيقال: لو كان للبقاء شرط فللشرط وجود وبقاء غير وجوده، فينتقل
السؤال إلى السبب لعدم بقاء ذلك الشرط، ولو كان عدمه لأجل انتفاء شرطه يتسلسل، على أنه لا
وجه لعد شئ شرطا (صفة) والآخر مشروطا (موصوفا).
258
أما الأول: فلأن وجوده بعد العدم يستلزم جواز عدمه والوجوب يستلزم
عدم جوازه، وذلك جمع بين النقيضين.
وأما الثاني: فلأن عدمه في وقت دون آخر ترجيح من غير مرجح،
لاستحالة استناده إلى ذاته وإلا لكان ممتنع الوجود مع إمكانه وذلك جمع بين
النقيضين، ولا إلى الفاعل، ولا إلى الضد وإلا لجاز مثله في الجواهر فالقول بذلك
هنا مع استحالته في الجواهر ترجيح من غير مرجح، ولا إلى انتفاء الشرط وإلا
لزم أن يكون للبقاء بقاء آخر فليس أحدهما بكونه صفة للآخر أولى من العكس
وذلك ترجيح من غير مرجح.
قال: وإثباته في المحل يستلزم توقف الشئ على نفسه إما ابتداء أو
بواسطة.
أقول: ذهب جماعة من الأشاعرة والكعبي إلى أن الجواهر تبقى ببقاء

259
قائم بها (1)، فإذا أراد الله تعالى إعدامها لم يفعل البقاء فانتفت الجواهر.
والمصنف رحمه الله أبطل ذلك باستلزامه توقف الشئ على نفسه إما
ابتداء أو بواسطة.
وتقريره: أن حصول البقاء في المحل يتوقف على وجود المحل في
الزمان الثاني، لكن حصوله في الزمان الثاني إما أن يكون هو البقاء أو معلوله،
ويستلزم من الأول توقف الشئ على نفسه ابتداء ومن الثاني توقفه على معلوله
المتوقف عليه وذلك يقتضي توقف الشئ على نفسه بواسطة، فهذا ما يمكن
حمل كلامه عليه.



(1) هذا هو القول الثاني في البقاء ويعرف بأنه عرض قائم بالجواهر، ويدعى أن الجواهر تبقى ببقاء
قائم بها، وهذا يستلزم توقف الشئ على نفسه ابتداء أو بواسطة:
وذلك لأن حصول البقاء يتوقف على وجود المحل في الزمان الثاني، لأن الحادث إذا لم يكن له
امتداد لا يتصور له البقاء.
ثم إن وجود المحل في الزمان الثاني (وعلى حد تعبير الشارح حصوله في الزمان الثاني) إما أن يكون
نفس البقاء أو معلولا له:
فعلى الأول يلزم الدور المصرح أي بلا واسطة، لأن حصول البقاء متوقف على وجود المحل في
الزمان الثاني، والمفروض أنه نفس البقاء فيلزم أن يكون شئ واحد متوقفا كما هو المفروض،
ومتوقفا عليه كما هو لازم الوحدة.
وعلى الثاني أي أن يكون وجود المحل في الزمان الثاني معلولا للبقاء فيلزم التوقف على نفسه
بواسطة، وذلك لأن البقاء متوقف على وجود المحل في الزمان الثاني، والمفروض أنه أيضا
معلول البقاء، فبالاعتبار الأول يكون البقاء موقوفا على وجود المحل في الزمان الثاني، وبما أنه
معلول البقاء يكون البقاء موقوفا عليه، وهذا هو الدور بالواسطة، وهذه صورته: البقاء الموقوف
على وجود المحل في الزماني الثاني، المعلول للبقاء أي الموقوف على البقاء.
260
المسألة الرابعة: في وجوب المعاد الجسماني
قال: ووجوب إيفاء الوعد والحكمة يقتضي وجوب البعث، والضرورة
قاضية بثبوت الجسماني من دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم، مع إمكانه.
أقول: اختلف الناس هنا، فذهب الأوائل إلى نفي المعاد الجسماني،
وأطبق المليون عليه.
واستدل المصنف رحمه الله على وجوب المعاد مطلقا بوجهين:
الأول: أن الله تعالى وعد بالثواب وتوعد بالعقاب مع مشاهدة الموت
للمكلفين، فوجب القول بعودهم ليحصل الوفاء بوعده ووعيده.
الثاني: أن الله تعالى قد كلف وفعل الألم وذلك يستلزم الثواب والعوض
وإلا لكان ظالما، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فإنا قد بينا حكمته تعالى، ولا
ريب في أن الثواب والعوض إنما يصلان إلى المكلف في الآخرة لانتفائهما في
الدنيا.
واستدل على ثبوت المعاد الجسماني بأنه معلوم بالضرورة من دين
محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والقرآن دل عليه في آيات كثيرة بالنص، مع
أنه ممكن فيجب المصير إليه، وإنما قلنا بأنه ممكن لأن المراد من الإعادة جمع
الأجزاء المتفرقة وذلك جائز بالضرورة.
قال: ولا تجب إعادة فواضل المكلف.
أقول: اختلف الناس في المكلف ما هو على مذاهب عرفت:
منها: قول من يعتقد أن المكلف هو النفس المجردة، وهو مذهب

261
الأوائل والنصارى والتناسخية والغزالي (1) والحليمي (2) والراغب (3) من
الأشاعرة وابن الهيصم (4) من الكرامية وجماعة من الإمامية والصوفية.
ومنها: قول جماعة من المحققين أن المكلف هو أجزاء أصلية في هذا
البدن لا يتطرق إليها الزيادة والنقصان وإنما تقعان في أجزاء المضافة إليها.
إذا عرفت هذا فنقول: الواجب في المعاد هو إعادة تلك الأجزاء الأصلية
أو النفس المجردة مع الأجزاء الأصلية، أما الأجسام المتصلة بتلك الأجزاء فلا
تجب إعادتها بعينها.
وغرض المصنف رحمه الله بهذا الكلام الجواب عن اعتراضات
الفلاسفة على المعاد الجسماني.
وتقرير قولهم: أن إنسانا لو أكل آخر أو اغتذى بأجزائه فإن أعيدت أجزاء
الغذاء إلى الأول عدم الثاني وإن أعيدت إلى الثاني عدم الأول.
وأيضا إما أن يعيد الله تعالى جميع الأجزاء البدنية الحاصلة من أول العمر
إلى آخره أو القدر الحاصل له عند موته، والقسمان باطلان:
أما الأول فلأن البدن دائما في التحلل والاستخلاف، فلو أعيد البدن مع
جميع الأجزاء منه لزم عظمه في الغاية، ولأنه قد يتحلل منه أجزاء تصير أجساما
غذائية ثم يأكلها ذلك الإنسان بعينه حتى تصير أجزاء من عضو آخر غير العضو
الذي كانت أجزاء له أولا، فإذا أعيدت أجزاء كل عضو إلى



(1) هو أبو حامد محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي الشافعي (450 - 505 ه‍).
(2) لم نعثر على ترجمته.
(3) هو أبو القاسم الحسين بن محمد الأصفهاني مؤلف المفردات في غريب القرآن وغيرها من
التآليف.
(4) هو من أتباع أبي عبد الله محمد بن كرام المجسم.
262
عضوه لزم جعل ذلك الجزء جزءا من العضوين وهو محال.
وأما الثاني فلأنه قد يطيع العبد حال تركبه من أجزاء بعينها ثم تتحلل تلك
الأجزاء ويعصي في أجزاء أخرى، فإذا أعيد في تلك الأجزاء بعينها وأثابها على
الطاعة لزم إيصال الحق إلى غير مستحقة.
وتقرير الجواب واحد، وهو أن لكل مكلف أجزاء أصلية لا يمكن أن
تصير جزءا من غيرها، بل تكون فواضل من غيره لو اغتذى بها، فإذا أعيدت
جعلت أجزاء أصلية لما كانت أصلية له أولا، وتلك الأجزاء هي التي تعاد وهي
باقية من أول العمر إلى آخره.
قال: وعدم انخراق الأفلاك، وحصول الجنة فوقها، ودوام الحياة مع
الاحتراق، وتولد البدن من غير التوالد، وتناهي القوى الجسمانية
استبعادات.
أقول: احتج الأوائل على امتناع المعاد الجسماني بوجوه:
أحدها: أن السمع قد دل على انتثار الكواكب وانخراق الأفلاك وذلك
محال.
الثاني: أن حصول الجنة فوق الأفلاك كما ذهب إليه المسلمون يقتضي
عدم الكرية.
الثالث: أن بقاء الحياة مع دوام الاحتراق في النار محال.
الرابع: أن تولد الأشخاص وقت الإعادة من غير توالد الأبوين باطل.
الخامس: أن القوى الجسمانية متناهية والقول بدوام نعيم أهل الجنة قول
بعدم التناهي.
والجواب عن الكل واحد، وهو أن هذه استبعادات:

263
أما الأفلاك فلأنها حادثة على ما تقرر أولا، فيمكن انخراقها كما يمكن
عدمها، فكذا حصول الجنة فوق الأفلاك.
ودوام الاحتراق مع بقاء الجسم ممكن ولأنه تعالى قادر على كل مقدور
فيمكن استحالة الجسم إلى أجزاء نارية ثم يعيدها الله تعالى هكذا دائما.
والتولد ممكن كما في آدم عليه السلام. والقوى الجسمانية قد لا يتناهى
أثرها إذا كانت واسطة في التأثير.
المسألة الخامسة: في الثواب والعقاب
قال: ويستحق الثواب والمدح بفعل الواجب والمندوب وفعل ضد القبيح
والإخلال به، بشرط فعل الواجب لوجوبه أو لوجه وجوبه والمندوب كذلك
والضد لأنه ترك القبيح والإخلال به لأنه إخلال به، لأن المشقة من غير عوض
ظلم، ولو أمكن الابتداء به كان عبثا.
أقول: المدح: قول ينبئ عن ارتفاع حال الغير مع القصد إلى الرفع منه.
والثواب: هو النفع المستحق المقارن للتعظيم والإجلال.
والذم: قول ينبئ عن اتضاع حال الغير مع قصده.
والعقاب: هو الضرر المستحق المقارن للاستخفاف والإهانة.
والمدح والثواب يستحقان بفعل الواجب وفعل المندوب وفعل ضد
القبيح، وهو الترك له (1) على ما ذهب من يثبت الترك ضدا، والإخلال بالقبيح.



(1) قال المحقق الأردبيلي في شرح العبارة: " إشارة إلى المذهبين في المطلوب بالنهي، فإن على
مذهب من يقول إنه الكف لا الترك فهو ضد وفعله موجب للمدح والثواب كما في الأوامر، وعلى
قول من يقول إنه الترك فليس بضد فإنه غير وجودي وسبب الاستحقاق هو الاخلال بالقبيح وهو
تركه، فكلام الشارح غير جيد ". (تعليقة المحقق الأردبيلي المطبوعة في حاشية شرح القوشجي).
توضيح المقام هو أن الأصوليين اختلفوا في أن الموضوع له لهيئة النهي هل هو الكف عن الشئ أو
نفس " ألا تفعل "، وقول الشارح: " وفعل ضد القبيح " إشارة إلى النظرية الأولى، ولكن تفسيره
بقوله: " وهو الترك " غير صحيح، بل الصحيح أن يقول: وهو الكف، وقوله بالإخلال بالقبيح إشارة
إلى النظرية الثانية أي مجرد " ألا تفعل ".
264
ومنع أبو علي وجماعة من المعتزلة (1) استحقاق المدح والثواب
بالإخلال بالقبيح وصارا إلى ذلك لأن المكلف يمتنع خلوه من الأخذ والترك
الذي هو فعل الضد.
والحق ما ذكره المصنف رحمه الله، فإن العقلاء يستحسنون ذم المخل



(1) توضيحه: أن هؤلاء قصروا الثواب بصورة واحدة وهو الكف عن الحرام. وأما إذا ترك الحرام من
دون التفات إليه فلم يروا فيه ثوابا، واستدلوا لذلك بأن المكلف على أي حال كان، فإما فاعل أو
تارك ويمتنع عليه الخروج عنهما فهو لا يقدر على غيرهما وغير المقدور لا يطلبه الشارع على
قواعد العدلية.
ولما اعترض عليهم بأن لازم هذا الاستدلال عدم تحقق المعصية في الإخلال بالواجب وتركه (بلا
التفات) مع أن العقلاء يستحسنون الذم على من ترك الواجب بلا التفات وكف عن فعله، فأجابوا
بالالتزام بأن الإخلال بفعل الواجب لا تتحقق به المعصية لعدم القدرة على الإخلال لعين الدليل
المذكور في ترك الحرام.
وقد رده الشارح بأن العقلاء يستحسنون ذم المخل بالواجب، أي بنفس الترك، وإن لم يتصوروا منه
فعلا كما يستحسنون ذمه على فعل القبيح.
ومع هذا التقرير فلم تتبين كيفية الاستدلال، لأن عدم الخروج من الفعل والترك لا يكون دليلا على
سلب القدرة وإلا لزم نفي القدرة بتاتا في جميع الموارد وذلك لأن الإنسان إذا قيس على أي
موضوع فلا يخلو من الفعل والترك.
265
بالواجب وإن لم يتصوروا منه فعلا كما يستحسنون ذمه على فعل القبيح.
واعلم أنه يشترط في استحقاق الفاعل المدح والثواب إيقاع الواجب
لوجوبه أو لوجه وجوبه (1)، وكذا المندوب يفعله لندبه أو لوجه ندبه، وكذا في
ترك القبيح يتركه لكونه ترك قبيح أو لوجه ذلك والإخلال بالقبيح لكونه إخلالا
بالقبيح، فإنه لو فعل الواجب أو المندوب لا لما ذكرناه (2) لم يستحق مدحا ولا
ثوابا عليهما، وكذا لو ترك القبيح لغرض آخر من لذة أو غيرها لم يستحق المدح
والثواب.
والدليل على استحقاق الثواب بفعل الطاعة أنها مشقة قد ألزمها الله تعالى
المكلف، فإن لم يكن لغرض كان عبثا وظلما وهو قبيح لا يصدر عن الحكيم،
وإن كان لغرض فإما الإضرار وهو ظلم، وإما النفع وهو إما أن يصح الابتداء به أو
لا. والأول باطل وإلا لزم العبث في التكليف، والثاني هو المطلوب، وذلك النفع
هو المستحق بالطاعة المقارن للتعظيم والإجلال، فإنه يقبح الابتداء بذلك لأن
تعظيم من لا يستحقه قبيح.



(1) هناك مسألتان:
الأولى: أن روح العبادة هي القيام بالعمل لأجل أمره سبحانه به أو لأجل التقرب منه وهذا ما يطلق
عليه قصد القربة.
الثانية: إتيان الواجب لوجوبه بل المندوب لندبه، ثم الوجوب أو الندب يكون تارة وصفا للواجب
والمندوب وأخرى غاية، فقوله: " لوجوبه " إشارة إلى قصد الوجوب بصورة الغاية، أو " لوجه
وجوبه " إشارة إلى جعله وصفا، وعلى كل تقدير فقد اتفق الفقهاء على أن الواجب هو قصد القربة
لا قصد الوجه وإنما التزم به المتكلمون وابن إدريس من الفقهاء.
(2) يلاحظ عليه بأنه إذا أتى لله سبحانه كفى ذلك في استحقاق الثواب ولا يحتاج إلى قصد عنوان
الوجوب غاية أو صفة.
والعجب من الشارح مع أنه من أكابر فقهاء الشيعة مر على هذه المسألة بلا تعليق.
266
قال: وكذا يستحق العقاب والذم بفعل القبيح والإخلال بالواجب،
لاشتماله على اللطف، وللسمع.
أقول: كما أن الطاعة سبب لاستحقاق الثواب فكذا المعصية وهي فعل
القبيح وترك الواجب سبب لاستيجاب العقاب لوجهين:
أحدهما: عقلي، كما ذهب إليه جماعة من العدلية، وتقريره: أن العقاب
لطف واللطف واجب، أما الصغرى فلأن المكلف إذا عرف أن مع المعصية
يستحق العقاب فإنه يبعد عن فعلها ويقرب إلى فعل ضدها وهو معلوم قطعا،
وأما الكبرى فقد تقدمت.
الثاني: سمعي، وهو الذي ذهب إليه باقي العدلية، وهو متواتر معلوم من
دين النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
إذا عرفت هذا فنقول: ذهب جماعة إلى أن الإخلال بالواجب (1) لا
يقتضي استحقاق ذم ولا عقاب بل المقتضي لذلك هو فعل القبيح أو ضد فعل
الواجب وهو تركه، وقد تقدم بيان ذلك.
قال: ولا استبعاد في اجتماع الاستحقاقين باعتبارين.
أقول: هذا جواب عن حجة من منع من كون الإخلال بالواجب سببا
لاستحقاق الذم (2).



(1) لاحظ التعليقة السابقة، وقد مر أنه خيرة أبي علي وجماعة من المعتزلة حيث ذكروا أن الإخلال
بالواجب أي نفس تركه لا يستحق عليه الإنسان عقابا، وذلك لأنه لا يمكن له الخروج عن الفعل
والترك.
(2) بيان لدليل أبي علي وجماعة من المعتزلة على أن ترك الواجب من دون التفات لا يستلزم
العقاب.
267
وتقريره: أنه لو كان ذلك سببا، والإخلال بالقبيح سبب للمدح، لكان
المكلف إذا خلا من الأمرين (1) مستحقا للذم والمدح.
والجواب: لا استبعاد في اجتماع الاستحقاقين باعتبارين، فيذم على
أحدهما ويمدح على الآخر، كما إذا فعل طاعة ببعض أعضائه ومعصية بالبعض
الآخر.
قال: وإيجاب المشقة في شكر النعمة قبيح.
أقول: ذهب أبو القاسم البلخي إلى أن هذه التكاليف وجبت شكرا للنعمة،
فلا تستلزم وجوب الثواب ولا يستحق بفعلها نفع وإنما الثواب تفضل من الله
تعالى، وذهب جماعة من العدلية إلى خلاف هذا القول.
واحتج المصنف رحمه الله على إبطاله بأنه يقبح عند العقلاء أن ينعم
الإنسان على غيره ثم يكلفه ويوجب عليه شكره ومدحته على تلك النعمة من
غير إيصال ثواب إليه، ويعدون ذلك نقصا في المنعم وينسبون إلى الرياء وذلك
قبيح لا يصدر من الحكيم، فوجب القول باستحقاق الثواب.
قال: ولقضاء العقل به مع الجهل.
أقول: هذا دليل ثان على إبطال قول البلخي، وتقريره: أن العقلاء بأسرهم
يجزمون بوجوب شكر المنعم وإذا كان وجوب الشكر معلوما بالعقل مع أن
العقل لا يدرك التكاليف الشرعية وجب القول بكونها ليست شكرا.



(1) المراد هو الواجب والحرام.
268
قال: ويشترط في استحقاق الثواب كون الفعل أو الإخلال به شاقا،
لا رفع الندم على فعله، ولا انتفاء النفع العاجل إذا فعل للوجه.

269
أقول: يشترط في استحقاق الثواب كون الفعل المكلف به الواجب أو
المندوب شاقا وكون الإخلال بالقبيح شاقا، إذ المقتضي لاستحقاق الثواب هو
المشقة فإذا انتفت انتفى المقتضي للاستحقاق، ولا يشترط رفع الندم على فعل
الطاعة فإن الطاعة سبب لاستحقاق الثواب وقد وجدت منفكة عنه لأنه في حال
الفعل يستحيل أن يكون نادما عليه، نعم نفي الندم شرط في بقاء استحقاق
الثواب، وكذا لا يشترط في الثواب عدم النفع العاجل إذا أوقعه المكلف لوجه
الوجوب أو للوجوب أو لوجه الندب أو للندب.
المسألة السادسة: في صفات الثواب والعقاب
قال: ويجب اقتران الثواب بالتعظيم والعقاب بالإهانة، للعلم
الضروري باستحقاقهما مع فعل موجبهما.
أقول: ذهبت المعتزلة إلى أن الثواب نفع عظيم مستحق يقارنه التعظيم،
والعقاب ضرر عظيم مستحق يقارنه الإهانة، واحتجوا على وجوب اقتران
التعظيم بالثواب واقتران الإهانة، بالعقاب بأنا نعلم بالضرورة أن فاعل الفعل
الشاق المكلف به فإنه يستحق التعظيم والمدح وكذلك من فعل القبيح فإنه
يستحق الإهانة والاستخفاف.
قال: ويجب دوامهما لاشتماله على اللطفية، ولدوام المدح
والذم، ولحصول نقيضهما لولاه.
أقول: ذهب المعتزلة إلى أن الثواب والعقاب دائمان، واختلف في العلم
بدوامهما هل هو عقلي أو سمعي، فذهبت المعتزلة إلى أنه عقلي وذهبت

270
المرجئة إلى أنه سمعي.
واحتج المصنف رحمه الله على دوامهما بوجوه:
أحدها: أن العلم بدوام الثواب والعقاب يبعث العبد على فعل الطاعة
ويبعده عن المعصية وذلك ضروري وإذا كان كذلك كان لطفا واللطف واجب
على ما مر.
الثاني: أن المدح والذم دائمان إذ لا وقت إلا ويحسن مدح المطيع وذم
العاصي إذا لم يظهر منه ندم على ما فعل، وهما معلولا الطاعة والمعصية فيجب
كون الطاعة والمعصية في حكم الدائمتين فيجب دوام الثواب والعقاب لأن دوام
أحد المعلولين يستلزم دوام المعلول الآخر (1) لأن العلة تكون دائمة أو في
حكم الدائمة.
الثالث: أن الثواب لو كان منقطعا لحصل لصاحبه الألم بانقطاعه ولو كان
العقاب منقطعا لحصل لصاحبه السرور بانقطاعه وذلك ينافي الثواب والعقاب
لأنهما خالصان عن الشوائب.
هذا ما فهمناه من كلام المصنف رحمه الله وقوله: " لحصول نقيضيهما "
يعني نقيضي الثواب والعقاب " لولاه " أي لولا الدوام.



(1) المعلولان عبارتان عن المدح والثواب أو الذم والعقاب، فبما أن المدح والذم مستمران
فيكشف عن بقاء العلة وهو الطاعة والمعصية، فيستدل بوجود أحد المعلولين على وجود العلة
وبقائها، فيثبت وجود المعلول الآخر لامتناع وجود أحد المعلولين بدون المعلول الآخر.
واعلم أن القول بدوام العقاب مبني على أن مرتكب المعصية مخلد في النار إذا مات بلا توبة، وهو
على خلاف ما دل عليه الكتاب والسنة، وقد تبع المصنف رأي المعتزلة ومضى عليه الشارح، مع
أن الأليق بمقامهما التنصيص على خلافه، وسيأتي التصريح بما ذكرناه ص 274، فلاحظ.
271
قال: ويجب خلوصهما وإلا لكان الثواب أنقص حالا من العوض
والتفضل على تقدير حصوله فيهما، وهو أدخل في باب الزجر.
أقول: يجب خلوص الثواب والعقاب عن الشوائب.
أما الثواب فلأنه لولا ذلك لكان العوض والتفضل أكمل منه لأنه يجوز
خلوصهما عن الشوائب وحينئذ يكون الثواب أنقص درجة وأنه غير جائز.
وأما العقاب فلأنه أعظم في الزجر فيكون لطفا.
قال: وكل ذي مرتبة في الجنة لا يطلب الأزيد، ويبلغ سرورهم بالشكر (1)
إلى حد انتفاء المشقة، وغناؤهم بالثواب ينفي مشقة ترك القبائح، وأهل النار
يلجأون إلى ترك القبيح.
أقول: لما ذكر أن الثواب خالص عن الشوائب ورد عليه أن أهل الجنة
يتفاوتون في الدرجات، فالأنقص إذا شاهد من هو أعظم ثوابا حصل له الغم
بنقص درجته عنه وبعدم اجتهاده في العبادة، وأيضا فإنه يجب عليهم الشكر
لنعم الله تعالى والإخلال بالقبائح وفي ذلك مشقة.



(1) لما اشترط الخلوص في الثواب وأن يكون خالصا من كل شائبة، أشكل عليه الأمر في مواضع
ثلاثة:
أ - أن أهل الجنة يتفاوتون في الدرجات فالأنقص درجة إذا شاهد من هو أعظم ثوابا حصل له الغم
بنقص درجته.
ب - أن أهل الجنة يجب عليهم الشكر لنعم الله تعالى والشكر يشتمل على المشقة وهذا ينافي
الخلوص في الثواب.
ج - أن أهل الجنة يتركون القبائح (المحرمات) وفي تركها مشقة.
وقد أجاب الشارح عن الإشكالات وفق ما ذكره الماتن، فلاحظ.
272
والجواب عن الأول: أن شهوة كل مكلف مقصورة على ما حصل له ولا
يغتم بفقد الأزيد لعدم اشتهائه له.
وعن الثاني: أنه يبلغ سرورهم بالشكر على النعمة إلى حد تنتفي المشقة
معه.
وأما الإخلال بالقبائح فإنه لا مشقة عليهم فيها لأنه تعالى يغنيهم بالثواب
ومنافعه عن فعل القبيح فلا تحصل لهم مشقة، أما أهل النار (1) فإنهم يلجأون إلى
فعل ما يجب عليهم وترك القبائح فلا تصدر عنهم، وليس ذلك تكليفا لأنه بالغ
حد الإلجاء، ويحصل من ذلك نوع من العقاب أيضا.
قال: ويجوز توقف الثواب على شرط وإلا لأثيب العارف بالله تعالى
خاصة.
أقول: ذهب جماعة إلى أن الثواب يجوز أن يكون موقوفا على شرط (2)،
ومنعه آخرون، والأول هو الحق:



(1) كان عليه أن يذكر فيه على غرار ما ذكر في أهل الجنة وهو أنهم يتفاوتون في دركاتهم في النار،
فإذا نظر إلى ما هو أشد منه عذابا سر لأنه أقل عذابا منه فلم يكن العذاب خالصا.
وأما ترك القبائح من أهل النار فليس فيه إشكال بالنسبة إليهم إذ في تركها نوع من العقاب وهو مؤكد
لخلوص العقاب بخلافه بالنسبة إلى أهل الجنة.
(2) هذا البحث مقدمة لحل مشكلة الإحباط الذي هو باطل عند المصنف والشارح بحكم العقل،
وسيوافيك أن المصنف يعتمد في تفسير الآيات الظاهرة في الإحباط على ما ذكره هنا من كون
الثواب مشروطا.
وحاصل هذا الوجه أن الثواب على وجه الإطلاق مشروط بشرط وإلا لأثيب العارف بالله وحده وإن
لم يؤمن برسالة النبي الأكرم ويوم المعاد وهو واضح البطلان، وهذا دليل على أن الثواب يمكن
أن يكون مشروطا، وستوافيك كيفية تفسير الإحباط بهذا الطريق.
273
والدليل عليه أنه لولا ذلك لكان العارف بالله تعالى وحده مثابا مع عدم
نظره في المعجزة وعدم تصديقه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والتالي
باطل إجماعا فكذا المقدم.
بيان الشرطية: أن المعرفة طاعة مستقلة بنفسها فلو لم يتوقف الثواب عليها
على شرط لوجبت إثابة من لم يصدق بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث
لم ينظر في معجزته.
قال: وهو مشروط بالموافاة، لقوله تعالى: * (لئن أشركت ليحبطن عملك) *
(1) وقوله تعالى: * (ومن يرتدد منكم عن دينه) * (2).
أقول: اختلف المعتزلة على أربعة أقوال (3):
فقال بعضهم: إن الثواب والعقاب يستحقان في وقت وجود الطاعة
والمعصية وأبطلوا القول بالموافاة.
وقال آخرون: إنهما يستحقان في الدار الآخرة.
وقال آخرون: إنهما يستحقان حال الاخترام.
وقال آخرون: إنهما يستحقان في الحال بشرط الموافاة فإن كان في علم



(1) الزمر: 65.
(2) البقرة: 217.
(3) هذه الأقوال للمعتزلة، الأول: أن الثواب والعقاب يستحقان في وقت وجود الطاعة والمعصية
وبعبارة أخرى في وقت العمل وعلى وجه التنجيز، ويقابله القول الرابع الذي أشار إليه الشارح
بقوله: " يستحقان في الحال بشرط الموافاة " بأن يبقى على الحال السابق إلى حال الموت. وبقي
القولان الآخران وهما أنهما يستحقان في الدار الآخرة أو يستحقان حال الاخترام أي الموت، ثم
إن البحث عن اشتراط استحقاق الثواب والعقاب بالموافاة وعدمه مبنيان على القول الأول
والرابع وأما القول الثاني والثالث فلا يقبلان الاشتراط.
274
الله تعالى أنه يوافي الطاعة سليمة إلى حال الموت أو الآخرة استحق بها الثواب
في الحال وكذا المعصية، وإن كان في علمه تعالى أنه يحبط الطاعة أو يتوب من
المعصية قبل الموافاة (1) لم يستحق الثواب ولا العقاب بهما.
واستدل المصنف (2) رحمه الله على القول بالموافاة بقوله تعالى: * (لئن
أشركت ليحبطن عملك) * وبقوله تعالى: * (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو
كافر فأولئك حبطت أعمالهم) *.
وتقريره أن نقول: (3) إما أن يكون المراد بالإحباط هنا كون العمل باطلا



(1) يريد: قبل الوفاة.
(2) أقول لما كان ظاهر بعض الآيات دالة على الإحباط، أعني قوله سبحانه: (لئن أشركت ليحبطن
عملك) وقوله تعالى: (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم)
حاول المصنف أن يفسر الإحباط فيهما بنحو لا يعد إحباطا بالمعنى المصطلح، وهو أن الثواب
والعقاب كانا مشروطين بعدم الشرك والارتداد إلى حال الموت، فلو أشرك أو ارتد يكشف عن
عدم الثواب من أول الأمر، فلم يكن هناك موضوع للإحباط، وبعبارة أخرى اعتمد على الأصل
الذي أسسه في المسألة السابقة أعني كون الثواب مشروطا بشئ وهو الموافاة.
(3) ذكر للإحباط معاني ثلاثة اختار الثالث ورفض الأولين. الأول: أن يكون العمل باطلا من أصله،
وهذا غير صحيح لأن المفروض أن الشرك والارتداد المتأخرين يؤثران في الجزاء أي الثواب
فيجب أن يكون العمل موجبا للثواب من أصله وإلا تبطل الشرطية في الآيتين.
والثاني: أن يكون الثواب ساقطا بعد ثبوته، وهذا هو الإحباط المصطلح الذي سوف يذكره المصنف
في المسألة الآتية، فبقي المعنى الثالث أعني ما ذكره بقوله: " أو أن الكفر أبطله " والمراد منه أن
الثواب كان مشروطا بشرط متأخر وهو عدم الشرك والارتداد فإذا لم يتحقق الشرط لم يتحقق
المشروط.
وبما ذكرناه علم أن التعبير عن الوجه الثالث بقوله: " أو أن الكفر أبطله " ليس بجيد، ولأجل ذلك
جاءت النسخ في المقام مشوشة.
275
في أصله، أو أن الثواب يسقط بعد ثبوته، أو أن الكفر أبطله، والأولان باطلان:
أما الأول فلأنه علق بطلانه بالشرك المتجدد ولأنه شرط وجزاء وهما إنما
يقعان في المستقبل وبالأول يبطل الثاني.
وأما الثاني فلما يأتي من بطلان التحابط، فتعين الثالث.
المسألة السابعة: في الإحباط والتكفير
قال: والإحباط باطل لاستلزامه الظلم، ولقوله تعالى: * (فمن يعمل مثقال
ذرة خيرا يره) * (1).
أقول: اختلف الناس هنا، فقال جماعة من المعتزلة بالإحباط والتكفير،
ومعناهما أن المكلف يسقط ثوابه المتقدم بالمعصية المتأخرة أو تكفر ذنوبه
المتقدمة بطاعته المتأخرة، ونفاهما المحققون، ثم القائلون بهما اختلفوا:
فقال أبو علي: إن المتأخر يسقط المتقدم ويبقى على حاله.
وقال أبو هاشم: إنه ينتفي الأقل بالأكثر (2) وينتفي من الأكثر بالأقل ما
ساواه ويبقى الزائد مستحقا وهذا هو الموازنة.
ويدل على بطلان الإحباط أنه يستلزم الظلم، لأن من أساء وأطاع وكانت
إساءته أكثر يكون بمنزلة من لم يحسن وإن كان إحسانه أكثر يكون بمنزلة



(1) الزلزلة: 7.
(2) حاصل الفرق بين القولين أن أبا علي يقول بأن المتأخر وإن كان أقل يسقط المتقدم وإن كان أكثر،
وأما أبو هاشم فهو يوازن بين المتقدم والمتأخر وعليه ينتفي الأقل بالأكثر وأما الأكثر فينتفي منه
بمقدار الأقل ويبقى الزائد.
276
من لم يسئ وإن تساويا يكون مساويا لمن لم يصدر عنه أحدهما، وليس كذلك
عند العقلاء، ولقوله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال
ذرة شرا يره) * (1) والإيفاء بوعده ووعيده واجب.
قال: ولعدم الأولوية إذا كان الآخر ضعفا، وحصول المتناقضين مع
التساوي.
أقول: هذا دليل على إبطال قول أبي هاشم بالموازنة.
وتقريره: أنا إذا فرضنا أنه استحق المكلف خمسة أجزاء من الثواب
وعشرة أجزاء من العقاب فليس إسقاط إحدى الخمستين من العقاب بالخمسة
من الثواب أولى من الأخرى، فإما أن يسقطا معا وهو خلاف مذهبه أولا يسقط
شئ منهما وهو المطلوب، ولو فرضنا أنه فعل خمسة أجزاء (2) من الثواب
وخمسة أجزاء من العقاب فإن تقدم إسقاط أحدهما للآخر لم يسقط الباقي
بالمعدوم لاستحالة صيرورة المغلوب والمعدوم غالبا ومؤثرا، وإن تقارنا لزم
وجودهما معا لأن وجود كل منهما نفي وجود الآخر فيلزم وجودهما حال
عدمهما وذلك جمع بين المتناقضين.



(1) الزلزلة: 7 - 8.
(2) هذا دليل ثان على إبطال نظرية أبي هاشم، وحاصله: نفترض أن إنسانا فعل ما يستتبع ثوابا له
خمسة أجزاء وفعل ما يستتبع عقابا له خمسة أجزاء فإما أن يتقدم إسقاط أحدهما أو تقارنا فإن
تقدم فهو يؤثر في الساقط فيسقطه فلا تصل النوبة إلى الساقط ليسقط المسقط لأنه معدوم
والمعدوم لا يؤثر أبدا، وإن تقارنا لزم الجمع بين المتناقضين، لأن فرض التقارن فرض لوجودهما
معا في زمان واحد، وفرض وجود التضاد بينهما فرض عدم وجودهما معا في زمان واحد وذلك
جمع بين النقيضين.
277
المسألة الثامنة: في انقطاع عذاب أصحاب الكبائر
قال: والكافر مخلد، وعذاب صاحب الكبيرة منقطع لاستحقاقه
الثواب بإيمانه ولقبحه عند العقلاء.
أقول: أجمع المسلمون كافة على أن عذاب الكافر مؤبد لا ينقطع،
واختلفوا في أصحاب الكبائر من المسلمين: فالوعيدية على أنه كذلك، وذهبت
الإمامية وطائفة كثيرة من المعتزلة والأشاعرة إلى أن عذابه منقطع. وينبغي أن
يعرف هنا الصغير والكبير (1) من الذنب:
أما الصغير فيقال على وجوه:



(1) إن الصغر والكبر من المفاهيم الإضافية، فلا بد أن يضافا إلى شئ، فوصف الذنب بالصغر إما
بالإضافة إلى الطاعة أو معصية أخرى أو إلى ما عند فاعلها من الثواب، وهذه هي الوجوه التي
ذكرها الشارح، وإليك التوضيح:
قد فسرت المعصية الصغيرة بوجوه ثلاثة:
1 - أن يضاف عصيان كل عمل بطاعة عمل آخر فيقال: النظر إلى المرأة الأجنبية أصغر بالنسبة إلى
طاعة أمر الجهاد في سبيل الله، بمعنى أن عقابه ينقص في كل وقت عن ثواب الجهاد في سبيل
الله، ويشترط أن تكون القضية مطلقة صادقة في جميع الأوقات. خرج بهذا القيد إضافة عصيان
إلى الإنفاق في سبيل الله، فبما أن الإنفاق قبل فتح مكة وبعد فتحها لا يستويان لا يمكن أن
يضاف عصيان إلى الإنفاق بوجه كلي صادق في جميع الأوقات، وذلك لأنه رب عصيان أصغر
من ثواب الإنفاق قبل الفتح وليس كذلك إذا أضيف إلى العصيان بعده.
2 - أن تضاف معصية إلى معصية أخرى كعقاب النظر بالنسبة إلى الكذب والغيبة.
3 - أن يلاحظ الفاعل من حيث ما له من الثواب في صحيفة أعماله، فإن كان عصيان ما ارتكب أقل من
الثواب الموجود فيها فيعد معصية صغيرة، نفترض أن إنسانا جاهد في سبيل الله طيلة أعوام
ولكنه كذب مرة، فبما أن الثواب الذي اكتسبه من الجهاد أكثر من العقاب المترتب على الكذب
فيوصف الثاني بالصغيرة.
278
منها: ما يقال بالإضافة إلى الطاعة، فيقال: هذه المعصية صغيرة في مقابلة
الطاعة أو هي أصغر من هذه الطاعة، باعتبار أن عقابها ينقص في كل وقت عن
ثواب تلك الطاعة في كل وقت، وإنما شرطنا عموم الوقت لأنه متى اختلف
الحال في ذلك بأن يزيد تارة ثواب الطاعة عن عقاب المعصية وتارة ينقص لم
نقل إن تلك صغيرة بالإضافة إلى تلك الطاعة على الإطلاق بل تقيد بالحالة التي
يكون عقابها أقل من ثواب الطاعة، وحصول الاختلاف (1) بما يقترن بالطاعة
والمعصية، فإن الإنفاق في سبيل الله مختلف كما قال تعالى: * (لا يستوي منكم
من أنفق من قبل الفتح) * (2).
ومنها: أن يقال بالنسبة إلى معصية أخرى، فيقال: هذه المعصية أصغر من
تلك، بمعنى أن عقاب هذه ينقص في كل وقت عن عقاب الأخرى.
ومنها: أن يقال بالإضافة إلى ثواب فاعلها، بمعنى أن عقابها ينقص في كل
وقت عن ثواب فاعلها في كل وقت، هذا هو الذي يطلقه العلماء عليه (3).
والكبير يقال على وجوه مقابلة لهذه الوجوه.
إذا عرفت هذا فنقول: الحق أن عقاب أصحاب الكبائر منقطع،



(1) هو مبتدأ خبره ما يليه أي بما يقترن بالطاعة والمعصية، أي بما يقترن بهما أمور يوجب نقصان
ثواب طاعة كقوة الإسلام، وزيادته كضعفه، فإن الإنفاق قبل الفتح كان إنفاقا في حال ضعف
الإسلام والمسلمين، والإنفاق بعده إنفاق في حال قوتهما، فهذه الأمور المقارنة توجب
الاختلاف.
(2) الحديد: 10.
(3) والظاهر أنه من مختصات المعتزلة، قال الطبرسي في تفسير قوله سبحانه: (إن تجتنبوا كبائر ما
تنتهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم) (النساء: 31): وقالت المعتزلة: الصغيرة ما نقص عقابه عن
ثواب صاحبه (مجمع البيان: 2 / 38، ط صيدا).
279
والدليل عليه وجهان:
الأول: أنه يستحق الثواب بإيمانه، لقوله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة
خيرا يره) * (1) والإيمان أعظم أفعال الخير فإذا استحق العقاب بالمعصية فإما أن
يقدم الثواب على العقاب وهو باطل بالإجماع لأن الثواب المستحق بالإيمان
دائم على ما تقدم، أو بالعكس وهو المراد والجمع محال.
الثاني: يلزم أن يكون من عبد الله تعالى مدة عمره بأنواع القربات إليه ثم
عصى في آخر عمره معصية واحدة مع بقاء إيمانه مخلدا في النار كمن أشرك
بالله تعالى مدة عمره وذلك محال لقبحه عند العقلاء.
قال: والسمعيات متأولة، ودوام العقاب مختص بالكافر.
أقول: هذا إشارة إلى الجواب عن حجج الوعيدية، واحتجوا بالنقل
والعقل:
أما النقل: فالآيات الدالة على خلودهم، كقوله تعالى: * (ومن يعص الله
ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها) * (2) وقوله تعالى: * (ومن يقتل
مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) * (3) إلى غير ذلك من الآيات.
وأما العقل: فما تقدم من أن العقاب والثواب يجب دوامهما.
والجواب عن السمع التأويل إما بمنع العموم والتخصيص بالكفار وإما
بتأويل الخلود بالبقاء المتطاول وإن لم يكن دائما، وعن العقل بأن دوام العقاب
إنما هو في حق الكافر أما غيره فلا.



(1) الزلزلة: 7.
(2) النساء: 14.
(3) النساء: 93.
280
المسألة التاسعة: في جواز العفو (1)
قال: والعفو واقع لأنه حقه تعالى فجاز إسقاطه، ولا ضرر عليه في تركه
مع ضرر النازل به فحسن إسقاطه (2) ولأنه إحسان.
أقول: ذهب جماعة من معتزلة بغداد إلى أن العفو جائز عقلا (3) غير جائز
سمعا (4)، وذهب البصريون إلى جوازه سمعا، وهو الحق.
واستدل عليه المصنف رحمه الله بوجوه:
الأول: أن العقاب حق لله تعالى فجاز تركه، والمقدمتان ظاهرتان.
الثاني: أن العقاب ضرر بالمكلف ولا ضرر في تركه على مستحقه وكل ما
كان كذلك كان تركه حسنا، أما أنه ضرر بالمكلف فضروري، وأما عدم الضرر في
تركه فقطعي لأنه تعالى غني بذاته عن كل شئ، وأما أن ترك مثل



(1) والعفو هو محو الذنب، والمغفرة هو ستره، وربما يستعملان في معنى واحد.
(2) فيه قياس مطوي، وهو: إسقاط العقاب حسن، وكل حسن واقع منه، فإسقاط العقاب واقع منه.
وكان عليه أن يقيده بما إذا لم يمنعه مانع كالكفر وما يليه.
(3) هذه المسألة من شقوق القول بخلود مرتكب الكبيرة في النار، ولأجله قالوا بعدم جوازه عقلا
وسمعا، أو جوازه عقلا لا سمعا، والحق جوازه مطلقا.
(4) ناظر إلى عقيدة الوعيدية حيث لم تجوز العفو مستدلا بقوله: * (ما يبدل القول لدي وما أنا
بظلام للعبيد) * (ق: 29) ولكن الآية ناظرة إلى الكفار الذين جحدوا رسله سبحانه بشهادة ما
قبلها، قال سبحانه: * (ألقيا في جهنم كل كفار عنيد * مناع للخير معتد مريب * الذي جعل مع الله
إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد * قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ظلال بعيد * قال لا
تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد * ما يبدل القول لدي...) * (ق: 24 - 29).
281
هذا حسن فضروري.
قال: وللسمع.
أقول: هذا دليل الوقوع سمعا، وهو الآيات الدالة على العفو، كقوله تعالى:
* (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) * (1) فإما أن يكون
هذان الحكمان مع التوبة أو بدونها والأول باطل لأن الشرك يغفر مع التوبة
فتعين الثاني.
وأيضا المعصية مع التوبة يجب غفرانها (2)، وليس المراد في الآية
المعصية التي يجب غفرانها لأن الواجب لا يعلق بالمشيئة، فما كان يحسن
قوله: * (لمن يشاء) *، فوجب عود الآية إلى معصية لا يجب غفرانها، كقوله تعالى:
* (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) * (3) و * (على) * تدل على الحال (4) أو



(1) النساء: 48 و 116.
(2) اختلفوا في وجوب قبول التوبة، فهل هو عقلي كما عليه المعتزلة، أو سمعي كما عليه الإمامية،
قال المفيد: " اتفقت الإمامية على أن قبول التوبة بفضل من الله عز وجل وليس بواجب في
العقول، إسقاطها لما سلف من استحقاق العقاب، ولولا أن السمع ورد بإسقاطها لجاز في العقول
بقاء التائبين على شرط الاستحقاق، ووافقهم على ذلك أصحاب الحديث، وأجمعت المعتزلة
على خلافهم وزعموا أن التوبة مسقطة لما سلف من العقاب على الوجوب. " (أوائل المقالات:
48 ط تبريز).
(3) الرعد: 6.
(4) أي أن الناس في حال كونهم ظالمين تنالهم مغفرته سبحانه، فيدل على جواز عفو الظالمين حال
كونهم ظالمين مستحقين للعقاب، قال الطبرسي في تفسير الآية: " قال المرتضى رحمه الله: وفي
الآية دلالة على جواز المغفرة للمذنبين من أهل القبلة لأنه سبحانه دلنا على أنه يغفر لهم مع كونهم
ظالمين لأن قوله: " على ظلمهم " إشارة إلى الحال التي يكونون عليها ظالمين ويجري ذلك
مجرى قول القائل: أنا أود فلانا على غدره، وأصله على هجره. " (مجمع البيان: 3 / 278).
282
الغرض، كما يقال ضربت زيدا على عصيانه، أي لأجل عصيانه، وهو غير مراد
هنا قطعا فتعين الأول.
وأيضا فالله تعالى قد نطق في كتابه العزيز بأنه عفو غفور وأجمع
المسلمون عليه ولا معنى له إلا إسقاط العقاب عن العاصي.
المسألة العاشرة: في الشفاعة
قال: والإجماع على الشفاعة، فقيل لزيادة المنافع، ويبطل بنا في حقه
صلى الله عليه وآله وسلم.
أقول: اتفقت العلماء على ثبوت الشفاعة للنبي صلى الله عليه وآله و
سلم، ويدل عليه قوله تعالى: * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * (1) قيل: إنه
الشفاعة، واختلفوا:
فقالت الوعيدية (2): إنها عبارة عن طلب زيادة المنافع للمؤمنين (3)
المستحقين للثواب.
وذهبت التفضلية إلى أن الشفاعة للفساق من هذه الأمة في إسقاط عقابهم،
وهو الحق.



(1) الإسراء: 79.
(2) هؤلاء في مقابل " التفضلية "، والطائفة الأولى هم المعتزلة والخوارج، قالوا بخلود أهل
المعاصي في النار إذا ماتوا بلا توبة، والطائفة الثانية قالوا: إن الله سبحانه يتفضل على عباده يوم
القيامة من غير استحقاقهم، وهم الأشاعرة والإمامية.
(3) الداعي إلى ذلك التفسير، الرأي المسبق في مرتكب الكبيرة، حيث قالوا بخلوده في النار وعدم
جواز العفو، فلما واجهوا آيات الشفاعة عمدوا إلى تأويلها بأنها ليست بمعنى إسقاط العقاب بل
بمعنى ترفيع الدرجة.
283
وأبطل المصنف الأول بأن الشفاعة لو كانت في زيادة المنافع لا غير (1)
لكنا شافعين في النبي صلى الله عليه وآله وسلم (2) حيث نطلب له من الله
تعالى علو الدرجات، والتالي باطل قطعا لأن الشافع أعلى من المشفوع فيه
فالمقدم مثله.
قال: ونفي المطاع لا يستلزم نفي المجاب، وباقي السمعيات متأولة
بالكفار.
أقول: هذا إشارة إلى جواب من استدل على أن الشفاعة إنما هي في زيادة
المنافع، وقد استدلوا بوجوه:
الأول: قوله تعالى: * (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) * (3) نفى الله
تعالى قبول الشفاعة عن الظالم (4)، والفاسق ظالم.
والجواب: أنه تعالى نفى الشفيع المطاع ونحن نقول به لأنه ليس في



(1) لا يخفى أن الإشكال يرد على من حصرها في زيادة المنافع فقط، وعلى من عممها لها
ولإسقاط العذاب، نعم لا يرد على من فسرها بإسقاط العقاب فقط.
(2) لا يخفى ضعف الدليل لأن كلية الكبرى (كون الشافع أعلى من المشفوع فيه) ممنوعة، إذ الشافع
إنما يلزم أن يكون أعلى منه إذا شفع في إسقاط عقابه، لا إذا دعا الله سبحانه أن يرفع درجته إذ لا
يشترط فيه العلو كما لا يخفى.
والدليل الصحيح على بطلان تفسير الشفاعة برفع الدرجة هو أن الشفاعة ليست من المفاهيم التي
ابتكرها الإسلام بل كانت موجودة في الأمم السابقة وقد أمضاها الإسلام بحذف ما ألصق بها من
خرافة، ومن المعلوم أن الشفاعة الرائجة بين الأمم السابقة هو إسقاط العقاب وبالأخص عقيدة
اليهود في الشفاعة هي ذاك، فالإسلام لم يرفضها بتاتا وإنما قطع ما ألصق به من الأباطيل.
(3) غافر: 18.
(4) التعبير الصحيح أن يقال: نفى الله سبحانه أن يكون للظالم شفيع.
284
الآخرة شفيع يطاع لأن المطاع فوق المطيع والله تعالى فوق كل موجود ولا أحد
فوقه، ولا يلزم من نفي الشفيع المطاع نفي الشفيع المجاب (1)، سلمنا لكن لم لا
يجوز أن يكون المراد بالظالمين هنا الكفار جمعا بين الأدلة؟
الثاني: قوله تعالى: * (وما للظالمين من أنصار) * (2) ولو شفع عليه السلام
في الفاسق لكان ناصرا له.
الثالث: قوله تعالى: * (ولا تنفعها شفاعة) * (3)، * (يوما لا تجزي نفس عن
نفس شيئا) * (4) * (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) * (5).
والجواب: عن هذه الآيات كلها أنها مختصة بالكفار، جمعا بين الأدلة.
الرابع: قوله تعالى: * (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) * (6) نفى شفاعة
الملائكة عن غير المرتضى لله تعالى، والفاسق غير مرتضى.
والجواب: لا نسلم أن الفاسق غير مرتضى بل هو مرتضى لله تعالى في
إيمانه.
قال: وقيل في إسقاط المضار، والحق صدق الشفاعة فيهما وثبوت
الثاني له صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: " ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر
من أمتي ".
أقول: هذا هو المذهب الثاني الذي حكيناه أولا، وهو أن الشفاعة في
إسقاط المضار، ثم بين المصنف رحمه الله أنها تطلق على المعنيين معا كما
يقال: شفع فلان في فلان إذا طلب له زيادة منافع أو إسقاط مضار، وذلك
متعارف



(1) المطاع هو الشفيع المفوض إليه أمر الشفاعة، مع أنه لا يشفع إلا من أذن له الرحمن، والمجاب
هو الشفيع المأذون الذي أجيبت دعوته.
(2) البقرة: 270.
(3) البقرة: 123.
(4) البقرة: 123.
(5) المدثر: 48.
(6) الأنبياء: 28.
285
عند العقلاء.
ثم بين أن الشفاعة بالمعنى الثاني أعني إسقاط المضار ثابتة للنبي بقوله
صلى الله عليه وآله وسلم: " ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي "، وذلك
حديث مشهور.
المسألة الحادية عشرة: في وجوب التوبة
قال: والتوبة واجبة لدفعها الضرر ولوجوب الندم على كل قبيح أو
إخلال بواجب.
أقول: التوبة هي الندم على المعصية لكونها معصية (1) والعزم على ترك
المعاودة في المستقبل لأن ترك العزم يكشف عن نفي الندم، وهي واجبة
بالإجماع (2) لكن اختلفوا:
فذهب جماعة من المعتزلة إلى أنها تجب من الكبائر المعلوم كونها كبائر
أو المظنون فيها ذلك ولا يجب من الصغائر المعلوم (3) منها أنها صغائر.
وقال آخرون: إنها لا تجب من ذنوب تاب عنها من قبل (4).
وقال آخرون: إنها تجب من كل صغير وكبير من المعاصي أو الإخلال
بالواجب سواء تاب عنها قبل أو لم يتب.



(1) خرج الندم عليها لأجل حفظ مقامه ووجاهته عند الناس، فليست توبة.
(2) عقلا وسمعا عند من يقول بالحسن والقبح العقليين، وسمعا فقط عند من ينكرها.
(3) لكونها مغفورة بترك الكبائر لقوله سبحانه: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم)
(النساء: 31).
(4) الأولى أن يضيف إليه قوله: " ونقض " وإلا فعدم الوجوب أوضح من أن يذكر.
286
وقد استدل المصنف على وجوبها بأمرين:
الأول: أنها دافعة للضرر الذي هو العقاب أو الخوف منه، ودفع الضرر
واجب.
الثاني: أنا نعلم قطعا وجوب الندم على فعل القبيح أو الإخلال بالواجب.
إذا عرفت هذا فنقول: إنها تجب عن كل ذنب لأنها تجب من المعصية
لكونها معصية ومن الإخلال بواجب لكونه كذلك، وهذا عام في كل ذنب
وإخلال بواجب.
قال: ويندم على القبيح لقبحه (1) وإلا انتفت، وخوف النار إن كان
الغاية فكذلك، وكذا الإخلال.
أقول: يجب على التائب أن يندم على القبيح لقبحه وأن يعزم على ترك
المعاودة إليه، إذ لولا ذلك انتفت التوبة، كمن يتوب عن المعصية حفظا لسلامة
بدنه أو لعرضه بحيث لا ينثلم عند الناس، فإن مثل هذا لا يعد توبة لانتفاء الندم
فيه.



(1) حاصل كلامه: أن المحرك إلى التوبة يجب أن يكون إدراك قبح العمل بما هو هو، سواء كان
القبيح فعل المحرم أو ترك الواجب، ولو انضم إليه شئ من الأمور الدنيوية، بحيث لولاها لما
تاب، فلا يعد توبة حقيقة.
لكن الحق، الفرق بين البواعث الدنيوية كصيانة وجاهته عند الناس، والبواعث الإلهية، من غير فرق
بين العذاب الدنيوي أو الأخروي لقوله سبحانه: * (أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين
ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون) * (التوبة: 126) حيث يوبخهم على ترك التوبة مع الوقوع في
الافتتان في كل عام مرة، ومن المعلوم أن المقصود حتما هو الأمراض والأوجاع وهما رائدا
الموت.
287
وأما التائب خوفا من النار فإن كان الخوف من النار هو الغاية في توبته
بمعنى أنه لولا خوف النار لم يتب فكذلك، أي لا يصح منه التوبة لأنها ليست
توبة عن القبيح لقبحه فجرى مجرى طالب سلامة البدن، وإن لم يكن هو الغاية
بأن يندم عليه لأنه قبيح وفيه عقاب النار ولولا القبح لما ندم عليه، وإن كان فيه
خوف النار، صحت توبته، وكذا الإخلال بالواجب: إن ندم عليه لأنه إخلال
بواجب وعزم على فعل الواجب في المستقبل لأجل كونه إخلالا بواجب فهي
توبة صحيحة، وإن كان خوفا من النار أو من فوات الجنة فإن كان هو الغاية لم
تصح توبته وإلا كانت صحيحة، ولهذا أن المسئ لو اعتذر إلى المظلوم لا لأجل
إساءته بل لخوفه من عقوبة السلطان لم يقبل العقلاء عذره.
قال: فلا تصح من البعض، ولا يتم القياس على الواجب.
أقول: اختلف شيوخ المعتزلة، فذهب أبو هاشم إلى أن التوبة لا تصح من
قبيح دون قبيح، وذهب أبو علي إلى جواز ذلك.
والمصنف رحمه الله استدل على مذهب أبي هاشم بأنا قد بينا أنه يجب
أن يندم على القبيح لقبحه ولولا ذلك لم تكن مقبولة على ما تقدم والقبح حاصل
في الجميع، فلو تاب من قبيح دون قبيح كشف ذلك عن كونه تائبا عنه لا لقبحه.
واحتج أبو علي بأنه لو لم تصح التوبة عن قبيح دون قبيح لم يصح الإتيان
بواجب دون واجب والتالي باطل فالمقدم مثله.
بيان الشرطية: أنه كما يجب عليه ترك القبيح لقبحه كذا يجب عليه فعل
الواجب لوجوبه، فلو لزم من اشتراك القبائح في القبح عدم صحة التوبة من

288
بعض القبائح دون بعض لزم من اشتراك الواجبات في الوجوب عدم صحة
الإتيان بواجب دون آخر.
وأما بطلان التالي فبالإجماع إذ لا خلاف في صحة صلاة من أخل بالصوم.
وأجاب أبو هاشم بالفرق بين ترك القبيح لقبحه وفعل الواجب لوجوبه
بالتعميم في الأول دون الثاني (1)، فإن من قال: لا آكل الرمانة لحموضتها، فإنه لا
يقدم على أكل كل حامض لاتحاد الجهة في المنع، ولو أكل الرمانة لحموضتها لم
يلزم أن يتناول كل رمانة حامضة، فافترقا، وإليه أشار المصنف رحمه الله بقوله:
" ولا يتم القياس على الواجب " أي لا يتم قياس ترك القبيح لقبحه على فعل
الواجب لوجوبه.
قال: ولو اعتقد فيه الحسن صحت.
أقول: قد تصح التوبة من قبيح دون قبيح إذا اعتقد التائب في بعض القبائح
أنها حسنة وتاب عما يعتقده قبيحا، فإنه يقبل



(1) حاصله: أن الطبيعة توجد بفرد ما ولا تنعدم إلا بترك جميع أفرادها، فإذا نهى عن الكذب والغيبة
والربا، فكأنه نهى عن فعل القبيح، وعندئذ لا ينعدم إلا بترك جميع أفرادها، ولأجل ذلك قلنا لا
يقبل التبعيض، وهذا بخلاف الواجبات، فإذا قال: صل وصم وزك، فكأنه قال: افعل الحسن، وهو
يتحقق بالإتيان بفرد ما، وبذلك ظهر معنى قوله: " من قال: لا آكل الرمانة لحموضتها " فإنه يجب
عليه ترك كل رمانة حامضة وينتقض بأكل رمانة ولا يتوقف النقض على أكل كل رمانة، فالمثال
راجع إلى المحرمات، وأما الواجبات فكما إذا قال: " علي أن آكل الرمانة الحامضة " فإنه لا يلزم أن
يتناول كل رمانة حامضة.
289
توبته لحصول الشرط فيه وهو ندمه على القبيح لقبحه، ولهذا إذا تاب الخارجي
عن الزنا فإنه يقبل توبته وإن كان اعتقاده قبيحا لأنه لا يعتقده كذلك فيصدق في
حقه أنه تاب عن القبيح لقبحه.
قال: وكذا المستحقر.
أقول: إذا كان هناك فعلان: أحدهما عظيم القبح والآخر صغيره
وهو مستحقر بالنسبة إليه حتى لا يكون معتدا به ويكون وجوده بالنسبة إلى العظيم
كعدمه حتى تاب فاعل القبيح من العظيم، فإنه تقبل توبته.
مثال ذلك: إن الإنسان إذا قتل ولد غيره وكسر له قلما ثم تاب وأظهر الندم
على قتل الولد دون كسر القلم، فإنه تقبل توبته ولا يعتد العقلاء بكسر القلم وإن
كان لا بد من أن يندم على جميع إساءته، وكما أن كسر القلم حال قتل الولد لا يعد
إساءة فكذا الندم.
قال: والتحقيق أن ترجيح الداعي إلى الندم عن البعض يبعث عليه وإن
اشترك الداعي في الندم على القبيح كما في الدواعي إلى الفعل، ولو اشترك
الترجيح اشترك وقوع الندم، وبه يتأول كلام أمير المؤمنين وأولاده عليهم
السلام، وإلا لزم الحكم ببقاء الكفر على التائب منه المقيم على صغيرة.
أقول: لما شرع في تقرير كلام أبي هاشم ذكر التحقيق في هذا المقام،
وتقريره أن نقول:
الحق أنه تجوز التوبة عن قبيح دون قبيح لأن الأفعال تقع بحسب
الدواعي وتنتفي بحسب الصوارف فإذا ترجح الداعي وقع الفعل.

290
إذا عرفت هذا فنقول: يجوز أن يرجح فاعل القبائح دواعيه إلى الندم (1)
على بعض القبائح دون بعض وإن كانت القبائح مشتركة في أن الداعي يدعو إلى
الندم عليها، وذلك بأن تقترن ببعض



(1) قد تعرفت على أن أبا هاشم قد ذهب إلى أن التوبة لا تصح من قبيح دون قبيح مستدلا بأن التوبة
عبارة عن الندم عن المعصية لكونه قبيحا، فإذا كان هذا هو الملاك فيجب أن يندم عن كل معصية
قبيحة، والتبعيض آية أن الندم عن المعصية ليس لأجل قبحه، ولكن ذهب أبو علي إلى صحته
مستدلا بأنه لو لم تصح التوبة من بعض القبائح دون بعض، لزم من اشتراك الواجبات في
الوجوب (الحسن) عدم صحة الإتيان بواجب دون واجب، وقد أجاب عنه الولد بما عرفت من
التفريق بين المنهيات والواجبات.
لكن المصنف حاول نقض كلام أبي هاشم بوجه آخر، وحاصله: أن قبح الفعل داع إلى الندم ولكن
ربما تقترن ببعض القبائح زيادة الدواعي الأخر إلى الندم فيترجح لأجلها الداعي إلى الندم على
ذلك، وربما لا تقترن فلا يترجح الداعي إلى الندم، فالداعي مطلقا إلى الترك هو قبح الفعل غير
أنه ربما يقترن ببعض الدواعي فيؤثر وربما لا يقترن فلا يؤثر، وبعبارة أخرى: الندم الإنشائي
موجود مطلقا ولكن بلوغه إلى مرتبة الفعلية يتوقف على انضمام الأمور الخارجية.
والاختلاف بين البيانين واضح وإن اشتبه الأمر على الفاضل القوشجي فزعم وحدتهما.
ولكن الحق عدم الحاجة إلى كون الندم لأجل قبحه، بل يكفي الندم لدواع إلهية وإن لم يكن الندم
لقبحه كما عرفت.
291
القبائح قرائن زائدة كعظم الذنب، أو كثرة الزواجر عنه، أو الشناع عند العقلاء عند
فعله، ولا تقترن هذه القرائن ببعض القبائح فلا يندم عليها، وهذا في دواعي
الفعل، فإن الأفعال الكثيرة قد تشترك في الدواعي ثم يؤثر صاحب الدواعي
بعض تلك الأفعال على بعض بأن يترجح دواعيه إلى ذلك الفعل بما يقترن به
من زيادة الدواعي، فلا استبعاد في كون قبح الفعل داعيا إلى الندم ثم تقترن
ببعض القبائح زيادة الدواعي إلى الندم عليه فيترجح لأجلها الداعي إلى الندم
على ذلك البعض، ولو اشتركت القبائح في قوة الدواعي اشتركت في وقوع
الندم ولم يصح الندم على البعض دون الآخر.
وعلى هذا ينبغي أن يحمل كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه
السلام وكلام أولاده كالرضا وغيره عليهم السلام حيث نقل عنهم نفي تصحيح
التوبة عن بعض القبائح دون بعض، لأنه لولا ذلك لزم خرق الإجماع والتالي
باطل فالمقدم مثله.
بيان الملازمة: أن الكافر إذا تاب عن كفره وأسلم وهو مقيم على الكذب
إما أن يحكم بإسلامه وتقبل توبته عن الكفر أو لا، والثاني خرق الإجماع لاتفاق
المسلمين على إجراء أحكام المسلمين عليه والأول هو المطلوب.
وقد التزم أبو هاشم استحقاقه عقاب الكفر وعدم قبول توبته وإسلامه
لكن يمنع إطلاق الاسم عليه.
المسألة الثانية عشرة: في أقسام التوبة
قال: والذنب إن كان في حقه تعالى من فعل قبيح كفى فيه الندم والعزم،
وفي الإخلال بالواجب اختلف حكمه من بقائه وقضائه وعدمهما، وإن كان في
حق آدمي استتبع إيصاله إن كان ظلما أو العزم عليه مع التعذر، أو الإرشاد إن كان
إضلالا، وليس ذلك أجزاء.
أقول: التوبة إما أن تكون من ذنب يتعلق به تعالى خاصة، أو يتعلق به

292
حق الآدمي، والأول إما أن تكون عن فعل قبيح كشرب الخمر والزنا، أو إخلال
بواجب كترك الصلاة والزكاة.
فالأول: يكفي في التوبة منه الندم عليه والعزم على ترك العود إليه.
وأما الثاني: فتختلف أحكامه بحسب القوانين الشرعية، فمنه ما لا بد مع
التوبة منه من فعله أداء كالزكاة، ومنه ما يجب معه القضاء كالصلاة اليومية، ومنه
ما يسقطان عنه كالعيدين، وهذا الأخير يكفي فيه الندم والعزم على ترك
المعاودة كما في فعل القبيح.
وأما ما يتعلق به حق الآدمي فيجب فيه الخروج إليهم منه، فإن كان أخذ
مال وجب رده على مالكه أو على ورثته إن مات ولو لم يتمكن من ذلك وجب
العزم عليه، وكذا إن كان حد قذف، وإن كان قصاصا وجب الخروج إليهم منه بأن
يسلم نفسه إلى أولياء المقتول فإما أن يقتلوه أو يعفوا عنه بالدية أو بدونها، وإن
كان في بعض الأعضاء وجب تسليم نفسه ليقتص منه في ذلك العضو إلى
المستحق (1) من المجني عليه أو الورثة، وإن كان إضلالا وجب إرشاد من أضله
ورجوعه عما اعتقده بسببه من الباطل إن أمكن ذلك.
واعلم: أن هذه التوابع ليست أجزاء من التوبة، فإن العقاب يسقط بالتوبة،
ثم إن قام المكلف بالتبعات كان ذلك إتماما للتوبة من جهة المعنى لأن ترك
التبعات لا يمنع من سقوط العقاب بالتوبة عما تاب منه بل يسقط العقاب
ويكون ترك القيام بالتبعات بمنزلة ذنوب مستأنفة تلزمه التوبة منها.
نعم التائب إذا فعل التبعات بعد إظهار توبته كان ذلك دلالة على صدق
الندم وإن لم يقم بها أمكن جعله دلالة على عدم صحة الندم.



(1) " متعلق بقوله: " تسليم نفسه ".
293
قال: ويجب الاعتذار إلى المغتاب مع بلوغه.
أقول: المغتاب إما أن يكون قد بلغه اغتيابه أو لا، ويلزم على الفاعل للغيبة
في الأول الاعتذار منه إليه لأنه أوصل إليه ضرر الغم فوجب عليه الاعتذار منه
والندم عليه، وفي الثاني لا يلزمه الاعتذار ولا الاستحلال منه لأنه لم يفعل به ألما،
وفي كلا القسمين يجب الندم لله تعالى لمخالفته النهي والعزم على ترك
المعاودة.
قال: وفي إيجاب التفصيل مع الذكر إشكال.
أقول: ذهب قاضي القضاة إلى أن التائب إن كان عالما بذنوبه على التفصيل
وجب عليه التوبة عن كل واحد منها مفصلا، وإن كان يعلمها على الإجمال
وجب عليه التوبة كذلك مجملا، وإن كان يعلم بعضها على التفصيل وبعضها
على الإجمال وجب عليه التوبة عن المفصل بالتفصيل وعن المجمل بالإجمال.
واستشكل المصنف رحمه الله إيجاب التفصيل مع الذكر لإمكان الإجزاء
(1) بالندم على كل قبيح وقع منه وإن لم يذكره مفصلا.
قال: وفي وجوب التجديد إشكال.
أقول: إذا تاب المكلف عن معصية ثم ذكرها هل يجب عليه تجديد
التوبة؟ قال أبو علي: نعم بناء على أن المكلف القادر بقدرة لا ينفك عن
الضدين، إما الفعل أو الترك فعند ذكر المعصية إما أن يكون نادما عليها أو مصرا
عليها والثاني قبيح فيجب الأول.



(1) الصحيح: الاجتزاء.
294
وقال أبو هاشم: لا يجب لجواز خلو القادر بقدرة عنهما (1).
قال: وكذا المعلول مع العلة (2).
أقول: إذا فعل المكلف العلة قبل وجود المعلول هل يجب عليه الندم على
المعلول أو على العلة أو عليهما، مثاله الرامي إذا رمى قبل الإصابة؟ قال الشيوخ:
يجب الندم على الإصابة لأنها هي القبيح وقد صارت في حكم الموجود
لوجوب حصوله عند حصول السبب.
وقال القاضي: يجب عليه ندمان: أحدهما على الرمي لأنه قبيح، والثاني
على كونه مولدا للقبيح، ولا يجوز أن يندم على المعلول، لأن الندم على القبيح
إنما هو لقبحه وقبل وجوده لا قبح.
قال: ووجوب سقوط العقاب بها (3).
أقول: المصنف رحمه الله استشكل وجوب سقوط العقاب بها.



(1) أي عن الندم والإصرار.
(2) أي وكذا في المعلول مع العلة إشكال، ولا يخفى أن المسألة نادرة الابتلاء لأن الفترة بين الرمي
والإصابة قليلة، وقلما يتفق لإنسان إمكان حصول الندم قبل الإصابة حتى نبحث عن حكمه،
وعلى كل تقدير فهناك أقوال ذكرها الشارح، والعجب من قول القاضي عبد الجبار حيث أوجب
الندمين على الرمي.
(3) أي وكذا في وجوب سقوط العقاب بها إشكال، وكان للمصنف أن يكتفي في العبارة بخبر
واحد (إشكال) في مجموع الجمل الأربع المتقدمة التي بدؤها قوله: " وفي إيجاب التفصيل مع
الذكر " الخ. ومحور البحث في المقام هو كون التوبة مسقطة للعقاب عقلا أولا، وأما شرعا فلا
شك أنه مسقط للعقاب وقد تضافر عنهم قولهم: " التائب عن ذنبه كمن لا ذنب له " وقال سبحانه:
(وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) (طه: 82) فذهبت المعتزلة إلى وجوب
سقوطه عقلا بوجهين:
أحدهما: أن العاصي كما هو مكلف بالتوبة مكلف بسائر التكاليف، فلو افترضنا أنه كذب وتاب ومع
ذلك صلى وزكى وحج، فلو لم يسقط عقاب الكذب بالتوبة يلزم اجتماع الثواب والعقاب في
زمان واحد وهو محال، ومن جانب آخر لا مسقط للعقاب غير التوبة، فعلى ضوء ذلك يلزم أن
تكون التوبة مسقطة للعقاب حتى لا يجتمع الضدان.
والاستدلال مبني على أن مرتكب الكبيرة ومستحق العقاب (كالتائب في المقام على القول بعدم
سقوط عقابه بالتوبة) مخلد في النار ومعه كيف يمكن أن يثاب، ولكن المبنى باطل لما قلنا بأنه
غير مخلد فيمكن أن يتوب ولا يسقط عقابه فيعاقب فترة فيخرج من النار ويثاب.
ثم إن قوله: " وبغير التوبة لا يسقط العقاب " مبني على أن الشفاعة بمعنى ترفيع الدرجة لا إسقاط
العقاب وإلا فيبطل الاستدلال.
ثانيهما: ما أشار إليه بقوله: " أن من أساء إلى غيره واعتذر إليه بأنواع الاعتذارات... "، وأجاب عنه
الشارح بوجه لا يحتاج إلى توضيح، إلا قوله في الجواب: " لكن نمنع المساواة بين الشاهد
والغائب ".
295
واعلم أن الناس اتفقوا على سقوط العقاب بالتوبة، واختلفوا: فقالت
المعتزلة: إنه يجب سقوط العقاب بها، وقالت المرجئة: إن الله تعالى يتفضل عليه
بإسقاط العقاب لا على جهة الوجوب.
احتجت المعتزلة بوجهين:
الأول: أنه لو لم يجب إسقاط العقاب لم يحسن تكليف العاصي، والتالي
باطل إجماعا فالمقدم مثله.
بيان الشرطية: أن التكليف إنما يحسن للتعريض للنفع وبوجود العقاب
قطعا لا يحصل الثواب وبغير التوبة لا يسقط العقاب، فلا يبقى للعاصي طريق
إلى إسقاط العقاب عنه، ويستحيل اجتماع الثواب والعقاب فيكون التكليف
قبيحا.

296
الثاني: أن من أساء إلى غيره واعتذر إليه بأنواع الاعتذارات وعرف منه
الإقلاع عن تلك الإساءة بالكلية فإن العقلاء يذمون المظلوم إذا ذمه بعد ذلك.
والجواب عن الأول: لا نسلم انحصار سقوط العقاب في التوبة، لجواز
سقوطه بالعفو أو بزيادة الثواب، سلمنا لكن نمنع عدم اجتماع الاستحقاقين لأن
عقاب الفاسق عندنا منقطع.
وعن الثاني: بالمنع من قبح الذم، سلمنا لكن نمنع المساواة بين الشاهد
والغائب.
وأما المرجئة فقد احتجوا بأنه لو وجب سقوط العقاب لكان إما لوجوب
قبولها أو لكثرة ثوابها، والقسمان باطلان:
أما الأول فلأن من أساء إلى غيره بأنواع الإساءات وأعظمها كقتل الأولاد
ونهب الأموال ثم اعتذر إليه فإنه لا يجب قبول عذره.
وأما الثاني فلما بينا من إبطال التحابط.
المسألة الثالثة عشرة: في باقي المباحث المتعلقة بالتوبة
قال: والعقاب يسقط بها (1) لا بكثرة ثوابها، لأنها قد تقع محبطة، ولولاه لا
يبقى الفرق بين التقدم والتأخر، ولا اختصاص، ولا تقبل في الآخرة لانتفاء
الشرط.



(1) المسألة مركزة على أن التوبة بنفسها إذا كانت جامعة للشرائط تسقط العقاب أو أنها تورث كثرة
الثواب وبها يسقط العقاب، واختار المصنف الوجه الأول واستدل عليه بأمور أربعة:
أ - أنها قد تقع محبطة، المقصود من " محبطة " - بفتح الباء -: التوبة العارية عن الثواب كتوبة الخارج
عن طاعة الإمام، إذا تاب عن الكذب فتقبل توبته ويسقط العقاب ولكن لا بثوابها لأن الخارجي
محروم عن الثواب، فلو كانت التوبة مؤثرة بثوابها لزم عدم قبول التوبة في هذه الصورة.
ب - لولاه لما يبقى الفرق بين التقدم والتأخر، وفي بعض النسخ: ولولاه لانتفى الفرق بين التقدم
والتأخر، ومقصوده أنه لو كانت التوبة مؤثرة بإثارة كثرة الثواب يجب أن تكون مؤثرة أيضا إذا
وقعت قبل المعصية، فالثواب المتحصل بالتوبة المتقدمة يزيل عقاب العمل المتأخر. ولا يخفى
ضعف الاستدلال لأن حقيقة التوبة هي الندم عن العمل، فما معنى الندم قبل العمل؟
ج - قوله: " ولا اختصاص "، وفي بعض النسخ: " والاختصاص "، ولعله الأصح أي انتفى الاختصاص،
مثلا نفترض أن إنسانا كذب واغتاب ونم فتاب عن الكذب فأثارت ثوابا فلا وجه لإسقاطها عقاب
الأول، لأن نسبة الثواب إلى الأعمال الثلاثة وعقوباتها سواسية.
د - " ولا تقبل في الآخرة لانتفاء الشرط " جواب عن استدلال الخصم على أن التوبة بإثارتها الثواب
يسقط العقاب، وحاصل الاستدلال أنها لو كانت بما هي هي مسقطة له فيجب أن تكون مسقطة
في الآخرة، مع أنها ليست كذلك، وهذا بخلاف ما إذا قلنا بأنها مسقطة بإثارة الثواب، فلا تكون
مسقطة، لأن الثواب والعقاب راجعان إلى دار التكليف وليست إلا الدنيا وأما الجواب فواضح.
297
أقول: اختلف الناس هنا، فقال قوم: إن التوبة تسقط العقاب بذاتها، لا على
معنى أنها لذاتها تؤثر في إسقاط العقاب، بل على معنى أنها إذا وقعت على
شروطها والصفة التي بها تؤثر في إسقاط العقاب أسقطت العقاب من غير اعتبار
أمر زائد.
وقال آخرون: إنها تسقط العقاب لكثرة ثوابها.
واستدل المصنف رحمه الله على الأول بوجوه:

298
الأول: أن التوبة قد تقع محبطة بغير ثواب كتوبة الخارجي من الزنا فإنه
يسقط بها عقابه من الزنا ولا ثواب لها.
الثاني: أنه لو أسقطت العقاب بكثرة ثوابها لم يبق فرق بين تقدم التوبة على
المعصية وتأخرها عنها، كغيرها من الطاعات التي تسقط العقاب بكثرة ثوابها،
ولو صح ذلك لكان التائب عن المعاصي إذا كفر أو فسق أسقط عنه العقاب.
الثالث: لو أسقطت العقاب لعظم ثوابها لما اختص بها بعض الذنوب عن
بعض، فلم يكن إسقاطها لما هي توبة عنه بأولى من غيره، لأن الثواب لا
اختصاص له ببعض العقاب دون بعض.
ثم إن المصنف رحمه الله أجاب عن حجة المخالف، وتقريرها: أن التوبة لو
أسقطت العقاب لذاتها لأسقطته في حال المعاينة في الدار الآخرة.
والجواب: أنها أنما تؤثر في الإسقاط إذا وقعت على وجهها، وهي أن تقع
ندما على القبيح لقبحه، وفي الآخرة يقع الإلجاء فلا يكون الندم للقبح.
المسألة الرابعة عشرة: في عذاب القبر والميزان والصراط
قال: وعذاب القبر واقع لإمكانه وتواتر السمع بوقوعه.
أقول: نقل عن ضرار أنه أنكر عذاب القبر، والإجماع على خلافه.
وقد استدل المصنف رحمه الله بإمكانه عقلا، فإنه لا استبعاد في أن يعجل
الله تعالى العقاب في دار التكليف على وجه لا يمتنع مع التكليف، كما في قطع
يد السارق كما قال تعالى: * (فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا) * (1).



(1) المائدة: 38.
299
وقال في قطاع الطريق: * (ذلك لهم خزي في الدنيا) * (1)
وقال تعالى: * (ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده) * (2).
وحكى تعالى في كتابه إهلاك الفرق الذين كفروا به.
وإذا [فإذا - ظ] كان ممكنا والله تعالى قادر على كل ممكن، وقد أخبر الله
تعالى بوقوعه (3) في قوله: * (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم
ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) *. (4)
فذكر الرجوع بعد إحياءين وإنما يكون بإحياء ثالث.
وقال تعالى: * (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا) * (5).
فذكر موتتين: إحداهما في الدنيا والأخرى في القبر، وذكر إحياءين:
أحدهما في الدنيا والآخر في القبر، ولم يذكر الثالث لأنه معلوم وقع فيه الكلام
وغير الحي لا يتكلم، وقيل إنما أخبروا عن الإحياءين اللذين عرفوا الله تعالى
فيهما ضرورة فأحدهما في القبر والآخر في الآخرة ولهذا عقب بقوله: * (فاعترفنا
بذنوبنا) *.



(1) المائدة: 33.
(2) التوبة: 52.
(3) الظاهر عدم دلالة الأولى على الحياة البرزخية ودلالة الثانية عليها.
أما الأولى: فلأنها تخبر عن موت، وإماتة، وإحياءين.
فالمراد من الموت: هو حال النطفة قبل ولوج الروح.
ومن الإماتة: هو الانتقال من الدنيا.
ومن الإحياء الأول: هو ولوج الروح فيها.
ومن الإحياء الثاني: هو الإحياء يوم القيامة.
وهذا بخلاف الثانية فإنها تخبر عن الإماتتين وإحياءين، ولا تصدق الإماتة إلا بعد الحياة، فلا محيص
عن تفسير الآية إلا بالنحو التالي:
الإماتة الأولى: هي الإماتة الناقلة للإنسان من الدنيا.
والإحياء الأول: هو الإحياء بعد الانتقال منها.
والإماتة الثانية: أي الإجابة قبيل القيامة عند نفخ الصور الأول.
والإحياء الثاني: هو الإحياء عند نفخ الصور الثاني، قال سبحانه: * (ونفخ في الصور فصعق من في
السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) * (الزمر: 68).
(4) البقرة: 28.
(5) غافر: 11.
300
فذكر موتتين: أحدهما في الدنيا والأخرى في القبر، وذكر إحياءين:
أحدهما في الدنيا والآخر في القبر، ولم يذكر الثالث لأنه معلوم وقع فيه الكلام
وغير الحي لا يتكلم وقيل إنها أخبروا عن الإحياءين عرفوا الله تعالى فيهما
ضرورة فأحدهما في القبر والآخر ولهذه عقب بقوله: * (فعترفنا بذنوبنا) *.
وقال تعالى في حق آل فرعون: * (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم
تقوم الساعة) * (1) وهذا نص في الباب.
قال: وسائر السمعيات من الميزان والصراط والحساب وتطاير الكتب
(2) ممكنة دل السمع على ثبوتها فيجب التصديق بها.
أقول: أحوال القيامة من الميزان والصراط والحساب وتطاير الكتب أمور
ممكنة وقد أخبر الله تعالى بوقوعها فيجب التصديق بها، لكن اختلفوا في كيفية
الميزان:
فقال شيوخ المعتزلة: إنه يوضع ميزان حقيقي له كفتان يوزن به ما يتبين
من حال المكلفين في ذلك الوقت لأهل الموقف، إما بأن يوضع كتاب الطاعات
في كفة الخير ويوضع كتاب المعاصي في كفة الشر ويجعل رجحان أحدهما
دليلا على إحدى الحالتين أو بنحو من ذلك لورود الميزان سمعا والأصل في
الكلام الحقيقة مع إمكانها.



(1) غافر: 46.
(2) المراد نشرها، قال سبحانه: * (وإذا الصحف نشرت) * (التكوير: 10)، روى السيد البحراني عن
النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " الكتب كلها تحت العرش فإذا كان يوم القيامة بعث الله
تعالى ريحا تطيرها بالأيمان والشمائل، أول حرفه: * (إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك
حسيبا) * " (الإسراء: 14).
301
وقال عباد وجماعة من البصريين وآخرون من البغداديين: المراد
بالموازين العدل دون الحقيقة.
وأما الصراط فقد قيل: إن في الآخرة طريقين: إحداهما إلى الجنة يهدي
الله تعالى أهل الجنة إليه، والأخرى إلى النار يهدي الله تعالى أهل النار إليها، كما
قال تعالى في أهل الجنة: * (سيهديهم ويصلح بالهم * ويدخلهم الجنة عرفها لهم) *
(1) وقال في أهل النار: * (فاهدوهم إلى صراط الجحيم) * (2).
وقيل: إن هناك طريقا واحدا على جهنم يكلف الجميع المرور عليه،
ويكون أدق من الشعر وأحد من السيف، فأهل الجنة يمرون عليه لا يلحقهم
خوف ولا غم والكفار يمرون عليه عقوبة لهم وزيادة في خوفهم فإذا بلغ كل
واحد إلى مستقره من النار سقط من ذلك الصراط.
قال: والسمع دل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، والمعارضات
متأولة.
أقول: اختلف الناس في أن الجنة والنار هل هما مخلوقتان الآن أم لا؟
فذهب جماعة إلى الأول وهو قول أبي علي، وذهب أبو هاشم والقاضي إلى
أنهما غير مخلوقتين.
احتج الأولون بقوله تعالى: * (أعدت للمتقين) * (3)، * (أعدت للكافرين) * (4)،
* (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) * (5)، * (عندها جنة المأوى) * (6) وجنة
المأوى



(1) محمد: 5 - 6.
(2) الصافات: 23.
(3) آل عمران: 133.
(4) البقرة: 24، آل عمران: 131.
(5) البقرة: 35. الجنة الواردة في هذه الآية غير جنة الخلد التي لا يخرج منها الإنسان إذا دخل، وقد
خرج آدم منها، فدل على أنها ليست هذه، وفي الروايات تصريح بذلك.
(6) النجم: 15.
302
هي دار الثواب، فدل على أنها مخلوقة الآن في السماء.
احتج أبو هاشم بقوله تعالى: * (كل شئ هالك إلا وجهه) * (1)، فلو كانت
الجنة مخلوقة الآن لوجب هلاكها، والتالي باطل لقوله تعالى: * (أكلها دائم) * (2).
والجواب: دوام الأكل إشارة إلى دوام المأكول بالنوع بمعنى دوام خلق
مثله وأكل الجنة يفنى بالأكل إلا أنه تعالى يخلق مثله، والهلاك هو الخروج عن
الانتفاع ولا ريب أن مع فناء المكلفين يخرج الجنة عن حد الانتفاع فتبقى هالكة
بهذا المعنى (3).



(1) القصص: 88.
(2) الرعد: 35.
(3) أجاب عن الاستدلال بوجهين:
1 - أن المراد من دوام الأكل هو دوامها بالنوع، فالهلاك يرجع إلى أشخاص المأكولات، والدوام
يرجع إلى كل نوع منها، فلا مانع من أن تهلك الأشخاص بأمرين: بالأكل تارة، ونفخ الصور الأول،
الذي فيه فناء كل شئ غير وجهه وذاته، أخرى.
2 - أن فناء كل شئ بحسبه، والمراد خروجها عن الانتفاع عند فناء المكلفين.
أقول: إن الإمعان في الآية يعرب عن أن الاستدلال والجواب واقعان في غير محلهما، وإليك
تحليل مفاده:
قال سبحانه: * (ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شئ هالك إلا وجهه له الحكم وإليه
ترجعون) * (القصص: 88).
فقوله: * (كل شئ هالك) * تعليل للنهي عن اتخاذ إله غيره سبحانه، والحكم بالهلاك لا يختص
بالآخرة، بل هو كذلك في جميع الأزمنة حتى زمن نزول الآية، فغيره سبحانه بما أنه هالك بالفعل
لا يليق أن يتخذ إلها، فكل شئ بما أنه منسوب إلى الواجب له حقيقة، ومع قطع النظر عنه فهو
هالك وباطل، فلو كان له حقيقة فهي ليست إلا ما أفاض الله عليه، وقد ألهم بهذه الحقيقة شاعر
العصر الجاهلي لبيد حيث قال:
ألا كل شئ ما سوى الله باطل وكل نعيم لا محالة زائل
وقد أجاب العلامة الطباطبائي قدس سره عن الاستدلال بوجه آخر وقال: " المراد تبدل نشأ
الوجود، والرجوع إلى الله المعبر عنه بالانتقال من الدنيا إلى الآخرة، والتلبس بالعود بعد البدء،
وهذا إنما يكون فيما هو موجود بوجود بدئي دنيوي وأما الدار الآخرة وما هو موجود بوجود
أخروي كالجنة والنار فلا يتصف شئ من هذا القبيل بالهلاك بهذا المعنى ". (الميزان: 16 / 95).
303
المسألة الخامسة عشرة: في الأسماء والأحكام
قال: والإيمان: التصديق بالقلب واللسان، ولا يكفي الأول لقوله تعالى:
* (واستيقنتها أنفسهم) * (1) ونحوه، ولا الثاني لقوله: * (قل لم تؤمنوا) * (2).
أقول: اختلف الناس في الإيمان على وجوه كثيرة ليس هذا موضع ذكرها،
والذي اختاره المصنف رحمه الله أنه عبارة عن التصديق بالقلب واللسان معا ولا
يكفي أحدهما فيه.
أما التصديق القلبي فإنه غير كاف لقوله تعالى: * (وجحدوا بها واستيقنتها
أنفسهم) * (3) وقوله تعالى: * (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) * (4) فأثبت لهم
المعرفة والكفر.
وأما التصديق اللساني فإنه غير كاف أيضا لقوله تعالى: * (قالت



(1) النمل: 14.
(2) الحجرات: 14.
(3) لا دلالة فيها على ما يدعيه، إذ لقائل أن يقول: الإيمان هو التصديق القلبي بشرط أن لا يجحد
باللسان ولا يكذبه به.
(4) البقرة: 89.
304
الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) * (1) ولا شك في أن أولئك
الأعراب صدقوا بألسنتهم.
قال: والكفر: عدم الإيمان إما مع الضد أو بدونه، والفسق: الخروج عن
طاعة الله تعالى مع الإيمان، والنفاق: إظهار الإيمان وإخفاء الكفر.
أقول: الكفر في اللغة هو التغطية، وفي العرف الشرعي هو عدم الإيمان إما
مع الضد بأن يعتقد فساد ما هو شرط في الإيمان، أو بدون الضد كالشاك الخالي
من الاعتقاد الصحيح والباطل.
والفسق لغة الخروج مطلقا، وفي الشرع عبارة عن الخروج عن طاعة الله
تعالى فيما دون الكفر، والنفاق في اللغة هو إظهار خلاف الباطن، وفي الشرع
إظهار الإيمان وإبطان الكفر.
قال: والفاسق مؤمن لوجود حده فيه.
أقول: اختلف الناس هاهنا: فقالت المعتزلة: إن الفاسق لا مؤمن ولا كافر
وأثبتوا منزلة بين المنزلتين.
وقال الحسن البصري: إنه منافق.
وقالت الزيدية: إنه كافر نعمة.
وقالت الخوارج: إنه كافر.
والحق ما ذهب إليه المصنف، وهو مذهب الإمامية والمرجئة وأصحاب
الحديث وجماعة الأشعرية.
والدليل عليه أن حد المؤمن وهو المصدق بقلبه ولسانه في جميع ما جاء



(1) الحجرات: 14.
305
به النبي صلى الله عليه وآله وسلم موجود فيه فيكون مؤمنا (1).
المسألة السادسة عشرة: في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال: والأمر بالمعروف الواجب واجب وكذا النهي عن المنكر، والمندوب
مندوب، سمعا، وإلا لزم خلاف الواقع أو الإخلال بحكمته تعالى.
أقول: الأمر بالمعروف هو القول الدال على الحمل على الطاعة، أو نفس
الحمل على الطاعة (2)، أو إرادة وقوعها من المأمور، والنهي عن المنكر هو
المنع من فعل المعاصي، أو القول المقتضي لذلك، أو كراهة وقوعها. وإنما قلنا
ذلك للإجماع على أنهما يجبان باليد واللسان والقلب، والأخير يجب مطلقا
بخلاف الأولين فإنهما مشروطان بما يأتي.
وهل يجبان سمعا أو عقلا؟ اختلف الناس في ذلك: فذهب قوم إلى أنهما
يجبان سمعا للقرآن والسنة والإجماع، وآخرون ذهبوا إلى وجوبهما عقلا.
واستدل المصنف على إبطال الثاني بأنهما لو وجبا عقلا لزم أحد الأمرين،
وهو إما خلاف الواقع أو الإخلال بحكمة الله تعالى، والتالي بقسميه باطل
فالمقدم مثله:
بيان الشرطية: أنهما لو وجبا عقلا لوجبا على الله تعالى، فإن كل واجب
عقلي يجب على كل من حصل في حقه وجه الوجوب، ولو وجبا عليه تعالى



(1) يدل عليه قوله سبحانه: * (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير) *
(التغابن: 2) فالآية بمقتضى الحصر، تنفي أية واسطة.
(2) الأول وظيفة كل إنسان إذا ساعدت الظروف، والثاني وظيفة الحاكم المطاع كما في الروايات،
لاحظ الوسائل ج 11 كتاب الجهاد، الباب الثاني من أبواب الأمر بالمعروف، الحديث 1، قال:
" إنما هو على القوي المطاع ".
306
لكان إما فاعلا لهما فكان يلزم وقوع المعروف قطعا لأنه تعالى يحمل
المكلفين عليه وانتفاء المنكر قطعا لأنه تعالى يمنع المكلفين منه، وإما غير فاعل
لهما فيكون مخلا بالواجب وذلك محال (1) لما ثبت من حكمته تعالى.
قال: وشروطهما: علم فاعلهما بالوجه، وتجويز التأثير، وانتفاء المفسدة.
أقول: شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثلاثة:
الأول: أن يعرف الآمر والناهي وجه الفعل، فيعرف أن المعروف معروف
وأن المنكر منكر وإلا لأمر بالمنكر ونهى عن المعروف.
الثاني: تجويز التأثير، فلو عرف أن أمره ونهيه لا يؤثران لم يجبا.
الثالث: انتفاء المفسدة، فلو عرف أو غلب على ظنه حصول مفسدة له أو
لبعض إخوانه في أمره ونهيه سقط وجوبهما دفعا للضرر.
فهذا ما حصل لنا من شرح هذا الكتاب، ونحن نسأل الله تعالى أن يجعله
ذخرا لنا يوم المعاد وأن يوفقنا للرشاد بمنه وكرمه، والحمد لله وحده.



(1) الاستدلال غير تام لأن قياسه سبحانه بالحاكم قياس مع الفارق، إذ لو أجبر سبحانه عباده على
الإتيان بالفرائض واجتناب المعاصي يلزم الإخلال بالغرض وإبطال التكليف.
ثم إن البحث عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المقام مع أنه من الأحكام الفرعية لأجل
صلته بالحسن والقبح المستلزمين للثواب والعقاب في الآخرة، وبذلك يظهر وجه ذكر كثير من
الأمور في فصل المعاد، كالشفاعة والمغفرة والإحباط والتكفير والتوبة وغيرها، والمناسبة في
الجميع واحدة.
تم التعليق بيد العبد الآثم المحتاج إلى عفو ربه العاصم جعفر السبحاني صبيحة يوم الخميس، الثاني
عشر من شهر شعبان من شهور عام 1416، في جوار الحضرة الفاطمية عليها وعلى آبائها آلاف
السلام والتحية.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
307
/ 1