بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: القاديانية المؤلف: سليمان الظاهر العاملي الجزء: الوفاة: 1380 المجموعة: من مصادر العقائد عند الشيعة الإمامية تحقيق: تقديم وتحقيق : السيد محمد حسن الطالقاني الطبعة: الأولى سنة الطبع: 1420 - 1999 م المطبعة: الناشر: الغدير للدراسات والنشر - بيروت - لبنان ردمك: ملاحظات: القاديانية دفع " أوهام توضيح المرام " في الرد على القاديانية الشيخ سليمان الظاهر العاملي الغدير للدراسات والنشر حارة حريك - بناية البنك اللبناني السويسري هاتف 644662 / 03 - 558215 / 01 - 273604 / 01 ص. ب 50 / 24 - بيروت - لبنان * جميع حقوق الطبع محفوظة * لمركز الغدير للدراسات الإسلامية ولا يحق لأي شخص، أو مؤسسة، أو جهة، إعادة طبع الكتاب أو ترجمته إلا بترخيص من الناشر الطبعة الأولى 1420 ه - 1999 م القاديانية دفع " أوهام توضيح المرام " في الرد على القاديانية للشيخ سليمان الظاهر العاملي تقديم وتحقيق السيد محمد حسن الطالقاني الغدير بيروت - لبنان
1 بسم الله الرحمن الرحيم
3 كلمة المركز ألف العلامة الأديب الشيخ سليمان ظاهر النباطي (1290 ه / 1873 م - 1380 ه / 1961 م) هذا الكتاب، الموسوم بعنوان: " دفع أوهام توضيح المرام "، في الرد على " القاديانية "، ويناقش فيه الآراء والأفكار التي وردت في كتاب " توضيح المرام في الرد على علماء حمص وطرابلس " لمؤلفه جلال الدين شمس أحمدي، وهو أحد مبشري المذهب القادياني، وكان مقيما آنذاك في حيفا - فلسطين. ويوضح العلامة ظاهر الدافع إلى تأليف هذا الكتاب، فيقول إن عددا من المغتربين العامليين هالهم ما يقوم به المبشرون القاديانيون، في بلاد الاغتراب، من نشاط، فأرسلوا إلى علماء عاملة يطلبون الرد هؤلاء وبيان ما هم فيه من ضلال، فأوكل العلماء أمر القيام بهذا العمل إليه - أي إلى العلامة ظاهر - ثقة منهم بأهليته للقيام بهذا العمل، فتصدى للقيام بهذه المهمة، فكان هذا الكتاب الذي نقوم بنشره الآن، بعد أن تولى العلامة محمد حسن آل الطالقاني تحقيقه والتقديم له. وإننا إذ نقدم على نشر هذا الكتاب، في هذا الوقت، لننطلق من الدافع نفسه الذي جعل المؤلف ينكب على تأليفه، والمحقق يعنى بتحقيقه ونشره، وهو التصدي إلى دعوة ضالة مضللة، مشبوهة، تنتظم في سياق المشروع الاستعماري الغربي، وبيان حقيقتها، وخصوصا أنها لا تزال تنشط، هي ومثيلاتها، في أي مكان يتاح لها فيه النشاط، وبخاصة في أوروبا وأميركا، حيث تتوافر لها ظروف النشاط ووسائله، زاعمة أنها فرق إسلامية، وهي ليست من الإسلام في شئ، وإنما تتخذ أفكارا هي مزيج غريب مستقى من المعتقدات الخرافية، وترفعه إلى مصاف الشريعة السماوية، وتقوم، في سبيل تأييد أفكارها بتحريف النصوص الشرعية وتشويهها، ومن نماذج ذلك ترجمتها للقرآن الكريم إلى اللغات الأخرى، ومنها الألمانية، ترجمة محرفة.
5 تنسب " القاديانية " إلى الميرزا غلام أحمد (1251 ه / 1835 م - 1326 ه / 1908 م)، من بلدة قاديان في الهند، الواقعة في إقليم البنجاب، نشأ مسلما، وشغف بالتصوف. ثم، ادعى أنه النبي المعني بالآية الكريمة: (ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) [الصف / 6 /]، ثم أعلن أن نبوته " ظلية "، أي أنها انعكاس لنبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، لاعتقاده بالحلول والتناسخ ووحدة الوجود، فكمالات الأنبياء، كما يزعم، تجمعت في شخص النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وانعكست ظليا فيه. والحقيقة أن هذه الدعوة ليست من الإسلام في شئ، وإنما هي بدعة ضالة مضللة، وظفت في خدمة المشروع الاستعمار البريطاني، والأدلة على هذا كثيرة، منها رعاية الحكومة البريطانية لها، ومنها أيضا قول القادياني نفسه: " أقول مدعيا: أنا أكثر المسلمين إخلاصا للحكومة الانكليزية... "، وهو يرد هذا الاخلاص إلى تربية والده الذي كان من صنائع هذه الحكومة وإلى أيادي المستعمرين البريطانيين البيضاء عليه، وإلى إلهام من الله تعالى ". واستنادا إلى هذا الالهام الذي يزعمه كان يرى هذه الحكومة رحمة للهند وبركة. في سبيل كشف حقيقة هذا " الالهام " المزعوم، الموظف في خدمة الغرب الاستعماري، وبيان ضلال أصحابه... وسعيا إلى الحؤول دون نشر تضليلهم كان تأليف هذا الكتاب وتحقيقه ونشره، والله ولي التوفيق إلى ما يحب ويرضى. مركز الغدير للدراسات الإسلامية بيروت
6 تنبيه كنت قد عقدت العزم على إخراج هذا الكتاب في سنة 1382 ه = 1962 م، فكتبت المقدمة والنبذة الموجزة عن القاديانية، وترجمة المؤلف رحمه الله يومذاك، أي قبل ست وثلاثين سنة - شأن غيره من الآثار التي أنجزتها في تلك الفترة وفيما بعدها - وظلت تنتظر الظهور ورؤية النور، وقد نشرت عن القاديانية منذ ذلك التاريخ حتى الآن عشرات البحوث والمقالات، وصدر العديد من المؤلفات، كما كتب عن المؤلف غير واحد من المترجمين والكتاب. والآن وحين جددت العزم على إخراجه لم تعد حالتي الصحية تساعدني على إعادة النظر فيما كتبت، فضلا عن إضافة ما استجد والإشارة إلى المصادر الحديثة، وها أنا أقدمه على الصورة التي كان عليها، ولذلك اقتضى التنبيه والاعتذار من أصحاب الآثار التي لم يشر إليها دون قصد، والله الموفق. محمد حسن آل الطالقاني النجف الأشرف السبت 14 ذي الحجة الحرام سنة 1418، المصادف 11 / 4 / 1998
7 مقدمة المحقق منذ سنين طويلة وأنا أقرأ عن الوهابية والبهائية والقاديانية وغيرها من المذاهب المبتدعة، إلا أن قراءاتي - على كثرتها - كانت عابرة في الغالب، ولم يكن القصد من ورائها غير التعرف على الأفكار الحديثة التي اكتسبت صفة الأديان والأباطيل والخرافات التي رفعها أصحابها إلى مصاف الشرائع السماوية. ولم تكن تلك القراءات الخاطفة لتبعث في نفسي الرغبة إلى التوفر على دراستها أو التعمق فيها، إلا أنني خصصت القاديانية ببعض العناية، وانصرفت إلى دراستها وفحصها والتعرف على خصائصها ودخائلها بعض الوقت، ويعود الفضل في ذلك إلى صديقي الدكتور حسين علي محفوظ، فقد دعي في سنة 1375 ه = 1956 م لحضور بعض المؤتمرات في أمريكا وكتب لي من هناك رسالة في الخامس من تموز عام 1956 جاء فيها ما يلي: " والذي أردت أن تعلمه أنت ومن معك من الذين يبتغون نصر الحق وإخلاد أهله، أن " القاديانة " وهم الذين... بنوا مسجدا في مدينة " بوستن " يولي كثير من الجاهلين وجوههم شطره، ولهم مثله في " واشنطن " وغيرها من أمهات بلدان أمريكا والغرب، وقد طبعوا القرآن مفسرا، وفاق اعتقادهم بالانكليزية والألمانية وغيرهما، وهم يحاولون الآن نشر ما زخرفوه بالفرنسية!!؟ يا للعار... الخ ". وقد ساءني للغاية ما أخبرني به الصديق محفوظ، مع أنني كنت قد أحطت علما ببعض ما تقوم به القاديانية في القارتين الأوروبية والأمريكية من دعوة وتبشير، لكنني لم أكن لأتصور بأن نشاطهم قد بلغ هذا الحد، وأن دعوتهم تركض وتنتشر في القارات البعيدة بهذه السرعة. وفي خلال ذلك قرأت مقالا (1) لصديق آخر هو العلامة الدكتور محمد
(1) مجلة " العرفان " اللبنانية، المجلد 43 / ج 6 / ص 589. وفي المجلد الخامس والثلاثين منها 1368 ه = 1948 م / 839 مقال للأديب الكبير محمد جميل بيهم تحت عنوان " العظمة في أمريكا أين هي؟ " افتتحه بذكر القاديانية ومندوبهم الذي التقى به في " شيكاغو " وفي المجلد الخامس نفسه ص 947 رسالة من مبشر أحمدي في " سيراليون " اسمه " صديق محمد ". 9 يحيى الهاشمي رئيس جمعية الأبحاث العلمية في حلب، ومؤلف كتاب " الإمام الصادق ملهم الكيمياء " تحدث فيه عن ترجمة القرآن باللغة الألمانية، وذكر أن الدكتور " أو توبو خنيگر " - الذي زار الشرق وتغلغل في قلبه وألقى محاضرات عنه - قد نبهه على التحريف والتشويه الذي ضمته الترجمة، مما يدعم دعوة القاديانية إلى المسيح المزعوم " أحمد " ويخالف المعتقدات الإسلامية، ويضر بتفاهم الأمم والشعوب مع بعضها بعضا، ولا يوقظ روح المودة والإخاء في الأوساط المسيحية. وقد حمل الدكتور الهاشمي الغيارى من المسلمين عبء المسؤولية عن إخراج ترجمة صحيحة للقرآن، تتسم بالضبط والدقة وتظهر حقيقة الإسلام الذي سئ فهمه في الغرب. وقد فكرت في الموضوع طويلا، وعجبت لسكوت علماء المسلمين عن هذه الزمر الضالة المضلة التي ابتلي الإسلام بها يوم راحت تنطق باسمه، وتزور حقيقته، وتلبسه غير ثوبه، وتدخل فيه ما ليس منه... وقررت أن أكتب ردا على القاديانية، فأكشف زيفها للملأ، وأعلن عن بطلانها من أساسها، وأنها ليست من الإسلام في شئ مطلقا، فما زلنا لا نحسن اللغات الأجنبية لنقف على تراجم القرآن ونرد على الزيف والبهتان، فلنرد على أصحاب الدعاوي الباطلة والمذاهب المستحدثة، وذلك أضعف الإيمان. وهكذا قررت بالرغم من كثرة أعمالي وتعدد المواضيع التي كنت مشغولا بإعدادها وإخراجها، وبدأت أجمع المصادر، ولكنني كنت - في قرارة نفسي - أتمنى أن يقوم بهذا العمل غيري لينصرف إليه بكله، ويفرغ له جهده، ويعطي البحث حقه، ويشبعه تحقيقا وتمحيصا... ولما كانت النية خالصة فقد حقق الله تلك الأمنية، إذ تلقيت هدية من العلامة الكبير الشيخ سليمان ظاهر النباطي، وهي الجزء الأول من ديوان شعره " الإلهيات " وقرأت في ثبت مؤلفاته المخطوطة المنشور على الغلاف " الرد على القاديانية ". وكانت فرحتي بذلك كبيرة لأن صديقنا المرحوم ظاهر من كبار العلماء والأدباء، ولا شك في أن ما يكتبه هو الغاية في بابه، وهو فصل الخطاب، وقر رأيي على نشر كتابه، فكتبت إليه أطلب منه إرساله إلي لأتولى نشره، فأجابني
10 رحمه الله بأن العلامة الشيخ موسى عز الدين - من جويا بلبنان - قد استعاره منه للاطلاع عليه ومضت عليه وهو عنده ستة شهور، وأنه سيسترجعه ويبعث به إلي لوضعه تحت تصرفي. ومضت فترة طويلة شغلت خلالها عن الموضوع بالمرة، وحصلت بعض الموانع التي جرت العادة أن تحول دون أعمال الخير، وتقف حاجزا في طريق المصالح العامة والخدمات الكبيرة، وبين الرجال وأمانيهم الغالية وأهدافهم الجسام. وهكذا نسيت الموضوع أو تناسيته، وانتقل الشيخ سليمان إلى رحمة ربه، ومرت سنوات لم أحاول خلالها التفكير في الموضوع أو الرجوع إليه. وفي أواسط عام 1961 وجهت إلي حكومة ألمانيا الاتحادية دعوة لزيارتها فلبيتها في شهر آب، وتجولت في عدد من مدنها المهمة كبرلين وميونيخ، وهامبورغ وفرانكفورت، وبون وكولونيا، وآخن وسباير، ولوبيك وهايدلبرغ، وغيرها. ورأيت للقاديانيين هناك مساجد ونشاطا ظاهرا، والدعوة والتبشير بشكل نتمناه للإسلام الصحيح وتعاليمه الحقة، فاستأت إلى أبعد حد، ونقمت على قومي بل احتقرتهم في قرارة نفسي، إذ رأيتهم أمواتا لا حياة لهم، فالباطل يصول ويجول في العالم المتمدن، ويغوي ويضل السذج والبسطاء، ونحن قابعون في زاوية مظلمة، وقد ضربنا حولنا سياجا وبقينا نعتقد أن الإسلام وتعاليمه في مأمن كما أراده الله ورسوله، ما زالت مظاهره الشكلية محفوظة داخل السياج. وقد رأيت المسلمين في ألمانيا ينقمون بشدة على تلك الزمر الضالة ويضيقون بها ذرعا، وعلى رأسهم العلامة الكبير الشيخ محمد المحققي الأستاذ في جامعة طهران سابقا، وممثل المرجع الديني العام السيد حسين البروجردي في هامبورغ، ورئيس " الجمعية الإسلامية " هناك، فقد رأيته ناقما لدرجة أنه طلب مني ألا أستقبل أحدا من علماء القاديانية عندما علم بأن بعضهم قد طلب موعدا لزيارتي في " فندق الأطلنطي " الذي أنزل فيه فحددت له الساعة الخامسة بعد الظهر، ونزلت عند رغبة الشيخ فأبدلت منهجي الرسمي بالخروج معه في نزهة على ساحل البحر.
11 وعدت إلى العراق وحللت في وطني النجف وأنا أحمل حقائبا من الآلام والآمال، فقد رأيت العالم الغربي بعيني، ووقفت على مدى حبه للاستطلاع واهتمامه للوقوف على حقيقة الإسلام - دين الحق والحرية والعدالة - وكيف يتعشقون تعاليمه ونظمه ويتسابقون إلى اعتناقه فرجعت إلى التفكير في الموضوع من جديد، فكتبت إلى الأستاذ الشاعر أحمد سليمان ظاهر في النبطية بلبنان وأعلمته بما دار بيني وبين المرحوم والده حول الكتاب، فما كان منه إلا أن طلبه من أخيه الأستاذ محمد في بيروت وبعث به إلي. وقد صرت أمام مشكلة جديدة، وهي مسألة نشره، فقد كنت يوم طلبته من مؤلفه قادرا على الانفاق لإخراجه، أما اليوم فأنا لا أملك تلك المقدرة، لأنني مثقل بعبء بعض الآثار التي أخرجتها واليوم إذ أوفق إلى إخراجه أبتهل إلى الله تعالى أن يتغمد روح مؤلفه بالرحمة والرضوان، ويجزيه خير جزاء المحسنين، وأن ينفع به ويجعل عملي فيه خالصا لوجهه، وأن يوفقني ما حييت، لما ينفع الناس ويمكث في الأرض ويرضي الرب، والله تعالى هو الموفق، وهو حسبنا ونعم الوكيل. النجف الأشرف محمد حسن آل الطالقاني
13 القاديانية حقيقتها وظروف نشأتها بقلم المحقق تمهيد: إن شبه القارة الهندية من دول آسيا الكبرى والمهمة، احتل الفرس واليونان أجزاء منها في القرن الرابع قبل الميلاد، وازدهرت على شواطئ نهر السند فيها حضارة عظيمة بلغت ذروتها في القرن الثالث إلى القرن الأول قبل الميلاد، وتعاقبت على احتلالها شعوب عديدة، وأسس المسلمون في أنحائها دولا مستقلة، كما أسس المغول إمبراطورية شملت الهند بأسرها، وقد أطلق الجغرافيون الأقدمون اسم الهند على البلاد التي لم يبلغها المسلمون، والهند أقدم ما عرف في التاريخ من بلاد الله (1). وهي من أغرب البلاد حقا، ففي الوقت الذي قدمت فيه للبشرية نماذج من العقول الجبارة والأدمغة الكبيرة التي أحلت الحضارة الشرقية محلها الرفيع في أنظار الأوروبيين وغيرهم، وانتزعت اعترافات الجمعيات العلمية الكبرى في العالم الغربي... (2) أقول في الوقت الذي قدمت فيه الهند تلك العقول
(1) دائرة معارف القرن العشرين 10 / 545. والغريب أن يقول الأستاذ محمد فريد وجدي: "... العقل الهندي الذي يعجز عن المدركات المنطقية، وعن المناقشة في هذه المدركات، وعن استكناه الحقائق... " في الوقت الذي يقول فيه: " إن بعض البراهمة قد صفت أذهانهم وارتقت عقولهم " حرف الواو / وحدة الوجود. (2) فلسفة الهند في سيرة ديوجي، تعريب زكي عوض المحامي / 92. ولماذا نذهب بعيدا ونستشهد بأقوال الأجانب، فالملحمة القومية السنسكريتية للهندوس " المهابارتا " ينيف عدد أبياتها على المئتي ألف، وفيها وصف حروب " كورو " و " باندو " والأعمال الباهرة ل " كرشنا " الإله الهندي في القرن السادس أو الخامس قبل الميلاد، هي وحدها دليل على عراقة هذا الشعب وعظمته، وحضارته ومدنيته. 15 النيرة والبصائر النافذة التي بهرت البشرية في مختلف مجالات الحياة القديمة والحديثة، نراها قد ضمت - وتضم حتى اليوم - العقول المتعفنة، والديانات السخيفة، والمعتقدات الخرافية التي يترفع عنها الإنسان، ويعافها كل ذي ذوق وعاطفة ووجدان، كالبرهمية، والجايناسية، والبوذية والباربسيسية، والسيخية، والمهدوية، والدنيا إلهية، والاغاخانية، والقاديانية، والنيجرية وأمثالها من الأساطير التي تهبط بالانسان من عليائه إلى أسفل دركات الجهل، والضلالة، والغواية والضحالة، فكيف يرضى الإنسان لنفسه أن يعبد البقرة كرب، ويتبرك ببولها فيلوث به جبهته التي هي أشرف مكان في جسمه...؟ وكيف يطيق حرق المرأة حية مع زوجها إذا مات...؟ فأي شريعة سمجة سنت تلك القوانين؟! وأي بشر يدين بها؟! وأتذكر أني قرأت كتابا لبعض أدباء مصر عن " الاغاخانية " نسيت اسمه واسم مؤلفه، وقد ذكر فيه أن صلته ب " أغاخان " قد توثقت حتى صار يفضي إليه بكل كبيرة وصغيرة من أصول ديانة أتباعه، ويجيبه عن كل سؤال يطرحه عليه، وأنه قال له يوما: أريد أن أسألك عن أمر تهمني معرفته لكنني أخشى أن يغيظك، فوعده بأن لا يغضب مهما كان سؤاله، فقال له: كيف ترضى لأتباعك أن يعبدوك كرب مع ثقافتك العالية وتضلعك في المعرفة؟ فأرخى ربطة عنقه وضحك طويلا وقال: هذا السؤال الذي خفت أن يغيظني؟ قال: نعم، فقال له: أأنا أفضل أم البقرة؟؟ إن هؤلاء الهنود رضوا بالبقرة ربا فعبدوها وأنا أفضل منها بدون شك!! وإن الإنسان يأسف حقا أن يرى في بني جنسه من هو بهذه الدرجة من الغباء بالنسبة للعابد، ومن الدجل والشعوذة بالنسبة للمعبود!! لقد ملكت الأسرة التيمورية المغولية بلاد الهند زمنا طويلا، فقد ظهر تيمورلنك التتري وملك الهند في أيام السلطان بايزيد بن مراد الأول آل عثمان
16 الذي توفي في أسر تيمور سنة 805 ه = 1402 م (1) وحكم العديد من أولاده وأحفاده في عواصم مختلفة (2) كما قامت دول شيعية اتخذت لها عواصم أخرى ذكر منها الشيخ عبد العزيز الجواهري ثلاث دول: 1 - العادل شاهية في بيجابور. 2 - النظام شاهية في أحمدنگر. 3 - القطب شاهية في كولكندة وحيدر آباد (3). وكانت في قبال الدول الإسلامية دويلات هندوسية متناثرة في أرجاء تلك البلاد الواسعة. وقد بدأ الانكليز يفدون على شبه القارة الهندية بعد اكتشاف " رأس الرجاء الصالح " ويفتحون محلات تجارية يتخذون منها ذريعة للتدخل في شؤون البلاد الداخلية، ثم وحدوها في سنة 1009 ه = 1600 م باسم " شركة الهند الشرقية الانكليزية للتجارة " ورسخت أقدامهم، واستمروا في تزايد وقوة بالتدريج. وقد أمعنوا في إذلال الجنود واحتقارهم لعقائدهم في داخل الثكنات العسكرية، سواء أكانوا من المسلمين أم من الهندوس، ومن أمثلة ذلك البسيطة أنهم كانوا يدهنون الخراطيش بشحم البقر والخنازير، وعندما تتجمد يأمرون الجنود بإزالتها بأسنانهم عمدا، فيتذمرون ويعلنون مخالفة ذلك لعقائدهم الدينية - فالبقر محرم عند الهندوس والخنازير محرمة عند المسلمين - إلا أن القواد الإنجليز كانوا يجبرونهم على الطاعة ويعاقبون المخالفين، فخرج رهط على تنفيذ الأوامر، فأصدرت المحاكم في حقهم أحكاما قاسية في 15 شهر رمضان سنة 1273 ه = 9 مارس 1857 م، فاحتدم الجيش غيظا ووثب الجنود على قوادهم الانكليز فقتلوهم في داخل الثكنات، واندفعوا نحو العاصمة " دلهي " وجرت دماء القوة الإنجليزية - التي حالت دون وصولهم - أنهارا، وقام
(1) معادن الجواهر ونزهة الخواطر في علوم الأوائل والأواخر 2 / 233. (2) التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول / 366 - 370 (3) آثار الشيعة الإمامية 3 / 148 - 155. 17 أحرار الهند من المسلمين والهنادك بثورة عارمة، فألحقوا بالانكليز خسائر فادحة في الأرواح، لكن الانكليز انتصروا على الثورة وفعلوا بالثوار مالا يتصوره العقل من وحشية وجرائم أدت إلى براءة الكثير من عقلائهم مما حصل. وتحمل المسلمون العبء الأكبر من الاضطهاد قبل الثورة، ومن التنكيل والانتقام بعدها ما لم يتحمله غيرهم، ونصبت لهم المشانق في شوارع " دلهي " وأعدموا ثلاثة آلاف، رجل، ودخلوا مسجدها بخيولهم، وكلما وجدوا رجلا طويل اللحية ظنوه مسلما فقتلوه، وكانوا يشدون البعض على أفواه المدافع ويطلقون قذائفها فتتناثر أجزاؤهم في الفضاء كما كتبه الضابط الانكليزي " روبرت " في رسالة إلى أمه، وبلغ عدد قتلاهم في " دلهي " وحدها سبعة وعشرين ألفا، وكتب " ونكلسون " إلى " أدوارد ": " علينا أن نسن قانونا يبيح لنا إحراق الثوار وسلخ جلودهم وهم أحياء، لأن نار الانتقام التي تأججت في صدورنا لا تخمد بالشنق وحده "، وقد فعلوا ذلك أيضا، فقد كتب المستر " دي لين " مدير جريدة " تايمز إن إنديا ": أن المسلمين كانوا يخاطون بجلود الخنازير ثم يدلكون بشحومها وتخاط عليهم ويحرقون وهو أحياء "، وكتب مثل ذلك المستر " گربر " المشرف على القوات الانكليزية في شمال الهند، وكتب " ونكلسون " و " لورنس " و " مونتجمري " فضائح أخرى. وفي سنة 1275 ه = أول تشرين الثاني سنة 1858 م أصدرت الملكة " فكتوريا " قرارا بنقل حكم الهند من يد الشركة إلى يد الحكومة البريطانية، وعينت " لورد كايينتج " أول حاكم عام من قبلها، وبذلك انتهى الحكم الاسلامي في الهند رسميا بعد أن استمر ثمانية قرون ونصفا، وظل الانكليز يحكمون الهند إلى أن ادعوا الخروج منها على أثر شطرها عام 1367 ه = 1947 م، حيث أعلن استقلال الباكستان في 14 آب وتشكيل الحكومة الهندية في 15 منه (1)
(1) الثورة الهندية / 359 وما بعدها، وتاريخ البنجاب 2 / 581، وحكومت خود اختياري / 32، ونقش حياة 2 / 47، ومحاكمة بهادر شاه، ودهلي كي سندا، وماضي العلماء المجيد، وتبصرة التواريخ، وغيرها من المصادر العربية والفارسية والهندية والأجنبية المترجمة. ولعلماء وأدباء الهند عدة مؤلفات عن عهد الانكليز في الهند نظما ونثرا ذكرها صاحب " الثقافة الإسلامية في الهند / 69 - 70. 18 وقد رغبت في التوسع في هذا التمهيد لأعطي القارئ فكرة تامة عن حالة البلاد والشعب اللذين ولدت فيهما هذه الدعوة، فمعرفة تاريخهما وظروفهما، ومعرفة البيئة وما فيها من ملابسات، مما يساعد على فهم العوامل التي شجعت القادياني على إعلان دعوته، فالحالة الاجتماعية والاقتصادية وما داخلهما من جهل وفقر، كانت من الدوافع التي حدت بفئة ساذجة من ذلك الشعب المسحوق المضطهد إلى الإيمان بالدعوة الجديدة والركض وراءها من غير هدي. أقول: كنت أفضل التوسع لولا أنني خشيت أن يحكم القارئ على أنه سرد تاريخي لا دخل له بالموضوع، وأنه أوسع مما تقتضيه طبيعة تمهيد لفكرة، فنحن نحيل القارئ على مجلة " العروة الوثقى " التي كان يصدرها في باريس السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبدة، والكتب الخاصة التي كانا يصدرانها كملاحق وينشران فيها تفاصيل السياسة الانكليزية في الهند، وكانت جريدة " أخبار دار السلطنة " التي تطبع في كلكته، وجريدة " مشير قيصر " التي كانت تصدر في لكهنو تترجمان مقالاتها من العربية إلى الأردوية لاطلاع عموم الشعب الهندي على ما كان ينشر دفاعا عنه. القادياني والقاديانية: القاديانية والأحمدية إسمان لجماعة واحدة تنسب إلى الميرزا غلام أحمد ابن غلام مرتضى بن عطا بن الميرزا گل محمد القادياني. ولد في قرية " قاديان " في مديرية " جورداسبور " في أقليم " البنجاب " سنة 1251 ه = 1835،، وتلقى دروسه في منزل أبيه على الطريقة القديمة وكان والده طبيبا، وقد جلب لولده المعلمين، فتعلم القراءة والكتابة، وقرأ القرآن ودرس النحو والصرف والمنطق والحكمة، ودخل " الكلية الشرقية " في البنجاب، وعين كاتبا في محكمة مدينة " سيالكوت " وشغل وظائف أخرى حرة مدة أربع سنوات ثم تركها.
19 وكان ذا شغف بالقراءة والمطالعة منذ نشأته يقضي فيها معظم وقته، وقد تفرغ لدراسة الكتب الدينية والصوفية، وغلبت عليه نزعة التصوف، وكانت سائدة يومئذ بين كثير من علماء المسلمين في الهند، وكان لها طرقها ورجالها ومؤلفاتهم، كما كان لهم خصومهم الذين يتظاهرون بنقدهم ومعارضتهم. وكانت يومذاك - أيضا - حركة تجديدية هندوكية باسم " آريه سماج " وكان لها زعماء بارزون وعلماء ينطقون باسمها، وقد كثرت المناظرات بينها وبين خصومها، كما كانت بعثات تبشيرية تتألف من القسس والرهبان، وكان الصراع على أشده بينهم وبين علماء المسلمين، فظهر القادياني على الساحة في تلك الفترة، وعد في النابهين من المسلمين، وكانت له مع كبار المناظرين من الفئتين مواقف مشهورة وتفوق بارز اعترف به علماء عصره، فقد قال السيد عبد الحي الحسني: "... واشتغل بالكلام وكان يباحث أحبار الآرية والنصارى ويفحمهم في مباحثاته، ويصرف أوقاته كلها في الذب عن الحنفية البيضاء، ويصنف الكتب في ذلك، وكانت مساعيه مشكورة عند أهل الملة الإسلامية... " و " قد أورد في كتابه (براهين أحمدية " على إحقاق الإسلام ثلاثمئة دليل عقلي " (1). وقد واصل مطالعة كتب العرفان والتصوف والفلسفة (2)، وثقف نفسه ثقافة عالية أهلته للصدارة والتأليف، فأنتج آثارا قيمة قوبلت بالإعجاب والإكبار من قبل الطبقات المتنورة، ولم يكن لما أشاعه عنه خصومه وكتبه عنه البعض من أنه كان محدود الذكاء وأنه رسب في امتحان " مولوي فاضل " الذي يعادل
(1) الثقافة الإسلامية في الهند / 228 و 230. وقال عنه مثل ذلك مؤلفون آخرون في الهند وغيرها. (2) من المعروف في بعض الأوساط العلمية أن التعمق في العلوم العقلية لا يصلح لكل فرد، لأن درجات العقول متفاوتة في القوة والضعف، والنفوس البشرية مختلفة في النقاء والفطرة، وربما أدى التوغل إلى الانحراف العقائدي والشذوذ الفكري، والخروج عن طريق الهدى والاستقامة، وقد كان القادياني من الفريق الذي لم يكن يصلح لذلك الاتجاه، فقد تأثر ببعض الآراء الفلسفية، واعتنق بعض المذاهب الفكرية مما صح ولم يصح، فقد آمن بالفيض والحلول والتناسخ ووحدة الوجود وغيرها، مما يبدو واضحا في تصريحاته وكتاباته، وبدأ يشطح ويشذ ويشرق ويغرب كالمعتوه. 20 الصف الثاني من الكلية نصيب من الصحة، وكذلك ما كان يقال عنه من أنه مصاب بنوع خطير من " الهستيريا " و " القطرب " (1). ادعاءاته: وبعد فترة ادعى أنه " مجدد " للإسلام لما أشاع بين المسلمين من أن الله يبعث مجددا على رأس كل مئة سنة، وهو مجدد القرن الرابع عشر الهجري، وظل يؤكد ذلك في تصريحاته وخطبه ومؤلفاته فترة، ثم ادعى أنه المهدي (2) المنتظر والمسيح الموعود في وقت واحد، استنادا إلى ما رواه ابن ماجة من حديث " لا مهدي إلا المسيح " واستمر يبرهن على ذلك ويؤكد أن العلامات التي ذكرت لظهور المهدي منطبقة على زمانه، وأن له شبها كبيرا بالمسيح، وأخذ يتكلم في المغيبات والمنامات وتفسير بعض الأخبار والآيات القرآنية بما ينطبق عليه ويقرب ذلك إلى الأذهان الساذجة، وادعى أنه ملهم (3)، ومن تصريحاته الخطيرة في هذه المرحلة قوله: " أنا مهدي وأفضل من الأنبياء " (4). وقد كانت ولاية " البنجاب " في معزل عن مراكز الثقافة في الهند، أكثر من غيرها، وكانت الخرافات والأوهام والأساطير تعشعش فيها، والدهماء عادة يتقبلون الأمور الغريبة وخوارق العادات، وما يظهر من شطحات الصوفية ويدعونه من إلهامات، وكان للقادياني قبل ذلك رصيد علمي وشهرة كبيرة
(1) من أمراض الدماغ. (2) فكرة المهدوية ليست غريبة على الهنود، فقد ادعاها غير واحد وفي أزمنة مختلفة، وأشهر مدعيها السيد محمد الجنبوري الذي كان في أواخر القرن التاسع من أكابر العلماء، فقد ادعى في سنة 901 ه = 1495 م أنه المهدي الموعود، والتف حوله آلاف المسلمين الجهلاء، وقتل سنة 910 ه ولا يزال له أتباع يسمون " المهدويين " ومركزهم في حيدرآباد الدكن، وكان النواب " بهادرياجنك " رئيس رابطة الولايات الهندية مهم. (3) يفرق علماء الكلام والفلسفة بين الالهام والوحي، فالأول وجدان تنساق النفس به إلى ما يطلب ويقتضي على غير علم منها بمصدر إتيانه وحصوله، والثاني عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطته كالملك والصوت أو بغيرها، وأفضل من بسط القول في ذلك من المتأخرين الإمام الكبير الشيخ محمد عبدة، أنظر كتابه " رسالة التوحيد ". (4) معيار الأخبار / 11. 21 وأتباع عديدون، ولذلك بادر الكثير من أهلها إلى الاستجابة لدعوته، وشكلوا الأغلبية العظمى لمعتنقي ديانته، فقد بلغ عددهم فيها وحدها إلى ما قبل وفاته بسنة سبعين ألفا، وكان منهم الشقيق الأكبر للشاعر الفيلسوف الدكتور محمد إقبال، في الوقت الذي كان فيه أخوه المذكور من أكبر المحاربين للقادياني. وقد قوبلت مزاعمه بالاستنكار الشديد، فرحل إلى بلدة " لوديانة " في البنجاب نفسها، وأصدر منشورا أعلن فيه أنه " المسيح المنتظر " فهب في وجهه العلماء، وكان من بينهم " المولوي محمد حسين " صاحب جريدة " إشاعت سنت " فدعا عددا من علماء الهند إلى " لوديانة " لمناظرته، لكن الوالي الانكليزي في تلك المنطقة منع من عقد المناظرة، وأرغم " المولوي محمد حسين " ومن معه من العلماء على مغادرة البلد في اليوم نفسه. واستمر القادياني على نشر دعوته سنين طوالا، وأكثر من مناقشة المعارضين ومحاججة المستنكرين، وألف في ذلك الكتب ونشرها في البلاد الإسلامية بصورة واسعة، واقتنع بها فريق من الناس فاعتنقوها، وبقي على تلك الحال يواصل الدعوة ولكن لم يرض طموحه ما حصل عليه من إقبال فادعى النبوة وتفاقم الخطب، وأعلنت دنيا الإسلام ولا سيما في الهند استنكارها بمختلف الوسائل، وسادت الفوضى وصار حديث الناس والساعة، فكرست القوى بمختلف أشكالها لتكذيبه وتكفيره، وأخذ هو وأتباعه يدافعون عن آرائهم واحتدم النزاع. وكان من ادعاءاته أنه المعني بقوله تعالى: (ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد " [الصف / 6] وأنه يوحى إليه باللغات العربية والفارسية والأردوية والانكليزية، وأكثر من التأليف في كل تلك اللغات، وأن كتابه المقدس في مقابل القرآن هو " الكتاب المبين " وأن مما أوحي إليه: " إن الله خاطبني وقال يا أحمدي أنت معي وأنا معك، إذا غضبت غضبت، وكل ما أحببت أحببته، أنا مهين من أراد إهانتك، وإني معين من أراد إعانتك و " إن الله
22 خاطبني وبشرني بإكرامي وقبولي في زمن اليأس، وقال: يحمدك الله في عرشه " وغير ذلك من التفاهات (1). ولما رأى أن الحملة عليه شعواء، وأن الأقلام قد أوقفت على محاربته ودحض شبهاته ومزاعمه، وكشف أمره وحقيقته، وإعلان خروجه عن الإسلام، أعلن تمسكه بالشريعة الإسلامية والقرآن والسنة، وأن نبوته ظلية - حسب تعبيره - وهي انعكاس لنبوة الرسول، لاعتقاده بالحلول والتناسخ ووحدة الوجود (2)، فهو يرى أن مراتب الوجود دائرة تضم الله والأنبياء والبشر، فالله يحل في الأنبياء، وبدوران الوجود داخل النبوة تنتقل الروح من فرد لآخر لا فرق بين سابق ولاحق، ويكون الأنبياء نبيا واحدا، وباتصال أطراف هذا الوجود بعضها بالبعض الآخر يكون الأنبياء جزءا منها، والانسان، جزءا آخر من هذه الوحدة التي تضم ملكوت السماء والأرض، فكمالات الأنبياء المتفرقة قد تجمعت في شخص النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وانعكست ظليا فيه.
(1) مواهب الرحمن / 14 و 49 و 50 و 66 و 69 وغيرها. (2) ظهرت نظرية وحدة الوجود في الفلسفة الهندية قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة، وتبلورت سنة 600 ق. م. فقد وردت في الكتاب الهندوكي " البوبا نيشاد " ويلفظه بعضهم " أو بانيسهاد " وخلاصتها هناك: إن الإنسان والحيوانات وسائر الكائنات كلها أجزاء أو شظايا ل " براهما " = " رب العالمين " الذي خلقهم جميعا، ولهذا فإن " براهما " والكائنات شئ واحد ووجود واحد، ولا يمكن تصور وجود الإنسان والكائنات خارج وجود " براهما " الذي هو سيد الكون. ومعناه إن الله - تعالى عما يقوله الظالمون علوا كبيرا - يكون واحدا إذا فرضنا وجوده منفردا، ويكون مركبا من أجزاء إذا أضفنا إليه الإنسان والمخلوقات والكائنات. وقد أخذت هذه النظرية طريقها إلى الفلسفة اليونانية وتجلت في المدرسة الأفلاطونية التي أنشأت في " الإسكندرية " في القرن الثالث للميلاد، ثم أخذت طريقها إلى الفلسفة الإسلامية وظهرت لدي المتصوفة في القرن الثالث الهجري تقريبا، وأبرز مثلها هو الحسين الحلاج المقتول سنة 309 ه = 922 م. والغريب أن يتوسع الأستاذ محمد فريد وجدي في الكلام عن القائلين ب " وحدة الوجود " من شعوب الهند والصين ومصر واليونان وأوروبا، ولا يتعرض إلى ذكرها عند المسلمين ولا بنحو الإشارة. أنظر: " دائرة معارف القرن الرابع عشر = العشرين 10 / 706 ". 23 وقد استفاد من إيمانه ببعض النظريات الفلسفية التي آمن بها، في زعمه الغوص في ذات الله والبروز عنه إلى الأرض، والانتهال من علوم الغيب وأسرار الكون، وغير ذلك من المزاعم الكاذبة والادعاءات الباطلة. بنى مدرسة لأبناء نحلته في " قاديان " لئلا يشرف على تعليمهم وتربيتهم غير القاديانيين، كما بنى لهم مسجدا خاصا للصلاة، لكن أقاربه المخالفين له في الرأي بنوا جدارا جعل أشياعه لا يتمكنون من الوصول إلى المسجد إلا بعد أن يمشوا مسافة طويلة، فرفع عليهم دعوى في المحكمة وقضى حكم الانكليز بإزالة الجدار، وأصدر قانونا يقضي بألا يزوج القاديانيون بناتهم لمن لم يصدق بنبوته، وأكثر من التطاول على المسلمين وشتمهم سواء في ذلك من عارضه أو سالمه، لأنه كان يقول بكفر من لم يؤمن برسالته ويتبعه. وفي سنة 1323 ه = 1905 م زعم أنه أوحي إليه بأن أجله قد قرب وألف كتاب " الوصاية " إلا أنه عاش بعد ذلك... وفي السنة نفسها زعم أنه أوحي إليه إنشاء مقبرة خاصة في " قاديان " وفرض على من يريد الدفن فيها أن يهب لخزينة " القاديانية " ربع ماله، وبناها وقدمت له المبالغ، ومنذ ذلك التاريخ فرض على كل قادياني أن يقدم إلى خزينتهم الدينية ربع ماله واستمر إلى الآن. وفاته: أصيب بالهيضة الوبائية وهو في لاهور، ومات سنة 1326 ه = الساعة العاشرة والنصف صباحا يوم (26) مارس سنة 1908 م ونقلت جثته إلى قاديان التي تبعد عن لاهور ستين ميلا، ودفن في المقبرة التي سماها " بهشتي مقبرة " = " مقبرة الجنة " وكتب على قبره " ميرزا غلام أحمد الموعود " وأنزله أتباعه منزلة الأنبياء واتخذوا قبره بمثابة ضريح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصرحوا بأن زيارته تعدل زيارة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: " إن الله بارك ثلاثة أمكنة وجعلها مقدسة وهي مكة والمدينة وقاديان حيث تلوح تجلياته سبحانه ". وكان قد ضاقت به الدنيا لشدة مقاومة " المولوي ثناء الله " له فكتب له دعاء جاء في آخره: " يا مرسلي إني أدعوك بحظيرة القدس أن تفصل بيني وبين
24 المولوي ثناء الله، ومن كان منا مفسدا في نظرك كاذبا عندك فتوفه قبل الصادق منا... الخ " وكان صدور الدعاء في اليوم الأول من ربيع الأول سنة 1325 ه = 25 نيسان سنة 1907 م، فمات القادياني بعد التاريخ بسنة وعاش ثناء الله بعد ذلك سنين طويلة. وكان للقادياني صديق قديم ذهب إليه في قريته " قاديان " وناظره فانتصر عليه، ثم اتفقا على مباهلة مؤداها أن يموت الكاذب منهما خلال ثلاثة أيام، فمات القادياني خلال تلك المدة. وقد أوصي أن يتألف مجلس من أتباعه لاختيار خليفة له، فانتخب " المولوي حكيم نور الدين " أول خليفة له، ولما مات في سنة 1333 ه = 1914 م انتقلت رئاسة الأتباع إلى ولده " بشير أحمد " المسمي عندهم بالخليفة الثاني، ولما مات انتقلت إلى حفيده " بشير الدين " بن بشير أحمد بن غلام أحمد القادياني وسمي بالخليفة الثالث. اختلاف أتباعه بعد وفاته: وكان أتباعه قد انقسموا بعد موته فريقين، رأس أحدهما " بشير أحمد " كما قلنا، وهذا الفريق يؤيد نبوته ويكفر جميع المسلمين الذين لا يدينون بعقيدتهم، أما الفريق الثاني فقد رأسه " الخواجة كمال الدين " ونائبه " الشيخ محمد علي اللاهوري " الذي فسر القرآن باللغة الانكليزية، وقد اقتصرت عقيدة هذا الفريق على أن القادياني مجدد مصلح لا مهدي ولا نبي، وقد أطلق عليهم اسم " اللاهورية ". وقد ظل الصراع بينهم وبين المسلمين قائما في الهند وباكستان وغيرهما من البلاد التي وصلت دعوتهم إليها، وكان كبار العلماء والجمعيات الدينية في الباكستان يقاومونهم بشدة وباستمرار في خطبهم في المساجد والنوادي ومقالاتهم في الصحف، ويصدرون الفتاوي والنشرات والكتب بتكفيرهم، وقد ذكر السيد عبد الحي الحسني مجموعة من تلك الكتب بالعربية والفارسية
25 والأردوية (1) وقد حملوا السلطات على محاكمتهم، وبعد مشاحنات طويلة استمرت سنتين أصدر القاضي " محمد أكبر خان " حاكم " بهاولبور " في سنة 1354 ه = 1935 م حكما بتكفيرهم وعدم جواز تزوج المسلمات بهم. آثاره العلمية: ألف " القادياني " منذ كان مسلما يحارب أعداء دينه حتى أواخر أيامه، وبعد أن انحرف عن مبادئه ومعتقداته وارتد عن الإسلام ووقف في صف أعدائه المخربين - ألف ما يقرب من ثمانين كتابا باللغات العربية والفارسية والأردوية والانكليزية، وبعضها في عدة أجزاء. ولم نقف إلا على عدد يسير منها يعد بالأصابع، ويعود الفضل في ذلك إلى كل من العلامة الأديب السيد حيدر عباس اللكنهوي، والفاضل السيد حكمة الهندي نزيل " المدرسة الهندية " في النجف، فقد جلبا لي ذلك من الهند بواسطة بعض معارفهما هناك، كما يعود الفضل إلى أولهما في ترجمة نبذ مما هو محل الحاجة من آرائه للاستشهاد من الانكليزية والأردوية، وذكر له الحسني ثلاثة عشر كتابا (2)، وإلى القارئ أسماء ما وقفنا عليه وذكره الحسني: 1 - آئينه كمالات اسلام، فارسي. 2 - إزالة أوهام. 3 - إعجاز المسيح. 4 - إعجاز أحمدي. 5 - انجام أتهم. 6 - البراهين الأحمدية (خمس مجلدات). 7 - البرية. 8 - تبليغ الرسالة.
(1) الثقافة الإسلامية في الهند / 231. (2) الثقافة الإسلامية في الهند / 231. 26 9 - تجليات إلاهية. 10 - تحفة الندوة. 11 - التذكرة. 12 - ترياق الفاروق. 13 - ترياق القلوب. 14 - توضيح مرام. 15 - جشمه مسيحي. 16 - جشمه معرفت، فارسي. 17 - حقيقة الوحي. 18 - الخطاب الجليل في الأصول الإسلامية. 19 - الخطبة الإلهامية. 20 - دافع البلاء. 21 - در ثمين. 22 - دين الحق. 23 - رسالة أحمدي. 24 - رسالة ختم النبوة. 25 - رسالة قيصر. 26 - سر الخلافة. 27 سر جشمه ء آرية، بالأردو. 28 - سفينة نوح. 29 - فتح الإسلام. 30 - القصيدة الإعجازية. 31 - كتاب البرية. 32 - كتاب الأربعين. 33 - الكتاب المبين. 34 - كتاب الوصية.
27 35 - عين المعرفة. 36 - معيار الأخبار. 37 - مكتوب أحمد. 38 - الملفوظات الأحمدية. 39 - من خطاب سيكلوت. 40 - المهدي. 41 - مواهب الرحمن. 42 - نزول المسيح. 43 - نور الحق. نشاط القاديانية في الباكستان: كان القاديانية يحلمون بأن تصبح البلاد الهندية على سعتها قاعدة لهم، ولذلك مجدوا شخصيات الهندوس الدينية، وأقاموا علاقات مع زعماء السياسة، وخطبوا ود " نهرو " وأغروه حتى أعجب بهم، وأشيع في الأوساط الإسلامية أنه اعتبرهم أحسن طوائف المسلمين، لأن نبيهم ينحدر من الجنس الهندي ولهم مركز مقدس " قاديان " في الهند. وانطلاقا من هذه المطامع السياسية حبذوا فكرة وحدة الهند وعارضوا قيام دولة الباكستان، ولما قامت صرفوا جهدهم للنيل من مسلمي الباكستان، واستفادوا من رعاية الانكليز في ترسيخ أقدامهم في مختلف ودائر الدولة الفتية ونالوا مناصب كبيرة. وكان السير " ظفر الله خان " أول وزير خارجية لباكستان العقل المخطط للقاديانية، وقد اغتنم فرصة وفاة القائد محمد علي جناح فشحن وزارته والمفوضيات خارج الباكستان بالقاديانيين. وخطوا خطوة أخطر حين تسربوا إلى الجيش والشرطة ومصلحة الطيران وتغلغلوا في المرافق الحيوية الأخرى. وقد قامت جماعة منهم برئاسة زعيمهم " بشير الدين " فهاجرت إلى الباكستان - بينما بقي جماعة في مركزهم قاديان في الهند - واستطاع المهاجرون
28 بمساعدة النفوذ الانكليزي الحصول من الحكومة على مساحة شاسعة من الأرض في إقليم " جنهنك " بنوا عليها مدينة خاصة بهم سموها " ربوة " (1). وفي الحقيقة أن عش القاديانية في الباكستان " ربوة " بمثابة الفاتيكان للمسيحيين، فهي دويلة داخل دولة فيها كل ما للحكومة من دوائر ومكاتب وشعب مستقلة لكل من الشؤون الخارجية والداخلية والإعلام والشؤون العامة، وحرس وطني باسم " هيئة خدام الأحمدية " وتنظيم عسكري على شاكلة الميليشيا يتألف من فرقتين منتظمتين، تدعى الأولى " الهادفة " والثانية " الفرقان " وكلها تمارس نشاطها في داخل نطاقها المحدود. ولشعبة الأمور العامة دائرة مخابرات مهمتها جمع المعلومات عن نشاط الحكومة والمنظمات السياسية المناهضة للقاديانية، وتقوم بعثتها في إسرائيل بنشاط كبير، فالمركزان " قاديان " و " ربوة " على اتصال دائم بها، ويجري بينهما تبادل الأشخاص بين الحين والآخر عن طريق بعض الدول الإفريقية التي تتعاون معها وتصدر لمبعوثيها جوازات السفر، ولذلك وغيره فإن مسلمي الباكستان في قلق دائم من تحركاتهم المشبوهة، وحيطة وحذر من نشاطهم الهدام وتخطيطهم الخطر. وفي سنة 1371 ه = 1951 م اشتركوا في الانقلاب الفاشل، ولولا رحمة الله بتلك الدولة الناشئة لكان مصيرها دولة قاديانية. وفي جمادي الثانية سنة 1372 ه آذار 1952 م دعي شيخنا الإمام شيخ الإسلام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء لحضور المؤتمر الاسلامي في كراچي - وكان لي شرف توديعه واستقباله في مطار البصرة - تطرق بعد عودته في حديثه عن المؤتمر إلى وضع القاديانيين ونشاطهم التخريبي، ووضعهم لبعض العراقيل في طريق المؤتمر بسبب عدم السماح لهم بحضوره.
(1) الظاهر أنهم أخذوا اسمها من الآية الكريمة الخاصة بروح الله عيسى (ع): (وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين) [سورة المؤمنون: 50] لأن زعيمهم ادعى في مراحله الأولى أنه المهدي والمسيح. 29 وبالنظر لخطورة الموقف واستفحال أمر القاديانية اجتمع قادة المسلمين من الشيعة والسنة وزعماء " الجمعية الإسلامية " في كراچي في سنة 1373 ه = كانوا الثاني عام 1953 م، وعكفوا على دراسة الوضع السائد ووجوب اتخاذ الوسائل الكفيلة لمجابهة دسائس القاديانية وخطرها على الأمة الإسلامية، وأصدروا بيانا أعلنوا فيه أن القاديانيين خارجون عن الإسلام، وطلبوا من الحكومة إصدار قرار ينص على أنهم أقلية غير مسلمة كالهندوس والمسيحيين، وأن تعطيهم ما يستحقونه من الحقوق حتى في البرلمانات المحلية والمركزية كما هو الحال بالنسبة للأقليات الأخرى، وإقصاء " ظفر الله خان " من وزارة الخارجية وسائر القاديانيين من الوظائف الحساسة. وكان المسلمون - ولا يزالون - بالرغم من مواقفهم الحاسمة والجدية تجاه القاديانيين، ويؤكدون على الالتزام بالوسائل السلمية وتجنب العنف، وينهون عن المقاطعة التي يتعرض لها أفراد من القاديانيين كقطع الماء أو منع الطعام عنهم، ويعارضون ذلك بشدة لأنه يخالف التعاليم الإسلامية الإنسانية. وفي السنة نفسها ثار المسلمون الباكستانيون على القاديانيين ثورة عنيفة، وصاحبت ذلك اضطرابات أدت إلى مذابح قتل فيها عدد كبير من الجانبين، وأعلنت الدولة الحكم العرفي العسكري ووقفت موقفا منحازا، واستشهد مئات المسلمين برصاص الجيش والشرطة. واعتقل المسلمون بما فيهم زعماء الدين الذين قادوا الثورة، ومنهم الشيخ أبو الأعلى المودودي زعيم الجماعة الإسلامية يومذاك. بسبب تأليفه كتاب " المسألة القاديانية " الذي كشف فيه حقيقة القاديانية من النواحي الدينية والسياسية وما يكمن فيها من أخطار اجتماعية على الشعب الباكستاني المسلم، وصدر الحكم عليه وعلى غيره بالإعدام ثم خفف إلى أربع عشرة سنة، وأطلق سراح الجميع بعد سنوات. عمالته المكشوفة للانكليز: كانت أسرة القادياني على وئام وعلاقة صميمة مع " السيخ " أيام حكمهم على " البنجاب " - على العكس من المسلمين المضطهدين - وما أن
30 دخل الانكليز وسيطروا على البلاد حتى بادرت إلى إنشاء الصلة بهم وانضمت إلى صفوفهم، وكانت من أتباعهم علانية بسبب أن جد القادياني " الميرزا غلام محمد " كان من الإقطاعيين الكبار في ولاية " البنجاب " ولذلك أعلن ولاءه للانكليز وللتاج البريطاني منذ بداية الاحتلال، فنال الحب والعطف والرعاية من الولاة، وخلفه ولده " غلام مرتضى " فعزز ذلك بوقوفه إلى جانب الانكليز عندما ثار الشعب الهندي عليهم ثورته المشهورة عام 1273 ه = 1857 م ومدهم بخمسين مقاتلا فوجهوا له كتب الشكر، كما ساندهم في كل الحركات التي قامت ضدهم، وقبل التوظيف في دوائرهم. ولما جاء دور ولده " الميرزا غلام أحمد " سار على نهج أبيه وجده في الاخلاص والولاء، فتوظف في دوائرهم وحافظ على صحبتهم، ولما ظهر على الساحة وتبلورت شخصيته وبدأ بادعاءاته التجديد فالمهدوية فالنبوة، كانوا وراء ظهره سندا في مختلف المراحل، وإلا لما استطاع أن يفوه بكلمة واحدة، فقد أعلن دعوته بصراحة في بلد فيه عشران الملايين من المسلمين، وخرق إجماع مئات الملايين من المسلمين الذين أجمعت كلمتهم على ختم النبوة، وتحدي علماءهم وشتمهم، وشبههم بالقردة والكلاب والشياطين (1) وما شابه ذلك من النعوت، وظل يواصل دعوته وينشر مزاعمه بدون اكتراث، وحقق نجاحا في بلاده وفي البلدان الإسلامية الأخرى، وظل على قيد الحياة متمتعا بالحرية والحصانة مع المشايعين لفكرته، ولم يجرأ أحد على إخماد فتنته بالقضاء عليه، بل كان الاغتيال نصيب الزعيم الهندي " غاندي " الذي تمزق جسمه النحيل بالرصاص، لأن الانكليز كانوا ضده. ولو لم يصرح " القادياني " بعمالته للانكليز، لما كانت تخفى على أحد من ذوي البصائر، لأن العمل الذي قام به مما لا يقوي عليه رجل بمفرده كل بضاعته الكذب والدجل والافتراء وإنما كان له رصيد قوي ودعم كبير، من جهة عليا تحميه وتسدده تسخر إمكانياتها لدعمه، وبذلك استطاع الاستمرار
(1) مواهب الرحمن / 12 و 61. 31 في دعوته مبلغا وخطيبا وناشرا، وتمكن أن يجمع حوله زمرا من السذج والمنتفعين والمنافقين... أقول لو لم يصرح بعمالته غمض على أحد أمره، فكيف وقد ملأ كتبه بالاعترافات الصريحة والاعلان المكشوف، وفيما يلي نموذج من تلك التصريحات: " فقد ساعدهم (الانكليز " والدي مساعدة كبيرة في قمع تمرد 1857 (يقصد ثورة الشعب الهندي على البريطانيين الغزاة) ومدهم بخمسين فارسا مسلحا لضرب الثورة، لذلك تدفقت على والدي رسائل الشكر والامتنان من قبل الحكام، وكذلك ساندهم والدي في المعارك الأخرى التي خاضها المتمردون (يقصد الوطنيين الأحرار) " (1). " ولما توفي والدي ناب عنه أخي الكبير ميرزا غلام قادر في خدمة الحكومة البريطانية، فشملته هو الآخر بعنايتها، ولما توفي هو الآخر اقتفيت آثارهما وسلكت مسلكهما في إعلان الحب والولاء للحكومة والطاعة لها، وقد عاهدت الله منذ ذلك الحين على أنني لن أكتب شيئا ضد هذه الحكومة " (2). " أقول مدعيا: أنا أكثر المسلمين إخلاصا للحكومة الانكليزية، لأن هناك ثلاثة أمور جعلتني أحتل الدرجة الأولى في الاخلاص لها. 1 - تربية المرحوم الوالد. 2 - أيادي الحكومة البيضاء. 3 - إلهام من الله تعالى " (3). وقد خاطب أتباعه قائلا: " اسمعوا: إن السلطة الانكليزية رحمة لكم وبركة عليكم، وهي الحصن المنيع الذي أقام الله لوقايتكم، فعليكم أن
(1) كتاب البرية / 3. (2) نور الحق 1 / 28. (3) ترياق الفاروق / 309 و 310. 32 تقدروها حق التقدير من سويداء قلوبكم، والانكليز خير لكم ألف مرة من هؤلاء المسلمين الذين يحاربونكم " (1). وهو يعترف بصراحة بأنه لا يستطيع ترويج بضاعته الزائفة، وإعلان دعوته الكاذبة ومزاعمه الفاسدة، في أي بقعة إسلامية من العالم، لأن ذلك يؤدي إلى دق عنقه وإراقة دمه، فهو يقول: " لا يمكن أن أحقق دعوتي كل التحقيق في مكة، ولا في المدينة، ولا في الروم - يقصد تركيا - ولا في الشام، ولا في فارس، ولا في كابل، إلا في كنف هذه الحكومة التي أدعو لها دائما بالازدهار والانتصار " (2). ويقول أيضا: " لقد بسطت هذه الحكومة - الانكليزية - أياديها البيضاء علينا لحد أننا إن خرجنا من هنا لا تؤوينا مكة ولا قسطنطينية، فكيف يجوز لنا إذن أن نضمر في قلوبنا أمرا ضدها " (3). وبعد أن أعلن ولاءه المكشوف بهذا الشكل عاد يستجدي العطف عليه وعلى أتباعه، ويرجو من الحكومة الانكليزية أن تنظير إليهم نظر رأفة ورحمة وتحميهم من المسلمين، فقد وجه كتابا إلى الحاكم الانكليزي في المنطقة يقول فيه: "... القصد من وراء ذلك الطلب الذي تقدمت به إلى حضرتكم، والذي يحتوي على أسماء أتباعي أيضا، هو أنني وأن كنت أستحق رعاية خاصة من الحكومة الانكليزية نظرا للخدمات الخاصة التي قمت بها أنا وأسلافي نحو الحكومة الموقرة بصدق وإخلاص وتجرد وبتحمس قوي، أرجو من الحكومة السامية أن تجعل هذه الأسرة - يعني أسرته - التي عرفتها وفيه موالية لها مؤمنة بها مستميتة في سبيلها بعد تجارب استمرت خمسين سنة مضت، هذه الأسرة التي شهد لها أركان الحكومة الموقرة بأنها أول المخلصين لها والقائمين على خدمتها، أرجو من الحكومة السامية أن تجعل هذه الأسرة التي
(1) تبليغ الرسالة 10 / 123. (2) تبليغ الرسالة 6 / 69. (3) الملفوظات الأحمدية 1 / 146. 33 هذا شأنها، والتي هي عبارة عن غرسها نفسها، أن تجعلها موضع رعاية خاصة... " (1). بهذه الحقارة والوضاعة يستجدي هذا الدنئ عطف الغزاة المحتلين لبلاده، والهاتكين لحرمته، والمريقين لدماء أبنائه البررة، بهذا الأسلوب الذي يدل بصراحة على تفاهته وهو أنه على نفسه، ثم يدعي أنه نبي، والأفظع أن يدعي أن الله ألهمه الولاء للمحتلين، ويأمر الناس بتصديق أقواله ويلعن من خالفه واستخف به. والحقيقة إن هذه الرسالة وثيقة إدانة وعمالة لا غبار عليها، فليس أكثر من أن يدعي أن هذه الطائفة من غرس يد الانكليز، وإذا ثبت ذلك - وهو ثابت - فنحن في غنى عن إيراد الأدلة والاستشهاد بالأقوال. سبب احتضان الانكليز للقاديانية: لقد قوبل الانكليز وغيرهم من القوى الاستعمارية الكافرة عند دخولهم البلاد الإسلامية فاتحين بضراوة وعنف وتحطيم وتدمير، وتلقوا من المسلمين ضربات ماحقة أطارت صوابهم وأرتهم العجب في التضحية والاستبسال، وتقارير ضباطهم إلى قياداتهم ومذكراتهم التي كتبوها خلال أيام احتلالهم ونشرت تراجمها أكبر شاهد على ما نقول، فقد صرح الجميع واتفقت كلمتهم على غيرة المسلمين على أوطانهم ودفاعهم المستميت عنها، وعن حميتهم على غيرة المسلمين على أوطانهم ودفاعهم المستميت عنها، وعن حميتهم وتضحيتهم بالغالي والنفيس في سبيل الحفاظ على أرضهم من دنس الغاصبين. ومرجع ذلك إلى أن الجهاد في سبيل الله من الواجبات الدينية بإجماع المسلمين، وحكمه حكم فروع الدين الأخرى كالصلاة والصيام والزكاة والحج كما نص عليه فقهاء الأمة قديما وحديثا، وهو كما تفصله المصادر كافة نوعان، أحدهما للدعوة إلى الإسلام وإعلاء كلمته في بلاد الله وعباده، والثاني للدفاع عن الإسلام والمسلمين وبلادهم، وكذلك عن النفس والمال والعرض.
(1) تبليغ الرسالة / الجزء السابع / تحت عنوان: رجاء الأحقر غلام أحمد القادياني إلى حضرة الحاكم دام إقباله. 34 ويشترط فقهاؤنا - معاشر الشيعة الإمامية - في النوع الأول وجود الإمام أو نائبه الخاص (1) أما الثاني فلا يشترط فيه ذلك. وقد نص القرآن الكريم على ذلك في العديد من الآيات، ومنها: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفي بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم) (2). ومنها: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدون درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما * درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما) (3). كما حثت عليه السنة النبوية، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من ترك الجهاد ألبسه الله ذلا وفقرا في معيشته ومحقا في دينه " وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): " الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجنته الوثيقة، فمن تركه ألبسه الله ثوب الذل وشمله البلاء.. " (4). ومن أجل ذلك كان المسلمون يعلنون الثورة على الغدو الكافر إذا غزاهم في عقر دارهم، ويهبون للجهاد في سبيل الله في مقاومته ودحره، وكان على رأس الداعين إلى الجهاد علماء الدين، فإذا ما أفتوا بوجوبه وضرورة حفظ البلاد من الغازين لم يتخلف عن الامتثال لأوامرهم أحد إلا الشيخ الهرم
(1) أنظر: " شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام " ويصرح الشهيد الثاني في " مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام " أن المراد بوجوده كونه ظاهرا مبسوط اليد متمكنا من التصرف، ويؤكد في " الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية " أنه لا يجوز للنائب العام كالفقيه في حال الغيبة، لذا أسقط الشيخ يوسف البحراني المتوفى عام 1186 عند تأليفه " الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة " لأن ذلك إضاعة للوقت فيما لا جدوى فيه. (2) التوبة: 111. (3) النساء: 95 - 96. (4) نهج البلاغة 1 / 63. 35 والمريض العاجز. ولا يزال العهد بثورة العراق الكبرى عام 1920 قريبا إلى الأذهان، فقد هاجمه الانكليز فاتحين، وأفتى زعيم الثورة الكبير الإمام الشيخ محمد تقي الشيرازي وبقية زعماء الدين بوجوب الجهاد والمحافظة على البلاد، فهب الشعب العراقي هبة واحدة ولقن الانكليز درسا لن ينسوه إلى الأبد. وقد جاء في " مذكرات مس بل " قولها: " رجال الدين من العلماء في النجف وبغداد وكربلاء والكاظمية وسامراء... كان هؤلاء العلماء شديدي التعصب للإسلام وشديدي الكره لبريطانيا... كان لهم حتى الآن أثر كبير على السكان المتدينين في المدن المقدسة.. " (1). ولم تكن حال المسلمين في الهند لتختلف عنها في سائر بلادهم الأخرى، فقد قاوموا التسلط الانكليزي والاحتلال الغاشم، وحرضهم علماؤهم على الجهاد في سبيل الله، فضاق الانكليز بذلك ذرعا وظل القلق يساورهم دوما، وحاولوا التماس وسيلة توقف تلك الانتفاضات عند حدها، وتخنق أصوات الأحرار الذين يطالبونهم بالجلاء عن البلاد، ووجدوا ضالتهم عند " القادياني " فقد جند نفسه لتلك المهمة وبذل كل وسعه وطاقته في إيقاف المد الثوري بفتاواه المتوالية في عدم جواز الجهاد ضد الانكليز، وملأ الآذان بصخبه في إرشاده وخطبه ومؤلفاته وسائر الوسائل الممكنة الأخرى، وأمده الانكليز بالمال وجندوا في خدمته الرجال، وهو يواصل مسعاه الخبيث وجهده الخائن، لكن ذلك لم يجده ولم يجد أسياده فتيلا، إذ لم يكن لفتواه سميع غير قومه، وهم أقل من القليل إذا ما قيسوا بعدد المسلمين في مقاطعة البنجاب وحدها، فضلا عما سواها من مقاطعات شبه القارة الهندية. وكان يفسر الآية الكريمة: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (2) بحسب ميوله الضالة، ويؤكد على أن الانكليز هم أولوا الأمر الذين
(1) تطور الفكرة الأسلوب في الأدب العراقي في القرنين التاسع عشر والعشرين / 21. نقلا عن " مذاكرات مس بل " المطبوعة بالانكليزية. (2) السناء: 59. 36 أمر الله بطاعتهم وحذر من مخالفتهم، لغرض إسقاط فكرة الجهاد الاسلامي ضد الكفار، وقد ذكر ذلك مباهيا وافتخر به في غير واحد من مؤلفاته، وكان من جملة تصريحاته الوقحة قوله: " إني منذ الصغر إلى أن بلغت ستين سنة من عمري كنت أحاول في محاضراتي ومقالاتي أن أخلق الحب والولاء للانكليز في قلوب المسلمين، وأن أحملهم على التخلي عن الجهاد ضد المحتلين الانكليز " (1)، وقوله: " وجب على كل مسلم ومسلمة تقديم الشكر إلى هذه الحكومة، وحرام على كل مؤمن مقاومتها بنية الجهاد، وما هو جهاد بل هو أقبح أنواع الفساد " (2) وقوله: " لقد خطوت أكبر مرحلة في حياتي في نصرة الدولة البريطانية والدفاع عنها وألفت كتبا كثيرة أحرم فيها الجهاد ضدها، لو جمع كل ما كتبته في هذا الصدد لبلغ خمسين كتابا، ووزعت هذه الكتب كلها في جميع أقطار العالم مثل الجزيرة العربية والشام، وكابل ومصر، وبلاد الروم - يقصد تركيا - " (3)، إلى غير ذلك مما يصعب استقصاؤه. فهل يحتاج الإنسان - بعد هذه الصراحة والصلافة إلى ما يوضح له أسباب احتضان الانكليز له وتعلقهم به في حياته؟ ودعمهم وتمويلهم لاتباعه بعد وفاته؟ ومساعدتهم على الانتشار لتخريب العقائد والديار، فالمسألة في غاية الوضوح، والمساجد والجمعيات الدينية التي يشيدها القاديانيون في مختلف البلاد - ولا سيما في الغرب - بؤر جاسوسية ومراكز هدم، والواجب على الغيارى من أبناء المسلمين محاربتها وتقويض أركانها، لا سيما في أوروبا وأمريكا فإنها أشد ضررا، لأنهم في البلاد الإسلامية وديار الشرق معروفون ومعزولون من قبل معظم أهلها، لكن الغربيين لا يعرفون أسرارهم ونواياهم وإنما يأخذون فكرة مشوهة عن الإسلام بواسطتهم، إذ يدسون السم في العسل ويفسرون القرآن حسب مشتهياتهم ووفق رغباتهم، مما يضر بتفاهم الأمم والشعوب ورسل الأديان، كما مرت الإشارة إليه في التقديم.
(1) تبليغ الرسالة 7 / 10. (2) مواهب الرحمن / 25. (3) ترياق القلوب / 15. 37 شبه القاديانية بالبهائية: وللقاديانية شبه بالبهائية من حيث التكوين والتطوير فكلاهما من صنائع الاستعمار، فقد غذتهما الأيادي الأجنبية التي كانت تعمل للتخريب في البلاد الإسلامية في القرن التاسع عشر، ولخلق الفتنة والاضطراب وإلهاء الشعوب بالخلافات الداخلية، وبديهي أنهما لم تصلا إلى ما هما عليه اليوم من قوة وسعة انتشار في العالمين الشرقي والغربي إلا بدعم الاستعمار المادي والمعنوي، فقد كان وراءهما منذ الخطوات الأولى. والملاحظ أن الاستعمار كان - ولا يزال - يختار لتنفيذ خططه ودسائسه في بلاد الشرق بعض المتلبسين بلباس رجال الدين، أمثال كعب الأحبار ووهب بن منبه في التاريخ القديم، وراسبوتين وأبي الهدى الصيادي في التاريخ الحديث، ليسهل اختلاطهم بالعامة وسواد الناس، ويمكن دسهم عن طريق التوجيه والوعظ والتأليف الارشاد. أما البابية فقد غرس بذرتها في إيران " كينيار دالكوركي " المترجم ثم الوزير المفوض في السفارة الروسية بطهران، فقد اعترف في مذكراته المطبوعة (1) بالدور الذي لعبه في تأسيس هذه الفرقة بوحي من الحكومة القيصرية، وذلك لإشغال رجال الدين المسلمين الذين كانوا على خلاف دائم مع الحكومة الروسية. ولا ننسى شقيقتهما الثالثة " الماسونية " فهي أكبر منهما عمرا، لأنها ولدت في بداية القرن الثامن عشر، وقامت على أنقاض تنظيم يهودي يهدف إلى السيطرة على العالم، ويدعو إلى أممية لا علاقة لها بالأديان والأوطان
(1) أخرجت " مطابع قدموس الجديدة " في بيروت " مذكرات دالكوركي " تعريب السيد أحمد الموسوي الفالي بدون تاريخ. والظاهر أنه ترجمها عن الفارسية، وقد ترجمت مذكرات هذا العميل إلى عدة لغات، وفي بعضها أن اسمه " ماكسيم غوركي " ولا يبعد ذلك لأن التصحيف يلحق الأسماء الأعجمية عند تعريبها غالبا، كما هي الحال في اسم " جرجي زيدان " حيث يكتبه البعض " جورجي " والآخر وجيورجي ". 38 والقوميات وكل القيم والمثل الأخلاقية العليا، حيث تسحق ذلك جميعا وتحل محله روح الإلحاد والإباحية، لكنها أعلنت لها أهدافا خادعة هي: " الحرية، والإخاء، والعدالة، والمساواة " لإغراء الناس وترغيبهم في الانتماء إليها. وهناك سؤال يشكل علامة استفهام كبيرة، وهو لماذا توجد في إسرائيل مراكز لكل من الماسونية والقاديانية والبهائية؟ وهل يعقل أن ذلك محض صدفة؟ والجواب بالطبع: لا. بل إن ذلك تخطيط مدروس، وعمل مقصود، وتنسيق مسبوق، فالكل يدور في فلك الاستعمار ويلتقي عند نقطة واحدة، يجب أن يفكر بها ويعمل لها من بيدهم الحل والعقد في العالم الاسلامي والعربي..
39 ترجمة المؤلف رحمه الله بقلم المحقق 1 - نسبه. 2 - ولادته ونشأته. 3 - دراسته ومشايخه. 4 - تلامذته والمتخرجون عليه. 5 - نشأته الأدبية. 6 - انتخابه لعضوية المجمع العلمي العربي بدمشق. 7 - دوره السياسي. 8 - مساهمته في النهضة الثقافية. 9 - خدماته الإصلاحية. 10 - صلاته بعلماء العراق وأدبائه. 11 - وفاؤه وتكريمه لعلاقاته. 12 - إباؤه وشرف نفسه. 13 - رحلته إلى العراق وإيران. 14 - ثناء المؤلفين والكتاب عليه. 15 - وفاته. 16 - آثاره العلمية والأدبية. 17 - خاتمة. نسبه: هو الشيخ سليمان بن محمد بن علي بن إبراهيم بن حمود بن ظاهر زين الدين... ينتهي نسبه إلى الشهيد الثاني (1) الشيخ زين الدين بن الشيخ نور
(1) من فقهاء الإمامية الأعاظم في القرن العاشر، له في العلوم الإسلامية يد طولي ومقام شامخ، وفي التقى والإخلاص لله مكانة لا يصلها إلا القديسون. قال الإمام الجليل السيد محسن الأمين في معرض حديثه عن علماء جبل عامل: " وكل علمائها قانع بالقليل من عهد الشهيد الثاني الذي كان يحرس كرمه بنفسه وبنى داره بيده... ". (أعيان الشيعة 40 / 40). ولد سنة 911 ه = 1055 م وقتل سنة 966 ه = 1559 م. وآثاره قيمة من أشهرها " الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية " و " مسالك الأفهام في شرح شرايع الإسلام " وهما من الكتب الفقهية الدراسية في جامعات الشيعة الدينية ومرجع فقهاء الطائفة ومحط أنظارهم. أنظر ترجمته في: " الأعلام 3 / 105 " و " أعلام العرب في العلوم والفنون 3 / 78 / 81 ". و " أعيان الشيعة 33 / 223 - 296 " و " أمل الآمل في علماء جبل عامل 1 / 85 - 98 " و " البدر الطالع 1 / 383 " و " تنقيح المقال /... " و " الذريعة إلى تصانيف الشيعة / عدة مواضع ". و " روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات 3 / 352 - 387 " و " سفينة البحار 1 / 723 " و " شهداء الفضيلة / 132 - 144 " و " الكنى والألقاب 2 / 350 - 359 " و " لؤلؤة البحرين / 25 " و " مستدرك وسائل الشيعة 3 / 425 " و " معجم المؤلفين 4 / 193 " و " نقد الرجال / 145 " و " جبل عامل في التاريخ 1 / 71 - 77 " و " الشهيد الأول " و " الشهيد المطلق " في مصطلح علماء الإمامية هو الشيخ شمس الدين أبو عبد الله محمد بن جمال الدين مكي الجزيني العاملي المقتول عام 786 ه = 1384 م ويلقب الشيخ محمد تقي البرغاني الذي قتله البابيون سنة 1263 ه = 1846 م بالشهيد الثالث، وقد كان ذلك قبله لقبا للقاضي نور الله المرعشي صاحب " مجالس المؤمنين " المقتول في النهد في سنة 1019 ه = 1610 م وهو أجدر به لعظمته العلمية، ويعبر عن السيد مهدي الرضوي المقتول عام 1217 ه = 1802 م بالشهيد الرابع. والشهيد في اصطلاح فقهاء الشيعة الإمامية: هو المسلم الذي يموت في قتال أمر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الإمام (عليه السلام) أو نائبهما الخاص، أو يقتل في جهاد مأمور به حال الغيبة، وفي تلك الحالة فقط يسقط عنه الغسل ويدفن بثيابه، وما عداه يغسل ويكفن، وإن طلق عليه اسم الشهيد في بعض الأخبار كالمطعون، والمبطون، والغريق والمهدوم عليه، والنفساء والمقتول دون ماله وأهله " اللمعة الدمشقية ". ويشترط بعض الفقهاء المتأخرين في الشهيد أن يكون خروج روحه قبل إخراجه من المعركة أو بعد إخراجه مع بقاء الحرب، أما إذا خرجت روحه بعد انقضاء الحرب فلا تطبق عليه أحكام الشهيد " العروة الوثقى / باب غسل الأموات ". 41 الدين علي بن أحمد بن محمد بن علي بن جمال الدين بن تقي الدين بن صالح الجبعي العاملي. ولادته ونشأته: ولد في " النبطية التحتا " قاعدة عمل الشقيف من أبوين صالحين في العاشر من محرم سنة 1290 ه = 1873 م، وتوفيت والدته وهو دون الثالثة من العمر فتولت خالته - وكانت من الصالحات - تربيته وأحاطته بحنانها، فنشأ نشأة
42 طيبة وأنبته الله نباتا حسنا، ولما أتم العاشرة أدخل مكتب بعض شيوخ الكتاتيب فتعلم مبادئ الخط البسيطة وقراءة القرآن، وكان ذلك أقصى ما يبلغه المتعلمون يومئذ في تلك البلاد، على ندرة من يتعلم منهم، إذ كانت الأمية هي الغالبة على البلاد العاملية (1). دراسته ومشايخه: كانت مدارس العلم في ذلك العهد في تراجع مستمر، فلا تشاد مدرسة وتقوم فيها سوق للعلم ونشر المعرفة، ويتقاطر إليها الطلاب من كل صوب حتى تلفظ أنفاسها وتقفل أبوابها خلال سنين معدودة، ويعود طلابها من حيث أتوا... وقد نشأت في نفس المترجم له رغبة ملحة في طلب العلم ونزوع إلى تلقيه في مثل تلك الظروف، وكان ذلك في أوائل المئة الرابعة عشرة، فاتجه إلى بعض المدارس التي قامت على أنقاض المدارس القديمة، وسرعان ما أصابها الانحلال والتراجع أيضا، فارتحل إلى قرية " النميرية " على بعد فرسخين من مدينته، ولم يلبث فيها غير ثلاثة أشهر حتى لفظت أنفاسها على العادة، فذهب إلى " بنت جبيل " في جنوب جبل عامل على بعد ستة فراسخ من " النبطية " وكانت فيها بقايا مدرسة، فمكث فيها مثل تلك المدة فتوفي مؤسسها العلامة الشهير الشيخ موسى شرارة سنة 1304 ه = 1886 م، فتفرق من فيها من الطلاب والمدرسين فعاد إلى " النبطية " يائسا. وشاء الله أن يمد بعونه المترجم له وأترابه ويشملهم بلطفه، فقيض لمدينة " النبطية " عالما مرشدا مشاركا في العلوم وهو السيد محمد بن السيد علي آل إبراهيم، فأذكى قرائحهم ودربهم على الكتابة والخطابة ونظم الشعر وغير ذلك مما لم يكن تدريسه مألوفا، وما فارق ذلك الأستاذ " النبطية " حتى جدد السيد
(1) قال الدكتور فيليب حتى: " لقد برز اسم لبنان الشمالي بفضل علاقاته مع إيطالية وفرنسة في المحافل الدولية، أما لبنان الجنوبي بدروزه وشيعييه فقد ظل بلدا مغمورا، فلم يسترع أنظار الرحالة الأوروبيين ولم يسجل لنا أحد من أهليه شيئا عن الحياة فيه، غير أن هناك حقيقة واحدة جلية كان النصارى والدروز والشيعة يعيشون معا بانسجام وصفاء " لبنان في التاريخ / 594 - 595 ". 43 محمد نور الدين الموسوي مدرسة آبائه في " النبطية الفوقا " على ميل ونصف من مدينته " النبطية التحتا " واكتظت بالطلاب من مختلف البلاد العاملية فانتقل إليها، وكان قد أمها بعض أفاضل المدرسين فقرأ المنطق والبلاغة على بعض أساتذتها. وفي سنة 1309 ه = 1891 م قدم العالم الشهير السيد حسن يوسف آل مكي من النجف وسكن " النبطية التحتا " وأسس فيها مدرسة قصدها طلاب العلم من مختلف البلاد العاملية حتى قارب عددهم المئتين، وقام بلوازم المحتاجين والمعوزين (1)، وقد هبطها رهط من المحصلين أيضا كان في طليعتهم الشيخ أحمد آل مروة فأكمل المترجم له دراسة المنطق والبلاغة ومبادئ الفقه والأصول عليه، ودرس على مؤسس المدرسة " رسائل الشيخ الأنصاري " و " قوانين الأصول " في علم الأصول و " شرح اللمعة " و " المكاسب " في الفقه، و " شرح الباب الحادي عشر " في العقائد وبعض كتب الكلام، وصار في عداد الفضلاء، وعهد إليه بالتدريس فكان يلقي الدروس في النحو الصرف، والمنطق والبلاغة، ومبادئ الأصول والفقه، على رهط من الطلاب، واستمر على ذلك حتى توفي مشيد بنيان المدرسة عام 1324 ه = 1906 م، فكان نصيبها نصيب كل مدرسة تشاد في تلك البلاد حيث تحيى وتموت بحياة منشئها وموته، إذ لا يخلفه عليها قيم يدير شؤونها وينظم سيرها، وليست لها وقوف وأحباس تضمن لها البقاء والاستمرار بالانفاق من ريعها. وقد أقفرت في ذلك العام وما بعده مدارس " حنويه " و " جبع " و " شقرا " و " النبطية " من طلاب العلم، ولولا ما سن على عهد السلطان عبد الحميد آل عثمان من إعفاء طلاب العلوم الدينية من التجنيد في أشباه المدارس شريطة ملازمتها والمواظبة على استمرار الدوام فيها، لما بقي في جبل عامل طالب لعلوم الدين. تلامذته والمتخرجون عليه: وقد تلقى عنه وتخرج عليه في مدرسة السيد حسن المذكور عدد كبير من الطلاب، أبرزهم الشيخ أحمد عارف الزين صاحب " مجلة العرفان " والأخوان
(1) طبقات أعلام الشيعة 1 / 452. 44 حسن والشيخ محمد علي الحوماني، والشيخ حسين آل نعمة، والسيد هاشم آل عباس الموسوي، والسيد محمد رضا الجبعي، والسيد جواد الحسيني، والشيخ رضا عز الدين، والسيد كاظم الهاشمي، وكثير غيرهم. نشأته الأدبية: كان الفضل في إذكاء قريحة المؤلف للنظم والكتابة والوقوف على العلوم التي لم تكن تدرس في المدارس العاملية لأستاذه السيد محمد آل إبراهيم، فقد غرس في نفسه ونفوس زملائه ذلك، وحثهم على مطالعة بعض الكتب الحديثة، وقراءة المجلات العلمية والأدبية التي كانت تصدر في مصر، كمجلة " المقتطف " و " الهلال " ثم مجلة " المنار الاسلامي " وغيرها... وقد أخذ في ممارسة الكتابة في الصحف، واتصل بسبب ذلك بكثير من الأدباء في مختلف البلاد، وكان لذلك الاتصال أثره الكبير في تلك المرحلة من حياته الأدبية. وفي عهد الانقلاب العثماني وإعلان الدستور تنفس أحرار العرب الصعداء عام 1327 ه = 1909 م، وانتشر كثير من الصحف حتى في البلاد الصغيرة، وانتدب لكتابة افتتاحيات، بعضها، وصدرت مجلة " العرفان " في صيدا، وهي المجلة الوحيدة التي كتب لها الدوام والاستمرار وجاهدت جهاد الأبرار، وكان لها الفضل الكبير في خدمة العلوم والآداب والتاريخ واسم جبل عامل، وبأحكام الصلة بينها وبين مناصريها، فكان من المساهمين فيها حتى وفاته، وما زالت حتى اليوم دائبة على أداء رسالتها. انتخابه لعضوية المجمع العلمي: اشتهر اسم المترجم له في البلاد العربية عن طريق نشر المقالات القيمة والقصائد في الصحف السيارة، وأصبح في عداد العلماء والأدباء المعنيين بقضايا الفكر، وصارت له مكانة بين أهل الفضل وحرمة لدى رجال الثقافة فرشحه " المجمع العلمي العربي " في دمشق لعضويته، وورد عليه كتاب من رئيس المجمع الأستاذ محمد كرد علي هذا نصه:
45 " حضرة الأستاذ الشيخ سليمان ظاهر المحترم. بالنظر لما يعلمه المجمع العلمي العربي عنك من غزارة الفضل وسعة الاطلاع، وقيامك بخدمة اللغة العربية وآدابها، قرر في جلسته المنعقدة في 17 تشرين الأول سنة 1927 بإجماع الآراء انتخابك عضوا مؤازرا فيه، لتكون عونا له على القيام بمهمته، فإن صادف ذلك منك قبولا أرجو أن تتحفنا بترجمة حياتك الشريفة، وصورة من صورك الثمينة لنضمها إلى تراجم الأعضاء، وكذلك نقترح عليك إتحافنا بمقالة تكون بمثابة " أطروحة " في أي موضوع شئت، نتلوها يوم الاحتفال بقبولك هذه العضوية، دمت نصيرا للعمل والأدب والسلام عليك سيدي ". وقد لبى دعوة المجمع بقبول العضوية، وبكتابة وأطروحة تحت عنوان " صلة العلم بين دمشق وجبل عامل " ونشرت هي والترجمة في المجلد السابع من مجلة المجمع. دوره السياسي: من المعلوم ما كانت عليه الحكومة العثمانية من سياسة رعناء في البلاد العربية كافة، وقد كانت حصة سوريا ولبنان من الضغط والتنكيل حصة الأسد لكونهما بلد الإشعاع كما يعبر عنه الكثيرون، فعندما بدأت النهضة الوطنية كان الموقف فيهما متميزا بين بقية البلاد، وما إن دخلت تركيا الحرب العالمية الأولى إلى جانب الألمان عام 1333 ه = 1914 م حتى ظهر على الساحة في دمشق جمال باشا الذي لقب بالسفاح (1) قائدا أعلى للجيش الرابع، وحاكما عسكريا للمنطقة، وقد سارع إلى احتلال لبنان وإقامة حكم عسكري عنيف تضاءل إزاءه كل حكم ظالم عرفه لبنان من قبل (2)، وكان النابهون والمخلصون من أبناء العرب مسلمين ومسيحيين قد بدأوا بإعلان ولائهم للقضية العربية التي
(1) سبق وأن لقب الحاكم الظالم أحمد باشا بالجزار وكان اسما على مسمى. (2) أنظر الدكتور فيليب حتى: تاريخ لبنان / 588. 46 كان يتزعمها يومذاك الشريف حسين بن علي في مكة، فأقام السفاح مجلسا عرفيا للنظر في جميع القضايا التي تتعلق بأمن الأتراك في البلاد، ووظف طابوره الخامس لجمع المعلومات، وشجع الناس على التقدم بالشكايات الباطلة واتهام بعضهم ضد بعض، ولعبت الأغراض الشخصية والعداوات دورا غير مشرف، كما هو المألوف في مثل تلك الظروف، وألصقت كلمة الخيانة بكثير من الأبرياء، أما المنتمون إلى الجمعيات والمنظمات فلم تكن خيانتهم لتحتاج إلى الشواهد والأدلة، وقد سيق الأحرار إلى المجلس العرفي بالجملة، وحكم الكثيرون بالسجن والنفي والإعدام. وكان المترجم له من الطبقة الواعية يومذاك، وقد طاردته السلطات التركية، ولقي من عنت السياسة ما لقيه إخوانه العاملون، فقد وشى " محمود القبرصلي " مدير ناحية " الشقيف " به وبزميليه الشيخ أحمد رضا والشيخ محمد آل جابر، بأنهم من الناقمين على المظالم، وأن لديهم الكثير من النشرات المضرة، ومن مؤلفات الشيخ محمد عبدة، ومن مجلة " المنار " والجرائد المحرم دخولها إلى الممالك العثمانية، وأنهم عازمون على نشر آراء عبدة وصاحب المنار، وقد قدم الواشي وشايته إلى قائمقام (صيدا " وهو تركي، فأرسل من فوره المحامي جميل الحسامي رئيس كتبة محكمة صيدا، والدكتور عز الدين الشهابي طبيب بلدية صيدا، فدخل الحسامي إلى مكتبة رضا فلم يبالغ في التفتيش لأنه كان ذا وطنية صادقة وشهامة ووجدان، وانفرد به وأطلعه على الأمر الصادر إليه وفيه: أن يقيد الموشى بهم ويرسلهم تحت الحراسة إذا رأي أدنى شبهة. وأخذ عليه المواثيق بأن لا يبوح لأحد ما دامت الحاجة ماسة إلى الكتمان، وفعل كذلك بمكتبة المترجم له وجابر، وقدم تقريره بنفي كل ما جاء في الوشاية. وفي 23 رجب سنة 1333 ه = خامس حزيران 1915 صدر الأمر من الديوان العرفي العسكري في عاليه بالقبض على المترجم له وعدد من زملائه، وإشخاصهم بحراسة الجند إلى الديوان العرفي، فكانوا أول قافلة سيقت إليه بالجرائم السياسية، ولبثوا في السجن إلى 26 رمضان = 27 تموز حوكموا فيها
47 مع الشهيد عبد الكريم الخليل، ورضا الصلح، ورياض الصلح في ثلاث عشرة جلسة متتابعة، تقدم للشهادة عليهم سبعة عشر شاهدا كان أكثرهم في عداد المتهمين، لكنهم اعتبروهم شهودا بعد أن أخذوا منهم المواثيق بأنهم يشهدون كما تريد السلطة، لكن ثلاثة من الأشراف كانوا مثال الشهامة والوجدان، فلم يتقيدوا بالمواثيق، وهم الشيخ محي الدين عسيران، والشيخ أحمد عارف الزين، وراشد عسيران، ووفي الباقون بما وعدوا به السلطة فتكلموا على هواها، وكانت النيابة العامة في تلك المحاكمات مفوضة لشهم هو صالح عبد العال، فكان هو الذي يترجم دفاع المتهمين بلباقة لا يشعر بها الحاكم، ولكن أمره قد راب رئيس الديوان فنحاه عن النيابة والترجمة، وخرج قضاة الديوان إلى (صيدا) و (صور) ليحققوا، فرجعوا وقد اعتقلوا جماعة أخرى، وقبل أن يبتوا بالأمر ظهرت التهمة على القافلة الثانية في بيروت، وهم أبناء المحمصاني ورفاقهم، وشغل الديوان بأمرهم لأنه لأنه أنس شيئا يصلح له أن يتمسك به في تهمتهم، وختمت المحاكمة لهاتين القافلتين بنصب المشانق لأحد عشر متهما من المسلمين والمسيحيين في " ساحة البرج " ببيروت، ولسبعة في " ساحة المرجة " بدمشق بتهمة الموالاة للقضية العربية، وأطلق سراح الباقين وذلك عام 1335 ه = 1916 م، وقد سميت الساحتان بساحة الشهداء حيث نصبت المشانق، وصار السادس من أيار " عيد الشهداء " يحتفل بذكراه في سوريا ولبنان كل عام. وبعد خروج المترجم له من السجن تحدث له المترجم صالح عبد العال بأن جمالا السفاح كان يطلب طلبا حثيثا من رئيس الديوان أن يعجل بالحكم على المتهمين ليكون ذلك أول عملية جراحية كان يريدها لسوريا المتمخضة بالثورة، ورئيس الديوان يلح على النائب العام فيدفع طلبه بالوعود حتى يظهر له ما يدان به المتهمون وهو قريب جدا، وبمثل هذا الكلام كان يؤخر تعجيلهم بالأمر، وفي سبيل ذلك التعجيل خرجوا بغية قبض الآخرين. ولم يكن ما لقيه في عهد الاحتلال الفرنسي لبلاده أقل مما عاناه من الأذى في عهد الأتراك، ففي 14 رجب سنة 1338 ه = ثالث نيسان سنة
48 1920 م جاء إلى النبطية القومندان " شارنبيتيه " حاكم صيدا العسكري الفرنسي، واستدعى المترجم له وزميليه رضا وجابر إلى دار الحكومة وخلا بهم، وكان مدير الناحية نخلة الخوري مترجما، فهددهم الحاكم بشدة وتهديد، فقابلوه بعدم الاكتراث وأجابوا على أسئلته بكل جرأة وصراحة فلان في حديثه، وقد صرحوا بمبدئهم العربي وأنهم لا يريدون سلطة غير عربية، وإذا احتاجت إلى إرشاد فيجب أن يكون المرشدون والمستشارون ضمن ملاك الدولة، وأمر اختيارهم منوط بها، تثبتهم إذا أحسنوا وتبدلهم إذا أساؤوا بلا حرج أو اعتراض، وبقول موجز إنهم يريدون استقلالا تاما منجزا، فأثرت فيه تلك الصراحة وأمر مدير الناحية وإدارة الشرطة بمراقبتهم لئلا يبثوا آراءهم بين الناس. وكانت أعمال المترجم له وزميله رضا في إيواء اللاجئين إلى النبطية في الثورة العاملية وحوادث " مرجعيون " كفيلة لهما بتقدير مواطنيهما من المسيحيين المنكوبين. وفي أول شهر رمضان سنة 1338 ه = أيار سنة 1920 م ساقت السلطة العسكرية حملتها على جبل عاملة، واستدعى قائد الفرقة الشمالية المترجم له وزميله رضا إلى بيت قائد النبطية العسكري - وكان خارج البلدة - واعتقلا بمجرد حضورهما وأرسلا محروسين بالجند إلى صيدا في سيارة مصفحة، ولم يعلم أحد بما وقع لهما، وأدخلا على " شارنبيتيه " فأخبرهما بأن التدابير العسكرية قضت بإبعادهما عن " النبطية "، ولبثا في " صيدا " تحت الإقامة الجبرية حتى انتهت الحملة العسكرية من جبل عامل فأطلق سراحهما، ثم دعي مع أعيان البلاد إلى صيدا لتقرير شروط الهدنة وفرض غرامة حربية مالية على الطائفة الشيعية دون غيرها من الطوائف في جيل عاملة (1)، وفرض مئة ألف ليرة عثمانية ذهبا، لكن السلطة استوفت بالقوة والشدة نحو نصف مليون ليرة. ولم تفت تلك الحوادث المؤلمة والخيبة السياسية في عضد الوطنيين العاملين لخير بلادهم واستقلالها، فقام صاحب الترجمة وزميلة رضاع مع
(1) قال الأمير شكيب أرسلان: " أخذ الفرنسيون في الانتقام من إخواننا شيعة جبل عامل لنزعتهم العربية وتأييدهم حكومتها في الشام... " أعيان الشيعة 43 / 136. 49 الوطنيين الصوريين المخلصين الحاج عبد الله يحيى، والحاج خليل إسماعيل بمحاولة للتخفيف من غلواء المنتصرين في الفئة المشايعة للاستعمار من جهة، وللحد من الثورة التي انقلبت في جبل عاملة إلى حرب عصابات من جهة أخرى، لعلهم يصلون إلى تخفيف الضغط على أبناء الشيعة من جور الحكومة المحتلة التي تجردت في معاملتها مع أبناء هذا القطر من المسلمين عن كل إنسانية ورحمة. فقام المترجم له وزميله رضا مع المجاهدين الصوريين المذكورين، فألفوا وفدا وهبطوا بيروت، فأجروا مقابلات ومحاورات مع أعيان المسيحيين وتوصلوا إلى إزالة كثير من سوء التفاهم بين عقلاء الطائفتين، وخمدت الفتنة التي أثارها الفرنسيون، لكن ذلك لم يرق للحكومة المحتلة، فوقفت حجر عثرة في سبيل التفاهم، فاتصل الوفد بالحاكم الفرنسي العام الإدارة ولاية بيروت، وقدم له عريضة بمطالب الشيعة في جبل عاملة ليرفعها إلى المندوب الفرنسي العام الجنرال " غورو " ولم يمض بضعة عشر يوما على تقديمها حتى اشتدت الأزمة بين الشام وحكومة الملك فيصل بن الحسين من جهة والفرنسيين من جهة ثانية، وأعقب ذلك دخول الفرنسيين دمشق وخروج الملك فيصل منها. وقد عظم النضال الساسي، وتضاعفت جهود الوطنيين في المقاومة وتعزيز الروح الوطنية في نفوس الرأي العام في بلاد الشام كلها، وخاصة في البلاد الملحقة بلبنان على غير رضا منها ولا اختيار، ونشأت فكرة الوحدة السورية، فكان المترجم له وزميلاه رضا والشيخ أحمد عارف الزين من قواد هذه الفكرة، وقد نالهم من المصاعب في ذلك السبيل، ما نالهم، ولكنهم نجحوا في تنمية تلك الفكرة في البلاد العاملية، وكان منها شغل شاغل للمحتلين، وتألفت المؤتمرات الداعية للوحدة في أقطار مختلفة، وكان أول مؤتمر عقد في دمشق عام 1347 ه = 1928 م اجتمع فيه أبناء الساحل، وتألف من بضعة وسبعين مندوبا مثلوا جبل عامل وصيدا، وبيروت وبعلبك، والبقاع وطرابلس، وعكار واللاذقية، وكان المترجم له من جملة الأعضاء، ولم تشعر السلطة الفرنسية به إلا بعد الانتهاء منه. وتوالت المؤتمرات واسترم الجهاد، حتى
50 انتهت الأزمة عندما بلغت الحرب العاملية الثانية أشد أيامها، وآذن المحتلون بالجلاء التام عن البلاد، وأعلن استقلال سوريا ولبنان عام 1363 ه = 1943 م، وخرج المستعمرون من الباب ليدخلوا من النافذة كما هو شأنهم في كل بلد احتلوه. وقد تعرضت حياة شيخنا الظاهر للخطر غيره مرة، غير أنه ظل ثابتا على موقفه المعادي لكل أنواع الاحتلال، ولم يفت في عضده الارهاب كما فت عضد غيره، كما لم يسل لعابه الذهب والعروض كما هي الحال في كثير من المعارضين والمجاهدين الذين توقفت مسيرتهم عند منتصف الطريق، وآثروا المال والمنصب، بل ظل كما هو في جهاده الموصول إلى نهاية الشوط. مساهمته في النهضة الثقافية: كانت مدينة " النبطية " - رغم كونها قاعدة حكومة - متخلفة للغاية إذ كانت الأمية فيها قد بلغت أقصى حدودها، فقد كان يبلغ عدد قارئي القرآن الكريم قراءة بسيطة بلا حفظ وتجويد، ومن يكتب كتابة غير صحيحة الإملاء ولا مستقيمة الرسم، لا يزيد على العشرة في المئة في الذكور، وأما في الإناث فلا تكاد توجد واحدة في المئة. وقد عرف المترجم له بين قومه بمحبته للعلم ونشر الثقافة منذ نعومة أظفاره، فأخذ يجد ويبذل غاية سعيه في النهوض بمستوي التعليم في وسطه على ضيق إمكانه، وكان يساعده في ذلك نفر يعد على الأصابع، منهم زميله ومشاركه في جميع مراحل حياته العلمية والأدبية والسياسية الشيخ أحمد رضا (1) رحمه الله.
(1) عالم مؤرخ ولغوي متضلع وأديب كبير من أسرة شريفة في النبطية، نشأ مع العلامة الظاهر نشأة عالية وشاركه في التلمذة على أساتذته، وضاهاه في معارفه وثقافاته، وأسهم معه في الحركات الوطنية والسياسية والخدمات العامة وحمل راية العلم وإعلاء شأن الأمة، أهم مؤلفاته وأشهرها " من اللغة العربية " ألفه بتكليف المجمع العلمي العربي بدمشق وطبع في خمس مجلدات ضخام. ولد عام 1290 ه = 1873 م وتوفي عام 1372 ه = ليلة الأحد ثامن تموز سنة 1953 م وكان حفل تأبينه ضخما ونشر كثير من مراثيه في مجلة " العرفان " وأرخت وفاته بقولي: قد شاد أحمد صرح * العلوم إذ كان ماثل وقوم الفضل حتى * أمسى عديم المماثل وتلك آثاره الغرفي * ذي الحياة دلائل لذا نعته المعالي * مذ غاب كالبدر آفل تقول يا مجد أرخ * " قد ضاح صرح الفضائل ". 51 ففي سنة 1307 ه = 1889 تأسست في النبطية جمعية باسم " لجنة المعارف " كان المترجم له وزميله الشيخ أحمد رضا من أعضائها، مع أن عمر كل منهما لم يتجاوز السنة السابعة عشرة في الوقت الذي كان فيه باقي أعضائها في سن الكهولة، وقد أسست " مدرسة المعارف " وعملت تحت رعاية قائمقام صيدا - بصفتها الأهلية - على جمع التبرعات من المحسنين لتأسيس عقار ذي ريع يكفل دوام المدرسة، ووفقت تلك اللجنة لشراء عقارات مبنية في النبطية، وأنشأت عقارات أخرى على نفقتها، ولكن عمر تلك اللجنة والمدرسة لم يطل أكثر من سنة ونصف، حيث انتزعت الحكومة الحميدية تلك الأملاك وألحقتها بأملاك الدولة، وألغت اللجنة في سنة 1310 ه = 1892 م فاستولى الخراب على تلك الأملاك، ودام ذلك إلى سنة 3126 ه = 1908 م، حيث أعلن الدستور، فرأى المترجم له وزملاؤه وأفاضل المدينة أنه قد آن الأوان لرد المغصوب إلى أهله، فتقدم الظاهر ورضا وجابر بطلب إلى السيد توفيق الميداني حاكم النبطية ومدير المنطقة يطلبون فيه إعانتهم على ذلك، فأجابهم بحمية صادقة وعزيمة مشكورة، وتألفت اللجنة من جديد باسم " جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية " بالنبطية، ووضعت يدها على تلك العقارات بمساعدة المدير، فرممت ما تهدم، وأصلحت ما خرب، ومشت في طريقها حتى سنة 1333 ه = 1915 م عندما دخلت تركيا الحرب، فألغت الجمعية وألحقت أملاكها بقلم المحاسبات الخصوصية في ولاية بيروت، كما فعلت بجمعيتي بيروت وصيدا، وبقي الأمر كذلك حتى وضعت الحرب أوزارها فاجتمعت اللجنة مجددا، وأعادت جمعيتها ووضعت يدها على أملاكها، وأعادت فتح مدرستها باسم " المدرسة العلمية " ثم افتتحت مدرسة للإناث باسم " مدرسة الزهراء " ومضت في نضالها مجتازة العقبات والفتن التي أثارها نفر من
52 الطامعين في انحلال الجمعية والاستيلاء على أملاكها باسم الدين، وتحريك الغوغاء، والاستعانة بالمستشار الفرنسي في صيدا " المسيو بانسون " الذي منع الجمعية عن السير في طريقها بحجة حفظ الأمن مدة قاربت السنة، والجمعية تجاهد وتجالد في سبيل إلغاء ذلك المنع، حتى انتهى الأمر بتحكيم " الشيخ مصطفى نجا " مفتي بيروت ورئيس جمعية المقاصد الخيرية فيها في ذلك الأمر، وانحلت العقدة ورجع كل شئ إلى مجراه الطبيعي، واستمرت في تفوق وارتقت درجة التعليم حتى بلغت النسبة المئوية 90 / في الذكور و 80 / في الإناث، وأصبحت النبطية دار علم يؤمها الطالبون من الأنحاء العاملية، وصارت مدارسها سلما للصعود في النش ء العاملي، فكثر فيها حملة الشهادات العالية في الطب والحقوق، والهندسة والرياضيات، والزراعة والتعليم وغيرها، كما امتد أثر ذلك إلى غيرها من البلاد. وقد رأس شيخنا الظاهر تلك الجمعية أكثر من عقد ونصف العقد حتى توفي، واستطاع أن ينهض بأعباء علمية وعملية مع كثرة المعاكسين، ويندر مثليها اليوم لأنها قد ملكت - بفضل جهوده ومساعيه - عقارات في أهم مواقع المدينة، وهي ذات قيمة وريع يكفل الانفاق على مدرستيها، وتعليم العلوم الدينية في الطليعة من منهاجيهما. وشاء الله أن يقيض لتلك الجمعية من يأخذ بيدها ويرد الأيدي العادية عنها، كالزعيم النائب يوسف الزين (1) وأخيه الحاج حسين فلهما الأيادي
(1) من الشخصيات اللبنانية الكبيرة ورجال الإنسانية النوادر والوجوه التي كانت تخدم وتعمل لوجه الله... كان زعيم الجنوب لكنه لم يكن ليفرق بين الجنوب والشمال، وكان من عظماء الشيعة وكبراء المسلمين، لكنه لم يجعل مائزا بين الشيعة والسنة والمسلمين والمسيحيين، فكما أطعم وآوي الألوف من أبناء المسلمين أيام الحرب العالمية الأولى قدم المؤن للأديرة المسيحية ك " دير المخلص " و " دير مشموشة " وغيرهما. قال الكونت: " دي جوفنيل " المفوض السامي للحكومة الفرنسية عندما علق على صدره وسام " جوقة الشرف من رتبة فارس " باسم رئيس الجمهورية الفرنسية: " يا صديقي الزعيم إن ما قمت به من أعمال خالدة.. في الأزمنة الأخيرة... " ثورة الدروز سنة 1925 " وضيافتك للألوف التي هربت من بيوتها ولجأت إلى منطقتك أثرت بنا كثيرا، وضيافتك خاصة للمسيحيين الذين لم يشعروا وهم في داركم إلا وكأنهم في بيوتهم، وقد وضعت جميع ما تملك بين أيديهم... ". وقال الأستاذ نصري معلوف في تأبينه: " آمن بأن الخلق كلهم عباد الله وأن أقربهم إليه أحبهم لبعاده.. فما حجب محبته عن أحد، ولا أقام لإنسانيته حدودا من طائفية عنصرية أو طبقية... ". من خدماته التي لا يأتي عليها أحد: بناء أول مدرسة خيرية في النبطية، وجر مياه " نبع الطاسة " من ماله الخاص لإرواء النبطية وعديد من القرى المجاورة، وجر مياه " نبع الطاسة " من ماله الخاص لإرواء إقليم " الخروب " والعديد من قرى منطقة " الزهراني ". وجلب أخصائيين من أوروبا على نفقته الخاصة وتوزيعهم في القرى لتعليم أبناء الجنوب زراعة وصناعة التبغ. وغير ذلك كثير. توفي يوم عرفة عام 1381 ه = مارس 1962 م، وكان حفل تأبينه من أضخم المشاهد التي جمعت الطوائف الإسلامية والمسيحية، وخصته جريدة " جبل عامل " التي هي ملحق مجلة " العرفان " بأكثر مواضيع عددها الرابع الصادر في 12 محرم 1382 ه = حزيران 1962 م، ومن أروع الصور المنشورة فيه صورته في شيخوخته وهو يتوسط أولاده العشرة. 53 المشكورة في تجديد بناء " المدرسة العلمية " التي أوقف أرضها وشاد بها حجرا الحاج حيدر آل جابر عند قدوم العلامة السيد حسن يوسف آل مكي، وقد أصبحت تحت رعاية " جمعية المقاصد " فهي تتعهدها بالإصلاح تعهدها بالتعليم فيها، وبالإنفاق عليها من مالها ومما تخصصه لها الحكومة اللبنانية من المال في كل عام. وفي سنة 1309 ه = 1891 م نهض العلامة الظاهر وزميلاه رضا وجابر لإنشاء ندوة علمية لتنمية ثقافاتهم، فعقدوها باسم " المحفل العملي " ودخل معهم الوجيه فضل الفضل مستمعا ومستفيدا، فكان هذا المحفل يجتمع في رأس كل شهر، ويتلو فيه كل واحد من أعضائه محاضرة اقترحت في الجلسة السابقة، ودونوا هذه المحاضرات في سجل خاص سموه " طلائع النجاح " ودام ذلك المحفل حتى توقفت جلساته، بما طرأ على البلاد من الاضطراب السياسي المحلي. وفي أواسط محرم سنة 1328 ه = 1910 م مر بالنبطية في طريقه إلى المجلس العمومي في ولاية بيروت، زعيم جبل عاملة كامل الأسعد (1) وذلك
(1) زعيم جبل عامل الأكبر وأحد أعلام سوريا بل العرب، كتب عنه زميلة الأمير شكيب أرسلان مقالا على أثر وفاته قال فيه: " ذكر كرمه الناس بما يروي عن حاتم الطائي وجعفر البرمكي، ومعن بن زائدة، وطلحة الطلحات، وغيرهم ممن ضربت بهم الأمثال.. كان محله.. مربعا للوفود من كل قبيل، فكانت أكناف الدار تموج دائما بالخيالة والرجالة، فتجد أهل السنة والشيعة، وأبناء معروف والأعراب والمسيحيين والغرماء من كل جنس، وكان جميع أهل جبل عامل والحولة والقنيطرة ومرجعيون عيالا عليه، وكان هو الأب ليتيمهم، والملجأ لضعيفهم، والمنصف لمظلومهم، والحكم العدل في الخصومات بينهم، وهو لا يمل الندي، ولا الجدي، ولا إغاثة الملهوف، ولا إسداء المعروف، فسبحان الذي زينه بتلك الخلال النادرة.. ". توفي عام 1342 ه = 1923 م ودفن بالطيبة من جبل عامل. أنظر المقال بطوله والقصيدة في رثائه في أعيان الشيعة 43 / 135 - 141. 54 بعد أن خاب مشروع " الجمعية الخيرة " الذي كان قد دعا إليه أعيان البلاد في رجب سنة 1327 ه = 1909 م، وبعد أن كثر النقد والتنديد في الجرائد بتوقيع " أبو العلاء العاملي " و " الحر العاملي " و " عدي العاملي " بالذين حاربوا المشروع، وكان لم يزل في نفس كامل شئ من الموجدة لحبوطه، فزاره الظاهر وزميلاه وتناول الحديث مشروع إنشاء كلية عاملية توافق روح العصر، وتربي الناشئة العاملية وتثقفهم ثقافة صالحة، فوعدهم بالنظر في هذا الأمر بعد رجوعه، وعقد الاجتماع في داره في " الطيبة " وانتدب المترجم له وزميله رضا للتجوال في القرى، مذكرين بفائدة هذا المشروع زهاء عشرين يوما تحملا فيها عب ء المشقة من صعوبة الطرق ومتاعب السفر، وفي 26 جمادي الأولى سنة 1328 ه = رابع نيسان 1910 م عقد الاجتماع في دار الطيبة برئاسة كبير علماء جبل عامل السيد علي محمود الأمين، وتخلف عنه جماعة من العلماء والأعيان بحجج واهية وأعذار ملفقة، مما دل على وجود يد تعمل لإحباط العمل، وكان الاجتماع الثاني بعد سنة في النبطية ولم يحضره إلا قلة، وظهر التواني والتواكل على الجميع حتى على كامل نفسه، فتفرق القوم ويئس العاملون عليه من إتمامه عن تلك الطريق، وانصرفوا إلى التفكير بطرق أخرى وأرسلوا من تيسر لهم من أذكياء الشباب إلى كليات بيروت ودمشق، ولكن لم تسعف أكثرهم الحالة المادية في الاستمرار إلى النهاية، لو لم يعمل رضا الصلح على إدخال بعضهم إلى المدرسة السلطانية في بيروت ودمشق مجانا في القسم الداخلي، وقد كان من بين أولئك الشباب نابغة الشرق في الهندسة الكهربائية حسن كامل الصباح (1) الذي هو ابن أخت العلامة الشيخ أحمد رضا.
(1) من العلماء في الكهرباء أولع بالرياضيات والطبيعيات في سن مبكرة، وتولى التدريس في " المدرسة السلطانية " بدمشق و " الجامعة الأمريكية " في بيروت، وهاجر إلى أمريكا فوظف في شركة " جنرال الكتريك " ولما بدأ باختراعاته المدهشة عين له مختبر خاص، ونال من الكونغرس الأمريكي لقب " فتي العلم الكهربائي ". توفي في حادث سيارة فكتب أبوه إلى مدير الشركة في " سكنكتدي " يطلب صورة لمتروكاته فأرسل قائمة بمخترعاته. وقال في رسالته: " إنه برهن أثناء خدمته لشركتنا على أنه من أعظم المفكرين الرياضيين في البلاد الأمريكية، ووفاته تعد خسارة لعالم الاختراع " وقد اعترف جهابذة علماء الفن الكهربائي الذين كانوا يلقبونه ب " أديسون الصغير " بأنه من أعظم المخترعين. وقد سجل له ستون اختراعا. ولد في النبطية عام 1312 ه = 1894 م وتوفي في نيويورك عام 1354 ه = 1935 م ولما أذيع نبأ وفاته عطلت مصانع العالم بأسره من 1 - 5 دقائق حدادا عليه، ونقل جثمانه إلى النبطية فدفن فيها. الأعلام 2 / 229 وأعيان الشيعة 43 / 140 - 141 وجبل عامل في التاريخ 2 / 118 - 125 ومعجم المؤلفين 3 / 272 والمنجد في الأعلام 421 / ط 8 وتاريخ جبل عامل / 215 وكثير غيرها. 55 وبعد أن هدأت نار الحرب الكبرى تحركت همة البعض للبحث في مشروع الكلية العاملية من جديد، وظهر على يد العلامة الجليل الشيخ حسين مغنية وإخوانه من العلماء البررة، وتم لهم تأليف جمعية في سنة 1347 ه = 1929 م، وكان المترجم له وزميله رضا عضوين عاملين فيها، وفوض أمر تنظيم قانونها الأساسي وتعديله إليهما، وكذلك وضع قانونها الداخلي، ثم انصرفت الجمعية لجمع التبرعات من أنحاء جبل عاملة، فبلغت في أول جولة نحوا من ألف وخمسمائة ليرة ذهبا، وقبل أن تنفذ شيئا من أهدافها تدخل بعض الزعماء والأعيان في أمورها بإيعاز من بعض رجال المجمعية الناقدين، لأغراض خاصة استاء لها الباقون فأوقفوا جلساتهم، واضمحلت الجمعية وذهبت الأموال في غير ما جمعت له. خدماته الإصلاحية: دعا الظاهر وبعض زملائه في سنة 1311 ه = 1893 م إلى تأسيس " جمعية خيرية تعاونية " في النبطية، وكان اسم الجمعية يومئذ من الكلمات التي يحرم التلفظ بها في الدولة، وربما أدت بقائلها إلى أن يكون طعمة لحيتان البوسفور، وقد تألفت تلك الجمعية برئاسة الوجيه الكبير " محمود الفضل " بطريقة سرية يعين في كل جلسة لها موعد الجلسة القادمة زمانا ومكانا، وكانت مقرراتها شفهية، وقد نمت تلك الجمعية وعرض أمرها على كبير زعماء جبل
56 عامل في ذلك الوقت خليل الأسعد، والشيخ علي الحر، وقد رحبا بالفكرة وحبذا العمل لها ووعدا بمناصرتها، وقد استمرت عامين ثم دخلتها عناصر غير صالحة كان يظن بها الخير يوم طلبت الانضمام إليها ثم خاب الظن، وطرأت على البلاد أحوال سياسية دعت الدولة إلى أن تحشد طائفة من عسكر الرديف في " النبطية " و " مرجعيون " فتوقفت الجمعية. وعندما أعلن الدستور العثماني سنة 1326 ه = 1908 م رأى المترجم له وزملاؤه في النبطية أن الفرصة قد سنحت لتأليف جمعية خيرية عاملية تعمل على حفظ الإخاء والألفة بين طوائف البلاد من مسلمين ومسيحيين في ذلك الانقلاب السياسي، وعرضوا ذلك على محمود الفضل فرحب بالفكرة، وعقدوا اجتماعا عاما في داره واستدعي " الأرسمندريت أثناسيوس الصائغ " الرئيس الروحي للكاثوليك في " النبطية " للاشتراك في تأسيس تلك الجمعية واختيار الأكفاء من أبناء طائفته، وأبلغ " محمود الفضل " خبرها فورا إلى " كامل الأسعد " فأحب أن يكون هذا العمل على يده وصادرا عنه، وأرسل إلى أنحاء جبل عاملة يدعو علماءه وأعيانه لاجتماع يعقد في داره ب " الطيبة " وتم الاجتماع وكان حافلا، وتقرر فيه إنشاء ثلاثة فروع لها، فرع قضاء " صيدا " ومركزه " النبطية "، وانتدب الترجم له وزميلاه رضا وجابر لوضع قانون تلك الجمعية، وتألف فرع " النبطية " من أربعة وعشرين عضوا، ولكن فرعي صور ومرجعيون لم يؤلفا ولم يطالب بهما أحد، ومشى فرع النبطية نحو شهر صدر وفي أثنائه الأمر بانتخاب النواب لمجلس المبعوثين العثماني، وهو أول مجلس يؤلف بعد إعلان الدستور، فاشتغل القوم بأمر الانتخابات واختلفت آراؤهم، وانسحب من الأعضاء تسعة أولهم الرئيس ونائبه، واستمسك الباقون بأمرهم ريثما يرجع المنشقون إلى حظيرة الجمعية مدة، وكانت النتيجة إلغاء الجمعية. وفي 14 جمادى الأولى سنة 1314 ه = كانون الثاني سنة 1923 م دعاه رئيس المجلس الأعلى في القدس لعضوية اللجنة التي أسست في القدس الشريف لإنشاء " دار الكتب في المسجد الأقصى " وجاء في كتاب الدعوة ما
57 نصه: "... ودونا اسمكم في سجل الأعضاء الفخريين ثقة بما لكم من الأيادي البيض على اللغة العربية، والسعي الكبير وراء إعلاء منارها، وإعزاز شأنها، والنهوض بها لكي تجاري أرقى اللغات في هذا العصر.. ". وفي سنة 1347 ه = 1928 م حضر مؤتمر الساحل للوحدة السورية الذي انعقد في دمشق كما سبقت الإشارة إليه. وفي غضون سنة 1350 ه = 1931 م تلقى دعوة من المجلس الاسلامي الأعلى في القدس لحضور المؤتمر الاسلامي العام مشتركا فيه، وجاء في كتاب الدعوة ما نصه: "... وبالنظر لما نعهده فيكم من الغيرة الإسلامية وسداد الرأي والكفاءة التامة للاطلاع بهذا العبء، فإننا نوجه إليكم هذه الدعوة لحضور المؤتمر الاسلامي العام الذي سيعقد إن شاء الله في القدس الشريف في جوار المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، في ليلة الإسراء المباركة 27 رجب سنة 1350 ه = 7 كانون الأول 1931 م، لتتفضلوا بالاشتراك مع الذين يلبون الدعوة من كبراء الرجال في العالم الاسلامي، حيث يستلهمون الإقدام والعمل في سبيل الإسلام من رضوان الله عز وجل وروحانية المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)... الخ ". وقد لبى الدعوة ونداء الواجب وانعقد المؤتمر في وقته المقرر من مئة وستة وأربعين عضوا مندوبين عن سوريا، ولبنان وجبل عاملة، وفلسطين، والأردن، ومصر، والعراق، وصنعاء اليمن، وعدن، ومراكش، وإيران، والقوقاس، والهند، وسيلان ويوغوسلافيا، والأرناؤوط، وجاوة، وأورال، وتركستان، والقرم، وفنلندة، والصين، ونيجيريا، وبولونيا، وختم المؤتمر جلساته في هذه الدورة بعد أن ألف من أعضائه لجنة تنفيذية لها لجنة دائمة ظلت على عملها حتى تأزمت الحالة في فلسطين سنة 1457 ه = 1938 م، فأغفلته السلطة الحاكمة آنذاك. وفي سنة 1356 ه = 1937 م حضر مؤتمر " بلودان " حول القضية الفلسطينية، وهو المؤتمر القومي العربي الذي انعقد من رجالات سورية ولبنان وفلسطين والعراق في ثامن أيلول. وحضر كذلك مؤتمر الوحدة السورية الذي
58 دعا إليه " علي سلام " والمؤتمر الثاني الذي عقد في دار الوجيه " محمد عمر بيهم " في بيروت، ومؤتمر صيدا، وعدة مؤتمرات في جبل عاملة وغيره من مدن القطر اللبناني، ولم يتخلف عن دعوة مؤتمر يعقد في وطنه أم في غيره، سواء أكان يستهدف نشر العلم، أم يطالب بحقوق الأمة العربية، أم يتمخض لخدمة الإسلام والمسلمين، وما إلى ذلك من الأغراض النبيلة، وكان ينفق في تلك السبيل من المال ما يتجاوز وسعه وطاقته عن رضا وسرور. صلاته بعلماء وأدباء العراق: كانت صلاته بعلماء وأدباء العالم العربي والاسلامي وثيقة وواسعة، وكان يبادلهم العواطف والاحترام، ومراسلاته معهم مستمرة، وكان حريصا على تكريم من يهبط لبنان منهم، وكانت له مع العراقيين خاصة مزيد علائق، وكانت له بينهم مكانة مرموقة، وقد كتب مرة إلى الإمام شيخ الإسلام الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء قصيدة مطلعها: من مبلغ محمدا مألكة * مطوية على صفايا وده فأجابه الإمام بقوله: وفي فقل روض زها بورده * فعطر الندي نشر نده يحمل من عواطف الود إلى * من لا يحل الدهر عقد وده وليس بالناقص يوما عهده * والمرء مسؤول غدا بعهده ألقى " سليمان " لنا كتابه * الكريم حشدا بجنود مجده فأي فضل نستطيع شكره * وأي إحسان نفي بحمده فليشكر الفضل أيادي منعم * أبقته في إبقاء شمس سعده وذمة عندي لدهر سلمت * أولو النهى من شفرات حده دهر جنى العاقل من أشواكه * ما قد جناه غافل من ورده وقد أصبت عارفا من صابه * ما لم أصبه عارفا من شهده ألقى لنا الدهر دروس حكمة * سما بها العقل إلى أشده وعنصر قد ألهته أمة * في العلم بان غيه من رشده
59 قد طحن العالم في علومه * وافترس الرحمة ضب حقده حيتانه من جشع استعمارها * أسالت البحر دما بمده فإن يك العلم كذا نتاجه * فالجهل أحرى باتباع قصده (1) وكان العلامة الكبير السيد محمد صادق آل بحر العلوم قد سافر إلى سوريا ولبنان في سنة 1353 ه = 1934، فتعرف على عدد كبير من رجال العلم والأدب في تلك الديار، وتبودلت بينه وبينهم الرسائل مدة طويلة، وقد أطلعني على الكثير منها، وكان العلامة الظاهر في طليعة أولئك، ولما عين بحر العلوم قاضيا في المحاكم الشرعية عام 1367 ه = 1947 م هنأه المترجم له بقصيدة مطلعها: محمد صادق العزمات حسبي * بأنك لي وللعليا خليل (2) وعندما هبط الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري بيروت عام 1371 ه = 1951 م بدعوة من اللجنة التي شكلتها الحكومة لتأبين " عبد الحميد كرامي " في عهد رئاسة " رياض الصلح " وألقى في الاحتفال قصيدته العصماء التي مطلعها: باق وأعمار الطغاة قصار * من سفر مجدك عاطر موار (3) والتي هزت المجتمع اللبناني وكانت على لسان كل أديب، طلبت منه الحكومة اللبنانية مغادرة البلاد خلال مدة 24 ساعة، وقد بلغ بهذا القرار وهو على مائدة العلامة الظاهر في النبطية أما صلاته بشيخنا الإمام الأكبر الشيخ آغا بزرك الطهراني، فقد كانت فوق كل صلة، وكان يعظم الشيخ ويبالغ في احترامه ويشيد به ويتواضع له كثيرا، وكنت أرى رسائله إلى الشيخ دائما وأعرف من خلالها ما يكنه له من إكبار واحترام.
(1) شعراء الغري 8 / 161. (2) شعراء الغري 9 / 207. (3) ديوان الجواهري 4 / 39. 60 وكانت لي به علاقة وثيقة، وكنت أجل قدره وأرى نفسي بمثابة التلميذ له، إلا أنه كان يحسن بي الظن ويرفع شأني لأدبه النفسي وعطفه الأبوي، ويخجلني بالإطراء في رسائله وما كتبه عن بعض منشوراتي، وأعتبر ذلك تشجيعا. وبعد وفاته كتب لي ولده الأستاذ الشاعر أحمد سليمان ظاهر أنه كان يعرف منزلتي في نفس والده الجليل من أحاديثه، وأنه يعتبر صلتي من أثمن ما ورثه من أبيه. وفاؤه وتكريمه لعلاقاته: عرف المترجم له بين قومه في بلاده بصدق الإخاء والإخلاص للمعارف والإخوان، وكان وفيا لأصدقائه وأصحابه، ومخلصا في مودته، نبيلا في علاقاته، يحرص على تكريم محبيه والمتصلين به، وخدمة إخوانه ودفع الأذى عنهم ما وسعه... وكان لا يدخر وسعا في إسداء أي خدمة لمن يستعين به ويلجأ إليه من قريب أو بعيد، كما أنه لم يكن ليعرف الاعتذار عن أي رجاء أو تكليف.... وله مواقف مشهودة تبرهن على التزامه، وشرف نفسه، وتكريم علاقاته، لا سيما بالروحانيين وأعلام الفضل والأدب، ومعظم معارفه من ذلك النوع، وقد جربت ذلك بنفسي في حادثة معينة أرى من الواجب ذكرها خدمة للتاريخ وإن كان نبله في غنى عن الذكر والإشادة. عندما قال الجنرال فضل الله الزاهدي عام 1373 ه = 1953 م بالانقلاب على حكومة الدكتور محمد مصدق الوطنية في إيران وقوض أركانها، ورجع الاستعمار إلى قواعده والشاه إلى عرشه، جرت تصفية جسدية مهولة في القوات العسكرية، كما جرت في فئات الشعب الأخرى، فقد قتل من الضباط الكبار والصغار أكثر من سبعمئة، وكان الطيب البيطري الدكتور محمد رضا المنزوي، النجل الثالث لشيخنا الإمام الشيخ آغا بزرك الطهراني، من الضباط الأربعة الذين تمكنوا من الفرار إلى لبنان في طريقهم إلى أوروبا، وقد واصل ثلاثة منهم سفرهم، وألقي القبض على المنزوي في مطار بيروت الدولي وهو يهم بركوب الطائرة، وأعيد مخفورا إلى طهران، فدفعني العطف على شيخوخة
61 أستاذي الصالحة - التي لم ترع لها الحكومة الإيرانية حرمة ولم تقدر مقامه العلمي وخدماته الكبرى - وبادرت للكتابة إلى الشخصيات العلمية والسياسية اللبنانية التي كانت لي صلة بها للتوسط بشأنه لدي السلطات الإيرانية، وكان في طليعة أولئك الإمام الأكبر السيد عبد الحسين شرف الدين، والحجة الشيخ حبيب آل إبراهيم مفتي الديار البعلبكية، والعلامة الظاهر، وعطوفة الأستاذ عادل عسيران - الذي كانت له صداقة شخصية مع شاه إيران - والزعيم النائب يوسف الزين، وغيرهم، وجرت اتصالات رسمية وشخصية مع الحكومة الإيرانية، وتبودلت بيني وبين الوسطاء مراسلات عديدة كونت ملفا، وقد وقف الجميع موقفا حازما ووديا ما عدا العلامة الحبيب - الذي تخلص من الموضوع بدبلوماسية في رسالة كتبها لي - وكلهم مشكورون على عواطفهم وألطافهم لكن المترجم له كان أطول الجميع نفسا وأكثرهم استجابة واندفاعا ومطالبة وإلحاحا، فقد وقف من الموضوع موقفا حازما، وأجرى اتصالات واسعة مع جهات عديدة، مما دعا شيخنا الإمام لتسجيل شكره له، فقد كتب يقول: " والمترجم له من أعز أصدقائنا ومن أشرفهم نفسا وأطهرهم ضميرا، وهو مثال الأخوة والوفاء والصدق وحب الخدمة، اتفق لنا حادث في بيروت يعود إلى السلطات، فكتب له بعض تلامذتنا، فوقف وقفة قد لا يقفها الأخ لأخيه، وبقي على اتصال بالسلطات العالية حتى أجابته، وإنا وإن لم نقف على ضالتنا المنشودة إلا أننا نشكر للشيخ الشريف شهامته وصدق إخوته، والمكافئ هو الله " (1). وكنت قمت بذلك وغيره من الاتصالات بشخصيات أخرى غير لبنانية، وأنا أظن أن الدكتور لا يزال على على قيد الحياة ورهن التحقيق، وتبين لي بعد ذلك بزمن أنه قتل تحت التعذيب في سجن " قزل قلعة " الرهيب في اليوم الثاني لوصوله، وذهبت الجهود سدي... وقد شرح والده الشيخ بعد ذلك قصة قتل ولده بصورة مفصلة (2).
(1) طبقات أعلام الشيعة 1 / 833. (2) الذريعة إلى تصانيف الشيعة 10 / 166 - 167. 62 إباؤه وشرف نفسه: اشتهر شيخنا الظاهر في الأوساط المختلفة بالشمم والإباء منذ نشأته، فقد طبع على العفة والترفع عما في أيدي الناس، فلم يسمع عنه وقد بلغ التسعين من عمره أنه تنازل لزعيم دينا أو تواضع لرجل مال، أو تملق إلى أحد كائنا من كان، بل احتقر المادة ومن يعبدها، وتعفف وإن كان مقلا حفظا لكرامته من الابتذال وصيانة لشرفه وماء وجهه... وأكبر شاهد على ذلك ما رواه تلميذه الأديب الكبير محمد علي حوماني فقد كتب يقول: " من هؤلاء الفقراء الذين يتيهون على الأغنياء ثقة بالله الشيخ سليمان الظاهر من علماء النبطية في جبل عامل، وكان هو وزميله الشيخ أحمد رضا رحمهما الله كالفرقدين لا يفارق أحدهما الآخر، وكانا عاملين للعروبة والإسلام طوال ستين عاما بما أحرزاه من علم وأدب وفن. أعرف الشيخ الأول عافيا مقلا يكاد الصبر يضيق به على بلائه، حتى باع داره ليتفادى بثمنها الزهيد أيام الحرب العالمية الأولى التي أكلت بويلها الحرق والنسل، حتى أغلق الناس أبوابهم على أنفسهم ليموتوا جوعا إذا كانوا فقراء، ولينقذوا أنفسهم من الموت إذا كانوا أغنياء، إلا شيخنا فلم يغير سمته ووقاره وتعففه، إذ كان يخرج كل يوم ويجلس إلى زميله الموسر في متجره دون أن يلحظ عليه زميله ما يضغط صدره من البؤس، ودون أن يظهر عليه غير الآباء والتعفف. وأعرف أنه كان وهو يجلس إلى زميله هذا أمام التجر، فيمر بهما بعض أعيان البلدة أو زعمائها فيلقي بالسلام فيردان معا سلام العابر، وكان الشيخ الرضا يقف لبعضهم أحيانا تجلة وهيبة، وأما شيخنا الظاهر فكان لا يتزحزح من مقعده إلا إذا دنا الزعيم المتعالي ليصافحه، على أني كنت أشعر من خفاء أن بعض أصدقائه يتقرب إلى الحق والعلم ببره وإكرامه سرا، فينكر الشيخ عليه ذلك حتى يترامى صديقه بين يديه ويرجوه قبول الهدية فيقبلها آنفا خجولا متعففا " (1).
(1) دين وتمدين 5 / 54. 63 وواضح أنه يقصد حال شيخنا الظاهر في أيام الحرب العالمية الأولى التي ساءت فيها أحوال الكثير من أصحاب الثراء، لأنه لم يكن كذلك فيما بعد، فقد كان من أعيان العلماء والوجوه البارزة في المنطقة، ويدل على ذلك ما ذكره الحوماني نفسه، فقد قال عند ذكر الآية الكريمة: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد...) (1) الخ. " ذكرت بهذه الآية الكريمة حادثة طريفة مرت بي قبل أربعين عاما لا يخلو استطرادنا إليها من أدب، تلك هي: كان الشيخ محمد حسين شمس الدين الشاعر العاملي المعاصر، كان ينوي زيارة العراق ويطمع في طريقه إليها أن يمر بمدينة النبطية - حاضرة جبل عامل - ليودع علماءها الشيخ عبد الحسين صادق والشيخين أحمد رضا وسليمان ظاهر، فقد كان يطمع من وراء هذه الزيارة للعلماء أن يحصل على عون مادي لأنهم كانوا من أهل الثراء، وقد نفذ هذه الزيارة لهم فأكرموه بالضيافة فحسب، ثم خرجوا معه إلى ضواحي المدينة يوم وداعه، وكان المتعارف هناك أن يقرأ المودع المقيم صديقه الراحل، بأن يقرأ في أذنيه هذه الآية الكريمة تفاؤلا بالعودة إلى وطنه. وكان ذلك منهم إذ ودعوه وألقوا في آذانه تلك الجمل الرائعة التي اشتملت عليها الآية البليغة، وانتهى الأمر بالضيف إلى أن فارقهم وهو مخفق مما كان يأمل، فلما وصل إلى بيروت في طريقه إلى العراق حيث مراقد الأئمة الأطهار من آل محمد، كتب الشاعر من بيروت رسالة للشيوخ الثلاثة في النبطية، وقد جاء في الرسالة أبيات من الشعر يداعبهم بها ويرمز إلى ما كان يأمل منهم من عون وإخفاق فيما رجاه، قال رحم الله روحه الشفافة الطاهرة يخاطب الشيوخ رحمهم الله: ملأتم لدي التوديع مني مسامعي * وأملقتم مما علمتم أصابعي سأنفق من أذني في كل عسرة * علي ففي أذني جم المنافع إذا لم أنل من سيد القوم بلغة * فعذر سواه كالنجوم الطوالع
(1) القصص: 85. 64 ويعني بسيد القوم الشيخ الأكبر، وهو المرحوم الشيخ عبد الحسين الصادق " (1). رحلته إلى العراق وإيران: زار شيخنا الظاهر العراق عضوا في وفد جبل عامل للاشتراك في أربعين الملك فيصل الأول عام 1352 ه = 1933 م، وكان الوفد مؤلفا منه ومن العلامة الشيخ أحمد رضا صاحب " متن اللغة العربية " والشيخ أحمد عارف الزين صاحب مجلة " العرفان " والدكتور محمد خليفة طبيب أسنان، وقال عارف في ذلك أبياتا من الشعر في وداع النجفيين منها قوله: إنا نزلنا حمى الكرار عن شغف * على " رضا " " ظاهر " من " عارف الزين " ولم يتسع البيت لذكر المندوب الرابع على حد تعبير الزين، وقد أشار العلامة الكبير الشيخ محمد رضا الزين المتوفى سنة 1365 ه = 1939 م في قصيدته التي بعث بها إلى العلامة الجليل الشيخ قاسم محي الدين النجفي المتوفى سنة 1376 ه = 1956 م بقوله: سل بلاد العراق عنهم فكم قد * بيضوا فيه صفحة وطنيه هي تبني بما لهم من مزايا * عند مداها تخط كل مزيه صافحتهم أنامل من مليك * هي أندى من الغمام عطية (2) وفي هذه الزيارة قال المرجع الديني العظيم السيد أبو الحسن الاصفهاني المتوفى عام 1365 ه = 1945 م كلمته المشهورة: " جبل عامل في العراق " (3). وفي تلك السنة كان الإمام الكبير السيد محسن الأمين (4) رحمه الله ضيف
(1) دين وتمدين، 5 / 40. وذكر الإمام الأمين القصة في ترجمة الشاعر، لكنه لم يصرح بأسماء المشايخ، بل قال: مر بقرية كان يأمل أن يبره بعض من فيها. أنظر (أعيان الشيعة): 44 / 189. (2) شعراء الغري: 8 / 380. (3) مجلة " العرفان " العدد 5 و 6 / المجلد 42. رجب وشعبان سنة 1374 = آذار ونيسان عام 1955. (4) مجتهد مجدد، ومصلح كبير، ومؤلف مكثر، من حسنات الدهر ونوادر العصر، ومن العلماء الذين لا يجود بهم الزمن إلا في فترات، ومن القلائل الذين تناهبت أعمالهم الخالدة أوقاتهم، ولم يعرفوا معنى الراحة والدعة، بل كانت راحته وسعادته في العمل المثمر والجهد النافع والأثر الخالد. هبط دمشق بعد عودته من النجف فوجد الأمية تضرب أطنابها، فبني المدارس لتربية النشئ وتوسع في الإشادة والتوجيه، حتى صار لمؤسساته ومشاريعه شأن كبير في رفع المستوى وتفوق الطلاب. قام بحركة إصلاحية واسعة، فمنع رجال المنبر والخطابة الذين يسردون الأخبار الكاذبة والروايات الباطلة، واستنكر البدع والضلالات التي تقام في بعض البلدان الإسلامية بمناسبة ذكرى استشهاد الحسين (عليه السلام) من ضرب الرؤوس بالسيوف والظهور بالسلاسل ودق الطبول ونفخ الأبواق، وألف رسالة سماها " التنزيه لأعمال الشبيه " فقوبل بهجمة شرسة واحتجاجات صارخة، وانقسم الناس في النجف وغيرها بما فيهم زعماء الدين إلى فريقين أطلق عليهما اسم " الأموي " وهو الذي يشايع الأمين، و " العلوي " وهو الذي يحمل لواء المعارضة، وكثرت الاعتداءات على الأشخاص، واستغلها المغرضون للإطاحة بخصومهم كما هو المألوف في مثل تلك الحال، وصدرت في الرد عليه عدة كتب وهجي بقصائد أذكر أن مطلع إحداها: يا راكبا أما مررت بجلق * فابصق بوجه " أمينها " المتزندق وقد اشتهر بيتان آخران لم يسم قائلهما، وكان المشهور أنهما قيلا في الأمين أيضا، وإن قال فريق بأنهما قيلا في السيد محسن أبي طبيخ، وهما: ذرية " الزهراء " إن عددت * يوما ليطري الناس فيها الثنا فلا تعدو " محسنا " منهم * لأنها قد أسقطت " محسنا " وقد كتب ونظم ودون ما ملأ به الطوامير، وتجاوزت مؤلفاته الثمانين في مختلف العلوم، وقد راجت مؤلفاته الجليلة واشتهرت في الآفاق، وشاء الله أن يخلد ذكره إلى أبد الآبدين فأعانه على تأليف موسوعته (أعيان الشيعة) التي تمت في 56 جزء دلت على ما كان يختزنه من طاقة جبارة، وصبر على الاستقراء وجلد على التدوين، حتى بعد أن تجاوز الثمانين. وقد أدركتني السعادة فكتب لي شرف لقاء بعض الأساطين والجهابذة وعظماء الرجال - في الفكر والثقافة لا السياسة والمال - وظلت حسرة لقاء آخرين في نفسي إلى الأبد، وفي الطليعة منهم الإمام الأمين وزميله الإمام شرف الدين، على أنني راسلتهما وأجزت من ثانيهما... فهنيئا لهما على ما قدماه من عمل صالح خالص، وما تركاه من ذكر وأثر خالدين، ولمثل هذا فليعمل العاملون إن الله مع الذين اتقوا والذين هم " محسنون ". توفي عام 1371 ه = 1952 م واشتراك شعب وحكومة كل من سوريا ولبنان في تشييعه، ومنحته الحكومتان وسامين محترمين وتكفل الجزء الأربعون من " أعيان الشيعة " ترجمته وما قيل فيه، وأرخت وفاته بقولي: لا عداك الغيث يا قبر " الأمين " * بك دين الله قد بات دفين هذه الشرعة تنعى فقده * إذ به قد فقدت ركنا ركين يا بني العلم عزاء بالذي * رزؤه عم البرايا أجمعين فالأمين الروح ينعى أرخوا * " قد مضى من كان للدين الأمين " 65 العراق أيضا، فقد هبطه للوقوف على المكتبات والاطلاع على ما فيها من مخطوطات ومطبوعات ليكون منها كتابه الكبير " أعيان الشيعة ". وقد التقى به شيخنا الظاهر في الكاظمية، وكان قد أكمل جولته في العراق وعزم على الذهاب إلى إيران فكان الظاهر في مشيعي ركبه، وفي 17 صفر سنة 1352 ه = أول حزيران 1934 م لحق به فأدركه في طهران وصحبه إلى خراسان، وبقي في صحبته أربعين يوما وعاد معه إلى طهران ومنها إلى بغداد (1). ثناء المؤلفين والكتاب عليه: تعرض لذكر شيخنا الظاهر عدد من المؤلفين في التراجم في لبنان والعراق وغيرهما من البلاد العربية، كما كتب عنه ودرس حياته وشعره وقرظ مؤلفاته غير واحد من الأدباء في المجلات والصحف، ونذكر فيما يلي نماذج ومقتطفات من ذلك: قال العلامة المؤرخ الكبير الشيخ علي آل كاشف، الغطاء: " الشيخ سليما ابن ظاهر - كذا - العاملي ثم النباطي المحتد والمولد والمنشأ والمسكن، فاضل، عالم، لبيب، شاعر، معاصر، حضر وتلمذ على المرحوم السيد حسن حبوش الذي كان مرجعا للأمور الشرعية في قرية النبطية... ولما سافرت إلى تلك الحدود في سنة 1315 ه ووردت قرية النبطية، مدحني بقصيدة وكان عمره يقارب العشرين سنة، ولم يبارحني مدة إقامتي ثلاثة أيام، فوجدته كاملا مهذبا مؤدبا فطنا ذكيا لوذعيا، وحتى التاريخ وهو سنة 1326 ه يبلغ عمره الثلاثين موجود في وطنه الأصلي وهو قرية النبطية من قرى جبل عامل مسافة ست فراسخ عن صيدا ومن توابعها، ولم أقف على شئ من شعره سوى هذه الأبيات التي مدحني بها وهي هذه (2) وفقه الله سبحانه لبلوغ درجة الكمال من العلم والعمل " (3).
(1) الرحلة العراقية الإيرانية / مطبعة الانصاف / بيروت 3174 ه = 1954 م. (2) لم يذكر القصيدة. (3) الحصون المنيعة في طبقات الشيعة: 2 / 274. وقد وقفت على هذه الترجمة قبل وفاة الظاهر بسنين وأنا أتصفح الحصون فنسختها وأرسلتها إليه، فنقلها في بعض مجاميعه وأعادها إلي وعلى هامشها بخطه ما نصه: " أعيدها مع الشكر الجزيل. أما القصيدة فلم أعثر عليها بعد التحري ". 67 وقال الإمام الحجة الشيخ آغا بزرك الطهراني: " خاض المترجم له ميدان الأدب ومارس الكتابة في أمهات الصحف، حتى سطع نجمه في سماء الأدب وذاع اسمه في الأندية والمجتمعات... واتسعت شهرته وظهرت مكانته في العلم والأدب، وسعيه دون صالح الأمة ونشر مآثر الطائفة، وقيامه بخدمة اللغة العربية وآدابها وغزارة اطلاعه في ذلك... ولم يقف سعيه عند حد فقد ساهم العاملين في شتى النواحي الإصلاحية وفي كل ما يفرضه عليه الواجب... وهو اليوم في السادسة والثمانين من عمره، عاكف على مكتبته القيمة، ومشغول بتنظيم مؤلفاته، لم تفتر له همة، ولا يفارق الأقلام والمحابر، ولا يمل من المطالعة والمراجعة، مع ما ينفقه من وقته في مبادلة الرسائل مع علماء وأدباء الأمصار، والاشتغال في أعماله الإصلاحية وخدماته الاجتماعية... " (1). وقال الحجة الشيخ عبد الحسين الأميني صاحب " الغدير ": " وللشهيد الثاني اليوم أحفاد في سوريا يعرفون ببيت ظاهر، وممن يعتني بشأنه في العلم والأدب في هذه الأسرة الكريمة الشيخ سليمان ظاهر نزيل " النبطية التحتا " عالم مصلح، وشاعر مفلق، وأديب متضلع، له في التاريخ صحيفة بيضاء، يطلع عليها السابر صفحات " العرفان " وكتابه " الذخيرة " المطبوع في صيدا أصدق شاهد لعلو مكانته في العلم والأدب العربي، وله دون مصالح الأمة ونشر مآثر الطائفة أياد مشكورة، وخطوات واسعة، سجلها له التاريخ، وتكون له ذكرى خالدة... " (2). وذكره العلامة الشيخ محمد رضا الزين في قصيدته " بين فاضلين " التي أجاب فيها العلامة الجليل الشيخ قاسم محي الدين النجفي، وهي قصيدة طريفة وصف فيها على طريق الدعابة بعض العادات النجفية والكلمات الشعبية المألوفة، وقال عند ذكر النبطية وأعلام رجالها:
(1) طبقات أعلام الشيعة: 1 / 828 - 833. (2) شهداء الفضيلة: 162 - 164. 68 ورجالا تفوقوا بعلوم * وعقول وفطنة ورويه حاربوا الجهل باليراع وشادوا * يوم قاموا " المقاصد الخيرية " أيدوا الدين بالكتابة فاسأل * صحف القوم بالبلاد القصيه هي تتلو آيات ذكر حميد * " لسليمان " ذي العلى والحمية شيد الدين و " الذخيرة " منه * شاهد ناطق بحسن الطويه (1) وعده المؤرخ اللبناني يوسف أسعد داغر أحد الثالوث الذي انطلقت منه النهضة العلمية والاجتماعية الحديثة، والآخران هما الشيخ أحمد رضا والشيخ أحمد عارف الزين (2).
(1) شعراء الغري: 8 / 379. (2) مصادر الدراسة الأدبية: 2 / 393. والزين من الشخصيات العلمية والأدبية في العالم العربي والاسلامي، وقد شارك أستاذيه الظاهر ورضا في جهادهما الأدبي والوطني، ونال من ظلم الأتراك والفرنسيين ما ناله أمثاله من المخلصين والغيارى، وله مؤلفات عديدة في مختلف المواضع، وقد برهن على رجولة وتفان في سبيل نشر الوعي والثقافة في ثباته وصموده في مواقفه الوطنية وخدماته الأدبية في مختلف أدوار حياته، ولم تستطع السلطات المتعاقبة إيقاف مسيرته وحرفه عن الطريق المستقيمة الواضحة، ولم تفت في عضده محاولات الحاكمين ومحاربة المأجورين في شراء ذمته، ومجلته " العرفان " التي تجاوز عمرها نصف قرن ولم تتوقف عن الصدور في أصعب الظروف وأشد الأزمات أكبر دليل على إخلاصه في رسالته، وهي مدرسة كبرى للكثيرين، ودائرة معارف لا يستغني عنها أحد من المثقفين. ولد عام 1301 ه = 1883 م وتوفي في (22) ربيع الأول 1380 ه = 15 تشرين الأول 1960 م وأقيم له احتفال ضخم أبنه فيه رجال العلم والأدب والوطنية، ونشرت مجلته معظم ما قيل فيه ولا تزال مستمرة في الصدور بإشراف ولده الأستاذ نزار الزين حفظه الله، وقد أرخت وفاته بقولي: قضى " العارف " الحر نحبا فذي * نوادي الفخار له ناغيه وخلف " عرفانه " بعده * منارا لأجيالنا الآتية سننشره رغم أنف الزمان * فذكراه في طيها باقيه فيا نفس حر حظت بالخلود * بتاريخها " فارجعي راضية " ومما تجدر الإشارة إليه أن الزين عندما زار العراق عام 1374 ه = 1955 م كنت مريضا، فزارني مع جماعة منهم أستاذي الأكبر الإمام الطهراني، والحجة الشيخ محمد جواد الجزائري، وشيخ العراقين آل كاشف الغطاء صاحب مجلة " الغري " والأستاذ محمد علي البلاغي مدير " مصرف الرافدين " وصاحب مجلة " الاعتدال " وغيرهم، وسجل كلمة في مجموعة خاصة كنت أجمع فيها خطوط من ألتقي به من النابهين، وقد أشار الإمام إلى تلك الزيارة في ترجمته للزين - طبقات أعلام الشيعة: 1 / 128 - ولما عاد إلى لبنان وقرر إصدار عدد خاص عن العراق وصلتني منه ودعوة للمشاركة فيه، فكتبت له مقالا تحت عنوان " الاخلاص دعامة الخلود " قارنت فيه بين الإمامين الطهراني والأمين، وبين موسوعتيهما " الذريعة إلى تصانيف الشيعة " و " أعيان الشيعة " وأشرت إلى سبق الأول في هذا الميدان باعتراف صاحب الأعيان، وجهده الذي لا يشبهه جهد، وميزاته الكبرى التي أشاد بها رجال الاختصاص في الببليوغرافيا في الشرق الأوسط، أشدت كذلك بأهمية موسوعة الإمام الأمين وسعيد المشكور وفضله الكبير على الباحثين والمؤرخين.. فلا حظ صاحب " العرفان " في المقال تفضيل عمل الطهراني في " الذريعة " على عمل الأمين في " الأعيان " وبعد ما بين العملين من الفوارق... فعز عليه أن يعترف بذلك ويعلنه، وأهمل المقال، وقال في الملاحظات التي ختم العدد: إن المقال وصل بعد الانتهاء من قسم المقالات، وشكر الكاتب واعتذر إليه! رحم الله سيدنا الأمين وصديقنا الزين وحفظ شيخنا الطهراني، وجزاهم خير الجزاء على ما قدموه لأمتهم من خدمات كبيرة وأياد بيضاء خالدة مدى الدهر. 69 وذكره الباحث المعروف عمر رضا كحالة، فقال: " مؤرخ أديب ناظم ناثر... عني بالسياسة منذ صغره وسجن في عاليه، ودخل في " جمعية التعاون الخيري " وكان في الهيئة المركزية بفرع " الاتحاد والترقي " بالنبطية، وعضوا في " جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية " وتولى رئاسة نشر العلم في صيدا، وكان أحد أعضاء المؤتمر الاسلامي الذي انعقد في القدس سنة 1351 (1) وعضوا في " مؤتمر بلودان " وعضوا ب " جمعية العلماء العاملية " وانتخب عضوا ب " المجمع العلمي العربي " بدمشق واشتغل بالتجارة، وندب إلى بعض الوظائف العدلية، فكان قاضي تحقيق في صيدا، فعضوا لمحكمة بداية كسروان، ثم حاكم صلح في الهرمل... " (2).
(1) الصحيح عام 1350 كما هو معروف ومذكور. (2) لم نسبق بعمله في التجارة وانتدابه إلى بعض الوظائف العدلية، ومصدر الأستاذ كحالة ترجمة المؤلف بخطه. لكن ذلك لم يرد فيما كتبه لي ولغيري بخطه أيضا. نعم وردت إشارة إلى بعض ذلك في مقدمة القصيدة الخامسة والعشرين من ديوانه " الإلهيات / 97 " فقد قال: " نظمت في الهرمل أيام إقامتي فيها حاكم صلح في جمادي الآخرة سنة 1344 ه = كانون الثاني سنة 1926 م ". فالظاهر أن شيخنا الظاهر كان لا يرى للوظائف الحكومية شأنا إزاء مكانته العلمية والأدبية وشخصيته الاجتماعية، ولذلك لم يكترث بها ويشير إليها فيما يكتبه بخطه عن حياته، لا سيما في السنن الأخيرة من عمره الشريف، وخاصة عندما يبعث ترجمته لأحد من العلماء ورجال الدين. ويحتمل أيضا أنه كان يهمل ذلك لأن وظائفه كانت على عهد الاحتلال الفرنسي وهو من ألد أعدائه وأشد المعراضين له كما هو واضح في سيرته، على أن وظائفه كانت قضائية لأدخل لها بالسياسة تقريبا، ومع ذلك فقد كان يرى فيها وصمة في مسيرته الكفاحية، وله رأيه المحترم على كل حال. 70 وفاته: قضى شيخنا الظاهر عمره الشريف في خدمة العلم والأدب والدين والوطن، ولم يبخل بجهد أو مال في سبيل ذلك مطلقا، بل كان عونا لكل عامل في مجال الاصلاح والخدمة العامة، ولم تؤسس جمعية أو يفتح ناد أو تؤلف لجنة إصلاحية، أو تقوم حركة لخدمة الأمة والمجتمع إلا كان عضوا عاملا فيها وساعيا للنهوض بها ودعمها بمختلف الوسائل الممكنة والطرق الناجحة، وقد بلغ التسعين من العمر وهو دائب على ذلك لم يقعد به الكبر أو يحول دونه العجز، بل كان يعمل بهمة ابن العشرين، إلى أن قعد به المرض وأثقلته عوارض الشيخوخة، فانتقل إلى رحمة الله ورضوانه يوم الاثنين (16) جمادى الثانية سنة 1380 ه = 5 / 12 / 1960 م، فخسرت به لبنان والعرب والمسلمون أحد شيوخ الصلاح والاصلاح، وانهارت بفقده دعامة من أكبر دعائم النهضة الاجتماعية، وركن من أهم أركان العلم والفضيلة، وشيع بإكبار وإعظام من قبل الشعب والحكومة ومختلف الزعامات المذهبية، ونعته الإذاعات العربية والاسلامية، وأبنته صحف البلاد كافة، ودفن في مقبرة النبطية بين الدموع والحسرات، ورثاه وأبنه غير واحد من رجال العلم والأدب والسياسة والصحافة، وظلت الصحافة تشيد به وتنشر عنه مدة، وأقيم له حفل أربعيني في " النادي الحسيني " في النبطية في صباح يوم الأحد 27 رجب سنة 1380 ه = 15 / 1 / 1961 م حضره الكبراء والعظماء والنابهون من أبناء الطوائف والأديان، وكان حاشدا بمختلف الطبقات. وكان من جملة مؤبنيه الأعلام الشيخ محمد جواد مغنية، والشيخ محمد علي الزغبي، والسيد عبد الرؤوف الأمين، والدكتور علي بدر الدين، وختم الحفل نجله الأستاذ أحمد بقصيدة في رثائه، ونشرت مواد الحفل في المجلات والصحف اللبنانية، ووصلني الكثير منها، فرأيت صور الاحتفال الضخم وقرأت ما برهن على مكانته وتقديره عند قومه، ولا غرابة في تكريم وتقييم بلد الإشعاع لرجاله، وقد أرخت لوفاته بقولي: أظلم أفق العلم لما نعت * شيخ رجال الفضل لبنان
71 قد أثكل الفصحي فنادت شجي: * عني تناءى اليوم " سحبان " واهتز عرش الشعر لما قضى * من كان دوما فيه يزدان فيه الجحى ريع فأرخت " قل: * للخلد قد سار سليمان " وأبنته في مجلتي فقلت: " انتقل إلى رحمة الله سماحة العلامة الجليل والأديب الكبير الشيخ سليمان ظاهر النباطي... فخسرت به دنيا العرب والإسلام أحد رجالها الأفذاذ وأعلامها المبرزين... والحقيقة أن العلامة الظاهر من أكبر الشخصيات الإسلامية العربية في عصرنا الحاضر في مختلف النواحي، فهو رجل علم وأدب، ووطنية ونضال، وتضحية وجهاد، وهو من الذين بذروا اليقظة الوطنية في القطر اللبناني منذ العهد العثماني، وقد طورد من قبل السلطات الغاشمة وسجن وشرد، ونجا من مشنقة جمال السفاح مع مفر من زملائه، وذهب الباقون ضحية البطش والخيانة. أما مكانته العلمية والأدبية فهي في غني عن المدح والاطراء. وأما جبل عامل فهو مدين للرجل بصورة خاصة، فقد رفع وزميليه - رضا وعارف - اسمه عاليا وشاد كيانه ونشر تاريخه وكشف خصائصه وميزاته، وترجم لرجاله وأمرائه وما اختصهم الله به من علم وحكمة، وقد سجل اسمه في تاريخه بحروف بارزة. ... إن فقد العلامة الظاهر خسارة كبيرة مني بها المسلمون والعرب، فنرجو الله أن يتغمده برحمته الواسعة ويجزل أجره، وأن يهيئ من يسد الثلمة التي شغرت بوفاته، وتعازينا لأسرته وأصدقائه وأولاده، ولا سيما نجله الشاعر الأستاذ أحمد ظاهر ونرجو الله أن يحفظه ويجعله خير خلف لخير سلف " (1). آثاره العلمية والأدبية: من المعروف والمألوف أن يكون نصيب رجال الفكر الذين يبتلون بالزعامة الدينية ويشتغلون بالخدمات الاجتماعية، أو ينصرفون إلى الخوض في
(1) المعارف / العدد 10 / الس 2 / 125 - 127. وقد نشرت في العدد قصيدة ولده وكلمة الأستاذ تركي كاظم جودة عنه. 72 عالم السياسة ضئيلا في ميدان التأليف والانتاج، لدرجة أنه لا يمثل شخصياتهم ولا يرقى إلى مستواهم، بل لا يليق أن ينسب إليهم، وذلك لأنهم لا يستطيعون أن يعطوا المكتبة حقها لاستغراق أوقاتهم في الأعمال الإصلاحية التي تستغرق جهدهم، وتستنفذ طاقاتهم، فلا يبقى لهم قوة ووقت للتوجه إلى الحقل الفكري والجانب الثقافي، والأمثلة على ذلك كثيرة. وثمة رجال يشذون عن هذه القاعدة ويخرجون عليها ويستطيعون التوفيق بين العملين دون أن يؤثر أحدهما على الآخر، ويؤدون حق المكتبة ولا يقصرون في مجال الخدمة الاجتماعية، إلا أنهم قليلون جدا، ومن تلك القلة شيخنا الظاهر، فقد كان شخصية متعددة الجوانب برزت في كل حقل بروز المتخصص، إذ لم تحل أعماله الإصلاحية وخدماته الاجتماعية ونضاله السياسي دون الانتاج الفكري، فقد عني بالكتابة منذ الصغر، وولع بتقييد ما وقف عليه من نظم ونثر، وخاصة ما كان للعامليين وما يتعلق بتاريخ جبل عاملة، ومؤلفاته ودواوينه ومقالاته الكثيرة في مختلف المواضع دليل واضح على ذلك. فمن آثاره المطبوعة. 1 - الإلهيات: وهو الجزء الأول من ديوان شعره الضخم " من وحي الحياة " ويحتوي على ست وثلاثين قصيدة في عظمة الخالق التي تنطق بها آياته في مختلف الكائنات، وما توصل إليه الفلاسفة والإلهيون من حقائق ناصعة ناطقة، وما أدهش علماء ما وراء الطبيعة وعلماء التاريخ الطبيعي والمواليد الثلاثة وعلماء الفلك من أسرار الكون ونواميسه... وقد نظمها فيما بعد سنة 1360 ه = 1940 م، عندما شهد سلطان المادية العجيبة القائم على أدوات الفتك والعزوف عن الروح ومقوماتها، وما يسعد البشر مجتمعين ومنفردين... والصدوف عن تعاليم الأديان التي ضمنت السعادة، والاستعاضة عنها بمبادئ هي في الحقيقة معاول لهدم المدنيات ونشر الفوضى والاضطراب والبلبلة والشقاء والعذاب. وكان في الأصل ثلاثين قصيدة انتهى من تدوينها يوم الأربعاء (15) جمادى الآخرة سنة 1370 ه = 12 آذار 1952 م، وقد اطلع عليها الإمام
73 المتكلم شيخ الإسلام السيد عبد الحسين شرف الدين (1) قدس الله نفسه، واقترح أن يرتقي عددها إلى ست وثلاثين فامتثل الظاهر أمره. وقد نشرته " المكتبة العصرية " في صيدا عام 1373 ه = 1954 م وكانت لبعض ذوي قرباه يد في طبعه شكر منهم في آخره نجيب نصار - أحد مؤسسي
(1) من قمم الفكر الاسلامي المعاصر، ورجالات المسلمين الأكفاء والشخصيات الإنسانية المدهشة، لم يقتصر جهاده، على ميدان دون آخر، فهو رجل وطنية وكفاح للاستعمار، هدم الفرنسيون عند احتلالهم لبنان داره، وأحرقوا مؤلفاته، وحكموا عليه بالإعدام، فخرج إلى الشام متخفيا، فكان له دوره البارز في الحركة العربية كما هو معروف في تاريخ بلاده. وهو رجل نهضة ثقافية، بنى النوادي فربت شبابا تحمل الدعوة إلى دين الله، وشاد المدارس والكليات للذكور والإناث فتخرجت منها أجيال واعية لرسالتها. وهو رجل إنسانية ومحبة وتسامح لم يعرف الطائفية والتعصب، فقد وقف إلى جانب المسيحيين وقوفه إلى جانب المسلمين، وحنا على السنة حنوه على الشيعة، فكان للبنانيين جميعا دون تفريق، ولما مات بكاه الجميع على حد سواء. وهو رجل علم وبصيرة ندر نظيره في عصره وقبل عصره بكثير، فقد عمد إلى التاريخ الاسلامي فغربله غربلة العالم المدقق، وفحصه فحص الناقد الخبير، فأوضح الحق من الباطل، وماز الصحيح من السقيم، وكشف الزيف والدجل، وفضح الكذب والبهتان، وجلا الحقائق ناصعة كالشمس دون ميل إلى عاطفة أو تحيز لعقيدة أو تعصب لمذهب، فكان الرائد الأول في هذا المجال الفكري المهم، و " المراجعات " و " الفصول المهمة " و " أبو هريرة " و " النص والاجتهاد " و " إلى المجمع العلمي العربي بدمشق " وغيرها من مؤلفاته أكبر شاهد على ذلك. تميز بعقل راجح، ونظر بعيد، وثقافة عالية، وفكر خلاق، وإرادة حديدية، وجرأة نادرة، لم ينكص أمام جبروت الباطل وإن طغى واستفحل، ولم يتزعزع خوف الحاكم والظالم مهما علا وتجبر، ولم يصب عزيمته خور في الجهر بالحق وإن كلفه ثمنا باهظا... ولم يتقرب إلى الملوك والرؤساء وإن ضبطوا وده واستمالوه، وقد كتبت عنه في باب " شخصية العدد " في مجلتي " المعارف، عدد 9 و 10 / س 2 / رجب وشعبان 1380 ه = كانون الثاني وشباط 1961 م " وذكرت قصته مع شاه إيران ورده عليه... كما نشرت بخطه آخر رسالة تلقيتها منه قبل وفاته ب 43 يوما. توفي عام 1377 ه = 1957 م فأبنه أساطين العلم والأدب والسياسة وغيرهم في لبنان وغيره، واحتفلت بأربعينه الجمعيات في مختلف بلاد المسلمين، ورثيته بقصيدة وأرخت وفاته بقولي من أبيات: عميد الشريعة قد غربا * ونور علوم الهدى قد خبا ومات زعيم الجهاد الكبير * ففرق قومي أيدي سبا إلى الله قد سار عبد الحسين * وصدع صرح العلوم النبأ أصبت شريعة طه فأرخ * " به ولقد أيتم المذهبا " 74 المحل التجاري الكبير في " أبيدجان " بساحل العاج - نجل ابن أخته الحاج حسن نصار، وابن أخيه حسين علي ظاهر من كبار تجار غنوا " كنوى ". 2 - الذخيرة إلى المعاد في مدح محمد وآله الأمجاد: ديوان في المدائح نظمه في أوان الحرب العالمية الأولى، وطبع في صيدا عام 1348 ه = 1929 م (1)، وقرضه العلامة الكبير الشيخ محمد جواد مغنية بقوله: - ويبدو أنه من أوائل شعره -: ما كل من حمل اليراع بكاتب * كلا ومن درس العلوم بعالم كم ألفوا كتبا بفضل " محمد " * وبنيه من " حسن " لفضل " القائم " أرأيت مثل " ذخيرة " في علمها * وقصائد غرا كشعر الناظم؟ حوت اللبان وقوضت ركن الضلال * وشيدت للدين خير دعائم وإذا سألت من الوصي لأحمد؟ * تأتيك بالنصر الصحيح المحم هي تثبت الحق المبين وتنثني * بالعقل تدفع شبهة المتوهم أبناء عاملة قديم فضلهم * سطعت أشعته كنور الأنجم أنظر لأسفار " الشهيد " فإنها * عون لكل مدرس ومعلم (2) 3 - العراقيات: وهو مختار من شعر عشرة من مشاهير شعراء العراق، ألفه بالاشتراك مع الشيخ أحمد رضا، والشيخ محمد رضا الشبيبي، والشيخ أحمد عارف الزين. وبقلمه تراجم الشيخ كاظم الأزري، وعبد الباقي العمري، والسيد إبراهيم الطباطبائي، وطبع جزؤه الأول في صيدا عام 1331 ه = 1912 م. 4 - الفلسطينيات: وهو الجزء السابع من ديوانه " من وحي الحياة " ضم ثلاثين قصيدة في مآسي فلسطين، أقدمها التي قالها عام 1348 ه = 1929 م، وأحدثها التي قالها عام 1371 ه = 1951 م، وقد أملتها عليه نكبات فلسطين المتتابعة في مختلف أدوارها ومراحلها التي لم تبلغ إلى نهايتها، ولا يعلم إلا الله تعالى ما ينطوي لها في ضمير الغيب وللدول العربية المجاورة لها من شؤون وشجون آخذ بعضها برقاب بعض.. هذا ما قاله شيخنا الظاهر في
(1) الذريعة إلى تصانيف الشيعة: 9 / 466 و 10 / 19. (2) شعراء الغري: 7 / 435. 75 خاتمة ديوانه عام 1954، وكان يدرك ببصيرته الثاقبة يومذاك ينتظر ذلك القطر المقدس من أقطار العرب، ويرى أن تطهيره من أرجاس الغاصبين لن يكون إلا بوحدة عربية شاملة تمكن من خوض المعركة الحاسمة ومحو العار. وقد نشرت الديوان المكتبة العصرية في صيدا عام 1373 ه = 1954 م. ومن آثاره التي نشرت تباعا في المجلات: 5 - آداب اللغة العربية: نشر في مجلة " العرفان " (1). 6 - بنو زهرة الحلبيون وقدم التشيع في حلب، نشر في " العرفان " أيضا (2). 7 - سوانح ونصائح، نشر في مجلة " العرفان ". 8 - معجم قرى جبل عامل، نشر في مجلة " العرفان ". وهناك موضوعات أخرى نشرت فيها يصح أن يكون كل منها كتابا، ومثل ذلك المنشور في مجلة " المجمع العلمي العربي " بدمشق ك " صلة العلم بين دمشق وجبل عامل " و " التعليق على كتاب الاشتقاق للأصمعي " وغير ذلك. وأما أثاره المخطوطة فهي: 1 - الأدب العاملي المنسي، ثلاثة أجزاء. 2 - الأماني الجامحة، مجموعة قصائد في مختلف الأغراض. 3 - تاريخ الشيعة الديني والسياسي. 4 - الحسين بن علي. 5 - دفع أوهام " توضيح المرام " في رد القاديانية. وهو هذا الكتاب. 6 - الرحلة العراقية الإيرانية. 7 - الرحلة العراقية الشعرية. 8 - القصة في القرآن. 9 - قطعة من تاريخ جبل عامل.
(1) الذريعة إلى تصانيف الشيعة: 1 / 26. (2) الذريعة إلى تصانيف الشيعة: 3 / 276. 76 10 - مجموعة محاضرات. 11 - الملحمة الإسلامية الكبرى. 12 - مفكرات الحرب العامة والاحتلال الفرنسي. 13 - من وحي الحياة: ديوان شعره الذي يتألف من عشرة أجزاء، منها: " النبويات " و " العلويات " و " الحسينيات " و " الهاشميات " وغيرها. 14 - مجاميع تربو على الثلاثين تتبين منها مراحل حياته الأدبية، وجلها خلو من التنظيم. وله مقالات كثيرة في المجلات والصحف في شتى الأغراض، ولا سيما في مجلة " العرفان ". خاتمة: هذه ترجمة مختصرة لحياة شيخنا العلامة الظاهر مؤلف هذا الكتاب الجليل، وهي إلى الايجاز أقرب منها إلى التفصيل، لأن حياته رحمه الله طويلة عريضة، وشخصيته متعددة الجوانب، ومجال القول فيها ذو سعة... ولا أشك في أنها ستكون في قابل الأيام موضوع دراسة جامعية شاملة، يتناول قلم الباحث فيها سيرته بالتحليل والدقيق، ويعطي المقام حقه، وحسبي أنني قد فتحت الباب ودللت على الطريق. ولا تفوتني الإشارة إلى أنني اعتمدت فيها - بالإضافة إلى ما ذكر في هوامشها من المصادر - على ترجمته التي كتبها لي بخطه، وكذلك على ترجمة زميله العلامة الجليل الشيخ أحمد رضا النباطي التي كتبها لي بعض ذويه بخطه أيضا عندما طلبتها بعد وفاته بواسطة شيخنا الظاهر، فترجمتهما متداخلة، وجهادهما مشترك، وشخصياتهما متقاربتان لحد بعيد. رحمهما الله، وأجزل أجرهما، وخلد ذكرهما، ووفقنا لما ينفع الناس ويمكث في الأرض والله ولي التوفيق. النجف الأشرف محمد حسن آل الطالقاني
77 كتاب دفع أوهام توضيح المرام تأليف سليمان بن محمد بن علي ابن إبراهيم بن حمود زين الدين العاملي النباطي
79 المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم نحمده تعالى على إكمال الدين وإتمام النعمة، ونصلي على نبيه نبي الرحمة، خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آل بيته الطيبين، وصحبه الأنجبين. وبعد فقد كتب إلي وإلى صديقي العلامة الشيخ أحمد رضا والشيخ محمد رضا الزين، فريق من إخواننا العامليين (1) من دار هجرتهم فريمون السبرانيون، كتابا يشكون فيه انتشار الدعوة القاديانية في تلك الديار التي يقوم بنشرها ثلة من رجال تلك النحلة وتأثيرها على نفر منهم استهوتهم فكانوا لها أتباعا، وقد بعثوا إلينا مع كتابهم بكتاب تأليف بعض مبشري المذهب القادياني جلال الدين شمس أحمدي المقيم في حيفا (فلسطين) سماه [توضيح المرام في الرد على علماء حمص وطرابلس]، وقد فوض الصديقان إلي الرد على ما في هذا الكتاب من المزاعم والجواب على مسائل للمكاتبين ليست في صلب الكتاب ولكنها من مراميه التي أوقعت في أنفسهم الشبهات، فرأيت فرض عين ما فوضاه إلي من نقص الكتاب، والجواب على مسائل أولئك المكاتبين مما تقوم به الحجة وتدفع به الشبهة، فاختلست الفرص السانحة على كثرة الصوارف والشواغل وكتبت ما أحسبه كافيا في المرام، وسميته (دفع أوهام توضيح المرام)، ومنه تعالى أستمد العون في البدء والختام، وقد كسرت رد الكتاب على مقدمة وأبواب وفصول وخاتمة، متحديا البسط والوضوح ما استطعت. أما الكتاب فهو يضم بين دفتيه خلاصة ما تمسك به القاديانية من شبهاتهم، وما موهوا به من الحجج الواهية تأييدا لنحلتهم، ولم نر من حاجة
(1) منهم السيدان خليل شومان وحسن طعان وأولاده عام 1944. 81 لإجابة طلب الكاتبين إلينا بتحصيل كتبهم الأخرى المطبوعة وهي لا تخرج في بناها ومعناها عما حواه هذا الكتاب، كما أننا لا نرى لزاما طلب بعض دعاتهم إلى المناظرة ولا إلى المباهلة التي يدعون إليها كل من ينكر بدعتهم، والمباهلة لم يدع إليها سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم) مع كثرة من أنكروا نبوته من مشركي العرب واليهود والنصارى إلا مرة واحدة وهم نصارى نجران، على أن التفاوت بين دعوته (صلى الله عليه وآله وسلم) نصارى نجران للمباهلة ودعوتهم هذه عظيم جدا، فهم يزعمون أنهم مسلمون وأنهم لم يشذوا عن الإسلام ولم يغيروا شيئا من رسومه، ومن يدعونهم إلى المباهلة هم مسلمون مثلهم، إن لم يكونوا كما هو الواقع أكثر اعتصاما منهم بعروته، وأبعد عن بدعة دعوى إرسال رسول جديد بعد نبيهم الذي قام إجماع المسلمين على انتهاء النبوات بنبوته الخالدة، فإذا أي غرض بعد هذا إلى المباهلة؟ إن هذا ضرب من ضروب تهويلات القاديانية لا يقيم له عاقل وزنا، ولا يعبأ به مسلم يستمد إسلامه من الكتاب الحكيم ومن السنة النبوية وأدلة العقل وإجماع الأمة ويعلم أن دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مستكمل جامع لكل حاجات البشر في مبدئهم ومعادهم، وله قوام وعليه حفظة قائمون على صيانة شرائعه، ولم يترك شيئا مما يتصل بحياتهم الروحية والجسدية والاجتماعية إلى نبي جديد، ولا نص عليه بالعين أو الوصف بل استفاض الخبر، وأيده العقل من عدم خلو الأرض من قائم على إقامة تلك الشرائع مصونة من التحريف والبديل، ومن التبشير بظهور المهدي والمسيح (عليهما السلام) في آخر الزمان، كما نبسط ذلك في موضعه من هذا الرد. الكتاب رد على علماء حمص وطرابلس، قدم مؤلفه مقدمة طويلة لا تتصل اتصالا وثيقا بما يرمي إليه من نبوة صاحبه، ولا تثبت دعوة بين فيها ما مني به المسلمون من الابتعاد عن الدين، وما ابتلوا به من جماعات المبشرين الطاغين في الإسلام، وأن الإسلام أصبح غريبا. ونخلص من هذه المقدمة إلى نتيجة وهي ضرورة بعث مجدد له، وأن ذلك المجدد هو بزعمه المسيح الهندي غلام أحمد القادياني، ثم استرسل إلى انتقاص قادة الدين والحط من أقدارهم،
82 بزعم سكوتهم عن محاربة البدع والمنكرات، وعن رد شبهات المبشرين وصد تيار الملحدين من المسلمين، ووقوفهم موقف الخصم اللدود في وجه المصلحين، وإسراعهم إلى تكفير كل من يحاول تغيير بدعة ودرء ضلالة، لم يستثن من افتئاته أحدا من الأولين والآخرين، وعرض إلى ما رمي به الحسين بن الحلاج وابن الجنيد والشلبي وأضرابهم من المتصوفة، ثم إلى تكفير من كفر أبناء نحلته الذين لم يشذوا عن الإسلام ولا خرجوا عن حظيرته، وكأنما ادعاؤهم مسيحية صاحبهم ونبوته المخالفة للنصوص الصريحة التي لا تقبل تأويلا ولاجماع المسلمين كافة، ليست من الأمور التي تعنيهم، ولا مما يحسن أن يتناوله النقد والنقض، وأنهم إنما يقومون بأداء المفروض عليهم من محاربة البدع بالتسليم ببدعتهم والاعتراف بنبوة نبيهم المزعوم ومسيحهم الموهوم. أما إنذار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بل إنذار الله تعالى بوقوع الاختلاف في المسلمين بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) فذلك مما نص عليه القرآن المجيد (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) [آل عمران / 144] وحديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الصحيح في افتراق أمته إلى ثلاث وسبعين فرقة كما افترقت أمة موسى (عليه السلام) إلى إحدى وسبعين فرقة وأمة عيسى (عليه السلام) إلى اثنتين وسبعين فرقة، إلى أحاديث كثيرة في معنى الاختلاف الذي هو سنة طبيعية في البشر، وكم جاءت آية كريمة محكمة في هذا المضمون (ولن تجد لسنة الله تبديلا) [الفتح / 22] وما أرسل تعالى الرسل وأنزل الكتب وشرع الشرائع إلا لتلطيف ذلك الاختلاف وتعديله، وأوضح السبل ونصب الدلائل على دينه الحق ومراداته من التكليف في دار التكليف ولم يدع الناس هملا و (قد تبين الرشد من الغي) [البقرة / 256] ببعثة خاتم المرسلين، وبما نزل عليه من الذكر الحكيم، ومع ما في طبيعة هذا الدين والكتاب الذي مهد سبله وأسس قواعده الحكيمة من ملاءمة لكل الطباع الإنسانية، ومن أساليب رائعة يدرك إعجازها الجاهل والمتعلم والقروي والبدوي، ومن سنن اجتماعية وأخلاقية تنفذ في نفوس كل الجماعات، وما للنبي المبعوث به من خصائص نفسية وخلقية وسيرة فاضلة، فإن ذلك وما إليه لم يكن كله يكبح
83 جماح النفوس ويحد من طغيانها، وليخرج بها عن الفطرة ويردها إلى المثل الأعلى، اللهم إلا من زكت نفوسهم وسمت خلائقهم، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة وما كانت تكاليف الله تعالى للعباد بتنية على الإلجاء فهل كان من خصائص مسيح الهند أن يمد من الفطر ويدرك ما تعجز عنه القدر من إصلاح مجموع البشر بكتابه الجديد، وبما عزاه إلى نفسه وعزاه إليه من معجزات على أن من اختص بمثل تلك المعجزات المزعومة وبمثل تلك الموهبة التي لم يؤتها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من إصلاح البشر، كان من مقتضى الحكمة أن ينص على ظهوره والتعريف باسمه وموطنه وعصره. إن الله عز وجل بلطفه الشامل ودينه الكامل لم يترك المسلمين في جاهلية جهلاء وطخية عمياء، وكفى ببيانه بيانا وبسنة نبيه الأعظم برهانا، وبحديثه الصحيح " إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي " (1) قاطعا للمعاذير وبينا للحجة القائمة ومفحما لكل مدع النبوة. إن علماء الأمة الذين شاء المسيح الهندي وأتباعه إلصاق وصمة التقصير بهم عن القيام بما فرض عليهم من النصح والارشاد، والدفاع عن حوض الدين القويم، فقد قاموا قديما وحديثا بهذا الفرض، وكانوا أحرص الناس على رعاية أصوله وفروعه، وتدوين ما حذقوا من علوم كتابه، وضبطوا بكل تدقيق ما ورد من سنة وحديث، وأسسوا علم الكلام، وعنوا بعلم المنطق والعلم الإلهي، ليحفظوا بهذه العلوم الحادثة جوهر الدين، وليبينوا وجوه إعجاز كتابهم الخالد، وليدفعوا زيغ الملحدين وشبهات المعادين، ولم يخل ولله الحمد منهم عصر من العصور الإسلامية، ولكنهم لم يدع منهم أحد أنه نبي أو أنه المسيح المترقب أو المهدي المنتظر، ولم يدع النبوة في عصور انقسام المسلمين إلى فرق، ثم الترقي إلى دعوى الحلول والاتحاد فالألوهية إلا الغلاة من الفرق الثلاث والسبعين، كما تجد ذلك مبسوطا في كتب الملل والنحل، ولكنه لم
(1) صحيح مسلم، باب فضائل الصحابة 36، 37، الدارمي / فضائل القرآن /، مسند أحمد 3 / 14، 17، 26، 59، 4 / 367، 371. 84 يقم بتلك الدعوى قائم، وينجم لها ناجم، حتى يذهب ودعواه كأمس الدابر، متعسرا بأذيال الخيبة والخسران، مخلفا وراءه سبة التاريخ والأجيال، ولم يكن نصيب من ادعى مثل تلك الدعوى في العصر الأخير إلا كنصيب من تقدمه من الإخفاق، ولم تكن معجزاتهم التي زعموها مؤيدة لدعاواهم، ومنها كتبهم المدعى الإيحاء بها إليهم معارضا بها القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، وهم من الأعاجم إلا مجموعة ترهات وسخافات وعجمة وطمطمانية، لا يرضى صغار المتعلمين نسبة مثلها إليه. ولو كانت البلاغة سلما يرتقى بها إلى دعوى النبوات من فرسانها وسباق حلبة ميدانها أو من مريديهم، لكان أجدر من الباب والبهاء والقادياني بمثل هذه الدعوى الخاسرة أشباه ابن المقفع وعبد الحميد والجاحظ وابن العميد والصاحب والصابي والخوارزمي والبديع والضبي، دع ما ظهر فبهر من بلاغات أئمة أهل البيت مع غلو من غالى في حبهم، إلى أن ارتقى بهم عن مرتقى النبوة إلى مقام الألوهية، ولكنه لم يزعم زاعم من هؤلاء الغلاة أن بلاغاتهم من معجزاتهم والأئمة كانوا يلحقون الغالي في حبهم بالقالي في بغضهم، وكلاهما منه بريئون. وأما الدفاع عن الإسلام والمحاماة عن عقائده والرد على شبهات خصومه من ملاحدة وكتابيين ومتفلسفين، فقد بلغ فيه أئمة المسلمين وعلماؤهم العاملون أقصى حد، ولو حاولنا تعداد مجالس مناظراتهم والكتب المصنفة لهم قديما وحديثا في هذا المعنى، لأخرجنا سفرا ضخما، ولأوضحنا لاتباع القادياني أن حماة الإسلام لم يفرطوا في شئ مما يفحم خصومه ويرد كيد أعدائه إلى نحورهم، وما على المنكر إلا أن يرجع إلى تلك الكتب المصنفة والمطبوع جلها. وأما في هذا العصر الذي يزعم اتباع المسيح الهندي تقاعد قادة الدين عن نصرته وقيامه وحده فيه، وفي دحض شبهات المبشرين والملحدين، ومحاربة البدع والمناكير، فحسبنا في دفعه أن نلم إلمامة وجيزة بذكر فريق من العلماء الأعلام والأساطين العظام، ممن قاموا بقسط عظيم في صد تيار ناصبي العداء
85 لدينهم المتين، فمنهم مواطنه المجاهد الشيخ رحمة الله الهندي، والشيخ علي البحراني، والشيخ جواد البلاغي النجفي في كتبه الهدى إلى دين المصطفى، والمدرسة السيارة، والرحلة المدرسية، وإبطال التثليث، والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبدة المصري، وفليسوف الشرق السيد جمال الدين الأفغاني، والسيد محمد رشيد رضا الذي تكاد تتمحض مجلته المنار الاسلامي للدفاع عن الإسلام ومحاربة البدع، والشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء النجفي، والسيد محسن الأمين، والسيد عبد الحسين شرف الدين العامليان، والسيد مير علي الهندي الذي أنفق معظم حياته في الجهاد في سبيل الإسلام وبث دعوته، إلى كثيرين غيرهم ممن يطول الكلام بتعداد أسمائهم، فقد صدعوا بالحجة ونهضوا بما افترضه الله عليهم بدون أن يدعوا نبوة أو مسيحية أو رسالة ووحيا. وأما المعاهد الدينية التي قامت في الأمصار الإسلامية قديما وحديثا وعنيت بتدريس علوم الشريعة وكل ما له تعلق بها وما له مساس بالذود عن نواميسها فالإحاطة به وعده مما يخرجنا عن الفرض الذي قصدنا إليه في هذا الرد، وحسبنا أن نذكر منه ما لا يزال قائما مصابرا الدهور، فمنه جامعة الأزهر، وجامعة النجف الأشرف، وجامع الزيتونة، ومدرسة الواعظين في لكهنور، ومدرستا قم وسبهسالار في إيران، وكل تلك المعاهد إلى كثير أمثالها تخرج المئات في كل عام للارشاد ونشر ومبادئ الدين الاسلامي القويم والتبشير، حتى في كبرى عواصم الدول الأوروبية. وقرأت أخيرا في مجلة الاثنين في الجزء (51) الصادر في 24 إبريل سنة 1944 في مصر، أن الدكتور علي حسن عبد القادر المصري خريج الأزهر وبعض الجامعات الأوربية، وهو متخصص في المعارف الإسلامية، وقد أنشأ في لندن المركز الثقافي الاسلامي واختير له مديرا عاما، والمقصد من إنشاء هذا المركز إلقاء المحاضرات عن الإسلام باللغة الانكليزية، وعرض الدين الحنيف عرضا صحيحا، ودفع الأخطاء التي ألصقت به، وسيكون بعد قليل باستطاعته إنشاء معهد يتلقى فيه أبناء المسلمين المقيمون في لندن ثقافتهم الدينية، وقد توفق إلى إنشاء مجلة ثقافية علمية، وإنشاء مكتبة إسلامية جامعة، وقد أهدت الحكومة البريطانية
86 لهذا المشروع قصرا في أهم أحياء لندن وإلى جانبه قطعة أرض لبناء مسجد عليها، وقد جعل هذا المشروع الاسلامي الجليل ملك مصر تحت رعايته، ويتقاضى مديره راتبه من جلالة الملك فاروق، أما المدير فيعرف اللغات الانكليزية والفرنسية والألمانية والتركية والفارسية. وأما أثر جامع الأزهر وجامعة النجف وسواهما من الجامعات الإسلامية، وما لها من عمل مجيد في مصلحية الإسلام وترويج أحكامه ومناضلة خصومه، وما صنف من الكتب النافعة في التبشير به والكشف عن أسراره، والمجلات الدورية التي أنشئت لهذه الغاية الشريفة (لا كمجلة البشرى المنشئة للقاديانية في حيفا - فلسطين - لمجرد إثبات نبوة صاحبهم) فإن عيانه يغنينا عن البيان وعن البرهان على فساد دعوى اتباع القادياني من تقاعد علماء المسلمين عن حماية دينهم، وأنهم لم يكونوا في فترة ولا في حيرة من أمرهم، ولا ابتعدوا عن الدين الابتعاد الذي يصورونه لتسلم لصاحبهم دعوى إنقاذهم برسالته ونبوته من هوة الحيرة والضلال، وما كانوا هم ولا صاحبهم أعرف منهم بأسرار الشريعة وأسرار كتابها الخالد، ولا أحوط منهم بالدفاع عن دينهم المتين، ومن ورائهم اللطف الإلهي والتأييد السماوي لهذه الملة الدائمة ما دامت السماوات والأرض. أما إسراع من أسرع إلى تكفير من كفر ممن ظهر بنحلة مخالفة لظواهر الكتاب والسنة أو نصوصهما الصريحة، والخروج عن إجماع ما أجمع عليه المسلمون فليس ذلك مما يهمنا أمره، فإن للإيمان والكفر حدودا ورسوما لم يهملها الشرع، ولسنا في موقف من يحسن أو يقبح تكفير من كفر، وتبديع من بدع، فإن ذلك ليس له علاقة ماسة في صحة مزاعم المسيح الهندي ولا في فسادها، فندع ذلك إلى الأهم في الرد. هذا ما نراه كافيا في التعليق على مقدمة الكتاب ولنرجع إلى نقض فصول الكتاب بما يسمح لنا به الوقت وتقوم به الحجة.
87 الباب الأول: في نقض الفصل الأول
89 صدر المؤلف هذا الفصل ب (نظرة إجمالية على كتب التفاسير) قال: " لقد أضر المسلمين كثيرا اعتقادهم بصحة كل ما ورد في كتب التفاسير وتركهم التدبر في آيات القرآن المبين، ظانين بأن المفسرين أحاطوا بجميع ما يحويه الكتاب من الأسرار والحقائق والمعارف، ولذلك ترى ردود المشايخ لا تتجاوز أقوال المفسرين، ويجعلون رواياتهم الظنية أساس معتقدهم كأنها منزلة من عند الله... إلخ ثم عرض لذكريات اختلف في تفسيرها المفسرون متحديا العلماء في الجواب عليها، وذكر أسباب الاختلاف في تفسيرها، وعقب ذلك بقوله: وليقولوا لنا: هل نطبق حديث من قال في القرآن برأيه على تفسيرهم أم لا؟ ". أما الحديث، فقد ذكره قبل وهو: (من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار) (1) ثم أورد الأسئلة وهي أحد عشر وجلها منقول عن تفسير الخطيب الشربيني، فلندع الجواب عنها الآن إلى الجواب عما زعمه من الأضرار بالمسلمين اعتقادهم بصحة كل ما ورد في التفاسير وتركهم التدبر في آيات القرآن المبين، إلى آخر كلامه الذي مر ذكره قريبا، ويتلخص جوابه بأمور. الأمر الأول: إن دعواه انحصار الأضرار بالمسلمين باعتمادهم على أقوال المفسرين بدون تمحيصها وتبين فاسدها من صحيحها مخالفة للواقع، فلم يترك المسلمون التدبر في آيات القرآن المبين والاعتبار بما فيه من السنن، ولم يكن العلماء العارفون منهم ليقبلوا أقاويل المفسرين على علاتها، وإلا لما كثر الاختلاف ما بينهم وتعددت كتب التفاسير إلى حيث يصعب على الباحث عدها وسردها، وسنفي هذا البحث حقه في موضعه. الأمر الثاني: إن الذي أضر بالمسلمين، هو ما نشأ فيهم من ذوي البدع والأهواء ومدعي النبوات والحلول من الغلاة الذي انقرض جلهم، ومن اشتباه العلماء الذين ساقهم الطمع في الزعامة من طريق الابتداع في الدين إلى ادعاء الحلول والنبوة.
(1) تلبيس إبليس لابن الحوزي، ص 113. 91 الأمر الثالث: كيف ساغ له أن يرمي المسلمين كافة بتقليد أمثال الخطيب الشربيني بتفسيره بعض آي الكتاب، بما هو مستمد مادته من الإسرائيليات ومن أحاديث قد محصوها وبينوا الموضوع منها، وما لم يصح وما صح منها ولأجلها ولأجل ما وضعه الواضعون منها من الحشويين ومن بعض غلاة الفرق الثلاث والسبعين تأييدا لما ابتدعوه وضعوا علم الحديث وعلم رجاله وعلم الدراية، وهب أن صاحب الكتاب ومسيحه سلكا هذه السبيل، فهل سلكا سبيلا غير سلوكه وعرفا ما لم يعرفه علماء الإسلام؟ وهل في ذلك آية من آيات نبوة المسيح الهندي تحمل المسلمين كافة في مشارق الأرض ومغاربها على اعتقادها وترك الاجتهاد إلى تقليده؟ الأمر الرابع: إننا نرى من المفيد والقاطع لحجته الواهية، أن نلم إلمامة قصيرة لا تبعدنا عن الموضوع بما قاله العلماء وذهبوا إليه من مباحث التفسير. الأول: قال ابن خلدون الفيلسوف الاجتماعي الاسلامي في مقدمته (1): " وأما التفسير فاعلم أن القرآن نزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه في مفرداته وتراكيبه، وكان ينزل جملا جملا وآيات آيات لبيان التوحيد والفروض الدينية بحسب الوقائع، ومنها ما هو في العقائد الايمانية، ومنها ما هو في أحكام الجوارح، ومنها ما يتقدم، ومنها ما يتأخر ويكون ناسخا له. وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يبين المجمل ويميز الناسخ من المنسوخ ويعرفه أصحابه، فعرفوه وعرفوا نزول الآيات ومقتضى الحال منها منقولا عنه، إلى أن قال: ونقل ذلك عن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وتداول ذلك التابعون من بعدهم ونقل ذلك عنهم، ولم يزل متناقلا بين الصدر الأول والسلف حتى صارت المعارف علوما ودونت الكتب، فكتب الكثير من ذلك ونقلت الآثار الواردة فيه عن الصحابة والتابعين، وانتهى ذلك إلى الطبري والواقدي والثعلبي وأمثال ذلك من المفسرين. ثم صارت علوم اللسان صناعية
(1) تاريخ ابن خلدون، ط مؤسسة الأعلمي، ج 1، ص 438. 92 من الكلام في موضوعات اللغة وأحكام الإعراب والبلاغة في التراكيب، بعد أن كانت ملكات العرب لا يرجع فيها إلى نقل ولا كتاب، فتنوسي ذلك وصارت تتلقى من كتب أهل اللسان، فاحتيج إلى ذلك في تفسير القرآن لأنه بلسان العرب وعلى منهاج بلاغتهم، فصار التفسير على صنفين، تفسير نقلي مستند إلى الآثار المنقولة عن السلف وهي معرفة الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول ومقاصد الآي، وكل ذلك لا يعرف إلا بالنقل عن الصحابة والتابعين، وقد جمع المتقدمون في ذلك وادعوا إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشتمل على الغث والسمين والمقبول والمردود. والسبب في ذلك أن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم، وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية، وإذا تشوقوا إلى شئ مما تتشوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود، فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم ويستفيدونه منهم، وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى، وأهل التوراة الذين بين العرب يومئذ بادية مثلهم ولا يعرفون من ذلك إلا ما تعرفه العامة من أهل الكتاب ومعظمهم من حمير الذين أخذوا بدين اليهودية، فلما أسلموا بقوا على ما كان عندهم مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية التي لا يحتاطون لها، مثل أخبار بدء الخليقة وما يرجع إلى الحدثان والملاحم وأمثال ذلك، وهؤلاء مثل كعب الأحبار، ووهب بن منبه، وعبد الله ابن سلام وأمثالهم، فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم في أمثال هذه الأعراض أخبار موقوفة عليهم وليست مما يرجع إلى الأحكام فتتحرى في الصحة التي يجب بها العمل، وتساهل المفسرون في مثل ذلك وملأوا كتب التفاسير بهذه المنقولات، إلى أن قال: فلما رجع الناس إلى التحقيق والتمحيص وجاء أبو محمد بن عطية من المتأخرين بالمغرب، فلخص تلك التفاسير كلها وتحرى ما هو أقرب إلى الصحة منها إلى كلام طويل بهذا المضمون لا يتعلق لنا غرض بنقله، فأنت ترى من هذه الجملة مصدر تلك المنقولات، وأنها من أقاصيص الإسرائيليين، وأن ناقليها إلى المسلمين في نضارة الإسلام، هم من الإسرائيليين وسواهم من تشرفوا بدخول الإسلام وأن تلقي من تلقاهم منهم بالقبول كان لحسن ظنه بالناقلين، وأن إهمال تمحيصها
93 في الصدر الأول وقبل التدوين ناشئ من أن تلك الأخبار ليست مما يرجع إلى الأحكام الشرعية لتتحرى، فتسامحوا فيها كتسامح فريق من المسلمين بأدلة السنن. على أن تلك الأخبار حتى في الصدر الأول لم يتلقها العارفون بالقبول على الإطلاق وعلى علاتها، وكيف تقبل كلها وفي الكثير منها ما فتح الباب على مصراعيه للتهجم على مقام الأنبياء بنسبة كبائر الآثام إليهم، بل أعظم من ذلك بنسبة الكفر إلى بعضهم، فلا يكاد نبي يسلم من التخطئة ومن اجتراح المعاصي، مما ترك علماء المسلمين يخوضون في بحث عصمة الأنبياء ووجوبها، وجوازها وتجويز بعضهم ما أجازته الإسرائيليات من المعصية عليهم، ومنع بعضهم وقوع ذلك البتة قبل التبليغ وبعده، وتفصيل البعض الآخر بين جواز نسبة الكذب إليهم قبل التبليغ ونفيه بعده، وما إلى ذلك من شجون هذا البحث الذي أفرد له علماء الكلام بابا خاصا، وعصمة الأنبياء مما اتفق جمهور الإسلام عليها وأولوا الآيات التي ظاهرها نسبة المعصية لهم، وصنف الشريف المرتضى كتابه (تنزيه الأنبياء) في هذا الموضوع. الثاني: جاء في كشف الظنون لملا كاتب چلبي في علم التفسير وهو بحث مستوفي جامع، قال بعد أن ذكر شروط التفسير: ومن ذلك القبيل الذين يتكلمون في القرآن بلا سند ولا نقل عن السلف، ولا رعاية للأصول الشرعية والقواعد العربية، كتفسير محمود بن حمزة الكرماني في مجلدين سماه العجائب والغرائب، ضمنة أقوالا هي عجائب عند العوام وغرائب عما عهد عن السلف، بل هي أقوال منكرة لا يحل الاعتقاد عليها ولا ذكرها إلا للتحذير، من ذلك قول من قال في ربنا (ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) [الفلق / 3] إنه الذكر إذا قام، وقولهم في (من ذا الذي يشفع عنده): معناه من ذل أي من الذل وذي إشارة إلى النفس ويشف من الشفا جواب من واع أمر من الوعي. وسئل البلقيني عمن فسر بهذا فأفتى بأنه ملحد، وأطال في هذا البحث إلى أن قال: ثم اعلم أن العلماء كما بينوا في التفسير شرائط بينوا في المفسر أيضا
94 شرائط، لا يحل التعاطي لمن عري منها أو هو فيها راجل، وهي أن يعرف خمسة عشر علما على وجه الإتقان، والكمال، اللغة، والنحو، والتصريف، والاشتقاق، والمعاني، والبيان، والبديع، والقراءات، وأصول الدين، وأصول الفقه، وأسباب النزول، والقصص، والناسخ، والمنسوخ، والفقه، والأحاديث المبينة لتفسير المبهم والمجمل، وعلم الموهبة وهو علم يورثه الله سبحانه وتعالى لمن عمل بما علم، وهذه العلوم لا مندوحة للمفسر عنها إلى أن قال: ثم إن تفسير القرآن ثلاثة أقسام: الأول: علم ما لم يطلع الله تعالى عليه أحدا من خلقه، وهو ما استأثر به من علوم أسرار كتابه من معرفة كنه ذاته، ومعرفة حقائق أسمائه وصفاته، وهذا لا يجوز لأحد الكلام فيه. والثاني: ما اطلع الله سبحانه وتعالى نبيه عليه من أسرار الكتاب واختص به، فلا يجوز الكلام فيه إلا له عليه الصلاة والسلام أو لمن أذن له، قيل: وأوائل السور من هذا القسم، وقيل: من الأول. والثالث: علوم علمها الله تعالى نبيه بما أودع كتابه من المعاني الجلية والخفية وأمره بتعليمها. وهذا ينقسم إلى قسمين: منه ما لا يجوز الكلام فيه إلا بطريق السمع، كأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، والقراءات، واللغات، وقصص الأمم، وأخبار ما هو كائن، ومنه ما يؤخذ بطريق النظر والاستنباط من الألفاظ، وهو قسمان. قسم اختلفوا في جوازه وهو تأويل الآيات المتشابهات، وقسم اتفقوا عليه وهو استنباط الأحكام الأصلية والفرعية والإعرابية لأن مبناها على الأقيسة. وكذلك فنون البلاغة وضروب المواعظ والحكم والإشارات لا يمتنع استنباطها منه لمن له أهلية ذلك، وما عدا هذه الأمور هو التفسير بالرأي الذي نهي عنه، وفيه خمسة أنواع: الأول: التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير. الثاني: التفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
95 الثالث: التفسير المقرر للمذهب الفاسد، بأن يجعل المذهب أصلا والتفسير تابعا له، فيرد إليه بأي طريق أمكن وإن كان ضعيفا. والرابع: التفسير بأن مراد الله سبحانه وتعالى كذا على القطع من غير دليل. الخامس: التفسير بالاستحسان والهوى. الثالث: ما جاء في مقدمة مجمع البيان للشيخ أبي الفضل الطبرسي الإمامي: " واعلم أن الخبر قد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن الأئمة (عليه السلام) القائمين مقامه، أن تفسير القرآن لا يجوز إلا بالأثر الصحيح والنص الصريح. وروت العامة أيضا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: من فسر القرآن برأيه فأصاب الحق فقد أخطأ، قالوا: وكره جماعة من التابعين القول في القرآن بالرأي كسعيد بن المسيب، وعبيدة السلماني، ونافع، وسالم بن عبد الله وغيرهم. والقول في ذلك: إن الله سبحانه ندب إلى الاستنباط وأوضح السبيل إليه ومدح أقواما عليه، فقال: (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) [النساء / 83]، وذم آخرين على ترك تدبره والاضراب عن التفكر فيه، فقال: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) [محمد / 24]. وذكر أن القرآن منزل بلسان العرب، فقال: (إنا جعلناه قرآنا عربيا) [الزخرف / 3]. وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فاقبلوه وما خالفه فاضربوا به عرض الحائط " فبين أن الكتاب حجة ومعروض عليه، وكيف يمكن العرض عليه وهو غير مفهوم المعنى، فهذا وأمثاله يدل على أن الخبر متروك الظاهر فيكون معناه إن صح إن من حمل القرآن على رأيه ولم يعمل بشواهد ألفاظه فأصاب الحق فقد أخطأ الدليل. وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن الوجوه " (1).
(1) مجمع البيان في تفسير القرآن. 96 وروي عن عبد الله بن عباس أنه قسم وجوه التفسير على أربعة أقسام تفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تعرفه العرب بكلامها وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل. فأما الذي لا يعذر أحد بجهالته فهو ما يلزم الكافة من الشرائع التي في القرآن وجمل دلائل التوحيد، وأما الذي تعرفه العرب بلسانها فهو حقائق اللغة وموضوع كلامهم، وأما الذي يعلمه العلماء فهو تأويل المتشابه وفروع الأحكام، وأما الذي لا يعلمه إلا الله فهو ما يجري مجرى الغيوب وقيام الساعة " (1). الرابع: ما جاء في مقدمة التفسير لابن تيمية: " يجب أن يعلم أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه، فقوله تعالى: (لتبين للناس ما نزل إليهم) يتناول هذا وهذا، وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي، حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من البني (صلى الله عليه وآله وسلم) عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قال: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا، ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة، وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جل في أعيننا، وأقام ابن عمر على حفظ البقرة عدة سنين، قيل: ثمان سنين ذكره مالك، وذلك أن الله تعالى قال: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته) [ص / 29] وقال: (أفلا يتدبرون القرآن) [النساء / 82] وقال: (أفلم يدبروا القول) [المؤمنون / 68] وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن: وكذلك قال تعالى: (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) [يوسف / 2] وعقل الكلام متضمن لفهمه. ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه فالقرآن أولى بذلك، وأيضا فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه، فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم وبه نجاتهم، وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم، ولهذا كان النزاع بين الصحابة في
(1) التفسير الكبير لابن تيمية: 2 / 193 - 195، دار الكتب العلمية، بيروت، تحقيق الدكتور عبد الرحمن عميرة. 97 تفسير القرآن قليلا جدا، وهو وإن كان في التابعين أكثر منه في الصحابة فهو قليل بالنسبة إلى من بعدهم، وكلما كان العصر أشرف كان الاجتماع والائتلاف والعلم والبيان فيه أكثر. ومن التابعين من تلقى جميع التفسير عن الصحابة كما قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس أوقفه عند كل آية منه وأسأله عنها، ولهذا قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به، ولهذا يعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري وغيرهما من أهل العلم، وكذلك الإمام أحمد وغيره من صنف في التفسير يكرر الطرق عن مجاهد أكثر من غيره، والمقصود أن التابعين تلقوا التفسير عن الصحابة كما تلقوا عنهم علم السنة، وإن كانوا قد يتكلمون في بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال كما يتكلمون في بعض السنن بالاستنباط والاستدلال " (1). وأنك ترى مما يخال أننا بلغنا حدود الإسهاب بنقله من أقوال العلماء والمفسرين، أن علماء المسلمين لم يلقوا الحبل على الغارب في تفسير كتابهم المجيد، ولم يفسروا آية بمحض الرأي والهوي، ولا أهملوا التدبر فيه، ولا أخذوا بقول من أخذوا فيه إلا من اطمأنوا إلى عدالته ووثقوا بصحة نقله، كما أنهم لم يحجروا على العقول استنباط ما يمكن استنباطه مما لا يخرج عن مبني الكتاب العزيز ومعناه ولا يخالف سنن اللغة، ولم يسكتوا عن تخريج المجروح وتعديل العدل، ولا قبلوا إسرائيليات كعب الأحبار وأضرابه، وما إلى ذلك مما نعاه عليهم صاحب التوضيح، وهل من الاحتياط للدين والوصول إلى اليقين أو ما يقرب من اليقين أن يضرب عرض الحائط برواية العدل عمن عاصر التنزيل وصحب من نزل به عليه، جبريل، وهو بعد في جدة الإسلام وفي الزمن الذي لم تمتد به يد الانقسام، وهو من أهل اللسان الذي تنزل به البيان، وهو جد واقف على أسباب النزول، وعازف بما تلقاه من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من بيان مجمله ومعرفة محكم آية، ومتشابهه، وخاصه، وعامه، وناسخه، ومنسوخه، وفحوى خطابه ولحنه، وما إلى ذلك مما تراه واضحا من مضامين ما نقلناه من كلمات أئمة
(1) الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، ط. بيروت، دار المعرفة، ج 1، ص 81. 98 التفسير وما هو إلا غيض من فيض؟ وهل من الاحتياط ترك ذلك وصرف ظواهر الآيات الكريمة إلى معان غير جارية على أساليب اللغة العربية والقرآن لم يتخط تلك الأساليب ولا تجاوزها؟ وهل كان ما ابتدعه المسيح الهندي من تفسيره أجدر بالاتباع وأحرى بأن ينصاع إليه المسلمون ويدعوا كل ما تلقوه من سلفهم الصالح؟ وهل بتفسره هذا وبدعواه النبوة يقوى على رفع الاختلاف بين المسلمين ويوحد فرقهم والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو الذي لا ينطق عن الهوي، وهو المؤيد بالوحي والتنزيل وجبرائيل لم يتم له رفع الاختلاف بعده وأنذر بوقوعه وبما سيكثر عليه من الحديث، بل وفي عهده ولكنه ترك للإسلام هوى ومنارا كمنار الطريق يفنيهم عن نبي جديد يهديهم السبيل ويرشدهم إلى ما لم يبين من المراشد والمناهج، وإذا شئت الوقوف على طريقة الأحمدية في التفسير فارجع إلى مقال ضاف كتبه الأستاذ الكاتب أديب التقي البغدادي الدمشقي في ثلاثة أجزاء من مجلة العرفان في مجلدها الحادي عشر، تلقى ما كتبه في مذهبهم عن أحد دعاتهم، وهو مقال مفيد ألم به إلماما وافيا بكل ما يتعلق بدعوتهم وعقيدتهم وآرائهم في التفسير التي خالفوا فيها أئمة التفسير، واعملوا أذهانهم في صرف ظواهر الكتاب إلى ما هو أشبه بالرموز، واشتطوا اشتطاطا بعيدا شاركوا به المتصوفة، حتى خرجوا عن حكمة الله تعالى في إنزاله كتابه بلسان العرب، لإفهامهم مراداته من آية التي لم تنزل إلا على ما يفهمونه وما كلفهم به من أنواع التكاليف من العقائد والأحكام والقصص وما فيها من العبر، ونسوا أم تناسوا قوله تعالى: (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) [يوسف: 2] وقوله جل شأنه: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) [إبراهيم: 4] وهل ما فسروا به مما بينه الرسول ولو ساغ فتح الباب لمثل ما فسروا به ما اشتهوا من آي الكتاب، مما لم يؤده الخطاب ويدل عليه اللفظ بإحدى الدلالات، لساغ ذلك للغلاة أن يتأولوا ما تأولوا ويفسروا ما فسروا من ألفاظ الصلاة والزكاة والصوم والحج وسائر أنواع التكاليف، برموز ابتدعوها ومعان قصدوها، ترمي كلها إلى الخروج من عهدة التكليف ومن أحكام ظاهرة إلى أحكام باطنة، وما إلى ذلك من الفساد العظيم وترويج مذاهب الغلاة، وإعادة فتنتها سيرتها
99 الأولى، بعد ما انقرض جلها ووقى المسلمون شرها، وحسبك أن تنظر إلى ما فسروا به بعض الآيات في مقال الأستاذ التقي، وفيه ترى العجب العجاب وما لا يخرج عن طريقة الكرماني التي انتهجها في تفسيره، كما تراه في المنقول عن كشف الظنون. وبعد فإنا نرى في هذه الإلمامة ما يغنينا عن الإسهاب في هذا الباب، ولنرجع إلى جواب أسئلة صاحب التوضيح عن تفسير الآيات الإحدى عشرة التي تحدي بها مخالفيه من المسلمين. 1 - أما الجواب عن السؤال الأول (فيه سكينة من ربكم) [البقرة / 248] فالذي استظهره المفسر الجليل الطبرسي في تفسيره مجمع البيان بعد نقل الأقوال التي فسرت بها، أن السكينة أمنة وطمأنينة جعلها الله ليسكن إليها بنو إسرائيل، والبقية جائز أن تكون بقيته من العلم أو شئ من علامات الأنبياء، وجائز أن يتضمنها جميعا على ما قاله الزجاج. وقال الزمخشري في كشافه: والسكينة السكون والطمأنينة (1)، ونسب ما قيل في تفسيرها مما نقله صاحب التوضيح عن الخطيب الشربيني إلى القيل، وكذلك الطبرسي وهو يشعر بضعفه، وإنما نقلا ما نقلاه من أمثال هذا القول المرجوح في نظرهما جريا على عادة المفسرين من تدوينهم كل ما قيل في تفسير الكتاب المبين وأن يصح عندهم. وجاء في مفاتح الغيب للإمام الفخر الرازي: " اختلفوا في السكينة وضبط الأقوال، منها أن نقول: المراد بالسكينة إما أن يقال: إنه كان شيئا حاصلا في التابوت أو ما كان كذلك، والقسم الثاني هو قول أبي بكر الأصم فإنه قال: آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم، أي تسكنون عند مجيئه وتقرون له بالملك وتزول نظرتكم عنه، لأنه متى جاءهم التابوت من السماء وشاهدوا تلك الحالة، فلا بد وأن تسكن قلوبهم إليه وتزول نفرتهم بالكلية. وأما القسم الأول وهو أن المراد من السكينة شئ كان موضوعا في التابوت، ففيه أقوال، والقول
(1) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، الإمام محمود الزمخشري، دار الكتب العربي، ج 1 ص 292. 100 الأول يقرب من القسم الثاني إلى أن قال: والقول الرابع وهو قول عمرو بن عبيد أن السكينة التي كانت في التابوت شئ لا يعلم، ثم عقب الأقوال بقوله: واعلم أن السكينة عبارة عن الثبات والأمن، وهو كقوله في قصة الغار (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين) فكذا قوله تعالى: (فيه سكينة من ربكم) معناه الأمن والسكون " (1). وقال القاضي البيضاوي: " (فيه سكينة) الضمير للاتيان، أي في إتيانه سكون لكم وطمأنينة أو للتابوت، أي مودع فيه ما تسكنون إليه وهو الثورة، وكان موسى (عليه السلام) إذا قاتل قدمه فتسكن نفوس بني إسرائيل ولا يفرون، ونسب إلى القيل ما نقله صاحب التوضيح عن الشربيني واتخذ منه مغمزا على المفسرين كلهم، إلى أن قال: وقيل التابوت هو القلب والسكينة ما فيه من العلم والاخلاص وإتيانه مصير قلبه مقرا للعلم والوقار بعد أن لم يكن (2)، فأنت ترى أن البيضاوي استظهر القول الأول وهو ما استظهره الطبرسي والزمخشري والرازي، والقول الأخير من أن المراد بالسكينة القلب هو مما لا يدل عليه منطوق الآية ولا يفهم منها تضمنا وإلزاما، وهو صرف للفظ عن ظاهره بلا قرينة، وهو أشبه بتمحلات الباطنية وينطبق على أذواق القاديانية في النضير. 2 - والجواب عن السؤال الثاني المنقول عن الشربيني أيضا في تفسير قوله تعالى: (جعله دكاء) [الكهف / 98] ففي الكشاف. دكا أي مدكوكا مبسوطا سوى الأرض، وكل ما انبسط من بعد ارتفاع فقد اندك، ومنه الجمل الادك المنبسط السنام، وقرئ دكاء أي أرض مستوية " (3)، ومثل ذلك جاء في تفسير البيضاوي والطبرسي والرازي، هؤلاء أربعة من أئمة التفسير وفسروا الدك بما ترى ولم يعرضوا إلى ما نقله الخطيب الشربيني في معناه الذي اتخذه صاحب التوضيح ذريعة للنحت من ثلة علماء التفسير.
(1) مفاتيح الغيب، الإمام فخر الدين الرازي، دار إحياء التراث العربي، ج 2، ص 508. (2) تفسير البيضاوي، القاضي ناصر الدين محمد البيضاوي، ج 1، ص 211. (3) الكشاف، م. س، ج ص 748. 101 3 - والجواب عن السؤال الثالث الذي نقله عن الشربيني في تفسير (ق والقرآن المجيد). إن لعلماء البيان والتفسير الموثوق بعلمهم وتحقيقهم أقوالا في فواتح السور المفردة والمركبة من حرف واحد وحرفين وثلاثة وأربعة وخمسة والتي افتتح فيها ثلاثون سورة من سور القرآن الحكيم، وهي مبسوطة كل البسط في مفاتيح الغيب والكشاف، وأنوار التنزيل ومجمع البيان وفي فقه اللغة لابن فارس والصناعتين (1)، وإليك ما جاء في مجمع البيان: " اختلف العلماء في الحروف المعجمة المفتتحة بها السور، فذهب بعضهم إلى أنها من المتشابهات التي استأثر الله بعلمها ولا يعلم تأويلها إلا هو، وهذا هو المروي عن أئمتنا (عليه السلام)، وروت العامة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي. وعن الشعبي قال: لله في كل كتاب سر وسره في القرآن سائر حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور، ثم أورد عشرة أقوال: (1) إنها أسماء السور ومفاتحها. (2) إن المراد بها الدلالة على أسماء الله تعالى (3) إنها أسماء الله تعالى متقطعة لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم (4) إنها أسماء القرآن (5) إنها أقسام أقسم الله تعالى بها وهي من أسمائه (6) إن كل حرف منها مفتاح اسم من أسماء الله تعالى (7) إن المراد بها مدة بقاء هذه الأمة بحساب الجمل بعد إسقاط الحروف المكررة (8) إن المراد بها حروف المعجم (9) إنها تسكيت للكفار، لأن المشركين كانوا تواصوا فيما بينهم أن لا يستمعوا لهذا القرآن وأن يلغوا فيه، فأنزل الله تعالى هذه الحروف حتى إذا سمعوا شيئا غريبا استمعوا إليه وتفكروا واشتغلوا عن تغليطه، فيقع القرآن في مسامعهم (10) إن المراد بها أن هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في خطبكم وكلامكم، فإذا لم تقدروا عليها فاعلموا أنه من عند الله، لأن العادة لم تجر بأن الناس
(1) لأبي هلال العسكري. 102 يتفاوتون في القدر هذا التفاوت العظيم، وإنما كررت في مواضع استظهارا في الحجة " (1). وفي الصناعتين في ذكر الابتداءات: " وإذا كان الابتداء حسنا بديعا، ومليحا رشيقا، كان داعية إلى الاستماع لما يجئ بعده من الكلام، ولهذا المعنى يقول الله عز وجل: ألم، وحم، وطس، وطسم، وكهيعص، فتقرع أسماعهم بشئ بديع ليس لهم بمثله عهد، ليكون ذلك داعية لهم إلى الاستماع لما بعده والله أعلم بكتابه ". وأما تفسير (ق) بما نقله الشربيني عن عكرمة والضحاك بجبل محيط بالأرض (الخ) فلم يرو له ذكر في الكشاف وأنوار التنزيل، وعرض له الطبرسي بلفظ قيل المشعر بضعفه، على أن عكرمة والضحاك لم يكونا من الموثقين عند المحدثين، وأي مبرر تهويل صاحب التوضيح بقول لم يعتمده المحققون فيتخذ منه مطعنا في العلماء كافة، على أن مثل هذا القول الضعيف مما لا يترتب عليه حكم من الأحكام الشرعية ولا عقيدة من العقائد الدينية الصحيحة، فيتخذ من مجرد نقله حكم عام على تجريح عامة أقوال المفسرين والإعراض عنها، وإحداث تفاسير جديدة لا تمت بسبب من الأسباب بأسلوب القرآن الحكيم وأسلوب اللسان العربي المنزل به، وكيف يرى العذر للشبان المتعلمين بترك الإسلام لمجرد ذكر قول لم يرتضه علماء الإسلام، ضاربا عرض الحائط بالأقوال العشرة التي قيلت في مفتتح السور. ثم يقول في مختتم كلامه: بينوا من فسر (ق) برأيه فكأنه يرى أن مثل هذا الرأي مما عمل العلماء بمضمونه وأجمع عليه المفسرون، وأن ذلك آية من آيات نبوة صاحبه.. 4 - وجواب السؤال الرابع عما قيل في تفسير (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك) [الفتح / 2] نقلا عن الشربيني، وسأل بعد نقله الأقوال... عن المخطئ والمصيب ومن فسر منهم برأيه؟. وملخص الجواب من وجوه:
(1) مجمع البيان في تفسير القرآن، م. س، ج 1، ص 113. 103 (1) إن الذي حجره العلماء بل نص القرآن الصريح من التفسير والاستنباط، هو ما كان من غير أهله ممن لا حريجة لهم في الدين ولم يؤتوا قوة الاستنباط، واتبعوا الهوى المحض والرأي المجرد فيما لا مجالي فيه للرأي وأما من كانوا أهله وخاصته وخالصته فقد نص القرآن على الرجوع إليهم. ومن منع العلماء الراسخين من تأويل ظواهر الكتاب إذا كان في العمل بالظاهر ما يخالف ما أقره العقل والشرع من وجوب تنزيه الإله تعالى وتقدس عن صفات المخلوقين وتنزيه الأنبياء عن كل ما ينافي عصمتهم المقررة. (2) إن الذين ذهبوا إلى عصمة الأنبياء (عليهم السلام) وهم معظم المسلمين (دع الحشويين) عن الكبائر والصغائر عمدا أو سهوا قبل النبوة وبعدها، فلا مناص لهم عن تأويل كل آية ظاهر ها تخطئتهم ونسبة المعصية لهم، وهذا البحث من المباحث الكلامية تكفلت به كتب الكلام فلا نطيل به الكلام. (3) أما تفسير هذه الآية والأقوال التي قيلت فيها فهي كثيرة، وإليك ما جاء في الكشاف... فإن قيل: كيف جعل فتح مكة علة للمغفرة؟ قلت: لم يجعل علة للمغفرة، ولكن الاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة وهي المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز، كأنه قيل: يسرنا لك فتح مكة، ونصرناك على عدوك لنجمع لك بين عز الدارين وأغراض العاجل والأجل، ثم قال في تفسير ما تقدم من ذنبك وما تأخر: يريد جميع ما فرط فيك، وعن مقاتل ما تقدم في الجاهلية وما بعدها، وقيل: ما تقدم من حديث مارية وما تأخر من أمر زيد. وأما الفخر الرازي فقد ذكر وجوها، منها الوجه الذي ذكرناه عن الكشاف، ومنها هو أن فتح مكة كان سببا لتطهر بيت الله تعالى من رجس الأوثان، وتطهير بيته سببا لتطهير عبده، ومنها هو أن بالفتح يحصل الحج ثلم بالحج تحصل المغفرة، ومنها المراد منه التعريف تقديره إنا فتحنا لك ليعرف أنك مغفور معصوم، فإن الناس كانوا علموا بعد عدم الفيل أن مكة لا يأخذها عدو الله المسخوط عليه، وإنما يدخلها ويأخذها حبيب الله المغفور له.
104 ثم ذكر في المسألة الثانية فقال: لم يكن للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذنب فماذا يغفر له؟ قلنا: الجواب عنه قد تقدم مرارا من وجوه: أحدها المراد ذنب المؤمنين، ثانيها المراد ترك الأفضل، ثالثها الصغائر فإنها جائزة على الأنبياء بالسهو والعمد، رابعها المراد العصمة. قلت: إن تجويز الرازي وقوع الصغائر من الأنبياء عمدا وسهوا هو خلاف ما عليه المحققون من علماء السنة وما أجمع عليه الإمامية. (4) ثم قال في المسألة الرابعة ما معنى قوله: (وما تأخر). نقول: فيه وجوه: أحدها أنه وعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه لا يذنب بعد النبوة، ثانيها ما تقدم على الفتح وما تأخر عن الفتح، ثالثها العموم، يقال: اضرب من لقيت ومن لا تلقاه مع أن من يلقى لا يمكن ضربه إشارة إلى العموم، رابعها من قبل النبوة ومن بعدها، وعلى هذا فما قبل النبوة بالعفو وما بعدها بالعصمة. ثم عقب ذلك بقوله: وفيه وجوه أخر ساقطة منها قول بعضهم: ما تقدم من أمر مارية وما تأخر من أمر زينب، وهو أبعد الوجوه وأسقطها لعدم التئام الكلام، وأطال الكلام في هذا الموضوع إطالة لا غرض لنا فيها ولا يتسع لها المقام. وهذا ما أول به الآية الشريف المرتضى وبه نختم الجواب، قال: الذنب مصدر والمصدر يجوز إضافته إلى الفاعل والمفعول معا، فيكون هنا مضافا إلى المفعول والمراد ما تقدم من ذنبهم إليك في منعهم إياك عن مكة وصدهم لك عن المسجد الحرام، ويكون معنى المغفرة على هذا التأويل الإزالة والسنخ لأحكام أعدائه من المشركين عليه، أي يزيل الله تعالى ذلك عنك ويستر عليك تلك الوصمة بما يفتح لك من مكة فستدخلها فيما بعد، ولذلك جعله جزاء على جهاده وغرضا في الفتح ووجها له، قال: ولو أنه أراد مغفرة ذنوبه لم يكن لقوله: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر الله لك) معنى معقول لأن المغفرة للذنوب لا تعلق لها بالفتح فلا يكون غرضا فيه، وأما قوله: (ما تقدم وما تأخر) فلا يمتنع أن يريد به ما تقدم زمانه من فعلهم القبيح بك وبقومك. وفي هذه الأجوبة وخاصة الجواب الأخير للشريف مرتضى مقنع لمن أنصف وكان الحق ضالته لا المراء والجدل.
105 5 - وجواب السؤال الخامس عن الأقوال في تأويل (ولقد همت به وهم بها) [يوسف / 24]. إن الجواب يبنى على أحد القولين: قول من يجوز على الأنبياء ارتكاب الكبائر والصغائر من الذنوب، كالحشوية وأضرابهم ممن تلقى ذلك عن الإسرائيليات، وقول من لا يجوز ذلك وهو المختار والذي ذهب إليه معظم أئمة المسلمين، فكان لا بد لهم من تأويل هذه الآية على ما ينطبق على المقرر من عصمة الأنبياء بدليل العقل والشرع على أن الآيات الواردة في سورة يوسف تكاد تكون نصا على براءة يوسف (عليه السلام) من الهم بالذنب بل ومن حظوره في نفسه الشريفة. وإليك طائفة من أقوال العلماء في معنى هذه الآية وتأويلها: الأول: قال ابن حزم من الفصل: وأما قوله: (همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) فليس كما ظن من لم يمعن حتى قال من المتأخرين من قال: إنه قعد منها مقعد الرجل من المرأة، ومعاذ الله من هذا أن يظن برجل من صالحي المسلمين أو مستوريهم فكيف برسول الله (عليه السلام)، فإن قيل إن هذا قد روي عن ابن عباس (رض) من طريق جيدة الإسناد. قلنا نعم ولا حجة في قول أحد إلا فيما صح عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقط، والوهم في تلك الرواية إنما هو بلا شك عمن دون ابن عباس أو لعل ابن عباس لم يقطع بذلك، إذ إنما أخذه عمن لا يدري من هو ولا شك في أنه شئ سمعه فذكره، لأنه (رض) لم يحضر ذلك ولا ذكره عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومحال أن يقطع ابن عباس عما لا علم له به، لكن معنى الآية لا يعدو أحد وجهين: إما أنه هم بالايقاع بها وضربها كما قال: وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه، وكما يقول القائل: لقد هممت بك، لكنه (عليه السلام) امتنع من ذلك ببرهان أراه الله إياه استغنى به عن ضربها وعلم أن الفرار أجدي عليه وأظهر لبراءته على ما ظهر بعد ذلك من حكم الشاهد بأمر قد من القميص. والوجه الثاني: إن الكلام تم عند قوله: (ولقد همت به) ثم ابتدأ تعالى خبرا آخر فقال: (وهم بها لولا أن رأى برهان ربه) وهذا ظاهر الآية بلا تكلف
106 تأويل وبهذا نقول، ثم أورد حديثا مسلسلا عن أنس بن مالك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ هذه الآية (ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب) قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما قالها يوسف (عليه السلام) قال له جبريل: يا يوسف أذكر همك، فقال يوسف: (وما أبرئ نفسي أن النفس لأمارة بالسوء) [الأعراف / 53] فليس في هذا الحديث على معنى من المعاني تحقيق الهم بالفاحشة، ولكنه فيه أنه هم بأمر ما وهذا حق كما قلنا، فسقط هذا الاعتراض وصح الوجه الأول والثاني معا، إلا أن الهم بالفاحشة باطل مقطوع على كل حال، وصح أن ذلك الهم ضرب سيدته وهي خيانته لسيده إذ هم بضرب امرأته، وبرهان ربه هاهنا هو النبوة وعصمة الله عز وجل إياه، ولولا البرهان لكان يهم بالفاحشة وهذا لا شك فيه. ولعل من ينسب هذا إلى النبي المقدس يوسف ينزه لنفسه الرذلة عن مثل هذا المقام فيهلك، وقد خشي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الهلاك على من ظن إذ قال للأنصاريين حين لقيهما: هذه صفية، ثم قال ومن الباطل الممتنع أن يظن ظان أن يوسف (عليه السلام) هم بالزنا وهو يسمع قول الله تعالى: (كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء) فنسأل من خالفنا عن الهم بالزنا بسوء هو أم بغير سوء، ولو قال: إنه ليس بسوء لعاند الإجماع فإذ هو سوء وقد صرف عنه السوء فقد صرف عنه الهم بيقين، وأيضا فإنها قالت (ما جزاء من أراد بأهلك سوءا) وأنكر هو ذلك، فشهد الصادق المصدق (إن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين) فصلح أنها كذبت بنص القرآن، وإذ كذبت بنص القرآن فما أراد بها قط سوءا فما هم بالزنا قط، ولو أراد بها الزنا لكانت من الصادقين وهذا بين جدا، وكذلك قوله تعالى عنه: إنه قال: (وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين * فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن) فصح عنه أنه قط لم يصب إليها " (1). وللشريف المرتضى في أماليه وكتابه تنزيه الأنبياء (2) بحث طويل في براءة يوسف (عليه السلام) وعصمته عند تفسير هذه الآية، وقد كشف اللثام عن الحقيقة في
(1) الفصل في الملل والأهواء والنحل، الإمام ابن حزم الظاهري، دار الجيل، بيروت 1996 م، ج 4، ص 29. (2) تنزيه الأنبياء، أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي، مؤسسة الأعلمي، ص 81. 107 الأمالي كشفا لا مزيد عليه ولم يبق وجها للريبة، ويوافقه في الاجمال ما أوردناه عن ابن حزم في فصله ونرى من تمام الفائدة أن نذكر الآي الدالة على البراءة عن أمالي المرتضى، قال: والموضع الذي يشهد بذلك من الكتاب قوله تعالى: (وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه) إلى قوله: (في ضلال مبين). وقوله تعالى: (وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب) [يوسف / 23] وقوله: (الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين) وفي موضع آخر (فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم) والآثار واردة بإطباق مفسري القرآن ومتأوليه على أنها همت بالفاحشة والمعصية، وذكر وجوها لم يذكرها ابن حزم كلها صريحة بتنزيه يوسف (عليه السلام) عن المعصية والهم بها وفيما أوردناه كفاية. 6 - وجواب السؤال السادس عما نقله عن الجلالين والبيضاوي والخطيب الشربيني في قضية تزويج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) زيدا مولاه زينب ابنة جحش، ثم وقوعها من نفسه موقعا أدي إلى تطليق زيد لها وزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لها. (1) إن مقام النبي العظيم وخلقه الكريم وسيرته المثلى قبل النبوة وبعدها وثبوت عصمته تأبي التسليم بما ينافي ذلك (2) إن قليلا من التدبر في سرد هذه القصة بسورة الأحزاب يظهر براءته مما حام حول قدسيته من الظنون وما موه به أعداؤه، وخاصة من أظهروا الإسلام واستبطنوا النفاق، وكان قصارى همهم الكيد له بكل أساليب الكيد والعمل على النيل من مقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولهذه القصة أشباه ونظائر كقصة الغرانيق، فأخذ من أخذ بروايتهم الفاسدة أحد رجلين: رجل طبع على غرارهم بصلاح الظاهر وفساد الباطن، ورجل لم يؤت قوة التمييز فقبل ما ألقي إليه على علاته ولم يدر في خلده والإسلام في طراوته وجدته أن في المسلمين من يكذب الحديث ومن يحاول انتقاص مقام النبوة (3) إن في هذا القول الذي ينبذه العقل والشرع حجة يحتج بها صاحب توضيح المرام على المسلمين والمفسرين منهم، إن كان هذا القول مما أجمعوا عليه ويرى فيه مطعنا للمبشرين وأعداء الدين المبين، أما وقد كان الاتفاق بل والاجماع على خلافه وعلى تبرئة مقام النبي العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) من ارتكاب مثله
108 مضافا إلى صراحة الآيات في هذه التبرئة، فأية قيمة لذلك القول المنبوذ والذي لم يتمسك به إلا الحشويون ومن تأثر بالإسرائيليات التي هي مجموعة افتراءات على مقام النبوات، وانظر بعد أن ما يقوله ابن حزم في فصله: وأما قوله تعالى: (وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) [الأحزاب / 37] فقد أنفنا من ذلك إذ لم يكن فيه معصية أصلا ولا خلاف فيما أمره الله تعالى به، وأن ما كان أراده زواج مباح له فعله ومباح له تكره ومباح له طيه ومباح له إظهاره، وإنما خشي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك خوف أن يقولوا قولا ويظنوا ظنا فيهلكوا كما قال (عليه السلام) للأنصاريين: إنها صفية فاستعظما ذلك، فأخبرهما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه إنما أخشى أن يلقي الشيطان في قلوبهما شيئا وهو الذي خشيه (عليه السلام) على الناس من هلاك أديانهم بظن يظنونه به (عليه السلام) هو الذي يحققه هؤلاء المخذولون المخالفون لنا في هذا الباب من نسبتهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تعمد المعاصي، فهلكت أديانهم وضلوا ونعوذ به من الخذلان، وكان مراد الله عز وجل أن يبدي ما في نفسه كما كان سلف في علمه من السعادة لأمنا زينب رضي الله عنها. وانظر إلى ما يقوله الشريف المرتضى في كتابه تنزيه الأنبياء: " فإن قيل: فما تأويل قوله تعالى: (وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه) [الأحزاب / 37] الآية وليس هذا عتابا له (صلى الله عليه وآله وسلم) من حيث أضمر ما كان ينبغي أن يظهره وراقب من لا يجب أن يراقبه، فما الوجه في ذلك؟ قلناه: وجه هذه الآية معروف، وهو أن الله تعالى لما أراد نسخ ما كانت عليه الجاهلية من تحريم نكاح زوجة الدعي والدعي، هو الذي كان أحدهم يجتبيه ويربيه ويضيفه إلى نفسه على طريق النبوة، وكان من عادتهم أن يحرموا على أنفسهم نكاح أزواج أدعيائهم كما يحرمون نكاح أزواج أبنائهم، فأوحى الله تعالى إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن زيد بن حارثة وهو دعي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سيأتيه مطلقا زوجته، وأمره أن يتزوجها بعد فراق زيد لها ليكون ذلك ناسخا لسنة الجاهلية التي تقدم ذكرها، فلما حضر زيد مخاصما زوجته عازما على طلاقها أشفق
109 الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من أن يمسك عن وعظه وتذكيره، لا سيما وقد كان يتصرف على أمره وتدبيره فرجف المنافقون به (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا تزوج المرأة ويقرفونه بما قد نزهه الله تعالى عنه، فقال له: أمسك عليك زوجك تبرئا مما ذكرناه وتنزها، وأخفي في نفسه عزمه على نكاحها بعد طلاقه لها لينتهي إلى أمر الله تعالى فيها، ويشهد بصحة هذا التأويل قوله تعالى: (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا) [الأحزاب / 37] فدل على أن العلة في أمره بنكاحها ما ذكرناه، من نسخ السنة المتقدمة. ثم قال بعد كلام طويل نمسك عن نقله: فإن قيل: فما المانع مما وردت به الرواية من أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى في بعض الأحوال زينب ابنة جحش فهواها، فلما أن حضر زيد لطلاقها أخفي في نفسه عزمه على نكاحها بعده وهواه لها؟ أوليس الشهوة عندكم التي قد تكون عشقا على بعض الوجوه من فعل الله تعالى، وأن العباد لا يقدرون عليها؟ وعلى هذا المذهب لا يمكنكم إنكار ما تضمنه السؤال، قلنا: لم ننكر ما وردت به هذه الرواية الخبيثة من جهة أن الشهوة تتعلق بفعل العباد وأنها معصية قبيحة، بل من جهة أن عشق الأنبياء (عليهم السلام) لمن ليس يحل لهم من النساء منفر عنهم وحاط من رتبتهم ومنزلتهم، وهذا مما لا شبهة فيه، وليس كل شئ يجب أن يجتنبه الأنبياء (عليهم السلام) مقصورا على أفعالهم، ألا ترى أن الله تعالى قد جنبهم الفظاظة والغلظة والعجلة وكل ذلك ليس من فعلهم، وأوجبنا أيضا أن يجنبوا الأمراض المنفرة والخلق المشينة كالجذام والبرص وتفاوت الصور واضطرابها، وكل ذلك ليس من مقدورهم ولا فعلهم، وكيف يذهب على عاقل إن عشق الرجل زوجة غيره منفر عنه معدود في جملة معائبه ومثالبه، ونحن نعلم أنه لو عرف بهذه الحال بعض الأمناء أو الشهود لكان ذلك قادحا في عدالته وحاطا من منزلته، وما يؤثر في منزلة أحدنا أولى أن يؤثر في منازل من طهره الله وعصمه وأكمله وأعلى منزلته وهذا بين لمن تدبره " (1).
(1) تنزيه الأنبياء، م. س، ص 155. 110 وبعد فلا يتسع المقام لإيراد كلمات أخرى جامعة في هذا الموضوع لطائفة من العلماء الأعلام، ومنهم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبدة المصري وهي لا تخرج في معناها عما أوردناه، وفيه مقنع لطلاب الحق والحقيقة. 7 - وجواب السؤال السابع وهو ما نقله عن الخطيب الشربيني في تفسيره عن البيضاوي (1) بما يتعلق بقصة هاروت وماروت والرواية التي جاءت بشأن تلك القصة، وهي رواية منبثقة من أساطير الأولين وخرافاتهم ومتلقاة عن الإسرائيليات التي انتبذها المحققون مكانا قصيا، فإذا لا وزن لها عند العارفين ولا هي مما يفسح المجال لصاحب التوضيح للغمز من قناة المفسرين، ولكنه جرى على عادته في تتبع شواذ الأقوال المهجورة وإيرادها مورد المسلم المقبول عنده عن عمد وتصميم، للتشبيه على من لا علم له بالتفسير ومن لا يسهل عليه الرجوع إلى أهل العلم، وإلا فإن من متناولة إحقاق الحق إن قصده وهو منه على طرف الثمام. وإليك ما جاء في أمالي الشريف المرتضى (ج 2 ص 77) إن سأل سائل عن قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان - إلى قوله - لو كانوا يعلمون) [البقرة / 102] فقال: كيف ينزل الله تعالى إلى السحر على الملائكة أم كيف تعلم الملائكة الناس السحر والتفريق بين المرء وزوجه؟ وكيف نسب الضرر الواقع عند ذلك إلى أنه بإذنه وهو تعالى قد نهى عنه وحذر من فعله؟ وكيف أثبت العلم لهم ونفاه عنهم بقوله: (ولقد علموا لمن اشتراه) ثم قوله: (لو كانوا يعلمون)!! الجواب قلنا: في الآية وجوه كل منها يزيل الشبهة الداخلة على من لا ينعم النظر فيها. أولها: أن يكون ما في (وما أنزل على الملكين) بمعنى الذي فكأنه تعالى أخبر عن طائفة من أهل الكتاب بأنهم اتبعوا ما تكذب الشياطين على ملك سليمان وتضيفه إليه من السحر، فبرأه الله تعالى من قذفهم وأكذبهم في
(1) تفسير البيضاوي، ج 1، ص 128. 111 قولهم، فقال: (وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا) باستعمال السحر والتمويه على الناس. ثم قال: (يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين وأراد أنهم يعلمونهم السحر والذي أنزل على الملكين) [البقرة / 102] وما أنزل على الملكين، وصف السحر وماهيته وكيفية الاحتيال فيه ليعرفا ذلك ويعرفاه للناس فيجتنبوه ويحذروا منه، كما أنه تعالى قد أعلمنا ضروب المعاصي ووصف لنا أعمال القبائح لنجتنبها، لا لنواقعها لأن الشياطين كانوا إذا علموا ذلك وعرفوه استعملوه وأقدموا على فعله، وإن كان غيرهم من المؤمنين لما عرفه اجتنبه وحاذره وانتفع باطلاعه على كيفيته، ثم قال: وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة يعني الملكين، ومعنى يعلمان يعلمان والعرب تستعمل لفظة علمه بمعنى أعلمه، والذي يدل أن المراد ههنا الإعلام لا التعليم قوله: (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر) أي أنهما لا يعرفانه صفات السحر وكيفيته إلا بعد أن يقولا إنما نحن محنة، لأن الفتنة بمعنى المحنة، وإنما كان محنة بحيث ألقيا إلى المكلفين أمرا لينزجروا عنه وليمتنعوا من مواقعته، وهم إذا عرفوه أمكن أن يستعملوه ويرتكبوه، فقالا لمن يطلعانه على ذلك: لا تكفر باستعماله ولا تعدل عن الفرض في إلقاء هذا إليك، فإنه إنما ألفي إليك واطلعت عليه لتجتنبه لا لتفعله. ثم قال: (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) أي فيعرفون من جهتهما ما يستعملونه في هذا الباب وإن كان الملكان ما ألقياه إليهم لذلك، ولهذا قال: (ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم) لأنهم لما قصدوا بتعلمه أن يفعلوه ويرتكبوه لا أن يجتنبوه صار ذلك لسوء اختيارهم ضررا عليهم. وثانيها: أن يكون ما أنزل موضعه موضع جر فيكون معطوفا بالواو على ملك سليمان، والمعنى واتبعوا ما كذب به الشياطين على ملك سليمان وعلى ما أنزل على الملكين أي معهما وعلى ألسنتهما إلى كلام طويل في هذا الوجه. وثالث الوجوه أن تحمل ما في قوله: وما أنزل على الجحد والنفي فكأنه تعالى قال: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان) ولا أنزل الله السحر على الملكين (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس
112 السحر.. ببابل هاروت وماروت) ويكون قوله: ببابل هاروت وماروت من المؤخر الذي معناه التقديم، ويكون على هذا التأويل هاروت وماروت رجلين من جملة الناس هذان أسماؤهما، إنما ذكرا بعد ذكر الناس تمييزا وتبيينا، ويكون الملكان المذكوران اللذان نفي عنهما السحر جبرائيل وميكائيل (عليهما السلام) إلى سليمان بن داود (عليه السلام) فأكذبهما الله تعالى بذلك، ويجوز أن يكون هاروت وماروت يرجعان إلى الشياطين كأنه قال: ولكن الشياطين هاروت وماروت كفروا ويسوغ ذلك كما ساغ في قوله تعالى (وكنا لحكمهم شاهدين) [الأنبياء / 78] ويكون قوله على هذا التأويل (وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة) راجعا إلى هاروت وماروت اللذين هما من الشياطين أو من الإنس المتعلمين للسحر من الشياطين والعاملين، به، ويجوز أيضا على هذا التأويل الذي يتضمن النفي والجحد أن يكون هاروت وماروت اسمين لملكين ونفي عنهما إنزال السحر بقوله: (وما أنزل على الملكين) ويكون قوله: وما يعلمان من أحد يرجع إلى قبيلتين من الجن أو إلى شياطين الجن والإنس فتحسن التثنية لهذا، وقد روي هذا التأويل الأخير في حمل ما على النفي عن ابن عباس وغيره من المفسرين، وروي عنه أيضا أنه كان يقرأ وما أنزل على الملكين بكسر اللام ويقول: متى كانا العلجان ملكين بل كانا ملكين. هذا ما أوجزناه عن أمالي الشريف المرتضى ولخصناه من بحث استغرق عدة صفحات لم يعرض فيه إلى تلك الأسطورة التي تعلق بها صاحب التوضيح، وموهما أنها مما ارتضاه مفسرو المسلمين، ونرى من المفيد أن ننقل عن فصل ابن حزم ما يتضمن الاعتقاد بعصمة الملائكة وإنكار تلك الأسطورة الإسرائيلية وتأويل الآية بما يكاد يكون إجمالا لما فصله الشريف المرتضى، قال في (الجزء الرابع ص 42): قد ذكرنا قبل أمر هاروت وماروت ونزيدها هنا بيانا في ذلك. إن قوما نسبوا إلى الله ما لم يؤت به قط إثرى أن يشتغل به وإنما هو كذب مفترى، من أنه تعالى أنزل إلى الأرض ملكين وهما هاروت وماروت، وأنهما عصيا الله تعالى وشربا الخمر، وقتلا النفس وزنيا، وعلما
113 زانية اسم الله الأعظم فطارت به إلى السماء فمسخت كوكبا وهي الزهرة، وأنهما عذبا في غار ببابل، وأنهما يعلمان الناس السحر، وحجتهم على ما في هذا الباب خبر رويناه من طريق عمير بن سعيد وهو مجهول، مرة يقال له النخفي ومرة يقال: له الحنفي، ما نعلم له رواية إلا هذه الكذبة، وليس أيضا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكنه أوقفها عن علي بن طالب (عليه السلام)، وكذبة أخرى في أن حد الخمر ليس سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنما هو شئ فعلوه وحاشا لهم رضي الله عنهم من هذا. قال: ومن البرهان على بطلان هذا كله قول الله تعالى: الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) (ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين) [الحجر / 8] فقطع الله عز وجل أن الملائكة لا تنزل إلا بالحق، وليس شرب الخمر، ولا الزنا، ولا قتل النفس المحرمة، ولا تعليم العواهر أسماءه عز وجل التي يرتفع بها إلى السماء، ولا السحر من الحق، بل كل ذلك من الباطل، ونحن نشهد أن الملائكة ما نزلت قط بشئ من هذه الفواحش والباطل وإذا لم تنزل به فقد بطل أن تفعله، لأنها لو فعلته في الأرض لنزلت به وهذا باطل، وشهد عز وجل أنه لو أنزل علينا الملائكة لما نظرنا، فصح أنه لم ينزل قط ملك ظاهر إلا للنبي بالوحي فقط. قال: وكذلك قوله تعالى: (ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا) [الأنعام / 9] فأبطل عز وجل أنه يمكن ظهور ملك إلى الناس، وقال تعالى: (ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون) [الأنعام / 8] فكذب الله عز وجل كل من قال: إن ملكا نزل قط من السماء ظاهرا إلا إلى الأنبياء بالحق من عند الله عز وجل فقط، وقال عز وجل: (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا * يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين) [الفرقان / 22] الآية، فرفع الله تعالى الإشكال بهذا النص في هذه المسألة وظهر بها كذب من ادعى أن ملكين نزلا إلى الناس فعلماهم السحر. وقد استعظم الله عز وجل ذلك من رغبة من رغب نزول الملائكة إلى الناس وسمي هذا الفعل استكبارا وعتوا، وأخبر عز وجل أننا لا نرى الملائكة
114 أبدا إلى يوم القيامة فقط، وأنه لا بشرى يومئذ للمجرمين، فإذ لا شك في هذا كله فقد علمنا ضرورة أنه لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما أن هاروت وماروت لم يكونا ملكين وأن (ما) في قوله: (وما أنزل على الملكين) نفي لأن ينزل على الملكين، ويكون هاروت وماروت حينئذ بدلا من الشياطين كأنه قال: ولكن الشياطين هاروت وماروت ويكون هاروت وماروت قبيلتين من قبائل الجن كانا يعلمان الناس السحر، وقد روينا هذا القول عن خالدين أبي عمران وغيره، وروي عن الحسن البصري أنه كان يقرأ على الملكين بكسر اللام، وكان يقول: إن هاروت وماروت علجان من أهل بابل، إلا أن الذي لا شك فيه على هذا القول أنهما لم يكونا ملكين. وأما أن يكون هاروت وماروت ملكين نزلا بشريعته حق بعلم ما على أنبياء، فعلماهم الدين وقالا لهم: لا تكفروا نهيا عن الكفر بحق، وأخبراهم أنهم فتنة يضل الله تعالى بهما وبما أتيا به من كفر به ويهدي بهما من آمن به، قال تعالى عن موسى أنه قال له: (إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء) [الأعراف / 155] وكما قال تعالى: (ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) [العنكبوت / 2] ثم نسخ ذلك الذي أنزل على الملكين، فصار كفرا بعد أن كان إيمانا، كما نسخ تعالى شرائع التوراة والإنجيل فتمادت الجن على تعليم ذلك المنسوخ، وبالجملة فما في الآية من نص ولا دليل على أن الملكين علما السحر وإنما هو إقحام أقحم بالآية بالكذب والإفك، بل وفيها بيان أنه لم يكن سحرا بقوله تعالى: (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل) [البقرة / 102] ولا يجوز أن يجعل المعطوف والمعطوف عليه شيئا واحدا إلا ببرهان من نص أو إجماع أو ضرورة وإلا فلا أصلا، وأيضا فإن بابل هي الكوفة وهي بلد معروف بقربها محدودة معلومة ليس فيها غار فيه ملك فصح أنه خرافة موضوعة، إذ لو كان ذلك لما خفي مكانهما على أهل الكوفة فبطل التعلق بهاروت وماروت. وبعد فهذا على طوله غيض من فيض مما أول به الآية المحققون من المفسرين، وغرضنا من نقله أحد أمرين: أولهما وجوب عصمة الملائكة،
115 وثانيهما وهو الأهم إبطال تلك الأسطورة، وأنت ترى أن باب التأويل في هذه الآية غير منسد على من أوتوا قوة الاستنباط، شرط أن لا يقطعوا المسافة بين ظاهر الآية والمعنى المأولة به وأن يمروا بتلك الأسطورة مر الكرام، وفوق كل ذي علم عليم. وقد أبطل تلك الرواية المفسران الجليلان الرازي (1) والطبرسي (2) ولم يعرض لها الزمخشري، ومن عجائب الأيام وعجائبها لا تتناهى أن يظل يدفع تلك الخرافة هذه الإطالة، ولكن شاء لنا ذلك تمويه صاحب التوضيح!! 8 - وجواب السؤال الثامن من وجوه: 1 - إن هذا السؤال في الظاهر إعراض على الآية نفسها لا على التفسير، وإلا فمعناها مفهوم جلي. 2 - إن قصص القرآن لا يراد بها سرد تاريخ الحوادث وترجمة الأشخاص، وإنما هي عبرة للناس كما قال تعالى في سورة يوسف، الآية 111، بعد ما ذكر موجزا من سيرة الأنبياء (عليهم السلام) مع أقوالهم: (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) وللعبرة وجوه كثيرة وفي تلك القصص فوائد عظيمة، وأفضل الفوائد وأهم العبر فيها التنبيه على سنن الله تعالى في الاجتماع البشري وتأثير أعمال الخير والشر في الحياة الإنسانية، وقد نبه الله تعالى على ذلك في مواضع من كتابه كقوله: (وقد خلت سنة الأولين) وقوله: (سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون) وليس المراد بنفي كون قصص القرآن تاريخا أن التاريخ شئ باطل ضار ينزه القرآن عنه، كلا إن قصصه شذور من التاريخ تعلم الناس كيف ينتفعون بالتاريخ، فمثل ما في القرآن من التاريخ البشري كمثل ما فيه من التاريخ الطبيعي من أحوال الحيوان والنبات والجماد ومثل ما فيه من الكلام في الفلك، يراد بذلك التوجه إلى العبرة والاستدلال على قدرة الصانع وحكمته، لا تفصيل مسائل العلوم الطبيعية
(1) مفاتيح الغيب، ج 1، ص 617. (2) مجمع البيان، ج 1، ص 337. 116 والفلكية التي يمكن الله البشر من الوقوف عليها بالبحث والنظر والتجربة وهداهم إلى ذلك بالفطرة والوحي معا، ولذلك نقول: لو فرضنا أن المسائل التاريخية والطبيعية المذكورة في الكتاب ليست مطابقة إلا لما يرى ويعتقد الناس كلهم أو بعضهم في زمن التنزيل لما كان ذلك طعنا فيه، لأن هذه المسائل لم تقصد بذاتها بل المراد منها توجيه النفوس بطريق الاستفادة بما أشرنا إليه. 3 - إن البحث في آيات الله كيف وجدت وهل كانت كلها بمحض قدرة الله تعالى التي قامت بها السماوات والأرض، أم كانت لها سنن روحانية خفية عن الجمهور خص الله تعالى بها أنبياءه كما خصهم بالوحي الذي هو علم خفي عن الجمهور، فكل ذلك مما لا يفيد البحث فيه بل ربما كان ضارا (1). 4 - إن الآية الشريفة تدل دلالة صريحة على أخفاء موت سليمان، وأن الذي دلهم على موته بعد حين دابة الأرض تأكل منسأته، وأن هذا الاخفاء مقصود لحكمة وهي إتمام بناء المسجد والإعلام بأن الجن لا يعلمون الغيب، ولو علموه ما لبثوا في عملهم الشاق الذي عبر عنه بالعذاب المهين، وأما تعيين مدة موته وكم كانت فالروايات مختلفة في تقديرها، ولو قيل بأنها كانت عاما وهو أقصى ما قدره بعض الرواة فهل يمتنع ذلك في قدرته تعالى ويكون وقوعه معجزة لسليمان (عليه السلام) تضم إلى معجزاته الكثيرة من النملة والهدهد وتسخير الجن والطير والريح له وما إلى ذلك مما هو أعظم من معجزة إخفاء موته، وأما كيف دبر أمر ملكه والطواف على نسائه مما اتخذه صاحب التوضيح سخرية، فإنا نكل الجواب عليه إلى ما نطق به التنزيل. 5 - إن النظر واجب في الأصول التي تثبت بها معرفة الله تعالى وصحة النبوة، ومتى اعتقدنا بقدرة الله وإرادته وعلمه وكونه أوحى إلى بعض عبيدة وألهمهم إرشاد الناس إلى ما يسعدهم في حياتهم الأخرى فإنه يسهل علينا أن
(1) ملخص هذا وما قبله من (م 7، ج 5، ص 181 عن المنار الاسلامي). 117 نسلم بكل ما يقول الموحى إليهم تسليما، فإن وجدنا فيه شيئا يخالف ظاهره الدليل العقلي القطعي، يرد إليه بالتأويل أو نفوض الأمر به إلى الله مع الأخذ بالدليل القطعي وهذا ما أجمع عليه أئمة المسلمين، وهو كاف في كون الإسلام دين العقل، لأن المسلم لا يترك الدليل العقلي القاطع بحال من الأحوال (1). 6 - كيف يستبعد وقوع هذه المعجزة لسليمان من يثبت لصحة نبوة صاحبه ما يربو عليها من المعجزات في عصر الكهرباء والراديو والابتكار والاختراع؟ على أن جمهرة من جهابذة العلماء المسلمين يرون أن زمن المعجزات والخوارق قد انتهى ببدء نبوة خاتم النبيين المؤيدة بالكتاب المعجزة الخالدة الدائمة ما دامت السماوات والأرض والمناجبة للبشر، وقد أدركوا دور الرشد من طريق العقل والبرهان لا من طريق الخوارق التي كانت تؤيد بها الرسل في دور استهواء البشر، وهم لم يبلغوا الرشد للترهات والخرافات فتريهم عجزهم بما ظاهره أنه من ذلك النوع كال.. موسى (عليه السلام) السحر بآية العصا وعيسى (عليه السلام) بآياته شعوذة مداواة المرض بالأوهام لا بقوانين الطب الصحيحة. 7 - إن ظاهر الآية (فلما قضينا عليه الموت - إلى - ما لبثوا في العذاب المهين) [سبأ / 14] يدل على طول المدة التي استبعدها صاحب التوضيح واختتم كلامه بالتهكم، وإلا فلبث ساعة أو ساعتين أو يوما أو يومين أو أياما لا يناسبه التعبير ب (ما) لبثوا في العذاب المهين. وقد حاول الدكتور محمد توفيق صدقي تطبيق لبث سليمان ميتا وهو قائم في صورة الحي على قوانين الطب وأن ذلك كان من نوع (تيبس الموت) ورأيه هذا مذكور في المجلد الخامس من المنار الاسلامي ص 361، ونرى فيما أجبنا به كفاية عن ذكر وجوه واحتمالات أخرى ومقنعا لمن ينشد الحق لا الجدل والمراء والتضليل. إن القاضي ابن رشد الفيلسوف الاسلامي يرى أن لا تنشر التأويلات التي تظهر للراسخين في العلم، بل تبقى خاصة بأهلها لئلا تكون سببا لفتح باب
(1) ملخص عن مجلة المنار. 118 الجدل على العامة فيما لا تصل إليه أفهامهم من حقائق العلوم والجدل مدعاة الشكوك، ولذلك يجب تأديب المشككين والإعراض عن المجادلين. 9 - وجواب السؤال التاسع في تفسير الرازي للآية (ووجدك ضالا فهدي). اقتصر صاحب التوضيح على نقل الرازي لبعض الأقوال لبعض المفسرين كالكلبي والسدي ومجاهد، وهي التي تصرح بنسبة الضلال إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمعناه العرفي، ولغرض ما وقف في سؤاله موقف الريبة من حيث إظهاره ارتضاء الرازي بتلك الأقوال، ولو أدى الأمانة في النقل لاستغنى عن الاستفهام عن المخطئ والمصيب في العشرين وجها التي سردها في تفسير ووجدك ضالا، فقد قال بعد نقله قول بعض المفسرين وأقوال الكلبي والسدي ومجاهد: وأما الجمهور من العلماء فقد اتفقوا على أنه (عليه السلام) ما كفر بالله لحظة واحدة، ثم قالت المعتزلة: هذا غير جائز عقلا لما فيه من التنفير، وعند أصحابنا هذا غير ممتنع عقلا لأنه جائز في العقول أن يكون الشخص كافرا فيرزقه الله الإيمان ويكرمه بالنبوة، إلا أن الدليل السمعي قام على أن هذا الجائز لم يقع، وهو قوله تعالى (ما ضل صاحبكم وما غوى) [النجم / 2] (1). وكأن الوجوه العشرين التي أوردها الرازي وجلها إن لم تكن كلها تنزه مقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الضلال وتثبت له العصمة المتفق عليها أو المجمع عليها عند جماهير المسلمين - دع أقوال الحشويين والدساسين - لا تنهض برد شبهة المبشرين وتريه القول المصيب والمخطئ، وأي مجال بعد هذا للقدح فيه (صلى الله عليه وآله وسلم) من أعدائه، ولقوله: وليقولوا لنا من فسر منهم برأيه. أما التفسير بالرأي فقد كرر إنكاره من غير ما مرة، وقد سبق تحرير بحثه في أقوال المفسرين ونزيده هنا وضوحا، فإن منع من منع التفسير بالرأي ما كان مستندا إلى محض الرأي والهوى لا ما كان مستندا إلى السمع وإلى ما يصح في
(1) مفاتيح الغيب، م. س، ج 11، ص 198. 119 اللغة التي نزل فيها الكتاب، وما كان تأويله منطبقا على قوانينها المحررة، وما كان مما يجب صرفه عن الظاهر فيما يقضي العقل أو السمع بذلك وكان المفسر مما فيه مجال للرأي ولم يرد فيه نقل صحيح أو نص صريح، وما كان الجمود على الظاهر وسد باب التفكير والنظر من طبيعة الإسلام وهو ينهى عنهما وينعى على الجامدين والمقلدين جمودهم وتقليدهم في غير ما آية، وكفى برهانا على إطلاق الإسلام للعقل النظر وتحريره ما حدث من العلوم الإسلامية المؤسسة على قوانينه الصحيحة، فمن المكابرة رمي صاحب التوضيح علماء المسلمين بالجمود وهو يرى منهم كل زمان ومكان من لا يشق غباره ولا يدرك أمده في فلسفة الشريعة الإسلامية، وفي رد كيد الناجين له ولصاحب رسالته الخالدة العداوة إلى نحورهم قبل أن يولد نبيهم وبعد أن ولد، لم تخمد لهم نار غيرة، ولم تسكن لهم ريح حمية. وبعد فلنعد إلى تفسير الآية، ففي الكشاف في معنى (ضالا): " الضلال عن علم الشرائع وما طريقه السمع كقوله: (ما كنت تدري ما الكتاب) وقيل: ضل في صباه في بعض شعاب مكة فرده أبو جهل إلى عبد المطلب، وقيل: أضلته حليمة عند باب مكة حين فطمته وجاءت به لترده على عبد المطلب، وقيل: ضل في طريق الشام حين خرج به أبو طالب، فهداك فعرفك القرآن والشرائع، أو فأزال ضلالك عن جدك وعمك، ومن قال: كان على أمر قومه أربعين سنة، فإن أراد أنه كان على خلوهم عن العلوم السمعية فنعم، وإن أراد أنه كان على دينهم وكفرهم فمعاذ الله، والأنبياء يجب أن يكونوا معصومين قبل النبوة وبعدها من الكبائر والصغائر الشائنة فيما بال الكفر والجهل بالصانع (ما كان لنا أن نشرك بالله من شئ) وكفى بالنبي نقيصة أن يسبق له كفر " (1). وقال الشريف المرتضى في كتابه (تنزيه الأنبياء): " فإن قيل: فما معنى قوله تعالى في: (ووجدك ضالا فهدى) أوليس هذا يقتضي إطلاقه الضلال عن الدين؟ وذلك مما لا يجوز عندكم قبل النبوة ولا بعدها.
(1) الكشاف، م. س، ج 4، ص 768. 120 الجواب: قلنا في معنى هذه الآية أجوبة: أولها: أنه أراد وجدك ضالا عن النبوة فهداك إليها أو عن شريعة الإسلام التي نزلت عليه وأمر بتبليغها إلى الخلق، وبإرشاده (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ما ذكرناه أعظم النعم عليه، والكلام في الآية خارج مخرج الامتنان والتذكير بالنعم، وليس لأحد أن يقول: إن الظاهر بخلاف ذلك لأنه لا بد في الظاهر من تقدير محذوف يتعلق به الضلال، لأن الضلال هو الذهاب والانصراف، فلا بد من أمر يكون منصرفا عنه، فمن ذهب إلى أنه أراد الذهاب عن الدين فلا بد له من أن يقدر هذه اللفظة ثم يحذفها ليتعلق بها، لفظ الضلال وليس هو بذلك أولى منا فيما قدرناه وحذفناه. وثانيها: أن يكون أراد الضلال عن المعيشة وطريق التكسب، يقال للرجل الذي لا يهتدي طريق معيشته ووجه مكتسبه: هو ضال لا يدري ما يصنع ولا أين يذهب، فامتن الله تعالى عليه بأنه رزقه وأغناه وكفاه. وثالثها: أن يكون أراد وجدك ضالا بين مكة والمدينة عند الهجرة فهداك وسلمك من أعدائك، وهذا الوجه قريب لولا أن السورة مكية وهي مقدمة للهجرة إلى المدينة، اللهم إلا أن يحمل قوله تعالى وجدك على أنه سيجدك على مذهب العرب في حمل الماضي على معنى المستقبل، فيكون له وجه. ورابعها: أن يكون أراد بقوله ووجدك ضالا فهدى أي مضلولا عنك في قوم لا يعرفون حقك فهداهم إلى معرفتك وأرشدهم إلى فضلك، وهذا له نظير في الاستعمال، يقال: فلان ضال في قومه وبين أهله إذا كان مضلولا عنه. وخامسها: أنه روي في قراءة هذه الآية الرفع (ألم يجدك يتيم فآوي ووجدك ضال فهدى) على أن اليتيم وجده وكذلك الضال، وهذا الوجه ضعيف لأن القراءة غير معروفة ولأن هذا الكلام يسمج ويفسد أكثر معانيه " (1). وبعد فلا يتسع المقام للزيادة عن هذا القدر وفيه كفاية عن الإسهاب.
(1) تنزيه الأنبياء، الشريف المرتضى، مؤسسة الأعلمي، ص 150. 121 10 - وجواب السؤال العاشر عن تفسير الآية (أوحينا إليك روحا من أمرنا) [الشورى / 52]. قال الفخر الرازي: " والمراد به القرآن، وسماه روحا لأنه يفيد الحياة من موت الجهل أو الكفر " (1) وقال الزمخشري في كشافه: " يريد ما أوحي إليه، لأن الخلق يحيون به في دينهم كما يحيا الجسد بالروح " (2)، وقال الطبرسي في مجمع البيان: " يعني الوحي بأمرنا ومعناه القرآن لأنه يهتدي به، ففيه حياة من موت الكفر " (3). وهناك أقوال أخرى متقاربة فأي خير في هذا الاختلاف في التعبير الراجع إلى وحدة المعنى، وهل يرى صاحب التوضيح أن باستطاعة نبيه رفع الاختلاف وتوحيد الآراء وحمل العلماء كافة على اتباع ما يراه في التفسير فيما فيه مسرح للرأي ومجال للاستنباط والاستنتاج؟ 11 - وجواب السؤال الحادي عشر عن تفسير (قيل لها ادخلي الصرح) [النمل: 44] وهو سؤال أطال فيه الكلام وسبقه أحلام المفسرين، وتخلص من ذلك كله إلى رأي لمسيحه الموعود في تفسير هذه الآية. وأقوال: إن كل خبر يتضمن تخطئة نبي من الأنبياء (عليهم السلام) وليس فيه مجال للتأويل فهو مكذوب معروض عنه، وصريح الآية يدل على أمر سليمان (عليه السلام) لملكة سبأ بدخول الصرح وتوهمها أنه لجة وكشفها عن ساقيها، وما عدا ذلك مما عزي إليه من أنه قصد إيهامها لتكشف عن ساقيها ليتبين ما نسب إليها من أنها شعراء الساقين أم لا، فليس في الآية أدنى إشارة إليه، على أن ذلك من العبث الذي يجب صون النبوة عنه. وصاحب الكشاف نسب ما نقله صاحب التوضيح عن الشربيني إلى الزعم (4) (والزعم مطية الكذب) كما قالوا، وكذلك الفخر الرازي والبيضاوي لم ينقل هذا الخبر الموضوع المصنوع في تنزيله.
(1) مفاتيح الغيب، ج 9، ص 614. (2) الكشاف، م. س، ج 4، ص 234. (3) ج 4، ص 58. (4) الكشاف، سورة النمل، الآية: 44، ج 3، ص 370. 122 وبعد فإن جل الأخبار التي رواها القصاصون والمغرمون بالأساطير والإسرائيليات أعرض عنها المحققون ونقدة الأخبار، وماذا يضير المسلمين إذا تمسك بها المبشرون ليجادلوا بها ضعفاء المسلمين، وقد أفسدها حملة العلم منهم ولم يرد بها نص من الكتاب الذي هو والسنة الصحيحة حجة لهم وعليهم، ومن زعم أن المفسرين معصومون لا يخطئون وأن كل ما قالوه - وقد يكون في الكثير منه ما يناقض بعضه بعضا - واجب الاتباع وقلنا مرارا: إن تفسير القرآن بما لا يخرج عن أساليبه وأساليب العرب ولا يخالف الحقائق الطبيعية والكونية والاجتماعية والقواعد العقلية والسمعية المقررة ليس من المحظور، وأن للرأي إذا لم يخالف ذلك كله وكان فيه الكشف عن أسراره التي لا تتناهى مجالا واسعا للتأويل، وأنه لم يصح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن فسر كل آي القرآن لأصحابه حتى ما يتمكن من فهمه العامة والخاصة من أهل اللسان. قال الرافعي في هامش كتابه إعجاز القرآن. " قد ثبت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبض ولم يفسر من القرآن إلا قليلا، وهذا وحده يجعل كل منصف يقول: أشهد أن محمدا رسول الله، إذ لو كان (صلى الله عليه وآله وسلم) فسر للعرب بما يحتمله زمنهم وتطيقه أفهامهم لجمد القرآن جمودا تهدمه عليه الأزمنة والعصور بآلاتها ووسائلها، فإن كلام الرسول نص قاطع، ولكنه ترك تاريخ الإنسانية يفسر كتاب الإنسانية، فتأمل حكمة ذلك السكوت، فهي إعجاز لا يكابر فيه إلا من قلع مخه من رأسه " (1). وأما ما أطال فيه صاحب التوضيح الكلام في تجويز التفسير وإيراده كلمات بعض العلماء في هذا المعنى فلا نناقشه فيه، وقد ذكرنا الشئ الكثير منه في تضاعيف، هذه المباحث بما لا زيادة فيه لمستزيد، بيد أن ذلك لا يعني فتح باب دعوى النبوة للوصول إليه، وهو مما لم يجهله العلماء الذين جمعوا مزايا الاجتهاد والاستنباط، وفي ذلك عناية بأمر الكتاب وامتحان للعقول في تدبر آياته وتدارسه، وحسبك ما انبثق من هذه العناية ومن هذا التوفر على تفهم
(1) إعجاز القرآن والبلاغة النبوية، مصطفى صادق الرافعي، دار الكتاب العربي، ص 14. 123 معانيه من العلوم الإسلامية ومن دعوته العقول إلى التفكير في الآفاق والأنفس وما إلى ذلك من العلوم الأخرى. اتصلت حياة المسلمين بالقرآن الحكيم اتصالا وثيقا بما ناجى به عقولهم وأرواحهم وقلوبهم، وما نصب لهم من الدلائل وأوضح لهم من السبل ومن أرشدهم إلى اقتفاء أثره وأتباعه، وهم الذين لم تخل منهم الأرض ولم تنقطع بهم الحجة، لتقوم حجة في زمن من أزمنتهم تزعم نبوة جديدة بعد انقطاع النبوات بخاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين وسلم تسليما كثيرا. نموذج من طريقة القاديانية في التفسير رأينا أن نختم هذا الباب بنموذج من طريق القاديانية في تفسير الكتاب العزيز، مما لم يعرفه المفسرون ولا ورد فيه خبر أو أثر للمقابلة، بين تفسيرهم الذي يجعل القرآن مجموعة رموز وأحاجي ويتصل اتصالا وثيقا بطريقة الباطنية وبعض المتصوفة في التفسير ويبتعد ابتعادا كليا عن ظواهره التي تعبد المخاطبين المكلفين بها وبفهمها بمثل ما يتفاهمون به بأساليبهم الخطابية التي لم يكن القرآن شاذا عنها، اللهم إذا كان قد كلفهم الله بكتابه بما لا يطيقون فهمه وهو مناف لحكمة التكليف، وبين مفسريه من المسلمين الذين تعبدوا بالتفسير على الظواهر التي هي مناط التكليف ومناطه، ومعتمدين فيما ننقله من آرائهم في التفسير على مقال الأستاذ أديب التقي (المسيح الهندي) الذي استمد مادته من أحد دعاة القاديانية الأستاذ زين العابدين ولي الله شاه أستاذ تاريخ الأديان في كلية صلاح الدين ببيت المقدس سابقا ورئيس معارف الجامعة الأحمدية في مدينة (قاديان) من بنجاب في الهند في ذلك الحين، فمن ذلك تفسير الآية (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) [البقرة / 102] الآية. هذه الآية الكريمة تشير إلى واقعتين من تاريخ بني إسرائيل، وهما تأسيس جمعيتين سياسيتين سريتين: الأولى في القدس وهي مؤلفة من بني إسرائيل أنفسهم والأغراب بناه هيكل سليمان، وغايتها قلب ملك سليمان وهدم كيان سلطته. والثانية: في بابل وخارجها وقد تأسست بتأثير أرميا وحزقيل من
124 أنبياء بني إسرائيل، وغايتها قلب مملكة بابل وتقويضها والقضاء عليها. أما الأولى، فلم ينجح القائمون بها في حياة سليمان، لأن سليمان بطش بهم البطشة الكبرى، وإنما نجحوا بعد موته. وأما الثانية التي في بابل وخارجها فقد نجحت، والشياطين المذكورون في الآية يراد بهم الأشرار المفسدون من الناس من الأغراب بناة الهيكل والإسرائيليين، والسحر يراد به الكلام الجاذب الذي يستميل القلوب، والملكان هاروت وماروت يراد بهما أرميا وحزقيل من أنبياء بني إسرائيل، وقد سميا ملكين مقابلة للشياطين، ويؤيد هذا الاستعمال ما ورد في حق يوسف (عليه السلام) في القرآن (إن هذا إلا ملك كريم) [يوسف / 31] ويدل على أنهما من البشر قول الله: (وما يعلمان من أحد) لأن الملائكة لا تعلم البشر، وهاروت وماروت لفظان وضعيان يتضمنان معنى الاستئصال والتدمير لأعداء اليهود وهم البابليون يومئذ، والفتنة يراد بها التمييز بين الخبيث والطيب والصالح والطالح. (فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه) [البقرة / 102] أي أن أرميا وحزقيل يعلمان الناس ما يجعلونهم به يتركون أزواجهم وأولادهم ويتبعونهما تقاديا في سبيل الله وفرارا إلى الله (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم) [البقرة / 102] إشارة إلى الجمعية الأولى، فإن القائمين بها لم يتمكنوا أن يضروا أحدا لفساد تعاليمهم، ولأنهم شياطين أشرار لا ينجح الله أعمالهم، والذين يتعلمون منهم شيئا إنما يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم إلى كلام يجري هذا المجرى من التعسيف والتكلف لا طائل تحته، فلا نتعب أنفسنا والقراء في نقله. أية مصلحة اقتضت هذه التعمية على المخاطبين بكلام هو من جنس كلامهم إن أعجزهم أسلوبا وبيانا، وأي محذور من إفهامهم الأمر الواقع إن كان على ما يتمحله القاديانيون، على أن في هذا التخريج والتحكم من الاستبعاد والتطبيق على ما قصدوا له ما لا يخفى على الشاري فضلا عن المتعمقين في فهم موارد الكتاب ومصادره. ومن ذلك قولهم في تفسير الآية: (ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر - إلى - ما لبثوا في العذاب المهين) [سبأ / 12 - 14] تسخير الريح إشارة إلى ما أوتيه سليمان (عليه السلام) من
125 السلطة البحرية وكثرة مراكبه التي تسيرها الريح، والجن الذين كانوا يعملون لسليمان يراد بهم الأقوام الجبابرة من العمالقة وغيرهم ممن استخدمهم سليمان في أعماله، وقد سموا في آيات أخرى بالشياطين، وكلمات الجن الواردة في أماكن مختلفة من القرآن المجيد بعضها يفسر بمخلوقات كانت قبل الإنسان لا نعلم حقيقتها خلقت من نار حينما كانت الكرة الأرضية نارا، وبعضها يفسر المردة والجبابرة من الناس، وبعضها بالطبقة المستعبدة من البشر لغيرها، والإنس الطبقة المستعبدة الضعاف كما في الآية الكريمة (يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس) [الأنعام / 128] وسورة الجن وما فيها إشارة إلى وفد نصيبين وكانوا من اليهود، (ودابة الأرض) كناية عن يربعام بن سليمان الذي لا يصح للملك، شبه بالدابة لأنه كالدواب سافل ليس فيه سمو وعلو، (المنسأة) العصا أو صولجان الملك كناية عن المملكة لأنه يتوكأ عليها وتكون بها قوة، (فلما تبينت الجن) أي القوم الأشداء الجبابرة من الكنعانيين والكلدانيين، وكذلك قوله تعالى: (ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب) [ص / 34] المقصود به من الجسد يربعام أي أنه جسد لا روحانية فيه. وتفسير هذه الآية كتفسير الآية السابقة في الخروج عن منطوقها ومفهومها وفي التكلف الذي لا تحتمله ولا تحمله ألفاظها، ولتفنيده وجوه لا يتسع المقام لذكرها، ومنه الآيات (وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير - إلى قوله - إنه صرح ممرد من قوارير) [النمل / 17]. (وادي النمل) واد في فلسطين بين جبرين وعسقلان تسكنه قبيلة تسمى (قبيلة النمل) والنملة المتكلمة هي امرأة من هذه القبيلة، والعرب تسمي قبائلها بالنمل كما سميت قبيلة (مازن)، ومعنى (مازن) بيض النمل، (وتفقد الطير) أي تفقد الطيور في حديقة الطيور، وكان لسليمان حديقة عظيمة فيها من جميع أنواع الطيور، فقال: (ما لي لا أرى الهدهد)، والهدهد هنا اسم رجل كان أرسله إلى سبأ عينا ليأتيه بخبرهم وأبطأ عنه فظن أنه خان ولحق بالعدو، فلذلك قال: (أو لأذبحنه) وكان غاب عن ذاكرته، فلما رأي الطير المسمي بالهدهد في حديقة الطيور فطن إليه لمماثلة الاسمين (قال عفريت من الجن) هو رجل
126 من العمالقة (أنا آتيك به) بالعرش (قبل أن تقوم من مقامك) كان سليمان يريد فتح بلاد سبأ في غير أن يأتوه بعرشها سريعا بعد الفتح، فقال رجل من العمالقة: أنا آتيك بهذا العرش قبل أن تقوم من مقامك، أي قبل أن تنفر أنت لمحاربتهم. و (قال الذي عنده علم من الكتاب) أي رجل من المؤمنين بالكتاب من بني إسرائيل وهو بمقابلة العفريت الذي هو من العمالقة غير المؤمنين (قبل أن يرتد إليك طرفك) يراد به الدلالة على الإسراع (فلما رآه مستقرا عنده) أي العرش وذلك بعد زمن لا عقب القول، ومنه يفهم أن الملكة بلقيس أسلمت بعد أن فتح سليمان بلادها (قيل لها ادخلي الصرح) الصرح الذي صنعه سليمان لبلقيس صفائح من البلور والقوارير، يجري من تحتها الماء، فيخيل للرائي أن هناك ماء دون زجاج، وقصد بذلك سليمان أن يمثل لها الشمس المعبودة بالنظر إلى خالق الشمس الحقيقي، فقد كانت تعبد الشمس وترى أنها مصدر الربوبية العامة، فأفهمها سليمان أن الربوبية العامة مصدرها ما وراء هذه الأكوان، كما أن الماء الحقيقي ليس الذي حسبته ماء من القوارير وشمرت عن ساقيها من أجله، بل هو ما وراء هذه القوارير، فلما فهمت هي مقصد سليمان: (قالت: رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) [النمل / 44]. وعلى هذا النسق ومن مثل هذا الينبوع استمدوا تفسيرهم لأي كثيرة من الذكر الحكيم يطول بإيرادها ونقضها الخطب، فليرجع من يطلب ذلك إلى مقال ذلك الأستاذ المفضال. فلسفتهم في التفسير واللغة رأينا من الجمام والترويح على نفوس القارئين أن نطرفهم بما جاء في ذلك المقال الممتع الجامع لعقائد القاديانية ولتاريخهم، وما إلى ذلك من أمورهم الجديرة بالدرس مما لم يعرفه المفسرون من التفسير، وما لم يصل إليه من تحليل لغوي اللغويون، فمن ذلك قولهم في علة تحريم الخنزير، إن الله حرم الخنزير وقد ضمن اسمه الإشارة إلى تحريمه منذ الأول، لأن لفظ (خنزير)
127 مركب من كلمتين هما (خنزر) ومعناها (فاسد جدا) و (آر) ومعناه (أرى) فيكون معنى الاسم المركب (أراه فاسدا جدا) ومن الاتفاق العجيب أن اسمه في الهندية (سؤر) وهذا أيضا مركب من كلمتين (سوء) و (آر) أي (أراه سوءا) والعربية أم الألسنة بأجمعها وأن كلماتها توجد في جميع اللغات بالعدد الكثير، ومن ذا الذي لا يدري أن هذا الحيوان أشد حرصا على أكل النجاسات من جميع الحيوانات الأخرى وأنه فوق ذلك وقح ديوث (الخ). ومنها تفسير الكافور والزنجبيل اللذين وردا في الآيتين (إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا) [الإنسان / 5] و (يسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا) [الإنسان / 17] الكفر في وضع اللغة العربية معناه التفشية والإخفاء، والمراد بالكافور هنا الإشارة إلى أن الأبرار قد شربوا من كأس الخلوص والحب ما قد أخمد شهواتهم وبرد في قلوبهم محبة الدنيا، فمن تبتل إلى الله التبتل كله فقد بعد عن شهوات النفس واندفنت شهواته كما تدفن المواد السامة بالكافور. والزنجبيل مركب من كلمتين (زنأ) و (جبيل) ومعنى (زنأ) في العربية (صعد في الجبل) فمعنى الآية: إن أولياء الله الكمل يستوفون نصيبا كاملا من القوة الروحانية، ويرتقون كبار العقبات، وتتم على أيديهم صعاب الأمور، وسمي الزنجبيل بالعربية زنجبيلا لأنه يزيد في الحرارة الغريزية كثيرا ويقوي الضعيف حتى يمكنه أن يتسلق الجبال. وبسرد هاتين الآيتين كأنما يريد الله إفهام عباده أن الإنسان إذا أقلع عن الشهوات النفس، كما يفعل الكافور في تسكين حدة السموم، ومتى زالت شدة السموم ونقه المريض من العلل الباطنة ابتدأت مرحلة ثانية يستقوي فيها العليل بشراب الزنجبيل، وهذا الشراب الزنجبيلي إنما هو تجلي الله على عبده بجماله وجلاله، فإذا تقوى الإنسان بالتجلي الرباني قدر أن يتسنم الأطوار العالية الشاهقة. قبل التعليق على هذا التفسير الطريف إلى المفسرين والأطباء واللغويين فإن كلامهم يجد الطريق مفتوحا للإيغال في علمه وفنه، وهكذا يريد القاديانيون من نعيهم على مفسري الكتاب العزيز طريقتهم في التفسير وليبينوا من ألغازه
128 وأحاجيه ما يؤول إلى أن الكتاب أنزل على العرب بلغتهم ولكن بمعان لا يفهمونها، وهل هذا مفاد قوله تعالى: (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) [يوسف / 2] وهل من تعقل أي تفهم معانيه أن لا يفهموها؟ وما معنى قوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) [إبراهيم / 4] وهل يترك الرسول البيان لقومه في وقت حاجتهم إلى البيان الذي هو مناط التكليف؟ ومن ذلك تفسير السلاسل والأغلال في قوله تعالى: (إنا اعتدنا للكافرين سلاسلا وأغلالا وسعيرا) [الإنسان / 4] المراد من هذه الآية، إن الذين يرفضون الحق ولا يبغون الله من صميم الفؤاد يبلوهم الله برد الفعل، فيعانون جهد البلاء في بلبال الحياة الدنيا حتى كأنهم مقرنون في الأصفاد وينهمكون في الشواغل الأرضية، كأنما شدت أعناقهم بالأغلال فلا تدعهم يرفعون رأسهم نحو السماء. هذا ما نراه كافيا في المقابلة بين آراء القاديانية في التفسير وآراء العلماء الراسخين، وهو إلى ما سلف من الأقوال في التفسير التي لم تتخط فيه الحقيقة إلى التخيلات الشعرية كاف في هذا البحث، ولنعد إلى نقض أقاويلهم الأخرى في بقية الفصول.
129 الباب الثاني: في التعليق على الفصل الثاني
131 في عدم انقطاع الوحي المزعوم: أطال صاحب التوضيح الكلام في هذا الفصل محاولا به إثبات عدم انقطاع الوحي بأدلة وأقوال جلها للمتصوفين بزعم تأييدها لدعواه، وإن نقض كل دليل منها يحتاج إلى التطويل في حيث لا طائل، ويؤدي التوسع فيه إلى التباعد بين أطراف البحث وإلى سآمة القارئ، فرأينا أن نوجزه فيما يلي: الأول: إن للوحي معاني جمة وهو لفظ مشترك بينها. 1 - في القاموس: " (الوحي): الإشارة والكتابة والرسالة والإلهام والكلام الخفي، وكل ما ألقيته إلى غيرك، والصوت يكون في الناس وغيرهم كالوحي، والوحاة جمع وحي، وأوحي إليه بعثه وألهمه، ونفسه وقع فيها خوف " (1). 2 - في مفردات الراغب الأصبهاني في غريب القرآن: وحي: أصل الوحي الإشارة السريعة، ولتضمن السرعة قيل أمر وحي، وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وإشارة ببعض الجوارح وبالكتابة، وقد حمل على ذلك قوله تعالى: (فأوحى إليهم أن سبحوا) [مريم / 11] فقد قيل: رمز، وقيل: اعتبار، وقيل: كتب، وعلى هذه الوجوه المذكورة في قوله: (يوحي بعضهم إلى بعض)، (وأن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم) فذلك بالوسواس المشار إليه يقوله: (من شر الوسواس الخناس). وبقوله (عليه السلام): وإن للشيطان لمة الخبر. ويقال للكلمة الإلهية التي تلقى إلى أنبيائه وأوليائه وحي، وذلك أضرب حسبما دل عليه قوله: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا - إلى قوله - بإذنه ما يشاء). وذلك إما برسول مشاهد ترى ذاته ويسمع كلامه كتبليغ جبريل (عليه السلام) في صورة معينة، وأما بسماع كلام من غير معاينة كسماع موسى كلام الله، وإما بإلقاء في الروع كما ذكر (عليه السلام) " نفث في روعي ". وإما بإلهام نحو (وأوحينا إلى أم موسى) [القصص / 7] وإما بتسخير نحو قوله: (وأوحى ربك إلى
(1) القاموس المحيط، الإمام مجد الدين الفيروزآبادي، دار الكتب العلمية، ج 4، ص 461. 133 النحل) [النحل / 68] أو بمنام كما قال (عليه السلام) " انقطع الوحي وبقيت المبشرات رؤيا المؤمنين ". فالإلهام والتسخير والمنام دل عليه قوله: (إلا وحيا أو من وراء حجاب). وتبليغ جبريل في صورة معينة دل عليه قوله: (أو يرسل رسولا). وقوله: (أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شئ) [الأنعام / 93]. وذلك لمن يدعي شيئا من أنواع ما ذكرنا من الوحي، أي نوع ادعاء من غير أن يحصل له. وقوله: (وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه) [الأنبياء / 25] فهذا الوحي هو عام في جميع أنواعه، وذلك أن معرفة وحدانية الله تعالى ومعرفة وجوب عبادته ليست مقصورة على الوحي المختص بأولي العزم، بل يعرف ذلك بالعقل والإلهام كما يعرف بالسمع، فإذا القصد من الآية تنبيه أنه من المحال أن يكون رسول لا يعرف وحدانية الله ووجوب عبادته، وقوله تعالى: (وإذ أوحيت إلى الحواريين) [المائدة / 111] فذلك وحي بوساطة عيسى (عليه السلام) وقوله: (وأوحينا إليهم فعل الخيرات) [الأنبياء / 73] فذلك وحي إلى الأمم بوساطة الأنبياء. ومن الوحي المختص بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (اتبع ما أوحي إليك من ربك). (إن أتبع إلا ما يوحى إلي). وقوله: (وأحينا إلى موسى وأخيه) [يونس / 87]. فوحيه إلى موسى بوساطة جبريل، ووحيه تعالى إلى هارون بوساطة جبريل وموسى، وقوله: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة) فذلك وحي إليهم بوساطة اللوح والقلم فيما قيل، وقوله: (وأوحي في كل سماء أمرها) فإن كان الوحي إلى أهل السماء فقط، فالموحي إليهم محذور ذكره، كأنه قال: أوحي إلى الملائكة لأن أهل السماء هم الملائكة، ويكون كقوله: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة) [الأنفال / 12]. وإن كان الموحى إليهم هم السماوات، فذلك تسخير عند من يجعل السماء غير حي ونطق عند من جعله حيا، وقوله: (بأن ربك أوحي) لها فقريب من الأول، وقوله: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه) [طه / 114]. فحث على التثبت في السماع وعلى ترك الاستعجال في تلقينه وتلقنه. 3 - وفي النهاية لابن الأثير: " (وحا " في حديث (أبي بكر) الوحا الوحا أي السرعة السرعة ويمد ويقصر، يقال: توحيت توحيا إذا أسرعت إلى أن
134 قال: وفي حديث الحارث الأعور، قال علقمة: قرأت القرآن في سنتين. فقال الحارث: القرآن هين، الوحي أشد منه، أراد بالقرآن القراءة وبالوحي الكتابة والخط، إلى أن قال: وإنما المفهوم من كلام الحارث عند الأصحاب شئ تقوله الشيعة أنه أوحي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شئ فخص به أهل البيت والله أعلم، وقد تكرر ذكر الوحي في الحديث ويقع على الكتابة والإشارة والرسالة والإلهام والكلام الخفي، يقال: وحيت إليه الكلام وأوحيت " (1). 4 - وفي أمالي الشريف المرتضى في تأويل الآية. (ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب) فأما أبو علي الجبائي فإنه ذكر أن المراد بالآية (وما كان لبشر أن يكلمه الله) إلا مثل ما يكلم به عباده من الأمر بطاعته والنهي لهم عن معاصيه وتنبيهه إياهم على ذلك على سبيل الوحي، وإنما سمى الله ذلك وحيا لأنه خاطر وتنبيه وليس هو كلاما على سبيل الافصاح كما يفصح الرجل منا لصاحبه إذا خاطبه، والوحي في اللغة إنما هو ما جرى مجرى الإيحاء والتنبيه على شئ من غير أن يفصح به، إلى أن قال: وعنى بقوله: (أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء) إرسال ملائكة بكتبه وكلامه إلى أنبيائه (عليهم السلام) ليبلغوا عنه ذلك عباده ويأمرهم فيه بطاعته وينهاهم عن معاصيه من غير أن يكلمهم على سبيل ما كلم به موسى (عليه السلام) وهذا الكلام هو خلاف الوحي الذي ذكره الله تعالى في أول الآية، لأنه قد أفصح تعالى لهم في هذا الكلام بما أمرهم به ونهاهم عنه، والوحي الذي ذكره تعالى في أول الآية إنما هو تنبيه وخاطر وليس إفصاحا، وهذا الذي ذكره أبو علي أيضا سديد والكلام محتمل لما ذكره. هذا خلاصة ما اتفق عليه الأئمة من مفسرين ولغويين من معاني الوحي الذي هو قدر مشترك بنيها، فأنت ترى أن منه ما يشارك به الإنسان العاقل المكلف أضعف أنواع الحيوان كالنحل والنمل والعنكبوت والأصداف، دع
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر، الإمام مجد الدين الجزري ابن الأثير، المكتبة العلمية، ج 5، ص 163. 135 على رجلين وأعلاها كلها في سلم الاجتماع وهو الإنسان، وهذا المعنى المشترك بين الحيوانات أدناها وأرقاها بل والنباتات، كما يرى علماء النبات قضت العناية الإلهية حفظا لأجناس ما ذرأ من المخلوقات وأنواعها أن تختص بغرائز وإلهامات تدفعها إلى ما ينفعها وتجنبها ما يضرها، على أن الإنسان مع مشاركته تلك المخلوقات في الغرائز والإلهام منحه الله تعالى العقل والحفظ والفكر والذكر، وفتح له أبواب العلم، واستخلفه في الأرض لإعمار الأرض، ومهد له سبل العروج إلى أبعد آفاق الرقي، بما سن له من الشرائع على ألسنة رسل موحى إليهم ممن اختصهم بأسمى درجات السمو والعلو تقويما لمسالكه وتثقيفا لمداركه وتقريبا له بالصلة الروحية من خالقه، وأمده بمعقبات من ملائكته يحفظونه من بين يديه ومن خلفه وبالملكين الحافظين له، وما إلى ذلك من ضروب العناية الإلهية بهذا البشر السوي الذي هو الدرة اليتيمة في سمط الابداع والنقطة في مركز الاختراع، واقتضت تلك العناية لحكم لا تحصى التفاوت بين أفراد، حتى يبلغ درجة انقطاع مساواتهم لمن بلغوا أقصى ذروات الكمال الإنساني الذي يفيض الكمال قوة وضعفا على نسبة قبول ذلك الفيض، ممن تتفاوت منهم مراتب قبوله خاشعين لسلطان قوته مختارين أو مضطرين، واقتضت المشيئة الربانية مع ما أوتي ذلك الصف من الكمال الإنساني والقوي القدسية أن تؤيده بالمعجزات الحسية مع تأييده بالمعجزات المعنوية والخلقية. إن صاحب التوضيح لم يفرق بين معاني الوحي، وحاول أن يخالف نصوص الأئمة التي أوردناها بجعله واردا على معنى واحد، وأورد من الشواهد على دعواه ما قد تبين أن جلها ليس من نوع الوحي المصطلح، وهو ما يوحي به إلى الأنبياء والمرسلين، فلا نعيده لأنه ترديد لا يغني غناء. إن من الغريب تأويله ما لا يحتمل التأويل من لفظ الحديث الصريح الدلالة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) " لم يبق من النبوة إلا المبشرات " قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة (1)، حيث قال: إن هذا الحديث لا يدل على انقطاع الوحي،
(1) صحيح البخاري، دار الفكر، ج 9، ص 40. 136 محتجا بأن ذلك لا يكون حقا بدليل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حق المسيح الموعود بأنه يوحي إليه. أما أولا فلان حصره بعدم بقاء شئ من النبوة إلا المبشرات شامل ولا ريب الوحي الذي هو دليل النبوة، بل هو والنبوة متلازمان، وأما احتجاجه بالوحي إلى المسيح فهو غريب، فإذا صح له ثبوت بقاء الوحي وادعى أن صاحبه ممن يوحى إليه فكيف ينكر الوحي إلى نبي بمثل ما يوحي به إلى نبيه المزعوم من إقرار شريعة خاتم النبيين واتباعها مع الاعتراف بنسخ شريعته التي نزلت عليه مضافا إلى ما ورد من حديث صحيح في نزوله وعمله بشريعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). إن استدلاله بالحديث.. " لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن يك في أمتي منهم أحد فعمر " لا يؤيد دعواه، فإن من المحتمل بل من القوي أن يراد من التكلم ما هو من نوع الالهام وهو ما يراد من إحدى معاني الوحي، أو أن يكون معناه أنهم يعملون بشريعة من يكلمهم الله وهم من أوحي إليهم من النبيين، فيكون إطلاق المكلمين من اتباعهم على المكلمين بالوحي وهم النبيون مجازا. وكذلك لا يثبت مدعاه استدلاله بالحديث " لقد كان فيمن قبلكم من الأمم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإنه عمر " فإنه يراد من هذا التحديث الفراسة والإلهام لا الوحي المخصوص به الأنبياء. وقال ابن الأثير في النهاية بعد إيراده هذا الحديث: " جاء في الحديث تفسيره أنهم الملهمون، والملهم هو الذي يلقى في نفسه الشئ فيخبر به حدسا وفراسة، وهو نوع يختص به الله تعالى من يشاء من عباده الذين اصطفى مثل عمر، كأنهم حدثوا بشئ فقالوه " (1)، على أنه يمكن أن يكون المفهوم من التعليق بأن الشرطية التي الأصل فيها عدم الجزم بوقوع الشرط في اعتقاد المتكلم في الحديثين أنه لا محدث في الأمة حتى ولا عمر، ولكن يثبت في نصهما مزيد فضل لعمر. واستدلاله على دعواه بقراءة ابن عباس وما أرسلنا من رسول ولا نبي ولا محدث لا يدل على مطلوبه، لأن الإرسال يشمل الرسول الموحى إليه وغيره.
(1) النهاية في غريب الحديث والأثر، م. س، ج 1، ص 350. 137 قال تعالى: (إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث) [يس / 14] وهم لم يكونوا أنبياء ولا رسلا منه تعالى، وإنما هم رسل عيسى، وإطلاق الإرسال عليهم مجاز ومثل ذلك المحدثون، ولو أفاد التحديث معنى الوحي والرسالة لادعى عمر النبوة أو الوحي أن الرسالة، وحاشا أن يدعيها هو أو أحد من الصحابة وأعلام الأمة وذوي الرسوخ في العلم والدين والشريعة، ولم يدعها إلا شذاذ من الغلاة عن هوس ووسواس أو عن قصد وعمد اصطيادا للجاه وطلبا للدنيا الواسعة. هذا ولا نرى حاجة لنقض أدلته الأخرى، وهي في جملتها وتفصيلها لا تخرج عن مضمون تلك الأدلة الواهية. بعض الأدلة على انقطاع الوحي وإليك طرفا وجيزا من الأدلة على انقطاع الوحي: 1 - في كتاب (تعريف الأحباء بفضائل الأحياء) للشيخ عبد القادر بن عبد الإله العيدروسي، حديث مسند إلى عبد الله بن عتبة بن مسعود، قال سمعت عمر بن الخطاب (رض) يقول: (إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه، وليس إلينا من سريرته شئ، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوى ذلك لم نأمنه وإن قال سريرتي حسنة). 2 - في صحيح البخاري بسنده إلى المغيرة بن شعبة: " لا يزال من أمتي قوم ظاهرين على الناس حتى يأتيهم أمر الله "، ومثله حديث يسنده إلى معاوية (لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من كذبهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك). ومثله ما رواه قبل ذلك عن المغيرة أيضا باختلاف يسير في لفظ الحديث (لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون) (1). وعن معاوية من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين،
(1) صحيح البخاري، تحقيق عبد العزيز بن باز، دار الفكر، ج 8، ص 189. 138 وإنما أنا قاسم ويعطي الله ولن يزال أمر هذه الأمة مستقيما حتى تقوم الساعة أو حتى يأتي أمر الله. إن المفهوم من هذه الأحاديث أن الأمة لا تخلو من قائمين بأمر الله مؤيدين شريعته عاملين بسنتها وكتابها، وهم منها متميزون لا بوحي منزل ولا نبي مرسل، بل بما حصلوه من علوم الدين، وبما اكتسبوه من أحكامه، وهي من متناولهم وعلى طرف الثمام، وقد دونت دواوينها وأحكمت قواعدها ورسخت أصولها ونمت فروعها ودنت من الجانين ثمراتها، فأغناهم ذلك عن وحي جديد ونبي جديد. قال ابن تيمية في رسالته (رفع الملام عن الأئمة الأعلام): وبعد فيجب على المسلمين بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين كما نطق به القرآن، خصوصا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم يهتدي بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم. وأما الآيات الدالة دلالة صريحة على الاستغناء عن الوحي والموحي إليهم فهي أكثر من أن تحصى، فمنها: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه) [النساء / 83] ومنها قوله تعالى: (فلو لا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) [التوبة / 122] ومنها قوله تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) [آل عمران / 110] ومنها: (وكذلك جعلنا كم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) ومنها: (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) كما قال: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) ومنها: (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول) [النساء / 59] ومعنى ذلك الرد إلى كتاب الله أو إلى سنة الرسول بعد موته. قال ابن تيمية: وقوله: (فإن تنازعتم) شرط والفعل نكرة في سياق الشرط، فأي شئ تنازعوا فيه ردوه إلى الله والرسول، ولو لم يكن بيان الله والرسول فاصلا للنزاع لم يؤمروا بالرد إليه، والرسول أنزل عليه الكتاب
139 والحكمة كما ذكر ذلك في غير موضع، وقد علم أمته الكتاب والحكمة كما قال تعالى: (ويعلمهم الكتاب والحكمة) [الجمعة / 2]. هذا ولنا أن نقول: إن لم يكن الرد إلى الكتاب والسنة رافعا للتنازع وحاسما لمادته، وكان هناك من يرد إليه غيرهما، لاقتضت الحكمة بيان ذلك المرجع، خاصة إذا كان نبيا موحى إليه محتاجا إليه في رفع النزاع لضرورة البيان في وقت الحاجة إلى البيان، وهذا ما لم يقل به مسلم ولا ورد به نص كتابي ولا حديث نبوي ولا دليل من الأدلة التي تعبدنا الله بها في أحكامه. وبعد فأنت ترى من مجموع هذه الآيات ما يستدل به على أن الأمة بعد ذلك البيان، وبعد قيام العلماء الراسخين بما قاموا به من إيضاح مناهج الشرع والدين بمحض الاكتساب، والجهاد الذي هو طريق العدالة الحقة في غنية عن وحي سماوي جديد وموحى إليه مؤيد بالمعجزات. أما ما اختص به أهل البيت وهم ثقل الرسول الأصغر الذين لم يفارقوا الثقل الأكبر وهو القرآن من الالهام وهو غير الوحي وغير النبوة، فقد استفاض به الحديث من طريق الفريقين السنة والشيعة. أدلته على بقاء الوحي 1 - ومن أغرب ما احتج به صاحب التوضيح من نداء السيد منير الحضي داعية مسيحه الهندي على بقاء الوحي، وهو ما ننقله بحرفه، قال: فلو بقي الله الكامل بذاته وصفاته وظهور صفاته غير متلكم بعد النبي عليه الصلاة والسلام إلى يوم القيامة، إذا لا فرق بينه وبين الأصنام والآلهة الأخرى الجامدة ثم دعم قوله هذا بما يلي ولذا نرى الله سبحانه يسفه عقول أولئك الذين يعبدون من دونه معبودا أبكم أصم بقوله في حق موسى (عليه السلام): (واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين) [الأعراف / 148] أوليس في هذه الآية دليل قاطع على أن الله تكلم بوحي لعباده على الدوام؟ إلخ، ولا يخفى ما في هذا الاستدلال من السفسطة والتمويه وبيان وإبطاله من وجوه:
140 1 - منع الملازمة بين مقدم هذه القضية الشرطية التي اصطنعها وتاليهم، إذ لا يلزم من بقائه تعالى بذاته وصفاته وظهور صفاته أن يكلم بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شخصا أو أشخاصا من الناس، إما بكلام من نوع ما كلم به رسله من طريق الوحي أو بكلام من نوع كلماته التي لا تتناهى: (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) [الكهف / 109] أما أولا فيما يجيب به السائل عن وقوع انقطاع الكلام الذي هو من نوع الوحي في زمن الفترة بين نبي ونبي آخر كمثل الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام، ويكون جوابنا وإن كان من نوع كلماته التي هي من غير الوحي وهي المشتملة على استمرار عنايته تعالى بمخلوقاته، ومتجددات آياته في أرضه وسماواته، وشمول ألطافه لكل من ذرأ من برياته، فهي دائمة غير منقطعة. 2 - إن لازم مقدمته الأولى أن يكون تكليمه تعالى عاما شاملا غير مخصوص بأشخاص أو زمان، ولازم جواز انقطاعه في زمان، بل وقوعه كما بينا من الفترة بين النبوات جواز انقطاعه بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يوم القيامة، وهو ما يعتقده المسلمون، دع الغلاة والمتهوسين ومن يستهدفون أغراضا باعتقاد غير ذلك. 3 - من لوازم قضيته أن التكليم عام للبشر لا خاص بمسيحه لأنه من لوازم دوام الكلام الذي يدعيه ولازم ذلك ارتفاع حاجة البشر لوحي خاص لرسول خاص لأن البشر كلهم مكلمون. 4 - الفرق بعيد جدا بين دعوى دوام الكلام واحتجاجه لها باحتجاجه تعالى على قوم موسى بعبادتهم عجلا من صنع أيديهم من مادة جامدة، كيف عبدوه وهم صانعوه وليس فيه شئ يستحق به أن يعبد؟ وحسبهم تسفيها لأحلامهم أنه لا يكلمهم، على أن هذا قياس مع الفارق، فإن حجته تعالى على من عبدوا العجل المصنوع من جامدات الأرض ينحل إلى قضية بديهية التسليم، وهي أن هذا العجل المصنوع الذي اتخذتموه آلها وعبدتموه، إن كان إلها مستحقا للعبادة كما تزعمون فمن أظهر ما يلزمكم أن يكون قادرا على
141 تكليمكم وهو شاهد محسوس، فإذا لم يقدر على الكلام والتكليم فقد فقد مزية الألوهية وهي القدرة على الكلام والتكليم فلم يكن آلها، ولم يحتج عليهم تعالى بمزايا الألوهية الأخرى وصفاتها من الخلق والانشاء وما إلى ذلك، بل احتج بما هو أظهر في الحجة وأبلغ في سخفهم وسفههم من عبادة أصم أبكم جامدا لا يكلمهم ولا يرجع إليهم قولا، وليست الحال كذلك بالنسبة إليه تعالى الذي إن لم يكلمهم حوارا فقد كلمهم اعتبارا وبلسان آثاره وبدائع آياته وأدلة وجوده، وناجاهم في عقولهم وغرائزهم بما هو أبلغ من الكلام وهو أقرب إليهم من حبل الوريد. 5 - إن القرآن الكريم هو مما كلم الله به نبيه بواسطة الوحي وأمته بواسطة، وهو غير منقطع وثابت على الدوام، وهو في الواقع ونفس الأمر تكليم للأمة، والقرآن قد أحصى كل ما ينتظم أمور مبدئها ومعادها. والمسيح الهندي كما يدعي أتباعه لم يؤت شرعا جديدا (وإن زعموا أنه أوحي إليه بكتاب جديد) فهو مكلم كغيره من آحاد الأمة. 6 - إن من لوازم دعواه تكفير كل من لا يعتقد بوحي ورسالة بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبنبوة المسيح الهندي، فعلى المسلمين والإسلام السلام لأنهم لا يعتقدون نبوته، فلتقر عينه وعيون أن تباعه بإيمانهم وحدهم وتكفير أهل القبلة الذي لم يجرؤ على القول به أحد من أهل القبلة. وبعد فهناك وجوه أخرى لبطلان دعواه أعرضنا عنها تجنبا للتطويل حيث لا طائل. (2) واستدل على بقاء الوحي بالآية (رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق) [غافر / 15]. ومعنى الروح الوحي، فلما كان الله رفيع الدرجات ذو العرش، وتوجد عباده وتوجد حاجة إلى الإنذار، فكيف يجوز أن يقال: بأن الوحي منقطع؟ والجواب: لم أجد في الآية ما يدل على بقاء الوحي وما كان استمرار وجود العباد واستمرار وجوب الانذار مستلزمين لاستمرار الوحي، فقد بينا آنفا في غير موضع ما لا
142 نحتاج معه إلى مزيد بيان بأن الانذار حاصل مستمر غير منقطع بالكتاب العزيز الحجة الخالدة القاطعة للمعاذير، وهو المتكلم والمخاطب به عامة المكلفين إلى قيام الساعة، والمفهوم بالمجمع عليه من تفاسيره الخالية من شائبة الإسرائيليات وأحاديث الحشويين ودس المعاندين والسنة الجامعة القائمة وبالقوام عليهما من أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) التي هي الوسط بين الأمم، ولا بد لنا بعد هذا الاجمال من إيراد بعض ما ذكره المفسرون الموثوق بهم في تفسير هذه الآية: ففي مجمع البيان للطبرسي " (يلقي الروح) وقيل: الروح هو القرآن، وكل كتاب أنزله الله تعالى على نبي من أنبيائه، وقيل: الروح الوحي هنا، لأنه يحيي به القلب، أي يلقي الوحي على قلب من يشاء ممن يراه أهلا له، يقال: ألقيت عليه كذا، أي فهمته إياه، وقيل: إن الروح جبرائيل (عليه السلام) يرسله الله تعالى بأمره، عن الضحاك وقتادة، وقيل: إن الروح ههنا النبوة عن السدي (لينذر) النبي بما أوحي إليه يوم التلاق " (1). وفي أنوار التنزيل للبيضاوي " (يلقي الروح من أمره) الآية، خبر رابع للدلالة على أن الروحانيات أيضا مسخرات لأمره بإظهار آثارها وهو الوحي، وتمهيد للنبوة بعد تقرير التوحيد، والروح الوحي، ومن أمره بيانه لأنه أمر بالخير أو مبدؤه، والأمر هو الملك المبلغ " (2) إلى مختاره للنبوة، وقريب منه ما جاء في الكشاف. وأما الفخر الرازي فنلخص بحثه الطويل في تفسير هذه الآية بما يلي: " واعلم أن أشرف الأحوال الظاهرة في روحانيات هذا العالم ظهور آثار الوحي، والوحي إنما يتم بأركان أربعة: فأولها: المرسل وهو الله سبحانه وتعالى فلهذا أضاف الوحي إلى نفسه فقال: (يلقي الروح). والركن الثاني: الإرسال والوحي، وهو الذي سماه بالروح. والركن الثالث: أن وصول الوحي من الله تعالى إلى الأنبياء لأن يمكن أن يكون إلا بواسطة الملائكة، وهو المشار
(1) مجمع البيان في تفسير القرآن، م. س، ج 8، ص 805. (2) أنوار التنزيل، أو تفسير البيضاوي، ج 4، ص 52. 143 إليه في هذه الآية بقوله: (من أمره). فالركن الروحاني يسمي أمرا، قال تعالى: (وأوحي في كل سماء أمرها) [فصلت / 12] وقال: (ألا له الخلق والأمر) [الأعراف / 54]. والركن الرابع: الأنبياء الذين يلقى الروح إليهم، وهو المشار إليه بقوله: (على من يشاء من عباده). والفرض والمقصود الأصلي من إلقاء هذا الوحي إليهم هو صرف الأنبياء بخلق عن عالم الدنيا إلى عالم الآخرة " (1). فأنت ترى من هذه الأقوال في تفسير الآية احتمالات لم يذكر بينها احتمال استمرار الوحي، ومع ثبوت الاحتمال يبصر الاستدلال. ثم أورد أدلة أخرى لا تخريج في معناها عن هذين الدليلين، فلا نطيل بنقضها الخطب. وإن أعجب من أمر فمن قوله: لم يكن حرمانه إياكم من نعمة الوحي إلا لاعتقادكم بانقطاعه وأنتم خير الأمم، وقد أوحى الله إلى كثير من رجال ونساء بني إسرائيل، فكيف لا يوحى إليكم؟ ولكنكم بأيديكم توصدون أمام وجوهكم أبواب نعمة الله: (وذلك ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين) [فصلت / 23]. فأنت ترى في زعمه هذا ما يدل على انقطاع الوحي عمن يعتقد انقطاعه، فكأن الوحي تابع للاعتقاد ببقائه واستمراره، وهذا منطق عجيب، ويلزمه على هذا القول الطريف أن يكون الوحي والنبوة مما يحصل بالاكتساب لكل من يعتقد بقاءهما، وقد فاز بنعمتها المسيح الهندي وأتباعه وحرمهما من لا يرى عقيدتهم وهم المسلمون كافة، اللهم إلا القاديانية ومن انتحل مثل نحلتهم. إن لنا أسوة حسنة وقدوة صالحة بسلف الأمة من الصدر الأول والقرن الأول والذي يليه وبالأصحاب وتابعيهم وتابعي تابعيهم، وهم العارفون بالله تعالى وبأحكام دينه وبمعاني كتابه ومحكم آية ولحن خطابه وبمجاري سنته،
(1) مفاتيح الغيب، ج 9، ص 499. 144 وهم لم يفرطوا بشئ من ذلك ولم يدعوا وحيا ولا نبوة واعتصموا بما يغنيهم عن الوحي الموهوم والنبي المزعوم ألا وهما الثقلان الأكبر والأصغر ولم ينقصهم شيئا من أقدارهم تركهم الاعتقاد ببقاء الوحي والنبوة بل اتبعوا في ذلك الذين الحق. أفيرى المسيح الهندي وأتباعه أنهم أفضل منهم جميعا، وأن نفوسهم أسمي من نفوسهم وأكثر استعدادا لتنزل الوحي عليهم، وهم ورثة الأنبياء الهادون المهديون، ومن أجدر بأن يكون من الخاسرين أهذا الفريق الصالح من الأمة الذي لم يخالف نصا ولا يفارق جماعة ولم يدع الحيطة لدينه، أم من يفارق ما أجمعت عليه الجماعة والله مع الجماعة؟؟ ثم عقد بحثا آخر ذيلا لبحثه في هذا الفصل (بقاء الوحي) فقال: هل يوحي إلى غير الأنبياء؟ متمسكا بما فهمه أو بما أراد به التضليل والتمويه من تخصيصه الوحي بوحي النبوة، وقد سبق أن للوحي معاني فإن أراد وحي النبوة فقد بينا انقطاعه بما لا مزيد عليه، وإن أراد منه الهداية والإلهام واللطف الإلهي فذلك باق مستمر. عود على بدء رأينا أن نختم تعليقنا على هذا الفصل (بقاء الوحي) بأدلة أخرى سمعية تثبت انقطاعه وتقوى الأدلة التي أوردناها في الصفحة (81). فمن ذلك ما ورد في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد من خطبة لخالد ابن الوليد بعد البيعة بالخلافة لأبي بكر (رض): " ألا وإن الوحي لم ينقطع حتى أحكم، ولم يكن بعد النبي نبي فنستبدل بعده نبيا، ولا بعد الوحي وحي " (1). ومنه من خطبة للحسن البصري ذكرها في شرح النهج: " أمتكم آخر الأمم وأنتم آخر أمتكم، وقد أسرع بخيار كم فلا تنتظرون المعاينة فكأن قد هيهات هيهات ذهبت الدنيا بحاليها وبقيت الأعمال قلائد في الأعناق، فيا لها موعظة
(1) شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، دار الهدى الوطنية، ج 1، ص 469. 145 لو وافقت من القلوب حياة، إلا أنه لا أمة بعد أمتكم، ولا نبي بعد نبيكم، ولا كتاب بعد كتابكم " (1). وفي كلام الحسن البصري، وهو من أعلام الأمة إبطال لكل ما ادعاه القاديانية من بقاء الوحي وإرسال رسل بعد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وتنزيل كتاب جديد. ومنه ما في شرح النهج ردا على النظام: " وكيف ينسب أمير المؤمنين إلى أنه كان يوهم الناس بنزول الوحي وبسيفه ثبت أن ابن عمه خاتم المرسلين، حيث يقول: ما كذبت وكذبت كيف ينتظرون نزول الوحي، فإن من نزل عليه الوحي لا يحتاج أن يسند الخبر إلى غيره، ويقول: ما كذبت فيما أخبرتكم به عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " (2). ومنه ما في شرح النهج أيضا في شرح قول علي (عليه السلام) من خطبة: أرسله على حين فترة من الرسل " الفترة بين الرسل انقطاع الرسالة والوحي، وكذلك كان إرسال محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لابن بين محمد وبين عهد عيسى (عليه السلام) عهدا طويلا، أكثر الناس على أنه ستمائة سنة، ولم يرسل في تلك المدة رسول اللهم إلا ما يقال عن خالد بن سنان العبسي، ولم يكن نبيا ولا مشهورا " (3)، وقول علي (عليه السلام) أيضا عن شرح النهج " حتى تمت بنبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) حجته، وبلغ المقطع عذره ونذره " وقال في شرحه: قوله وبلغ المقطع عذره ونذره، ومقطع الشئ حيث ينقطع ولا يبقى خلفه شئ منه، أي لم يزل يبعث الأنبياء واحدا بعد واحد حتى بعث محمدا (صلى الله عليه آله وسلم) فتمت به حجته على الخلق أجمعين، وبلغ الأمر مقطعه أي لم يبق بعده رسول ينتظر وانتهت عذر الله ونذره، فعذره ما بين للمكلفين من الأعذار في عقوبته لهم إن عصوه، ونذره ما أنذرهم به من الحوادث، وما أنذرهم على لسانه من الرسل " (4).
(1) م. س، ج 2، ص 9. (2) م. س، ج 2. ص 148. (3) م. س، ج 2، ص 135. (4) م. س، ج 2، ص 120. 146 فهل بعد هذا البيان ما يقطع حجة القاديانية على دعوى بقاء الوحي والرسالة بيان أكثر منه وضوحا وجلاء للحق الذي لا ريب فيه. وبعد فلو أردنا استقصاء كل ما ورد من سلف الأمة وخلفها مما هو نص صريح على انقطاع الوحي والنبوة، لاحتجنا إلى إخراج كتاب ضخم، وما أعرض العلماء عن مثل هذا التأليف في هذا المعنى مع سعة التأليف. وتعد طرق التآليف وموضوعاتها إلا لأنها من البداءة بعد تضافر النصوص على سد باب الوحي والنبوات بنبوة خاتم الأنبياء والمرسلين، على أنهم عرضوا لهذا البحث في مباحثهم الكلامية ومنه الشئ الكثير في مطاوي أبحاثهم في التفسير والحديث، وقد فرغوا من الحكم على مدعي ذلك أنه واحد من اثنين: إما ممرور متهوس موسوس، وإما متعمد يلتمس من هذا الباب العلو والظهور ومتاع الدنيا وغرورها ومظاهرها الخلابة، وكلاهما لم تقم له هذه الدعوى حتى افتضحت وبدا عوارها وظهر شنارها (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) [الرعد / 17] وما كانت دعوى القادياني إلا كدعوى من تنبأوا من الأغمار في مختلف الأعصار، لم تستحق شيئا من عناية العلماء في دحضها ونقضها، وكفاهم منها أنها كانت صرخة في واد وهبوة من رماد، لم تنجل عن وري زناد، ولم تبق منها السوافي غير سحم الأثافي، وللحق العلو والاستعلاء من قبل ومن بعد والله غالب على أمره.
147 الباب الثالث: في التعليق على الفصل الثالث النبوة في خير الأمم
149 استند صاحب التوضيح على نداء منير الحضي في إثبات بقاء النبوة بزعم القاديانية وعمدة استدلاله آي من الكتاب الحكيم وبعض الأحاديث، أما الآيات: فالآية الأولى: (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس) [الحج: 75]. قال في وجه الاستدلال: فهذا الاصطفاء بصيغة المضارع يدل على الاستمرار. والآية الثانية: (يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح) [الأعراف: 35]. قال: فلفظ يأتينكم يدل على مجئ الرسل في المستقبل. الآية الثالثة: (رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده) [المؤمن: 15] فلفظ يؤتي وينزل بصيغة المضارع على بقاء الوحي في المستقبل. الآية الرابعة: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) [المائدة: 3]. الآية الخامسة: (ومن يطع الله والرسول) [النساء: 69] بأن كل من يطبع الله ورسوله على حسب إطاعته ينال مقاما عند الله من إحدى المقامات الأربعة المذكورة، بلوغ درجات النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ومن ضمنها النبوة، وأن حرف (مع) في هذه الآية يتضمن معنى (من) أيضا، وإلا يكون معنى الآية بأن المطيعين لله والرسول يكونون في مصاحبة المنعمين عليهم ولا يكونون منهم، وفساد هذا المعنى واضح. والجواب: أما عن الاستدلال بالآية الأولى بأن التعبير بالاصطفاء بصيغة المضارع يدل على الاستمرار، فيدفعه أن التعبير عن الماضي بالمستقبل والمستقبل بالماضي هو من سنن اللغة العربية وخصائصها، وجرى القرآن الشريف على هذا التعبير في آيات كثيرة يتعذر علينا إحصاؤها، وإحصاؤها مؤد إلى التطويل، فنقتصر على إيراد طائفة من أقوال علماء اللسان والبيان في هذا
151 المعنى، مما فيه الدلالة الصريحة على شيوع هذا التعبير في كلام العرب واستعمال القرآن له. قال ابن هشام في المغني في القاعدة السادسة: " إنهم يعبرون عن الماضي والآتي كما يعبرون عن الشئ الحاضر قصدا لإحضاره في الذهن حتى كأنه مشاهد حالة الأخبار نحو: (وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة) لأن لام الابتداء للحال، ونحو: (هذا من شيعته وهذا من عدوه) إذ ليس المراد تقريب الرجلين من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما تقول: هذا كتابك فخذه، وإنما الإشارة كانت إليهما في ذلك الوقت هكذا فحكيت، ومثله: (والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا) قصد بقوله سبحانه وتعالى: (فتثير) إحضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة من إثارة السحاب، تبدو أولا قطعا ثم تتضام متقلبة بين أطوار حتى تصير ركاما، ومنه: (ثم قال له كن فيكون) أي فكان، (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق)، و (ونريد أن نمن على الذي استضعفوا في الأرض - إلى قوله - ونري فرعون وهامان) " (1). وقال السعد التفتزاني في شرح التلخيص (المطول): " ولو ترى إذ وقفوا على النار)، الخطاب لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أو لكل من يتأتي منه الرؤية، وكذلك قوله تعالى: (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم) (ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم) لتنزيل المضارع منزلة الماضي، بصدوره أي المضارع أو الكلام عمن لا خلاف في إخباره، فالمستقبل الذي أخبر عنه بوقوعه بمنزلة الماضي المتحقق، أو لاستحضار الصورة يعني صورة رؤية الكافرين قائلين: (يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا) وكذا صورة الظالمين موقوفين عند ربهم والمجرمين ناكسي رؤوسهم متقاولين بتلك المقاولات، كما قال الله تعالى: (فتثير سحابا) بلفظ المضارع بعد قوله تعالى: (الذي أرسل الرياح) استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة ".
(1) مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، الإمام عبد الله بن هشام الأنصاري، دار إحياء التراث العربي، ج 2، ص 690. 152 وقال ابن فارس في كتابه الصاحبي: (باب الفعل يأتي بلفظ الماضي وهو راهن أو مستقبل، وبلفظ المستقبل وهو ماض)، وأورد على ذلك شواهد منها: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه) أي يأتي ويجئ بلفظ المستقبل وهو ماض، قال الشاعر: ولقد أمر على اللئيم يسبني * فمضيت عنه وقلت: لا يعنيني فقال: أمر، ثم قال: ومضيت، وفي كتاب الله جل ثناؤه: (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل) وقال: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان) أي ما تلت، ومثله: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم) المعنى فلم عذب آباءكم بالمسخ، لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يؤمر بأن يحتج عليهم بشئ لم يكن، لأن الجاحد يقول: إني لا أعذب لكن أحتج عليهم بما كان " (1). وقال الثعالبي في كتابه (فقه اللغة): فصل (في الفعل يأتي بلفظ الماضي وهو مستقبل وبلفظ المستقبل وهو ماض)، أما الأول فمثل له بقوله تعالى: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه). والثاني بقوله تعالى: (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل) وقوله تعالى: (واتبعوا ما تتلو الشياطين) أي ما تليت. وقال ابن الأثير في المثل السائر: " إعلم أن الفعل المستقبل إذا أتي به في حالة الإخبار عن وجود الفعل، كان ذلك أبلغ من الإخبار بالفعل الماضي، وذلك لأن الفعل المستقبل يوضح الحال التي يقع فيها ويستحضر تلك الصورة حتى كأن السامع يشاهدها، وليس كذلك الفعل الماضي، إلى أن قال: عطف المستقبل على الماضي ينقسم إلى ضربين: أحدهما بلاغي وهو إخبار عن ماض بمستقبل، والآخر غير بلاغي وليس إخبارا بمستقبل عن ماض، وإنما هو مستقبل دل على معنى مستقبل غير ماض ويراد به أن ذلك الفعل مستمر الوجود
(1) الصاحبي في فقه اللغة العربية ووسائلها، العلامة أحمد بن فارس بن زكريا الرازي، مكتبة المعارف، ص 223. 153 لم يمض، فالضرب الأول كقوله تعالى: (والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور) [فاطر / 9]. فإنه إنما قال فتثير مستقبلا وما قبله وما بعده ماض، لذلك المعنى الذي أشرنا إليه هو حكاية الحال التي يقع فيها إثارة الريح السحاب واستحضار تلك الصورة البديعة على القدرة الباهرة، وهكذا يفعل بكل فعل فيه نوع تمييز وخصوصية كحال تستغرب أو تهم المخاطب أو غير ذلك، وأورد شواهد على ذلك. وأما الضرب الثاني الذي هو مستقبل، فكقوله تعالى: (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله) [الحج / 25] فإنه إنما عطف المستقبل على الماضي، لأن كفرهم كان ووجد ولم يستجدوا بعده كفرا ثانيا وصدهم متجدد على الأيام لم يمض كونه، وإنما هو مستمر يستأنف في كل حين، وكذلك ورد قوله تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير) [الحج / 63] ألا ترى كيف عدل عن لفظ الماضي ههنا إلى المستقبل، فقال: فتصبح الأرض مخضرة ولم يقال فأبحت عطفا على أنزل، وذلك لإفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان، فإنزال الماء مضى وجوده واخضرار الأرض باق لم يمض. هذا خلاصة ما ذكره أئمة اللسان والبيان وجهابذة البلاغة في معنى اختلاف التعبير باختلاف ما يعبر عنه حقيقة ومجازا واستعارة وكناية لاعتبارات خطابية وأسرار بيانية، وبمراعاة تلك الاعتبارات تفاوتت ضروب الكلام وكشفت الأستار عن وجوه إعجاز القرآن، ومن أوتي شيئا من الذوق البياني وعلما من الأسلوب القرآني وانعم النظر وأمعن الفكر في هذه الخلاصة التي احتوت على بيان الحكمة في التعبير عن الماضي، بلفظ المستقبل وبلفظ المستقبل عن الماضي يظهر له جليا أن التعبير بلفظ يصطفي بدلا من لفظ اصطفى لحكمة ظاهرة، وهي أن الآية رد لما أنكره المشركون من أن يكون الرسول من البشر، وبيان أن رسل الله على ضربين ملائكة وبشر، ولما كان الغرض من اصطفاء الرسل من الضربين وهو التكليف بما يصلح البشر في
154 المبدأ والمعاد مستمرا وأثره باقيا، اقتضت البلاغة والحكمة التعبير عن الاصطفاء بلفظ المستقبل لا بلفظ الماضي لاستمرار التكليف وبقاء أثره، فهو كمثل التعبير في الآية فتصبح مخضرة بلفظ المستقبل دون الماضي، فأصبحت لبقاء أثر المطر زمانا بعد زمان، فإنزال الماء مضى وجوده واخضرار الأرض باق غير ماض. وعن الآية الثانية (يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم) بوجوده: 1 - أن يراد من إتيان الرسل استمرار شرائعهم واستمرار تكليف بني آدم باتباعها والعمل بها، سواء من عاصر الرسل أو عاصر أوصياءهم في زمن الفترة بين رسول ورسول وزمن تواتر إرسال الرسل أو من ختمت في أزمانهم النبوات والرسالات، ومثل هذا الاستعمال في لغة العرب وأسلوب الكتاب الحكيم مستفيض، وتقدم ما يكفينا عن الإعادة من جواز مثل هذا الاستعمال. 2 - إن الظاهر من لفظ (يقصون عليكم آياتي) من سلف من الرسل ممن قصوا أيات الله عز وجل على أممهم الذين أرسلوا إليهم وبينوا أحكامه، وتم ذلك البيان وانتهت الحجة بخاتمهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو الذي تحقق فيه وفي رسالته الخالدة الباقية ما بقيت السماوات والأرض مضمون الآية: (وتمت كلمة ربك) بالأحكام والمواعيد (صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته) بنقض أو خلف، وبشمول الخطاب (يا بني آدم)، لمن عاصر رسالته ولمن بعدهم عبر بلفظ يأتينكم بالمستقبل لاستمرار رسالته واستمرار التكليف بها. 3 - إن هذا التعبير وإن كان ظاهره الاستقبال فيجوز أن يكون معدولا به عن الماضي، استحضارا لما في قصص الأنبياء من الاعتبار بآيات الله وهي لما فيها من العبر والعظات والتذكر بأيام الله فيمن انحرف عن سننه التي لا تتبدل، ولما فيها من الروعة وزجر النفوس الجامحة المسترسلة لأهوائها عن مخالفة تلك السنن، وتوقع أن يصيبها ما أصاب أمم تلك الرسل من المثلات كان من البلاغة العدول عن التعبير بلفظ الماضي إلى لفظ المستقبل، على أن وصف
155 الرسل في الآية بالقاصين آيات الله يدل على بطلان دعوى إرسال الرسل بعد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه أتى بالذكر الحكيم مجتمعة فيه قصص الأنبياء وما قصه من آيات ربه مستكملة جامعة، فلم يبق منها شئ مجهول يحتاج إلى من يبينه بعد الرسول. وإذا ضم إلى هذه الوجوه النص والاجماع من المسلمين على انسداد باب الرسالات والنبوات، وبما سلف من الدليل على انقطاع الوحي، وبما سنأتي به من دليل ساطع وبرهان لامع على انقطاع النبوة لم يبق لاحتجاج صاحب التوضيح محصل، على أن تلك الاحتمالات القائمة في تأويل الآية والتي تؤيدها الشواهد الكثيرة من كلام البلغاء ومن القرآن المجيد كان في بطلان احتجاجه. وعن الآية الثالثة: (رفيع الدرجات ذو العرش) [غافر / 15] مر في تفسير هذه الآية في باب الوحي ص 87. وعن الآية الرابعة: (اليوم أكملت لكم دينكم) [المائدة / 3] هي على عكس دعواه أدل وإليك ما فسرت به. ففي أنوار التنزيل للبيضاوي: " (اليوم أكملت لكم دينكم) بالنصر والإظهار على الأديان كلها أو بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد (وأتممت عليكم نعمتي) بالهداية والتوفيق، أو بإكمال الدين، أو بفتح مكة وهدم منار الجاهلية ". وفي الكشاف: " (أكملت لكم دينكم) كفيتكم أمر عدوكم وجعلت اليد العليا لكم، كما تقول الملوك: اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد إذا كفوا من ينازعهم الملك ووصلوا إلى أغراضهم ومباغيهم، أو أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكليفكم من تعليم الحلال والحرام والتوقيف على الشرائع وقوانين القياس وأصول الاجتهاد (وأتممت عليكم نعمتي) بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين، وهدم منار الجاهلية ومناسكهم، أن يحج معهم مشرك ". وفي مجمع البيان: " (اليوم أكملت لكم دينكم) قيل: فيه وجوه: الأول: إن معناه أكملت لكن فرائضي وحدودي وحلالي وحرامي بتنزيلي ما أنزلت وبياني ما بينت لكم، فلا زيادة في ذلك ولا نقصان منه بالنسخ بعد هذا
156 اليوم الثاني: إن معناه اليوم أكملت لكم حجكم وأفردتكم بالبلد الحرام تحجونه دون المشركين، ولا يخالطكم مشرك. الثالث: أن معناه اليوم كفيتكم الأعداء وأظهرتكم عليهم كما تقول: الآن كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد بأن كفينا ما كنا نخافه. والمروي عن الإمامين أبي جعفر وأبي عبد الله (عليه السلام) أنه إنما أنزل بعد أن نصب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا (عليه السلام) علما للأنام يوم غدير خم منصرفة عن حجة الوداع، قالا: وهو آخر فريضة، أنزلها الله تعالى ثم لم ينزل بعدها فريضة إلى كلام بهذا المضمون لا يتعلق لنا به غرض في هذا البحث. فأنت ترى من أقوال هذا الفريق من المفسرين ما هو صريح في عكس ما يفسر به الآية صاحب التوضيح. وعن الآية الخامسة: (ومن يطع الله ورسوله) [النساء / 69] بأنها لا تدل على دعواه، وإليك ما جاء في تفسيرها وسبب نزولها، ففي الكشاف: " وهذا ترغيب للمؤمنين في الطاعة حيث وعدوا مرافقة أقرب عباد الله إلى الله وأرفعهم درجات عنده، إلى أن قال: وروي أن ثوبان مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان شديد الحب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قليل الصبر عنه، فأتاه يوما وقد تغير وجهه ونحل جسمه وعرف الحزن في وجهه، فسأله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حاله، فقال: يا رسول الله ما بي من وجع غير أني إن لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، فذكرت الآخرة، فخفت أن لا أراك هناك، لأني عرفت أنك ترفع مع النبيين، وإن أدخلت الجنة كنت في منزل دون منزلك، وإن لم أدخل فذاك حين لا أراك أبدا، فنزلت فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه وأبويه وأهله وولده والناس أجمعين، وحكي ذلك عن جماعة من الصحابة " (1). وعن البيضاوي في كتابه أنوار التنزيل: " مزيد ترغيب في الطاعة بالوعد عليها مرافقة أكرم الخلائق وأعظمهم قدرا (من النبيين) بيان (للذين) أو حال
(1) الكشاف، م. س، ج 1 ص 531. 157 منه، أو من ضمير (عليهم)، قسمهم أربعة أقسام بحسب منازلهم في العلم والعمل وحث كافة الناس على أن لا يتأخروا عنهم، وهم الأنبياء الفائزون بكمال العلم والعمل المتجاوزون حد الكمال إلى التكميل، ثم الصديقون ثم الشهداء ثم الصالحون، وبين مزايا كل قسم منهم، ثم أورد الرواية السابقة في سبب نزول الآية ". وعن مفاتيح الغيب للرازي بعد أن ذكر روايات في أسباب نزول الآية قال: " قال المحققون: لا ينكر صحة هذه الروايات إلا أن سبب نزول الآية يجب أن يكون شيئا أعظم من ذلك وهو البعث على الطاعة والترغيب فيها " (1)، ثم أطال البعث فيما لا يخرج عن معنى مرافقة المطيع لله ورسوله للأنبياء والشهداء والصديقين والصالحين في الجنة في الدار الآخرة لا أنه يبلغ بها إحدى المقامات الأربعة ومنها درجة النبوة كما يريد صاحب التوضيح. وعن مجمع البيان: " (ومن يطع الله) بالانقياد لأمره ونهيه، (والرسول) باتباع شريعته والرضا بحكمه (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم) في الجنة، ثم بين المنعم عليهم، فقال: (من النبيين والصديقين) يريدانه يستمتع برؤية النبيين والصديقين وزيارتهم والحضور معهم، فلا ينبغي أن يتوهم من أجل أنهم في أعلى عليين أنه لا يراهم، وقيل في معنى الصديق: المصدق بكل ما أمر الله به وبأنبيائه لا يدخله في ذلك شك، (والشهداء) يعني المقتولين في الجهاد، (والصالحين) معناه صلحاء المؤمنين الذين لم تبلغ درجتهم درجة النبيين والصديقين والشهداء، إلى أن قال: وروى أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: " يا أبا محمد لقد ذكركم الله في كتابه ثم تلا هذه الآية، وقال: فالنبي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونحن الصديقون والشهداء وأنتم الصالحون، فتسموا بالصلاح كما سماكم الله تعالى " (2).
(1) مفاتيح الغيب، ج 4، ص 133. (2) مجمع البيان، 3 - 4 / 111. 158 وهذا ما فهمه هؤلاء المفسرون من الآية، وهو ما يفهمه منها كل من له أدنى ذوق في فهم أساليب الكلام وأقل أنس بالتفسير، وليست الآية من المجملات ولا المتشابهات ليكون فيها مجال للتأويل. أما قوله: إن (مع) متضمنة (من) ففيه: 1 - لم يقل أحد من المفسرين الذين نرجع إلى كتبهم في كتابة هذا الرد بهذا التضمين في تفسير هذه الآية، كما أنه لا داعي له كما سنرى قريبا. 2 - لم نجد في كتب اللغة التي هي في متناولنا كالقاموس والمصباح والمخصص ولا في فقه اللغة (الصاحبي) لابن فارس والمغني لابن هشام نصا على مرادفة (من) ل (مع) ففي القاموس: " (مع) اسم وقد يسكن وينون، أو حرف خفض، أو كلمة تضم الشئ إلى الشئ وتكون بمعنى (عند) " (1). وفي المغني: " (مع) اسم بدليل التنوين في قولك: (معا)، ودخول الجار في حكاية سيبويه، ذهبت من (معه) إلى أن قال: ولها حينئذ ثلاثة معان: أحدها موضع الاجتماع، الثاني: زمانه، الثالث: مرادفة (عند) " (2). وفي المصباح (مع) ظرف على المختار بمعنى (لدن) لدخول التنوين نحو خرجنا معا، ودخول (من) عليه ونحو جئت من معه أي من عنده. 3 - إن مورد الآية ليس من موارد التضمين، وإليك ما ذكره علماء العربية من معناه، فقد قالوا: إنه إجراء أحكام لفظ على آخر يدل على معناه، وقيل: هو اشراب لفظ معنى لفظ آخر ليعطي حكمه ويدل على الثاني بذكر شئ من متعلقاته، أو حذف شئ من متعلقات الأول، كما قال صاحب الكشاف: " إنهم يضمنون الفعل معنى فعل آخر فيجرونه مجراه ". وقال ابن جني في الخصائص: " إعلم أن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر وكان أحدهما يتعدى بحرف والآخر بآخر، فإن العرب قد تتوسع فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبه إيذانا بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر، فلذلك جئ معه بالحرف المعتاد مع ما هو في
(1) القاموس المحيط، ج 3، ص 112. (2) مغني اللبيب، ج 1، ص 333. 159 معناه، وذلك كقوله تعالى: (الرفث إلى نسائكم) وأنت لا تقول: رفثت إلى المرأة، وإنما تقول: رفثت بها أو معها، لكنه لما كان الرفث هنا بمعنى الافضاء وكنت تعدي أفضيت بإلى، كقولك: أفضيت إلى المرأة جئت بإلى مع الرفث إيذانا وإشعارا بأنه بمعناه هذا إلى كلام طويل "، نحيل صاحب التوضيح على مراجعته في كتاب طراز المجالس للخفاجي. 4 - لا نسلم أن حمل (مع) على المصاحبة مفسد للمعنى أولا: لما أوردناه من كلمات المفسرين في معنى الآية، وثانيا: لجواز أن يراد مع معنى المصاحبة التبعيض، فإن من كان من المطيعين لله والرسول وكان مع المنعم عليهم بسبب الطاعة صح أن يكون معهم ومعنى جملتهم باللازم، ولا يكون من باب التضمين ولا من مرادفة (من) ل (مع) وإن نسب هذا القول لمجهول وكأنه ناظر بزعمه التضمين أو الترادف، إلى ما جاء في مجمع البيان في تفسير الآية: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) [التوبة: 119] من جمعه بين هذه القراءة وقراءة من قرأ (من الصادقين) بأن (مع) للمصاحبة و (من) للتبعيض، فإذا كان المطيعون من جملتهم فهم معهم، على أن هذا التخريج المبني على تلك القراءة في هذه الآية لا يثبت مطلوب صاحب التوضيح، غاية ما في الباب أنه يثبت كونه من أصحاب تلك الدرجات، أي من بعضهم في الثواب والقرب لا أنه مستجمع لتلك الدرجات كلها النبوة والشهادة والصدق والصلاح، ويكون من قبيل قولهم: خادم القوم منهم، إذا صح أن يكون جامع صفة من صفات أصحاب تلك الدرجات كالشهادة والصدق والصلاح مندرجا فيهم، فلا يصح ذلك في النبوة لثبوت انقطاعها بالنص والاجماع، وفي هذا كفاية ومقنع للمنصف. وأما استدلاله بالأحاديث الحديث الأول: فمن ذلك حديث (مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بني دارا) (1)....
(1) فتح الباري لابن حجر، دار الفكر، ج 13، ص 256. 160 قال: فلا يدل على انقطاع النبوة بعده، لأن هذا المثال إنما ذكره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقابلة الأنبياء الذين جاؤوا قبله، ولكن يدل الحديث على أن عيسى (عليه السلام) توفي ولا يرجع إلى هذا العالم أبدا، لأنه لا حاجة إلى إخراج لبنة من الدار أي عيسى (عليه السلام) وإرساله مرة أخرى، وإلا نضطر للاعتقاد بأن الدار ناقصة والذي يكملها ويجعلها أحسن هو عيسى (عليه السلام). وثانيا: إن المراد من هذا المثل أن نبوة الأنبياء من حيث الشريعة ومن حيث إنهم كانوا يرسلون إلى أقوام مخصوصة لم تكن بالغة إلى نهايتها، فتمت مراتب النبوة ببعثة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم تبق مرتبة يمكن للبشر الحصول عليها إلا ونالها محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فالذي يأتي بعده هو يكون من أتباعه. ثالثا: نعم نعتقد بأنه لا يأتي بعده نبي مستقل كالأنبياء السابقين، بل إذا أتى يكون تحت حكم شريعته ومن أمته، فنبوته ليست غير نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بل هي عينها كما قال المسيح الموعود: (وليست نبوتي إلا نبوته، وليس في جبتي إلا أنواره وأشعته، ولولاه لما كنت شيئا يذكر) إلخ... والجواب: 1 - إن هذا الحديث الذي استنتج منه نبوة صاحبه بهذا التمحل الغريب ولم يذكره بتمامه، نرى لزاما علينا إيراده بحرفه، فقد أخرج البخاري في صحيحه مسندا إلى جابر بن عبد الله قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " مثلي ومثل الأنبياء كرجل بني دارا فأكملها وأحسنها، إلا موضع لبنة، فجعل الناس يدخلونها ويعجبون ويقولون: لولا موضع اللبنة " (1). ثم خرج رواية أخرى مسندة إلى أبي هريرة... أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بني بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة، قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين " (1).
(1) صحيح البخاري، ج 2، ص 196، كتاب المناقب، الباب 18. (2) م. س، ج 2، ص 196. 161 فأنت ترى من مجموع الروايتين على اختلاف سنديهما ما هو صريح بإكمال الدار وتحسينها وتجميلها وسد فراغ اللبنة به (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: فأنا اللبنة، وبما هو أبين وأصرح من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): وأنا خاتم النبيين، وهذا هو المقصود من هذا المثال، وأن النبيين اختتموا بنبوته لا أنه زينتهم، وهذا ما يفهمه كل عارف بأساليب الكلام. 2 - إنه عدل عن ظاهر الحديث الدال على انقطاع النبوة إلى تفسيره بمعنى غير مفهوم من لفظه بقوله: لأن هذا المثال إنما ذكره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مقابلة الأنبياء الذين جاؤوا قبله. لم نجد محصلا لحمل الحديث على معنى المقابلة، لأن المقابلة بمعنييها اللغويين المواجهة والمعارضة، لا مورد لواحد منهما في هذا المقام كما هو بين، وكذلك الحال في حمل المقابلة على معنى التقابل الاصطلاحي ففي التعريفات للجرجاني: " المتقابلان هما اللذان لا يجتمعان في شئ واحد من جهة واحدة قيد بهذا ليدخل المتضايفان في التعريف، والمتقابلان أربعة أقسام: الضدان والمتضايفان والمتقابلان بالعدم والملكة، والمتقابلان بالايجاب والسلب ". شئ من ذلك غير مفهوم من الحديث وإنما المفهوم منه وهو غير ما فهمه بالطبع أن الله عز وجل أرسل الرسل إلى الأمم مبشرين ومنذرين ما حسب استعدادهم لقبول شرائعه، مع مراعاة سنن الترقي في عقولهم وفي مجتمعاتهم، وقبولهم تلك الشرائع، حسب تدرجهم في الرقي في مختلف العصور، إلى أن استكملوا رشدهم وبلغوا أشدهم وأصبح في استطاعتهم أن يقبلوا تشريعا حكيما نافذا حكمه فيهم وفيمن يليهم ومن بعدهم إلى قيام الساعة، فكان ذلك التشريع الإسلام وكان المخصوص بالاضطلاع بأعبائه نبي الإسلام عليه أفضل الصلاة والسلام، فبشريعته استكملت الشرائع وكانت موردا عذبا مستساغا لكافة الأنام، فبرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أكملت الدار وهي الشريعة العامة الخالدة بخلود الذكر المبين، وسد ذلك الفراغ من تلك الدار باللبنة وهو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو خاتم المرسلين، هذا هو المفهوم من هذا المثال.
162 3 - إن من التحكم المحض قوله: (ولكن يدل الحديث على أن عيسى (عليه السلام) توفي ولا يرجع إلى هذا العالم أبدا، لأنه لا حاجة إلى إخراج لبنة من الدار) إلخ. أما أولا: فلان عيسى (عليه السلام) لم يرد له ذكر في هذا الحديث ولا يدل عليه بدلالة من إحدى الدلالات، وبذلك تشفي اللوازم التي رتبها عليه، وهي وفاته وعدم رجوعه إلى العالم وإخراج لبنة من الدار، وإرساله مرة أخرى، والاضطرار إلى الاعتقاد بأن الدار ناقصة والذي يكملها ويجعلها أحسن هو عيسى (عليه السلام) على أن اللازم الأخير يلزمه بأن الدار ناقصة، وأن الذي يكملها ويجعلها أحسن هو مسيحه الموعود وما يكون جوابه فهو جوابنا. وأما ثانيا: فإنا نعترف بصحة ما فسر به الحديث في الوجه الثاني، من أن المراد من هذا المثل أن نبوة الأنبياء من حيث الشريعة ومن حيث أنهم كانوا يرسلون إلى أقوام مخصوصة لم تكن بالغة إلى نهايتها، وأن مراتب النبوة تمت ببعثة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) وأن من يأتي بعده يكون من أتباعه، ولكنا لا نعترف بأنه المسيح الهندي بل هو المسيح عيسى ابن مريم والمهدي (عليه السلام). وأما ثالثا: فإنا نعتقد كما يعتقد بأنه لا يأتي بعده نبي مستقل كما ذكر في الوجه الثالث، وأنه إذا أتى يكون تحت حكم شريعته، ولكن لا نسلم أنه من أمته وأنه المسيح الهندي، بل هو المسيح عيسى ابن مريم (عليه السلام) ونبوته، هي عين نبوته، كما نعتقد بظهور المهدي على ما جاء في الجواب الثاني. وأما رابعا: فإن تمام مراتب النبوة وانتهاءها إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) كما هو الواقع وكما يعترف به صاحب التوضيح، يدلان على انقطاع النبوة بعده والاستغناء عن الأنبياء، سواء أكانوا مستقلين أم كانوا تابعين لشريعته حيث كان لها حملة وعليها حفظه من أمته، وهم كأنبياء بني إسرائيل مضطلعون بأعبائها غير مفرطين بأحكامها، بدون دعوى النبوة التي لو كانت مما يقع في الإسلام بعد نبي الإسلام لكان من مصلحة المسلمين بل من ضرورات الدين أن يرد نص
163 ببقائها ووقوعها وأن لا يسكت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن بيان ذلك وهو أحوج ما يكون إلى البيان، أما ولم يكن شئ من ذلك ولا حدث ادعاء أحد من أعلام المسلمين في مختلف العصور هذا المنصب حاشا بعض الغلاة، فإنه يضرب بدعوى كل مدع له عرض الحائط، وأما اعتقاد من يعتقد منهم رجوع المسيح في آخر الزمان وظهور المهدي أو رجوع المسيح عاملا بشريعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما صح عنده من حديث وخبر وفرق بين الأمرين. 4 - إن لفظ الأنبياء في الحديث عام لكل نبي، سواء أكان مستقلا بشريعة أم كان تابعا لنبي صاحب شريعة، ويستفاد من المثل أن كل نبي لبنة من الدار أو البيت وأن اللبنة الأخيرة التي استكمل بها بناء الدار هو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم تحتج إلى لبنة أو لبنات أخرى تتم بها، ولو صح بعثة أنبياء بعده ولو كانوا تابعين له للزم أن لا يكون قد تم بناؤها، وأن كل نبي يرسل بعده هو لبنة من لبناتها. وأما قوله: فكما أن الصديقين والشهداء والصالحين داخلون في هذه اللبنة كذلك أنبياء الأمة لكونهم تابعين لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ففيه أن لفظ الأنبياء خاص بالأنبياء، فكيف يشمل الصديقين والشهداء والصالحين وهم غير الأنبياء بالطبع، كما عرفت ذلك في الآية (ومن يطع الله ورسوله) [النساء / 69] هذا أولا، وثانيا: لو صح شموله لهم لكانوا كلهم أنبياء، فلم اختص المسيح الهندي وحده باسم النبي؟ وثالثا: لم يلح لنا وجه في كيفية دخول أنبياء الأمة في اللبنة التي تم بها بناء الدار، وهي وحدة لا تقبل الانقسام إلا إلى الجواهر المفردة أو الإلكترونات أو الفوتونات، ولو كان هذا المراد من الحديث وهو ما لم تحتمله ألفاظه، لكان من اللازم أن لا يخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه بأنه هو اللبنة، ولعبر عن ذلك بأنه هو وأمته اللبنة وإلا فظاهر اللفظ لا يدل إلا على اختصاصه بها وحده. وأما قوله: وإن هذا الحديث يؤيد ما ذهبنا إليه في تفسير خاتم النبيين، أي أنه كالخاتم لهم يختمون به ويتزينون بكونه منهم، لأن ألفاظ الحديث واضحة بأن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) ملأ البيت زينة وبهاء وزاده حسنا وجمالا، ففيه أنه لو أريد من ألفاظ الحديث هذا المعنى لم يكن للتعبير بقوله: فأكملها وحسنها إلا
164 موضع لبنة محصل، لأن الدار قد أكملت وحسنت، على أن التعبير ب (إلا) موضع لبنة (وأنا) اللبنة يدل دلالة صريحة على إكمال بناء الدار به لا على زينتها. هذا هو المفهوم من ألفاظ الحديث وهذا ما يجب حمله عليه عند كل من له مسكة في فهم أساليب الكلام. بقي أمر مهم جدا له صلته بالبحث عن الحديث لا يسعنا إغفاله، وفيه إلزامات لا مفر منها للقادياني وتابعه صاحب التوضيح. إن قوله: إن في أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أنبياء تابعين له وهو من لوازم القول ببقاء النبوة منته إلى لوازم لا بد منها: 1 - ظهور أنبياء بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معروفين بأعيانهم وأسمائهم وبمؤيدات نبوتهم. 2 - على أصحاب هذه المقالة أن يكونوا على علم تام من أمر أولئك الأنبياء ووقوف على ما تركوا من آثار نبوتهم ودلائلها. 3 - على فرض إرسال أولئك الأنبياء المزعومين برسالات كرسالة القادياني، فإن من لوازم إنكار نبوتهم تكفير المنكرين لها كما هو مذهب القادياني، ويحكم به على منكري نبوته. 4 - إن المسلمين كافة من سلف منهم ومن خلف على اختلاف مذاهبهم وتعدد فرقهم محكوم عليهم من القادياني بالكفر، لأنهم يعتقدون انقطاع النبوة وينكرون نبوته البتة، وأن الإسلام (ماركة) مسجلة على المنصورية الغلاة المنقرضين القائلين ببقاء النبوة وعلى القاديانيين. 5 - فالنتيجة إذا أن المسلمين هم هذا العدد الضئيل ومن عداهم وهم مئات الملايين خارج عن حظيرة الإسلام، ومثلهم في شمول هذا الحكم لهم من سلف من المسلمين في مدي ثلاثة عشر قرنا ونيف، لا يستثنى من ذلك الصحابة ولا التابعون وتابعو التابيعن وأئمة أهل البيت وأئمة المذاهب الأربعة،
165 لأنهم لم يعتقد منهم أحد ببقاء النبوة بعد خاتم النبيين (صلى الله عليه وآله وسلم) وهل هذا من آية ظهور دين الإسلام على الدين كله؟ وهل يستفاد من ظهوره على الدين كله ضآلة تابعيه وانحصاره في القادياني وأتباعه؟ 6 - إن هذا الزعم العجيب مؤد إلى مخالفة النهي الصريح المجمع عليه من المسلمين عن تكفير أهل القبلة، وهو ما تحاشاه أئمة المسلمين على اختلاف مللهم، ولئن بدع أهل كل ملة من خالفهم فإنهم لم يجرؤوا على الحكم بخروجهم عن ربقة الإسلام، بل قالوا بإسلامهم وبعذر مخالفيهم المتبنية مخالفته على الاجتهاد المأجور عليه المصيب والمخطئ، وللإيمان والكفر حدود منصوص عليها في مظانها لا يضل بها الكلام. وليت صاحب التوضيح وهو وأتباع القاديانية يرون تكفير عامة المسلمين لم يستعظم قول من يقول بتكفير أرباب نحلتهم، ومن قال قولا قيل فيه بمثله، على أن المسافة بين القولين بعيدة جدا، وسنعرض إلى هذا البحث في موضعه من هذا الكتاب فانتظره. أما تتمة كلامه في هذا البحث فلا نهتم بنقضها، لأن ردودنا شاملة لها وما هي إلا رشحة من إناء المتصوفة المتطرفة، ولكنه جرى بما أورده من كلام صاحبه في التدليل على نبوته على غير طريقتهم، فإنهم أصحاب رموز وإشارات وتهوس وشطحات، وقد لا تبين مقاصدهم من مطاويها، وليس المجال بمتسع للإفاضة في مباحث خارجة عن موضوعنا تشذ عنه، وهو ما ينطبق على رغبات الأحمدية الذين من أقصى أمانيهم اتساع دائرة الجدل وتشعبه إلى شعب كثيرة. الحديث الثاني: الذي استدل به على نبوة صاحبه، ما رواه الدارمي عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنا أول من يأخذ بحلقة الجنة فيفتحها ومعي فقراء المؤمنين، وأنا يد الأولين من الأنبياء النبيين ولا فخر " (1)
(1) كنز العمال للمتقي الهندي، دار التراث الاسلامي، ح 6634. 166 وجه الاستدلال أن من النبيين بيان للأولين والآخرين ولازمه بقاء النبوة وظهور أنبياء بعده (صلى الله عليه وآله وسلم). ولنا في نقضه وجوه: 1 - الشك في صحة هذا الحديث المرفوع الذي لم يبين رجال سنده هذا أولا، وثانيا: إن البخاري لم يخرج هذا الحديث في صحيحه ولا رواه محدثو الإمامية، وذلك ما يقوي الشك في صحته. 2 - على فرض صدوره فإنه لا مناص من تأويله بعد قيام الدليل والاجماع على انقطاع النبوة، من أن يراد من النبيين الآخرين عيسى ومن أرسل في الفترة بينه وبين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على القول ببعثة رسل فيها، وإلا فهو محمول على عيسى (عليه السلام). 3 - إن مورد الحديث خاص في دار الجزاء وهي الدار الآخرة، وبيان ما للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمطيعين من أمته من المنزلة الباذخة التي لا يساهمها فيها ساهم من النبيين وأممهم، وهي أنه أول من يأخذ بحلقة الجنة ويفتحها، وأنه سيد الأولين منهم من أولي العزم وغير أولي العزم، إلى زمن موسى (عليه السلام) والمتأخرين ممن بعث منهم بعده وآخرهم عيسى من أولي العزم ومن أرسل بعده في الفترة على القول به إلى زمن خاتم أولي العزم والنبيين كافة، فهؤلاء هم المتأخرون وأولئك المتقدمون، وهو آخرهم وأولهم دخولا إلى الجنة وسيدهم أجمعين. ولا معنى لحمل هذا المورد الخاص الذي ورد به الحديث في بيان حاله وحالة أمته في دار الثواب والجزاء على العموم. 4 - ويمكن أن يراد من المتأخرين المسيح، بناء على القول بعودته تابعا لشريعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عاملا بها في آخر الزمان، كما استفاضت بذلك الرواية وتواتر الخبر، وبخروج مهدي آل محمد كما هو مستفيض خبره من طريقي السنة والشيعة.
167 5 - وبما علقناه على احتجاجه في الحديث الأول من إثبات انقطاع النبوة بما لا مزيد عليه توهين للاحتجاج بهذا الحديث، فراجعه وهو قريب. الحديث الثالث: ما رواه مسلم والبخاري في صحيحيهما: " يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين " (1)، واستدل بهذا الحديث على نبوة صاحبه، ووجه استدلاله أنه قال: كتب صاحب إكمال الاكمال في شرح صحيح مسلم في سنة 828 ما نصه، هذا الحديث قد ظهر صدقه، فإنه لو عد من تنبأ من زمنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لبلغ هذا العدد، وعقب هذا الكلام بقوله: وإن تعيين العدد يدل على إمكان مجئ نبي صادق، وإلا لقال (صلى الله عليه وآله وسلم) إن كل من يدعي النبوة يكون كذابا دجالا بدون أن يذكر عددا معينا. ولنا في نقض هذا الاستدلال وجوه: 1 - إن الحديث وارد مورد الخبر عما سيحدث في أمته بعده من محدثات، فهو كإخباره عن افتراقها إلى ثلاث وسبعين فرقة، ولما كان هذا الخبر على إطلاقه يفيد أحد أمرين: إما هلاك تلك الفرق كلها وإما نجاتها كلها، وكلا الأمرين على الإطلاق غير مراد قطعا، فكان المقام مقام بيان فأبان (صلى الله عليه وآله وسلم) إن الناجية فرقة واحدة والباقون في النار. ولو كان يراد من الحديث الذي نحن بصدده الخبر عن بعث دجالين كذابين قريب من الثلاثين كلهم مدع للنبوة وعن بعثة أنبياء صادقين، وأنه لم يرد منه مجرد الخبر عن ادعاء مثل ذلك العدد من الدجالين الكذابين النبوة، لكان المقام مقام أن يبين وأن يقول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويبعث أنبياء صادقون، ولو كان إرسال النبيين بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) مما يكن وقوعه، لكان من تمام الحجة ومن باب لطفه تعالى بعباده التصريح بأسمائهم أو بأوصافهم، فحيث لم يقع ذلك والمقام يقتضي البيان، فلم يكن إرسال النبيين مما سيقع أبدا على أن البيان كان على العكس بصريح الآية (ولكن خاتم النبيين) والحديث " لا نبي بعدي " وبما سيجئ بعد.
(1) صحيح البخاري، كتاب الفتن، الحديث رقم 7121، صحيح مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، ح 2923. 168 2 - إن غاية ما يدل عليه الحديث هو دعوى دجالين كذابين قريب من ثلاثين للنبوة وهو المنطوق وعلى المفهوم بناء على أن لهذا العدد مفهوما أنهم ليسوا بأقل من هذا العدد ولا بأكثر منه، ولا تفهم منه الدلالة على إمكان مجئ نبي صادق ولو كان ذلك مراد القال وسيبعث نبي صادق أو أنبياء صادقون. 3 - إن بعث الدجالين الكذابين بالنبوة الكاذبة هو مجاز عن ادعائهم الكاذب، وهو غير موضوع بعث الأنبياء الصادقين الذي هو من الله تعالى، ولا ملازمة بين الموضوعين، فالإخبار عن أحدهما لا يستلزم الإخبار عن الآخر، وإنما تتم الملازمة إذا صح أن الباعث للدجالين الكذابين وللمخلصين الصادقين هو الله تعالى، وحاشى لله أن يضل عباده ببعثة الدجال الكاذب، وما ورد في كلامه تعالى مما ظاهره مثل ذلك فمحور على ضرب من التأويل. 4 - على فرض التسليم بزعم المستدل من دلالة تعيين العدد على مجئ بني صادق ففيه: أولا: لم لم يحمل على مجئ النبي الصادق عيسى ابن مريم (عليه السلام) وقد تضافرت الروايات بمجيئه في آخر الزمان تابعا لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عاملا بشريعته. ثانيا: إن الإمكان شئ والوقوع شئ آخر، فليس ممكن، واقعا، والدليل القاطع دل على عدمه كما مر غيره مرة في مطاوي هذه المباحث، وكما سترى بعد ما يزيده تأييدا وتأكيدا. ثالثا: إن إمكان مجئ نبي بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يثبت به عموم الفرض من إرسال النبيين، ولا يتحقق بإرسال واحد بعد فرض بقاء النبوة، ولكن المستدل يرى حصوله بنبوة صاحبه، وبه لا بالمسيح الإسرائيلي يتحقق مضمون الخبر المستفيض عن مجئ المسيح في آخر الزمان. 5 - إن في استدلاله لما ورد في كتاب إكمال الاكمال بأنه لو عد من تنبأ من زمنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لبلغ هذا العدد وجوها من الرد. الأول: لا نسلم بلوغ من تنبأ هذا العدد، إذ الظاهر من هذا التنبؤ حدوث أثر له ولو إلى حين، أي بأن يكون للمتنبئين أعوان وأتباع عاملون بما وضعوا
169 من تعاليم، وإلا لساغ لنا عد المحرورين والمعتوهين والموسوسين، ومن تنبأ ساعة أو ضحاها، ومن لم يكن له إلا مجرد الدعوى من المتنبئين، وفي عد أمثال هؤلاء ما يزيد على الثلاثين أضعافا، وما كان هذا مما يراد من الحديث قطعا، فلا بد أن يراد منه تنبؤ من كان لتنبؤهم شئ من الأثر ونوع من التضليل والتدجيل، ينغمس في حمأتها من لا مسكة له من علم وفهم ومن هو فاقد التمييز، وهم غير قليل من دهماء الناس وغوغائهم. وإذا استعرضنا أحوال من كان تنبؤهم مثل ذلك الأثر فنجد منهم: 1 - مسيلمة بن حبيب الكذاب. 2 - عيهلة بن كعب الذي يقال له العنسي ويلقب ذا الخمار، ادعيا النبوة في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). 3 - طليحة بن خويلد الأسدي تنبأ بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) وعظم أمره. 4 - سجاح بنت الحارث بن سويد، تنبأت بعد وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) وما لاها جماعة من رؤساء القبائل وفريق من أخوالها بني تغلب. 5 - أبو الطيب المتنبي إن صحت دعواه النبوة وادعاها المنصورية من الغلاة والبنانية القائلون ببقاء النبوة، وكيف كان فإنا لا نستطيع أن نستخرج من مجموعهم عدد الثلاثين ممن أحدث تنبؤهم أثرا، ولازم ذلك أن الباب لا يزال مفتوحا للمتنبئين على مصراعيه. الثاني: إن فرض التسليم ببلوغ العدد يؤدي إلى أن كل من تنبأ بعد بلوغ العدد نبي صادق، فكل من ادعاها بعد سنة 828 وهو عهد مؤلف إكمال الاكمال من النبيين الصادقين، فلتقر إذا عيون المحرورين وكل من تحدثه نفسه بادعاء منصب النبوة السامي، فإن المجال متسع ليس للمسيح الهندي فحسب بل له، ولكن من يلتمس جاه الدنيا وتبع الحياة من هذا الباب. الثالث: إن هذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحة مسندا إلى أبي هريرة يتضمن الأنباء عن أمور تحدث في الأمة كلها من أشراط الساعة، ومن
170 بعضها بعث دجالين كذابين قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله، وأخرجه مسلم في صحيحه مسندا إلى أبي هريرة من طريقين، وفي ثانيهما بدل يبعث ينبعث مقتصرا على الأخبار عن بعث أو انبعاث دجالين كذابين قريب من ثلاثين، وكلاهما لم يعرض لمورد الحديث الذي أورده أبو الفداء ملك حماه في تاريخه المختصر، حيث قال: وروى عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " أيها الناس إني قد رأيت ليلة القدر ثم انتزعت مني، ورأيت في يدي سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا، فأولتهما هذين الكذابين صاحب اليمامة وصاحب صنعاء، ولن تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون دجالا كل منهم يزعم أنه نبي ". ويفهم من ذكر مورد الحديث وروايته على هذه الصورة أن خروج الثلاثين دجالا كل منهم يزعم أنه نبي من يكون لدعواه النبوة من الأثر مثل ما كان لصاحبي صنعاء واليمامة وهو ما استظهرناه آنفا. ويدل على أن عدد المتنبئين لم يستكمل نصابه حديث أخرجه مسلم في الصحيح مسندا إلى جابر بن سمرة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) " أن بين يدي الساعة كذابين " (1) ووجه الدلالة أنه إن كان المراد من الكذابين مطلق من يصدر منهم الكذب، فأي محصل لتخصيص ظهورهم بين يدي الساعة والكذابون اتصل ظهورهم بعصر النبوة وكثر سوادهم بعده وضخم أمرهم بعد تفرق الأمة فرقا وشيعا حتى بلغوا ثلاثا وسبعين فرقة، ومن أجل ذلك عني المحدثون بوضع علم الحديث ومتفرعاته للتعريف بمن يقبل حديثه ومن يرد حديثه، فإذن لا بد من حمل هذا الحديث المطلق على الحديث المقيد الذي نحن بصدده، وأن يراد من الكذابين في الحديث " إن بين يدي الساعة كذابين " من لهم صفة زعم النبوة، وذلك دليل على عدم استكمال العدد، وأن منهم من يقارن ظهوره وخروجه حلول أجل الساعة، وكان في التعبير ب (بين) يدي الساعة إيماء إلى ذلك.
(1) صحيح مسلم، بشرح النووي، دار الكتب العلمية، الكتاب 52، الباب 18، الحديث رقم 7121. 171 الحديث الرابع: " لو كان بعدي نبي لكان عمر " (1) قال: إنه لا يدل قطعا على أنه لا نبي بعده، وكذلك لا يدل قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام) " إلا أنه لا نبي بعدي " زاعما أن (بعد " في الحديثين بمعنى (مع) والمعنى لو كان معي نبي لكان عمر، وإلا أنه لا نبي معي. وفي نقض هذا الاستدلال وجوه: 1 - لم نفهم محصلا لقوله: إنه لا يدل قطعا على أنه لا نبي بعده، لأن احتمال استعمال (بعد) بمعنى (مع) لا يدفع على الأقل احتمال استعمالها بمعناها، وهو ضد قبل الذي هو أكثر دورانا في الكلام إن لم نقل أنه حقيقة فيه، بل هو المنصوص عليه في كلمات الأئمة، ففي القاموس: (وبعد ضد قبل) ولم يذكر غيره، وفي المصباح للفيومي: (وبعد) ظرف مبهم لا يفهم معناه إلا بالإضافة لغيره، وهو لزمان تراخ عن السابق وجاء زيد بعد عمرو متراخيا زمانه عن زمان مجئ عمرو، وتأتي بمعنى (مع) كقوله تعالى: (عتل بعد ذلك زنيم) [القلم / 13] أي مع ذلك، وفي مختار الصحاح: وبعد ضد قبل، وفي النهاية لابن الأثير: وبعد من ظروف المكان التي بابها الإضافة، فإذا قطعت عنها وحذف المضاف إليه بنيت على الضم (كقبل) ومثله قوله تعالى: (لله الأمر من قبل ومن بعد) [الروم / 4] أي من قبل الأشياء ومن بعدها، وفي فقه اللغة للثعالبي في فصل مجمل وقوع حروف المعنى مواقع البعض: (بعد) بمعنى (مع) يقال: فلان كريم وهو بعد أديب أي مع هذا، ويتأول قوله عز وجل: (عتل بعد ذلك زنيم) أي مع ذلك، وفي المخصص لابن سيده: (قبل) أول (بعد) آخر، وفي مجمع البحرين للطريحي: (وبعد) خلاف قبل، قال الله تعالى: (ولله الأمر من قبل ومن بعد) أي قبل الفتح وبعده، وقد يكون بمعنى (مع) مثل قوله تعالى: (عتل بعد ذلك زنيم) أي مع ذلك، قوله: (والأرض بعد ذلك دحاها) [النازعات / 30] أي مع ذلك، وقيل: (بعد) على أصلها لما روي عن ابن عباس قال: خلق الله الأرض قبل السماء فقدر فيها أقواتها ولم
(1) المعجم الكبير للطبراني، ج 17، ص 298. 172 يدحها، ثم خلق السماء ثم دحا الأرض بعدها، وفي فقه اللغة (الصاحبي) لابن فارس: (بعد) يعدل على أن يعقب شئ شيئا، تقول: جاء زيد بعد عمرو. ويقولون: إنها تكون بمعنى (مع) يقال: هو كريم وهو بعد هذا فقيه، أي مع هذا فقيه ويتأولون قول الله جل ثناؤه: (والأرض بعد ذلك دحاها) [النازعات / 30] على هذا. وفي الأساس للزمخشري: (أما بعد) فقد كان كذا وأتيته بعيدات بين إذا أتيته بعد، ولم يذكر استعمالها بمعنى (مع). فأنت ترى من مجموع هذه الأقوال أن (بعد) حقيقة هي ضد قبل، وأنها استعملت بمعنى (مع) في مواضع محصورة عند من تأول ذلك. 1 - في آية (عتل بعد ذلك زنيم). 2 - وآية (والأرض بعد ذلك دحاها). 3 - وقولهم فلان كريم وهو بعد أديب. أما الآية الأولى: فإن صاحب الكشاف قد ذهب إلى استعمال (بعد) بمعناها الحقيقي، حيث قال: (بعد ذلك) بعد ما عد له من المثالب والنقائص (1)، وأيد ذلك صاحب الانتصاف بقوله: وإنما أخذ كون هذين (عتل وزنيم) أشد معايبه من قوله: بعد ذلك، فإنه يعطي تراخي المرتبة فيما بين المذكور أولا والمذكور بعده في الشر والخير، ونظيره في الخير قوله تعالى: والملائكة بعد ذلك ظهير، ومن ثم استعملت ثم لتراضي المراتب وإن أعطت عكس الترتيب الوجودي، وقال الفخر الرازي: " قوله: بعد ذلك معناه أنه بعد ما عد له من المثالب والنقائص فهو عتل زنيم، وهذا يدل على أن هذين الوضعين وهو كونه عتلا زنيما أشد معايبه، لأنه إذا كان جافيا غليظ الطبع قسا قلبه واجترأ على كل معصية، إلى أن قال: وقوله ههنا (بعد ذلك) نظير ثم في قوله: (ثم كان من الذين آمنوا) [البلد / 17] " (2).
(1) الكشاف، ج 4، ص 697. (2) مفاتيح الغيب، ج 11، ص 46. 173 وأما الآية الثانية: ففي لسان العرب: " قال أبو حاتم: وقالوا: (قبل وبعد) من الأضداد. وقال في قوله عز وجل: (والأرض بعد ذلك دحاها) أي قبل ذلك، قال الأزهري: والذي قاله أبو حاتم عمن قاله خطأ (قبل وبعد) كل واحد منهما نقيض صاحبه، فلا يكون أحدهما بمعنى الآخر وهو كلام فاسد. وأما قول الله عز وجل: (والأرض بعد ذلك دحاها) فإن السائل يسأل عنه فيقول: كيف قال بعد ذلك والأرض أنشأ خلقها قبل السماء، والدليل على ذلك قوله تعالى: (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين) فلما فرغ من ذكر الأرض وما خلق فيها قال: (ثم استوى إلى السماء) وثم لا يكون إلا بعد الأول الذي ذكر قبله، ولم يختلف المفسرون أن خلق الأرض سبق خلق السماء. والجواب فيما سأل عنه السائل أن الدحو غير الخلق، وإنما هو البسط، والخلق هو الانشاء الأول، فالله عز وجل خلق الأرض أولا غير مدحوة، ثم خلق السماء، ثم دحا الأرض أي بسطها، قال: والآيات فيها متفقة ولا تناقض بحمد الله فيها عند من يفهمها، وإنما أتى الملحد الطاعن فيما شاكلها من الآيات من جهة غباوته وغلط فهمه وقلة علمه بكلام العرب " (1) وفيما أورده الطريحي عن ابن عباس ما يؤيد استعمال (بعد) في هذه الآية في معناها الحقيقي (2). بقي الكلام في تأويل (بعد) في قولهم فلان كريم وهو بعد أديب بمعنى (مع) وأنت خبير بأن ذلك ليس مما يحتج به، أولا: إن زعم أنه منحضر في هذا الاستعمال، ثانيا: لجواز أن يكون مستعملا في معناه الحقيقي ويراد منه أنه موصوف بالكرم، وبعد وصفه بهذه الصفة هو موصوف بالأدب، على أن تجويز استعمال هذا الحرف (بعد) بمعنى (مع) في هذه المواضع إن سلمنا أنه لا مناص منه، فليس معنى هذا أنه يصلح لمثل هذا الاستعمال في كل مورد، وإذا جاز للمستدل أن يأول (بعد) بمعنى (مع) في الحديثين، فهلا جاز أن يقال في
(1) لسان العرب، العلامة ابن منظور، دار الكتب العلمية، ج 3، ص 93. (2) مجمع البحرين، الشيخ فخر الدين الطريحي، مادة (بعد) ج 1، ص 217. 174 قولنا: جاء زيد بعد عمرو أن (بعد) بمعنى (مع) ويكون المعنى مجئ زيد مع عمرو، وهذا خلف من القول. ثم أن استعمال (بعد) بمعنى (مع) في مواضع محصورة مثل استعمال (مع) بمعنى (بعد) في بعض الموارد المحدودة، وإن لم يكن ذلك من المتفق عليه، ومستند الجواز. 1 - قراءة من قرأ (الآية 24 من سورة الأنبياء) (هذا ذكر من معي). (2) حكاية سيبويه. ذهبت من معه. أي ذكر من بعدي، وذهبت من عنده. قال ابن هشام في المغني في مبحث (مع): " والثالث (من معانيها) مرادفة عند وعليه القراءة وحكاية سيبويه السابقتان " (1). أما الآية فقد جاء في الكشاف في تفسيرها: " وقرئ (من معي) و (من قبلي) على من الإضافية في هذه القراءة وإدخال الجار على (مع) غريب، والعذر فيه أه اسم هو ظرف نحو قبل وبعد وعند ولدن وما أشبه ذلك، فدخل عليه (من) كما يدخل على أخواته، وقرئ ذكر معي وذكر قبلي، كأنه قيل بل عندهم ما هو أصل الشر والفساد كله، وهو الجهل وفقد العلم وعدم التمييز بين الحق والباطل " (2). وفي مجمع البيان: " (هذا ذكر من معي وذكر من قبلي) أي وقل لهم يا محمد هذا القرآن ذكر من معي بما يلزمهم من الأحكام، وذكر من قبلي من الأمم ممن نجا بالإيمان أو هلك بالكفر عن قتادة، وقيل: هذا ذكر من معي بالحق في إخلاص الإلهية والتوحيد في القرآن، وعلى هذا ذكر من قبلي في التوراة والإنجيل عن الجبائي. قال: لأن القرآن ذكر أتاه الله ومن معه، والتوراة والإنجيل ذكر تلك الأمم، وقال أبو عبد الله (عليه السلام) يعني بذكر من معي من معه وما هو كائن. وبذكر من قبلي ما قد كان، وقيل: إن معناه في القرآن خبر من معي على ديني ممن يتبعني إلى يوم القيامة بما لهم من الثواب على الطاعة
(1) مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ج 1، ص 333. (2) الكشاف، ج 3، ص 111. 175 والعقاب على المعصية وذكر ما أنزل الله من الكتب قبلي، فانظروا هل في واحد من الكتب أن الله أمر باتخاذ إله سواه، فبطل بهذا البيان جواز اتخاذ معبود سواه من حيث الأمر به " (1)، إلى أقوال أخرى كلها تؤيد استعمال (مع) بمعناها وهو المصاحبة، فاستعمال كل من هذين الحرفين بمعنى الآخر في مواضع قليلة شاذة لا يسوغ للمستدل تجاوز حدود الرخصة في صرف المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي بدون اضطرار ولا اقتضاء، وليس بمثل هذه الأدلة الواهنة يثبت مطلوبه. 2 - إن حمل (بعد) على معنى (مع) في الحديث مؤد إلى جمع عمر مزايا النبوة، وإنما منع أن يكون نبيا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا نبي بعده، ولكن هذا لا ينفي أن يكون نبيا بعده وهو يجمع مزايا النبوة، بل من المفروض عليه أن يدعيها، وكذلك الكلام في الحديث الثاني " إلا أنه لا نبي بعدي " ومؤدي الحديثين على هذا الحمل أشبه بالنص على نبوتهما، فهما لم يدعيا ها ولا ادعاها لهما أحد من المسلمين، ثم أن منصب النبوة أعلى من منصب الخلافة، وجمع عمر لمزايا النبوة كان يفرض عليه أن يكون أحق بالخلافة وأن لا يدعها لمن هو دونه في المزايا التي يساهم فيها الأنبياء. 3 - آية حكمة في العدول عن (مع) إلى (بعد) إن أريد من (بعد) معنى المصاحبة في الحديثين، وما القرينة الحالية أو المقالية على هذا التجوز إذا كان مما يجوز وقوع مفهومه، بل كان من الحكمة استعمال (مع) (لا بعد) منعا للتضليل والافتتان. 4 - تبين مما تقدم انحصار استعمال (بعد) بمعنى (مع) في موارد خاصة عند القائل بهذا الانحصار، وإذا كانت في هذين الحديثين استعملت بمعنى (مع) فلماذا لم يعرض له الأئمة ولم يذكروا الحديثين من شواهد هذا الاستعمال؟ ولماذا لم يفهم منهما هذا المعنى أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم حاضرو
(1) مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 7 - 8 / 71. 176 الخطاب وأبصر بمواقعه وهم أهل اللسن واللسان؟ ولو كان ذلك مرادا من الحديثين وأنه مما يفهم منهما لنقل عنهم مؤداه. ثم إن حديث المنزلة وهو الحديث الثاني أول على استحقاق علي للنبوة، لأنه لم يعلق على شرط تعليق الحديث الأول وهو صريح بجمع علي مزايا ما جمع هارون، فإذا لم يكن علي نبيا في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كما كان هارون (لأنه لا نبي معه) (1) فهو على هذا الزعم نبي بعده ومفروض عليه إظهار النبوة، وذلك لم يكن ولا قال به مسلم ولا ادعاه له مدع، دع الغلاة الذين لا وزن لمقالاتهم ومزاعمهم وهم الذين عرجوا بعلي إلى مقام الألوهية. الحديث الخامس: وهو ما روي من أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعمر (رض): " لو لم أبعث لبعثت يا عمر " (2). قال صاحب التوضيح لا يدل هذا الحديث على أن باب النبوة مسدود بالكلية بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أقول: إذا لم يدل هذا الحديث على تقدير صحته على انسداد باب النبوة ودل بزعمه على جواز أو إمكان بقائها، فإن هناك أدلة لا تنقض وأحاديث لا ترد وإجماعا لا يدفع تدل على الانسداد، وماذا يجديه نفعا وتدليلا على زعمه مجرد ألفاظ الجواز والفرض والامكان إذا كان الواقع يدحض ذلك كله، هذا ولا نرى فائدة في إطالة الكلام في هذا الحديث المشكوك في صدوره. الحديث السادس: " أنا العاقب الذي ليس بعده نبي " (3) قال: فتفسير العاقب ليس من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن قال: ويمكننا أن نقول في تأويل هذا الحديث: إن المراد من (بعد) بعد زمن نبوته، وبما أن زمن رسالته ممتد إلى يوم القيامة، فلا يمكن وجود نبي مستقل صاحب شرع جديد، ولكن يجوز وجود نبي بعده في زمنه إذا كان تحت حكم شريعته ومن أمته مجددا لدينه.
(1) الحديث هو: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي "، صحيح البخاري - فضائل علي - ح 3706 - 4416. (2) إتحاف السادة المتقين للزبيدي، ج 7، ص 572. (3) صحيح البخاري، ج 4، ص 225. 177 وفي التعليق على هذا الكلام وجوه: 1 - نرى لزاما علينا ذكر نص الحديث كما أورده البخاري في صحيحه بحذف الإسناد، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " لي خمسة أسماء أنا محمد. وأحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي (أي علي أثري) وأنا العاقب (لأنه جاء عقب الأنبياء) ". 2 - إن تفسير العاقب (بالذي ليس بعده نبي) ليس من ألفاظ الحديث كما يقول صاحب التوضيح، ولكن صدوره ممن يوثق بفهمه لمعاني الكلام وأساليبه يدل على أنه هو المفهوم من لفظ (العاقب) وهو ما فهمته صاحب التوضيح ولكن مقيدا بقيد عدم وجود نبي مستقل، بعده معلقا على هذا القيد جواز وجود نبي بعده غير مستقل إذا كان عاملا بحكم شريعته، ولكن هذا القيد لا يفهم من لفظ العاقب المطلق، فلا يكون وهو غير مفهوم من اللفظ حجة حتى ولا على مجئ المسيح الذي دلنا عليه الدليل الخاص. 3 - إن هذا المعنى من لفظ العاقب هو ما نص عليه أئمة اللغة، ففي مختار الصحاح: " عاقبة كل شئ آخره، والعاقب: من يخلف السيد، وفي الحديث: أنا السيد والعاقب، يعني أخر الأنبياء (عليه السلام) " (1). وفي المصباح: " ومنه، وعقبت زيدا عقبا من باب قتل وعقوبا جئت بعده، ومنه سمي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) العاقب لأنه عقب من كان قبله من الأنبياء أي جاء بعدهم ". وفي النهاية: " وفي أسماء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) العاقب هو آخر الأنبياء، والعاقب والعقوب الذي يخلف من كان قبله في الخير " (2). 4 - إن امتداد زمن رسالته (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يوم القيامة معناه ومفهومه الصريح الاستغناء بها عن كل رسالة وعن كل رسول، سواء أكان مستقلا بشريعة أم كان مقتفيا أثار تلك الرسالة العامة، ولو كان الاقتفاء رسالة والمقتفي رسولا لكان
(1) المختار من صحاح اللغة، محمد عبد الحميد، ومحمد السبكي، ومادة (عقب). (2) النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 3، ص 268، مادة (عقب). 178 كل مقتف لها من علماء الأمة رسولا ولا قائل به، والتعليق بالشرط وهو إذا كان تحت حكم شريعته مجددا لدينه لا يستلزم أن يكون الحاكم بها المجدد للدين رسولا، وإلا للزم أن يكون كل متصف بذلك الوصف نبيا كما عرفت، واللازم بين البطلان والتجديد المفهوم من الحديث المرفوع المروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) " إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يقرر لها دينها " (1) وهو الذي حملته كل فرقة من فرق المسلمين التي لم تبتعد عن خطيرة الإسلام وعن أصوله وفروعه الحقة على أعلام منها كان لهم فضل الذائد عن حياضه والحافظ لشرائعه أن التجديد المفهوم من الحديث هم أولئك العلماء الأعلام، ولم يدع أحد منهم النبوة، فكان كما قالوا: عمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى، وكما قال أحمد بن حنبل وأرجو أن يكون الشافعي على رأس المائة الأخرى، وفي معجم الأدباء لياقوت الحموي في ترجمة الإمام الشافعي قال: " الشيخ أبو الوليد حسان ابن محمد الفقيه يقول: كنا في مجلس القاضي أبي العباس بن سريج سنة ثلاث وثلاثمائة، فقام إليه شيخ من أهل العلم فقال له: أبشر أيها القاضي فإن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها، وإنه تعالى بعث على رأس المائة الأولى عمر بن عبد العزيز وتوفي سنة ثلاث ومائة، وبعث على رأس المائتين أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي وتوفي سنة أربع ومائتين، وبعثك على رأس الثلاثمائة ثم أنشأ يقول: اثنان قد مضيا فبورك فيهما * عمر الخليقة ثم حلف السؤدد الشافعي الألمعي محمد * إرث النبوة وابن عم محمد أبشر أبا العباس إنك ثالث * من بعدهم سقيا لنوبة أحمد قال: فصاح القاضي وبكي وقال: إن هذا الرجل قد نعى إلي نفسي. قال: فمات القاضي أبو العباس في تلك السنة ". وأما الإمامية فمع اعتقادهم بعدم خلو الأرض من إمام ظاهر أو مستور مهيمن على الشريعة حافظ لحدودها ورسومها عددا رجالا منهم مجددين للدين
(1) كنزل العمال، المتقي الهندي، دار التراث الاسلامي، ح 346263. 179 على رأس كل مائة سنة، ولكن كلا من الفريقين السنة والإمامية لم يفر واحد منهما الرسالة والنبوة إلى مجدديهم وهل كانوا أخف في ميزانها من غلام أحمد القادياني؟ ومن الطريف استدلاله على جواز وجود نبي غير مستقل بالنبوة بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) بالآية 30 الأحقاف (قالوا يا قومنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى) وجه الاستدلال أن الجن المستمعين للقرآن لم يذكروا الأنبياء الذين بعثوا بين موسى وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والصحف التي أوتوها لأنهم كانوا تابعين لشريعة موسى (عليه السلام) وزمن شريعته كان ممتدا إلى بعثة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وفيه: 1 - لم نجد في هذه الآية بعد إنعام النظر وإمعان الفكر ما يدل على زعم المستدل وآية ملازمة بين عدم ذكر الجن المستمعين للقرآن للأنبياء الذين بعثوا بين موسى ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والصحف التي أوتوها بين دعواه جواز وجود نبي بعده (صلى الله عليه وآله وسلم). 2 - كأنه يرى أمرا لزاما وفرضا واجبا على الجن أن يحيطوا علما بكل رسول أرسل بعد موسى وكل كتاب أنزل بعده، وأن يبينوا التفصيل ذلك لقومهم، أو يرى أن موقفهم موقف القاص المؤرخ، وأن مثل ذلك لم يكن مفروضا على الإنس من أمة محمد المؤمنين بدين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكتاب محمد، بل فرض عليهم الإيمان الإجمالي بما أرسل الله تعالى من رسل وأنزل من كتب. 3 - إن موقف الجن من قومهم بعد استماعهم للقرآن كان موقف إنذار وتذكير، وأما تخصيصهم لموسى وكتابه بالذكر فهو جار مجرى هذه الآيات. (قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه) [القصص / 49]. (ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة) [هود / 17]. (قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى - إلى قوله - وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه) [الأنعام / 92]. والآية التي نحن بصددها: (إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم) [الأحقاف / 30].
180 وفي معارج الوصول لابن تيمية: " وقال ورقة بن نوفل: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرجان من مشكاة واحدة، وكذلك قال النجاشي: فالقرآن والتوراة هما كتابان جاءا من عند الله لم يأت من عنده كتاب أهدي منهما، كل منهما أصل مستقل، والذي فيهما دين واحد، وكل منهما يتضمن إثبات صفات الله تعالى والأمر بعبادته وحده لا شريك له، ففيه التوحيد قولا وعملا كما في سورتي " الكافرون " و " الاخلاص ". (قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) ". وأما الزبور فإن داود لم يأت بغير شريعة التوراة، وإنما في الزبور ثناء على الله ودعاء وأمر ونهي بدينه وطاعته وعبادته مطلقا، وأما المسيح فإنه قال: (ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم) [آل عمران: 50] فأحل لهم بعض المحرمات وهو في الأكثر متبع لشريعة التوراة، ولهذا لم يكن بد لمن اتبع المسيح من أن يقرأ التوراة ويتبع ما فيها إذ كان الإنجيل تبعا لها. وأما القرآن فإنه مستقل بنفسه لم يحوج أصحابه إلى كتاب آخر، بل اشتمل على جميع ما في الكتب، من المحاسن وعلى زيادات كثيرة لا توجد في الكتب فلهذا كان مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، يقرر ما فيها من الحق، ويبطل ما صرف منها، وينسخ ما نسخه الله، فيقر الدين الحق وهو جمهور ما فيها، ويبطل الدين المبدل الذي لم يكن فيها والقليل الذي نسخ فيها، فإن المنسوخ قليل جدا بالنسبة إلى المحكم المقرر، والأنبياء كلهم دينهم واحد، وتصديق بعضهم مستلزم تصديق سائرهم، وطاعة بعضهم تستلزم طاعة سائرهم، وكذلك التكذيب والمعصية لا يجوز أن يكذب نبي نبيا، بل أن عرفه صدقه، وإلا فهو يصدق بكل ما أنزل الله مطلقا، وهو يأمر بطاعة من أمر الله بطاعته، إلى كلام طويل لا يخرج عن هذا المضمون، وقد وضح بيان السر في تخصيص كتابي موسى ومحمد عليهما بالذكر دون سواهما، ولكن ذلك لا ينفي أن يكون قد عمل مؤمنو الجن بشريعة عيسى مما نسخ فيها من شريعة موسى، وكيف كان فإنه لا يفهم من الآية ما يؤيد زعم القادياني.
181 الباب الرابع: في التعليق على ملخص في ختم النبوة
183 أطال صاحب التوضيح الكلام في هذا الموضوع إطالة مملة، وهو يتفرع عن استمرار الوحي وبقاء النبوة، وقد أبطلناهما وأفسدنا ما تمسك به من الحجج الواهية، ولم نجد مندوحة عن ترك التعليق على هذا البحث الذي عرض فيه إلى أدلة أخرى يزعم أنها تثبت دعواه، ولئن كان فيه شئ من التكرار فالذنب ذنبه، ولأن غرضنا استقصاء الأهم فالأهم من حججه ونقضها حتى لا يبقي في قوس تمويهاته منزع، والحق ضالتنا وهو ما ننشد والله من وراء القصد. ابتدأ هذا البحث بتفسير آية خاتم النبيين على رأي صاحبه الحضي، فقال: لا يخفي أن الآية (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) [الأحزاب / 40] نزلت في السنة الخامسة من الهجرة حين تزوج بزينب، وفي السنة العاشرة حيث توفي ابنه إبراهيم، قال: لو عاش إبراهيم لكان صديقا نبيا (1) فظهر من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنه لم يفهم من خاتم النبيين انقطاع النبوة بالكلية، بل فهم عكس ذلك بأن نوعا من النبوة باق بعده، ولأجل هذا قال في حق ابنه: " لو عاش لكان نبيا ". ولنا في رد هذا الكلام وجوه: 1 - الشك في ورود الحديث بهذا اللفظ، ففي رواية أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال في حق إبراهيم: " إن له ظئرا تتم رضاعه " (2)، وفي رواية: أن له ظئرين يكملان رضاعه في الجنة (3) وقال: لو عاش لوضعت الجزية عن كل قبطي. وفي لفظ لا عتقت القبط. وفي لفظ مارق له خال. قال بعضهم: معناه لو عاش فرآه أخواله القبط لأسلموا فرجا به وتكرمة له فوضعت الجزية عنهم، لأنها لا توضع على مسلم، ومعنى الثاني: إذا أسلموا وهم أحرار لم يجر عليم الرق، لأن الحر المسلم لا يجري عليه الرق.
(1) تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر، ج 1، ص 296. (2) الطبقات الكبرى لابن سعد، دار التحرير، ج 1، ص 90. (3) الجامع الكبير، الهيئة المصرية، ج 2، ص 263. 185 فلم يعرض على هذه الروايات لذكر (لو عاش لكان صديقا نبيا) وإنما جاء ذلك في حديثين: الأول رواه ابن ماجة عن ابن عباس أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن له مرضعة في الجنة، ولو عاش إبراهيم لكان صديقا نبيا ولا عتقت أخواله القبط وما استرق قبطي، الثاني: في كنوز الدقائق للمناوي: لو عاش إبراهيم لكان صديقا نبيا، رواه أحمد وابن ماجة وابن عساكر، هذا ما جاء في ينابيع المودة. وأما البخاري فقد أخرج في صحيحه ما هذا نصه: حدثنا ابن نمير، حدثنا محمد بن بشر، حدثنا إسماعيل قلت: لابن أبي أوفي: رأيت إبراهيم ابن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: مات صغيرا ولو قضى أن يكون بعد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) نبي عاش ابنه ولكن لا نبي بعده. فظاهر هذا الحديث أن القول لابن أبي أوفي وفيه كما ترى نفي لوجود نبي بعده (صلى الله عليه وآله وسلم). وأما النووي فقد قال كما في السيرة الحلبية: وأما ما روي عن بعض المتقدمين (لو عاش إبراهيم لكان نبيا) فباطل وجسارة على الكلام في المغيبات، ومجازفة وهجوم على بعض الزلات (1). فأنت ترى من كلام النووي أن هذا القول لبعض المتقدمين وأنه ليس واردا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). 2 - على فرض التسليم بوروده عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن له وجوها من التأويل، قال الحافظ ابن حجر تعليقا على قول النووي كما في السيرة الحلبية: وهو عجيب مع وروده عن ثلاثة من الصحابة، وكأنه لم يظهر له وجه تأويله، وهو أن القضية الشرطية لا تستلزم الوقوع، أي وكان اللائق به أن يكون نبيا وإن لم يكن ذلك. وفي حاشية السندي على صحيح البخاري في (باب من سمي بأسماء الأنبياء) تعليقا على حديث ابن أبي أوفى ما هذا لفظه: ولو قضي أن يكون بعد
(1) السيرة الحلبية، العلامة علي بن برهان الدين الحلبي، دار إحياء التراث العربي، ج 3، ص 311. 186 محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) نبي عاش، الخ، يحتمل أنه بيان لسبب موته، ومداره على أن إبراهيم قد علق نبوته بعيشه، وهذا مبني على أنه علم ذلك من جهته (صلى الله عليه وآله وسلم) كما جاء عنه ذلك ببعض الطرق الضعيفة، وكذا جاء مثله عن الصحابة، ومعنى الحديث على هذا أنه لو قضي بالنبوة لأحد بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمكن حياة إبراهيم، لكن لما لم يقض لأحد تلك وقد قدر لإبراهيم أن يكون نبيا على تقدير حياته لزم أن لا يعيش، ويحتمل أنه بيان لفضل إبراهيم، وحاصله لو قدر نبي بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) لكان إبراهيم أحق بذلك، فتعين أن يعيش حينئذ إلى أن يبعث نبيا، لكن ما قدر نبي بعده، فلذلك ما لزم أن يعيش، وعلى المعنيين فليس مبني الحديث على أن ولد النبي يلزم أن يكون نبيا حتى يقال إنه غير لازم. 3 - إن الحضي يعترف في بدء كلامه في تفسير آية خاتم النبيين بعموم النبيين الذين افتتحت نبواتهم بنبوته، ويجعل الحديث المستفاد منه إمكان مجئ نبي بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) مخصصا لذلك العموم، وقد عرفت أن الحديث قضية شرطية وهي لا تستلزم الوقوع وإذا لم تستلزم الوقوع، فلا تصلح إذن للتخصيص المزعوم. 4 - إن هذا الحديث على فرض صحته هو كالحديثين السابقين (لو كان بعدي نبي لكان عمر) (1) وأنت مني بمنزلة هارون من موسى، وهما اللذان استدل بهما على جواز وجود نبي بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد بينا هناك فساد استدلاله بما لا مزيد عليه، فلا نرى بعد ذلك مجالا للإسهاب في هذا الباب. 5 - إن دلالة الحديث على استحالة النبوة بعده بتعليق نبوة ولده الطفل على عيشه أولى من دلالة على فرض إمكانها وبقائها فضلا عن وقوعها، وأما قياسه على الحديث لو عاش زيد لكان نابغة لأنه يفيد التسليم بوجود النوابغ فإنه قياس مع الفارق، فإن النبوغ ممكن وواقع والنبوة غير ممكنة ولا واقعة، وإلا لظهر نبي صحيح النبوة قبل القادياني.
(1) سنن الترمذي، طبعة مصطفى الحلبي، ح رقم 3686. 187 وأما استدلاله على بقاء النبوة بقول عائشة والمغيرة بعد تصريح المغيرة بأنه سيكون نبي بعده وهو المسيح، فهو على عكس دعواه أول، ولا نطيل الكلام في نقض استبعاده ظهور المسيح بعد قيام الدليل عليه بما استفاض من رواية الفريقين السنة والإمامية، ولا يجديه نفعا اعترافه بانسداد باب نبوة التشريع وفتحه لغيرها، وهو ما حاول أن يقيد به المطلق بلا دليل، فإن نفي وجود النبوة بعده (صلى الله عليه وآله وسلم) مطلق وعليه الإجماع، وبه وردت النصوص والروايات المستفيضة، ولا عبرة بأقاويل من خالف ذلك من الغلاة وأشباههم ممن ذهب إلى الخلاف عن عمد أو شبهة. الخاتم وأقوال المفسرين واللغويين في معناه، رأينا أن نبسط أقوال المفسرين واللغويين في معنى الخاتم في هذا البحث، ليتبين ما فهموه منه وما فهمه أتباع القادياني، وليتبع الشاك فهم من هو أولى منهما بفهم معاني الألفاظ مفرداتها ومركباتها. 1 - قال أبو إسحاق (1): معنى ختم وضع في اللغة واحد، وهو التغطية على الشئ والاشتياق في أن لا يدخله شئ. 2 - قال ابن سيده: ختم الشئ بختمه بلغ آخره، وخاتمة السورة آخرها، وختام كل مشروب آخره، وفي التنزيل (ختامه مسك) أي آخره، وختام الوادي أقصاه، وختام القوم وخاتمهم آخرهم عن اللجاني، ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم الأنبياء، وفي التهذيب (ولكن رسول الله وخاتم النبيين) [الأحزاب / 40] وقد قرئ وخاتم وقال العجاج: (مبارك للأنبياء خاتم) إنما حمله على القراءة المشهورة فكسر، وأصل الختم التغطية، كذا في لسان العرب و (ختم الله على قلوبهم) [البقرة / 7] طبع الله على قلوبهم عن غريب القرآن للسجستاني، وعنه خاتم النبيين آخر النبيين. ولم يقرأ خاتم بفتح التاء غير عاصم، وقرأ الباقون بكسرها على أنها اسم فاعل من ختم، قالوا في الحجة: من كسر التاء من خاتم فإنهم ختمهم فهو
(1) وهو صاحب معجم لغوي. 188 خاتمهم، ومن فتح التاء فمعناه آخر النبيين لا نبي بعد، قال الحسن: خاتم الذي ختم به، قال المبرد: خاتم فعل ماض على فاعل وهو في معنى ختم النبيين ونصب النبيين على هذا الوجه بأنه مفعول به، وفي صرف عبد الله ولكن نبيا وختم النبيين. 3 - وفي الكشاف: " وخاتم بفتح التاء بمعنى الطابع، وبكسرها بمعنى الطابع وفاعل الختم، وتقويه قراءة ابن مسعود (ولكن نبيا ختم النبيين) " (1). فإذا قلت: فكيف كان آخر الأنبياء وعيسى ينزل في آخر الزمان؟ قلت: معنى كونه آخر الأنبياء أنه لا ينبأ أحد بعده، وعيسى ممن نبئ قبله، ومتى نزل ينزل عاملا على شريعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مصليا إلى قبلتيه كأنه بعض أمته. 4 - وفي مفاتيح الغيب للرازي: (ولكن رسول الله وخاتم النبيين)، وذلك لأن النبي الذي يكون بعده نبي إن ترك شيئا من النصيحة والبيان يستدركه من يأتي بعده، وأما من لا نبي بعده يكون أشفق على أمته وأهدي لهم وأجدى، إذ هو كوالد لولده الذي ليس له غيره من أحد، وقوله تعالى: (وكان الله بكل شئ عليما) يعني علمه بكل شئ دخل فيه أن لا نبي بعده، فعلم أن من الحكمة إكمال شرع محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بتزوجه بزوجة دعيه تكميلا للشرع، وذلك من حيث أن قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يفيد شرعا، لكن إذا امتنع هو عنه يبقى في بعض النفوس نفرة " (2) الخ. 5 - وفي أنوار التنزيل للبيضاوي: " (ولكن رسول الله) وكل رسول أبو أمته لا مطلقا، بل من حيث أنه شفيق ناصح لهم، واجب التوقير والطاعة عليهم، وزيد منهم ليس بينه وبينه ولادة "، إلى أن قال: " ولكن رسول الله من عرفتم أنه لم يعش له ولد ذكر، (وخاتم النبيين) وآخرهم الذي ختمهم أو ختموا به على قراءة عاصم بالفتح، ولو كان له ابن بالغ لاق بمنصبه أن يكون
(1) الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، ج 3، ص 544. (2) مفاتيح الغيب، ج 9، ص 171، تفسير الآية 40 من سورة الأحزاب. 189 نبيا كما قال عليه الصلاة والسلام في إبراهيم حين توفي: لو عاش لكان نبيا، ولا يقدح فيه نزول عيسى بعده لأنه إذا نزل كان على دينه مع أن المراد أنه آخر من نبئ " (1). 6 - وفي مجمع البيان (وخاتم النبيين) أي وآخر النبيين ختمت النبوة به، فشريعته باقية إلى يوم الدين، وهذا فضيلة له صلوات الله عليه وآله اختص بها من بين سائر المرسلين، فإن قيل: إن اليهود يدعون في موسى مثل ذلك، فالجواب: إن بعض اليهود يدعون أن شريعته لا تنسخ، وهم مع ذلك يجوزون أن يكون بعده أنبياء، ونحن إذا أثبتنا نبوة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمعجزات القاهرة وجب نسخ شريعته بذلك، ثم أورد الحديث عن جابر بن عبد الله عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إنما مثلي في الأنبياء الخ (2) وقد سبق البحث عنه في الباب الثالث (ص 109). وجاء في مجمع البيان " (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) عند تفسير قوله: (ومنك) يا محمد وإنما قدمه لفضله وشرفه (ومن نوح) إلى قوله: (وعيسى ابن مريم) [الأحزاب / 7] خص هؤلاء بالذكر لأنهم أصحاب الشرائع (وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) أي عهدا شديدا على الوفاء بما حملوا من أعباء الرسالة وتبليغ الشرائع، وقيل: على أن يعلنوا أن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويعلن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه لا نبي بعده " (3). فأنت ترى من مجموع ما نقلناه عن أئمة التفسير واللغة وهو غيض من فيض ومن قراءة القراء إلا عاصما خاتما بلفظ اسم الفاعل وقراءة بعضهم خاتم بلفظ الماضي وزان فاعل إن المراد خاتمتهم وآخرهم، وأوضح من ذلك في الدلالة قراءة ابن مسعود ولكن نبيا وختم النبيين، على أن قراءة عاصم بفتح التاء تفيد معنى خاتم النبيين أي آخرهم وأنه لا نبي بعده، فليس معنى الخاتم
(1) أنوار التنزيل، ط مؤسسة الأعلمي، ج 3، ص 385. (2) مجمع البيان في تفسير القرآن، ج 7 - 8 / 567. (3) المصدر نفسه، ج 7 - 8 / 531. 190 مختصا بمعنى الزينة أو بمعنى الأفضل كما قصره عليهما صاحب التوضيح وأتباع القادياني. ثم إن إرادة أحد المعنيين الأفضلية أو الزينة من لفظ الخاتم لا يتسق مع ذكره تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) موصوفا بأوصاف (ما كان أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) بعد حادثة تطليق ربيبه زيد زوجه زينب وزواج النبي لها، وهي من الأهمية، بمكان عظيم من حيث قيامه بنفسه في العمل بتشريع زواج الأولياء بأزواج الأدعياء المطلقات الذي كانت تأباه نفوس العرب في جاهليتهم وفي جدة إسلامهم، يتنازعهم عاملان: عادة قديمة موروثة وتشريع إسلامي جديد بحثت أصولها غير آبه بهجر فريق منهم غير مستكمل الإيمان وباستنكار من يبطن النفاق ويظهر الإسلام، فمساق هذه الأوصاف في الآية وحكمة مثل هذا التشريع الذي يراد دوامه واستمراره وخلوده في الأمة يستلزمان أنه لا يراد من لفظ الخاتم واحد من ذينك المعنيين، بل يراد منه معنى نهاية النبوات بنبوته، كما يراد نسخ الشرائع بشريعته واستمرارها إلى أن تقوم الساعة، وليس المقام مقام أن يراد أنه أفضلهم أو أنه زينتهم كما يزين الخاتم الإصبع. وإذا ضممنا إلى ذلك ما كان يفهمه المسلمون، سواء أكان ذلك في عهده (صلى الله عليه وآله وسلم) أم في صدر الإسلام وهم في طراوته أم في العصور المتعاقبة، من أن المراد بالخاتم خاتمتهم وآخرهم ونهايتهم، زادت الحجة وضوحا وشبهة القاديانيين بطلانا وفسادا. هذا العباس بن مرداس السلمي يخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: يا خاتم النباء إنك مرسل * بالحق كل هدى السبيل هداكا والنباء جمع نبئ مهموزا. سمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منه هذا البيت وقد أقره على مضمون معناه من تخصيصه له بعموم هدى السبيل الذي هو هداه. فلو كان بعده نبي له اختصاص ببعض هدى السبيل لما أقر عباسا على قوله، ولكان المقام مقام بيان أن بعده أنبياء مرسلين ترك لهم بعض الهدى.
191 وهذا الفرزدق ينشد علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب (عليه السلام) قصيدة سائرة في بيت الله الحرام بمحضر من الألوف من حجاجه، منها هذا البيت: هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله * بجده أنبياء الله قد ختموا فلا ينكر على الفرزدق منكر من الحجيج وفيهم الموالي والقالي، بل ومن أحفظه بقصيدته هذه، فلو لم يكن من المسلمات ومن البداءة انتهاء النبوات واختتامها بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عند المسلمين، لا نبرى من تلك الجموع ولو واحد من أعدائه إلى تكذيب الفرزدق وقال: إن باب النبوات ما زال مفتوحا وأنه لم يسد بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). ولو حاولنا استقصاء كل ما قيل من منثور ومنظوم وفي خلال الخطب من على المنابر الإسلامية في مختلف العصور ومختلف الأمصار، وخاصة ما جاء في نهج البلاغة من وصف محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بصفة خاتم النبيين وأن المراد به اختتام النبوات بنبوته، لاحتجنا إلى إخراج كتاب ضخم. وليس لصاحب التوضيح ومن شايعه أن يعترض بشيوع استعمال الخاتم في منظوم الكلام ومنثوره، فيما يستبعد أن يكون مرادا منه النهاية، كقولهم خاتمة العلماء، وخاتم الأولياء، وافتتح الشعر بملك واختتم بملك، وقول المتنبي: (إن الكرام بأسخاهم يدا ختموا) وقول السيد إبراهيم الطباطبائي: ختمت به العلماء بعد كما * ختمت بطه جده الرسل وقول القائل: الشافعي إمام كل قبيلة * أربت مناقبه على الآلاف ختم النبوة والولاية ربنا * بمحمدين هما لعبد مناف فيقول وحيث يستبعد أن يراد من الخاتم وما يشتق منه معنى النهاية، فلا مناص من حمله على معنى الفضيلة أو الزينة، وكذلك يحمل في الآية وفيما ورد من خبر وأثر، لأنا نقول: قد تبين مما نقلناه من كلمات أئمة اللغة والتفسير في صدر هذا البحث الفرق أولا بين خاتم بفتح التاء المستعمل للزينة و (للطابع المخصوص) وللفضيلة وأنه يستعمل أيضا بما يؤدي إلى النهاية،
192 وبين خاتم بكسر التاء لمعنى النهاية، وهو الذي قرأ به القراء إلا عاصما، وبما يزيد قراءتهم وضوحا في إرادة هذا المعنى في من قراءة عبد الله بن مسعود. ثانيا: إن حمل خاتم على معنى الزينة أو الفضيلة في هذه الشواهد وفيما لا يحصى أمثالها تحكم في فهم اللغة وافتأت في الاستعمال، ولا نبعد عن الصواب إن قلنا: إن النهاية مفهومة من الخاتم مكسور التاء ومفتوحها بالمطابقة والزينة والفضيلة بالالتزام، وإن قلنا بأنه مشترك بين هذه المعاني حقيقة فيها كلها، ففي الآية وما هو في معناها مما ورد من خبر وأثر مضافا إلى الإجماع قاض باستعماله في معنى النهاية. ثالثا: إن استعمال الخاتم بمعنى النهاية فيما عدا ما يتعلق بالنبوة وانتهائها بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو محمول على هذا المعنى بضرب من التجوز والادعاء، ولازمه أن من وصف بهذا الوصف جامع لمزايا الفضيلة، وهو ما يفهمه كل من أوتي ذوقا في فهم أساليب الكلام. ونرى فيما سبق ردا على هذا الزعم وقطعا لمادة الجدل غير المجدي، اللهم إلا التطويل والترداد الذي هو من بضاعة القاديانيين، فلا نتعب أنفسنا والقارئ بتتبع كل أقاويلهم في هذا المعنى بالنقض على غير طائل، وما كان كل ما أطال به صاحب التوضيح الخطب من الاستشهاد بكلمات لا تدل تصريحا ولا تلويحا على مطلوبه بجواز مجئ نبي بعده (صلى الله عليه وآله وسلم)، مما يستحق أن نطبع على غراره في التطويل وفيما ذكرناه غنية عن الإسهاب. فصل رأينا مما يقطع شبهة القاديانيين أن نعقد هذا الفصل في الإمام بما يتسع له المجال ويتضح به الحال ولا يبعث على السآمة والملال من نقل أقوال لفريق من علماء المسلمين الأعلام في تعليل اختتام النبوات بنبوة سيد الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم) وفلسفة الشريعة الإسلامية. 1 - عقد الفيلسوف الاسلامي القاضي ابن رشد في كتابه (نهج الأدلة) فصلا نافعا جدا، ننقل منه موضع الحاجة في موضوعنا، قال: " ولو ذهبنا لنبين
193 فضل شريعة على شريعة، وفضل الشريعة المشروعة لنا معشر المسلمين على سائر الشرائع المشروعة لليهود والنصارى، وفضل التعليم الموضوع لنا في معرفة الله ومعرفة المعاد ومعرفة ما بينهما، لاستدعي ذلك مجلدات كثيرة مع اعترافنا بالقصور عن استيفاء ذلك، ولهذا قيل في هذه الشريعة: إنها خاتمة الشرائع، وقال (عليه السلام): " لو أدركني موسى ما وسعه إلا اتباعي ". وصدق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولعموم التعليم الذي في الكتاب العزيز وعموم الشرائع التي، فيها، أعني كونها مستعدة للجميع كانت هذه الشريعة عامة لجميع الناس، ولذلك قال تعالى: (قل أيا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا). وقال (عليه السلام): " بعثت إلى الأحمر والأسود ". 2 - قال ابن حزم في فصله: فكان كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) وعهوده وما بلغ من كلام الله تعالى، حجة نافذة معصومة من كل آفة إلى من بحضرته وإلى كل من يأتي بعد موته (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يوم القيامة من إنس وجن. وقال (في م 4، ص 80) بعد كلام في ادعاء من ادعى مجالسة الخضر وكلمه مرارا وغيره: هذا مع سماعهم قول الله تعالى: (ولكن رسول الله وخاتم النبيين). وقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا نبي بعدي ". فيكف يستجيز مسلم أن يثبت بعده نبيا في الأرض، حاشا ما استثناه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآثار المسندة الثابتة في نزول المسيح ابن مريم (عليه السلام) في آخر الزمان. 3 - قال سعد الدين التفتازاني في شرحه العقائد النسفية: وقد يستدل أرباب البصائر على نبوته (صلى الله عليه وآله وسلم) بوجهين: أحدهما ما تواتر من أحواله قبل النبوة وبعد تمامها، وثانيهما أنه ادعى ذلك الأمر العظيم بين أظهر قوم لا كتاب لهم ولا حكمة معهم، وبين لهم الكتاب والحكمة، وعلمهم الأحكام والشرائع، وأتم مكارم الأخلاق، وأكمل كثيرا من الناس في الفضائل العلمية والعملية، ونور العالم بالإيمان والعمل الصالح، وأظهر الله تعالى دينه على الدين كله كما وعده، ولا معنى للنبوة والرسالة سوى ذلك، وإذا ثبتت نبوته وقد دل كلامه وكلام الله تعالى المنزل عليه أنه خاتم النبيين وأنه مبعوث إلى كافة الناس بل إلى الجن والإنس، ثبت أنه آخر الأنبياء وأن نبوته لا يختص بها العرب، فإن
194 قيل: قد ورد في الحديث نزول عيسى بعده، قلنا: نعم لكنه يتابع محمدا (عليه السلام) لأن شريعته قد نسخت، فلا يكون إليه وحي ونصب أحكام بل يكون خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم الأصح أنه يصلي بالناس ويؤمهم ويقتدي به المهدي لأنه أفضل فإمامته أولى. 4 - قال المحقق الدواني في شرح العضدية: وأما كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم النبيين ولا نبي بعده، فلقوله تعالى: (ولكن رسول الله وخاتم النبيين). ولقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (رض): " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " وقال أهل البصائر: لما كان فائدة الشرع دعوة الخلق إلى الحق وإرشادهم إلى مصالح المعاش والمعاد، وإعلامهم الأمور التي تعجز عنها عقولهم، وتقرير الحجج القاطعة، وإزالة الشبه الباطلة، وقد تكفلت هذه الشريعة الغراء جميع هذه الأمور على الوجه الأتم الأكمل بحيث لا يتصور عليه مزيد كما يفصح عنه قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) فلم يبق بعده حاجة للخلق إلى بعث نبي بعده، فلذلك ختم به النبوة. وأما نزول المسيح (عليه السلام) ومتابعته لشريعته، فهو مما يؤكد كونه خاتم الأنبياء. 5 - قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبدة المصري في رسالة التوحيد: لم يدع الإسلام بعد ما قررنا أصلا من أصول الفضائل إلا أتى عليه، ولا أما من أمهات الأعمال الصالحات إلا أحياها، ولا قاعدة من قواعد النظام إلا قررها، فاستجمع للانسان عند بلوغ رشده كما ذكرنا حرية الفكر واستقلال العقل، وما به صلاح السجايا واستقامة الطبع، وما فيه إنهاض العزائم إلى العمل وسوقها في سبل السعي، ومن يتلو القرآن حق تلاوته يجد فيه من ذلك كنزا لا ينفذ وذخيرة، لا تفنى، هو بعد الرشد وصاية، وبعد اكتمال العقل ولاية! كلا (قد تبين الرشد من الغي)، ولم يبق إلا اتباع الهدى، والانتفاع بما ساقته أيدي الرحمة لبلوغ الغاية من السعادتين، لهذا ختمت النبوات بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وانتهت الرسالات برسالة، كما صرح بذلك الكتاب وأيدته السنة الصحيحة، وبرهنت عليه خيبة مدعيها من بعده، واطمئنان العالم بما وصل إليه من العلم إلى أن لا سبيل بعد لقبول دعوة يزعم القائم بها أنه يحدث عن الله بشرع، أو
195 يصدع عن وحيه بأمر، هكذا يصدق نبأ الغيب (33 - 4) (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شئ عليما). 6 - من فصل طويل في مجلة المنار الاسلامي المجلد السابع: القرآن بشر البشر بأن محمدا خاتم النبيين، فلا حاجة بعده إلى تعليم سماوي ولا وحي جديد، لأن تعليمه هو التعليم العالي الذي يرتقي به العقل ويستقل، فلا يقبل الشئ إلا ببرهانه، ولذلك استدل على العقائد وبين منافع الآداب والأحكام، وطالب بالدليل والبرهان، وجعله شرطا للأعراف بالصدق (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين). القرآن جعل آية محمد الكبرى علمية أدبية، ولم يحتج على نبوته بالآيات الكونية لأنه دين العقل والآيات الكونية، لا تعقل، ولأنه دين العلم وهي لا تعلم، ولأنه جعل ركن ارتقاء البشر الهداية إلى سننه تعالى في الخلق، وكونها لا تتبدل ولا تتحول وهي على غير السنن الكونية. 7 - من كتاب حياة محمد للدكتور حسين هيكل المصري: " بلغت هذه الحياة الإنسانية من السمو ومن القوة ما لم تبلغه حياة غيرها، وبلغت هذا السمو في نواحي الحياة جميعا، وما بالك بحياة إنسانية اتصلت بحياة الكون من أزله إلى أبده، واتصلت بخالق الكون بفضل منه ومغفرة، ولولا هذا الاتصال ولولا صدق محمد في تبليغ رسالة ربه لرأينا الحياة على كر الدهور تنفي مما قال شيئا، لكن ألفا وثلاثمائة وخمسين سنة انقضت وما يزال بلاغ محمد عن ربه آية الحق والهدى، وبحسبنا على ذلك مثلا واحدا نضربه: ذلك ما أوحى الله إلى محمد أنه خاتم الأنبياء والمرسلين. انقضت أربعة عشر قرنا لم يقل أحد خلالها إنه نبي أو إنه رسول رب العالمين فصدقة الناس، قام في العالم أثناء هذه القرون رجال تسنموا ذروة العظمة في غير ناحية من نواحي الحياة، فلم يوهب أحدهم هبة النبوة والرسالة، ومن قبل محمد كانت النبوات تتواتر والرسل يتتابعون، فينذر كل قومه أنهم ضلوا ويردهم إلى الدين الحق ولا يقول أحدهم: إنه أرسل للناس كافة أو أنه خاتم الأنبياء والمرسلين، أما محمد
196 فيقولها فتصدق القرون كلامه (ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شئ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) [يوسف / 111] " (1). فصل فريق من فلاسفة الفرنج يقول باختتام النبوة بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) رأينا بعد ما أوردناه من الدلالة وهي غيض من فيض على اختتام النبوات بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن أقوال فريق من المسلمين في بيان علله وأسبابه، أن نعززه بأقوال فريق من فلاسفة الفرنج أو أهم بحثهم العلمي المجرد ودرسهم حياة الرسول الأعظم وشريعته الجامعة، لكل ما يصلح الجماعة البشرية وينتظم أمورها من حيث المبدأ والمعاد إلى تلك النتيجة، ولأقوالهم قيمتها لأنه صادرة عن محض الاخلاص لوجه العلم الحق، بعيدة عن كل مؤثر سوى الحقيقة التي هي ضالة كل حكيم مخلص، ولله في محمد وشريعة محمد وكتاب محمد أسرار يرد مواردها الصافية القريب البعيد والمسلم وغير المسلم، وهي من متناول عقول العالمين. فمن ذلك قول (الأستاذ دافيد دي سانتيلانا): " إن محمدا قد ذكر المجتمع العربي أعمق بأشكاله الابتدائية، وشيد بنيانا اجتماعيا على الأسس التي كانت توافق أعمق غرائز ذلك المجتمع، فالذين يؤمنون بالله الواحد وبنبوة محمد ويتمسكون بالتعاليم القليلة التي جاء بها محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يصبح لهم حق الانتساب إلى أمة محمد، ومحمد هو الشهيد بين العرب أمام الله، وقال: ولا يمكن لله أن يبعث أو يختار رسولا ومبشرا أو وكيلا آخر بعد أن أرسل محمدا مبشرا للناس ونذيرا بكلمته النهائية ". ومن ذلك قول (أرنست رينان): " أما الأمة العربية التي أكرمها الله ورفع شأنها باصطفاء عبده الأكرم من بين أشرف أشرافها ليكون خاتم النبيين، فقد
(1) حياة محمد، محمد حسين هيكل، ص 360. 197 جعلت لغتها آلة تحمل شريعته التي ستدوم ما دامت الأفلاك، إذ لا نبي بعده ولا دين بعد هذا الدين ". ومنه قول (لورا فكشيا فاليبري) الإيطالي في مقدمة كتابه المترجم إلى الفرنسية: " إنه مما لا شك فيه أنه وصف محمد بتلك الأكاذيب التي كانوا يشيعونها في القرون الوسطى عنه وعن ديانته قد خفت كثيرا في هذا العصر، وصاروا ينشدون الحقيقة التاريخية عن محمد وعن الإسلام الذي قلب وجه العالم، وأن جماعة من المستشرقين يؤيدون رسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقولون: بأنه خاتم الرسل ". ومنه قول (الدكتور ماركس): " محمد هو أول رسول سجلت جميع أقواله وقيدت عقب انتقاله إلى الدار الآخرة مباشرة، ومن هنا يتبين الإنسان المركز الممتاز الذي يتمتع به محمد، وما تتمتع به أحاديثه من الصحة والدقة والصدق والحقيقة الثابتة هي أنه قد بعث رسولا ليجدد للعالم رسالة هي صفوة الرسالات السابقة، رسالته هي الدستور الثابت للعالم، فكل ما جاء به محمد تستسيغه الأفهام الحديثة ". فأنت ترى من هذه الأقوال وهي نموذج من أقوال مئات من فلاسفة الفرنج، ما يدل على أن العقل إذا خلص من الشوائب أصاب الواقع ولم يخطئ الحقيقة، ولذلك كانت نتيجة ما أوصلهم إليه البحث الخالص هي النتيجة عينها التي قررها أئمة المسلمين من طريقي العقل والنقل، ولا عبرة بشذوذ من شذ عن ذلك لشبهة أو لهوي في النفس. وإليك وجوها أخرى في إبطال دعوى القادياني: 1 - إن القادياني لا يخالف ما أجمع على المسلمون من أن الشريعة التي جاء بها محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جاءت مستكملة مستغنية عن كل تشريع، وافية بكل ما يحتاج إليه العالم الإنساني روحا وجسدا، مبدءا ومعادا، منفردا ومجتمعا، محددا الواجبات واجبات الفرد بالنسبة إلى خالقه، وإلى نفسه وإلى أسرته وإلى مجتمعه، وإلى من يدين بدينه ومن يدين بغير دينه، بل وبالنسبة
198 إلى الحيوان الذي يستخدمه في مرافق حياته، ففيه العبادات التي تسمو بروحه وتقوم بتهذيب نفسه وتصله بخالقه، وفيه المعاملات التي تنتظم جماعة، وفيه العظات والعبر التي تقيه من مصارع السوء، وفيه الإرشاد إلى اتباع وازعي العقل والشرع لتعديل ملكاته واجتنابه طرفي الافراط والتفريط، وهو بعد كافل لسعادة الإنسان من كل نواحيها مبين لها أكمل بيان. 2 - إن هذه الشريعة السمحة الغراء تستمد مادتها التي لا ينضب معينها الصافي الفياض من القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ومن السنة الجامعة التي لا تفترق عنه وهي المفصلة لما أجمل، ومن العمل بمضمونها بما تلقي عن الرسول الأعظم تلقيا مؤدي إلى الأمة بمنتهى الأمانة والاخلاص من رجال مخلصين صانوا الكتاب والسنة، بما استنبطوا لهما من علوم من كل زيغ وتحريف في مبني أو معنى، ولم يخل منهم والحمد لله عصر من الأعصار ومصر من الأمصار، لم تأخذهم في حفظهما والذود عن حياضهما لومة لائم، وهم بالمرصاد لكل من ناصبها العداء. 3 - إن حكمة الله اقتضت وقد نسخت بالشريعة الإسلامية الشرائع كافة صيانتها من الزيادة والنقصان، وبلغت بها الذروة في حكمة تشريعها التي لائمت كل الأمزجة والطباع وجميع الأعصار وسوية البشر من حيث اختلافهم في الرقي والانحطاط، كما أنها لم تقف بالمسلم موقف الجامد وللحياة شؤون لآفاق ومتجددات لا مناص له من التكليف بكيفياتها، شرط أن لا تشذ عن قواعد دينه الخالد (دين الله الحق) فقد فتحت له بما فيها من المرونة بما جمعته من الأصول والقواعد التي لا يشذ عنها فرع من الفروع المتجددة طرقا للاستنباط معبدة وصوى للاجتهاد واضحة، بحيث لا يفارقان تلك الأصول والقواعد، ولا يحيدان عنها قيد أنملة، بل جعلت لكل مجتهد نصيبه إن أخطأ فله أجر واحد وإن أصاب فأجران، ورفعت العسر والحرج عن المكلف، وما من حادث متجدد إلا حكمة. إن الاستنباط والاجتهاد لا يتناولان إلا ما هو ظني وأما القطعي فليس من متناولهما، والترخيص فيهما من الشارع الأعظم منحصر فيما انسد به العلم
199 وبمن استجمع شرائطهما والاختلاف فيهما يؤديان إليه من الحكم، شرط أن لا يتجاوز المجتهد والمستنبط الاختلاف فيما يفهم من الألفاظ الواردة عن الشارع منطوقا أو مفهوما بإحدى الدلالات من المرخص به منه، وهو مما امتحنت به العقول، بل هو من تمام لطفه تعالى، لأنه به صيانة الأحكام وحماية دين الإسلام من أن يدخل فيه ما ليس منه. 5 - إن الله عز وجل أرجع في محكم كتابه وفي سنة نبيه الجاهلين إلى أولئك المستنبطين في فهم أسرار الشريعة وفي أحكامها منهم، ولم يدع الأمة فوضى تتحكم فيها بمحض الآراء، وهم ليسوا أنبياء موحى إليهم. 6 - إن الأمة الإسلامية كما جاء في الحديث المستفيض من افتراقها إلى ثلاث وسبعين فرقة (1) لم تفارق بهذا الافتراق سنة الله في خلقه، وكانت فيه كما نص عليه الحديث كأمة موسى التي افترقت إلى إحدى وسبعين فرقة، وأمة عيسى التي افترقت إلى اثنتين وسبعين فرقة، ولو كان من سنته تعالى الإكراه والالجاء في التكليف ولم يدعه إلى اختيار المكلفين، لما كان ذلك الافتراق في أمتي موسى وعيسى (عليهما السلام) ولا في أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم رسله. على أن معنى عدم الإلجاء في التكليف ليس هو ترك حبل المكلف على الغارب وتخليته وشأنه يتخبط في شكوكه وأوهامه، بل معناه ترك الاختيار له بعد أن هداه الله النجدين ونصب له الدلائل على دينه الحق وأمده بلطفه، ولم يكتب البقاء لجل الفرق المتفرعة عن الإسلام، وقد ابتعدت ابتعادا كليا عن روحه وتعاليمه الحقة، ومنها من لم يصدق عليه اسم الإسلام، وما بقي منها فمحاط بإطار من الأسرار محجوب عن الأنظار، ولكنه تعالى كتب البقاء والدوام لفرقتي السنة والشيعة الإمامية اللتين مهما اختلفتا في بعض أمور اجتهادية سواء أكانت في العقائد أم في الأحكام، فإنهما من حيث روح الإسلام وجوهره وحده، ولا غرو فإن من سنته تعالى بقاء الأنسب والأصح في كل شئ (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) [الرعد / 17].
(1) تهذيب تاريخ دمشق لابن عساكر، بيروت، ج 4، ص 181. 200 وهاتان الفرقتان اللتان يتألف من مجموعهما الكيان الاسلامي متفقتان على انقطاع الوحي والنبوة بعد خاتم النبيين والمرسلين. والنتيجة لهذه المقدمات أن الإسلام غير محتاج لنبي جديد يجئ بشئ غير معلوم، ويكشف عن سر مكتوم، ومن طاقته رفع الاختلاف في الآراء والاعتقادات والاجتهاد، أو يستطيع أن يوحد المتفرق من الفرق الإسلامية الباقية، أو يأتي بما لم تستطعه الأوائل، فيجمع أرباب الأديان كلها في دين واحد، وإذا لم يتفق مثل ذلك لأولياء العزم من الرسل ولا لمن خلفوهم من الأنبياء العاملين بشرائعهم بين الفترة والفترة والحافظين لتلك الشرائع من التحريف والتبديل وهي مظنة لذلك، وقد تناول الكتب المنزلة بها النقل من لغة إلى لغة والنقل غير مأمون الخطأ، وأما الدين الاسلامي وله مرجعان، الكتاب المحفوظ والمعصوم من التحريف والزيادة والنقصان، فكان في مأمن منها وأمده الله بحفظة أمناء على تنزيله وتأويله والسنة والحديث، وقد أحيطا بما أحيط به الكتاب من حيث ضبط ألفاظهما وحفظ معانيهما والتثبت من حيث صدورهما، فالدين الاسلامي وله هذان المرجعان الموصوفان بما ذكرنا محفوظ بما لم يحفظ به غيره من الكتب المنزلة السابقة التي تعاورها النقل إلى مختلف اللغات، فكان من حكمته تعالى ولطفه بعباده صيانة لدينه وشريعته في البشر، أن يردهم إليه بواسطة أنبياء تابعين لا مشرعين استغنى عنهم المسلمون بكتابهم المعصوم وحديثهم المحفوظ والقائمين على رعايتهما من أئمتهم وذوي الاجتهاد والاستنباط منهم. وبعد، فقد تبين من تلك الوجوه ومن النتيجة اللازمة لها عدم الحاجة في الإسلام إلى نبي سواء أكان مستقلا أم كان تابعا، ومن زعم الحاجة إلى نبي تابع أو ادعى أنه هو ذلك النبي فقد ادعى أنه بلغ رتبة النبوة، ولازم ذلك أنه أدرك من الفضل ما لم يدركه أصحاب النبي ولا أهل بيته ثقله الأصغر، ولا من نجم من أئمة المسلمين في مختلف الأعصار، والأمصار، وكان وهو الأخير خيرا ممن قال فيهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " خير القرون قرني " (1)... الحديث فهو في زعمه هذا
(1) فتح الباري لابن حجر، دار الفكر، بيروت، ج 7، ص 6. 201 في إحدى الحالين، إما مستقل مشرع وهو ما نفاه عن نفسه، وإما متابع عامل بشرع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو كواحد من علماء المسلمين، فأي محصل لدعوى النبوة ودعوى مجيئه بمعجزتها لو لم يكن وراء الأكمة ما وراءها، أما كتابه الذي زعم أنه أوحي به إليه فقد قرأنا بعض فصوله فلم نره مما يرضى بإنشاء مثله الشادي، وأما خوارقه فلم تكن إلا مجرد دعاوى ادعاها هو وأتباعه لا يؤيدها برهان ولا هي مما يروج في عصر الخوارق العلمية ومعجزات الصناعة، فلو كان نبيا حقا لكان من مؤيدات نبوته أن يأتي بما لم يؤت بمثله ذوو الابتكار والاختراع من عصره. وأما معجزات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهي تتلخص بالقرآن الموحي به إليه، المعجز ببلاغته التي تحدت بلغاء العصور إلى قيام الساعة، وبما حواه من أصول علوم، ومن حلول لمعاضل أخلاقية واجتماعية ونظم إنسانية، وأنباء عن أمم داثرة، وأخبار عن غائبات، وبالسيرة النبوة الفاضلة التي هي بنفسها معجزة، فكتاب محمد وسيرة محمد وأمة محمد وهي خير الأمم والوسط من الأمم والشاهدة على الأمم، كل ذلك معجزات محمد، وكلها ناطقة بلسان الحال والمقال أن دين محمد خاتمة الأديان، وأنه خاتم النبيين لا نبي بعده، اللهم إلا المسيح ابن مريم لا المسيح الهندي، وهو الحاكم بشرعه كما تواترت بذلك الروايات. إنكار نزول المسيح (ع) وحصره معنى التوفي بالموت أما إنكار نزول المسيح فيلزمه منه أحد أمرين: إما إنكار ما جاء في نزوله من حديث وخبر ولا سبيل له إلى ذلك وهو يبني نبوة صاحبه عليه ويمنحه لقبه، وإما إنكار أن يراد منه عيسى ابن مريم الإسرائيلي المعين شخصه والمبينة هويته في الحديث، بل يراد منه غلام أحمد القادياني الهندي، ولكن الحديث الذي ينص على عيسى ابن مريم نصا صريحا لا يدع محلا لتأويله وحمله على المسيح الهندي المزعوم. ثم إن إنكار ورود الحديث أو إنكار حمله على عيسى ابن مريم بعد الاعتراف بوروده لا تثبت بهما دعواه:
202 أولا: لدلالات وعلامات نصت عليها الأحاديث لذلك المسيح المبعوث في آخر الزمان لم يحقق المسيح الهندي منها شيئا، اللهم إلا دعاوي إنزال كتاب وعلم بالغيب وأمور خارقة يعوزها البرهان، إلى أمور أخرى لا تخرج عن مجرى العادة يشاركه فيها، بل يزيد عليه فيها عدد لا يحصى من علماء أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) العالمين. ثانيا: إن عمدة القادياني في إثبات نبوته ونفي أن يراد في الحديث من المسيح عيسى ابن مريم هي وفاة المسيح المقطوع بها بزعمه، ولكن ذلك على تقدير تسليمه لا تثبت منه نبوته وأنه هو المسيح الموعود به، لأنه لم تجتمع فيه صفاته ولا علاماته ودلالالته، ولكن إنكاره ورود الحديث وما ورد في معناه وادعاء نبوته مستندا إلى ما أشير إليه من أدلة تولينا نقضها، أسهل من تأييد دعواه بوفاة المسيح المقطوع بها بزعمه لتنحصر المسيحية به، لأن ذلك يؤدي إلى نسبة التعجز للقدرة الإلهية، فإنه من الجائز على قدرته تعالى إحياء المسيح بعد وفاته لأداء رسالته التي هي العمل برسالة خاتم رسله في آخر الزمان، والدلائل على وقوع مثل ذلك منه تعالى كثيرة، والقادر على الانشاء قادر على إعادة الأشياء بعد الفناء، هذا إذا سلمنا أنه لا يراد من الوفاة والتوفي وما يشتق منه إلا معنى الموت. وأما حصره معنى التوفي في الموت، فحسبنا نقضا له أن ننقل جملة من نصوص أئمة اللغة والتفسير، وإليك منها ما يتسع له المجال. 1 - التوفي تفعل من الوفاء وهو التمام، ومنه درهم واف، وأوفيت الكيل والوزن. 2 - قال الراغب الاصفهاني بعد ذكر ما شاء ذكره من مادة الوفاء: وتوفية الشئ بذله وافيا، واستيفاؤه تناوله وافيا، (وإنما توفون أجوركم) [آل عمران / 185]، (ثم توفي كل نفس) [البقرة / 281]، (إنما يوفى الصابرون أجورهم) [الزمر / 10]، (ليوفيهم أعمالهم) [الأحقاف / 19]، (يوف إليكم) [البقرة / 272]، (فوفاه حسابه) [النور / 39]. وقد عرف الموت والنوم بالتوفي،
203 قال الله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها) [الزمر / 42] (يتوفاكم بالليل) [الأنعام / 60] (توفته رسلنا) [الأنعام / 61] أو (نتوفينك) [يونس / 46] (توفنا مع الأبرار) [آل عمران / 193] (وتوفنا مسلمين) [الأعراف / 126] (توفني مسلما) [يوسف / 12] (إني متوفيك ورافعك إلي) [آل عمران / 55] وقد قيل: توفي رفعة واختصاص لا توفي موت. قال ابن عباس: توفي موت لأنه أماته ثم أحياه. 3 - وفي الأساس للزمخشري في مجاز التوفي توفي فلان، وتوفاه الله، وأدركته الوفاة فالوفاة بمعنى التمام هو المعنى الحقيقي، وبمعنى الموت مجاز. 4 - وفي مجمع البيان للطبرسي: " (فلما توفيتني) [المائدة / 117] أي قبضتني إليك وأمتني عن الجبائي، وقيل معناه وفاة الرفع إلى السماء عن الحسن. وفيه في (سورة الأنعام آية 60) (وهو الذي يتوفاكم بالليل) أي يقبض أرواحكم من التصرف عن ابن عباس وغيره واختاره علي بن عيسى، وقيل معناه: يقبضكم بالنوم كما يقبضكم بالموت، فيكون كقوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم لم تمت في منامها) عن الزجاج والجبائي (الزمر آية 42) (الله يتوفى الأنفس حين موتها) أي يقبضها إليه وقت موتها وانقضاء آجالها، والمعنى حين تموت أبدانها وأجسادها على حذف مضاف، والتي لم تمت في منامها أي ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها والتي تتوفى عند النوم هي النفس التي يكون بها العقل والتمييز، وهي التي تفارق النائم فلا يعقل " (1). فأنت ترى من هذه النصوص أن الوفاة والتوفي وما إليهما مأخوذة ما مادة الوفاء وهو التمام حقيقة والاستيفاء وإطلاقها على الموت مجاز وأن التوفي في الآية (فلما توفيتني) مختلف فيه بين أن يكون وفاة موت أو وفاة رفع.
(1) مجمع البيان في تفسير القرآن، أنظر: تفسير سورة المائدة، الأنعام، والزمر، ج 3 - 4 و 7 - 8. 204 وأما تحدي صاحب التوضيح بأن التوفي إذا كان من باب التفعل، فليس معناه سوى الموت، فلم تلح لنا العلة باستئثار هذا المشتق من مادة الوفاء دون غيره من المشتقات بهذه المزية، وهل نص على ذلك أحد من الأئمة؟ وقد عرفت أن لفظ التوفي في الآية (فلما توفيتني) يحتمل معنى الموت وغيره، ومما هو نص في غير معنى الوفاة ما ورد في سورة آل عمران (آية 185) (وإنما توفون أجوركم). وفي سورة البقرة (آية 281) (توفي كل نفس). فهذا جواب التحدي باستعمال هذا الحرف في غير معنى الموت. وأما استعمال بقية مشتقات الوفاة في غير الموت فنعد فيه ولا نعدد مما ورد في الذكر الحكيم 1 - (ووفيت كل نفس) 2 - (وإبراهيم الذي وفي) 3 - (فوفاه حسابه) 4 - (نوف إليهم أعمالهم) 5 - (فيوفيهم أجورهم) 6 - (ليوفينهم ربك أعمالهم) 7 - (إنما يوفى الصابرون) 8 - (يوفي إليكم وأنتم لا تظلمون). وفي هذا كفاية. فصل رأينا قبل سد هذا الباب عقد هذا الفصل لبيان ما يحتاج إلى البيان ولتفصيل بعض ما أجملناه في تضاعيف بحثنا في نقض مزاعم القادياني بعض التفصيل بقدر ما يتسع له المجال، وينحصر ذلك في أمرين: الأول: في حياة المسيح وبقائه حيا إلى أن يؤدي راسلته التي هي عين رسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وفية وجهان: الوجه الأول: إن إطالة العمر وامتداد الحياة مما جوزه العقل والعلم وحسبك دليلا على إمكانه وعدم استحالته، أن الأطباء والحكماء لم يزالوا قديما وحديثا يولون شطره جانبا من اهتمامهم، عليهم أن يظفروا بأسبابه فيقربوها وبموانعه فيلاشوها، وقد عبر عنه بحجر الفلاسفة، ويرى كثير أن الكيمياء وحجر الفلاسفة رمز عن إطالة الحياة في عرفهم، وإليك ما جاء في أمالي الشريف المرتضى في هذا البحث بعد إيراده ما جاء في كتاب المعمرين.
205 أما من أبطل تطاول الاعمار من حيث الإحالة وأخرجه من باب الإمكان فقوله ظاهر الفساد، لأنه لو علم ما العمر في الحقيقة وما المقتضي لدوامه إذا دام وانقطاعه إذا انقطع، علم من جواز امتداده ما علمنا، والعمر هو استمرار ركون من يجوز أن يكون حيا وغير حي حيا، وإن شئت أن تقول: هو استمرار الحي الذي لكونه على هذه الصفات ابتداء حيا، وإنما شرطنا الاستمرار لأنه يتعذر أن يوصف من كان حاله واحدة حيا بأن له عمرا، بل لا بد من أن يراعوا في ذلك ضربا من الامتداد والاستمرار وإن قل، وشرطنا أن يكون ممن يجوز أن يكون غير حي، أو يكون لكونه حيا ابتداء لئلا يلزم عليه القديم تعالى، لأنه تعالى جلت عظمته ممن لا يوصف بالعمر وإن استمر كونه حيا، وقد علمنا أن المختص بفعل الحياة هو القديم تعالى، وفيما تحتاج إليه الحياة من البينة والمعاني، وما يختص به عز وجل، ولا يدخل إلا تحت مقدروه كالرطوبة وما يجري مجراها، فمتى فعل القديم تعالى الحياة وما يحتاج إليه من البينة، وهي مما يجوز عليه البقاء وكذلك ما تحتاج إليه، فليست تشفى إلا بضد يطرأ عليها أو بضد ينفي ما يحتاج إليه، والأقوى أنه لا ضد لها في الحقيقة، وإنما ادعى قوم بأنه لا يحتاج إليه ولو كان للحياة على الحقيقة لم تحل بما قصدناه في هذا الباب، فمهما لم يفعل القديم تعالى ضدها أو ضد ما تحتاج إليه ولا نقض منا ناقض بينة، أي استمر كون الحي حيا، ولو كانت الحياة لا تبقى على مذهب من رأي ذلك لكان ما قصدناه صحيحا، لأنه تعالى قادر على أن يفعلها حالا فحالا ويوالي ذلك لكان ما قصدناه صحيحا، لأنه تعالى قادر على أن يفعلها حالا فحالا ويوالي بين فعلها وفعل ما تحتاج إليه فيستمر كون الحي حيا، فأما ما يعرض من الهرم بامتداد الزمان وعلو السن وتناقض بنية الإنسان فليس مما لا بد منه، وإنما أجرى الله تعالى العادة بأن يفعل ذلك عند تطاول الزمان، ولا إيجاب هناك ولا تأثير للزمان على وجه من الوجوه وهو تعالى قادر على أن يفعل ما أجرى العادة بفعله، إذ أثبتت هذه الجملة ثبت أن تطاول العمر ممكن غير مستحيل، وإنما أتى من أحال ذلك من حيث اعتقد أن استمرار كون الحي حيا موجب على طبيعة وقوة لهما مبلغ من المادة متى انتهت إليه انقطعتا واستحال أن تدوما، ولو أضافوا ذلك إلى فاعل مختار متصرف لخرج عندهم من باب الإحالة.
206 هذا إلى كلام يطول بنقله الكلام. وفي كنز الفوائد لتلميذ المرتضى أبي الفتح محمد بن علي الكراجكي بحث طويل في ذكر المعمرين وإمكان إطالة العمر ووقوعه، وذكر المعمرين من الأنبياء ومنهم من نص عليه الذكر الحكيم، ونقصر من ذلك البحث كله على هذه الجملة " والعمر هو اتصال كون الحي المحدود حيا، فهذا الاتصال إنما يكون بدوام الحياة والحياة فعل الله تعالى فليس يستحيل منه إدامتها، وكلما جاز أن يفعله الله تعالى من طول العمر فإنه يجوز أن يفعله مثله في دوام الصحة والقوة وعدم الضعف والهرم ". وحكماء هذا العصر بعد تسليمهم بإمكان إطالة العمر يبحثون في أسباب وقوعه وموانعه، فهل بعد ذلك من المستحيل أو المستبعد على من بيده أسباب الموت والحياة أن يلهم عبدا من عباده لمصلحة تخفى علينا معرفة أسباب إطالتها؟ الوجه الثاني: إن إطالة الحياة خارجة عن العادة مما وقع، وحسبنا على ذلك دليلا ما ورد في القرآن الكريم من إطالة حياة نوح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، ومن بقاء الخضر حيا كما استفاض بذلك الخبر، ومن تعمير إبليس إلى يوم البعث والنشور، ومن إجماع الإمامية وطائفة من علماء السنة على ولادة المهدي واستمرار حياته، وقول آخرين من السنة والشيعة بحياة المسيح. أما حكمة بقاء المسيح حيا واستمرار حياة المهدي فإنا نكل أمرها إلى الله تعالى، وهي مما خفي علينا من أنباء الغيب، على أن ما نراه مخالف للعادة حسب مبلغنا من العلم وهو القليل في جنب ما هو مجهول لنا من المعلومات غير المتناهية، والتي هي من متناول العقول التي يمكن أن تصل إليها إذا اتجهت شطرها همات أنظارها وعزائم قواها أن يرينا العلم والعلماء (وفوق كل ذي علم عليم) ما كان مخالفا للعادة جاريا مجرى العادة. أما استدلال صاحب التوضيح على موت المسيح وإنكار المهدي بفتوى شيخ جامع الأزهر، فليست هذه الفتوى مما تغير اعتقاد من يعتقد عكسها ولهذا الاعتقاد دليله، وما كانت الأمور الاعتقادية التي تختلف فيها أنظار المعتقدين وأولتهم مما يزيل اعتقاد من يعتقد غير اعتقادهم المبني على دليله هذا أولا،
207 وثانيا هب أن المسلمين جميعهم عملوا بهذه الفتوى، فهل يفيد ذلك التسليم بنبوة المسيح الهندي؟ وهلا استفتوا شيخ جامع الأزهر إذا كان لفتواه وزن عندهم بزعم بقاء الوحي وبقاء النبوة ونبوة مسيحهم؟ الثاني: إن القول بوفاة المسيح، سواء أكانت إلى وقت ما وردت إليه، الحياة ورفعه الله إليه أم كانت مستمرة إلى اليوم الموعود لرجوعه إلى الدار الدنيا وأدائه رسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لسر غيبي وحكمة خفيت علينا، هو من الممكن في قدرته تعالى، بل ومن الواقع الذي أخبرنا به نص الكتاب المبين الذي لا يقبل التأويل ولا يخرج عن سنن اللغة وأساليبها، ويصرف إلى رموز حمله عليها افتئات ومحض تحكم، كإحيائه تعالى الطير لإبراهيم خليل الله (عليه السلام) لإراءته كيف يحيي الموتى، وإحياء قتيل بني إسرائيل، وإماتة الذي مر على قرية وإحيائه وإحياء حماره ومبعثه إلى مائة ألف أو يزيدون، وإحيائه الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، وخلق الطير من الطين معجزة للمسيح (عليه السلام) فإذا كان ذلك وهو مما أخبر به الصادق الذي لا يكذب ولا يكذب، وإذا أعطى الله مسيحه هاتيك المعجزات تأييدا لنبوته وسألته وكانت ولادته معجزة له وتكليمه وهو في المهد معجزة، فهل من المستبعد على قدرته تعالى أن يحييه ليتم به أمره وينجز وعده عاملا بشريعة خاتم أنبيائه ورسله صلوات الله عليه وعليهم أجمعين. فصل أطال صاحب التوضيح الكلام في الاستدلال على نبوة صاحبه بما لا طائل تحته ولا يحصل منه على محصل، فلندع ذلك إلى المهم من نقض ما تمسك به من دليل، وهو أجدر من تلك المحاولات بالنظر والبحث. الدليل الأول: استدل على صدق دعوى أحمد غلام النبوة، بأنه ما كان أفاكا أثيما بل كان صادقا أمينا. وثانيا: أرشدونا إلى الطريق التي يعرف بها الصادق من الكاذب وما كنا لها جاهلين. ثالثا: إن دعوى مبتنية على الوحي الذي أوحي إليه، وأن هذا
208 الوحي إما أن يكون من الله أو من الشياطين وأن الشياطين لا تتنزل إلا على كل أفاك أثيم، والنتيجة من هاتين المقدمتين أن دعواه الوحي صحيحة لأنه لم يكن أفاكا أثيما. والجواب: أما عن الأول، فإن كون غلام أحمد غير أفاك أثيم وأنه صادق أمين، إن دل على صدقه فلا يدل على نبوته، والصدق شئ والنبوة شئ آخر، وليس كل صادق نبيا، ولقائل أن يقول: إن الدليل هو نفس الدعوى لابتنائها على صدقه في ادعائه النبوة، وقضيته تنحل إلى أنه نبي لأنه صادق أمين، وأنه صادق أمين غير أفاك أثيم لأنه نبي، ووجه آخر وهو أن للصدق حدودا وللكذب حدوا، وخبر مطلق المخبر محتمل للصدق والكذب بما هو ممكن الوقوع، وإما إخباره بالمستحيل أو بما هو كالمستحيل عند إقامة الدليل القاطع على عدم وقوعه كالقطع باختتام النبوات بنبوة خاتم الأنبياء وانقطاع الوحي، فالصادق والكاذب سيان في عدم الاعتداد بخبرهما المخالف للواقع. وأما عن الثاني، إذا كان عارفا بالطرق التي يعرف بها الصادق من الكاذب، فأي معنى لطلبه الإرشاد إليها، وهو يعلم أن الصدق هو الإخبار بما يمكن وقوعه والكذب بما لا يمكن وقوعه لا يتيسر له إنكار أن يخبر الصادق بما لا يقع لشبهة أو لخطأ في الحدس أو الحس إذا صح نفي الكذب عنه عن عمد وقصد وتصميم، فلا ينتفي عنه الخطأ والاشتباه إن أحسن به الظن. وأما عن الثالث، فإن التسليم بنتيجة شكله يتوقف على التسليم بصغراه، وهو دعواه الوحي الذي أبطلناه كما أبطلنا بقاءه واستمراره في باب التعليق على الوحي، وبكبراه التي بناها على مانعة الخلو من أن الوحي إما أن يكون من الله أو من الشياطين، فإن هذا الوحي وهو وحي النبوة مما أبطلناه، وأما الوحي بمعنى الالهام والهداية لمن جاهدوا في سبيله تعالى لا بمعنى وحي النبوة، فهو أجدر بأن تصدق عليه مانعة الخلو وأحرى أن يكون جائزا، فنتيجة قياسه التي ادعى أنها صحيحة غير صحيحة.
209 الدليل الثاني: استدل على نبوته بصدقه في الإخبار عن المغيبات وأنها من طريق الوحي، كأخبار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصدقه في أخباره، وأنه قد تحدى الناس بآية من كتابه (تذكرة الشهادتين) وملخصها أنه لم يعرف في مدة حياته بالكذب وأنه لازم التقوى منذ نعومة أظفاره. والجواب: أما عن صدقه في الإخبار عن المغيبات وأنها من طريق الوحي، فعلى فرض التسليم بهذا الادعاء فإنا لا نسلم أنه من طريق الوحي أي وحي النبوة وأنه من أدلة نبوته، فإنا نقرأ ونسمع عن فريق من الناس تنبأوا عن وقوع أمور بصحة حدسهم ولطف حسهم فوقعت كما تنبأوا، ونبوتهم هذه لم تكن عن وحي نبوة ولا كان من صحت نبوتهم ممن ادعى النبوة قط، وإنما كان يكون ذلك من مقاييس استنتجها كل واحد منهم مما في دائرة اختصاصه، كإخبار رجال الحرب بوقوع حرب بين دولة وأخرى، وإخبار رجال السياسة بنهوض أمته وسقوط أمة، وتكهن علماء الاختراع بإمكان وقوع اختراعات يعدها الجاهلون ضروبا من المستحيلات، وكلها لا تخرج عن الأسباب الطبيعة والسنن الكونية. وقد أخبر الصحابة رضوان الله عليهم بأمور وقعت كما أخبروا، وقد يكون إخبارهم متلقى عن وحي صاحب الوحي، ولعلي أمير المؤمنين (عليه السلام) من ذلك الشئ الكثير، وللصوفية أنباء عن المغيبات، وإيراد الشواهد على وقوع ذلك مما يطول به الكلام، وما من أحد من هؤلاء المنبئين بالغيب ممن ادعى وحيا أو نبوة. ثم إن دعوى علم الغيب في عصر كاد يكون السلطان فيه للمادة على الروح، والعلم والمعرفة على الفلسفة العقلية، وساور النفوس الشك في كل ما وراء المادة، واضطر المتألهون والمصدقون النبوات إلى تأويل معجزاتها التي نصت على وقوعها الكتب السماوية بما ينطبق على العلم ويقربها إلى الأذهان وحملها على رموز وكنايات، ومنهم المسيح الهندي الذي يفسر كثيرا من آي القرآن المجيد بغير ما فسرها به المفسرون لهذه الغاية.
210 إن هذه الدعوى ليست مما تثبت به النبوة وتحوم حولها شكوك كثيرة، الشك في صحتها، الشك في صدق كل ما أخبر به، الشك في أن التسليم بها هل هو ناشئ عن مجرد الوثوق بالمخبر أو عن مشاهدة ومعاينة، الشك في أن كل ما أخبر به وقع كما أخبر عن استقراء، أم عن قياس ما لم يعلم على بعض ما علم، ومما يمكن حصول مثله عن حدس وتجربة من المتنبئ وغير المتنبئ. ووجه آخر وهو أن التسليم بنبوة الأنبياء يتفاوت على نسبة ما بين من يسلم بها من علم وجهل وذكاء وفطنة وغباوة وبلاوة وما إلى ذلك، وبكل يفسر الأمور الحادثة والوقائع المتجددة على ما يؤديه إليه فهمه، وهم بعد أصناف على نسبة التفاوت ما بينهم في الأفهام، فمنهم من يقنعه الخطاب، ومنهم من يقنعه الجدل، ومنهم من لا يقنع إلا بالبرهان والقياس المنطقي، ومنهم من تقنعه الظواهر، ومنهم من ينفذ ذهنه إلى ما وراءها، وكمثل هذا التفاوت بين الأفراد التفاوت بين الأمم والجماعات، وكما أن للانسان تطورات في حياته الجسيمة تلازمها تطورات في حياته العقلية والأدبية حتى يبلغ رشده، فللأمم مثل ذلك التطور في الحياة العقلية والأدبية، والشرائع الإلهية كانت تتنزل على الأنبياء، المؤيدة نبواتهم بالمعجزات مراعية تطوراتهم في سلم الحياة الروحية، كانت أمة موسى (عليه السلام) منصرفة إلى الحياة المادية الصرف وفي عصر رواج الشعوذات والسحر، فكانت شريعته أكثر مادية في تعاليمها منها روحية، وكانت معجزته إبطال سرحهم وتخيلاته وإذعانهم إلى نبوته، وكانت أمة عيسى في عصر الفلسفة الروحية ورواج فلسفة سقراط وأفلاطون ومثله وجالينوس وبقراط وطبهما، فكانت معجزته من نوع ما في ذلك العصر من روحية ومن طب ظهر ما عالج به المرضي وما جاء به من معجز لا يصل إليه الطب على ما يحسنونه منه وعجزوا عن مثله فأذعنوا لشريعته، وكانت الأمة العربية على بعدها عن الحضارات وتفرقها في الجزيرة أوزاعا وأشياعا وشعوبا وقبائل وعكوفها على عبادة الأصنام في عصر رواج الفصاحة والبلاغة والغاية بالخطابة والشعر، وهي على حال ليس فيه شئ من النظام وفي حياة تتنازعها المادة والروح مملوءة بالخيالات والأوهام، فكانت رسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وسطا بين رسالات النبيين
211 للمادة منها جانب وللروح جانب، وفيها النظام الكامل، وفيها ما يكفل صلاح الأمم البالغة رشدها إلى قيام الساعة، والأمم كافة على ما بينها من التفاوت في الرقي العلمي والفكري، وكانت معجزته الخالدة القرآن المجيد الذي عجز بلغاء العرب في عصره ومختلف العصور عن أن يأتوا بمثل سورة من سوره وأقصرها، بل وعن آية واحدة من أيها، كما أعجز بلغاء كل الأمم إلى أن تقوم الساعة عن الإتيان بمثله وبمثل آية من آياته. إن إعجاز القرآن كما هو في بلاغته التي لا يدرك أمدها، فهو معجز فيما قص من أخبار أمم دارسة جهلها التاريخ والمؤرخون وفي حكم وضرب أمثال لم يرو مثلها لحكماء اليونان وغيرهم من حكماء الأمم الأخرى، وهو معجز في تشخيصه أدواء النفوس في الأمم والأفراد ووصف أدويتها، ومعجز في نظمه وشرائعه التي بذت كل ما سنه متشرعو الأمم، ومعجز في أخباره عن كثير من الغائبات ووقوعها، وفيما حواه من أصول العلوم وفي ملاءمته لكل الطبائع والأمزجة، وتأليفه بين العقل والشرع، ومعجز في مناجاته النفوس ونفوذه من الأذان إلى مسامع القلوب وشعورها كلما تكررت تلاوته تجددت حلاوته وطلاوته، معجز بكل ما في آي الله في إصلاح فطر البشر من إعجاز. إن القرآن لا الإخبار عن المغيبات التي هي مظنة للشكوك هو معجزة محمد الخالدة، وكما كان دليل نبوته وشاهد صدقه العدل وقت تنزيله فهو معجزته اليوم حيال معجزات اليوم، فهلا أتى المسيح الهندي إن كان كما يزعم نبيا موحى إليه بمعجزة من نوع ما هو ملائم لروح عصره مستوحاة من علومه وفنونه واختراعاته، بحيث يعجز أبناؤه عن الإتيان بمثلها، أو من نظمه بحيث يجئ بتعاليم تنتظم أمور الجماعات انتظاما ما يقضي على أكثر ما في أنظمته من مفاسد، وبحيث تنزع ما في النفوس من مبادئ ضارة أو من دساتير حكوماته، فتصلحها إصلاحا تذعن له الأمم وتدين كلها به. إن ما في سيرة محمد وكتابه وسنته علاج لكل ما في الجماعات البشرية من أدواء إن طبقت مبادؤها كلها على النوع الإنساني، وهي زعيمة سعادته وخلاصه من كل ما يتعثر به من سمومها ونقائصها، وفيها الغناء عن نبي جديد
212 وكتاب جديد، وعن معجزة الإخبار عن المغيبات التي تحط في هذا العصر عصر النور والعلم والحقائق من منزلة مدعي العلم بها، كما أنها لا تقع من نفوس الباحثين العارفين موقع الدليل على نبوته أو ما يصلح أن يكون دليلا عليها. ووجه آخر في مسألة الإخبار عن المغيبات ذكره ابن خلدون في مقدمته ولا نتحمل عهدته، قال: ثم نجد في النوع الإنساني أشخاصا يخبرون بالكائنات قبل وقوعها بطبيعة فيهم يتميز بها صنفهم عن سائر الناس، ولا يرجعون في ذلك إلى صناعة، ولا يستدلون عليه بأثر من النجوم ولا من غيرها، إنما تجد مداركهم في ذلك بمقتضى فطرتهم التي فطروا عليها، وذلك مثل العرافين والناظرين في الأجسام الشفافة كالمرايا وطساس الماء، إلى أن قال: وهذه كلها موجودة في عالم الإنسان، لا يسع أحدا جحدها ولا إنكارها، وكذلك المجانين يلقى على ألسنتهم كلمات من الغيب فيخبرون بها، وكذلك النائم والميت لأول موته أو نومه يتكلم بالغيب، وكذلك أهل الرياضيات من المتصوفة لهم مدارك في الغيب على سبيل الكرامة معروفة. ووجه آخر وهو أنه إذا صح ما يعزو أصحاب المسيح الهندي إليه من معجزة الإخبار عن المغيبات وجله مما وقع بزعمهم في الهند، فكيف انحصر العلم به فيهم، وأن وقوع مثل ذلك لمن الحوادث التي لا يعقل أن يختص بعلمها فريق دون آخر، والعصر عصر إنكار للمعجزات وللعلم بالمغيبات وهو مظهر من مظاهرها فكان على نبي الهند وقد قدم بين يدي دعواه النبوة معجزة الإخبار عن المغيبات، أن يمهد لهم أسباب الاطلاع عليها ليؤمنوا برسالته إن كانوا مما يرونها سببا للاعتراف بها وأن النبوة لا تستخلف عنها، ولو حصل ذلك لانتشر في الشرق والغرب، خبره ووسائل الانتشار لا تحصى وترصد الحوادث والأخبار حتى للتوافه دع جلائلها ملء الشرق والغرب فكيف تذاع في الخافقين كهانة متكهن قد تقع أو لا تقع، وتطوي أخبار المسيح الهندي عن المغيبات عن سكان الهند وهم مئات الملايين، بل وعن من يبلغ خبرهم مبلغ التواتر من الهنديين، وعن سواهم ممن يتتبعون سير الحوادث دقيقها وجليلها وغرائب الأنباء وتنحصر في القاديانيين.
213 ووجه آخر وهو ما نختم به هذا البحث، وهو أن الذين يصدقون بالمغيبات والكشف عن المخبئات وينقلون حديثها إلى الناس، جلهم أو كلهم ينقل ما قد يصدق اتفاقا من طريق التخمين والحدس لا من طريق العلم بالغيوب المحجوب، إلا عمن اصطفاهم الله لرسالته لمصلحة أداء الرسالة ويطوي خبر ما لم يصدق وكثير من الناس ولوع بالغرائب والتحدث بالغرائب، وإذا كان للناقل تأثر بعقدة بالمنقول عنه أو وثوق به، كان الإخبار عما يزعم من العلم بالمغيبات ادعى لترويجه بين الناس لحملهم على اتباع نحلته وتصديق دعواه. ويروي البخاري عن عائشة (رض) سأل أناس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الكهان، فقال: " إنهم ليسوا بشئ ". فقالوا: يا رسول الله فإنهم يحدثون بالشئ يكون حقا، قال: فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاجة فيخلطون فيه أكثر من مائة كذبة " (1). وجواب تحديه الناس بأنه لم يرعف في مدة حياته بالكذب وأنه لازم التقوى منذ نعومة أظفاره، إنا لا نرى موجبا لهذا التحدي، فإن في الأمة ممن جمع هاتين الصفتين من يضيق بدهم وحصرهم نطاق البيان، فهل وازن فيهما خيار الصحابة والعلية من التابعين وتابعيهم وأئمة أهل البيت، بل وهل جمع إليهما ما أوتوه من علم واسع وجرأة في نصرة الحق ومناهضة الظالمين مناهضة لم يرهبوا بها سلطانهم ولا تخوفوا صولتهم. هل كان أصدق لهجة من أبي ذر الغفاري وأتقى منه لله، ومن عمرو بن الحمق، وحجر بن عدي وأصحابه، ومن سعيد بن جبير، ومن أويس القرني، ومن عمرو بن عبيد، والأوزاعي ومن أشباههم ونظرائهم، ومن لم تخل الأمة من أمثالهم قديما وحديثا، فإن كان ما اجتمع بهم من الصدق والتقوى والعلم والجرأة مما يبلغون بن درجات النبوة فهلا ادعوها وكانوا أنبياء، بل وكان عليهم لزاما أن يدعوها إن لم تكن اختتمت بنبوة خاتم الأنبياء والمرسلين وكانوا أحق بها وأهلها إن كان بابها لم ينسد وكانت مما يجوز وقوعه، وهل كانت مذخورة لنبي
(1) صحيح البخاري، دار الفكر، بيروت، ج 9، ص 189. 214 الهند وحده؟ وهل كان أعظم أثرا في خدمة الإسلام وأحوط عليه منهم؟ على أن الصدق والتقوى كما اجتمعا في كثير من أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكانا وما زالا وكل ما تصان به شريعته الخالدة متوفرة في الصادقين والمتقين من رجالها، ولم تكن حجرا على مسيح الهند ومن يطبع على غراره، فقد اجتمعا في كثير ممن يدين بغير دين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بل وبمن مرق عن دين محمد وهم الخوارج الذين ورد فيهم الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما من طرق تعتصر منها على طريق مسند إلى أبي سعيد الخدري عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " يخرج في هذه الأمة - ولم يقل منها - قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلوقهم - أو حناجرهم -، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافة، فيتمارى في الفوقة هل علق بها من الدم شئ " (1). وبعد فأنت ترى أن الصدق والتقوى ليس مما يتعذر وجودهما أو مما لا يقع إلا من نبي أو مدعي النبوة، ليكونا معجزة على نبوة نبي الهند، أو ليتخذ منهما دليلا على صدق ما أخبر به عن المغيبات التي هي آية نبوته المزعومة. الدليل الثالث: وهو أن أتباعه ليسوا من الغاوين، وأنهم على جانب عظيم من التقوى ومن الصالحين، وأنه بعث روحها في مئات من الألوف الذي بايعوه يغبط عليها، وأن من أتباعه الوفا من الشبان خريجي أعظم كليات وجامعات الهند وأوروبا وأميركا يؤدون الصلوات الخمس، وأن فيهم المرشدين والمبشرين في الإسلام، وأن جماعة كبيرة من أهالي أوربا وأميركا وأفريقية وغيرها من الأقطار اعتنقوا بواسطتهم الإسلام. ولنا على هذا الدليل وجوه من النقض: 1 - إن دعوى أن أتباعه ليسوا من الغاوين وأنهم على جانب عظيم من التقوى الخ، فإنها دعوى خطيرة جدا، فإذا لم يتم لموسى وعيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
(1) صحيح البخاري، دار الفكر، المجلد الرابع (7 - 8)، ص 66. 215 وهم أولو العزم من الرسل اتصاف أتباعهم جميعهم بما وصف به أتباعه، وكان فيهم المؤمن حقا والمتزلزل إيمانه والمنافق، فكيف تم ذلك لمسيح الهند على أكمله؟ وبلغ هو وأتباعه درجته الإنسان الكامل المنشود، وإذا كان مثل ذلك من أدلة النبوة فأحرى بها أن تكون من أدلة نبوات أولئك الأنبياء الكرام. 2 - إن بعث روح دعوته في مئات من الألوف ليس من المعجز الذي لا يقع مثله ليصلح دليلا على نبوته، فإن نرى الملايين من الناس بل ومن أرقاهم بل وبعض الأمم بكاملها قد اعتنقت عقيدة اجتماعية أو سياسية حتى أصبحت لها دينا تدين به وشريعة تبشر بها، فلو كانت كثرة الاتباع لمن يضع مبدءا جديدا أو فكرة جديدة أو دينا جديدا دليلا على نبوة مبتدعها ومخترعها، لكان أولئك الذين دانت لفكرتهم ونحلتهم مئات الملايين أجدر بادعاء النبوة. ثم إن عدد أتباعه مهما بلغوا من الكثرة، فهل يحسبون شيئا مذكورا في جنب من لا ينتحل نحلته ومن لا يدين بنبوته من الفرق الإسلامية؟ وأما قوله: إن من أتباعه ألوفا من الشبان خريجي الكليات والجامعات يؤدون الصلوات الخمس، وأن فيهم المرشدين والمبشرين في الإسلام، واعتناق جماعة كبيرة من أوروبا وأميركا وأفريقية الإسلام بواسطتهم، فإن فيمن لم ينتحل نحلتهم ولا يدين بنبوة المسيح الهندي من خريجي الكليات والجامعات من فرق المسلمين من يؤدي فروضه الدينية ويقوم بقسط وافر من التبشير بالاسلام والذود عن حياض الإسلام وهم يبلغون مئات الألوف، ومنهم الجم الغفير من وطنه الهند ومن إيران والأفغان وبخارى، وأما ما لأبناء الطريقة السنوسية من أثر بعيد وعمل مجيد في نشر الإسلام والتبشير بالرسالة المحمدية ونشر المدارس وإقامة المآوي في جميع البلاد الإفريقية الشمالية وتغلغلهم جنوبا في القارة الإفريقية بحيث تمكنوا من إدخال الملايين من الزنوج في دين الإسلام، فذلك ما لم يتسع له المقام وتجده مبسوطا في تعليق أمير البيان على حاضر العالم الاسلامي. فهل ادعى زعيم ديني من السنوسيين النبوة واتخذ ما جاء به من عمل عظيم معجزة لها؟
216 3 - إن كثرة من بعث فيهم دعوته، وهي لا تخرج كما يدعي وكما هو ظاهر الحال عن روح الإسلام وعقائده المتصلة اتصالا وثيقا بالفطرة الإنسانية وتعاليمه الملائمة لكل مزاج، والذي اعترف الغريب الباحث المدقق في الأديان بأنه دين العقل، والعلم، ما كانت ولن تكون تلك الكثرة المزعومة مستندة إلى وحي ونبوة غير وحي محمد ونبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكتابه الخالد المبشر بنفسه لنفسه. ثم إن مثل هذه الكثرة في الاتباع، بل وقد تزيد عليها الكثرة التي يدعيها اتباع الباب والبهاء الذين ارتقوا بعدها إلى الملايين ومنهم المنورون وخريجو الكليات والجامعات، لو كانت هذه الكثرة مما يتخذ دليلا وبرهانا ومعجزة على النبوة، لكانت تكون معجزة على صحة دعوى البابين والبهائيين، على أن التفاوت عظيم بين دعوى القادياني التي لم تخرج عن روح الإسلام وتعاليمه الحقة لولا دعوى الوحي والنبوة، وبين دعوى البابية والبهائية التي هي في الواقع ونفس الأمر دعوة إلى دين جديد، ذي كتاب جديد وأن من أتباعها ألوفا ضحوا بأنفسهم في سبيلها، والدعوة القاديانية كما يصرح القاديانيون هي دعوة إلى الإصلاح الإسلامي لم ينفردوا به وقام بمثله العشرات بل المئات من أئمة المسلمين بدون دعوى وحي ونبوة. الدليل الرابع: قول القاديانية: إن لديهم أدلة عديدة تجل عن الحصر بعدم بقاء النبي 23 سنة، وبعدم فلاحه وانتشار دعوته إذا كان كاذبا، وأطالوا الكلام في هذا المضمون. وجوابه من طريقين: الأول: بالنقض، فإنه لو صح على إطلاقه لما بقي كثير من النحل المتفرعة عن الدين الاسلامي بل وغيرها إلى يومنا هذا، وقد قامت على أسس دعوى الإلهية أو النبوة وبين عقائدها وتعاليمها وبين عقائد الأديان السماوية الصحيحة وتعاليمها بون عظيم، ومنها من طوت القرن والقرنين، ومن طوت مئات السنين، ومنها من طوت ألوف السنين.
217 والثاني: بالحل وهو من وجوه: 1 - إن الظاهر من تحديد عدم بقاء مدعي بثلاث وعشرين سنة من كانت دعواه النبوة العامة، وهي متحققة في دعوى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) العامة الناسخة لكل دعوى نبوة، عامة ويدل على الخصوصية قوله تعالى: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين) [الحاقة / 46] والمفهوم من هذه الآية الكريمة أنه لم يؤخذ منه باليمين ولم يقطع منه الوتين، لأنه لم يتقول عليه تعالى بعض الأقاويل، ومثل هذا العقاب لازم في حكمته تعالى وفي لطفه بعباده لمن يدعي مثل هذه النبوة، وهو كاذب لما فيها من التضليل والاستغواء وعموم الفساد، لأن في مثل إبقاء مثل هذه النبوة الكاذبة في الأرض تبديلا للأديان الرسل ونسخ شرائعهم وحل نواميسهم، وليست الحال الحال في دعوى النبوة الخاصة الكاذبة. 2 - يقول ابن القيم الجوزية في كتابه (التبيان في أقسام القرآن): ولا ينتقض هذا بمن ادعى النبوة من الكذابين، فإن حاله كانت ضد حال الرسول من كل وجه، بل حالهم من أظهر الأدلة على صدق الرسول، ومن حكمة الله سبحانه أن أخرج مثل هؤلاء إلى الوجود ليعلم حال الكاذبين وحال الصادقين، وكان ظهورهم من أبين الأدلة على صدق الرسل والفرق بين هؤلاء وبينهم، فبضدها تتبين الأشياء، (والضد يظهر حسنه الضد)، فمعرفة أدلة الباطل وشبهه من أنواع أدلة الحق وبراهينه. 3 - على فرض نزول العقاب منه تعالى على كل من يدعي النبوة سواء أكانت عامة أم خاصة، فإن ذلك إنما يكون فيمن يزعم أنه جاء بدين جديد غير دين محمد ناسخ الأديان، لا فيمن يكون تابعا له غير مبدل شيئا من أصوله وفروعه، وإنما كل ما في الأمر ادعاؤه عن شبهة بقاء الوحي واستمرار النبوة، وأنه ممن يوحي إليه، وأنه نبي متابع لنبوة محمد عامل بشرعه، وفتحه باب التأويل فيما يمكن أن تكون فيه رخصة أو لا تكون ولا بعد مثله خروجا على الشريعة كما هو الظاهر من حال القادياني، فإنه مع وجود المعارض له لا يكون
218 ممن يستحق ذلك العقاب، وهو الأخذ منه باليمين، ثم القطع منه بالوتين وعدم بقائه وبقاء دعوته مدة ثلاث وعشرين سنة. الدليل الخامس: مما استدل القاديانيون على نبوة صاحبهم دعوته منكري نبوته إلى (المباهلة) وامتناعهم عن إجابته، وأن في الامتناع عن الإجابة الدلالة على صدق دعواه وإلا لباهلوه. ولا يخفى ما في هذا الدليل من التمويه والنف... وقد نقضاه فيما سبق، فلا نعيد فيه الكلام ولا هو مما يستحق الإطالة. الدليل السادس: ادعاء اتباع المسيح الهندي أن آية كسوف القمر في أول ليلة من رمضان وكسوف الشمس في النصف منه وهي التي ورد فيها الحديث وأنها من علامات ظهور المهدي، قد تحققت لصاحبهم سنة 1311. وفيه إن دل هذا الحديث على شئ فقد دل على عدم نبوة المسيح الهندي وأنه هو المسيح الموعود، فقد أبطل دعواه بنفسه، لأن المسيح الموعود بصريح الحديث هو من تحقق له تلك الآية كسوف القمر في أول ليلة من رمضان وكسوف الشمس في النصف منه، وإذ لم تتحقق للمسيح الهندي فلم يكن هو المسيح الموعود. أما عدم تحقق هذه الظاهرة الفلكية العجيبة، وأن مثل ذلك كما قال الصبان في كتابه (إسعاف الراغبين) لم يوجد منذ خلق الله السماوات والأرض، فيكفي فيه أنه لم يدعها أحد سوى أتباع مسيح الهند، وهل من المعقول أن تقع مثل هذه الظاهرة الخارقة والمخالفة لناموس الكون ونظام الأفلاك، وأن وقوعها معجزة من معجزات نبي الهند، ويختص برؤيتها هو وتابعوه وتخفي على مئات الملايين من الهنود، إن كان الكسوفان جزئيين وعلى ألفي ألف من البشر إن كانا كليين؟ وكيف غابت هذه الظاهرة عن عيون علماء الهيئة؟ وكيف
219 لم تحط بها علما قبل وقوعها آلات مراصدهم؟ وهل الذين ينبئون عن الحوادث الفلكية العادية والمنطبقة على نواميس قبل وقوعها، وخاصة حوادث الكسوف والخسوف بأشهر وسنين وبمئات السنين بل وبألوفها، وفي حوادث الكسوفين اللذين يحدثان في أفق دون آخر يشدون الرحال إلى بلد ذلك الأفق لرصدهما، فكيف كانوا غافلين عن مراقبة ذلك الحادث الفلكي الخارق؟ وكيف غاب عن أبصارهم مرآه وعن معارفهم حدوثه؟ وكيف عميت عنه عيون العالمين؟ إننا كنا في العام المزعوم وقوع تلك الحادثة الخارقة فيه في ميعة الشباب وفي عهد دراسة العلم وفي نفوسنا نزوع إلى الوقوف على الحركة العلمية في ذلك الزمن، وكنا نطالع مجلته المقتطف التي كانت تعنى عناية خاصة بذكر كل حدث فلكي أو جوي ميثولوجي، وكان مثل هذا الحادث لو وقع أو كان مما يمكن وقوعه من الحوادث التي لم تكن لتعرض عن تسجيلها وتدوينها وهي تعتني بتسجيل الحوادث العادية الفلكية والجوية ولم تسجله، لأنه لم يقع ولم نره ولم نسمع به إلا يوم ظهر غلام أحمد القادياني، أو ظهرت دعوته ودعواه المسيحية مؤيدة بشهادته وشهادة تابعيه، وكفي ولله حكمة باهرة في استدلالهم على دعواهم بهذا الدليل المحقق عدم وقوع مضمونه، ومنه يتبين قدر الوثوق بما نسبوا لصاحبهم من خوارق وأنباء عن مغيبات، وفي هذا الجواب تقوية للجواب عن دليلهم الرابع. ثم إن التسليم بهذا الحديث وفرض حدوث مضمونه كما يراه القاديانيون وإن لم يره غيرهم ممن لا ينتحل نحلتهم معجزة على نبوة صاحبهم المزعوم أنه المسيح، يلزم إن صحت مسيحيته أن يتحقق مضمون الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه مسندا إلى أبي هريرة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها " (1).
(1) صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب 49 (نزول عيسى ابن مريم (عليه السلام))، ج 4، ص 172. 220 إن هذا الحديث أصح سندا من الحديث الأول، وهل تحقق مضمون الحديث الثاني الذي أخرجه البخاري أيضا سندا إلى أبي هريرة؟ قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم " (1). فإن كان أحمد غلام القادياني هو ابن مريم، فأين الإمام؟ ولعله من أعقبه من خلفائه. وإن كان الاستدلال على دعوى القادياني ملزما لإثباتها سواء أتحقق مضمون الدليل أم لم يتحقق ووقع أم لم يقع، فلم سكت عن هذين الدليلين؟ وهما أمكن وقوعا من الدليل الأول. الدليل السابع: ادعاء الوحي بكتاب جديد إلى غلام أحمد القادياني في اللغة العربية مع جهله بهذه اللغة، وتلك معجزة دالة على نبوته. وفيه: 1 - إن صحت هذه الدعوى فقد أوتي من المعجز أعظم ما أوتي الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن الكتاب الذي أنزل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنزل بلسانه ولسان أمته المرسل إليهم، ولكن المسيح الهندي أنزل عليه كتابه بزعمه بغير لسانه ولسان أمته. 2 - إن في هذه الدعوى مجالا متسعا للارتياب في صحتها، والقادياني نشأ في محيط هندي إسلامي، ومسلمو الهند كما نعلم ويعلم كل مطلع على أحوالهم أنهم ذوو عناية عظيمة بتعلم اللغة العربية لغة الذكر الحكيم، وهي لغتهم الدينية وتدرس في مدارسهم الخاصة الدينية المحضة وغير الدينية، ولعلهم المسلمين عناية بتعلم لغة دينهم، فكان تعلمها من الميسور له جدا، بل ويجوز أن يكون قد تلقاها عن أستاذ خاص أو تلقي مبادئها وأتم دراستها على نفسه كشأن كثير من أذكياء المستشرقين، ومنهم من درسها كلها على نفسه
(1) المصدر نفسه، ج 4، ص 172. 221 واستطاع أن يكتب ويؤلف فيها، وأخفي ذلك عن قومه توصلا للفرض الذي ظهر به، وهو ادعاء المسيحية مقرونة بمعجزة كتابه في لغة غير لغة أمته. هذا من حيث تجويز تعلمه اللغة، وأما من حيث محتويات ذلك الكتاب المدعي إعجازه، فلم نجد فيما وقفنا عليه من بعض فصوله أو آياته (؟) ما يقرن بمنشآت الشادي معنى ومبني، ومن شرط المعجز المتحدي به التفوق على أبلغ كلام من نوعه، فلم يكن إذن هذا الكتاب مما يعجز تحديه المبتدئ فضلا عن المنتهي، كما أن دعوى الإيحاء به إليه مع جهله اللغة العربية لا يدل على مراده لتجويز تعلمه لها عن أستاذ أو درسه لها على نفسه، فقد بطلت إذن هذه الدعوى. إن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) عربي من صميم العرب، تحدى بالقرآن المنزل عليه من لدن حكيم عليم بلغاء عصره والعصر حافل برجال البلاغة، والتفاوت بينهم سواء في منظومهم أو منشورهم لا يبلغ درجة بعد المسافة في تساويهم في فضيلة السبق والمجاراة. البلاغة في النظم والنثر هي جل ما برع العرب فيه في جزيرتهم، وبلغ ذروته في صدر الرسالة. وأما ما عبر عنه من معان فلا تكاد تخرج عن أوصاف بيئتهم، وهي بيئة الرسول الأعظم وما أوتوه من بسائط العيش فيها ومفاخرات قبلية وغزوات بين القبائل غير منقطعة، وما إلى ذلك مما كانوا يصورونه في شعرهم الذي لم يكن يخلو من حكمة عالية، ومثل سام كلاهما مستمد من وحي الفطرة والذكاء العربي الرائع. وأما ما وراء ذلك من علوم فلم يكونوا فيها لا في العير ولا في النفير، اللهم إلا معارف بسيطة لها أشد مساس بحياتهم. ظهر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في مثل هذا المحيط وفي مثل هذه الأمة المتفرقة مؤيدا بمعجزة القرآن، وفيه من المعارف وأصول العلوم والتشريع والحكم العالية وكل ما لم يبلغه العلم ولم تصل إليه همة العلماء والحكماء، وما زال ولن يزال مادة لا ينضب معينها لمعارف لا تتناهى، وهو منزل بلسان العرب ولكن بأسلوب بهرهم وأعجزهم، وإن كان من جنس ما يعرفون من الكلام.
222 إن القرآن هو الآية العظمى والمعجزة التي تحدى بها العرب بل والبشر كافة والإنس والجن إلى قيام الساعة، هذا هو أثر معجز النبي العظيم القرآن الكريم، فليدلنا القاديانيون على أثر لكتاب مسيحهم، سواء أكان في بلاغة أسلوبه، أم كان في علم انطوى عليه لم يعرفه العلماء أم كان في تفسير أي من أيات الكون التي لا تتناهى، أم في حل معضلة اجتماعية، أم في مزية واحدة لم يحوها القرآن. 3 - اقتضت حكمته تعالى إرسال الرسل إلى البشر لهدايتهم إلى الصراط المستقيم، فلم يكلهم إلى عقولهم لتقدم لهم الحجة، وهل يتم غرض الإرسال ودفع الحجة إلا بأن يكون الرسول إليهم بلسانهم وذلك هو المصرح به في (الآية 4: إبراهيم) (ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) بطريق الحصر، فرسالة المسيح الهندي إن كانت خاصة لأمته الهندية، فكان من مقتضى ذلك أن يكون كتابه موحى به إليه باللغة الهندية ليتم به البيان لأمته، وأن يكون بأسلوب أرقى من أسلوب بلغائهم بلسانهم، أو أن يكون محتويا من المعارف والعلوم وحل مشاكلهم الاجتماعية وسواها ما لم يصلوا إليه، وما يكون دليلا على إعجازه دليل نبوة المسيح الهندي، وإن كانت رسالته عامة كرسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وكتابه المزعوم الوحي به إليه معجزته كالقرآن معجزة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنه أوحي به إليه باللسان العربي كما أوحي إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا اللسان فكان كتابه لو كان كما يزعم وحيا منه تعالى جاريا على عرق القرآن وأساليبه، ومشتملا على مثل خصائصه وما فيه من معارف وآيات بينات، لتتم له الحجة على العرب خاصة كما تمت حجة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم وعلى الأمم كافة على اختلاف أجناسها ولغاتها، وشئ من ذلك لم يكن، فلم يكن كتابه معجزا، وإذا أبطل إعجازه أبطلت دعوى النبوة المترتبة عليه. 4 - رأينا من المفيد بعد هذا التعليق إيراد هذه الكلمة لابن مسكويه في كتابه (الفوز الأصغر) نختم بها هذا البحث، قال: إنما يبعث الله عز وجل إلى كل قوم بنبي يأتيهم من جنس ما يدعون، مع الفضل فيه والبراعة والتبريز
223 بالمعجز الذي لا يطيقونه ولا في منتهم مثله، ليكون أبهر لحجتهم وأوكد لدلالتهم وأجدر أن لا يقول الناس جئتنا بما لا نعرف منه شيئا، ولو عرفنا منه شيئا لأتينا بمثله، فهذا المعنى الذي ذهب إليه المتكلمون وإن كان صحيحا، فإنما هو إلهام بما ذكرناه. وقال في الفرق بين النبي والمتنبي: وأما المتنبي فهو بالضد منه (النبي) لأنه يلتمس الأمور التي زهد فيها ذلك، وليس يخلو من ظهور ذلك عليه وافتضاحه به، لأنه إياه يطلب وحوله يدندن، فإن كان ما يلتمسه مالا وكرامة أو رغبة في منكح أو مطعم أو غير ذلك، أوشك أن يظهر عليه ولم يلبث أن يعرف به ويتهتك فيه، وإلى ذلك يؤول أمره، وأن مبادئ أمور بما أشكلت على الأغبياء لا سيما إن انضاف إلى ذلك سمت وإخبات، وتزهد وإقلال، وفضل سماحة يتكلفها لقومه يستميلهم بها، ومخاريق من شعبذة ونارنجيات يستغل بها عقول أهل الغفلة، إلى أن يسأل عن شئ من الحقائق أو يبتدئ بالكلام فيما تتطلعه النفوس وتنتظر الوقوف عليه من جهة الأنبياء صلوات الله عليهم من أمر المبدأ والمعاد، فإنه حينئذ يضطر إلى أحد أمرين: إما أن يعيد ألفاظا محفوظة مسطورة في كتب الأنبياء (عليهم السلام) المنزلة وأخبارهم المتداولة، فلا يكون له فيها شرح ولا تفسير، وتلك إنما هي أمثال وتشبيهات موافقة للحقائق مطابقة لها، فإن اختلطت ألفاظها وضروب الإشارات فيها، وإما أن يتكلف الكلام فيها من نفسه، فهو لا محالة يضطرب ولا يوافق بعضه بعضا للتناقض والمحالات التي تلزم من جهل تلك المعاني اللطيفة التي إذا كانت من غير الله وجد فيها اختلاف كثير. هذا ولهم أدلة أخرى لا نطيل بنقضها الكلام، وهي مع تهافتها ووهنها لا تخرج عن مضمون أدلتهم التي أوردناها، وكلها متماثلة متشابهة لا ترجع إلى محصل. فصل وقد رأينا من المفيد ومما يزيل الشبهة عن نفوس فريق لم يؤتوا نصيبا من العلم وحظا من معرفة مذهبهم الحق، فوقعوا في أحابيل القاديانيين وأثرت فيهم دعاياتهم، أن نعقد هذا الفصل، نذكر فيه ما وقفنا عليه من كلمات فريق
224 من أكابر العلماء لهم مكانتهم العلمية والدينية والاجتماعية في العالم الاسلامي حول القادياني ونحلته الجديدة وكتابه إعجاز المسيح وقصيدته المعجزة بزعمه. 1 - في المجلد الرابع من المنار الاسلامي للفيلسوف الاسلامي المرحوم السيد محمد رشيد رضا في باب الأسئلة الدينية الصفحة (465) قال: " وأما كتاب إعجاز المسيح فقد تصفحته بعد الابتداء بكتابة هذا الجواب، فإذا هو قد سلك فيه مسلك الباطني والمتصوفة في التأويل، وليس فيه وهو (200) صفحة ورقة واحدة في حقيقة التفسير، وليس خلطه وهذيانه فيه بأكبر من الخلط والهذيان في التفسير المنسوب إلى الشيخ محي الدين بن عربي أحد أئمة الصوفية، ولو لم يدع هذا الرجل أنه هو المسيح ويحرف كلمات الفاتحة فيجعلها دليلا على دعواه ويجعل تفسيره معجزة يتحدى بها، لتلقي هذا التفسير بالقبول أكثر المسلمين ومنهم السائل المحترم، ولأقاموا النكير على مثلي إذا هو انتقد عليه كما ينكرون علي الانتقاد على من دونه في العلم والتأليف، وقد كان هذا الرجل شيخ طريق يفوق أكثر المشايخ بالعلم والفصاحة والصلاح، فغره كثرة أتباعه وتفننه في أسجاعه على ما في ألفاظها من الغلط، وفي معانيها من الشطط، وقام عنده أن اعتقاد المسلمين بالمهدي والمسيح قد انتشر على وجه غير صحيح، وأنه يجب أن يصلحه بذاته، ويؤيد دعواه بما يعتقد متبعوه من آياته. وأما تحديه بالكتاب فهو إذا لم يعارض شبهة على المعجزة بالمعني المعروف عند المتكلمين لا بالمعنى الذي حققناه في الجزء العاشر من المنار، وقال: إنه كتبه في سبعين يوما، ونقول إن كثيرا من أهل العلم يستطيعون أن يكتبوا خيرا منه في سبعة أيام، ولو على طريق الشقاشق والأوهام، ولكن أين الحكم الذي يرضاه تلامذته والمغترون به؟ " 2 - في المجلد عينه الصفحة (545) تحت عنوان المناظر وكتاب (إعجاز المسيح): " هذا الكتاب مسجع من أوله إلى آخره، وفي سجعه التكليف والضعف، وفي كلامه ركاكة العجمة، وفي مفرداته وتراكيبه الغلط والخطأ، ومع هذا تقول
225 جريدة المناظر الغراء إنه تقليد للقرآن في نسقه وعبارته، وهذا خطأ ما كنا ننتظر أن يصدر من صاحب تلك الجريدة البارع، وأين عبارة القرآن العالية ونسقه البديع من تلك الركاكة والعسلطة في كتاب إعجاز المسيح ". 3 - في المجلد الخامس الصفحة (789) تحت عنوان (إعجاز أحمدي) أو سخافة جديدة لمسيح الهند: " كل يوم تبدي صروف الليالي * خلقا من أبي سعيد غريبا وأبو سعيد هذا الزمان هو غلام أحمد القادياني المفتون بنفسه المغلوب على عقله وحسه، فهو كل يوم يأتينا بخلق غريب وخلق من إفكه عجيب، ففي الشهر الماضي أرسل إلينا قصيدة من المخزيات، ولكنه نظمها في سلك ما يدعيه من المعجزات، وجعل لها مقدمة هذيانية ولكنها باللغة الأوردية، وأرسل لنا معها منشورا باللغة الانكليزية يقول فيه: إنه أوتي من البلاغة في العربية ما لم يؤته أحد من العالمين، وإنه يتحدى بقصيدته هذه جميع المطلعين ومن يعارضها في الهند من شعراء العربية يعطى عشرة آلاف روبية، ولم يذكر لنا الحاكم الناقد الذي تعرض عليه القصائد ليميز بين سحر البيان وبين اللغو والهذيان، وقد أخرنا الكتابة في هذه السخافة الجديدة لأننا كنا عازمين على قراءتها كلها وإظهار ما فيها من الأغلاط اللغوية والنحوية والصرفية والعروضية، والتنبيه على ما فيها من السرقات الشعرية التي سلخها من كلام فحول الرجال ومسخها، ولا غرو أن يظهر المسخ على يد المسيح الدجال، ثم بدا لنا أن هذه الانتقادات ليست بضرورية عند العارفين باللغة العربية، فإن عرض القصيدة عليهم يكفي لمعرفة دركها في السخافة. وأما المخدوعون به من الأعجميين في الهند فلا يفهمون انتقادنا إذا هو وصل إليهم، لذلك نذكر هنا أبياتا من القصيدة ونترك للقراء الضحك منها ومن غرور المستدل بها على دعوى المسيحية، قال: أيا أرض مد قد دفاك مدمر * وأرداك ضليل وأغراك موغر دعوت كذوبا مفسدا صيدي الذي * كحوت غدير أخذه لا يعزر
226 وجاءك صحبي ناصحين كأخوة * يقولون لا تبغوا هوى وتصروا فظل أساري كم أسارى تعصب * تريدون من يعوي كذئب وينخر فجاؤوا بذئب بعد جهد إذا بهم * ونعني ثناء الله منه ونظهر فلما أتاهم سرهم من تصلف * وقال افرحوا إني كمي مظفر وقالوا استروا أمري وإني أوردهم * أخاف عليهم أن يفروا ويدبروا وأرض اللئام إذا دنا من أرضهم * على النار مشاهم وقد كان يبطر ومنها في هجو منكر عليه: فلما اعتدي وأحس قومي أنه * يصر على تكذيبه لا يقصر دعوه ليبتهلن لموت مزور * مضل فلم يسكت ولم يتحسر وكذب إعجاز المسيح وآية * وغلطه كذبا وكان يزور ثم قال هذه الأبيات التي كتب بإزائها في الهامش أنها وحي من الله تعالى: فقد سرني في هذه الصور صورة * ليدفع ربي كلما كان يحشر فألفت هذا النظم أعني قصيدة * ليخزي ربي كل من كان يهذر وهذا على إصراره في سؤاله * فكيف بهذا السؤال أغضي وأنهر وليس علينا في الجواب جريمة * فنهدي له كالأصل ما كان يبذر فإن أك كذابا فيأتي بمثلها * وإن أك من ربي فينعش ويثبر وهذا قضاء الله بيني وبينهم * ليظهر آيته وما كان يخبر قطعنا بها دابر القوم كلهم * وغادرهم ربي كغصن تجذر أري أرض مد قد أريد تبارها * وغادرهم ربي كغصن تجذر أيا محسني بالحمق والجهل والرغا * رويدك لا تبطل صنيعك واحذر أتشتم بعد العون والمن والندي * أتنسى ندي مد وما كنت تنصر ترى كيف اغبرت السماء بآيها * إذا القوم آذوني وعابوا وغبروا فلا تتخير سبل غبي وشقوة * ولا تبخلن بعد النوال وفكر " 4 - في هذا المجلد الصفحة (790) تحت عنوان سخافة أخرى لمسيخ الهند الدجال:
227 " قلنا: إنه أرسل إلينا في الشهر الماضي قصيدته الإعجازية، ونقول أيضا: إنه أرسل إلينا في هذا الشهر رسالة باللغة الانكليزية كتبها باسم ملك الانكليز لا باسم الله، وجعلها خدمة للدولة الانكليزية في زعمه ووهمه، ولكن لم يكتب في الحقيقة ما هو أضر منها على السياسة الانكليزية، وهذا شأن الصديق الأحمق يريد أن ينفع فيضر. من سياسة هذا المسيخ الدجال أنه نسخ حكم الجهاد في الاسلامي لكيلا تعارضه الدولة الانكليزية في دعوته، ظنا منها أنه يؤلف عصبية دينية للخروج عليها في الهند، كما يفعل أمثاله الدجالون الذين يدعي كل خارج منهم أنه المهدي المنتظر، وقد كتب في هذا المعنى كثيرا، وإنما كانت كتابته في هذه الرسالة وأمثالها ضارة ومناقضة للسياسة الانكليزية، لأنه يقول فيها: إن جميع علماء المسلمين يقولون بوجوب الجهاد الديني وإنهم جهلاء مخطئون في هذه الدعوى، فإذا انتشرت هذه الرسالة وقرأها الناس فربما تتحرك نفوسهم إلى الأمر الذي تصرح الرسالة بأن العلماء مجمعون عليه، ولا تلتفت إلى تخطئة خارجي مثل غلام أحمد القادياني لهم. وأما الرأي الأفين الذي أشار به على الحكومة الانكليزية، وهو جمع مؤتمر من العلماء للنظر في مسألة الجهاد واستقراء أدلتها في الكتاب والسنة ليظهر لهم أنه غير واجب فيقرروه، فهو رأي لا ترضى به سياسة حكيمة كالسياسة الانكليزية ولا هي محتاجة إليه، أما عدم رضاها به فلأنه إذا قرر العلماء خلاف ما يقول غلام أحمد الدجال فيخشى من وقوع فتنة عظيمة، وأما عدم حاجتها إليه فلأن أهل الهند راضون من حكومتهم ولا يخطر في بالهم الخروج عليها وحسبها هذا منهم، ولو كان هذا الدجال يتجنب هذه الأوحال لكان أسلم له على كل حال ". 5 - المجلد نفسه الصفحة (317) تحت عنوان (مسيح الهند والمنار): " سبق لنا رد على القائم في الهند المدعي أنه المسيح الموعود به وعلى كتابه الذي سماه إعجاز المسيح، وإن كان قوله كالريح، وسجعه دون سجع
228 شق وسطيح، وقد ترجمت رد المنار عليه الجرائد الهندية وأذاعته في تلك الممالك القصية، فاستشاط الرجل غضبا وملأ النواحي سبابا وصخبا، والمؤمن ليس بسباب ولا بذئ ولا صخاب، فهل يكون المرسلون والمسحاء من أهل السفه والبذاء؟ وهل ينزل الوحي على أهل الالهام، وتقام الحجة على الأنام بالسخرية والاستهزاء والقول الهراء، والانتصار للنفس ومكابرة الحس، والتنفج والتبجح، والتجرم والتذقح كما فعل هذا المدعي في الكتاب الذي لفقه في الرد على المنار، فكان مجلبة الخزي والعار، وقد سماه (الهدى والتبصرة لمن يرى) وما عهدت الهداية بشتم الوري؟ بعد أن أهدى إلينا كتابه وأرسل شتمه وسبابه، كتب إلينا أحد كبار علماء الهند من لاهور كتابا يشكو فيه من انتشار البدع في الهند، وقال فيه: الآفة التي لا تذكر والعاهة التي لا تسطر هي فتنة المسيح الدجال الهندي الشهير بميرزا غلام أحمد القادياني، فهي لا تنقطع كسير السواقي وهو في زعمه الباطل مجدد مهدي ملهم محدث مسيح مرسل إمام عند شرذمة قليلين ما لهم من دنيا ولا دين، والحق أنه رجل ختال ختار بطال شطار، يدعي الوحي والنبوة، ويحرف آيات القرآن بتأويلات فاسدة، ويتنطع في أحاديث النبي بخزعبلات كاسدة. ثم ذكر هذا العالم مجادلته لعلماء الهند، وإفحامهم إياه وانصرافه لدعوة العلماء في غير الهند ومنهم الفقير صاحب المنار، وانتقل من هنا إلى ذكر ردنا على كتابه (إعجاز المسيح) وذكر أن الجرائد الهندية نقلته عن المنار، وكان له شأن في تلك الديار، أثار من ذلك المدعي أشجانه، وأطلق بالسب لسانه، ثم رغب إلينا في الرد عليه وقال: فإن لتحريركم وقعا في النفوس أشد من حرب البسوس. نعم إن من وظيفة المنار الرد على أمثال هذا المدعي، ولو لم يرغب إلينا فيه ذلك العالم الألمعي، ولكن الرد إنما يكون على الشبهات التي تساق مساق البينات، وليس لهذا المدعي شبهة يستند إليها ولا تكأة يتوكأ عليها، إلا ذلك المؤلف الذي هو حجة عليه، بل سهام منه تصوب، إليه فقد ادعى أنه معجز للشر لا تأتي بمثله القوى والقدر، فما هو وجه الاعجاز فيه، الذي جعله عمدة
229 تحديه أن قال: إن العمدة هي قصر المدة، فإني ألفته في سبعين، ولا يقدر على مثل ذلك أحد من العالمين، نقول: أولا: إننا لا نصدقك في هذا التجديد على أنه طويل، فهل لك من بينة ودليل؟ وثانيا: إن كثيرا من العلماء ألفوا كتبا طويلة في مدة قليلة، ولم يدعوا أن ذلك من المعجزات، لأنه ليس من خوارق العادات. فالفيناري ألف شرحه على الأساغوجي في يوم من أقصر الأيام، ولم يتحد به أحدا من الأنام. وثالثا إننا نطلب منه محكمين من أهل الانصاف يرضى بهم كل منا ومنه للحكم في مواضع الخلاف، وعند ذلك نظهر له أغاليط كتابه في اللفظ والفحوى، والعاقبة كما قال الله تعالى للتقوى. ليعلم الناس أن تحدي النبوة والرسالة لا يكون بالخطأ والجهالة، وأن ادعاء إقامة الدين وتأييد الشريعة لا يكون بتقويض أركانهما الرفيعة وتشويه محاسنهما السنية الشيعية، وأن إصلاح نفوس المسلمين لا يكون بشتم العلماء والمرشدين، وسنعجل قبل تعيين المحكمين بإظهار بعض ما خالف فيه شريعة خاتم النبيين، وموعدنا الجزء الآتي. أما الآن فإننا نذكر بعض عباراته في الرد علينا وما وجه من الطعن إلينا، ليعلم القراء مبلغ آدابه وعسلطته في خطابه، قال بعد ما زعم أنه أثرنا بكتابه (إعجاز المسيح) على علماء الحرمين والشام والروم ما نصه: ثم لما بلغ كتابي صاحب المنار، وبلغه معه بعض المكاتيب للاستفسار، ما اجتنى ثمرة من ثمار ذلك الكلام، وما انتفع بمعرفة من معارفه العظام، ومال إلى التكلم والإيذاء بالأقلام، كما هو عادة الحاسدين والمستكبرين من الأنام، وطفق يؤذي ويزري غير أن في الإزراء والالتطام، ولا لا وإلى الكرم والاكرام، كما هو سيرة الكرام، وعمد أن يؤلمني في أعين الأعوام كالانعام، فسقط من المنار الرفيع وألقى وجوده في الآلام، ووطئني كالحصى، واستوقد نار الفتن وحضى، وقال ما قال وما أمعن كأولي النهي، وأخلد إلى الأرض وما استشرف كأولي التقى، وخر بعد ما علا، وأن الخرور شئ عظيم، فما بال الذي من المنار هوى، واشتري الضلالة وما اهتدى، أم له في البراعة يد طولى، سيهزم فلا يرى، نبأ من الله يعلم السر وأخفى. ثم قال:
230 وكنت رجوت أن أجد عندك نصرتي، فقمت لتندد بهواني وذلتي، وتوقعت أن يصلني منك تكبير التصديق والتقديس، فأسمعتني أصوات النواقيس، وظننت أن أرضك أحسن المراكز، فجرحتني كاللاكز والواكز، وذكرتني بالنوش والنهش والسبعية، نبذا من أيام الخصائل الفرعونية، ولست في هذا القول كالمتندم، فإن الفضل للمتندم، وكنت أتوقع أن يتسرى بموآخاتك همي، ويرفض بجندك كتيبة غمي، فالأسف كل الأسف أن الفراسة أخطأت (أي فلم يصدق عليه حديث اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله، لأنه ينظر بظلمة غروره) والروية ما تحققت، ووجدت بالمعنى المنعكس رياك (وهنا إشارة قبيحة تليق بقائلها ولا تليق بنزاهة من يصطفيهم الله تعالى لهداية خلقه) فهذه نموذج بعض مزاياك، (أنت النموذج وكم أنت مذكرا) وعلمت أن تلك الأرض أرض لا يفارقها اللظى، وتفور منها إلى هذا الوقت نار الكبر والعلي، فعفى (كذا) الله عن موسى، لم تركها وما عفى، (وههنا أساء الأدب مع سيدنا موسى الكليم ونسب إليه الخطأ والذنب والتقصير، على أن تعفية مصر وهلاكها بيد الله لا بيده). ثم قال بعد مكابرة في ردنا على كتابه ونسبته للغلط والتكلف ما نصه: وحسبتك حبيبا يريحني كنسيم الصباح، فرأيت كعدو شاكي السلاح، وخلت أنك تهدر بصوت مبشر كالحمام، فأريت وجهك المنكر كالحمام، وأعجبني حدتك وشدتك من غير التحقيق (كذا) فأخذني ما يأخذ الوحيد الحائر عند فقد الطريق، لكنني أسررت الأمر وقلت في نفسي لعله تصحيف في التحرير، وما عمد إلى التوهين والتحقير، وكيف قصد شرا لا يزول سواده بالمعاذير، وكيف يمكن الجهر بالسوء من مثل هذا النحرير (يذم ويمدح)، ولما تحققت أنه منك تقلدت أسلحتي للجهاد، وقلت مكانك يا بن الفساد، وعلمت أنك ما تكلمت بهذه الكلمات، إلا حسدا من عند نفسك لا لإظهار الواقعات (إنني لا أدعي المسيحية ولا شئ آخر يحسد عليه) فابتدرت قصدك، لئلا يصدق الناس حسدك، فإن علماء ديارنا هذه يستقرون حيلة للإزراء، فيستفزهم ويجرؤهم علي كلما قلت للازدراء، ولولا خوف فسادهم لسكت، وما تفوهت وما
231 تجلدت، ولكن الآن أخاف على الناس، وأخشى وسوسة الخناس، وأن بعض الشهادات أبلغ من الضرب بالمرهفات، فأخاف أن يتجدد الاشتعال من كلمات المنار وسقط ميمه ويبقى على صورة النار. ثم ادعى أنه كان غلب علماء الهند وسرق سجعات من كلام الحريري، وقال: فالآن أحيى اللئام بعد الممات، وشد المنار عضدهم بالخزعبلات، فأري أنهم يتصلفون ويستأنفون القتال، ويبغون النضال، ويخدعون الجهال، ورجعوا إلى شرهم وزادوا ضدا، بما جاء المنار شيئا إدا، وجاز عن القصد جدا، (كذا بالزاي والحريري استعملها بالراء من الجور) فأكبر كلمة ضرب من العمين إلخ... ثم ذكر أنه كثيرا ما كان يغضي عن المعترضين والمزدرين، وقال: ولكن رأيت أن صاحب المنار، عظم في عين هذه الأشرار (كذا)، وأكبر شهادته بعض زاملة النار، وكانوا يذكرونها بالعشي والأسحار، فبلغني ما يتخافتون، وعثرت على ما يسرون ويأتمرون، وأخبرت أنهم يضحكون علي وفي كل يوم يزيدون. إلى أن قال صاحب المنار: بل أصر على الازراء في الجريدة، فأكل الحاسدون حصيدة لسانه كالعصيدة، وتلقفوا قوله وخددوا الخصومة بعد ما قطعوها كما هو من شيم القرائح البليدة، وحسبوا كلمة كالأسلحة الحديدة، وأشاعوها في الأخبار (الجرائد) والجوائب الهندية، وكتبوا كلما يشق سماعها على الهمم البريئة المبرئة، وآذوا قلبي كما هي عادة الرذل والسفهاء وسيرة الأرذال من الأعداء. ثم قال: وما تظني أن يكتب المنار من معارف كمعارف كتابي، ويرى بريقا كبريق ما في قرابي، ثم مع ذلك تناجيني نفسي في بعض الأوقات، أن من الممكن أن يكون مدير المنار بريئا من هذه الالزامات، ويمكن أنه ما عمد إلى الاحتقار والنطح كالعجماوات، بل أراد أن يعصم كلام الله من صغار المضاهات، وإنما الأعمال بالنيات (وههنا حاشية في الأصل ذكر فيها أنه يظن أن سبب غيظي منه حكمه بمنع الجهاد) فإن كان هذا هو الحق فلا شك أنه ادخر لنفسه بهذه المقالات، كثيرا من الدرجات، وأي ذنب على من سبني لحماية الفرقان، لا للاحتقار وكسر الشأن. إلى أن قال: ولكنني معتذر كمثل اعتذاره، فإن الفتن قد انتشرت من أقواله وأخباره " إلخ...
232 6 - المجلد عينه الصفحة (398) تحت عنوان (مسيح الهند): " ملأ هذا الرجل المدعي المهدية والمسيحية الدنيا صراخا ونشر الكتب والرسائل الناطقة بدعواه في الهند، ثم في سائر الأقطار الإسلامية، ولكن لم يفهم أحد حقيقة مراده والأصول التي يدعو إليها، كتبه ورسائله كلها سجع كسجع الكهان بل هو أقل وأضعف، فإن صبر الإنسان على قراءته ليفهم مراده يرجع إلى ذهنه بعد القراءة، فلا يجد فيه إلا إطراء هذا المدعي أو الدعي نفسه والإغراق في الثناء عليها وذم الذين لا يؤمنون به ولا يجيبون دعوته، وربما يجد في الكتاب الطويل كلمات في دينه الجديد، لا يعقل أحد لها فائدة إلا تزلفه للانكليز ليتركوه وشأنه يتمتع بلقبه الذي زعم أن الله منحه إياه (المسيح) كنسخه حكم الجهاد وتحريمه على المسلمين، وكمدحه الانكليز والدعاء لهم لأنهم يحمونه. ليخبرنا هذا الدجال أين المسلمون المشتغلون بالجهاد؟ فيجعل ركن دعوته وأس إصلاحه إرجاعهم عنه، ألم ير أن معظم بلادهم ذهبت من أيديهم لإهمالهم أمر المدافعة عنها؟ ألم ير أن الأجانب الذين يعيبونهم بأنهم أمة حربية قد سبقوهم في الفنون الحربية حتى سادوا عليهم؟ فهل نزل عليه الوحي من الأوروبي وقام يدعو إليه قومه ليهديهم ويلم شعثهم ويرأب صدعهم. يزعم أن الأخبار الواردة في نزول المسيح كلها تصدق عليه، الأخبار ناطقة بنزول عيسى ابن مريم فأين عيسى (عليه السلام) من غلام أحمد القادياني عليه الملام؟ الأخبار ناطقة بأن المسيح ينزل من السماء بين ملكين، فأين الهند من السماء؟ وأين الملائكة من أتباعه البلداء؟ الأخبار تصف المسيح بما لا ينطبق عليه مهما تنطح في التأويل وزخرف الأباطيل، يقول: إن ظاهر القرآن يدل على أن المسيح قد توفي وإنهم اكتشفوا قبره، نقول: إذا سلمنا لك أنه مات لأنه هو ظاهر القرآن، فهل يدل موته على أنك أنت المراد بالأخبار الواردة في نزوله؟ كلا، فإما أن تأول الأحاديث تأويلا مقبولا وإما أن تقول: إنها غير صحيحة متنا
233 وإن صحت سندا، لأن القرآن متواتر قطعي وهو كلام الله تعالى، فكل قول خالفه فهو باطل إذا كان لا يتفق معه بالتأويل. يدعي هذا الدجال أنه جاء بخوارق العادات لأنه ألف كتابا عظيما في عينه وحقيرا في أعين الناس لما فيه من الهذيان والوسواس، فإذا كان التأليف السخيف دليل المهدية والمسيحية، فهل يكون التأليف الذي يستحسنه جميع العقلاء دليلا على الألوهية؟ أيظن هذا الغافل أن القرآن كان معجزة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه كتاب مؤلف؟ كلا إنه معجزة لأنه اشتمل على أعلى العلوم الإلهية والاجتماعية التي اهتدى بها الناس وصلحت عقائدهم وأخلاقهم، وقد ظهر مع ذلك بلسان أمي لم يتعلم شيئا، فهذا هو الوجه الأعلى في إعجازه. ومن وجوهها أنه وصل من البلاغة إلى حد عجزت عن بلوغه البلغاء مع أن الجائي به لم يكن معروفا بالبلاغة، ومن بلغ الأربعين ولم يعرف له امتياز بالشئ فلا يعقل أن ينتقل مرة واحدة إلى درجة يفوق بها جميع الناس بذلك الشئ إلا بإمداد من بيده خرق العادات، والمؤيد من شاء بالآيات البينات. وأما زعمه أن الفادحة تدل على مسيحيته، وأن لفظ الرحمن الرحيم يدل على محمد خاتم الأنبياء وعلى مسيحه أحمد القادياني، فهذا أقبح تلاعب بالقرآن، ويمكن أن يستدل صاحبه بكل كلام على كل شئ، لأنه لا يتقيد بلغة ولا عقل ولا فهم، فعسى أن يرجع هذا القادياني إلى رشده، ونرى الجزر قلل من طغيانه ومده. هذا ما حملنا أنفسنا مشقة نقله من بعض مجلدات المنار الاسلامي دحضا لدعاوى القادياني الطويلة العريضة، وما كان صاحب المنار الضليع بالمباحث الإسلامية والمشهود له بالتخصص فيها من المخالف والموالف والقريب والغريب ممن لا يلقون الكلام على عواهنه، وهو قد عاصره ووقف على كل ما جعله دليلا على مسيحيته المزعومة ولم يفرط بشئ منها، بل تتبعها تتبع الباحث المنصف ولم يطو عن قرائه حتى ما رماه به من المطاعن، ولعل فيها مقنعا للمخدوعين بزخارف أتباعه ممن أضلتهم أو كادوا ينحرفون عن جادة الحق ويزيغون عن محجة الصواب.
234 فأنت ترى العجب العجاب مما نقلناه، وترى أنه مبتدع بنسخه حكما إسلاميا، ألا وهو الجهاد في سبيل حماية بيضة الإسلام لا متبع شريعة الإسلام كما يزعم. وبعد فإننا ننقل عن المجلد السادس من المنار الصفحة 607 قصيدة للمرحوم مصطفى صادق الرافعي تحت عنوان (مسيح الهند): عثرت في سيرها الأيام * أم هو الدهر هكذا والأنام أهله بين ذي هدى وضلال * ولياليه ذو سنا وظلام وأرانا بمدة العمر نشقى * وعدو المسومات اللجام ليس كل الذين تبصر نا سا * إن بعضا من الطيور الحمام ولكل الوري رؤوس فإن لم * يكن العقل كانت الأوهام إيه (يا هند) عن مسيحك ما * زالت وزالت ببيتك الأصنام كان في جسمك الوباء فقد دب * إلى العقل بعد ذاك السقام ضلة للفتى ومن تبعوه * أشرق الصبح والقبور نيام مسحته الجنان أم مسخته، وتولاه جلجل أم عزام (1) وأتته الأقوام تترى ولا غر * وعلى الجرح للذباب ازدحام وإذا كان في الرؤوس ضلال * وقفت عند قصدها الأقدام نسخ السيف ذلة ورياء * وجدير بناسخيه الحسام أيهذا المسيح إن الليالي * في نبيها من الزمان سهام وأرى الدهر كالوغى وقديما * كان بين الأنام هذا الخصام فارفع الأرض فوق قرنيك وأمر * يملأ الأرض بعد ذاك السلام أو فعد للسماء إن الشياطين * عليهم باب السماء حرام وتحد الوري بسخفك أو * سجعك إن الكرى له أحلام
(1) جلجل وعزام اسمان من أسماء الشياطين. 235 وقد رأينا أن نضم إلى هذا الفصل هذه المناظرة، ليتبين للقارئ مبلغ حجج القاديانيين على اعتقادهم نبيهم أو مهديهم الجديد، وهي كما تراها أوهى من بيت العنكبوت.
236 مناظرة أتباع المسيح المهدي نص المناظرة التي جرت بدمشق بين غلام أحمد قادياني الهندي والعلامة السيد محسن الأمين الحسيني العاملي * (*) نشرت هذه المناظرة مكتبة الرشاد بدمشق سنة 1343 ه / 1924 م.
237 بسم الله الرحمن الرحيم (المهدي المسيح القادياني) قد كان ظهر في بلدة قاديان من بلاد الهند رجل يسمى غلام أحمد قادياني ادعى أنه المسيح، ثم مات، وبهذه الأيام جاء إلى دمشق نحو من اثني عشر رجلا من الهنود بينهم رجل يسمى بشير الدين ابن غلام أحمد المذكور يدعي أنه خليفة أبيه الذي هو المهدي والمسيح معا، فزرناهم في فندق سنترال يوم الجمعة سابع المحرم سنة 1343 واجتمعنا بثلاثة منهم هم المشار إليهم، بينهم أحدهم خليفة المهدي والمسيح، والآخر يقولون إنه كان مجوسيا وأسلم، وهما يلبسان عما متين كبير تين بيضاوين، والثالث مكفوف يرى بإحدى عينيه قليلا يسمى روشن علي حافظ يلبس عمامة زرقاء، وهو معلم مدرسة الارشاد عندهم ويحفظ القرآن أو أكثره عن ظهر القلب، وكان الخليفة يسأله عن الآية التي تغيب عن حفظه فيجيبه، فاجتمعنا أولا بالذي قالوا إنه كان مجوسيا وأسلم، وفي أثناء ذلك خرج وقال: قد دعيت وهذا يقوم مقامي وأشار إلى الأعمى، وأخيرا اجتمعنا بالخليفة وهم يتكلمون بالعربية الفصحي بكل هدوء وسكون على نسق واحد لا يتغير، ولكنهم يطيلون المقدمات، وإذا ظهرت عليهم الغلبة انتقلوا إلى مطلب آخر، فلما حضرنا. قال أحدهم: ماذا سمعتم عنا؟ قلت: سمعنا أنكم تدعون إلى شئ جديد، فجئنا لنظر إن كان حقا اتبعناكم عليه. فقال: لسنا ندعو إلى شئ جديد إنما ندعو إلى دين الإسلام والعمل بالكتاب والسنة، والإيمان بأن ميرزا أحمد قادياني هو المسيح والمهدي الموعود به في آخر الزمان، والمشار إليه بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) " إن الله يبعث لهذه الأمة
238 في رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها " (1) فالمجدد مرة يكون نبيا كمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ومرة يكون عالما، ومرة يكون مهديا ومسيحا كأحمد وتفرقت كلمة المسلمين بعثه الله لإصلاح ذلك، وهو يوحي إليه كما يوحى إلى الأنبياء، أما خليفته الحالي فكنا سمعنا ممن معهم في الفندق أنهم يقولون يوحي إليه أيضا، فلما سألناهم أنكروا ذلك وقالوا: لا يوحي إليه وإنما الوحي إلى أحمد قادياني الذي هو المهدي والمسيح، وأن تفسير القرآن والحديث هو كما يفسره مهديهم ومسيحهم لا كما يفسره الناس، وأن عيسى قد مات ولم يرفع إلى السماء، وإلا لصحت حجة النصارى بأن عيسى أفضل من محمد، لأن عيسى رفع ولم يمت ومحمد مات ولم يرفع (فقلنا) له: الفضيلة لا تنحصر في هذا، مع أن مجرد طول العمر ليس فضيلة وأن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) عرج به إلى السماء، فأنكر الخليفة أن يكون أسري به إلى السماء وقال: إن القرآن لا يدل إلا على الإسراء به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. فقلنا له: قد ثبت ذلك بالسنة، (وقال) الخليفة: إن إحياء الموتى في الدنيا لم يقع أصلا لنبي ولا لغيره، واحتج لذلك ببعض الآيات كقوله تعالى: (قال رب ارجعوني - إلى قوله - كلا) [المؤمنون / 99] وغيرها وأن مثل (أو من كان ميتا فأحييناه) [الأنعام / 122] وغيره يراد فيه من الموت الجهالة ومن الإحياء الهداية. فقلنا له: يجب حمل اللفظ على حقيقته، ولا يجوز العدول إلى المجاز بدون قرينة، فلم يقدر على إثبات القرينة. قال: وكذلك ما ورد في القرآن في حق عيسى من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص يراد به ذلك، وإلا كان عبادة لعيسى كما قال تعالى: (ما نعبدهم إلا ليقربونا) [الزمر / 3] قال: ذلك خليفة المهدي، فبينا له الفرق بأنا لا نقول أن عيسى هو أحيى الموتى بل الله أحياها كرامة له، وأين هذا من السجود للأصنام لتقربهم إلى الله.
(1) كنز العمال للمتقي الهندي، دار التراث الاسلامي، بيروت، ح 34623. 239 واحتج الخليفة لذلك بقول عمر عند موت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إن محمدا لم يمت وأنه رفع إلى السماء وسينزل ويقتل المنافقين، وقول أبي بكر: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، فبين أن ادعاء رفعه إلى السماء عبادة له، وإلا فما كان عمر يعبد محمدا، ولذلك قال له أبو بكر ما قال (فانظر واعجب) فبينا له خطأه في ذلك، وأن المراد من كان يعبد محمدا على سبيل الفرض والتقدير (وقال): إن قوله تعالى: (أو كالذي مر على قرية) [البقرة / 259] الآية لا يراد بالإحياء فيها الإحياء الحقيقي وأنكر أن يكون عزيز مات ثم أحيي، وقال: إن كل إحياء في القرآن يراد به الهداية بعد الضلال. فاعترضه بعض الحاضرين بقول إبراهيم (عليه السلام) (رب أرني كيف تحيي الموتى) [البقرة / 260] فقال وكذلك هنا المراد الهداية (فقلت) له: وهل كان إبراهيم مبعوثا لهداية الطيور، فلم يحر جوابا (وقال) الخليفة: إن محمدا لم يكن خاتم الأنبياء بمعنى آخرهم بل بمعنى زينتهم من الختم بمعنى الطبع، واحتج لذلك بحديث نقله عن بعض الكتب، أن عائشة قالت: قولوا: خاتم النبيين ولا تقولوا لا نبي بعده، وفرق بين خاتم بفتح التاء وخاتم بكسرها، فاعترضنا عليه بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي: " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " (1) فقال: معناه لا نبي في حياتي كما كان هارون نبيا في حياة موسى، وهذا حتى لا يتوهم الشيعة أن عليا نبي بعد محمد. فقلنا لا يصح استعمال بعدي بمعنى في حياتي في لغة العرب، فلم يكن عنده جواب مرضي. وسألناهم عن دليلهم على ما يدعونه من أن أحمد قادياني هو المهدي المسيح، فاستدلوا بأشياء (منها) أنه كان من أول عمره صادقا لم يكذب، فحينما ادعى ما ادعى وجب تصديقه، كما أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) لما بعث قال
(1) تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي، ص 11. 240 لقريش: " أرأيتكم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم وممسيكم ما كنتم تصدقونني؟ قالوا بلى قال فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " (1). فقلنا له: (أولا) من أين لنا العلم بأن مهديكم كان صادقا في أول عمره؟ قال: نحن نخبركم بذلك ألا يكفي هذا لكم ونحن عدد كثير؟ فضحك الحاضرون (وقلنا): لا يجوز في قانون القضاء أن يكون الخصم شاهدا (وثانيا) هذا على فرض صحته لا يفيد إلا الظن، وكم قد رأينا من يكون في أول أمره صالحا فيفسد في آخره أو بالعكس (ومما استدلوا به) أنه قد ظهرت المعجزة على يده، فإنه كان لا يعرف العربية فدعا الله تعالى فعلمه إياها في ليلة واحدة، فصار يتكلم بالعربية الفصحي، فكان حال هذه الحجة حال ما تقدم. وقال أحدهم: بما تستدلون على نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقلت له: بالمعجزات، فقال: وهل رأيتموها؟ قلت: نعم، قال: ما هي؟ قلت: القرآن، قال: والمهدي قد جاء بكلام معجز من إنشائه (فيكون أقدر من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن القرآن المعجز من كلام الله تعالى لا من كلامه). قلت: أسمعنا شيئا منه لننظر هل هو معجز، فتلا علينا من حفظه ما يلي (من الفتن العظمى والآفات الكبرى، صول القسوس بقسي الهمز واللمز كالعسوس، وكل ما صنعوا لجرح ديننا من النبال والقياس بنوه على المكائد كالصائد لا على العقل والقياس، نبذوا الحق ظهريا وما كتبوا في ما دونوا إلا أمرا فريا، وقد اجتمعت هممهم على إعدام الإسلام، واتفقت آراؤهم لمحو آثار سيدنا خير الأنام، ويدعون الناس إلى اللظى والدرك ناصبين شرك الشر، فما نالوا جهدا إلا بذلوه، وما وجدوا كيدا إلا استعملوه، واستحرت حربهم، وكثر طعنهم وضربهم، وجالت خيولهم وسالت سيولهم، حتى جمعوا عساكر الالحاد ورفعوا رايات الفساد، وصبت على المسلمين مصائب، وخربت تلك الربوع وأهديت لسقياها الدموع، فحاصل الكلام أن الإسلام ملء من الآلام
(1) مجمع البيان، ج 7 - 8 / 323 (سورة الشعراء، الآية (وأنذر عشيرتك الأقربين)). 241 وأحاطت به دائرة الظلام، ورأي الزمان عجائب في نقض أسواره، وأسالت (هكذا بالتاء) الدهر سيولا لتعفيه آثاره، وأكمل القدر أمره لاطفاء أنواره، ولما كان هذا من مشيئة ربانية مبنيا على المصالح الخفية، فما تطرق فما تطرق إلى عزم العدي خلل، ولا إلى أيديهم شلل، ولا إلى ألسنتهم فلل، فكان من نتائجه أن الملة ضعفت، والشريعة اضمحلت، وكثر اللغو وذهب المعارف (وههنا أراد الكتاب تصحيحها وذهبت بالتاء فقال لهم ليس فيها تاء) حتى أنكرها العارف بأخت أضوائها، وناءت أنواؤها وديس الملة (وهنا أيضا أرادوا تصحيحها وديست بالتاء فأبى عليهم) وطالت لأواؤها، فكان هذا جزاء قلوب مقفلة وآثام صدور مغلقة، ترى أكثر المسلمين فقدوا تقواهم، وأغضبوا مولاهم، وملك فؤادهم حب الأملاك والعقار والنسوان). وتلي علينا من الوحي الموحى إلى المهدي المسيح ما يلي: إني أنا الرحمن ناصر حزبه * ومن كان من حزبي فيعلو وينصر كل بركة من محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فتبارك من علم وتعلم، يأتيك من كل فج عميق ينصرك رجال نوحي إليهم من السماء، وحان أن تعان وتعرف بين الناس. وقال: قد أنزل عليه أيضا وحي بالفارسية والهندية (لسان أردو) وأرونا مجموعة مطبوعة فيها أشعار أوحيت إليه بالفارسية. وكان معنا أصحاب الجرائد وكلهم أخرجوا أقلامهم وجعلوا يكتبون الكلام المعجز والوحي المنزل. فقلت له: إن هذا الكلام ركيك ولا يبلغ حد الفصاحة والبلاغة فضلا عن الاعجاز. فقال: قد قالت قريش في حق القرآن لو نشاء لقلنا مثل هذا. قلت: نحن عرب قد أتقنا العلوم العربية ومارسنا كلام فصحاء العرب، ونرى هذا الكلام ساقطا، وهؤلاء محررو الجرائد قادرون على أن يكتبوا أعلى منه بطبقات، فنحن الآن ننشئ لك ما هو أحسن منه وقريش وإن قالت ذلك
242 فإنها عجزت عن المعارضة وأرادت أن تعارض (في القصاص حياة) فقالت: القتل أنفى للقتل فكان بينهما تفاوت كثير. فقال: ومن ذكر هذا. قلت: ذكره علماء المسلمين ومنهم صاحب المطول. ومن أدلتهم على أنه المهدي المسيح قوله تعالى: (ولو تقول علينا بعض الأقاويل) [الحاقة / 44] الآية دلت على أن من يتقول على الله يهلكه الله ولا يتم له مراده، وهذا لم يحصل له ذلك. فقلت لهم: المذاهب الباطلة في الدنيا كثيرة وكلها تقول على الله، وقد دامت ولم يهلك أصحابها. قالوا: هذا خاص بمدعي النبوة. فقلت: لا تخصيص بل يعم كل متقول. (ومما استدلوا به) ما قالوا أنه رواه ابن ماجة (لا مهدي إلا عيسى) فيدل على أن عيسى والمهدي واحد وهو أحمد القادياني. فقلت لهم: إن صحت الرواية دلت على عدم وجود المهدي، لا على اتحاده مع عيسى، ولا أنه أحمد القادياني. وقلنا لهم: إن المهدي إذا ظهر يملأ الأرض قسطا وعدلا وأنتم تقولون أنه ظهر مهديكم على رأس مائة سنة لإصلاح الإسلام، ونحن نرى أنه من يوم ظهوره للآن قد تأخر الإسلام ولم يتقدم، وكثر ترك العمل بأحكامه ولم يقل. قالوا: قد اهتدينا نحن بالمهدي وصلحت حالنا. قلنا: فهل المهدي المسيح مبعوث إليكم خاصة، أو أنتم عبارة عن المسلمين، أو عن العالم كله؟ وسألهم بعض الحاضرين إن من يتبعكم ما يجب أن يصنع، فتلوا علينا (صورة البيعة التي يأخذونها على من يتبعهم).
243 وهي الإقرار بالشهادتين والتوبة من كل ما سلف منه، وأن يفدي نفسه وماله في سبيل الإسلام، وأن يصدق بكل ما جاء به المسيح المهدي، ومعهم كتب من تأليف المسيح المهدي الذي قالوا أنه ألف ثمانين كتابا عرب منها أحد عشر والباقي أردو (لسان الهند). وقلنا لهم: إن عيسى ابن مريم اسمه عيسى وأمه مريم وليس له أب، وهذا اسمه أحمد وأبوه فلان وأمه فلانة من أهل قاديان. قالوا: إن عيسى ابن مريم قد مات وهذا على قدم عيسى، كأنهم يعنون أنه قائم مقام عيسى وبمنزلته، أو أن روح عيسى حلت فيه. ومما قاله الخليفة احتجاجا على أن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم النبيين وليس آخرهم قوله تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) [الأحزاب / 40] وقال في مقام آخر (إن شانئك هو الأبتر) [الكوثر / 3] والأبتر الذي ليس له عقب، فهذه دلت على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس بأبتر أي أن له أولادا، وتلك دلت على أنه ليس بأب لأحد ولكن خاتم النبيين، فيكون المراد أنه ليس بأب لأحد بالولادة ولكنه خاتم النبيين الذين يأتون بعده فهو بمنزلة الأب لهم. فقلنا له: هذه الآية نزلت في واقعة خاصة بالنسبة إلى زيد بن حارثة الذي كانوا يقولون إنه ابن محمد. فقال: أنتم لا تفهمون كلامي ثم تردون علي. فقلنا له: قد فهمنا كلامك، ولكن أنت حينما ترى أنه لا جواب لك تراوغ. والذي ظهر لنا أنهم يضارعون البابية في تسويلاتهم، فالبابية يقولون بظهور المهدي وبظهور صاحب الزمان نظير قول هؤلاء بظهور المهدي المسيح، والبابية يتشبثون ببعض الأخبار والآيات التي يؤولونها وهؤلاء كذلك، سوى أن البابية يجاهرون بتغيير الشرع السابق محتجين بحديث أن المهدي إذا ظهر جاء بشرع جديد، وهؤلاء يقولون نحن على دين الإسلام وعلى الكتاب
244 والسنة سوى أنه يجب أخذ التفسير من المهدي، فيغيرون الشرع بهذه الحيلة مستترين بقولهم: أولا إنا لم نأت بدين جديد وإنما نتبع شريعة الإسلام، والبابية يهولون على الناس بأنه اتبعهم خلق كثير وملايين من أمريكا، وهؤلاء قالوا: إنه اتبعنا مليونان في أمريكا وغيرها وكل ذلك تهويل، نسأله تعالى العصمة من تسويلات الشيطان ومن اتباع الأهواء المضلة وهو ولي التوفيق. وهذا آخر ما أردنا إثباته في هذه العجالة مما جرى بيننا وبينهم، والحمد لله وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. فصل الأحمدية والقاديانية نذكر في هذا الفصل ردا لأبي الفضل محمد منظور آلي معتمد الجمعية الأحمدية في بلدة لاهور على كلمة رد بها صاحبها على مقال كتب في محاسن الجمعية الأحمدية تحت عنوان (الإسلام في ألمانيا) نشر في الجزء الثالث من المجلد العشرين من مجلة العرفان، يفرق فيه بين الأحمدية والقاديانية. قال بعد مقدمة وجيزة: " وها أنا أصرح في هذا المقام، أن الجماعة الأحمدية التي مركزها بلدة (لاهور) عاصمة البنجاب، هي غير الجماعة الأحمدية التي مركزها (القاديان) وكلتا الجماعتين متخالفان في الأعمال المذهبية والسياسية، مراد الجماعة الأحمدية اللاهورية التعمير، ومقصد الجماعة القاديانية التخريب، وليس لهذه الجماعة (القاديانية) إرسالية في ألمانيا ولم يبنوا فيها مسجدا. وبعد ذلك أنصح لكم يا أخي المسلم، وعليكم بالاجتناب عن سوء الألقاب في عامة إخواننا المسلمين (ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) [الحجرات / 11]. " ونحن نسلم أن جميع الفرق الناشئة في الإسلام كل واحدة منها غصن من غصون شجرة الإسلام، من قطع غصنا منها فقد قطع الإسلام، وأنت تعلم
245 أن حكم التكفير والالحاد بناء على اختلاف الرأي ظلم عظيم، وإيقاع الاختلاف والنفاق في عامة المسلمين إثم مبين وبهتان عظيم، وكذا صريح ما قيل: إن المجدد حضرة الميرزا غلام أحمد القادياني يأخذ جائزة من الحكومة كلا وحاشا تعالى شأنه عن مثل هذه الهفوات " إلى أن قال: " وأيضا كذب صريح ما قيل إن المجدد الأعظم قد نسخ حكم الجهاد، لأن المجدد قد قال غير مرة وأكد على ذلك أن القرآن كله واجب العمل لكل مسلم ومسلمة، ولا شئ من القرآن بمنسوخ، كتاب أحكمت آياته كلها، والنسخ يبني على وجود الاختلاف في القرآن وهو ليس بموجود، قال الله تعالى (ولو كان من عند غير الله لوجدوا اختلافا كثيرا) [النساء / 82] فالقول بالنسخ باطل ببداهة ". " وحقيقة الحال أن بعض العلماء الذين ليس عندهم علم من الكتاب قالوا: إن كل من لا يتدين بديانة الإسلام فقتله واجب شرعا وإن كان غير محارب، وذا صلح وأمن عام، ففي جواب هذا القول قال حضرة المجدد: إن هذا القول غلط ليس بسديد ولا يسمي هذا جهادا، بل هذا القول يؤيد إعراض النصارى على الإسلام، بأن الإسلام كان سببه أي سبب إشاعته في الأقطار الصمصام المسلول وهذا كما ترى ليس له أصل صحيح في ديانة الإسلام ". " وأما غير المسلم الذي يحارب المسلمين وينهب أموالهم ويسعى في الأرض فسادا، فمقابلته واجبة على كل مسلم، وهذا يسمى جهادا في عرف الشرع ". وأيضا كذب صريح ما يقال: إن الجماعة الأحمدية قائلون باستمرار وحي النبوة، نعم إنا قائلون بالمبشرات كما تدل عليه الأحاديث (لم يبق من النبوة إلا المبشرات) (1). " وأيضا باطل ما يقال في حقنا إنا أهل التأويل لأول كل واجب وفرض على ما يقتضيه رأينا، وهذا كله باطل وفرية بلا مرية " إلى كلام آخر لا غرض لنا بنقله.
(1) صحيح البخاري، دار الفكر، بيروت، ج 9، ص 40. 246 الخاتمة نختم هذا الرد بما جاء في [كتاب وجهة الإسلام] ومنه نتبين أهدافهم لطائفة من علماء الفرنجة الباحثين ص 135 في من دينهم الجديد، الفصل المخصص للبحث عن إسلام الهند، وبموضوع المرأة المسلمة ونبيهم الجديد. " ولم يجعل مسلمو الهند دفاعهم هذا الذي يتعدى إلى الهجوم قاصرا على تبرير معاملة المرأة في الإسلام، فإن منظمي فرقة الأحمدية قاموا منذ أكثر من ربع قرن بترقية هذه الوسيلة ترقية مستمرة بلغت أقصى الروعة، فأخذوا وسائل الغرب وحاكوه في نشر دعايتهم، ولفتت حركتهم الدينية نظر الكثيرين، وكسبت أنصارا في كل أنحاء العالم بفضل قوتها الذاتية، وتسمى فرقتهم تبعا لاسم مؤسسها (مرزا غلام أحمد) من مدينة قاديان في البنجاب، أعلن المرزا رسالته إلى العالم في 1889 وهو في الخمسين من العمر، وبعد ذلك بعامين ظهر بدعوى أنه نبي ومجدد مهدي ومسيح، أعلن أن المسيح (عليه السلام) لم يمت على الصليب، ولم يرفع حيا إلى السماء كما يقول القرآن، ولكنه شفي بعد الصلب وفر ومات أخيرا في كشمير، حيث اكتشف المرزا قبره، واعتقد المرزا أن موت المسيح (عليه السلام) موت طبيعي كما يزعم، يؤيده في دعواه أنه هو المسيح، وادعى أنه المهدي المنتظر الذي ترقبه المسلمون جميعا، ولكي يعزز هذه المزاعم العريضة أذاع ثلاثة كسد مشابه وباتباعه في جدل مع أهل السنة ومع جمعية الآربأسماج الهندوك المصلحين ومع المسيحيين جدل لا يزال قائما إلى يومنا هذا، وأدى بالمسلمين النبيين إلى إخراجه من الحلة وإلى قتل أتباعه لما بلغ بهم الطيش أن يتجرؤوا على الاقتراب من ملك الأفغان النبي المسلم. ولما كان أن المرزا يزعم أنه المهدي فقد جاء يدعو " لجهاد تراق فيه الدماء كما يعتقد أهل السنة بل لجهاد سلمي، ومع عدم تخفيفه من معاداة
247 المسيحيين رأى أنه لا بد من البقاء على الولاء للحكومة القائمة في الهند " (1) وجعل يؤكد رأيه هذا مما أزعج بعض أهل السنة الذي يخالفونه في ذلك، معتبرين الولاء للحكومة البريطانية مدعاة للريبة، وسرعان ما أعلن المرزا الآربأسماج أنه كرشنا (مجدد) وأن المسيح والمهدي والكرشنا شئ واحد ". " أما عن أهل السنة فالظاهر أن المرزا أثار تشددهم وتقديسهم للأولياء، وكان المرزا في الوقت عينه شديد الخصام للعقليين الذين بدأوا يعدلون آراءهم عن مبلغ سمو الوحي المحمدي على المألوف، والذين اشتد ميلهم إلى التوفيق بين القوانين والعادات الاجتماعية الإسلامية وبين الأفكار الحديثة ". إلى أن قال: " وإذا درس غير الأحمدي ما نشره المرزا من دعاوي وحجج لا بد أن يروعه ما في طبيعتها من سذاجة وقلة نضج، حتى أمكن لكثير من خصومه أن يرموه بتهم شنيعة، ولكن نستطيع القول: إن نجاح المرزا لا يبلغ هذا المبلغ العظيم دون أن تكون له قدرة على اجتذاب الناس، ودون أن يكون مخلصا لما زعم من وحي. وفي سنة 1908 هلك غلام أحمد وصار حكيم نور الدين أول تلاميذه الخليفة الأول للمسيح، وسرعان ما بدأ انقسام قبل موت نور الدين، وذلك فيما يظهر لتدخل بعض أتباع المرزا في لاهور برئاسة (خواجا كمال الدين) وفي مسألة سياسية، ثم افتضح الاقتسام عندما انتخب مرزا بشير الدين خليفة ثانية في 1914، ومن ذلك العهد نشأت فرقتان مركز إحداهما مدينة قاديان والأخرى لاهور بينهما فروق عظيمة في العقيدة، فتعتقد فرقة لاهور أن غلام أحمد لا يزيد كثيرا عن مجدد الإسلام، وتنفر مما تقوله الفرقة الأخرى فرقة قاديان من تكفير أهل السنة، وتؤثر تقريب الشقة بينها (فرقة لاهور) وبينهم أن
(1) قال المترجم: كان غلام أحمد موظفا عند الإنجليز ويشيد في خطبه وكتبه بذكرهم، ومما يروي عنه أن الوقيعة في جانب الله أهو من الوقيعة في جانب الإنجليز، ولعل هذا يكفي في بيان صلته بهم والحق أن أمثال غلام أحمد من صنائع الاستعمار، ما قاموا إلا بإغراء دفعهم وما يريدون إلا لإرضاء سادتهم بتفريق كلمة المسلمين وقتل روح الشجاعة فيهم، وكذلك بخبر مبادئهم شبعة بما يعمل على هذا. 248 نشاط حركة الأحمدية وصبغتها التبشرية الحماسية أكثر طرافة عند العالم الخارجي من عقائد الفرقتين وعلاقاتهما بأهل السنة، تظهر هذه الحركة في مظهر من العداوة والتعصب لم نعهدهما في مسلمي الهند، فالاستهزاء والازدراء سلاحان من الأسلحة تستخدم في الدعاية. كتب الأحمدية كتبا كثيرة لم تنقطع، ومنذ سنة 1892 ظهرت مجلات وطنية كثيرة تنشر في (قاديان) وظهرت أيضا صحيفة بالإنجليزية هي (مجلة الأديان) وتقوم هذه الصحف بدعاية قوية ضد المسيحية وضد حركة الاصلاح الهندوكية للآربأسماج وضد ديانة السيخ، هناك مدراس منظمة تنظيما حسنا، وهناك إدارتان إحداهما لتنظيم جماعة الأحمدية والأخرى لتوجيه حركة التبشير، وتقوم فرقة لا هور بحركة من هذا القبيل ولكن بنسبة أقل، لكل من الفريقين مبشرون خارج الهند واتباع ممن ارتدوا عن المسيحية مشتتون في بلاد كثيرة، وأحسب أن مجموع ما للقاديانيين نصف مليون من الأتباع وأن لفرقة لاهور أقل من ذلك كثيرا، ومن العسير أن نتكهن بمستقبل الأحمدية، ولكن يصعب أن نصدق أن عقيدة جامدة كهذه ستقدر على البقاء طويلا قادرة على اجتذاب أنصار في عصرنا هذا أو على حفظ العقيدة الحالية لأنصارها من التفسير، وإذا عرفنا أن زعماء أهل السنة يشعرون بحالة ملحة لتجديد عقائدهم، ويتأهبون للتنازل عن كثير مما يعدونه على الدوام كلمة الله الموحاة التي لا تتغير والتي وراءها إيمان ثلاثة عشر قرنا تؤيدها بذكرياتها المقدسة، إذا عرفنا هذا وجب أن نتساءل هل في وسع هذا الوحي المعقد الذي يرتكن إليه القاديانيون، والذي جاء في آخر الزمن، والذي يتطلب إيمانا قويا جدا، أن يقوى على الثبات في هذه الأيام التي لم يبق فيها من الإيمان إلا النصف، والتي نجد فيها المتعلمين إما ممن يأخذون بالشك وإما ممن يحكمون بالعقل في المسائل الدينية؟ ". " أحست فرقة لاهور أنها غير قادرة على قبول مزاعم غلام أحمد كاملة، ويظهر من المحتمل أن الفرع الأكبر لفرقة قاديان سيرى من الضروري يوما قريبا أن ينقح عقائده ".
249 إلى هنا نختم الكلام ونرى فيه مقنعا لمن يطلب الحق ولمن لم يكن له أهداف وراءه، فذلك لا يقنعه شئ ولا يرده عن محاولاته برهان، والله نسأل أن ينفع به الشاذين عن الصراط المستقيم ومن استهواهم زخرف القول، وهو وحده الدافع لنا إلى ما بذلنا من جهود ومراجعات في هذا الرد، وبيده تعالى أزمة الأمور. حرر في جمادي الآخرة 1363 سليمان ضاهر.