قرآن و العقيدة نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

قرآن و العقيدة - نسخه متنی

مسلم بن حمود حسینی حلی؛ محقق: فارس حسون کریم

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: القرآن والعقيدة
المؤلف: السيد مسلم الحلي
الجزء:
الوفاة: 1401
المجموعة: من مصادر العقائد عند الشيعة الإمامية
تحقيق: فارس حسون كريم
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:
القرآن والعقيدة
أو
آيات العقائد
تأليف
آية الله العلامة السيد مسلم نجل حمود
الحسيني الحلي النجفي
1916 - 1981 م
تقديم
الدكتور محمد طه السلامي
تحقيق
فارس حسون كريم

1
صورة المؤلف (رحمه الله)

2
تقديم
بقلم الدكتور محمد طه السلامي
كان لي الشرف الكبير أن أكون بخدمة العلامة المجتهد الكبير المرحوم آية الله
السيد مسلم السيد حمود الحسيني الحلي طاب ثراه لمدة قد تزيد على 10 سنوات
في الحلة / العراق، وبالتحديد في مسجد القطانة في السوق الكبير، وبالرغم من
كوني لا زلت من غير طلبة العلوم الدينية، إلا أني كنت وإلى يومي هذا من محبي
العلوم الدينية، ومن محبي أساتذة وطلبة الحوزة العلمية أينما كانوا.
ولادته:
ولد العلامة السيد مسلم الحلي في مدينة الحلة عام 1334 ه‍ - 1916 م.
نبذة من سيرته:
عند تأهله للدرس سنة 1345 ه‍ انتقل إلى مدينة النجف الأشرف، حيث
تلقى العلوم على أيدي فطاحل العلماء وكبارهم، من أمثال: آية الله الكبرى الشيخ
محمد حسين الأصفهاني طاب ثراه، والعلامة آية الله الكبرى الشيخ آقا ضياء الدين
العراقي طاب ثراه، والعلامة النحرير المتضلع في كل فن الشيخ مرتضى الطالقاني

5
طاب ثراه، وحجة الاسلام الامام المجاهد الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء
طاب ثراه، وآية الله الكبرى المجاهد السيد محسن الحكيم (قدس سره)، وآية الله الكبرى
حجة الاسلام السيد حسين الحمامي (قدس سره)، وغيرهم من فقهاء مذهب آل محمد (عليهم السلام).
عين مدرسا في مدرسة حجة الاسلام الامام المجاهد الشيخ محمد الحسين
آل كاشف الغطاء (قدس سره) الدينية، وعنه يقول الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء
عندما قدم كلمة مختصره على كتاب " الميزان الصحيح "، وملحوظة على كتاب
" التشريع الاسلامي " المطبوع سنة 1365 ه‍ / 1946 م:
" نظرت في ما كتبه في هذا الكتاب قرة عيني، بل قرة عين العلم والفضيلة،
والحسب والنسب، والتقى والصلاح، السيد مسلم الحلي حفظه الله فوجدته قوي
الحجة، واسع الاطلاع، حسن الأسلوب، قد أعطى الحقيقة حقها، ورد الحجر من
حيث جاء، وكشف عما للقوم من جهالات وأخطاء، كنا نظن أن الدهر والثقافات
المتأخرة ولا سيما ثقافة هذه العصور قد محتها من صفحة الوجود، وانطفأت
جمراتها اللاذعة كما انطفأت عن الخليل (عليه السلام) نار نمرود. فجزى الله ولدنا العزيز
الدارس عندنا، والمدرس في مدرستنا نعم الجزاء، ولا زال مؤيدا ومسددا بعناية
الحق ودعاء أبيه الروحي ". انتهى باختصار كلام المرحوم آية الله الشيخ كاشف
الغطاء (قدس سره).
اختاره بعد ذلك حجة الاسلام آية الله الكبرى ومرجع الأمة آنذاك السيد أبو
الحسين الأصفهاني وانتدبه إلى مدينة الكاظمية المقدسة للتدريس فيها. وعند وفاة
آية الله الكبرى السيد أبي الحسن الأصفهاني (قدس سره) كر راجعا إلى مدينة النجف الأشرف
بعد أن مضى ردحا من الزمن في مدينة الكاظمية مدرسا.
اختير بعد ذلك في مدينة بغداد من قبل أهلها وبطلب من حجه الاسلام
المجاهد الامام الشيخ آل كاشف الغطاء (قدس سره) بعد أن أجازه بالاجتهاد. أسس في بغداد

6
جمعية وأسماها باسم " جمعية المقاصد الخيرية الاسلامية " وفتح لها مدرسة دينية
تطورت هذه الجمعية وقد نشرت بعض النشرات والكتب المفيدة، وأقامت
احتفالات دينية عديدة.
اختير عدة مرات بإلحاح من الحكومة الملكية آنذاك لتسلم منصب القضاء
فرفض ذلك، وأذكر أنه حدثني رحمه الله عندما جاء عبد الوهاب مرجان الذي
أصبح رئيس الوزراء في العهد الملكي إلى الحلة - بلدته - التقى بالسيد مسلم وألح
عليه أن يستلم منصب القضاء، فعاود رفضه لذلك لتعلقه بالحوزة العلمية في النجف
الأشرف.
قبل وفاة والده الحجة العلامة السيد حمود الحلي (قدس سره) بمدة قصيرة توجه إلى
الحلة لرؤيته ولكن توفي والده في ذلك الظرف وكان سنة 1372 ه‍.
ألزمه أهالي الحلة أن يحل محل والده فحل فيها ردحا من الزمن، ثم كر راجعا
سنة 1374 ه‍ إلى مدينة النجف الأشرف فصار يواصل تدريسه في السطوح العالية -
من كفاية الآخوند بجزأيها، ورسائل الشيخ الأنصاري ومكاسبه، حلقة من الأفاضل
بدرس الخارج.
اختير ثانيا برجاء من أهل بغداد وتنسيب المرجع آية الله الكبرى المجاهد
السيد محسن الحكيم (قدس سره)، فرجع إلى بغداد سنة 1388 ه‍.
مؤلفاته:
للمرحوم ديوان شعر غير مطبوع، ولديه شاعرية فذة تمتاز بحسن السبك
وحس التعبير.
أهم ما طبع من مؤلفاته هو هذا الكتاب الذي بين أيدينا " القرآن والعقيدة "

7
حيث وفقت بعناية الباري عز وعلا أن أعيد طباعته في قم المقدسة بعد أكثر من 20
سنة من وفاته في سنة 1981 م. لم أنسه طيلة هذه السنين وذكره بالنسبة لي الزاد
اليومي، وبفضل دعائه لي وفقت لإعادة طبع هذا السفر الخالد بحلة جديدة الذي لا
يستغني عنه طالب الحوزة العلمية على ما أعتقده.
لدى المرحوم بعض المخطوطات من مؤلفاته، ككتاب " بلوغ الغاية في شرح
الكفاية " يقع في 3 أجزاء، وكتاب " العلم والعقيدة " يقع في عدة أجزاء، و " نظرة في
المادة أو مناظرة الماديين "، و " الطرائف العلمية والظرائف الأدبية "، وكتاب
" المسائل في شرح الرسائل " تأليف الشيخ الأنصاري في الأصول العلمية.
معظم ما ورد عن حياة سيدنا الأجل المرحوم السيد مسلم هو من كتابة نجله
السيد عبد العزيز الحلي، باختصار وتصرف.
نفعنا الله بهذه الخدمة المتواضعة لنشر تراث فقهاء أهل البيت (عليهم السلام)، وللأسف
هناك الكثير الكثير منهم قد رحلوا عنا وتركوا لنا بضاعة وكنوز لا تفنى من علوم الدين
الخالدة، وأرجو من الله تعالى بهذه المساهمة البسيطة أن ننفع بها السالكين على
درب العلم والفضيلة.
نسأل الله أن يوفقنا لطاعاته ومراضيه، وأن يرحم علماءنا ومراجعنا الماضين،
ولا سيما المرحوم السيد مسلم الحلي، وأن يحفظ مراجعنا وعلماءنا الربانيين في
مشارق الأرض ومغاربها، والحمد لله أولا وآخرا.
محمد طه السلامي
ماجستير ودكتوراه
علوم طبية / انگلترا واستراليا

8
مقدمة التحقيق
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الرسل وخاتم النبيين،
محمد وعلى آله النجباء الميامين.
وبعد:
إن القرآن الكريم نور وبرهان وموعظة من عند الله تعالى إلى عباده، وقد
أجمل - هذا القرآن - الكثير من الأحكام والتصورات والمفاهيم مما لا يفقهه السامع
والقارئ إلا بعد تفصيل وشرح وبيان كي يفهمه الناس جيدا، وتتيسر إمكانية التدبر
والتأمل فيه، فيمكن - حينئذ - الاستفادة الكاملة منها، ومثال ذلك آيات الأحكام
التي أخذت السنة النبوية الشريفة على عاتقها شرحها وتفسيرها.
ومن أجل ذلك شاع بين المسلمين - ومنذ عهد النزول - تفسير القرآن
وتدريسه، فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أول من فسره، وكذا بعض الصحابة، مثل: عبد الله
بن عباس، وابن مسعود، والإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام).
إضافة إلى ذلك فإن القرآن الكريم قد ضم بين دفتيه جملة وافرة من آيات
العقائد التي لا تقل في أهميتها وضرورتها عن آيات الأحكام، بل إن معرفة العقائد

9
متقدمة رتبة على معرفة الشرائع، لأنها بمثابة الأساس المؤثر في فهمها وتطبيقها.
ونتيجة لوجود هذا الترابط بين العقائد والأحكام اهتم النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل
بيته (عليهم السلام) ببناء عقائد المسلمين مع اهتمامهم بتعليمهم أحكام الشريعة.
وعلى ذلك الخط المبارك سار فقهاء مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، فكانوا حفظة
علوم الاسلام وحراس عقيدته وشريعته، وعملوا في تعليم الأمة عقيدتها وشريعتها
معا، وألفوا في العقائد والفقه مئات الكتب.

10
ترجمة المؤلف
إن هذا السيد الجليل هو واحد من الأعلام الأكابر الذين ضنت المصادر
المختصة على الباحث بالمعلومات عنهم، إلا كلمات موجزة مقتضبة لا تسمن ولا
تغني من جوع، وإليك - عزيزي القارئ - هذه الشذرات:
اسمه:
السيد مسلم بن السيد حمود الحسيني الحلي النجفي.
ولادته:
ولد (رحمه الله) في الحلة سنة 1330 ه‍ / 1912 م - على ما ذكره السيد حسن الأمين
في مستدركات أعيان الشيعة: 3 / 258 - أو في سنة 1334 ه‍ / 1916 م - على ما
ذكره كوركيس عواد في معجم المؤلفين العراقيين (1): 3 / 301، وكذا ما ذكره الدكتور
السلامي في مقدمته.



(1) طبع مطبعة الارشاد - بغداد 1969 م -.
11
والده:
السيد حمود الحسيني الحلي، المتوفى سنة 1378 ه‍ / 1958 م - أو في سنة
1372 ه‍ على ما ذكره الدكتور السلامي -، ذكره في معجم المؤلفين العراقيين: 1 /
376، والعجيب أنه عد كتابنا هذا - القرآن والعقيدة - كمؤلف له.
مشايخه:
1 - السيد أبو الحسن الأصفهاني (قدس سره).
2 - الشيخ حسين الحلي (قدس سره).
3 - السيد حسين الحمامي (قدس سره).
4 - آقا ضياء الدين العراقي (قدس سره).
5 - السيد محسن الحكيم (قدس سره).
6 - الشيخ محمد جواد البلاغي (قدس سره) (1282 - 1352 ه‍) - صاحب التفسير
المعروف ب‍ " آلاء الرحمن " - ذكره عدة مرات في كتابه هذا.
7 - الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء (قدس سره).
8 - الشيخ محمد حسين الأصفهاني (قدس سره).
9 - الشيخ مرتضى الطالقاني (قدس سره).
نشأته وسيرته:
قال في مستدركات أعيان الشيعة: 3 / 258: ولد في الحلة، وتعلم

12
المقدمات بها، ثم ذهب إلى النجف الأشرف وقرأ السطوح، ثم حضر بحث
أعلامها، منهم: السيد محسن الحكيم والشيخ حسين الحلي، وغيرهما.
قال أحد المدرسين المعروفين بالفضل والتحقيق (1): وكان يقضي أكثر أوقاته
في التدريس والتعليم، وكان مقر درسه في المسجد الهندي، وأكثر ما كان يدرس
شرح التجريد، ومنظومة السبزواري.
مؤلفاته:
1 - الأصول الاعتقادية في الاسلام (النجف 1383 ه‍).
2 - الزكاة (بغداد 1951 م).
3 - الصوم ج 1 - 2 (بغداد).
4 - القرآن والعقيدة، أو آيات العقائد ج 1 - 2 (النجف 1380 ه‍) - هذا
الكتاب، وسيأتيك الكلام عنه -.
5 - الميزان الصحيح، أو ملحوظات على كتاب " تاريخ التشريع الاسلامي "
(النجف 1946 م) (2). ذكره هو (رحمه الله) عدة مرات في كتابه هذا.
إضافة إلى ما كتبه كمقالات في مجلة الغري الغراء التي كانت تصدر
آنذاك، من ذلك:
1 - مقالة في تعدد مراتب اليقين عند علماء الأخلاق، ذكر ذلك في
ص 29.



(1) هو الشيخ محمد السمامي.
(2) ذكر مؤلفاته جميعا في معجم المؤلفين العراقيين: 3 / 301.
13
2 - مقالة في نقد كتاب الوصية للأستاذ حسين علي الأعظمي، ذكر ذلك في
ص 121.
وكذا سائر مخطوطاته التي ذكرها الدكتور السلامي، وهي:
1 - بلوغ الغاية في شرح الكفاية.
2 - ديوان شعر.
3 - الطرائف العلمية والظرائف الأدبية.
4 - العلم والعقيدة.
5 - المسائل في شرح رسائل الشيخ مرتضى الأنصاري.
6 - نظرة في المادة، أو مناظرة الماديين.
وفاته:
توفي (رحمه الله) سنة 1401 ه‍ / 1980 م، أو في سنة 1981 م.

14
حول الكتاب
كتاب رصين يشهد لمؤلفه بعلو كعبه، وشدة إيمانه، تناول فيه موضوعات
قرآنية مختلفة، ك‍: الفرق بين القرآن والإسلام والإيمان، القرآن وعذاب القبر أو
البرزخ، القرآن وقدمه أو حدوثه، القرآن والتفسير والتأويل، المحكم والمتشابه في
القرآن، القرآن وأنه لا تحريف فيه، القرآن ووقوع النسخ فيه، الاعجاز في القرآن،
القرآن واللغة العربية، سلامة القرآن من التناقض، بعض حكم الأحكام وفلسفة
التشريع، القرآن والاجتهاد والتقليد...
وقد أجاد بنانه (رحمه الله) في كل ذلك، فلله دره من مخلص متفان.
سبق وأن طبع هذا الكتاب في مجلدين في مطبعة القضاء بالنجف الأشرف،
وبما أن موضوعات كل من هذين المجلدين منفصلة عن الأخرى ارتأينا طبع هذا
المجلد في الوقت الحاضر بصورة مستقلة لحين أن ييسر الباري تعالى تصحيح ونشر
المجلد الثاني أيضا، إنه نعم المولى ونعم المعين.
منهج التحقيق
لا يخفى أن الطبعة القديمة للكتاب قد امتلأت بالأخطاء المطبعية وغيرها،
وعدم وجود نسخة أخرى منه قد صعب علينا عملية تصحيحه، ومع هذا وذاك فقد
سعينا من أجل اخراجه بصورة تليق به وبموضوعاته القيمة ومؤلفه الفاضل،
وأجرينا الخطوات التالية:

15
1 - إعراب الآيات القرآنية وضبطها وفق القرآن الكريم.
2 - الأحاديث الشريفة الواردة في الكتاب أرجعناها إلى مصادرها المعتبرة.
3 - الأقوال المنقولة أشرنا لمحلها من مصادرها.
وأخيرا نحمده تعالى أن وفقنا لتصحيح هذا الأثر الثمين - الذي لا ندعي
الكمال في تصحيحنا له - ونسأله تعالى أن يهدينا للمزيد، بحق محمد وأهل بيته
الطاهرين.
فارس حسون كريم
قم المقدسة
20 جمادى الثانية 1423 ه‍. ق
ذكرى ولادة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)

16
الحمد لله على آلائه، والصلاة والسلام على سيد أنبيائه، محمد وعلى
الطاهرين من آله وأبنائه.
وبعد:
فقد كتب سادتنا ومشايخنا الكرام العظام، من علمائنا الأعلام في آيات
الأحكام، كتبا جمة الفوائد، جليلة المواضيع، جميلة البحوث، عرضوا بها
واستعرضوا الآيات الكافلة لبيان الأحكام الشرعية الفرعية العملية فجاؤوا وجادوا
فأجادوا بما لا مزيد عليه لبيان أو لسان:
لكنني لم أطلع - فيما اطلعت عليه - على كتاب نستطيع أن نسميه ب‍ " آيات
العقائد " كما سميت تلك الكتب ب‍ " آيات الأحكام "، نظرت إلى هذا ثم فكرت، ثم
عن لي أن أطرق هذا الباب، وأجول في هذا الميدان، فلعلي أكون طارق خير إن لم
أكن من فرسان تلك الميادين، فاستخرت الله تعالى وشرعت - وهذا موضوع متسع
المجال، للسان يتسع له المقال، أو كاتب طويل الباع، غزير الاطلاع، وباعي قصير
وبضاعتي مزجاة - آملا أن يكون هذا بذرة إن لم تؤت ثمرها الآن فستثمر وتؤتي اكلها
بعد حين بإذن ربها * (والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) * (1).



(1) سورة البقرة: 213، سورة النور: 46.
17
تابعت العمل وسرت في البحث - جهد المستطاع - حتى إذا بلغ الكتاب
أجله، وتم قسم وافر منه - والحمد لله رب العالمين - أحببت نشره، وما الفائدة إذا لم
ينشر؟ ولكنه لم ينشر، ثم ماذا؟ ثم بقي الكتاب رهين الزوايا، والأمور مرهونة
بأوقاتها - كما يقولون - حتى متى؟ وإلى متى؟ حتى يقدر الله تعالى له النشور
والظهور، ولله تعالى في خلقه شؤون، فبعث الله تعالى إلى نشر الجزء الأول منه -
الذي كان قد تم طبعه سنة ألف وثلاثمائة والسادسة والسبعين هجرية على مهاجرها
أفضل الصلاة وأكمل التحية - شابا سبق إلى هذه الأكرومة التي ستكون له إن شاء الله
فخرا في دنياه، وذخرا في أخراه، ذلك هو الشاب المهذب الزكي الحاج محسن نجل
الوجيه التقي الحاج حسان أحمد وفقهما الله، ثم كان الحال هو الحال في الجزء
الثاني من هذا الكتاب (1) كأنه ينتظر شابا آخر يسبق إلى هذه الأكرومة كما سبق إليها
صاحبه من قبل، فكان ذلك وكان، فتم طبع هذا الجزء في السنة الحالية وهي سنة
ألف وثلاثمائة وثمانين هجرية على مهاجرها أفضل الصلاة وأكمل التحية بتبرع من
الشاب المهذب الزكي الحاج حمود نجل الحاج الأكرم جواد آل الكواز وفقهما الله
تعالى وجزاهما خير جزاء المحسنين، وإن في عمل هذين الشابين الكريمين لعبرة
عسى أن يعتبر بها بعض الشيوخ والكهول ممن يحسبون أنفسهم أيقاظا وهم رقود،
وما كلمتي هذه إلا رعاية الجميل، وجزاء الإحسان بالإحسان، وإن كان من ورائي
الناقدون فلينقدوا ما شاءوا وشاءت لهم الأهواء.
وإن كان قد جرى عرف المؤمنين أو الكتاب بإهداء كتبهم أو مؤلفاتهم إلى
شخصية من الشخصيات، أو كبير من الكبراء، تدعوهم إلى ذلك عوامل وأسباب،
فما هديتي هذه إلا لمن هدي الناس به سواء السبيل والصراط المستقيم، سيد



(1) لقد ذكرنا في المقدمة أن هذا الكتاب في الحقيقة كان في مجلدين، فراجع.
18
الكائنات بعد رسول الله صلى الله عليه وآله بلا استثناء، سيدي الإمام فخر المسلمين
وبطل الاسلام أمير المؤمنين علي عليه السلام، وإن المأمول هو القبول، فإن لم أكن
أهلا لذلك فإنه سلام الله عليه أهل ومحل لقبول اللاجئين المستجيرين، فهذا الكتاب
في كتاب الله الصامت يهدي إلى كتاب الله الناطق، ومن له المنطق الفصل وفصل
الخطاب، فيا لها من مناسبة كاملة ترتاح لها القلوب والألباب.
والحمد لله على التمام في المبدأ والختام، وصلى الله على محمد وآله
سادات الأنام.
22 محرم الحرام 1380 ه‍
المؤلف

19
الفرق بين القرآن والإسلام والايمان
* (قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) * (1)
اختلفت كلمة أهل الاسلام - ولا تزال مختلفة - في تحقيق حقيقة معنيي
الإيمان والإسلام، وقد بلغت أقوال قائليهم في معناهما إلى ستة أقوال أو تزيد، لكن
هذا بعد اتفاقهم على أن الإيمان في اللغة هو التصديق على حد ما قال سبحانه:
* (وما أنت بمؤمن لنا) * (2) يعني مصدق، فالخلاف والاختلاف بينهم في معناهما
بالمصطلح الشرعي أو المتشرعي.
فالأول من تلك الأقوال: - وهو قول الكرامية -: إن الإيمان هو الإقرار
بالشهادتين فقط، مستدلين على ذلك بقوله (صلى الله عليه وآله): " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا
لا إله إلا الله، محمد رسول الله " (3).



(1) سورة الحجرات: 14.
(2) سورة يوسف: 17.
(3) الموطأ: 1 / 11، مختصر المزني: 256.
21
وأجيب عن هذا الاستدلال، بأن هذا تحديد للإسلام، لا الإيمان، والإسلام
أعم من الإيمان مستدلين على ذلك بما افتتحنا به فاتحة الموضوع وهو الآية الكريمة
من قوله تعالى: * (قالت الاعراب) * الآية، متممين هذا الاستدلال بتمام هذا الحديث
المذكور، وهو قوله (صلى الله عليه وآله): " فإذا قالوا ذلك حقنوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقنا،
وحسابهم على الله " (1) وهذا يدل على أنه (صلى الله عليه وآله) حدد الاسلام لا الإيمان، كما هو
واضح.
الثاني: - وهو قول جهم بن صفوان، وأبي الحسن الأشعري، وبعض الإمامية -:
إنه المعرفة، متمسكين في ذلك بما ورد من أن " أول الدين معرفته سبحانه " (2).
وردت هذه الدعوى ودليلها بأنه لو كانت المعرفة هي الإيمان، لم يقل
سبحانه: * (فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به) * (3) فقد جمع تعالى المعرفة مع الكفر،
والشئ لا يجتمع مع ضده، لأن الكفر ضد الإيمان.
وكذلك ردوها بقوله تعالى: * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) * (4) فقد جمع
تعالى وصفهم بالجحد مع استيقان النفس.
وكذلك ردوها بقوله تعالى، حكاية عن قول موسى (عليه السلام) لفرعون: * (لقد علمت
ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض) * (5) فأثبت لفرعون المعرفة، بل العلم،
ولم يكن فرعون من الإيمان على شئ.
فهذه الآيات دلت دلالة واضحة على أن الإيمان شئ، والمعرفة شئ آخر،



(1) المستدرك على الصحيحين: 3 / 38، مجمع الزوائد: 6 / 152.
(2) شرح نهج البلاغة: 1 / 72، عوالي اللئالئ: 4 / 126 ح 215.
(3) سورة البقرة: 89.
(4) سورة النمل: 14.
(5) سورة الإسراء: 102.
22
فلا تكون المعرفة هي الإيمان.
الثالث: - وهو مذهب أبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم -: إن الإيمان هو فعل
الواجبات وترك المحرمات، متمسكين في ذلك بظواهر آيات وروايات ظنوها دالة
على ما يذهبون، وسيأتي ذكرها وذكر ما في الاستدلال بها على المقصود من الردود.
الرابع: - وهو قول قدماء المعتزلة -: إن الإيمان عمل الجوارح من أنواع
الطاعات، مستدلين على ذلك بأن فاعل الحرام وتارك الواجب مخزي ولا شئ من
المؤمن بمخزي.
وهذا - كما تراه - استدلال من القائلين بهذا القول عن طريق القياس على هيئة
الشكل الثاني، فالنتيجة منه - بعد حذف المتكرر - تكون هكذا: لا شئ من فاعل
المحرم وتارك الواجب بمؤمن، وهذا هو المطلوب، وقد مر عليك مرارا: أن كل
قياس من الأقيسة - مهما كان شكله وشاكلته - لا ينتج النتيجة المطلوبة إلا حيث تتم
مقدمتاه، الأولى - وهي صغراه -، والثانية - وهي كبراه -.
إذن كان لزاما على هؤلاء القائلين، الاستدلال على تمامية كل من المقدمتين،
لتتم النتيجة، وقد استدلوا على الصغرى فقالوا: إن أحد الأقسام قاطع الطريق وهو
ممن يدخل النار لقوله تعالى: * (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون
في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا
من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم) * (1).
وكل من يدخل النار فهو مخزي، لقوله تعالى: * (ربنا إنك من تدخل النار فقد
أخزيته) * (2) هذا دليلهم على صغرى القياس. وقد استدلوا على كبراه، بقوله تعالى:



(1) سورة المائدة: 33.
(2) سورة آل عمران: 192.
23
* (يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه) * (1).
وأجيب على ذلك بالمنع في انحصار العذاب العظيم في دخول النار لجواز
نوع آخر من العذاب، وإن سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يكون مختصا بالكفار، حيث
إن الآية وردت فيمن كان يحارب الله ورسوله، والمؤمن لا يحارب الله ورسوله غالبا؟
سلمنا، ولكن لا نسلم أن نفي الخزي كان عن كل المؤمنين، لأنه في الآية مقيد
بالمصاحبين للنبي خاصة، فلا يعم غيرهم من المؤمنين.
ثم إنهم أضافوا إلى هذا الرد، أنهم قالوا: إن مما يدل على أن الإيمان ليس
عمل الصالحات، واجتناب المقبحات، ولا هي داخلة فيه، وجهان:
الأول: قوله تعالى: * (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم) * (2) قيد تعالى
الإيمان بنفي الظلم، فلا يكون - على هذا - نفي الظلم نفس الإيمان ولا جزءه، لأن قيد
الشئ هو غير ذلك الشئ.
الثاني: قوله تعالى: * (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * (3) عطف عملوا
الصالحات على الإيمان، فلو كان نفس الإيمان، أو جزءا منه لزم عطف الشئ على
نفسه، أو عطف الجزء على الكل، وهو غير معهود من كلام العرب، فلا يمكن حمل
كلام الله تعالى عليه، ثم أضف إلى ذلك قوله تعالى: * (وإن طائفتان من المؤمنين
اقتتلوا) * (4) فإنه تعالى أثبت الإيمان مع وجود القتال، فلو كان اجتناب المحرمات
نفس الإيمان وجزءا منه، لزم اجتماع الشئ مع ضده، أو مع ضد جزئه، وهذا غير



(1) سورة التحريم: 8.
(2) سورة الأنعام: 82.
(3) سورة البقرة: 25 و 277، سورة آل عمران: 57 وغيرها.
(4) سورة الحجرات: 9.
24
ممكن ولا معهود.
الخامس: - وهو المنقول عن أكثر السلف -: إنه اعتقاد بالجنان، وإقرار
باللسان، وعمل بالأركان، وهذا المذهب - كما عرفت - ينسب إلى أكثر السلف،
ونسبه بعض محققي العلماء إلى شيخنا السديد الشيخ المفيد رضوان الله عليه،
وأجيب عنه بما أجيب به عما تقدم من الأقوال، وأنت إذا عرفت ما مضى عليك،
عرفت ما يترتب على هذا القول من الفساد.
ونقل عن بعض العلماء المحققين من أصحابنا الإمامية قدس الله أسرارهم،
أنه التصديق باللسان والقلب معا، مستدلا على ذلك بأنه - لغة - التصديق، فيجب أن
يكون - شرعا - على حد ما هو في اللغة، وإلا لزم النقل - يعني نقل الشارع اللفظ عن
معناه اللغوي إلى معنى شرعي - والنقل خلاف الأصل، إذ الأصل بقاء اللفظ على
معناه، حتى يأتي اليقين بدليل يدل على النقل، وحيث لا دليل يقيني، فلا نقل.
مضافا إلى ذلك، أنه لو نقل في الشرع، لكان ذلك معلوما عند المتشرعين على حد
غيره من المنقولات الشرعية - إن ثبت أن هناك حقيقة شرعية -، كما ادعى ذلك في
كثير من الموضوعات، كالصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، وأمثالها من
الموضوعات. وحيث إن هذا النقل لم يكن عند أهل الشرع معلوما فلا نقل، وحيث
إنه ثبت أن الإيمان شرعا هو التصديق - كما هو في اللغة كذلك -، فحينئذ يقال: إن
ذلك التصديق لا يجوز أن يكون هو المعرفة القلبية، فقط لقوله تعالى: * (فلما جاءهم
ما عرفوا كفروا به) * (1) ولقوله تعالى: * (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) * (2) ولا
التصديق اللساني، لقوله تعالى: * (قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا



(1) سورة البقرة: 89.
(2) سورة النمل: 14.
25
أسلمنا) * (1) فلا بد من أن يكون هذا التصديق تصديقا بكلا الجارحتين: القلب
واللسان.
هذا هو القول الخامس وما له من دليل، وقد رده بعض محققي الأصحاب، بما
لا أراه صالحا لأن يكون ردا له، فلا نطيل الكلام بذكره، ولعلنا نختار هذا القول، فإنه -
في نظرنا - أقرب الأقوال إلى الصواب.
السادس: - وهو المنقول المنسوب إلى بعض أصحابنا والأشعرية -: إنه
التصديق القلبي فقط، مستدلين على ذلك بأنه - لغة - هو التصديق، ولما ورد نسبته
إلى القلب، عرفنا أن المراد بالتصديق القلبي لا أي تصديق كان، بل تصديق الرسول
في كل ما علم مجيئه به بالضرورة من الدين، ولا يجوز حمله على غيره، إذ يلزم ذلك
أن يكون لفظ الإيمان مشتركا بين معنيين، أو حقيقة في شئ ومجازا في الآخر،
وكلاهما خلاف للأصل، كما هو مقرر في محله من علم الأصول. فعلى هذا يكون
النطق باللسان مبينا لظهوره، وكاشفا عن حصوله، لا جزءا داخلا في حقيقته، وهكذا
الأعمال الصالحات ثمرات مؤكدات، لا أنها أجزاء داخلات.
هذه هي التي ظفرنا بها من الأقوال في تحقيق حقيقة الإيمان، وقد عرفت أن
الذي اخترناه هو أن الاسلام، هو الاعتراف اللساني فقط، والإيمان هو الاعتراف
اللساني والاعتقاد القلبي، والله أعلم بحقيقة الحال، وفوق كل ذي علم عليم.
بقي شيئان، هما من توابع البحث عن الإيمان:
أولهما: أن فاعل الكبيرة، هل هو مؤمن أو لا؟
الذي ذهب إليه أصحابنا الإمامية، وعليه آخرون من الفرق الإسلامية، أنه



(1) سورة الحجرات: 14.
26
مؤمن لصدق تعريف الإيمان عليه، فإنه التصديق قلبا أو قلبا ولسانا، وكلاهما
حاصلان فيه، إذ هو مصدق، غاية الأمر أنه غير منطبق عليه:
وذهب آخرون - وينسب هذا إلى الحسن البصري المعروف -: إلى أنه
منافق.
وذهب آخرون - وينسب هذا القول إلى الزيدية -: إلى أنه كافر نعمة.
وذهب آخرون - وينسب ذلك إلى الخوارج -: إلى أنه كافر بقول مطلق.
وذهب آخرون - وينسب ذلك إلى فرقة من الخوارج يقال لهم الأزارقة -: إلى
أنه مشرك.
وذهب آخرون - وينسب هذا القول إلى المعتزلة -: إلى أنه لا مؤمن ولا كافر،
أما أنه غير مؤمن فلأنه ليس بفاعل للطاعات ولا تارك للمعاصي، وأما أنه غير كافر
فلإقراره، ولإقامة الحدود عليه، ودفنه في مقابر المسلمين، وغسله عند موته
والصلاة عليه، ويقال لهذا عند المعتزلة: " منزلة بين المنزلتين " يعني: منزلة بين الكفر
والإيمان.
هذه هي الأقوال في تحقيق حقيقة صفة فاعل الكبيرة، وقد عرفت أن ما
ذهب إليه أصحابنا الإمامية، هو أول هذه الأقوال المنقولة.
أما قول الحسن البصري من أنه منافق، فيدفعه ما سيأتيك عن قريب إن شاء
الله، وأنه غير منطبق عليه، اللهم إلا أن يكون له مصطلح خاص، ولا مشاحة في
الاصطلاح.
وأما قول الزيدية من أنه كافر نعمة، فيدفعه أن كفر النعمة يجتمع مع الإيمان،
غاية الأمر أنه معصية، فهم إن أرادوا ذلك فما جاءوا بشئ جديد.

27
وأما قول الخوارج من أنه كافر بقول مطلق، فهو قول يرده ما مر عليك من
صريح الآيات التي جمعت للمكلف صفة المعصية مع صفة الإيمان، وهكذا قول
فريق آخر منهم بأنه مشرك، بل هو أسوأ من سابقه.
وأما قول المعتزلة، فلأنه قد يعتبر أنه خلاف إجماع المسلمين في المسألة،
فإنك قد عرفت أن المسلمين بين قائل بكفر مرتكب الكبيرة، وبين قائل بإيمانه مع
فسقه، فالقول بإثبات منزلة بين المنزلتين إحداث قول ثالث فهو خارق للاجماع،
مضافا إلى عدم معقوليته في نفسه.
ثانيهما: أن الإيمان هل يقبل الزيادة والنقصان، أو لا؟
قال بعض محققي الأصحاب: إن الإيمان حيث كان، عندنا عبارة عن
التصديق القلبي أو التصديق القلبي واللساني بكل ما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله)، كان عبارة
عن أمر واحد لا يقبل الزيادة والنقصان بحسب كثرة الأعمال وقلتها.
وأقول: هذا الكلام كلام على طريق المتكلمين، أما لو حاولنا الكلام بلسان
الحكماء فقد يزداد الأمر وضوحا على وضوح، وذلك أن يقال - على سبيل الاجمال
-: إن الإيمان من الكيفيات النفسانية، والكيفيات النفسية كالكيفيات الخارجية في
الأحكام سواء بسواء، فإن قبلت الكيفيات الخارجية الزيادة والنقصان قبلتها
الكيفيات النفسية.
إذن فلنبحث عن معنى الزيادة والنقصان، والشدة والضعف، لنعرف هل أننا
نتعقلهما في هذا الموضوع؟
يرى الحكماء أن الشدة والضعف حركة الموجود في ناحية الكيف كما أن
الزيادة والنقصان في جانب الكم، والحركة عندهم سواءا كانت في جانب الكم أم

28
كانت في جانب الكيف، هي أن يكون للموضوع في كل آن مفروض من زمان
الحركة، فرد من تلك المقولة يخالف الفرد الآخر الذي يكون له في آن آخر مخالفة
نوعية، أو صنفية، أو غير ذلك. وبعبارة واضحة: هي عبارة عن ذهاب فرد من
المتحرك وحصول فرد آخر مكانه.
ونحن لو آمنا بهذا التعريف للحركة فلا نستطيع معه أن نقول: إن الإيمان يقبل
الزيادة والنقصان، اللهم إلا إذا اعتقدنا - كما اعتقده فريق آخر من المتكلمين
والحكماء - أن الحركة عبارة عن تغير حال تلك المقولة في نفسها وحصول صفة
زائدة على ذات المتحرك لا توجب تغييرا في ذات المتحرك نفسه، إنما المتغير هو
الصفة مع بقاء الذات، لو آمنا بهذه الفكرة فلا نجدنا بمشكلة من اتصاف الإيمان
بالزيادة والنقصان، لكن هذا القول مردود عند محققي المتكلمين والحكماء، بل كاد
أن يكون بطلانه عندهم بمرتبة لا تقبل الجدل والمراء، ولقد سبق لنا مثل هذا القول
في تعدد مراتب اليقين عند علماء الأخلاق في موضوع نشرته مجلة الغري الغراء
تباعا، فانظره إن أحببت النظر إليه.
هذا ما يتعلق - أو بعض ما يتعلق - بالكلام على صفتي الاسلام والإيمان،
ويبقى الكلام في معرفة الكفر والنفاق، أعاذنا الله تعالى من الكفر والنفاق.
عرف الكفر - عند بعضهم -: بأنه عدم تصديق النبي (صلى الله عليه وآله) في بعض ما علم
مجيئه به بالضرورة.
وعرفه آخرون: بأنه إنكار ما علم ضرورة مجئ الرسول (صلى الله عليه وآله) به.
وعرفه آخرون: بأنه فعل القبيح والإخلال بالواجب.
هذه هي تعاريف الكفر، أو بعض تعاريفه.

29
وهو على التعريف الأول: أعم من التكذيب، فيكون شاملا للكافر الخالي عن
التصديق والتكذيب.
وعلى الثاني: لا يشمل إلا المنكر خاصة،
وعلى الثالث: يشمل المنكر والمعتقد الذي لا يعمل على طبق ما يعتقد.
وليعلم - قبل كل شئ - هو أن المقابلة بين الكفر والإيمان، هل هي مقابلة
العدم والملكة أو مقابلة المتضادين، بمعنى أنهما أمران وجوديان يتعاقبان على
موضوع واحد كالسواد والبياض، وعلى تقدير كونهما ضدين فهل هما من الضدين
اللذين لا ثالث لهما، مثل الحركة والسكون، أو هما من الضدين اللذين يتخللهما
ثالث مثل البياض والسواد؟
فإن بنينا على أن المقابلة بينهما مقابلة العدم والملكة، أو بنينا على أنهما
ضدان ليس بينهما ثالث فحينئذ لا يعقل تخلل الواسطة بين الكفر والإسلام، غاية
الأمر أن حقيقة الكفر على الأول - وهو مقابلة العدم والملكة - هو عدم التصديق، أعم
من أن يكون هناك تكذيب أو لم يكن، وعلى الثاني - وهو مقابلة المتضادين اللذين
ليس بينهما ثالث - تكون حقيقة الكفر هو التكذيب.
أما لو بنينا على أن المقابلة بالكفر والإيمان هي مقابلة التضاد لكن على نحو
الضدين اللذين يكون بينهما ثالث، مثل تقابل البياض والسواد، فحينذاك تتخلل
الواسطة بين الكفر والإيمان، وهذا التحقيق يثمر ثمره في مثل الشاك الذي لا تصديق
عنده ولا تكذيب، وفي مثل من لم تبلغه دعوة الاسلام، وفي زمن الفترة، وفي مثل
الفاحص ابتداءا عن الأديان، فهؤلاء وأمثال هؤلاء، هم - بناء على الأول والثاني -
محشورون في زمرة الكافرين لعدم التصديق، وعلى الثالث لا من هؤلاء ولا من
هؤلاء.

30
هذا بالنسبة إلى صدق الأسماء، من دون نظر إلى ترتيب الآثار، أما لو نظرنا إلى
الآثار المترتبة عليهم في هذه الحياة أو الحياة الثانية، فربما نقول: يختلف الحكم
باختلاف هذه الأقسام، فليس - مثلا - حكم الشاك وقد بلغته الدعوة حكم الشاك
حيث لم تبلغه الدعوة، وقد مر لذلك بعض البيان فيما سلف ولا نطيل الكلام في
المقام.
أما الفسق: فهو في اللغة: الخروج عن الشئ، وسميت الفارة فويسقة،
لخروجها من بيتها، وبهذا المعنى سمي الفاسق فاسقا في اصطلاح أهل الدين، ذلك
لخروجه عن طاعة الله.
وموجب الفسق هو ارتكاب الكبائر والإصرار على الصغائر من الذنوب.
أما النفاق: فهو في اللغة: إبطان الشخص خلاف ما يظهر، ومنه النفقاء، وهو
إحدى حجر اليربوع ليكتمها ويظهر غيرها، وبهذا المعنى سمي المنافق منافقا ذلك
أنه يبطن الكفر ويظهر الإيمان، والمنافق أضر على الدين وأهل الدين من الكافر
الصريح، إذ الكافر الصريح يعرف فيجتنب، وهذا متستر بستار الإيمان فلا يعرف،
فقد يضر الدين باسم الدين، وهذا المعنى اقتبسناه من مشكاة حديث من الأحاديث
النبوية الشريفة، مردد في الألسن، مسموع في الآذان، أعاذنا الله والمؤمنين من الكفر
والفسق والنفاق.

31
القرآن وعذاب القبر، أو البرزخ
* (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) * (1)
اعلم أن الكلام في مسألة عذاب القبر، أو البرزخ، يقع في مراحل:
المرحلة الأولى: في إثباته.
قد نقول: إنه اتفقت الأمة على ذلك قبل ظهور المخالفين، والمخالفون في
ذلك شذاذ قليلون، لشبهة واهية سيأتيك ما فيها في العاجل القريب.
احتج المثبتون لذلك بأنه أمر ممكن أخبر بوقوعه المخبر الصادق فيجب
الاعتقاد به، أما إمكانه فظاهر، وذلك أنه لا استبعاد في أن يعمل العقاب في دار
التكليف على وجه لا يمتنع منه التكليف، كما في قطع يد السارق، كما قال تعالى:
* (فاقطعوا أيديهما) * (2)، وقال تعالى: * (ذلك لهم خزي في الدنيا) * (3) إلى غير ذلك



(1) سورة المؤمنون: 100.
(2) سورة المائدة: 38.
(3) سورة المائدة: 33.
33
من الأنواع، وليس هو بأشد وأكثر مؤنة من عذاب يوم القيامة.
وأما إخبار الصادق به، فقد وقع ذلك في آيات وروايات:
أما الآيات: فمنها: قوله تعالى: * (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم
تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب) * (1).
ووجه الاستدلال بهذه الآية: أنه تعالى عطف في هذه الآية عذاب القيامة
على العذاب الذي هو عرض النار صباحا ومساءا، فعلم أنه غيره، لأن مقتضى
العطف مغايرة المتعاطفين، فيكون هذا العذاب المذكور قبل قيام الساعة، فهو في
القبر.
ومنها: قوله تعالى: * (أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) * (2) ووجه الاستدلال بهذه
الآية: أنه تعالى ذكر موتتين: إحداهما في الدنيا، والأخرى في القبر، وذكر إحياءين:
أحدهما في الدنيا، والآخر في القبر، ولم يذكر الثالث، لأنه معلوم.
وأصرح وأوضح من هذه الآية دلالة هو قوله تعالى: * (كيف تكفرون بالله
وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون) * (3) حيث ذكر تعالى
الرجوع - وهو المعاد يوم القيامة - بعد إحياءين وإنما يكون بإحياء ثالث.
احتج المنكرون بقوله تعالى: * (لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة
الأولى) * (4) ووجه استدلالهم بهذه الآية هو أن الأموات لو أحيوا في القبر لذاقوا
موتتين.



(1) سورة غافر: 46.
(2) سورة غافر: 11.
(3) سورة البقرة: 28.
(4) سورة الدخان: 56.
34
وأجاب المثبتون عن هذه الآية: أن ذلك وصف أهل الجنة وضمير فيها
للجنة، يعني: لا يذوق أهل الجنة في الجنة الموت، فلا ينقطع نعيمهم كما انقطع
نعيم أهل الدنيا بالموت، فلا دلالة في الآية على انتفاء موتة أخرى بعد المسألة وقبل
دخول الجنة.
وأجاب المنكرون بأن هذه ظواهر لفظية لا تضاد المعقول، وحيث إنها مخالفة
للمعقول فلا بد من التأويل، ووجه مخالفتها للمعقول: هو أننا نرى شخصا يصلب
ويبقى مصلوبا إلى أن تذهب أجزاؤه، ولا نشاهد فيه إحياءا ولا مسألة، وأبلغ منه
من أكلته السباع والطيور وتفرقت أجزاؤه في بطونها وحواصلها، وأبلغ منه من احرق
وصار رمادا وذري في الرياح العاصفة شمالا وجنوبا وقبولا ودبورا. فإننا نعلم عدم
إحيائه وعذابه ومساءلته بالضرورة.
وأجاب المثبتون عن أمر المصلوب: بأنه لا بعد في الإحياء والمسألة مع
عدم المشاهدة، ولذلك في خوارق الإعجاز الكونية شواهد وشواهد، وأما الصورتان
الاخريان فأجيب عنهما: بأن التمسك بهما مبني على اشتراط البنية في الحياة، وهو
ممنوع، فلا بد في أن تعاد الحياة إلى الأجزاء المتفرقة أو بعضها وإن كان مخالفا
للعادة، وما أكثر خوارق العادة في مقدوره سبحانه، وسيأتي نوع توضيح لذلك في
الروايات.
أما الروايات فهي كثيرة وافرة، والنبويات المتواترة بين العامة والخاصة كثيرة،
ويكفي قليلها من كثيرها.
منها: ما اتفق الفريقان عليه، وهو قوله (صلى الله عليه وآله): " القبر روضة من رياض الجنة، أو
حفرة من حفر النيران " (1).



(1) الخرائج والجرائح: 1 / 172 ذيل ح 2، دعوات الراوندي: 244.
35
وكما روي أنه (صلى الله عليه وآله) مر بقبرين فقال: " إنهما يعذبان وما يعذبان عن كبيرة، بل
لأن أحدهما كان لا يستنزه عن البول، وأما الثاني فكان يمشي بالنميمة " (1).
وكقوله (صلى الله عليه وآله): " واستنزهوا عن البول فإن عامة عذاب القبر منه " (2).
وكقوله (صلى الله عليه وآله) في حق سعد بن معاذ: " لقد ضغطته الأرض ضغطة اختلفت بها
ضلوعه " (3).
إلى غير ذلك من الأحاديث التي هي عند الكل صحاح.
المرحلة الثانية: في بيان من أو ما هو المعذب في البرزخ، هل هو الروح في
بدنها أو الروح في بدن آخر، أو الروح مستقلة؟ وعلى التقدير الأول: فما هي كيفيته؟
وعلى الثاني: فما هي كيفيته؟ وعلى التقدير الثالث: فما هي كيفيته؟
ذهب فريق إلى أن المعذب هو الروح في بدنها على اختلاف في ذلك، فقول
بأن الروح تعود إلى الميت عند القبر إلى حقويه، وقول بأن الروح كلها تعود له،
ودليلهم في ذلك: أن الأدلة دلت على أن الميت يسأل في قبره عن أشياء ولا يسأل
إلا الحي، فلا بد من عود الروح، وبأن الروح لم تفارقه ولكنها لا تستتبع الحركة فهو
كالحي في كثير من الشؤون.
ودليلهم على هذا ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) من طريق الفريقين من أنه (صلى الله عليه وآله) وقف
على قليب بدر مخاطبا للمشركين المقتولين في ذلك اليوم: بئس الجيران كنتم
لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، أخرجتموه وطردتموه، ثم اجتمعتم عليه وحاربتموه، فقد وجدت



(1) سنن الدارمي: 1 / 188، عوالي اللئالئ: 1 / 208 ح 43.
(2) أصول السرخسي: 1 / 133، الناصريات: 89.
(3) فيض القدير - شرح الجامع الصغير -: 5 / 424.
36
ما وعدني ربي حقا، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟
فقال له عمر: وما خطابك يا رسول الله لهام قد صدئت؟
فقال له (صلى الله عليه وآله): يا بن الخطاب، فوالله ما أنت بأسمع منهم، وما بينك وبين أن
تأخذهم الملائكة بمقامع من حديد إلا أن أعرض بوجهي عنهم هكذا (1).
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم البصرة، أنه ركب بعد انفصال الحرب فصار
يتخلل الصفوف حتى مر على كعب بن سور - وكان قاضي البصرة، ولاه إياها عمر بن
الخطاب، فأقام بها قاضيا زمن عمر وعثمان، فلما وقعت الفتنة في البصرة علق في
عنقه مصحفا وخرج بأهله وولده يقاتل أمير المؤمنين (عليه السلام) فقتلوا بأجمعهم، فوقف
أمير المؤمنين (عليه السلام) عليه وهو صريع بين القتلى -، فقال: أجلسوا كعب بن سور،
فاجلس بين نفسين، فقال (عليه السلام): يا كعب بن سور، قد وجدت ما وعدني ربي حقا فهل
وجدت ما وعدك ربك حقا؟ ثم قال (عليه السلام): أضجعوا كعبا.
وسار قليلا فمر بطلحة بن عبد الله صريعا، فقال (عليه السلام): أجلسوا طلحة،
فأجلسوه، فقال (عليه السلام): يا طلحة، وقال ما قاله لكعب، ثم قال (عليه السلام): أضجعوا طلحة.
فقال له رجل من أصحابه: يا أمير المؤمنين، ما كلامك لقتيلين لا يسمعان
منك؟
فقال للرجل: والله لقد سمعوا كلامي كما سمع أهل القليب كلام رسول
الله (صلى الله عليه وآله) (2).
هذا مذهب من يقول بتعذيب الروح في بدنها، وأما من يقول بأن المعذب هو



(1) من لا يحضره الخطيب: 1 / 180 ح 536.
(2) إرشاد المفيد: 1 / 256، تصحيح اعتقادات الامامية: 93.
37
الروح في بدن آخر وذلك المعبر عنه بالبدن الثاني - ومعناه صورة أخرى شفافة لطيفة
مشابهة لصورة البدن - فدليله في ذلك رواية، بل روايات،
منها: ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في خبر ورد فيه أنه (عليه السلام) سأل بعض
أصحابه عما يقول الناس في أرواح المؤمنين بعد موتهم، فقال: يقولون في حواصل
طيور خضر.
فقال: " سبحان الله، المؤمن أكرم على الله من ذلك، إلى أن قال (عليه السلام): فإذا قبضه
الله إليه صير تلك الروح إلى الجنة في صورة كصورته " الخبر (1).
وأما قول من قال: إن المعذب هو الروح المستقلة فقد ينحل قوله إلى قولين:
قول بأن الروح نفسها تتجسد فيقع عليها مباشرة الثواب والعقاب، ودليل هذا القول
رواية أبي بصير، عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " إن الأرواح في صفة الأجساد في
شجر الجنة تتعارف وتسأل، فإذا قدمت الروح على الأرواح تقول: دعوها فإنها
أقبلت من هول عظيم، ثم يسألونها: ما فعل فلان وفلان؟ فإن قالت لهم: تركته،
ارتجوه، وإن قالت لهم: قد هلك، قالوا: قد هوى، قد هوى " (2).
والقول الآخر: إن الروح وهي في بدنها تعذب أو تثاب ويكون مثالها في
الحس الرؤيا المنامية، فإن المعذب والمنعم هو الروح لكن في ظرف البدن، وقد
جاءت رواية في الكافي: أن الرؤيا المنامية لم تكن موجودة وإنما حدثت لأجل قصة
في واقعة مضمونها: أن نبيا من الأنبياء كذبه قومه حيث بشرهم بالثواب وأنذرهم
بالعقاب، وهزأوا منه، وسخروا به، واستبعدوا ذلك عند الموت، فخلق الله تعالى
الرؤيا تنبيها لهم على تنعم الأرواح أو عذابها ليصدقوه.



(1) أمالي الطوسي: 419 ذيل ح 942، بحار الأنوار: 6 / 229 ح 32.
(2) تفسير الميزان: 5 / 75.
38
المرحلة الثالثة: في أن عذاب القبر عام لكل ميت أم هو مخصوص ببعض
الأموات؟
الذي يظهر من كثير من الأخبار أن هذا العذاب مخصوص بمن محض الإيمان
محضا أو محض الكفر محضا، أما من عدا ذلك فمرفوع عنه.
قال شيخنا المفيد (رضي الله عنه) - حسبما نقل عنه في جواب المسائل السروية (1) -
حيث سئل: ما قولكم أدام الله تأييدكم في عذاب القبر وكيفيته؟ ومتى يكون؟ وهل
ترد الأرواح إلى الأجساد عند التعذيب أم لا؟ وهل يكون العذاب في القبر أو يكون
بين النفختين؟
قال أعلى الله مقامه في الجواب: الكلام في عذاب القبر طريقه السمع دون
العقل، وقد ورد عن أئمة الهدى (عليهم السلام) أنه ليس يعذب في القبر كل ميت، وإنما يعذب
من جملتهم من محض الكفر محضا، ولا ينعم كل ماض لسبيله، وإنما ينعم منهم من
محض الإيمان محضا، فأما من سوى هذين الصنفين فإنه يلهى عنهم.
وكذلك روي أنه لا يسأل في قبره إلا هذان الصنفان خاصة، فعلى ما جاء به
الأثر من ذلك يكون الحكم ما ذكرناه، وأما عذاب الكافر في قبره ونعيم المؤمن فيه
فإن الخبر أيضا قد ورد بأن الله تعالى يجعل روح المؤمن في قالب مثل قالبه في الدنيا
في جنة من جنانه ينعم فيها إلى يوم الساعة، فإذا نفخ في الصور أنشأ جسده الذي
بلي في التراب وتمزق ثم أعاده إليه، وحشره إلى الموقف، وأمر به إلى جنة الخلد،
فلا يزال منعما ببقاء الله عز وجل غير أن جسده الذي يعاد فيه لا يكون على تركيبه
في الدنيا، بل تعدل طباعه وتحسن صورته، فلا يهرم مع تعديل الطباع، ولا يمسه



(1) ص 62 - 63.
39
نصب في الجنة ولا لغوب.
والكافر يجعل في قالب كقالبه في الدنيا في محل عذاب يعاقب به، ونار
يعذب بها حتى الساعة، ثم أنشأ جسده الذي فارقه في القبر ويعاد إليه، ثم يعذب به
في الآخرة عذاب الأبد، ويركب أيضا جسده تركيبا لا يفنى معه، وقد قال الله عز
اسمه: * (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون
أشد العذاب) * (1).
وقال تعالى في قصة الشهداء: * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا
بل أحياء عند ربهم يرزقون) * (2) فدل على أن العذاب والثواب يكون قبل القيامة
وبعدها، والخبر وارد بأنه يكون مع فراق الروح الجسد من الدنيا، والروح هاهنا عبارة
عن الجوهر الفعال البسيط وليس بعبارة عن الحياة التي يصح معها العلم والقدرة،
لأن هذه الحياة عرض لا تبقى، ولا يصح الإعادة، فهذا ما عول عليه النقل، وجاء به
الخبر.
وقال شيخنا المجلسي قدس الله روحه في البحار (3):
اعلم أن الذي ظهر من الآيات الكثيرة، والأخبار المستفيضة، والبراهين
القاطعة، هو أن النفس باقية بعد الموت، إما معذبة إن كان ممن محض الكفر، أو
منعمة إن كان ممن محض الإيمان، ويلهى عنه إن كان من المستضعفين، ويرد إليه
الحياة في القبر إما كاملا أو إلى بعض بدنه، كما مر في بعض الأخبار، ويسأل بعضهم
عن بعض العقائد وبعض الأعمال، ويثاب ويعاقب بحسب ذلك، وتضغط أجساد



(1) سورة غافر: 46.
(2) سورة آل عمران: 169.
(3) بحار الأنوار: 6 / 270 ح 128.
40
بعضهم، وإنما السؤال والضغطة في الأجزاء الأصلية، وقد يرتفعان عن بعض
المؤمنين كمن لقن أو مات ليلة الجمعة، أو يومها، أو غير ذلك مما مر. ثم تتعلق
الروح بالأجساد المثالية اللطيفة، الشبيهة بأجسام الجن والملائكة المضاهية في
الصورة للأبدان الأصلية بسبب تعلقها بها، وبذلك يستقيم جميع ما ورد في ثواب
القبر وعذابه، واتساع القبر وضيقه، وحركة الروح وطيرانه في الهواء وزيارته لأهله
ورؤية الأئمة (عليهم السلام) بأشكالهم، ومشاهدة أعدائهم معذبين، وسائر ما ورد في أمثال
ذلك، فالمراد بالقبر في أكثر الأخبار ما تكون الروح فيه في عالم البرزخ، وهذا يتم
على تجسم الروح وتجرده مع ورود الأجساد المثالية في الأخبار المعتبرة المؤيدة
بالأخبار المستفيضة التي لا محيص عن القول بها، وليس هذا من التناسخ الباطل في
شئ، إذ أن التناسخ لم يتم دليل عقلي على امتناعه، إذ أكثرها عليلة مدخولة، ولو
تمت، لا يجري أكثرها فيما نحن فيه، كما لا يخفى على من تدبر فيها، والعمدة في
نفيه ضرورة الدين وإجماع المسلمين، وظاهر أن هذا غير داخل فيما عقد الاجماع
والضرورة على نفيه، كيف وقد قال به كثير من المسلمين، كشيخنا المفيد (رحمه الله) وغيره
من علماء المتكلمين والمحدثين، بل لا يبعد القول بتعلق الأرواح بالأجساد المثالية
عند النوم أيضا، كما يشهد به ما يرى في المنام، وقد وقع في الأخبار تشبيه حال
البرزخ وما يجري فيها بحال الرؤيا وما يشاهد فيها كما مر، بل يمكن أن يكون
للنفوس القوية العالية أجساد مثالية كثيرة كأئمتنا (عليهم السلام) حتى لا يحتاج إلى بعض
التأويلات والتوجيهات كثيرا في حضورهم عند كل ميت، وسائر ما يأتي في كتاب
الإمامة في غرائب أحوالهم من عروجهم إلى السماوات كل ليلة جمعة، وغير ذلك.
المرحلة الرابعة: هو أن المستفاد من الآيات والروايات - مما مر سابقا - هو أن
العذاب في القبر والثواب فيه متصل إلى يوم القيامة، في حين أن ثقة الاسلام الكليني

41
طيب الله مرقده روى في الكافي (1) - بسند حسن كالصحيح - عن زرارة، قال: قلت
لأبي جعفر (عليه السلام): أرأيت الميت إذا مات، لم تجعل له الجريدتان؟ قال: " يتجافى عنه
العذاب والحساب ما دام العود رطبا "، قال: " والعذاب كله في يوم واحد في ساعة
واحدة، قدر ما يدخل القبر ويرجع القوم وإنما جعلت السعفتان لذلك فلا يصيبهما
عذاب ولا حساب بعد حقوقهما إن شاء الله ".
وقد جمع بين هذه المختلفات بوجوه ثلاثة:
أحدها: أن يجعل اتصال العذاب مختصا بالكافر كما تضمنه بعض الأخبار،
والانقطاع بالنسبة إلى المؤمن العاصي.
ثانيها: أن يكون المراد أن عذاب الروح في بدنه الأصلي يوم يرجع إليه يكون
في ساعة واحدة.
ثالثها: أن يكون المراد أن ابتداء جميع أنواع العذاب وأقسامه في الساعة
الأولى، فإذا لم يبتدأ فيها يرتفع العذاب رأسا.
المرحلة الخامسة: في أن الاعتقاد في مثل هذه الأمور واجب، لكن يكفي فيه
الاجمال، ولا يشترط التفصيل، بمعنى أنه يجب أن يعتقد المكلف أن في القبر
عذابا، لكن ما هو؟ وكيف هو؟ فإن هذا ليس واجب الاعتقاد، فإن الاجماع إنما
حصل على الصورة الإجمالية، وفي التفاصيل خلاف كثير، والآيات مجملة البيان،
والروايات مختلفة المتون مختلفة الأسانيد، ثم هي بعد ذلك عرضة للآراء واستنباط
المستنبطين وفهم السامعين، إذ الكثير منها ليس من النصوص إنما هي الظواهر،
ومحتملات الظواهر كثيرة.



(1) ج 3 / 152 ح 4.
42
لذلك نرى الغزالي قال في الإحياء (1): اعلم أن لك ثلاث مقامات في التصديق
بأمثال هذا:
أحدها: وهو الأظهر والأصح، أن نصدق بأن الحية موجودة تلدغ الميت ولكنا
لا نشاهد ذلك، فإن تلك العين لا تصلح لمشاهدة الأمور الملكوتية في كل ما يتعلق
بعالم الآخرة، فهو من عالم الملكوت، أما ترى أن الصحابة كيف كانوا يؤمنون بنزول
جبرئيل وما كانوا يشاهدونه ويؤمنون أنه يشاهده؟ فإن كنت لا تؤمن بهذا، فتصحيح
الإيمان بالملائكة والوحي عليك أوجب، وإن آمنت به وجوزت أن يشاهد النبي ما
لا تشاهده الأمة، فكيف لا يجوز هذا في الميت؟
المقام الثاني: أن تتذكر أمر النائم فإنه يرى في منامه حية تلدغه وهو يتألم
بذلك حتى يرى في نومه أنه يصيح ويعرق جبينه، وقد ينزعج من مكانه، كل ذلك
يدركه من نفسه ويتأذى به كما يتأذى اليقظان، وأنت ترى ظاهره ساكنا ولا ترى في
حواليه حية والحية موجودة في حقه والعذاب حاصل، ولكنه في حقك غير
مشاهد، وإن كان العذاب ألم اللدغ، فلا فرق بين حية تتخيل أو حية تشاهد.
المقام الثالث: إن الحية بنفسها لا تؤلم، بل الذي يلقاك منها هو السم، ثم السم
ليس الألم، بل عذابك في الأثر الذي يحصل فيك من السم، فلو حصل ذلك من غير
سم فكان ذلك العذاب قد توفر، وقد لا يمكن تعريف ذلك العذاب إلا بأن يضاف
إلى السبب الذي يفضي إليه في العادة، والصفات المهلكات تنقلب مؤذيات
ومؤلمات في النفس عند الموت فتكون آلامها كآلام لدغ الحيات من غير وجود
الحيات.



(1) إحياء علوم الدين: 4 / 500 - 503، بحار الأنوار: 6 / 275.
43
فإن قلت: ما الصحيح من هذه المقامات الثلاثة؟
فاعلم أن من الناس من لم يثبت إلا الثالث، وإنما الحق الذي انكشف لنا من
طريق الاستبصار أن كل ذلك في حيز الإمكان، وأن من ينكر بعض ذلك لضيق
حوصلته وجهله باتساع قدرة الله تعالى وعجائب تدبيره، منكر من أفعال الله تعالى ما
لم يأنس به وما لم يألفه، وذلك جهل وقصور، بل هذه الطرق الثلاثة في التعذيب
ممكنة والتصديق بها واجب، ورب عبد يعاقب بنوع واحد من هذه الأنواع الثلاثة،
هذا هو الحق فصدق به.
ثم قال: وسؤال منكر ونكير حق لقوله (صلى الله عليه وآله): " إذا قبر الميت أتاه ملكان أسودان
أزرقان يقال لأحدهما: منكر، وللآخر: نكير، يقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل -
يعني النبي محمد -؟ فإن كان مؤمنا قال: هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله،
وأشهد أن محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله) " (1)، إلى أن قال: والأحاديث الظاهرة الدالة على
عذاب القبر ونعيمه، وسؤال الملكين أكثر من أن يحصر بحيث يبلغ قدره المشترك
حد التواتر وإن كان كل منهما أخبار آحاد، واتفق عليه السلف الصالح قبل ظهور
المخالفين، وأنكره مطلقا ضرار بن عمر، وأكثر متأخري المعتزلة وبعض الروافض
متمسكين بأن الميت جماد فلا يعذب، وما سبق حجة عليهم، ومن تأمل عجائب
الملك والملكوت وغرائب صنعه تعالى لم يستنكف عن قبول أمثال هذا، فإن
للنفس نشآت، وفي كل نشأة تشاهد صورا تقتضيها تلك النشأة، فكما أنها تشاهد في
المنام أمورا لم تكن تشاهد في اليقظة فكذا تشاهد في حال انخلاع البدن أمورا لم
تكن تشاهد في الحياة، وإلى هذا يشير قول من قال: " الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا "
انتهى.



(1) سنن الترمذي: 2 / 267 ح 1077، بحار الأنوار: 6 / 276.
44
أقول: لا أدري - وليتني دريت - من الذي أراده بقوله: بعض الروافض؟ فهل
أراد بهم الشيعة الإمامية المتمسكين بأهل بيت نبيهم، وهم سفن النجاة؟ فهذا افتراء
بلا مراء، وليس عدلا، ولا يسوغ في شرع المروة والإنصاف أن ينسب إليهم ما هم
منه براء، وهذه كتبهم ماثلة للعيون والآذان في كل زمان ومكان، فقبيح بمن يحاول
أن ينقل الحقائق - كما هي حقائق - أن يشوه النقل بأغراض العصبية، ولكنها شنشنة
أعرفها من أخزم، وكم لها أمثالها في عصرنا الحديث، فحدث ولا حرج، ولكن
الحقيقة تأبى إلا أن تظهر جلية بيضاء، لا تسترها حجب العصبية والأهواء، والله تعالى
من وراء ذلك، ولي الحساب يوم الحساب.
هذا وقد بقيت هناك أشياء لعله ليس في التعرض لها كبير اهتمام:
منها: أن سؤال القبر هل يتناول الصبيان؟ قال قائل بذلك، ولكن الحق خلافه،
إذ السؤال في القبر إنما يتبع المسؤولية، ووضع قلم التكليف حيث لا مسؤولية ولا
تكليف، فلا سؤال، وإدخال أطفال المؤمنين في الجنة - بناء على القول به - تفضل
منه سبحانه، لا استحقاق.
ومنها: هل أن الأنبياء يسألون أو لا يسألون؟ قال قائل بالنفي، وقال قائل
بالإثبات، وهذا - كما تراه - كلام لا ثمرة فيه، في الاعتقاد ولا في العمل.
ومنها: أنه كيف يعذب المصلوب عذاب القبر وهو شئ مر الإشكال فيه
والجواب عنه في بدء هذه البحوث، ويضاف إلى ذلك: أن كثيرا من الأخبار وردت
بأنه يضغطه الهواء، فالجو قبره، وعذابه جنس ما قبر فيه.

45
القرآن وقدمه أو حدوثه
* (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون) * (1)
لا نعرف هذه المسألة - أعني قدم القرآن وحدوثه -، ولا نستطيع أن نقدرها
حق قدرها إلا إذا عرفنا شيئا هو أن كلام الله تعالى حادث أو قديم، فإن هذا فرع عن
ذاك، ذلك أن القرآن الكريم - بإجماع المسلمين - كلام الله تعالى، فالكلام في حدوثه
أو قدمه، كلام في حدوث كلام الله أو قدمه، ونحن حيث استوفينا الكلام في أمر هذه
القضية في كتابنا الكبير، فلنقتصر على شئ أو بعض شئ مما ذكرناه هناك.
لا نجدنا بحاجة إلى طرق باب الاستدلال عن طريق النقل على إثبات هذه
الصفة له تعالى - أعني صفة الكلام -، وأنه لتكفينا مؤنة كل دليل وتدليل آيات الله في
كتاب الله الكريم، فإننا نرى ذلك في قوله سبحانه: * (وكلم الله موسى تكليما) * (2)،
ونراه أيضا في قوله عز اسمه: * (حتى يسمع كلام الله) * (3).



(1) سورة الأنبياء: 2.
(2) سورة النساء: 164.
(3) سورة التوبة: 6.
47
أما الروايات فقد لا نقف في استيفائها على حد محدود، ويضاف إلى ذلك
إجماع المسلمين عامة بلا استثناء.
أما لو حاولنا الاستدلال عليه عن طريق العقل فإن إثبات القدرة العامة وإثبات
صفة الحياة له تعالى يكفينا عن إقامة كل برهان، ذلك لملازمة هاتين الصفتين لكل
صفة كمالية، ومما لا ريب فيه أن الكلام صفة كمال.
بقي الكلام في شئ آخر ذلك هو حقيقة هذا الوصف ومعناه، ولم يزل هذا -
ولا يزال - معترك الأفكار والآراء، أحدث مشاكل ومشاكل، كمسألة خلق القرآن التي
امتحن المأمون العباسي بها علماء زمانه عهدا غير قليل، ولعله السبب أو جزء
السبب في تسمية علم " أصول العقائد " ب‍ " علم الكلام "، وقد ذكرت بعض كتب
التاريخ أن الذي أثار هذه المشكلة في أذهان بعض العلماء بيت من الشعر قاله أحد
الشعراء، وهو قوله:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما * جعل اللسان على الفؤاد دليلا
ومهما يكن من أمر وعلى كل حال فقد ذهب أهل العدل - من الإمامية
والمعتزلة - إلى أن معنى اتصافه تعالى بالكلام وانتساب الكلام إليه، هو أنه تعالى
يخلق أصواتا وحروفا في أجسام تدل على المراد، فمعنى أنه تعالى متكلم، أنه خلق
الكلام لا أنه قام به الكلام.
وذهب الأشاعرة مذهبا آخر، ذلك أنهم قالوا: إن كلامه تعالى معنى قائم
بذاته، وهو غير العلم، وغير الإرادة، وغير القدرة، هو غير هذه الصفات، وهو مدلول
هذه العبارات المختلفة باختلاف الدواعي والغايات، وقد عبروا عن ذلك بالكلام
النفسي، وهو عندهم أيضا معنى وجداني له في نفسه شأنية الاستقلال عن أن
تعرضه خصوصيات الأساليب الكلامية، فليس هو بأمر، ولا نهي، ولا خبر، ولا

48
استخبار، ولا نداء، ولا غير ذلك من أساليب الكلام.
هذا هو رأي الأشاعرة الذي أقروا به واستقروا عليه منذ القدم وإلى حد الآن،
لكن العدلية من أنكروا هذا الرأي وأنكروه، ذلك أنهم قالوا: إننا لا نعقل ذلك المعنى
الذي تدعيه الأشاعرة، فحيث لا نتعقله فلا نصدقه، وحيث إنه لا تصور فلا تصديق.
هذا الوجه - كما تراه - سلب مطلق من كل نواحيه، ذلك أنهم أنكروا تحقق
الكلام النفسي، وأنكروه بكل وجه من الوجوه، ونحن لا نرانا نؤمن بهذا السلب
المطلق بمطلقه، ذلك أنه طالما تردد الألسن أمرا كثيرا ما وردت به الآثار والأخبار
وقد يجده الانسان من نفسه - والوجدان النفسي دليل يكفي عن كل دليل - وذلك ما
يسمونه " حديث النفس " وهذا حاصل في وجدان كل متكلم يريد الكلام، وهو
موجود ممكن في كل موجود ممكن بلا كلام.
أما لو حاولنا نسبته إلى الواجب فهل تراه على حد ما رأيناه من عالم الإمكان
من الإمكان على نحو لا يتنافى وكرامة الخالقية، ولا يتناقض وقدس الواجبية.
قد نقول هنا: إنه غير ممكن النسبة إلى مقام الخالقية، لأنه نوع إعمال روية،
ونحو من إجالة الفكر، وهذا لا يتناسب ومقام الواجبية.
وهكذا هنا نحن نقول وإن كنا وقفنا موقف السلب في كتابنا الكبير، وسننبه
على ذلك في هامش الكتاب، وقد نأتي على ذلك بزيادة وضوح، وهناك شئ لا
نجد بدا من التنبيه عليه، وقد يقدر له أن يكون الوسط بين هؤلاء الخصوم - إن نظر
نظرة الاحتشام والاحترام - ذلك أننا نقول: ينبغي أن نفهم أولا وقبل كل شئ هل أن
الكلام من صفات الذات أم من صفات الأفعال؟ فإن وفقنا لأن نفهم ما هو موقع
الكلام من هذين الجانبين نجدنا قد وفقنا للتوفيق بين معترك هذه الآراء.

49
إن قلنا بالأول - أعني كون الكلام من صفات الذات - فلا نجد بدا من الالتزام
بما يقوله الأشاعرة، فمما لا يشك فيه أن صفات الذات ليست بحادثة وإلا كان
الواجب جل شأنه محل الحوادث، وقد مر بطلان هذا بما ليس هذا محل بيانه، وإنما
يلزم ذلك لأن صفات الذات عين الذات لكن بمعنى أنه لا اثنينية بين الصفات
والذات.
وإن قلنا بالثاني - أعني كون الكلام من صفات الأفعال - فلا نجد بدا من الالتزام
بما يقوله العدلية - من الإمامية والمعتزلة - فإن صفات الأفعال باعتبار أنها تعقلية
ارتباطية، حادثة بحدوث التعلقات والارتباطات.
وعلى كل حال ومهما يكن من أمر، فإن رأي العدلية في سلامة مما يلزم رأي
الأشاعرة من المحاذير، فلنأخذ بذكر بعض من تلك المحاذير:
فمنها: أنه طالما ورد إطلاق الكلام ونسبته إليه سبحانه على هذه الحروف
المتركبة من الأجزاء المتتالية المتعاقبة المقروءة بالألسن، المسموعة بالآذان، نرى
ذلك في قوله تعالى: * (وكلم الله موسى تكليما) * (1)، ونراها أيضا في قوله سبحانه:
* (وكلمه ربه) * (2) ونراها أيضا في قوله عز من قائل: * (حتى يسمع كلام الله) * (3).
نتلو هذه الآيات وأمثالها، أو تتلى علينا، فلا نشك أن المراد من الكلام هو هذه
الأصوات والحروف، وأنت ترى أنه أطلق عليها كلام الله ونسبت إليه، فماذا يكون
موقفنا أمام هذا الإطلاق إذا رأينا أن كلامه هو الكلام النفسي القائم بذاته، فإذا أردنا
أن نقول: إن هذا الإطلاق كان على نحو من المجاز، فسيقول لنا القائل: إن للمجازات



(1) سورة النساء: 164.
(2) سورة الأعراف: 143.
(3) سورة التوبة: 6.
50
والحقائق أمارات تميز أحدها عن الآخر، وهنا أمارات الحقيقة حاصلة، لا أقل من
التبادر، وهو أقوى علامات الحقيقة، فإطلاق الكلام على تلك الحروف والأصوات،
حقيقة بلا كلام.
ومن تلك المحاذير: أنه يلزم علينا أن لا نلتزم بكفر من أنكر ما هو في
المصحف الشريف مما بين الدفتين أنه كلام الله أو من كلامه، وهذا كما تراه لا يحتاج
إلى مزيد بيان.
ومنها: لزوم الكذب على الله سبحانه وتنزيهه تعالى عن الكذب، شئ اتفقت
عليه الكلمة من الفريقين - عدلية وأشعرية - وإن اختلف السبب في ذلك التنزيه،
ومنشأ لزوم ذلك المحذور هو أن الكلام - حسب الفرض - هو ذلك المعنى النفساني
القديم، فهو - إذن - أزلي بأزلية الذات، وقد وقع الإخبار فيه عن حوادث متجددة، لم
تكن حين الإخبار عنها واقعة، وإنما وقعت بعد حين، في حين أن الإخبار عنها وقع
بصيغة الماضي فكأنه واقع قبل الإخبار، وهذا في القرآن الكريم كثير، نراه في قوله
تعالى: * (وقال نوح) * (1) * (وقال موسى) * (2) * (فعصى فرعون) * (3) إلى غير ذلك مما
يفوت حد العد والإحصاء، وهذا - وحاشا لله - الكذب بعينه، وهل الكذب إلا الإخبار
عما لا واقع له بأنه واقع، ولا ينفعنا جواب من أجاب بأن كلامه سبحانه في الأزل لا
يخضع لزمان وإنما يتصف بالزمان في المتجددات بحسب ما له من التعلقات
والارتباطات، وإنما لا ينفعنا هذا الجواب لأنهم حيث قالوا بأزلية الكلام النفسي -
أعني المعنى القائم بالذات - قالوا إلى جنب ذلك بأن الكلام في الأزل هو مدلول



(1) سورة نوح: 26.
(2) سورة الأعراف: 104.
(3) سورة المزمل: 16.
51
الكلام فيما لا يزال، وأوضح من ذلك أن يقال: إنهم قالوا: إن الكلام النفسي مدلول
للكلام اللفظي، ولا يشك ذو عقل أن المدلول لا ينفك عن الدال بحال، فالدال قديم
بقدم المدلول، وحيث يلزم قدمه لزم هذا المحذور.
ومنها: لزوم السفه والعبث في كلامه تعالى، وهو الحكيم العليم، ووجه لزوم
هذا المحذور هو أن كلامه سبحانه غير خلي عما يعرض كل كلام من الخصوصيات
التي تستدعيها خصوصيات المحاورات المختلفة باختلاف مقتضيات الأحوال،
ففي كلامه سبحانه أمر، وفي كلامه سبحانه نهي، وفي كلامه سبحانه إخبار واستخبار،
وفي كلامه سبحانه نداء، كل هذا وذلك وذاك موجود في كلامه بلا جدال، فماذا - يا
ترى - لو وقفنا هاهنا موقف التحليل، ألا نكون إزاء أمرين: ذلك إما قدم الحادث أو
لزوم السفه والعبث على الحكيم؟
وتوضيح ذلك: أن الخطابات في الآيات المتضمنة للخطابات كان موجها إلى
مخاطب لم يكن موجودا حال الخطاب، فإن التزمنا بوجوده حال الخطاب لزم
توجيه الخطاب إلى مخاطب معدوم لا يفهم الخطاب، ولا يتحقق فيه القصد من
الخطاب، وهذا هو العبث، وهو المحذور الثاني، لكن يمكن الإجابة على هذا
المحذور بأنه إنما يلزم لو وجه خطاب التكليف إلى المعدوم بغرض إيجاد مقتضى
التكليف - وهو الامتثال - في حين أنه معدوم، أما لو وجه الخطاب الآن وأوجد على
أن يكون تنجز مضامينه بعد الآن، فأي مانع من ذاك؟ فيكون كوضع قانون عام أو
نظام يشمل الحاضر الآن والغائب عند الوصول والبلوغ، وعلى حد هذا جرت سائر
الأنظمة في التشريعات الوضعية وسائر القوانين.
ومن تلك المحاذير التي تلتقي بها الأشاعرة عند قولهم بقدم الكلام: هو لزوم
مخالفة ما ورد في نصوص الكتاب التي لا تقبل التأويل، ووجه ذلك هو: أن الكلام -

52
على رأيهم بقدمه - يكون من صفات الذات، أو حيثية من حيثيات الذات، فبالطبع
أنه قديم بقدم الذات، وهذه مقدمة تنتهي بهم إلى نتيجة شديدة الخطر، ذلك هو
عدم جواز النسخ في الكتاب، والكتاب الكريم مصرح بملء ء فيه بوقوع النسخ فيه،
يقول عز من قائل: * (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) * (1) والنسخ
سواء أقلنا أنه رفع أو انتهاء، يتنافى والقدم، وقد تقرر بلسان لا يقبل الخلاف أن ما
ثبت قدمه امتنع عدمه، ومحذور النسخ لا يقف عند هذه المخالفة فحسب، بل هناك
محذور آخر ذلك هو لزوم قدم العالم، وهذا المحذور خطر فوق كل خطر، وإنما يلزم
ذلك لأنه سبحانه يقول: * (إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) * (2)
فقوله تعالى: " كن " أمر، وهو قسم من كلامه، وكلامه تعالى قديم، وخلق العالم نتيجة
هذه الإرادة المدلول عليها لهذا الأمر، فالعالم المتكون عن قول " كن " القديمة قديم.
ونحن لو حاولنا وقفة التحليل عند هذه الحدود فلا نجد المحذور إلا في
الناحية الأولى من الناحيتين: أما الناحية الثانية فمحاولة الإجابة عنها في فسحة من
المجال، نقضا وحلا: أما نقضا، فهو محذور مشترك لا يختص به من يرى قدم الكلام
فقط، وتلك المحذورات من ناحية الإرادة لا من ناحية الكلام أن المخلوق إذا كان
نتيجة الإرادة القديمة فهو قديم على كل حال، سواء أقلت بقدم الكلام أم بحدوثه،
فالمحذور متأت على كل حال، وإن أجبت عن ذلك بأن نفس الإرادة قديمة لكن
تعلقها بالمراد حادث فالمخلوقات نتيجة أمر حادث هو تعلق الإرادة، فهذا الجواب
آت في محذور الكلام سواء بسواء.
وأما حلا، فهو أننا نقول: إن قوله تعالى: * (كن فيكون) * ليس هو في حاق



(1) سورة البقرة: 106.
(2) سورة النحل: 40.
53
الواقع وحق الحقيقة إلا مجرد التصوير، وأنه إبراز للمعقول بصورة المحسوس إيقافا
على الفهم الواقعي الصحيح وإلا فلا قول ولا مقول هناك، إذن فلا محذور هناك.
هذه الأقوال التي ذكرناها هي الأقوال التي لها الشهرة بين علماء الكلام،
وهناك رأي للحنابلة طريف في إسفافه وإسرافه، هو قولهم بأن القرآن هو هذه
الحروف والأصوات المتركبة من الأجزاء المتعاقبة المترتبة في الوجود، وبالرغم من
كل ذلك فهو عندهم قديم، وقد أسف فريق منهم إسفافا فوق هذا الإسفاف فادعى -
جهلا - قدم الجلد والغلاف، وإن هذا الإسفاف ممقوت.
وهناك رأي آخر في قبال هذا الرأي قد بلغ في التطرف حده البعيد، ذلك هو
رأي الكرامية، حيث قالوا: إن الكلام هو الأصوات والحروف، ولكنه عندهم حادث
وهو قائم بذات الله سبحانه، ولا مانع من قيامه بذاته تعالى، وهو حادث، فإنهم
جوزوا أن تكون ذاته محل الحوادث، هذا رأي في قبح التفريط، لا يقل عن الرأي
السابق في قبح الإفراط، وماذا - يا ترى - تكون العاقبة، إذا كان القديم محل
الحوادث؟ المحذور فيه لا يحتاج إلى بيان.
وحيث عرفت ما في هذه الأقوال وما عليها من نقض وإبرام، فلنستعرض
قياسين هاهنا ألفهما بعض علماء الكلام، وهما متعارضان كل التعارض، نستعرضهما
لنرى أيهما على أي هذه الأقوال ينطبقان.
يقول أول القياسين: الكلام صفة من صفاته تعالى، وكل ما هو من صفاته
تعالى، قديم، فبالطبع إن رتبنا صورة القياس هكذا، تكون نتيجة القياس، هكذا:
الكلام قديم.
ويقول ثاني القياسين هكذا: إن كلامه تعالى مؤلف من أجزاء مترتبة متعاقبة
في الوجود، وكل مؤلف من أجزاء متعاقبة مترتبة، فهو حادث، وبالطبع إننا حيث

54
صورنا صورة القياس هكذا، تكون النتيجة هكذا: كلامه تعالى حادث.
هذان قياسان متعارضان، وهما على هيئة الشكل الأول، وهو بدهي الإنتاج،
لكن هذان القياسان - على بداهة إنتاجها - لا تكاد تراهما واقعين موقع الإيمان عند
الجميع من ناحية مقدمتها الصغرى والكبرى، فهما موقع النقاش على مختلف الآراء.
الحنابلة حيث يرون قدم الكلام - وإن كان مركبا من الأصوات والحروف - فلا
تراهم يؤمنون بكبرى القياس الثاني - وهو قولهم: كل ما كان من صفاته تعالى فهو
قديم -.
والكرامية حيث يرون أن الكلام أصوات وحروف، وهي حادثة، فهم
يسلمون بالقياس الثاني - صغراه وكبراه - أما موقفهم مع القياس الأول، فينبغي أن
يكون موقف التحليل إلى ناحيتين، ذلك أن يقولوا: إن أريد بالصفة في قولهم في
الصغرى من القياس الأول - الكلام صفة - أنه من صفة الذات، فالصغرى عندهم
مسلمة، فقد عرفت أن الكلام عندهم - حسب تعريفهم له - من صفات الأفعال، وإن
أريد أنه من صفات الأفعال، فالكبرى عندهم حينئذ غير مسلمة، حيث إن صفات
الأفعال عندهم حادثة.
أما الأشاعرة فإنهم حيث يرون أن الكلام ليس هو الأصوات والحروف - إنما
هو المعنى النفساني القائم بالذات المدلول للحروف والأصوات، فهم يقدحون في
القياس الثاني - صغراه وكبراه - ويسلمون القياس الأول - صغراه وكبراه -، فلا ترى
واحدا من هذين القياسين مسلما عند الجميع.

55
القرآن والتفسير والتأويل
* (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند
ربنا) * (1).
اعلم أن الكلام في التفسير والتأويل يقع في مراحل:
المرحلة الأولى: في الناحية الاشتقاقية لهاتين اللفظتين. قيل: التفسير مأخوذ
من فسر المشتق بالاشتقاق الكبير من السفر، ومعناه الكشف والظهور، يقال: أسفر
الصبح إذا ظهر، وأسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته، وقيل: إنه مأخوذ من التفسرة
بمعنى النظر والاستدلال، وغلط بأن هذا لفظ يوناني ولم يعهد أخذ لغة من لغة
أخرى، وهذا التغليط هو نفسه غلط، فإن استعمال الألفاظ غير العربية في اللغة
العربية كثير، وقد ورد في القرآن نفسه، وذلك ك‍: المشكاة، والفسطاس، والتنور،
وغيرها، كما أن تغليط القائل بأن التفسير مقلوب سفر، أو أسفر، بأن القلب وإن كان
يقع في الأسماء كآدم، وفي الأفعال كجذب، إلا أنه مخالف للأصل والغلبة، قد يدفع



(1) سورة آل عمران: 7.
57
بأنه قد يصار إلى خلاف الأصل، وخلاف الغلبة إذا دل الدليل عليه.
هذا شئ - أو بعض شئ - مما يتعلق بالناحية الاشتقاقية للفظ التفسير، أما ما
يتعلق بالناحية الاشتقاقية للفظ التأويل، فهناك أقوال:
فقد قيل: إنه مأخوذ من الأول، كالقول، من آل الأمر إلى كذا يؤول، يعني صار
إليه ورجع، ومنه قيل للمرجع: مآل.
المرحلة الثانية: في معنى التفسير والتأويل، وقد عرفت بعضا من معاني
التفسير فيما سلف، وهناك أقوال أخر:
فقد قيل: بأن التفسير كشف القناع، ولعله يرجع أو يرجع إليه القول الآخر بأنه
كشف المغطى، وقيل: بأنه كشف المراد من اللفظ المشكل، وقيل: بأنه التأويل،
وقيل: هو المجموع من مقامي التنزيل والتأويل.
واستفيد ذلك من بعض الأخبار، كالخبر المروي عنه (صلى الله عليه وآله) المنقول عن
الصدوق (قدس سره) في الأمالي (1): " يا علي، أنا صاحب التنزيل، وأنت صاحب التأويل " على
إشكال في تطبيق الخبر على المقصود، وقيل: إن التفسير في الألفاظ، كما أن التأويل
في المعاني، وقيل: بأن التفسير يتعلق بالمحكمات، كما أن التأويل يتعلق
بالمتشابهات، وقيل: بأن التفسير بيان الظاهر، والتأويل كشف السرائر، وقيل: بأن
التفسير في الرواية والتأويل في الدراية، إلى غير هذا وذاك من الأقوال، ولهذه
التعاريف واختلافها في مؤداها، ثمرات عملية، ستعرفها أو بعضها فيما سيأتيك في
طي هذه المراحل.
المرحلة الثالثة: إن هذا الذي ذكرناه أمر يتعلق في شرح هذه المادة ومأخذها



(1) ص 411.
58
أو مآلها من جهة الاشتقاق، لكن نرى أن لفظ التفسير في مصطلح العلماء استعمل في
معنيين:
أحدهما: التفسير الذي هو قسم من أقسام البديع الراجع إلى المحسنات
اللفظية أو المعنوية، ويراد به عندهم أن يأتي المتكلم بمعنى لا يستغل الفهم بإدراك
فحواه ما لم يفسره كلام آخر بعده، كما في قول الشاعر:
آروهم ووجوههم وسيوفهم * في الحادثات إذا دجون نجوم
منها معالم للهدى ومصابح * تجلو الدجى والأخريات رجوم
والمعنى الثاني للتفسير هو: ما أصبح علما لعلم خاص، له تعريفه، وغايته،
وموضوعه، حتى أصبح علما يقال له: علم التفسير، إذن فلا بد من التعرض إلى شئ
من معرفة هذه الأمور الثلاثة المتعلقة بعلم التفسير:
أما تعريفه، فقد كثر كلام العلماء فيه، ولا يكاد يقع منهم الاتفاق عليه، فقال
بعضهم: إنه علم بأصول تعرف به معاني الله تعالى من الأوامر والنواهي وغيرها، وإليه
يرجع التعريف الآخر بأنه: ما يبحث فيه عن مراد الله تعالى من قرآنه المجيد.
وعرفه آخر: بأنه هو العلم الباحث عن أحوال ألفاظ كلام الله من حيث الدلالة
على مراد الله تعالى.
وعرفه آخر - وأدخل علم التجويد فيه - فقال: هو علم يبحث عن كيفية النطق
بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الأفرادية والتركيبية، ومعانيها التي هي عنها حالة
التركيب وتتمات ذلك.
وعرفه آخر - وأدخل فيه ما يحتاج إليه علم التفسير في علم التفسير - فقال: هو
علم يفهم كتاب الله المنزل على نبيه المرسل محمد (صلى الله عليه وآله)، وبيان معانيه، واستخراج

59
أحكامه وحكمه، واستمداد ذلك من علم اللغة والنحو، والتصريف والبيان، وأحوال
الفقه والقرآن، ويحتاج إلى معرفة أسباب النزول، والناسخ والمنسوخ.
وعرفه آخر: بأنه هو معرفة أحوال كلام الله من حيث القرآنية، ومن حيث
دلالتها على ما يعلم أو يظن أنه مراد الله تعالى بقدر الطاقة البشرية.
المرحلة الرابعة: في أنه هل يجوز تفسير القرآن بالرأي، أو لا يجوز؟ لقد
تضافرت الأخبار، وتكاثرت الآثار، عن المعصومين الأطهار، في أنه لا يجوز تفسير
القرآن بالرأي، وذلك أمر اتفق عليه الفريقان عامة، من الخاصة والعامة.
فقد روت العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله)، أنه قال: " من فسر القرآن برأيه فأصاب الحق
فقد أخطأ " (1)، قالوا: وكره جماعة من التابعين القول في القرآن بالرأي، كسعيد بن
المسيب، وعبيدة السلماني، ونافع، وسالم بن عبد الله، وغيرهم.
وقد روت الخاصة عن أئمتهم الأطهار آثارا كثيرة، فمن ذلك: حديث الإمام
الباقر (عليه السلام) مع قتادة المفسر المشهور: " يا قتادة، إن كنت فسرت القرآن برأيك فقد
هلكت وأهلكت، وإن كنت فسرته بآراء الرجال فقد هلكت وأهلكت، إنما يعرف
القرآن من خوطب به، ونحن من خوطب به " (2)، إلى غير ذلك من الآثار والأخبار.
إذن، فتفسير القرآن بالرأي أمر باطل بلا كلام، إنما الكلام في أنه ما هو الذي
يسمى تفسيرا بالرأي؟ لقد أفرط فريق في تعيين التفسير بالرأي وتشخيصه، فرأوا -
خطأ - أن كل آخذ بالقرآن من دون نص مقطوع به من قول معصوم، آخذا بالرأي
وتفسير به، فهو ممنوع حرام، وهذا إفراط في الرأي وإسفاف في القول بالغ منتهى



(1) مجمع البيان: 1 / 39، تفسير الصافي: 1 / 8.
(2) الكافي: 8 / 311 ح 485.
60
البطلان، وإلا فما نصنع بالأخبار الصحيحة الاخر التي جعلت الرجوع إلى القرآن
ميزانا يميز به بين صحيح الخبر وسقيمه، كما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: " إذا جاءكم
حديث عني فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فاقبلوه، وما خالفه فاضربوا به
عرض الحائط " (1) فكيف يمكن عرض الخبر على كتاب الله، والمفروض أن الرجوع
إليه ممنوع على الإطلاق، إذن فلا بد من التوسط في الرأي - وخير الأمور الوسط - هو
أن يقال: إن هناك من القرآن ما لا يعلم ولا يفهم إلا ببيان من أهل البيان، وهم
المعصومون (عليهم السلام)، ومن القرآن ما يفهم معناه بدون حاجة إلى ذلك، حيث إنه ظاهر
اللفظ، واضح المعنى لا سترة فيه.
ويدل على التوسط، الخبر الذي يروى عن ابن عباس، من أنه فسر التفسير
على أربعة أقسام: تفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير تعرفه العرب بكلامها،
وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله عز وجل.
فأما الذي لا يعذر أحد بجهالته، فهو ما يلزم الكافة من الشرائع التي في القرآن
وجمل دلائل التوحيد.
وأما الذي تعرفه العرب بلسانها فهو حقائق اللغة وموضوع كلامهم.
وأما الذي يعلمه العلماء، فهو تأويل المتشابه وفروع الأحكام.
وأما الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل فهو ما يجري مجرى الغيوب وقيام
الساعة. (2)
فمن هنا تعرف أن الرأي الوسط في هذا الأمر هو أن الرجوع إلى ظاهر القرآن



(1) مجمع البيان: 1 / 39.
(2) مجمع البيان: 1 / 26 و 40.
61
ليس تفسيرا بالرأي، فلا يدخل في الأخبار المانعة.
ولتعلم أن الذين أفرطوا في مسألة منع مطلق الأخذ بالقرآن والرجوع إليه،
فرقتان، أو هم فرقة واحدة منعت الرجوع إلى القرآن لجهتين:
إحداهما: أن مطلق الرجوع إلى القرآن ومطلق الأخذ به هو تفسير بالرأي، فهو
ممنوع لا يجوز، حيث إن القرآن عندهم ليس حده حد سائر الكتب، وليست
خطاباته شأنها شأن سائر الخطابات، فليس هو من قبيل المحاورات العرفية المقصود
بها تفهيم الخطاب بنفس الكلام الموجه إلى المخاطبين، فيفهمه كل مخاطب، بل
كل من بلغه ذلك الخطاب، وقد أسف من هؤلاء قوم فمنعوا من التفسير حتى من
مثل قوله تعالى: * (فاعلم أنه لا إله إلا الله) * (1)، وحتى من مثل قوله تعالى: * (قل هو
الله أحد) * (2) إلا بتفسير من المعصوم وشرح منه، وتوسط من هؤلاء قوم ففرقوا في
القرآن بين النص منه والظاهر، فأجازوا تفسير الأول دون الثاني، فالقرآن على القول
الأول المانع من الرجوع إلى القرآن على وجه الاطلاق، كله متشابه بالنسبة إلينا،
محتاج إلى تفسير من المعصوم، وهذا من البطلان بمكان، وهو خلاف نص القرآن.
ثانيتهما: أن القرآن وإن كان فيه ظاهر إلا أن هذا الظاهر اكتنف بخصوصيات
وحالات أخرجت الظاهر عن كونه ظاهرا، وذلك كالتقديم والتأخير، والحذف
والإضمار، والإيجاز، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، وجهات أسباب
النزول، إلى غير ذلك من الخصوصيات التي لا تفهم ولا تعلم إلا بشرح ممن خوطب
بالقرآن وعرف خصوصياته ومزاياه، وهم المعصومون من أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا
القول كسابقه في البطلان، فإنه إن تم فإنما يتم في بعض من سور القرآن وآياته، فلا



(1) سورة محمد (صلى الله عليه وآله): 19.
(2) سورة الاخلاص: 1.
62
يكون ذلك مانعا عن التمسك أو الرجوع إلى القرآن بصورة عامة.
مضافا إلى أن هذا القول وما سبقه يشتركان في البطلان من وجه آخر، ذلك
أنهما أخرجا القرآن عن حد المخاطبات، وجعلا له شأنا غير شأن سائر الخطابات،
وهذا من البطلان بمكان عقلا ونقلا.
أما عقلا فهو أن الشارع من العرف، وكونه من العرف يقتضي أن تكون طريقه
وطريق العرف سواء بسواء، وحيث إن طريق العرف في المحاورات هو إفهام
المخاطبين بنفس الخطاب، فكان لزاما أن تكون طريقة الشرع كذلك.
وأما نقلا فهو مصادم كل المصادمة، لما دل من الآيات والروايات على أن
القرآن إنما انزل لإفهام مضامينه بنفس الخطاب، ولم يخترع طريقة في المحاورات
غير طريقة العرف التي جرت بها العادات، ويكفينا من الآيات قوله تعالى: * (وما
أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) * (1)، وقوله سبحانه: * (وأوحي إلي هذا القرآن
لأنذركم به) * (2)
ويكفينا من الروايات الخبر المتواتر عن الأئمة الأطهار: " أن الله سبحانه أجل
من أن يخاطب قوما يريد منهم ما هو بخلاف لسانهم وخلاف ما يفهمونه "، مضافا
إلى أن سيرة الأئمة الأطهار - وهم المتبعون في القول والعمل - جرت على أن
يدعموا الحكم الشرعي بدليل من الآيات الكريمة، فقد جاء في المحكي عن العلل
وتفسير العياشي (3)، عن زرارة، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): ألا تخبرني من أين علمت
وقلت أن المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك (عليه السلام) وقال: " يا زرارة، قاله



(1) سورة إبراهيم: 4.
(2) سورة الأنعام: 19.
(3) علل الشرائع: 1 / 279 ب 190 ح 1، تفسير العياشي: 1 / 299 ح 52.
63
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ونزل به الكتاب من الله تعالى، كان الله تعالى يقول: * (فاغسلوا
وجوهكم) * فعرفنا أن الوجه كله ينبغي أن يغسل، ثم قال: * (وأيديكم إلى المرافق) *
فوصل الله اليدين إلى المرفقين بالوجه، فعرفنا أنه ينبغي لهما أن يغسلا إلى
المرفقين، ثم فصل بين الكلام فقال: * (وامسحوا برؤوسكم) * (1) فعرفنا حين قال:
* (برؤوسكم) * أن المسح ببعض الرأس لمكان الباء، ثم وصل الأرجل بالرؤوس
فعرفنا حين وصلها بالرأس أن المسح على بعضها " فبهذا وإن كان استدلالا من الإمام
نفسه، إلا أنه يتضمن تعليما لغيره كيفية الاستدلال بالكتاب، وهل يستدل إلا بما له
ظاهر من اللفظ مقصود.
وجاء أيضا في المنقول عن الصحيح، عن زرارة ومحمد بن مسلم، قالا: قلنا
لأبي جعفر (عليه السلام): ما تقول في الصلاة في السفر، كيف هي؟
فقال (عليه السلام): إن الله تعالى يقول: * (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح
أن تقصروا من الصلاة) * (2) فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر.
قالا: قلنا له: قال الله عز وجل: * (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح) *
ولم يقل: افعلوا، فكيف أوجب ذلك، كما أوجب التمام في الحضر؟
فقال (عليه السلام): أو ليس قد قال الله تعالى: * (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن
حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) * (3) ألا ترى أن الطواف بهما
واجب مفروض؟ لأن الله تعالى ذكره في كتابه وصنعه نبيه، كذلك التقصير في السفر
ذكره الله تعالى في كتابه وصنعه النبي (صلى الله عليه وآله).



(1) سورة المائدة: 6.
(2) سورة النساء: 101.
(3) سورة البقرة: 158.
64
وكما ورد عنهم الاستدلال بالقرآن مباشرة، ورد عنهم (عليهم السلام) تقرير أصحابهم
على الرجوع إلى القرآن في مقام استنباط الأحكام، كما ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام)
ذلك، فقد جاء في محكي الوسائل (1) عن الحسن بن الجهم، قال: قال لي أبو الحسن
الرضا (عليه السلام): " يا أبا محمد، ما تقول في رجل تزوج نصرانية على مسلمة؟
قال: جعلت فداك، وما قولي بين يديك؟
قال: " لتقولن فإن ذلك يعلم به قولي ".
قلت: لا يجوز تزوج النصرانية على مسلمة ولا غير مسلمة.
قال (عليه السلام): " ولم "؟
قلت: بقول الله عز وجل: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) * (2).
قال: " فما تقول في هذه الآية: * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من
قبلكم) * (3).
فقلت: قوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات) * نسخت هذه الآية، فتبسم (عليه السلام)
ثم سكت. فإن سكوته (عليه السلام) تقرير لابن الجهم على تمسكه بالعمل بظاهر هاتين
الآيتين.
وهذه السيرة التي جرى عليها الأئمة الطاهرون مقتبسة من سيرة جدهم
الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فكثيرا ما كان يرجع ويرجع في فهم القرآن وإفهامه إلى الطريقة الجارية
عند العرب في أصولهم الموضوعة لمواد الكلمات ومركباتها.
فمن ذلك: ما يروى أن قوما أتوه فقالوا: ألست رسول الله؟



(1) وسائل الشيعة: 20 / 534 ح 2.
(2) سورة البقرة: 221.
(3) سورة المائدة: 5.
65
فقال (صلى الله عليه وآله): " بلى ".
قالوا: وهذا القرآن الذي أتيت به، كلام الله تعالى؟
قال: " نعم ".
قالوا: فأخبرنا عن قول الله تعالى: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب
جهنم أنتم لها واردون) * (1) إذا كان معبودهم في النار، فقد عبدوا المسيح، أفتقول انه
في النار؟
فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله): " إن الله سبحانه أنزل القرآن علي بكلام العرب،
والمتعارف في لغتها أن " ما " لما لا يعقل، و " من " لمن يعقل، والذي يصلح لهما
جميعا، فإن كنتم من العرب، فأنتم تعلمون هذا، قال الله تعالى: * (إنكم وما
تعبدون) *، يريد الأصنام التي عبدوها وهي لا تعقل، والمسيح لا يدخل في جملتها
لأنه يعقل، ولو قال: إنكم ومن تعبدون، لدخل المسيح في الجملة.
فقال القوم: صدقت، يا رسول الله.
وقد ورد أيضا أنه (صلى الله عليه وآله) قال لابن الزبعرى حين أورد عليه هذا الإيراد: ما
أجهلك بلسان قومك، أما علمت أن " ما " لما لا يعقل (2)؟!
ونضيف إلى ذلك ما ذكره بعض السادة الأجلة من المحققين، وهو أن الالتزام
بعدم جواز العمل بظاهر القرآن يخرجه عن كونه معجزا بالبلاغة العارضة للفظ
باعتبار ما أريد به من المعين، لتوقفه حينئذ على التفسير، وصحته مبنية على ثبوت
النبوة، فإذا توقف ثبوتها على كونه معجزا لزم الدور.



(1) سورة الأنبياء: 98.
(2) مجمع البيان: 7 / 116، الدر المنثور: 4 / 607 و 608، زبدة الأصول للشيخ البهائي:
126.
66
المحكم والمتشابه في القرآن
* (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر
متشابهات) * (1).
اعلم أن الكلام في المقام يقع في مراحل:
المرحلة الأولى: هو أنه جاء في بعض آيات القرآن الكريم أن القرآن كله
محكم، وذلك قوله تعالى: * (كتاب أحكمت آياته) * (2) فهذه الآية نص على أن آيات
القرآن كلها محكمة. وجاء في بعضها أن القرآن كله متشابه، كما جاء في قوله تعالى:
* (كتابا متشابها مثاني) * (3) فهذه الآية نص على أن آيات القرآن كلها متشابهة. وجاء
في بعضها أن القرآن بعضه محكم وبعضه متشابه، كهذه الآية الكريمة التي افتتحنا بها
الكلام، فهذا بظاهره تناقض يتنزه عنه مقام القرآن الكريم، فكيف الجمع والتوفيق



(1) سورة آل عمران: 7.
(2) سورة هود: 1.
(3) سورة الزمر: 23.
67
بين هذه الآيات؟
وأجيب عن ذلك: بأن المراد بالمحكم في الآية التي دلت على أن آيات
القرآن كلها محكمة هو كون كلامه - أعني القرآن - حقا فصيح الألفاظ، صحيح
المعاني، وكل كلام غير القرآن هو دون كلام القرآن في الإحكام والإتقان وفصاحة
اللفظ وقوة المعنى، بحيث لا يتمكن أحد من إتيان كلام يساوي القرآن في هذه
الأوصاف الفاضلة، وهذا جرى على ما جرى عليه العرب في أوصافهم للأشياء
المحكمة المتقنة، كما تقول في البناء الوثيق والعهد الوثيق الذي لا يمكن حله: إنه
محكم، فهذا معنى وصف القرآن كله بأنه محكم.
وأما ما دل على أنه بكليته متشابه، فالمراد منه أنه يشبه بعضه بعضا، على حد
ما أشار إليه تعالى في آية ثانية بقوله تعالى: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه
اختلافا كثيرا) * (1) يعني لو كان بعضه واردا على نقيض الآخر لاختلف فيه نسق
الكلام، ولتفاوت في الفصاحة والركاكة، ومثل هذا التعبير بهذا المعنى ورد في قوله
سبحانه في وصف نعيم الجنة: * (وأتوا به متشابها) * (2).
وأما ما دل على أن بعضه محكم، وبعضه متشابه - وهو هذه الآية الكريمة -،
فالمقصود منها سيوافيك إن شاء الله تعالى في بعض هذه المرحلة الآتية.
المرحلة الثانية: في بيان معنى المحكم ومعنى المتشابه.
للمحكم والمتشابه معنيان: معنى في عرف اللغة، ومعنى في عرف الشرع أو
أهل الشرع.



(1) سورة النساء: 82.
(2) سورة البقرة: 25.
68
أما المحكم، فهو في عرف أهل اللغة - وإن كثرت موارد استعماله في مختلف
المناسبات - فإن له جهة جامعة، تكون هي القدر المشترك بين تلك الأفراد
والمصاديق من جزئيات موارد الاستعمال، هي المنع والرد، فإننا نرى العرب تقول:
حاكمت، وأحكمت، يريدون بذلك: منعت ورددت، والحاكم يسمى حاكما، لأنه
يمنع الظالم عن الظلم ويرده عنه، وحكمة اللجام هي التي تمنع الفرس من
الاضطراب، وقول بعضهم: احكموا سفهاءكم، أي امنعوهم، وبناء محكم، أي وثيق
يمنع من تعرض له، وسميت الحكمة حكمة لأنها تمنع عما لا ينبغي، هكذا قال
بعض، ويظهر من بعض أن المعنى الوجداني والجهة الجامعة، هو التثقيف والإتقان،
والكل محتمل.
وأما المتشابه: فهو عند عرف أهله اللغة: أن يكون أحد الشيئين مشابها
للآخر، بحيث يعجز الذهن عن التمييز، قال الله: * (إن البقر تشابه علينا) * (1)، وقال
سبحانه في وصف ثمار الجنة: * (وأتوا به متشابها) * (2) يعني متفق المنظر يشبه
البعض البعض الآخر، وهي على حد قوله تعالى: * (تشابهت قلوبهم) * (3)، ويقال:
اشتبه علي الأمران، إذا لم يفرق بينهما، وقال (صلى الله عليه وآله): " حلال بين وحرام بين، وما بين
ذلك متشابهات " (4) أو مشتبهات، كما في رواية أخرى.
هذا ملخص ما ذكر أو يذكر لهذين العنوانين - المحكم والمتشابه - من المعنى
عند اللغة.



(1) سورة البقرة: 70.
(2) سورة البقرة: 25.
(3) سورة البقرة: 118.
(4) الكافي: 1 / 68، وسائل الشيعة: 27 / 157 ح 9.
69
وأما معناهما في الاصطلاح - اصطلاح أهل الشرع - فقد قيل فيهما أقوال:
منها: ان المحكم ما علم المراد بظاهره من غير قرينة تقترن إليه، ولا دلالة تدل
على المراد به لوضوحه، مثل قوله تعالى: * (إن الله لا يظلم الناس شيئا) * (1) و * (لا
يظلم مثقال ذرة) * (2) ونحو ذلك مما لا يحتاج معرفة المراد منه إلى دليل، والمتشابه
ما لا يعلم المراد بظاهره حتى يقترب به ما يدل على المراد منه لالتباسه نحو قوله
تعالى: * (وأضله الله على علم) * (3) فإنه يفارق قوله سبحانه: * (وأضلهم
السامري) * (4) لأن إضلال السامري قبيح، وإضلال الله تعالى حسن، ومثل قوله
تعالى: * (ثم استوى على العرش) * (5) فإن الاستواء في اللغة أن يكون الجالس على
السرير، ويحتمل أن يكون بمعنى القهر والاستيلاء، والوجه الأول لا يجوز عليه
سبحانه ننزهه عن الجسمة.
ومنها: أن المحكم هو الناسخ، والمتشابه هو المنسوخ.
ومنها: أن المحكم ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا، والمتشابه ما
يحتمل وجهين فصاعدا.
ومنها: أن المحكم ما لم تتكرر ألفاظه، والمتشابه ما تكررت ألفاظه، كقصة
موسى، وغير ذلك من القصص.
ومنها: أن المحكم ما يعلم تعيين تأويله، والمتشابه ما لا يعلم تعيين تأويله،



(1) سورة يونس: 44.
(2) سورة النساء: 40.
(3) سورة الجاثية: 23.
(4) سورة طه: 85.
(5) سورة الأعراف: 54، سورة يونس: 3، سورة الرعد: 2....
70
كقيام الساعة، إلى غير ذلك من الأقوال المتكثرة.
وهنا وعند هذا المقام، ذكر الفخر الرازي في تفسيره الشهير أمرا جعله مدارا
للتمييز بين المحكم والمتشابه، أو ميزانا لتحقيق حقيقة أمري المحكم والمتشابه لا
بأس بنقله لمزيد الفائدة.
قال: اللفظ الذي جعل موضوعا لمعنى، فإما أن يكون محتملا لغير ذلك
المعنى، وإما أن لا يكون، فإذا كان اللفظ موضوعا لمعنى ولا يكون محتملا لغيره،
فهذا هو النص، وأما إن كان محتملا لغيره فلا يخلو، إما أن يكون احتماله لأحدهما
راجحا على الآخر، سمى ذلك اللفظ بالنسبة إلى الظاهرة راجحا، وبالنسبة إلى
المرجوح مؤولا، وإما إن كان احتماله لهما على السوية كان اللفظ بالنسبة إليهما معا
مشتركا، وبالنسبة إلى كل واحد منهما على التعيين مجملا، فقد خرج من التقسيم
الذي ذكرناه، ان اللفظ إما أن يكون نصا أو ظاهرا، أو مؤولا، أو مشتركا، أو مجملا،
أما النص والظاهر فيشتركان في حصول الترجيح، إلا أن النص راجح، مانع من الغير،
والظاهر راجح غير مانع من الغير، فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمحكم.
وأما المجمل والمؤول، فهما مشتركان في أن دلالة اللفظ عليه غير راجحة،
وإن لم يكن راجحا، لكنه غير مرجوح، والمؤول مع أنه غير راجح فهو مرجوح، لا
بحسب الدليل المنفرد، فهذا القدر المشترك هو المسمى بالمتشابه، لأن عدم الفهم
حاصل في القسمين جميعا، وقد بينا أن ذلك يسمى متشابها، إما لأن الذي لا يعلم
يكون النفي فيه مشابها للاثبات في الذهن، وإما لأجل أن الذي يحصل فيه المتشابه
يصير غير معلوم، فأطلق لفظ المتشابه على ما لا يعلم إطلاقا لاسم السبب على
المسبب، فهذا هو الكلام المحصل في المحكم والمتشابه. انتهى موقع الحاجة من
كلامه.

71
المرحلة الثالثة: في بيان الفوائد، أو بعض الفوائد التي جعل بعض القرآن من
أجلها محكما، وجعل بعضه متشابها، وقد طعن بعض من لا إيمان له في القرآن على
هذه الناحية، حيث اشتمل على المتشابهات، فقال: إنكم تقولون: إن تكاليف الخلق
مرتبطة بهذا القرآن إلى قيام الساعة، ثم إننا نراه يتمسك به كل ذي مذهب على
مذهبه، فالجبري يتمسك بآيات الجبر كقوله تعالى: * (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن
يفقهوه وفي آذانهم وقرا) * (1)، والقدري يقول: هذا مذهب الكفار، بدليل أنه تعالى
حكى عن الكفار ذلك في معرض الذم لهم في قوله سبحانه: * (وقالوا قلوبنا في أكنة
مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر) * (2)، وقال في موضع آخر: * (وقالوا قلوبنا
غلف) * (3)، وهذا أيضا من يرى ثبوت الرؤية في حق الله تعالى في الآخرة يتمسك
بقوله تعالى: * (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) * (4)، ومن ينفي ذلك يتمسك
من القرآن نفسه في مثل قوله تعالى: * (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) * (5)،
وهذا من يثبت الجهة لله تعالى يتمسك به في مثل قوله تعالى: * (يخافون ربهم من
فوقهم) * (6)، وبمثل قوله تعالى: * (الرحمن على العرش استوى) * (7)، ومن ينفي ذلك
يتمسك بقوله تعالى: * (ليس كمثله شئ) * (8)، ثم هو الآمر الآخر، إن كل واحد من
هؤلاء وهؤلاء، يسمي الآيات الموافقة لمذهبه محكمة، والآيات المخالفة لمذهبه



(1) سورة الأنعام: 25.
(2) سورة فصلت: 5.
(3) سوره البقرة: 88.
(4) سورة القيامة: 22 و 23.
(5) سورة الأنعام: 103.
(6) سورة النحل: 50.
(7) سورة طه: 5.
(8) سورة الشورى: 11.
72
متشابهة، فكيف - والحال هذه - يليق بالحكيم أن ينزل الكتاب الذي هو مصدر
الأحكام والتشريع، ومرجع العقائد والآداب، من يومه إلى يوم الدين، بهذا الحال
المضطرب؟ وكان الواجب في الحكمة أن يجعله واضحا جليا ليحق الحق ويبطل
الباطل، فلا يكون بما له من الصراحة مستمسك للباطل بوجه من الوجوه.
أجيب عن ذلك بوجوه:
الأول: أنه متى كانت المتشابهات في القرآن كان الوصول إلى الحق أصعب
وأشق، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب، قال الله تعالى: * (أم حسبتم أن تدخلوا
الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) * (1).
الوجه الثاني: أن القرآن لو كان كله محكما بالكلية لما كان مطابقا لمذهب
واحد، وكان تصريحه مبطلا لما سوى ذلك المذهب، وكان مما ينفر أرباب
المذاهب عن قبوله وعن النظر فيه، فالانتفاع به إنما حصل حيث كان مشتملا على
المحكم وعلى المتشابه، فحينئذ ينظر فيه جميع أرباب المذاهب، ويجتهد في
التأمل فيه كل صاحب مذهب أن يجد فيه ما يقوي مذهبه ويؤيد رأيه، فحينذاك
ينظر فيها جميع أرباب المذاهب، ويجتهد في التأمل فيه كل صاحب مذهب، فإذا
بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات، فبهذا الطريق يتخلص
المبطل عن باطله، ويصل إلى الحق والحقيقة.
الوجه الثالث: أن القرآن إذا كان مشتملا على المحكم والمتشابه، افتقر الناظر
فيه إلى الاستعانة بدليل العقل، وحينئذ يتخلص من ظلمة التقليد ويصل إلى ضياء
الاستدلال والبينة، أما لو كان كله محكما لم يفتقر إلى التمسك بالدلائل العقلية،



(1) سورة آل عمران: 142.
73
فحينئذ يبقى في الجهل والتقليد.
الوجه الرابع: أنه لما كان القرآن مشتملا على المحكم افتقر إلى تعلم طرق
التأويلات وترجيح بعضها على بعض، وافتقر تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من
علم اللغة والنحو، وعلم أصول الفقه، والفقه والكلام، وعلم التفسير، ولو لم يكن في
القرآن متشابه لما احتاج الانسان إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة، فحرم هذه الفوائد
الوفيرة، فكان إيراد المتشابهات لأجل تحصيل هذه العلوم الكثيرة، وكفى بها فائدة.
الوجه الخامس: وهو عند بعض محققي المفسرين أنه هو السبب الأقوى في
هذا الباب - هو أن القرآن كتاب مشتمل على دعوة الخواص والعوام - بمعنى أنه
كتاب ينذر به كل من بلغه ذلك الكتاب من الناس أجمعين، العارفين منهم وغير
العارفين، سواء في ذلك من حضر زمن الخطاب ومن لم يحضر ذلك الزمان، كما
صرح بذلك الكتاب الكريم نفسه، ونظرا إلى أن طباع العوام تنبو في أكثر الأمور عن
إدراك الحقائق، فمن سمع منهم أول الأمر إثبات موجود ليس بجسم، ولا بمتحيز،
ولا بمشار اليه، ظن أن هذا عدم ونفي فيقع في التعطيل، فكان الأصلح أن يخاطبوا
بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما يتوهمونه ويتخيلونه، ثم لا يقتصر على هذا
وحده ليكون ذلك إغراء بالجهل، وايقاعا في ظلمات الأوهام، بل يمزج ذلك بالكلام
الصريح الدال على الحق الصحيح، فالقسم الأول - وهو المخاطبون به بادئ ذي
بدء - هو المتشابهات، والقسم الثاني - وهو الذي يكشف لهم آخر الأمر - هو
المحكمات.
ونقول بوجه أوضح: هو أن الله تعالى أنزل القرآن الكريم على رسوله العظيم
ليكون قرآن الناس أجمعين، فكما أن رسالة الرسول الأعظم هي رسالة إلى الناس
كافة، وهو (صلى الله عليه وآله) رسول الناس عامة، فليس هو (صلى الله عليه وآله) رسول زمانه فقط، ولا رسالته هي

74
رسالة أهل زمانه فحسب على حد ما قال سبحانه: * (وما أرسلناك إلا كافة
للناس) * (1) هكذا كان قرآنه قرآن الناس عامة، وكتابه كتاب الخلق أجمعين اقتباسا من
ضوء قوله تعالى: * (لأنذركم به ومن بلغ) * (2).
ومما لا شك فيه وهو بارز للحس والعيان أن الزمن في تطور، وأن أهليه
معرض لتعاقب الثقافات المختلفة والمعارف المتعددة، فلكل دور طور، ولكل زمن
معرفة وثقافة، لذلك نرى كثيرا مما كان يعد في زمن سابق حقيقة من الحقائق العلمية
الثابتة يعود في زمن لاحق خيالا من الخيالات، أو حديث خرافة من الخرافات،
والعكس بالعكس، ولو أردنا استعراض ذلك أو بعض ذلك طال الكلام، وضاق بنا
المقام، ولعلنا نعرض أو نتعرض له في وقت آخر إن شاء الله تعالى، فإذا كان الأمر
كذلك كان لزاما على الحكيم العلام بالغيوب أن يجعل القرآن مشتملا على نوع من
الكلام يلين لكل زمن، ويتبين لكل دور، ويستجيب في تفسيره لمختلف الثقافات في
مختلف الفنون والعلوم من الإلهيات والطبيعيات والفلكيات، إلى غير ذلك من
مختلف أنواع المعرفة والحقائق العلمية الثابتة في مختلف الدهور والعصور.
المرحلة الرابعة: هو أن اشتمال القرآن الكريم على المتشابه من الكلام هل
يكون مضرا بفصاحة كلماته؟ وقد سبق عليك في بحث إعجاز القرآن أن القرآن
الكريم بلغ الحد الأعلى من الإعجاز - وإن اختلفت كلمتهم في وجه إعجازه -، فهل
اشتماله على المتشابه يضر بهذه الفصاحة فتكون كلماته غير فصيحة حيث إنها
مشتملة على الغرابة، والغرابة وصف يوجب الاخلال بفصاحة الكلمة الموجب
للإخلال بفصاحة الكلام؟



(1) سورة سبأ: 28.
(2) سورة الأنعام: 19.
75
نرى علماء البيان فسروا الغرابة: بأنها هي كون الكلمة وحشية غير ظاهرة
المعنى، ولا مأنوسة الاستعمال، ونحن حيث نأتي إلى مفردات هذا التعريف نجد
القرآن الكريم خليا عن هذا الوصف المعيب المخل بفصاحة الكلمة، وذلك لأن
الظاهر أن قولهم: " غير ظاهرة، ولا مأنوسة الاستعمال " أخذ في التعريف تفسيرا
للوحشية التي هي منسوبة إلى الوحش الذي يسكن القفار، فكأن الكلمة الغريبة لعدم
مأنوسيتها وعدم ظهورها في المعنى الموضوعة له، من كلام الوحش الذي يسكن
القفار.
ومما لا ريب فيه أن المتشابه في القرآن ليس كذلك.
ومما يدل على ما ذكرناه من أن الوحشية أخذت في التعريف وصفا أو تفسيرا
للغرابة أنهم قالوا: إن الوحشي قسمان: غريب حسن، وغريب قبيح. فالغريب
الحسن: هو الذي لا يعاب استعماله على العرب، لأنه لم يكن وحشيا عندهم، وذلك
مثل: شرنبث واشمخر وقمطر، وهي في النظم أحسن منها في النثر، قالوا: ومنه
غريب القرآن والحديث، والغريب القبيح يعاب استعماله مطلقا ويسمى الوحشي
الغليظ، وهو أن يكون مع كونه غريب الاستعمال ثقيلا على السمع، كريها على
الذوق، ويسمى أيضا عندهم بالمتوعر، وذلك مثل جحيش للفريد، واطلخم الأمر
بمعنى أظلم وأبهم، وجفخث بمعنى فخرت، وأمثال ذلك.
وإن قلنا: بأن كون الكلمة غير ظاهرة المعنى ولا مأنوسة الاستعمال، قيد زائد
على الوحشية، فهو في نفسه عيب مستقل يخل بفصاحة الكلمة استقلالا وفي حد
ذاته، فالوحشية شئ، والغرابة شئ آخر، كما قد يدل عليه مقال بعضهم في هذا
المقام، حيث قال: الغرابة - كما يفهم من كتبهم -: كون الكلمة غير مشهورة
الاستعمال، وهي في مقابلة المعتادة، وهي بحسب قوم دون آخرين، والوحشية هي

76
المشتملة على تركيب ينفر الطبع عنه، وهي في مقابلة العذبة، فالغريبة يجوز أن
تكون عذبة.
نعم، إن قلنا بذلك فالقرآن الكريم منزه عن عيب كذلك، فإنهم يريدون
بالغرابة - حيث يطلقون الغرابة - هي كون الكلمة غير ظاهرة المعنى، ولا مأنوسة
الاستعمال، بالنسبة إلى المعنى الموضوعة له، والمتشابه ليس كذلك، فإنه بالنسبة
إلى الموضوع له ظاهر كل الظهور، وإنما هو غير ظاهر الدلالة على المعنى المراد،
فهو بالنسبة إلى المعنى ظاهر، وبالنسبة إلى المراد غير ظاهر، فالمتشابه غير داخل
في الغرابة على كلا التقديرين، فلا يضر فصاحة القرآن الكريم وجود المتشابه فيه.

77
القرآن وأنه لا تحريف فيه
* (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * (1).
إن الكلام في وقوع التحريف في القرآن وعدم وقوعه فيه يقع في مراحل
ثلاث:
الأولى: أن يراد بالتحريف وقوع الزيادة فيه من كلام غير كلام القرآن.
الثانية: وقوع النقص فيه، بمعنى أنه تصرف فيه المتصرفون، فأنقصوا منه
بعضا من السور، أو بعضا من الآيات.
الثالثة: أن يراد به إخلال النظم والتأليف، بمعنى أنه وقع التصرف فيه حيث
جمع، فضمت آية إلى غير السورة التي هي منها، واقتطعت عن سورتها الخاصة.
أما الكلام في المرحلة الأولى - وهي وقوع الزيادة فيه -: فقد وقع الاجماع
من المسلمين عامة - الخاصة والعامة - على عدم وقوع ذلك فيه، والنصوص تظافرت



(1) سورة النور: 9.
79
وتناصرت عليه حتى أصبح من البداهة الأولية بمكان، وأن الاعتبار العقلي ليساعد
على ذلك كل المساعدة، فإن القرآن الكريم بلغ الحد الأعلى من الإعجاز، فله بلاغة
خاصة، وفصاحة مخصوصة، وأسلوب بين واضح يعلو به على كل الأساليب،
فإدخال سورة أو آية من غيره فيه ينافيه، وهذا واضح كل الوضوح.
أما الكلام على المرحلة الثانية - وهي مرحلة النقيصة - فقد ذهب إليها من
شواذ المسلمين فريق ضعيف اعتمد في ذلك على روايات شاذة مرسلة أو مؤولة،
فلا يعتمد عليها ولا يركن إليها بوجه من الوجوه، وأن الاعتبار العقلي والفحص
التأريخي ليدلان دلالة قطعية على بطلان دعوى وقوع النقص فيه، فإنه لم يبلغ
اهتمام أمة من الأمم في كتبها المقدسة معشار ما بلغ إليه اهتمام الأمة الإسلامية في
كتابها المقدس القرآن الكريم، ولقد كان مدونا في الصدور قبل أن يكون مدونا في
السطور، ولقد حفظ كله في عهد صاحب الرسالة، ولقد ختمه بعض الصحابة الكرام
أمام الرسول العظيم.
ولقد عرف من الصحابة أشخاص بأنهم حفاظ وقراء، مثل: زيد بن ثابت،
ومثل: عبد الله بن مسعود الذي روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) في حقه أنه (صلى الله عليه وآله) قال: " من أراد أن
يقرأ القرآن غضا طريا جديدا كما انزل فليقرأه بقراءة ابن أم معبد " (1) - يعني به عبد
الله بن مسعود -.
بل يروى عن السيد المرتضى علم الهدى (قدس سره) أنه يروي أن القرآن كان مجموعا
مؤلفا على ما هو عليه الآن في عهد صاحب الرسالة الأعظم (صلى الله عليه وآله).
فمن هنا وهناك، تعرف أن دعوى النقيصة في القرآن، دعوى لم تبن إلا على



(1) المبسوط للسرخسي: 6 / 124، بدائع الصنائع: 3 / 55.
80
شفا جرف هار، ويضاف إلى ذلك هو أن الآيات المدعى نقيصها من القرآن هي
بنفسها شاهدة على نفسها بأنها ليست من القرآن في قليل ولا كثير، فمن ذلك:
(واصطفى من الملائكة وجعل من المؤمنين أولئك في خلقه) لا أدري، ما الذي
اصطفى من الملائكة؟ وما الذي جعل من المؤمنين؟ ثم ما معنى تعقيب ذلك بقوله:
أولئك في خلقه؟ غلط في غلط مادة ومعنى وإعرابا، فأي عاقل يحدث نفسه بأن
يجعل ذلك من القرآن الكريم؟
ومن ذلك: (مثل الذين يوفون بعهدهم اني جزيتهم جنات النعيم) هنا يسأل
السائل ويهزل: ما هو مثلهم؟ هذا هو السؤال، ولا أظنك تظفر بجواب.
ومن ذلك قوله: (ولقد أرسلنا موسى وهارون بما استخلف فبغوا هارون فصبر
جميل) لا أدري - ولا المنجم يدري - ما معنى قوله: بما استخلف؟ وما معنى قوله:
فبغوا هارون؟ ولمن يعود الضمير في استخلف، وبغوا؟ ولمن الأمر بالصبر الجميل؟
وما معنى هذا التعبير المتفكك الذي تأباه فصاحة القرآن وبلاغته، وأسلوبه العالي،
ونظمه البديع.
ومن ذلك قوله: (ولقد أتينا بك الحكم كالذي من قبلك من المرسلين وجعلنا
لك منهم وصيا لعلهم يرجعون) هنا تسكب العبرات أكثر مما هناك، أي نقطة من هذا
التعبير الهزيل يقع السؤال عنها، ثم يقع الجواب عنها على وجه معقول مقبول؟ فما
معنى قوله: وأتينا بك الحكم؟ وما هو مرجع الضمير في: بك، ولعلهم؟ وما معنى
تعقيب ذلك بقوله: لعلهم يرجعون؟
ومن ذلك قوله: (وان عليا قانت في الليل ساجد يحذر الآخرة ويرجو ثواب
ربه، قل هل يستوي الذين ظلموا وهم بعذابي يعلمون) ما محل قوله: هل يستوي
الذين، ومع من يستوون؟ وما هي المناسبة في تعقيب هذه العبارة لفعل علي (عليه السلام)

81
وعبادته؟ وما هي المناسبة لقوله: وهم بعذابي يعلمون؟
ومن ذلك: ما يروى عن عائشة: اننا كنا نقرأ هكذا: وحافظوا على الصلاة
والصلاة الوسطى، وهي صلاة العصر (1).
ومن ذلك: ما يروى عنها وعن غيرها: اننا كنا نقرأ سورة العصر هكذا: (والعصر
إن الانسان ليخسر وإنه فيه إلى آخر الدهر) وهذه الآية نفسها، دليل على غلط نفسها،
فلا تحتاج إلى تعليق أو بيان.
وحيث تعرف هذا فلتعرف ما يترتب على القول بنقصان القرآن من الأباطيل
والأضاليل، وهي أمور:
منها: مخالفة نص القرآن حيث يقول سبحانه: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له
لحافظون) * (2) ولا ريب في أن وقوع النقص في القرآن دليل على أنه لم يحفظ، وقد
قال تعالى: * (وإنا له لحافظون) *، فهذه مخالفة صريحة لنص القرآن الكريم.
ويقول تعالى: * (لا يأتيه الباطل) * ولا ريب أن وقوع النقص فيه وقوع الباطل
فيه، وقد صرح القرآن بأن الباطل لا يأتيه.
وتأويل الآية الأولى بأن المراد من حفظ الذكر هو حفظه في عالم اللوح
المحفوظ ادعاء بلا برهان، على أنه لا ثمرة لهذا الحفظ، ولا توجب للقرآن ميزة على
سائر الكتب المقدسة التي وقع فيها التحريف.
وتأويل الآية الثانية بأن المراد بها الاعتقادات أو التناقضات والاضطرابات
تخصيص لهذا العموم بلا شاهد ولا دليل.



(1) جامع البيان: 2 / 752، فتح الباري: 8 / 146.
(2) سورة الحجر: 9.
82
ومنها: مخالفة الروايات الصحيحة الصريحة، ونكتفي من ذلك بالقليل عن
الكثير، فمن ذلك: ما يروى عن أمير المؤمنين (عليه السلام): " ولقد جئتهم بالكتاب كملا
مشتملا على التنزيل والتأويل " (1) وهذه الرواية صريحة في أن القرآن كامل لم ينقص
منه شئ.
ومن ذلك: ما يروى من مكاتبة أبي جعفر الباقر (عليه السلام) لسعد الخير - كما في
المنقول عن روضة الكافي (2) - فقد ورد فيها: " وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا
حروفه وحرفوا حدوده " فهذه الرواية صريحة صراحة لا تقبل التأويل، أن القرآن لم
تحرف حروفه، يعني لم يزد ولم ينقص من سوره وآياته شئ، وإنما حرفت حدوده
- يعني لم يعمل بمضامينه وما فيه من أحكام -.
ومنها: مخالفة إجماع المحققين من العلماء، وصريح كلماتهم الغالية،
وفصيح أقوالهم العالية في هذه الناحية:
قال شيخنا الصدوق (قدس سره) في كتاب الاعتقاد (3): اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله
تعالى على نبيه (صلى الله عليه وآله) هو ما بين الدفتين، وليس بأكثر من ذلك، ومن نسب إلينا أننا
نقول إنه أكثر من ذلك فهو كاذب، وحمل الروايات الواردة في النقصان على وجوه
اخر.
وقال شيخنا المفيد أعلى الله مقامه في كتابه المسمى بالمقالات (4) من أنه قال
جماعة من أهل الإمامة: إنه - يعني القرآن - لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من



(1) الإحتجاج للطبرسي: 1 / 383، تفسير الصافي: 1 / 47.
(2) الكافي: 2 / 53.
(3) اعتقادات الصدوق: 28، تصحيح الاعتقادات للشيخ المفيد: 84.
(4) أوائل المقالات: 81.
83
سورة، ولكن حذف ما كان متبينا في مصحف أمير المؤمنين (عليه السلام) من تأويله وتفسير
معانيه على حقيقة تنزيله.
وقال سيدنا علم الهدى السيد المرتضى طاب ثراه وقدس الله روحه - حسبما
نقله عنه الشيخ الطبرسي في تفسيره المسمى بمجمع البيان (1) -، قال (قدس سره): إن العلم
بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقائع العظام، والكتب
المشهورة، وأشعار العرب المسطورة، فإن العناية اشتدت، والدواعي توفرت على
نقله وحراسته، وبلغت إلى حد لم يبلغه غيره، لأن القرآن معجزة النبوة، ومأخذ
العلوم الشرعية والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته
الغاية حتى عرفوا كل شئ اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته، فكيف
يجوز أن يكون مغيرا أو منقوصا مع العناية الصادقة والضبط الشديد؟
وقال أيضا (قدس سره): إن العلم بتفسير القرآن وأبعاضه في صحة نقله كالعلم بجملته،
وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنفة، ككتاب سيبويه والمازني،
فإن أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلها ما يعلمون من جملتها، حتى لو أن
مدخلا أدخل في كتاب سيبويه بابا في النحو ليس من الكتاب، لعرف وميز وعلم أنه
ملحق ليس من أصل الكتاب، وكذلك القول في كتاب المازني، ومعلوم أن العناية
بنقل القرآن وضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعراء.
وذكر أيضا طاب ثراه أن القرآن كان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) مجموعا مؤلفا
على ما هو عليه الآن، واستدل على ذلك بأن القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في
ذلك الزمان حتى عنى جماعة من الصحابة في حفظهم له، وكان يعرض على
النبي (صلى الله عليه وآله) ويتلى عليه، وأن جماعة من الصحابة مثل: عبد الله بن مسعود، وأبي بن



(1) ج 1 / 43.
84
كعب، وغيرهما، ختموا القرآن على النبي عدة ختمات، وكل ذلك يدل بأدنى تأمل
على أنه كان مجموعا مرتبا غير مبتور ولا مبتون.
وذكر طاب ثراه، أن من خالف من الإمامية والحشوية لا يعتد بخلافهم: فإن
الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنوا
صحتها، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته.
وقال شيخنا شيخ الطائفة الشيخ أبو جعفر الطوسي طاب ثراه في تفسيره
المعروف المسمى ب‍ " التبيان " - حسبما نقله عنه بعض المحققين من العلماء (1).
أما الكلام في زيادته ونقصه فمما لا يليق به أيضا، لأن الزيادة مجمع على
بطلانها، والنقصان، فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه، وهو الأليق بالصحيح
من مذهبنا، وهو الذي نصره المرتضى (قدس سره)، وهو الظاهر من الروايات، غير أن ظاهر
روايات كثيرة من جهة الخاصة والعامة نقصان كثير من آي القرآن، ونقل شئ منه من
موضع إلى موضع طريقها الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا والأولى الإعراض
عنها.
وقال شيخنا البهائي أعلى الله مقامه - حسبما نقله عنه بعض علماء التفسير -:
وأيضا اختلفوا في وقوع الزيادة والنقصان فيه، والصحيح أن القرآن العظيم
محفوظ عن ذلك زيادة كان أو نقصانا، ويدل عليه قوله تعالى: * (وإنا له
لحافظون) * (2) وما اشتهر بين الناس من اسقاط اسم أمير المؤمنين (عليه السلام) منه في بعض
المواضع، مثل قوله تعالى: * (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - في



(1) أوائل المقالات: 186.
(2) سورة الحجر: 9.
85
علي -) * (1) وغير ذلك، فهو غير معتبر عند العلماء.
وقال شيخنا الطبرسي طاب ثراه في تفسيره الشهير المسمى ب‍ " مجمع
البيان " (2):
ومن ذلك: القول في زيادة القرآن ونقصانه فإنه لا يليق بالتفسير، فأما الزيادة
فيه: فمجمع على بطلانها، وأما النقصان منه: فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم
من حشوية العامة أن في القرآن تغييرا ونقصانا، والصحيح من مذهب أصحابنا
خلافه، وهو الذي نصره المرتضى قدس الله روحه، واستوفى الكلام فيه غاية
الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات.
وقال سيدنا القاضي نور الله تعالى مرقده - حسبما نقل عنه في كتابه المسمى
ب‍ " مصائب النواصب " -:
ما نسب إلى الإمامية من وقوع التغيير في القرآن ليس مما قال به جمهور
الإمامية، إنما قال به منها شرذمة قليلة، لا اعتداد بهم فيما بينهم.
وقال سيدنا المقدس البغدادي قدس الله روحه - حسبما نقل عنه في شرح
الوافية -:
وإنما الكلام في النقيصة، والمعروف بين أصحابنا - حتى حكي الاجماع عليه
- عدم النقيصة أيضا.
وعنه أيضا، عن الشيخ علي بن عبد العالي: أنه صنف في نفي النقص رسالة
مستقلة، وذكر كلام الصدوق المتقدم، ثم اعترض بما يدل على النقيصة من



(1) سورة المائدة: 67.
(2) ج 1 / 42 - 43.
86
الأحاديث، وأجاب بأن الحديث إذا جاء على خلاف الدليل من الكتاب والسنة
المتواترة والإجماع ولم يمكن تأويله ولا حمله على بعض الوجوه، وجب طرحه.
وقال شيخنا الأكبر الشيخ جعفر، في كتابه الشهير المسمى ب‍ " كشف الغطاء " (1)
في كتاب " القرآن ":
السابع: في زيادته، لا زيادة فيه، لا من سورة، ولا من آية من بسملة وغيرها،
لا كلمة ولا حرف، وجميع ما بين الدفتين مما يتلى كلام الله تعالى بالضرورة من
المذهب، بل الدين وإجماع المسلمين، وإخبار النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام)
وإن خالف بعض من لا يعتد به في دخول بعض ما رسم في اسم القرآن.
الثامن: في نقصه، لا ريب في أنه محفوظ من النقصان بحفظ الملك الديان،
كما دل عليه صريح القرآن وإجماع العلماء في جميع الأزمان، ولا عبرة بالنادر، وما
ورد من أخبار النقيصة تمنع البديهة من العمل بظاهرها، ولا سيما ما فيه نقص ثلث
القرآن، أو أكثر منه فإنه لو كان ذلك لتواتر نقله لتوافر الدواعي عليه، ولاتخذه غير
أهل الاسلام من أعظم المطاعن على الاسلام وأهله، ثم كيف يكون ذلك وكانوا
شديدي المحافظة على ضبط آياته وحروفه وخصوصا ما ورد أنه صرح فيه بأسماء
كثير من المنافقين في بعض السور، ومنهم: فلان وفلان، وكيف يمكن ذلك، وكان
من حكم النبي (صلى الله عليه وآله) الستر على المنافقين، ومعاملتهم معاملة أهل الدين، ثم إنه
كان (صلى الله عليه وآله) يخشى على نفسه الشريفة منهم، حتى أنه حاول عدم التعرض لنصب أمير
المؤمنين (عليه السلام) حتى جاءه التشديد التام من رب العالمين، فلا بد من تأويلها بأحد
وجوه:



(1) ج 2 / 298.
87
أحدها: النقص مما خلق لا مما انزل.
ثانيها: النقص مما انزل إلى السماء لا مما وصل إلى خاتم الأنبياء.
ثالثها: النقص في المعاني.
رابعها: إن الناقص من الأحاديث القدسية.
والذي أختاره، أن المنزل من الأصل ناقص في الرسم وما نقص منه محفوظ
عند النبي وآله (عليهم السلام)، وأما ما كان للإعجاز الذي شاع في الحجاز وغير الحجاز، فهو
مقصور على ما اشتهر بين الناس، لم يغيره شئ من النقصان، من زمن النبي (صلى الله عليه وآله) إلى
هذا الزمان، وكل ما خطب أو خاطب به النبي (صلى الله عليه وآله) لم يتغير ولم يتبدل. انتهى شريف
كلامه زيد في علو مقامه.
هنا ولنقف عند هذا الحد، فما نقلنا كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو
شهيد، وقد عرفت أن النصوص تضافرت، وأن أقوال العلماء تكاثرت على أن القرآن
لا زيادة فيه ولا نقيصة، لا من سورة، ولا من آية، ولا من كلمة، حتى أن ما ينقل من
سقوط اسم أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي كان مصرحا به في القرآن الكريم، ثم حذف
وحرف، قول لا نصيب له من الصحة، ولا قدر نقير، والقصد من تلك الأخبار هو بيان
المعنى المقصود من القرآن، لا وقوع النقص فيه، ويزيد ذلك وضوحا على وضوح
الرواية المنقولة في الكافي (1)، في باب نص الله ورسوله على الأئمة واحدا بعد
واحد، وهي صحيحة أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) وفيها: فقلت له: إن الناس
يقولون: فما له لم يسم عليا وأهل بيته في كتاب الله؟
قال (عليه السلام): " فقولوا لهم: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نزلت عليه الصلاة ولم يسم الله لهم



(1) ج 1 / 286 ح 1.
88
ثلاثا ولا أربعا، حتى كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) هو الذي فسر لهم ذلك، وكذا قال (عليه السلام) في
الزكاة والحج: إن مقتضى هذه الرواية تصديق الإمام (عليه السلام) لقول الناس: إن الله لم يسم
عليا في القرآن، وان التسمية إنما كانت تفسيرا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث: " من
كنت مولاه "، و " حديث الثقلين "، إلى غير ذلك من الأحاديث.
وليعلم أيضا أن الروايات التي استند إليها القائلون بوقوع التحريف روايات لم
ترو إلا عمن لا يصح الاعتماد عليه في رواية، وكل منهم وصفه علماء الرجال
بوصف لا يصح معه القبول، فمنهم من وصف بأنه: مضطرب الحديث، يعرف
حديثه وينكر، ويروي عن الضعفاء. ومنهم من وصف بأنه: ضعيف الحديث، فاسد
المذهب، مجفو الرواية. ومنهم من وصف بأنه: كذاب متهم لا أستحل أن أروي
تفسيره حديثا واحدا، وأنه معروف بالوقف، وأشد الناس عداوة للرضاع. ومنهم من
وصف بأنه: كان غاليا كذابا. ومنهم من وصف بأنه: ضعيف لا يلتفت إليه، ولا يعول
عليه، ومن الكذابين. ومنهم من وصف بأنه: فاسد الرواية، يرمى بالغلو فمثل هؤلاء
الرواة قليلون وإن كثروا، فكيف يعول عليهم في ترتيب الأثر في مثل هذا الأمر
الجسيم.
وليعلم أيضا أن محذور التزام تحريف القرآن لا يقف عند هذه الحدود، بل
هناك محذور آخر، وهو أنه بناء على وقوع التحريف في القرآن - ولا تحريف فيه - لا
يمكننا التمسك بالقرآن على إقامة حكم من الأحكام، أو أصل من الأصول، أو فرع
من الفروع، ذلك أنه بعد أن حصل لنا العلم الاجمالي بوقوع التحريف فيه، يكون كل
قسم من أقسامه مشبه التحريف، فلا يمكن التمسك به، مع أن القرآن الكريم هو
المدرك الأول من المدارك التي تستنبط منها الأحكام، ضروري من ضروريات
المسلمين عامة، والإجابة عن هذا المحذور وإن كانت ممكنة بأن العلم الاجمالي لا

89
أثر له في المقام لانحلاله لدورانه بين ما هو محل الابتلاء وما هو غير محل الابتلاء،
ذلك أن القرآن الكريم ليس مقصورا على بيان الأحكام الشرعية فحسب، بل فيه
القصص والحكايات والحكم والأمثال، إلى أمثال ذلك، فلا أثر لهذا العلم الاجمالي
ببركة هذا الانحلال.
المرحلة الثالثة: في وقوع التحريف فيه - أعني القرآن - من حيث النظم
والتأليف والجمع والتدوين، وذلك كتقديم الناسخ على المنسوخ، والمتشابه على
المحكم، والمتأخر نزولا على المتقدم فيه، وقد قال بهذا قائلون ونحن لا نقول به،
وإن كان القول لا يستلزم ما يلزم الأقوال السابقة من المحاذير.
بقي شئ، وهو أن هذا المعنى الذي ذكرناه، من أن القرآن الكريم لم يوصم
بوصمة وقوع التحريف فيه، هي ميزة القرآن الكريم، امتاز بها على سائر الكتب
المقدسة، مثل التوراة والإنجيل، فإن تلك الكتب قد وقعت معرضا للتحريف
فتلاعبت بها أيدي المحرفين، ولنا على ذلك دليلان: دليل إجمالي، ودليل تفصيلي.
أما الدليل الاجمالي على وقوع التحريف في التوراة، فهو أن التوراة - باعتراف
الإسرائيليين - عرضتها عوارض تقضي عليها في أن تكون معرضا للتحريف، وأما
الإنجيل، فقد اعترف الكثير من علماء المسيحيين أنها لم تكتب على عهد المسيح
عيسى (عليه السلام)، وإنما كتبت من بعده، وقد تناقضت الأناجيل فيما بينها في كثير من
التعاليم والسير.
وأما الدليل التفصيلي: فهو أن الكتب المقدسة عند الديانتين: الديانة
الإسرائيلية - اليهودية -، والديانة المسيحية - النصرانية - تنحصر في كتابين هما:
العهدان: العهد القديم - وهو التوراة - والتوراة كتاب مقدس في نظر كلتا الديانتين
اليهودية والمسيحية، وتشتمل على تسعة وثلاثين سفرا. والعهد الجديد، وهو

90
الإنجيل، ومجموعه سبعة وعشرون كتابا، والأناجيل الرائجة اليوم عند المسيحيين
هي الأناجيل الأربعة: إنجيل متى، وإنجيل يوحنا، وإنجيل لوقا، وإنجيل مرقس.
وحيث تعرف ذلك فلتعرف أن التحريف والتلاعب وقعا في كلا الكتابين:
العهد القديم والعهد الجديد، التوراة والإنجيل.
أما دليل وقوع التحريف في التوراة فهي أمور:
منها: انه لا تصح نسبة هذه الكتب إلى موسى، وأنه جاء به من قبل وحي
أوحى به الله تعالى إليه، إلا حيث يصبح سنده وتنتهي سلسلة روايته إلى صاحب
الرسالة، وأن الآتي بالكتاب المقدس، وهو موسى (عليه السلام) عن طريق الخبر المتواتر، حتى
يحصل اليقين بنسبتها إليه، وآلاف الأخبار الواردة عن طريق الآحاد لا تفيد القطع،
ولا يحصل منها اليقين، وإنما هو الظن والتخمين، والمفروض أن المسألة من الأصول
الاعتقادية التي لابد فيها من القطع واليقين ولا تكفي فيها الظنون.
وحيث تعرف ذلك فاعرف أنه لا تصح نسبة هذه الكتب إلى موسى (عليه السلام)
وذلك لانقطاع اتصال سلسلة سندها إليه عن طريق التواتر، ودليل انقطاع تواترها
أمور:
منها: وقوع الثورات الدموية بين الإسرائيليين، تلك الحروب التي وقعت فيما
بينهم، وفيما بينهم وبين غيرهم من الأمم مما أوجبت انغمار التوراة وانطمارها
وفقدها فيما بينهم، باعترافهم أنفسهم في كثير من الموارد والمصادر، إن شئت
الاطلاع على ذلك فراجع كتبهم المقدسة.
ومنها: وقوع الثورات الفكرية بينهم، أعني الانقلابات الدينية في الأمة
الإسرائيلية التي خرجت بها من التوحيد إلى الشرك، ومن فكرة الألوهية إلى عقيدة

91
الوثنية، فقد مرت على الأمة الإسرائيلية عهود عبدت بها الأصنام والأوثان - بعد
عبادة الله - زمنا غير قليل، ومن الواضح البين الذي لا يحتاج إلى برهان ولا بيان أنه لا
يبقى عند أمة كهذه الأمة - التي خرجت من دين إلى لا دين - كتابها الديني الأول، وإن
شئت الاطلاع على ذلك بتفصيل الحال وتفصيل الحوادث والسوابق فراجع كتبهم
المقدسة.
ومنها: حادثة بخت نصر تلك المجزرة الإسرائيلية العظمى التي لم تبق عليهم
ولم تذر، وفرقتهم شذر مذر، فقد استأصل بخت نصر شأفتهم، وأراق دماءهم،
وأحرق كتبهم، ولم يبق منها شئ، ولم يبق منهم إلا قليل أخرجهم من القدس،
وأسكنهم قسما في بابل وقسما في أصفهان، فكيف يبقى - والحال هذه - عندهم
تواتر ينهي بسند كتابهم المقدس إلى صاحب الشريعة.
ومن الأدلة على وقوع التحريف في العهد القديم - التوراة - وقوع الخرافات
والسخافات فيها التي ينزه عنها قدس الكتب الإلهية، تلك التي لا يرضى العقل ولا
يسمح الدين بنسبتها إلى الوحي السماوي، فمن ذلك: ما جاء في الفصل الثالث من
سفر التكوين في استعراض قصة آدم في نهيه عن الأكل من الشجرة مما اشتمل على
نسبة الجهل والكذب والخداع والخوف من مساواة الانسان له في معرفة الخير
والشر، والاستمتاع بالحياة الأبدية، وهاك نص العبارات هناك:
جاء في الفقرة الثامنة والتاسعة والعاشرة والحادية عشرة من السفر المذكور
في الإصحاح الثالث:
وسمعا صوت الرب الإله ماشيا في الجنة عند هبوب ريح النهار فاختبأ آدم
وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة، فنادى الرب الإله آدم وقال له: أين
أنت؟ فقال: سمعت صوتك في الجنة، فخشيت لأني عريان فاختبأت، فقال: من

92
أعلمك أنك عريان؟ هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها؟ فقال آدم:
المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت.
وفي هذا من نسبة الجهل إلى الله سبحانه ما لا يخفى على لبيب.
وجاء أيضا في نفس الفصل من السفر المذكور من الفقرة الثانية والعشرين إلى
الفقرة الرابعة والعشرين ما هذا نصه:
وقال الرب الإله: هو ذا الانسان قد صار كواحد منا عارفا بالخير والشر والآن
لعله تمد يده ويأخذ من شجرة أيضا ويأكل ويحيى إلى الأبد، فأخرجه الرب الإله من
جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها.
وفي هذا ما لا يخفى على العارفين من خوف الله تعالى من الانسان أن يكون
شريكه في معرفة الخير والشر، وأنه قد يتناول من شجرة الحياة فيكون شريكه أيضا
في الحياة الأبدية، وأن منعه عن تناول الشجرة كان عن كذب ومخادعة.
ومن تلك الخرافات والسخافات: ما جاء في نفس السفر المذكور في
الإصحاح التاسع منه من الفقرة الثامنة عشرة إلى الفقرة الثامنة والعشرين، وهذا نص
العبارة هناك:
وابتدأ نوح يكون فلاحا وغرس كرما، وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل
خبائه، فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه، وأخبر أخويه خارجا، فأخذ سام ويافث
الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى
الوراء فلم يبصرا عورة أبيهما، فلما استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير
فقال: ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته، وقال مبارك الرب إله سام وليكن كنعان
عبدا لهم ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام وليكن كنعان عبدا لهم.

93
أفيرضى عاقل ذو دين أن ينسب إلى قداسة الأنبياء والمرسلين ارتكاب هذه
الكبيرة المنكرة: شرب الخمر وسكر وتعري، وما جاء الأنبياء ولا أرسل المرسلون إلا
لتنزيه الناس من الكبائر والموبقات، وأن الخمر لام الكبائر، وموبقة الموبقات، ولم
يقف الأمر عند حد قدس الأنبياء، ولا عند قداسة كرامة المرسلين، بل تعدى ذلك
إلى قدس الخالق الكريم، إذ نسبت التجسم إليه المستلزم للحدوث المنزه عنه قداسة
الخالق الكريم، كما نسبت جواز النسيان إليه وأنه جعل له علامة تذكره ما لعله ينساه،
فانظر من الإصحاح المذكور الفقرة السادسة والسابعة ما هذا نصه:
ساقك دم الانسان، بسيفك دمه لأن الله على صورته عمل الانسان، فأثمروا
أنتم، وأكثروا، وتوالدوا في الأرض، وتكاثروا فيها.
وجاء أيضا في الإصحاح المذكور في الفقرة الرابعة عشر إلى السابعة عشر ما
نصه:
فيكون متى أنشر سحابا على الأرض وتظهر القوس في السحاب، اني أذكر
ميثاقي الذي بيني وبينكم وبين كل نفس حية في كل جسد، فلا تكون أيضا المياه
طوفانا لتهلك كل ذي جسد، فمتى كانت القوس في السحاب أبصرها لأذكر ميثاقا
أبديا بين الله وبين كل نفس حية في كل جسد على الأرض، وقال الله لنوح: هذه
علامة الميثاق الذي أنا أقمته بيني وبين كل ذي جسد على الأرض.
فأنت ترى أن صراحة هذه الفقرات السخيفة، دلت على نسبة النسيان إلى الله،
وما جعل من العلامة وهي القوس إلا ليكون مذكرا، وان ربا ينسى أو يجوز عليه
النسيان لهو رب يبول برأسه الثعلبان، وقد ذل من بالت عليه الثعالب، هذا والبقية من
التعليق ألقيها على عاتق القارئ الكريم.

94
ومن جملة الأمور التي يستدل بها على وقوع التحريف، وانقطاع سلسلة
سند التوراة بفقد اتصالها إلى موسى (عليه السلام)، اعتراف التوراة نفسها بذلك، تراه ونراه
حين نرى الإصحاح الثاني والعشرين من الملوك الثاني من الفقرة الثامنة إلى الفقرة
الرابعة عشرة حيث جاء ما هو نص العبارة هناك:
فقال حلقيا الكاهن العظيم لشافان الكاتب، قد وجدت سفر الشريعة في بيت
الرب، وسلم حلقيا السفر لشافان فقرأه، وجاء شافان الكاتب إلى الملك ورد على
الملك جوابا وقال: قد أفرغ عبيدك الفضة الموجودة في البيت ودفعوها إلى يد
عاملي الشغل وكلاء بيت الرب، وأخبر شافان الكاتب الملك قائلا قد أعطاني حلقيا
الكاهن سفرا، وقرأه شافان أمام الملك، فلما سمع الملك كلام سفر الشريعة مزق
ثيابه، وأمر الملك حلقيا الكاهن، واخييقام بن شافان، وعكبور بن مخا وشافان
الكاتب وعسايا بعد الملك قائلا: اذهبوا اسألوا الرب لأجلي ولأجل الشعب ولأجل
كل يهوذا من جهة كلام هذا السفر الذي وجد، لأنه عظيم هو غضب الرب الذي
اشتعل علينا من أجل أن آباءنا يسمعوا كلام هذا السفر، ليعملوا حسب كل ما هو
مكتوب علينا.
وحيث ننتهي من نقل هذه الأسطورة ندع الأمر في الحكم إلى القارئ الكريم
يستنتج منها ما فيها من الصراحة بأن نسخة التوراة كانت مفقودة حتى وجدها حلقيا
الكاهن وبشر بها شافان الكاتب، وبشر شافان بها الملك، إلى آخر ما هناك.
ويضاف إلى اعتراف التوراة نفسها اعتراف بعض العلماء الذين ينبغي لهم أن
يؤمنوا بالتوراة إذ هي كتابهم المقدس، ذلك ما نقلته الرسالة المصرية في العدد
الصادر في 18 شعبان سنة 1367 من السنة السادسة عدد 783 - من مقال للأستاذ
الكاتب الشهير نقولا حداد، بعنوان حجة خيط العنكبوت، وهذا نصه - حسبما نقلته

95
الرسالة التي نقل عنها بعض الأشخاص -:
إن اليهود الذين عادوا من سبي بابل سنة 527 - ق. م أي منذ 1773 سنة - من
خروج موسى بشعبه من أرض مصر، يعني بعد نحو 18 قرنا هم الذين شرعوا
يكتبون تلك الأسفار الخمسة، مقتبسين فيها أساطير البابليين وشرائعهم وخرافاتهم
وعاداتهم، وقد طبعوها على قلتهم من أسطورة الخليقة إلى أسطورة الطوفان، إلى
غيرهما، وشريعتهم في " سفر تثنية الاشتراع " تكاد تكون حرفا بحرف من شريعة
حمورابي العربي الذي غزا آشور وبابل، وحكم هو وخلفاؤه فيها نحو مائة سنة.
فهذه الحجة التي يتمسك بها اليهود لم يكتبها موسى ولا كتبها أحد بعهد
موسى، بل هم اليهود الذين عادوا من السبي كتبوها في سنين بعد موسى بثمانية
عشرة قرنا، وليس عندهم سند واحد يثبت أن ما نسبوه إلى موسى هو قول موسى.
هذا، ولو أردنا استقصاء ما في التوراة نفسها أو ما قاله عنها بعض من ينبغي أن
يعترف بها لفاتنا العد والاحصاء، ولسودنا وجوه الطروس بسطور هي أساطير
وخرافات وسخافات يخجل منها وجه الدين، ويعرق منها جبين العقل والعقلاء.
إذن فلننقل كلامنا إلى ما ورد في الأناجيل، والأناجيل الرائجة عند النصارى
اليوم أربعة تلحقها رسائل الرسائل، وقد يطلق عليها أيضا اسم الأناجيل عن طريق
المجاز، ونحن حيث ننقل أو ننقد، ننقل عن الجميع أو ننقد الجميع، وعلى كل حال
فإن الأدلة الدالة على أن هذه الأناجيل محرفة، وأنها ليست بوحي إلهي، وأنها ليست
بكتاب سماوي كثير.
منها: اعتراف بعض الأناجيل نفسها بوقوع التحريف فيها.
من ذلك: ما جاء في أول إنجيل لوقا، الإصحاح الأول، بأن ما كتبه لوقا وكتبه

96
الكثير كان عن طريق الرواية، وهذا نص العبارة هناك:
إذا كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا كما سلمها إلينا
الذين كانوا منذ البدء معانين وخداما للكلمة، رأيت أنا أيضا إذ تبعت كل شئ من
الأول بتدقيق أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز ثاوفيليس لتعرف صحة الكلام
الذي علمت به.
وهذه صراحة - ما فوقها صراحة - في أن ذلك بطريق الرواية، إذن فالنص
الإلهي قد عدم أو حرف وإلا فما هو سبب الحاجة إلى الرواية.
ومن ذلك، ما جاء في آخر إنجيل يوحنا في الفقرة الرابعة والعشرين والخامسة
والعشرين من الإصحاح الحادي والعشرين ما نص العبارة هناك:
هذا هو التلميذ الذي يشهد بهذا، وكتب هذا، وتعلم أن شهادته حق، وأشياء
اخر كثيرة صنعها يسوع، إن كتبت واحدة فلست أظن أن العالم نفسه يسع الكتب
المكتوبة.
المفهوم من هذه العبارة أشياء:
منها: أن كتابة الإنجيل كانت عن طريق الرواية.
ومنها: أنه انقص من ذلك شيئا أو أشياءا، حيث إن العالم على سعته لا يتسع
لذلك، وهذا يعتبر تصرفا في أحكام الشرع غير محمود، بل خيانة للأمانة الواجبة
الأداء.
ومن ذلك: ما جاء في الفقرة الخامسة والعشرين، والفقرة السادسة والعشرين
من الإصحاح السابع من رسالة بولس الأولى إلى أهل كورنتوس، وهذا نص العبارة
هناك:

97
وأما العذارى فليس عندي أمر من الرب فيهن، ولكني أعطي رأيا كمن رحمه
الرب أن يكون أمينا فأظن أن هذا حسن بسبب الضيق الحاضر أنه حسن للإنسان أن
يكون هكذا.
وفي هذه الفقرات صراحة ما فوقها صراحة، بأن ما ذكر بعد هذه الفقرات من
تشريعات وأحكام كانت عن رأيه المحض، لا عن نص مقبول، ولماذا ذلك؟ ألفقد
النص وهذا هو المطلوب؟ أم لأن النص لم يتناول تلك التشريعات فلم يأت فيها
بحكم في حين أنها من أهم المسائل الحيوية المتعلقة بنظم الزواج والطلاق وهي
مسائل حيوية لها قيمتها في هذه الحياة؟
على أننا لو أردنا أن نبعد سيرا في البحث إلى ما هنالك من سخافات
وخرافات في عالم العقائد الأساسية مما يتعلق بالله وصفاته، والمسيح وهباته،
وفكرة التوحيد والتثليث، وأن الواحد حقيقة ثلاثة حقيقة، مما يصطدم وبداهة
العقول الأولية، لوقفنا من تلك الأمور على ما يضحك الثكلى، فيا لله وللعقول، وإن
شئت مزيد الاطلاع فعليك بمراجعة كتاب " الهدى إلى دين المصطفى " تأليف الحجة
المجاهد شيخنا العلامة الشيخ البلاغي قدس الله تعالى سره وأعظم أجره، فقد خدم
الاسلام خدمة لها قيمتها ومقامها عند المسلمين عامة، وجاهد في الله تعالى حتى
أتاه اليقين.

98
القرآن ووقوع النسخ فيه
* (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على
كل شئ قدير) * (1).
اعلم أن الكلام على هذه الآية الكريمة يقع في مراحل:
المرحلة الأولى: في سبب نزول هذه الآية، وقد ذكر المفسرون في أنها نزلت
على أثر طعن اليهود على الاسلام، حيث قالوا: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه
بأمر، ثم ينهاهم عنه ويأمرهم بخلافه، ويقول اليوم قولا، وغدا يرجع عنه؟ فنزلت
هذه الآية الكريمة.
المرحلة الثانية: في قراءة هذه الآية، قرأ ابن عامر: ما ننسخ بضم النون وكسر
السين، وقرأ الباقون بفتحها - أعني النون والسين -، وتوجه قراءة ابن عامر بوجهين:
أحدهما: أن يكون نسخ وأنسخ بمعنى واحد، فليس في رباعي هذا الفعل



(1) سوره البقرة: 106.
99
زيادة على ثلاثيه في معناه.
ثانيهما: أن الهمزة في أنسخ هي همزة الصيرورة والجعل، وليست هي همزة
التعدية، لأن الثلاثي - وهو نسخ - متعد بنفسه فلا يحتاج في التعدية إلى واسطة،
فمعنى أنسخه - على هذا - جعله ذا نسخ، كما يقال: أقبره جعله ذا قبر، كما قال
تعالى: * (ثم أماته فأقبره) * (1) ثم إنه قرأ ابن كثير وأبو عمرو: ننسأها بفتح النون
والهمزة، وهو مجزوم بالشرط، ولا تترك الهمزة في مثل هذا، لأن سكونها علامة
الجزم، وهو من النسئ، وهو التأخير، ومنه قوله تعالى: * (إنما النسئ زيادة في
الكفر) * (2) ومنه سمي بيع الأجل نسيئة، وقال أهل اللغة: أنسأ الله أجله، ونسأ في
أجله، يعني أخر وزاد.
ومنه قوله (صلى الله عليه وآله): " من سره النسئ في الأجل والزيادة في الرزق فليصل
رحمه " (3) ومنه قول العرب: أنسأت الإبل عن الحوض أنسأها إذا أخرتها، وقرأ الباقون
بضم النون وكسر السين، وهو النسيان، ثم إن الأكثر حملوه على النسيان الذي هو
ضد الذكر، ومنهم من حمل النسيان على الترك، على حد قوله تعالى: * (فنسي ولم
نجد له عزما) * (4) بمعنى فترك، وقوله تعالى: * (فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم
هذا) * (5) يعني نتركهم، هذه بعض قراءات الآية، وقرأ آخرون: ما ننسك من آية أو
ننسخها، وقرأ آخرون: ما ننسخ من آية أو ننسكها.



(1) سورة عبس: 21.
(2) سورة التوبة: 37.
(3) صحيح مسلم: 8 / 8، سنن أبي داود: 2 / 133 ح 1693، تفسير الفخر الرازي: 3 /
226، الكافي: 2 / 152 ح 16، بحار الأنوار: 74 / 121 ح 84.
(4) سورة طه: 115.
(5) سورة الأعراف: 51.
100
المرحلة الثالثة: في حقيقة أصل النسخ بحسب مصطلح أهل الشرع.
عرف الناسخ في مصطلح العلماء بأنه عبارة عن طريق شرعي يدل على أن
الحكم الذي كان ثابتا بطريق شرعي لا يوجد بعد ذلك، مع تراخيه عنه على وجه
لولاه لكان ثابتا.
هذا هو تعريف النسخ، وحيث قد عرفنا مجموع هذا التعريف فلتعرف
مفرداته، فنقول:
الطريق الشرعي في هذا التعريف يراد به القدر المشترك بين القول الصادر عن
الله تعالى، وعن رسوله (صلى الله عليه وآله) والفعل المنقول عنه، ويخرج عنه إجماع الأمة على أحد
القولين، لأن ذلك ليس بطريق شرعي على هذا التفسير، ولا يلزم أن يكون الشرع
ناسخا لحكم العقل، لأن العقل ليس طريقا شرعيا، ولا يلزم أن يكون المعجز ناسخا
للحكم الشرعي، لأن المعجز ليس طريقا شرعيا.
المرحلة الرابعة: هي أن النسخ عندنا جائز عقلا واقع نقلا، وقد منع عنه أكثر
اليهود، فبعضهم منع منه عقلا ونقلا، وبعضهم أجازه عقلا ومنع منه نقلا، وقد عرفت
أن الحق هو ما نذهب إليه من جوازه في العقل ووقوعه في النقل.
ووجه الاستدلال عليه عقلا: هو أن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح،
والمصالح تختلف باختلاف الأزمان والأحوال والأشخاص، بحيث يصير ما كان
مصلحة في وقت مفسدة في وقت آخر، ففي وقت صيرورته مفسدة تغير الحكم
المتعلق به حال مصلحته، فحينئذ يزول به التكليف، ووجه الاستدلال عليه نقلا
أمور:
منها: إنه حيث دل الدليل على نبوة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) وثبت نبوته لزم القول

101
بجواز النسخ وإلا لزم بطلان نبوته، هذا خلف.
ومنها: إنه ورد في التوراة: " إن الله تعالى قال لآدم وحواء: إني قد أعطيتكم كل
بقل يبزر بزرا على وجه الأرض، وكل شجر فيه ثمر يبزر بزرا لكم يكون طعاما (30)،
ولكل حيوان الأرض، وكل طير السماء، وكل دابة على الأرض فيها نفس حية ". راجع
ذلك في الفقرة التاسعة والعشرين إلى الفقرة الثلاثين من الإصحاح الأول من سفر
التكوين.
وجاء فيها أيضا، خطابا من الله تعالى لنوح (عليه السلام): " وكل دابة حية تكون لكم
طعاما كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع غير أن لحما بحياته دمه لا تأكلون " كما
جاء في الفقرة الثالثة إلى الفقرة الرابعة من الإصحاح التاسع من سفر التكوين.
فأنت ترى أن الله تعالى حرم على نوح ما كان حلالا لآدم وحواء، وهذا نسخ
صريح، فإن تكن التوراة غير محرفة، فهذا دليل برهاني، وإن تكن محرفة، فهذا دليل
إلزامي.
ومنها: إن الله سبحانه أباح لإبراهيم ختان ولده إسماعيل، فإن إسماعيل لم
يختن إلا وهو ابن ثلاثة عشر سنة، بل إبراهيم (عليه السلام) نفسه ختن في اليوم الذي ختن فيه
ولده إسماعيل (عليه السلام) كما جاء في الفقرة الخامسة والعشرين إلى الفقرة السادسة
والعشرين من الإصحاح السابع عشر من سفر التكوين، ولكن حرم على موسى (عليه السلام)
تأخير الختان عن سبعة أيام، كما جاء في الفقرة الثالثة من الإصحاح الثاني عشر من
سفر اللاولين، فهذا أيضا نسخ صريح، والكلام فيه هو الكلام في ماضيه.
احتج اليهود - على مدعاهم - بوجوه:
الأول: إن المأمور به إما أن يكون مصلحة أو مفسدة، فإن كان مصلحة استحال

102
نسخه، وإلا لكان نسخه مفسدة، وهو قبيح، وإن كان مفسدة، استحال الأمر به
باتفاقكم، لكن أمر به، فيكون مصلحة، فلا ينسخ.
الثاني: إن موسى (عليه السلام) قال: " تمسكوا بالسبت أبدا " (1)، وذلك دليل على دوام
شرعه، فإذا كان شرعه دائما استحال نسخه، وإلا لزم كذبه، وهو محال.
الثالث: إن موسى (عليه السلام) إما أن يكون قد بين دوام شرعه، أو يكون قد بين
انقطاعه، أو لم يبين شيئا من الأمرين، والقسمان الأخيران باطلان، فتعين الأول، وهو
أنه قد بين دوام شرعه، فيستحيل نسخه.
أما بطلان القسم الثاني، فلأنه لو بين انقطاع شرعه لوجب نقله، كما نقل باقي
جزئيات شرعه، لا سيما وأن هذا مما تتوفر الدواعي على نقله، لكنه لم ينقل فلم
يبين انقطاعه، وهو المطلوب.
وأما القسم الثالث: وهو أنه (عليه السلام) لم يبين انقطاع شرعه ولا عدم انقطاعه، فهو
باطل، لأنه يلزم منه أن يكون أمره بالتمسك بشرعه أمرا مطلقا، وقد تقرر في الأصول
أن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار، بل يدل على طبيعة الفعل، فإذا وقع على جزئي
من جزئياته حصل المطلوب، لوجودها في ضمن ذلك الجزئي، فليكف المرة
الواحدة، وهو باطل، فإطلاقه الأمر باطل.
وأجيب عن الاحتجاج الأول: بأننا نمنع الحصر، فإنه يجوز أن يكون الشئ
مصلحة في وقت ومفسدة في وقت آخر، ومصلحة بالنسبة إلى شخص، مفسدة
بالنسبة إلى شخص آخر، فيأمر به في وقت هو مصلحة فيه لشخص هو مصلحة له،
وينهى عنه في وقت هو مفسدة فيه ولشخص هو مفسدة له.



(1) زبدة الأصول للشيخ البهائي: 156 حاشية.
103
أقول: إن هذا الاشكال إنما يتم بناءا على أن للعقل مسرحا في إدراك المصالح
والمفاسد، فمن لا يعترف بذلك - كالأشعرية - فهو في راحة من هذا الاشكال على
أشكال، أما من يعترف بذلك كالعدلية - من الإمامية والمعتزلة - فمن يرى منهم أن
الحسن والقبح في الأشياء ليس بذاتي، إنما هو بالوجوه والاعتبارات، والنسب
والإضافات، فهو أيضا في راحة من هذا الإشكال، والجواب الذي ذكرناه الآن ينطبق
على رأيه وفكرته، لكن من يرى أن المصلحة والمفسدة أو الحسن والقبح في الأشياء
ذاتية لها وإنما حكم الشرع كاشف عن تلك المفاسد والمصالح والمحاسن والقبائح
التي هي ذاتية في الأشياء، فهو في قلق من هذا الإشكال، لأن الذاتي لا يختلف ولا
يختلف عليه مكان أو زمان أو أشخاص أو أحوال لكن ما يهون الأمر أن هذا القول لم
يذهب إليه إلا الأقلاء.
نعم، قد يجاب عن هذا الإشكال - حتى بناءا على هذا الرأي -: بأننا لا نفسر
النسخ بأنه: رفع الحكم الثابت بدليل بحكم آخر ثابت بدليل، لأن ما ثبت لا يمكن
رفعه بناءا على هذا الرأي، بل نفسر النسخ بأنه: انتهاء أجل الحكم المؤقت بوقت
خاص لشخص مخصوص. فعلى هذا لا يكون النسخ رفعا للحكم وإنما هو انقضاء
عمر الحكم الذي أنشئ مؤجلا بأجل خاص لشخص مخصوص، وفي النفس شئ
من هذا الجواب، والأولى أن نذهب مذهب من يذهب إلى أن المصالح والمفاسد
اعتباريات في الأشياء لا ذاتيات.
وأجيب عن الثاني: بالمنع من صحة هذا الخبر، فإنه مختلق اختلقه لهم ابن
الراوندي، وعلى تقدير تسليم صحته - تنزلا - نمنع من تواتره، بل هو من الآحاد
المفيدة للظن، وهذه المسألة من مسائل الاعتقاد التي يشترط فيها العلم، فالظن فيها
غير كاف ولا مفيد، ودليل كون هذا الخبر غير متواتر أنهم كانوا مجتمعين في الشام

104
إلى أن قتل بخت نصر البابلي أكثرهم إلا أناسا قليلين منهم لا يفيد قولهم التواتر
وبعث بهم بخت نصر إلى أصفهان، ولم يكن وصل منهم أحد إلى العجم قبل ذلك،
فبنوا بها المدينة المعروفة باليهودية، والذي يشهد بعدم تواترهم أن التوراة بعد
بخت نصر صارت ثلاث نسخ مختلفة:
إحداها: في أيدي القرابين والربانيين.
وثانيها: في أيدي السامرة.
وثالثها: النسخة المعروفة بتوراة السبعين التي اتفق عليها سبعون حبرا من
أحبارهم، وهي التي في أيدي النصارى. وهذه النسخ مختلفة في التواريخ والأحكام
الشرعية، ولو كان لهم تواتر لما حصل هذا الاختلاف، وسيأتي لهذا الكلام مزيد بيان
في محل آخر إن شاء الله.
ثم إننا لو سلمنا ذلك، فلا نسلم أن لفظ التأييد نص في الدوام الذي لا انقطاع
له، بل هو محتمل للأمد الطويل، ويدل عليه ما ورد في التوراة من قصة الفصيح
وغيرها من العبارات مما لا نريد أن نطيل بها الكلام.
المرحلة الخامسة: أجمعوا على وقوع النسخ في القرآن، ولم يشذ إلا أبو
مسلم بن بحر (1) فادعى أن النسخ لا يقع في القرآن، مستدلا على ذلك بأن الله تعالى
وصف كتابه بأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فلو نسخ لكان قد أتاه
الباطل.
وأجيب عن ذلك: بأن المراد أن هذا الكتاب لم يتقدمه من كتب الله ما يبطله،
ولا يأتيه من بعده ما يبطله على أحد التفاسير.



(1) هو: أبو مسلم بن بحر الأصفهاني، انظر: زبدة الأصول للشيخ البهائي: 155.
105
استدل الجمهور القائلون بوقوع النسخ في القرآن بوجوه:
أحدها: هذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: * (ما ننسخ من آية أو ننسها
نأت بخير منها أو مثلها) * (1).
أجاب أبو مسلم عن الاستدلال بهذه الآية بوجوه:
الأول: أن المراد في الآيات المنسوخة هي الشرائع التي في الكتب المقدسة
القديمة من التوراة والإنجيل، كالثبث، والصلاة إلى المشرق والمغرب، فما وضعه الله
تعالى عنا وتعبدنا بغيره فإن اليهود والنصارى كانوا يقولون: لا تؤمنوا إلا لمن تبع
دينكم، فأبطل الله تعالى عليهم ذلك بهذه الآية.
الوجه الثاني: أن المراد من النسخ نقله من اللوح المحفوظ وتحويله عنه إلى
سائر الكتب، وهو كما يقال: نسخت الكتاب، فالنسخ هنا معناه النقل والتحويل، لا
المحو والإزالة.
الوجه الثالث: أن هذه الآية لا تدل على وقوع النسخ، بل على أنه لو وقع
النسخ لوقع إلى خير منه.
أجيب عن جوابه الأول: بأن الآيات إذا أطلقت فالمراد بها آيات القرآن، لأنه
هو المعهود عند نا.
وأجيب عن جوابه الثاني: بأن نقل القرآن من اللوح المحفوظ لا يختص ببعض
القرآن، وهذا النسخ مختص ببعضه.
الحجة الثانية - للقائلين بالنسخ ووقوعه في القرآن -: إن الله تعالى أمر المرأة



(1) سورة البقرة: 106.
106
المتوفى عنها زوجها بالاعتداد حولا كاملا، وذلك في قوله سبحانه: * (والذين
يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير اخراج) * (1)
ثم نسخ ذلك بأربعة أشهر وعشرا، كما قال تعالى: * (والذين يتوفون منكم ويذرون
أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) * (2).
أجاب أبو مسلم - المانع للنسخ -: بأن الاعتداد بالحول ما زال بالكلية، لأنها لو
كانت حاملا ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولا كاملا، وإذا بقي هذا الحكم
في بعض الصور كان ذلك تخصيصا لا نسخا. (3)
وأجيب: إن عدة الحمل تنقضي بوضع الحمل سواء حصل وضع الحمل
بسنة، أو أقل، أو أكثر، فجعل السنة مدة العدة يكون زائلا بالكلية.
الحجة الثالثة: أمر الله تعالى تقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول بقوله
تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم
صدقة) * (4) ثم نسخ ذلك.
أجاب أبو مسلم: إنما زال ذلك لزوال سببه، لأن سبب التعبد بها أن يمتاز
المنافقون من حيث إنهم لا يتصدقون عن المؤمنين من حيث إنهم يتصدقون.
وأجيب عنه: إنه لو كان ذلك كذلك لكان من لم يتصدق منافقا، وهو باطل،
لأنه روي أنه لم يتصدق غير علي (عليه السلام)، ويدل عليه قوله تعالى: * (فإذ لم تفعلوا وتاب



(1) سورة البقرة: 240.
(2) سورة البقرة: 234.
(3) المحصول للرازي: 3 / 307.
(4) سورة المجادلة: 12.
107
الله عليكم) * (1).
الحجة الرابعة: أنه تعالى أمر بثبات الواحد للعشرة بقوله تعالى: * (إن يكن
منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين) * (2) ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: * (الآن خفف
الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين) * (3).
الحجة الخامسة: قوله تعالى: * (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن
قبلتهم التي كانوا عليها) * (4) ثم إنه تعالى أزالهم عنها بقوله تعالى: * (فول وجهك
شطر المسجد الحرام) * (5).
أجاب أبو مسلم: بأن حكم تلك القبلة ما زال بالكلية لجواز التوجه إليها عند
الإشكال، أو مع العلم إذا كان هناك عذر.
وأجيب: بأنه على ما ذكرته، بين بيت المقدس وسائر الجهات، فالخصوصية
التي امتاز بها بيت المقدس عن سائر الجهات قد زالت بالكلية.
الحجة السادسة: قوله تعالى: * (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل
قالوا إنما أنت مفتر) * (6) والتبديل يشتمل على رفع وإثبات، والمرفوع، إما التلاوة،
وإما الحكم، وكيف كان فهو رفع ونسخ.
هذا مذهب أبي مسلم في منع وقوع النسخ في القرآن، وحججه، والجواب



(1) سورة المجادلة: 13.
(2) سورة الأنفال: 65.
(3) سورة الأنفال: 66.
(4) سورة البقرة: 142.
(5) سورة البقرة: 144، 149، 150.
(6) سورة النحل: 101.
108
عن تلك الحجج.
وذهب جماعة من المسلمين إلى إنكار النسخ واحتجوا بما احتج به اليهود
على إنكار النسخ لشريعة موسى (عليه السلام)، فالجواب الجواب، فلا حاجة إلى أن نطيل
الكلام على ما لهم من كلام، وأول هؤلاء ما وقع في الشرائع مما ظاهره النسخ، بأنه
ليس بنسخ، إنما هو انتهاء الحكم المؤقت بوقت خاص لشخص مخصوص، فليس
هو رفعا حتى يكون نسخا، بل هو ارتفاع، وهذا كما ترى لا ينهض حجة على إنكار
النسخ، إنما هو اصطلاح خاص في النسخ ولا مشاحة في الاصطلاح. والنسخ بهذا
المعنى هو مصطلح المتأخرين.
المرحلة السادسة: قالوا: إن المنسوخ إما أن يكون هو الحكم فقط، أو التلاوة
فقط، أو هما معا.
أما الذي يكون المنسوخ هو الحكم دون التلاوة، فكالآيات المارة سابقا.
وأما الذي يكون منسوخ التلاوة فقط، فكما يروى عن عمر أنه قال: كنا نقرأ آية
الرجم: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم (1).
وروي أيضا: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما ثالثا، ولا يملأ جوف
ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب (2).
وأما الذي يكون منسوخ الحكم والتلاوة معا، فهو ما يروى عن عائشة: ان
القرآن قد نزل في الرضاع بعشر معلومات، ثم نسخ بخمس معلومات، فالعشر مرفوع



(1) الاتقان في علوم القرآن: 2 / 25.
(2) الاتقان في علوم القرآن: 2 / 25.
109
التلاوة والحكم جميعا، والخمس مرفوع التلاوة باقي الحكم (1).
ويروى أيضا: أن سورة الأحزاب كانت بمنزلة السبع الطوال أو أزيد ثم وقع
النقصان فيها (2).
هذا ما ذكره العلماء والمفسرون في تقسيم النسخ الواقع في القرآن.
أقول: أما ما هو منسوخ الحكم دون التلاوة فهو واقع في القرآن بالوجدان، ولا
كلام فيه.
وأما ما هو منسوخ الحكم والتلاوة، فإنه مبني على صحة القول بوقوع النقيصة
في القرآن الكريم، وقد مر عليك أن هذا القول بمكان من البطلان، مضافا إلى أن ما
ادعي فيه أنه منسوخ التلاوة باقي الحكم من الخمس المعلومات في حكم الرضاع،
فهذا الحكم ليس بمتفق عليه ليقال إنه باقي الحكم ويرسل القول فيه إرسال
المسلمات، ونظرة عابرة على محررات الفقهاء في باب الرضاع تعطيك فكرة واسعة
عن سعة الخلاف بين الفقهاء في هذا المقام.
وأما الذي هو منسوخ التلاوة دون الحكم، فقد صدق فيه قوم، وكذب فيه
آخرون، والتكذيب فيه هو القول الحق والرأي الأحق، فإن في نفس ما يذكر مما
يدعى أنه كان قرآنا نسخت تلاوته وبقي حكمه، ما يكون دليلا على كذبه عند من له
إلمام أو بعض إلمام بأصول الدراية والحديث، بل وأصول العربية، وقواعد البلاغة،
وأساليب البلغاء، وخاصة ما امتازت به كرامة القرآن الكريم عن سائر الكلام، ونحن لا
نريد أن نذكر لك من المعايب والمثالب في تلك الروايات والمرويات إلا مقتصرين



(1) الاتقان في علوم القرآن: 2 / 22.
(2) الاتقان في علوم القرآن: 2 / 25.
110
على ما عرضه واستعرضه شيخنا الحجة المجاهد الإمام البلاغي بلغه الله درجات
المقربين، وهو ما ذكره في مقدمة تفسيره الموسوم ب‍ " آلاء الرحمن " فإن فيه كفاية لمن
كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
قال طاب ثراه:
ومما ألصقوه بكرامة القرآن المجيد قولهم في الرواية عن زيد بن ثابت: كنا نقرأ
آية الرجم: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة.
وفي الرواية: عن زر، عن أبي: أن سورة الأحزاب كانت تضاهي سورة البقرة،
أو هي أطول منها: وأن فيها أو في آخرها لآية الرجم، وهي: الشيخ والشيخة،
فارجموهما البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم. (1)
وفي رواية السياري من الشيعة: عن أبي عبد الله (عليه السلام) زيادة قوله: بما قضيا من
الشهوة.
وفي رواية الموطأ، والمستدرك، والمسند، وابن سعد، عن عمر - كما
سيأتي -: الشيخ والشيخة، فارجموهما البتة. (2)
وفي رواية أبي امامة بن سهل، أن خالته قالت: لقد أقرأنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) آية
الرجم: والشيخ والشيخة فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة. (3) ونحو ذلك رواية
سعد بن عبد الله وسليمان بن خالد من الشيعة، عن أبي عبد الله (عليه السلام).



(1) المحلى: 11 / 234، السنن الكبرى للنسائي: 4 / 271.
(2) الموطأ: 2 / 835 ح 10، مسند أحمد بن حنبل: 5 / 132، المستدرك على الصحيحين:
2 / 415، الايضاح: 219.
(3) المستدرك على الصحيحين: 4 / 359، نيل الأوطار: 7 / 254.
111
ويا للعجب كيف رضي هؤلاء المحدثون لمجد القرآن الكريم وكرامته أن يلقي
هذا الحكم الشديد على الشيخ والشيخة بدون أن يذكر السبب وهو زناهما أقلا،
فضلا عن شرط الإحصان، وأن قضاء الشهوة أعم من الجماع، والجماع أعم من الزنا،
والزنا كثيرا مع عدم الإحصان، سامحنا من يزعم أن قضاء الشهوة كناية عن الزنا، بل
زد عليه كونه مع الإحصان، ولكننا نقول: ما وجه دخول الفاء على الخبر في قوله
تعالى في سورة النور: * (الزانية والزاني فاجلدوا) * (1) لأن كلمة " اجلدوا " بمنزلة
الجزاء لصفة الزنا في المبتدأ، والزنا بمنزلة الشرط، وليس الرجم جزاء للشيخوخة،
وليست الشيخوخة سببا له. نعم، الوجه في دخول الفاء هو الدلالة على كذب
الرواية، ولعل في رواية سليمان بن خالد سقطا بأن تكون صورة سؤاله: هل يقولون
في القرآن رجم؟
وكيف يرضى لمجده وكرامته في هذا الحكم الشديد أن يقيد الأمر بالشيخ
والشيخة، مع إجماع الأمة على عمومه لكل زان محصن بالغ الرشد من ذكر أو أنثى،
وأن يطلق الحكم بالرجم مع إجماع الأمة على اشتراط الاحصان فيه؟ وفوق ذلك
يؤكد الاطلاق ويجعله كالنص على العموم بواسطة التعليل بقضاء اللذة والشهوة
الذي يشترك فيه المحصن وغير المحصن! فتبصر بما سمعته من التدافع والتهافت
والخلل في رواية هذه المهزلة.
وأضف إلى ذلك ما رواه في الموطأ (2) والمستدرك وابن سعد، من أن عمر قال
قبل موته بأقل من عشرين يوما - فيما يزعمونه من آية الرجم -: لولا أن يقول الناس
زاد عمر بن الخطاب في كتاب الله تعالى لكتبتها: " الشيخ والشيخة فارجموهما البتة ".



(1) سورة النور: 2.
(2) ج 2 / 824.
112
وأخرج الحاكم (1) وابن جرير وصححه أيضا، أن عمر قال لما نزلت: أتيت
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقلت: اكتبها لي، وفي نسخة كنز العمال: اكتبنيها، فكأنه كره ذلك.
وقال عمر: ألا ترى أن الشيخ إذا زنى ولم يحصن جلد، وأن الشاب إذا زنى
وقد أحصن رجم.
فالمحدثون يروون أن عمر يذكر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كره أن تكتب آية منزلة،
وعمر يذكر وجوه الخلل فيها، فيا للعجب منهم!
وفي الإتقان: أخرج النسائي: أن مروان قال لزيد بن ثابت: ألا تكتبها في
المصحف؟ قال: ألا ترى الشابين الشيبين يرجمان؟ وقد ذكرنا ذلك لعمر، فقال: أنا
أكفيكم، فقال: يا رسول الله، اكتب لي آية الرجم، فقال: " لا تستطيع " (2). انتهى.
فزيد بن ثابت يعترض عليها، ولما رأوا التدافع بين قول عمر: اكتبها لي، وبين
قول النبي (صلى الله عليه وآله): لا تستطيع، قالوا: أراد عمر بقوله ذلك: ائذن لي في كتابتها، وكأنهم لا
يعلمون أن عمر عربي لا يعبر عن قوله: ائذن لي في كتابتها: اكتبها لي، ومع ذلك لم
يستطيعوا أن يذكروا وجها مقبولا لقوله (صلى الله عليه وآله): لا تستطيع.
وفي رواية كنز العمال (3): عن ابن الضريس، عن عمر، قال: قلت لرسول
الله (صلى الله عليه وآله): يا رسول الله، اكتبها. قال: لا أستطيع.
وأخرج ابن الضريس: عن زيد بن أسلم أن عمر خطب الناس، فقال: لا تشكوا
في الرجم، فإنه حق، ولقد هممت أن أكتبه في المصحف فسألت أبي بن كعب فقال:



(1) المستدرك على الصحيحين: 4 / 360.
(2) فتح الباري: 12 / 127.
(3) ج 5 / 431 ح 13519.
113
أليس أتيتني وأنا أستقرئها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فدفعت في صدري وقلت لي: كيف
تستقرئ آية الرجم وهم يتسافدون تسافد الحمر؟ (1) انتهى.
فهذه الرواية تقول: إن عمر لم يرض بإنزال شئ في الرجم، وليت المحدثون
يفسرون حاصل الجواب من أبي لعمر، وحاصل منع عمر لابي عن استقرائها.
وأخرج الترمذي: عن سعيد بن المسيب، عن عمر، قال: رجم رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
ورجم أبو بكر، ورجمت، ولولا أني أكره أن أزيد في كتاب الله لكتبته في
المصحف. (2)
نعم، يقول: إن كتابة الرجم في المصحف زيادة في كتاب الله وهو يكرهها،
فقابل هذه الروايات الأربع إحداهن بالأخرى واعرف ما جناه المولعون بكثرة الرواية
من المحدثين، وإذا نظرت إلى الجزء الثالث من كنز العمال، صحيفة 9 و 91 (3) فإنك
تزداد بصيرة في الاضطراب والخلل.
هذا ومما يصادم هذه الروايات ويكافحها ما روي من أن عليا (عليه السلام) لما جلد
شراحة الهمدانية يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة قال: " أجلدها بكتاب الله،
وأرجمها بسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ". كما رواه أحمد، والبخاري، والنسائي، وعبد الرزاق
في الجامع، والطحاوي، والحاكم في مستدركه، وغيرهم. (4)
ورواه الشيعة عن علي (عليه السلام) مرسلا، فعلي (عليه السلام) يشهد بأن الرجم من السنة لا من
الكتاب، انتهى ما نقلناه بنصه من كلام شيخنا المجاهد الحجة البلاغي طاب ثراه.



(1) الدر المنثور: 5 / 180.
(2) سنن الترمذي: 2 / 443 ح 1457.
(3) وانظر الطبعة الحديثة: 5 / 428 وما بعدها.
(4) مسند أحمد بن حنبل: 1 / 107، كنز العمال: 5 / 420 ح 13486.
114
المرحلة السابعة: اختلفت كلمة المفسرين في قوله تعالى: * (ما ننسخ من آية
أو ننسها) * (1) فمنهم من فسر النسخ بالإزالة، ومنهم من فسره بالنقل، من قولهم:
نسخت الكتاب، ومن قال بالقول الأول ذكر فيه وجوها:
أحدها: ما ننسخ من آية وأنتم تقرؤونه أو ننسها أي من القرآن ما قرئ بينكم
ثم نسيتم، ومنهم من حمل النسخ على نسخ الحكم دون التلاوة، وننسها على نسخ
الحكم والتلاوة معا، واعترض على هذا بأن وقوع مثل هذا النسيان ممنوع عقلا
وشرعا، أما العقل: فلأن القرآن لا بد من إيصاله إلى أهل التواتر والنسيان بأجمعهم
ممتنع. وأما النقل: فلقوله تعالى: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * (2).
وأجيب عن الأول بوجهين:
الأول: أن النسيان يصح بأن يأمر الله تعالى بطرحه من القرآن وإخراجه من
جملة ما يتلى ويؤتى به في الصلاة، أو يحتج، فإذا أزال حكم التعبد به وطال العهد،
نسي، فكأنه بهذا الوجه منسي.
الجواب الثاني: أن ذلك يكون معجزة للرسول (صلى الله عليه وآله)، ويروى أنهم كانوا يقرؤون
السورة فيصبحون وقد نسوها. والجواب عن دليل النقل هو: أنه معارض بدليل نقلي
آخر، وهو قوله تعالى: * (سنقرؤك فلا تنسى إلا ما شاء الله) * (3) وبقوله تعالى:
* (واذكر ربك إذا نسيت) * (4).
القول الثاني: * (ما ننسخ من آية) * أي نبدلها، إما أن نبدل حكمها فقط، أو



(1) سورة البقرة: 106.
(2) سورة الحجر: 9.
(3) سورة الأعلى: 6 - 7.
(4) سوره الكهف: 24.
115
تلاوتها فقط، أو نبدلهما معا. وأما قوله تعالى: * (أو ننسها) * فالمراد نتركها كما كان،
فلا نبدلها.
القول الثالث: * (ما ننسخ من آية) * أي ما نرفعها بعد إنزالها أو ننسأها - على
قراءة الهمزة - أي نؤخر إنزالها من اللوح المحفوظ، أو يكون المراد: نؤخر نسخها فلا
ننسخها في الحال، فإننا ننزل بدلها ما يقوم مقامها في المصلحة.
القول الرابع: * (ما ننسخ من آية) * وهي التي صارت منسوخة في الحكم
لكنها غير منسوخة في التلاوة، بل هي باقية التلاوة، وقوله تعالى: * (من آية) * حمله
المفسرون على أن المراد بالآية هي الآية من القرآن، سوى أبي مسلم فإنه حمل الآية
من التوراة والإنجيل لما مر عليك من مذهبه من أنه لا يجوز وقوع النسخ في القرآن،
وقوله تعالى: * (نأت بخير منها أو مثلها) * فيه قولان:
أحدهما: أن المراد بخير منها هو الأخف.
وثانيهما: أن المراد به هو الأصلح، واعترض على الثاني بأنه لو كان الثاني
أصلح من الأول لكان الأول ناقص الصلاح، فكيف أمر الله تعالى؟
وأجيب عنه: بأن الأول أصلح من الثاني بالنسبة إلى الوقت الأول، والثاني
بالعكس بالنسبة إليه، فارتفع الاشكال.
وهاهنا كلام طويل طويناه حبا بالاختصار، ولما فيه من بعض الخلل والفساد،
ولكن هاهنا مسائل تتعلق بالنسخ استنبطها العلماء من بركة هذه الآية الكريمة:
منها: أنه يجوز نسخ الحكم إلا إلى بدل، وحجتهم هذه الآية الكريمة فإنها
تدل على أنه تعالى إذا نسخ حكما لا بد من أن يأتي بعده بما هو خير منه، أو بما
يكون مثله، وذلك صريح في وجوب البدل.

116
وأجيب عن ذلك: بأنه لم لا يجوز أن يقال: إن نفي ذلك الحكم وإسقاط التعبد
به خير من ثبوته في ذلك الوقت، مضافا إلى أنه جاء الحكم منسوخا لا إلى بدل كما
نسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول لا إلى بدل؟
ومنها: أنه ذهب قوم إلى أنه لا يجوز نسخ الشئ إلى ما هو أثقل منه،
واحتجوا بأن قوله تعالى: * (نأت بخير منها أو مثلها) * ينافي كونه أثقل، لأن الأثقل لا
يكون خيرا منه ولا مثله.
وأجيب عنه: بأنه لم لا يجوز أن يكون المراد بالخير ما يكون أكثر ثوابا في
الآخرة؟ والذي يدل على وقوعه أن الله سبحانه نسخ في حق الزناة الحبس في
البيوت إلى الجلد والرجم، ونسخ صوم عاشوراء بصوم شهر رمضان، وكانت الصلاة
ركعتين فنسخت بأربع في الحضر. فيتحصل من ذلك كله أن النسخ قد يكون إلى
الأسهل والأخف، وذلك كنسخ العدة من الحول إلى أربعة أشهر وعشر، وكنسخ
وجوب صلاة الليل إلى التخيير فيها، وقد يكون إلى المثل، وذلك كتحويل القبلة من
بيت المقدس إلى البيت الحرام، وقد يكون إلى الأصعب، وذلك كما مر عليك من
نسخ الحبس في البيوت إلى الجلد والرجم في حق الزناة، وكل هذه الأقسام الثلاثة
واقعة في القرآن الكريم كما تراه.
ومنها: أنه ذهب الشافعي إلى أنه لا يجوز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة،
واستدل على ذلك بهذه الآية من وجوه:
أحدها: أنه تعالى أخبر أن ما ينسخه من الآيات يأت بخير منه، وذلك يفيد أنه
يأتي بما هو من جنسه، كما إذا قال الانسان: ما آخذ منك من ثوب آتيك بخير منه،
يفيد أنه يأتيه بثوب من جنسه خير منه، وإذا ثبت أنه لا بد من أن يكون من جنسه
فجنس القرآن قرآن.

117
وثانيها: أن قوله تعالى: * (نأت بخير منها) * يفيد أنه هو تعالى المتفرد بالاتيان
بذلك الخير، وذلك هو القرآن الذي هو كلام الله دون السنة التي يأتي بها الرسول (صلى الله عليه وآله).
وثالثها: أن قوله تعالى: * (نأت بخير منها) * يفيد أن المأتي به خير من الآية،
والسنة لا تكون خيرا من القرآن.
ورابعها: أن قوله تعالى: * (ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير) * (1) دل على
أن الآتي بذلك الخير هو المختص بالقدرة على جميع الخيرات، وذلك هو الله تعالى.
وأجيب عن هذه الوجوه الأربعة بأسرها: أن قوله تعالى: * (نأت بخير منها) *
ليس فيه أن ذلك الخير يجب أن يكون ناسخا، بل لا يمتنع أن يكون ذلك الخير شيئا
مغايرا يحصل بعد حصول النسخ، والذي يدل على تحقيق هذا الاحتمال أن هذه
الآية صريحة في أن الاتيان بذلك الخير مرتب على نسخ الآية الأولى، فلو كان نسخ
تلك الآية مرتبا بهذا الخير لزم الدور، وهو باطل.
احتج الجمهور القائلون بجواز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة بأن آية الوصية
للأقربين منسوخة بقوله عليه الصلاة والسلام: " لا وصية لوارث " (2)، وبأن آية الجلد
صارت منسوخة بخبر الرجم.
أجاب الشافعي عن الأول: بأن كون الميراث حقا يمنع من صرفه إلى الوصية،
فثبت أن آية الميراث مانعة عن الوصية.
وأجاب عن الثاني: بأن عمر روى: " أن الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما "
كان قرآنا فلعل النسخ إنما وقع به.



(1) سورة البقرة: 106.
(2) السنن الكبرى للبيهقي: 6 / 264، المجموع: 15 / 420.
118
أقول: إن الكلام في المقام يقع في مرحلتين:
إحداهما: مسألة نسخ الكتاب بالسنة، وقد وقع فيها كلام كثير وخلاف كبير،
فقائل بجواز النسخ ووقوعه، وقائل بعدم جوازه وعدم وقوعه، وقائل بجوازه دون
وقوعه، وهناك مفصل في القول، ذلك أنه أجاز نسخ السنة للكتاب إذا وافقها وأيدتها
آية من الكتاب، وحيث لا وفاق ولا تأييد، فلا جواز.
وملخص دليل من أجاز نسخ السنة المتواترة للكتاب هو أن السنة المتواترة
متلقاة من الرسول (صلى الله عليه وآله) قطعا، والرسول معصوم في تبليغ الأحكام، فمتى أيقنا بصدور
الرواية عنه واستوفت شروط النسخ اعتبرت ناسخة للكتاب، كما إذا نسخت آية آية
ولا يتأتى فيها ما يتأتى في السنة المروية بخبر الواحد، لأن هذه ظنية فلا ينسخ بها
القطعي، وهو الكتاب، إذ المفروض أن السنة المتواترة قطعية، فنسخ الكتاب بها
نسخ قطعي بقطعي آخر.
وملخص دليل من منع من نسخ الكتاب بالسنة - كما هو رأي الشافعي
وجماعة - هو أن للكتاب مزايا وخصوصيات لا يشاركه فيها غيره، وقد عرفت
الاستدلال السابق بالآية الكريمة وجوابه، وقد رد الشافعي ما أورده المجوزون من
السنة التي هي في زعمهم ناسخة للقرآن، وبين أنها ليست بناسخة وإنما هي
شارحة ومفسرة، وهذا الكلام كله في السنة المتواترة، أما السنة غير المتواترة
وهي السنة المحكية بخبر الواحد فقد أسف فيها بعض المغفلين فذهبوا إلى جواز
نسخ الكتاب بالسنة المحكية بخبر الآحاد ظنا منهم - والظن لا يغني عن الحق شيئا -
بأن دلالة الآية على الحكم ظنية، فكأننا لم ننسخ إلا حكما ظنيا بحكم ظني آخر،
ولم يفطنوا إلى أن الحديث المحكي بخبر الواحد ظني في الدلالة والصدور، فإذا
نسخنا به الكتاب فقد نسخنا حكما ظنيا إسناده إلى الشارع قطعي، بحكم ظني

119
إسناده إلى الشارع أيضا ظني.
المرحلة الثانية: في مسألة نسخ الآية - آية الوصية - بحديث " لا وصية لوارث "
وضعف هذا القول لا أراه يحتاج إلى بيان، ففيه:
أولا: أن هذا الحديث من أخبار الآحاد، وأخبار الآحاد عند المحققين لا
تصلح لأن تنسخ حكم الكتاب، ودعوى أن الأمة تلقته بالقبول فيجري حكما مجرى
المتواتر، دعوى باطلة بعد أن نقل بعض أعاظم علماء أهل السنة أن البخاري ومسلم
لم يرتضيا إسناد روايته.
وثانيا: أنه لا معارضة في التحقيق بين آية الإرث والوصية لتكون آية الإرث
ناسخة لآية الوصية، بل آية الإرث مؤيدة مؤكدة لآية الوصية كما يتمسك بها من
يحاول تقوية الحديث بآية الميراث.
وثالثا: لم يثبت تحقيقا أن آية الوصية نزلت قبل آية المواريث حتى تنسخ آية
المواريث آية الوصية.
ورابعا: أن هذا الحديث معارض بحديث آخر يدل على أن آية الوصية
مخصصة بآية الميراث لا أنها منسوخة، فقد نقل عن ابن عباس أنها خاصة بمن لا
يرث من الوالدين والأقربين كان الوالدين كافرين.
وروي عن أمير المؤمنين (صلى الله عليه وآله): " من لم يوص عند موته لذي قرابته ممن لا
يرث فقد ختم عمله بمعصية ". (1)
وخامسا: أن هذا الحديث روي مختوما بذيل، وهو قوله (صلى الله عليه وآله): " ألا لا وصية



(1) بحار الأنوار: 100 / 200 ح 32.
120
لوارث بما زاد على الثلث " (1) ولعل هذا هو الأصح لمناسبة لمقتضى توزيع الميراث.
هذا وإن أردت زيادة الاطلاع في المسألة فراجع تفسير الأستاذ الإمام محمد
عبدة في المقام، وما كتبناه في نقد كتاب الوصية للأستاذ حسين علي الأعظمي الذي
نشرته مجلة الغري الغراء.
وعلى كل حال فهذا الحديث لا يصلح لنسخ الآية من عدة وجوه، كما عرفت
أن رأي الشافعي أنه لا يجوز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة فضلا عن السنة المروية
بخبر الآحاد، ولكن لم يعرف عن أبي حنيفة قول في هذه المسائل.
وهنا وعند هذا البحث قال الأستاذ الإمام محمد عبدة:
ومن أغرب مباحث النسخ أن الشافعية الذين يبالغ إمامهم في الاتباع فيمنع
نسخ الكتاب بالسنة، ثم هو يبالغ في تعظيم السنة واتباعها ولا يبالي برأي أحد
يخالفها، يقول بعضهم: إن القياس الجلي ينسخ السنة، مع أن البحث في القلة أمر
عقلي يجوز أن يخطأ فيه كل أحد، ويجوز أن يكون ما فهمناه من عموم العلة غير
مراد للشارع، فإذا جاء حديث ينافي هذا العموم وصح عندنا، فالواجب أن نجعله
مخصصا لقلة عموم الحكم، ولا نقول رجما بالغيب: إنه منسوخ، لمخالفته للعلة التي
ظنناها، فإذا كانت المجازفة في القياس قد وصلت إلى هذا الحد - وقد تجرأ الناس
على القول بنسخ مئات من الآيات وإلى إبطال اليقين بالظن وترجيح الاجتهاد على
النص - فعلينا أن لا نحفل بكل ما قيل، وأن نعتصم بكتاب الله قبل كل شئ ثم بسنة
رسول الله (صلى الله عليه وآله) التي جرى عليها أصحابه والسلف الصالحون، وليس في ذلك شئ
يخالف الكتاب العزيز. انتهى كلامه.



(1) الخلاف: 4 / 145، المختصر النافع: 141.
121
هنا ولنذيل هذا البحث بشئ هو بيان الجهة الفارقة بين النسخ والبداء، وقبل
ذلك لا بد من أن نستعرض الحديث في أمر حقيقة البداء، فنقول: حقيقة البداء في
اللغة هو الظهور، ولذلك يقال: بدا لنا سور المدينة، وبدا لنا وجه الرأي، كما قال
تعالى: * (وبدا لهم سيئات ما عملوا) * (1) * (وبدا لهم سيئات ما كسبوا) * (2) ومعنى
كل ذلك هو الظهور، وقد يستعمل ذلك في العلم بالشئ بعد أن لم يكن حاصلا،
وكذلك في الظن، هذا إذا أضيفت اللفظة إلى المخلوقين، أما إذا أضيفت اللفظة إلى
الخالق سبحانه فيراد منها وجوه ستأتيك إن شاء الله تعالى في العاجل القريب، وقبل
ذكرها ينبغي أن نذكر الأخبار الواردة عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) في مسألة البداء.
فقد جاء في المنقول عن الكافي (3): عن زرارة، عن الباقر والصادق (عليهما السلام) قالا:
" ما عبد الله بشئ مثل البداء ".
وفي رواية أخرى: عن هشام بن سالم، عن الصادق (عليه السلام) قال: " ما عظم الله
بشئ بمثل البداء " (4)، إلى غير ذلك من الأحاديث الصحيحة الصريحة.
هذا وأما الأخبار التي دلت على أن البداء لا يستلزم معنى لا يتناسب مع
قدس الخالق سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا فهي كثيرة.
منها: ما روي في الصحيح عن الإمام الصادق (عليه السلام): " ما بدا لله في شئ إلا كان
في علمه قبل أن يبدو له ". (5)



(1) سورة الجاثية: 33.
(2) سوره الزمر: 48.
(3) ج 1 / 146 ح 1.
(4) الكافي: 1 / 146 ح 1.
(5) الكافي: 1 / 148 ح 9.
122
وعنه (عليه السلام) قال: " إن الله تعالى لم يبد له من جهل ". (1)
وعلى كل فالمعنى الصحيح للبداء - حيث ينسب إلى الخالق سبحانه على
نحو يتناسب وقدس الخالق وكرامة الواجب، وهو الذي تقصده الإمامية حيث
ينسبون إليه تعالى البداء، وهو الذي اقتبسوه من نور كلام من كلامهم نور، وهم الأنوار
الأطهار من أهل البيت (عليهم السلام) - يقصد منه أمور كل منها سالم عن المحاذير:
منها: ما نقل عن العلامة المجلسي (2) وهو: أنهم - يعني أهل البيت (عليهم السلام) - إنما
بالغوا في البداء ردا على اليهود القائلين بأن الله تعالى فرغ من الأمر، وعلى النظام،
وبعض المعتزلة القائلين بأن الله خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن
معادن ونباتا وحيوانا وإنسانا، ولم يتقدم خلق آدم على خلق أولاده والتقدم إنما يقع
في ظهورها لا في وجودها وحدوثها، وأخذوا هذه المقالة من أصحاب الكمون
والبروز من الفلاسفة، وعلى بعض الفلاسفة القائلين بالعقول والنفوس الفلكية، وأن
الله تعالى لم يؤثر حقيقة إلا في العقل الأول فهم يعزلونه تعالى عن ملكه وسلطانه،
وينسبون الحوادث إلى هؤلاء، وعلى آخرين منهم قالوا: إن الله سبحانه واحد أوجد
جميع مخلوقاته دفعة واحدة دهرية لا ترتب فيها باعتبار الصدور، بل إنما ترتبها في
الأزمان فقط، كما أنه لا تترتب الأجسام المجتمعة زمانا وإنما ترتبها في المكان فقط،
فنفوا (عليهم السلام) كل ذلك وأثبتوا أنه تعالى كل يوم في شأن، من إعدام شئ وإحداث آخر،
وإماتة شخص وإحياء آخر، إلى غير ذلك، لئلا يترك العباد التضرع إلى الله سبحانه
ومسألته وطاعته والتقرب إليه بما يصلح أمور دنياهم وعقباهم، وليرجوا عند
التصدق على الفقراء وصلة الأرحام وبر الوالدين والمعروف والإحسان ما وعدوا
عليها من طول العمر وزيادة الرزق، وغير ذلك. انتهى كلامه رفع مقامه.



(1) الكافي: 1 / 148 ح 10.
(2) مرآة العقول: 2 / 131.
123
هذا كلامه (قدس سره)، وكأن المقصود منه هو أن البداء بهذا المعنى هو المعنى
المفهوم من عالمي المحو والإثبات، كما قال تعالى: * (يمحوا الله ما يشاء ويثبت
وعنده أم الكتاب) * (1) أو إثبات أن الله تعالى مختار مطلوب في كل الأفعال
التكوينية، وفي كل الإرادات، في كل الأمور، في مختلف الأحوال والشؤون.
ومنها: ما هو المنقول عن السيد الداماد: وهو أن البداء منزلته في التكوين
منزلة النسخ في التشريع، فما هو في الأمر التشريعي والأحكام التكليفية نسخ، هو
في الأمر التكويني والمكونات الزمانية بداء، فالنسخ كأنه بداء تشريعي، والبداء كأنه
نسخ تكويني، وكما أن حقيقة النسخ - عند التحقيق - انتهاء الحكم التشريعي وانقطاع
استمراره لا رفعه ولا ارتفاعه عن وعاء الواقع، فكذا حقيقة البداء - عند الفحص البالغ
- إثبات الاستمرار التكويني وانتهاء اتصال الإفاضة، فكأن مرجعه عنده إلى تحديد
زمان الكون وتخصيص وقت الإفاضة لا أنه ارتفاع المعلول الكائن عن وقت كونه
وبطلانه في حد حصوله.
ومنها: هو أن الأمور - كلها عامها وخاصها، ومطلقها ومقيدها، وناسخها
ومنسوخها، ومفرداتها ومركباتها، وإخباراتها وإنشاءاتها، بحيث لا يشذ عنها شئ -
منقوشة في اللوح والفائض على الملائكة، والنفوس العلوية، والنفوس السفلية، قد
يكون الأمر العام والمطلق حسبما تقتضيه الحكمة الكاملة من الفيضان في ذلك
الوقت، ويتأخر المبين إلى وقت تقتضي الحكمة فيضانه فيه، وهذه النفوس العلوية
وما يشبهها يعبر عنه بكتاب المحو والإثبات، والبداء عبارة عن هذا التغير في ذلك
الكتاب من إثبات ما لم يكن مثبتا ومحو ما يثبت فيه، هذا ولا يخفى أن هذا الوجه
يرجع إلى بعض الوجوه السابقة فلا ينبغي عده وجها مستقلا على حدة.



(1) سورة الرعد: 39.
124
ومنها: وعليه الشيخ أبو جعفر الطوسي شيخ الطائفة (قدس سره) في العدة: هو أن
المراد من البداء هو المراد من النسخ بعينه إلا أن إطلاقه على النسخ فيه نوع من
التوسع والمجاز، وقد نسب هذا القول إلى السيد المرتضى طاب ثراه، لكن الذي
نقله الشيخ في العدة عنه مخالف لهذا النقل، ونحن ننقل لك كلام الشيخ (قدس سره) في
العدة لتقف على حقيقة الحال في القولين، وتطلع على كلا الرأيين.
قال الشيخ أعلى الله مقامه في العدة (1) - في بحث النسخ -:
وأما البداء فحقيقته في اللغة هو الظهور، ولذلك يقال: بدا سور المدينة، وبدا
لنا وجه الرأي، وقال الله تعالى: * (وبدا لهم سيئات ما كسبوا) * (2) و * (بدا لهم
سيئات ما عملوا) * (3) ويراد بكل ذلك ظهر، وقد يستعمل ذلك في العلم بالشئ بعد
أن لم يكن حاصلا، وكذلك في الظن، فأما إذا أضيفت هذه اللفظة إلى الله تعالى فمنه
ما يجوز إطلاقه عليه، ومنه ما لا يجوز، فأما ما يجوز من ذلك، فهو ما أفاد النسخ
بعينه، ويكون إطلاق ذلك عليه على ضرب من التوسع، وعلى هذا الوجه يحمل
جميع ما ورد عن الصادقين - يعني الباقر والصادق (عليهما السلام) - من الأخبار المتضمنة
لإضافة البداء إلى الله تعالى، دون ما لا يجوز عليه، من حصول العلم بعد أن لم
يكن، ويكون وجه إطلاق ذلك فيه تعالى، والتشبيه هو أنه إذا كان ما يدل على
النسخ يظهر به للمكلفين ما لم يكن ظاهرا لهم، ويحصل لهم العلم به بعد أن لم يكن
حاصلا لهم، أطلق على ذلك لفظ البداء.
وذكر سيدنا الأجل المرتضى (قدس سره) وجها آخر في ذلك، وهو أنه قال: يمكن



(1) العدة في أصول الفقه: 2 / 495 - 496.
(2) سورة الزمر: 48.
(3) سورة الجاثية: 33.
125
حمل ذلك على حقيقته، بأن يقال: بدا له تعالى، بمعنى أنه ظهر له من الأمر ما لم
يكن ظاهرا له، وبدا له من النهي ما لم يكن ظاهرا له، لأن قبل وجود الأمر والنهي لا
يكونان ظاهرين مدركين، وإنما يعلم أنه يأمر وينهى في المستقبل. فأما كونه آمرا
وناهيا، فلا يصح أن يعلمه إلا إذا وجد الأمر والنهي، وجرى ذلك مجرى أحد
الوجهين المذكورين في قوله تعالى: * (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم) * (1)
بأن نحمله على أن المراد به حتى نعلم جهادكم موجودا، لأن قبل وجود الجهاد لا
يعلم الجهاد موجودا، وإنما نعلم ذلك بعد حصوله، فكذلك القول في البداء، وهذا
وجه حسن جدا، انتهى موضع الحاجة من الكلام.
وأنت ترى أن هذا الكلام صريح كل الصراحة في أن البداء في نظر السيد
المرتضى (قدس سره) ليس هو المراد من النسخ، كما أن الشيخ نفسه جعله مقابلا للمعنى
المذكور للنسخ المعروف فيه، لكن فيه: أنه يرى أنه تعالى غير عالم بالأشياء قبل
الوقوع، كما ترى صريحه وتصريحه، وهو مذهب مهجور عند أصحابنا الإمامية، وهو
بما قال أعرف، وتحقيق الحق في ذلك يطلب من موسوعات الكتب الكلامية.
ومنها: وهو ما ذكره الشيخ الصدوق (قدس سره) في توحيده (2)، حيث قال:
ليس البداء كما يظنه جهال الناس، بأنه بداء ندامة تعالى الله عن ذلك علوا
كبيرا، ولكن يجب علينا أن نقر لله عز وجل بأن له البداء، معناه أن يبدأ بشئ من
خلقه فيخلقه قبل كل شئ ثم يعدم ذلك الشئ ويبدأ بخلق غيره، أو يأمر بأمر ثم
ينهى عن مثله، أو ينهى عن شئ ثم يأمر بمثل ما نهى عنه، وذلك مثل: نسخ
الشرائع، وتحويل القبلة، وعدة المتوفى عنها زوجها، ولا يأمر الله عباده بأمر في



(1) سورة محمد (صلى الله عليه وآله): 31.
(2) توحيد الصدوق: 335، بحار الأنوار: 4 / 108 ذيل ح 26.
126
وقت ما إلا وهو يعلم أن الصلاح لهم في ذلك الوقت في أن يأمرهم بذلك، ويعلم في
وقت آخر أن الصلاح في أن ينهاهم عن مثل ما أمرهم به، فإذا كان ذلك الوقت أمرهم
بما يصلحهم، فمن أقر بأن الله عز وجل له أن يفعل ما يشاء، ويؤخر ما يشاء ويخلق
مكانه ما يشاء، ويقدم ما يشاء، ويؤخر ما يشاء، ويأمر بما يشاء، فقد أقر بالبداء،
وما عظم الله عز وجل بشئ أفضل من الإقرار بأن له الخلق والأمر، والتقديم
والتأخير، وإثبات ما لم يكن، ومحو ما قد كان، والبداء هو رد على اليهود لأنهم
قالوا: إن الله قد فرغ من الأمر. فقلنا: إن الله تعالى * (كل يوم هو في شأن) * (1)، يحيي
ويميت، ويرزق ويفعل ما يشاء، والبداء ليس من بداء به، وإنما هو ظهور أمر. تقول
العرب: بدا لي الشخص في طريقي، أي ظهر، قال الله تعالى: * (وبدا لهم من الله ما
لم يكونوا يحتسبون) * (2) أي ظهر لهم، ومتى ظهر لله تعالى ذكره من عبد صلة
لرحمه زاد في عمره، ومتى ظهر له منه قطيعة رحم نقص من عمره ورزقه، ومتى
ظهر له التعفف من الزنا زاد في رزقه وعمره. انتهى.
ومن هذا الكلام تعرف أن البداء معنى هو في نظره أعم من أن يكون في
التكوينيات أم في التشريعيات، وليس هو - بكلا قسميه - إلا إظهار ما خفي على
الناس من الأشياء مما يرون أنه ثابت وليس هو بثابت وإنما هو مؤجل بمصلحة
خاصة.



(1) سورة الرحمن: 29.
(2) سورة الزمر: 47.
127
القرآن والإعجاز في القرآن
* (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون
بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) * (1).
اتفقت كلمة المسلمين عامة، من الخاصة والعامة، على أن القرآن الكريم هو
المعجزة الخالدة للرسول الكريم، لم يغير، ولم يحور، ولم يقع فيه تحريف ولا
تصحيف، وليس شأنه في ذلك شأن الكتب المقدسة الإلهية من التوراة والإنجيل،
وأنه بلغ الحد الأعلى من الاعجاز، هذا شئ ما وقع، ولن يقع، ولا يقع فيه اختلاف
وخلاف، إنما الخلاف والاختلاف في شئ آخر هو جهة إعجازه - أعني الوجه الذي
صار به القرآن معجزة من المعجزات - والخلاف في ذلك وقع على أقوال أو في
أقوال:
قال قوم: جهة إعجازه اشتماله على الإخبار بالغيوب، وقال قوم: جهة إعجازه
خلوه من التناقض.



(1) سورة الإسراء: 88.
129
وقال آخرون: جهة إعجازه هو الأسلوب، وعنوا بالأسلوب الفن والضرب.
وقال فريق: إنه معجز بفصاحته وبلاغته وأسلوبه معا، لأن كل واحد منها - عند
هؤلاء - غير متعذر على العرب، لأنه وجد في كلامهم ما هو كفصاحته وليس كمثل
أسلوبه، وكلام مسيلمة الكذاب كأسلوبه وليس كفصاحته، وأما مجموعهما فليس
بمقدور فهو جهة إعجازه.
وقال آخرون: إن جهة إعجازه مركبة من أمور ثلاثة: الأسلوب والفصاحة
والاشتمال على العلوم الشريفة، من علم التوحيد والسلوك إلى الله تعالى وتهذيب
الأخلاق، فإن الفصاحة خاصة في كلام العرب وقد وجدت، والأسلوب وإن أمكن
عند التكلف لكن اجتماعه مع الفصاحة نادر، لأن تكلف الأسلوب يذهب الفصاحة،
وأما العلوم الشريفة فلم يوجد في كلامهم لها عين ولا أثر إلا ما وجد في كلام قس
وأمثاله ممن وقف على الكتب الإلهية نقلا عن غيره.
وملخص هذا: هو أنه وجد في كلام العرب ما يناسب بعض القرآن في
الفصاحة وهو في مناسبته له في الأسلوب أبعد، وأما في العلوم المذكورة فأشد
بعدا.
وقال قوم: إنه معجز بفصاحته، فجهة إعجازه فصاحته، فإن فصاحته البالغة
بلغت الحد الأعلى في الفصاحة، ولهذا كانت العرب تستعظم فصاحته، ولما أراد
النابغة الاسلام لما سمع القرآن وعرف فصاحته، قال له أبو جهل: إنه يحرم عليك
الأطيبين - الخمر والزنا - وأنه أخبر الله تعالى عن الوليد بن المغيرة في قوله تعالى:
* (فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس وبسر) * (1) الآية.



(1) سورة المدثر: 18 - 22.
130
وقال آخرون: وقد نسب هذا القول إلى علم الهدى السيد المرتضى - وهو
رأس من رؤوس علمائنا الإمامية - وإلى النظام - وهو رأس من رؤوس المعتزلة، وهي
فرقة من فرق إخواننا أهل السنة والجماعة - أن جهة إعجاز القرآن هو الصرفة، ومعنى
ذلك أنه تعالى صرف عقول البشر عن معارضته، وهذا القول محتمل لثلاثة أمور:
الأول: أنه سلبهم القدرة على المعارضة.
الثاني: أنه تعالى سلبهم الداعية.
الثالث: أنه تعالى سلبهم العلوم التي كانوا يتمكنون بها على المعارضة، وهذا
الوجه الأخير هو الوجه الذي اختاره السيد (رضي الله عنه) - حسبما نقل عنه -.
احتج القائلون بالصرفة بوجهين:
الأول: أنه لو لم يكن إعجاز القرآن للصرفة بل للفصاحة والبلاغة، لكان
إعجازه إما من حيث ألفاظه المفردة، أو من الهيئة التركيبية، أو من حيث ألفاظه
المفردة والهيئة التركيبية معا، والأقسام الثلاثة بأسرها باطلة، فإعجازه لسبب
الفصاحة باطل، فيتعين كون الإعجاز للصرفة. قالوا: وإنما قلنا ذلك لأن العرب كانوا
قادرين على المفردات وعلى التركيب، وكل من كان قادرا على المفردات وعلى
التركيب كان قادرا عليهما معا، فيكون قادرا على الجمع بينهما معا بالضرورة، فثبت
بهذا أن العرب كانوا قادرين على المعارضة وإنما منعوا منها بهذا الطريق فيكون
الإعجاز به.
الثاني: أن الصحابة عند جمع القرآن كانوا يتوقفون في بعض السور
والآيات، ويتوقعون في ذلك شهادة الثقات، وابن مسعود قد بقي مترددا في
الفاتحة والمعوذتين، ولو كان نظم القرآن معجزا لفصاحته لكان كافيا في الشهادة

131
عن كل شهادة.
أجابوا عن الاحتجاج الأول: بأن حكم الجملة قد يخالف حكم الأجزاء، فلا
يلزم أن يكون من قدر على المفردات قادرا على التركيب، وهذه بعينها شبهة من نفى
قطعية الاجماع والخبر المتواتر، ثم إنه لو صح ما ذكر لكان كل أحد من آحاد العرب
قادرا على الاتيان بمثل قصائد فصحائهم، كالفرزدق وأمثاله، وهذا قطعي البطلان.
ونحن نقول: إن المفردات بما هي مفردات تختلف في الفصاحة، لأن الكلمة
بما هي كلمة توصف بالفصاحة، وإنما توصف بذلك إذا استوفت ما يشترط في
فصاحة الكلمة على أن الكلمة في ضمن كلام قد تكون لها خصوصية غير موجودة
في كلمة ثانية، ولذا يقال: إن لكل كلمة مع صاحبتها مقام ليس لها مع كلمة ثانية،
فحيث يتقرر ذلك، فاعرف أن قول القائلين بالصرفة أن العرب كانوا قادرين على
المفردات، يكون مصادرة على المطلوب بعد أن عرفت اختلاف المفردات في
نفسها من حيث الفصاحة واختلاف خصوصياتها الخاصتين في ضمن التركيب،
وليس كل أحد يقوى على المحافظة على ذلك حق المحافظة.
وأجابوا عن الثاني - بعد تسليم صحة الرواية، وكون الجمع بعد النبي (صلى الله عليه وآله) لا
في زمانه، وكون كل سورة مستقلة بالاعجاز -: أن ذلك كان للاحتياط والاحتراز عن
أدنى تغيير لا يخل بالاعجاز، وأن إعجاز كل سورة ليس مما يظهر لكل أحد بحيث لا
يبقى له تردد أصلا.
أقول: إن هذا الجواب ينحل إلى أجوبة متعددة:
منها: المناقشة في صحة الرواية المتضمنة لتوقف الصحابة في بعض السور
والآيات، وإني أجزم كل الجزم بأنها ليست بصحيحة، وقد وصلت عناية المسلمين

132
بالقرآن في حفظه والمحافظة عليه إلى حد ليس فوقه من مزيد، وقد حفظ القرآن
جميعه عن ظهر قلب جماعة من الصحابة غير قليلين، وكيف يخفى عليهم - والحال
هذه - تمييز كلام القرآن عن غيره من سائر الكلام؟ ثم إنهم هم العرب العرباء الذين
أدركوا مرتبة فصاحته وبلاغته البالغة حين نزوله فكيف يخفى عليهم ذلك بعد حين
قليل ولا سيما وفيهم إمام الفصحاء وسيد البلغاء ومن سن الفصاحة لقريش عامة
بشهادة الأعداء الألداء، ذلك هو أمير المؤمنين علي عليه الصلاة والسلام؟ فالرواية
هذه - كما تراها - من وضوح البطلان بمكان.
ومنها: أن هذه الرواية لا تتم إلا بعد تمامية القول بأن القرآن جمع بعد عهد
النبي (صلى الله عليه وآله) على عهد الصحابة، وهذا الأمر موقع خلاف كبير، فقد ذهب الكثير إلى أن
القرآن جمع بعد عهد النبي (صلى الله عليه وآله) وحياته، ومع البناء على هذا القول نعرف أين يكون
موقع هذه الرواية من الصحة والبطلان.
ومنها: أن هذا القول إنما يتم إذا بنينا على أن كل سورة من سور القرآن
مستقلة بالإعجاز، وليس هذا القول بموقع الاتفاق والوفاق، فقد يقال - وقد قيل -: إن
المعجز هو سور من القرآن، ففي سور القرآن ما هو المعجز، لا أن كل سورة من سور
القرآن هو المعجز، وعلى كل حال ومهما يكن من أمر فقد رد القائلون بأن إعجاز
القرآن للفصاحة على القائلين بأن إعجاز القرآن للصرفة بوجوه:
الأول: هو أن فصحاء العرب إنما كانوا يتعجبون من حسن نظمه وبلاغته،
وسلاسته وجزالته، ويرقصون رؤوسهم عند سماع قوله تعالى * (وقيل يا أرض ابلعي
ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا
للقوم الظالمين) * (1) لذلك - أعني حسن النظم والبلاغة والسلاسة والجزالة - لا لعدم



(1) سورة هود: 44.
133
تأتي المعارضة مع سهولتها في نفسها -.
الثاني: أنه لو كان الإعجاز بالصرفة لكان الأنسب ترك الاعتناء ببلاغته وعلو
طبقته، إذ إنه كلما كان انزل في البلاغة وادخل في الركاكة كان عدم تيسر المعارضة
أبلغ في خرق العادة.
الثالث: قوله تعالى: * (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا
القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) * (1) فإن ذكر الاجتماع
والاستظهار بالغير في مقام التحدي إنما يحس فيما لا يكون مقدورا للبعض ويتوهم
كونه مقدورا للكل فيقصد بهذا نفي ذاك.
الرابع: أنه لو كان إعجاز القرآن للصرفة لكان ينبغي أن يوجد في قصائدهم
وخطبهم وكلامهم السابق على القرآن ما يقرب من القرآن أو يساويه في الفصاحة
والبلاغة، وليس كذلك وإلا لعورض ونقل، وهذا ظاهر كل الظهور.
الخامس: أنه لو كان إعجاز القرآن للصرفة، فإذا وجدت وحصل المنع وجب
أن يجدوا ذلك من أنفسهم بالضرورة لحصول العلم بالفرق بين حالتي القدرة والمنع
لأننا نعلم ضرورة بأن من كان له علم أو قدرة حاصلان فإنه يكون عالما بحصولها فإذا
سلبا عنه وجد ذلك من نفسه، ولو وجدوا ذلك من أنفسهم كان الواجب أن يتحدثوا
بذلك في مجالسهم ومع أصحابهم، ولو تحدثوا بذلك لاشتهر وذاع وتواتر، لأنه من
الأمور العجيبة التي تتوفر الدواعي على نقلها، وكل هذه المقدمات ضروري لمن
عرف العوائد ولاحظ الشواهد وجرب الوقائع، ولما لم يقع شئ من ذلك كان القول
بالصرفة من البطلان بمكان.



(1) سوره الإسراء: 88.
134
هذه مجموعة الأقوال والأنقال في أمر إعجاز القرآن وجهة إعجازه، وقد
توقف آخرون فلم يعطوا من أنفسهم رأيا في المسألة، وذهب آخرون إلى أن الكل من
هذه الأقوال محتمل، فلم يؤيد رأيا خاصا، ولم يمتنع عن قول مخصوص.
ونحن نقول: إن القرآن الكريم معجز بكل ما ذكر من وجوه الاعجاز على نحو
الجميع لا على نحو المجموع، بمعنى أن كل جهة من الجهات لو لوحظت مستقلة
فهي بنفسها معجزة، لا أن تلك الوجوه بمجموعها هي المعجزة.
فالقرآن إن لاحظته من جهة اشتماله على العلوم الغريبة والمعارف العجيبة،
فهو معجز.
وإن لاحظته من ناحية خلوه عن التناقض والاضطراب والتفاوت والاختلاف،
فهو معجز * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * (1).
وإن لاحظته من ناحية اشتماله على الإخبار بالمغيبات، فهو معجز * (قل لا
يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) * (2).
وإن لاحظته من ناحية الأسلوب العجيب والنظم الغريب، فهو معجز.
وإن لاحظته من ناحية اشتماله على الفصاحة العالية والبلاغة البالغة الحد
الأعلى من الاعجاز، فهو معجز * (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل
هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) * (3). وهذه الآية بمقتضى
إطلاقها في التعجيز عن الإتيان بمثل القرآن من غير تقييد بجهة خاصة من جهات



(1) سورة النساء: 82.
(2) سورة النمل: 65.
(3) سورة الإسراء: 88.
135
الإعجاز تدل دلالة واضحة على أن إعجاز القرآن من كل جهة لا من جهة واحدة.
وإننا لو أردنا أن نتبع شيئا أو بعض شئ من كلام العرب جاهلية وإسلاما في
أمر القرآن وإعجابهم بجهة إعجازه لوجدناهم معجبين كل الإعجاب بفصاحته
العالية. وقد مر عليك من قبل حديث النابغة واستمالة القرآن له بفصاحته وبلاغته لما
سمع آياته أو بعض آياته فمال إلى الدخول في الاسلام، فمنعه أبو جهل بحجة أنه
يحرم عليه الأطيبين - الزنا والخمر -، وهكذا الآخر الوليد بن المغيرة، حتى قال: رأينا
فيه الحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمورق، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول
بشر، فكان هذا له حريا بأن يجعله المؤمن المسلم لولا أن تنزغة من الشيطان أخذت
عقله واستولت على مشاعره فنكست به رأسا على عقب، فإذا بالشيطان ينفث على
لسانه فيقول، كما حكاه القرآن الكريم عنه: * (إن هذا إلا سحر يؤثر) * (1) وها نحن
نراهم قد تألبوا وتحزبوا وتناصروا وتظاهروا عند نزول هذه الآية الكريمة * (ولكم في
القصاص حياة يا أولي الألباب) * (2) فلم يأتوا بعد لأي ولأي إلا بقولهم: " القتل أنفى
للقتل " وأنت - أيها المستمع الكريم - لو وهبت ولو قليلا من الفصاحة والبلاغة
لحكمت حكما جازما لا ريب فيه بأن قياس الآية الكريمة مع هذه الكلمة العقيمة
قياس الثريا مع الثرى، والحصباء مع الجوزاء، والتبر بالتراب، لذلك قرر علماء
الفصاحة والبلاغة بأن الآية الشريفة تفضل على هذه الكلمة السخيفة بثمانية عشر
وجها من وجوه البلاغة والفصاحة مع غض النظر عن: قلة العبارة، ولطف الإشارة،
وبداعة الأسلوب، وبراعة التركيب، والنظم الغريب، والتأليف العجيب.
وهكذا يروى أن الحجاج سمع امرأة من العرب تتكلم بفصاحة وبلاغة



(1) سورة المدثر: 24.
(2) سورة البقرة: 179.
136
فأعجبه منها ذلك الكلام، فقال لها: قاتلك الله ما أفصحك؟
فقالت له: يا شيخ، وهل ترك لنا القرآن من فصاحة بعد قوله تعالى: * (وأوحينا
إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا
رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين) * (1)؟ (2)
فقد جمع بين أمرين ونهيين وبشارتين في آية واحدة، ولو أردنا الاستمرار في
سرد الدلائل والشواهد من هذا وأمثاله لفاتنا العد والاحصاء، فلنكتف بهذا القليل
ففي هذا القليل كفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
فمن هذا وذاك وكل ذلك تعرف أن القرآن الكريم معجز بكل جهاته ولا سيما
جهة الفصاحة والبلاغة، الأمر الذي أدركه أهل الفصاحة والبلاغة وامراء الكلام في
وقته، فاضطرهم الحال إلى المقارعة بالسنان دون المنازعة باللسان، وهل - يا ترى -
ترى عاقلا مختارا يختار الأصعب على الأسهل في حين أن الأسهل يتأتى له
بسهولة؟ ما هذا من العقل، ولا هو فعل العقلاء.



(1) سورة القصص: 7.
(2) الشفا: 1 / 263، تفسير القرطبي: 13 / 252.
137
القرآن واللغة العربية
* (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون) * (1).
اعلم أن اللفظ الموضوع لمعنى تدخل تحته أجزاء، يكون على نحوين، فتارة
يشترك ذلك المعنى مع تلك الأجزاء في إطلاق اللفظ عليه بحيث يجمعها اسم
واحد وذلك كسائر الأسماء الموضوعة للأجناس، كالماء مثلا فإن قليله يشترك مع
كثيره في اسم واحد يطلق على الجميع بإطلاق واحد، فالقطرة من الماء والبحر منه
ماء، وتارة لا يشترك ذلك المعنى مع تلك الأجزاء في الاسم، بل يكون لذلك المعنى
العام اسم خاص به، ولكل واحد من تلك الأجزاء اسم خاص به بحيث لا يشترك
فيه القليل مع الكثير، وذلك كأسماء الأعداد، فالعشرة مثلا موضوعة لمجموعة من
الآحاد تجمعت فأطلق عليها اسم العشرة، لكن الجزء منها لا يشاركها في الاسم،
وقليلها لا يستوي مع كثيرها في إطلاق اللفظ عليه، ويسمى الأول باسم الجنس
المجموعي، والثاني باسم الجنس الجمعي، والأول لا ينتفي بانتفاء أحد أجزائه أو



(1) سورة يوسف: 2.
139
جزئياته، والثاني ينتفي بانتفاء أحد أجزائه، فالماء ينتفي بانتفاء القطر، بل البحر من
الماء، لكن العشرة مثلا ينتفي منها اسم العشرة عند انتفاء واحد من العدد الذي
تتكون منه.
إذا عرفت هذه المقدمة فاعرف أن لفظ القرآن الكريم هو من قبيل القسم
الأول، ومعنى أنه يشترك قليله مع كثيره في الاسم ويتساوى معه في إطلاق لفظ
القرآن عليه، فما بين الدفتين مما شمل جميع أجزاء الكتاب المقدس هو قرآن،
والسورة من سور الكتاب، بل الآية، بل الكلمة منه قرآن.
وحيث تعرف هذا فلتعرف شيئا آخر هو أن الضمير في الآية المذكورة
يجوز إرجاعه إلى السورة التي منها هذه الآية ولا مانع من ذلك حسب التقرير
المذكور ولا كلام ولا إشكال، فإن المعنى حينئذ أن السورة بجميع كلماتها عربية
ليس فيها من غير العربية كلمة واحدة، لكن الكلام والإشكال يتأتى علينا لو
راجعنا الضمير في الآية المذكورة إلى مجموع الكتاب كله، فإن المعنى يكون
حينذاك: أن القرآن - بجميع سوره وآياته وكلماته - عربي لا دخيل فيه من
غير العربية، ويشكل الأمر علينا في ذلك في كثير من الكلمات التي ادعي أنها
غير عربية.
وهنا وعند هذا المقام يجب علينا أن نذكر شيئا أو بعض شئ مما قيل في
المقام من محررات ومقررات الأعلام:
اعلم أنه قد اختلف العلماء في وقوع غير العربي في القرآن، فالأكثرون - ونقل
هذا عن الشافعي وابن جرير وأبي عبيدة والقاضي أبي بكر وابن فارس - على أنه غير
واقع في القرآن الكريم، تمسكا بما صدرناه من الآية الكريمة المذكورة، وبقوله

140
تعالى: * (ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي) * (1).
وقد نقل عن الشافعي أنه شدد النكير على القائل بوقوع غير العربي في القرآن
الكريم.
وقد نقل عن أبي عبيدة أنه قال: إنما نزل القرآن بلسان عربي مبين، فمن زعم
أن فيه غير العربية فقد أعظم القول. (2)
ونقل عن ابن جرير أنه قال: إن ما ورد عن ابن عباس وغيره من تفسير ألفاظ من
القرآن أنها بالفارسية أو الحبشية أو النبطية أو نحو ذلك، إنما اتفق فيها توارد اللغات
فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة بلفظ واحد.
وقال آخرون: بل كان العرب العاربة التي نزل القرآن بلغتهم، لبعضهم مخالطة
لسائر الألسنة في أسفارهم، فعلقت من بعضهم ألفاظ غير من بعضها بالنقص من
حروفها، واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها حتى جرت مجرى العربي الفصيح
ووقع بها البيان، وعلى هذا الحد نزل القرآن.
وقال آخرون: كل الألفاظ التي ظن أنها غير عربية مثل المشكاة والقسطاس
وأمثالهما هي عربية صرفة، ولكن لغة العرب متسعة جدا ولا يبعد أن يخفى على
الأكابر الأجلة، وقد خفي على ابن عباس معنى فاطر وفاتح.
وقال بعضهم: إنما وجدت هذه الألفاظ في لغة العرب لأنها أوسع اللغات
وأكثرها ألفاظا، ويجوز أن يكونوا سبقوا إلى هذه الألفاظ في لغة العرب.
هذا مذهب ذهب إليه فريق، وذهب آخرون إلى وقوع غير العربي في القرآن،



(1) سورة فصلت: 44.
(2) البرهان للزركشي: 1 / 287، سبل الهدى والرشاد: 10 / 291.
141
وأجابوا عن قوله تعالى: * (قرآنا عربيا) * بأن الكلمات اليسيرة من غير العربية لا
تخرجه عن كونه عربيا، وعن قوله تعالى: * (أعجمي وعربي) * بأن المعنى من
السياق: أكلام أعجمي ومخاطب عربي.
وذهب آخرون إلى أن القول بوقوع اللفظ العجمي في القرآن على حالة
يستعملها العجم، لا وجه له فإنه مستلزم لكون القرآن مركبا من لغتي العرب والعجم،
وهو باطل، وهكذا القول بأن الألفاظ المختلف فيها عربية صرفة، كيف وفيه لفظ
" إبراهيم " وقد اتفق النحاة على منع صرفه بالعلمية والعجمة، وفيه لفظ " أباريق " وهو
جمع إبريق بمعنى آب ريز، اسم لظرف يصب فيه الماء، وقد حكى كثير من اللغويين
أنه فارسي معرب، وفيه لفظ: " استبرق " وهو الديباج الغليظ يقال له بالفارسية:
" ستبر "، وهكذا قيل في قوله تعالى: * (طه) * أنه كقولك: " يا محمد " بلسان الحبشية،
أو معناه: " يا رجل " بالنبطية.
ومن هذا النوع شئ كثير، وقد ذكرها السيوطي في كتاب المهذب فيما وقع
في القرآن من المعرب - حسبما نقله عنه بعض العلماء - فالذي يراه هذا القائل هو أن
المعرب واقع في القرآن ولا مانع منه، لأنه عربي الاستعمال لاستعمال العرب هذه
الألفاظ على نحو استعمالهم للألفاظ العربية.
وملخص القول في المسألة: أن القرآن عربي بكل معنى الكلمة، وهذا الذي
ذكرناه أصل له فروع، ذلك أن للغة العربية قوانين وأنظمة جروا عليها هي من ميزات
اللغة العربية خاصة، وحيث إن اللغة العربية منقسمة إلى كلمة وكلام، والكلمة لها
حيثيات ثلاث: حيثية المادة وهي التي يتألف منها جوهر الكلمة. وحيثية الهيئة وهي
الصورة الخاصة التي تلحق الكلمة بلحاظ بنيتها ومن صيغتها باعتبار حركاتها
الخاصة.

142
وحيثية الدلالة وهي المعنى المراد لتلك الكلمة.
وللكلام أيضا حيثيات تزيد على حيثية الكلمة من لحاظ هيئاته وحركاته
الاعرابية، ومن المزايا التي تعرضه بلحاظ الجهات الخاصة، فإذا قلنا: القرآن عربي
من جميع هذه الجهات، وحيث إن اللغة العربية لم تنحصر في أمة ولم تختص في
قبيلة فلا يضر عربيته القرآن أن يأتي على لغة قوم دون آخرين، إنما يضر عربيته أن
يجئ بشئ لا تعرفه أو لا تألفه العرب عامة، لذلك نرى أن النبي (صلى الله عليه وآله) لما أنكرت
عليه بعض زعانفة العرب ألفاظا من القرآن عدوها غريبة هي أربعة ألفاظ: " كبارا "، في
قوله تعالى: * (ومكروا مكرا كبارا) * (1)، و " عجاب "، في قوله تعالى: * (إن هذا لشئ
عجاب) * (2)، و " هزوا "، في قوله تعالى: * (أتتخذنا هزوا) * (3)، و " قسورة "، في قوله
تعالى: * (حمر مستنفرة فرت من قسورة) * (4) جاءهم بشيخ من الأعراب فأقعده في
مكان، ثم أقامه منه، ثم أقعده في آخر، ثم أقامه منه، فعل به ذلك غير مرة، فكان
الشيخ تغيظ فخاطب النبي (صلى الله عليه وآله) فقال له: " يا بن القسورة أتتخذني هزوا وأنا رجل كبار
إن هذا لشئ عجاب! ".
ومهما يكن من أمر فإنه قد خفيت أشياء على بعض أدعياء العربية فاتخذوها -
جهلا وضلالا - ذريعة للوقيعة في كرامة القرآن، وظنوا خطأ وخبطا أنهم ظفروا بتمرة
الغراب، ولم يفهموا أن القرآن الكريم محاط بسياج من نور فلا يأتيه الباطل من بين
يديه ولا من خلفه، وأنه تنزيل اللطيف الخبير، ويا ليت أن الأمر وقف عند حد



(1) سورة نوح: 22.
(2) سورة ص: 5.
(3) سورة البقرة: 67.
(4) سورة المدثر: 50 - 51.
143
المغرضين المبغضين، بل سرى شئ من هذا الداء فأصاب ألباب بعض المؤمنين
المحبين، فما كان إلا أن يلجأوا إلى ضروب من التأويل فاسدة جهلا بحقيقة الحال.
فمن ذلك: ما وقع فيه الاضطراب والارتباك من قوله تعالى: * (يا عيسى إني
متوفيك) * (1) ففسره الجاهلون أن معنى * (متوفيك) * مميتك، فالمغرضون حاولوا
الوقيعة في كرامة القرآن الكريم في أن القرآن الكريم - وحاشاه - متناقض في الكلام،
فهو تارة يحكم على عيسى (عليه السلام) بالموت كما في هذه الآية، وأخرى يحكم عليه بأنه
لم يمت كما في قوله تعالى: * (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) * (2)
والمؤمنون - الذين خفيت عليهم حقيقة الحال - اضطروا إلى التأويل، فمنهم من أول
قوله تعالى: * (متوفيك) * بمعنى مميتك بعد النزول من السماء، ومنهم من أوله بأن
معناه مميتك حتف أنفك، وكلا التأويلين فاسد.
أما الأول: فإنه يناقض قوله تعالى: * (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت
قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول
ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك
إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم
وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم) * (3) فإنه لا
يصح بوجه تفسير هذه الآية بأن الوفاة بعد النزول من السماء.
وأما الثاني: فأي شاهد من استعمال اللغة في منظوم أو منثور يخصص كون
التوفي هو الإماتة حتف الأنف خاصة، وما هذا إلا تحكم بغير دليل، وحكم من غير



(1) سورة آل عمران: 55.
(2) سورة النساء: 157.
(3) سورة المائدة: 116 - 117.
144
برهان، واننا لو استقرأنا جزئيات الموارد في استعمال لفظ التوفي في الموت في
القرآن الكريم لا نراه مستعملا إلا في مطلق الموت لا في الموت حتف الأنف خاصة،
حيث يقول تعالى: * (ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر) * (1) يقول
سبحانه: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا) * (2) وحيث يقول عز من قائل:
* (ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم) * (3) وحيث يقول جل شأنه: * (تتوفاهم
الملائكة) * (4) ويقول جلت قدرته: * (توفته رسلنا) * (5)، إلى غير ذلك من موارد
استعمال هذه اللفظة في القرآن المجيد.
فالذي يقتضيه التحقيق الحقيق أن المستفاد من لفظ التوفي وما يشتق منه -
على كثرة ما لها من موارد الاستعمال - معنى وجداني هو الموضوع له اللفظ، وهو
القدر الجامع بين شتات تلك المتفرقات من موارد الاستعمالات الجزئية، وذلك
المعنى هو أخذ الشئ كاملا تاما، فهذا المعنى العام هو الموضوع له اللفظ، وهو
الجامع بين تلك المصاديق، وحيث تستقر تلك الموارد لا تجد موارد من تلك
الموارد يخرج عن ذلك المعنى العام، وبهذا تحل عقدة الإشكال في آية المسيح
وهي قوله تعالى: * (فلما توفيتني) * إذا فهمنا أن معناه: أخذتني أخذا كاملا لا نقص
فيه، فمعناه - حينئذ -: أخذتني أخذا تاما من عالم الأرض إلى عالم السماء.
أضف إلى ذلك أن كثيرا من موارد استعمال اللفظ لا يصح حمله على إرادة



(1) سورة الحج: 5.
(2) سورة البقرة: 234.
(3) سورة يونس: 104.
(4) سورة النحل: 28.
(5) سورة الأنعام: 61.
145
التوفي بمعنى الموت، كما نراه في قوله تعالى: * (حتى يتوفاهن الموت) * (1) فأي
ذوق سليم يسمح أن يحمل التوفي على الموت في هذه الآية؟ وأي معنى يكون في
الآية إذا قلنا: حتى يمتهن الموت، ثم اعطف على ذلك قوله تعالى: * (الله يتوفى
الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت
ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى) * (2) فأي استقامة للآية تبقى لو قيل: إن معناها: الله
يميت الأنفس حين موتها؟ وكيف يستقيم أن يقال: إن التي لم تمت يميتها في
منامها؟
ونقول بتوضيح آخر: إنه يقال: إن جعلت التي لم تمت معطوفا على الأنفس لم
تستطع أن تجعل " يتوفى " بمعنى " يميت " لما عرفت، وإن قلت: إن التوفي بالمنام
إماتة مجازية لزم استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي في آن واحد، وهو
باطل عند المحققين، وإن قدرت لفظ يتوفى ويكون " التي لم تمت " مفعولا لهذا
اللفظ المحذوف المدلول بلفظ التوفي المذكور، قلنا لك: إن اللفظ إنما يدل على
لفظ آخر إذا كان بمعناه.
وحيث ظهر لك أن المعنى مختلف، فلا دلالة هناك، فلا حذف هناك.
وهناك أراك قد تجلت لك حقيقة الحال، وتبين لك الوجه الصحيح، وأن الآية
الكريمة في سياج متين، وقرار مكين من تطرق أوهام المتوهمين.
وقد وقع مثل هذا الاضطراب في آية أخرى هي قوله تعالى: * (فكان قاب
قوسين أو أدنى) * (3) اتخذ المغرضون الأفاكون جهلهم بمواقع الاستعمالات العربية



(1) سورة النساء: 15.
(2) سورة الزمر: 42.
(3) سورة النجم: 9.
146
ذريعة للوقيعة بقدسية القرآن الكريم، ذلك أنهم فسروا ألقاب بأنه هو ما بين مقبض
القوس وسيته، فلكل قوس على هذا التفسير قابان، فمن أجل ذلك انبرى بعض
المغرضين - جهلا - إلى تغليط القرآن الكريم بأن الوجه أن يقال: قابي قوس، وما غلط
القرآن الكريم - وحاشاه من الغلط والشطط - ولكنهم هم الذين غلطوا لو كانوا يعقلون.
ذلك أننا نقول: أولا: لنا أن نفسر ألقاب بهذا المعنى المذكور ولا اعتراض،
ذلك أنك قد عرفت في صدر هذا المقال أن القرآن عربي وما نزل إلا على الأمة
العربية، وللأمة العربية في استعمالاتها كيفيات من الأساليب، ولا عيب على القرآن
إن جرى في كلامه مجاريا لهم على تلك الأساليب، وقد جاء كثيرا في كلام الأمة
العربية نوع من الكلام يقال له: القلب، كما ورد عنهم قولهم: " كما طينت بالفدن
السياع " يعني كما طينت الفدن بالسياع، أي الطين بالقصر، ولهذا النوع أمثال كثيرة
يكفينا منها القليل عن الكثير فماذا على القرآن من شئ إذا جرى معهم في هذه الآية
على ذلك من الاستعمال، وهو استعمال عربي جرى عندهم بكثرة واطراد لا بقلة
وشذوذ.
ونقول: ثانيا: بأن هذا اللفظ جار على حاله ولا قلب هناك، ذلك أن اللغويين
كما ذكروا أن ألقاب له ذلك المعنى السابق ذكره، ذكروا أيضا أن ألقاب معناه القدر،
فيكون معنى الآية على هذا قوسين، وقد قال اللغويون: إن ألقاب والقيب والقاد
والقيد بمعنى واحد، وهو القدر، وإذا فسر ألقاب بهذا المعنى فليس المراد من
القوس حينئذ هو الآلة المعروفة، بل القوس ما يقاس به الشئ، وفسر في المقام بأن
المراد قدر ذراع أو ذراعين.
وقد نقلوا عن ابن السكيت أنه قال: يقال قاس الشئ يقوسه قوسا لغة في
قاسه يقيسه إذا قدره. وقد استشهد اللغويون والمفسرون على مجئ ألقاب بمعنى

147
القدر بقول ابن أبي ربيعة المخزومي في شأن ناقته:
قصرت لها من جانب الحوض منشأ * جديدا كقاب الشبر أو هو أصغر
ويقول الآخر:
ولكن تنحي جنبة بعدما دنا * فكان كقاب القوس أو هو أنفس
وقد وقع أيضا مثل هذا الغلط والشطط في فهم قوله تعالى: * (وكان وراءهم
ملك يأخذ كل سفينة غصبا) * (1) ذلك أن المغرضين تعرضوا لهذه الآية الكريمة
فاعترضوا معيبين على القرآن الكريم - وحاشاه من العيوب - استعمال لفظ وراء
بمعنى أمام أو قدام، وقد أنكروا أن تكون وراء تأتي بهذا المعنى المذكور، وهي منهم
غلطة فظيعة دعاهم إليها الجهل المطبق والأغراض الممقوت، وإلا فأين هم عن
تصريحات اللغويين، قال بعض العارفين: وتستعمل وراء بمعنى القدام على جهة
الاتساع لأنها جهة مقابلة لجهة فكأن كل واحد من الجهتين وراء الأخرى، وهل
استعمال هذا اللفظ بهذا المعنى على سبيل الاطراد في كل شئ أو هو مطرد في
شئ دون شئ؟ ذهب ذاهبون إلى الأول، وذهب إلى الثاني قوم آخرون، فقد نقل
عن الفراء أنه قال: يجوز ذلك في الزمان دون الأجسام.
ونقل عن علي بن عيسى أنه جوز ذلك في الأجسام التي لا وجه لها، كحجرين
متقابلين كل واحد منهما وراء الآخر. (2)
هذه تصريحات اللغويين وما أخذوها إلا عن موارد الاستعمالات، وهاك من
موارد الاستعمالات قليلا من كثير يغني عن الكثير: قال لبيد بن أبي ربيعة العامري:



(1) سورة الكهف: 79.
(2) مجمع البيان: 6 / 373، تفسير القرطبي: 11 / 36، البداية والنهاية: 1 / 347.
148
أليس ورائي أن تراخت منيتي * لزوم العصى تحنى عليها الأصابع
وقال عبيد:
أليس ورائي أن تراخت منيتي * أدب مع الولدان أزحف كالنسر
وقال المرقس:
ليس على طول الحياة ندم * ومن وراء المرء ما لا يعلم
وهذه التصريحات مضافا إلى الاستعمالات شاهد صدق على صحة استعمال
وراء بمعنى أمام وقدام ألا تبقى معها شبهة للمشبهين، وهل هي على هذا من
المشترك اللفظي: بمعنى أن لفظ وراء موضوعة لكل من المعنيين من الخلف والأمام
وضعا استقلاليا على حدة، فيكون استعمال اللفظ في كل منهما على سبيل الحقيقة،
أو هي موضوعة لأحدهما دون الآخر فيكون الاستعمال في أحدهما على سبيل
الحقيقة، وفي الآخر على سبيل المجاز؟ هذا شئ لا يهمنا تحقيق حقيقته في هذا
المقام.
نعم، أفاد شيخنا الحجة المجاهد البلاغي (قدس سره) - وببالي أنه سبقه إلى ذلك بعض
كبار العلماء ولعله سيدنا الإمام علم الهدى رضوان الله عليه -، أفاد شيخنا البلاغي
في كتابه " الهدى " - وكفى به هدى للمهتدين -: أن لو راء معنى وحدانيا يمثل في كل
من الأمام والخلف على جهة واحدة على اختلاف ما لهما من موارد الاستعمالات
في الشعر والنثر، وهو أنها كناية عن كون مصروفها طالبا مستوليا كاستيلاء الطالب
وقدرته على أخذ المطلوب إذا كان من وراء، كما قال تأبط شرا:
وراء الثار مني ابن أخت * مصغ عقدته لا تحل
وقد يشهد لصحة ما رآه هذا الإمام المجاهد (قدس سره) كثير من آيات الكتاب العزيز

149
منها هذه الآية الكريمة، ومنها قوله تعالى في سورة المؤمنون: * (ومن ورائهم برزخ
إلى يوم يبعثون) * (1) وقوله تعالى في سورة البروج: * (والله من ورائهم محيط) * (2)
وهل هذا المعنى الموضوع له اللفظ هو القدر الجامع بين تلك المتفرقات فيكون من
المشترك المعنوي أو هو معنى أعم من الحقيقة والمجاز فيكون من باب عموم
المجاز؟ ذلك أيضا مما لا نريد تحقيق حقيقته في هذا المقام.
وقد وقع مثل هذا الغلط في فهم قوله تعالى في سورة القصص: * (وآتيناه من
الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة) * (3) فقد اعترض المعترضون - جهلا
بمواقع الاستعمالات في اللغة العربية - على هذه الآية الكريمة بأن التعبير ينبغي أن
يكون هكذا: لتنويها العصبة أولوا القوة، أي تنهض على تثاقل، فالعصبة هي التي
تنوء بالمفاتح لا المفاتح تنوء بالعصبة.
ونحن نجيب عن ذلك: أولا: بمثل ما أجبنا به عن الآية الكريمة التي أسلفنا
ذكرها من قبل، وهي قوله تعالى: * (فكان قاب قوسين) * (4) وأنها جرت على ما جرت
به الاستعمالات العربية المطردة، وهو ما يسمى عندهم بالقلب، وهو نوع مستعمل
في اللغة العربية باطراد، وللآية الكريمة نظائر وأشباه في شخص هذا الاستعمال
ونوعه وهي كثيرة وكثيرة، قال شاعرهم: (5)
إن سراجا لكريم مفخره * تحلى به العين إذا ما تبصره



(1) سورة المؤمنون: 100.
(2) سوره البروج: 20.
(3) سورة القصص: 76.
(4) سورة النجم: 9.
(5) أمالي المرتضى: 1 / 155، مجمع البيان: 1 / 473، لسان العرب: 1 / 175.
150
وقد قالوا: معناه يجلى بالعين وإن كان لنا في تفسير هذا البيت نظر فإبقاؤه
على معناه خير من حمله على القلب الذي فهموه، لكن هناك ما لا مجال من الحمل
عليه، فقد قال الآخر:
كانت عقوبة ما جنت كما * كان الزنا عقوبة الرجم
فمما لا شك فيه أن هذا من القلب، وأن المعنى كما كان الرجم عقوبة الزنا،
وقد قال امرؤ القيس:
يضئ الظلام وجهها لضحيحها * كمصباح زيت في قناديل ذبال
ومما يظهر معنى الآية بوضوح - فإنه شبهها في شخص الاستعمال - قول
عمرو بن كلثوم في معلقته:
ومتني لدنه سمعت وطالت * روادفها تنوء بما ولينا (1)
فتراه أسند تنوء إلى الروادف في حين أن ما ولي الروادف هي التي تنوء
بالروادف.
وقال الآخر:
إلا عصا أرزن طارت برايتها * تنوء ضربتها بالكف والعضد (2)
فتراه أسند تنوء إلى الضربة في حين أن الكف والعضد هي التي تنوء بالضربة.
ونجيب ثانيا: بأن هذا ليس من القلب في شئ، وإنما هو استعمال اطرادي
على حاله، ذلك أن اللغويين قالوا: ناء بالحمل: بمعنى نهض به على تثاقل، وناء



(1) شرح المعلقات العشر - معلقة عمرو بن كلثوم -: 139.
(2) الصحاح للجوهري: 1 / 79، وج 5 / 2123، لسان العرب: 1 / 175.
151
الحمل به، أثقله وأجهده، فتارة تسند الفعل إلى المثقل المجهد، وتارة تسنده إلى
المثقل المجهود. إذن، فلا إشكال من رأس.
وقد وقع أيضا مثل هذا اللفظ في فهم قوله تعالى في سورة الكهف: * (حتى إذا
أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض
فأقامه قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا) * (1) فإن بعض المغرضين غلطوا فغلطوا
جهلا هذه الآية الكريمة، وقال: كان الوجه أن يقول: " استطعماهم " يريد أن يقول: إن
المقام مقام إضمار لا مقام إظهار، لأن لفظ الأهل تقدم ذكره فلا حاجة لإعادته.
أجاب شيخنا البلاغي طاب ثراه في كتابه " الهدى " بأن هذا غلط نشأ من توهم
المتوهم أن استعمال جواب لإذا وهو وهم باطل، وإنما هو وصف للقرية، وجواب
إذا هو في قوله تعالى: * (قال لو شئت) * وحينئذ لو قيل: استطعماهم لخلت جملة
الصفة من ضمير الوصوف، ثم أضاف إلى ذلك أن قال: إن الإتيان في الآية لجميع
أهل القرية باعتبار الدخول إلى قريتهم، والاستطعام لم يكن لجميعهم وإنما كان لمن
هو لائق بالضيافة، ولو قيل: استطعماهم لأوهم الكلام أن الاستطعام كان لجميع أهل
القرية، فلأجل ذلك كرر ذكر الأهل لئلا يمنع انصرافه إلى المتعارف بخلاف الضمير
العائد إلى ما يراد منه العموم، وقد وقع مثل هذا الغلط والشطط في فهم قوله تعالى:
* (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان
آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا
يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون) * (2) فقد بلغت القحة بالجاهلين
لكرامة هذه الآية الكريمة أن قالوا: هذا التمثيل لا معنى له، وكان الوجه أن يقول:



(1) سورة الكهف: 77.
(2) سورة البقرة: 170 - 171.
152
ومثل الذي يعظ الكفار أو يدعوهم كمثل الذي ينعق بما لا يسمع.
أجيب عن هذه الآية الكريمة بوجوه أنهاها سيدنا علم الهدى الشريف
المرتضى رضوان الله عليه في كتابه " الغرر والدرر " المشهور ب‍ " الأمالي " (1) إلى خمسة
وجوه:
أولها: أن يكون المعنى: مثل واعظ الذين كفروا والداعي لهم إلى الإيمان
والطاعة، كمثل الراعي الذي ينعق بالغنم وهي لا تعقل معنى دعائه وإنما تسمع
صوته ولا تفهم غرضه، والذين كفروا بهذه الصفة لأنهم يسمعون وعظ النبي وإنذاره
فينصرفون عن قبول ذلك، ويعرضون عن تأمله، فيكونون بمنزلة من لم يعقل ولم
يفهم، لاشتراكهما في عدم الانتفاع.
هذا الوجه الأول من الوجوه التي ذكرها سيدنا المرتضى (قدس سره)، ويظهر منه (قدس سره) أنه
ارتضاه، وقد ارتضاه أيضا جملة من المفسرين، لكن شيخنا المجاهد الحجة
البلاغي (قدس سره) لم يرتضه في " هداه " حيث قال (قدس سره) في الكتاب المذكور من جملة ما قال:
حاشا الله وبلاغة القرآن أن يصف وعظ الواعظ الهادي وإرشاده الشافي بالنعيق
المهمل، ويعيب إرشاده بعيب غيره، بل حاشا كل من يعرف مواقع الكلام عن ذلك،
هب ذلك ولكن المثل الشريف حينئذ يخطئ مرماه، ويلغو معناه، فإن الناعق
بالأنعام طالما ينجح بنعيقه بها ويندر أن لا تجيبه بإقبالها وانزجارها وإن كان نعيقه
مهملا، وأين ذلك من خيبة واعظ الكفار الذين جروا على ما ألفوا عليه آباءهم؟
وأنت ترى أن للشيخ المجاهد على هذا الوجه ملحوظتين من النظر:
إحداهما: الإرباء والتنزيه لشأن الواعظ أن يشبه بالناعق ووعظه بالنعيق، فاعتبر



(1) ج 1 / 154.
153
هذا حفظا لرفعة مقام الواعظ وجلالة قدر الواعظين، ولكن هذه ملحوظة قد نقول
إنها ترفع إن أعطينا النظر حقه من التأمل والإمعان، فأي ضرر يلحق الواعظ الصادق
والمرشد الناصح إذا لم يلاق قبولا ولم يصادف قلوبا واعية وآذانا صاغية، وهو لم
يأل جهدا في جهاد، ولم يقصر حسب طاقته عن نصح وإرشاد، وأي عار على
المخلصين إذا لم تخلص إليهم الأفئدة والقلوب؟ وما ذلك لهم تحت الاختيار، وليس
التشبيه يقتضي حفظ المشبه به بالمشبه من جميع الجهات، بل جهة واحدة تكفي
لصحة التشبيه، فالصورة التي استبشعها شيخنا في مقام التشبيه هي أبلغ صورة في
التشبيه.
وبعد، فإن سنة الكون الطبيعية المطردة جرت في كل أعمال البشرية أن لا
تأخذ آثارها فتفوز بنصيب من النجاح إلا حيث يتكافأ الفاعل والقابل، فالفاعل لا
يؤثر أثره المطلوب إن لم يقع من القابل قبول المحبوب، وهذا الأمر جار في كل عمل
باطراد، فالزارع الذي يلقي بذره في أرض سبخة هو غير الزارع الذي يلقي بذره في
أرض طيبة، فذلك لا يرجو ثمارها واستثمارها ولا ضير عليه غير أن الأرض فاقدة
للاعداد والاستعداد، وهذا يستثمرها في كل حال، وما ذلك إلا لأن الأرض تأتي
ثمرها كل حين بإذن ربها والله يضرب الأمثال.
وثانيتهما: - أعني ثاني الملحوظتين - أن المثل لا ينطبق على الممثل به تمام
الانطباق، وذلك لأن الناعق بالأغنام ناجح في أغلب الأحوال، وواعظ الكافرين لا
ينجح في حال من الأحوال. وهذه ملحوظة عرفت جوابها في طي جواب الملحوظة
الأولى، وهي أن التشبيه لا يقتضي وقوع المشابهة بين المشبه والمشبه به من جميع
الجهات، بل جهة واحدة تكفي عن كثير من الجهات.
وربما يضاف إلى هاتين الملحوظتين ملحوظة أخرى: هي أن هذا الوجه

154
يقتضي تقديرا، والأصل عدم التقدير، وهذه ملحوظة خفيفة المؤنة بعد أن عرفنا أن
التقدير لا بد منه إذا اقتضاه المقام ودل الدليل عليه، ولا سيما والمقام مقام ساقت
الآية فيه بيان دعوة الداعي إلى الكفار، وما أجاب به الكفار دعوة الداعين.
الوجه الثاني: أن يكون المعنى: ومثل الذين كفروا كمثل الغنم التي لا تفهم
نداء الناعق، فأضاف الله تعالى المثل الثاني إلى الناعق وهو في المعنى مضاف إلى
المنعوق به على مذهب العرب في قولهم: طلعت الشعرى، وانتصب العود على
الحرباء، والمعنى: وانصب الحرباء على العود، وجاز التقديم والتأخير لوضوح
المعنى. انتهى.
كأن السيد الشريف (قدس سره) في هذا الوجه يريد أن يجعل الآية الكريمة جارية على
ما جرى عليه العرب من نوع الاستعمال المعبر عنه بالقلب، وقد مر عليك في عهد
قريب واستشهدنا عليه من شعر العرب بالشئ الكثير، والسيد الشريف أضاف إلى
ذلك شواهد أخرى لا نرانا بحاجة إلى أن نطيل بها المقام.
الوجه الثالث: أن يكون المعنى: ومثل الذين كفروا ومثلنا، أو مثلهم ومثلك يا
محمد، كمثل الذي ينعق، أي مثلهم في الاعراض ومثلك في الدعاء والتنبيه
والارشاد كمثل الناعق بالغنم، فحذف المثل الثاني اكتفاء بالأول، ومثله قوله تعالى:
* (وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر) * (1) أراد الحر والبرد فاكتفى بذكر الحر عن البرد.
وقال أبو ذؤيب: (2)
عصيت إليها القلب اني لأمرها * مطيع فما أدري أرشد طلابها



(1) سورة النحل: 81.
(2) أمالي المرتضى: 1 / 156.
155
أراد أرشد أم غي، فاكتفى بذكر الرشد لوضوح الأمر.
الوجه الرابع: أن يكون المراد: ومثل الذين كفروا في دعائهم للأصنام التي
يعبدونها من دون الله - وهي لا تعقل ولا تفهم، ولا تضر ولا تنفع - كمثل الذي ينعق
دعاء ونداء بما لا يسمع صوته جملة الدعاء والنداء، ينتصبان على هذا الجواب
بينعق وإلا توكيد للكلام ومعناها الإلقاء.
قال الفرزدق: (1)
هم القوم إلا حيث سلوا سيوفهم * وضحوا بلحم من محل ومحرم
فكأن السيد (قدس سره) يريد أن إلا في المقام زائدة جئ بها للتأكيد.
الوجه الخامس: أن يكون المعنى: ومثل الذين كفروا في دعائهم للأصنام
وعباداتهم لها واسترزاقهم إياها، كمثل الداعي الذي ينعق بالغنم ويناديها، فهي
تسمع دعاء ونداء ولا تفهم معنى كلامه، فشبه من يدعوه الكفار من المعبودات دون
الله بالغنم من حيث لا تعقل الخطاب ولا تفهمه، ولا نفع عندها فيه ولا مضرة.
كأن السيد الشريف (قدس سره) لما رأى أن بعض الغموض قد يعتري الناظرين في
الفرق بين الجوابين، نبه على الجهة الفارقة، قال: وهذا الجواب يقارب الذي قبله وإن
كان بينهما مزية ظاهرة، لأن الأول يقتضي ضرب المثل بما لا يسمع الدعاء والنداء
وإن لم يفهمهما، والأصنام من حيث إنها كانت لا تسمع الدعاء جملة يجب أن يكون
داعيها ومناديها أسوأ حالا من منادي الغنم، ويصح أن يصرف إلى الغنم وما أشبهها
مما يشارك في السماع ويخالف في الفهم والتمييز.



(1) أمالي المرتضى: 1 / 156.
156
هذه الوجوه التي ذكرها سيدنا المرتضى علم الهدى أعلى الله مقامه، وفيها
الكفاية لنا عن استعراض غيرها مما هنا وهناك من الوجوه، لكن شيخنا المجاهد
الحجة البلاغي أعلى الله مقامه ذكر في كتاب " الهدى " وجها آخر نذكره بنصه لا يعدم
شيئا قيما من الفائدة، قال (قدس سره)، ما نصه:
والمراد منه: أن الذين كفروا تجري ألسنتهم في كفرهم بما لا يعقلون غلطه،
ولا يتدبرون شططه، فكأنه ليس لهم سماع يسمعون بها ضلال أقوالهم وقبيح
فلتاتهم، فإنها قد بلغت من الغلط والضلال حدا أن لا يعقله إلا من لم يسمعها أفيقول
من لم يوقر الغي أذنيه: لا أتبع ما أنزل الله، بل أتبع ما ألفيت عليه آبائي؟ أفلا يسمع ما
يقوله من الغلط والضلال فمثل الذين كفروا في ضلال أقوالهم هذه كمثل الأصم الذي
ينطق بما لا يسمعه ولا يميز من مداليل كلماته إلا الصوت والدعاء والنداء، فكلامهم
الغلط الفاسد إنما هو بالنسبة إلى غباوتهم عما هم فيه كنعيق من لا يسمع.
وهذا الذي ذكره شيخنا المجاهد طاب ثراه غير بعيد في باب الاحتمال،
فللاحتمالات متسع في عالم العقل غير محدود، لكن لو نظرناه عن طريق الاستعمال
قد نرى فيه شيئا أو بعض شئ من البعد لا ترضاه موارد الاستعمال، فإن الذي يفهم
من كلام الشيخ (قدس سره) هو أن النعق في الآية وقع وصفا لكلام الكفار، في حين أن سوق
الآية يقتضي كونه وصفا لكلام المتكلم معهم لا لكلامهم، كما تراه، مضافا إلى أن
المتبادر من النعيق أن يكون داخلا على المنعوق به، وقد جعل على مقتضى كلام
الشيخ داخلا على المنعوق، وهذا أيضا كما تراه.
ومن جملة ما وقع فيه الغلط والشطط في فهم آيات كتاب الله الكريم قوله
تعالى: * (تلك حدود الله فلا تعتدوها) * (1) فاعترضوا ذلك - وحاشا كرامة القرآن



(1) سورة البقرة: 187.
157
العظيم من الاعتراض - أنه يلزم أن يعدى " تعتدو ": بعلى لا بنفسه.
وهذا اعتراض من لم يمارس موارد الاستعمال ولم يطلع على نصوص
اللغويين، فإن الاعتداء والتعدي بمعنى واحد، وهو التجاوز، فقولك: اعتدى عليه،
وتعدى عليه، بمعنى واحد.
قال الفيروز آبادي في " القاموس " (1) من جملة ما ذكره في هذه المادة: عدا
عليه عدوا وعدوا وعداء وعدوانا - بالضم والكسر - وعدوي - بالضم - ظلمه، كتعدي
واعتدى وأعدى.
فهذا الكلام من الصراحة في اتحاد اعتدى وتعدى بمكان، وفيه الكفاية لمن
كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ومن جملة الآيات التي وقع الغلط والشطط في فهمها على الحقيقة قوله
تعالى: * (ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا) * (2).
اعترض المعترض هنا فقال - جهلا بحقيقة الحال -: كان الوجه أن يقول: إنما
الربا مثل البيع، وهذا اعتراض من لم يفهم أصول الاستعمال، ولم يفطن إلى قرائن
الأحوال، فإن هذا القول من الله تعالى إنما كان لاعتراضهم بالنقص على التشريع في
تحريم الربا وتحليل البيع قياسا منهم للربا على البيع متوهمين أن العلة في تحريم
الربا موجودة فيه، ومثل هذا النوع من الاعتراض يتطلب مثل هذا النوع من الجواب
بهذا النحو من التعبير والاستعمال، ولعل الرجوع في المقام إلى تفسير الإمام الرازي.
يزيدك شيئا أو بعض شئ من الوضوح.



(1) القاموس المحيط: 1688.
(2) سورة البقرة: 275.
158
ومن جملة الآيات التي بليت بسوء فهم الجاهلين وتعرض الغافلين: قوله
تعالى: * (قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم) * (1).
ووجه الاعتراض على الآية الكريمة - وحاشا كرامتها من الاعتراض - هو أن
المقام في أسماء الثانية مقام إضمار عدل عنه إلى الإظهار، لأن ذكرها أول مرة كاف
عن إعادتها مرة ثانية، فهذا مخالف لأصول الاستعمال.
وقد أجاب شيخنا الحجة المجاهد البلاغي (قدس سره): بأن تكرار الظاهر هنا لأجل
التسجيل بالصراحة فيما هو العنوان والحجة للقصة فلم يطوه بغمغمة الإضمار، وأن
الفوائد التي أشرنا إليها لمعتنى بها في البلاغة، فقد قال عنترة في معلقته: (2)
يا دار عبلة بالجواء تكلمي * وعمي صباحا دار عبلة واسلمي
وقال سوادة بن عدي: (3)
لا أرى الموت يسبق الموت شئ * نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
وذكرنا لك قول امرئ القيس: (4)
فلو أنها نفس تموت سوية * ولكنها نفس تساقط أنفسا
وقول الآخر: (5)
إذا قيل سيروا إن ليلى لعلها * جرى دون ليلى مائل القرن أعضب



(1) سورة البقرة: 33.
(2) شرح المعلقات العشر: 154.
(3) التبيان: 2 / 556، مجمع البيان: 2 / 362.
(4) أمالي المرتضى: 2 / 126، ديوان امرئ القيس: 118.
(5) أمالي المرتضى: 2 / 159، مجمع البيان: 5 / 340.
159
انتهى كلامه علا مقامه.
أقول: إن العدول عن التعبير بالاسم المظهر في مقام يتطلب التعبير بالاسم
المظهر - نظرا إلى أنه خلاف الأصل حسب الاستعمال الوارد في أساليب
المحاورات وقوانين الاستعمالات المطردة في كلام العرب الذين جرى القرآن على
مجاراة لغتهم الخاصة بما لها من تلك الأساليب والقوانين - يتطلب سببا مبررا يبرره
هذا العدول، وما ذكره شيخنا طاب ثراه من التسجيل بالصراحة أحد الأسباب
المبررة، وهذا فرع من أصل، وجزء من كل، وهو وحده ينبغي أن يجعل فنا من فنون
القرآن الكريم له قيمته ومقامه يمكن أن يعبر عنه بتعبير اليوم وبمصطلح العصر
الحديث ب‍: التصوير الفني والتخيل الحسي، ذلك أن القرآن الكريم نزل بشيرا ونذيرا
على البشير النذير.
ومما لا يشك فيه أن التبشير والإنذار يتطلبان الهيمنة على النفس، وأهمية
الوقع على السمع، فحيث يهيمنان بتوقيع أنغامهما على السمع يفتح لهما باب القلب
فيدخلان بلا استئذان فيعملان في القلب عملهما المطلوب، من أجل ذلك ترى أن
القرآن الكريم كثيرا ما يختار لفظة لها بدل أخف منها على السمع لكنه يختارها لأن
المقام مقام الوعيد والترهيب ولتلك اللفظة أثرها في ذلك المقام ولا يقوم مقامها لفظ
خفيف أو كلمة لينة في عالم التأثر، إننا نرى الرهبة والرعب يكاد يتمثل لنا بارزا
للعيان، أو يتجسم لنا في مثال محسوس إذا قرأنا قوله تعالى * (فكبكبوا فيها هم
والغاوون) * (1) ولا نرى بعضا من ذلك إذا عبرنا بدل كبكبوا: ادخلوا، أو زجوا، أو
أوقعوا، أو غيرها من الكلمات، ولهذا في الكتاب الكريم نظائر تصلح أن تكون فنا
مستقلا برأسه يكتب فيه الكتب والمؤلفات.



(1) سورة الشعراء: 9.
160
ومن هذا الباب وعلى هذه الوتيرة جاء التكرار في بعض آيات الكتاب الكريم،
فإن في التكرار روعة على النفس، وهيمنة على القلب، وتأثيرا على المشاعر، ووقعا
على الأسماع، لا يعرفه إلا المتعمقون في فنون البلاغة، وجاس خلال من كلام
البلغاء، وكم وكم تنافس في ذلك المتنافسون، على أننا نستطيع أن نقول - وما ذلك
القول ببعيد -: إن قسما من التكرار الواقع في القرآن الكريم لو أعطي النظر حقه فيه لم
يكن من التكرار في شئ، فإن التكرار في سورة الجحد * (قل يا أيها الكافرون) * لم
يكن محض تكرار إذا عرفنا سبب نزول تلك السورة، وأنها نزلت جوابا للمقترحين
على النبي (صلى الله عليه وآله) أن يعبد آلهتهم زمنا ما ويعبدوا إلهه طيلة ذلك الزمن، وقد كان ذلك
الاقتراح في نوبات متعددة، وحددوا له في ذلك أزمنة تختلف، فكان لكل نوبة
جواب على اختلاف تلك الأزمنة المحدودة.
هذا إذا قلنا: إن ما في قوله تعالى: * (لا أعبد ما تعبدون) * (1) وفي * (ولا أنتم
عابدون ما أعبد) * (2) هي في كل الآيات المتكررة موصولة:
أما لو قلنا: إن ما هي في بعض الآيات موصولة وفي بعضها مصدرية،
فاختلاف المعنى في الآيات المتكررة يظهر بكل وضوح، فكأنه تعالى يقول في آية:
لا أعبد آلهتكم التي تعبدونها وهي الأصنام المنحوتة، ولا أنتم عابدون الإله الذي
أعبده وهو الإله العزيز القدير المتحلي بكل صفات الكمال والجلال. ويقول في آية
أخرى: ولا أنا عابد العبادة التي تعبدونها في المستقبل، ولا أنتم عابدون ما أعبد
وهي عبادة الله موحدا له لا أعبد إلا إياه ولا أرى إلها سواه، لكن في هذا الجواب إن
هذا إنما يتم فيما إذا جعل الموصول كناية عن الأصنام وهي غير عاقلة، فالتعبير عنها



(1) سورة الكافرون: 2.
(2) سوره الكافرون: 3 و 5.
161
بما في محله صحيح. أما إذا جعلت كناية عن الإله العزيز الحكيم فلا وجه لهذا
التعبير، اللهم إلا أن نقول - كما قيل -: إن " ما " و " من " الموصولتين قد يتعاقبان في
التعبير، وعلى كل حال فالأمر واضح كل الوضوح.
وهكذا الحال في سورة " الرحمن "، وهكذا يكون الكلام في التكرير الواقع في
تلك السورة فإنه تكرار قصد به التقرير بالنعم المختلفة المعدودة، فكلما ذكر نعمة
أنعم بها على العباد قرر عليها ووبخ التكذيب بها، كما يقول الرجل لغيره: ألم أحسن
إليك بأن خولتك الأموال؟ ألم أحسن إليك بأن خلصتك من المكاره؟ ألم أحسن
إليك بأن دفعت عنك الكروب، فكأن التكرار وقع لاختلاف ما يقرر به المخاطب من
النعم المختلفة.
وإن قال قائل: إن هذا التكرار وقع بعدما هو غير معدود من النعم مثل قوله
تعالى: * (يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران) * (1) وقوله تعالى: * (هذه
جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن) * (2) فالجواب هو أن
يقال - وقد قيل -: هو أن فعل العقاب وإن لم يكن نعمة، فذكره ووصفه والإنذار به من
أكبر النعم، لأن في ذلك زجرا عما يستحق به العقاب، وبعثا على ما يستحق به
الثواب، فإنما أشار تعالى بقوله سبحانه: * (فبأي آلاء ربكما تكذبان) * (3) بعد ذكر
جهنم والعذاب فيها إلى الإنعام بذكرها ووصفها والإنذار بعقابها وهذه النعمة من
النعم فإن النعمة كما تكون بجلب المصلحة كذلك تكون بدرء المفسدة.
ثم نقول عودا على بدء: إن التكرار عند العرب معنى يتنافس عليه



(1) سوره الرحمن: 35.
(2) سورة الرحمن: 43 - 44.
(3) سورة الرحمن: 13 و 16 و 18 و....
162
المتنافسون، وغاية يتسابق إليها المتسابقون، وهؤلاء العرب ببابك وشعرهم بين
يديك وإن ذكرنا منه فلا نذكر إلا قليل، فمن هذا الحارث بن عباد يقول - في قصيدة -
لما قتل مهلهل ابنه بجيرا (1):
قربا مربط النعامة مني * لقحت حرب وآيل عن حيال
فقد كرر صدر البيت - حسب ما أحصاه بعض المتتبعين - في أربعة وأربعين
بيتا إلى قوله:
قربا مربط النعامة مني * لبجير فداه عمي وخالي
وقال مهلهل بن ربيعة يرثي أخاه كليبا فقال من جملة القصيدة: (2)
على أن ليس عدلا من كليب * إذا طرد اليتيم عن الجزور
فإنه كرر صدر البيت - فيما اطلعنا عليه - ثمان مرات - وفيما أحصاه بعض
العلماء - سبعة عشرة مرة، إلى قوله:
على أن ليس عدلا من كليب * إذا ما حام جار المستجير
وقالت ليلى الأخيلية ترثي توبة بن الحمير: (3)
لنعم الفتى يا توب كنت ولم تكن * لتسبق يوما كنت فيه تحاول
وقد كررت صدر البيت - فيما اطلعنا عليه خمس مرات - وفيما أحصاه بعض
العلماء - ست مرات.



(1) أمالي المرتضى: 1 / 87.
(2) أمالي المرتضى: 1 / 86، مجمع البيان: 9 / 332.
(3) مجمع البيان: 9 / 332.
163
وقالت في نفس القصيدة أيضا: (1)
لعمري لأنت المرء أبكي لفقده * ويكثر تسهدي له لا أوائل
وكررت صدر هذا البيت أربع مرات.
وقالت أيضا في نفس القصيدة: (2)
فلا يبعدنك الله يا توب إنما * لقيت حمام الموت والموت عاجل
فكررت صدر هذا البيت ثلاث مرات.
وقالت ابنة عم للنعمان بن بشير ترثي زوجها: (3)
وحدثني أصحابه أن مالكا * أقام ونادى صحبه برحيل
فقد كررت صدر البيت خمس مرات.
وهذا قليل من كثير لو أردنا استعراضه كما يرام لخرجنا عن موضوع الكتاب
من الاختصار، ولكن أردنا أن نرمز إلى شئ يجعل كقانون عام نتعرف منه حال
الجزئيات، ومنه نعرف الجواب عن التكرار الواقع في سورة المائدة في خطابه تعالى
للمسيح بقوله سبحانه: * (وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ
تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني) * (4) إلى آخر
الآية، فما هي إلا لشدة التأكيد في أعمال المسيح الخارقة ومعاجزه الباهرة، ما هي



(1) أمالي المرتضى: 1 / 87، مجمع البيان: 9 / 332.
(2) مجمع البيان: 9 / 333.
(3) أمالي المرتضى: 1 / 87.
(4) سورة المائدة: 110.
164
الا إقدار من القدير، وليس للمسيح فيها شركة أو استقلال.
ومن جملة ما وقع فيه الغلط والشطط في فهم معاني القرآن الكريم الغالية
ومزاياه العالية ما وقع في فهم الآية الكريمة الواقعة في سورة البقرة وهي قوله تعالى:
* (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله
واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى
واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى
الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس
أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) * (1).
إن السؤال في هذه الآية الكريمة يقع من وجوه:
أولها: وهو جهة معنوية، وهو أن يقال: كيف نفى تعالى كون تولية الوجوه إلى
الجهات من البر في حين أنها لا تفعل إلا في الصلاة، والصلاة بر، بل أفضل البر بلا
كلام؟
ثانيها: كيف أخبر عن البر بمن، والبر مصدر، ومن اسم محض لأنها اسم
موصول، وهذا يعبر عنه بالإخبار عن الحديث بالذات أو بالعكس وهو وعكسه لا
يجوز؟
ثالثها: أن الهاء في قوله تعالى: * (وآتى المال على حبه) * على م تعود وقد
تقدمت أشياء كثيرة تصلح لأن تعود على كل واحد من تلك الأشياء؟
رابعها: أنه على أي شئ ارتفع الموفون؟ وكيف نصب الصابرين وهو
معطوف على الموفين؟



(1) سورة البقرة: 177.
165
خامسها: أنه كيف أفرد الكلام في موضع، حيث قال تعالى: * (من آمن) *
* (وآتى المال) * * (وأقام الصلاة) * وجمع في موضع آخر حيث قال تعالى:
* (والموفون) * * (والصابرين) *؟
أما الأول فقد أجيب عنه - أولا - بما حاصله: ان هذا النفي وقع ردا على من
اعتقد أن التوجه إلى الصلاة هي البر كله، فردهم عن خطأهم هذا بأن الصلاة ليست
هي البر كله إنما البر ما ذكره تعالى من أنواع تلك الطاعات وأقسام تلك الواجبات.
وأجيب ثانيا: بأن هذه الآية نزلت ردا على اليهود الذين يتوجهون في الصلاة
إلى المغرب إلى بيت المقدس، والنصارى الذين يتوجهون إلى المشرق، واعتقد
الفريقان أن هذا التوجه بر وطاعة كذبهم الله تعالى بهذا الاعتقاد، وأن هذا التوجه
ليس من البر والطاعة، لأنه منسوخ بشريعة النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله).
وأما الثاني فقد أجيب عنه بوجوه أصحها وأصلحها - لقربه مما يتطلبه مقام
القرآن الكريم من بليغ البلاغة، وبعده عن التزام الحذف والتقدير -: هو أن العرب
حيث تريد المبالغة في شئ من الأشياء وبيان أنه متمحض في الوصف المقصود
حتى كأنه هو هو وكأن هذا ذاك يخبرون عنه بمبدأ الوصف الذي هو المصدر تحقيقا
لذلك الحال، وفي ذلك من روعة التعبير وإبراز الصورة المعقولة مبرز الصورة
المحسوسة ما تعترف بحسنه الباهر، البلاغة والبلغاء، وخذ إليك الآن شيئا أو بعض
شئ من منظوم كلام العرب ما يكون شاهد صدق على هذا الادعاء:
قالت الخنساء: (1)
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت * فإنما هي إقبال وإدبار



(1) أمالي المرتضى: 1 / 143.
166
وقال متمم بن نويرة: (1)
لعمري وما دهري بتأبين مالك * ولا جزع مما أصاب فأوجعا
وقال الحطيئة: (2)
وشر المنايا ميت وسط أهله * كهلك الفتى قد أسلم الحي حاضره
وهذا قليل من كثير لكنه يغني عن الكثير، إذ أنه يلمس شيئا من الغاية
المقصودة ويعطي شيئا من الحقيقة المقصودة.
وأما الثالث فقد قيل فيه وجوه أربعة:
أولها: رجوع الهاء إلى الإيتاء الذي دل عليه * (آتى) *، فكأنه قال: وآتى المال
على حب منه للإيتاء فكأنه يعطي حيث يعطي عن طيب نفس لا عن تكلف حبا بما
يصير إليه عاقبة هذا الإيتاء، وقد استشهد لهذا القول بنظائر، من ذلك قول الشاعر: (3)
هم الملوك وأبناء الملوك لهم * والآخذون به والساسة الأول
فقد أراد بضمير به الملك المدلول عليه بسياق الكلام:
ومثله قول الآخر: (4)
إذا نهي السفيه جرى إليه * وخالف والسفيه إلى خلاف
فأرجع الضمير في إليه إلى السفه المدلول عليه بسياق الكلام.



(1) التبيان: 2 / 96.
(2) أمالي المرتضى: 1 / 38.
(3) أمالي المرتضى: 1 / 145.
(4) أمالي المرتضى: 1 / 145.
167
ثانيها: أن تكون الهاء راجعة إلى الله تعالى لتقدم ذكره تعالى أول الكلام،
فكأنه: وآتى المال على حب الله، وما المقصود من إيتاء المال على حب الله إلا إثبات
مرتبة الخلوص الصميم وقصد القربة الصحيحة لهؤلاء المعطين، فلا يعطون ما
يعطون رجاءا لعوض، أو حبا لسمعة أو رياء، أو طلب للظهور، إنما هو لله وفي الله،
وهذه هي غاية المخلصين العاملين.
ثالثها: أن تكون الهاء راجعة إلى المال، فكأنه تعالى قال: وآتى المال على حبه
للمال، وفي ذلك من التدليل على بيان مقام التضحية لهؤلاء حيث إنهم ينفقون ما
يحبون ويسخون بما هو مضنة الشحة حبا بما هو أعلى وأغلى من المال، وهو ثواب
الله والأجر العظيم.
ونحن لو وقفنا موقف الانتقاء والاختبار لشئ من الوجوه نجدنا نختار
الوجهين الأخيرين، فإن المقام مقام بيان الإخلاص الصادق الصميم، وأن هؤلاء
شغفوا بالحقائق لا بالخيال، وبالواقعيات لا بالصور والأشكال، وهذا يناسب
الوجهين الأخيرين، أو يتجلى فيهما أكثر من غيرهما بوضوح.
وأما الرابع: فارتفاع الموفين فيه بالعطف على من آمن فهو مرفوع لأنه
معطوف على مرفوع، وأما الصابرين: فقد قيل في نصبه وجهان:
أحدهما: أنه عطف على ذوي القربى، فيكون المعنى: وآتى المال على حبه
ذوي القربى والصابرين.
وثانيهما: أنه نصب على المدح، ومعناه: أنه منصوب لكونه مفعول فعل
محذوف، وهذا مذهب العرب في النعوت والصفات إذا طالت، فإن من مذهبهم أن
يعترضوا بينها بالمدح والذم ليمزجوا الممدوح أو المذموم ويفردوه فيكون غير متبع

168
لأول الكلام، فتظهر حينئذاك الميزة المقصودة، وفي هذا من التعزيز للشعور أو
التصوير الفني والتمثيل الحسي بنقله الذهن من حال إلى حال ما لا يخفى على أولي
الألباب، ولذلك من كلام العرب شواهد كثيرة وكثيرة، من ذلك: قول الخورنق بنت
بدر بن هفان: (1)
لا يبعدن قومي الذين هم * سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك * والطيبين معاقد الأزر
فنصبت بعد أن رفعت.
وقال عروة بن الورد: (2)
سقوني الخمر ثم تكنفوني * عداة الله من كذب وزور
فانتقل من رفع إلى نصب.
وقال الشاعر الآخر: (3)
إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتيبة في المزدحم
وذا الرأي حين تغم الأمور * بذات الصليل وذات اللجم
فانتقل من جر إلى نصب.
فإن قال قائل - وقد قال -: ما هي الميزة التي امتاز بها الصابرون دون غيرهم
ممن اتصفوا بتلك الصفات التي ذكرتهم الآية الكريمة فاختصوا بالمدح دون هؤلاء
وهؤلاء؟
فإننا نقول: إن الجواب عن هذا واضح كل الوضوح، فإن للصابرين مقاما عاليا



(1) أمالي المرتضى: 1 / 146.
(2) أمالي المرتضى: 1 / 147.
(3) أمالي المرتضى: 1 / 146.
169
لا يناله إلا الأقلاء ألا وإن كل إقدام على طاعة أو إحجام بأي شكل كان وبأي نوع
يكون هو نتيجة هذه الصفة الغالية، فهنيئا للصابرين، وإن مقام الصبر هو مقام الهيمنة
على الجوانح والجوارح والاستيلاء على الأبدان والنفوس، وإن القرآن الكريم والسنة
النبوية الكريمة ليرفعان الصبر إلى مقام هو فوق كل مقام، ويكفينا أن نذكر قوله تعالى:
* (وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك
عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) * (1) وأن نذكر ما جاء عن
النبي (صلى الله عليه وآله) كما جاء في المجازات النبوية: (2) " العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره،
والعقل دليله، والعمل قيمته، واللين أخوه، والرفق والده، والصبر أمير جنوده ".
وببركة هذا الحل وعلى ضوء هذا التحليل تنحل عقدة الإشكال عن الآية
الكريمة الواردة في سورة النساء وهي قوله تعالى: * (لكن الراسخون في العلم منهم
والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون
الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما) * (3).
وأن ما ورد من فضل الصلاة كتابا وسنة الذي يكفي منه قوله تعالى: * (إن
الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) * (4) وقوله عليه الصلاة والسلام: " الصلاة عمود
الدين، إن قبلت قبل ما سواها، وإن ردت رد ما سواها " (5) ليبين لنا أكمل بيان،
اختصاص المقيمين الصلاة بالمدح دون من اتصف بسائر الصفات.



(1) سوره البقرة: 157.
(2) ص 195.
(3) سوره النساء: 162.
(4) سورة العنكبوت: 45.
(5) المقنع: 73.
170
وأما الخامس - وهو أنه أفرد في موضوع وجمع في آخر -: فجوابه: أن من
لفظه لفظ الوحدة ومعناه معنى الجمع فما أتى مفردا جرى على اللفظ، وما أتى
جمعا جرى على المعنى، وكلاهما عربي مطرد الاستعمال.
ومن ذلك ما وقع من الخلط والخبط في فهمه ما وقع في سورة المنافقين وهي
قوله تعالى: * (وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب
لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين) * (1).
ووجه الاعتراض في هذه الآية الكريمة أن يقال - وقد قيل -: إنه كيف عطف
* (أكن) * - وهو مجزوم - على أصدق - وهو منصوب -، والاتفاق بين حركات
المعطوف والمعطوف عليه شئ لا يقبل النقاش.
ونجيب عنه: أولا: إن هذه الآية قرئت بنصب أكون، فعلى هذه القراءة لا
جدال ولا نقاش.
ثانيا: إنه بناء على قراءة الجزم هو أن عطف الفعل المجزوم على الفعل
المنصوب إذا كان محل ذلك الفعل المنصوب هو الجزم لكونه في المعنى واقعا
موقع الجواب للشرط الموجود، شئ وارد بكثرة عند العرب، وله شواهد في
الاستعمال، ومن هذا الباب قول خارجة بن الحجاج الأيادي:
قابلوني بليتكم لعلي * أصالحكم وأستدرج نويا
وفي هذا كفاية لمن يقنع بالبراهين.
واعلم أن النحاة ذكروا أن من أنواع العطف نوعا يسمى عندهم بالعطف



(1) سورة المنافقون: 10.
171
التوهمي ويريدون منه عطف شئ يخالف المعطوف عليه في الحركة، بتقدير: أن
تلك الحركة هي الحركة، أو بتوهم أن تلك الحركة داخلة على المعطوف عليه،
ولذلك عند العرب شواهد، منها قول الشاعر:
بدا لي أني لست مدرك ما مضى * ولا سابق شيئا إذا كان جائيا
فعطف المجرور - وهو سابق - على المنصوب - وهو خبر - ليس لتوهم أن خبر
ليس مجرور بالباء الزائدة.
وهكذا قول الآخر:
معاوي اننا بشر فأسجح * فلسنا بالجبال ولا الحديدا
ومن ذلك أيضا ما وقع فيه الوهم من قوله تعالى في سورة الحج، وهي قوله
تعالى: * (هذان خصمان اختصموا) * (1) فإنه يقال: كيف ثنى أولا ثم أعاد ضمير الجمع
على التثنية؟
وأجيب عنه: بأن التثنية أولا لبيان أن الخصومة وقعت بين طرفين وبين
فريقين هما: الذين كفروا، والذين آمنوا، وجمع أخيرا نظرا إلى أن لفظ الخصم وإن
كان مفردا في اللفظ إلا أنه يستوي فيه المفرد والجمع، بل المذكر والمؤنث فتنبها
على كثرة المتخاصمين في الفريقين جمع التعبير الأخير.
وهكذا قوله تعالى في سورة الحجرات وهي قوله تعالى: * (وإن طائفتان من
المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) * (2) حيث جمع تعالى باعتبارات القتل بين أفراد
الطائفتين الكثيرين وثنى الضمير في بينهما إرجاعا إلى الطائفتين لبيان أن الواجب أن



(1) سوره الحج: 19.
(2) سوره الحجرات: 9.
172
الصلح بين الطائفتين بمجموع الطائفتين، ولا يحصل امتثال هذا الواجب إذا أصلحوا
بين الأفراد وإن كانوا كثيرين، وهذا المعنى لا يتم إلا عن طريق هذا النسق من العبارة
فلذلك ثني في حال وجمع في حال آخر.
ومن ذلك أيضا ما وقع فيه الوهم في قوله تعالى في سورة الأنبياء وهي قوله
تعالى: * (وأسروا النجوى الذين ظلموا) * (1).
ووجه الاعتراض في هذه الآية الكريمة: مجئ الفعل مقرونا بضمير الجمع
مع وجود الاسم الظاهر، في حين أن الفعل يجرد عن علامة التثنية والجمع إذا أسند
إلى التثنية والجمع وكان الاسم الظاهر موجودا في الكلام.
ويجاب عن ذلك بوجوه:
أحدها: أن يكون * (الذين ظلموا) * جاء في ذلك على لغة من لغات العرب
عرفت عند النحاة بلغة " أكلوني البراغيث " فتكون الواو علامة الجمع.
ثانيها: أن يكون مرفوعا على الفاعلية ل‍ * (أسروا) * وأن الواو علامة الجمع.
ثالثها: أن يكون الفاعل هو الضمير وهو الواو، ويكون * (الذين ظلموا) * في
محل النصب على الذم بأن يكون من الصفة المقطوعة.
وقد قرر بعض العلماء أن الغرض من ذلك هو إسناد الفعل إلى اللاعبين
اللاهية قلوبهم فأسند إلى ضميرهم شرحا لذميم حالهم وتسجيلا عليهم بقبح
تماديهم في الغي، ثم جاء بقوله: * (الذين ظلموا) * بدلا من الضمير أو منصوبا على
الاختصاص والذم إعلاما بظلمهم في إسرارهم النجوى بجحد الرسالة بالذكر



(1) سورة الأنبياء: 3.
173
وتسميته سحرا واحتجاجهم الفاسد بكون الرسول بشرا، ولو أسند الفعل رأسا إلى
* (الذين ظلموا) * لانحل ارتباط الكلام ولم يدل على المراد منه.
ومن ذلك أيضا ما وقع الوهم في قوله تعالى من سورة طه: * (إن هذان
لساحران) * (1) ووجه الاشكال فيه هو: رفع اسم " إن " وهو مثنى وحقه النصب
والمثنى ينصب بالياء، فكان ينبغي أن يقول: إن هذين.
والجواب عن ذلك: إن في الآية قراءات ثلاث:
أحدها: هذه القراءة وهو تشديد إن ورفع هذان.
وثانيها: تشديد إن ونصب هذان، بمعنى: أنه قرأ: إن هذين لساحران.
وثالثها: تخفيف إن ورفع هذان، ولكل من هذه القراءات وجه أو وجوه: أما
القراءة الأولى فقد وجهت بوجوه:
أحدها: أن يكون إن حرف جواب بمعنى نعم، وتجري في ذلك مجرى قول
الشاعر (2):
ويقلن شيب قد علاك * وقد كبرت فقلت إنه
ورد هذا - أولا: إنه إذا كانت إن بمعنى: نعم، وجب رفع ما بعدها على
الابتداء، فيكون مبتدأ وما بعده خبر، ولام الابتداء المسماة بلام التأكيد لا تدخل
على خبر المبتدأ إلا على طريق الشذوذ والضرورة، كقول الشاعر:



(1) سوره طه: 63.
(2) مجمع البيان: 7 / 31، شرح نهج البلاغة: 20 / 139، تفسير القرطبي: 6 / 247، وج
11 / 218.
174
خالي لأنت ومن جرير خاله * ينل العلى ويكرم الأخوالا
وقول الآخر: (1)
أم الحليس لعجوز شهربة * ترضى من اللحم بعظم الرقبة
وثانيها: أنه لا يمكن حمل إن في الآية على معنى نعم الجوابية، إذ لا تصلح
لأن تكون جوابا إلا إلى قوله تعالى حكاية عن قول موسى (عليه السلام): * (ويلكم لا تفتروا
على الله كذبا) * (2) أو إلى قوله تعالى: * (وأسروا النجوى الذين ظلموا) * (3) وكل من
القولين محال.
ثانيها: ما قاله المتقدمون من النحويين من أن التقدير: إنه هذان لساحران،
فحذف ضمير القصة المعبر عنه بضمير الشأن، وهو اسم إن وما بعده يكون مبتدأ
وخبر، وهذا الوجه كسابقه في الشذوذ الذي عرفته من دخول اللام في خبر المبتدأ،
وهو غير فصيح، ويزيد عليه تحمل التقدير لضمير الشأن، والأصل خلافه.
ثالثها: - وهو أجود ما قيل -: أن تكون الآية الكريمة نزلت على لغة بني
الحارث بن كعب، وهم قوم يجعلون المثنى بالألف دائما وفي جميع الأحوال، ومن
ذلك يصف قول شعرائهم: (4)



(1) التبيان: 7 / 185، مجمع البيان: 7 / 31، تفسير القرطبي: 11 / 219.
(2) سورة طه: 61.
(3) سوره الأنبياء: 3.
(4) مجمع البيان: 7 / 33. وفيه الأبيات هكذا:
واها لريا ثم واها واها * يا ليت عيناها لنا وفاها
وموضع الخلخال من رجلاها * بثمن نعطي به أباها
إن أباها وأبا أباها * قد بلغا في المجد غايتاها
ونسب جماعة هذه الأبيات إلى النجم العجلي، منهم الشريف المرتضى (رحمه الله) في الأمالي،
ونسبها آخرون إلى رؤبة. وقال بعض: إنها لبعض أهل اليمن. وفي بعض الروايات: لسلمى.
175
واها لريا ثم واها واها * هي المنى لو أننا نلناها
يا ليت عيناها لنا وفاها * وموضع الخلخال من رجلاها
بثمن نعطي به أباها * إن أباها وأبا أباها
قد بلغا في المجد غايتاها
وليس هناك مانع من أن ينزل القرآن على لغة قوم دون آخرين فلم يخرج بها
عن اللغة العربية.
ومن ذلك ما وقع الغلط والشطط في فهمه من قوله تعالى في سورة البقرة،
وهي قوله تعالى: * (فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم) * (1).
ووجه الوهم فيه: أن مقتضى القاعدة أن يقول: فيتوب عليكم، لأن نسق
العبارة يقتضيه، وذلك لأن الآية هكذا: * (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم
أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم عند
بارئكم فتاب عليكم إنه هو التواب الرحيم) *.
والجواب عن ذلك واضح كل الوضوح لو أعطى الانسان نفسه نظرة التأمل
والإمعان، وذلك: أن الخطاب - حسب دلالة الآيات - لبني إسرائيل الذين كانوا في
زمن النبي (صلى الله عليه وآله) لا في زمن موسى (عليه السلام)، والمقام مقام تسجيل نعم الله تعالى السابقة
عليهم ومقابلتهم لها بالكفر والامتهان، ومن جملة النعم السالفة هو توبة الله تعالى
عليهم بعد أن تابوا وقتلوا أنفسهم توبة لله وتكفيرا عن خطيئة اتخاذهم العجل



(1) سورة البقرة: 54.
176
معبودا مع الله، ومع هذا كيف يصح التعبير بغير الفعل الماضي، لو تأمل المنصفون؟
ومن ذلك قوله تعالى في سورة آل عمران، وهي قوله تعالى: * (إن مثل عيسى
عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) * (1).
ووجه الاشكال في الآية الشريفة من وجهتين:
إحداهما: أنه قال تعالى: * (خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) * فنراه تعالى
عطف قوله: * (ثم قال له كن) * على * (خلقه) * بثم المفيدة للترتيب والتراخي، فيدل
على أن كونه بعد خلقه بمهلة وترتيب قضاء لحق العطف بهذه الأداة، فيقتضي
حينذاك أن يكون خلق آدم متقدما على قول الله: * (كن فيكون) * وذلك باطل، لأن
خلق آدم هو نتيجة هذه الإرادة المعبر عنها ب‍ " كن " فهو متأخر عنها تأخر المسببات
عن الأسباب.
ثانيتهما: أن مقتضى التعبير - حسب ما يتطلبه السياق - هو أن يقول: كن فكان،
لأنه حكاية عن حالة ماضية فكيف قال: كن فيكون؟
أجيب عن الأول بوجوه:
أحدها: أن الحق هو التقدير والتسوية، ويرجع معناه إلى علم الله تعالى بكيفية
وقوعه وإرادته لإيقاعه على الوجه المخصوص، وكل ذلك متقدم على وجود
آدم (عليه السلام) تقديما من الأزل إلى الأبد. وأما قوله تعالى: * (كن) * فهو عبارة عن إدخال في
الوجود، فيثبت أن خلق آدم متقدم على قوله: * (كن) *.
ثانيها: أنه تعالى خلقه من الطين ثم قال له: كن، يعني أحياه، كما قال تعالى:



(1) سورة آل عمران: 59.
177
* (ثم أنشأناه خلقا آخر) * (1) واعترض على هذا بأن الضمير في قوله: * (خلقه) * راجع
إلى آدم، وحين كان آدم ترابا لم يكن آدم (عليه السلام) موجودا.
وأجيب عن ذلك: بأنه كان موجودا، والذي وجد بعد ذلك حياته وليست
الحياة نفس آدم، وضعف هذا الجواب: بأن آدم (عليه السلام) ليس هو عبارة عن مجرد
الأجسام المشكلة بالشكل المخصوص، بل هو عبارة عن هوية أخرى مخصوصة،
وهي إما المزاج المعتدل أو النفس.
وأجيب عن ذلك: بأنه لما كان هذا الهيكل بحيث سيصير آدم عن قريب،
سماه تسمية لما سيقع باسم الواقع.
وثالثها: أن قوله تعالى: * (ثم قال له كن فيكون) * يفيد تراخي هذا الخبر عن
ذلك الخبر، فكأنه قال تعالى: أنا أخبركم بأنه خلقه من تراب، أي يصيره خلقا سويا،
ثم إنه يخبركم بأني خلقته، بأن قلت له: * (كن) * فيكون التراخي - على هذا الجواب -
بين الإخبارين عن هذين الفعلين، لا بين نفس الفعلين، وكل واحد من هذه الوجوه
هو محل مناقشة:
أما الأول: فهو أن جعل الخلق بمعنى التقدير والتسوية، أو بمعنى علم الله
تعالى بكيفية إيقاع المخلوق، شئ خلاف المتبادر من لفظ الخلق، فما هو إلا
استعمال على سبيل المجاز، فأين القرينة الشاهدة لهذا المجاز؟ وأين العلامة
المصححة لهذا الاستعمال؟
وأما الثاني: فقد عرفت اعتراض المعترض عليه، وليس ذلك الجواب برافع
شيئا من ذلك الاعتراض قدر نقير.



(1) سورة المؤمنون: 14.
178
وأما الثالث: فيشكل عليه:
أولا: بأنه ليس هناك تراخي بين الخبرين، لأن ذلك خبر واحد وقع في ضمن
حكاية واحدة.
وثانيا: أن التراخي بين الخبرين يتبع التراخي بين الأمرين الواقعين في ضمن
الخبرين، وبعبارة أوضح: إن الترتيب والتراخي في الحكاية عن شيئين أو أشياء، يتبع
الترتيب والتراخي بين ذات الشيئين والأشياء، وحيث لا ترتيب ولا تراخي بين نفس
الشيئين المحكي عنهما، بل الأمر بالعكس، فلا يصح الترتيب والتراخي في
الحكاية، ولو جوزنا عكس الترتيب في الحكاية الواقعة في الآية - على ضوء هذا
الجواب - لكان ذلك إشكالا آخر في الآية يتطلب الجواب، والجواب الصحيح تعرفه
في ضمن الجواب عن الإشكال الآتي عن قريب.
وعلى كل، فقد أجيب عن الإشكال الثاني بأن المقام في الآية الكريمة مقام
الاحتجاج عن طريق التمثيل، فكان لزاما في مثله الإتيان بهذا النوع من التعبير،
وبعبارة أوضح: هو أنه تعالى أراد بهذا البيان التدليل على القدرة العامة والملازمة
التامة بين الإرادة والمراد، وأن المراد لا يختلف عن الإرادة، وهذه القدرة والملازمة
دائمتان ثابتتان لا يطرقهما زوال ولا يعرضهما اضمحلال، فلا بد من عبارة تدل على
هذا الثبوت، وما هي إلا الفعل المضارع لما فيه من الدلالة على الحال والاستقبال،
أما الفعل الماضي فلا كفاية فيه للدلالة على هذا المعنى المقصود، فإنه تعالى لو قال:
كن فكان، فليس فيه إلا الدلالة على أن آدم أو عيسى كان، فقد يكون هذا الكون
باتفاق، وقد يكون بملازمة فلا يفيد الفائدة المطلوبة، وعلى كل حال فليس المقام
إلا احتجاج وتمثيل، وإلا فليس في حق الواقع وحق الحقيقة قول ولا مقول، إنما هو
الإرادة الإلهية التي لا يتخلف عنها المراد.

179
ومن ذلك ما وقع الغلط فيه في فهم قوله تعالى في سورة الدهر، وهي قوله
سبحانه: * (هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) * (1).
اعترض المعترضون هنا - جهلا بحقيقة الحال - أن الاستفهام هاهنا إن قصد به
الانكار، كان خلاف المقصود من الآية في سوق إيجاب هذا المعنى لا سلبه، وإن
قصد بها الإثبات على أن تكون (هل) بمعنى (قد) - كما ادعاه بعض المفسرين -
فليس هناك شاهد من كلام العرب يثبت مجئ (هل) بمعنى (قد).
والجواب عنه: هو ان المقرر عند علماء العربية هو أن الاستفهام حقيقته طلب
الفهم، ولكنه يخرج من هذا المعنى إلى معان اخر يكون الاستفهام فيها على سبيل
المجاز، وأنهيت تلك المعاني إلى ثمانية، وإنما يحمل عليها الاستفهام إذا تعذر
حمله على الحقيقة، ولا يحمل على أحد تلك المعاني على التعيين إلا أن تقوم
القرينة عليه، فمن تلك المعاني: التقرير. ومن تلك المعاني: التوبيخ. ومنها: الانكار.
فحينئذ نقول: حيث إنه يتعذر في الآية حملها على الاستفهام الحقيقي - لأن
الاستفهام الحقيقي طلب الفهم، وطلب الفهم إنما يكون من الجاهل بحقيقة
المستفهم منه، ويتعالى الله سبحانه عن ذلك علوا كبيرا - فلا يحمل الاستفهام الوارد
في كلامه سبحانه على حقيقة، فلا بد من حمله على أحد المعاني المجازية
المذكورة، وحيث نعرف هذا فلنعرف أي معنى من تلك المعاني المجازية يحمل
عليه الاستفهام في المقام؟ لا شك أنه لا يحمل على الانكار أو اللوم لأنه خلاف
مؤدى معنى الآية الكريمة، فالقرينة للقيامية تستدعي حمله على التقرير، ومعناه
الإثبات بطريق الاحتجاج على هذا الأسلوب، وللاستفهام في المقام مزية ذوقية
يخلو الكلام منها إذا أتى به على طريق الإثبات، ولذلك شاهد من كلام العرب قوي



(1) سورة الدهر (الانسان): 1.
180
متين، قال زهير في معلقته: (1)
ألا أبلغ الأحلاف عني رسالة * وذبيان هل أقسمتم كل مقسم
وقال زيد الخيل (2):
سائل فوارس يربوع بشدتنا * أهل رأونا بسفح القف ذي الأكم
فالآية سبيلها سبيل هذا الشعر تحمل على ما يحمل عليه، فلا إشكال ولا
ارتياب.
ومن ذلك ما وقع الخلط والخبط فيه من وقوع الحروف الزائدة في القرآن وقد
وقع ذلك - أعني توهم وقوع الحروف الزائدة في القرآن - في آيات:
منها: قوله تعالى: * (لا أقسم بهذا البلد) * (3) حيث ذكروا أن " لا " في المقام
زائدة، فكان ذلك معرضا للقرآن الكريم بالاعتراض من المغرضين بوقوع الكلمات
الزائدة فيه.
اعلم - قبل كل شئ - أن الكلمات المعبر عنها بالكلمات الزائدة في اللغة
العربية على أقسام:
قسم منها يكون القصد من الزيادة فيها هو أنها زائدة في إعراب، بمعنى أنها
تقع في محل تكون فيه مقحمة بين العامل وليست هي زائدة في المعنى لتوقف
المعنى عليها، كما في قولهم: جئت بلا زاد ولا راحلة، وعوقبت بلا ذنب.
وقسم منها تكون الزيادة فيه في المعنى، بمعنى أن أصل المعنى غير متوقف



(1) شرح المعلقات العشر: 116.
(2) مغني اللبيب: 2 / 352.
(3) سورة البلد: 1.
181
عليها وإن كان لها أثر في الإعراب، بمعنى أنها تكون عاملا من عوامل الإعراب تؤثر
أثرها في الكلمات، وذلك ك‍: من، والباء الجارتين إذا وقعتا في حيز النفي
والاستفهام.
وقسم منها لا هذا ولا ذاك وذلك كزيادة " كان " المتوسطة بين فعل التعجب
وأداته، مثل قولك: ما كان أحسن هذا الصباح.
فحيث تعرف هذا فلتعرف أن النوع الأول ليس بزائد في الحقيقة لتوقف أصل
المعنى المقصود عليه، والثاني والثالث وإن كانا زائدين على المعنى إلا أنهما غير
زائدين بالنظر إلى الخصوصية الكلامية الزائدة على أصل المراد، والكلام إنما
يفضل، والمتكلمون إنما يتفاضلون في تلك الخصوصيات والنكات الزائدة على
أصل المراد، فما استعملها العرب إلا لأمر تراه العرب - بما وهبوا من حسن الذوق
ولطف القريحة - لا يتأتى إلا على هذا النحو من الاستعمال، فمن هنا ترى أنه لا زيادة
في الحقيقة في استعمال هذه الأنواع جميعا في الكلام، فلا يضر كرامة القرآن الكريم
اشتماله على هذه الكلمات لاشتمالها على تلك الخصوصيات وتحملها تلك
النكات.
نعم، هناك كلمات وهم الواهمون أنها زائدة، وليست هي بزائدة، ك‍ " لا " في
مثل الآية الكريمة السابقة، واعلم أن الأقوال في هذه الكلمة ثلاثة:
الأول: أن " لا " في مثل هذا زائدة.
والثاني: بأنها نافية، ومدخولها شئ محذوف تقديره: " لا يكون هذا " ويكون
إشارة إلى نفي شئ سبق الكلام عليه، وكل من هذين القولين تنزه عنها كرامة القرآن
الكريم، فإنها إما زيادة بلا سبب، أو حذف محتاج إلى التقدير.

182
لكن أصح الأقوال هو القول بأنها نافية ومدخولها هو الكلام الذي بعدها
ويكون القصد منها نفي القسم إشارة إلى عظم المقسوم به، كما يقول شخص لآخر:
لا أحلف برأسك أو بحياة أبيك، فيكون الكلام جامعا - بهذا النحو من الأسلوب - بين
التعريض بالقسم وإعظام القسم، أو المقسوم به في إنشاء واحد، وهذا هو الوجه
الوجيه الذي اختاره المحققون من المفسرين، وهكذا ينبغي الاختيار.
نعم، وكما توهم المتوهمون زيادة " لا " في هذه الآية الكريمة توهموا أيضا
زيادة " لا " في الآية الكريمة من سورة الحديد، وهي قوله تعالى: * (يا أيها الذين
آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون
به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شئ من
فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) * (1).
ظن جماعة من المفسرين - خطأ - أن " لا " في قوله تعالى: * (لئلا) * زائدة،
فاغتنم المغرضون فرصة هذا الاشتباه فاعترضوا على القرآن بوقوع الزوائد فيه،
وفاتهم أن " لا " في المقام غير زائدة، كما اهتدى إلى ذلك جماعة من محققي
المفسرين، وذلك حيث جعلوا الضمير في * (يقدرون) * راجعا عائدا على المؤمنين
المخاطبين في الآية المتقدمة على نحو الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، ويكون
قوله تعالى: * (وأن الفضل بيد الله) * معطوفا على المجرور بلام التعليل في * (لئلا) *
ومعناه: أنه تعالى يتفضل على المؤمنين بالهدى والثروة والشوكة لكيلا يعلم أهل
الكتاب أن لا يقدر المؤمنون على شئ من ذلك، ولأن الفضل بيد الله يؤتيه من
يشاء، والسبب المقتضي للالتفات، التنبيه على أن التقليل المذكور في الآية الثانية
غير داخل في الوعد بالجزاء المذكور، وإنما هو حكمه أو علة للجزاء.



(1) سورة الحديد: 28 - 29.
183
ومن ذلك ما جاء في سورة الأعراف، وهي قوله تعالى: * (ما منعك ألا تسجد
إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين) * (1).
ظن بعض المفسرين - خطأ، كما أخطأ في سابقها - أن " لا " في * (ألا تسجد) *
زائدة، ولكن المتأمل في الأمر حق التأمل، يعطي الحكم جازما بأنها غير زائدة،
وبيان ذلك: هو أن كل أمر من الأمور قد يكون له داع إلى الفعل وسبب حامل عليه،
وقد يكون له مانع يصد عنه، فالسؤال في الآية الكريمة حيث كان عن المانع، جئ
بهذا التعبير، فكأنه تعالى قال: ما المانع لك الذي حملك على أن لا تسجد؟ ومن أجل
وقع من اللعين إبليس بالسبب الحامل - وهو خلقته من نار وخلقة آدم من طين -.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة طه: * (قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا
ألا تتبعن أفعصيت أمري) * (2) وسبيل هذه الآية الكريمة سبيل ما سبقها من الآية
الكريمة، فالسؤال السؤال والجواب الجواب.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة الأنبياء، وهي قوله تعالى: * (وحرام على قرية
أهلكناها أنهم لا يرجعون) * (3).
اختلفت أقوال المفسرين - في الآية - اختلافا يوجب القلق والاضطراب،
ولكن الذي يصح السكوت عليه من تلك الأقوال قولان، وكل من القولين يثبت أن
" لا " غير زائدة:
أولهما: أن قوله تعالى: * (حرام) * كناية عن المعنى الحتمي لتحقق ما بعده،



(1) سورة الأعراف: 11.
(2) سورة طه: 92 - 93.
(3) سورة الأنبياء: 95.
184
وهذا معنى قولهم: إن الحرام هنا بمعنى الواجب، فيكون معنى الآية على هذا: وحتم
على أهل قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون، والمعنى بهذا تام لا نقص فيه.
وثانيهما: أن يراد بالإهلاك هو الإهلاك المعنوي، وهو الاهلاك بالذنوب لا
الاهلاك الحسي الذي هو الاهلاك بالموت، وأن يراد بالرجوع هو الرجوع المعنوي
وهو الرجوع إلى التوبة لا الرجوع الحسي وهو الرجوع إلى الحياة، فيكون معنى الآية
على سبيل الاختصار: حرام على أهل قرية وجدناها هالكة بالذنوب أن يتقبل منهم
لأنهم لا يرجعون إلى التوبة، فالتصرف في الوجه الأول في لفظ الحرام، وفي الثاني
في لفظ الواجب.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة آل عمران، وهي قوله تعالى: * (ما كان لبشر أن
يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله
ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن
تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) * (1).
ظن الظانون - خطأ - أن " لا " في قوله تعالى: * (ولا يأمركم) * زائدة، وقد
استشهدوا على ذلك بشئ من شعر العرب، من ذلك قول الشاعر: (2)
وتلحينني في اللهو أن لا أحبه * وللهو داع دائب غير غافل
وقول الآخر: (3)



(1) سورة آل عمران: 79 - 80.
(2) رسائل الشريف المرتضى: 3 / 100، التبيان: 7 / 15، جامع البيان: 1 / 121، فتح
الباري: 6 / 258، مغني اللبيب: 1 / 248.
(3) التبيان: 4 / 357، الصحاح: 6 / 2554، لسان العرب: 15 / 466، جامع البيان: 8 /
170.
185
أبى جوده لا البخل واستعجلت نعم * به من فتى لا يمنع الجوع قاتله
ولا حجة لهم في هذين البيتين لاحتمال أن يضمر قبل قوله: أن لا أحبه، فعل
يكون المصدر المنسبك من أن، والفعل معمولا له بأن يضمر فيه: وتأمرني أن لا
أحبه، أو: تدعني إلى أن لا أحبه، ولاحتمال أن تجعل " لا " في البيت الثاني اسما
يضاف إلى البخل كما تجعل نعم أيضا اسما يكون فاعلا إلى قوله: " استعجلت " على
أنه لو سلمنا - جدلا - زيادة " لا " في البيتين المذكورين كان الواجب أن ينزه القرآن
الكريم عن مثل هذه الزيادة التي لا تمس إليها حاجة معنى أو نكتة بيانية.
والوجه الوجيه في الآية الكريمة أن يقال فيها - على القراءة التي جاءت برفع
" يأمركم " -: أن يكون الفعل وهو " يأمركم " معطوفا على * (يقول) * المعطوف بثم على
المنفي بقوله تعالى: * (ما كان لبشر) * يعني ليس له، والنفي ب‍ " لا " هناك أتى به لتثبيت
النفي في الأمرين، كما يقال: ليس لك أن تقوم ولا أن تأكل، وإنما ذكرت " لا " لئلا
يتوهم بحذفها أن النفي إنما هو للجمع بين الأمرين، بل المراد به النفي لكلا الأمرين،
أو يقال: إنها معطوفة على * (يؤتيه) * المدخول للنفي السابق عليه، والمعنى -
حينذاك - يكون: ما كان لبشر أن يأمركم أن تتخذوا، وعلى كلا التقديرين وعلى كلا
القولين يستقيم المعنى في الآية الكريمة بغير حاجة إلى ارتكاب الزيادة.

186
القرآن الكريم وأنه لا تناقض فيه
* (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا
كثيرا) * (1).
إن أول دليل يعرفه أولو الألباب - ممن يميز بين القشر واللباب على أن القرآن
الكريم تنزيل من عزيز حكيم على رسول عظيم - هو أنه لا اختلاف فيه، ولا تناقض
يعتريه * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) * فما الكمال المطلق
إلا لله وهو الخالق سبحانه وحده ولكن - ويا للأسف - على الحقائق الضائعة والحقوق
المهضومة، فقد هبت ريح نتنة من زعنفة هي عند الحق والحقيقة لا في العير ولا في
النفير، ادعوا المعرفة وهم ليسوا منها في قليل ولا كثير، فنشلوا نبال كنانهم في وجه
القرآن الكريم، وظنوا - جهلا أو تجاهلا - أنهم أصابوا منه الغرض، وما أصابوا إلا
عقولهم لو كانوا يعقلون، ولأنهم لم يستنيروا من نور الاسلام بضياء، تراهم يخبطون
خبط عشواء، فتاهوا في متاهات العمى والضلالات، فسددوا على القرآن الكريم



(1) سورة النساء: 82.
187
سهم الاعتراض ونبال الأغراض، وظنوا - وظنهم إثم - أن القرآن - وحاشاه - معرض
للتناقضات، وسترى ظنهم الفاسد إذا تجلت لك حقيقة الحال.
فمن ذلك قوله تعالى في سورة حم فصلت، وهي قوله تعالى: * (قل أئنكم
لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين
وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء
للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها
قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها
وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم) * (1) اعترض
المعترضون - جهلا بالحقيقة - على هذه الآية الكريمة باعتراضين:
أحدهما: أن المفهوم من الآية الكريمة هو أن خلق السماوات والأرض كان في
ثمانية أيام وذلك لمكان يومين لخلق الأرض، وأربعة أيام بجعل الرواسي وتقدير
الأقوات، ويومين لخلق السماوات فتكون ثمانية، وهذا منقوض بكثير من الآيات
الدالة على أن خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، كما ورد في سورة
الأعراف ويونس وهود والفرقان والسجدة والحديد.
وثانيهما: أن هذه الآية الكريمة تدل على أن خلق السماوات كان بعد خلق
الأرض، وهو منقوض بما جاء في سورة النازعات من قوله تعالى: * (أأنتم أشد خلقا
أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد
ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها متاعا لكم ولأنعامكم) * (2).



(1) سورة فصلت: 9 - 12.
(2) سورة النازعات: 28 - 33.
188
أجيب عن الأول: بأن الجبال جزء من الأرض التي خلقت في يومين، وهي
مخلوقة بخلق الأرض وإنما ذكرت بالتنصيص للامتنان بجعلها على الأرض لما فيها
من الفوائد ودفع المضار، وقال تعالى: * (جعل) * ولم يقل: " خلق " دفعا لتوهم أن خلق
الجبال كان منفصلا عن خلق الأرض في يومين، فيكون قوله تعالى في الآية الثانية:
* (وجعل فيها رواسي من فوقها) * بمنزلة قوله: خلقها مع جبالها الراسية النافعة
* (وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام) * فيكون اليومان داخلين في
الأربعة، وتكون الفائدة هي التفصيل والبيان والتعزيز بالقدرة والامتنان بقوله تعالى:
* (خلق الأرض في يومين... وجعل فيها رواسي وقدر فيها أقواتها في أربعة
أيام) *.
وأجيب عن الثاني: بأن منشأ هذا التوهم الذي أوجب هذا الاعتراض أمران:
أحدهما: توهم أن قوله تعالى: * (ثم استوى إلى السماء) * معطوف على قوله
تعالى: * (وبارك فيها وقدر فيها أقواتها) * وليس الأمر كما يتوهمون، بل أنه معطوف
على قوله تعالى: * (خلق الأرض في يومين) *.
وثانيهما: توهم أن قوله تعالى: * (والأرض بعد ذلك دحاها) * بمعنى أنشأها
وخلقها، وليس الأمر كما توهم، بل إن معنى قوله تعالى: * (دحاها) * مهدها وأعدها
للسكن * (وبارك فيها وقدر فيها أقواتها) * و * (أخرج منها ماءها ومرعاها) * متاعا
للناس ولأنعامهم.
قال المجيب - وهو شيخنا الحجة المجاهد الشيخ البلاغي طاب ثراه، في
كتاب " الهدى إلى دين المصطفى ":
ولو اعتمدنا على الهيئة الجديدة لفهمنا من قوله تعالى: * (دحاها) * أنه سخرها

189
للحركة الأينية في الدوران على الشمس بعد أن خلق الشمس في جملة السماوات
وأودع فيها القوة الجاذبية، فيكون قوله تعالى: * (أخرج منها ماءها ومرعاها) * حالا
من الضمير البارز في * (دحاها) * كما أنه يكون على المعنى الأول بدلا من قوله تعالى:
* (دحاها) *.
فيكون حاصل الآيات السابقة: هو أن الله جلت قدرته خلق الأرض وأنشأها
في يومين، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات في يومين، وخلق الأرض
وجعل فيها رواسي وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام تامة العدد وإن كانت
مفصولة بوقوع خلق السماوات بين خلق الأرض وبين البركة فيها وتقدير أقواتها. ومما
يرشد من نفس الآيات إلى أن يومي خلق الأرض مفصولان عن يومي البركة فيها
وتقدير أقواتها هو قوله تعالى: * (سواء للسائلين) * أي أربعة تامة العدد فيما يتعلق
بالأرض وإن كانت مفصولة بخلق السماوات، كقوله تعالى في سورة البقرة: * (ثلاثة
أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة) * (1) أي كاملة في العدد وإن كانت
مفصولة بمدة الرجوع إلى الوطن.
ثم إنه (قدس سره) بعد أن ختم كلامه سجل اعتراضا وجوابا هذا نصه:
فإن قلت: فلماذا لم يجر البيان على نسق التكوين والتقدير؟
قلت: ليجري البيان والامتنان في النظام الأرضي في تكوينها وتقدير أقواتها
مطردا في نسق واحد وينتظم فيه التقدير بأربعة أيام، فإنه لا يخفى أن أذهان
عامة البشر أقرب إلى الالتفات إلى تأثير النعم الأرضية في قوام حياتهم وقرار
تعيشهم، وأما النعم السماوية فلا يلتفت إلى حقيقة مداخلها في ذلك بما لها من



(1) سورة البقرة: 196.
190
التسبيب، إلا الخواص.
ثم إنه (قدس سره) اعترض اعتراضا آخر وأجاب عنه، وهذا نص الاعتراض والجواب:
فإن قلت: قدمت أن خلق الجبال كان في جملة خلق الأرض في اليومين قبل
خلق السماوات، إذن فماذا نقول في قوله تعالى في السادسة من الآيات الأخيرة.
ويقصد (قدس سره) بالسادسة من الآيات الأخيرة هي قوله تعالى: * (والجبال أرساها) * (1)؟
قلت: إن إرساء الجبال ليس بمعنى خلقها، بل بمعنى تثبيتها وإعطائها قوة
الثبات في محلها حينما يحتاج إلى ذلك بواسطة الصوادم أو حركة الأرض عند دحو
الأرض وتقدير أقواتها، إذ كان من ذلك أن أودع في جوفها المواد البخارية والنارية
السيارة لتوليد معادنها ونباتها وتصعيد مياهها، فمنح الله تعالى الجبال قوة أرساها فلا
تزعزعها وتلاشيها ما قدر الله تعالى خروجه من المواد البخارية والنارية في جوف
الأرض لكي تدوم بذلك حكمة خلقها، كما أشرنا إليه في الجزء الأول: صحيفة 380
و 381. وجعلها راسية عندما دحا الأرض بالحركة الوضعية أو الأينية فدبت فيها
الحرارة السيارة وتوجهت إلى الخروج من الجبال لهذا أو لأنها لا تنهال بواسطة
الحركة وتتزعزع من مكانها، وذلك إما بقوة كافية في ذلك كله أو بأن جعل في
طبيعتها الميل إلى مركز الأرض كما تقول الفلسفة القديمة أو بحبسها بإحاطة
الهواء الثقيل المطلق كما يقال في الفلسفة الجديدة، * (إن الله بالغ أمره قد جعل
الله لكل شئ قدرا) * (2) ولعله إلى نحو هذه الحركة يشير قوله تعالى: * (وترى
الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شئ إنه



(1) سورة النازعات: 32.
(2) سورة الطلاق: 3.
191
خبير بما تفعلون) * (1).
ومن ذلك ما جاء في سورة الرحمن وهي قوله تعالى: * (فيومئذ لا يسأل عن
ذنبه إنس ولا جان) * (2) ذلك إنه قيل: بين هذه الآية الكريمة وقوله تعالى: * (ولا
يسأل عن ذنوبهم المجرمون) * (3) وبين قوله تعالى: * (فوربك لنسألنهم أجمعين عما
كانوا يعملون) * (4) وقوله تعالى: * (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن
المرسلين) * (5) تناقض، فإن الآية الكريمة الواردة في سورة الرحمن منطوقها الصريح
هو عدم السؤال عن المذنبين، والآيات الكريمة منطوقها إثبات السؤال، ولا ريب أن
النفي والإثبات الجاريين على موضوع واحد متناقضان، فيقع التناقض بين الآيات.
هذا هو التوهم، ولكنا لو ألقينا نظرة على ما جاء في تفسير هذه الآية الكريمة،
ثم ألقينا نظرة أخرى على ما جاء في شروط التناقض، لعلمنا علم اليقين أنه لا
تناقض هناك وأن منشأ هذا القول هو الجهل بمصطلحات المنطقيين والذهول عن
محرراتهم في شرائط التناقض المحررة هناك.
إن المنطقيين - حيث ذكروا التناقض الذي يقع بين القضايا الكلامية شرطوا
لتحققه الاتحاد في أمور ثمانية:
أولها: وحدة الموضوع، فإنه لو اختلف الموضوع في القضيتين لم يتحقق
التناقض، كما تقول: زيد قائم وعمرو ليس بقائم.



(1) سورة النمل: 88.
(2) سورة الرحمن 39.
(3) سورة القصص: 78.
(4) سورة الحجر: 92 و 93.
(5) سورة الأعراف: 6.
192
الثانية: وحدة المحمول، فإنه لا تناقض عند اختلاف المحمول، كما تقول:
زيد قائم وزيد ليس بضاحك.
الثالثة: وحدة الشرط، فإنه لا تناقض عند اختلاف الشرط، كما تقول: الجسم
مفرق للبصر - يعني بشرط كونه أبيض -، والجسم ليس بمفرق للبصر - يعني بشرط
كونه أسود -.
الرابعة: وحدة الجزء والكل، فإنه إذا اختلف الجزء والكل لم يتناقضا، كما
تقول: الزنجي أسود - يعني كله -، والزنجي ليس بأسود - يعني بعضه -.
الخامسة: وحدة الزمان، كما تقول: زيد نائم - يعني ليلا -، وتقول: زيد ليس
بنائم - يعني نهارا -.
السادسة: وحدة المكان، وذلك لعدم التناقض عند اختلاف المكان، كما
تقول: زيد جالس - يعني في الدار -، وزيد ليس بجالس - يعني في السوق -.
السابعة: وحدة الإضافة، فإنه لا تناقض حيث تختلف الإضافة، كما تقول: زيد
أب - يعني لعمرو -، وزيد ليس بأب - يعني لزيد -.
الثامنة: وحدة القوة والفعل، فإن الحكم إن كان في أحد القضيتين على طريق
الفعل، وفي الثاني على نحو القوة، فلا تناقض هناك، كما تقول: الخمر مسكر - يعني
بالقوة - والخمر ليس بمسكر - يعني في الدن - ليس بمسكر بالفعل.
هذه هي شرائط التناقض المحررة عند المنطقيين ذكرناها جميعا وأطلنا بعض
الإطالة في ذلك تعميما للفائدة، وتتميما للمقصود، ولتكون دليلا هاديا عند اختلاف
القضايا والأحكام، ولتطرد لك فتكون مقياسا تقيس به الأشباه والنظائر، وتحل به
المشكلات.

193
فحيث تعرف هذا، فلتعرف موقع التناقض الموهوم من هذه الآيات وكيف
اشتبه الحال في ذلك على المغرضين أو الجاهلين من المعترضين؟
إن تفسير هذه الآية الكريمة التي صدرنا بها موضوع هذا الكلام اختلف فيه
على وجوه متعددة عند علماء التفسير، وعلى كل وجه من وجوه التفسير لا تناقض
هناك لاختلال شرط من الشروط على كل وجه من وجوه التفسير.
فنقول: بأن معنى قوله تعالى: * (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) * (1)
يعني لا يسأل المذنب عن ذنبه يوم القيامة، وفي ذلك الموطن خاصة، لما يلحقه من
الذهول الذي تحار له العقول، وإن وقعت المسألة في غير هذه المواطن من المواطن
الأخر، فإن للقيامة مقامات مختلفة وأحوال متفاوتة، فحينئذ - وبناء على هذا التفسير
- يكون التناقض بين هذه الآية وبين قوله تعالى: * (وقفوهم إنهم مسؤولون) * (2) وبين
أمثالها من الآيات، مرتفعا لعدم اتحاد الزمان، وقد عرفت فيما سلف أن من شرط
التناقض اتحاد الزمان بين القضيتين.
هذا وجه من التفسير، وهناك وجه آخر وهو: أن معنى قوله تعالى: * (فيومئذ
لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان) * يعني: لا يسأل عن ذنبه سؤال استفهام وإنما يسأل
عنه سؤال تقريع وتوبيخ، فبناء على هذا التفسير أيضا لا تناقض بين هذه الآية وبين
الآيات الدالة على السؤال، وذلك لاختلاف الوصف، والوصف شرط في الحقيقة،
وعند اختلاف الشرائط يرتفع التناقض، فلا تناقض هناك.
وهناك وجه آخر من التفسير وهو أنه: روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: " إن



(1) سورة الرحمن: 39.
(2) سورة الصافات: 24.
194
قوله: * (فيومئذ لا يسأل) * الآية، إن معناه أن من اعتقد الحق ثم أذنب ولم يتب في
الدنيا، عذب عليه في البرزخ، ويخرج يوم القيامة وليس له ذنب يسأل عنه " (1) فبناء
على هذا التفسير أيضا لا تناقض هناك بين هذه الآية وبين الآيات الدالة على
السؤال، لا لعموم تلك الآيات وخصوص هذه الآية فتكون هذه الآية مع تلك الآيات
مختلفة في الجزء والكل، أو الزمان والمكان، ومع هذا الاختلاف لا تناقض هناك، فلا
إشكال.
ولتعلم - كما أعلمناك من قبل - أن ما ذكرناه من شرائط التناقض هو أمر مرن
سيال مطرد الاستعمال والإعمال في كثير من الآيات.
فمن ذلك تعلم أنه لا تناقض بين قوله تعالى: * (لا تختصموا لدي وقد قدمت
إليكم بالوعيد) * (2) وبين قوله تعالى: * (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم
تختصمون) * (3) وقوله تعالى: * (قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) * (4) وقوله تعالى:
* (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها) * (5) وبين قوله تعالى: * (هذا يوم لا ينطقون
ولا يؤذن لهم فيعتذرون) * (6) وبين قوله تعالى: * (وأقبل بعضهم على بعض
يتساءلون) * (7) وبين قوله تعالى: * (فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون) * (8).



(1) بحار الأنوار: 7 / 81، تفسير الصافي: 5 / 112، تفسير الأصفى: 2 / 1245، تفسير نور
الثقلين: 5 / 195.
(2) سورة ق: 28.
(3) سورة الزمر: 31.
(4) سورة البقرة: 111.
(5) سورة النحل: 111.
(6) سورة المرسلات: 35 و 36.
(7) سورة الصافات: 27، سورة الطور: 25.
(8) سورة المؤمنون: 101.
195
لا تناقض بين هذا وذاك وكل تلك الآيات، وإنك لتعلم كل ذلك بكل سهولة
إذا علمت ما أسلفناه إليك من شرائط التناقض بين القضايا عند المنطقيين.
فنقول - على ضوء ما سلف من البيان -: إن ليوم القيامة مقامات وأحوال
تختلف عند تلك المقامات والأحوال أحوال أشخاص الناس فيما لهم من الشؤون،
وعند ذلك لا تناقض ولا اختلاف.
ومن هنا أيضا يتجلى بوضوح أنه لا تناقض بين قوله تعالى: * (ليس لهم طعام
إلا من ضريع) * (1) وبين قوله تعالى: * (ولا طعام إلا من غسلين) * (2) فأي مانع يمنع
من أن يقال: إن الطعام مختلف باختلاف الأشخاص، أو مختلف باختلاف الأمكنة
والأحوال والأزمان؟ فلا خلف ولا اختلاف ولا تناقض ولا اختلال.
ثم أتبع السير بالسير، وكرر السؤال تارة أخرى ليتكرر الجواب عليك فيزداد
الأعسر بالوضوح والجلاء، ألق نظرة على قوله تعالى: * (ولسليمان الريح
عاصفة) * (3) ثم ألق نظرة على قوله تعالى: * (فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء) * (4)
فستقول كما هو ظاهر الحال: إن الريح العاصفة لا تكون رخاء، فهذا من التناقض
بمكان. وإن قلت هذا فسيقال لك: أي مانع من اختلاف الريح باختلاف الأزمان
حيث يشاء من سخرها، وهذا من القدرة لا من التناقض بمكان - كما يظنه
الجاهلون -؟ وما المانع من أن يراد بالرخاء في الرخية الطيعة لمن سخرن له. وفي
هذا من التدليل على القدرة ما لا يخفى على العرفاء.



(1) سورة الغاشية: 6.
(2) سورة الحاقة: 36.
(3) سورة الأنبياء: 81.
(4) سورة ص: 36.
196
وهنا وعند الفراغ من هذه النظرة التي وقفت فيها من الجواب على عين
الصواب، ألق نظرة أخرى على قوله تعالى - حكاية عن موسى (عليه السلام) -: * (فألقى عصاه
فإذا هي ثعبان مبين) * (1) وقال تعالى في موضع آخر: * (وأن ألق عصاك فلما رآها
تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب) * (2). فحينذاك سنراك تقول: إنه كيف وصف
العصا بالثعبان، ثم وصفها بالجان، والثعبان: الحية العظيمة الخلقة، والجان الصغير
من الحيات، وهذا جمع بين وصفين متضادين، وهذا هو التناقض الظاهر بكل
وضوح؟
إن قلت هذا فسنقول لك: من أعلمك أن الآيتين وقعتا خبرا عن قصة واحدة؟
ليس الأمر كذلك، بل الحالتان مختلفتان، فالحال التي أخبر فيها تعالى أن العصا فيها
بصفة الجان كانت في ابتداء النبوة وقبل مصير موسى إلى فرعون، والحال التي
صارت فيها العصا ثعبان كانت عند لقائه فرعون وإبلاغه الرسالة، فعند هذا - وعلى
هذا الوجه - يرتفع التناقض بين الآيتين لاختلاف الزمن، واختلاف الزمن شرط من
شروط التناقض، فلا تناقض هناك.
ثم إن قوما من المفسرين تعاطوا الجواب عن هذا السؤال على وجه آخر، إما
ظنا منهم بأن القصة واحدة في زمن واحد، أو لاعتقادهم أن العصا الواحدة لا يجوز
أن تنقلب في حالين: تارة إلى صفة الجان، وتارة إلى صفة الثعبان، أو قصدا منهم إلى
الاستظهار في الحجة والامعان في الدليل، فأجابوا بوجهين:
أحدهما: أنه تعالى شبه العصا بالثعبان في إحدى الاثنين لعظم خلقها، وكبر
جسمها، وهول منظرها، وشبهها في الآية الأخرى بالجان لسرعة حركتها ونشاطها



(1) سورة الأعراف: 107.
(2) سورة القصص: 31.
197
وخفتها، فاجتمع لها في حال واحد جسم الثعبان وسرعة حركة الجان، وهذا من
القدرة بمكان. فعلى هذا الوجه وعند هذا الجواب يرتفع التناقض بين الاثنين
لاختلاف جهد الوصف، ووجه التشبيه والوصف شرط في الحقيقة، وقد عرفت أن
اختلاف الشرط في القضية يرفع التناقض، فلا تناقض.
وللآية الكريمة نظائر في التشبيه مطردة الاستعمال، فمن ذلك: تشبيه المرأة
تارة بالظبية وأخرى بالمها وهي البقرة الوحشية، ولا ريب أن التشبيه بالظبية لجهة
خاصة هي غير جهة تشبيهها بالبقرة الوحشية. ومثل ذلك واقع في القرآن الكريم
نفسه من ذلك قوله تعالى: * (ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا
قوارير من فضة) * (1) فشبه تعالى الفضة بالقوارير، ولم يرد أن الفضة قوارير على
الحقيقة، وإنما وصفها بذلك لأنه اجتمع لها صفاء القوارير وشفافيتها ورقتها مع أنها
من فضة، لكن هذا بناء على رجوع الضمير في " كانت " إلى مجموع ما تقدم من الآنية
والقوارير، أما إذا رجع الضمير إلى الأكواب لم يتأت الاستشهاد.
والذي يراه سيدنا المرتضى (رضي الله عنه) هو الأول، كما صرح به في أماليه، والأمر
سهل على كل حال.
وثاني الجوابين: أنه تعالى لم يذكر الجان في الآية الأخرى وأراد بها الحية
وإنما أراد بها أحد الجن، فكأنه تعالى أخبر بأن العصا صارت ثعبانا في الخلقة وعظم
الجسم وكانت مع ذلك كأحد الجن في هول المنظر والإفزاع للناظرين، ولهذا قال
تعالى: * (فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب) * (2) فبناء على هذا الوجه
وعلى ضوء هذا التفسير يتجلى لنا أن لا تناقض هناك، وذلك لأن المحمول - أعني



(1) سورة الانسان: 15 و 16.
(2) سورة القصص: 31.
198
المخبر به - مختلف، واختلاف المحمول يرفع التناقض - كما عرفت - فلا تناقض
هناك.
ولسيدنا علم الهدى المرتضى طاب ثراه رأي آخر ذكره في أماليه تركته حبا
للاختصار، وفي رأيي أنه يرجع بالآخرة إلى الجواب الأول، فلا حاجة إليه.
ومما يلحق بهذا الباب - أو هو منه على الحقيقة - قوله تعالى في سورة يس
وهي قوله تعالى: * (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) * (1)
فإن هذه الآية الكريمة دلت بصراحة على أنه تعالى لم يعلم نبيه محمد (صلى الله عليه وآله) الشعر
ولا ينبغي الشعر له، فيجب أن لا يكون فيما علمه تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله) شئ من الشعر،
ونحن لو فتشنا القرآن الذي علمه الله تعالى لنبيه لوجدنا فيه من الشعر الشئ الكثير،
حتى أن بعض الأدباء نظم البحور الستة عشر بأوزانها الخاصة وضمنها آيات من
القرآن الكريم مما يدل على أنه ليس من أوزان الشعر شئ إلا وهو في القرآن الكريم.
ولنذكر هاهنا بالآيات، وتمتعا للأسماع والأبصار:
بحر الطويل:
أطال عذولي فيك كفرانه الهوى * وآمنت يا ذا الظبي فانس ولا تنفر
فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن * فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر
بحر المديد:
يا مديد الهجر هل من كتاب * فيه آيات الشفا للسقيم
فاعلاتن فاعلن فاعلاتن * تلك آيات الكتاب الحكيم
وقال الآخر أيضا:



(1) سورة يس: 69.
199
لو مددنا بابتهال يدينا * نرتجيكم هل يكون العطاء
فاعلاتن فاعلن فاعلاتن * إن زعمتم أنكم أولياء
بحر البسيط:
إذا بسطت يدي أدعو على فئة * لاموا عليك عسى تخلو أماكنهم
مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلن * فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم
بحر الوافر:
غرامي في الأحبة وفرته * وشاة في الأزقة راكزونا
مفاعلتن مفاعلتن فعولن * إذا مروا بهم يتغامزونا
بحر الكامل:
كملت صفاتك يا رشا والوا الهوى * قد بايعوك وحظهم بك قد نما
متفاعلن متفاعلن متفاعلن * إن الذين يبايعونك إنما
بحر الهزج:
لئن تهزج بعشاق * فهم في عشقهم تاهوا
مفاعيلن مفاعيلن * وقالوا حسبنا الله
بحر الرجز:
يا راجزا باللوم في موسى الذي * أهوى وعشقي فيه كان المبتغى
مستفعلن مستفعلن مستفعلن * اذهب إلى فرعون إنه طغى
بحر الرمل:
إن رملتم نحو ظبي نافر * فاستميلوه بداعي انسه
فاعلاتن فاعلاتن فاعلن * ولقد راودته عن نفسه

200
بحر السريع:
سارع إلى غزلان وادي الحمى * وقل أيا غيد ارحموا صبكم
مستفعلن مستفعلن فاعلن * يا أيها الناس اتقوا ربكم
بحر المنسرح:
تنسرح العين في خديد رشا * حيى بكأس وقال خذه بفي
مستفعلن مفعولات مستفعلن * هو الذي أنزل السكينة في
بحر الخفيف:
خف حمل الهوى علينا ولكن * ثقلته عواذل تترنم
فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن * ربنا أصرف عنا عذاب جهنم
بحر المضارع:
إلى كم تضارعونا * فتى وجهه نضير
مفاعيلن فاعلاتن * ألم يأتكم نذير
بحر المقتضب:
اقتضب من وشاة هوى * من سناك حاولهم
مفعولات مفتعلن * كلما أضاء لهم
بحر المجتث:
اجتث من عاب ثغرا * فيه الجمان النظيم
مستفع لن فاعلاتن * وهو العلي العظيم
بحر المتقارب:
تقارب وهات اسقني كأس راح * وباعد وشاتك بعد السماء

201
فعولن فعولن فعولن فعولن * وإن يستغيثوا يغاثوا بماء
بحر المتدارك:
دارك قلبي بلمى ثغر * في مبسمه نظم الجوهر
فعلن فعلن فعلن فعلن * إنا أعطيناك الكوثر
بحر مخلع البسيط:
خلعت قلبي بنار عشق * تصلى بها مهجتي الحرارة
مستفعلن فاعلن فعولن * وقودها الناس والحجارة (1)
هذه هي البحور الستة عشرة، مع غض النظر عن مجزواتها وما يشبه
المجزوات، وقد رأيت أن ليس منها بحر إلا وهو في القرآن الكريم، فأين موضع قوله
تعالى: * (وما علمناه الشعر) * (2) وهل هذا إلا الشعر كما تراه فكيف الجواب؟
هذا هو السؤال، وحيث استمعنا إليك - أيها السائل الكريم - لما ألقيت من
السؤال، فاستمع الآن لما نلقيه عليك من الجواب:
إن الجواب عن هذا لا يتجلى لنا بوضوح إلا إذا عرفنا حقيقة الشعر ومعناه
بوضوح:
اعلم أنهم قد عرفوا الشعر بأنه: عبارة عن كلام موزون مقفى وزنا عن تعمد
وقصد، فأنت ترى أنه اشترط في الشعر - حسب ما جاء في مفردات تعريفه - أمور:
الوزن، والظاهر أن اشتراطه شئ لا كلام ولا خلاف فيه. والتقفية، وهي رعاية القافية
والقصد إليها، وقد قال بعضهم: إنها لا تلزم الشعر لكونه شعرا، بل لأمر عارض،
ككونه مصرعا أو قطعة أو قصيدة أو لاقتراح مقترح، وإلا فليس للتقفية معنى غير



(1) ميزان الذهب في صناعة شعر العرب: 105 - 108.
(2) سورة يس: 69.
202
إنهاء الموزون، وأن ذلك الوزن لابد فيه من القصد والعمد.
واشترطوا ذلك لأنهم قالوا: إنه لو لم نشترطه لكان كل لافظ في الدنيا شاعرا،
إذ ما من لافظ - إن تتبعه - إلا وجدت في ألفاظه ما يكون على الوزن. أو ما ترى إذا
قيل لباذنجاني: بكم تبيع ألف باذنجانة؟ فقال: أبيعها بعشر عدليات. كيف تجد
القولين على الوزن؟ وإذا قيل لنجار: هل تم ذاك الكرسي؟ فقال: نعم، فرغنا منه يوم
الجمعة. كيف نجد ذلك على الأوزان؟ وعلى هذا إذا قيل لجماعة: من جاءكم يوم
الأحد؟ فقالوا: زيد بن عمرو بن أسد.
وقالوا: إن تسمية كل لافظ شاعرا مما لا يرتكبه عاقل عنده إنصاف، فلذا قيد
اللفظ الموزون بأن يكون ذلك عن قصد وعمد.
فمن هنا تعرف الجواب عما جاء في القرآن الكريم من الألفاظ الموزونة، فإن
القرآن الكريم نظرا إلى أنه بلغ من البلاغة أعلاها، ومن الفصاحة منتهاها، ومن
الانسجام والانتظام وسهولة اللفظ وسلاسة العبارة بلغ الحد الأعلى من الاعجاز،
ومن أجل ذلك يوجد فيه ما يكون على وزن الشعر، فإنه من مقتضيات هذا الانسجام
والسهولة، ومن لوازم الرقة والسلاسة.
ومن هنا يتفرع الجواب عما جاء في كلام النبي (صلى الله عليه وآله) مما هو على صورة الشعر
الموزون، مثل قوله (صلى الله عليه وآله): " أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب " (1) والأمر مرن سيال
لا في كل ما جاء على هذا المنوال، ولو أننا استقرأنا - ولو بعض الاستقراء - منثور كلام
العرب، لوجدنا من ذلك الشئ الكثير.



(1) مسند أحمد بن حنبل: 4 / 280 و 281 و 289، صحيح البخاري: 3 / 220 و 233،
سنن الترمذي: 3 / 117 ذيل ح 1738،، مصنف ابن أبي شيبة: 6 / 181 ح 66، مجمع
الزوائد: 8 / 218.
203
القرآن وبطلان العمل بالقياس والاستحسان
* (قل الله أذن لكم أم على الله تفترون) * (1).
لقد ورد في تواتر الأخبار وشائع الروايات أن للقرآن الكريم سبعة بطون،
وأورد في بعضها الآخر: " سبعون بطنا " (2) ونحن لو أردنا أن نخلص نجيا إلى آيات
القرآن الكريم أو سوره، لنستخلص نتيجة قاطعة تكون ردء يصدق هذه الأخبار،
وشاهدا صادقا يشهد على صحة تواتر تلك الروايات، لوجدنا البرهان القاطع والبيان
الساطع الذي تتجلى لنا على ضوئه حقيقة الأمر واضحة مكشوفة في جل السور
والآيات - إن لم نقل في كلها - بصورة لا تقبل الشك والارتياب، وهذه الآية الكريمة
قليل من كثير تلك الآيات، فنراها مستجيبة لكثير من الدعوات في كثير من الآيات
يستدل بهذه الآية الكريمة على بطلان العمل بالقياس، ويستدل بها على بطلان
العمل بالاستحسان، ثم يستدل بها على بطلان الرجوع إلى أصالة البراءة في مشتبه



(1) سورة يونس: 59.
(2) نور البراهين: 1 / 238، منتقى المقال: 1 / 318.
205
الحكم شبهة تحريمية حيث يفقد النص، أو يقع فيه الاجمال، أو تتعارض النصوص،
فما أخصر لفظها وأكثر معناها، وستأتيك بحوث كل من هذه الأقوال مفصلة مشروحة
كل في الموضع اللائق به بابا بعد باب.
أما الكلام الآن فيختص ببطلان العمل بالقياس، ثم يتبعه القول ببطلان العمل
بالاستحسان، ثم إن الفرق بين القياس والاستحسان ليظهر جليا من تعريف كل منهما
في بابه تعريفا لا يبقي مجالا للارتياب، وقبل الدخول في صلب الموضوع نقدم
مقدمة لها كل المساس أو بعض المساس في صميم البحث، ثم منها إلى البحث في
الصميم.
اعلم أن مدارك الأحكام عند الشيعة الإمامية أربعة:
الكتاب، وهو ميزان الله العادل، وناموسه المقدس، وقسطاسه المستقيم.
والسنة، وهي القول أو الفعل، أو التقدير الذي يرد عن المعصوم النبي الأكرم
أو أبنائه الطاهرين، فهم (عليهم السلام) رسل رسول الله المبلغون عنه أحكامه وتعاليمه إلى
الناس، فلهم عند الإمامية من الشيعة مقام التبليغ والتطبيق لا مقام التشريع
والتأسيس.
والإجماع، وهو اتفاق الكل أو الجل أو أهل الحل والعقد من أمة محمد (صلى الله عليه وآله)
على حكم من الأحكام، أو فرع من الفروع، وهو حجة بالتقرير الذي سوف تلقاه في
المستقبل القريب.
رابعها: العقل، ويقصد به الموهبة الإلهية، والقوة القدسية، التي وهبها الله
تعالى للبشر ليميزوا به بين النافع والضار، ويدركوا به الحسن من القبيح، وهو حجة
فيما يدركه من القضايا الكلية المنطبقة على جزئياتها الخارجية، سواء أكانت بديهية

206
أولية، مثل: الكل أعظم من الجزء، وكل زوج منقسم بمتساويين، أم كانت نظرية
فكرية كاحتياج العالم إلى صانع، ومثل: قبح الظلم وحسن الإحسان، وأمثال ذلك،
ولا أريد أن أقف تجاه هذه الأمور موقف الشرح والتحليل فإن نظرة قصيرة إلى ما
حرره العلماء فيما ألفوه من علمي الفقه والأصول تعطي القارئ عنها درسا واضحا
كل الوضوح.
وهذه الأمور الأربعة هي النقطة التي تكون ملتقى الاتفاق بين الشيعة وبين
إخوانهم من أهل السنة والجماعة فإنها كما هي مدارك الأحكام عند الشيعة هي أيضا
مدارك الأحكام عند أهل السنة والجماعة، لكن أهل السنة لا يكتفون بهذا القدر، بل
يزيدون عليه العمل بالقياس، فالعمل بالقياس هو مفترق الطرق بين الفريقين، فأهل
السنة سوغوه واستساغوه ولم يستسغه الشيعة، نظرا إلى أن القياس إعمال للرأي في
الدين، ودين الله لا يصاب بالعقول، فالقياس ممحقة للسنة وبدعة في الدين، كما
صرحت نصوصهم الصحيحة الصريحة الواردة على لسان النبي وأبنائه الطاهرين.
وعلى كل حال، فالقياس هو مفترق الطريق، وهو نقطة الخلاف بين الفريقين،
وكل من الفريقين أقام على ما يدعيه دليلا أو شبه دليل، أو نقول على الأصح: أقام
بعضهم شبهة ألبسها لباس الدليل.
وقبل الخوض في استعراض ما أقام هؤلاء وهؤلاء من الدليل أو شبه الدليل
على ما يراه من إباحة أو تحريم، لزم علينا أن نعرف ما هو القياس، وإلا كان حكما
على موضوع مجهول، والحكم على المجهول فاقد الفائدة عديم الانتفاع.
نقول: إن المراد بالقياس هو الحجة التصديقية المعبر عنها في لسان المنطقيين
ب‍ " التمثيل "، فالتمثيل في لسان المنطقيين هو القياس في لسان الفقهاء، وذلك أنه
تشريك جزئي مع جزئي آخر في الحكم لاشتراكهما في علة الحكم، مثل: تشريك

207
النبيذ مع الخمر في الحرمة لاشتراكهما في علة التحريم، وهي الإسكار، فالموضوع
المحكم عليه أولا يعبر عنه ب‍ " الأصل "، والمشترك في الحكم المحكوم عليه ثانيا
يعبر عنه ب‍ " الفرع " ولذلك عرفه بعضهم بأنه إجراء حكم الفرع على الأصل، أو إجراء
حكم المقيس على المقيس عليه، إلى غير ذلك من التعاريف التي إن اختلفت في
العبارات أو الاعتبارات فلا تختلف في المعاني والمغازي الخاصة، وعلى كل فقد
استدل الشيعة الإمامية - على ما تراه - من بطلان العمل بالقياس بالأدلة الأربعة وهي:
الكتاب، إلى آخره.
استدل الشيعة الإمامية - على ما تراه - من بطلان العمل بالقياس بالأدلة
الأربعة، وهي: الكتاب، والسنة، والاجماع، والعقل.
أما الكتاب: فيستدل على ذلك بآيات من الكتاب كثيرة،
منها: قوله تعالى: * (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) * (1) والعمل بالقياس -
نظرا إلى أنه شئ لم يدل عليه دليل من آية أو رواية كما ستأتيك في العاجل
القريب - تقدم بين يدي الله ورسوله، فهو منهي عنه، والمنهي عنه حرام، فالعمل
بالقياس حرام.
ومنها: قوله سبحانه: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) * (2) نهت هذه الآية
الكريمة - بمنطوقها الصريح - عن اتباع الانسان ما ليس له به علم، والقياس - حسبما
عرفت - اتباع لما ليس به علم واتباع ما ليس به علم منهي عنه.
فالقياس - إذن - منهي عنه، والمنهي عنه حرام، فالعمل بالقياس حرام.



(1) سورة الحجرات: 1.
(2) سورة الإسراء: 36.
208
ومنها: قوله تعالى: * (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) * (1) والكلام في هذه
الآية هو الكلام في الآية السابقة.
ومنها: قوله تعالى - وصفا للقرآن الكريم -: * (تبيانا لكل شئ) * (2) القرآن
الكريم بنص هذه الآية الكريمة تبيان لكل شئ، وفيه بيان كل شئ مما تحتاجه
الأمة في مختلف الشؤون والأحوال، وليس العمل بالقياس - بناء على شرعية
العمل - إلا للحاجة إليه، والحاجة إلى العمل بالقياس ليست في صميم معناها أو
وجود نقص في القرآن في أداء ما كان القياس مشروعا في العمل به من الحوادث
والجزئيات، وهذا يناقض كل المناقضة ما صرحت به هذه الآية الكريمة.
ومنها: قوله تعالى: * (ما فرطنا في الكتاب من شئ) * (3) والكلام في هذه
الآية هو الكلام في الآية السابقة.
ومنها: قوله: " إن يظنون إلا ظنا " (4)، وقوله تعالى: * (إن هم إلا يظنون) * (5)،
وقوله سبحانه: * (إن الظن لا يغني من الحق شيئا) * (6) هذه الآية الكريمة وردت في
معرض الذم والتبكيت لمن أخذ بالأشياء أو تمسك بها عن طريق الظنون، ثم هي
الأخرى إنما لم تقف عند هذا الحد ولم تكتف بهذا القدر من التبكيت والتقريع، بل
أشارت إلى الحكمة في الذم على الأخذ بالظن والعلة في التقريع على التمسك به،
ذلك أنه لا يغني عن الحق شيئا، وما لا يغني عن الحق ليس حقا ولا من الحق في



(1) سورة البقرة: 169.
(2) سورة النحل: 89.
(3) سورة الأنعام: 38.
(4) لعل مراده: قوله تعالى في سورة الجاثية: 32: * (إن نظن إلا ظنا) *.
(5) سورة الجاثية: 24.
(6) سوره يونس: 36.
209
قليل ولا كثير، وماذا بعد الحق إلا الضلال، فمستتبع الظن متبع للضلال والقياس
قصاراه الظن فما هو إلا الضلال، معاذك اللهم رب العالمين.
ومنها: قوله: * (الله أذن لكم أم على الله تفترون) * (1) وهذه الآية هي الآية
التي صدرنا بها موضوع البحث فكانت نقطة الارتكاز في هذا الموضوع.
إن وجه الاستدلال بهذه الآية لظاهر للمتأمل فيها بكل وضوح، وذلك أن الآية
الكريمة حصرت ما يتبعه الانسان في قول أو عمل في أمرين ليس لهما ثالث بلا
كلام: الإذن من الله، أو الافتراء عليه، فما لا إذن فيه من الله سبحانه فهو افتراء عليه.
وحيث قد عرفت وستعرف أيضا أن القياس غير مأذون من الله تعالى، وما
ليس فيه إذن، فهو افتراء، وإذا كان افتراء كان من مصاديق قوله سبحانه: * (إنما يفتري
الكذب الذين لا يؤمنون) * (2) ومن مصاديق قوله سبحانه: * (ومن أظلم ممن افترى
على الله الكذب) * (3) فكيف يرضى متشرع لنفسه أن يفتري على الله ثم يقول هو من
الله! معاذك اللهم رب العالمين.
هذا دليلنا من كتاب الله، وكفى بكتاب الله تعالى دليلا لمتطلب الدليل، وإلا
* (فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون) * (4).
أما السنة: وهي القول، أو الفعل، أو التقرير، الواردة عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) عن
لسانه الشريف أو لسان أبنائه الطاهرين، ويكفينا من ذلك ما ذكره ابن حزم في كتابه
المسمى ب‍ " المحلى " حسبما نقله عنه سيدنا القاضي نور الله قدس الله روحه في كتابه



(1) سورة يونس: 59.
(2) سورة النحل: 105.
(3) سوره الصف: 7.
(4) الجاثية: 6.
210
الذي كتبه ردا على القاضي ابن روزبهان الذي كتبه ردا على كتاب العلامة الحلي نور
الله ضريحه المسمى ب‍ " كشف الحق " ذكر ذلك برواية متسلسلة السند إلى النبي (صلى الله عليه وآله)
أنه قال (صلى الله عليه وآله): " ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة على أمتي قوم
يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال ". (1)
وقد روى ذلك أيضا الخطيب البغدادي في تاريخه. (2)
وأما الاجماع: فإجماع أهل البيت (عليهم السلام) على المنع عن العمل بالقياس وبطلان
العمل به أمر أصبح من الوضوح بمكان لا يقبل الشك والارتياب، وما ورد من كلام
أمير المؤمنين (عليه السلام) في أمر القياس، تناقلته مصادر الآثار والأخبار بتواتر لا نقاش فيه،
وقصة الإمام الصادق (عليه السلام) مع أبي حنيفة وامتحانه له بوقائع في الشريعة دلت على
بطلان العمل بالقياس تواترت بها كتب الفريقين عامة من الخاصة والعامة على نحو لا
تقبل المكابرة ولا الانكار، وسيأتيك هذا وذاك في العاجل القريب، وقد جرى
شيعتهم الكرام على ضوء أئمتهم العظام.
أما إجماع باقي الصحابة، فأهل العقد والحل منهم صدر منهم التصريح
الصريح ببطلان العمل بالقياس، ومن لم يصدر منه بذلك تصريح فهو مقرر لقول
المصرحين، فيكون الاجماع بهذا إجماعا تاما، فمن المصرحين إجماع قولي
وعملي، ومن الساكتين إجماع سكوتي، فقد تم الاجماع وانقطع النزاع، ولا ينفع
المخالفين خلافهم قدر نقير، بل لا يزيدهم خلافهم غير الحساب والتثبير. ومطلع
قول المصرحين بالبطلان، وفي طليعة القائلين قول سيد الصحابة أمير المؤمنين
وسيد الوصيين عليه السلام: " لو كان الدين بالقياس لكان المسح على باطن الخف



(1) المحلى لابن حزم: 1 / 62، وج 11 / 103.
(2) تاريخ بغداد: 13 / 309.
211
أولى من ظاهره ". (1)
وروي عنه (عليه السلام) أنه قال: " من أراد أن يتقحم جراثيم نار جهنم فليقل في الجد
برأيه ". (2)
وقال أبو بكر: " أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في كتاب الله ما لم
أعلم، أو قلت في كتاب الله برأيي؟ ". (3)
وروي عن عمر أنه قال: إياكم وأصحاب الرأي، فإنهم أعداء السنن، أعيتهم
الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا. (4)
وروي عنه أيضا أنه قال: إياكم والمكايلة. قيل: وما هي؟ قال: المقايسة. (5)
وروي أيضا عن شريح القاضي أنه قال: كتب إلي عمر بن الخطاب -
وهو يومئذ قاض من قبله -: فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فاقض بما في سنة
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإن جاءك ما ليس في سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاقض بما أجمع عليه أهل
العلم، فإن لم تجد فلا عليك أن لا تقضي. (6)



(1) الخلاف: 1 / 217 مسألة 183، مستدرك الوسائل: 17 / 267 ح 37، بحار الأنوار: 2 /
84 ح 9.
(2) عدة الأصول للطوسي: 2 / 99 - 100.
(3) إرشاد المفيد: 1 / 200، مناقب آل أبي طالب: 2 / 180، مصنف ابن أبي شيبة: 7 / 179
ح 5.
(4) سنن الدارقطني: 4 / 83، شرح نهج البلاغة: 12 / 102، نصب الراية: 1 / 19، كنز
العمال: 10 / 268 ح 29406.
(5) عدة الأصول: 2 / 689، المحصول: 5 / 76، الاحكام: 4 / 46.
(6) الطرائف: 525، سنن الدارمي: 1 / 60، السنن الكبرى: 10 / 115، مصنف ابن أبي
شيبة: 5 / 358 ح 3، كنز العمال: 5 / 805 ح 14439 وص 810 ح 14451.
212
وروي أيضا أن عمر قال: أجرؤكم على الحد أجرؤكم على النار.
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: يذهب قراؤكم وصلحاؤكم، ويتخذ
الناس رؤساء جهالا يقيسون الأمور برأيهم. (1)
وعنه أيضا أنه قال: إذا قلتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيرا مما حرم الله،
وحرمتم كثيرا مما حلل الله. (2)
وروي عن عبد الله بن عباس (رضي الله عنه) أنه قال: إن الله تعالى قال لنبيه (صلى الله عليه وآله): " أحكم
بينهم بما أراك الله " (3) ولم يقل: بما رأيت. (4)
وروي عنه أيضا أنه قال: لو جعل لأحد أن يحكم برأيه لجعل ذلك
لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، يقول الله تعالى: * (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) * (5) (6).
وروي عنه أيضا أنه قال: إياكم والمقاييس فإنما عبدت الشمس والقمر
بالقياس، أو بالمقاييس. (7)
وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال: السنة ما سنه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا تجلوا



(1) عدة الأصول: 2 / 689، الفصول في الأصول: 4 / 61 و 65، المحصول: 5 / 77.
(2) عدة الأصول: 2 / 689، المحصول: 5 / 77، الاحكام للآمدي: 4 / 47.
(3) لعل مراده قوله تعالى في سورة النساء: 105: * (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين
الناس بما أراك الله) *.
(4) عدة الأصول: 2 / 689، المحصول: 5 / 78، الاحكام: 4 / 47.
(5) سورة المائدة: 49.
(6) عدة الأصول: 2 / 689، المحصول: 5 / 78، الاحكام: 4 / 47.
(7) عدة الأصول: 2 / 689، المحصول: 5 / 78، الاحكام: 4 / 47.
213
الرأي سنة للمسلمين. (1)
هذه هي أقوال كبار الصحابة والمحترمين من تلك العصابة، وما لنا بعد ذلك
أن ننتظر قول قائل في نقض أو إبرام في خلاف أو وفاق.
أما أقوال التابعين وتابعي التابعين في المسألة فلنقتصر منها على ما هو الحقيق
بالقبول.
قال مسروق: لا أقيس شيئا بشئ، أخاف أن تزل قدمي بعد ثبوتها.
وروي عنه أيضا أنه كان لا يكاد أن يقول شيئا برأيه.
وقال الشعبي لرجل: لعلك من القايسين. وقال: إن أخذتم بالقياس أحللتم
الحرام وحرمتم الحلال.
وكان أبو سلمة بن عبد الرحمن لا يفتي برأيه.
ومن طريف الحوادث في المقام ما وقع لربيعة المعروف بربيعة الرأي وقد
أخرجه مالك في الموطأ، قال: سألت سعيد بن المسيب: كم في إصبع المرأة؟
قال: عشرة من الإبل.
قلت: ففي إصبعين؟
قال: عشرون.
قلت: ففي ثلاثة؟
قال: ثلاثون.
قلت: ففي أربع؟



(1) عدة الأصول: 2 / 690.
214
قال: عشرون.
قلت: حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها.
فقال له سعيد: أعراقي أنت؟
فقال ربيعة: بل عالم مستثبت، أو جاهل متعلم.
فقال سعيد: هي السنة. (1)
ذكرنا في كتابنا " الميزان الصحيح " المطبوع سنة 1365 ه‍ أن هذه القصة
بتمامها تعطينا دروسا نفهم منها أمورا:
منها: أن الأخذ بالقياس أمر امتاز به العراقيون خاصة - وتلك إحدى ثوراتهم
الفكرية، وللعراق ثورات فكرية ودموية في مختلف الأدوار والأعصار، ومن أجل
ذلك استفز سؤال ربيعة مشاعر سعيد أن يسأله: أعراقي أنت؟
ومنها: أن العراقيين بلغوا في الأخذ بالرأي والعمل بالقياس إلى حد ليس
فوقه من مزيد بحيث قد يغفلون أو يتغافلون عما هنالك من نصوص وأحاديث.
وهذه القصة شاهد عدل على ذلك، فقد ثبت عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله: " عقل
المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديتها ". (2)
ومنها: تخلف القياس عن السنة، وليست هذه القصة نسيجة وحدها في
تخلف القياس عن نصوص الشرع ونواميس الدين، وأطرف من هذه القصة، وأعلا
شأنا، وأتم حجة، وأقوى برهانا، قصة الإمام الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) مع أبي



(1) الموطأ: 2 / 860 باب ما جاء في عقل الأصابع.
(2) مصنف عبد الرزاق: 9 / 396 ح 17756، السنن الكبرى للنسائي: 4 / 235 ح 7008،
سنن الدارقطني: 3 / 73، نصب الراية: 6 / 385، كنز العمال: 15 / 53 ح 40055.
215
حنيفة النعمان بن ثابت صاحب المذهب المعروف.
قصة الإمام الصادق (عليه السلام) مع أبي حنيفة ذكرها من أصحابنا جماعة، منهم:
شيخنا الصدوق قدس الله روحه في علل الشرائع (1)، ونقلها أيضا سيدنا القاضي نور
الله مرقده في كتاب إحقاق الحق الذي كتبه ردا على القاضي ابن روزبهان الذي كتب
كتابه ردا على العلامة الحلي أعلى الله درجته في كتابه الذي سماه " كشف الحق ".
وذكرها من أهل السنة والجماعة جماعة، منهم: الدميري الشافعي في كتابه
" حياة الحيوان الكبرى " (2) عند ذكر مادة الظبي.
وهاهنا نذكر ما ذكره سيدنا القاضي نور الله مرقده:
روى سيدنا القاضي نور الله هذه القصة عن بعض الأعلام الذي عبر عنه بسيد
المتألهين وهو حيدر بن علي العبدلي الآملي في كتابه الموسوم ب‍ " جامع الأسرار
ومنبع الأنوار " عن أبي حنيفة وهو أنه قال: جئت إلى حجام بمنى أحلق رأسي، فقال
لي: ادن مناسكك واستقبل القبلة وسم الله تعالى، فتعلمت منه ثلاث خصال لم تكن
عندي، فقلت له: مملوك أنت أم حر؟
فقال: مملوك.
فقلت: لمن؟
فقال: لجعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام).
قلت: أشاهد أم غائب؟
قال: شاهد. فصرت إلى بابه واستأذنت عليه فحجبني وجاء قوم من أهل



(1) ج 2 / 510 ح 3.
(2) ج 2 / 4.
216
الكوفة فاستأذنوا عليه فأذن لهم فدخلت معهم، فلما صرت عنده قلت له: يا ابن
رسول الله، لو أرسلت إلى أهل الكوفة فنبهتهم عن أن يشتموا أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله)
فإني تركت بها أكثر من عشرة آلاف يشتمونهم.
فقال: لا يقبلون مني.
فقلت: ومن لا يقبل منك وأنت ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟!
فقال: أنت أول من لا يقبل مني، دخلت داري بغير إذني، وجلست بغير
أمري، وتكلمت بغير رأيي، وقد بلغني أنك تقول بالقياس.
قلت: نعم، أقول.
قال: ويحك يا نعمان، أول من قاس إبليس حين أمره الله تعالى بالسجود لآدم
وقال: * (خلقتني من نار وخلقته من طين) * (1) أيما أكبر - يا نعمان - القتل أم الزنا؟
قلت: القتل؟
قال: فلم جعل الله تعالى في القتل شاهدين وفي الزنا أربعة؟ أينقاس لك
هذا؟
قلت: لا.
قال: فأيما أكبر الصلاة أم الصيام؟
قلت: الصلاة.
قال: فلم وجب على الحائض أن تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ أينقاس
لك هذا؟
قلت: لا.



(1) سورة الأعراف: 12.
217
قال: فأيما أضعف المرأة أم الرجل؟
قلت: المرأة.
قال: فلم جعل الله في الميراث للرجل سهمين وللمرأة سهما؟ أينقاس لك
هذا؟
قلت: لا.
قال: فيم حكم الله تعالى فيمن سرق الدراهم القطع، وإذا قطع الرجل يد
رجل فعليه ديتها خمسة آلاف درهم؟ أينقاس لك هذا؟
قلت: لا.
قال: وقد بلغني أنك تفسر آية من كتاب الله عز وجل، وهي قوله تعالى: * (ثم
لتسألن يومئذ عن النعيم) * (1) أنه الطعام الطيب والماء البارد في اليوم الصائف.
قلت: نعم.
قال: لو دعاك رجل وأطعمك طعاما طيبا وسقاك ماءا باردا ثم امتن عليك به
ما كنت تنسبه إليه؟
قلت: إلى البخل.
قال: أفيبخل الله تعالى؟
قلت: فما هو؟
قال: حبنا أهل البيت. (2)
انتهى ما نقله سيدنا القاضي نور الله نور الله تعالى مرقده، وقد نقل هذه القصة



(1) سورة التكاثر: 8.
(2) بحار الأنوار: 10 / 220 - 221، مجموعة الشهيد: 330.
218
أيضا الدميري في حياة الحيوان - حسبما عرفت - لكن لا بهذه التفاصيل، وقد أجاب
عن بعض أسئلة الإمام (عليه السلام) بأن الزنا لا يقبل فيه إلا أربعة طلبا للستر، والحائض لا
تقضي الصلاة دفعا للمشقة، لأن الصلاة تكرر في اليوم والليلة خمس مرات بخلاف
الصوم فإنه في السنة مرة، لكن فيه: أن غرض الإمام (عليه السلام) من تلك الأسئلة ليس إلا
تعجيز أبي حنيفة وإعلامه بأن القياس لا يكون صالحا باطراد لمعرفة الأحكام
الشرعية، أو مدركا للفروع العملية، ولم يكن غرض الإمام (عليه السلام) بيان أن تلك الأحكام
خالية عن العلل، عرية عن الحكم، فلا معنى للإجابة بذكر الحكم والتعاليل، وعلى
كل فقد عجز أبو حنيفة عن الجواب، ولو اهتدى إلى التعليل لما عجز عنها في كثير أو
قليل.
هذه أقوال بعض التابعين وتابعي التابعين ممن يأخذ بقولهم ولهم القيمة
والمقام.
أما آراء العلماء ممن لهم الصوت والصيت وعليهم المعول في مثل هذه
الشؤون، فإن استقصاءها يفوت القد، ويتجاوز الحد، وينهي بالسامع إلى السأم
والملال، فإن دعت غريزة حب الاستطلاع، ونوازع الاطلاع، إلى أن تقف على شئ
أو بعض شئ من تلك الأقاويل فألق نظرة على " ميزان الاعتدال " للشعراني، ثم ألقها
مرة أخرى على " تاريخ الخطيب البغدادي "، ثم إني لا أقول لك * (ينقلب إليك البصر
خاسئا وهو حسير) * (1)، بل تنقلب بزيادة الاطلاع وقوة البصيرة وتتجلى لك حقيقة
الحال بكل وضوح، وقد ترى ذلك منا إحالة على ما لم تلمسه اليد، ولم تره العين،
وبين يديك كتاب وتحت بصرك ما تحب أن ترى منها وتلمس، فتلمس الفائدة
المطلوبة والغرض المنشود، فنحن والحال هذه نوقفك على شئ أو بعض شئ،



(1) سورة الملك: 4.
219
ولنكتف بالقليل عن الكثير:
فإليك ما ذكره أبو محمد علي بن أحمد بن حزم الأندلسي - وهو من
المرموقين من علماء أهل السنة والجماعة - وقد ذكر ذلك في كتاب " المحلى " (1) -
حسبما نقله عنه سيدنا القاضي نور الله نور الله مرقده في كتابه السالف الذكر، قال في
مسائل الأصول من ذلك الكتاب:
ولا يحل القول بالقياس في الدين ولا بالرأي، لأن أمر الله تعالى بالرد عند
التنازع إلى كتابه ورسوله (صلى الله عليه وآله) قد صح، فمن رد إلى القياس أو تعليل، أو إلى بدعة أو
رأي، فقد خالف أمر الله تعالى بالرد إلى الإيمان، ورد إلى غير من أمر الله تعالى بالرد،
وفي هذا ما فيه، قال أبو محمد: وقول الله تعالى: * (ما فرطنا في الكتاب من
شئ) * (2) وقوله تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم) * (3) إبطال للقياس وللرأي، لأنه لا
يختلف أهل القياس والرأي في أنه لا يجوز استعمالهما ما دام يوجد نص، وقد شهد
الله تعالى بأن النص لم يفرط فيه شيئا وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد بين للناس كل ما نزل
إليهم، وأن الدين قد كمل، فصح أن النص قد استوفى جميع الدين، فإن ذلك كذلك،
فلا حاجة بأحد إلى قياس، ولا إلى رأيه، ولا إلى رأي غيره، ويسأل من قال بالقياس:
هل كل قياس قاسه قائس حق أم منه حق ومنه باطل؟
فإن قال: كل قياس حق، أحال، لأن المقاييس تتعارض ويبطل بعضها
بعضا، ومن المحال أن يكون الشئ وضده من التحليل والتحريم حقا معا، وليس
هذا مكان نسخ ولا تخصيص، كالأخبار المتعارضة التي ينسخ بعضها بعضا،



(1) ج 1 / 56 مسألة 100.
(2) سورة الأنعام: 38.
(3) سورة المائدة: 3.
220
ويخصص بعضها بعضا.
وإن قائل قائل: منها حق ومنها باطل، قيل له: فعرفنا بما يعرف القياس
الصحيح من الفاسد، ولا سبيل لهم إلى وجود ذلك أبدا، ولا سبيل لهم إلى وجود
دليل على تصحيح الصحيح من القياس من الباطل منه، فقد بطل كله وصار دعوى
بلا برهان، فإن ادعوا أن الباطل قد أمر الله عز وجل به، سئلوا: أين وجدوا ذلك؟ فإن
قالوا: قال الله عز وجل: * (فاعتبروا يا أولي الابصار) * (1) قيل لهم: إن الاعتبار ليس
هو في كلام العرب الذي نزل به القرآن إلا التعجب. قال عز وجل: * (وإن لكم في
الأنعام لعبرة) * (2) أي تعجبا، وقال الله تعالى: * (لقد كان في قصصهم عبرة) * (3)
أي عجب.
ومن الباطل أن يكون معنى الاعتبار القياس، ويقول: قيسوا، ثم لا يبين ماذا
نقيس، ولا كيف نقيس، ولا على ماذا نقيس، وهذا ما لا سبيل إليه، لأنه ليس في وسع
أحد أن يعلم شيئا من الدين إلا بتعليم الله تعالى له إياه على لسان رسوله (صلى الله عليه وآله)، وقد
قال الله تعالى: * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * (4)، فإن ذكروا أحاديث وآيات فيها
تشبيه شئ بشئ وأن الله تعالى قضى وحكم بأمر كذا من أجل أمر كذا، قلنا لهم: كل
ما قاله الله عز وجل ورسوله (صلى الله عليه وآله) من ذلك فهو حق لا يحل لأحد خلافه، وهو نص به
وتقول، وكل ما تريدون أنتم أن تشبهوه في الدين وأن تعللوا بما لم ينص عليه الله
تعالى ولا رسوله فهو باطل وإفك، وشرع لم يأذن الله تعالى به، وهذا يبطل عليهم



(1) سورة الحشر: 2.
(2) سورة المؤمنون: 21.
(3) سورة يوسف: 111.
(4) سورة البقرة: 286.
221
تمويههم بذكر آية جزاء الصيد، أرأيت لو ضممت * (من أجل ذلك كتبنا على بني
إسرائيل) * (1) وكل آية وحديث موهوا بإيراده وهو مع ذلك حجة عليهم على ما قد
بيناه في كتاب " الإحكام لأصول الأحكام " وفي كتاب " النكت " وفي كتاب " الدرة "
وفي كتاب " النبذ ".
قال أبو محمد: وقد عارضناهم في كل قياس قاسوه بقياس مثله وأوضح منه
على أصولهم لنريهم فساد القياس جملة، فرأيتهم يموهون بأن قالوا: أنتم ذا تبطلون
القياس بالقياس وهذا منكم رجوع إلى القياس واحتجاج به، وأنتم في ذلك بمنزلة
المحتج بحجة العقل ليبطل حجة العقل، وبدليل من النظر ليبطل به النظر.
قلنا: هذا شغب سهل الفساد ولله الحمد، ونحن لم نحتج بالقياس في إبطال
القياس، ومعاذ الله من هذا، لكن أريناكم أن أصلكم الذي أثبتموه من تصحيح القياس
يشهد بفساد جميع قياسكم، ولا قول أظهر بطلانا من قول من أكذب نفسه يقينا، وقد
نص الله تعالى على هذا فقال: * (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل
فلم يعذبكم بذنوبكم) * (2) فليس هذا تصحيحا لقولهم: أنتم أبناء الله تعالى وأحباؤه،
ولكن إلزاما لهم ما يفسد به قولهم، ولسنا في ذلك كمن ذكرتم ممن يحتج في إبطال
حجة العقل بحجة العقل، لأن فاعل ذلك يصحح القضية العقلية التي يحتج بها،
فظهر تناقضه من قرب ولا حجة له غيرها، فقد ظهر بطلان قوله: وأما أنتم، إلى
آخره، فلم نحتج قط في إبطال القياس بقياس نصححه لكن نبطل القياس بالنصوص
وببراهين العقل.
ثم نزيد بيانا في إفساده منه نفسه بأن نرى تناقضه جملة فقط، والقياس الذي



(1) سورة المائدة: 32.
(2) سورة المائدة: 18.
222
نعارض به قياسكم نحن نقر بفساده وبفساد قياسكم الذي هو مثله أو أضعف منه،
كما نحتج على أهل كل مقالة من معتزلة ورافضة ومرجئة وخوارج ويهود ونصارى
ودهرية، من أقوالهم التي يشهدون بصحتها، فنريهم تفاسدها وتناقضها، وأنتم
تحتجون معنا عليهم بذلك ولسنا نحن ولا أنتم ممن يقر بتلك الأقوال التي نحتج
عليهم بها. بلى، هي عندنا في غاية البطلان والفساد، كاحتجاجنا على اليهود
والنصارى من كتبهم التي بأيديهم ونحن لا نصححها، بل نقول: إنها محرفة مبدلة لكن
لنريهم تناقض أصولهم وفروعهم لا سيما وجميع أصحاب القياس مختلفون في
قياساتهم، لا تكاد توجد مسألة إلا وكل طائفة منهم تأتي بقياس يدعى صحته
ويعارض به قياس الآخرين، وهم كلهم مقرون مجمعون على أنه ليس كل قياس
صحيحا، ولا كل رأي حقا.
فقلنا لهم: هاتوا حد القياس الصحيح والرأي الصحيح الذي به يميزان من
القياس الفاسد، والرأي الفاسد، وهاتوا حد العلة الصحيحة التي لا يقيسون إلا عليها
لتميز من العلة الفاسدة، فلجلجوا وبالله التوفيق.
قال أبو محمد: وهذا مكان أزرم عليهم، فيه ظهر فساد قولهم جملة، ولم يكن
لهم إلى جواب يفهم سبيل أبدا وبالله التوفيق.
فإن أتوا في شئ من ذلك بنص، قلنا: النص حق، والذي تريدون أنتم إضافته
إلى النص بآرائكم، باطل، وفي ذلك خولفتم. فإن ادعوا أن الصحابة رضي الله عنهم
أجمعوا على القول بالقياس، قيل لهم: كذبتم، بل الحق انهم أجمعوا على إبطاله،
وبرهان كذبهم أنهم لا سبيل لهم إلى وجود حديث عن أحد من الصحابة رضي الله
عنهم أنه أطلق الأمر بالقول بالقياس بدا إلا في الرسالة الموضوعة على عمر وأن

223
فيها: واعرف الأشباه والأمثال وقس الأمور (1). وهذه الرسالة لم يروها إلا عبد الملك
ابن سعدان، عن أبيه، وهو ساقط بلا خلاف، وأبوه أسقط منه، أو من هو مثله في
السقوط، فكيف وفي هذه الرسالة نفسها أشياء خالفوا فيها عمر (رض)، منها: قوله:
والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو ظننا في ولاء أو نسب (2)
وهم لا يقولون بهذا - يعني جميع الحاضرين من أصحاب القياس حنفيهم وشافعيهم
- فإن كان قول عمر لو صح في تلك الرسالة في القياس حجة، فقوله في أن المسلمين
عدول كلهم إلا مجلودا في حد، حجة، وإن لم يكن قوله في ذلك حجة فليس قوله
في القياس حجة - لو صح فكيف ولم يصح -؟
وأما برهان صحة قولنا في الاجماع على إبطال القياس فإنه لا يختلف اثنان في
أن جميع الصحابة (رض) مصدقون بكلام القرآن، وفيه: * (اليوم أكملت لكم
دينكم) * (3)، وفيه: * (فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون
بالله واليوم الآخر) * (4) فمن الباطل المحال أن يكون الصحابة (رض) يعلمون هذا
ويؤمنون به ثم يردون عند التنازع إلى القياس أو رأي. هذا ما لا يظنه بهم ذو عقل
فكيف وقد ثبت عن الصديق (رض) أنه قال: أي سماء تظلني، أو أي أرض تقلني، إن
قلت في آية من كتاب الله برأيي أو بما لم أعلم؟ (5)



(1) كشف الخفاء: 2 / 209.
(2) فقه السنة: 3 / 408، سبل السلام: 4 / 119، شرح نهج البلاغة: 12 / 91، إعجاز
القرآن: 141، كشف الخفاء:
2 / 209.
(3) سورة المائدة: 3.
(4) سورة النساء: 59.
(5) مصنف ابن أبي شيبة: 7 / 179 ح 5، سير أعلام النبلاء: 10 / 35.
224
وصح عن الفاروق (رض) أنه قال: اتهموا الرأي على الدين وإن الرأي منا هو
الظن والتكلف. (1)
وعن عثمان (رض) - في فتيا أفتى بها - أنه قال: إنما كان رأيا رأيته، من شاء
أخذه، ومن شاء تركه.
وعن علي (عليه السلام): " لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من
أعلاه ". (2)
وعن سهل بن حنيف (رض) أنه قال: أيها الناس اتهموا آراءكم على دينكم. (3)
وعن ابن عباس (رض): من قال في القرآن برأيه فليتبوء مقعده من جهنم. (4)
وعن ابن مسعود (رض): سأقول فيما يجهل بما أرى فإن كان صوابا فمن الله
عز وجل، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه برئ. (5)
وعن معاذ بن جبل - في حديث -: يبدع كلاما ليس من كتاب الله عز وجل،
ولا سنة رسول الله، وإياكم وإياه، وإنه بدعة وضلالة. (6)
فعلى هذا النحو كل ما روي عن الصحابة (رض) لا على أنه إلزام ولا أنه حق،
لكنه إشارة بعفو أو صلح أو تبرع فقط لا على الإيجاب، وحديث معاذ الذي فيه:



(1) كنز العمال: 10 / 298 ح 29501، المستصفى: 289، مجمع الزوائد: 1 / 179.
(2) سنن الدارقطني: 1 / 211، كنز العمال: 9 / 605 ح 27612.
(3) العمدة لابن البطريق: 312، بحار الأنوار: 31 / 284.
(4) عوالي اللئالئ: 1 / 174 ح 207، بحار الأنوار: 30 / 512.
(5) سنن النسائي: 6 / 122 - 123، المستدرك على الصحيحين: 2 / 180.
(6) المعجم الكبير للطبراني: 20 / 114 - 115.
225
" أجتهد رأيي " لا يصح، لأنه لم يروه إلا الحارث بن عمر، وهو مجهول لا يدرى من
هو، عن رجال من أهل حمص لم يسمهم، عن معاذ.
وقد تقصينا أسانيد هذه الأحاديث كلها في كتبنا المذكورة، والله تعالى المؤيد:
نا - يعني حدثنا - أحمد بن قاسم، نا عن أبي قاسم بن محمد بن قاسم، نا جدي قاسم
بن أصبغ، نا محمد بن إسماعيل الترمذي، نا نعيم بن حماد، نا عبد الله بن المبارك، نا
عيسى بن يونس، عن أبي إسحاق اليسع، عن جرير بن عثمان، عن عبد الرحمن بن
جبير بن نفيل، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور
برأيهم، فيحلون الحرام، ويحرمون الحلال ". (1)
قال أبو محمد: والشريعة كلها إما فرض يعصي من تركه، وإما حرام يعصي من
فعله، وإما مطلق لا يؤجر من فعله ولا من تركه ولا يعصي من فعله ولا من تركه، وقال
الله عز وجل: * (خلق لكم ما في الأرض جميعا) * (2) وقال تعالى: * (وقد فصل لكم ما
حرم عليكم) * (3) فصح أن كل شئ حلال إلا ما فصل تحريمه في القرآن والسنة.
نا عبد الله بن يوسف، نا أحمد بن فتح، نا عبد الوهاب بن عيسى، نا أحمد بن
محمد، نا أحمد بن علي، نا مسلم بن الحجاج، حدثني زهر بن حرب، نا يزيد بن
هارون، نا الربيع بن مسلم القرشي، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة أن رسول
الله (صلى الله عليه وآله) خطب فقال: أيها الناس، إن الله تعالى قد فرض الحج فحجوا. فقال رجل: أكل
عام يا رسول الله؟ فسكت، حتى أعادها ثلاثا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " لو قلت: نعم



(1) المستدرك على الصحيحين: 3 / 547، الطرائف: 525، بحار الأنوار: 2 / 312.
(2) سوره البقرة: 29.
(3) سورة الأنعام: 119.
226
لوجبت ولما استطعتم، ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم
واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن
شئ دعوه ". (1)
قال أبو محمد: فجمع هذا الحديث جميع أحكام الدين أولها عن آخرها،
ففيه: أن ما سكت عنه النبي (صلى الله عليه وآله) فلم يأمر به ولا نهى عنه فهو مباح وليس حراما ولا
فرضا، وأن ما أمر به فهو فرض، وما نهى عنه فهو حرام، وأن ما أمرنا به فإنما يلزمنا
منه ما نستطيع فقط، وإن يفعل مرة واحدة يؤدي ما لزمنا ولا يلزمنا تكراره.
فأي حاجة بأحد إلى قياس أو رأي مع هذا البيان الواضح، والحمد لله على
عظيم نعمه.
فإن قال قائل: لا يجوز إبطال القول بالقياس إلا حين يوجدنا تحريم القول به
نصا في القرآن.
قلنا لهم: قد أوجدناكم البرهان نصا بذلك بأن لا يرد التنازع إلى القرآن والسنة
فقط، وقال تعالى: * (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء) * (2)
وقال تعالى: * (فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون) * (3) والقياس
ضرب أمثال في دين الله. ثم يقال لهم: لا يجوز القول بإبطال الإلهام ولا بإبطال اتباع
الإمام إلا حين يوجدنا تحريم ذلك نصا وقال لكم ذلك أهل كل مقالة في تقليد انسان
بعينه بماذا تنفصلون فالحق أنه لا يحل أن يقال على الله تعالى أنه حرام أو حلال أو



(1) المغني لابن قدامة: 3 / 159 - 161.
(2) سوره الأعراف: 3.
(3) سوره النحل: 74.
227
واجب إلا بنص فقط، وبالله التوفيق. (1)
هذا آخر ما نقلناه من كلامه بطوله لما فيه من مزيد الفائدة، فقد ضم فيه
وضمنه في الاستدلال على إبطال العمل بالقياس، الأدلة الأربعة: من الكتاب،
والسنة، وأقوال الصحابة، والعقل.
انظره مليا تجد ما استفدناه من كلامه هو الحق والحقيقة، وتجد أن منهم
عليهم حجة كافية تغني المحتجين عن تكلف مؤنة الاحتجاج، وحيث ننهي البحث
كاملا لا نقص فيه من هذه الناحية - أعني ناحية الاجماع المحصل من أقوال الصحابة
وكبار العلماء - فلنأخذ بعنان اليراع إلى بحث آخر وهو دليل العقل.
الرابع: من الأدلة الدالة على بطلان العمل بالقياس، دليل العقل:
إن العقل الذي هو الموهبة الإلهية التي وهبها للبشر ليميز بها بين حسن الشئ
وقبيحه، ونافعه وضاره، ليحكم حكما قطعيا لا شك فيه ببطلان العمل بالقياس،
وقبل الدخول في تحرير البحث والخوض في صميم الموضوع على حقيقته نقدم
مقدمة تكون هي نقطة الدائرة أو حجر الأساس لهذه الناحية، فنقول:
تقرر عند الشيعة الإمامية بلا خلاف أن أفعال الله تعالى معللة بالأغراض،
سواء أكان ذلك في ناحية التكوين أم في ناحية التشريع، إذن فللتشريع علل،
ولأحكامها حكم بلا كلام.
هذا شئ لزام علينا أن نعرفه كما يجب وكما ينبغي أن يكون، وعلى حد هذا
لزام علينا أن نعرف ما هي الجهة الفارقة بين العلة والحكمة، فلتعرف أولا:



(1) المحلى لابن حزم: 1 / 56 - 65 مسألة 100.
228
إن العلة هي الأمر الداعي للمشرع إلى تشريعه على نحو يدور مدارها التشريع
في ناحيتي الوجود والعدم، فيوجد الحكم بوجودها ويعدم بعدمها، وهذه قسمان:
قسم جاء فيه التنصيص على العلة في لسان النص وفي أصل التشريع، كما جاء في
قولهم: حرم الخمر لإسكاره، فعلل الحكم - وهو الحرمة - القائم على موضوعه - وهو
الخمر - بعلة هي الوصف الخاص، وهو الإسكار، فيدور الحكم مدارها في ناحيتي
الوجود والعدم، يثبت الحكم بثبوتها، وينتفي بانتفائها، وهذه العلة المنصوصة قد
تكون بلسان الصراحة يعبر عنها بأدوات خاصة دالة على التعليل، كالكلام في مثل
هذا النص، ومثل قوله تعالى: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (1) وكالباء
في مثل قوله سبحانه: * (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم) * (2) وقوله سبحانه:
* (ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله) * (3) وكأن في مثل قوله عز من قائل: * (ولا تقربوا
الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا) * (4). وكقوله (صلى الله عليه وآله) في قتلى بدر: " رملوهم بكلومهم
فإنهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دما "، وقد تكون بلسان الإشارة لا
العبارة، وبالتعبير بالإيماء لا بالصراحة، مثل قوله تعالى: * (ويسألونك عن المحيض
قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض) * (5) فكأنه تعالى قال: لأنه أذى، وقوله عز
من قائل: * (أن تضل إحداهما) * (6) فكأنه تعالى قال: لأنه تضل إحداهما.
وكما إذا وقع جوابا عن السؤال كما مثل فيما لو قيل: يا رسول الله، أفطرت،



(1) سوره الذاريات: 56.
(2) سوره النساء: 160.
(3) سورة الأنفال: 13.
(4) سورة الإسراء: 32.
(5) سورة البقرة: 222.
(6) سوره البقرة: 282.
229
فيقول: " عليك الكفارة " (1)، فإنه يفيد ظن وجوب الكفارة بالإفطار، وكما إذا ذكر
وصفا لو لم يكن له فائدة، كما روي أنه امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب،
فقيل له: إنك تدخل على بيت بني فلان وعندهم هرة، فقال (صلى الله عليه وآله): " إنها ليست
بنجسة، إنها من الطوافين عليكم الطوافات " (2) فلو لم يكن لكونها من الطوافين أثر في
التطهير لم يكن لذكره فائدة، وكتقديره على وصف الشئ المسؤول عنه، كقوله (عليه السلام):
" أينقص إذا جف؟ قيل: نعم. فقال: فلا ".
إذن، وكتقرير على حكم ما يشبه المسؤول عنه ويبينه على وجه الشبه فيعلم
أن وجه الشبه هو العلة، كقوله (عليه السلام): " أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته " (3) نبه (عليه السلام)
بهذا على عدم إفساد الصوم بالمضمضة والقبلة لانتفاء حصول المطلوب فيها،
وكالفرق بوصف صالح للتعليل، كقوله (عليه السلام): " القاتل لا يرث " للفرق بينه وبين بقية
الأولاد، وكقوله (صلى الله عليه وآله): " إذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم " (4) مع نهيه عن بيع البر
بالبر متفاضلا فإنه يدل على أن اختلاف الجنس علة في الجواز.
هذا قسم من العلة، وقد عرفت أنما يعبر عنها بالعلة المنصوصة لوجود النص
عليها في أصل لسان التشريع، وقد قام الاجماع أو شبه الاجماع على أنها حجة، وأن
الحكم يسري عن موضوعه إلى موضوع آخر ببركة وجودها في الموضوع الآخر.
نعم، ذهب قليل إلى أنها لا تسري عن موضوعها إلى موضوع وإنما هي حجة في
موضوعها الذي وجدت فيه بلسان النص المنصوص عليها فيه، فكأنها أخذت وصفا



(1) المحصول للرازي: 5 / 148.
(2) كتاب الأم: 1 / 20، الخلاف للطوسي: 1 / 204، المجموع: 1 / 118.
(3) تذكرة الفقهاء: 6 / 67، المبسوط للسرخسي: 3 / 58، عدة الأصول: 1 / 370.
(4) الخلاف للطوسي: 3 / 72 و 208، مختلف الشيعة: 5 / 88 و 92، تذكرة الفقهاء: 10 /
145.
230
خاصا وقيدا شخصيا في ذلك الموضوع خاصة، فكأن النص: قال: الخمر الموصوف
أو المقيد بالإسكار حرام.
وهناك قسم آخر من العلة يعبر عنها بالعلة المستنبطة، ومعناها: العلة التي
يعلل بها الحكم سلبا وإيجابا لا عن طريق النص والتشريع، بل عن طريق الرأي
والاستحسان الذي مبناه على الظن والتخمين. وقولنا: " عن طريق الرأي والاستحسان
الذي مبناه على الظن والتخمين " أخرجنا به العلة غير المنصوصة ولكن تستخرج
وتستنبط عن طريق الدلالة العلمية، وذلك ما يعبر عنه بقياس الأولوية القطعية،
وذلك كحرمة الايذاء للأبوين المستفادة من القياس على حرمة التأفيف الوارد في
قوله عز من قائل: * (فلا تقل لهما أف) * (1) إذ أنه بعد النص على حرمة التأفيف الذي
هو أقل رتبة وأدنى درجة من الايذاء، حرم الايذاء بلا كلام، فما حرم التأفيف إلا لأنه
نوع من الإيذاء، فالإيذاء مقطوع الحرمة بلا شك ولا ارتياب، فمثل هذا القياس
القطعي حجة عند المحققين من العلماء.
وعلى أي حال، ومهما يكن من أمر، فإن مفترق الطريق في المقام بين الشيعة
الإمامية وبين غيرهم ممن يعمل بالقياس المستنبط عن طريق الظن والاستحسان،
فغيرهم سوغه واستساغه، والشيعة لم تسوغه ولم تستسغه، لما مر عليك من الدليل
المنقول، ولما سيأتيك من أدلة العقول والبرهان المعقول الذي هو من البداهة
بمكان.
وحيث عرفت العلة بقسميها من المنصوصة المستنبطة فلتعرف أن الحكمة
هي عبارة عن الفائدة أو الثمرة المترتبة على التشريع للحكم بصفة نوعية لا ينظر فيها
إلى الأفراد والأشخاص، ولذلك قد تحرم في بعض الأفراد والأحوال، فهي كوضع



(1) سوره الإسراء: 23.
231
قانون عام يراد منه حفظ الأنواع لا الأفراد، ولذلك قد يعبر عنها ب‍ " العلة غير المطردة "
لهذا التخلف وهذا الانخراط، وهذه الحكمة كالعلة في أنها قد تكون منصوصة بأن
يرد التصريح بها أو الايماء إليها في لسان النص والتشريع، وهذه كتلك أيضا في نوع
التعبير بكلا قسميه من التصريح أو التلويح. وهي هي أيضا في أنواع الأدوات
والآلات المعبرة عن ذلك المعنى المقصود.
مثال ذلك: ما جاء في قولهم (عليهم السلام) " إنما العدة للماء " (1) ترى في هذا النص
الشريف الحكمة في تشريع العدة على النساء المفارقات في طلاق أو وفاة، وترى
أيضا أن التنصيص فيها جاء بلسان التصريح، وترى أيضا أنه عبر عن هذه الحكمة
بلام التعليل، إضافة إلى التعبير بإن المؤكدة المتصلة بما المكفوفة المفيدة للحصر
والتخصيص، فترى أن الحكمة المصرح بها هي محافظة الانسان أن لا تختلط
لاختلاط المياه فيكون ذلك هدما للنظام العائلي المقصود.
ومثال ذلك أيضا: ما جاء في قولهم (عليهم السلام) جوابا لسؤال سائل يسألهم عن
حكمة تغسيل الميت غسل الجنابة: " لخروج النطفة التي خلق منها، منه " (2) ولعل
الإمام (عليه السلام) كنى بالنطفة رعاية لعقول السائلين ولجهل المحيط في ذلك الزمان عن
مكتشفات العلوم في هذا الزمان عن تلك الجراثيم التي تنشر على بدن الميت حين
الموت ويخشى من انتقالها منه إلى الأحياء ولا مزيل لها إلا الماء، كما قرر ذلك الطب
والأطباء.
ومن حكمة هذا التشريع تنشأ حكمة ثانية هي حكمة وجوب غسل من مس
بدن الميت ببدنه بعد برده وقبل التغسيل، وهي الوقاية من انتقال تلك الجراثيم، أو



(1) الكافي: 6 / 84 ح 7، وسائل الشيعة: 22 / 176 ح 28313 وفيهما: العدة من الماء.
(2) الحدائق الناضرة: 3 / 75، رياض المسائل: 1 / 300.
232
قتل تلك الجراثيم، أو إزالتها بالماء.
هذا وأمثاله تعبير عن حكمة التشريع بلسان التصريح بأداة خاصة دالة على
تعليل الحكم بصورة خاصة، ومثل قولهم (عليهم السلام): " أن تحت كل شعرة جنابة " (1) بيان
لحكمة تشريع غسل الجنابة لكن عن طريق الإشارة لا العبارة، وعن طريق التلويح لا
التصريح، ذلك أن الإمام (عليه السلام) أشار بلسان الكناية إلى ما أدركه الأطباء بعد قرون
وقرون، من حدوث جراثيم على بدن الجنب عند إفراز الغدد المنوية لهذا السائل
المنوي، تنتشر على البدن كله من القرن إلى القدم، ولا يقتلها أو لا يزيلها إلا الماء،
من أجل ذلك وجب على الجنب غسل جميع بدنه قضاء على تلك الجراثيم.
وعلى أي حال ومهما يكن من أمر فما يسمى ب‍ " الحكمة " على حد ما يسمى
ب‍ " العلة " من أنها تارة تكون " منصوصة "، وأخرى تكون " مستنبطة " - حسبما سلف -،
والحجة هي الأولى دون الثانية، لكن " الحكمة " أخف مؤنة من " العلة " لما عرفت من
أن الحكمة ليست هي مدار الحكم، لا في السلب ولا في الايجاب، لكن العلة هي
المدار.
وحيث عرفت هذا وذاك، وتجلى لك أمر هذه المقدمة بوضوح، فاعرف أن
القياس الممنوع الباطل هو الحكم المعلل بالعلة المستنبطة الذي يركز أساسه وتبنى
قواعده على الرأي والاستحسان، وقد عرفت أننا الآن بصدد تقرير دليل العقل على
المنع والبطلان.
يقرر دليل العقل على بطلان العمل بالقياس على وجهين:



(1) الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السلام): 83، منتهى المطلب: 1 / 304، المغني لابن قدامة: 1
/ 227، سبل السلام: 1 / 92.
233
أحدهما: حكم العقل ببطلان العمل بالقياس عقلا، بمعنى أن العقل حاكم بأن
القياس لا يصلح لأن يكون حجة عقلية.
ثانيهما: حكم العقل ببطلان العمل بالقياس شرعا، بمعنى أن العقل حاكم بأن
القياس لا يصلح لأن يكون حجة شرعية، وحكم العقل على الوجه الأول يقرر على
وجوه، وحكمه على الوجه الثاني يقرر على وجوه، والكلام الآن في تقرير حكم
العقل على الوجه الأول فانظر إليه بإمعان.
إن حكم العقل على الوجه الأول - أعني حكم العقل ببطلان العمل بالقياس
عقلا - يقرر على وجوه عديدة:
منها: إن العمل بالقياس ارتكاب طريق لا يؤمن معه الخطأ، وذلك قبيح، هذا
هو أحد الوجوه التي يقرر فيها دليل العقل على بطلان العمل بالقياس.
وأنت ترى أن هذا الدليل يتكون منه قياس على هيئة الشكل الأول الذي هو
من بداهة الانتاج بمكان، ويكون صورة القياس المؤلف هكذا: العمل بالقياس
ارتكاب طريق لا يؤمن معه الخطأ، وكل ارتكاب طريق لا يؤمن معه الخطأ قبيح،
فتكون النتيجة الحاصلة - بعد حذف المتكرر -: العمل بالقياس قبيح.
وأنت ترى أيضا أن هذا الشكل قد توفرت فيه شرائط الشكل الأول من
إيجاب الصغرى وفعليتها مع كلية الكبرى، وهذا حاصل كما تراه.
يبقى الكلام على صدق مقدمتيه. أعني صغراه التي هي المقدمة الأولى،
وهي قولنا: العمل بالقياس ارتكاب طريق لا يؤمن معه الخطأ، وكبراه التي هي
المقدمة الثانية، وهي قولنا: وكل ارتكاب بطريق لا يؤمن معه الخطأ قبيح، إذ لا ريب
أن صحة النتيجة هي فرع عن صحة المقدمات، فكان لزاما علينا التدليل على صدق

234
هذه الناحية، فنقول:
إن الاستدلال على صحة المقدمة الأولى - أعني صغرى القياس - تبين لك منه
شئ أو بعض شئ من قبل، وسيزداد لك وضوحا من بعد، والآن نملي عليك ما
تتجلى لك به حقيقة الحال بكل وضوح:
اعلم أن " الحجة التصديقية " - المقررة عند المنطقيين - ثلاثة أقسام: القياس،
والاستقراء، والتمثيل، ذلك أن الاستدلال بالحجة إما أن يكون من حال الكلي على
حال جزئياته - ومعناه ترتب الحكم: أولا: على المعنى العام، ثم منه ينسحب الحكم
إلى الأفراد والأشخاص بالتبع. ثانيا: وبالعرض، وهذا يسمى ب‍ " القياس " وللقياس عند
المنطقيين بحث واسع الأطراف في متسع الجهات.
وإما أن يكون من حال الجزئيات على حال كليها، وهو هذا يسمى
ب‍ " الاستقراء " وقسم إلى: تام، وهو ما يصفح فيه حال جميع الجزئيات، وهذا عندهم
ليس استقراء على الحقيقة، بل هو عندهم يسمى ب‍ " القياس المقسم " فهو من هذا
موضوعا أو يرجع حكما ومآلا إليه، وذلك كما يمثلونه في قولهم: كل حيوان إما ناطق
أو غير ناطق، وكل ناطق من الحيوان حساس، وكل غير ناطق من الحيوان حساس،
تكون النتيجة عندهم - بعد حذف المتكرر -: كل حيوان حساس.
هذا هو الاستقراء التام أو القياس المقسم، وهو عند المنطقيين يفيد اليقين.
أما الاستقراء الناقص فهو تتبع أكثر الجزئيات - لا كلها - لإثبات حكم الكلي أو
حكم كلي، كما يمثلونه بقولهم: كل حيوان يحرك فكه الأسفل عند المضغ، جاءوا
بهذا الحكم الكلي أو حكموا به على الكلي، لأنهم وجدوا أن الأكثر من أفراد الحيوان
محكوم بهذا الحكم، مثل: الانسان والفرس والحمار، إلى غير ذلك مما صادفوه من

235
أفراد الحيوان.
هذا هو الاستقراء الناقص، وهذا يفيد الظن عندهم لا اليقين لجواز أن يخلف
بعض الأفراد عند هذا الحكم، لأن المفروض أنه تتبع أكثر الأفراد لا كل الأفراد. وقد
تخلف بعض الأفراد عن هذا الحكم بالفعل، فقد وجدوا أن التمساح يحرك فكه
الأعلى عند المضغ فلم يطرد الحكم في جميع الأفراد، من أجل ذلك أفاد الظن
عندهم لا اليقين، لكن ذلك إذا أريد منه الحكم، أما إذا اكتفى بالحكم الجزئي أفاد
عندهم اليقين بلا كلام، كما يقال: بعض الحيوان فرس وبعضه انسان، وكل فرس
يحرك فكه الأسفل عند المضغ وكل انسان أيضا كذلك، ينتج قطعا أن بعض الحيوان
يحرك فكه الأسفل عند المضغ، فالنتيجة يقينية بلا ارتياب.
هذا هو الاستقراء بكلا قسميه من التام والناقص قد عرفتهما وعرفت ما لهما
من الأحكام، أما إذا كان الاستدلال بالحجة التصديقية من حال أحد الجزءين
المندرجين تحت كلي على حال الجزئي الآخر، وبعبارة أوضح: تشريك جزئي مع
جزئي آخر في علة الحكم ليثبت الحكم فيه - وهذا هو المعبر عنه عند المنطقيين
ب‍ " التمثيل " وعند الفقهاء وعلماء الأصول ب‍ " القياس " - فالقياس عند علماء الأصول
هو التمثيل في لسان المنطقيين.
لابد في التمثيل من مقدمات ثلاث عبر عنها بالأركان:
الأولى: أن الحكم ثابت في الأصل - أعني المشبه به -.
الثانية: أن علة الحكم في الأصل هو الوصف الخاص والنعت المخصوص.
الثالثة: أن ذلك الوصف الموجود في الفرع - أعني المشبه -.
فحيث يتحقق العلم بهذه المقدمات الثلاث، انتقل الذهن إلى كون الحكم

236
ثابتا في الفرع أيضا ثبوته في الأصل، وذلك هو المطلوب في التمثيل، وليس في
المقدمة الأولى ولا في المقدمة الثالثة إشكال أو بعض إشكال، إنما الإشكال في
ثبوت المقدمة الثانية، وبثبوتها يثبت حجة القياس للمنطقيين في إثبات المقدمة
الثانية، أعني كون علة الحكم في الأصل المشبه به هو تلك الصفة الخاصة، ولذلك
النعت المخصوص طرق كثيرة عمدتها عندهم طريقان:
أحدهما: ما يسمى بطريق " الدوران " ومعناه ترتب الحكم على الوصف الذي
له صلاحية العلية وجودا وعدما، كترتب الحرمة في الخمر على الإسكار فإنه ما دام
مسكرا، حرام، فإذا زال عنه الإسكار زالت عنه الحرمة، قالوا: والدوران علامة كون
المدار - أعني الوصف - علة للدائر، - أعني الحكم -.
ثانيهما: " الترديد " ويسمى أيضا ب‍ " السبر والتقسيم " وهو أن يتفحص:
أولا: أوصاف الأصل ويردد أن علة الحكم هل هي هذه الصفة أو تلك، ثم
يبطل.
ثانيا: حكم كل علية علية حتى يستقر على وصف واحد.
ويستفاد من ذلك كون هذا الوصف علة دون غيره من تلك الأوصاف، مثل ما
يقال: علة الحرمة في الخمر هي: إما الاتخاذ من العنب، أو الغليان، أو اللون
المخصوص، أو الرائحة المخصوصة، أو الطعم المخصوص، أو الاسكار، ثم يقال:
لكن الأول ليس بعلة لوجوده في الدبس بدون الحرمة، هكذا البواقي توجد في غير
الخمر مع عدم الحكم بالحرمة هناك. فما العلة - إذن - إلا الإسكار، فتختصر العلية
بالاسكار.
فقد عرفت أن العمدة في طريق إثبات علية العلة للحكم هما هذان الطريقان:

237
الدوران، والترديد، لكن من أين يثبت لنا بهما القطع بالعلية؟ أليس من الجائز أن
تكون في الأصل خصوصية تكون هي المقتضية لثبوت الحكم فيه خاصة فيختصر
الحكم فيه دون سواه من الموضوعات أو الأفراد؟ ثم هي الأخرى أليس من الجائز
أن تكون في الفرع خصوصية تكون هي المانعة من إجراء الحكم عليه وتسريته من
الأصل إليه؟ ومع هذا وذاك، كيف يقطع العقل بهذه المساواة وهذا التشريك؟ فلم
يبق إلا التحكم المحض الذي لا دليل عليه، وأن التحكم لتأباه أحكام العقول، ثم
يضاف إلى ذلك أن هذا الدوران أو هذا الترديد ليسا من الحصر العقلي الدائر بين
النفي والاثبات المستفاد منه العلم واليقين.
إذن المستفاد من كل ذلك ليس إلا الظن الذي لا جزم فيه، ولا يمنع من
احتمال الخلاف. فهنا تتجلى لنا بوضوح المقدمة الأولى من مقدمتي هذا القياس،
وهي قولنا: العمل بالقياس ارتكاب طريق لا يؤمن معه الخطأ، ذلك أن الظن معرض
الخطأ والخطأ مظنة الخطئة فلا يحسن إنكار به بحكم العقل والعقلاء، وحيث يتجلى
بوضوح صحة المقدمة الأولى تجلت لنا المقدمة الثانية - من مقدمتي هذا القياس
وهي قولنا: كل عمل لا يؤمن معه الخطأ قبيح - بوضوح لا يقبل الشك والارتياب،
ذلك أنه إقدام على ضرر مظنون أو محتمل، ودفع الضرر المظنون أو المحتمل
واجب بلا كلام.
فإن قال قائل: إن حكم وجوب دفع الضرر إنما هو بحكم العقل والعقلاء فهو
فرع من فروع التحسين والتقبيح العقليين فلا يثبت إلا حيث يثبت الأصل، وهو أن
للعقل حكما بالتحسين والتقبيح، وذلك محل الكلام، فمنكر ذلك - وهم الأشعرية -
لا يسلم هذا الدليل، فلا يتم هذا الدليل بإجماع، فلا يكون دليلا جامعا لجميع
الأطراف.

238
فإننا نقول: أولا: إن وجوب دفع الضرر المظنون أو المحتمل ليس دليلا عقليا
فحسب، ولا هو من أحكام العقلاء فقط، بل هو حكم الفطرة والغريزة قبل أن يكون
حكم العقل والعقلاء، لذلك نراه موجودا في الحيوان فضلا عن وجوده في الانسان،
ولذلك شواهد وشواهد من الحسن والعيان، وهما مغنيان عن البرهان.
وثانيا: إن الذي تنكره الأشعرية من حكم العقل بالحسن والقبيح هو ما كان
بمعنى أنه شئ يستحق فاعله عليه المدح أو الذم في العاجل، والثواب أو العقاب
في الآجل. أما ما كان بمعنى أنه شئ من النقص أو الكمال، أو بمعنى أنه يلائم
الغرض أو ينافر الغرض فهو شئ اتفق عليه الجميع، واعترف الأشاعرة بأنه من
مدركات العقل بلا كلام، ومما لا يشك فيه أن الاقدام على الضرر المظنون أو
المحتمل نقص لا شك فيه، أو شئ ينافي الغرض وينافره بلا ريب يعتريه.
ومع هذا وذاك سترى الحكم بوجوب دفع الضرر المظنون أو المحتمل محل
الاتفاق والوفاق الذي لا خلاف فيه، ومنه سترى أن هذا الدليل قد تم، والحمد لله
على التمام.
هذا أحد وجوه تقرير الدليل العقلي على حرمة العمل بالقياس عقلا، ولنكتف
به فإن فيه الكفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
أما الوجه الثاني: وهو تقرير الدليل العقلي على حرمة القياس شرعا، فهو
أيضا مقرر على وجوه نكتفي بالبعض منها، فإن القليل قد يغني عن الكثير إذا ألمس
شيئا من الحقيقة المنشودة، وأوقف الطالب على الحق المطلوب.
من تلك الوجوه: ما ذكروه من أن مبنى شرعنا المقدس على الفرق بين
المتماثلات، كإيجاب الغسل بالمني دون البول، وكلاهما خارج من أحد السبيلين،

239
وغسل بول الصبية، ونضح بول الصبي، وقطع السارق للقليل دون الغاصب للكثير،
وحد القذف بالزنا دون الكفر، وتحريم صوم أول شوال، وإيجاب صوم آخر رمضان.
وعلى الجمع بين المختلفات، كإيجاب الوضوء من الأحداث المختلفة،
وإيجاب الكفارة في الظهار والإفطار، وتساوي العمد والخطأ في وجوبهما، ووجوب
القتل بالزنا والردة، وإذا كان الأمر كذلك امتنع العمل بالقياس الذي كان مبناه على
تشريك الشيئين في الحكم لاشتراكهما في الوصف الجامع الذي اعتبر علة للحكم،
كما عرفته هناك.
أجيب عن هذا الوجه: بأن المماثلة فيما حكم الشارع فيه بالفرق، والاختلاف
فيما حكم فيه بالجمع ممنوعان، ولو كان الأمر كما يدعون لانتفى الحسن والقبح
العقليان، وهما ثابتان عند الشيعة الإمامية المستدلين على بطلان العمل بالقياس
بهذا البرهان، وذلك لأن الجهة المحسنة والجهة المقبحة في الفعل يقتضيان ترتب
الحلية والحرمة وسائر الأحكام على الأفعال، وإذا ثبتت المماثلة واختلف الحكم
بطلت دعوى المماثلة أو الاختلاف، فما ادعي فيه المماثلة من تلك الأمثلة، لا
مماثلة فيه على الحقيقة، فهو مختلف في الموضوع، مختلف في الحكم، فلا يصلح
لأن يكون ردا على العمل بالقياس.
أجيب عنه: بأنه إن أريد بمنع المماثلة فيما حكم الشرع فيه بالاختلاف، ومنع
الاختلاف فيما حكم فيه الشرع بالتفريق هي المماثلة والاختلاف في نفس الأمر،
فهو لا يفيد، إذ المقصود هو أن الشارع ربما يفرق فيما هو في عقولنا محكوم عليه
بالمماثلة لا في نفس الأمر، فالقياس عند العقل مثل هذا الحال قبل أن يطلع على ما
في نفس الأمر وعلى ما عند الشارع، ربما يكون خطأ لبنائه على ما يتراءى من
المماثلة عند العقل. وإن أريد منع التماثل أو التخالف عند عقولنا فهو ظاهر البطلان،

240
إذ كثير مما خفيت الجهة فيه ربما يتراءى مماثلا لغيره، فما كلامنا هذا إلا في أقيسة لا
يعلم تماثل الفرع مع الأصل فيها في الواقع ونفس الأمر، إذ كل قياس علم فيه الجامع
مثلا من قبل الشارع، داخل في القياسين اللذين وافق أصحابنا الإمامية غيرهم في
جواز العمل بهما، وهما ما كان منصوص العلة وما كان فيه التنبيه من الأدنى إلى
الأعلى أو بالعكس، ومن البين أن ما عدا ذلك مما لا يعلم فيه الجامع، لا يورث
القياس فيه ظنا يعتمد عليه في أحكام الشريعة، لأن المصالح الشرعية خفية غالبا،
فجاز أن لا يكون ما هو مشترك في نظرنا منشأ مصلحة عند الشارع في شرعية الحكم.
هذا الجواب كله عن دعوى منع المماثلة أو المخالفة في تلك المتماثلات أو
المتخالفات.
أما ما رتب على ذلك من أنه يستلزم انتفاء القول بالتحسين والتقبيح العقليين
الثابتين عند الإمامية فقد أجيب عنه: بأن هذا توهم ضعيف في منتهى الضعف
والركاكة، وذلك لأننا معاشر الإمامية وإن ادعينا أن الجهة والمقبحة في الفعل
تقتضيان ترتب الأحكام، لكن لم ندع أن العقل مستقل بإدراك تلك الجهتين في
جميع الموارد، بل قلنا: إن في بعض الموارد إنما ينكشفان على العقل بعد ورود
الشرع، إذن ففي هذا القسم الذي لا يستقل العقل بإدراك جهة الفعل في نفس الأمر
يشكل القياس، لا مطلقا حتى يستلزم الإشكال فيه الإشكال في القول بالحسن
والقبح العقليين، فلا نقض ولا إبرام.
ومن تلك الوجوه - أعني وجوه تقرير الدليل العقلي على حرمة العمل
بالقياس شرعا -: أن العمل بالقياس يؤدي إلى الاختلاف، فإن كل واحد من
المجتهدين قد يستنبط علة غير علة الآخر فتختلف أحكام الله تعالى وتضطرب
ولا يبقى لها ضابط، وقد قال الله تعالى: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه

241
اختلافا كثيرا) * (1).
أجيب عن هذا الدليل: بأننا نسلم وقوع هذا الاختلاف ولا مانع منه، لقول
رسول الله (صلى الله عليه وآله): " اختلاف أمتي رحمة " (2) وهذا الاختلاف لا يوجب الاضطراب في
أحكام الله تعالى كما تدعون، فإن الحاصل بعد الاجتهاد والقياس حكم لله مظنون،
والعمل بالظن واجب، فيعمل كل مجتهد على حسب ظنه ويتبعه المقلد، فيتبع أمر
الدين، وتسهل الأحكام على الناس، ولا اضطراب في أحكام الله تعالى بهذا الاعتبار،
ثم إن هذا الإيراد أو النقض - لو تم - فهو مشترك الورود بين الأحكام الظنية والأحكام
اليقينية، لأن الأحكام اليقينية على حد الأحكام الظنية في أنها مظنة الاختلاف،
فالإشكال الإشكال والجواب الجواب.
أجيب عن الأول - وهو الاستدلال بحديث " اختلاف أمتي رحمة " -: بأن هذا
الحديث مرسل ضعيف عند نقاد أهل السنة، وقال بعضهم: إنه ليس بمعروف عند
المحدثين، وإنما ذكره بعض الأصوليين في بحث القياس، وعلى تقدير تسليم
صحته، فله وجوه من التوجيه أو التأويل:
منها: أنه يحتمل أن يكون المراد بالاختلاف المذكور فيه، هو ورود بعض
الأمة خلف بعض من المدن المتفرقة والأماكن المختلفة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) في وقته
وعلى وصيه القائم مقامه من بعده، فيسألوه عن معالم دينهم، ويستضيؤون منه فيما
اشتبه عليهم، فذلك رحمة لهم ولمن يعودون إليه فينذرونه من قومهم، قال الله
سبحانه: * (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم



(1) سورة النساء: 82.
(2) معاني الأخبار: 157، كنز الفوائد: 298، الاحتجاج: 2 / 105، بحار الأنوار: 74 /
164، وسائل الشيعة: 27 / 141.
242
إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) * (1) وليس المراد من ذلك هو اختلاف الأمة في
اعتقادها وتباينها وتضاد أقوالها وأفعالها، ولو كان هذا الاختلاف لها رحمة لكان
اتفاقها - لو اتفقت - سخطا عليها ونقمة، وقد تضمن القرآن الكريم من الأمر بالاتفاق
والائتلاف، والنهي عن التباين والاختلاف ما فيه بيان شاف.
إذن، فعلى ضوء هذا التأويل أو ببركة هذا التفسير يتجلى لنا أن الاختلاف في
الآية الكريمة بمعنى التعاقب والموالاة بأن يجئ بعضهم عقب بعض، ويوالي
أحدهم الآخر في الذهاب والإياب.
ومنها: أن المراد بالاختلاف هو اختلاف الأمة في هممها ورغباتها، أو
اتجاهاتها الخاصة فهمة واحد منهم للفقه لضبط الأحكام المتعلقة بالأفعال، وهمة
آخر في الكلام لحفظ العقائد فينتظم بها أمر المعاد وقانون العدل المقيم للنوع على
حد اختلاف همم أصحاب الحرف والصناعات، ليقوم كل واحد منهم بحرفة
وصناعة فيتم النظام في المعاش المعين لذلك الانتظام. وهذا الاختلاف رحمة، لأنه
تعاون في المساهمة على شؤون الحياة، وتخصص كل بواجبه المفروض عليه من
مساعدة أبناء جنسه في سد حاجته الخاصة، إذ ليس بالمقدور أن يقوم كل عامل
بكل عمل، فما هو إلا التنويع والتوزيع، فهناك يتركز الشعور بالمسؤولية، وهناك
التطبيق العملي مضافا إلى تركيز هذا الشعور.
وأنت - أيها القارئ الكريم - جد خبير بأن مبنى التأويل - أو التفسير - الأول
على التصرف في مادة الاختلاف في حملها على غير ما يفهم منها أول وهلة من
النظر من أنها بمعنى التباين والتضاد في العمل أو الاعتقاد حيث حملت على معنى
التعاقب بكون مجئ البعض خلف البعض الآخر، أما مبنى التأويل أو التفسير الثاني



(1) سورة التوبة: 122.
243
فهو على التصرف في متعلق الاختلاف بعد إبقاء الاختلاف على ما يفهم من ظاهر
لفظة الاختلاف، ذلك حيث حملت على أن متعلق الاختلاف هو اختلاف الهمم
والرغبات، لا اختلاف الاعتقاديات والعمليات.
ومما يمنع من الحمل على أن المراد بالاختلاف هو ضد الاتفاق، هو أن
الاختلاف أمر أنذر به الكتاب الكريم وسنة الرسول العظيم (صلى الله عليه وآله) في كثير من الآيات،
وعلى حد إنذارهما بالاختلاف، أمرهما بالاتفاق والائتلاف على نحو يفوت حد
العد والإحصاء، وتجليه بين الناس بمبلغ بليغ من الوضوح يكفينا عن سرد الشواهد
والأمثلة في مثل هذا المقام.
ومما يقتضي أو يقضي بالحمل على أن المراد بالاختلاف ليس هو الاختلاف
المنذر به أو المؤاخذ عليه، ما نقل عن صاحب الاحتجاج - من جملة احتجاج أبي
بن كعب على القوم حيث قال مخاطبا لهم -: وزعمتم أن الاختلاف رحمة، هيهات
إن الكتاب رد ذلك عليكم بقول الله تعالى: * (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا
من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) * (1) ثم أخبرنا باختلافكم،
قال: * (ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) * (2) أي للرحمة،
وهم آل محمد (صلى الله عليه وآله)، إلى آخر ما نقله صاحب الاحتجاج طاب ثراه. (3)
نعم، أسف بعضهم إسفافا لا يرتضيه العلم ولا العلماء في توجيه هذا الحديث
بإبقائه على ظاهره، وتأويله هذا التأويل الذي ستراه وترى ما فيه، ذلك مما نقله
سيدنا القاضي نور الله نور الله مرقده - في كتابه الذي رد به على القاضي ابن روزبهان



(1) سورة آل عمران: 105.
(2) سورة هود: 18.
(3) الاحتجاج: 1 / 156.
244
الذي رد به على العلامة الحلي رفع الله درجته - عن النووي الشافعي في شرح
صحيح مسلم من أنه لا يلزم من كون الشئ رحمة أن يكون ضده عذابا، ولا يذكره
إلا جاهل أو متجاهل، وقد قال الله: * (ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا
فيه) * (1) فسمى الليل رحمة، ولم يلزم من ذلك أن يكون النهار عذابا، وهو ظاهر لا
شك فيه. (2)
نقل السيد القاضي هذا عن النووي، ورده بأن فساد هذا التأويل ظاهر، لأن
الضد عند الحكماء موجود معاقب وجود آخر في الموضوع، وعند المتكلمين
معنيان يستحيل اجتماعهما في محل واحد، فالاختلاف في مسألة، لا يضاد الاتفاق
في مسألة، أخرى، وكذا انصباغ جزء من امتداد الزمان بسواد الليل لا يضاد انصباغ
جزء آخر منه ببياض النهار.
والحاصل: أن وحدة الموضوع والمحل شرط في تحقق التضاد، فمراد من
قال: إنه يلزم من كون الاختلاف رحمة أن يكون الاتفاق عذابا، ليس انه إذا كان
الاختلاف في مسألة رحمة، يلزم أن يكون الاتفاق في مسألة أخرى عذابا حتى
يتأتى المنع والتجهيل الذي أتى به هذا الشيخ الجاهل، بل مراده أنه إذا كان
الاختلاف في أمر رحمة يلزم أن يكون وقوع الاتفاق فيه عذابا، وذلك كذلك، وإذا
كان الليل رحمة يلزم أن يكون وقوع النهار موقعه عذابا لاستلزامه فوات المطالب
التي يطلب فيها الاستتار عن أعين الناس، إلى غير ذلك من المقاصد التي لا تتمشى
إلا في الليل. نعم، وقوع النهار في محل آخر من أجزاء الزمان ليس بعذاب، فيوم
استتاره بحال الليل ليل أليل أعده له جهله. انتهى كريم كلامه زيد في علو مقامه.



(1) سورة القصص: 73.
(2) شرح صحيح مسلم (النووي): 11 / 92.
245
هذا هو الجواب عن الاستدلال بالحديث الشريف.
أما الجواب عن النقض - بأن العمل بالقطع على حد العمل بالظن بأنه مظنة
الاختلاف المنفي في قوله سبحانه: * (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا
كثيرا) * (1) - فقد أجاب عنه سيدنا القاضي نور الله مرقده: إن الاختلاف الواقع في
الأدلة القطعية إن وقع فهو قليل، وبخلافه الاختلاف الواقع بين الأمة في الأمور
الظنية والناشئ عن العمل بالقياس كثير بحيث لا يعد ولا يحصى، والاستقراء شاهد
على ذلك، والمنهي عنه هو الاختلاف الكثير، فكأنه (قدس سره) يريد أن يقول: إن المنهي عنه
من الاختلاف غير شامل للاختلاف الواقع في الأدلة القطعية، لأنه اختلاف ليس
بكثير والمنهي عنه هو الاختلاف الكثير.
هذا، ولكن لنا أن نقول: إن الاختلاف المنهي عنه في القرآن غير شامل للأدلة
القطعية قليلا كان أم كثيرا، وهو في نفس الوقت شامل للاختلاف الواقع في الأدلة
الظنية قليلا كان أم كثيرا، وذلك للفرق الواضح بين الاختلافين، ذلك أن الاختلاف
في الأدلة القطعية - إن وقع - إنما هو اختلاف في المصداق والانطباق وليس
باختلاف في نفس القاعدة الأساسية أو المفهوم العام، أما في الأدلة الظنية الناشئة
عن العمل بالقياس فهو الاختلاف على النحو الثاني لا النحو الأول، كما ستراه.
مثال ذلك: لو جاء النص على أن الاستصحاب حجة مثلا، والمفروض أن
النص معبر متنا وسندا، ولا شك فيه، فتكون هناك عندنا قاعدة أو مفهوم عام ميقنان
مضبوطان ببركة هذا النص المنصوص، هو إبقاء ما كان على ما كان، وتسرية حال
اليقين إلى حال الشك، أو عدم نقض الشك ليقين. هذه أو ما شئت من عبارات
فالاختلاف الواقع بين العلماء في أجزائه عند الشك في المقتضى دون الشك في



(1) سورة النساء: 82.
246
الرافع، أو على العكس، أو في أجزائه في الوضع دون التكليف، أو في الأحكام دون
الموضوعات، إلى غير ما هنالك من اختلافات وخلافات تخص المقام، فهذا
الاختلاف يخص القاعدة الأساسية أو يمس المفهوم العام إنما هو اختلاف في
انطباق القاعدة على الجزئيات، أو صدق المفهوم العام على تلك المصاديق بعد
الاتفاق على القاعدة والمفهوم، فالقاعدة والمفهوم محفوظان مضبوطان لا يمس
كرامتهما خلل ولا اختلاف.
أما الاختلاف الواقع في الأدلة الظنية الناشئة عن العمل بالقياس - وهو واقع
وواقع بكثير - فهو اختلاف في القاعدة الأساسية نفسها والمفهوم العام ذاته، كما
ستراه، مثال ذلك إن قلنا: إن القياس حجة - وليس هو بحجة - فمما لا ريب فيه أن
ليس للقياس قاعدة محفوظة أو مفهوم عام، فإن مبنى القياس على العلة المستنبطة،
والعلة المستنبطة رهينة آراء المستنبطين. فالقياس - إذن - رهين آراء القائسين، وما
أكثر تلك الآراء التي لا تقف عند حدود، وهناك الهرج والمرج والتضارب
والاضطراب فماذا يكون هو الحجة، ومن ذا - يا ترى - هو المتبع؟ وقد عرفت القياس
والقائسين فلم نقف في القياس على ميزان صحيح.
هذا شئ أو بعض شئ مما يتعلق بذكر البراهين التي أقيمت على حرمة
العمل بالقياس عقلية ونقلية ذكرناها ولم نأل جهدا في عرضها واستعراضها
واستعراض ما هنالك من نقض وإبرام، وعرض ما يجول في الفكر مما هنا وهناك من
رد أو تأييد حسب المقدرة وجهد المستطاع، ثم هي الأخرى إننا أضربنا صفحا
وطوينا صحيفة عن مباحث عديمة النفع تحدو بالقارئ إلى الملل والإضجار.
وحيث إننا ألمسنا شيئا أو بعض شئ من الفائدة المنشودة، أو الغاية
المقصودة، فلنأخذ بعنان اليراع إلى الجولة في ميدان آخر لنرى أي الفريقين أحق

247
بحيازة السبق يوم السباق، ذلك أن نتعرض إلى عرض ما رآه القائلون أو العاملون
بالقياس دليلا أو شبه دليل، عرضا كما هو، نزيها عن التشويه والتلبيس، ثم نكر تارة
أخرى على ما رد به أولئك على هؤلاء، ثم نعرضه عرضا كما هو وكما ينبغي أن
يكون.
استدل القائلون - أو العاملون بالقياس - بآيات من الكتاب الكريم أوضحها في
الدلالة - وليس في تلك الدلالة وضوح - قوله تعالى: * (فاعتبروا يا أولي الابصار) *.
ووجه الاستدلال بهذه الآية الكريمة كان منهم على وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى قد دلل في هذه الآية المباركة - أو دل - على أن المشاركة
في العلة تقتضي المشاركة في الحكم، وذلك أنه سبحانه قال: * (هو الذي أخرج
الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا
أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم
الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الابصار) * (1)،
فذكر تعالى ما حل بهم ونبه على علته وسببه، ثم أمر بالاعتبار، وذلك تحذيرا
من مشاركتهم في السبب، فلو لم تكن المشاركة في السبب تقتضي المشاركة في
الحكم، ما كان لهذا القول معنى ولا ارتباط.
ثانيهما: أنه تعالى أمر بالاعتبار، وهو مأخوذ من العبور وهو المرور، يقال:
عبرت من النهر، والمعبر هو السفينة التي هي أداة العبور، والموضع الذي يعبر منه،
والعبرة هي الدمعة التي عبرت من الجفن، وعبرت الرؤيا وعبرها أي جاوز بها، فثبت
بهذه الاستعمالات أن الاعتبار حقيقة في المجاوزة، فلا يكون حقيقة في غيرها،



(1) سورة الحشر: 2.
248
دفعا للاشتراك، والقياس داخل تحت الأمر، لأنه عبور من حكم الأصل إلى الفرع
وتجاوز منه إليه.
أجاب أصحابنا عن كيفية استدلالهم بالآية على الوجه الأول، بأنه إذا كان الله
تعالى قد نبه - على ما زعمتم - بالآية على أن المشاركة في السبب، والعلة تقتضي
المشاركة في الحكم، فيجب أن يكون كل من فعل مثل فعل الذين أخبر تعالى عنهم
في الآية، يحل بهم مثل ما حل بهم، فإن قالوا: هو كذلك، أريناهم بطلان قولهم
ضرورة، لوجود من يشارك المذكورين في المخالفة والمعصية وإن لم يصبهم ما
أصابهم، وهذا من ضعيف ما يتمسك به.
نعم، وأجابوا عن كيفية استدلالهم بالآية على الوجه الثاني، بوجوه، نذكر منها
ما ذكره آية الله العلامة الحلي (قدس سره) في كتاب (النهاية) من وجوه:
الأول: أنا نمنع كون الاعتبار المجاوزة، بل الاتعاظ، فإنه لا يقال لمستعمل
القياس العقلي أنه معتبر ويقال للبالغ في رتبة القياس ومعرفة شرائطه وإثبات
الأحكام به إذا لم يتفكر في أمر معاده أنه غير معتبر، أو قليل الاعتبار، ولقوله تعالى:
* (إن في ذلك لعبرة) * (1) والمراد الاتعاظ، وقال (عليه السلام): " السعيد من وعظ بغيره " (2) أي
اعتبر، والأصل الحقيقة، فلا يكون حقيقة في غير الاتعاظ، دفعا للاشتراك، وليست
أدلتكم من مثل هذه الأدلة، بل الترجيح معنا لسبقه إلى الفهم.
الثاني: سلمنا أن ما ذكرتموه حقيقة، لكن شرط الحمل عليها عدم المانع،
وهو هنا موجود، فإن تركيب الكلام لا يناسبه، فلو قال: * (يخربون بيوتهم بأيديهم



(1) سورة آل عمران: 13، سورة النور: 44، سورة النازعات: 26.
(2) نهج البلاغة: الخطبة 86.
249
وأيدي المؤمنين) * (1) فقيسوا الذرة على البر، كان تركيبا خارجا عن قانون اللغة
والعرف، وعد ركيكا، فلا يقع من الشارع.
الثالث: سلمنا عدم المانع من حمله على المجاوزة، لكن ليس الأمر بها أمرا
بالقياس الشرعي، فإن كل من استدل بدليل فقد عبر منه إلى المدلول، فمسمى
الاعتبار مشترك بين الاستدلال بالدليل العقلي القاطع والنص والبراءة الأصلية
والقياس الشرعي، وكل منها يخالف الآخر بخصوص، وما به الاشتراك غير ما به
الامتياز وغير مستلزم له، فاللفظ الدال على ما به الاشتراك غير دال على
الخصوصيات بإحدى الدلالات الثلاث، فلا يدل على النوع الذي هو ليس إلا
مجموع ما به الاشتراك، وما به الامتياز، فلا يدل الاعتبار على القياس الشرعي لا
بلفظه ولا بمعناه، يقال: القدر المشترك بين الأنواع إنما يوجد عند وجود أحدهما،
والأمر بالشئ أمر بما هو من ضروراته، فالأمر بإدخال الاعتبار في الوجود أمر
بإدخال أحد أنواعه فيه، وليس تعيين أحدها أولى من الباقي لتساوي نسبة القدر
المشترك إليها، فأما أن لا يجب ثبوت شئ منها وهو باطل لاستلزام الإخلال بالمنع
الإخلال بالمهية فلا يكون المسمى مأمورا به، أو يجب الجميع وهو المراد فيدخل
القياس فيه، لأنا نقول: نمنع عدم أولوية بعض الأنواع، لأن الاعتبار المأمور به في
الآية لا يمكن أن يكون هو القياس الشرعي فقط، وإلا لصار معنى الآية * (يخربون
بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين) * (2) فقيسوا الذرة على البر، وهو معلوم البطلان،
فوجب تقدير نوع آخر غيره وهو الاتعاظ، وأنتم تقولون: إنه يفيد لا مع إفادة القياس
الشرعي، فإذن الأمر بالاعتبار يستلزم الأمر بالاتعاظ، ومسمى الاعتبار حاصل في



(1) سورة الحشر: 2.
(2) سورة الحشر: 2.
250
الاتعاظ، ففي إيجاب الاتعاظ يحصل إيجاب مسمى الاعتبار من غير حاجة إلى
إيجاب سائر أنواعه.
الرابع: سلمنا إيجاب نوع آخر غير الاتعاظ، فهاهنا أنواع من القياس نحن
نوجبها: كالمنصوص على علته، وقياس تحريم الضرب على تحريم التأفيف،
والأقيسة العقلية في أمور الدنيا، وشبيه الفرع بالأصل في عدم استفادة حكمه إلا من
النص، والاتعاظ والانزجار بالقصص والأمثال، فظهر أنا أثبتنا الاعتبار في صور
متعددة، فلا يبقى له دلالة على إيجاب القياس الشرعي، لأن الآتي بفرد من أفراد ما
يسمى اعتبارا، يكون خارجا عن عهدة الأمر.
الخامس: سلمنا اقتضاء اللفظ للعموم، لكنه محال هنا، لأن حمله عليه
يفضي إلى التناقض، فإن التسوية بينهما في أنه لا يستفاد حكم الفرع إلا من
النص كما أنه في الأصل كذلك نوع آخر من الاعتبار، والأمر بأحد هذين
الاعتبارين ينافي الأمر بالآخر، فلو حمل على العموم، اقتضى الأمر بالمتنافيين
معا، وهو محال، ثم ليس اخراج أحد القسمين من تحت ظاهر العموم لإبقاء الأمر،
أولى من العكس، وعليكم الترجح وهو معنا، لأن تشبيه الفرع بالأصل في أنه لا
يستفاد حكمه إلا من النص عمل بالاحتياط، واحتراز عن الظن الذي لا يغني من
الحق شيئا.
السادس: سلمنا انتفاء التناقض، لكنه ليس بحجة، لأنه عام مخصوص، فإن
الرجل لا يكون مأمورا بالاعتبار فإن عند تعادل الأمارات فيما لم ينصب الله عليه
دليلا كمقادير الثواب والعقاب وأجزاء السماوات، وفيما عرف حكمه بالاعتبار، فإن
المكلف لا يكون مأمورا بعده باعتبار آخر، وفيما لو قال لوكيله: أعتق غانما لسواده،
فليس لوكيله أن يعتق غيره، وفيما إذا عدم النص فإنه لا يكون مأمورا بالقياس، وفيما

251
إذا تعارضت الأقيسة.
السابع: سلمنا أنه حجة لكنها ظنية لا قطعية، لأنكم بينتم أن الاعتبار اسم
للمجاوزة بالاشتقاق، والتوسل به إلى تعيين المسمى ظني، ومسألة القياس قطعية،
فلا يجوز بناؤها عليه.
الثامن: سلمنا أنه يفيد اليقين، لكنه أمر، والأمر لا يفيد التكرار، ولا يتناول كل
الأوقات.
التاسع: سلمنا أنه يتناول الجميع، لكنه خطاب مشافهة، فيختص بالحاضرين
في عصر رسول الله (صلى الله عليه وآله).
هذه هي الوجوه التي نقلها سيدنا القاضي نور الله نور الله مرقده عن العلامة
الحلي أعلى الله مقامه، وكما نقلها قد نقل الرد عليها وأجاب عنه، وها نحن ننقلها
إليك جميعا ردا وجوابا، لتقف على الحقيقة المنشودة.
أجيب عن الأول: بأن جعله حقيقة في المجاوزة أولى، لقولهم: اعتبر فلان
فاتعظ، فيجعلون الاتعاظ معلولا للاعتبار، فيتغايران، ولأن معنى المجاوزة حاصل
في الاتعاظ فإن لم يستدل بغيره على حاله لا يتعظ، فإذا جعل حقيقة في المجاوزة
كان حقيقة في الاتعاظ لخصوصه مجازا في غيره أو مشتركا، وهما خلاف الأصل،
ونمنع عدم صدق المعتبر على القائسين، لصحة: فلان يعتبر الأشياء العقلية بغيرها.
نعم، لا يصدق معتبر على الإطلاق إن قاس مرة، كما لا يقال: إنه قائس على الإطلاق
لقصر لفظ المعتبر، والقائس على المستكثر منهما، وإنما يصدق نفي المعتبر على
القائس غير المتعظ مجازا لعدم إتيانه بالمقصود الأصلي وهو العمل للآخرة، كما
يقال لغير المتدبر في الآيات: إنه أعمى أو أصم، ومعنى المجاوزة حاصل في قوله:

252
* (وإن لكم في الأنعام لعبرة) * (1) لإفادة النظر في خلقها العلم بصانعها.
هذا هو الجواب عن التقرير الأول، وقد رد سيدنا القاضي (قدس سره) عليه بأن في هذا
الجواب نظرا لمنع أن يقال: اعتبر فاتعظ. نعم، يؤكد أحدهما بالآخر، فيقال: اعتبر
واتعظ، ولاستلزم التغاير المعنوي، فقد يؤكد بنفس اللفظ، فالمرادف أولى، سلمنا
لكن المفهوم منه في الآية ليس مطلق المجاوزة، بل عليه الاتعاظ، وذلك لا يصدق
في القياس الشرعي قطعا.
وأجيب عن الثاني: بتسليم الركاكة لو نص على صفة ما قلتم لعدم المناسبة،
لكن لم قلتم: إنه لو أمر بمطلق الاعتبار الذي يكون القياس الشرعي أحد جزئياته
يكون ركيكا، كما لو أجاب عن مسألة بما لا يتناولها يكون باطلا، ولو أجاب بما
يتناولها ويحوزها لكان حسنا.
هذا هو الجواب عن الوجه الثاني، وقد رد عليه سيدنا المذكور (قدس سره) بأن المأمور
به إن كان هو القياس الشرعي، انتفت المناسبة بين الكلامين، وإلا فالمطلوب.
وأجيب عن الثالث: إنه للعموم، لأن ترتب الحكم على المسمى يقتضي
تعليل الحكم بالمسمى، وهو يقتضي أن علة الأمر بالاعتبار هو مجرد كونه اعتبارا،
فيكون كل اعتبار مأمورا به، ولصحة استثناء أي اعتبار كان، والاستثناء اخراج ما لولاه
لدخل.
هذا هو الجواب عن الوجه الثالث، وقد رده سيدنا القاضي (قدس سره) بمنع تعلق الأمر
بمطلق الاعتبار، بل المناسب للكلام السابق وهو الاتعاظ، سلمنا، لكن نمنع العلية
على ما يأتي، وقيل أيضا: إنه إثبات القياس، والاستثناء اخراج الصلاحية لا الدخول.



(1) سورة النحل: 66، سورة المؤمنون: 21.
253
وأجيب عن الخامس (1): بأنه لا يجوز أن يكون المراد منه تشبيه الفرع بالأصل
في عدم استفادة حكمه إلا من النص، لأن الاعتبار المذكور هاهنا لا بد له من مناسبة
لما قبل الآية وما بعدها، وإلا جاءت الركاكة، واللائق به هو التشبيه في الحكم لا
المنع منه، وإلا لصار المعنى * (يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين) * (2) فلا
تحكموا بهذا الحكم في حق غيرهم إلا بنص وارد في حق ذلك الغير، وهو معلوم
البطلان، فيجب حمله على التشبيه في الحكم عملا بعموم اللفظ، ولأن المتبادر إلى
الفهم من لفظ الاعتبار التشبيه في الحكم لا المنع منه، كما لو ضرب عبده على ذنب،
ثم أمر آخر بالاعتبار به، فهم منه الأمر بالتسوية في الحكم لا الأمر بالمنع.
هذا هو الجواب عن الوجه الخامس، وقد رده سيدنا المذكور: بأن الاعتبار
المناسب ليس إلا الاتعاظ، فإن اعتبرت المناسبة وجب القصر عليه، وإلا ورد
الإشكال، وكما تحصل الركة لو قال: لا تحكموا إلا بنص وارد في حق ذلك الغير،
يحصل لو أراد الشرعي.
وأجيب عن السادس: بأن العام المخصوص حجة، ورد هذا الجواب سيدنا
المذكور (قدس سره): بأن العام المخصوص ليس حجة على الجميع، وأيضا فإن دلالته
تضعف، ويمكن القياس على محل التخصيص.
وأجيب عن السابع: بعموم السؤال في السمعيات فلا تخصص بهذه المسألة،
ورد هذا الجواب سيدنا المذكور: بأن التعميم لا يقتضي بطلانه، سلمنا لكن نمنع
التعميم، فإن من السمعيات ما هو معلوم على ما تقدم.
وأجيب عن الثامن: بأنه لما كان أمرا بجميع الأقيسة، كان متناولا لجميع



(1) لم يرد الجواب عن الوجه الرابع، فتأمل.
(2) سورة الحشر: 2.
254
الأوقات، ورد هذا الجواب سيدنا (قدس سره) بالمنع من تعميمه على ما تقدم، فإن: اعتبروا،
مثل: اقتلوا، ولما لم يكن الثاني مقتضيا لكل قتل وإلا لقتل كل انسان، وكذا الأول،
سلمنا لكن نمنع تعميم الأزمنة.
وأجيب عن التاسع: بالإجماع على عدم الفرق بيننا وبين مشافهه في ذلك،
وهاهنا لم نجد جوابا لسيدنا المذكور عن هذا الجواب، ولعله من طغيان القلم أو
سهو الناسخين.
والجواب عن ذلك: إن هذا الاجماع غير تام، ولو سلم التمام فهو غير تام في
مثل هذا المقام، فإن الأدلة التي دلت على المنع دلت على خروج هذا المقام عن
معقد الاجماع، إن كان هناك.
هذا شئ أو بعض شئ من البحوث التي تلابس وتمس موضوع العمل
بالقياس، ذكرناها على نحو لم تكن بالمطولة المملة، ولا بالمختصرة المخلة، إنما
هي أمر بين أمرين فيه الكفاية لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فكان لزاما
علينا - والحال هذه - أن نأخذ بزمام البحث إلى الموضوع الآخر الذي يقرن مع هذا
الموضوع في قران، ويرضع معه بلبان، ذلك هو موضوع الاستحسان.
الاستحسان موضوع ذهب إلى الحكم به، أو فكرة تمسك بها أكثر الحنفية إن
لم نقل جميع الحنفية، وشاركهم في ذلك الحنابلة - حسبما صرح بذلك آية الله
العظمى العلامة الحلي أعلى الله تعالى درجته في كتاب التهذيب في علم
الأصول (1) - وأنكره الباقون من علماء إخواننا أهل السنة والجماعة.
وعلى أي حال فقد اختلف معتبرو الاستحسان في التعبير عن تعريفه، فعرفه



(1) تهذيب الوصول: 294.
255
بعض: بأنه دليل ينقدح في نفس المجتهد تعسر عبارته عنه، وعرفه بعض: بأنه
العدول من قياس إلى قياس أقوى، وعرفه بعض آخر: بأنه تخصيص القياس بأقوى
منه، وعرفه بعض آخر: بأنه العدول إلى خلاف النظر لدليل أقوى. وأسخف
التعاريف تعريف من عرفه: بأنه مذهب لا دليل عليه، فيا لها من سخافة أن نعتبر
المذهب الذي لا دليل عليه مذهبا يؤمن به أولو العقول.
ومن أجل ذلك أو غير ذلك، قال الشافعي قولته المأثورة المشهورة: من
استحسن فقد شرع. (1)
وهذا الغزالي - حسبما نقله عنه سيدنا القاضي نور الله نور الله مرقده - أن هذا
المعنى كفر من قائله، والمعنى الآخر - وهو أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد تعسر
عبارته عنه - هوس، فإن معاني الشرع إذا لاحت في العقول انطلقت الألسن بالتعبير
عنها، فما لا عبارة عنه لا يعقل.
وقال أيضا - حين نقل قول أبي حنيفة بأنه يجب الحد على من شهد عليه
أربعة بالزنا في أربعة زوايا كل يشهد على زاوية - وقال: لعله كان يتزحف بزنية واحدة
في الزوايا، فقال الغزالي: وأي استحسان في سفك دم مسلم بمثل هذا الخيال مع أنه
لو خصص كل واحد شهادته بزمان وتفاوتت الأزمنة واحتمل استدامة الزنا لأحد
وذلك أغلب في العرف من شغل زوايا البيت بزنا واحد. (2)
وعلى أي حال فإن الأدلة الدالة على منع العمل بالقياس دالة على منع العمل
بالاستحسان سواء بسواء، فلا حاجة بنا أن نتقدم إلى شرحها من جديد هنا.



(1) راجع المغني لابن قدامة: 7 / 24، المنخول للغزالي: 476.
(2) المنخول للغزالي: 480.
256
ولنذيل هذا البحث بما له معه مسيس المناسبة، تعميما للنفع ودفعا للبقية
الباقية من بعض الشبه في بعض الأذهان، ذلك هو شرح بعض المصطلحات الخاصة
مما لها - حسبما عرفت وستعرف - مزاج واختلاط بتلك البحوث.
منها: ما يسمونه بالمصالح المرسلة تارة، وقد يسمونه بالمرسل المناسب أو
الملائم تارة أخرى، وقد يسمونه بالاستصلاح في اعتبار آخرين والمعبر عنه في
الجميع وعند الجميع واحد وإن اختلفت العبارات.
وعلى أي حال، القائلون بالعلة والمناسب قسموها إلى ما علم أن الشارع
اعتبر العلية فيه وإلى ما لم يعتبره، والقسم الأول أقسام، فقد تعتبر العلية في نوع
الحكم، وذلك كالإسكار المعتبر في التحريم، فإن العلة واحدة في الخمر والنية
والحكم واحد وإنما اختلف فيها بالمحال، وهذا القسم اعتبر نوعه في نوع الحكم،
وقد يعتبر نوعه في جنس الحكم، كالاخوة من الأبوين المقتضية للتقدم في الميراث
فيقتضيه في النكاح، فالاخوة نوع في الموضعين وولاية النكاح مخالفة لولاية
الميراث في النوع وإن اتحدتا جنسا. هذا قسم من اعتبار نوع العلة إما في نوع الحكم
وإما في جنسه.
وهناك قسم آخر وهو اعتبار تأثير جنس العلة - أعني الوصف المناسب - في
الحكم، وهذا أيضا قسمان، فقد يعتبر جنس العلة في نوع الحكم كما يسقط قضاء
صلاة الحائض بالمشقة، وهنا لجنس المشقة الذي هو العلة والوصف المناسب تأثير
في اسقاط قضاء الصلاة كتأثير مشقة السفر في اسقاط الصلاة، وقد يعتبر تأثير جنس
العلة في جنس الحكم وذلك كتعليل الأحكام بالحكم التي لم يشهد لها أصول معينة
كإقامة الشرب مقام القذف، وكإقامة الخلوة مقام الوطء ء في الحرمة لاشتراكهما في
إقامة مظنة الشئ مقامه.

257
هذا كله فيما اعتبر فيه العلية والوصف، وأما ما لم يعتبره الشارع فهو أيضا
قسمان: قسم علم أن الشارع ألغاه ولم يعتبره فيكون من باب اعتبار العدم، وهذا لا
شك في أنه ليس بحجة عند الجميع وبالإجماع، وقسم لم يعلم اعتبار الشارع له من
باب عدم الاعتبار، وهذا يسمى بالمصالح المرسلة، وهذا معتبر عند الكثير من
إخواننا أهل السنة والجماعة، وقبل بيان صحة اعتباره أو فساد اعتباره لزم علينا
استعراض ما حدد به المعتبرون، فقد عرفه بعض الكتاب من أساتذة العصر الحديث
بأنه المصلحة التي لم يشرع الشارع حكما لتحقيقها، ولم يدل دليل شرعي على
اعتبارها أو إلغائها، وعرفه آخر بأنه نوع من الحكم بالرأي المبني على المصلحة،
وذلك في كل مسألة لم يرد في الشريعة نص عليها، ولم يكن لها في الشريعة أمثال
تقاس بها، وإنما بين الحكم فيها على ما في الشريعة من قواعد عامة برهنت على أن
كل مسألة خرجت عن المصلحة ليست من الشريعة في شئ، وتلك القواعد العامة
هي مثل قوله تعالى: * (إن الله يأمر بالعدل والإحسان) * (1)، وقوله عليه الصلاة
والسلام: " لا ضرر ولا ضرار ". (2)
فعلى التحديد الأول، لا إشكال في عدم اعتباره عند الشيعة، لأنه من التشريع
الباطل وقول بالرأي المحض في دين الله، ودين الله لا يصاب بالعقول، فالاستصلاح
أو المصالح المرسلة إدخال ما ليس من الدين في الدين.
أما على التحديد الثاني فبالنظر إلى قوله: " لم يرد في الشريعة نص عليها " إن
أريد به فقد النص بصورة نهائية عامة وخاصة، فهو والتحديد الأول سواء سواء،
وبالنظر إلى قوله: " وإنما بين الحكم فيها على ما في الشريعة من قواعد عامة "، إلى



(1) سورة النحل: 90.
(2) المقنع: 537، رسائل المرتضى: 1 / 178، الخلاف: 3 / 42.
258
آخره، فهي معتبرة بهذا الاعتبار عند الشيعة، إذ هو حينذاك رجوع إلى النص الشرعي
العام بتطبيقه على ما له من الأفراد والمصاديق.
فمن هنا وهناك تعرف أن الجماعة قد ضاقوا ذرعا بتحديد مفهومه على وجه
يتفق عليه الجميع.
ومهما يكن من أمر فإن المثال الذي ذكره إيضاحا لهذه القاعدة العامة، وتطبيقا
لهذا الكلي على الجزئيات هو ما نقلوه عن الغزالي أنه مثله بكفار تترسوا بجماعة من
أسارى المسلمين، فلو كففنا عنهم لصدمونا وغلبونا على دار الاسلام وقتلوا كافة
المسلمين، ولو رمينا بالترس لقتلنا مسلما معصوما لم يذنب ذنبا، وهذا لا عهد به في
الشرع، ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ثم يقتلون الأسارى
أيضا، فيجوز أن نرمي هذا الترس حفظا لسائر المسلمين، وتحصيل هذا المقصود
بهذا الطريق لم يشهد له أصل معين.
هذا هو المثال، ولو أعطيناه نظرة الحق وحق النظر لم نجده إلا من العناوين
التي فهمتها وأفهمتها الشيعة، وأرجعتها إلى نصوصها العامة من قبل حين فلم
تحوجها الحالة إلى استصلاح ولا إلى مصالح مرسلة، وذلك داخل في باب التزاحم
في الملاكات الذي معناه تنافي الحكمين لا في مقام العقل، بل في مقام الامتثال لفقد
القدرة من المكلف على جمعهما في امتثال واحد في آن واحد، وله نظائر وأشباه
تفوت العد والإحصاء، ومن أمثلته أن يقع التزاحم بين إنقاذ غريق يستلزم إنقاذه،
والتصرف في أرض الغير، وهذا المثال الممثل به في لسان الغزالي جزء من ذلك
الكل، وقليل من ذلك الكثير.
وهذا مورد لا مانع من التماس حكم العقل فيه، أولا: فإن للعقل حكما في
القضايا الكلية وقضاء الأقضية العامة يقرره الشرع عليها في مواطن كثيرة، فهذا يضير

259
حكمه بقبح الظلم وحسن الاحسان، فهنا ونحن نرجع إلى حكم العقل وقضائه نراه
يحكم بلا تردد ويقضي بلا ترتب في اختيار أهمهما إن اتضح الأهم وإلا فالتخير إن
كانت المساواة، ونكر ثانيا إلى حكم الشرع فنراه وحكم العقل سواء بسواء، فما هذا
وأمثاله من الأخذ بالرأي بشئ إنما هو حكم العقل القطعي الذي لا شك فيه مؤيدا
بتقرير الشرع الذي لا ريب يعتريه.
أما الرجوع إلى تطبيق الأدلة من القضايا العامة على مصاديقها الخاصة من مثل
قوله تعالى: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * (1) ومن مثل قوله (صلى الله عليه وآله): " لا ضرر
ولا ضرار " فهذا أيضا ليس من الاستصلاح أو المصالح المرسلة - إن جعلناها أخذا
بالرأي - في قليل ولا كثير، ذلك أنه أخذ بالدليل الشرعي ورجوع إلى الكتاب أو
السنة في نصهما الصريح، ولمثل هذه النصوص العامة - من قاعدتي الحرج والضرر -
ببركة فتح باب الاجتهاد على مصراعيه عند الشيعة - مجال متسع للباحثين، وبحوث
واسعة النطاق للمستنبطين، وقد كونت للفقه والفقهاء ثروة علمية واسعة المدى إلى
حد بعيد أغنتهم عما افتقر إليه غيرهم من قياس، أو مصالح مرسلة، أو استحسان، أو
أخذ بالرأي الذي ما أنزل الله به من سلطان، وهو في الواقع خروج عن حدود
الشريعة بمعناها الصحيح، ولما ألبسوه لهذه القواعد وأسبغوه عليها من صفات
حلول لمشاكل عند غيرهم كانت مغلقة ولا تزال مغلقة الأبواب ذلك ما اصطلحوه
فيما استنبطوه في رأيهم الثاقب السديد، ذلك هو ما سموه ب‍ " الحكومة " حيث ذكروا
فيما حرروا أن لهذه القواعد حكومة على سائر الأدلة المثبتة لسائر الأحكام من
وضعيات أو تكاليف، فلم يضيقوا ذرعا بمعارضة هذه القواعد لما سواها من
النصوص، إذ لا معارضة هناك، فكأن لسان جعلها الشرعي يقول: إن ما جعلته من



(1) سورة الحج: 78.
260
الأحكام الأولية مرفوع عن المكلفين، إن حصل منه حرج أو ضرر فالحرج أو الضرر
رافعان للأحكام إن حصل منها ضرر أو حرج، فهذه القواعد قد شرحت كيفية جعل
الأحكام أو كميتها على المكلفين بلسان الحال، وهذه هي الحكومة التي سمعتها من
قبل وأبصرتها على سبيل الاجمال، وكم وكم قد وسعت في أبواب الفقه على هذه
الطائفة بحوثا ضاقت على غيرهم من الباحثين.
هنا وقد أعطينا هذا الموضوع حقه أو بعض حقه بما يتناسب واختصار هذا
الكتاب، فلننقل خطى الأقدام أو خطوة الاقدام إلى شئ آخر من المصطلحات:
منها: ما يسمى بتنقيح المناط، ومنها: ما يسمى بتخريج المناط، ومنها: ما
يسمى بتحقيق المناط، وبيان ذلك كله: هو أن الحكم الجامع بين الأصل والفرع قد
يكون بإلغاء الفارق بينهما، كما يقال: لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا وكذا، وكل
واحد منهما لا تأثير له في الحكم فيشترك الحكم بينهما، وهذا هو المسمى بتنقيح
المناط، ويسمى بالاستدلال في عرف الحنفية. أما إذا كان الجامع الوصف المستنبط
فإثبات الحكم في الأصل معللا به يسمى تخريج المناط، وإثبات الوصف المستنبط
في الفرع يسمى تحقيق المناط، وقد قالوا: إن الأول يرجع إلى السير والتقسيم،
وإبطاله يستلزم إبطاله فهما سواء بسواء.
ومنها: ما يسمى بالنقض، وهو عبارة عن وجود الوصف المدعى كونه علة
للحكم منفكا عن ذلك الحكم، وقد اختلف في ذلك، فزعم قوم أنه يقدح في علية
الوصف مطلقا، سواء أكانت العلة منصوصة أم كانت مستنبطة، وهذا مذهب أكثر
أصحاب أبي حنيفة وأحمد.
وقال آخرون: إنه لا يقدح مطلقا، يعني في العلة المنصوصة والعلة
المستنبطة.

261
وفصل قوم آخرون فقالوا: إن كانت علية الوصف ثبتت بالنص، لم يقدح، فإنه
يكون حينئذ كالعام فيكون ذلك تخصيصا على حد تخصيص العام، فلا قدح هناك،
وإن كانت العلة مستنبطة قدح، وذلك مثل ما وقع في التعليل لإيجاب القصاص بقتل
العمد والعدوان، وتخلفه عنه لمانع الأبوة.
قال آية الله العظمى العلامة الحلي أعلى الله درجته في كتابه " التهذيب في
علم الأصول ": والأقرب أن تخلف العلة لا لمانع يقدح في علتها، لأن العلة مستلزمة
لذاتها، فإذا لم يثبت الاستلزام فإن كان لأمر فهو المانع، وإن كان لا لأمر قدح في
العلية. انتهى. (1)
ومن النقض المذكور ما يسمى عندهم بالنقض المكسور، ومعناه نقض بعض
أوصاف العلية، وذلك مثل قولنا في بيع الغائب: إنه مبيع مجهول الصفة حال العقد
عند العاقد فلا يصح مثل ما لو قال: بعتك عبدا فيعترض بما لو تزوج امرأة لم يرها
فلم يشتمل النقض على البيع، بل حذف البيع ونقض بالباقي وهو الجهل بالصفة،
وقد اختلف في اعتباره، وقد نقل عن الأكثرين أنهم لم يعتبروه، ذلك أن المستدل
بمثل الاستدلال في المبيع بمجهول الصفة إنما استدل على الحكم بالمجموع من
كونه مبيعا ومجهول الصفة، والمثال الذي وقع نقضا وهو التزوج بالمرأة غير المرئية
ليست مبيعا فلا يبطل التعليل بها، لأن بطلان التعليل ببعض أوصاف العلية لا يستلزم
إبطال التعليل بها فلا نقض هناك.
ومنها: ما يسمى بالقول بالموجب، وهو تسليم الدليل المستدل به مع بقاء
النزاع وأقسامه. حسبما حرروه - ثلاثة:



(1) تهذيب الوصول: 259.
262
الأول: أن يستنتج المستدل ما يتوهم أنه محل النزاع وملزومه، مثل ما إذا قال:
قتل بما يقتل غالبا فلا ينافي القصاص، فيقول المعترض: أقول بموجب ما ذكرت
لكن عدم المنافاة لا يلزم منها القصاص.
الثاني: أن يستنتج إبطال مأخذ الخصم، مثل أن يقال: التفاوت في الوسيلة لا
يمنع وجوب القصاص كالمتوسل إليه، فيقول المعترض: أقول بموجبه ولا يلزم
المطلوب، فإنه لا يلزم من انتفاء مانع انتفاء جميع الموانع ووجود المقتضيات
والشرائط.
الثالث: أن يسكت المستدل عن صغرى غير مشهورة، مثل أن يقال: ما ثبت
قربة فشرطه النية كالصلاة، ويهمل، والوضوء قربة، فيقول: أقول بموجبه وأمنع من
إيجاب النية في الوضوء.
هاهنا وقد عرضنا هذه المصطلحات، وهي المهم إن لم تكن الأهم مما تقع
فيه المحاورات في مثل هذه البحوث فلنعرض عن سائرها روما للاختصار واقتصارا
على الأهم، أو المهم من تلك العناوين، فلنطرق بابا آخر قلما طرق، أو طرق
باختصار غير مفيد، وفي طي البحوث السالفة كنا قد طرقناه عرضا في بحث موجز
وعرض سريع فلنطرقه الآن كما هو وكما ينبغي أن يكون، ذلك هو ما أشار إليه القرآن
الكريم من حكم الأحكام وفلسفة التشريع، وان هذا موضوع له قيمته ومقامه، فهو
الجدير بأن يكون ذا عنوان مستقل بباب مستقل له أحواله وشؤونه، فلنعنونه بهذا
العنوان:

263
القرآن الكريم وبعض حكم الأحكام
وفلسفة التشريع
وقبل الدخول في صميم الموضوع والموضوع الصميم، نذكر شيئا هو نقطة
الدائرة في هذا العنوان، أو حجر الأساس لهذه البحوث، ذلك هو أن نقول: إن
الانسان بمقتضى طبعه الذي وهبه له واهب الطبائع، وبدافع غريزته التي غرزها فيه
مغرز الغرائز، متطلب للحرية في أي حال، وعلى جميع الأحوال ينشدها في كل
زمان ومكان ولا يرضى لنفسه القيد بوجه من الوجوه، ولا تحديد تلك الغريزة ولا
تقييد تلك الطبيعة، إذ يرى ذلك - طبيعيا - تحديدا للغريزة وتقييدا للطبيعة، فهو يأباه
ولا يرضاه، اللهم إلا على بعض الوجوه، فإلزام الانسان بشريعة أو قانون بادئ ذي
بدء وأول وهلة من النظر، يرى حدا لتلك الحرية المطبوعة فيه، فلا يرضخ، وقد
يكون من المتفلتين عليها إن لم تدعم بدعائم الثبات والاستقرار.
هذا هو الانسان لأول نظرة منه يلقيها على القوانين والتشريعات، ثم ماذا؟
أيبقى انسان الحرية المطلقة سائرا في غلوائه كما يشاء أو تشاؤه الأهواء؟ لا. ولا

265
ينبغي أن يكون، فاسترسال الانسان إهمال الانسانية بمعناها الصحيح ومنحه الحرية
المطلقة على نحو لا تقف عند حدود هو في الوقت نفسه جناية على الحرية في أبناء
نوعه الآخرين، إن حرية الانسان المطلقة تخوله التحكم المقيت في مقدرات البلاد
والعباد على غير هدوء ولا هوادة، إذن فلا شعور بمسؤولية، ولا نظرة ولا فكرة في
حقوق، ولا رعاية لواجب، وهذا في حقيقته رجوع إلى البهيمية لا تمسك بحرية كما
يتشدق بذلك من استجابوا للعاطفة فكانوا مجسمة عاطفة لا يتورعون ولا يرعوون،
أليس الحرية المطلقة بحق واقعها وواقعها الحق إلا الفوضوية على وجه شنيع، وهل
الفوضوية إلا الهلاك والدمار، لو كانوا يشعرون. إذن فكان لزاما ولا بد لإطلاق الحرية
أن يقيد، ولعمومها أن يخصص، حذار أن تستعمل في غير ما وضعت له، وأن تستغل
بسوء الاستعمال للموبقات والمهلكات، وتلك جريمة ما وراءها جريمة لو تدبر
المتدبرون.
إن الانسان مزيج مركب من عقل وعاطفة، فلكل منها في سيره خط، ولكل
منها في سيرته نصيب، فالحياة العقلية المحضة التي لم تمزج بمرونة العاطفة لا
تطيقها الحياة، ولا تقوى على تحملها الأحياء باطراد، وأخيرا وبالختام يحدث
التفلت المر والتهرب المشين، وهكذا هو الحال في الحياة العاطفية المحضة،
فالاستجابة إلى العاطفة المحضة هروب بشع عن أحكام العقل وحكمه، وتمرد طاغ
على الفضيلة النفسية التي بها يكون الانسان إنسانا بمفهومه الصميم، فالعاطفة
الصميمة لا تجامع معنى الانسانية الصميمة في جميع الأحوال والشؤون، لهذا
ولذاك ولكل ذلك نرى أن لا بد من موازنة بين العقل والعواطف، ولا بد من مزاج
لطيف تتكون منه هذه الموازنة فيكون حينذاك العدل والاعتدال.
العاطفة الطاغية تريد من الانسان حرية مطلقة لا تقف عند حدود، وهو إن

266
استجاب لها فيما تريد كان والوحش الهائم وضواري البهائم سواء بسواء، والعقل
يريد من الانسان أن يكون إنسانا بمعناه لا يتفلت عن حق واجب، ولا واجب
مفروض، فالعقل والعواطف في صراع دائم واشتباك وعراك وجدال وجلاد قد
يطغى سلطان العواطف الجبار العنيد على حاكم العقل الحكيم فيجرئ الانسان
على ما لا يرضاه العقل من جرائم وموبقات تجره إلى ما فيه الهلاك والإهلاك، وقد
ينتصر العقل ظافرا فيعلو بالإنسان محلقا إلى ما فيه الفلاح والنجاح، ثم ماذا وإلى
متى، وحتى م هذا الصراع والنزاع والانسان الضعيف ريشة تتقاذفها الأمواج الطاغية
إلى حال ليس له انقضاء ولا انتهاء؟
إذن فلا بد للعاطفة من صاد يقف بها عن الغلو والغلاء، ولا بد للعقل من سناد
يسير معه جنبا لجنب في مختلف الجهات والاتجاهات وما هو إلا تنظيم شريعة أو
تشريع نظام.
إذن فتشريع النظام وتنظيم الشريعة ضروري في حياة الانسان، ولحياة الانسان
الذي يريد أن يحيا حياة إنسانية بمعناها الحسن الجميل. ثم - يا ترى - أترى الانسان -
والحال فيه هو ذلك الحال - يرضخ لتلك الشريعة الموقفة له عند حدود، ويخضع
لذلك النظام المحدد لتلك الحرية المطلقة فيه المؤيدة بالعواطف والأهواء؟ لا. اللهم
إلا أن يفهم فيفهم حاجته الماسة إلى ذلك النظام، وأن مشروع ذلك النظام ممن له
أهلية ذلك التشريع، فهو مشرع بحق ومنظم باستحقاق، ثم هي الأخرى أن يفهم
فيفهم أن ذلك النظام وذلك التشريع نظام بعدل واعتدال يرمي إلى العدل والاعتدال
لا سرف فيه ولا تطفيف. إذن فاتساق التشريع أو النظام واستوساقه بحاجة إلى أن
يركز على دعائم ثلاث:
أحدها: قناعة المكلف قناعة نفسية بحاجة إلى تنظيم شرع وتشريع نظام وإلا

267
دفعت به الحرية المطلقة إلى الهوة السحيقة والمهوى العميق.
ثانيها: الإيمان بأهلية المشرع لذلك التشريع، والاعتقاد بأحقيته في وضع
ذلك النظام، وإلا لم يرضخ الرضوخ المطلوب، ولم يستجب لذلك النظام، ولم
يتمسك بذلك التشريع.
ثالثها: اعتقاد المكلف بعدل النظام واعتداله، وأنه لا سرف فيه ولا تطفيف.
والآن، وقد أنهينا هذه الدعائم الثلاث، فلنعلم أن التشريع الإسلامي فيما له
من الأحكام مدعوم بهذه الدعائم بكل إحكام، فهو حيث يعزز أحكامه بالحكم
الباهر من إيجاد نفع أو دفع ضرر جمعت بين الحكمة والسهولة يعمل المكلف فيعلم
أن تشريعا كهذا يدور به إلى المصلحة، ويدرء عنه المفسدة، حقيق بالاعتناق
والقبول، وأن مشرعا كهذا يسهر على مصلحته لا يبتغي من وراء ذلك لنفسه نفعا ولا
دفع ضرر، ولا يريد الجزاء ولا الشكور، لتشريع مرن لين يستجيب لكل حياة في
مختلف شؤون الحياة.
نعم، إن تركز هذا وذلك وذاك في نفوس المكلفين، تركزت دعائم التشريع
الثلاث وعاد المكلفون إلى اعتناق ذلك التشريع بشوق أكيد وحرص شديد، وما كل
ذلك إلا لأنه دعم تشريعه بالإعلام بالمصالح والمفاسد والمنافع والمضار فيما في
ذلك التشريع من أفعال وتروك، فلنأخذ بعنان اليراع إلى الجولان في ذلك الميدان،
وإن كبا فما كبوة الجواد بالشئ العجيب.
إن من جملة ما أشار إليه القرآن الكريم من حكم الأحكام وفلسفة التشريع ما
جاء في أمر الحيض من قوله تعالى: * (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا
النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم

268
الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) * (1).
ترى أن هذه الآية الكريمة ألمعت ببديع الإشارة، وأشارت ببليغ العبارة إلى
حكمة هذا الحكم، وفلسفة هذا التشريع، وهو وجوب تجنب المقاربة للحيض في
الوقاع.
ترى أولا وقبل كل شئ أن الآية الكريمة جعلت لفظة * (أذى) * خبرا عن
الضمير الراجع إلى الحيض، فتراها قد جعلت الحيض نفس الأذى مبالغة في
التشديد وإبلاغا للحكم بأبلغ تأكيد تنفر عنه الطبائع والنفوس، ثم تراها ثانيا أبهمت
التعبير فلم تعين كيفية الإيذاء وكميته، ولم تعين أن ذلك الأذى هل هو القذر أم
الضرر، ولم يتبين من ذا يكون متعلق ذلك الإيذاء أهو الزوج أم الزوجة أم الجنين
المتكون من مقاربة الزوجين في الوقاع لتبين أن الكل في هذا الإيذاء على حد سواء
فأبهمت للتعميم وأجملت ليكون من وراء هذا الاجمال تفاصيل وتفاصيل ستراها
في العاجل القريب.
ثم هي الثالثة الأخرى من مزايا هذا التعبير الأنيق تعبيره سبحانه من قائل:
* (فاعتزلوا النساء في المحيض) * فعبر بالاسم الظاهر - وهو قوله: المحيض - ومن
يجهل نكتة هذا التعبير الدقيق قد يخيل إليه جهلا أن الموقع في التعبير للضمير، كأن
يقول عز من قائل: " ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء فيه " بدل أن
يقول: * (فاعتزلوا النساء في المحيض) *. وهذا - إن وقع - فمبعثه الجهل بما وراء هذا
التعبير من رمز أو رموز، ذلك أن الشريعة الإسلامية - وهي الوسط في الشرائع
وتشريعها هو العدل والاعتدال - جمعت بين الحكمة والسهولة، فاتخذت طريقا
وسطا لا أمت ولا عوج فيه، فلم تكن لتتزمت في هذه المسألة تزمت الإسرائيليين -



(1) سورة البقرة: 222.
269
اليهود -، وعلى ذلك أيضا جماعة من مشركي الجاهلية في أنهم يتوقون الحائض
توقيا شديدا لا هوادة فيه، يعتزلونها في المضاجعة فضلا عن المواقعة، ولا تؤاكل ولا
تشارب، بل ويعزلونها عن المسكن عند الكثير، وهذا تزمت لا وجه له إلا التحكم
المر المقيت، فلم تتزمت الشريعة الاسلامية هذا التزمت الشديد، ولم تكن لتتفلت
تفلت النصارى - المسيحيين - فاسترسلوا مع الحائض استرسالا تكون معه الأضرار
والمحاذير، فلم يعتزلوها حتى في المواقعة فضلا عن المساكنة والمضاجعة.
وهنا نرى أن الشريعة الإسلامية اتخذت الأمر الوسط والاعتدال، فلم توجب
على الزوج إلا حرمة المواقعة للزوجة في محل الحيض ومكانه خاصة.
فمن هنا تعرف أن لفظ " المحيض " في أول الآية - وهو قوله: * (ويسألونك عن
المحيض) * - هو مصدر بمعنى الحيض، وفي آخر الآية - وهو قوله: * (فاعتزلوا النساء
في المحيض) * - هو اسم محل بمعنى مكان الحيض لا مصدر ولا اسم زمان.
ونحن - وقد وصلنا إلى هذه المرحلة - يكون لزاما علينا أن نعرض شيئا أو
بعض شئ مما عرضه الأطباء النطاسيون من أضرار تلحق الزوجين عند الوقاع في
المحيض، بل وتلحق الجنين المتكون منهما عند ذاك، مضافا إلى القذر الذي تشمئز
منه النفوس والطباع.
الحيض: دم تراه المرأة وتعتاده بعد سن البلوغ وقبل سن اليأس في كل شهر
غالبا، من ثلاثة أيام إلى عشرة، وقد قيل: إن المرأة في البلاد الحارة تحيض في السنة
الثانية عشرة غالبا، وفي البلاد الباردة في الرابعة عشرة إلى السادسة عشرة، وإذا لم
تحض المرأة في هذه السن فهي مريضة يجب علاجها بما ذكرته الطبابة والأطباء،
وتيأس المرأة من الحيض إذا بلغت من السنين خمسين إن لم تكن قرشية أو نبطية،
وإن كانت من إحدى القبيلتين فإلى الستين، والمراد بالقرشية من تنتمي من طرف

270
الأب إلى قريش - وهو النضر بن كنانة أحد أجداد النبي (صلى الله عليه وآله) -، والمراد بالنبطية من
تنتمي إلى النبط وهم قوم يسكنون البطائح في أداني العراق وخوزستان، فما تراه
المرأة بعد الخمسين أو الستين ليس بحيض، كما أن ما تراه المرأة من الدم قبل إكمال
تسع سنين ليس بحيض، وبعد إكمالها العشر يحكم بحيضيته، ولكن أكثر ما تحيض
المرأة بعد إكمالها اثني عشرة سنة كاملة.
وقد ذكر الفقهاء في محرراتهم أن دم الحيض - في الأغلب - يخرج أسودا
حارا منتنا يخرج بحرقة وغلظة ولذع ودفق من الجانب الأيسر، وهو على أي حال
من منن الله تعالى على المرأة خاصة إذ أنها تمرض بدونه ويكون بدنها بذلك معرضا
لمختلف الأدواء، وعلى نوع الانسان عامة فإن دوام النسل منوط به، حيث قالوا: إنه
به ينمو الفرج ويتهيأ إلى التمدد عند الحمل حتى يربي الجنين ويغذيه، وإلى
الانقباض بعد وضع الحمل وإلى دفع البويضة من المبيض في الرحم واستعدادها
لقبول ما يخرج من مني الرجل من الحيوان الصغير الذي لا يدرك بالطرف فيعلق
بالبيضة ويتكون منها الجنين.
وقالوا أيضا: الحيض كمال للمرأة نفسها، حافظ لجمالها، إذ أن عدمه يورث
هزال البدن، وشحوب الوجه، وغور العينين، مضافا إلى ما سبق من أنه أحد أسباب
دوام النسل البشري، إذ لولاه لما حصل الحمل، ولا تكون الجنين، ولا حصلت
الولادة، ولما تكون اللبن في ثديي المرأة لرضاع الطفل وتغذيته، فقد جاء في متواتر
الأخبار وصحيح الآثار أن دم المرأة هو الذي ينقلب إلى اللبن في زمن الرضاع،
ولذلك ينقطع الحيض في الغالب عن المرضعة، وقد لا تحمل ما دامت ترضع
الطفل رأفة بالطفل من الرؤوف الرحيم، وتدبيرا له من المدبر الحكيم.
ومهما يكن من أمر ومهما كان، فإننا نرى القرآن الكريم حكم في أمر الحائض

271
بحكمين، لكل حكم نصيبه البليغ من الحكمة والفائدة يتجلى بهما بليغ فلسفة
الشرع وسر التشريع:
أحد الحكمين: تحريم مقاربة الحائض في الوقاع في مكان الحيض خاصة،
وعللته بأنه أذى.
وثاني الحكمين: انتهاء التحريم بحصول النقاء والطهارة.
أما الحكمة في الحكم الأول فقد ذكر علماء التشريح وأهل الفن من علماء
الفسيولوجيا والحاذقون من الأطباء، وبينوا حال الرحم في حال الحيض، وذكروا أن
المهبل وقصبة الرحم وقاعدته والمبيضين والأغشية وكل أجزاء الرحم حين نزف
الدم يكون في حالة مخالفة لحالته عند خلوه من ذلك، فإن أجزاءه المشتغلة بقذف
الدم تخرج عن حالتها الطبيعية وتحدث فيها تشنجات والتهابات يؤثر عليها في تلك
الحال كل عارض جسماني أو نفساني، فإذا عرضت مع نزف الدم عارضة الشهوة
للرحم وإنزال المني للحائض، اشتغل الرحم بما يعاكس شغل نزف الدم، فتعاكس
الأمران وتختل جميع أجزاء الرحم، وربما أدى ذلك إلى ضرر بليغ ومرض شديد،
وقد يؤدي إلى الهلاك، وإذا علقت المرأة بالجنين في تلك الحال، تكون الجنين
ضعيف العضل، مختل العصب والدماغ، غير متناسب الأعضاء، وربما ولد معتوها
أو مجنونا أو أبله في أكثر الأحيان، وإذا عرض للحائض عارض نفساني من فرح أو
حزن شديدين أدى ذلك - في الغالب - إلى أمراض عصبية أو قلبية ربما جرت إلى
الفلج الشقي أو التام أو السكتة أو الهلاك، وإذا جامع الرجل زوجته الحائض سرت
حالة الرحم والتهاباته إلى قصبة الذكر وأفسدت الغدد المنوية والمثانة والأنثيين،
وربما أدت إلى خلل والتهابات في الكليتين وأبطلت عملهما الفسيولوجي، ثم من
بعد ذلك الورم العام وحبس البول والهلاك، ولذلك حرمت الشريعة ببالغ حكمة الله

272
وبليغ رحمته، الجماع مع الحائض لحفظ الزوج والزوجة والنسل.
ومن خلال هذه الحكم تشع لنا حكمة أخرى في المقام هي حرمة طلاق
الحائض، وذلك أننا إن ذهبنا إلى اجتماع الحيض مع الحمل كما صرحت به بعض
النصوص ومثل قولهم (عليهم السلام): " إن الحامل ربما قذفت بالدم " (1) كان هناك حكمتان:
وهي دفع اختلاط النسل وتخالط الأنساب، لاحتمال أن يكون في الرحم نطفة
يخشى أن تختلط بنطفة ثانية، وهذا مضافا إلى الحكمة التي ستأتيك الآن. أما إذا
ذهبنا إلى أن الحمل لا يجتمع مع الحيض كما صرحت به بعض النصوص الاخر مثل
قولهم (عليهم السلام): " ما كان الله ليجمع الحيض مع الحبل " (2) تجلت لنا حكمة أخرى هي
حفظ المرأة والمحافظة عليها عن أن تطرقها العوارض النفسية والآلام المرهقة، فإن
حالة الحيض أخطر دور من الأدوار على المرأة لسرعة تأثرها حينذاك بالآلام
والعوارض النفسية، وأخطرها عليها هو الطلاق، وذلك واضح لا سترة فيه.
وهاهنا وقد عرفت مبلغ تلك الأخطار المتولدة عن وقاع الحائض في
المحيض تعرف جليا كيف أن الآية الشريفة جمعت فأوعت وأوردت المعاني
الكثيرة بالألفاظ القليلة، بل جمعتها جميعا بلفظة واحدة وهي كلمة " أذى " وهذه
الكلمة مضافا إلى ما فيها من معنى جم ومورد غزير أنها مستجيبة لكل زمان ومكان
يستطيع كل زمن أن يطبقها على ما فيه من معرفة وثقافة استجابت للأمة العربية يوم
أن هبطت عليها، والأمة العربية تلك الأمة الجاهلة القاحلة التي لم يضرب لها في
المدينة عرق صميم بداية في المعارف وبداوة في العقول استجابت لها ففهمت منها
أن " الأذى " هو القذر الذي تشمئز منه النفوس وتنفر منه الطباع، ثم سارت قدما حتى



(1) المعتبر: 1 / 200، منتهى المطلب: 2 / 274.
(2) راجع المعتبر: 1 / 200، ذخيرة المعاد: 1 / 74، 75.
273
سايرت هذا الزمن وجرت مع هذه الحياة حتى كشفت ما كشفت من أسرار وشؤون،
والزمن غير محدد والعلم غير محدود فقد يرينا الزمن - وكم أرانا من عجائب -
عجائب في الآية لم يصلها الزمن فيما وصله إليه من عجائب المعارف والفنون.
وهاهنا يتجلى لنا السر أو بعض السر أو حكمة التعبير القرآني في أن يأتي
بالألفاظ المستجيبة لكل تفسير، المستلينة لكل تعبير، المؤاتية لكل عصر ومصر،
المسايرة لمختلف المعارف والعلوم، فما هبط القرآن ليكون قرآن أمة واحدة ولا
كتاب عصر معين، بل هو كتاب العصور في مختلف العصور وقرآن أمم من يومه إلى
يومنا إلى يوم الدين، وهكذا كان وهكذا ينبغي أن يكون.
ومن ذلك قوله تعالى في سورة البقرة: * (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه
قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه
أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم
إن استطاعوا) * (1).
نزلت هذه الآية الكريمة في شأن قصة عبد الله بن جحش وسريته حيث
غنموا عيرا لقريش فيها عمرو بن عبد الله الحضرمي وثلاثة معه قتلوا وأسروا اثنين،
وكان ذلك غرة رجب، وقد حصل الشك في أنه أول رجب أو آخر جمادى الآخرة،
فهناك تساءل الناس، تسأل قريش عن ذلك سؤال تبكيت وانتقام، وتسأل الصحابة
سؤال استطلاع واستفهام: هل يحل القتال في الشهر الحرام؟ فكان الجواب عن ذلك
يتضمن الاعتراف بحرمة الشهر الحرام وتقديسه وكرامته وإكرامه وصيانته عن أن يقع
فيه القتل والقتال، اللهم إلا على بعض الوجوه ولبعض الأسباب، وتلك هي الحكمة
التي تنطوي خلالها حكم وأسرار، تلك هي التي أبانها بقوله سبحانه: * (قل قتال فيه



(1) سوره البقرة: 217.
274
كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله
والفتنة أكبر من القتل) *.
ترى أن في قوله تعالى: * (قل قتال فيه كبير) * إشارة إلى حكمة معناها: أن ترك
القتال في الشهر الحرام إنما هو وسيلة لنوع من احترام الناس وتسكين الشر، أما إذا
كان الناس هم الهاتكون للحرمات فأولئك لا حرمة لهم ولا كرامة، فكيف يستنكر
حينذاك قتال المشركين في الشهر الحرام؟
وفي قوله سبحانه: * (وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام) * إشارة
إلى حكمة ثانية: هي منع رسول الله وأصحابه عن البيت الحرام، وذلك اعتداء يجب
أن يكافح درء للمفاسد والاعتداءات.
وفي قوله عز من قائل: * (والفتنة أكبر من القتل) * إشارة إلى حكمة ثالثة: هي
أن فتنة الناس عن دينهم محاولة لإخراجهم من الحق إلى الباطل، ومن النور إلى
الظلمات، أكبر وأكبر من القتل في الشهر الحرام، ذلك أن القتل إزهاق الأرواح،
وسفك دماء، وتضييع للأشخاص فحسب، أما الفتنة فهي إزهاق روح العقيدة،
وسفك دم الحق بسيف الباطل الممقوت، وتضييع للناس عامة، فأين هذا من ذاك؟
فالعقيدة تفدى بالأرواح وتضحى في سبيلها النفوس، وتسفك لحفظها والمحافظة
عليها دماء ودماء.
ومن ذلك أيضا ما جاء في السورة نفسها من قوله جل ذكره في تحريم نكاح
المشركات والانكاح إلى المشركين، يقول سبحانه: * (ولا تنكحوا المشركات حتى
يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى
يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله

275
يدعوا إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون) * (1).
حيث كانت الصلة بين العرب عامة وثيقة العرى متصلة الأجزاء، فهم أهل
محيط واحد وبيئة واحدة، فالزوجة بينهم لا تقف عند حدود، ولا تحدد بقيود، لما
هناك من صداقات ومعاملات، شأن سائر الناس من أهل الوطن الواحد والبيئة
الواحدة في سائر الشؤون. إذن فمنع التزويج عن نوع منهم بنوع آخر يعتبر تحديدا
لتلك الحرية، وتقييدا لتلك العادة التي ألفوها من قبل حين وسنين، فما انتزاع ذلك
بالهين اليسير، لذلك كان منعهم عن تزوج المشركة بالمؤمن أو تزوج المؤمن
بالمشركة تقييدا لتلك الحرية أو إلغاء لتلك العادة، وما هذا وذاك بالهينين على
النفوس، فكان لزاما أن يدعم هذا الحكم بحكمة تجعل النفوس مستجيبة للتقبل
والقبول، لذلك نراه تعالى قرنه بأمرين:
أحدهما: أن الاختيار الزوجي لم يقصر على مخصوص ليكون سببا لشعور
الانسان بتقييده أو تحديده، حيث لم يفز بالمطلوب والمرغوب، فللانسان حيث
يمنع عن التزوج من فريق مخصوص مدنس بدنس الشرك، موصوم بوصمة الكفر
الذي هو فوق العيوب، عوض عن ذلك بمن يشاركه في الرأي والعقيدة، فللمؤمنين
من المؤمنات زوجات لا تقف عند حدود، وللمؤمنات من المؤمنين أزواج لا يقفون
عند حدود، يراعون حق الزوجية بمعناها الصحيح بما ركز في نفوسهما من الإيمان
والعقيدة المانعين لهما من الاستهتار بالمقررات والمقدرات، وليس الأمر كذلك في
المشركات والمشركين، فلا عقيدة حاجزة ولا إيمان يردع عن ارتكاب المنكرات.
وثانيهما: وصفه المشركين بكونهم يدعون إلى النار - وأي عار ذلك العار هو
الارتماء بالنار، فهذه الزوجية زوجية النار - إن صح هذا التعبير - وهذا الاقتران اقتران



(1) سوره البقرة: 221.
276
بالجحيم الممقوتة التي يبتعد عنها كل الابتعاد، ثم لا يقف الأمر عند هذا الحد، بل
بما تثمره هذه الزوجية من بنات وبنين يلقي بهم إلى الارتماء بهذه النار، فللأب أو
الأم أثر فعال في تكوين الذراري على ما يعتادون أو يعبدون، ومن ذا الذي يرضى
لنفسه أو لبنيه النار وعذاب الجحيم.
ومن ذلك أيضا قوله تعالى في أواخر سورة البقرة: * (واستشهدوا شهيدين من
رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل
إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) * (1).
هذه الآية الكريمة دلت بصراحة أن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل،
فشهادة امرأتين تقوم مقام شهادة رجل واحد، لكن في القضايا الحقوقية خاصة، أما
شهادة المرأة في الطلاق فهي ملغية غير مقبولة عند الشارع بالمرة، حيث قال
سبحانه في سورة الطلاق: * (وأشهدوا ذوي عدل منكم) * (2) يعني من الرجال
المسلمين خاصة، فلم يعتبر شهادة المرأة هنا بالكلية، وكما ألغى الشارع المقدس
شهادة المرأة في الطلاق ألغاها أيضا في الوصاية حيث قال عز من قائل في أواخر
سورة المائدة: * (يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين
الوصية اثنان ذوا عدل منكم) * (3) فهنا تراه ألغى شهادة المرأة في الوصاية إلغاءها
في شهادة الطلاق، ومثلهما في إلغاء شهادة المرأة، إلغاء شهادتها في الزنا حيث
يقول سبحانه في أوائل سورة النساء: * (واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم
فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن



(1) سورة البقرة: 282.
(2) سورة الطلاق: 2.
(3) سورة المائدة: 106.
277
الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) * (1).
فترى الآية الكريمة خصت الشهادة في المقام بالرجال دون النساء، وذلك
لوجود التاء في العدد - وهو أربعة - فإنه يؤنث مع المذكر فيكون تأنيثه دليلا على أن
المراد به الذكور خاصة.
وعلى كل حال ومهما يكن من أمر فإن التعليم القرآني جعل شهادة المرأة - في
ما تقبل شهادتها فيه - نصف شهادة الرجل، بمعنى أن شهادة امرأتين تقومان مقام
شهادة رجل واحد، وليس في هذا حيف على المرأة أو ظلم لكرامتها أو اعتداء على
ما لها من حقوق، إنما هو شئ في حقيقته وواقعه مسايرة لطبيعة المرأة، أو مجاراة
للمواهب الطبيعية التي وهبتها المرأة من غير زيادة ولا نقصان، والقرآن الكريم لم
يرسل الحكم في هذه القضية إرسالا لم يدعمه ببرهان، بل نراه قرن الحكم بالحكمة
بما نص عليه من التعليل بقوله: * (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) * (2).
تراه علل ذلك بخشية الضلال من المرأة، وماذا - يا ترى - ذلك الضلال
المخوف؟ إن الضلال خلاف الهدى وخلاف الهدى أنواع من الأحوال تتجلى لك
بعد أن يتجلى لك ما عليه المرأة وما هي فيه من طبائع وغرائز وأحوال وشؤون.
أثبت علم الفسيولوجيا أن دماغ المرأة أخف من دماغ الرجل وزنا، وألياف
الدماغ في المرأة أقل التفافا منها في الرجل، وتعاريج دماغ المرأة أقل من تعاريج
دماغ الرجل، فلذلك صارت المرأة أسرع حفظا من الرجل، وأسرع نسيانا، وأبعد
ذاكرة، لأن ما يصل الدماغ بواسطة التعاريج يطوي مراحل قليلة من تعاريج دماغ



(1) سورة النساء: 15.
(2) سورة البقرة: 282.
278
المرأة دون الرجل، فإنه يتوقف على مراحل أكثر من ذلك، للألياف والعصب
الدماغية للمرأة والرجل أثر في سرعة تلقي ما يصل إليه في المرأة وبط ء في الرجل،
وكذلك النسيان وهو سرعة الخروج من دماغ المرأة وبط ء في دماغ الرجل، فلذلك
كانت المرأة أسرع حفظا وأسرع نسيانا من الرجل، هذا شئ، وبهذا الاعتبار يحمل
الضلال الوارد في الآية الكريمة على النسيان، إذ النسيان ضلال، بمعنى: أنه متاهة
عن الحقيقة الواقعية.
وهناك شئ آخر هو متفرع على الوجه السابق الآن، ذلك أن نقصان القوة
العقلية في المرأة الذي عرفته الآن يجعل المرأة أسرع إحساسا من الرجل وأقوى
تأثيرا بالانفعالات العاطفية، فكثيرا ما تستولي عواطف المرأة على شعورها العقلي،
فيندك عقلها في عاطفتها اندكاكا تظهر له مختلف المظاهر في مختلف الشؤون،
ولذلك شواهد وشواهد من الآثار فهي - ولها هذا الحال - غير مأمونة الزلل والعثار
بتأثير العواطف والانفعالات عليها تأثيرها المعروف، وهناك يخضع سلطان العقل
فيها لسلطان العواطف والانفعالات، فلا يبقى للعقل عليها أي أثر وتأثير يلزمها
بالإظهار للحق والاصحار بالحقيقة، الأمر الذي قد يحصل منه كتمان الشهادة أو
تبلبلها في أدائها على وجهها الصحيح، وما ذلك من مفعول عواطفها بعجيب فتضل
حينذاك عن الصراط المستقيم، فيكون الضلال هاهنا بمعنى ترك الرشاد، وتضييع
الحق، وإضاعة الحقيقة، استجابة لعواطفها وتأثرا بانفعالاتها الخاصة، لكن علاج هذا
التأثر - إن حصل - أن يضم إليها في الشهادة من هو جنسها وملائم طبيعتها، فالناس
إلى أشباهها أميل كما يقولون.
فربما تثوب إلى رشدها إن رأت من تميل إليه في الجنس والطباع، فلهذا أو
لذلك وذاك ضمت إلى المرأة شهادة امرأة ثانية. وهاهنا يتجلى لك أن المراد من

279
التذكير من النسيان إنما هو إلفات نظرها إلى الواقع، وتعزيز مشاعرها للركون إلى
الحقيقة. ومن هنا أيضا يتجلى لك كيف عبر القرآن تعبيره اللائق الكريم حيث كرر
قوله: * (فتذكر إحديهما) * لبيان أن كلا منهما معرض لهذا الضلال - أولا -. وثانيهما: أن
هذا التذكير إنما يؤثر أثره الخاص إذا وقع من إحدى المرأتين للمرأة الثانية لما بينهما
من المجانسة والمشاكلة، ومن هنا وهناك أيضا يتجلى لك بوضوح حكمة الحكم في
إلغاء شهادة المرأة من رأس في أمر الوصاية، لما في أمر الوصاية من بلبلات قد
تستدرجها لاستجابة العواطف وإلغاء الخضوع لحكم العقل، فينقض حينذاك
الغرض المطلوب بالشهادة، وهكذا الأمر في إلغاء شهادتها في أمر الطلاق سواء
بسواء، بل يزيد في ذلك وضوحا على وضوح، إذ داعية العاطفة فيه أقوى من
داعيتها هناك، إذ هو أمر يتعلق بشأن من تشاكلها في الجنس والطبيعة فأين الضمان
لها؟ ومن الضامن في أن ترضخ هناك طبيعتها أو عاطفتها لحكم العقل والوجدان
فتبرز الحقيقة على ما تعلمها بالوجه الصحيح؟
ومن ذلك قوله في سورة النساء: * (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله
بعضهم على بعض) * (1) قد تكون هذه الآية الكريمة فرعا عما سبق فتعلل بما هناك
من تعاليل، ولكن للآية في نفسها بحوث وبحوث واسعة النطاق نأتي عليها إن شاء
الله عند الكلام عن حقوق المرأة في الاسلام، فإن ذلك بحث في طيه بحوث
وبحوث، فلننقل خطى الأقلام لا الأقدام إلى البحث في موضوع آخر هو الاجتهاد
والتقليد، واستنباطهما عن طريق القرآن الكريم.



(1) سورة النساء: 34.
280
القرآن الكريم والاجتهاد والتقليد
* (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا
رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) * (1).
إن كل آية كريمة من آيات القرآن الكريم - حيث يلقي المتأمل عليها نظرة
التأمل والإمعان - يجد فيها متسعا من البحوث للمتتبع من الباحثين، فيأخذ منها ما
يشاء لما يشاء، ويعرف حينذاك أن فيه تبيان كل شئ بصورة لها أجلى جلاء
وأوضح وضوح، وإن من قليل ذاك الكثير في القرآن الكريم هذه الآية الكريمة - كما
ستراه -.
إن لهذه الآية أولا وآخرا ومبدء وختاما، فمبدؤها والأول منها يأخذ دليلا
لشئ، وآخرها والختام يأخذ دليلا لشئ آخر، أحدهما للاجتهاد والآخر للتقليد،
وسنعرفه في العاجل القريب.



(1) سورة التوبة: 122.
281
إن هذه الآية الكريمة دلت على وجوب التفقه في الدين، ودليل الوجوب فيها
هو وجود (لولا) التحضيضية والتحضيض حث على الطلب، إذ هو الطلب الحثيث
وليس معنى كونه طلبا حثيثا إلا عدم الرضا بتركه، وليس معنى ذلك إلا الوجوب. إذن
فالآية تدل على وجوب التفقه، وليس التفقه في معناه إلا صيرورة المرء فقيها، ولا
يصير المرء فقيها بحق يحق له إطلاق اسم الفقيه إلا حيث يكون من الإحاطة بمسائل
الفقه ووسائله بمكان وإلا حيث يكون بملكة يستطيع معها أن يرجع الفرع إلى أصله،
وأن يسلك إليه مسالكه عن طريق مداركه الخاصة، ويكون بذلك من المستنبطين
الذين أمر الناس بالرجوع إليهم في الآية والرواية، وذلك هو الاجتهاد، فقد دلت الآية
- عن طريق هذا التوجيه - على طلب الاجتهاد في الأحكام والفروع.
ولنا أن نقرر الآية بوجه آخر وعبارة ثانية، هو أن نقول: إن قوله تعالى:
* (ولينذروا قومهم) * إلى آخر الآية إن دل على شئ فإنما يدل على وجوب قبول
المنذرين، لإنذار المنذرين، وإلا لغي وجوب الانذار إن لم يجب القبول، وهذا
بمعناه إرجاع الناس إلى الفقهاء لأخذ معالم الدين وفروع الأحكام، ولا معنى لإرجاع
العامي من الناس إلى عامي مثله يشاركه في قلة الاطلاع وقصور الباع، وما يشاكل
ذلك من جهالة، فليس الارجاع إلا للمطلع المتتبع، وهذا عبارة ثانية عن إرجاع
المقلدين إلى المجتهدين. فمن هنا وهناك تجلى لنا على ضوء هذه الآية الكريمة
دلالة على كلا الطريقين من الاجتهاد والتقليد، فهاهنا مراحل:
المرحلة الأولى: في تعريف الاجتهاد وما هو في معناه أو حقيقته.
لا شك أن لهذا اللفظ أصلا في اللغة، ومعنى اصطلاحيا لعرف الأصوليين
خاصة تحمل المشقة بالنظر إلى ما في اللفظ من تاء الافتعال الدالة على التكلف في
معنى كل لفظ حلت فيه هذه التاء، وعرف في اصطلاح الأصوليين - حسبما نقل عن

282
الحاجبي وعليه العلامة أعلى الله مقامه في كتابه " التهذيب في علم الأصول " بأنه
استفراغ الوسع من الفقيه لتحصيل ظن بحكم شرعي (1)، ولا يخفى على الفطن
ملاحظة المناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي في هذا التعريف.
وعرفه آخرون بأنه ملكة يقتدر بها على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من
الأصل، فعلا أو قوة قريبة، إلى غير هذا وذاك من حدود أو تعاريف، والأمر في
الإجابة عما أورد على تلك التعاريف في الطرد والعكس سهل علينا كل السهولة بعد
أن قال شيخنا العلامة الآخوند (قدس سره) في كفايته: ولا يخفى أن اختلاف عباراتهم في بيان
معناه اصطلاحا ليس من جهة الاختلاف في حقيقته وماهيته لوضوح أنهم ليسوا في
مقام بيان حده أو رسمه، بل إنما كانوا في مقام شرح اسمه والإشارة إليه بلفظ آخر
وإن لم يكن مساويا له بحسب مفهومه كاللغوي في بيان معاني الألفاظ بتبديل لفظ
بلفظ آخر ولو كان أخص منه مفهوما أو أعم. ومن هنا انقدح أنه لا وقع للايراد على
تعريفاته بعدم الانعكاس والاطراد، كما هو الحال في تعريف جل الأشياء لولا الكل
ضرورة عدم الإحاطة بها بكنهها أو خواصها الموجبة لامتيازها لغير علام الغيوب،
فافهم. انتهى كلامه رفع مقامه.
نعم، هو (رحمه الله) أبدل تعريف المعرفين له بأنه استفراغ الوسع لتحصيل الظن، أبدل
لفظة " الظن " بلفظ الحجة، حيث قال ره:
وكيف كان، فالأولى تبديل الظن بالحكم بالحجة عليه، فإن المناط هو
تحصيلها قوة أو فعلا لا الظن، حتى عند العامة القائلين بحجيته مطلقا أو بعض
الخاصة القائل به عند انسداد باب العلم بالأحكام فإنه مطلقا عندهم. يعني (قدس سره) عند
العامة - أو عند الانسداد عنده - يعني (قدس سره) بعض الخاصة - من أفراد الحجة، ولذا لا



(1) تهذيب الوصول: 283.
283
شبهة في كون استفراغ الوسع في تحصيل غيره - يعني غير الظن - من أفرادها - يعني
من أفراد الحجة - من العلم بالحكم أو غيره مما اعتبر من الطرق التعبدية الغير
المفيدة للظن ولو نوعا اجتهادا أيضا. انتهى كلامه رفع مقامه. (1)
المرحلة الثانية: ينقسم الاجتهاد إلى مطلق وتجزي، ومن اسم كل منهما
يعرف مسماه.
وقد عرف الاجتهاد المطلق بأنه ما يقتدر به على استنباط الأحكام الفعلية من
أمارة معتبرة، وأصل معتبر، عقلا أو نقلا، في الموارد التي لم يظفر فيها بالأمارة
المعتبرة، والفرق بين الأمارة والأصل قد يأتيك في طي هذه البحوث أو غيرها من
البحوث.
ومقتضى التعبير بالأحكام يعني إتيان لفظ الأحكام جمعا معرفا باللام، إن
الملحوظ في الاجتهاد المطلق هو معرفة جميع الأحكام، كما هو كذلك لإفادة الجمع
المعرف باللام للعموم بالإجماع من علماء الأصول.
ومن هنا يتجلى لك تعريف مقابل الاجتهاد المطلق وهو التجزي - كما عرف
به - بأنه ما يقتدر به على استنباط بعض الأحكام.
وحيث تعرف هذا، فلتعرف أنه ينبغي هاهنا رسم أمور أو بحوث:
الأول: انه لا إشكال ولا ريب في إمكان حصول الاجتهاد المطلق، بل في
حصوله بالفعل، وقد حصل للكثير والكثير، أما ما يحصل من بعضهم مما ظاهره
عدم التمكن من الترجيح في المسألة وتعيين الحكم في تلك الحادثة الخاصة أو
التردد منهم في بعض مسائل الحوادث العارضة فما هو إلا من أجل الحكم الواقعي



(1) كفاية الأصول: 463 - 464.
284
في تلك الموارد، إما لأجل عدم دليل مساعد عليه، وإما لعدم الظفر به بعد الفحص
عنه بالقدر اللازم من الفحص ومتابعة الجهود لا لقصر الباع أو قصور الاطلاع، ولذلك
لا نرى للمجتهدين أي تردد أو توقف في الحكم الفعلي لأي مسألة من المسائل.
الأمر الثاني: انه لا إشكال أيضا في جواز العمل بهذا الاجتهاد لمن اتصف به
في عمل نفسه، وأما رجوع غيره إليه فلا إشكال فيه أيضا على وجه يتطلب تفصيلا لا
يحتمله هذا الكتاب. وعلى الاجمال: فرجوع غيره إليه بعيد عن المحاذير، وكما
يرجع إليه في التقليد يرجع إليه في الأحكام وفصل الخصومات، وحكمه حجة عليه
وعلى مقلديه، بل على غير مقلديه، بل وعلى المجتهد الآخر المعترف له بجامعيته
لشرائط الحكومة من الاجتهاد والعدالة.
إذن، فهناك جهات عمل في نفسه:
[الأولى:] وهنا نقول: يجب على المجتهد المطلق العمل على ما يؤديه إليه
اجتهاده ولا يجوز له - وهو على هذه الصفة - الرجوع إلى مجتهد آخر فاقه أو ساواه
بلا كلام.
الجهة الثانية: كون فتواه حجة على مقلديه، وهذا أيضا لا إشكال فيه.
والجهة الثالثة: كون حكمه حجة عليه، وعلى مقلديه، وعلى غير مقلديه من
مقلدي غيره، ومن المجتهدين الآخرين بالشرط السابق عليك.
فالفرق بين ناحية الافتاء وناحية الحكومة، هو أن ناحية الافتاء ناحية إبداء
رأيه الشخصي المحصل له عن طريق القواعد والنصوص، فلا يكون حجة إلا عليه
وعلى مقلديه خاصة، أما ناحية الحكومة فهي ناحية ظهوره بعنوان النيابة عن
الإمام (عليه السلام) فكأنه ينطق بلسان الإمام وظاهر بمظهر المنصب الذي نصبه له الإمام،
فالرد عليه رد على الإمام (عليه السلام) كما سيأتيك إن شاء الله في المستقبل القريب.

285
الأمر الثالث: في التجزي في الاجتهاد، وفيه مواقع من الكلام هو الكلام
السالف في الاجتهاد المطلق سواء بسواء:
الموقع الأول: في إمكانه وهو محل الخلاف بين العلماء، ولكن الحق الذي
عليه أكثر المحققين إمكانه نظرا إلى أن أبواب الفقه مختلفة في المدارك، والمدارك
متفاوتة سهولة وصعوبة، عقلية ونقلية، مع اختلاف الأشخاص والأحوال في
الاطلاع على تلك المدارك وطول الباع فيها أو قصر الاطلاع، فكم شخص كثير
الاطلاع طويل الباع في مدرك باب، لمهارته في النقليات والعقليات بذلك الباب،
وليس هو كذلك في باب آخر لعدم مهارته تلك المهارة في ذلك الباب، فهناك
يحصل التجزي والتبعيض في القدرة أو الملكة في الاستنباط، بل وهذا هو معنى
التجزي في الاجتهاد. بل قال بعض المحققين الأعلام: يستحيل اجتهاد مطلق عادة
غير مسبوق بالتجزي للزوم الطفرة وبساطة الملكة، ثم قال (قدس سره): وعدم قبولها - يعني
الملكة - التجزئة لا يمنع من حصولها بالنسبة إلى بعض الأبواب بحيث يتمكن من
الإحاطة بمداركه كما إذا كانت هناك ملكة الاستنباط في جميعها ويقطع بعدم دخل
ما في سائرها به - يعني بحصول الملكة - أصلا أو لا يعتني باحتماله لأجل الفحص
بالمقدار اللازم الموجب للاطمئنان بعدم دخله كما في الملكة المطلقة بداهة أنه لا
يعتبر في استنباط مسألة معها - يعني مع الملكة - من الاطلاع فعلا على مدارك جميع
المسائل، كما لا يخفى. (1) انتهى كلامه رفع مقامه، وفيه شئ من القياس لا يحتمله
هذا الكتاب.
الموقع الثاني من الكلام: في حجية ما يؤدي إليه على المتصف به، ومعناه:
أن الذي يؤدي إليه نظر المجتهد المتجزي يجب العمل على طبقه، وتلزم الحركة



(1) كفاية الأصول: 466 - 467.
286
على وفقه، والأمر فيه كسابقه محل الكلام والخلاف، والذي عليه بعض المحققين
هو حجيته نظرا إلى أدلة مدارك الاجتهاد حيث لا اختصاص لها بالمتصف بالاجتهاد
المطلق، وهذا هو الصحيح.
الموقع الثالث من الكلام: في جواز رجوع العامي إليه في كل مسألة اجتهد
فيها هو، وهذا أيضا كسابقيه محل الكلام والخلاف، فإن قلنا: إن مدرك وجوب
التقليد هو السيرة العقلائية، وهو رجوع الجاهل إلى العالم فيما هو عالم به،
والمجتهد المتجزي ممن يصدق عليه هذا العنوان فنعمت حينذاك أدلة جواز
التقليد هكذا. وإن قلنا بأن مدرك وجوب التقليد هو الأدلة اللفظية، واستفدنا من تلك
الأدلة الاطلاق أو العموم. أما لو قلنا بأن السيرة العقلائية لم يتم قيامها في مثل هذه
الأحوال، أو أن بناء العقلاء لم يقم على الرجوع إلى مثله ولا أقل من الشك في هذه
الناحية، والشك في المقام كاف في عدم جواز الرجوع، ذلك أن بناء العقلاء أو
السيرة العقلائية دليل لبي لا لسان له يتمسك عند الشك في عمومه وإطلاقه، فلا بد
في الشك في حصوله من الأخذ بالقدر المتيقن، وهو الرجوع إلى المجتهد المطلق
خاصة، وهكذا الحال إن لم نستفد الإطلاق أو العموم من الأدلة اللفظية، ونقول: إنها
إنما سيقت لبيان أصل تشريع التقليد لا لبيان كيفيته، كما هو الحال في كثير من
الإطلاقات والعمومات، هذا بالنظر إلى الرجوع إليه في فتواه، أما الرجوع إليه في
الحكومة، ونفوذ تلك الحكومة في فصل الخصومة، فالأمر فيه أشد إشكالا مما سبق
من تلك المراحل والمسائل، فإنك قد عرفت فيما سلف أن مقام الحكومة أعلى شأنا
من قيمة الفتيا، فإذا أشكل الأمر في الفتيا فكيف الحال في الحكومة، هذا ولكن
بعض المحققين نفى البعد عن نفوذ حكومته فيما إذا عرف جملة معتدا بها واجتهد
فيها بأن يصح أن يقال في حقه عرفا إنه ممن عرف أحكامهم، لكن في هذا الكلام
نظر لا يحتمله اختصار هذا الكتاب.

287
المرحلة الثالثة: في المجتهد فيه - يعني فيما يصح فيه الاجتهاد وما لا يصح
فيه - المجتهد فيه عرف بأنه " كل حكم شرعي ليس عليه دليل قطعي ".
هذا التعريف كسائر التعريفات مشتمل على جنس مدخل، وعلى فصل
مخرج، فقولنا: " حكم " مدخل لكل حكم عقليا كان أو شرعيا. فقولنا: شرعي مخرج
للأحكام العقلية، حيث إن العقلية المحضة مثل قولنا: الكل أعظم من الجزء، أو أن
النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان. وهكذا الأحكام العقلية المقررة من قبل الشرع،
مثل قبح الظلم وحسن الاحسان، لا تقع محلا لاجتهاد المجتهدين، إذ هي غير قابلة
للخلاف والاختلاف، بل هي مما اتفقت عليها العقول، وقولنا: ليس عليه دليل
قطعي، خرج ما كان عليه من الأحكام الشرعية قد دل عليه دليل قطعي، وذلك
قسمان:
الأول: الأحكام الشرعية الأصلية، وذلك كالمعتقدات الدينية التي أوجب
الشارع الاعتقاد بها على الانسان عن طريق العلم القطعي الذي لا تدخله الظنون،
فمثل هذه لا تقع محلا للاجتهاد حيث هي مدلولة بالأدلة القطعية.
والقسم الثاني: الأحكام الشرعية الفرعية التي قامت عليها الضرورة الدينية
من المسلمين عامة مثل الصوم، أو وجوب الصلاة، أو حرمة الخمر والزنا، أو غير
ذلك من التكاليف القطعية من أفعال وتروك، فمثل هذه أيضا لا تقع محلا للاجتهاد،
لأن أدلتها قطعية فلا تكون معرضا لاختلاف الأنظار والآراء، فالذي يقع محلا
للاجتهاد ويجوز للمجتهدين الاجتهاد فيه هو الأحكام الشرعية والفرعية التي لم يقم
عليها دليل قطعي، وذلك في الأحكام الشرعية الفرعية كثير.
قال شيخنا أبو جعفر الطوسي شيخ الطائفة رضوان الله عليه في كتابه في علم

288
الأصول المعروف ب‍ " العدة " (1) في أول بحث الاجتهاد:
اعلم أن كل أمر لا يجوز تغييره عما هو عليه، من وجوب إلى حظر - يعني
منع - ومن حسن إلى قبيح، فلا خلاف بين أهل العلم المحصلين أن الاجتهاد في
ذلك لا يختلف، وأن الحق فيه واحد، وأن من خالفه ضال فاسق وربما كان كافرا،
وذلك نحو القول بأن العالم قديم أو محدث، وإذا كان محدثا هل له صانع أم لا؟
والكلام في صفات الصانع وتوحيده وعدله والكلام في النبوة والإمامة وغير ذلك،
وكذلك الكلام في أن الظلم والعبث والكذب قبيح على كل حال، وأن شكر المنعم
ورد الوديعة والإنصاف حسن على كل حال، وما يجري مجرى ذلك، وإنما قالوا
ذلك لأن هذه الأشياء لا يصح تغييرها في نفسها ولا خروجها عن صنعتها التي هي
عليها. ألا ترى أن العالم إذا ثبت أنه محدث فاعتقاد من اعتقد أنه قديم لا يكون إلا
جهلا، والجهل لا يكون إلا قبيحا، وكذلك إذا ثبت أن له صانعا، فاعتقاد من اعتقد أنه
ليس له صانع لا يكون إلا جهلا، وكذلك القول في صفاته وتوحيده وعدله، وكذلك
إذا ثبت أن النبي (صلى الله عليه وآله) صادق فاعتقاد من اعتقد كذبه لا يكون إلا جهلا، وكذلك
المسائل الباقية.
وحكي عن قوم شذاذ لا يعتقد بأقوالهم أنهم قالوا: إن كل مجتهد مصيب،
وقولهم باطل بما قلناه.
وأما ما يصح تغييرا في نفسه وخروجه من الحسن إلى القبيح، ومن الحظر إلى
الإباحة فلا خلاف بين أهل العلم أنه كان يجوز أن تختلف المصلحة في ذلك، فما
يكون حسنا من زيد يكون قبيحا من عمرو، وما يقبح من زيد في حال بعينها يحسن
منه في حالة أخرى، ويختلف ذلك بحسب اختلاف أحوالهم وبحسب اجتهاداتهم،



(1) العدة في أصول الفقه: 2 / 723 - 724.
289
وإنما قالوا ذلك لأن هذه الأشياء تابعة للمصالح والألطاف، وما هذا حكمه فلا يمتنع
أن يتغير الحال، ولهذه العلة جاز النسخ، ونقل المكلفين عما كانوا عليه إلى خلافه
بحسب ما تقتضيه مصالحهم. انتهى ما أردنا نقله من كلامه زيد في علو مقامه.
المرحلة الرابعة: في ما يحتاج إليه المجتهدون من العلوم التي تكون شرائط
لتحقق الاجتهاد، والضابط فيه تمكن المكلف من إقامة الأدلة على المسائل الشرعية
الفرعية، وقد قالوا: إنما يتم بأمور:
أحدها: معرفة اللغة ومعاني الألفاظ الشرعية، لكن لا بمعنى اشتراط معرفة
الجميع، بل المعرفة في الجملة كافية في المقام، وهو معرفة ما يحتاج إليه في مقام
الاستدلال، وقد قالوا: لو راجع أصلا صحيحا عنده في معاني الألفاظ جازا، ويدخل
في اللغة معرفة النحو والتصريف، وإنما احتاج المجتهد إلى ذلك لأن الشرع عربي،
ذلك أن مدركه هما الكتاب والسنة، وكلاهما عربيان، فهما مشتملان على خصائص
اللغة العربية مادة وهيئة. إذن فمعرفتهما محتاجة إلى معرفة اللغة العربية، ونظرا إلى
أن معرفتهما واجبة فمعرفة اللغة العربية واجبة، لأن ما لا يتم معرفة الواجب إلا
بمعرفته، معرفته واجبة.
ثانيها: معرفة التفسير، لكن بالصورة التي يحتاج إلى معرفة اللغة، أعني: أن
الجملة فيها كافية عن التفصيل، وإنما وجب ذلك لأن معرفة علم التفسير معناه:
معرفة مراد الله تعالى في كلامه، وجهل ذلك جهل باستنباط الأحكام الشرعية، في
حين أن الكتاب الكريم أول مدرك لمعرفة الأحكام، فكان لزاما على هذا معرفة علم
التفسير بالضرورة، ومن معرفة علم التفسير معرفة علم الكلام، أعني: معرفة أصول
العقائد عن طريق العلم والاستدلال، وذلك أن معرفة مراد الله تعالى من اللفظ إنما
يتم لو عرف أنه تعالى لا يخاطب بما لا يفهم معناه ولا بما يريد به خلاف ظاهره من

290
غير بيان، وإنما يتم ذلك لو عرف أنه تعالى حكيم وهو كذلك يتوقف على علمه
تعالى بالقبيح واستغنائه عنه على العلم، وإنما بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام
وعلى أصول قواعد الكلام.
قال آية الله العلامة الحلي في كتاب التهذيب في علم الأصول: وهذا لا يأتي
على قواعد الأشاعرة.
وأقول: إنما قال طيب الله ثراه ذلك لأن من مبنى قواعد الأشاعرة إنكار الحسن
والقبح العقليين، وعلى هذا المبنى لا ملزم عندهم بالتزام هذه الأشياء المذكورة،
ولكن الصحيح أن معرفة ذلك واجب حتى على رأي الأشاعرة فإن إنكار الأشاعرة
للحسن والقبح العقليين إنما هو إذا كانا بمعنى استحقاق المدح أو الذم، والثواب
والعقاب في الآجل، أما إذا كان بمعنى النقص أو الكمال فهم يلتزمون بهما بلا كلام،
ونظرا إلى أن تنزيه الله تعالى عن القبيح واتصافه تعالى بالحكمة هما من الحسن
والقبح بمعنى النقص والكمال فهم قائلون بهما بلا إشكال.
ثالثها: أن يكون عارفا بالأحاديث الدالة على الأحكام، إما بالحفظ أو
بالرجوع إلى أصل صحيح، وأن يكون عارفا بأحوال الرجال ليعرف صحيح الأخبار
من معتلها، وأن يعرف أيضا من الكتاب ما يستفاد منه الأحكام وهو خمسمائة آية ولا
يشترط حفظها، بل معرفة دلالتها ومواضعها بحيث يجدها عند طلبها، وعمدة ما
يحتاج إليه هو علم الأصول بداهة أنه ما من مسألة إلا ويحتاج في استنباط حكمها
إلى قاعدة أو قواعد برهن عليها في علم الأصول أو برهن عليها مقدمة في نفس
المسائل الفرعية على ما هي طريقة المحدثين الأخباريين، ولا يوجب تدوين علم
الأصول على حدة أن يكون بدعة لعدم تدوينه في عصر الأئمة (عليهم السلام) وإلا كان تدوين
الفقه والنحو والصرف وغيرها من كثير من العلوم بدعة، وهذا ما لا يلزم به أحد.

291
قال شيخنا شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي رفع الله درجته
في فصل من بحث الاجتهاد ذكر فيه صفات المفتي وبيان أحكامهما، قال (قدس سره): لا
يجوز لأحد أن يفتي بشئ من الأحكام إلا بعد أن يكون عالما به، لأن المفتي يخبر
عن حال ما يستفتيه فيه، فمتى لم يكن عالما به فلا يأمن أن يخبر بالشئ على غير ما
هو به، وذلك لا يجوز، فإذن لا بد من أن يكون عالما، ولا يكون عالما إلا بعد أمور:
منها: أن يعلم جميع ما لا يصح العلم بتلك الحادثة إلا بعد تقدمة، وذلك نحو:
العلم بالله تعالى وصفاته وتوحيده وعدله، وإنما قلنا ذلك لأنه متى لم يكن عالما
بالله، لم يمكنه أن يعرف النبوة، لأنه لا يأمن أن يكون الذي ادعى النبوة كاذبا، ومتى
عرفه ولم يعرف صفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز، لم يأمن أن يكون قد صدق
الكاذب، فلا يصح أن يعلم ما جاء به الرسول. فإذن لا بد من أن يكون عالما
بجميع ذلك.
ولا بد أن يكون عالما بالنبي الذي جاء بتلك الشريعة، لأنه متى لم يعرفه لم
يصح أن يعرف ما جاء به من الشرع.
ولا بد من أن يعرف أيضا صفات النبي وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه، لأنه
متى لم يعرف جميع ذلك لم يأمن أن يكون غير صادق فيما يؤديه، أو يكون ما أدى
جميع ما بعث به، أو يكون أداة على وجه لا يصح له معرفته. فإذن لا بد من أن
يعرف جميع ذلك.
وإذا عرف جميع ذلك فلا بد أيضا أن يعرف الكتاب، فإنه يتضمن كثير من
الأحكام التي هي المطلوبة، ولا بد من أن يعرف ما لا يتم العلم بالكتاب إلا به،
وذلك يوجب أن يعرف جملة من الخطاب العربي، وجملة من الإعراب والمعاني،
ويعرف الحقيقة والمجاز والفرق بينهما لأنه متى لم يعرف ذلك لم يمكنه معرفة ما

292
تضمنه الكتاب.
ولا بد أن يعرف الناسخ والمنسوخ، لأنه متى عرف المنسوخ ولم يعرف
الناسخ اعتقد الشئ على خلاف ما هو به من وجوب ما لا يجب عليه، وقد كان
يجوز أن يعرف الناسخ وإن لم يعرف المنسوخ لأن المنسوخ لا يتعلق به فرضه وإن
كان له في تلاوته مصلحة إلا أن ذلك على الكفاية، غير أنه لو كان كذلك لم يمكنه أن
يعرفه ناسخا إلا بعد أن يعرف المنسوخ إما على الجملة أو التفصيل.
ولا بد أن يعرف العموم والخصوص والمطلق والمقيد، لأنه متى لم يعلم ذلك
لم يأمن أن يكون المراد بالعموم الخصوص وبالمطلق المقيد.
ولا بد أن يكون عالما بأنه ليس هناك دليل يصرفه عن الحقيقة إلى المجاز،
لأنه متى جوزه لم يكن عالما به.
ولا بد أيضا أن يكون عالما بالسنة، وناسخها ومنسوخها، وعامها وخاصها،
ومطلقها ومقيدها، وحقيقتها ومجازها، وأنه ليس هناك ما يمنع من الاستدلال بشئ
من ظواهرها كما قلناه في الكتاب، لأنه متى جوز ذلك لم يكن عالما بها.
ولابد أن يكون عارفا بالإجماع وأحكامه، وما يصح الاحتجاج به وما لا يصح.
ولابد أن يكون عارفا بأفعال النبي (صلى الله عليه وآله) ومواقعها من الوجوب والندب
والإباحة حتى يصح أن يكون عالما بما يفتي به، فإن أخل بذلك أو بشئ منه، لم
يأمن أن يكون ما أفتى به بخلاف ما أفتى به، وذلك قبيح.
وقد عد من خالفنا في هذه الأقسام أنه لابد أن يكون عالما بالقياس
والاجتهاد، وأخبار الآحاد، ووجوه العلل والمقاييس، وإثبات الأمارات المقتضية
لغلبة الظن وإثبات الأحكام. وقد بينا نحن فساد ذلك، وأنها ليست من أدلة الشرع.

293
انتهى شريف كلامه زيد في علو مقامه. (1)
المرحلة الخامسة: في التخطئة والتصريف.
اتفقت الكلمة بين العلماء على التخطئة في العقليات، بمعنى أن المجتهد
فيما يتعلق بالأحكام العقلية، يجوز أن يخطئ ويجوز أن يصيب، فليس بمصيب
على كل حال، وأما في الشرعيات - يعني الاجتهاد فيما يتعلق بالأحكام الشرعية -
فقد اختلفت فيه الكلمة، فذهب أصحابنا عامة إلى التخطئة في ذلك، بمعنى جواز
الخطأ على المجتهد فيما يتوصل إليه من الأحكام الشرعية، وذلك نظرا لما وقع
الاتفاق بينهم عليه، وتضافرت بذلك النصوص وتواترت على ذلك الروايات، من
أن لله تعالى في كل واقعة حكما ثابتا لا يغيره علم ولا جهل، ولا أثر فيه لاجتهاد
المجتهدين بوجه من الوجوه، والمجتهد قد يصل إليه وقد لا يصل إليه، فيخطأ
حينذاك أو يصيب.
هذا مذهب أصحابنا عامة، ويخالفهم في ذلك العامة، فقد ذهبوا إلى أن كل
مجتهد مصيب - على خلاف في كيفية هذه الإصابة - وعلى أي حال فإن كان غرضهم
من هذه الإصابة هو الالتزام بإنشاء أحكام في الواقع بعدد الآراء، بأن تكون الأحكام
المؤدي إليها الاجتهادات أحكاما واقعية كما هي أحكام ظاهرية، فقد ذهب هاهنا
بعض الأعلام من الأصحاب بأن هذا لا محالية فيه، وإنما هو مخالف لما تواتر من
الأخبار، مضافا إلى الاجماع على أن لله تعالى في كل واقعة حكما يشترك فيه العالم
بلا خلاف، وإن كان غرضهم منه الالتزام بإنشاء الأحكام على وفق آراء المجتهدين
بعد الاجتهاد، بمعنى أنه لا حكم هناك من رأس وإنما يخلق الحكم بعد اجتهاد
المجتهدين، ويحصل بعد حصول آراء المستنبطين. فهذا القول يحلل إلى وجهين،



(1) عدة الأصول: 2 / 727 - 729.
294
فإن التزم ذلك بالنسبة إلى الحكم الواقعي - بمعنى أنه لا حكم حتى واقعا لولا
الاجتهاد والاستنباط - فذلك مما يمنعه العقل، وهو من المحالية بمكان، إذ هو مضافا
إلى ما عرفت مما سلف من مخالفته المتواتر من الروايات، ومن الاجماع القائم على
أن لله تعالى في كل واقعة حكما يشترك فيه الجميع، يلزم منه أن لا يبقى موضوع
لاجتهاد المجتهدين، إذ ليس الاجتهاد في حقيقة واقعه وواقع حقيقته إلا استفراغ
الفقيه وسعه لاستنباط الأحكام الشرعية من مداركها الخاصة، فلا بد إذن من أن يكون
حكم محفوظ لا يغيره علم ولا جهل يفحص المجتهد عنه ويبحث المستنبط عنه
ليظفر به، وليس حتما أن يصل إليه، فقد يصل وقد لا يصل، والحكم هو الحكم في
كل تلك الأحوال والشؤون، فإذا لم يكن للحكم عين ولا أثر - وهذا نتيجة حتمية
لازمة لمن يرى هذا الرأي - فأي فحص حينذاك؟ وأي استنباط؟
نعم، إن أريد من الحكم هو الحكم الفعلي، ومعناه أن المجتهد وإن كان
يتفحص عما هو الحكم واقعا وإنشاء لكن ما يؤدي اجتهاده إليه يكون هو حكمه
الفعلي حقيقة، ونظرا إلى أن الحكم الفعلي هو عبارة عن الحكم الذي يتوصل إليه
كل مجتهد حسبما يوصله إليه اجتهاده خاصة، فلم يكن هو ذلك الحكم الذي
يشترك فيه العالم والجاهل، وليس هو بذلك الحكم الذي تتفق عليه الآراء، بل هو
مما يختلف باختلاف الآراء، فالتصويب بهذا المعنى لا استحالة فيه، وهذا هو المراد
من كلام بعض الأعلام ان ظنية الطريق لا تنافي قطعية الحكم، لكن هذا إنما يتم -
حسبما أفاده بعض المحققين - بناء على اعتبار الأخبار من باب السببية
والموضوعية، أما لو قيل باعتبارها من باب الطريقية - وهو الذي عليه أكثر المحققين
والمحقين - فليس الأمر كذلك، إذ مؤديات الطرق والأمارات المعتبرة على هذا
الاعتبار ليست بأحكام حقيقية نفسية، وليس معنى الحكم بحجيتها إلا تنجز مؤدياتها
عند إصابتها والعذر عند خطئها فقط وليعلم أن هذا الذي ذكرناه من الخطيئة هو رأي

295
أصحابنا الإمامية عامة.
قال شيخنا الأكبر شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي نور الله ضريحه في كتابه
" العدة في علم الأصول " عند هذا المقام: والذي أذهب إليه وهو مذهب جميع
شيوخنا المتكلمين من المتقدمين والمتأخرين، وهو الذي اختاره سيدنا
المرتضى (رحمه الله) وإليه كان يذهب شيخنا أبو عبد الله (قدس سره)، أن الحق في واحد وأن عليه
دليلا، من خالفه كان مخطئا فاسقا. (1)
وقال آية الله جمال الملة والدين في كتابه " التهذيب في علم الأصول " عند
هذا المقام عند نقل ما هنالك من قول وكلام:
لنا: إن إحدى الأمارتين إن ترجحت على الأخرى تعينت للعمل، فالمخالف
لها مخطئ وإن لم يترجح، كان اعتقاد كل واحد من المجتهدين لرجحان أمارته خطأ
أيضا، ولأن المكلف إن كلف لا عن طريق كان حكما في الدين إما تشهيا أو بما لا
يطاق وإن كلف عن طريق، فإن خلا عن المعارض تعين وإلا فالراجح، فإن عدم
الرجحان فالحكم إما التساقط أو التخيير أو الرجوع إلى غيرهما. وعلى كل تقدير
فالحكم معين، فالمخالف له مخطئ فالمصيب واحد. انتهى كلامه علا مقامه. (2)
وقال (قدس سره) في كتاب " كشف الحق " عند البحث في الاجتهاد:
ذهبت الإمامية إلى أن المصيب في الفروع واحد، وأن لله تعالى في كل مسألة
حكما، وله عليه دليل إما قطعي أو ظني، وأن المقصر في اجتهاده على تحصيل ذلك
آثم، وخالف فيه جماعة، واضطرب كلام الفقهاء الأربعة: الشافعي وأبي حنيفة



(1) عدة الأصول: 2 / 725.
(2) تهذيب الوصول إلى علم الأصول: 287 - 288.
296
ومالك وأحمد، فتارة قالوا بالتصويب لكل مجتهد، وتارة قالوا كقولنا، إن الأحكام
تابعة للمصالح والوجوه التي تقع عليها الأفعال، وذلك لا يكون إلا واحدا ولأنه لو
كان كل مجتهد مصيبا لزم اجتماع النقيضين، لأن المجتهد إذا غلب على ظنه أن
الحكم هو الحل فلو قطع بأنه مصيب لزم منه القطع بالمظنون والاجماع من الصحابة
على إطلاق لفظ الخطأ في الاجتهاد.
قال أبو بكر: أقول في الكلالة برأيي، فإن كان صوابا فمن الله تعالى، وإن كان
خطأ فمني ومن الشيطان. (1)
وقال عمر لكاتبه: اكتب: هذا ما رأى عمر، فإن كان خطأ فمنه، وإن كان صوابا
فمن الله. (2)
وردت عليه امرأة في المغالاة في المهور، فقال: أصابت المرأة وأخطأ
عمر. (3)
وخطأ ابن عباس جماعة في قولهم بالعول، وقال: من باهلني باهلته، وإن الله
تعالى لم يجعل في مال واحد نصفين وثلثا، هذان نصفان ذهبا بالمال فأين موضع
الثلث؟
وأيضا الدليلان إن تساويا تساقطا وإلا وجب التراجح والإجماع على شرع
المناظرة، فلو لم يكن تبيين المطلوب مطلوبا للشارع لم يكن كذلك، ولأن المجتهد
طالب فلا بد له من مطلوب، ولأنه يلزم اجتماع النقيضين لأن الشافعي إذا اجتهد



(1) المستصفى للغزالي: 361، الإحكام للآمدي: 3 / 287.
(2) السنن الكبرى للبيهقي: 10 / 116، المستصفى للغزالي: 361.
(3) المستصفى للغزالي: 361، الإحكام للآمدي: 4 / 187.
297
وقال لزوجته الحنفية المجتهدة: أنت بائن، ثم راجعها فإنها تكون حراما بالنظر إليها
وحلالا بالنظر إلى الزوج، وكذا لو تزوجها ولي ثم تزوجها آخر بولي. انتهى كلامه رفع
مقامه.
المرحلة السادسة: في أنه هل يجوز للنبي (صلى الله عليه وآله) أن يعمل بالاجتهاد أو لا؟
الذي قامت عليه كلمة الطائفة الإمامية وانعقد إجماعهم عليه هو أنه لا يجوز، أما
إخواننا أهل السنة والجماعة فالأكثر - إن لم نقل الكل - جوزوه، بل ادعوا الوقوع.
ونحن لو حاولنا أن نقف أمام هذه المسألة موقف النقاش والحساب لا نرى
وجها وجيها لما يدعون، فقد عرفت فيما سلف حقيقة الاجتهاد ومعناه ومغزاه
ومرماه، وحقيقة الاجتهاد هي حقيقته عند الجميع، وكيف تتفق تلك الحقيقة مع
تجويزه على قدسية النبي الكريم! فإن الاجتهاد استنباط الفقيه الحكم من طرقه
القطعية أو الظنية، وهذا بحقيقته وحاقه كيف يتفق وما أصحر به القرآن الكريم من
قوله سبحانه: * (وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى) * (1) فمن حصر
القرآن نطقه بالوحي، ومن خص بالوحي أي حاجة له إلى استعمال الوسائل
والوسائط التي لا يلتزمها الملتزمون إلا حيث يضطرون، وهل الالتزام بهذا إلا اجتهاد
في قبال النص، وهل هو إلا تجويز الاجتهاد على النبي في قبال النص الصريح، وهذا
كما تراه من البطلان مراغمة لصراحة القرآن وجحد لنص الآيات * (فبأي حديث بعد
الله وآياته يؤمنون) * (2) فالنبي الأكرم لا يصدر حكما شرعيا يشفعه في عقيدة أو
عمل إلا عن طريق الوحي والالهام، وهذا هو شأن الأنبياء، وهكذا ينبغي أن يكون،
وما هنا وهناك مما ستعرفه في طوايا هذه البحوث، مما عدوه أو زعموه من



(1) سورة النجم: 3 - 4.
(2) سوره الجاثية: 6.
298
الاجتهاد، فليس هو من الاجتهاد في قليل ولا كثير، ذلك أنه منه (صلى الله عليه وآله) عمل لم يعلم
وجهه، فلعله لم يلتزم بتلك الحوادث - حيث التزم بها - لحكم شرعي شأنه شأن سائر
الأحكام والتكاليف، فلعله كان عملا شخصيا ألزم به نفسه لمصلحة تقتضيها
تخصيصات الوحي الإلهي بنفسه القدسية الكريمة، ولنفرض - جدلا - أن تلك
الحوادث التزم بها التزامه بسائر الأحكام والتكاليف، فهذا أيضا لا يبرر لنا أن نزجه في
صغريات الاجتهاد، فإن فعله (صلى الله عليه وآله) هو السنة، وقد عرفت أنها مصدر من مصادر
التشريع. إذن فهذا منه تشريع لا اجتهاد، ثم ما يرد بعد ذلك عليه نسخ لذلك
التشريع، فإن السنة تنسخ بالكتاب على الرأي الشهير.
وحيث إنك عرفت أن هذا - أعني منع تجويز الاجتهاد على النبي (صلى الله عليه وآله) - هو
رأي الإمامية عامة فلنمتع الأسماع والأبصار بتشريفها وتشنيفها بما لهم من عبقات
عطرات في كلمات خالدات تعميما للنفع وزيادة للفائدة لما في طواياها من بحوث
وبحوث.
قال آية الله في العالمين جمال الملة والدين العلامة الحلي أعلى الله درجته
في كتابه المسمى ب‍ " التهذيب في علم الأصول " في بحث الاجتهاد.
الحق أنه (عليه السلام) لم يكن متعبدا بالاجتهاد لقوله تعالى: * (وما ينطق عن
الهوى) * (1) ولأنه قادر على تحصيل العلم، فلا يجوز له العمل بالظن، ولأن مخالفه
كافر، ومخالف المجتهد ليس بكافر، ولأنه كان يتوقف في الأحكام على الوحي،
ولأن تجويز اجتهاده يفضي إلى تجويز اجتهاد جبرئيل (عليه السلام) فيندفع القطع بالوحي،
احتج الشافعي بأن العمل بالاجتهاد أشق، ولقوله تعالى: * (عفا الله عنك) * (2)



(1) سورة النجم: 3.
(2) سورة التوبة: 43.
299
ولقوله (عليه السلام): " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي " (1).
والجواب: أن المشقة إنما يثبت اعتبارها مع التسويغ شرعا، والعفو عن
أصحابه، أو أن الإذن شرط في الإباحة، فصح استناد العفو منه، وعدم سياق الهدي
لا يدل على أن سياقه بالاجتهاد. (2) انتهى شريف كلامه، زيد في منيف مقامه.
وقال شيخنا شيخ الطائفة الشيخ أبو جعفر الطوسي رفع الله درجته في كتابه
المسمى ب‍ " العدة في علم الأصول " عند بحث الاجتهاد:
فصل: في أن النبي (صلى الله عليه وآله) هل كان مجتهدا في شئ من الأحكام، وهل كان
يسوغ ذلك له عقلا أم لا؟ وأن من غاب عن الرسول (صلى الله عليه وآله) في حال حياته هل كان
يسوغ له الاجتهاد أو لا؟ وكيف حال من بحضرته في جواز ذلك؟
اعلم أن هذه المسألة تسقط على أصولنا لأنا قد بينا أن القياس والاجتهاد لا
يجوز استعمالهما في الشرع، وإذا ثبت ذلك فلا يجوز للنبي (صلى الله عليه وآله) ذلك ولا لأحد من
رعيته حاضرا كان أو غائبا لا حال حياته ولا بعد وفاته استعمال ذلك على كل حال،
وأما على مذهب المخالفين لنا في ذلك فقد اختلفوا، فذهب أبو علي وأبو هاشم
إلى أنه لم يتعبد بذلك في الشرعيات ولا وقع منه الاجتهاد فيها، وأوجبا كونه متعبدا
بالاجتهاد في الحروب.
وحكي عن أبي يوسف القول بأن النبي (صلى الله عليه وآله) قد اجتهد في الأحكام، وذكر
الشافعي في كتاب الرسالة ما يدل على أنه يجوز أن يكون في أحكامه ما قاله من جهة
الاجتهاد. وادعى أبو علي الاجماع على أنه لم يجتهد النبي (صلى الله عليه وآله) في شئ من الأحكام



(1) مسند أحمد بن حنبل: 6 / 247، السنن الكبرى للبيهقي: 5 / 6 و 95.
(2) تهذيب الوصول إلى علم الأصول: 283 - 284.
300
لم يجب أن تجعل أصلا ولا كفر من رده، بل كان يجوز مخالفته كما يجوز مثل ذلك
في أقاويل المجتهدين، فلما ثبت كفر من رد بعض أحكامه وخالفه وساغ جعل
جميعها أصولا، دل على أنه حكم به من جهة الوحي، وهذا الدليل ليس بصحيح،
لأنه لا يمتنع أن يقال: إن في أحكامه (صلى الله عليه وآله) ما حكم به من جهة الاجتهاد ومع ذلك لا
يسوغ مخالفته من حيث أوجب الله تعالى اتباعه وسوى في اتباعه ذلك بين ما قاله
بوحي وبين ما قاله من جهة الاجتهاد، كما يقول من قال: إن الأمة يجوز أن تجمع
على حكم من طريق الاجتهاد وإن كان لا يجوز خلافه، وإذا ثبت ذلك لم يمكن
التعلق بما حكيناه، ويمكن أن يستدل على ذلك بقوله تعالى: * (وما ينطق عن
الهوى * إن هو إلا وحي يوحى) * (1) فحكم بأن جميع ما يقوله وحي يوحى،
فينبغي أن لا يثبت ذلك من جهة الاجتهاد، والمعتمد ما قلناه أولا من عدم الدليل
على ورود العبادة بالقياس والاجتهاد في جميع المكلفين وعلى جميع الأحوال.
فأما من حضر النبي (صلى الله عليه وآله) فذهب أبو علي إلى أنه لا يجوز له أن يجتهد، ويجوز
ذلك لمن غاب. ومن الناس من يقول: إن لمن حضر النبي (صلى الله عليه وآله) أيضا أن يجتهد،
ويستدل على ذلك بخبر يروى أن النبي (صلى الله عليه وآله) أمر عمرو بن العاص وعقبة بن عامر أن
يقضيا بحضرته بين خصمين، وقال لهما: " إن أصبتما فلكما عشر حسنات وإن
أخطأتما فلكما حسنة " (2)، وهذا خبر ضعيف من أخبار الآحاد التي لا يعتمد في مثل
هذه المسألة، لأن طريقها العلم، والمعتمد في هذه المسألة أيضا ما قدمناه من عدم
الدليل على ورود العبادة بالقياس والاجتهاد، وذلك عام في جميع الأحوال. (3)
انتهى شريف كلامه زيد في منيف مقامه.



(1) سورة النجم: 3 - 4.
(2) كنز العمال: 6 / 99 - 100 ح 1508، 1519، 1520، 1522.
(3) عدة الأصول: 2 / 733 - 735.
301
وقال أيضا جمال الملة والدين العلامة الحلي أعلى الله درجته في كتابه
المسمى " كشف الحق ":
ذهبت الإمامية - وجماعة تابعوهم - إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم يكن متعبدا
بالاجتهاد في شئ من الأحكام خلافا للجمهور، لقوله تعالى: * (وأن احكم بينهم بما
أنزل الله) * (1) * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) * (2) * (وما
ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى) * (3) * (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء
نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي) * (4) ولأنه لو كان مجتهدا في الأحكام لجاز لنا
مخالفته للاجماع على أن حكم الاجتهاد ذلك، ومخالفته حرام بالإجماع، ولأن
الاجتهاد قد يخطئ والخطأ من النبي (صلى الله عليه وآله) عندنا محال على ما تقدم في العصمة،
خلافا لهم، ولأنه لو كان متعبدا بالاجتهاد لما أخر الأجوبة عن المسائل الواردة عليه
حتى يأتيه الوحي، لأنه تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو محال، ولأنه لو كان
متعبدا بالاجتهاد لزم أن يكون مرتكبا للحرام، والتالي باطل فالمقدم مثله، وبيان
الملازمة أن الاجتهاد يفيد الظن، والوحي يفيد القطع، والقادر على الدليل القطعي
يحرم عليه الرجوع إلى الظن بالاجماع، ولأنه لو كان متعبدا بالاجتهاد لنقل، لأنه من
أحكام الشريعة ومن الأدلة العامة، ولأنه لو كان متعبدا بالاجتهاد لنقل اجتهاده في
كثير من المسائل والتالي باطل فالمقدم مثله. انتهى كلامه رفع مقامه.
وقال القاضي ابن روزبهان في رده عليه:



(1) سورة المائدة: 49.
(2) سورة المائدة: 44.
(3) سورة النجم: 3 - 4.
(4) سورة يونس: 15.
302
أقول: ذهب علماء السنة إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يجوز له الاجتهاد في بعض
الأحكام، وذلك لكونه قادرا على الاستنباط من أحكام الله تعالى ولا مانع له من
ذلك، واستدل هذا على عدم جوازه بوجوه:
الأول: بالآيات الدالة على وجوب الحكم بما أنزل الله تعالى، وبعدم النطق
عن الهوى، وبعدم جواز التبديل له من عند نفسه.
والجواب: إن الآيات لا تدل على عدم جواز الاجتهاد لأن المجتهد يحكم بما
أنزل الله، لأن حكم الله إما مصرح أو مستنبط مما صرح به، والاجتهاد من هذا
القسم، فهو حكم الله.
الثاني: عدم جواز مخالفته، مع الاجماع على جواز مخالفة المجتهد.
والجواب: إن هذا الجواز في مجتهد لا يكون صاحب الشرع فإن ما حصل من
الاجتهاد هو النص، فكيف يجوز مخالفته.
الثالث: جواز الخطأ على المجتهد، بخلافه عليه الصلاة والسلام.
والجواب: ما سبق أن هذا في مجتهد لا يكون قوله نصا، ومن كان قوله نصا،
فلا يجوز أن يحكم عليه بالخطأ.
الرابع: تأخير الأجوبة عن المسائل، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
والجواب: ربما يكون التأخير لعدم حصول شرائط الاجتهاد والاشتغال بغيره
من الشواغل الدينية مع أن هذا لازم في القول بعدم الاجتهاد، للزوم نزول الوحي
عند السؤال وعدم جواز التأخير، وإلا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولو جاز في
الوحي جاز في الاجتهاد.

303
الخامس: لزوم ارتكاب الحرام لقدرته على اليقين عن الوحي والاقتصار على
الظن حرام عليه.
والجواب: منع إفادة اجتهاد الظن هذا في غيره من المجتهدين، فلا يكون
مقتصرا على الظن فيندفع المحذور.
السادس: لو اجتهد لنقل لأنه من أحكام الشريعة.
والجواب: إنه منقول ولا يعد دليلا على حدة، لدخوله في مطلق الاجتهاد
والنص.
السابع: لو اجتهد لنقل اجتهاده في كثير من المسائل، ولم ينقل.
والجواب: إن مجتهداته داخلة في النصوص فذكرت في عددها. انتهى كلامه.
وقال سيدنا المجاهد الشهيد القاضي نور الله تعالى مرقده في رده على ابن
روزبهان:
أقول: فيه نظر من وجوه:
أما أولا: فلأن قوله: قادر على الاستنباط من أحكام الله تعالى، مما لا محصل
له، وإنما الأحكام تستنبط من غيرها.
وأما ثانيا: فلأن قوله: ولا مانع من ذلك، ممنوع، إذ رب فضيلة يتركها لمانع،
كما أنه ترك تعلم فضيلة الخط لئلا يقول الطاعن: إنه ينقل من كتب الأولين، فجاز أن
يترك الاجتهاد لئلا يقول الطاعن: إنه لو أوحي إليه لما اجتهد.
وأما ثالثا: فلأن ما ذكره في الجواب عن الآيات فاسد لفظا ومعنى، أما لفظا:
فلأنه لا محصل لقوله: أو مستنبط مما صرح به، عديلا لقوله، وأما مصرح به، فافهم.

304
وأما معنى: فلأن كون الاجتهاد الذي وقع الاختلاف في نفيه وإثباته هو الاستنباط مما
صرح به تعالى، غير مسلم، إذ الكلام في أنه هل يجوز للنبي (صلى الله عليه وآله) أن يجتهد برأيه
ومن تلقاء نفسه عند عدم الوحي الصريح والخفي أو لا.
وأما فهمه (صلى الله عليه وآله) الحكم مما صرح به تعالى فلا يسمى اجتهادا، ولو سمي به
يكون خارجا عن محل النزاع، على أن هذا الجواب لا يصير جوابا عن الآية الثالثة
كما لا يخفى، لأن الحكم المستنبط من الوحي بالاجتهاد لا يسمى وحيا، وإلا لزم
صحة أن يقال: المجتهدون من أمته (صلى الله عليه وآله) لا ينطقون عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى،
وهو ظاهر البطلان، لأن الغرض من الآية أن كلامه (صلى الله عليه وآله) خال عن شائبة الريب، وليس
كلام المجتهد كذلك، وأيضا يلزم جواز التنافي والتناقض على الوحي على حسب
اختلاف اجتهاد المجتهدين في الأحكام، وهو ظاهر البطلان.
نعم، الوحي هو الأمر بالاجتهاد عند عدم النص دون الحكم الحاصل
بالاجتهاد والكلام فيه.
وأما رابعا: فلأن ما ذكره في الجواب عن الدليل الثاني من أن هذا في مجتهد
لا يكون صاحب الشرع، فهذا تخصيص من خواص اختراعاته فإن الاجتهاد
اصطلاحا هو استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي. وصرح الشارح
العضد هاهنا بأن المجتهد فيه حكم ظني شرعي عليه دليل، ولم يفرقوا بين اجتهاد
الرسول (صلى الله عليه وآله) وغيره في جواز المخالفة ولا في حقيقة الاجتهاد، وأما ما ذكره من أن ما
حصل بالاجتهاد هو النص فكيف يجوز مخالفته؟ ففيه: أنه إن أراد أن ما حصل من
اجتهاد النبي قول منصوص لا يحتمل غير ما يفهم منه، فهو لا يفيد كما لا يخفى،
وإن أراد أنه قانع فغير مسلم لأن المفروض أنه لم يحصل من الوحي ونصه، بل
حصل بالاجتهاد والظن، وعلى تقدير الاجتهاد لا يعلم النبي (صلى الله عليه وآله) الحكم قطعا فكيف

305
يحصل لغيره العلم به حتى لا يجوز خلافه.
ولو قيل: إن اجتهاده (عليه السلام) يؤدي إلى القطع بخلاف اجتهاد غيره لكان هذا
اصطلاحا جديدا يوجب جعل النزاع لفظيا، وفيه ما فيه، وبما ذكرنا في دفع هذا
الجواب اتضح ما ذكرناه في الجواب عن الدليل الثالث أيضا، فتأمل.
وأما خامسا: فلأن ما ذكره في الجواب عن الدليل الرابع من أنه ربما يكون
التأخير لعدم حصول شرائط الاجتهاد إلى آخره مدخول، بأن المأخوذ في كلام
المصنف (قدس سره) أنه كان يؤخر جواب المسائل إلى نزول الوحي بمعنى أنه بعد التأخير
كان يجيب بأن الوحي نزل بكذا، فلو كان جواب بعض المسائل بالاجتهاد لما اطرد
التأخير والجواب على ذلك الوجه، وأيضا التأخير في جواب المسائل كان كثير
الوقوع، وكان أكثر السؤالات عنه في مسجد المدينة شرفها الله تعالى من غيره
اشتغال بأمر ديني أهم من جواب سؤال المسترشدين، فاحتمال كون التأخير لأجل
ما ذكر إنما يجري في النادر والكلام في الكثير الشائع.
والحاصل: إن الشائع المستفيض من حاله (صلى الله عليه وآله) عند سؤال ما كان يؤخر
الجواب عنه أنه كان بعد التأخير يأتي بالوحي من الله تعالى، وما كان يرتب القياس
الفقهي، فليس لما ذكره الناصب من الاحتمال مجال أصلا، كما لا يخفى. وأما ما
زعمه من أن ما ذكره المصنف في تأخير الاجتهاد من لزوم تأخير البيان عن وقت
الحاجة لازم في تأخير الوحي، مردود بأن تأخير الوحي ربما جاز على الله تعالى
لمصلحة كابتلاء القوم أو غضبه عليهم، أو لأنه لا يجب عليه شئ - على قاعدة
الأشعري - بخلاف تأخير النبي (صلى الله عليه وآله) في اجتهاده لجواب مسائل الأمة فإنه لا يصح
تعليله بشئ من ذلك، كما لا يخفى. ولو كان واجبا على الله تعالى جواب كل سؤال
في زمان لدام الوحي بدوام السؤال، ولكان الوحي نازلا عند سؤالنا عن تحقيق هذه

306
المسألة، وبطلانه أظهر من أن يخفى.
وأما سادسا: فلأن جوابه عن الدليل الخامس هو الجواب عن الثاني والثالث،
والدفع الدفع، فتذكر.
وأما سابعا: فلأن ما ذكره في الجواب عن الدليل السادس مدفوع بأن
المصنف قال في هذا الدليل، أنه لو كان (صلى الله عليه وآله) متعبدا بالاجتهاد كان كذا، لا أنه لو
اجتهد كان كذا، وفرق ما بينها ظاهر.
والحاصل أنه (صلى الله عليه وآله) لو كان متعبدا بالاجتهاد لنقل عنه (صلى الله عليه وآله) أنه متعبد به، وحينئذ
ما ذكره الناصب من الجواب، بعضه كاذب في مقابله، وبعضه غير مرتبط به، فتأمل.
وأما ثامنا: فلأن ما ذكره في الجواب عن السابع ضعفه ظاهر جدا، إذ لو كان
مجرد دخوله في النصوص كافيا في ذكره في عددها من دون تمييز حكمه ونحوه،
لاكتفوا بذكر أقواله وأفعاله وتقريراته أيضا مجملا من غير تمييز بينها في الأحكام
والأقوال، مع أن هذا الناصب حكم بأن مجتهدات النبي (صلى الله عليه وآله) قطعية، فالاهتمام بشأن
المجتهدات القطعية وتمييزها من غيرها من المظنونات يكون واجبا. انتهى كلامه
رفع مقامه.
وأقول في ما ذكره جمال الملة والدين العلامة أعلى الله مقامه في ما ذكره ابن
روزبهان وفيما ذكره سيدنا القاضي نور الله تعالى مرقده في هذا وذلك وذاك مواقع
للتأمل والنظر ضربنا عن بيانها صفحا حبا بالاختصار، وقد يظهر بعضها من مطاوي ما
ذكرناه من كلام شيخنا شيخ الطائفة الشيخ أبي جعفر الطوسي نور الله ضريحه،
فلنأخذ بزمام اليراع إلى بحث آخر.
المرحلة السابعة: في التقليد، وفيه بحوث:

307
البحث الأول: في تحقيق حقيقة التقليد، وتعريف معناه.
التقليد في اللغة: هو عبارة عن أخذ القلادة، أو جعل القلادة على شئ، وهذا
هو المراد منه في باب تقليد الهدي في باب كفارة الإحرام، وقد استعير هذا المعنى
لما نحن فيه، إذ أن المقلد يجعل فتوى المجتهد قلادة له، أو يجعل أمر حكمه
الشرعي قلادة في رقبة المجتهد لتخلص المقلدين من أعباء تبعة الأحكام وإلقائها
في رقبة المجتهدين.
هذا من ناحية مفهوم الكلمة اللغوي أو اشتقاقها الصرفي أو استعارتها البيانية،
أما من ناحية مفهومها الاصطلاحي أو مصطلحها العلمي الجاري على ألسنة
الأصوليين والفقهاء فأمر قد اختلف فيه.
عرف بعض العلماء التقليد: بأنه هو أخذ قول الغير ورأيه للعمل به في
الفرعيات، أو للالتزام في الاعتقاديات تعبدا بلا مطالبة دليل على رأيه.
فأنت ترى أن التقليد عرف هنا: بأنه الأخذ فقط، وجعل العمل والالتزام
نتيجتين أو ثمرتين لهذا الأخذ مترتبين عليه.
وعرفه آخرون: بأنه الالتزام بفتوى مجتهد من المجتهدين، فجعل التقليد
نفس الالتزام.
وعرفه ثالث: بأنه العمل بقول الغير وفتواه، فلم يكتف بالأخذ، ولم يقنع
بالالتزام في تحقق حقيقة التقليد ومعناه، بل جعله نفس العمل، ونحن حيث نحاول
فهم الحق أو تحقيق الحقيقة حسبما استفدناه من بحوث مشايخنا المحققين، نرى
أن القول بأن التقليد هو العمل، أقرب إلى الحقيقة من القول بأنه هو أخذ الفتوى فقط
والالتزام القلبي فحسب، أو أخذ الرسالة من المجتهد وإن لم يعلم بأصل فتواه، ليس

308
التقليد هذا ولا ذلك ولا ذاك إنما هو كما مر وكما عرفت هو العمل على طبق فتوى
أحد المجتهدين.
نعم، الأخذ أو الالتزام طريق إلى العمل برأي المجتهد لا موضوعية له في
حقيقة التقليد، كما ستراه وسترى أن مبدأ اشتقاق التقليد الصرفي أو استعارته البيانية
يقضيان بما نقول، ذلك إن جعل المقلد فتوى المجتهد قلادة له إنما يحققه العمل
بها، وصرف الالتزام بلا عمل لا يكون تقليدا لتلك الفتوى المتعلقة بالعمل، فحقيقة
التقليد في المقام لا تتحقق إلا بتحقيق العمل بداهة إن أخذ الحكم العملي للعمل لا
يتحقق إلا بتطبيق العمل. أضف إلى ذلك أنه لو سألنا القائل بأن التقليد هو الأخذ
بقول الغير: ما مرادك بهذا الأخذ؟ وما هي حقيقة معناه؟ فإن أردت بالأخذ هو مجرد
العلم والاستعلام، فهذا ليس بتقليد بلا كلام، وإن أردت به الالتزام والتعبد بمقتضاه
بحيث يكون هناك واجب آخر متعلق بالقلب من قبيل الالتزامات والتدينات، فلزوم
ذلك على المكلف ممنوع، ولا دليل عليه، وما بعث القائلين على القول بأن التقليد:
هو الأخذ أو الالتزام إلا تخيل أن العمل مشروط بالتقليد، بمعنى أنه يشترط في عمل
المكلف أن يكون عملا عن تقليد، فلو كان التقليد هو العمل كان العمل بلا تقليد، أو
حصل الدور المعروف، هذا كل أو جل ما دعاهم إلى الالتزام بأن التقليد هو الأخذ أو
الالتزام، لكن دفع هذا الوهم هين يسير، ذلك أن يقال: إن المعتبر في العمل هو
وقوعه على وجه التقليد، يعني صدوره مطابقا لرأي الغير عند المكلف، فالعمل لا
يتوقف على سبق التقليد، ولا يلزم من عدم سبقه كون العمل بلا تقليد، إذ صحة
العمل لا تتوقف على أكثر من كونه صادرا ممن يرى مطابقته لفتوى الغير ولو كان
ذلك عن طريق مقارنة العمل للأخذ والالتزام، ولا ضرورة للالتزام بسبق هذا الأخذ
والالتزام.

309
البحث الثاني: في الدليل على جواز التقليد
جواز التقليد يستدل عليه بالأدلة الأربعة: الكتاب، والسنة، والاجماع،
والعقل. وقد أضاف إلى ذلك بعض أعلام المحققين من العلماء: الفطرة والبداهة،
وستعرف كل ذلك تفصيلا في العاجل القريب.
أما الكتاب: فيستدل منه بآيات، منها قوله عز من قائل: * (فاسألوا أهل
الذكر) * (1) لكن نوقش في دلالة الآية: أولا: بأن السؤال فيها إنما هو لغرض تحصيل
العلم لا الأخذ تعبدا، وإنما يستفاد منها الدلالة على جواز التقليد بناء على المعنى
الثاني لا الأول. وثانيا: بأن سوق الآية يدل على أن المراد بالمسؤولين هم أهل
الكتاب فلا علاقة لها في هذا المقام.
أجيب عن الأول: بأن احتمال كون الغرض من السؤال هو تحصيل العلم لا
الأخذ تعبدا احتمال ضعيف يدفعه عموم السؤال أو إطلاقه، فلا بد من الأخذ
بالعموم والاطلاق.
وأجيب عن الثاني: بأن خصوصية الورود لا تخصص الوارد، فيكون كقانون
عام وموردها أحد المصاديق، على أن رواة التفسير فسروها بأهل البيت أهل بيت
العصمة من آل النبي (صلى الله عليه وآله)، ويكون هذا قرينة على أنها لم تخصص بموقع السياق
ومحل الورود.
ومن الآيات التي استدل بها في المقام وعلى المقام " آية النفر " وهي الآية التي
استفتحنا بها هذا الموضوع وجعلناها له فاتحة الكلام، وقد أشكل عليها على حد ما
أشكل على سابقتها، والجواب الجواب سواء بسواء.



(1) سورة النحل: 43، سورة الأنبياء: 7.
310
أما السنة: فقد استدل منها بروايات عن الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) يدل
بعضها على الموضوع عن طريق المفهوم والملازمة، ذلك مثل الرواية الواردة عن
الإمام الصادق (عليه السلام) في شأن زرارة، ومضمونها، أو لفظها: هذا: " إني أحب أن أرى في
أصحابي مثلك من يفتي الناس " (1) ولا ريب أن محبة الإمام (عليه السلام) لإفتائه أو إفتاء أمثاله
تدل بالملازمة العرفية على وجوب اتباعه، وإلا لغيت هذه المحبة، أو لغي هذا
الافتاء، ولعل في الاستدلال بهذه الآية نظرا لا يحتمله اختصار هذا الكتاب.
ومن تلك الروايات الواردة في المقام الرواية الواردة عن حادي عشر أئمة أهل
البيت (عليهم السلام) الحسن بن علي العسكري عليه وعلى آبائه أزكى التحية وأسنى السلام،
وهذه هي الرواية الشريفة: " وأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، مخالفا لهواه، مطيعا
لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه ". (2)
هذا شئ أو بعض شئ من الروايات الواردة في المقام، الدالة على وجوب
التقليد، أو جوازه عن طريق الصراحة، أو طريق الملازمة، وفي قليلها - ولا يقال له
قليل - ما يغني عن الكثير، فلنأخذ بالدليل الآخر وهو:
الثالث من الأدلة: وهو الاجماع.
ادعى جماعة من علمائنا المحققين الاجماع على وجوب التقليد أو جوازه،
فلا عبرة إذن، بخلاف معتزلة بغداد حيث حكي عنهم أنهم قالوا: لا يجوز للمكلف
أن يقلد المفتي ويرجع إلى فتياه، وإنما ينبغي أن يرجع إليه لينبهه على طريقة العلم
بالحادثة وأن تقليده محرم على كل حال، ولم يفرقوا في ذلك بين الفروع والأصول،



(1) اصطلاحات الأصول للمشكيني: 20.
(2) وسائل الشيعة: 27 / 131 ح 20.
311
لا عبرة بهذا الخلاف، كما لا عبرة بخلاف جماعة من الشيعة الإمامية وجماعة من
فقهاء حلب فأوجبوا على العوام الاستدلال واكتفوا فيه بمعرفة الاجماع والنصوص
الظاهرة، وأن الأصل في المنافع الإباحة، وفي المضار الحرمة مع فقد نص قاطع في
متنه ودلالته، والنصوص محضورة، نقل ذلك عن الشهيد أعلى الله درجته في ذكراه،
ورده (قدس سره) بأنه يدفعه إجماع السلف والخلف على الاستفتاء من غير نكير ولا تعرض
لدليل.
نعم، ناقش في هذا الاجماع بعض أجلة المحققين من المتأخرين بأن تحصيل
الاجماع في مثل هذه المسألة مما يمكن أن يكون القول فيه - لأجل كونه من الأمور
الفطرية الارتكازية - بعيد، والمنقول منه غير حجة في مثل هذه المسألة.
ومهما يكن من أمر فإننا نعرض ونستعرض من أقوال أجلة علمائنا الكرام ما
يكون برهانا واضحا على تحقق هذا الاجماع، وأن دعواه دعوى مدعومة بدليل.
قال شيخنا جمال الملة والدين أعلى الله درجته في كتابه المسمى ب‍ " التهذيب
في علم الأصول ":
الحق إنه يجوز للعامي أن يقلد في فروع الشرع، خلافا لمعتزلة بغداد، وجوزه
الجبائي في مسائل الاجتهاد دون غيرها.
لنا: قوله تعالى: * (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) * (1) أوجب التعليم على
بعض الفرقة، فجاز لغيرهم التقليد، ولأن الحادثة إذا نزلت بالعامي فإن لم يكن مكلفا
فيها بشئ فهو باطل بالإجماع، وإن كان مكلفا فإن كان بالاستدلال فإن كان بالبراءة
الأصلية فهو باطل بالإجماع، وإن كان بغيرها فإن لزمه ذلك حين استكمل عقله فهو



(1) سورة التوبة: 122.
312
باطل بالإجماع، وإن كان حين حدوث الحادثة لزم ذلك تكليف ما لا يطاق.
أما مسائل الأصول فالحق المنع من التقليد فيها، وجوزه قوم من الفقهاء.
لنا: إنه (عليه السلام) مأمور به بالعلم فيجب علينا، ولأن تقليد غير معلوم الصدق قبيح
لاشتماله على جواز الخطأ، وقبول النبي (صلى الله عليه وآله) من الأعرابي الشهادتين لعلمه تحصيل
أصول العقيدة وإن لم يتمكن من التعبير عن تلك الأدلة والجواب عن تلك الشبهات.
انتهى موقع الشاهد من كلامه، زيد في علو مقامه.
وقال شيخنا شيخ الطائفة أبو جعفر الشيخ الطوسي رفع الله درجته في كتابه
المسمى ب‍ " العدة في علم الأصول " في هذا المقام، قال (قدس سره) في جملة ما قال:
وأما المستفتي فعلى ضربين:
أحدهما: أن يكون متمكنا من الاستدلال والوصول إلى العلم بالحادثة مثل
المفتي، فمن هذه صورته لا يجوز له أن يقلد المفتي ويرجع إلى فتياه، وإنما قلنا ذلك
لأن قول المفتي غاية ما يوجبه غلبة الظن، وإذا كان له طريق إلى حصول العلم فلا
يجوز له أن يعمل على غلبة الظن على حال،.
وثانيهما: إذا لم يمكنه الاستدلال ويعجز عن البحث عن ذلك، فقد اختلف
قول العلماء في ذلك،
فحكي عن قوم من البغداديين أنهم قالوا: لا يجوز له أن يقلد المفتي، وإنما
ينبغي أن يرجع إليه لينبهه على طريقة العلم بالحادثة، وأن تقليده محرم على كل
حال، وساووا في ذلك بين أحكام الفروع والأصول.
وذهب البصريون والفقهاء بأسرهم إلى أن العامي لا يجب عليه الاستدلال
والاجتهاد، وأنه يجوز له أن يقبل قول المفتي، فأما في أصوله وفي العقليات،

313
فحكمه حكم العالم في وجوب معرفة ذلك عليه، ولا خلاف بين الناس أنه يلزم
العامي معرفة الصلاة أعدادها، وإذا صح ذلك وكان علمه بذلك لا يتم إلا بعد معرفة
الله تعالى ومعرفة عدله ومعرفة النبوة، وجب أن لا يصح له أن يقلد في ذلك، ويجب
أن يحكم بخلاف قول من قال: يجوز تقليده في التوحيد مع إيجابه منه العلم
بالصلوات.
والذي نذهب إليه أنه يجوز للعامي الذي لا يقدر على البحث والتفتيش،
تقليد العالم، يدل على ذلك أني وجدت عامة الطائفة من عهد أمير المؤمنين (عليه السلام)
وإلى زماننا هذا يرجعون إلى علمائها ويستفتونهم في الأحكام والعبادات ويفتونهم
العلماء فيها ويسوغون لهم العمل بما يفتونهم به، وما سمعنا أحدا منهم قال
لمستفت: لا يجوز لك الاستفتاء ولا العمل به، بل ينبغي أن تنظر كما نظرت وتعلم
كما علمت، ولا أنكر عليه العمل بما يفتونهم، وقد كان منهم الخلق العظيم عاصروا
الأئمة (عليهم السلام) ولم يحك عن واحد من الأئمة (عليهم السلام) النكير على أحد من هؤلاء ولا إيجاب
القول بخلافه، بل كانوا يصوبونهم في ذلك، فمن خالف في ذلك كان مخالفا لما هو
المعلوم خلافه.
فإن قيل: كما وجدناهم يرجعون إلى العلماء فيما طريقه الأحكام الشرعية
وجدناهم أيضا كانوا يرجعون إليهم في أصول الديانات ولم نعرف أحدا من الأئمة
ولا من العلماء أنكر عليهم، ولم يدل ذلك على أنه يسوغ تقليد العالم في الأصول.
قيل له: لو سلمنا أنه لم ينكر أحد منهم ذلك، لم يطعن ذلك في هذا
الاستدلال لأن على بطلان التقليد في الأصول أدلة عقلية وشرعية من كتاب وسنة
وغير ذلك، وذلك كاف في النكير.
وأيضا فإن المقلد في الأصول يقدم على ما لا يؤمن أن يكون جهلا، لأن طريق

314
ذلك الاعتقاد، والمعتقد لا يتغير في نفسه عن صفة إلى غيرها، وليس كذلك
الشرعيات، لأنها تابعة للمصالح، ولا يمتنع أن يكون من مصلحتهم تقليد العلماء في
جميع تلك الأحكام، وذلك لا يتأتى في أصول الديانات.
على أن الذي يقوى في نفسي أن المقلد للمحق في أصول الديانات - وإن كان
مخطئا في تقليده - غير مؤاخذ به، وأنه معفو عنه، وإنما قلنا ذلك لمثل هذه الطريقة
التي قدمناها، لأني لم أجد أحدا من الطائفة ولا من الأئمة (عليهم السلام) قطع موالاة من سمع
قولهم واعتقد مثل اعتقادهم، وإن لم يسند ذلك إلى حجة عقل أو شرع.
وليس لأحد أن يقول: إن ذلك لا يجوز لأنه يؤدي إلى الإغراء بما لا يؤمن أن
يكون جهلا، وذلك لأنه لا يؤدي إلى شئ من ذلك، لأن هذا المقلد لا يمكنه أن
يعلم ابتداء أن ذلك سائغ له، فهو خائف من الإقدام على ذلك، ولا يمكنه أيضا أن
يعلم سقوط العقاب عنه فيستديم الاعتقاد، لأنه إنما يمكنه أن يعلم ذلك إذا عرف
الأصول، وقد فرضنا أنه مقلد في ذلك كله، فكيف يعلم اسقاط العقاب فيكون
مغرى باعتقاد ما لا يؤمن كونه جهلا أو باستدامته؟ وإنما يعلم ذلك غيره من العلماء
الذين حصل لهم العلم بالأصول وسبروا أحواله، وأن العلماء لم يقطعوا موالاتهم ولا
أنكروا عليهم، ولم يسغ ذلك لهم إلا بعد العلم بسقوط العقاب عنهم، وذلك يخرجه
عن باب الإغراء! وهذا القدر كاف في هذا الباب إن شاء الله تعالى. (1) انتهى شريف
كلامه زيد في علو مقامه، وفي طواياه وخباياه فوائد يعرفها المستنبطون، فإلى
القارئ الكريم غنمها واغتنامها إن كان من العارفين، وهاهنا وعند هذا المقام نختم
الكلام وننتقل بالبحث إلى موضوع آخر هو:
الرابع من الأدلة الدالة على جواز التقليد أو وجوبه: هو دليل العقل. وقد قرر



(1) عدة الأصول: 2 / 729 - 731.
315
هذا الدليل بهذا البيان: هو أن الطريق إلى معرفة الأحكام لا تخلو عن أحد أحوال
ثلاث ولا رابع لتلك الأحوال، وهي: الاجتهاد، والاحتياط، والتقليد.
لا ريب في أن الاجتهاد متعذر أو متعسر إن أوجبناه على الناس كافة، وقد
عرفت فيما سلف كيف يكون التعذر أو التعسر في شأن الاجتهاد وتحصيله، فليس
هو بالهين اليسير، غض النظر عن شأن الاجتهاد وما فيه، وحوله إلى الاحتياط وما
فيه، تجد فيه العسر والحرج المنفيين في الشريعة الاسلامية كتابا وسنة، فما هو،
وليس هو إذن إلا التقليد، فهذا دليل جواز أو وجوب التقليد عن طريق العقل على
الاجمال، وبهذا تتم الأدلة الأربعة في المقام، ولنطو صفحا عما هنا وهناك من كلام
ونقض وإبرام.
نعم، أضاف إلى هذه الأدلة بعض المحققين من العلماء دليلا آخر هو في نظره
الدليل الوحيد لما في سواه من نقاش وحساب، ذلك هو دليل البداهة والفطرة، ذلك
أن التقليد في واقع حقه وحقيقته الواقعية ليس إلا رجوع الجهلاء فيما يجهلون إلى
العلماء فيما يعلمون، وهذا حكم الفطرة والبداهة في كل شأن لا في شأن الشرع
والشرعيات خاصة، فهو حكم الفطرة والبداهة قبل أن يكون حكم العقل والعقلاء
وحكم الشرع والمتشرعين، هذا هو الدليل الوحيد في نظر مستدليه، ذلك لعجز
الأدلة الاخر عن الوفاء بإثبات هذا الجواز أو الوجوب، والمقلد في حيرة واضطراب
في شأن تقليده لولا هذا الدليل، وإلا فإما أن يثبت عن طريق الكتاب والسنة -
ومفروض الحال أنه عاجز عما فيها من الدليل وكيفية الاستدلال - وإما أن يثبته عن
طريق التقليد بأن يقلد في جواز التقليد، فهذا التقليد ثبوته يحتاج إلى تقليد آخر،
فإما أن يتسلسل الأمر، أو يدور، وكلا الأمرين في البطلان سواء بسواء.
أشكل عليه بعض المحققين أن التقليد لو كان دليله الفطرة والبداهة كان ذلك

316
غير مستلزم للحكم الظاهري في حقه، ذلك أن الرجوع إليه إنما هو لفهم الواقع
والوصول إليه، ولم يكن شأنه شأن سائر الطرق الشرعية التعبدية، حيث إن
المجعول فيها هو الحكم الظاهري، فعليه يكون المتحقق من الرجوع هو ما إذا أفاده
العلم أو ما يقوم مقامه من الاطمئنان، ولم يكن حجته قول المجتهد إلا بلحاظ اخباره
عن الواقع لا بلحاظ الإفتاء.
هذا، وفي المقام نظر تركناه رعاية للاختصار، فلننتقل إلى موضوع آخر ذلك
هو الكلام في اشتراط الأعلمية في مرجع التقليد.
إن مسألة اشتراط الأعلمية في مرجع التقليد أمر لم يزل ولا يزال موضع
الخلاف والاختلاف، وموقع تضارب الآراء والأفكار بين علمائنا المحققين، القدامى
منهم والمحدثين.
ذهب ذاهبون إلى جواز تقليد المفضول ولم تشترط الأفضلية في مرجع
التقليد، وذهب آخرون إلى اشتراط الأعلمية والأفضلية فيه، وهؤلاء هم على خلاف
في هذا الاشتراط، ففريق اشترطه بوجه عام وبقول مطلق لم يخصصه ولم يقيده
بحال، وفريق خصص اشتراط الأعلمية في حال الاختلاف بين فتاوى المجتهدين.
إذن فالمحصل من الأقوال ثلاثة:
الأول: جواز تقليد المفضول.
الثاني: وجوب تقليد الأفضل على وجه الإطلاق والعموم.
الثالث: جواز تقليد المفضول إن وافقت فتواه الأفضل من معاصريه. هذه هي
الأقوال - كما رأيت - فانظر الآن ما سنمليه عليك من أدلة كل على ما يدعيه، ولكل
وجهة هو موليها، ولكل رأي هو رائيه.

317
استدل القائلون بالجواز بوجوه:
أحدها: إطلاق الأدلة اللفظية من النصوص الشرعية الدالة على جواز التقليد،
وقد مر عليك بعض تلك النصوص فإن مقتضى إطلاقها وأنها لم تقيد التقليد بشخص
دون شخص، هو شمولها لتقليد المفضولين من الفقهاء. أجاب المانعون عن ذلك
بأنه لا إطلاق في تلك الأدلة ليتمسك به في المقام، فإنها لم تسق مساق البيان
لشروط التقليد وشؤونه لتنهض حجة على دعوى المدعين أن أقصى ما تنهض به هو
بيان أصل مشروعية التقليد، وقصارى المستفاد منها هو الارشاد إلى جواز الأخذ
بقول العالم على الاجمال لا في كل حال.
إذن فلا إطلاق، وحيث لا إطلاق، فلا دليل.
الثاني: سيرة الأئمة (عليهم السلام) في إرجاعهم الناس إلى الرواة المنصوبين من قبلهم
في الأقطار والأمصار بلا تخصيص في شخص خاص مع اختلاف مراتبهم العلمية
واختلاف درجاتهم في المعرفة والفضيلة.
أجيب عن ذلك بمنع هذه السيرة، ونقول: إنه يؤيد هذا المنع تصريحات
نصوص ستأتيك، هي نص على خلاف هذه السيرة المدعاة.
الثالث: هو لزوم العسر والحرج على المكلفين لو ألزموا بتقليد الأعلم، لأن
تعيينه من العسر بمكان وفي تشخيصه حرج على المتطلبين، فهو منفي بنفي العسر
والحرج في الشريعة، المنصوص عليه في الكتاب والسنة بلا كلام.
أجيب عن ذلك: انه لا عسر في ذلك ولا حرج، ولو كان في تعيين الأعلم
عسر، وفي التشخيص الأفضل حرج، لكان في تعيين أصل الاجتهاد عسر وحرج ولا
قائل بذاك، فما تعيين الأفضل بأكثر مؤنة من تعيين أصل الاجتهاد. أضف إلى ذلك

318
أن العسر لو سلم فيقتصر نفيه على موقعه خاصة ولا يتسرب إلى ما لا عسر فيه.
الرابع: حكم الفطرة والجبلة، فإن المناط والضابط فيها هو رجوع الجاهل إلى
العالم، وكل من الأعلم والعالم عالم، فيجوز الرجوع إلى كل منهما، غاية الأمر: أنه لو
اختلفا يكون من باب تعارض الطريقين، فيعمل فيه ما تقتضي به قواعد التعارض.
ويجاب عن ذلك بما سيأتي في طوايا أدلة المانعين، ستراه.
أما القائلون بالمنع المطلق فقد استدلوا أيضا بوجوه:
أحدها: دعوى نقل الاجماع على تقليد الأعلم، ورد بأن الاجماع قد يكون
مستنده هو الأصل، فلا يستكشف منه قول المعصوم ورأيه، فلا حجية فيه، هذا إن
كان محصلا، أما المنقول فلا حجية له في المقام من رأس.
الثاني: الأخبار الدالة على إرجاع الأئمة (عليهم السلام) إلى الأعلم من أصحابهم عند
الحكومة في فصل الخصومة، وهي روايات منها المقبولة التي جاء فيها: سألت أبا
عبد الله (عليه السلام): رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، إلى أن قال: فإن
كل واحد منهما اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا ناظرين في حقهما فاختلفا
فيما حكما أو كلاهما اختلفا في حديثكم. فقال: " الحكم ما حكم به أعدلهما
وأفقههما، وأصدقهما في الحديث، وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما حكم به الآخر " (1)
الحديث.
ومثل هذه الرواية: موسى بن أكيل، عن الصادق (عليه السلام)، عن رجل يكون بينه
وبين أخ له منازعة في حق فيتفقان على رجلين يكونان بينهما فحكما فاختلفا فيما
حكما. قال: " كيف يختلفان؟ " قال: حكم كل واحد منهما للذي اختاره الخصمان.



(1) الاحتجاج: 2 / 107، الفصول المهمة للحر العاملي: 1 / 540.
319
قال: " ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله فيمضي حكمه ". (1)
ومثل هذه الرواية أيضا رواية داود بن حصين، عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام)
في رجلين اتفقا على عدلين جعلاهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف فرضيا
بالعدلين، فاختلف العدلان بينهما، عن قول أيهما يمضي الحكم؟ قال: " ينظر إلى
قول أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه، ولا يلتفت إلى الآخر ". (2)
هذه هي الروايات أو بعض الروايات الواردة في هذا المقام، ورد الاستدلال
بها بأن الارجاع إلى الأعلم في الحكومة وفصل الخصومة لا يستلزم الترجيح في مقام
الافتاء، ورد هذا الرد بأن المراد من الحكم في الروايات ليس هو الحكم المقابل
للفتوى الذي معناه القضاء في فصل الخصومات الذي هو إنشاء لا إخبار عن الحكم
الواقعي، بل المراد به هو الاخبار عن حكم الله الواقعي، فيعم حينذاك الفتوى
والحكم الذي هو بمعنى فصل الخصومة والقضاء، وبهذا يتم الاستدلال فيتم
المطلوب. أضف أن هناك دعوى إجماع مركب في المقام، فكل من قال بتقديم
حكم الأعلم قال هو بتقديم فتواه، فالقول بالفصل إحداث قول ثالث خارق لهذا
الاجماع.
الثالث: أن قول الأفضل أقرب من غيره جزما، فيجب الأخذ به عند المعارضة
عقلا، وأنت ترى أن هذا الوجه كأنه تركب من صغرى وكبرى، فالصغرى هي قولنا: إن
فتوى الأفضل أقرب من غيره، والكبرى هي قولنا: كل ما كان أقرب يجب الأخذ به،
وقد منع هذا الوجه بصغراه وكبراه.



(1) تهذيب الأحكام: 6 / 301 ح 844، وسائل الشيعة: 27 / 123 ح 33378.
(2) من لا يحضره الفقيه: 3 / 5 ح 17، تهذيب الأحكام: 6 / 301 ح 843، وسائل الشيعة:
27 / 113 ح 33353.
320
أما الصغرى فقد ردت بأن لا نسلم أقربية فتوى الأفضل من فتوى المفضول
إلى الواقع، فقد تكون فتوى غير الأفضل أقرب من فتوى الأفضل لموافقته لفتوى من
هو أفضل منه ممن مات، ولا يصغى إلى أن فتوى الأفضل هي في نفسها أقرب، فإنها
لو سلمت فلا تكون صغرى لهذه الكبرى المدعاة لبداهة أن العقل لا يرى تفاوتا بين
أن تكون الأقربية في الأمارة لنفسها أو لأجل موافقتها لأمارة ثانية.
وأما الكبرى: فقد ردت بأن ملاك حجية قول الغير تعبدا - ولو على نحو
الطريقية - لم يعلم أنه القرب من الواقع، فقد يكون ما هو في الأفضل وغيره سيان،
ولم يكن لزيادة القرب في أحدهما دخل من رأس فلا يتم الادعاء.
الرابع: هو كون الرجوع إلى الأفضل هو القدر المتيقن، وذلك لدوران الأمر بين
التعيين والتأخير بداهة أنه الحجة على المكلف إما أن تكون هي فتوى الأعلم فقط،
فالحكم - إذن - هو التعيين، وإما أن تكون الحجة كلا القولين، فالحكم التخيير، وعلى
كل تقدير تكون فتوى الأعلم حجة على كل حال فالأخذ بها متعين بلا كلام، ورد هذا
الاستدلال بأن هذا الدوران المذكور فرع كون الأعلمية مرجحة إما عقلا وإما نقلا،
وهو أول الكلام لعدم الدليل عليه، فيكون أشبه شئ بالمصادرة على المطلوب.
هذا ما أردنا البحث عنه في هذا الموضوع على الاجمال، فلننتقل إلى
موضوع آخر وهو اشتراط الحياة في المفتين:
هذه المسألة على حد المسألة السابقة، وفيها ما فيها من الخلاف والاختلاف،
لكن يضاف إلى الخلاف هنا: أن اشتراط الحياة في المفتين خصصه بعضهم بالتقليد
الابتدائي وجوز البقاء، وبعضهم عممه في الابتداء والاستدامة، وعلى كل فالبحث
في المسألة يجب أن يكون على وجهها العام، إما الجواز العام أو المنع العام.

321
المعروف بين الكثير - بل الأكثر من الأصحاب - هو اشتراط الحياة، والمعروف
بين أهل السنة والجماعة هو عدم هذا الاشتراط وهو خيرة الأخباريين من الشيعة
الإمامية، وإلى ذلك ذهب فريق من أصحابنا المجتهدين.
استدل المانعون من تقليد الأموات بوجوه:
أحدها: الأصل، ومعناه أصالة عدم تقليد الميت، وقرر هذا الأصل على
وجوه:
أولها: أن التكليف بالتقليد ثابت، بمعنى أن الدليل دل على وجوب تقليد
العوام، فيجب على العامي الخروج عن عهدته ولا يعلم أنه يخرج عن عهدته بتقليد
الميت، أو نقول: إنه يتعين عليه الخروج عنه بتقليد الحي فيجب الاقتصار عليه لأنه
القدر المتيقن، فتكون المسألة من صغريات مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير
في المكلف به، ويكون المختار هو التعيين.
الثاني: أن التكاليف من العبادات والمعاملات ثابتة على المكلف، فيجب
الخروج عن عهدتها بنحو القطع واليقين، أما في العبادات فللزوم الإتيان بما هو
المأمور به واقعا، وفي المعاملات فللزوم الإتيان بما هو مؤثر شرعا ولا يخرج عن
عهدتها كذلك إلا بتقليد الحي.
قال بعض المحققين: إن تمامية هذا موقوفة على عدم أصل سببي حاكم
عليه، لأن الخروج عن العهدة وعدم الخروج عنها متبينة ومسببة على ثبوت الحجية
وعدم ثبوتها، ولو كان هنا أصل يكون هو الجاري دون الأصل المسببي.
الثالث: أنه لا إشكال شرعا وعقلا في حرمة التعبد بما وراء العلم، خرج عنها
فتوى الحي إجماعا وبقي الباقي، والشك في الحجية كاف في حرمة التعبد به، وهذه

322
قاعدة ثانية من العقل والشرع كتابا وسنة وإجماعا.
الثاني: الاجماع على عدم جواز تقليد الأموات، فالمعتزل عن المحقق الثاني
بلسان عدم الخلاف بين علماء الإمامية، ونقل عن جماعة نقل الاجماع بلسان
الاجماع، وفي المعالم: ظاهر الأصحاب عليه، والمخالف له هنا من العامة، بل نقل
إجماع عن علماء أهل السنة والجماعة، فعن المنهاج للبيضاوي دعوى الاجماع
عليه، وعلى أي حال فدعوى هذا الاجماع تلقي عهدتها على مدعيها، وإلا
فالمحصل قد يناقش في تحصيله والمنقول غير مقبول في المقام.
الثالث: أن تقليد الحي هو القدر المتيقن من الخروج عن عهدة التكليف، وفيه:
إن هذا راجع إلى بعض الوجوه السابقة في تقرير الأصل المذكور.
هذه هي أدلة المانعين من تقليد الأموات، أو بعض ما استدلوا به على ما
يدعون، فلننتقل إلى استعراض أدلة المجوزين:
استدل المجوزون بوجوه:
منها: استصحاب تقليده في حال حياته، ورد هذا الاستدلال بأنه لا مجال لهذا
الاستصحاب، فإن من أهم شرائط الاستصحاب بقاء الموضوع، وتحقيق الموضوع
أمر بيد العرف لا بالنظر إلى الواقع، والعرف لا يرى بقاء الموضوع عند الموت، بل
يرى العرف انعدام الشخص، فلا بقاء للموضوع بهذا الاعتبار، وما يقال من بقاء
النفس الناطقة بعد الموت لا ينفع في المقام قدر نقير، لما عرفت من أن الموضوع
مرجعه العرف لا الدقة العقلية الفلسفية، يضاف إلى ذلك: أن بقاء النفس الناطقة لا
يوجب القطع ببقاء الرأي الذي هو مناط التقليد.
ومنها: إطلاق الأدلة الدالة على التقليد من الآيات والروايات. ورد هذا

323
الاستدلال:
أولا: بأنه لا دلالة لها على التقليد من رأس، كما مر الكلام فيه.
وثانيا: بأنه لا إطلاق فيها على تقدير تسليم الدلالة، وإنما هي مسوقة لبيان
أصل التشريع.
ومنها: دعوى السير على البقاء، فإن المعلوم من أصحاب الأئمة (عليهم السلام) عدم
رجوعهم عما أخذوه تقليدا بعد موت المقلدين، ورد هذا الاستدلال بمنع قيام
السيرة على ما هو محل الكلام، وأصحابهم (عليهم السلام) إنما لم يرجعوا عما أخذوه من
الأحكام لأجل أنهم غالبا ما كانوا يأخذونها ممن ينقلها عنهم (عليهم السلام) بلا واسطة أو
بواسطة لا يتدخل رأيه فيما ينقله من رأس، فليس هو من التقليد لا في قليل ولا كثير،
إذ هو ليس أخذا بالرأي إنما هو أخذ بالرواية.
هذا شئ أو بعض شئ مما له صميمية أو مسيس ارتباط إلى بحوث
الاجتهاد والتقليد، عرضناه واستعرضناه على نحو يتناسب واختصار هذا الكتاب.
ونحن وقد بلغنا في الموضوع حد الختام فلنأخذ بعرض واستعراض شئ أو
بعض شئ من الحكمة التشريعية المتعلقة بموضوع الاجتهاد والتقليد نعرضها أو
نستعرضها أيضا على نحو يتناسب واختصار هذا الكتاب.
شرع المشرع المقدس الاجتهاد لمن يقدر عليه من المتمتعين بقوة الموهبة،
وهبة الذكاء، ورغبة النفس، وفراغ الزمن، واتساع الظروف على نحو يتلاءم ونظام
المعاش والمعاد، شرع الشارع المقدس الاجتهاد لمن يتمتع بهذا وذلك وذاك تحريرا
للأفكار عن الجمود، وتحريكا لها عن الركود، وتعزيزا لها عن الخمود، واطلاعا لها
على الأشياء بتفصيل، وإشباعا لها بتحمل مصادر الأحكام ومواردها عن الدليل،

324
وليجدد المجددون للأجيال بعد الأجيال من أحكام الحوادث وحكم الوقائع ما
يتسع به نطاق التشريع كل الاتساع للمتشرعين، نظرة بعد نظرة، وفكرة إثر فكرة، ثم
من بعد ذلك أعمال هم لها عاملون، بها يتجلى سر التشريع بأجلى مظاهره التي منها
عليها شواهد وشواهد بصدق التشريع والمشرعين، وهناك وقد تجلت كل التجلي،
ووضحت كل الوضوح، يتجلى الخطاب المنبعث عن لهجة الإيمان والاطمئنان لا
بلهجة موروثة الأبناء عن الآباء: * (ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب
النار) * (1).
وإذ كانت النفوس غير متفقة ولا متحدة في المواهب والرغبات، ولا العقول
متحدة في التقبل والنضوج، ولا الأفهام متساوية في التحمل والانتقاش، ولا الظروف
متسعة لكل شخص في كل حال، كان تكليف جميع الناس في الالزام بالأخذ بطريقة
الاجتهاد عسرا وحرجا على المكلفين، فتحقيقا لليسر الذي أراده الله تعالى بعباده
بصريح كتابه: * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * (2) ورفعا للحرج الذي
نفاه في محكم قرآنه: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * (3) وكتاب الله في ذلك
مشفوع بسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث يمتدح النبي الأكرم بقوله (صلى الله عليه وآله): " جئتكم بالشريعة
السمحة السهلة ". (4) كان لزاما من هذا وذلك وذاك أن يشرع الشارع المقدس
للمكلفين في تناول الأحكام - وهم مكلفون بها على كل حال - طريقا سهلا سمحا
لاعنت فيه ولا عناء، ذلك أن يتبع المكلف مكلفا آخر في أخذ الأحكام والتكاليف،
وذلك هو التقليد، فهذه هي حكمة الاجتهاد تتبعها حكمة التقليد.



(1) سورة آل عمران: 191.
(2) سورة البقرة: 185.
(3) سورة الحج: 78.
(4) الناصريات: 46.
325
أضف إلى ذلك: أن في خلق عنواني المقلد والمقلد خلق ضمان اجتماعي
تتبعه شؤون وشؤون، وترى أن الشارع المقدس توسل إلى تكوين الضمانات
الاجتماعية بمختلف الوسائل والعناوين، فهناك إمام ومأموم، وهناك مالك ومملوك،
وهناك مقلد ومقلد، إلى أمثال هذه الوسائل الموصلة إلى التضامن والتعاون،
وتكاتف بعض الناس مع بعض وجعلهم إخوانا متمتعين بالاخوة بمعناها الصحيح
ضمان واتفاق ووقوف عند رأي واحد يخضع له الجميع، فلا فوضى ولا تفكك ولا
اضطراب، فهناك الحب المتبادل، وهناك الهدوء والأمن والسلام، ثم هي الأخرى من
تلك الفوائد والحكم أن من يخول ذلك المنصب الإلهي الخطير، ويكون المرجع
العام للناس أجمعين، ويرونه الحجة في القول والعمل والامضاء والتقرير والتحرير
سيقودهم إلى ما فيه الخير والسعادة، والنجاح والفلاح، يسير بهم في المحجة
الواضحة والطريق اللاحب المنير، يوردهم موارد البر، ويتبعهم إلى مصادر الخير،
ويهديهم سواء السبيل، يحرص عليهم حرص الوالد الحنون، ويكون منهم كعضو من
جسم، إن تألم تألم الجميع، وإن صح صح الجميع، لا يحمل فكرة الأثرة، بل لا يحلم
بالاستغلال، ينطق بالصدق بلسان الحال قبل لسان المقال، ويعمل للحق أينما كان
وحيثما يكون، القريب والبعيد عنده سواء، يدعو إلى الوحدة والتوحيد، ويرشد في
قوله وفعله إلى المواساة والمساواة، داعية الأمن ورسول السلام والوئام، ثم ومن
وراء ذلك، القلب الطاهر والضمير النزيه.
أما لو انقلبت القضية وانعكست الآية، ذلك إذ نراه ولا نراه واجدا لتلك
الصفات، ذلك إذ نراه ولا نراه إلا فاقدا لتلك الهبات، فما ذلك إلا السبع الضاري،
والذئب الذي تقمص لباس الانسان يحذر ويجتنب ويجانب، بل يحارب بكل لسان
وسنان، فهو رجل السوء الذي يخشى منه الخطر والسوء على الدنيا والدين، وعلى
المجموعة الانسانية في مختلف الأحوال والشؤون، يد شلاء لا تمد بالخير ولا إلى

326
الخير، وإن مدت فما هو إلا لاغتصاب الحقوق واستلاب الأموال، وما هو إلا
لاعتصار دم الأرامل واليتامى والمساكين، ورجل زمنة لا تسعى لصلاح ولا لإصلاح،
وإن سعت فما هو إلا لجلب مغنم دفع، ومغرم يعود بالصلاح له أو لنسيب له أو
قريب، وعين عمياء لا تنظر في حسن ولا قبح، وإن نظرت فما هي إلا لتبص عن
كثب من يدعو إليها بالباطل ومن يثني عليها بالثناء المكذوب، ومن لا يرضى إلا
بالحق ولا ينطق إلا بالصدق، يتمتع بالكرامة والحرص على الشرف والدين
الصحيح.
تبص هذا وذاك لتقرب هذا وتبعد ذاك، وتنفع هذا وتضر ذاك، ثم هو الأدهى
والأمر، فكر مقيد محدود لا يتجاوز حدود المحيط الذي يعيش فيه، بل لا يتعدى
جدران البيت الذي يكنه وأهليه، لا يدري ماذا في العالم من تقدم وتأخر، ومن ذا هو
المتقدم والمتأخر، وماذا يجب له، وماذا يجب عليه، نظرة فردية وفكرة شخصية لا
تمت إلى الصالح العام بسبب، ولا تتصل في خير المجموعة بنصيب.
يرى أن له النهي والأمر، ولكن لا نهي ولا أمر، لا نهي عن منكر ولا أمر
بمعروف، لا يردع عن منكرات الأعمال، ولا يدفع مساوي الخصال، لا يسوؤه تفسخ
الأخلاق، ولا تفكك القواعد والعقائد، قديم متزمت، وحديث متفلت، لا يلتقيان في
نقطة اتفاق، وهم منهم بالمنظر الأدنى وبالأفق القريب، ثم لا يهم ذلك في قليل ولا
كثير. وهنا موضع الأسرار فلنقف ولنمسك عنان اليراع عن أن يضل في ميادين
الاسفاف والاسراف، والله مطلع على ما يكنه القلب ويخط على لوح الفؤاد، إني لم
أقصد بذلك قصد السوء، ولم أرم إلى هدف، ولم أرد بذلك شخصا معينا وحاشا
الموجودين من علمائنا من خطرات السوء وهمزات العائبين، إنما المرمى بذلك
علماء السوء، فليتفطن المتفطنون.

327
وعلى أي حال، ومهما يكن من أمر، فقد عرفت عرفانا لا يقبل الشك
والارتياب أن التشريع الديني والتحرر الفكري يقضيان قضاء جازما لا رد فيه ولا
ترديد بفتح باب الاجتهاد فتحا يفتح به ألف باب، ولا يريان سد هذا الباب بوجه من
الوجوه.
فهاهنا سؤال هو منبت الداء وأصل البلاء، هو: أنه من سد هذا الباب في هذا
اليوم وقد يقدر له أن يبقى مسدودا ولا يقدر أن يفتح مهما تعاقبت الأجيال والسنين،
وهو باب قد كان مفتوحا على مصراعيه عند الصحابة والتابعين وتابعي التابعين
باعتراف من الجميع لا يقبل الجدل والانكار، وقد ينفتح لنا - ببركة فتح باب الاجتهاد
-؟ من هذا السؤال سؤال آخر: هو أن سد باب الاجتهاد في هذا اليوم وهذا العصر كان
باجتهاد أم كان بتقليد؟ إن قلت بالأول ناقضت مبدأك الذي تسير عليه، فإن هذا فتح
لباب الاجتهاد وأنت تستنكره أشد الاستنكار. وإن قلت بالثاني انتكست عن اعتراف
لا تجد مجالا فيه لإنكار أو جحود، فمن الذي قاله من الصحابة والتابعين يتبع فيه إن
صح اتباعهم أو تقليدهم في مثل هذه الشؤون.
لقد عرفت أن التقليد - وقد عرفت معناه ومغزاه - إنما سوغ واستسيغ لمن لم
يبلغ مرتبة الاجتهاد من المكلفين بما دلت عليه أدلته من آيات وروايات، وبما ظهر
لك من شئ أو بعض شئ من الحكم والفوائد.
هذا شئ لا ينكره العقلاء ولا المتشرعون، لكن من الذي فرض على الناس
أن يكونوا جهلاء حتى يحكم عليهم بالاتباع والتقليد؟ ومن الذي خول أولئك
المذاهب أن يحرزوا مرتبة الاجتهاد ثم يقف الاجتهاد عند حد هؤلاء فلا يعود سائغ
الحصول والتحصيل لغيرهم من الناس أجمعين؟ إن هذه في الحقيقة جناية على
العلم والعلماء، وعلى الأفكار والمفكرين، بل هي جناية على المذاهب أنفسهم إذ

328
ذلك خلف لقولهم، وخلاف لفعلهم بالوجه الصريح.
أيجمل بنا ونحن في القرن العشرين - قرن التنور والحضارة، وعصر النور
والكهرباء ودور التحرر والحرية في المبادئ والمذاهب والأديان - أن نقف هذا
الموقف الفاشل من الجمود؟! لا يرضى الشرع بذلك ولا الحرية - يا أيها
المتحررون -.
أجل ظهر من الفقهاء من اتخذ الدين آلة للدنيا، ووسيلة تقربه إلى سلاطين
العصر زلفى، ثم من وراء ذلك الدراهم والدنانير، والحور والقصور، فاستخدموا العلم
في مصالح السلطة، وتبرير عمل الحكام والأمراء، استعراض بعض شواهدها
التاريخية يرفع عنها صحائف العلم والعلماء، فلنضرب عن تلك الصفحات صفحا
فما هي إلا سواد في سواد في وجه التاريخ وصفحات العصور والدهور، إن مثل
هؤلاء لجدير أن يقبر علمهم حيث يقبرون، وأن يحثى عليه وعليهم الرماد دون
التراب، وأن يسد اجتهادهم بألف باب وباب، ولا يذكر لهم من الفقه والعلم قليل ولا
كثير، لكن هذا كله لا يبرر لنا أن نسد باب الاجتهاد من رأس، فمن وراء ذلك محاذير
ومحاذير.
إنا نحاول - ببركة فتح باب الاجتهاد - أن ينفتح لنا كثير من المشاكل
والمعضلات، وأن يسير الناس في الدين قدما لا يلوون على شئ، ولا يصدهم عن
طريقهم إليه عثرات الالتواء والتقيد، الأمر الذي ستساعدنا على تحقيقه - حيث
انتبهوا إليه في الآونة الأخيرة - كتبة إخواننا المصريين قادة الرأي لإخوانهم في العصر
الحديث، وإلا فقل لي - أيها القارئ الكريم - ماذا نصنع ونحن لا نريد أن نخطو
موطئ قدم عن تراث الأولين في هذه الحوادث المتجددة في مختلف شؤون
الحياة، والحياة كل آن في طور جديد، وليس لمتوهم أن يتوهم فيأخذ هذا برهانا

329
على صحة العمل بالقياس، إذ ليس في النصوص الواردة متسع لهذه الحوادث،
ولكنه وهم ليس له من الحقيقة نصيب، فإن في تطبيق الحاجة إلى مثل القياس
والاستحسان، وما ذلك التطبيق من القياس بوجه من الوجوه على أن لنا في الأصول
العلمية الأربعة دليلا إن أعوزنا الدليل على حين لا إعواز في الدليل.

330
/ 1