شرح إحقاق الحق (جزء 2) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

شرح إحقاق الحق (جزء 2) - نسخه متنی

نورالله بن شریف الدین شوشتری؛ محقق: شهاب الدین مرعشی؛ مصحح: ابراهیم میانجی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: شرح إحقاق الحق
المؤلف: السيد المرعشي
الجزء: 2
الوفاة: 1411
المجموعة: من مصادر العقائد عند الشيعة الإمامية
تحقيق: تعليق : السيد شهاب الدين المرعشي النجفي / تصحيح : السيد إبراهيم الميانجي / كتابة : محمود الحسيني المرعشي وميرزا علي أكبر الإيراني
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:
إحقاق الحق
وإزهاق الباطل
تأليف
العلامة في العلوم العقلية والنقلية
متكلم الشيعة نابغة الفضل والأدب
القاضي السيد نور الله الحسيني المرعشي التستري
الشهيد
في بلاد الهند سنة 1019
الجزء الثاني
مع تعليقات نفيسة هامة
بقلم:
فضيلة الأستاذ الفقيه الجامع العلامة البارع
آية الله السيد شهاب الدين النجفي دام ظله
باهتمام السيد محمود المرعشي

تعريف الكتاب 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على نعمائه المتوافرة والشكر على آلائه المتضافرة والصلاة والسلام
على سيد الأنبياء والمرسلين شمس سماء الفاخرة ومن شرفت باسمه المحاريب
والمنابر، وعلى صنوه سيد المظلومين علي أمير المؤمنين وعترته الميامين، ذوي
الشرف المتناصر، والكرم المتقاطر، ما تغنت الورقاء وأظلت الخضراء على الغبراء.
وبعد فيقول العبد اللائذ بأبواب آل الرسول المنقاد لهم في الفروع والأصول
العاكف في عتبة كريمة أهل البيت الست الشريفة الزكية، عقيلة العلويات، فاطمة
المعصومة سلام الله عليها، أبو المعالي شهاب الدين الحسيني المرعشي النجفي جمع
الله بينه وبين ساداته ومواليه في مستقر رحمته: إنه قد وفقنا الله سبحانه لتكميل
الجزء الثاني من كتاب إحقاق الحق وإزهاق الباطل ذلك السفر الوحيد الذي عقمت
الأعمار عن الاتيان بمثله تحت إشراف الأفاضل الكرام الذين مر ذكرهم في
مقدمة الجزء الأول وانضافت إليهم بدور الفضل وأهله نجوم العلم ودراريه حجج
الاسلام ومصابيح الظلام الحاج الميرزا محمد الباقر المرندي والميرزا محمد الصادق
النصيري السرابي والميرزا إسماعيل التبريزي أدام الباري بركاتهم وضاعف حسناتهم،
ولا تسئل أيها الأخ الكريم عما قاسينا من التعب والسهر والكد في مراجعة كتب
القوم على اختلاف شؤونها وتنقيبها، وتخريج الأحاديث من المظان وتصحيح
أسانيدها والبحث حول مداليلها وجهات صدورها والجمع بين ما يعارضها أن
كان هناك معارض.

مقدمة المعلق 51
وليعلم أن لنا طرقا كثيرة إلى أرباب الكتب التي نقلت المرويات عنها على
تشعب فرقهم من الشوافع والأحناف والموالك والحنابلة، وسنذكر شطرا منها في آخر
الجزء الثالث والرابع، فالروايات المذكورة في الكتاب والتعاليق مسندة معنعنة
محكومة بالصحة لديهم، وما رميناه بالضعف حكم أئمة الحديث منهم ونقاد
الأخبار بينهم بضعفه وعدم صحة الاعتماد عليه كل ذلك مع ذكر المآخذ المطبوعة
والمخطوطة مع تعيين الجزء والصفحة والطبع وأرجو من كرم حامي الحمى جدي
علي المرتضى أن ينظر إليه بنظر القبول ويسئل الله تعالى شأنه أن يحشرنا تحت
لوائه ويرزقنا شفاعته إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
المستدرك على ما حررناه حول ترجمة مولانا العلامة
على الاطلاق
(1) ذكر العلامة الميرزا محمد باقر بن الميرزا محمد تقي القمي صاحب كتاب
نور العيون في كتابه شرح بداية الهداية قضية في وجه اشتهاره (قده) بالعلامة
وأنه تشرف بهذا اللقب الشريف من الناحية المقدسة ناموس الدهر وولي العصر
عجل الله فرجه الشريف وجعلنا من أنصاره بين يديه، وقد نقلها معنعنة، ومن
المذكورين في سلسلة النقل العلامة السيد هاشم الحطاب الموسوي النجفي، وأعتذر
إلى القراء الكرام من إيراد عباراته بألفاظها حيث إن النسخة لم تكن حاضرة في
الحال لدينا.

مقدمة المعلق 52
(2) وقد تعزى إلى مولانا العلامة عدة أبيات وقصائد في المراثي والمدائح
والحكم والمواعظ كما في كتابي كشكول شيخنا البهائي وأنيس الحاضر لصحاب
الحدائق وغيرهما، لم نوردها روما للاختصار وتوافر الهموم علينا، وأحلنا البحث
حولها إلى الناقد الخبير والصيرفي البصير.
(3) قد أورده العلامة الرحلة راوية التراجم والسير مولينا الميرزا عبد الله
أفندي صاحب رياض العلماء في تعاليقه على المجلد الخامس عدة من النساء الفاضلات
وعد منهن بنات المترجم، وأطرى في الثناء عليهن علما وزهدا وعفافا وأدبا،
ولم نذكرها لما أشرنا إليه قبيل هذا.
(4) قد تبعنا في مقدمة الجزء الأول ص 49 في جعل العلامة الجليل الشيخ
نجيب الدين محمد بن نما الحلي المتوفى سنة 645 من مشايخنا إجازة مولينا العلامة
قدس سره شيخ مشايخنا ثقة الاسلام النوري في مشجرته الموسومة (بمواقع النجوم
وسلاسل الدر المنظوم) وغيره من الأعلام فإنه قدس سره الشريف عده من مشايخه
وأرخ وفاة المجيز كما نقلنا عنه. واستبعد العلامة الأفندي صاحب الرياض
هذا المعنى وتبعه سيدنا العلامة الأمين في أعيان الشيعة. والظاهر أن الأمر
كما صارا إليه كما هو لائح لدى من لاحظ تاريخ ولادة مولينا العلامة وسنة وفاة
المجيز ويمكن أن يكون المجيز هو العلامة الشيخ جعفر بن نجيب الدين محمد بن نما
وأنه من المتوفين في حدود سنة 680 وأن تكون سنة 645 تاريخ وفاة والده والشاهد
على هذا الاحتمال ما وجدته في بعض المجاميع المخطوطة.
(5) قد تعزى قضية أخذ النعلين التي نقلناه في حق مولينا آية الله العلامة عن
العلامة التقي المجلسي في ص 60 من مقدمة الجزء الأول إلى العلامة المولى حسن
الكاشي وليس هذه مما يعتمد بعد تصريح جمع من الأكابر المتثبتين كالمولى

مقدمة المعلق 53
النقي في شرح الفقيه وراوية التراجم والسير مولينا العلامة الأفندي في هامش الرياض
وغيرها.
المستدرك على ما زبرناه حول كتاب نهج الحق
(1) وقفت على رسالة لبعض علمائنا المعاصرين للسلطان الشاه طهماسب
الأول الصفوي الموسوي، وقد لخص فيها المسائل الفقهية التي أوردها مولانا
العلامة (قده) في كتاب نهج الحق وسماها خلاصة النهج، لم تزل مخطوطة
(2) وقفت أيضا على ترجمة فارسية لكتاب نهج الحق، وقد ألفه بعض المتأخرين
ولا تخلو عن فوائد شريفة
(3)
وقفت أيضا على نسخة من الكتاب مقروة على مولانا فخر المحققين نجل
المصنف (قده) والقاري أحد علماء بلدة حلة السيفية.
المستدرك على ما كتبناه حول كتاب إحقاق الحق
(1) عندنا كتاب في ترجمة الاحقاق للعلامة السيد نصير الدين حسين بن عبد
الوهاب الطباطبائي البهبهاني، فرغ منه سنة 1069، وقد راعى المترجم ما هو
اللازم في الترجمة من السلامة وحفظ المزايا المذكورة في المترجم بالفتح، أسكنه
الله في فراديس جنانه، ونشكر الشهم الوجيه الفاضل التاجر الشيخ محمد علي المحمدي
الكتبي حرسه الله حيث جاء به إلينا من مشهد الرضا سلام الله على مشرفه
(2) وقفت على ترجمة للإحقاق بلسان (الاردو) والمترجم العلامة المولوي
محمد علي السندي الأصل، الحائري المسكن، فرغ منه سنة 1305 في كربلاء المشرفة
والنسخة مخطوطة.

مقدمة المعلق 54
(3) ووقفت على تعليقة علقها صاحبها على قسم المسائل الفقهية من الكتاب
ويظهر من مطاويه أن المحشي من أحفاد المؤلف
(4) وقال العلامة السيد علي أصغر بن العلامة الحاج السيد شفيع الموسوي الجابلقي
في كتاب الطرائف ما هذا لفظه عند تعداد علماء الرجال، ومنهم الفاضل الكامل
مشيد أصول الشيعة الاثني عشرية، ومكسر ناقوس الغباوة والضلالة القاضي نور الله
التستري، له كتب، منها كتاب إحقاق الحق جيد أحيى دين الإمامية وأمات أهل
السنة فيه، ومنها كتاب مجالس المؤمنين فارسي جمع فيه كثيرا من رجال العامة
والخاصة انتهى كلامه (قده)
(5) رأيت نسخة من الفقيه بخط العلامة المير محمد حسين بن محمد شاه بن صدر
الدين محمد الحسيني المرعشي الشوشتري، وقد فرغ من كتابتها سنة 1033، وهو من
أسرة مولانا القاضي الشهيد وقد فات عنا ذكره في مقدمة الجزء الأول.
(6) ومن شعر المترجم قوله:
از ربتهء صورى خلافت مقصود * جز عرض كمال اسد الله نبود
گرگشت رقم سه صفر پيش از الفي پيداست كه ربتهء كدامين أفزود
وقوله:
صحابه گرجه جمله كالنجومند * ولي بعض كواكب نحس وشومند
(7) قال الشاعر العارف السائح الرحالة المعاصر الحاج الشيخ إسماعيل القمي
المشتهر بالسياح المتوفى سنة 1375 في كتاب الرحلة إلى بلاد الهند عند وصفه لبقعة
المترجم ما لفظه:
آقا نور الله شوشتري نور الله مضجعه كه در سنهء 1019 بعهد جهان گير
شاه بدرجهء شهادت فائز گشته واو را شهيد ثالث مي نامند بقعهء مطهر اش
در (اكره) واقع است يك سر درب سنگي قرمز تراش دارد سر در قطعهء

مقدمة المعلق 55
سنك مرمري هست كه اسماء خمسة طيبة بر او نوشته اند وچند اطاق وصل بدرب
بقعه بجهت زائرين ساخته شده است وأطراف بقعه شريفه باغچه مصفائي هست
ويك سنگ مرمر هم روي قبرش شريفش گذارده شده واين اشعار روي آن سنك
نوشته شده:
ظالمي اطفاي نور الله كرد * قرة العين نبي را سر بريد
سال قتل حضرتش صا متعلي * كفت نور الله سيد شد شهيد (1019)
ودر سنهء 1118 آن بقعهء ساميه مرمت وتعمير شده واين بقعه در اكره
محل (فلكه يدي) مي باشد انتهى.
(8) قال العلامة السيد عبد الحي الحسني نزيل لكنهو من بلاد الهند في كتاب نزهة
الخواطر (ج 5 ص 175 طبع حيدر آباد الدكن) ما لفظه السيد الفاضل علاء الملك ابن
العلامة نور الله الحسيني المرعشي أحد كبار العلماء أخذ عن والده صحبة مدة من
الدهر ثم سار إلى شيراز وتخرج على عصابة من العلوم والفاضلة ثم قد الهند واشتغل
بالتدريس فجعله شاه جهان بن جهانگير التيموري معلما لولده محمد شجاع فسار معه
الى بنگاله وله مصنفات جليلة مها المهذب في المنطق، وأنوار الهدى في
الإلهيات والصراط الوسيط في إثبات الواجب تعالى وتقدس ذكره الميرزا محمد
صادق في (صبح صادق) انتهى.
(9) وقال أيضا في (ج 5 ص 425) ما لفظه: السيد الشريف نور الله بن
شريف بن نور الله الحسيني المرعشي التستري المشهور عند الشيعة بالشهيد الثالث
ولد سنة 956 بمدينة تستر ونشأ بها ثم سافر إلى المشهد وقرء العلم على أساتذة
ذلك المقام ثم قدم الهند إلى أن قال: فولاه أكبر شاه القضاء بمدينة لاهور فاستقل
إلى أيام جهانگير وكان يخفي مذهبه عن الناس تقية ويقضي على مذهبه وكان

مقدمة المعلق 56
يصنف الكتب في المذهب ويشنع فيها على الأشاعرة بالغا كما في (إحقاق
الحق) و (مجالس المؤمنين) وكان يخفي مصنفاته عن الناس ويبالغ في الاخفاء حتى
وصل مجالس المؤمنين إلى بعض العلماء فعرضه على جهانگير وأظهر عليه أنه يخفي مذهبه
تقية فغضب عليه جهانگير وأمر أن يضرب بدرة ذات الأشواك فهلك من ساعته
وكان له سبعون سنة فلقبه الشيعة بالشهيد الثالث الخ ثم نقل عبائر مولينا القاضي
الشهيد في آخر كتاب الاحقاق ثم نقل أسماء مؤلفاته عن كتاب نجوم السماء.
المستدرك على ما قدمناه من ترجمة القاضي
الفضل بن روزبهان
(1) وجدت في مجموعة أن من تآليفه كتاب (مهمان نامه) في تاريخ الملوك
الشيبانية المشهورين بالبغض والنصب للأئمة وشيعتهم فرغ من تأليفه سنة 915
وأن من تآليفه كتاب (عالم آراى امينى) في سيرة السلطان يعقوب من
الملوك الآق قويونلوئية، وقد أعمل الغرض والعصبية وسلك في حق السيد الفاضل
الشهيد المظلوم (شاه حيدر الموسوي الصفوي والد السلطان الغازي الشاه إسماعيل
الأول) مسلك الجمالين وجلساء المقاهي وأرباب الملاهي ولعبة الحمام
والأرذال، ولم يأل جهده في الفحش والبذائة، أخزاه الباري بسوء صنيعه في حق
ذرية نبيه، شرع في تأليفه باسم يعقوب ولما مات أتمه باسم ابنه بايسقر أبي الفتح
ميرزا، وفرغ منه في سنة 897، ومن تآليفه كتاب شرح قصيدة البردة الشهيرة،
فرغ منه سنة 921 ومنها ترجمة كتاب تلخيص كتاب كشف الغمة للعلامة علي بن عيسى
الإربلي بالفارسية، مع إسقاط أكثر الفضائل منه ومنها كتاب سلوك الملوك في تاريخ
الملوك الأزبكية، فرغ منه سنة 920، انتهى ما وجدت في تلك المجموعة.

مقدمة المعلق 57
(2) ووقفت في مجلة (فرهنگ ايران زمين الدفتر 3 ج 4 ص 183 ط تهران
سنة 1135) على مقالة لبعض أحفاد ابن روزبهان أو أهل بلده، قد احتوت على
الاطراء في حقه والذب عنه بمعاذير تضحك منها الثكلى، ومن أحاط خبرا بكلماته
في مقام الرد على نهج الحق ظهر له ظهور النور على الطيور أنه رجل لا يملك نفسه من شدة
العصبية والشحناء والبغضاء في الافتراء والوقيعة على شيعة آل الرسول وبسند إليهم كل ما هو
منصف به وقد أوضحنا وميزنا تلك الموارد حتى يقف عليها الناظر المنصف الذي
يخاف من ربه ويعتقد الحشر والنشر.
ومما يفصح عن عدم وداده، بل وعن بغضه للآل أنه كلما ذكر الصلاة على
النبي لم يشاركهم معه (ص)، فكأنه غفل هذا المسكين أو تغافل عن الرواية التي
أوردها حفاظهم في كتب الأحاديث المشتملة على نهيه (ص) عن الصلاة البترى، وكذا
عن الأخبار المروية عنه (ص) التي دلت على كيفية الصلاة عليه، وإلا فمن كان واجدا
لجوهر الولاية ووداد من جعل الله ودهم أحر الرسالة، كيف يجري قلمه بالصلاة
البترى، ونورد شطرا من تلك الروايات في تعاليقنا على الجزء الثالث إن شاء الله تعالى.
ومما يؤسف عليه أن هذه الشنشنة السيئة والبدعة المنكرة مما استقرت عليه
سيرة علماء القوم، فتراهم يتركون في الصلاة عليه ذكر الآل إلى يومنا هذا.
والعجب ممن يعد نفسه من منوري الأفكار في هذا العصر كيف سوغت له قريحته
النقادة وفطرته الوقادة أن يبادر بنشر هذه المقالة وما لتطهير رجل بلغ الغاية ورقى
الذروة العلياء في بذائة اللسان وسباب أهل القبلة وإيثار الفتنة بين المسلمين
وخسة النفس والتفوه بما لا يصدر عن جاهل فضلا عمن يعد نفسه في صف الأفاضل
كل ذلك لجلب حطام الدنيا وجيفها كما سيظهر لك إن شاء الله تعالى.
ومن منن الله سبحانه وتعالى أني وجدت في كتاب منشأت السلاطين لفريدون
بك الكاتب المؤرخ الشهير العثماني قصيدتين للمترجم أرسلهما من ما وراء النهر
إلى السلطان سليم خان العثماني يحرضه على قتال أهل ايران والمحاربة مع

مقدمة المعلق 58
السلطان المؤيد الشاه إسماعيل الصفوي، ويوقد نيران الفتنة بين أهل الكتاب
والسنة وفي بعض أبياته يجعل المخاطب السليم العثماني مهدي آخر الزمان ويجعل
ذلك وسيلة لاستعطاء مائة تومان وهكذا وستنقل تلك القصيدتين حتى يتضح للناظر
المنصف حال الرجل وملقه إلى حد يطبق بعض الأحاديث النبوية على الملك
المذكور كل ذلك لجلب حطام الدنيا وجيفها كما يفصح عن ذلك ما سننقله من شعره
البارد ونظمه ونظمه الذي تستمج الأذان من سماعه.
فبالله عليك أيها الخنجي الكاتب العصري، هل يليق مثل هذا الرجل الذي
أخجل أهل نحلته، وطأطأ هاماتهم أن يتصدى لتزكيته ويطري في الثناء عليه مع ما صدر
منه من الوقيعة في حق مثل عليم الأعلام فخر الاسلام آية الله في الآفاق العلامة على
الاطلاق الذي إليه ينتهي تلمذ عدة من علماء القوم ومنهم هذا الرجل حيث إنه أخذ
العلم عنه بوسائط قليلة وكذا أكثر من البهت والفرية في حق أصحابنا محبي آل
الرسول ولم يبال بما بدرت من لسانه وإن ربه لبالمرصاد.
قال الأديب المؤرخ الفاضل الكاتب فريدون بك من أفاضل الدولة العثمانية
وكتابها في كتابه منشآت السلاطين (ج 1 ص 367 ط الاستانة) ما لفظه چالدران وقعه
سندن صكره خواجه ملا اصفهانى طرفندن دركاه عالي حضرت سلطان سليما خانى يه
تقديم او لنان منظومهء تضرع مرقومه در:
هو فتاح الابواب لكل ملك كريم * ومناح الاسباب لكل قلب سليم
الا اى قاصد فرخنده منظر * نيازم بر سوى شاه مظفر
بكو اى پادشاه جمله عالم * توئى امروز در مردى مسلم
اساس دين تو در دنيا نهادى * تو شرع مصطفى بر جانهادى
مجدد گشت دين ازهمت تو * جهان در زير بار منت تو
اگر ملك شريعت مستقيم است * همه از دولت سلطان سليم است

مقدمة المعلق 59
زبيمت در تزلزل فارس وترك * جوافكندى ازسر تاج قزل برك
فكندى تاجش از سر ايمظفر * فكن اكنون به ردى از تنش سر
قزل بر كست همچون مار افعى * سرش را تانكوبى نيست نفعى
توئى امروز از اوصاف شريفه * خدا را ومحمد را خليفه
روا دارى كه گبر وملحد دد * دهد دشنام اصحاب محمد
تو اورا نشكنى از زورمردى * سرشرا نا بريده باز گردى
چنين ديدم از اخبار پيمبر * * كه ذو القرنين بد در روم قيصر
بذو القرنين از آن خود را علم كرد * كه ملك فارسى باروم ضم كرد
دو قرن او شه اندر جهان شد * بشرق وغرب حكم اوروان شد
بيا اى نصر دين كسر صنم كن * بتخت روم ملك فرسى ضم كن
كه شرق وغرب را از دولت وكام * بگيرد باز ذو القرنين اسلام
زاخبار ملاحم در صحابه * چنين آورد كاتب در كتابه
كه در اسلام بعد از قرن بى مر * شود دين دار ذو القرنين ديگر
تو آن از ابن عالم رنج بر دار * بكش زنهار مار وگنج بردار
بيا از روى عالم رنج ومالست * غرض گنج رضاى ذو الجلال است
مراد من از اين نى گنج ومالست * غرض كنج رضاى ذو الجلال است
دو قرن ارزان كه ذو القرنين شد شاد * ترا صد قرن عمر ومملكت باد
الهى سرور ما پير گردد * چو ذو القرنين عالم گير گردد
زنور عدل او عالم منور * امين امين بگو تا روز محشر
براى خضر سوى حضرت اسكندر ثانى * نياز بندهء او خواجه صفاهانى
اى خلافت سرير ينك شاهى * وى عدالت سپهر ينك ماهى

مقدمة المعلق 60
اى سليمان صفات وعيسى دم * وى نبى خصلت وولى مقدم
اى سخا ملكدا سپهالار * وى شجاعت ممالكيدا مدار
اى اسكندر سپاه خضر الهام * وى مسيحا دم وكليم كلام
اى ديانت جهانيغا سلطان * شاه بن شاه وخسرو دوران
اى يوزينك آفتاب اوج جلال * عالم اهلى قاشنكدا ذره مثال
تا ظهور ايلدينك بو عالم آرا * نوشتي ذوق وسرور آدم آرا
چالدينك اى شه جهانده كوس نويد * يتتى دين أهليفه صداى بريد
خسرو دين پناه شاه سليم * صدف دهر ايچنده در يتيم
تايدى حق يوليدا طريق هدا * خلد الله ملكه ابدا
أهل اسلامتى هدايت قيل * طرق شرعنى رعايت قيل
بيله كيم عدل وداد وار سنكا * يار بولسون چهار يار سنكا
بيلكه دين أهليغه سن سن * مهدى آخر الزمان سنسن
بار عدل وسخاك ايچون حيران * يوز تومان حاتم ايله نوشيروان
بيله كم سنده يار فتح وظفر * قدرت حقور نه فعل بشر
من ديمان كيم زمانه شاهيسين * بلكه سن قدرت الهى سين
سنكا اى شاه عرض حالم وار * عرض ايتر ايمدى كيم مجاليم وار
لطف ايله منينك مراديمه بيت * داد خوانك من ايمدى داديمه بيت
بار ايدى مسكنيم خراساندا * ملك خوارزم بر له بلقاندا
گورديم ايرسه بسى بلادى وطن * بولديم اول ملكدين جلاى وطن
دين سرايينى كفر ييقتى تمام * كفر دين مسنديده توتتى مقام
بدعت وفسق ييقتى عالمنى * فسق حقدين آيردى آدمنى
خاندان لر باريسى بولدى خراب * قالمدى شرع ايچنده آب وتاب

مقدمة المعلق 61
با غريمى كفر اوتى كباب ايتدى * دين اسلامتى خراب ايتدى
بنده سنى ياك مذهب مين * * پيرو علم ونين ومكتب مين
آنينك اجون بوبدعت أهلى دين * منكا ييتى جفا وتيغ كين
منكا توشمادى يو بلا يالغوز * محنت وجور وابتلا يالغوز
كيم كه سنى ايتدى جفا كوردى * بدعت أهليدن ابتلا كوردى
سندين اميد وار در عالم * لطيفه منتظر بني آدم
رشتهء كفرينى چكيب اوزكيل * ليك اسلام ايلينى تيز توزكيل
انتظار ينك چكر خراسانلق * قيل خراساندا داقي سلطانلق
با شتاق سانكا أهل عراق * ايله كيم جانه تن ايرورر مشتاق
ماوراء النهر دا شاه وگدا * قبله دور لر سنكا مدام دعا
كه سنيك دولتينك فزون بولغاى * دشمنينك زار وسرنكون بولغاى
دولت ونصرتيله عزم ايله * كفر دفعين قلورنى حزم ايله
قورتار اسلام أهلينى غمدين * محنت بدعتيله ما تمدين
لطف ايتوب خسته لارغه درما نقيل * خير ايچون زار لارغه احسان قيل
كه جهانينك نويدى سند يندر * دين ايلينك امدى سنديندر
خواجه خسته كم اودور محزون * بغرى بر خون واشكيدور كلگون
بيغلابان وصفوكى قيلار دايم * تنكريدين دولتينك ايلين قيلغاى رد
كه وجود ينك تاپوت حياابد * كفر وبدعت ايلينى قيلغاى رد
تخت نصرت سنكا مدام اولسون * دولتينك داقى مستدام اولسون
فأرجو من القراء الكرام بأن يمعنوا النظر في هذه الأبيات اللائحة منها آثار
الملق والريا والشرك ووضع الحديث وتحريض المسلم على المسلم في إباحة
الدم وهتك الستر وإيثار الشر ودنائة النفس فيا أيها الكاتب الفاضل الخنجي

مقدمة المعلق 62
كيف جرى يراعك على مثله والذب عنه، وهل هذا إلا إماتة الحقائق
وإماطة الفضائل، وبث الفحشاء والبذائة. والمرجو من الله تعالى أن ينبهه
وسائر إخواننا المسلمين من نوم الغفلة، وأن يجعلنا وإياهم ممن لا ينبذ الحق وراء
الظهر وممن نأى وأعرض بجانبه عن الميول والأهوية النفسانية بحق القرآن
الكريم والنبي العظيم وآله اللهاميم.
وقال ذلك الناشر في مقالته: إن من تآليف المترجم كتاب (الديار البكرية
بالفارسية) في تاريخ الملوك الآق قوبونلوئية، وكتاب شرح وصايا الخواجة
عبد الخالق الغجدواني العارف الشهير في سلسلة النقشبندية بالفارسية مشتمل على
مقدمة وثلاثة أبواب ورسالة بديع الزمان في قصة حي بن يقظان وغيرها مما
سردنا أسماءها.
وقال في آخر مقالته: إنه توفي ببلدة بخارا (5 جمادى الأولى سنة
927) وإن له ولدا فاضلا اسمه المولى جمال الدين روزبهان، وإن خاله الخواجة
جمال الدين إسماعيل الصاعدي وزير السلطان پير بداق من الملوك (القره
قويونلوئية) وأنه حج في سنة 925 وأنه كان ينتقل في بلاد ما وراء النهر من
بلد إلى بلد إلى أن مضى لسبيله ببخارى.
ومما يكشف عن كون الرجل حارشا بعباد الله ما أورده الخنجي صاحب المقالة
في ص 183 إن المترجم في سنة 894 حيث عارض وأذى القاضي صفي الدين عيسى
الساوجي رئيس الوزراء للسلطان يعقوب صار منفورا لدى الملك ومبغوضا، فعزله
عن مناصبه وصار جليس البيت في بلدة تبريز إلى آخر ما قال انتهى ما رمنا من
نقل كلامه وفي ذلك كفاية لمن رام الوقوف على الحقايق واستخبار الأحوال
ثم إنه قد تفضل جمع من أفاضل أصحابنا الشيعة وإخواننا السنة بتقاريظ
حول الكتاب وتعاليقه بعد انتشار الجزء الأول منه أتتنا من البلاد النائية والأقطار

مقدمة المعلق 63
البعيدة وفي بعضها: أنه قد تنبه شبابنا بهذا الكتاب وتعليقاته من نومة الغفلة
فجزاكم الباري جل شأنه عن هذه المجاهدة والتفاني إلخ وننشر نبذا من تلك
التقاريظ في آخر الكتاب إن شاء الله.
هذا ما قصدنا إيراده في مقدمة هذا الجزء والله تعالى نعم المولى ونعم
النصير (أزمة الأمور طرا بيده) والسلام على من اتبع الهدى ونأى بجانبه عن الهوى
وسنذيل الجزء الرابع بالمستدركات من الأحاديث المروية في كتبهم وكلمات
أعلامهم التي فاتتنا في التعاليق لو ساعدتنا سواعد التوفيق إن شاء الله تعالى.
وقد فرغ العبد ناسق هذه الدرر من تحرير هذه الكلمات ضحوة يوم الأحد 16
رمضان المبارك 1377 ببلدة قم المشرفة حرم الأئمة الأطهار سلام الله
عليهم أجمعين

مقدمة المعلق 64
إحقاق الحق
وإزهاق الباطل
تأليف
العلامة في العلوم العقلية والنقلية
متكلم الشيعة نابغة الفضل والأدب
القاضي السيد نور الله الحسيني المرعشي التستري
الشهيد
في بلاد الهند سنة 1019
الجزء الثاني
مع تعليقات نفيسة هامة
بقلم:
فضيلة الأستاذ الفقيه الجامع العلامة البارع
آية الله السيد شهاب الدين النجفي دام ظله

1
بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رفع الله درجته
المطلب العاشر في أنا فاعلون (1)، اتفقت الإمامية والمعتزلة على أنا
فاعلون، وادعوا الضرورة في ذلك، فإن كل عاقل لا يشك في الفرق بين الحركات
الاختيارية والاضطرارية، وأن هذا الحكم مركوز في عقل كل عاقل، بل قلوب

2
الأطفال والمجانين، فإن الطفل لو ضربه غيره بآجرة (1) تؤلمه، فإنه يذم الرامي
دون تلك الآجرة، ولولا علمه الضروري بكون الرامي فاعلا دون الآجرة لما
استحسن ذم الرامي دون الآجرة، بل هو حاصل في البهائم، قال أبو الهذيل (2)
حمار بشر أعقل من بشر، لأن حمار بشر إذا أتيت به إلى جدول كبير، فضربته لم
يطاوع على العبور، وإن أتيت به إلى جدول صغير جازه، لأنه فرق بين ما يقدر عليه
وبين ما لا يقدر عليه، وبشر لم يفرق بينهما، فحماره أعقل منه، وخالف الأشاعرة
في ذلك، وذهبوا إلى أن لا مؤثر إلا الله، فلزمهم ذلك محاولات (إنتهى).

4
قال الناصب خفضه الله
أقول: مذهب الأشاعرة أن أفعال العباد الاختيارية واقعة بقدرة الله وحدها، وليس
لقدرتهم تأثير فيها، بل الله سبحانه أجرى عادته بأنه يوجد في العبد قدرة واختيارا
فإذا لم يكن هناك مانع، أوجد فيه فعله المقدور مقارنا لهما، فيكون فعل العبد مخلوقا لله
تعالى إبداعا وإحداثا ومكسوبا للعبد، والمراد بكسبه إياه مقارنته لقدرته وإرادته
من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلا له، وهذا
مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري (1)، فأفعال العباد الاختيارية على مذهبه تكون
مخلوقة لله تعالى مفعولة للعبد، فالعبد فاعل وكاسب، والله خالق ومبدع، هذا حقيقة
مذهبهم، ولا يذهب على المتعلم أنهم ما نفوا نسبة الفعل والكسب عن العبد، حتى
يكون الخلاف في أنه فاعل أولا، كما صدر الفصل بقوله: إنا فاعلون، واعترض
الاعتراضات عليه، فنحن أيضا نقول: إنا فاعلون، ولكن هذا الفعل الذي اتصفنا به،
هل هو مخلوق لنا أو خلق الله فينا وأوجد لقدرتنا واختيارنا؟ وهذا شئ لا يستبعده
العقل، فإن الأسود هو الموصوف بالسواد، والسواد مخلوق لله تعالى، فلم لا يجوز
أن يكون العبد فاعلا ويكون الفعل مخلوقا لله؟! ودليل الأشاعرة أن فعل العبد
ممكن في نفسه، وكل ممكن مقدور لله، لشمول قدرته كما ثبت في محله (2)، ولا
شئ مما هو مقدور لله بواقع بقدرة العبد لامتناع اجتماع قدرتين مؤثرتين على
مقدور واحد لما هو ثابت في محله، وهذا دليل لو تأمله المتأمل يعلم أن المدعى
حق صريح، ولا شك أن الممكن إذا صادفته القدرة القديمة المستقلة توجده،
ولا مجال للقدرة الحادثة، والمعتزلة اضطرتهم الشبهة إلى اختيار مذهب ردئ،

5
وهو إثبات تعدد الخالقين غير الله في الوجود، وهذا خطاء عظيم، واستجراء كبير،
لو تأملوا قباحته لارتدعوا منه كل الارتداع كما سنبين لك إن شاء الله في أثناء هذه
المباحثات، ثم إن مذهب المعتزلة ومن تابعهم من الإمامية أن أفعال العباد الاختيارية
واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال، بلا إيجاب بل باختيار، ولهم في
اختيار هذا المذهب طرق، منها ما اختاره أبو الحسين (1) من مشايخهم وذكره هذا
الرجل وهو ادعاء الضرورة في إيجاد العبد لفعله، ويزعم أن العلم بذلك ضروري
لا حاجة إلى الاستدلال وبيان ذلك أن كل عاقل يجد من نفسه التفرقة بين حركتي
المختار والمرتعش، وأن الأول مستند إلى دواعيه واختياره، وأنه لولا تلك
الدواعي والاختيار، لم يصدر عنه شئ منه بخلاف حركة المرتعش، إذ لا مدخل
فيه لإرادته ودواعيه، وجعل أبو الحسين ومن تابعه من الإمامية إنكار هذا سفسطة
مصادمة للضرورة كما اشتمل عليه أكثر دلائل هذا الرجل في هذا المبحث،
والجواب: أن الفرق بين الأفعال الاختيارية غير الاختيارية ضروري لكنه
عائد إلى وجود القدرة، منضمة إلى الاختيار في الأولى، وعدمها في الثانية لا إلى
تأثيرها في الاختيارية، وعدم تأثرها في غيرها، والحاصل أنا نرى الفعل الاختياري
مع القدرة والفعل الاضطراري بلا قدرة، والفرق بينهما يعلم بالضرورة، ولكن
وجود القدرة مع الفعل لا يستلزم (2) تأثيرها فيه، وهذا محل النزاع

6
فتلك التفرقة التي تحكم بها الضرورة لا تجدي للمخالف نفعا. ثم أن دعوى الضرورة
في إثبات هذا المدعي باطل صريح، لأن علماء السلف كانوا بين منكرين لإيجاد
العبد فعله، ومعترفين له بالدليل، فالموافق والمخالف له اتفقوا على نفي
الضرورة عن هذا الامتناع فيه، لا التفرقة بالحس بين الفعلين فإنه لا مدخل له
في إثبات المدعي، لأنه مسلم بين الطرفين فكيف يسمع نسبة كل العقلاء إلى إنكار
الضرورة فيه، وأيضا أن كل سليم العقل إذا اعتبر حال نفسه علم أن إرادته للشئ، لا تتوقف
على إرادته لتلك الإرادة وأنه مع الإرادة الجازمة منها الجامعة (1) يحصل المراد وبدونها
لا يحصل (2) ويلزم منها (3) أنه لا إرادة منه، ولا حصول الفعل عقيبها منه،
وهذا ظاهر للمنصف التأمل فكيف يدعي الضرورة في خلافه؟ فعلم أن كل ما ادعاه
هذا الرجل من الضرورة في هذا المبحث فهو مبطل فيه (إنتهى).
أقول
إثبات القدرة بدون التأثير من سخيف القول كما مر، وسيجئ عن قريب إن شاء الله
تعالى، والتمسك بجريان العادة قد أسبقنا في بيان فساده ما لا يحتاج إلى الإعادة، و
أما الكسب (4) فقد اكتسب من السخف والفساد ما اكتسبا وزيادة، وأما ما
ذكره بقوله: فنحن أيضا نقول: إنا فاعلون الخ فهو كاذب فيه، كيف؟ وهم صرحوا

7
بأن الفعل من الله تعالى والكسب من العبد لو سلم إطلاقهم الفاعل على العباد، فإنما
يتجوزون به عن معنى الكسب والمحلية، ولا يريدون به معناه الحقيقي الذي قصده
المصنف هيهنا، وهو الايجاد والاصدار الذي يتعارفه أهل اللسان، وأما ما ذكره
من الأفعال التي يظهر صدورها عن العباد لا يستبعد العقل أن تكون صادرة
في الحقيقة عن الله تعالى مقارنة لقدرتنا، فيتوجه عليه، أنه يتضمن إنكار البديهي
الظاهر المشاهد لكل أحد صدورها عن العباد، وارتكاب نسبتها إلى الله تعالى على
طريقة الرجم بالغيب، والرمي في الظلام، فكيف لا يكون مستبعدا؟ وأي دليل
قطعي أو اقناعي ظني قام على خلاف المشاهد الظاهر حتى يكون رافعا لاستبعاد
العقل؟ وبهذا يظهر فساد تمثيله بالأسود فإن السواد قائم عليه بمعنى وقوعه عليه،
فلا وجه لقياسه إلى الأفعال القائمة بالعباد بمعنى صدورها عنهم كالأكل والشرب كما
مر بيانه، ولهذا ترى أهل العدل يحكمون بأن السواد والبياض ونحوهما من
الأعراض فعل الله تعالى، والآكل والشرب والزنا والسرقة ونحوهما من فعل العبد،
وأما ما ذكره من دليل الأشاعرة فهو مع كونه مشهورا معتمدا عليه عندهم ولهذا
أيضا خصه الناصب بالذكر هيهنا مردود من وجوه، أما أولا، فلأن شمول قدرته
بقدرة الله تعالى، وأفعال العباد بقدرتهم، وأما ثانيا فلأنه منقوض (1) باتخاذ
الولد ونحوه، فإنه ممكن في نفسه مع استحالته على الله تعالى اتفاقا، وما هو جوابكم
عن هذا فهو جوابنا عن ذلك. وأما ثالثا، فلأنه إن أريد بشمول قدرته لجميع
الممكنات تعلقها به بالذات، فهو ممنوع وغير لازم مما استدلوا به على ذلك
المطلوب، بل يجوز أن يكون تعلقها إلى بعض بالذات وإلى بعض آخر بالواسطة،

8
وكلام الأصفهاني (1) في شرحه للطوالع يدل على ذلك حيث قال: والحق أن انتباه
كل الممكنات الموجودة إليه دليل على أنه قادر على الكل، وإن أريد تعلقها به
على وجه الأعم، فهذا لا ينافي كون أفعال العباد مقدورة له بالذات، وأما رابعا
فلأنه إن أريد بشمولها للجميع (2) تعلقها به بالفعل فهذا غير لازم مما ذكروه في
بيانه، لجواز أن لا يكون الامكان علة لتعلقها به بالفعل، بل لامكان التعلق وفعليته
يستند إلى ما ينضم إلى الامكان، وإن أريد به تعلقها بالمكان، فذلك لا يستلزم الفعلية في
جميع الممكنات، حتى يلزم اجتماع قدرتين مؤثرتين بالفعل في مقدور واحد،
والحاصل أن الامكان كما حققه المحقق الطوسي (3) طيب الله مشهده، علة

9
مصححة لتعلق القدرة لا موجبة له، ولا يلزم من تحقق العلة المصححة لشئ تحققه
العبد لو كان موجدا لفعل نفسه، لجاز أن يوجد الجسم لأن المصحح لتعلق الايجاد
بفعل نفسه هو الامكان، وهو متحقق في الجسم وبالتالي باطل (إنتهى).
وأما ما ذكره من أن أهل العدل اختاروا مذهبا رديا هو إثبات تعدد الخالقين
فهو كلام مبهم إذا كشف غطاؤه، وظهر جودة ما اختاروه، وذلك لأن الردي
إثبات تعدد الخالق القديم الذي لا يكون مخلوقا لله ابتداء، أو بواسطة كما يلزم
الأشاعرة من القول بزيادة الصفات القديمة، وأما إثبات الخالق الحادث الذي
يكون ذاته وحياته وقدرته وتمكينه وسائر صفاته وكمالاته مخلقة لله تعالى كما هو
شأن العبد على رأي أهل العدل، فلا رداءة فيه، بل فيه جودة تنزيه الله تعالى عن كونه
فاعلا للقبائح والفواحش المنسوبة إلى العبد كما مر مرارا، وأما ما ذكره من الجواب
فهو مما ذكره صاحب المواقف (1) وقد ظن الناصب المرتاب أنه عين الصواب،
بل كأنه وجد تمرة الغراب (2)، وفيه نظر، أما أولا فلأن محصل كلام أبي الحسين
والمصنف ومن وافقهم في هذا المقام دعوى البداهة في مقدمات ثلاث، إحديها علية
دون السقوط منها ودون حركته الارتعاشية، والثالثة أنه لم تؤثر قدرته في
هذا الصعود لم يصعد، لا أنهم جعلوا الأولى منها نظرية، والثانيتين دليلا عليها حتى

11
يتوجه أنه دوران غير مقيد للعلية، ثم لو جعل الدوران تنبيها على المقدمة الأولى
لكان له وجه، ويضعف منع لزوم العلية، وأما ما ذكره من أن علماء السلف كانوا
بين منكرين لإيجاد العبد فعله ومعترفين مثبتين له بالدليل الخ مدخول بأن ما ذكره
السلف من أهل العدل بصورة الدليل إنما هو تنبيهات على المدعى الضروري، قد
حملها من خالفهم من الأشاعرة على الاستدلال ليمكنهم إيراد المنع والنقض والمعارضة (1)
عليها، فلا يلزم ما توهمه الناصب من نسبة العقلاء إلى إنكار الضرورة

12
بل اللازم نسبة المعزولين عن العقل والشعور، وهم الأشاعرة الذين هذا شأنهم في
أكثر المسائل كما لا يخفى، وأما الثانية فلأن وجود القدرة من غير تأثيرها إنما
يورث الفرق على تقدير تحققه في نفس الأمر، لكنه غير متحقق بشهادة الوجدان (1)
بتأثيرها، ثم لو كان الفارق وجود قدرة غير مؤثرة، لزم عدم الفرق فإن الساقط من
المنارة له قدرة إسقاط نفسه أيضا ولا شك أنه إذا سقط لم تؤثر قدرته في هذه الحركة
نعم إنهم قالوا: بتعلق تلك القدرة والإرادة بالصعود دون السقوط، لكن إذا لم يكن

13
لها نحو تأثير في الفعل غير أنها مقارنة لمحله، فتعلقها إنما يقيد في صحة
إطلاق اللفظ دون التغاير في نفس الفعل، وكونه أثرا للقدرة مع أن البديهي
هو الثاني، وبالجملة من أنصف من نفسه علم الفرق بين الحركتين، بأن القدرة
مؤثرة في الأولى دون الأخرى، وإثبات القدرة بدون التأثير لا يكون له معنى
محصل، بل غير معقول أصلا كإثبات الباصرة للأعمى بدون الأبصار، وإثبات السامعة
للأصم بدون الاستماع، وكما أن إنكار قدرة العبد مكابرة كذلك إنكار تأثيرها
في بعض أفعاله (1) مكابرة، والاعتراف بأن الأول مكابرة (2) دون الثاني مكابرة

14
في مكابرة، لأن بديهة العقول حاكمة بأن بعض الأفعال تصدر منا بتأثير قدرتنا
فيها، فإنكار كون العبد موجدا لأفعاله الاختيارية سفسطة مصادمة للضرورة، و
يوضحه أن تعلق القدرة بالفعل لا على وجه التأثير، كما اخترعوه وسموه
بالكسب أمر خفي لا يهتدي إليه العقل، فإنه إذا لم يكن للقدرة تأثير، لا يظهر وجه
تعلقها به، فإن قيل: تعلقها به هو أن تكون موجودة عنده قلنا: من أين يعلم وجودها
عنده، فإن قيل: علم وجودها عنده، من الفرق بين حركة المرتعش وحركة المختار
بالبديهة، قلنا: الفارق هو الإرادة لأن حركة المرتعش حصلت من غير إرادة وحركة
المختار حصلت بها، وللإرادة غير القدرة لأنها صفة مخصصة لأحد المقدورين
بالوقوع، فإن قيل: إذا كانت الإرادة مخصصة لأحد المقدورين بالوقوع فلا بد لوجودها
من وجود القدرة، قلنا: لم لا يجوز أن يكون مخصصة لأحد مقدوري الله تعالى
بالوقوع؟ فإن عادة الله جرت بأنها إذا تعلقت بأحد طرفي الممكن، حصل ذلك
الطرف، وبالجملة القدرة الحادثة أي قدرة العبد عند الأشاعرة صفة يوجد الفعل
معها، فإن عادة الله جرت بأنها إذا تعلقت بأحد طرفي الممكن، حصل ذلك
الطرف، وبالجملة القدرة الحادثة أي قدرة العبد عند الأشاعرة صفة يوجد الفعل
معها، وبعبارة أخرى كيفية وجودية قائمة بالفاعل موجودة عند الفعل، فإذا لم
يكن لها تأثير يكون في معرض الخفاء، حتى يبرهن على ثبوته، ولعمري أن القول:
يكسب العبد وأن قدرته غير مؤثرة، وأنما المؤثر قدرة الله سبحانه ثم القول بثواب
العبد، أو عقابه من باب أن يقال: إن أحدا قادرا على الزنا مثلا إذا كان معه قادر
آخر، تكون قدرته أشد من قدرته، وليس له أن يمنعه من الزنا إذا لم يرتكب
الزنا وارتكب مصاحبة الزنا، صار هذا الشخص الغير المرتكب له العاجز عن أن
يمنع فاعله مستحقا للرجم، دون المرتكم له وهو كما ترى، والحاصل أن القول:
بالقدرة غير المؤثرة مما لا طائل تحته، لأن القدرة صفة مؤثرة على وفق الإرادة،
فلو لم تكن قدرة العبد مؤثرة تكون تسميتها قدرة مجرد اصطلاح، ويؤيده الفرق

15
بين القدرة والعلم بتأثير القدرة وعدم تأثير العلم، وأما ما ذكره العلامة الدواني (1)
في شرحه للعقائد العضدية، من أن القدرة لا تستلزم التأثير بل ما هو أعم منه ومن
الكسب، وأن الفرق بينهما وبين العلم بأن القدرة تستلزم هذا، ولا يستلزمه العلم
فمردود بأن هذا إنما يتم لو كان لكسب العبد معنى محصل معقول، وإنما قالوا
به عن فرط التعنت والمحجوجية كما مر، وسيجئ إن شاء الله تعالى، نعم يتوجه
على العدلية أن الضروري هو الفرق بتأثير القدرة في الاختيارية دون غيرها، وأما
استقلال تأثير قدرة العبد فيها بالاختيار كما هو مطلوبهم، فليس بضروري، بل هو
ممنوع لا بد له من دليل، لجواز أن يكون المؤثر مجموع القدرتين كما هو مذهب
أبي إسحاق الأسفرايني (2)، أو يكون المؤثر قدرة العبد فقط على سبيل الايجاب
كما هو مذهب الفلاسفة، ويندفع بأن المقصود هيهنا بيان مدخلية قدرة العبد في الجملة
في بعض أفعاله، ردا لمذهب الأشاعرة، لا بيان خصوص المذهب الحق كما لا يخفى
على المتأمل، على أن مذهب الفلاسفة قد ثبت بطلانه بالدليل العقلي، وبإجماع
المسلمين، وما ذهب إليه الأسفرايني، مع أنه قول بلا رفيق، ولا دليل عليه، مردود
أيضا بأنه إن أراد جواز أن يكون متعلق القدرتين شيئا واحدا هو نفس الفعل،
ويكون كل منهما مؤثرا مستقلا فحينئذ يلزم اجتماع المؤثرين على أثر واحد، وإن
أراد جواز أن يكون مجموعهما من حيث المجموع، مؤثرا واحدا مستقلا في التأثير
دون كل واحد منهما بإنفراده فيلزم حينئذ عدم استقلال قدرته تعالى، بل احتياجه إلى معاون
ومشارك تعالى عن ذلك علوا كبيرا، وأما ما ذكره بقوله: وأيضا أن كل سليم
العقل الخ فهو أيضا كلام صاحب المواقف، وقد دل على عدم سلامة عقله، لأنا لو سلمنا

16
أن موجد إرادة العبد لو كان نفسه فتوقف تلك الإرادة منه على إرادته لها، فلما
لم تتوقف هي عليها كما يعلم بالوجدان، فلا تكون هي صادرة عنه بل تكون مخلوقة
لله تعالى إلا أنا لا نعلم أن حصول الفعل عقيبها ليس منه، وكون الفعل يحصل عقيب
تلك الإرادة الجازمة الجامعة للشرائط، وارتفاع الموانع لا يدل على ذلك، إذ لا مانع
من أن تكون الإرادة مخلوقة لله تعالى، والفعل الذي لا ينفك عنها على الشرط
المذكور مخلوقا للعبد (1)، ولو قيل: إن مع تلك الإرادة المخلوقة لله تعالى عند
تحقق الشرط المذكور يتحقق الفعل، ولو لم يكن إيجاد من العبد فهو ممنوع (2)
لجواز أن العبد يكون إيجاد العبد أيضا لازما لها غير منفك عنها أصلا لا بالفعل، ولا
بالامكان، فلو فرض هذا المحال وهو انفكاك إيجاد العبد من تلك الإرادة، لجاز وقوع
محال آخر هو انفكاك الفعل أيضا عنها، إذ المحال جاز أن يستلزم المحال، وخصوصا
إذا كان بينهما علاقة ظاهرة كما فيما نحن فيه، وأما أن الفعل لا يحصل بدون تلك
الإرادة فلا يدل على المطلوب أيضا إلا إذا ثبت أن فعل العبد إذا توقف حصوله على
إرادة مخلوقة لله تعالى لا يمكن أن يكون مخلوقا للعبد، وهذا مع أنه ممنوع ليس مذكورا

17
في المقدمات، ولا لازما منها.
قال المصنف رفع الله درجته
منها مكابرة الضرورة فإن العاقل يفرق بالضرورة بين ما يقدر عليه كالحركة يمنة
ويسرة، والبطش باليد اختيارا وبين الحركة الاضطرارية كالوقوع من شاهق، وحركة
الحيوان، وحركة المرتعش، وحركة النبض، ويفرق بين حركات الحيوان الاختيارية
وحركات الجماد، ومن شك في ذلك فهو سوفسطائي (1)، إذ لا شئ أظهر عند
العاقل من ذلك ولا أجلى منه (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: قد عرفت جواب هذا فيما مر، وقد ذكر هذا الرجل هذا الكلام، ثم كرره
كما هو عادته في التكرارات القبيحة الطويلة الخيالية عن الجدوى، والجواب
ما سبق (إنتهى).
أقول
لا تكرار فيما ذكره المصنف، قال ذكره لدعوى الضرورة سابقا إنما عند
تقرير مذهب العدلية، وذكره لها هيهنا إنما هو في البيان ما يلزم من مذهب الأشاعرة
والفرق بين المقدمين ظاهر، وأما ما ذكره الناصب هناك من كلام صاحب المواقف
مما زعمه صالحا للجواب عن هذا فقد دمرنا عليه ثمة وأبطلناه.
قال المصنف رفع الله درجته
ومنها إنكار الضروري من حسن مدح المحسن، وقبح ذمه، وحسن

18
ذم المسئ، وقبح مدحه، فإن كل عاقل يحكم بحسن مدح من يفعل الطاعات
دائما. ولا يفعل شيئا من المعاصي ويبالغ في الاحسان إلى الناس، ويبذل الخير لكل
أحد، ويعين الملهوف ويساعد الضعيف، وأنه يقبح ذمه، ولو شرع أحد في ذمه
باعتبار إحسانه عده العقلاء سفيها، ولامه كل أحد، ويحكمون حكما ضروريا بقبح
مدح من يبالغ في الظلم والجور والتعدي والغصب ونهب الأموال وقتل الأنفس،
ويمتنع من فعل الخير وإن قل، وأن من مدحه على هذه الأفعال عد سفيها ولامه
كل عاقل ويعلم ضرورة قبح المدح والذم على كونه طويلا أو قصيرا، أو كون السماء
فوقه، والأرض تحته، وإنما يحسن هذا المدح والذم أن لو كانا صادرين
من العبد فإنه لو لم يصدر عنه لم يحسن توجه المدح والذم إليه، والأشاعرة
لم يحكموا بحسن هذا المدح والذم فلم يحكموا بحسن مدح الله تعالى على
إنعامه ولا الثناء عليه ولا الشكر له، ولا يقبح ذم إبليس وسائر الكفار
والظلمة المبالغين في الظلم، بل جعلوهما متساويين في استحقاق المدح والذم،
فليعرض العاقل المنصف من نفسه هذه القضية على عقله ويتبع ما يقوده عقله إليه ويرفض
تقاليد من يخطئ في ذلك، ويعتقد ضد الصواب، فإنه لا يقبل منه غدا يوم الحساب
وليحذر من إدخال نفسه في زمر الذين قال الله تعالى عنهم: وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار (1) (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: حاصل ما ذكره في هذا الفصل: أن المدح والذم يتوجهان إلى الأمور
الاختيارية، ويحسن مدح المحسن ويقبح ذمه، ويقبح مدح المسئ ويحسن ذمه
ولولا أن تكون الأفعال باختيار الفاعل وقدرته لما كان فرق بين الأعمال الحسنة

19
والسيئة ولا يستحق صاحب الأعمال الحسنة المدح ولا صاحب الأعمال القبيحة الذم
فعلم أن الأفعال اختيارية وألا يلزم التساوي المذكور وهو باطل، والجواب أن
ترتب المدح والذم على الأفعال باعتبار وجود القدرة والاختيار في الفاعل، وكسبه
ومباشرته للفعل، وأما أنه لتأثير قدرته في الفعل فذلك غير ثابت وهو المتنازع فيه.
ولا يتوقف ترتب المدح والذم على التأثير، بل يكفي وجود المباشرة والكسب في
حصول الترتب المذكور، ثم ما ذكر أن المدح والذم لم يترتب على ما لم يكن
بالاختيار فباطل مخالف للعرف واللغة، فإن المدح يعم الأفعال الاختيارية وغيره
بخلاف الحمد، واختلف في الحمد أيضا، وأما قوله: الأشاعرة لم يحكموا بحسن
هذا المدح، إن أراد أنهم لم يقولوا بالحسن العقلي للمدح والذم المذكورين فذلك
كذلك، لأنهم لم يقولوا بالحسن والقبح العقلي أصلا (1) وأن أراد نفي الحكم
بحسن مدح الله وثنائه مطلقا، فهذا من مفترياته، فإنهم يحكمون بحسن مدح الله تعالى
لأن الشرع أمر به لا لأن العقل حكم به كما مر مرارا (إنتهى).
أقول
الجواب الذي ذكره مردود، بأن وجود القدرة والاختيار في الفاعل الذي
هو العبد وكسبه ومباشرته للفعل، إما أن يكون له مدخل في وجود الفعل ألا،
فعلى الثاني يلزم الجبر، ضرورة أنه إذا لم يكن لتعلق قدرة العبد مدخل في الفعل
أصلا لا يورث الفرق، ولا تفاوت بين وجوده وعدمه وعلى الأول إن لم يكن
هذا التعلق مستلزما لوجود الفعل، يتم الملازمات، فإن تعذيب العبد مثلا بفعل
لا يكون منه قبيح بالضرورة، وهذا الفعل لم يجب من قدرة العبد على هذا الفرض

20
فلم يوجد منه، إذ الشئ ما لم يجب لم يوجد، وإن كان مستلزما فهو مذهب أهل العدل،
فإن مرادهم باستقلال قدرة العبد في التأثير استلزامها لفعله، فإن العلة المستقلة
تطلق على العلة المستلزمة أيضا، وهذا القدر يكفيهم فيما إذ دعوه، ولا يطابق مذهب
الأشاعرة حيث قالوا: بمحض مقارنة الفعل لقدرة العبد من عير تأثيرها فيه، وأما
ما نسبه إلى المصنف، من أنه قال: إن المدح والذم لا يترتب على ما لم يكن
بالاختيار فليس كذلك، وإنما قال المصنف: إن الأفعال الصادرة بغير الاختيار
لا يترتب عليها مدح فاعلها وذمه، لا أنه لا يترتب مدح أو ذم على نفس ذلك
الأفعال، وكلام المصنف صريح فيما ذكرنا، حيث قال: فإنه لو لم يصدر عنه لم
يحسن توجه المدح والذم إليه أي إلى العبد، لا إلى الفعل الصادر بغير اختيار كما
توهمه الناصب، وما تعارف بين أهل العرف واللغة إنما هو تعلق المدح أو الذم
بنفس تلك الأفعال كحسن الوجه وقبحه لا بمحلهما وهو العبد فيقال: رجل حسن الوجه،
أو قبيحة من باب وصف الشئ بحال متعلقة (1) ولا يقال: رجل حسن أو رجل قبيح على الاطلاق،
وبالجملة هذا إنما يصحح مطلق المدح ولا يصحح المدح والذم الاستحساني والاعتراضي
فتدبر، وأما ما ذكره من الترديد فقبيح جدا، لظهور أن كلام المصنف في بيان
أن الأشاعرة لا يحكمون بعقولهم بحسن هذا المدح فهم معزولون عن العقل، وهذا
يكفي في غرضه من تقبيح قولهم، والتزام الناصب لذلك لا يدفع التقبيح، وإنما
يشهد على قبح التزامه وقلة حيائه كما لا يخفى، على أن في الشق الأول منه اعترافا
ينفي الحسن العقلي أصلا، وهو مناف لما ذكره الناصب سابقا موافقا لما اختاره
متأخروا أصحابه من إثبات الحسن العقلي في الجملة، وبالنظر إلى بعض المعاني
الذي استثنوه عن محل النزاع تفصيا عن الإشكال كما أشرنا إليه سابقا فتذكر.

21
قال المصنف رفع الله درجته
ومنها أنه يقبح منه تعالى حينئذ تكليفنا فعل الطاعات واجتناب المعاصي،
لأنا غير قادرين على ممانعة القديم، فإذا كان الفاعل للمعصية فينا هو الله تعالى، لم
نقدر على الطاعة، لأن الله تعالى إن خلق فينا فعل الطاعة، كان واجب الحصول،
وإن لم يخلقه كان ممتنع الحصول، ولو لم يكن العبد متمكنا من الفعل والترك كانت
أفعاله جارية مجرى حركات الجمادات، وكما أن البديهة حاكمة بأنه لا يجوز
أمر الجماد ونهيه ومدحه وذمه وجب أن يكون الأمر كذلك في أفعال العباد، لأنه
تعالى يريد منا فعل العصية ويخلقها فينا، فكيف نقدر على ممانعته؟ ولأنه إذا
طلب منا أن نفعل فعلا ولا يمكن صدوره عنا، بل إنما يفعله هو، كان عابثا في
الطلب مكلفا لما لا يطاق، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا انتهى.
قال الناصب خفضه الله
أقول: هذه الشبهة اضطرت المعتزلة إلى اختيار هذا المذهب، وإلا لم
يجرء (1) أحد من المسلمين على إثبات تعدد الخالقين في الوجود، والجواب أن
تكليف فعل الطاعات واجتناب المعاصي باعتبار المحلية لا باعتبار الفاعلية، ولأن
العبد لما كان قدرته واختياره مقارنا للفعل صار كاسبا للفعل، وهو متمكن للفعل
والترك باعتبار قدرته واختياره الموجب للكسب والمباشرة، وهذا يكفي في صحة
التكليف ولا يحتاج إلى إثبات خالقيته للفعل وهو محل النزاع، وأما الثواب
أو العقاب المترتبان على الأفعال الاختيارية فكسائر العاديات المترتبة على أسبابها
بطريق العادة من غير لزوم عقلي واتجاه سؤال، وكما لا يصح عندنا أن يقال: لم

22
خلق الله الاحراق عقيب مسيس النار، ولم لا يحصل ابتداءا، فكذا هيهنا لا يصح
أن يقال: لم أثاب عقيب أفعال مخصوصة وعاقب عقيب أفعال أخرى، ولم لا يفعلها
ابتداءا ولم يعكس فيهما، وأما التكليف والتأديب والبعثة والدعوة، فإنها قد تكون
دواعي العبد إلى الفعل واختياره فيخلق الله الفعل عقيبها عادة، وباعتبار ذلك يصير
الفعل طاعة ومعصية ويصير علامة للثواب والعقاب ثم ما ذكره أنه يلزم إذا كان الفاعل
للمعصية فينا هو الله تعالى أنا لم نقدر على الطاعة، لأنه إن خلق الطاعة
كان واجب الحصول، وإلا كان ممتنع الحصول، فنقول: هذا يلزمكم في العلم
لزوما غير نفك عنكم، لأن ما علم الله عدمه من أفعال العبد فهو ممتنع الصدور
عن العبد وما علم الله وجوده فهو واجب الصدور عن العبد، ولا مخرج عنهما لفعل
العبد، وأنه يبطل الاختيار إذ لا قدرة على الواجب والممتنع، فبطل حينئذ التكليف
لابتنائه على القدرة والاختيار بالاستقلال كما ذكرتم، فما لزمنا في مسألة خلق الأعمال
فقد لزمكم في مسألة علم الله تعالى بالأشياء (إنتهى).
أقول
تسميته لذلك الدليل القطعي شبهة اشتباه نشأ عن القول بمعنى المحلية،
كما صرح به، وقد مر بيان فساد القول بالكسب مجملا، وسيجئ إن شاء الله تعالى
مفصلا، ويتوجه على ما ذكره في الجواب من أن التكليف باعتبار المحلية الخ من
الرد وجوه، الأول أن حاصل جوابه أنا لا نقول: إن العبد بإيجاد الفعل
حتى يتوجه لزوم تكليف ما لا يطاق بل نقول: إنه مكلف بالكسب والمحلية وهو
مما يطاق، وفيه أن الكسب إن لم يكن بإيجاد العبد إياه فالتكليف تكليف بما
لا يطاق، وإن كان بإيجاده إياه ثبت أن العبد فاعل موجد وهو المطلوب، وأيضا
لا اختيار للعبد في المحلية على رأي الأشاعرة كما مر، فلا يظهر وجه استحقاق

23
المدح والذم باعتبارها، فنقول في تقرير دليل المصنف: أولم يكن العبد فاعلا لبعض
الأفعال، بل كان فاعل هو الله تعالى لم يكن الحسن والقبيح شرعيين كما زعمه
الأشاعرة، إذ لو كانا شرعيين لم يتحقق قبيح، إذ لا فاعل إلا الله ولا قبيح منه كما قرروا.
والكسب المنسوب إلى العبد فعل الله أيضا، والذم باعتبار المحلية غير معقول كما مر
الثاني أن ما ذكره بقوله: وأما الثواب والعقاب المترتبان على الأفعال الخ
مبني على نفي الأسباب الحقيقية وقد مر ما فيه فتذكر، على أن الكلام هيهنا في
ترتب استحقاق الثواب والعقاب لا في أنفسهما فافهم ذلك، الثان أن ما ذكره
من مثال الاحراق عقيب مسيس النار لا يطابق الممثل أصلا، إذ مع قطع النظر
عن المغايرة بوجوه شتى يكابر فيها الأشاعرة لا ريب أن في المثال المذكور لم يقع
أمر ونهي ووعد ووعيد في فعل الاحراق، فلهذا لا يصح السؤال عنه، وأيضا إنما لا يسئل
عن فعل النار، لأنه جماد لا حياة له ولا إرادة، لا لأنه ليس بسبب للإحراق حقيقة
كما توهموه، وبالجملة لو كان ترتب الثواب والعقاب على الأفعال كترتب الاحراق
على مسيس النار من دون أن يكون له سببية حقيقية كما زعموه، لم يكن للبعثة و
ما يتعلق بها من الترغيب والترهيب والحث على تحصيل الكمالات وإزالة الرذائل
ونحو ذلك فائدة، إذ لا تظهر فائدة ذلك إلا إذا كان لقدرة العبد وإرادته تأثير في أفعاله
ويتولى مباشرتهما بالاستقلال، الرابع أن قوله: وكما لا يصح عندنا أن يقال الخ
مع أنه لا ارتباط له بكلام المصنف قدس سره مردود بما سبق من أن التصرف إن
كان بطريق حسن، فهو حسن، وإلا فهو قبيح، فإنا إذا وعدنا عبيدنا بالاعتاق
والإنعام بفعل ما يورث مشقة عظيمة عليهم، وبالسياسة لتركه ففعله بعضهم على ما
أردناه وتركه بعضهم مشتغلا بما يلتذ به مما كنا ما نعين منه، ثم أعتقنا العاصي و
أنعمنا عليه وعاقبنا المطيع المتحمل للمشقة انقيادا لأمرنا يحكم العقلاء بظلمنا البتة،
بخلاف ما لو أعتقنا بعض عبيدنا ابتداء، وأمرنا بعضا آخر بخدمة شاقة لا
يتجاوز طاقته، فإنه لا يعد ظلما واللازم على الأشاعرة نظير الأول دون الثاني،

24
وظاهر أنه لو لم يجب استقلال العبد في فعله، لزم رفع فائدة ويصح السؤال لكونه
ظلما على التحقيق، الخامس أن ما ذكره من أن التكليف والتأديب والبعثة والدعوة
قد تكون دواعي العبد إلى الفعل الخ مدخول بأن الانسان مجبول على الفعل سواء
بعث إليه النبي أو لا، فلا حاجة لهم في أصل الفعل إلى بعثة النبي الداعي لهم إلى ذلك كما
لا يخفى، ثم ما ذكره الناصب من الالزام غير لازم لما سيجئ من أن علمه تعالى تابع
للمعلوم، لا علة له، على أنه لو تم لزم أن تكون أفعاله تعالى أيضا اضطرارية
لجريانه فيه بعينه، فما لم يلزمنا في مسألة علم الله تعالى، لزمكم في مسألة خلقه
تعال للأعمال المعللة بعلمه على ما زعمتموه فتدبر.
قال المصنف رفع الله درجته
ومنها أنه يلزم أن يكون الله تعالى أظلم الظالمين تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا
لأنه إذا خلق فينا المعصية، ولم يكن لنا فيها أثر البتة، ثم عذبنا عليها وعاقبنا
على صدورها منه تعالى فينا، كان ذلك نهاية الجور والعدوان، نعوذ بالله من مذهب
يؤدي إلى وصف الله تعالى بالظلم والعدوان، فأي عادل سوى الله تعالى وأي منصف
سواه وأي راحم للعبد غيره، وأي مجمع الكرم والرحمة والإنصاف؟ مع أنه يعذبنا
على فعل صدر عنه، ومعصية لم تصدر عنا (1)، بل منه (قده).
قال الناصب خفضه الله
أقول: نعوذ بالله من نسبة الظلم والعدوان إلى الله المنان، وخلق المعصية في العاصي

25
لم يستوجب الظلم، والظلم تصرف في حق الغير، والله تعالى لا يظلم الناس في كل تصرف
يفعل فيهم، وقد روي أن عمرو بن العاص سأل أبا موسى الأشعري ورضي الله عنه، فقال:
يخلق في المعصية ثم يعذبني بها فقال: أبو موسى لأنه لم يظلمك، وتوضيح هذا
المبحث أن النظام الكلي في خلق العالم يقتضي أن يكون فيه عاص ومطيع كالبيت
الذي ببنيه حكيم مهندس، فإنه يقتضي أن يكون فيه بيت الراحة، ومحل الصلاة
وأن لم يكن البيت مشتملا على المستراح كان ناقصا، كذلك إن لم يكن في الوجود
عاص لم يكمل النظام الكلي، ولم يملأ النار من العصاة، وكما أنه لا يستحسن
أن يعترض على المهندس إنك لم علمت المستراح ولم لم تجعل البيت كأنه محل
العبادة ومجلس الأنس؟ كذلك لم يحسن أن يقال: لخالق النظام الكلي: لم خلقت
العصاة؟ ولم لم تجعل العباد كلهم مطيعين؟ لأن النظام الكلي كان يقتضي وجود
الفريقين، فالتصرف الذي يفعل صاحب البيت في جعل بعضه مسجدا، وبعضه مستراحا
هل يقال: هو ظلم!؟ فكذلك تصرف الحق سبحانه في الوجود بأي وجه يتفق لا يقال:
إنه ظلم ولكن المعتزلي الأعمى يحسب أن الخلق منحصر فيه، وهو مالك لنفسه
والله ملك عليه لا يعلم أنه مالك مطلق، ألا ترى؟ أن الرجل أن الرجل الذي يعمل عملا
ويستأجر على العمل رجالا ويستعمل معهم بعض عبيده الأرقاء، فإذا تم العمل أعطى
الأجراء أجرتهم، ولم يعط العبيد شيئا هل يقال: إنه ظلم العبد؟ لا شك أنه لا يقول
عاقل: إنه ظلم العبد، وذلك لأنه تصرف في حقه بما شاء، ثم إن هذا الرجل
لو حمل العبد فوق طاقته، أو قطع عنه القوت واللباس يقال: إنه ظالم، وذلك لأنه
تجاوز من ذلك الحد، فقد ظلم، وذلك لأنه ليس بالمالك المطلق، ولو كان
هو المالك المطلق، وكان له التصرف حيثما شاء وكيفما أراد لكان كل تصرفاته
عدلا لا جورا وظلما، كذلك الحق سبحانه هو المالك المطلق، وله التصرف كيفما

26
شاء وحيثما أراد، فلا يتصور منه ظلم بأي وجه تصرف، خذ هذا التحقيق ولا تعد عن هذا (إنتهى).
أقول
تحقيق المسألة على وجه يظهر به تمويه استعاذة الناصب أنه لا خلاف بين العلماء
في أنه تعالى عادل متفضل محسن، وإنما الخلاف في معناه قالت الأشاعرة إن
معنى كونه تعالى عادلا أنه متصرف في ملكه لا في ملك غيره كما مر، وقالت
العدلية من الإمامية والمعتزلة معناه أنه يختار الحسن ويخل القبيح،
لكن من المعلوم
أن التصرف في الملك يمكن أن يكون على الوجوه الحسنة، وأن يكون
على الوجوه القبيحة ولا ريب في أن التصرف في الملك على الوجوه القبيحة ظلم وجور
ليس بعدل فالقائلون بأن لا مؤثر إلا الله مع الاعتراف بحدوث الظلم والجور في
العالم جاحدون لكونه تعالى عادلا في المعنى، لأن فاعل الظلم والجور لا يكون
عادلا، وأما القائلون بأن العبيد محدثون لتصرفاتهم، فهم ينسبون الظلم إلى أنفسهم
وينزهون الله تعالى عما يقولون ويفترون يعني النواصب القدرية، وجوابهم عما
ذكره أهل العدل بأنا لا نسلم أن خالق الظلم والجور ليس بعادل، فإن خلق جميع
الأشياء ليس بقبيح بالنسبة إليه، وإنما تصير الأشياء قبيح بالنسبة إلى الخلائق،
وباعتبار قيامها بهم، مكابرة تسد باب المناظرة ثم إن الناصب لم يجعل عمرو بن العاص
هيهنا شريكا مع أبي موسى (1) في الدعاء برضاء الله تعالى، لأنه وافق مذهب أهل

27
الاعتزال، وغفل عن كونه من أعداء أمير المؤمنين (ع)، وإلا لوجه إليه السلام و
والتحية أيضا، وأما ما ذكره من التمثيل بالبيت المشتمل على كيت وكيت فإنما
تمثل به العلامة الدواني في بعض رسائله لبيان القول بالأصلح بنظام الكل على
ما ذهب إليه الحكماء والإمامية دون غيرهم من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية (1)
ولا مطابقة فيه لمذهب الأشاعرة كما توهمه الناصب فإن ما اشتمل عليه ذلك البيت
من المستراح يظهر عند العقل السليم مدخليته في نظام مجموع البيت، إذ لولاه
لتلوث جميع البيت وفزع أهله من الروائح المستقذرة، بخلاف ما اشتمل عليه العالم
من الأفعال المتنازع فيها كالزناء واللواطة والسرقة والكذب والنميمة ونحوها،
فإنها كما مر لا يظهر نفعها في نظام العالم، بل يكون مخلا فيها، وأيضا الكلام في
دعواهم حسن مطلق التصرف من الله تعالى، والتصرف الذي، مثل به تصرف
خاص يستحسنه العقل، بخلاف بعض التصرفات التي تنسبه الأشاعرة الله تعالى
ويمنعه أهل العدل، ثم ما ذكره من التنوير (2) المظلم، لا مطابقة له، مع المتنازع
فيه، لأن عدم إعطاء السيد للعبيد أجرة في الصورة المذكورة، إنما لا يستقبحه
العقل لأنهم عياله وعليهم نفقته من المأكول والملبوس، فلا يجب عليه عقلا ولا
شرعا أن يعطيهم سوى ذلك مما أعطى الأجراء الأحرار، وإن أراد بقوله لم يعطهم
شيئا إنه لم يعطهم شيئا أصلا لا أجرة ولا قوتا ليسد رمقهم كان ظلما وهو ظاهر،
وأما ما ذكره بقوله: ثم إن هذا الرجل لو حمل العبد فوق طاقته، أو قطع عنه
القوت واللباس يقال إنه ظالم الخ فهو حجة على الناصب من حيث لا يشعر، لدلالته
على أن مطلق التصرف لا يكون عدلا كما ادعاه أهل العدل، وأما تعليل كون
ذلك ظلما بأنه ليس بمالك على الاطلاق فعليل، وإنما العلة في كونه ظلما أنه

28
تصرف يستقبحه العقل سواء صدر عن المالك على الاطلاق أو عن غيره كما لا يخفى
وعلى ما حققناه ينبغي لأصحاب الناصب تعديه سريعا عما سماه بالتحقيق، وإن
كان باسم ضده حقيق، والله ولي التوفيق.
قال المصنف رفع الله درجته
ومنها أنه يلزم منه تجويز انتفاء ما علم بالضرورة ثبوته، بيانه إنا نعلم
بالضرورة أن أفعالنا إنما تقع بحسب قصودنا ودواعينا، وتنتفي بحسب انتفاء
الدواعي وثبوت الصوارف، فأنا نعلم بالضرورة أنا متى أردنا الفعل، وخلص الداعي
إلى إيجاده وانتفى الصارف فإنه يقع، ومتى كرهنا لم يقع، فإن الانسان متى اشتد
به الجوع، وكان تناول الطعام ممكنا، فإنه يصدر منه تناول الطعام، ومتى اعتقد أن
في الطعام سما انصرف عنه، وكذا نعلم من حال غيره ذلك، فإنا نعلم بالضرورة
أن شخصا لو اشتد به العطش ولا مانع من شرب الماء فإنه يشربه بالضرورة،
ومتى علم مضرة دخول النار لم يدخلها، ولو كانت الأفعال صادرة من الله تعالى
جاز أن يقع الفعل وإن كرهناه وانتفى الداعي إليه، ويمتنع صدوره عنا وإن
أردناه وخلص الداعي إلى إيجاده على تقدير أن لا يفعله الله تعالى، وذلك معلوم
البطلان، فكيف يرتضي العاقل لنفسه مذهبا يقوده إلى بطلان ما علم بالضرورة
ثبوته؟ (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: قد سبق في تحرير المذهب أن الأفعال تقع بقدرة الله تعالى عقيب إرادة
العبد على سبيل العادة فإذا حصلت الدواعي وانتفت الصوارف يقع فعل العبد وإن
جاز عدم الوقوع عقلا كما في سائر العاديات التي يجوز عدم وقوعها ويستحيل
عادة فكذا كل ما ذكره من تناول الطعام وشرب الماء، فإنه يجوز أن لا يقع عقيب

29
إرادة الطعام ولكن العادة جرت بوقوعها، أما قوله: ولو كانت الأفعال صادرة من الله
تعالى جاز أن يقع الفعل وإن كرهناه، فهذا أمر صحيح فإنا كثيرا ما نفعل الأشياء
ونكرهها، وهذا الجواز مما لا ريب فيه، وليس في إنكار هذا الجواز نفي ما علم
بالضرورة (إنتهى).
أقول
ما ذكره من جواز عدم الوقوع عقلا هو عين الدعوى المخالفة التي يتكلم
المصنف عليها، فإن العقل الصحيح لا يجوز عدم وقوع شرب الماء عند العطش مع حصول
الدواعي وانتفاء الصوارف، فكيف تصير إعادتها جوابا ودفعا لما ذكره المصنف؟!
وأما ما ذكره بقوله: فإنا كثيرا ما نفعل الأشياء ونكرهها الخ فإن أراد أنا
كثيرا ما نفعل الأشياء التي نكرهها قبل الفعل فوقوع هذا غير مسلم ومخالف للضرورة
وإن أراد أنا كثيرا ما نفعل الأشياء ونكرهها بعد الفعل لظهور قبحه وكراهته على
العقل بعد ذلك فمسلم، لكن المصنف إنما ادعى الضرورة في نفي وقوع الفعل مع
كراهة العقل له قبل الفعل، وأما قوله: وليس في إنكار هذا الجواز نفى ما علم
بالضرورة فغلط ظاهر، لأن المصنف قدس سره قد ادعى أن جواز وقوع الفعل
مع كراهته مناف للضرورة فهو قدس سره منكر لذلك الجواز، لكونه منافيا
للضرورة، فإيراد الناصب عليه بأنه ليس في إنكار هذا الجواز نفى ما علم بالضرورة
كما ترى ليس فيه طائل، ولا يرجع إلى حاصل.
قال المصنف رفع لله درجته
ومنها أنه يلزم تجويز ما قضت الضرورة بنفيه، وذلك لأن أفعالنا إنما تقع على
الوجه الذي نريده ونقصده، ولا يقع منا على الوجه الذي نكرهه، فإنا نعلم بالضرورة

30
إنا إذا أردنا الحركة يمنة لم تقع يسرة، وإذا أردنا الحركة يسرة لم تقع الحركة
يمنة، والحكم بذلك ضروري، فلو كانت الأفعال صادرة من الله تعالى جاز أن
تقع الحركة يمنة ونحن نريد الحركة يسرة وبالعكس، وذلك ضروري البطلان،
(إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: جواب هذا ما سبق في الفصل السابق أن هذه الأفعال تقع عقيب إرادة العبد
عادة من الله تعالى وأن الله تعالى يخلق هذه الحركات عقيب إرادة العبد وهو يخلق
الإرادة، والضرورة إنما تقضي على وقوع هذه الأفعال عقيب القصد والإرادة لا أنها
تقضي بأن هذه الإرادة مؤثرة خالقة للفعل، والعجب أن هؤلاء لا يفرقون بين هذين
المعنيين، ثم من العجب كل العجب أنهم لا يرجعون إلى أنفسهم ولا يتأملون أن هذه
الإرادة من يخلقها؟ أهم يخلقونها أم الله تعالى يخلقها؟ فالذي خلق الإرادة وإن لم
يرد العبد تلك الإرادة وهو مضطر في صيرورته محلا لتلك الإرادة خالق الفعل،
فإذا بلغ أمر الخلق إلى الفعل رقدوا كالحمار في الوحل ونسبوا إلى أنفسهم خلق
الأفعال وفيه خطر الشرك (إنتهى).
أقول
ما ذكره من العجب ليس من جهله بعجب ويدفع تعجبه ما ذكرنا سابقا من أن
القول بالقدرة والإرادة الغير المؤثرتين سفسطة باطلة، وكذا ما أتى به من كل العجب
فإن أصل الإرادة وإن كانت مخلوقة لله تعالى، لكن صرفها إلى فعل من فعل العبد،
والحاصل أن المخلوق لله تعالى أصل الإرادة وهو الكيفية النفسانية التي من شأنها
ترجيح الفعل أو الترك لكن فعلية الترجيح وتعلق القدرة والإرادة بالفعل أي جعلهما
متعلقا به من العبد، لا من الله تعالى، ونمنع ما ذكره العلامة الدواني في رسالته

31
من أن تعلق الإرادة منبعث من مجرد تصور العلائم واعتقاد الملائمة التي لا يتخلف
تحقق الفعل عن تحققها، وجميع ذلك بقدرة الله تعالى، وإرادته لم (فلم ظ) لا يجوز
أن يكون منبعثا من ذلك!؟ مع أنه أمر اعتيادي كان منشأه العبد، وهلم جرا
والتسلسل في الأمور الاعتبارية مما لا يبالي بارتكابه، وكأنه لهذا قال شارح
المقاصد: الحق أن مبنى المبادي القريبة لأفعال العباد على قدرتهم واختيارهم،
ومبنى العبادي البعيدة على إلجائهم واضطرارهم، فلا يلزم من صيرورة العبد محلا
لأصل تلك الإرادة أن يكون مضطرا في التعيين والترجيح كما توهمه الناصب الحمار،
وزعم أنه قد أخرج بذلك نفسه عن الوحل، وسيأتي لهذا زيادة تحقيق وتوضيح
في موضعه اللائق به إن شاء الله تعالى.
قال المصنف رفع الله درجته
ومنها أنه يلزم مخالفة الكتاب العزيز ونصوصه، والآيات المتظاهرة فيه الدالة على
استناد الأفعال إلينا، وقد بينت في كتاب الايضاح مخالفة أهل السنة لنص الكتاب
العزيز والسنة بالوجوه التي خالفوا فيها آيات الكتاب العزيز حتى أنه لا تمضي آية
من الآيات إلا وقد خالفوا فيها من عدة أوجه، فبعضها يزيد على بضع (1) بعضها
يزيد على العشرين، ولا ينقص شئ منها عن أربعة، ولنقتصر في هذا المختصر
على وجوه قليلة دالة على أنهم خالفوا صريح القرآن ذكرها أفضل متأخريهم
وأكبر علمائهم فخر الدين الرازي (2)، وهي عشرة الأول الآيات الدالة على
إضافة الفعل إلى العبد، فويل للذين كفروا (3) فويل للذين يكتبون الكتاب

32
بأيديهم (1)، إن يتبعون إلا الظن (2)، ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم
حتى يغيروا ما بأنفسهم (3)، بل سولت لكم أنفسكم أمرا (4)، فطوعت له نفسه
قتل أخيه (5)، ومن يعمل سوءا يجز به (6)، كل امرئ بما كسب
رهين (7)، ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي (8) (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: أعلم أن النص ما لا يحتمل خلاف المقصود، فكلما كان كذلك من كتاب الله
وخالفه المكلف عالما به يكون كافرا نعوذ بالله من هذا، وكل ما يحتمل الوجوه
ولا يكون بحيث لا يحتمل خلاف المقصود، فالمخالفة له لا تكون كفرا، بل هو محل
للاجتهاد والترجيح لما هو الأنسب والأقرب إلى مدلول الكتاب، والعجب
من هذا الرجل! أنه جمع الآيات التي أوردها الإمام الرازي ليدفع عنها احتمال
ما يخالف أهل السنة ثم أتى على الآيات كلها ووافق مذهب أهل السنة لها
ودفع عنها ما احتمل تطبيقه على مذهب المعتزلة، وهذا الرجل ذكر الآيات وجعلها
نصوصا مؤيدة لمذهبه ولم يذكر ما ذكر الإمام في تأويل الآيات وتطبيقها على مذهب
أهل السنة والجماعة، وهذا يدل على غاية حمق الرجل وحيلته وتعصبه وعدم فهمه

33
أما كان يستحي من ناظر في كتابه، ومثله (1) في هذا العمل كمثل من جمع السهام
في وقعة حرب وكانت تلك السهام قتلت طائفة من أهل عسكره فأخذ السهام من
بطون أصحابه، ومن صدورهم وأفخاذهم، ثم يفتخر أن لنا سهاما قاتلة للرجال
ولم يعلم أن هذه السهام قتلت أحبابه وأعوانه، نعوذ بالله من الجهل والتعصب، ثم
جعل هذه الآيات دليلا على مذهبهم الباطل من باب إقامة الدليل في غير محل النزاع
فإنا لا ننكر أن للفعل نسبة وإضافة إلى الفاعل ونسبة وإضافة إلى الخالق كالسواد
فإن له إضافة إلى الأسود لأنه محله وإلى الخالق الذي خلقه في الأسود حتى
صار به أسود، فقوله تعالى: فويل للذين كفروا فيه إضافة الكفر إلى العبد، ولا شك
أنه كذلك، وليس لنا فيه نزاع أصلا والكلام في الخلق لا في الكسب والمباشرة وقوله
تعالى: فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم، لا شك أن الكتابة تصدر من يد
الكاتب وهذا محسوس لا يحتاج إلى الاستدلال، والكلام في الخلق والتأثير فنقول:
الكتابة كسب العبد وخلق الحق ألم يقرء هذا الرجل آخر هذا الآية؟ ثم يقولون
هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل
لهم مما يكسبون صرح بالكسب وأن كتابتهم كسب لهم، لا أنه خلق لهم، وقس عليه
باقي الآيات المذكورة (إنتهى)
أقول
نعم هذا معنى النص لكن لا يلزم أن يكون حصول التنصيص على المقصود من مجرد
مفهوم اللفظ مع قطع النظر عن القراين الداخلة والخارجة من مقتضيات الحال و
المقال، كما يفهم من كلام الناصب موافقا بجماعة زعموا مثله وبنوا عليه الحكم
بندور النص في الكتاب والسنة، فإن هذا مردود عند المحققين منا ومنهم فقد

34
قال جلال الدين السيوطي الشافعي (1) في كتاب الاتقان (2) إنه بالغ إمام الحرمين (3) و
غيره في الرد عليهم، بأن الغرض من النص الاستقلال بإفادة المعنى على قطع مع
انحسام جهات التأويل والاحتمال، وهذا وإن عز حصوله يوضع الصيغ ردا إلى اللغة
لكنه كثير مع القرائن الحالية والمقالية (إنتهى). وبالجملة كل ما يحتمل
الوجوه بالنظر إلى مفهوم العبارة في بادي النظر، ثم اندفع تلك الوجوه والاحتمالات
بالنظر إلى القرائن الظاهرة داخل في النص ومخالفته إذا كان قرآنا أو حديثا يكون

35
كفرا، وأما ما ذكره من العجب، فليس من جهله يعجب! ويدفعه أنه لما ادعى
المصنف نصوصية تلك الآيات على مطلوبه فعلى تقدير تسليم أن الرازي ذكر لها
تأويلات كان تعرض المصنف لذكرها لغوا مستدركا وكفى في ضعف ارتكاب التأويل
ما قيل: إن يوم التأويل ليل أليل، سيما تأويل النصوص المعتضدة بدليل العقل،
وبالجملة تلك التأويلات صرف للآيات تصريف الأفعال في غير ما أنزلت فيه وإحالة
لكلام الله، وتحريف للكلم عن مواضعها وجعلها تابعة لهوى المذهب، وإخراج للقرآن
المبين عن أن يكون دليلا للمحققين وحجة على المبطلين وفتح لباب تأويلات الباطنية
الملحدين، وما ندري، كيف يستجير من يعلم أن وعد الله حق مثل هذا في القرآن
وفي دين الله المبين!؟، وأما ما ذكره من المثل، ففيه من الخبط ما يليق أن
يضرب به المثل، وذلك لأن المصنف لما ادعى أن تلك الآيات كانت على مذهبه
نصوصا، فكانت على صدور الخصم نصولا ولها إليهم إصابة ووصولا، فكيف يصدق
أنه كان قبل ذلك لها في يد الخصم حصولا، وأنهم جعلوا غيرهم بها مقتولا، على أنا
لو فرضنا أن الرازي أو غيره من أهل السنة كابروا على نصوص تلك الآيات واستدلوا
بها على مذهبهم قبل استدلال أهل العدل بها، فمثل المصنف في ذلك حينئذ مثل
قوم من الأقوياء الرماة لخصمهم من بعيد قد قابلهم من الحمق الشديد جماعة كان
قسيهم من الضعف في النزع (1)، وسهامهم خالية معن الأثر واللذع (2)، فقصرت
سهامهم عن الوصول إلى الصدور والأصلاب، ووقعت قدام هؤلاء الأقوياء على التراب
فالتقط من الأقوياء من كان له من الرماية سهم وافر تلك السهام القاصرة ورماها
على رماتها تلك الجماعة الحمقى الخاسرة، حتى قتل بتلك السهام أحبارهم والبقية

36
ولوا أدبارهم ثم يفتخر ذلك الملتقط بأنه قتل هؤلاء بسهامهم ونصولهم واستأصلهم بها
عن أصولهم، وأما ما ذكره من أنا لا ننكر أن للفعل نسبة وإضافة الخ ففيه أن
الكلام ليس في مطلق النسبة وإلا فللفعل إلى الزمان والمكان أيضا نسبة مع أنهما
ليسا فاعلين له اتفاقا، بل الكلام في نسبة الفاعلية ولم يعهد في العرف ولغة القرآن
تسمية المحل فاعلا وكاسبا، بل الفاعل هو الخالق، والفرق بين الخلق ولكسب اصطلاح
من الأشاعرة لا يفيد في مقابلة الخصم على أن الكسب الذي ينسبونه إلى العبد
بمعنى صرف العبد القدرة، أو بمعنى المباشرة والمقارنة والمحلية ونحوها، فخالق
الصرف ونحوه، إما الله تعالى فلا شئ للعبد، وإما العبد فيلزم أن يكون خالق
بعض أفعاله، ولا ينفع دعوى كونه اعتباريا في إخراجه عن كونه مخلوقا للعبد، لأن
مسألة خلقه تعالى الأعمال تعم الأفعال الاعتبارية كما يدل عليه جعلهم الكفر من
المخلوقات، بما ذكرنا يندفع جميع ما ذكره الناصب في تأويل الآيات الدالة
على إضافة الفعل إلى العباد، لأن معنى كفروا في العرف واللغة الذين فعلوا الكفر
لا من صار محلا للكفر، وأما الكسب بمعنى المباشرة وصرف القدرة فراجع إلى
الفعل كما أشرنا إليه، فينا في ما ادعوه من أنه لا فاعل في الوجود إلا الله، وإن
جوزوا صدور هذين الفعلين من العبد فليجوزوا صدور الأفعال المتنازع فيها منه
أيضا من غير احتياج إلى تحمل اختراع الكسب المحال (1) وأما ما ذكره: من
أنه لا شك أنه تصدر الكتابة من يد الكاتب، وهذا محسوس لا يحتاج إلى الاستدلال،
والكلام في الخلق والتأثير الخ ففيه ما مر من بطلان الفرق بين الخلق والفعل، وبطلان
القول بالقدرة الغير المؤثرة، والحاصل أن هذه الآية صريحة فيما ادعاه المصنف
قدس سره غير قابلة للتأويل لأن مفادها إثبات الفعل لأحد، ونفيه عن غيره
ففيه إضافة الفعل إلى فاعله على أبلغ الوجوه، وتوضيحه: أنه تعالى عبر فيها

37
بالأيدي عن الأنفس لأن أكثر أعمالهن بها، ولأن العادة قد جرت بإضافة
الأفعال التي يلابسها الانسان إلى اليد وإن اكتسبها بجارحة أخرى، فجرى خطاب
الله تعالى على عادتهم، ولأن ذكر اليد يحقق ويؤيد إضافة الفعل إلى فاعله، كما
ورد في المثل (1) يداك أوكتا وفوك نفخ يعني يداك لا يدا غيرك، وفوك لا فو سواك
يعني أنت فعلت بآلتك، لاستحالة أن يفعل أحد بجارحتك وأما قوله صرح الله
بالكسب في الآية المذكورة فمدخول بما أشرنا إليه سابقا: من أن لفظ الكسب
في الآية بمعنى آخر غير ما اخترعه الأشاعرة، لكنهم للقرار عن الجبر اضطروا إلى
صرفه عن ظاهره، وصرفه كصرف (2) الأفعال تارة إلى صرف القدرة نحو الفعل،
وتارة إلى المقارنة والمباشرة، وتارة إلى المحلية وتارة إلى اتصاف الفعل بالطاعة
أو المعصية، وشئ من هذه المعاني لم يعهد في اللغة، ولا فهم من الكتاب والسنة
كما لا يخفى على من تأمل وأنصف.
قال المصنف رفع الله درجته
الثاني ما ورد في القرآن من مدح المؤمن على إيمانه، وذم الكافر على كفره،

38
ووعده بالثواب على الطاعة، وتوعده بالعقاب على المعصية كقوله تعالى اليوم تجزي
كل نفس بما كسبت (1). اليوم تجزون ما كنتم تعملون (2)، وإبراهيم
الذي وفى (3)، أن لا تزر وازرة وزر أخرى (4)، لتجزي كل نفس بما
تسعى (5)، هل جزاء الاحسان إلا الاحسان (6)، هل تجزون إلا ما كنتم
تعملون، (7) من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، (8) ومن أعرض عن ذكري (9) أولئك
الرين اشتروا الحياة الدنيا، (10) والذين كفروا بعد إيمانهم، (11) انتهى
قال الناصب خفضه الله
أقول: مدح المؤمن وذم الكافر بكونهما محلا للكفر والإيمان، كما يمدح الرجل
لحسنه وجماله وتمدح اللؤلؤة بصفاتها، والوعد والوعيد لكونهما محلا للأعمال
الحسنة والسيئة كما يؤثر ويختار المسك ويحرق الحطب والحشيش، والآيات المذكورة
إنما تدل على المدح للمؤمن والذم للكافر، وبيان ترتب الجزاء وليس النزاع

39
في هذا لأن هذا مسلم، والكلام في أن الأعمال المجزية هل هي مخلوقة لله تعالى
أو للعبد؟ وأما المباشرة للعمل والكسب الذي يترتب عليه الوعد والوعيد و
الجزاء فلا كلام في أنها من العبد، ولهذا يترتب عليها الجزاء، فعل أن في الآيات
ليس دليل لمذهبه (إنتهى).
أقول
قد مر أن القول بسببية المحل والاتصاف الحاصل بدون الاختيار ضروري البطلان
وينبه عليه بأن أفعال العباد مما يصح المدح والذم عليه اتفاقا، والغرائز الحاصلة
في محلها ليست كذلك، لما وقع فيها الاختلاف، وبالجملة أنا نعم ضرورة قبح
المدح والذم على كون الشخص طويلا أو قصيرا، أو كون السماء فوقه والأرض
تحته، وإنما يحسن هذا المدح أو الذم لو كان للعبد فعل يصدر عنه، وأما تمثيله
لذلك يمدح الرجل بحسنه وجماله وبمدح اللؤلؤة بصفاتها فمردود، بأن
المدح وإن عم الاختياري وغيره، لكن مدح المؤمن على إيمانه مثلا إنما
يقع من حيث اختياره في ذلك وإذ لا اختيار له فيه فينتفي المدح من تلك الحيثية،
وهذا وهو مراد المصنف وحينئذ الاستشهاد بمدح نحو اللؤلؤة يكون خارجا عن
المبحث كما لا يخفى.
قال المصنف رفع الله درجته
الثالث الآيات الدالة على أن أفعال الله تعالى منزهة عن أن يكون مثل أفعال
المخلوقين من التفاوت والاختلاف والظلم، قال الله تعالى: ما ترى في خلق الرحمان
من تفاوت (1) الذي أحسن كل شئ خلقه (2) والكفر والظلم ليس بحسن

40
وقوله: وما خلقنا السماوات والأرض إلا بالحق، (1) والكفر ليس بحق
وقوله: إن الله لا يظلم مثقال ذرة (2)، وما ربك بظلام للعبيد (3) وما
ظلمناهم (4)، ولا ظلم اليوم، (5)، ولا يظلمون فتيلا (6) (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: مذهب جميع المليين أن أفعال الله تعالى منزهة عن أن يكون مثل أفعال
المخلوقين مشتملة على التفاوت والاختلاف والظلم، وأفعال الله
تعالى منزهة عن هذه الأشياء، فالآيات الدالة على هذا المعنى دليل جميع المليين
ولا يلزم الأشاعرة شئ منها، لأنهم لا يقولون، إن أفعال العباد أفعال الله تعالى
حتى يلزم المحذور، بل إنهم يقولون: أفعال العبادة مخلوقة لله مكسوبة للعبد، وهذا
التفاوت والاختلاف والظلم بواسطة الكسب والمباشرة، فالتفاوت والاختلاف واقع
في أفعال العباد كما في سائر الأشياء كالانسان وغيره من المخلوقات، فإن الاختلاف
والتفاوت واقعان فيها لا محالة، فهذا التفاوت والاختلاف في تلك الأشياء بماذا ينسب
وبأي شئ ينسب فلينسب إليه اختلاف العباد (7) وأما الاستدلال بقوله: أحسن
كل شئ خلقه على أن الكفر ليس خلقه فباطل، لأن الكفر مخلوق لا خلق،

41
ولو كان كل مخلوق حسنا أوجب أن لا يكون في الوجود قبيح، وهو باطل لكثرة
المؤذيات والقبائح المتحققة بخلق الله تعالى على ما سيجئ، وأما الاستدلال بقوله
وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق على أن الكفر ليس مخلوقا
لله تعالى لأنه ليس بحق فباطل، لأن معنى الآية: أنا ما خلقنا السماوات
والأرض إلا متلبسين بالحق والصدق والجد، لا بالهزل والعبث كما قال: وما
خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين وما خلقناهما إلا بالحق (1)
ولو كان المعنى وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما، إلا بكون كل مخلوق
حقا لأفاد أن الكفر حق، وأنى يفهم هذا المعنى من هذا الكلام، نعم ربما فهم
ذلك الأعرابي الجاف (2) والحلي الراطن ذلك المعنى من كلام الله (إنتهى).
أقول
قد مر بيان أن نفي الأشاعرة الظلم عن الله تعالى إنما هو بحسب اللفظ دون المعنى
والحقيقة، وأن الكسب باطل بما مر مرارا وسيجئ في موضعه، وأما قوله:
فالتفاوت والاختلاف واقع في أفعال العباد كما في سائر الأشياء كالانسان وغيره من
المخلوقات، ففيه نظر من وجهين، الأول: أنه يشعر بأن في خلق الانسان ونحوه
من مخلوقات الله تفاوتا واختلافا أيضا، وهذا مع مخالفته لنص الآية مناف أيضا
لما قاله سابقا: من أن أفعال الله تعالى منزهة عن التفاوت والاختلاف، والثاني:
أنه فهم من في الاختلاف الواقع في الآية نفي الاختلاف بحسب الأنواع والأشخاص

42
ونحوها، ولهذا وقع في محله ورطة مخالفة القرآن ومناقضة نفسه، وليس كذلك بل المراد
من التفاوت والاختلاف المنفي في الآية عدم التناسب والنظام بحيث يقول الناظر
الفهم: لو كان كذا لكان أحسن، كذا في تفسير النيسابوري: ومن البين أن أكثر
أفعال الانسان بهذه الحيثية، وأما ما ذكره: من أن الكفر مخلوق لا خلق فغير
قادح في استدلال المصنف بالآية لأنها كما قصد المصنف إنما دل على حسن
الخلوق لا الخلق لأنه الحسن المفهوم من قوله تعالى: أحسن كل شئ خلقه،
إنما يتعلق بكل شئ خلقه، بالخلق المفهوم من خلق الماضي في قوله: خلقه،
ولا ريب في أن الشئ الذي خلقه الله هو مخلوقه لا خلقه، قوله: ولو كان كل
مخلوق حسنا الخ قلنا: بطلان اللازم ممنوع قوله: لكثرة المؤذيات والقبائح والمتحققة
قلنا: هذا مع كونه منافيا لإنكاره سابقا كون القبائح صادرة من الله تعالى مردود
بأنه إن أراد من المؤذيات والقبائح ما عدا الأفعال الصادرة عن العباد
كخلق الحيات والعقارب والسباع ونحوها فقد بينا سابقا أنها ليست بقبيحة
عند التأمل في خواصها، وكن نفها أكثر من ضررها، وإن أراد به ما يشمل أفعال
العباد كالسرقة واللواطة والزنا فلا نسلم أنها صادرة عن الله تعالى، بل هو أول
المسألة، وأما ما ذكره من أن معنى الآية إنا ما خلقنا السماوات والأرض إلا
متلبسين بالحق والصدق الخ فيه أنه على تقدير تسليم أن يكون الحق والصدق
والجد، معان متقاربة كما يدل عليه ظاهر كلامه، لا معنى للآية إلا أن تكون تلك
الأشياء حقا لا أن الحق أمر آخر مباين لها متلبس بها مصاحب لها كالحجر الموضوع
بجنب الانسان، وبهذا علم أن قوله: وأنى يفهم هذا المعنى من هذا الكلام دليل
على اعوجاج فطرته المر المرواني، وقصور فهمه عن إدراك واضحات المعاني، فإنه
لا يفهم أن ما ذكره من تفسير الآية هل هو مضمون كلام المصنف أو يدفعه ويمنعه

43
ولا يدري أين يذهب رأسه؟ وبأي شئ يشتعل أو ينطفي نبراسه؟ (1) والحمد لله
على خلاصنا من عظيم ما ابتلوا به من المجاهرة بالباطل، ومعارضتهم الحق بأغث (2)
ما يكون من الكلام
قال المصنف رفع الله درجته
الرابع: الآيات الدالة على ذم العباد على الكفر كقوله تعالى:
كيف تكفرون بالله (3) والانكار والتوبيخ مع العجز عنه محال، ومن مذهبهم أن
الله تعالى خلق الكفر في الكافر وأراده منه، وهو لا يقدر على غيره فكيف يوبخه
عليه!؟ وقال الله تعالى: وما يمنع الناس أن يؤمنوا إذ جائهم الهدى (4) وهو إنكار
بلفظ الاستفهام ومن المعلوم أن رجلا لو حبس آخر في بيت بحيث لا يمكنه الخروج
عنه ثم يقول: ما منعك من التصرف في حوائجي قبح منه ذلك، وكذا قوله تعالى:
وماذا عليهم لو آمنوا (5) ما منعك أن تسجد (6) وقوله: ما منعك إذ رأيتهم
ضلوا (7)، فما لهم عن التذكرة معرضين (8) فما لهم لا يؤمنون (9) عفا الله

44
عنك لم أذنت لهم (1) ثم تحرم ما أحل الله لك (2) وكيف يجوز أن يقول لم
تفعل؟ مع أنه ما فعله وقوله: لم تلبسون الحق بالباطل (3)، لم تصدون عن
سبيل الله (4)؟ قال الصاحب ابن عباد (5): كيف يأمر بالإيمان ولم يرده؟ وينهى

45
عن الكفر وقد أراده؟ ويعاقب على الباطل وقدره، وكيف يصرفه عن الإيمان ثم يقول
أنى تصرفون (1). ويخلق فيهم الكفر ثم يقول: كيف تكفرون؟، ويخلق فيهم لبس
الحق بالباطل ثم يقول: لم تلبسون الحق بالباطل، وصدهم عن سواء السبيل ثم
يقول: لم تصدون عن سبيل الله، وحال بينهم وبين الإيمان ثم قال وماذا عليه لو آمنوا

46
بالله (1)، وذهب بهم عن الرشد ثم قال: فأين تذهبون (2) وأضلهم عن الدين
حتى أعرضوا ثم قال فما لهم عن التذكرة معرضين (3) (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: قد سبق أن ذم العباد على الكفر لكونهم محل الكفر، والكاسبين المباشرين له
والانكار والتوبيخ في قوله تعالى: كيف تكفرون بالله لكسبهم الكفر، وهم غير عاجزين
عن الكسب لوجود القدرة على الكسب وإن كانوا عاجزين عن دفع الكفر عنهم
بحسب الايجاد والخلق، والأول كاف في ترتب التوبيخ على فعلهم، وأما ما ذكره
من أن مذهبهم أن الله تعالى خلق الكفر في الكافر وأراد منه وهو لا يقدر على غيره
فكيف يوبخه عليه فقد ذكرنا جوابه فيما سبق أن التوبيخ باعتبار الكسب والمحلية
لا باعتبار التأثير والخالقية، وقد ذكرنا فيما سبق: أن هذا يلزمهم في العلم بعينه
وكذا حكم باقي ما ذكر من الآيات المشتملة على توبيخ الله تعالى عباده بالشرك
والمعاصي فإن كل هذه التوبيخات متوجهة إلى العباد باعتبار المحلية والكسب،
لا باعتبار الخلق، وأما ما ذكره من كلمات الصاحب ابن عباد فهو كان رجلا وزيرا
متشدقا (4) في الانشاء معتزليا ذكر الكلمات وسردها على وتيرة أرباب الترسلات
والمراسلات، وليس فيه دليل، وما أحسن ما قيل في أمثال كلامه شعر:
كلامك يا هذا كبندق فارغ خلي عن المعنى ولكن يقرقر (إنتهى)

47
أقول
قد سبق أن القول بالمحلية والكسب لا محل له عند العقل، ولا يكسب لهم خيرا
ولا يصلح وجها لتوجه الانكار والتوبيخ من الله تعالى إلى العباد، ولا يكفي في
ترتبهما على فعلهم، وقد سبق أن مظنة لزوم مثل ذلك علينا في العلم من قبيل
إن بعض الظن أثم (1)، وكذا الكلام في باقي ما ذكره من الآيات وأما ما ذكره
في دفع كلمات صاحب ابن عباد رحمه الله: من أنه كان رجلا وزيرا متشدقا
معتزليا، فلا يخفى ما فيه إذ لا يقدح شئ من الوزارة وبلوغ الفصاحة والبلاغة
والاعتزال في فضل الرجل وحسن مقاله، انظر إلى ما قال، ولا تنظر إلى من (2)
قال، لكن الناصب جعل ذلك وسيلة للهرب عن جوابه، ولم يمنعه عنه ما كان له
بنفسه من إعجابه، ثم ما ذكر: إنه كان من أهل الاعتزال إنما نشأ عن جهله بأحوال
الرجال وإنما كان الصاحب رحمه الله شيعيا إماميا بالغا إلى نصابه (3) نشأ في
حجر التشيع، وارضع من لبابه (4) على رغم أنف الناصب وأصحابه كما حققه
أرباب التاريخ في بابه، وأما ما ذكر من الشعر المشعر بأنه زعم كلام الصاحب

48
خاليا من المعنى فلينصف أولياء الناصب أن الخالي عن المعاني هو الكسب الذي
اضطربوا في تحصيل معناه كما بيناه، أو الكلام المنقول عن الصاحب الذي جل أن
يوصف لفظه إلا بالدر المنظوم، وكؤوس معانيه إلا بالرحيق المختوم، لكن الجاهل
المعاند الذي ختم الله على قلبه فلا يتقي من الله تعالى ولا يستحي من الناس ولا يبالي
بما أطلق به لسانه لا يعجز عن الاتيان بمثل هذا الشعر الذي كلام شيخه الأشعري
الخالي عن الشعور أولى به، ولا غرو أن الحق ينكره الجهول سيما الفضول (1)
الذي هو على شفا (2) جرف مهول كما قيل شعر:
الحق ينكره الجهول لأنه * عدم التصور فيه والتصديقا
وهو العدول لكل ما هو جاهل * فإذا تصوره يعود صديقا
قال المصنف رفع الله درجته
الخامس الآيات التي ذكره الله تعالى فيها تخبير العباد في أفعالهم، وتعليقها
بمشيتهم قال: فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر (3) اعملوا ما شئتم (4)،
فسيرى الله علمكم ورسوله (5) لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر (6) فمن
شاء ذكره (7)، فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا (8)، فمن شاء اتخذ إلى ربه

49
مآبا (1)، وقد أنكر الله تعالى على من نفى المشية عن نفسه وأضافها إلى الله تعالى
بقوله: سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا (2) وقالوا لو شاء الرحمان
ما عبدناهم (3) (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: هذا الآيات تدل على أن للعبد مشيئة وهذا شئ لا ريب فيه، ولا خلاف
لنا فيه، بل النزاع في أن هذه المشيئة التي للعبد هل هي مؤثرة في الفعل موجدة
إياه أو هي موجبة للمباشرة والكسب؟ فإقامة الدليل على وجود المشيئة في العبد
غير نافعة له، وأما قوله: قد أنكر الله تعالى على من نفى المشيئة عن نفسه،
وأضافها إلى الله تعالى بقوله: سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا، فنقول:
هذا الانكار بواسطة إحالة الذنب على مشيئة الله تعالى عنادا أو تعنتا (4) فأنكر الله
عليهم عنادهم، وجعل المشيئة الإلهية للذنب، وهذا باطل، ألا ترى إلى قوله:
ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا كيف نسب عدم الاشراك
إلى المشيئة: ولولا أن الانكار في الآية الأولى لجعل المشيئة علة للذنب، وفي الثانية
لتعميم حكم المشيئة الموجبة للخلق، لم يكن فرق بين الأولى والثانية والحال أن

50
الأولى واردة للانكار على ذلك وهو منقول عنهم، والثانية من الله تعالى من غير
إنكار فليتأمل المتأمل ليظهر عليه الحق (إنتهى)
أقول
قد مر بيان أن إثبات القدرة والمشيئة بدون التأثير لا محصل له، وأن القول بالكسب
لا أثر له في دفع الجبر، وأما ما ذكره من أن هذا الانكار بواسطة إحالة الذنب على
مشيئة الله تعالى الخ ففيه أن صريح الآية اعتقادهم أن مشيئة الله تعالى علة لشركهم
وكون الشرك ذنبا أو غيره غير مفهوم من لفظ الشرك، وإنما فهم من خارج،
والقول بعلية مشيئة الله تعالى وعلمه للشرك وجميع أفعال العباد مما شارك فيه
الأشاعرة مع المشركين، وقد نفاها الله تعالى، كما قرره المصنف فالعدول عن
جعل مشيئة الله تعالى في الآية علة لنفس الشرك وجعله علة لوصف كونه ذنبا صرف
للآية عن طاهرها والبناء على الكسب بالمعنى الذي ذكره القاضي أبو بكر الباقلاني
وفخر الدين الرازي (1) حيث قالا: إن حقيقة الكسب صفة تحصل بقدرة العبد بفعله
الحاصل بقدرة الله تعالى، فإن الصلاة والقتل مثلا كلتاهما حركة وتتمايزان بكون
إحديهما طاعة والأخرى معصية، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز، فأصل الحركة
لقدرة الله تعالى وخصوصية الوصف بقدرة العبد، وأورد عليه أن امتياز المطلق عن
مقيداته إنما هو في العقل دون الخارج، وهو لا يصحح كون كل من هذين التمايزين
مقدورا بقدرة أخرى، وأما ما ذكره من أنه لولا التأويل الذي ذكره في الآية
الأولى، لما فرق بينها وبين الآية الثانية فدفعه هين والفرق بين، لأن المراد
بالمشيئة في الآية المشيئة المطلقة يعني أن الله تعالى لو شاء عدم الشرك منا لما
أشركنا، لكنه لم يشأ ذلك، وحاصل الانكار أنكم كاذبون في أن الله تعالى لم يشأ

51
عدم شرككم، لأنه تعالى شاء ذلك بالمشيئة التكليفية الاختيارية التفويضية،
بأن تختاروا عدم الشرك بإرادتكم ومشيئتكم فارتكبتم بسوء اختياركم الشرك
وتركتم التوحيد، والمراد بالمشيئة في الآية التي ذكرها الناصب المشيئة الإجبارية
الاضطرارية، وحاصل هذه الآية أن الله تعالى لو أراد عدم شركهم بالمشيئة الإجبارية
لما أمكنهم الشرك، لكن لم يشأ ذلك على هذا الوجه لمنافاته غرض التكليف كما
مر، ولا منافاة بين معنى الآيتين على هذا، ولا تكلف في التأويل كما ترى، ونظير
هذه الآية قوله تعالى: ولو شاء الله ليهديكم أجمعين (1) وقوله: ولو شاء لجعلهم
أمة واحدة (2).
قال المصنف رفع الله درجته
السادس الآيات التي فيه أمر العبد بالافعال (الاقبال خ ل) والمسارعة إليها قبل
فواتها كقوله تعالى: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم (3)، أجيبوا داعي الله وآمنوا به (4)،
استجيبوا لله وللرسول (5)، يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا (6)
واعبدوا ربكم (7) فآمنوا به خيرا لكم (8) واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم (9)

52
وأنيبوا إلى ربكم (1)، فكيف يصح الأمر بالطاعة والمسارعة إليها مع كون المأمور
ممنوعا عاجزا عن الاتيان به، وكما يستحيل أن يقال للمقعد الزمن قم، ولمن يرمى
من شاهق جبل أحفظ نفسك فكذا هيهنا (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: أمر العباد بالمسارعة في الخيرات من باب التكليف، وقد سبق فائدة التكليف
وأنه ربما يصير داعيا إلى إقبال العبد إلى الله تعالى وخلق الثواب والعقاب عقيب
التكليف والبعثة، وعمل العباد كخلق الاحراق عقيب النار أنه لا يحسن أن يقال:
لم خلق الله تعالى الاحراق عقيب النار؟ كذلك لا يحسن أن يقال: لم خلق الثواب
والعقاب عقيب الطاعة والمعصية، فإنه تعالى مالك على الاطلاق، ويحكم ما يريد،
وأما قوله: كيف يصح الأمر بالطاعة والمأمور به (2) عاجز: فالجواب ما سبق
أنه ليس بعاجز عن الكسب والمباشرة، والكلام في الخلق والتأثير لا في الكسب
والمباشرة (إنتهى).
أقول
قد سبق أن العبد بطبعه لا يخلو عن الفعل والترك، فلا حاجة له في ذلك إلى التكليف
فبقي أن يكون التكليف للحث على الخيرات والزجر عن المعاصي كما ذكره المصنف
قدس سره، وقد سبق أن نفي السببية الحقيقية سفسطة لا يلتفت إليها، وأن
المالك على الاطلاق إنما يحسن منه التصرف على وجه الحسن، فإذا تصرف لا على
وجه يستحسنه العقل السليم يذم ويحكم عليه بالسفه، وأما ما ذكره في الجواب

53
من أنه ليس بعاجز عن الكسب والمباشرة، فقد مر وسيجئ دفعه بإبطال الكسب
بأي معنى كان إن شاء الله تعالى.
قال المصنف رفع الله درجته
السابع الآيات التي حث الله تعالى فيها على الاستعانة به كقوله تعالى: إياك نعبد
وإياك نستعين (1)، فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم (2)، استعينوا بالله (3)، فإذا
كان الله تعالى خلق الكفر والمعاصي كيف يستعان به (يستفاد منه خ ل) وأيضا يلزم
بطلان الألطاف والدواعي، لأنه تعالى إذا كان هو الخالق لأفعال العباد فأي نفع
يحصل للعبد من اللطف الذي يفعله الله!؟ لكن الألطاف حاصلة كقوله تعالى: أو لا
يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين (4) ولولا أن يكون الناس أمة واحدة (5)
ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض (6) فيما رحمة من الله لنت لهم (7)، إن
الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر (8) (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: خلق الكفر والمعاصي لا يوجب أن لا يستعان من الخالق، ولا يستعاذ به،

54
فإن الاستعانة والاستعاذة لأجل أن لا يخلق ما يوجب الاستعانة والاستعاذة، ولو كان
الأمر كما ذكروا لانسد باب الدعاء والطلب من الله تعالى، لأنه خالق الأشياء
وهذا من الترهات التي لا يتفوه بها عاقل فضلا عن فاضل (إنتهى).
أقول
يتوجه عليه أن الخلق بدون كسب العبد لما لم يوجب عندهم ثوابا ولا عقابا، فلا
حاجة إلى الاستعاذة، والقول بأن الاستعاذة عن الخلق يجوز أن تكون لئلا تؤدي
الخلق إلى الكسب مردود، بأن هذه التأدية إن كانت بالجبر فيلزم أن يكون
الكسب أيضا بالجبر المحض، وإن كان باختيار العبد فلا وجه للاستعاذة
فيه عن الله تعالى فتدبر.
قال المصنف رفع الله درجته
الثامن الآيات الدالة على اعتراف الأنبياء بذنوبهم، وإضافتها إلى أنفسهم كقوله
تعالى حكاية عن آدم (ع): ربنا ظلمنا أنفسنا، (1) وعن يونس (ع): سبحانك إني
كنت من الظالمين (2) وعن موسى (ع) رب أني ظلمت نفسي (3)، وقال يعقوب
(ع) لأولاده: بل سولت لكم أنفسكم أمرا (4) وقال يوسف (ع): من بعد أن
نزع الشيطان بيني وبين إخوتي، (5) وقال نوح (ع): رب إني أعوذ بك أن أسألك
ما ليس لي به علم (6)، فهذه الآيات تدل على اعتراف الأنبياء بكونهم فاعلين

55
لأفعالهم (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقو: اعتراف الأنبياء بكونهم فاعلين لا يدل على اعتقادهم بكونهم خالقين والمدعى
هو هذا وفيه التنازع، فإن كل انسان يعلم أنه فاعل للفعل، ولكن الكلام في الخلق
والايجاد فليس فيها دليل لمدعاه (إنتهى).
أقول
يدفعه أن الأصل في الاطلاق الحقيقة (1) والضرورة قاضية بذلك أيضا، وقد مر
مرار ما في احتمال الكسب من الهذر والفساد، فما بقي لهم إلا العناد.
قال المصنف رفع الله درجته
التاسع الآيات الدالة على اعتراف الكفار والعصاة، بأن كفرهم ومعاصيهم
كانت منهم كقوله تعالى: ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم (2) إلى قوله:
أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين (3)، وقوله: ما سلككم
في سفر قالوا لم نك من المصلين (4)، كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها (5) إلى
قوله: فكذبنا وقوله: ينالهم نصيب من الكتاب فذوقوا العذاب بما كنتم
تكسبون (6) (إنتهى).

56
قال الناصب خفضه الله
أقول: اعتراف الكفار يوم القيامة لظهور ما ينكره المعتزلة، وهو أن الكسب من
العبد والخلق من الله، ألا ترى إلى قوله تعالى لهم يوم القيامة: فذوقوا العذاب
بما كنتم تكسبون، إي كان هذا الجزاء لكسبكم الأعمال السيئة، وكل هذا يدل على أن
للعبد كسبا يؤاخذ به يوم القيامة، ويجزي به، ولا يدل على ما هو محل النزاع وهو
كونه خالقا لفعله وموجدا إياه فليس فيها دلالة على المقصود (إنتهى).
أقول
يتوجه عليه أن ما حكم به بديهة العقول السليمة والبرهان العقلي لا يظهر خلافه
في الآخرة، لما عرفت من إحكام قاعدة الحسن والقبح العقليين، وما
ذكره من الآية لا تدل على إرادة ما اخترعوه من الكسب الذي لا محصل له،
لظهور أن الكسب في الآية ليس بالمعنى الذي اخترعوه فلا يصح الاستدلال بها على
مذهبهم فهو في ذلك مطالب بالبيان ودونه خرط القتاد.
قال المصنف رفع الله درجته
العاشر الآيات التي ذكر الله فيها ما يحصل منهم من التحسر في الآخرة على الكفر
وطلب الرحمة، قال الله تعالى: وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا، (1) قال:
رب ارجعون لعلي أعمل صالحا (2) ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم
عند ربهم، (3) ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا، (4) أو يقول:

57
حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين (1) (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: التحسر وطلب الرحمة لاكتساب الأعمال السيئة والاعتقادات الباطلة التي
من جملتها اعتقاد الشركاء لله تعالى كما هو مذهب المجوس ومن تابعهم من المليين
كالمعتزلة وتابعيهم، وليس في هذه الآيات دليل على دعواهم (إنتهى).
أقول
قد مر أن الكسب والاكتساب بالمعنى الذي اخترعوه بمعزل عن لغة القرآن
وأما ما نسبه إلى أهل العدل من اعتقاد شركاء لله تعالى فهو أولى بالأشعرية
المثبتين للصفات الزائدة القديمة كما سبق بيانه، بل القول بالكسب وكونه مؤثرا
في وصف الطاعة والمعصية يستلزم ما هو أشد من الشرك الذي توهموه من قول
أهل العدل باستناد أفعال العباد إليهم كما مر بيانه، بل يلزمهم فيه مشاركة المجوس
بل النصارى حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة (2) كما سبق.
قال المصنف رفع الله درجته
فهذه الآيات وأمثالها من نصوص الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، (3)
ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فما عذر فضلائهم؟ وهل يمكنهم الجواب عن

58
هذا السؤال كيف تركتم هذه النصوص ونبذتموها وراءكم ظهريا؟ (1) إلا بأنا
طلبنا الحياة الدنيا وآثرناها على الآخرة، وما عذر عوامهم في الانقياد إلى فتوى
علمائهم واتباعهم في عقائدهم؟ وهل يمكنهم الجواب عن هذا السؤال كيف تركتم
هذه الآيات وقد جاءكم بها النذير، وعمرناكم فما يتذكر فيه من تذكر؟ (2)؟ إلا
بأنا قلدنا آبائنا وعلمائنا من غير فحص ولا بحث ولا نظر مع كثرة الخلاف وبلوغ
الحجة إلينا، فهل يقبل عذر هذين القبيلين؟ وهل يسمع كلام الفريقين؟ (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: قد عرفت فيما معنى أن النص ما لا يحتمل خلاف المقصود، وقد علمت في كل
الفصول من استدلالاته بالآيات أنها دالة على خلاف مقصوده، فهي نصوص مخالفة
لمدعاه، والعجب أنه يفتخر ويباهي باتيانها؟ ثم يقول: ما عذر علمائهم وعوامهم؟
فنقول: أما عذر علمائهم فإنهم يقولون يوم القيامة: إلهنا كما نعلم أن لا خالق في الوجود
سواك، وأنت خلقت كل شئ، ونحن كسبنا المعصية أو الطاعة، فإن تعذبنا فنحن
عبادك، وإن تغفر لنا فبفضلك وكرمك، ولك التصرف فينا كيف شئت، وأما عذر
عوامهم فإنهم يقولون: إلهنا إن نبيك محمدا (ص) أمرنا بأن نكون ملازمين للسواد
الأعظم، فقال (ص): عليكم بالسواد الأعظم (3)، ورأينا في أمته (ص) السواد
الأعظم كان أهل السنة والجماعة، فدخلنا فيهم واعتقدنا مثل اعتقادهم، ورأينا أن
المعتزلة ومن تابعهم من الشيعة كاليهود يخفون مذهبهم ويسمونه التقية، ويهربون
من كل شاهق إلى شاهق، ولو نسب إليهم أنهم معتزليون، أو شيعة، يستنكفون عن

59
هذه النسبة، فعلمنا أن الحق مع السواد الأعظم فتبعناهم (إنتهى).
أقول
قد بينا فيما سبق، لأن النص ليس ما توهمه من ظاهر تعريفه المذكور، بل هو ما
لا يحتمل خلاف المقصود لو بمعونة القرائن الواضحة، وأما ما ذكره: من أن
الآيات كانت دالة على خلاف مقصود المصنف فبناه في ذلك كما مر على أن لفظ
الفعل المذكور في بعض تلك الآيات بمعنى الكسب الذي اخترعه الأشعري، و
كذا ما ذكره فيها بلفظ الكسب، وأنت تعلم لفظ الفعل والكسب لم يجئ في
اللغة بالمعنى الذي اخترعه من المحلية والمقارنة ونحوهما، ولا يدل عليه بإحدى
الدلالات الثلاث، فاحتمال إرادته الكسب بذلك المعنى كما هو خلاف مقصود المصنف
مخالف لمقصود الله تعالى أيضا، فلا يقدح في استدلال المصنف بها على مقصوده،
ولا يدفع كونها نصا في معناها الحقيقي، وأما ما ذكره الناصب في تقرير عذر علماء
نحلته، فهو مما لا يبيض وجوههم، إذ يكذبهم الله تعالى في ذلك ويقول لهم: كيف
يصح دعواكم أنه لا خالق في الوجود سواك وأنت خلقت كل شئ؟ مع أنكم أثبتم
صفات سبعة زائدة قديمة، وأنكرتم كونها مخلوقة لي وأنكم نسبتموني إلى الظلم و
السفه حيث نفيتم عن أنفسكم الفعل وأثبتم الكسب بالمعنى الذي لا يوجب
استحقاق العقاب والثواب، وأما التضرع إلى الله يأنك إن تعذبنا
فنحن عبادك وإن تغفر لنا فبفضلك، فمشترك بين قاطبة أهل الاسلام لا اختصاص له
بالأشاعرة، وأما التصرف كيف شاء، فإن أراد به أنواعا وأصنافا من الثواب أو
العقاب التي يستحقها المكلف في استحسان منزه عن القبيح فيرد بذلك يرى على (رد
على خ ل) وجوه ضراعتهم، وأما ما ذكره في عذر العوام، فهو غير مسموع،
إذ يقول الله تعالى لهم في رد ذلك: من أين علمتم أن معنى السواد الأعظم ذلك؟

60
مع أن سواد الكفر أعظم من سواد جميع الاسلام، ولم ما تتبعتم وما علمتم أن
خوف الشيعة والمعتزلة وتقيتهم إنما كان منكم ومن كثرة سوادكم سود الله وجوهكم
ولم ما تذكرتم أن أهل الحق كانوا في زمان كل نبي قليلون؟ وأهل الباطل كثيرون
وإنما المعنى (1) بالسواد الأعظم ما تركه النبي (ص) في أمته من الثقلين كتاب الله تعالى

61
وعترته، ووصفه في الحديث المشهور بأن أحدهما أعظم من الآخر وإنما عبر عنهما
بالسواد لأنهما قرتا أعين المؤمنين، ونور أبصار المستبصرين، ولهذا قيل: النور
في السواد، ويؤيد ما ذكرنا ما رواه الطيبي (1) في شرح المشكاة عن سفيان الثوري (2)
في تفسير الجماعة حيث قال: لو أن فقيها على رأس جبل لكان هو الجماعة، ويعضده
قول بعض الحكماء: جل جناب الحق أن يكون شريعة لكل وارد، وأن يطلع عليه
(يطمع فيه) إلا واحد، وقال الشاعر:

62
خليلي (1) قطاع الفيافي (2) إلى الحمى * كثير وأما الواصلون قليل
قال المصنف رفع الله درجته
ومنها مخالفة العلم الضروري الحاصل لكل أحد يطلب من غيره أن يفعل فعلا،
فإنه يعلم بالضرورة أن ذلك يصدر عنه، ولهذا يتلطف في استدعاء الفعل منه
بكل لطيفة ويعظه ويزجره عن تركه ويحتال عليه بكل حيلة ويعده ويتوعده على
تركه، وينهاه عن فعل ما يكرهه، ويعنفه على فعله، ويتعجب من فعله ذلك ويستطرقه
ويتعجب العقلاء من فعله، وهذا كله دليل على أنه فعله، ويعلم بالضرورة الفرق
الضروري بين أمر بالقيام وبين أمره بإيجاد السماء والكواكب، ولولا أن
العلم الضروري حاصل بكوننا موجدين لأفعالنا لما صح ذلك (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: الطلب من الغير للفعل ونهيه عن الفعل للحكم الضروري بأنه فاعل للفعل،
وهذا لا ينكره إلا من ينكر الضروريات، وقد مر مرارا أن هذا ليس محلا

63
للنزاع، فإن صدور الفعل عن أحدنا محسوس ولهذا نطلب منه ونتلطف، ونزجر
ونعد ونوعد، وكل هذه الأمور واقعة وليس النزاع إلا في أن هذا الفعل هل هو
مخلوق لنا أو نحن نباشره؟ فالنزاع راجع إلى الفرق بين المباشرة والخلق وأنهما
متحدان، أو متغايران، وهذا ليس بضروري، ومن ادعى ضرورية هذا فهو مكابر
لمقتضى العقل، فمخالفة الضرورة فيما ذكر ليس في محل النزاع، فليس له فيه
دليل (إنتهى).
أقول
لما اعترف الناصب، بأن صدور الفعل عن أحدنا محسوس، فاحتمال صدوره عن غيره
يكون سفسطة وإنكار للمحسوسات في البديهيات، ومكابرة على صريح
العقل والتجاوز عن ظاهر النقل فتأمل (1).
قال المصنف رفع الله درجته
ومنها مخالفة إجماع الأنبياء والرسل فإنه لا خلاف في أن الأنبياء أجمعوا على
أن الله تعالى أمر عباده ببعض الأفعال، كالصلاة والصوم، نهى عن بعضها كالظلم
والجور، ولا يصح ذلك إذا لم يكن العبد موجدا، إذ كيف يصح أن يقال: ايت بفعل
الإيمان والصلاة ولا تأت بالكفر والزنا مع أن الفاعل لهذه الأفعال والتارك لها هو
غيره، فإن الأمر بالفعل يتضمن الإخبار عن كون المأمور قادرا عليه حتى أنه لو لم يكن
المأمور قادرا على المأمور به لمرض أو سبب آخر، ثم أمر غيره فإن العقلاء يتعجبون منه
وينسبونه إلى الحمق والجهل والجنون، ويقولون: إنك تعلم أنه لا يقدر على ذلك
ثم تأمره به، ولو صح هذا لصح أن يبعث الله رسولا إلى الجمادات مع الكتاب
فيبلغ إليها ما ذكرناه، ثم إنه تعالى يخلق الحياة في تلك الجمادات، يعاقبها لأجل

64
أنهم لم يمتثلوا أمر الله ورسوله وذلك معلوم البطلان ببديهة العقل (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: أمر الأنبياء عباد الله تعالى بالأشياء ونهيهم عن الأشياء لا يتوقف على كون
العبد موجدا للفعل، نعم يتوقف على كون العبد فاعلا مستقلا في الكسب والمباشرة
ومختارا، وهذا مذهب الأشاعرة، وما ذكره لا يلزم من يقول بهذا، بلى يلزم أهل
مذهب الجبر وقد علمت أن الأشاعرة يثبتون اختيار العبد في كسب الفعل، ويمنعون
كون قدرته مؤثرة في الفعل مبدعة موجدة إياه، وشتان بين الأمرين، فكل ما
ذكره لا يلزم الأشاعرة، وليس في مذهبهم مخالفة لا جماع الأنبياء (إنتهى).
أقول
قد علمت وستعلم أنه لا محصل للكسب الذي يرام به الأشعري مهربا عن الجبر.
فيتوجه عليه ما يتوجه على الجبرية سواء بسواء، ولا يحصل له من كسبه سوى تطويل
المسافة بلا طائل، وقد مر أن القول بالقدر ة الغير المؤثرة هذر، فكل ما ذكره
المصنف يلزم الأشاعرة لزوما لا سترة عليه
قال المصنف رفع الله درجته
ومنها أنه يلزم منه سد باب الاستدلال على كونه تعالى صادقا، والاستدلال على العلم بإثبات
الصانع، والاستدلال على صحة النبوة، والاستدلال على صحة الشريعة، ويفضي إلى القول
بخرق إجماع الأمة، لأنه لا يمكن إثبات الصانع إلا بأن يقال: العالم حادث فيكون محتاجا
إلى المحدث قياسا على أفعالنا المحتاجة إلينا، فمن صنع الحكم الأصل في القياس
وهو كون العبد موجدا لا يمكنه استعمال هذه الطريقة فسد عليه باب إثبات الصانع
وأيضا إذا كان الله تعالى خالقا للجميع من القبائح وغيرها لم يمتنع منه إظهار المعجز

65
على يد الكاذب، ومتى لم يقطع بامتناع ذلك انسد علينا باب إثبات الفرق بين النبي
والمتنبي، وأيضا إذا جاز أن يخلق الله تعالى القبائح جاز أن يكذب في إخباره،
فلا يوثق بوعده ووعيده وأخباره عن أحكام الآخرة والأحوال الماضية والقرون
الخالية، وأيضا لزم من خلقه القبائح أن يدعو إليها، وأن يبعث عليها ويحث
ويرغب فيها، ولو جاز ذلك أن يكون ما رغب الله تعالى فيه من القبائح، فتزول
الثقة بالشرائع ويقبح التشاغل بها، وأيضا لو جاز منه تعالى أن يخلق في العبد
الكفر والضلال ويزينه له ويصده عن الحق ويستدرجه (1) بذلك إلى عقابه، للزم
في دين الاسلام جواز أن يكون هو الكفر والضلال، مع أنه تعالى زينه في قلوبنا،
وأن يكون بعض الملل المتخالفة للاسلام هو الحق، ولكن الله تعالى صدنا عنهم،
وزين خلافه في أعيينا، فإذا جوزوا ذلك لزمهم تجويز كون ما هم عليه هو من الضلالة
والكفر، وكن ما خصمهم عليه هو الحق، وإذا لم يمكنهم القطع بأن ما هم عليه
هو الحق، وما خصومهم عليه هو الباطل لم يكونوا مستحقين للجواب (إنتهى).

66
قال الناصب خفضه الله
أقول: في هذا استدل بأشياء عجيبة ينبغي أن يتخذه الظرفاء ضحكة
لهم، منها أنه استدل بلزوم انسداد باب إثبات الصانع وكونه صادقا والاستدلال
بصحة النبوة على كون العبد موحد أفعاله، وذكر في وجه الملازمة شيئا غريبا عجيبا
وهو أنا نستدل على حدوث العالم بكونه محتاجا إلى المحدث قياسا على أفعالنا
المحتاجة إلينا، فمن منع حكم الأصل في القياس وهو كون العبد موجدا لا يمكنه استعمال
هذه الطريقة وإثبات هذه الملازمة من المضاحك، أما أولا فلأنه حصر حادثات
العالم في أفعال الانسان، ولو لم يخلق الله الانسان وأفعاله أصلا كان يمكن الاستدلال
بحركات الحيوان وسائر الأشياء الحادثة بوجوب وجود المحدث، وكأن هذا الرجل (1)
لم يمارس قي شيئا من المعقولات، والحق أنه ليس أهلا لأن يباحث لدناءة رتبته
في العلم، ولكن ابتليت بهذا مرة فصبرت، وأما ثانيا فلأنه استدل بلزوم عدم
كونه صادق على كون العبد موجد فعله ولم يذكر هذا في الملازمة، لا النسبة

67
بينه وبين هذه الملازمة بعيدة جدا، وأما ثالثا فلأنه استدل بلزوم انسداد باب
إثبات صحة النبوة وصحة الشريعة على كون العبد موجد فعله، وأين يفهم هذا
من الملازمة، ثم أدعى الافضاء إلى خرق الاجماع، وكل هذه الاستدلالات خرافات
وهذيانات لا يتفوه به إلا أمثاله في العلم والمعرفة، ثم استدل على بطلان كونه خالقا
للقبائح بلزوم عدم امتناع إظهار المعجز على يد الكاذب، وقد استدل قبل هذا بهذا
مرارا وأجبناه في محاله، وجواب هذا، وما ذكر بعده من ترتب الأمور المنكرة
على خلق القبائح مثل ارتفاع الثقة من الشريعة والوعد والوعيد وغيرها، أنا نجزم
بالعلم العادي وبما جرى من عادة الله تعالى أنه لم يظهر المعجزة على يد الكاذب
على الله تعالى شئ على قاعدتنا، فكل ما ذكره من لزوم جواز تزين الكفر في القلوب
عوض الاسلام، وأن ما عليه الأشاعرة من اعتقاد الحقية، يمكن أن يكون كفر
وباطلا، فلا يستحقون الجواب، فجوابه أن جميع هذه لا يقع عادة كسائر العاديات،
ونحن نجزم بعدم وقوعه وإن جاز عقلا، حيث لم يجب عليه تعالى شئ، ولا قبيح
بالنسبة إليه (إنتهى).
أقول
يناسب ما أظهره (ذكره خ ل) الناصب من الضحك على المصنف قدس سره قوله
تعالى: إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون (1)، وسنريه الآن سر
قوله تعالى: فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون (2) وأما ما ذكره: من أن
المصنف حصر حادثان العلم في أفعال الانسان، فمطالب بأنه من أين فهم هذا

68
الحصر في قول المصنف، أفعالنا، مع أن استعماله القياس للغائب على الشاهد
قرينة ظاهرة على أنه أراد بقوله أفعالنا الشاهدة مطلقا، سواء كان انسانا أو حيوانا
عجما، وعلى تقدير أن يكون المراد أفعال الانسان، لأن الكلام في المكلفين فلا
يقتضي الحصر أيضا، لأنه لو دل على ذلك لدل بمفهوم اللقب والضعيف، مع أن
المفهوم مطلقا إنما يعتبر إذا لم يكن وجه التخصيص بالذكر ظاهرا، وقد أشرنا إلى
أن تخصيص الانسان بالذكر يجوز أن يكون لأجل أنهم هم المكلفون بالأمر
والنهي والوعد والوعيد، وهم المستدلون بحال الممكن على حال الواجب، ومن
الأثر على المؤثر، دون الثور والحمار وغيرهما من الحيوانات العجم، وبهذا يظهر
فساد قوله: ولو لم يخلق الانسان أفعاله أصلا كان يمكن الاستدلال بحركات الحيوان
وسائر الأشياء الحادثة الخ وذلك لما أشرنا إليه من أن الكلام في الاستدلال الواقع
من المكلفين في دار التكليف، لا استدلال الله تعالى من الحوادث على احتياجهم إلى
ذاته، بل هذا لغو من الكلام، ولا استدلال الملائكة بها على الاحتياج إلى الله تعالى
فإذا لم يكن في الدنيا انسان أصلا كما فرضه الناصب الهالك، فمن ذا الذي يستدل
بهذا على ذلك، وبالجملة هذا ليل على انسلاخ الناصب عن الفطرة الانسانية
وتمرغه (1) في المراتع الحيوانية، فليضحك قليلا وليبك كثيرا (2)، وأما ما
ذكره ثانيا من أن المصنف استدل بلزوم عدم كونه تعالى صادقا على كون العبد
موجد فعله، ولم يذكر الملازمة الخ ففيه أن المصنف ذكر بيان الملازمة لذلك
بعيد هذا بقوله: وأيضا إذا جاز أن يخلق الله تعالى القبائح جاز أن يكذب في إخباره الخ
وإذا لم يفهم الناصب الجاهل ذلك بمجرد أن النشر وقع على ترتيب اللف فلا

69
لوم على المصنف قدس سره كما قيل:
علي نحت القوافي من معادنها * وما علي أ إذا لم تفهم البقر
وأما ما ذكره ثالث من أنه استدل بلزوم انسداد باب إثبات صحة النبوة وصحة
الشريعة على كون العبد موجد فعله وأين يفهم هذه الخ مردود بأن هذا أيضا يدل
على كثرة جهل وقلة فهمه إذ كل من يترقى أدنى درجة من العوام، يفهم بقرينة
محل النزاع أن المراد هو أن العبد موجد لفعله دون الله تعالى، ولتصريح المصنف
به أيضا في عنوان الدعوى، وفي أثناء بيان كثير من اللوازم المذكورة سابقا، وإنما
أجمل هيهنا روما للاختصار اعتمادا على السياق، ثم من البين أن امتناع الاستدلال
على المطالب الشرعية المذكورة الذي ألزمه المصنف على الأشاعرة مخالف للاجماع
بلا شبهة، وقد بينا لزومه عن مذهبهم فلم يبق للناصب إلا العناد والجمود على ما
لا يليق إلا بالحمار والجماد، وأما ما ذكره في جواب باقي كلمات المصنف وبنى
فيه على علم العادي وعلى أنه لا يجب على الله تعالى شئ ولا قبيح بالنسبة إليه،
فقد مر فيها مرارا ما يغنيك عن الإعادة، والله ولي الإفادة.
قال المصنف رفعه الله
ومنها تجويز أن يكون الله تعالى ظالما عابثا لاعبا، لأنه لو كان الله تعالى هو
الخالق لأفعال العباد ومنها القبائح كالظلم والعبث لجاز أن يخلقها لا غير حتى
تكون أفعاله كلها ظلما وعبثا، فيكون الله تعالى ظالما عابثا لاعبا تعالى الله
عن ذلك علوا كبيرا.
قال الناصب خفضه الله
أقول: نعوذ بالله من التفوه بهذه الترهات، وأنى يلزم هذا من هذه العقيدة

70
والظلم والعبث من أفعال العباد، ولا قبيح بالنسبة إليه وخالق الشئ غير فاعله، وهذا
الرجل لا يفرق بين خالق الصفة والمتصف بتلك الصفد، وكل محذوراته ناش من
عدم هذا الفرق، ألا يرى أن الله تعالى خالق السواد، فهل يجوز أن يقال هو الأسود؟
كذلك لو كان خالق الظلم والعبث، هل يجوز أن يقال: إنه ظالم وعابث نعوذ بالله
من التعصب المؤدي إلى الهلاك البحت ثم أن هذا الرجل يحصر القبيح في أفعال
الانسان، ويدعي أن لا قبيح ولا شر في الوجود إلا أفعال الانسان، وذلك باطل،
فإن القبائح غير أفعال الانسان في الوجود كثيرة كالخنزير والحشرات المؤذية، و
هل يصح له أن يقول: إن هذه الأشياء غير مخلوقة لله؟ فإذا قال بأنها مخلوقة لله،
فهل يمنع قباحتها وشرها؟ وذلك مخالف للضرورة والحس، فإذا يلزم ما ألزم الأشاعرة
من القول بخلق الأفعال القبيحة (إنتهى)
أقول
قد مر مرارا بيان قبح ما قالوا: أن لا قبيح بالنسبة إليه تعالى، وأن الفرق بين
الخالق والفاعل فاسد، وما ذكره هيهنا في بيان الفرق من تنوير المظلم عن ما نقلناه
سابقا عن شارح العقائد، ويتوجه عليه ما أوردناه ثمة وحاصله: أن خلق الله تعالى
للسواد في الأجسام وصدورها عن إنما يقتضي اتصافه تعالى بكونه مسودا، لا
بكونه أسود، وكأنه اشتبه على الناصب سود الله وجهه حال الفاعل الكلامي الذي
نحن فيه بحال الفاعل النحوي، وهو مطلق ما أسند إليه الفعل، فزعم أن الفاعل
لأجل الفاعلية لوجب اتصاف الله تعالى أيضا بكونه أسود على تقدير القول بكون
فاعلا خالقا للسواد، ويندفع الاشتباه بأن زيدا في قولنا أسود زيد فاعل نحوي
لا فاعل كلامي بمعنى خالق السواد ومصدره، وإنما الخالق والفاعل الكلامي
للسواد في زيد هو الله تعالى، فلا جرم يتصف سبحانه وتعالى بكونه مسودا ويتصف

71
زيد الذي هو المفعول بكونه أسود، وبالجملة الفرق بين الظالم والعابث
والآكل والشارب والزاني والسارق نحوهما، وبين الأسود والأبيض ونحوهما
بين جدا بحسب الصدور وعدمه، فإن الظالم مثلا بمعنى فاعل الظلم ومصدره و
الأسود من وقع عليه السواد، أو قام به، لا فاعله ومصدره، وإن كان في المثال
المذكور يكون فاعلا نحويا كما قلناه، فالسواد والبياض كالحرارة والبرودة
ونحوها من الصفات التي أوجدها الله تعالى في محالها وفاقا، ولا يتصف بها إلا تلك
المحال، فلا وجه لقياس الأفعال الصادرة عن العباد عند أهل العدل إليها، هذا، وما
زعمه من أن خلق الخنزير والكلب ونحوهما من الحشرات المؤذية القبيحة، وأوردها
نقضا على أهل العدل فقد عرفت مرارا دفعه، بإبداء الفرق بين ما أورده نقضا وإلزاما
وبين القبائح من أفعال العباد والله ولي السداد.
قال المصنف رفع الله درجته
ومنها أنه يلزم إلحاق الله تعالى بالسفهاء والجهال تعالى الله عن ذلك، لأن من
جملة أفعال العباد الشرك بالله ووصفه بالأضداد والأنداد (1) والصاحبة والأولاد
وشمته وسبه، فلو كان تعالى فاعلا لأفعال العباد، لكان فاعلا للأفعال كلها،
ولكل هذه الأمور، وذلك يبطل حكمته، لأن الحكيم لا يشتم نفسه، وفي نفي
الحكمة إلحاقه بالسفهاء، نعوذ بالله من هذه المقالات الردية (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: ونحن أيضا نعوذ بالله من هذه المقالات المزخرفة الباطلة، وهذا أيضا نشأ له
لعدم الفرق بين الخالق والفاعل، فإن الله تعالى يخلق الأشياء، فالسب والشتم له

72
إن كانا مخلوقين لله تعالى فيما فعل العبد والمذمة للفعل لا للخلق، فلا يلزم كونه
شاتما لنفسه، وخلق هذه الأفعال ليس سفها حتى يلزم إلحاقه تعالى بالسفهاء،
نعوذ بالله من هذا، لأن الله تعالى قدر في الأزل شقاوة الشاتم له والساب، و
أراد دخوله النار، فيخلق فيه هذه الأفعال لتحصل الغاية التي هي دخول الشاتم
النار فأي سفه في هذا (إنتهى).
أقول
استعاذة الناصب الشقي من ذلك كإنكار الشيطان لما يفعله من الاغواء والدعوة
إلى الشرور كما أخبر عنه تعالى بقوله: وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله
وعدكم وعد الحق، ووعدتكم فأخلفتكم، وما كان لي عليكم من سلطان
إلا أن دعوتكم، فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم (1) الآية وقد
علم بما ذكرنا قبيل ذلك أن ما ذكره الناصب هيهنا كلها سفه وحماقة وأسخفها
تجويزه مؤاخذة الله تعالى للعبد بما جعله عليه في الأزل من الواجب الحتم، فإن القائل
بذلك لا يستحق إلا الصفع (2) واللعن والشتم.
قال المصنف رفع الله درجته
ومنها أنه يلزم مخالفة الضرورة لأنه لو جاز أن يخلق الزنا واللواط، لجاز أن
يبعث رسولا هذا دينه، ولو جاز ذلك لجوزنا أن يكون فيما سلف من الأنبياء من
لم يبعث إلا للدعوة إلى السرقة والزنا واللواط وكل القبائح ومدح الشيطان و
عبادته والاستخفاف بالله تعالى والشتم له والسب لرسوله وعقوق الأبوين وذم
المحسن ومدح المسئ (إنتهى).

73
قال الناصب خفضه الله
أقول: لو أراد من نفي جواز بعثة الرسول بهذه الأشياء الوجوب على الله تعالى فنحن
نمنعه، لأنه لا يجب على الله شئ، وإن أراد بنفي هذا الجواز الامتناع عقلا فهو لا
يمتنع يمتنع عقلا، وإن أراد الوقوع فنحن نمنع هذا، لأن العلم العادي يفيدنا عدم وقوع
هذا، فهو محال عادة، والتجويز العقلي لا يوجب وقوع هذه الأشياء كما عرفته مرارا،
ثم إنه صدر كلامه بلزوم مخالفة الضرورة وأي مخالفة للضرورة في هذا البحث (إنتهى).
أقول
نختار أولا الشق الأول، ونقول: قد بينا أن الوجوب بالمعنى الذي
ذهب إليه أهل العدل لا يقبل المنع، وثانيا فنقول: العقل السليم إذا نظر إلى ذات
الله المستجمع لجميع الصفات الكمال المنزه عن آثار النقص والاختلال يحكم
بامتناع أن يبعث رسولا دينه خلاف ما اقتضاه كماله، وثالثا الشق الثالث و
نقول: إن ما ذكره من أن العلم العادي يفيدنا عدم وقوع هذا تهمة على العلم العادي،
أو على وجدانهم، فإن العادة كما ذكرنا سابقا لما جاز التخلف فيها، فلا يفيدهم ذلك
إفادة قطعية يقتضيه ما نحن فيه من تقرير العقيدة الدينية، وبما قررناه ظهر أن
ما ادعاه المصنف عليهم من لزوم مخالفة الضرورة ضرورية، فاستفهام الناصب
عن ذلك دليل على قلة فهمه أو مكابرته وإنكاره للضروريات كما هو عادته و
عادة أصحابه.
قال المصنف رفع الله درجته
ومنها أنه يلزم أن يكون الله تعالى أشد ضررا من الشيطان، لأن الله تعالى لو خلق
الكفر في العبد ثم يعذبه عليه، لكان أضر من الشيطان لأن الشيطان لا يمكنه أن يلجئه إلى
القبائح بل يدعوهم إليها، كما قال الله تعالى: وما كان لي عليكم من سلطان إلا

74
أن دعوتكم فاستجبتم لي، (1) ولأن دعاء الشيطان هو أيضا من فعل الله تعالى
وأما الله فإنه يضطرهم إلى القبائح ولو كان لحسن من الكافر أن يمدح
الشيطان وأن يذم الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: نعوذ بالله من التفوه بهذه المقالة والاستجراء على تصوير أمثال هذه الترهات،
فإن الله تعالى يخلق كل شئ، والتعذيب مترتب على المباشرة والكسب، وخلق
الكفر ليس بقبيح، لأنه غاية دخول الشقي في النار كما يقتضيه نظام عالم الوجود
والتصرف في العبد بما شاء ليس بظلم، لأنه تصرف في ملكه، وقد عرفت أن تصرف
المالك في الملك بما شاء ليس بظلم، والله تعالى وإن خلق الكفر في العبد ولكن
العبد هو يباشره ويكسبه، والله تعالى بعث الأنبياء وخلق أيضا قوة النظر وبث
دلائل الوحدانية في الآفاق والأنفس، فهذه كلها ألطاف من الله تعالى والشيطان
يضر بالاغواء والوسوسة، فأين نسبة اللطيف النافع الهادي وهو الله تعالى بالشيطان
الضار المضل؟ ومن أين لزم هذا؟ (إنتهى).
أقول
قد مر مرارا وسيجئ أيضا أن الكسب لا محصل له، وأن خلق الكفر قبيح، و
من العجب استدلاله على عدم قبح الكفر بأنه غاية دخول الشقي في النار، فإن
الكفر لو كان فعل الكافر كما قال به أهل العدل كان أولى بأن يجعل ذلك غاية لدخوله
في النار كما لا يخفى، وأما اقتضاء نظام عالم الوجود للكفر فهو دعوى كاذبة لا يعجز
أحد عن مثلها إذا فقد الحياء ونهى النفس عن الوقاء (2)، وأما ما ذكره من أن

75
تصرف المالك في ملكه بما شاء ليس بظلم، فقد مر وجه الظلم فيه، وأن التصرف
إن كان على الوجه حسن حسن وإلا فقبيح، وأما ما ذكره من أن الله تعالى بعث
الأنبياء وخلق أيضا قوة النظر، وبث دلائل الوحدانية الخ ففيه أن الكفر إذا كان مخلوقا
لله تعالى بدون مدخلية للعبد فيه بناء على بطلان الكسب الذي ارتكبوا مهربا عن
الجبر فأي أثر لبعثه الأنبياء وبث الدلائل في الهداية وأي مدخل لوسوسة
الشيطان في الغواية.
قال المصنف رفع الله درجته
ومنها أنه يلزم منه مخالفة العقل والنقل، لأن العبد لو لم يكن موجدا لأفعاله
لم يستحق ثوابا ولا عقابا، بل يكون الله تعالى مبتدئا بالثواب والعقاب من غير
استحقاق منهم، ولو جاز ذلك لجاز منه تعذيب الأنبياء عليهم السلام وإثابة الفراعنة
والأبالسة، فيكون الله تعالى أسفه السفهاء وقد نزه الله تعالى نفسه عن ذلك في
كتابه العزيز فقال: أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون (1)؟ أم
نجعل المتقين كالفجار (2)؟ (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: جوابه أن استحقاق العبد للثواب والعقاب بواسطة المباشرة والكسب وهو
يستحق الثواب والعقاب بالمباشرة، لا أنه يجب على الله تعالى إثابته، فالله تعالى
متعال عن أن يكون إثابة المطيع وتعذيب العاصي واجبا عليه، بل جرى عادة الله
تعالى بإعطاء الثواب عقيب العمل الصالح والتعذيب عقيب الكفر والعصيان، وجواز
تعذيب الأنبياء وإثابة الفراعنة والأبالسة المراد به نفي الوجوب على الله وهو لا يستلزم

76
الوقوع، بل وقوعه محال عادة كما ذكرناه مرارا، فلا يلزم المحذور (إنتهى).
أقول
ما ذكره هيهنا مدفوع بما ذكر مرارا سيما في الفصلين المتصلين بهذا، وبالجملة
أن العبد إنما يستحق الثواب أو العقاب بالكسب لو كان الكسب بالمعاني التي
أرادوا منه فعلا وأثرا صادرا عن العباد، وهم لا يقولون بذلك، فيلزمهم الجبر المحض
وما يلزم منه من عدم استحقاق الثواب والعقاب كما ذكره المصنف قدس سره.
قال المصنف رفع الله درجته
ومنها أنه منه مخالفة الكتاب العزيز من انتفاء النعمة عن الكافر لأنه تعالى
إذا خلق الكفر في العبد الكافر، لزم أن يكون قد خلقه للعقاب في نار جهنم ولو
كان كذلك لم يكن له عليه نعمة أصلا، فإن نعمة الدنيا عقاب الآخرة لا تعد
نعمة كمن جعل لغيره سما في حلوا وأطعمه، فإنه لا تعد اللذة الحاصلة من تناوله
نعمة، والقرآن قد دل على أنه تعالى منعم على الكافرين قال الله تعالى: ألم تر
إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا (1)، وحسن كما أحسن الله إليك (2)،
وأيضا قد علم بالضرورة من دين محمد (ص)، أنه ما من عبدا إلا ولله عليه نعمة كافرا كان
أو مسلما (3) (إنتهى).

77
قال الناصب خفضه الله
أقول: هذا أيضا من غرائب الاستدلالات فإن نعمة الله تعالى على الكافر محسوسة،
والهداية أعظم النعم وإرسال الرسول وبث الدلائل العقلية كلها نعم عظام، والكافر
استحق دخول النار بالمباشرة والكسب، والخلق من الله تعالى ليس بقبيح، ثم ما
ذكر من لزوم عدم كون الكافر منعما عليه يلزمه أيضا بإدخاله النار فإن الله تعالى
يدخل الكافر ورجحه واختاره. قلنا: في مذهبنا أيضا كذلك وإدخاله لكونه باشر
الكفر وكسبه وعمل به، ولو كان الواجب على الله تعالى أن ينعم على الكافر وهو المفهوم
من ضرورة الدين لكان الواجب عليه أن لا يدخل النار بأي وصف كان الكافر،
لأنه يلزم أن لا يكون منعما عليه وهو خلاف ضرورة الدين، وأمثال هذه الاستدلالات
ترهات (1) ومزخرفات (إنتهى).
أقول
قد مر أن الكسب غير معقول، أو غير مفيد في أثبات مدعاهم، وأما ما ذكره،
من أن ما قاله المصنف: من لزوم عدم كون الكافر منعما عليه يلزمه أيضا بإدخاله
النار، ففيه أن المصنف قد صرح بالتزام ذلك حيث قال: ولو كان خلقه للعقاب
في نار جهنم لم يكن له عليه نعمة أصلا، فإن نعمة الدنيا مع عقاب الآخرة لا تعد

78
نعمة الخ فمع تصريح المصنف بالالتزام كيف يصح ما ذكره الناصب من الالزام،
وأما ما ذكره بقوله: فإن قال إدخاله لكونه آثر الكفر الخ فلا ارتباط له بما قبله
من الالزام، فلا يقوله المصنف في هذا المقام، وإنما ذكره النصب واشتغل بجوابه
صرفا لعنان تأمل الناظرين عما في كلامه السابق من الفساد وإيقاعه في أذهانهم
أن ما يتراءى فيه من الفساد ليس سوى ما استدركه هو بقوله فإن قال الخ، وأجاب
عنه قلنا الخ، مع أن جوابه هذا مبني على الكسب المهدوم كما لا يخفى،
وأما ما ذكره من أنه لو كان الواجب على الله تعالى أن ينعم على الكافر وهو المفهوم
من ضرورة الدين لكان الواجب الخ فدليل على سوء فهمه وبعده عن مرتبة ذوي
التحصيل، إذ لا يلزم من كون وجوب العلم بشئ وبداهته ناشئة من الدين أن يكون
ذلك الشئ المعلوم واجبا حتى يلزم من علمنا بداهة، أو وجوب بشمول نعمة الله تعالى
للمؤمن والكافر واجبا عليه تعالى إنعامه للكافر، على أن القول بوجوب ذلك
على الله تعالى بالمعنى الذي عرفته سابقا مما لا فساد فيه، وأما ما ذكره من أنه
لو كان الإنعام الخ، ففيه أن المصنف لم يدع وجوب تعلق كل نعمة بالكافر حتى يلزم
أن لا يعذب بالنار مع كفرانه للنعمة، بل قال: قد علم بالضرورة من الدين أنه ما من
عبد إلا ولله عليه نعمة الخ، وذلك لا يستلزم شمول جميع النعماء لشئ من العباد فضلا عن
الكافر، ثم ما ذكره من الملازمة المدلول عليها بقوله: لو كان الواجب على الله تعالى
أن ينعم على الكافر لكان الواجب عليه أن لا يدخل النار بأي وصف كان الكافر غير ملسم، لأن
هذا إنما يجب أن لو لم يخلقه الله تعالى على الفطرة الصحيحة، ولم ينعم عليه بأصول
النعم السابقة على الاستحقاق والنعم اللاحقة من الألطاف المقربة لتحصيل الثواب
في الآخرة، وفعل فيه ما يلجئه إلى فعل ما يورث عذاب الآخرة كخلق الكفر والضلالة
فيه، الله تعالى منزه عن هذا، وإذا كان العبد هو المفوت بكفره لنعم الآخرة

79
تكون نعم الدنيا في حقه معتدة بها، فلا يلزم عدم كونه تعالى منعما عليه أصلا كما
توهمه الناصب الراسب (1) في العذاب الواصب.
قال المصنف رفع الله درجته
ومنها صحة وصف الله تعالى بأنه ظالم وجائر ومفسد، لأنه لا معنى للظالم إلا
فاعل الظلم، ولا الجائر إلا فاعل الجور، ولا المفسد إلا فاعل الفساد، ولهذا لا يصح
إثبات أحدهما حال نفي الآخر، ولأنه لما فعل العدل سمي عادلا فكذا لو فعل
الظلم سمي ظالما، ويلزم أن لا يسمى العبد ظالما، ولا سفيها لأنه لم يصدر عنه
شئ من هذه (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: قد عرفت أن خالق الشئ غير فاعله ومباشره، فالفعل تارة يطلق ويراد به
الخلق كما يقال: الله فاعل كل شئ، وقد يطلق ويراد به المباشرة والاعتمال (2)
وعلى التقديرين فإن الخالق للشئ لا يكون موصوفا بذلك الشئ الذي خلقه إن كان
المخلوق من جملة الصفات كما قدمنا، فمن خلق الظلم لا يقال: أنه ظالم وقد ذكرنا
أنه لم يفرق بين هذين المعنيين ولو فرق لم يستدل بأمثال هذا (إنتهى).
أقول
قد مر أن الفرق كالكسب اصطلاح منهم، وأن إطلاق الفعل على الكسب
والمباشرة بالمعنى الذي قصدوه لم يقع في لغة ولا قرآن ولا سنة، وأما ما ذكره

80
من أن الخالق للشيئ لا يكون موصوفا بذلك الشئ الذي خلقه فهو حقيقة منع
للمقدمة التي استدل المصنف عليها بقوله: ولهذا لا يصح إثبات أحدهما حال نفي
الآخر وبقوله: ولأنه لما فعل العدل سمي عادلا، فكذا لو فعل الظلم سمي ظالما
فلا يلتفت إليه، وأيضا يتوجه على ما قدمه ما قدمناه، ويزيد عليه هيهنا أن نفيه
لكون الخالق للشئ موصوفا بذلك الشئ مبني على أن الوصف إنما يترتب
على الكسب، وهو أول المسألة، وبالجملة من لم يثبت عنده للصدور معنى سوى
الخلق ينحصر عنده أن يكون الاتصاف بالأوصاف المذكورة من جهلة الخلق،
والمانع للحصر مكابر لا يلتفت إليه.
قال المصنف رفع الله درجته
ومنها أنه يلزم منها المحال، لأنه لو كان هو الخالق للأفعال فإما أن يتوقف خلقه
لها على قدرنا ودواعينا أو لا، والقسمان باطلان، أما الأول فلأنه يلزم منه عجزه
تعالى عما يقدر عليه العبد، لأنه يستلزم خلاف المذهب، وهو وقوع الفعل منه
والدواعي من العبد، إذ لو كان من الله تعالى لكان الجميع من عنده، لأن القدرة
والدعي إن أثرتا فهو المطلوب، وإلا كان وجودهما كوجود لون للانسان وطوله
وقصره، ومن المعلوم بالضرورة أنه لا مدخل للون والطول القصر في الأفعال،
وإذا كان هذا الفعل صادرا عنه جاز وقوع جميع الأفعال المنسوبة إلينا منا وأما
الثاني فلأنه يلزم منه أن يكون الله تعالى أوجد أي خلق تلك الأفعال من دون
قدرهم ودواعيهم حتى يوجد الكتابة والنساجة والمحكمتان ممن لا يكون عالما
بهما، ووقوع الكتابة ممن لا يدله ولا قلم، ووقوع شرب الماء من الجائع في الغاية
الريان في الغاية، مع تمكنه من الأكل، ويلزم تجويز أن تنقل النملة الجبال،
وأن لا يقوي الرجل الشدى القوة على رفع تبنة، وأن يجوز من الممنوع المقعد

81
العدو، وأن يعجز القادر الصحيح من تحريك الأنملة، وفي هذا زوال الفرق بين
القوي والضعيف، ومن المعلوم بالضرورة الفرق بين الزمن والصحيح (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: نختار القسم الثاني وهو أن خلقه تعالى لأفعالنا لا يتوقف على دواعينا
وقدرنا، وما ذكره من لزوم وجدان الكتابة بدون اليد وغيره من المحالات العادية،
فهي استبعادات لا يقدح في الجواز العقلي نعم عادة الله تعالى جرت على
إحداث الكتابة عند حصول اليد والقلم، وإن أمكن حصوله وجاز حدوثه عقلا بدون
اليد والقلم، ولكن هو من المحالات العادية كما مر غيرة مرة، وما ذكر أنه
يلزم أن تكون القدرة والداعية إذا لم تكونا مؤثرتين في الفعل كاللون والطول
والقصر بالنسبة إلى الأفعال فهو ممنوع، للفرق بأن الفعل يقع عقيب وجود القدرة
كالاحراق الذي يقع عقيب مساس النار عادة، ولا يقال: لا فرق بالنسبة إلى الاحراق
بين النار وغيره، إذ لا تجري العادة بحدوث الاحراق عقيب مساس الماء، فكذلك لم
تجر عادة الله تعالى بإحداث الفعل عقيب وجود اللون، بل عقيب حصول القدرة والداعية
مع أنهما غير مؤثرتين (إنتهى).
أقول
يتوجه عليه أن حاصل ما ذكره المصنف دعوى البداهة في امتناع وجود الكتابة
ممن لا يد له ولا قلم لا مجرد الاستبعاد، وما ذكره الناصب من جريان العادة تشكيك
في البديهي وسفسطة مبنية على نفي الأسباب الحقيقية فلا يستحق الجواب، وقد كشفنا النقاب عن ذلك فيما سبق من الفصل والأبواب (1).

82
قال المصنف رفع الله درجته
ومنها تجويز أن يكون الله تعالى جاهلا أو محتاجا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا،
لأن في الشاهد فاعل القبيح إما جاهل أو محتاج مع أنه ليس عندهم فاعل في الحقيقة
فلا يكون كذلك في الغائب الذي هو الفاعل في الحقيقة أولى (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: قد مر أن الخالق غير الفاعل بمعنى الكاسب والمباشر، وخالق القبيح لا يلزم
أن يكون جاهلا أو محتاجا حيث لا قبيح بالنسبة إليه كما في خلقه تعالى لا هو قبيح
بالنسبة إلى المخلوق فلا يلزم منه جهل ولا احتياج (إنتهى).
أقول
قد سبق أن الفاعل بمعنى الكاسب بالمعنى الذي اخترعه الأشاعرة لم يجئ في اللغة
فلا يتم الفرق، وأما قوله: خالق القبيح لا يلزم أن يكون جاهلا أو محتاجا حيث
لا قبيح بالنسبة إليه، فكلام فاسد قبيح، ضرورة أن القبيح قبيح سواء صدر من
الواجب أو الممكن كما مر مرارا.
قال المصنف رفع الله درجته
ومنها أنه يلزم منه الظلم، لأن الفعل إما أن من العبد لا غير، أو من الله
تعالى لا غير، أو منهما معا بالشركة، بحيث لا يمكن تفرد كل منهما بالفعل، أو لا
من واحد منهما، والأول هو المطلوب، والثاني يلزم منه الظلم حيث فعل الكفر،
وعذب من لا أثر له فيه البتة، ولا قدرة موجدة له ولا مدخل له في الايجاد وهو
أبلغ وأعذب المظالم، والثالث يلزم منه الظلم، لأنه شريك في الفعل، وكيف
يعذب شريكه على فعل فعله هو وإياه؟ وكيف يبرئ نفسه من المؤاخذة

83
مع قدرته وسلطنته ويؤاخذ عبده الضعيف على فعل فعل هو مثله؟ وأيضا يلزم
منه تعجيز الله تعالى، إذ لا يتمكن من الفعل بتمامه، بل يحتاج إلى الاستعانة بالعبد
، وأيضا يلزم المطلوب وهو أن يكون للعبد تأثير في الفعل، وإذا جاز استناد
أثر ما إليه جاز استناد الجميع إليه، فأي ضرورة تحوج إلى التزام هذه المحالات،
فما ترى لهم ضرورة إلى ذلك سوى أن ينسبوا ربهم إلى هذه النقائص التي نزه الله
تعالى نفسه عنها وتبرأ منها (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: نختار أن الفعل بمعنى الخلق يصدر من الله تعالى والعبد كاسب للفعل مباشر
له، ولا تأثير لقدرة العبد في الفعل، قوله: يلزم منه الظلم، قلنا: قد سبق أن الظلم
لا يلزم أصلا (1)، لأنه يتصرف في ما هو ملك له، والتصرف في الملك كيف ما شاء
المالك لا يسمى ظلما، ثم إن تعذيب العاصي بواسطة كونه محلا للفعل الواجب
لعذاب، وأما قوله: فما ترى لهم ضرورة إلى ذلك سوى أن ينسبوا ربهم إلى هذه
النقائص، فنقول: إنا نخبره بالذي دعاهم إلى تخصيص الخلق بالله تعالى وهو الهرب
والفرار من الشرك الصريح الذي لزم المخالفين ممن يدعون أن العبد خالق مثل
الرب وهذا فيه خطر الشرك وهم يهربون من الشرك (إنتهى).
أقول
قد مر أن ليس في القول بالكسب إلا كسب خطيئة، وأن التصرف في الملك على الوجه القبيح

84
قبيح وظلم، وبهذا يعلم أيضا خطأ ما ذكره: من أن تعذيب العاصي بواسطة كونه محلا
للفعل الموجب للعذاب، إذ لا اختيار للعبد في المحلية التي هو أحد معاني الكسب
على رأي الأشاعرة، فلا وجه لاستحقاق المدح والذم باعتبارها، وأما ما أخبر به
الناصب من الأمر الداعي لأصحابه إلى تخصيص الخلق بالله تعالى فليس فيه عن
الصحة خبر، ولا عين ولا أثر، لما مر أن الشرك ومماثلة العبد للرب في الخالقية
إنما يلزم أهل العدل لو لم يقولوا: بأن العباد أنفسهم من مخلوقاته تعالى وأن قدرتهم
تمكنهم منه تعالى، وأن ما يخص بخلقه تعالى له من الجواهر الملكوتية والأجرام
السماوية والأجسام الأرضية صنعا وابداعا أجل وأعلى مما يخص العباد بخلقهم
له من بعض الأعراض التي أكثرها يليق بالنفي والإعراض والذم والاعتراض، ولو كان
مجرد مشاركة العبد مع الرب تعالى في الخلق بعض الأعراض والأفعال الضعيفة موجبا
للشرك المهروب عنه لكان المشاركة في الوجود والشيئية والتعين والهوية والصفات
الزائدة والرؤية على مذهب الخصم موجبا للشرك المهروب عنه، فإن المشاركة
في هذه المذكورات أصرح من ذلك كما لا يخفي على المتأمل.
قال المصنف رفع الله درجته
ومنها أنه يلزم مخالفة القرآن العظيم (الكتاب العزيز خ ل) والسنة المتواترة
والاجماع وأدلة العقل، أما الكتاب فإنه مملوء من إسناد الأفعال إلى العبيد (1)، وقد
تقدم بعضها، وكيف يقول الله تعالى: تبارك الله أحسن الخالقين (2) ولا خالق
سواه، وقوله، إني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى (3)، ولا

85
تحقق لهذا الشخص البتة، وقوله: من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها (1)
ليجزي الذين أساؤا بما علموا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسن (2) ليبلوهم أيهم
أحسن عملا (3) أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا
الصالحات (4) أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض (5)
أم نجعل المتقين كالفجار (6)، ولا وجود لهؤلاء ثم كيف يأمر وينهى ولا فاعل وهل
هو إلا كأمر الجماد ونهيه؟ وقال النبي (ص): اعملوا فكل ميسر لما خلق له (7)،
نية المؤمن خير من علمه (8)، إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ
ما نوى (9)، والاجماع دل على وجوب الرضا بقضاء الله تعالى فلو كان الكفر بقضاء
الله تعالى لوجب الرضاء به، والرضاء بالكفر حرام بالاجماع، فعلمنا أن الكفر ليس
من فعله تعالى فلا يكون من خلقه (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: قد عرفت فيما سبق أجوبة كل ما استدل به من آيات الكتاب العزيز، ثم إن

86
كل تلك الآيات معارضة بالآيات الدالة على أن جميع الأفعال بقضاء الله تعالى وقدره
وإيجاده وخلقه نحو: والله خلقكم وما تعملون (1)، أي عملكم، والله خالق
كل شئ (2) وعمل العبد شئ، فعال لما يريد (3) وهو يريد الإيمان إجماعا،
فيكون فعالا له وكذا الكفر إذ لا قائل بالفصل وأيضا تلك الآيات معارضة بالآيات
المصرحة بالهداية والضلال والختم نحو: يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا (4)
وختم الله على قلوبهم (5) وهي محمولة على حقائقها كما هو الظاهر منها، وأنت
تعلم أن الظواهر إذا تعارضت لم تقبل شهادتها خصوصا في المسائل النقلية، ووجب
الرجوع إلى غيرها من الدلائل العقلية القطعية، وقد ذكرنا فيما سلف من الكلام
ما يغني في إثبات هذا المقصد، وأما ما استدل به على تعدد الخالقين من قوله تعالى:
فتبارك الله أحسن الخالقين (6)، فالمراد بالخالقين هناك ما يدعي الكافرون
من الأصنام، فكأنه يقول لهم: تبارك الله وهو أحسن من أصنامكم الذين
تجعلونهم الخالقين بزعمكم، فإنهم لا يقدرون على خلق شئ، والله يخلق مثل هذا
الخلق البديع المعجب، أو المراد من الخالقين المقدرين للخلق كالمصورين، لا أنه
تعالى أثبت لنفسه شركاء في الخلق، ولكن المعتزلة ومن تابعهم يناسب حالهم ما قال
الله تعالى: وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة، وإذا
ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون (7).

87
أقول
قد سبق (1) دفع أجوبة الناصب على التفصيل الذي يرتضيه أصحاب التحصيل فليراجع
إليه، وأما ما ذكره من معارضة تلك الآيات بالآيات الدالة على أن جميع الأفعال
بقضائه وقدره، فمردود بأن الآيات التي استدل بها المصنف من قوله تعالى: تبارك الله
أحسن الخالقين ونحوها خاص، والتي استدل بها الأشاعرة عام، فيجب حمل العام
على الخاص كما تقرر في الأصول بأن يراد من الآيات العامة ما عدا أفعال العباد
فلا معارضة، وأيضا لما اختلت الأدلة العقلية للأشاعرة، وقد أتممنا الدلائل
العقلية الدالة على مذهب أهل العدل يجب حفظ ظواهر هذه الآيات بمطابقتها العقل
وصرف الآيات التي تمسك بها الأشاعرة عن ظواهرها لمخالفتها إياه، وأما ما
ذكره في تأويل قوله تعالى: تبارك الله أحسن الخالقين، فمردود بما ذكرنا
من وجوب حفظ ظاهره مع أن كلا من التأويلين الذين ذكرهما أوهن من نسج
العنكبوت (2)، وأسخف منت تأويلات ملاحدة (3) الموت، وأما ما ذكره بقوله:

88
ولكن المعتزلة ومن تابعهم يناسب حالهم ما قال تعالى الخ ففيه أن هذا خروج عن
الإنصاف لأنه إنما يناسب حال من يسمى بالصفاتية (1) القائلين بالصفات الزائدة

89
المشاركة لذاته تعالى في القدم واستغنائها عن خلق الله تعالى إياها، ولا يناسب
حال من سمى بأهل العدل والتوحيد لنفيهم مشاركة تلك الصفات مع الله تعالى،
وأما المشاركة التي توهمها الناصب من القول بخلق العباد لأفعالهم، فقد عرفت
أنه مجرد توهم لا حقيقة له أصلا.
قال المصنف رفع الله درجته
المطلب الحادي عشر: في نسخ شبههم، اعلم أن الأشاعرة احتجوا على مقالتهم
بوجهين، هما أقوى الوجوه عندهم، يلزم منهما الخروج عن العقيدة ونحن نذكر ما
قالوا: ونبين دلالتهما على ما هو معلوم البطلان بالضرورة من دين النبي (ص)، الأول
قالوا: لو كان العبد فاعلا لشئ ما بالقدرة والاختيار فإما أن يتمكن من تركه
أو لا، والثاني يلزم منه الجبر لأن الفاعل الذي لا يتمكن من ترك ما يفعله موجب
لا مختار كما يصدر على النار الاحراق ولا يتمكن من تركه، والأول إما يترجح
الفعل على الترك حالة الايجاد أو لا، والثاني يلزم منه ترجيح أحد طرفي الممكن
على الآخر لا لمرجح لأنهما لما استويا من كل وجه بالنسبة إلى ما في نفس الأمر
وبالنسبة إلى القادر الموجد كان ترجيح القادر للفعل على الترك ترجيحا للمساوي
بغير مرجح، وأن ترجح (1) فإن لم ينته إلى الوجوب أمكن حصول المرجوح
مع تحقق الرجحان وهو محال، أما أو لا فلامتناع وقوعه (2) حالة التساوي فحالة
المرجوحية أولى، وأما ثانيا فلأنه مع قيد الرجحان يمكن وقوع المرجوح فلنفرضه
واقعا في وقت والراجح في آخر، فترجيح أحد الوقتين بأحد الأمرين (3) لا بد له

90
من مرجح غير المرجح الأول (1)، وإلا لزم ترجيح أحد المتساوين بغير مرجح،
فينتهي إلى الوجوب وإلا تسلسل، وإذا امتنع وقوع الأثر إلا مع الوجوب، والواجب
غير مقدور ونقيضه ممتنع غير مقدور أيضا فيلزم الجبر والايجاب فلا يكون العبد
مختارا، الثاني أن كل ما يقع فإن الله تعالى قد علم وقوعه قبل وقوعه، وكل ما لم
يقع فإن الله تعالى قد علم في الأزل عدم وقوعه، وما علم الله تعالى وقوعه فهو واجب
الوقوع، ولو لم يقع لزم انقلاب علم الله تعالى جهلا وهو محال، وما علم عدمه فهو
مقدورين للعبد، فيلزم الجبر (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: أول ما ذكره من الدليلين للأشاعرة قد استدل به أهل المذهب وهو دليل
صحيح بجميع مقدماته كما ستراه واضحا إن شاء الله تعالى، وأما الثاني ما ذكره من الدليلين فقد ذكره الإمام الرازي ح (2) على سبيل النقض وليس هو من دلائل أئمة

91
الأشاعرة، وقد ذكر هذا النقض في شبهة فائدة التكليف والبعثة بهذا التقرير،
ثم إن هذا (1) الذي ذكروه في لزوم سقوط التكليف إن لزم القائل بعدم استقلال
العبد في أفعاله فهو لازم لهم أيضا لوجوه، الأول أن ما علم الله عدمه من أفعال العبد
فهو ممتنع الصدور عن العبد وإلا جاز انقلاب العلم جهلا، وما علم الله وجوه من
أفعاله فهو واجب الصدور عن العبد وإلا جاز الانقلاب ولا مخرج عنهما لفعل العبد،
وأنه يبطل الاختيار، إذ لا قدرة على الواجب والممتنع، فيبطل حينئذ التكليف
وأخواته لابتنائها على القدرة والاختيار بالاستقلال كما ذكرتم، فما لزمنا في مسألة
خلق الأعمال فقد لزمكم في مسألة علم الله تعالى بالأشياء، قال الإمام الرازي (2)

92
ولو اجتمع جملة العقلاء على أن يوردوا على هذا الوجه حرفا، وقد أجابه
شارح المواقف (1) كما سيرد عليك (إنتهى).
أقول
الدليل الثاني أيضا مما ذكره صاحب المواقف والشارح التجريد (2) بعنوان
الاستدلال ولم نره فيما وصل إلينا من كتب فخر الرازي بصورة انتقض، ولعله إن
صح أنه نقضا فهو جرى منه على ما قيل: (3) من أن محصل المعارضة
نقض (4) بأن يقال: لو كان دليلكم صحيحا لما صدق نقيض مدلوله، لكن عندنا
دليل دل على صدقه فلا يكون صحيحا، وعلى هذا فلا ينافي الاستدلال، والظاهر
أن الناصب لما عجز عن إتمام ذلك الدليل احتال في ذلك بتسميته نقضا لئلا يلزمه
إثبات ما يتوجه على مقدماته من المنع والنقض، ومثل هذه الحيلة لا تذهب إلا على
من هو مثله في الجهل بأطراف كلام الأقوام وأما ما زعمه من أن ما لزم الأشاعرة

93
يلزم مثله لأهل العدل في مسألة علم الله تعالى فمدفوع بما سبق وسيجئ من أن
هذا إنما يلزم لو قلنا بأن علمه تعالى علة للمعلومات، وإما إذا قلنا: إنه تابع له
كما هو التحقيق فلا كما لا يخفى، ثم لا يذهب عليك أن الناصب ادعى أن ما يلزم
الأشاعرة يلزم أهل العدل من وجوه، ولم يذكر إلا وجها واحدا والظاهر أنه أراد
إظهار قدرته أو قدرة أصحابه على إبداء الوجوه المتعددة في ذلك وإن كانت تلك
الوجوه بعد في بطن العدم، فافهم.
قال المنصف رفع الله درجته
والجواب عن الوجهين من حيث النقض ومن حيث المعارضة أما النقض ففي الأول
من وجوه، الأول وهو الحق أن الوجوب من حيث الداعي والإرادة لا ينافي الامكان
في نفس الأمر، ولا يستلزم الايجاب وخروج القادر عن قدرته، وعدم وقوع الفعل
بها، فإنا نقول: الفعل مقدور للعبد يمكن وجوده عنه ويمكن عدمه، فإذا خلص
الداعي إلى إيجاده وحصلت الشرائط وارتفعت الموانع، وعلم القادر خلوص المصالح
الحاصلة من الفعل عن شوائب المفسدة البتة وجب من هذه الحيثية إيجاد الفعل
ولا يكون ذلك جبرا ولا إيجابا بالنسبة إلى القدرة والفعل لا غير (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: هذا الوجوب يراد به الاضطرار المقابل للاختيار، ومرادنا نفي الاختيار
سواء كان ممكنا في نفس الأمر أو لا، وكل من لا يتمكن من الفعل وتركه فهو
غير قادر سواء كان منشأ عدم تمكنه عدم الامكان الذاتي لفعله أو عدم حصول الشرائط
ووجود الموانع، فما ذكره من النقض ليس بصحيح (إنتهى).
أقول
ما ذكره مدفوع بأن نفي الاختيار على الوجه الأعم قبل الفعل وبعده

94
خروج عن المبحث، لأن الكلام في الاختيار والقدرة قبل الفعل، وأما عند اختيار
الفعل فلا يقدح وجوبه في الاختيار المتنازع فيه، لما تقرر من أن الوجوب بالاختيار (1)
يحقق الاختيار ولا ينافيه، والوجوب الحاصل من تحقق الدواعي، والإرادة الجازمة
من هذا القبيل، والحاصل أنا نختار أن المرجح هو الإرادة وأن الفعل يجب بها،
وهذا الوجوب لا ينافي الاختيار التمكن من الترك بالنظر إلى نفس القدرة، بل
يحققه، لأن القادر هو الذي يصح منه الفعل والترك قبل تعلق الإرادة الجازمة له
وإن وجب بعد تعلق الإرادة به، وبالجملة أن كون الفعل واجبا بالغير لا ينافي
كونه اختياريا في نفسه وأن لا يكون كحركة الجماد وهو المراد، وأيضا من المقرر
أن الشئ ما لم يجب لم يوجد ولا شبهة أن هذا الوجوب وجوب بالغير، فلو كان
منافيا للاختيار لما وجد قادر مختار أصلا، إذ حين الوجوب لا يبقى التمكن من
الفعل والترك كما لا يخفى، وأما ما ذكره الناصب في الحاشية بقوله: لما امتنع
أن يكون الخ فهو اعتراض مذكور في شرحي المواقف والتجريد، وقد أجيب عنه
بأن الفعل إنما يجب بتعلق إرادة العبد به وهو إنما يحصل بعد العلم بالنفع واختياره
وهذا التعلق أيضا إرادي مسبوق بتعلق آخر متعلق إلى هذا التعلق وهكذا، لكن
هذه التعلقات أمور انتزاعية اعتبارية لا استحالة للتسلسل فيها، والحاصل أنا نريد فعلا
واحدا والعقل يجد بعد التأمل والتفصيل أن قد صدر عنا تعلق الإرادة بهذا الفعل،
وتعلقها بهذا التعلق وهكذا، وبالجملة الداعي وهو تعلق الإرادة الجازمة على ما

95
في الشرح (1) القديم للتجريد، ويستفاد من كلام الشارح الجديد (2) أيضا بوجوب
الفعل، وحيث اخترنا أن التعلق بالاختيار لا يستلزم الاضطرار ولكونه اعتباريا
لا يلزم التسلسل المحال.
قال المصنف رفع الله درجته
الثاني يجوز أن يترجح الفعل فيوجده المؤثر أو العدم فيعدمه ولا ينتهي الرجحان
إلى الوجوب على ما ذهب إليه جماعة من المتكلمين، فلا يلزم الجبر ولا الترجيح
من غير مرجح قوله مع ذلك الرجحان لا يمتنع النقيض فلنفرض واقعا في وقت فترجيح
الفعل في وقت وجوده يفتقر إلى مرجح آخر، قلنا: ممنوع بل الرجحان الأول
كاف فلا يفتقر إلى رجحان آخر (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول لا يصح أن يكون المرجح في وقت ترجيح الفعل هو المرجح الأول ولا بد
أن يكون هذا المرجح غير المرجح الأول لأنه هذا المرجح موجود عند وقوع
الفعل مثلا في وقت وقوعه ولهذا ترجح الفعل، فلو كان هذا المرجح موجودا عند
عدم الفعل ولم يترجح به الفعل فلا يكون مرجحا، وإذا ترجح به الفعل فيكون

96
حكم الوقت مساويا، فيلزم خلاف المفروض، لأنا فرضنا إن الفعل يوجد في
وقت ويعدم في الآخر، ولا بد من مرجح غير المرجح الأول (1) ليترجح به الفعل في
وقت وينتهي إلى الوجوب، وإلا يتسلسل فيتم الدليل بلا ورود نقض (إنتهى).
أقول
قد صرح المصنف بأن الأول من وجوه النقض هو الحق إشارة إلى أن الوجوه
الأخر ليست كذلك، لكنه ذكر ذلك تعجيزا للأشاعرة، وبالجملة هذا الوجه
كما صرح به المصنف مبني على ما ذهب إليه جماعة (2) من المتكلمين من جواز
وجود الممكن بالأولوية الذاتية وما ذكره الناصب في دفعه مأخوذ من الوجوه
التي ذكرها طائفة أخرى من المتكلمين والحكماء في نفي ذلك (3)، ولا يسلم شئ
من ذلك عن مناقشة كما لا يخفى على من طالع هذا المقام من الشرح الجديد
للتجريد وحواشيه (4) القديمة والجديدة وكان بعض مشايخنا رحمهم الله يبالغ في

97
ذلك ويقول: إن هذا المطلب لا يتم بالاستدلال وإن المحقق قدس سره أثبته
في التجريد بدعوى البداهة حيث قال: ولا تتصور الأولوية الذاتية وغفل عن ذلك
الشارحون وحملوا كلامه على إرادة الاستدلال، وذكروا في تقرير ما استدل به
من تقدمه من العلماء، فيتوجه عليه ما يتوجه عليهم، ويتوجه عليه أيضا أن المفروض
كفاية المرجح الأول لترجيح الوجود في جميع أوقاته على العدم فيه ولم يلزم
من البيان الاحتياج إلى مرجح آخر لهذا الترجيح، بل إنما يحتاج إليه لترجيح
الوجود في بعض أوقات المرجح الأول على الوجود في بعض آخر منها أين هذا
من ذاك؟ تأمل.
قال المصنف رفع الله درجته
الثالث: لم لا يوقعه القادر مع التساوي؟ فإن القادر يرجح أحد مقدوريه على
الآخر من غير مرجح، وقد ذهب إلى هذا جماعة من المتكلمين (1) وتمثلوا في
ذلك بصور وجدانية كالجائع يحضره رغيفان متساويان من جميع الوجوه، فإنه
يتناول أحدهما من غير ترجيح ولا يمتنع من الأكل حتى يترجح لمرجح والعطشان
يحضره إناءان متساويان من جميع الوجوه، والهارب من السبع إذا عن (2) له
طريقان متساويان فإنه يسلك أحدهما، ولا ينتظر حصول المرجح، وإذا كان هذا
الحكم وجدانيا كيف يمكن الاستدلال على نقيضه!؟ الرابع أن هذا الدليل
ينافي مذهبهم فلا يصح لهم الاحتجاج لأن مذهبهم أن القدرة لا تصلح للضدين
فالمتمكن من الفعل يخرج عن القدرة (فالتمكن من الفعل يخرجه عن القدرة خ ل)
لعدم التمكن من الترك، وإن خالفوا مذهبهم من تعلقها بالضدين لزمهم وجود

98
الضدين دفعة واحدة، لأن القدرة لا تتقدم على الفعل المقدور عندهم، وإن فرضوا
للعبد قدرة موجودة حال وجود قدرة الفعل لزمهم إما اجتماع الضدين أو تقدم
القدرة على الفعل، فانظر إلى هؤلاء القوم الذين لا يبالون في تضاد أقوالهم وتعاندها
(إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: اتفق العقلاء على أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا لمرجح
والحكم بعد تصور الطرفين أي تصور الموضوع الذي هو إمكان الممكن وتصور
المحمول الذي هو معنى كونه محوجا إلى السبب ضروري بحكم بديهة العقل بعد
ملاحظة النسبة بينهما، ولذلك يجزم به الصبيان الذين لهم أدنى تميز، ألا ترى؟ أن
كفتي الميزان إذا تساوتا لذاتيهما وقال قائل: ترجحت إحديهما على الأخرى بلا
مرجح من خارج لم يقبله صبي مميز وعلم بطلانه بديهة فالحكم بأن أحد المتساوين
لا يترجح على الآخر إلا مرجح مجزوم به عنده بلا نظر وكسب بل الحكم مركوز
في طبائع البهائم، ولهذا تراها تنفر من صوت الخشب، وما ذكر من الأمثلة كالجائع
في اختيار أحد الرغيفين وغيره فإنه لما خالف الحكم البديهي يجب أن يكون هناك مرجح
لا يعلمه الجائع والعلم بوجود المرجح من القادر غير لازم بل اللازم وجود المرجح، وأما
دعون كونه وجدانيا مع اتفاق العقلاء بأن خلافه بديهي دعوى باطلة كسائر دعاويه والله
أعلم. وأما قوله في الوجه الرابع: أن هذا الدليل ينافي مذهبهم فلا يصح لهم
الاحتجاج به، لأن مذهبهم أن القدرة لا تصلح للضدين الخ فنقول في جوابه: عدم
صلاحية القدرة للضدين لا يمنع صحة الاحتجاج بهذه الحجة، فإن المراد من
الاحتجاج نفي الاختيار عن العبد وإثبات أن الفعل واجب الصدور عنه وليس له
التمكن من الترك وذلك يوجب نفي الاختيار، فإذا كان المذهب أن القدرة لا تصلح
للضدين وبلغ الفعل حد الوجوب لوجود المرجح الموجب، لم يكن العبد قادرا على

99
الترك فيكون موجبا لا مختارا، وهذا هو المطلوب، فكيف يقول: إن كون القدرة
غير صالحة للضدين يوجب عدم صحة الاحتجاج بهذه الحجة فعلم أنه من جهله
وكودنيته (1) لا يفرق بين ما هو مؤيد للحجة وما هو مناف لها ثم ما ذكره أنهم إن
خالفوا مذهبهم من تعلقها بالضدين لزمهم إما اجتماع النقيضين أو تقدم القدرة على
الفعل فهذا شئ يخترعه من عند نفسه ثم يجعله محذورا، والأشاعرة إنما نفوا هذا
المذهب وقالوا: إن القدرة لا تصلح للضدين، لأن القدرة عندهم مع الفعل
فيجب أن لا يكون صالحا للضدين، وإلا لزم اجتماع النقيضين، انظروا معاشر
المسلمين إلى هذا السارق (2) الحلي الذي اعتاد سرقة الحطب من شاطئ الفرات

100
حسب أن هذا الكلام حطب يسرق كيف أتى بالدليل وجعله اعتراضا والحمد لله
الذي فضحه في آخر الزمان، وأظهر جهله وتعصبه على أهل الإيمان (إنتهى).
أقول (1)
نعم قد اتفق العقلاء على ذلك لكن وجه كلام المصنف (2) من الأشاعرة المعزولين
عن العقل، وهم قد جوزوا أن يرجح القادر فعله لمجرد الإرادة بلا داع يختص بها،
ومثلوا بما ذكره المصنف من الأمثلة الوجدانية، وممن صرح بنسبة ذلك إلى
الشيخ الأشعري أيضا سيف الدين الأبهري الأشعري في مبحث الحسن والقبيح

101
من حاشيته على شرح المختصر فليطالع أصحاب الناصب ذلك فيها، ومن العجب أن الناصب
شتم القائل بذلك ولم يعلم أن ذلك الشتم يرجع إلى شيخه، وإمامه ولم
يميز من غاية البهت خلفه من أمامه، ويؤيد تلك النسبة الحديث الذي وضعه
المحدثون من الأشاعرة في شأن أبي بكر، وهو قولهم: قال رسول الله (ص): (1)
لو وضع أبي بكر في كفة ميزان وجميع الناس في كفة أخرى لترجحت الكفة التي
كان فيها أبو بكر، لا يلتفت إلى ما نقل عن البهلول (2) في رد ذلك من أنه لو صح

102
هذا الحديث لكان في ذلك الميزان عيب البتة، لأنه كان رافضيا مجنونا لا يصير
كلامه حجة على الأشاعرة، ثم من هذا القبيل أيضا قولهم بجواز تفضيل المفضول
في باب الإمامة وتصريحهم بتفضيل أبي بكر على علي (ع) مع روايتهم عن النبي (ص)
أنه قال لضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين، اللهم إلا أن يقال: إن
أبا بكر ليس من الثقلين، بل نقول: إن تجويزهم تعذيب الله تعالى للأنبياء والأولياء
المطيعين وإكرامه للفساق والأشرار العاصين أيضا من باب ترجيح المرجوح كما
لا يخفي، فكيف يستبعد منهم تجويز الترجيح بلا مرجح؟ فافهم، وبالجملة مخالفة
صريح العقل شأن الأشعري وأصحابه المعزولين عن العقل (الحق خ ل)، فلا وجه
لاستدلال الناصب على نفي قولهم بجواز الترجيح بلا مرجح، بكون ذلك مخالفا
لاتفاق العقلاء، وأما ما ذكره في جواب الوجه الرابع فمدفوع بأن المصنف
قدس سره لم يمنع صحة سوق المقدمات المذكورة في الدليل، وارتباط بعضها
ببعض، وتحقق شرائط صورها واستلزامها لما قصده، ومن نفي الاختيار، بل أراد أن
مادة المقدمة المذكورة في الدليل بقولهم: لو كان العبد فاعلا لشئ ما بالقدرة
والاختيار، فإما أن يتمكن من تركه أو لا، لا يصح بناء على ما أصلوه من أن القدرة
لا تصلح للضدين لأن المتمكن من الفعل على هذا الأصل لا يقدر على الترك
فيخرج عن أن يكون قادرا فلا يصح توصيفه بالقدرة وإجراء الترديد فيه بأنه إما
أن يمكن من الترك أو لا، وهذا نظير ما قيل: من أنه على تقدير نظرية كل من
التصورات والتصديقات لا يمكن الاستدلال على بطلان نظريتها، لأن المستدل
على الإبطال إن سلم نظرية مقدمات دليله لا يحصل مطلوبه، وإن ادعى بداهة بعضها
فهو ينافي التقدير، والقول بأن ما ذكره الناصب من الفرض والترديد بجواز أن
يكون على جهة إلزام أهل العدل مخالف لما اشتهر بينهم من كون ذلك الدليل
تحقيقا لما ذكره الناصب سابقا من أنه دليل صحيح بجميع مقدماته فتأمل،

104
فعلم أن لجهله بقواعد المنطق، بل لخروجه عن ذوي النطق ومدركي
المعقولات لم يفرق بين فساد مادة القياس وفساد صورته، ولم يفهم أن لزوم
النتيجة المذكورة إنما هو لتسليم الناصب المقدمة التي ذكرها في قياسه الفاسد وأن
القياس وإن كان فاسد المقدمات إذا سلمت بلزم منها قول آخر ولم يعلم أن المصنف
لا يسلم بعض المقدمات لا أنه يسلم المقدمات ويمنع اللزوم، وأما ما ذكره من
أن قول المصنف: إن خالفوا مذهبهم من تعلقها بالضدين لزمه الخ شئ يخترعه من
عند نفسه، ثم يجعله محذورا ففيه أن كلام المصنف هذا مع ما ذكره سابقا يرجع إلى
إيراد ترديد على الدليل المذكور، ولا يلزم أن يكون كلا شقي الترديد واقعيا أو
مطابقا لمذهب المستدل به، بل يكفي فيه الغرض، لأن من الترديد حصر
احتمالات الكلام والردع على كل منها، لئلا يرجع الخصم، ويقول: إني أردت معنى
لم تذكره أنت ولا يتوجه عليه شئ مما ذكرت، وكذا الكلام فيما ذكره من
نفي الأشاعرة لذلك المذهب، فانظروا معاشر العقلاء المؤمنين إلى هذا الفضول
المهان بالزبال (1) في إصبهان أنه لما اعتاد إصلاح فساد زرع شعيره يجعل الزبل
من المزابل واستعماله في أصول السنابل حاول إصلاح ما زرعه شيخه في خبيث
أرض تقريره بكل ما خرج من مزبلة فمه وبالوعة ضميره وقد قيل: شعر
وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟ فكيف بالزبال الذي أنتن منه السر والجهر
وبالجملة أي ربط لسرقة الحطب بأهل الحلة، وأي نسبة للحطب بالفرات الخالي
عن الآجام المضلة والمظلمة وإنما يناسب ذلك بحمالة الحطب (2) التي هي من

105
أمهات بعض خلفاء الناصب وبخليفة حمال الحطب من سوق المدينة لإضرامه النار
في باب بيت صاحب السكينة، وقصد إحراق الذين هم لنجاتنا أكرم سفينة (1)
والحمد لله الذي فضح الناصب ورفع عنه الأمان، وأوضح سوء عاقبته على أهل الإيمان
حيث طرده من إيران وأماته في النيران أعني مظهر القهر من بلاد ما وراء النهر (2)
ووفقنا لدفع شره الذي أورثه لأهل النهر (3) أعني نسخ كتابه الذي يشهد على
أمه بالعهر (4) بما لا يخفى (5) وقعه على علماء الدهر.
قال المصنف رفع الله درجته
وفي الثاني من وجهين، الأول العلم بالوقوع تبع الوقوع فلا تؤثر (6) فيه، فإن التابع

106
إنما يتبع متبوعه (1)، ويتأخر عنه بالذات والمؤثر متقدم، الثاني أن الوجوب
اللاحق لا يؤثر في الامكان الذاتي، (2) ويحصل الوجوب باعتبار فرض وقوع الممكن
فإن كل ممكن على الاطلاق، إذا فرض موجودا فإنه حالة وجوده يمتنع عدمه
لامتناع اجتماع النقيضين وإذا كان ممتنع العدم كان واجبا، مع أنه ممكن بالنظر
إلى ذاته والعلم حكاية عن المعلوم، ومطابق له إذ لا بد في العلم من المطابقة،
فالعلم والمعلوم متطابقان والأصل في هيئة التطابق هو المعلوم، فإنه لولاه لم يكن
علما، ولا فرق بين فرض الشئ وفرض ما يطابقه بما هو حكاية عنه وفرض العلم هو
بعينه فرض العلوم، وقد عرفت أن مع فرض المعلوم يجب، فكذا مع فرض العلم
به، وكما أن ذلك الوجوب لا يؤثر في الامكان الذاتي كذا هذا الوجوب (3)، ولا
يلزم من تعلق علم الله به وجوبه بالنسبة إلى ذاته، بل بالنسبة إلى العلم (إنتهى).

107
قال الناصب خفضه الله
أقول: قد ذكرنا أن هذه الحجة التي أوردها الإمام الرازي على سبيل النقض الاجمالي
في مبحث التكليف والبعثة، وهذا صورة تقريره: ما علم الله عدمه من أفعال العبد، فهو
ممتنع الصدور عن العبد وإلا جاز انقلاب العلم جهلا، وما علم الله وجوده من أفعاله
فهو واجب الصدور عن العبد وإلا جاز ذلك الانقلاب ولا مخرج عنهما لفعل
العبد، وأنه يبطل الاختيار، إذ لا قدرة على الواجب والممتنع، فيبطل حينئذ التكليف
وأخواته (1) لابتنائها على القدرة والاختيار بالاستقلال، كما ذكرتم، فما لزمنا في مسألة
خلق الأعمال فقد لزمكم في مسألة علم الله تعالى بالأشياء قال الإمام الرازي، ولو اجتمع
جملة العقلاء لم يقدروا على أن يوردوا على هذا حرفا إلا بالتزام مذهب هشام (2) وهو أنه
تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها، وقال شارح المواقف واعترض عليه، بأن العلم تابع
للمعلوم على معنى أنهما يتطابقان والأصل في هذه المطابقة هو المعلوم ألا ترى أن
صورة الفرس مثلا على الجدار إنما كانت على الهيئة المخصوصة، لأن الفرس في
حد نفسه هكذا، ولا يتصور أن ينعكس الحال بينهما، فالعلم بأن زيدا سيقوم غدا
مثلا إنما يتحقق إذا كان هو في نفسه بحيث يقوم فيه دون العكس، فلا مدخل للعلم
في وجوب الفعل وامتناعه وسلب القدرة والاختيار وإلا لزام أن لا يكون تعالى فاعلا

108
مختارا لكونه عالما بأفعاله وجودا وعدما انتهى كلام شارح (1) المواقف، فظهر
أن الرجل السارق الحلي سرق هذين الوجهين من كلام أهل السنة والجماعة
وجعلهما حجة عليهم، وجواب الأول من الوجهين إنا لا ندعي تأثير العلم في الفعل
كما ذكرنا، حتى يلزم من تأخره عن المعلوم عدم تأثيره، بل ندعي انقلاب العلم
جهلا، والتابعية لا تدفع هذا المحذور لما ستعلم، وجواب الثاني من الوجهين
أنا نسلم أن الفعل الذي تعلق به علم الواجب في الأزل ممكن بالذات واجب بالغير
والمراد حصول الوجوب الذي ينفي الاختيار ويصير به الفعل اضطراريا وهو حاصل
سواء كان الوجوب بالذات أو بالغير، وأما جواب شارح المواقف فنقول: إنا لا نسلم
أن العلم مطلقا تابع للمعلوم بل العلم الانفعالي الذي تحقق بعد وقوع المعلوم وهو
تابع للمعلوم، وإن أراد بالتابعية التطابق فلا نسلم أن الأصل في المطابقة هو
المعلوم في العلم الفعلي بل الأمر بالعكس عند التحقيق، فإن علم المهندس الذي
يحصل به تقدير بناء البيت هو الأصل والعلة لبناء البيت، والبيت يتبعه، فإن خالف
شئ من أجزاء البيت ما قدره المهندس في علمه الفعلي لزم انقلاب العلم جهلا
وأنت تعلم أن علم الله تعالى بالموجودات التي ستكون هو علم فعلي كعلم
المهندس الذي يحصل من ذاته، ثم يطابقه البيت، كذلك علم الله تعالى هو سبب
حصول الموجودات على النظام الواقع ويتبعه وجود الكائنات، فإن وقع شئ من
الكائنات على خلاف ما قدره علمه الفعلي في الأزل لزم انقلاب العلم جهلا وهذا
هو التحقيق (إنتهى).
أقول
لا حجة فيما ينقله الناصب لظهور خيانته في مثل ذلك مرارا ولو صح فلا ينافي

109
إيراد الإمام الرازي لذلك على سبيل النقض إيراد غيره من الأشاعرة إياها على
طريق الاستدلال كيف؟ وقد صرح الشارح الجديد للتجريد في بحث العلم من الأعراض
بأن الأشاعرة استدلوا بذلك، حيث قال إن الأشاعرة لما استدلوا على كون أفعال
العباد اضطرارية بأن الله تعالى عالم في الأزل بصدورها عنهم، فيستحيل انفكاكهم
عنها لامتناع خلاف ما علمه تعالى فكانت لازمة لهم، فلا تكون اختيارية وأجاب (1)
المعتزلة بأن العلم تابع للمعلوم فلا يكون علة له، قال الأشاعرة: كيف يجوز أن
يكون علمه الأزلي تابعا لما هو متأخر عنه فإنه يستلزم الدور؟ فأجابوا: بأنا
لا نعني التابعية هيهنا التأخر حتى يلزم الدور، بل أصالة موازنة في التطابق الخ

110
وإنما جعله الناصب نقضا ليصير أقل قبولا لورود أقسام البحث عليه فافهم (1)،
وبما قررناه من كلام شارح التجريد ظهر بطلان ما ذكره الناصب من أن المصنف
سرق هذين الوجهين من كلام أهل السنة والجماعة الخ، وأما ما ذكره في جواب
الأول من الوجهين فمردود، بأنه لما كان المفروض أنه تعالى إنما يعلم المعلوم
كالفعل مثلا على الوجه الذي سيقع، فمن أين يحصل في المعلوم اختلاف يوجب
انقلاب علمه تعالى جهلا، وأما ما ذكره في جواب الثاني منها فمزيف: بأنه
لو كان الوجوب اللاحق نافيا لاختيار الفاعل لكان الله تعالى أيضا غير مختار فيما وجد
من أفعاله: لأن الشئ ما لم يجب لم يوجد وذلك وجوب لاحق، فيكون الله تعالى
مضطرا غير مختار فيه، وبطلانه مما لا يخفى، وتحقيق الكلام في ذلك أن مدار (2)
معنى القدرة والاختيار على أن هذا الفعل بالنسبة إلى ذات هذا الفاعل بحيث إن شاء
فعله وإن لم يشأ لم يفعله مع قطع النظر عن الأمور العارضة الموجبة والمحيلة
فعله للطرف الآخر كما في الواجب، والامتناع الحاصل من علمه تعالى بالفعل والترك
خارج عن ذات الفاعل لاحق للفعل غير مؤثر فيه، فلا يوجب سلب اختياره بالنظر

111
إلى أصل الفعل ولا عدم استحقاقه لشئ من الثواب والعقاب، ويوضح (1) ذلك أنه
إذا كان رجل حمال مدار تعيشه في كل يوم أن يأخذ أجرة معينة على حمل قدر
معين من الخمر مثلا من مكان إلى مكان، فأمره سلطان قاهر لا يعرفه هو بهذا
الوصف ذات يوم بحمل شئ من ذلك بتلك الأجرة المقررة أو أزيد منها في تلك
المسافة المعهودة بعينها فإن قاهرية السلطان واقتداره في الواقع لا يوجب سلب
اختيار المأمور المذكور في ذلك الفعل، لأن الفرض أنه كان يفعل ذلك بطيب
قلبه دائما ولم يقع إجبار السلطان له فعلا (2) في ذلك الفعل مع ظهور أنه لم يمكنه
التخلف عن أمر ذلك السلطان، فكما أن حصول القهر بالقوة هيهنا لا يوجب سلب
الاختيار، لأنه أمر لاحق، كذلك الايجاب الناشي من علمه تعالى بوقوع أحد
طرفي الفعل من المكلف لا يؤثر فيه ولا يوجب سلب اختياره، وكونه معذورا في
ذلك الفعل المحرم (3) فتدبر، وأما ما أورده على الجواب المذكور في (شرح
المواقف) أيضا فكلام منتحل مأخوذ عن بعض المتأخرين، وقد أطال الناصب فيه
بما لا طائل تحته لئلا يظهر انتحاله إياه لكل أحد، بل أفسده حيث قرره بطريق
المنع، وخرج به عن قانون المناظرة كما لا يخفى على من تأمل في المراتب التي
نقلناها من كلام شارح التجريد، ومع هذا يمكن أن يدفع بأن للإمامية والمعتزلة
أن يقولوا: سلمنا أن علمه تعالى بما يصدر عنه فعلي كعلم البناء بخصوصيات البناء
قبل أن يصنعه لا انفعالي إلا أنا لا نسلم أن علمه بأفعال العباد كذلك، وإنما يسلم
ذلك أن لو ثبت أنه فاعل لأفعالهم ولم يثبت عندنا ذلك بعد، وإذا لم يكن علمه تعالى

112
بأفعالهم فعليا فلا مدخل له في الوجوب هذه الأفعال أو امتناعها كما توهمه صاحب
الشبهة، وهيهنا دفع آخر تركناه على ذوي الأفهام لضيق المقام.
قال المصنف رفع الله درجته
وأما المعارضة في الوجهين فإنهما آتيان في حق واجب الوجود تعالى فإنا نقول في
الأول: لو كان الله تعالى قادرا مختارا فإما أن يتمكن من الترك أو لا، فإن لم
يتمكن من الترك كان موجبا مجبرا على الفعل لا قادرا مختارا، وإن تمكن فإما أن
ترجح أحد الطرفين على الآخر أو لا، فإن لم يترجح لزم وجود الممكن المتساوي
من غير مرجح، فإن كان محالا في حق العبد كان محالا في حق الله لعدم الفرق،
وإن ترجح فإن انتهى إلى الوجوب لزم الجبر وإلا تسلسل أو وقع التساوي من غير
مرجح، فكل ما تقولونه هيهنا نقوله نحن في حق العبد انتهى.
قال الناصب خفضه الله
أقول: ذكر صاحب المواقف هذا الدليل في كتابه، وأورد عليه أن هذا ينفي كون
الله تعالى قادرا مختارا لامكان إقامة الدليل بعينه (الدلالة بعينها خ ل)، فيقال:
لو كان تعالى موجدا لفعله بالقدرة استقلالا فلا بد أن يتمكن من فعله وتركه، وإن
يتوقف فعله على مرجح إلى آخر ما مر تقريره وأجيب عن ذلك بالفرق بأن إرادة
العبد محدثة أي الفعل يتوقف على مرجح هو الإرادة الجازمة لكن إرادة العبد محدثة
لكن ينتهي إلى إرادة يخلقها الله فيه بلا إرادة واختيار منه دفعا للتسلسل في الإرادات
التي نفرض صدورها عنه، وإرادة الله قديمة فلا تفتقر إلى إرادة أخرى، فظهر الفرق
واندفع النقض.

113
أقول
هذا الجواب من جملة تشكيكات إمام الناصب فخر الدين الرازي وقد رده سلطان (1)
المحققين قدس سره في التجريد بما قرره الشارح (2) الجديد بأن هذا الفرق
لا يدفع التسلسل المذكور إذ يقال: إن لم يكن الترك (3) مع الإرادة القديمة كان
موجبا لا قادرا مختارا، وإن أمكن فإن لم يتوقف فعله على مرجح استغنى الجائز
عن المرجح، وإن توقف عليه كان الفعل معه واجبا فيكون اضطراريا، والفرق
الذي ذكرتموه في المدلول مع الاشتراك في الدليل دليل على بطلان الدليل، وإنما
يندفع النقض إذا بين عدم جريان الدليل في سورة التخلف وقد أشار صاحب
المواقف أيضا إلى الجواب المذكور في شرحه لمختصر ابن الحاجب حيث قال في مبحث
الحسن والقبح منه إن تعلق إرادته تعالى قديم (4) لا يحتاج إلى مرجح متجدد،

114
ورد عليه سيد المحققين قدس سره في حاشيته بأنه إن أراد بالتعلق التعلق
الذي يترتب عليه الوجود لم يكن قديما والالزام قدم المراد، وإن أراد التعلق المعنوي
فمعه يحتاج إلى مرجح متجدد وهو التعلق الحادث الذي به الحدوث، ولو قيل:
بأن أرادته تعلقت في الأزل بوجود زيد في زمان مخصوص فعنده يوجده ولا حاجة له
إلى تعلق آخر لم يتم أيضا لاحتياج وجوده في ذلك الزمان إلى تعلق حادث للقدرة
يترتب عليه حدوثه كما صرح به فيما تقدم (إنتهى)، وأيضا يتوجه عليه ما قيل:
من أنه لو اقتضى ذات الفاعل مع هذا التعلق أن يحدث الحادث في زمان معين
وذلك كان كافيا فيه يلزم وجود الحادث في هذا الزمان في الأزل وأيضا على
هذا التقدير كان محتاجا إلى حضور ذلك الزمان ولم يكن كافيا في الاقتضاء فتأمل
هذا، وأما ما ذكره (2) في حاشية هذا المقام من أن الكلام الذي ذكره المصنف
نقض سماه معارضة لجهله بآداب البحث (3)، ففيه أن قضية الجهل منعكسة،
فإن التعبير عن النقض بالمعارضة اصطلاح آخر من أرباب المناظرة (4)

115
وقد استعلمه (1) المحقق الطوسي قدس سره أستاذ المصنف رحمه الله في شرح
للاشارات، فظهر أنه جاهل بالاصطلاح غير مطالع لشرح الإشارات أو قاصر
عن فهم ما فيه من الإشارات والبشارات.
قال المصنف رفع الله درجته
ونقول في الثاني: إن ما علمه الله تعالى إن وجب ولزم بسبب هذا الوجوب خروج
القادر منا عن قدرته وإدخاله في الموجب في حق الله تعالى ذلك بعينه، وإن
لم يقتض سقط الاستدلال، فقد ظهر من هذا أن هذين الدليلين آتيان في حق الله
تعالى، وهما إن صحا لزم خروج الواجب تعالى عن كونه قادرا ويكون موجبا،
هذا هو الكفر الصريح، إذ الفارق بين الاسلام والفلسفة إنما هو هذه المسألة، والحاصل
أن هؤلاء إن اعترفوا بصحة هذين الدليلين لزمهم الكفر وإن اعترفوا ببطلانهما سقط
احتجاجهم بهما (إنتهى).

116
قال الناصب خفضه الله
أقول: قد عرفت في كلام شارح المواقف أنه ذكر هذا النقض وليس هو من خواصه
حتى يتبختر به ويأخذ بالارعاد والابراق والطامات (1)، والجواب أما عن ما يرد
على الدليل الأول فهو أن فعل الباري محتاج إلى مرجح قديم يتعلق في الأزل
(الأول) بالفعل حادث في وقت معين، وذلك المرجح القديم لا يحتاج إلى مرجح
آخر فيكون تعالى مسقلا في الفعل ولو قال قائل: إذا وجب الفعل مع ذلك المرجح
القديم كان موجبا لا مختارا، قلنا: إن الوجوب المترتب على الاختيار لا ينافيه بل
يحققه، فإن قلت نحن نقول: اختيار العبد أيضا يوجب فعله، وهذا الوجوب لا ينافي
كونه قادرا مختارا، قلت: لا شك أن اختياره حادث وليس صارا عنه باختياره،
وإلا نقلنا الكلام إلى ذلك الاختيار وتسلسل، بل عن غيره فلا يكون مستقلا في فعله
باختياره، وبخلاف إرادة الباري فإنها مستندة إلى ذاته فوجوب الفعل بها لا ينافي
استقلاله في القدرة عليه، وأما عن ما يرد على الدليل الثاني فهو أن علم الله تعالى
في ذاته مقارن لصفة القدرة والإرادة، فإذا علمن الشئ وتعلق به علمه تعلق به الإرادة
والقدرة وخلق الموجودات، وكل واحدة من الصفات الثلاث يتعلق بمتعلقه من
الأشياء وكل ما تقتضيه، فمقتضى العلم التعلق من حيث الانكشاف ومقتضى الإرادة
الترجيح ومقتضى القدرة صحة وقوع الفعل والترك، فلا يلزم الوجوب لأن صفة العلم
لا تصادم صفة القدرة لأنهما قديمتان حاصلتان معا بخلاف القدرة الحادثة، وهذا جائز في الصفات
الحادثة، بخلاف الصفات القديمة، فليس ثمة إيجاب تأمل فإن هذا الجواب دقيق
وبالتأمل فيه حقيق، وأما ما ذكره من لزوم الكفر فمن باب طاماته وترهاته

117
وهذه مسائل علمية يباحث الناس فيها فهو من ضعف رأيه وكثرة تعصبه ينزله على
الكفر والتفسيق نعوذ بالله من جهل ذلك الفسيق (1) (إنتهى).
أقول
من البين أن المصنف قدس سره مقدم على صاحب المواقف، فذكر صاحب
المواقف لذلك الدليل لا يدل على أن لا يكون ذلك النقض من خواص المصنف
قدس سره، فإن ما في المواقف وسائر تصانيف القاضي العضدي (2) من التحقيقات
والتدقيقات ملتقط من كلام من تقدمه ومنتخب عنه، وليس له سوى الالتقاط والجمع،
فقد كان معزولا عن العقل والسمع على أن المصنف لم يشعر بأن ذلك من خواص
إفادته والتبختر في ذلك غير مفهوم من كلام المصنف، والارعاد والابراق لا يتوقف
على كون ذلك من خواصه بل يكفي فيه أن يكون من إفادات أصحابه، وأما ما أتى
به الناصب من الجواب عما يرد على الدليل الأول فقد مر ما يدفعه في الفصل
السابق على هذا، ونزيد عليه هيهنا ونقول: إن ما ذكره في المرتبة الأخيرة المتعلقة

118
بهذا الجوا ب من قوله: قلت لا شك أن اختياره حادث الخ مردود بأن كون اختيار
البعد حادثا مسلم، لكن عدم كونه صادرا عنه باختياره غير مسلم، وبأن الاختيار
في الفعل عبارة عن تعلق إرادة العبد مثلا بالفعل، وهذا التعلق إرادي مسبوق بتعلق
آخر متعلق إلى هذا التعلق وهكذا، وهذه التعلقات أمور انتزاعية اعتبارية لا
استحالة للتسلسل فيها كما مر، وأما ما أتى به من الجواب عما يرد على الدليل
الثاني فيتوجه عليه وجوه من الخلل، منها منع قوله مقتضى العلم القديم يسلب
القدرة عن ذي القدرة الحادثة، فإن ذلك إنما يسلم لو كان العلم القديم علة للمعلوم
المقدور، وكان مخالفا لما علمه الله تعالى في الأزل، وكلتا المقدمتين ممنوعتان
مقدوحتان كما مرت الإشارة إليه، فظهر أن ما زعمه الناصب الفريق من باب التدقيق
حقيق باسم الزريق (1) ودليل على كونه من الجهل في بحر عميق، وأما ما ذكره
من أن لزوم الكفر من باب طاماته الخ فلعله أراد به أن اللزوم غير الالتزام فإذا ألزم الكفر
من الدليل بحيث لا يشعر به المستدل لا يلزمه الكفر ولا يحكم به عليه، وأنت خبير
بأن مراد المصنف أن هؤلاء من أصحاب الناصب إن اعترفوا بصحة الدليلين بعد
ما أوضحنا لهم ما يلزم منها يلزمهم الكفر، إذ اللزوم حينئذ يقترن بالالتزام ولم يرد أنه
يلزمهم ذلك مع عدم شعورهم به حتى تكون من باب الطامات كما زعمه، فغاية الأمر
أن يخلص من الكفر من لم يصل إليه كلام المصنف قدس سره وإيضاحه للزوم
ذلك، وأما الناصب التورط في العناد والعصبية فيلزمه التزام كفر أهل الجاهلية
بعد اطلاعه على تلك الملازمة الجلية أعاذنا الله من تلك البلية.
قال المصنف رفع الله درجته
فلينظر العاقل من نفسه هل يجوز له أن يقلد من يستدل بدليل يعتقد صحته ويحتج به

119
غدا يوم القيامة وهو يوجب الكفر والالحاد، وآي عذر لهم عن ذلك وعن الخروج عن
الكفر والالحاد؟ فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفهمون حديثا، (1) هذه حجتهم تنطق
بصريح الكفر على ما ترى، وتلك الأقاويل التي قد عرفت أنه يلزم منها نسبة الله
تعالى إلى كل خسيسة ورذيلة تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فليحذر المقلد وينظر
كيف هؤلاء القوم الذين يقلدونهم، فإن استحسنوا لأنفسهم بعد البيان والايضاح اتباعهم
كفاهم بذلك ضلالا، وإن راجعوا عقولهم وتركوا اتباع الأهواء عرفوا الحق بمعنى
الإنصاف وفقهم الله لإصابة الصواب (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: قد عثرت على ما فصلناه في دفع اعتراضاته المسروقة المنحولة إلى نفسه من
كتب الأشاعرة ومن فضلات المعتزلة، ومثله مع المعتزلة في لحس فضلاتهم (2)

120
كمثل الزبال يمر على نجاسة رجل آكل بالليل بعض الأطعمة الرقيقة كماء
الحمص فجرى في الطريق فجاء الزبال وأخذ الحمص من نجاسته وجعله يلحسه
ويتلذذ به، فهذا ابن المطهر النجس كالزبال يمر على فضلات المعتزلة ويأخذ
منها الاعتراضات ويكفر به سادات العلماء ينسبهم إلى أقبح أنواع الكفر يحسب أنه
يحسن صنعا، نعوذ بالله من الضلال والله الهادي.
أقول
قد اطلعت على ما ذكرناه في دفع مدافعته المدخولة المموهة التي زينها
له الشيطان (1) وأنها هذيان ما أنزل (2) الله به من سلطان، وأنه في أكثرها قد
عدل لعجزه عن إتمام الكلام على وفق أصول أصحابه الأشاعرة إلى اختيار وضع
الدعاوي الأخرى الفاجرة القاصرة عن مرتبة تلك الأصول الخاسرة وتقويته للمقصود
على وجه جعل الصبيان عليه ساخرة، وما أشبهه في اختياره تلك الدعاوي المزيفة
على تلك الأصول المموهة إلا بكلب خلى عن عظم في فيه حرصا على ما رآه خياله في
الماء فضيع الموجود ولم ينل المقصود وأما تمثيله بالزبال فكما ذكرناه سابقا
أنسب بحال أهل أصفهان وحملهم دائما للزبل إلى الأرض الخبيث المهان، وأما

121
الفضلات فهي مشتقة من فضل بن روز بهان وعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان. (1).
قال المصنف رفع الله درجته
المطلب الثاني عشر في إبطال الكسب، علم أن أبا الحسين الأشعري وأتباعه لما
لزمهم هذه الأمور الشنيعة والالتزامات الفضيحة والأقوال الهائلة من إنكار ما علم
بالضرورة ثبوته وهو الفرق بين الحركات الاختيارية والحركات الجمادية وما شابه
ذلك التجأ إلى ارتكاب قول توهم هو وأتباعه الخلاص من هذه الشناعات، ولات حين
مناص (2) فقال: مذهبا غريبا عجيبا لزمه بسببه إنكار المعلوم الضرورية كما هو
دأبه وعادته فيما تقدم من إنكار الضروريات، فذهب إلى إثبات الكسب للعبد فقال
الله تعالى موجد للفعل والعبد مكتسب له، فإذا طولب بتحقيق الكسب وما هو؟
وأي وجه يقتضيه؟ وأي حاجة تدعو إليه؟ اضطرب هو وأصحابه في الجواب عنه فقال

122
بعضهم: معنى الكسب خلق الله تعالى الفعل عقيب اختيار العبد الفعل وعدم الفعل
عقيب اختياره العدم فمعنى الكسب إجراء العادة بخلق الفعل عند اختيار العبد،
وقال بعضهم معنى الكسب أن الله يخلق الفعل من غير أن يكون للعبد فيه أثر
البتة لكن العبد يؤثر في وصف كون الفعل طاعة أو معصية، فأصل الفعل من الله
تعالى، ووصف كونه طاعة أو معصية من العبد، وقال بعضهم: إن هذا الكسب غير
معقولا ولا معلوم مع أنه صادر عن العبد (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: قد مر أن مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري أن أفعال العباد الاختيارية
مخلوقة لله تعالى مكسوبة للعبد، والمراد بكسبه إياه مقارنته وإرادته من غير
أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلا له، هذا مذهب
الشيخ، ولو رجع المنصف إلى نفسه علم أنه على متن الصراط المستقيم في التوحيد
وتنزيه الله تعالى عن الشركاء في الخلق مع إثبات الكسب للعبد حتى تكون قواعد
الاسلام ورعاية أحكام التكليف والبعثة والثواب والعقاب محفوظة مرعية من غير
تكلف إيجاد الشركاء في الخلق، ونحن إن شاء الله تعالى نفسر كلام الشيخ ونكشف
عن حقيقة مذهبه على وجه يرتضيه المنصف وينقاد لصحته المتعسف فنقول: يفهم
من كلام الشيخ أنه فسر كسب العبد للفعل بمقارنة الفعل لقدرته وإرادته
تارة وفسره بكون العبد محلا للفعل تارة وتحقيقه أن الله تعالى خلق في العبد
إرادة يرجح بها الأشياء وقدرة يصح بها الفعل والترك، ومن أنكر هذا فقد أنكر
أجلى الضروريات عند حدوث الفعل، وهاتان الصفتان موجودتان في العبد حادثتان
عند حدوث الفعل، فإذا تهيأ العبد بقبول هاتين الصفتين لإيجاد الفعل وذلك الفعل
ممكن والممكن إذا تعلقت به القدرة والإرادة وحصل الترجيح فهو يوجد لا محالة

123
بقدم الإرادة القديمة الدائمة الإلهية والقدرة القديمة، فأوجد الله بهما الفعل لكونهما
أثم من الإرادة والقدرة الحادثة، والصفة القوية تغلب الصفة الضعيفة كالنور
القوي يقهر النور الضعيف ويغلبه، فلما أوجد الله تعالى الفعل وكان قبل الايجاد
تهيأت صفة اختار العبد إلى إيجاد ذلك الفعل، ولكن سبقت القدرة الإلهية فأحدثته
فبقي للفعل نسبتان نسبة إلى العبد وهي أن الفعل كان مقارنا لتهيئة الإرادة والاختيار
نح وتحصيل الفعل وحصول الفعل عقيب تهيؤه، فعبر الشيخ عن هذه النسبة بالكسب
لأن الغالب في القرآن ذكر الكسب عند إرادة ترتب الجزاء والثواب والعقاب على
فعل العبد، ونسبة إلى الله تعالى مكسوبا للعبد، ثم إن فعل العبد صفة للعبد
فيكون العبد محلا له لأن كل موصوف هو محل لصفته كالأسود، فإنه محل
السواد فيجوز أن يقال باعتبار كون الفعل صفة له إنه كسبه، ومعنى الكسب كونه
محلا له، والثواب والعقاب يترتب على المحلية كالاحراق الذي يترتب على الحطب
بواسطة كونه محلا له لليبوسة المفرط، وهل يحسن أن يقال: لم ترتب الاحراق
على الحطب لسبب كونه محلا لليبوسة والحال أن الحطب لم يحصل بنفسه هذه
اليبوسة، وأي ذنب للحطب وهل هذا الاحراق إلا الظلم والجور والعدوان، إن حسن ذلك
حسن أن يقال لم جل الله تعالى الكافر محل الكفر ثم أحرقه بالنار؟ والعاقل يعلم أنه لا
يحسن الأول فلا يحسن الثاني، فرغ جهدك (1) لنيل ما حققناه في هذا المقام
في معنى الكسب الأشعري لئلا تبقى لك شبهة فهذا نهاية التوضيح، ولكن المعتزلي

124
عمى بصره فعظم ضرره ألقته الشبهة في مهواة (1) غائلة واغتاله (2) الغول (3) في
مهمة (4) هائلة (5) ونعم ما قلت
شعر
ظهر الحق من الأشعر (6) والنور جلي * طلع الشمس ولكن عمي المعتزلي

125
فانظر إليه هذا الحلي الجاهل (1) كيف افترى (2) في معنى الكسب وخلط
المذاهب والأقوال كالحمار الراتع في جنة (3) عالية قطوفها دانية والله تعالى
يجازيه (إنتهى).
أقول
قد مر بيان أن الأشعري في ذلك على شفا جرف هار، وسيظهر عند انكشاف
الغبار أنه على متن فرس (4) أم حمار، وقد سبق أيضا ما يفيد أن الله تعالى لا يقبل
عن الأشاعرة منة هذا التمويه الذي سموه بالتنزيه، وأنه لا يلزم (5) العدلية

126
الشرك الذي توهمه الناصب السفيه، وأنه لا يتأتي للأشاعرة بذلك رعاية أحكام
التكليف والترغيب والتخويف، وأما ما ذكره من التحقيق فهو بالإعراض حقيق،
لأنا نسلم أن أصل القدرة والإرادة مخلوقتان في العبد، لكن الفعل إنما يتحقق
بالإرادة الجازمة الجامعة للشرائط وارتفاع الموانع كما سبق وهي اختيارية، بيان
ذلك أنه إذا حصل لنا العلم بنفع فعل يتعلق به الإرادة بلا اختيارنا، لكن تعلق
الإرادة به غير كاف في تحققه ما لم تصر جازمة بل لا بد من انتفاء كف النفس عنه حتى
تصير الإرادة جازمة موجبة للفعل، فإنا قد نريد شيئا ومع نأبى ونكف نفسنا
عن لحياء وحمية، ذلك الكف أمر اختياري يستند وجوده على تقدير تحققه إلى
وجود الداعي إليه، فإن عدم علة الوجود علة العدم، وعدم الداعي إلى هذا
الداعي (1) وهكذا، وغاية ما يلزم منه التسلسل في العدمات ولا استحالة فيه،
وبالجملة الإرادة الجازمة اختيارية لاستناد عدم الكف المعتبر فيها بالاختيار وإن

127
لم تكن نفسها إرادية ولا يلزم التسلسل المحال، وأما ما ذكره من أن الممكن إذا
تعلقت به القدرة والإرادة وحصل الترجيح تقدم الإرادة والقديمة الدائمة والإلهية الخ
فمن قبيل الرجم بالغيب والرمي في الظلام ومخالف لبديهة عقلاء الأنام، وأيضا
يدل ذلك على أن إرادة الله تعالى اختياره لفعل من الأفعال فجاز أن يتقدم على
فعل العبد وليس كذلك، لأنك قد عرفت فيما سبق أن إرادته تعالى عبارة عن العلم
بما في الفعل من المصلحة، فلا معنى لقوله بقدم الإرادة القديمة إلى إيجاد الفعل،
وبهذا تندفع شبهة أخرى لهم في هذا المقام، وهو أنه لو أراد الإيمان من الكافر
والطاعة من العاصي وقد صدر الكفر من الكافر والمعصية من العاصي لزم أن لا
يحصل مراد الكافر والعاصي، فيلزم أن يكون الله تعالى مغلوبا والكافر والعاصي
غالبين عليه، بل يلزم أن يكون أكثر ما يقع من عباده خلاف مراده، والظاهر أنه
لا يصبر على ذلك رئيس قرية من عباده انتهى ووجه الدفع أنه إذا كان إرادته تعالى
عبارة عن العلم بما في الفعل من المصلحة فلو علم الله أن في الفعل الفلاني مصلحة
ولم يختر العبد ذلك الفعل بل اختار نقيضه لم يلزم قدح مغلوبيته ولا نقصه، إذ ليس
بين علمه تعالى بالمصلحة في الفعل وبين عدم اختيار العبد إياه تنافي وتعارض حتى
يلزم هناك المغلوبية، نعم لو اختاره تعالى واختار العبد نقيضه وحصل مختار العبد
دون مختاره تعالى للزم المغلوبية، لكن ما نحن فيه ليس من هذا القبيل، وأما ما
ذكره من أن الغالب في القرآن ذكر الكسب عند إرادة ترتب الجزاء والثواب
والعقاب على فعل العبد فمدخول بأنه كيف يحمل الكسب الواقع في القرآن على
المعنى الذي ذكره الأشاعرة مع أنه لم يجئ في اللغة التي نزل بها القرآن بشئ
من المعاني التي ذكروها له، وإنما ذلك اختراع منهم من عند أنفسهم فرارا عن
الجبر المحض كما مر، ولهذا قيل: إن هرب الأشعري من الجبر المحض إلى الكسب

128
كالهرب من المطر إلى الميزاب (1) إذ قوله به مشتمل على جميع مفاسد الجبرية
مع ارتكاب أمر زائد غير معقول، ثم أي دلالة لغلبة ذكر الكسب عند إرادة ترتب
الجزاء على كون المراد من الكسب المعنى الذي ذكره الأشاعرة دون الفعل بمعناه
الحقيقي المساوق للخلق، وهل هذا إلا وهما (2) منهم على وهم؟ والحق أن معنى
الخلق والفعل واحد وهو إيجاد ما لم يكن، غاية الأمر أنه إذا كان ذلك الايجاد
بلا آلة كما في فعل الله تعالى يقال: إنه خلقه، وإذا كان بآلة كما في فعل العبد يقال:
فعله، وكذا الكلام في الكسب، فإنه إنما يطلق على فعل العبد، لأنه يقصد بفعله
إيصال نفع إليه أو دفع مضرة عنه، ولما كان الله تعالى منزها عن النفع والضر لا يطلق
على فعله الكسب فاحفظ هذا (3)، وأما ما ذكره من أن الثواب والعقاب يترتب
على المحلية فهو كترتيب الذم على الجماد باعتبار كونه محلا للون كدر وهو غير معقول
كما لا يخفى، والقياس على الحطب واه لظهور انتفاء القدرة والإرادة فيه،
قوله: وهل يحسن أن يقال لم ترتب الاحراق على الحطب الخ قلنا: نعم لا يحسن
قوله وهل هذا إلا الظلم والجور والعدوان، قلنا: هيهنا أمران، أحدهما خلق قوة

129
الاحتراق في الحطب وثانيهما صرف الحطب نحو الاحراق بضم النار إليه، والأول
ليس بظلم ولا عدوان، لأن نفعه أكثر من ضره وخيره أعظم من شره كما لا يخفى
والثاني ظلم وعدوان لكنه فعل العبد دونه سبحانه، وأما قوله: وإن حسن ذلك
حسن أن يقال: لم جعل الله الكفر وإنما جعله محلا للفطرة الصحيحة كما ورد
في الحديث المشهور (1) وهو باختياره السوء جعل نفسه محلا للكفر فلهذا لا يحسن أن
يقال لم جعل الله الكافر محلا للكفر لا للقياس الفاسد الذي ذكره الناصب، وخلاصة
الكلام في هذا المقام أن الكسب بأي معنى يرام لا يوجب خلاصهم عن الشناعة
والملام لما مر، سيجئ إليه الإشارة في كلام المصنف قدس سره من أن العبد
إن استقل بإدخال شئ في الوجود بطل ما قالوا: إن قدرة العبد لا تؤثر وإن لم
تستقل فلا يكون كاسبا، ويكون الكل بقدرة الله تعالى وهو مخالف للضرورة

130
والبرهان قال البزدوي الحنفي (1) في أصوله وشارحه (2) الهندي: إن أفعال

131
العباد وإن كانت بقضاء الله وقدره ومشيته وإرادته وخلقه وإيجاده لكنه قضى وقدر
وشاء حصولها وجودها بآلات العباد بعد خلق الاختيار منهم وجعلهم في صورة الفاعلين
الكاسبين، وهذا جبر بصورة الاختيار منهم وانفعال بصورة الفعل
شعر:
فجبر بمعنى واختيار بصورة * فلا تترك المعنى ولا تهدر الصور
فمن أهدر الصورة فهو جبري * فمن ترك المعنى فهو قدري
والحق والجمع بينهما (إنتهى)، والإنصاف أن الاختيار الصوري والكسب المحلي
على تقدير تحصيل معناه يصلح لجعله سببا للثواب، لأنه تفضل في المآل كما أشرنا
إليه سابقا، أما جعله سببا للعقاب، فمشكل جدا، لأنه إذا لم يكن فاعلا وكان
كسبه وفعله صوريا كان جعله للعقاب، وبناء العقاب عليه باعتبار حقيقة الفعل

132
جورا وظلما تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، مع أنه لا يظهر وجه في خلق الاختيار
في العبد وجعله كاسبا صورة ومأخوذا بحسبه فتأمل، وأما وصية الناصب للناظرين
بتفريغ جهدهم لنيل ما ذكره في تحقيق الكسب فهي كالكسب لا حقيقة ولا معنى له
لأنه قد بذل جهده في إيراد السخف لترويج هذا المطلب المستخف بما يعجز عنه
كسب غيره ولا يبلغ إليه أحد في سيره، وأما ما ذكره من البيت فمقابل بيتين ارتجلت
في نظمهما وهما
شعر
الأشعري عن الشعور بمعزل * عوج (1) مشاعره كضان أعزل (2)
ما كسبه عند المشاعر غير ما * دون الشعور (3) تدار فلكة (4) مغزل
فانظروا معاشر الإخوان إلى هذا الناصب الشقي كيف يبذل جهده وقواه في ترويج
فاسد الأشعري الذي وافق هواه، مع ما علم أنه ذلك الشيخ المبهوت الذي ورث
الحماقة عن جده (5) أبي موسى، وكان عن العقل والشعور بؤوسا فلم يكن له عن

133
الحماقة خلاص إلى أن لعب به عمرو بن العاص وأورده طعن العام والخاص،
حتى حكي أن رجلا رأى في الطريق (السكة خ ل) واحدا من أولاد أبي موسى
المذكور يمشي في الأرض مرحا متبخترا، فقال الرجل لصاحب كان معه: انظروا
إلى هذا الأحمق أنه يتبختر في المشي على وجه كأنه يظن أن أباه لعب بعمرو بن
العاص، وأنا أظن أن ذلك الماشي كان أبا الحسن شيخ هذه البهائم والمواشي
والله كاشف الغواشي.
قال المصنف رفع الله درجته
وهذه الأجوبة فاسدة، أما الأول فإن الاختيار والإرادة من جملة الأفعال،
فإذا جاز صدورها عن العبد فليجز صدور أصل الفعل منه، وأي فرق بينهما، وأي
حاجة وضرورة إلى التحمل بهذا، وهو أن ينسب القبائح بأسرها إلى الله تعالى وأن
ينسب الله تعالى إلى الظلم والجور والعدوان وغير ذلك وليس بعلوم، وأيضا دليلهم
فإن كان صحيحا امتنع إسناده إلى العبد وكان صادرا عن الله
تعالى، وإن لم يكن صحيحا امتنع الاحتجاج به، وأيضا إذا كان الاختيار الصادر
عن العبد موجبا لوقوع الفعل كان الفعل مستندا إلى فاعل الاختيار إما العبد أو الله،
فلا وجه للمخلص (التخلص خ ل) بهذه الواسطة، وإن لم يكن موجبا لم يبق فرق
بين الاختيار والأكل مثلا في نسبتهما إلى إيقاع الفعل وعدمه، فيكون الفعل من
الله تعالى لا غير من غير شركة للعبد فيه، وأيضا العادة غير واجبة الاستمرار فجاز
أن يوجد الاختيار ولا يخلق الله تعالى الفعل وعقبيه ويخلق الله الفعل ابتداء من غير تقدم
اختيار فحينئذ ينتفي الخلص (التخلص خ ل) بهذا العذر.
قال الناصب خفضه الله
أقول: قد علمت معنى الكسب كما ذكره الشيخ، وأما هذه الأقوال التي نقلها

134
عن الأصحاب فما رأيناها في كتبهم، ولكن ما أورد على تلك الأقوال فمجاب.
وأما ما أورد على القول الأول وهو أن الاختيار والإرادة من جملة الأفعال فباطل
لأنهما من جملة الصفات، وهو يدعي أنهما من جملة الأفعال، وأصحابه قائلون
بأن الإرادة مما يخلقها الله تعالى في العبد والعبد بهما يرجح الفعل، فالحمد لله
الذي أنطقه بالحق على رغم منه، فإنه صار قائلا بأن بعض أفعال العبد مما يخلقه
الله تعالى: ولكن ربما يدفعه بأنه من الأفعال الاضطرارية، وعن المكابرة أن
يقال الاختيار فعل اضطراري، وأما قوله دليلهم آت في نفس هذا الاختيار، وبيانه
أن الاختيار فعل من الأفعال فيكون مخلوقا لله، لأنه ممكن وكل ممكن فهو مقدور
لله تعالى، فالاختيار مقدور لله فيكون مخلوقا لله، فكيف قال: إن الفعل يخلقه الله
تعالى عقيب الاختيار، فجوابه أن الاختيار من الصفات التي يخلقها الله تعالى أولا
في العبد كسائر صفاته النفسانية وكيفياتها المعقولة والمحسوسة، يترتب عليه
الفعل، فلا يأتي ما ذكره من المحذور، لأنا نختار أن الدليل صحيح وليس هو
مسندا إلى العبد، وهو صادر عن الله تعالى، وأما قوله: وإذا كان الاختيار صادرا
عن العبد موجبا لوقوع الفعل كان الفعل مستندا إلى فاعل الاختيار إلى آخر الدليل،
فجوابه أنا نختار أن الاختيار صادر عن الله تعالى لا عن العبد، وأيضا نختار أن
الاختيار ليس موجبا للفعل، قوله: لم يبق فرق بين الاختيار والأكل مثلا في نسبتهما
إلى إيقاع الفعل وعدمه، قلنا: ممنوع لما مر من أن الاختيار صفة توجب العبد
التوجه نحو تحصيل الأفعال ويخلق الفعل عقيب توجه العبد للاختيار والفعل مقارن
لذلك الاختيار، وليس الأكل كذلك فالفرق واضح، وأما قوله العادة غير واجبة
الاستمرار فجاز أن يوجد الاختيار ولا يخلق الله الفعل عقيبه فنقول: هذا هو المدعى،
والمراد بالجواز هو الامكان الذاتي وإن خالفته العادة، ونحن لا نريد مخلصا بإثبات
وجوب خلق الفعل عقيب الاختيار (إنتهى).

135
أقول
قد علم أيضا أن معنى الكسب كما ذكره شيخ الناصب لا محصل له، وأما الأقوال
الباقية فهي مذكورة في كتاب الطوالع للبيضاوي (1) وشرح المقاصد للتفتازاني (2)
وغيرهما من كتب أهل السنة فليطالع ثمة، وسيعترف الناصب بأن القول الثاني من
هذه الأقوال مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني (3) من الأشاعرة، فعلم أن
إنكاره لذلك عناد، وأما ما ذكره من أن الإرادة من جملة الصفات دون
الأفعال فسقوطه ظاهر، لأن ما هو من جملة الصفات هو المريد، وإطلاق الصفة على
الإرادة مسامحة من باب إطلاق المصدر وإرادة المشتق، وكذا الكلام في الكلام
بل العالم والقدرة والحياة أيضا، فإن من طالع صرف الزنجاني (4) ونحوه يعلم أن
الإرادة بمعنى (خواستن) وكذا العم بمعنى (دانستن) من الأفعال والمصادر
فضلا عم يدعي صرف عمره في متداولات العلوم والنوادر، وأما ما زعمه الناصب

136
المرتاب من. ن المصنف نطق بخلاف مذهبه في هذا الباب وارتاح بذلك كأنه
وجد تمرة الغراب فمدفوع رغما لأنفه بما أوضحناه سابقا من أن أصل الإرادة
مخلوق لله تعالى والإرادة الجازمة فعل للعبد، ثم القول بأن الاختيار فعل اضطراري
إنما يكون مكابرة كما ذكره الناصب لو أريد بذلك أن الاختيار العبد مثلا فعل
اضطر العبد نفسه إليه، وأما إذا أريد أنه فعل اضطر الله (1) تعالى أو غيره العبد إليه
بأن قال له على سبيل الجبر والقسر: اختر هذا فلا، وإنما نشأ له هذا التوهم من
مقابلة الاختيار للجبر والاضطرار ولم يعلم أن أحد المتقابلين ربما يتعلق بالمقابل
الآخر كتعلق التصور بالتصديق مع كونهما قسمين متقابلين للعلم، وأما ما ذكره
من المترتبتين الآتيتين في الجواب فمبناهما على فهم أن مراد المصنف من الاختيار
والإرادة اللذين حكم بكونهما فعل العبد أصل الاختيار والإرادة وقد علمت أن المراد
الاختيار الجازم والإرادة الجازمة، وأما قوله فنقول: هذا هو المدعى والمراد
بالجواز الامكان الذاتي الخ فظاهر أنه أراد به أن ما ذكره المصنف من جواز
أن يوجد الاختيار ولا يخلق الله الفعل عقبيه مدعانا، والمراد بالجواز المأخوذ في
هذا المدعى هو الامكان الذاتي الذي تخالفه العادة، وأنت خبير بأنه إذا سلم
إمكان أن يوجد الاختيار ولا يخلق الله الفعل عقبيه، وسلم أن العادة غير واجبة
الاستمرار فما المانع من خروج الامكان إلى الفعل، وكيف يحصل الأمان من
الوقوع بأن لا يخلق الله الفعل عقيب وجود الاختيار.
قال المصنف رفع الله درجته
وأما الثاني فلأن كون الفعل طاعة أو معصية أن يكون نفس الفعل في الخارج
أو أمرا زائدا عليه، فإن كان الأول كان أيضا من الله فلا يصدر عن العبد شئ البتة

137
فيبطل العذر، وإن كان الثاني كان العبد مستقلا بفعل هذا الزائد، وإذا جاز استناد
هذا الفعل فليجز استناد أصل الفعل، وأي ضرورة للتمحل (1) بمثل هذه المعاذير
الفاسدة التي لا تنهض بالاعتذار، وأي فارق بين الفعلين، ولم كان أحدهما صارا
عن الله تعالى والآخر صادرا عن العبد؟ وأيضا دليلهم آت في هذا الوصف فإن كان
حقا عندهم امتنع استناد هذا الوصف إلى العبد وإن كان باطلا امتنع الاحتجاج به،
وأيضا كون الفعل طاعة هو كون الفعل موافقا لأمر الشريعة، وكونه موافقا
لأمر الشريعة إنما هو شئ، يرجع إلى ذات الفعل إن طابق الأمر كان طاعة وإلا
فلا، وحينئذ لا يكون الفعل مستندا إلى العبد لا في ذاته ولا في شئ من صفاته،
فينتفي هذا العذر أيضا كما انتفى عذرهم الأول، وأيضا الطاعة حسنة والمعصية
قبيحة، ولهذا ذم الله تعالى إبليس وفرعون (2) على مخالفتهما أمر الله، وكل فعل
يفعله الله فهو حسن عندهم، إذ لا معنى للحسن عندهم سوى صدوره من الله تعالى،
فلو كان أصل الفعل صادرا من الله تعالى امتنع وصفه بالقبح وكان موصوفا بالحسن،
فالمعصية التي تصدر من العبد إذا كانت صادرة عنه تعالى امتنع وصفها بالقبح فلا
تكون معصية فلا يستحق فاعلها الذم والعقاب، فلا يحسن من الله تعالى ذم إبليس

138
وأبي لهب وغيرهما حيث لم يصدر عنهم قبيح ولا معصية، فلا تتحقق معصيته من
العبد البتة، وأيضا المعصية قد نهى الله تعالى عنها إجماعا والقرآن مملوء من المناهي
والتوعد عليها، وكل ما نهى عنه فهو قبيح، إذ لا معنى للقبيح عندهم إلا ما نهى الله
تعالى عنه مع أنها قد صدرت من إبليس وفرعون وغيرهما من البشر، وكل ما صدر من العبد
فهو مستند إلى الله تعالى والفاعل له هو الله تعالى لا غير عندهم، فيكون حسنا حينئذ
وقد فرضناه قبيحا هف، وأما الثالث فهو باطل بالضرورة إذ إثبات ما لا يعقل غير
معقول وكفاهم من الاعتذار الفاسد واعتذارهم بما لا يعلمونه، وهل يجوز لعاقل منصف
من نفسه المصير إلى هذه الجهالات والدخول في هذه الظلمات والإعراض عن الحق
الواضح والدليل اللائح والمصير إلى القول بما لا يفهمه القائل ولا السامع ولا يدري هل
يدفع عنهم ما التزموا به أو لا؟ فإن هذا الدفع وصف من الصفات والوصف إنما يعلم بعد
العلم بالذات فإذا لم يفهموه كيف يجوز لهم الاعتذار به، فلينظر العاقل في نفسه قبل
دخوله في رمسه (1) ولا يبقى للقول مجال ولا يمكن الاعتذار بمثل هذا المحال (2) (إنتهى)
قال الناصب خفضه الله
أقول: القول الثاني الذي ذكره في معنى الكسب هو مذهب القاضي أبو بكر الباقلاني
من الأشاعرة، ومذهبه أن الأفعال الاختيارية من العبد واقعة بمجموع القدرتين
على أن تتعلق قدرة الله تعالى بأصل الفعل وقدرة العبد بصفته أعني بكونه طاعة أو
معصية إلى غير ذلك من الأوصاف التي لا يوصف بها أفعاله تعالى كما في لطم اليتيم
تأديبا أو إيذاءا، فإن ذات اللطم بقدرة الله تعالى وتأثيره وكونه طاعة على الأول

139
ومعصية على الثاني بقدرة العبد وتأثيره، هذا مذهب القاضي وهو غير مقبول عند عامة
الأصحاب من الأشاعرة لشمول الأدلة المبطلة لمدخلية اختيار العبد في التأثير
في أصل الفعل تأثيره في الصفة بلا فرق، وهذا الإبطال مشهور في كتب الأشاعرة
فليس من خواصه، وأما ما أورده على معنى الكسب حسبما هو مذهب القاضي
فغير وارد عليه ونحن نبطله حرفا بحرف فنقول: أما قوله: كون الفعل طاعة هو كون الفعل
موافقا لأمر الشريعة وكونه موافقا لأمر الشريعة إنما هو شئ يرجع إلى ذات
الفعل إلى آخر الدليل، فجوابه أنا لا نسلم أن كونه موافقا لأمر الشريعة شئ
يرجع إلى ذات الفعل، فإن المراد من رجوعه إلى ذات الفعل إن كان المراد أنه
ليس صفة للفعل بل هو ذات الفعل فبطلانه ظاهر، وإن كان المراد أنه
راجع إلى الذات بمعنى أنه وصف للذات فمسلم، لكن لا نسلم عدم جواز استناده
إلى العبد باعتبار الصفة وهذا أول الكلام، ثم ما ذكر أن الطاعة حسنة والمعصية
قبيحة وكل فعل يفعله الله فهو حسن عندهم، إذ لا معنى للحسن عندهم سوى صدوره
من الله تعالى فلو كان أصل الفعل صادرا من الله تعالى أمتنع وصفه بالقبح وكان موصوفا
بالحسن الخ، فجوابه أن الطاعة حسنة والمعصية قبيحة عند الأشاعرة ولكن مدرك
هذا الحسن والقبح هو الشرع لا العقل، فكل فعل يفعله الله تعالى فهو حسن بالنسبة
إليه وربما يكون قبيحا بالنسبة إلى المحل كالمعاصي قوله: فلو كان أصل الفعل
صادرا من الله تعالى امتنع وصفه بالقبح، قلنا: المعصية صادرة من العبد مخلوقة لله
تعالى وكل ما كان صادرا من الله تعالى كالخلق امتنع وصفه بالقبح، والمعصية صادرة
من العبد ويجوز وصفها بالقبح فلا يلزم شئ مما ذكره بتفاصيله وأما قوله: وأما
الثالث فهو باطل بالضرورة إذ إثبات ما لا يعقل غير معقول، فنقول: هذا القول إن
صدر عن الأشاعرة يكون مراد القائل أن هناك شئ ينسب إليه أوصاف فعل العبد
ولا بد من إثبات شئ لئلا يلزم بطلان التكليف والثواب والعقاب، ولكنه غير معلوم
الحقيقة، وعلى هذا الوجه لا خلل في الكلام (إنتهى).

140
أقول
لا يخفى أن القاضي إنما عدل عن تفسير شيخه الأشعري إلى هذا لما رأى فساد ذلك
فهو شاهد لنا على ما ادعينا من ظهور فساد كلام الأشعري، واعتراف الناصب بفساد
كلام القاضي شهادة بأنه ليس لهم للكسب تفسير له محصل، ولهذا قال بعضهم، إنه
غير معقول ولا معلوم كما نقله المصنف قدس سره، وكفى بذلك شناعة، وأما ما ذكره
من أن هذا الإبطال مشهور مذكور في كتب الأشاعرة الخ فنقول: نعم مذكور
في كتب متأخري الأشاعرة لكنه من تصرفات الإمامية لظهور انقراض المعتزلة
قبل ذلك بستمأة سنة تقريبا، ووضوح أن الأشاعرة لا يهتمون بإبطال مطالب أنفسهم
بل هم قاصرون عن أمثال هذا الدقيق من الإبطال، ولم يدع المصنف أن ذلك
من خواصه حتى يكون وجوده في كتب من تقدمه من الأشاعرة أو الإمامية
مكذبا له، وأما ما ذكره في أول الحرف من جوابه، فانحرافه عن الحق ظاهر
لأن غاية ما يلزم من جواز إسناد صفة الفعل إلى العبد أن يكون وصفا له بحال
متعلقة كحسن الغلام وهو وصف مجازي لا يصلح لبناء ثواب العبد وعقابه مثلا عليه،
وأما ما ذكره بقوله: فجوابه أن الطاعة حسنة الخ فمردود بما عرفت من بطلان
كون الحسن والقبح شرعيين، وبما مر من تقبيح قولهم: بأنه لا قبيح بالنسبة إليه
تعالى وتزييف مؤاخذة المحل بالقبح المخلوق فيه من الله تعالى، وأما ما ذكره
من أن مراد القائل أن هناك شئ تنسب إليه أوصاف الفعل الخ ففيه أنه إعادة
لكلام القائل بعبارة أخرى، ويتوجه عليه ما يتوجه على ذلك: من أنه رمى في
الظلام فلا يصلح لبناء المذهب عليه والاحتجاج به على الأقوام، وكفى هذا خللا
وفسادا في الكلام.

141
قال المنصف رفع الله درجته
المطلب الثالث عشر في أن القدرة متقدمة (1) ذهبت الإمامية والمعتزلة كافة
إلى أن القدرة التي للعبد متقدمة على الفعل، وقالت الأشاعرة هيهنا: قولا غريبا
عجيبا وهو أن القدرة مع الفعل غير متقدمة عليه لا بزمان ولا بآن (2)، فلزمهم من

142
ذلك محالات، منها تكليف ما لا يطاق، لأن الكافر مكلف بالإيمان إجماعا منا
ومنهم، فإن كان قادرا عليه حال كفره ناقضوا مذهبهم من أن القدرة مع الفعل غير
متقدمة عليه، وإن لم يكن قادرا عليه لزمهم تكليف ما لا يطاق، وقد نص الله تعالى
على امتناعه فقال: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها (1)، والعقل دل عليه وقد تقدم، وإن
قالوا إنه غير مكلف حال كفره لزمهم خرق الاجماع من أن الله تعالى أمره بالإيمان
بل عندهم أنه أمرهم في الأزل ونهاهم، فكيف لا يكون مكلفا (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: مذهب الأشاعرة أن القدرة الحادثة مع الفعل وأنها توجد حال حدوث الفعل
وتتعلق به في هذه الحالة، ولا توجد القدرة الحادثة قبله فضلا عن تعلقها به إذ قبل
الفعل لا يمكن الفعل، بل امتنع وجوده فيه وإن لم يمتنع وجوده قبله، بل أمكن فلنفرض
وجوده فيه فالحالة التي فرضناها أنها حالة سابقة على الفعل ليس كذلك، بل هي
حال الفعل هذا خلف محال، لأن كون المتقدم على الفعل مقارنا له يستلزم اجتماع
النقيضين أعني كونه متقدما وغير متقدم، فقد لزم من وجود الفعل قبله محال فلا يكون
ممكنا، إذ الممكن لا يستلزم المستحيل بالذات، وإذا لم يكن الفعل ممكنا قبله

143
فلا تكون القدرة عليه موجودة حينئذ، لا شك أن وجود القدرة بعد الفعل مما
لا يتصور، فتعين أن تكون موجودة معه وهو المطلوب، هذا دليل الأشاعرة على
هذا المدعى، وأما ما ذكره من لزوم المحالات بأن الكافر مكلف بالإيمان بالاجماع
فإن كان قادرا على الإيمان حال الكفر لزم أن تكون القدرة متقدمة على الفعل وهو
خلاف مذهبهم وإن لم يكن قادرا لزم تكليف ما لا يطاق، فجوابه أنا نختار أنه غير
قادر على الإيمان حال الكفر ولا يلزم وقوع تكليف ما لا يطاق، لأن شرط صحة
التكليف عندنا أن يكون الشئ المكلف به متعلقا بالقدرة، أو يكون ضده متعلقا
للقدرة، وهذا الشرط حاصل في الإيمان، فإنه وإن لم يكن مقدورا له قبل حدوثه
لكن تركه بالتلبس بضده الذي هو الكفر مقدور له حال كونه كافرا (إنتهى).
أقول
قد أجاب أصحابنا عن الدليل الذي نقله عن الأشاعرة أولا بالنقض بالقدرة القديمة
فإن قيل: لا يلزم من وجود القدرة القديمة قبل وقوع الفعل وجود تعلقها قبله، فالقدرة
القديمة تعلقها مع الفعل ومقدورية الفعل إنما تجب في زمان تعلق القدرة به، قلنا:
فليجز مثل ذلك في القدرة الحادثة وهو أن تكون نفسها موجودة قبل الفعل وتعلقها
مقارنا للفعل، وثانيا بالحل وهو تحقيق معنى قوله: حصول الفعل قبل وقوعه محال
بأنه قد يراد به معنيان، الأول أن حصول الفعل في زمان قبل زمان الفعل مشروطا بشرط
كونه قبله محال، والثاني أن حصول الفعل في زمان قبل زمان حصول لكن غير
مشروط بشرط كونه قبله محال، لا اشتباه في استحالة المعنى الأول لكنه لا ينافي
المقدورية وإمكان حصول الفعل من القادر، لأن هذا المحال لم يلزم من وجود
الفعل في ذلك الزمان وحده حتى يلزم امتناعه قبله فيه بل منه مع فرض كون

144
ذلك الزمان قبل زمان الفعل مقارنا لعدمه، فيكون هذا المجموع محالا دون
الفعل وحده، بل هو ممكن في ذاته قطعا، فلا يتصف بالامتناع الذاتي، بل الامتناع
بالغير، وذلك لا ينافي تعلق القدرة به، والمعنى الثاني غير محال، فإنه يمكن أن
يزول عن ذلك الزمان وصف كونه زمان وقوع الفعل ويحصل بدله وصف كونه
زمان وقوع الفعل فلا يلزم اجتماع النقيضين، وهذا كما يقال: قعود زيد محال بشرط
قيامه إذ يمتنع كونه قائما وقاعدا، وليس بمحال في زمان قيامه، إذ يمكن أن ينعدم
القيام ويوجد بدله القعود هذا، وأما ما ذكره في جواب لزوم المحالات: من أن
شرط صحة التكليف عندنا أن يكون الشئ المكلف به متعلقا للقدرة أو يكون ضده متعلقا
للقدرة الخ فمردود بأنه مبني على أن القدرة متعلقة بأحد الطرفين وقد مر
ما فيه فتذكر. قال المصنف رفع الله درجته
ومنها الاستغناء عن القدرة، لأن الحاجة إلى القدرة، إنما هي لإخراج الفعل من
العدم إلى الوجود وهذا إنما يتحقق حال العدم، لأن حال الوجود هو حال الاستغناء
عن القدرة، لأن الفعل حال الوجود يكون واجبا فلا حاجة إلى القدرة، على أن
مذهبهم أن القدرة غير مؤثرة البتة، لأن المؤثر في الموجودات كلها هو الله تعالى،
فبحثهم عن القدرة حينئذ يكون من باب الفضول، لأنه خلاف مذهبهم (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: الحاجة إلى القدرة اتصاف العبد بصفة تخرجه عن الاضطرار حتى يصح كونه
محلا للثواب والعقاب، إذ لو لم تكن هذه القدرة حادثة مع الفعل لا يتحقق له
صورة الاختيار، والله تعالى حكيم يخلق الأشياء لمصالح لا تحصى، ولا يلزم من
عدم كون القدرة مؤثرة في الفعل الاستغناء عنها من جميع الوجوه، ولا يلزم أن

145
يكون البحث عنها فضولا (إنتهى)
أقول
من البين أن الصفد التي يخرج الاتصاف بها العبد من الاضطرار في الفعل يجب
أن تكون مؤثرة في الفعل، إلا لكانت لغوا ضائعا، وأيضا إذا لم تكن القدرة
مؤثرة كيف يعلم حدوثها مع الفعل، وكيف يتحقق بها صورة الاختيار مع أن القول
بالصورة لا معنى له، وأيضا قد مر أن القدرة صفة تؤثر على وفق الإرادة، وقال
شارح العقائد (1): إنها صفة أزلية تؤثر في المقدورات عند تعلقها بها، فإذا لم
تكن قدرة العبد مؤثرة لم تكن قدرة، وأما ما ذكره من أن الله تعالى حكيم يخلق
الأشياء لصالح لا تحصى، ففيه أن المصنف لم يقل:
إن مصلحة خلق القدرة
منحصرة في التأثير حتى يتجه أن يقال: يحتمل أن يكون للحكيم في خلقه صالح
أخرى لا تحصى، بل الكلام في أن المصلحة في خلق القدرة في العبد كما يدل عليه
مفهوما هو التأثير في الفعل، فإذا لم تكن مؤثرة لم تكن حاجة في ذلك إلى خلقها،
ويكون البحث عنها من هذه الجهة فضولا، وهذا لا ينافي اعتداد البحث عنها من جهة
أخرى ولمصلحة أخرى، وهل الذي ذكره الناصب إلا مثل أن يقال: مثله أن الفرس
مخلوقة لمصلحة الكتابة، فإذا قيل له: إن هذه المصلحة لا تظهر في الفرس، فيكون
القول بكون تلك مصلحة خلقه لغوا يجيب بأنه يجوز أن يكون في خلق الفرس
مصالح أخرى لا تحصى وفساده مما لا يخفى، هذا. ويقال لهم: أليس تأثير القدرة
في الفعل آكد من تأثير الآلة؟ فلا بد من بلى، فيقال: إذا كان فاقد الآلة وتأثيرها
عندكم يعذر في الترك وجب مثله في فاقد القدرة وتأثيرها، فيكون الكافر معذورا
في ترك الإيمان، ويقال لهم؟ في قولهم: بعدم تقدم القدرة على الفعل: متى يقدر

146
أحدنا على الانتقال من الشمس إلى الظل إن قلتم يقدر وهو في الشمس تركتم
مذهبكم، وإن قلتم: وهو في الظل فأي حاجة إلى القدرة حينئذ، فإن قالوا يقدر
حالة الانتقال قلنا: ليس بين كونه في الشمس وكونه في الظل حالة تسمى حالة
الانتقال وتكون متقدمة على أحدهما متأخرة عن الآخر، ويقال لهم: ما عندكم في
رجل قتل نفسه أقدر على قتلها وهو حي؟ فهو الذي نقول: أو وهو ميت، فكيف يقدر
الميت على أن يقتل؟ ثم إذا كان قد حصل الموت بالقتل فعلى أي شئ قدر؟.
قال المصنف رفع الله درجته
ومنها إلزام حدوث قدرة الله أو قدم العالم، لأن القدرة مقارنة للفعل وحينئذ يلزم
أحد الأمرين، وكلاهما محال لأن قدرة الله تعالى تستحيل أن تكون حادثة،
والعالم يمتنع أن يكون قديما، ولأن القدم مناف للقدرة، لأن القدرة إنما
تتوجه إلى إيجاد المعدوم، فإذا كان الفعل قديما امتنع استناده إلى القادر، ومن
أعجب الأشياء بحث هؤلاء القوم عن القدرة للعبد، والكلام في أحكامها مع أن القدرة
غير مؤثرة في الفعل البتة، وأنه لا مؤثر غير الله، فأي فرق بين القدرة واللون والمقدار
وغيرها بالنسبة إلى الفعل إذا كانت غير مؤثرة ولا مصححة لتأثيره، قال أبو علي بن
سينا (1) ردا عليهم: لعل القائم لا يقدر على القعود (إنتهى).

147
قال الناصب خفضه الله
أقول: حاصل هذا الاعتراض أن كون القدرة مع الفعل يوجب حدوث قدرة الله تعالى
أو قدم مقدوره تعالى، إذ الفرض كون القدرة والمقدور معا، فيلزم من حدوث مقدوره
تعالى حدوث قدرته أو من قد قدرته قدم مقدوره وكلاهما باطلان بل قدرته أزلية
إجماعا متعلقة في الأزل بمقدوراته، فقد ثبت تعلق القدرة بمقدورها قبل حدوثه،
ولو كان ذلك ممتنعا في القدرة الحادثة لكان ممتنعا في القديمة أيضا، وأجاب شارح
المواقف عن هذا الاعتراض بأن القدرة القديمة الباقية مخالفة في الماهية للقدرة
الحادثة التي لا يجوز بقاؤها عندنا (1)، فلا يلزم من جواز تقدمها على الفعل جواز
تقدم حادث عليه، ثم إن القدرة القديمة متعلقة في الأزل بالفعل تعلقا معنويا
لا يترتب عليه وجود الفعل ولها تعلق آخر حال حدوثه تعلقا حادثا موجبا لوجوده،
فلا يلزم من قدمها مع تعلقها المعنوي قد آثارها، فاندفع (2) الإشكال بحذافيره (3)

148
وأما ما ذكره من التعجب من بحث الأشاعرة عن القدرة مع القول بأنها غير مؤثرة
في الفعل، فبالحري أن يتعجب من تعجبه لأن القدرة صفة حادثة في العبد وهي
من صفات الكمال، فالبحث عنها لكونها من الأعراض والكيفيات النفسانية وعدم
كونها مؤثرة في الفعل من جملة أحوالها المحمولة عليها، فلم لم يباحث عنها،
وأما قوله: أن لا فرق بينها، وبين اللون فقد أبطلنا هذا القول فيما سبق مرارا بأن
اللون لا نسبة له إلى الفعل، والقدرة تخلق مع الفعل ليترتب على خلقها صورة
الاختيار ويخرج بها العبد من الجبر المطلق، ويترتب على فعله الثواب والعقاب
والتكليف والله أعلم، قال الإمام الرازي (1): القدرة تطلق على مجرد القوة التي
هي مبدء الأفعال المختلفة الحيوانية، وهي القوة العضلية التي هي بحيث متى
انضمت إليها إرادة أحد الضدين حصل ذلك الضد، ومتى انضمت إليها إرادة الضد
الآخر حصل ذلك الآخر، ولا شك أن نسبتها إلى الضدين سواء، وهي قبل الفعل
والقدرة أيضا تطلق على القوة المستجمعة لشرائط التأثير، ولا شك أنها لا تتعلق
بالضدين معا وإلا اجتمعا في الوجود، بل هي إلى كل مقدور غيرها بالنسبة إلى مقدور
آخر، وذلك لاختلاف الشرائط، وهذه القدرة مع الفعل، لأن وجود المقدور
لا يتخلف عن المؤثر التام، ولعل الشيخ الأشعري أراد بالقدرة القوة المستجمعة
لشرائط التأثير ولذلك حكم بأنها مع الفعل وأنها لا تتعلق بالضدين والمعتزلة
أرادوا بالقدرة مجرد القوة العضلية فلذلك قالوا بوجودها قبل الفعل وتعلقها
بالأمور المضادة، فهذا وجه الجمع بين المذهبين، وبهذا يخرج (2) جواب أبي علي
ابن سينا حيث قال: لعل القائم لا يقدر على القعود فإنه غير قادر بمعنى أنه لم

149
يحصل له بعد القوة المستجمعة لشرائط التأثير وهو قادر بمعنى أنه صاحب القوة
العضلية (إنتهى).
أقول
وبالله التوفيق: أن جواب شارح المواقف مما ذكر الشارح (1) الجديد للتجريد
أيضا من غير إيراد عليه، وكنت أظنه واردا إلى الآن، وقد سنح (2) لي عند النظر
إلى هذا المقام أنه مردود، لأن كلام المصنف مبني على إلزام آخر للأشاعرة،
بيانه أنهم لما لما ذهبوا إلى أن صفات الله تعالى موجودات زائدة قائمة به وقد صرحوا
بأنها ليست جواهر حذرا عن أن يلزمهم شرك النصارى القائلين بالذوات القديمة
فلا بد أن تكون أعراضا لانحصار الموجود في الجوهر والعرض فالتزام التفرقة بين
القدرة الإلهية وقدرة العبد بكون أحدهما عرضا لا يجوز بقاؤها دون الأخرى تحكم
قصدوا به الفرار عن الالزام، فظهر أن اللازم لهم في الحقيقة أمران، إحداهما ما
ذكرناه من التحكم البارد، والآخر ما ذكره المصنف من الالزام الوارد، فحال
الناصب في استفادته من كلام شارح المواقف مع أداء ذلك إلى تقوية مطلوبه وتضعيف
مهروبه كحال الحمار الذي أشار إليه الشاعر بقوله. شعر:
ذهب (3) الحمار ليستفيد لنفسه * قرنا فآب وما له أذنان
وأما ما زعمه من أن الكلام الرازي يصير وجها للجمع بين المذهبين ففاسد، إذ يتوجه
عليه ما اعترض به صاحب المواقف أيضا، وحاصله أن الإمام إن أراد بالقدرة

150
القدرة القديمة فليست مستجمعة لشرائط التأثير، وإن أراد الحادثة فليس مؤثرة،
وأما ما ذكره من أنه يخرج بهذا جواب أبي علي بن سينا فهو مدخول بما يتصل
بذلك من كلام أبي لتصريحه فيه بأن القدرة ليست إلا القوة التي يكون لها
التأثير بالقوة، ورده على من فسره بالقوة المستجمعة لشرائط التأثير، فكيف يرد
عليه بهذا التفسير؟ وهو الحكيم الاسلامي المقنن (1) للأوضاع والقوانين، وقد بالغ
في ذلك حتى حكم بالعمى على القائل به من بعض الأوائل، والذين وافقوهم من
الأشاعرة حيث قال: في فصل القوة والفعل والقدرة والعجز من الهيئات الشفا:
وقد قال بعض الأوائل وغاريقون (2)، منهم أن القوة تكون مع الفعل ولا تتقدم
وقال بهذا أيضا قوم من الواردين بعده بحين كثير، فالقائل بهذا القول كأنه يقول:
إن القاعد ليس يقوى على القيام، أي لا يمكن في جبلته أن يقوم ما لم يقم، فكيف
يقوم؟ وأن الخشب ليس في جبلته أن ينحت منه باب فكيف ينحت؟ وهذا القائل
لا محالة غير قوي على أن يرى ويبصر في اليوم الواحد مرارا، فيكون بالحقيقة أعمى
انتهى، وأيضا ما اشتهر من أن القدرة صفة تؤثر (مؤثرة خ ل) على وفق الإرادة
وكذا التفسير الذي نقلناه سابقا عن شارح (3) العقائد يدفع وقوع إطلاقها على ما اجتمع

151
الشرائط، ويشعر بأنه اصطلاح جديد وتمحل عنيد كحيل عمرو بن العاص ارتكبوه
للخلاص عن تشنيع الخواص ولات حيز مناص (1).
قال المصنف رفع الله درجته
المطلب الرابع عشر في أن القدرة صالحة للضدين (2)، ذهب جميع العقلاء إلى ذلك
عدا الأشاعرة، فإنهم قالوا القدرة غير صالحة للضدين، وهذا مناف لمفهوم القدرة
فإن القادر هو الذي إذا شاء أن يفعل فعل وإذا شاء أن يترك ترك، فلو فرضنا القدرة
على أحد الضدين لا غير لم يكن الآخر مقدورا، فلم يلزم من مفهوم القادر أنه
إذا شاء أن يترك ترك (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: مذهب الأشاعرة أن القدرة الواحدة لا تتعلق بالضدين بناء على كون القدرة
عندهم مع الفعل لا قبله، بل قالوا: إن القدرة الواحدة لا تتعلق بمقدورين مطلقا
سواء كان متضادين أو متماثلين أو مختلفين لا معا ولا على سبيل البدل بل القدرة
الواحدة لا تتعلق إلا بمقدور واحد، وذلك لأنها مع المقدور ولا شك أن ما نجده
عند صدور أحد المقدورين مغاير لما نجده عند صدور الآخر مذهب المعتزلة ومن
تابعهم من الإمامية أن قدرة العبد تتعلق بجميع مقدوراته المتضادة وغير المتضادة
وأنا أقول: ولعل النزاع لفظي لا على الوجه الذي ذكره الإمام الرازي (3)، فإن
الأشاعرة يجعلون كل فرد من أفراد القدرة الحادثة متعلقا بمقدور واحد وهو الكائن
عند حدوث الفعل فكل فرد له متعلق، والمعتزلة يجعلون القدرة مطلقا متعلقة
بجميع المقدورات، وهذا لا ينافي جعل كل فرد ذا تعلق واحد، والمعتزلي لا يقول

152
إن الفرد من أفراد القدرة الحادثة إذا حدث وحصل منه الفعل فعين ذلك الفرد لا
يتعلق بضده بل يقول: إن القدرة الحادثة مطلقا تتعلق بالضدين، وهذا لا ينفيه
الأشاعرة، فالنزاع لفظي تأمل وأما ما ذكره من أنه يوجب عدم كون القادر
قادرا لأنه إذا لم تصلح القدرة للضدين لا يكون الفاعل قادرا على عدم الفعل وهو
الترك، فيكون مضطرا لا قادرا، فالجواب عن ذلك أنه إن أريد بكونه مضطرا
أن فعله غير مقدور له فهو ممنوع، وإن أريد به أن مقدوره ومتعلق قدرته متعين
وأنه لا مقدور له بهذه القدرة سواه، فهذا عين ما ندعيه ونلتزمه ولا منازعة لنا في
تسميته مضطرا، فإن الاضطرار بمعنى امتناع الانفكاك لا ينافي القدرة، ألا ترى أن
من أحاط به بناء من جميع جوانبه بحيث يعجز عن التقلب من جهة إلى أخرى فإنه
قادر على الكون في مكانه بإجماع منا ومنهم مع أنه لا سبيل له إلى الانفكاك عن
مقدروه (إنتهى).
أقول
قد مر أن القول بأن القدرة مع الفعل مهدوم، فالبناء عليه يكون ملوما مذموما، وأما
ما أظهر التفرد به من جعل النزاع لفظيا فساقط جدا، وهو دليل كونه متفردا فيه وذلك
لأن مبناه على ما خان فيها الناصب أولا حيث قيد القدرة بالواحدة وبدل صلاحيتها
للضدين بتعلقها بهما، فإن المسألة على وجه عنون به المصنف هيهنا وغيره في غيره وهو
أن القدرة صالحة للضدين، وقال الناصب عند تقرير المبحث أقول: مذهب الأشاعرة
أن القدرة الواحدة لا تتعلق بالضدين، ويدل على ما ذكرنا من أن الكلام في أصل
القدرة بلا قيد الواحدة وفي صلاحيتها دون تعلقها كلام شارح العقائد في مسألة
الاستطاعة حيث قال: إن القدرة صالحة للضدين عند أبي حنفية (1) حتى أن القدرة المصروفة

153
إلى الكفر هي بعينها القدرة التي تصرف إلى الإيمان لا اختلاف إلا في المتعلق وهو
لا يوجب الاختلاف في نفس القدرة الخ، وهذا موافقة من أبي حنيفة مع المعتزلة في
موضعين، أحدهما المسألة التي نحن فيها وهو ظاهر، والثاني مسألة بقاء الأعراض
فإن في قوله هي بعينها القدرة التي تصرف إلى الإيمان تسليم لاستقامة بقاء الأعراض
كما ذهب إليه المعتزلة وهو معتزلي عند التحقيق (1)، ولهذا قلده المتأخرون من

155
المعتزلة في الفروع ومنهم الزمخشري (1) الحنفي المعتزلي وبعد الاطلاع على

156
هذه الخيانة التي ارتكبها الناصب أولا في مقام الاجماع يظهر للناظر فساد ما
فرعها عليه في مقام التفصيل، ولعله أخذ ذلك من كلام نقله شارح العقائد
بعد الكلام الذي نقلناه عنه قبيل ذلك، ثم رد عليه، والناصب غير ذلك الكلام
نحو تغيير على وفق هواه، وترك رده لمخالفته لما أهواه، قال الشارح: فإن أجيب بأن المراد أن
القدرة إن صلحت للضدين لكنها من حيث التعلق بإحداهما لا تكون إلا معه حتى إن
ما يلزم مقارنتها للفعل هي القدرة المتعلقة بالفعل وما يلزم مقارنتها للترك هي القدرة المتعلقة
بالترك، وأما نفس القدرة فقد تكون متقدمة متعلقة بالضد، قلنا: هذا لا يتصور
فيه نزاع، بل هو لغو من (1) الكلام انتهى، وأما ما ذكره من الجواب عن إلزام
المصنف فمردود من وجهين، أحدهما أن المصنف قد استدل على ما ذكره بمنافاته
لمفهوم القدرة والناصب لم يتعرض له وحرر كلام المصنف على وجه آخر واعترض
عليه بالترديد الذي ذكره، وحيث كان الاعتراض على كلام نفسه فحصر الاعتراض
فيما ذكره من التنوير مظلم، وذلك لأن من أحاط به البناء من جميع جوانبه إن كانت
تلك الإحاطة المستلزمة لعدم الانفكاك بفعل نفسه فيصدق عليه أنه كان قادرا قبل
ذلك على الانفكاك من ذاك المضيق، فتكون قدرته صالحة للضدين وإن كان بإجبار غيره و
إدخاله إياه في ذلك المضيق فحيث كل مسلوب القدرة عند الايقاع في ذلك المضيق لا يصدق

158
عليه أنه كان قادرا على شئ فلا يصدق عليه أنه قادر على الكون في ذلك المضيق
لأن العرف إنما يحكم على قدرته إذا كان قبل ذلك قادرا على الكون وعدمه
والمفروض خلافه، فقوله إنه قادر على الكون في مكانه كذب كما لا يخفى، على أن
دعوى الاجماع في ذلك مردود بما ذكره الرازي في بعض كتبه حيث قال: عند
عد الاختلافات الواقعة بين المعتزلة والأشاعرة في هذه المسألة، الاختلاف الثاني
أن الممنوع من جميع أضداد الشئ هل يكون ممنوعا من ذلك الشئ وذلك كمن
أحاط به بناء محكم من جميع جوانبه مانع له من الحركة إلى جميع الجهات هل
يكون ممنوعا من السكون في ذلك المكان؟ فالذي ذهب إليه الجبائي (1) المنع
واستدل على ذلك بثلاثة مسالك، الأول ممتنع، وبيان الملازمة أنه إذا
كان قادرا على السكون وقد عدم كل مانع فالتمكن لازم بالضرورة، أما بيان
انتفاء اللازم فهو أن المتمكن من فعل الشئ يستدعي عندنا أن يكون متمكنا من
فعله وتركه، والسكون غير متمكن من تركه بل هو مضطر إليه على ما لا يخفى (إنتهى)

159
قال المصنف رفع الله درجته
المطلب الخامس عشر
في الإرادة ذهبت الإمامية وجميع المعتزلة إلى أن الانسان
مريد لأفعاله، بل كان قادر فإنه مريد لأن الإرادة صفة تقتضي التخصيص وأنها
نفس الداعي، وخالفت الأشاعرة في ذلك فأثبتوا صفة زائدة عليه وهذا من أغرب
الأشياء أعجبها، لأن الفعل إذا كان صادرا عن الله ومستندا إليه وأنه لا مؤثر
إلا الله فأي دليل يدل حينئذ على ثبوت الإرادة وكيف يمكنهم ثبوتها لنا؟ لأن
طريق الاثبات هو أن القادر كما يقدر على الفعل كذلك يقدر على الترك، فالقدرة
صالحة للإيجاد والترك، وإنما يتخصص أحد المقدورين بالوقوع دون الآخر
بأمر غير القدرة الموجودة وغير العلم التابع، فالمذهب الذي أختاره لأنفسهم سد عليهم ما
علم وجوده بالضرورة، وهو القدرة والإرادة فلينظر العاقل المنصف من نفسه
هل يجوز له اتباع من ينكر الضروريات ويجحد الوجدانيات وهل يشك
عاقل في أنه قادر مريد؟ وأنه فرق بين حركاته الاختيارية (الإرادية خ ل)
وحركته الجمادية؟ وهل يسوغ لعاقل أن يجعل مثل هؤلاء وسائط بينه وبين ربه وهل
تتم له المحاجة عند الله تعالى بأني اتبعت هؤلاء ولا يسئل يومئذ كيف قلدت من
تعلم بالضرورة بطلان قوله؟ وهل سمعت تحريم التقليد في الكتاب العزيز (1) مطلق
فكيف لأمثال هؤلاء؟ فما يكون جوابه غدا لربه؟ وما علينا إلا البلاغ (2)، وقد
طولنا في هذا الكتاب ليرجع الضال عن زلله، ويستمر المستقيم على معتقده.

160
قال الناصب خفضه الله
أقول: هذا المطلب لا يتحصل مقصوده من عباراته الركيكة، والظاهر أنه أراد
أن الأشاعرة لا يقدرون على إثبات صفة الإرادة لأن إسناد الفعل إلى الله وأنه لا
مؤثر القدرة والإرادة في العبد معلوم بالضرورة، وكونهما غير مؤثرتين في الفعل
لا يوجب عدم ثبوتهما في العبد كما مر مرارا والله أعلم، وما ذكره من الطامات
قد كرره فرات، ومن كثرة التطويل الذي كله حشو حصل له الخجل وما أحسن
ما قلت في تطويلاته شعر:
وقد طولت والتطويل حشو * وفيما قلته نفع قليل
وقالوا الحشو لا التطويل لكن * كلامك كله حشو طويل
أقول
قد بينا سابقا بطلان ما ذكره الناصب فيما سلف على وجه لا مزيد عليه ولا تتوجه
مناقشة إليه فتذكر. وأما ما نسبه إلى المصنف من الطامات وإيراد الحشو في
العبارات فهو إنما يليق بأصحابه الحشو الملقبين بالحشوية (1)، وحاشا عن أن
يوجد في كلام المصنف العلم العلامة حشو أو تطويل لا يؤدي إلى طائل كما لا يخفى
على فصيح عن التعصب مائل (2)، وإنما نسبه الناصب إلى التطويل لبعده عن فهم
كلام أهل التحصيل وكونه عن المصنف في فزع وعويل مع أن في شعر المبرود

161
ما لا يخفى من الحشو المردود، أما في البيت الأول فلأن قوله التطويل حشو
غير بصحيح لما حقق (1) من مغايرتهما في علم المعاني، فيكون تطويلا بلا حشوا
وأما في البيت الثاني فلأن قوله طويل حشو لا يناسب مقصوده، لأن المردود
هو التطويل لا مطلق الكلام الطويل، وها أنا أقول في مقابلة ما أنشده من شعره
الحشو الذميم مخاطبا إياه بما يستحقه من الطعن والشتم الأليم شعر:
أراك على شفا جرف عظيم * بما أوعيت جوفك من قضيم (1)
لعلك أنت لم ترزق أديبا * لكي يعركك عركا (3) للأديم (4)
وأنت الحشو تعزى الحشو جهلا * إلى عالي كلام من عليم
براعته (5) كوحي من كلام * يراعته (6) عصا ليد الكليم
أما أنت الذي أكثرت لحنا * وقد تنعق (7) نعيقا كالبهيم
وكم ألفت من لفظ ركيك * وكم رتبت من قول عقيم
لأوهن من بيوت العنكبوت * وأهون من قوي العظم الرميم

162
لتبلع دائما من جوع جهل * فضولا قائه (1) طبع اللئيم
تعيد القول من سلف إلى من * مرارا رده رد المليم (2)
كفاية أنه في سالف الدهر * جرى مجرى الكلام المستقيم
كمن يأكل خرى من غاية الحمق * لما قد كان خبزا في القديم
لقد أنشدت وأنشدنا جزاء * فذق ما أنت بالعز الكريم (3)
جزاء عاجل هذا ولكن * ستصلى آجلا نار الجحيم (4)
لقد هاجت لدين الله نفسي * فعذري واضح عند الكريم
وماج الطبع مع حلمي وحسبي * معاذ الله من غضب الحليم
قال المصنف رفع الله درجته
المطلب السادس عشر في المتولد، ذهبت الإمامية إلى أن المتولد (5) من أفعالنا
مستند إلينا، وخالف أهل السنة في ذلك وتشعبوا في ذلك وذهبوا كل مذهب

163
فزعم معمر (1): أنه لا فعل للعبد إلا الإرادة وما يحصل بعدها فهو من طبع المحل
وقال بعض المعتزلة: لا فعل للعبد إلا الفكر، وقال النظام (2) لا فعل للعبد إلا ما
يوجده في محل قدرته وما تجاوزها فهو واقع بطبع المحل، وذهبت الأشاعرة
إلى أن المتولد من فعل الله، وقد خالف الكل ما هو معلوم بالضرورة عند كل عاقل
فإنا نستحسن المدح والذم على المتولد كالمباشر للكتابة والبناء والقتل وغيرها،
وحسن المدح والذم فرع على العلم بالصدور عنا، ومن كابر في حسن مدح
الكاتب والبناء المجيدين في صنعتهما المتبوعين فيهما (المتبرعين بها خ ل) فقد كابر

164
مقتضى عقله (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: إعلم أن المعتزلة لما أسندوا أفعال العباد إليهم ورأوا فيها ترتبا قالوا بالتوليد:
وهو أن يوجد فعل لفاعله فعلا آخرا نحو حركة اليد وحركة المفتاح والمعتمد في
إبطال التوليد عند الأشاعرة استناد جميع الممكنات إلى الله تعالى ابتداءا وأما ما ترتب
المدح والذم للعبد فلأنه محل للفعل ومباشر وكاسب له وكذا ما يترتب
على فعله، وإن أحدثه الله تعالى بقدرته فلا يلزم مخالفة الضرورة كما مرا مرارا (إنتهى).
أقول
ما اعتمد عليه مهدوم بما بيناه مرارا من استناد بعض الممكنات كقبائح الأفعال
إلى العبد دونه تعالى، وبما أوضحناه من إبطال القول بالكسب وأنه لا يؤدي إلى
طائل ولا يرجع إلى حاصل فتذكر واستقم (1) كما أمرت.
قال المصنف رفع الله درجته
المطلب السابع عشر: في التكليف، لا خلاف (2) بين المسلمين في أن الله كلف

165
عباده فعل الطاعات واجتناب المعاصي، وأن التكليف سابق على الفعل، وقالت
الأشاعرة هيهنا مذهبا غريبا عجيبا، وهو أن التكليف بالفعل حالة الفعل لا قبله
وهذا يلزم منه محالات (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: لما ذهبت الأشاعرة إلى أن القدرة مع الفعل والتكليف لا كون إلا حال
القدرة، فيلزم أن يكون التكليف مع الفعل، وهذا شئ لزم من القول الأول
(إنتهى).
أقول
قد عرف إبطالنا للقول الأول، فيلزم إبطال ما لزم منه من القول الثاني والله المستعان.
قال المصنف رفع الله درجته
وهذا يلزم منه محالات، الأول أن يكون التكليف بغير المقدور، لأن الفعل حالة
وقوعه يكون واجبا والواجب غير مقدور (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: لا نسلم أن الواجب غير مقدور مطلقا، بل ما أوجبته القدرة الحادثة فهو

166
مقدور لتلك القدرة التي أوجبها، وكذلك فعل العبد بعد الحصول، فيكون مقدورا،
وإذا صار مقدورا تعلق به التكليف ولا محذور فيه (إنتهى).
أقول
هذا المنع مكابرة بل مخالف لإجماع العقلاء، كيف ولو كان الواجب مقدورا لكان
حركة المرتعش والساقط من المنارة مثلا مقدورا أيضا وهو سفسطة لا تخفى.
قال المصنف رفعه الله
الثاني يلزم أن لا يكون أحد عاصيا البتة، لأن العصيان مخالفة الأمر، فإذا لم يكن
الأمر ثابتا إلا حالة الفعل وحالة العصيان هي حالة عدم الفعل فلا يكون مكلفا
حينئذ وإلا لزم تقدم التكليف على الفعل وهو خلاف مذهبهم، لكن العصيان ثابت
بالاجماع ونص القرآن، قال الله تعالى: أفعصيت أمري (1) ولا أعصى لك أمرا
(2) الآن قد عصيت قبل (3) ويلزم انتفاء الفسق الذي هو الخروج من الطاعة
أيضا، فلينظر العاقل لنفسه هل يجوز لأحد تقليد هؤلاء الذين طعنوا في الضروريات
فإن كل عاقل يعلم بالضرورة من دين النبي (ص) أن الكافر عاص وكذا الفاسق
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم
ويغفر لكم ذنوبكم (4) فأي سداد في هذا القول المخالف لنصوص القرآن (إنتهى)
قال الناصب الله خفضه
أقول: الأمر عندنا قديم أزلي فكيف ينسب إلينا أن الأمر عندنا لم يكن ثابتا

167
إلا حالة الفعل، وأما قوله: حالة العصيان حال عدم الفعل فنقول: ممنوع لأن
الأمر إذا توجه إلى المكلف وتعلق به فهو إما أن يفعل المأمور أو لا يفعل، فإن
فعل المأمور فهو مطيع، وإن فعل غيره فهل عاص، الطاعة والعصيان يكونان مع
الفعل، والتكليف حاصل معه؟ والحاصل أن عصيان الأمر مخالفة وإذا صدر
الفعل عن المكلف فإن وافق الأمر فهو طاعة وإن خالفه فهو عصيان، فالعصيان حاصل
حال الفعل ولا يلزم أصلا من هذا الكلام أن لا يكون العصيان ثابتا،
وأما قوله: والعصيان ثابت وإقامة الأدلة على هذا المدعى فهو من باب طاماته
وإقامته الدلائل الكثيرة على مدعى ضروري في الشرع متفق عليه (إنتهى).
أقول
يظهر من كلام الناصب هيهنا أنه جاهل بمذهبه أيضا، فإن الأمر الذي ذهب أصحابه
إلى قدمه هو الأمر المعنوي الذي لا معنى له كما سيجئ تحقيقه في مسائل أصول الفقه
دون الأمر التنجيزي، والتكليف إنما هو بالأمر التنجيزي لظهور أن المكلف
لا اطلاع له على الأمر المعنوي الأزلي، وأما ما ذكره من منع ما زعمه قول
المصنف وهو أن حالة العصيان حالة عدم الفعل فهو منع وارد، لكن نعلم قطعا إن
الناصب خان في النقل، وإنما قول المصنف إن العصيان حال عدم الأمر، وهذا
هو الذي يرتبط به باقي كلام المصنف ولم يقبل المنع كما لا يخفى، وكيف يقول فاضل
فضلا عن المصنف العلامة: إن العصيان حال عدم الفعل مع أن العصيان ليس إلا
فعل المعصية كما ذكره الناصب، وأما إقامة المصنف الأدلة الكثيرة على
المدعى الضروري، فضروري له لأن الكلام مع من كان من شأنه المكابرة على

168
الضروري، فيلزمه سوق الكلام على قدر فهمه (1)، والتكلم معه على مقدار عقله لما قد قيل
شعر:
صد پرده پست كرده ام آهنك قول خويش * تابو كه ان سخن بمذاق تو در شود
قال المصنف رفع الله درجته
الثالث: لو كان التكليف حالة الفعل خاصة لا قبله لزم إما تحصيل الحاصل أو مخالفة
التقدير، والتالي باطل بقسميه بالضرورة فالمقدم مثله، بيان الشرطية أن التكليف
إما أن يكون بالفعل الثابت حالة التكليف أو بغيره، والأول يستلزم تحصيل
الحاصل، والثاني يستلزم تقدم التكليف على الفعل وهو خلاف الفرض، وأيضا
هو المطلوب وأيضا يستلزم التكرار (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: نختار أن التكليف بالفعل الثابت حالة التكليف، قوله يستلزم تحصيل الحاصل
قلنا: تحصيل الحاصل بهذا التحصيل ليس بمحال وهيهنا كذلك، لأن التكليف وجد
مع القدرة والفعل فهو حاصل بهذا التحصيل، فلا محذور (إنتهى).
أقول
يكفي في إظهار عناد الناصب كلام الفاضل البدخشي الحنفي (2) في شرحه للمنهاج

169
حيث قال: أقول: والحق في هذه المسألة أن التكليف قبل المباشرة وإلا لزم أن
لا يكون الكافر حال كفره مكلفا بالإيمان وتارك الصلاة بالصلاة بعد دخول الوقت،
وأن لا يذم تارك المأمور به أصلا: وقال الشارح العضدي (1) فرارا عن الزحف (2)
جاعلا المناقشة لفظية: لا خلاف في ثبوت التكليف بالفعل قبل حدوثه وينقطع بعد
الفعل، وإنما الخلاف في أنه هل هو باق حال حدوثه لا ينقطع أم لا الخ، وأما
ما ألزمه المصنف من لزوم تحصيل الحاصل فهو مما ذكره الشارح العضدي في
هذا المقام بعبارة أخرى، وهي لزوم إيجاد الموجود، وأجاب عنه الفاضل التفتازاني (3)
والشارح البدخشي للمنهاج بما ذكره الناصب هيهنا ظنا منه أنه وجد تمرة الغراب

170
أو مس عرب الأتراب (1) مع أنه غير متوجه على عبارة الكتاب، وذلك لأن
اللازم من كون التكليف بالفعل الثابت الموجود حال التكليف كما ذكره المصنف
هو تحصيل الحاصل الثابت بتحصيل سابق على هذا التحصيل لا بنفس هذا التحصيل لا بنفس هذا التحصيل
كما لا يخفى، وسيجئ لهذا مزيد إيضاح في المسائل الأصولية إن شاء الله تعالى.
قال المصنف رفع الله درجته
المطلب الثامن عشر: في شرائط التكليف: ذهبت الإمامية إلى أن شرائط التكليف

171
ستة الأول وجود المكلف (1) لامتناع تكليف المعدوم، فإن الضرورة قاضية بقبح
أمر الجماد وهو إلى الانسان أقرب من المعدوم، وقبح أمر الرجل عبيدا يريد أن
يشتريهم وهو في منزله وحده ويقول: يا سالم قم، ويا غانم كل، ويعده كل عاقل
سفيها وهو إلى الانسان الموجود أقرب، وخالفت الأشاعرة في ذلك فجوزوا تكليف
المعدوم ومخاطبته والإخبار عنه فيقول الله تعالى: في الأزل يا أيها الناس اعبدوا
ربكم (2) ولا شخص هناك ويقول إنا أرسلنا نوحا (3) ولا نوح هناك، وهذه
مكابرة في الضرورة (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: قد عرفت جواب هذا في مبحث إثبات الكلام النفساني وأن الخطاب موجود
في الأزل قبل وجود المخاطبين يحسب الكلام النفساني ويحدث التعلق عند وجودهم
ولا قبح في هذا، فإن من زور في نفسه كلاما ليخاطب به العبيد الذين يريد
أن يشتريهم بأن يخاطبهم بعد الاشتراء لا يعد سفيها، ثم ما ذكر أن الأشاعرة

172
جوزوا تكليف المعدوم، فهذا ينافي ما أثبته في الفصل السابق، أنهم يقولون: إن
التكليف مع الفعل، وليس قبله تكليف، فإذا كان وجود التكليف عند الأشاعرة مع
الفعل، فهل يجوز عندهم أن يقولوا بتكليف المعدوم؟.
أقول
قد بينا عند أبطال الكلام النفساني يرجع إلى العلم كما يدل عليه
أيضا قول الناصب هيهنا: فإن من زور في نفسه كلاما ليخاطب به الخ والكلام هيهنا
في صحة الخطاب والأمر والخطاب والنهي، فإثبات الكلام النفسي على الوجه المذكور لا يدفع
قبح الأمر والخطاب في الأزل، ولو أريد بالكلام النفسي الأزلي ما يتحقق في ضمن
الخطاب والأمر فهو كالخطاب والأمر قبيح غير معقول أيضا كما لا يخفى، ثم ما ذكره
من أن ما نسب المصنف إلى الأشاعرة من جواز تكليف المعدوم ينافي ما نسبه إليهم
سابقا من أن التكليف مع الفعل مردود، بأن غاية ما يلزم من ذلك توجه اعتراض
آخر على الأشاعرة بتنافي أقوالهم لا على المصنف، نعم لو لم يثبت النقل في أحد
الموضعين لتوجه على المصنف أنه خان في النقل، وهو بحمد الله تعالى برئ عن
ذلك كما لا يخفى على المتتبع، والله أعلم.
قال المصنف رفع الله درجته
الثاني: كون المكلف عاقلا فلا يصح تكليف الرضيع ولا المجنون المطبق، وخالفت
الأشاعرة في ذلك، وجوزوا تكليف هؤلاء، فلينظر العاقل هل يحكم عقله بأن
يؤاخذ المولود حال ولادته بالصلاة وتركها وترك الصوم والحج والزكاة، وهل
يصح مؤاخذة المجنون المطبق على ذلك انتهى.
قال الناصب خفضه الله
أقول: مذهب الأشاعرة أن القلم مرفوع عن الصبي حتى يبلغ الحلم وعن المجنون

173
حتى يفيق، وما ذكره افتراء محض كما هو عادته في الافتراء والكذب
والاختراع (إنتهى).
أقول
ما ذكره مضمون الحديث (1) لا مذهب الأشاعرة والدليل عليه أنهم جوزوا تكليف
المعدوم كما مر قبيل ذلك، فلا يستبعد منهم القول بجواز تكليف الصبي والمجنون
بل تكليفها أولى بالجواز من تكليف المعدوم كما لا يخفى، وكيف ينكر ذلك مع
ذكر احتجاجهم والرد عليهم في كتب الأصول فإنهم احتجوا بأن الأمر بالمعرفة
إن توجه على العارف لزم تحصيل الحاصل، وإلا ثبت المطلوب، لاستحالة معرفة
الأمر قبل معرفة الأمر وبأن الغرامة تجب على الصبي المجنون ولقوله تعالى:
ولا تقربوا الصلاة، وأنتم سكارى والجواب أن المعرفة واجبة عقلا ولا بالأمر
وإيجاب الغرامة لا يستلزم الوجوب على المجنون والصبي، فإن وجوب ضمان قيمة
التلف وثبوت الزكاة في أموالهم لا يتعلقان بأفعالهم وليس ذلك تكليفا لهم، بل هو
من باب الأسباب والمكلف بإخراجها الولي، وصلاة المميز غير مأمور بها من
جهة الشارع بل من جهة الولي، وخطابه مفهوم للصبي بخلاف خطاب الشارع،
وبأن المراد بالسكران هيهنا من ظهرت منه مبادي الطرب ولم يزل عقله وهو
الثمل (2)، وأيضا قال الشارح البدخشي للمنهاج عند قول المصنف: المسألة الثانية

174
لا يجوز تكليف الغافل من أحال تكليف المحال: وأما القائلون بجواز التكليف بالمحال
فقد اختلفوا فيه، فالجمهور ذهبوا إلى جوازه ومنعه بعضهم الخ، ولا ريب أن
المجوزين للتكليف بالمحال هم الأشاعرة وتكليف الغافل يشمل تكليف الصبيان
والمجانين، فصح ما نسبه المصنف هيهنا إليهم كما لا يخفى.
قال المصنف رفع الله درجته
الثالث فهم المكلف، فلا يصح تكليف من لا يفهم الخطاب قبل فهمه، وخالفت
الأشاعرة في ذلك، فلزمهم التكليف بالمهمل وإلزام للمكلف معرفته ومعرفة المراد
منه مع أنه لم يوضع لشئ البتة ولا يراد منه شئ أصلا، فهل يجوز للعاقل أن
يرضى لنفسه إلى هذه الأقاويل؟ (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: مذهب الأشاعرة أنه لا يصح خطاب المكلفين بما لا يفهمونه مما يتعلق بالأمر
والنهي، وما لا يتعلق به اختلف فيه، فذهب جماعة منهم إلى جواز المخاطبة بما
لا يفهمه المكلف كالمقطعات في أوائل السور، ولكن ليس هذا مذهب العامة
(إنتهى).
أقول
كفى في صدق كلام المصنف كون ذلك مذهبا لجماعة من الأشاعرة كما اعترف
الناصب وأما التشنيع في ذلك فراجع إلى الكل بدليل قول شاعرهم:
جه از قومي يكي بي دانشي كرد * نه كه را منزلت مانده نه مه را
قال المصنف رفع الله درجته
الرابع: إمكان الفعل (1) من المكلف فلا يصح التكليف بالمحال، وخالفت

175
الأشاعرة فيه، فجوزوا تكليف الزمن من الطيران إلى السماء، وتكليف العاجز خلق
مثل الله تعالى وضده وشريكه وولد له، وأن يعاقبه على ذلك، وتكليفه الصعود
إلى السطح العالي بأن يضع رجلا في الأرض ورجلا على السطح، وكفى من ذهب
إلى هذا نقصا في عقله وقلة في دينه وجرما عند الله تعالى، حيث نسبه إلى إيجاد
ذلك، بل مذهبهم أنه تعالى لم يكلف أحد إلا بما لا يطاق، وترى ما يكون جواب
هذا القائل إذا وقف بين يدي الله تعالى وسأله كيف ذهبت إلى هذا القول وكذبت
القرآن العزيز وأن فيه لا يكلف الله نفسا إلا وسعها (1) (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: قد عرفت في الفصل الذي ذكر فيه بيان تكليف ما لا يطاق، أن ما لا يطاق على
ثلاث مراتب، ولا يجوز التكليف بالوسطى دون الثالثة والأولى واقعة بالاتفاق
كتكليف أبي لهب بالإيمان وهذا بحسب التجويز العقلي، والاستقراء يحكم بأن
التكليف بما لا يطاق لم يقع، ولقوله تعالى (2): لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، هذا
مذهب الأشاعرة، والعجب مع هذا الرجل أنه يفتري الكذب ثم يعترض عليه
فكأنه لم يتفق له مطالعة كتاب في الكلام على مذهب الأشاعرة وسمع عقايدهم

176
من مشايخه من الشيعة، وتقرر بينهم أن هذه عقائد الأشاعرة، ثم لم يستحي من
الله ومن الناظر في كتابه وأني بهذه الترهات والمزخرفات (إنتهى).
أقول
قد سبق في الفصل الذي ذكره الناصب أن تفصيل المراتب على الوجه الذي ذكره
لا يسمن ولا يغني عن جوع، وأن ما ظنه افتراء من المصنف عليهم من قبيل أن بعض
الظن إثم، لكن الناصب العاجز المسكين حيث لا يقدر على إخراج نقد من كيسه
يموه للشغب، (1) فتارة يعيد المزيف من كلام أصحابه، وتارة ينكر مذهبه، وأخرى
يطير من غصن إلى غصن، ولا محيص له بشئ من ذلك إن شاء الله تعالى.
قال المصنف رفع الله درجته
الخامس أن يكون الفعل ما يستحق به الثواب، وإلا لزم العبث والظلم على الله
تعالى، وخالفت الأشاعرة فيه فلم يجعلوا الثواب مستحقا على شئ من الأفعال،
بل جوزوا التكليف بما يستحق عليه العقاب وأن يرسل رسولا يكلف الخلق فعل
جميع القبائح وترك جميع الطاعات، فلزمهم من هذا أن يكون المطيع المبالغ في
الطاعة من أسفه الناس وأجهل الجهلاء وحيث يتعب بماله وبدنه في فعله شيئا
ربما يكون هلاكه فيه، وأن يكون المبالغ في المعصية والفسوق أعقل العقلاء،
وضع المدارس والربط والمساجد من أنقص التدبيرات البشرية حيث يخسر الأموال
فيما لا نفع له ولا فائدة عاجلة ولا آجلة (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: شرط الفعل الذي يقع به التكليف أن يكون مما يترتب عليه الثواب في

177
عادة الله تعالى إلا أنه يجب على الله تعالى إنابة المكلف المطيع، لأنه لا يجب عليه
شئ، بل جرى عادة الله تعالى بإعطاء الثواب عقيب العمل الصالح، وليس للمكلفين
على الله دين يجب عليه قضاءه، ولو كان الأمر كذلك للزم أن تكون العباد متاجرين (1)
معاملين مع الله كالأجراء الذين يأخذون أجراتهم عند الفراغ من العمل ولو لم يعط
المؤجر أجرتهم لكان ظالما وجائرا، وهذا مذهب باطل لا يذهب إليه من يعرف نعم
الله تعالى على عباده ويعرف علو الشأن الإلهي، وأن الناس كلهم عبيد له، يعطي
وجرى عادته أن يعطي العبد المطيع عقيب طاعته كما جرى عادته بإعطاء الشبع عقيب
أكل الخبز، وهل يحسن أن يقال: إذا لم يجب على الله تعالى إعطاء الشبع عقيب أكل
الخبز يموت يموت الناس من الجوع؟ كذلك لا يحسن أن يقال لو لم يجب على الله تعالى
إنابة المطيع وجزاء العاصي لارتفع الفرق بين المطيع والعاصي، ولكان فعل الخيرات
وإثارة المبرات ضائعا عبثا لأنا نقول: جرت عادة الله التي لا تتخلف إلا بسبيل
الخرق على إعطاء الثواب للمطيع من غير أن يجب عليه شئ، فلم يرتفع الفرق بين
المطيع والعاصي كما جرى عادته بإعطاء الشبع عقيب أكل الخبز، فهل يكون من أكل
الخبز فشبع كمن ترك أكل الخبز فجاع (إنتهى).
أقول
قد بينا سابقا انهدام البناء على العادة، فلا حاجة إلى الإعادة، وكذا سبق الكلام
في أن الوجوب الذي يدعيه أهل العدل ليس معناه ما زعمته الأشاعرة، وإنما المعنى
به ما يحكم به صحيح العقل ويؤيده صريح النقل، ومنه قوله تعالى: كتب ربكم
على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح

178
فإنه غفور رحيم (1)، ولا يلزم من الوجوب بالمعنى المشار إليه أن يكون الجزاء
كالدين وإن جاز أن يكون بعض العطايا في ذمة همة الجواد الحكيم كالدين،
وأما لزوم كون العباد متاجرين معاملين، فلا مانع من العقل والنقل في التزامه
لأن الله تعالى هو الذي أرشدهم إلى التجارة والمعاملة والفرض، ووعدهم الجزاء
في يوم العرض بقوله: جزاءا بما كانوا يعملون (2)، إنما تجزون ما كنتم
تعملون (3) وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون (4) ولا تشتروا
بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون (5)، ما عندكم
ينفد وما عند الله باق، ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا
يعملون (6)، إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة
يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل
والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به،
ذلك هو الفوز العظيم (7) الآية. وقوله تعالى: في سورة واحدة هي سورة الحديد:
فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجمر كبير (8)، وكلا وعد الله الحسنى والله

179
بما تعلمون خبير، من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر
كريم (1)، وأقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ولهم أجر كريم (2)، فآتينا
الذين آمنوا منهم أجرهم (3)، يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم
كفلين (4) من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور
رحيم (5)، إلى غير ذلك من الآيات والروايات، وأما قول الناصب: لو لم يعطهم
لكان ظالما جائرا فمجاب، بأنا هكذا نقول ولا فساد فيه كما لا فساد في القول
بأنه تعالى لو أدخل الأنبياء في النار والأشقياء في الجنة كان ظالما جائرا فافهم،
وأما ما ذكره من مثال الموت من الجوع فلا يغني من جوع، لأن ذلك إنما
لا يحسن لأنه ليس بواجب على الله تعالى عند أهل العدل، وإنما الذي أوجبوه على
الله تعالى الألطاف المقربة وما وعدهم الله تعالى من الثواب بإزاء الطاعة، والعقاب
بإزاء المعصية ونحو ذلك، وأما إعطاء الشبع عقيب أكل الخبز، فلم يقل أحد بوجوبه
على الله تعالى، لجواز أن يكون ذلك (6) من قبيل سائر الأسقام والآلام الذي يمتحن
الله تعالى به العبد، فالذي يجب عليه تعالى حينئذ عوض تلك الآلام على التفصيل الذي
سيأتي في كلام المصنف عن قريب، وحيث ظهر بهذا بطلان ما ذكر بقوله: وهل يحسن
أن يقال الخ؟ ظهر بطلان ما فرعه عليه بقوله: كذلك لا يحسن أن يقال الخ: فأحسن
التأمل، وأما ما ذكره من أن عادة الله تعالى التي لا تتخلف قد جرت على إعطاء

180
الثواب الخ، ففيه ما مر من أن هذه العادة لما لم تكن واجبة ولو بطريق
الخرق، فجاز أن تنعكس القضية، فلا يحصل الفرق ويرتفع الأمان عن الوعد والوعيد
كما مر غير بعيد، وبالجملة أن أصحاب الناصب يويئسون العباد من رحمة الله
وعدله بتجويزهم التخلف في ترتب الثواب والعقاب وأن يعذب الله تعالى من غير
ذنب، وأنه خلق خلقا للنار، فلا تنفعهم الطاعة، وآخر للجنة فلا تضرهم المعصية
فلا تسكن نفس مطيع بطاعة ولا تخاف نفس عاص عن معصية، بل هم يغرون بالمعاصي
ويسهلونها بقولهم: ما قدره الله كان وما لم يقدره لم يكن، فلا يبقى وجه للصبر
عن المعصية والتحفظ عنها كما لا يخفى.
قال المصنف رفع الله درجته
السادس أن لا يكون حراما لامتناع كون الشئ الواحد من الجهة الواحدة مأمورا
به منهيا عنه، لاستحالة التكليف بما لا يطاق أن يكون الشئ مرادا ومكروها
في وقت واحد من جهة واحدة من شخص واحد، وهذا مستحيل عقلا، وخالفت
أهل السنة (الأشاعرة خ ل) في ذلك، فجوزوا أن يكون الشئ الواحد مأمورا به
منهيا عن لإمكان تكليف ما لا يطاق عندهم (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: لا خلاف في أن المأمور به لا بد أن لا يكون حراما لأن الحرام ما نهى
الله تعالى عنه ولا يكون الشئ الواحد مأمورا به منهيا عنه في وقت واحد من جهة
واحدة، ولكن إن اختلف الوقت والجهة والشرائط التي اعتبرت في التناقض، يجوز أن
يتعلق به الأمر في وقت من جهة والنهي في وقت آخر من جهة أخرى (1)، فهذا

181
مذهب أهل السنة، وأما إمكان التكليف بما لا يطاق فقد سمعته غير مرة، وأنه
لا يقع ولم يقع (إنتهى).
أقول
سيجئ تحقيق هذه المسألة في الموضع اللائق بها من مسائل الفقه فانتظر.
قال المصنف رفع الله درجته
والعجب أنهم حرموا الصلاة في الدار المغصوبة ومع ذلك لم يوجبوا القضاء وقالوا:
إنها صحيحة مع أن الصحيح هو المعتبر في نظر الشرع، وإنما يطلق على المطلوب
شرعا، والحرام ير معتبر في نظر الشارع مطلوب الترك شرعا، وهل هذا إلا
محض التناقض (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: الصلاة الصحيحة ما استجمعت شرائط الصحة التي اعتبرت في الشرع،
فالصلاة في الدار المغصوبة صحيحة لأنه مستجمعة لشرائط الصحة التي اعتبرت
في الصلاة في الشرع، وليس وقوعها في مكان طاهر من النجاسات، ولو كان من شرائط
الصحة وقوعها في مكان غير منصوب لكان الواقع في المكان المغصوب منها فاسدا
وكان يجب قضاؤها لكونها غير معتبرة في نظر الشرع لعدم استجماعها الشرائط
المعتبرة فيها، وأما كونها حراما فلأجل أنها تتضمن الاستيلاء على حق الغير
عدوانا فهي بهذا الاعتبار حرام، فالحرمة باعتبار والصحة باعتبار آخر، فأين التناقض

182
والعجب أنه مشتهر بالدربة (1) في المعقولات ولا يعلم شرائط حصول التناقض (إنتهى).
أقول
ستجئ هذه المسألة أيضا في مسائل أصول الفقه لكن نذكرها هنا أنموذجا لئلا
يظن الناظر في أول النظر أنه وعد بلا وفاء، فنقول: إن ما ذكره من أن وقوع
الصلاة في مكان مملوك غير مغصوب ليس من شرائط الصلاة الخ مردود، بأن الكلام
في الصلاة الشخصية في الدار المغصوبة، وتحقق التلازم بين الغصب والصلاة فيها
ظاهر، والأمر بالشئ أمر بلوازمه كما حقق في الأصول، فلو كانت هذه الصلاة مأمورا
بها لكان الغصب مأمورا به مع كونه منهيا عنه (هف)، والتعجب الحاصل للناصب
من كلام المصنف إنما نشأ من أنه أكب مدة عمره على تقليد الأشعري البليد الذي
به يسخر ولا يدري أي طرفيه أطول من الآخر، فإذا ورد على سمعه قول يخالف رأي
الأشعري يفزع ويتعجب منه ويرده ولا يقبله بكل حيلة وينسب قائله إلى الجهل
لجمود طبعه وإفتاء عمره في التقليد الذي من خواصه أن يكون مقلده بليدا في أضيق
تقييد، وقال الرئيس (2) المحقق في الحكمة اليونانية، إن من تعود (3) أن يصدق
من غير دليل فقد انسلخ عن الفطرة الانسانية.

183
قال المصنف رفع الله درجته
المطلب التاسع عشر: في الأعواض (1) ذهبت الإمامية إلى أن الألم الذي

184
يفعله الله بالعبد إما أن يكون على وجه الانتقام والعقوبة وهو المستحق لقوله
تعالى: ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة

185
خاسئين (1)، وقوله: ألا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم
لا يتوبون ولا هم يذكرون، (2) ولا عوض فيه، وإما على وجه الابتداء
وإنما يحسن فعله من الله تعالى بشرطين، أحدهما أن يشتمل على مصلحة إما للمتألم
أو لغيره، وهو نوع من اللطف، لأنه لولا ذلك لكان عبثا والله تعالى منزه عنه،
الثاني أن يكون في مقابلته عوض للمتألم يزيد على الألم بحيث لو عرض على المتألم
الألم والعوض اختار الألم وإلا لزم (3) الظلم والجور من الله تعالى على عبيده،
لأن إيلام الحيوان وتعذيبه على غير ذنب ولا لفائدة تصل إليه ظلم وجور وهو على
الله تعالى محال، وخالفت الأشاعرة في ذلك فجوزوا أن يؤلم الله عبده بأنواع الألم من
غير جرم ولا ذنب لا لغرض وغاية ولا يوصل إليه العوض، ويعذب الأطفال والأنبياء
والأولياء من غير فائدة، ولا يعوضه على ذلك بشئ البتة، مع أن العلم الضروري
حاصل لنا بأن من فعل من البشر مثل هذا عده العقلاء ظالما جائرا سفيها، فكيف

186
يجوز لهؤلاء نسبة الله سبحانه إلى مثل هذه النقائص ولا يخشى ربه، وكيف لا يخجل
منه غدا يوم القيامة إذا سألته الملائكة يوم الحساب هل كنت تعذب أحدا من غير
الاستحقاق ولا تعوضه على ألمه عوضا يرضى به؟ فيقول كلا ما كنت أفعل ذلك،
فيقال له: كيف نسبت ربك إلى هذا الفعل الذي لا ترضاه لنفسك (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول اعلم أن الأعواض مذهب المعتزلة ولهم على هذا الأصل اختلافات ركيكة
تدل على فساد الأصل مذكورة في كتب القوم، وأما الأشاعرة فذهبوا إلى أن الله
تعالى لا يجب عليه شئ لا عوض على الألم ولا غيره، لأنه يتصرف في ملكه ما يشاء،
والعوض إنما يجب على من يتصرف في غير ملكه (1) نعم جرت عادة الله تعالى على
أن المتألم بالآلام إما أن يكفر عنه سيئاته ويرفع له درجاته إن لم تكن له سيئات
ولكن لا على طريق الوجوب عليه، وأما حديث العوض في أفعال الله تعال فقد مر
بطلانه فيما سبق، وأما تعذيب الأطفال والأنبياء والأولياء ففيه فوائد ترجع
إليهم من رفع الدرجات وحط السيئات كما أشير إليه في الأحاديث الصحاح،
ولكن على سبيل جري العادة لا على سبيل الوجوب، فلا يلزم منه جور ولا ظلم،
ثم ما ادعى من العلم الضروري بأن البشر لو عذب حيوانا بلا عوض لكان ظالما،
فهذا قياس فاسد، لأن البشر يتصرف في الحيوان بما ليس له والله تعالى مالك
مطلق يتصرف كيف يشاء، ونحن لا نمنع عدم وقوع الجزاء والمنافع ولكن نمنع

187
وجوب هذا، ونحن نقول: من يعتقد أن الله تعالى يجب عليه الأعواض عن الآلام
إذا حضر يوم القيامة عند ربه ورأى الجلال الإلهي والعظمة الربانية والتصرف
المطلق الذي حاصل له في الملك والملكوت سيما في موقف القيامة التي يقال فيها:
لعن الملك اليوم،؟ لله الواحد القهار (1) أما يكون مستحييا من الله تعالى أن يعتقد
في الدنيا أنه مع الله تعالى كالتاجر والعامل أعطى الأعمال والآن يريد جزاء
الواجب على الله تعالى فيدعي على الله في ذلك المشهد إنك عذبتني وألمتني في الدنيا
فآلان لا أخليك حتى آخذ منك العوض لأنه واجب عليك أن تعوضني، فيقول
الله تعالى: يا عبد السوء أنا خلقتك سويا وأنعمت عليك كيت وكيت أتحسبني
كنت تاجرا معك معاملا لك حتى توجب علي العوض، ادخلوا العبد السوء النار،
فيقول: علمني ابن المطهر الحلي وهو كان إمامي وأنا الآن برئ منه، فيقول
الله تعالى: ادخلوا جميعا النار، كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما
هم بخارجين من النار (2) والله أعلم وهو أصدق القائلين (إنتهى).
أقول
نعم الأعوض مذهب المعتزلة، لكن الأصل في ذلك الإمامية والاختلاف بينهم،
واختلاف المعتزلة إنما وقع لعدم تحقيقهم حقيقة ذلك الأصل على وجه حقه
الإمامية، فاختلافهم في ذلك الأصل لا يدل على ساده عن أصله، وإلا لكان الاختلاف
في كل أصل من أصول الدين كصفات الله وأفعاله وصفات النبي والإمام عليهم السلام
كذلك، وفساده أظهر من أن يخفى، ولو سلم فاختلاف المعتزلة لا يقدح في مذهب

188
الإمامية ولا تزر وازرة وزر أخرى (1)، وأما ما ذهبت إليه الأشاعرة من نفي
الوجوب عليه تعالى فقد مر أنه مبنى على عدم فهمهم لمعنى الوجوب الذي أثبته
العدلية، وأما حديث التصرف في الملك فقد مر أن التصرف من الملك كائنا
من كان إن كان على وجه حسن فحسن، وإن كان على وجه قبيح فقبيح، وحديث
جريان العادة قد جرى عليه ما جرى، وحثونا (2) على رأس قائله تراب الثرى، وإثبات
الفوائد في تعذيب الأطفال ونحوه بعد تجويز أن يعذبهم من غير جرم كما ترى، وفي
حكمه بفساد قياس المصنف بناء على حديث التصرف في الملك فساد لا يخفى على
الورى، وفي باقي المقدمات سترى أنه يأكل الخرى، وبالجملة إن الله تعالى لما
كتب على نفسه الرحمة والافضال، وأوجب في حكمته وجوده إعطاء جزاء الأعمال
وليس له فقراء وحاجة أو كسالة وكلال، يدعوه إلى الطلب والدعوى اضطرار، كما قال بعض الأبرار
نظم:
ارباب حاجتيم وزبان سوال نيست * در حضرت كريم تقاضا چه جاجتست
وكما قلت في جملة قصيدة في مدح مولاي الرضا (ع) نظم:
سوال از تو چه كه جود ذات ترا * بود تقدم بالذات بر وجود سوال

189
قال المصنف رفع الله درجته
المسألة الرابعة في النبوة
وفيه مباحث الأول في نبوة محمد (ص)، اعلم أن هذا أصل عظيم في الدين وبه
يقع الفرق بين المسلم والكافر، فيجب الاعتناء به وإقامة البرهان عليه، ولا طريق في
إثبات النبوة على العموم ولا على الخصوص إلا بمقدمتين، إحديهما أن النبي (ص)
ادعى رسالة رب العالمين له إلى الخلق كافة، وأظهر المعجزة على وفق دعواه لغرض
التصديق له، والثانية أن كل من صدقه الله فهو صادق، وهاتان المقدمتان
لا يقول بهما الأشاعرة، أما الأولى فلأنه يمتنع أن يفعل الله فعلا لغرض من الأغراض
أو لغاية من الغايات، فلا يجوز أن يقال: إنه تعالى فعل المعجز على يد مدعي
الرسالة لا لغرض تصديقه ولا لأجل تصحيح دعواه، بل فعله مجانا ومثل هذا
لا يمكن أن يكون حجة النبي (ص)، لأنا لو شككنا في أن الله تعالى لو فعله
لغرض التصديق أو لغيره لم يمكن الاستدلال على صدق مدعي النبوة مع هذا الشك
فكيف يحصل الجزم بصدقه مع الجزم بأنه لم يفعله لغرض التصديق وأما الثانية
فإنها لا تتم على مذهبهم، لأنهم يسندون القبائح كلها إلى الله تعالى ويقولون: كل
من ادعى النبوة سواء كان محقا أو مبطلا فإن دعواه من فعل الله تعالى وأثره، وجميع
أنواع الشرك والمعاصي والضلال في العالم من عند الله تعالى، فكيف يصح مع هذا
أن يعرف أن هذا الذي صدقه صادق في دعواه، فجاز أن يكذب في دعواه ويكون
هذا الاضلال من الله تعالى كغيره من الأضاليل التي هو فعلها، فلينظر العاقل هل
يجوز له أن يصير إلى مذهب لا يمكن إثبات نبوة نبي من الأنبياء البتة ولا يمكن
الجزم بشريعة من الشرايع؟ والله تعالى قد قطع أعذار المكلفين بإرسال الرسل

190
فقال: لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل (1) وأي حجة أعظم من هذه
الحجة عليه تعالى؟، وأي عذر أعظم من أن يقول العبد لربه تعالى: إنك أضللت
العالم وخلقت فيهم الشرور والقبائح، وظهر جماعة خلقت فيهم كذب ادعاء النبوة
وآخرون ادعوا النبوة ولم تجعل لنا طريقا إلى العلم بصدقهم، ولا سبيل لنا إلى
معرفة صحة الشرايع التي أتوا بها، فيلزم انقطاع حجة الله تعالى، وهل يجوز لمسلم
أو من يخشى الله تعالى وعقابه أو يطلب الخلاص من العذاب، المصير إلى هذا القول نعوذ
بالله من الدخول في الشبهات (إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: هذا الكلام المموه الخارج عن طريق المعقول قد ذكره قبل هذا بعينه في
مسألة خلق الأعمال وقد أجبنا عنه هناك، ولما أعاد الكلام في هذا المقام لزمنا
مؤنة الإعادة في الجواب فنقول، أما المقدمة الأولى من المقدمتين اللتين ادعى
توقف النبوة ثبوت النبوة عليهما وهو أن النبي ادعى الرسالة وأظهر المعجزة على وفق
دعواه لغرض التصديق له فقد بينا قبل هذا أن غاية إظهار المعجزة والحكمة
والمصلحة فيه تصديق الله تعالى النبي فيما ادعاه، وهذا يتوقف على كون إظهار الله
المعجزة مشتملا على الحكمة والمصلحة والغاية، لا على إثبات الغرض والعلة الغائية
الموجبة للنقص والاحتياج، فثبت المقدمة الأولى على رأي الأشاعرة، وبطل ما أورد
عليهم، وأما المقدمة الثانية وهي أن كل من صدقه الله تعالى فهو صادق فهذا شئ
ثبته الأشاعرة، ويستدلون عليه بالدلائل الحقة الصريحة، ولا يلزم من خلق الله
تعالى القبائح التي ليست بقبيحة بالنسبة إليه أن يكون كل مدعي النبوة سواء كان

191
محقا أو مبطلا دعواه من الله تعالى، وماذا يريد من أن دعوى المحق والمبطل
من الله؟ إن أراد أنه من خلق الله تعالى، فلا كلام في هذا، لأن كل فعل يخلقه
الله تعالى؟ وإن أراد أنه مرضى من الله تعالى والله يرسل المحق والمبطل، وهذا
باطل صريح، فإنه تعالى لا يرضى لعباده الكفر والضلال (1) وإن كان بخلقه وتقديره
كما سمعت مرارا، وكل من يدعي النبوة وهو مبعوث من الله فقد جرت عادة الله تعالى
على إظهار المعجزة بيده لتصديقه ولم تتخلف عادة الله عن هذا، وجرت عادته التي
خلافها جار مجرى المحال العادي بعدم إظهار المعجزة على يد الكذاب، والحاصل
أن الأشاعرة يقولون: بعدم وجوب شئ على الله تعالى، لأنه المالك المطلق،
ولا يجب عليه شئ، وما ذكره من أنه كيف يعرف أن هذا الذي صدقه صادق في
دعواه، فنقول: بتصديق المعجزة يعرف هذا، قوله: يجوز أن يظهر المعجزة على
يد الكاذب، قلنا: ماذا تريدون أنه يجوزه العقل بحسب العادة، فنقول: هذا ممتنع عادة، ويفيدنا العلم العادي بأن هذا لا يجري في عادة الله تعالى كالجزم بأن الجبل
الفلاني لم يصر الآن ذهبا، فلا يلزم ما ذكر وأما ما أطال من الطامات والترهات
فتعمل بقوله تعالى واعرض عن الجاهلين (2) إنتهى.
أقول
أولا: إن تخصيصه لإعادة الكلام بهذا المقام مما لا وجه له، لأن جميع المراتب
كلامه إعادة منه لما نقلها المصنف من كلام أقوامه، غاية الأمر أنه إعادة على

192
طريقة إعادة الثورة لما قضمه مرة بأن زاده هضما ومضرة، وثانيا إن ما ذكره
في بيان اتجاه المقدمة الأولى على رأي الأشاعرة غير موجه، لأن المصنف
قدس سره عمم في الكلام وقال لغرض من الأغراض وغاية من الغايات، فيشتمل
الغاية التي اعترف الناصب باعتبارها في الأفعال فكيف يصير ذلك جوابا دافعا لكلام
المصنف، نعم لو قال في الجواب: إن الأشعري لا ينفي مطلق الغاية لكان متجها لكنه
ناف لذلك كما شحنوا (1) به كتبهم، فالقول بالغاية مطلقا من قبل الأشعري لدفع
الالزام عنه يكون وكالة فضولية، والحاصل أن الأشعري ينفي مطلق الغاية والغرض،
سواء أخذ بمعنى العلة الغائية أو الفائدة والمصلحة، وكيف يكون قائلا بذلك مع
تصريحه بنفي أن يكون للفعل جهة محسنة أو مقبحة في ذاته وفي صفاته اللازمة أو
الجهات والاعتبارات كما مر في مبحث الحسن والقبح (2)، ولو كان قائلا بما
اعترف به الناصب من قبله لما خفي ذلك على الفاضل التفتازاني من ابتاعه المتعصبين
له، ولما قال في مقام الرد عليه من شرحه على شرح المختصر: الحق أن تعليل
بعض الأفعال سيما شرعية الأحكام والمصالح ظاهر كإيجاب الحدود والكفارات
وتحريم المسكرات وما أشبه ذلك، والنصوص أيضا شاهدة بذلك كقوله تعالى:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (3) ومن أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل (4)

193
الآية فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين (1)
الآية، ولهذا يكون القياس حجة إلا عند شرذمة، وأما تعميم ذلك فمحل بحث
انتهى كلامه، وبالجملة لو كان النزاع في التعبير عن منشأ الحكم بالغرض والعلة
الغائية دون المصلحة والغائية دون المصلحة والغاية كما ذكره الناصب لما اضطر ذلك الفاضل إلى المحاكمة
تخصيص المبحث، والملخص أن العلة الغائية والغرض والمصلحة متقاربة في المعنى
وتكلف الفرق بينها والهرب من بعضها إلى بعض كما ارتكبه بعض المتأخرين
إنما هو لضيق الخناق (2) لا لقصد الاتفاق، وعلى التقديرين فمرحبا بالوفاق.
وأيضا الدليل الذي قاد الأشعري إلى نفي التعليل وهو لزوم تأثر الرب عن
شعوره بخلقه كما ينفي التعليل ينفي مراعاته للمصالح أيضا، فلا وجه لنسبة إثبات
المصالح في الأفعال إليه، وقد ذكرنا هذا الدليل مع ما فيه في أوايل الكتاب والله
الموفق للصواب، وثالثا أن ما ذكره في توجيه المقدمة الثانية من الترديد مردود
قوله في الشق الأول: لا كلام في هذا، قلنا فيه كلام من وجوه، منها ما مر في
بحث خلق الأفعال، ومنها أنه إذا كان دعوى المحق والمبطل من خلق الله
تعالى ولم يكن شئ من القبائح قبيحا بالنسبة إلى الله تعالى (3) فمن أين يعلم أن

194
هذا قبيح منهي عنه خلقه الله تعالى في مدعي النبوة، وأجرى كسب العبد على وفقه
حتى لا نقبله أو حسن مرضى له تعالى حتى نتبعه، والاعتراف بكونه لا يرضى لعباده
الكفر والضلال إنما يفيد لو كان هناك ما يتميز به عند العقل الكفر والضلال عن
غيره، وأما إذا كانت الأفعال سواسية (1) في عدم اتصافها بالحسن والقبح الذاتي
والوصفي والاعتباري كما ذهب إليه الأشعري فكيف يهتدي المكلف إلى أن ذلك
المخلوق فيه حسن مرضي لله تعالى أو قبيح ليس بمرضي له، وأما ما ذكره من الترديد
في المجاز بقوله: أتريدون الامكان العقلي الخ، ففيه من التحمل (2) والتمويه ما
لا يخفى، لأنه جعل الامكان العقلي مقابلا للتجويز العقلي بحسب العادة، مع
أن المتقابلين في هذا المقام هما الامكان العقلي والامكان العادي، وليت
شعري ما معنى تجويز العقل بحسب العادة؟! وبالجملة أنا نختار الشق
الأول ونقول: المراد الامكان العقلي بمعنى تجويز العقل وقوع الكذب، فيصير
حاصل دليل المصنف أنه على تقدير نفي القبح العقلي لا يمتنع الكذب عليه تعالى
امتناعا عقليا، بمعنى أن يجزم العقل بسلب صدوره عنه تعالى، إذ لا دليل على هذا
الجزم إلا أنه يقبح عقلا صدور القبح عنه، وإذا لم يجزم العقل بسلب صدور القبيح
عنه تعالى فيجوز إظهار المعجزة على يد الكاذب وإذا جوز العقل ذلك انسد باب
إثبات النبوة، فلا يثبت نبوة بني كما ذكره المصنف (قده) والحاصل أنهم
إذا اعترفوا بجواز إظهار المعجزة على يد الكاذب وتصديقه تعالى إياه فمجرد الدعوى
في الجزم بعدمه غير كاف، ضرورة أنه ليس ببديهي، بل لا بد من إثباته حتى يثبت

195
به النبوة، ولا دليل عليه على طريقة الأشعري، أما شرعا فلعدم ثبوت الشرع
قبل ثبوت النبوة، وأما عقلا فلفرض أن ليس في الأفعال بحسب ذواتها وصفاتها
واعتباراتها ما يحسنها أو يقبحها كما زعمه حتى يستدل به العقل على حالها من
الحسن والقبح والرضا والسخط، وأما عادة فلأنها كما مر عبارة عن تكرار
(تكرر خ ل) أمر من غير علاقة عقلية، فلا يجري في معجزة النبي الأول بل
الثاني كما سبق، بل ربما لا يفيد في معجزة نبينا خاتم الأنبياء (ص) فإن من
بعث نبينا إليهم من أهل الجاهلية الذي نشأوا في أيام فترة الرسل ربما لا
يكون لهم اطلاع على أحوال الأنبياء السابقين ومعجزاتهم وكيفية جريان العادة فيها
فكيف يحصل لهم العلم العادي بصدق مدعي النبوة وكذبه، فلا محالة يلزم الافحام
وسد باب إثبات النبوة، وقد ظهر بما قررنا به الدليل وأوضحنا به السبيل أن
تشبيه ما في كلام المصنف من حقايق الإلهامات بالترهات والطامات تعصب فاسد
وتمويه كاسد لا يروج إلا على من حرم التوفيق ولم ينعم النظر في أول ما يفجئونه
من الزفير والشهيق والتيتال (1) المشتبه بالتدقيق والله الموفق.
قال المصنف رفع الله درجته
المبحث الثاني في أن الأنبياء معصومون (2) ذهبت الإمامية كافة إلى أن الأنبياء

196
عن الصغاير والكباير منزهون عن المعاصي قبل النبوة وبعدها على سبيل
العمد والنسيان وعن كل رذيلة ومنقصة، وما يدل على الخسة والضعة، وخالفت
أهل السنة كافة (1) في ذلك وجوزوا عليهم المعاصي وبعضهم (2) جوزوا الكفر
عليهم قبل النبوة وبعدها جوزوا عليهم السهو (3) والغلط (4) ونسبوا (5) رسول

198
الله (ص) إلى السهو في القرآن (القراءة خ ل) بما يوجب الكفر فقالوا: إنه (ص)
صلى يوما الصبح وقرء في سورة النجم عند قوله تعالى، أفرأيتم اللات والعزى ومناة
الثالثة الأخرى (1): تلك الغرانيق (2) العلى منها الشفاعة ترتجى وهذا اعتراف
منه بأن تلك الأصنام ترتجي الشفاعة منهم نعوذ بالله من هذه المقالة التي نسب
النبي (ص) إليها وهي توجب الشرك، فما عذرهم غدا عند رسول الله (ص) وقد
قتل جماعة كثيرة من أهله وأقاربه على عبادة الأصنام، ولم يأخذه في الله لومة لائم (3)
وينسب إليه هذا القول الموجب للكفر والشرك وهو في مقام إرشاد العام (العالم خ ل)
وهل هذا إلا أبلغ أنواع الضلال، وكيف بجامع هذا قوله تعالى: لئلا يكون للناس
على الله حجة بعد الرسل (4) وهل أبلغ من هذه الحجة وهو أن يقول العبد: إنك
أرسلت إلينا رسولا يدعو إلى الشرك والكفر وتعظيم الأصنام وعبادتها، ولا ريب
أن القائلين بهذه المقالة صدق عليهم قوله تعالى: وما قدروا الله حق قدره (5) انتهى.
قال الناصب خفضه الله
أقول: إن أهل الملل والشرايع بأجمعهم أجمعوا على وجوب عصمة الأنبياء عن
تعمد الكذب فيما دل المعجز القاطع على صدقهم فيه كدعوى الرسالة وما يبلغونه

199
(فيما يبلغونه خ ل) من الله تعالى إلى الخلائق، إذ لو جاز عليهم التقول والافتراء
في ذلك عقلا لأدى إلى إبطال المعجزة وهو محال، وفي جواز صدور الكذب
عنهم فيما ذكر على سبيل السهو والنسيان خلاف، فمنعه الأستاذ أبو إسحاق (1)
وكثير من الأئمة الأعلام لدلالة المعجزة على صدقهم في الأحكام، فلو جاز الخلف في
ذلك لكان نقضا لدلالة المعجزة، وهو ممتنع، وأما سائر الذنوب فهي إما كفر
أو غيره، أما الكفر فأجمعت الأمة (2) على عصمتهم منه قبل النبوة وبعدها، ولا
خلاف لأحد منهم في ذلك وجوز الشيعة للأنبياء إظهار الكفر تقية عند خوف الهلاك،
وذلك باطل قطعا، لأنه يقضي إلى إخفاء الدعوة بالكلية وترك تبليغ الرسالة،
إذ أولى الأوقات بالتقية وقت الدعوة للضعف وكثرة المخالفين، أنظر إلى هؤلاء
المتصلفين (3) يجوزون إظهار الكفر على الأنبياء للتقية وحفظ أرواحهم وترك
حقوق الله، ثم يشنعون على أهل السنة أنهم يجوزون السهو على الأنبياء عليهم
السلام، وأما الصغائر والكبائر كل منهما أما أن يصدر عمدا وإما أن يصدر سهوا،

200
أما الكبائر فمنعه الجمهور من المحققين، والأكثر على أنه ممتنع سمعا، قال
القاضي (1) والمحققون من الأشاعرة: إن العصمة فيما وراء التبليغ غير واجبة
عقلا، إذ لا دلالة للمعجزة عليه، فامتناع الكبائر منهم عمدا يستفاد من السمع وإجماع
الأمة قبل ظهور المخالفين في ذلك، وأما صدورها سهوا أو على سبيل الخطأ
في التأويل، فالمختار عدم جوازه، وأما الصغائر عمدا فجوزها الجمهور، أما سهوا
فهو جائز اتفاقا بين أكثر أصحابنا وأكثر المعتزلة إلا الصغائر الخسيسة كسرقة
حبة أو لقمة مما ينسب فاعله إلى الدنائة والخسة والرذالة، وقالت الشيعة: لا
يجوز عليهم صغيرة ولا كبيرة لا عمدا ولا سهوا ولا خطأ في التأويل، وهم مبرؤن عنها
قبل الوحي فكيف بعد الوحي، ودليل الأشاعرة على وجوب عصمة الأنبياء من
الكبائر سهوا وعمدا من وجوه، ونحن نذكر بعض الأدلة لا للاحتجاج بها على
الخصم، لأنه موافق في هذه المسألة، بل لرفع افترائه على الأشاعرة في تجويز
الكبائر على الأنبياء الأول لو صدر عنهم ذنب لحرم اتباعهم فيما صدر عنهم، ضرورة
أنه يحرم ارتكاب الذنب، واتباعهم واجب للاجماع عليه، ولقوله تعالى: إن كنتم
تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله (2)، وهذا الدليل يوجب وجوب عصمتهم عن
الصغائر والكبائر، ذكره الأشاعرة وفيه موافقة الشيعة، فعلم أن الأشاعرة يوافقونهم
في وجوب عصمة الأنبياء من الصغائر والكبائر، لكن في الصغائر تجويز عقلي لدليل
آخر كما سيأتي في تحقيق العصمة الثانية لو أذنبوا لردت شهادتهم، إذ لا شهادة
للفاسق بالاجماع، واللازم باطل بالاجماع، لأن ما لا يقبل شهادته في القيل
الزائل من متاع الدنيا كيف تسمع شهادته في الدين القيم إلى يوم القيامة، وهذا

201
الدليل يدل على وجوب عصمتهم من الكبائر والاصرار على الصغائر، لأنها توجب
الرد لا نفس صدور الصغيرة، الثالث إن صدر عنهم ذنب وجب زجرهم وتعنيفهم
لعموم وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإيذائهم حرام إجماعا، وأيضا
لو أذنبوا لدخلوا تحت قوله تعالى: ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم (1)
وتحت قوله تعالى: ألا لعنة الله على الظالمين (2)، وتحت قوله تعالى لوما
ومذمة: لم تقولون ما لا تفعلون وقوله تعالى: أتأمرون الناس بالبر
وتنسون أنفسكم (3) فيلزمكم كونهم موعدين بعذاب جهنم وملعونين ومذمومين، وكل
ذلك باطل إجماعا، وهذا الدليل أيضا يدل على عصمتهم من كل الذنوب، وغيرها
من الدلائل التي ذكرها الإمام الرازي (4)، والغرض أن كل ما ذكر هذا الرجل
مما يترتب على ذنوب الأنبياء من لزوم إبطال حجة الله تعالى فمذهب الأشاعرة
برئ عنه، وهم ذكروا هذه الدلائل، وأما تجويز الصغائر التي لا تدل على الخمسة،
فلان الصغيرة النادرة عمدا معفوة عن مجتنب الكبائر، والنبي بشر ولا يبعد من
البشر وقوع هذا، ثم اعلم أن تحقيق هذا المبحث يرجع إلى تحقيق معنى العصمة،
وهي عند الأشاعرة على ما يقتضيه أصلهم من استناد الأشياء كلها إلى الفاعل المختار
ابتداء أن لا يخلق الله فيهم ذنبا، فعلى هذا تكون الأنبياء معصومين من الكفر
والكبائر والصغائر الدالة على الخمسة والرذالة، وأما غيرها من الصغائر فإنهم
يقولون: لا تجب عصمتهم عنها لأنها معفو عنها بنص الكتاب من تارك الكبيرة:
إن الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة

202
هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا
تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى (1) دلت الآية على أن مجتنب الكبيرة
والفاحشة معفو عنه ما صدر من الصغائر عنه، وفي الآية إشارة إلى أن الانسان
لما خلق من الأرض ونشأ منها فلا يخلو عن الكدورات الترابية التي تقتضي تقتضي الذنب
والغفلة فكان بعض الذنوب يصدر بحسب مقتضى الطبع، ولما لم يكن خلاف ملكة
العصمة فلا مؤاخذة به، وأما العصمة عند الحكماء فهي ملكة تمنع الفجور، وتحصل
هذه ابتداء بالعلم بمثالب (2) المعاصي ومناقب الطاعات وتتأكد في الأنبياء بتتابع
الوحي إليهم بالأوامر الداعية إلى ما ينبغي والنواهي الزاجرة عما لا ينبغي، ولا اعتراض
على ما يصدر عنهم من الصغائر سهوا أو عمدا عند من يجوز تعمدها من ترك الأولى
والأفضل، فإنها لا تمنع العصمة التي هي الملكة (3) فإن الصفات النفسانية تكون
في ابتداء حصولها أحوالا (4) ثم تصير ملكات بالتدريج ثم إن الأنبياء مكلفون بترك
الذنوب مثابون به، ولو كان الذنب ممتنعا عنهم لما كان الأمر كذلك إذ لا تكليف
بترك الممتنع ولا ثواب عليه، وأيضا فقوله: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي (5)
يدل على مماثلتهم لسائر الناس فيما يرجع إلى البشرية والامتياز بالوحي لا غير،
فلا يمتنع صدور الذنب عنهم كما في سائر البشر هذا حقيقة مذهب الأشاعرة، ومن

203
تأمل فيه علم أنه الحق الصريح المطابق للعقل والنقل، كل ما ذكره هذا الرجل
على سبيل التشنيع فلا يأتي عليهم كما علمته مجملا وستعلمه مفصلا عند أقواله. و
ما ذكره من قصة سورة النجم وقراءة النبي (ص) ما لم يكن من القرآن فهذا أمر لم
يذكر في الصحاح بل هو مذكور في بعض التفاسير، وذكروا أن النبي (ص) لما اشتد
عليه اعتراض قومه عن دينه تمنى أن يأتيه من الله تعالى ما يتقرب إليهم ويستميل
قلوبهم، فأنزل الله عليه سورة النجم ولما اشتغل بقرائتها قرأ بعد قوله تعالى أفرأيتم
اللات والعزى ومناة والثالثة الأخرى تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى، فلما سمعه قريش
فرحوا به وقالوا قد ذكر آلهتنا بأحسن الذكر فأتاه جبرئيل (1) بعد ما أمسى وقال له تلوت
على الناس ما لم أتله عليك: فحزن النبي (ص) لذلك حزنا شديدا وخاف من الله
خوفا عظيما، فنزل لتسليته: وما أرسلنا من قبلك من رسول الآية (2) هذا ما ذكره
بعض المفسرين واستدل به من جوز الكبائر على الأنبياء، والأشاعرة أجابوا عن
هذا بأنه على تقدير حمل التمني على القراءة هو أنه من إلقاء الشيطان يعني أن
الشيطان قرأ هذه الآية المنقولة وخلط صوته بصوت النبي حتى ظن النبي أنه (ص) قرأها،
قالت الأشاعرة: وإن لم يكن من إلقاء الشيطان بل كان النبي صلى الله عليه قاريا
لها كان ذلك كفرا صادرا عنه وليس بجائز إجماعا، وأيضا ربما كان ما ذكر من
العبارة قرآنا وتكون الإشارة بتلك الغرانيق إلى الملائكة فنسخ تلاوتها للابهام (3)

204
ومن قرأ سورة النجم وتأمل في تتابع آياتها عليم أن هذه الكلمات لا يلتئم وقوعها
بعد ذكر الأصنام ولا في أثنائها ولا يمكن للبليغ أن يتفوه بها في مدح الأصنام عند
ذكر مذمتها، نعم يلتئم ذكرها عند ذكر الملائكة وهو قوله تعالى: وكم من ملك
في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء
ويرضى (1) فهيهنا ما يناسب أن تقرأ تلك الغرانيق العلى وأن شفاعته لترتجى، فعلم
أنه لو صح هذا لكان في وصف الملائكة ثم نسخ للابهام (2) أو لغيره والله أعلم.
هذه أجوبة الأشاعرة، فعلم أن ما اعترض عليهم هذا الرجل فهو من باب مفترياته
وأما المغاربة (3). فهم يمنعون صحة هذا عن أصله، وذكر الشيخ الإمام القاضي
أبو الفضل موسى بن عياش اليحصبي المغربي (4) في كتاب الشفا (5) بتعريف حقوق
المصطفى (ص): إن هذا من المفتريات وتعلق بها الملاحدة (6) ولا أصل له، وبالغ
في هذا كل المبالغة انتهى.
أقول
يتوجه عليه وجوه من الكلام وضروب من الملام أما أولا فلأن قوله: فمنعه

205
الأستاذ أبو إسحاق وكثير من الأئمة الأعلام لا يخلو عن تمويه إذ جوزه القاضي
أبو بكر كما ذكر في المواقف وهو من أعلام الأشاعرة، وأما ثانيا فلأن دعواه
الاجماع على عصمة الأنبياء من الكفر قبل النبوة وبعدها كاذبة، لأن ابن فورك (1)
من الأشاعرة مخالف في ذلك وجوز بعثة من كان كافرا، ويدل عليه أيضا ما سنذكره
من كلام الغزالي (2) في المنخول، وقال بعض الحشوية: إن نبينا (ص) كان كذلك
لقوله تعالى ووجدك ضالا فهدى (2) وهو غلط إذ الضلال هيهنا عدم الرشد فيما يتعلق
بالأمور الشرعية قبل البعثة، وأما ثالثا فلأن ما ذكره من أنه جوز الشيعة إظهار
الكفر تقية شئ ذكره صاحب المواقف وهو فرية بلا مرية وقد خاب من افترى،
يدل على ذلك كلام الفاضل البدخشي الحنفي (4) في بحث الأفعال من شرح

206
منهاج الأصول حيث قال: الأكثر من المحققين على أنه لا يمتنع عقلا قبل النبوة
ذنب من كبيرة أو صغيرة خلافا للروافض (1) مطلقا وللمعتزلة في الكبائر ولا خلاف
لأحد في امتناع الكفر عليهم إلا الفضيلية (2) من الخوارج بناءا على أصلهم من أن كل
معصية كفر وقد قال تعالى وعصى آدم ربه (3) جوز البعض عليم عند خوف تلف

207
المهجة (1) إظهار الكفر وأما بعد النبوة فالاجماع على عصمتهم عن تعمد الكذب
في الأحكام لدلالة المعجزة على صدقهم، وأما غلطا فجوزه القاضي ومنعه
الباقون الخ وقد علم من هذا أمران أحدهما أن من جوز إظهار الكفر على الأنبياء
خوفا جماعة مجهولة غير الشيعة وإلا لطرح بهم كما قال سابقا خلافا للروافض
وثانيهما أن من جوز ذلك إنما جوزه قبل النبوة لا بعدها حتى يتوجه عليه ما
ذكره الناصب من أن ذلك يفضي إلى إخفاء الدعوة بالكلية وناهيك (2) في ذلك أن
الإمامية قالوا إن إظهار التبري عن الأئمة عليهم السلام في مقام التقية حرام،
واستدلوا عليه بقول أمير المؤمنين (ع): أما السب فسبوني فإنه لي زكاة ولكم
نجاة وأما البراءة فمدوا الأعناق (3) ومن البين أنهم إذا لم يجوزوا لأنفسهم الضعيفة
إظهار البراءة عن أئمتهم تقية فكيف يجوزون إظهار الكفر للأنبياء والأئمة عليهم
السلام مع تأيدهم بالنفوس القدسية والقوى الربانية ثم لا يخفى ما في كلام
الناصب من سماجة تكرار لقوله: يفضي إلى إخفاء الدعوة بالكلية من غير طائل أصلا
وأما رابعا فلأن ما ذكره بقوله: وأما الكبائر فمنعه الجمهور

208
من المحققين (1) مردود بأن المحققين منهم إنما منعوا ذلك في زمان نبوتهم لا قبله
فظهر التفاوت بين مذهبهم ومذهب الشيعة تفاوت ما بين الأرض والسماء، وقد
صرح في المواقف وشرحه بما ذكرناه حيث وقع فيهما لنا على ما هو المختار عندنا
وهو أن الأنبياء في زمان نبوتهم معصومون عن الكبائر مطلقا وعن الصغائر عمدا
وجوه (الأول) إلى آخره، والظاهر أهم إنما جوزوا ذلك على الأنبياء ليدفعوا
استبعاد خلافة خلفائهم الثلاثة مع سبق كفرهم، فكيف يرجع محققوهم عن ذلك،
وأما خامسا فلأن قوله: فامتناع الكبائر منهم عمدا مستفاد من السمع وإجماع
الأمة قبل ظهور المخالفين في ذلك لا يدفع تشنيع المصنف عنهم، لأن المخالفين
في ذلك إنما هم جماعة من أهل السنة والجماعة، فيرجع وباله إلى جميعهم،
وأما سادسا فلأن قوله: ونحن نذكر بعض الأدلة للاحتجاج بها على الخصم
لأنه موافق في هذه المسألة، مدخول بأن الأشاعرة لم يوافقوا الخصم من المعتزلة
والإمامية إلا فيما بعد النبوة، وأما قبلها فقد قال الأشاعرة: بجواز صدور الكبائر

209
عنهم دون الشيعة والمعتزلة كما مر، ففي كلامه هذا أيضا تمويه وتلبيس كما لا يخفى
وكذا الكلام فيما ذكره عند تقرير الدليل الأول بقوله: فعلم أن الأشاعرة يوافقون
في وجوب عصمة الأنبياء من الصغائر والكبائر الخ، والحاصل أن الدلائل التي
ذكرها إنما استدلوا بها على وجوب عصمة الأنبياء عن الكبائر الخ والصغائر بعد البعثة
وهذا هو الذي ادعاه الأشاعرة كما صرح به السيد (1) قدس سره في هذا المقام
في شرح المواقف وفخر الدين الرازي في تفسيره سورة يوسف (ع) حيث قال: المعتبر
عندنا عصمة الأنبياء في وقت حصول النبوة، فأما قبلها فذلك غير واجب انتهى،
فما ذكره الناصب من موافقة الأشاعرة مع الإمامية والمعتزلة في ذلك
لا يصح على إطلاقه، وإنما الموافقة في حكم ما بعد البعثة فقط كما عرفت،
وما ذكره من أن نسبة تجويز الكبائر إلى الأشاعرة افتراء لا يصح مطلقا إذ التجويز
منهم واقع قبل البعثة وبعدها كما دل عليه كلام المواقف، (2) على أنه قد هدم
صاحبها المواقف دعوى العصمة عن أسه (3) حيث قال عند منع عصمة فاطمة المعصومة
عليها السلام: إن قوله (ص) بضعة مني مجاز لا حقيقة فلا يلزم عصمتها، وأيضا
عصمة النبي (ص) تقدم ما فيه انتهى، وقد سبقه في ذلك الغزالي بل القاضي
أبو بكر (4)، قال الغزالي (5) في بحث أفعال الرسول من كتابة الموسوم بالمنخول
في الأصول، والمختار ما ذكره القاضي: وهو أنه لا يجب عقلا عصمتهم إذ لا يستبان
(يثبت خ ل) استحالة وقوعه بضرورة العقل ولا ينظره، وليس هو مناقضا لمدلول

210
المعجزة، فإن مدلوله صدق اللهجة (وعدم كذبه ظ) فيما يخبر عن الله تعالى لا عمدا
ولا سهوا، ومعنى التغير باطل، فإنا نجوز أن ينبئ الله تعالى كافرا ويؤيده بالمعجزة
انتهى، وظني أن هذا الاضطراب والاختلاف منهم إنما هو لأنهم إذا نظروا إلى علو
شأن الأنبياء عليهم السلام قالوا بعصمتهم في الجملة، وإذا نظروا إلى حال أبي بكر
وعمر وعثمان وأنه يلزم من عدم العصمة في الواقع عدم صلاحيتهم لأن يكونوا
خليفة ونائبا عن رسول الله (ص) ندموا عما قالوا أولا، وقالوا لحفظ حالهم
وخلافتهم: إن الأنبياء أيضا ليسوا بمعصومين، ويحتمل أن يكون الاختلاف لاختلاف
طبائعهم في الاتصاف بالحياء عن الخالق والخلائق وعدمه فتأمل، فإن الفكر فيهم
طويل (1)، وأما سابعا فلأن ما ذكره بقوله: والغرض أن كل ما ذكر هذا الرجل
مما يترتب على ذنوب الأنبياء عليهم السلام من لزوم إبطال حجة الله، فمذهب
الأشاعرة عنه برئ، وهم ذكروا هذه الدلائل الخ مدفوع، بأن غرضه هذا مشوب
بالحيلة والتلبيس كغيره من المقدمات السابقة، فإن المصنف إنما رتب إبطال
حجة الله تعالى على ما نسبوا إلى النبي (ص) من اعترافه بحقية الأصنام وكون صدور
مثل ذلك عنه (ص) يبطل حجته مما لا يمكن إنكاره، وقد عرفت مما أسبقناه
استعماله التمويه والتلبيس أيضا في قوله: وهم ذكروا هذه الدلائل، لما ذكرنا
من أنهم إنما أقاموا هذه الدلائل على عصمة الأنبياء بعد البعثة لا قبلها، ولا نسلم
حجية من صدر عنه الكفر وغيره من الكبائر قبل البعثة كما سنبينه إن شاء الله تعالى
وأما ثامنا فلأن ما ذكره من أن الأشاعرة يقولون، لا تجب عصمة الأنبياء عن
الصغائر، لأنها معفوة بنص الكتاب الخ، مردود بأن استعقاب بعض الذنوب للعفو

211
لا يدفع النفرة عن صاحبه وفتور الاعتقاد فيه، فيسقط محله ورتبته عند العوام، فلا
ينقادون إلى إطاعته، فتنتفي فائدة البعثة في كلام المصنف، وأما تاسعا
فلأن في قوله: وفي الآية إشارة إلى أن الانسان لما خلق من الأرض الخ، كلام
سنشير إليه إن شاء الله تعالى عن قريب، وأما عاشرا فلأن قوله: ولما لم يكن خلاف ملكة
العصمة فلا مؤاخذة فيه، فيه مؤاخذتان ظاهرتان، إحديهما أن الاعتبار بمخالفة ملكة
العصمة وعدمها غير مفهوم من صريح القرآن ولا من إشارته، بل هو صريح البطلان، وكيف يقول
عاقل إن صدور الذنب لا ينافي ملكة العصمة وثانيتهما أن العصمة بمعنى الملكة من اصطلاحات
الحكماء، فعدم مخالفتها بذلك المعنى لا تصير حجة على العدلية كما سنوضحه عن قريب
إن شاء الله تعالى، وأما الحادي عشر فلأن قوله: وأما العصمة عند الحكماء الخ،
لغو من الكلام كما أشرنا إليه، أو رجوع عما أنكره سابقا من الاستناد بكلام الفلاسفة
ولحس فضلاتهم، وبالجملة تشبثه بكلام الحكماء هيهنا دون كلام إحدى الطائفتين
من المسلمين تلبيس وتمويه لا يخفى على المتأمل، فإنه لما رأى أن صدور
الصغائر عن الأنبياء مخالف للعصمة بمعنى عدم خلق الله فيهم ذنبا
كما ذهب الأشاعرة، وكذا بمعنى اللطف الذي يفعله الله فيهم بحيث لا يصدر
عنهم ذنب ولا يبلغ إلى حد الالجاء كما ذهب إليه أهل العدل، خلط المبحث وعدل
إلى التشبث بمذهب الفلاسفة، ومع ذلك لا يسمن ولا يغني من جوع كما ستطلع
عليه، وأما الثاني عشر فلأن قوله: ولا اعتراض على ما يصدر عنهم من الصغائر
سهوا أو عمدا عند من يجوز تعمدها من ترك الأول والأفضل، فيه خلط وخبط (1)
لا يخفى، لأن خلاف الأفضل والأولى لا يسمى صغيرة حقيقة ولا يعد من الذنوب
التي وقع النزاع فيها نفيها وإثباتها، وأما ما هو صغائر حقيقة سيما إذا وقع عمدا
فهو في معرض الاعتراض، بل الإعراض عنهم أيضا، قوله فإنها لا تمنع العصمة التي

212
هي الملكة، قلنا: عدم المنع ممنوع، قوله: فإن الصفات النفسانية تكون في
ابتداء حصولها أحوالا ثم تصير بالتدريج ملكة، قلنا: نعم، لكن ما لم تصر ملكة
الإمام فانتظر، وأما الثالث عشر، فلأن ما ذكره من أن الآية تدل على مماثلتهم
لسائر الناس فيما يرجع إلى البشرية ممنوعة، وإنما المراد المماثلة في القدرة
على الذنوب ليستحقوا المدح والثواب على ذلك لكن يثبتهم الله تعالى على العصمة
بلطفه ورحمته، على أن القول بمثل هذه المماثلة سيما مع ما ذكره الناصب من
التأكيد والحصر بقوله لا غير يخالف تصريحهم بنورية النبي (ص) بل سائر الأنبياء
عليهم السلام وتفضيلهم على الملائكة في الصفات الفاضلة، وقال (1) القاضي عياض
في كتاب الشفا (2): إن النبي (ص) وإن كان من البشر ويجوز على جبلته ما يجوز على

213
جبلة البشر فقد قامت البراهين القاطعة وتمت كلمة الاجماع على خروجه عنهم وتنزيه
عن كثير من الآفات التي تقع على الاختيار وعلى غير الاختيار كما سنذكره إن شاء الله
تعالى انتهى، وأما الرابع عشر فلأن ما ذكره من أن قصة سورة النجم لم تذكر
في الصحاح الخ ففيه أنه وإن لم تذكر في الجوامع التي سموها بالصحاح تسمية للشيئ
باسم ضده لكن قال الشيخ شهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني (1) في كتابه
الموسوم بالمواهب اللدنية: إن لهذه القصة أصلا فقد خرجها ابن أبي حاتم (2) والطبري (3)

214
وابن المنذر (1) من طرق وكذا ابن مردويه (2) والبزاز (3) وابن

215
إسحاق (1) في السيرة وموسى بن عقبة (2) في المغازي وأبو معشر (3) في السيرة
كما نبه عليه الحافظ عماد الدين (4) بن كثير وغيره، وكذا نبه على ثبوت أصلها

216
شيخ الاسلام والحفاظ أبو الفضل القسطلاني فقال: أخرج أبو حاتم والطبري وابن المنذر
من طرق شبعة (1) عن أبي بشر (2) عن سعيد (3) بن جبير ذلك، وأخرج البزاز
وابن مردويه من طريق أمية (4) بن خالد بن شبعة، فقال في إسناده عن سعيد بن
جبير عن ابن عباس (5) فيما أحسب، ثم ساق الحديث، قال البزاز لا يروي متصلا

217
إلا بهذا الإسناد، وتفرد بأصل أمية بن خالد وهو ثقة مشهور قال: وإنما يروي هذا
من طريق الكلبي (1) عن أبي صالح (2) عن ابن عباس انتهى، والكلبي متروك (3)

218
لا يعتمد عليه، وكذا أخرجه النخاس (1) بسند آخر فيه الواقدي (2)، وذكرهما
ابن إسحاق (3) في السيرة المطولة وأسندهما عن محمد (4) بن الكعب، وكذلك

219
موسى بن عقبة في المغازي عن ابن (1) شهاب الزهري، وكذا أبو معشر في السرة
له عن محمد بن كعب القرظي ومحمد وموسى (2) بن قيس، وأورده من طريق الطبري
وأورده ابن حاتم من طريق أسباط (3) عن السدي (4)، ورواه ابن مردويه عن
طريق عبادة (5) بن صهيب عن يحيى (6) بن كثير عن الكلبي عن أبي صالح وعن

220
أبي بكر (1) الهذلي وأيوب (2) عن عكرمة (3) وسليمان (4) التميمي عمن
حدثه، ثلاثتهم عن ابن عباس، وأورده الطبري أيضا من طريق العوفي (5) عن
ابن عباس، ومعناهم كلهم في ذلك واحد، وكلها سوى طريق سعيد بن جبير إما
ضعيف وإما منقطع، لكن كثرة الطرق تدل على أن للقصة أصلا مع أن لنا طريقين

221
مرسلين، رجالهما على شرط الصحيح، أحدهما ما أخرجه الطبري من طريق يونس
ابن يزيد (1) عن ابن شهاب، والثاني ما أخرجه أيضا من طريق المعمر بن (2)
سليمان، قال الحافظ بن حجر (3): وقد تجرأ ابن العربي (4) كعادته، فقال: ذكر

222
الطبري في ذلك روايات كثيرة لا أصل لها، وهو إطلاق مردود عليه، وكذا قول
القاضي عياض: هذا الحديث لم يخرجه أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل
مع ضعف نقلته واضطرب رواياته وانقطاع إسناده، وكذا قوله: ومن حملت عنه
هذه القصة من التابعين والمفسرين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها إلى صاحب وأكثر
الطرق عنهم في ذلك ضعيفة واهية، قال وقد بين البزاز أنه لا يعرف من طريق يجوز
ذكره إلا طريق أبي بشر عن سعيد بن جبير مع الشك الذي وقع في وصله، وأما
الكلبي فلا تجوز الرواية عنه، لقوة ضعفه ثم رده من طريق النظر بأن ذلك لو وقع
لارتد كثير ممن أسلم ولم ينقل ذلك " إنتهى "، وجميع ذلك لا يتمشى على القواعد
فإن الطرق إذا كثرت وتباينت مخارجها دل ذلك على أن لها أصلا، وقد ذكرنا
أن ثلاثة أسانيد منها على شرط الصحيح مراسيل يحتج بمثلها من يحتج بالمرسل،

223
وكذا من لا يحتج به لاعتضاد بعضها ببعض (إنتهى كلامه)، ثم أقول إن من اللطائف
التي ينبغي أن تذكر في هذا المقام ما روي (1) في كتاب عيون أخبار الرضا عن
المأمون العباسي أنه قال مخاطبا لواحد (2) من علماء أهل السنة: وإني لأتعجب
من روايتكم: أن النبي (ص) قال: دخلت الجنة فسمعت حس (خفق خ ل) نعلين
فإذا مولى (3) مولى أبي بكر وقد سبقني إلى الجنة، وذلك لأن الشيعة قالت (وإنما
قالت الشيعة خ ل) علي خير من أبي بكر فقلتم في روايتكم هذه عبد أبي بكر خير
من الرسول (ص)، لأن السابق أفضل المسبوق وهذا نظير ما رويتم أيضا أن
الشيطان يغر من حس عمر وألقى على لسان رسول الله (ص) وأنهن الغرانيق العلى
ففر من عمر وألقى على لسان رسول الله (ص) الكفر (إنتهى) أقول: لا أدري أن
من قال بصحة هذه القصة ووقوع كلمة الكفر على لسان النبي (ص)، كيف يجمع
بينه وبين قوله تعالى في شأنه في صدور هذه السورة: وما ينطق عن الهوى إن هو
إلا وحي يوحى (4) اللهم إلا أن يقال: إن هذه الآية نزلت بعد وقوع تلك القصة
وجوز صدور كلمة الكفر عنه قبل ذلك، وليس بمستنجد منهم القول به، إذا قالوا
بوقوع أصل القصة التي هي أفسد وأشنع كما لا يخفى، وأما الخامس عشر فلأن
الجواب الذي نسبه إلى الأشاعرة بقوله: والأشاعرة أجابوا الخ قد نقل القاضي
عياض (5) في الشفا أصله عن الكلبي حيث قال: إن النبي (ص) حدث نفسه فقال

224
ذلك الشيطان على لسانه وأوضح منه ما نقله عن موسى بن عقبة حيث قال: حكى عن
موسى بن عقبة في مغازيه أنه قال: إن المسلمين لم يسمعوها وإنما ألقى الشيطان
ذلك في أسماع المشركين وقلوبهم (إنتهى) وكل من الكلبي وصاحب المغازي (1)
متقدم على وجود شيخ الأشاعرة بمأة سنة أو أكثر فكيف ينسب الناصب ذلك الجواب
إلى الأشاعرة، نعم قد أوضحه من تأخر عنهما بما ذكر في كتب الأشاعرة كالمواقف
وغيره من غير نسبة إلى الأشاعرة، ومن جهالات الناصب وعدم معرفته بأساليب
الكلام أن الجواب المذكور قد وقع في المواقف (2) بقوله: والجواب على تقدير
حمل التمني على القراءة هو أنه من إلقاء الشيطان الخ ولم يعلم الناصب إذا غير
لفظ الجواب بقوله: أجابوا يلغو قوله: هو أنه، وهذا دليل على أنه إنما وقع في
هذا الغلط لو بان حرصه على الكذب والتعصب بنسبة الجواب إلى الأشاعرة وكسب
فضيلة لهم حيث قال: والأشاعرة أجابوا الخ فافهم، وأما السادس عشر فلأن قوله
فعلم أنه لو صح هذا لكان في وصف الملائكة ثم نسخ للابهام (3) أو لغيره إن أراد
به أنه لو صح وقوع تلك الكلمات بعد ذكر الأصنام، وفي أثنائها لكان في وصف
الملائكة فهذا يناقض ما قرره قبيل ذلك في رد الجواب المصدر بقوله: وأيضا الخ
من بطلان كونه في وصف الملائكة وعدم مناسبته، وإن أراد أنه لو صح وقوع
ذكرها عند الملائكة بعد ذلك بقوله تعالى: وكم من ملك في السماوات
لا تغني شفاعتهم شيئا (4) الآية كما احتمله سابقا فهو مع أنه احتمال بعيد غير
مناسب أيضا، مردود بأنه على هذا لا تظهر حاجة إلى نسخه، إذ لا إبهام عند ذكر

225
ذلك في هذا الموضع حتى يجوز النسخ لأجله، وأما السابع عشر فلأن ما نسبه
إلى القاضي عياض: من أنه قال في كتاب الشفا: إن هذا من مفتريات الملاحدة إلخ
افتراء على القاضي المذكور، لأنه لم يقل: إن ذلك من مفتريات الملاحدة بل قال:
ذكره المفسرون وتعلق به الملحدون الخ ولو سلم أن ذلك من مفتريات الملاحدة
فهذا يوجب مزيد الشناعة على طائفة من أهل السنة ذكروا هذا القصة في كتبهم ولم
يفهموا فساد إسناده ومتنه، حتى شنع به غيرهم عليهم فاضطربوا في التفصي عنه بما لا يؤدي
إلى طائل ولا يرجع إلى حاصل.
قال المصنف رفع الله درجته
ورووا (1) عنه (ع) أنه صلى الظهر ركعتين فقال أصحابه أقصرت الصلاة أم نسيت
يا رسول الله فقال كيف ذلك فقالوا إنك صليت ركعتين فاستشهد على ذلك رجلين
فلما شهدا بذلك قام فأتم الصلاة ورووا (2) في الصحيحين أنه (ع) صلى بالناس
صلاة العصر ركعتين ودخل حجرته ثم خرج لبعض حوائجه فذكره بعض أصحابه
فأتمها وأي نسبة أنقص من هذه وأبلغ في الدنائة فإنها تدل على إعراض النبي (ص)
من عبادة ربه وإهمالها والاشتغال عنها بغيرها والتكلم في الصلاة وعدم تدارك السهو
من نفسه لو كان نعوذ بالله من هذه الآراء الفاسدة انتهى.
قال الناصب خفضه الله
أقول: ما رووا من رسول الله (ص) في الصلاة حتى قال ذو اليدين أقصرت الصلاة
أم نسيت يا رسول الله فلما علم وقوع السهو عنه تدارك وأي نقص ودنائة في السهو

226
وقد قال الله تعالى في القرآن وإما ينسينك الشيطان (1) وهذا تصريح بجواز السهو
والنسيان عليه والسر والحكمة فيه أن يصير هذا تشريعا للسهو في الصلاة وأن الكلام
القليل الذي يتعلق بأمر الصلاة لا يضر وكذا الحركة المتعلقة بالصلاة فيمكن بأن الله
تعالى أوقع عليه هذا السهو وأنساه الصلاة لتشريع هذه الأمور التي ذكرناها، ولا
يقدح السهو الذي ذكرنا فوائده في العصمة، وأي دنائة ونقص في هذا؟ فإن الله
تعالى أنساه لوقوع التشريع، وقد قال تعالى: ما ننسخ من آية أو ننسها (2)
فإن الانساء في أحد المعنيين هو إيقاع النسيان عليه، وقد قال تعالى في حق يوسف
وهو من الأنبياء المرسلين: فأنساه الشيطان ذكر ربه (3) وكما أنه يجب أن
يقدر الله تعالى حق قدره لقوله تعالى: وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما
أنزل الله على بشر من شئ (4) كذلك يجب أن يقدر الأنبياء حق قدرهم ويعلم
ما يجوز عليهم وما لا يجوز، وقد قال تعالى: إنما أنا بشر مثلكم (5) وقد عاب الله
الكفار بالمبالغة في تنزيه الأنبياء عن أوصاف البشر بقوله: وقالوا ما لهذا الرسول
يأكل الطعام ويمشي في الأسواق (6) وقال تعالى: سبحان ربي هل كنت إلا
بشرا رسولا (7) انتهى.

227
أقول
قد وقع في رواية مسلم (1) عن أبي سفيان عن أبي هريرة صلى بنا رسول الله (ص)
في ركعتين فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة أم نسيت، فقال رسول الله (ص)
كل ذلك لم يكن، فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله وفي رواية قد نسيت،
وقد يقدح في صحة هذه الرواية أولا كون راويها أبا هريرة، والله أعلم بحال الوسائط
وسيجئ في المبحث الخامس من مباحث الإمامة وجه القدح في رواية أبي هريرة
إن شاء الله تعالى، وثانيا أنها تنافي ما علم من إخلاص ذي الشهادتين واعتقاد كون
النبي (ص) منزها عن الجور والبهتان والسهو والنسيان حتى شهد للنبي (ص)
في قضية دعوى الأعرابي بمجرد علمه بعصمة النبي (ص) وصدقه من غير أن يكون
له اطلاع على أصل القضية ومن غير أن يحتمل في شأنه (ص) شيئا من السهو والنسيان
في ذلك، وثالثا أنه لما كان ذو الشهادتين عدلا بل حكم النبي (ص) بقيام شهادته
مقام شهادة العدلين كيف لم يقبل النبي (ص) خبره بانفراده واحتاج معه إلى استشهاد
غيره من الرجلين، وقال المصنف رفع الله درجته في كتاب تذكرة الفقهاء (2): خبر
ذي اليدين عندنا باطل، لأن النبي (ص) لا يجوز عليه السهو مع أن جماعة من
أصحاب الحديث طعنوا فيه، لأن راويه أبو هريرة وكان إسلامه بعد موت ذي اليدين

228
بسنين، (1) فإن ذا اليدين قتل يوم بدر وذلك بعد الهجرة بسنتين، وأسلم أبو هريرة
بعد الهجرة بسبع سنين، قال المحتجون به: إن المقتول يوم بدر هو ذو الشمالين
واسمه عبد الله بن عمر بن فضلة الخزاعي وذو اليدين عاش بعد النبي (ص) ومات في أيام
معاوية عليه ما عليه وقبره بذي خشب، اسمه الخرباق، لأن عمران بن الحصين
روى هذا الحديث فقال فيه فقام الخرباق فقال: أقصرت الصلاة، وأجيب بأن
الأوزاعي (2) قال فقام ذو الشمالين فقال: أقصرت الصلاة وذو الشمالين قتل يوم بدر
لا محالة، وروي في هذا الخبر أن ذا اليدين قال أقصر الصلاة أم نسيت يا رسول الله
فقال: كل ذلك لم يكن، وروى أنه قال إنما أسهو لأبين لكم، وروى أنه
قال لم أنس ولم تقصر الصلاة، وروي (3) من طريق الخاصة عن الصادق (ع) أن
ذا اليدين كان يقال له ذو الشمالين انتهى، وأما ما استدل به على عدم الدناءة

229
والنقض في السهو والنسيان بقوله تعالى: وأما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد
الذكرى مع القوم الظالمين (1) فمردود بتصريح المحققين من المفسرين بأن
المراد إن أنساك الشيطان قبل النهي قبح مجالستهم فلا تقعد معهم بعد أن ذكرناك قبحها
ونهيناك عليه، وكيف لا يكون السهو نقصا مع ما يحصل منه الوهن في الاسلام
والتنفير عن اتباع النبي (ص)، وأيضا ينافي جواز مثل هذا السهو على النبي ما
روى البخاري (2) من قوله عليه السلام سووا صفوفكم فإني أرى من
ورائي كما أرى من أمامي فافهم، وقد فهم هذا بعض المتأخرين من أهل السنة على
ما ذكره ابن همام الحنفي في كتاب المسايرة (3) فمنع السهو عن النبي (ص)،

230
وصرح بأن سلامه على الركعتين حديث ذي اليدين كان قصدا منه وأبيح له ذلك
ليبين للناس حكم السهو (إنتهى)، لكن يتوجه عليه وعلى ما ذكره الناصب من
السر الذي ليس فيه بر إن هذا من قبيل الرجم بالغيب والرمي في الظلام، وآي
حديث صحيح أو أثر (1) صريح دل على تعليل ذلك بما ذكروه من السر حيلة للتخلص
عن شناعة الأنام؟ وأي ضرورة داعية في إظهار تشريع ذلك إلى إيقاع مثل هذه
البلية على النبي (ص) مع وقوع حديث (2) رفع القلم عن السهو والنسيان، وأما
الذي منع من التنصيص على اختصاص النبي (ص) بالتنزه عن السهو والنسيان
دونهم كما في سائر خواص النبي (ص)، مع أن ما ذكر في المسايرة متناقض

231
المقاصد لا يحلى منه بطائل كما ذكره صاحب الشفاء (1) لاستلزامه اجتماع العمد
والسهو في حال كما لا يخفى، وأما ما استدل به من آية سورة يوسف فسقوطه
ظاهر لأن تمام الآية هكذا، وقال للذي ظن أنه ناج منهما أذكرني عند ربك

232
فأنساه الشيطان ذكر به الآية والمعنى الظاهر اختاره أرباب التنزيه هو أن
ضمير أنساه راجع إلى الشرابي، والحاصل أنه أنسى الشرابي أن يذكر لربه، وعلى
هذا تكون الآية عليه لا له، نعم الناصب وأصحابه لعدم حسن ظنهم بالأنبياء عليهم
الصلاة والسلام فسروه بما يوافق مذهبهم وقالوا: للمراد أنه أنسى الشيطان يوسف ذكر
ربه في تلك الحال حين وكل أمره إلى غيره حيث استغاث بمخلوق، وأما ما تمسك به
من قوله تعالى: قل إنما أنا بشر مثلكم فقد مر أن المراد المماثلة في النوع (1)
والصنف كما صرح به المفسرون أو المماثلة في القدرة على الذنوب، لكن ميزهم
الله تعالى عمن عداهم بأن ثبتهم على العصمة بلطفه وفضله، وقد وقع النص على
ذلك في سورة إبراهيم حيث قال تعالى: قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم
ولكن الله يمن على من يشاء من عباده (2) الآية (3) وقال النيسابوري (4) في
تفسيره: إنه تعالى أمر نبيه أن يسلك سبيل التواضع وهو أن حالة مقصورة على
البشرية لا يتخطاها إلى الملكية إلا أنه امتاز بنعت الايحاء وكفى به بونا ومباينة.

233
قال المصنف رفع الله درجته
ونسبوا إلى النبي (ص) كثر من النقص، فروى (1) الحميدي (2) في الجمع بين
الصحيحين عن عائشة قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي (ص) وكانت لي صواحب
يلعبن معي وكان رسول الله (ص) إذا دخل تقمعن (ينقمعن خ ل) منه فيشير إليهن
(فيسر بهن خ ل) فيلعبن معي، وفي الحديث عن الحميدي أيضا كنت ألعب بالبنات
في بيه، وهي اللعب (3) مع أنهم رووا عنه (ص في) صحاح الأحاديث أن الملائكة
لا تدخل بيتا في صورة مجسمة أو تماثيل، وتواتر النقل عنه بإنكار عمل الصورة
والتماثيل فكيف يجوز لهم نسبة هذا إلى النبي (ص) وإلى زوجته من عمل الصورة
في بيته الذي قد أسس للعباد؟ وهو محل هبوط الملائكة والروح الأمين في كل
وقت ولما رأى النبي الصورة في الكعبة لم يدخلها حتى محيت مع أن الكعبة بيت الله
تعالى فإذا امتنع من دخوله مع شرفه وعلوا مرتبته فكيف يتخذ في بيته وهو أدون
من الكعبة صورا ويجعلها محلا لها انتهى.

234
قال الناصب خفضه الله
أقول: قد صح أن عائشة كانت تلعب باللعب وكان هذا لكونها صغيرة غير مكلفة،
فقد صح أنه دخل عليها رسول الله (ص) وهي بنت تسع سنين، وهذه اللعب ما كانت
مصورة بصورة الانسان بل كانت على صورة الفرس لما روي أنه (ص) رأى عند عائشة
أفراسا لها أجنحة، فقال: الفرس يكون له جناحان فقالت عائشة أما سمعت أن
خيل سليمان كانت لها أجنحة: فتبسم رسول الله (ص)، وهيئة الفرس لا تسمى صورة
لأن الأطفال لا يقدرون على تصوير الصورة وإنما يكون مشابها للصورة، ولا حرمة
في عمل اللعبة على هيئة الخيل بل هذا في الانسان، وقيل في ما عبد من الحيوانات والملائكة
والانسان، وأيضا يحتمل أن يكون هذا قبل تحريم الصورة فإن تحريم الصور كان عام الفتح
على ما ثبت، ولعب عائشة كانت في أوائل الهجرة، وللصور شرائط إنما تحرم عند وجودها
ربما لم يكن شرط من الشرائط موجودا، ولما صح الأخبار وجب التأويل والجمع
وليس أخبار بالصحاح (1) الستة مثل أخبار الروافض، فقد وقع إجماع الأئمة على
صحتها انتهى.

235
أقول
قد يتوجه عليه أن كلام المصنف إنما هو في تجويز تمكين النبي (ص) اللعب باللعب
والصور، والإشارة إلى الاتيان بها دون المنع عنها، لا في تجويز لعب عائشة بها
حتى يجاب بأنها كانت حينئذ غير مكلفة مع ظهور الكذب فيه، وأما ما ذكره من
أن هذه اللعب بصورة البنات من الانسان الخ ففيه: أن البنات لا تطلق إلا على ما يعلمونه
من اللعب بصورة البنات من الانسان وهو المتبادر الظاهر من البنات دون الأفراس
ومن جملة خياناته الظاهرة المنشورة في كتابه ما استدل به على أن لعب عائشة
كانت منحصرة في الأفراس من الرواية التي وضعها بالتصرف في حديث
المصورة بصورة الانسان وبينها ما هو في صورة فرس له جناحان حيث قال: ولأبي
داود في رواية أخرى أن رسول الله (ص) قدم من غزوة تبوك أو خيبر وفي سهوتها (2)
ستر فهبت ريح فانكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة تلعب بها (لعب خ ل)
فقال: ما هذه يا عائشة قلت بناتي ورأى وسطهن (بينهن خ ل) فرسا له جناحان
من رقاع فقال: وما هذا الذي أرى وسطهن؟ قالت: فرس قال: وما هذا الذي
عليه قالت: جناحان، قال: فرس يكون له جناحان، قالت: أما سمعت أن
لسليمان خيلا لها أجنحة، فضحك حتى رأيت نواجذه انتهى ومن العجب استدلاله
على الجزم بأن عائشة ما كانت تلعب بالبنات المصورة بصورة الانسان بالرواية
الدالة على أنتها قد مرة بما كان في صورة الأفراس، وأيضا حكمه هيهنا

236
بعدم حرم اللعب بما هو في صورة الخيل ينافي ما سيذكره في مسائل الشهادات
من المسائل الفقهية من أن عدم حرمة اللعب بالشطرنج عند الشافعي مشروط بشروط
أربعة (1) منها أن لا تكون أسبابه مصورة بصورة حيوانات، ثم ما ذكره من أن
هيئة الفرس لا تسمى صورة ففيه مكابرة على العرف واللغة، قال في القاموس،
الصورة بالضم الشكل جمعه صور وصور وصور بالثلاث انتهى، ومن
المضحكات استدلاله على ذلك بقوله لأنه الأطفال لا يقدرون على تصوير الصورة،
فإن لعب الأطفال بذلك لا يستدعي اقدارهم على تصوير الصورة بأنفسهم بل ربما
يعمل ذلك لهم غير من أمهاتهم وأخواتهم وخالاتهم وأمثالهن مع أن عائشة
لم تكن طفلا عند اللعب، بل قد بلغ عمرها تسع سنين كما اعترف به الناصب قبل
ذلك، والطفل لا يطلق إلا على الولد الرضيع، ثم إذا فطم يقال له فطيم أو فطيمة

237
أو وليد أو وليدة كما ذكره الثعالبي (1) في كتابي فقه (2) اللغة وسر العربية،
بل كانت بالغة على مذهب بعض الفقهاء كما لا يخفى، ثم قوله ولا حرمة في عمل اللعبة
على هيئة الخيل ممنوع بل الظاهر من الصور والتماثيل المذكورة في حديث
التحريم ما يعم كل صورة لإطلاق الحديث، وقد صرح (3) بذلك البغوي في
المصابيح والبيضاوي في شرحه، وأما ما ذكره من التاريخ المضحك فلعله مأخوذ
من تاريخ الفارسي المشتمل على الأكاذيب، فالأولى أن يدعه في مخلات
جهالاته، وأما ما ذكره من أن أخبار الصحاح الستة ليس مثل أخبار الروافض، فهو
مسلم فكيف تكون أخبار أهل سنة معاوية وجماعة يزيد مثل أخبار الروافض
للباطل المتمسكين بالكتاب والعترة، وأما قوله: فقد وقع إجماع الأئمة على

238
صحتها فمرود بأن مراده من الأئمة الأئمة الدعاة إلى النار، (1) فإجماعهم
خارج عن درجة الاعتبار، وسيأتي تحقيق الكلام في أخبار الفريقين في موضعه
اللائق أن شاء الله تعالى. قال المصنف رفع الله درجته
وروى (2) الحميدي أيضا في الجمع بين الصحيحين قالت عائشة: رأيت النبي (ص)
يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد فزجرهم عمر وروى
الحميدي (3) عن عائشة قالت دخل على رسول الله (ص) وعندي جاريتان تغنيان
بغناء بعاث (4) فاضطجع على الفراش وحول وجهه ودخل أبو بكر فانتهرني وقال
مزمارة (5) الشيطان عند النبي (ص)، فأقبل عليه رسول الله (ص) وقال دعها،

239
فلما غفل غمزتها، فخرجنا وكيف يجوز للنبي (ص) الصبر على هذا مع أنه
(ص) نص على تحريم اللعب واللهو والقرآن مملوء منه، وبالخصوص مع زوجته،
وهلا دخلته الحمية والغيرة مع أنه عليه الصلاة والسلام أغير الناس وكيف أنكر
أبو بكر وعمر ومنعهما عليه الصلاة والسلام، فهل كانا أفضل منه وأكمل؟
وقد رووا عنه أنه لما قدم إلى المدينة من سفره خرجن إليه نساء المدينة يلعبن بالدف فرحا
بقدومه وهو يرقص بأكمامه هل يصدر مثل عن رئيس أو من له أدنى وقار؟!
نعوذ بالله من هذه السقطات، مع أنه لو نسب الشخص أحدهم إلى مثل هذا قابله
بالسب والشتم وتبرأ منه، فكيف يجوز نسبة النبي (ص) إلى مثل هذه الأشياء
التي يتبرء منها انتهى.
قال الناصب خفضه الله
أقول: ضرب الدف ليس بحرام مطلقا، وكذا اللهو كما ذكر في موضعه، وما ذكر
من ضرب الجاريتين بالدف عند عائشة كان أيام عيد، واتفق العلماء على جواز
اللهو وضرب الدف في أوقات السرور كالأعياد والختان والأملاك، (1) وأما
منع أبي بكر عنه فإنه كان لا يعلم جوازه في أيام العيد، وتتمة الحديث أن النبي
(ص) قال لأبي بكر: دعهما فإنها أيام عيد فلذلك منعه أبو بكر، فعلمه رسول
الله المدينة (ص) أن ضرب الدف والغنا ليس بحرام في أيام العيد وما ذكر أن نساء
المدينة خرجن إليه في عوده من السفر فذلك كان من خصال نساء المدينة
ولم يمنعهن رسول الله (ص) لأنها كانت قبل نزول الحجاب ولأنهن كن
يظهرن السرور بمقدم رسول الله (ص) وهو عبادة، وإن ترك المروة في أمثال
هذه الأمور التي توجب الألفة والموافقة، وتطيب الخواطر وتشريح المسائل
جائز ولكن نعم ما قيل شعر:

240
وعين الرضا عن كل عيب كليلة * ولكن عين السخط تبدي المساويا
أقول
استدلال الناصب وأصحابه على عدم الحرمة منحصر في هذه الرواية وما يشاكلها
مما شنع عليه الخصم فإن استند في الحكم بعدم الحرمة بهذه الرواية كان
مصادرة (1)، وإن كان له دليل آخر من القرآن والاجماع فليذكر حتى ينظر في
دلالته على أن قول أبي بكر مزمارة الشيطان صريح في أنه فعل الشيطان ولم ينكر
عليه النبي (ص) في قوله هذا، ولعله أراد بجواز اللعب المذكورة في موضعه قوله
تعالى: إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة (2) الآية كما استدل به عبيد (3)

241
الزاكاني في رسالة الأخلاق (1) ومن جانب أصحاب مذهب المختار فليضحك
وليه قليلا (2)، وأما ما احتمله من أن أبا بكر لم يعلم جواز ذلك في العيد
فكفى نقصا له حيث جهل ما علمته طفلته الصغيرة والجاريتان وأما ما ذكره من
تتمة الحديث فهو من إضافاته ومخترعاته التي لا تروج إلا على جاهل مثله، مع
ما فيه من لزوم جهل أبي بكر بما علمه الأطفال والسوقية كما مر وأما ما ذكره
من أنهن كن يظهرن السرور بمقدم رسول الله (ص) وهو عبادة مدفوع بأن
السرور عبادة، لكن ما قرنوه به من اللعب مع الدف معصية، والكلام فيه وفي
رقص النبي (ص) وأما ما ذكره من أن ترك المروءة في أمثال هذه الأمور التي
توجب الألفة والموافقة وتطيب الخواطر وتشريع المسائل جائز مردود بأن كثيرا
مما يعد من ترك المروءة ويقدح في العدالة اتفاقا ربما يوجب الألفة والموافقة
مع جماعة لا يبالون بترك المروءة والتقوى، فعلى قياس ما ذكره يلزم أن يكون

242
جائزا وهو مما لا يقول به عاقل مسلم، وأما إرادة تشريع المسائل فقد
علمت ما فيه.
قال المصنف رفع الله درجته
وفي الصحيحين (1) أن ملك الموت لما جاء ليقبض روح موسى (ع) لطمه موسى
فقلع (ففقأ خ ل) عينه فكيف يجوز لعاقل أن ينسب موسى مع عظمته وشرف
منزلته وطلب قربه من الله تعالى والفوز بمجاورة عالم القدس إلى هذه الكراهة؟
وكيف يجوز منه أن يوقع بملك الموت (ع) ذلك وهو مأمور من قبل الله
تعالى انتهى.؟
قال الناصب خفضه الله
أقول الموت بالطبع مكروه للانسان وكان موسى (ع) رجلا حادا كما جاء في
الأخبار والآثار، فلما صح الحديث وجب أن يحمل على كراهته للموت، وبعثته
الحدة على أن لطم ملك الموت كما أنه ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه،
وهذا الاعتراض وراد على ضرب هارون وكسر ألواح التوراة التي أعطاه الله تعالى
إياها هدى ورحمة، ويمكن أن يقال: كيف يجوز أن ينسب إلى موسى إلقاء الألواح
وطرح كتاب الله تعالى وكسر لوحه إهانة لكتاب الله، وكيف يجوز له ضرب هارون
وهو نبي مرسل، وكل هذه عند أهل الحق محمول على ما يعرض البشر من الصفات
البشرية، وليس فيه قدح في ملكة عصمة الأنبياء، وأما عند ابن المطهر فهي محمولة
على ذنوب الأنبياء ولو لم يكن القرآن متواترا، ونقل لابن المطهر الحلي أن موسى
ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه لكان ينكر هذا ويعترض بمثل هذه

243
الاعتراضات، فلو أنه أنصف من نفسه يعلم أن ما نقول في تعصبه حق انتهى.
أقول
وقد حكم القاضي عياض المالكي أيضا بصحة الحديث، لأنه مذكور نفي كتابين
سماهما مؤلفاهما بالصحيح، وأجاب عما يتضمنه من نسبة الذنب إلى موسى (ع)
بأن الحديث ليس فيه ما يحكم على موسى بالتعدي وفعل ما لا يجب له إذ هو ظاهر
الأمر بين الوجه جائز الفعل، لأن موسى دافع من نفسه مدافعة من أتاه لإتلافها،
وقد تصور له في صورة آدمي ولا يمكن أنه علم حينئذ أن ملك الموت فدافعه عن نفسه
مدافعة أدت إلى ذهاب عين تلك الصورة التي تصور له فيها الملك امتحانا من الله
فلما جائه بعد وأعلمه أنه رسوله إليه استسلم انتهى، وفيه ما فيه أما أولا فلأن
عدم إمكان الاستعلام ممنوع إذ كثيرا ما تتصور الملائكة للأنبياء بصورة غيرهم
ويعلمون بهم (1) على أن في الحديث ملك الموت لما رجع إلى ربه وقال: أرسلتني إلى
عبد لا يريد الموت، قال: ارجع إليه وقل له يضع يده الخ، وهذا قرينة شعوره بالملك،
وأما ثانيا فلأنه لا وجه للاختيار والامتحان بعد القول بأنه فعل الواجب من المدافعة
فافهم، وقد يجاب بحمل وفقأ عينه على المجاز من قولهم فقأ عين حجته، فالمراد صكه
ولطمه بالحجة وفقأ عين حجته، وفيه أنه لا يلائم ما وقع في الحديث بقوله: فرد الله
عليه عينه، وأيضا فما المباحثة الواقعة مع ملك الموت عند قبض روحه حتى
يحتاج إلى إيراد حجته وإطالته، وأجاب بعضهم بأنه يحتمل أن يكون هذا الفعل
وقع منه من غير اختيار، لأن للموت سكرات انتهى، وأقول: هذا الجواب الخارج
عن الصواب مأخوذ عما سيجئ من قول الثاني في شأن النبي (ص): إن الرجل
ليهجر أو ليهذر وعلى اختلاف الروايتين، فانظروا أيها الإخوان بنظر الإنصاف والعناية
أن سعة ميدان الغواية إلى أي غاية؟ ثم ليس الكلام في مجرد نسبة الذنب إلى

244
موسى (ع) بل في سخافة اعتقادهم أيضا أن ملك الموت مع تلك القدرة والتأييد
من الله تعالى يعجز عن مقاومة موسى (ع) في حال مرضه وضعفه بحيث يتلف عينه
ويحتاج إلى الشكاية عند ربه إلى غير ذلك من المضحكات التي يتلهى بها الصبيان
فتأمل فإن الفكر فيهم طويل، وأما ما ذكره الناصب من المعارضة بقصة غصة
موسى (ع) في إلقاء الألواح وجر رأس أخيه فلا يصلح للمعارضة أصلا، لأن له
محملا صحيحا وتأويلا جميلا قد ذكره السيد الشريف المرتضى علم الهدى رضي الله
عنه (1) واستحسنه فخر الدين الرازي (2) وذكره في تفسيره الكبير، وهو أن
بني إسرائيل كانوا في نهاية سوء الظن بموسى (ع) حتى أن موسى (ع) لما غاب عنهم
غيبته قالوا لهارون (ع): أنت قتلته، فلما وعد الله موسى (ع) بثلاثين ليلة وأتمها بعشرة
وكتب له في الألواح من كل شئ فرجع فرأى في قومه ما رأى، فأخذ برأس أخيه
ليدنيه من نفسه ويتفحص عن كيفية الواقعة فخاف هارون (ع) أن يسبق إلى قلوبهم ما
لا أصل له فقال إشفاقا على موسى (ع) لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي لئلا يظن القوم
أنك تريد أن تضربني وتؤذيني انتهى، وأقول لا يخفى أن أخذ اللحية والرأس عند
الملاقاة والمشاورة عادة جارية بين العرب إلى الآن، ولو كان ذلك للإهانة لقارنت
لطمة واحدة ولنقل إذ ليس فليس، ثم أقول: يجوز أن يكون ذلك الاعتراض
والتعرض من باب قولهم: إياك أعني واسمعي يا جارة (3) بل قيل إن أكثر أساليب

245
الإنذارات المتوجهة إلى الأنبياء عليهم السلام كقوله تعالى: (1) ولو تقول
علينا بعض الأقاويل الآية من هذا القبيل، والحاصل أن إلقاء الألواح (2)

246
إنما كان لمصلحة إظهار الغضب على القوم وانزجارهم عما صدر عنهم من الغواية
ولا مصلحة دينية في لطم ملك الموت وفقاء عينه، بل كان المصلحة في تمكينه كما
مر، وأما ما ذكره من كسر الألواح وقصة إهانة كتاب الله تعالى فذلك من إضافات
الناصب عدو الله وعدوا أنبيائه وأوليائه كما لا يخفى، ومن أين علم أن قصد موسى
من إلقاء الألواح كان إهانة كتاب الله تعالى دون ما ذكرناه من المصلحة، ولو صح
قصده لذلك لكفى قدحا في عصمته سواء دعاه الحدة إلى ذلك أو غيرها، وأما قوله
وكل هذه عند أهل الحق محمول على ما يعرض البشر الخ فيوجب خروج إمامه
فخر الدين الرازي (1) وشيخه صاحب المواقف (2) عن أهل الحق حيث حملوا
ذلك على ما حمله عليه ابن المطهر طهر الله رمسه مما لا ينافي طهارة الأنبياء
عليهم السلام، فالعجب أن النواصب يحملون الآيات التي ظاهرها عتاب الأنبياء
عليهم السلام على ترك الأولى والأفضل على ظواهرها ويحكمون عليهم بالمعاصي
والخطاء مع دلالة العقل على وجوب تنزيههم عن ذلك، ومع وجود المحامل لظواهر
تلك الآيات، ويحملون هذيانا عمر بن الخطاب وكلماته التي ظاهرها منكر ومرتبته
أقل من مراتب الأنبياء عليهم السلام بأضعاف لا تحصى على خلاف ظاهرها ويمنعون
من جواز حلمها على ظواهرها مع أن كلامه لا محمل له ويتركون العمل بظاهره
بغير تأويل واضح وتوجيه بين، وهلا ساووا بينه وبين الأنبياء الذين هم في محل
التعظيم؟ وما ذاك إلا من قلة الإنصاف وشدة العصبية والاعتساف، وأما قوله: ولو
لم يكن القرآن متواترا ونقل لابن المطهر أن موسى ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه
يجره إليه لكان ينكر هذا الخ، فرجم بالغيب ورمي في الظلام كما لا يخفى، ومن أين
علم أنه لم يكن يحمله على ما ذكرناه من المحمل الذي ارتضاه مرتضى الشيعة

247
ووافق فيه فخر الدين الرازي وغيره.
قال المصنف رفع الله درجته
وفي الجمع بين الصحيحين (1) أن رسول الله (ص) قال في صفة حالة الخلق يوم
القيامة: وأنهم يأتون آدم ويسألونه الشفاعة فيعتذر إليهم فيأتون نوحا فيعتذر إليهم
فيأتون إبراهيم فيقولون يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى
ربك أما ترى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إن ربي قد غضب غضبا لم يغضب قبله ولن
يغضب بعده مثله، وإني قد كذبت ثلاث كذبات نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري،
وفي الجمع بين الصحيحين (2) أن رسول الله (ص) قال لم يكذب إبراهيم النبي (ع)
قط إلا ثلاث كذبات، كيف يحل لهؤلاء نسبة الكذب إلى الأنبياء وكيف يبقى الوثوق
بشرائعهم مع الاعتراف بتعمد كذبهم انتهى.
قال الناصب خفضه الله
أقول: قد عرفت فيما مضى أن الاجماع واقع على وجوب عصمة الأنبياء عن الكذب
وأما الكذبات المنسوبة إلى إبراهيم لما صح الحديث فالمراد منه صورة الكذب
لا حقيقته كما قال: بل فعله كبيرهم هذا فسئلوهم إن كانوا ينطقون (3)، وكان مراده
إلزامهم، ونسبة الفعل إلى كبيرهم، لأن الفأس الذي كسر به الأصنام وضعه على رقبة
كبير الأصنام فالكذب المأول ليس كذبا في الحقيقة، بل هو صورة الكذب إذا كان
التأويل ظاهرا وهذا لا بأس به عند وقوع الضرورة انتهى.

248
أقول
قد مر أن الاجماع لم ينعقد على العصمة عن الكذب على إطلاقه، بل خصها الأشاعرة
بما بعد النبوة، وأما ما ذكره من أن المراد بكذبات إبراهيم ما كان في صورة
الكذب لا حقيقة فمما يأبى عنه استعذار إبراهيم (ع) عن شفاعة الناس بأنه كذب
ثلاث كذبات فلا يليق بطلب الشفاعة من الله تعالى، وأيضا يأبى عنه قوله (ع) في
الرواية الثانية: إن إبراهيم لم يكذب قط إلا ثلاث كذبات فإن ما يفيده سوق الكلام
من الحصر والتأكيد بقوله قط يدل على أنه أراد حقيقة الكذب كما لا يخفى،
والحاصل أنا نعلم أن الكذب الذي يتراءى في الآية ليس بكذب بل هو من
المعاريض (1) التي يقصد بها الحق وهو إلزام الخصم وتبكيته كما لو قال صاحبك

249
وقد كتبت كتابا بخط في غاية الحسن أنت تكتب هذا وصاحبك أمي لا يحسن الخط،
فقلت له: بل كتبته أنت كان قصدك بذلك الجواب تقريره ذلك مع الاستهزاء لا نفيه
عنك وإثباته للأمي، لكن الكلام في الكذب المذكور في الحديث المنقول، فإنه
إذا لم يكن ذلك كذبا حقيقة كما ذكر أولا لم يكن به بأس كما ذكره ثانيا
فما وجه ما وصف في متن الحديث من شدة غضبه تعالى في ذلك حتى يئس إبراهيم
عن قبول شفاعته وعدل إلى الاعتذار. قال المصنف رفع الله درجته
وفي الجمع بين الصحيحين (1) أن النبي (ص) قال: نحن أحق بالشك من إبراهيم
إذا قال رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن
قلبي (2) ويرحم الله لوطا لقد كان يأوى إلى ركن شديد (3) ولو ثبت في السجن
طول لبث يوسف لأجبت الداعي (4) كيف يجوز؟! لهؤلاء القوم الاجتراء على النبي

250
(ص) بالشك في العقيدة انتهى.
قال الناصب خفضه الله
أقول: كان من عادة النبي (ص) التواضع مع الأنبياء كما قال لا تفضلوني على
يونس بن متى وقال لا تفضلوني على موسى قد ذكر في هذا الحديث فضائل الأنبياء
عليهم السلام، فذكر ثبات إبراهيم في الإيمان، والمراد من الحديث أن إبراهيم مع
ثباته في الإيمان وكمال استقامته في إثبات الصانع والحشر كان يريد الاطمئنان
ويقول ولكن ليطمئن قلبي فغيره أحق بهذا التردد الذي يوجب الاطمئنان، وأما
الترحم على لوط فهو أمر واقع، فإن لوطا كان يأوى إلى ركن شديد كما قال:
أو آوي إلى ركن شديد فترحم له رسول الله (ص) لأنه كان ضعيفا، وليس فيه الدلالة
على أنه (ص) عاب لوطا في أويه إلى ركن شديد، وأما قوله: لو لبثت في السجن
طول ما لبث يوسف لأجبت الداعي ففيه وصف يوسف (ع) بالصبر والتثبت في
الأمور وأنه صبر مع طول السجن حتى تبين أمره، فانظروا معاشر الناظرين
هل في هذه الأمور يرجع عيب وشين إلى الأنبياء مع أن الحديث صح وهو يطعن
في قول النبي (ص) نعوذ بالله من رأيه الفاسد انتهى.
أقول
لا دلالة للجملة الأولى من الحديث على إرادة النبي (ص) للتواضع مع إبراهيم،
وأي تواضع في إثباته له الشك الذي هما بريئان عنه في الواقع؟ مع صراحة كلامه
المحكي في القرآن على أنه لم يرد الشك، بل قال ذلك لزيادة الاطمئنان ولاعتضاد
النقل بالعقل، وبهذا ظهر أن ما ذكره الناصب من المراد بالحديث لا يرتبط بالشك
قطعا هذا، وقد نقل القسطلاني (العسقلاني خ ل) شارح البخاري عن الشافعي أنه
قال: معنى الحديث إن الشك يستحيل في حق إبراهيم ولو كان الشك متطرقا

251
إلى الأنبياء عليهم السلام لكنت أحق به من إبراهيم وقد علمتم أن إبراهيم لم يشك
فإذا لم أشك أنا ولم أرتب في القدرة على الإحياء فإبراهيم أولى بذلك انتهى،
وأقول: هذا التأويل الطويل العليل المشتمل على التمويه والتسويل يوجب إلحاق
الحديث التعمية والألغاز (1) فكان يجب على الشافعي أن يسأل الله تعالى طول عمره

252
ليصحب هذا الحديث أينما سار ويذكر تأويله لمن تلقى ظاهره بالانكار ونقل عن الزركشي (1)

253
أنه قال ذكر صاحب (1) الأمثال السائرة أن أفعل يأتي في اللغة لنفي
المعنى عن الشيئين نحو الشيطان خير من زيد أي لا خير فيها وكقوله تعالى أهم خير
أم قوم تبع (2) أي لا خير في الفريقين، وعلى هذا فمعنى قوله: نحن أحق بالشك
من إبراهيم لا شك عندنا جميعا وهو أحسن ما يتخرج عليه هذا الحديث انتهى،
وأقول: قبحه ظاهر إذ قياس ما نحن فيه على العبارتين السابقتين يقتضي أن يكون
معناها نفي الأحقية بالشك لا نفي الشك وهذا ظاهر لا يشك فيه المتأمل،
وأما ما ذكره من أن في الجملة الثالثة وصف يوسف (ع) بالصبر والتثبت في الأمور
إلخ فمدفوع بأنه مع ذلك يتضمن إظهار النبي (ع) عدم صبره على ذلك في سبيل الله
وأنه لو كان في مقام يوسف لأجاب دعوة زليخا وهذا هو محط التشنيع الذي ينبغي
براءة النبي (ص) عنه وهذا ما أراده المصنف قدس سهر، وأما الجملة الثانية
فهي وإن كانت في نفسها ظاهرة فيما ذكره الناصب، لكن مجموع ما ذكره من الجمل

254
الثلاثة حديث واحد مذكور في صحيح البخاري (1) والأولى والثالثة صريحتان في الشك
وعدم الصبر، فيلزم أن تكون الثانية أيضا واقعة على ما يناسبه سياقهما بأن فهم
النبي (ص) منها أن الباعث للوط (ع) على الالتجاء لركن شديد ضعف اعتقاده وفتور
اعتماده، واتكاله على الله تعالى، ولهذا أوله القسطلاني بأن المعنى لو أراد لآوى إليه
ولكن آوى إلى الله انتهى، ويؤيد ما ذكرناه ما ذكره (2) البخاري بعيد ذلك من قوله باب
قصة لوط (ع) حدثنا أبو اليمان (3) أخبرنا شعيب (4) حدثنا أبو الزناد (5) عن الأعرج (6)

255
عن أبي هريرة (1) عن النبي (ص) قال: يغفر الله للوط أن كان ليأوى إلى ركن شديد
انتهى، فإن فيه دلالة على أن لوطا يحتاج أن يستغفر له إن قال ذلك وقصر في الصبر على أذى القوم والله المستعان.

256
قال المصنف رفع الله درجته
وفي الصحيحين (1) وقال بينما الحبشة يلعبون عند النبي (ص) بحرابهم (2) فدخل
عمر فأهوى إلى الحصى (الحصباء) فحصاهم بها فقال له رسول الله (ص) دعهم يا عمر،
وروى الغزالي (3) في إحياء علوم الدين أن النبي (ص) كان جالسا وعنده
جواز يتغنين ويلعبن فجاء عمر فاستأذن فقال النبي (ص) للجواري، اسكتن فسكتن فدخل
عمر وقضى حاجته ثم خرج فقال لهن: عدن فعدن إلى الغناء، فقلن يا رسول الله:
من هذا الذي كلما دخل قلت اسكتن وكلما خرج قلت عدن إلى الغناء، فقال هذا
رجل لا يؤثر سماع الباطل، كيف يحل لهؤلاء القوم رواية مثل ذلك عن النبي (ص)
أيرى عمر أشرف من النبي (ص) حيث لا يؤثر سماع الباطل والنبي يؤثره انتهى.
قال الناصب خفضه الله
أقول: أما لعب الحبشة بالحراب فإنه كان يوم العيد وقد ذكرنا أنه يجوز اللهو يوم العيد
بالاتفاق، ويمكن أن يكون تجويز ذلك اللعب بالحراب لأنه ينفع في الحرب، وفيه المهارة
من طعن الحربة وكيفية تعليمه وإلقائه في الحرب، وكل ما كان من أمر الحرب فلا بأس به،
ويمكن أن يكون عمر لم يعلم جوازه فعلمه النبي (ص)، وأما ما روي عن الغزالي فإن صح
يمكن حمله على جواز اللعب مطلقا وفي أيام الأعياد، وكان النبي (ص) يسمعه
لضرورة التشريع حتى يعلم أن اللهو ليس بحرام، وربما كان عمر يمتنع منه ومكنه
رسول الله (ص) على عدم السماع ليعلم أن الأولى تركه، وسمع هو كما ذكرنا
لضرورة التشريع، فهل يلزم من هذا أن يكون عمر أشرف من النبي (ص) وعمر من

257
أمته وممن يتعلم منه الشريعة انتهى.
أقول
ما ذكره من أن ذلك اللعب كان يوم العيد رجم بالغيب كما مر، وما ذكره من أنه
يجوز اللهو يوم العيد دعوى من غير دليل، ودعواه الاتفاق على جواز ذلك ممنوع،
لظهور مخالفة الشيعة ومن وافقهم في ذلك، اللهم إلا أن يريد اتفاق الفساق من
أهل النصب والنفاق عليه، وليس في اتفاقهم رواج ونفاق (1) كما لا يخفى،
ومن هذا يعلم أيضا بطلان قوله: ويمكن أن يكون تجويز ذلك الخ، وقد علم بطلان
قوله: ويمكن أن يكون عمر الخ، بما ذكرناه في بعض الفصول السابقة فتذكر،
وأما قوله وكان النبي (ص) يسمعه لضرورة التشريع الخ فيقال في جوابه: ثبت
العرش ثم انقش (2)، وهل كون ذلك شرعيا إلا أول البحث والنزاع، وكذا الكلام
في توجيهه لما روى الغزالي، وبالجملة ما ذكره الناصب من التأويلات الباردة
الشبيهة بتأويلات الباطنية من الملاحدة والماردة مما يأبى عنها ما نسب في الرواية
إليه (ص) من قوله: هذا رجل لا يؤثر سماع الباطل، فإن ما هو جائز أو مكروه لا يوصف
بالباطل، فيلزم منه أن النبي (ص) مريد لسماع الباطل دون عمر، وهذا كفر محض
ممن يعتقده كما لا يخفى على من آمن بالله ورسوله فضلا عن استلزامه أشرفية عمر
عن النبي (ص) فيه، على أن ما يكون تشريعه ضروريا لا يكون تركه أولى فتأمل
قال المصنف رفع الله درجته
وفي الصحيحين (3) عن أبي هريرة قال: أقيمت الصلاة وعدلت الصفوف قياما قبل

258
أن يخرج إلينا رسول الله (ص)، فخرج إلينا رسول الله (ص) فلما قام في مصلاه ذكر
أنه جنب، فقال لنا: مكانكم، فلبثنا على هيأتنا قيام ثم رجع فاغتسل ثم خرج
إلينا ورأسه يقطر فكبر فصلينا، فلينظر العاقل هل يحسن منه وصف أدنى الناس
بأنه يحضر في الصلاة ويقوم في الصف وهو جنب؟ وهل ذلك إلا من تقصير في عبادة
ربه وعدم المسارعة إليها؟ وقد قال الله تعالى: وسارعوا إلى مغفرة من ربكم (1)
فاستبقوا الخيرات (2) فأي مكلف أجدر بقبول هذا الأمر من النبي (ص)،
وفي الجمع بين الصحيحين (3) عن أبي هريرة قال صلى بنا رسول الله (النبي)
(ص) إحدى صلاتي العشى قال محمد وأكثر ظني أنها العصر ركعتين، ثم سلم ثم قام
إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يده عليها وفيهم أبو بكر عمر، فهاباه أن يكلماه
وخرج سرعان الناس وقالوا: أقصرت الصلاة؟ ورجل يدعى ذا اليدين قال يا نبي الله
أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال لم أنس ولم أقصر، وقال بلى قد نسيت، قال: صدق
ذو اليدين فقام فصلى ركعتين ثم سلم، فلينظر العاقل هل يجوز نسبة هذا العفل إلى
رسول الله (ص) وكيف يجوز منه (ص) أن يقول ما نسيت؟ فإن هذا سهو في سهو
ومن يعلم أن أبا بكر وعمر حفظا ما نسي رسول الله (ص) مع أنهما لم يذكرا ذلك
للنبي (ص) انتهى.
قال الناصب خفضه الله
أقول: قد مر فيما سبق جواز السهو والنسيان على الأنبياء، لأنهم بشر سيما إذا

259
كان السهو موجبا للتشريع، فإن التشريع في الأعمال الفعلية آكد وأثبت من الأقوال
فما ذكر من حديث تذكر الجنابة فمن باب النسيان وفيه تشريع العمل بعد
النسيان إذا ذكر في المسجد أنه جنب يخرج كما هو لا يتيمم، ولا يلزم من هذا
نقص، وما ذكر من سهو النبي (ص) في الصلاة فهو سهو يتضمن التشريع فلا
بأس به، وما ذكره من نسيانه السهو فهذا أيضا يتضمن التشريع لأنه شرع بذلك
النسيان جواز وقوع الفعل المتعلق بالصلاة في اثنا الصلاة وكذا الكلام القيل،
والعجب أنه قال: كيف يجوز أن يحفظ أبو بكر وعمر ما نسي رسول الله (ص) وأي
عجب في هذا؟ فإن الإمام كثيرا ما يسهو والمأمومون لا يسهون، فلا يلزم من هذا
تفضيل المأموم على الإمام، وهل هذه الكلمات إلا ترهات ومزخرفات انتهى.
أقول
قد سبق الكلام منا أيضا على ما ارتكبه من الجواز وعلى ما استدل على من أن
النبي بشر وعلى جعل السهو والنسيان وسيلة إلى التشريع، وأما ما خصر هذا المقام
به من أن التشريع في الأعمال الفعلية آكد فممنوع بل القضية منعكسة لجواز أن
يكون التشريع الفعلي مخصوصا به بخلاف الأمر القولي العام، وبهذا يعلم ضعف ما
التزم صحته من التشريعات الفعلية المتتالية، وأما قوله: لأنه شرع بذلك النسيان
جواز وقوع الفعل المتعلق بالصلاة في أثناء الصلاة ففساده ظاهر، لأن ظهور تشريع
النسيان لم يكن متوقفا على أن يقف النبي (ص) بعد الصلاة قائما على خشبة المسجد
واضعا يديه عليها، ثم يدخل الحجرة ثم يخرج فيسأل عنه فيجيب بأربع كلمات ثم
يسأل عنه فيجب بمثل الأول مع أن التكلم بكلام الآدميين والفعل الكثير مبطل

260
للصلاة عند الفقهاء الأربعة أيضا، أما الأول فلما في كتاب الينابيع (1) إن مما
يتوقف عليه صحة الصلاة ترك الكلام لقوله (2) عليه الصلاة والسلام: لا يصلح فيها شئ
من كلام الناس، قال الشارح الأنصاري (3): المراد بكلام الناس ما يتخاطب به الناس
وما من جنسه، وفي التتمة (4) وغيره هو المسموع المتهجي (المهجي خ ل) سواء كان
مفهما أم لا، هذا هو مذهب الفقيه وعليه اللغوي والأصولي، وأما النحوي فلا يطلق
الكلام إلا على المفهم، فلما شرط فيها ترك الكلام فتبطل بالنطق بحرفين وحرف
مفهم ولو ممدودا، إذ المد حرف (إنتهى) نعم قال الشافعي: إنه لا تبطل
الصلاة بالكلام الصادر نسيانا أو جهلا إن لم يكثر ذلك الكلام بحسب العادة على الصحيح
الذي في الأم (5) وقطع به جمهور الشافعية، وعند أبي حنيفة (6) على ما في الهداية (7)

261
وغيرها تبطل بالنسيان والجهل لعموم ما مر من الحديث، وبهذا ظهر أن ما زعمه
الناصب من أن ما نسب إلى النبي (ص) من مراتب الجواب داخل في الكلام القليل
باطل مخالف لمذهب أصحابه أيضا، وأما الثاني فلما قال في الينابيع وشرحه أيضا:
إنه تبطل الصلاة بغير فعل مجانس لأفعاله الصلاة إن فحش ذلك الفعل كوثبة المصلي
وإن لم يكن كثيرا أو فعل غير مجانس صادر للعب مثل ضرب إحدى الراحتين بالأخرى
أو أن يفعل غير (زائد ظ) مجانس كثير ذلك الفعل بحسب العادة فتبطل الصلاة على
أظهر الوجوه الذي عليه الأكثرون، والفعل الكثير مثل ضربات ثلاث وخطوات ثلاث
متوالية كل واحدة فلا تبطل بأقل من ثلاث ولا بثلاث وأكثر من غير متوالية والقلة
والكثرة بحسب العرف والعادة على الأصح الذي عليه الجمهور انتهى، وأما ما ذكره
في مقام دفع التعجب من أن الإمام كثيرا ما يسهو والمأمومون لا يسهون إلخ فقد سهى
فيه عن علو شأن النبي (ص)، فإن الكلام سهوا ليس في إمام الصلاة الذي جوز
أهل السنة أن يكون عاصيا جاهلا فاجرا، بل في الإمام النبي المعصوم المؤيد
بالنفس القدسي والوحي الإلهي الذي يتوقع بركته صيانة المأمومين عن السهو والنسيان
الخطأ والطغيان كما قال مادح أئمة أهل البيت عليهم السلام بالفارسية نظم:
زهي امام كه پاسش نگاه ميدارد * بوقت نيست از انديشه خاطر ماموم
مگر حجاب نماند وگرنه از در وصف * بعد كتاب نگردد مقام او معلوم
ولقد علم بما قررناه وأوضحناه أن ما ذكره المصنف مزخرفات بمعنى المحبرات
والمزينات وبالمعنى الآخر لا يصدق إلا على أمثال ما أتى به الناصب من ركيك
الهفوات.
قال المصنف رفع الله درجته
وفي الصحيحين (1) عن عبد الله بن عمر أنه كان يحدث عن رسول الله (ص) أنه لقى

262
زيد (1) بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح وذلك قبل أن ينزل الوحي على رسول الله
(ص)، فقدم إليه رسول الله (ص) سفرة فيها لحم، فأبى أن يأكل منها، ثم قال: إني
لا آكل مما تذبحون علي أنصابكم ولا آكل إلا مما ذكر اسم الله عليه، فلينظر العاقل
هل يجوز له أن ينسب نبيه عليه الصلاة والسلام إلى عبادة الأصنام والذبح على
الأنصاب ويأكل منه؟ وأن زيد بن عمرو بن نفيل كان أعرف بالله منه وأتم حفظا
ورعاية لجانب الله، نعوذ بالله من هذه الاعتقادات الفاسدة انتهى.
قال الناصب خفضه الله
أقول: من غرائب ما يستدل به على ترك أمانة هذا الرجل وعدم الاعتماد والوثوق
على نقله رواية هذا الحديث فقد روى بعض الحديث ليستدل به على مطلوبه وهو
الطعن في رواية الصحاح وما ذكر تمامه، وتمام الحديث أن رسول الله (ص) لما
قال زيد بن عمرو بن نفيل هذا الكلام قال: وأنا أيضا لا آكل من ذبيحتهم ومما لا يذكر
عليه اسم الله تعالى فأكلا معا، وهذا الرجل لم يذكر هذه التتمة ليتمكن من الطعن
في الرواية نسأل الله العصمة من التعصب فإنه بئس الضجيع انتهى.
أقول
من بدايع حيل هذا الناصب الفاجر الكاذب الخائن أنه لما أراد التفصي عن التشنيع
المتوجه على أصحابه في هذه الرواية بضم بعض ما اخترعه من العبارات أرعد وأبرق
أولا وتشدد في إظهار التعجب والغرابة ونسبة المصنف قدس سره إلى الخيانة
والتقصير وختم ذلك بسؤال العصمة عن التعصب ليسد بذلك باب رجوع الناظرين

263
إلى مأخذ الرواية فلا يظهر خيانته فيها بالزيادة عليها، والحاصل إنا قد راجعنا
صحيح البخاري فكان الحديث كما نقله (1) المصنف قدس سره ولم يكن من الإضافة
التي ذكرها هذا الناصب الخائن الشقي عين ولا أثر، ومن أبى لحسن ظنه في هذا الشقي
السقيم فليراجع ذلك الصحيح ليتضح له ما أتى به من الكذب الصريح، ومن هنا
أيضا يظهر صدق ما أشرنا إليه في بعض المراتب من أن أصحاب الناصب بعد ما نبههم
الشيعة على شناعة بعض أحاديثهم يزيدون على ذلك أو ينقصون عن علي حسب ما عرض
له من ضيق الخناق، فلا يعتد بما يرويه أهل الشقاق.
قال المصنف رفع الله درجته
وفي الصحيحين (2) عن حذيفة (3) بن اليمان قال: كنت مع النبي (ص) فانتهى إلى

264
سباطة (1) قوم فبال قائما، فتنحيت، فقال: أدن، فدنوت، حتى قمت عند عقيبه
فتوضأ ومسح على خفيه، فكيف يجوز أن ينسب إلى رسول الله (ص) البول قائما
مع أن أرذل الناس لو نسب إليه هذا تبرأ عنه، ثم المسح على الخفين، والله يقول:
وأرجلكم (2) فانظروا إلى هؤلاء القوم كيف جوزوا الخطاء والغلط على
الأنبياء وإن النبي (ص) يجوز أن يسرق درهما ويكذب في أخس الأشياء وأحقرها
(إنتهى).
قال الناصب خفضه الله
أقول: اختلف في جواز البول قائما، فالذي يستدل بهذا الحديث، وعن
الأطباء أن البول قائما ينفع الكلية والمخصر (3)، فالنبي (ص) هكذا ليشرع

265
جواز البول قائما، وأي منقصة يتصور من البول قائما سيما إذا كان متضمنا للتشريع
وطلب الدنو من حذيفة ربما يكون لتشريع جواز البول قائما يقرب من الناس
بخلاف الغائط لغلظته ولتقذره، ولهذا كان يبعد عن الناس في الغائط دون البول،
وأما المسح على الخف فهو جائز بالاجماع من أهل السنة كما سيأتي في مباحث
الفقه إن شاء الله تعالى والله أعلم، ثم ما ذكر أنهم جوزوا الخطأ والغلط على الأنبياء
والنبي يجوز أن يسرق درهما فقد ذكرنا أن هذا افتراء محض ووجب على تنزيه الأنبياء
من الصغيرة الدالة على الخسة انتهى.
أقول
لا يخفى أن نفع الكلية عند الأطباء لا ينحصر في البول قائما

266
ولا هو من المعالجات التي يحصل التي يحصل بها سرعة البرء حتى هذا يعارض قبحه
الظاهر ويضطر معه إلى تشريعه، ولو تنزلنا عن ذلك فنورد عليهم مثل ما
أورده القفال الشافعي (1) على الحنفية من أنا نعلم ببديهة العقل أن شاء الله سبحانه
لم يرسل رسولا لأجل تشريع مثل هذا الحكم، وتحقيق وجه ابتلاء القوم بهذه
الرواية الموضوعة (2) أنه لما قال الثاني وبعض أصحابه: إن البول قائما أحصن
للدبر وفعلوه لذلك كما ذكره النووي في شرح هذا الحديث من صحيح مسلم ورأوا
أن فيه قباحة وشناعة وشركوا معه النبي (ص) بوضع هذا الحديث لئلا يجترئ أحد
على تشنيعه، ويؤيد (3) هذا ما نقل عن عائشة في هذا المقام أنها قالت من حدثكم أن

267
رسول الله (ص) كان يبول قائما فلا تصدقوه، ما كان يبول إلا قاعدا، ثم نقل (1)
عن ابن المنذر (2) في الإشراف أنه قال: اختلفوا في البول قائما فثبت عن عمر بن
الخطاب وزيد بن ثابت (3) وابن عمر (4) وسهل بن سعد (5) أنهم بالوا قياما انتهى
هذا (6)، وأما ما ذكره من أن نسبة تجويز سرقة الدرهم على الأنبياء إلى أهل
السنة افتراء فمكابرة ومراء لما سيجئ في مباحث الحدود والجنايات من المسائل

268
الفقهية أنهم قالوا: إن الدرهم ليس بمال، لأنه لا قطع فيه فسرقته لا تكون كبيرة
وقد مر أن الصغيرة جائزة على الأنبياء عند جماعة من أهل السنة فظهر تجويزهم لسرقة
الدرهم عليهم كما ذكره المصنف.
قال المصنف رفع الله درجته
وقد لزمهم من ذلك محالات منها جواز الطعن على الشرائع وعدم الوثوق بها، فإن
المبلغ إذا جوزنا عليه الكذب وسائر المعاصي جاز أن يكذب عمدا أو نسيانا أو يترك
شيئا مما أوحي إليه ويأمر من عنده فكيف يبقى اعتماد على أقواله انتهى.
قال الناصب خفضه الله
أقول: قد علمت فيما سبق مذهب الأشاعرة وأنهم لا يجوزون الكذب عمدا على
الأنبياء ولا سهوا، وهذا مذهبهم، وأما السهو في غير الكذب فيجوزونه ولا بأس
فيه، لأنه الله تعالى هو الذي يوقع عليه السهو ليجعله سببا للتشريع انتهى.
أقول
الكلام مع من أجازه من أهل السنة وقوع الكذب وغيره من المعاصي عن إبراهيم وغيره
من الأنبياء في حال النبوة كما مر، ولا يدفع ذلك القول بأن خصوص الأشاعرة
منهم لا يجوزون الكذب الخ، على أن الأشاعرة حيث يجوزون عليهم الكذب وسائر
الكبائر قبل البعثة فلا يبقى اعتماد على أقوالهم بعدها أيضا كما سنوضحه إن شاء الله
تعالى، وما ما ذكره من أن الله تعالى يجعل السهو على النبي (ص) سببا للتشريع
فقد مر أن الله متعال عن هذا التشريع الشنيع
قال المصنف رفع الله درجته
ومنها أنه إذا فعل المعصية فإما أن يجب علينا اتباعه فيها فيكون قد وجب علينا
فعل ما وجب تركه، واجتمع الضدان وإن لم يجب انتفت فائدة البعثة انتهى.

269
قال الناصب خفضه الله
أقول: قد ذكرنا هذا الدليل فيما مضى من قبل الأشاعرة وهو حجة على من يجوز
المعاصي على الأنبياء، وهذا ليس مذهب الأشاعرة، والصغائر التي يجوزونها على
الأنبياء ما يقع على سبيل الندرة ولا يقدح هذا في ملكة العصمة كما قد قدمناه،
ويجب أن يكون في محل يعلم أنها واقعة منه على سبيل الندرة، والنبي يبين أن
هذا ليس محل المتابعة، وبالجملة قد قدمنا أن تجويز المعصية على الأنبياء مطلقا
محل تأمل لهذا البرهان والله أعلم.
أقول
ما ذكره هيهنا مدفوع، بمثل ما دفعنا جوابه عن الفصل السابق فعليك بالتأمل في
التطبيق وبالله التوفيق.
قال المصنف رفع الله درجته
ومنها أنه لو جاز أن يعصي لوجب إيذائه والتبري منه، لأنه من باب الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، لكن الله تعالى قد نص على تحريم إيذاء النبي (ص)، فقال:
إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة (1) انتهى.
قال الناصب خفضه الله
أقول: قد ذكرنا هذا الدليل من قبل الأشاعرة وهو حجة على من يجوز الكبائر،
وأما الصغائر فمن لم يباشر الكبيرة في معفوة عنه فلا زجر ولا تعنيف ولا إيذاء
(إنتهى).
أقول
يندفع هذا أيضا ما ذكرناه في الفصل السابق وقد مر أن الأشاعرة يجوزون

270
الكذب في غير ما يتعلق بالرسالة وغيرها من الكبائر فهذا الدليل حجة على
الأشاعرة أيضا.
قال المصنف رفع الله درجته
ومنها سقوط محله ورتبته عند العوام فلا ينقادون إلى طاعته، فتنتفي فائدة البعثة،
ومنها أنه يلزم أن يكون أدون حالا من آحاد الأمة، لأن درجات الأنبياء في
غاية الشرف، وكل من كان كذلك كان صدور الذنب عنه أفحش كما قال الله تعالى:
يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين (4)
والمحصن يرجم وغيره يحد وحد العبد نصف حد الحر، والأصل فيه أن علمهم
بالله أكثر وأتم وهم مهبط ويحه ومنازل ملائكته، ومن المعلوم أن كمال العلم
يستلزم كثرة معرفته والخضوع والخشوع، فينافي صدور الذنب لكن الاجماع دل
على أن النبي (ص) لا يجوز أن يكون أقل حالا من آحاد الأمة، ومنها أنه يلزم
أن يكون مردود الشهادة لقوله تعالى: إن جائكم فاسق بنبأ فتبينوا (2) فكيف
يقبل عموم شهادته في الوحي؟ ويلزم أيضا أن يكون أدنى حالا من عدول الأمة
وهو باطل بالاجماع، ومنها أنه لو صدر عنه الذنب لوجب الاقتداء به لقوله تعالى
أطيعوا الله وأطيعوا الرسول (3) لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة
فاتبعوني (4) والتالي باطل بالاجماع وإلا اجتمع الوجوب والحرمة انتهى.
قال الناصب خفضه الله
أقول: قد سبق أن هذه الدلائل حجة على من قال بجواز صدور الكبائر عنهم

271
والاكثار من الصغائر حتى يصير سببا لحط منزلتهم عند الناس وموجبا للإيذاء
والتعنيف وترجيح الأمة عليه، وأما صدور الصغائر التي عفا الله عنها إذا كان على
سبيل الندرة فغير ممتنع، ولا تدل المعجزة على وجوب انتفاء شئ منها عنهم، وكل
هذه الدلائل قد ذكرناه فيما سلف وأن الأشاعرة ذكروها على سبيل الاستدلال
على من يقول بجواز الكبائر، وقد قدمنا أن بعض تلك الأدلة يدل على وجوب نفي
الذنب عن الأنبياء مطلقا والله تعالى أعلم انتهى.
أقول
ما ذكره الناصب هيهنا يدل على بهته واضطرابه واشتباه حقيقة مذهبه عليه ونسيانه
لما ذكره سابقا، فإنه لم يقل سابقا، إن هذه الدلائل حجة على من قال: بجواز
صدور الكبائر عن الأنبياء، ولو اعترف بذلك فقد تم لنا الدست (1) وقامت الحجة
عليه وعلى أصحابه، لأنه النزاع بين الفريقين إنما كان في أن المخل بالنبوة
والمانع من امتثال أمر الأنبياء هل هو وقوع الكبائر والصغائر أو جواز وقوعهما؟
فالأشاعرة كانوا يقولون: إن مجرد الجواز لا يخل بذلك، والإمامية كانوا
قائلين بإخلاله، وبالجملة الأشاعرة قائلون بجواز وقوع الكبائر عنهم، غاية الأمر
أنهم يقولون: إن العقل والسمع دل على عدم وقوع بعض الكبائر المخل بالمعجزة
كالكذب، وكيف ينكر هذا؟ وعنوان أدلته ثمة صريحة فيه حيث قال: الأول أنه
إن صدر عنهم الكذب الخ والثاني ذكرها المصنف إذا افرغ في قالب الدليل يصير أنه لو جاز
صدور الذنب عنهم لكان كذا، ولو جاز وقوع الكبائر عنهم لكان كذا، والفرق بين
العنوانين لفظا ومعنى ظاهر جدا، وأيضا قد سبق منا أيضا أن هذه اللوازم التي

272
سماها الناصب دلائل إنما أوردها المصنف على من قال بجواز صدور الكبائر والصغائر
عن الأنبياء مطلقا قبل البعثة وصدور بعض منها بعدها لا على خصوص
الأشاعرة فلا يفيد في دفعها إظهار تنزيه الأشاعرة عن ذلك مع أن الأشاعرة
بأجمعهم ليسوا براء عن ذلك كما مر أيضا، إن قيل: حاصل ما ذكر في المقام من
الدليلين الأولين أن تجويز المعاصي عن الأنبياء والأئمة عليهم السلام
يقدح فيما هو الغرض من بعثة الأنبياء ونصب الإمام أعني قبول أقوالهم وامتثال أوامرهم
ونواهيهم، فبينوا لنا وجه القدح في ذلك وسقوط مرتبتهم عند الناس، إذ هو خفي
جدا، ولهذا طال الكلام في المسألة بين الفريقين قلت: وجهه أن من يجوز عليه الكباير
والمعاصي فإن النفس لا تسكن ولا تطمئن إلى قبول قوله مثل (كما تسكن وتطمئن
خ ل) ما تطمئن إلى قول من لا يجوز عليه شئ من ذلك جزما قال (1) الشريف
المرتضى رضي الله عنه وهذا هو معنى قولنا: إن وقوع الكبائر والمعاصي ينفر
عن القبول والامتثال والمرجع فيما ينفر ولا ينفر إلى العادات (2) وليس ذلك مما
يستخرج بالدليل، ومن رجع إلى العادة علم صدق ما ذكرناه فإن الكبائر في باب
التنفر لا تنحط عن المباحاة التي تدل على خسة صاحبها وعن المجون (3) والسخافة
ولا خلاف في أنها ممتنعة عنهم، فإن قيل: أوليس قد جوز كثير من الناس الكبائر
على الأنبياء والأئمة ومع ذلك لم ينفروا عن قبول أقوالهم وامتثال أوامرهم؟ وهذا
يناقض قولكم إن الكبائر منفردة، قلنا: هذا من لا يعرف معنى التنفير، إذ لم نرد
به ارتفاع التصديق والامتثال رأسا، بل ما ذكرناه من عدم سكون النفس وحصول

273
الاطمئنان، ولا يشك عاقل في أن النفس حال عدم تجويز الكبائر أقرب منها إلى
ذلك عند تجويزها، وقد يبعد الأمر عند الشئ ولا يرتفع كما يقرب من الشئ ولا
يقع عنده، ولا يرى أن عبوس (1) الداعي إلى طعامه وتضجره منفر في العادة عن
حضور دعوته وتناول طعامه، وقد يقع مع ما ذكرناه الحضور والتناول ولا يخرجه
من أن يكون منفرا، وكذلك طلاقة وجه واستبشاره وتبسمه يقرب من الحضور
والتناول وقد يرتفع عند ذلك، ولا يقال: هذا يقتضي أن لا تقع الكبائر عنهم حال
النبوة والإمامة، وأما قبلها فلا لزوال حكمها بالتوبة المسقطة للعقاب والذم ولم
يبق وجه يقتضي التغير، لأنا نقول: إنا لم نجعل المانع عن ذلك استحقاق العقاب
والذم فقط، بل ولزوم التنفير أيضا، وذلك حاصل بعد التوبة، ولهذا نجد ذلك
من حال الواعظ الداعي إلى الله وقد عهدنا منه الإقدام على كبائر الذنوب وإن تاب
عنها، بخلاف من لم يعهد منه ذلك (2)، والضرورة فارقة بين الرجلين فيما يقتضي القبول
والنفور، وكثيرا ما نشاهد أن الناس يعيرون من عهد منه القبائح المتقدمة وإن
حصلت منه التوبة والنزاهة ويجعلونها نقصا وعيبا وقدحا، غاية ما في الباب أن الكبائر
بعد التوبة أقل تنفيرا منها قبل التوبة لا يخرج بذلك عن كونها منفردة، فإن قلت
فلم قلتم: إن الصغائر لا تجوز عليهم مطلقا ولا تنفير فيها؟ قلت: بل التنفير حاصل
فيها أيضا عند التأمل، لأن اطمئنان النفس وسكونها إنما هو مع الأمن عن ذلك
لا مع تجويزها، والفرق بأن الصغائر لا توجب عقابا وذما ساقط، لأن المعتبر
التنفير كما ذكرنا مرارا، ألا ترى أن كثيرا من المباحات منفردة ولا ذم ولا عقاب فيها

274
بل نقول: إنه ربما يحصل التنفير عما يورث لفاعله ثوابا أيضا باعتراف الخصم،
فإنهم أيضا ربما حكموا على بعض الاجتهادات البعيدة عن قانون العقل والتنقل
بكونه منفرا للعوام مع تصريحهم بأن المجتهد المخطئ مثاب، قال أبو المعالي
الجويني (1) الملقب بإمام الحرمين في رسالته المعمولة في بيان حقية (أحقية خ ل)
مذهب الشافعي، فإن قيل: قد أتفق للشافعي أصل (2) مقطوع ببطلانه على وجه أجمعت
الأمة شارقة وغاربة أرضا فأرضا طولا وعرضا على بطلان ذلك الأصل، وهو أنه
لم يجوز نسخ السنة بالكتاب ولم يجوز نسخ الكتاب بالسنة وهذا من أمحل المحالات
والعاصي إذا سمع هذا يستنفر طبعه وينزوي من تقليده والاقتداء به، الجواب قلنا:
هذا الأصل غير مقطوع ببطلانه، فإنه إنما لم يجوز نسخ السنة المتواترة بالكتاب
لأن الله تعالى الخ، وتقرير الكلام على هذا التفصيل والتدقيق من نفائس هذا التعليق
فاحفظه فإنه بذلك حقيق.
قال المصنف رفع الله درجته
المبحث الثالث في أنه يجب أن يكون منزها عن دناءة (3) الآباء وعهر الأمهات،

275
ذهبت الإمامية إلى أن النبي يجب أن يكون منزها عن دناءة الآباء وعهر الأمهات (1)

277
بريئا من الرذائل والأفعال الدالة على الخسة كالاستزراء (1) به (كالاستهزاء خ ل)
والسخرية والضحك عليه، لأن ذلك يسقط محله عن القلوب وينفر الناس عن
الانقياد له، فإنه من المعلوم بالضرورة الذي لا يقبل الشك والارتياب، وخالفت
السنة فيه، أما الأشاعرة فباعتبار نفي الحسن والقبح فلزمهم أن يذهبوا إلى جواز
بعثة من ولد من الزنا المعلوم لكل أحد، وأن يكون أبوه فاعلا لجميع أنواع
الفواحش وأبلغ أصناف الشرك، وهو ممن يتمسخر به ويضحك عليه ويصفع (2) في
الأسواق ويستهزء به قوادا، تكون أمه في غاية الزناء والقيادة والافتضاح بذلك
لا ترديد المس، ويكون هو عليه السلام في غاية الدناءة والسقاطة حال النبوة وقبلها
يصفع في الأسواق ويعتمد المناكير ويكون قوادا بصاصا (بطاطا خ ل. بطالا خ ل)
فهؤلاء يلزمهم القول يذلك حيث نفوا التحسين والتقبيح العقليين، وأن ذلك ممكن،
فيجوز وقوعه من الله تعالى وليس هذا أبلغ من تعذيب الله لمن لا يستحق العذاب
بل يستحق الثواب طول الأبد انتهى.
قال الناصب خفضه الله
أقول: نعوذ بالله من هذه الخرافات والهذيانات وذكر هذه الفواحش عند ذكر الأنبياء
والدخول في زمرة إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب
أليم في الدنيا والآخرة (3) وكفى به إسائة للأدب أن يذكر عند ذكر الأنبياء
عليهم السلام أمثال هذه الترهات، ثم يفتري على مشايخ السنة وعلماء الاسلام ما لا يلزم
من قولهم شئ منه، قود علمت أن الحسن والقبح يكون بمعاني ثلاثة، أحدها

278
وصف النقص والكمال، والثاني الملائمة والمنافرة، وهذان المعنيان عقليان لا شك
فيه، فإذا كان مذهب الأشاعرة أنهما عقليان فأي نقص أتم من أن يكون صاحب
الدعوة الإلهية موصوفا بهذه القبائح التي ذكرها هذا الرجل السوء الفحاش وكأنه
حسب أن الأنبياء أمثاله من رعاع الحلة الذين يفسدون على شاطئ الفرات بكل ما
ذكره نعوذ بالله من التعصب فإنه أورده النار انتهى.
أقول
الخرافة الظاهرة ما ظهر عن هذا الناصب الفاجر العاجز المبهوت الذي ينسج عليه
أمورا واهية كنسج العنكبوت، فمقصود المصنف عنه يفوت، فإنه لم يفهم مقصود المصنف
قدس سره مع ظهوره كالنور على شاهق الطور فأتى بما شاء من الفتور والفطور،
وذلك لأن كلام المصنف قدس سره في فعل الله وهو البعثة كما صرح به بقوله:
فلزمهم أن يذهبوا إلى جواز بعثة من ولد من الزناء الخ ولزوم (1) ما ذكره مع
القول بالحسن والقبح بالمعنيين المذكورين وتجويز صدور القبائح عنه تعالى ظاهر
لا خفاء فيه، إما بالنظر إلى المعنى الأول فلأن الكمال والنقصان مخصوصان
بالصفات كما صرحوا به فيما نقل سابقا، والبعثة من الأفعال فلا يجريان فيها،
وإما بمعنى الملائمة والمنافرة فلأن بعثة من يفعل به كل شنيع قد يلائم غرض
الفاعلين فجاز أن يبعث الله تعالى مثل هذا الشخص لملائمته غرض هؤلاء، إذ هو حاكم على
الاطلاق ولا يجب عليه شئ ولا يقبح بل كان قبيح يصير حسنا بفعله كما قال
به الأشعري، فكيف يحكم العقل بأحد المعنيين على عدم جواز ذلك على الله تعالى،
وقد أشار المصنف إلى انضمام باقي المقدمات التي ذكرناها بقوله: وإن ذلك

279
ممكن فيجوز وقوعه من الله وليس هذا أبلغ من تعذيب الله تعالى من لا يستحق
العذاب بل يستحق الثواب وفصل ذلك فيما سيجئ بعيد ذلك متصلا به عند الكلام
على المعتزلة فلا تغفل، ولقد اتضح بما ذكرناه أنه لا يرتبط بما ذكره المصنف
قدس سره ما ذكرناه هذا الناصب بقوله: فإن كان مذهب الأشاعرة أنهما عقليان
فأي نقص أتم من أن يكون صاحب الدعوة الإلهية موصوفا بهذه القبائح الخ،
وذلك لظهور أنه لا يلزم من إدراك العقل بأحد المعنيين قبح اتصاف صاحب الدعوة
بذلك إدراكه قبح إرسال الله تعالى لمثل هذا الشخص، وكيف يدرك ذلك مع أنه
على قاعدة القوم لا يقبح شئ عن الله تعالى، فيجوز عليه بعثة مثل ذلك الشخص كما
جوزوا عليه صدور غيره من القبائح والظلم حسب ما أشار إليه المصنف قدس سره
ويؤكده ما في المواقف وشرحه (1) من أن النبوة عند أهل الحق من الأشاعرة
من قال له الله: أرسلتك إلى قوم كذا ولا يشترط في الارسال شرط من الأعراض
والأحوال المكتسبة بالرياضيات والمجاهدات في الخلوات والانقطاعات، ولا استعداد
ذاتي من صفاء الجوهر وذكاء الفطرة كما يزعمه الحكماء، بل الله سبحانه يختص
برحمته من يشاء من عباده (2) فالنبوة رحمة متعلقة بمشيئته فقط انتهى، هذا،
وأما الآيات التي ذكرها في توبيخ المصنف قدس سره فإنما تناسب بحال أسلاف
الناصب حيث أشاعوا تلك الروايات الفاحشة وذكروها في صحاحهم وغيرها من
جوامعهم وتداولوها بينهم في أنديتهم ومجالسهم قرنا بعد قرن، فإن كون قصدهم في
ذلك تشييع الفاحشة ظاهر لا مجال للمناقشة فيه، وأما المصنف فليس قصده في هذا
المقام إلا استقباح أمر السلف في إشاعة تلك الفواحش ليرتدع الخلف عن اتباعهم
بل الذي فعله المصنف من قبيل الجرح والتعديل الذي قد أوسعوا له السبيل،

280
وفي تفسير النيسابوري أن بعضهم حمل الفاحشة على الزنا وخصص من يحب
شيوع الفاحشة بعبد الله بن أوفى، فعلى هذا لا ترتبط الآية بما نقله القوم أيضا فضلا
عن المصنف قدس سره، وأما ما ذكره من أن المصنف أساء الأدب بذكر تلك
القبائح والمعايب عند ذكر الأنبياء عليهم السلام فهذا أيضا من بركة البرامكة، (1)
فإن الأشاعرة وهم الذين قالوا: بجواز صدور الفواحش عنهم، فيلزم الناقل لكلامهم
ما لزمهم من المقارنة في الذكر ونقل الكفر ليس بكفر بالاتفاق، وأيضا كثيرا ما
يفرض الحكماء والمتكلمون عند الاستدلال على وجود الواجب أو على وحدته: مثلا
عدمه أو تعدده المستلزم لكفر قائله أو شركه، ولم يتوجه عليهم إلى الآن مؤاخذة
عن عاقل فضلا عن فاضل بأن ذلك إساءة أدب أو كفر أو شرك، فكذا فيما أتى به
المصنف هيهنا لاتحاد أسلوب الكلامين، وإنما الذي حمل الناصب على هذا التشنيع
عجزه عن الجواب أو انحرافه عن سمت الحق والصواب، كما حكي (2) أن رجلا
رأى فقيها ناقصا كالناصب في مسجد فسأله عم مسألة من مسائل الحيض أو الاستحاضة
ولما رأى الفقيه أنه عاجز عن جواب مسألته اضطرب وقال ساخطا عليه، أخرج
هذه القاذورات من بيت الله موه عليه جهل نفسه، فلينظر أولياء الناصب أن هذه

281
الحيل والتمويهات أفسد أو ما يصدر (1) من رعاع الحلة على شاطئ الفرات.
قال المصنف رفع الله درجته
وأما المعتزلة فإنهم حيث جوزوا صدور الذنب عنهم لزمهم القول بجواز ذلك
أيضا، واتفقوا على وقوع الكبائر منهم قبل البعثة كما في قصة إخوة يوسف، فلينظر
العاقل بعين الإنصاف هل يجوز المصير إلى هذه الأقاويل الفاسدة والآراء الردية،
وهل يبقى مكلف ينقاد إلى قبول قول من كان يفعل به الفاحشة طول عمره إلى وقت
نبوته وأنه يصفع ويستهزء به حال النبوة، وهل يثبت بقول مثل هذا حجة على الخلق،
واعلم أن البحث مع الأشاعرة في هذا الباب ساقط وأنهم إن بحثوا في ذلك فقد
استعملوا الفضول لأنهم يجوزون تعذيب المكلف على أنه لم يفعل ما أمره الله تعالى
به من غير أن يعلم ما أمره به ولا أرسل إليه رسولا البتة، بل على امتثال ما أمره به
وأن جميع القبائح من عنده تعالى، وأن كل ما هو واقع في الوجود فإنه من فعله
تعالى وهو حسن، لأن الحسن هو الواقع والقبيح هو الذي لم يقع، فهذه الصفات
المذكورة الخسيسة في النبي وأبويه تكون حسنة لوقوعها من الله تعالى، فأي مانع
حينئذ من البعثة باعتبارها، فكيف يمكن للأشاعرة منع كفر النبي وهو من الله وكل
ما يفعله تعالى فهو حسن، وكذا أنواع المعاصي وكيف يمكنهم مع هذا المذهب التنزيه
للأنبياء، نعوذ بالله من مذهب يؤدي إلى تحسين الكفر وتقبيح الإيمان وجواز بعثة
من اجتمع فيه كل الرذائل والسقطات، وقد عرفت من هذا أن الأشاعرة في هذا الباب
قد أنكروا الضروريات انتهى.
قال الناصب خفضه الله
أقول: استدلال المعتزلة على وقوع الكبائر من الأنبياء قبل البعثة بقصة إخوة يوسف

282
استدلال قوي، لأن الاجماع واقع (1) على أن إخوة يوسف صاروا أنبياء بعد إلقاء
يوسف في الجب وغيره من الذنوب التي لا شك أنها كبائر، وهذا الرجل ما تعرض
بجوابه إلا بالفحش والخزعبلة (2) واللوذعية (3) كالرعاع (4) والأجلاف (5)
السوقية، والمعتزلة يثبتون الوقوع وهو لا يقدر على الدفع ويبحث معهم في الجواز،
وهذا من غرائب أطواره في البحث، ثم ما ذكر أن البحث مع الأشاعرة ساقط
لأنهم يجوزون تعذيب المكلف وغيره من الطامات، وقد عرفت فيما سبق جواب كل
ما ذكر وأن الحسن والقبح شرعيان بمعنى وعقليان بمعنيين آخرين، وعلمت أن كل
ما ذكره بمذهبهم ولا يرد عليهم شئ وأنهم لا يخالفون ضرورة العقل انتهى
أقول
دعوى الاجماع ممنوع، وإنما ذهب من ذهب إلى كونهم أنبياء من تفسيره الاجتباء
بالنبوة في قوله تعالى (6): وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث
ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم
وإسحاق. الآية وليس الاجتباء صريحا ولا ظاهرا في هذا المعنى كما يشعر به قوله
تعالى: وكذلك يجتبيك، فإن معناه على ما ذكره فخر الدين الرازي في تفسيره كما

283
اجتباك بمثل هذه الرؤيا العظيمة الدالة على شرف وعز وكبرياء شأن كذلك يجتبيك
لأمور عظام، قال الزجاج (1):
الاجتباء مشتق من جبيت الشئ إذا أخلصته لنفسك
ومنه الماء في الحوض، وأيضا قال الرازي (2) واختلفوا في المراد بهذا الاجتباء
فقال الحسن: يجتبيك ربك بالنبوة، وقال آخرون: المراد به إعلاء الدرجة وتعظيم
المرتبة، فأما تعيين النبوة فلا دلالة في اللفظ عليه، ثم قال: وأعلم أنا لما فسرنا هذه الآية بالنبوة
لزم الحكم بأن أولاد يعقوب كلهم كانوا أنبياء، وذلك لأنه قال: ويتم نعمته عليك وعلى آل
يعقوب، وهذا يقتضي حصول تمام النعمة لا ل يعقوب فلما كان المراد من تمام النعمة هو النبوة
لزم حصولها لآل يعقوب وترك العمل به في حق من عدا من أبنائه وجب أن يبقى معمولا
به في حق أولاده انتهى، وكل ذلك صريح في عدم الاجماع، وأصرح من ذلك ما
في الشفاء للقاضي عياض (3) حيث قال: وأما قصة يوسف وإخوته فليس على يوسف
منها تعقب (فيها تعتب خ ل) وأما إخوته فلم تثبت نبوتهم فيلزم الكلام على أفعالهم
وذكر الأسباط وعدهم في القرآن عند ذكر الأنبياء ليس صريحا في كونهم من أهل

284
الأنباء قال المفسرون يريد من أبناء الأسباط (إنتهى) وكيف ينعقد الاجماع
في ذلك مع اتفاق أئمة أهل البيت عليهم السلام وعلماء شيعتهم على خلاف ذلك وأنهم
لم ينالوا عهد النبوة والإمامة، على أن الشارح الجديد للتجريد ذكر أن كثيرا من
المعتزلة ذهبوا إلى نفي الكبائر البعثة أيضا، فكيف يتأتى النظر إليهم دعوى
الاجماع على إخوة يوسف، مع أن قولهم فيما حكى الله عنهم في كتابه: ليوسف وأخوه أحب
إلى أبينا منا (1) محض الحسد، والحسد من أمهات الكبائر، لا سيما وقد أقدموا
بسبب ذلك الحسد على تضييع ذلك الأخ الصالح وإلقائه في غيابة الجب وذل
العبودية وتبعيده عن الأب المشفق، وألقوا أباهم في الحزن الدائم والأسف العظيم،
وأقدموا على الكذب، فما بقيت خصلة مذمومة ولا طريقة في الشر والفساد إلا وقد
أتوا بها، وكل ذلك يقدح في العصمة والنبوة، وأما قول الناصب: إن المصنف ما تعرض
بجواب استدلال المعتزلة إلا بالفحش، فمجاب بأن من يكابر ضرورة العقل لا يستحق
من الجواب إلا مثل ذلك كما مر وأما قوله: والمعتزلة يثبتون الوقوع ففيه أن إثبات
وقوع نبوة إخوة يوسف مما دونه خرط القتاد، لأنه هذا الناصب زعم ثبته بالاجماع
وقد أوضحنا بطلانه، ولنعم ما فعل من جعل الطامات بيانا لما ذهبت إليه الأشاعرة
في قوله: ثم ما ذكر أن البحث مع الأشاعرة ساقط لأنهم يجوزون
تعذيب المكلف وغيره من الطامات إلخ فافهم، وأما ما أحال جوابه إلى ما ذكر فيما
سبق فقد مرنا عليه نحن فيما سبق فتذكر.

285
في مباحث الإمامة
قال المصنف رفع الله درجته
المسألة الخامسة في الإمامة (1) وفيها مباحث الأول في أن الإمام يجب أن

286
يكون معصوما (1)، ذهب الإمامية إلى أن الأئمة كالأنبياء في وجوب عصمتهم عن

292
جميع القبائح والفواحش من الصغر إلى الموت عمدا وسهوا، لأنهم حفظة الشرع
والقوامون به، حالهم في ذلك كحال النبي (ص)، ولأن الحاجة إلى الإمام إنما هي
للانتصاف من المظلوم عن الظالم ورفع الفساد وحسم مادة الفتن، وأن الإمام
لطف بمنع القاهر من التعدي ويحمل الناس على فعل الطاعات واجتناب المحرمات
ويقيم الحدود والفرائض ويؤاخذ الفساق ويعزر من يستحق التعزير، فلو جازت
عليه المعصية وصدرت عنه انتفت هذه الفوائد وافتقر إلى إمام آخر وتسلسل،
وخالفت السنة في ذلك وذهبوا إلى جواز إمامة الساق والعصاة والسراق كما
قال الزمخشري (1) وهو من أفضل علمائهم: لا كالدوانيقي المتلصص يشير به إلى

293
المنصور (1)، فأي عاقل يرتضي (يرضى خ ل) لنفسه الانقياد الديني والتقرب إلى
الله بامتثال أؤامر من كان يفسقونه طول وقته وهو غائص في القيادة وأنواع الفواحش
ويعرض عن المطيعين المبالغين في الزهد والعبادة، وقد أنكر الله تعالى بقوله:
أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب (2)
فالأشاعرة لا يتمشى هذا على قواعدهم حيث جوزوا صدور القبائح عنه تعالى،
ومن جملتها الكذب فجاز الكذب في هذا القول تعالى عن ذلك علوا كبيرا،
وأما الباقون فإنهم جوزوا تقديم المفضول على الفاضل فلا يتمشى هذا الانكار على
قولهم أيضا فقد ظهر أن الفريقين خالفوا الكتاب العزيز انتهى.
قال الناصب خفضه الله
أقول: قد علم أن مبحث الإمامة عند الأشاعرة ليس من أصول (3) الديانات والعقائد،

294
بل هي عند الأشاعرة من الفروع المتعلقة بأفعال المكلفين، والإمامة (1) عند الأشاعرة

300
هي خلافة الرسول في إقامة الدين وحفظ حوزة الملة بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة
وشروط الإمام الذي هو أهل للإمامة ومستحقها أن يكون مجتهدا في الأصول
والفروع ليقوم بأمر الدين ذا رأي وبصارة بتدبير الحرب وترتيب الجيوش،
شجاعا قوي القلب
ليقوي على الذب من الحوزة، عدلا لئلا يجور، فإن الفاسق
ربما يصرف الأموال في أغراض نفسه، والعدل عندنا من لم يباشر الكبائر ولم
يصر على الصغائر، عاقلا ليصلح للتصرفات الشرعية بالغا لقصور عقل الصبي
ذكرا إذ النساء ناقصات العقل والدين حرا قرشيا فمن جمع هذه الصفات فهو
أهل للإمامة والزعامة الكبرى، وأما العصمة فقد شرطها الشيعة الإمامية
والإسماعيلية، واستدل عليه هذا الرجل بأن الحاجة إلى الإمام بالأمور المذكورة،
ولو جازت المعصية عليه وصدرت عنه انتفت هذه الفوائد، ونقول: ماذا يريد من
العصمة؟ إن أراد وجوب الاجتناب في جميع أحوال عن الصغائر والكبائر فلا نسلم
لزوم ذلك، لأن صدور بعض الصغائر المعفو عنها مع اجتنابه عن الكبائر لا يوجب
أن لا يكون منتصفا من الظالم للمظلوم، وباقي الأمور المذكورة، وإن أراد وجود ملكة
مانعة من الفجور فنحن أيضا نقول بهذه العصمة ووجوبها للإمام، لا نا شرطنا أن يكون
عدلا والعدل من له مكلة العصمة مانعة من الفجور، وصدور بعض الصغائر عنه في
بعض الأوقات ولا يبطل مكلة العصمة لأن الملكة كيفية راسخة في النفس متى يراد
صدور الفعل عنه صدر بلا مشقة وروية وكلفة، وصدور خلاف مقتضى الملكة
لا ينفي وجود الملكة لعوارض لا يخلوا الانسان عنها كصاحب الملكة الخلقية من العفة
والشجاعة قد يعرض له ما يعرضه إلى إصدار خلاف الملكة، ومع ذلك لا تزول عنه
الملكة، فالعصمة بمعنى الملكة حاصلة للمجتنب عن الكبائر المصر في تركها وإن
صدر عنه نادرا بعض الصغائر، فاندفع هذا الإشكال ولم يلزم التسلسل كما ذكره،
وأما ما قال: إن أهل السنة خالفوا ذلك وذهبوا إلى جواز إمامة السراق والفساق

304
فأنت تعلم أن هذا من مفترياته، لأن كتب أهل السنة مشحونة بالقول بوجوب
عدالة الأئمة (1)، فالفاسق كيف يجوز عندهم أن يكون إماما والحال أنه ضد العدل
فعلم أنه مفتر كذاب ونعم ما قلت فيه شعر:
إذا ما رأى طيبا في الكلام * بقاذورة الكذب قد دنسه
يخلط بالطهر أنجاسه * فابن المطهر ما أنجسه
والباقي من الكلام قد علمت أجوبته غير مرة انتهى
أقول
فيه نظر من وجوه أما أولا فلأن ما ذكره من أن مبحث الإمامة عند الأشاعرة ليس
من أصول الديانات بل من الفروع المتعلقة بأفعال المكلفين الخ دليل على عدم ديانتهم أو عدم
اطلاعهم على حقائق أصول الدين، فإن إنكارهم لأصالته مكابرة مردودة بما ذكره
المصنف: من أن الأئمة حفظة الشرع والقوامون به، حالهم كحال النبي (ص)
ولقوة هذا الدليل أغمض عنه الناصب ولم يتعرض له بل تعرض لما ذكره المصنف
بعد ذلك بقوله: ولأن الحاجة إلى الإمام الخ حيث قال: واستدل عليه هذا الرجل
بأن الحاجة إلى الإمام الخ فافهم، ومن العجب أنهم بالغوا في فرعية هذه المسألة
حتى قالوا: لا يجب البحث عنها ولا طلب الحق فيها بل يكفي فيها التقليد، ولهذا
لا يكفر مخالفها بل لا يفسق في ظاهر أقوالهم، وإنما التزموا ذلك لتحصل الغفلة
عما اقترحوه من ثبوت الإمامة بالاختيار دون النص والاعتبار، ولئلا يحصل الظفر
بفساد ما انتحله خلفائهم من حقوق الأئمة الأعلام واختلفوه (2) من الأحاديث التي

305
أسندوها (1) إلى النبي (ص)، ثم ناقضوا ذلك وصرحوا بأن حقوق النبوة من حماية
بيضة الاسلام وحفظ الشرع ونصب الألوية، والأعلام في جهاد الكفار والبغاة
والانتصاف للمظلوم وإنفاذ المعروف وإزالة المنكر وغير ذلك من توابع منصب النبوة
ثابتة للإمامة، لأنها خلافة عنها، ولقوله تعالى: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
وأولي الأمر منكم (2) وهو الإمام بالاتفاق، فيجب معرفته أصالة لا من باب المقدمة
ولما رووه في كتبهم كالحميدي في الجمع بين الصحيحين (3) من أن البني (ص)
قال من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، وهو نص صريح في أن الإمامة
من الأصول للعلم الضروري بأن الجاهل بشئ من الفروع وإن كان واجبا لا تكون
ميتته ميتة جاهلية، إذ لا يقدح ذلك في إسلامه، وليس المراد من إمام زمانه القرآن
المجيد كما زعموا وإلا لكان تعلمه واجبا على الأعيان، ولأن النبي (ص) أضاف
الإمام إلى الزمان وفيه دليل على اختصاص أهل كل زمان بإمام فيجب عليهم معرفته
ومع القول بأنه القرآن أو بعضه كالفاتحة لا يبقى لهذا التخصيص فائدة أصلا، سيما
على مذهب الحنفي الذي لا يوجب تعلم القرآن ولا الفاتحة ولا بعضا آخر منه، بل
يحكمونه بكفاية أن يقال (4) بالفارسية (دو برك سبز) كما هو المشهور بين الجمهور

306
فلا يكون هذا التأويل مطابقا لمقتضى الحديث قطعا بل قد صرح القاضي البيضاوي في مبحث الأخبار من كتاب المنهاج وجمع من شارحي كلامه بأن مسألة الإمامة
من أعظم مسائل أصول الدين الذي مخالفته توجب الكفر والبدعة، وقال الاسروشني (1) من الحنفية في كتابه المشهور بينهم بالفصول الاسروشني بتكفير من لا يقول بإمامة
أبي بكر، بل هم يناقضون ذلك بفعلهم أيضا حيث يتصدون لقتل (2) من ظن أن

307
أبا بكر ليس بإمام أو قال أنا أعتقد أن أمير المؤمنين (ع) خليفة النبي (ص) بلا واسطة
لظن أداني أو تقليد لبعض المجتهدين، وبالجملة لو كانت هذه المسألة من
الفروع لكفى فيها ظن المجتهد أو تقليد الغير، فلا يكون سبيل إلى تخطئة المجتهد
الذي ظن أو قال شيئا مما تقدم فضلا عن قتله والحال أن فتواهم بل فعلهم بخلاف ذلك
هذا، واستدل (1) في المواقف وشرحه على أنها من الفروع بأن نصب الإمام
واجب على الأمة سمعا لوجهين الأول أنه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول
بعد وفاة والنبي (ص) على امتناع خلو الوقت (2) عن إمام حتى قال أبو بكر ألا إن
محمد قد مات ولا بد لهذا الدين ممن يقوم به فبادر الكل إلى قبوله وتركوا أهم
الأشياء وهو دفن رسول الله (ص) والصلاة عليه والتعزية لأهل البيت عليهم السلام
وتسليتهم، ولم يزل الناس بعد الخلفاء على ذلك في كل عصر إلى زماننا هذا هذا من نصب
إمام متبع، الثاني أن فيه ضرر مظنون وأنه واجب إجماعا، وبيانه أنا علمنا
علما يقارب الضرورة أن مقصود الشارع فيما شرع إنما هو مصالح عائدة إلى الخلق
معاشا ومعادا انتهى، وأقول: فيه وجوه من الخلل وصنوف من الزلل، أما في
استدلاله على ذلك بأن نصب الإمام واجب على الأمة الخ، فلأنه مصادرة على المطلوب
لأنه وجوب النصب على الأمة متفرع على كونه من الفروع مع أن الوجوب السمعي

308
منحصر في الكتاب والسنة والاجماع، والكل مفقود هيهنا باعتراف الخصم كما سيظهر
لك قريبا، وأيضا وجوب نصبه على الأمة يقتضي أنهم إذا لم يتفقوا لم يحصل انعقاد
الإمامة، بل يجب إعادة النظر مدة بعد أخرى، وقد لا يثمر شيئا من ذلك اتفاقهم
لاختلاف الآراء غالبا وهو يبطل تعليقها على رأي الأمة وإلا لزم تعذر نصب الإمام
أو جواز عمل كل فريق برأيه فيكون منصوب كل فريق إمام عليهم خاصة وهو خلاف
المطلوب، وأما قوله: تواتر إجماع المسلمين على امتناع خلو الوقت وهو خلاف
فلأن امتناع خلو الزمان (الوقت خ ل) عن الإمام أعم من أن يكون منصوبا
من الله ورسوله أو من قبل الأمة، ولا دلالة للعام على الخاص، فلا يستلزم المطلوب
مع أن الاجماع المذكور حجة عليهم، لأنا نجد كثيرا من الزمان خاليا عن إمام جامع
للشرائط المعتبرة عندهم وهي القرشية عندهم بالاتفاق، والعدالة والاجتهاد على
الخلاف، والقول بوجوده في ناحية غير معلومة مكابرة، وأما قوله: فبادر الكل،
فلأن هذا الكل كان بعضا من الكل باتفاق الكل فلا يكون حجة على الكل
عند الكل، ولأنه يحتمل أن تكون المبادرة للتفحص عن إمام منصوب من الله تعالى ورسوله،
وأما قوله: وتركوا أهم الأشياء فلأن الذي ترك الإمام ودفن الرسول كان جائرا
جاهلا زنديقا (1) لا عالما عادلا صديقا، فليس ذلك مستلزم للمطلوب لقيام الاحتمال
المذكور، والشيعة يستدلون بفعلهم الشنيع هذا على عصيانهم بل عدم إيمانهم
واختيارهم الدنيا على الآخرة وذلك لأنهم يذكرون حديثا وهو أنه من صلى على
مغفور غفر له ذنوبه (2) فلو كانوا مصدقين بما جاء به النبي (ص) لما أعرضوا عن
هذه السعادة الكبرى والمغفرة العظمى مع أن المصلحة والمشورة في أمور الدين
والدنيا ما يفوت بيوم أو يومين، فلو كان لهم إيمان ومروة لصبروا للصلاة عليه (ص)
والتعزية لأهل البيت عليهم السلام وإدخالهم في المشورة، إذ النزاع كان معهم

309
ولذلك قال علي (ع) الشورى والمشيرون غيب (1) وليت شعري كيف صار ذلك
واجبا فوريا مع أنه حين أراد النبي (ص) أن يكتب في مرضه كتابا في هذا الباب
منع منه عمر وقال (2) حسبنا كتاب الله كما سيجئ، وأما قوله ولم يزل الناس الخ

310
فلأنه مكابرة وخلافه ظاهر لا يخفى علي أحد، وأما قوله: لأن فيه دفع ضرر
فلأن في نصب الإمام بعد النبي وخلفه ضرر مظنون بل مجزوم به، وكذا بعد ذلك
في بعض الأوقات: وأما قوله: لأنا نعلم الخ فلأن هذا القول مع عدم دلالته
على المقصود اعتراف منه بأن أفعال الله تعالى معللة بالأغراض لعدم الفرق بين المقصود
والغرض، والقول بأن مقصوده أو غرضه جل جلاله لا يكون باعثا على فعله مكابرة

311
صريحة كما لا يخفى، وقد تحقق بما فصلناه أن الإمامة خلافة عن النبوة قائمة
مقامها كما أشار إليه المصنف، فإذا كان كذلك فكل ما استدللنا به على وجوب
النبوة في حكمة الله تعالى فهو يعينه دال على وجوب الإمامة في حكمته أيضا، لأنها
سادة مسدها لا فرق بينها وبينه إلا في تلقي الوحي الإلهي بلا واسطة، وكذا الكلام
في الشرائط المعتبرة عندنا، وأما ما ذكره الناصب من اشتراط الاجتهاد فمردود
بأن رتبة الإمام أجل وأعلى من ذلك كما أن النبي (ص) كذلك لما سيجئ في
مباحث أصول الفقه من الأدلة على ذلك: ومنها أن الاجتهاد قد يخطئ ووقوع
الخطاء من النبي (ص) عندنا كان محالا لثبوت عصمته كما مر، فكذا الإمام
القائم مقامه كما سبق، ولأن الإمام إن لم يكن مؤيدا بالوحي لكنه متمكن
من الالهام ومطالعة اللوح المحفوظ كما يدل عليه كلام الشيخ (1) ابن حجر العسقلاني
في شرح ما رواه البخاري من حديث اعتراض النبي (ص) على الحسن (ع) أيام
رضاعه عند وضع بعض ثمرات الصدقة في فمه بقوله: كخ كخ (2) أما تعلم أن الصدقة
حرام علينا، فإن الشيخ المذكور أجاب عن قول من استبعد اعتراض النبي (ص)
على الحسن في حال رضاعه وعدم كونه مكلفا بعدم استواء حال الحسن (ع) وحال
غيره لأن الحسن (ع) في تلك الحال كان يطالع اللوح المحفوظ، على أنه لو بنى
على كفاية اشتراط الاجتهاد في الإمام فربما لزم إفحامه، لأنه يقول له المكلف:
لا يجب علي اتباعك حتى أعرف أن ما نقوله صواب غير ناش عن حال غلبة القوة الشهرية
ولا أعرفه إلا بقولك وقولك ليس بحجة دائما بل حال غلبة القوة العقلية المساوقة
للعصمة، ولا أعرف أن هذه الحال هي تلك الحال فينقطع الإمام، لا يقال: لم لا يجوز

312
معرفة صحة قوله يكونه مجتهدا، سلمنا لكن لم لا يجب قبول قوله كقبول قول
المفتي فإنه يجب على المقلد قبول قوله دائما وإن لم يكن معصوما، لأنا نقول:
أما مدعي الاجتهاد فيلزم إفحامه أيضا لأنه إذا ألزمه (1) المكلف له أن يقول:
إني اجتهدت فأدى اجتهادي إلى عدم وجوب قبول قولك في هذه الحالة فيقطع،
وأما وجوب قبول قوله كالمفتي فهو باطل لوجوه 7 منها: أن قبول قول المفتي إنما
هو على العامي المحض الذي لا يتمكن من معرفة الصواب عن الخطاء بالاجتهاد، أما
من يتمكن فلا يجب عليه قبول اجتهاد آخر (2)، ومنها ما هو مذكور في كتاب
الألفين (3) للمصنف قدس سره فليراجع إليه من أراد زيادة الإفادة، وأما اشتراطهم
للبصارة بتدبير الحروب فهي من لوازم اشتراط العصمة، إذا المعصوم مؤيد ضرورة
بالعقل والبصارة في ضروريات الدين وكذا الشجاعة، ولعل الناصب لما رأى أن
عريضا في غزوات النبي (ص) على ما سيجئ مشكلة أردفها بقوله: قوي القلب ليكون

313
مهر باله عند اعتراض أحد عليه في دعوى الشجاعة لهم، بأن يقول له على طريقة الرجم
بالغيب والرمي في الظلام: إن قوة القلب التي هي منشأ الشجاعة أمر غيبي
لا يعلمه إلا الله كانت حاصلة فيهم وإن لم يظهر فيهم لوازمها وآثارها، وفيه
ما فيه، وأما العدالة فقد أغنى الإمام ما اشترطنا فيه من العصمة عن اشتراط
التي دونها في المرتبة فلا يخفى ما في استدلاله على اشتراط العدالة وعدم
الجور بقوله: فإن الفاسق ربما يصرف الأموال في أغراض نفسه، فإنه أخص من
المدعى كما لا يخفى، وأما اشتراط الحرية فهو مما لا كلام فيه، وأما القرشية
فليس بشرط لكنه قد اتفق كون أئمتنا المعصومين الاثني عشر عليهم السلام من قريش
من بني هاشم ثم من بني عبد المطلب
ثم من آل النبي صلوات الله عليه وآله،
وأما ثانيا فلأن قوله: واستدل عليه هذا الرجل بأن الحاجة إلى الإمام إلى آخر
ما ذكره من الايراد والترديد مردود أولا بأن ما أتى به من منع اللزوم من للمدعى
المستدل عليه، فيكون خارجا عن قانون المناظرة، وثانيا إنا نختار أولا الشق الأول
ونقول: إن المنع الذي ذكره بقوله لا نسلم لزوم ذلك إما منع لوجوب الاجتناب عن الصغائر
كما يدل عليه قوله: لأن صدور بعض الصغائر الخ أو منع لوجوب الاجتناب في
جميع الأحوال أيضا، والثاني ظاهر البطلان، إذ من الأحوال حال الكهولة
والشيخوخة والسفر والحضر وحال القعود والقيام وحال كونه راكبا أو راجلا إلى
غير ذلك، ومن البين أن عدم انتصافه للمظلوم عن الظالم في بعض هذه الأحوال
يخل بفائدة إمامته وكذا الأول، لأن الكلام ليس في صدور الصغائر وفي إيجاب
ذلك عدم الانتصاف عن الظالم للمظلوم بل في جواز صدور الصغائر والكبائر عنه
واستلزام ذلك جواز أن يخطأ ولا ينتصف فيحتاج إلى إمام آخر وهكذا فيلزم التسلسل
والحاصل أن الغرض من نصب الإمام أن يبعد المكلفين عن الخطأ والعصيان ويقربهم
إلى الطاعة والرضوان، فلو كان هو أيضا جائز الخطأ لاحتاج إلى إمام آخر، وذلك

314
الآخر أيضا لو لم يكن معصوما لاحتاج إلى ثالث وهكذا فلو لم يكن في شئ من
المراتب إمام معصوم يلزم التسلسل، وقد شابه هذا الدليل دليل وجوب انتهاء
الممكنات إلى الواجب تعالى دفعا للتسلسل كما لا يخفى هذا، وربما يكابر المخالف
ويقول: ليس الغرض من الإمام ما ذكرتهم من التبعيد والتقريب، بل الغرض منه حفظ
أهل الاسلام وترتيب أمورهم على وجه النظام حتى لا ينتهي إلى الفتنة والفساد
واختلال أحوال العباد، وفي كلام الناصب إشعار بهذا أيضا، ودفعه ظاهر لأن
نظام الأمور على الوجه المخالف للشريعة ليس بمطلوب للشارع، فيجب أن يكون
الإمام معصوما وإلا لما كان نظام الأمور مع وجوده على الوجه الشرعي ولا أقل من
جهة معصيته فيحتاج إلى آخر يحصل منه الانتظام الشرعي ويتسلسل، وثالثا أنا
نختار الشق الثاني ونقول: إن أكثر ما ذكره من أحكام الملكة باطل مخترع من
عند نفسه سيما ما ذكره بقوله: وصدور بعض الصغائر عنه في بعض الأوقات لا يبطل
ملكة العصمة فإنه دعوى كاذبة باطلة، وما استدل عليه بقوله: لأن الملكة كيفية
المتداولة في تعريف الملكة ما أخذ فيه قيد الدوام والضبط قال العلامة الدواني (1)
في رسالته الفارسية المشهورة المعمولة في تحقيق معنى العدالة ما هذه عبارته:
(وچون نفس متمرن بكلمات ثلاث حكمت وعفت وشجاعت گردد برو جهى كه
على الدوام أفعال برقانونى مضبوط ونهجى مقرر از او صدور يابد بى تجشم رويتى
جديد وسعى مستأسف آنملكه عدالت باشد)، وقد عرف ابن الحاجب (2) في
مختصره وغيره في غيره العدالة بأنها كيفية راسخة تبعث المتصف بها على ملازمة
التقوى والمروة، والرسوخ والملازمة يقتضيان الدوام وعدم التخلف كما لا يخفى،

315
وهل يقول عاقل: إن الكتابة إذا صارت ملكة لا ينافيها وقوع الغلط فيها بعد ذلك؟
بل الذي نقله هذا الناصب سابقا في شرح مسألة عصمة الأنبياء من تعريف الأشاعرة
وهو أن لا يخلق الله فيهم ذنبا يقتضي الدوام واللزوم أيضا، بل ما نقله من تعريف
الحكماء ثمة يستدعي ذلك أيضا، فما ذكره من أن صدور خلاف مقتضى الملكة
لا ينفي وجود الملكة مقدمة فاسدة مخالفة للعقل والنقل، نعم يمكن وقوع خلاف
ملكة الدالة ظاهرا لعارض كالجبر بأن أوجر (1) الخمر في حلق صاحب تلك الملكة
أو كوجوب الكذب لإنقاذ النبي الذي قصده الأعداء فإن ارتكاب الكذب هيهنا إنما
هو لكونه أقل القبيحين وقد قال الشارع (ع): من ابتلى ببليتين فليختر أيسرهما
وحيث لا مخالفة للشرع حقيقة في هاتين الصورتين وما يحذو حذوها فلا يكون
الاتيان بهما قادحا في ملكة العدالة، ومن هذا الباب ما يصدر في حال التقية كما
لا يخفى، وأما ثالث فلأن إنكاره لما نسبه المصنف إلى أصحابه من تجويزهم إمامة
الفساق والسراق حيلة لا تفي بإصلاح ما أفسده أسلافه، فقد قال الأسفرايني الشافعي (2)
في كتاب الجنايات من الينابيع: وتنعقد الإمامة ببيعة أهل الحل والعقد من العلماء
والرؤساء ووجوه الناس الذين يتيسر حضورهم الموصوفين بصفات الشهود كإمامة (3)

316
الصديق واستخلاف من قبله ولو لبعضهم كإمامة (1) الفاروق ويجعله الشورى كإمامة (2)
عثمان وبقبول المولى من عهد المولى إلى موته بالقهر والاستيلاء ولو فاسقا أو جاهلا
أو عجميا انتهى، وقال شارح العقايد النسفية (3): إنه لا ينعزل الإمام بالفسق والجور (4)
لأنه قد ظهر الفسق وانتشر الجور من الأئمة والأمراء بعد الخلفاء، والسلف كانوا

317
ينقادون له ويقيمون الجمع (1) والأعياد بإذنهم انتهى، وقال شارح الوقاية (2)
في فقه الحنفية لا يحد الإمام حد الشراب، لأنه نائب من الله تعالى انتهى، وإنما
تكلفوا هذه الخرافات ليتيسر لهم حفظ صحة إمامة معاوية ويزيد وأمثالهم، ومن
قال منهم: إن الإمام يشترط أن يكون من أهل العدالة فالظاهر أنه شرط استحساني
عنده لا شرط لازم (3) كما قال في المطول (4): إن اعتقاد التنافي في شرط حسن
قصر القلب، وقال (5) عليه الصلاة والسلام لا صلاة إلا بحضور القلب أي لا كمال

318
إلا بها فتدبر، وأما ما قاله نظما بما قلت ارتجالا شعر:
إذا ما رأى فاضلا في الأنام * بفضلة فيه لقد دنسه
يلوث المطهر بما فضله * فضول أصفهاني ما أنجسه
قال المصنف رفع الله درجته
المبحث الثاني في أن الإمام يجب أن يكون أفضل من الرعية، اتفقت الإمامية (1)
على ذلك وخالف فيه الجمهور فجوزوا تقديم المفضول على الفاضل وخالفوا مقتضى العقل (2)

319
ونص الكتاب، فإن العقل يقبح تعظيم المفضول وإهانة الفاضل ورفع مرتبة
المفضول وخفض مرتبة الفاضل، والقرآن نص على إنكار ذلك فقال تعالى: أفمن
يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون (1)
وقال الله تعالى: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا
الألباب (2) وكيف ينقاد الأعلم الأزهد الأشرف حسبا ونسبا للأدون في ذلك
كله انتهى
قال الناصب خفضه الله
أقول: المراد من كون الإمام أفضل من الرعية إن كان كونه أحسب وأنسب وأشرف وأعرف
وأعف وأشجع وأعلم فلا يلزم وجوبه عقلا كما ادعاه على تقدير القول بالوجوب
العقلي، لأن صريح العقل يحكم بأن مدار الإمامة على حفظ الحوزة والعلم بالرياسة

320
وطريق التعيش مع الرعية بحيث لا يكون فظا غليظا (1) منقرا ولا سهلا ضعيفا
يستولي عليه الرعية (2)، ويكون حامي الذمار ويكفيه من العلم ما يشترط القوم
من الاجتهاد، وكذا الشجاعة والقرشية في الحسب والنسب، وإن وجد في رعيته
من كان في هذه الخصال أتم ولا يكون مثله في حفظ الحوزة فالذي يكون أعلم بتدبير
حفظ الحوزة فالعقل يحكم بأنه هو الأولى بالإمامة، وكثير من المفضولين يكونون
أصلح للإمامة من الفاضلين، إذ المعتبر في ولاية كل أمر والقيام به معرفة مصالحه
ومفاسده وقوة القيام بلوازمه، ورب مفضول في علمه وعمله وهو بالزعامة والرياسة
أعرف وبشرائطها أقوم وعلي تحمل أعبائها أقدر، وإن أراد بالأفضل أن يكون
أكثر ثوابا عند الله فهذا أمر يحصل له الشرف والسعادة ولا تعلق له بالزعامة والرئاسة
وإن أراد بالأفضل الأصلح للإمامة لكونه أعلم بحفظ الحوزة وتدبير المملكة فلا شك أنه
أولى، ولا يجب تقديم إذا حصل حفظ الحوزة بالأدون، بل الأولى والأنسب
تقديم هذا إذا لم يسبق له عقد بيعة، فإن سبق وكان في تغيره مظنة فتنة فلا يجوز
التغيير، هذا جواب ما استدل به على هذا المطلب من لزوم القبح العقلي مع إنا غير
قائلين به، وأما ما استدل به من الآية فهو يدل على عدم استواء العالم والجاهل

321
وعدم استواء الهادي والمضل والمهتدي والضال (1) وهذا أمر مسلم، فلذلك الفضل
الذي لم يصل إماما وصار المفضول إماما بترجيح على المفضول بالعلم والشرف، ولكن
المفضول إذا كان أحفظ لمصالح الحوزة وأصلح للإمامة فهو أحق بالإمامة، والفاضل
على فضله وشرفه ولا محذور في هذا، ومن الأشاعرة من فضل في هذه المسألة
وقال: نصب الأفضل إن أثار فتنة لم يجب كما إذا فرض أن العسكر والرعايا لا
ينقادون للفاضل بل للمفضول وإلا وجب انتهى.
أقول
مراد المصنف قدس سره أنه يجب أن يكون الإمام أفضل وأكمل من الرعية في
جميع أوصاف المحامد كالعلم والزهد والكرم والشجاعة والعفة وغير ذلك من
الصفات الحمية والأخلاق المرضية، وبالجملة يجب أن يكون أشرفهم نسبا
وأعلاهم قدرا وأكملهم خلقا وخلقا كما وجب ذلك في النبي بالنسبة إلى أمته،
وهذا الحكم متفق عليه من أكثر العقلاء إلا أن أهل السنة خالفوا في أكثره كالأعلمية
والأشجعية والأشرفية لأن أبا بكر لم يكن ذلك مع أن عمر وأبا عبيدة
نصباه إماما، وكذا عمر لم يكن كذلك وقد نصبه أبا بكر إماما، ولم يتفطنوا بأن
هذا الاختيار السوء قد وقع مواضعة ومخادعة من القوم حبا لجاه الخلافة وعداوة
لأمام الكافة كما يكشف عنه قول طلحة حين كتب أبو بكر وصية لعمر بالولاية
والخلافة حيث قال (2) مخاطبا لعمر: وليته أمس ولاك اليوم إلى غير ذلك من

322
المكائد والحيل والخديعة التي استعملوها في غصب الخلافة عن أهلها، وكذلك فريق من
المعتزلة منهم عبد الحميد بن أبي الحديد (1) المدايني قالوا بجواز تقديم المفضول
على الفاضل لمصلحة ما، وقالوا: إن عليا أفضل من أبي بكر وجاز تقديم أبي بكر
عليه لمصلحة، وهذا القول غير مقبول، إذ يقبح من اللطيف الخبير أن يقدم المفضول والمحتاج

323
إلى التكميل على الفاضل الكامل عقلا ونقلا كما تقدم في النبوة، ومنشأ شبهتهم
في هذا التجويز أن النبي (ص) قدم عمرو بن العاص على أبي بكر وعمر، وكذا
قدم أسامة بن زيد عليهما مع أنهما أفضل من كل منهما، والجواب بعد تسليم
أفضليتهما والإغماض من أن هذه الأفضلية إنما توهم لها بعد غصبهما الخلافة
إنهما إنما قدما عليهما في أمر الحرب فقط، وقد كانا أعلم منهما في قطعا، كما
دل عليه الأخبار والآثار، هذا إن جعلنا التقديم والتأخير منوطا باختيار الله تعالى،
وإن جعلناه منوطا باختيار الأمة كما هو مذهب جمهور الناصبة فهو أيضا غير مقبول
لأنه يقبح في العقول أيضا أن يجعل المفضول المبتدي في الفقه مقدما على ابن عباس
وذلك بين عند كل عاقل والمخالف فيه مكابر، ومن العجايب أن عبد الحميد بن
أبي الحديد نسب هذا التقديم الذي ذهب إليه إلى الله عز وجل فقال في خطبة شرحه
لنهج البلاغة (1): وقدم المفضول على الفاضل لمصلحة اقتضاها التكليف، وهذا القول
في غاية ما يكون من السخف، لأنه نسب ما هو قبيح عقلا إلى الله عز وجل مع أنه
عدلي المذهب وقد خالف مذهبه، ولهذا حصل الشكايات الواردة عن علي (ع) عن
الصحابة والتظالم منهم في الخطبة الموسومة بالشقشقية (2) على ذلك، ولا يخفى
أن الحمل على ذلك مما لا وجه له سوى التحامل على علي (ع)، لأن هذا التقديم
إن كان من الله تعالى لم يصح من علي (ع) الشكاية مطلقا، لأنها حينئذ تكون ردا
على الله والرد عليه حد الكفر، وإن كان من الخلق فإن كان هذا التقديم
لمصلحة المكلفين علم بها جميع الخلق غير علي (ع)، فقد نسبه (ع) إلى الجهل
بما عرفه عامة الخلق، وإن كان لا لمصلحة كان تقديما بمجرد التشهي فلم تكن

324
الشكاية على الوجه الذي توهمه، فلا وجه لحملها عليه فتوجه، ثم أقول: يمكن
أن يستدل على عدم جواز تفضيل المفضول بقول (1) أبي بكر: أقيلوني أقيلوني
فإني لست بخيركم وعلي فيكم وهذا من خواص هذا التعليق فاحفظه فإنه به
حقيق، ثم هذا الذي أجبنا به عن جانب المصنف اختيار للأعم من الاحتمالات
التي ذكرها الناصب في ترديده الثلاثي، وتتضح صحته وإفادته في المقصود عند
القدح التفصيلي على مقدمات ترديده المردود فنقول وبالله التوفيق: أما ما ذكره
الأعرف مع الأعلم في الشق الأول فمحل تأمل، لأنه إن أراد به الأعلم فيلزم
الاستدراك، وإن أراد به الأعرف لقواعد الرئاسة وحفظ الحوزة كما ذكره في
الشق الثالث فلا وجه لمنع وجوبه عقلا هيهنا وإثباته هناك، وأما قوله: لأن
صريح العقل يحكم بأن مدار الإمامة على حفظ الحوزة الخ فمردود بأنا سلمنا
أن المدار على حفظ الحوزة لكن ذلك الحفظ يعتبر أن يكون على الوجه الشرعي
الخالي عن شوائب الجور والظلم الذي لا يحصل إلا ممن اتصف بالعلم والفقه
والزهد والشجاعة بل بالعصمة كما مر دون الوجه العرفي السياسي الحاصل من

325
معاوية الباغي وجروه يزيد والوليد الأموي الجبار العنيد الذي استهدف المصحف
المجيد، والحجاج الظالم الفاتك الشديد، واللص المتغلب الدوانيقي ونحوهم
من كل شيطان مريد، فإنهم كانوا يدفعون الفتنة المتوهمة على الحوزة بل على
خصوص سلطنتهم وجاههم بقتل كل متهم (1) وصلب كل عدو متهم (2) وإحراق
بيوت أقوامهم وجيرانهم (3) وضرب أعناقهم (4) إلى غير ذلك من العذاب والنكال بلا
ثبوت ذنب منهم على وجه شرعي، وبالجملة أن حفظ الحوزة على الوجه المشتمل
على الانتظام الظاهري ودفع الهرج والمرج (5) ودفع تطاول بعض الآحاد على بعض
قد يترتب على وجود الخلفاء المجازية والملوك الجائرة بل بوجود الشحنة
والعسس (6) بل ربما يحصل هذا القسم من الانتظام دون غيرهم من الخلفاء الحقيقية
فإنهم بموجب سياساتهم العرفية المذكورة ربما يدفعون تطاول آحاد الناس على
غيرهم من العباد بوجه لا يتيسر لغيرهم من الخلفاء الأمجاد، لكنهم أنفسهم وأولياء
دولتهم يعملون من ضعفاء العباد ما يشاؤن من الجور والفساد، ولو وقع خلل في
أحكام الدين القويم واعوجاج في أركان الطريق المستقيم عجزوا عن الاصلاح والتقويم
كما أشار إليه عبيد الله بن (7) الحر في جملة قوله شعر:

326
تبيت النشاوى (1) من أمية نوما * وبالطف قتلى ما ينام حميمها
وما ضيع الاسلام إلا قبيلة (عصابة خ ل) * تأمر نوكاها (2) ودام نعيمها
فأضحت قتاة الدين في كف ظالم * إذا اعوج منها جانب لا يقيمها

327
وليتأمل ذو الرأي السديد أن فيما وقع أيام تغلب يزيد عليه من اللعنة ما يربو
ويزيد من قتلة الحسين (ع) شئ من حفظ الاسلام؟! أو في قتله لأهل المدينة (1)
وافتضاض ألف بكر من أولاد الصحابة والتابعين الكرام (2) رعاية حقوق الأنام؟!
أو في رمي المناجيق على الكعبة (3) وتخريب بيت الله الحرام (4) عمارة لما اختل
من النظام أو دعوة لمن دخلها إلى دار السلام؟! وأما ما اشترط الناصب من عدم
كون الإمام فظا غليظا (5) فيشكل بحال إمامه عمر، فإنه كان مذكورا على لسان
الصحابة بهاتين الصفتين كما سيجئ بيانه، وأما كفاية اشتراط العلم الاجتهادي
فقد مر ما فيه وسيجئ بيان الخطايا الفاحشة الصادرة عن اجتهاد عمر التي اعترف
فيها بقوله: لولا علي (ع) لهلك عمر (6) وقوله: كل الناس أفقه من عمر حتى
المخدرات في الحجال (7) وأما ما فرض بقوله: وإن وجد في رعيته من كان بهذه

328
الخصال الخ، ففرض محال، إذ لا يعقل كون الشخص متصفا بالأحسبية والأنسبية
والأشرفية والأعرفية والأعلمية والأشجعية ويكون غيره أعلم بحفظ الحوزة على
الوجه المطابق للقانون الشرعي، ولعلهم زعموا أن أبا بكر وعمر كانا كذلك بالنسبة
إلى علي (ع) وبطلانه ظاهر، لما اشتهر من أن أكثر (1) ما استعمله عمر من تدبير
فتح العجم ونشر الاسلام في بلادهم إنما كان بإشارة من علي (ع)، ومن أعظم ذلك
وأشهره أنه لما وصل إلى انتكاس راية الاسلام في مقابل راية أهل العجم
المسماة بالدرفش الكاوياني بخاصية ما كتب عليها بعض أهل الطلسمات من الجدول
المشتمل (2) على مأة بيت في مأة بيت، رسم أمير المؤمنين عليه السلام بقواعد علم

329
طلسم

330
الجفر المختص به على راية أهل الاسلام جدولا مشتملا على مائة وواحد حتى أبطل
خاصية ذلك الطلسم وانكسرت راية العجم عند المقابلة في المرة الثانية من الحرب
نعم كان (ع) محترزا عن استعمال الغدر والمكيدة والحيلة والخديعة التي يعد الحرب
مستعملها من الدهات، وكانوا يصفون معاوية بذلك، فقد حكي أنه لما بلغ علي (ع)
أن جماعة من عسكره يقولون: إن معاوية صاحب دهاء دون علي (ع)، قال لهم:
لولا الدين لكنت من أدهى العرب (1) وكذا الكلام في الشق الثاني من ترديده،
إذ لا يعقل أن يكون من هو أكثر ثوابا عند الله من جميع أهل عصره خاليا عن العلم
بقوانين الإمامة والرئاسة مفضولا فيه عن سائر أهل عصره، وأما ما ذكره في الشق الثالث
من أنه لا يجب التقديم إذا حصل حفظ الحوزة بالأدون، ففيه أن هذا عني الاعتراف
بجواز تقديم المفضول من حيثية يصلح للإمامة على الفاضل من تلك الحيثية، وتقديم
المفضول على الفاضل الذي أنكره العقل والنقل وجعله المصنف شناعة على القائل به

331
هو هذا، فكان الواجب على الناصب أن يقصر المسافة على نفسه ويقول إن تفضيل
المفضول جائز إذا انتظمت الرئاسة بالمفضول أيضا لئلا يصير باقي المقدمات لغوا
مستدركا، وأيضا سيصرح الناصب المردود أنه في هذا الجواب المردود بصدد
المماشاة مع الخصم في المحافظة على قاعدة الحسن والقبح العقليين مع أن ما ذكره
في الشق مخالف لما ذكره أعقل (1) الحكماء ورئيسهم في إلهيات الشفا حيث
قال بعد اشتراط النص والأفضلية ونحوها من الصفات في الخليفة والمعول الأعظم
العقل وحسن الايالة ممن كان متوسطا في الباقي بعد أن لا يكون غريبا في البواقي ولا
يكون بمنزلته في هذين، فيلزم أعلمهما أن يشارك أعقلهما ويلزم أعقلهما أن يعتضد به
ويرجع إليه مثل ما فعل عمر وعلي انتهى، إذ يفهم من عبارته أن الغريب من العلم الصائر
إلى الجهل مع كونه عارفا بحسن الايالة وقانون العدالة لا ينبغي للخلافة، وأن الأعرف
بالسياسة إنما كان أولى من الأعلم لم يكن الأعلم بمنزلته في العدالة والإيالة،
فلا يكون عمر على تقدير كونه أعرف بالسياسة أولى من علي (ع)، لأن عليا (ع) كان
في الأمرين على منزلة رفيعة كما اعترف به الخصم أيضا هذا، وفي تمثيل الشيخ
لذلك بحال علي وعمر دقيقة ذكرناها في كتاب مجالس المؤمنين (2)، ولعل الناصب
زعم أن مضمون هذا الشق منطبق على حال خلفائه الثلاثة وأنهم كانوا مفضولين عن
علي (ع) في العلم بحفظ الحوزة أيضا، لكن المفضول في ذلك يجوز نصبه مع وجود
الفاضل فيه، وفيه أنه لو كان لهم علم بحال الرياسة والقيادة لما أمر النبي (ص)
عليهم عمرو بن العاص مرة وزيد بن حارثة مرة وأسامة بن زيد أخرى، وإنما حصل
ما حصل في زمان تقمصهم الخلافة من بعض النظام بمعاضدة غيرهم من أصحاب الأشرار
كما لا يخفى على من تتبع الآثار والأخبار، وأما ما ذكره من أن هذا جواب ما

332
استدل به على هذا المطلب من لزوم القبح العقلي مع أنا غير قائلين به، ففيه أن
المصنف لم يستدل على ذلك بالحسن والقبح العقلي بالمعنى المتنازع فيه، بل تمسك
بغيره من الملائمة والمنافرة والنقص والكمال كما تمسك به الناصب سابقا في
الفصل المعقود لبيان تنزيه الأنبياء عن عهر الأمهات ونحوه، ولا ريب في أن الفاضلية
والمفضولية من باب الكمال والنقص والملائمة والمنافرة الذي يستقل بإدراكه العقل
ويحكم بترجيح أحدهما على الآخر، وأما ما ذكره من أن ما استدل به المصنف
من الآية فهو يدل على عدم استواء العالم والجاهل وعدم استواء الهادي والمضل الخ
ففيه إغماض وتجاهل عن تتمة الآية وهو قوله تعالى: أمن لا يهدي إلا أن يهدى،
فإنه صريح في أن من يحتاج في الهداية إلى أمر إلى غيره لا يليق بالاتباع وهذا هو
محط استدلال المصنف بالآية، فصل جل ما ذكره الناصب لغوا لا طائل تحته كما
لا يخفى، ولو سلم دلالته على مجرد عدم استواء العالم والجاهل لكن في الاستواء
يقتضي العموم كما تقرر في الأصول فيدل على عدم جميع وجوه المساواة فيلزم عدم
استواء الجاهل مع العالم في الإمامة أيضا وهو المطلوب، لا يقال: المذكور في الأصول
أن نفي المساواة في نفي قوله تعالى: لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة يقتضي
العموم، وكلمة من النفي ما هو أعم من المفهوم من كلمة ومعناها، وكلمة هل
في قوله تعالى: هل يستوي الذين يعلمون الآية استفهام إنكاري يدل على المبالغة
في النفي فضلا عن أصل النفي فافهم، وأما من فصل من الأشاعرة في هذه المسألة بما
ذكره الناصب فالظاهر أنه أشار بذلك إلى أن عليا (ع) وإن كان أفضل وأكمل،
لكن عساكر قريش وهم الصحابة في ذلك الزمان لم يكونوا ينقادون له لما في
قلوبهم من الأضغان الجاهلية والأحقاد البدرية الناشئة من هلاك صناديدهم وأولادهم
وإخوانهم بسيفه (ع)، ويؤول حاصل هذا الكلام إلى أنهم لم يستخلفوا عليا مع

333
استحقاقه للخلافة، لأنهم لو استخلفوا لما انقادوا له وأثاروا الفتنة كما أثاروها عند
وصول الخلافة إليه بعد الثلاثة وفساده ظاهر.
قال المصنف رفع الله درجته
البحث الثالث في طريق تعيين الإمام ذهبت الإمامية كافة إلى أن الطريق إلى
تعيين الإمام أمر أن النص من الله تعالى أو نبيه أو إمام ثبتت إمامته بالنص عليه أو ظهور
المعجزات على يده، لأن شرط الإمام العصمة وهي من الأمور الخفية الباطنة التي
لا يعلمها إلا الله تعالى، وخالفت السنة في ذلك وأوجبوا إطاعة أبي بكر على جميع
الخلق في شرق الأرض وغربها باعتبار مبايعة عمر بن الخطاب له برضاء أربعة: أبي
عبيدة (1) وسالم مولى حذيفة (2) بشير بن سعد (3) وأسيد بن حضير أبو الحصين (4)

334
لا غير، فكيف يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر إيجاب اتباع من لم ينص الله ولا
رسوله ولا اجتمعت الأمة عليه على جميع الخلق لأجل مبايعة أربعة أنفار، بل قد ذهب
الجويني (1) وكان من أكثرهم علما وأشدهم عنادا لأهل البيت عليهم السلام إلى أن
البيعة تنعقد بشخص واحد من بني هاشم إذا بايعه رجل واحد لا غير، فهل يرضى
العاقل لنفسه الانقياد إلى هذا المذهب وأن يوجب على نفسه الانقياد وبذل الطاعة
لمن لا يعرف عدالته أيضا ولا يدري حاله من الإيمان وعدمه، ولا عاشره ليعرف
جيده من رديه وحقه من باطله لأجل أن شخصا لا يعرف عدالته أيضا بايعه،
وهل هذا إلا محض الجهل والحمق والضلال عن سبيل الرشاد؟ نعوذ بالله من اتباع الهوى
وغلبة حب الدنيا، ومن أغرب الأشياء وأعجبها بحث الأشاعرة عن الإمامة
وفروعها وعن الفقه وتفاصيله مع تجويز أن يكون جميع الخلق على الخطاء والزلل
وأن يكون الله قد قصد إضلال العبيد بهذه الشرائع والأديان، فإنهم غير جازمين
بصدقها بل ولا ظانين، فإن مع غلبة الاضلال والكفر وأنواع العصيان الصادرة منه
تعالى كيف يظن عاقل أو يشك في صحة الشرائع؟ بل يظن بطلانها عندهم حملا
على الغالب، إذ الصلاح في العالم أقل من القليل، ثم مع تجويزهم أن يحرم الله
تعالى علينا التنفس في الهوى مع الضرورة والحاجة إليه وعدم المفاسد عنه من كل
وجه ويحرم علينا شرب الماء السائغ مع شدة العطش والانتفاع بذلك الماء وعدم التضرر

335
به وانتفاء المفاسد كلها كيف يحصل الجزم بأنه يفعل اللطف بالعبد والمصلحة في
إيجاب اتباع هذا الإمام انتهى.
قال الناصب خفضه الله
أقول: اعلم أن الشخص بمجرد صلوحه للإمامة وجمعه لشرائطها لا يصير إماما، بل
لا بد في ذلك من أمر آخر، وإنما يثبت بالنص من الرسول ومن الإمام السابق
بالاجماع، ويثبت أيضا ببيعة أهل الحل والعقد كما سيأتي بعد هذا مفصلا إن شاء الله
في محاله، وأما ما ذكر أن خلافة أبي بكر انعقدت ببيعة عمر ورضاء أربعة لا غير،
فهذا أمر باطل يكذبه النقول المتواترة وإجماع الأمة، فإن خلافة أبي بكر انعقدت
يوم السقيفة بمحضر من أرباب الحل والعقد، وهم كانوا ذلك اليوم جماعة الأنصار
سيما الخزرج، لأن المراد من أهل الحل والعقد أمراء العساكر ومن لم يتم أمر
الإمارة والخلافة بغير رضاهم، وكانت في ذلك الوقت جماعة الأنصار أهل الحل
والعقد بهذا المعنى، وهل اختلف رجل واحد من زمان الصحابة إلى اليوم من
أرباب التواريخ أن أبا بكر لم يفارق السقيفة حتى بايعه جميع الأنصار إلا سعد بن
عبادة وهو كان مريضا ومات بعد سبعة أيام؟، فكيف يقول: إن خلافته انعقدت ببيعة
عمر ورضاء أربعة من الصحابة، وهل هذا إلا افتراء باطل يكذبه جميع التواريخ
المثبتة في الاسلام، نعم البادي في البيعة كان عمر بن الخطاب وتتابع الأنصار وبايعوه
بعد تلجلج وتردد ومباحثة، ولو كان الأنصار سمعوا من رسول الله (ص) النص
على خلافة علي (ع) فلم لم يجعلوه حجة على أبي بكر؟ ولم لم يدفعوا خلافته بهذه

336
الحجة، أكانوا يخافون من أبا بكر وعمر وهم كانوا في عقر (1) دارهم؟ وقد اجتمعوا
لنصب الإمام من قومهم وكانوا زهاء (2) ألف أو زيادة وقالوا بعد المباحثة: منا أمير
ومنكم أمير، فلم لم يقولوا: يا أبا بكر يا عمر إن العهد لم يطل وإن رسول الله (ص)
في غدير خم نص بخلافة علي (ع) فلم تبطلون قول رسول الله (ص) ولم لا تنقادون
بقوله؟ وكان أقل فائدة هذه المباحثة دفع البيعة عن أنفسهم، ولم يجترئ أحد منهم من
الإمامية أن يدعي أن الأنصار قالوا يوم السقيفة هذا القول، فيا معشر العقلاء
تأملوا هل يمكن وجود النص في محضر جميع الناس ولم يحضر الأنصار؟، وهل
يمكن أن الأنصار الذين نصروا الله ورسوله وتبوأوا الدار والإيمان وارتكبوا
عداوة العرب وقتل الأشراف في نصرة رسول الله (ص) كانوا ساكتين في وقت المعارضة
ولم يذكروا النص أصلا؟ مع أن عمر وأبا عبيدة ألزماهم بقوله (ص): الأئمة من
قريش، فلم لم يقولوا لعلي بنص من رسول الله (ص) يوم غدير خم، والعاقل
المسلم المنصف لو تأمل فيما قلنا من سكوت الأنصار وعدم الاستدلال في دفع بيعة
أبي بكر بالنص على علي (ع) لجزم بعدم النص من رسول الله (ص) على أحد، ويعلم
أن خلافة أبي بكر ثبتت ببيعة أرباب الحل والعقد، ثم ما ذكر هذا الرجل من
أن الأشاعرة لا يقدرون على هذا المبحث وتعجب عن بحثهم في الإمامة لقولهم:
بأن الله خالق كل شئ فهذا شئ ذكره مرارا وهو لا يعرف غير هذا، وتصوير
المحالات على رأيه الباطل، الفاسد، وقد بينا لك أن شيئا مما ذكره لا يلزم
الأشاعرة، وكثرة التكرار من شأن الكوزيين وأمثالهم انتهى.
أقول
فيه وجوه من الجهل وضروب من التجاهل، أما أولا فلما في قوله: إن الشخص

337
بمجرد صلوحه للإمامة وجمعه لشرائطها لا يصير إماما الخ أن هذه المقدمة لا تفيد
في إثبات مطلوبه، لأن مجرد استجماع الشرائط وإن لم يوجب كون الشخص
إماما لكن من البين أن الشخص لا يصير إماما منصوصا (1) عليه من الله تعالى ما لم
يكن مستجمعا للشرائط، والكلام في أن غير علي (ع) هل كان مستجمعا لها أم لا
فافهم؟ وأما ثانيا فلأن حكمه ببطلان ما ذكره المصنف من أن إمامة أبي بكر
انعقدت ببيعة عمر ورضاء أربعة لا غير جهل أو تجاهل ظاهر لظهور أنه حق جرى على
لسان باطل من أصحابه وهو صاحب المواقف وشرحه الشارح قدس سره الشريف
على منواله قال: وإذا (2) ثبت حصول الإمامة بالاختيار والبيعة فاعلم أن ذلك

338
الحصول لا يفتقر إلى الاجماع من جميع أهل الحل والعقد إذ لم يقم عليه أي على
هذا الافتقار دليل من العقل والسمع، بل الواحد والاثنان من أهل الحل والعقد
كاف في ثبوت الإمامة ووجوب اتباع الإمام على أهل الاسلام، وذلك لعلمنا بأن
الصحابة مع صلابتهم في الدين وشدة تحافظهم على أمور الشرع كما هو حقها

339
اكتفوا في عقد الإمامة بذلك المذكور من الواحد والاثنين كعقد عمر لأبي بكر
وعقد عبد الرحمان بن عوف لعثمان ولم يشترطوا في عقدها اجتماع من في المدينة
من أهل الحل والعقد فضلا عن إجماع الأمة من علماء أمصار الاسلام ومجتهدي جميع
أقطارها هذا كما مضى ولم ينكر عليهم أحد، وعليه أي وعلى الاكتفاء بالواحد
والاثنين في عقد الإمامة انطوت الأعصار بعدهم إلى وقتنا هذا (إنتهى) ومن العجب
أن هذا الناصب أخذ جل ما ذكره في هذا القسم من الكتاب من المواقف وشرحه
ولم يصل هذا الذي نقلناه إلى نظره، ثم نقول على تقدير أن يكون أهل البيعة أناسا
كثيرين لا خفاء في أنهم تابعون لتصرف الشرع فيهم لا تصرف لهم في أنفس غيرهم
من آحاد الأمة، وفي أقل مهم من مهماتهم فكيف يولون الغير على أنفس الخلائق
منهم ومن غيرهم، فإن من لا يعقل له التصرف في أقل الأمور لأدنى الأشخاص
كيف يكون له قدرة على جعل الغير متصرفا في نفوس أهل الشرق والغرب وفي دمائهم
وأموالهم وفروجهم، هذا على أن ادعائه النقول المتواترة على دعواه الباطلة
المذكورة ينافي ما سيذكره عند ذكر مناقب علي (ع) من إنكار وجود النقل المتواتر
في العالم سوي واحد، وأما ثالثا فلأن قوله: أهل الحل والعقد كانوا ذلك اليوم
جماعة الأنصار يدل بظاهر الحصر المفهوم منه على أن عمر وأبا عبيدة الذين كانا
عمدة أهل البيعة خارجان عن أهل الحل والعقد غير متصفين بالاجتهاد وهذا إزراء
بجلالة قدر الرجلين عندهم كما لا يخفى، ثم استدلاله على هذا الحصر بقوله: لأن
المراد من أهل الحل والعقد أمراء العساكر الخ مدخول من وجهين: أحدهما أن
تفسير أهل الحل والعقد بأمراء العساكر اختراع من الناصب لا يوجد في شئ من
كتب أصحابه ولا غيرهم، وإنما الذي صرح به ابن الحاجب (1) في مختصره والعضد
الإيجي (2) في شرحه وغيرهما في غيرهما أن الاجماع اتفاق المجتهدين من أمة

340
محمد (ص) في عصر على أمر ديني أو دنيوي، وثانيهما أن تفسير أمراء العساكر وحصرها
في الأنصار يوجب خروج أمير المؤمنين وأبي بكر وعمر وعثمان وأسامة بن زيد الذي
كان أمير على الثلاثة وغيرهم عند وفاة النبي (ص)، فإن هؤلاء كلهم أمراء مهاجرون
كما لا يخفى، نعم قال بعض المتكلمين من أهل السنة: إنه وإن لم يتحقق الاجماع
على خلافة أبي بكر في يوم السقيفة، لكنه بعد ذلك إلى ستة أشهر قد تحقق اتفاق
الكل على خلافته ورضوا بإمامته فتم الاجماع حينئذ، وفيه أن ذلك أيضا ممنوع بعدم
بيعة علي (ع) وأصحابه له ولو بعد ستة أشهر، ولو سلم أنه صفق على يده كما يفعله
أهل البيعة فلا ريب في أن سعد بن عبادة وأولاده لم يتفقوا على ذلك ولم يبايعوا
أبا بكر ولا عمر كما سنبينه، ولو سلم فنقول: قد اعتبر في تعريف الاجماع اتفاق
أهله على أمر واحد في وقت واحد، إذ لو لم يقع ذلك في وقت واحد احتمل رجوع
المتقدم قبل موافقة المتأخر، فلا معنى لحصول الاجماع على خلافة أبي بكر فهو خلاف
الواقع بالاتفاق، وإن ادعوا حصول الاتفاق في أوقات متعددة فإثباته أصعب من خرط
القتاد كما عرفت، والظاهر أن هذا الناصب في عدم مبالاته بالكذب وإكثاره من
الافتراء على الكتاب والسنة والتاريخ قد اعتمد على ظن منه أن كتابه هذا مما
لا يمكن أن يصل إلى أيدي علماء الإمامية ومن ضاهاهم ومن أهل العلم والبصيرة ولا
يبعد ذلك، لأنه كتب هذا الكتاب في بلدة قاسان من بلاد ما وراء النهر عند فراره
عن السلطان الأعظم شاه إسماعيل الحسيني الصفوي (1) أنار الله برهانه كما قرره

341
في أول الكتاب متحفا لكتابه إلى شاهر بيك خان (1) وإلى تلك البلاد، وقرر على

343
نفسه أن أحدا من علماء لا يمكن أن يوجد هناك خوفا عن الهلاك، وكودان
أهل ما وراء النهر لا معرفة لهم بما عدا فقه أبي حنيفة وأصوله وطرف من ظاهر العربية
فلا يطلع أحد منهم أيضا على الأكاذيب المودعة في كتابه، والحق أنه قد أصاب
المخطي في ذلك، ولهذا قد رأيت في ظهر نسخته الميشومة بخط بعض قضاة ما وراء
النهر سطورا بالغ فيها في مدح هذا الكتاب والثناء على مؤلفه قالتهم الله،
وأما رابعا فلأن ما ذكره من أن أبا بكر لم يفارق السقيفة حتى بايعه جميع
الأنصار إلا سعد بن عبادة (1) فكاذب من وجوه كما يدل عليه كلام ابن عبد
البر (2) في كتاب الاستيعاب في معرفة الأصحاب حيث قال في ترجمة أبي بكر:
إنه بويع له بالخلافة في اليوم الذي قبض (مات خ ل) فيه رسول الله (ص) في
سقيفة بني ساعدة ثم بويع البيعة العامة يوم الثلاثاء من غد ذلك اليوم وتخلف عن بيعته
سعد بن عبادة وطائفة من الخزرج وفرقة من قريش الخ وكذا ما ذكره من أن سعد

344
ابن عبادة مات بعد سبعة أيام من خلافة أبي بكر كذب صريح يكشف عنه ما ذكره
ابن عبد البر في كتابه المذكور وابن حجر العسقلاني في كتابه الإصابة في معرفة
الصحابة حيث قالا: (1) إن سعدا لم يبايع أحدا من أبي وعمر ولم يقدروا على
إلزامه كإلزامهم لغيره لكثرة أقوامه من الخزرج، فاحترزوا عن فتنتهم ولما وصل
حكومة أهل الاسلام إلى عمر مر ذات يوم سعد على سوق المدينة فوقع عليه نظر عمر
وقال له أدخل يا سعد في بيعتنا أو أخرج من هذا البلد، فقال سعد حرام علي أن
أكون في بلد أنت أميره، ثم خرج من المدينة إلى الشام وكان له قبيلة كثيرة في
نواحي دمشق كان يعيش في كل أسبوع عند طائفة منهم، ففي تلك الأيام كان يذهب
يوما من قرية إلى أخرى فرموه من وراء بستان كان على طريقه بسهم فقتل رضي الله
عنه، وقال (2) صاحب روضة الصفا ما معناه: أن سعدا لم يبايع أبا بكر وخرج من
المدينة إلى جانب الشام وقتل بعد مدة فيها بتحريك من العظما، وقال البلاذري (3)

345
في تاريخ: إن عمر بن الخطاب أشار إلى خالد بن الوليد (1) ومحمد بن مسلمة
الأنصاري (2) بقتل سعد فرماه بسهم فقتل، ثم أوقعوا على أوهام الناس
أن الجن قتلوه لأجل خاطر عمر ووضعوا هذا الشعر على لسانهم:
قد قلتنا سيد الخزرج سعد بن عبادة * فرميناه بسهمين فلم يخطئ فؤاده (3)

346
وأما خامسا فلأنه قوله: فلو كان الأنصار سمعوا الخ غير مسموع، لأنهم سمعوا
ذلك النص وتذاكروه فيما بينهم، لكنهم لم يجعلوه ذلك اليوم حجة على أبي بكر
لشبهة أوقعها أولياء أبي بكر وغيره في قلوب الناس من أن عليا (ع) قد تقاعد عن
تصدي الخلافة والتزم البيت وأمسك عن إحياء هذا (1) الميت، فإن المذكور
في المعتبر من كتب السير والتواريخ أنه لما توفي رسول الله (ص) واشتغل علي (ع)
مع أصحابه من بني هاشم وغيرهم بتجهيز النبي (ص) وتعزيته معتقدا أن أحدا لا
يطمع في هذا الأمر مع وجوده (ع) أوقع بعض (2) المنحرفين عن علي (ع) في قلوب
الناس أنه (ع) قد تقاعد عن تصدي الخلافة لشدة ما أصابه من مصيبة النبي (ص)
وسكن قعر بيته مشتغلا بالحزن والتعزية، فجاء خزيمة بن ثابت الأنصاري (3) وقال

347
لقومه من الأنصار ما سمعه من حال علي (ع) وذكر أنه لا بد ممن يلي هذا الأمر
وليس سواه قرشي يليق بذلك، فخاف الأنصار أن تشتد عليهم البلية ويلي هذا الأمر
قرشي فظ غليظ ينتقم منهم للثارات الجاهلية الأضغان البدرية، فتوجهوا إلى سعد بن
عبادة سيد الأنصار وحضروا السقيفة ملتمسين منه قبول الخلافة، فأبى سعد عن ذلك
لمكان علي (ع) وأنه المنصوص بالخلافة عن الله تعالى ورسوله (ص)، فلما سمع قريش
بذلك وكانوا منتهزين للفرصة دلسوا في الأمر وعجلوا في البيعة لأبي بكر، فبادروا
إلى السقيفة لتسكين نائرة الأنصار والتمسوا بيعة أبي بكر عنهم بالطوع والاجبار
فقال لهم الأنصار إذا تركتم نص الله ورسوله عليه الصلاة والسلام فليس أحد
منا ومنكم بعد علي بن أبي طالب (ع) أولى من غيره، فمنا أمير ومنكم أمير، فأبى
أبو بكر وأصحابه عن ذلك محتجين في ذلك بأن الأئمة من قريش، وأبى سعد عن
قبول إمارتهم متمسكا بأن المنصوص لذلك غيرهم، فاضطرب الحال إلى أن مال قلب
بشير بن سعد بن ثعلبة الأنصاري (1) رغما لابن عمه سعد بن عبادة إلى ترجيح جانب
قريش وموافقتهم، فقوي أمر قريش وبادر عمر إلى صفق يده على يد أبي بكر وبايعه
هو وجماعة من أضرابه فلتة كما أخبر عنه هو بعد ذلك بقوله: كانت بيعة أبي بكر فلتة
وقى الله شرها عن المسلمين، وفي كتاب المواهب لمحمد بن جرير الطبري الشافعي
عن أبي علقمة، عن سعد بن عبادة قال أبو علقمة: قلت لابن عبادة وقد مال الناس إلى
بيعة أبي بكر: ألا تدخل فيما دخل فيه المسلمون، قال: إليك عني فوالله لقد سمعت

348
رسول الله (ص) يقول: إذا أنا مت تضل الأهواء ويرجع الناس على أعقابهم، فالحق
يومئذ مع علي وكتاب الله بيده لا تبايع أحدا غيره، فقلت له هل سمع هذا الخبر
أحد غيرك من رسول الله (ص)، فقال أناس في قلوبهم أحقاد (1) وضغائن، قلت
بل نازعتك نفسك أن يكون هذا الأمر لك دون الناس كلهم، فحلف أنه لم يهم بها
ولم يردها وأنهم لو بايعوا عليا كان أول من بايع سعد (2) انتهى، وروى الشيخ
الفاضل أبو السعادات (3) الحلي رحمه الله تعالى عليه في شرح دعاء صنمي قريش أنه
اجتمع أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وإخوانهم في سقيفة بني ساعدة يطلبون الحكم
والبيعة من غير اكتراث (4) من أهل البيت وبني هاشم وكل واحد من هؤلاء الثلاثة
يرجو الأمر والحكم لنفسه ويعطفه على (عن خ ل) (5) صاحبه فأنكر عليهم الأنصار

349
وأصروا على الدفاع والامتناع، واحتجوا عليهم بما قال رسول الله (ص) في علي
من التوكيد في إمامته في مواطن شتى أمره إياهم بالتسليم عليه بإمرة المؤمنين
فقال أبو بكر قد كان ذلك لكن نسخه النبي (ص) بقوله: إنا أهل بيت كرمنا الله
واصطفانا بالنبوة ولم يرض لنا بالدنيا وأن الله لا يجمع لنا النبوة والخلافة فصدقاه
عمر وأبو عبيدة في ذلك وعللا قعود علي في بيته والاشتغال بتجهيز النبي (ص) دون
تصدي أمر الخلافة بعلمه بتحويل الأمر عنه، فقالت الأنصار إذا لا نرضى بإمارة غيرنا
علينا منا أمير ومنكم أمير، وذكروا عن رسول الله (ص) الأئمة من قريش وشبهوا
الأمر على الأنصار وسائر الأمة وقطعوا بذلك حجتهم وأخذوا بيعتهم، ولما فرغ علي
وأصحابه عن تجهيز النبي (ص) ودفنه وتكلموا في ذلك اعتذروا تارة بأن الناس بايعوا
ولم يكن لهم علم بأنك تنازعهم في الأمر، ونكث البيعة الواقعة يورث مفاسد بين
المسلمين وخللا في أركان الدين، وتارة بأنهم ظنوا أنك بشدة مصيبة النبي (ص)
طرحت الخلافة والإمارة، فاتفق أصحاب النبي (ص) على تفويض الأمر إلى أبي بكر
إلى غير ذلك من الأعذار التي ستجئ مع أجوبتها في الموضع اللائق بها، ومما يقلع
عرق إنكارهم ويوضح رجوعهم على أدبارهم ما ذكره ابن (1) قتيبة وهو من أكبر شيوخ

350
أهل السنة وله عدة مصنفات في إمامة أبي بكر وغيرها من الكتب، قال (1) في كتاب
السياسة في باب إمامة أبي بكر وإباء علي عن بيعته: ما هذه صورته، وذكروا أن
عليا أتى به أبو بكر وهو يقول أنا عبد الله وأخو رسوله، فقيل له بايع أبا بكر، فقال
أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم، وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر
من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي (ص) وتأخذونه منا أهل البيت غصبا،
ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر لمكان محمد (ص) منكم، فأعطوكم
المقادة (2) وسلموا إليكم الإمارة فأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على
الأنصار، نحن أولى برسول الله (ص) حيا وميتا فأنصفونا إن كنتم تخافون من أنفسكم
وإلا تبوأوا بالظلم وأنتم تعلمون، فقال له عمر: أنت لست متروكا حتى تبايع،
فقال له علي احلب حلبا لك شطره اشدده له اليوم ليرده عليك غدا، ثم قال: والله
يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه، فقال له أبا بكر: فإن لم تبايعني فلا أكرهك،
فقال علي: يا معشر المهاجرين الله الله لا تخرجوا سلطان محمد (ص) في العرب من
داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم، وتدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه،
فوالله يا معشر المهاجرين لنحن أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم، ما كان فيه القاري
لكتاب الله الفقيه في دين الله العالم بسنن رسول الله (ص)، انتهى ما قصدنا إيراده
من كلامه، وفيه كما قال بعض الفضلاء عدة شواهد على ما تدعيه الشيعة من قوله:

351
أنا أحق بهذا الأمر منكم، وقوله: تأخذونه منا أهل البيت غصبا، وقوله: نحن
أولى برسول الله حيا وميتا، وقوله: لا تخرجوا سلطان محمد (ص) في العرب من داره
وقعر بيته وتدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه، فوالله لنحن أهل البيت أحق بهذا
الأمر منكم (1)، ونحن معاشر الإمامية نقول: صدق علي في جميع ذلك،
والنواصب يلزمهم أن يقولوا كذب، وليت شعري أين محبتهم لأهل البيت وكيف
يجعلونه كاذبا في جميع ذلك وهو عندهم إمام، أم كيف يجعلونه صادقا فيلزم تكذيب
إمامهم الأول، وكيف يجمع ابن قتيبة بين هذا الحديث وبين قوله بأيهم (2) اقتديتم
اهتديتم، يهدي الله لنوره من يشاء والله متم نوره ولو كره الكافرون (3)، وأما سادسا
فلأن ما ذكروه من قوله (ص): الأئمة من قريش صحيح ويؤيده قوله (ص) في
صحاح الأحاديث (4): إن الاسلام لا يزال عزيزا ما مضى فيهم اثنى عشر خليفة كلهم

352
من قريش وكان المراد من الخليفة الأول القرشي علي (ع) لكن لما أوقعوا في القلوب
أنه (ع) تقاعد عن تصدي الخلافة كما ذكرنا سابقا موهوا ذلك بجواز العدول إلى
قرشي آخر، وأما سابعا فلأن قوله: فلم لم يقولوا: الإمامة لعلي بنص من النبي
(ص) الخ مدفوع بما مر وسيجئ من أنهم قالوا ذلك، لكن شبهوا الأمر على الناس
بتقاعد علي (ع) ومع هذا قد أصر بعض أهل السقيفة في التخلف عن بيعة أبي بكر
وقالوا: لا نبايع أحد غير علي بن أبي طالب (ع) كما مر أيضا، وقد صرح به سيد

354
المحدثين (1) في روضة الأحباب، وبما قررناه يعلم أيضا بطلان ما ذكره الناصب
آخرا من سكوت الأنصار، وأما ثامنا فلأن ما ذكره أن شيئا مما ذكره المصنف
لا يلزم الأشاعرة حق وصدق لكن من حيث إنهم ذهبوا إلى أن الله تعالى خالق كل
شئ فإن لزم شئ فهو لازم لله على مذهبهم فافهم هذا فإنه لطيف جدا. (2)
قال المصنف رفع الله درجته
المبحث الرابع في تعيين الإمام ذهبت الإمامية كافة إلى أن الإمامة بعد رسول الله
(ص) هو علي بن أبي طالب (ع) وقالت السنة: إنه أبو بكر بن أبي قحافة، ثم عمر بن
الخطاب ثم عثمان بن عفان ثم علي بن أبي طالب (ع) وخالفوا المعقول والمنقول،
أما المعقول فهي الأدلة الدالة على إمامة أمير المؤمنين (ع) من حيث العقل وهي
من وجوه الأول الإمام يجب أن يكون معصوما على ما تقدم وغير علي من الثلاثة لم
يكون معصوما بالاجماع، فتعين أن يكون هو الإمام، الثاني شرط الإمام أن لا يسبق
منه المعصية على ما تقدم والمشايخ قبل الاسلام كانوا يعبدوا الأصنام فلا يكونون

355
أئمة فتعين علي (ع) لعدم الفارق (1)، الثالث الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه
على ما تقدم وغير علي (ع) من الثلاثة لم يكن كذلك فتعين هو، الرابع الإمام يجب
أن يكون أفضل من الرعية وغير علي الثلاثة لم يكن كذلك فتعين علي (ع)
الخامس الإمامة رياسة عامة وإنما تستحق بأوصاف الزهد والعلم والعبادة والشجاعة
والإيمان وسيأتي أن عليا (ع) هو الجامع لهذه الصفات على الوجه الأكمل الذي لم
يلحقه غيره فيكون هو الإمام انتهى.
قال الناصب
أقول: مذهب أهل السنة والجماعة أن الإمام بالحق بعد رسول الله (ص) أبو بكر
الصديق وعند الشيعة علي المرتضى (ع) كرم الله وجه ورضي عنه دليل أهل السنة
وجهان الأول أن طريق ثبوت الإمامة إما النص أو الاجماع بالبيعة، أما النص فلم
يوجد لما ذكرناه ولما سنذكره ونفصل بعد هذا إن شاء الله تعالى، وأما الاجماع فلم
يوجد في غير أبي بكر اتفاق من الأمة الوجه الثاني أن الاجماع منعقد على حقية
إمامة أحد الثلاثة أبي بكر وعلي والعباس، ثم إنهما لم ينازعا أبي بكر ولو لم يكن على
الحق لنازعاه كما نازع علي (ع) معاوية، لأن العادة تقتضي بالمنازعة في مثل
ذلك، ولأن ترك المنازعة مع الامكان مخل بالعصمة إذ هو معصية كبيرة توجب
انثلام العصمة، وأنتم توجبونها في الإمامة وتجعلونها شرطا لصحة إمامته، فإن قيل
لا نسلم الامكان أي إمكان منازعتهما أبا بكر، قلنا: قد ذهبتم وسلمتم أن عليا (ع)
كان أشجع من أبي بكر وأصلب منه في الدين وأكثر منه قبيلة وأعوانا وأشرف منه
نسبا وأتم منه حسبا، والنص الذي تدعونه لا شك أنه كان بمرئي من الناس وبمسمع
منه، والأنصار لم يكونوا يرجحون أبا بكر على علي (ع) وذكر في آخر

356
عمره على المنبر وقال: إن الأنصار كرشي وعيبتي (1) وهم كانوا الجند الغالب والعسكر
وكان ينبغي أن النبي (ص) أوصى الأنصار بإمداد علي (ع) في أمر الخلافة وأن
يحاربوا من يخالف نصه في خلافة، ثم إن فاطمة عليها السلام مع علو منصبها
زوجته والحسن والحسين مع كونهما سبطي رسول الله ولداه والعباس مع علو منصبه
عمه، فإنه روي أنه قال لعلي (ع): امدد يدك أبايعك حتى يقول الناس بايع عم
رسول الله (ص) ابن عمه فلا يختلف فيك اثنان والزبير مع شجاعته كان معه حتى
قيل: إنه سل السيف وقال لا أرضى بخلافة أبي بكر، وقال أبو سفيان: أرضيتم يا
بني عبد مناف أن يلي عليكم تيمي والله لأملأن الوادي خيلا ورجلا، وكرهت
الأنصار خلافة أبي بكر فقالوا: منا أمير ومنكم أمير كما ذكرنا، ولو كان على إمامة
علي نص جلي لأظهروه قطعا ولأمكنتهم المنازعة جزما كيف لا وأبو بكر عندهم
شيخ ضعيف جبان لا مال له ولا رجال ولا شوكة، فأنى يتصور امتناع
المنازعة معه، وكل هذه الأمور يدل على أن الاجماع وقعت على خلافة أبي بكر
ولم يكن نص على خلافة غيره، وبايعه علي (ع) حيث رآه أهلا للخلافة عاقلا صبورا
مداريا شيخا للاسلام، ولم يكن غرض بين الصحابة لأجل السلطنة والزعامة، بل
غرضهم كان إقامة الحق وتقويم الشريعة ليدخل الناس كافة في دين الاسلام، وقد كان
يحصل هذا من خلافة أبي بكر فسلموا إليه الأمر وكانوا أعوانا له في إقامة الحق،
هذا هو المذهب الصحيح والحق والصريح الذي عليه السواد الأعظم من الأمة، وقد
قال رسول الله (ص) عليكم بالسواد الأعظم، وأما استدل به من الوجوه العقلية على
خلافة علي (ع) فالأول وجوب كون الإمام معصوما وقد قدمنا عدم وجوبه لا عقلا
ولا شرعا، وجواب الثاني عدم اشتراط أن لا يسبق منه معصية كما قدمنا، وجواب
الثالث عدم وجوب النص لأن الاجماع في هذا كالنص، وجواب الرابع عدم وجوب

357
كون الإمام أفضل من الرعية كما ذكر إذا ثبت أفضلية علي كرم الله وجهه،
وجواب الخامس أن أوصاف الزهد والعلم والعبادة والشجاعة والإيمان كانت
موجودة في المشايخ الثلاثة، وأما الأكملية في هذه الأوصاف فهي غير لازمة إذا كانوا
أحفظ للحوزة انتهى.
أقول
مواقع الايراد في كلامه مما لا يحصى، أما أولا فلأن إنكاره للنص باطل بما ذكرناه
وسنذكره إن شاء الله تعالى مفصلا، وأما ثانيا فلأن انعقاد الاجماع على إمامة
أبي بكر ممنوع بل محقق العدم كما مر بيانه مفصلا وتزيد عليه هيهنا، ونذكر
ملخص ما أفاده بعض أعلام علمائنا قدس سرهم من أن الاجماع على ما في منهاج
البيضاوي (1) ومختصر ابن الحاجب (2) وشروحه عبارة عن اتفاق جميع أهل الحل
والعقد يعني المجتهدين وعلماء المسلمين على أمر من الأمور في وقت واحد، والجمهور
أنفسهم قد تكلموا على تحقق الاجماع وشرايطه حسبما ذكر في الشرح العضدي وغيره
بأن الاجماع أمر ممكن أو محال، وعلى تقدير إمكانه هل له تحقق أو لا، وعلى التقادير
كأنها هل هو حجة ودليل على شئ أم لا؟ وعلى تقدير كونه حجة ودليلا هل هو
كذلك ما لم يحصل ثبوته إلى حد التواتر أو لا؟ وفي كل ذلك اختلاف بين علمائهم
فلا بد لهم من إثبات ذلك كله حتى يثبت إمامة أبي بكر، وليت شعري أن من لم يقل
منهم بذلك كله كيف يدعي حقية إمامة أبي بكر ويتصدى لإثباتها، ثم بعد ذلك خلاف
آخر وهو أنه هل يشترط في حقيقة الاجماع أن لا يتخلف ولا يخالف أحد من المجمعين

358
إلى أن يموت الكل وأيضا قد اختلفوا في أن الاجماع وحده حجة أولا أو لا بد له
من سند هو الحجة حقيقة، والسند الذي قد ذكروه في دعوى إجماعهم على خلافة
أبي بكر هو قياس فقهي قاسوه فقالوا: إن النبي (ص) في مرضه أمر أبا بكر أن يصلي إماما
للجماعة، وإذا جعله إماما في أمر الدين ورضي به فيكون أرضى لإمامته في أمر الدنيا
وهو الخلافة فقد قاسوا أمر الخلافة على إمامة الصلاة (1) وزعموه سندا وقد عبروا
عن ذلك بعبارات متقاربة مذكورة في شرح التجريد (2) والمواقف (3) والطوالع (4) والكفاية (5) للصابوني الحنفي والصواعق (6) المحرقة لابن حجر المتأخر الشافعي

359
والرسالة الفارسية في العقائد لأحمد (1) الجندي الحنفي وغيرها أشهرها ما ذكرناه (2)

360
ولا يخفى فساده على من له أدنى معرفة بالأصول لأن إثبات حجية القياس في غاية
الإشكال وعلماء أهل البيت عليهم السلام والظاهرية (1) من أهل السنة وجمهور المعتزلة
ينفون حجيته ويقيمون على قولهم حججا عقلية ونقلية وسيجئ نبذ منها في بحث
القياس من مسائل أصول الفقه، ولغيرهم أيضا في أقسامه وشرائطه اختلاف كثير،
وعلى تقدير ثبوت ذلك الذي دونه خرط القتاد إنما يكون القياس فيما إذا كان هناك
علة في الأصل ويكون الفرع مساويا للأصل في تلك العلة، وهيهنا العلة مفقودة بل
علة الفرق ظاهر لأن الصلاة خلف كل بر وفاجر جايز عندهم بخلاف الخلافة إذ شرطوا
فيها العدالة والشجاعة والقرشية وغيرها، وأيضا أمر إمامة الجماعة أمر واحد لا يعتبر
فيه العلم الكثير ولا الشجاعة والتدبير وغيرها مما يشترط عندهم في الخلافة فإنها
لما كانت سلطنة وحكومة في جميع أمور الدين والدنيا يحتاج إلى علوم وشرائط
كثيرة لم يكن شئ منها موجودا في أبي بكر وأخويه فلا يصح قياس هذا بذاك وقول
بعضهم: إن الصلاة من أمور الدين والخلافة من أمور الدنيا غلط ظاهر، لأن المحققين

362
منهم كالشارع الجديد (1) للتجريد عرفوا الإمامة بالحكومة العامة في الدين والدنيا
وظاهر أنه كذلك مع أن الأصل ليس بثابت، لأن الشيعة ينكرون ذلك كمال الانكار
ويقولون: إن النبي (ص) أمر الناس في مرضه بالصلاة، فقال عايشة بنت أبي بكر
لبلال (2)، إنه أمر أن يؤم أبو بكر الناس في الصلاة فلما اطلع النبي (ص)

363
على هذا الحال المورث للفساد وضع يده المباركة على منكب علي (ع) وأخرى
على منكب الفضل بن عباس وخرج إلى المسجد ونحى أبا بكر عن المحراب، فصلى
بالناس حتى لا تصير إمامة أبي بكر موجبة للخلل في الدين، ويعضد ذلك ما رواه (1)
البخاري بإسناده إلى عروة فوجد رسول الله (ص) من نفسه خفة فخرج إلى المحراب
فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله (ص) والناس يصلون بصلاة أبي بكر أي بتكبيره
انتهى، ولقد ضحك (2) السيد الشريف الجرجاني على لحية القوم في شرحه للمواقف
فإنه ذكر هذه الرواية وحيث رأى أنها مخالفة لأصل ما وضعوه واخترعوه من رواية
ايتمام الناس بأبي بكر فضلا عن رواية ايتمام النبي (ص) به حملها على أنه كان في
وقت آخر وفيه ما فيه، وأيضا لو كان خبر تقديم أبي بكر في الصلاة صحيحا كما زعموا
وكان مع صحته دالا على على إمامته لكان ذلك نصا من النبي (ص) بالإمامة ومتى حصل
النص لا يحتاج معه إلى غيره، فكيف لم يجعل أبو بكر وأصحاب السقيفة ذلك دليلا
على إمامة أبي بكر وكيف لم يحتجوا به على الأنصار؟ وكيف بنوا الخلافة على المبايعة
التي حصل عليهم فيها الاختلاف والاحتياج إلى اشتهار السيوف وعدلوا عن الاحتجاج
بالنص المذكور؟ مع ظهور أن العاقل لا يختار الأعثر الأصعب مع وجود الأسهل

364
إلا لعجزه عنه، (1) فعلم أن ذلك ليس فيه حجة أصلا، وأيضا الظاهر أن الإمامة
من الأصول ولهذا ذكر في الأصول وقد مر الكلام في أصالتها مستقصى، فلا يصح
إثباته بالقياس على تقدير تحقق القياس الصحيح، لأن القياس الفقهي إنما يجري
في الفروع كما لا يخفى، وما ذكر في المواقف من نفي كون الإمامة من الأصول
ظاهرن البطلان، وكيف يكون ذلك مع أنه صنو النبوة كما مر، ولو كان ظن المجتهد
كافيا في مسألة الإمامة كما في مسائل الفروع الفقيه فيكون تخطئة المجتهد الذي
ظن أن أبا بكر لم يكن إماما باطلا وكان تقليد ذلك المجتهد جايزا، مع أنه لو قال
أحد عندهم: إني أعتقد إمامة علي (ع) لظن غلب على أو تقليدا للمجتهد الفلاني
يخطئونه بل يقتلونه، وأيضا الاستخلاف لا يقتضي الدوام إذا الفعل لا دلالة له على التكرار
والدوام إن ثبتت خلافته بالفعل، وإن ثبتت بالقول فكذلك كيف وقد جرت العادة
بالتبعية مدة غيبة المستخلف والانعزال عند مجيئه، وأيضا ذاك معارض بأنه (ص)
استخلف عليا (ع) في غزوة تبوك في المدينة وما عزله، وإذا كان خليفة على المدينة
كان خليفة في سائر وظائف الأمة لأنه لا قائل بالفصل والترجيح معنا، لأن استخلافه
على المدينة كان أقرب إلى الإمامة الكبرى، لأن متضمن لأمور الدين والدنيا بخلاف
الاستخلاف في الصلاة كما مر، وبعد تسليم ذلك كله نقول: إن إجماع الأمة بأجمعهم
على إمامة أبي بكر لم يتحقق في وقت واحد وهذا واضح مع قطع النظر عن عدم
حضور أهل البيت عليهم السلام وسعد بن عبادة سيد الأنصار وأولاده وأصحابه (2)

365
ولهذا طوى صاحب المواقف دعوى ثبوت خلافة أبي بكر بالاجماع، واكتفى في
إثباته بالبيعة كما مر، والحاصل أن الناصب وأصحابه إن أرادوا بوقوع الاجماع على
خلافة أبي بكر حصول الاتفاق على ذلك بعد النبي بلا فصل أو في زمان قليل فهو معلوم
البطلان بالاتفاق، وإن أرادوا بعد تطاول المدة، فهو وإن كان مخالفا لما اعتبر في
حقيقة الاجماع من اتحاد الوقت كما مر وممنوعا أيضا لما مر، لا يقوم حجة إلا
إذا دخل الباقون طوعا، أما إذا استظهر الأكثر وخاف الأقل، ودخل فيما دخل فيه
الأكثر خوفا وكرها فلا، ولا شك أن الحال كان كذلك، فإن بني هاشم لم يبايعوا
أولا، ثم قهروا فبايعوا بعد ستة أشهر، وامتنع علي (ع) ولم بيته ولم
يخرج إليهم في جمعة ولا جماعة إلى وقع ما نقله أهل الأحاديث
والأخبار واشتهر كالشمس في رابعة (1) النهار حتى أن معاوية بعث

366
إلى علي (ع) في كتاب كتبه إليه يقول فيه: إنك كنت تقاد كما يقاد الجمل
المخشوش (2) حتى تبايع يعيره ويؤنبه بأنه لم يبايع طوعا (3) ولم يرض ببيعة

367
أبي بكر حتى استكره عليها خاضعا، ذليلا كالجمال إذا لم يعبر على قنطرة وشبهها،
فإنه يكره ويخش بالرماح ليعبر كرها، فكتب إليه بالجواب عنه ما ذكر
في نهج البلاغة (1) المتواتر نقله عنه (ع)، وهذا لفظه: وقلت إني كنت أقاد كما يقاد

368
الجمل المخشوش حتى أبايع ولعمر الله لقد أردت أن تذم فمدحت وأن تفضح
فافتضحت، وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في
دينه أو مرتابا في يقينه وهذه حجتي إلى غيرك، وأوضح من هذا ما ذكره في
الخطبة الموسومة بالشقشقية المذكورة (1) في النهج أيضا وهي التي خطبها بعد
مبايعة الناس له وهي مشهورة وسيذكرها المصنف في هذا الكتاب، وقال ابن
أبي الحديد (2) المعتزلي في شرحه للنهج عند عده فضائل عمر: إن عمر هو الذي
وطئ الأمر لأبي بكر وقام فيه حتى أنه دفع صدر المقداد وكسر سيف الزبير
وكان قد شهره عليهم وهذا غاية الاكراه، ومما يوضح ذلك ويسد باب الانكار على
الخصم ويسجل على أن بيعة علي (ع) كانت كرها ما رواه الحميدي في سادس
حديث من المتفق عليه من صحيح البخاري ومسلم من مسند أبي بكر قال: ومكثت
فاطمة بعد وفاة رسول الله ستة أشهر ثم توفيت، قالت عايشة: وكان لعلي (ع) وجه
بين الناس في حياة فاطمة فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن علي (ع)
وفي جامع (3) الأصول قالت يعني عايشة: فكان لعلي وجه بين الناس في حياة فاطمة
فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن علي (ع)، ومكثت فاطمة بعد رسول الله
(ص) ستة أشهر ثم توفيت فاطمة فلما رأى علي (ع) انصراف وجوه الناس عنه
ضرع إلى مصالحة أبي بكر وأرسل إليه ايتنا ولا تأتينا معك بأحد، وكره أن يأتيه
عمر لما علم من شدة عمر، فقال عمر لا تأتيهم وحدك، فقال أبو بكر والله لآتينهم
وحدي عسى أن يصنعوا بي فانطلق أبو بكر فدخل على علي وقد جمع بني هاشم عنده

369
إلى آخر الحديث، وفيه وجوه من الدلالة على ما ادعيناه كما لا يخفى على المتأمل
وذكر الواقدي (1) أن عمر جاء إلى علي في عصابة منهم أسيد (2) بن الحصين

370
وسلمة (1) بن سلامة الأشهلي فقال اخرجوا أو لنحرقنها عليكم، وذكر ابن خذابة (2)

371
في غرره قال زيد بن أسلم كنت ممن حمل الحطب مع عمر إلى باب فاطمة حين امتنع
علي وأصحابه عن البيعة، فقال عمر لفاطمة أخرجي من البيت أو لأحرقنه ومن فيه
قال وفي البيت علي والحسن والحسين وجماعة من أصحاب النبي، فقالت فاطمة
أفتحرق علي ولدي؟ فقال إي والله أو ليخرجن وليبايعن، وفي هذا كفاية، وقد ذكر

373
مؤلف (1) كتاب الملل والنحل ما في معناها رواية عن النظام والملخص من أنه قد
تقرر في علم الميزان أنه إذا قام الاحتمال بطل وما ظنك بأمر يدفع صدور المهاجرين
وتكسر سيوفهم وتشهر فيه السيوف على رؤس المسلمين ويقصد إحراق بيوت ساداتهم
إلى غير ذلك وكيف لا يكون ذلك إكراها لولا عمى الأفئدة، فإنها لا تعمى الأبصار
ولكن تعمى القلوب التي في الصدور (2) وأما ثالثا فلأن الاجماع الثلاثي الذي
ذكره باطل كالتثليث (3) فإن ما سيجئ من آية أولي الأرحام نص في بطلان خلافة
عباس وأبي بكر كما سنبينه هناك إن شاء الله تعالى وأيضا القول بإمامة عباس مستحدث
أحدثه الجاحظ (4) في زمان خلافة العباسية تقربا إليهم كما صرح به أهل البصيرة
بالأخبار، وأما رابعا فلأن قوله: ثم إنهما لم ينازعا أبا بكر ممنوع بل هو أول
النزاع وقد بينا ذلك قبل هذا بما فيه كفاية فلا حاجة إلى الإعادة وأما خامسا فلأن قوله
ترك المنازعة مع الامكان مخل بالعصمة مسلم لكن لم يكن للنزاع بالحرب القتال

374
في عالم الامكان مكان لما ذكرنا من اتفاق ساير قريش على ذلك مع استعمالهم لأكثر
الأنصار، وأما سادسا فلا ن قوله: إذ هو معصية كبيرة توجب انثلام العصمة مناف
لما حققه سابقا من أن صدور المعصية لا يوجب الخلل في ملكة العصمة فتذكر وتدبر
وأما سابعا فلأن قوله: قلنا: قد ذهبتم وسلمتم أن عليا كان أشجع من أبي بكر
وأصلب منه في الدين وأكثر منه قبيلة الخ مدخل بأنا قلنا: إنه أشجع من نفس
أبي بكر والآحاد من شجعان الدنيا لا من جميع الناس مجتمعا مزدحما عليه وإلا
لزم انثلام عصمة النبي (ص) في عدم قتل الكافر في أول الأمر، ثم عام
الحديبية (1) حيث صالح معهم مع وجود من معه من علي (ع) وخلق كثير من الصحابة
حتى أبي بكر الشجاع وعمر المقدام، والجواب الجواب، بل كان توقف علي (ع)
عن الحرب مع هؤلاء المتظاهرين (2) بالاسلام أظهر في الصواب كما لا يخفى على
أولي الألباب، وكذا قلنا: إن بني هاشم كانوا أكثر قبيلة من تيم لا من جميع طوايف
قريش الذين اجتمعوا على خلافة أبي بكر عداوة لعلي (ع) حتى روي أنه لهذه
العداوة كان مع علي منهم في حرب صفين خمس نفر من قريش وهم محمد بن أبي بكر (3)

375
ربيبه، وجعدة بن هبيرة المخزومي (1) ابن أخته، وأبو الربيع بن أبي العاص

376
ابن ربيع (1) المشهور بأنه كان صهرا للنبي (ص) ومحمد (2) بن أبي حذيفة بن عتبة ابن أخت

377
معاوية وهاشم (1) بن عتبة بن أبي وقاص ابن أخ سعد بن أبي وقاص وكان مع معاوية
ثلاث عشر قبيلة منهم مع أهلهم وعيالهم وقد قال (2) (ع) في بعض خطبه إظهارا لتظلمه
عنهم: اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم قد قطعوا رحمي وأكفأوا

378
إنائي وأجمعوا على منازعتي حقا كنت أولى به من غيري ثم قالوا إلا إن في الحق
أن تأخذه وفي الحق تمنعه فاصبر مغموما أو مت فنظرت فإذا ليس لي راقد
ولا ذاب ولا مساعد إلا أهل بيتي فظننت بهم عن المنية فأغضيت على القذى وجرعت
ريقي على الشجى وصبرت من كظم الغيظ على أمر من العلقم وآلم للقلب من حز
الشفار انتهى كلامه (ع)، وكذا قلنا إن النص كان بمرأى من الناس وبمسمع من
الأنصار لكن لم نقل: إنه لم يمكنهم أن يشبهوا الأمر على الناس وعلى الأنصار
بالوجوه التي وقع عليها الاشعار، وأما قوله: والأنصار لم يكونوا يرجحون
أبا بكر على علي (ع) ففيه دليل واضح على أن ترجيح قريش لأبي بكر على علي (ع)
كان من محض العداوة والعناد، وأما ما ذكره من أن الأنصار كانوا الجند الغالب
فغير مسلم ولو سلم فقد علم النبي (ص) ما يؤل حالهم إليه بعد وفاته من خذلان بعضهم
لبعض كما مر فضلا عن خذلان علي (ع) وأما ثامنا فلأن إعانة عباس والزبير لم
تكن وافية في دفع جمهور قريش، وأبو سفيان كان منافقا ولم يكن غرضه من قوله
ذلك إلا إثارة الفتنة لا نصرة علي (ع) وحيث علم علي (ع) ذلك أعرض عنه وقال له
ما حاصله: إنك من أهل النفاق لا يعبأ بكلامك، ولهذا أيضا لما سمع أبو بكر وعمر
كلامه لعلي (ع) في ذلك استألفوه واستمالوه بتولية ابنه يزيد (1) على الشام فسكت
وصار من أعوانهم وأنصارهم، مع أن ذلك الأقوال من عباس والزبير وأبي سفيان
إنما كان بعد اتفاق جمهور قريش والأنصار على بيعة أبي بكر فلتة (2) وكان النزاع
بالحرب معهم مؤدبا إلى الفساد، وأما تاسعا فلأن ما ذكره من أن أبا بكر عند
الشيعة شيخ ضعيف جبان لا مال له الخ مسلم وما عندهم حق، إذ لا ريب لأحد في

379
ضعفه في نفسه ورذالته وانحطاطه في ذاته كما اعترف به أبوه أبو قحافة أيضا وتعجب
من اتفاق قريش عليه كما رواه (1) ابن حجر في صواعقه حيث قال: وأخرج الحاكم
أن أبا قحافة لما سمع بولاية ابنه قال: هل رضى بذلك بنو عبد مناف وبنو المغيرة
قالوا: نعم، قال: لا واضع لما رفعت ولا رافع لما وضعت وإنما تقوى أبو بكر في أمر

380
الخلافة باتفاق جمهور قريش على إعانته عداوة لعلي كما مر مرارا، وإنما
اختاروا الشيخ الضعيف اللئيم من بينهم ليدفعوا عن أنفسهم تهمة العداوة والأغراض
الفاسدة، بالجملة فيقول الناس: إنه لو كان غرضهم مدافعة علي (ع) عن
حقه من الخلافة لارتكبها واحد من أشرافهم وأكابرهم أو قسموها بينهم وليس فليس
فافهم ويكشف عن هذه ما روي (1) في المشكاة وغيره في جملة حديث من قوله (ص)
إن تأمروا عليا ولا أراكم فاعلين تجدوه هاديا مهديا يأخذكم بكم الطريق المستقيم
ويوضح عنه ما رواه ابن حجر في صواعقه (2) حيث قال وصح أن العباس قال يا
رسول الله (ص) ما يلقون من قريش من تعبيسهم وجوههم وقطعهم حديثهم عند لقائهم
فغضب (ص) غضبا شديدا حتى احمر وجهه ودر عرق بين عينيه وقال: والذي نفسي
بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ورسوله ويؤيده ما رواه في موضع آخر
من قوله (ص) (3) إن أهل بيتي سيلقون بعدي من أمتي قتلا وتشريدا وإن أشد أقواما لنا
بغضا بنو أمية وبنو المغيرة وبنو المخزوم صححه الحاكم وفي موضع آخر عن السلفي (4)

381
في الطيوريات عن عبد الله (1) بن أحمد (2) بن حنبل قال سألت عن

382
أبي، عن علي ومعاوية فقال: اعلم أن عليا كان كثير الأعداء ففتش له أعدائه شيئا
فلم يجدوا فجاؤوا إلى رجل قد حاربه وقاتله فاطردوه كيادا منهم له انتهى
كلامه ووجه التأييد أن أعداء علي (ع) في زمانه لم يكونوا من اليهود والنصارى
ولا من الأنصار وأعرب البوادي والبراري وإنما كانوا طوايف قريش الفجار فجاؤوا
أولا برجل قد أخذ بتقويتهم الخلافة عنه من غير احتياج إلى استعمال السيف والسنان
وثانيا برجل حاربه وقاتله كما قيل، ويفصح عن ذلك ما روي عنه في الخطبة

387
الطالوتية (1) حيث قال بعد الحمد والصلاة مخاطبا لمن حضر من من المحبين والمنافقين ولمن
غاب منهم: أيتها الأمة التي خدعت فانخدعت وعرفت خطيئة من خدعها فأصرت على ما
عرفت واتبعت أهواها وضربت في عشواء غوايتها (عوائها خ ل) وقد استبان لها
الحق فصدعت (فصدت خ ل) عنه، والطريق الواضح فتنكبته، أما والذي فلق الحبة
وبرء النسمة لو اقتبستم العلم من معدنه وشربتم الماء من منبعه (بعذوبته خ ل)
وادخرتم الخير في موضعه وأخذتم الطريق من واضحه وسلكتم من الحق نهجه لنهجت
(لابتهجت خ ل) بكم السبيل وبدت لكم الأعلام وأضاء لكم الاسلام فأكلتم رغدا، (2)
وما عال فيكم عائل ولا ظلم منكم مسلم ولا معاهد ولكن سلكتم سبيل الظلام فأظلمت
عليكم دنياكم برحبها (3) وسدت عليكم أبواب العلم فقلتم بأهواءكم واختلفتم في
دينكم فأفتيتم في دين الله بغير علم واتبعتم الغواة فأغوتكم وتركتم الأئمة فتركوكم
فأصبحتم تحكمون بأهواءكم إذا ذكر الأمر سئلتم أهل الذكر فإذا أفتوكم قلتم هو العلم
بعينه، فكيف وقد تركتموه ونبذتموه وخالفتموه (4)، رويدا عما قليل تحصدون
جميع ما زرعتم وتجدون وخيم ما اجترمتم (5)، (اجتنيتم خ ل) والذي فلق الحبة
وبرء النسمة لقد علمتم أني صاحبكم والذي به أمرتم، وأني عالمكم والذي بعلمه
نجاتكم ووصي نبيكم وخيرة ربكم ولسان نوركم والعالم بما يصلحكم، فعن قليل

388
رويدا ينزل بكم ما وعدتم وما نزل بالأمم قبلكم وسيسألكم الله عز وجل عن أئمتكم
معهم تحشرون وإلى الله عزو جل غدا تصيرون، أما والله لو كان لي عدة أصحاب
طالوت أو عدة أهل بدر وهم أعداؤكم لضربتكم بالسيف حتى تولوا إلى الحق وتنيبوا
للصدق فكان أرتق للفتق وآخذ بالرفق اللهم فاحكم بيننا بالحق وأنت خير الحاكمين
انتهت (1) ولنعم ما قال الشاعر في هذا المعنى شعر:
لو سلموا لولاة الأمر أمرهم * ما سل بينهم في الأرض سفيان

389
وأما عاشرا فإن ما ذكره من أنه لم يكن غرض بين الصحابة لأجل السلطنة الخ
فيه من آثار الغرض والعصبية والمرض ما لا يخفى، وكيف يخفى ذلك بعد ما قدمناه
من استعجالهم واستعمالهم كل حيلة ومكيدة في تقمص الخلافة وبعد ما نقده الصغاني (1)
في المشارق عن البخاري من قوله (ص) مخاطبا لأصحابه: إنكم ستحرصون على
الإمارة وإنها ستكون ندامة يوم القيامة فنعم (2) المرضعة وبئست الفاطمة (3) الحديث،
وقال الشارح الهروي (4) أخرجه البخاري في الأحكام، والسين في (ستحرصون)

390
للاستقبال كما في ستكون ويكون المراد بيان حرصهم عليها بعد ذلك الزمان،
ويحتمل أن يكون للتأكيد كما في قوله تعالى سنكتب ما قالوا (1) الآية، والمراد
بيان شدة حرصهم على ذلك، وكرر لفظة إن في قوله: وإنها للتأكيد وبيان أن
ذلك واقع البتة (إنتهى).
وقد أنصف واعترف شارح (2) المقاصد بظهور ما وقع بين الصحابة من التشاجر
والخلافة وتعريض النفوس لكل بلية وآفة فلا ينفع في إصلاحها ما تكلفه الناصب
من التأويلات الباردة الصادرة عن الحماقة والخرافة، ولنذكر كلام شارح المقاصد
قصرا للمسافة على الناظر الذي يطول عليه الرجوع لا يسمنه الإشارة ولا يغني من
جوع، فنقول: قد أنطق الله لسانه بالحق فقال رغما لأنفه: إن ما وقع بين الصحابة
من المحاربات والمشاجرات على الوجه المسطور في كتب التواريخ والمذكور على
ألسنة الثقات يدل بظاهره على أن بعضهم قد حاد عن الطريق الحق وبلغ حد الظلم
والفسق، وكان الباعث عليه الحقد والعناد والحسد واللداد (3) وطلب الملك
والرياسات الميل إلى اللذات والشهوات، إذ ليس كل صحابي معصوما
ولا كل من لقي النبي (ص) بالخير موسوما إلا أن العلماء لحسن ظنهم
بأصحاب رسول الله (ص) ذكروا لها محامل وتأويلات بها يليق وذهبوا إلى أنهم
محفوظون عما بوجب التضليل والتفسيق صونا لعقائد المسلمين من الزيغ والضلالة
في حق كبار الصحابة سيما المهاجرين منهم والأنصار المبشرين بالثواب في دار
القرار، وأما ما جرى بعدهم من الظلم على أهل بيت النبي (ص) فمن الظهور
بحيث لا مجال للاخفاء ومن الشناعة بحيث لا اشتباه على الآراء ويكاد يشهد به الجماد

391
العجماء ويبكي من في الأرض والسماء وتنهدم منه الجبال وتنشق منه الصخور ويبقى
سوء عمله على كر الشهور والدهور فلعنة الله إلى من باشر أو رضي أو سعى، ولعذاب
الآخرة أشد وأبقى انتهى.
وأما الحادي عشر فلأن إشعاره بأن الحق هو الذي عليه السواد الأعظم من الأمة
مردود بأن اتفاق السواد الأعظم بمعنى أكثر الناس على ما فهمه الناصب سود الله
وجهه مما لا يركن إلى اعتباره إلا القلوب الساذجة والأنفس الخالية من معرفة
الحق واليقين الغافلة عن قوله (ص) كلهم في النار إلا واحدة (1)، فإنه دل على
أن الناجي قليل بل نادر بالنسبة إلى الكثير من الهالكين وقد نص الله على
ذلك في كتابه العزيز بقوله: وقليل ما هم (2) وقليل من عبادي الشكور (3) وما
آمن معهم إلا قليل (4) وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله (5)
ولكن أكثر الناس لا يؤمنون (6) إلى غير ذلك.
والحق أن النبي (ص) أراد بالسواد الأعظم في قوله عليكم بالسواد الأعظم
الكتاب والعترة كما مر (7) بيانه أو خصوص مولانا أمير المؤمنين (ع) كما يشعر به

392
كلام (1) الزمخشري وفخر الدين الرازي (2) في تفسيرها لما ورد في شأنه (ع) من
قوله تعالى: وتعيها أذن واعية (3) على ما سيذكرها المصنف فإنهما قالا: فإن قيل
لم قال أذن واعية على التوحيد والتنكير، قلنا للايذان بأن الوعاة فيهم قلة وتوبيخ
الناس بقلة من يعي فيهم والدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت فهو السواد الأعظم
وأن ما سواها لا يلتفت إليهم وإن امتلأ العالم منهم (إنتهى) فظهر أن الحديث
النبوي لنا لا علينا، ويمكن أن يقال: لعل النبي (ص) إنما قال ذلك في بعض
الغزوات إشارة إلى طايفة من عسكره بالقصد والتعرض بجماعة كثيرة من جيش
العدو المجتمعين في ناحية كما نقل ابن أعثم (4) في الفتوح نظير هذه العبارة عن

393
علي (ع) في حرب صفين حيث قال: إن في بعض أيام صفين أصحاب معاوية جماعة
من قبايل يحصب (1) وكندة (2) ولخم (3)

394
وجذام (1) مع ذي الكلاع (2) الحميري وقال له: اخرج واقصد بحربك همدان
خاصة، فلما علم علي (ع) بذلك أخبر همدان عن ذلك وقال لهم: عليكم بهذا
الخيل فإن معاوية قد قصدكم بها خاصة دون غيركم (إنتهى).

395
وأما الثاني عشر فلأنا قد أعدمنا ما قدمه من عدم وجوب العصمة ورميناه في ظلمات
العدم: وكذا ما قدمه في جواب الدليل الثاني من عدم اشتراط أن لا يسبق من
الإمام معصية، ونستدل على الاشتراط هيهنا بقوله تعالى: لا ينال عهدي الظالمين (1)
في جواب إبراهيم (ع) حيث سأل الإمامة لذريته (2) بقوله: ومن ذريتي الآية
تقرير الاستدلال أن لفظة من تبعيضية كما هو الظاهر، وصرح به المفسرون وحينئذ
نقول: إن سؤال الإمامة إما أن كان لبعض ذريته المسلمين العادلين مدة عمرهم أو
لذريته الظالمين في تمام عمرهم أو لذريته المسلمين العادلين في بعض أيام عمرهم
وعدالتهم أو للأعم من ذلك، فعلى الأول يلزم عدم مطابقة الجواب للسؤال،
وعلى الثاني يلزم طلب الخليل ذلك المنصب الجليل للظالم حال ظلمه وهذا لا
يصدر عن عاقل بل جاهل من أمته (3) فضلا عنه، وعلى الثالث والرابع يلزم

396
المطلوب وهو أن الإمامة مما لا ينالها من كان كافرا ظالما في الجملة وفي بعض
أيام عمره، أن قيل: إن بعضنا من المفسرين حمل العهد في الآية على عهد النبوة
وحينئذ لا دلالة في الآية على اشتراط عدالة الإمام في جميع عمره، وأيضا أن هيهنا
شقا خامسا قد أهملتم أخذه في الاستدلال وذلك لجواز أن يكون إبراهيم (ع) قد زعم
أن ذلك البعض من ذريته الذين سأل لهم الإمامة يكونون متصفين بالاسلام والعدالة
وقد كان زعمه هذا في جميع أفراد ذلك البعض أو في بعضها مخالفا لما في نفس الأمر
فأجابه تعالى بأن عهد الإمامة مما لا تناله الظالمون تنبيها على بطلان ما زعمه لا سلام
هؤلاء كلا أو بعضا، وحينئذ لا يلزم سؤال ما لا يليق بشأن النبوة ولا عدم مطابقة الجواب
للسؤال، فلا يثبت الاشتراط
قلت في الجواب عن الأول: إنه يكفي في دلالة الآية على ما ذكرنا وحجيته على
الخصم تصريح البعض الآخر بل أكثرهم، ومنهم صاحب الكشاف وأمثاله من
أكابر المفسرين على أن بالعهد عهد الإمامة وهو الظاهر أيضا من سياق الآية،
على أنا نقول يلزم من اشتراط ذلك في النبي اشتراطه في الإمام بطريق أولى لعدم
تأييده بالوحي العاصم عن الخطاء، وقد مر تحقيق الكلام في وجوب
عصمتهم عليهم السلام،
وعن الثاني أن بطلان زعم إسلام بعض من جماعة إنما يتصور إذا كان ذلك البعض
موجودا متعينا يمكن أن ينظر في سلامة أحواله واختلالها أو إذا كان هؤلاء الجماعة
بأجمعهم ممن يتصفون أو سيتصفون بالكفر والضلال، ومن البين أن الموجودين
في زمام إبراهيم (ع) من ذريته كإسماعيل وإسحاق كانوا معصومين لا مجال لزعم
الباطل فيهما، ومن وجد من ذريته إلى يومنا هذا كان بعض منهم أنبياء
معصومين أيضا وبعضهم أولياء مرحومين وبعضهم من فساق المسلمين وبعضهم من الكفار

397
المردودين كما أخبر الله تعالى عن ذلك في سورة الصافات (1) بقوله: وباركنا عليه
وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين الآية ولا ريب في أنه
(ع) إذا طلب الإمامة لبعض ذريته المعدومين لا بد بمقتضى شأن نبوته وقرينة تخصيصه
بالبعض أن يكون طلبه ذلك لهم بشرط اتصافهم بالاسلام والعدالة الدائمتين أو في الجملة
ولما احتمل أن يكون بعض من ذريته المعدومين مسلمين عادلين في الواقع ولم
يكونوا متعينين عنده حتى ينظر في حالهم فيزعم فيهم ما ليسوا عليه في نفس الأمر
صار احتمال كون ذلك البعض الذي خصهم بسؤال الإمامة لهم ممن كانوا على خلاف
ما زعم فيهم عليهم السلام ساقطا عن أصله وقد منع بعض القاصرين (2) لزوم عدم
مطابقة الجواب للسؤال قائلا إن الله تعالى لما عدل عن جواب سؤال إبراهيم (ع)
إلى الإخبار بعدم نيل الظالم لعهد الإمامة فكأنه أجاب دعائه مع زيادة، ووهنه ظاهر
إذ لم يعهد في فصيح الكلام فضلا عن كلام الملك العلام أن يسكت رأسا عن جواب
ما ذكر في السؤال ويقال في مقام الجواب ما لم يسأل عنه أصلا إلا إذا كان السؤال
مما لا يستحق الجواب كما قاله أئمة البيان في أسلوب الحكيم (3) وما نحن فيه ليس
كذلك على أن هذا التوجيه يجري في كل مقام يعترض فيه بأن الجواب ليس بمطابق
للسؤال فلو صح لزم أن لا يكون إيراد هذا القسم من الاعتراض موجها في شئ
من المواضع أصلا فضلا عن أن يكون واردا أو متوجها فتوجه فكذا الكلام فيما

398
قدمه من جواب الدليل الرابع والخامس واشتراط الأكملية والأفضلية والأشرفية
فتذكر.
قال المصنف رفع الله درجته
وأما المنقول فالقرآن الكريم والسنة المتواترة، أما القرآن فآيات، الأولى إنما وليكم
الله ورسوله والذين آمنوا يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون (1)
أجمعوا على نزولها في علي (ع) وهو مذكور في الجمع بين الصحاح الستة (2) لما

399
تصدق بخاتمه على المسكين في الصلاة بمحضر من الصحابة، والولي هو المتصرف
وقد أثبت الله الولاية لذاته وشرك معه الرسول وأمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام،
وولاية الله تعالى عامة فكذا النبي والولي (1) إنتهى.
قال الناصب خفضه الله
أقول: جوابه أن المراد من الولي في الآية الناصر فإن الولي لفظ مشترك يقال
للمتصرف والناصر والمحب والأولى بالتصرف كولي الصبي والمرأة، والمشترك
إذا تردد بين معانيه يلزم وجود القرينة للمعنى للمطلوب منه، هيهنا كذلك، فلا
يكون هذا نصا على إمامة علي (ع)، فبطل الاستدلال به، وأما القرائن على أن
المراد بالولي الناصر في الآية الأولى والأحق بالتصرف لأنه لو حمل على هذا

408
لكان غير مناسب لما قبلها وهو قوله: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود
والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض، فإن الأولياء هيهنا بمعنى الأنصار لا
بمعنى الأحقين بالتصرف، وغير مناسب لما بعدها وهو قوله ومن يتول الله ورسوله
والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون، فإن التولي هيهنا بمعنى المحبة

410
والنصرة فوجب أن يحمل ما بينهما على النصرة أيضا لتتلائم أجزاء الكلام انتهى.
أقول
فيه نظر من وجوه أما أولا فلأن القرينة في أن المراد بالولي الأولى بالتصرف دون
المعاني الأخر موجودة فإن حصر الولاية في المؤمنين الموصوفين في الآية بإيتاء
الزكاة حال الركوع يدل على عدم إرادة معنى النصرة وإلا لزم بمقتضى الحصر أن
يكون من شرط الولي المؤمن مطلقا (1) إيتاء الزكاة حال الركوع وفساده ظاهر
والحاصل أنه إن أريد بالولي الناصر وبالذين آمنوا جماعة من المؤمنين الذين
يمكن اتصافهم بالنصرة فيستقيم الحصر حينئذ لكن لا يستقيم الوصف بإيتاء الزكاة حالة
الركوع، وإن أريد به الناصر وبالذين آمنوا علي (ع) يبطل الحصر وإن
أريد به الأولى بالتصرف وبهم علي (ع) يستقيم الحصر والوصف معا لأن كون
إيتاء الزكاة حال الركوع من شأن الإمام الأولى بالتصرف في أحكام المؤمنين غير
مستبعد بل روي (2) أنه قد وقع هذه الكرامة عن باقي الأئمة المعصومين عليهم السلام
وأما ثانيا فلأن الولاية بمعنى الإمامة والتصرف في الأمور أعم من الولاية بمعنى
النصرة في الجملة فنفي الولاية بمعنى الإمامة مفيد لنفي الولاية المنفية عن اليهود
والنصارى في الآية الأولى على أتم وجه بأن نفي العام نفي الخاص مع الزايد،
فهو أتم في النفي فتكون المناسبة حاصلة، وكذا الكلام في ما بعد الآية فلا دلالة

411
على مقصودهم إلا إذا حصل حزب الله على معنى أنصار الله كما تمحله بعضهم وهو كما
ترى وأيضا العطف دال على تشريك الثلاثة في اختصاص الولاية (النصرة خ ل) بأي
معنى كان بهم ولا خفاء في أن نصرة الله ورسوله للمؤمنين مشتملة على التصرف في أمرهم على ما
يختلف بالأولوية والأشدية، بل حقق أن جميع المعاني العشرة التي ذكروها
للولي مرجعها إلى الأولى بالتصرف، لأن مالك الرق وهو أحد تلك المعاني أولى
برقه والرق أولى به، وكذا المعتق أولى بمعتقه وبالعكس وكذا الجار بالجار
والحليف بالحليف والناصر بالمنصور وابن العم بالعم فإن كلا من هذه المذكورات
وما لم يذكر أولى بصاحبه من الذين ليس له تلك الولاية كما لا يخفى على من تأمل
وأنصف، وأما ثالثا فلأن توافق الآيات إنما يجب إذا لم يمنع عنها مانع وقد بينا
عدم صحة حمل الولي هيهنا على الناصر والمحب ونحوهما، وأيضا هذه الآيات
الثلاث لم تنزل دفعة حتى تلائم أن يكون الولي في جميعها بمعنى واحد بل نزلت
تدريجا والصحابة جمعوها بهذا الوجه، بل نقول: لو سلم عدم الملائمة على التقدير
المذكور فهذا اعتراض يرد في الحقيقة على خليفتهم عثمان حيث جمع المصاحف
على مصحف واحد وحرف الكلم عن مواضعها (1) ولم يرتب الآيات كما هو حقها
وكان له في ذلك مآرب شتى لا يخفى على أولي النهى.
وأما رابعا فلأن تفريع الوجوب في قوله: فيجب أن يحمل الخ على ما قبله محل
تأمل، وقوله: لتتلائم أجزاء الكلام لا يدل على الوجوب خصوصا إذا دل الدليل
على أنه لا يصح إرادة النصرة فتأمل هذا،
واعترض شارح المقاصد على احتجاج الشيعة بالآية المذكورة بأن الحصر إنما
يكون فيما فيه تردد ونزاع، ولا خفاء في أن النزاع في الولاية والإمامة لم يكن

412
عند نزول الآية ولم تكن في ذلك الزمان إمامة حتى يكون نفيا للتردد،
والجواب عنه من وجوه أما أولا فلما يستفاد من كلامه في شرحه للتلخيص في
مبحث القصر حيث قال: إن اعتقاد المخاطب بثبوت ما نفاه المتكلم قطعا أو احتمالا
مختص بالقصر الغير الحقيقي، ألا ترى أنهم اتفقوا على صحة ما في الدار إلا زيد
قصر حقيقيا مع أنه ليس ردا على من اعتقد أن جميع الناس في الدار، والحاصل
أنه يجوز أن يكون هذا القصر قصر الصفة على الموصوف قصر حقيقيا ودفع التردد
والنزاع ورد الخطاء إنما يشترط في القصر الإضافي وأما ثانيا فلأنه يجوز أن
يكون قصرا إضافيا فإنه تعالى عالم بجميع الأشياء فلما علم اعتقادهم إمامة غيرها
في الاستقبال كما يدل عليه حديث المشكاة (1) الذي من جملته وإن أمرتم عليا ولا
أراكم فاعلين الخ قال لهم على أبلغ وجه وآكده إنما وليكم الله تتميما، للحجة،
وأما ثالثا فلأنه يجوز أن يكون الحصر لدفع التردد الواقع من بعضهم عند نزول
الآية بين انحصار الولاية في الله ورسوله واشتراكه بينهما وبين غيرهما على أن يكون
القصر لتعيين الاشتراك كما أن القصر في قوله تعالى: وما أرسلناك إلا كافة للناس (2)
قصر القلب لتحقيق اشتراك الرسالة وعمومها لجميع الناس ورد اختصاصها بالعرب
كما زعمته اليهود والنصارى، وأما رابعا فلأن حاصل كلام المعترض هو الاعتراض
على الله تعالى ونسبة اللغو إليه، إذ محصله أن النزاع في خلافة الثلاثة وولايتهم
إنما وقع بعد النبي (ص)، فالحصر لا يرفعه، وباعتقادهم لم يكن في حال حياة
النبي (ص) إمام وخليفة وتردد في خلافة أحد فيكون الحصر لغوا وأما خامسا
فلأن الحصر يدل على نفي إمامة من ينازع مطلقا لا أن ينازع في ذلك الوقت، وإلا
لزم أن تكون كلمة التوحيد نافيا لألوهية من ادعى في وقت نزولها

413
لا مطلقا وهو ظاهر الفساد هذا،
وقد اعترض أيضا بعض المتعصبين (1) على الاحتجاج بهذه الآية وقال إنكم تقولون
إن عليا (ع) في حال صلاته في غاية ما يكون من الخشوع والخضوع واستغراق
جميع حواسه وقواه وتوجهها شطر الحق حتى أنكم تبالغون وتقولون إذا أريد
إخراج السهام والنصول من جسمه الواقعة فيه وقت الحرب تركوه إلى وقت صلاته
فيخرجونها منه وهو لا يحس بذلك الاستغراق نفسه وتوجهها نحو الحق، فكيف مع
ذلك أحس بالسائل حتى أعطاه خاتمه في حل صلاته، وأجاب (2) عنه بعض علمائنا
فقال: شعر:
يعطي ويمنع ولا تلهيه سكرته * عند النديم ولا يلهو من الكاس
أطاعه سكره حتى تمكن من * فعل الصحاة وهذا أفضل الناس
وحاصل الجواب أنه (ع) في تلك الحالة وإن كان كما ذكر لكنه حصل منه
التفات أدرك به السائل وسؤاله ولا يلزم منه التفاته إلى غير الحق لأنه فعل فعلا تعود نهايته
إلى الحق، فكان كالشارب الذي فعل حال سكرته فعلا موافقا (3) لفعل الصحاة
ولم يلهه ذلك عن نديمه ولا عن كأسه ولا خرج بذلك عن سكرته فتأمل،

414
وأقول: في الجواب أيضا أن غاية الأمر في ذلك أن يكون في مرتبة ما يحصل
للأولياء من الوحدة في الكثرة والخلوة في الجلوة وقد أثبت النقشبندية (1) من متصوفة
أهل السنة هذه المرتبة لأنفسهم واشتهر منهم أنهم يقولون: (خلوت در انجمن ميدرايم)
فلا ينبغي أن ينازع مع علي (ع) في حصول نظير هذه المرتبة له،، اللهم إلا أن يقال:
إن النقشبندية قد نسبوا خرقتهم في التصوف إلى أبي بكر، فجاز أن يحصل لهم من
بركات أبي بكر مرتبة لا تحصل لعلي (ع)، فإن هذا كلام لا دافع له إلا غضب الله تعالى
قال المصنف رفع الله درجته
الثاني قوله تعالى: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك (2)
نقل الجمهور (3) أنها نزلت في بيان فضل علي (ع) يوم الغدير، فأخذ رسول الله (ص)
بيد علي (ع) وقال: أيها الناس ألست أولى منكم بأنفسكم، قالوا بلى يا رسول الله

415
قال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه (1) اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر
من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه كيفما دار، والمولى يراد به الأولى بالتصرف
لتقدم ألست أولى ولعدم صلاحية غيره هيهنا انتهى.

422
قال الناصب خفضه الله
أقول: أما ما ذكر من إجماع المفسرين على أن الآية نزلت في علي فهو باطل
فإن المفسرين لم يجمعوا على هذا، وأما ما روي من أن رسول الله (ص)
ذكره يوم غدير خم أخذ بيد علي وقال: ألست أولى، فقد ثبت هذا في الصحاح
وقد ذكرنا سر هذا في ترجمة كتاب كشف الغمة في معرفة الأئمة ومجمله: أن
واقعة غدير خم كان في مرجع رسول الله (ص) عام حجة الودع وغدير خم محل

482
افتراق قبايل العرب وكان النبي (ص) يعلم أنه آخر عمره وأنه لا يجتمع العرب
بعد هذا عنده مثل هذا الاجتماع، فأراد أن يوصي العرب بحفظ محبة أهل بيته وقبيلته،
ولا شك أن عليا (ع) كان بعد رسول الله (ص) سيد بني هاشم وأكبر أهل البيت
فذكر فضائله وساواه بنفسه في وجوب الولاية والنصرة والمحبة معه، ليأخذه العرب
سيدا ويعرفوا فضله وكماله، ولينصف المنصف من نفسه لو كان يوم غدير خم صرح
رسول الله (ص) بخلافة علي نصا جليا لا يحتمل خلاف المقصود ألا ترى العرب
مع جلافتهم وكفرهم بعد رسول الله (ص) وجعلهم الأنبياء فيهم مثل مسيلمة الكذاب (1)
وسجاح (2) وطليحة (3) كانوا يسكتون على خلافة أبي بكر وكانوا لا يتكلمون
بنباس (4) في أمر خلافة علي (ع) مع أن رسول الله (ص) نص على المنبر بمحضر
جميع قبائل العرب: إن أنصف المتأمل العاقل علم أنه لا نص هناك (إنتهى).
أقول
أولا أن المصنف لم يدع إجماع المفسرين بل قال: نقل الجمهور، والمعنى
بالجمهور أكثرهم، وبالجملة مراد المصنف من ذلك موافقة جماعة من مفسري الجمهور
مع مفسري الإمامية فيما ذكر ولا يهمنا اتفاق كافتهم في ذلك، إذ ما ذهب إليه
بعض من طائفة ووافق فيه آخرون من خصامهم يكون حجة على باقي تلك الطائفة
ولهذا ترى أن علماء الشيعة يحتجون على جمهور أهل السنة بأن أبا حنيفة قال
كذا، والغزالي قال كذا إلى غير ذلك من آحاد علمائهم وكذا العكس كما وقع

483
عن هذا الناصب في خطبة كتابه حيث احتج على الإمامية قاطبة بأن الحاكم
أبا عبد الله روى كذا وهو شيعي إمامي، وصدور المخالفة عن بعض أهل السنة خصوصا
المتأخرين منهم لا يقدح في ذلك، بل ذلك دليل على أنهم بعد ما رأوا قيام حجة
الشيعة عليهم بذلك استحسنوا المخالفة بوضع الرواية المنافية إخفاءا للحق وترويجا
لما ركنوا إليه من الباطل كما فعله الناصب في الآية الآتية، بل نقول: إن الاجماع
واقع على حقية ذلك أولا وظهور الخلاف إنما حدث بعد الاجماع للأغراض المذكورة
والذي يدل على ذلك أن المفسرين الذين رووا خلاف ذلك كانوا متأخرين عن
الثعلبي (1) ومن يحذو حذوه فضلا عن قدماء المفسرين من الصحابة والتابعين،
وبالجملة من قبائح عادات القوم وفضائح وقاحاتهم أنهم إذا وجدوا آية نازلة في
فضائل أهل البيت ومناقبهم قد استدل به الشيعة على أفضليتهم وأحقيتهم فمع أنهم
رووه أيضا قبل ذلك في كتبهم يردونه حينئذ تارة بإحداث مخالف وتارة بضعف
الراوي وتارة بالتخصيص وتارة بالتعميم وتارة بالتأويل، كأنهم مفوضون في
وضع الدين موكلون في تشريع الشرايع لسيد المرسلين ولم يسمعوا كلام رب
العالمين حيث قال: قتل الخراصون الذين هم في غمرة ساهون (2) إن الذين

484
يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب
أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون (1) ومع ذلك كله لا يعتدون برواية كبار
أسلاف الذرية الأطهار وأخلاف أهل بيت النبي المختار (ص) مثل زين العابدين
وباقر علوم الدين وإمام الصادقين وباقي الأئمة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين
ومن شايعهم من الصلحاء المؤمنين ووالاهم وتابعهم من العرفاء الموقنين، ويطعنون
فيما هم أولى به من أهل الحق واليقين حيث لا يجدون كلامهم مطابقا لمرامهم، وما
أقل حيائهم وأكثر اعتدائهم، فأي خير في ذلك السلف وأي جميل يترقب من
هذا الخلف، لا يرحمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (2)، ولقد فضحهم هذا الناصب
الشقي العتل الزنيم (3) حيث ارتكب تحريف آيات الكتاب العظيم وأحاديث
الرسول الكريم سيما ما أتى به في مسألة إجماع العترة الطاهرة من تنظير آية التطهير
بما اخترعه من الآية الحاكمة عليه بالتكفير فضلا عن عداوة أمير الغدير، على أنه
روى الحديث في صحاح القوم (4) كالبخاري ورواه أحمد بن حنبل إمامهم في
مسنده بطرق متعددة على الوجه الذي ذكره المصنف، وكذا رواه الثعلبي في
تفسيره (5) وابن المغازلي (6) الشافعي في كتاب المناقب من طرق شتى وابن

485
عقدة (1) في مأة وخمس طرق وذكر الشيخ (2) ابن كثير الشامي

486
الشافعي (1) عند ذكر أحوال محمد بن (2) جرير الطبري الشافعي إني رأيت كتابا
جمع فيه أحاديث غدير خم في مجلدين ضخمين وكتابا جمع فيه طرق حديث
الطير ونقل عن أبي المعالي الجويني (3) أنه كان يتعجب ويقول: شاهدت
مجلدا ببغداد في صحاف فيه روايات هذا الخبر مكتوبا عليه المجلدة الثامنة
والعشرون من طرق من كنت مولاه فعلي مولاه ويتلوه المجلدة التاسعة
والعشرون وأثبت الشيخ ابن الجوزي (4) الشافعي في رسالته الموسومة
بأسنى المطالب في مناقب علي بن أبي طالب عليهما السلام تواتر هذا
الحديث من طرق كثيرة، ونسب منكره إلى الجهل والعصبية، وبالجملة قد بلغ

487
هذا الخبر في الاشتهار إلى حد لا يوازي به خبر من الأخبار وتلقته محققوا الأمة
بالقبول والاعتبار فلا يرده إلا معاند جاهد أو من لا اطلاع له على كتب الحديث
والآثار، ثانيا أن ما سرده في بيان سره الذي زعم كونه قادحا في دعوى نصوصية
الحديث مدفوع بأن فضل علي (ع) وكماله وعلمه وجوده وشجاعته وقربه من
النبي (ص) بكونه صهره وابن عمه وكاشف غمه (1) كان ظاهرا على كافة العرب
سيما قريش الذين كان الوصية إليهم أهم وقد نطق القرآن بوجوب محبتهم قبل

488
ذلك بقوله تعالى: قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى (1) وقال (2)
النبي (ص) في شأنهم: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، الحديث
وقال (3) أذكركم الله في أهل بيتي مرات كما ذكره ابن حجر في صواعقه إلى غير
ذلك من الأحاديث الكثيرة المتضمنة للترغيب على حبهم ومزيد توقيرهم وتعظيمهم
والتحذير عن مخالفتهم كما فصل في كتب الحديث سيما المناقب (4)، وقد ذكر
المصنف قدس سره نبذا منها في هذا الكتاب، فبديهة العقل حاكمة بأن نزول
النبي (ص) في زمان ومكان لم يكن (5) نزول المسافر متعارفا فيهما حيث كان
الهواء على ما روي في غاية الحرارة حتى كان الرجل يستظل بدابته ويضع الرداء
تحت قدميه من شدة الرمضاء والمكان مملوء من الأشواك، ثم صعوده (ص) على
منبر من الأقتاب والدعا لعلي (ع) على وجه يناسب لشأن الملوك والخلفاء وولاة
العهد لم يكن إلا لنزول الوحي الايجابي الفوري المذكور في ذلك الزمان لاستدراك
أمر عظيم الشأن جليل القدر يختص بخصوص علي (ع) دون سائر أهل البيت كنصبه

489
للإمامة والخلافة لا لمجرد المحبة والنصرة ونظائرهما سيما وقد انضم إلى
ذلك ما لا مجال معه للاحتمال الذي توهمه الناصب الشقي وهو قوله (ص): ألست
أولى بكم من أنفسكم فإنه نص صريح في إرادة رياسة الدين والدنيا، فإن الأولى
بنفس الأمة منهم هو النبي والإمام عليهم السلام كما مرت الإشارة إليه في تحقيق
الآية السابقة وقد فهم هذا المعنى من الفصحاء السامعين لذلك العارفين بمدلولات
الكلام العربي عمر بن الخطاب (1) وحسان بن ثابت (2) وحارث بن نعمان

490
الفهري (1) أما عمر فلما تواتر من أنه هنأ عليا (ع) هناك بقوله: بخ بخ (2) لك يا بن
أبي طالب صرت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة قال الغزالي في كتابه المسمى بسر العالمين
في مقالته الرابعة التي وضعها لتحقيق أمر الخلافة أمر الخلافة بعد عدة من الأبحاث وذكر الاختلاف
ما هذه عبارته (3): لكن أسفرت الحجة وجهها وأجمع الجماهير على متن الحديث
من خطبته صلوات الله عليه في يوم غدير باتفاق الجميع وهو يقول: من كنت مولاه
فعلي مولاه فقال عمر: بخ بخ لك يا أبا الحسن لقد أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن
ومؤمنة، فهذا تسليم وتحكيم، ثم بعد هذا غلب الهوى لحب الرياسة وحمل
عمود الخلافة وعقود البنود (خ ل عقد البنود) وخفقان (5) الهواء في قعقعة (6)

491
الرايات واشتباك (1) ازدحام الخيول وفتح الأمصار سقتهم كأس الهوى فعادوا إلى
الخلاف الأول فنبذوا الحق وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما
يشترون (2) انتهى
وأما حسان فلأنه أنشد في مدحه (ع) الأبيات المشهورة الصريحة فيما ذكرناه
فاستحسنها النبي (ص) وأثنى عليه،
وأما حارث فلما رواه الثعلبي قدوة مفسري أهل السنة في شأن نزول قوله تعالى
سأل سائل بعذاب واقع الآية (3) من أنه لما كان رسول الله (ص) بغدير خم نادى
الناس فاجتمعوا فأخذ بيد علي (ع) فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه فشاع ذلك
وطار في البلاد فبلغ الحارث بن نعمان الفهري فأتى نحو النبي (ص) على ناقته حتى
أتى الأبطح فنزل عن ناقته فأناخها وعقلها، ثم أتى النبي (ص) وهو في ملأ من
أصحابه فقال يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ففعلناه
وأمرتنا أن نصلي خمسا فقبلناه وأمرتنا أن نصوم شهر رمضان فقبلناه وأمرتنا أن
نحج البيت فقبلناه ثم لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك وفضلته علينا
وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه شئ منك أم من الله، فقال النبي (ص)
والذي لا إله إلا هو أنه من الله، فولى الحارث بن نعمان يريد راحلته وهو يقول:
اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم
فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله، وأنزل الله
تعالى: سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ليس له دافع من الله ذي المعارج (4) انتهى

492
فبعد تواتر الحديث كما اعترف به أكابر أهل السنة ووضوح حجته وصراحة
مدلوله على ما قررنا وفهمه فصحاء قريش يكون ارتكاب القدح والمنع عليه أو تأويله
على وجه ينقبض عنه العقل السليم ناشيا عن إعوجاج الفطرة وسوء الاستعداد والتورط
في العصبية والعناد، ولو كان باعث إتيان النبي (ص) بتلك الخطبة في ذلك
الزمان والمكان خوف افتراق قبائل العرب كما زعمه الناصب الشقي دون نزول
الوحي بالأمر الفوري كما ترويه الشيعة عن أئمتهم عليهم السلام لكان النبي قرر
في نفسه قبل الوصول إلى ذلك المقام قراءة تلك الخطبة عند اجتماع الناس في ذلك
اليوم ولكان الظاهر حينئذ أن يأتي به في صباح ذلك اليوم لا في الظهر وأثناء
الارتحال، بل كان الظاهر على ذلك التقدير أن يخطب به في أيام الحج حتى يسمعه كل
من حضرها لظهور أن جميع من حضر الحج من العرب وغيرهم لم يصبحوا النبي (ص)
من مكة إلى غدير خم، بل بعضهم بقي في مكة ومن كان من أهل اليمن وباقي
جزيرة العرب عادوا من مكة إليها، فظهر أن الإعلام بذلك في ذلك الزمان والمكان
لم يكن من عند النبي ولا لأجل ما علله الناصب به، وإنما كان بالوحي الإلهي
ولأجل أن مقاساة المشقة عند استماع مضمون الخطبة في ذلك الزمان والمكان كان
أدعى إلى عدم نسيانه كما قيل: إن في الكسبيات اعتمال (1) قلما تنسى، ولأن
ذلك أدل على كون ذلك مقتضى الحكم الإلهي دون اجتهاد النبي (ص) كما جوزه
القوم عليه إلى غير ذلك من الحكم الظاهرة والآيات الباهرة
ومما يدل على ذلك دلالة صريحة أن إبلاغ محبة أهل البيت ونصرتهم ونحو ذلك
مما احتمله الناصب بعد ما سبق إبلاغهما منه (ع) مكررا لا يوجب التأكيد والمبالغة
من الله تعالى في ذلك بحيث يخاطب نبيه (ص) بأنه إذا لم يفعل ذلك كان كمن لم
يبلغ شيئا من أحكامه تعالى، فتعين أن يكون المراد بالابلاغ إبلاغ حكم يتحقق بإبلاغه

493
إبلاغ مجموع الأحكام وبه إكمال الدين وإتمام الإنعام وأنه هو الحكم الذي كان
صعبا ثقيلا على الأقوام من تعيين مصداق الأصل الخامس من أصول (1) دين الاسلام
بنصب علي (ع) وإظهار إمامته ووجوب طاعته على الأنام لما علم أن قلوب القوم
كان مملؤة من بغض علي (ع) بقتله لآبائهم وإخوانهم وأولادهم وأقاربهم في
غزوات النبي (ص) كما تضمنته الرواية السابقة من الثعلبي وغيره من الأعلام،
فكأنه تعالى قال: بلغ ما أنزل إليك من الأمر الايجابي الفوري في تعيين علي
للإمامة، فإن لم تفعل وأهملت فيه كنت كمن لا يبلغ الكل، ونظير ذلك أن
المكلف بجميع ما جاء به النبي لو لم يؤمن بجميع ما جاء به وآمن بالبعض دون
البعض الآخر كان كمن لم يؤمن بشئ مما جاء به، ثم إنه تعالى لما علم أن
ذلك الخطب كان صعبا على النبي (ص) حذرا من أضغان القوم قال لتوطين النبي (ص)
وتسليته وعدم مبالاته منهم والله يعصمك من الناس فقد تم النص واندفع الاحتمال
الذي قصد الشقي الخناس أن يوسوس به في صدور عوام الناس (2)،
وثالثا أن ما أشار إليه الناصب بقوله: وساواه في وجوب الولاية والنصرة والمحبة الخ
من أن المولي ليس بمعنى الأولى بالتصرف بل بمعنى المحبة والنصرة يرجع إلى
منع المقدمة التي استدل عليها المصنف بقول ألست أولى الخ فلا يكون مسموعا
نعم قد عارض ذلك صاحبها المواقف (3) بما في آخر الحديث من قوله (ص) اللهم
وال من والاه وبأن مفعل بمعنى أفعل لم يذكره أحد من الأئمة العربية وبأن
الاستعمال أيضا يدل على أن المولى ليس بمعنى الأولى لجواز أن يقال هو أولى من
كذا وأن يقال أولى الرجلين وأولى الرجال دون مولى الرجلين ومولى الرجال

494
وإن سلم أن المولى بمعنى الأولى، فأين الدليل على أن المراد الأولى بالتصرف
والتدبير، بل يجوز أن يراد الأولى في أمر من الأمور كما قال تعالى: (1)
إن أولى الناس بإبراهيم الذين اتبعوه وأراد الأولوية في الاتباع والاختصاص
به والقرب منه لا في التصرف فيه انتهى
وأقول فيه للنظر تصرفات منها أن إشعار الحديث بإرادة المحبة والنصرة إنما يتم
لو قيل: إن اللفظ بعد ما أطلق على أحد معانيه لا يناسب أن يطلق ما يناسبه ويدانيه
في الاشتقاق على معنى آخر وليس كذلك، بل قد يعد ذلك من وجوه المحسنات
البديعية (2)، فالإشعار بذلك ممنوع خصوصا مع المقدمة المتواترة، وأيضا مؤخر
الخبر جملة دعائية مستأنفة ليس ارتباطه بوسط الحديث كارتباط المقدمة به، فإشعاره
بذلك لا يعارض إشعار المقدمة بخلافه كما لا يخفى، ومع هذا ليس الاستدلال على

495
تعيين المراد بمجرد تناسب المقدمة بل العمدة فيه ما ذكرناه من دلالته عليه بمعونة
المقام وإنما المقدمة ضميمة الاستدلال
ثم أقول مترقبا عن ذلك إن مؤخر الخبر لنا لا علينا، لأن دلالته على ما قلناه أولى من
دلالته على ما ذكرتم فإن قوله (ص) اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من
نصره واخذل من خذله لا يليق إلا بمن كان له أولياء وأعداء ويحتاج إلى النصرة
ويحذر من الخذل ولا يكون كذلك إلا سلطان وإمام كما لا يخفى
ومها أن مجئ مفعل بمعنى أفعل مما نقله (1) الشارح الجديد للتجريد عن
أبي عبيدة (2) عن أئمة اللغة، وأنه فسر قوله تعالى: مولاكم النار بأوليكم (3)
وقال النبي (ص) إيما امرأة نكحت بغير إذن مولاها أي الأولى بها والمالك
لتدبيرها (4) ومثله في الشعر كثير، وبالجملة استعمال المولى بمعنى المتولي

496
والمالك للأمر والأولى بالتصرف شايع في كلام العرب منقول عن أئمة اللغة (1)
والمراد أنه اسم بهذا المعنى لا صفة بمنزلة الأولى ليعترض بأنه ليس من صيغة اسم
التفضيل، وأنه لا يستعمل استعماله، وأيضا كون اللفظين بمعنى واحد لا يقتضي
صحة اقتران اللفظ باللفظ من عوارض الألفاظ لا من عوارض المعاني ولأن الصلاة
مثلا بمعنى الدعاء والصلاة إنما يقترن بعلي والدعاء باللام يقال صلى عليه ودعا له
ولو قيل دعا عليه لم يكن بمعناه،
وقد صرح الشيخ (2) الرضي بمرادفة العلم والمعرفة مع أن العلم يتعدى إلى

497
مفعولين دون المعرفة وكذا يقال: إنك عالم ولا يقال إن أنت عالم مع أن المتصل
والمنفصل هيهنا مترادفان كما صرحوا به وأمثال ذلك كثير،
ومنها أن التقييد بقوله (ص) من أنفسهم قد دل أن المراد من الأولى هو الأولى
بالتصرف (1) دون الأولوية في أمر من الأمور، وذلك لأنه لا معنى للأولوية من الناس
بنفس الناس إلا الأولوية في التصرف، نعم لو لم يوجد القيد المذكور لتم معارضته
واستشهاده بقوله تعالى: إن أولى الناس بإبراهيم، فإنه لو كان نظم الآية مثلا إن
أولى الناس بإبراهيم من نفسه لكان المراد الأولى بالتصرف وقس عليه فعلل
وتفعلل.
ورابعا أن ما صدره بقوله: فلينصف المنصف إلى آخره خال عن معنى الإنصاف
مشتمل على غاية التعصب والاعتساف، إذا لا يخفى أن عمدة العرب من أركان الدين
وأنساب سيد المرسلين وسادة العرب أجمعين إنما كانوا طوايف قريش الحافين بمهبط الوحي
والنبوة من مكة والمدينة، وقد مر أنهم كانوا منحرفين عن علي (ع) لما في
صدورهم من ضغاين ثارات الجاهلية كما اعترف به هذا الناصب الشقي فيما بعد،
وباقي طوايف العرب كانوا أعرابا رعايا يرعون دوابهم في الصحاري لا سابقا لهم في

498
الاسلام ولا ممارسة لهم في الأحكام، فلا يتوجه إليهم في ذلك خطاب ولا يعتبر منهم
امتناع ولا ارتكاب، مع أن منشأ مخالفة طوايف العرب الذين منعوا أبا بكر في أيام
خلافته عن الزكاة (1) حتى سماهم أهل الردة إنما كان اعتقادهم حقية خلافة أهل
البيت عليهم السلام وقدحهم في خلافة أبي بكر كما ذكره صاحب كتاب الفتوح عن
بني حنيف (2) وبني كندة (3) وغيرهم على ما نقلناه في كتابنا الموسوم بمجالس
المؤمنين ويعضده ما ذكره ابن حزم (4) في مسألة أحكام المرتدين من كتابه
الموسوم بالمحلى حيث قال إن أهل الردة كانوا قسمين قسما لم يؤمن قط كأصحاب
مسيلمة وسجاح فهؤلاء حربيون لم يسلموا قط لا يختلف أحد في أنه تقبل توبتهم
وإسلامهم، والقسم الثاني قوم أسلموا ولم يكفروا بعد إسلامهم، لكن منعوا الزكاة
من أن يدفعوا إلى أبي بكر، فعلى هذا قوتلوا، ولا يختلف الحنفيون ولا الشافعيون

499
في أن هؤلاء ليس لهم حكم المرتد أصلا، وهم قد خالفوا فعل أبي بكر فيهم ولا تسميهم
أهل ردة، ودليل ما قلناه شعر الحطيئة المشهور الذي يقول فيه:
شعر:
أطعنا رسول الله (ص) ما كان بيننا * فيا لهفنا ما بال دين أبي بكر
أيورثها بكرا إذا مات بعده * فتلك لعمر الله قاصمة الظهر
وأن التي طالبتم فمنعتم * لك التمر أو أحلى لدى من التمر
فدا لبني بكر بن زوران رحلي وناقتي * عشية يحدي بالرماح أبو بكر (1)
(إنتهى)
وبالجملة إخفاء الجمهور للنص غير مستبعد عادة، فإن وجود النص لا يقتضي تواتره
ولا اشتهاره عند الجميع سيما مع داعي الكتمان كما عرفته فيما نحن فيه، وذلك
كما أنه وقع ثلاثا وعشرين سنة بعد الوحي النص على سنية رفع اليدين خمس
مرات في اليوم والليلة وعلى جهر البسملة وإخفاتها ثلاث مرات في كل يوم وليلة مع
أنه لم يتواتر أحدهما بحيث يرتفع الخلاف مع توفر الدواعي، وكذا الأمر في فصول
الأذان والمسح والغسل في الوضوء وغيرهما، وعدم ترك الاحتجاج لازم على تقدير
عصمتهم وأنتم تجوزون الصغيرة على الأنبياء عمدا، والكبيرة قبل الوحي، فما بال
غيرهم، والمقصود أنه إذا لم يتحقق مع وجود النص على المسائل المذكورة كل يوم
وليلة إلى ثلاث وعشرين سنة ارتفاع الخلاف وتعيين أحد الأمرين عند الجميع،
فالإمامة التي وقع النص عليها بتلك الآية أو بغيرها مرة أو مرتين أو ثلاث مرات في
تلك المدة طريق أولى،
قال بعض الحنفية في شرح بعض كتب أصول الفقه المسمى بالتحقيق (2) في بحث

500
خبر الواحد: إن لقبوله شروطا أن لا يكون متروك المحاجة عند ظهور الاختلاف
فإنهم إذا تركوا الاحتجاج به عنده فيما بينهم يكون مردودا عند بعض أصحابنا المتقدمين
وعامة المتأخرين، وخالفهم في ذلك غيرهم من الأصوليين وأهل الحديث قائلين
بأن الحديث إذا ثبت سند، فخلاف الصحابي إياه وترك العمل به والمحاجة لا يوجب
رده، لأن الخبر حجة على جميع الأنام، فالصحابي محجوج به كغيره انتهى،
والذي يلوح عند التأمل أن تقديم هؤلاء الجهلاء على أمير المؤمنين (ع) غلط نشأ
واشتهر حتى صار مذهبا بين الناس، لعدم التمييز للبعض وعدم قوة إظهار الحق
للبعض الآخر، أو لعروض الشبهة كما تقدم، وهذا كما قال (1) الفاضل التفتازاني
في شرح التلخيص من أن التلميح بتقديم الميم على اللام مصدر ملح الشعر إذا أتى بشئ
مليح وهو هيهنا خطاء محض نشأ من قبل الشارح العلامة حيث سوى بين التلميح
والتلميح
وفسرهما بأن شار إلى قصة ومثل (2) وشعر ثم صار الغلط مستمرا وأخذ
مذهبا لعدم التمييز وكم مثله للعلماء المحققين كما وقع لابن الحاجب في بحث كلمة
لو من الرجوع إلى قول الحكماء وترك قول المتقدمين من أهل العربية فتأمل.
قال المصنف رفع الله درجته
الثالث قوله تعالى: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (3)

501
أجمع (1) المفسرون وروى (2) الجمهور كأحمد بن حنبل وغيره أنها نزلت في
علي (ع) وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وروى أبو عبد الله بن محمد بن عمران

502
المرزباني عن أبي الحمراء قال خدمت النبي (ص) نحوا من تسعة أشهر أو عشرة
وكان عند كل فجر لا يخرج من بيته حتى يأخذ بعضادتي باب علي (ع) ثم يقول
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم يقول الصلاة رحمكم الله إنما
يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ثم ينصرف إلى مصلاه
والكذب من الرجس، ولا خفاف في أن أمير المؤمنين ادعى الخلافة لنفسه
فيجب أن يكون صادقا انتهى.
قال الناصب خفضه الله
أقول: أما إجماع المفسرين على أن الآية نزلت في علي فخلاف الواقع ولم يجمعوا
على ذلك بل أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في شأن أزواج النبي (ص) وهو

563
المناسب لنظم القرآن، قوله تعالى: يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن
اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا
وقرن في بيوتكن لا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى وأقمن الصلاة وآتين
الزكاة وأطعن الله ورسوله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت
ويطهركم تطهيرا هذا نص القرآن يدل على أنها نزلت في أزواج النبي (ص)
لأنه مذكور في قرن حكاياتهن والمخاطبة معهن، ولكن لما عدل عن صيغة الخطاب
المؤمنين إلى خطاب الذكور فلا يبعد أن تكون نازلة في شأن كل أهل بيت النبي
من الرجال والنساء فشملت عليا وفاطمة والحسن والحسين وأزواج النبي (ص)
وعلى هذا فليس الرجس هيهنا محمولا على الطهارة من كل الذنوب، بل المراد من
الرجس الشرك وكباير الفواحش كالزنا كما يدل عليه سابق الآية وهو قوله تعالى:
فيطمع الذي في قلبه مرض، ولو سلمنا هذا فلا نسلم أن عليا (ع) ادعى الإمامة
لنفسه، ولو كان يدعيها لما كان يدعيها بالعجز والخفية لوجود القوة والشجاعة
والأعوان وكثرة القبايل والعشاير وشرف القوم وغيرها من الفضائل، ثم لو كان
الرجس محمولا على الذنب لما كانت عايشة مؤاخذة بذنبها في وقعة جمل، لأن
الآية نزلت فيها وفي أزواج النبي غيرها على قول أكثر المفسرين فلا يتم له الاستدلال
بهذه الآية انتهى.

564
أقول
فيه نظر من وجوه، أما أولا فلما مر من أن مراد المصنف من إجماع المفسرين
هيهنا وفي أمثاله اتفاق المفسرين من الشيعة والسنة على ذلك، وأن هذا المعنى
يتحقق بموافقة بعض المفسرين من أهل السنة معهم، وأن ما ذهب إليه بعض من
طايفة وافق فيه آخرون من خصامهم حجة على الكل، وأيضا قد قلنا سابقا: إن
مراد المصنف دعوى إجماعهم على ذلك قبل ظهور المخالف، والمخالف حادث لا يعتد به، والذي
يدل على ذلك أن من المفسرين من روى خلاف ذلك كانوا متأخرين عن الثعلبي
وأحمد بن حنبل، ولهذا لم يذكر الناصب الرجس المارد من أكثر هؤلاء المفسرين
المخالفين الذي ادعى وجودهم واحدا باسمه بل قد كذبه في ذلك من هو أعلم منه

565
بالحديث والتفسير من مشايخ نحلته، إذ قال الشيخ ابن حجر (1) في صواعقه (2)
إن أكثر المفسرين على أنها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين لتذكير ضمير
عنكم الخ.
وأما ثانيا فلأن ما ذكره من المناسبة إنما تجب رعايتها إذا لم يمنع عنه مانع، ومن
البين أن تذكير ضمير عنكم ويطهركم وبعض القراين الخارجة الآتية مانع عن
ذلك، فمن ذلك من المفسرين إلى حمل الآية على خصوص الأزواج نظرا إلى تلك
المناسبة قد جعل نفسه موردا للقول الشاعر:
حفظت (أتيت خ ل) شيئا * وغابت عنك أشياء (3)
على أن في تغيير الأسلوب في الآيات المتقاربة المسوقة لذكر أهل البيت والأزواج دقيقة هي
أن الأزواج في محل وأهل البيت في محل آخر عند الله تعالى، وأما ثالث فلأن قوله:
هذا نص القرآن يدل الخ إن إشارة فيه بقوله هذا إلى الآيات التي ذكرها الناصب هي السابقة
على آية التطهير التي ذكرها المصنف فمسلم أنها تدل على إرادة الأزواج، لكن
لا يجديه نفعا، وإن أشار به إلى ما يعمها وآية التطهير فكون خصوص آية التطهير
أيضا دالة على ذلك ظاهر البطلان، بل هو نص في خلاف ذلك لما عرفت وستعرفه،
وأما استدلاله على ما فهمه من الدلالة بقوله: لأنه مذكور في قرن حكاياتهن إلخ
ففيه أن كون الآية الأولى في أزواجه (ص) لا يمنع عن كون ما هو في قرنها متصلا
بها بعدها في غيرهن، سيما إذا قام الدليل على ذلك ضمير عنكم ويطهركم

566
وما روي (1) من أنه (ع) لما نزلت هذه الآية جمع عليا وفاطمة والحسن والحسين
عليهم السلام وجللهم (2) بكساء فدكي فقال هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس
وطهرهم تطهيرا، وكذا ما رواه المصنف هيهنا عن محمد بن عمران وما رواه
الشيخ ابن حجر في الباب العاشر من صواعقه حيث قال في صحيح مسلم عن زيد بن
أرقم إنه صلى الله عليه وسلم قال أذكركم الله في بيتي قلنا لزيد: من أهل بيته نساءه؟
قال: لا أيم الله إن المرأة يكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فيرجع إلى
أبيها وقومها، أهل بيتي هيهنا وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده وهو مذكور (3)
في جامع الأصول أيضا
وأقول: يفهم من قوله إن المرأة يكون مع الرجل العصر من الدهر إلخ أن إطلاق
أهل البيت على الأزواج ليس أصل وضع اللغة وإنما هو إطلاق مجازي، ويمكن
أن يكون مراده أن الذي يليق أن يراد في أمثال هذا الحديث من أهل البيت أصله
وعصبته الذين لا تزول نسبتهم عنه أصلا دون الأزواج، وعلى التقديرين فهو مؤيد
لمطلوبنا.
وذكر سيد المحدثين جمال الملة والدين عطاء الله الحسيني (4) في كتاب تحفة الأحباء
خمسة أحاديث: اثنان منها وهما المسندان إلى أم سلمة رضي الله عنهما نصان صريحان

567
في الباب لأن أحدهما وهو الذي نقله (1) من جامع الترمذي، وذكر أن الحاكم حكم
بصحته وقد اشتمل على أنه لما قال النبي صلى الله عليه وسلم عند إدخال علي وفاطمة
وسبطيه في العباء ما قال، قالت أم سلمة رضي الله عنها يا رسول الله ألست من أهل بيتك؟،
قال إنك على خير أو إلى خير، والحديث الثاني هو الذي نقله عن كتاب
المصابيح (2) بيان شأن نزول لأبي العباس أحمد بن حسن المفسر الضرير (خ ل
النصير) الأسفرايني قد تضمن أنه (ع) لما أدخل عليا وفاطمة وسبطيه في العباء قال:
اللهم هؤلاء أهل بيتي وأطهار عترتي وأطياب أرومتي (3) من لحمي ودمي إليك
لا إلى النار، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وكرر هذا الدعاء ثلاثا قالت
أم سلمة (رض): قلت يا رسول الله: وأنا معهم، قال: إنك إلى خير أنت من خير
أزواجي، ثم قال السيد قدس سره: فقد تحقق من هذه الأحاديث أن الآية إنما
نزلت في شأن الخمسة المذكورين عليهم السلام، ولهذا يقال لهم آل العباء ولله
در من قال من أهل الكمال:
شعر
على الله في كل الأمور توكلي * وبالخمس أصحاب العباء (الكساء خ ل) توسلي
محمد المبعوث حقا وبنته * وسبطيه ثم المقتدى المرتضى علي
إن قيل ما ذكر من الأحاديث معارضة بما روي (4) أن أم سلمة قالت لرسول
الله صلى الله عليه وسلم ألست من أهل البيت؟ فقال بلى إن شاء الله، قلنا لا نسلم صحة سندها،
لو سلم نقول: إنها رضي الله عنها في هذه الرواية في معرض التهمة بجر نفع
وشرف لنفسها، فلا يسمع قولها وحدها، ولو سلم نقول: إن كونها من أهل البيت

568
قد علق فيها بمشية الله تعالى، من أهل البيت جزما مع أنها لو كانت منهم لما
سألته، لأنها من أهل اللسان والترجيح معنا بعد التعارض وهو ظاهر
وأيضا أهل بيت الرجل في العرف هم قرابته (1) من عترته لا أزواجه بدليل سبق
الفهم إلى ذلك، وهو السابق إلى فهم كل عصر والمتداول في أشعارهم وأخبارهم،
لا أزواجه ولا يمكن إنكار هذا، ثم أقول: إن مناقشة الجمهور في هذا المقام، إنما نشأ
من حملهم البيت في الآية والحديث على البيت المبني من الطين والخشب المشتمل على
الحجرات التي كان يسكنها النبي (ص) مع أهل بيته وأزواجه، إذ لو أريد بالبيت:
ذلك لاحتمل ما فهموه، لكن الظاهر أن المراد بأهل البيت على طبق قولهم: أهل الله
وأهل القرآن، أهل بيت النبوة، ولا ريب أن هذا منوط بحصول كمال الأهلية
والاستعداد المستعقب للتنصيص والتعيين من الله ورسوله على المتصف به، كما وقع
في الآية والحديث، ولهذا احتاجت أم سلمة إلى السؤال عن أهليتها للدخول فيهم
كما مر ونظير ذلك أن المتبادر من الإرث في قوله تعالى: وورث سليمان داود (2) هو
إرث المال وقد قيل: المراد به إرث النبوة أو العلم فافهم. وفوق ما ذكرناه كلام،
وهو: أنه لا يبعد أن يكون اختلاف آية التطهير مع ما قبلها على طريق الالتفات

569
من الأزواج إلى النبي (ص) وأهل بيته عليهم السلام على معنى أن تأديب الأزواج
وترغيبهن إلى الصلاح والسداد من توابع إذهاب الرجس والدنس عن أهل البيت (ع)
فالحصل نظم الآية به على هذا: أن الله تعالى رغب أزواج النبي (ص) إلى العفة
والصلاح، بأنه إنما أراد في الأزل أن يجعلكم معصوما يا أهل البيت واللايق
أن يكون المنسوب إلى المعصوم عفيفا صالحا كما قال: والطيبات للطيبين (1)،
وأيضا فما الدليل على أن هذه الآيات نزلت دفعة واحدة بهذا الترتيب وكانت في
اللوح بهذا الوجه؟ وما المانع من أن يكون قوله تعالى إنما يريد الله الآية نزلت
في غير وقت الذي نزلت فيه أقمن الصلاة وآتين الزكاة؟ ويكون عثمان أو غيره
جعلها في هذا الموضع ظنا منه أنهن المعنيات بها واجتهادا في الترتيب، وليس يمكن
إنكار هذا، لأن من المعلوم أنه وقع اختلاف كثير في ترتيب المصاحف حتى اصطلح
الناس على مصحف عثمان، والاختلاف إنما هو في الترتيب البتة، لأن القرآن
متواتر كما لا يخفى، وأما رابعا فلأن قول الناصب الرجس وعلى هذا فليس الرجس
هيهنا محمولا على الطهارة من كل الذنوب الخ مردود، بأن الرجس لا يحمل على
الطهارة لظهور بطلان ذلك، وإنما يحمل الطهارة على الطهارة عن الرجس، وأيضا
الذي حمل الطهارة على الطهارة من كل الذنوب، إنما حملها عليها على تقدير أن يكون
المراد من أهل البيت المذكور في الآية الخسمة من آل العباء لا على تقدير أن يراد
منها الأزواج، فنفى كون الطهارة محمولا على الطهارة عن كل الذنوب على التقدير
الثاني ظاهر لا حاجة إلى ذكره وأما ما ذكره من أنا لا نسلم أن عليا ادعى الإمامة
لنفسه، فقد مر الاستدلال عليه مفصلا، وأما خامس فلأن ما ذكره بقوله ثم لو كان
الرجس محمولا على الذنب لما كانت عايشة مأخوذة بذنبها في وقعة جمل الخ فيه

570
مؤاخذة ظاهرة لأن دخول عايشة في الآية فرض محال (1)، ومن الجايز أن يستلزم
محال محالا آخر (2) فافهم وتدبر، ومما ينبغي أن ينبه عليه أن الخبر في الإرادة
المدلول عليها بقوله تعالى: إنما يريد الله الآية إنما هو خبر عن وقوع الفعل خاصة
دون الإرادة التي يكون بها لفظ الأمر أمرا لأن قوله تعالى: يريد ليبين لكم (3)
وقوله تعالى: يريد الله بكم اليسر (4)، لفظ عام في الآيتين، فلو لم يكن بين آية
التطهير وبين هاتين الآيتين، فرق لما كان لتخصيصها بأهل البيت عليهم السلام معنى، لأنه
جل جلاله أرد بها المدح لهم، ولا يحصل المدح إلا بوقوع الفعل (5) ولا يتوهمن

571
أحد أن الأذهب لا يكون إلا بعد الثبوت، فقوله تعالى: ليذهب عنكم الرجس، يكون
دالا على أنه كان ثابتا فيهم، لأن هذا مدفوع بأن مبنى هذه القول على التخيل الذهني

572
ولا يكون ثابتا، ألا ترى أنك تقول للمخاطب: أذهب الله عنك كل مرض وإن كان ذلك
غير حاصل فيه، فهذه الآية تزيل الخيال الذي يتصوره الانسان في ذهنه، هذا وسيجئ
في بحث الاجماع من أصول الفقه عند استدلال المصنف على حجية إجماع أهل البيت
عليهم السلام بهذه الآية ما اخترعه الناصب هناك من نظير هذه الآية في شأن ساير الناس مع
التنبيه منا على ما يلزمه من كفره بالله تعالى وبغضه وعداوته لأهل البيت عليهم السلام
فطالعه هناك والعنه لعنا وبيلا (1) ثم إن لنا في تحقيق هذه الآية رسالة منفردة،
فمن أراد زيادة استبصار في المرام فعليه بها وبالله التوفيق.
فرغ العبد محمود الحسيني المرعشي النجفي بمساعدة الأخ الفاضل الورع
الميرزا علي أكبر الإيراني دام مجده من كتابة النسخة للطبع في شهر
شعبان 1377
وتم تصحيحه بيد العبد (السيد إبراهيم الميانجي) عفى عنه في 10 من
شهر رمضان من تلك السنة وله الحمد أولا وآخرا

573
/ 1