بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: الأخلاق الحسينية المؤلف: جعفر البياتي الجزء: الوفاة: معاصر المجموعة: من مصادر العقائد عند الشيعة الإمامية تحقيق: الطبعة: الأولى سنة الطبع: 1418 المطبعة: مهر الناشر: أنوار الهدى ردمك: 964-6223-06-0 ملاحظات: الأخلاق الحسينية تأليف الشيخ جعفر البياتي الإهداء إليك يا رسول الله.. أيها المصطفى يا حبيب الله! أرفع هذا الكتاب على كتفي مطأطأ رأسي حياء منك لكثرة ذنوبي، علك تستغفر لي ربك الرحيم.. كما استغفرت لذلك الرجل، الذي أذنب ذنبا في حياتك فتغيب، حتى وجد الحسن والحسين عليهما السلام في الطريق فأخذهما وحملهما على عاتقيه، وأتى بهما إليك، صلى الله عليك، وعلى آلك الطاهرين، وقال لك: يا رسول الله! إني مستجير بالله وبهما. فضحكت يا رسول الله حتى رددت يدك الطاهرة إلى فمك الشريف، ثم قلت للرجل: اذهب فأنت طليق. ثم قلت لولديك الحسن والحسين: قد شفعتكما فيه أي فتيان. فأنزل الله تعالى عليك * (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) * (1). فيا أيها الهادي الرؤوف! ظلمت نفسي وجئتك بوريقاتي في ولدك الحسين أحملها على عاتقي مستجيرا بالله وبالحسين، ومستغفرا ربي، فاستغفر لي حتى أجد الله علي توابا، وبي رحيما.
1 - الرواية في (مناقب آل أبي طالب) - لابن شهرآشوب 3: 400، والآية في سورة النساء: 63. 1 مفتتح الحديث
3 مفتتح الحديث بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله الذي خلق الانسان، وجعله أفضل أنواع الأكوان، أظهر فيه عجائب قدرته القاهرة، وأبرز فيه غرائب عظمته الباهرة، خمر طينته من الظلمات والنور، وركب فيه دواعي الخير والشرور، عجنه من المواد المتخالفة، وجمع فيه القوى والأوصاف المتناقضة، ثم ندبه إلى تهذيبها بالتقويم والتعديل، وحثه على تحسينها بعد ما سهل له السبيل. والصلاة على نبينا الذي أوتي جوامع الكلم، وبعث لتتميم محاسن الأخلاق والشيم، وعلى آله مصابيح الظلم، ومفاتيح أبواب السعادة والكرم، صلى الله عليه وعليهم وسلم. وبعد.. فلا ريب في أن الغاية من وضع النواميس والأديان، وبعثة المصطفين من عظماء الانسان، هو سوق الناس من مراتع البهائم والشياطين، وإيصالهم إلى روضات العليين، ولا يتيسر ذلك إلا بالتخلي عن ذمائم الأخلاق ورذائلها، والتحلي بشرائف الصفات وفضائلها. ثم لا ريب في أن التزكية موقوفة على معرفة مهلكات الصفات ومنجياتها، والعلم بأسبابها ومعالجاتها (1)
1 - من مقدمة كتاب (جامع السعادات) للشيخ محمد مهدي النراقي 1: 251، ط 3 - مطبعة النجف الأشرف، 1383 ه - 1963 م. 5 وإذا كانت الأخلاق بمعنى الملكات الحاصلة للنفس، أو بمعنى الأفعال التي تستحق المدح (1)، فإنها تعتمد على العقل والعلم من جهة، وعلى التربية والتهذيب والمجاهدة من جهة. * جاء في جملة كلمات أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال: الخلق المحمود من ثمار العقل. الخلق المذموم من ثمار الجهل (2). وقال المولى " محسن الكاشاني - المعروف بالفيض الكاشاني " رحمه الله: (إن الخلق الحسن، صفة سيد المرسلين، وأفضل أعمال الصديقين، وهو على التحقيق شطر الدين، وهو ثمرة مجاهدة المتقين، ورياضة المتعبدين. والأخلاق السيئة هي السموم القاتلة، والمهلكات الدامغة، والمخازي الفاضحة، والرذائل الواضحة، والخبائث المبعدة من جوار رب العالمين، المنخرطة بصاحبها في سلك الشيطان اللعين، وهي الأبواب المفتوحة من القلب إلى نار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة، كما أن الأخلاق الجميلة هي الأبواب المفتوحة من القلب إلى نعيم الجنان، وجوار الرحمن) (3). وإذا كانت الأخلاق بالمعنى الأدق، هي الملكات النفسية المقتضية لصدور الأفعال بسهولة من دون احتياج إلى فكر وروية، فإن تحصيلها يحتاج إلى مجاهدة وتربية، من خلال التوجيه العقلي، والقلبي والروحي. كيما تبنى
1 - وإن كان البعض يرى أنها تعني الملكات الحاصلة للنفس، سواء كانت فاضلة أم رذيلة، أو تعني الأفعال التي تستحق المدح أو الذم. يراجع في ذلك (فلسفة الأخلاق) للشيخ محمد تقي مصباح اليزدي. 2 - غرر الحكم، ودرر الكلم - للآمدي. 3 - المحجة البيضاء، في تهذيب الإحياء 5: 87 كتاب رياضة النفس - طبع جامعة مدرسي الحوزة العلمية في قم. 6 على المباني الصحيحة الثابتة. فللتمييز بين محاسن الأخلاق ومساوئها لا بد لنا من التعرف عليهما، لترغيب النفس على المكارم وأمرها بها، وترهيبها من الخصال الذميمة ونهيها عنها، على بينة وبصيرة من الأمر. قال مولانا الإمام علي سلام الله عليه: رأس العلم، التمييز بين الأخلاق، وإظهار محمودها، وقمع مذمومها (1). وبعد أن قال الشيخ النراقي قدس الله سره: (لا ريب في أن التزكية موقوفة على معرفة مهلكات الصفات ومنجياتها)، أعقب قوله هذا بالقول: (والعلم بأسبابها ومعالجاتها، وهذا هو الحكمة الحقة التي مدح الله أهلها، ولم يرخص لأحد جهلها، وهي الموجبة للحياة الحقيقية، والسعادة السرمدية، والتارك لها على شفا جرف الهلكات، وربما أحرقته نيران الشهوات) (2). ومعرفة محاسن الأخلاق تمثلت فيما أمر الله سبحانه وتعالى به ودعا إليه، وفيما ظهر من سيرة الأنبياء والأولياء، وأشرفهم وسيدهم خاتمهم، محمد المصطفى الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، الذي مدحه الله عز وجل في قرآنه المجيد، وكفى بذلك فخرا، فقال يصفه: * (وإنك لعلى خلق عظيم) * (3).. جاء عن الإمام جعفر بن محمد (الصادق) سلام الله عليه أنه قال: كان فيما خاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله أن قال له: يا محمد! * (إنك لعلى خلق عظيم) *: السخاء، وحسن الخلق (4).
1 - غرر الحكم. 2 - جامع السعادات 1: 2. 3 - سورة القلم: 4. 4 - تفسير نور الثقلين، للمحدث الشيخ عبد علي بن جمعة العروسي الحويزي 5: 391، نقلا عن أمالي الشيخ الطوسي. 7 وقد كان المصطفى الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم صفحة قدسية نيرة من الأخلاق الربانية،.. قال الإمام الصادق عليه السلام: إن الله عز وجل أدب نبيه صلى الله عليه وآله، حتى إذا أقامه على ما أراد قال له: * (وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) * (1)، فلما فعل ذلك له رسول الله صلى الله عليه وآله زكاه الله فقال: * (إنك لعلى خلق عظيم) * (2). وقد دعا إلى مكارم الأخلاق بنفسه المقدسة، حتى صارت الأخلاق الكاملة عنوانها المصطفى صلى الله عليه وآله، وقد قال يوما للإمام علي عليه السلام: ألا أخبرك بأشبهكم بي خلقا؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: أحسنكم خلقا، وأعظمكم حلما، وأبركم بقرابته، وأشدكم من نفسه إنصافا (3). وقد ورث أهل البيت صلوات الله عليهم من رسول الله صلى الله عليه وآله علمه، وأخلاقه، حيث هم وارثوه في ذلك لا ينازعهم أحد، فهم أهل بيت النبوة، وموضع الرسالة، ومهبط الوحي.. * عن الحكم بن عتيبة، قال: لقي رجل الحسين بن علي عليهما السلام بالثعلبية وهو يريد كربلاء، فدخل عليه فسلم عليه، فقال له الحسين عليه
1 - سورة الأعراف: 199. 2 - بصائر الدرجات / للشيخ محمد بن الحسن الصفار القمي، وهو من أصحاب الإمام الحسن العسكري عليه السلام، ص 111. 3 - بحار الأنوار / للشيخ محمد باقر المجلسي 77: 58، عن مكارم الأخلاق / للشيخ رضي الدين أبي نصر الحسن بن الفضل الطبرسي. 8 السلام: من أي البلدان أنت؟ فقال: من أهل الكوفة. قال: يا أخا أهل الكوفة! أما والله لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبرئيل من دارنا، ونزوله على جدي بالوحي، يا أخا أهل الكوفة! مستقى العلم من عندنا، أفعلموا وجهلنا؟! هذا ما لا يكون (1). * وعن يحيى بن عبد الله بن الحسن، قال: سمعت جعفر بن محمد عليهما السلام يقول، وعنده ناس من أهل الكوفة: عجبا للناس يقولون أخذوا علمهم كله عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعلموا به واهتدوا، ويرون أنا - أهل البيت - لم نأخذ علمه ولم نهتد به، ونحن أهله وذريته، في منازلنا أنزل الوحي، ومن عندنا خرج إلى الناس العلم، أفتراهم علموا واهتدوا، وجهلنا وضللنا؟! إن هذا لمحال (2). * وعن ضريس الكناسي، قال: كنت عند أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام فقال: إن داود ورث علم الأنبياء، وإن سليمان ورث داود، وإن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ورث سليمان، وإنا ورثنا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، وإن عندنا صحف إبراهيم وألواح موسى عليهما السلام... (3). * وعن عبد الله بن جندب أنه كتب إليه الرضا عليه السلام: أما بعد، فإن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم كان أمين الله في خلقه، فلما قبض
1 - بصائر الدرجات: 4. 2 - أمالي الشيخ المفيد: 71. 3 - أصول الكافي / للشيخ ثقة الاسلام الكليني 1: 175، باب: إن الأئمة ورثوا علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم - الحديث الرابع. 9 صلى الله عليه وآله وسلم كنا - أهل بيته - ورثته، فنحن أمناء الله في أرضه... (1). ووراثة العلم بانت للمخالف والمؤالف، حيث كان من علوم أهل البيت صلوات الله عليهم ما طبق الآفاق، وسارت به الركبان، واهتدى به خلق عظيم. والعلم لا يقتصر على الحفظ، إنما العلم النافع ما أثمر عن زيادة في الإيمان والتقوى، وارتقاء في الأخلاق والسلوك. * قال أمير المؤمنين علي عليه أفضل الصلاة والسلام: ثمرة العلم: العمل به. ثمرة العلم: العبادة. ثمرة العلم: إخلاص العمل (2). وقال سلام الله عليه أيضا: رأس العلم: التواضع... ومن ثمراته: التقوى، واجتناب الهوى، واتباع الهدى، ومجانبة الذنوب، ومودة الإخوان، والاستماع من العلماء والقبول منهم. ومن ثمراته: ترك الانتقام عند القدرة، واستقباح مقارفة الباطل، واستحسان متابعة الحق، وقول الصدق، والتجافي عن سرور في غفلة، ومن فعل ما يعقب ندامة. العلم يزيد العاقل عقلا، ويورث متعلمه صفات حمد، فيجعل الحليم أميرا، وذا المشورة وزيرا، ويقمع الحرص، ويخلع المكر، ويميت البخل، ويجعل مطلق الوحش مأسورا، وبعيد السداد قريبا (3). ولا يخفى علينا أن جميع الصفات الطيبة الحميدة قد تجلت بأسطع صورها الشريفة النورانية في أهل بيت العصمة والطهارة صلوات الله عليهم أجمعين، ذلك أن الله تعالى طهرهم وأذهب عنهم كل رجس، أي كل شرك،
1 - نفسه - الحديث الخامس. 2 - غرر الحكم. 3 - بحار الأنوار 78: 6، عن مطالب السؤول / لمحمد بن طلحة الشافعي. 10 أو كل معصية وذنب على رأي آخر، أو كل شيطان على رأي ثالث، وذلك ما أراده تبارك شأنه، وما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.. فقال عز من قائل: * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * (1). فهم مطهرون من كل خبث أخلاقي، وهم أنقياء معصومون، روى الشيخ سليمان القندوزي الحنفي (2) عن ابن عباس رضوان الله عليه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أنا وعلي والحسن والحسين، وتسعة من ولد الحسين، مطهرون معصومون. وفي سبب نزول آية التطهير روى الترمذي (3) عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي صلى الله عليه وآله، قال: لما نزلت هذه الآية على النبي [صلى الله عليه وآله] في بيت أم سلمة، فدعا فاطمة وحسنا وحسينا فجللهم بكساء، وعلي خلف ظهره فجلله بكساء، ثم قال صلى الله عليه وآله: اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. قالت أم سلمة: وأنا معهم يا نبي الله؟ قال: أنت على مكانك، وأنت على خير (4). ومن مقتضيات التطهير والعصمة سمو أخلاقهم، وخلوها من كل شائبة، وقد قال الشاعر يمدحهم: مطهرون نقيات ثيابهم * تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا
1 - سورة الأحزاب: 33. 2 - وهو من أجلة علماء أهل السنة - في كتابه المشهور (ينابيع المودة): 445. 3 - صاحب السنن الصحاح، المعروف ب (سنن الترمذي) - وهو من مشاهير علماء السنة. 4 - سنن الترمذي 5: 30 / خ 3258. 11 فالله لما برى خلقا وأتقنه * صفاكم واصطفاكم أيها البشر فأنتم الملأ الأعلى وعندكم * علم الكتاب وما جاءت به السور (1) ولم لا؟ وهم ورثة من قال الله تعالى فيه: * (وإنك لعلى خلق عظيم) *، وورثة من قال: أدبني ربي فأحسن تأديبي (2). وبعد أن أدبه الله تعالى كان صلى الله عليه وآله مكلفا بتأديب الأمة، قال الإمام الصادق عليه السلام: إن الله عز وجل أدب نبيه فأحسن تأديبه، فلما أكمل له الأدب قال: * (وإنك لعلى خلق عظيم) *، ثم فوض إليه أمر الناس والأمة ليسوس عباده... (3). ومن كلف بتأديب الأمة كان أولى به أن يؤدب حامته وأهل بيته، وذوي الصلة به. وقد دون التأريخ لنا أن آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يحكون أخلاقه، فتمثلت فيهم حتى أصبحوا ذكرى شاخصة للناس تذكر بأخلاق المصطفى صلى الله عليه وآله. وأول أهل بيته تأسيا به واقتداء، وتعلما منه هو الإمام علي بن أبي طالب سلام الله عليه فقد تربى في حجره، وتغذى من علومه وآدابه، ونشأ في منزله، ولم يفارقه حتى فاضت نفس النبي صلى الله عليه وآله ورأسه في حجر علي عليه السلام.. الذي قال: ولقد علم
1 - أورد هذه الأبيات الشيخ الصدوق في كتابه (عيون أخبار الرضا عليه السلام) - 2: 143، وذكر أن أبا نؤاس أنشأها في الإمام الرضا عليه السلام. أما السيد محسن الأمين العاملي فقد أورد الأبيات في كتابه (أعيان الشيعة) 4: 126، ونسبها إلى أبي نؤاس، ثم قال: يمكن أن تكون الأبيات أصلها للأعرابي (الذي كان له لقاء مع الإمام الحسين عليه السلام) وتمثل بها أبو نؤاس أيضا في عصر الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام. في حين أوردها ابن عساكر ونسبها للأعرابي في ترجمة الإمام الحسين عليه السلام من تاريخ دمشق: ص 160، رقم 205. 2 - تفسير نور الثقلين 5: 392، عن مجمع البيان للطبرسي. 3 - تفسير نور الثقلين 5: 389، عن أصول الكافي للكليني. 12 المستحفظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله أني لم أرد على الله ولا على رسوله ساعة قط. ولقد واسيته بنفسي في المواطن التي تنكص فيها الأبطال، وتتأخر فيها الأقدام، نجدة أكرمني الله بها. ولقد قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وإن رأسه لعلى صدري، ولقد سالت نفسه في كفي، فأمررتها على وجهي... (1). وقال سلام الله عليه أيضا: وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وآله بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة. وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرفه. وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل. ولقد قرن الله به صلى الله عليه وآله من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره. ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما، ويأمرني بالاقتداء به... (2). ومن قبل ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أنا أديب الله، وعلي أديبي (3). وقال صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أيضا: حسين مني وأنا من حسين (4).
1 - نهج البلاغة: الخطبة 197. 2 - نفسه: الخطبة 192. 3 - مكارم الأخلاق: 17. 4 - حديث مشهور نقله الخاصة والعامة، منهم: الحاكم في المستدرك على الصحيحين وقد صححه عن يحيى العامري، وأحمد بن حنبل في كتابه الفضائل من مسنده 4: 172، والترمذي عن يعلى بن مرة، والشيخ المجلسي في (جلاء العيون)، وغيرهم كثير. 13 وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله من الحسين عليه السلام بمعنى أن ذكره وشريعته كان بقاؤهما رهين نهضة الحسين عليه السلام وشهادته، فإن الحسين عليه السلام من النبي صلى الله عليه وآله إذ هو ابنه بنص القرآن الكريم في آية المباهلة * (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم) * (1).. كما ذكر في تفسير الآية إجماع المفسرين والرواة (2) أنهما الحسن والحسين سلام الله عليهما. وكذلك فإن الإمام الحسين سلام الله عليه من رسول الله صلى الله عليه وآله حيث هو وارثه علما وأخلاقا. فتعالوا نتعرف على أخلاق المصطفى صلى الله عليه وآله من خلال سبطه وريحانته الحسين، وتعالوا نمض شوطا مع الحسين في أخلاقه النبوية، وتعالوا نتأمل، ونتمثل، في الأخلاق الحسينية.
1 - سورة آل عمران: 61. 2 - منهم: الزمخشري في تفسيره (الكشاف)، والفخر الرازي في (التفسير الكبير)، ومسلم في صحيحه، وابن حنبل في مسنده، والسيوطي في تفسيره (الدر المنثور)، والترمذي في سننه. 14 لماذا أخلاق أهل البيت عليهم السلام؟
15 لماذا أخلاق أهل البيت عليهم السلام؟ ينبغي للمرء المؤمن أن يجهد نفسه في معرفة أصول دينه، والإلمام بما يستطيعه من العقائد الحقة في: التوحيد الإلهي، والعدل الإلهي، والنبوة الشريفة المصطفاة، والإمامة المعصومة المنتخبة المختارة من رب العزة، والمعاد الذي يثاب فيه المحسن ويعاقب فيه المسئ. وإجمالا.. لا بد أن نعلم أن الإمامة أصل من أصول الدين، لا يتم الإيمان إلا بالاعتقاد بها، ويجب النظر فيها كما يجب النظر في التوحيد والنبوة، وهي كالنبوة من حيث إنها لطف من الله تعالى، فلا بد أن يكون في كل عصر إمام هاد يخلف النبي في وظائفه، في هداية البشر وإرشادهم إلى ما فيه الصلاح والسعادة في النشأتين. وهي لا تكون إلا بالنص من الله تعالى على لسان النبي، أو لسان الإمام الذي سبق (1). قال تعالى: * (ولكل قوم هاد) * (2). * أورد الحاكم النيسابوري في مستدرك الصحيحين: بسنده عن عباد بن عبد الله الأسدي، عن علي عليه السلام * (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) *، قال
1 - يراجع في ذلك كتاب (عقائد الإمامية) للشيخ محمد رضا المظفر، الفصل الثالث - باب الإمامة: 65، 66. 2 - سورة الرعد: 7. 17 عليه السلام: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنذر، وأنا الهادي (1). * وروى ابن جرير الطبري: عن ابن عباس، قال: لما نزلت * (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) * وضع صلى الله عليه وآله وسلم يده على صدره فقال: أنا المنذر، * (ولكل قوم هاد) *، وأومأ بيده إلى منكب علي عليه السلام فقال: أنت الهادي يا علي، بك يهتدي المهتدون بعدي (2). ولمزيد التعرف، واتضاح هذه العقيدة الحقة في الإمامة والإمام.. نقف عند جزء من حديث لمولانا الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام حيث يقول فيه: إن الإمامة هي منزلة الأنبياء، وإرث الأوصياء. إن الإمامة خلافة الله، وخلافة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومقام أمير المؤمنين عليه السلام، وميراث الحسن والحسين عليهما السلام. إن الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا وعز المؤمنين، إن الإمامة أس الاسلام النامي، وفرعه السامي... الإمام يحل حلال الله، ويحرم حرام الله، ويقيم حدود الله، ويذب عن دين الله، ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، والحجة البالغة. الإمام كالشمس الطالعة المجللة بنورها للعالم وهي في الأفق، بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار. الإمام البدر المنير، والسراج الزاهر، والنور
1 - ج 3 ص 129، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد. 2 - تفسير الطبري 13: 72، وقد أورد قريبا من هذا الخبر وهذا الحديث: المتقي الهندي في كنز العمال 1: 251، و 6: 157، والهيثمي في مجمع الزوائد 7: 41، والفخر الرازي في التفسير الكبير في ظل الآية الشريفة، والسيوطي في الدر المنثور، وغيرهم كالشبلنجي في نور الأبصار: 70، والمناوي في كنوز الحقائق: 42، والطبراني في الصغير والأوسط، وكلهم من علماء السنة. 18 الساطع، والنجم الهادي في غياهب الدجى، وأجواز (1) البلدان والقفار، ولجج البحار. الإمام الماء العذب على الظمأ، والدال على الهدى، والمنجي من الردى. الإمام النار على اليفاع (2)، الحار لمن اصطلى به، والدليل في المهالك، من فارقه فهالك. الإمام السحاب الماطر، والغيث الهاطل (3)، والشمس المضيئة، والسماء الظليلة، والأرض البسيطة، والعين الغزيرة، والغدير والروضة، الإمام الأنيس الرفيق، والولد الشفيق، والأخ الشقيق، والأم البرة بالولد الصغير، ومفزع العباد، في الداهية النآد (4). الإمام أمين الله في خلقه، وحجته على عباده، وخليفته في بلاده، والداعي إلى الله، والذاب عن حرم الله. الإمام المطهر من الذنوب، والمبرأ عن العيوب، المخصوص بالعلم، الموسوم بالحلم، نظام الدين، وعز المسلمين... (5). ومصاديق هذه الصفات الشريفة كثيرة يجدها المتطلع في الروايات المبينة لسيرة الأئمة وأخلاقهم صلوات الله عليهم، فالتعرف عليهم إذن يقتضي التعرف على حياتهم، بما فيها خواصهم وآدابهم. يقول المولى الفيض الكاشاني أعلا الله مقامه: (... إذ كان للإمام عليه السلام أخلاق شريفة ربانية لم يشركه فيها سائر الخلق، وصفات كريمة موهبية خصه الله بها من دونهم للفرق، ولمن عرفه
1 - جمع الجوز، وهو من كل شئ وسطه. 2 - اليفاع: ما ارتفع من الأرض. 3 - الهاطل: المطر المتتابع العظيم القطر. 4 - الداهية: الأمر العظيم، والنآد: العظيمة. 5 - أصول الكافي 1: 154، باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته. 19 بحقه وحقيقته، وشيعه على طريقته، أيضا آداب وعلامات وخواص بها امتاز عن سائر المؤمنين، واستحق لأن يحشر مع إمامه في درجة النبيين. فكان من الواجب على العبد بعد معرفة الله عز وجل وصفاته، ومعرفة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وأخلاقه، أن يعرف إمام زمانه، وصفاته وأخلاقه المختصة به، بأن يعلم مقامه ومرتبته عند الله، ويعرف شخصه من بين الخلق، حتى يتبعه، ويقتفي أثره، ويطيعه في أوامره ونواهيه، ويصير من شيعته) (1). والواقف على أخلاق الأئمة الأطهار عليهم أفضل الصلاة والسلام يعرف السر وراء تعلق الناس بهم جيلا بعد جيل، لأن الأخلاق الإلهية المرضية تجلت في شخوصهم بأجلى صورها، وأحمد حالاتها، وظهرت منهم بأطيب معانيها، وأدق مطلوباتها ومقتضياتها.. ولأن الأخلاق إحسان للآخرين، وبيان للحق والخير والفضيلة، والنفس مجبولة على حب ذلك وبغض خلافه. * قال الإمام جعفر الصادق سلام الله عليه: طبعت القلوب على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها (2). وفي رواية أخرى، قال عليه السلام: جبلت القلوب على حب من نفعها، وبغض من ضرها (3). ومن أنفع للخلق من النبي وآله صلوات الله عليه وعليهم؟! وهم الهداة أبواب الإيمان، وساسة العباد، ومصابيح الدجى، وكهف الورى، والدعاة إلى الله، والأدلاء على مرضاة الله.. حتى قال رسول الله صلى الله عليه وآله في ظل الآية الشريفة: * (واعبدوا الله ولا تشركوا به
1 - المحجة البيضاء 4: 173. 2 - من لا يحضره الفقيه / للشيخ الصدوق 4: 301 / 913. 3 - الكافي 8: 152 / 140. 20 شيئا وبالوالدين إحسانا) * (1): أفضل والديكم وأحقهما بشكركم: محمد وعلي (2). وقال صلى الله عليه وآله: أنا وعلي بن أبي طالب أبوا هذه الأمة، ولحقنا عليهم أعظم من حق والديهم، فإنا ننقذهم - إن أطاعونا - من النار، إلى دار القرار، ونلحقهم من العبودية بخيار الأحرار (3). وقالت فاطمة الزهراء عليها السلام: أبوا هذه الأمة: محمد وعلي، يقيمان أودهم (4)، وينقذانهم من العذاب الدائم - إن أطاعوهما -، ويبيحانهم النعيم الدائم - إن وافقوهما - (5). وقال علي بن الحسين عليهما السلام: إن كان الأبوان إنما عظم حقهما على أولادهما لإحسانهما إليهم، فإحسان محمد وعلي عليهما السلام إلى هذه الأمة أجل وأعظم، فهما بأن يكونا أبويهم أحق (6). ولم تكن أخلاق النبي وأهل بيته عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام إحسانا على من عاشروهم وتعاملوا معهم فحسب، بل إحسان على الخلق أجمع، حيث كانت سببا حجة للتعريف بالإمامة، وهي من أصول الدين، وبالإمام وهو عز المسلمين. وسببا حجة للتعريف بالدين، وما يريد الله تعالى منا من الأخلاق الفاضلة، والصفات الطيبة. وكانت أيضا سببا حجة للتعلق بهم صلوات الله عليهم، ولمحبتهم وولايتهم، وفي ذلك سبب الرجاء للنجاة بهم، ذلك لأن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان قد قال: من مات على
1 - سورة النساء: 36. 2 - تفسير الإمام العسكري عليه السلام. 3 - نفسه. 4 - الأود: العوج. 5 - تفسير الإمام العسكري عليه السلام. 6 - نفسه. 21 حب آل محمد مات شهيدا (1). ومن هنا نفهم معنى هذه الأحاديث الشريفة: * قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ألا أنبئكم بخياركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون (2). فالنبي وآله صلوات الله عليه وعليهم إذن هم أحاسن الناس. * وقال صلى الله عليه وآله: حسن الخلق يثبت المودة (3). وقد ثبتت مودته ومودتهم صلوات الله عليه وعليهم في قلوب الناس هذه القرون المتطاولة وإلى ما يشاء الله، وحاشا أن تزول. * وقال أمير المؤمنين عليه السلام: حسن الخلق رأس كل بر (4). وقال سلام الله عليه أيضا: من حسنت خليقته، طابت عشرته (5). وها نحن إلى يومنا هذا تطيب عشرتنا معهم سلام الله عليهم، حيث نحس أنهم يعيشون معنا ونعيش معهم، فهم يهدوننا إلى صلاح دنيانا وآخرتنا وسعادتهما، ونحن نتابعهم بالتصديق والتسليم والطاعة والمحبة في الدين، وعلى هذا ندين، قال الإمام الباقر عليه السلام: وهل الدين إلا الحب؟! إن الله يقول: * (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) * (6).
1 - تفسير الكشاف، للزمخشري 4: 220، والتفسير الكبير، للفخر الرازي 27: 165. 2 - بحار الأنوار 71: 396، عن كتابي الحسين بن سعيد ونوادره. 3 - تحف العقول عن آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، للشيخ أبي محمد الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني، من أعلام القرن الرابع: ص 38. 4 - غرر الحكم. 5 - نفسه. 6 - تفسير العياشي - في ظل الآية الشريفة 31 من سورة آل عمران. 22 * وجاء عن مولانا الإمام الصادق سلام الله عليه أنه قال: إن البر وحسن الخلق يعمران الديار، ويزيدان في الأعمار (1). وها هي ديار النبي وأهل بيته صلوات الله وسلامه عليه وعليهم عامرة أشرف عمران، حيث تمتد إليها الأيدي، وتهوي إليها القلوب، وتتلهف لها الأنفس من أقاصي البلدان، وتحج إليها الأبدان. وها هي أعمارهم لا تنقضي بل تزيد بحسن الذكر، وقد جاء عن المصطفى الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قوله: لا يزيد في العمر، إلا البر (2).. وقد كان وآله صلوات الله عليه وعليهم أبر الناس بالناس، وعرفنا أن برهم فوق كل بر، لأنه الهداية من الضلال، والتوفيق إلى مرضاة الله تبارك وتعالى.. جاء عن الإمام علي عليه السلام أنه قال: الذكر الجميل أحد الحياتين. الذكر الجميل أحد العمرين (3). وأخيرا.. لأننا نرغب في السعادة، ونخشى الشقاء، فلا بد لنا من التمسك بأهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام، ومنهم الإمام الحسين سلام الله عليه، فهو مدار ما نرغب ونخشى.. * عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: بي أنذرتم، وبعلي بن أبي طالب اهتديتم. وقرأ: * (إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) *. وبالحسن أعطيتم الإحسان، وبالحسين تسعدون، وبه تشقون. ألا إن الحسين باب من أبواب الجنة، من عانده حرم الله عليه ريح الجنة (4).
1 - بحار الأنوار 1: 395، عن كتابي الحسين بن سعيد ونوادره. 2 - الدرة الباهرة، من الأصداف الطاهرة / للشيخ جمال الدين مكي بن محمد الجزيني، الملقب ب (الشهيد الثاني): ص 18. 3 - غرر الحكم. 4 - القطرة، من بحار مناقب النبي والعترة / للسيد أحمد المستنبط 1: 44 / ح 34. 23 فلكي نسعد بالحسين عليه السلام.. تعالوا نقف متأملين خاشعين أمام الأخلاق الحسينية، وتعالوا نمض مع الإمام الحسين عليه السلام في أخلاقه النبوية.
24 الموعظة الحسينية
25 الموعظة الحسينية قد يتساءل مستغرب: ما العلاقة بين المواعظ الحسينية والأخلاق؟! أليست المواعظ والحكم تدرج في حقل العلوم والمعارف؟ الجواب: نعم، هي كذلك تدرج في العلوم والمعارف، ولكن نتساءل نحن في المقابل: أليست السنة النبوية المطهرة قد امتدت بأمر الله سبحانه وتعالى وحكمته ومشيئته في سنة أهل بيته عليهم السلام؟ أليست السنة النبوية على ثلاث صور: 1 - فعل النبي، و 2 - قوله، و 3 - تقريره؟ ألم يكن للنبي صلى الله عليه وآله في هذه الصور الثلاث توجيهات أخلاقية للأمة؟ حيث صدرت منه أفعال في مكارم الأخلاق، وأقوال في محاسن الأخلاق، وإقرار وتبريك وتشجيع لمن صدر منه خلق طيب، أو بانت منه صفة أخلاقية حميدة. فالمصطفى الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان كريما، وكان يدعو إلى الكرم ويشوق إليه مبينا فضائله، ورذائل البخل، ويوم جئ بالأسارى إليه أمر صلى الله عليه وآله عليا عليه السلام بضرب أعناقهم إذ كانوا قد حاربوه وقتلوا المؤمنين، ثم أمره بإفراد واحد من الأسرى المشركين لا يقتله، فقال الرجل: لم أفردتني من أصحابي والجناية واحدة؟ فأجابه صلى الله عليه وآله قائلا: إن الله تبارك وتعالى أوحى إلي أنك سخي
27 قومك، ولا أقتلك. فقال الرجل: فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله صلى الله عليه وآله. قال: فقاده سخاؤه إلى الجنة (1). * وجاء عن الإمام محمد الباقر عليه السلام أنه: أتي النبي صلى الله عليه وآله بأسارى فأمر بقتلهم، وخلى رجلا من بينهم. فقال الرجل: كيف أطلقت عني من بينهم؟ فقال: أخبرني جبرئيل عن الله جل جلاله أن فيك خمس خصال يحبها الله ورسوله: الغيرة الشديدة على حرمك، والسخاء، وحسن الخلق، وصدق اللسان، والشجاعة. فلما سمعها الرجل أسلم وحسن إسلامه، وقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وآله قتالا شديدا حتى استشهد (2). * ورأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبا أيوب الأنصاري رضوان الله عليه يلتقط نثارة المائدة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: بورك لك، وبورك عليك، وبورك فيك (3). فدعا له صلى الله عليه وآله لأنه عمل مستحبا، وكان منه التواضع واحترام نعمة الله عز وجل. وأهل البيت سلام الله عليهم كانوا يباركون لمن تصدر منه بادرة أخلاقية إيمانية.. فيوم عاشوراء التفت أبو ثمامة الصائدي إلى الشمس قد زالت - أي حل وقت الظهر - فقال للحسين: نفسي لك الفداء، إني أرى هؤلاء قد اقتربوا منك، لا والله لا تقتل حتى أقتل دونك، وأحب أن ألقى الله وقد صليت هذه
1 - الإختصاص / للشيخ المفيد: 253. 2 - الخصال / للشيخ الصدوق: 282. 3 - مكارم الأخلاق: 146. 28 الصلاة التي دنا وقتها. فرفع الحسين سلام الله عليه رأسه إلى السماء وقال: ذكرت الصلاة، جعلك الله من المصلين الذاكرين، نعم هذا أول وقتها، سلوهم أن يكفوا عنا حتى نصلي (1). فدعا عليه السلام له لأنه ذكر الصلاة في أول وقتها، اعتناء بها، واهتماما بطاعة الله عز وجل كما يحب، ومما يحبه سبحانه الصلاة في أول وقتها. فالتشجيع على الواجبات والمستحبات والفضائل هو من الأخلاق الحميدة، لأنه سبب لأن تسود السنن الشريفة، والأخلاق الكريمة. ولا يفوتنا أن نقول: إن الإمامة هي الامتداد الإلهي والشرعي للنبوة، وبما أن السنة النبوية سنة مطهرة معصومة، كذلك سنة الأئمة الأطياب. فالأخلاق عندهم تظهر مرة في صورة فعل، ومرة أخرى في صورة وعظ وإرشاد، ومرة ثالثة في صورة تقرير. ثم لا ينبغي أن يفوتنا أن الوعظ هو قول، والقول هو من العمل، فكما يكون الاعتداء على المؤمن البرئ بالضرب حراما، كذلك شتمه بالقول حرام، وكما يكون الدرهم والدينار صدقة، كذلك الكلمة الطيبة صدقة، وكما تكون الغلات والأموال زكاة، كذلك العفو، فقد جاء عن الإمام علي عليه السلام أنه قال: العفو زكاة القدرة (2). وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما لأصحابه: أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم. قيل: يا رسول الله! وما أبو ضمضم؟ قال: رجل ممن قبلكم كان إذا أصبح يقول: اللهم إني تصدقت بعرضي على
1 - مقتل الحسين عليه السلام / للخوارزمي 2: 17. 2 - غرر الحكم. 29 الناس عامة (1)، فيكون عفوه عن إساءات الناس صدقة له عليهم. ومن هنا نفهم أن القول هو من الفعل، وإلا لما حرم الله تعالى الغيبة والنميمة والكذب والبذاء.. وهي أقوال، ولما قال النبي الهادي صلى الله عليه وآله: إن من حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه (2)، ولما قال أيضا: من لم يحسب كلامه من عمله كثرت خطاياه، وحضر عذابه (3). إذن: فإن الكرم والغيرة والعفو من الأخلاق، إذ هي أفعال ومواقف، والدعوة إليها باللسان والتشويق لها والتشجيع عليها كذلك من الأخلاق. ومن هنا رأينا أهل البيت سلام الله عليهم لم يكتفوا بدعوة الأمة إلى الأخلاق الفاضلة من خلال أفعالهم وسيرتهم، إنما واصلوا ذلك من خلال وصاياهم وحكمهم وإرشاداتهم، وتوجيهاتهم ومواعظهم.. وهذا أيضا من الأخلاق الفاضلة، لأن الدعوة إلى الأخلاق هي من الأخلاق بل هي كرم، لقول الإمام علي " عليه السلام " في غرر الحكم: النصيحة من أخلاق الكرام)، فالقول كالفعل، تترتب عليه الآثار: طيبة حميدة، أو سيئة مذمومة. كالسرقة والكذب كلاهما مخربان للمجتمع، وإن كانت السرقة عملا، والكذب قولا. وكالصدقة والسلام كلاهما ينشران المحبة في المجتمع، وإن كانت الصدقة فعلا، والسلام كلاما. وهنا نسأل: أليست مواعظ الإمام الحسين سلام الله عليه تنم عن: شفقة الحسين صلوات الله عليه على الأمة، ورأفته بالمؤمنين، ورحمته بالناس، وحرصه عليهم أن يسلكوا سبيل الهداية والخير والفضيلة والسلام، ويتجنبوا
1 - مصباح الشريعة / للإمام جعفر الصادق عليه السلام - الباب 70 في العفو: 158. 2 - معاني الأخبار / للشيخ الصدوق: 334. 3 - أصول الكافي 2: 115. 30 خطوات الشيطان المؤدية إلى الضلال والشر والباطل والفساد؟ أليست تدل مواعظ الإمام الحسين عليه السلام على اهتمامه الغيور بأن يوفق الناس جميعا إلى الفوز بالسعادتين: الدنيوية، والأخروية؟ إذن، كانت مواعظه أخلاقا، حيث عبرت عن حالات أخلاقية ملؤها الطيبة والإنسانية في أرقى آفاقها، فقد نوى خيرا، وعمل خيرا، إذ نفع الناس أجيالا متتابعة متعاقبة، فكان خير الناس، لا سيما وقد خلصت نيته لله عز وجل، وبرئت من كل شائبة وخاطرة، شاردة أو واردة تبتعد عن طلب مرضاة الله، أو تقصد غير وجه الله. ولكي نتعرف على أخلاق الإمام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام من خلال مواعظه، وحكمه وبياناته، تعالوا نطالع بعقل متبصر، وقلب نير، وروح متفتحة.. هذه الروايات الشريفة، وتلك الجمل المنيفة، التي تخبرنا عن مواقف متعالية سامقة في دنيا الأخلاق، معبرة عن طيبة الإمام الحسين عليه السلام، إضافة إلى تعبيرها عن علمه الجم، ومعرفته النورانية. وهنا - وقبل عرض الأخلاق الحسينية - يحسن بنا أن نعرف: أولا: أن الإمام الحسين عليه السلام كان سلوكه كله أخلاقا قويمة طيبة، شهد بذلك العدو والصديق، حتى أن مبغضيه لم يستطيعوا أن يظفروا بشئ يعاب فيه، بل لم يملكوا إلا أن يمدحوه ويثنوا عليه - والفضل ما شهدت به الأعداء - وما كان منهم إلا التعبير عن حسدهم له، وحسدهم دال على فضله عليهم. وهذا التاريخ - رغم تسليطه لأضوائه على الإمام الحسين عليه السلام باعتباره شخصية كبيرة - لم يدون عليه إلا الفضائل والمناقب والمكارم. فالأخلاق الإلهية تجسدت فيه، فعبر عنها بشخصه الشريف، قبل منطقه
31 الحكيم، لذا جاءت مواعظه نافعة أبلغ النفع، مؤثرة أبلغ التأثير، ليس في زمانه فحسب، بل تعدت حدود القرون والعصور. ثم إنها جاءت مفصحة عن مطاليب الشريعة الإسلامية وغاياتها. ثانيا: اتسمت أخلاق الإمام الحسين سلام الله عليه بالحكمة والمراعاة، فكانت موزونة أدق وزن، تراعي الظروف الموضوعية، وتراعي حالة السامع والناظر، من حيث مستواه وطبيعته ومدى استعداده وتقبله. لذا نجدها أساليب مفيدة في التربية والتوجيه، والإرشاد والتعليم. لنتأمل مثلا في هذه الرواية: * عن الروياني، أن الحسن والحسين مرا على شيخ يتوضأ ولا يحسن، فأخذا في التنازع يقول كل واحد منهما: أنت لا تحسن الوضوء، فقالا: أيها الشيخ! كن حكما بيننا، يتوضأ كل واحد منا. فتوضئا ثم قالا: أينا يحسن؟ قال: كلاكما تحسنان الوضوء، ولكن هذا الشيخ الجاهل هو الذي لم يكن يحسن، وقد تعلم الآن منكما، وتاب على يديكما، ببركتكما وشفقتكما على أمة جدكما (1). أي أخلاق هي! وهما صغيران لم يحرجا شيخا يتوضأ ولا يعرف كيف ينبغي أن يتوضأ، فعلماه دون أن يخدشا شعوره.. يقول العالم الفاضل الشيخ جعفر التستري أعلا الله مقامه: (رأى رجلا لا يحسن الوضوء، فأراد أن يعلمه فاستحى من ذله حين يتعلم، فقال لأخيه: نحن نتوضأ قدامه ثم نسأله أي الوضوئين أحسن؟ ففعلا ذلك، فقال الأعرابي: كلاكما تحسنان الوضوء وأنا
1 - مناقب آل أبي طالب / للشيخ الفاضل لابن شهرآشوب 3: 400. 32 الجاهل الذي لا أعرف.) (1). وكأنه عليه السلام رأى الناس يملون النثر، ويأنسون بالشعر، ويستعذبون الكلام المقفى الموزون، حتى ليبقى في ذاكرتهم عقودا من الزمن، فجاراهم وجاء لهم بالحكم والمواعظ في صيغ شعرية جميلة وواضحة: فمما نسب إليه، ودونه التأريخ، قوله سلام الله عليه: إذا جادت الدنيا عليك فجد بها * على الناس طرا قبل أن تتفلت فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت * ولا البخل يبقيها إذا ما تولت (2) هذا في الحث على الجود.. أما في الاستغناء بالله تعالى عن الناس، فقد قال عليه السلام: إغن عن المخلوق بالخالق * تغن عن الكاذب والصادق واسترزق الرحمن من فضله * فليس غير الله من رازق من ظن أن الناس يغنونه * فليس بالرحمن بالواثق أو ظن أن المال من كسبه * زلت به النعلان من حالق (3) وقال عليه السلام في اللجوء إلى الله تعالى: إذا ما عضك الدهر * فلا تجنح إلى الخلق ولا تسأل سوى الله * تعالى قاسم الرزق فلو عشت وطوفت من * الغرب إلى الشرق لما صادفت من يقدر * أن يسعد أو يشقي (4)
1 - الخصائص الحسينية / للشيخ جعفر التستري: 22. 2 - تاريخ دمشق / لابن عساكر 4: 325. 3 - نفسه. 4 - كشف الغمة / للإربلي: 185. 33 ولما زار مقابر الشهداء بالبقيع، قال عليه السلام: ناديت سكان القبور فأسكتوا * فأجابني عن صمتهم ندب الحشا قالت أتدري ما صنعت بساكني * مزقت جثمانا وخرقت الكسا وحشوت أعينهم ترابا بعد ما * كانت تأذى باليسير من القذا أما العظام.. فإنني مزقتها * حتى تباينت المفاصل والشوى قطعت ذا من ذا ومن هذا كذا * فتركتها مما يطول بها البلى (1) كلمات رشيقة، وعبارات عذبة، ومعان عالية في صور مؤنسة، أثمرت عن أبيات واضحة سهلة الحفظ، من شأنها أن تبقى في خاطر السامع تتردد على ذاكرته حتى ترسخ قيمها الأخلاقية والعقائدية، فتنعكس سلوكا صحيحا وموقفا محقا. والآن، نذهب إلى المنبر الحسيني الواعظ، حيث نستمع إلى ما يجود به علينا من كلمات راشدة، وحكم باصرة، ووصايا ذات عبر... خطب الإمام الحسين عليه السلام يوما فقال: يا أيها الناس! نافسوا في المكارم، وسارعوا في المغانم... واعلموا أن حوائج الناس إليكم، من نعم الله عليكم، فلا تملوا النعم فتحور نقما. واعلموا أن المعروف مكسب حمدا، ومعقب أجرا، فلو رأيتم المعروف رجلا، رأيتموه حسنا جميلا، يسر الناظرين، ولو رأيتم اللؤم رأيتموه سمجا (2) مشوها، تنفر منه القلوب، وتغض دونه الأبصار. أيها الناس! من جاد ساد، ومن بخل رذل. وإن أجود الناس من أعطى
1 - تاريخ ابن عساكر 4: 325. 2 - السمج: القبيح والخبيث. 34 من لا يرجوه، وإن أعفى الناس من عفا عن قدرة، وإن أوصل الناس من وصل من قطعه. والأصول على مغارسها بفروعها تسمو، فمن تعجل لأخيه خيرا وجده إذا قدم عليه غدا، ومن أراد الله تبارك وتعالى بالصنيعة إلى أخيه كافأه بها في وقت حاجته، وصرف عنه من بلاء الدنيا ما هو أكثر منه، ومن نفس كربة مؤمن فرج الله عنه كرب الدنيا والآخرة، ومن أحسن أحسن الله إليه، والله يحب المحسنين (1). قال الإربلي: هذا الفصل من كلامه وإن كان دالا على فصاحته، ومبينا عن بلاغته، فإنه دال على كرمه، وسماحته، وجوده، مخبر عن شرف أخلاقه وسيرته، وحسن نيته وسريرته، شاهد بعفوه وحلمه وطريقته، فإن هذا الفصل قد جمع مكارم الأخلاق: لكل صفة من صفات الخير فيها نصيب، واشتمل على مناقب عجيبة، وما اجتماعها في مثله بعجيب). وجاء في قصار الجمل هذه الحكم الجميلة: - الصدق عز، والكذب عجز، والسر أمانة، والجوار قرابة، والمعونة صدقة، والعمل تجربة، والخلق الحسن عبادة، والصمت زين، والشح فقر، والسخاء غنى، والرفق لب (2). - شر خصال الملوك: الجبن من الأعداء، والقسوة على الضعفاء، والبخل عند الإعطاء (3).
1 - كشف الغمة 2: 241، 242، والفصول المهمة / لابن الصباغ المالكي: 178، ووسيلة المآل / لابن كثير الحضرمي المكي الشافعي: 182. 2 - لمعة من بلاغة الحسين عليه السلام: 104. 3 - المناقب 4: 65. 35 - وقال عليه السلام لرجل اغتاب عنده رجلا: يا هذا! كف عن الغيبة فإنها أدام كلاب النار (1). - إياك وما تعتذر منه، فإن المؤمن لا يسئ ولا يعتذر، والمنافق كل يوم يسئ ويعتذر (2). - وقال لابنه علي بن الحسين عليهما السلام: أي بني! إياك وظلم من لا يجد عليك ناصرا إلا الله جل وعز (3). - وقال له رجل ابتداء: كيف أنت عافاك الله؟ فقال عليه السلام له: السلام، قبل الكلام، عافاك الله. ثم قال عليه السلام: لا تأذنوا لأحد حتى يسلم (4). وقال سلام الله عليه: البخيل من بخل بالسلام (5). وقال رجل عنده: إن المعروف إذا أسدي إلى غير أهله ضاع. فقال الحسين عليه السلام: ليس كذلك، ولكن تكون الصنيعة مثل وابل المطر، تصيب البر والفاجر (6). وقال سلام الله عليه: من قبل عطاءك، فقد أعانك على الكرم (7). وقال صلوات الله عليه: صاحب الحاجة لم يكرم وجهه عن سؤالك، فأكرم وجهك عن رده (8). كلمات... تنسجم تمام الانسجام مع الفطرة الانسانية السليمة، وتقع على
1 - تحف العقول: ص 176. 2 - نفسه. 3 - نفسه. 4 - نفسه. 5 - نفسه. 6 - نفسه. 7 - الدرة الباهرة: 24. 8 - كشف الغمة 2: 208. 36 القلب موقع الماء البارد في حر الضمأ، وعلى العين موقع النور في الليلة الظلماء، وعلى الأذن موقع صوت الأب الحنون ينادي ولده التائه أو الأم الرؤوم تلاطف ابنتها المنكسرة. كلمات.. هي للضال هداية مطمئنة، وللحائر سبيل سهلة، ولقد انتفع من أسلم قلبه، واعتبر من صدق عقله في البحث عن العبرة، واهتدى من رغب حقا في الخير وطلب الحقيقة. * ولقد أوصى فامتزج العلم بالأبوة الحانية، فكان أن قال: لا تتكلف ما لا تطيق، ولا تتعرض ما لا تدرك، ولا تعد بما لا تقدر عليه، ولا تنفق إلا بقدر ما تستفيد، ولا تطلب من الجزاء إلا بقدر ما صنعت، ولا تفرح إلا بما نلت من طاعة الله، ولا تتناول إلا ما رأيت نفسك له أهلا (1). وقال صلوات الله عليه: أوصيكم بتقوى الله، فإن الله قد ضمن لمن اتقاه أن يحوله عما يكره إلى ما يحب، ويرزقه من حيث لا يحتسب، فإياك أن تكون ممن يخاف على العباد من ذنوبهم، ويأمن العقوبة من ذنبه، فإن الله تبارك وتعالى لا يخدع عن جنته، ولا ينال ما عنده إلا بطاعته، إن شاء الله (2). لقد فاحت تلك الكلمات عن أبوة حانية، وقلب رحيم، وفاضت عن صدر ملؤه الإيمان والتقوى والمعرفة وحب الخير، وصدرت عن فم طاهر زاك طالما قبله رسول الله صلى الله عليه وآله، ولكن أعداء الله لم يتورعوا في
1 - أعيان الشيعة 4: 365. 2 - تحف العقول: 173. 37 هتك حرمات النبي في أهل بيته.. فقد جاء سنان بن أنس فرأى الإمام الحسين عليه السلام مطروحا على رمال كربلاء يشخب دما مما أصابه من السهام والأحجار والسيوف، فطعنه في بواني صدره الشريف (1). ودعا عمر بن سعد: ألا من ينتدب إلى الحسين فيوطئ الخيل صدره وظهره)، فقام عشرة (2).. فداسوا بخيولهم جسد ريحانة الرسول! وقطع الرأس الشريف قبل ذلك، ولم ترع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم حرمة. أروحك أم روح النبي تصعد * من الأرض للفردوس والحور سجد؟! ورأسك أم رأس الرسول على القنا * بآية (أهل الكهف) راح يردد؟! وصدرك أم مستودع العلم والحجى * لتحطيمه جيش من الجهل يعمد؟! وأي شهيد أصلت الشمس جسمه * ومشهدها من أصله متولد؟! وأي ذبيح داست الخيل صدره * وفرسانها من ذكره تتجمد؟! فلو علمت تلك الخيول كأهلها * بأن الذي تحت السنابك " أحمد " لثارت على فرسانها وتمردت * عليهم كما ثاروا بها وتمردوا (3) وفي الشام دعا يزيد برأس الحسين عليه السلام ووضعه أمامه في طست من ذهب (4)، ثم أخذ القضيب وجعل ينكث ثغر الحسين (5)، ويقول:
1 - اللهوف في قتلى الطفوف / للسيد ابن طاووس: 70. 2 - تاريخ الطبري 6: 161، الكامل في التاريخ / لابن الأثير 4: 33، مروج الذهب / للمسعودي 2: 91. الخطط / للمقريزي 2: 288، البداية والنهاية / لابن كثير 8: 189، إعلام الورى بأعلام الهدى / للشيخ الطبرسي: 888. 3 - من قصيدة للسيد صالح بن العلامة السيد مهدي بحر العلوم. 4 - مرآة الجنان / لليافعي 1: 135. 5 - تاريخ الطبري 6: 267، الكامل في التاريخ 4: 35، تذكرة خواص الأمة / لسبط ابن الجوزي: ص 148، الصواعق المحرقة / لابن حجر: ص 116، الفروع / لابن مفلج الحنبلي 3: 549، مجمع الزوائد 9: 195، الفصول المهمة: 205، الخطط المقريزية 2: 289، البداية والنهاية 8: 192، الإتحاف بحب الأشراف / للشبراوي: ص 23.. وغيرها من المصادر المعروفة. 38 يوم بيوم بدر (1). وكان أبو برزة الأسلمي واقفا، فقال: أشهد لك رأيت النبي يرشف ثناياه وثنايا أخيه الحسن، ويقول: أنتما سيدا شباب أهل الجنة، قتل الله قاتلكما، ولعنه، وأعد له جهنم وساءت مصيرا، فغضب يزيد منه وأمر به فأخرج سحبا (2). وكان من أخلاق الإمام الحسين عليه السلام عطفه على التائهين، وشفقته على الحائرين، لذا أكثر من وصاياه ومواعظه، وحكمه وعبره، رجاء أن يتجهوا إلى الله سبحانه بالإخلاص، وإلى الناس بالأخلاق الطيبة، فقال سلام الله عليه كلمات.. امتزجت فيها المعارف الحقة بالروح الأبوية الحانية. * قال عليه السلام: من دلائل علامات القبول: الجلوس إلى أهل العقول (3). وقال سلام الله عليه: إن قوما عبدوا الله رغبة، فتلك عبادة التجار. وإن قوما عبدوا الله رهبة، فتلك عبادة العبيد. وإن قوما عبدوا الله شكرا، فتلك عبادة الأحرار وأهل الفضل (4). * وكتب إليه رجل: عظني بحرفين. فكتب عليه السلام إليه: من حاول
1 - المناقب 2: 226. 2 - اللهوف: 102. 3 - تحف العقول: 178. 4 - نفسه: 177. 39 أمرا بمعصية الله كان أفوت لما يرجو، وأسرع لما يحذر (1). * وسأله أحدهم: لم افترض الله على عبيده الصوم؟ فقال عليه السلام له: ليجد الغني مس الجوع، فيعود بالفضل على المساكين (2). * وكتب إليه رجل من الكوفة: يا سيدي! أخبرني بخير الدنيا والآخرة. فكتب الإمام الحسين عليه السلام: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإن من طلب رضى الله بسخط الناس كفاه الله أمور الناس، ومن طلب رضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس. والسلام (3). وسأله نافع بن الأزرق - وهو من رؤساء الخوارج - قال له: صف لي إلهك الذي تعبد. فقال الإمام عليه السلام: يا نافع! إن من وضع دينه على القياس، لم يزل الدهر في الارتماس، مائلا عن المنهاج، ظاعنا في الاعوجاج، ضالا عن السبيل، قائلا غير الجميل. يا ابن الأزرق! أصف إلهي بما وصف به نفسه، وأعرفه بما عرف به نفسه، لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، قريب غير ملتصق، وبعيد غير متقص، يوحد ولا يبعض، معروف بالآيات، موصوف بالعلامات، لا إله إلا هو الكبير المتعال. فبكى ابن الأزرق، وقال: ما أحسن كلامك! (4) وتمضي وصايا الإمام الحسين عليه السلام ومواعظه وحكمه عبرا خالدة
1 - نفسه: 179. 2 - المناقب 2: 193. 3 - الإختصاص: 225. 4 - التوحيد / للشيخ الصدوق: ص 80، تاريخ ابن عساكر 4: 323. 40 في ضمير التأريخ، عليه أن يرددها على مسامع الأجيال، فإن فيها هدايتها ونجاتها، ومعرفة السبيل إلى سعادتها وبيان أمورها. * قال الفرزذق " الشاعر ": لقيني الحسين عليه السلام في منصرفي من الكوفة فقال: ما وراءك يا أبا فراس؟ قلت: أصدقك؟ قال: الصدق أريد. قلت: أما القلوب فمعك، وأما السيوف فمع بني أمية، والنصر من عند الله. قال: ما أراك إلا صدقت، الناس عبيد المال، والدين لغو (1) على ألسنتهم، يحوطونه ما درت به معايشهم، فإذا محصوا للابتلاء قل الديانون (2). وهذه علامة تنذرنا بالخطر على ديننا، فإن كنا من عباد الدنيا فإننا عما قريب - إذا كان الابتلاء - سنكتشف أن ديننا مستعار أو معار. فلا بد لنا من الاستعداد للامتحان، وخلع حب الدنيا من قلوبنا، لننجو بديننا. ويبلغ الخلق الحسيني مراقيه التي شاء الله له أن يبلغها، فقد صارح أصحابه أكثر من مرة أنه سيقتل، وأن كربلاء الطاهرة هي المثوى، لكيلا يقول أحد خدعت وكنت أظنه النصر نقبل عليه. ثم قدم لهم الفرص الوافرة، وعاملهم بالصراحة الطيبة، حتى يكونوا على بينة من أمرهم، مختارين.. إما أن يرجعوا إلى أهليهم وديارهم، وإما أن يتشرفوا بالشهادة بين يدي ولي الله، سيد شباب أهل الجنة.
1 - وفي نسخة أخرى: لعق. 2 - كشف الغمة 2: 207. 41 لقد تعامل الإمام الحسين عليه السلام مع الناس بالصدق والصراحة والرفق، وأدلى بنصحه وموعظته ودعوته على وجه البساطة والوضوح. فحينما أراد أن يخرج إلى كربلاء وقف في مكة وخطب الناس قائلا: ... خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا لاقيه. كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء، فيملأن مني أكراشا جوفا، وأجربة سغبا، لا محيص عن يوم خط بالقلم... ألا ومن كان فينا باذلا مهجته، موطنا على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإني راحل مصبحا إن شاء الله (1). ومن قبل ذلك.. كانت له عليه السلام جوابات صريحة مع من خشي عليه القتل، فحين رجته (أم المؤمنين - أم سلمة - رضوان الله عليها) أن يدع السفر قائلة له: لا تحزني بخروجك إلى العراق. أجابها سلام الله عليه قائلا: يا أماه! وأنا أعلم أني مقتول مذبوح ظلما وعدوانا، وقد شاء الله - عز وجل - أن يرى حرمي ورهطي مشردين، وأطفالي مذبوحين مأسورين مقيدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصرا (2). وكذلك أجاب أخاه محمد بن الحنفية بقوله: شاء الله أن يراني قتيلا، وأن يرى النساء سبايا (3). وفي بطن العقبة قال لمن معه: ما أراني إلا مقتولا، فإني رأيت في
1 - اللهوف: 53. 2 - مدينة المعاجز / للبحراني: 224. 3 - مقتل الحسين عليه السلام / للسيد عبد الرزاق المقرم: 65. 42 المنام كلابا تنهشني، وأشدها علي كلب أبقع (1). ولما أشار عليه عمرو بن لوذان بالانصراف عن الكوفة إلى أن ينظر ما يكون عليه حال الناس، قال عليه السلام: ليس يخفى علي الرأي، ولكن لا يغلب على أمر الله، وإنهم لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي (2). وكتب إلى بني هاشم: من لحق بنا منكم استشهد، ومن تخلف لم يبلغ الفتح (3). وفي الطريق إلى العراق، وإلى كربلاء، خير أصحابه بين الاستمرار أو الرجوع، فقال لأصحاب الإبل حينما مر ب " التنعيم " (4): من أحب منكم أن ينصرف معنا إلى العراق أوفينا كراءه، وأحسنا صحبته، ومن أحب المفارقة أعطيناه من الكراء على ما قطع من الأرض. ففارقه بعضهم، ومضى من أحب صحبته (5).
1 - لعله الشمر بن ذي الجوشن الذي يصفه الشاعر المسيحي پولس سلامة في ديوانه (عيد الغدير): 287 بقوله: أبرصا كان ثعلبي السمات * أصفر الوجه أحمر الشعرات ناتئ الصدغ، أعقف الأنف * مسود الثنايا، مشوه القسمات صيغ من جبهة القرود، وألوان * الحرابي، وأعين الحيات منتن الريح، لو تنفس في الأسحار * عاد الصباح للظلمات يستر الفجر أنفه ويولي * إن يصعد أنفاسه المنتنات ذلك المسخ، لو تصدى لمرآة * لشاهت صحيفة المرآة رعب الأم حين مولده المشؤوم * والأم سحنة السعلاة 2 - تاريخ الطبري 6: 226، والإرشاد للمفيد. 3 - كامل الزيارات / لابن بابويه: 75، وبصائر الدرجات: 10: 141. 4 - موضع بمكة في الحل، على فرسخين منها. يراجع معجم البلدان / لياقوت الحموي 2: 416. 5 - تاريخ الطبري 6: 218، ومقتل الحسين عليه السلام / للخوارزمي 1: 220، والبداية والنهاية 8: 166، ومثير الأحزان / لابن نما: ص 21. 43 وعندما جاءه خبر شهادة مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وهو في زرود، أخرج كتابا وقرأ على الناس: بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد، فإنه قد أتانا خبر فظيع، قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن يقطر، وقد خذلنا شيعتنا، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج، وليس عليه ذمام (1). وفي خبر آخر أنه عليه السلام قال: فمن كان منكم يصبر على ضرب السيوف وطعن الأسنة، فليقم معنا، وإلا فلينصرف عنا. فجعل القوم يتفرقون ولم يبق معه إلا الذين خرجوا من مكة. * وصارح عليه السلام ابن الحر في قصر بني مقاتل قائلا له: يا ابن الحر! إن أهل مصركم كتبوا إلي أنهم مجتمعون على نصرتي، وسألوني القدوم عليهم وليس الأمر على ما زعموا (2)، وإن عليك ذنوبا كثيرة، فهل لك من توبة تمحو بها ذنوبك؟ قال: وما هي يا ابن رسول الله؟ فقال: تنصر ابن بنت نبيك، وتقاتل معه (3). وقرب المساء، قبل مقتله عليه السلام بليلة، جمع الحسين أصحابه (4) فقال: أثني على الله أحسن الثناء، وأحمده على السراء والضراء، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة، وعلمتنا القرآن، وفقهتنا في الدين، وجعلت
1 - تاريخ الطبري 3: 376. 2 - نفس المهموم / للشيخ المحقق عباس القمي: 104. 3 - أسرار الشهادة / للشيخ الفاضل الدربندي: 233. 4 - إثبات الغيبة / للفضل بن شاذان. 44 لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة ولم تجعلنا من المشركين. أما بعد، فإني لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي، ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني جميعا (1). وقد أخبرني جدي رسول الله صلى الله عليه وآله بأني سأساق إلى العراق فأنزل أرضا يقال لها عمورا وكربلا، وفيها أستشهد، وقد قرب الموعد (2). ألا وإني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غدا، وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم مني ذمام. وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعا خيرا، وتفرقوا في سوادكم ومدائنكم، فإن القوم إنما يطلبونني، ولو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري. فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه، وأبناء عبد الله بن جعفر: لم نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك! لا أرانا الله ذلك أبدا. بدأهم بهذا القول العباس بن علي وتابعه الهاشميون. والتفت الحسين إلى بني عقيل وقال: حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا قد أذنت لكم. فقالوا: إذا ما يقول الناس، وما نقول لهم؟ إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير الأعمام، ولم نرم معهم بسهم ولم نطعن برمح ولم نضرب بسيف، ولا ندري ما صنعوا! لا والله لا نفعل، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا
1 - تاريخ الطبري 6: 238، والكامل في التاريخ / لابن الأثير 4: 34. 2 - إثبات الغيبة. 45 وأهلينا، نقاتل معك حتى نرد موردك، فقبح الله العيش بعدك (1). وقال مسلم بن عوسجة: أنحن نخلي عنك؟ وبماذا نعتذر إلى الله في أداء حقك؟! أما والله لا أفارقك حتى أطعن في صدورهم برمحي، وأضرب بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة حتى أموت معك. وقال سعيد بن عبد الله الحنفي: والله لا نخليك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسوله فيك. أما والله لو علمت أني أقتل ثم أحيا، ثم أحرق حيا، ثم أذرى.. يفعل بي ذلك سبعين مرة لما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا؟! وقال زهير بن القين: والله وددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل كذا ألف مرة، وأن الله عز وجل يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك. وتكلم باقي الأصحاب بما يشبه بعضه بعضا، فجزاهم الحسين خيرا (2). وفي الحال قيل لمحمد بن بشير الحضرمي: قد أسر ابنك بثغر الري، فقال: ما أحب أن يؤسر وأنا أبقى بعده حيا، فقال له الحسين عليه السلام: أنت في حل من بيعتي، فاعمل في فكاك ولدك.
1 - تاريخ الطبري 6: 238، والكامل في التاريخ 4: 24، وإعلام الورى / للطبرسي: ص 141، وسير أعلام النبلاء / للذهبي 3: 202. 2 - الإرشاد / للشيخ المفيد، وتاريخ الطبري 6: 239. 46 قال: لا والله، لا أفعل ذلك، أكلتني السباع حيا إن فارقتك. فقال عليه السلام: إذا أعط ابنك هذه الأثواب الخمسة ليعمل في فكاك أخيه. وكان قيمتها ألف دينار (1). لقد تعلم هؤلاء من الحسين السبط دروس الوفاء والتضحية، والإخلاص والإباء، فأبوا أن يخذلوا إمامهم، أو يخونوا رسول الله صلى الله عليه وآله في ولده، أو يخلوا بينه وبين عدوه العازم على قتله وإن سلموا بالفرار. أجل، فتقدموا زرافات ووحدانا، وجاهدوا دون الحق باذلين المهج الشريفة بين يدي سيدهم وإمامهم أبي عبد الله الحسين صلوات الله عليه حتى استشهدوا جميعا، ولسان الواقع والحال منهم يقول: أوفيت يا ابن رسول الله؟ فقد قام الحسين عليه السلام إلى الصلاة يوم العاشر من المحرم، فوقف أمامه سعيد بن عبد الله يحفظه، فاستقبل السهام بجسمه، حتى إذا أثخن بالجراح سقط إلى الأرض وهو يقول: اللهم العنهم لعن عاد وثمود، وأبلغ نبيك مني السلام، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح، فإني أردت بذلك ثوابك في نصرة ذرية نبيك صلى الله عليه وآله وسلم (2). والتفت إلى الحسين قائلا: أوفيت يا ابن رسول الله؟ قال: نعم، أنت أمامي في الجنة (3). وقضى نحبه. ولما عرف الحسين عليه السلام منهم صدق النية والإخلاص في المفاداة دونه أوقفهم على غامض القضاء فقال: إني غدا أقتل، وكلكم تقتلون معي ولا
1 - اللهوف: ص 53. 2 - مقتل العوالم / للشيخ عبد الله البحراني: ص 88. 3 - ذخيرة الدارين: 178. 47 يبقى منكم أحد (1). وكانوا كلهم قد أشربوا حب الحسين، وأخلاق الحسين، فتقدموا لا يطلبون إلا نصرته، يضربون بذلك الأمثال الرائعة في الإخلاص والتضحية والمواساة.. فحين قصد العباس عليه السلام الفرات ضاما إليه عشرين راجلا، تقدم نافع بن هلال الجملي رضوان الله عليه باللواء، فصاح عمرو بن الحجاج: من الرجل؟ قال: جئنا لنشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه. فقال عمرو: اشرب هنيئا ولا تحمل إلى الحسين منه. قال نافع: لا والله، لا أشرب منه قطرة والحسين ومن معه من آله وصحبه عطاشى (2). ووقف عابس بن شبيب الشاكري رضوان الله عليه أمام الحسين عليه السلام وقال: ما أمسى على ظهر الأرض قريب ولا بعيد أعز علي منك، ولو قدرت أن أدفع الضيم عنك بشئ أعز علي من نفسي لفعلت، السلام عليك، أشهد أني على هداك وهدى أبيك. ومشى نحو القوم مصلتا سيفه وبه ضربة على جبينه، فنادى: ألا رجل! فأحجموا عنه، لأنهم عرفوه أشجع الناس. فصاح عمر بن سعد: ارضخوه بالحجارة. فرمي بها، فلما رأى ذلك ألقى درعه ومغفره وشد على الناس، وإنه ليطرد أكثر من مئتين، ثم تعطفوا عليه من كل جانب فقتل (3). ووقف جون، مولى أبي ذر الغفاري أمام الحسين يستأذنه، فقال عليه
1 - نفس المهموم: 122. 2 - مقتل محمد بن أبي طالب. 3 - تاريخ الطبري 6: 254. 48 السلام: يا جون! إنما تبعتنا طلبا للعافية، فأنت في إذن مني. أي انصرف عن ساحة المعركة، فوقع على قدميه يقبلهما ويقول: أنا في الرخاء ألحس قصاعكم، وفي الشدة أخذلكم!.. لا والله، لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم. فأذن له الحسين، فقتل خمسة وعشرين وقتل (1). وقتل جميع أصحابه.. وهم متأثرون بمواعظه الشريفة، وصراحته الطيبة. فالأخلاق الحسينية أبت أية مخادعة، فلم يمن سلام الله عليه أحدا بدنيا، وإنما قال لأصحابه: إني راحل إلى القتل، إلى الشهادة.. فمن أحب أن يختار الرحيل معي فليوطن نفسه على لقاء الله بين السيوف والأسنة. واختبر إخلاصهم وصفاهم حتى اصطفاهم الله تعالى للشرف التأريخي الشامخ، أن يستشهدوا مع سيد الشهداء، الإمام الحسين صلوات الله عليه، وهم أباة أوفياء، فزعوا إلى مضاجع العز، وختموا حياتهم مرضيين، لأنهم نصروا إمامهم، وذبوا عنه.. وتنادبت للذب عنه عصبة * ورثوا المعالي أشيبا وشبابا من ينتدبهم للكريهة ينتدب * منهم ضراغمة الأسود غضابا خفوا لداعي الحرب حين دعاهم * ورسوا بعرصة كربلاء هضابا أسد قد اتخذوا الصوارم حلية * وتسربلوا حلق الدروع ثيابا تخذت عيونهم القساطل كحلها * وأكفهم فيض النحور خضابا يتمايلون.. كأنما غنى لهم * وقع الظبي وسقاهم أكوابا برقت سيوفهم فأمطرت الطلى * بدمائها، والنقع ثار سحابا
1 - مثير الأحزان / لابن نما: 33. 49 وكأنهم مستقبلون كواعبا * مستقبلين أسنة وكعابا وجدوا الردى من دون آل محمد * عذبا، وبعدهم الحياة عذابا ودعاهم داعي القضاء وكلهم * ندب إذا الداعي دعاه أجابا فهووا على عفر التراب وإنما * ضموا هناك الخرد الأترابا ونأوا عن الأعداء وارتحلوا إلى * دار النعيم، وجاوروا الأحبابا (1) * * * * * وظلت المواعظ الحسينية تأخذ مداها في الآفاق حتى أثمرت عن فضح المتقمصين لباس الخلافة الإسلامية، وكسر الإطار الديني المزيف الذي ضربوه أمام حكومتهم، فعاد الناس لا يصدقون أن بني أمية لهم الحق في خلافة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. وكذلك أثمرت عن شعور بالإثم، فقد تغافل الناس زمنا عن وصايا الإمام الحسين عليه السلام، ثم ما لبثوا أن أفاقوا على كلماته عن لسان أسرته، ولم يصبر الكثير منهم حتى عزم على الثأر، والتكفير عن الذنب.. فكانت ثورة التوابين، وثورة المدينة، وثورة المختار الثقفي، وثورة مطرف بن المغيرة، وثورة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وثورة زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام، كل ذلك في سنوات قليلة بعد شهادة الإمام الحسين صلوات الله عليه، حيث أثرت وصايا الحسين في أهل بيته، فمضوا يبصرون الناس فيحركون ضمائرهم، ويهزون مشاعرهم. * * * * *
1 - من قصيدة للسيد رضا الهندي الموسوي: ص 42 من ديوانه المطبوع. 50 وكان الإمام الحسين عليه السلام قد شد على قلوب أهل بيته بالصبر والرضى بقضاء الله، فلما رأى النساء يبكين عليه ليلة عاشوراء، وسمع أخته أم كلثوم تنادي: " وا ضيعتنا بعدك يا أبا عبد الله! " عزاها عليه السلام وقال لها: يا أختاه! تعزي بعزاء الله، فإن سكان السماوات يفنون، وأهل الأرض كلهم يموتون، وجميع البرية يهلكون. ثم قال: يا أختاه! يا أم كلثوم، وأنت يا زينب، وأنت يا فاطمة (ابنته) وأنت يا رباب (زوجته) انظرن إذا أنا قتلت.. فلا تشققن علي جيبا، ولا تخمشن علي وجها، ولا تقلن هجرا (1). وكان درسا في الصبر، وفي العزة والإباء أمام أعداء الله. وفي الوداع الثاني لعياله أمرهم بالصبر، وقال: استعدوا للبلاء، واعلموا أن الله تعالى حاميكم وحافظكم، وسينجيكم من شر الأعداء، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، ويعذب عدوكم بأنواع العذاب، ويعوضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة. فلا تشكوا، ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم (2). وقد أخذت هذه الموعظة طريقها إلى قلوب العيال، فكان منهم الثبات والصبر والإباء، والعزة والشموخ.. فهذه " سكينة " ابنته (لم يتضعضع صبرها، ولا وهي تسليمها للقضاء الجاري، ولم يتحدث المؤرخون عما ينافي ثباتها على الخطوب في الكوفة والشام مع ما لاقته من شماتة ابن مرجانة وابن ميسون ونكته بالعود رأس الحسين...) (3). وهذه أم كلثوم تقف في الكوفة فتخطبهم قائلة: " يا أهل الكوفة! سوأة
1 - اللهوف: 34. 2 - جلاء العيون / للشيخ المجلسي. 3 - السيدة سكينة / للسيد عبد الرزاق المقرم: 64. 51 لكم، ما لكم خذلتم حسينا وقتلتموه، وانتهبتم أمواله وورثتموه، وسبيتم نساءه ونكبتموه، فتبا لكم وسحقا. ويلكم! أتدرون أي دواه دهتكم، وأي وزر على ظهوركم حملتم، وأي دماء سفكتموها، وأي كريمة أصبتموها، وأي صبية سلبتموها، وأي أموال انتهبتموها؟! قتلتم خير رجالات بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونزعت الرحمة من قلوبكم، ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون ". فضج الناس بالبكاء، فلم ير باكية وباك أكثر من ذلك اليوم (1). وتلك فاطمة بنت الحسين تقف هي الأخرى في الكوفة لتخطب قائلة: "... أما بعد يا أهل الكوفة! يا أهل المكر والغدر والخيلاء، فإنا أهل بيت ابتلانا الله بكم وابتلاكم بنا، فجعل بلاءنا حسنا، وجعل علمه عندنا، وفهمه لدينا، فنحن عيبة علمه، ووعاء فهمه، وحكمته وحجته على الأرض في بلاده لعباده. أكرمنا الله بكرامته، وفضلنا بنبيه محمد صلى الله عليه وآله على كثير ممن خلق تفضلا بينا، فكذبتمونا وكفرتمونا، ورأيتم قتالنا حلالا، وأموالنا نهبا... ويلكم! أتدرون أية يد طاعنتنا منكم، وأية نفس نزعت إلى قتالنا، أم بأية رجل مشيتم إلينا تبغون محاربتنا! والله قست قلوبكم وغلظت أكبادكم، وطبع على أفئدتكم، وختم على سمعكم وبصركم، وسول لكم الشيطان وأملى لكم، وجعل على أبصاركم غشاوة فأنتم لا تهتدون. فتبا لكم يا أهل الكوفة! أي ترات لرسول الله صلى الله عليه وآله قبلكم، وذخول لديكم، بما صنعتم بأخيه علي بن أبي طالب جدي، وبنيه وعترته الطيبين الأخيار... ". فارتفعت
1 - اللهوف: 66. 52 الأصوات بالبكاء والنحيب وقالوا: حسبك يا ابنة الطيبين، فقد أحرقت قلوبنا، وأنضجت نحورنا، وأضرمت أجوافنا. فسكتت (1). وأما العقيلة زينب عليها السلام، فقد أصغت بعقلها وقلبها إلى موعظة أخيها الحسين سلام الله عليه ليلة عاشوراء، حيث قال لها: يا أختاه! اتقي الله، وتعزي بعزاء الله، واعلمي أن أهل الأرض يموتون، وأهل السماء لا يبقون، وأن كل شئ هالك إلا وجهه تعالى، الذي خلق الخلق بقدرته، ويبعث الخلق ويعودون، وهو فرد وحده. جدي خير مني، وأبي خير مني، وأمي خير مني، وأخي خير مني، ولي ولكل مسلم برسول الله صلى الله عليه وآله أسوة. يا أختاه! أقسمت عليك فأبري قسمي، لا تشقي علي جيبا، ولا تخمشي علي وجها، ولا تدعي علي بالويل والثبور إذا أنا هلكت (2). وكانت زينب سلام الله عليها عند وصية أخيها، حيث لم ير الأعداء منها وهنا، بل وجدوها تلك الحرة الأبية، واللبوة الطالبية، والمعجزة المحمدية، والذخيرة الحيدرية، والوديعة الفاطمية.. تحدت بمواقفها أهل النفاق والفتن، وأرهبت الطغاة في صلابتها، وأدهشت العقول برباطة جأشها، ومثلت أباها عليا بشجاعتها، وأشبهت أمها الزهراء في عظمتها وبلاغتها.. فقد شاهدت إخوانها، وبني إخوانها، وبني عمومتها، وشيعة أخيها على الرمال مجزرين، وشاهدت إحراق خيامها بعد قتل أخيها الحسين عليه السلام، ومرت على مصارع الشهداء، وعاشت محنة الأسر، والسفر المرير إلى الكوفة ثم الشام،
1 - نفسه: 65. 2 - زينب الكبرى بنت أمير المؤمنين عليه السلام / للشيخ جعفر النقدي: 121. 53 ثم من الشام إلى كربلاء فالمدينة المنورة. وقد كانت لها مواقف شجاعة - وهي امرأة مكسورة بفجيعة أهلها - حيث خرجت إلى باب الفسطاط في ساحة الطف ونادت عمر بن سعد: " ويلك يا عمر! أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟! " فلم يجبها بشئ، فنادت: " ويحكم! أما فيكم مسلم؟! " فلم يجبها أحد (1). وبعد أن أحرقت الخيام وتفرقت الأطفال.. زينب هي التي تجمع النساء والأطفال، تتفقدهم، وتتفحص عن الأيتام، حتى جمعتهم في خيمة وجلست عندها، وكأنها لم تصب بتلك الفاجعة الأليمة، فقد كان منها الحزم والصبر على البلاء، حتى جمعت المتشتت، وعالجت المريض، وهدأت اليتامى، وصبرت الثواكل والأرامل. لقد أخذت موعظة أخيها الحسين عليه السلام طريقها إلى قلب زينب، فتعزت بعزاء الله، فوضعت يديها تحت جثمانه الموزع بالسيوف رافعة له وهي تقول: " اللهم تقبل منا هذا القليل من القربان " (2). وحينما أراد عبيد الله بن زياد قتل ابن أخيها علي بن الحسين عليه السلام صاحت به: " يا ابن زياد! حسبك من دمائنا " واعتنقت عليا وقالت: " والله لا أفارقه، فإن قتلته فاقتلني معه " (3). وفي الكوفة خطبت تلك الخطبة المعروفة، والتي قال حذيم الأسدي بعدها: لم أر والله خفرة قط أنطق منها، كأنها تنطق وتفرغ عن لسان
1 - الإرشاد. 2 - زينب الكبرى: 75. 3 - الإرشاد: 224. 54 علي (1). وفي مجلس الطاغية (عبيد الله بن زياد) سألها: كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك؟ أجابته على الفور: " ما رأيت إلا جميلا، هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذ، ثكلتك أمك يا ابن مرجانة! " فغضب ابن زياد واستشاط من كلامها معه (2). هذا وهي سبية، حتى إذا وصلت إلى قصر يزيد بن معاوية وسمعته يقرأ أبيات الكفر: ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل لأهلوا واستهلوا فرحا * ثم قالوا: يا يزيد لا تشل قد قتلنا القوم من ساداتهم * وعدلناه ببدر فاعتدل لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل لست من خندف إن لم أنتقم * من بني أحمد ما كان فعل خطبت زينب عليها السلام خطبتها المشهورة، وقد قالت فيها فيما قالت: "... أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى.. أن بنا على الله هوانا، وبك عليه كرامة، وأن ذلك لعظم خطرك عنده؟! فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسرورا، حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك
1 - الإحتجاج / للشيخ أبي منصور أحمد بن علي الطبرسي 2: 31. 2 - اللهوف: 90. 55 ملكنا وسلطاننا، فمهلا مهلا، أنسيت قول الله تعالى: * (ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم، إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين) * (1). أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا؟!... ثم تقول غير مستأثم، ولا مستعظم: لأهلوا واستهلوا فرحا * ثم قالوا: يا يزيد لا تشل منحنيا على ثنايا أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك... وتهتف بأشياخك زعمت أنك تناديهم، فلتردن وشيكا موردهم، ولتودن أنك شللت وبكمت، ولم تكن قلت ما قلت، وفعلت ما فعلت. فوالله ما فريت إلا جلدك، ولا حززت إلا لحمك، ولتردن على رسول الله صلى الله عليه وآله بما تحملت من سفك دماء ذريته، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته... وحسبك بالله حاكما، وبمحمد صلى الله عليه وآله خصيما، وبجبرئيل ظهيرا، وسيعلم من سول لك ومكنك من رقاب المسلمين بئس للظالمين بدلا، وأيكم شر مكانا وأضعف جندا. ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك، إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك... ألا فالعجب كل العجب، لقتل حزب الله النجباء، بحزب الشيطان الطلقاء... فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا ترخص عنك عارها، وهل رأيك
1 - آل عمران: 178. 56 إلا فند، وأيامك إلا عدد، وجمعك إلا بدد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين. والحمد لله رب العالمين، الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة، إنه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل ". فلم يملك يزيد إلا أن قال: يا صيحة تحمد من صوائح * ما أهون النوح على النوائح (1) * * * * * لقد أثمرت الموعظة الحسينية عزة وإباء وكرامة، وتضحية وشجاعة وتحديا للظالمين، فتحولت إلى ثورة متنقلة ضاق بها الطغاة. قال النسابة العبيدلي: كانت زينب بنت علي - وهي بالمدينة - (بعد عودتها من السبي) تؤلب الناس على القيام بأخذ ثأر الحسين، وخلع يزيد. بلغ ذلك أهل المدينة فخطبت فيهم زينب وصارت تؤلبهم على القيام للأخذ بالثأر، فبلغ ذلك عمرو بن سعيد، فكتب إلى يزيد يعلمه الخبر، فكتب إليه أن فرق بينها وبينهم، فأمر أن ينادى عليها بالخروج من المدينة، والإقامة حيث تشاء... (2). * * * * * * ولم تقف الأخلاق الحسينية عند حد نصح الأهل والأصحاب، بل تعدت ذلك إلى نصح الأعداء والمخالفين ووعظهم، ودعوتهم إلى الحق
1 - الإحتجاج 2: 308، واللهوف: 76. 2 - السيدة زينب / تأليف حسن محمد قاسم. 57 والخير، ذلك لأن أخلاق الحسين عليه السلام هي من أخلاق الله تبارك وتعالى، وأخلاق الله صبر على الناس، وإمهال لهم، والرفق بهم والرحمة بحالهم، ومجادلتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى يعلموا ما جهلوه، ويفيقوا من سكرة حب الدنيا، ويتحرك فيهم عرق الغيرة على الدين، وتظهر في قلوبهم نخوة الشجاعة والشهامة والعزة فيتركوا اللهاث وراء السلطان الجائر، ويؤوبوا إلى الله مولاهم الحق. فيوم جعجع به الحر بن يزيد الرياحي في ألف فارس ليحبسه عن الرجوع، استقبلهم الحسين عليه السلام، فحمد الله وأثنى عليه وقال: إنها معذرة إلى الله عز وجل وإليكم، وإني لم آتكم حتى أتتني كتبكم، وقدمت بها علي رسلكم.. أن أقدم علينا فإنه ليس لنا إمام، ولعل الله أن يجمعنا بك على الهدى. فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم فأعطوني ما أطمئن به من عهودكم ومواثيقكم... وبعد صلاة الظهر، أقبل عليهم مرة أخرى فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي، وقال: أيها الناس! إنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل بيت محمد صلى الله عليه وآله أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدعين ما ليس لهم، والسائرين بالجور والعدوان. وإن أبيتم إلا الكراهية لنا، والجهل بحقنا، وكان رأيكم الآن على غير ما أتتني كتبكم انصرفت عنكم. فقال الحر: ما أدري ما هذه الكتب التي تذكرها! فأمر الحسين عقبة بن
58 سمعان، فأخرج خرجين مملوءين كتبا. (1) وهي كتب أهل الكوفة تشكو للحسين ظلم يزيد، ويدعونه للقدوم عليهم ليكون إمامهم، وقد جاء الإرشاد الحسيني كاشفا للحقيقة، وملزما لاتباع الحق. وفي " البيضة " قال لهم عليه السلام: أيها الناس! إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: " من رأى سلطانا جائرا، مستحلا لحرام الله، ناكثا عهده، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول، كان حقا على الله أن يدخله مدخله "، ألا وإن هؤلاء قد لزموا الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفئ، وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله، وأنا أحق ممن غير. وقد أتتني كتبكم، وقدمت علي رسلكم ببيعتكم أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن أتممتم علي بيعتكم تصيبوا رشدكم، فأنا الحسين بن علي، وابن فاطمة بنت رسول الله، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، ولكم في أسوة. (2) ولا يرد الوصايا الحسينية إلا معاند منكر للواقع، أما طلاب الحقيقة.. فقد استقرت عليها ضمائرهم فبادروا إلى التوبة، ونقلوا رحالهم إلى معسكر الحسين عليه السلام يقاتلون دونه، وكان سيدهم في هذا الموقف: الحر بن يزيد الرياحي، حيث ضرب جواده نحو الحسين (3) منكسا رمحه، قالبا ترسه، وقد طأطأ برأسه حياء من آل الرسول، رافعا صوته:
1 - الإرشاد / للشيخ المفيد، والمناقب / لابن شهرآشوب 2: 193. 2 - تاريخ الطبري 6: 229، والكامل 4: 21. 3 - تاريخ الطبري 6: 244. 59 يا أبا عبد الله! إني تائب، فهل لي من توبة؟ فقال الحسين عليه السلام: نعم، يتوب الله عليك. (1) فسره قوله وتيقن النعيم الدائم. ولم يكتف بذلك حتى استأذن الحسين عليه السلام في أن يكلم القوم، فأذن له، فنادى بعسكر عبيد الله يعظهم ويبين لهم الحق، إلا أن القوم حملوا عليه بالنبل. ولم يكتف بهذا أيضا حتى نزل إلى ساحة المعركة يدافع عن الإمام الحق أبي عبد الله الحسين عليه السلام، فقتل من أعداء الله نيفا وأربعين، ثم شدت عليه الرجالة غدرا فصرعته، فأبنه الحسين عليه السلام، وقد حزن عليه، فقال: قتلة مثل قتلة النبيين وآل النبيين. ثم التفت إلى الحر - وكان به رمق - فقال عليه السلام له - وهو يمسح الدم عنه -: أنت الحر كما سمتك أمك، وأنت الحر في الدنيا والآخرة. (2) * ولكي لا يدعي أحد أن الأمر التبس عليه، أقام الإمام الحسين عليه السلام على القوم حججه بالغة بينة، فخرج إليهم في ساحة كربلاء ممتطيا فرس رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد أخذ مصحفا ونشره على رأسه، فوقف بأزاء القوم، وقال: يا قوم! إن بيني وبينكم كتاب الله، وسنة جدي رسول الله صلى الله عليه وآله. ثم قال عليه السلام: أنشدكم الله، هل تعرفونني من أنا؟ قالوا: أنت ابن رسول الله وسبطه. قال: أنشدكم الله، هل تعلمون أن جدي رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قالوا: اللهم نعم. قال: أنشدكم الله، هل تعلمون أن أبي علي بن أبي طالب؟ قالوا: اللهم نعم. قال: أنشدكم الله، هل تعلمون أن جدتي خديجة بنت خويلد؟ قالوا: اللهم نعم. قال: أنشدكم الله،
1 - اللهوف: 58، وأمالي الصدوق: 97، وروضة الواعظين / للنيسابوري: 159. 2 - مقتل الحسين عليه السلام / للخوارزمي 2: 111. 60 هل تعلمون أن سيد الشهداء حمزة عم أبي؟ قالوا: اللهم نعم. قال: أنشدكم الله، هل تعلمون أن الطيار في الجنة عمي؟ قالوا: اللهم نعم. قال: أنشدكم الله، هل تعلمون أن هذا سيف رسول الله صلى الله عليه وآله أنا متقلده؟ قالوا: اللهم نعم. قال: أنشدكم الله، هل تعلمون أن هذه عمامة رسول الله صلى الله عليه وآله أنا لابسها؟ قالوا: اللهم نعم. قال: أنشدكم الله، هل تعلمون أن عليا كان أول القوم إسلاما، وأعلمهم علما، وأعظمهم حلما، وأنه ولي كل مؤمن ومؤمنة؟ قالوا: اللهم نعم. قال: فبم تستحلون دمي؟ وأبي الذائد عن الحوض يذود عنه رجالا كما يذاد البعير الصادر عن الماء. قالوا: قد علمنا ذلك، ونحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشا. فقال عليه السلام: تبا لكم أيتها الجماعة وترحا، أحين استصرختمونا والهين، فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفا لنا في أيمانكم، وحششتم علينا نارا اقتدحناها على عدونا وعدوكم، فأصبحتم إلبا لأعدائكم على أوليائكم بغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم، فهلا لكم الويلات... إلى أن قال عليه السلام: ويحكم! أهؤلاء تعضدون، وعنا تتخاذلون؟!! أجل والله غدر فيكم قديم، وشجت عليه أصولكم، وتأزرت فروعكم، فكنتم أخبث ثمر، شجى للناظر، وأكلة للغاصب. ألا وإن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام... ثم قال عليه السلام: فإن نهزم فهزامون قدما * وإن نهزم فغير مهزمينا
61 وما إن طبنا جبن ولكن * منايانا ودولة آخرينا إذا ما الموت رفع عن أناس * كلاكله أناخ بآخرينا فأفنى ذلكم سروات قومي * كما أفنى القرون الأولينا فلو خلد الملوك إذا خلدنا * ولو بقي الكرام إذا بقينا فقل للشامتين بنا: أفيقوا * سيلقى الشامتون كما لقينا ثم قال عليه السلام: أما والله لا تلبثون بعدها إلا كريثما يركب الفرس، حتى تدور بكم دور الرحى، وتعلق بكم قلق المحور... (1) وكانت موعظة بالغة الحجة، مخبرة عن الحال، والمآل، فيها التذكرة لمن أراد أن يذكر، أو كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. وكان فيها تثبيت للأخلاق الطيبة: الوفاء، وإغاثة الملهوف إذا استصرخ، والعزة والإباء، كما أن فيها ذما للأخلاق الشيطانية: الغدر، ونكث العهود، والتخاذل، والانحياز إلى الظالمين. ولقد كانت أخلاق الإمام الحسين عليه السلام من السمو أن نصح أعداءه، ووعظ قاتليه.. فيوم عاشوراء، وبعد أن صف ابن سعد أصحابه للحرب، دعا الحسين عليه السلام براحلته فركبها، ونادى بصوت عال يسمعه جلهم: أيها الناس! اسمعوا قولي، ولا تعجلوا حتى أعظكم بما هو حق لكم علي، وحتى أعتذر إليكم من مقدمي هذا وأعذر فيكم، فإن قبلتم عذري وصدقتم قولي، وأعطيتموني النصف من أنفسكم كنتم بذلك أسعد ولم يكن لكم علي سبيل...
1 - اللهوف: 56، ومقتل الحسين عليه السلام / للخوارزمي 2: 8. 62 ثم قال: الحمد لله الذي خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرفة بأهلها حالا بعد حال.. فالمغرور من غرته، والشقي من فتنته. فلا تغرنكم هذه الدنيا فإنها تقطع رجاء من ركن إليها، وتخيب طمع من طمع فيها، وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم، وأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحل بكم نقمته، وجنبكم رحمته. فنعم الرب ربنا، وبئس العبيد أنتم، أقررتم بالطاعة، وآمنتم بالرسول محمد صلى الله عليه وآله، ثم إنكم زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم. لقد استحوذ عليكم الشيطان، فأنساكم ذكر الله العظيم، فتبا لكم ولما تريدون، إنا لله وإنا إليه راجعون، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبعدا للقوم الظالمين. أيها الناس! انسبوني من أنا، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، وانظروا هل يحل لكم قتلي، وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم، وابن وصيه وابن عمه، وأول المؤمنين بالله، والمصدق لرسوله بما جاء من عند ربه؟! أو ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟! أو ليس جعفر الطيار عمي؟ أو لم يبلغكم قول رسول الله صلى الله عليه وآله لي ولأخي: " هذان سيدا شباب أهل الجنة "؟! فإن صدقتموني بما أقول وهو الحق، فوالله ما تعمدت الكذب منذ أن علمت أن الله يمقت عليه أهله، ويضر به من اختلقه، وإن كذبتموني فإن فيكم من إذا سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلى الله عليه وآله لي ولأخي. أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟... ثم قال عليه السلام: فإن كنتم في شك من هذا القول، أفتشكون في أني ابن
63 بنت نبيكم؟... ويحكم! أتطلبوني بقتيل منكم قتلته؟ أو مال لكم استهلكته؟ أو بقصاص جراحة؟! فأخذوا لا يكلمونه. (1) بل أجابوه بالغدر، وأرسلوا له سهامهم خبيثة، بعد أن أرسل لهم الحكمة والموعظة الحسنة. وقام لسان الله يخطب واعظا * فصموا لما عن قدس أنواره عموا وقال انسبوني من أنا اليوم وانظروا * حلال لكم مني دمي أم محرم فما وجدوا إلا السهام بنحره * ترشى جوابا والعوالي تقوم (2) ولقد أجاد من وصف فقال: لم أنسه إذ قام فيهم خاطبا * فإذا هم لا يملكون خطابا يدعو ألست أنا ابن بنت نبيكم * وملاذكم إن صرف دهر نابا هل جئت في دين النبي ببدعة * أم كنت في أحكامه مرتابا أم لم يوص بنا النبي وأودع الثقلين * فيكم عترة وكتابا إن لم تدينوا بالمعاد فراجعوا * أحسابكم إن كنتم أعرابا فغدوا حيارى لا يرون لوعظه * إلا الأسنة والسهام جوابا (3) وهذا عمر بن سعد.. رأس الخيانة يجند الجند ليتقدم على ذرية رسول الله صلى
1 - الإرشاد: 216، تاريخ الطبري 6: 243. 2 - من قصيدة للمرجع الكبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء. 3 - ديوان السيد رضا الهندي الموسوي: 42. 64 الله عليه وآله يقتل رجالهم، ويسبي نساءهم، ويرعب أطفالهم، والحسين سلام الله عليه يعلم بنيته، ولكن الأخلاق الحسينية تسدي الخير إلى كل أحد. وقد علمنا أنه سمع رجلا عنده يقول: إن المعروف إذا أسدي إلى غير أهله ضاع، فقال له الحسين عليه السلام: ليس كذلك، ولكن تكون الصنيعة مثل وابل المطر، تصيب البر والفاجر، وقد بقي الإمام الحسين عليه السلام وبعد سنين طويلة عند كلمته تلك.. فيوم عاشوراء استدعى عليه السلام عمر بن سعد ، فدعي له وكان كارها لا يحب أن يأتيه، فقال: أي عمر! أتزعم أنك تقتلني ويوليك الدعي بلاد الري وجرجان، والله لا تهنأ بذلك، عهد معهود، فاصنع ما أنت صانع، فإنك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، وكأني برأسك على قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة ويتخذونه غرضا بينهم، فصرف بوجهه عنه مغضبا (1). لقد وعظه الإمام الحسين عليه السلام فأبلغ، وأخبره بما نوى، وما عليه حاله، وما هو إليه في الغد مآله.. إلا أن الموعظة البالغة لا تنفع من شرح بالكفر صدرا، وعميت عينه عن الآخرة فلم يعد يرى إلا الدنيا، ومات ضميره وقسى قلبه، واستبد به الطمع إلى حد فقد عاطفته. فمن أجل أمنية لا يدري تتحقق أم لا، لا يتورع عن قتل الأولياء والأبرياء، وهتك الحرمات، وقد أخبره السبط الحسين عليه السلام أنه لن يحصل على ما أملوه. وعمر بن سعد يعلم يقينا أن ابن رسول الله صلى الله عليه وآله لم ولن يكذب، ولكن نفسه الشرهة لم تمهله ساعة يتدبر فيها فيرجع عما أقدم عليه. أما الحسين سلام الله
1 - مقتل الحسين عليه السلام / للخوارزمي 2: 8. 65 عليه فقد أوقفه على المحجة البيضاء، هو ومن معه، ذلك * (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم) * (1). وذاك الشمر بن ذي الجوشن.. رأس البغض على آل الرسول صلى الله عليه وآله، يأتي بفتنة ليشق صف معسكر الحسين عليه السلام، فيصيح بأعلى صوته: أين بنو أختنا؟ أين العباس وإخوته؟ وقد جاء لهم بالأمان من عبيد الله بن زياد إذا هم تركوا أخاهم الحسين عليه السلام وانصرفوا، وكان له رحم بهم، إلا أن العباس وإخوته أعرضوا عن الشمر. وهنا يظهر الخلق الحسيني، فيعطي الفرصة لعدوه كيما يقول ما يريد، فيقول عليه السلام للعباس وإخوته: أجيبوه ولو كان فاسقا، فقالوا لشمر: ما شأنك وما تريد؟ قال: يا بني أختي أنتم آمنون، لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين، والزموا طاعة... يزيد، فقال العباس - وهو الذي تعلم الإباء والوفاء من إمامه وأخيه الحسين عليه السلام: لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له! وتأمرنا أن ندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء؟! (2) وكان نصيب سيد شباب أهل الجنة سلام الله عليه من القوم الذين وعظهم، أن قال عمر بن سعد لأصحابه: ويحكم! اهجموا عليه.. فحملوا عليه يرمونه بالسهام حتى تخالفت بين أطناب المخيم، فدهشت النساء وأرعبن، فحمل عليهم كالليث الغضبان فلا يلحق أحدا إلا بعجه بسيفه فقتله، والسهام تأخذه من كل ناحية وهو يتقيها بصدره ونحره. (3)
1 - سورة الأنفال: 42. 2 - تذكرة خواص الأمة: ص 142، ومثير الأحزان / لابن نما: 28. 3 - مثير الأحزان / للشيخ شريف آل صاحب الجواهر. 66 ثم رجع إلى مركزه يكثر من قول " لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم ". (1) حتى إذا اشتد به العطش، ورماه أبو الحتوف الجعفي بذلك السهم المشؤوم في جبهته الشريفة، وقف يستريح بعد أن ضعف عن القتال، فرماه رجل بحجر على جبهته المقدسة، ورماه آخر بسهم محدد له ثلاث شعب وقع على قلبه، فقال: بسم الله وبالله، وعلى ملة رسول الله. ثم هوى على الأرض وبقي مطروحا مليا، فأخذ القوم، كل قبيلة تتكل على غيرها وتكره الإقدام على قتله (2)، هنا صاح الشمر: ما وقوفكم؟ وما تنتظرون بالرجل وقد أثخنته السهام والرماح؟ احملوا عليه. (3) وكان هذا هو نصيب السبط الحسين عليه السلام من القوم الذين دلهم على مرضاة الله، وبالغ في وعظهم، فما أن قال الشمر: احملوا عليه، حتى أسرع زرعة بن شريك فضربه على كتفه الأيسر، ورماه الحصين في حلقه (4)، وضربه آخر على عاتقه، وطعنه سنان بن أنس في ترقوته ثم في بواني صدره، ثم رماه بسهم في نحره (5)، وطعنه صالح بن وهب في جنبه (6). وكان ما كان فيما بعد على يد ذلك الثعلبي - الشمر -.. يصور ذلك الشاعر المسيحي پولس سلامة، فيقول:
1 - اللهوف: 67. 2 - تاريخ الطبري 6: 259. 3 - مقتل الحسين عليه السلام / للخوارزمي 2: 35. 4 - الإتحاف بحب الأشراف / للشبراوي: ص 16. 5 - اللهوف: 70. 6 - مقتل الحسين عليه السلام / للخوارزمي 2: 25. 67 صاح شمر بالناس هيا اقتلوه * أتراكم أصبحتم رحماءا قام بالسيف زرعة بن شريك * شر من أنبت الورى لؤماءا ضرب الكتف والترائب حنت * كحنين الناعور يرخي الدلاءا ند عن دوحة الأكارم غصن * دونه كل روضة غناءا وتلاه بطعنة (نخعي) * فأطنت فقاره والصلاءا تبعتها شفارهم تتوالى * كالزنابير تطلب الحلواءا مالت الدوحة الرفيعة فانهارت * قواها وهزت البيداءا وانبرى الشمر يذبح السبط ذبحا * ليت كانت يمينه شلاءا (1)
1 - ديوان عيد الغدير: 316. 68 السخاوة الحسينية
69 السخاوة الحسينية السخاء.. خلق من أخلاق الأنبياء على نبينا وآله وعليهم أفضل الصلاة والسلام، قال تعالى: * (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم) * (1). والرسول الكريم هنا هو موسى سلام الله عليه. وقال تعالى: * (إنه لقول رسول كريم) * (2)، وهنا المراد به المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، الذي جمع الشمائل الشريفة كلها، وكان منها الكرم: المادي والمعنوي، في الأقوال والأفعال والصفات. والسخاء.. خلق يحبه الله جل وعلا، ويدعو عباده إليه، فقال عز من قائل: * (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا...) * (3). وفي الحديث الشريف قال النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: خلقان يحبهما الله، وهما: حسن الخلق، والسخاء (4). ومع أن السخاء من حسن الخلق، إلا أنه جاء مميزا معتنى به، مفردا له لفظ، ومعدودا من بين خلقين يحبهما الله سبحانه وتعالى اهتماما به.
1 - سورة الدخان: 17. 2 - سورة الحاقة: 40. 3 - سورة المزمل: 20. 4 - جامع السعادات 2: 113 - فصل السخاء. 71 وبين السخاء والكرم والجود والسماحة مشتركات في المعنى، وفروقات، نستطيع فهمها بعد التأمل في هذه الأحاديث الشريفة: قال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: الرجال أربعة: سخي وكريم، وبخيل ولئيم، فالسخي الذي يأكل ويعطي، والكريم الذي لا يأكل ويعطي، والبخيل الذي يأكل ولا يعطي، واللئيم الذي لا يأكل ولا يعطي (1). وسئل الإمام الصادق عليه السلام عن حد السخاء، فقال: تخرج من مالك الحق الذي أوجبه الله عليك، فتضعه في موضعه (2). وجاء عنه سلام الله عليه أيضا أنه قال: السخي الكريم الذي ينفق ماله في حق (3) وروي عن الإمام علي بن موسى الرضا صلوات الله عليه أنه قال: السخي يأكل من طعام الناس ليأكلوا من طعامه، والبخيل لا يأكل من طعام الناس لئلا يأكلوا من طعامه (4). فالسخاء ليس في الإعطاء فحسب، بل في مقدماته أيضا، بأن يمد الرجل يده إلى طعام يدعى إليه تواضعا لما يقدم له، واستجابة لدعوة الإخوان، وتشجيعا لهم على أن يأكلوا من عنده، وكذا تشجيعا لهم على الكرم، ألم نقرأ قول مولانا الإمام الحسين سلام الله عليه في مواعظه الشريفة: من قبل عطاءك، فقد أعانك على الكرم. أما الجود، فيقول الشيخ الجليل " محمد مهدي النراقي " رحمه الله في بيانه:
1 - جامع الأخبار / للشعيري: 131. 2 - معاني الأخبار: 245. 3 - جامع الأخبار: 131. 4 - عيون أخبار الرضا عليه السلام 2: 12. 72 اتصافه [المنفق] بالجود بقدر ما تتسع له نفسه من قليل أو كثير، وتختلف درجات ذلك، فاصطناع المعروف أمر وراء ما توجبه العادة والمروة، وهو الجود بشرط أن يكون عن طيبة من النفس، ولا يكون لأجل غرض من خدمة أو مدح أو ثناء. إذ من يبذل المال بعوض المدح والثناء أو غيره فليس بجواد، بل هو بياع يشتري المدح بماله، لكون المدح ألذ عنده من المال. فالجود هو بذل الشئ عن طيبة من القلب من غير غرض.. فإذا لم يكن غرضه إلا الثواب في الآخرة، ورفع الدرجات، واكتساب فضيلة الجود، وتطهير النفس عن رذيلة البخل سمي جوادا (1). وأما في بيان السماحة، فنورد هاتين الروايتين: قال أمير المؤمنين علي لولده الحسن سلام الله عليهما: يا بني! ما السماحة؟ قال: البذل في العسر واليسر (2). وقال الإمام الصادق عليه السلام: خياركم سمحاؤكم، وشراركم بخلاؤكم.. ثم قال سلام الله عليه: إن صاحب الكثير يهون عليه ذلك (أي البر)، وقد مدح الله عز وجل صاحب القليل فقال: * (ويؤثرون على أنفسهم ولو
1 - جامع السعادات 2: 118 - فصل معرفة ما يجب أن يبذل. 2 - معاني الأخبار: 255. 73 كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) * (1). والإمام الحسين صلوات الله عليه يجمع كل فضائل الكرم والسخاء والجود والسماحة، ويضم إليها مراقي الخصال والصفات الحميدة الطيبة والأخلاق المحمودة.. هذا ما حكته لنا سيرته الطاهرة. فإذا كان السخاء من الإيمان، لقول الرسول المعظم صلى الله عليه وآله وسلم: إن السخاء من الإيمان (2)، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: إن أفضل الناس إيمانا أبسطهم كفا (3)، فمن ينافس الحسين عليه السلام في ثبات إيمانه ورسوخه، وشموخه؟! وإذا كان للسخاء معالم، منها الابتداء بالأولى، ومعرفة ما يجب بذله، والصدور عن طيب قلب، والإنفاق خالصا لوجه الله تعالى، وما إلى ذلك فمن يزاحم الإمام الحسين سلام الله عليه في هذه المعارف والمعاني والحالات؟! لقد بذل صلوات الله عليه حتى عرف أنه لا يخشى النفاد، لأنه أحسن الظن بالله تعالى إذ هو الرزاق ذو القوة المتين، فكان عليه السلام كما قال وكما دعا، حيث ورد عنه سلام الله عليه في جملة حكمه قوله: إن أجود الناس من أعطى من لا يرجوه (4)، ولقد أعطى من يئس من الناس، وأعطى فوق ما ينتظر المعسر. ولا تستغرب وهو القائل: مالك إن لم يكن لك كنت له، فلا تبق عليه، فإنه لا يبقي عليك، وكله قبل أن يأكلك (5).
1 - الخصال 1: 48، والآية في سورة الحشر: 9. 2 - جامع السعادات 2: 113 - فصل السخاء. 3 - نفسه: 114. 4 - الدرة الباهرة: 24. 5 - نفسه. 74 ولقد زهد صلوات الله عليه في الدنيا وأحب للناس أن يأخذوا منها حاجاتهم، ولو أعطاهم من عنده ما يخلف لديه خصاصة. فما أوفقه سلام الله عليه مصداقا لقول جده المصطفى صلى الله عليه وآله: ما جبل ولي الله إلا على السخاء، والسخاء ما يقع على كل محبوب أقله الدنيا، ومن علامات السخاء أن لا يبالي من أكل الدنيا، ومن ملكها، مؤمن أو كافر، ومطيع أو عاص، وشريف أو وضيع، يطعم غيره ويجوع، ويكسو غيره ويعرى، ويعطي غيره ويمتنع من قبول عطاء غيره، ويمن بذلك ولا يمن ولو ملك الدنيا بأجمعها، لم ير نفسه فيها إلا أجنبيا، ولو بذلها في ذات الله عز وجل في ساعة واحدة ما مل ء (1). أو في رواية: ما مل. فالسخي من بذل ولم يخش الفقر، وأطعم غيره وجاع، وأعطى غيره وامتنع من قبول عطاء غيره، إذا كان ذلك الغير مغرضا، أو كان السخي يخشى على نفسه الطمع. إذن فالسخاء ما حظي بخصلة العفة والإباء، فهذا من كرم النفس وعزتها، ولقد ذكر لنا التاريخ أن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام قال: إن الحسن والحسين عليهما السلام كانا لا يقبلان جوائز معاوية بن أبي سفيان (2). ذلك أن معاوية كان يحاول بجوائزه أن يستميل الإمامين عليهما السلام - وحاشاهما - ليقولا له بالإمامة الشرعية، والخلافة على المسلمين، وهيهات هيهات ذلك. هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان يحاول أن يقول للناس إن الأئمة - حاشاهم - أهل دنيا، ألا ترون كيف يفرحون بالهدايا، ويطمعون بالعطايا، ويتنازلون بذلك عن شؤون الدين وأمور
1 - مصباح الشريعة: 82، الباب 36 - في السخاء. 2 - مسند الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام: 44. 75 المسلمين؟ قال محمد بن طلحة الشافعي: وقد اشتهر النقل عنه صلوات الله عليه (أي الحسين عليه السلام) أنه كان يكرم الضيف، ويمنح الطالب، ويصل الرحم، وينيل الفقير، ويسعف السائل، ويكسو العاري، ويشبع الجائع، ويعطي الغارم، ويشد من الضعيف، ويشفق على اليتيم، ويعين ذا الحاجة، وقل أن وصله مال إلا فرقه. ونقل أن معاوية لما قدم مكة وصله بمال كثير، وثياب وافرة، وكسوات وافية، فرد الجميع عليه ولم يقبله منه، وهذا سجية الجواد، وشنشنة (1) الكريم، وسمة ذي السماحة، وصفة من قد حوى مكارم الأخلاق، فأفعاله المتلوة شاهدة له بصفة الكرم، ناطقة بأنه متصف بمحاسن الشيم (2). ولقد أجاد من قال في مدح الأئمة عليهم السلام: كرموا وجاد قبيلهم من قبلهم * وبنوهم من بعدهم كرماء فالناس أرض في السماحة والندى * وهم إذا عد الكرام سماء (3) وكل ما قيل في الكرم والسخاء، والجود والسماحة ينطوي في أخلاق الإمام الحسين سلام الله عليه ويصغر، ذلك لأن أخلاق الحسين عليه السلام - ومنها الكرم - هي على أفضل النية وأصلحها، وأنور الحكمة وأعقلها، ثم إن
1 - الشنشنة: بكسر الشين الخلق والطبيعة. 2 - مطالب السؤول، لابن طلحة الشافعي: 73، والفصول المهمة، لابن الصباغ المالكي: 159 قريب منه. 3 - المحجة البيضاء 4: 225. 76 الكرم الحسيني يشمل كل ما ورد من خصائص وفضائل يحملها السخاء والجود والسماحة، حتى ليتميز عن كرم الناس باقترانه بأخلاق أخرى ومعان علوية أخرى، ومحاسن شريفة أخرى. فهو كرم مقترن بخلق طيب آخر. وهو كرم مع فضل نافل آخر. تعالوا نتعرف على ذلك ونحن نمشي مع الحسين في أخلاقه، وتعالوا نتبين ذلك من خلال الأخلاق الحسينية. 1 - السخاء مع الموعظة: فقد كان الإمام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام يقرن الكرم المادي بالكرم المعنوي، فيسدي النصيحة والموعظة ما أمكنه إلى من جاء يسأله، ولا يبخل عليه بحكمة أو وصية تنفعه، فالمرء قد يحتاج إلى المال، لكنه إلى المواعظ أحوج. عن عبد الرحمن العرزمي، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: جاء رجل إلى الحسن والحسين عليهما السلام وهما جالسان على الصفا فسألهما فقالا: إن الصدقة لا تحل إلا في دين موجع، أو غرم مفظع، أو فقر مدقع، ففيك شئ من هذا؟ قال: نعم، فأعطياه، وقد كان الرجل سأل عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر فأعطياه ولم يسألاه عن شئ، فرجع إليهما فقال لهما: ما لكما لم تسألاني عما سألني عنه الحسن والحسين؟!
77 وأخبرهما بما قالا، فقالا: إنهما غذيا بالعلم غذاءا (1). وجاء الحسين عليه السلام رجل من الأنصار يريد أن يسأله حاجة، فقال عليه السلام: يا أخا الأنصار، صن وجهك عن بذلة المسألة، وارفع حاجتك في رقعة، فإني آت فيها ما سارك إن شاء الله. فكتب: يا أبا عبد الله! إن لفلان علي خمسمائة دينار، وقد ألح بي، فكلمه ينظرني إلى ميسرة. فلما قرأ الحسين عليه السلام الرقعة دخل إلى منزله فأخرج صرة فيها ألف دينار، وقال عليه السلام له: أما خمسمائة فاقض بها دينك، وأما خمسمائة فاستعن بها على دهرك، ولا ترفع حاجتك إلا إلى أحد ثلاثة: إلى ذي دين، أو مروة، أو حسب.. فأما ذو الدين فيصون دينه، وأما ذو المروة فإنه يستحيي لمروته، وأما ذو الحسب فيعلم أنك لم تكرم وجهك أن تبذله له في حاجتك، فهو يصون وجهك أن يردك بغير قضاء حاجتك (2). ولو وقفنا متأملين في هذه الرواية لوجدنا: أولا: أن الإمام الحسين عليه السلام جمع إلى الكرم المالي، الكرم المعنوي، بإسداء الحكمة والموعظة. وثانيا: أعطانا درسا في الأخلاق والشخصية، وهو ألا يسرع المرء إلى السؤال، وأن السؤال هو بذل ماء الوجه، فلا يسترخصه لأتفه الأسباب، كأن يبذر فيعتمد على السؤال، أو يتكاسل عن العمل، ويرجو إعانة الناس، فمن سمات شخصية المؤمن: الحياء، أما كثرة السؤال فتذهب الحياء. ثم إذا اضطر المرء إلى المسألة فعليه:
1 - بحار الأنوار 43: 320 - الحديث الرابع، عن الكافي. 2 - تحف العقول: 177. 78 آ - أن يتكتم ويتحرج في الطلب، ويتخذ أشرف الأسباب إلى الاقتراض مثلا، وأحفظها لكرامته. ب - أن يختار من الناس من يحفظ عليه ماء وجهه وكرامته، وقد وفر علينا الإمام الحسين عليه السلام وعلى السائل عناء البحث عمن يحفظ ماء وجهه وكرامته، حيث دلاه على ثلاثة: إما ذي دين، أو مروة، أو حسب. وثالثا: جمع الإمام الحسين سلام الله عليه إلى الكرم كفاية السائل، فلم يعطه نصف المبلغ مثلا وقال له اطلب نصفه الآخر من غيري، بل أعطاه ما يسد به دينه، ثم زاد على ذلك بأن وهبه خمسمائة دينار أخرى يتوسع بها، ويوسع بها على عياله - فالمدين لا بد أن يكون عياله في ضائقة - ويستعين بها على ما بعد الدين، لكي لا يستدين مرة أخرى. ثم لا يفوتنا أن الرجل حينما قدم إلى الإمام الحسين سلام الله عليه كأنه كان قد نوى سؤال حاجته، فلما أرشده الحسين عليه السلام إلى صيانة وجهه عن بذلة المسألة، ورفع حاجته في رقعة، كتب الرجل يسأله أن يكلم دائنه في أن يمهله إلى حين السعة والميسرة، ولم يكتب له في رقعته أن هبني ما أحتاجه، وهو خمسمائة دينار. وكأنه قد تعلم الدرس سريعا، وكأن الإمام الحسين عليه السلام قد كافأه على ذلك، بأن أكرمه بما يقضي به دينه، وكافأه بخمسمائة دينار أخرى على حسن تعلمه للدرس الأخلاقي، وهو صيانة الوجه عن بذلة المسألة، فصان وجهه عن مطالبة الدائن، وعن المسألة في المستقبل، ووفى عليه السلام بما وعده بأن يؤتيه ما يسره، وكان ما يسره: قضاء دينه، والسعة في المستقبل. فكان إلى كرم الحسين عليه السلام التكريم والمكافأة والرحمة، لأن
79 المدين يشعر بالذل، ويشعر بالقلق غالبا.. قال النبي صلى الله عليه وآله: لا تزال نفس المؤمن معلقة ما كان عليه دين (1). وقال الإمام علي عليه السلام: إياكم والدين، فإنه هم بالليل، وذل بالنهار (2). هذا في الدين، أما في المعيشة فيقول نبي الرحمة صلى الله عليه وآله: إن النفس إذا أحرزت قوتها استقرت (3). وقد جاد الإمام الحسين عليه السلام على هذا الرجل السائل بالرحمة حين رفع عنه دينه، وأمن له قوته للمستقبل. وكل هذا كان مع الموعظة، ذلك الكرم المعنوي، فسلام الله عليك يا أبا عبد الله يا ابن رسول الله، أيها الغصن الأشم العاطر من الشجرة النبوية، والدوحة الهاشمية. 2 - السخاء مع حفظ ماء الوجه: ولا يخفى على اللبيب أن السائل إذا كان ذا عزة وكرامة لا يهون عليه أن يبذل ماء وجهه إلا إذا اضطر لذلك، ووجد ذا دين أو مروءة أو حسب، فينهض إليه يعرض حاجته، فتتعثر قدماه بأذيال الحياء، وتتردد خطاه فيقوم بدافع الفاقة والضائقة، ويحجم أخرى بدافع العزة والإباء، ثم لا يجد بدا من أن يعرب عن حاجته وهو يحس أنه باع ماء وجهه ولا يدري ماذا سيشتري به؟ أيحصل على ما يفك به ظنكه، أم يرجع خائبا محروما وقد ذهب ماء وجهه في
1 - علل الشرائع، للشيخ الصدوق: 528 - الحديث الخامس. 2 - من لا يحضره الفقيه، للشيخ الصدوق 3: 111 - الحديث 467. 3 - الكافي 5: 89 - الحديث الثاني. 80 غير موضعه؟ هذا ما يجول في خاطر السائل.. أما من يقدم على ريحانة المصطفى أبي عبد الله الحسين سلام الله عليه فإنه لا يرجع إلى أهله وعياله إلا بالعطاء موفورا، وبالكرامة محفوفا، قد قضى الحسين عليه السلام له حاجته، ونفس كربته، ويسر عسرته، وحل ضائقته، بكرمه الغزير. وكل ذلك يحظى به السائل عنده مع حفظ ماء الوجه، يشتريه بالتكريم ممن اضطر إلى بيعه. أعطى السائل الذي أتى إليه ألفا، فأخذ ينقدها، فقال الخازن: بعتنا شيئا؟ قال السائل: ماء وجهي. فقال الحسين عليه السلام: صدق، أعطه ألفا وألفا وألفا، (الأول) لسؤالك، (الألف الثاني) لماء وجهك، (الألف الثالث) لأنك أتيتنا (1). وأعطاه رجل قطعة فقال له الإمام الحسين عليه السلام: حاجتك مقضية، قبل قراءتها، فقيل له: هلا رأيت ما فيها. قال: يسألني الله عند وقوفه بين يدي حتى أقرأها (2). وفي رواية أخرى: قيل له: يا ابن رسول الله! لو نظرت في رقعته ثم رددت الجواب على قدر ذلك. فقال: يسألني الله تعالى عن ذل مقامه بين يدي حتى أقرأ رقعته (3). أي تقوى هذه! وأي عاطفة شفافة تلك! إنه الحسين سبط رسول الله صلى الله عليه وآله، ورث عن جده الأخلاق العظيمة، فحظي منه الناس
1 - الخصائص الحسينية: 22. 2 - نفسه. 3 - القطرة 2: 231 / الحديث العشرون نقلا عن زهر الربيع، للسيد نعمة الله الجزائري. 81 بالكرم المكرم، وبالعطاء والتكريم، وبالجود والكرامة. ويبلغ شرف السخاء عن الإمام الحسين عليه السلام أن سائلا يتوهم فيأتي الحسين يظنه الحسن أخاه سلام الله عليهما لأنه كان قد وعده بمكافأة فلم يفشله، ولم يخيبه، ولم يكشف له توهمه، وإليك الرواية بتفاصيلها كما ينقلها الخوارزمي (1)، حيث يقول: خرج الحسن عليه السلام إلى سفر فمر براعي غنم، فنزل عنده فألطفه وبات عنده، فلما أصبح دله على الطريق، فقال له الحسن: إني ماض إلى ضيعتي، ثم أعود إلى المدينة. ووقت له وقتا وقال له: تأتيني به. فلما جاء الوقت شغل الحسن بشئ من أموره عن قدوم المدينة، فجاء الراعي وكان عبدا لرجل من أهل المدينة، فصار إلى الحسين وهو يظنه الحسن، فقال: أنا العبد الذي بت عندي ليلة كذا، ووعدتني أن أصير إليك في هذا الوقت. وأراه علامات عرف الحسين أنه الحسن، فقال الحسين له: لمن أنت يا غلام؟ فقال: لفلان. فقال: كم غنمك؟ قال: ثلاثمائة. فأرسل إلى الرجل فرغبه حتى باعه الغنم والعبد فأعتقه، ووهب له الغنم مكافأة لما صنع مع أخيه، وقال: إن الذي بات عندك أخي، وقد كافأتك بفعلك معه (2). أي خلق هذا! حفظ به ماء وجه العبد إذ جاءه متوهما بعد أن ظن أنه الحسن عليه السلام، فكافأه أصالة عن نفسه الشريفة، ونيابة عن أخيه، ولم يرده لتوهمه. وقد أحسن المكافأة أيما إحسان بأن أعتقه، واشترى له غنما كثيرة فيتحرر بذلك من رق العبودية لذلك الرجل، ومن رق سؤال الناس
1 - وهو من علماء السنة. 2 - كتابه المعروف (مقتل الحسين عليه السلام) 1: 153. 82 والحاجة المحرجة، فيكف يده ولسانه عن السؤال، ولا يبذل ماء وجهه للناس. وهو سلام الله عليه شجع على الإحسان لأنه يحبه، وكافأ عليه ليسود المعروف، ولا ينقطع سبيله، وأكرم القادم عليه وإن كان متوهما، فحفظ عليه ماء وجهه. فبذلك جمع إلى السخاء المادي، السخاء المعنوي، ورد الغلام العبد إلى أهله حرا مكرما، مسرورا مطمئنا، قد رفع عنه هم العيش وذلة الرق والعبودية للناس. وليس عجيبا أن يصدر ذلك من رجل ورث أكرم الخلق، محمدا صلى الله عليه وآله، إنما العجيب حقا أن يبخل على هذا الكريم بقطرة ماء، بعد أن أجهده القتال أمام الآلاف المؤلفة من جيش عمر بن سعد، وقد قال له الشمر: لا تذوقه حتى ترد النار، وناداه رجل: يا حسين! ألا ترى الفرات كأنه بطون الحيات؟ فلا تشرب منه حتى تموت عطشا (1). من هوان الدنيا على الله، إذ يشتد العطش بالكريم، فيحول بينه وبين الماء لئيم. وقد عرف الإمام الحسين سلام الله عليه بصدقات السر.. يقول العالم الشيخ جعفر التستري رضوان الله عليه في جملة خصائص الحسين عليه السلام: ومنها: الصدقات، فقد تحققت منه خصوصية فيها، ما سمعت من غيره، وذلك أنه رأوا في ظهره يوم الطف ثفنات (2)، فسئل السجاد - ولده - عليه السلام عنها فقال: إن ذلك مما كان ينقله في الليل على ظهره للأرامل والأيتام. قال الراثي:
1 - مقاتل الطالبيين، لأبي الفرج الأصبهاني: 47. 2 - جمع ثفنه، ما في ركبة البعير وصدره، من كثرة مماسة الأرض. 83 وإن ظهرا غدا للبر ينقله * سرا إلى أهله ليلا لمكسور (1) أجل، فذلك الظهر، لا أدري كم هوت عليه سيوف الغدر، وطعنت به رماح الكفر، حتى مزقته وكسرته، كما كسرت... كسرت ذلك العاتق الشريف الذي حمل إلى الجياع والمساكين، والأطفال واليتامى والأرامل، ما يسدون به جوعتهم، ويحفظون به ماء وجوههم. قد ضربوا عاتقه المطهرا * بضربة كبا لها على الثرى (2) ذلك بعد أن جمع الإمام الحسين عليه السلام إلى الكرم: الرحمة الرقيقة، والأبوة الشفيقة، والستر على ذل المحتاجين، والكرامة على من يشعر بعار السؤال. حتى أنسى القادمين عليه أنهم سائلون، لجميل ما أكرمهم به، وطيب ما قابلهم به. جاء أعرابي إلى الحسين عليه السلام فقال: يا ابن رسول الله! قد ضمنت دية كاملة وعجزت عن أدائها، فقلت في نفسي: أسأل أكرم الناس، وما رأيت أكرم من أهل رسول الله صلى الله عليه وآله. فقال الحسين عليه السلام: يا أخا العرب! أسألك عن ثلاث مسائل، فإن أجبت عن واحدة أعطيتك ثلث المال، وإن أجبت عن اثنتين أعطيتك ثلثي المال، وإن أجبت عن الكل أعطيتك الكل. فقال الأعرابي: با ابن رسول الله! أمثلك يسأل مثلي وأنت من أهل العلم والشرف؟! فقال الحسين عليه السلام: بلى، سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: المعروف بقدر المعرفة.
1 - الخصائص الحسينية: 23. وفي رواية المناقب 4: 66: هذا مما كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين - كما روى ذلك شعيب بن عبد الرحمن الخزاعي. 2 - من المقبولة الحسينية، للشيخ هادي كاشف الغطاء: 56. 84 فقال الأعرابي: سل عما بدا لك، فإن أجبت وإلا تعلمت منك، ولا قوة إلا بالله. فقال الحسين عليه السلام: أي الأعمال أفضل؟ فقال الأعرابي: الإيمان بالله. فقال الحسين عليه السلام: فما النجاة من الهلكة؟ فقال الأعرابي: الثقة بالله. فقال الحسين عليه السلام: فما يزين الرجل؟ فقال الأعرابي: علم، معه حلم. قال: فإن أخطأه ذلك؟ فقال: مال، معه مروة. قال: فإن أخطأه ذلك؟ فقال: فقر، معه صبر. فقال الحسين عليه السلام: فإن أخطأه ذلك؟ فقال الأعرابي: فصاعقة تنزل من السماء وتحرقه، فإنه أهل لذلك. فضحك الإمام الحسين عليه السلام ورمى له بصرة فيها ألف دينار، وأعطاه خاتمه وفيه فص قيمته مائتا درهم، وقال: يا أعرابي! أعط الذهب إلى غرمائك، واصرف الخاتم في نفقتك. فأخذ الأعرابي ذلك وقال: الله أعلم حيث يجعل رسالته (1).
1 - بحار الأنوار 44: 196، عن جامع الأخبار، والآية في سورة الأنعام: 124. ومقتل الحسين عليه السلام، للخوارزمي 1: 155. ونزهة المجالس، للشيخ عبد الرحمن بن عبد السلام الصنوري الشافعي البغدادي 2: 233. 85 وهنا تعالوا نتوقف عند هذه الرواية لنرى ماذا كان غير الكرم الحسيني؟ أولا: إن الإمام الحسين عليه السلام أنسى الأعرابي مسألته وحاجته فارتفع حرجه، وذهبت عنه ذلته.. وليس ذلك فحسب، فإنه سلام الله عليه غير جو المسألة والحاجة والطلب، إلى جو السؤال والجواب والعلم، فإذا بالأعرابي يجد نفسه أمام عالم يريد أجوبة منه، وإن تظاهر ذلك العالم أنه يحب أن يسمع إجابات المسائل الثلاث، حتى تساءل الأعرابي متعجبا: يا ابن رسول الله! أمثلك يسأل مثلي وأنت من أهل العلم والشرف؟! وهذا يدل على أن الأعرابي لم يشعر أنه في جو امتحان، إنما في جو علمي تطرح فيه الأسئلة، ويطلب منه ما ينفع المستمعين. فأجاب على أي الأعمال أفضل؟ وما النجاة من الهلكة؟ وكان السؤال الثالث، ما يزين الرجل؟ فأجاب: علم، معه حلم. ويبدو أن الأسئلة الثلاثة قد انتهت، ألا أننا نرى أن أسئلة أخرى قد طرحت بصيغة متتابعة، وهي: فإن أخطأه ذلك؟ وإذا لم تكن أسئلة فهي تفريعات على السؤال الثالث، ولم نسمع من الأعرابي اعتراضا على تجاوز السؤال الثالث إلى الرابع فالخامس فالسادس، أو قل إن شئت على التفريعات الإضافية الثلاثة للسؤال الثالث، إنما مضى يجيب، وكأنه نسي أنه قد جاء بحاجة وهي قضاء دية كاملة في عاتقه، مما يدل على أن الإمام الحسين سلام الله عليه قد خلق له جوا آخر ذهب فيه عن الأعرابي ما قد أحرجه من السؤال في قضاء حاجته. ودليل بين على ذلك أن السؤال الأخير قد أجاب عليه بجملة دعت الحسين عليه السلام يضحك، فكان جو إخاء ومفاكهة، ومفاكهة الإخوان من الأخلاق الفاضلة، لا سيما إذا كانت معقولة لا إسراف فيها، وجاءت مذهبة للهم، مزيلة
86 للتعب والعناء. وثانيا: جعل الإمام الحسين سلام الله عليه عطاءه للأعرابي بصيغة مكافأة علمية، لا بصيغة صدقة على سؤال. وهذا أحفظ لماء الوجه، وأكرم للرجل الوجيه الذي يحمل في صدره علما. وثالثا: من خلال المباحثة العلمية النافعة يستفيد القارئ أن الحسين عليه السلام يشجع على العلم، ويدعو إلى ذكر الله، وقد استطاع أن يظهر علم الأعرابي. وأقول علم الأعرابي لأن الإمام الحسين عليه السلام أقر على أجوبته، فهي صحيحة بالنسبة لأمثاله على أقل الفروض، ولو كانت خطأ لرد عليها. ولم يخل اللقاء أو المجلس من ذكر لله تعالى، ومن استفادة علمية للحاضرين، إذا كان هناك من حضر. ورابعا: كان من كرم الإمام الحسين عليه السلام أن زاد الأعرابي على حاجته، فأعطاه مبلغ الدية، ووهبه خاتمه لينفق ثمنه على ما يحتاجه. وبهذا يجمع الإمام الحسين سلام الله عليه إلى السخاء: حفظ ماء الوجه، والتذاكر في العلم، والعطاء بما يزيد على السؤال.. فلعل سائلا يخجل أن يطلب أمرين: مبلغ الدية مثلا، وما يستعين به على حاجاته ونفقات عياله. وقد كفاه الإمام الحسين عليه السلام الأمر الثاني، فأعطاه خاتمه من غير أن يسأله ذلك. فسلام عليك يا سليل النبوة، ووريث الإمامة. ولعلك استأنست بالرواية، وقد يحدوك الاستئناس إلى أن ترجع إليها تقرأها ثانية، لكني - وإن كنت لا أقف في طريق رجعتك إليها - أدعوك إلى أن
87 تقرأ الرواية من قلم الفخر الرازي (1)، حيث كتب في تفسيره المعروف (التفسير الكبير) (2): أعرابي قصد الحسين بن علي رضي الله عنهما فسلم عليه وسأله حاجة وقال: سمعت جدك يقول: إذا سألتم حاجة فاسألوها من أحد أربعة: إما عربي شريف، أو مولى كريم، أو حامل القرآن، أو صاحب وجه صبيح. فأما العرب فشرفت بجدك، وأما الكرم فبدأ بكم وسيرتكم، وأما القرآن ففي بيوتكم نزل، وأما الوجه الصبيح فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إذا أردتم أن تنظروا إلي فانظروا إلى الحسن والحسين. فقال الحسين: ما حاجتك؟ فكتبها على الأرض، فقال الحسين: سمعت أبي عليا يقول: قيمة كل امرئ ما يحسنه، وسمعت جدي يقول: المعروف بقدر المعرفة، فأسألك عن ثلاث مسائل إن أحسنت في جواب واحدة فلك ثلث ما عندي، وإن أجبت عن اثنتين فلك ثلثا ما عندي، وإن أجبت عن الثلاث فلك كل ما عندي، وقد حمل إلي صرة مختومة من العراق. فقال: سل، ولا حول ولا قوة إلا بالله. فقال: أي الأعمال أفضل؟ فقال الأعرابي: الإيمان بالله. قال: فما نجاة العبد من الهلكة؟ فقال الأعرابي: الثقة بالله. قال: فما يزين المرء؟
1 - هو من مشاهير علماء السنة. 2 - التفسير الكبير 2: 198 طبع مصر. 88 فقال الأعرابي: علم، معه حلم. قال: فإن أخطأه ذلك؟ قال: فمال معه كرم. قال: فإن أخطأه ذلك؟ قال: ففقر، معه صبر. قال: فإن أخطأه ذلك؟ قال: فصاعقة تنزل من السماء فتحرقه. فضحك الحسين، ورمى بالصرة إليه. 3 - السخاء مع الحياء: والحياء.. صفة معروفة عند أهل البيت سلام الله عليهم، إذ هم أشد الناس حياء من الله تعالى، وكلما أرادوا أن يعطوا خالط عطاءهم الحياء، لأنهم صلوات الله عليهم يستقلون هباتهم، وقد عزفت نفوسهم عن حطام الدنيا، ورجوا للناس أن تقضى حوائجهم، ولولا خشية الإسراف لبذلوا ما يبهت له السائل، إذ مروتهم أعلى مما يطلبه الناس ويحتاجونه. جاء رجل إلى الإمام محمد الجواد عليه السلام فقال له: أعطني على قدر مروتك. فقال عليه السلام: لا يسعني. فقال: على قدري. قال عليه السلام: أما ذا فنعم، يا غلام! أعطه مائتي دينار (1). وإذا كان في المرء حياء فإنك تنتظر منه خصالا طيبة أخرى، لأن النبي
1 - كشف الغمة: 289. 89 الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: أما الحياء: فيتشعب منه اللين والرأفة والمراقبة لله في السر والعلانية، والسلامة واجتناب الشر، والبشاشة والسماحة، والظفر وحسن الثناء على المرء في الناس.. (1). فإذا قدم سائل على أهل البيت عليهم السلام سارعوا إلى قضاء حاجته، يستحون أن يرون على وجهه ذل المسألة وانكسار السائل، ويستحون أن يؤخروه، أو يعطوه دون ما يأمل، أو دون حاجته. فإذا كان السائل ممن هو أهل للعطاء أكرموه وزادوا في إكرامه، حياء منهم أن يردوه بقضاء حاجته وحسب. روي أن رجلا جاء إلى الإمام الحسن عليه السلام وسأله حاجة، فقال له الإمام: يا هذا! حق سؤالك إياي يعظم لدي، ومعرفتي بما يجب تكبر علي، ويدي تعجز عن نيلك بما أنت أهله، والكثير في ذات الله عز وجل قليل، وما في ملكي وفاء بشكرك، فإن قبلت مني الميسور، ورفعت عني مؤونة الاحتيال والاهتمام لما أتكلفه من واجبك، فعلت. فقال الرجل: يا ابن رسول الله! أقبل القليل، وأشكر العطية، وأعذر على المنع. فدعا الحسن عليه السلام بوكيله، وجعل يحاسبه على نفقاته حتى استقصاها، فقال: هات الفاضل من الثلثمائة ألف درهم، فأحضر خمسين ألفا. قال: فما فعل بالخمسمائة دينار؟ قال: هي عندي، قال: أحضرها. فأحضرها، فدفع الدراهم والدنانير إلى الرجل وقال: هات من يحملها. فأتاه بحمالين، فدفع الحسن إليهم ردائه لكراء الحمل. فقال له مواليه: والله ما عندنا
1 - تحف العقول: 20. 90 درهم. فقال عليه السلام: لكني أرجو أن يكون لي عند الله أجر عظيم (1). وجاء بعض الأعراب، فقال الإمام الحسن عليه السلام: أعطوه ما في الخزانة، فقال الأعرابي: يا مولاي! ألا تركتني أبوح بحاجتي، وأنشر مدحتي. فأنشأ الإمام الحسن سلام الله عليه: نحن أناس نوالنا خضل * يرتع فيه الرجاء والأمل تجود قبل السؤال أنفسنا * خوفا على ماء وجه من يسل (2) هكذا هم أهل البيت سلام الله عليهم، يجودون قبل السؤال، ويزيدون على طلب السائل، ومع ذلك فإن أوجههم النورانية يجللها الحياء حال الإعطاء، في حين ينتظر من المعطي أن يشعر بالفخر والعزة إذا أراد أن يعطي. يقول الشيخ التستري وهو يعدد خصائص الإمام الحسين عليه السلام: ومنها العطاء للسائلين، فله عليه السلام خصوصية وهي الحياء عند العطاء، فالناس تعرض لهم حالة رد السائل، وهو عليه السلام له حالات عجيبة تعرض له عند سؤال أحد، فتراه عليه السلام يرق على السائل لحاجته حين يريد أن يعطيه سؤله، وتراه يرق على السائل بسبب الذل العارض له حين إعطائه له، لا لفقره واحتياجه وصعوبة ذلك، بل لأجل السائل وحيائه (3). وكأنه يريد أن يقول إن الحسين عليه السلام كان إذا رأى السائل رق
1 - مطالب السؤول 2: 10. الفصول المهمة: 139. أما الخوارزمي فيذكر ذلك للحسين عليه السلام، راجع مقتل الحسين عليه السلام 1: 153. 2 - أعيان الشيعة 4: 109 - القسم الأول. 3 - الخصائص الحسينية: 21 و 22. 91 لحاله، واستحيا من حيائه. وفد أعرابي إلى المدينة فسأل عن أكرم الناس بها، فدل على الحسين عليه السلام، فدخل فوجده مصليا، فوقف بإزائه وأنشأ: لم يخب اليوم من رجاك ومن * حرك من دون بابك الحلقة أنت جواد وأنت معتمد * أبوك قد كان قاتل الفسقة لولا الذي كان من أوائلكم * كانت علينا الجحيم منطبقة فسلم الحسين، وقال: يا قنبر! هل بقي من مال الحجاز شئ؟ قال: نعم، أربعة آلاف دينار، قال: هاتها، فقد جاء من هو أحق بها منا. ثم نزع عليه السلام برديه ولف الدنانير فيها، وأخرج يده من شق الباب حياء من الأعرابي، وأنشأ: خذها فإني إليك معتذر * واعلم بأني عليك ذو شفقة لو كان في سيرنا الغداة عصا * أمست سمانا عليك مندفقة لكن ريب الزمان ذو غير * والكف مني قليلة النفقة فأخذها الأعرابي وبكى. فقال له الإمام الحسين عليه السلام: لعلك استقللت ما أعطيناك، قال: لا، ولكن كيف يأكل التراب جودك؟! (1) بكى الأعرابي لاحتماله أن يأكل التراب جود الحسين عليه السلام، وليته رأى كيف أكلت السيوف والرماح جسده في ساحة الطف، حين اجتمع اللئام، على الكريم ابن الكرام، فاعملوا في ذلك البدن القدسي سيوف الحقد والكفر، ورماح الخبث والغدر، وسهام الجبن والنفاق.
1 - المناقب 4: 66. تاريخ دمشق، لابن عساكر 4: 324، أوردها بصورة أخرى. 92 حتى وقفت أخته العقيلة زينب عليها السلام على ذلك الجسد المبضع، فشكت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ما كان من القوم، قائلة: يا محمداه ! صلى عليك مليك السماء، هذا حسين مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء (1). والحسين سلام الله عليه ذلك الكريم السخي الذي جاء بما عنده، فأشبع الجياع، وسقى العطاشى، وجفناه يرتدان عن حياء ألا يرد سائلا إلا بما يسره، وبما لم يرجه من عطاء وافر، فإذا ظمئ في كربلاء قال له أعداء الله: لا تذوق الماء، ولا تشرب منه حتى تموت عطشا. وأبوا أن يسقوه. يا ليت لا عذب الفرات لوارد * وقلوب أبناء النبي ظماء (2) وبدل أن يسقى الماء، سقي الرماح رماح اللؤم، وفي هذا يقول الشريف الرضي: يا رسول الله لو عاينتهم * وهم ما بين قتل وسبا من رميض يمنع الظل ومن * عاطش يسقى أنابيب القنا (3) 4 - السخاء مع الرأفة: فالإمام الحسين سلام الله عليه قد أضفى على الأمة أبوته الحانية، حيث مسح على رأسها بيده الشفيقة، وحباها بعواطفه الرقيقة، واختلط ذلك بكرمه وجوده، فكان السائل عنده يغتبط بلطف الإمام الحسين سلام الله عليه وعطفه عليه أكثر مما يفرح بالأموال والهدايا، لأنه يحس أن في عطاء الحسين عليه
1 - زينب الكبرى عليها السلام: 110. 2 - من قصيدة للشيخ محمد حسين كاشف الغطاء. 3 - ديوان الشريف الرضي. 93 السلام رحمة وحنانا. وهو سلام الله عليه على سر أبيه علي عليه السلام الذي قال فيه أبو الطفيل: رأيت عليا عليه السلام يدعو اليتامى فيطعمهم العسل، حتى قال بعض أصحابه: لوددت أني كنت يتيما (1). وكذا الإمام الحسين عليه السلام.. أنس السائلون عنده برأفته أكثر من أنسهم بدراهمه ودنانيره، وطابت أنفسهم بكرم أخلاقه، أكثر مما طابت بكرم يده، إذ وجدوه محبا للخير باذلا في ذلك جهده، مقرنا به لطفه، وحنانه وعطفه. وقد كان في عطائه قضاء حاجة المضطر، وتنفيس كربة المكروب، وإغاثة الملهوف، وإحقاق الحق وبذل المال في محله، وإدخال السرور على المهموم، وفك العسر عن المغموم. وكان من عطفه على الناس أن توسط في نيل ما يحتاجونه حتى لدى الفاسقين. دخل الحسين عليه السلام على معاوية يوما وعنده أعرابي يسأله حاجة، فأمسك معاوية وتشاغل بالحسين عليه السلام، فقال الأعرابي لبعض من حضر: من هذا الذي دخل؟ قالوا: الحسين بن علي، فقال الأعرابي للحسين عليه السلام: أسألك يا ابن بنت رسول الله لما كلمته في حاجتي. فكلمه الحسين عليه السلام في ذلك فقضى حاجته، فقال الأعرابي: أتيت العبشمي فلم يجد لي * إلى أن هزه ابن الرسول هو ابن المصطفى كرما وجودا * ومن بطن المطهرة البتول
1 - نقلا عن (علي من المهد إلى اللحد)، للسيد محمد كاظم القزويني: 234. 94 وإن لهاشم فضلا عليكم * كما فضل الربيع على المحول فقال معاوية: يا أعرابي! أعطيك وتمدحه؟! فقال الأعرابي: يا معاوية! أعطيتني من حقه، وقضيت حاجتي بقوله (1). وكان من حب الإمام الحسين سلام الله عليه للخير والرحمة أن كافأ عليهما، فقد روي عنه عليه السلام أنه قال: صح عندي قول النبي صلى الله عليه وآله: " أفضل الأعمال بعد الصلاة إدخال السرور في قلب المؤمن بما لا إثم فيه ". فإني رأيت غلاما يواكل كلبا فقلت له في ذلك، فقال: يا ابن رسول الله! إني مغموم أطلب سرورا بسروره، لأن صاحبي يهودي أريد أن أفارقه. فأتى الحسين إلى صاحبه بمائتي دينار ثمنا له، فقال اليهودي: الغلام فداء لخطاك، وهذا البستان له، ورددت عليك المال، فقال عليه السلام: وأنا قد وهبت لك المال. قال: قبلت المال ووهبته للغلام. فقال الحسين عليه السلام: أعتقت الغلام ووهبته له جميعا، فقالت امرأته: قد أسلمت ووهبت زوجي مهري، فقال اليهودي: وأنا أيضا أسلمت وأعطيتها هذه الدار (2). فما أن رأى الإمام الحسين سلام الله عليه هذا الغلام يواكل الكلب ويطلب سروره بسرور كلبه حتى بادر إلى إكرامه والشفقة عليه بأن ذهب إلى صاحبه اليهودي ليشتريه منه ويحرره. والرواية مؤنسة، ولا تتأخر في الدخول إلى قلب كل طيب، وقد نحدث أنفسنا أن نعود عليها نطالعها من جديد، لكني - وإن كنت أحب ذلك - لا أجد بأسا أن نسمع الرواية من أخطب خوارزم على تفصيل فيها حيث قال:
1 - المناقب 4: 81. 2 - نفسه: 73. 95 قال الحسن البصري: كان الحسين بن علي سيدا زاهدا ورعا صالحا ناصحا حسن الخلق، فذهب ذات يوم مع أصحابه إلى بستانه، وكان في ذلك البستان غلام له اسمه " صافي "، فلما قرب من البستان رأى الغلام قاعدا يأكل خبزا، فنظر الحسين إليه وجلس عند نخلة مستترا لا يراه وكان يرفع الرغيف فيرمي بنصفه إلى الكلب ويأكل نصفه الآخر، فتعجب الحسين من فعل الغلام، فلما فرغ الغلام من أكله قال: الحمد لله رب العالمين، اللهم اغفر لي، واغفر لسيدي، وبارك له كما باركت على أبويه، برحمتك يا أرحم الراحمين. فقام الحسين وقال: يا صافي! فقام الغلام فزعا وقال: يا سيدي وسيد المؤمنين! إني ما رأيتك، فاعف عني. فقال الحسين: اجعلني في حل يا صافي لأني دخلت بستانك بغير إذنك. فقال صافي: بفضلك يا سيدي وكرمك وبسؤددك تقول هذا. فقال الحسين: رأيتك ترمي بنصف الرغيف للكلب، وتأكل النصف الآخر، فما معنى ذلك؟ فقال الغلام: إن هذا الكلب ينظر إلي حين آكل، فأستحي منه يا سيدي لنظره إلي، وهذا كلبك يحرس بستانك من الأعداء، فأنا عبدك وهذا كلبك، فأكلنا رزقك معا. فبكى الحسين وقال: أنت عتيق لله، وقد وهبت لك ألفي دينار بطيبة من قلبي، فقال: إن أعتقتني فأنا أريد القيام ببستانك، فقال الحسين: إن الرجل إذا تكلم بكلام فينبغي أن يصدقه بالفعل، فأنا قد قلت دخلت بستانك بغير إذنك، فصدقت قولي ووهبت البستان وما فيه لك، غير أن أصحابي هؤلاء جاؤوا لأكل الثمار والرطب، فاجعلهم أضيافا لك، وأكرمهم من أجلي أكرمك الله يوم القيامة، وبارك لك في حسن خلقك وأدبك. فقال الغلام: إن وهبت لي بستانك فأنا قد
96 سبلته لأصحابك وشيعتك (1). فأغدق الإمام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام على الغلام لطفه ورحمته، ومكافأته، وشجعه على روح العطف، وأعطاه درسا بليغا في الأخلاق بان أثره لساعته، إذ أصر الغلام بعد أن علم بعتقه أن يقيم في بستان الإمام الحسين عليه السلام، وحين علم بأن البستان هبة له جعله سبيلا لأصحاب الحسين سلام الله عليه. ومن الرواية نستشف كأن الإمام الحسين عليه السلام قد ضم إلى سخائه حياء من الغلام ألا يكرمه على خصلة فيه طيبة، كما ضم إليه رأفة بالغلام فلم يتركه إلا على حال ميسورة، بعد أن جعل عطاءه له مكافأة على خلق كريم. وروى الشيخ الصدوق في عيون أخبار الرضا عليه السلام ج 2 ص 43 ح 154: عن الحسين بن علي عليه السلام أنه دخل المستراح فوجد لقمة ملقاة، فدفعها إلى غلام له فقال: يا غلام! اذكرني بهذه اللقمة إذا خرجت. فأكلها الغلام، فلما خرج الحسين بن علي عليهما السلام قال: يا غلام! أين اللقمة؟ قال: أكلتها يا مولاي، قال: أنت حر لوجه الله تعالى، قال له رجل: أعتقته يا سيدي؟! قال: نعم، سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " من وجد لقمة ملقاة فمسح منها أو غسل ما عليها، ثم أكلها، لم تستقر في جوفه إلا أعتقه الله من النار ".
1 - مقتل الحسين عليه السلام 1: 153. 97 5 - السخاء مع المكافأة العالية: إن الاسلام دين الانسانية والخير والمحبة، وقد دعا الناس إلى أسباب السلام والمودة والتعارف. ومن دعواته الأخلاقية أن حث الناس على مكافأة أهل المعروف، فقال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: من آتاكم معروفا فكافئوه، وإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا الله له حتى تظنوا أنكم قد كافأتموه (1). وقال أمير المؤمنين عليه السلام: أطل يدك في مكافاة من أحسن إليك، فإن لم تقدر فلا أقل من أن تشكره (2). ودعا الاسلام إلى تعظيم أهل المعروف، وتشجيعهم، ليسود الخير في الأمة، وتشيع الألفة والتعاون والتكافل بين الناس. وقد أنزل الله أهل المعروف في الآخرة منزلة رفيعة، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة (3). وقال صلى الله عليه وآله أيضا: أول من يدخل الجنة: المعروف وأهله، وأول من يرد علي الحوض (4). فلهم الفضل إذ جاؤوا بما يحب الله تعالى من الأفعال الحسنة، ولهم الفضل إذ سبقوا إلى الخير، لذا ينبغي مكافأتهم.. قال الإمام موسى الكاظم عليه السلام: المعروف غل، لا يفكه إلا مكافأة أو شكر (5). هكذا يشعر أهل الحياء والعزة إذا أسدي إليهم معروف، حيث يرونه غلا لا يتحملونه حتى يفكوه بالمكافأة، والمكافأة الحقيقية ما فاقت المعروف
1 - كتاب الزهد: 31 - الحديث 79. 2 - غرر الحكم. 3 - الكافي 4: 29 - الحديث الثالث. 4 - نفسه: 28 - الحديث 11. 5 - الدرة الباهرة: 34. 98 الذي قدم لهم.. ففي قوله تعالى * (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) * قال الإمام الكاظم عليه السلام: جرت في المؤمن والكافر، والبر والفاجر، من صنع إليه معروف فعليه أن يكافئ به، وليست المكافأة أن تصنع كما صنع حتى ترى فضلك، فإن صنعت كما صنع فله الفضل بالابتداء (1). وفي وصايا أمير المؤمنين عليه السلام وحكمه: إذا حييت بتحية فحي بأحسن منها، وإذا أسديت إليك يد فكافئها بما يربي عليها، والفضل مع ذلك للبادئ (2). وبما أن أهل البيت عليهم السلام هم أكثر الناس حياء وعزة وإباء وكرامة، فقد بادروا إلى مكافأة أهل المعروف بما يربي ويغطي عليه، سموا من عند أنفسهم، وتشجيعا للإحسان وحسن الصنيعة، وإكراما لأهل الفضل والخير. وقد عرف الكرم الحسيني فيما عرف به، بالمكافأة إليه، حتى لم يطق بعضهم ذلك فسأل الإمام الحسين عليه السلام عن ذلك مستغربا. روى أبو جعفر المدائني في حديث طويل: خرج الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر حجاجا ففاتهم أثقالهم، فجاعوا وعطشوا فرأوا في بعض الشعاب خباء رثا وعجوزا فاستسقوها، فقالت: اطلبوا هذه الشويهة. ففعلوا، واستطعموها فقالت: ليس إلا هي، فليقم أحدكم فليذبحها حتى أصنع لكم طعاما. فذبحها أحدهم ثم شوت لهم من لحمها فأكلوا وقيلوا عندها، فلما نهضوا قالوا لها: نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه، فإذا انصرفنا وعدنا فالممي بنا فإنا صانعون بك خيرا. ثم رحلوا.
1 - تحف العقول: 291. 2 - نهج البلاغة: الحكمة 62. 99 فلما جاء زوجها وعرف الحال أوجعها ضربا.. ثم مضت الأيام فأضرت بها الحال فرحلت حتى اجتازت بالمدينة، فبصر بها الحسن عليه السلام فأمر لها بألف شاة، وأعطاها ألف دينار، وبعث معها رسولا إلى الحسين عليه السلام فأعطاها مثل ذلك، ثم بعثها إلى عبد الله بن جعفر فأعطاها مثل ذلك (1). وروي أن عبد الرحمن السلمي علم ولد الحسين عليه السلام الحمد، فلما قرأها على أبيه أعطاه (أي أعطى الحسين عبد الرحمن السلمي) ألف دينار، وألف حلة، وحشا فاه درا، فقيل له في ذلك فقال: وأين يقع هذا من عطائه (2) - يعني تعليمه لولده - وفي رواية، أنه عليه السلام قال: أين يقع هذا من حقه (3). فقد كان سلام الله عليه أشد الناس وأحرصهم على مراعاة الحقوق، وإكرام أهل المعروف حتى غطى فضله فضلهم، وجاد بما لا يتوقع، إذ تجاوز المثل، وفاق المكافأة. قال أنس بن مالك: كنت عند الحسين عليه السلام، فدخلت عليه جارية فحيته بطاق ريحان، فقال لها: أنت حرة لوجه الله. يقول أنس: فقلت له: تجيئك بطاقة ريحان لا خطر لها (4) فتعتقها؟! قال: كذا أدبنا الله، قال الله: * (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها..) *، وكان أحسن منها عتقها (5). وأين العتق من طاقة ريحان؟! لكنه الحسين رجل الكرم والتكريم، وصاحب العطاء والمكافأة، وقد أبت نفسه الزكية أن يكافئ هذه
1 - المناقب ج 4. 2 - نفسه: 66. 3 - الخصائص الحسينية: 21. 4 - أي: لا قيمة لها. 5 - كشف الغمة 2: 206. والفصول المهمة: 159. ووسيلة المآل، لابن كثير الحضرمي: 183، والآية في سورة النساء: 86. 100 الجارية المؤدبة إلا بالعتق. وروى مسعدة، قال: مر الحسين بن علي على مساكين قد بسطوا كساء لهم وألقوا عليه كسرا، فقالوا: هلم يا ابن رسول الله، فثنى وركه وأكل معهم وقال: إن الله لا يحب المستكبرين (1)، ثم قال: قد أجبتكم فأجيبوني، قالوا: نعم يا ابن رسول الله. فقاموا معه، حتى أتوا منزله فقال للجارية: أخرجي ما كنت تدخرين (2). والآن تعالوا نقرأ الرواية نفسها بقلم الشيخ الخوارزمي، حيث كتبها هكذا: كان الحسين يجالس المساكين، ويقرأ: إن الله لا يحب المتكبرين (3). ومر على صبيان معهم كسرة، فسألوه أن يأكل معهم، فأكل، ثم حملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم، وقال: إنهم أسخى مني، لأنهم بذلوا جميع ما قدروا عليه، وأنا بذلت بعض ما أقدر عليه (4). فإذا طابت نفوسنا للرواية.. تعالوا نقرأها بقلم ابن عساكر هذه المرة، حيث كتبها في تاريخه بهذه العبارات: مر الحسين بمساكين يأكلون في الصفة، فقالوا: الغداء، فنزل وقال: إن الله لا يحب المتكبرين فتغدى معهم. ثم قال لهم: قد أجبتكم فأجيبوني، قالوا: نعم. فمضى بهم إلى منزله فقال للرباب: أخرجي ما كنت تدخرين (5).
1 - لعل هذه عبارته سلام الله عليه لأن نص الآية * (إنه لا يحب المستكبرين) * في سورة النحل: 23، أو أن الراوية أخطأ الآية. 2 - تفسير العياشي 2: 257، وتنبيه الغافلين / للشيخ نصر بن محمد السمرقندي الحنفي: 66. 3 - وهذه أيضا عبارته عليه السلام، إذ ليس لدينا آية بهذا النص. 4 - مقتل الحسين عليه السلام 1: 155. 5 - ترجمة الإمام الحسين عليه السلام من تاريخ دمشق: 151، رقم 196. 101 وبعد أن أحطنا بالرواية على نصوصها الثلاثة تعالوا نتصورها ونتصور ما فيها من المعاني الكريمة فهي: أولا: حكت تواضع الإمام الحسين عليه السلام إذ نزل وقد كان راكبا، واستجاب لمساكين فقراء، أو لصبيان كانوا جالسين، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وآله إنه إمام، وسيد شباب أهل الجنة. ومن لا يعرف الإمام الحسين سلام الله عليه وهو ابن الشرف الأسمى؟! ولكنه سرعان ما استجاب لمساكين أو صبيان كانوا مغمورين بين الناس. وثانيا: حكت الروايات الثلاث رحمة الإمام الحسين بالفقراء والمساكين، وحبه لهم، فما كان منه بعد أن رآهم على تلك الحال حتى بادر إلى رفع الحرج عنهم، وإغداقهم بالعطاء الوافر. وثالثا: باستجابته عليه السلام لهم يكون قد داري حياءهم، حيث رأوه.. فكان لا بد أن يدعوه على كساء نثرت عليه كسرات خبز. فلكي لا يحرجوا كان ما أسرع أن لبى دعوتهم بتواضعه، فلم يشعروا بثلمة في شخصيتهم، أو حرمان في حياتهم، وكيف يشعرون بذلك وقد جالسهم ريحانة المصطفى صلى الله عليه وآله وأكل معهم، وكأنه واحد منهم؟! ورابعا: كانت استجابته سلام الله عليه لدعوتهم مقدمة وعذرا لإكرامهم، فقد حفظ عليهم ماء وجوههم بأن لبى دعوتهم، حيث رأوا أنفسهم قد أطعموه، فلم يتحرجوا بعد ذلك أن يستجيبوا لدعوته، ويقبلوا عطاءه. فلو لم يستجب لهم لما سمح لهم حياؤهم بأن يستجيبوا له.. وهكذا التمس لهم العذر باستجابتهم بأن استجاب لهم. فشجعهم على قبول عطائه حين قبل عطاءهم.. وهذه خصلة السخي، قال
102 الإمام الرضا عليه السلام: السخي يأكل من طعام الناس، ليأكل الناس من طعامه، والبخيل لا يأكل من طعام الناس لئلا يأكلوا من طعامه (1). وخامسا: لقد أعان الإمام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام أولئك المساكين على الكرم، مع قلة يمينهم، إذ لم يكن لديهم إلا كسيرات، ولكن الجود ما كان عن قلة، والاستجابة تحقق كرم الداعي، وهو القائل: من قبل عطاءك، فقد أعانك على الكرم. وسادسا: أعطاهم الإمام الحسين سلام الله عليه ما كان يدخره أهله، وبذل لهم ما جمعه عند عياله، فكان منه السخاء والجود والكرم. وسابعا: كان منه المكافأة.. حيث أعطى أولئك المساكين ما لم يكونوا يحلمون به أو يرجونه من الطعام والكساء، وإن كانوا قد قدموا له كسيرات من خبز. ذلك لأنه الإمام الحسين عليه السلام، ولأنه المكافئ أهل المعروف، وقد رأى سلام الله عليه دعوتهم له معروفا، فكانت رحمته وعزته قد دعتاه إلى أن يغدق عليهم مكافأته العالية. ولكن.. هل كافأ الناس إمامهم الحسين عليه السلام كما كان يكافئهم ويكرمهم؟ وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله: أربعة أنا لهم شفيع يوم القيامة: المكرم لذريتي من بعدي، والقاضي لهم حوائجهم، والساعي لهم في أمورهم عندما اضطروا إليه، والمحب لهم بقلبه ولسانه (2). وقال صلى الله عليه وآله أيضا: من صنع إلى أحد من أهل بيتي يدا كافأته به يوم القيامة (3).
1 - الكافي 4: 41 - الحديث 10. 2 - أمالي الطوسي 1: 376. 3 - الكافي 4: 60 - الحديث 8. 103 وجاء عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أيها الخلائق انصتوا، فإن محمدا صلى الله عليه وآله يكلمكم. فتنصت الخلائق، فيقوم النبي صلى الله عليه وآله فيقول: يا معشر الخلائق! من كانت له عندي يد أو منة أو معروف فليقم حتى أكافئه. فيقولون: بآبائنا وأمهاتنا، وأي يد وأي منة، وأي معروف لنا! بل اليد والمنة والمعروف لله ولرسوله على جميع الخلائق. فيقول لهم: بلى.. من آوى أحدا من أهل بيتي، أو برهم، أو كساهم من عري، أو أشبع جائعهم فليقم حتى أكافئه. فيقوم أناس قد فعلوا ذلك، فيأتي النداء من عند الله تعالى: يا محمد! يا حبيبي! قد جعلت مكافأتهم إليك، فأسكنهم من الجنة حيث شئت. قال: فيسكنهم في الوسيلة حيث لا يحتجبون عن محمد وأهل بيته عليهم السلام (1). ولكن القوم ما تركوا الإمام الحسين عليه السلام ليستقر في المدينة المنورة قرب قبر جده المصطفى صلى الله عليه وآله، حيث كتب يزيد إلى واليه على المدينة الوليد بن عتبة أن يأخذ له البيعة من أهل المدينة عامة، ومن الحسين عليه السلام خاصة، فأبى الإمام الحسين سلام الله عليه قائلا له: إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الرحمة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل شارب الخمر، وقاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله (2). وظل مروان بن الحكم يضغط على الوليد أن يلح على الحسين ويجبره
1 - من لا يحضره الفقيه 2: 36 - الحديث 154. 2 - الإرشاد: 183. 104 على البيعة حتى اضطر عليه السلام إلى السفر إلى مكة المكرمة، وفي مكة أنفذ يزيد عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر وأمره على الحاج، وولاه أمر الموسم، وأوصاه بالفتك بالحسين عليه السلام أينما وجد (1). فعزم عليه السلام على الخروج من مكة قبل إتمام الحج، واقتصر على العمرة كراهية أن تستباح به حرمة البيت (2). وتمضي الأحداث حتى تكون واقعة الطف المفجعة، حيث يقتل الإمام الحسين عليه السلام هو وأهل بيته وإخوته وأبناؤه، وتسبى عياله فيقادون مأسورين مقيدين إلى الكوفة ثم إلى الشام، تاركين جسد عميد الأسرة الهاشمية، الحسين، مقطع الأوصال، مسلوب العمامة والرداء.. جاء " بجدل " فرأى الخاتم في إصبعه فقطعه وأخذ الخاتم، وأخذ قيس بن الأشعث قطيفته، وأخذ الحلل الرحيل بن خيثمة الجعفي وغيره. ثم كان ما كان.. من قطع الرؤوس، وحرق الخيام، وإرعاب الأطفال اليتامى والنساء الأرامل، وأسر أسرة رسول الله صلى الله عليه وآله الذي قال له الله تعالى: * (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) * (3). وهؤلاء قربى رسول الله صلى الله عليه وآله ما بين مقتول ومأسور، فكان هذا من القوم مكافأتهم للنبي صلى الله عليه وآله على ما بذل من نفسه المقدسة من جهد وعناء لأجل هدايتهم، وقد دعاهم الله تعالى إلى أن يؤدوا أجر ذلك لا بالأموال، بل بمودة قربى المصطفى صلى الله عليه وآله ليس هذا لرسول الله يا * أمة الطغيان والغي جزا
1 - المنتخب، للطريحي 3: 304، الليلة العاشرة. 2 - تاريخ الطبري 6: 177. 3 - سورة الشورى: 23. 105 جزروا جزر الأضاحي نسله * ثم ساقوا أهله سوق الإما وها هو الحسين سلام الله عليه أخص قرباه، يقتل أبشع قتلة، ويفرق بين رأسه الشريف وبدنه الطاهر، ليحمل ذلك الرأس في البلدان شماتة وتشفيا، بعد أن نادى عمر بن سعد: ألا من ينتدب إلى الحسين فيوطئ الخيل صدره وظهره، فقام عشرة (1). حتى قال أسيد بن مالك لعبيد الله بن زياد: نحن رضضنا الصدر بعد الظهر * بكل يعبوب شديد الأسر فأمر له ابن زياد بجائزة (2). ولم ينته الأمر إلى هنا.. فقد دعا يزيد برأس الحسين عليه السلام ووضعه أمامه في طست من ذهب (3)، ثم أخذ القضيب وجعل ينكث ثغر الحسين (4). ولما نظر مروان بن الحكم إلى رأس الحسين قال: يا حبذا بردك في اليدين * ولونك الأحمر في الخدين كأنه بات بعسجدين * شفيت نفسي من دم الحسين وعندما كان يزيد جالسا في منظرة على " جيرون " ورأى عائلة رسول الله سبايا، ورؤوس ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أطراف الرماح، نعب غراب فأنشأ يزيد يقول:
1 - تاريخ الطبري 6: 161. والكامل، لابن الأثير 4: 33. ومروج الذهب، للمسعودي 2: 91. والخطط المقريزية 2: 228 والبداية والنهاية، لابن كثير 8: 189. 2 - مقتل الحسين عليه السلام 2: 39. 3 - مرآة الجنان، لليافعي 1: 135. 4 - مجمع الزوائد، لابن حجر 9: 195. والفصول المهمة: 205. والفروع، لابن مفلج الحنبلي 3: 549. والصواعق المحرقة، لابن حجر: 116. والإتحاف في الأشراف: 23. والآثار الباقية، للبيروني: 331. إضافة إلى تاريخ الطبري، والكامل، وتذكرة الخواص: 148.. ومصادر أخرى. 106 لما بدت تلك الحمول وأشرقت * تلك الرؤوس على شفا جيرون نعب الغراب فقلت قل أو لا تقل * فلقد قضيت من الرسول ديوني (1) ومن هنا حكم ابن الجوزي، والقاضي أبو يعلى، والتفتازاني، وجلال الدين السيوطي بكفر يزيد ولعنه.. قال الآلوسي في تفسيره (روح المعاني) (2): أراد يزيد بقوله: (فلقد قضيت من الرسول ديوني) أنه قتل بما قتله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر، كجده عتبة وخاله وغيرهما، وهذا كفر صريح. أجل.. هكذا كافأوا رسول الله صلى الله عليه وآله في قرباه وذريته، فعادت اللائمة عليهم شديدة، والتوبيخ غليظا. جئ بعلي بن الحسين على بعير ضالع، والجامعة في عنقه، ويداه مغلولتان إلى عنقه، وأوداجه تشخب دما، فكان يقول: يا أمة السوء لا سقيا لربعكم * يا أمة لم تراع جدنا فينا لو أننا ورسول الله يجمعنا * يوم القيامة ما كنتم تقولونا؟ تسيرونا على الأقتاب عارية * كأننا لم نشيد فيكم دينا وقد أجاد الشاعر حيث قال: مهلا بني حرب فما قد نالنا * فبعين جبار السما لم يكتم فكأنني يوم الحساب ب " أحمد " * بالرسل يقدم حاسرا عن معصم
1 - صورة الأرض، لابن حوقل: 161. 2 - 26: 73 في ظل الآية * (فهل عسيتم إن توليتم) * سورة محمد (ص): 22. 107 ويقول ويلكم هتكتم حرمتي * وتركتم الأسياف تنطف من دمي أمن العدالة صونكم فتياتكم * وحرائري تسبى كسبي الديلم؟! كما أجاد الشريف الرضي رحمه الله حيث قال: والماء تورده يعافير الفلا * وكبود أطفالي ظماء تضرم تالله لو ظفرت سراة الكفر في * رهطي لما ارتكبوا لذاك المعظم وخطبت زينب عليها السلام في أهل الكوفة، فقالت: ويلكم يا أهل الكوفة! أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم؟ وأي كريمة له أبرزتم؟ وأي دم له سفكتم؟ وأي حرمة له انتهكتم؟ (1) وفي قصر يزيد قال السجاد (علي بن الحسين): أتأذن لي أن أرقى هذه الأعواد، فأتكلم بكلام فيه لله تعالى رضى، ولهؤلاء أجر وثواب؟ فأبى يزيد وألح الناس عليه، وما زالوا به حتى أذن له، فخطب عليه السلام خطبة بليغة جاء فيها: أيها الناس! من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي. أيها الناس! أنا ابن مكة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الردا، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى، وخير من طاف وسعى، وحج ولبى، أنا ابن من حمل على البراق وبلغ به جبرئيل سدرة المنتهى، فكان من ربه قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلى بملائكة السما، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى...) وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وما زال يقول أنا يعرف نفسه ويذكر الناس حتى ضجوا بالبكاء، وخشي يزيد الفتنة فأمر المؤذن أن يؤذن، فلما وصل المؤذن إلى: أشهد أن محمدا رسول
1 - أمالي الطوسي. وأمالي ابن الطوسي. واللهوف. ومثير الأحزان، لابن نما. والاحتجاج، والمناقب. 108 الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قال علي بن الحسين عليه السلام للمؤذن: أسألك بحق محمد أن تسكت حتى أكلم هذا. والتفت عليه السلام إلى يزيد وقال له: هذا الرسول العزيز الكريم جدك أم جدي؟ فإن قلت جدك علم الحاضرون والناس كلهم أنك كاذب، وإن قلت جدي فلم قتلت أبي ظلما وعدوانا، وانتهبت ماله وسبيت نساءه؟! فويل لك يوم القيامة إن كان جدي خصمك. فصاح يزيد بالمؤذن: أقم للصلاة. فوقع بين الناس همهمة، وصلى بعضهم وتفرق الآخر (1). وما زالت توبيخات البيت النبوي تقرع رؤوس الظالمين، فقد وقفت زينب سلام الله عليها تخاطب يزيد في قصره ومجلسه: أمن العدل يا ابن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا؟!... إلى أن قالت له: وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء؟! وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنآن، والإحن والأضغان؟! ثم تقول غير متأثم، ولا مستعظم: لأهلوا واستهلوا فرحا * ثم قالوا يا يزيد لا تشل منحنيا على ثنايا أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنة تنكثها بمخصرتك، وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة، بإراقتك دماء ذرية محمد صلى الله عليه وآله... حتى بلغت إلى قولها سلام الله عليها له:
1 - مقتل الحسين عليه السلام 2: 69. 109 فوالله ما فريت إلا جلدك، ولا حززت إلا لحمك، ولتردن على رسول الله صلى الله عليه وآله بما تحملت من سفك دماء ذريته، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم، ويلم شعثهم، ويأخذ بحقهم * (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون) *. وحسبك بالله حاكما، وبمحمد صلى الله عليه وآله خصيما... (1) ولما توجهت أم كلثوم بنت الإمام علي عليه السلام إلى المدينة عند عودتها من كربلاء والشام جعلت تبكي وتقول: مدينة جدنا لا تقبلينا * فبالحسرات والأحزان جينا ألا فأخبر رسول الله عنا * بأنا قد فجعنا في أخينا وأن رجالنا في الطف صرعى * بلا روس، وقد ذبحوا البنينا وأخبر جدنا أنا أسرنا * وبعد الأسر يا جد سبينا ورهطك يا رسول الله أضحوا * عرايا بالطفوف مسلبينا وقد ذبحوا الحسين ولم يراعوا * جنابك يا رسول الله فينا (2) وخرجت بنت عقيل بن أبي طالب في جماعة من نساء قومها حتى انتهت إلى قبر النبي صلى الله عليه وآله فلاذت به وشهقت عنده، ثم التفتت إلى المهاجرين والأنصار تقول: ماذا تقولون إن قال النبي لكم * يوم الحساب، وصدق القول مسموع
1 - تاريخ الطبري 6: 226. والبداية والنهاية 8: 195. 2 - المنتخب، للطريحي. 110 خذلتموا عترتي أو كنتم غيبا * والحق عند ولي الأمر مجموع أسلمتموهم بأيدي الظالمين فما * منكم له اليوم عند الله مشفوع ما كان عند غداة الطف إذ حضروا * تلك المنايا، ولا عنهن مدفوع (1) وكانت أختها زينب تندب الإمام الحسين عليه السلام بأشجى ندبة، وتقول: ماذا تقولون إذ قال النبي لكم * ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم؟ بعترتي وبأهلي بعد مفتقدي * منهم أسارى ومنهم ضرجوا بدم ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم * أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي (2) 6 - السخاء مع العناء: فقد يكرم المرء إخوانه حينما لا يجهده الكرم، وقد يسخو على ذويه حينما يجد سعة في ذات يده، أما السخاء الحسيني فهو لا يحد بهذا ولا ذاك، فقد بذل الإمام الحسين سلام الله عليه أمواله في سبيل الله، وأنفقها على الفقراء
1 - أمالي ابن الشيخ الطوسي: 55. 2 - مثير الأحزان، لابن نما: 51، واللهوف: 96، والكامل 4: 36. 111 طاعة لله، وقرن ذلك بعناء وجهد لم يرج بهما إلا مرضاة الله، فكان عليه السلام يفزع إلى نجدة الملهوف، وإغاثة المضطر، وقضاء حاجة المحتاج، يبذل في ذلك طاقته،... قال شعيب بن عبد الرحمن الخزاعي: وجد على ظهر الحسين بن علي يوم الطف أثر فسألوا زين العابدين عليه السلام عن ذلك فقال: هذا مما كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين (1). وقد عرف سلام الله عليه كما هو ديدن أهل البيت عليهم السلام بصدقات السر، أو صدقات الليل، فحمل ظهره الشريف ما يحتاجه الأيتام والأرامل والفقراء، في وقت يستسلم الناس للنوم، ويتمددون للراحة. ولا شك أن في ذلك عناء، ولكن الإمام الحسين عليه السلام أبى سخاؤه إلا أن يكون مع العناء والنفس الساخن من التعب والمشقة. ومع هذا لم يتركه القوم يموت موتة مريحة، حتى جعلوه يعاني في دفع السيوف والرماح عن نفسه المقدسة. فبعد أن كان سلام الله عليه يسقي الأرامل واليتامى والمساكين، ويحمل قرب الماء على ظهره لهم خلفت عليه ثفنات، لم يسق قطرة ماء قبل أن يقتل، بل قال له الشمر: لا تذوقه حتى ترد النار، وقال له رجل: ألا ترى الفرات كأنه بطون الحيات، فلا تشرب منه حتى تموت عطشا، وحينما سقط على الأرض قال له رجل آخر: لا تذوق الماء حتى ترد الحامية فتشرب من حميمها، فقال له الإمام الحسين عليه السلام: أنا أرد الحامية! وإنما أرد على جدي رسول الله، وأسكن معه في داره، في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وأشكو إليه ما
1 - المناقب 4: 66. 112 ارتكبتم مني وفعلتم بي. فغضبوا بأجمعهم حتى كأن الله لم يجعل في قلب أحدهم من الرحمة شيئا (1). أجل، هكذا ارتكبوا من صاحب السخاء، الذي قرنه بالعناء، فأعملوا في جسده المقدس كل سيف ورمح ونبل حملوه في أيديهم الخبيثة الآثمة. فهوى بضاحية الهجير ضريبة * تحت السيوف لحدها المسنون وبها نعاه الروح يهتف منشدا * عن قلب والهة بصوت حزين أضمير غيب الله كيف لك القنا * نفذت وراء حجابه المخزون؟! وتصك جبهتك السيوف وإنها * لولا يمينك لم تكن ليمين والسمر كالأضلاع فوقك تنحني * والبيض تنطبق انطباق جفون وقضيت نحبك بين أظهر معشر * حملوا بأخبث أظهر وبطون (2) 7 - السخاء مع سعة الصدر والوفاء: لقد عرف أهل البيت سلام الله عليهم بسعة الصدر، والوفاء بالعهد، واستقبال كل حاجة وقضائها مهما كانت، لأن سماحتهم لا تقف عند حد، فهم يبذلون ما يسعهم حتى لينصرف سائلهم مرفوعا ثقله، مكشوفا غمه، إذ هم أكرم الناس وأجودهم. سئل هشام بن عبد الملك عن علي بن الحسين عليهما السلام وقد تنحى الناس حتى استلم الحجر الأسود، هيبة له، من هذا؟ فقال هشام: لا أعرفه. لئلا يرغب أهل الشام فيه وقد رأوا أنه لم يقدر على الاستلام من الزحام. فقال
1 - مثير الأحزان، لابن نما: 39. 2 - ديوان السيد حيدر الحلي ره. 113 الفرزدق - وكان حاضرا -: لكني أعرفه، فقال الشامي: من هو يا أبا فراس؟ فأنشأ قصيدته ارتجالا: يا سائلا أين حل الجود والكرم؟ * عندي بيان إذا طلابه قدموا هذا الذي تعرف البطحاء وطأته * والبيت يعرفه والحل والحرم هذا ابن خير عباد الله كلهم * هذا التقي النقي الطاهر العلم هذا الذي أحمد المختار والده * صلى عليه إلهي ما جرى القلم إذا رأته قريش قال قائلها * إلى مكارم هذا ينتهي الكرم ما قال: لا، قط إلا في تشهده * لولا التشهد كانت لاؤه: نعم حمال أثقال أقوام إذا فدحوا * حلو الشمايل تحلو عنده نعم كلتا يديه غياث عم نفعهما * يستوكفان ولا يعروهما عدم سهل الخليقة لا تخشى بوادره * يزينه خصلتان: الحلم والكرم
114 لا يخلف الوعد ميمونا نقيبته * رحب الفناء أريب حين يعترم إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم * أو قيل: من خير أهل الأرض؟ قيل: هم لا يستطيع جواد بعد غايتهم * ولا يدانيهم قوم وإن كرموا يأبى لهم أن يحل الذم ساحتهم * خيم كريم وأيد بالندى هضم لا يقبض العسر بسطا من أكفهم * سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا (1) هكذا كانوا أهل البيت عليهم السلام، حملة أثقال الناس إذا فدحوا، وكل أياديهم غيث يعم الآخرين، لا يخلفون الوعد، ولا يضيقون بأحد، ولا يدانيهم في سخائهم أحد، وهم كرماء إن أقبلت الدنيا عليهم أو أدبرت، إن كانوا في يسر، أو حل بهم عسر. فهم سلام الله عليهم لا يردون سائلا مهما بلغ سؤاله، وعظمت حاجته، وهم لا يقبضون عن يد بخل حاشاهم، لأنهم أصحاب النفوس الزاهدة، والقلوب المتوكلة على الله الرزاق الغني.
1 - حلية الأولياء، لأبي نعيم 3: 139. والأغاني، لأبي فرج الإصبهاني 14: 75، و 19: 40 طبع الساسي بمصر، وشرح شواهد المغني للسيوطي: 249، وخزانة الأدب، للبغدادي 2: 513، وكفاية الطالب، للكنجي الشافعي: 303، وغيرها من المصادر المعروفة. 115 روى الشبلنجي الشافعي في كتاب (نور الأبصار) (1): أنه قيل للحسن رضي الله عنه: لأي شئ نراك لا ترد سائلا وإن كنت على فاقة؟ فقال: إني لله سائل، وفيه راغب، وأنا أستحي أن أكون سائلا، وأرد سائلا، وإن الله تعالى عودني عادة، أن يفيض نعمه علي، وعودته أن أفيض نعمه على الناس، فأخشى إن قطعت العادة، أن يمنعني العادة. ثم أنشد يقول: إذا ما أتاني سائل قلت: مرحبا * بمن فضله فرض علي معجل ومن فضله فضل على كل فاضل * وأفضل أيام الفتى حين يسأل وكان الإمام زين العابدين، علي بن الحسين، سلام الله عليهما، إذا أتاه سائل قال له: مرحبا بمن يحمل زادي إلى الآخرة (2). فهم سلام الله عليهم يفرحون بالقادم عليهم يسألهم فيقضون دينه، ويفرجون عن كربته، ولا يبالون كم عندهم وكم يريد سائلهم. فقد أعطى رجل سيدنا الحسين عليه السلام رقعة كتب عليها حاجته، فقال له الإمام الحسين عليه السلام: حاجتك مقضية. قبل قراءتها (3). فلا ينظرون إلى ما بقي عندهم بعد عطائهم، بل ينظرون إلى رحمة الله ومرضاته جل وعلا.. قال له مولى له: والله ما بقي عندنا درهم واحد. وكان الإمام الحسين عليه السلام قد أكرم رجلا ذا حاجة بكل ما لديه، ثم قال: لكني أرجو أن يكون لي بفعلي هذا أجر عظيم (4). والإمام الحسين عليه السلام أوسع صدرا من أن ينظر إلى المحتاج أكان من شيعته أم من مخالفيه، فأسامة بن زيد كان من الممتنعين عن بيعة الإمام
1 - ص 177. 2 - تذكرة الخواص: 184. 3 - الخصائص الحسينية: 22. 4 - مقتل الحسين عليه السلام 1: 153. 116 علي بن أبي طالب عليه السلام، لكن تعالوا نرى ماذا كان من ولده الحسين بن علي عليه السلام معه في ضائقته، لننصت.. عن عمرو بن دينار وهو يروي قائلا: دخل الحسين عليه السلام على أسامة بن زيد وهو مريض، وهو يقول: وا غماه! فقال له الحسين عليه السلام: ما غمك يا أخي؟ قال: ديني، وهو ستون ألف درهم، فقال الحسين: وهو علي، قال أسامة: وإني أخشى أن أموت، فقال الحسين: لن تموت حتى أقضيها عنك. قال عمرو بن دينار: فقضاها الحسين قبل موته (1). يذكر هذه الرواية العالم الشيخ جعفر التستري رضوان الله عليه في جملة خصائص الحسين عليه السلام، ويعنونها بالرقة، فيقول: ومنها: رقة خاصة له على أهل الهموم والغموم، حتى إنه دخل على أسامة وهو محتضر ليعوده، فتأوه (أسامة) أمامه وقال: وا غماه! فقال عليه السلام: ما غمك؟ قال: دين علي ستون ألف، فقال: علي قضاؤه، قال (أسامة): أحب أن لا أموت مديونا. فأمر الحسين عليه السلام بإحضار المال ودفعه إلى غرمائه قبل خروج روحه (2). وبعد هذا.. لا ينبغي أن نعجب إذا علمنا أن الإمام الحسين سلام الله عليه على وفرة ما كان عنده من الأموال استشهد وهو عليه دين... قال الإمام الصادق عليه السلام: مات الحسن [عليه السلام] وعليه دين، وقتل الحسين [عليه السلام] وعليه دين (3). وجاء عن الإمام الباقر سلام الله عليه قوله: إن الحسين عليه السلام قتل
1 - المناقب 4: 65. 2 - الخصائص الحسينية: 22. 3 - بحار الأنوار 43: 321 - الحديث الخامس، عن الكافي. 117 وعليه دين، وإن علي بن الحسين عليه السلام باع ضيعة له بثلاثمائة ألف درهم ليقضي دين الحسين عليه السلام وعدات كانت عليه (1). فلم يبق شيئا كان عنده، ولا عجب وهو القائل: الشح فقر، والسخاء غنى (2)، والقائل: مالك إن لم يكن لك كنت له، فلا تبق عليه، فإنه لا يبقي عليك (3). ذلك أن الحسين صلوات الله عليه من عظم سخائه قد بذل كل ما عنده من الأموال، ولم يكتف بذلك حتى استدان وقضى بالدين حوائج المحتاجين، ثم لم يكتف بذلك، لأن سخاءه أعلى من ذلك، حتى تعدى كرمه الأموال، حيث جاد بالأصحاب المخلصين له، فقدمهم لله سبحانه وتعالى بعد أن استأذنوه، وبعد أن قتل منهم خمسون في الحملة الأولى. فتقدم مسلم بن عوسجة وجالد أعداء الله، فما انجلت غبرة الاقتتال إلا عن مصرعه، فمشى إليه الإمام الحسين عليه السلام وقال: رحمك الله يا مسلم (4). وعندما قال الحصين وقد رأى الحسين عليه السلام يستعد للصلاة قال: إنها لا تقبل (5). أجابه حبيب بن مظاهر رضي الله عنه: زعمت أنها لا تقبل من آل الرسول وتقبل منك يا حمار! ثم كان بينهما اقتتال شديد حتى كاد حبيب أن يقتله لكن أصحابه استنقذوه، فقاتلهم حبيب وقتل منهم على كبره اثنين وستين رجلا، حتى غدر به أعداء الله فقتلوه واحتزوا رأسه، فهد مقتله
1 - كشف المحجة لثمرة المهجة، للسيد ابن طاووس: 125. 2 - لمعة من بلاغة الحسين عليه السلام: 104. 3 - الدرة الباهرة: 24. 4 - تاريخ الطبري 6: 249. 5 - وسائل الشيعة للحر العاملي 1: 247. 118 الحسين عليه السلام فقال: عند الله أحتسب نفسي وحماة أصحابي (1). واسترجع كثيرا. وتقدم زهير بن القين فوضع يده على منكب الحسين وقال مستأذنا: أقدم هديت هاديا مهديا * فاليوم ألقى جدك النبيا وحسنا والمرتضى عليا * وذا الجناحين الفتى الكميا وأسد الله الشهيد الحيا فقاتل قتال الأبطال، وقتل جماعة عظيمة حتى قتل، فوقف الحسين وقال: لا يبعدنك الله يا زهير، ولعن قاتليك... (2) وجاء عمرو بن جنادة الأنصاري بعد أن قتل أبوه، وهو ابن إحدى عشرة سنة يستأذن الحسين، فأبى عليه السلام وقال: هذا غلام قتل أبوه في الحملة الأولى ولعل أمه تكره ذلك. قال الغلام: إن أمي أمرتني. فأذن له، فما أسرع أن قتل ورمي برأسه إلى جهة الحسين، فأخذته أمه ومسحت الدم عنه، وعادت إلى المخيم، فأخذت عمودا وقيل سيفا، فردها الحسين إلى الخيمة بعد أن أصابت بالعمود رجلين (3). هذا والحسين عليه السلام يتجرع غصص الآلام وهو يرى أصحابه يقتلون على أيدي الظالمين حتى لم يبق منهم أحد. وبعد أن قدم المخلصين، مال السخاء الحسيني إلى أن يقدم أهل بيته، وكان أول من تقدم أبو الحسن علي الأكبر، ولد الحسين عليه السلام، فلما رآه لم يتمالك دون أن يرخي عينيه بالدموع، ثم رفع شيبته المقدسة نحو السماء،
1 - الكامل 4: 29. وتاريخ الطبري 6: 251. ومقتل الحسين عليه السلام 2: 19. 2 - تاريخ الطبري 6: 253. ومقتل الحسين عليه السلام 2: 20. 3 - مقتل الحسين عليه السلام 2: 22. 119 وقال: اللهم اشهد على هؤلاء، فقد برز إليهم أشبه الناس برسولك محمد خلقا وخلقا ومنطقا، وكنا إذا اشتقنا إلى رؤية نبيك نظرنا إليه.. ونزل علي الأكبر إلى ساحة القتال وعين أبيه الحسين تلاحقه، حتى اشتد به العطش بعد أن قتل عددا من الفرسان، فرجع إلى أبيه يستريح ويذكر ما أجهده من العطش، فبكى الحسين رحمة، وقال له: واغوثاه! ما أسرع الملتقى بجدك، فيسقيك بكأسه شربة لا تظمأ بعدها. وأخذ لسانه فمصه، ودفع إليه خاتمه ليضعه في فمه. فعاد علي الأكبر إلى الميدان يكثر القتلى في أهل الكوفة، حتى طعنه مرة بن منقذ العبدي بالرمح في ظهره، وضربه بالسيف على رأسه ففلق هامته، واعتنق فرسه فاحتمله إلى معسكر الأعداء وأحاطوا به حتى قطعوه بسيوفهم إربا إربا (1). ففجع به أبوه الحسين عليه السلام. وأتاه وانكب عليه واضعا خده على خد ولده وهو يقول: على الدنيا بعدك العفا، ما أجرأهم على الرحمن، وعلى انتهاك حرمة الرسول.. وأمر فتيانه أن يحملوه إلى الخيمة، فجاؤوا به إلى الفسطاط الذي يقاتلون أمامه (2). إن هذا العطاء ما لا يتحمله إلا السخاء الحسيني الذي لم يقف عند هذا الحد، فقد قدم بعد ذلك عبد الله بن مسلم بن عقيل ابن أخته رقية الكبرى، ومحمدا وعونا ابني عبد الله بن جعفر الطيار، ابني أخته زينب الكبرى عليها السلام، وعبد الرحمن وجعفرا ولدي عقيل بن أبي طالب، ومحمد بن مسلم بن عقيل، وأخاه محمد بن أمير المؤمنين علي عليه السلام، وعبد الله
1 - مقتل الحسين عليه السلام 2: 31. 2 - الإرشاد. وتاريخ الطبري 6: 256. ومقتل الحسين عليه السلام 2: 31. 120 ابن عقيل، وابن أخيه القاسم بن الحسن المجتبى عليه السلام الذي ضرب رأسه بالسيف عمرو بن سعد بن نفيل الأزدي، فوقع القاسم - وهو غلام - لوجهه وصاح: يا عماه! فأتاه الحسين كالليث الغضبان.. وانجلت الغبرة وإذا الحسين قائم على رأس الغلام وهو يفحص برجليه، والحسين يقول: بعدا لقوم قتلوك، خصمهم يوم القيامة جدك. ثم احتمله وكان صدره على صدر الحسين عليه السلام ورجلاه تخطان في الأرض، فألقاه مع علي الأكبر وقتلى حوله من أهل بيته (1). وقدم الحسين سلام الله عليه - صابرا محتسبا - ثلاثة إخوة له مرة واحدة.. وهم أولاد أم البنين سلام الله عليها، إخوة العباس: عبد الله وعثمان وجعفر، الذين قاتلوا بين يدي أبي الفضل العباس حتى قتلوا بأجمعهم. ثم كان من السخاء الأعلى أن قدم أخاه المخلص، والعبد الصالح، العباس بن علي عليه السلام الذي لم يتحمل صراخ الأطفال من العطش، فركب جواده بعد أن استأذن أخاه الإمام الحسين عليه السلام، وأخذ القربة، فأحاط به أربعة آلاف، فطردهم حتى ورد الفرات، فملأ القربة وركب جواده وعاد إلى المخيم.. فقطع عليه الطريق، وجعل يضرب حتى أكثر القتل في أعداء الله، فكمن له زيد بن الرقاد الجهني من وراء نخلة، وعاونه على الغدر حكيم بن الطفيل السنبسي فضربه على يمينه فبراها، فلم يعبأ العباس إذ كان همه إيصال الماء إلى أطفال الحسين وعياله. ولكن حكيم بن الطفيل كمن له مرة أخرى من وراء نخلة فلما مر به ضربه على شماله فقطعها، وتكاثروا عليه، وأتته
1 - تاريخ الطبري 6: 257، والبداية والنهاية 8: 186. 121 السهام كالمطر فأصيب بها صدره، وضربه رجل بالعمود على رأسه ففلق هامته، وسقط على الأرض ينادي: عليك مني السلام أبا عبد الله، فأتاه الحسين عليه السلام فقال: الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي (1). ورجع الحسين عليه السلام - بعد أن ترك أخاه في مكانه - منكسرا حزينا باكيا يكفكف دموعه بكمه، وقد تدافعت الرجال على مخيمه، وما علموا أن الإمام الحسين عليه السلام لا يدخر شيئا دون دين الله عز وجل. فلما قتل العباس سلام الله عليه التفت الحسين فلم ير أحدا ينصره، ونظر إلى أهله وصحبه فرآهم مجزرين كالأضاحي، وهو إذ ذاك يسمع عويل الأيامى وصراخ الأطفال.. فأمر عياله بالسكوت، وودعهم، وتهيأ للقتال، وقبل أن ينزل إلى المعركة دعا بولده الرضيع عبد الله ليودعه، فأتته به (زينب) وأمه (الرباب)، فأجلسه في حجره يقبله ويقول: بعدا لهؤلاء القوم إذا كان جدك المصطفى خصمهم (2). ثم أتى به نحو القوم يطلب له الماء، فرماه حرملة بن كاهل الأسدي بسهم فذبحه (3)، فنزل الحسين عليه السلام عن فرسه، وحفر له بجفن سيفه، ودفنه مرملا بدمه (4). وتقدم الحسين عليه السلام نحو القوم مصلتا سيفه، ودعا الناس إلى البراز، فلم يزل يقتل كل من برز إليه.. حتى قتل جمعا كثيرا (5). وقد عزم
1 - بحار الأنوار 10: 251 الطبعة القديمة، أو ج 45 الطبعة الحديثة. 2 - مقتل الحسين عليه السلام، للخوارزمي 2: 22. 3 - البداية والنهاية 8: 186. والمناقب 2: 222. ومثير الأحزان، لابن نما: 36. 4 - الإرشاد. ومثير الأحزان، لابن نما: 36. 5 - مقتل الحسين عليه السلام، للخوارزمي 2: 33. ومثير الأحزان، لابن نما: 37. 122 على أن يسخو بنفسه المقدسة الشريفة، فما زال يستقبل أضغان القوم حتى صاح عمر بن سعد: احملوا عليه من كل جانب، فأتته عليه السلام أربعة آلاف نبلة. ولما عاد يودع عياله ويهدأهم قال عمر بن سعد لأصحابه: ويحكم! اهجموا عليه ما دام مشغولا بنفسه وحرمه، والله إن فرغ لكم لا تمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم. فحملوا عليه يرمونه بالسهام حتى تخالفت بين أطناب المخيم، فأدهشت النساء وأرعبن، فحمل الحسين عليه السلام عليهم كالليث الغضبان، فلا يلحق أحدا إلا بعجه بسيفه فقتله، ورجع إلى مركزه وهو يكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم (1). ورماه أبو الحتوف الجعفي بسهم في جبهته.. ولما ضعف عن القتال وقف ليستريح رماه رجل بحجر في جبهته.. ورماه آخر بسهم محدد له ثلاث شعب وقع في قلبه.. أخرج السهم من قفاه، فانبعث الدم كالميزاب، وقال: هكذا أكون حتى ألقى الله وجدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا مخضب بدمي، وأقول: يا جدي! قتلني فلان وفلان (2). وأعياه نزف الدم فجلس على الأرض، فانتهى إليه مالك بن النسر فشتمه ثم ضربه بالسيف على رأسه (3).. وبقي الحسين عليه السلام مطروحا مليا ولو شاؤوا أن يقتلوه لفعلوا، إلا أن كل قبيلة تتكل على غيرها وتكره
1 - اللهوف: 67. 2 - اللهوف: 70. ومقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي 2: 134. 3 - الكامل 4: 31. ومقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي 2: 35. 123 الإقدام (1). فصاح الشمر: ما وقوفكم؟! وما تنتظرون بالرجل وقد أثخنته السهام والرماح؟! احملوا عليه (2). فحملوا عليه حتى قتلوه، وحتى كان الإمام الحسين عليه السلام قد قدم لله تعالى كل ما يملك، وآخر ما يملك، نفسه المقدسة.. إذ هو السخي الجواد الذي قدم للناس كل ما في يمينه، ثم استدان لهم ما افتقروا إليه، فكان أن لم ترع له حرمة. فسلام عليه من كريم لا يدانى في العطاء، وسلام عليه من طيب لم يشابهه أحد في الوفاء، وسلام عليه من شهيد ساد الشهداء.
125 الشجاعة الحسينية تبحث " الشجاعة " في جملة القوى الغضبية لدى الانسان، من الرذائل والفضائل. فمن الرذائل في القوة الغضبية: التهور، وهو الإقدام على ما لا ينبغي، والخوض في ما يمنعه العقل والشرع من المهالك والمخاوف، ولا ريب أنه من المهلكات في الدنيا والآخرة (1). ومن الرذائل أيضا: الجبن، وهو سكون النفس عن الحركة إلى الانتقام أو غيره، مع كونها أولى. ويلزمه من الأعراض الذميمة: مهانة النفس، والذلة، وسوء العيش، وطمع الناس فيما يملكه، وقلة ثباته في الأمور، والكسل، وحب الراحة. وهو يوجب الحرمان من السعادات بأسرها، وتمكين الظالمين من الظلم عليه، وتحمله للفضائح في نفسه وأهله، واستماع القبائح من الشتم والقذف، وعدم مبالاته بما يوجب الفضيحة والعار، وتعطيل مقاصده ومهماته، ولذلك ورد في ذمه من الشريعة ما ورد.. قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا ينبغي للمؤمن أن يكون بخيلا ولا جبانا (2).
1 - جامع السعادات 1: 206. 2 - نفسه: 207. 127 والتهور والجبن كلاهما متطرفان متضادان بين الإفراط والتفريط، ووسطهما الشجاعة، ولكن.. ما هي الشجاعة في نظر علماء الأخلاق؟ يقول الشيخ محمد مهدي النراقي: إن الشجاعة هي طاعة قوة الغضب العاقلة، في الإقدام على الأمور الهائلة، وعدم اضطرابها بالخوض في ما يقتضيها رأيها. ولا ريب في أنها أشرف الملكات النفسية، وأفضل الصفات الكمالية.. وقد وصف الله خيار الصحابة بها في قوله: * (أشداء على الكفار) * (1)، وأمر الله نبيه بها بقوله: * (وأغلظ عليهم) * (2) إذ الشدة من لوازمها وآثارها، والأخبار مصرحة باتصاف المؤمن بها (3). قال الإمام الصادق عليه السلام: إن المؤمن أشد من زبر الحديد، إن زبر الحديد إذا دخل النار تغير، وإن المؤمن لو قتل ثم نشر، ثم قتل، لم يتغير قلبه (4). وقال الإمام الكاظم عليه السلام: إن المؤمن أعز من الجبل، الجبل يستفل بالمعاول، والمؤمن لا يستفل دينه بشئ (5). فالشجاعة إذن من القوى الغضبية العاقلة، التي تترفع من جهة عن الجبن والخوف المذموم، وعن الذلة والدناءة والضعة، ومن جهة أخرى تتريث من التهور والموقف المتعجل والكلمة التي لا تمر بتحليل الفكر الناضج.. قال الإمام الحسن العسكري عليه السلام: إن للسخاء مقدارا، فإن زاد عليه فهو سرف.
1 - سورة الفتح: 29. 2 - سورة التوبة: 73. 3 - جامع السعادات 1: 208. 4 - صفات الشيعة، للشيخ الصدوق: 179. و " لم يتغير قلبه " أي عقائده التي في قلبه. 5 - تنبيه الخواطر: 364. 128 وللحزم مقدارا، فإن زاد عليه فهو جبن. وللاقتصاد مقدارا، فإن زاد عليه فهو بخل. وللشجاعة مقدارا، فإن زاد عليه فهو تهور (1). فإذا اعتدلت القوة الغضبية، واتسمت بالعقل كانت شجاعة، وكانت صفة شريفة، وطاقة نافعة.. قال أمير المؤمنين عليه السلام: السخاء والشجاعة غرائز شريفة، يضعها الله سبحانه فيمن أحبه وامتحنه (2)، وقال سلام الله عليه أيضا: الشجاعة نصرة حاضرة، وقبيلة ظاهرة (3). ومثل هذه الخصلة النبيلة ضروري أن يتحلى بها الأنبياء صلوات الله عليهم، فهي من الكمالات الشريفة، والفاقد لها مجرد عن الرجولة.. والنبي " محمد " صلى الله عليه وآله هو سيد الأنبياء والمرسلين، فالشجاعة فيه أعلى وأظهر، ولقد وصف بها فقال أنس بن مالك: كان رسول الله صلى الله عليه وآله أشجع الناس، وأحسن الناس، وأجود الناس، قال: لقد فزع أهل المدينة ليلة فانطلق الناس قبل الصوت، فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وقد سبقهم، وهو يقول: لم تراعوا، وهو على فرس لأبي طلحة وفي عنقه السيف، قال: فجعل يقول للناس: لم تراعوا، وجدناه بحرا أو إنه لبحر (4). وعن الإمام علي عليه السلام أيضا قال: رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وآله وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأسا. وعنه عليه السلام قال: كنا إذا أحمر البأس، ولقي القوم القوم، اتقينا
1 - الدرة الباهرة: 43. 2 - غرر الحكم. 3 - نفسه. 4 - مكارم الأخلاق، للشيخ رضي الدين أبي نصر الحسن بن الفضل الطبرسي: 19. 129 برسول الله، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه (1). وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: إن الله تبارك وتعالى خص رسوله بمكارم الأخلاق، فامتحنوا أنفسكم، فإن كانت فيكم فاحمدوا الله عز وجل وارغبوا إليه في الزيادة منها. فذكرها عشرة: اليقين، والقناعة، والصبر، والشكر، والحلم، وحسن الخلق، والسخاء، والغيرة، والشجاعة، والمروة (2) والأولى برسول الله صلى الله عليه وآله أهل بيته، أوصياؤه وخلفاؤه من بعده، علي والحسن والحسين، والتسعة المعصومون من ذرية الحسين، صلوات الله عليهم. وإذا كان الأئمة سلام الله عليهم كلهم معروفين بالشجاعة، فإن هذه الصفة الشريفة ظهرت في الإمام الحسين عليه السلام يوم عاشوراء بما يناسب الموقف.. يقول الشيخ التستري في معرض بيانه للخصائص الحسينية: الشجاعة، ولها كيفية خاصة بالحسين عليه السلام، ولذا قيل: الشجاعة الحسينية، فقد ظهرت منه في يوم الطف في حالته شجاعة ما ظهرت من أحد أبدا (3). وإذا أردنا معرفة بعض السر في ذلك علينا أن نقف عند هذه الرواية.. عن إبراهيم بن علي الرافعي، عن أبيه، عن جدته بنت أبي رافع قالت: أتت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله بابنيها الحسن والحسين " عليهما السلام " إلى رسول الله صلى الله عليه وآله في شكواه الذي توفي فيه، فقالت: يا رسول الله! هذان ابناك فورثهما شيئا، قال: أما الحسن فإن له هيبتي وسؤددي، وأما
1 - نفسه: 18. 2 - تحف العقول: 362. 3 - الخصائص الحسينية: 21. 130 الحسين فإن له جرأتي وجودي (1). وفي رواية أخرى قريبة منها، روت زينب بنت أبي رافع، عن أمها، قالت: قالت فاطمة عليه السلام: يا رسول الله! هذان ابناك فانحلهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أما الحسن فنحلته هيبتي وسؤددي، وأما الحسين فنحلته سخائي وشجاعتي (2). فالمهمة الإلهية التي كلف بها الإمام الحسين سلام الله عليه اقتضت أن تظهر فيه الشجاعة بأجلى صورها وبشكل مبكر، وخاتمة جليلة. فقد تواجد الإمام الحسين عليه السلام في ساحة الفروسية منذ نعومة أظفاره وحداثة سنه، ومارس فنون استعمال السلاح، وكان متهيئا للدفاع عن رسالة الاسلام والحفاظ على بيضة الدين، وصد العدوان عن المسلمين. ثم ما أن شب قليلا حتى شهدت له ثلاث معارك بأنه الفتى الشجاع الذي يغوص وسط الاشتباك، وهن: الجمل، وصفين، والنهروان. وقد اشترك سلام الله عليه في فتح طبرستان، ثم شهدت له الحياة السياسية في عهد معاوية ومن بعده يزيد أنه صاحب المواقف الشجاعة، والكلمة الثابتة، والمنطق الحق في وجوه الطغاة، فما كان من التاريخ إلا أن سجل له ذلك باعتزاز وافتخار.. قال الشيخ الإربلي: وشجاعة الحسين عليه السلام يضرب بها المثل، وصبره في مأقط الحراب (3) أعجز الأواخر والأول، وثباته إذا دعيت نزال
1 - الخصال: 77 ح 122. والسؤدد: السيادة والشرافة. وقد روى نحو ذلك: الطبراني في الأوسط، وفيه مكان جرأتي (حزامتي). وأورده العسقلاني في تهذيب التهذيب. 2 - الخصال: 77 ح 123. 3 - المأقط: موضع القتال، وقيل: المضيق في الحرب، لأنهم يختلطون فيه، جمعه مآقط. 131 ثبات الجبل، وإقدامه إذا ضاق المجال إقدام الأجل، ومقامه في مقابلة هؤلاء الفجرة عادل مقام جده صلى الله عليه وآله ببدر فاعتدل، وصبره على كثرة أعدائه وقلة أنصاره صبر أبيه عليه السلام في صفين والجمل (1). وقال الأستاذ (عبد الحفيظ أبو السعود) في الحسين عليه السلام: عنوان النضال الحر، والجهاد المستميت، والاستشهاد في سبيل المبدأ والعقيدة، وعدم الخضوع لجور السلطان وبغي الحاكمين (2). والحقيقة، أن الشجاعة لا تعد من الأخلاق الفاضلة، ولا يثاب عليها، إلا إذا تحلت بالصفات التالية: 1 - الوعي والبصيرة: فالشجاع قبل كل شئ عليه أن يعرف أحكام الجهاد في سبيل الله، متى يكون؟ وكيف شرائطه؟، وما هي حدوده؟ وإلى غير ذلك من الأمور الشرعية، لكي يعرف متى يحمل السلاح؟ ومن يقابل به؟ وإلى من يوجهه؟ ومتى يضعه؟ وهذه الأمور لا تخفى على سيدنا الإمام الحسين عليه السلام، حيث هو ربيب بيت الوحي، ووريث رسول الله صلى الله عليه وآله.. عن الحكم بن عتيبة قال: لقي رجل الحسين بن علي عليه السلام بالثعلبية وهو يريد كربلاء، فدخل عليه فسلم عليه، فقال له الحسين عليه السلام: من أي البلدان أنت؟ فقال: من أهل الكوفة، قال: يا أخا أهل الكوفة! أما والله لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبرئيل من دارنا، ونزوله على جدي بالوحي. يا أخا أهل الكوفة! مستقى العلم من عندنا، أفعلموا وجهلنا؟! هذا ما لا
1 - كشف الغمة: 180. 2 - سبطا رسول الله الحسن والحسين عليهم السلام: 188. 132 يكون (1). فالإمام الحسين سلام الله عليه اتصفت شجاعته بالعلم واقترنت به، فهو يعرف متى يتكلم، ومتى يتحرك، وإلى أين يتجه، وماذا يقول، ويعرف تكليف نفسه وتكليف الناس. وقد سئل يوما عن الجهاد، سنة أو فريضة؟ فقال عليه السلام: الجهاد على أربعة أوجه: فجهادان فرض، وجهاد سنة لا يقام إلا مع فرض، وجهاد سنة. فأما أحد الفرضين فجهاد الرجل نفسه عن معاصي الله، وهو من أعظم الجهاد، ومجاهدة الذين يلونكم من الكفار فرض. وأما الجهاد الذي هو سنة لا يقام إلا مع فرض فإن مجاهدة العدو فرض على جميع الأمة لو تركوا الجهاد لأتاهم العذاب، وهذا هو من عذاب الأمة وهو سنة على الإمام، وحده أن يأتي العدو مع الأمة فيجاهدهم. وأما الجهاد الذي هو سنة فكل سنة أقامها الرجل وجاهد في إقامتها وبلوغها وإحيائها فالعمل والسعي فيها من أفضل الأعمال، لأنها إحياء سنة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا " (2). وهذا البيان المفصل يكشف لنا عن علم محيط بالشريعة، فإذا انطلق الجهاد من هذا العلم كان جهادا نيرا، وإذا قامت به الشجاعة كانت شجاعة واعية، وكان الإقدام على هدى وبصيرة. وقد رأى الإمام الحسين صلوات الله عليه أن الظرف الذي عاشه آخر
1 - بصائر الدرجات: 4. 2 - تحف العقول: 175. 133 أيامه المباركة قد استدعى حكم الجهاد في سبيل الله تعالى، حيث تمت شروطه، واقتضى الحال نهوضا لا تقية معه، فلا بد أن تقدم الدماء والأنفس دون الدين. 2 - الهدفية: فالشجاعة ما لم تحمل هدفا مقدسا وغاية نبيلة فإنها تهور وإلقاء بالنفس إلى التهلكة، في حين إذا جاءت عن نية مخلصة لله تعالى، وشخصت الهدف الإلهي، آتت ثوابها، وختمت لصاحبها بالشرف الرفيع، وقبول العمل، أو بكلتيهما مع التوفيق للشهادة في سبيل الله عز وجل. والنية - كما يقول الفقهاء وعلماء الأخلاق - شرط في العبادات كلها، فلا يصح شئ من الأفعال بدون النية.. قال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: إنما الأعمال بالنيات (1). فإذا ما نوى المرء الرياء فقد حبط عمله، وصارت طاعته معصية. ومن يشك في نية الإمام الحسين عليه السلام وهو يعلم أنه قادم على معركة يقتل فيها ليحيا الاسلام، وأرض يغدر فيها به لتفيق الأمة؟! وقد صرح بذلك مرات ومرات.. من ذلك أنه سلام الله عليه كتب إلى أخيه محمد بن الحنفية كتابا هذا نصه: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى محمد بن علي ومن قبله من بني هاشم، أما بعد: فإن من لحق بي استشهد، ومن تخلف لم يدرك الفتح، والسلام (2). وخطب عليه السلام في مكة قبل سفره إلى كربلاء فقال: كأني بأوصالي
1 - حديث مشهور بين المسلمين، على سبيل المثال يراجع: كنز العمال / الخبر 7272. وبحار الأنوار 70: 211 ح 35، عن غوالي اللآلي. وصحيح البخاري - كتاب الإيمان: 23. 2 - كامل الزيارات، لابن قولويه: 75. 134 تقطعها عسلان الفلوات، بين النواويس وكربلاء، فيملأن مني أكراشا جوفا، وأجربة سغبا، لا محيص عن يوم خط بالقلم (1). أما الهدف الذي خرج من أجله الإمام الحسين عليه السلام فهو طاعة الله تعالى وطلب مرضاته، ثم ما يتحقق بتوفيق الله عز وجل من: أ - إقامة للعدل، ب - دمغ للظلم، ج - تحصين للدين، د - إيقاظ للمسلمين، ه - إعلاء لكلمة الحق، وتنكيس لكلمة الباطل، و - الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ز - فضح الظالمين والمنحرفين. وقد عبر الإمام الحسين سلام الله عليه عن هذا الهدف الشريف بشجاعة ثابتة.. ولمرات عديدة.. وقف عند قبر رسول الله يناجي ربه قائلا: اللهم إن هذا قبر نبيك محمد صلى الله عليه وآله، وأنا ابن بنت نبيك، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللهم إني أحب المعروف، وأنكر المنكر، وأسألك يا ذا الجلال والإكرام، بحق القبر ومن فيه إلا اخترت لي ما هو لك رضى، ولرسولك رضى (2). فالنية واضحة، والدعاء مفصح عنها، والهدف بين، وهو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وقد عبر عن ذلك أيضا في وصية إلى أخيه " محمد بن الحنفية " حيث كتب له فيها:... وأني لم أخرج أشرا ولا بطرا، ولا مفسدا ولا ظالما، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي صلى الله عليه وآله. أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر.. (3).
1 - اللهوف: 53. 2 - مقتل الحسين عليه السلام للخوارزمي 1: 186. 3 - نفسه: 188. 135 أجل.. فمثل الإمام الحسين عليه السلام لا يقدم إلا على مثل هذا، فهو الذي خلصت نيته لله جل وعلا، وعرف ماذا أمر الله تعالى في شريعته، وأنشد قلبه إلى طاعة الله عز وجل وحده، فلا يقوم إلا لله سبحانه.. ولم لا؟ وهو الذي قال النبي الأعظم صلى الله عليه وآله فيه وفي أخيه الحسن عليهما السلام: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة (1). وقال صلى الله عليه وآله: الحسن والحسين إمامان، إن قاما وإن قعدا (2). وأخرج ابن تيمية (فقيه الحنابلة) قال: قال رسول الله (ص) - وقد أشار إلى الحسين -: هذا إمام، ابن إمام، أخو إمام، أبو أئمة تسعة (3). وقد مر علينا أن من صفات الإمام - كما ذكرها علي بن موسى الرضا عليه السلام -: أمين الله في خلقه، وحجته على عباده، وخليفته في بلاده، والداعي إلى الله، والذاب عن حرم الله... (4). فيتعين بذلك أن الإمام الحسين سلام الله عليه يعلم ما ينبغي، ويعني ما يقوله وما يقدم عليه، وهدفه هو إرادة الله تبارك وتعالى، التي دعت إلى إقامة العدل وإزاحة الجور، وإحقاق الحق وإبطال الباطل. وقد عاش الإمام الحسين عليه السلام في ظل أوضاع أزرت بالمسلمين، وهددت شريعة سيد المرسلين.. حيث حكم بنو أمية، وما أدرانا ما بنو أمية!
1 - صحيح الترمذي 2: 306. ومسند ابن حنبل 3: 62. وحلية الأولياء 5: 71. وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي: 331. 2 - الإتحاف بحب الأشراف: 129. 3 - منهاج السنة 4: 210. 4 - أصول الكافي ج 1 - باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته، الحديث الأول. 136 أخرج الشيخ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي الحافظ في تفسيره (الدر المنثور) قال: وأخرج ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أريت بني أمية على منابر الأرض، وسيملكونكم، فتجدونهم أرباب سوء. واهتم رسول الله صلى الله عليه وآله لذلك، فأنزل الله: * (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس، والشجرة الملعونة في القرآن..) * (1) - الآية. وأخرج ابن مردويه عن الحسين بن علي: أن رسول الله صلى الله عليه وآله أصبح وهو مهموم، فقيل: ما لك يا رسول الله؟ فقال: إني أريت في المنام كأن بني أمية يتعاورون منبري هذا، فقيل: يا رسول الله! لا تهتم، فإنها دنيا تنالهم. فأنزل الله: * (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك) * - الآية. وأخرج البيهقي في الدلائل، وابن عساكر في تاريخه، عن سعيد بن المسيب قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وآله بني أمية على المنابر فساءه ذلك، فأوحى الله إليه: إنما هذه دنيا أعطوها، فقرت عينه، وهي قوله: * (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) * يعني بلاء للناس (2). وجاء في (تفسير القرآن العظيم) (3) لابن كثير: المراد بالشجرة الملعونة بنو أمية. وفي (التفسير الكبير) (4) للفخر الرازي قال: قال ابن عباس: الشجرة بنو أمية. وجاء بمعناه في تفسير (النيسابوري) المسمى ب (غرائب القرآن ورغائب الفرقان) (5).
1 - سورة الإسراء: 60. 2 - تفسير الدر المنثور / سورة الإسراء. 3 - 3: 49. 4 - في ظل الآية 60 من سورة الإسراء. 5 - هامش تفسير الطبري 15: 55. 137 وأخرج إمام المعتزلة - ابن أبي الحديد - في (شرح نهج البلاغة) (1) عن المدائني: إن رسول الله صلى الله عليه وآله رفع له ملك بني أمية، فنظر إليهم يعلون منبره واحد واحد، فشق ذلك عليه، فأنزل الله تعالى في ذلك قرآنا قال له: * (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن) *. قال الآلوسي: * (والشجرة الملعونة) * في عبارة بعض المفسرين هي بنو أمية - إلى أن قال: وفيه من المبالغة في ذمهم ما فيه، وجعل ضمير * (نخوفهم) * على هذا لما كان له أو لا (2)، أو للشجرة باعتبار أن المراد بها بنو أمية (ولعنهم) لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة، والفروج المحصنة، وأخذ الأموال من غير حلها، ومنع الحقوق عن أهلها، وتبديل الأحكام، والحكم بغير ما أنزل الله تعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام (إلى غير ذلك) من القبائح العظام، والمخازي الجسام، التي لا تكاد تنسى ما دامت الليالي والأيام، وجاء لعنهم في القرآن على الخصوص وعلى العموم (3). وأخرج المؤرخ والمحدث (المتقي الهندي) (4) في كتابه الشهير (كنز العمال) (5)، عن عمر بن الخطاب في قوله تعالى * (ألم تر إلى الذين بدلوا
1 - 16: 16 الطبعة الحديثة، عن شرح المختار الثلاثين من الباب الثاني. 2 - هكذا في الأصل، ولعله: أولى. 3 - في تفسيره (روح البيان) 15: 100 في ظل الآية * (ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا) * الإسراء: 60. وهو من مفسري وعلماء أهل السنة. 4 - وهو من علماء السنة المعروفين. 5 - 1: 252. 138 نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار. جهنم يصلونها وبئس القرار) *، قال عمر: هما الأفجران من قريش، بنو المغيرة وبنو أمية. ولكن الغريب حقا أن عمر بن الخطاب هو الذي ولى بني أمية على الشام، حتى إذا جاء عثمان بن عفان ثبتهم على الحكم، وأطلق يدهم في الأموال، ووسع لهم في السلطة على غير الشام، ومد لهم في الصلاحيات. وأخرج المؤرخ المعروف (الخطيب البغدادي) في تاريخه (1)، عن علقمة والأسود قالا: أتينا أبا أيوب الأنصاري - عند منصرفه من صفين - فقلنا له: يا أبا أيوب! إن الله أكرمك بنزول محمد صلى الله عليه وآله وبمجئ ناقته تفضلا من الله وإكراما لك أناخت ببابك دون الناس، ثم جئت بسيفك على عاتقك تضرب به أهل لا إله إلا الله؟! فقال: يا هذا! (إن الرائد لا يكذب أهله)، وإن رسول الله صلى الله عليه وآله أمرنا بقتال ثلاثة مع علي كرم الله وجهه، بقتال الناكثين، والقاسطين، والمارقين - إلى أن قال أبو أيوب الأنصاري: وأما القاسطون فهذا منصرفنا من عندهم، يعني معاوية وعمرا. ولم تأت رواية تلوم هذا الصحابي الجليل المتفقه (أبا أيوب الأنصاري) لأنه حارب بني أمية باعتبارهم القاسطين، المنحرفين، ولكن الأقلام الحاقدة حملت اللائمة على الإمام الحسين سلام الله عليه حينما حمل سيفه وزحف إلى كربلاء، وأخذت تطبق على الواقعة آية التهلكة، مع أن الإقدام على الشهادة ليس إعانة على إزهاق النفوس، لا سيما وأن الجهاد بأحكامه الإلهية دعا إلى إنقاذ الرسالة، وبث روح العزة في المسلمين إذا خنعوا لسلاطين الجور والفساد،
1 - تاريخ بغداد 13: 186. 139 وحمل السلاح في وجه المحاربين، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: أفضل الشهداء: حمزة بن عبد المطلب، ورجل تكلم بكلمة حق عند سلطان جائر فقتله) (1). وأخرج الحاكم (2) في (المستدرك على الصحيحين) (3)، عن أبي برزة الأسلمي قال: كان أبغض الأحياء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله بنو أمية. وأخرج أيضا عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن أهل بيتي سيلقون من بعدي من أمتي قتلا وتشريدا، وإن أشد قومنا لنا بغضا بنو أمية (4). (5) وجاء في صحيح الترمذي ج 2، ومستدرك الصحيحين 3: 170، وتفسير ابن جرير 30: 167، وتفسير الفخر الرازي، والدر المنثور للسيوطي، وجامع البيان للطبري 30: 167، وغيرها في تفسير الآية الشريفة * (ليلة القدر خير من ألف شهر) * أنها مؤولة بملك بني أمية وقد دام ألف شهر. وأبرز حكام بني أمية: معاوية بن أبي سفيان، الذي مال الناس إليه بالترغيب والترهيب، فنسوا دينهم، وتخلفوا عن أئمة الحق والهدى، وهو الذي نقل لنا التاريخ عنه فسقه وفجوره، وقتله للصحابة.. قال ابن حجر العسقلاني: تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه
1 - أحكام القرآن، للجصاص 1: 309 في ظل آية التهلكة. 2 - وهو من علماء أهل السنة. 3 - أي صحيحي مسلم والبخاري 4: 480. 4 - 4: 487. 5 - وأخرج أبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء 6: 293 عن عمران بن حصين قال: توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يبغض ثلاث قبائل: بني حنيفة، وبني مخزوم، وبني أمية. 140 وآله أن عمارا تقتله الفئة الباغية، وأجمعوا على أنه قتل مع علي بصفين (1). وأخرج إمام الحنابلة (أحمد بن حنبل) في مسنده عن عبد الله بن بريدة قال: دخلت أنا وأبي على معاوية، فأجلسنا على الفرش، ثم آتانا بالطعام فأكلنا، ثم آتانا بالشراب فشرب معاوية، ثم ناوله أبي فقال أبي: ما شربته منذ حرمه رسول الله صلى الله عليه وآله. وطالما حذر منه النبي صلى الله عليه وآله، وأشار إليه بإصبع الإنذار، وقد نقل الرواة في ذلك الكثير الكثير.. منه على سبيل المثال، لا الحصر: أخرج ابن حجر (الهيتمي) في كتابه (مجمع الزوائد) (2) عن عمرو بن الحمق الخزاعي قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لي ذات يوم: يا عمرو! هل لك أن أريك آية النار تأكل الطعام وتشرب الشراب وتمشي في الأسواق؟ قلت: بلى بأبي أنت وأمي. قال: هذا وقومه آية النار - وأشار إلى معاوية. وروى البلاذري في (أنساب الأشراف) الجزء الأول: قال عبد الله بن عمرو بن العاص: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وآله فقال: يطلع عليكم من هذا الفج رجل يموت - يوم يموت - على غير ملتي. قال عبد الله: وتركت أبي يلبس ثيابه، فخشيت أن يطلع، فطلع معاوية (3). وفي كتاب (صفين) لابن مزاحم ص 244: قال البراء بن عازب: أقبل أبو سفيان ومعه معاوية، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: اللهم العن التابع
1 - الإصابة في معرفة الصحابة 4: 274. 2 - 9: 405. 3 - مثله في تاريخ الطبري 11: 357. 141 والمتبوع، اللهم عليك بالأقيعس، فقال ابن البراء لأبيه: من الأقيعس؟ قال: معاوية. والأقيعس في اللغة: الرجل أخرج صدره، كناية عن التكبر، أو لأنه كان كبير البطن حتى صار يضرب بكبره المثل. وقد ذكر المؤرخون: أن معاوية إذا جلس افترش كرشه على فخذيه فسترهما، ولم يبد منه سوى عيني ركبتيه. وإذا كان هذا لا يكفي المسلمين أن يعرفوا من هو معاوية؟ وما ينبغي عليهم من التكليف تجاهه، فتعالوا نقف عند هذا الخبر: في (ميزان الاعتدال) للذهبي 2: 7: روى عباد بن يعقوب، عن شريك عن عاصم عن زر، عن عبد الله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه. وقد صحح الذهبي الحديث، ثم رواه في الكتاب نفسه 2: 129 عن أبي سعيد الخدري، وذكر نحوه عن أبي جذعان. ورواه أيضا ابن حجر في تهذيب التهذيب 5: 110، و 7: 324 بنص قريب: إذا رأيتم معاوية على هذه الأعواد فاقتلوه، و 8: 74 أن عمرا روى عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وآله قال: إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه. ثم جاء المناوي (1) فقال في كتابه المعروف ب (كنوز الحقائق) ص 9: أقول: يحتمل قويا أن يكون المراد من المنبر في قول النبي صلى الله عليه وآله: إذا رأيتم معاوية على منبري هو مطلق المنبر، بدعوى أن كل منبر يصعد عليه في الاسلام ويخطب عليه فهو منبر النبي صلى الله عليه وآله، ويحتمل أن يكون المراد منه هو خصوص منبر النبي صلى الله عليه وآله في المدينة كما
1 - وهو من علماء أهل السنة. 142 يؤيده بل يدل عليه ما تقدم في حديث أبي سعيد: إذا رأيتم معاوية على هذه الأعواد.. وعلى كل حال فإن معاوية حسب الأحاديث المتقدمة ممن يجب قتله بحكم النبي صلى الله عليه وآله، وقد تسامح فيه المسلمون. أما وجوب قتله على الاحتمال الأول فواضح، وأما على الثاني فلما رواه ابن سعد في الطبقات (4: 136 - القسم الأول) من مجئ معاوية إلى المدينة وصعوده على منبر النبي صلى الله عليه وآله، قال: أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم الأسدي، عن أيوب عن نافع، قال: لما قدم معاوية المدينة حلف على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله ليقتلن ابن عمر. هكذا أمر رسول الله صلى الله عليه وآله بيانا منه لانحراف معاوية، ولكن معاوية هذا تولى ولاية الشام في عهد " عمر بن الخطاب " بعد موت أخيه يزيد بن أبي سفيان.. ولاه عمر وهو الذي عرف بشدته في محاسبته للولاة، وصرامته نقلت مع أبي هريرة بعد أن عزله من ولاية البحرين واتهمه بسرقة بيت مال المسلمين، لكنه لم يرد عن " عمر " أنه حاسب معاوية، ثم لا ندري كيف فات خليفة المسلمين أن الطلقاء لا يحق لهم أن يتولوا؟! في ترجمة (معاوية بن أبي سفيان) ذكر ابن الأثير: وروى عبد الرحمن بن أبزي عن عمر أنه قال: هذا الأمر من أهل بدر ما بقي منهم أحد، ثم في أهل أحد ما بقي منهم أحد، ثم في كذا وكذا وليس فيها لطليق، ولا لولد طليق، ولا لمسلمة الفتح شئ (1). وفي ترجمة (عبد الرحمن بن غنم الأشعري) قال ابن عبد البر: ويعرف
1 - أسد الغابة 4: 387، ورواه ابن سعد في طبقاته 3: - 248 القسم الأول. 143 بصاحب معاذ لملازمته له، وسمع من عمر بن الخطاب، وكان من أفقه أهل الشام، وهو الذي فقه عامة التابعين بالشام، وكانت له جلالة وقدر، وهو الذي عاتب أبا هريرة وأبا الدرداء بحمص إذ انصرفا من عند علي عليه السلام رسولين لمعاوية. وكان مما قال لهما (عبد الرحمن بن غنم الأشعري): عجبا منكما كيف جاز عليكما ما جئتما به تدعوان عليا أن يجعلها شورى وقد علمتما أنه - أي علي عليه السلام - قد بايعه المهاجرون والأنصار وأهل الحجاز وأهل العراق، وأن من رضيه خير ممن كرهه، ومن بايعه خير ممن لم يبايعه، وأي مدخل لمعاوية في الشورى وهو من الطلقاء الذين لا تجوز لهم الخلافة هو وأبوه من رؤوس الأحزاب. قال: فندما (أبو هريرة وأبو الدرداء) على مسيرهما... (1). وقد أسس معاوية لنفسه فترة خلافة عثمان استعدادا للوثبة على الخلافة، فلما قتل عثمان أحدث الفتن، وأراق دماء ثمانين ألفا من المسلمين في حرب صفين، وبعد صفين أرسل السرايا والجيوش إلى أطراف البلاد لإيجاد الفوضى والبلبلة بين المسلمين. واختلق الأحاديث لتثبيت سلطته، وتبرير قمعه للناس، كما اختلق فرقا (سياسية - دينية) باسم الاسلام تتخذ اسم المرجئة مرة، والجبرية أخرى لتحريم الثورة ضده (2). وقد أراد الإمام الحسن (سلام الله عليه) أن يقتل معاوية ائتمارا بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله.. لكن الناس خذلوه، ونكثوا عهدهم معه، فاضطر إلى الصلح. بعده دخل معاوية الكوفة وقد وقع على وثيقة الصلح أن
1 - الاستيعاب 2: 402، وذكره ابن الأثير في أسد الغابة 3: 318 باختلاف يسير. 2 - يراجع (مقالات الإسلاميين) للأشعري: 141. 144 يتقيد بشرع الاسلام، فأطبق جيشه على الكوفة وخاطب أهلها قائلا: يا أهل الكوفة! أتروني أقاتلكم على الصلاة والزكاة والحج، وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون؟! ولكنني قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم، وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون. ألا إن كل مال أو دم أصيب في هذه الفتنة فمطلول، وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين (1). وكان ذلك إلغاء صريحا ونقضا فاضحا لبنود وثيقة الصلح، وقد شفع ذلك بتدبير مؤامرة اغتيال الإمام الحسن عليه السلام. فأغرى به زوجته (جعدة بنت الأشعث) فقتلته بالسم، وقد مناها أن يزوجها ابنه يزيد فلم يف لها بذلك بعد جريمتها. وقد استطاع الإمام الحسن (سلام الله عليه) بوثيقة الصلح أن يفضح معاوية، لعلمه عليه السلام أن معاوية لا يتقيد بشرط، وقد خدع معاوية الناس بادعاءاته، فجاءت وثيقة الصلح فأبانت للناس غدره، حيث توج ابنه (يزيد) خليفة له وملكا على الأمة من بعده، مع أن الوثيقة التي وقعها معاوية تقضي أن يكون الإمام الحسن عليه السلام خليفة المسلمين بعد موت معاوية، فإن توفي الحسن سلام الله عليه قبل معاوية فالإمام الحسين عليه السلام هو ولي الأمر. حتى إذا استتبت الأمور لمعاوية أظهر ما استبطنه من الأحقاد، فأشاع الإرهاب وأثار الفتن العرقية، والتعصبات الجاهلية، والعنعنات القبلية. وأعمل القتل في موالي علي بن أبي طالب عليه السلام، فكتب إلى قائد من قواد جيوشه: فاقتل كل من لقيته ممن ليس هو على مثل رأيك، واضرب كل ما
1 - شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 6: 15. 145 مررت به من القرى، واحرب الأموال، فأن حرب الأموال شبيه بالقتل، وهو أوجع للقلب (1). وكتب إلى ولاته في جميع الأمصار: انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه (2). ثم أمر أن يلعن أولياء الله - على المنابر -، فشتم الإمام علي عليه السلام على منابر بني أمية ألف شهر - أكثر من ثمانين سنة (3)، ولذا أولت الآية " ليلة القدر خير من ألف شهر " ذلك التأويل الذي ذكرناه. أما حقده على النبي صلى الله عليه وآله، ونعرته الجاهلية، فيكفي في ذلك بيانا هذه الرواية: روى مطرف بن مغيرة بن شعبة قال: وفدت مع أبي على معاوية، فكان أبي يتحدث عنده، ثم ينصرف إلي وهو يذكر معاوية وعقله، ويعجب بما يرى منه. وأقبل ذات ليلة أي (المغيرة بن شعبة) وهو غضبان، فأمسك عن العشاء، فانتظرته ساعة وقد ظننت أنه لشئ حدث فينا أو في عملنا، فقلت له: ما لي أراك مغتما منذ الليلة؟ قال: يا بني! جئتك من عند أخبث الناس؟ قلت: ما ذاك؟ قال: خلوت بمعاوية فقلت له: إنك بلغت مناك يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلا، وبسطت خيرا، فإنك كبرت، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم
1 - نفسه 2: 86. 2 - نفسه 11: 45. 3 - أخرج ابن عبد ربه في العقد الفريد 2: 301، قال: إن معاوية لعن عليا على المنبر، وكتب إلى عماله أن يلعنوه على المنابر ففعلوا، فكتبت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله إلى معاوية: إنكم تلعنون الله ورسوله على منابركم، وذلك أنكم تلعنون علي بن أبي طالب ومن أحبه، وأنا أشهد أن الله أحبه ورسوله. فلم يلتفت معاوية إلى كلامها. 146 فوصلت أرحامهم، فوالله ما عندهم اليوم شئ تخافه. فثار معاوية واندفع يقول: هيهات، هيهات، ملك أخو تيم فعدل، وفعل ما فعل، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، إلا أن يقول قائل قال أبو بكر، ثم ملك أخو عدي فاجتهد وشمر عشر سنين، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، إلا أن يقول قائل (عمر)، ثم ملك أخونا عثمان، فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه، فعمل به ما عمل، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، وإن أخا هاشم (يعني رسول الله صلى الله عليه وآله) يصرخ به في كل يوم خمس مرات: أشهد أن محمدا رسول الله، فأي عمل يبقى بعد هذا لا أم لك! والله سحقا سحقا، والله دفنا دفنا (1). ثم ما أن استقرت الأحوال لمعاوية حتى كانت له اجتهادات - يطول بيانها - في تغيير الأحكام الإسلامية، بدل منها ما بدل حتى سمي بعضها بأوليات معاوية (2). ثم جاء من بعده يزيد.. وما أدراك ما يزيد! جاء في كتاب (صحيح البخاري) - ج 9 (كتاب الفتن - باب قول النبي صلى الله عليه وآله: هلاك أمتي على يدي أغيلمة سفهاء، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمر بن سعيد، قال أخبرني جدي، قال: كنت جالسا مع أبي هريرة في مسجد النبي صلى الله عليه وآله بالمدينة ومعنا مروان، قال أبو هريرة: سمعت الصادق المصدوق يقول: هلكة أمتي على يدي غلمة من قريش. يقول شارح صحيح البخاري، ابن حجر
1 - العقد الفريد 2: 297. والموفقيات: 576 طبع وزارة الأوقاف ببغداد سنة 1392 ه. وتاريخ المسعودي مروج الذهب 2: 341. ومن أراد المزيد فعليه بمراجعة كتاب (الغدير) للعلامة الأميني - الجزء العاشر. 2 - ذكر بعضها اليعقوبي في تاريخه، والسيوطي في تاريخ الخلفاء عند ذكر سيرة معاوية. 147 العسقلاني في (فتح الباري) 13: 7 و 8: إن أبا هريرة كان يمشي في السوق ويقول: اللهم لا تدركني سنة ستين، ولا إفادة الصبيان. قال ابن حجر: وفي هذا إشارة إلى أن أول الأغيلمة كان في سنة ستين، وهو كذلك، فإن يزيد بن معاوية استخلف فيها وبقي إلى سنة 64 ه فمات، ثم ولي ولده معاوية ومات بعد أشهر. وقال الشارح أيضا: إن أول هؤلاء الغلمان يزيد كما دل عليه قول أبي هريرة سنة ستين وإمارة الصبيان. وروى ابن حجر العسقلاني في كتابه: (مجمع الزوائد 5: 241) عن مسند أبي يعلى والبزاز، وابن حجر الهيتمي في (الصواعق المحرقة: 132) عن مسند الروياني، عن أبي الدرداء، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله يقول: أول من يبدل سنتي رجل من بني أمية، يقال له يزيد. أما أبو يعلى والبزاز فقد رويا أن النبي صلى الله عليه وآله قال: لا يزال أمر أمتي قائما بالقسط حتى يكون أول من يثلمه رجل من بني أمية، يقال له يزيد. وأخرج القاضي نعمان المصري في كتابه (المناقب والمثالب): 71 عن النبي صلى الله عليه وآله أنه نظر يوما إلى معاوية يتبختر في حبره، وينظر إلى عطفيه فقال مخاطبا إياه: أي يوم لأمتي منك، وأي يوم لذريتي منك من جرو يخرج من صلبك، يتخذ آيات الله هزوا، ويستحل من حرمتي ما حرم الله عز وجل. وفي كنز العمال للمتقي الهندي 6: 39 هذا الحديث: يزيد.. لا بارك الله في يزيد، نعي إلي الحسين وأوتيت بتربته، وأخبرت بقاتله... واها لفراخ آل محمد من خليفة مستخلف مترف يقتل خلفي وخلف الخلف!
148 أخرجه الطبراني عن معاذ، وذكره ابن حجر الهيثمي في (مجمع الزوائد 9: 189) عن معاذ بن جبل إلا أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله: يزيد.. لا بارك الله في يزيد. ثم ذرفت عيناه، ثم قال: نعي إلي حسين. وذكره المناوي في (فيض القدير) وقال: أخرجه ابن عساكر عن سلمة بن الأكوع، ورواه عنه ابن نعيم والديلمي. وفي (كنز العمال) أيضا 6: 223: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا بارك الله في يزيد الطعان اللعان. أما إنه نعي إلي حبيبي حسين، وأوتيت بتربته ورأيت قاتله، أما إنه لا يقتل بين ظهراني قوم فلا ينصروه إلا عمم بعقاب. أخرجه ابن عساكر عن عبد الله بن عمر بن الخطاب. ومن لم يسمع بهذه الأحاديث النبوية الصريحة، فلا بد أنه سمع بسيرة يزيد وقد سار بها الركبان، وشاعت بين البلدان. فقد نشأ يزيد نشأة بعيدة عن أجواء الاسلام، فمنطقة (حوارين) التي عاشت فيها أمه وأهلها كانت ذات جو مسيحي، وظل يزيد بعد نشأته هناك يحن إلى (حوارين) ويتردد عليها بين الحين والآخر (1). وقد آل الأمر إلى يزيد بعد أن هلك معاوية وهو هناك، ومات يزيد نفسه وهو هناك في (حوارين) متشاغلا بالخمور والفجور. ولم يعد إلا بعد عشرة أيام من هلاك أبيه، فصلى على قبره إذ كان مدفونا (2). يقول الأستاذ (عبد الله العلايلي) في كتابه حول الإمام الحسين عليه السلام (سمو المعنى في سمو الذات) ص 59: إذا كان يقينا أو يشبه اليقين أن
1 - يراجع (معاوية بن أبي سفيان) لعمر أبو النصر: 282. 2 - الفتوح المكية، لابن عربي 4: 265. 149 تربية يزيد لم تكن إسلامية خالصة - أو بعبارة أخرى: كانت مسيحية خالصة فلم يبق ما يستغرب معه أن يكون متجاوزا مستهترا مستخفا بما عليه الجماعة الإسلامية، لا يحسب لتقاليدهما واعتقاداتها أي حساب، ولا يقيم لها وزنا، بل الذي نستغرب أن يكون على غير ذلك. ويقول الأستاذ عمر أبو النصر: أما أستاذ يزيد أو أساتذته إذا كانوا غير واحد.. فإنهم مجهولون، وقد أسف " لامنس " المستشرق اليسوعي لهذا النقص التاريخي (1) لأنه يعتقد أن أستاذ يزيد لا يبعد أن يكون مسيحيا من مشارقة النصارى، خصوصا ويزيد نفسه قد كلف كاهنا مسيحيا بتثقيف ولده خالد. لقد نشأ يزيد عند أخواله في البادية من بني كلاب، الذين كانوا يعتنقون المسيحية قبل الاسلام، وكان مرسل العنان مع شبابهم الماجنين، فتأثر بسلوكهم إلى حد بعيد، فكان يشرب الخمر معهم ويلعب بالكلاب (2). ويصفه السيد مير علي الهندي مقارنا إياه بأبيه، فيقول: كان يزيد قاسيا غدارا كأبيه، ولكنه ليس بداهية مثله، كانت تنقصه القدرة على تغليف تصرفاته القاسية بستار من اللباقة الدبلوماسية الناعمة، وكانت طبيعته المنحلة، وخلقه المنحط لا تتسرب إليهما شفقة ولا عدل، وكان يقتل ويعذب نشدانا للمتعة واللذة التي يشعر بها وهو ينظر إلى آلام الآخرين، وكان بؤرة لأبشع الرذائل، وها هم ندماؤه من الجنسين خير شاهد على ذلك، لقد كانوا من حثالة
1 - معاوية: 359. 2 - كربلاء بين الحقائق والأوهام، لإبراهيم أشكياني: 61 و 62. 150 المجتمع (1). وروى الطبري في تاريخه 7: 43 من شعر ابن عرادة، أن يزيد كان شريبا للخمر طوال حياته حتى الموت، وقد مات بين كأس الخمر وزق الخمر، والمغنية وآلة الطرب، قال: أبني أمية إن آخر ملككم * جسد بحوارين ثم مقيم طرقت منيته وعند وساده * كوب وزق راعف مرثوم ومرأة تبكي على نشوانه * بالصنج تقعد تارة وتقوم وقد عرف عنه الإدمان، حتى أن بعض المصادر تعزو سبب هلاكه إلى أنه شرب مقدارا كبيرا من الخمرة فأصابه انفجار. وكان قد اصطفى جماعة من الخلعاء والماجنين، فكان يقضي معهم لياليه بين الشراب والغناء.. وفي طليعة ندمائه الأخطل، الشاعر المسيحي الخليع، فكانا يشربان ويسمعان الغناء وإذا أراد السفر صحبه معه، ولما هلك يزيد وآل السلطان إلى عبد الملك بن مروان قرب الأخطل، فكان يدخل عليه بغير استئذان وعليه جبة خز، وفي عنقه سلسلة من ذهب، والخمر يقطر من لحيته (2). وفي تاريخ ابن كثير 8: 228: كان يزيد صاحب شراب، فأحب معاوية أن يعظه في رفق، فقال: يا بني! ما أقدرك على أن تصل حاجتك من غير تهتك يذهب بمروءتك وقدرك، ويشمت بك عدوك، ويسئ بك صديقك، ثم قال: يا بني! إني منشدك أبياتا فتأدب بها واحفظها. فأنشده:
1 - روح الاسلام: 296. 2 - الأغاني 7: 170. 151 أنصب نهارك في طلاب العلى * واصبر على هجر الحبيب القريب حتى إذا الليل أتى بالدجى * واكتحلت بالغمض عين الرقيب فباشر الليل بما تشتهي * فإنما الليل نهار الأريب كم فاسق تحسبه ناسكا * قد باشر الليل بأمر عجيب غطى عليه الليل أستاره * فبات في أمن وعيش خصيب ولذة الأحمق مكشوفة * يسعى بها كل عدو مريب وأضاف ابن كثير على الصفحة 230 قائلا: وكان في يزيد أيضا إقبال على الشهوات، وترك بعض الصلوات، في بعض الأوقات. أما اليعقوبي فقد أورد في تاريخه 2: 220 أن معاوية لما أراد أن يأخذ البيعة ليزيد من الناس طلب من زياد بن أبيه أن يأخذ بيعة المسلمين في البصرة، فكان جواب زياد له: ما يقول الناس إذا دعوناهم إلى بيعة يزيد وهو يلعب بالكلاب والقرود، ويلبس المصبغات، ويدمن الشراب، ويمشي على الدفوف، وبحضرتهم الحسين بن علي وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر؟! ولكن تأمره يتخلق بأخلاق هؤلاء حولا أو حولين، فعسينا أن نموه على الناس.
152 وأرسل معاوية يزيد إلى الحج، وقيل بل أخذه معه، فجلس يزيد بالمدينة على شراب، فاستأذن عليه عبد الله بن عباس والحسين بن علي، فأمر يزيد بشرابه فرفع، وقيل له: إن ابن عباس إن وجد ريح شرابك عرفه. فحجبه وأذن للحسين، فلما دخل وجد رائحة الشراب مع الطيب، فقال: ما هذا يا ابن معاوية؟ فقال: يا أبا عبد الله! هذا طيب يصنع لنا بالشام. ثم دعا بقدح فشربه، ثم دعا بقدح آخر فقال: اسق أبا عبد الله يا غلام، فقال الحسين: عليك شرابك أيها المرء! فقال يزيد: ألا يا صاح للعجب * دعوتك ثم لم تجب إلى القينات واللذات * والصهباء والطرب وباطية مكللة * عليها سادة العرب وفيهن التي تبلت * فؤادك ثم لم تتب فوثب الحسين عليه وقال: بل فؤادك يا ابن معاوية تبلت (1). وذكر اليعقوبي أن معاوية حج وحاول أن يأخذ البيعة من أهل مكة والمدينة، فأبى عبد الله بن عمر وقال: نبايع من يلعب بالقرود والكلاب، ويشرب الخمر ويظهر الفسق؟! ما حجتنا عند الله؟! وقال عبد الله بن الزبير: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقد أفسد علينا ديننا (2). وفي رواية، أن الحسين عليه السلام قال لمعاوية: كأنك تصف محجوبا، أو تنعت غائبا، أو تخبر عما كان احتويته لعلم خاص. وقد دل يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد في ما أخذ من استقرائه
1 - الأغاني 14: 61. والكامل 4: 5. 2 - تاريخ اليعقوبي 2: 228. 153 الكلاب المهارشة عند التحارش، والحمام السبق لأترابهن، والقينات ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده ناصرا، ودع عنك ما تحاول (1). وكان يزيد شاعرا، وقد أكثر من نظم الشعر في الخمر والغناء.. ومنه: معشر الندمان قوموا * واسمعوا صوت الأغاني واشربوا كأس مدام * واتركوا ذكر المثاني (2) شغلتني نغمة العيدان * عن صوت الأذان وتعوضت من الحور * عجوزا في الدنان (3) وروى صاحب الأغاني قائلا: كان يزيد بن معاوية أول من سن الملاهي في الاسلام من الخلفاء، وآوى المغنين، وأظهر الفتك، وشرب الخمر، وكان ينادم عليها سرجون النصراني مولاه، والأخطل - الشاعر النصراني - وكان يأتيه من المغنين سائب خائر فيقيم عنده، فيخلع عليه.. (4). وجاء في أنساب الأشراف للبلاذري: كان يزيد ابن معاوية أول من أظهر شرب الشراب، والاستهتار بالغناء والصيد، واتخاذ القيان والغلمان، والتفكه بما يضحك منه المترفون من القرود، والمعافرة بالكلاب والديكة (5). ثم روى البلاذري عن شيخ من أهل الشام: إن سبب وفاة يزيد أنه حمل قردة على الأتان وهو سكران، ثم ركض خلفها فسقط فاندقت عنقه أو انقطع في جوفه شئ. كما روى عن ابن عياش أنه قال: خرج يزيد يتصيد بحوارين وهو سكران، فركب وبين يديه أتان وحشية قد حمل عليها قردا وجعل
1 - الإمامة والسياسة، لابن قتيبة 1: 170. 2 - أي: اتركوا قراءة الحمد في الصلاة. 3 - يراجع (تذكرة الخواص)، لسبط ابن الجوزي: 164. 4 - الأغاني 16: 68. 5 - 4: 1 - القسم الأول، المعافرة كالمهارشة. 154 يركض الأتان ويقول: أبا خلف احتل لنفسك حيلة * فليس عليها إن هلكت ضمان فسقط واندقت عنقه (1). وقال ابن كثير في تاريخه 8: 436: اشتهر يزيد بالمعازف وشرب الخمور والغناء والصيد واتخاذ القيان والكلاب والنطاح بين الأكباش والدباب والقرود. وما من يوم إلا ويصبح فيه مخمورا، وكان يشد القرد على فرس مسرجة بحبال، ويسوق به، ويلبس القرد قلانس الذهب وكذلك الغلمان، وكان يسابق بين الخيل، وكان إذا مات القرد حزن عليه. وقيل إن سبب موته أنه حمل قردة وجعلها ينقزها فعضته.. نعم.. هذا يزيد، وقد كان اتخذ لمشورته رجلا من النصارى اسمه (سرجون) الذي كان من ذي قبل مستودع أسرار معاوية، فإذا تحير في أمر أتى هذا النصراني فأخذ برأيه. وكان يزيد يأمر بقطع الرؤوس وإرسالها إليه لينظر إليها بعين التشفي وينشو، ويشبع نهمه الذي لا يشبع في سفك الدماء، وما أشبهه بجدته (هند) آكلة الأكباد، التي مثلت بجسد حمزة بن عبد المطلب سيد الشهداء في " أحد " ولاكت كبده الشريف تشفيا لحقدها العجيب على أولياء الله! ثم كان ما كان من الإرهاب والقتل والتشديد والتعذيب، وكثرة السجون والمفاسد والمظالم في عهد يزيد، حتى أقر عليه المقربون، وخشي على
1 - نفسه: ص 2، وأبو خلف كنية قرده، وله قرد آخر بكنية أبي قيس، وقد قال فيه شعرا.. منه: تمسك أبا قيس بفضل عنانها * فليس عليها إن سقطت ضمان 155 أنفسهم الأتقياء.. ذكر معقل بن سنان يزيد بن معاوية لمسرف (وهو مسلم بن عقبة) فقال: إني خرجت كرها لبيعة هذا الرجل، وقد كان من القضاء والقدر خروجي إليه، هو رجل يشرب الخمر، ويزني بالحرم. ثم نال منه وذكر خصالا كانت في يزيد (1). وأخرج الطبري (2) عن (المنذر بن الزبير) أن يزيد بعث إليه بمائة ألف ليشتري منه دينه، ويبايعه لأجلها، فأخذ المنذر بن الزبير المال، وخطب في أهل المدينة، وقال فيما قال: إنه - أي يزيد - قد أجازني بمائة ألف، ولا يمنعني ما صنع بي أن أخبركم خبره، والله إنه ليشرب الخمر، والله إنه ليسكر حتى يدع الصلاة. في حين ذكر ابن حجر في (الصواعق المحرقة) ص 132: أخرج الواقدي من طرق، أن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة، قال: والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء.. إنه رجل ينكح أمهات الأولاد، والبنات والأخوات، ويشرب الخمر، ويدع الصلاة. وأورد ابن سعد في طبقاته 5: 47 قريبا إلى هذا النص، وهو أن عبد لله ابن حنظلة قال: يا قوم! اتقوا الله وحده لا شريك له، فوالله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء.. إن رجلا ينكح الأمهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمر ويدع الصلاة، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت الله فيه بلاء حسنا. فتواثب الناس يومئذ يبايعون من كل النواحي.
1 - مستدرك الصحيحين، للحاكم 3: 522، بسنده عن عثمان بن زياد الأشجعي. 2 - في تاريخه 4: 68. 156 فأين هذا من قول من يقول لا يجوز لعن يزيد، لأنه مسلم، وسب المسلم فسق، ولا يجوز قتال يزيد لأن قتال المسلم الكفر؟! تعالوا نقرأ ما كتبه العالم السني المشهور (الآلوسي) في تفسيره: من يقول إن يزيد لم يعص بذلك ولا يجوز لعنه فينبغي أن ينتظم في سلسلة أنصار يزيد. وأنا أقول إن الخبيث لم يكن مصدقا بالرسالة للنبي صلى الله عليه وآله، وإن مجموع ما فعله مع أهل حرم الله وأهل حرم نبيه صلى الله عليه وآله وعترته الطيبين الطاهرين في الحياة وبعد الممات، وما صدر منه من المخازي ليس بأضعف دلالة على عدم تصديقه من إلقاء ورقة من المصحف الشريف في قذر. ولا أظن أن أمره كان خافيا على أجلة المسلمين إذ ذاك، ولكن كانوا مغلوبين... ولو سلم أن الخبيث كان مسلما فهو مسلم جمع من الكبائر ما لا يحيط به نطاق البيان، وأنا أذهب إلى جواز لعن مثله على التعيين، ولو لم يتصور أن يكون له مثل من الفاسقين. والظاهر أنه لم يتب، واحتمال توبته أضعف من إيمانه.. ويعجبني قول شاعر العصر، ذي الفضل الجلي، عبد الباقي أفندي العمري الموصلي، وقد سئل عن لعن يزيد فقال: يزيد على لعني عريض جنابه * فأغدو به طول المدى ألعن اللعنا ومن يخشى القيل والقال من التصريح بلعن ذلك الضليل فليقل: لعن الله عز وجل من رضي بقتل الحسين عليه السلام، ومن آذى عترة النبي صلى الله عليه وآله بغير حق، ومن غصبهم حقهم، فإنه يكون لاعنا له لدخوله تحت العموم دخولا أوليا في نفس الأمر.. ثم قال الآلوسي: نقل البرزنجي في (الإشاعة)، - ابن حجر في (الصواعق) أن الإمام أحمد بن حنبل لما سأله ابنه
157 عبد الله عن لعن يزيد قال: كيف لا يلعن من لعنه الله في كتابه!، فقال عبد الله: قرأت كتاب الله عز وجل فلم أجد فيه لعن يزيد، فقال الإمام: إن الله يقول: * (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم. أولئك الذين لعنهم الله..) * سورة محمد صلى الله عليه وآله 22، 23. وأي فساد وقطيعة أشد مما فعله يزيد؟! وقد جزم بكفره، وصرح بلعنه جماعة من العلماء، منهم: القاضي أبو يعلى والحافظ ابن الجوزي، وقال التفتازاني: لا نتوقف في شأنه، بل في إيمانه، لعنة الله عليه وعلى أعوانه وأنصاره. وصرح بلعنه جلال الدين السيوطي. وفي تاريخ ابن الوردي، وكتاب (الوافي بالوفيات): لما ورد على يزيد نساء الحسين وأطفاله، والرؤوس على الرماح، وقد أشرف على ثنية جيرون، ونعب الغراب، قال: لما بدت تلك الحمول وأشرقت * تلك الشموس على ربى جيرون نعب الغراب، فقلت قل أو لا تقل * فلقد قضيت من النبي ديوني يعني أنه قتل بمن قتله رسول الله يوم بدر كجده عتبة وخاله ولد عتبة وغيرهما، وهذا كفر صريح، فإذا صح عنه فقد كفر به. ومثله تمثله بقول عبد الله بن الزبعرى قبل إسلامه: ليت أشياخي - الأبيات (1). ف " يزيد " غير سوي، فضلا عن عدم لياقته للخلافة، وقد أقر عليه ولده (معاوية الثاني) بذلك.. جاء في الصواعق المحرقة ص 134: ومن صلاحه
1 - تفسير روح المعاني 26: 27، في ظل الآية * (فهل عسيتم إن توليتم) *. 158 الظاهر (أي معاوية بن يزيد بن معاوية) أنه لما ولي صعد المنبر فقال: إن هذه الخلافة حبل الله، وإن جدي معاوية نازع الأمر أهله ومن هو أحق به منه علي بن أبي طالب عليه السلام، وركب بكم ما تعلمون، حتى أتته منيته فصار في قبره رهينا بذنوبه، ثم قلد أبي الأمر وكان غير أهل له، ونازع ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله فقصف عمره، وانبتر عقبه، وصار في قبره رهينا بذنوبه. ثم بكى وقال: من أعظم الأمور علينا علمنا بسوء مصرعه، وبؤس منقلبه، وقد قتل عترة رسول الله صلى الله عليه وآله، وأباح الخمر، وخرب الكعبة، ولم أذق حلاوة الخلافة فلا أتقلد مرارتها، فشأنكم أمركم. والله لئن كانت الدنيا خيرا فقد نلنا منها حظا، ولئن كانت شرا فكفى ذرية أبي سفيان ما أصابوا منها. قال ابن حجر: ثم تغيب في منزله حتى مات بعد أربعين يوما كما مر، عن إحدى وعشرين سنة، وقيل عشرين، فرحمه الله أنصف من أبيه، وعرف الأمر لأهله). وقيل إنه قتل كما قتل معلمه لاتهامه بتعليمه الزهد بالدنيا وهنا بعد هذه الرحلة التاريخية الطويلة، نقول: إن الأخلاق: الشرعية، والسياسية، والاجتماعية والإنسانية، كلها تستدعي لأن ينهض الحسين سلام الله عليه ليصرخ صرخته التاريخية المدوية في وجه الظلم الذي استفحل فهدد الدين بالتحريف، وهدد المسلمين بالقتل المعنوي، فناموا على قبول الضيم، وانزووا خانعين، وماتت الغيرة والهمة والشهامة والمروءة والكرامة فيهم، حتى أقروا على حكم يزيد، ولم تسمع منهم كلمة حق في وجه سلطان جائر، ولم ير منهم سيف يسلط في وجه أمير ظالم، فغضوا الأبصار عن جرائم بني أمية، وأصموا الأسماع عما شاع من يزيد وزمرته من الانتهاكات، وهتك الحرمات.
159 فكان لا بد أن يقوم الإمام الحسين عليه السلام لله، وعلى حب الله، وطاعة الله، وفي سبيل الله.. ولو كلفه ذلك الدماء الزكية، والأنفس القدسية، وآلام الأسر، وهو يعلم أن يزيد هذا لا يتورع عن انتهاك أي حرمة، وارتكاب أي جريمة، فبذلك يثبت للناس أن يزيد كافر، وأن الأمة متخلفة عن تكاليفها الشرعية، وهذا لم يكن للإمام الحسين عليه السلام أن يثبته إلا بالدم النبوي الشريف. فعرض بدنه للسيوف والرماح والسهام، وعرض أسرته للقتل والسبي ليسلم الدين، ويستفيق المسلمون من أسر الغفلة وحب الدنيا والخوف.. وفعلا افتضح أمر (يزيد) بعد واقعة الطف، وبعد تلك المواقف الشجاعة التي ظهرت من الإمام الحسين عليه السلام، حتى إذا استتب له الأمر هجم على المدينة في واقعة الحرة فهتك حرمة حرم رسول الله صلى الله عليه وآله، حيث أباح دماءها وأعراضها ثلاثة أيام، فقتل جيشه ألفا وسبعمائة من الأنصار والمهاجرين وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ووجوه الناس، ومن العوام عشرة آلاف سوى النساء والصبيان. هذا ما ذكره ابن قتيبة في الإمامة والسياسة، أضف إلى ذلك النهب والإفساد وأسر المسلمين، وانتهكت ألف بنت في هذه المأساة، وحملت (من الزنا) سبعمائة امرأة بأولاد الزنا. ثم ماج يزيد على الكعبة فهدمها سنة 64 ه بالمنجنيق كما يذكر ابن الأثير في تاريخه (الكامل) 4: 124. إن الموقف يومذاك قد تطلب معرفة أمر الله وحكمه، والحسين سلام الله عليه من أهل بيت الوحي، ومستقى العلم.. وكذا تطلب الموقف شجاعة عالية لا يرقى إليها إلا الحسين، ولا يطالها إلا سيد شباب أهل الجنة،
160 ولا يفوز بها إلا سيد الشهداء، من الأولين والآخرين. وقف الإمام الحسين عليه السلام أمام مروان بن الحكم وقد دعاه إلى بيعة يزيد فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وعلى الاسلام السلام إذا بليت الأمة براع مثل يزيد. ولقد سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " الخلافة محرمة على آل أبي سفيان، فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنة ". وقد رآه أهل المدينة فلم يبقروا، فابتلاهم الله بيزيد الفاسق (1). يقول ابن طاووس بعد هذا: والذي تحققناه أن الحسين عليه السلام كان عالما بما انتهت حاله إليه، وكان تكليفه ما اعتمد عليه. ولهذا ندم من تخلف عن الإمام الحسين سلام الله عليه، فقام سليمان بن صرد الخزاعي بثورة التوابين سنة 65 ه، وقام بثورة المدينة عبد الله بن (حنظلة غسيل الملائكة)، وقام المختار الثقفي (رضوان الله عليه) بثورة في الكوفة سنة 66 ه. وفي سنة 77 ه ثار مطرف بن المغيرة بن شعبة على الحجاج بن يوسف وخلع عبد الملك بن مروان، وثار سنة 81 ه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على الحجاج أيضا، ثم نهض زيد بن علي بن الحسين سلام الله عليهم بثورة شامخة سنة 122 ه.. ولم يستقر لبني أمية قرار، حتى آل سلطانهم إلى الانهيار، فانتصر الإمام الحسين عليه السلام نصرين، ونال كلتا الحسنيين: غلبة السيف على الظلم، وغلبة الدم على السيف الظالم، وفاز هو وأنصاره بالشهادة العليا. ثم يعود التاريخ فينحني إجلالا وإكبارا للشجاعة الحسينية التي غيرت
1 - اللهوف: 10. ومقتل الحسين عليه السلام، للخوارزمي 1: 185. 161 عوالم في هذا الوجود، وطبقت شريعة الله على الأرض بأغلى التضحيات، وصرعت رموز الكفر والضلال والفساد. قال ابن خلدون: غلط القاضي أبو بكر ابن العربي الأندلسي المالكي إذ قال في كتابه (العواصم والقواصم) (1): إن الحسين قتل بسيف شرعه. غفلة عن اشتراط الإمام العادل في الخلافة الإسلامية، ومن أعدل من الحسين في زمانه وإمامته وعدالته في قتال أهل الآراء (2)؟! ثم ذكر الاجماع على فسق يزيد ومعه لا يكون صالحا للإمامة، ومن أجله كان الحسين عليه السلام يرى من المتعين الخروج عليه. وقعود الصحابة والتابعين عن نصرة الحسين لا لعدم تصويب فعله.. لأنهم يرون.. أن لا يجوز نصرة يزيد بقتال الحسين، بل قتله من فعلات يزيد المؤكدة لفسقه، والحسين فيها شهيد. وقال ابن مفلح الحنبلي: جوز ابن عقيل وابن الجوزي الخروج على الإمام غير العادل، بدليل خروج الحسين على يزيد لإقامة الحق، وذكره ابن الجوزي في كتابه (السر المصون) من الاعتقادات العامية التي غلبت على جماعة من المنتسبين إلى السنة.. ثم لو قدرنا صحة خلافة يزيد فقد بدرت منه بوادر، وظهرت منه أمور، كل منها يوجب فسخ ذلك العقد.. (3). وقال الشيخ محمد عبده: إذا وجد في الدنيا حكومة عادلة تقيم الشرع، وحكومة جائرة تعطله، وجب على كل مسلم نصر الأولى... ومن هذا الباب خروج الإمام الحسين سبط الرسول صلى الله عليه وآله على إمام الجور والبغي،
1 - ص 232. 2 - مقدمة ابن خلدون: 254 و 255، عند ذكر ولاية العهد. 3 - الفروع 3: 548 - باب قتال أهل البغي. 162 الذي ولي أمر المسلمين بالقوة والمكر (يزيد بن معاوية) خذله الله وخذل من انتصر له من الكرامية والنواصب (1). وهذا أثبته الإقدام الحسيني المبارك، والشجاعة الحسينية الباصرة، الداعية على هدى إلى الجهاد في سبيل الله، والقيام لله، وإحياء الدين وإماتة البدع وقطع أيدي الظلمة، ودفع الظالم عن حوزة الدين ومجتمع المسلمين، وإنقاذ عباد الله عن الضلالة والحيرة.. وقد بذل سلام الله عليه من أجل ذلك الخيرة من أصحابه، والخلص من أهل بيته، وفلذات كبده، وكل عزيز عليه، ثم نفسه القدسية الطاهرة. وهذه في الحقيقة.. هي الشجاعة الفذة الفريدة، التي تقع موضع الرضوان الإلهي، والقبول الرباني.. إذ جمعت إلى العلم والمعرفة، الهمة والإقدام، وصلاح النية وبصيرة الهدف، والجهاد في سبيل الله، ولله. 3 - الدعوة الحقة: لا نستطيع أن نسمي الهجوم المباغت على المخالف المخاصم شجاعة، ولا نستطيع أن نسمي المقابلة الفضة الغليظة الجافة للناس شجاعة، كذلك لا نستطيع أن نسمي تعبئة الأنصار بلا بيان، ودعوة الناس إلى القتال بلا حجة.. شجاعة. إنما الشجاعة الكاملة ما جمعت إلى الوعي التوعية، وإلى الشهادة بالحق إشهاد الملأ عليه، وإلى بلوغ ساحة الحرب إبلاغ الأمة بواقعها وتكاليفها. والشجاعة الحقيقية ما اتصفت بالكلمة الموقظة المنبهة المرشدة، المبينة للتكليف الشرعي، والرافعة للهمم والعزائم إلى مستوى الجهاد في سبيل الله
1 - تفسير المنار، لمحمد رشيد رضا 1: 367، في سورة المائدة: 37، و 12: 183 و 185. 163 تبارك وتعالى. والشجاعة الحقة ما كانت جهادا باللسان والقلم، فإن تعذر الإصلاح إلا بالسيف فبه.. قال أمير المؤمنين عليه السلام: ردوا الحجر من حيث جاء، فإن الشر لا يدفعه إلا الشر (1). فكنى عليه السلام بالحجر عن الشر، وبرده من حيث جاء: عن مقابلة الشر بمثله، وهو مخصوص بشر لا يندفع إلا بالشر (2). فالكلمة المرشدة، الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر.. تدفع الكثير من الشر، وتترك الناس على المحجة البيضاء والحجة البالغة، وتسقط عن الجاهل والغافل، والمتجاهل والمتغافل، وعن كل مدع كل عذر. وهي من الشجاعة، إذ يتحلى المؤمن بالروح الانسانية الداعية إلى الخير والإصلاح باللسان، ويتحلى بالدليل الواضح والبرهان القاطع الذي يدعوه إلى الإقدام، ويرد على كل شبهة وتردد وتشكيك. فالكلمة أولا، لأن الهدف ليس انتقاما، ولا قصدا للقتل مجرد القتل، ولا نشرا للرعب وفتكا حاقدا بالمخالفين والضعفاء والأبرياء.. إنما القصد إحقاق الحق، وإبطال الباطل، فلا بد من الحجة المقنعة. وهكذا بدأ نبي الهدى والرحمة صلى الله عليه وآله دعوته المباركة، فبلغ الناس الحق، ودعا إلى الخير، ونشر الحكمة، وخاطب الملأ بالحكمة والموعظة الحسنة.. حتى إذا رأى سيوف الشرك والكفر والجاهلية تشهر في وجه الاسلام سل سيف الدفاع وقطع رؤوس الفتنة، وهدد قلاع الأحزاب وفرقهم عن قصدهم الشيطاني.
1 - نهج البلاغة: الحكمة 314. 2 - اختيار مصباح السالكين، لكمال الدين ابن ميثم البحراني: 651 - تحقيق الدكتور الشيخ محمد هادي الأميني. 164 ومن بعد المصطفى صلى الله عليه وآله حارب أهل البيت عليهم السلام على التأويل، كما حارب رسول الهدى على التنزيل، فدعوا قومهم ما استطاعوا وما وجدوا إلى طاعة الله سبيلا، حتى أضطر الإمام علي عليه السلام إلى دفع المارقين والقاسطين والناكثين بالاحتجاجات الطويلة.. فلما رأى سيوفهم سلت على الاسلام، جرد سيفه ذا الفقار فدفعهم في الجمل وصفين والنهروان، لا يجد عن ذلك بدا، لأن شريعة الله، وحال دولة الاسلام أصبحا في خطر، وكذا أنذر وضع الأمة بالانحراف. وجاء الإمام الحسن سلام الله عليه فخطب وخاطب، ودعا واستدعى، وبلغ وبالغ في النصيحة، فتخلف الناس عنه، واتجهت قلوبهم إلى الدنيا وعيونهم إلى دنانير معاوية. فلما دعاهم إلى قتال المنحرفين تململوا، وتعللوا، وتثاقلوا، ثم غدروا به وخذلوه وكادوا يقتلونه، حتى استطاع (معاوية) أن يدس له السم القاتل على يد الآثمة " جعدة " فقتله، وأصبحت الأمة في محنة حقيقية. وجاء الإمام الحسين صلوات الله عليه.. فلم يشرع أمره بالسيف، ولم يبدأ الناس بالدعوة إلى الحرب، بل تقدم لهم بالكلمة المرشدة المدعومة بالدليل العقلي. والدليل الشرعي النقلي، فخاطب العقول والضمائر، وعالج النفوس المنكمشة والقلوب المتحيرة، وصدع بالحق والحقيقة بشجاعة عاقلة هادفة، حملها ذلك القائد الهمام بين جنبيه مع حب الخير للناس، فجمع إلى الوعي التوعية.. ومن أفقه من الإمام الحسين عليه السلام! ومن أوضح منه بيانا إذا خطب أو خاطب؟! وكانت كلماته سلام الله عليه تبث همة الجهاد، وتبعث روح الشجاعة في النفوس المخذولة المنهزمة. لأن معاوية أنفق بيت مال المسلمين على شراء
165 الضمائر والذمم، وجر الناس إليه بالترغيب والترهيب، وجند لذلك وعاظ السلاطين، والمحدثين الوضاعين، والدنانير الثقيلة التي يسيل لها لعاب كل طماع حباب للدنيا ضعيف التقوى متخلخل الإيمان مستعار الشخصية. وليس أدل على ذلك من إرسال معاوية إلى " مالك بن الهبيرة السكوني " ألف درهم حين بلغه استياؤه من قتل معاوية للصحابي الجليل (حجر بن عدي) وأصحابه رضوان الله عليهم، فما كان من السكوني إلا أن أخذ ثمن ضميره، وتخلى عن عزمه على التحرك بوجه الظلم والفساد (1). وأرسل معاوية أموالا إلى بعض قواد جيش الإمام الحسن عليه السلام.. فما أسرع أن ركبوا الليل سرجا للفرار، وتبعهم إلى ذلك آلاف من الجند. ودس معاوية إلى عمرو بن حريث، والأشعث بن قيس، وإلى حجر بن الحجر، وشبث بن ربعي، دسيسا أفرد كل واحد منهم بعين من عيونه أنك إذا قتلت الحسن بن علي فلك مائتا ألف درهم، وجند من أجناد الشام، وبنت من بناتي، فبلغ الحسن عليه السلام ذلك فاستلام (2) ولبس درعا وكفرها (3)، وكان يحترز ولا يتقدم للصلاة بهم إلا كذلك، فرماه أحدهم في الصلاة بسهم فلم يلبث فيه لما عليه من اللامة، فلما صار في مظلم " ساباط " ضربه أحدهم بخنجر مسموم فعمل فيه الخنجر، فأمر عليه السلام أن يعدل به إلى بطن " جريحي " (4). لقد ظهرت على الناس بوادر الميل الدنيوي الحاد، بشكل شره
1 - يراجع في ذلك كتب السيرة، وكذا شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد. 2 - أي: لبس لامته. 3 - أي: غطاها وسترها. 4 - علل الشرائع: 220 و 221. 166 ومفضوح.. فتسابق أصحاب التيار النفعي ليستحوذوا على الإمارات، أو يحصلوا على دريهمات السلطان بعد طول وقوف ذليل على بابه. ولم يعد هناك مجتمع مستعد لرفض الباطل أو التصريح بالحق، فضلا عن مواجهة الطغاة.. استأذن زهير بن مظاهر الأسدي رضوان الله عليه الإمام الحسين عليه السلام ليدعو عشيرته بني أسد للالتحاق، فأذن له، فكانت نتيجة مفاتحته أن غادرت عشيرته المنطقة بأجمعها، وانسحبت انسحابا جماعيا في تلك الليلة ذاتها (1). في حين جند عبيد الله بن زياد الآلاف من أهل الكوفة ليضعهم في خط بني أمية، ويقتل بهم الحسين عليه السلام وأنصاره. وقصة (مسلم بن عقيل) عليه السلام معروفة مشهورة، وهي تحكي عن روح الهزيمة.. وقد كان مع مسلم أربعة آلاف رجل أخذوا يطوفون قصر الإمارة، وابن زياد في قصره ليس معه إلا عدد قليل من الشرطة لا يتجاوزون الثلاثين، فهرب أنصار مسلم جميعا بالدعاية، فأسرع ابن زياد في قتل مسلم، وهانئ بن عروة بعد أن خذلته عشيرته ولم تنقذه من السجن، واقتنعت بالمكيدة القائلة: إن هانئ حي لم يقتل. ومن هنا نعرف مدى حاجة الناس إلى التوعية العقلية والروحية، قبل التقدم إلى ساحة المعركة، وقد كان للإمام الحسين سلام الله عليه في كل موقع تذكير ودعوة، وتنبيه وإيقاظ، وتعريف وبيان وتبيين، وتفصيل.. وإذا تطلب الأمر خلاف ذلك سمعناه سلام الله عليه يوخز الضمائر، ويهتف بالهمم، ويثير العزائم، أو يؤنب الجبناء، ويوبخ المنحرفين، ويعاتب المقصرين، ويلوم
1 - إبصار العين، في أنصار الحسين عليه السلام، للشيخ المرحوم مهدي السماوي: 67. 167 المتخلفين.. وهذا ما يقرأه التاريخ عنه من خلال وثائقه التي جمعها لنا في بطون المؤلفات.. تعالوا نطالعها: من كلامه عليه السلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اعتبروا أيها الناس بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار إذ يقول: * (لولا ينهيهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم) * (1) وقال: * (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل) * - إلى قوله - * (لبئس ما كانوا يفعلون) * (2) وإنما عاب الله ذلك عليهم لأنهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد فلا ينهونهم عن ذلك، رغبة فيما كانوا ينالون منهم، ورهبة مما يحذرون.. والله يقول: * (فلا تخشوا الناس واخشوني) * (3) وقال: * (المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) * (4) فبدأ الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه، لعلمه بأنها إذا أديت وأقيمت استقامت الفرائض كلها، هينها وصعبها.. وذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الاسلام مع رد المظالم. ومخالفة الظالم وقسمة الفئ والغنائم، وأخذ الصدقات من مواضعها ووضعها في حقها. ثم أنتم أيتها العصابة! عصابة بالعلم مشهورة، وبالخير مذكورة، وبالنصيحة معروفة، وبالله في أنفس الناس مهابة. يهابكم الشريف، ويكرمكم الضعيف، ويؤثركم من لا فضل لكم عليه ولا يد لكم عنده، تشفعون في
1 - المائدة: 63. 2 - المائدة: 78، 79. 3 - المائدة: 44. 4 - التوبة - 71. 168 الحوائج إذا امتنعت من طلابها، وتمشون في الطريق بهيبة الملوك وكرامة الأكابر. أليس كل ذلك إنما نلتموه بما يرجى عندكم من القيام بحق الله، وإن كنتم عن أكثر حقه تقصرون. فاستخففتم بحق الأئمة.. فأما حق الضعفاء فضيعتم، وأما حقكم بزعمكم فطلبتم. فلا مالا بذلتموه، ولا نفسا خاطرتم بها للذي خلقها، ولا عشيرة عاديتموها في ذات الله. أنتم تتمنون على الله جنته ومجاورة رسله وأمانا من عذابه. لقد خشيت عليكم أيها المتمنون على الله أن تحل بكم نقمة من نقماته، لأنكم بلغتم من كرامة الله منزلة فضلتم بها. ومن يعرف بالله لا تكرمون، وأنتم بالله في عباده تكرمون، وقد ترون عهود الله منقوصة فلا تفزعون، وأنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون، وذمة رسول الله صلى الله عليه وآله محقورة، والعمي والبكم والزمن في المدائن مهملة لا ترحمون، ولا في منزلتكم تعملون ولا من عمل فيها تعنون، وبالأدهان والمصانعة عند الظلمة تأمنون، كل ذلك مما أمركم الله به من النهي والتناهي وأنتم عنه غافلون. وأنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء، لو كنتم تسعون ذلك بأن مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه، فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، وما سلبتم ذلك إلا بتفرقكم عن الحق، واختلافكم في السنة بعد البينة الواضحة، ولو صبرتم على الأذى وتحملتم المؤونة في ذات الله كانت أمور الله عليكم ترد، وعنكم تصدر، وإليكم ترجع. ولكنكم مكنتم الظلمة من منزلتكم، واستسلمتم أمور الله في أيديهم، يعملون بالشبهات، ويسيرون في الشهوات. سلطهم على ذلك فراركم من الموت، وإعجابكم بالحياة التي هي مفارقتكم، فأسلمتم الضعفاء في أيديهم. فمن بين مستعبد مقهور، وبين مستضعف على
169 معيشة مغلوب، يتقلبون في الملك بآرائهم، ويستشعرون الخزي بأهوائهم، اقتداء بالأشرار، وجرأة على الجبار. في كل بلد منهم على منبره خطيب يصقع، فالأرض لهم شاغرة، وأيديهم فيها مبسوطة، والناس لهم خول لا يدفعون يد لامس. فمن بين جبار عنيد، وذي سطوة على الضعفة شديد، مطاع لا يعرف المبدئ المعيد. فيا عجبا! وما لي (لا) أعجب والأرض من غاش غشوم، ومتصدق ظلوم، وعامل على المؤمنين بهم غير رحيم، فالله الحاكم فيما فيه تنازعنا، والقاضي بحكمه فيما شجر بيننا. اللهم إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منا تنافسا في سلطان، ولا التماسا من فضول الحطام، ولكن لنري المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك، ويأمن المظلومون من عبادك، ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك، فإنكم تنصرونا وتنصفونا قوي الظلمة عليكم وعملوا في إطفاء نور نبيكم. وحسبنا الله وعليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير (1). يقول الأستاذ أحمد الصابري الهمداني معلقا على هذه الخطبة الشريفة: وهذه الخطبة العظيمة مما يهيج الباطل العاطل، ويقوي الضعيف المسامح المماهل، في أمور المجتمع والأمة، ويبين وظيفة هامة ومسؤولية اجتماعية مهمة، لأرباب العلم والفضل، وطبقة العلماء والربانيين، ويوجب عليهم أن ينكروا المنكر بفعلهم وقولهم، وأن لا يداهنوا الظلمة، حتى لا تضيع حقوق الضعفة والعجزة من الرعية، وأن لا يتفرقوا عن الحق ولا يختلفوا في السنة. ويقول الإمام عليه السلام: لو أنهم أقاموا الأمر بالمعروف والنهي عن
1 - تحف العقول: 171 و 172. 170 المنكر لاستقامت الفرائض كلها، وبه يرد المظالم، ومخافة الظالم، ويكون مجاري الأمور بيد العلماء. وقد استدل بتلك الخطبة لولاية الفقهاء كما أوضحنا ذلك في كتاب الهداية إلى من له الولاية (1). (2) وروى محمد بن الحسن أن الإمام الحسين عليه السلام قال لأصحابه بعد أن حمد الله وأثنى عليه: إنه قد نزل بنا من الأمر بما قد ترون، وإن الدنيا تغيرت وتنكرت، وأدبر معروفها واستمرت (3)، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقا، فإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما. إن الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما درت معايشهم.. فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون. وأنشأ متمثلا: سأمضي فما بالموت عار على الفتى * إذا ما نوى خيرا وجاهد مسلما وواسى الرجال الصالحين بنفسه * وفارق مذموما، وخالف مجرما أقدم نفسي لا أريد بقاءها * لنلقى خميسا في الهياج عرمرما
1 - أدب الحسين عليه السلام وحماسته، للأستاذ أحمد الهمداني الصابري: 95. 2 - كتاب ألفه الأستاذ أحمد الصابري سنة 1373 ه، وطبع سنة 1383 ه، يبحث فيه ولاية الفقهاء وكيفيتها. 3 - أي: صارت مرة. 171 فإن عشت لم أذمم، وإن مت لم ألم * كفى بك ذلا أن تعيش فترغما (1) وهذه دعوة صادقة، تبين تكليف المسلم في ذلك المقطع ألزمني الحساس، وتوضح علة ذلك التكليف، وتثير في المرء نخوة الجهاد في سبيل الله، وتبث فيه روح الشهامة والعزة والإباء. ولقد أمر الإمام الحسين سلام الله عليه بالمعروف وكان في طليعة أهله، ونهى عن المنكر وكان في طليعة المحاربين له، بالدعوة إلى إحقاق الحق وإزهاق الباطل. فإذا لم تنفع الدعوة، وصكت الأسماع دون الكلمة الشجاعة تقدم الإمام الحسين عليه السلام بالسيف مقدما عليه نفسه الشريفة ودمه الزاكي، جهادا في سبيل الله، ودفاعا عن شريعة الله، ورفعا للحيف عن عباد الله، وإيقاظا للمسلمين مما لا يرضاه لهم الله. فجرد حسام العزة حتى الشهادة.. ولكنه لم ينس الكلمة التي يكون الناس بعدها ينادون بها: * (ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، وإن الله لسميع عليم) * (2). خطب الإمام الحسين عليه السلام في (البيضة) للحر وأصحابه وقد جعجعوا به إلى ذلك المكان، فقال - بعد الحمد والثناء -: أيها الناس! إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: " من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرام الله، ناكثا عهده، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول، كان حقا على الله أن
1 - المناقب 4: 68، وحلية الأولياء 2: 539 مع اختلاف يسير، وتحف العقول: 176. 2 - الأنفال: 42. 172 يدخله مدخله ". ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتولوا عن طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفئ، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلاله.. وإني أحق بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله، وقد أتتني كتبكم، وقدمت علي رسلكم، ببيعتكم أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني.. فإن وفيتم لي ببيعتكم فقد أصبتم حظكم ورشدكم، وأنا الحسين بن علي، ابن فاطمة بنت رسول الله، ونفسي مع أنفسكم، وولدي مع أهاليكم وأولادكم، ولكم بي أسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدي، وخلفتم بيعتي، فلعمري ما هي منكم بنكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم بن عقيل. والمغرور من اغتر بكم، فحظكم أخطأتم، ونصيبكم ضيعتم، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، وسيغني الله عنكم، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته (1). إن مما تحلت به الشجاعة الحسينية: الروح الانسانية المحبة للخير، الحريصة على إنقاذ الناس من الضلالة، وميتة الجهالة. ولهذا قدم الإمام الحسين سلام الله عليه الموعظة والتذكير، على السيف والنفير، واستجاب لرسائل أهل الكوفة والتي دعته لأن يقبل عليهم فيكون لهم إماما وقدوة، وهو يعلم أنهم الغدرة.. لكنه جاء إليهم ليقطع عذر العاذر، ويخلف الندم والحسرة في قلب كل متخلف عنه، ولئلا يقول قائل: لقد خيبنا إمامنا حيث دعوناه فلم يستجب، واستنجدناه فلم ينجدنا، ومددنا إليه يد المستغيث فلم يراعنا ولم يغثنا.. فيكون لهم الحجة الظاهرة إذا نكصوا عن الجهاد، أو انصاعوا إلى سلطة الجلاد. لقد قدم الإمام الحسين سلام الله عليه لتصبح الحجة ظاهرة وباطنة، قائمة
1 - تاريخ الطبري 3: 376. 173 عليهم، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة.. ولئلا يقول أحد: يا رب! لولا أقمت لنا علما هاديا، فنتبع أوامرك من قبل أن نذل ونخزى.. فقد عقب الله تعالى برسله أوصياء مستحفظين، حجة منه بالغة على العباد، * (فلله الحجة البالغة...) * (1) وقد جاء عن الإمام المهدي سلام الله عليه في دعاء الندبة، قوله: وكل (أي من الأنبياء عليهم السلام) شرعت له شريعة، ونهجت له منهاجا، وتخيرت له أوصياء [أوصياءه] مستحفظا بعد مستحفظ، من مدة إلى مدة.. إقامة لدينك، وحجة على عبادك، ولئلا يزول الحق عن مقره، ويغلب الباطل على أهله، ولئلا يقول أحد: لولا أرسلت إلينا رسولا منذرا، وأقمت لنا علما هاديا، فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى... (2). ثم كان لا بد من الإقدام، إذ لا بد من الدم حيث الدين في خطر، والأمة في سبات، فرأى الحسين عليه السلام أن يذهب إلى كربلاء.. نصره الناس أم خذلوه، أسلموه أم قتلوه. ولكن رأى أيضا أن يدلي لهم بالنصيحة، ويقيم عليهم الحجة بل الحجج، ويذكرهم ويحذرهم مما هم مقبلون عليه من سخط الله وعظيم غضبه، بقتلهم وصي المصطفى وريحانته، والثلة المؤمنة من أهل بيته وأنصاره. لما بلغ عمر بن سعد توجه الحسين إلى العراق لحقه وأشار عليه بالطاعة والانقياد، فقال له الحسين: يا عبد الله! أما علمت أن من هوان الدنيا على الله
1 - الأنعام: 149. 2 - يراجع كتب الأدعية، ومنها: جمال الأسبوع، للسيد ابن طاووس. ومصباح الزائر. وتحفة الزائر، للعلامة المجلسي. 174 أن رأس يحيى بن زكريا أهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل - إلى قوله - فلم يعجل الله عليهم بل أخذهم بعد ذلك أخذ عزيز مقتدر، ثم قال عليه السلام لعمر: اتق الله يا أبا عبد الرحمن! ولا تدعن نصرتي (1). وفي اليوم السابع من المحرم سنة 61 ه وفي ساحة كربلاء.. أرسل الإمام الحسين عليه السلام عمرو بن قرظة الأنصاري إلى عمر بن سعد يطلب الاجتماع معه ليلا بين المعسكرين، فخرج كل منهما في عشرين فارسا، وأمر الحسين من معه أن يتأخر إلا العباس وابنه عليا الأكبر، وفعل ابن سعد كذلك وبقي معه ابنه حفص وغلامه. فقال الحسين: يا ابن سعد! أتقاتلني؟ أما تتقي الله الذي إليه معادك؟! فأنا ابن من علمت، ألا تكون معي وتدع هؤلاء فإنه أقرب إلى الله تعالى. قال عمر بن سعد: أخاف أن تهدم داري، قال الحسين: أنا أبنيها لك، قال عمر: أخاف أن تؤخذ ضيعتي، قال عليه السلام: أنا أخلف عليك خيرا منها من مالي من الحجاز (2). ويروى أن الإمام الحسين عليه السلام قال لعمر بن سعد: أعطيك (البغيبغة). وكانت عظيمة فيها نخل وزرع كثير، دفع معاوية فيها ألف ألف دينار فلم يبعها منه (3)، فقال ابن سعد: إن لي بالكوفة عيالا وأخاف عليهم
1 - مثير الأحزان: 29. ومقتل الحسين عليه السلام، للخوارزمي 1: 192 و 193. واللهوف: 13، قال بعض المحققين: يبدو أن عمر بن سعد حاور الإمام الحسين عليه السلام في هذا الأمر مرتين، أولاهما: عند توجهه عليه السلام إلى مكة، والثانية: بعد خروجه عليه السلام من مكة متوجها إلى العراق. 2 - مقتل العوالم: 78. 3 - تظلم الزهراء للسيد رضي بن نبي القزويني: 103. 175 من ابن زياد القتل. ولما أيس الحسين منه قام وهو يقول: ما لك! ذبحك الله على فراشك عاجلا، ولا غفر لك يوم حشرك، فوالله إني لأرجو أن لا تأكل من بر العراق إلا يسيرا. قال ابن سعد مستهزئا: في الشعير كفاية (1). وأول ما شاهده عمر بن سعد من غضب الله عليه ذهاب ولاية الري، فإنه لما رجع من كربلاء طالبه ابن زياد بالكتاب الذي كتبه بولاية (الري)، فادعى ابن سعد ضياعه، فشدوا عليه بإحضاره، فقال له ابن سعد: تركته يقرأ على عجائز قريش اعتذارا منهن، أما والله لقد نصحتك بالحسين نصيحة لو نصحتها أبي (سعدا) كنت قد أديت حقه، فقال عثمان بن زياد أخو عبيد الله: صدق، وددت أن في أنف كل رجل من بني زياد خزامة إلى يوم القيامة وأن الحسين لم يقتل (2). وكان من صنع المختار مع عمر بن سعد أنه لما أعطاه الأمان استأجر نساء يبكين على الحسين، ويجلسن على باب دار عمر بن سعد، وكان هذا الفعل يلفت أنظار المارة، فصاحب هذا الدار قاتل الحسين، فكيف يكون على داره نساء يبكين الحسين؟! فضجر ابن سعد من ذلك وكلم المختار في رفعهن عن باب داره، فقال له المختار: ألا يستحق الحسين البكاء عليه! (3). ولما أراد أهل الكوفة أن يؤمروا عليهم عمر بن سعد بعد موت يزيد بن معاوية لينظروا في أمرهم، جاءت نساء همدان وربيعة إلى الجامع الأعظم
1 - مقتل الحسين عليه السلام، للخوارزمي: 245. 2 - تاريخ الطبري 6: 268. 3 - يراجع في ذلك (العقد الفريد) لابن عبد ربه - باب نهضة المختار. 176 صارخات يقلن: ما رضي ابن سعد بقتل الحسين حتى أراد أن يتأمر. فبكى الناس وأعرضوا عنه (1). ولقد تقدم الإمام الحسين عليه السلام بالنصيحة والموعظة، والدعوة الحقة، قدم كل ذلك قبل أن يتقدم بالسيف يدافع به عن حرم الاسلام المتعرضة إلى الهتك على أيدي بني أمية. وبذلك تكون الشجاعة الحسينية قد امتازت بأن أصبحت موجهة للناس، كاشفة عن الحقائق، مرشدة إلى أداء التكاليف وهذا من أخلاق الحسين عليه السلام، حيث قدم الكلمة على السيف، والتوعية على القتال، والبيان على القيام.. وقد أبى الكثير، فنصحهم ووعظهم، وقال لهم في أنفسهم قولا بليغا. 4 - الموقف الكاشف: إن الشجاعة الحسينية لم تكن مجرد اصطدام ومواجهة وثبات، ولم تكن خصومة تقصد الغلبة الدنيوية، إنما كانت - كما اتضح لنا - جهادا باللسان والسيف، وكانت إقداما ذا هدف رسالي.. لهذا اقترنت الشجاعة الحسينية بالموقف الرسالي، والدليل الشرعي. فأسفر الإمام الحسين سلام الله عليه عن وجهي: الحق والباطل، وأبان للناس أين هو العدل وأين هو الظلم، وما هو الخير وما هو الشر، ومن أحق بخلافة رسول الله صلى الله عليه وآله حتى مع الإغماض عن النصوص النبوية الشريفة؟ عن أبي سلمة قال: حججت مع عمر بن الخطاب، فلما صرنا بالأبطح فإذا بأعرابي قد أقبل علينا فقال: يا أمير المؤمنين! إني خرجت وأنا حاج محرم، فأصبت بيض النعام، فاجتنيت وشويت وأكلت، فما يجب علي؟ قال عمر: ما
1 - مروج الذهب 2: 105 - في أخبار يزيد. 177 يحضرني في ذلك شئ، فاجلس لعل الله يفرج عنك ببعض أصحاب محمد. فإذا أمير المؤمنين (علي) عليه السلام قد أقبل والحسين عليه السلام يتلوه، فقال عمر: يا أعرابي! هذا علي بن أبي طالب، فدونك ومسألتك. فقام الأعرابي وسأله، فقال علي عليه السلام: يا أعرابي! سل هذا الغلام عندك - يعني الحسين عليه السلام. فقال الأعرابي: إنما يحيلني كل واحد منكم على الآخر. فأشار الناس إليه: ويحك! هذا ابن رسول الله فاسأله، فقال الأعرابي: يا ابن رسول الله! إني خرجت من بيتي حاجا - وقص عليه القصة - فقال له الحسين: ألك إبل؟ قال: نعم، قال: خذ بعدد البيض الذي أصبت نوقا فاضربها بالفحولة، فما فصلت فاهدها إلى بيت الله الحرام. فقال عمر: يا حسين! النوق يزلقن (1)، فقال الحسين: يا عمر! إن البيض يمرقن (2)، فقال عمر: صدقت وبررت. فقام علي عليه السلام وضم الحسين إلى صدره، وقرأ: * (ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم) * (3). فأثبت الإمام علي عليه السلام أن ولده الحسين عليه السلام إمام عالم، يعرف ما جهله " خليفة المسلمين " وتحير به، ودعا بالفرج عنه. وأثبت الإمام الحسين سلام الله عليه - وهو غلام يومذاك - بشجاعته أن الخليفة ليس خليفة، وأن المنصب الذي تقمصه هو منصب الأعلم، فأثبت له عليه السلام أنه
1 - في اللغة - أزلقت الحامل: أي أسقطت جنينها. والزليق من الأجنة: السقط. 2 - مرقت البيضة: أي فسدت. 3 - بحار الأنوار 44: 197 / ح 12 - قال العلامة المجلسي في مقدمة الحديث: روي في بعض مؤلفات أصحابنا عن أبي سلمة.. ثم روى الحادثة. أما الآية ففي سورة آل عمران: 34. 178 ليس الأعلم. وهناك رواية أخرى تحكي إثبات ذلك، وتدل على شجاعة الإمام الحسين سلام الله عليه في موقف حق: جاء في كتاب الاحتجاج لأبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي، وهو من علماء القرن السادس، هذه الرواية في باب: احتجاج الحسين بن علي عليهما السلام على عمر بن الخطاب في الإمامة والخلافة روي أن عمر بن الخطاب كان يخطب الناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله، فذكر في خطبته أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فقال له الحسين عليه السلام من ناحية المسجد: انزل أيها الكذاب عن منبر رسول الله لا منبر أبيك! فقال له عمر: فمنبر أبيك لعمري يا حسين لا منبر أبي، من علمك هذا أبوك علي بن أبي طالب؟ فقال له الحسين عليه السلام: إن أطع أبي فيما أمرني فلعمري إنه لهاد وأنا مهتد به، وله في رقاب الناس البيعة على عهد رسول الله، نزل بها جبرئيل من عند الله تعالى لا ينكرها إلا جاحد بالكتاب، قد عرفها الناس بقلوبهم وأنكروها بألسنتهم وويل للمنكرين حقنا أهل البيت. ماذا يلقاهم به محمد رسول الله صلى الله عليه وآله من إدامة الغضب وشدة العذاب؟! فقال عمر: يا حسين! من أنكر حق أبيك فعليه لعنة الله، أمرنا الناس فتأمرنا، ولو أمروا أباك لأطعنا. فقال له الحسين: يا ابن الخطاب! فأي الناس أمرك على نفسه قبل أن تؤمر أبا بكر على نفسك فيؤمرك على الناس بلا حجة من نبي ولا رضى من
179 آل محمد؟! فرضاكم كان لمحمد صلى الله عليه وآله رضى، أو رضا أهله كان له سخطا؟! أما والله لو أن للسان مقالا يطول تصديقه وفعلا يعينه المؤمنون، لما تخطأت رقاب آل محمد، ترقى منبرهم، وصرت الحاكم عليهم بكتاب نزل فيهم لا تعرف معجمه، ولا تدري تأويله إلا سماع الآذان. المخطئ والمصيب عندك سواء، فجزاك الله جزاك، وسألك عما أحدثت سؤالا حفيا. قال: فنزل عمر مغضبا، فمشى معه أناس من أصحابه حتى أتى باب أمير المؤمنين عليه السلام فاستأذن عليه فأذن له، فدخل فقال: يا أبا الحسن! ما لقيت اليوم من ابنك الحسين، يجهرنا بصوت في مسجد رسول الله، ويحرض علي الطغام وأهل المدينة. فقال له الحسن عليه السلام: على مثل الحسين ابن النبي صلى الله عليه وآله يشخب بمن لا حكم له، أو يقول بالطغام على أهل دينه؟! أما والله ما نلت إلا بالطغام، فلعن الله من حرض الطغام. فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: مهلا يا أبا محمد! فإنك لن تكون قريب الغضب، ولا لئيم الحسب، ولا فيك عروق من السودان، اسمع كلامي ولا تعجل بالكلام. فقال له عمر: يا أبا الحسن! إنهما ليهمان في أنفسهما بما لا يرى بغير الخلافة. فقال أمير المؤمنين: هما أقرب نسبا برسول الله من أن يهما، أما فارضهما يا ابن الخطاب بحقهما يرض عنك من بعدهما. قال: وما رضاهما يا أبا الحسن؟
180 قال: رضاهما الرجعة عن الخطيئة، والتقية عن المعصية بالتوبة. فقال له عمر: أدب يا أبا الحسن ابنك أن لا يتعاطى السلاطين الذين هم الحكماء في الأرض. فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: أنا أؤدب أهل المعاصي على معاصيهم، ومن أخاف عليه الزلة والهلكة.. فأما من والده رسول الله ونحله أدبه، فإنه لا ينتقل إلى أدب خير له منه، أما فارضهما يا ابن الخطاب! قال: فخرج عمر فاستقبله عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف. فقال له عبد الرحمن: يا أبا حفص! ما صنعت؟ فقد طالت بكما الحجة. فقال له عمر: وهل حجة مع ابن أبي طالب وشبليه؟! فقال له عثمان: يا ابن الخطاب! هم بنو عبد مناف الأسمنون، والناس عجاف. فقال له عمر: ما أعد ما صرت إليه فخرا فخرت به بحمقك. فقبض عثمان على مجامع ثيابه ثم نبذ به ورده، ثم قال له: يا ابن الخطاب! كأنك تنكر ما أقول، فدخل بينهما عبد الرحمن وفرق بينهما وافترق القوم (1). وفي أصول الكافي (2) لثقة الاسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكليني: لما قبض الحسن عليه السلام وضع على سريره، وانطلق به إلى مصلى رسول الله الذي كان يصلي فيه على الجنائز، فصلي على الحسن عليه السلام، فلما أن صلي عليه حمل فأدخل المسجد. فلما أوقف على قبر رسول الله بلغ عائشة (3) الخبر، وقيل لها: إنهم قد أقبلوا بالحسن بن علي عليه السلام ليدفن
1 - ص: 292 و 293. 2 - ج 2: 302. 3 - وكانت عائشة يومذاك ذات سلطان عشائري، وكانت إلى ذلك مدعومة من قبل بني أمية أصحاب السلطة، وغيرهم، ويكفي في إثبات ذلك قيادتها لمعركة الجمل على رأس جيش جرار واجهت به أمير المؤمنين عليا عليه السلام، فهي يومذاك ذات نفوذ سياسي - اجتماعي. 181 مع رسول الله صلى الله عليه وآله، فخرجت مبادرة على بغل بسرج، فكانت أول امرأة ركبت في الاسلام سرجا، فوقفت وقالت: نحوا ابنكم عن بيتي، فإنه لا يدفن فيه شئ، ولا يهتك على رسول الله حجابه. فقال لها الحسين بن علي صلوات الله عليهما: قديما هتكت أنت وأبوك حجاب رسول الله صلى الله عليه وآله، وأدخلت بيته من لا يحب رسول الله صلى الله عليه وآله قربه، وإن الله سائلك عن ذلك يا عائشة! إن أخي أمرني أن أقربه من أبيه رسول الله صلى الله عليه وآله ليحدث به عهدا. واعلمي أن أخي أعلم الناس بالله ورسوله، وأعلم بتأويل كتابه من أن يهتك على رسول الله صلى الله عليه وآله ستره، لأن الله تبارك وتعالى يقول: * (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم) * (1) وقد أدخلت أنت بيت رسول الله صلى الله عليه وآله الرجال بغير إذنه، وقد قال الله عز وجل: * (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) * (2)، ولعمري لقد ضربت أنت لأبيك وفاروقه عند أذن رسول الله المعاول (3)، وقال الله عز وجل: * (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى) * (4) ولعمري لقد أدخل أبوك وفاروقه على رسول الله صلى الله عليه وآله بقربهما منه الأذى،
1 - الأحزاب: 53. 2 - الحجرات: 2. 3 - كناية عن حفر القبرين إلى جانب النبي (ص) لأبي بكر وعمر. 4 - الحجرات: 3. 182 وما رعيا من حقه ما أمرهما الله به على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله: " إن الله حرم على المؤمنين أمواتا ما حرم منهم أحياء ". وتالله يا عائشة! لو كان هذا الذي كرهتيه من دفن الحسن عند أبيه صلوات الله عليهما جائزا فيما بيننا وبين الله، لعلمت أنه سيدفن وإن رغم معطسك. ثم تكلم محمد بن الحنفية، وقال: يا عائشة! يوما على بغل، ويوما على جمل، فما تملكين نفسك ولا تملكين الأرض عداوة لبني هاشم؟! فأقبلت عليه فقالت: يا ابن الحنفية! هؤلاء الفواطم يتكلمون، فما كلامك؟ فقال لها الحسين: وأنى تبعدين محمدا من الفواطم، فوالله لقد ولدته ثلاث فواطم: فاطمة بنت عمران بن عائذ بن عمرو بن مخزوم، وفاطمة بنت أسد بن هاشم، وفاطمة بنت زائدة بن الأصم بن رواحة بن حجر بن عبد معيص بن عامر، فقالت عائشة للحسين عليه السلام: نحوا ابنكم واذهبوا به، فإنكم قوم خصمون. فمضى الحسين عليه السلام إلى قبر أمه، ثم أخرجه فدفنه بالبقيع. وأما مع مروان بن الحكم.. رأس الفتنة والنفاق، فقد كانت للإمام الحسين عليه السلام مواجهات فضحه فيها وأخزاه، وفضح من سلطه على رقاب المسلمين، وقواه على الباطل والشر والفساد والإفساد. وقبل ذلك.. لا بأس بالتعرف على مروان هذا من خلال أسطر قليلة فقط. اختصم مروان وعبد الرحمن بن أبي بكر، فسمعت عائشة أن مروان كان يعيره ويقول له: ألست الذي قال لوالديه أف لكما؟ - وفي رواية -: هذا الذي قال الله فيه: * (والذي قال لوالديه أف لكما) * (1).
1 - الأحقاف: 17. 183 فأجابته عائشة: كذب مروان، كذب مروان.. ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله لعن أبا مروان ومروان في صلبه، فمروان فضض من لعنة الله. وفي لفظ آخر: ولكن رسول الله لعن أباك وأنت في صلبه، فأنت فضض من لعنة الله (1). وأخرج الحاكم في المستدرك (2)، من طريق عبد الرحمن بن عوف وصححه، أنه قال: كان لا يولد لأحد بالمدينة ولد إلا أتى به إلى النبي صلى الله عليه وآله، فأدخل عليه مروان بن الحكم فقال: هو الوزغ ابن الوزغ، الملعون ابن الملعون (3). وأخرج ابن النجيب من طريق جبير بن مطعم قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله، فمر الحكم فقال النبي صلى الله عليه وآله: ويل لأمتي مما في صلب هذا (4). وقال البلاذري في الأنساب (5): كان مروان يلقب (خيط باطل) لدقته، وطوله شبه الخيط الأبيض الذي يرى في الشمس (6). ومروان هذا كان يحظى بنفوذ سياسي ومالي في عهد عثمان ثم
1 - يراجع: مستدرك الصحيحين 4: 481. وتفسير القرطبي 16: 197. وتفسير الزمخشري 3: 99. وتفسير ابن كثير 4: 159. وتفسير الرازي 7: 491. وأسد الغابة 2: 34. وغير ذلك عشرات المصادر. 2 - ج 4: 479. 3 - وذكره الدميري في حياة الحيوان 2: 399. وابن حجر في الصواعق المحرقة: 108. والحلبي في السيرة الحلبية 1: 337. 4 - أسد الغابة 2: 34. والإصابة 1: 346. وكنز العمال 6: 40. والسيرة الحلبية 1: 337. 5 - ج 5: 126. 6 - من أراد التفصيل في ذلك فليراجع (الغدير) للعلامة الأميني - ج 8. 184 معاوية بن أبي سفيان، ولكن الإمام الحسين سلام الله عليه أرغم أنف مروان وأخزاه، في وقائع ومواقف كثيرة، منها: عن محمد بن السائب، قال: قال مروان بن الحكم يوما للحسين بن علي عليهما السلام: لولا فخركم بفاطمة بما كنتم تفتخرون علينا؟ فوثب الحسين عليه السلام وكان عليه السلام شديد القبضة، فقبض على حلقه فعصره ولوى عمامته على عنقه حتى غشي عليه، ثم تركه، وأقبل الحسين عليه السلام على جماعة من قريش فقال: أنشدكم بالله إلا صدقتموني إن صدقت، أتعلمون أن في الأرض حبيبين كانا أحب إلى رسول الله مني ومن أخي؟ أو على ظهر الأرض ابن بنت نبي غيري وغير أخي؟ قالوا: لا، قال: وإني لا أعلم أن في الأرض ملعون بن ملعون غير هذا وأبيه طريد رسول الله صلى الله عليه و آله (1). وعن داود بن فرقد، عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام قال: دخل مروان بن الحكم المدينة قال: فاستلقى على السرير، وثم مولى للحسين عليه السلام فقال: " ردوا إلى الله موليهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين "، فقال الحسين لمولاه: ماذا قال هذا حين دخل؟ قال: استلقى على السرير فقرأ * (ردوا إلى الله موليهم الحق - إلى قوله - الحاسبين) *، فقال الحسين عليه السلام: نعم والله، رددت أنا وأصحابي إلى الجنة، ورد هو وأصحابه إلى النار (2).
1 - الإحتجاج: 153. والمناقب، لابن شهرآشوب 4: 51. 2 - تفسير العياشي 1: 362، والآية في سورة الأنعام: 62. 185 فيها رؤوس الجاهلية وأذناب النفاق، وأذيال الطمع وأنياب الفتنة المسمومة، ومنها: (عمرو بن العاص)، وما أدراك ما عمرو بن العاص! أبوه هو الأبتر بنص الذكر الحميد * (إن شانئك هو الأبتر) * (1) وعليه أكثر أقوال المفسرين والعلماء، ومنهم ابن سعد - ذكر ذلك في طبقاته 1: 115، وابن قتيبة - في المعارف ص 124، وابن عساكر - في تاريخه 7: 330. أما أمه فهي ليلى أشهر بغي مكة وأرخصهن أجرة، ولما وضعت عمرا هذا ادعاه خمسة غير أنها ألحقته بالعاص بن وائل لأنه أكثر نفقة عليها. قال ابن أبي الحديد: ذكر الزمخشري في (ربيع الأبرار) قال: كانت النابغة أم عمرو بن العاص أمة لرجل من عنزة فسبيت فاشتراه عبد الله بن جذعان التيمي بمكة فكانت بغيا، ثم أعتقها، فوقع عليها: أبو لهب بن عبد المطلب، وأمية بن خلف الجحمي، وهشام بن المغيرة المخزومي، و أبو سفيان بن حرب، والعاص بن وائل السهمي في طهر واحد فولدت عمرا، فادعاه كلهم فحكمت أمه فيه فقالت: هو من العاص بن وائل، وذلك لأن العاص كان ينفق عليها كثيرا. قالوا وكان أشبه بأبي سفيان (2). * وعنه غانمة بنت خانم أنها جاءت من مكة إلى الشام، فأتاها معاوية فسلم عليها فقالت: على المؤمنين السلام، وعلى الكافرين الهوان. ثم قالت: أفيكم عمرو بن العاص؟ قال عمرو: ها أناذا، فقالت وأنت تسب قريشا وبني هاشم، وأنت أهل السب وفيك السب وإليك يعود السب؟! يا عمرو إني والله لعارفة بك وبعيوبك وعيوب أمك، وإني أذكر لك ذلك عيبا عيبا. ولدت من
1 - سورة الكوثر: 3. 2 - بحار 33: 229، المحاسن والمساوئ للبيهقي: 93، المساوي للجاحظ: 103. 186 أمة سوداء مجنونة حمقاء، تبول من قيام ويعلوها اللئام، إذا لامسها الفحل كانت نطفتها أنفذ من نطفته، ركبها في يوم واحد أربعون رجلا. وأما أنت فقد رأيتك غاويا غير راشد، ومفسدا غير صالح، ولقد رأيت فحل زوجتك على فراشك فما غرت ولا أنكرت! وأما أنت يا معاوية فما كنت في خير، ولا ربيت في نعمة) (1). الإمام علي (ع): العجب الطغاة أهل الشام حيث يقبلون قول (عمرو) ويصدقونه وقد بلغ حديثه وكذبه وقلة ورعه أن يكذب على رسول الله (ص) وقد لعنه سبعين لعنة، ولعن صاحبه الذي يدعو إليه في غير موطن، وذلك أنه هجا رسول الله (ص) بقصيدة سبعين بيتا، فقال رسول الله (ص): اللهم إني لا أقول الشعر ولا أحله، فالعنه أنت وملائكتك بكل بيت لعنة تترى على عقبه إلى يوم القيامة (2). ولما قتل محمد بن أبي بكر جزعت عليه أخته عائشة وجعلت تقنت وتدعو في دبر الصلاة على معاوية وعمرو بن العاص (3) إذ هما صاحبا فتن عظيمة، فقد أخرج ابن مزاحم في كتاب (صفين) ص 112، وروى ابن عبد ربه في (العقد الفريد) 2: 290 أنه: دخل زيد بن الأرقم على معاوية فإذا عمرو بن العاص جالس معه على السرير، فلما رأى ذلك زيد جاء حتى رمى بنفسه بينهما، فقال له عمرو بن العاص: أما وجدت لك مجلسا إلا أن تقطع بيني وبين أمير المؤمنين؟ فقال زيد: إن رسول الله صلى الله عليه وآله غزا غزوة وأنتما معه فرآكما مجتمعين فنظر إليكما نظرا شديدا، ثم رآكما اليوم الثاني واليوم
1 - المحاسن والمساوئ / بيهقي: 93، المحاسن والأضداد / للجاحظ: 103. 2 - كتاب سليم: 172. 3 - تاريخ الطبري 6: 60. والكامل 3: 155. وتاريخ ابن كثير 7: 314. 187 الثالث، كل ذلك يديم النظر إليكما، فقال في اليوم الثالث: إذا رأيتم معاوية وعمرو بن العاص مجتمعين ففرقوا بينهما، فإنهما لن يجتمعا على خير (1). وروى الواقدي أن عمرو بن العاص كان أحد من يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله بمكة ويشتمه، ويضع في طريقه الحجارة في مسلكه ليلا ليطوف بالكعبة. وروي عنه أنه مر على كعب الأحبار فعثرت به دابته، فقال: يا كعب! أتجد في التوراة أن دابتي تعثر بي؟ قال كعب: لا، ولكن أجد في التوراة رجلا ينزو في الفتنة كما ينزو الحمار في القيد (2). وذكر التاريخ فيه المخازي والمثالب ما يطول عرضه (3) ولكن عمرو بن العاص هذا كان له دور سياسي مؤثر زمن عثمان، وفي ظل معاوية بن أبي سفيان، ونستطيع أن نقول إنه ومروان بن الحكم يعدان بمثابة وزراء في سلطان بني أمية، ولكن الشجاعة الحسينية استطاعت أن تعرف للناس من عمرو هذا؟ وكيف حق للبعض تقريبه وتمكينه من الرقاب وتسليطه على الأموال؟! وكان الإمام الحسن عليه السلام قد فضحه من قبل ذلك.. ذكر الواقدي جملة من مثالب (عمرو بن العاص)، ثم نقل عن الزبير بن بكار في كتاب " المفاخرات " ضمن ما نقله: أن الحسن المجتبى عليه السلام قال لعمرو: وأما أنت يا ابن العاص! فإن أمرك مشترك، وضعتك أمك مجهولا من عهر وسفاح، فتحاكم فيك أربعة من قريش، فغلب عليك جزارها ألأمهم حسبا، وأخبثهم منصبا، ثم قام أبوك
1 - روى ذلك عبادة بن الصامت في غزوة تبوك. 2 - الإيضاح، للفضل بن شاذان: 43. 3 - من رغب في التفصيل فليراجع (الغدير) - الجزء الثاني. 188 فقال: أنا شانئ محمد الأبتر، فأنزل الله فيه ما أنزل، وقاتلت رسول الله صلى الله عليه وآله في جميع المشاهد، وهجوته وآذيته بمكة، وكدته كيدك كله، وكنت من أشد الناس له تكذيبا وعداوة، ثم خرجت تريد النجاشي مع أصحاب السفينة، لتأتي بجعفر وأصحابه إلى أهل مكة، فلما أخطأك ما رجوت، ورجعك الله خائبا، وأكذبك واشيا، جعلت حدك على صاحبك عمارة بن الوليد، فوشيت به إلى النجاشي حسدا لما ارتكب من حليلته، ففضحك الله وفضح صاحبك، فأنت عدو بني هاشم في الجاهلية والإسلام. ثم إنك تعلم، وكل هؤلاء الرهط يعلمون، أنك هجوت رسول الله صلى الله عليه وآله بسبعين بيتا من الشعر، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: اللهم إني لا أقول الشعر ولا ينبغي لي، اللهم العنه بكل حرف ألف لعنة. فعليك إذا من الله ما لا يحصى من اللعن (1). وفي رواية قال الإمام الحسن (ع) لعمرو بن العاص: وأنت من تعلم ويعلم الناس.. تحاكمت فيك رجال قريش، فغلب عليك جزاروها، ألأمهم حسبا وأعظمهم لؤما، فإياك عني فإنك رجس، ونحن أهل بيت الطهارة أذهب الله عنا الرجس وطهرنا تطهيرا. فأفحم عمرو وانصرف كئيبا) (2). ويأتي الإمام الحسين عليه السلام فيكشف للناس عن بؤرة عمرو هذا، روى ابن شهرآشوب في " مناقب آل أبي طالب " (3) أن عمرو بن العاص قال للحسين عليه السلام: ما بال أولادنا أكثر من أولادكم؟، فقال عليه السلام:
1 - يراجع هوامش المحقق الفاضل السيد جلال الدين الحسيني الأرموي، على كتاب الإيضاح - لابن شاذان: 41 و 42. 2 - شرح نهج البلاغة / 16: 28. 3 - ج 4 ص 67. 189 بغاث الطير أكثرها فراخا * وأم الصقر مقلات نزور فقال عمرو: ما بال الشيب إلى شواربنا أسرع منه إلى شواربكم؟، فقال عليه السلام: إن نساءكم نساء بخرة، فإذا دنا أحدكم من امرأته نهكته في وجهه، فشاب منه شاربه. فقال: ما بال لحائكم أوفر من لحائنا؟، فقال عليه السلام: * (والبلد الطيب يخرج نباته بأذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا) * (1). فقال معاوية لعمرو: بحقي عليك إلا سكت، فإنه ابن علي بن أبي طالب، فقال الحسين عليه السلام: إن عادت العقرب عدنا لها * وكانت النعل لها حاضرة قد علم العقرب واستيقنت * أن لا لها دنيا ولا آخرة قال الجوهري في (صحاح اللغة): قال ابن السكيت: البغاث: طائر أبغث إلى الغبرة دوين الرخمة، بطئ الطيران. وقال الفراء: بغاث الطير شرارها وما لا يصيد منها. قوله: مقلات، لعله من القلى، بمعنى البعض، أي لا تحب الولد، ولا تحب زوجها لتكثر الولد. أو من قولهم: قلا البعير أتنه، يقلوها قلوا إذا طردها، والصواب أنه من قلت، قال الجوهري: المقلات من النوق: التي تضع واحدا ثم لا تحمل بعدها، والمقلات من النساء: التي لا يعيش لها ولد. وقال: النزور: المرأة القليلة الولد. وإذا تركنا هؤلاء إلى " معاوية "، وجدناه ذلك الطاغية المتجبر، الذي قتل عشرات الآلاف من الأبرياء، الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة والصالحين والعزل من الناس.. في الشام والحجاز واليمن، على يد جلاوزته. وهو الذي كان
1 - الأعراف: 58. 190 يوصي ولاته: من اتهمتوه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به واهدموا داره (1). وقد صور الإمام الباقر عليه السلام تلك المآسي التي عاشها الناس في زمن معاوية فقال:... فقتلت شيعتنا بكل بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة، وكل من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن، أو نهب ماله، أو هدمت داره، ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين عليه السلام (2). وفي تلك المجازر الرهيبة قتلت كوكبة من الصحابة الأبرار: حجر بن عدي وجماعته، ورشيد الهجري، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وأوفى بن حصين... وغيرهم كثير. وقد كانت الفاجعة العظمى بقتل الإمام الحسن المجتبى سبط رسول الله صلى الله عليه وآله، ومن قبله، مالك الأشتر النخعي والي أمير المؤمنين عليه السلام على مصر، دس إليه معاوية السم في عسل، ووقف على المنبر يدعو الناس للدعاء على مالك، فلما جاء خبر شهادته قال للناس: إن الله استجاب دعوتكم، ثم أخذ يردد بتشف: إن لله جنودا من عسل. ولكن هذا الطاغية المتغطرس، الذي برئ من التقوى والإيمان، فضلا عن مكارم الأخلاق.. قد ذاق المرارة من الإمام الحسين عليه السلام، حيث ظهرت شجاعته عليه السلام قباله في مواقف كاشفة عن جهل معاوية، وخباثته وانحرافه، وعدم لياقته للتأمر على الناس. تعالوا نتبين ذلك في رحلة إلى عالم الروايات..... كتب معاوية إلى جميع عماله في جميع الأمصار: أن لا تجيزوا لأحد من
1 - شرح تهج البلاغة، لابن أبي الحديد 2: 86. 2 - نفسه: 43. 191 شيعة علي وأهل بيته شهادة، وانظروا قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه ومحبي أهل بيته وأهل ولايته، والذين يروون فضله ومناقبه فأدنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم، واكتبوا بمن يروي من مناقبه واسم أبيه وقبيلته. ففعلوا، حتى كثرت الرواية في عثمان، وافتعلوها لما كان يبعث إليهم من الصلات والخلع والقطائع من العرب والموالي، وكثر ذلك في كل مصر، وتنافسوا في الأموال والدنيا، فليس أحد يجئ من مصر من الأمصار فيروي في عثمان منقبة أو فضيلة إلا كتب اسمه وأجيز، فلبثوا بذلك ما شاء الله. ثم كتب إلى عماله: إن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر، فادعوا الناس إلى الرواية في معاوية وفضله وسوابقه، فإن ذلك أحب إلينا، وأقر لأعيننا، وأدحض لحجة أهل البيت وأشد عليهم. فقرأ كل أمير وقاض كتابه على الناس، فأخذ الرواة في فضائل معاوية على المنبر في كل كورة وكل مسجد زورا، وألقوا ذلك إلى معلمي الكتاتيب فعلموا ذلك صبيانهم كما يعلمونهم القرآن، حتى علموه بناتهم ونساءهم وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء الله. وكتب زياد بن أبيه إليه في حق الحضرميين: إنهم على دين علي وعلى رأيه. فكتب إليه معاوية: اقتل كل من كان على دين علي ورأيه. فقتلهم ومثل بهم. وكتب كتابا آخر: انظروا من قبلكم من شيعة علي واتهمتموه بحبه فاقتلوه، وإن لم تقم عليه البينة فاقتلوه على التهمة والظنة والشبهة، تحت كل حجر. حتى لو كان الرجل تسقط منه كلمة ضربت عنقه، حتى لو كان الرجل يرمى بالزندقة والكفر كان يكرم ويعظم ولا يتعرض له بمكروه، والرجل من الشيعة لا يأمن على نفسه في بلد من البلدان لا سيما الكوفة والبصرة، حتى لو أن أحدا منهم أراد أن يلقي سرا إلى من يثق به لأتاه في بيته فيخاف خادمه
192 ومملوكه، فلا يحدثه إلا بعد أن يأخذ عليه الأيمان المغلظة ليكتمن عليه، ثم لا يزداد الأمر إلا شدة، حتى كثر وظهر أحاديثهم الكاذبة، ونشأ عليه الصبيان يتعلمون ذلك. وكان أشد الناس في ذلك القراء المراؤون المتصنعون الذين يظهرون الخشوع والورع، فكذبوا وانتحلوا الأحاديث وولدوها فيحظون بذلك عند الولاة والقضاة ويدنون مجالسهم، ويصيبون بذلك الأموال والقطايع والمنازل، حتى صارت أحاديثهم ورواياتهم عندهم حقا وصدقا، فرووها وقبلوها وتعلموها وعلموها، وأحبوا عليها وأبغضوا من ردها أو شك فيها، فاجتمعت على ذلك جماعتهم، وصارت في يد المتنسكين والمتدينين منهم الذين لا يحبون الافتعال إلى مثلها، فقبلوها وهم يرون أنها حق، ولو علموا بطلانها وتيقنوا أنها مفتعلة لأعرضوا عن روايتها ولم يدينوا بها، ولم يبغضوا من خالفها، فصار الحق في ذلك الزمان عندهم باطلا والباطل عندهم حقا، والكذب صدقا والصدق كذبا. فلما مات الحسن بن علي عليهما السلام ازداد البلاء والفتنة، فلم يبق لله ولي إلا خائف على نفسه، أو مقتول أو طريد أو شريد، فلما كان قبل موت معاوية بسنتين حج الحسين بن علي عليه السلام وعبد الله بن جعفر وعبد الله بن عباس معه. وقد جمع الحسين بن علي عليه السلام بني هاشم.. رجالهم ونساءهم ومواليهم وشيعتهم، من حج منهم ومن لم يحج، ومن الأنصار ممن يعرفونه وأهل بيته، ثم لم يدع أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ومن أبنائهم والتابعين، ومن الأنصار المعروفين بالصلاح والنسك إلا جمعهم، فاجتمع عليه بمنى أكثر من ألف رجل، والحسين عليه السلام في سرادقه عامتهم التابعون وأبناء الصحابة، فقام الحسين عليه السلام فيهم خطيبا
193 فحمد الله وأثنى عليه.. ثم قال: أما بعد: فإن الطاغية قد صنع بنا وبشيعتنا ما قد علمتم ورأيتم وشهدتم وبلغكم، وإني أريد أن أسألكم عن أشياء.. فإن صدقت فصدقوني، وإن كذبت فكذبوني. اسمعوا مقالتي واكتموا قولي، ثم ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم من أمنتموه ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون، فإني أخاف أن يندرس هذا الحق ويذهب، والله متم نوره ولو كره الكافرون. فما ترك الحسين شيئا أنزل الله فيهم من القرآن إلا قاله وفسره، ولا شيئا قاله الرسول في أبيه وأمه وأهل بيته إلا رواه، وكل ذلك يقول الصحابة: " اللهم نعم، قد سمعناه وشهدناه " ويقول التابعون: " اللهم قد حدثنا من نصدقه ونأتمنه " حتى لم يترك شيئا إلا قاله.. ثم قال: أنشدكم بالله إلا رجعتم وحدثتم به، من تثقون به. ثم نزل وتفرق الناس على ذلك. (1) ومن احتجاجه عليه السلام على معاوية توبيخا له على قتل من قتله من شيعة أمير المؤمنين، وترحمه عليهم. عن صالح بن كيسان قال: لما قتل معاوية حجر بن عدي وأصحابه.. حج ذلك العام فلقي الحسين بن علي عليه السلام فقال: يا أبا عبد الله! هل بلغك ما صنعنا بحجر وأصحابه وأشياعه وشيعة أبيك؟ فقال عليه السلام: وما صنعت بهم؟ قال: قتلناهم، وكفناهم، وصلينا عليهم. فضحك الحسين عليه السلام ثم قال: خصمك القوم يا معاوية! لكننا لو قتلنا شيعتك ما كفناهم ولا صلينا عليهم ولا قبرناهم، ولقد بلغني وقيعتك في
1 - الإحتجاج: 295 و 296. 194 علي وقيامك ببغضنا، واعتراضك بني هاشم بالعيوب.. فإذا فعلت ذلك فارجع إلى نفسك، ثم سلها الحق عليها ولها، فإن لم تجدها أعظم عيبا فما أصغر عيبك فيك، وقد ظلمناك يا معاوية فلا توترن غير قوسك، ولا ترمين غير غرضك، ولا ترمنا بالعداوة من مكان قريب، فإنك والله لقد أطعت فينا رجلا ما قدم إسلامه، ولا حدث نفاقه، ولا نظر لك، فانظر لنفسك أو دع - يعني: " عمرو بن العاص ". (1) وروي أن مروان بن الحكم كتب إلى معاوية ومروان عامله على المدينة: أما بعد، فإن عمرو بن عثمان ذكر أن رجالا من أهل العراق، ووجوه أهل الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي، وذكر أنه لا يأمن وثوبه، وقد بحثت عن ذلك فبلغني أنه لا يريد الخلاف يومه هذا، ولست آمن أن يكون هذا أيضا لما بعده فاكتب إلي برأيك في هذا، والسلام. فكتب إليه معاوية: أما بعد، فقد بلغني وفهمت ما ذكرت فيه من أمر الحسين.. فإياك أن تعرض للحسين في شئ، واترك حسينا ما تركك، فإنا لا نريد أن نعرض له في شئ ما وفى بيعتنا، ولم ينازعنا سلطاننا، فاكمن عنه ما لم يبد لك صفحته، والسلام. وكتب معاوية إلى الحسين بن علي عليه السلام: أما بعد، فقد انتهت إلي أمور عنك.. إن كانت حقا فقد أظنك تركتها رغبة فدعها، ولعمر الله! إن من أعطى الله عهده وميثاقه لجدير بالوفاء، فإن كان الذي بلغني باطلا فإنك أنت أعزل الناس لذلك، وعظ نفسك، فاذكر، وبعهد الله أوف فإنك متى ما تنكرني أنكرك، ومتى ما تكدني أكدك، فاتق شق عصا هذه الأمة وأن يردهم الله على
1 - نفسه: 296 و 297. 195 يديك في فتنة، فقد عرفت الناس وبلوتهم، فانظر لنفسك ولدينك ولأمة محمد، ولا يستخفنك السفهاء والذين لا يعلمون. فلما وصل الكتاب إلى الحسين صلوات الله عليه كتب إليه: أما بعد، فقد بلغني كتابك تذكر أنه قد بلغك عني أمور أنت لي عنها راغب، وأنا بغيرها عندك جدير، فإن الحسنات لا يهدي لها ولا يسدد إليها إلا الله. وأما ما ذكرت أنه انتهى إليك عني، فإنه إنما رقاه إليك الملاقون المشاؤون بالنميم، وما أريد لك حربا ولا عليك خلافا. وأيم الله إني لخائف لله في ترك ذلك وما أظن الله راضيا بترك ذلك، ولا عاذرا بدون الإعذار فيه إليك، وفي أولئك القاسطين الملحدين حزب الظلمة، وأولياء الشياطين. ألست القاتل حجرا أخا كندة والمصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ويستعظمون البدع، ولا يخافون في الله لومة لائم؟! ثم قتلتهم ظلما وعدوانا من بعد ما كنت أعطيتهم الأيمان المغلظة، والمواثيق المؤكدة، ولا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم، ولا بإحنة تجدها في نفسك. أو لست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله، العبد الصالح الذي أبلته العبادة.. فنحل جسمه، وصفرت لونه، بعدما أمنته وأعطيته من عهود الله ومواثيقه ما لو أعطيته طائرا لنزل إليك من رأس الجبل، ثم قتلته جرأة على ربك، واستخفافا بذلك العهد. أو لست المدعي زياد بن سمية المولود على فراش عبيد ثقيف؟! فزعمت أنه ابن أبيك، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " الولد للفراش وللعاهر الحجر " فتركت سنة رسول الله تعمدا وتبعت هواك بغير هدى من الله، ثم سلطته على العراقين: يقطع أيدي المسلمين وأرجلهم، ويسمل أعينهم ويصلبهم على جذوع النخل، كأنك لست من هذه الأمة،
196 وليسوا منك. أو لست صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم ابن سمية أنهم كانوا على دين علي صلوات الله عليه، فكتبت إليه أن: اقتل كل من كان على دين علي. فقتلهم ومثل بهم بأمرك، ودين علي عليه السلام والله الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك، وبه جلست مجلسك الذي جلست، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف أبيك الرحلتين. وقلت فيما قلت: انظر لنفسك ولدينك ولأمة محمد، واتق شق عصا هذه الأمة وأن تردهم إلى فتنة. وإني لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمة من ولايتك عليها، ولا أعلم نظرا لنفسي ولديني ولأمة محمد صلى الله عليه وآله علينا أفضل من أن أجاهدك.. فإن فعلت فإنه قربة إلى الله، وإن تركته فإني أستغفر الله لذنبي، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري. وقلت فيما قلت " إني إن أنكرتك تنكرني وإن أكدك تكدني " فكدني ما بدا لك، فإني أرجو أن لا يضرني كيدك في، وأن لا يكون على أحد أضر منه على نفسك، لأنك قد ركبت جهلك، وتحرصت على نقض عهدك. ولعمري ما وفيت بشرط، ولقد نقضت عهدك بقتلك هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان والعهود والمواثيق، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا وقتلوا. ولم تفعل ذلك بهم إلا لذكرهم فضلنا، وتعظيمهم حقنا، فقتلتهم مخافة أمر لعلك لو لم تقتلهم مت قبل أن يفعلوا أو ماتوا قبل أن يدركوا. فأبشر يا معاوية بالقصاص، واستيقن بالحساب، واعلم أن لله تعالى كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وليس الله بناس لأخذك بالظنة وقتلك أولياءه على التهم، ونفيك أولياءه من دورهم إلى دار الغربة، وأخذك الناس ببيعة ابنك غلام حدث: يشرب الخمر، ويلعب بالكلاب. لا أعلمك إلا
197 وقد خسرت نفسك، وبترت دينك، وغششت رعيتك، وأخزيت أمانتك وسمعت مقالة السفيه الجاهل، وأخفت الورع التقي لأجلهم، والسلام. فلما قرأ معاوية الكتاب قال: لقد كان في نفسه ضب ما أشعر به، فقال يزيد: يا أمير المؤمنين! أجبه جوابا يصغر إليه نفسه، وتذكر فيه أباه بشر فعله. قال: ودخل عبد الله بن عمرو بن العاص، فقال له معاوية: أما رأيت ما كتب به الحسين؟ قال: وما هو؟ قال: فأقرأه الكتاب، فقال: وما يمنعك أن تجيبه بما يصغر إليه نفسه. وإنما قال ذلك في هوى معاوية، فقال يزيد: كيف رأيت يا أمير المؤمنين رأيي؟ فضحك معاوية فقال: أما يزيد.. فقد أشار علي بمثل رأيك، قال عبد الله: فقد أصاب يزيد. فقال معاوية: أخطأتما، أرأيتما لو أني ذهبت لعيب علي محقا ما عسيت أن أقول فيه؟! ومثلي لا يحسن أن يعيب بالباطل، وما لا يعرف، ومتى ما عبت رجلا بما لا يعرفه الناس لم يحفل بصاحبه، ولا يراه الناس شيئا وكذبوه، وما عسيت أن أعيب حسينا ووالله ما أرى للعيب فيه موضعا، وقد رأيت أن أكتب إليه أتوعده وأتهدده، ثم رأيت أن لا أفعل ولا أمحكه (1). احتجاجه صلوات الله عليه بإمامته على معاوية وغيره وذكر طرف من مفاخراته ومشاجراته التي جرت له مع معاوية وأصحابه. عن موسى بن عقبة أنه قال: لقد قيل لمعاوية: إن الناس قد رموا
1 - رجال الكشي. والاحتجاج: 297 و 298. 198 أبصارهم إلى الحسين.. فلو قد أمرته يصعد المنبر ويخطب، فإن فيه حصرا أو في لسانه كلالة. فقال لهم معاوية: قد ظننا ذلك بالحسن، فلم يزل حتى عظم في أعين الناس وفضحنا. فلم يزالوا به حتى قال للحسين: يا أبا عبد الله! لو صعدت المنبر فخطبت. فصعد الحسين عليه السلام المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وآله، فسمع رجلا يقول: من هذا الذي يخطب؟ فقال الحسين عليه السلام: نحن حزب الله الغالبون، وعترة رسول الله صلى الله عليه وآله الأقربون، وأهل بيته الطيبون، وأحد الثقلين اللذين جعلنا رسول الله صلى الله عليه وآله ثاني كتاب الله تبارك وتعالى، الذي فيه تفصيل كل شئ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والمعول علينا في تفسيره، لا يبطينا تأويله، بل نتبع حقايقه، فأطيعونا فإن طاعتنا مفروضة، أن كانت بطاعة الله ورسوله مقرونة. قال الله عز وجل: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول (1) " وقال: " ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا " (2). وأحذركم الإصغاء إلى هتوف الشيطان بكم فإنه لكم عدو مبين، فتكونوا كأوليائه الذين قال لهم: " لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار
1 - سورة النساء: 59. 2 - سورة النساء: 83. 199 لكم، فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني برئ منكم (1). فتلقون للسيوف ضربا وللرماح وردا وللعمد حطما وللسهام غرضا، ثم لا يقبل من نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا. قال معاوية: حسبك يا أبا عبد الله.. قد بلغت (2). ولم تعبر الاحتجاجات الحسينية عن الشجاعة الحسينية فقط، بل عبرت أيضا عن الموقف الكاشف للحق والباطل، وعبرت كذلك عن العلم الجم، والغيرة على الدين، وأخلاق المحاججة بما يناسب أعداء الله، وعن جهاد الكلمة الشجاعة الداعية إلى سبيل الله على هدى وبصيرة.. وأدت إضافة إلى كل ذلك دور توعية الناس، وإيقاظهم من غفلتهم، وتعريفهم ما هم عليه وما ينبغي عليهم، ومن هو المتحكم في مقدساتهم، ومن ينبغي أن يكون إمامهم. صحيح أن الإمام الحسين سلام الله عليه أطلقها كلمات وعبارات وجملا في وجه معاوية وأزلامه، إلا أنه ثبت الموقف الشرعي، ووصم أهل العار بعارهم، وأطلق كلمة الحق في وجه السلطان الشرير، وكلمة العدل في وجه السلطان الظالم.. وهذا يحتاج إلى شجاعة يفتقدها الناس، ولذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: ألا لا يمنعن رجلا مهابة الناس أن يتكلم بالحق إذا علمه، ألا إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر (3). وفي بيان فضيلة ذلك وردت الروايات الوفيرة، منها قوله صلى الله عليه وآله: أحب الجهاد إلى الله.. كلمة حق تقال لإمام جائر (4).
1 - سورة الأنفال: 48. 2 - الإحتجاج: 298 و 299، المناقب 4: 67. 3 - كنز العمال: الخبر 43588. 4 - نفسه: الخبر 5510. 200 وقوله صلى الله عليه وآله: أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر، أفضل الجهاد كلمة حكم عند إمام جائر (1). وعن أبي أمامة قال: عرض لرسول الله صلى الله عليه وآله رجل عند الجمرة الأولى فقال: يا رسول الله! أي الجهاد أفضل؟ فسكت عنه، فلما رمى الجمرة الثانية سأله، فسكت عنه، فلما رمى جمرة العقبة وضع رجله في الغرز ليركب، قال: أين السائل؟ قال: أنا يا رسول الله! قال: كلمة حق تقال عند ذي سلطان جائر (2). بعد هذا.. لا ندري لماذا يلام من قال كلمة الحق، وكلمة العدل، وكلمة الحكم، عند أئمة الجور من آل أمية؟ ألانه عرض نفسه للقتل دون دين الله، ودفاعا عن حرم الله؟ في حين يروي من يلوم أن المقتول في هذا السبيل هو ليس شهيدا فحسب.. بل هو سيد الشهداء، قال النبي الأعظم صلى الله عليه وآله كما يروى: سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه، فقتله (3) فالدم مطلوب في بعض المواقف، والشهادة ضرورة في بعض الحالات، ومنها إذا توقف عليهما حفظ الدين، وفضح المشوهين له، وإيقاظ الأمة من نسيان التكاليف. قال الشيخ جعفر التستري (رضوان الله عليه):... أما التكليف الواقعي الذي دعا الإمام الحسين عليه السلام إلى الإقدام على الموت والقتل، وتعريض عياله للأسر، وأطفاله للذبح، مع علمه بذلك.. فالوجه فيه أن عتاة بني أمية
1 - نفسه: الخبر 5576. 2 - الترغيب والترهيب، للمنذري 3: 255، ورواه ابن ماجة بإسناد صحيح عنده. 3 - نفسه / ج 3 ص 225، رواه الترمذي، والحاكم قائلا: صحيح الإسناد. 201 مخصوصا معاوية، قد أشرب الناس حبهم، بحيث اعتقدوا فيهم أنهم على الحق، وأن عليا وأولاده وشيعتهم على الباطل، حتى جعلوا سب علي عليه السلام من أجزاء صلاة الجمعة، وبلغ الأمر في ذلك أن بعض أتباعهم نسي السب في صلاة الجمعة حين خطبته، وسافر وذكره وهو في البرية، قضاه في محل تذكره، فبنوا هناك مسجدا سموه (مسجد الذكر)، تأكيدا لهذا الأمر. فلو كان الحسين عليه السلام يبايعهم تقية، ويسلم لهم، لم يبق من الحق أثر، فإن كثيرا من الناس اعتقدوا أنه لا مخالف لهم أي لبني أمية - في جميع الأمة، وأنهم خلفاء النبي صلى الله عليه وآله حقا، فبعد أن حاربهم الحسين عليه السلام وصدر ما صدر إلى نفسه وعياله وأطفاله وحرم الرسول صلى الله عليه و آله تنبه الناس لضلالتهم. أي ضلالة حكام بني أمية - أنهم سلاطين الجور، لا حجج الله وخلفاء النبي صلى الله عليه وآله (1). فالحسين عليه السلام بكلماته نبه العقول، وبدمائه نبه القلوب، وبمواقفه كشف الحقائق، ورسم للأمة طريق الجهاد والعزة والكرامة. وكان من مواقفه (صلوات الله عليه) أن رفض هدايا معاوية - كما أسلفنا (2) - فسجل أكثر من علامة.. منها: إباء نفسه الشريفة وزهده عن أطماع الدنيا، ومنها: فضحه لمعاوية الذي كان يرجو بهداياه التي سرقها من بيت مال المسلمين أن يشتري من أهل البيت عليهم السلام - وأنى له ذلك - موقف الرضى عنه وتركه وشأنه يتخذ عباد الله خولا، وأموالهم دولا، وموقف الاعتراف والإقرار بشرعية سلطانه. أو على أقل الفروض كان ينتظر أن يتوهم الناس أن الحسين عليه السلام لا يخالف معاوية في شئ، وأنه على حسن
1 - الخصائص الحسينية: 43 و 44. 2 - مطالب السؤول: 73. 202 صلة به إذا قبل هداياه. ولكن الإمام الحسين سلام الله عليه خيب كل الآمال الشيطانية والنوايا الخبيثة التي طال انتظارها في قلب معاوية، وأثبت للناس أن الخلافة مسروقة مغتصبة، وأن الولاة سراق منحرفون لا دين لهم، وذلك من خلال مواقف حازمة، وبيانات مقنعة.. يذكر ابن شهرآشوب في كتابه القيم (مناقب آل أبي طالب) (1) جملة من المواقف الشجاعة للإمام الحسين عليه السلام، فيقول: ومن شجاعته عليه السلام أنه كان بين الحسين عليه السلام وبين الوليد بن عقبة منازعة في ضيعة، فتناول الحسين عليه السلام عمامة الوليد عن رأسه، وشدها في عنقه، وهو يومئذ وال على المدينة، فقال مروان: بالله ما رأيت كاليوم جرأة رجل على أميره، فقال الوليد: والله ما قلت هذا غضبا لي، وإنما كانت الضيعة له، فقال الحسين: الضيعة لك يا وليد. وقام. وفي خصوص بيعة يزيد كان للحسين عليه السلام أكثر من موقف شجاع كشف به الحقيقة المرة، وهو تسلط رجل مثل يزيد على أمة لا تقوى على أن تقول: لا، لكن الحسين سلام الله عليه ثبت موقف الرفض لحاكم فاسد حينما واجه والي المدينة بحزم وقاطعية. روى الطبري في بيان ذلك فقال: (2) بويع ليزيد بن معاوية بالخلافة بعد وفاة أبيه في رجب سنة ستين، وأمير المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، ولم يكن ليزيد همة حين ولي إلا بيعة النفر الذين أبوا على معاوية الإجابة إلى بيعة يزيد حين دعا الناس إلى بيعته، وأنه ولي عهده بعده، والفراغ من أمرهم.
1 - 4: 68. 2 - في تاريخه 6: 188 باب خلافة يزيد بن معاوية. 203 فكتب إلى الوليد يخبره بموت معاوية، وكتب إليه في صحيفة كأنها أذن فأرة: أما بعد، فخذ حسينا وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذا شديدا ليست فيه رخصة حتى يبايعوا، والسلام. فأشار عليه مروان أن يبعث إليهم في تلك الساعة يدعوهم إلى البيعة والدخول في الطاعة، فإن فعلوا قبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا قدمهم فضرب أعناقهم، فإنهم إن علموا بموت معاوية وثب كل منهم في جانب، وأظهر الخلاف والمنابذة، ودعا إلى نفسه.. فأرسل عبد الله بن عمرو بن عثمان إلى الحسين وابن الزبير يدعوهما، فوجدهما في المسجد فدعاهما في ساعة لم يكن الوليد يجلس فيه للناس، فقالا: انصرف، الآن نأتيه. فقال حسين لابن الزبير: أرى طاغيتهم قد هلك، فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشو في الناس الخبر، فقال: وأنا ما أظن غيره. فقام الحسين وجمع إليه مواليه وأهل بيته وسار إلى باب الوليد وقال لهم: إني داخل، فإن دعوتكم أو سمعتم صوته قد علا فاقتحموا علي، وإلا فلا تبرحوا حتى أخرج إليكم. فدخل على الوليد ومروان جالس عنده، فأقرأه الوليد، الكتاب ودعاه إلى البيعة، فقال الحسين: إن مثلي لا يعطي بيعة سرا، ولا أراك تجتزئ بها (1) مني سرا دون أن تظهرها على رؤوس الناس علانية، قال: أجل، قال: فإن خرجت إلى الناس فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا مع الناس فكان أمرا واحدا، فقال له الوليد - وكان يحب العافية (2) -: انصرف على اسم الله، فقال له مروان: والله لئن فارقك الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، احبس الرجل ولا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب
1 - أي: تجزي عندك. 2 - أي: يحب الابتعاد عن الاصطدام. 204 عنقه. فوثب عند ذلك الحسين فقال: يا ابن الزرقاء! (1) أنت تقتلني أم هو؟ كذبت والله وأثمت. وفي تاريخ أعثم، ومقتل الخوارزمي، ومثير الأحزان ص: 14 - 15، واللهوف.. واللفظ لابن طاووس: كتب يزيد إلى الوليد يأمره أن يأخذ البيعة على أهلها عامة، وخاصة على الحسين عليه السلام، ويقول له: إن أبى عليك فاضرب عنقه... ثم أوردوا الخبر نظير ما ذكره الطبري، إلى قولهما (أي مروان - والحسين عليه السلام)، فأضاف: فغضب الحسين وقال: ويلي عليك يا ابن الزرقاء! أنت تأمر بضرب عنقي؟! كذبت ولؤمت. نحن أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، ويزيد فاسق شارب الخمر وقاتل النفس، ومثلي لا يبايع مثله. وفي الكامل من التاريخ، لابن الأثير 3: 262 أن الإمام الحسين عليه السلام قال للوليد بن عتبة: إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله وبنا يختم.. ويزيد رجل شارب الخمر، وقاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون، أينا أحق بالخلافة والبيعة. وفي الإرشاد، للشيخ المفيد ص 183: ثم أغلظ الإمام الحسين عليه السلام القول لمروان، وأنذره، فوقعت مشادة كلامية بين الجانبين انتهت بهجوم أصحاب الحسين عليه السلام إلى داخل الدار، واصطحابهم إياه راجعين
1 - قال ابن الأثير في الكامل من التاريخ 4: 160: وهي الزرقاء بنت موهب جدة مروان، وكانت من ذوات الرايات التي تستدل على بيوت البغاء. 205 به إلى داره. وقال ابن نما في (مثير الأحزان: 14)، والخوارزمي في المقتل، وأعثم في فتوحه: فلما أصبح الحسين.. لقيه مروان فقال: أطعني ترشد، قال: قل، قال مروان: بايع أمير المؤمنين يزيد، فهو خير لك في الدارين، فقال الحسين عليه السلام: " إنا لله وإنا إليه راجعون "، وعلى الاسلام السلام إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد. وأضاف ابن طاووس في اللهوف أن الحسين عليه السلام قال لمروان أيضا: ولقد سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: الخلافة محرمة على آل أبي سفيان، فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه)، وقد رآه أهل المدينة فلم يبقروا، فابتلاهم الله بيزيد الفاسق (1). وفي الأمالي ص 92: قال الحسين عليه السلام (2): قد علمت أنا أهل بيت الكرامة، ومعدن الرسالة، وأعلام الحق الذين أودعه الله عز وجل قلوبنا، وأنطق به ألسنتنا، فنطقت بأذن الله عز وجل، ولقد سمعت جدي رسول الله يقول: إن الخلافة محرمة على ولد أبي سفيان. وكيف أبايع أهل بيت قد قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله هذا؟! وقد جرت محاولات كثيرة لحمل الحسين عليه السلام للعدول عن موقفه الحازم فأبى، وجابه تلك المحاولات بشجاعة أفصحت عن موقف كاشف، من ذلك.. أن قيس بن الأشعث، وهو أحد شانئيه، طلب منه أن يبايع يزيد، فقال له الحسين عليه السلام: لا والله، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفر فرار العبيد (3).
1 - ومقتل الحسين عليه السلام، للخوارزمي 1: 185. 2 - لعله قال للوليد بن عتبة. 3 - أنساب الأشراف، للبلاذري 3: 188. 206 وثبتت الشجاعة الحسينية موقفا صغر عنه الكثير حتى من رفض بيعة يزيد، فسرعان ما انزووا، أو بايعوا بدعوى نحن مع الأقوى، وقد رضي البعض بالمناصب وبعضهم بالهدايا والأموال، وحتى من بقي منهم فإنه بقي على هامش الأحداث، ولبني أمية طمع فيه وأمل.. إلا الإمام الحسين سلام الله عليه، فقد زرع اليأس في قلوب الأعداء، وجرى ذلك اعترافا على ألسنتهم. وحديث (عقبة بن سمعان) يفسر حال الحسين عليه السلام، حيث قال: صحبت الحسين من المدينة إلى مكة، ومنها إلى العراق، ولم أفارقه حتى قتل، وقد سمعت جميع كلامه، فما سمعت منه ما يتذاكر فيه الناس من أن يضع يده في يد يزيد، ولا أن يسيره إلى ثغر من الثغور، لا في المدينة ولا في مكة ولا في الطريق ولا في العراق ولا في عسكره إلى حين قتله (1). وكتب عبيد الله بن زياد كتابا - بتأثير من الشمر - إلى ابن سعد: أما بعد، إني لم أبعثك إلى الحسين لتكف عنه، ولا لتطاوله، ولا لتمنيه السلامة، ولا لتكون له عندي شفيعا. انظر، فإن نزل حسين وأصحابه على حكمي فابعث بهم إلي سلما، وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم، وتمثل بهم، فإنهم لذلك مستحقون. فإن قتل حسين فأوطئ الخيل صدره وظهره، ولست أرى أنه يضر بعد الموت ولكن على قول قلته لو قتلته لفعلت هذا به. فإن أنت مضيت لأمرنا فيه جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا، وخل بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر، فإنا قد أمرناه بذلك (2). فلما جاء الشمر بالكتاب قال له ابن سعد: ويلك! لا قرب الله دارك، وقبح الله ما جئت به، وإني لأظن أنك الذي نهيته، وأفسدت علينا أمرا رجونا أن يصلح، والله لا
1 - تاريخ الطبري 6: 235. 2 - تاريخ ابن الأثير 4: 23. 207 يستسلم حسين، فإن نفس أبيه بين جنبيه (1). - الإباء السامق: الشجاعة - كما قدمنا - ليست مجرد إقدام على الخصم، وإهواء السيف على رأسه.. إنما الشجاعة الحقة ما كانت جهادا في سبيل الله، وتحقيقا لطاعة الله، وإقداما على هدى من الله، ودفعا لأعداء الله، وتحصينا لدين الله، وحماية لعباد الله. وإلى ذلك كله لا بد للشجاعة الحقيقية أن تعبر عن العزة والكرامة والإباء، وعن الشهامة والمروءة والترفع عن حب الدنيا وأطماعها، فإن الشجاعة مجردة عن ذلك تكون تهورا وحبا للانتقام وطلبا للسمعة، ووقوعا في معصية الله، وسقوطا في شراك الشيطان. فقد يظن القاتل أنه شجاع، فإذا تأمل وجد أنه قاتل للنفس المحترمة، ومن جهة أخرى أنه عبد لنزواته، ومن جهة ثالثة أنه ذليل بطاعته للشيطان وهوى النفس، وإقدامه على القتال طمعا في دنيا، ورغبة في شهرة، فلم تكن شجاعته لله، ولا في سبيل الله. بينما الشجاعة في الدين عزة.. يقول أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه: الشجاعة عز حاضر. الشجاعة أحد العزين (2). وكيف تكون الشجاعة عزا إذا لم تكن رفضا للظلم، وترفعا عن الطمع، وإباء، ونخوة وغيرة على الاسلام. يقول الإمام علي سلام الله عليه: جبلت الشجاعة على ثلاث طباع، لكل واحدة منهن فضيلة ليست للأخرى: السخاء بالنفس، والأنفة من الذل، وطلب الذكر. فإن تكاملت في الشجاع كان البطل الذي لا يقام سبيله، والموسوم بالإقدام في عصره، وإن تفاضلت فيه بعضها على بعض كانت شجاعته في
1 - تاريخ الطبري 6: 236. 2 - غرر الحكم. 208 ذلك الذي تفاضلت فيه أكثر وأشد إقداما (1). فقد يراد من المؤمن أن يرضى بالضيم، ويقعد على بساط الذل، وأن يسكت مع الإهانة والهوان، ويحجم عن الدفاع عن دينه وعرضه، ويوسم بالذكر السيئ فلا يعرب عن رفض، ولا يبدو منه رد أو نخوة.. هكذا يراد منه أحيانا، لكن الإباء يمنعه أن يرضى، والحمية تنكر عليه أن يسكت، فينتفض شجاعا لا يقبل بشئ دون عزته.. وهنا تكون شجاعته على قدر ما رزق من شرف الإباء. جاء في غرر الحكم لأمير المؤمنين سلام الله عليه أنه قال: شجاعة الرجل على قدر همته، وغيرته على قدر حميته. وفي حديث آخر، قال عليه السلام: على قدر الحمية تكون الشجاعة. والشجاعة الحسينية أثبتت أنها تحمل الإباء بأشرف منازله، والحمية بأعز حالاتها، والكرامة بأعلى درجاتها، فهي أسمى من المداهنات، وأرفع من التنازلات، وأبعد ما تكون عن الإغراءات. وقد كانت للإمام الحسين صلوات الله عليه مواقف وعبارات، أفصحت عن إبائه، فيئست منه قلوب الطامعين، وحقدت عليه نفوس المخاصمين. وقد سمع سلام الله عليه ورئي أنه إلى الموت أقرب منه إلى بيعة الظالمين، وأنه في طلب الشهادة لا في طلب الدنيا.. وكانت كلماته عليه السلام كمواقفه ليس فيها أي مبالغة، أثبت ذلك في كل واقعة.. فالإمام الحسين عليه السلام هو الذي رفض هدايا معاوية وردها عليه، وهو الذي قال: الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم، يحوطونه ما
1 - بحار الأنوار 78: 236، عن تحف العقول. 209 درت معايشهم، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون (1). وهو الذي رفض بيعة يزيد، وأجاب عمر الأطراف عندما اقترح عليه الصلح مع الطاغية يزيد، بقوله: حدثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وآله أخبره بقتله وقتلي، وأن تربته تكون بالقرب من تربتي، أتظن أنك علمت ما لم أعلمه؟ والله لا أعطي الدنية من نفسي أبدا... (2). قال عليه السلام ذلك وثبت عنده، وضاقت عليه الأرض ولم ير إلا عند كلمته: لو لم يكن ملجأ لما بايعت يزيد. قال التستري رضوان الله عليه: ومنها - أي من خصائصه عليه السلام - إباء الضيم، فله نحو خاص به. قال عليه السلام لما أرادوا منه النزول على حكم يزيد وابن زياد: لا والله، لا أعطي بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر إقرار العبيد) بل يقال إنه سن إباء الضيم، وإن أباة الضيم يتأسون به (3). والحسين عليه السلام هو الذي قالها قاطعة حازمة، صادقة جازمة: موت في عز، خير من حياة في ذل (4). وحين قدمت له الحياة المنعمة في ذل، أباها ورفضها، واختار الموت في عز.. اختار الموت ولكن أي موت! إنه الموت الصعب، الموت المتعدد، حيث رأت عيناه الكريمتان أبناءه يقتلون، ويقطعون بالسيوف ويطعنون بالرماح، ونظر إلى إخوته وأبناء إخوته وأبناء عمومته، وإلى الخلص من أصحابه يقعون على الأرض مضرجين بدمائهم على رمال كربلاء، وطالما التفتت مقلتاه الشريفتان إلى الخيم وهو يرى ببصيرته أن من فيها من النساء سيترملن، ومن الأطفال سيؤتمون، وأن في انتظارهم فجائع
1 - مقتل الحسين عليه السلام، للخوارزمي 2: 5. 2 - اللهوف: 23. 3 - الخصائص الحسينية: 21. 4 - المناقب 4: 68. 210 ونكبات، فيتألم لذلك قلبه الرؤوف، ولكن كل ذلك لا بد منه إذا كان الدين في خطر، والحياة في ذل. التفت إلى أصحابه في مسيرة الشهادة، واستوقف الضمائر والقلوب فخاطبها قائلا: إن الدنيا تغيرت، وتنكرت، وأدبر معروفها واستمرت، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل.. ألا ترون إلى الحق لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه؟! ليرغب المؤمن في لقاء ربه محقا، فإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما... (1). وهذا منطق الشجاع الأبي، الذي لا يخاف من الموت، بل يرغب فيه حيث سعادته لأن قباله الحياة مع الظالمين، وهي برم - أي سأم وضجر لأبي الضيم وعزيز النفس -، والموت هنا سعادة يرغب فيها الشريف الشهم، فضلا عن عدم خوفه منه. وفي الطريق إلى كربلاء.. قال الحر بن يزيد للإمام الحسين عليه السلام: إني أشهد لئن قاتلت لتقتلن، فقال الحسين عليه السلام: أفبالموت تخوفني؟! وهل يغدو بكم الخطب إن تقتلوني، وسأقول ما قال أخو الأوس لابن عمه وهو يريد نصرة رسول الله صلى الله عليه وآله، فخوفه ابن عمه وقال: أين تذهب فإنك مقتول؟ فقال: سأمضي وما بالموت عار على الفتى * إذا ما نوى حقا وجاهد مسلما وواسى الرجال الصالحين بنفسه * وفارق مثبورا، وخالف مجرما
1 - حلية الأولياء 2: 239، وتحف العقول: 176. 211 أقدم نفسي لا أريد بقاءها * لتلقى خميسا في الهياج عرمرما فإن عشت لم أندم، وإن مت لم ألم * كفى بك ذلا أن تعيش وترغما (1) وروي أن الإمام الحسين عليه السلام كان كثيرا ما ينشد تلك الأبيات حتى زعم الرواة أنها مما أملته نفسه المقدسة، وهي: لئن كانت الأفعال يوما لأهلها * كمالا، فحسن الخلق أبهى وأكمل وإن تكن الدنيا تعد نفيسة * فدار ثواب الله أعلى وأنبل وإن تكن الأموال للترك جمعها * فما بال متروك به الحر يبخل وإن تكن الأرزاق قسما مقدرا * فقلة حرص المرء في الكسب أجمل وإن تكن الأبدان للموت أنشئت * فقتل امرئ بالسيف في الله أفضل سأمضي وما بالقتل عار على الفتى * إذا في سبيل الله يمضي ويقتل (2) فالأبي حينما يتزاحم الذل مع الموت، يختار الموت، وحينما يخير بين
1 - المناقب: 2: 193، وأنساب الأشراف: 3: 171، ومقتل الحسين عليه السلام، للخوارزمي: 1: 230. 2 - المناقب 4: 95، وكشف الغمة 3: 40، ومقتل الحسين (ع)، للخوارزمي 1: 33. 212 العار والقتل، يختار القتل، وحينما يدور المدار بين الدنيا الآثمة ودخول المعركة القاتلة فإنه يخطو بشوق إلى القتال والموت المحتم.. حيث يرى فيه حياته، ويرى في الحياة الخانعة الموت الحقيقي. وهكذا كان رجل الإباء، سيد الشهداء، الحسين بن علي صلوات الله عليه، حتى عبر عن ذلك ابن نباتة فقال: الحسين.. الذي رأى القتل في العز حياة والعيش في الذل قتلا (1). لقد كان الإباء ينطلق من لسان الإمام الحسين عليه السلام قولا صادقا، حتى تمثل في كربلاء بأجلى صورة مواقف شامخة، فوقف على أرض الطف وقال في شجاعة الرجل الأبي: ألا إن الدعي ابن الدعي، قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية، من أن نؤثر طاعة اللئام، على مصارع الكرام (2). وقد ترجم الإمام الحسين سلام الله عليه كل كلمة من هذه الكلمات إلى جميع لغات العزة والكرامة، والإباء والشهامة، والرفعة والشرف المؤبد.. فكان أن وقف على أرض الطف وحيدا بعد مقتل أخيه العباس عليه السلام، وأمامه ثلاثون ألف مقاتل، فلم يروه يهتز هيبة منهم، ولم يجدوا فيه رغبة في استسلام، بل وقفوا يتأملون فيه ماذا هو صانع بنفسه، فإذا الحسين عليه السلام يطلب ثوبا لا يرغب فيه أحد، يضعه تحت ثيابه لئلا يجرد منه.. فإنه مقتول مسلوب، فأتوه بتبان فلم يرغب فيه لأنه من لباس الذلة (3)، وأخذ ثوبا وخرقه وجعله تحت ثيابه (4)، ودعا بسراويل حبرة ففزرها ولبسها لئلا
1 - المناقب 4: 68. 2 - تاريخ دمشق، لابن عساكر: 215. 3 - المناقب 2: 222. 4 - مجمع الزوائد، للهيثمي 9: 193. 213 يسلبها (1). ثم تقدم نحو القوم مصلتا سيفا، ودعا الناس إلى البراز فلم يزل يقتل كل من برز إليه، حتى قتل جمعا كثيرا (2). قال الأربلي (3): وشجاعة الحسين عليه السلام يضرب بها المثل وصبره في مأقط الحراب (أي مضيقه) أعجز الأواخر والأول، وثباته إذا دعيت نزال ثبات الجبل، وإقدامه إذا ضاق المجال إقدام الأجل، ومقامه في مقابلة هؤلاء الفجرة عادل مقام جده صلى الله عليه وآله ببدر فاعتدل، وصبره على كثرة أعدائه وقلة أنصاره صبر أبيه عليه السلام في صفين والجمل، ومشرب العداوة واحد فبفعل الأول فعل الآخر ما فعل، فكم من فارس مدل ببأسه جدله عليه السلام فانجدل، وكم من بطل طل دمه فبطل، وكم حكم سيفه فحكم في الهوادي والقلل، فما لاقى شجاعا إلا وكان لأمه الهبل. ولما اشتد به العطش، وأعياه الكر والفر على جموع المبارزين، هجموا عليه غدرا بالحجارة، ورميا من بعيد بالسهم، جبنا منهم أن يبارزه الرجل بعد الرجل. ثم أصابته صدمات فضعف عن الجلوس، وجعل يقوم مرة ويسقط أخرى.. كل ذلك لئلا يروه مطروحا فيشمتون (4). فجمع سلام الله عليه إلى الشجاعة إباء وعزة، وإلى رفض الباطل محاربة له، وإلى إنكار المنكر ترفعا عنه، فكان كريم النفس.. مضى هكذا، وختم حياته أشرف خاتمة ولم ينل منه العدو موقف ضعف أو ذلة، فأصبح النبراس الوهاج في سماء التضحية، والشجاعة، والفداء، والإباء.
1 - تاريخ الطبري 6: 259. 2 - مقتل العوالم: 97. ومثير الأحزان، لابن نما: 37. ومقتل الحسين، للخوارزمي 2: 33. 3 - كشف الغمة: 180. 4 - الخصائص الحسينية: 38. 214 قال الأستاذ " عبد الحفيظ أبو السعود " في الإمام الحسين عليه السلام: عنوان النضال الحر، والجهاد المستميت، والاستشهاد في سبيل المبدأ والعقيدة، وعدم الخضوع لجور السلطان وبغي الحاكمين (1). وقال الأستاذ محمد الباقر: إن سيرة البطل الشهيد الإمام الحسين بن علي جديرة بأن ينقشها العرب جميعا، على تنوع ميولهم ومذاهبهم، في أمواق أفئدتهم.. ذلك لأن هذه السيرة إنما هي سيرة التضحية والعقيدة، سيرة العزة والكرامة (2). رامت أمية أن يبايع خاضعا * وأبى الكريم بأن يذل ويخضعا وأختم موضوع (الشجاعة الحسينية) بقصيدة الحاج عبد الحسين الأزري البغدادي رحمه الله ورضي عنه حيث قال.. ونعم ما قال: عش في زمانك ما استطعت نبيلا * واترك حديثك للرواة جميلا ولعزك استرخص حياتك إنه * أغلى، وإلا غادرتك ذليلا فالعز مقياس الحياة.. وضل من * قد عد مقياس الحياة الطولا قل: كيف عاش؟ ولا تقل: كم عاش من * جعل الحياة إلى علاه سبيلا لا غرو إن طوت المنية ماجدا * كثرت محاسنه وعاش قليلا
1 - سبطا رسول الله الحسن والحسين: 88. 2 - كتابه (الشهيد الخالد الحسين بن علي): 6. 215 ما كان للأحرار إلا قدوة * بطل توسد في الطفوف قتيلا بعثته أسفار الحقائق آية * لا تقبل التفسير والتأويلا لا زال يقرأها الزمان معظما * في شأنها، ويزيدها ترتيلا يدوي صداها في المسامع زاجرا * من عل ضيما واستكان خمولا أفديك معتصما بسيفك لم تجد * إلاه في حفظ الذمار كفيلا خشيت أمية أن تزعزع عرشها * والعرش لولاك استقام طويلا من أين تأمن منك أرؤس معشر * حسبتك سيفا فوقها مسلولا طبعتك أهداف النبي وذربت * يدها شباتك وانتضتك صقيلا فإذا خطبت رأوك عنه معبرا * وإذا انتميت رأوك منه سليلا أو قمت عن بيت النبوة معربا * وجدوا به لك منشأ ومقيلا قطعوا الطريق لذا عليك وألبوا * من كل فج عصبة وقبيلا
216 وهناك آل الأمر إما سلة * أو ذلة.. فأبيت إلا الأولى ومشيت مشية مطمئن حينما * أزمعت عن هذي الحياة رحيلا تستقبل البيض الصفاح كأنها * وفد يؤمل من نداك منيلا فكأن موقفك الأبي رسالة * وبها كأنك قد بعثت رسولا نهج الأباة على هداك.. ولم تزل * لهم مثالا في الحياة نبيلا وتعشق الأحرار سنتك التي * لم تبق عذرا للشجى مقبولا قتلوك للدنيا.. ولكن لم تدم * لبني أمية بعد قتلك جيلا ولرب نصر عاد شر هزيمة * تركت بيوت الظالمين طلولا حملت بصفين الكتاب رماحهم * ليكون رأسك بعده محمولا يدعون باسم (محمد)، وبكربلا * دمه غدا بسيوفهم مطلولا لو لم تبت لنصالهم نهبا لما * اجترأ الوليد فمزق التنزيلا
217 تمضي الدهور ولا ترى إلاك في * الدنيا شهيد المكرمات جليلا فكفاك تعظيما لشأوك موقف * أمسى عليك مدى الحياة دليلا بسمائك الشعراء مهما حلقوا * لم يبلغوا من ألف ميل ميلا (1)
1 - الدر النضيد: 272 - 274. 218 الغيرة الحسينية
219 الغيرة الحسينية الغيرة أو الحمية: هي السعي في محافظة ما يلزم محافظته، وهي من نتائج الشجاعة وكبر النفس وقوتها (1). قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: على قدر الحمية تكون الشجاعة (2)، وقال سلام الله عليه أيضا: ثمرة الشجاعة الغيرة (3). والغيرة هي من شرائف الملكات، وبها تتحقق الرجولية، والفاقد لها غير معدود من الرجال (4). وهي تعبر - فيما تعبر عنه - عن الاعتزاز بالشرف والكرامة، وعن اليقظة والمروءة والنخوة، وهذه من مثيرات الشجاعة، ومن دواعي رفض العدوان. ومقتضى الغيرة والحمية في " الدين " أن يجتهد المرء في حفظه عن بدع المبتدعين، وانتحال المبطلين، وإهانة من يستخف به من المخالفين، ورد شبه الجاحدين، ويسعى في ترويجه، ولا يتسامح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
1 - جامع السعادات 1: 265 - باب الغيرة والحمية. 2 - غرر الحكم. 3 - نفسه. 4 - جامع السعادات 1: 265. 221 ومقتضى الغيرة على " الحريم " ألا يتغافل عن حفظهن عن أجانب الرجال، وعن الأمور التي تخشى غوائلها، ويمنعهن عن جميع ما يمكن أن يؤدي إلى فساد وريبة. وأما مقتضى الغيرة على " الأولاد ": أن تراقبهم من أول أمرهم، فإذا بدأت فيهم مخائل التمييز فينبغي أن يؤدبوا بآداب الأخيار، ويعلموا محاسن الأخلاق والأفعال، والعقائد الحقة (1). ولأهمية الغيرة في حفظ المقدسات، وسلامة الأمة وشرف كرامتها جاءت الآيات الكريمة والأحاديث المنيفة تؤكد عليها، وتبين فضائلها، وتدعو إليها، إذ هي خلق من أخلاق الله تبارك وتعالى، ومن أخلاق الأنبياء والمرسلين، والأئمة الهداة المهديين صلوات الله عليهم أجمعين. قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ألا وإن الله حرم الحرام، وحد الحدود، وما أحد أغير من الله، ومن غيرته حرم الفواحش (2). وعنه صلى الله عليه وآله أيضا قال: إني لغيور، والله عز وجل أغير مني، وإن الله تعالى يحب من عباده الغيور (3). والغيرة مفصحة عن الإيمان، لقول المصطفى صلى الله عليه وآله: إن الغيرة من الإيمان (4). وهي من نتائج القوة الغضبية في الانسان، قد تنتج مساوئ أخلاقية.. كالتهور وسوء الظن والغضب المذموم، وقد تنتج محاسن أخلاقية.. كالغضب لله تعالى، والشجاعة والعزة والإباء. وقد عرف الإمام الحسين عليه السلام بخلق الغيرة.. على الدين والحريم
1 - يراجع في تفصيل ذلك وبيانه المصدر السابق. 2 - أمالي الصدوق: 257. 3 - كنز العمال: الخبر 7076. 4 - من لا يحضره الفقيه 3: 381. 222 والأولاد. وهو الذي تربى في ظل أغير الناس: جده المصطفى، وأبيه المرتضى، وأمه فاطمة الزهراء صلوات الله عليهم، وعاش في بيت العصمة والطهارة والنجابة، والشرف المؤبد والكرامة، ونشأ في أهل بيت لم تنجسهم الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسهم من مدلهمات ثيابها. فالنبي صلى الله عليه وآله كان - كما يقول الإمام علي عليه السلام -: لا يصافح النساء، فكان إذا أراد أن يبايع النساء أتي بإناء فيه ماء فغمس يده، ثم يخرجها، ثم يقول: أغمسن أيديكن فيه فقد بايعتكن (1). أما ابنته فاطمة صلوات الله عليها.. فقد سألها أبوها صلى الله عليه وآله يوما: أي شئ خير للمرأة؟ فقالت: أن لا ترى رجلا ولا يراها رجل. فضمها إليه وقال: " ذرية بعضها من بعض " (2). وأما أمير المؤمنين سلام الله عليه.. فيكفي ما ذكره يحيى المازني حيث قال: كنت جوار أمير المؤمنين عليه السلام مدة مديدة، وبالقرب من البيت الذي تسكنه زينب ابنته، فوالله ما رأيت لها شخصا، ولا سمعت لها صوتا، وكانت إذا أرادت الخروج لزيارة جدها رسول الله صلى الله عليه وآله تخرج ليلا والحسن عن يمينها، والحسين عن شمالها، وأمير المؤمنين أمامها، فإذا قربت من القبر الشريف سبقها أمير المؤمنين فأخمد ضوء القناديل. فسأله الحسن مرة عن ذلك فقال: أخشى أن ينظر أحد إلى شخص أختك زينب (3). هذه الخفرة عقيلة بني هاشم سلام الله عليها كان لا بد - من أجل إنقاذ الدين، وفضح الجاهليين - أن تخرج إلى كربلاء لتثبت أن بني أمية لا يرقبون
1 - تحف العقول: 457. 2 - المناقب، عن حلية الأولياء، لأبي نعيم، ومسند أبي يعلى، والآية في سورة آل عمران: 34. 3 - زينب الكبرى (ع): 22. 223 في مؤمن إلا ولا ذمة، ولا يحفظون حرمة لرسول الله صلى الله عليه وآله، حيث أسرت بناته في كربلاء وساقهن أعداء الله في مسيرة وعرة إلى الكوفة، ثم إلى الشام، في حال من الجوع والإعياء، وأسكن الخرائب مقيدات بالحبال. ويأبى ذلك لهن كل غيور لو الغيرة على الدين، حيث لا ينقذ الدين إلا في موقف يقتل فيه حزب الله النجباء، بيد حزب الشيطان الطلقاء، وتؤسر فيه بنات الرسالة، ويقضي الأطفال بين الجوع والعطش والهلع، وحوافر الخيل والضياع في الصحارى. إن كل ذلك من أجل الدين، الذي دونه الأنفس وكل عزيز. ولقد كان الإمام الحسين صلوات الله عليه أغير الناس على دين الله، فأقدم على ما أحجم عنه غيره، وقدم ما بخل به غيره، وقد شهدت له مواقف كربلاء أنه الغيور الذي لم تشغله الفجائع ولا أهوال الطف عن حماسة حرم رسول الله صلى الله عليه وآله.. في يوم العاشر، وبعد أن قتل جميع أنصار الحسين عليه السلام وأصحابه وأهل بيته، وقبيل الاشتباك بالآلاف.. صاح عمر بن سعد بالجمع: هذا ابن الأنزع البطين، هذا ابن قتال العرب، احملوا عليه من كل جانب. فأتته عليه السلام أربعة آلاف نبلة (1)، وحال الرجال بينه وبين رحله، فصاح بهم: يا شيعة آل أبي سفيان! إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحرارا في دنياكم، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عربا كما تزعمون. فناداه شمر: ما تقول يا ابن فاطمة؟ قال: أنا الذي أقاتلكم والنساء ليس عليهن جناح، فامنعوا عتاتكم عن التعرض لحرمي ما دمت حيا. فقال الشمر:
1 - المناقب 2: 223. 224 لك ذلك. وقصده القوم، واشتد القتال وقد اشتد به العطش (1)، قيل: وقصده القوم من كل جانب وافترقوا عليه أربع فرق من جهاته الأربع: فرقة بالسيوف - وهم القريبون منه، وفرقة بالرماح - وهم المحيطون به، وفرقة بالسهام والنبال - وهم الذين في أعالي التلال ورؤوس الهضاب، وفرقة بالحجارة - وهم رجالة العسكر.. ازدحم عليه العسكر، واستحرى القتال، وهو يقاتلهم ببأس شديد وشجاعة لا مثيل لها (2). وحمل عليه السلام من نحو الفرات على عمرو بن الحجاج - وكان في أربعة آلاف - فكشفهم عن الماء، وأقحم الفرس الماء، فلما مد الحسين يده ليشرب ناداه رجل: أتلتذ بالماء وقد هتكت حرمك؟! فرمى الماء ولم يشرب، وقصد الخيمة (3). وفي رواية الشيخ الدربندي رحمه الله: فنفض الماء من يده، وحمل عليه السلام على القوم فكشفهم، فإذا الخيمة سالمة.. إن الإمام عليه السلام كان سيد سادات أهل النفوس الأبية، والهمم العالية، فلما سمع أن المنافقين يذكرون اسم الحرم والعترة الطاهرة كف نفسه عن شرب الماء بمحض ذكرهم هذا، فقد سن روحي له الفداء لأصحاب الشيم الحميدة والغيرة سنة بيضاء، وطريقة واضحة في مراعاة الناموس والغيرة (4). وهذه خصيصة شريفة أخرى من الخصائص الحسينية، حيث وقف عليها الشيخ التستري أعلا الله مقامه فقال: ومنها: الغيرة: بالنسبة إلى النفس، وبالنسبة إلى الأهل والعيال. أما
1 - اللهوف: 67. 2 - إبصار العين، للشيخ السماوي. 3 - مقتل العوالم، للشيخ عبد الله البحراني: 98، ونفس المهموم: 188. 4 - في كتابه (أسرار الشهادة): 411. 225 بالنسبة إلى النفس.. فأقواله في ذلك: شعره ونثره ونظمه حين حملاته معروفة، وأفعاله الدالة على ذلك كثيرة، لكن قد أقرح القلب واحد منها، وهو أنه عليه السلام لما ضعف عن الركوب لضربة صالح بن وهب نزل أو سقط عن فرسه على خده الأيمن، فلم تدعه الغيرة للشماتة، والغيرة على العيال، لأن يبقى ساقطا، فقام صلوات الله عليه، وبعد ذلك أصابته صدمات أضعفته عن الجلوس فجعل يقوم مرة ويسقط أخرى، كل ذلك لئلا يروه مطروحا فيشمتون. وأما بالنسبة إلى العيال، فقد بذل جهده في ذلك في حفر الخندق واضطرام النار فيه، وقوله اقصدوني دونهم، ووصلت إلى أنه صب الماء الذي في كفه وقد أدناه إلى فمه وهو عطشان لما سمع قول: إنه قد هتك خيمة حرمك (1). وحينما عاد الإمام الحسين عليه السلام إلى المخيم ورام توديع العيال الوداع الثاني ليسكن روعتهم، ويخفف لوعتهم، ويصبرهم على فراقه... قال عمر بن سعد لأصحابه: ويحكم! اهجموا عليه ما دام مشغولا بنفسه وحرمه، والله إن فرغ لكم لا تمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم. فحملوا عليه يرمونه بالسهام حتى تخالفت السهام بين أطناب المخيم، وشك سهم بعض أزر النساء فدهشن وأرعبن وصحن ودخلن الخيمة ينظرن إلى الحسين كيف يصنع، فحمل عليهم كالليث الغضبان، فلا يلحق أحدا إلا بعجه بسيفه فقتله، والسهام تأخذه من كل ناحية وهو يتقيها بصدره ونحره (2). ورجع إلى مركزه يكثر من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله العظيم (3).
1 - الخصائص الحسينية: 37، 38. 2 - مثير الأحزان، للشيخ شريف آل صاحب الجواهر. 3 - اللهوف: 67. 226 بأبي من رسيم ضيما فأبى * أن يسام الضيم واختار الردى كيف يأوي الضيم منه جانبا * هو مأوى كل عز وإبا فغدا يسطو على جمع العدى * مثل صقر شد في سرب القطا شبل آساد إذا ما غضبوا * زلزلوا الأرض بجملات الوغى (1) * يلقى كتائبهم بجأش طامن * والصدر في ضيق المجال رحيب ويرى إلى نحو الخيام ونحوهم * من طرفه التصعيد والتصويب للمشرفية والسهام بجسمه * والسمهرية للجراح ضروب حتى هوى فوق الصعيد وحان من * بدر التمام عن الأنام غروب (2) ثم إن الإمام الحسين عليه السلام لما سقط ولده (علي الأكبر) عليه السلام
1 - من قصيدة للسيد محسن الأمين في كتابه (الدر النضيد في مراثي السبط الشهيد): 5. 2 - له أيضا، في المصدر نفسه: 26. 227 أتاه مسرعا وانكب عليه بعد أن كشف عنه قتلته، فوضع خده على خده، وقال: على الدنيا بعدك العفا... يعز على جدك وأبيك أن تدعوهم فلا يجيبونك، وتستغيث فلا يغيثونك (1). ولما ضرب عمرو بن سعد بن نفيل الأزدي رأس القاسم بن الإمام الحسن عليه السلام بالسيف.. وقع الغلام لوجهه فقال: يا عماه! فأتاه الحسين كالليث الغضبان، فضرب عمروا بالسيف فاتقاه بالساعد فأطنها (2) من المرفق، وانجلت الغبرة وإذا الحسين قائم على رأس الغلام وهو يفحص برجليه، والحسين يقول: بعدا لقوم قتلوك، خصمهم يوم القيامة جدك. ثم قال: عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك ثم لا ينفعك (3). وروى بعضهم أن الإمام الحسين عليه السلام لما أصيب بالسهام والحجارة، وأعياه نزف الدم، سقط على الأرض لا يقوى على القيام والنهوض. فلبثوا هنيئة وعادوا إليه وأحاطوا به، فنظر (عبد الله بن الحسن السبط عليه السلام) وله إحدى عشرة سنة إلى عمه وقد أحدق به القوم، فأقبل يشتد نحو عمه، وأرادت زينب حبسه فأفلت منها وجاء إلى عمه، وأهوى بحر بن كعب بالسيف ليضرب الحسين فصاح الغلام: يا ابن الخبيثة! أتضرب عمي؟ فضربه واتقاها الغلام بيده فأطنها إلى الجلد، فإذا هي معلقة، فصاح الغلام: يا عماه! ووقع في حجر الحسين فضمه إليه وقال: يا ابن أخي! اصبر على ما نزل بك، واحتسب في ذلك الخير، فإن الله تعالى يلحقك بآبائك الصالحين (4).
1 - تاريخ الطبري 6: 265، ومقتل العوالم: 95. 2 - أي: قطعها. 3 - تاريخ الطبري 6: 257، والبداية والنهاية 8: 186. 4 - تاريخ الطبري 6: 259، واللهوف: 68. 228 وأخذه الإعياء فلا تقوى جوارحه من شدة النزف على أن يجلس، روى بعضهم أن أعداء الله أرادوا أن يتأكدوا من عجزه عن القيام لمواجهتهم فنادوا عليه بأن رحله قد هتك، فقام وسقط، وحاول النهوض غيرة على عياله فسقط، وجاهد ذلك ثالثة فسقط.. حينذاك اطمئنوا أنه لا يقوى على قيام. وقد قال في خصائصه (الشيخ التستري): وكان عليه السلام حين وقوعه صريعا مطروحا يسعى لتخليص أهله ومن يجئ إليه، فهو المطروح الساعي (1).
1 - الخصائص الحسينية: 42. 229 الصلابة الحسينية
231 الصلابة الحسينية الصبر، خصيصة فاضلة يعجب بها الناس ويجلونها، ويكبرون صاحبها، ويتمنون أنها فيهم، ولكن قليل هم الذين يحظون بها. والصبر، خلق ينطوي على معان سامية رفيعة، منها: الإيمان بالله، والتسليم لقضاء الله، والرضا بأمر الله، والشكر على ما يريده ويحبه الله.. كما يعبر عن قوة الجنان، ورجاحة العقل، وثبات القلب، واطمئنان النفس وهدوئها، ويشير إلى الزهد وحسن التوكل على الله، والثقة به سبحانه وتعالى، والتصديق بوعده وهو القائل: * (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) * (1). وفي تعريف الصبر قال علماء الأخلاق: هو ضد الجزع، وهو ثبات النفس، أو هو احتمال المكاره من غير جزع، أو هو قسر النفس على مقتضيات الشرع والعقل: أوامر ونواهي. وفي الرواية: قال جبرئيل عليه السلام في تفسير الصبر: تصبر في الضراء، كما تصبر في السراء، وفي الفاقة كما تصبر في الغنى، وفي البلاء كما تصبر في العافية، فلا يشكو حاله عند المخلوق. وفي رواية: فلا يشكو خالقه عند المخلوق بما يصيبه من البلاء (2). وفي بيان أنواع الصبر، قال رسول الله صلى الله عليه وآله:
1 - سورة الزمر: 10. 2 - معاني الأخبار: 261. 233 الصبر ثلاثة: صبر على المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية (1). وقال أمير المؤمنين عليه السلام: الصبر صبران: صبر عند المصيبة، حسن جميل، وأحسن من ذلك الصبر عند ما حرم الله عليك (2). وعنه سلام الله عليه أيضا قال: الصبر صبران: صبر على ما تكره، وصبر عما تحب (3). والصبر يوحي بأن هناك صراعا ومقاومة، وقتالا وغلبة، أو أن هنالك طرفين متنازعين، وهناك نتيجة، والصبر هو الذي يحدد النتيجة.. قال الإمام علي عليه السلام: الإيمان على أربع دعائم: على الصبر، واليقين، والعدل، والجهاد. والصبر منها على أربع شعب: على الشوق، والشفق، والزهد، والترقب، فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات، ومن أشفق من النار اجتنب عن المحرمات، ومن زهد في الدنيا استهان بالمصيبات، ومن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات (4). والصبر ليس تحملا وحسب، إنما هو شكر وتسليم لله جل ثناؤه أيضا. والصبر ليس مقاومة وحسب، إنما هو مبادرة للقتال ضد جنود الضلال والتضليل أحيانا. والصبر ليس إمساكا للنفس عن اقتراف المعاصي وحسب، إنما هو أيضا نهوض وعزم على عمل الخير وإتمامه بنية سليمة صالحة، فهو مقيد بقوله تعالى * (ابتغاء وجه ربهم) * (5). ومن هنا يتمايز الصابرون، فمنهم من يتصبر لوجه الناس، لا عن إيمان أو رضى أو تسليم لقضاء الله سبحانه وتعالى، ومنهم من يرجو بصبره نوال ثوابه تبارك وتعالى، أو يتحاشى به عقابا،
1 - أصول الكافي: 2، باب الصبر، الحديث 15. 2 - نفسه: الحديث 11. 3 - نهج البلاغة، قصار الحكم: 55. 4 - نفسه: الحكمة 31. 5 - سورة الرعد: 22. 234 ولكن منهم من يصبر طاعة لله جل وعلا وحبا ورضى وتسليما لأمره عز وجل، فلا يشكو ولا يضجر ولا يعترض. والصبر درجات وأنواع، منه: صبر العوام على وجه التجلد، وهو لا ثواب عليه إذ لا يكون لله، ومنه: صبر الزهاد والعباد، لتوقع ثواب الآخرة، وخشية عقابها، ومنه: صبر العارفين، الذين يتلذذون بالمكروه لأنه من عند المحبوب (الله جل جلاله) إذ خصهم به دون الناس فصاروا ملحوظين بشرف نظرته سبحانه، وموعودين بطيب بشارته، * (وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون) * (1). والإمام الحسين عليه السلام قد أخلص النية لله عز شأنه، وسلم له أمره، وصبر أي صبرا... حتى قال في زيارته حفيده الإمام المهدي عليه السلام: وجاهدت في الله حق الجهاد، وكنت لله طائعا، ولجدك محمد صلى الله عليه وآله تابعا، ولقول أبيك سامعا، وإلى وصية أخيك مسارعا، ولعماد الدين رافعا، وللطغيان قامعا، وللطغاة مقارعا، وللأمة ناصحا، وفي غمرات الموت سابحا، وللفساق مكافحا، وبحجج الله قائما، وللإسلام والمسلمين راحما، وللحق ناصرا، وعند البلاء صابرا... (2). فصبر الحسين سلام الله عليه كان جهدا وجهادا ومجاهدة، وكان معبرا عن الطاعة المطلقة الخالصة لله سبحانه وتعالى، وعن الشجاعة المذهلة. فالصبر مع أنه إمساك للنفس عن الجزع، هو ثبات على قدم الشجاعة.. قال الإمام علي عليه السلام في مجمل غرر حكمه، ودرر كلمه: الشجاعة، صبر
1 - سورة البقرة: 155 - 157. 2 - زيارة الناحية المقدسة. 235 ساعة (1). الصبر شجاعة (2). وقيل للحسن بن علي عليه السلام: ما الشجاعة؟ فقال: موافقة الأقران، والصبر عند الطعان (3). ولقد صبر الإمام الحسين سلام الله عليه على الطاعات الطويلة، وعن المعاصي الثقيلة، وعلى مصائب جمة، إلا أن تهتك حرمات الدين، وتهان كرامة المسلمين، فذلك ما لم يصبر عليه. وله في جده رسول الله المصطفى صلى الله عليه وآله أسوة، حيث وقف يوما فقال: قد صبرت في نفسي وأهلي، وعرضي، ولا صبر لي على ذكر إلهي (4) فأنزل الله عز وجل: * (فاصبر على ما يقولون) * (5). وصبر الإمام الحسين عليه السلام صبر الحكماء العقلاء، حتى كانت نهضته في موقعها المناسب: مكانا، وزمانا. فصبر لله، وقام لله جل وعلا، وقد كتب إلى أخيه (محمد بن الحنفية): فمن قبلني بقبول الحق، فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا أصبر، حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين (6). حتى إذا استوجب الأمر أن يصبر على المسير قام عليه السلام صابرا كما انتظر صابرا، فذهب إلى مكة، ووقف هناك يقول للناس خاطبا: ألا ومن كان فينا باذلا مهجته، موطنا على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا، فإني راحل مصبحا إن شاء الله (7). واعترضه في الطريق (أبو الهرم) وسأله: يا ابن رسول الله! ما الذي
1 - بحار الأنوار 78: 11، عن مطالب السؤول. 2 - غرر الحكم. 3 - تحف العقول: 163. 4 - أصول الكافي 2: 88. 5 - سورة ق: 39. 6 - مقتل الحسين عليه السلام، للخوارزمي 1: 188. 7 - اللهوف: 53. 236 أخرجك عن حرم جدك؟ فأجابه عليه السلام: يا أبا هرم! إن بني أمية شتموا عرضي فصبرت، وأخذوا مالي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت... (1). أما الذي لم يصبر عليه الإمام الحسين صلوات الله عليه - وهو الغيور - فهو أن يرى بني أمية ينزون على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله، يحرفون الكلم عن مواضعه، ويحكمون بما لم ينزل به الله به كتابا، ويذلون عباد الله، ويهينون أولياء الله، ويعودون بالناس القهقري إلى الجاهلية الأولى، ويهلكون الحرث والنسل، ويشيعون الفساد والإفساد، ويسلبون الأموال، ويقتلون الرجال، ويهتكون الأعراض.. فوقف يعلنها ثورة دونها الأبدان والأنفس والدماء، فقال خاطبا: ألا ترون إلى الحق لا يعمل به، وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله، فإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا برما (2). وأي صبر هذا حينما يقدم المرء على الموت يرفع إليه قدميه مقبلا عليه، راغبا فيه، يراه السعادة بعينها، ذلك لأنه لا يستطيع الصبر على ظلم الظالمين، ولا يقوى أن يرى كيف تهتك مقدسات الدين. فصبر الإمام الحسين عليه السلام حينما كلفه الله بالصمت، وصبر أيضا حينما كلفه سبحانه وتعالى بالسفر إلى كربلاء، وصبر في كل موقف بما يقتضيه حكم الله عز وجل، ولم يعرف منه أنه ضعف في موقف أو حالة.. بل كان - إذا حدث الخصوم - يريد لهم النصيحة في الله لا إنقاذ نفسه من سيوفهم، وهو
1 - اللهوف: 62، ومقتل الحسين عليه السلام، للخوارزمي 1: 226. 2 - تاريخ الطبري 7: 300. وغيره كثير. 237 الذي قالها في مكة على مسامع الملأ: كأني بأوصالي تتقطعها عسلان الفلوات، بين النواويس وكربلا، فيملأن مني أكراشا جوفا، وأجربة سغبا. لا محيص عن يوم خط بالقلم (1). ولم يقف الحسين سلام الله عليه يطلب الحياة من الغدرة يريد أن يؤجل بطلبه أجلا هو يعلمه، حاشاه وهو القائل لأم سلمة رضوان الله عليها: إني أعلم اليوم الذي أقتل فيه، والساعة التي أقتل فيها، وأعلم من يقتل من أهل بيتي وأصحابي، أتظنين أنك علمت ما لم أعلمه؟! وهل من الموت بد؟! فإن لم أذهب اليوم ذهبت غدا. وقال لابن الزبير: لو كنت في جحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتى يقضوا في حاجتهم. وقال لعبد الله بن جعفر: إني رأيت رسول الله في المنام وأمرني بأمر أنا ماض له. وفي بطن العقبة قال لمن معه: ما أراني إلا مقتولا، فإني رأيت في المنام كلابا تنهشني، وأشدها علي كلب أبقع (2). ويفسر هذا ما أورده المتقي الهندي في (كنز العمال) (3) عن محمد بن عمرو بن حسين قال: كنا مع الحسين عليه السلام بنهر كربلاء، فنظر إلى شمر بن ذي الجوشن فقال: صدق الله ورسوله، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: كأني أنظر إلى كلب أبقع يلغ في دماء أهل بيتي. وكان شمر أبرص (4). وقد أجاد في وصفه الشاعر المسيحي (پولس سلامة) في إحدى قصائد التي حواها ديوانه (عيد الغدير)، حيث قال: أبرصا كان ثعلبي السمات * أصغر الوجه أحمر الشعرات
1 - اللهوف: 53. 2 - مقتل الحسين عليه السلام، للسيد عبد الرزاق المقرم الموسوي: 65. 3 - 7: 110. 4 - أخرجه ابن عساكر. 238 ناتئ الصدغ، أعقف الأنف مسود * الثنايا مشوه القسمات صيغ من جبهة القرود، وألوان * الحرابي، وأعين الحيات منتن الريح لو تنفس في الأسحار * عاد الصباح للظلمات يستر الفجر أنفه ويولي * إن يصعد أنفاسه المنتنات ذلك المسخ.. لو تصدى لمرآة * لشاهت صحيفة المرآة رعب الأم حين مولده المشؤوم * والأم سحنة السعلاة ودعاه " ذو الجوشن " النذل شمرا * لم يشمر إلا عن الموبقات لم يحرك يدا لإتيان خير * فإذا هم هم بالسيئات (1) فالإمام الحسين عليه السلام حاشاه أن يرجو من هؤلاء خيرا، لكنه التكليف يستدعي أن يبلغ حتى يقطع على كل ذي عذر عذره.. فيعلم الجاهل، ويخبر الغائب، وينبه الغافل، ويضع الحجة البالغة، والمحجة الناصعة الدامغة أمام أعين الناس. وإلا فهو يعلم أنه مقتول، فلما أشار عليه عمرو بن لوذان بالانصراف عن الكوفة إلى أن ينظر ما يكون عليه حال الناس، قال عليه السلام: لن يخفى علي الرأي، ولكن لا يغلب على أمر الله، وإنهم لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي (2). وهذا هو الصبر.. ولا ينافيه أن تسح عيناه الكريمتان بالدموع الغزيرة في مواقف عديدة، فالبكاء معبر عن حزن رحمة، وعن رقة قلب، وسخاء عاطفة. وقد عرف به الأنبياء والمرسلون صلوات الله عليهم.. يقول أحد الشعراء في أرجوزة له: انظر إلى بكاء حضرة الصفي * آدم بعد مخدع وقد خفي
1 - ص 287 و 288. 2 - مقتل الحسين عليه السلام، للمقرم: 65. 239 بكاؤه أيضا على هابيلا * في أربعين ليلة قتيلا أما سمعت من بكاء يوسف * في السجن بعد قوله المتصف وانظر إلى البكاء من يعقوبه * ذهاب عينه على محبوبه انظر إلى الحق إلى خليله * بكاءه بكاء إسماعيله انظر إلى الخضر إلى بكائه * لأجل آل الله عن بلائه وانظر إلى بكاء حضرة النبي * السيد المكرم المنتجب دموع عينيه على رقية * معروفة، مشهورة، مروية انظر إلى بكائه وغمه * لابن أبي طالب ابن عمه لجعفر الشهيد عند موته * ولابنه الصغير بعد فوته لأمه الفاطم بنت الأسد * كأمه زوجة عم أمجد أسمع بكاءه على النجاشي * سلطان حبشان بلا تحاشي انظر إلى دموعه في الحادثة * لموت إبراهيم وابن الحارثة انظر إلى دموعه المطهرة * لذكر أم المؤمنين الطاهرة فالحزن والبكاء من طبائع النفس البشرية، والأنبياء والأولياء أرق الناس عاطفة.. فبكى آدم عليه السلام على ولده هابيل وحزن عليه، وبكى يعقوب عليه السلام على ولده يوسف حتى ابيضت عيناه من الحزن، وأما المصطفى الأكرم صلى الله عليه وآله وكان الأصبر في الشدائد والمصائب، والأثبت في النوائب، فقد بكى وحزن، ولم يكن ذلك جزعا من نازلة، أو اعتراضا على قضاء الله، أو سخطا على أمره - حاشاه -. في صحيح البخاري (1)، عن أنس بن مالك قال: دخلت مع رسول الله
1 - 2: 105. 240 صلى الله عليه وآله على أبي سيف القين ثم دخل عليه بعد ذلك وإبراهيم عليه السلام يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وآله تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله تبكي؟! فقال: يا ابن عوف! إنها رحمة. ثم أتبعها بأخرى، فقال صلى الله عليه وآله: العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون. يقول الشهيد الثاني (زين الدين علي بن أحمد الجبعي العاملي) رضوان الله عليه: إعلم أن البكاء بمجرده غير مناف للصبر ولا للرضا بالقضاء، وإنما هو طبيعة بشرية، وجبلة إنسانية، ورحمة رحمية أو حبيبية، فلا حرج في إبرازها، ولا ضرر في اخراجها، ما لم تشتمل على أحوال تأذن بالسخط، وتنبئ عن الجزع (1). والحسين سلام الله عليه بكى على من قتل من أهل بيته، وعلى من ظمئ منهم.. يقول الشيخ التستري: إن الطبائع البشرية موجودة فيهم (في أهل البيت عليهم السلام) فيعرضهم الجوع والعطش عند أسبابه، وتحترق قلوبهم لما يرد عليهم (2). وقد بكى على ابن أخيه، القاسم بن الحسن - وهو غلام لم يبلغ الحلم - حينما برز إلى الحرب، فاعتنقه حتى غشي عليه. وبكى على ولده علي الأكبر حين برز إلى الميدان وحين استشهد، وبكى على أخيه العباس حين وجده قطيع اليدين، مطفأ العينين، واحدة قد نبت فيها السهم، والأخرى قد جمد عليها الدم، والرأس مفضوخ بعمود قد نثر دماغه على كتفيه، والسهام تجمعت على بدنه الشريف. وهنا نقف على صبر الإمام الحسين عليه السلام في خصائصه.. فالصبر
1 - مسكن الفؤاد: 92. 2 - الخصائص الحسينية: 40. 241 الحسيني امتاز عن غيره، وتفرد في أحايين كثيرة، فلنتأمل في ذلك. الخصيصة الأولى: إن الصبر عادة تعرف درجته من خلال عظم المصيبة، وشدة الموقف.. فمن صبر على فقد مال غير من صبر على فقد الولد، ومن صبر على نازلة الموت وهو على فراشه يحيط به أبناؤه وأهله غير من صبر على القتل الفضيع في ساحة المعركة وأهل بيته ينظر إليهم أشلاء ضحايا، مجزرين على صعيد المنايا، ويرى مصارع الشهداء من عشيرته، وأبنائه وإخوته، وأصحابه وبني عمومته. ومن صبر على تكليف إبلاغ الحق غير من صبر على القتال دونه. ولقد خص الصبر الحسيني بأنه كان على أمر عظيم، وتكليف جسيم، وقضية مهولة، ومسؤولية تأريخية تنوء بها الجبال، ويتعين بها شأن الدين والأمة. يقول الشيخ جعفر التستري. قد اختص (الإمام الحسين صلوات الله عليه) بخصوصية في الجهاد، فأمر بجهاد خاص في أحكامه لم يؤمر به أحد قبله بالنسبة إلى أحكامه، وذلك من وجوه: الأول: من شرائط الجهاد في أول الأمر أن يكون الواحد بعشرة لا بأزيد، فيلزم ثبات كل واحد واحد في مقابل عشر من الكفار، ثم خفف الله عنهم وعلم أن فيهم ضعفا فجعل شرط الوجوب أن يكون الواحد باثنين، فإذا كان عدد العدو زائدا على المائة بالنسبة إلى العشرة بعد نسخ الأول لم يجب الجهاد. ولكن قد كتب عليه (أي الإمام الحسين عليه السلام) مقاتلته وحده في مقابل ثلاثين ألفا أو أزيد. الثاني: لا جهاد على الصبيان ولا على الهم، وهو عليه السلام الشيخ الكبير، وقد شرع الجهاد في واقعته على الصبيان مثل القاسم، وابن العجوز بل مثل عبد الله بن الحسن، وعلى الشيخ الكبير كحبيب بن مظاهر.
242 الثالث: أن لا يظن الهلاك، وهناك قد علم عليه السلام بأنه يقتل، فقال لأصحابه: أشهد أنكم تقتلون جميعا ولا ينجو أحد منكم إلا ولدي علي (أي السجاد زين العابدين عليه السلام). ثم إنهم (أي أعداؤه) قد خالفوا في السلوك معه أحكام السلوك التي جعل الله للكفار حين الجهاد، وهي كثيرة: منها: في الشهر الحرام، ولكن حيث قاتلوه فيه قاتلهم فيه، ومنها: أن لا يقتل فيه صبي ولا امرأة من الكفار، وقد قتلوا (أي أعداء الحسين عليه السلام) منه صبيانا، بل رضعانا، فرضيع حين أراد تقبيله، ورضيع حين أراد منهم سقيه، ومنها: أن لا يحرق زرعهم (أي من قبل الكفار) وقد حرق بعض خيامه عليه السلام حين حياته، وأرادوا حرقها مع من فيها، وحرقوها بعد قتله، ومنها: أن لا يهجموا دفعة... (1). ثم يقول مضيفا: باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له عليه السلام من ذلك قسم لم يكلف به غيره، فإنه كلف به مع العلم بالضرر، له كيفيات... (2). كل هذه التكاليف، والمصاعب والأتعاب، والهموم والآلام، والمصائب والفجائع، والحسين عليه السلام صبر ولم يهن ولم يضعف، ولم يشك ولم يخفف على نفسه طاعة لله جل وعلا، فأي صبر ذاك!. الخصيصة الثانية: قد يصبر المرء ولكن على ذلة وهوان، أو يرى الصبر في السكوت والقعود، والتنحي عن ساحة الصراع المرير. وقد رأينا بعض الصحابة والتابعين
1 - نفسه: 30 و 31. 2 - نفسه: 33. 243 حينما كلفوا بالوقوف في وجه الكفر والظلم اتخذوا لأنفسهم مساجد ومحاريب، أو صوامع يتعبدون فيها، فتطير أخبار صلاحهم في البلدان، ويأمنون بعد ذلك سطوة السلطان. فلا يعرفون إلا بالزهد وعناء العبادة، وترك الدنيا، في حين أن زهدهم لم يكن بالأموال بل زهدوا بالثواب العظيم، وأن عبادتهم تلك كانت معاصي إذ لم يكلفهم بها الله تعالى إنما كلفهم بالكلمة الحقة العادلة في وجه السلطان الظالم الجائر، فتركوا ذلك ولم يأتمروا، وعصوا الله.. والعبادة هي الطاعة. كذا لم يكن مكثهم في المساجد والمحاريب تعبيرا عن ترك حب الدنيا، بل كان تعبيرا عن حب الدنيا، لأنهم حين قبعوا في زواياهم تلك أرادوا الحفاظ على أنفسهم، والإبقاء على حياتهم ودنياهم وإن مات الدين، وسحقت كرامة المسلمين. لكن الإمام الحسين سلام الله عليه كان ممن عرف بصبره على طاعة الله، وفي الوقت ذاته عرف بصبره عن معصية الله، وكان الانزواء في تلك المرحلة التأريخية من أكبر المعاصي، إذ يمكن الكفر من الشريعة، ويمكن الطغاة من رقاب الناس. وكان من صبر الحسين صلوات الله عليه أن اقتحم ساحة المواجهة ضد رؤوس الضلال والفساد والظلم، وجابه الطواغيت بجميع صورهم وقواهم، وعرض نفسه المقدسة للصعاب من أجل إنقاذ الرسالة الإسلامية والأمة الإسلامية. فبهجومه هجم على كل انحراف، وببريق سيفه كشف كل حقيقة، وبنهضته نبه كل غافل ونائم، فكان صبره متحليا بالإباء لا بالخنوع، وبالوعي والعزة لا بالانزواء والخضوع. وقد شهدت له ساحة الطف أنه الصبور الصبور، فمع قلة العدد، وخذلان الناصر، وكثرة العدو، وشدة الموقف، وذلك العطش القاتل، وحراجة الحال،
244 وسوء حال العيال، من الأرامل واليتامى والأطفال.. هجم الحسين عليه السلام على أعدائه المتجمعين آلافا متراصة فشتتهم، وكر عليهم فكشفهم مرات، وسيفه المنتضى يقرأ على مسامع الأوباش خطب العزة والكرامة والإباء، والشجاعة والصبر والفداء.. طمعت أن تسومه القوم ضيما * وأبى الله والحسام الصنيع كيف يلوي على الدنية جيدا * لسوى الله ما لواه الخضوع ولديه جأش أرد من الدرع * لظمأى القنا وهن شروع وبه يرجع الحفاظ لصدر * ضاقت الأرض وهي فيه تضيع فأبى أن يعيش إلا عزيزا * أو تجلى الكفاح وهو صريع فتلقى الجموع فردا ولكن * كل عضو في الروع منه جموع رمحه من بنانه وكأن من * عزمه حد سيفه مطبوع زوج السيف بالنفوس ولكن * مهرها الموت والخضاب النجيع بأبي كالئا على الطف خدرا * هو في شفرة الحسام منيع (1) فأي صبر هذا في موقف كذاك! الخصيصة الثالثة: إن أشد الشجعان صبرا لا يقدم على ساحة يتأكد أنه مقتول عليها، إنما يخطو إلى معركة يتفاءل فيها بالنصر أو يحتمله ولو قليلا على أقل الفروض. أما أن يقدم مبارز على معركة لا يتفاءل بها إلا بالشهادة، ولا يرى إلا أنه مقتول هو وأهل بيته، ثم يخطو بحزم، ويتقدم بعزم، فذلك هو الصبر في أعلى
1 - الدر النضيد: 212 و 213، والقصيدة للسيد حيدر الحلي. 245 درجاته. لما عزم الحسين عليه السلام على الخروج من المدينة أتته أم سلمة رضي الله عنها فقالت: يا بني! لا تحزني بخروجك إلى العراق، فإني سمعت جدك يقول: يقتل ولدي الحسين بأرض العراق، في أرض يقال لها كربلاء، فقال لها: يا أماه! وأنا والله أعلم ذلك، وإني مقتول لا محالة، وليس لي من هذا بد، وإني والله لأعرف اليوم الذي أقتل فيه، وأعرف من يقتلني، وأعرف البقعة التي أدفن فيها، وإني أعرف من يقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي، وإن أردت يا أماه أريك حفرتي ومضجعي. ثم أشار عليه السلام إلى جهة كربلاء فانخفضت الأرض حتى أراها مضجعه ومدفنه وموضع عسكره، وموقفه ومشهده.. فعند ذلك بكت أم سلمة بكاء شديدا، وسلمت أمره إلى الله فقال لها: يا أماه! قد شاء الله عز وجل أن يراني مقتولا مذبوحا ظلما وعدوانا، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشردين، وأطفالي مذبوحين مظلومين، مأسورين مقيدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصرا ولا معينا (1). وقد نقلت لنا كتب الحديث عشرات الروايات من عشرات المصادر عن طرق عديدة لجميع المذاهب الإسلامية في شأن: إخبار الله تعالى أنبياءه ونبينا صلوات الله عليهم بشهادة الحسين عليه السلام، وإخبار الرسول وأمير المؤمنين والحسن عليهم السلام بشهادته عليه السلام، ما يجتمع لها كتاب كبير (2).
1 - بحار الأنوار 44: 331 و 332. 2 - يراجع من أراد التفصيل والمزيد: عوالم العلوم، للشيخ عبد الله البحراني 17: 95 إلى 157. ومعالم المدرستين، للسيد مرتضى العسكري 3: 26 - 44. وحول البكاء على الإمام الحسين عليه السلام، للشيخ محمد علي دانشيار: 14 - 63 بالإضافة إلى بحار الأنوار 43: 217 - 268. وإحقاق الحق - ملحقاته للسيد المرعشي النجفي: 11. 246 فإن يقدم الرجل على موت محقق، وقتل مؤكد ثم لا يهتز ولا يتردد.. فذلك هو الصبر في أرسخ مواقفه وأشمخ وقفاته. وأن يتقدم الرجل إلى ساحة رهيبة يعلم يقينا أن فيها مصرعه.. فتلك هي الشجاعة في أبهى صورها وأعز أوصافها. وتلك هي الصلابة الحسينية، وذلك هو ربط الجأش وشدة العزيمة، وليست الشجاعة الحقيقية عند من دخل معركة يحتمل فيها النصر والغلبة، ويتوقع الخروج منها سالما غانما. إن الإمام الحسين عليه السلام تقدم لا يعبأ بالموت، إذ كان أصبر عليه في طاعة الله وسبيله من الحياة الذليلة مع الظالمين، بل كان الإمام الحسين صلوات الله عليه وهو القائل: وأيم الله ليقتلوني (1)، يجد أن في الحياة موتا، وأن في الموت حياة.. إذا كان العيش ذلة، والموت بعد جهاد شرفا وعزة. وقد أثبت الإمام الحسين عليه السلام ذلك بصبره، ولله در القائل فيه: وجد الردى في العز عين حياته * ورأى مع الذل الحياة مماتا ما مات بل غنم الحياة مشيع * تحت الصوارم والأسنة ماتا (2) وكذا لله در القائل فيه عليه السلام: نفسي الفداء لسيد * خانت مواثقه الرعية رامت أمية ذله * بالسلم.. لا عزت أمية حاشاه من خوف المنية * والركون إلى الدنية
1 - مقتل الحسين عليه السلام، للخوارزمي 1: 226. واللهوف: 62. 2 - الدر النضيد: 60، من قصيدة للسيد محسن الأمين العاملي. 247 فأبى إباء الأسد مختارا * على الذل المنية (1) وأجاد الأستاذ أحمد حسن لطفي في كلمته: إن الموت الذي كان ينشده (الحسين عليه السلام) فيها كان يمثل في نظره مثلا أروع من كل مثل الحياة، لأنه الطريق إلى الله الذي منه المبتدأ، وإليه المنتهى، لأنه السبيل إلى الانتصار وإلى الخلود. فأعظم بطل ينتصر بالموت على الموت (2). الخصيصة الرابعة: إن من مقامات الصبر: الرضى بالمقدر، والرضى بقضاء الله تبارك وتعالى، وهذه هي درجة الزاهدين.. جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: إذا أحب الله عبدا ابتلاه، فإن صبر اجتباه، وإن رضي اصطفاه (3). ومن مقامات الصبر صبر الصديقين، الذين يحبون ما يصنع به مولاهم، يرضون، ويبتهجون، ويتلذذون بورود المكروه من الله سبحانه، ويعتبرون ذلك التفاتا من المحبوب: وكل ما يفعله المحبوب محبوب. نزل الإمام الحسين صلوات الله عليه في منزل شقوق في مسيره إلى كربلاء، فأتاه رجل من العراق فسأله، فأخبره بحاله، ثم قال عليه السلام: إن الأمر لله يفعل ما يشاء، وربنا تبارك كل يوم هو في شأن، فإن نزل القضاء فالحمد لله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر.. ثم أنشد: فإن تكن الدنيا تعد نفيسة * فدار ثواب الله أعلا وأنبل (4)
1 - نفسه: 353، والأبيات للشيخ حسن قفطان النجفي. 2 - الشهيد الخالد الحسين بن علي: 47. 3 - مسكن الفؤاد: 80. 4 - المناقب 4: 91. وتاريخ ابن عساكر: 64. ومقتل الحسين عليه السلام، للخوارزمي 1: 23. 248 فكل شئ يقضيه الله تعالى خير ورحمة، حتى الموت، بل حتى القتل طاعة له سبحانه. وقد تعجب الناس كيف استقبل الإمام الحسين عليه السلام ذلك القتل الرهيب بصدر ملؤه الرضى بقضاء الله، والتسليم لأمر الله، وهذه صفة عرفت فيه، وخلق ظهر عليه.. عن إسماعيل بن يحيى المزني قال: سمعت الشافعي يقول: مات ابن للحسين عليه السلام فلم ير به كآبة (1)، فعوتب على ذلك فقال: إنا - أهل البيت - نسأل الله عز وجل فيعطينا، فإذا أراد ما نكره فيما يحب رضينا (2). ولما سقط الحسين عليه السلام ونالته السهام والسيوف والرماح ما نالته، قال هلال بن نافع: كنت واقفا نحو الحسين وهو يجود بنفسه، فوالله ما رأيت قتيلا قط مضمخا بدمه أحسن منه وجها ولا أنور! ولقد شغلني نور وجهه عن الفكرة في قتله (3). ولما اشتد به الحال، رفع طرفه إلى السماء وقال: اللهم متعالي المكان، عظيم الجبروت شديد المحال، غني عن الخلائق عريض الكبرياء، قادر على ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابق النعمة، حسن البلاء، قريب إذا دعيت، محيط بما خلقت، قابل التوبة لمن تاب إليك، قادر على ما أردت، ومدرك ما طلبت، شكور إذا شكرت، ذكور إذا ذكرت.. أدعوك محتاجا، وأرغب إليك فقيرا، وأفزع إليك خائفا، وأبكي إليك مكروبا، وأستعين بك ضعيفا، وأتوكل عليك كافيا. اللهم احكم بيننا وبين قومنا فإنهم غرونا وخذلونا، وغدروا بنا وقتلونا، ونحن عترة نبيك،
1 - في اللغة: كئب - كآبة: تغيرت نفسه وانكسرت من شدة الهم والحزن. 2 - مقتل الحسين عليه السلام، للخوارزمي 1: 147. 3 - مثير الأحزان، لابن نما: 39. 249 وولد حبيبك محمد صلى الله عليه وآله الذي اصطفيته بالرسالة، وائتمنته على الوحي، فاجعل لنا من أمرنا فرجا ومخرجا يا أرحم الراحمين (1). صبرا على قضائك يا رب، لا إله سواك يا غياث المستغيثين (2)، ما لي رب سواك، ولا معبود غيرك، صبرا على حكمك يا غياث من لا غياث له، يا دائما لا نفاد له، يا محيي الموتى، يا قائما على كل نفس بما كسبت، احكم بيني وبينهم وأنت خير الحاكمين (3). وهذا هو التسليم لله جل وعلا، وعين الرضى بقضائه وإن كان قتلا مؤلما، وذلك هو الصبر الذي دونه كل صبر، ومن يقوى أو يثبت على موقف كهذا؟! فإن يك إسماعيل أسلم نفسه * إلى الذبح في حجر الذي هو راحمه فعاد ذبيح الله حقا ولم تكن * تصافحه بيض الظبى وتسالمه فإن حسينا أسلم النفس صابرا * على الذبح في سيف الذي هو ظالمه ومن دون دين الله جاد بنفسه * وكل نفيس كي تشاد دعائمه ورضت قراه العاديات وصدره * وسيقت على عجف المطايا كرائمه (4)
1 - مصباح المتهجد، للشيخ الطوسي: 574. والإقبال، للسيد ابن طاووس: 185، عنهما البحار: 101: 348. 2 - أسرار الشهادة: 423. 3 - رياض المصائب: 33. 4 - من قصيدة للعلامة الشيخ محمد تقي آل صاحب الجواهر. 250 الخصيصة الخامسة: إن الصبور - مهما صبر - قد لا يوفق أن يقضي عمره وهو راسخ القدمين على ساحة الصبر، فلا بد أن يعتريه الوهن والضعف، والضجر والملل، والتأفف والتضجر في موقف ما، أو في حالة عصيبة لا تتحملها نفسه. أما أن يبدأ بالصبر، ويواصل حياته على ما فيها من نكبات في صبر، ويختمها في أشد المحن بصبر، فذلك عرف به الحسين صلوات الله عليه. وقد كشف الصبر الحسيني تلك المصائب المهولة، وساحة كربلاء قد ذهلت من صبر سيد الشهداء وشجاعته.. يقول الإمام الصادق عليه السلام: ثلاثة لا تعرف إلا في ثلاثة مواطن: لا يعرف الحليم إلا عند الغضب، ولا الشجاع إلا عند الحرب، ولا أخ إلا عند الحاجة (1). فقد ينجح المرء في دخول الأمر الصعب، ولكنه لا يقوى على المواصلة في التحمل، وقد يواصل لكنه لا يستطيع الثبات، فتراه يهتز ويسقط، وقد يثبت حينا لكنه لا يختم حياته بذلك.. والخاتمة هي المعول عليه: قال النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: خير الأمور خيرها عاقبة (2). ملاك العمل خواتيمه (3). الأمور بتمامها، والأعمال بخواتمها (4). ولكي نتعرف على صور مهيبة من صور الصبر الحسيني تعالوا نقف عند هذه الواقعة: يقول المؤرخون بعد ذكر شهادة الأصحاب وأهل بيت
1 - بحار الأنوار 78: 229، عن تحف العقول: 233. 2 - أمالي الصدوق: 292. 3 - بحار الأنوار 77: 133. 4 - نفسه: 165. 251 الحسين عليه السلام، وبقائه وحيدا في ساحة المعركة: تقدم الحسين عليه السلام نحو القوم مصلتا سيفه، فدعا الناس إلى البراز، فلم يزل يقتل كل من برز إليه حتى قتل جمعا كثيرا (1). وبعد أن قتل مقتلة عظيمة صاح عمرو بن سعد: هذا ابن الأنزع البطين، هذا ابن قتال العرب، احملوا عليه من كل جانب. فصوبت نحوه أربعة آلاف نبلة، فحمل عليه السلام على الميمنة حملة ليث مغضب، وجراحاته تشخب دما، ثم حمل على الميسرة (2)، فتطاير العسكر من بين يديه، واتجهوا نحو الخيام... ثم ازدحم عليه العسكر، واستحرى القتال وهو يقاتلهم ببأس شديد، وشجاعة لا مثيل لها. قال عبد الله بن عمار بن يغوث: فوالله ما رأيت مكثورا قط، قد قتل ولده، وأهل بيته وصحبه، أربط جأشا منه ولا أمضى جنانا، ولا أجرأ مقدما ولقد كانت الرجال تنكشف بين يديه إذا شد فيها، ولم يثبت له أحد (3). وفي رواية أخرى: فوالله ما رأيت مكسورا قط، قد قتل ولده، وأهل بيته وأصحابه، أربط جأشا ولا أمضى جنانا منه، ولا أجرأ مقدما، والله ما رأيت قبله ولا بعده مثله، أن كانت الرجالة لتنكشف من عن يمينه وشماله انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب (4). قال ابن الأثير: المكثور المغلوب، وهو الذي تتكاثر عليه الناس (5)،
1 - مثير الأحزان، لابن نما: 37. ومقتل الحسين عليه السلام، للخوارزمي 2: 33. 2 - المناقب 2: 223. 3 - تاريخ الطبري 6: 259. ونسبه الخوارزمي في مقتله 2: 38 إلى بعض من شهد الواقعة. 4 - تاريخ الأمم والملوك، للطبري 4: 345، مطبعة الاستقامة بمصر. 5 - البداية والنهاية 4: 10. 252 وقال آخر: ولقد كان يحمل فيهم وقد تكاملوا ثلاثين ألفا.. فينهزمون من بين يديه كأنهم الجراد المنتشر، ثم يرجع إلى مركزه وهو يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (1). هكذا.. حتى غدروا به بالحجارة والسهام من بعيد، فصبر وصابر: إلى أن أتاه السهم من كف كافر * ألا خاب باريها وضل المصوب فخر على وجه التراب لوجهه * كما خر من رأس الشناخيب أخشب وأعياه النزف، فجلس على الأرض ينوء برقبته (2)... لا يرى منه إلا الصبر، والرضى عن الله تعالى في جميع قضائه. قال الشيخ التستري: وأما صبره عليه السلام كما ورد: ولقد عجبت من صبره ملائكة السماوات. فتدبر في أحواله وتصورها حين كان ملقى على الثرى في الرمضاء، مجرح الأعضاء، بسهام لا تعد ولا تحصى، مفطور الهامة، مكسور الجبهة، مرضوض الصدر، من السهام مثقوب الصدر بذي الثلاث شعب، سهم في نحره، وسهم في حنكه، وسهم في حلقه. اللسان مجروح من اللوك، والكبد محترق، والشفاه يابسة من الظمأ، القلب محروق من ملاحظة الشهداء في أطرافه، ومكسور من ملاحظة العيال في الطرف الآخر، الكف مقطوع من ضربة زرعة بن شريك، والرمح في الخاصرة، مخضب اللحية، والرأس يسمع صوت الاستغاثات من عياله، والشماتات من أعدائه، بل الشتم
1 - أئمتنا، للأستاذ علي محمد علي دخيل 1: 239. 2 - الكامل، لابن الأثير 4: 31. ومقتل الحسين عليه السلام، للخوارزمي 2: 35. 253 والاستخفاف من الأطراف، ويرى بعينه إذا فتحها القتلى الموضوعة بعضها على بعض.. ومع ذلك كله لم يتأوه في ذلك الوقت، ولم تقطر من عينه قطرة دمع، وإنما قال: صبرا على قضائك، لا معبود سواك، يا غياث المستغيثين، وفي الزيارة: ولقد عجبت من صبرك ملائكة السماوات. وروي عن السجاد عليه السلام: كلما كان يشتد الأمر كان يشرق لونه، وتطمئن جوارحه، فقال بعضهم: انظروا كيف لا يبالي بالموت (1).
1 - الخصائص الحسينية: 39 و 40. 254 الرحمة الحسينية
255 الرحمة الحسينية الرحمة.. كلمة تقع على القلب موقع الاطمئنان والسرور والمحبة، وهي خلق إنساني أوجب الله تعالى - وهو أرحم الراحمين - أن يرحم من تخلق به، إذ الرحمة من أخلاقه سبحانه عز وجل، ولذا نسمع رسول الله - نبي الرحمة - صلى الله عليه وآله يقول: الراحمون يرحمهم الرحمن يوم القيامة، ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء (1). وجاء رجل فقال له: أحب أن يرحمني ربي. فقال له المصطفى صلى الله عليه وآله: ارحم نفسك، وارحم خلق الله، يرحمك الله (2). أما أمير المؤمنين عليه السلام فقد كان له كلمات أخرى تدعو إلى الرحمة وترغب فيها، وتبين عوائدها الطيبة، من ذلك قوله سلام الله عليه: أحسن يحسن إليك، ارحم ترحم (3). ارحم من دونك، يرحمك من فوقك، وقس سهوه بسهوك، ومعصيته بمعصيتك لربك، وفقره إلى رحمتك بفقرك إلى رحمة ربك (4). عجبت لمن يرجو رحمة من فوقه، كيف لا يرحم
1 - بحار الأنوار 77: 167. 2 - كنز العمال: الخبر 44154. 3 - بحار الأنوار 77: 383. 4 - غرر الحكم. 257 من دونه (1). وفي موجبات الرحمة الإلهية قال عليه أفضل الصلاة والسلام: ببذل الرحمة، تستنزل الرحمة (2). رحمة الضعفاء، تستنزل الرحمة (3). أبلغ ما تستدر به الرحمة، أن تضمر لجميع الناس الرحمة (4). وهذا خلق الأنبياء، والأوصياء، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله أرحم الناس بالناس، فنصح لهم وهداهم سبيل الخير والصلاح، ودعاهم إلى السلام والأخلاق الطيبة، وأخذ بأيديهم إلى سعادة الدنيا والآخرة، إلا من أبى، حتى قال الله تعالى فيه: * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم) * (5). * (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) * (6). فكان من أوصافه صلى الله عليه وآله أنه يشق عليه ضر الناس أو هلاكهم، وأنه حريص عليهم جميعا.. من مؤمن أو غير مؤمن، وأنه رؤوف رحيم بالمؤمنين منهم خاصة. وكان صلى الله عليه وآله رحمة لأهل الدنيا لأنه أتى بدين فيه سعادتهم، وهو القائل: إنما أنا رحمة مهداة (7). وتلك سيرته الشريفة العاطرة تشهد برحمته التي طبقت الآفاق، وشملت الناس جميعا، فكان يحنو على الأطفال واليتامى والأرامل والفقراء والمساكين، ويشفق على الصبيان والبنات والمظلومين والمحرومين، ويرحم أصحابه
1 - نفسه. 2 - نفسه. 3 - نفسه. 4 - نفسه. 5 - سورة التوبة: 128. 6 - سورة الأنبياء: 107. 7 - تفسير نور الثقلين 3: 466، الحديث 197، عن الكافي. 258 والمخالفين ويدعوهم بأخلاقه العظيمة إلى الهداية من الضلال، والنور من الظلمات، حتى عرف بالعفو والصفح والمواساة وتطييب الخواطر وجبر القلوب. والمسح بيد الرحمة على رؤوس اليتامى وصدور المحزونين وجراح المكلومين. ومن بعده.. كان وريثه وسبطه: الحسين سلام الله عليه مقتفيا آثاره الشريفة في كل خلق فاضل كريم، فوعظ الناس كجده المصطفى صلى الله عليه وآله لينقذهم من الظلمات إلى النور، ويخلصهم من شراك الشياطين، وأسر ظلمة السلاطين، الذين يأخذون بأيديهم إلى مهاوي الجحيم. وقد مد سيد شباب أهل الجنة صلوات الله عليه على الناس يد الرحمة.. فشمل القاصي والداني، والعدو والصديق، والمخالف والمؤالف، لأن الله تبارك وتعالى بر رحيم وقد دعاه إلى ذلك، فأغاث الملهوف، وأدخل على قلب المحزون السرور، وتفقد المحرومين والمعوزين، وعاد المرضى ومسح على آلام المحرومين والمظلومين فأبرأها، وعلى عيون المضللين فبصرها، وعلى آذان المغفلين فأسمعها كلمات الهداية والرشد، وعلى صدر المفجوعين فسكنها وطمأنها. وكان من رحمته على المؤمنين أن ذرف عليهم دموعه حزينة ساخنة سخية، ثم شفعها بكلمات هي بلسم العليل، وهدية الخليل، والماء البارد على جمرة الغليل.. فحين اشتد بولده علي الأكبر عليه السلام رجع إلى أبيه الحسين سلام الله عليه يستريح، فلما ذكر له ما أجهده من العطش (1) بكى الحسين وقال: وا غوثاه! ما أسرع الملتقى بجدك فيسقيك بكأسه شربة لا تظمأ بعدها.
1 - مقاتل الطالبيين: 47. 259 ثم أخذ لسان ولده فمصه، ودفع إليه خاتمة ليضعه في فيه (1). فعاد (علي) إلى الميدان مبتهجا بالبشارة حتى قتل عددا كبيرا من أعداء الله. وبعد أن قتل عبد الله بن مسلم بن عقيل حمل آل أبي طالب حملة واحدة، فصاح بهم الحسين عليه السلام: صبرا على الموت يا بني عمومتي! والله لا رأيتم هوانا بعد هذا اليوم (2). وكان النداء الحسيني الرحيم يقع على قلوبهم موضع المطمئن المسكن، فيصبرهم ويشد عزائمهم على الأمر العصيب. وحين خرج ابن أخيه (القاسم بن الحسن) وهو غلام لم يبلغ الحلم، نظر إليه الحسين (عليه السلام) واعتنقه وبكى (3)، نظر إليه وهو بقية أخيه السبط الشهيد أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام)، ولولا إصراره على النزال ما أذن له عليه السلام، ولكن هذا الغلام الغيور لم يصبر أن يرى أعداء الله يقتلون أولياء الله.. حتى إذا استشهد قام عمه على رأسه وقال: بعدا لقوم قتلوك، خصمهم يوم القيامة جدك. ثم قال: عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك ثم لا ينفعك. ثم احتمله فألقاه مع ولده علي الأكبر (4). ورفع طرفه إلى السماء وقال: اللهم أحصهم عددا، ولا تغادر منهم أحدا، ولا تغفر لهم أبدا. صبرا يا بني عمومتي! صبرا يا أهل بيتي! لا رأيتم هوانا بعد هذا اليوم أبدا (5). ولما استشهد أخوه أبو الفضل العباس (سلام الله عليه) حضر عنده، وبكى
1 - مقتل الحسين (ع)، للخوارزمي 2: 31، مقتل العوالم: 95. 2 - مقتل الحسين (ع)، للخوارزمي 2: 78، واللهوف: 64، تاريخ الطبري 6: 256. 3 - مقتل الحسين (ع)، للخوارزمي 2: 27 - ذكر: إن الحسين (ع) أبى أن يأذن للقاسم، فما زال الغلام يقبل يديه ورجليه حتى أذن له. 4 - البداية والنهاية 8: 186، تاريخ الطبري 6: 257. 5 - مقتل الحسين (ع) للخوارزمي 2: 28. 260 عليه. لقد جاء الحسين عليه السلام بهذا الركب القدسي من أهل بيته النجباء ليقدمهم قرابين لله تعالى فداء لدينه الأقدس، ورحمة بالأمة كي تنتفع بدمائهم، وائتمارا بما يريد الله تعالى ويرضى.. وقد قال (عليه السلام): شاء الله أن يراني قتيلا، ويرى النساء سبايا. هذا ما بلغ به أخاه محمد بن الحنفية (1)، أما ما قاله لأم المؤمنين (أم سلمة) رضوان الله عليها فهو: يا أماه! وأنا أعلم أني مقتول مذبوح، ظلما وعدوانا، وقد شاء عز وجل أن يرى حرمي ورهطي مشردين، وأطفالي مذبوحين مأسورين مقيدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصرا (2). فقدم الحسين عليه السلام كل شئ لله، لأجل أن تسمع صرخته آذان النائمين والغافلين، والذين خدرتهم الدنيا. فبتضحياته تلك.. استطاع أن يثبت للأمة بأن الخلافة بيد أعداء الاسلام، وأن الدين في خطر، وأن بني أمية لا يتورعون عن تحريف الرسالة المحمدية، وعن استئصال أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله)، وأهل بيت الوحي والرسالة، وعن التنكيل بحرم المصطفى وبناته. وبذلك عين الإمام الحسين عليه السلام للأمة - رحمة بها - تكليفها، لتنجو بأدائه من غضب الله عز وجل. ومن أجل ذلك.. قدم أهل بيته وأصحابه، حتى الطفل الرضيع، فتقدم وهو يتأذى لعويل الأيامى وصراخ الأطفال، فأمر عياله بالسكوت وودعهم، وتقدم يقتل بسيفه أعداء الله حتى أردى منهم جمعا كثيرا، ثم عاد إلى عياله
1 - كما ذكر السيد المقرم في مقتل الحسين (ع): 65. 2 - مدينة المعاجز، للبحراني: 244. 261 يودعهم ثانيا ويأمرهم بالصبر قائلا لهم: استعدوا للبلاء، واعلموا أن الله تعالى حاميكم وحافظكم، وسينجيكم من شر الأعداء، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، ويعذب عدوكم بأنواع العذاب، ويعوضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة، فلا تشكوا، ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم (1). كلمات.. نزلت منزل الرحمة على النفوس الحزينة، ومنزل الطمأنينة على القلوب الخائفة الوجلة، فسكن بها روعتهن، وبل غلتهن. ثم التفت عليه السلام إلى ابنته " سكينة " فرآها منحازة عن النساء باكية معولة، فوقف عليها مصبرا ومسليا. يقول الشيخ التستري: الملاطفة من الآباء مع الأولاد مستحب خاصة، ولتفريح البنات خصوصية في الفضيلة. وقد تحقق ذلك من الحسين عليه السلام بأحسن وجوهه، وأراد ذلك بتسلية ابنته الصغيرة سكينة، أراد أن يفرحها بتقبيل وجهها ومسح رأسها، وتسليتها، فما تزداد بهذه إلا غصة وحزنا (2). وقيل: فضمها الحسين عليه السلام إلى صدره الشريف، وقبلها ومسح دموعها بكمه، وقال: سيطول بعدي يا سكينة فاعلمي * منك البكاء إذا الحمام دهاني لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة * ما دام مني الروح في جثماني فإذا قتلت فأنت أولى بالذي * تأتينه.. يا خيرة النسوان! (3) ولقد ترك الحسين عليه السلام آثار رحمته الأبوية عليها، فعاشت بعده أكثر من ستين عاما لا تنساه، ولا تنسى دروس الصبر والوفاء.
1 - جلاء العيون، للعلامة المجلسي - بالفارسية. 2 - الخصائص الحسينية: 34. 3 - مقتل أبي مخنف: 132. 262 وكذلك ترك على أخته زينب عليها السلام آثارا من الصبر الجميل حين عزاها وأوصاها في كربلاء، قائلا لها: يا أختاه! تعزي بعزاء الله، فإن سكان السماوات يفنون، وأهل الأرض كلهم يموتون، وجميع البرية يهلكون (1). فزرع في قلبها الصبر والثبات ورباطة الجأش، فنهضت بأعباء مسؤوليات تنوء من حملها الجبال الرواسي، وتحملت مصائب وآلاما تنهد لهولها عزائم الرجال الأشداء.. فهي التي شهدت واقعة الطف بكل مآسيها وفجائعها ومصائبها ونكباتها، وعانت الجوع والعطش، وكلفت بجمع الأرامل واليتامى، وانتشال الأطفال من تحت حوافر الخيل، وستر العيال في خيمة، والأسر إلى الكوفة والشام مربطين بالحبال هدية إلى الطاغية عبيد الله بن زياد ويزيد بن معاوية، والسفر إلى المدينة بعد وقوف حزين في كربلاء يوم أربعينية أبي عبد الله الحسين صلوات الله عليه، تبكي عليه وعلى إخوتها وولديها وأولاد إخوتها وبني عمومتها والخلص من الأصحاب الشهداء الأبرار. وفي المدينة أبلت البلاء الحسن في عرض وقائع فاجعة الطف العظمى، فألهبت العواطف، وألبت القلوب، وخلقت ثورة في المدينة بانت - فيما بعد - آثارها، فترجمت إلى ثورات انفجرت ضد الحكم الأموي حتى زلزلته ودمرته. وهكذا تستحق أن توصف بما وصفتها الزيارة الزينبية: سلام على من ناصرت الحسين في جهاده، ولم تضعف عزيمتها بعد استشهاده. سلام على قلب زينب الصبور، ولسانها الشكور. سلام على من تظافرت عليها المصائب والكروب، وذاقت من النوائب ما تذوب منها
1 - زينب الكبرى (ع): 119. 263 القلوب. سلام على من تجرعت غصص الآلام والمآسي، وما لا تقوى على احتمالها الجبال الرواسي.. فأصبحت للبلايا قبلتها، وللرزايا كعبتها. سلام على من شاطرت أمها الزهراء، في ضروب المحن والأرزاء، ودارت عليها رحى الكوارث والبلاء، يوم كربلاء. سلام على من عجبت من صبرها ملائكة السماء، سلام على من فجعت بجدها وأبيها، وأمها وبنيها، والخيرة من أهلها وذويها. ولا نستطيع أن نقول إن ذلك دون أن تسعفها الرحمة الحسينية بالرعاية والتوجيه، وشد القلب على الصبر، والتسليم لله عز وجل والرضى عنه، حتى إذا قال لها عبيد الله بن زياد: كيف رأيت فعل الله بأهل بيتك؟ أجابته قائلة: ما رأيت إلا جميلا.. هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم، فانظر لمن الفلج يومئذ، ثكلتك أمك يا ابن مرجانة (1)! ونعود إلى الشيخ جعفر التستري لنسمع منه مقالته في الرحمة الحسينية، حيث يقول: (باب رد العادية وإغاثة اللهيف) له عليه السلام من هذين المستحبين ما لم يتحقق لغيره منذ صارت من المستحبات، فقد رد العادية لما صرخن النساء حين الإحاطة بهن بأحسن رد، فقال لهم: اقصدوني بنفسي، يعني اشتغلوا بضربي بالسيوف، ورميي بالسهام، واتركوا حرمي. وقد أغاث اللهيف لاثنين وسبعين مغيثا من أصحابه حين كانوا ينادونه إذا صرعوا ليحضر عندهم، فأغاثهم كلهم، وسبعة وعشرين مغيثا من أهل بيته.
1 - اللهوف: 90. 264 (باب إدخال السرور على المؤمن، وزيارة المؤمن) وهما من أفضل الأعمال - كما في الروايات، وقد سعى عليه السلام في إدخال السرور على المؤمنين والمؤمنات في ذلك اليوم بتسليات وملاطفات، وأمر بالصبر ومواعظ نحو ذلك... (باب عيادة المريض) التي ورد فيها أن عيادة المريض بمنزلة عيادة الله جل جلاله، ولقد ظهر منه عيادة للمريض والمجروحين حين دعوه إليهم ليعودهم، فلم يكتف بمحض المجئ، والجلوس عندهم، بل كان يخص بعضهم بملاطفات خاصة، وخصوصا الغرباء منهم، كالعبد الأسود والغلام التركي الذي جاء إليه ووجده قتيلا... (1). لقد كان من رحمة الإمام الحسين عليه السلام أنه كان يخفف آلام المؤمنين، ويشد على قلوب أهل الابتلاء برباط الصبر والتوكل. فلما نفي أبو ذر - الصحابي الجليل رضوان الله عليه - إلى الربذة بأمر عثمان الذي منع الناس أن يودعوه ويشيعوه.. خرج الإمام علي وولداه الحسن والحسين سلام الله عليهم إلى أبي ذر وودعوه وشيعوه، وقالوا له كلمات كانت من بينهن كلمة الإمام الحسين عليه السلام: يا عماه! إن الله قادر أن يغير ما قد ترى، والله كل يوم هو في شأن، وقد منعك القوم دنياهم، ومنعتهم دينك.. فما أغناك عما منعوك، وأحوجهم إلى ما منعتهم! فاسأل الصبر والظفر، واستعذ به من الجشع والجزع، فإن الصبر من الدين والكرم، وإن الجشع لا يقدم رزقا، ولا يؤخر أجلا (2). أو في رواية البرقي (في المحاسن: 353، ح 45) عن أبي عبد الله
1 - الخصائص الحسينية: 34 و 35. 2 - الروضة من الكافي، للشيخ الكليني: 207. 265 الصادق عليه السلام قال: لما شيع أمير المؤمنين عليه السلام أبا ذر، وشيعه الحسن والحسين عليه السلام وعقيل بن أبي طالب وعبد الله بن جعفر وعمار بن ياسر (رض)، قال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: ودعوا أخاكم فإنه لا بد للشاخص من أن يمضي، وللمشيع من أن يرجع، قال: فتكلم كل رجل منهم على حياله، فقال الحسين بن علي عليه السلام: رحمك الله يا أبا ذر! إن القوم إنما امتهنوك بالبلاء لأنك منعتهم دينك فمنعوك دنياهم، فما أحوجك غدا إلى ما منعتهم، وأغناك عما منعوك! فقال أبو ذر رحمه الله: رحمكم الله من أهل بيت، فما لي في الدنيا من شجن غيركم، إني إذا ذكرتكم ذكرت رسول الله صلى الله عليه وآله. عبارات هي بلسم شاف لجراحات أبي ذر، قومته، وشدت عزيمته، وصبرته، وقوت شكيمته، فواصل جهاده جهاد الكلمة الحقة العادلة، لا تأخذه في الله لومة لائم.. حتى توفي وفيا للإسلام ناصحا مخلصا للمسلمين. وكتب الإمام الحسين عليه السلام إلى عبد الله بن العباس حين سيره (عبد الله بن الزبير) إلى اليمن: أما بعد، بلغني أن ابن الزبير سيرك إلى الطائف، فرفع الله لك بذلك ذكرا، وحط بك عنك وزرا، وإنما يبتلى الصالحون. ولو لم تؤجر إلا فيما تحب لقل الأجر. عزم الله لنا ولك بالصبر عند البلوى، والشكر عند النعمى، ولا أشمت بنا ولا بك عدوا حاسدا أبدا، والسلام (1). هذه هي الرحمة الحسينية، ولكن لنذهب إلى كربلاء لنجدها صورا تتجاوب معها اللواعج والدموع.. لما عرف الإمام الحسين عليه السلام من أصحابه صدق النية والإخلاص
1 - تحف العقول: 177. 266 في المفاداة دونه، أوقفهم على غامض القضاء بإنه مقتول غدا وكلهم مقتولون (1)، فقالوا بأجمعهم: الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك، وشرفنا بالقتل معك، أو لا نرضى أن نكون معك في درجتك يا ابن رسول الله؟! فدعا لهم بالخير (2)، وكشف عن أبصارهم فرأوا ما حباهم الله من نعيم الجنان، وعرفهم منازلهم فيها (3). ولما فرغ عليه السلام من الصلاة يوم عاشوراء قال لأصحابه: يا كرام! هذه الجنة قد فتحت أبوابها، واتصلت أنهارها، وأينعت ثمارها، وهذا رسول الله والشهداء الذين قتلوا في سبيل الله يتوقعون قدومكم، ويتباشرون بكم، فحاموا عن دين الله ودين نبيه، وذبوا عن حرم الرسول. فقالوا: نفوسنا لنفسك الفداء، ولدماؤنا لدمك الوقاء، فوالله لا يصل إليك وإلى حرمك سوء وفينا عرق يضرب (4). إنها الرحمة الحسينية تجعل المر شهدا.. وقف جون مولى أبي ذر الغفاري أمام الحسين عليه السلام يستأذنه، فقال عليه السلام: يا جون! إنما تبعتنا طلبا للعافية، فأنت في إذن مني. فوقع جون على قدميه يقبلهما ويقول: أنا في الرخاء ألحس قصاعكم، وفي الشدة أخذلكم! إن ريحي لنتن، وحسبي للئيم، ولوني لأسود، فتنفس علي بالجنة ليطيب ريحي، ويشرف حسبي، ويبيض لوني.. لا والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم. فأذن له الحسين (5)، فقتل خمسا وعشرين وقتل، فوقف عليه السلام وقال: اللهم بيض وجهه، وطيب ريحه، واحشره مع محمد
1 - نفس المهموم: 122. وأسرار الشهادة. 2 - نفس المهموم: 122. 3 - الخرايج والجرايح، للراوندي. 4 - أسرار الشهادة: 175. 5 - مثير الأحزان، لابن نما: 33. واللهوف: 61. 267 صلى الله عليه وآله، وعرف بينه وبين آل محمد صلى الله عليه وآله. فكان من يمر بالمعركة يشم منه رائحة طيبة أذكى من المسك (1). وكان أنس بن الحارث بن نبيه الكاهلي شيخا كبيرا، صحابيا، رأى النبي صلى الله عليه وآله وسمع حديثه وشهد معه بدرا وحنينا، فاستأذن الحسين وبرز شادا وسطه بالعمامة، رافعا حاجبيه بالعصابة، ولما نظر إليه الحسين عليه السلام بهذه الهيئة بكى وقال: شكر الله لك يا شيخ. فقتل على كبره ثمانية عشر رجلا وقتل (2). ولما استشهد جنادة الأنصاري جاء ابنه عمرو - وهو ابن إحدى عشرة سنة - يستأذن الإمام الحسين عليه السلام فأبى، وقال: هذا غلام قتل أبوه في الحملة الأولى، ولعل أمه تكره ذلك، فقال الغلام: إن أمي أمرتني. فأذن له فقتل.. فأخذت أمه عمودا. وقيل سيفا. فردها الحسين عليه السلام إلى الخيمة بعد أن أصابت بالعمود رجلين، وهي تنشئ: إني عجوز في النسا ضعيفة * خاوية بالية نحيفة أضربكم بضربة عنيفة * دون بني فاطمة الشريفة (3) وقال عليه السلام لبشر بن عمرو بن الأحدوث الحضرمي: إن ابنك قد أسر في ثغر الري، فقال بشر: عند الله أحتسبه ونفسي.. فلما سمع الحسين عليه السلام مقالته قال: رحمك الله، أنت في حل من بيعتي، فاذهب واعمل في فكاك ابنك. قال بشر: أكلتني السباع حيا إن أنا فارقتك، فقال عليه السلام له: فأعط ابنك محمدا هذه الأثواب البرود - وكان معه - ليستعين بها في فكاك
1 - مقتل العوالم: 88. 2 - ذخيرة الدارين: 208. 3 - مقتل الحسين عليه السلام، للخوارزمي 2: 22. 268 أخيه. وأعطاه خمسة أثواب قيمتها ألف دينار، وقتل بشر في الحملة الأولى (1). ولا تقف الرحمة الحسينية عند حد.. فبعد شهادة القاسم عليه السلام برز أخوه أحمد بن الحسن، فقاتل حتى أخذه العطش فنادى: يا عماه! هل من شربة ماء؟ فقال له الحسين عليه السلام: يا ابن أخي! اصبر قليلا حتى تلقى جدك رسول الله صلى الله عليه وآله فيسقيك شربة من الماء لا تظمأ بعدها أبدا (2). فرجع الغلام وقاتل صابرا متصبرا بكلمة عمه الحسين سلام الله عليه. ولما سقط الإمام الحسين عليه السلام بعد جراحات لا يقوى معها على قيام.. نظر إليه ابن أخيه عبد الله بن الحسن السبط عليه السلام وله إحدى عشرة سنة، وقد أحدق به القوم، فأقبل يشتد نحو عمه، وأرادت زينب حبسه فأفلت منها وجاء إلى عمه، فأهوى بحر بن كعب بالسيف ليضرب الحسين فصاح الغلام: يا ابن الخبيثة! أتضرب عمي؟! فضربه واتقاها الغلام بيده فأطنها إلى الجلد، فإذا هي معلقة، فصاح الغلام: يا عماه! ووقع في حجر الحسين عليه السلام فضمه إليه وقال: يا ابن أخي! اصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الخير، فإن الله تعالى يلحقك بآبائك الصالحين. فرمى الغلام حرملة بن كاهل بسهم، فذبحه وهو في حجر عمه. في حالة كان يجود الحسين عليه السلام بنفسه ضم إليه ذلك الغلام وصبره بتلك الكلمات التي تنسي الألم وشدة الموقف. إنها الرحمة الحسينية التي فاضت: خيرا، وإنسانية، وكرما، لا على
1 - العيون العبرى، للسيد إبراهيم الميانجي: 111. 2 - مقتل أبي مخنف: 126. 269 الانسان فحسب، بل تعدته إلى البهائم.. فعند مبارزته اشتد به العطش، فحمل نحو الفرات على عمرو بن الحجاج فكشف جنده - وكانوا أربعة آلاف، كشفهم عن الماء، وأقحم الفرس الماء ليشرب (1). وأكثر من ذلك ما رواه الطبري، حيث ذكر في تاريخه (2)، فبعد أن: طلع عليهم الحر الرياحي مع ألف فارس بعثه ابن زياد ليحبس الحسين عن الرجوع إلى المدينة أينما وجده، أو يقدم به الكوفة، فوقف الحر وأصحابه مقابل الحسين في حر الظهيرة (3). قال الطبري: فلما رأى سيد الشهداء ما بالقوم من العطش (أي الحر وأصحابه) أمر أصحابه أن يسقوهم ويرشفوا الخيل، فسقوهم وخيولهم عن آخرهم، ثم أخذوا يملأون القصاع والطساس، ويدنونها من الفرس، فإذا عب فيها ثلاثا أو أربعا أو خمسا عزلت، وسقي آخر.. حتى سقوا الخيل كلها. وكان علي بن الطعان المحاربي مع الحر، فجاء آخرهم وقد أضر به العطش، فقال الحسين عليه السلام: أنخ الراوية، وهي الجمل بلغة الحجاز، فلم يفهم مراده، فقال عليه السلام: أنخ الجمل. ولما أراد أن يشرب جعل الماء يسيل من السقاء، فقال له الإمام الحسين عليه السلام: أخنث السقاء، فلم يدر (علي بن الطعان) ما يصنع لشدة العطش، فقام عليه السلام بنفسه وعطف السقاء حتى ارتوى وسقى فرسه (4). وهذه هي الرحمة الحسينية العجيبة، فبيده الشريفة يسقي البهائم الظامئة،
1 - مقتل العوالم: 98. ونفس المهموم: 188. 2 - 6: 226. 3 - مقتل الحسين عليه السلام، للخوارزمي 1: 230. 4 - مقتل الحسين عليه السلام، للسيد المقرم: 182. 270 وبيده الكريمة يقدم الماء في البيداء المقفرة إلى العطاشى من أعدائه الذين سيشهرون سيوفهم غدا عليه، بل سيبضعونه بها، وهو يعلم ذلك، لكن الرحمة تمنعه من الانتقام منهم وإجراء القصاص قبل الجناية. وهذا هو الذي أيقظ في الحر بن يزيد الرياحي حالة الندم والتوبة، متأثرا برحمة الإمام الحسين عليه السلام، وهذا هو الذي جعل الأجيال تحب الإمام الحسين عليه السلام وتجله وتقدسه، لأنه رجل المكارم، ورجل الأخلاق الفاضلة التي تترفع ولا تمد إلى الناس إلا يد رحمة.. حتى تشمل الخيول، خيول الأعداء. قال الشيخ التستري: (باب سقي الماء) - والظاهر أنه مستحب حتى للكفار في حال العطش، وللبهائم، وواجب في بعض الأوقات، وأجره أول أجر يعطى يوم القيامة. وقد تحقق من الإمام الحسين عليه السلام أنواع السقي كلها، حتى السقي للمخالفين له، والسقي لدوابهم بنفسه النفيسة، وسقي ذي الجناح فقال له: اشرب وأنا أشرب... (باب الإطعام) وكفى في فضله أن الخلاص من العقبة قد حمل عليه في الآية الشريفة * (فلا اقتحم العقبة. وما أدراك ما العقبة. فك رقبة. أو إطعام في يوم ذي مسغبة. يتيما ذا مقربة. أو مسكينا ذا متربة) * (1) قال الإمام السجاد عليه السلام: قتل ابن رسول الله جائعا، قتل ابن رسول الله عطشانا (2). أجل.. فذلك الرجل العطوف الشفيق الرحيم يقتل، ويقتل عطشانا بعد أن سقى الناس حتى أعداءه، وحتى البهائم التي ركبوها للكر عليه وقتله. وذلك الرجل الطيب الذي طالما أشبع الجياع، قتل، وقتل ساغبا جائعا، وكانت يده السخية تحمل الطعام والماء كل ليلة إلى الفقراء والمساكين والأيتام والأسر
1 - سورة البلد: 6 - 11. 2 - الخصائص الحسينية: 33. 271 الأبية، حتى ترك ذلك أثرا على ظهره.. فسئل الإمام زين العابدين - ولده - عليه السلام عن ذلك فقال: هذا مما كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين (1). إلا أن هذا الظهر العطوف.. قد عملت فيه سيوف ورماح وسهام أعداء الله عملها، ثم جاءت خيولهم فداسته. وذلك الصدر الرحيم الذي حمل هموم المحرومين، وفاض بالحنان على اليتامى والمساكين، وجاد على الناس حتى العدو منهم بالنصيحة والموعظة لم يدخر من ذلك شيئا.. قد هشمته السيوف وسنابك الخيل. وذلك الوجه النوري المقدس الذي سجد لله طويلا، وبكى على آلام الناس طويلا، فصل عن البدن ورفع على الرمح، تشفيا ونكالا، ولم يستح العدو وقد رأى الحسين عليه السلام يبكي فسئل عن ذلك وهو في ساحة الطف، فأخبر بأنه يبكي على أعدائه حيث احتشدوا عليه يريدون قتله، وبذلك يدخلون النار بانتهاك حرمته. لقد كان منهم ما تتفطر له السماوات وتنهد الجبال.. حيث: فرى الغي نحرا يغبط البدر نوره * وفي كل عرق منه للحق فرقد وهشم أضلاعا بها العطف مودع * وقطع أنفاسا بها اللطف موجد (2)
1 - المناقب 4: 66. 2 - من قصيدة للسيد صالح ابن العلامة السيد مهدي بحر العلوم. 272 الخصال الحسينية
273 الخصال الحسينية كانت سياحة ممتعة في الأخلاق الحسينية الشريفة، حيث تعرفنا فيها على بعض فضائل مولانا سيد الشهداء أبي عبد الله السبط سيد شباب أهل الجنة، الإمام الحسين بن علي، ابن فاطمة بنت النبي المصطفى " صلى الله عليه وآله وسلم ".. ولم ينته بعد ما في أيدينا مما حفظته بطون كتب المناقب والفضائل والخصائص، ونقله الرواة والمؤرخون وكتاب السير من أهل الاسلام على اختلاف مذاهبهم، وأهوائهم ومشاربهم. لذا رغبنا أن نعرض - وبشكل مختصر وعاجل - خصالا أخرى للإمام الحسين عليه السلام... وهي: 1 - العفو الحسيني والعفو هو ضد الانتقام، وهو اسقاط ما يستحقه من قصاص أو غرامة (1)، وقد وردت في كتاب الله العزيز آيات كثيرة تدعو إلى العفو
1 - جامع السعادات 1: 301 - باب العفو. 275 وترغب فيه، منها قوله تعالى: * (خذ العفو وأمر بالعرف..) * (1)، وقوله - عز من قائل -: * (وأن تعفوا أقرب للتقوى) * (2)، وقوله عز وجل: * (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم) * (3). أما من الأحاديث، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: العفو لا يزيد العبد إلا عزا، فاعفوا يعزكم الله (4). من عفا عن مظلمة أبدله الله بها عزا في الدنيا والآخرة (5). عليكم بمكارم الأخلاق، فإن الله عز وجل بعثني بها، وإن من مكارم الأخلاق أن يعفو الرجل عمن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه، وأن يعود من لا يعوده (6). وروي عن أمير المؤمنين " علي " عليه السلام أنه قال: العفو تاج المكارم (7). شيئان لا يوزن ثوابهما: العفو والعدل (8). وقال سلام الله عليه: أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم، فما يعثر منهم عاثر إلا ويد الله بيده يرفعه (9). كذا قال صلوات الله عليه: إنما ينبغي لأهل العصمة والمصنوع إليهم في السلامة أن يرحموا أهل الذنوب والمعصية، ويكون الشكر هو الغالب عليهم.. (10). وجاء عنه عليه السلام أيضا قوله: إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكرا للقدرة عليه (11).
1 - الأعراف: 199. 2 - البقرة: 237. 3 - النور: 22. 4 - جامع السعادات 1: 301. 5 - أمالي الطوسي 1: 185. 6 - أمالي الطوسي 2: 92. 7 - غرر الحكم. 8 - نفسه. 9 - تهج البلاغة: الحكمة 20. 10 - نفسه: الخطبة 140. 11 - نفسه: الحكمة 11. 276 وقوله: بالعفو تنزل الرحمة (1). والإمام الحسين عليه السلام هو الملبي لنداء الله تعالى في كل دعوة إلى خلق فاضل حميد، وهو أتقى الناس وأولى منهم بالفضائل.. ومنها العفو، وهو العزيز النفس والجانب بالعفو عن المخطئين وغير ذلك من مكارم الأخلاق، حتى عفا عمن ظلمه، وأعطى من حرمه، ووصل من قطعه، وعاد من لم يعده، وقد أقال عثرات الناس جزاء على مروءاتهم، ورحمة بحالهم، وتجاوز بعصمته المقدسة عن ذنوبهم ومعاصيهم. وكان قادرا أن يعاقب فعفا، كجده المصطفى صلى الله عليه وآله، حين قال لأهل مكة: اذهبوا فأنتم الطلقاء، من بعد ما آذوه أشد الإيذاء. وصدر عفوه عن مقدرة فكان أحسن العافين، وهو القائل عليه السلام: إن أعفى الناس من عفا عند قدرته (2). روى ابن الصباغ المالكي: جنى بعض أقاربه جناية توجب التأديب، فأمر بتأديبه، فقال: يا مولاي! قال الله تعالى * (والكاظمين الغيظ) *، قال عليه السلام: خلوا عنه، فقد كظمت غيظي، فقال: * (والعافين عن الناس) *، قال عليه السلام: قد عفوت عنك، فقال: * (والله يحب المحسنين) *، قال: أنت حر لوجه الله تعالى. وأجازه بجائزة سنية) (3). وفي رواية الإربلي في كشف الغمة (4): قال عليه السلام: أنت حر لوجه الله، ولك ضعف ما كنت أعطيك. فكان عفو الحسين سلام الله عليه: أولا: مكافئة هنيئة على ذلك الغلام، لأنه استعان بالقرآن
1 - غرر الحكم. 2 - الدرة الباهرة: 24. 3 - الفصول المهمة: 159. وسيلة المآل، لابن كثير الحضرمي: 183. والآية في سورة آل عمران: 34. 4 - ص: 184. 277 الكريم، وخاطب به سيد الأخلاق معولا على كرمه وعفوه، فلم يخيبه الإمام الحسين (صلوات الله عليه)، بل صفح عنه، ثم قدم له هديتين: الأولى - العتق، وأي هدية تلك! والثانية - عطاء مضاعف أو جائزة سنية يستعين بها على العيش الحر الكريم. فجمع الإمام الحسين عليه السلام أكثر من خلق: العفو، والتعليم، والكرم.. وتلك هي أخلاقه سلام الله عليه متعددة في الموقف الواحد، متداخلة فيما بينها لا تدري أيا منها تشير إليها. وثانيا: كان عفو (الحسين عليه السلام) تأديبا وإصلاحا لذلك الغلام، وإعطاء لفرصة يستدرك بها خطأه، ويستفيد من رحمة الإمام الحسين عليه السلام وعفوه، وحلمه. وثالثا: كان عفوه (سلام الله عليه) عن قدرة، شكرها لله تعالى بالعفو عن عباده، وإلا كان من حقه (عليه السلام) أن يعاقب، إلا أنه اختار العفو بحكمته، وبلطفه ورحمته. ورابعا: لم يكن عفوه (عليه السلام) مجرد عفو، أي مجرد اسقاط حق من قصاص، بل كان إضافة إلى ذلك صفحا جميلا، والصفح الجميل في قوله تعالى * (فاصفح الصفح الجميل) * (1) هو: العفو من غير عتاب - كما قال الإمام الرضا عليه السلام (2) - أو هو - كما قال الإمام الصادق عليه السلام -: عفوا من غير عقوبة، ولا تعنيف،
1 - الحجر: 85. 2 - أمالي الصدوق: 45. 278 ولا عتب (1). ولم يجمع الإمام الحسين عليه السلام ذلك فحسب، إنما أضاف إليه الجائزة السنية، ورحمة الحرية. وفي كل مواقفه سلام الله عليه كان يقدم عفوه على غضبه، ويعرض العفو على مبغضيه وأعدائه علهم يهتدون، وإلى الحق يؤوبون، وعن الباطل والضلال يرجعون، ومن فرصة السلام يستفيدون.. وهذا من الرحمة الحسينية التي استفاد منها الحر بن يزيد الرياحي (رضوان الله عليه). إذ لما سمع كلام الحسين عليه السلام، ودعوته الحقة أقبل على عمر بن سعد وقال له: أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال عمر: إي والله قتالا أيسره أن تسقط فيه الرؤوس، وتطيح الأيدي، فقال الحر: ما لكم في ما عرضه عليكم من الخصال؟ فقال عمر: لو كان الأمر إلي لقبلت ولكن أميرك أبى ذلك. فتركه الحر ووقف مع الناس، وكان إلى جنبه قرة بن قيس فقال لقرة: هل سقيت فرسك اليوم؟ قال: لا، قال: فهل تريد أن تسقيه؟ فظن قرة من ذلك أنه يريد الاعتزال، ويكره أن يشاهده، فتركه، فأخذ الحر يدنو من الحسين قليلا، فقال له المهاجر بن أوس: أتريد أن تحمل؟ فسكت الحر وأخذته الرعدة، فارتاب المهاجر من هذا الحال، وقال له: لو قيل لي من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك، فما هذا الذي أراه منك؟! فقال الحر: إني أخير نفسي بين الجنة والنار، والله لا أختار على الجنة شيئا ولو حرقت. ثم ضرب جواده نحو الحسين (2)، منكسا رمحه، قالبا ترسه، وقد طأطأ برأسه حياء من آل الرسول بما أتى إليهم، وجعجع بهم في هذا المكان على غير ماء ولا كلأ،
1 - بحار الأنوار 78: 357، عن أعلام الدين. 2 - تاريخ الطبري 6: 244. 279 رافعا صوته: اللهم إليك أنيب، فتب علي، فقد أرعبت قلوب أوليائك، وأولاد نبيك. يا أبا عبد الله! إني تائب، فهل لي من توبة. فقال الحسين (عليه السلام) - وهو العفو -: نعم، يتوب الله عليك (1). فسره قوله، وتيقن الحياة الأبدية والنعيم الدائم، ووضح له قول الهاتف لما خرج من الكوفة فحدث الحسين (عليه السلام) بحديث قال فيه: لما خرجت من الكوفة نوديت: أبشر يا حر بالجنة، فقلت: ويل للحر يبشر بالجنة وهو يسير إلى حرب ابن بنت رسول الله! (2) فقال له الحسين عليه السلام: لقد أصبت خيرا وأجرا. وكان مع الحر غلام له تركي (3). ثم استأذن الحر الحسين في أن يكلم القوم، فأذن له، فنادى بأعلى صوته: يا أهل الكوفة! لأمكم الهبل والعبر، إذ دعوتموه وأخذتم بكظمه، وأحطتم به من كل جانب فمنعتموه التوجه إلى بلاد الله العريضة حتى يأمن وأهل بيته، وأصبح كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، وحلأتموه ونساءه وصبيته وصحبه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهود والنصارى والمجوس، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه! وها هم قد صرعهم العطش، بئسما خلفتم محمدا في ذريته، لا سقاكم الله يوم الظمأ. فحملت على الحر رجالة ترميه بالنبل، فتقهقر حتى وقف أمام الحسين (عليه السلام) (4).
1 - اللهوف: 58. أمالي الصدوق: 97. روضة الواعظين: 159. 2 - أمالي الصدوق: 93، المجلس 30. 3 - مقتل الحسين، للخوارزمي 2: 9. مثير الأحزان، لابن نما: 31. 4 - الكامل 4: 27. 280 وهكذا يتحول الحر ببركة عفو سيده الحسين عليه السلام إلى صف الإيمان والحق والجهاد والشهادة، ويعلو صوته بدعوة أهل الكوفة إلى المعروف، ونهيهم عن منكرهم وضلالهم في قتالهم لسيد شباب أهل الجنة. وبعد شهادة حبيب بن مظاهر رضوان الله عليه خرج الحر بن يزيد الرياحي ومعه زهير بن القين يحمي ظهره، فكان إذا شد أحدهما واستلحم شد الآخر واستنقذه، ففعلا ساعة (1). وإن فرس الحر لمضروب على أذنيه وحاجبيه، والدماء تسيل منه، وهو يتمثل بقول عنترة: ما زلت أرميهم بثغرة نحره * ولبانه، حتى تسربل بالدم فقال الحصين ليزيد بن سفيان: هذا الحر الذي كنت تتمنى قتله، قال: نعم، وخرج إليه يطلب المبارزة، فما أسرع أن قتله الحر، ثم رمى أيوب بن مشرح الخيواني فرس الحر فعقره، وشب به الفرس فوثب عنه كأنه ليث (2)، وبيده السيف وجعل يقاتل راجلا حتى قتل نيفا وأربعين (3). ثم شدت عليه الرجالة فصرعته، وحمله أصحاب الحسين (عليه السلام) ووضعوه أمام الفسطاط الذي يقاتلون دونه، وهكذا يؤتى بكل قتيل إلى هذا الفسطاط، والحسين يقول: قتلة مثل قتلة النبيين وآل النبيين (4). ثم التفت عليه السلام إلى الحر - وكان به رمق - فقال له - وهو يمسح الدم عنه -: أنت الحر كما سمتك أمك، وأنت الحر في الدنيا والآخرة. ورثاه رجل من أصحاب الحسين، وقيل: علي بن الحسين (5)، وقيل: إنها من إنشاء الحسين
1 - تاريخ الطبري 6: 252. البداية والنهاية 8: 183. 2 - تاريخ الطبري 6: 248 و 250. 3 - المناقب 2: 217. 4 - الغيبة، للنعماني: 113 الطبعة الحجرية. تظلم الزهراء عليها السلام: 118. 5 - مقتل الحسين، للخوارزمي 2: 11. 281 خاصة (1): لنعم الحر حر بني رياح * صبور عند مشتبك الرماح ونعم الحر إذ فادى حسينا * وجاد بنفسه عند الصباح 2 - الحلم الحسيني والحلم هو طمأنينة النفس بحيث لا يحركها الغضب بسهولة، ولا يزعجها المكروه بسرعة، فهو الضد الحقيقي للغضب، لأنه المانع من حدوثه وبعد هيجانه. والحلم، أشرف الكمالات النفسية بعد العلم، بل لا ينفع العلم بدونه أصلا، ولذا كلما يمدح العلم أو يسأل عنه يقارن به، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم أغنني بالعلم، وزيني بالحلم، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله يحب الحيي الحليم، وقال صلى الله عليه وآله: ما أعز الله بجهل قط، ولا أذل بحلم قط. وقال أمير المؤمنين عليه السلام: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك، ويعظم حلمك. وقال علي بن الحسين عليهما السلام: إنه ليعجبني الرجل أن يدركه حلمه عند غضبه. وقال الرضا عليه السلام: لا يكون الرجل عابدا حتى يكون حليما (2). والحلم - كما يرى علماء الأخلاق - من آثار قوة النفس وشجاعتها،
1 - روضة الواعظين: 160. أمالي الصدوق: 97، المجلس 30. 2 - جامع السعادات 1: 295 - 297. 282 ولا يعرف إلا في الموقف الصعب، أو حالة الهيجان.. قال الإمام الصادق عليه السلام: ثلاثة، لا تعرف إلا في ثلاثة مواطن: لا يعرف الحليم إلا عند الغضب، ولا الشجاع إلا عند الحرب، ولا أخ إلا عند الحاجة (1). والحاجات تختلف، فمنها معنوية أخلاقية، إذ قد يحتاج الأخ من أخيه أن يعفو عنه ويصفح، وأن يحلم عليه ولا يغضب. والشجاعة لا تقتصر على قوة البدن واندفاعه في ساحة القتال، إذ منها إمساك النفس عن الغضب كما هو منها إمساك النفس عن الخوف والجبن والوهن.. سأل النبي صلى الله عليه وآله يوما أصحابه: ما الصرعة فيكم؟ قالوا: الشديد القوي الذي لا يوضع جنبه. فقال: بل الصرعة حق الصرعة رجل وكز الشيطان في قلبه، واشتد غضبه وظهر دمه، ثم ذكر الله فصرع بحلمه غضبه (2). وفي رواية: أنه صلى الله عليه وآله خرج وقوم يدحرجون حجرا، فقال: أشدكم من ملك نفسه عند الغضب، وأحلمكم من عفا بعد المقدرة (3). وقال صلى الله عليه وآله: ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب (4). وجاء عن مولانا الإمام علي عليه السلام أنه قال: أقوى الناس من قوي على غضبه بحلمه (5). وروري عن مولانا الإمام الباقر عليه السلام قوله: لا قوة كرد
1 - بحار الأنوار 78: 229 عن تحف العقول. 2 - بحار الأنوار 77: 150 عن تحف العقول. 3 - بحار الأنوار 77: 148. 4 - تنبيه الخواطر: 99. 5 - غرر الحكم. 283 الغضب (1). وصورة من صور الحلم الحسيني الشريف ما رواه للتاريخ (عصام بن المصطلق) حيث قال: دخلت المدينة فرأيت الحسين بن علي عليه السلام فأعجبني سمته ورواؤه، وأثار من الحسد ما كان يخفيه صدري لأبيه من البغض، فقلت له: أنت ابن أبي تراب؟ فقال: نعم، قال عصام: فبالغت في شتمه وشتم أبيه (نعوذ بالله)، فنظر إلي نظرة عاطف رؤوف، ثم قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم * (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين. وإما ينزغنك من الشيطان نزع فاستعذ بالله إنه سميع عليم. إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون. وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون) * (2). قال عصام: ثم قال لي: خفض عليك، استغفر الله لي ولك، إنك لو استعنتنا لأعناك، ولو استرفدتنا لرفدناك، ولو استرشدتنا لرشدناك. قال عصام: فتوسم مني الندم على ما فرط مني، فقال: * (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين) * (3)، أمن أهل الشام أنت؟ قلت: نعم، فقال: شنشنة أعرفها من أخزم (4)، حيانا الله وإياك، انبسط إلينا في حوائجك وما يعرض لك تجدني عند أفضل ظنك إن شاء الله تعالى. قال عصام: فضاقت علي الأرض بما رحبت، ووددت لو ساخت بي، ثم سللت منه
1 - بحار الأنوار 78: 165 عن تحف العقول. 2 - الأعراف: 199 - 202. 3 - يوسف: 92. 4 - مثل يشير إلى أصل الفتنة - وهو هنا معاوية الذي ضلل أهل الشام وحملهم على بغض أهل البيت عليهم السلام. 284 لواذا وما على الأرض أحب إلي منه ومن أبيه (1). فبالحلم أعز الإمام الحسين " عليه السلام " نفسه وأكرمها، وأنقذ هذا المسكين الذي أثرت عليه دعايات وافتراءات بني أمية ضد أهل بيت العصمة والطهارة " صلوات الله عليهم "، حتى إذا التقى بأحدهم - وهو الحسين " سلام الله عليه " - وجد خلقا رفيعا، وحلما عظيما، وصدرا رحبا واسعا، يتحمل إساءات الآخرين حتى السب منها، وقد قال " عليه السلام " وهو الصادق - كما روى الزرندي الحنفي في كتابه (نظم درر السمطين) (2): لو شتمني رجل في هذه الأذن، - وأومى " عليه السلام " إلى اليمنى - واعتذر لي في الأخرى لقبلت ذلك منه، وذلك أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رض) حدثني أنه سمع جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لا يرد الحوض من لم يقبل العذر من محق أو مبطل). لقد كان صدر الإمام الحسين (عليه السلام) صدرا حليما بحق، تحمل وصبر وحلم على شتم الشاتمين، ولكن كيف يحق لمسلم أن يسب من قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله): حسين مني وأنا من حسين) - كما روى الترمذي في صحيحه (3)، وابن ماجة في الفضائل (4)، والهندي في كنز العمال (5)، وأحمد بن حنبل في مسنده (6)، وغيرهم كثير.. (7) ألا بعد هذا
1 - القطرة، للسيد أحمد المستنبط 1: 179، الحديث 11. 2 - ص 209، طبقة القضاء. 3 - ج 2 ص 307. 4 - فضائل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). 5 - ج 6 ص 221، و ج 7 ص 107. 6 - ج 4 ص 172. 7 - كالبخاري في الأدب المفرد - باب معانقة الصبي، والحاكم في المستدرك 3: 177، وابن الأثير في أسد الغابة 2: 19 و 5: 130. ورواه أئمة الحديث وأرباب السنن من الفريقين. 285 أن شتم الإمام الحسين " عليه السلام " - وهو من رسول الله، ورسول الله منه -، أنه شتم لرسول الله (صلى الله عليه وآله)؟! وهذا ما بدا من جيش يزيد بن معاوية بقيادة عبيد الله بن زياد، وتنفيذ عمر بن سعد، وعلى ألسنة المرتزقة، الذين لم يكفهم أن رماه أبو الحتوف الجعفي بسهم في جبهة الحسين " عليه السلام "، ورماه رجل بحجر في جبهته المقدسة أيضا، ورماه آخر بسهم محدد له ثلاث شعب وقع في قلبه المقدس لله - عز وجل -، فأعياه نزف الدم، فجلس على الأرض ينوء برأسه، لم يكفهم هذا حتى انتهى إليه في تلك الحال مالك بن النسر فشتمه، ثم ضربه بالسيف على رأسه، وكان عليه برنس فامتلأ البرنس دما (1). فيا لحلم الحسين، ويا لحلم الله، ولله در الحسين (سلام الله عليه) وهو على تلك الحالة يخرج السهم من قفاه، فينبعث الدم كالميزاب (2)، ويضع يده تحت الجراح، فإذا امتلأت رمى به نحو السماء وقال: هون علي ما نزل بي أنه بعين الله. فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض) (3). 3 - المروءة الحسينية: والمروة أو المروءة.. خلق يحمل عدة معان إنسانية وسلوكية، نستطيع أن نتبين ذلك من خلال الأحاديث الشريفة: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لرجل من ثقيف: يا أخا ثقيف! ما المروءة فيكم؟، قال: يا رسول الله! الانصاف والإصلاح، قال: وكذلك هي
1 - الكامل 4: 31، ومقتل الحسين (ع) للخوارزمي 2: 35. 2 - نفس المهموم 189، ومقتل الحسين (ع) / للخوارزمي 2: 34، واللهوف: 68. 3 - تهذيب تاريخ ابن عساكر 4: 338، ومقتل الحسين (ع) للخوارزمي 2: 34. 286 فينا) (1). وجاء عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: - ثلاث هن جماع المروءة: عطاء من غير مسألة، ووفاء من غير عهد، وجود مع إقلال (2). - على قدر شرف النفس تكون المروءة (3). وخرج (عليه السلام) على أصحابه وهم يتذاكرون المروة، فقال: أين أنتم من كتاب الله " عز وجل "؟ قالوا: يا أمير المؤمنين! في أي موضع؟ فقال: في قوله " عز وجل ": " إن الله يأمر بالعدل والإحسان " فالعدل: الانصاف، والإحسان: التفضل) (4). وقال " سلام الله عليه ": المروة اسم جامع لسائر الفضائل والمحاسن) (5). وسأل معاوية (الحسن بن علي) " عليه السلام " عن الكرم والمروءة، فقال: أما الكرم: فالتبرع بالمعروف، والإعطاء قبل السؤال، والإطعام في المحل، وأما المروءة: فحفظ الرجل دينه، وإحراز نفسه من الدنس، وقيامه بضيفه، وأداء الحقوق، وإفشاء السلام) (6). وقال عبد الرحمن بن عباس، رفعه، قال: سأل معاوية الحسن بن علي " عليهما السلام " عن المروة فقال: شح الرجل على دينه، وإصلاح ماله، و قيامه بالحقوق. فقال معاوية: أحسنت يا أبا محمد، أحسنت يا أبا محمد. فكان معاوية يقول بعد ذلك: وددت أن يزيد قالها وإنه كان أعور) (7).
1 - كنز العمال: خ 8762. 2 - غرر الحكم. 3 - نفسه. 4 - معاني الأخبار: 257، والآية في سورة النحل / 90. 5 - غرر الحكم. 6 - كنز العمال: خ 8760. 7 - معاني الأخبار: 257. 287 وسئل الإمام الحسن " عليه السلام ": ما المروة؟ فقال: حفظ الدين، وإعزاز النفس. ولين الكنف، وتعهد الصنيعة، وأداء الحقوق، والتحبب إلى الناس) (1). وروي عن الإمام الصادق " عليه السلام " قوله: - الفتوة والمروة: طعام موضوع، ونائل مبذول، واصطناع المعروف، وأذى مكفوف) (2). إلى ما يقرب من ذلك من معاني العفة والشهامة، والتفضل والرحمة والإحسان والإصلاح، وإكرام النفس وإعزازها، والترفع عن الخسة والدناءة والرذيلة. والآن.. نأتي إلى مروءة الإمام الحسين " سلام الله عليه " لنرى ماذا أبقى للناس من منزلتها! فمما روي فيها ما رواه القوم: منهم الحافظ محمد بن جرير الطبري في " تاريخ الأمم والملوك " (3) قال: وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي اليربوعي حتى وقف هو وخيله مقابل الحسين في حر الظهيرة، والحسين وأصحابه معتمون متقلدو أسيافهم، فقال الحسين لفتيانه: اسقوا القوم وارووهم من الماء ورشفوا الخيل ترشيفا، فقام فتيانه فرشفوا الخيل ترشيفا، فقام فتية وسقوا القوم من الماء حتى أرووهم وأقبلوا يملأون القصاع والأتوار والطساس من الماء ثم يدنونها من الفرس فإذا عب فيه ثلاثا أو أربعا أو خمسا عزلت عنه وسقوا
1 - تحف العقول: 162. 2 - أمالي الصدوق: 329. 3 - ج 4 ص 301، طبعة الاستقامة بمصر. 288 آخر، حتى سقوا الخيل كلها. وفي رواية أخرى: قال هشام: حدثني لقيط عن علي بن طعان المحاربي: كنت مع الحر بن يزيد فجئت في آخر من جاء من أصحابه، فلما رأى الحسين ما بي وبفرسي من العطش قال: أنخ الراوية، والراوية عندي السقاء، ثم قال: يا ابن أخي! أنخ الجمل، فأنخته فقال: اشرب، فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء، فقال الحسين: أخنث السقاء، أي أعطفه قال: فجعلت لا أدري كيف أفعل، قال: فقام الحسين فخنثه فشربت وسقيت فرسي (1). ومنهم ابن الأثير في " الكامل " (2) روى الحديث بعين ما تقدم أولا عن " تاريخ الاسلام " لكنه أسقط قوله: والحسين وأصحابه معتمون متقلدو أسيافهم (3). ومنهم أبو المؤيد موفق بن أحمد في " مقتل الحسين " (4): أخبرني الإمام الأجل مجد الدين قوام السنة أبو الفتوح محمد بن أبي جعفر الطائي فيما كتب إلي من همدان، أخبرنا شيخ القضاة أبو علي إسماعيل بن أحمد البيهقي سنة اثنتين وخمسمائة بباب المدينة بمرو في الجامع، أخبرنا الإمام حقا وشيخ الاسلام صدقا أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن محمد بهراة، أخبرنا أبو علي أحمد بن محمد بن علي، حدثنا علي بن خشرم: سمعت يحيى بن عبد الله بن بشير الباهلي، حدثنا ابن المبارك أو غيره، شك الباهلي، قال: بلغني أن معاوية قال
1 - نفسه / ص 302. 2 - ج 3 ص 279 - طبعة المنيرية بمصر. 3 - وروى الخوارزمي الحديث أيضا نقلا عن أحمد بن أعثم بمثل ما تقدم في مقتل الحسين (ع) ج 1 ص 229. 4 - ج 1 ص 149 - طبعة الغري. 289 ليزيد: هل بقيت لذة من الدنيا لم تنلها؟ قال: نعم، أم أبيها هند بنت سهيل بن عمرو خطبتها، وخطبها عبد الله بن عامر بن كريز فتزوجته وتركتني. فأرسل معاوية إلى عبد الله بن عامر وهو عامله على البصرة، فلما قدم عليه قال: أنزل عن أم أبيها لولي عهد المسلمين يزيد، قال: ما كنت لأفعل، قال: أقطعك البصرة فإن لم تفعل عزلتك عنها، قال: وإن. فلما خرج من عنده قال له مولاه: امرأة بامرأة أتترك البصرة بطلاق امرأة. فرجع إلى معاوية فقال: هي طلاق. فرده إلى البصرة، فلما دخل تلقته أم أبيها فقال: استتري، فقالت: فعلها اللعين، واستترت. قال: فعد معاوية الأيام حتى إذا انقضت العدة وجه أبا هريرة يخطبها ليزيد وقال له: أمهرها بألف ألف. فخرج أبو هريرة فقدم المدينة، فمر بالحسين بن علي " عليه السلام " فقال: ما أقدمك المدينة يا أبا هريرة؟ قال: أريد البصرة أخطب أم أبيها لولي عهد المسلمين يزيد، قال: فترى أن تذكرني لها، قال: إن شئت، قال: قد شئت. فقدم أبو هريرة البصرة فقال لها: يا أم أبيها! إن أمير المؤمنين يخطبك لولي عهد المسلمين يزيد، وقد بذل لك في الصداق ألف ألف، ومررت بالحسين بن علي فذكرك، قالت: فما ترى يا أبا هريرة؟ قال: ذلك إليك، قالت: فشفة قبلها رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحب إلي، قال: فتزوجت الحسين بن علي، ورجع أبو هريرة فأخبر معاوية قال: فقال له: يا حمار، ليس لهذا وجهناك، قال: فلما كان بعد ذلك حج عبد الله بن عامر فمر بالمدينة فلقي الحسين بن علي فقال له: يا ابن رسول الله! تأذن لي في كلام أم أبيها، فقال: إذا شئت، فدخل معه البيت واستأذن على أم أبيها فأذنت له، و دخل معه الحسين، فقال لها عبد الله بن عامر: يا أم أبيها! ما فعلت الوديعة التي استودعتك؟ قالت: عندي، يا جارية! هاتي سفط كذا. فجاءت به ففتحته وإذا هو مملوء لآلئ وجوهر يتلألأ، فبكى ابن عامر، فقال الحسين: ما يبكيك؟
290 فقال: يا ابن رسول الله! أتلومني على أن أبكى على مثلها في ورعها، وكمالها، ووفائها، قال: يا ابن عامر! نعم المحلل كنت لكما، هي طلاق. فحج، فلما رجع تزوج بها. ومنهم العلامة الشيخ تقي الدين أبو بكر بن علي الحنفي في " ثمرات الأوراق " (1): أورد الواقعة لكنه ذكر اسم المرأة أرينب بنت إسحاق، واسم زوجها عبد الله بن سلام. هذه هي شهامة الحسين (عليه السلام) ومروءته، ونبله، وإنسانيته، وتلك كانت مواقفه مع نساء المسلمين، فكيف كان خصومه مع نسائه؟.. قال المؤرخون: لما قتل أبو عبد الله الحسين (عليه السلام) مال الناس على ثقله ومتاعه، وانتهبوا ما في الخيام (2)، وأضرموا النار فيها، وتسابق القوم على سلب حرائر الرسول (صلى الله عليه وآله)، ففررن بنات الزهراء " عليها السلام " مسلبات باكيات (3). قال أبو مخنف (رحمه الله): فلما ارتفع صياح النساء صاح ابن سعد: ويلكم، اكبسوا عليهن الخبا، وأضرموهن نارا فأحرقوها ومن فيها. فقال رجل منهم: ويلك يا ابن سعد، أما كفاك قتل الحسين وأهل بيته وأنصاره عن إحراق أطفاله ونسائه؟! لقد أردت أن يخسف الله بنا الأرض. فتبادروا إلى نهب النساء الطاهرات (4). وبقين بنات الرسالة والأرامل واليتامى ليلة الحادي عشر من المحرم
1 - ج 7 ص 174 - طبعة القاهرة. 2 - الكامل 4: 22. 3 - تاريخ الطبري 6: 260. 4 - مقتل أبي مخنف: 154. 291 بعد شهادة أبي عبد الله الحسين " عليه السلام " في حلك دامس من فقد تلك الأنوار الساطعة، بين رحل منتهب، وخباء محترق، وفرق سائد، وحماة صرعى، لا محام لهن ولا كفيل.. نعم، كان بينهن صراخ الصبية وأنين الفتيات، ونشيج الوالهات (1). ولما سير ابن سعد الرؤوس - رؤوس شهداء الطف -، أقام مع الجيش إلى الزوال من اليوم الحادي عشر، فجمع قتلاه وصلى عليهم ودفنهم، وترك سيد شباب أهل الجنة، وريحانة الرسول الأكرم، ومن معه من أهل بيته وصحبه بلا دفن (2)، تسفي عليهم الصبا. وبعد الزوال ارتحل إلى الكوفة ومعه نساء الحسين وصبيته وجواريه وعيالات الأصحاب، وكن عشرين امرأة (3). وسيروهن على أقتاب الجمال بغير وطاء، كما يساق سبي الترك والروم، وهن ودائع خير الأنبياء، ومعهن السجاد وقد أنهكته العلة (4)، ومعه ولده الباقر وله سنتان وشهور (5). فقلن النسوة: بالله عليكم إلا ما مررتم بنا على القتلى. ولما نظرن إليهم مقطعي الأوصال، قد طعمتهم سمر الرماح، ونهلت من دمائهم بيض الصفاح، وطحنتهم الخيل بسنابكها، صحن (6) وصاحت زينب: يا محمداه! هذا حسين بالعراء، مرمل بالدماء، مقطع الأعضاء، وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة. فأبكت كل عدو وصديق (7). ثم بسطت يديها تحت بدنه المقدس ورفعته
1 - مقتل الحسين (ع) / للمقرم: 289. 2 - مقتل الحسين (ع) / للخوارزمي - 2: 39. 3 - نفس المهموم: 204. 4 - الإقبال / للسيد ابن طاووس (ره): 54. 5 - إثبات الوصية / للمسعودي: 143 وفي تاريخ أبي الفداء / ج 1 ص 203: له ثلاث سنين. 6 - مثير الأحزان / لابن نما: 41، واللهوف: 74، ومقتل الحسين (ع) / للخوارزمي 2: 39، والمقتل / للطريحي: 332. 7 - الخطط المقريزية 2: 280. 292 نحو السماء وقالت: إلهي! تقبل منا هذا القربان (1). واعتنقت سكينة جسد أبيها الحسين (عليه السلام) ولم يستطع أحد أن ينحيها عنه حتى اجتمع عليها عدة وجروها بالقهر (2). ولما أدخلت بنات أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الكوفة اجتمع أهلها للنظر إليهم فصاحت أم كلثوم: يا أهل الكوفة! أما تستحون من الله ورسوله أن تنظروا إلى حرم النبي (صلى الله عليه وآله) (3)؟. وأشرفت عليهن امرأة من الكوفيات، ورأتهن على تلك الحال التي تشجي العدو الألد، فقالت: من أي الأسارى أنتم؟ فقلن: نحن أسارى آل محمد (4)!. تلك كانت مروءة الحسين (صلوات الله عليه)، دعته إلى الحفاظ على الذمام، وحفظ العهود، والاستجابة إلى رسائل أهل الكوفة، والدعوة إلى الإصلاح في أمة جده المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم).. وهذه أخلاق القوم: غدر، وتنكيل، وانتقام بلا مبرر غير طمع في دنيا غير دائمة وغير مضمونة، وهتك للحرمات، وأسر لأسرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتسييرها إلى الكوفة ثم إلى الشام في تقييد بالحبال، وحالة من الجوع والعطش. فحسبكم هذا التفاوت بيننا * وكل إناء بالذي فيه ينضح أو كما قال الشاعر: يا أمة نقضت عهود نبيها * أفمن إلى نقض العهود دعاك
1 - الكبريت الأحمر 3: 13. 2 - تظلم الزهراء (ع): 135. 3 - الدمعة الساكبة: 364. 4 - مثير الأحزان / لابن نما: 84، واللهوف: 81. 293 لولاك ما ظفرت علوج أمية * يوما بعترة أحمد، لو لاك وعليك خزي يا أمية دائم * يبقى كما في النار دام بقاك فلقد حملت من الأثام جهالة * ما عنه ضاق لمن وعاك وعاك هلا صفحت عن الحسين ورهطه * صفح الوصي أبيه عن أباك وعففت يوم الطف عفة جده * المبعوث يوم الفتح عن طلقاك أفهل يد سلبت إمائك مثلما * سلبت كريمات الحسين يداك أم هل برزن بفتح مكة حسرا * كنسائه يوم الطفوف نساك ما بين نادبة وبين مروعة * في أسر كل معاند أفاك يا أمة باءت بقتل هداتها * شلت يداك وما بلغت مناك بئس الجزاء لأحمد في آله * وبنيه يوم الطف كان جزاك يا عين ما سفحت دموعك فليكن * حزنا على سبط النبي بكاك وابك القتيل المستضام ومن بكت * لمصابه الأملاك في الأفلاك (1) 4 - التواضع الحسيني: والتواضع - كما يعرفه علماء الأخلاق -: احترام الناس حسب أقدارهم، وعدم الترفع عليهم. وهو خلق كريم، وخلة جذابة تستهوي القلوب، وتستثير التقدير، وناهيك في فضل التواضع أن الله تعالى أمر حبيبه وسيد رسله به، فقال - جل وعلا -: " واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين " (2). وقد أشاد أهل البيت (عليهم السلام) بشرف هذا الخلق وشوقوا إليه
1 - من قصيدة للشيخ علي الشفهيني الحلي / الدر النضيد: 240 و 241. 2 - سورة الشعراء / 215. 294 بأقوالهم الحكيمة، وسيرتهم المثالية، وكانوا رواد الفضائل، ومنار الخلق الرفيع (1). قال النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): لا حسب كالتواضع) (2). وقال - صلى الله عليه وآله - أيضا: إن التواضع يزيد صاحبه رفعة، فتواضعوا يرفعكم الله) (3). وعنه (صلى الله عليه وآله) أيضا قال: إن أحبكم إلي، وأقربكم مني يوم القيامة مجلسا، أحسنكم خلقا، وأشدكم تواضعا،..) (4). وقال أمير المؤمنين علي (سلام الله عليه): - التواضع زينة الحسب (5). التواضع زكاة الشرف (6). التواضع ينشر الفضيلة (7). عليك بالتواضع، فإنه من أعظم العبادة) (8). وجاء عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: إن في السماء ملكين موكلين بالعباد، فمن تواضع لله رفعاه، ومن تكبر وضعاه) (9). ومما قيل في التواضع قول أبي العلاء المعري: فيا والي المصر لا تظلمن * فكم جاء مثلك ثم انصرف تواضع إذا ما رزقت العلى * فذلك مما يزيد الشرف
1 - أخلاق أهل البيت (عليهم السلام) للسيد مهدي الصدر: 49. 2 - بحار الأنوار 77: 168، عن كنز الفوائد / للكراجكي. 3 - أصول الكافي 2: 121 - باب التواضع. 4 - قرب الإسناد / للحميري، وعلل الشرائع / للشيخ الصدوق. 5 - بحار الأنوار 78: 80، عن كشف الغمة. 6 - غرر الحكم. 7 - نفسه. 8 - أمالي الطوسي 1: 6. 9 - أصول الكافي 2: 98 - باب التواضع ح 2. 295 وقد كان النبي المصطفى الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أكثر الناس تواضعا.. يقعد في أدنى المجلس حيث يدخل، وكان يحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويحمل بضاعته في السوق، ويجالس الفقراء، ويواكل المساكين (1). عن أبي ذر الغفاري (رضوان الله عليه): كان رسول الله (صلى الله عليه و آله) يجلس بين ظهراني أصحابه، فيجئ الغريب فلا يدري أيهم هو حتى يسأل، فطلبنا إليه أن يجعل مجلسا يعرفه الغريب إذا أتاه. وروي أنه (صلى الله عليه وآله) كان في سفر، فأمر بإصلاح شاة، فقال رجل: يا رسول الله! علي ذبحها، وقال آخر: علي سلخها، وقال آخر: علي طبخها. فقال (صلى الله عليه وآله): وعلي جمع الحطب. فقالوا: يا رسول الله! نحن نكفيك. فقال: قد علمت أنكم تكفوني، ولكن أكره أن أتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزا بين أصحابه. وقام وجمع الحطب) (2). والإمام الحسين (عليه السلام) كان من سماته الواضحة بين الناس التواضع، فلم يجالس الطواغيت والمتكبرين، وأصحاب القلوب الميتة و الضمائر الفاسدة، والمغرورين بدنياهم.. كان ينصح، ولكنه في الوقت ذاته كان يحب الضعفاء، والمساكين والفقراء، ويجالسهم ويواكلهم ويحادثهم. ومما امتاز به تواضعه " سلام الله عليه ": أولا: أنه كان خالصا مخلصا لوجه الله تعالى، لا يبتغي به إلا مرضاته " جل وعلا ". لأن هناك من يتواضع للناس يطلب بذلك المدح والسمعة، يرائي
1 - كتب السيرة النبوية تذكر ذلك على وجه التفصيل والإجمال، منها مكارم الأخلاق / للطبرسي: 16. 2 - سفينة البحار / للشيخ المحقق عباس القمي 1: 415. 296 بتواضعه وينتظر أن يثني عليه، فإذا لم يحصل على ذلك عاد إلى كبره، وإذا طلب منه أن يذعن للحق ظهرت عليه علامات التجبر والاستنكاف والتعالي. أما الإمام الحسين (سلام الله عليه) فكان متواضعا لمن دونه في الفضل، يطلب بذلك طاعة الرحمن " جل جلاله ".. * حدث الصولي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في خبر أنه جرى بين الإمام الحسين (عليه السلام) وبين أخيه محمد بن الحنفية كلام، فكتب ابن الحنفية إلى الحسين [عليه السلام]: - أما بعد يا أخي، فإن أبي وأباك " علي "، لا تفضلني فيه ولا أفضلك، وأمك فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولو كان مل ء الأرض ذهبا ملك أمي ما وفت بأمك، فإذا قرأت كتابي هذا فصر إلي حتى تترضاني فإنك أحق بالفضل مني، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ففعل الحسين (عليه السلام)، فلم يجر بعد ذلك بينهما شئ) (1). فالإمام الحسين " سلام الله عليه " هو الأشرف من أخيه، باعتراف أخيه، وهو الأفضل، ولكنه كان الأسبق إليه تواضعا منه، لأنه الأسبق إلى الله - عز وجل - في الطاعات، وارتقاء الدرجات. ثانيا: أن تواضع الحسين (صلوات الله عليه) كان عن عزة وكرامة و كمال، لا عن ذلة أو ضعف أو طمع - حاشاه عن كل ذلك -. (إن التواضع الممدوح هو المتسم بالقصد والاعتدال، لا إفراط فيه ولا تفريط، فالاسراف في التواضع داع إلى الخسة والمهانة، والتفريط فيه باعث على الكبر والأنانية. و على العاقل أن يختار النهج الوسط،.. بإعطاء كل فرد ما يستحقه من الحفاوة،
1 - المناقب 4: 66. 297 والتقدير حسب منزلته، ومؤهلاته. لذلك لا يحسن التواضع للأنانيين والمتعالين على الناس بزهوهم وصلفهم. إن التواضع - والحالة هذه - مدعاة للذل والهوان، وتشجيع على الأنانية والكبر) (1). ولذلك - كما مر بنا - كان الحسين (عليه السلام) لا يتواضع للمتجبرين كمعاوية ويزيد، ومروان بن الحكم وعمرو بن العاص والوليد بن عقبة، بل ترفع عنهم.. ولا للمستكبرين والمغرورين والمتعالين، حتى قال له أحدهم: إن فيك كبرا، فأجابه الحسين (عليه السلام): كل الكبر لله وحده، ولا يكون في غيره، قال الله تعالى: * (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) * (2). وتكملة الآية * (ولكن المنافقين لا يعلمون) *، فحاشاه أن يكون الإمام الحسين (سلام الله عليه) متكبرا، ولكنه العزيز الذي لا يذل.. وخير التواضع ما كان عن عزة وترفع، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أفضل الناس من تواضع عن رفعة) (3)، وجاء عن الإمام علي (عليه السلام) قوله: التواضع مع الرفعة، كالعفو مع المقدرة) (4). فمع الكافرين العزة، والتواضع إنما يكون مع المؤمنين، وهكذا وصف الله تعالى من يحبه * (.. فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين) * (5)، وهذه صفتان معربتان عن الاعتدال، وفي ذلك يقول المصطفى الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): طوبى لمن تواضع لله تعالى في غير منقصة، وأذل نفسه في غير مسكنة) (6)، ويقول أمير
1 - أخلاق أهل البيت (ع): 50. 2 - بحار الأنوار 44: 198، عن كنز الفوائد، والآية في سورة (المنافقون) / 8. 3 - بحار الأنوار 77: 179، عن أعلام الدين. 4 - غرر الحكم. 5 - سورة المائدة / 54. 6 - بحار الأنوار 77: 90، عن مكارم الأخلاق. 298 المؤمنين " علي " - عليه السلام -: طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، و تواضع من غير منقصة، وجالس أهل الفقه والرحمة، وخالط أهل الذل و المسكنة، وأنفق مالا جمعه في غير معصية) (1). والآن، تعالوا نتأمل في هذه الرواية، لنرى هل ترك الإمام الحسين (عليه السلام) شيئا بعد " طوبى "؟ * روى الشيخ نصر بن محمد السمرقندي الحنفي في (تنبيه الغافلين) (2) عن سفيان بن مسعر قال: بلغني عن الحسين بن علي (رضي الله تعالى عنهما) أنه مر بمساكين وهم يأكلون كسرا لهم على كساء، فقالوا: يا أبا عبد الله! الغداء. فنزل وقال " عليه السلام ": إنه لا يحب الله المستكبرين. فأكل معهم، ثم قال لهم: قد أجبتكم فأجيبوني. فانطلقوا معه، فلما أتوا المنزل قال لجاريته: أخرجي ما كنت تدخرين). ورواها أبو المؤيد الموفق بن أحمد الخوارزمي في مقتل الحسين " عليه السلام " (3) بهذه الصورة: كان (أي الحسين بن علي) يجالس المساكين ويقرأ: إن الله لا يحب المتكبرين (4). ومر على صبيان معهم كسرة فسألوه أن يأكل معهم فأكل، ثم حملهم إلى منزله فأطعمهم وكساهم..). فلم يشتغل (سلام الله عليه) - حاشاه - بنقصهم بل عيوبهم، وتواضع لهم من غير منقصة بل عن رفعة، وجالسهم وهم أهل الرحمة، وخالطهم وهم أهل الفقر والمسكنة، وأنفق عليهم من مال جمعه فوضعه في طاعة الله " سبحانه "،
1 - بحار الأنوار 75: 119، عن تفسير علي بن إبراهيم. 2 - ج 1 ص 66 - طبعة القاهرة. والحنفي تعني حنفي المذهب، وكذا المالكي والشافعي إذا وردت ألقابا لعلماء ذلك المذهب. 3 - ج 1 ص 155 - مطبعة الغري. 4 - هذا نصه (عليه السلام) على ما هو النقل، وإلا فالآية: " إنه لا يحب المستكبرين " في سورة النحل / 23. 299 أضف إلى ذلك أنه جمع إلى التواضع السخاء، وتلك هي أخلاق سيدنا الإمام الحسين " عليه السلام "، متعددة في الموقف الواحد، متداخلة مع بعضها.. حتى إذا تأملتها وجدتها أكثر من خلق طيب. بقي شئ واحد لم يكن للحسين (عليه السلام) في هذه الرواية، وهو مجالسة أهل الفقه، إذ هو الأفقه، وحيثما حل بين الناس فقههم بشريعة الاسلام وأخلاقه الفاضلة. نعم، جالس أخاه الإمام الحسن " عليه السلام " فكان عنده أكثر المجالسين أدبا، حيث أجل له إمامته.. قال الإمام الباقر " عليه السلام ": - ما تكلم الحسين بين يدي الحسن إعظاما له) (1). وقد بادله الإمام الحسن (سلام الله عليه) هذا الأدب، فالنبي (صلى الله عليه وآله) قال فيهما: ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا) (2).. ولذا نقرأ في كتاب (التعازي) للسيد الشريف أبي عبد الله محمد بن علي بن الحسن بن عبد الرحمن العلوي.: كان الحسن (عليه السلام) يعظم الحسين (عليه السلام)، حتى كأنه هو أسن منه، قال ابن عباس، وقد سألته عن ذلك، فقال: سمعت الحسن " عليه السلام " وهو يقول: إني لأهابه كهيبة أمير المؤمنين " عليه السلام ") (3). وبقيت سمة التواضع عند الإمام الحسين (عليه السلام) خصلة واضحة، عرفها الناس فيه، فأجلوها، وحظي بها المؤمنون المخلصون، لا سيما شهداء كربلاء (رضوان الله تعالى عليهم). فساعة سقط (أسلم) - وهو مولى له - في ساحة الطف شهيدا مشى إليه الإمام الحسين (صلوات الله عليه) بنفسه الشريفة واعتنقه، وكان به رمق، فتبسم
1 - المناقب 3: 400. 2 - بحار الأنوار 43: 278، عن المناقب. 3 - القطرة 1: 181 الحديث - 16. 300 أسلم وافتخر بذلك ومات. - هنيئا له أن حظي ب: لطف سيد شباب أهل الجنة، و رحمته، وتواضعه (1). وكان للإمام الحسين (عليه السلام) مولى آخر هو واضح التركي) " رضوان الله تعالى عليه " جاهد بين يدي الحسين " سلام الله عليه " وقاتل أعداءه، فلما صرع على ساحة الشرف بكربلاء استغاث بالحسين، فأتاه (عليه السلام) واعتنقه، فقال واضح: من مثلي وابن رسول الله " صلى الله عليه وآله " واضع خده على خدي؟!، ثم فاضت نفسه الطاهرة) (2). 5 - الوفاء الحسيني: قال تعالى في محكم كتابه المجيد: - * (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا) * (3). - * (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود..) * (4). - وفي ظل هذه الآية الكريمة قال العلامة المرحوم السيد محمد حسين الطباطبائي (المفسر المعروف): - يدل الكتاب على الأمر بالوفاء بالعقود، وهو بظاهره عام يشمل كل ما يصدق عليه العقد عرفا مما يلائم الوفاء... وكالعهد، الذي يمكن فيه العاهد المعهود له من نفسه فيما عهده، وليس له أن ينقضه. وقد أكد القرآن على الوفاء بالعقد والعهد بجميع معانيه وفي جميع مصاديقه، وشدد فيه كل التشديد، وذم
1 - ذخيرة الدارين: 366. 2 - إبصار العين في أنصار الحسين (ع) / ص 85. وفي مقتل الحسين (ع) / للخوارزمي 2: 24: كان الغلام التركي من موالي الحسين (ع) قارئا للقرآن عارفا بالعربية، وقد وضع الحسين (ع) خده على خده حين صرع، فتبسم). 3 - سورة الإسراء / 34. 4 - سورة المائدة / 1. 301 الناقضين للمواثيق ذما بالغا وأوعدهم إيعادا عنيفا، ومدح الموفين بعهدهم إذا عاهدوا.. وأكد الله " سبحانه " على حفظ العهد والوفاء به، قال تعالى: * (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا) * والآية تشمل العهد الفردي، كما تشمل العهد الاجتماعي... لذلك أتى الكتاب العزيز في أدق موارده وأهونها نقضا بالمنع عن النقض بأصرح القول وأوضح البيان، قال تعالى: * (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين. وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله برئ من المشركين ورسوله..) * - سورة براءة / 1 - 3.. إلى أن قال: * (لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، وأولئك هم المعتدون) * براءة / 10، وقال: * (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم يهتدون) * براءة / 12. وجملة الأمر أن الاسلام يرى حرمة العهد ووجوب الوفاء به على الإطلاق، سواء انتفع به العاهد أو تضرر، بعدما أوثق الميثاق، فإن رعاية جانب العدل الاجتماعي ألزم وأوجب من رعاية أي نفع خاص إلا أن ينقض أحد المتعاهدين عهده، فللمتعاهد الآخر نقضه بمثل ما نقضه، والاعتداء عليه بمثل ما اعتدى عليه) (1). وقد وردت في شأن الوفاء جملة من الأحاديث الشريفة، منها: قول النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم): من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر، فليف إذا وعد) (2). وقوله " صلى الله عليه وآله ": أقربكم غدا
1 - تفسير الميزان / للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي 5: 158 - 160. 2 - تحف العقول: 38. 302 مني في الموقف أصدقكم للحديث، وأداكم للأمانة، وأوفاكم بالعهد، و أحسنكم خلقا، وأقربكم من الناس) (1). وقول الإمام علي (صلوات الله عليه): الوفاء حفظ الذمام. الوفاء حلية العقل، وعنوان النبل. الوفاء وفور الدين، وقوة الأمانة. نعم قرين الصدق الوفاء. أشرف الخلائق الوفاء) (2). وقول الإمام الصادق (عليه السلام): ثلاثة لا عذر لأحد فيها: أداء الأمانة إلى البر والفاجر، والوفاء للبر والفاجر، وبر الوالدين برين كانا أو فاجرين) (3). والإمام الحسين " عليه السلام " كجده المصطفى، وأبيه المرتضى (صلوات الله عليهما وآلهما) كان شديد الوفاء بالعهود، فالنبي (صلى الله عليه و آله) وفى لليهود حين عاهدهم حتى نقضوا عهده فحاربهم وأجلاهم بعد واقعة الخندق حيث أغرى زعيم بني قريظة " كعب بن أسد " " حي بن أخطب " وإخوانه اليهود بنقض العهد مع النبي (صلى الله عليه وآله)، فيقول بعد ذلك: لا عهد بيننا وبينكم ولا عقد. وكذلك غدر بنو النصير وقينقاع، فأجلاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في واقعة خيبر، وكان أقدر عليهم قبل غدرهم إلا أنه (صلى الله عليه وآله) أوفى الناس مع الناس، فلما غدروا به أدبهم، ولم يكن راغبا أن يبدأهم بقتال. وبهذا عرف أمير المؤمنين (سلام الله عليه)، مثال ذلك ما جرى في معركة الجمل... قال عبد الله بن عباس:
1 - أمالي الطوسي 1: 233. 2 - غرر الحكم. 3 - الخصال: 66. 303 فانصرفت إلى عائشة وهي في هودج وقد دفف بالدروع على جملها " عسكر "، وكعب بن شور القاضي أخذ بخطامه وحولها الأزد وضبة، فلما رأتني قالت: ما الذي جاء بك يا ابن عباس؟ والله لا سمعت منك شيئا، ارجع إلى صاحبك (تعني عليا " عليه السلام ") وقل له: ما بيننا وبينك إلا السيف. وصاح من حولها: ارجع يا ابن عباس لئلا يسفك دمك. قال ابن عباس: فرجعت إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فأخبرته الخبر وقلت: ما تنتظر؟، والله لا يعطيك القوم إلا السيف، فاحمل عليهم قبل أن يحملوا عليك. فقال " عليه السلام ": نستظهر بالله عليهم. قال ابن عباس: فوالله ما رمت من مكاني حتى طلع علي نشابهم كأنه جراد منتشر، فقلت: ما ترى يا أمير المؤمنين إلى ما يصنع القوم؟ مرنا ندفعهم، فقال: حتى أعذر إليهم ثانية. ثم قال: من يأخذ هذا المصحف فيدعوهم إليه وهو مقتول، وأنا ضامن له على الله الجنة...) (1). والحسين (عليه السلام) هو شبل ذلك الأسد علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وفرع تلك الشجرة النبوية، والدوحة الهاشمية، خلقه خلقهم.. دليل ذلك تشابه المواقف: - حين التقى جيش " الحر " في قرى الطف بجيش الحسين (عليه السلام)، قرأ الحر الكتاب على الحسين، فقال له " عليه السلام ": دعنا ننزل نينوى أو الغاضريات أو شفية، فقال الحر: لا أستطيع، فإن الرجل عين علي (2).
1 - (الجمل)، أو (النصرة، في حرب البصرة) / للشيخ المفيد: 181. 2 - الإرشاد / للشيخ المفيد. 304 قال زهير بن القين: يا ابن رسول الله! إن قتال هؤلاء أهون علينا من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمري ليأتينا ما لا قبل لنا به، فقال له الحسين " عليه السلام ": ما كنت أبدأهم بقتال) (1). ويوم عاشوراء.. وكان الإمام الحسين " عليه السلام " قد أمر بحفر خندق خلف الخيام، وإضرام النار فيه لتتوحد جبهة الحرب، وتضمن سلامة الخيام. فأقبل أعداء الله يجولون حول الخيام فيرون النار تضطرم في الخندق، فنادى شمر بن ذي الجوشن بأعلى صوته: يا حسين! تعجلت بالنار قبل يوم القيامة! فقال الحسين " عليه السلام ": من هذا؟ كأنه شمر بن ذي الجوشن! قيل: نعم، فقال " عليه السلام ": يا ابن راعية المعزى (2)! أنت أولى بها مني صليا. ورام (مسلم بن عوسجة) " رضوان الله عليه " أن يرميه بسهم فمنعه الحسين " عليه السلام " وقال: أكره أن أبدأهم بقتال) (3). إنه الحسين.. سبط المصطفى، وشبل المرتضى، ورضيع الزهراء، وسليل الوفاء، فما كان من عادته أن يغدر - حاشاه -، ولا أن يهم بانتقام إلا أن يضطر إلى دفاع عن حرمة. وإنما الذي غدر هو خصمه، فذاك معاوية أبرم صلحا مع الإمام الحسن (عليه السلام)، ثم ما لبث قليلا حتى وقف على منبر الكوفة ليقول: ألا إن كل مال أو دم أصيب في هذه الفتنة فمطلول، وكل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين) (4). إلى غير ذلك من غدره بالصحابة الصالحين، وخيانته للإسلام و
1 - المنتخب / للطريحي: 308. 2 - كأنها إشارة إلى من جاءت به وهي ترعى المعزى. 3 - تاريخ الطبري 6: 242، والإرشاد. 4 - شرح نهج البلاغة / لابن أبي الحديد 16: 15. 305 المسلمين، ثم جاء بعده ابنه المشهور بفسقه ليواصل الفتك والغدر والخيانة، فلم يترك حرمة لهذا الدين ولا لهذه الأمة إلا هتكها، لأنه ملك، جاء كأبيه معاوية ليتأمر، وقد سمع أهل الكوفة معاوية يقول لهم من على المنبر:.. وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون، ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم وعلى رقابكم..) (1). وهل ينتظر ممن جاء بالسيف والإرهاب والغدر ليملك وليتسلط ويصبح ملكا أن يخلص ويفي؟! وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أقل الناس وفاء الملوك) (2)، وهل يفي من خان وغدر ليصل إلى مركز يستعلي فيه على الناس كمعاوية ويزيد؟! إنهما أشربوا الغدر؟! وما أدراك ما الغدر؟ إنه مجانب للإيمان، مخالف للتقوى، مفصح عن سوء الطبع ودناءة الخلق.. * عن الإمام علي (عليه السلام)، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال له فيما عهد إليه: وإياك والغدر بعهد الله والإخفار لذمته، فإن الله جعل عهده وذمته أمانا أمضاه بين العباد برحمته. والصبر على ضيق ترجو انفراجه خير من غدر تخاف أوزاره وتبعاته، وسوء عاقبته) (3). * وقال الإمام علي " عليه السلام ": إياك والغدر، فإنه أقبح الخيانة. إن الغدور لمهان عند الله بغدره) (4)، وقال " سلام الله عليه ": الغدر شيمة
1 - نفسه. 2 - بحار الأنوار 77: 112، عن أمالي الطوسي، وكنز الفوائد، ومعاني الأخبار، وغيرها من المصادر المعتبرة. 3 - مستدرك وسائل الشيعة / للميرزا حسين النوري 2: 250. 4 - غرر الحكم. 306 اللئام) (1)، وعنه " صلوات الله عليه ": الغدر بكل أحد قبيح، وهو بذي القدرة والسلطان أقبح) (2). * وجاء عن مولانا الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: لا ينبغي للمسلمين أن يغدروا، ولا يأمروا بالغدر، ولا يقاتلوا مع الذين غدروا..) (3). وقد غدر أهل الكوفة من بعد أن راسلوا الإمام الحسين " عليه السلام " ونكثوا عهودهم معه، ثم أمروا بالغدر وقاتلوا مع الغدرة، وكان (سلام الله عليه) قد أجابهم على رسائلهم - وهي آلاف - بأجوبة عديدة، منها: كتابه إلى أهل الكوفة بشأن مسلم بن عقيل " عليه السلام "، وهو: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين. أما بعد: فإن هانئا وسعيدا قدما علي بكتبكم، وكان آخر من قدم علي من رسلكم، وقد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جلكم أنه ليس علينا إمام، فأقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق والهدى، و إني باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، فإن كتب إلي أنه قد اجتمع رأي ملأكم، وذوي الحجى والفضل منكم، على مثل ما قدمت به رسلكم، وقرأت في كتبكم، فإني أقدم إليكم وشيكا إن شاء الله. فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحق، الحابس نفسه على ذات الله، والسلام) (4). فإذا وصل مسلم بن عقيل إلى الكوفة استقبله أهلها أحسن استقبال وهو
1 - نفسه. 2 - نفسه. 3 - وسائل الشيعة / للحر العاملي 11: 51. 4 - الإرشاد: 210. 307 يقرأ عليهم كتاب الحسين (عليه السلام) فيبكون، ويسارعون إلى مبايعته للحسين " عليه السلام ". حتى بلغ سجل المبايعين ثمانية عشر ألفا، وقيل: بايعه ثلاثون ألفا (1). وقد كتب مسلم ذلك إلى الحسين (عليه السلام). وصلت الآلاف خلفه.. وما هي إلا سويعات حتى تفرق الناس حينما سمعوا بقدوم " عبيد الله بن زياد "، فإذا بمسلم وحيدا يتلدد في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب، وإن هي إلا ليلة ويقتل غدرا في قصة حكت البطولة والفجيعة معا. وأما الكتاب الآخر إلى أهل الكوفة فقد بعثه الإمام الحسين (عليه السلام) مع قيس بن مسهر الصيداوي (رضوان الله تعالى عليه)، وهو: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى إخوانه المؤمنين المسلمين. سلام عليكم، فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم، واجتماع ملأكم على نصرنا، و الطلب بحقنا، فسألت الله أن يحسن لنا الصنع، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر. وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة [يوم التروية]، فإذا قدم عليكم رسولي فاكتموا أمركم وجدوا، فإني قادم عليكم في أيامي هذه إن شاء الله تعالى، والسلام) (2). ولم يقابل الإمام الحسين " عليه السلام " حالة الغدر بالانزواء أو الغدر، بل أقبل شجاعا شهما أشم يقطع الصحارى والفيافي إلى كربلاء، في مسيرة الإخلاص لله تعالى، والوفاء مع الناس حيث عاهدهم على المجئ، ليقطع الأعذار الكاذبة، ويسحق حالات الخنوع والضعف والغدر والخيانة، وليثبت القيم الإسلامية بدمائه الزاكية، ودماء أهل بيته الأطهار، وصحابته الأبرار، ولئلا
1 - تاريخ ابن الوردي 1: 230. 2 - الحسين / لعلي جلال 1: 196. 308 يقول أحد: خذلنا ولم يأت إلينا من دعوناه، وتخلف عن إغاثتنا ونجدتنا إمامنا. فقد جاء إليهم، وقدم عليهم، وفيا بعهوده وإنما الذي غدر وخذل و تخلف وخان هم، فقد كتبوا إليه، ثم انقلبوا عليه، ينكرون ما أرسلوه إليه وهو يحمل رسائلهم في الخرج، ويشهرون سيوفهم عليه وكان ينبغي أن تنحاز إليه على عدوهم " يزيد ". وقد ذكرهم مرارا، وأوخز ضمائرهم علهم يتراجعون عن غيهم وغدرهم. ففي (البيضة) خطب الحسين (عليه السلام) أصحاب الحر، فقال ضمن خطبته:.. ألا وأن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفئ، وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله، وأنا أحق ممن غير. وقد أتتني كتبكم، وقدمت علي رسلكم ببيعتكم أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن أتممتم علي بيعتكم تصيبوا رشدكم. فأنا الحسين بن علي، وابن فاطمة بنت رسول الله، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، ولكم في أسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم، وخلعتم بيعتي من أعناقكم، فلعمري ما هي لكم بنكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم. فالمغرور من اغتر بكم، فحظكم أخطأتم، ونصيبكم ضيعتم، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه، وسيغني الله عنكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته) (1). ولم يغتر الإمام الحسين (عليه السلام) بأهل الكوفة، وكيف يغتر وقد غدروا قبل ذلك بأبيه، وأخيه، وابن عمه مسلم بن عقيل، لكنه كان قادما على الشهادة التي بها حياة الدين، وعازما على إحياء القيم والأخلاق والمبادئ
1 - تاريخ الطبري 6: 229، والكامل 4: 21. 309 الإسلامية بالدماء، وهو الذي أعلن عن مقتله قبل أن يتحرك من المدينة، وعن قصة الغدر التي ستكون.. في قصر بني مقاتل.. حين استقر المجلس بالحسين " عليه السلام "، حمد الله وأثنى عليه وقال لابن الحر: يا بن الحر! إن أهل مصركم كتبوا إلي أنهم مجتمعون على نصرتي، وسألوني القدوم عليهم، وليس الأمر على ما زعموا..) (1). ويوم العاشر من المحرم، خطب الإمام الحسين (عليه السلام).. ثم نادى: يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا زيد بن الحارث! ألم تكتبوا إلي أن أقدم، قد أينعت الثمار، واخضر الجناب، و إنما تقدم على جند لك مجندة؟! فقالوا: لم نفعل، قال: سبحان الله، بلى والله لقد فعلتم..) (2). وخطب خطبة ثانية، سألهم فيها عما أقدمهم على قتله، فقالوا: طاعة للأمير عبيد الله بن زياد، فقال (عليه السلام): - تبا لكم أيتها الجماعة وترحا، أحين استصرختمونا والهين، فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفا لنا في أيمانكم، وحششتم علينا نارا اقتدحناها على عدونا وعدوكم، فأصبحتم البا لأعدائكم على أوليائكم، بغير عدل أفشوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم. فهلا لكم الويلات! تركتمونا والسيف مشيم، والجأش طامن، والرأي لما يستحصف، ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدبا، وتداعيتم عليها كتهافت الفراش، ثم نقضتموها. فسحقا لكم يا عبيد الأمة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ومحرفي الكلم، وعصبة
1 - نفس المهموم: 104. 2 - تاريخ الطبري 6: 243. 310 الإثم، ونفثة الشيطان، ومطفئي السنن. ويحكم! أهؤلاء تعضدون، وعنا تتخاذلون؟! أجل والله غدر فيكم قديم، وشجت عليه أصولكم، وتأزرت فروعكم، فكنتم أخبث ثمرة، شجى للناظر، وأكلة للغاصب) (1). هكذا واجههم بشجاعة فريدة، فاضحا لحالهم، مثبتا حسن الوفاء وقبح الغدر، ودناءة الغادر.. فما كان منهم إلا أن هجموا عليه فقتل منهم خلقا، فعادوا عليه يستشعرون الضعة والصغار في أنفسهم، فشفعوا غدرتهم تلك بغدرة أخرى حين سددوا إليه السهام من بعيد، ورموه بالحجارة من بعيد، فأصابت منه مواضع في بدنه الشريف جعلته يقع إلى الأرض بعد جهد جهيد من قتال مرير، وعطش شديد، ونزف لم ينقطع أعياه. فإذا سقط عادت إلى نفوس القوم قوة غدرهم فاقتربوا منه " عليه السلام " وأحاطوا به، وقد مكث طويلا من النهار ولو شاء أن يقتلوه لفعلوا، ولكنهم كان يتقي بعضهم ببعض، ويحب هؤلاء أن يكفيهم هؤلاء، فنادى شمر في الناس: ويحكم ما تنتظرون بالرجل؟! اقتلوه. فضربه ذرعة بن شريك على كتفه (أو على يده اليسرى)، وضربه آخر على عاتقه، وطعنه سنان بن أنس بالرمح، ثم انتزعه فطعنه في بواني صدره، ثم رماه سنان أيضا بسهم فوقع في نحره، فنزع " عليه السلام " السهم من نحره وقرن كفيه جميعا، فكلما امتلأتا من دمائه خضب بهما رأسه ولحيته وهو يقول: هكذا ألقى الله مخضبا بدمي، مغصوبا على حقي. فقال عمر بن سعد لرجل عن يمينه: انزل ويحك إلى الحسين فأرحه. فبدر إليه خولي ابن يزيد الأصبحي ليحتز رأسه فأرعد، فنزل إليه سنان بن أنس النخعي فضرب بالسيف حلقه الشريف... حتى قتلوه.
1 - اللهوف: 54، وتاريخ دمشق / لابن عساكر 4: 333، ومقتل الحسين (ع) / للخوارزمي 2: 6. 311 جاء عن الإمام المهدي " عجل الله تعالى فرجه " في زيارته لجده الإمام الحسين " عليه السلام " المسماة ب " زيارة الناحية المقدسة ": - السلام على الحسين الذي سمحت نفسه بمهجته، السلام على من أطاع الله في سره وعلانيته... السلام على الشيب الخضيب، السلام على الخد التريب، السلام على البدن السليب، السلام على الثغر المقروع، السلام على الرأس المرفوع...) إلى أن يقول: - والشمر جالس على صدرك، مولع سيفه في نحرك، قابض على شيبتك بيده، ذابح لك بمهنده، قد سكنت حواسك، وخفيت أنفاسك، ورفع على القنا رأسك..]. لم أنسه والشمر من فوق صدره * يهشم صدرا وهو للعلم مجمع ولم أنس مظلوما ذبيحا من القفا * وقد كان نور الله في الأرض يسطع يقبله الهادي النبي بنحره * وموضع تقبيل النبي يقطع آه.. آه على أهل العلم والحجى، والنبل والوفا، آه آه: نعى الروح جبريل بأن ذوي الغدر * أراقوا دم الموفين لله بالنذر نعى ذات قدس يعلم الله أنها * منزهة الأفعال في السر والجهر نعى ساجدا صلت إلى الله روحه * قضى رأسه المرفوع من سجدة الشكر نعى شاكرا نال الشهادة صابرا * وقد يجتنى شهد العواقب بالصبر (1)
1 - هذه المشاهد والأشعار نقلناها من كتاب (اللهوف) ص 54، و (العيون العبرى) ص 185 إلى ص 189 . 312 الفضائل الحسينية
313 الفضائل الحسينية في شخصية الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) تجلت جميع المعاني الشريفة، والقيم الرفيعة، والصور الانسانية النبيلة، فأصبح (سلام الله عليه) مظهر الفضائل، وعنوان الخصال الطيبة التي ترتاح لها النفوس السوية، والفطر السليمة، والقلوب المحبة للخير، والضمائر الحية، والعقول الباصرة. ولقد وقف التاريخ للإمام الحسين (عليه السلام) إجلالا وإكبارا وإعظاما، ونظر إليه - وما زال - نظرات الإعجاب والتوقير والإكرام، إذ شهد له أنه كان الفريد بين الخلق في سماته، وفي ملكاته، فهابه الأشراف، واحتارت الألسن أن تذكر ما عنده من كرائم الأوصاف. إنه الحسين.. موضع عناية الباري، ليصبح للعالم قدوة تنجذب إليها كل نفس تتوق إلى الفضيلة، ويتأسى بها كل من رام الحق والعدل والشرف. إنه الحسين.. الذي ملأ الآفاق بالحسرات عليه، والشوق إليه، حيث هو محل معرفة الله، ومسكن بركة الله، ظلم فعظمت رزيته، فخلف عليه عبر التاريخ وعلى امتداد الزمن آهات لا تنقطع، ودموعا من عين كل عارف بشأنه متفجع. ولكي نزداد معرفة، ونزداد بركة، بالإمام الحسين (صلوات الله عليه) دعونا نقف عند النصوص التي ذكرته، نبتدئ بأشرفها وهي: آيات الكتاب
315 الحكيم. 1 - قال الله الرحيم، في محكم تنزيله الكريم: " إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا " سورة الأحزاب / الآية 33. والآية وثيقة إلهية، وشهادة علوية، تثبت وسام المقام السامي، الذي يحظى به أهل البيت " سلام الله عليهم أجمعين "، ومنهم الإمام الحسين " عليه أفضل الصلاة والسلام ". إذ الآية الكريمة - كما ذكر أهل الصحاح - في مقام دعاء النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله) بعد أن جلل عليا وفاطمة والحسن والحسين " عليهم السلام " بكسائه، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. يراجع في ذلك: صحيح مسلم (فضائل الصحابة)، وصحيح الترمذي (الجزء الثاني)، ومسند أحمد بن حنبل، ومستدرك الصحيحين، ومجمع البيان، وغيرها من كتب التفسير والحديث والسيرة. وقال " تبارك وتعالى ": " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم، ونساءنا ونساءكم، وأنفسنا وأنفسكم، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ". سورة آل عمران / الآية 61. وقد أجمع أهل التفسير، ومنهم: الزمخشري في (الكشاف)، والفخر الرازي في (التفسير الكبير)، والسيوطي في (الدر المنثور).. وأهل الحديث، و منهم: مسلم في (الصحيح)، وأحمد بن حنبل في (المسند)، والترمذي في (السنن)، وغيرهم، أجمعوا على أن الآية الكريمة نزلت بعد اتفاق لنصارى نجران مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يبتهلوا إلى الله تعالى ليهلك من كان
316 في دعوته على الباطل. وفي يوم الموعد خرج النبي (صلى الله عليه وآله) للمباهلة محتضنا الحسين، آخذا بيد الحسن، وابنته فاطمة تسير خلفه، وعلي يمشي خلفهم، وهو (صلى الله عليه وآله) يقول: إذا دعوت فأمنوا. فما أن رأى نصارى نجران تلك الوجوه البهية حتى اعتذروا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن المباهلة (وهي لعن الكاذب، بعد أن دعاهم النبي الأكرم " صلى الله عليه وآله وسلم " إلى الشهادتين، وأن عيسى " عليه السلام " عبد مخلوق يأكل ويشرب ويحدث، فأبوا، فقال " صلى الله عليه وآله ": فليحضر كل منا ومنكم نفسه وأعزة أهله فندعوا على الكاذب من الفريقين). وأخيرا زحف الخوف إلى نفوس النصارى وانسحبوا عن المباهلة راضين بالجزية، منصرفين بالخزي والخيبة، معتقدين أن الخمسة المباهلين هم أولياء الله. 3 - وقال (عز من قائل): " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ". سورة الشورى / الآية 23. جاء في مسند أحمد بن حنبل، وصحيح البخاري، وصحيح مسلم، وتفسير الثعالبي، وتفسير الطبرسي، عن ابن عباس (رحمه الله) أنه قال: - لما نزل قوله تعالى " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " قالوا: يا رسول الله! من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم، قال (صلوات الله و سلامه عليه وآله): علي وفاطمة وابناهما. وفي أسباب النزول، عن أبي عبد الله (الصادق) " عليه السلام " قال في حديث طويل: فلما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من حجة الوداع، وقدم المدينة، أتته الأنصار فقالوا: يا رسول الله! إن الله (جل ذكره) قد أحسن إلينا و
317 شرفنا بك وبنزولك بين ظهرانينا، فقد فرح الله صديقنا وكبت عدونا (أي أذله وأخزاه)، وقد تأتيك وفود فلا تجد ما تعطيهم فيشمت بك العدو، فنحب أن تأخذ ثلث أموالنا حتى إذا قدم عليك وفد مكة وجدت ما تعطيهم. فلم يرد رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليهم شيئا وكان ينتظر ما يأتيه من ربه، فنزل جبرئيل " عليه السلام " وقال: " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى "، ولم يقبل أموالهم]. تفسير نور الثقلين / للمحدث الشيخ الحويزي ج 4 - ص 573 / الحديث 73. وأما أحاديث النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في شأن الإمام الحسين (عليه السلام) فهي وافرة وفيرة لا يجمعها كتاب واحد، وقد أفردت لها فصول عديدة، بل كتب مفصلة. ونحن إذ يفوتنا الكثير، لا نعذر أنفسنا عن ذكر اليسير، فما لا يدرك كله، لا يترك كله. قال (صلى الله عليه وآله): حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا، حسين سبط من الأسباط). صحيح الترمذي / ج 2 ص 307، وصحيح ابن ماجة / باب فضائل أصحاب رسول الله (ص)، ومسند أحمد بن حنبل / ج 4 ص 172 وأسد الغابة / لابن الأثير / ج 2 ص 19، وكنز العمال / ج 7 ص 107 - وغيرها. وقال (صلى الله عليه وآله): إن ابني هذا يقتل بأرض من أرض العراق، فمن أدركه فلينصره). أسد الغابة / ج 1 ص 123، و ج 1 ص 249، والإصابة / لابن حجر - ج 1 ص 68، وكنز العمال / ج 6 ص 223، والمحب الطبري في ذخائر العقبى - ص 146 وغيرها. وعن أبي هريرة قال: نظر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى علي والحسن والحسين وفاطمة (عليهم السلام) فقال: أنا حرب لمن حاربكم، و سلم لمن سالمكم). مسند ابن حنبل / ج 2 ص 442. وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله
318 وسلم): الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة). صحيح الترمذي / ج 2 ص 306، و ج 2 ص 307، ومسند ابن حنبل / ج 3 ص 64، وصحيح ابن ماجة - باب فضائل أصحاب رسول الله (ص)، ومستدرك الصحيحين / ج 3 ص 167، وحلية الأولياء / لأبي نعيم - ج 4 ص 139، وتاريخ بغداد / للخطيب البغدادي - ج 1 ص 140، والإصابة / ج 1 ص 266، و كنز العمال / ج 6 ص 221. وغيرها كثير. وقال النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله): لما استقر أهل الجنة، قالت الجنة: يا رب! أليس وعدتني أن تزينني بركنين من أركانك؟، قال: ألم أزينك بالحسن والحسين؟! فماست الجنة ميسا كما تميس العروس). تاريخ بغداد / ج 2 ص 238، وكنز العمال / ج 6 ص 221، وغيرهما. وعن سلمان المحمدي قال: دخلت على النبي (صلى الله عليه وآله) وإذا الحسين على فخذه وهو يقبل عينيه، ويلثم فاه ويقول: إنك سيد ابن سيد أبو سادة، إنك إمام ابن إمام أبو أئمة، إنك حجة ابن حجة أبو حجج تسعة من صلبك، تاسعهم قائمهم). مقتل الحسين (عليه السلام) / للخوارزمي - ج 1 ص 146. وعن أبي هريرة قال: خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) ومعه الحسن والحسين، هذا على عاتقه وهذا على عاتقه، وهو يلثم هذا مرة وهذا مرة، حتى انتهى إلينا، فقال له رجل: يا رسول الله! إنك تحبهما؟ فقال: نعم، من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني). مستدرك الصحيحين / ج 3 ص 166، وغيره. وقال النبي الهادي (صلى الله عليه وآله): لكل أمة سبط، وسبط هذه الأمة: الحسن والحسين). كنز العمال / ج 2 ص 88. وقال (صلى الله عليه وآله) لابنته فاطمة (عليها السلام):.. ومنا سبطا هذه الأمة: الحسن والحسين وهما ابناك، ومنا المهدي). مرقاة المفاتيح / لعلي بن
319 سلطان - ج 5 ص 602، وأخرجه الطبراني في معجمه، وذكره المحب الطبري أيضا في ذخائر العقبى / ص 44. وعن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ليلة عرج بي إلى السماء رأيت على باب الجنة مكتوبا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي حب الله، والحسن والحسين صفوة الله، فاطمة خيرة الله، على باغضهم لعنة الله]. تاريخ بغداد / ج 1 ص 259 - والحب هو المحبوب. وعن ابن عباس قال: قدم يهودي يقال له " نعثل "، فقال: يا محمد! أسألك عن أشياء تتلجلج في صدري منذ حين، فإن أجبتني عنها أسلمت على يديك.. أخبرني عن وصيك من هو؟ فما من نبي إلا وله وصي، وإن نبينا موسى بن عمران وصيه يوشع بن نون، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): إن وصيي علي بن أبي طالب، وبعده سبطاي الحسن والحسين، تتلوه تسعة أئمة من صلب الحسين. قال: يا محمد! فسمها لي، قال: فإذا مضى الحسين فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه محمد، فإذا مضى محمد فابنه جعفر، فإذا مضى جعفر فابنه موسى، فإذا مضى موسى فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه محمد، فذا مضى محمد فابنه علي، فإذا مضى علي فابنه الحسن، فإذا مضى الحسن فابنه الحجة المهدي). ينابيع المودة / للشيخ القندوزي الحنفي - باب 76 - ج 2 ص 440 طبع سنة 1302، نقلا عنه الحمويني في (فرائد السمطين). وإكمال الدين وإتمام النعمة / للشيخ الصدوق (ره) ص 252. وعن جابر بن عبد الله الأنصاري (رضي الله عنه) قال: دخل جندل بن جبير اليهودي على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسأل عن أشياء فأجابه النبي، ثم قال: أخبرني عن أوصيائك من بعدك لأتمسك بهم. قال: أوصيائي اثنا
320 عشر، قال جندل: هكذا وجدناهم في التوراة، يا رسول الله! سمهم لي، فقال: أولهم سيد الأوصياء أبو الأئمة علي، ثم ابناه الحسن والحسين، فاستمسك بهم ولا يغرنك جهل الجاهلين، فإذا ولد علي بن الحسين زين العابدين يقضي الله عليك ويكون آخر زادك من الدنيا شربة لبن تشربه. فقال جندل: وجدنا في التوراة وفي كتب الأنبياء إيليا وشبرا وشبيرا، فهذا اسم علي والحسن والحسين، فمن بعد الحسين، وما اسمهم؟، فقال (صلى الله عليه وآله) له: إذا انقضت مدة الحسين فالإمام ابنه علي ويلقب بزين العابدين، فبعده ابنه محمد ويلقب بالباقر، فبعده ابنه جعفر يدعى بالصادق، فبعده ابنه موسى يدعى بالكاظم، فبعده ابنه علي يدعى بالرضا، فبعده محمد يدعى بالتقي و الزكي، فبعده ابنه علي يدعى بالنقي والهادي، فبعده ابنه الحسن يدعى بالعسكري، فبعده ابنه محمد يدعى بالمهدي، والقائم والحجة، فيغيب ثم يخرج، فإذا خرج يملأ الأرض قسطا وعدلا...]. كفاية الطالب / للكنجي الشافعي، عنه (ينابيع المودة - باب 76 - ص 443. عن المناقب، عن واثلة بن الأصقع بن قرحاب). وعن ابن عباس قال: كنت عند النبي (صلى الله عليه وآله) وعلى فخذه الأيسر ابنه إبراهيم، وعلى فخذه الأيمن الحسين بن علي، تارة يقبل هذا، وتارة يقبل هذا، إذ هبط عليه جبرئيل " عليه السلام " بوحي من رب العالمين، فلما سرى عنه قال: أتاني جبريل من ربي، فقال لي: يا محمد! إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: لست أجمعهما لك، فافد أحدهما بصاحبه. فنظر النبي (صلى الله عليه وآله) فبكى، ونظر إلى الحسين فبكى، ثم قال: إن إبراهيم أمه أمة، ومتى مات لم يحزن عليه غيري، وأم الحسين فاطمة وأبوه علي ابن عمي لحمي ودمي، ومتى مات حزنت ابنتي وحزن ابن عمي وحزنت أنا عليه، وأنا أؤثر حزني على حزنهما. يا جبريل! تقبض إبراهيم، فديته
321 بإبراهيم. قال: فقبض بعد ثلاث، فكان النبي (صلى الله عليه وآله) إذا رأى الحسين مقبلا قبله، وضمه إلى صدره ورشف ثناياه، وقال: فديت من فديته بابني إبراهيم). تاريخ بغداد / ج 2 ص 204. وعن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: حضرت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند وفاته وهو يجود بنفسه، وقد ضم الحسين إلى صدره وهو يقول: هذا من أطائب أرومتي، وأبرار عترتي، وخيار ذريتي، لا بارك الله فيمن لم يحفظه من بعدي. قال ابن عباس: ثم أغمي على رسول الله ساعة، ثم أفاق، فقال: يا حسين! إن لي ولقاتلك يوم القيامة مقاما بين يدي ربي و خصومة، وقد طابت نفسي إذ جعلني الله خصما لمن قاتلك يوم القيامة). مقتل الحسين (عليه السلام) للخوارزمي ج 1 ص 176. وهذه الأحاديث الشريفة - على قلة ما أوردنا - هي مفصحة عن قدر الإمام الحسين (عليه السلام) ومقامه السامي ومنزلته الرفيعة وشأنه الجليل عند الله (جل ذكره)، وعند سيد الرسل (صلى الله عليه وآله). ولا نقول بعد ذلك إلا: أن الإمام الحسين (سلام الله عليه) هو مجمع الفضائل، وقد فاز من أحبه، وسعد من والاه، وهلك من عاداه، وخاب من جحده وحاربه وأبغضه، وضل من فارقه وخالفه. ومن أراد الاطمئنان إلى صحة ذلك فنحن نصحبه إلى صحابة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، و من جاء بعدهم، نجالسهم ونستمع إليهم وهم يحدثوننا عما ارتأوا. قال عمر بن الخطاب للإمام الحسين (عليه السلام): إنما أنبت ما ترى في رؤوسنا الله، ثم أنتم). تاريخ بغداد / ج 1 ص 141 وذكره الهندي في كنز العمال / ج 7 ص 105، وقال: أخرجه ابن سعد، وابن راهويه وذكره ابن حجر في الصواعق المحرقة / ص 107 ولكن قال: قال عمر: وهل أنبت الشعر في الرأس بعد الله إلا أنتم؟! قال:
322 وفي رواية قال عمر: إذا جئت فلا تستأذن. أخرجه الدارقطني. وروى ذلك أحمد بن حنبل في مسنده بهذه الصيغة: وعن عبيد بن حنين، عن حسين بن علي (عليه السلام) قال: صعدت إلى عمر وهو على المنبر، فقلت: انزل عن منبر أبي واذهب إلى منبر أبيك، فقال: من علمك هذا؟ قلت: ما علمنيه أحد، فقال: منبر أبيك والله، وهل أنبت على رؤوسنا الشعر إلا أنتم). وذكره محمد بن سعد في كتابه وطرقه محدث الشام بطرق شتى، وأورده ابن حجر في الإصابة - ج 1 ص 333 بهذا النص: قال عمر بن الخطاب للحسين (عليه السلام): فإنما أنبت ما ترى في رؤوسنا الله، ثم أنتم). وقال: سنده صحيح. ثم روى على الصفحة ذاتها بإسناده عن العيزاب بن حرب: بينا عبد الله بن عمر جالس في ظل الكعبة إذ رأى الحسين مقبلا، فقال: هذا أحب أهل الأرض إلى أهل السماء اليوم). وفي رواية ابن الأثير في أسد الغابة / ج 3 ص 234 قال ابن عمر: ألا أخبركم بأحب أهل الأرض إلى أهل السماء؟ قالوا: بلى، قال: هو هذا الماشي - مشيرا إلى الإمام الحسين (عليه السلام)]. ذكره الهندي في كنز العمال / ج 6 ص 86 وأخرجه ابن عساكر، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد / ج 9 ص 186، وأورده ابن حجر في الإصابة / ج 2 ص 15، وتهذيب التهذيب / ج 2 ص 346. وقال عثمان بن عفان في الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر (عليهم السلام): فطموا العلم فطما، وحازوا الخير والحكمة). الخصال / ص 136. وقال أبو هريرة: دخل الحسين بن علي - وهو معتم -، فظننت أن النبي قد بعث). بحار الأنوار / ج 44.
323 وروى الگنجي الشافعي بإسناده عن أبي المهزم قال: كنا مع جنازة امرأة ومعنا أبو هريرة، فجئ بجنازة رجل فجعله بينه وبين المرأة فصلى عليهما، فلما أقبلنا أعيا الحسين فقعد في الطريق، فجعل أبو هريرة ينفض التراب عن قدميه بطرف ثوبه، فقال الحسين (عليه السلام): يا أبا هريرة! وأنت تفعل هذا؟! فقال أبو هريرة: دعني، فوالله لو علم الناس منك ما أعلم لحملوك على رقابهم). كفاية الطالب / ص 425، وتاريخ ابن عساكر / ج 4 ص 322. وأخذ ابن عباس بركاب الحسن والحسين " عليهما السلام " فعوتب في ذلك، فقيل له: أنت أسن منهما. فقال: إن هذين ابنا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أفليس من سعادتي أن آخذ بركابهما). تاريخ ابن عساكر / ج 4 ص 322. وفي رواية أجاب المعترض: يا لكع! وما تدري من هذان؟ هذان ابنا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أو ليس مما أنعم الله علي به أن أمسك لهما وأسوي عليهما). (مناقب آل أبي طالب) ج 3 ص 400. وقال له معاوية بعد وفاة الحسن " عليه السلام ": يا ابن عباس! أصبحت سيد قومك، فقال: أما ما أبقى الله أبا عبد الله الحسين، فلا). حياة الإمام الحسين (عليه السلام) لباقر شريف القرشي / ج 2 ص 500. وقال معاوية لعبد الله بن جعفر: أنت سيد بني هاشم. فأجابه عبد الله: سيد بني هاشم حسن وحسين). (الحسن بن علي) لكامل سليمان / ص 173. وكتب عبد الله بن جعفر (رضوان الله تعالى عليه) إلى الإمام الحسين (عليه السلام): إن هلكت اليوم طفئ نور الاسلام، فإنك علم المهتدين، ورجاء المؤمنين). البداية والنهاية / لابن كثير - ج 8 ص 167. وسأل رجل عبد الله بن عمر عن دم البعوض، أي عن نجاسته، فقال عبد الله: ممن أنت؟ فقال: من أهل العراق، قال: انظروا إلى هذا يسألني عن دم
324 البعوض وقد قتلوا ابن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: هما ريحانتاي من الدنيا). صحيح البخاري / كتاب الأدب - باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، ورواه الترمذي في صحيحه / ج 2 ص 306، وأحمد بن حنبل في مسنده / ج 2 ص 85 و 93 و 114 و 153، وأبو نعيم في حلية الأولياء / ج 5 ص 70، والنسائي في خصائصه ص 37، وابن عساكر في تاريخه / ج 4 ص 314 وغيرهم. * وقال محمد بن الحنفية: إن الحسين أعلمنا علما، وأثقلنا حلما، و أقربنا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) رحما، كان إماما فقيها). بحار الأنوار ج 10 ص 140 الطبعة القديمة. * مر الحسين " عليه السلام " بعمرو بن العاص وهو جالس في ظل الكعبة، فقال عمرو: هذا أحب أهل الأرض إلى أهل الأرض وإلى أهل السماء اليوم). تاريخ ابن عساكر / ج 4 ص 322. * وقال عبد الله بن عمرو بن العاص - وقد مر عليه الحسين " عليه السلام " -: من أحب أن ينظر إلى أحب أهل الأرض إلى أهل السماء فلينظر إلى هذا المجتاز). بحار الأنوار / ج 10 ص 83 الطبعة القديمة. * وقال معاوية لابنه يزيد - وقد أشار عليه أن يكتب للحسين (عليه السلام) جوابا عن كتاب كتبه " عليه السلام " لمعاوية، وأن يصغر له نفسه، قال: وما عسيت أن أعيب حسينا، ووالله ما أرى للعيب فيه موضعا). أعيان الشيعة / للسيد محسن العاملي / ج 4 القسم الأول - ص 146. * وقال الوليد بن عتبة - والي المدينة - لمروان بن الحكم - لما أشار عليه مروان بقتل الحسين (عليه السلام) إذا لم يبايع يزيد -: والله يا مروان ما أحب أن لي الدنيا وما فيها وأني قتلت الحسين. سبحان الله! أقتل حسينا إن قال لا أبايع! والله إني لأظن أن من يقتل الحسين يكون خفيف الميزان يوم
325 القيامة). البداية والنهاية / لابن كثير - ج 8 ص 147. * وخطب يزيد بن مسعود النهشلي (رحمه الله) فقال: وهذا الحسين بن علي، ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ذو الشرف الأصيل، والرأي الأثيل، له فضل لا يوصف، وعلم لا ينزف، وهو أولى بهذا الأمر لسابقته وسنه وقدمه و قرابته.. يعطف على الصغير، ويحنو على الكبير.. فأكرم به راعي رعيه، وإمام قوم وجبت لله به الحجة، وبلغت به الموعظة). أعيان الشيعة / ج 4 القسم الأول - ص 195. * قال عبد الله بن الحر الجعفي: ما رأيت أحدا قط أحسن ولا أملأ للعين من الحسين). أعيان الشيعة / ج 4 القسم الأول - ص 118. * وقال الربيع بن خيثم لبعض من شهد قتل الحسين (عليه السلام): والله لقد قتلتم صفوة لو أدركهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) لقبل أفواههم، وأجلسهم في حجره). بحار الأنوار / ج 10 ص 79 الطبعة القديمة. * وقال إبراهيم النخعي: لو كنت فيمن قاتل الحسين ثم أدخل الجنة، لاستحييت أن أنظر إلى وجه رسول الله [صلى الله عليه وآله]). الإصابة، في معرفة الصحابة / لابن حجر / ج 1 ص 335. * وقال ابن سيرين: لم تبك السماء على أحد بعد يحيى بن زكريا إلا على الحسين (عليه السلام)، ولما قتل اسودت السماء، وظهرت الكواكب نهارا، حتى رؤيت الجوزاء عند العصر، وسقط التراب الأحمر، ومكثت السماء سبعة أيام بلياليها كأنها علقة). تاريخ ابن عساكر / ج 4 ص 339. * وقال " غاندي " زعيم الهند: تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوما فأنتصر). قول مشهور له.
326 * وقال الأستاذ علي جلال الحسيني: - السيد الزكي، الإمام أبو عبد الله الحسين (عليه السلام)، ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وريحانته، وابن أمير المؤمنين علي (كرم الله وجهه)، وشأن بيت النبوة له أشرف نسب، وأكمل نفس. جمع الفضائل و مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، من: علو الهمة، ومنتهى الشجاعة وأقصى غاية الجود، وأسرار العلم، وفصاحة اللسان، ونصرة الحق، والنهي عن المنكر، وجهاد الظلم، والتواضع عن عز، والعدل، والصبر، والحلم، والعفاف، و المروءة، والورع، وغيرها. واختص بسلامة الفطرة، وجمال الخلقة، ورجاحة العقل، وقوة الجسم، وأضاف إلى هذه المحامد كثرة العبادة وأفعال الخير: كالصلاة والحج، والجهاد في سبيل الله، والإحسان. وكان - إذا أقام بالمدينة أو غيرها - مفيدا بعلمه، مرشدا بعمله، مهذبا بكريم أخلاقه، ومؤدبا ببليغ بيانه، سخيا بماله، متواضعا للفقراء، معظما عند الخلفاء، موصلا للصدقة على الأيتام والمساكين، منتصفا للمظلومين، مشتغلا بعبادته، مشى من المدينة على قدميه إلى مكة حاجا خمسا وعشرين مرة.. الخ. وقال: كان الحسين في وقته علم المهتدين، ونور الأرض، فأخبار حياته فيها هدى للمسترشدين بأنوار محاسنه، المقتفين آثار فضله). كتاب (الحسين) / ج 1 ص 6. * وقال الأستاذ محمد رضا المصري: هو ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلم المهتدين، ورجاء المؤمنين). كتابه (الحسن والحسين سبطا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) ص 75. * وقال عمر رضا كحالة: الحسين بن علي، وهو سيد أهل العراق فقها
327 وحالا، وجودا وبذلا). كتابه (أعلام النساء) / ج 1 ص 28. * وقال الأستاذ عبد الله العلايلي: جاء في أخبار الحسين أنه كان صورة احتبكت ظلالها من أشكال جده العظيم، فأفاض النبي (صلى الله عليه وآله) عليه إشعاعة غامرة من حبه، وأشياء نفسه، ليتم له أيضا من وراء الصورة معناها فتكون حقيقة من بعد، كما كانت من قبل: إنسانية ارتقت إلى نبوة (وأنا من حسين)، ونبوة هبطت إلى إنسانية (حسين مني)، فسلام عليه يوم ولد). كتابه (تاريخ الحسين) أو (سمو الذات في سمو المعنى) / ص 226. * وقال الأستاذ عباس محمود العقاد: مثل للناس في حلة من النور تخشع لها الأبصار، وباء بالفخر الذي لا فخر مثله في تواريخ بني الانسان، غير مستثنى منهم عربي ولا عجمي، وقديم وحديث.. فليس في العالم أسرة أنجبت من الشهداء من أنجبتهم أسرة الحسين، عدة وقدرة وذكرة، وحسبه أنه وحده في تاريخ هذه الدنيا الشهيد ابن الشهيد أبو الشهداء في مئات السنين). كتاب (أبو الشهداء الحسين بن علي) / ص 230. * وقال الأستاذ عمر أبو النصر: هذه قصة أسرة من قريش.. حملت لواء التضحية والاستشهاد والبطولة من مشرق الأرض إلى مغربها.. قصة ألف فصولها شباب ما عاشوا كما عاش الناس، ولا ماتوا كما مات الناس، ذلك أن الله شرف هذه الجماعة من خلقه.. بأن جعل النبوة والوحي والإلهام في منازلها، وزاد ندى فلم يشأ لها حظ الرجل العادي من عباده، وإنما أرادها للتشريد و الاستشهاد، وأرادها للمثل العليا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، و كتب لها أن تتزعم لواء التقوى والصلاح إلى آخر ما يكون من ذريتها). كتابه (آل محمد في كربلاء) / ص 30. * وقال الأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود: عنوان النضال الحر، والجهاد
328 المستميت، والاستشهاد في سبيل المبدأ والعقيدة، وعدم الخضوع لجور السلطان، وبغي الحاكمين). (سبطا رسول الله الحسن والحسين) ص 188. * وقال الأستاذ محمد الباقر: إن سيرة البطل الشهيد الإمام الحسين بن علي جديرة بأن ينقشها العرب جميعا - على تنوع ميولهم ومذاهبهم - في أمواق أفئدتهم، ذلك لأن هذه السيرة إنما هي سيرة التضحية والعقيدة، سيرة العزة والكرامة). كتابه (الشهيد الخالد الحسين بن علي) / ص 6. * وقال الأستاذ أحمد حسن لطفي: إن الموت الذي كان ينشده فيها كان يمثل في نظره مثلا أروع من كل مثل الحياة، لأن الطريق إلى الله الذي منه المبتدأ وإليه المنتهى، ولأنه السبيل إلى الانتصار، وإلى الخلود. فأعظم بطل من ينتصر بالموت على الموت). كتابه (الشهيد الخالد الحسين بن علي) / ص 47. * وقال الأستاذ علي الشرقي: ما أجدر بثورة كثورة الحسين (عليه السلام) بأن توصف بالشمولية! فهي ثورة لكل انسان فوق هذا الكوكب، مسلما كان أو غير مسلم. وهذا بعض ما يجب أن يقال بحق الثورة التي كانت وستبقى الثورة المثالية والرائدة بلا منازع). مجلة الموقف البحرينية / العدد 262 - 5 فبراير 1979 م. * وقال الأستاذ أنطون بارا (الكاتب المسيحي): - الثورة التي فجرها الحسين بن علي، عليه وعلى أبيه أفضل السلام، في أعماق الصدور المؤمنة والضمائر الحرة، هي حكاية الحرية الموؤودة بسكين الظلم في كل زمان ومكان وجد بهما حاكم ظالم غشوم لا يقيم وزنا لحرية انسان، ولا يصون عهدا لقضية بشرية، وهي (أي ثورة الحسين) قضية الأحرار تحت أي عنوان انضووا، وخلف أية عقيدة ساروا...
329 - الحسين (عليه السلام) ثار من أجل الحق، والحق لكل الشعوب. والحسين (عليه السلام) ثار من أجل مرضاة الله، وما دام الله خالق الجميع، فكذلك ثورة الحسين لا تختص بأحد معين، بل هي لكل خلق الله. وفي قولة النبي الكريم: إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدا)، دلالة على شمولية ثورة الحسين، " عليه السلام "، فمقولة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم تقتصر على " المسلمين "، وإلا للفظها لسانه الكريم بهذا المعنى.. لكنه (ص) شمل كل المؤمنين قاطبة تحت أية عقيدة انضووا، وفوق أية بقعة فوق الأرض وجدوا، وخصهم بنصيب من هذه الحرارة السنية التي لا تبرد في قلوبهم لقتل الحسين. المظلومون والمضطهدون، والمقهورون والمروعون، من كل المذاهب والبقاع يتجهون في كل رغباتهم إلى جوهر ثورة الحسين " عليه السلام "، ففي اتجاههم الفطري ورود إلى منبع الكرامة والإنصاف، والعدل والأمان). من كتابه (الحسين في الفكر المسيحي) / ص 21 و ص 71. * وقال المطران الدكتور برتلماوس عجمي: من أجدر من الحسين (عليه السلام) لأن يكون تجسيدا للفداء في الاسلام؟! ومن أجدر من الفكر المسيحي لأن يفهم رموز ومعاني هذا الفداء - الركن الأول في المسيحية..؟! وبالتالي يحب من يتقدم إليه راضيا مرضيا، لوجه الله والحق الإلهي. فالحسين من وجهة نظر مسيحية هو شهيد للمسيحية كما للإسلام، وكما لغيرهما أيضا، لأن فداءه ذو أهداف إنسانية شمولية لا تختص بفرد دون آخر). من كتاب الأستاذ أنطون بارا (الحسين في الفكر المسيحي) / ص 357 و 358. * وقديما قال ذلك المسيحي المعجب: لو كان الحسين لنا لرفعنا له في كل بلد بيرقا، ولنصبنا له في كل قرية منبرا، ولدعونا الناس إلى المسيحية باسم
330 الحسين). من كتاب الأستاذ أنطون بارا (الحسين في الفكر المسيحي) / ص 72. أجل والله.. فالحسين مفخرة الدهر، وغرة جبين التاريخ، ومشعل الحرية، وكمال الشرف الإنساني، وعنوان كل فضيلة، يحق لكل مؤمن وحر، بل ينبغي، أن يرفع للحسين - مفتخرا - بيرقا أينما كان، وينصب له في كل قرية منبرا يصدع من عليه بيانات الثورة الحسينية أسوة كل الثورات. فالحسين القدوة الأجل، وثورته ثورة الحق الذي تتوق إليه الأمم، فيفتخر - ويحق له ذلك - كل من انتسب إلى الحسين بالسبب، وبالنسب، كما انتسب سلمان إلى البيت النبوي الشريف بالسبب، حينما قال رسول الانسانية (صلى الله عليه وآله): سلمان منا أهل البيت). لقد بلغ الإمام الحسين " عليه السلام " شأوا وشأنا عظيمين أخضع بهما رقاب المعاندين فأقروا له بالكمالات والفضائل، وأجبر بهما القلوب على مولاته إلا ما ران عليها، واستدرتا الألسنة بالمدح والإطراء عليه (سلام الله عليه) فقال من قال وهو في نشوة الحديث، وظن البعض أنه وفى بوصفه، وأنى له ذلك!.. لأن من رأى لم ير إلا قبسا من النور الإلهي الأقدس، الذي شد إليه العيون والألباب، الأعداء منهم والأحباب. يقول الشيخ التستري (طاب ثراه): - كتب مدحه عن يمين العرش أن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة، وقد مدحه تعالى في الأحاديث القدسية بمدائح منها ما في حديث وضع اليد، قال تعالى: بورك من مولود عليه صلواتي، ورحمتي وبركاتي. وقد وصفه بأنه: نور أوليائي، وحجتي على خلقي، والذخيرة للعصاة.. وقد مدحه رسول الله (ص) بمدائح عجيبة، منها أنه قال له يوما: مرحبا بك يا زين السماوات والأرض. فقال أبي بن كعب للنبي (ص): وهل غيرك زين
331 السماوات والأرض؟!، فقال: يا أبي، والذي بعثني بالحق نبيا، إن الحسين بن علي في السماوات أعظم مما في الأرض، وقد كتب الله في يمين العرش إن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة. ثم أخذ (ص) بيد (الحسين - ع -) وقال: أيها الناس! هذا الحسين بن علي فاعرفوه، وفضلوه كما فضله الله). إلى غير ذلك، وقد مدحه جميع الأنبياء والملائكة، وعباد الله الصالحين، لكن خصوصيته (ع) في الممدوحية أنه ممدوح الأولياء والأعداء، فقد اختص بمدح أعدائه له، مدحه معاوية في وصيته ليزيد، ومدحه عمر بن سعد في بعض أبياته، ومدحه قتلته حين وقفوا لمبارزته، وأشهدهم، ومدحه شمر قاتله حين قال له: كفو كريم، ليس القتل بيده عارا، ومدحه سنان حين اشتغل بقتله فقال: أقتلك اليوم ونفسي تعلم علما يقينا ليس فيه مكتم أن أباك خير من تكلم، ومدحه رافع رأسه حين جاء به إلى ابن زياد فقال: إملأ ركابي فضة أو ذهبا * إني قتلت السيد المحجبا قتلت خير الناس أما وأبا * وخيرهم إذ ينسبون نسبا وقد مدحه يزيد في مجلسه حين دخلت عليه (هند) زوجته في مجلس عام حاسرة فغطاها، فقال: اذهبي وأبكي وأعولي على الحسين صريخة قريش..). [الخصائص الحسينية] ص 24 و 25. نعم.. فكل من رآه أو سمع به تاقت نفسه إلى الثناء عليه، أو غفل عن لسانه حتى سمعه يثني عليه، ولكن كل من قال مادحا عاد إلى نفسه فوجد أنه عرف شيئا وغابت عنه أشياء، ولسان حاله يقول: ويا عجبا مني أحاول وصفه * وقد فنيت فيه القراطيس والصحف وذلك لأن الحسين " عليه السلام " أجل من أن يحاط به الوصف، يقول فيه أحد الشعراء:
332 تعاليت عن مدح فأبلغ خاطب * بمدحك بين الناس أقصر قاصر إذا طاف قوم في المشاعر والصفا * فقبرك ركني طائفا ومشاعري وإن ذخر الأقوام نسك عبادة * فحبك أوفى عدتي وذخائري أجل يا رب سنقدم عليك وليس لنا ما نستحق به الرحمة، إلا الولاء لأهل بيت الرحمة، فقد قرأنا وسمعنا أن حبيبك المصطفى (صلواتك عليه وعلى آله) أخذ يوما بيد الحسن والحسين فقال: من أحبني وأحب هذين وأباهما و أمهما كان معي في درجتي في الجنة يوم القيامة. (جامع الترمذي، والفضائل لابن حنبل، والفضائل للسمعاني، وأمالي ابن شريح، وغيرها). فنظم هذا المعنى أبو الحسين - كما في نظم الأخبار - فقال: أخذ النبي يد الحسين وصنوه * يوما وقال وصحبه في مجمع من ودني يا قوم أو هذين أو * أبويهما فالخلد مسكنه معي اللهم وفقنا لأن نرضي رسولك بحب آله أجرا للرسالة، وأنت الذي قلت له * (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) *. وقد قرأنا وسمعنا، ونقل لنا أسامة بن زيد قائلا: طرقت على النبي (صلى الله عليه وآله) ذات ليلة في بعض الحاجة فخرج إلي وهو مشتمل على شئ ما أدري ما هو. فلما فرغت من حاجتي قلت: ما هذا الذي أنت مشتمل عليه؟ فكشفه فإذا هو الحسن والحسين، على وركيه، فقال: هذان ابناي وابنا ابنتي، اللهم إني أحبهما وأحب من يحبهما). جامع الترمذي، وكتاب السمعاني، وغيرهما.
333 الخاتمة
335 الخاتمة وأنا أجمع أوراقي هذه.. وددت أن أشير إلى بعض النقاط، أجد أهمية في ملاحظتها والالتفات إليها، وهي: أولا: لا بد قبل التأليف وبعده من الاعتراف بالعجز عن الإحاطة بحياة أهل البيت، " عليهم السلام "، ولما كان علينا أن نتبين سيرتهم (صلوات الله عليهم) لما في ذلك من الفوائد الضرورية كان لا بد من أن تستل الأقلام لتسطر - بأمانة وبصيرة - ما جرى وما ينبغي معرفته من العقائد والأخلاق، إذ: لا يسقط الميسور بالمعسور، و: ما لا يدرك كله، لا يترك كله. وهذه الوريقات.. إنما جمعت بعض الإشارات إلى أخلاق سيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين (عليه السلام)، مما استطاع التاريخ حفظه لنا ونقله إلينا، وجمعه في قراطيس شاء الله تعالى أن يهدي بها هذه الأمة المرحومة، بما حباها الجليل: من نبي مرسل هو أشرف الأنبياء والمرسلين، وهاد وصي هو سيد الهداة والوصيين، وأئمة راشدين هم - بعد النبي - سادة الخلق أجمعين. ونحن إذ نغترف من معينهم، إنما نغترف من معين الشرف والهدى والسعادة. ثانيا: لا يفوتنا أن نقول: إن أغلب المؤلفات التي حامت حول الإمام
336 الحسين (صلوات الله عليه) ركزت على جوانب وأهملت جوانب، ومرت على جوانب مرورا سريعا عابرا، ومن ذلك الجانب الأخلاقي في شخصية الإمام الحسين (عليه السلام) الذي يعبر عن ذلك الإيمان السامق الراسخ، وعن تلك التقوى المنشدة إلى الله، وعن ذلك العقل الحكيم والروح الطاهرة والنفس الشريفة. فعمدت - بتوفيق الله تعالى - إلى تسليط الأضواء على المواقف الأخلاقية لسيدي: الحسين بن علي (عليهما أفضل الصلاة والسلام) دون أن أهمل الجانب التاريخي. فدخلت فيه حتى اقتحمت كربلاء لا أكتفي بذكر مصائبها، بل سجلت أخلاق الإمام الحسين (سلام الله عليه) في تلك المواقف العصيبة، التي أثبتت فيما أثبتته: إمامته، وعصمته، وعمق إيمانه و استحكام تقواه، وقوة التعلق والارتباط بالله (جل وعلا). فكربلاء... لم تكن ساحة اقتتال بين فئتين تتبارزان بالسيوف والرماح و السهام فحسب، بل كانت ساحة صراع بين: الحق والباطل، الخير والشر، النور و الظلام، الهدى والضلال، والإسلام والجاهلية.. وبين الأخلاق الإلهية والأخلاق الشيطانية. فحين تعامى القوم عن سبيل الهدى صدع الإمام الحسين " عليه السلام " بمواعظه الحكيمة الراشدة، وحين بخل القوم بأنفسهم وأموالهم تقدم " عليه السلام " ليقدم كل ما لديه لله (عز وجل)، وحين جبنوا وجدوه ذلك المقدام الهمام الذي لا يخشى إلا الله " تبارك وتعالى "، وحين كشر القوم عن أسنان الحقد والرذيلة، رأوا الحسين (صلوات الله عليه) ذلك الانسان الطيب الذي يريد الخير للبشرية، ويدعو إلى كل فضيلة. ولذلك نحن لا نعتقد أن الحسين (سلام الله عليه) قد قتل، نعم.. نال الشهادة بأرفع درجاتها، بل تشرفت الشهادة أن تضم إليها اسم الحسين (عليه السلام). إن
337 الإمام الحسين " عليه السلام " لم يقتل، لأنه قام لله، ودعا إلى الحق والخير و الهدى والفضيلة، لذا فهو يعيش في القلوب والضمائر، وفي العقول والأنفس، يتجدد ذكره جيلا بعد آخر، ويتأسى بأخلاقه، لأنه ضرب أسمى الأمثلة في محاسنها ومكارمها. فهو الأسوة، وهو القدوة، نضعه أمامنا في كل موقف لنتعلم منه تلك الدروس الخالدة التي سجلها بدمه الزاكي، دماء أهل بيته الأخيار، وأصحابه المخلصين الأبرار. ثالثا: إن الغرض من بيان الأخلاق الحسينية يتعدد، فيكون: أ - مرة، لبيان الحقيقة ودحض الأباطيل. ب - ومرة، لترسيخ الاعتقاد بإمامة ووصاية أهل البيت " عليهم السلام "، إذ أخلاقهم (صلوات الله عليهم) دلت فيما دلت على شرفهم ورفعتهم، و إمامتهم. ج - ومرة، لإصابة الثواب، إذ إن ذكر أهل البيت (سلام الله عليهم) عبادة، وهي في الوقت ذاته رحمة وسعادة. جاء في كتاب الاختصاص للشيخ المفيد (أعلا الله مقامه) عن ابن بابويه بأسانيده المفصلة عن الأصبغ بن نباتة قال: سمعت ابن عباس يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ذكر الله - عز وجل - عبادة، وذكري عبادة، وذكر علي عبادة، وذكر الأئمة من ولده عبادة..). وفي كتاب (ثواب الأعمال - ص 108) للشيخ الصدوق (قدس الله سره): قال الإمام الصادق " عليه السلام " للفضيل: تجلسون وتتحدثون؟، قال الفضيل: نعم، فقال " عليه السلام ": إن تلك المجالس أحبها، فأحيوا أمرنا،
338 فرحم الله من أحيا أمرنا). د - ومرة أخرى نتبين الأخلاق الحسينية ونحاول التأسي بها والاقتداء بها، لنجمع إلى المحبة بالقلب الاتباع بالجوارح. فنحن كما دعينا إلى اتباع المصطفى (صلى الله عليه وآله) * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا) * سورة الأحزاب / الآية 21، كذلك دعينا إلى اتباع أهل بيت المصطفى (صلوات الله عليه وعليهم) إذ هم خلفاؤه، وأوصياؤه، وورثته.. قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): إن داود ورث علم الأنبياء، وإن سليمان ورث داود، وإن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) ورث سليمان، وإنا ورثنا محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإن عندنا صحف إبراهيم وألواح موسى " عليهما السلام "). أصول الكافي / ج 1 ص 175. وكتب الإمام علي الرضا (عليه السلام) إلى عبد الله بن جندب: - أما بعد، فإن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أمين الله في خلقه، فلما قبض (صلى الله عليه وآله وسلم) كنا أهل البيت ورثته، فنحن أمناء الله في أرضه). أصول الكافي / ج 1 ص 174. فالمودة لأهل البيت (عليهم السلام) واجبة بنص آية المودة * (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى..) * سورة الشورى / الآية 23، ولكن من صور المودة: الاتباع، ف (إن المحب لمن يحب مطيع). فنحن إذ نذكر أخلاق الإمام الحسين (عليه السلام) يزداد اعتقادنا بإمامته، وتزداد محبتنا لشخصه الشريف، ونقترب من حالة الاقتداء التي هي الهدف من الوقوف عند الأخلاق الحسينية الطيبة. فالتشيع لا يعين بالانتساب الظاهري إلى أهل البيت (عليهم السلام) حتى
339 يعكس حالة الإيمان الثابت، والتقوى المستحكمة، والأخلاق الحميدة، والخصال النبيلة، وبذلك يبدأ ولاؤنا بالتزايد والتكامل. قال الإمام محمد الباقر (عليه السلام): ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون إلا: بالتواضع، والتخشع، وأداء الأمانة، وكثرة ذكر الله، والصوم والصلاة، والبر بالوالدين، وتعهد الجيران من الفقراء و ذوي المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث، وتلاوة القرآن، وكف الألسن عن الناس إلا من خير، وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء). تحف العقول / ص 215. وهذه هي أخلاق الإمام الحسين (عليه السلام)، فمن أحبه ووالاه كان على مثل هذه الخصال والصفات.. وقال (سلام الله عليه): لا تذهب بكم المذاهب، فوالله ما شيعتنا إلا من أطاع الله - عز وجل -). أصول الكافي / ج 2 ص 73. وطاعة الله (عز وجل) تتضمن المحبة والتأسي معا، فمحبتنا للإمام الحسين (عليه السلام) - لكي تكون تشيعا وولاء حقيقيا - ينبغي أن نتممها بالاقتداء به (صلوات الله عليه) والتزود من معارفه وأخلاقه الفاضلة. وقال الإمام جعفر الصادق " عليه السلام ": شيعتنا من قدم ما استحسن، وأمسك ما استقبح، وأظهر الجميل، وسارع بالأمر الجليل، رغبة إلى رحمة الجليل، فذاك منا وإلينا، ومعنا حيثما كنا). صفات الشيعة / للشيخ الصدوق (ره) -. وقال (عليه السلام): إنما شيعتنا يعرفون بخصال شتى: بالسخاء و البذل للإخوان، وبأن يصلوا الخمسين، ليلا ونهارا..) تحف العقول / ص 223. وقال الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): شيعة علي " عليه السلام " هم الذين لا يبالون في سبيل الله: أوقع الموت عليهم أو وقعوا على
340 الموت. وشيعة علي (عليه السلام) هم الذين يؤثرون إخوانهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وهم الذين لا يراهم الله حيث نهاهم، ولا يفقدهم حيث أمرهم. وشيعة علي هم الذين يقتدون بعلي (عليه السلام) في إكرام إخوانهم المؤمنين). تفسير الإمام العسكري (عليه السلام). والاقتداء بعلي " عليه السلام " هو الاقتداء بالحسن والحسين، والأئمة التسعة من ذرية الحسين (صلوات الله عليهم أجمعين).. أورد العالم الحنفي المذهب، الشيخ سليمان القندوزي في كتابه الشهير (ينابيع المودة ص 445) عن ابن عباس (رضي الله عنهما) أنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه و آله) يقول: أنا وعلي والحسن والحسين، وتسعة من ولد الحسين، مطهرون معصومون). فالاقتداء بالحسين (سلام الله عليه) هو الاقتداء بالنبي المصطفى (صلى الله عليه وآله) وبالأئمة الأطهار (عليهم السلام)، لأنهم " سلام الله عليهم " نور واحد، وكلهم مطهرون معصومون. أما مخالفتهم فذلك هو مجانبة التشيع... قال الإمام الحسن العسكري (عليه السلام): قال رجل لرسول الله (صلى الله عليه وآله): فلان ينظر إلى حرم جاره، وإن أمكنه مواقعة حرام لم يرع عنه. فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال: ائتوني به، فقال رجل آخر: يا رسول الله! إنه من شيعتكم، ممن يعتقد موالاتكم، وموالاة علي " عليه السلام " ويتبرأ من أعدائكما. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تقل من شيعتنا، فإنه كذب، إن شيعتنا من شيعنا وتبعنا في أعمالنا). تنبيه الخواطر / لورام ص 347. وقال الإمام الصادق (عليه السلام): ليس من شيعتنا من قال بلسانه،
341 وخالفنا في أعمالنا وآثارنا). بحار الأنوار / ج 68 ص 164. فالتشيع هو المشايعة والاتباع في الأعمال، واقتفاء الآثار والأقوال، و ليس هو الادعاء فحسب، نعم قد يكون المسلم محبا للأئمة " عليهم السلام " ولكنه لا يرتقي إلى التشيع إلا بالتأسي والاقتداء، في الاعتقاد والأخلاق. وقال " عليه السلام " أيضا: يا شيعة آل محمد! إنه ليس منا من لم يملك نفسه عند الغضب، ولم يحسن صحبة من صحبه، ومرافقة من رافقه، ومصالحة من صالحه، ومخالفة من خالفه. يا شيعة آل محمد! اتقوا الله ما استطعتم). تحف العقول / ص 281. وقال (سلام الله عليه) كذلك: إنما أنا إمام من أطاعني). بحار الأنوار / ج 2 ص 80 عن كتاب (الغيبة) للنعماني. وجاء عن الإمام الكاظم " عليه السلام ": ليس من شيعتنا من خلا ثم لم يرع قلبه). بحار الأنوار / ج 68 ص 153 عن بصائر الدرجات للشيخ الصفار القمي. ولكي نكون من أهل الولاء، وأهل الوفاء، وأهل الاقتداء، سطرنا كلماتنا على هذه الوريقات تمهيدا لما يحب الله ويرضى. رابعا وأخيرا: أود ألا يفوتني القول بأن أخلاق الإمام الحسين " عليه السلام " متعددة الجوانب، فقد نجد في الموقف الواحد أكثر من خلق كريم، وفي الرواية الواحدة أكثر من منقبة، وفي الجواب الواحد والحديث الواحد أكثر من فضيلة، وأكثر من خصلة شريفة. وقد ظهرت تلك الصفات الطاهرة في محلها، وقتا ومكانا، حيث جمع ما تشتت عند الناس، وفاقهم في السمو والحكمة، فكان كل خلق يبدو منه أنسب
342 ما يكون، فبانت الشجاعة في وقت التحدي، وظهر الصبر في ساعات الشدة، وانطلقت منه الموعظة في ساعة الاحتجاج، وهكذا. إن هذا مما لا بد من الإشارة إليه لئلا نظلم مولانا الإمام الحسين (عليه السلام) بالغفلة عن مثل هذه الفضائل. كما لا يفوتني أن أطلب - قبل أن أطوي آخر صفحة من هذا الكتاب - شفاعة مولاي أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، فإذا حرمتها فأنا ممن لا يستحقها، وإذا أعطيتها فأنا الفائز بلطف الله تعالى بعد ذلك. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين. كتبت آخر هذه السطور الساعة 5 / 3 ظهر عاشوراء محرم - 1414 وخلف الضريح المقدس للإمام الرضا (عليه السلام)، ساعة شهادة الإمام الحسين (ع).