بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: الأسرار الفاطمية المؤلف: الشيخ محمد فاضل المسعودي الجزء: الوفاة: معاصر المجموعة: من مصادر العقائد عند الشيعة الإمامية تحقيق: تقديم : السيد عادل العلوي الطبعة: الثانية سنة الطبع: 1420 - 2000 م المطبعة: أمير - قم الناشر: مؤسسة الزائر في الروضة المقدسة لفاطمة المعصومة عليها السلام للطباعة والنشر - رابطة الصداقة الإسلامية ردمك: 964-6401-17-1 ملاحظات: الأسرار الفاطمية تأليف الشيخ محمد فاضل المسعودي تقديم آية الله السيد عادل العلوي
1 الطبعة الأولى جميع الحقوق محفوظة ومسجلة للناشر 1420 ه - 1999 م رابطة الصداقة الإسلامية 1413 ه - 1992 م ESLAMIC FRINDSHIP JOENATION 1413 - 1992 مؤسسة إسلامية ترتكز على ربط الكفاءات الإسلامية في مختلف أنحاء العالم لخدمة المجتمع الإسلامي على ضوء العقيدة الإسلامية المتمثلة بالكتاب الكريم والعترة الطاهرة " عليهم السلام "
3 هوية الكتاب: الكتاب: الأسرار الفاطمية تأليف: الشيخ محمد فاضل المسعودي الناشر: (مشترك) مؤسسة الزائر في الروضة المقدسة - لحضرة فاطمة المعصومة عليها السلام للطباعة والنشر - قم المقدسة ورابطة الصداقة الإسلامية - لندن صف الحروف والإخراج: كامپيوتر درنا - قم الفيلم والألواح الحساسة: سيد الشهداء عدد المطبوع: 1000 نسخة المطبعة: أمير - قم الطبعة: الأولى - 1420 ه. 1999 م السعر
4 الإهداء إلى مصباح الهدى وسفينة النجاة... إلى الموعود بشهادته قبل ولادته... إلى الذي بكاه رسول الله حين ولادته... إلى الذي قضى ضمآن بجنب الفرات... إلى الذي بكت عليه ملائكة السماء... إلى خضيب الشيبة بالدماء... إلى ساكن طفوف كربلاء... إلى من تطلب بدمه سيدة النساء بعرصات يوم القيامة... " لا بد أن ترد القيامة فاطم * وقميصها بدم الحسين ملطخ " إلى خامس أصحاب حديث الكساء... إليك يا سيدي يا أبا عبد الله الحسين بن علي (عليهما السلام)... أرفع لك هذا المجهود القليل راجيا من الله القبول... والغفران لي ولوالدي ولمن ينتفع بهذا الكتاب يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم... محمد فاضل المسعودي
5 بسم الله الرحمن الرحيم
6 تقريض تزيينا لكتابنا وتبيينا لعام الطبع طلبنا من الخطيب سماحة الشيخ محمد سعيد المنصوري " حفظه الله ورعاه " أن يتفضل علينا بتوشيح لكتابنا الأسرار الفاطمية وتأريخ يعرف به زمان طبعه فاستجاب لنا سماحته بهذه المقطوعة الشعرية المشتملة على معاني لطيفة وخفيفة على الطبع والذوق أمد الله في عمره الشريف ووفقنا الله وإياه وصالح المؤمنين لخدمة الأئمة الأطهار لا سيما فاطمة الزهراء (عليها السلام) أنالنا الله شفاعتها يوم القيامة وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين. (محمد) بالأسرار جاء ولم يجئ * إلينا بأسرار سواه مؤلف على أنها بالفاطمية عرفت * وكل الذي يعزى لفاطمة يعرف وهذا كتاب في سليلة (أحمد) * ومن ذكرها الذكر الجميل المشرف به قد جلى بالبحث عن كل غامض * وعرف عما فيه حار المعرف أبان وفي " مستودع السر " ما به * تقرط أذان الورى وتشنف فأبوابه بابا فبابا وبحثه * لأبين من فجر ضحوك وألطف كتاب به ما ليس يحويه غيره * وكل على قدر من الدوح يقطف وفكرته فيما نرى من بيانه * يميل إليها العبقري المثقف وفاطمة مهما نقول بشأنها * فتلك من الأقوال أسمى وأشرف فطوبى لمن مالوا إليها بودهم * وويل لمن قالوا وفي القول أسرفوا فظلوا طريقا كان فيه نجاتهم * أظلهم عنه الهوى والتعجرف فيا نعم ما دبجت يا نجل " فاضل " * بمن قد أتى فيها من " الله " مصحف غدا سوف يأتيك الجزاء مضاعفا * فأرخه " أن نعم التقى والتعفف " 51 + 160 + 541 + 667 = 1419 هجرية
7 تقديم العلامة آية الله سماحة السيد عادل العلوي بسم الله الرحمن الرحيم الدرة البهية في الأسرار الفاطمية الحمد لله فاطر السماوات والأرضين، خالق فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين، والصلاة والسلام على أبيها محمد الأمين، سيد الأنبياء والمرسلين، حبيب الله وخاتم النبيين، وعلى بعلها أمير المؤمنين علي سيد الأوصياء وإمام المتقين، وعلى أولادهما الأئمة الميامين أهل البيت الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم ومنكري فضائلهم من بدء الخلق إلى قيام يوم الدين. قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم ومبرم خطابه العظيم: * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * (1). وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): " لو كان الحسن شخصا لكان فاطمة، بل هي أعظم. فاطمة ابنتي خير أهل الأرض عنصرا وشرفا وكرما " (2). الحديث عن الزهراء (عليها السلام) إنما هو حديث عما سوى الله سبحانه، فهي الكون
(1) الأحزاب: 33. (2) فرائد السمطين 2: 68. 9 الجامع بل الحديث عنها حديث عن الله سبحانه لوحدة الرضا والغضب بينهما، فإنه سبحانه يرضى لرضاها ويغضب لغضبها، والله المحسن وهو الجميل ومطلق الجمال والحسن، وإنه يحب الجمال، ولو كان الحسن والجمال شخصا لكان فاطمة، بل هي أعظم، فهي جمال الله وحسنه، وإنها الحوراء الإنسية، فهي خير أهل الأرض عنصرا، فإنها نور الله جل جلاله اشتقت من نور أبيها وبعلها، وفارقتهما في القوس النزولي، فكان أبوها وبعلها في صلب آدم إلى عبد المطلب وأبي طالب، وبقيت هي في العرش الإلهي في مشكاة تحت ساق العرش، ثم انتقل إلى الجنة، وبقي في رياضها محبورا، ثم أودعه الله في شجرة من أشجارها وفي ثمارها وأغصانها، حتى إذا عرج النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) إلى السماء ودخل الجنة، وأكل من تفاحها ورطبها، فتناول من ثمار الجنة ومن شجرة فاطمة (عليها السلام)، فتحولت نورا في صلبه، ثم هبط إلى الأرض، فواقع خديجة الكبرى لتحمل منه فاطمة الحوراء الإنسية، ومن ثم كان النبي يشم منها رائحة الجنة. ففاطمة (عليها السلام) من صلب خاتم النبيين وأشرف خلق الله أجمعين محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله) مباشرة ومن دون واسطة، دون غيرها، فكانوا من صلب آدم (عليه السلام). فهي خير أهل الأرض عنصرا، وأشرف بعد أبيها وبعلها مقاما، وأكرم منزلا. فخلقت من نور محمدي علوي قبل خلق آدم بآلاف من السنين، خلقت حورية في صورة إنسية، ثم تكونت نطفتها في أعالي الجنة، ونطقت وتحدثت في بطن أمها، وقال جبرئيل عنها أنها النسلة الطاهرة الميمونة، وسجدت ونطقت بالشهادتين عند ولادتها، فهي المباركة الطاهرة الصديقة الزكية الرضية المرضية المحدثة الزهراء البتول الحرة، العذراء الحوراء النورية السماوية الحانية، أم الحسنين، أم أبيها، أم الأئمة النجباء، فهي الصديقة الكبرى، وعلى معرفتها دارت القرون الأولى. ومن عرفها حقيقة فقد أدرك ليلة القدر. والمعرفة أساس الحياة وروحها، فمن لا معرفة له - كالكافر - فلا حياة له، وكان ميتا يمشي بين الأحياء. وبالمعرفة يتم الإيمان ويزداد بزيادتها، وإنها تأخذ حيزا كبيرا في الحياة الإنسانية بكل أبعادها وجوانبها، حتى الشريعة المقدسة التي هي عبارة عن قوانين الحياة التشريعية من أجل السعادة الأبدية، فالمعرفة لها الحظ الأوفر على
10 مستوى الأصول والفروع والأخلاق، وإنما يفضل الناس بعضهم على البعض في المقياس الإلهي بالمعرفة ولوازمها كالإيمان والتقوى والعلم النافع والعمل الصالح، كما جاء في الحديث الشريف: " أفضلكم إيمانا أفضلكم معرفة " (1). فلا يمكن من حط قيمة المعرفة والاستهانة بها مطلقا، بل جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام): " لا يقبل الله عملا إلا بمعرفة، ولا معرفة إلا بعمل، فمن عرف دلته المعرفة على العمل، ومن لم يعمل فلا معرفة له " (2). فأصل كل شئ وأساسه هو المعرفة، حتى قال أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لكميل ابن زياد: " يا كميل، ما من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة " (3). ولا تكون المعرفة تامة إلا بإدراك القضايا وفهمها، دركا صحيحا وفهما كاملا، بدراسات حقة ميدانية وتحقيقية، والتي يبتني صرحها الشامخ على ضوء البراهين الساطعة والاستدلالات العقلية اللامعة، والحجج العملية الواضحة. فالمعرفة يعني الدراية الكاملة والفهم العميق والدرك الصحيح، وقيمة الإنسان بمعرفته. يقول الإمام الباقر لولده الصادق (عليهما السلام): " يا بني، اعرف منازل الشيعة على قدر روايتهم ومعرفتهم، فإن المعرفة هي الدراية للرواية ". فالرواية نقل الحديث الشريف عن المعصومين (عليهم السلام)، والدراية تفقه الحديث وفهمه: " وبالدرايات للروايات يعلو المؤمن إلى أقصى درجات الإيمان ". و " حديث تدريه خير من ألف حديث ترويه ". و " قيمة كل امرئ وقدره معرفته ". فالواجب علينا أن نفهم القرآن والروايات بتفهم وعمق، وتدبر وتفكر، وإلا فهمة السفهاء الرواية، وهمة العلماء الدراية. فلا بد لكل ذي لب أن يعرف الأشياء على ما هي عليها بحسب الطاقة البشرية،
(1) البحار 3: 14. (2) الكافي 1: 44. (3) ميزان الحكمة: الحديث رقم 7421. 11 وأولى شئ بالمعرفة، وإنه مقدم على كل المعارف والعلوم هو معرفة أصول الدين بالبرهان واليقين، وبدءا بالمعرفة الجلالية ثم الجمالية ثم الكمالية. ومن الأصول معرفة الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فمن عرفها حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. ألا إنها سميت فاطمة لأن الخلق فطموا عن معرفتها. فمن يعرفها؟! وعلى معرفتها دارت القرون الأولى، وما تكاملت النبوة لنبي حتى أمر بفضلها ومحبتها (1). ومن الواضح أن المعرفة الكاملة والتامة لا تكون إلا بعد الإحاطة بالشئ، ومن يقدر على أن يحيط بفاطمة الزهراء (عليها السلام) إلا من كان خالقها ومن كان كفوا لها، فلا يعرفها ويعرف أسرارها إلا أمير المؤمنين علي (عليه السلام) ورسول الله محمد (صلى الله عليه وآله)، فإن الخلق كلهم حتى الأنبياء والملائكة والجن والإنس فطموا وقطعوا عن كنه معرفتها والإحاطة بها، فلا يعرفها حقا إلا الله ورسوله ووصيه (عليهما السلام). ففاطمة الزهراء وديعة المصطفى وحليلة المرتضى مظهر النفس الكلية على أتم الوجوه الممكنة فهي الحوراء بتعين إنسي، مطلع الأنوار البهية، وضياء المشكاة النبوية، صندوق الأسرار الإلهية، ووعاء المعارف الربانية، عصمة الله الكبرى، وآية الله العظمى. لا ريب ولا شك أن فاطمة أحرزت مقام العصمة الإلهية الكبرى، كما عليه الإجماع القطعي وذهب إليه الأعاظم من عباقرة العلم والمعرفة، كالشيخ المفيد والسيد المرتضى. كما تدل الآيات الكريمة والروايات الشريفة على ذلك، يكفيك شاهدا آية التطهير، وما أدراك ما آية التطهير، فمن أنكر ذلك فهو كالأعمى الذي ينكر نور الشمس. والعصمة من اللطف الإلهي الخاص ويعني القوة النورية الملكوتية الراسخة في نفس المعصوم (عليه السلام)، تعصمه وتحفظه من كل شين، كما تزينه بكل زين، فيعصم من
(1) البحار 42: 105، عن تفسير الفرات. 12 الذنوب والمعاصي والآثام والسهو والنسيان والغفلة، وما شابه ذلك، ومن كان معصوما في دهره لا يصدر منه الشين مطلقا. وفاطمة الزهراء (عليها السلام) إنها المعصومة بعصمة الله سبحانه، كما عصم أولادها الأئمة الأطهار، فإن عصمتهم كعصمة القرآن، فهما الثقلان بعد رسول الله لن يفترقا في كل شئ من البداية وحتى النهاية، ومنها العصمة. مفطومة من زلل الأهواء * معصومة من وصمة الخطاء فهذا من عقيدتنا الحقة في الزهراء (عليها السلام)، ولما كان الأذان والإقامة للصلوات اليومية إعلان وإعلام في بيان العقيدة، ولما كانت الحياة عقيدة وجهاد، فلا مانع، بل من الراجح أن يعلن الشيعي المخلص عن عقائده الصحيحة في أذانه وإقامته للصلاة، فيعلن للعالم في كل يوم إنه يؤمن بتوحيد الله، كما يؤمن برسول الله ونبوته، ويؤمن بولاية علي أمير المؤمنين حجة الله ويؤمن بإمامته وإمامة أولاده الطاهرين، كما يشهد بعصمة الزهراء وطهارتها، أي في أذانه وإقامته، يخبر عن معتقده في المعصومين الأربعة عشر (عليهم السلام). فيقول في أذانه وإقامته بعد الشهادة الثالثة، الشهادة الرابعة لا بقصد الجزئية، فنقول فيها ما نقول في الشهادة الثالثة، ولا أظن أن يخالفني في ذلك واحد من الفقهاء والعلماء إلا من يجهل المباني الفقهية، وما جاء وراء الفقه من المعاني الدقيقة. فيجوز أن يقول المؤذن والمقيم بعد الشهادة الثالثة: (أشهد أن فاطمة الزهراء عصمة الله) (1) مرتان أو مرة واحدة أو يلحق ذلك بالشهادة الثالثة بعد قوله: (أشهد أن عليا ولي الله وأن فاطمة الزهراء عصمة الله)، فتدبر. ومما يدل على مقامها الشامخ وعصمتها الذاتية الكلية كما في الأنبياء
(1) لقد سبقني في هذا المعنى والفتوى شيخنا الأستاذ آية الله الشيخ حسن زاده الآملي دام ظله في (حكمة عصمتية في كلمة فاطمية: 14) قائلا: كانت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات عصمة بلا دغدغة ووسوسة، وقد نص كبار العلماء كالمفيد والمرتضى وغيرهما بعصمتها (عليها السلام) بالآيات والروايات، والحق معهم، والمكابر محجوج ومفلوج، وكانت (عليها السلام) جوهرة قدسية في تعين إنسي، فهي إنسية حوراء، وعصمة الله الكبرى، وحقيقة العصمة، إنها قوة نورية ملكوتية تعصم صاحبها عن كل ما يشينه من رجس الذنوب والأدناس والسهو والنسيان ونحوها من الرذائل النفسانية... وإذا دريت أن بقية النبوة وعقيلة الرسالة ووديعة المصطفى وزوجة ولي الله وكلمة الله التامة فاطمة (عليها السلام) ذات عصمة، فلا بأس بأن تشهد في فصول الأذان والإقامة بعصمتها وتقول مثلا: (أشهد أن فاطمة بنت رسول الله عصمة الله الكبرى)، ونحوها. 13 والأوصياء (عليهم السلام) أن الله يغضب لغضبها ويرضى لرضاها - كما ورد مستفيضا عند الفريقين السنة والشيعة - فإن الله سبحانه لم يغضب لنبي من أنبيائه: * (وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه) *. ولكن يغضب لغضب فاطمة (عليها السلام). ثم لا تجد معصوما تزوج بمعصومة إلا أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، ولولا علي لما كان لفاطمة كفو آدم ومن دونه، فإن المعصومة لا يتزوجها إلا المعصوم، فإن الرجال قوامون على النساء، فلا يكون غير المعصوم قواما على المعصومة، ومن خصائص أمير المؤمنين التي لا يشاركه فيها أحد حتى رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) هو زواجه من المعصومة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وهو الزواج المبارك في عالمي التكوين والتشريع، وإنه من زواج النور من النور، كما ورد في الأخبار، فالمعصومة لا يتزوجها إلا المعصوم (عليهما السلام). وفاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين في الدنيا والآخرة، كما تشهد بذلك آية التطهير والمباهلة وحديث الكساء وأصحابه الخمسة المصطفى والمرتضى وابناهما وفاطمة (عليهم السلام). وربما قدم في آية المباهلة النساء والأبناء على الأنفس للإشارة إلى أن الأنفس فداها. " فداها أبوها ". وإنما يعرف هذا وأمثاله بالمعرفة المعنوية الذوقية التي يحصل عليها العارف بالشهود والكشف بعد صيقلة الروح والقلب، لا بالمعرفة المفهومية الاستدلالية من البرهان والكسب وحسب، وليس العيان كالبيان. وما يسطر القلم في معرفة فاطمة إلا رشحات من بحر معرفتها، وإنما عرفناها وعرفنا الأئمة الأطهار بما نطق به الثقلان القرآن وأهله، وإلا فقد فطم الخلق عن كنه معرفتها، فمن يعرفها ويعرف أسرارها؟ وما يقال في هذا المضمار ليس إلا ما عند الكاتب، لا ما عند المكتوب عنه، فالأسرار الفاطمية ليس إلا من سر الكاتب وسريرته لا من أسرارها وحقيقتها، فإن حقيقة فاطمة (عليها السلام) حقيقة ليلة القدر، حقيقة
14 الكون وما فيه. والله سبحانه خلق عالم الملك - وهو عالم الناسوت - على وزان عالم الملكوت - وهو عالم الأرواح -، والملكوت على وزان الجبروت - وهو عالم العقول -، حتى يستدل بالملك على الملكوت، وبالملكوت على الجبروت. ثم بين العالم العلوي والعالم السفلي قوسا نزوليا وصعوديا، وقد عبر عن القوس النزولي في نزول فيض الله ورحمته على الكون بالليل والليالي، كما عبر عن القوس الصعودي باليوم والأيام. وعصمة الله فاطمة الزهراء (عليها السلام) كما عبر عنها بليلة القدر، كذلك هي يوم الله. والإنسان الكامل هو القرآن الناطق، ففي ليلة القدر نزل القرآن، ونزل أحد عشر قرآنا ناطقا في فاطمة الزهراء فهي الكوثر، وهي الليلة المباركة، وليلة القدر خير من ألف شهر، أي ألف مؤمن. فإنها أم الأئمة الأبرار وأم المؤمنين الأخيار، والملائكة من المؤمنين الذين حملوا علوم آل محمد (عليهم السلام) وأسرارهم، وروح القدس فاطمة يتنزلون في ليلة القدر بإذن ربهم من كل أمر سلام هي حتى مطلع فجر قائم آل محمد (عليهم السلام) (1). وليلة القدر قلب الإنسان الكامل الذي هو عرش الرحمان، وإنه أوسع القلوب، فروح الأمين في ليلة مباركة يتنزل بالقرآن فينشرح صدره، فليلة القدر الصدر النبوي الوسيع، ومثله يحمل القرآن العظيم دفعة واحدة في ليلة واحدة، ثم طيلة ثلاث وعشرين عاما ينزل تدريجا. فليلة القدر الذي يحمل القرآن دفعة واحدة في معارفه وحقائقه ولطائفه هي فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وما من حرف في القرآن إلا وله سبعون ألف معنى، وإن فاطمة (عليها السلام) لتعرف كل هذه المعاني فمن عرفها حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر، فهي القلب اللامع الذي يتجلى فيه الغيب الجامع. فهي درة التوحيد وحقيقة القرآن المجيد، بل وحقيقة النبوة والإمامة، وما يجمع بينهما وبين التوحيد، أي حقيقة الولاية.
(1) إذا أردت تفصيل ذلك فراجع (حكمة عصمتية في كلمة فاطمية). 15 فمن يقدر على الإحاطة بمعرفة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بما هي هي، وبما تحمل في ذاتها وصفاتها من الأسرار وسر السر، هيهات هيهات، لا يعرفها حقيقة إلا مصورها وبارؤها وأبوها وبعلها (عليهما السلام)، ولمثلها يقوم خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) إجلالا ويقبل صدرها ويدها، ويشم منها رائحة الجنة، ولا يخرج من المدينة حتى يودعها ولا يدخل حتى يسلم عليها أولا. وليس كل هذا باعتبار العاطفة الأبوية، بل لما تحمل من الفضائل النبوية والأسرار العلوية. فمن هي؟ هي التي كانت مفروضة الطاعة على جميع الخلق من الجن والإنس والطير والوحوش. هي التي لا يذكر الله الحور العين في كتابه وفي سورة الدهر عندما يذكر منقبة من مناقبها إجلالا وتكريما وتعظيما لها. هي الكوثر التي خصها الله بالخلق النوري من بين النساء، وبالمهدي من آل محمد (عليهم السلام)، وبالذرية المباركة الطاهرة، بالحسن والحسين والأئمة المعصومين (عليهم السلام). هي التي اشتق اسمها من اسم الله فكان فاطرا وكانت فاطمة، وإنها صاحبة السر المستودع، ولها من المناقب والفضائل ما لا يمكن للبشر أن يحصيها، وإذا كانت ضربة علي (عليه السلام) يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين أو أفضل، فمن يقدر أن يعد عبادتهم؟ وفاطمة كفو لعلي (عليهما السلام)، فلها ما لعلي في كل شئ إلا الإمامة، كما كان لعلي ما لرسول الله إلا النبوة. والمرأة إذا لم تكن نبية، فإن لها أن تصل إلى مقام الولاية العظمى، فتكون أفضل من الأنبياء كفاطمة الزهراء (عليها السلام)، فهي حلقة وصل بين النبوة والإمامة، فهي نور المهج وحجة الحجج... وهي بضعة المصطفى وبهجة قلبه، من سرها فقد سر رسول الله، ومن آذاها فقد آذى رسول الله، ومن آذى رسول الله فقد آذى الله، ومن آذى الله ورسوله، فعليه لعنة الله أبد الآبدين، وكذلك لمن أغضبها وغضبت عليه، فارجع إلى التأريخ لتعرف على
16 من غضبت فاطمة؟ وماتت وكانت واجدة عليهم؟ أصفاها الله وطهرها تطهيرا، فهي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وإنها أول من تدخل الجنة، وتمر على الصراط، ومعها سبعون ألف جارية من الحور العين. هي زينة العرش الإلهي كزوجها الولي والوصي، وهي أعبد الناس، حبها ينفع في مئة موطن من المواطن، أيسرها الموت والقبر والميزان والمحشر والصراط والمحاسبة، ومن أحبها فهو في الجنة، ومن أبغضها وآذاها فهو في النار. فالويل كل الويل لمن ظلمها وظلم بعلها وذريتها وشيعتها، الويل كل الويل لمن غصب حقها وكسر ضلعها وأسقط جنينها ولطم خدها وأنكر فضلها ومناقبها ومثالب أعدائها. ثم لو تلونا وقرأنا زيارة الجامعة الكبيرة (1) الواردة بسند صحيح عن الإمام الهادي (عليه السلام)، والتي تعد في مضامينها من أفضل وأعظم الزيارات، لوجدنا أنها تذكر وتبين شؤون الإمامة بصورة عامة، لنعرف الإمام المعصوم (عليه السلام) بمعرفة مشتركة لكل الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، فكل واحد منهم ينطبق عليه ما جاء في فقرات الزيارة ومفرداتها. إلا أن فاطمة الزهراء (عليها السلام) لا تزار بهذه الزيارة، فلا يقال في شأنها أنها موضع سر الله وخزانة علمه وعيبته، فهذا كله من شؤون حجة الله على الخلق، وفاطمة الزهراء (عليها السلام) هي حجة الله على حجج الله، كما ورد عن الإمام العسكري (عليه السلام): " نحن حجج الله على الخلائق، وأمنا فاطمة حجة الله علينا ". ولهذا يقول صاحب الزمان عجل الله فرجه الشريف: " ولي أسوة بأمي فاطمة ". فالأئمة أسوة الخلق وقادتهم، وفاطمة أسوة الأئمة (عليهم السلام). إنها (عليها السلام) تساوي أبيها في خلقه النوري، وقال في حقها: " فاطمة روحي التي بين جنبي ". وربما الجنبان إشارة إلى جنب العلم وجنب العمل، فهي تحمل روح النبي بعلمه
(1) وردت في مفاتيح الجنان، في قسم الزيارات، فراجع. 17 وعمله، وكل كمالاته العلمية والعملية إلا النبوة، فهي الأحمد الثاني، وهي روحه التي بين جنبيه. ويحتمل أن يكون إشارة الجنبين إلى النبوة المطلقة والولاية العامة، فقد ورد في الخبر النبوي الشريف: " ظاهري النبوة، وباطني الولاية ". مطلقا التكوينية والتشريعية على كل العوالم العلوية والسفلية، السماوية والأرضية. كما ورد: " ظاهري النبوة، وباطني غيب لا يدرك ". وأنفسنا في آية المباهلة تجلت وظهرت وكان مصداقها الخارجي أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، فالزهراء (عليها السلام) يعني رسول الله وأمير المؤمنين، فهي مظهر النبوة والولاية، وهي مجمع النورين: النور المحمدي والنور العلوي، وكما ورد في تمثيل نور الله في سورة النور وآيته: * (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة) *. بأنه كالمشكاة، وورد في تفسيرها وتأويلها أن المشكاة فاطمة، وفي هذا المشكاة نور رسول الله وأمير المؤمنين (عليهما السلام)، ثم نور على نور وإمام بعد إمام، يهدي الله لنوره من يشاء. فالنبوة والإمامة في وجودها النوري، وهذا من معاني (السر المستودع فيها) (1)، فهي تحمل أسرار النبوة والإمامة، كما تحمل أسرار الكون وما فيه، تحمل أسرار الأئمة الأطهار وعلومهم، تحمل أسرار الخلقة وفلسفة الحياة، ولولا مثل هذا المعلول المقدس لما خلق الله النبي والوصي كما ورد في الحديث الشريف المعراجي: " يا أحمد، لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما ".
(1) كما من معانيه سيدنا محسن الشهيد بقرينة (وبنيها)، كما جاء في الدعاء: (اللهم إني أسألك بفاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها)، فكان المراد من البنين الحسن والحسين لولادتهما وظهورهما في الدعاء، والسر المستودع سيدنا المحسن الشهيد (عليه السلام) الذي سقط بين الباب والجدار. وليت الكاتب الجليل أشار إلى هذا المعنى في فصل بيان أسرار الدعاء. 18 ولا فرق بين الأحد والأحمد إلا ميم الممكنات التي غرق فيها كل شئ... والأم تحمل جنينها وولدها، وفاطمة أم أبيها، فهي تحمل النبي في أسرار نبوته وودائعها، كما تحمل أسرار الممكنات في جواهرها وأعراضها، وبنورها الزاهر ازدهرت السماوات والأرض، فالله الفاطر فطر الخلائق بفاطمة الزهراء وبنورها الأزهر... ولمثل هذه الخصائص القدسية كان النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) يقول: فداها أبوها. مشكاة نور الله جل جلاله * زيتونة عم الورى بركاتها هي قطب دائرة الوجود ونقطة * لما تنزلت أكثر كثراتها هي أحمد الثاني وأحمد عصرها * هي عنصر التوحيد في عرصاتها * * * فاطمة خير نساء البشر * ومن لها وجه كوجه القمر فضلك الله على كل الورى * بفضل من خص بآي الزمر زوجك الله فتى فاضلا * أعني عليا خير من في الحضر * * * وأخيرا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: " فاطمة بهجة قلبي، وابناها ثمرة فؤادي، وبعلها نور بصري، والأئمة من ولدها أمناء ربي، وحبله الممدود بينه وبين خلقه، من اعتصم به نجا، ومن تخلف عنه هوى " (1). هذا وقد غمرتني الفرحة والبهجة عندما لمست أناملي الداثرة ما خطه يراع فضيلة مروج الأحكام حجة الإسلام الكاتب المعتمد والمؤلف السند الخطيب الكامل الشيخ محمد فاضل المسعودي دام موفقا. وقد أبدع سماحته في سفره هذا القيم (الأسرار الفاطمية)، وملأ فراغا في المكتبة الإسلامية العربية، من معرفة نورانية حول السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، بقلم سلس وبيان جميل، وتصوير رائع، وقد حاول أن يؤدي ما هو الحق في كل فصل من فصوله، فلله دره وعليه أجره، وكثر الله من أمثاله.
(1) فرائد السمطين 2: 66. 19 كان سماحته يحضر عندي كفاية الأصول وأبحاثنا الفقهية - خارج الفقه (الاجتهاد والتقليد) - ولا يزال بحمد الله يحضر حضور تفهم واستيعاب في جمع من طلبة العلوم الإسلامية في حوزة قم العلمية من جاليات مختلفة. وقد سألت الله في سنين من حياتي في ليالي القدر أن يوفق جميع أهل العلم، لا سيما أولئك الذين حضروا عندي دروسهم الحوزوية، أن يوفقهم لخدمة الدين والمذهب في كل المجالات العلمية والعملية، بأقلامهم وألسنتهم، بالتأليف والتصنيف والتدريس والتبليغ والخطابة والإمامة في المحاريب، وغير ذلك من المسؤوليات الدينية والاجتماعية الملقاة على عاتق علماء الدين ورجال العلم، أعزهم الله في الدارين. وأرى اليوم مرة أخرى قد أثمرت الجهود، ولم تذهب الأتعاب ضياعا، بل بين حين وحين تؤتي الشجرة الطيبة أكلها، بل الحوزة المباركة هي البركة والخير المستمر والمستقر، وإنها الكوثر العذب والمنهل الصافي والينبوع المتدفق... والشيخ الكاتب قد أجاد في هذا الكتاب الرائع بتعريف جملة من أسرار سيدة النساء فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وما أروع ما كتب وما أجمل ما اختار، لا سيما وهذه الهجمات المدسوسة بين حين وحين تتغلغل في صفوفنا، من قبل الاستعمار والاستكبار العالمي، ضد مقامات أهل البيت (عليهم السلام)، وفاطمة الزهراء (عليها السلام)، والعجب أنها تصدر تارة من أبناء المذهب، وممن ينتسب إلى الذرية الطاهرة!! ليفرق بيننا ويمزقنا كي يسود علينا وينهب خيرات بلادنا ومآرب أخرى. ألا أنهم أرادوا أن يطفئوا نور الله، والله متم نوره ولو كره المشركون والكافرون، وإنه يؤيد دينه برجال تطفح من أقلامهم الإسلامية عبقات الولاء والإخلاص، ويتدفق منها المودة الخالصة في قربى الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله). أسأل الله سبحانه أن يسدد خطاهم، ويبارك لهم في حياتهم العلمية والعملية، ويوفقهم لما فيه الخير من طلب العلم النافع والعمل الصالح وخدمة الدين ونشر معارف الإسلام وحقائق المذهب الناصعة. عهدي إليهم أن لا أنساهم من الدعاء وأملي بهم أن لا ينسوني من صالح دعواتهم الطيبة.
20 فطوبى لك يا قرة العين بما كتبت يراعك المباركة، وستلقي الأجر من أمنا فاطمة الزهراء (عليها السلام)، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم، والسلام عليك وعلى أعزائي طلاب العلوم الدينية ورجال العلم والفضيلة، وعلى كل مؤمن ومؤمنة، ودمتم بخير وسعادة، وتقبلوا تحيات (1). العبد عادل العلوي قم المقدسة - الحوزة العلمية
(1) سماحة آية الله العلامة الأستاذ السيد عادل العلوي. ولد في مدينة الكاظمية المقدسة بين الطلوعين في السادس من شهر رمضان المبارك عام 1955 م - 1375 ه ويتصل نسبه ب (38) واسطة إلى مولانا الإمام علي بن الحسين (زين العابدين (عليه السلام)). والده العلامة آية الله السيد علي بن الحسين العلوي، من علماء الكاظمية والنجف وبغداد، تلقى دروسه في العراق على يد والده المرحوم وعلى غيره، وفي قم المقدسة على يد كبار المراجع العظام والعلماء الأجلاء أمثال السيد المرعشي النجفي (قدس سره) والسيد محمد رضا الكلپايكاني (قدس سره) والشيخ محمد فاضل اللنكراني (دام ظله) والشيخ جواد التبريزي (دام ظله) وغيرهم. يعد اليوم من المدرسين الكبار في حوزة قم المقدسة، يقوم بتدريس الكفاية إضافة إلى دروسه في خارج الفقه وكذلك المكاسب والفلسفة والكلام، مضافا إلى محاضرات في التفسير والأخلاق، وكتب رسالته (زبدة الأفكار في نجاسة أو طهارة أهل الكتاب) التي نال عليها درجة الدكتوراه في الشريعة الإسلامية، مضافا إلى شهادات الأعلام باجتهاده في الفقه والأصول، وقد اشتهر بكثرة تأليفاته المتنوعة، فهو يسعى إلى تأسيس موسوعة إسلامية بقلمه الشريف في شتى العلوم والفنون تقع في (120) كتاب ورسالة، وقد طبع منها (64) كتاب ورسالة، فضلا عن المقالات، هذا وقد عرف بخدماته الثقافية والاجتماعية، مثل تأسيس مستوصف الإمام السجاد الخيري والمؤسسة الإسلامية العامة للتبليغ والإرشاد، وجماعة العلماء والخطباء في الكاظمية وبغداد، ومكتبات عامة، وحسينيات كحسينية الإمامين الجوادين (عليهما السلام) في مشهد الإمام الرضا (عليه السلام)، ولقد أجازه في الرواية ما يقرب عن عشرين من مشايخ الرواية كالآيات العظام: السيد المرعشي النجفي (قدس سره) والسيد الگلپايگاني (قدس سره) والشيخ الآراكي (قدس سره) والشيخ اللنكراني (حفظه الله) والسيد عبد الله الشيرازي (حفظه الله) والسيد محمد الشاهرودي (حفظه الله) وغيرهم. 21 المقدمة بسمه تعالى الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين حبيب إله العالمين أبي القاسم محمد وآله الطيبين الطاهرين، اللهم صل على الصديقة فاطمة الزكية حبيبة حبيبك ونبيك وأم أحبائك وأصفيائك التي انتجبتها وفضلتها واخترتها على نساء العالمين، اللهم كن الطالب لها ممن ظلمها واستخف بحقها وكن الثائر اللهم بدم أولادها اللهم كما جعلتها أم أئمة الهدى وحليلة صاحب اللواء والكريمة عند الملأ الأعلى فصل عليها وعلى أمها صلاة تكرم بها وجه أبيها محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقر بها أعين ذريتها وأبلغهم عني في هذه الساعة وفي كل ساعة أفضل التحية والسلام واردد علي منهم السلام إنك جواد كريم. وبعد فإنه لا يخفى على المتتبع لسيرة وحياة أهل البيت (عليهم السلام) أنه قد كتبت فيهم الكثير من الكتب وبالخصوص في شخصية فاطمة (عليها السلام) ومعرفتها حيث دارت في مجمل بحوثها على طريقة السرد التأريخي أو المقارنة الموضوعية - بين حياتها سلام الله عليها وبين باقي النساء المؤمنات اللائي ذكرهن القرآن الكريم - أو على طريقة الاستنتاج والتحليل الواقعي والموضوعي لجميع مواقفها الإسلامية التي اتخذتها خلال مسيرتها الحياتية والتي كانت مليئة بالدروس والعبر والعظات الإنسانية البليغة. على أن هذا الكتاب الذي بين يديك أيها القارئ الكريم قد جاء ليمثل مجموعة السبل التي لا بد من الكاتب أو المؤلف أن يجمعها ويصبها في قالب حسن وهو يعرض شخصية مثل شخصية الصديقة الطاهرة فاطمة (عليها السلام)، حيث فيه الأسرار الغامضة التي جاءت على شكل عناوين لبعض هذه البحوث مثل: حقيقة السر المستودع، أصل يوم العذاب، فاطمة حجة الله الكبرى، وأيضا فيه المقارنة الموضوعية، والاستنتاج العلمي، والتحليل المثمر، وكما سيظهر لك من خلال قراءة هذه البحوث والمحاضرات.
23 على أنني أنبه القارئ العزيز أنني قد وضعت في الكتاب بعض المواضيع التي ذكرتها بعض الكتب من باب إتمام الفائدة في الكتاب على أمل أن يكون شاملا لكثير من القضايا الحساسة والعقائدية في حياة فاطمة سلام الله عليها، وليرجع إليها الكاتب والخطيب والباحث حين تعوزه المصادر والكتب، وقد توجت كل بحث في بدايته بقصيدة شعرية في حياة فاطمة (عليها السلام) لتكون محطات أدبية فاطمية يستفيد منها القارئ أثناء ترحاله من بحث إلى آخر، لذا جاء هذا الكتاب ليمثل مصباحا جديدا في معرفة فاطمة (عليها السلام) إن شاء الله راجيا أن أكون قد أديت بعض الحق الذي علي في توضيح بعض القضايا العقائدية في شخصيتها الإسلامية الفذة، والحمد لله رب العالمين. محمد فاضل المسعودي قم المقدسة 18 ذي الحجة - عيد الغدير المبارك (1) 1419 ه
(1) من اللطائف الجميلة والصدف الحميدة التي شاهدناها خلال الانتهاء من العمل في هذا الكتاب المبارك إن شاء الله تعالى، أننا تفألنا بالقرآن الكريم في يوم الانتهاء من وضع اللمسات الأخيرة عليه وذلك يوم الغدير الأفعم، فخرجت لنا الآية المباركة المختصة بيوم الغدير ويوم تنصيب أمير المؤمنين (عليه السلام) بالولاية العظمى، وهي قوله تعالى: * (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) *. 24 التمهيد (اللهم إني أسألك بحق فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها...) قبل الدخول في مضامين هذا الدعاء لا بد من الإشارة إلى عدة أسئلة مهمة تتعلق بسند هذا الحديث، وهل ورد فيه سند؟ وفي أي كتاب مذكور؟ وهل جاء هذا الحديث على لسان المعصوم أم لا؟ كل هذه الأسئلة لا بد من الإجابة عليها قبل الدخول في صميم هذا البحث، فنقول: أن هذا الحديث لم نر له سندا في أي كتاب من الكتب المتداولة ولم يرو عن أي معصوم من أهل بيت العصمة، ولكن وجدناه مكتوبا في كتاب فاطمة بهجة قلب المصطفى تحت عنوان (دعاء التوسل بها (عليها السلام) حيث رواه مؤلف الكتاب الشيخ الهمداني بقوله: سمعت شيخي ومعتمدي آية الله المرحوم ملا علي المعصومي يقول في التوسل بالزهراء عليها السلام " إلهي بحق فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها... (1) ". وأيضا وجدنا هذا الدعاء ضمن الوصايا المهمة التي أوصى بها آية الله السيد المرعشي النجفي أبناءه بالمداومة على قراءته وبالخصوص ابنه الكبير حيث يقول: (وأوصيه - أي ابنه الأكبر - بمداومة قراءة هذا الدعاء الشريف في قنوتات فرائضه... اللهم إني أسألك بحق فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها أن تصلي على محمد وآل محمد وأن تفعل بي ما أنت أهله ولا تفعل بي ما أنا أهله... " (2).
(1) فاطمة بهجة قلب المصطفى 252. (2) قبسات من حياة سيدنا الأستاذ المرعشي النجفي (رحمه الله): ص 124. ولقد ذكر مؤلف هذا الكتاب السيد العلوي: إن هذا الدعاء قد تلقاه السيد المرعشي في ضمن الوصايا المهمة التي أعطاها الإمام المهدي (عج) للسيد المرعشي في إحدى تشرفاته بلقاء الإمام (عج). 25 فما أعظمه من دعاء بحيث يذكره السيد المرعشي النجفي (رحمه الله) في ضمن وصاياه المهمة التي أوصى بها، وأي فضيلة لهذا الدعاء والتوسل بحق الزهراء (عليها السلام) كي يكون من أهم الأدعية في قنوتات فرائض السيد المرعشي (رحمه الله). لا بد له من كرامة عظيمة وأهمية جليلة بحيث لا يترك من الوقوف معه والاستضاءة من نوره وبيان مضامينه وتجليت حقائقه لكي نعرف فاطمة حق معرفتها وعلى القدر المتيسر منه. وهذا الحديث وإن لم يكتب له سند في كتب الحديث، ولكن جاء مضمونه مطابقا لكثير من الروايات الشريفة المأثورة في حق الصديقة الكبرى فاطمة (عليها السلام)، وعلى مضمونه وحقائقه توجد أدلة وشواهد تؤكد حقيقته وإن لم يرد في كتب الأدعية، ولكن يكفي في نقله على ما استفدناه من الكتابين المذكورين اللذين ذكرا هذا الدعاء، ومن باب التسامح في أدلة السنن يهون الخطب في سنده، وعلى ضوء ما نفهمه من هذا الدعاء سوف يكون حديثنا حوله في بحثين: البحث الأول: التوسل والاستغاثة بالزهراء (عليها السلام). البحث الثاني: حقيقة السر المستودع في فاطمة (عليها السلام).
26 البحث الأول حقيقة التوسل والاستغاثة بالزهراء (عليها السلام)
27 التوسل بفاطمة (عليها السلام) للخطيب الشيخ محسن الفاضلي توسلت بالحوراء فاطمة الزهرا * لتلهمني حتى أقول بها شعرا فجاء بحمد الله ما كنت أبتغي * فأبديت للمعبود خالقي الشكرا أجل هي روح المصطفى كف ء حيدر * وأم أبيها هل ترى مثله فخرا أو المثل الأعلى بكل خصالها * جلالا كمالا عفة شرفا قدرا حوت مكرمات قط لم يحو غيرها * فمن بالثنا منها ألا قل لنا أحرى وسيلتنا والله خير وسيلة * بحق كما وهي الشفيعة في الأخرى أيا قاتل الله الذي راعها وقد * عليها قسى ظلما وروعها عصرا وسود متنيها وأحرق بابها * وأسقطها ذاك الجنين على الغبرا أيا من تواليها أتنسى مصابها * وتسلو وقد أمست ومقلتها حمرا من الضرب ضرب الرجس يوم تمانعت * بأن يذهبوا بالمرتضى بعلها قسرا وعادت تعاني هظمها ومصابها * بفقد أبيها وهي وا لهفتا عبرى إلى أن قضت روحي فداها ولا تسل * عن أحوالها والله من كلنا أدرى
29 البحث الأول حقيقة التوسل والاستغاثة بالزهراء (عليها السلام) منذ أن خلق الله البشرية وبالتحديد منذ أن خلق أدم وحواء جعل لهم وسيلة يتوسلون بها إليه لقضاء حوائجهم خصوصا أن أبينا آدم (عليه السلام) عندما أذنب بترك الأولى قد توسل إلى الله تعالى بغفران ذنبه " تركه الأولى " وكان من جملة ما توسل به الكلمات التي تلقاها من الله تعالى وتاب بها عليه تبارك وتعالى ولقد فسرت هذه الكلمات بأصحاب الكساء الخمسة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين كما جاء ذلك في تفسير قوله تعالى * (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) * (1)، إن آدم رأى مكتوبا على العرش أسماء معظمة مكرمة، فسأل عنها فقيل له: هذه أسماء أجل الخلق منزلة عند الله تعالى والأسماء هي: محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام فتوسل آدم (عليه السلام) إلى ربه بهم في قبول توبته ورفع منزلته. به قد أجاب الله آدم إذ دعا * ونجي في بطن سفينة نوح قوم بهم غفرت خطيئة آدم * وهم الوسيلة والنجوم الطلع (2) وعلى هذا الأساس كان التوسل بأولياء الله وأحبائه من الأمور المتعارفة والمتسالمة عليها عند المسلمين بل يتعدى ذلك إلى غير المسلمين فنحن نجد أن الكثير من الديانات الأخرى غير الإسلامية تتوسل بشئ ما للتقرب إلى الله تعالى أو إلى الآلهة التي يعتقدون بها وهذا ما وجدنا في مشركي قريش حيث كانوا يعبدون اللات والعزى ليقربونهم إلى الله زلفى وكما صرح بذلك القرآن الكريم في بعض آياته، وعلى كل حال فقد وردت عدة آيات قرآنية تؤكد هذه المسألة في القرآن الكريم منها قوله تعالى:
(1) البقرة: 37. (2) البرهان: 1 / 86، مجمع البيان 1 / 89. 31 * (وابتغوا إليه الوسيلة) * (1)، حيث كان القرآن موافقا في هذه المسألة للعقلاء أنفسهم وهذا ما نجده في طلب الناس حوائجهم من الذين هم في موضع القيادة أو المسؤولية فيسألونهم قضاء حوائجهم وهم أما زعيم أو رئيس أو حتى رجل كريم... وهذا ليس من الشرك في شئ، فهذا مما يساعد عليه العرف العقلائي فنحن عندما نذهب إلى الطبيب نلتمس لديه الشفاء والعلاج وصولا إلى الصحة والسلامة، وما الطبيب الحقيقي إلا الله تعالى فهل هذا يعتبر شركا بالله عز وجل؟ ويدل على هذا الأمر ما روي في قصة أبناء يعقوب على لسان القرآن الكريم عندما أدركوا أنهم قد ارتكبوا ذنوبا كثيرة بحق أخيهم يوسف حيث جاءوا أباهم يعقوب قائلين: * (يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين) * (2) على أساس أن أباهم هو وسيلة الغفران لهم من قبل رب العالمين * (وابتغوا إليه الوسيلة) *. وعلى هذا الأساس كان التوسل أمرا دينيا قد تعارف عليه الناس منذ أن خلق الله البشرية وقد جاء الإسلام ليؤكد على ضرورة هذا الأمر وذلك من خلال اتخاذ الوسيلة التي نتوسل بها إلى الله تعالى، ولم نجد من وقف ضد هذا الأمر - أي التوسل - إلا ما أسسه ابن تيمية وتلاميذه في القرن الثامن الهجري، وتلاه في عقائده الباطلة والتي لا تمتلك دليل منطقي برهاني محمد بن عبد الوهاب الذي أسس أضل وأطغى جماعة على الدين الإسلامي ألا وهي الوهابية العمياء فاعتبر التوسل بأولياء الله تعالى من الأنبياء والأوصياء وعباد الله الصالحين بدعة - تارة - وعبادة للأولياء أنفسهم تارة أخرى. وقد خالفت الوهابية كل المرتكزات العقلائية في هذا المضمار وخصوصا نحن نؤمن بأن القرآن الكريم قد أكد على حقيقة اتخاذ الوسيلة وبأشكال متعددة، وليس هذا على ما يدعيه محمد بن الوهاب نوعا من أنواع الشرك بالله تعالى، والقرآن الكريم نفسه أكد على ضرورة اتخاذ الوسيلة إلى الله تعالى. والتوسل يكون على قسمين أو صورتين:
(1) المائدة: 25. (2) يوسف: 97. 32 1 - التوسل بالأولياء أنفسهم، كأن نقول: (اللهم أني أتوسل إليك بنبيك محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تقضي حاجتي). 2 - التوسل بمنزلة الأولياء وجاههم عند الله تعالى، كأن نقول (اللهم أني أتوسل إليك بجاه محمد وحرمته وحقه أن تقضي حاجتي). أما الوهابية فإنهم يحرمون الصورتين معا، في حين أن الأحاديث الشريفة وسيرة المسلمين تشهدان بخلاف ما تدعيه الوهابية وتؤكدان جواز الصورتين معا (1). فلقد جاء الحديث الشريف عن عثمان بن حنيف ليؤكد على هذه الحقيقة حقيقة جواز التوسل بأولياء الله تعالى حيث يقول: " إن رجلا ضريرا أتى إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أدع الله أن يعافيني. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إن شئت دعوت، وأن شئت صبرت وهو خير؟ فقال: فادعه - فأمره - أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويصلي ركعتين ويدعوا بهذا الدعاء: اللهم أني أسئلك وأتوجه إليك بنبيك نبي الرحمة، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضى!، اللهم شفعه في. قال ابن حنيف: فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا كأن لم يكن به ضر. ويعتبر هذا الحديث من الأحاديث الصحيحة السند وقد أثبتته كتب العامة قبل الخاصة حتى ابن تيمية نفسه اعتبر ناقل هذا الحديث ثقة (2). أن هذا الحديث من خلال التأمل الدقيق في ألفاظه يظهر معناه واضحا جليا. حيث دل على أن الإنسان له أن يتوسل إلى الله تعالى بالذين جعلهم أدلاء على مرضاته وسبل نجاته ألا وهم الأنبياء وأفضلهم وأحسنهم خاتمهم نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته، والتوسل يكون بحرمتهم وكرامتهم وحقهم على الله تعالى. أما التوسل بالأنبياء وبحقهم فهذا ما جاء على لسان الحديث المروي في وفاة فاطمة أم أمير المؤمنين حيث يقول الحديث " لما ماتت فاطمة بنت أسد دخل عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجلس عند رأسها
(1) الوهابية في الميزان: 163. (2) سنن ابن ماجة: 1 / 441، الوهابية في الميزان 164. 33 فقال: رحمك الله يا أمي بعد أمي ثم دعا رسول الله أسامة بن زيد وأبا أيوب الأنصاري وعمر بن الخطاب وغلاما أسود يحفرون، فحفروا قبرها، فلما بلغوا اللحد حفر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيده وأخرج ترابه فلما فرغ دخل رسول الله فاضطجع فيه، ثم قال: والله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي (1). أما ما ورد في التوسل بالنبي نفسه، فقد روى جمع من المحدثين أن أعرابيا دخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: " لقد أتيناك وما لنا بعير يئط - أي مثل صوت البعير - ولا صبي يغط - وهو صوت النائم - ثم أنشأ يقول: أتيناك والعذراء تدمى لبانها * وقد شغلت أم الصبي عن الطفل ولا شئ مما يأكل الناس عندنا * سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل وليس لنا إلا إليك فرارنا * وأين فرار الناس إلا إلى الرسل فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يجر رداءه، حتى صعد المنبر فرفع يديه وقال: اللهم اسقنا غيثا... فما ردا النبي حتى ألقت السماء... ثم قال: لله در أبي طالب لو كان حيا لقرت عيناه من ينشدنا قوله؟ فقام علي بن أبي طالب (عليهما السلام) وقال: كأنك تريد يا رسول الله - قوله: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل يطوف به الهلاك من آل هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل. فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أجل فأنشد علي (عليه السلام) أبياتا من القصيدة، والرسول يستغفر لأبي طالب على المنبر، ثم قام رجل من كنانة وأنشد يقول: لك الحمد والحمد ممن شكر * سقينا بوجه النبي المطر (2) ولنعم ما قال سواد بن قارب في القصيدة التي يتوسل بها بالنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأشهد أن الله لا رب غيره * وأنك مأمون على كل غائب وأنك أدنى المرسلين وسيلة * إلى الله يا بن الأكرمين الأطائب
(1) كشف الارتياب: 312، حلية الأولياء: 121، وفاء الوفا 3 / 899. (2) شرح نهج البلاغة 14 / 80، السيرة الحلبية: 3 / 263. 34 فمرنا بما يأتيك يا خير مرسل * وإن كان فيما فيه شيب الدوائب وكن لي شفيعا يوم لا ذو شفاعة * بمضض فتيلا عن سواد بن قارب (1) أما التوسل بأولياء الله تعالى فهذا ما أثبتته الكتب الكثيرة وخاصة الموجودة في كتب العامة حيث ورد في كيفية استسقاء المسلمون بعم النبي " العباس " واستسقى عمر بن الخطاب بالعباس عام الرمادة، لما اشتد القحط فسقاهم الله تعالى به، وأخصبت الأرض - فقال عمر هذا - والله - الوسيلة إلى الله والمكان منه. وقال حسان: سأل الإمام وقد تتابع جد بنا * فسقى الغمام بغرة العباس عم النبي وصفو والده الذي * ورث النبي بذاك دون الناس أحيى الإله به البلاد فأصبحت * مخضرة الأجناب بعد اليأس ولما سقي الناس طفقوا يتمسحون بالعباس ويقولون هنيئا لك ساقي الحرمين (2). أقول: بعد هذا البيان يظهر لنا أن التوسل بالأولياء الصالحين مما جرت به السنة الشريفة فضلا عن القرآن الكريم نفسه، وعلى هذا الأساس جاء هذا الدعاء المروي عن علمائنا الأفاضل: " اللهم إني أسألك بحق فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها..... والذي يظهر من خلال استقراء الروايات المأثورة في حق الزهراء أن هذا الدعاء وارد في حق التوسل بالصديقة الطاهرة الزهراء (عليها السلام) فتارة نجد بعض الأحاديث تبين كيفية التوسل بالزهراء وتارة أخرى تبين كيفية الاستغاثة بالصديقة الشهيدة سلام الله عليها. فقد ورد عن لسان العلامة المتبحر المجلسي ما نصه: وجدت نسخة قديمة من مؤلفات بعض أصحابنا رضي الله عنهم ما هذا لفظه: هذا الدعاء رواه محمد بن بابويه رحمه الله، عن الأئمة (عليهم السلام) وقال: ما دعوت في أمر إلا رأيت سرعة الإجابة وهو... (يا فاطمة الزهراء يا بنت محمد، يا قرة عين الرسول، يا سيدتنا ومولاتنا، إنا
(1) الدرر السنية: 27 زيني دحلان، التوصل إلى حقيقة التوسل: 300. (2) تاريخ أسد الغابة في معرفة الصحابة: 3 / 111. 35 توجهنا واستشفعنا، وتوسلنا بك إلى الله، وقدمناك بين يدي حاجاتنا، يا وجيهة عند الله إشفعي لنا عند الله...) * (1). وروي في كيفية التوسل بالزهراء، أن تصلي ركعتين، فإذا سلمت فكبر الله ثلاثا، وسبح تسبيح الزهراء (عليها السلام) واسجد وقل مائة مرة: يا مولاتي، يا فاطمة أغيثيني، ثم ضع خدك الأيمن، وقل كذلك، ثم عد إلى السجود وقل كذلك، ثم خدك الأيسر على الأرض وقل كذلك، ثم عد إلى السجود وقل كذلك مائة مرة وعشر مرات، وأذكر حاجتك تقضى (2). أما صلاة الاستغاثة بالبتول فهو نفس العمل السابق إضافة إلى ذلك تقول في السجود: (يا آمنا من كل شئ وكل شئ منك خائف حذر، أسألك بأمنك من كل شئ وخوف كل شئ منك، أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن تعطيني أمانا لنفسي وأهلي ومالي وولدي حتى لا أخاف أحدا ولا أحذر من شئ أبدا، إنك على كل شئ قدير) *. والدعاء الذي افتتحنا به البحث يؤكد على مسألة مهمة أخرى وهي حق فاطمة (عليها السلام) والذي يهمنا في هذا المقام هو معرفة حق فاطمة وما المقصود منه، والذي نراه بعد تتبع بعض روايات أهل البيت (عليهم السلام) أن حق أهل البيت عظيم وحقوقهم كثيرة، ولكن الأهم من هذا كله هو معرفة الحق الأكبر، والذي عبرت عنه الروايات حق المعرفة، وبعبارة أخرى أهم حق هو معرفة كونهم (عليهم السلام) مفترضو الطاعة وهذا ما أشارت إليه الكثير من الروايات المروية في المقام. حيث فسرت حق الأئمة تارة بأنهم حجة الله على الخلق والباب الذي يؤتى منه والمأخوذ عنه، وأنهم مفترضو الطاعة، وهكذا بالنسبة للأئمة (عليهم السلام)، أما الصديقة الشهيدة، فحقها كبير على الناس وخصوصا الأنبياء، حيث ورد أنه ما تكاملت نبوة نبي من الأنبياء حتى أقر بفضلها ومحبتها وهي الصديقة الكبرى وعلى معرفتها دارت القرون الأولى، وكذلك ورد أنها مفترضة الطاعة على جميع البشر وهذا حقها الأكبر
(1) البحار: 12 / 247. (2) البلد الأمين: 159، البحار: 102 / 254 ح 13، مستدرك الوسائل: 6 / 331 ح 3 مثله. 36 على الناس حيث يقول الحديث: " ولقد كانت (عليها السلام) مفروضة الطاعة، على جميع من خلق الله من الجن والأنس والطير، والوحش، والأنبياء، والملائكة " (1). على أنه كلما ثبت من حقوق للأئمة (عليهم السلام) فهو ثابت للصديقة الطاهرة فاطمة (عليها السلام) وخصوصا نحن نعلم أنه ورد عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) أنه قال: (نحن حجج الله على الخلق وجدتنا فاطمة حجة الله علينا). إذن من خلال هذا الموضوع نفهم أن لحقيقة التوسل بالصديقة الشهيدة (عليها السلام) لقضاء الحاجات بوجاهتها عند الله دورا مهما في ترسيخ عقيدة الإنسان المؤمن بها حيث بعد قضاء الحاجة على يديها يجد المؤمن إيمانا راسخا بها هذا من جهة، وأن حقيقة التوسل بها يضعنا أمام جملة من الحقائق لا بد من الوقوف معها والتأمل في مغزاها من جهة أخرى. وأول هذه الحقائق المنزلة العظيمة والجليلة والفريدة التي كانت تتمتع بها بضعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مما جعلها موئلا لكل مستغيث ومقصدا لكل طالب حاجة ضاق بحاجته ذرعا وهو لا يدري باب من يطرق حتى تقضى حاجته وتجاب استغاثته، فإذا بالإمام الصادق (عليه السلام) يقول لنا: عليكم بالزهراء، استغيثوا باسمها ونادوا مولاتكم فاطمة، وحينئذ تقضى حاجتكم، وتنالون مطلبكم ويكفي في مقام بيان منزلتها أنها كانت المرجع لأبيها حيث كناها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأم أبيها، وأنها كانت بضعة منه فمن أغضبها فقد أغضبه (صلى الله عليه وآله وسلم) ويكفي في منزلتها أيضا أنها سيدة نساء أهل الجنة، بل سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين في الدنيا والآخرة، وأنها أم الأئمة المعصومين وأنها حليلة سيد الأوصياء علي بن أبي طالب (عليه السلام). وأما الحقيقة الثانية التي أثبتتها أحاديث التوسل بالصديقة الشهيدة، هو مسألة الشفاعة، ولما لها من الأهمية الكبرى في حياة الفرد المؤمن، حيث نجد مسألة الشفاعة لها دور كبير في بعث الأمل في روح المذنبين وأن لهم أملا يظهر خلال الدنيا على نحو التوسل وفي الآخرة على نحو الشفاعة وهذا ما أكده القرآن الكريم في كثير من آياته
(1) دلائل الإمامة: 28. 37 حيث يقول سبحانه وتعالى: * (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن) * (1)، * (ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له) * (2)، * (لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا) * (3). فإذا كان الله سبحانه وتعالى يأذن لبعض عباده بأن يشفعوا لغيرهم من الناس فمن أولى من بضعة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه الخصوصية. والحقيقة الأخرى التي كشفت عنها روايات التوسل والاستغاثة بالصديقة الشهيدة هي مسألة تسبيح الزهراء (عليها السلام)، ذلك التسبيح الذي علمه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لابنته بأن تكبر الله سبحانه أربعا وثلاثين وتحمده ثلاثا وثلاثين وتسبحه ثلاثا وثلاثين، عندما جاءته والإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) تشكو له (صلى الله عليه وآله وسلم) إجهادها ونصبها ومعاناتها في عمل البيت، فطلبت منه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعينها بخادمة تكون معوانا لها، فكان أن علمها هذا التسبيح الذي عملت به سلام الله عليها وعنها أخذ المؤمنون يسبحون به ويتعبدون بعد كل صلاة. وكأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد أن تصبح الزهراء (عليها السلام) حاضرة في كل صلاة يؤديها مؤمن، إذ كلما تعبد بهذا التسبيح متعبد تذكر الزهراء ومكانتها من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن الله سبحانه وتعالى.
(1) طه آية 109. (2) سبأ آية 23. (3) مريم آية 87. 38 البحث الثاني حقيقة السر المستودع في فاطمة (عليها السلام)
39 عبد الحسين صادق العاملي أنائحة مثلي على العرصة القفرا * تعالى أقاسمك المناحة والذكرى حديث الجوى يا ورق يرويه كلنا * عن العبرة الوطفاء والكبد الحرى كلانا كئيب يتبع النوح أنة * إذا ما وعاها الصخر صدعت الصخرا خذي لك شطرا من رسيس مبرح * ولي منه يا ذات الجناح ذري شطرا خلا إنها تبكي وما فاض دمعها * وأرسلتها من مقلتي أدمعا حمرا فلا جمر أحشائي يجفف عبرتي * ولا عبرتي في صوبها تخمد الجمرا وقائلة وهي الخلية من جوى * معرسه أضحى في الحيازم والصدرا رويدك نهنه عن غرامك واتخذ * شعاريك في الخطب التجلد والصبرا فقلت ولكن فاتني الصبر كله * لرزء أصيبت فيه فاطمة الزهرا غداة تبدت مستباحا خباؤها * ومهتوكة حجب الخفارة والسترا على حين لا عين النبي أمامها * لتبصر ما عانته بضعته قسرا على حين لا سيف الرسول بمنتضى * الغرار ولم تنظر لرايته نشرا بنحلتها جاءت تطالب معشرا * بدا كفرهم من بعد ما أضمروا الكفرا عموا عن هواها ثم صموا كثيرهم * كأن بسمع القوم من قولها وقرا لقد أرعشت بالوعظ صل ضغونهم * فثاروا لها والصل إن يرتعش يضرا فلو أنهم أوصى النبي بظلمهم * لها ما استطاعوا غير ما ارتكبوا أمرا وأنى وهم طورا عليها تراثها * أبوا وأبوا منها البكا تارة أخرى وهم وشموها تارة بسياطهم * وآونة قد أوسعوا ضلعها كسرا وخلي حديث الباب ناحية فما * تمثلته إلا جرت مقلتي نهرا بنفسي التي ليلا توارت بلحدها * وكان بعين الله أن دفنت سرا بنفسي التي أوصت بإخفاء قبرها * ولولاهم كانت بإظهاره أحرى
41 البحث الثاني حقيقة السر المستودع * كتمان الأسرار: أكد القرآن الكريم في كثير من آياته المباركة على اطلاع الباري عز وجل على خائنة العين وما تخفي الصدور، ويعني هذا أن الله يعلم السر وما أخفى، وهو ما أضمره الإنسان وأسره ثم نسيه * (والله يعلم ما تسرون وما تعلنون) * (1)، وأيضا جاء قوله تعالى * (وأسروا قولكم أو اجهروا به، أنه عليم بذات الصدور) * (2). ليؤكد هذه الحقيقة، حقيقة السر الذي يكتمه الإنسان على غيره ولكن لا يخفى على الله تعالى أي سر لأن الله تعالى خالق الإنسان في هذا العالم وإلى ذلك أشار القرآن * (قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض، إنه كان غفورا رحيما) * (3)، فيعلم الله تعالى حقيقة أسرار الناس وما يكتمون، إلا أنه هناك أسرار مودعة من قبل الله تعالى عند كثير من الأولياء وخصوصا الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين حيث أمرهم بحفظها ولا يظهروها إلا لمن هو أهل لها، ولنعم ما قيل في الشعر المنسوب إلى مولى الموحدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) حيث قال: لا تفش سرا ما استطعت إلى امرئ * يفشي إليك سرائرا يستودع فكما تراه بسر غيرك صانعا * فكذا بسرك لا محالة يصنع وإلى ذلك أشار الفرزدق: لا يكتم السر إلا من له شرف * والسر عند كرام الناس مكتوم
(1) النحل: 19. (2) الملك: 13. (3) الفرقان: 6. 43 السر عندي في بيت له غلق * ضلت مفاتيحه والباب مردوم إذن الأسرار المودعة من قبل الله تعالى عند الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين هي أمانات وكما ورد في المثل الذي يقول " السر أمانة فانظر عند من تضع أمانتك "، وقال الله تعالى: * (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) * (1). وأسرار الله تعالى كلها أماناته في أرضه وقلوب أوليائه ولا إجازة لهتكها وكشف قناعها إلا بين يدي صاحبها الذي هو أهل لها وهذا أمر أمر الله تعالى به عباده المخلصين من الأنبياء والأولياء - (عليهم السلام) - وبالغ معهم، وأمرهم أيضا أن يأمروا بذلك المؤمنين ويبالغوا فيه، حتى قالوا " إفشاء سر الربوبية كفر وهتك أستار الألوهية زندقة " وقالوا " لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها، فتظلموها، ولا تمنعوها من أهلها فتظلموهم كونوا كالطبيب الشفيق يضع الدواء موضع الداء ". وقالوا في الشعر المنسوب الفارسي " فمن منع الجهال علما أضاعه ومن منع المستوجبين فقد ظلم "، وأقوالهم الشاهدة بذلك وإشاراتهم الدالة عليه أشهر وأظهر من أن تخفى على أحد، ومع ذلك نحن نذكر بعض ذلك استظهارا لك ولغيرك لئلا يهمله أحد ويوقع نفسه في الهلاك الأبدي والشقاء السرمدي، حيث جاء قوله تعالى تعليما لعباده وتأكيدا لهم في أداء الأمانة التي هي أسراره إلى أهلها * (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وحملها الإنسان أنه كان ظلوما جهولا) * (2). والمراد أنه يقول: الذين هم الملائكة والجن والحيوانات والوحوش والطيور وغير ذلك - أو على استعداد كل واحد من السماوات والأرض والجبال بنفسها، لأنها عند الأكثرين شاعرة بذاتها - لأجل إيداع أمانتنا التي هي أسرارنا فما وجدنا أهلا لها ومستعدين لحملها لعدم قابليتهم وضعف استعدادهم لأن حمل الشئ وقبوله موقوف على قابلية ذلك الشئ واستعداده ووجدنا الإنسان أهلا لها ومستعدا لحملها فأمرناه بحملها وأشرنا إليه بقبولها لأنه كان " ظلوما جهولا " أي بسبب أنه كان مستعدا لها ومستحقا لحملها " بظلوميته وجهوليته ".
(1) النساء: آية 58. (2) الأحزاب: آية 72. 44 فكأنه يقول: إن السبب الأعظم والممد الأعلى في أهليته لهذه الأمانة المعروضة على السماوات والأرض والجبال وما فيها من المخلوقات كان " ظلوميته وجهوليته " لأنه لو لم يكن مستحقا لحملها ومستعدا لقبولها لكان كغيره من الموجودات لعدم هاتين الصفتين فيه، وعلى هذا التقدير تكون صفتا " الظلومية والجهولية " مدحا له " يعني للإنسان " لا مذمة كما ذهب إليه أكثر المفسرين (1)، ولا شك أنه كذلك واللام في " لأنه " لام التعليل لا غير، ليعرف به هذا المعنى والمراد بالإنسان نوعه وبالحمل استعداده للحمل وقابليته له. وهذا هو المعنى المطابق للأمانة والعرض والحمل والقبول والإباء إجمالا لا غير، وإلا الأمانة ما كانت شيئا محسوسا معروضا على كل واحد من الموجودات حسا وشهادة ولا كان آباؤهم عنها قولا وفعلا، كما يرسخ في أذهان المحجوبين عنها. إذن بما أنه تعالى مع عظمة شأنه وجلالة قدره لم يضع ويدع الأمانة إلا عند أهلها، ولم يأذن بها إلا إلى صاحبها فلا ينبغي أن يفعل غيره بخلاف ذلك وإلا يكون مخالفا لأمره سالكا غير طريقه وأيضا لو لم تكن رعاية الأمانة عنده عظيمة ما مدح بنفسه للراغبين أمانته، وما سلكهم في سلك المصلين الصلاة الحقيقية، وما جعلهم من الوارثين * (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلواتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون) * إلى قوله تعالى * (أولئك هم الوارثون الذين هم يرثون الفردوس هم فيها خالدون) * فحيث مدحهم على ذلك وسلكهم في سلك هؤلاء المعظمين بل قدمهم عليهم وجعلهم من الوارثين " الذين يرثون الفردوس " فعرفنا أن رعايتها " يعني رعاية الأمانة " معتبرة وقدرها جليل وشأنها عظيم وبالجملة الخيانة في هذه الأمانة هي إيداعها عند غير أهلها، وإمساكها عن أهلها، وكلاهما غير جائز وإليه أشار جل ذكره في قوله * (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون) * أي " لا تخونوا الله والرسول " بإيداع أسرارهم عند غير أهلها " وأنتم تعلمون " عاقبة الخائن وصعوبة عذابه وشدة عقوبته: * (ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) * أي ذلك القول " وصاكم به
(1) راجع تفسير الميزان: 16 / 356، حيث فيه القول الفصل لهذا الموضوع. 45 لعلكم تتقون " عنها أي تحتزرون عن الخيانة بعد ذلك وتعظمون مكانتها. جعلنا الله من الحاملين أمانته والراعين عهده، الموفين به الوارثين جنته، بمحمد وآله أجمعين. وإذ فرغنا من كلام الله تعالى، فلنشرع في كلام الأنبياء (عليهم السلام) ومنها قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " من وضع الحكمة في غير أهلها جهل، ومن منع عن أهلها ظلم " " أن للحكمة حقا، وأن لها أهلا: فأعط كل ذي حق حقه " وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) " أن من العلم كهيئة المكنون، لا يعلمه إلا أهل المعرفة بالله، فإذا نطقوا به لم يجهله إلا أهل الاغترار بالله " وغير ذلك من الأقوال المعلومة لأهلها. والغرض أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر بذلك وفعل بنفسه، لأنه إذا أراد إيداع مثل هذه الأسرار في قلوب أصحابه وخواصه كان يخلو بهم ويقول في آذانهم، كما فعل بأمير المؤمنين علي (عليه السلام) وأخبر عنه أمير المؤمنين بقوله " تعلمت من رسول الله ألف باب من العلم، وفتح الله تعالى لي بكل باب ألف باب " وإلى كتمانه وإخفائه بنفسه عن الأغيار أشار أيضا بقوله " اندمجت على مكنون علم، لو أبحت به لاضطربتهم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة ". وإلى ثمرة إظهاره - أعني من الفساد - أشار أيضا وقال " والله لو شئت أن أخبر بكل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت ولكني أخاف أن يكفروا برسول الله " وهذا أمر منه بإخفاء أسرار الله وكتمانها وكناية عن إخفائها ولهذا لما قال له الخصم " أنت تتكلم بالغيب " قال ويحك! أن هذا ليس بغيب، ولكنه علم تعلمت من ذي علم " أراد به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وكما فعل بسلمان أيضا، أي جعله صاحب سر وقال فيه: " سلمان منا أهل البيت " أي من أهل بيت التوحيد والعلم والمعرفة والحكمة لا من أهل بيت النسوان والصبيان والأهل والأولاد، وقال تأكيدا لهذا المعنى: " لو علم أبو ذر ما في بطن سلمان من الحكمة لكفره! " وروي " لقتله! " وكلاهما صحيح فأنظر إلى عظمة السر المودع عند سلمان، وعلى المبالغة في كتمان أسرار الله تعالى حيث عرفت أن كبار الصحابة كانوا يخفون بعضهم عن بعض حتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولعظمة شأن سلمان وقربه إلى حضرة الرحمان قال عليه السلام: " الجنة أشوق إلى سلمان من سلمان إلى الجنة " وكذلك لجلالة قدر أويس القرني (رحمه الله) لاطلاعه على أسرار الله تعالى كشفا وذوقا، قال (صلى الله عليه وآله وسلم) في حقه حيث كان
46 يستنشق من طرف اليمن روائح أنفاسه الشريفة من حيث الباطن أو الظاهر: " أني لأستنشق روح الرحمن من طرف اليمن " وورد " من ناحية اليمن " و " من قبل اليمن " وقد سأله سلمان عن هذا الشخص فقال له (عليه السلام): " إن باليمن لشخصا يقال له: " أويس القرني يحشر يوم القيامة أمة وحده يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر، ألا من رآه منكم فليقرأه عني السلام، وليأمره أن يدعو لي ". وإلى غلبة هذه الأسرار بالنسبة إليه في بعض الأوقات قال: " لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل " والمراد أن لي مع الله حالات وأوقات لا يمكن أن يطلع عليها أحد، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا غيرهم من المخلوقات، وكأنه يشير إلى أنه ما تنكشف عليه هذه الأسرار ولا تتجلى له هذه الأنوار إلا عنده تجرده عن جميع التعلقات الروحانية والجسمانية - حتى النبوة والرسالة - وعن جبرئيل وإبلاغه أيضا لقوله (عليه السلام): " لو دنوت أنملة لاحترقت " وبالحقيقة المعراج عبارة عن هذا المقام، إن أريد به المعراج المعنوي، وإن أريد به المعراج الصوري فهو ظاهر وقد عبر (عليه السلام) عن شدة تعلقه بالنبوة والرسالة ومنعهما من الوصول إلى حضرة الحق جل جلاله وقال حين خلاصه عنهم لحظة " لا يسعني فيه ملك مقرب أي جبرئيل وإبلاغه " ولا نبي مرسل " أي النبوة ورسالتهما لأن الرسالة إبلاغ ما حصل عن النبوة وإلى هذا المقام أشار - جل ذكره - " ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته " وأمثال ذلك كثيرة. والغرض منه أن إخفاء أسرار الله تعالى - خصوصا الأسرار المتعلقة بهم - واجب من غير أهلها لأنها لا زالت كذلك أي مخفية عن غير أهلها، مودعة عند أهلها، وإذا عرفت هذا فلنرجع إلى قول الأولياء (عليهم السلام) ونبين هذا بقول أعظمهم وأكملهم الذي هو أمير المؤمنين (عليه السلام) كما فعلنا في الأنبياء أعني اكتفينا منهم بأعظمهم وأكملهم الذي هو نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) ومنها قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأقواله في هذا الباب كثيرة نذكر منها أحسنها وألطفها، وهو ما جرى بينه وبين كميل بن زياد النخعي (رحمهم الله) الذي كان من أخص تلامذته وأعظم أصحابه وإليه تنسب خرقة الموحدين وطريقة المتحققين حين سأله عن " الحقيقة "، بقوله " ما الحقيقة! " فقال له (عليه السلام): " ما لك والحقيقة؟ " يعني من أنت
47 والسؤال عن الحقيقة ولست بأهلها! فقال كميل: " أولست بصاحب سرك؟ " قال: " بلى ولكن يرشح عليك ما يطفح مني " يعني أنت صاحب سري ومن أخص تلامذتي ولكن لست بأهل لمثل هذا السر والاطلاع عليه لأنه " يرشح عليك ما يطفح مني " و " إلا كان الأمر " يضرك ويضرني لأن ظرفك لا يحتمل فوق قدرك، وأنا مأمور بوضع الشئ في موضعه، فقال كميل: " أو مثلك يخيب سائلا؟ " أي مثلك في العلوم والحقائق والاطلاع على استعداد كل سائل " يخيب سائلا " أي يمنعه عن حقه ويجعله محروما عن مراده، خائبا عن مقصوده، ساكتا عن جوابه؟ لا والله بل يجب عليك وعلى مثلك جواب كل واحد منهم بقدر استعداده وفهمه وإدراكه مطاوعة لقوله تعالى: * (أما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث) * وأسوة نبيك (صلى الله عليه وآله وسلم) لقوله " كلموا الناس على قدر عقولهم ". فشرع الإمام (عليه السلام) بعد ذلك في بيانه وقال: الحقيقة كشف سبحات الجلال من غير إشارة، فقال كميل: زدني فيه بيانا، قال الإمام (عليه السلام): صحو الموهوم مع محو المعلوم. قال كميل: زدني فيه بيانا، قال الإمام (عليه السلام): هتك السر لغلبة الستر. قال كميل: زدني فيه بيانا. قال الإمام (عليه السلام): نور يشرق من صبح الأزل، فيلوح على هياكل التوحيد آثاره. قال كميل: زدني فيه بيانا، قال الإمام (عليه السلام): أطف السراج، فقد طلع الصبح. وهذا الكلام يحتاج إلى شرح طويل وبسط عظيم، ولكن معنى الكلام الأخير أنه يقول: اسكت بعد ذلك أي بعد هذا البيان التام والإظهار الكامل والكشف الجلي، عن السؤال من لسان العقل ومقام القلب ومرتبة السلوك، لأنه قد طلع تباشير شمس الحقيقة وظهر شعاعها في الآفاق، ولست أنت بعد ذلك، محتاجا إلى السؤال من لسان العقل الذي كالسراج بالنسبة للشمس. والمراد أن الشخص إذا وصل إلى مقام المشاهدة والكشف فلا ينبغي له أن يطلب المقصود من طريق المجادلة والمباحثة لأن الكشفيات والذوقيات غير قابلة للعبارة والإشارة والسؤال والجواب كما أشار إليه أولا: " كشف سبحات الجلال من غير إشارة " فكأنه أمره بالسكوت والصمت والتوجه إلى حضرته تعالى حتى يدرك مقصوده بالذوق الذي هو أعلى مراتب الوصول إلى الله تعالى، وعن هذا المقام قال
48 العارف: " من عرف الله كل لسانه " أي " من عرف الله " على سبيل المشاهدة والذوق " كل لسانه " عن العبارة والإشارة والغرض من هذا كله أن الإمام عليه السلام إذا كان بإفشاء الأسرار الإلهية من أعظم خواصه وأكبر تلامذته بهذه المثابة، فلا يجوز لغيره إفشاؤها مع كل أحد من العوام والجهال، فإذن عليك بكتمانها وإخفائها عن غير أهلها اتباعا لله تعالى ولرسوله ولإمام المسلمين كافة. ويروى عن كميل (رضي الله عنه) مثل ذلك أيضا وأبلغ في كتمان الأسرار وإخفائها، كما هو مذكور في نهج البلاغة، وهو أنه قال (رضي الله عنه): " أخذ بيدي أمير المؤمنين علي (عليه السلام) فأخرجني إلى الجبانة فلما أصحر، تنفس الصعداء ثم قال لي: يا كميل بن زياد! " إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها فأحفظ عني ما أقول لك: الناس ثلاثة: فعالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لم يستضيؤا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق. يا كميل: العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق وصنيع المال يزول بزواله، يا كميل! معرفة العلم دين يدان به، به يكسب الإنسان الطاعة في حياته وجميل الأحدوثة بعد وفاته، العلم حاكم والمال محكوم عليه، يا كميل بن زياد: هلك خزان الأموال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة؟ إن ههنا لعلما جما - وأشار بيده إلى صدره - لو أصبت له حملة! بلى! أصبت لقنا غير مأمون عليه، مستعملا آلة الدين للدنيا، ومستظهرا بنعم الله تعالى على عباده، وبحججه على أوليائه، أو منقادا لحملة الحق لا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة: ألا! لاذا ولا ذاك، أو منهوما باللذة - سلس القيادة للشهوة، أو مغرما بالجمع والادخار ليس من رعاة الدين في شئ أقرب شئ شبها بهما الأنعام السائمة، كذلك يموت العلم بموت حامليه، اللهم بلى: لا تخلو الأرض من قائم لله بحججه، إما ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا، لئلا تبطل حجج الله وبيناته، ولم ذا؟ وأين أولئك - لا والله - الأقلون عددا. والأعظمون عند الله قدرا، بهم يحفظ الله تعالى حججه وبيناته، حتى يودعوها نظراءهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة،
49 وباشروا ردح اليقين، واستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون، وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى أولئك خلفاء الله في أرضه، والدعاة إلى دينه، آه، آه! شوقا إلى رؤيتهم ". وإذ فرغنا من كلامه في كتمان الأسرار والمبالغة فيه بقدر هذا المقام، فلنشرع فيه من كلام الأئمة المعصومين من أولاده (عليهم السلام) تأكيدا ومبالغة في هذه المقدمة، وإن قيل: يكفي في هذه المقدمة ما قدمتم من آية أو آيتين، وخبر أو خبرين لأن المقصود يحصل منهما، فلا فائدة في التطويل وزيادة في الكلام؟ أجيب عنه بأن المراد ليس نفس الإخفاء ولا الكتمان، بل هناك غرض آخر يفهم من البحث الآتي في آخر هذه العجالة وهو معرفة حقيقة السر المستودع في فاطمة وهل هو ظاهر أم مستور ستره الله عن جميع البشر إلا الأولياء الخلص، وبقية الأغراض سوف تظهر من بعد ذلك. ومنها قول الأئمة المعصومين من أهل بيت النبي - صلوات الله عليهم أجمعين - وهو أنه مروي برواية صحيحة عن أحدهم (عليهم السلام) قال: " أن أمرنا صعب مستصعب، لا يحتمله إلا ملك مقرب، أو نبي مرسل، أو مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان "، وقال: " خالطوا الناس بما يعرفون ودعوهم بما ينكرون، ولا تحملوا على أنفسكم وعلينا، أن أمرنا صعب مستصعب، لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل، أو مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان " (1). وروى محمد بن عبد الجبار عن الحسين بن الحسين اللؤلؤي عن محمد بن الهيثم، عن أبيه، عن أبي حمزة الثمالي، قال: " سمعت أبا جعفر " يعني الإمام الباقر " - يقول: أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب، أو نبي مرسل، أو مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان. ثم قال: يا أبا حمزة! ألست تعلم أن من الملائكة مقربا وغير مقرب؟ ومن النبيين مرسلا، وغير مرسل؟ وفي المؤمنين ممتحنا وغير ممتحن؟ قال: قلت بلى؟ ألا ترى صعوبة أمرنا؟ إن الله تعالى أختار له من الملائكة المقرب ومن النبيين المرسل ومن المؤمنين الممتحن ".
(1) بصائر الدرجات: 1 / 48. 50 وروى محمد بن الحسين، عن محمد بن سنان، عن عمار بن مروان، عن جابر عن أبي عبد الله يعني الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) - أنه قال: " أمرنا سر مستور في سر، وسر مستسر، وسر لا يفيده إلا سر وسر على سر، مقنع بسر " وروي أيضا أنه قال: " أمرنا سر مستور في سر، مقنع بالميثاق: من هتكه أذله الله " (1). وروى ابن محبوب، عن مرازم، قال " قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): " أمرنا هو الحق وحق الحق، وهو الظاهر، وباطن الباطن، وهو السر، وسر السر، والسر المستتر، وسر مقنع بسر ". وإلى كتمان هذا السر، أشار بقوله (عليه السلام): " التقية ديني ودين آبائي، فمن لا تقية له، لا دين له " (2) يعني: الاتقاء والاحتراز من إفشاء الأسرار الإلهية، " ديني ودين آبائي " من الأنبياء والأولياء (عليهم السلام) " فمن لا تقية له " في إخفائها " لا دين له "، وإلى هذا أشار علماؤنا في كتبهم وقالوا: التقية واجبة لا يجوز رفعها إلى أن يخرج الإمام القائم الذي به يظهر الدين كله ويكون من المشرق إلى المغرب على ملة واحدة كما كان الشأن في زمان آدم (عليه السلام)، فمن تركها " يعني التقية " قبل خروجه فقد خرج من دين الإمامية، وخالف الله تعالى ورسوله والأئمة (عليهم السلام) وهذا الكلام منقول من " اعتقادات ابن بابويه (رحمه الله) ". وروى عمران بن موسى عن محمد بن علي وغيره، عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) قال: " ذكر علي (عليه السلام) التقية في يوم عيد ". قال والله لو علم أبو ذر ماذا في قلب سلمان، لقتله! "، ولقد آخي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بينهما، فما ظنك بسائر الخلق؟ " أن علم العلماء صعب مستصعب، لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل، أو عبد مؤمن، امتحن الله قلبه للإيمان. قال: " وإنما صار سلمان من العلماء، لأنه أمرؤ منا أهل البيت ". فلذلك نسبته إلينا (3). وإلى هذا كله أشار الإمام المعصوم زين العابدين (عليه السلام) في أبيات منسوبة إليه، وهو قوله: أني لأكتم من علمي جواهره * كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا وقد تقدمنا فيها أبو حسن * مع الحسين ووصى بها قبلها الحسنا
(1) بصائر الدرجات: 1 / 48. (2) راجع التقية بين الأعلام، بقلم سيد عادل العلوي. (3) بصائر الدرجات 1 / 45. 51 يا رب جوهر علم لو أبوح به * لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا! ولاستحل رجال مسلمون دمي * يرون أقبح ما يأتونه حسنا وعلى هذا الأساس نجد أن الأئمة من آل محمد - (صلى الله عليه وآله وسلم) - كانوا يحملون الأسرار الربانية التي أفاضها الباري عليهم منذ أن خلقهم أنوارا وجعلهم بعرشه محدقين وإلى أن من بهم علينا، ولكن لا يظهرون هذه الأسرار إلا لمن وجدوه أهلا لحمل الأمانة، ومستودعا لها، وإلى هذا الأمر - أعني حمل الأسرار - ورد في الزيارة الجامعة الكبيرة لأئمة المؤمنين (عليهم السلام) ما نصه: (... السلام على محال معرفة الله ومساكن بركة الله ومعادن حكمة الله وحفظة سر الله... اصطفاكم بعلمه، وارتضاكم لغيبه، واختاركم لسره... وأنصارا لدينه، وحفظة لسره... ومستودعا لحكمته...). وغير ذلك من الأقوال والزيارات الواردة والتي تصفهم (عليهم السلام) بأنهم المستودع لسر الله، وأن هذه الأسرار لا يعطوها إلا إلى أهلها وإلى ذلك أشار الحديث المروي عن أبي بصير قال: " قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا أبا محمد، إن عندنا والله سرا من سر الله وعلما من علم الله، والله لا يحتمله ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان، والله ما كلف الله ذلك، أحدا غيرنا ولا استعبد بذلك أحدا غيرنا، وأن عندنا سرا من سر الله، وعلما من علم الله أمرنا بتبليغه فبلغنا عن الله عز وجل ما أمرنا بتبليغه، فلم نجد موضعا ولا أهلا ولا حمالة يحتملونه حتى خلق الله لذلك أقواما، خلقوا من طينة خلق منها محمد وآله وذريته (عليهم السلام)، ومن نور خلق الله منه محمدا وذريته وضعهم بفضل صنع رحمته التي صنع منها محمدا وذريته، فبلغنا عن الله ما أمرنا بتبليغه فقبلوه واحتملوا ذلك " فبلغهم ذلك عنا فقبلوه واحتملوه " وبلغهم ذكرنا فمالت قلوبهم إلى معرفتنا، وحديثنا فلولا أنهم من هذا لما كانوا كذلك، لا والله ما احتملوه، ثم قال: إن الله خلق أقواما لجهنم والنار، فأمرنا أن نبلغهم كما بلغناهم، واشمأزوا من ذلك ونفرت قلوبهم وردوه علينا ولم يحتملوه، وكذبوا به وقالوا ساحر كذاب، فطبع الله على قلوبهم وأنساهم ذلك، ثم أطلق الله لسانهم ببعض الحق فهم ينطقون به وقلوبهم منكرة، ليكون ذلك دفعا عن أوليائه وأهل طاعته، ولولا ذلك ما عبد الله في أرضه، فأمرنا بالكف عنهم والستر والكتمان، فاكتموا عمن أمر الله بالكف عنه واستروا عمن أمر الله
52 بالستر والكتمان عنه، قال: ثم رفع يده وبكى وقال: اللهم إن هؤلاء لشرذمة قليلون، فاجعل محيانا محياهم ومماتنا مماتهم ولا تسلط عليهم عدوا لك فتفجعنا بهم، فإنك إن أفجعتنا بهم لم تعبد أبدا في أرضك وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما (1) ". أقول: يظهر من هذا الحديث عدة أمور أهمها: إن أهل البيت (عليهم السلام) عندهم أسرار قد آمنهم عليها رب العزة لا يتحملها غيرهم ولا يخرجونها إلى أحد منهم مكلفون بها وبحملها والحفاظ عليها وهذا هو معنى " حفظة سر الله " الوارد في الزيارة الجامعة الكبيرة، وأيضا قوله (عليه السلام) أن عندنا... وعلما من علم الله يعني حكمة الله تعالى أنهم هم الودائع لها وهذا معنى قوله في الزيارة ومستودعا لحكمته، وعلى هذا تكون هذه الأسرار خاصة بهم لا يخرجونها إلى غيرهم فهم أولى بحملها من غيرهم لأنهم فقط الذين يحتملونها. وكذلك عندهم سر من أسرار الله تعالى وعلما من علم الله تعالى احتمله نبي مرسل وملك مقرب وعبد امتحن الله قلبه للإيمان وقد عبر الرواية أن هذه الأسرار والعلوم لا يحتملها إلا من هو مخلوق من طينتهم وهم الشيعة الحقيقيين، الذين بشرهم هذا الحديث بالدعاء من قبل الإمام (عليه السلام) لهم بأن تكون حياتهم مثل حياة أهل البيت (عليهم السلام). إذن يظهر من هذا الحديث وأحاديث مأثورة عنهم (عليهم السلام) أنهم كانوا يحملون أسرار الله تعالى قد أودعها الباري عز وجل فيهم وكما بينت ذلك الفقرات الواردة في الزيارة الجامعة، وبما أنهم ذرية الصديقة الشهيدة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها والتي قد أقر بفضلها ومحبتها جميع الأنبياء والبشر وأنها كانت مفروضة الطاعة وعلى معرفتها دارت القرون الأولى، تكون عندئذ أيضا حاملة للأسرار الإلهية لأنه كيف تكون حجة الله على الأئمة وكما ورد ذلك في الحديث المأثور عن الإمام الحسن العسكري " نحن حجج الله على خلقه وجدتنا فاطمة حجة الله علينا " وهم حاملين للأسرار وهي تكون غير حاملة لها؟ ولكن السؤال الذي ينقدح في المقام هو كيف كانت مستودعا للسر الإلهي وما هو حقيقة هذا السر المستودع؟ كل هذه الأسئلة لا بد
(1) أصول الكافي: 1 / 467 ح 5. 53 من إدراكها وعلى ما نحتمله لكي نعرف فاطمة ولو معشار عشر المعرفة التي فطمنا عنها - أي عن معرفة فاطمة (عليها السلام). أقول: قبل أن ندخل في تفاصيل السر المستودع وحقيقة ماهيته لا بد أن نرى كيف اقتضت ذات الزهراء لحمل الأمانة الإلهية التي جعلها مستودعا لها، وهذا يظهر لنا من خلال مراجعة واستقراء الأحاديث المأثورة فيها والزيارات الواردة في علو مقامها وشأنها ونستنطقها الحال ونستقرئها الجواب لكي نفهم كيف اقتضت المشيئة الربانية ذلك، وأن أول ما يظهر من الجواب على ذلك من خلال الزيارة الواردة في شأنها في يوم الأحد والتي تقول الزيارة: " السلام عليك يا ممتحنة امتحنك الذي خلقك قبل أن يخلقك وكنت لما امتحنك صابرة ". والذي يظهر من هذه الزيارة المخصوصة للصديقة الشهيدة أنها امتحنت من قبل الباري عز وجل وقبل خلقها أي عندما كانت نورا من الأنوار التي خلقها الله تعالى قبل الخلق بألف عام والتي كانت بعرشه محدقة، والامتحان كان لها لأجل إظهار مقامها السامي ومنزلتها الحقيقية حيث كانت نتيجة الامتحان صابرة، والمعروف عند العرف العقلائي أن الامتحان يمتحن به الشخص ليعرف مدى استعداداته وقابلياته " عند الامتحان يكرم المرء أو... "، لذا نجد من باب أن الباري عز وجل الذي هو سيد العقلاء بل هو خالق العقل أجرى الامتحان الرباني للزهراء حيث امتحنها، ونحن نعرف أن الامتحان يكون للمرء إما لزيادة منزلة ومقام أو لأجل شئ آخر، ولكن الزهراء (عليها السلام) امتحنها الله تعالى لكي تكون حاملة للأسرار الإلهية وذلك ما اقتضته المشيئة الربانية فيها، لذا كانت ناجحة في الامتحان الرباني قبل خلقها حيث استحقت لقب الصابرة، أما ماهية هذا الامتحان وفي أي موضوع كان، وكيف أجراه الله تعالى عليها؟ فهذا ما أشارت إليه بعض الروايات والتي نستفيد من خلال التمعن فيها والتدقيق في مدلولاتها أنها امتحنت في حمل العلم والأمانة الربانية فوجدها الباري عز وجل صابرة على حمل العلم والأمانة الربانية، لذا استحقت حمل الأسرار الربانية، ولكن ينقدح السؤال المهم في المقام ما هو حقيقة هذا السر المستودع في فاطمة؟. أقول: قبل الإجابة على حقيقة هذا السر، أود أن أشير إلى مسألة مهمة تظهر لنا من
54 خلال عرض الروايات التي تقول أن الأسرار التي كان يحملها أهل البيت لا يتحملها إلا نبي مرسل أو ملك مقرب أو عبد أمتحن الله قلبه للإيمان، أي من خلال عرض هذه الروايات الواردة في حمل أسرار الأئمة وأنه لا يحملها إلا الممتحن ومطابقتها مع الزيارة الخاصة بالصديقة الطاهرة والتي تقول " السلام عليك يا ممتحنة "، يظهر لنا من خلال هذه المطابقة أن العبد الممتحن هو الوحيد الذي يستطيع حمل الأسرار والعلوم الربانية فأفهم تغنم فإن في الأمر إشارات لا يسع المقام أن يظهرها من خلال القلم أو الكتاب. أما حقيقة السر المستودع فيظهر لنا من خلال عدة احتمالات نحتملها في كونها هي مفاد السر المستودع، ولا نقصد من أن ظهور هذه الاحتمالات يكون بالقطع اليقيني، كلا فإن الأمر أعلى وأجل من أن يظهره قلم أو يخطر على ذهن كاتب، أو عالم، وأنما الأمر يتجاوز المقام، فإن من الأسرار التي يمتلكها أهل البيت (عليهم السلام) ما لم يخطر على بال بشر، وكيف لا وهم الذين اصطفاهم الله تعالى ليكونوا الدالين على مرضاته وهم الصراط الأقوم، أما هذه الاحتمالات فلها شواهد ولها قرائن تدل عليها ولا يعني أنها هي السر المستودع في فاطمة (عليها السلام) بل نترك ذلك للمؤمن لكي يتبحر في عرفان الصديقة الطاهرة سلام الله عليها عسى ولعل يصل إلى حقيقة الأمر، أما هذه الاحتمالات مع بعض القرائن والشواهد عليها: 1 - السر المستودع هو المهدي (عج): قد يكون السر هو صاحب الزمان عج الذي سوف يظهر الله الدين كله على يديه في آخر الزمان، لكون أن الزهراء عليها السلام جدته، وخصوصا نحن نعلم أن الأئمة من ولدها، فعليه قد يكون السر الذي سوف يظهره الله في وقته هو الإمام الحجة، ويدل على كون المهدي هو من ولد فاطمة (عليها السلام)، في الحديث المروي عن أبي أيوب الأنصاري والذي من جملته كان الخطاب لفاطمة (عليها السلام)... عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)... " ومنا سبطا هذه الأمة وسيدا شباب أهل الجنة الحسن والحسين وهما ابناك، والذي نفسي بيده منا مهدي هذه الأمة وهو من ولدك " (1).
(1) ينابيع المودة: 436، منتخب الأثر: 192. 55 وعن أم سلمة، قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " المهدي من عترتي من ولد فاطمة " (1). وقد يرد على هذا الاحتمال بأنه إذا كان المهدي (عج) سرا من الأسرار المستودعة في فاطمة في ذلك الزمان ولم يعرف ولم يظهر لأحدنا فإن هذا القول الآن يصبح منتفي لكون مسألة الإمام المهدي والوعد الإلهي فيه أصبحت من المتسالمات عند أكثر المسلمين، هذا من جهة، وكون الدعاء يقول اللهم أي أتوسل بفاطمة وأبيها وبعلها وبنيها... ولفظة بنيها تشمل كل أبناء الزهراء المعصومين والدعاء في ختامه يقول والسر المستودع، فإنه لا معنى أن يتوسل المؤمن بالسر المستودع الذي يكون المهدي (عج) وفي نفس الوقت يتوسل ببنيها، الذي هو منهم ومشترك معهم، وربما يجاب أنه من باب ذكر الخاص بعد العام ليفيد الحصر أو الاختصاص؟!!! 2 - وقد يكون السر المستودع إشارة إلى أن ولاية الله تعالى سوف تكون في ولد فاطمة وأن الأئمة المعصومين منها سلام الله عليها، وقد وردت عدة شواهد روائية تدل على أن الأئمة من ولد فاطمة (عليها السلام) وأن الولاية فيهم والإمامة منحصرة في وجودهم المبارك وهذا ما أثبته القرآن الكريم والسنة الشريفة ويكفي في إثبات ولايتهم ما جاء في كتاب الغدير للعلامة الأميني، ولكن ننقل لك بعض الشواهد في هذا الأمر المهم والتي كان منها ما جاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث طويل قال: " إن الله عز وجل نظر إلى الأرض ثالثة فاختار منها أحد عشر إماما... وأمهم فاطمة ابنتي (2). وفي حديث آخر عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: " أشهد بالله لقد دخلت على فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأهنئها بولدها الحسين، فإذا بيدها لوح أخضر من زبرجدة خضراء فيه كتاب أنور من الشمس... فقلت: ما هذا يا بنت رسول الله؟ فقالت: هذا لوح أهداه الله عز وجل إلى أبي، فيه أسم أبي واسم بعلي واسم الأوصياء
(1) من سنن أبي داود عن العوالم: 1031. (2) إحقاق الحق: 5 / 40. 56 بعدي من ولدي، فسألتها أن تدفعه إلي لأنسخه ففعلت... (1) ". وهذا الاحتمال يرد عليه بكون الدعاء، يقول بفاطمة... وبنيها والسر المستودع فيكون تكرار للقسم بالأئمة الذين هم بنيها وكذلك بالسر المستودع الذي هو الأئمة. 3 - السر المستودع هو أمرهم كما في بصائر الدرجات عن الصادق (عليه السلام): " إن أمرنا سر مستتر وسر لا يفيده إلا سر وسر على سر وسر مقنع بسر ". وعنه (عليه السلام) أيضا: " إن أمرنا هذا مستور مقنع بالميثاق من هتكه أذله الله ". وعنه (عليه السلام): " أن أمرنا هو الحق وحق الحق وهو الظاهر وباطن الظاهر وباطن الباطن وهو السر وسر السر وسر مستسر وسر مقنع بالسر ". فالزهراء بما أنها أم الأئمة وهي حجة الله عليهم وأنها مفروضة الطاعة على جميع البشر كما ورد ذلك في الأحاديث المأثورة تكون الأسرار التي مودعة فيها معروفة عند الأئمة وهم يحافظون عليها وقائمون بمقتضاها، أو تعلقاتها أو تبليغ دواعيها ومحافظين على هذه الأسرار ولا يظهرونها لأحد إلا من كان محتمل لعلمهم وأسرارهم ولذلك ظهر الشئ القليل منها، لسلمان وكميل وأبي ذر وغيرهم من المؤمنين الممتحنين، فأمرهم هو سر الله تعالى المودع في فاطمة (عليها السلام) والأئمة يحافظون على أسرار هذا الأمر وإن كان تفسير الأمر في الروايات المأثورة هو أمر الولاية، " السلام على محال معرفة الله ومساكن بركة الله ومعادن حكمة الله وحفظة سر الله " (2). 4 - السر المستودع هو العلوم الربانية المودعة في فاطمة (عليه السلام)، وهذا ما نستطيع فهمه من خلال الأحاديث المروية في شأنها سلام الله عليها حيث كانت المحدثة من قبل الملائكة وكان لها مصحف يتوارثه الأئمة واحدا بعد واحد وفيه كل ما يحتاجونه من الذي يجري على البشر وفيه أسماء الحكام الذين يحكمون وحكموا من زمن آدم إلى آخر يوم من الدنيا، وعليه نحتمل أن يكون المصحف هو السر المودع في فاطمة وهذا فيه من الأمور التي لم يطلع عليها سوى أبناء الزهراء الأئمة المعصومين الذين يتوارثون هذا المصحف وينظرون فيه وهو من إملاء رسول الله وربما من إملاء الإمام علي بن
(1) النصوص على الأئمة الاثني عشر: 67، ح 5 عن أمالي الطوسي، وعيون أخبار الرضا (عليه السلام). (2) الزيارة الجامعة الكبيرة. 57 أبي طالب (عليه السلام)، وهذا ما أشارت إليه جملة من الروايات الواردة في المقام ومنها: * " ما رواه الحسين بن أبي العلاء قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول عندي الجفر الأبيض قال قلنا وأي شئ فيه، قال: فقال لي زبور داود، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وصحف إبراهيم والحلال والحرام ومصحف فاطمة ما أزعم أن فيه قرآنا وفيه ما يحتاج الناس إلينا ولا نحتاج إلى أحد حتى أن فيه الجلدة ونصف الجلدة وثلث الجلدة... (1). وأيضا ما رواه أبي بصير بالسند المتصل قال دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقلت له إني أسئلك جعلت فداك عن مسألة ليس هيهنا أحد يسمع كلامي فرفع أبو عبد الله (عليه السلام) سترا...، " وساق الحديث "... حتى أجابه الإمام قائلا: " وأن عندنا لمصحف فاطمة (عليها السلام) وما يدريهم ما مصحف فاطمة قال مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد إنما هو شئ أملاها الله وأوحى إليها قال قلت هذا والله هو العلم إنه لعلم وليس بذاك قال ثم سكت ساعة ثم قال: إن عندنا لعلم ما كان وما هو كائن إلى أن تقوم الساعة قال قلت جعلت فداك هذا والله هو العلم قال إنه العلم وما هو بذاك، قال قلت جعلت فداك، فأي شئ هو العلم، قال ما يحدث بالليل والنهار الأمر بعد الأمر والشئ بعد الشئ إلى يوم القيامة (2). * وفي حديث عن حماد بن عثمان قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " تظهر الزنادقة في سنة ثمانية وعشرين ومائة وذلك لأني نظرت في مصحف فاطمة قال فقلت: وما مصحف فاطمة (عليها السلام)؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى لما قبض نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل على فاطمة من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلا الله عز وجل فأرسل إليها ملكا يسلي عنها غمها ويحدثها، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال لها إذا أحسست بذلك فسمعت الصوت فقولي لي فأعلمته فجعل يكتب كلما سمع حتى أثبت من ذلك مصحف قال: ثم قال أما إنه ليس فيه من الحلال والحرام ولكن فيه علم ما يكون (3).
(1) بصائر الدرجات: 3 / 170 ح 1. (2) بصائر الدرجات: 3 / 172 ح 3. (3) بصائر الدرجات: 3 / 177 ح 18. 58 أقول: يظهر من هذا الحديث وأحاديث أخرى مأثورة عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) أن مصحف فاطمة متوارث من قبل الأئمة وفيه علم ما كان ويكون إلى آخر الزمان، وفيه الحكام الذين يحكمون والفرق التي تظهر وتبتدع في كل زمان، ويظهر من هذا المصحف أنه من إملاء الإمام علي (عليه السلام) حيث كانت الملائكة تحدث الصديقة الشهيدة (عليها السلام) بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتملي على علي (عليه السلام) ويكتبه، وعلى هذا الأساس يكون المصحف متأخر رتبة في الوجود والظهور عن الأساس الذي أسسناه في كون السر المستودع في فاطمة كان بعد امتحانها قبل الخلق وكما بيناه في مقدمة البحث، فعليه يكون هذا الاحتمال في كون المصحف هو السر المستودع في فاطمة (عليها السلام) بعيد وعلى ضوء الأساس الذي بيناه، لذا تكون العلوم الربانية ليست هي السر المستودع وخصوصا نحن نعلم إن ورد في الرواية الشريفة عن أبي عبد الله (عليه السلام) حيث يقول: (إن عندنا والله سرا من سر الله، وعلم من علم الله، والله ما يحتمله ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا مؤمن امتحن الله قلبه للأيمان والله ما كلف الله ذلك أحدا غيرنا، ولا استعبد بذلك أحدا غيرنا...) (1). فيتبين من هذه الرواية أن عند أهل البيت بما فيهم فاطمة (عليها السلام) عندهم سرا من سر الله تعالى وهذا غير العلم وإلا لكان الإمام يقول العلم نفسه السر بل إنه فصل بين السر والعلم فعليه العلم غير السر المستودع فيهم عليهم السلام. 5 - قد يكون السر هو ما أشارت إليه الرواية المروية في شأن الحديث القدسي المروي عن لسان جابر بن عبد الله الأنصاري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الله تبارك وتعالى أنه قال: " يا أحمد لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك ولولا فاطمة لما خلقتكما " (2). أي إنه العلة الغائية لخلقكما كما يظهر من الحديث القدسي هو وجود فاطمة (عليها السلام)، أما كيف يكون هذا الأمر فهذا ما سيتبين لنا من خلال بحث هذا الحديث في موضوع
(1) الكافي: 1 / 467 ح 5. (2) الجنة العاصمة: 148 / كشف اللآلي: 5، مستدرك سفينة البحار: 3 / 334 عن مجمع النورين: 14 عن العوالم: 1 / 44. 59 مستقل إن شاء الله. 6 - السر المستودع هو اسم الله الأعظم. عندما نراجع الروايات الواردة في شأن أهل البيت (عليهم السلام) نجد أن مما حظي به الأئمة (عليهم السلام)، دون غيرهم هو أنهم يحملون اسم الله الأعظم وهذا ما صرحت به الأحاديث المأثورة عنهم، حيث خصهم الباري عز وجل بهذا الكرامة العظيمة، وكما تبين لنا من الرواية المتقدمة أن السر الذي بحوزة أهل البيت هو غير العلم والحكمة التي يتملكها أهل البيت (عليهم السلام)، فقد يكون السر الذي يملكونه هو نفسه الاسم الأعظم لله تعالى الذي إذا دعي به أجاب، والذي يدل على أنهم عندهم اسم الله الأعظم جملة من الروايات الواردة في المقام منها ما ورد عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " إن اسم الله الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفا وإنما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس حتى تناول السرير بيده، ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين، ونحن عندنا من الاسم الأعظم اثنان وسبعون حرفا، وحرف واحد عند الله استأثر به في علم الغيب عنده ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (1). وعن النوفلي، عن أبي الحسن صاحب العسكري (عليه السلام) قال: سمعته يقول " اسم الله الأعظم ثلاثة وسبعون حرفا، كان عند آصف حرف فتكلم به فانخرقت له الأرض فيما بينه وبين سبأ - أي مملكة سبأ أو مدينة سبأ حيث كان عرش بلقيس - فتناول عرش بلقيس حتى صيره إلى سليمان، ثم انبسطت الأرض في أقل من طرفة عين، وعندنا منه اثنان وسبعون حرفا، وحرف عند الله مستأثر به في علم الغيب (2). أقول: وكثيرة هي الأحاديث المأثور عنهم (عليهم السلام) في هذا الباب حيث خصهم الله تبارك وتعالى بهذه الخصوصية والذي يظهر من هذه الأحاديث أنهم أفضل مقاما ومنزلة من الأنبياء السابقين، بدلالة هذه الأحاديث، وكل ما ثبت للأئمة (عليهم السلام) فهو ثابت للصديقة الشهيدة (عليها السلام) من حيث كونها أم الأئمة الأطهار ومن كونها حجة الله على الأئمة وكما
(1) الكافي: 1 / 286 ح 1، بصائر الدرجات: 4 / 228. (2) نفس المصدر السابق. 60 سيمر بنا ذلك في شرح هذا الحديث، وكذلك هناك عدة إشارات في الروايات إلى مسألة أسم الله الأعظم وكيف أن الإمام علي (عليه السلام) الذي هو كفؤ الزهراء (عليها السلام) كان يحمل اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وهذا ما وجدناه في قضية رده الشمس التي غابت في أرض بابل حيث سأله أحد أصحابه يا أمير المؤمنين كيف رددت هذه الشمس، فقال له، سئلت الله تعالى باسمه الأعظم أن يردها عليها فردها، وكما ورد في سورة الواقعة * (فسبح باسم ربك العظيم) * (1). وعلى هذا الأساس فإن كل ما أعطاه الله تبارك وتعالى وخص به أهل البيت (عليهم السلام) فهو ثابت للزهراء (عليها السلام)، فعليه تكون الصديقة الطاهرة حامل لاسم الله الأعظم الذي خصه الله تبارك ذ بأهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، فيكون وعلى ما أحتمله بل أرجحه على بقية الاحتمالات الأخرى أن السر المستودع في فاطمة هو اسم الله الأعظم، والذي يدل عليه على ما أستفيده من الدعاء الذي بدأنا به البحث " اللهم إني أسألك بحق فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها... " حيث يظهر من هذا الدعاء أولا التوسل بحق فاطمة... وكذلك التوسل إلى الله تعالى بالسر المستودع، والتوسل لا يكون إلى الله تعالى إلا بالذي يكون له شأن عند الله عز وجل، ونبتغي إليه الوسيلة، فعليه نحتمل أن يكون السر هو اسم الله الأعظم المستودع عند فاطمة (عليها السلام)، وأبناؤها وخصوصا هناك شواهد تدلل على أن هذا الاسم لا يخرجونه أهل البيت (عليهم السلام) إلى أحد وكما ورد في الحديث المروي في شأن عمر بن حنظلة حيث قال لأبي جعفر (عليه السلام): " إني أظن أن لي عندك منزلة، قال: أجل، قال: قلت فإن لي إليك حاجة قال وما هي؟ قال: قلت تعلمني الاسم الأعظم قال وتطيقه قلت نعم قال: فادخل البيت قال: فدخل البيت فوضع أبو جعفر عليه السلام يده على الأرض فأظلم البيت فأرعدت فرايص عمر فقال: ما تقول أعلمك فقال لا قال: فرفع يده فرجع البيت كما كان " (2). ويوجد أيضا شاهد آخر يدل على كون فاطمة (عليها السلام) تمتلك الاسم الأعظم وذلك عندما قادوا عليا (عليه السلام) في يوم سقيفة بني ساعدة للبيعة فخرجت نفسي لها الفداء تجر أذيالها
(1) راجع بصائر الدرجات: 5 / 237. (2) بصائر الدرجات: 4 / 0230 61 خلف ابن عمها وهي تقول خلوا ابن عمي أو لأكشفن رأسي للدعاء، حيث يقول سلمان " فخرجت فاطمة (عليها السلام) فقالت: يا أبا بكر أتريد أن ترملني من زوجي - والله - لئن لم تكف عنه لأنشرن شعري ولأشقن جيبي، ولآتين قبر أبي، ولأصيحن إلى ربي: فأخذت بيد الحسن والحسين (عليهما السلام)، وخرجت تريد قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال علي (عليه السلام) لسلمان: أدرك ابنة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فإني أرى جنبتي المدينة تكفيان، والله إن نشرت شعرها، وشقت جيبها، وأتت قبر أبيها، وصاحت إلى ربها لا يناظر بالمدينة أن يخسف بها (وبمن فيها)، فأدركها سلمان (رضي الله عنه) فقال، يا بنت محمد، أن الله بعث أباك رحمة فارجعي فقالت: يا سلمان، يريدون قتل علي، ما على علي صبر، فدعني حتى آتي أبي فأنشر شعري، وأشق جيبي، وأصيح إلى ربي، فقال سلمان أني أخاف أن تخسف بالمدينة، وعلي (عليه السلام) بعثني إليك ويأمرك أن ترجعي إلى بيتك وتنصرفي. فقالت: إذا أرجع وأصبر، وأسمع له وأطيع " (1). ويظهر من هذه الرواية أن الصديقة الزهراء (عليها السلام) لو أنها دعت الله تعالى لاستجاب الله دعائها، فإن الإمام علي (عليه السلام) عندما قال: (فإني أرى جنبتي المدينة تكفيان) يعني إشارة إلى أنها كانت عندها الولاية التكوينية وكما سنقف مع هذا البحث إن شاء الله تعالى، وعلى كل حال فإن الصديقة كانت تحمل الاسم الأعظم، ولا ضير في ذلك فهي أم أبيها وأم الأئمة الأطهار الذين يحملون الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وهناك إشارة لطيفة في كون فاطمة الزهراء (عليها السلام) لها أسم مشتق من أسماء الله الحسنى حيث ورد ذلك في حديث الاشتقاق " هذه فاطمة وأنا فاطر السماوات والأرض، فاطم أعدائي من رحمتي يوم فصل قضائي، وفاطم أوليائي عما يعيرهم ويشينهم، فشققت لها اسما من اسمي ". وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أن الله شق لك يا فاطمة اسما من أسمائه وهو الفاطر وأنت فاطمة " وعليه فإن فاطمة وديعة المصطفى، فاطمة الإنسية، الحوراء مطلع الأنوار العلوية ومشكاة الولاية وأم الأئمة وعيبة العلم ووعاء المعرفة. واختتم هذا البحث في
(1) تفسير العياشي: 2 / 66 ح 76، البرهان: 2 / 93 ح 4، الإختصاص: 181. 62 أمر قد استفدته واستنتجته من خلال بعض الروايات الواردة في كتب الحديث كأمثال الكافي والبصائر وغيرهما، حيث يظهر من خلال الروايات أن أمر آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر جسيم مقنع بالميثاق لا يستطاع فهمه وإدراكه وذكره وهذا الأمر هو (كما عبرت عنه الرواية ب " أمرنا " سر في سر وسر مستتر في سر ولا يفيده إلا سر وسر على سر وسر مقنع بسر وهو الحق وحق الحق وهو الظاهر وباطن الظاهر وباطن الباطن وهو السر وسر السر وكذلك ورد في الحديث الشريف أنه لو قد قام قائمنا لتكلم بهذا الأمر وصدقه القرآن، وكذلك وجدت أن هذا الأمر - وكما ورد في الرواية - هو الذي جعل الملائكة مقربين وغير مقربين والأنبياء مرسلين وغير مرسلين والمؤمنين ممتحنين وغير ممتحنين، وعليه يكون الأمر هو السر، فما هو السر؟؟؟.... (إنما أمره إذا أراد شئ أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ وإليه ترجعون).
63 البحث الثالث فاطمة (عليها السلام) حجة الله الكبرى
65 السيد محمد جمال الهاشمي أي خطب يبكي عليه خطابي * ومصاب قد شاب شهدي بصاب (1) آه (2) يوم الزهراء أي فؤاد * علوي عليك غير مذاب لك في الدهر رنة رددتها * بخشوع أجياله واكتئاب فهي نار تذكي القرون ونور * رف لألاؤه على الأحقاب وهي للمجد فيه للسالك * تبدو الصعاب غير صعاب غاب نور النبي وانقطع الوحي * وخارت عزائم الآراب وارتمى موكب الحياة وجاشت * نزعات النفاق في الأحزاب فانطوى النور في ظلام كثيف * نشرته جرائم الانقلاب وانمحى الحق والصراحة لما * ساد عهد الضلال والارتياب موقف أربك العصور فأخفت * رأيها في القلوب والأهداب غضبة الحق ثورة تجرف الباطل * في موج عزمها الوثاب عجب أمرها وأعجب منه * أنها تنتمي لذات نقاب (3) وإذا اللبوة الجريحة ثارت * لهث الموت بين ظفر وناب شمرت للجهاد سيدة الإسلام * عن ذيل عزمها الصخاب وأتت ساحة الجهاد بإيمان * يرد السيوف وهي نوابي (4) حاكمت عهدها المدمى بقلب * واغر من شجونها لهاب لم تدع للمهاجرين وللأنصار * رأيا إلا انمحى كالضباب
(1) الشهد: العسل والصاب: شجر مر. (2) آه: اسم فعل للتوجع بمعنى المضارع أي أتوجع من هذا الأمر. (3) سادة القوم. (4) نوابي: غير قاطعة. 67 واستعانت بالحق درع * من أمان وصارم من صواب رجمتهم بالمخزيات فآبوا * وهم يحملون سوء المآب حجج كالنجوم ينثرها الحق * ويرمي الشهاب إثر الشهاب فهي إما عقل وإما حديث * جاء عن نص سنة أو كتاب فتهاوت أحلامهم كصروح * شادها الوهم عاليا في السراب آه لولا ضعف النفوس لما * استرجع ركب الهدى على الأعقاب ولما عادت الإمارة للقوم * وحازوا إمامة المحراب واستقرت هوج العواصف لما * قابلتها سياسة الإرهاب لا خطاب من عاذل لا جواب * عن سؤال لا هجمة من عتاب ومذ انهارت الرجال وعادوا * بتلول من خزيهم وروابي واختفى النص بالولاية لما * أظهر الكيد فكرة الانتخاب أوقد الغدر في السقيفة نارا * علقت في مواكب الأحقاب وتلاشى الغدير إلا بقايا * تترامى بها بطون الشعاب وتوالت مناظر مؤلمات * مثلتها عداوة الأصحاب من هجوم الأرجاس بالنار كي * تحرق بيت الأكارم الأطياب وانكسار الضلع المقدس بالضغط * وسقط الجنين عند الباب وانتزاع الوصي سحبا من الدار * بتيار ثورة الأعصاب واغتصاب الحق الصريح جهارا * باختلاف الأعذار للاغتصاب
68 البحث الثالث فاطمة (عليها السلام) حجة الله الكبرى عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) أنه قال " نحن حجج الله على خلقه، وجدتنا فاطمة (عليها السلام) حجة الله علينا " (1) يعتبر هذا الحديث من الأحاديث المهمة التي وردت عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، لذا ونحن نقف نستلهم الدروس العقائدية من سلالة بيت النبوة ومعدن الرسالة لا بد لنا أن نتأمل في هذا الحديث ونرى مدى مصداقيته في عالم الواقع والثبوت، وبعبارة أخرى هل لهذا الحديث وجه للاستدلال به في المحاورات العقائدية التي تخص حياة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) أم لا؟ وهل هناك وجه من الصحة بحيث تكون الصديقة الطاهرة (عليها السلام) الحجة على الأئمة أم يتجاوز الأمر إلى أبعد من ذلك؟ وما هي الثمرة لهذا الحديث إذا ثبت له الواقعية والمصداقية ومدى تأثيره على الجانب العقائدي للفرد المؤمن؟ كل هذه الأسئلة نحتاج الوقوف عليها والتأمل فيها واستجلاء حقائقها وإدراك مغازي هذا الحديث العقائدي. وهذا ما سيتبين لنا من خلال البحث الذي سنقسمه إلى ثلاث أمور أساسية وهي: الأمر الأول: معنى الحجة؟ الأمر الثاني: شرعية الحجة. الأمر الثالث: كيف كانت فاطمة (عليها السلام) حجة على الأئمة؟
(1) تفسير أطيب البيان: 13 / 226. 69 الأمر الأول معنى الحجة؟ وردت عدة تعاريف للحجة وماهيتها ولها عدة معاني لا بد لنا من الوقوف عليها وعلى المعنى الذي يهمنا في المقام والذي من شأنه أن يبين معنى الحديث الشريف بحيث لا يبقى فيه أي إجمال وفي كل الجهات المبحوث عنها في المقام وجرت عادة أهل العلوم عندما يأتون إلى موضوع ما ويريدوا أن يعرفوه بأي تعريف كان فإنهم يعرفونه بالتعريف اللغوي والتعريف الاصطلاحي العلمي ونحن بمقتضى هذا الأمر نحذوا حذوهم في تعاريف الحجة. 1) الحجة لغة: كل شئ يصلح أن يحتج به على الغير وذلك بأن يكون به الظفر على الغير عند الخصومة معه والظفر على الغير على نحوين: " أحدهما " إما بإسكاته وقطع عذره وإبطاله. " والآخر " وأما بأن يلجئه على عذر صاحب الحجة فتكون الحجة معذرة لدى الغير والحجة هي الدليل والبرهان. وقال الأزهري: إنما سميت حجة لأنها تحج أي تقصد لأن القصد لها وإليها وكذلك معنى المحجة أي محجة الطريق وهي المقصد والمسلك (1). 2 - وأما الحجة في الاصطلاح العلمي فلها معنيان أو اصطلاحان: * ما عند المناطقة: ومعناها " كل ما يتألف من قضايا تنتج مطلوبا " أي مجموع القضايا المترابطة التي يتوصل بتأليفها وترابطهما إلى العلم بالمجهول سواء كان في مقام الخصومة مع أحد أم لم يكن، وبحثنا من جهة هذا التعريف المنطقي سوف يكون بربط مجموعة من القضايا وتأليفها لكي نصل إلى العلم بالمجهول وهو كيف أصبحت فاطمة حجة على الأئمة بل على الأنبياء فضلا عن الخلق كما سيتبين من خلال البحث. * وهنالك معنى للحجة لدى الأصوليين وهو " كل شئ يثبت متعلقه ولا يبلغ درجة
(1) لسان العرب مادة حجة. 70 القطع " أي لا يكون سببا للقطع بمتعلقه، وإلا فمع القطع يكون القطع هو الحجة ولكن هو حجة بمعناها اللغوي أو قل بتعبير آخر " الحجة ": كل شئ يكشف عن شئ آخر ويحكي عنه على وجه يكون مثبتا له " (1). ونعني بكونه مثبتا له: أن إثباته يكون بحسب الجعل من الشارع لا بحسب ذاته فيكون معنى إثباته له حينئذ أنه يثبت الحكم الفعلي في حق المكلف بعنوان أنه هو الواقع، وإنما يصح ذلك ويكون مثبتا له فبضميمة الدليل على اعتبار ذلك الشئ الكاشف الحاكي وعلى أنه حجة من قبل الشارع. كما تنقسم الحجة في المنطق إلى قياس وتمثيل واستقراء، والحجة ما يصح الاحتجاج به وما يحتج به المولى على العبد في مقام المنجزية ويحتج به العبد على المولى في مقام المعذرية، ثم الحجة تنقسم بالتقسيم الأولي إلى عقلية وشرعية، والأولى هي التي يصح التعويل عليها بصورة عامة في كل سؤال عن السبب، والثانية هي التي يصح الاحتجاج بها في الأمور الشرعية، أي ما يصح التعويل عليها في الفتاوى للفقيه، فهي بصورة خاصة وبين الحجتين نسبة العموم المطلق، فكل شرعية عقلية ولا عكس فإن الحاكم بصحة الحجة هو العقل وكل واحد من القسمين ينقسم إلى حجة إلزامية وإلى حجة إرشادية والأولى بمعنى ما يجب عند العقل التعويل عليه والإلزام بما تقتضيه نفس الحجة والثانية ما يجوز التعويل عليه والإرشاد ويكون من خواصها. فالحجج الإلزامية العقلية كالبراهين الدالة على المبدأ والمعاد والنبوة الخ والحجج الإرشادية العقلية كأخبار العالم ورأي المتخصص وقول الخبير وتصير إلزامية عند الرجوع إليها والتعويل عليها والحجج الإلزامية الشرعية كالأنبياء وأوصيائهم المعصومين فإنهم حجج الله ويجب الأخذ بأقوالهم وأفعالهم وتقريرهم والذي يعبر عنها القول والفعل والتقرير بالسنة (2)، وفيما نحن فيه من معرفة معنى الحجة يفيدنا في المقام الحجة لغة ومنطقا لكونها يوصلان بالقطع بأمر بحيث يصلح أن يحتج به على الغير سواء في الدنيا أو في الآخرة، وعلى ضوء الاستدلالات العقلية البرهانية. وعلى
(1) أصول المظفر: 2 / 18. (2) هذا التقسيم استفدناه من درس أستاذنا آية الله السيد عادل العلوي حفظه الله (خارج فقه) - الاجتهاد والتقليد. 71 ضوء التعاريف المتقدمة يكون قد لاح لنا مفهوم آخر غير الحجة وهو المحجة، والحجة تبين لك معناها من التعاريف المتقدمة، أما المحجة فهي المسلك والطريق الذي يتوصل به إلى الغير والمحجة هي الطريق السليم الذي لا إعوجاج فيه، فلقد ورد في هذا المعنى عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) أنه قال وسمع كثيرا يردد هذا القول: علم الحجة واضح لمريده * وأرى القلوب عن المحجة في عمى وقد عجبت لهالك ونجاته * موجودة ولقد عجبت لمن نجى. الأمر الثاني شرعية الحجة هناك عدة احتجاجات وردت في القرآن الكريم قد أثبتها الله تبارك وتعالى لنبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ولأنبيائه المرسلين من الأولين والآخرين لكي يحتجوا بها على الناس المشككين أو الناكرين للرسالة أو النبوة أو النبي ومعاجزه وكراماته، ولقد بين الله تعالى في كتابه الشريف بعض الآيات التي نستفيد من خلالها أن الله تعالى يحتج يوم القيامة بالأنبياء على الناس وهذا ما ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى * (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده... إلى قوله تعالى... رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما) * (1). ومن جهة أخرى ورد في القرآن الكريم بعض الاحتجاجات بين الكافرين في ما بينهم في النار حيث جاء قوله تعالى * (وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبنا من النار) * (2). وكذلك نجد قوله تعالى * (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبناءكم ونساءنا ونساؤكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على
(1) النساء: آية 163 - 165. (2) غافر: آية 47. 72 القوم الكافرين) * (1). جاء ليؤكد حقيقة النصارى وطلبهم من الرسول الاحتجاج حول مسألة عيسى ابن مريم وكيف واجههم الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بقضية المباهلة التي خسروا فيها والقي ما في أيديهم من الحجة التي كانوا يحتجون بها على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). وكثيرة هي الاحتجاجات الموجودة في القرآن الكريم والتي جاءت بعضها لكي تثبت إعجاز القرآن الكريم وأخرى لتبين احتجاجات إبراهيم مع قومه وأخرى تثبت احتجاجات الرسول مع قومه وهكذا لئلا يكون للناس على الرسول المرسل الحجة البالغة، ولذا نجد أمير المؤمنين علي (عليه السلام) يقول في معرض بيان أن العباد لا بد لهم أن يتعظوا وينتفعوا بحجج الله تعالى فإنه لا ينفع أي شئ يوم القيامة إلا الإيمان المقرون بالولاية والعمل الصالح: " انتفعوا ببيان الله واتعظوا بمواعظ الله واقبلوا نصيحة الله فإن الله قد أعذر إليكم بالجلية وأخذ عليكم الحجة وبين لكم محابه من الأعمال ومكاره منها لتبتغوا هذه وتجتنبوا هذه ". ويعني هذا أن العباد لا بد لهم من الانتفاع من العلم المقرون بالعمل الصالح وإلا العلم وحده ليس فيه فائدة ولا بد للعباد أن يستفيدوا من المواعظ ليتعظوا بها في مقام العمل، ومع ذلك نجد في كثير من الروايات الشريفة مسألة الاحتجاج البالغ من الله تعالى حيث سئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن قوله تعالى " فلله الحجة البالغة " فأجاب (عليه السلام): " قال إذا كان يوم القيامة قال الله تعالى للعبد أكنت عالما؟ فإن قال نعم. قال: أفلا عملت بما علمت وإن قلت كنت جاهلا قال له: أفلا تعلمت؟ فتلك الحجة البالغة لله تعالى ". وهنا ينقدح سؤال مهم قد يرد في ذهن الكثير من المؤمنين وهو هل كل الناس يحتج عليهم الله تعالى يوم القيامة على ضوء هذا الحديث الشريف؟ والجواب على ذلك أنه ليس كل الناس يحتج عليهم الله تبارك وتعالى يوم القيامة بل هناك عنق من الناس لا يسئلون ولا يحاسبون ومنهم المجنون الفاقد عقله، أما الأطفال الذين لم يبلغوا سن التكليف الشرعي وماتوا فإنهم يلحقون بآبائهم وعلى ما ورد في قوله تعالى
(1) آل عمران: آية 61. 73 * (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بأيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ) *. حيث قال العلامة المجلسي حول هذه الآية المباركة: " اعلم أنه لا خلاف بين أصحابنا في أن الأطفال المؤمنين يدخلون الجنة وذهب المتكلمون منا إلى أن أطفال الكفار لا يدخلون النار فهم إما يدخلون الجنة أو يسكنون الأعراف وذهب أكثر المحدثين منا إلى ما دلت عليه بعض الأخبار الصحيحة من تكليفهم في القيامة بدخول النار المؤججة لهم؟ فيكون من يستجيب يدخل الجنة ومن لا يستجيب يدخل النار ". وعلى ضوء الاحتجاجات الواردة في الكتب المعتبرة روي أن هناك احتجاج لطيف بين أمير المؤمنين وأحد اليهود حيث قال للإمام علي (عليه السلام): ما صبرتم بعد نبيكم إلا خمس وعشرين سنة حتى قتل بعضكم بعضا. فقال له (عليه السلام): بلى ولكن ما جف - جفت - أقدامكم من البحر حتى قلتم: يا موسى اجعل لنا إلها كمالهم آلهة. وهناك الكثير من الاحتجاجات المهمة التي وردت في القرآن الكريم وفي الكتب المعتبرة كل ذلك لما للحجة من أمر مهم في إثبات المدعى على الخصم الناكر مثلا أو السالب للحق، والثمرة في ذلك كله من القرآن الكريم ومن الكتب الصحيحة لكي يستنير البشر بنور الحجة الربانية وليستفيدوا منها ويتعظوا بالمواعظ الربانية هذا معنى الحجة وماهية الاحتجاجات والتأكيد عليها من قبل الله تعالى. وعلى هذا الأساس تكون شرعية الحجة ثابتة على ضوء القرآن الكريم والسنة والعقل ولا نريد الدخول كثيرا في هذا الأمر بل أشرنا في بعض موارده فلقد جعل الله تعالى للحجة شرعية ذاتية تلزم الغير على ضوء مقتضاها العمل بها حيث جاء قوله تعالى * (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) * أي جعلنا لهم بالجعل التكويني أن يكونوا أئمة يقصدون في كل شئ والإمام المعصوم هو الذي يحتج به على الغير فهو حجة على الناس جميعا وإلا كيف يكون إمام يقصد ويحتج به ومن هذا المنطلق تكون فاطمة الزهراء (عليها السلام) حجة على الأئمة (عليهم السلام) كحجة إلزامية شرعية فيجب من جهة الله تعالى الأخذ بأقوالها وأفعالها والله تبارك وتعالى هو الذي جعل لها الحجية على الخلق بما فيهن الأئمة (عليهم السلام) وهذا القول بصورة إجمالية أما كيف كانت حجة بالمعنى التفصيلي فهذا
74 ما يحتاج بيان مقدمات وأمور توصلنا إلى هذه النتيجة وهذا ما سنبحثه في الأمر الثالث إن شاء الله. الأمر الثالث كيف كانت فاطمة (عليها السلام) حجة على الأئمة؟ وهذا يتوقف على بيان أمرين: الأول: إن من أهم المسائل الأساسية في العقيدة الإسلامية والتي تؤخذ حيزا كبيرا، على المستوى الدراسي سواء النظري أو الفكري هي مسألة ضرورة بعثة الأنبياء، وهذه المسألة العقائدية المهمة تأخذ ضروريتها من عدة عوامل تكون الحجر الأساسي لهذه الضرورة، فالإنسان لم يخلق عبثا * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) * بل خلق الإنسان لهدف وهو السير في طريق تكامله من خلال ممارسة الأفعال الاختيارية القادر عليها وكل ذلك لأجل التوصل إلى كماله النهائي هذا الكمال الذي لا يتوصل إليه إلا باختياره وانتخابه. على أن الاختيار الصحيح والواعي بكل ما يمتلكه الإنسان من شعور وقدرة على أدائه يحتاج أيضا إلى المعرفة الصحيحة للأعمال الحسنة والأعمال القبيحة والطرق الصالحة وغير الصالحة، وإنما تمكن الإنسان من اختيار طريق تكامله بكل حرية ووعي فيما لو كان يعرف الهدف وطريق الوصول إليه، وكان عارفا بكل العقبات والعراقيل والانحرافات والمزالق. إذن فمقتضى الحكمة الإلهية أن توفر للبشر الوسائل والمستلزمات الضرورية للحصول على مثل هذه المعارف والمدركات وإلا فيكون حاله مثل الشخص الذي يدعو ضيفا إلى داره ثم لا يدله على موضعه ولا على الطريق المؤدي إليه ومن البديهي أن مثل هذا العمل مخالف للحكمة. على أن المعارف والمدركات البشرية العادية والمتعارفة والتي يحصل عليها الإنسان نتيجة التعاون بين الحس والعقل وإن كان لها الدور الفاعل في توفير ما يحتاج إليه في حياته ولكنها لا تكفي في التعرف على طريق الكمال والسعادة
75 الحقيقية في جميع المجالات الفردية والاجتماعية والمادية والمعنوية والدنيوية والأخروية، وإذا لم يوجد طريق آخر لسد النقائص والفجوات فلن يتحقق الهدف الإلهي من خلق الإنسان، وبملاحظة هذه الأمور المهمة من هدف خلق الإنسان ومعرفته لطريق الخير والشر ومحدودية مداركه الحسية والعقلية، نتوصل إلى نتيجة مفادها: إن الحكمة الإلهية تقتضي وضع طريق آخر للبشر - غير الحس والعقل - من أجل التعرف على مسار الكمال في كل المجالات حتى يستطيع البشر من الاستفادة منه مباشرة أو بواسطة فرد آخر أو أفراد آخرين وهذا الطريق هو إرسال الأنبياء والمرسلين عبر طريق الوحي الذي يستفيد منه البشر ويتعلموا منه كل ما يحتاجون إليه من أجل الوصول إلى السعادة والكمال النهائي. وعلى هذا الأساس شاءت قدرة الباري عز وجل ومن جهة اللطف الرباني ومن جهة اللاعبثية في خلق البشر أن يرسل الأنبياء والمرسلين إلى البشر لهدايتهم وتوضيح معالم طريق التكامل لهم وعلى ما تتحمله قدرتهم في التكليف الرباني كل ذلك لئلا يقول الناس يوم القيامة لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى. ولكن قبل إرسال الأنبياء لا بد من طريق لاختيارهم من البشر عامة، وهذا الاختيار أو ما يعبر عنه بالاصطفاء أو الاستخلاص لا يكون إلا عن حكمة اقتضت ذلك فإن الحكيم لا يفعل إلا ما تقتضي الحكمة لوجود ذلك الشئ، فالاصطفاء والاختيار من قبل الله تعالى تارة يكون للأنبياء، وأخرى للأوصياء وللأولياء والصلحاء والعلماء وهكذا أما كيفية الاصطفاء والاختيار، فذلك ما يكون عن طريق الاختبار والامتحان الذي يتعرض له الأنبياء لاصطفائهم للنبوة وتحمل مشاقها، فالامتحان والاختبار يخرج الطاقات الكامنة في النفس البشرية، ونضرب مثال على ذلك من الحياة العرفية للبشر، فأنت عندما تريد أن تختار أو ترسل من ينوب عنك في قضية معينة فإنه يقينا لا تختار ولا ترسل إلا من كانت له القابلية والاستعداد على تحمل ما تؤديه إليه وله الاستعداد وأيضا على تمثيلك في تلك القضية ولا ترسل أيا كان فأن المردود يكون عليك سلبيا إذا كان الشخص المختار سلبي في تصرفاته وإيجابيا إذا كان المختار إيجابيا في تصرفاته وأفعاله ما يؤديه عنك، أما كيفية هذا الاختيار في الشخص الذي سوف
76 يمتلك فهذا ما سيكون عن طريق التجربة والامتحان والاختيار خلال مسيرة حياتك مع ذلك الشخص الذي سينوبك في المهام والذي تريد أن تؤهله للقيام بأعمالك مثلا أو التبليغ لك فأنت ترى من خلال معاشرة ذلك الشخص مدى التزامه بتعليماتك وبعد النجاح في هذه الأمور تستخلصه لنفسك وتختاره وكيلا عنك ينوب عنك في هذه الأمور المهمة، كذلك الحال مع الله تعالى باعتباره سيد العقلاء بل هو خالق العقل والعقلاء فهو عندما يريد إرسال رسول أو نبي لا بد له من الامتحان قبل الاصطفاء والاختيار وهذا ما نجده من خلال استقراء آيات القرآن الكريم حيث يوجد عدة شواهد على هذه المسألة كما في قضية نبي الله إبراهيم عندما اختاره الله أولا نبيا وبعد ذلك خليلا وبعد ذلك إماما فإنه لم ينال الإمامة إلا بعد التعرض للامتحانات والاختبارات من قبل الله تعالى وفي ذلك يقول الله تعالى في قصة إبراهيم * (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما...) * حيث كلف الله سبحانه وتعالى نبيه إبراهيم (عليه السلام) بتكاليف شتى فكانت النتيجة أن إبراهيم أتم هذه التكاليف وامتثلها وأطاع الله تعالى ومن هذه التكاليف قضية ذبحه لولده إسماعيل * (يا بني أني أرى في المنام أني أذبحك) * وقد وصف الله تعالى إبراهيم (عليه السلام) بالوفاء حيث قال تعالى * (وإبراهيم الذي وفى) *. والخلاصة على ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال " إن الله ابتلى إبراهيم بذبح ولده إسماعيل فعزم على ذلك.. أما معنى قوله فأتمهن - فهو يعني الاستجابة والطاعة لأوامر الله تعالى ولذا استحق الإمامة التي هي منزلة عظيمة، جزاء لإخلاصه ونجاحه في الامتحانات التي تعرض لها. وهكذا الحال مع جميع الأنبياء حيث اختبرهم الله تعالى قبل اصطفائهم وكان الباري عز وجل عالما بالأنبياء أنهم أوفياء له وملتزمين لأوامره وشروطه لذلك اصطفاهم. الثاني: إن الله تعالى عندما اصطفى واستخلص الأنبياء كان ذلك بعد أن شرط عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنية وزخرفها وزبرجها فشرطوا لله تعالى ذلك وعلم الله تعالى منهم الوفاء بذلك. أما السؤال الذي يطرح في ما نحن فيه هو لماذا طلب وشرط الله تعالى من الأنبياء الزهد في حب الدنيا؟ والجواب على ذلك: أنه من الملازمات العقلية لحب الدنيا هو إعمال السيئات والذنوب وذلك للارتباط الوثيق بين
77 حب الدنيا والذنوب فكلما ازداد حب الإنسان للدنيا ازدادت ذنوبه وكما ورد في الحديث الشريف أن " حب الدنيا رأس كل خطيئة " فإذا لم يكن حب الدنيا له وجود في حياة الإنسان فسوف تكون النتيجة مفادها: أن الإنسان سوف يبتعد عن الذنوب بقدر ابتعاده عن حب الدنيا، وما نحن فيه فإن إعمال الشرط من الله تعالى على الأنبياء بالزهد في حب الدنيا سوف تكون من نتائجه أن يتركوا الدنيا والتعلق بها كذلك لا يعملون الذنوب والمعاصي وبالنتيجة النهائية سيكونون معصومين بالعصمة الذاتية التي تكون ملازمة لهم من جهة لطف الله تبارك وتعالى إضافة إلى الضرورة الربانية اقتضت ذلك أيضا. أما لماذا اشترط الزهد في حب الدنيا وما حاجة العصمة للأنبياء، فهذا ما يكون الاحتياج إليه بصورة ضرورية ومؤكد ولاحتياج الأنبياء العصمة في مقام التبليغ للرسالة السماوية بل مطلق العصمة لهم، ولئلا يكون للناس الحجة البالغة على الله تعالى، والعصمة لا تأتي مع حب الدنيا. أما الدليل علي هذا الكلام فناهيك عن القرآن الكريم والروايات الواردة في المقام التي تدل على المطلب بل هناك الدليل العقلي على ذلك، أما الدليل الذي نقوم بالاستدلال به فهذا ما أثبته دعاء الندبة الشريف حيث ورد فيه. " اللهم لك الحمد على ما جرى به قضاؤك في أولياؤك الذين استخلصتهم لنفسك ودينك إذ اخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيم الذي لا زوال له ولا اضمحلال بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات الدنية وزخرفها وزبرجها فشرطوا لك ذلك وعلمت منهم الوفاء به فقبلتهم وقربتهم وقدمت لهم الذكر العلي والثناء الجلي وأهبطت عليهم ملائكتك وكرمتهم بوحيك ورفدتهم بعلمك وجعلتهم الذريعة إليك والوسيلة إلى رضوانك... الخ ". إذن بعد الامتحان والاختيار والمشارطة من الله تعالى بترك حب الدنيا والزهد فيها وبعد العلم من الله بهم بأنهم أوفياء كانت النتيجة النهائية لهذا الامتحان والاختبار وهي: 1 - الاستخلاص والاصطفاء. 2 - القبول من الله تعالى لهم. 3 - الذكر العلي والثناء الجلي للأنبياء " أي قدم إليهم ذلك ".
78 4 - إنزال الوحي عليهم. 5 - كانوا الحجج على الخلق من قبل الله تعالى. أما لماذا الاستخلاص والاصطفاء وتقديم هذه الأمور للأنبياء (عليهم السلام)؟ فنقول: إن هذا كله لكي يكون: * إقامة للدين " إقامة لدينك " أي تقديم وإقامة النظام والأكمل للبشرية. * ولئلا يزول الحق عن مقره ويغلب الباطل على أهله. * ولئلا يقول أحد لولا أرسلت إلينا رسولا منذرا وأقمت لنا علما هاديا فنتبع آياتك من قبل إن نذل ونخزى. هكذا كان الامتحان والاختبار بالنسبة للأنبياء بحيث زهدوا في حب الدنيا فكانوا من المقربين لدى الله تعالى. أما ما علاقة هذه الأمور بكون فاطمة حجة على الأئمة؟ فنقول: نحن عندما نزور الأئمة (عليهم السلام) بالزيارة الجامعة الكبيرة المروي عن الإمام الهادي (عليه السلام) باعتبار أنها جامعة لكل الفضائل والدرجات والمقامات للأئمة (عليهم السلام) لا نزور بها فاطمة (عليها السلام)؟ لماذا؟ لأنها لها زيارة مخصوصة وهي زيارتها يوم الأحد من كل أسبوع حيث تقول هذه الزيارة " السلام عليك يا ممتحنة امتحنك الذي خلقك قبل أن يخلقك وكنت لما امتحنك صابرة ". إذ نفهم من هذه الزيارة المخصوصة امتحان الزهراء (عليها السلام) قبل خلقها، لإظهار مقامها حيث امتحنها فكان لها المقام السامي فأصبحت الصابرة، والمعروف أن الامتحان يمتحن به الإنسان ليعرف مدى استعداداته وقابلياته " عند الامتحان يكرم المرء أو يهان " وكذلك عرف الامتحان ليكون لزيادة منزلة ولأسباب أخرى، وهذا ما جرى مع فاطمة الزهراء (عليها السلام) حيث امتحنها الله تعالى لكي تكون حاملة لشئ اقتضت إرادة السماء وذلك نتيجة لنجاحها في الامتحان حيث استحقت لقب الصابرة، أما ماهية هذا الامتحان وعلى أي موضوع جرى امتحان الزهراء (عليها السلام) من قبل الله تعالى فهذا ما نتركه إلى بحث آخر إن شاء الله. ولكن المهم فيما نحن فيه هو أن الله تعالى وجدها صابرة وهذا من المقامات العالية
79 فنحن نعلم، أن من ألقابها الصابرة، والصبر مقام سامي، أما معرفة علو شأن هذا المقام فهذا نراه من خلال القرآن الكريم، حيث أثبت الله تعالى الثواب لكثير من الفضائل الموجودة في القرآن أما الصبر والصابر فأن أجرهم غير محدود وهذا ما نجده في قوله تعالى * (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) * يعني أنه لا يوجد أجر محدود للصابر وللصبر بل أجره مفتوح وهذا يؤدي إلى أن الصبر يكون في أعلى مقامات الفضائل الأخلاقية، ومن هنا كان الصبر أم الأخلاق بل هو أفضلها وأحسنها في كل شئ فما من شئ إلا ومقرون الصبر معه فالصلاة مقرون بالصبر عليها والطاعة كذلك والإيمان لا بد من الصبر عليه لإثباته على النفس الإنسانية ولذلك جعل الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد كما ورد في الحديث الشريف ذلك، فإذا كان الصبر هكذا مقامه فإنه سوف يكون الأساس لكثير من الأخلاق، فلذا كان الزهد فرع من الأصل والأم الذي هو الصبر وليس العكس صحيح فالزاهد لا يكون زاهدا حتى يصبر ويصبر نفسه على ترك الدنيا وزخرفها وأموالها وكل شئ يؤدي به إلى الزهد، ومن هنا كان بيت القصيد وهو أن الزهراء حجة على الأنبياء من جهة صبرها في عالم الغيب والشهادة وصبرها في الدنيا على ما جرى عليها من المحن والظلم، وكذلك كانت الحجة على الأنبياء كما شهدت الكثير من الروايات الشريفة، وكما سيأتي بعد قليل رواية مهمة تثبت هذه الفضيلة للزهراء، وهذا أيضا ما أثبتته الشواهد فنحن نجد أن الكثير من الأنبياء كانوا يدعون الله تعالى أن يطول عمرهم وهذا بخلاف فاطمة الزهراء (عليها السلام) حيث كانت مستبشرة عندما أخبرها النبي الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أنها أول أهله لحوقا به وهذا ما ذكره العلامة الأردبيلي (رحمهم الله) في فضيلتها من جهة كونها تحب الموت ولا تكرهه حيث قال العلامة الأردبيلي ما نصه: إن الطباع البشرية مجبولة على كراهة الموت مطبوعة على النفور منه، محبة للحياة، مايلة إليها، حتى الأنبياء (عليهم السلام) على شرف مقاديرهم وعظم أخطارهم ومكانتهم من الله تعالى ومنازلهم من محال قدسه وعلمهم بما تؤول إليه أحوالهم وتنتهي إليه أمورهم أحبوا الحياة ومالوا إليها وكرهوا الموت ونفروا منه. وقصة آدم (عليه السلام) مع طول عمره وامتداد أيام حياته معلومة.
80 قيل: أنه وهب داود (عليه السلام) حيث عرضت عليه ذريته أربعين سنة من عمره فلما استوفى أيامه وحانت منيته وانقضت مدة أجله وحم حمامه جاءه ملك الموت يقبض نفسه التي هي وديعة عنده فلم تطب بذلك نفسه وجزع وقال: أن الله عرفني مدة عمري وقد بقيت منه أربعون سنة، فقال: إنك وهبتها ابنك داود فأنكر أن يكون ذلك، قال النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): فجد فجهدت ذريته. ونوح (عليه السلام) كان أطول الأنبياء، أخبر الله تعالى عنه أنه لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما فلما دنا أجله قيل له: كيف رأيت الدنيا؟ فقال: كدار ذات بابين دخلت في باب وخرجت من باب. وهذا يدل بمفهومه على أنه لم يرد الموت ولم يؤثر مفارقته. وإبراهيم (عليه السلام): روي أنه سأل الله تعالى أن لا يميته حتى يسأله (عليه السلام) فلما استكمل أيامه التي قدرت له خرج فرأى ملكا على صورة شيخ فان كبير قد أعجزه الضعف وظهر عليه الخراف " أي فساد العقل من الكبر "، ولعابه يجري على لحيته وطعامه وشرابه يخرجان من سبيله عن غير اختياره، فقال له: يا شيخ كم عمرك؟ فأخبره بعمر يزيد على عمر إبراهيم بسنة، فاسترجع وقال: أنا أصير بعد سنة إلى هذه الحال فسأل الموت. فهؤلاء الأنبياء ممن عرفت شرفهم وعلاء شأنهم وارتفاع مكانهم ومحلهم في الآخرة وقد عرفوا ذلك وأبت طباعهم البشرية إلا الرغبة في الحياة. وفاطمة (عليها السلام) امرأة حديثة عهد بصبي ذات أولاد صغار وبعل كريم لم تقض من الدنيا إربا " أي حاجة " وهي في غضارة عمرها وعنفوان شبابها يعرفها أبوها أنها سريعة اللحاق به فتسلوا موت أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) وتضحك طيبة نفسها بفراق الدنيا وفراق بنيها وبعلها، فرحة بالموت مايلة إليه مستبشرة بهجومه مسترسلة عند قدومه وهذا أمر عظيم لا تحيطه الألسن بصفته ولا تهتدي القلوب إلى معرفته وما ذاك إلا لأمر علمه الله من أهل البيت الكريم وسرا وجب لهم مزية التقديم فخصهم بباهر معجزاته وأظهر عليهم آثار علائمه وسماته وأيدهم ببراهينه والصادقة ودلالاته، والله أعلم حيث يجعل رسالته (1).
(1) كشف الغمة: 1 / 355. 81 جوهرة القدس من الكنز الخفي * بدت فأبدت عاليات الأحرف وقد تجلى في سماء العظمة * من عالم الأسماء أسمى كلمة بل هي أم الكلمات المحكمة * في غيب ذاتها نكات مبهمة أم الأئمة العقول الغر بل * أم أبيها وهو علة العلل (1) أليس ذلك من الفضائل العالية حيث كانت الزهراء (عليها السلام) حجة على الأنبياء باعتبار صبرها وفضلها. أما كونها (عليها السلام) حجة على الأئمة كما هي حجة على الأنبياء فهذا ما يتبين لنا من خلال عدة أحاديث مأثورة عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام)، منها ما ورد عن جابر بن عبد الله الأنصاري، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، عن الله تبارك وتعالى أنه قال: " يا أحمد، لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما (2) ". أما الدليل الثاني: فنقول أنه ورد في الحديث الشريف المأثور عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) ما نصه " أنه ما تكاملت نبوة نبي من الأنبياء حتى أقر بفضلها ومحبتها وهي الصديقة الكبرى وعلى معرفتها دارت القرون الأولى " (3). يعني ما تكاملت نبوة نبي - والنبوة خلاصة التوحيد - إلا لمن أقر بفضلها ومحبتها والإقرار هو الشهادة علي النفس والاعتراف منها للغير وإقرار العقلاء علي أنفسهم جائز، فهذه شهادة من الأنبياء لها بالفضل والمحبة والفضل يعني أنها كانت لها زيادة في الفضائل علي الأنبياء بل هي صاحبة الفضل عليهم بأنه لم تكتمل نبوة نبي إلا بها (عليها السلام). وفي ذيل هذا الحديث أعلاه يقول المحقق البارع أبو الحسن النجفي ما نصه: إن المراد من القرون هي قرون جميع الأنبياء والأوصياء وأمم من آدم فمن دونه حتى نفس خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) أجمعين، يعني ما بعث الله عز وجل أحدا من الأنبياء والأوصياء حتى أقروا بفضل الصديقة الكبرى ومحبتها. ويؤيده ما ذكره السيد هاشم البحراني صاحب تفسير البرهان في مدينة المعاجز عنه (عليه السلام) ما تكاملت النبوة لنبي حتى أقر بفضلها
(1) الأنوار القدسية: للمرحوم الشيخ محمد حسين الأصفهاني. (2) الجنة العاصمة: 148، مستدرك سفينة البحار: 3 / 334، عن مجمع النورين: 14. (3) البحار: 43 / 105. 82 ومحبتها (1). وأيضا ما ورد عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت لم سميت فاطمة الزهراء " زهراء "؟ فقال: لأن الله عز وجل خلقها من عظمته... إلى أن يقول الله تعالى للملائكة في ماهية نور فاطمة ما نصه.. فأوحى الله إليهم: هذا نور من نوري أسكنته في سمائي، خلقته من عظمتي، أخرجه من صلب نبي من أنبيائي أفضله على جميع الأنبياء وأخرج من ذلك النور أئمة يقومون بأمري يهدون إلى حقي واجعلهم خلفائي في أرضي بعد انقضاء وحي (2). وعن أبي عبد الله (عليها السلام) أنه قال: لولا أن أمير المؤمنين (عليه السلام) تزوجها لما كان لها كفوء إلى يوم القيامة على وجه الأرض آدم فمن دونه (3). ولقد علق على هذا الحديث الشريف صاحب كتاب البحار العلامة المجلسي (رحمهم الله) حيث قال: يمكن أن يستدل به - أي بالحديث أعلاه على كون علي وفاطمة (عليهما السلام) أشرف من سائر أولي العزم سوى نبينا صلى الله عليهم أجمعين. لا يقال: لا يدل على فضلهما على نوح وإبراهيم (عليهما السلام) لاحتمال كون عدم كونهما كفوئين لكونها من أجدادها (عليها السلام). لأنا نقول: ذكر آدم (عليه السلام) يدل على أن المراد عدم كونهم أكفاءها مع قطع النظر عن الموانع الأخر على أنه يمكن أن يتشبث بعدم القول بالفصل (4). وأيضا هناك حديث يدل على أفضلية فاطمة الزهراء على الأنبياء وعلى جميع البشر حيث ذكر المحدث الكبير العلامة الخبير الطبرسي (رضي الله عنه): عن أبي جعفر (عليه السلام): ولقد كانت (عليها السلام) مفروضة الطاعة على جميع من خلق الله من الجن والإنس والطير والوحوش والأنبياء والملائكة (5). ونقف مع وجه آخر قد يمكن أن نثبت من خلاله حجية فاطمة (عليها السلام) على الأئمة، وهو ما نستفيده من خلال الحديث المذكور في كون علي (عليه السلام) كفوا لفاطمة الزهراء (عليها السلام)، حيث ورد في الحديث المذكور عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " لولا علي لم يكن لفاطمة
(1) ملتقى البحرين: 40. (2) البحار: 43 / 19. (3) البحار: 43 / 10 و 11. (4) البحار: 43 / 10 - 11. (5) دلائل الإمامة: 28. 83 كفو " (1). وأيضا ورد عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " لولا يخلق عليا لما كان لفاطمة كفو (2). وهذا يعني أن أكثر المقامات التي كانت للإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) هي ثابتة للصديقة الشهيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فهما في منزلة واحدة من الإيمان والتقوى، وإلا لما كان كل منهما كفوا للأخر؟ وعليه تكون فاطمة حجة على الأئمة (عليه السلام) كما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) الحجة على الأئمة (عليه السلام)، فلقد ورد في عدة أحاديث أن علي (عليه السلام) سيد الأوصياء وخيرهم وأفضلهم لذا كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " منا خير الأنبياء وهو أبوك - والكلام مع فاطمة (عليه السلام) - ومنا خير الأوصياء وهو بعلك (3) ". وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين أنه قال: " والله لأتكلمن بكلام لا يتكلم به غيري إلا كذاب: ورثت نبي الرحمة، وزوجتي خير نساء الأمة، وأنا خير الوصيين " (4). والذي نريد القول به من هذا الكلام أن الإمام (عليه السلام) كان خير الأوصياء وأفضلهم فلقد ورد في شرح نهج البلاغة في أن أمير المؤمنين كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة. قال ابن أبي الحديد: وما ظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير فيصلي عليه ورده والسهام تقع بين يديه، وتمر على صماخيه يمينا وشمالا فلا يرتاع لذلك فلا يقوم حتى يفرغ من وظيفته، وما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة بعير لطول سجوده، وإذا تأملت دعواته ومناجاته وقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله وما يتضمنه من الخضوع لهيبته، والخشوع لعزته والاستخذاء له، عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص، وفهمت من أي قلب خرجت وعلى أي لسان جرت، وقيل لعلي بن الحسين (عليهما السلام) وكان الغاية في العبادة: أين عبادتك من عبادة جدك؟ قال: عبادتي من عبادة جدي كعبادة جدي من عبادة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (5). فيظهر من هذا الحديث أحاديث أخرى أن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان متميز عن باقي
(1) مصباح الأنوار: 133، كشف الغمة 1 / 472، فردوس الأخبار: 3 / 418 ح 517. (2) ينابيع المودة: 177، 181. (3) ينابيع المودة: 436، منتخب الأثر: 192. (4) البحار: 43 / 143. (5) شرح نهج البلاغة: 1 / 10. 84 الأئمة (عليهم السلام) من ناحية مدى تصديه لشؤون الإمامة والولاية وتحمل المشاق للدفاع عن حريم الرسالة المحمدية، وإلا فالأئمة (عليهم السلام) جميعا من ناحية الأنوار متحدين فهم كلهم نور واحد ولكن الاختلاف كان من جهة تصديهم لشؤون الخلافة والمشاق التي تحملوها، وعليه تكون الصديقة الزهراء (عليها السلام) كفو للإمام أمير المؤمنين فهي أم الأوصياء وروح النبوة وبضعة الرسول، وزوجة خير الأوصياء. وعلى ضوء هذه الأحاديث وعلى أساس أحاديث أخرى أغمضنا النظر عليها لئلا يطول المقام بنا، كانت فاطمة الزهراء وبدليل الأولوية وفحوى الخطاب الحجة على الأنبياء والأئمة، ونقول ليس فقط ما تكاملت نبوة نبي فحسب بل ما تكاملت الإمامة في إمامتها ولا تكامل العلماء في علمائها وإلا الأدباء في أدبهم والحكماء في حكمهم والأتقياء في تقواهم وكل كامل في كمال حتى يقر بفضلها ويؤمن بمحبتها فهي الصديقة الكبرى وعلى معرفتها دارت القرون الأولى والأخرى (1). فإذا كانت فاطمة حجة وما تزال حجة على الأئمة (عليها السلام). وحبها من الصفات العالية * عليه دارت القرون الخالية بأبي فاطم وقد فطمت * باسمها نار حشرها ولظاها هي والله كوثر قد أعدت * لبنيها وكل من والاها هي عند الله أعظم خلق * وبها دار في القرون رحاها وهكذا كانت فاطمة الزهراء (عليها السلام) بهذه الوجوه وأدلة أخرى الحجة على الأنبياء والأوصياء وبهذا المعنى الذي وضحناه تبين لنا عظم مقام فاطمة (عليها السلام) وعلو قدرها عند الباري عز وجل ونكتفي بهذا البيان حول الوقوف على قول الإمام الحسن العسكري " فاطمة حجة علينا ".
(1) فاطمة الزهراء ليلة القدر " للسيد عادل العلوي ". 85 البحث الرابع أصل يوم العذاب في ظلامات فاطمة الزهراء (عليها السلام)
87 الشيخ حبيب شعبان (1) أيا منزل الأحباب ما لك موحشا * بزهرتك الأرياح أودت بما تسفي تعفيت يا ربع الأحبة بعدهم * فذكرتني قبر البتولة إذ عفي رمتها سهام الدهر وهي صوائب * بشجو إلى أن جرعت غصص الحتف شجاها فراق المصطفى واحتقارها * لدى كل رجس من صحابته جلف لقد بالغوا في هضمها وتحالفوا * عليها وخانوا الله في محكم الصحف فآبت وزند الغيظ يقدح في الحشا * تعثر بالأذيال مثنية العطف وجائت إلى الكرار تشكو اهتضامها * ومدت إليه الطرف خاشعة الطرف أبا حسن يا راسخ العلم والحجى (2) * إذا فرت الأبطال رعبا من الزحف ويا واحدا أفنى الجموع ولم يزل * بصيحته يسومونني ما لا أطيق من الخسف ويلطم وجهي نصب عينيك ناصب * العداوة لي بالضرب مني يستشفي فتغضي ولا تنضي حسامك آخذا * بحقي ومنه اليوم قد صفرت كفي لمن أشتكي إلا إليك ومن به * ألوذ وهل لي بعد بيتك من كهف وقد أضرموا النيران فيه وأسقطوا * جنيني فوا ويلاه منهم ويا لهفي وما برحت مهضومة ذات علة * تأرقها البلوى وظالمها مغفي إلى أن قضت مكسورة الضلع مسقطا * جنين لها بالضرب مسودة الكتف
(1) الشيخ حبيب شعبان من شعراء أهل البيت يمتاز شعره بالمتانة والسلاسة. ولد في النجف سنة 1290 ه تقريبا. أما وفاته فقد سافر إلى الهند في سنة 1325 وانقطعت أخباره إلى سنة 1336 ه وردت أخبار وفاته هناك. ترجمه السيد جواد شبر في أدب الطف وعلي الخاقاني في شعراء الغري. (2) الحجى: العقل والفطنة. 89 البحث الرابع أصل يوم العذاب في ظلامات فاطمة الزهراء (عليها السلام) * لماذا هذا البحث (أصل يوم العذاب...) قال المفضل للإمام الصادق (عليه السلام): يا مولاي ما في الدموع من ثواب؟ قال: ما لا يحصى إذا كان من محق. فبكى المفضل (بكاءا) طويلا ويقول: يا ابن رسول الله إن يومكم في القصاص لأعظم من يوم محنتكم، فقال له الصادق (عليه السلام): ولا كيوم محنتنا بكربلاء وإن كان يوم السقيفة وإحراق النار على باب أمير المؤمنين والحسن والحسين وفاطمة وزينب وأم كلثوم وفضة وقتل محسن بالرفسة أعظم وأدهى وأمر، لأنه أصل يوم العذاب (1). من منطلق هذه الرواية التي رواها المفضل عن الإمام الصادق (عليه السلام)، واستنادا إلى كلام الإمام المعصوم الذي هو معصوم الكلام، والذي لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه، حيث يعتبر كلام الإمام المعصوم من الأدلة الشرعية الأربعة: القرآن الكريم والسنة والعقل والإجماع فهو داخل ضمن السنة النبوية الشريفة، باعتباره يمثل الامتداد الحية لها كان عنوان هذا البحث. مستمد من هذه الرواية والتي تروي قصة مظلومية فاطمة الزهراء سلام الله عليها والذي بين فيه الإمام الصادق (عليه السلام) عظم ومرارة مصيبة أهل البيت (عليهم السلام) عند هجوم القوم على دار أمير المؤمنين سلام الله عليه بأعظم تعبير يجعل المؤمن الباحث عن الحقيقة والعقيدة الصحيحة يقف عنده كثيرا
(1) نوائب الدهور: 3 / 194، الهداية الكبرى: 417. 91 ويدقق فيه طويلا ليرى لماذا عبر عنه الإمام (عليه السلام) بهذا القول العظيم بأنه أصل يوم العذاب، لا شك ولا ريب أن كلام الإمام الصادق (عليه السلام) لا يأتي اعتباطا وعبثا دون أن تكون هناك مقدمات أولية يقينية عنده بحيث تؤدي بالأمر إلى أن تصل فيه النتيجة النهائية وعلى ضوء هذه المقدمات المهمة أن تكون المظلومية العظمى لأهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة وبالخصوص أم أبيها فاطمة الزهراء سلام الله عليها هي الأساس والأصل ليوم الحسرة أو كما عبر عنه الإمام (عليه السلام) بيوم العذاب. لذا جاء هذا البحث أصل يوم العذاب في ظلامات فاطمة الزهراء سلام الله عليها باعتبارها قطب الرحى الذي تدور حوله محورية أهل البيت (عليهم السلام) والذي اعتمدنا في تسميته هذه على رواية المفضل عن لسان الإمام الصادق (عليه السلام) لكي لا نخرج حتى في تسميتنا لأي شئ عن تسميات وتعبيرات أهل البيت (عليهم السلام). وسيكون بحثنا في هذا الموضوع على مقدمات مهمة، وخصوصيات قيمة مرتبطة بصميم البحث وتكون هي المحور والأساس للنتيجة النهائية للبحث، وخصوصا ما يتعلق بمقامات فاطمة الزهراء سلام الله عليها لما لها من الأثر الكبير على عظم ومرارة مظلوميتها سلام الله عليها فإنه كلما كان المقام سامي وعظيم للإنسان المؤمن فإنه بالنتيجة والقطع اليقيني سوف تكون ظلامته ومظلوميته عظيمة وكبيرة وعلى قدر إيمانه ومقامه الرفيع. وكذلك سوف يكون هناك بحث مهم وعلى ضوء القرآن والسنة لبيان هذه المقامات وكذلك إظهار مظلومية أهل البيت وبالأخص الزهراء سلام الله عليها على ضوء السنة الشريفة وآراء ومعتقدات العلماء الأبرار إلى أن نصل إلى مسألة ارتباط هذه المظلوميات بصميم عقائدنا وبالنتيجة كيفية تعبير الإمام الصادق (عليه السلام) بأن مظلومية أهل البيت (عليهم السلام) في ذلك الوقت وحتى وقتنا هذا هي الأصل ليوم العذاب. ما معنى أصل يوم العذاب؟ وأصل الشئ الأساس الذي بني عليه ذلك الشئ وقد يكون أصل الشئ المنطلق له أو أسفله وحسب التعريفات اللغوية التي وردت في تعريفه، ومن هنا نقف مع رواية
92 المفضل التي رواها عن الإمام الصادق (عليه السلام) لكي نفهم كيف يجري الحال مع هذه الرواية، فالسؤال المطروح فيما نحن فيه يقتضي أن نفهم أن أصل يوم العذاب هل يقصد به الأساس الذي بني عليه ظلم أهل البيت (عليهم السلام) من ذلك الحين أو أنه يقتضي - الأصل - معناه يوم القيامة الذي سوف يكون فيه الأساس لعذاب الذين ظلموا أهل البيت (عليهم السلام) فيكون الجزاء جهنم خالدين فيها أبدا؟ أما الشق الأول الذي يقصد به ويقول إن أصل يوم العذاب هو ذلك اليوم الذي سلبت فيه الخلافة من أمير المؤمنين (عليه السلام) - يوم السقيفة - وإضرام النار على باب بيت أمير المؤمنين وفاطمة (عليهما السلام)... وقتل محسن بالرفسة، حيث أسس الظلم والعذاب على أهل البيت (عليهم السلام) ولم يرو الراحة والاطمئنان من يوم ظلم فاطمة إلى واقعة كربلاء وقتل أهل البيت وتشريدهم إلى ظهور الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) فإن العذاب موجوع والأذى مبثوث لكل من ولاهم واتبعهم من شيعتهم وعلى هذا الأساس يكون أصل يوم العذاب هو اليوم الذي أسس الظلم على أهل البيت (عليهم السلام) في هذه الحياة الدنيا، وهذا القول الذي يقول إن يوم العذاب هو يوم الظلم الذي جرى على أهل بيت النبوة بعيد عن المتفاهم العرفي ولا يساعد عليه الحال لأن هناك فرق بين أن تقول يوم الظلم ويوم العذاب لأنه الظلم وارد في الحياة الدنيا أما العذاب فيكون له يوم خاص وكما عبر عنه القرآن يوم التغابن ويوم القيامة.... فلذا الظاهر من خلال الرواية أن يوم العذاب ليس هو يوم الظلم الذي جرى على أهل بيت النبوة (عليهم السلام) لأن العذاب لا يطلق على هكذا حال وإنما يطلق على يوم القيامة الذي سوف يكون فيه العذاب للظالمين أما ما الذي يصح أن يعبر منه فهذا ما يمكن أن نقول به هو يوم المصائب ويوم المحن والابتلاءات والظلامات إذن يكون هذا القول منتفي في كون يوم العذاب هو اليوم الذي أسس فيه الظلم لأهل بيت النبوة. وعلى الشق الثاني من معنى الأصل ليوم العذاب يكون معناه أن يوم القيامة سوف يكون فيه العذاب والخزي للذين أخذوا الخلافة من أصحابها الحقيقيين وظلموا الزهراء (عليها السلام) وأضرموا النار على بيت أمير المؤمنين وقتلوا المحسن بن علي (عليه السلام) بالرفسة، فتكون هذه الظلامات هي الأساس والأصل ليوم العذاب في نار جهنم
93 للذين فعلوا ذلك الظلم العظيم وكما عبر القرآن الكريم عن ذلك بقوله تعالى * (إن الظالمين لهم عذاب أليم) *. وعليه الذي على ما احتمله أن الصحيح عندي هو المعنى الوارد في تفسير الأصل ليوم العذاب يعني أن أساس يوم العذاب في القيامة سوف يكون بسبب هذا الظلامات من ظلامة يوم السقيفة وإحراق النار وقتل محسن بالرفسة وغير ذلك من الظلامات ذلك لأن هناك عدة أدلة وشواهد تثبت هذه المسألة وأيضا نفهم هذا من خلال عدة روايات شريفة وشواهد تاريخية بينت هذه المسألة، وهناك قرينة في المقام تثبت هذا المعنى وهي الرواية نفسها حيث نستفيد منها أن المفضل يسأل الإمام (عليه السلام) ويقول إن يومكم في القصاص لأعظم من يوم محنتكم... حيث عبر عن يوم القيامة بيوم القصاص الذي سوف تكون فيه جهنم عذابا للظالمين، وإضافة إلى ذلك قال المفضل أن يوم محنتكم وهذا يدل على أن هناك فرق بين أن نقول يوم العذاب ويوم المحنة.. وأيضا هناك قرينة متصلة في الرواية الشريفة نفسها حيث توجد تكملة لهذه الرواية التي يرويها المفضل حيث تقول: " ويأتي محسن مخضبا محمولا تحمله خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وهما جدتاه... وفاطمة تبكي وتصيح وتقول: هذا يومكم الذي كنتم توعدون... فيأخذ رسول الله محسنا على يديه رافعا له إلى السماء وهو يقول: إلهي وسيدي صبرنا في الدنيا احتسابا وهذا اليوم الذي تجد كل نفس ما عملت من خيرا محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ". فعلى أساس هاتين القرينتين نحتمل احتمالا قويا أن أصل يوم العذاب المقصود به هو يوم القيامة الذي سوف يكون فيه نار جهنم للظالمين أشد عذابا وأكبر تنكيلا. وربما يرد علينا في ما نحن فيه إشكال وهو إذا كانت ظلامات أهل البيت (عليهم السلام) من السقيفة وإحراق بيت فاطمة وقتل محسن.. الخ هو الأساس وأصل يوم العذاب في القيامة فماذا تقول في الذين كانوا قبل هذه الظلامات وقبل زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) - أي الأمم الأخرى - فإنهم ما كانوا يعلمون ذلك فكيف توجه هذه المسألة؟ نقول: إنه لا ضير في ذلك ولا يقدح فيما نحن فيه ذلك لكون عندنا رواية تقول أنها -
94 أي الصديقة الطاهرة فاطمة (عليها السلام) - كانت مفروضة الطاعة على جميع من خلق الله من الجن والإنس والطير والوحش والأنبياء والملائكة (1)، فإذا كان هكذا حالها فبالنتيجة تكون الحجة على جميع من خلق الله تعالى وخصوصا أنه ما تكاملت نبوة نبي من الأنبياء حتى أقر بفضلها ومحبتها وهي الصديقة الكبرى وعلى معرفتها دارت القرون الأولى - أي المتقدمة على هذا الزمان - وعليه لو كان الأنبياء والمؤمنين قبل بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حاضرين في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لكانوا قسمين إما راضين بما فعل القوم من الظلم بحق فاطمة وبعلها وبنيها وإما لم يكونوا راضين. فإن كانوا راضين كانت لهم جهنم مقرا ومقاما وإن لم يكونوا راضين بظلمها كانت لهم الجنة دار سرور ونعيم وعلى هذا الأساس يتضح كيف يكون ظلم أهل البيت وخصوصا الصديقة الشهيدة فاطمة (عليها السلام) الأساس ليوم العذاب هذا من جهة. ومن جهة أخرى نحن نعلم أن هناك أحاديث وردت على لسان أهل بيت العصمة مفادها إن الله يرضى لرضا فاطمة ويغضب لغضبها فمن كانت فاطمة راضية عنه رضا عنه الله تبارك وتعالى ولا شك ولا ريب ولا شك أن رضا الله يرضاه الأنبياء والمؤمنين السابقين على زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيكونوا عندئذ راضين عمن رضيت عنه فاطمة وغاضبين على من غضبت عليه لأنها مظهر رضا الله تعالى وغضبه وعليه يكون الأصل ثابت. إذن ونحن نقف مع هذا البحث ومدى ثبوتيته لا بد لنا من أن نقدم بعض الأمور التي يتوقف عليها عظم هذه المسألة التي نحن بصددها، وهذه الأمور هي: الأمر الأول: مقامات الزهراء (عليها السلام). الأمر الثاني: ظلامات الزهراء (عليها السلام).
(1) دلائل الإمامة: 28. 95 الأمر الأول مقامات الزهراء (عليها السلام) وفيه: أ - مقامها عند الله تعالى. ب - مقامها عند الملائكة. ج - مقامها عند الأنبياء والنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). د - مقامها عند الأئمة (عليهم السلام). ه مقامها عند العلماء والمحدثين. ت - مقامها يوم القيامة.
96 1 - مقامها (عليها السلام) عند الله تعالى إن من المقامات التي خصت بها فاطمة الزهراء (عليها السلام) هو مقام الرضا أي إن الله يرضى لرضاها ويغضب لغضبها، حيث جاءت الكثير من الروايات الشريفة المأثورة عن الرسول وأهل بيته (عليهم السلام) لتؤكد هذه المنقبة العظيمة للصديقة الشهيدة. وهذا مما يدل على كونها ذو مقام عالي وشريف سامي لها عند الله تعالى، إذ لا معنى أن يرضى الله لشخص من دون أن يكون له عند الله منزلة وكرامة عليه، وهذا مما يساعد عليه العرف العقلائي إضافة إلى الشواهد القرآنية الكثيرة على هذه المسألة، فنحن نجد من خلال الممارسات الحياتية إن الكثير من الأصدقاء مثلا يرضون لرضا شخص معين بالحق ويقبلون شفاعته وتوسطه أو رضاه عن شخص معين لحل مشكلة ما، وكذلك الحال في الغضب، وعلى هذا الأساس تكون فاطمة كريمة عند الله تعالى لعلو شأنها ومنزلتها عنده لذلك يرضى لرضاها ويغضب لغضبها. عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " يا فاطمة إن الله ليغضب لغضبك ويرضى لرضاك " (1). وكذلك ما ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " يا فاطمة أبشري فلك عند الله مقام محمود تشفعين فيه لمحبيك وشيعتك فتشفعين " (2). ويظهر أيضا مقامها عند الباري عز وجل من خلال الحديث الطويل الذي يروى عن أهل بيت العصمة عن الله تعالى حيث يقول الباري عز وجل: " يا فاطمة وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لقد آليت على نفسي من قبل أن أخلق السماوات والأرض بألفي عام أن لا أعذب محبيك ومحبي عترتك بالنار " (3). فأي منزلة ومقام لها عند الله تعالى بحيث يقسم الله تعالى بعزته وجلاله أن لا يعذب بالنار شيعة الزهراء ومحبيها، وهذا الحديث له مقام عالي يثبته حديث آخر
(1) المناقب: 3 / 106. (2) كنز الفوائد: 1 / 150. (3) سفينة البحار: 2 / 375. 97 ورد في شفاعة الزهراء (عليها السلام) في يوم القيامة وإعطاء الكرامة العظمى لها آنذاك. ومن المقامات الأخرى لها (عليها السلام) هو علة الايجاد أي أنها كانت علة الموجودات التي خلقها الباري عز وجل وكما ورد في الحديث الذي يقول فيه الباري عز وجل: " يا أحمد! لولاك لم خلقت الأفلاك، ولولا علي لم خلقتك ولولا فاطمة لما خلقتكما " (1). ولا نريد الوقوف مع هذا الحديث الآن بل نترك بحثه إلى الفصول القادمة من هذا الكتاب، وكثيرة هي المناقب والمقامات التي لها عند الله تعالى. ب - مقامها (عليها السلام) عند الملائكة في حديث طويل.. "... فقالت الملائكة: إلهنا وسيدنا لمن هذا النور الزاهر، الذي قد أشرقت به السماوات والأرض؟ فأوحى الله إليها: هذا نور اخترعته من نور جلالي لأمتي فاطمة ابنة حبيبي، وزوجة وليي وأخو نبيي وأبو حججي على عبادي، أشهدكم ملائكتي أني قد جعلت ثواب تسبيحكم وتقديسكم لهذه المرأة وشيعتها ومحبيها إلى يوم القيامة " (2). وهذا يعني أنها (عليها السلام) لها مقام النور الزاهر عند الملائكة فهم يعرفونها في السماء بالنور الزاهر الذي أزهرت السماوات والأرض بنورها ولأجل ذلك سميت بالزهراء. ج مقامها (عليها السلام) عند الأنبياء والنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أما عند الأنبياء فهذا ما يدل عليه الحديث المأثور عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) الذي يقول: ما تكاملت نبوة نبي من الأنبياء حتى أقر بفضلها ومحبتها وهي الصديقة الكبرى وعلى معرفتها دارت القرون الأولى، حيث يظهر من هذا الحديث أن لها مقام سامي عند الأنبياء لأنه ما تكاملت نبوتهم حتى أقروا بمنزلتها ومقامها وفضلها
(1) ملتقى البحرين: 14، فاطمة بهجة قلب المصطفى: 9، عن كشف اللآلي. (2) تأويل الآيات: 1 / 137 / ح 16، البرهان: 1 / 392 ح 5. 98 ومحبتها، واللطيف هنا إنما الإقرار يكون عند من له الحق على الآخرين، وعليه يكون الأنبياء أقروا لله تعالى - لأنه هو صاحب الحق عليهم - بفضلها ومحبتها، أما عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن مقامها رفيع ولو أردنا أن نكتب عن مقامها عند الرسول لاحتجنا إلى مجلدات في هذا الأمر ولكن على ما يسعنا المقام نقول: إن مقامها يظهر من خلال أحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه حيث تارة يقول فداك أبوك ومرة أخرى يقول لها أم أبيها، وأخرى بضعة مني ولحمها لحمي ودمها دمي ولكن الأهم من هذا كله فإنها (عليها السلام) يكفي من مقامها ومنزلتها عند الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال في حقها: " من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد وهي بضعة مني وهي قلبي الذي بين جنبي فمن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله " (1). وأيضا قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ومن أنصفك فقد أنصفني، ومن ظلمك فقد ظلمني، لأنك مني وأنا منك، وأنت بضعة مني وروحي التي بين جنبي ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " إلى الله أشكو ظالميك من أمتي " (2). د - مقامها (عليها السلام) عند الأئمة (عليهم السلام) ورد عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) أنه قال: " نحن حجج الله على خلقه وجدتنا فاطمة حجة الله علينا " (3) وهذا الحديث من الأحاديث العظيمة الذي أعطى لفاطمة (عليها السلام) وعلى لسان حفيدها الحسن العسكري (عليه السلام) أكبر شهادة عظمي بحقها، وسيأتي مفصلا البحث حول هذا الحديث الشريف. ويظهر من خلال حديث أخر عظم منزلة ومقام فاطمة عند الأئمة (عليهم السلام) حيث
(1) كشف الغمة: 1 / 467، الفصول المهمة: 128، نور الأبصار: 52، ونزهة المجالس: 2 / 228. (2) كشف الغمة: 1 / 498. (3) تفسير أطيب البيان: 3 / 226. 99 خرج من الناحية الشريفة عن الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) أنه قال: " وفي ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لي أسوة حسنة... " (1) فأي مقام يظهر لنا من خلال هذا التوقيع الشريف والذي بين فيه الإمام (عجل الله تعالى فرجه الشريف) أن له أسوة حسنة بفاطمة أي اتخذها قدوة له يتأسى بها في المعضلات والمصائب. وهناك الكثير من المقامات التي اشتركت الزهراء (عليها السلام) مع الأئمة فيها من حيث كونهم الصراط المستقيم واشتراكها معهم فيه وكذلك كونهم الكلمات التي تلقاها آدم (عليه السلام) لتوبته واشتراكها معهم في المباهلة مع وفد نجران والذي تدل على أنها كانت قطب الرحى الذي دار في المباهلة وكونها الشجرة الطيبة واشتراكها في النور معهم والتطهير في آية التطهير... الخ من المناقب والمقامات العالية لها (عليها السلام) ولقد تظافرت الروايات الشريفة على هذه المقامات. ه مقامها (عليها السلام) عند العلماء والمحدثين 1 - قال ابن صباغ المالكي: ولنذكر طرفا من مناقبها التي تشرف هذا النسب من نسبها، واكتسى فخرا ظاهرا من حسبها، وهي فاطمة الزهراء بنت من أنزل عليه: سبحان الذي أسرى، ثالثة الشمس والقمر، بنت خير البشر، الطاهرة الميلاد، السيدة بإجماع أهل السداد (2). 2 - قال الأستاذ عبد الزهراء: ونحن حين نتناول الحديث عن الزهراء (عليها السلام) بصفتها غرس النبوة، وشجرة الإمامة، فإنما تنكشف لنا أبعاد الرسالة الإسلامية بطابع تجسيدي نلمسه في كل جانب من جوانب شخصيتها (عليها السلام) ونحن نتابعها، ففي قرانها بعلي بن أبي طالب (عليه السلام) تنجلي لنا الصورة الحية التي رسمها الإسلام للقرآن الذي ارتضاه خالق هذا الوجود، وفي مواقفها البطولية بعد وفاة أبيها يتكشف لنا المدى
(1) البحار: 53 / 179 و 180، غيبة الطوسي: 172، الإحتجاج: 2 / 277، إلزام الناصب: 1 / 439. (2) الفصول المهمة: 143. 100 البعيد الذي رسمه الإسلام للمرأة من حقوق وواجبات، ومدى فاعليتها في بناء المجتمع الإسلامي. وعلى هذا الأساس تقاس سائر جوانب شخصية الزهراء (عليها السلام) (1). 3 - قال العلامة محمد بن طلحة الشافعي: اعلم - أيدك الله بروح منه - أن الأئمة الأطهار المعدودة مزاياهم في هذا المؤلف، والهداة الأبرار المقصودة سجاياهم بهذا الصنف لهم برسول الله زيادة على اتصالهم به بواسطة فاطمة (عليها السلام). فبواسطتها زادهم الله تعالى فضل شرف وشرف فضل، ونيل قدر وقدر نيل، ومحل علو وعلو محل، وأصل تطهير وتطهير أصل... فانظر بنور بصيرتك - أمدك الله بهدايتها - إلى مدلول هذه الآية (2) وترتيب مراتب عباراتها وكيفية إشارتها إلى علو مقام فاطمة (عليها السلام) في منازل الشرف وسمو درجتها، وقد بين ذلك وجعلها بينه وبين علي تنبيها على سر الآية وحكمتها، فإن الله عز وجل جعلها مكتنفة من بين يديها ومن خلفها ليظهر بذلك الاعتناء بمكانتها. وحيث كان المراد من قوله " وأنفسنا " نفس علي مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، جعلها بينهما إذ الحراسة بالإحاطة بالأنفس أبلغ منها بالأبناء في دلالتها (3). 4 - قال الحافظ أبو نعيم الأصفهاني: ومن ناسكات الأصفياء وصفيات الأتقياء فاطمة - رضي الله تعالى عنها - السيدة البتول، البضعة الشبيهة بالرسول، وأولهم بعد وفاته به لحوقا، كانت عن الدنيا ومتعتها عازفة، وبغوامض عيوب الدنيا وآفاتها عارفة (4). 5 - قال عبد الحميد ابن أبي الحديد: وأكرم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة إكراما عظيما أكثر مما كان الناس يظنونه وأكثر من إكرام الرجال لبناتهم، حتى خرج بها عن حد حب الآباء للأولاد، فقال بمحضر الخاص والعام مرارا لا مرة واحدة، وفي مقامات مختلفة لا في مقام واحد: " أنها سيدة نساء العالمين، وإنها عديلة مريم بنت عمران، وإنها إذا مرت في الموقف نادى مناد من جهة العرش: يا أهل الموقف غضوا أبصاركم
(1) الزهراء: 12 - 13. (2) يعني قوله تعالى: قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين. (آل عمران: 61) (3) مطالب السؤول: 6 و 7. (4) حلية الأولياء: 2 / 49. 101 لتعبر فاطمة بنت محمد ". وهذا من الأحاديث الصحيحة، وليس من الأخبار المستضعفة. وإن إنكاحه عليا إياها ما كان إلا بعد أن أنكحه الله تعالى إياها في السماء بشهادة الملائكة، وكم قال لا مرة: " يؤذيني ما يؤذيها، ويغضبني ما يغضبها، وإنها بضعة مني، يريبني ما رابها " (1). 6 - قال الأستاذ توفيق أبو علم: كانت - رضي الله عنها - كريمة الخليفة، شريفة الملكة، نبيلة النفس، جليلة الحس، سريعة الفهم، مرهفة الذهن، جزلة المروءة، غراء المكارم، فياحة نفاحة، جريئة الصدر، رابطة الجأش، حمية الأنف، نائية عن مذاهب العجب... وكانت في الذروة العالية من العفاف والتصادق، طاهرة الذيل، عفيفة المئزر، عفيفة الطرف... إنها سليلة شرف لا منازع لها فيه من واحدة من بنات حواء فمن تراه... واكتفائها بشرفها كأنها في عزلة بين أبناء آدم وحواء (2). 7 - قال الأستاذ عباس محمود العقاد المصري: في كل دين صورة الأنوثية الكاملة المقدسة يتخشع بتقديسها المؤمنون، كأنما هي آية الله فيما خلق من ذكر وأنثى، فإذا تقدست في المسيحية صورة مريم العذراء، ففي الإسلام لا جرم تتقدس صورة فاطمة البتول (3). 8 - قال الدكتور علي إبراهيم حسن: وحياة فاطمة هي صفحة فذة من صفحات التاريخ، نلمس فيها ألوان العظمة، فهي ليست كبلقيس أو كليوبطرة، استمدت كل عظمتها من عرش كبير وثروة طائلة وجمال نادر. وهي ليست كعائشة نالت شهرتها لما اتصفت به من جرأة جعلتها تقود الجيوش، وتتحدى الرجال، ولكنا أمام شخصية استطاعت أن تخرج إلى العالم وحولها هالة من الحكمة والجلال، حكمة ليس مرجعها الكتب والفلاسفة والعلماء، وإنما تجارب الدهر الملئ بالتقلبات والمفاجآت، وجلال ليس مستمدا من ملك أو ثراء، وإنما من صميم النفس... (4).
(1) شرح نهج البلاغة: 9 / 193. (2) أهل البيت: 132، 133. (3) أهل البيت لتوفيق أبو علم: 128. (4) فاطمة الزهراء عليها السلام للعلامة دخيل: 171. 102 9 - قال العلامة الإربلي: فلنبدأ الآن بذكر فاطمة (عليها السلام) التي زاد إشراق هذا النسب بإشراق أنوارها، واكتسب فخرا ظاهرا من فخارها، واعتلى على الأنساب بعلو منارها، وشرف قدره بشرف محلها ومقدارها، فهي مشكاة النبوة التي أضاء لألاؤها، وتشعشع ضياؤها، وسحت بسحب الغر أنواؤها، وعقيلة الرسالة التي علت السبع الشداد مراتب علا وعلاء، ومناصب آل وآلاء، ومناسب سنا وسناء، الكريمة الكريمة الأنساب، الشريفة الشريفة الأحساب، الطاهرة الطاهرة الميلاد، الزهراء الزهراء الأولاد، السيدة بإجماع أهل السداد، الخيرة من الخير، ثالثة الشمس والقمر، بنت خير البشر، أم الأئمة الغرر، الصافية من الشوب والكدر، الصفوة على رغم من جحد أو كفر، الحالية بجواهر الجلال، الحالة في أعلى رتب الكمال، المختارة على النساء والرجال، صلى الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبينها السادة الأنجاب، وارثي النبوة والكتاب، وسلم وشرف وكرم وعظم (1). 10 - وقال أيضا: إن فاطمة (عليها السلام) هي سليلة النبوة ورضيعة در الكرم والأبوة، ودرة صدف الفخار، وغرة شمس النهار، وذبالة (2) مشكاة الأنوار، وصفوة الشرف والجود، وواسطة قلادة الوجود، نقطة دائرة المفاخر، قمر هالة المآثر، الزهرة الزهراء، والغرة الغراء، العالية المحل، الحالة في رتبة آل علاء السامية، المكانة المكينة في عالم السماء، المضيئة النور، المنيرة الضياء، المستغنية باسمها عن حدها ووسمها، قرة عين أبيها، وقرار قلب أمها، الحالية بجواهر علاها، العاطلة من زخرف دنياها، أمة الله وسيدة النساء، جمال الآباء وشرف الأبناء، يفخر آدم بمكانها، ويبوح نوح بشدة شأنها، ويسمو إبراهيم بكونها من نسله، وينجح إسماعيل على إخوته إذ هي فرع أصله، وكانت ريحانة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من بين أهله، فما يجاريها في مفخر إلا مغلب (3)، ولا يباريها في مجد إلا مؤنب (4)، ولا يجحد حقها إلا مأفون (5)، ولا يصرف عنها وجه
(1) كشف الغمة: 1 / 484. (2) الذبالة: الفتيلة. (3) علبه: أثر فيه وخدشه. (4) التأنيب: المبالغة في التوبيخ. (5) المأفون: الضعيف الرأي. 103 إخلاصه إلا مغبون (1). 11 - قال العلامة الخبير ابن شهرآشوب (ره): وقلنا الصديقة بالأقوال، والمباركة بالأحوال، والطاهرة بالأفعال، الزكية بالعدالة، والرضية بالمقالة، والمرضية بالدلالة، المحدثة بالشفقة، والحرة بالنفقة، والسيدة بالصدقة، الحصان بالمكان، والبتول في الزمان، والزهراء بالإحسان، مريم الكبرى في الستر، وفاطم بالسر، وفاطمة بالبر، النورية بالشهادة، والسماوية بالعبادة، والحانية بالزهادة، والعذراء بالولادة، الزاهدة الصفية، العابدة الرضية، الراضية المرضية، المتهجدة الشريفة، القانتة العفيفة، سيدة النسوان، وحبيبة حبيب الرحمن، المحتجبة عن خزان الجنان، وصفية الرحمن، ابنة خير المرسلين، وقرة عين سيد الخلائق أجمعين، وواسطة العقد بين سيدات نساء العالمين، والمتظلمة بين يدي العرش يوم الدين، ثمرة النبوة، وأم الأئمة وزهرة فؤاد شفيع الأمة، الزهراء المحترمة، والغراء المحتشمة، المكرمة تحت القبة الخضراء، والإنسية الحوراء، والبتول العذراء، ستلا النساء (2)، وارثة سيد الأنبياء، وقرينة سيد الأوصياء، فاطمة الزهراء، الصديقة الكبرى، راحة روح المصطفى، حاملة البلوى من غير فزع ولا شكوى، وصاحبة شجرة طوبى، ومن أنزل في شأنها وشأن زوجها وأولادها سورة هل أتى، ابنة النبي، وصاحبة الوصي، وأم السبطين، وجدة الأئمة، وسيدة نساء الدنيا والآخرة، زوجة المرتضى، ووالدة المجتبى، وابنة المصطفى، السيدة المفقودة، الكريمة المظلومة الشهيدة، السيدة الرشيدة، شقيقة مريم، وابنة محمد الأكرم، المفطومة من كل شر، المعلومة بكل خير، المنعوتة في الإنجيل، الموصوفة بالبر والتبجيل، درة صاحب الوحي والتنزيل، جدها الخليل، ومادحها الجليل، وخاطبها المرتضى بأمر المولى جبرئيل (3). 12 - قال المحقق الشهير الحاج ملا محمد باقر صاحب الخصائص الفاطمية: سبحانك اللهم فاطر السماوات العلى، وفالق الحب والنوى، أنت الذي فطرت اسما من
(1) المصدر: 454. (2) أي سيدتهن. (3) المناقب: 3 / 357، 358. 104 اسمك، واشتققته من نورك، فوهبت اسمك بنورك حتى يكون هو المظهر لنورك، فجعلت ذلك الاسم جرثومة لجملة أسمائك، وذلك النور أرومة (1) لسيدة إمائك، وناديت في الملأ الأعلى: أنا الفاطر وهي فاطمة، وبنورها ظهرت الأشياء من الفاتحة إلى الخاتمة. فاسمها اسمك، ونورها نورك، وظهورها ظهورك، ولا إله غيرك، وكل كمال ظلك، وكل وجود ظل وجودك، فلما فطرتها فطمتها عن الكدورات البشرية، واختصصتها بالخصائص الفاطمية، مفطومة عن الرعونات (2) العنصرية، ونزهتها عن جميع النقائص، مجموعة من الخصائل المرضية بحيث عجزت العقول عن إدراكها، والناس فطموا عن كنه معرفتها، فدعا الأملاك في الأفلاك بالنورية السماوية، وبفاطمة المنصورة... أم السبطين، وأكبر حجج الله على الخافقين، ريحانة سدرة المنتهى، وكلمة التقوى، والعروة الوثقى، وستر الله المرخى، والسعيدة العظمى، والمريم الكبرى، والصلاة الوسطى، والإنسية الحوراء التيم بمعرفتها دارت القرون الأولى. وكيف أحصي ثناها وإن فضائلها لا تحصى، وفواضلها لا تقضى؟! البتول العذراء، والحرة البيضاء، أم أبيها، وسيدة شيعتها وبنيها، ملكة الأنبياء، الصديقة فاطمة الزهراء، نعم ما قال: خجلا من نور بهجتها تتوارى الشمس في الأفق * وحياء من شمائلها يغطى الغصن في الورق (3) 13 - قال المحقق البارع السيد كاظم القزويني: فاطمة، وما أدراك من فاطمة! شخصية إنسان تحمل طابع الأنوثة لتكون آية على قدرة الله البالغة واقتداره البديع العجيب، فإن الله تعالى خلق محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) ليكون آية قدرته في الأنبياء، ثم خلق منه بضعته وابنته فاطمة الزهراء لتكون علامة وآية على قدرة الله في إيداع مخلوق أنثى تكون كتلة من الفضائل، ومجموعة من المواهب فلقد أعطى الله تعالى فاطمة الزهراء أوفر حظ من العظمة، وأوفى نصيب من الجلالة بحيث لا يمكن لأية أنثى أن تبلغ تلك
(1) الأرومة: أصل الشجرة. (2) الرعونة: الاسترخاء، الحمق، والمراد هنا الأول. (3) الخصائص الفاطمية: 1. 105 المنزلة، فهي من فصيلة أولياء الله الذين اعترفت لهم السماء بالعظمة قبل أن يعرفهم أهل الأرض، ونزلت في حقهم آيات محكمات في الذكر الحكيم تتلى آناء الليل وأطراف النهار منذ نزولها إلى يومنا هذا وإلى أن تقوم القيامة. شخصية كلما ازداد البشر نضجا وفهما للحقائق واطلاعا على الأسرار ظهرت عظمة تلك الشخصية بصورة أوسع، وتجلت معانيها ومزاياها بصور أوضح. إنها فاطمة الزهراء، الله يثني عليها، ويرضى لرضاها، ويغضب لغضبها، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ينوه بعظمتها وجلالة قدرها، وأمير المؤمنين (عليه السلام) ينظر إليها بنظر الإكبار والإعظام، وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) ينظرون إليها بنظر التقديس والاحترام (1). ت - مقامها (عليها السلام) يوم القيامة إن أفضل مقام تعطى فاطمة (عليها السلام) يوم القيامة هو مقام الشفاعة الكبرى والذي من خلال هذه المنزلة يظهره قدر ومقام فاطمة عند الله تعالى يوم القيامة وأمام الخلائق جميعا، فلقد ورد في تفسير فرات... فإذا صارت عند باب الجنة تلتفت فيقول الله عز وجل: يا بنت حبيبي، ما التفاتك وقد أمرت بك إلى جنتي؟ فتقول: يا رب! أحببت أن يعرف قدري في مثل هذا اليوم، فيقول الله: يا بنت حبيبي ارجعي فانظري من كان في قلبه حب لك أو لأحد من ذريتك خذي بيده فأدخليه الجنة. قال أبو جعفر (عليه السلام): - والله - يا جابر إنها ذلك اليوم لتلتقط شيعتها ومحبيها كما يلتقط الطير الحب الجيد من الحب الردئ، فإذا صار شيعتها معها عند باب الجنة يلقي الله في قلوبهم أن يلتفتوا فإذا التفتوا فيقول الله عز وجل: يا أحبائي ما التفاتكم وقد شفعت فيكم فاطمة بنت حبيبي؟ فيقولون: يا رب أحببنا أن يعرف قدرنا في مثل هذا اليوم، فيقول الله: يا أحبائي
(1) فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد: 13 و 14. 106 ارجعوا وانظروا من أحبكم لحب فاطمة، انظروا من أطعمكم لحب فاطمة انظروا من كساكم لحب فاطمة، انظروا من سقاكم شربة في حب فاطمة، انظروا من رد عنكم غيبة في حب فاطمة، خذوا بيده وأدخلوه الجنة. قال أبو جعفر (عليه السلام): - والله - لا يبقى في الناس إلا شاك أو كافر أو منافق، فإذا صاروا بين الطبقات، نادوا كما قال الله تعالى: * (فما لنا من شافعين * ولا صديق حميم) * فيقولون: * (فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين) *. قال أبو جعفر (عليه السلام): هيهات هيهات منعوا ما طلبوا * (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) *.
107 الأمر الثاني ظلامات فاطمة الزهراء (عليها السلام) نبذوا العهد والكتاب وما جاء * به في الوصي خلف الظهور عدلوا عن أبي الهداة الميامين * إلى بيعة الأثيم الكفور قدموا الرجس بالولاية للأمر * على أهل آية التطهير لست تدري لم أحرقوا الباب بالنار * أرادوا إطفاء ذاك النور لست تدري ما صدر فاطم ما المسمار * ما حال ضلعها المكسور ما سقوط الجنين ما حمرة العين * وما بال قرطها المنثور دخلوا الدار وهي حسرى بمرأى * من علي ذاك الأبي الغيور واستداروا بغيا على أسد الله * فأضحى يقاد قود البعير ينظر الناس ما بهم من معين * وينادي وماله من نصير والبتول الزهراء في إثرهم تعثر * في ذيل بردها المجرور بأنين يوهشم الصفا بشجاه * وحنين يذيب صم الصخور ودعتهم: خلوا ابن عمي عليا * أو لأشكو إلى السميع البصير ما رعوها بل روعوها ومروا * بعلي ملببا كالأسير بعض هذا يريك ممن تولى * بارز الكفر ليس بالمستور
108 تمهيد: جاء الدين الإسلامي الحنيف ليمثل عصارة الأديان السماوية المتعددة وخلال الفترات المتعاقبة حيث قدم النظام الأشمل والأكمل للحياة وعلى كافة المستويات سواء الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية وهذا ما نراه واضحا جليا في أدنى تأمل للنظرية الإسلامية المتمثلة في طرفي العقيدة والشريعة، وكان من جملة ما أكدت عليه الرسالة السماوية المتمثلة في بعثة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو حرمة الظلم ومعاونة الظالمين ذلك أن الله تبارك وتعالى قد حرم على نفسه الظلم وكما ورد في الحديث القدسي: " يا عبادي أني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ". فالإسلام دين المساواة والعدل ولا يرضى بالظلم والبغي، حيث أنزل الله تعالى في كتابه الكريم الكثير من الآيات القرآنية المباركة التي تدل دلالة قطعية واضحة البرهان على ضرورة العدل بين الرعية وعدم البغاء والظلم فيما بينهم، حيث اعتبرت هذه الضرورة من الواجبات المهمة على كافة الأصعدة والمجالات الحياتية، فنرى من خلال مراجعة الأحكام الشرعية التي أقرتها الشريعة الإسلامية أن الكثير منها قد لوحظ فيه عدم الظلم للآخرين والتعدي على حقوقهم، كل هذه التأكيد لكي تسير الإنسانية في الطريق الذي ارتضاه الله تبارك وتعالى لها ولكي تصل إلى شاطئ الأمان والكمال وضمن الأهداف المحددة من خلال الرسالة المحمدية السمحاء. ونجد من خلال استقراء القرآن الكريم أن أكثر الآيات القرآنية الواردة في المقام قد تكون صريحة في تحريم الظلم سواء كان ذلك بذكر لفظة الظلم بصورة مباشرة أو عن طريق ذكر نقيضه الذي هو العدل وكما سيتبين من خلال مطالعة الآيات القرآنية التالية:
109 * حيث جاء قوله تعالى (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) (1) ليؤكد على حقيقة اختصت لها الشيعة مع بعض الفرقة الدينية الآخرى ألا وهي مسألة العدل حيث أقرت الشيعة بأن من أصول الدين هو العدل وهو أن الله ليس بظالم ولا يظلم أحدا فهو العدل لهذا نجد في هذه الآية القرآنية أن الله قد حرم على نفسه الظلم فلا يظلم عباده بل هو المفيض عليهم رحمته الربانية ونعمته الإلهية. * وجاء قوله تعالى (ما للظالمين من نصير) (2) ليؤكد على مسألة أخرى بحيث إنها من الأهمية قد ذكرها الله تعالى ليذكر بها البشرية بأن الظالمين ليس لهم نصير ولا تنصرهم السماء وبنفس الوقت قد أكد الله في آية أخرى وطلب من المؤمنين بأن لا ينصروا الظالمين بأي شكل من الأشكال (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) (3). وهكذا جاءت الكثير من الآيات القرآنية الكريمة حاملة بين طياتها التأكيد على هذا الأمر المهم والضروري لتكامل البشرية. وقد يرد وينقدح سؤال مهم في ذهن كل إنسان واعي وفاهم للأمور الإسلامية أنه إذا كان هذا الحال في حرمة الظلم وعدم معونة الظالمين فما المفهوم من الظلم وأي ضابطة نرجع إليها في معرفة الظلم وتعريفه معناه؟ فنقول إن الظلم من الأمور التي يدرك الذهن ويفهمها بأدنى تأمل ذلك أنه من الأمور الفطرية والعقلية هو قبح الظلم وأنه يأباه العقل والناس جميعا مشتركين في هذه المسألة أعني قبح الظلم، ومع ذلك كله نعطي بعض التعاريف للظلم لكي لا يرد أي استيضاح حوله في حالة عدم فهم معناه. * الظلم لغة: أما لغة فقد جاء في لسان العرب (4): الظلم وضع الشئ في غير موضعه . وأصل الظلم الجور ومجاوزة الحد، ويقال ظلمه يظلمه ظلما ومظلمة، فالظلم
(1) النساء: 40. (2) الحج: 71. (3) هود: 113. (4) لسان العرب لابن منظور: 15 / 226. 110 مصدر حقيقي وهو ظالم وظلوم والظلمة هم المانعون أهل الحقوق حقوقهم، والظلامة ما تظلمه وهي المظلمة. وتظالم القوم: ظلم بعضهم بعضا وفي المفردات للراغب الأصفهاني (1): والظلم عند أهل اللغة وكثيرون أهل العلم: وضع الشئ في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة وإما بعدول عن وقته أو مكانه. وقال الفيروزآبادي (2) والظلم يقال في مجاوزة الحق ويقال في الكثير والقليل. أما عرفا: فالظلم معناه بخس الناس أشياءهم وحقوقهم والاعتداء على الغير بأي صورة كانت سواء قولا أو عملا. وأما شرعا: الظلم وضع الشئ في غير موضعه الشرعي (3) والظلم أصله الجور ومجاوزة الحد ومعناه الشرعي وضع الشئ في غير موضعه الشرعي (4) وهكذا يتبين لمن يقصد السؤال في معرفة الظلم ويدقق في مقولات علماء اللغة وغيرهم من أهل الشرع واللغة وأهل المعرفة في هذا المقام، ولنعم ما قال الحكيم أرسطو في هذا المقام حيث أطلق هذه الكلمات ليعبر عن طبيعة الفطرة الإنسانية في هذه المسألة (الظلم من طبع النفوس، وإنما يصدها عن ذلك إحدى علتين: إما علة دينية لخوف معاد أو علة سياسية لخوف سيف) . فيكون مقال القائل أن النفوس لا تظهر هذا الظلم للعلتين المتقدمتين، ولكن نقول إذا فقدتا هاتين العلتين فماذا سيكون الحال، قطعا عند ذلك يسقط الواعز النفسي للإنسان فيكون من أعتى الظالمين. إذن بعد هذه المقدمة التي ارتأينا أن نقدمها لكي يتضح الحال والمقام في الظلم وقبحه وحرمته ندخل في هذا الفصل لكي نعيش القصة والحديث التأريخي الذي لا يزال يأكل بنفوس المسلمين وإلى وقتنا الحاضر ألا وهو حدث ظلامات فاطمة الزهراء بضعة النبي الهادي المختار تلك التي لم يترك في المسلمين آنذاك من أهله ومن ذريته إلا هذه الميمونة الطاهرة ذو النسل المبارك أم الحسنين عليهما السلام.
(1) المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني: 315. (2) بصائر ذوي التمييز للفيروز آبادي: 4 / 230. (3) صحيح البخاري بشرح العسقلاني: 5 / 95. (4) عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني: 12 / 238. 111 فتعال معي أيها القاري العزيز لنروي لك تلك الظلامات ونغوص في أعماق التاريخ لنجد ما يطالعنا به القوم من الظلامات التي أطبقت عليها الخاصة والعامة على ثبوتها وصدورها ولكن أتباع الأهواء والصدود عن الحق هو الذي جعل الكثير منهم يأخذ هذه الأحداث مأخذا تاريخيا ليس فيه أي فائدة وليس له أي علاقة لا بأصول الدين ولا بالعقيدة وإنما هو مجرد حدث لا يضر من عرفه ولا ينفع من جهله، وأنى لهم بالمعرفة الحقة والنور المستبين ذلك أن (ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور) فهلم بنا لكي نقف مع هذه الدراسة التي أفاضها لنا التاريخ ونحققها بعمق وتركيز على كل جوانبها وحسب ما تسعنا قابليتنا المحدودة في معرفة كوامن الأسرار ونزيح ما استتار في ظلم التاريخ عن هذه الظلامات عن غبار جعل الكثير من أبصار وبصائر الذين يدعون الصلة بالرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جهة الإسلام أنهم يحبون ويوالون الرسول في كل شئ ولكن...؟!! ولنقف بدقة متناهية مع هذه الظلامات ونعرض جميع الأسئلة الواردة في المقام ونعرضها على كتاب الله الغريز باعتباره المصدر الأول لكل سؤال ولكل استفهام من أي من كان، ونعرضها على سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو الذي (لا ينطق عن الهوى ... إلا وحي يوحى علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى). ونستنطق بهذه الأسئلة العقل ليكون القارئ العزيز على ثقة بما يتطلع إليه ويصل إلى مقام الاطمئنان الذي تصبو إليه النفس الإنسانية. وقبل كل شئ ينقدح سؤال مهم ألا وهو هل أخبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بما سيجري على أهل بيته من بعده أم لم يخبر؟ والجواب نجده واضحا من خلال مطالعة كتب التأريخ والحديث حيث ورد عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل أنه قال في قضية الإسراء والمعراج لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبل الله تعالى إن الله مختبرك - أي محمد صلى الله عليه وآله وسلم - في ثلاث ينظر كيف جدك، قال: أسلم لأمرك يا رب ولا قوة لي على الصبر إلا بك ، فما هن؟ إلى أن يقول الإمام الثالثة... وأما الثالثة: فما يلقى أهل بيتك من بعدك من القتل: أما أخوك علي فيلقى من أمتك
112 الشتم والتضعيف والتوبيخ والحرمات والجهد والظلم وآخر ذلك القتل. فقال: يا رب، سلمت وقبلت، ومنك التوفيق والصبر. وأما ابنتك فتظلم، وتحرم، ويؤخذ حقها غصبا إلي تجعله لها، وتضرب وهي حاملة، ويدخل على حريمها ومنزلها بغير إذن، ثم يمسها هوان وذل ثم لا تجد مانعا وتطرح ما بطنها من الضرب وتموت من ذلك الضرب، قلت إنا لله وإنا إليه راجعون قبلت يا رب وسمك ومنك التوفيق والصبر (1). إذن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يعلم ما سيجري على بضعته الطاهرة وما يكون مآل الأمور من بعده، ويعلم من الذي سوف يكون الظالم لها ولبعلها ولذلك نجده في أكثر من مرة يوصي الزهراء وأمير المؤمنين بالصبر بما سيجري عليهم من بعده، ولقد جاء في المأثور الروائي أنه طالما أخبرهم بذلك وخصوصا عند قرب وفاته حيث أخبر الصديقة الشهيدة عليها السلام بأنها ستظلم من بعده وأنها أول الناس لحوقا به من أهل بيته بعد أربعين يوما من وفاته وقيل بإثنين وسبعين يوما، وهكذا تظافرت الروايات الكثيرة في إثبات هذه المأساة للزهراء من بعد أبيها، أما من الذي يظلمها حقها؟ فهذا ما ترويه قصة سقيفة بني ساعدة وإليك ما جرى في تلك الواقعة الأليمة لأهل بيت النبوة والتي كانت مفتاح الظلم الذي سنه الخليفة الأول والثاني على أهل البيت عليهم السلام. * عن عبد الله بن عبد الرحمان قال: ثم إن عمر احتزم بإزاره وجعل يطوف بالمدينة وينادي: ألا إن أبا بكر قد بويع له فهلموا إلى البيعة، فينثال الناس يبايعون، فعرف أن جماعة في بيوت مستورون، فكان يقصدهم في جمع كثير ويكبسهم ويحضرهم المسجد فيبايعون، حتى إذا مضت أيام أقبل في جمع كثير إلى منزل علي عليه السلام فطالبه بالخروج فأبى، فدعا عمر بحطب ونار وقال: والذي نفس عمر بيده ليخرجن، أو لأحرقنه على ما فيه. فقيل له: إن فاطمة بنت رسول الله، وولد رسول الله، وآثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه، وأنكر الناس ذلك من قوله، فلما عرف إنكارهم قال: ما بالكم أتروني فعلت ذلك؟!
(1) الدمعة الساكبة: 69، كامل الزيارات: 332، البحار: 28 / 61. 113 إنما أردت التهويل، قال: وخرجت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم فوقفت خلف الباب ثم قالت: لا عهد لي بقوم أسوء محضرا منكم، تركتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جنازة بين أيدينا وقطعتم أمركم فيما بينكم، ولم تؤمرونا، ولم تروا لنا حقا، كأنكم لم تعلموا ما قال يوم غدير خم، والله، لقد عقد له يومئذ الولاء ليقطع منكم بذلك منها الرجاء ولكنكم قطعتم الأسباب بينكم وبين نبيكم، والله حسيب بيننا وبينكم في الدنيا والآخرة (1). * عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه قال: وكان علي بن أبي طالب عليه السلام لما رأى خذلان الناس له، وتركهم نصرته، واجتماع كلمة الناس منع أبي بكر، طاعتهم له، وتعظيمهم له، جلس في بيته، فقال عمر لأبي بكر: ما يمنعك أن تبعث إليه فيبايع، فإنه لم يبق أحد إلا وقد بايع، غيره وغير هؤلاء الأربعة معه، وكان أبو بكر أرق الرجلين، وأرفقهما، وأدهاهما، وأبعدهما غورا، والآخر أفظهما وأغلظهما، وأخشنهما، وأجفاهما، فقال: من نرسل إليه؟ فقال عمر: أرسل إليه قنفذا - وكان رجلا فظا غليظا جافيا من الطلقاء، أحد بني تيم - فأرسله وأرسل معه أعوانا، فانطلق فاستأذن، فأبى علي عليه السلام أن يأذن له. فرجع أصحاب قنفذ إلى بي بكر وعمر، وهما في المسجد والناس حولهما فقالوا: لم يأذن لنا، فقال عمر: هو إن أذن لكم وإلا فادخلوا عليه بغير إذنه. فانطلقوا، فاستأذنوا، فقالت فاطمة عليها السلام: أخرج عليكم أن تدخلوا بيتي بغير إذن، فرجعوا، فثبت قنفذ، فقالوا: إن فاطمة قالت: كذا وكذا، فحرجتنا أن ندخل عليه البيت بغير إذن منها، فغضب عمر، وقال: ما لنا وللنساء، ثم أمر أناسا حوله، فحملوا حطبا وحمل معهم فجعلوه حول منزله، وفيه علي وفاطمة وابناهما عليهم السلام، ثم نادى عمر حتى أسمع عليا: والله لتخرجن ولتبايعن خليفة رسول الله، أو لأضر من عليك بيتك نارا، ثم رجع فقعد إلى أبي بكر، وهو يخاف أن يخرج علي بسيفه، لما قد عرف من بأسه وشدته.
(1) الإحتجاج: 1 / 105، الإمامة والسياسة: 12، بلاغات النساء: 4 / 114. 114 ثم قال لقنفذ: إن خرج وإلا فاقتحم عليه، فإن امتنع فاضرم عليهم بيتهم نارا: فانطلق قنفذ، فاقتحم هو وأصحابه بغير إذن، وبادر علي إلى سفيه ليأخذه، فسبقوه إليه فتناول بعض سيوفهم فكثروا عليه فضبطوه، وألقوا في عنقه حبلا أسود، وحالت فاطمة عليها السلام بين زوجها وبينهم عند باب البيت، فضربها قنفذ بالسوط على عضدها ، فبقي أثره في عضدها من ذلك مثل الدملج من ضرب قنفذ إياها، فأرسل أبو بكر إلى قنفذ: اضربها، فألجأها إلى عضادة باب بيتها، فدفعها فكسر ضلعا من جنبها، وألقت جنينا من بطنها، فلم تزل صاحبة فراش حتى ماتت من ذلك شهيدة صلوات الله عليها (1). * وفي كتاب سليم بن قيس، في حديث طويل، قال: فلما كان الليل حمل علي فاطمة عليهما السلام على حمار وأخذ بيدي ابنيه الحسن والحسين عليهما السلام فلم يدع أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أتاه في منزله، فناشدهم الله حقه ودعاهم إلى نصرته، فما استجاب منهم رجل غيرنا الأربعة، فإنا حلقنا رؤوسنا، وبذلنا له نصرتنا، وكان الزبير أشدنا بصيرة في نصرته، فلما رأى علي عليه السلام خذلان الناس إياه وتركهم نصرته، واجتماع كلمتهم مع أبي بكر، وطاعتهم له، وتعظيمهم إياه لزم بيته، فقال عمر لأبي بكر: ما يمنعك أن تبعث إليه فيبايع، فإنه لم يبق أحد إلا وقد بايع، غيره وغير هؤلاء الأربعة، وكان أبو بكر أرق الرجلين وأرفقهما وأدهاهما وأبعدهما غورا، والآخر أفظهما وأغلظهما وأجفاهما، فقال [له ] أبو بكر: من نرسل إليه؟ فقال عمر: نرسل إليه قنفذا، وهو رجل فظ غليظ جاف من الطلقاء، أحد بني عدي بن كعب، فأرسله إليه، وأرسل معه أعوانا، فانطلق فاستأذن على علي عليه السلام، فأبى أن يأذن لهم. فرجع أصحاب قنفذ إلى أبي بكر وعمر، وهما جالسان في المسجد والناس حولهما، فقالوا : لم يؤذن لنا، فقال عمر: اذهبوا فإن أذن لكم، وإلا فادخلوا [عليه] بغير إذن !! فانطلقوا فاستأذنوا، فقالت فاطمة عليها السلام: أحرج عليكم أن تدخلوا على بيتي بغير
(1) 1 / 106 الإحتجاج عن سليم بن قيس الهلالي. 115 إذن، فرجعوا، وثبت قنفذ الملعون، فقالوا: إن فاطمة قالت: كذا وكذا، فتحرجنا أن ندخل بيتها بغير إذن، فغضب عمر، وقال: ما لنا وللنساء!! ثم أمر أناسا حوله أن يحملوا الحطب، فحملوا الحطب، وحمل معهم عمر فجعلوه حول منزل علي وفاطمة وابناها عليهم السلام ثم نادى عمر - حتى أسمع عليا وفاطمة عليهما السلام: - والله - لتخرجن يا علي ولتبايعن خليفة رسول الله، وإلا أضرمت عليك [بيتك] النار. فقالت فاطمة عليها السلام: يا عمر، ما لنا ولك؟ فقال: افتحي الباب، وإلا أحرقنا عليكم بيتكم، فقالت: يا عمر، أما تتقي الله تدخل علي بيتي؟ فأبى أن ينصرف، ودعا عمر بالنار فأضرمها في الباب، ثم دفعه فدخل، فاستقبلته فاطمة عليها السلام وصاحت: يا أبتاه ، يا رسول الله فرفع عمر السيف - وهو في عمده - فوجأ به جنبها، فصرخت يا أبتاه! فرفع السوط فضرب به ذراعها... (1). * وروي عن زيد بن أسلم أنه قال: كنت ممن حمل الحطب مع عمر إلى باب فاطمة حين امتنع علي وأصحابه عن البيعة، فقال عمر لفاطمة: أخرجي من في البيت وإلا أحرقته ومن فيه، قال: وفي البيت علي وفاطمة والحسن والحسين وجماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فقالت فاطمة: أتحرق عليا وولدي؟ قال: إي - والله - أو ليخرجن وليبايعن (2). * وروي عن عمرو بن أبي المقدام، عن أبيه، عن جده: ما أتى علي يوم قط أعظم من يومين أتيا علي: فأما اليوم الأول: فيوم قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : وأما اليوم الثاني: فوالله إني لجالس في سقيفة بني ساعدة عن يمين أبي بكر والناس يبايعونه، إذ قال له عمر: يا هذا، ليس في يديك شئ مهما لم يبايعك علي، فابعث إليه حتى يأتيك يبايعك، فإنما هؤلاء رعاع. فبعث إليه قنفذ، فقال له: اذهب فقل لعلي: أجب خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فذهب قنفذ فما لبث أن رجع، فقال لأبي بكر: قال لك: ما خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحدا
(1) كتاب سليم بن قيس: 3 / 583. (2) نهج الحق وكشف الصدق: 271. 116 غيري. قال: ارجع إليه فقل: أجب فإن الناس قد أجمعوا على بيعتهم إياه، وهؤلاء المهاجرين والأنصار يبايعونه وقريش، وإنما أنت رجل من المسلمين، لك ما لهم، وعليك ما عليهم، فذهب إليه قنفذ فما لبث أن رجع، فقال: قال لك: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لي وأوصاني أن - إذا واريته في حفرته - لا أخرج من بيتي حتى أؤلف كتاب الله، فإنه في جرائد النخل، وفي أكتاف الإبل، قال عمر: قوموا بنا إليه. فقام أبو بكر، وعمر، وعثمان، وخالد بن الوليد، والمغيرة بن شعبة، وأبو عبيدة بن الجراح، وسالم مولى أبي حذيفة، وقنفذ، وقمت معهم. فلما انتهينا إلى الباب فرأتهم فاطمة (صلوات الله عليها) أغلقت الباب في وجوههم ، وهي لا تشك أن لا يدخل عليها إلا بإذنها، فضرب عمر الباب برجله فكسره - وكان من سعف - ثم دخلوا فأخرجوا عليا عليه السلام ملببا. فخرجت فاطمة عليها السلام فقالت: يا أبا بكر، أتريد أن ترملني من زوجي - والله - لئن لم تكف عنه لأنشرن شعري ولأشقن جيبي، ولآتين قبر أبي، ولأصيحن إلى ربي ، فأخذت بيد الحسن والحسين عليهما السلام فإني أرى جنبتي المدينة تكفيان، والله إن نشرت شعرها، وشقت جيبها، وأتت قبر أبيها، وصاحت إلى ربها لا يناظر بالمدينة أن يخسف بها [وبمن فيها]، فأدركها سلمان رضي الله عنه، فقال: يا بنت محمد، إن الله إنما بعث أباك رحمة، فارجعي. فقالت: يا سلمان، يريدون قتل علي، ما على علي صبر، فدعني حتى آتي قبر أبي فأنشر شعري، وأشق جيبي، وأصيح إلى ربي، فقال سلمان: إني أخاف أن تخسف بالمدينة، وعلي عليه السلام بعثني إليك، ويأمرك أن ترجعي إلى بيتك، وتنصرفي. فقالت: إذا أرجع، وأصبر، وأسمع وأطيع. قال: فأخرجوه من منزله ملبا، ومروا به على قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: فسمعته يقول:
117 ب (ابن أم إن القوم استضعفوني) (1) إلى آخر الآية. وجلس أبو بكر في في سقيفة بني ساعدة، وقدم علي، فقال له عمر: بايع. فقال له علي عليه السلام: فإن أنا لم أفعل، فمه؟ فقال له عمر: إذا أضرب والله عنقك. فقال له علي عليه السلام: إذا - والله - أكون عبد الله المقتول، وأخا رسول الله ، فقال عمر: أما عبد الله المقتول فنعم، وأما أخو رسول الله فلا - حتى قالها ثلاثا -. فبلغ ذلك العباس بن عبد المطلب فأقبل مسرعا يهرول، فسمعته يقول: ارفقوا بابن أخي، ولكم علي أن يبايعكم، فأقبل العباس وأخذ بيد علي، فمسحها على يد أبي بكر، ثم خلوه مغضبا، فسمعته يقول - ورفع رأسه إلى السماء -: اللهم إنك تعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قال لي: إن تموا عشرين فجاهدهم، وهو قولك في كتابك (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مأتين) (2). قال: وسمعته يقول: اللهم وإنهم لم يتموا عشرين - حتى قالها ثلاثا - ثم انصرف (3). * ولقد ورد عن عبد الرحمان بن عوف عن أبيه، قال: دخلت على أبي بكر أعوده - في احتضاره - فاستوى جالسا... فقال إني لا آسي علي شئ إلا على ثلاث وددت أني لم أفعلهن: وددت أني لم أكشف بيت فاطمة وتركته، وأن أغلق على الحرب، وددت أني يوم السقيفة كنت قذفت الأمر في عنق أبي عبيدة أو عمر، فكان أميرا وكنت وزيرا... (4). ويؤيد هذا المعنى ما روي في حديث احتضار أبي بكر عن كتاب سليم بن قيس الهلالي.. حيث يقول: فلقيت محمد بن أبي بكر فقلت: هل شهد موت أبيك غير أخيك عبد الرحمان وعائشة وعمر؟ [قال: لا. قلت:] وهل سمعوا منه ما سمعت؟! قال: سمعوا منه طرفا فبكوا، وقالوا: يهجر! فأما كلما سمعت أنا فلا.
(1) الأعراف: 150. (2) الأنفال: 65. (3) تفسير العياشي: 2 / 66 ح 76، البرهان: 2 / 93 ح 4، الإختصاص: 181. (4) لسان الميزان: 4 / 189، 17 ج 28، الإمامة والسياسة: 1 / 18 مثله. 118 قلت: والذي سمعوا منه ما هو؟ قال: دعا بالويل والثبور؟! فقال له عمر: يا خليفة رسول الله، ما لك تدعو بالويل والثبور؟ قال: هذا محمد وعلي يبشراني بالنار، بيده الصحيفة التي تعاهدنا عليها في الكعبة، وهو يقول [ لعمري] لقد وفيت بها فظاهرت على ولي الله أنت وأصحابك، فأبشر بالنار في أسفل السافلين. فلما سمعها عمر خرج وهو يقول: إنه ليهجر! قال: لا - والله - لا أهجر [أين تذهب] قال عمر: أنت ثاني اثنين إذ هما في الغار! قال: الآن أيضا؟! أو لم أحدثك أن محمدا - ولم يقل رسول الله - قال لي وأنا معه في الغار: إني أرى سفينة جعفر وأصحابه تعوم في البحر، قلت: فأرنيها، فمسح وجهي، فنظرت إليها ، فاستيقنت عند ذلك أنه ساحر! [فذكرت لك ذلك بالمدينة فاجتمع رأيي ورأيك على أنه ساحر!]. فقال عمر: يا هؤلاء إن أباكم يهجر! واكتموا ما تسمعون منه، لا يشمت بكم أهل هذا البلد ثم خرج وخرج أخي [وخرجت عائشة] ليتوضأ وللصلاة، فأسمعني من قوله ما لم يسمعوا. فقلت له - لما خلوت به -: يا أبه، قل: لا إله إلا الله، قال: لا أقولها أبدا، ولا أقدر عليها حتى [أرد النار] فأدخل التابوت. فلما ذكر التابوت ظننت أنه يهجر. فقلت له: أي تابوت؟! فقال: تابوت من نار، مقفل من نار، فيه اثنا عشر رجلا: أنا وصاحبي هذا، قلت: عمر؟! قال نعم [فمن أعني]، وعشرة، في جب في جهنم عليه صخرة، إذا أراد الله أن يسعر جهنم رفع الصخرة، قلت: تهذي؟! قال: لا والله، ما أهذي، لعن الله ابن صهاك، هو الذي صدني عن الذكر بعد إذ جاءني فبئس القرين، لعنه الله، ألصق خدي بالأرض، فألصقت خده بالأرض فما زال يدعو بالويل والثبور حتى غمضته... (1). أما حديث إسقاط الجنين - محسن عليه السلام - فهناك عدة كتب تروي لنا هذه القصة إضافة إلى كسر الضلع وإضرام النار فلقد روي عن محمد بن عمار بن ياسر قال:
(1) كتاب سليم بن قيس: 2 / 820 119 سمعت أبي يقول - في حديث -: قال: وحملت بالحسن عليه السلام فلما رزقته، حملت بعد أربعين يوما بالحسين عليه السلام، ثم رزقت زينب، وأم كلثوم، وحملت بمحسن. فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجرى ما جرى في يوم دخول القوم عليها دارها، وإخراج ابن عمها أمير المؤمنين عليه السلام وما لحقها من الرجل: أسقطت بن ولدا تماما، وكان ذلك أصل مرضها ووفاتها (صلوات الله عليها) (1). وقال المجلسي في البحار... عن المفضل بن عمر عن الصادق عليه السلام في حديث طويل : وجمعهم الجزل والحطب على الباب لإحراق بيت أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين وزينب وأم كلثوم وفضة، وإضرامهم النار على الباب، وخروج فاطمة عليها السلام إليهم، وخطابها لهم من وراء الباب وقولها: ويحك يا عمر، ما هذه الجرأة على الله وعلى رسوله؟ تريد أن نقطع نسله من الدنيا وتفنيه وتطفئ نور الله؟ والله متم نوره، وانتهاره لها، وقوله: كفي يا فاطمة، فليس محمد حاضرا، ولا الملائكة آتية بالأمر والنهي والزجر من عند الله، وما علي إلا كأحد من المسلمين، فاختاري إن شئت خروجه لبيعة أبي بكر، أو إحراقكم جميعا. فقالت وهي باكية: اللهم إليك نشكو فقد نبيك ورسولك وصفيك، وارتداد أمته علينا، ومنعهم إيانا حقنا الذي جعلته لنا في كتابك المنزل على نبيك المرسل: فقال لها عمر: دعي عنك يا فاطمة، حمقات النساء، فلم يكن الله ليجمع لكم النبوة والخلافة وأخذت النار في خشب الباب، وإدخال قنفذ يده (لعنه الله) يروم فتح الباب ، وضرب عمر لها بالسوط على عضدها حتى صار كالدملج الأسود، وركل الباب برجله، حتى أصاب بطنها وهي حاملة بالمحسن لستة أشهر، وإسقاطها إياه، وهجوم عمر وقنفذ وخالد بن الوليد، وصفقه خدها حتى بدا قرطاها تحت خمارها، وهي تجهر بالبكاء، وتقول: وا أبتاه، وا رسول الله ابنتك فاطمة تكذب، وتضرب، ويقتل جنين في بطنها.
(1) دلائل الإمامة: 26. 120 وخروج أمير المؤمنين عليه السلام من داخل الدار محمر العين حاسرا، حتى ألقى ملاءته عليها وضمها إلى صدره وقوله لها: يا بنت رسول الله، قد علمت أن أباك بعثه الله رحمة للعالمين، فالله الله أن تكشفي خمارك، وترفعي ناصيتك، فوالله يا فاطمة، لئن فعلت ذلك لا أبقى الله على الأرض من يشهد أن محمدا رسول الله، ولا موسى ولا عيسى ولا إبراهيم ولا نوح ولا آدم، [ولا] دابة تمشي على الأرض، ولا طائرا في السماء إلا أهلكه الله. ثم قال: يا بن الخطاب، لك الويل من يومك هذا وما بعده وما يليه، أخرج قبل أن أشهر سيفي فأفني غابر الأمة، فخرج عمر وخالد بن الوليد وقنفذ وعبد الرحمان بن بي بكر، فصاروا من خارج الدار. وصاح أمير المؤمنين بفضة يا فضة، مولاتك فاقبلي منها ما تقبله النساء، فقد جاءها المخاض من الرفسة، ورد الباب، فأسقطت محسنا. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: فإنه لا حق بجده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيشكو إليه الحديث (1). وفي علم اليقين في أصول الدين: ثم إن عمر جمع جماعة من الطلقاء والمنافقين وأتى بهم إلى منزل أمير المؤمنين عليه السلام فوافوا بابه مغلقا فصاحوا به: اخرج يا علي، فإن خليفة رسول الله يدعوك، فلم يفتح لهم الباب، فأتوا بحطب فوضعوه على الباب، وجاؤوا بالنار ليضرموه، فصاح عمر، وقال: والله، لئن لم تفتحوا لنضرمنه بالنار، فلما عرفت فاطمة عليها السلام أنهم يحرقون منزلها قامت وفتحت الباب، فدفعها القوم قبل أن تتوارى عنهم، فاختبت فاطمة عليها السلام وراء الباب والحائط. ثم إنهم تواثبوا على أمير المؤمنين عليه السلام وهو جالس على فراشه، واجتمعوا عليه حتى أخرجوه سحبا من داره، ملببا بثوبه يجرونه إلى المسجد. فحالت فاطمة عليها السلام بينهم وبين بعلها، وقالت: والله، لا أدعكم تجرون ابن عمي ظلما، ويلكم ما أسرع ما خنتم الله ورسوله فينا
(1) البحار: 53 / 18، بهجة قلب المصطفى: 528 ح 23، اعلموا أني فاطمة: 8 / 716. 121 أهل البيت، وقد أوصاكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باتباعنا ومودتنا والتمسك بنا! وقال الله تعالى: (قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى). قال: فتركه أكثر القوم لأجلها، فأمر عمر قنفذ بن عم أن يضربها بسوطه. فضربها قنفذ بالسوط على ظهرها وجنبيها إلى أن أنهكها وأثر في جسمها الشريف وكان ذلك الضرب أقوى ضررا في إسقاط جنينها، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سماه محسنا، وجعلوا يقودون أمير المؤمنين عليه السلام إلى المسجد حتى أوقفوه بين يدي أبي بكر، فلحقته فاطمة عليها السلام إلى المسجد لتخلصه، فلم تتمكن من ذلك، فعدلت إلى قبر أبيها فأشارت إليه بحزنة ونجيب، وهي تقول: نفسي على زفراتها محبوسة * يا ليتها خرجت من الزفرات لا خير بعدك في الحياة وإنما * أبكي مخافة أن تطول حياتي ثم قالت: وا أسفاه عليك يا أبتاه، وأثكل حبيبك أبو الحسن المؤتمن، وأبو سبطيك الحسن والحسين، ومن ربيته صغيرا، وآخيته كبيرا، أجل أحبائك لديك وأحب أصحابك عليك، أولهم سبقا إلى الإسلام، ومهاجرة إليك يا خير الأنام، فها هو يساق في الأسر كما يقاد البعير. ثم إنها أنت أنة وقالت: وا محمداه، وا حبيباه، وا أباه، وا أبا القاسماه، وا أحمداه، وا قلة ناصراه، وا غوثاه، وا طول كربتاه، وا حزناه، وا مصيبتاه، وا سوء صباحاه، وخرت مغشية عليها، فضج الناس بالبكاء والنجيب، وصار المسجد مأتما. ثم إنهم أوقفوا أمير المؤمنين عليه السلام بين يدي أبي بكر، وقالوا له: مد يدك فبايع، فقال: - والله - لا أبايع، والبيعة لي في رقابكم. فروي عن عدي بن حاتم أنه قال: - والله - ما رحمت أحدا قط رحمتي علي بن أبي طالب عليه السلام حين أتي به ملببا بثوبه، يقودونه إلى أبي بكر، وقالوا: بايع . قال: فإن لم أفعل؟ قالوا: نضرب الذي فيه عيناك. قال: فرفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إني أشهدك أنهم أتوا أن يقتلوني، فإني عبد الله وأخو رسول الله، فقالوا له: مد يدك فبايع، فأبى عليهم فمدوا يده كرها فقبض علي عليه السلام أنامله، فراموا بأجمعهم فتحها فلم يقدروا، فمسح عليها أبو بكر، وهي
122 مضمومة، وهو عليه السلام يقول وينظر إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( يا بن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني). قال الراوي: إن عليا عليه السلام خاطب أبا بكر بهذين البيتين: فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم * فكيف بهذا والمشيرون غيب وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم * فغيرك أولى بالنبي وأقرب وكان عليه السلام كثيرا ما يقول: وا عجباه تكون الخلافة بالصحابة، ولا تكون بالقرابة والصحابة؟! (1). وفي الملل والنحل: إن عمر ضرب بطن فاطمة عليها السلام يوم البيعة حتى ألقت الجنين من بطنها وكان يصيح: أحرقوا دارها بمن فيها. وما كان في الدار غير علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام (2). وعن الوافي بالوفيات: قال صلاح الدين الصفدي الشافعي المتوفى 764 في ترجمة النظام في ذكر أقواله: وقال: إن عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة، حتى ألقت المحسن من بطنها (3). وعن لسان الميزان: إن عمر رفس فاطمة عليها السلام حتى أسقطت بمحسن (4). وعن العقد الفريد: الذين تخلفوا عن بيعة أبي بكر، علي عليه السلام والعباس والزبير وسعد ابن عبادة، فأما علي عليه السلام والعباس والزبير فقعدوا في بيت فاطمة عليها السلام حتى بعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجوا من بيت فاطمة، وقال له: إن أبوا فقاتلهم، فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهم الدار، فلقيته فاطمة فقالت: يا بن الخطاب، أجئت لتحرق دارنا؟! قال: نعم... (5). وعن معارف القتيبي: إن محسنا فسد من زخم قنفذ العدوي (6).
(1) علم اليقين في أصول الدين: 686 للفيض الكاشاني. (2) 1 / 57 للشهرستاني. (3) 5 / 347، عنه اعلموا أني فاطمة: 8 / 715. (4) 1 / 268. (5) 5 / 12، عنه البحار: 28 / 339. (6) عنه المناقب لابن شهرآشوب: 3 / 132. 123 وعن إثبات الوصية:... فأقام أمير المؤمنين عليه السلام ومن معه من شيعته في منزله بما عهد إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فوجهوا إلى منزله، فهجموا عليه، وأحرقوا بابه واستخرجوه منه كرها، وضغطوا سيدة النساء بالباب حتى أسقطت محسنا، وأخذوه بالبيعة فامتنع وقال: لا أفعل، فقالوا: نقتلك، فقال: إن تقتلوني فإني عبد الله وأخو رسوله... (1). وعن بيت الأحزان: قال المحدث القمي (ره): وكان سبب وفاتها أن قنفذا مولى عمر نكزها بنعل السيف (2). وعن ملتقى البحرين: أخذت فاطمة عليها السلام باب الدار ولزمتها عن ورائها، فمنعتهم عن الدخول، ضرب عمر برجله على الباب، فقلعت فوقعت على بطنها (سلام الله عليها)، فسقط جنينها المحسن (3). وروي في علة وفاة الصديقة الطاهرة عليها السلام: أن عمر بن الخطاب هجم مع ثلاثمائة رجل على بيتها سلام الله عليها (4). أقول: إن هذا الهجوم الشرس الذي قاده عمر وعصابته الأوباش والطلقاء والمنافقين على بيت الوحي والرسالة وهم الذين قال الله تعالى في حقهم: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه): وقال عز ذكره: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) : وكان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لا يدخله حتى يستأذن من أهله، ولكن الأوغاد دخلوه عنوة وبغير استئذان وكان عددهم 300 نفرا كما في الرواية، وكان في مقدمتهم عمر ومعه الفتيلة، أبو بكر، عثمان، خالد بن الوليد، المغيرة بن شعبة، أبو عبيدة بن الجراح، سالم مولى أبي حذيفة، قنفذ أن عم عمر - وكان رجل فظا، غليظا، جافيا من الطلقاء
(1) 143، عنه البحار: 28 / 308 ضمن ح 50. (2) 160. (3) 418. (4) العوالم: 2 / 58. 124 - أسيد بن خضير، وسلمة بن سلامة بن وقش وكانا من بني عبد الله الأشل، ورجل من الأنصار، زياد بن لبيد، وزيد بن أسلم، وكان ممن حمل الحطب مع عمر. وكانت بداية هذا الهجوم كما جمعته من الروايات: إدخال قنفذ لعنه الله يده يروم فتح الباب ثم دعا عمر بالنار فأضرمها في الباب، ثم دفعها برجله فكسرها ودخل. أرسل أبو بكر إلى قنفذ: أن اضربها فألجأها إلى عضادة باب بيتها، فدفعها فكسر ضلعا من أضلاعها ونبت مسمار الباب في صدرها، ثم لطم عمر خدها حتى احمرت عينها ، كما صرح بهذا نفسه صفقت خدها حتى بدا قرطاها تحت خمارها. في رواية أخرى: قال عمر: فصفقت صفقة على خدها من ظاهر الخمار، فانقطع قرطها وتناثر إلى الأرض . ثم عمر رفس فاطمة عليها السلام، ثم رفع السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها، ورفع السوط فضرب بها ذراعها، ثم ضربها بالسوط على عضدها حتى صار كالدملج الأسود، ثم أخذ من خالد بن الوليد سيفا فجعل يضرب على كتفها، ثم ضرب المغيرة بن شعبة فاطمة عليها السلام حتى أدماها، ثم سل خالد بن الوليد السيف ليضرب فاطمة عليها السلام ، ثم لكزها قنفذ بنعل السيف بأمر عمر، ثم ضرب قنفذ فاطمة بالسوط على ظهرها وجنبيها إلى أن أنهكها وأثر في جسمها الشريف، ثم ضرب عمر بطن فاطمة عليها السلام حتى ألقت الجنين من بطنها وكان يصيح: أحرقوا دارها بمن فيها. وهذا المشهد الدامي الذي تتفطر منه السماوات والأرض، وساعد الله قلب صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف بما جرى لأمه فاطمة عليها السلام يذكرنا أيضا بما جرى على ولدها الإمام الشهيد الحسين عليه السلام حين داست خيول بني أمية لعنهم الله على جسده وصدره الشريف يوم عاشوراء. وأخيرا كما قالت الزهراء عليها السلام الشهيدة المظلومة المضطهدة في ذلك اليوم: أخذ عمر السوط من يد قنفذ مولى أبي بكر فضرب به عضدي، فالتوى السوط على عضدي حتى صار كالدملج، وركل الباب برجله فرده علي وأنا حامل، فسقطت لوجهي والنار تسعر وتسفع وجهي، فضربني بيده حتى انتثر قرطي من أذني وجاءني المخاض فأسقطت محسنا قتيلا بغير جرم.
125 هذا ما استطعنا أن نثبته من خلال الكتب التي روت لنا قصة السقيفة وظلم الزهراء عليها السلام، أمام ظلمها في فدك فسوف يأتينا في بحثنا حول فدك وندعوا الله تعالى ونتوسل إليه عن المظلومة أن يوفقنا لخدمتها ونيل شفاعتها والسير على هداها، واللعنة الدائمة على ظالميها وقاتليها. أما مصادر ما جرى على الصديقة فاطمة عليها السلام من الظلامات، فهي: 1 - تاريخ اليعقوبي: 2 / 116. 3 - الإمامة والسياسة: 1 / 19، 20. 5 - الملل والنحل للشهرستاني: 1 / 57. 7 - الوافي بالوفيات: 5 / 347. 9 - تاريخ أبو الفداء: 1 / 164. 11 - أعلام النساء: 4 / 114. 13 - قرة العين للدهلوي: 78. 15 - ابن خيزران في غرره: 271. 2 - العقد الفريد: 4 / 259، 5 / 13. 4 - لسان الميزان: 1 / 268، 4 / 189. 6 - أنساب الأشراف: 1 / 586. 8 - الكنى والألقاب: 3 / 219. 10 - تاريخ الطبري: 3 / 202. 12 - إثبات الوصية: 123. 14 - السيرة الحلبية: 3 / 362. 16 - تلخيص الشافي: 3 / 76. 17 - صحيح البخاري: 4 / 96، 5 / 177. 18 - شرح نهج البلاغة: 2 / 45 و 46 و 50 و 56، 6 / 10، 11 / 113، 14 / 193. لقد تفجرت قرائح شعراء أهل البيت عليهم السلام من خبر المسمار وآلمهم المصاب الجلل، على مصيبة الزهراء عليها السلام عامة، وفي خبر المسمار خاصة، وظل خبر المسمار الدامي الذي نبت في صدر الزهراء البتول تتذاكره الشيعة جيلا بعد جيل فبقيت نارا في قلوبهم لا ينطفئ أوارها إلى يوم القيامة ومن الفقهاء العظام الذين ذكروا خبر المسمار: السيد صدر الدين الصدر رحمه الله المتوفى سنة 1373 ه ق حيث قال ضمن قصيدته: من سعى في ظلمها من راعها * من علا فاطمة الزهراء جارا من غدا ظلما على الدار التي * اتخذتها الإنس والجن مزارا طالما الأملاك فيها أصبحت * تلثم الأعتاب فيها والجدارا
126 ومن النار بها ينجو الورى * من على أعتابها أضرم نارا والنبي المصطفى كم جاءها * يطلب الإذن من الزهراء مرارا وعليها هجم القوم ولم * تك لاذت لا وعليها الخمارا لست أنساها ويا لهفي لها * إذ وراء الباب لاذت كي توارا فتك الرجس على الباب ولا * تسألن عما جرى ثم وصارا لا تسلني كيف رضوا ضلعها * واسألن الباب عنها والجدارا وسألن لؤلؤ قرطيها لما * انتثرت والعين لم تشكو احمرارا وهل المسمار موتور لها * فغدا في صدرها يطلب ثارا وقال الشيخ الفقيه المحقق محمد حسين الأصفهاني الغروي النجفي (ره) المتوفى سنة 1361 ه: أيضرم النار بباب دارها * وآية النور على منارها وبابها باب نبي الرحمة * وباب أبواب نجاة الأمة بل بابها باب العلي الأعلى * فثم وجه الله قد تجلى ما اكتسبوا بالنار غير العار * ومن ورائه عذاب النار ما أجهل القوم فإن النار لا * تطفئ نور الله جل وعلا لكن كسر الضلع ليس ينجبر * إلا بصمصام عزيز مقتدر إذ رض تلك الأضلع الزكية * رزية لا مثلها رزية ومن نبوع الدم من ثدييها * يعرف عظم ما جرى عليها وجاوزوا الحد بلطم الخد * شلت يد الطغيان والتعدي فاحمرت العين وعين المعرفة * تذرف بالدمع على تلك الصفة ولا تزيل حمرة العين سوى * بيض السيوف يوم ينشر اللوى وللسياط رنة صداها * في مسمع الدهر فما أشجاها والأثر الباقي كمثل الدملج * في عضد الزهراء أقوى الحجج ومن سواد متنها اسود الفضا * يا ساعد الله الإمام المرتضى
127 ووكز نعل السيف في جنبيها * أتى بكل ما أتى عليها ولست أدري خبر المسمار * سل صدرها خزانة الأسرار وفي جنين المجد ما يدمي الحشى * وهل لهم إخفاء أمر قد فشى والباب والجدار والدماء * شهود صدق ما به خفاء لقد جنى الجاني على جنينها * فاندكت الجبال من حنينها أهكذا يصنع بابنة النبي * حرصا على الملك فيا للعجب أتمنع المكروبة المفروحة * عن البكاء خوفا من الفضيحة تالله ينبغي لها تبكي دما * ما دامت الأرض ودارت السما لفقد عزها أبيها السامي * ولاهتضامها وذل الحامي أتستباح نحلة الصديقة * وإرثها من أشرف الخليقة كيف يرد قولها بالزور * إذ هو رد أية التطهير أيؤخذ الدين من الأعرابي * وينبذ المنصوص في الكتاب فاستلبوا ما ملكت يداها * وارتكبوا الخزية منتهاها يا ويلهم قد سألوها البينة * على خلاف السنة المبينة وردهم شهادة الشهود * أكبر شاهد على المقصود ولم يكن سد الثغور غرضا * بل سد بابها وباب المرتضى صدوا عن الحق وسدوا بابه * كأنهم قد آمنوا عذابه أبضعة الطهر العظيم قدرها * تدفن ليلا ويعفى قبرها ما دفنت ليلا بستر وخفا * إلا لوجدها على أهل الجفا ما سمع السامع فيما سمعا * مجهولة بالقدر والقبر معا يا ويلهم من غضب الجبار * بظلمهم ريحانة المختار إذن بعد معرفة بعض مقامات الزهراء عليها السلام وظلاماتها، يأتي بيان قضية أصل يوم العذاب، فالذي يرد على ذهن القاري قبل كل شئ كيف كان هذا التعبير من الإمام الصادق عليه السلام بأن ظلاماتهم عليهم السلام هي الأصل ليوم العذاب في الآخرة؟ ولقد قلنا سابقا أن الإمام عليه السلام باعتباره يمثل الامتداد الطبيعي لخلافة الرسول الأكرم فهو إذن لا يتكلم
128 دون وجود مقدمات أولية يقينية عنده بحيث على ضوء هذه المقدمات يحكم بهذا الحكم العقائدي المهم. أما ما ورد من القرآن الكريم وبيان كيف أن ظلمهم صار الأصل ليوم العذاب فهو على ما جاء في قوله تعالى (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا) (1) حيث أثبتت هذه الآية المباركة أن كل من تسول نفسه في أذية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أو أذية أولياء الله تعالى (حيث قالت الآية يؤذون الله أي أن الله تعالى لا تصل إليه الأذية وإنما تكون الأذية لأولياءه فيتأذى لهم) سوف تكون له اللعنة في الدنيا وهي الطرد من رحمة الله تعالى وفي الآخرة إعداد العذاب الإلهي له وأذية رسول الله لها عدة صور فتارة تكون عبر سبه أجارنا الله تعالى وتارة أخرى عن طريق أذية ذريته وخاصة الصديقة الشهيدة فاطمة عليها السلام، حيث ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: من آذى فاطمة فقد آذاني ومن طلمها فقد ظلمني ... الخ الأحاديث الواردة في أذى الزهراء وغضبها، فلا شك عندئذ يكون كل من ظلمها وآذاها فقد آذى الله تعالى وآذى رسوله تكون النتيجة في ذلك اللعنة على ذلك الظلم والعذاب الأليم والمهين يوم القيامة، وهذا معناه أنه كل من ظلمهم فهو في النار وتكون عندئذ ظلاماتهم الأصل ليوم العذاب في الآخرة. وأما ما ورد من السنة الشريفة فلقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا فاطمة إن الله ليغضب لغضبك ويرضى لرضاك. وهذا يعني أن غضب الله تعالى له عدة صور فمرة يكون غضبة تعالى على إنسان معين في الدنيا فيظهر نقمته عليه، ومرة أخرى في الآخرة وهو ما يعبر عنه بيوم العذاب في جهنم، وعليه كل من غضبت عليه الزهراء عليها السلام فهو خالد في النار لا محالة بدليل الحديث فعليه تكون ظلامة الزهراء عليها السلام وأذيتها هو نوع من الأعمال التي تؤدي إلى غضبها وبالنتيجة سوف يكون الظالمين لها في النار فتكون عندئذ ظلامتها الأصل ليوم العذاب، أما لماذا أن رضاها هو رضا الله تعالى وغضبها هو غضب الله تعالى
(1) الأحزاب: 57. 129 وكيف أصبحت بهذا المقام ما نجده عزيزي القارئ في البحث الذي يثبت كيفية أن الزهراء مرتبطة بأصول الدين وخاصة بالعدل فراجع بحثنا فيه. ومن هنا انقدح في المقام السؤال المهم الذي يقول: ماذا تقولون في الأمم السابقة الذين كانوا قبل فترة رسول الله فإنه لا شك أن لهم إما الجنة أو النار فكيف صارت ظلامات الزهراء عليها السلام وأهل بيتها هم الأصل ليوم العذاب ونحن نعلم أن الأمم السابقة لم تكن موجودة في زمن الرسول وما بعده؟ الجواب: وبيان ذلك يمكن أن يستفاد من الذي استنبطه بعض محققي علمائنا من حديث المفضل بن عمر عن الصادق عليه السلام ولننقل ملاحظة كلامه مع الحديث المذكور قال رحمه الله (1): إن أحكام الله تعالى إنما تجري على الحقائق الكلية والمقامات النوعية فحيث ما خوطب قوم بخطاب ونسب إليهم فعل دخل في ذلك الخطاب وذلك الفعل عند العلماء وأولي الألباب كل من كان من سنخ أولئك القوم وطينتهم، فصفوة الله حيث ما خوطبوا بمكرمة أو نسبوا إلى أنفسهم مكرمة يشمل ذلك كل من كان من سنخهم وطينتهم من الأنبياء والأولياء وكل من كان من المقربين إلا بمكرمة خصوا بها دون غيرهم وكذلك إذا خوطبت شيعتهم ومحبوهم بخير أو نسب إليهم خير أو خوطب أعداؤهم ومخالفوهم بسوء أو نسب إليهم سوء يدخل في الأول كل من كان من سنخ شيعتهم وطينة محبيهم وفي الثاني كل من كان من سنخ أعدائهم وطينة مبغضيهم من الأولين والآخرين وذلك لأن كل من أحبه الله ورسوله أحبه كل مؤمن من ابتداء الخلق إلى انتهائه وكل من أبغضه الله ورسوله أبغضه كل مؤمن كذلك وهو يبغض كل من أحبه الله ورسوله فكل مؤمن في العالم قديما أو حديثا إلى يوم القيامة فهو من شيعتهم ومحبيهم وكل جاحد في العالم قديما أو حديثا إلى يوم القيامة فهو من مخالفيهم ومبغضيهم، قال رحمة الله وقد وردت الإشارة إلى ذلك في كلام الإمام الصادق عليه السلام في حديث المفضل بن عمرو وهو الذي رواه الصدوق في كتاب العلل بإسناده عن المفضل، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: بما صار علي بن أبي طالب صلوات الله عليه
(1) البرهان: 1 / 8. 130 قسيم الجنة والنار؟ قال: لأن حبه إيمان وبغضه كفر وإنما خلقت الجنة لأهل الإيمان وخلقت النار لأهل الكفر الكفر فهو عليه السلام قسيم الجنة والنار لهذه العلة، فالجنة لا يدخلها إلا أهل محبته والنار لا يدخلها إلا أهل بغضه. قال المفضل: قلت يا بن رسول الله فالأنبياء والأوصياء هل كانوا يحبونه وأعدائهم يبغضونه؟ فقال: نعم. قلت: فكيف ذلك؟ قال: أما علمت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال يوم خيبر لأعطين الراية غدا رجلا يحبه الله ورسوله لا يرجع حتى يفتح الله على يده؟ قلت: بلى قال: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أتى بالطائر المشوي قال: اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير وعنى به عليا؟ قلت: بلى قال : أيجوز أن لا يحب أنبياء الله ورسله وأوصيائهم من يحبه الله ورسوله ويحب الله وحبيب الله وحبيب رسوله وأنبيائه؟ قلت: لا. قل: فقد ثبت أن جميع أنبياء الله ورسله وجميع المؤمنين كانوا لعلي بن أبي طالب محبين وثبت أن المخالفين لهم كانوا له ولجميع أهل محبته مبغضين قلت: نعم، قال: فلا يدخل الجنة إلا ما أحبه من الأولين والآخرين فهو إذن قسيم الجنة والنار، قال المفضل: فقلت له: يا بن رسول الله فعلي بن أبي طالب يدخل محبه الجنة ومبغضه النار أو رضوان ومالك؟ فقال: يا مفضل أما علمت أن الله تبارك وتعالى بعث رسوله وهو روح إلى الأنبياء عليهم السلام وهم أرواح قبل خلاق الخلق بألفي عام؟ قلت: بلى قال: أما علمت أنه دعاهم إلى توحيد الله وطاعته واتباع أمره ووعدهم الجنة على ذلك وأوعد من خالف ما أجاب إليه وأنكره النار؟ قال: بلي. قال: فليس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ضامنا لما وعد وأوعد عن ربه عز وجل؟ قلت: بلى قال: أوليس علي بن أبي طالب خليفته وإمام منه؟ قلت: بلى قال: أوليس رضوان ومالك من جملة الملائكة والمستغفرين لشيعته الناجين بمحبته؟ قلت: بلى. قال: فعلي بن أبي طالب إذن قسيم الجنة والنار عن رسول الله ورضوان ومالك
131 صادران عن أمره بأمر الله تعالى. يا مفضل خذها فإنه من مخزون العلم ومكنونه لا تخرجه إلا إلى أهله. فعليه كل الذي يجري في حق أمير المؤمنين يجري في الزهراء عليها السلام لأنهما كل واحد كفو للآخر وأضف إلى ذلك أن هناك الكثير من الروايات تفيد هذا المضمون، وأيضا موجود في الآثار الشريفة أنه لو اجتمع الناس على ولاية علي عليه السلام - أو حبه - لم خلق الله النار، فيكون مضمون هذا الحديث إضافة إلى أحاديث أخرى بهذا المضمون أن أصل يوم العذاب مثلما هو ثابت في ظلامات فاطمة عليها السلام كذلك هو ثابت في حق غصب الخلافة من أمير المؤمنين، والذي نريد القول به من خلال هكذا مبحث أنه الناس منقسمون في قضية الصديقة الشهيدة إلى قسمين إما اشتراكهم في نصرتها وإما اشتراكهم في ظلمها، فمن نصرها فهو من الفائزين برضا الله تعالى لأن نصرتها هو رضا لها ورضاها رضا الله تبارك وتعالى، وإما من لم ينصرها فهو مع الظالمين ومشترك في ظلمهم للصديقة الشهيدة ويكون بالنتيجة خالد في النار. فكانت ظلاماتها (سلام الله عليها) هي الأصل والأساس الذي جعله الله تعالى في يوم القيامة لورود الظالمين إلى نار جهنم، وكما بينا ذلك من خلال الحديث المتقدم، وكذلك غصب خلافة أمير المؤمنين أيضا هي الأصل ليوم العذاب لأنه كما ورد أنه لو اجتمع الناس على ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لما خلق الله النار، ولكن لما أنه لم يجتمع الناس على ولاية أمير المؤمنين فالنار موجودة ولها وقود من الناس والحجارة أعدت للظالمين ومن ولاهم ونصرهم.
132 البحث الخامس فاطمة عليها السلام وعلاقتها بأصول الدين
133 محمد حسن سميسم (1) من مبلغ عني الزمان عتابا * ومقرع مني له أعتابا دهر تعامى عن هداه كأنما * أصحاب أحمد أشركوا مذ غابا نكصوا على الأعقاب بعد مماته * سيرون في هذا النكوص عقابا سل عنهم القرآن يشهد فيهم * إن كنت لم تفقه لذاك جوابا فكأنهم لم يشهدوا خما ولا * بدرا ولا أحدا ولا الأحزابا وبخيبر من راح يرقل باللوا * من قد مرحب من أزال البابا ومن اشترى إلاه نفس محمد * في نفسه لما دعي فأجابا من في الصلاة يرى الصلاة فريضة * من نال خاتمه الشريف جوابا من باب حطة غير حيدرة ومن * لمدينة المختار كان البابا أعجبت ممن أخروا مقدامهم * بعد النبي وقدموا الأذنابا قد أضمروها للوصي ضغائنا * مذ دحرجوها للنبي دبابا لينفروا العضباء عن قطب الهدى * حتى بعود الدين بعد يبابا نسبوا له هجرا لحذف كتابه * فكأنهم لا يسمعون كتابا ما كان ينطق عن هواه وإنما * وحي تلقاه النبي خطابا يا باب فاطم لا طرقت بخيفة * ويد الهدى سدلت عليك حجابا أو هي عليك أما علمت بفاطم * وقفت وراك تناشد الأصحابا لهفي عليك أما استطعت تصدهم * لما أتاك بنو الضلال غضابا أو ما رققت لضلعها لما انحنى * كسرا ومنه تزجر الخطابا أفهل درى المسمار حين أصابها * من قبلها قلب النبي أصابا عتبي على الأعقاب أسقط محسن * فيها وما انهالت لذاك ترابا
(1) زعيم أسرة آل سميسم من أصحاب الفضل والأدب والسخاء وله ديوان شعر مخطوط أكثره في أهل البيت. ولد شاعرنا سنة 1279 ه وتوفي 1343 ه. 135 البحث الخامس فاطمة الزهراء عليها السلام وعلاقتها بأصول الدين تمر الكثير من الأفكار والنظريات على ذهن الإنسان ومنها ما يجد طريقا واضحا إلى فكر الإنسان وعقله فتكون عندئذ عقائد ثابتة وراسخة وعلى ضوء ما تمليه عليه الاستدلالات العقلية والبراهين المنطقية، ومن هنا كانت العقيدة لها معنى في حياة الإنسان فهي مشتقة من المصدر عقد الذي يعني الأحكام والشد والربط لفكرة معينة في ذهن الإنسان وفكره بعد عرضها عليه والاستدلال عليها الاستدلال الصحيح المطابق للبراهين السليمة، فالعقيدة إذن عبارة عن ذلك الشئ الذي يتصل بذهن الإنسان وروحه وفكره، فهو يعني التقبل أي تقبل، أي نظرية للإنسان وربطها بذهنه وأحكام صلتها بروحه وفكره وعليه يكون عندئذ معنى العقيدة. وعليه لا بد لكل إنسان مؤمن من عقائد على المستوى النظري ومن ثم يأتي المستوى التطبيقي لهذه العقائد وهو ما يتم بالتصديقات على المستوى الخارجي لهذه العقائد، فالعقائد تحدد شكل الإنسان وشاكلته قل كل يعمل على شاكلته وتشكل هيئته الباطنية وحقيقته الواقعية وهذه العقائد هي التي تحفزه على العمل الصالح وتحدد اتجاهه في الحياة وعلى ضوء ذلك يأتي العمل الصالح الذي يبرهن على الإيمان الذي يعتقده الفرد المؤمن. وعلى هذا الأساس إذا كانت العقيدة صائبة ومطابقة للواقع كانت عندئذ طريقة الإنسان المؤمن في الحياة طريقة صحيحة وصائبة وعلى ضوء تلك العقيدة التي يؤمن بها والتي كانت صائبة ومطابقة للواقع، أما إذا كانت عقيدته فاسدة باطلة فإن ذلك سوف ينعكس على طبيعة سيرته وطريقة حياته في الواقع الخارجي سوف يؤدي ذلك إلى الضياع والابتعاد عن الطريق الصحيح الذي خطه الشرع المبين، ومن هذا المنطلق كان اهتمام الإسلام بتصحيح العقيدة قبل أي شئ آخر، أي تصحيح عقيدة كل إنسان مسلم، مؤمن بالله تعالى. والسؤال الذي ينقدح في المقام إذا
137 كان الإسلام يهتم اهتماما كبيرا تصحيح العقيدة فهذا يعني أن هناك موانع تمنع تصحيح العقيدة وتقف حاجز في طريق استقرارها في النفس الإنسانية فعلية فلا بد لنا قبل ذكر الأمور التي تصحح العقيدة من ذكر موانع تصحيح هذه العقيدة فما هي هذه الموانع؟ موانع تصحيح العقيدة أن في عقيدة كل إنسان مؤمن يريد الإجابة على سؤال ما يخطر بذهنه أن يرجع إلى القرآن الكريم أولا باعتباره المصدر الأول للمسلمين، ومن بعد ذلك يرجع إلى السنة الشريفة للرسول وأهل بيته الطيبين الطاهرين، ولذا لنستنطق القرآن ونستخبره عن الآيات التي أثبتت موانع تصحيح العقيدة الإسلامية فنجد منه أولا هذه الآية المباركة التي أخبرت عن الموانع التي تقف في طريق تثبيت هذه العقيدة حيث قالت الآية المباركة (إن يتبعون إلا الظن وما تهوي الأنفس) (1). أي هناك عاملين ينشأ عنهما خطأ الإنسان في آرائه وعقائده: أحدهما: اتباع الظن. والآخر: اتباع الهوى. كما أن هناك أمورا أخرى وردت في الروايات الشريفة باعتبار مواضع زلل الفكر، كالتعصب والتقليد والاستبداد واللجاجة إلا أن هذه الأمور تعود كلها إلى الأهواء النفسية أي: أن كل ما جاء في الروايات الشريفة بهذا الشأن هو في الحقيقة تفسير وبيان للآية الكريمة الآنفة الذكر. فنظرا إلى هذه المقدمة، نستعرض موانع تصحيح العقيدة على ضوء القرآن الكريم والروايات الشريفة، وهذه الموانع كما سبقت الإشارة إليها هي: 1 - الظن. 2 - الأهواء النفسية. 3 - التعصب. 4 - التقليد. 5 - الاستبداد. 6 - اللجاجة.
(1) سورة النجم: 23. 138 أما الظن فهو من أخطر العوامل التي تؤدي بأفكار الغالبية في العالم إلى مهاوي العقائد الباطلة الفاسدة، وأول ما يوصي به القرآن الكريم لتصحيح العقيدة هو تجنب الاعتماد على هذا المنزلق، ويؤكد على اتباعه بعدم بناء عقائدهم وآرائهم على دعائم الظن والشك والتسليم بشئ دونما التأكد من صحته وثبوته فيقول سبحانه عز وجل في صريح كلامه: (ولا تقف ما ليس لك به علم) (1). ففي نظر القرآن الكريم أنه لا يحق لمسلم أن يقتضي شيئا أو يجعله مدارا لعلمه ما لم يثبت له أنه قطعي وثابت. فلو أمعنا النظر في العقائد والآراء المتناقضة بين الناس في المجتمعات المختلفة وطرحناها على سياق البحث والتحليل الجذري لانتهينا بلا عناء إلى أن أغلب هذه العقائد فاقدة للأسس العلمية جذريا وإنها لا تستند إلا إلى الظن أو إلى الشك وأن أهل الدنيا كانوا وما زالوا يقتفون أثر الظن في المسائل العقائدية وخاصة في أصولها ولهذا نرى القرآن يعلن بصراحة بأن من اتبع الأكثرية فقد ضل ومن ذلك قوله تعالى: (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإنهم إلا يخرصون) (2). وهكذا في بقية الموانع الأخرى لتصحيح العقيدة الإسلامية وفي قبال ذلك ينقدح لنا كيفية الوصول إلى شرائط تصحيح العقيدة الإسلامية كالتأني والتجربة والتمركز وتبادل النظر وكل الأمور التي لها دخل في الحصول على الاستدلالات الصحيحة للحصول على العقيدة الإسلامية الصحيحة وعلى ضوء القرآن الكريم والسنة الشريفة، فمن هنا كان لا بد لنا أن ندخل في معرفة عقيدتنا في فاطمة الزهراء ومدى ارتباط حياتها بكل ما تملكه الكلمة من معنى في أصول ديننا وعقائدنا والسؤال الذي يطرح في المقام وعلى ضوء الاستدلالات هل أن فاطمة عليها السلام وظلاماتها وحياتها الشخصية والغيبية له ارتباط بأصول الدين، وبحيث هذا الارتباط يكون ناشئ من وعي وفهم للعقائد التي أمرنا الله تعالى بالأعيان بها أم لا؟ وعلى هذا الأساس كان لا بد لنا من الوقوف مع الزهراء عليها السلام ونرى مدى ارتباطها بأصول الدين، وهل هناك ارتباط لها بالتوحيد والنبوة والإمامة والعدل والمعاد، أم
(1) الإسراء: 36. (2) الأنعام: 16. 139 يتجاوز الأمر إلى أبعد من ذلك؟ أم لا يوجد ارتباط؟ وما الثمرة في ذلك والفائدة من هذا البحث؟ كل هذه الأمثلة سوف نحاول الإجابة عليها خلال هذا البحث الذي له من الأهمية العظمى في حياة الفرد المؤمن الموالي لأهل بيت العصمة عليهم السلام. فاطمة عليها السلام وعلاقتها بالتوحيد توجد عدة أدلة وشواهد تدل بالدلالة المطابقية أو الالتزامية على أن فاطمة الزهراء عليها السلام لها ارتباط وثيق بتوحيد الله، وعلى ضوء هذه الأدلة والشواهد التي سنقدمها بين يدي القارئ العزيز يتبين لنا أن لمعرفة فاطمة عليها السلام دور كبير في عقيدة الفرد المؤمن، وأما أثبات هذا الارتباط وكيفية ثبوته تصميم التوحيد فهذا ما يتوقف معرفته وثبوته على مقدمات نرى من الضرورة فيما نحن فيه التذكير بها والتمعن في مدلولاتها لكي نصل وعلى ضوءها - أي المقدمات - إلى إثبات هذا الأمر. أما نوعية هذا الأدلة والشواهد فتارة تكون عبارة عن نص ورد في حديث أو ورد في زيارة لأئمة أهل البيت أو من خلال فقرة معينة من الأحاديث التي تروي لنا، أدعيتهم عليهم السلام، وعلى هذا الحال تكون هذه الأدلة مبثوثة وموزعة على كتب الأدعية والزيارات والأحاديث الشريفة لأهل البيت العصمة عليهم السلام. وعلى هذا الأساس نجد أول الأدلة التي نستطيع إثبات ارتباط فاطمة عليها السلام بصميم التوحيد ما ورد في زيارة أئمة أهل البيت عليهم السلام بالزيارة المعروفة بالجامعة الكبيرة والمروي سند معتبر عن الإمام علي الهادي عليه السلام حيث تطالعنا هذه الزيارة بالفقرة التالية من أراد الله بدأ بكم، ومن وحده قبل عنكم حيث ورد في تفسير هذه الفقرة أنه من لم يوحد الله لم يقبل عنكم أو بالعكس من لم يقبل عنكم لم يوحد الله تعالى فهو على ذلك يكون من المشركين لأن معرفة الله تعالى حق المعرفة مشروط وعلى ما ورد
140 في الروايات الشريفة على معرفة شروط هذه المعرفة ومن شروط هذه المعرفة هو القبول عن أهل البيت عليهم السلام في كل ما يقولونه من المعارف الربانية الحقة وفي كل ما يقولونه من الحق فهم حجج الله على الخلق، فالراد عليهم كالراد على الرسول وعلى الله تعالى، هذا البيان يظهر لنا أن معرفة مراتب التوحيد متوقف على المعارف القرآنية التي جاء بها أهل البيت في بيان معنى التوحيد والقبول عنهم في كل شئ يقولون به، فإنه من عرفهم فقد عرف الله تعالى لأنهم هم الأدلاء عليه وعلى مرضاته وكل ما ثبت للأئمة عليهم السلام فهو ثابت للزهراء عليها السلام فهي مشتركة معهم في كونها نورانية وكونها الصراط المستقيم وكذلك كونها الكلمات التي تلقاها آدم عليه السلام لتوبته واشتراكها في المباهلة معهم عليها السلام وأيضا اشتراكها في كونهم الشجرة الطيبة ونزول الملائكة عليهم في ليلة القدر واشتراكها معهم في بدء خلقها معهم قبل خلق آدم وعرض ولايتهم على الأشياء... الخ. والاهم من هذا كله هو كونها عليها السلام الحجة على الأئمة وعلى معرفتها دارت القرون الأولى وما تكاملت نبوة نبي من الأنبياء حتى أقر بفضلها ومحبتها وعلى هذا الأساس تكون كل من يقبل عنها الحق فهو من الموحدين وكل ما صدر منها لا بد من الإيمان به وإلا الراد عليها كالراد على الله ورسوله. وعليه تكون فاطمة عليها السلام مرتبطة بتوحيد الله تعالى ونعني بذلك أنه لا بد من الإيمان بها والتصديق بكل ما صدر منها أنه الحق وأن توحيد أي مسلم أو مؤمن لا يكتمل حتى يقر بفضلها ومحبتها وولايتها، فيكون على هذا الأساس كل من رد عليها ولم يقبل منها الحق فهو مشرك أو منافق فهي إذن لها ارتباط بالأصل الأول من أصول الدين وهو التوحيد وهذا ثابت لها وللأئمة من ولدها عليهم السلام وهذا ما وجدناه في قول الإمام الحسين عليه السلام عندما خرج في واقعة كربلاء حاملا الطفل الرضيع وهو ينادي: هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله؟ هل من موحد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله في إغاثتنا؟ ومحل الشاهد هو هل من موحد يخاف الله فينا، فالذي يكون موحدا لا بد أن يخاف الله في كل شئ ويقف عند حدوده التي أمرنا بالوقوف عندها، فإنه من ملازمات التوحيد مخافة الله تعالى في عدم أذية الناس وخلق الله تعالى والذي
141 لا يخاف الله تعالى فهو ليس موحد فالذين ظلموا آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم لم يكونوا موحدين لأنهم لم يخافوا الله تعالى في خلقه الذين خلقهم قبل كل شئ فما بالك ، فيهم عليه السلام حيث كانوا من الذي استخلصهم واصطفاهم الله تبارك وتعالى على الخلق فيكون من باب الأولوية أنه كل من ظلمهم كان من المشركين وكل من رد عليهم فقد أشرك بالله تعالى من حيث لا يعلم لأن الله تعالى أمر الخلق بالأخذ عنهم والتسليم لهم وأن الراد عليهم راد على الله والراد على الله مشرك وقد أخبر الله تعالى عن حكم من أشرك فيهم حيث يقول الله تعالى في كتابه (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين). يعني ما وضعوا أصناما ظاهرة يعبدونهم م دون الله ويصلون لهم ولكنهم اتخذوا رجالا م دون ولي الله وحجة الله فأمرهم بخلاف ما أمر الله فأطاعوهم في خلاف أمر الله فعبدوهم من حديث لا يعلمون فرد عليه سبحانه فقال أنظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون، وقال الإمام الصادق عليه السلام حكاية عنهم هيهات فات قوم وماتوا قبل إن يهتدوا وظنوا أنهم آمنوا وأشركوا من حيث لا يعلمون. إذن لا يعرف الله أحد من الخلق حق معرفته حتى يأتي بالشروط التي تتوقف عليها المعرفة وهذه الشروط كلها معرفتهم عليهم السلام بما فيهم فاطمة الزهراء التي هي قطب الرحى التي تدور عليها معرفة أهل البيت وكما وصفت لك وفسرت فإذا كان كذلك فكيف لا يقبل عنهم أي فرد، وقد قبل عنهم لأنه قبل العلم والمعرفة والتوحيد عنهم ولو لم يقبل لم يعلم ولم يعرف إذ لا يكون ذلك منه غيرهم علهم السلام، وعلى هذا كانت فاطمة عليها السلام من هذه الجهة ومن خلال فقرة الزيارة الجامعة الكبيرة مرتبط بصميم التوحيد وهذا لا يظهر إلا لمن تمعن وتفحص ودقق في مأثورات أهل البيت عليهم السلام فأفهم تغنم إن شاء الله. أما ثاني الأدلة التي نستطيع من خلالها الورود في مسألة ارتباط فاطمة بصميم التوحيد فهو ما جاءت وتظافرت به الروايات الشريفة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه الروايات تنقسم فيما نحن فيه إلى أربعة طوائف:
142 1 - الطائفة الأولى: أذاها عليها السلام هو أذى الله تبارك وتعالى. 2 - الطائفة الثانية: رضاها عليها السلام هو رضى الله تبارك وتعالى. 3 - الطائفة الثالثة: حبها عليها السلام هو حب الله تبارك وتعالى. 4 - الطائفة الرابعة: غضبها عليها السلام هو غضب الله تبارك وتعالى. ونستفيد من خلال التأمل والتمعن في مدلولات هذه الروايات أنه لا معنى لارتباط أذية ورضى فاطمة وغضبها بالله تعالى إذا لم تكن معصومة بالعصمة المطلقة، فالله تبارك وتعالى جعلها معبرة عن غضبه ورضاه لكونها معصومة بالعصمة المطلقة الذاتية وإلا فإن هكذا قول يكون في غاية الوهن والعبث وعدم الحكمة. فالله تبارك وتعالى جعل فاطمة عليها السلام المعبرة عن غضبه ورضاه وعلى لسان نبيه الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا يدل على أنها عليها السلام معصومة ولا تفعل إلا برضا الله تبارك وتعالى . وعلى كل حال فإن جميع الروايات المروية عن لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاءت لتؤكد هذه الحقيقة وهي كون فاطمة لها ارتباط بالله تعالى وتوحيده سواء كان هذا الارتباط تارة يأتي على هيئة غضب الله أو رضاه أو على هيئة حب الله تبارك وتعالى أو أذاه. وإليك بعض النصوص التي بينت هذه الطوائف الأربعة من الروايات: * جاء في تفسير قوله تعالى (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا) أنها نزلت في غصب حق أمير المؤمنين عليه السلام، وأخذ حق فاطمة أذاها، قد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من آذاها في حياتي كمن آذاها بعد موتي، ومن آذاها بعد موتي كمن آذاها في حياتي، ومن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله وهو قول الله عز وجل: (إن الذين يؤذون الله ورسوله) (1). أقول: يظهر من هذا الآية إن الله تبارك وتعالى يتأذى من فعل بعض القوم ومن المعلوم إن الله لا تصل إليه أذية أي بشر بالمعنى وإنما جعل بعض المؤمنين
(1) تفسير علي بن إبراهيم 533. عنه البحار 43 / 25 ح 23 في تفسير الآية 57 من الأحزاب، وجاء في المناقب 3 / 210 في رواية مقاتل: الذين يؤذون المؤمنين يعني عليا. والمؤمنات يعني فاطمة فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا. 143 والذين هم أهل بيت النبوة مظهر من مظاهر أذيته إذا تؤذوا هم عليهم السلام، وهذا نص صريح في كونهم مر تبطين بالله، فالغضب الإلهي يتجلى في غضبهم كما أن غضبهم مرآة غضب الله، وكذلك الحال في الرضا. * وجاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إن فاطمة بضعة مني... وإن الله تبارك وتعالى ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها (1). * وورد عن تفسير الثعلبي بإسناده عن مجاهد قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى الله عليه وآل وسلم وقد أخذ بيد فاطمة عليها السلام وقال: من عرف فاطمة فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد وهي بضعة مني وهي قلبي الذي بين جنبي، فمن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله (2). * وروي عن الإمام الصادق عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: يا فاطمة، إن الله ليغضب لغضبك، ويرضى لرضاك (3). وهذا الحديث يعتبر من أهم الأحاديث التي رواها العامة الخاصة ولقد وجدنا لهذا الحديث عدة أسانيد مختلفة سواء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة أو عن أئمة الهدى عليهم السلام فتارة يكون الحديث عن الإمام الحسين عليه السلام وأخرى عن الصادق والباقر أو عن الإمام زين العابدين وهكذا نجده بأسانيد مختلفة ولكن المحتوى واحد والمضمون لا يختلف وهو أن الله يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها (4). * وروي عن الإمام الصادق عليه السلام هذا الحديث حيث قال جده النبي صلى الله عليه وآله وسلم يا فاطمة، إن الله تبارك وتعالى ليغضب لغضبك ويرضى لرضاك، وقد أثار هذا
(1) معاني الأخبار: 303،، ح 2. (2) كشف الغمة: 1 / 467، الفصول المهمة 1281، نور الأبصار: 52، نزهة المجالس 2 / 228، أئمة الهدى: 82، الإحقاق: 10 / 212، 213. (3) المناقب: 3 / 106 ومثله عن الحسين ع كشف الغمة 1 / 458. (4) ولقد روي هذا الحديث في كتب مختلفة وأسانيد معتبرة ومن هذا الكتب مقتل الخوارزمي 1 / 51، ومجالس المفيد 94 وروضة الواعظين 180، تاريخ دمشق 1 / 159، وسيلة النجاة 212، وكنز العمال 12 / 111، ميزان الاعتدال 1 / 535 ح 2002، غاية المرام: 294، صحيفة الرضا 90 / ح 23. 144 الحديث بعض الشباب الذين كانوا في زمن الإمام عليه السلام ومنهم صندل الذي جاء إليه وقال له: يا أبا عبد الله إن هؤلاء الشباب يجيئونا بأحاديث منكره. فقال: له جعفر عليه السلام: وما ذاك يا صندل؟ قال: جاء عنك، أنك حدثتهم إن الله ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها! قال: فقال جعفر عليه السلام: يا صندل، ألستم رويتم فيما تروون: أن الله تبارك وتعالى يغضب لغضب عبده المؤمن ويرضى لرضاه؟! قال: بلى قال: فما تنكرون أن تكون فاطمة عليها السلام مؤمنة يغضب لغضبها، ويرضى لرضاها؟!. قال: فقال: الله أعلم حيث يجعل رسالته (1). ويظهر من هذا الحديث أن مسألة إنكار أحاديث أهل البيت في قضية فاطمة الزهراء وأن رضاها رضا الله ورسوله كانت موجودة من زمن الأئمة عليهم السلام، وكذلك توجد نقطة مهمة ونكتة خافية وهي أن الرسول إنما تحدث بهذه الأحاديث في فاطمة عليها السلام ليؤكد على مسألة مهمة وهو أن فاطمة عليها السلام سوف تظلم وتؤذى من بعده، لذا سوف ترضى عن بعض المسلمين وتغضب على البعض الآخر فلذلك أعطى الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم ضابطة كلية في مسألة تقييم بعض الشخصيات في زمن فاطمة عليها السلام ألا وهي ضابطة الرضا والغضب بالنسبة لفاطمة، فكأنما يشير إلى ما سيجري عليها من الظلم من بعده. إذن تبين لنا من خلال تفسير الآية المباركة (إن الذين يؤذون الله...) وبيان بعض الأحاديث الشريفة حول رضا فاطمة وغضبها وأنها مقرون برضا الله وغضبه، إنها عليها السلام مرتبطة بصميم التوحيد وهنا يرد هذا السؤال المهم في ما نحن فيه ألا وهو ما الثمرة من هذا الارتباط؟ أن بعبارة أخرى ما الفائدة في ارتباط غضب فاطمة ورضاها بالله تعالى؟ والجواب يظهر من خلال متابعة القرآن الكريم والأحاديث التي
(1) كنز العمال: 13 / 674 ح 37725، الحاكم في مستدركه: 3 / 153 ميزان الاعتدال: 1 / 535 ح 2002، التذكرة لابن الجوزي: 320، كفاية الطالب 363 أسد الغابة: 5 / 522، ذخائر العقبى: 39 / ينابيع المودة: 173، 198 الإصابة: 4 / 378، خصائص السيوطي: 2 / 265، الكامل في الرجال: 2 / 762، إسعاف الراغبين: 187 عنهم، العوالم: 1 / 154. 145 رويناها لك من خلال الكتب المعتبرة والذي نراه وحسب فهمنا القاصر إن بعض الثمرات هي : 1 - أن كل من آذى فاطمة فقد آذى الله ورسوله لذا سوف يستحق اللعنة بنص القرآن الكريم (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله...) هذا في الدنيا. 2 - إعداد العذاب الإلهي للذين يؤذون الله تعالى في ذرية رسوله (وأعد لهم عذابا مهينا). 3 - ونستفيد من بعض الروايات أن الله تعالى ليغضب لغضب المؤمن فكيف بابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ 4 - إعطاء ضابطة مهمة من الناحية التأريخية وهي كل من ثبتت أذيته لفاطمة في حياتها لا بد من لعنه والبراءة منه وكل من سار على منوال الظالمين للزهراء في حقها ورضايتهم على فعل الظالمين فهم مع الظالمين يجب لعنهم في الدنيا والبراءة منهم وكثيرة هي الثمرات في هذا الارتباط وفي الذي سردناه لك كفاية لمن يرجو الوصول إلى حقيقة الأمور. فاطمة عليها السلام وعلاقتها بالنبوة من القضايا المهمة التي يهمنا البحث عنها هو ارتباط فاطمة الزهراء عليها السلام بمقام النبوة الخاتمية ومن يمثل هذه الخاتمية أعني بذلك شخص رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولا بد لنا ونحن نر توي من الماء العذب لفاطمة عليها السلام واللآلئ المتناثرة في حياتها أن نقف مع مقامها والارتباط الوثيق لهذا المقام بالنسبة للنبوة، والذي ينقدح في الذهن القاصر لصحاب هذا القلم أن هناك عدة أدلة وشواهد تثبت أن لفاطمة ارتباط وثيق بالنبوة، وهذا الارتباط تارة يتمثل على نحو الأبوة لهذه الصديقة الطاهرة وتارة أخرى على شكل حب لهذه النسمة الطيبة ومرة أخرى على الارتباط العقائدي لها عليها السلام، وسوف نعطي عدة شواهد وأدلة على ذلك، ومن خلال استقراء واستنطاق بعض الكتب الروائية والتاريخية التي تروي لنا قضية الزهراء وارتباطها بشخص النبي صلى الله عليه وآله وسلم من
146 جهة وبمقام النبوة من جهة أخرى، أما كيف يكون هذا الارتباط بالنبوة ومقامها، فنقول: وردت عدة شواهد على هذه المسألة من القرآن الكريم ولكن نكتفي على شاهد قرآني واحد وهو الآية 57 من سورة الأحزاب (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا...) فهذه الآية الشريفة وكما تبين لنا لها ارتباط بمسألة أذى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن نعلم أنه ورد في الحديث الشريف عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه ما أوذي نبي بمثل ما أوذيت، وكذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم من آذى مؤمنا فقد أذاني، فهذه الأحاديث تثبت مسألة أذى رسول الله ولقد حدثنا التاريخ كيف أن القوم عندما بعث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمكة كيف آذوه وطردوه من دياره والأكثر من ذلك نجد أن الكثير من النصوص عند العامة والخاصة قد بينت أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد آذوه القوم بعد مماته في ابنته فاطمة عليها السلام تبين وتؤكد على حقيقة ثابتة ولا ينكرها إلا معاند أو منافق وهي أنهم قد أذوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذريته، فكانت الأحاديث المروية عنه تمثل الدعامة العظمى لارتباط أقرب الناس إليه وهي فاطمة الزهراء عليها السلام، ولا نقصد من ارتباط الصديقة الطاهرة عليها السلام به مجرد لأنه والدها كلا بل هناك أمور غيبية قد ذكرت بعض الروايات أسرارها وكما بينا في بعض أحاديثنا كحديث الاقرار بفضل فاطمة جميع الأنبياء وأنه ما تكاملت نبوة نبي حتى أقر بفضلها ومحبتها... مما يدل على ارتباطها بالنبوة العامة كارتباطها بالنبوة الخاصة... وغير ذلك من الأحاديث في هذا المضمار، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إكراما عظيما أكثر مما كان الناس يظنونه وأكثر من إكرام الرجال لبناتهم حتى خرج بها عن حد الآباء للأولاد، فقال بعض الخاص والعام مرارا لا مرة واحدة وفي مقامات مختلفة لا في مقام واحد: إنها سيدة نساء العالمين... وإنها إذا مرت في الموقف نادى مناد من جهة العرش: يا أهل الموقف: غضوا أبصاركم لتعبر فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا من الأحاديث الصحيحة (1). وعليه لا بد من ذكر بعض
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد والقول كله له: 9 / 193، عنه اعلموا أني فاطمة: 4 / 55. 147 النصوص التي تبين لنا مقام فاطمة من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. * لفقد جاء في حديث طويل عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: فاطمة بضعة مني، من سرها فقد سرني ومن ساءها فقد ساءني، فاطمة أعز الناس علي (1). * وروى النسائي بإسناده عن السور بن محزمة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو على المنبر يقول فاطمة هي بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها، ومن آذى رسول الله فقد حبط عمله (2). * وروى أحمد بأسناده عن المسور، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة شجنة مني يبسطني ما يبسطها ويقبضني ما قبضها وأنه تنقطع يوم القيامة الأنساب والأسباب إلا نسبي وسببي (3). * وروي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن فاطمة شعرة مني، فمن آذى شعرة مني فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله لعنه الله ملء السماوات والأرض (4). * عن عبد الله بن زبير عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث: إنها - فاطمة - بضعة مني يؤذيني ما آذاها وينصبني ما أنصبها (5). وكثيرة هي الأحاديث التي تروي لنا ارتباط الزهراء وظلمها وأذيتها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولئلا يطول المقام بنا ولا نخرج عن هذا الكتاب نكتفي بهذه الأحاديث ونقول: إن كلام الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى هذا يدل على أنه ليس غضبه باعتبار أنه والدها، لا وإنما غضب النبوة ومقامها السامي الذي تمثل السماء ونحن نعلم أيضا أنه أذى فاطمة أيضا الله تبارك وتعالى، وإلا
(1) مجالس المفيد: 259، أمالي الطوسي: ح 1، 24، بشارة المصطفى: 85. (2) الخصائص: 35. (3) مسند أحمد 4 / 332. (4) كشف الغمة 1 / 467. (5) مسند أحمد 4 / 5، صحيح الترمذي 5 / 698 ح 3869، الصواعق المحرقة: 114، لسان العرب: 1 / 758، النهاية: 5 / 62. 148 لا معنى أن يغضب الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - لأنه أباها الشخصي فقط لأنه في مثل هذه الحالة سوف تكون العصبية لها باعتبار القرابة وإنما يؤكد الرسول من خلال هذه الأحاديث على حقيقة مهمة جدا وهي مسألة عصمة فاطمة عليها السلام لأنها لو كانت ممن تقارف الذنوب لم يكن مؤذيها مؤذيا له صلى الله عليه وآل وسلم على كل حال لذا ثبتت لها العصمة من خلال أقوال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حقها عليه السلام . ويظهر أيضا من خلال الحديث المروي في حق فاطمة عليها السلام عن أبي جعفر عليه السلام يقول: ولقد كانت عليها السلام مفروضة الطاعة على جميع من خلق الله من الجن والإنس، والطير والوحوش والأنبياء حتى أقر بفضل فاطمة عليها السلام وحجيتها حيث نستفيد من هذين الحديثين أن فاطمة عليها السلام كانت مرتبطة بنبوة الأنبياء السابقين قبل نبينا محمد صل الله عليه وآله وسلم، فهي - أي النبوة - لم تكتمل في أي نبي من الأنبياء حتى أقر بفضل فاطمة وحجيتها، وهذا يدل أنها كانت مفروضة الطاعة على جميع الأنبياء وكما تبين لنا من خلال البحوث المتقدمة في هذا الأمر. فاطمة عليها السلام والعدل الإلهي يعتبر العدل من الأصول الاعتقادية التي يمتاز بها الشيعة الإمامية عن غيرهم من المذاهب الأخرى، فمسألة العدل عندهم قد دخلت كل الأصعدة الحياتية المهمة وهذا يعود إلى وجود العدل في كل أفعال الله تعالى فهو - أي الله تعالى - قد جعله من أسماءه الحسنى فعندما يأخذ الشيعة الإمامية العدل ويعتبرونه من أصول الدين لم يكن هذا جزافا وإنما كان على أساس وأصل متين استمدوه من القرآن الكريم هذا الكتاب العظيم الذي بذر فكرة العدل في قلوب وأرواح الناس ثم سقاها ونماها فكريا وفلسفيا وعمليا واجتماعيا أنه القرآن الكريم الذي طرح مسألة العدل من حيث مظاهرها المختلفة العدل التكويني، والعدل التشريعي، والعدل الأخلاقي، والعدل الاجتماعي... الخ.
(1) دلائل الإمامة: 28. 149 والقرآن الكريم يصرح بأن نظام الوجود مبني على أساس العدل والتوازن على أساس الاستحقاق والقابلية، وعلى هذا الأساس توجد عدة آيات قرآنية تؤكد على مسألة العدل سواء كان ذلك عن طريق ذكر المقابل للعدل أي الظلم وتأتي الآية القرآنية تنفي الظلم أي تقر العدل بالنتيجة أو عن طريق ذكر القرآن أن هناك يوم حساب يحاسبون فيه الناس ليكون العدل هو الأساس الذي سوف تكون عليه المحاسبة، وهكذا يذكر القرآن الكريم آيات العدل في كل مظاهرها الوجودية، وسنورد هنا بعض الآيات القرآنية التي تعتبر الفاعلية الإلهية والتدبير الإلهي قائما على أساس العدل حيث يقول الباري عز وجل في هذا المضمار (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط) (1). أو أن العدل هو المعيار لله سبحانه في موضوع الخلقة (والسماء رفعها ووضع الميزان) (2). وعلق على هذه الآية الرسول الكريم صلى الله عليه وآل وسلم بقوله: بالعدل قامت السماوات والأرض واهتم القرآن الكريم اهتماما استثنائيا بالعدل التشريعي أي مراعاة أصل العدل دائما في النظام الاعتباري والتشريع القانوني، وقد صرح ذلك في الكتاب المعجز بأن الهدف من إرسال الأنبياء وبعثة الرسل إنما هو قيام النظام البشري وإرساء الحياة الإنسانية على أساس العدل والقسط: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) (3). وإضافة إلى ذلك فإن الأصل الكلي الذي نسبه القرآن إلى كل الأنبياء بخصوص النظام التشريعي ولا سيما في الشريعة الإسلامية هو قل أمر ربي بالقسط وفي مكان آخر يقول ذلكم أقسط عند الله. ويعتبر القرآن الكريم الإمامة والقيادة عهدا إلهيا ينبعث عنه النضال عنه النضال ضد الظلم والتلاؤم مع العدل، ويقول القرآن الكريم في موضوع لياقة إبراهيم عليه السلام للإمامة والقيادة: (وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني
(1) آل عمران: آية 18. (2) الرحمن: آية 7. (3) الحديد: آية 25. 150 جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) (1). فعندما أختار الله إبراهيم إماما، استفهم إبراهيم هل تشمل هذه الموهبة الإلهية نسله؟ فأجيب بأن الإمامة عهد إلهي والظالمون لا نصيب لهم فيه، يعني مقتضى العدالة الربانية هكذا تكون مع الظالمين. وإذا دققنا النظر في القرآن الكريم وجدناه يدور حول محور واحد هو العدل في كل الأفكار القرآنية من التوحيد إلى المعاد ومن النبوة إلى الإمامة والزعامة ومن الآمال الفردية إلى الأهداف الاجتماعية، فالعدل في القرآن قرين التوحيد وركن المعاد وهدف لتشريع النبوة وفلسفة الزعامة والإمامة ومعيار كمال الفرد ومقياس سلامة المجتمع (2). أذن بعد هذه المقدمة في العدل يأتي السؤال في هذا المقام الذي نحن فيه وهو هل أن الله جل جلاله أعطى إلى أولياؤه الكثير من المناصب والمقامات الروحانية وعلى كل المستويات بالعدل أو جزافا أعطاهم إياها؟ فمثلا مقام فاطمة الزهراء عليها السلام وحجيتها على الأئمة وعلى جميع الأنبياء والجن والإنس، ومقام شفاعتها يوم القيامة وأنها تشفع بالجنة هل أعطى تعالى هذه المقامات بالعدل لها فتكون عندئذ مرتبط بالعدل الإلهي أم لا؟ وهذا السؤال يحتاج إلى ذكر مسألة مهمة وهي تعريف العدل سواء لغويا أم اصطلاحيا وبعد ذلك نرى مدى انطباق هذا الموضوع وعلى ضوء التعريف في حياة الصديقة الطاهرة فاطمة عليها السلام ومدى ارتباطها بالعدل الإلهي. العدل في اللغة: العدل من أسماء الله سبحانه، العدل هو الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم، وهو في الأصل مصدر سمي به فوضع موضع العادل وهو أبلغ منه لأنه جعل المسمى نفسه عدلا وفلان من أهل المعدلة أي من أهل العدل. والعدل: الحكم بالحق، فيقال هو يقضي بالحق ويعدل وهو حكم عادل: ذو معدلة في حكمه (3). أما تعريف العدل في الاصطلاح فلقد وردت فيه عدة تعاريف ولكن الذي يهمنا فيما نحن فيه التحريف الذي يقول: هو رعاية الاستحقاق في إفاضة الوجود
(1) البقرة: آية 124. (2) العدل الإلهي: 46. (3) لسان العرب مادة عدل. 151 وعدم الامتناع عن الإفاضة والرحمة حيث يتوفر إمكان الوجود أو إمكان الكمال. وعلى أساس هذا التعريف يتبين لنا أن الموجودات تتفاوت مع بعضها في النظام الكوني من حيث قابليتها لاكتساب الفيض الإلهي من مبدأ الوجود، فكل موجود وفي أي رتبة من الوجود يملك استحقاقا خاصا من حيث قابليته لاكتساب الفيض، ولما كانت الذات الإلهية المقدسة كمالا مطلقا وخيرا مطلقا وفياضة على الاطلاق فهي تعطي ولا تمسك ولكنها تعطي لكل موجود ما هو ممكن له من وجود أو كمال وجود، فالعدل الإلهي - حسب هذه النظرية - يعني أن أي موجود يأخذ من الوجود ومن كماله المقدار الذي يستحقه وبإمكانه أن يستوفيه (1). وعلى هذا الأساس تكون الزهراء عليها السلام مستحقة للعدل الإلهي في إفاضة الكمال لها وفي كل المقامات المعنوية والروحية، فكونها عليها السلام حجة على الأنبياء وعلى جميع البشر وأنه ما تكاملت نبوة نبي حتى أقر بفضلها وكذلك كونها صاحبة الشفاعة الكبرى يوم القيامة وغيرها من المقامات التي أعطاها الله تعالى إياها كل ذلك لأنها كانت مستحقة لكل هذا الكمال، أما كيف كانت مستحقة لذلك فهذا ما نفهمه من خلال الزيارة الواردة في حقها السلام عليك يا ممتحنة امتحنك الذي خلقك قبل أن يخلقك فوجدك صابرة لما امتحنك فعلى أساس هذا الامتحان وكونها صابرة نجد أن الله تعالى وجدها مستحقة للعدل الإلهي وللكمال الذي يليق بحالها، وعليه تكون الحكمة الإلهية للعدل الإلهي وللكمال الذي يليق بحالها، حيث تكون الحكمة الإلهية في وضع الزهراء في مقامها السامي إنما هو بالإمكان اللائق لها وبالعدل الإلهي استحقت ذلك فتكون عليها السلام حينئذ مرتبطة بالعدل الإلهي من حيث كونها مستحقة للإفاضات الربانية وكما تبين لك من خلال الأحاديث الواردة في شأنها عليها السلام. هذا من جهة ومن جهة أخرى أن مولاتنا لفاطمة عليها السلام هل هي من العدل الإلهي أم لا؟ لا شك ولا ريب عندما يطلب الله تعالى منا أن نكون مع الزهراء عليها السلام في التولية والتبرئة من أعدائها هو عين العدل الإلهي لأن الله تعالى وعلى لسانه في القرآن
(1) العدل الإلهي: 71. 152 الكريم اعتبر أذى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من الأسباب المؤدية إلى اللعنة والعذاب الأليم وباعتبار كونها عليها السلام من لحم رسول الله بل هي نساء رسول الله المعبر عنهم بنسائنا في آية المباهلة وأيضا رضاها رضى رسول الله وغضبها غضب الله ورسوله وإضافة إلى ذلك أنها مستحقة حسب وجودها وللفيوضات الربانية كل ذلك يعتبر من العدل الإلهي فتكون عندئذ عليها السلام مرتبطة بصميم العدل الإلهي وإن مولاتنا لها عين العدل الذي أمرنا الله تعالى ونكون له ملازمين له في كل الحالات. فاطمة عليها السلام وعلاقتها بالإمامة تشكل الإمامة أصلا مهما من الأصول الخمسة الدينية عند الشيعة الإمامية بعد التوحيد والنبوة والعدل، ولقد تظافرت الروايات الشريفة على التأكيد على هذه المسألة المهمة في الدين الإسلامي فضلا عن القرآن الكريم الذي أكد أيضا على مسألة إثبات الإمامة من خلال القرآن الكريم والأحاديث الشريفة بل نقول أن من أراد الاطلاع على هذه القضية فعليه مراجعة الكتب الكلامية التي أثبت هذه المسألة المهمة، ولقد تطرقنا إلى هذه المسألة - أي الإمامة - في هذه الكتاب باعتبارها لها ارتباط عميق بالصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام، وربما سائل يسأل كيف يمكننا أن نعرف أن الزهراء لها ارتباط بصميم الإمامة؟ وهذا سؤال مهم على ما أتصوره ولا بد من خلال استقراء الكتب الروائية وحياة الصديقة الطاهرة وقراءة بعض النصوص واستنطاقها نجد أنه هناك عدة أمور يمكن من خلالها إثبات هذا الارتباط الوثيق للزهراء بالإمامة التي جعلها الله تبارك وتعالى أما ماهية هذه القضية من خلال إثباتها عن طريق الروايات أو الزيارات الواردة فهذا ما يتوقف بيانه على إبراز بعض الأدلة والشواهد التي تؤيد هذه القضية تارة وتدعمها تارة أخرى. أولا: أما الأدلة التي نستطيع من خلال إثبات ارتباط فاطمة بصميم الدين فهذا ما يتبين لنا من كونها عليها السلام الحجة على الأنبياء فضلا عن الأئمة عليهم السلام . إما كونها الحجة على
153 الأنبياء فهذا ما أثبته الحديث المروي الذي يقول فيه الإمامة: ما تكاملت نبوة نبي حتى أقر بفضلها ومحبتها وهي الصديقة الكبرى وعلى معرفتها دارت القرون الأولى ولا نريد الوقوف مع مفهوم هذا الحيث على أي شئ يدل فلقد تبين لك كيف أنها لا بد من الإقرار بفضلها ومحبتها من قبل الخلق أجمعين فضلا عن الأنبياء، وإما كونها الحجة على الأسمة فهذا ما تبين لنا من خلال شرح الحديث الوارد عن الإمام الحسن العسكري الذي يقول فيه نحن حجج الله على خلقه وجدتنا فاطمة عليها السلام حجة الله علينا فراجع شرح هذا الحديث في كتابنا هذا وسوف يتبين لك الحال في هذا الأمر وهذا يكون أفضل شاهد على كونها مرتبطة بصميم الإمامة ولهذا يحتاج إلى تمعن في هذا الأمر وتدقيق عميق حتى نصل إلى مداركه ومدلولاته. ثانيا: إن الزهراء عليها السلام كانت الرحم الطاهر لحمل الإمامة فهي أم الأئمة الأطهار وهي والدة الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة واللذان كانا إمامان قاما أو قعدا، فقد حملت بهما من خلال الارتباط السماوي بأمير المؤمنين حيث زوجها الله تبارك وتعالى من أمير المؤمنين وكما ورد في الحديث الذي يقول زوج النور من النور وهذا يشهد به الموالي والمخالف في قضية زواج الزهراء عليها السلام، أما كونها رحم طاهرة، فهذا ما أثبتته الآية الكريمة (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) فضلا عن الزيارة الشريفة الواردة في حق الإمام الحسين عليه السلام والتي يقول فيها الإمام عليه السلام أشهد إنك كنت نورا في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة إلى آية التطهير تثبت كونها عليها السلام الرحم الطاهر للأئمة عليهم السلام ومن جهة شاهد على كونها مرتبطة بصميم الإمامة بالنكتة التي بيناها لك من حيث هي أم الأئمة عليهم السلام. ثالثا: نجد من خلال استقراء القرآن الكريم ومتابعة آياته الشريفة أن الزهراء عليها السلام تكون مشتركة ومرتبطة بالإمامة من خلال عدة آيات قرآنية أثبت اشتراكها مع الأئمة عليهم السلام منها كونها الصراط المستقيم ومشتركة معهم عليهم السلام فلقد ورد عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه قال:
154 قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أن الله جعل عليا وزوجته وأبناؤه حجج الله على خلقه، وهم أبواب العلم في أمتي، من اهتدى بهم هدي إلى صراط مستقيم (1). وأيضا عن رسول الله أنه قال: اهتدوا بالشمس فإذا غاب الشمس فاهتدوا بالقمر، فإذا غاب القمر فاهتدوا بالزهرة، فإذا غابت الزهرة فاهتدوا بالفرقدين، فقيل يا رسول الله ما الشمس وما القمر وما الزهرة وما الفرقدان؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: الشمس أنا، والقمر علي، والزهرة فاطمة، والفرقدان الحسن والحسين عليهما السلام (2). قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم) (3) . * أخرج ابن النجار عن ابن عباس قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه، سأل بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا تبت علي، فتاب عليه (4). قوله تعالى: (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم...) (5). * قال محب الدين الطبري: لما نزل قوله تعالى: فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم الآية، دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هؤلاء الأربعة (6). * عن أبي سعيد رضي الله عنه: لما نزلت هذه الآية، دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا وقال: اللهم هؤلاء أهلي. أخرجه مسلم والترمذي (7). قوله تعالى: (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة...) (8). * عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أنا شجرة، وفاطمة فرعها، وعلي لقاحها، وحسن وحسين ثمرها، ومحبيهم (9) من أمتي أوراقها. ثم قال: هم في جنة عدن والذي بعثني
(1) شواهد التنزيل للحافظ الإسكافي الحنفي 1 / 58، 59. (2) شواهد التنزيل للحافظ الحسكاني الحنفي 1 / 58، 59. (3) البقرة: آية 37. (4) الدر المنثور 1 / 147. (5) آل عمران: آية 61. (6) ذخائر العقبى: 25، 24. (7) ذخائر العقبى 25، 24. (8) إبراهيم: آية 24. (9) كذا، والصواب محبوهم. 155 بالحق (1). * وعنه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أنا شجرة، وعلي القلب، وفاطمة اللقاح، والحسن والحسين الثمر، وشيعتنا الورق، وحيث ينبت الشجر تساقط ورقها، ثم قال: في جنة عدن والذي بعثني بالحق (2). وقوله تعالى: (أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة...) (3). * عن عكرمة: هم النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام (4). قوله تعالى: (إني جزيتهم اليوم بما صبروا أنهم هم الفائزون) (5). * عن عبد الله بن مسعود: يعني جزيتهم بالجنة اليوم بصبر علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين في الدنيا على الطاعات وعلى الجوع والفقر، وبما صبروا على المعاصي وصبروا على البلاء لله في الدنيا، أنهم هم الفائزون والناجون من الحساب (6). قوله تعالى: (كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة...) (7). * عن موسى بن القاسم، عن علي بن جعفر قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن قوله الله عز وجل كمشكاة فيها مصباح قال: المشكاة فاطمة، والمصباح الحسن، والحسين الزجاجة كأنها كوكب دري قال: كانت فاطمة كوكبا دريا من نساء العالمين يوقد من شجرة مباركة الشجرة المباركة إبراهيم لا شرقية ولا غربية لا يهودية ولا نصرانية يكاد زيتها يضئ قال: يكاد العلم أن ينطق منها ولو لم - تمسسه نار، نور على نور قال: فيها إمام بعد إمام يهدي الله لنوره من يشاء قال: يهدي الله عز وجل لولا يتنا من يشاء (8).
(1) شواهد التنزيل: 1 / 312 - 313. (2) شواهد التنزيل: 1 / 312، 313. (3) الإسراء: آية 57. (4) شواهد التنزيل: 1 / 324. (5) المؤمنون: آية 11. (6) المصدر: 408. (7) النور: آية 35. (8) المناقب لابن المغازلي: 317. 156 قوله تعالى: (وأمر أهلك بالصلاة اصطبر عليها...) (1). * عن عبد الله بن الحسن، عن أبيه، عن جده قال: أبو الحمراء خادم النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لما نزلت هذه الآية كان النبي صلى الله عليه وآله يأتي باب علي وفاطمة عند كل صلاة فيقول: الصلاة - رحمكم الله - إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (2). قوله تعالى: (وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا...) (3). * عن السدي: نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي، زوج فاطمة عليا، وهو ابن عمه وزوج ابنته، كان نسبا وكان صهرا (4). قول تعالى: (واجعلنا للمتقين إماما) (5). * قال النبي صلى الله عليه وآل وسلم قلت: يا جبرئيل من أزواجنا؟ قال: خديجة. قال: ومن ذرياتنا؟ قال: فاطمة. وقرة أعين؟ قال: الحسن والحسين. قال: واجعلنا للمتقين إماما؟ قال: علي بن أبي طالب (6). قوله تعالى (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) (7). * عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: نزلت في خمسة: في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين، أخرجه أحمد في المناقب وأخرجه الطبراني (8). قوله تعالى: (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى -) (9). * قال الزمخشري: إنها لما نزلت قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى قيل: يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: علي وفاطمة
(1) طه: آية 132. (2) شواهد التنزيل: 1 / 381. والآية في الأحزاب: آية 33. (3) الفرقان: آية 54. (4) المصدر: 414. (5) الفرقان: آية 74. (6) شواهد التنزيل: 1 / 416. (7) الأحزاب: آية 33. (8) ذخائر العقبى: 24. (9) الشورى: آية 23. 157 وابناهما... وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من مات على حب آل محمد مات شهيدا. ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفورا له. ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفورا له. ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائبا. ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل الإيمان. ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير. ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها. ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة. ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة. ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة. ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله. ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافرا. ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة (1). * قوله تعالى: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم) (2 . عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: يعني ولي علي وحمزة وجعفر وفاطمة والحسن والحسين وولي محمد صلى الله عليه وآل وسلم، ينصرهم بالغلبة على عدوهم (3). * قوله تعالى: (كانوا قليلا من الليل ما يهجعون) (4). عن عبد الله بن عباس قال: نزلت في علي بن أبي طالب والحسن والحسين وفاطمة عليه السلام (5). * قوله تعالى: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم) (6). عن ابن عباس قال: نزلت في النبي وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام (7 .
(1) الكشاف: 3 / 467. (2) محمد صلى الله عليه وآله: آية 11. (3) شواهد التنزيل: 2 / 174، 194، 197. (4) الذاريات: آية 17. (5) شواهد التنزيل: 2 / 174، 194، 197. (6) الطور: آية 21. (7) شواهد التنزيل: 2 / 174، 194، 197. 158 قوله تعالى: (مرج البحرين يلتقيان، بينهما برزخ لا يبغيان، فبأي آلاء ربكما تكذبان، يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان) (1). أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: مرج البحرين يلتقيان قال: علي وفاطمة ، بينهما برزخ لا يبغيان قال: النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان قال: الحسن الحسين (2). * قوله تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) (3). إن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فشكا إليه الجوع، فبعث إلى بيوت أزواجه فقلن: ما عندنا إلا الماء. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: من لهذه الليلة؟ فقال علي عليه السلام: أنا يا رسول الله. فأتي فاطمة فأعلمها، فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبية ولكنا نؤثر به ضيفنا. فقال علي عليه السلام: نومي الصبية وأنا أطفئ للضيف السراج. ففعلت وعشى الضيف. فلما أصبح أنزل الله عليهم هذه الآية: ويؤثرون عن أنفسهم (4). عن ابن عباس في قول الله ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة قال: نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام (5). * قوله تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) (6). قال أبو الفضل شهاب الدين السيد محمود الآلوسي: وماذا عسى يقول امرؤ فيهما يعني عليا وفاطمة عليهما السلام سوى أن عليا مولى المؤمنين ووصي النبي، وفاطمة البضعة الأحمدية والجزء المحمدي، وأما الحسنان فالروح والريحان وسيدا شباب أهل الجنان. وليس هذا من الرفض، بل ما سواه عندي هو الغي. ومن اللطائف على القول بنزولها فيهم أنه سبحانه لم يذكر فيها الحور العين، وأنما صرح عز وجل بولدان مخلدين رعاية
(1) الرحمن: آية 19 - 22. (2) الدر المنثور: 7 / 697. (3) الحشر: آية 8. (4) شواهد التنزيل: 2 / 246 - 247. (5) شواهد التنزيل: 2 / 246 - 247. (6) الدهر: آية 8. 159 لحرمة البتول وقرة عين الرسول (1). * قوله تعالى: (ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها) (2). عن عبد الله بن عجلان السكوني قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: بيت علي وفاطمة من حجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسقف بيته معرض رب العالمين، وفي قعر بيوتهم فرجة مكشوطة إلى العرش معراج الوحي، والملائكة تنزل عليهم بالوحي صباحا ومساء وفي كل ساعة وطرفة عين، والملائكة لا ينقطع فوجهم، فوج ينزل وفوج يصعد (3). رابعا: من خلال الروايات الشريفة نجد أن الزهراء عليها السلام مرتبطة ومشتركة مع الأئمة الذين يمثلون الدعامة الكبرى الإمامة في كثير من الأمور وهذا ما نجده من خلال الروايات الشريفة التي أثبت هذه المسألة ومنها: في خلقتها النورانية * عن النبي صلى الله عليه وآل وسلم إنه قال: لما خلق الله تعالى آدم أبو البشر (4) ونفخ فيه من روحه، التفت آدم يمنة العرض فإذا في النور خمسة أشباح سجدا وركعا، قال آدم: يا رب هل خلقت أحدا من طين قبلي؟ قال: لا، يا آدم، قال: فمن هؤلاء الخمسة الأشباح الذين أراهم في هيئتي وصورتي؟ قال: هؤلاء خمسة من ولدك ، لولاهم ما خلقتك، هؤلاء خمسة شققت لهم خمسة أسماء من أسمائي، لولاهم ما خلقت الجنة ولا النار، ولا العرش، ولا الكرسي، ولا السماء، ولا الأرض، ولا الملائكة، ولا الإنس، ولا الجن. فأنا المحمود وهذا محمد، وأنا العالي وهذا علي، وأنا الفاطر وهذه فاطمة، وأنا الإحسان وهذا الحسن، وأنا المحسن وهذا الحسين، آليت بعزتي أنه لا يأتيني أحد
(1) روح المعاني: 29 / 158. (2) القدر: آية 3 - 4. (3) تأويل الآيات: للعلامة السيد شرف الدين النجفي: 2 / 818. (4) كذا. 160 بمثقال ذرة من خردل من بغض أحدهم إلا أدخلته ناري ولا أبالي. يا آدم، هؤلاء صفوتي من خلقي، بهم أنجيهم وبهم أهلكهم، فإذا كان لك إلي حاجة فبهؤلاء توسل. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: نحن سفينة النجاة، من تعلق بها نجا، ومن حاد عنها هلك، فمن كان له إلى الله حاجة فليسأل بنا أهل البيت (1). في بدء خلقتها * عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن الله خلقني وخلق عليا وفاطمة والحسن والحسين قبل أن يخلق آدم عليه السلام، حين لا سماء مبنية، ولا أرض مدحية ، ولا ظلمة ولا نور، ولا شمس ولا قمر، ولا جنة ولا نار، فقال العباس: فكيف بدء خلقكم يا رسول الله؟ فقال: يا عم: لما أراد الله أن يخلقنا تكلم بكلمة خلق منها نورا، ثم تكلم بكلمة أخرى فخلق منها روحا، ثم مزج النور بالروح فخلقني وخلق عليا وفاطمة والحسن والحسين، فكنا نسبحه حين لا تسبيح، ونقدسه حين لا تقديس، فلما أراد الله تعالى أن نشئ خلقه فتق نوري فخلق منه العرش فالعرش من نوري ، ونوري من نور الله، ونوري أفضل من العرش، ثم فتق نور أخي علي فخلق منه الملائكة، فالملائكة من نور علي، ونور علي من نور الله، وعلي أفضل من الملائكة ، ثم فتق نور ابنتي فخلق منه السماوات والأرض، فالسماوات والأرض من نور ابنتي فاطمة ، ونور ابنتي فاطمة من نور الله، وابنتي فاطمة أفضل من السماوات والأرض. ثم فتق نور ولدي الحسن، ونور الحسن من نور الله، والحسن أفضل من الشمس والقمر. ثم فتق نور ولدي الحسين فخلق منه الجنة والحور العين، فالجنة والحور العين من نور ولدي الحسين، ونور ولدي الحسين من نور الله، وولدي الحسين أفضل من الجنة والحور العين (2).
(1) فرائد السمطين: 1 / 36. (2) بحار الأنوار: 15 / 10. 161 في عرض ولايتها على الأشياء * في حديث الإسراء: يا محمد! إني خلقتك وخلقت عليا وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ولد الحسين من نوري، وعرضت ولايتكم على أهل السماوات والأرض، فمن قبلها كان عندي من المؤمنين، ومن جحدها كان عندي من الظالين الظالمين خ ل. يا محمد! لو أن عبدا من عبيدي عبدني حتى ينقطع، أو يصير كالشن البالي، ثم أتاني جاحدا لولايتكم ما غفرت له حتى يقر بولايتكم. يا محمد: أتحب أن تراهم؟ قلت: نعم، يا رب! قال: التفت، فالتفت عن يمين العرش، فإذا أنا باسمي وباسم علي وفاطمة والحسن والحسين وعلي ومحمد وجعفر وموسى وعلي والحسن، والمهدي في وسطهم كأنه كوكب دري، فقال: يا محمد! هؤلاء حي على خلقي، وهذا القائم من ولدك بالسيف من أعدائك (1). في سبق دخولها الجنة * عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن أول من يدخل الجنة أنا وأنت وفاطمة والحسن والحسين. قال علي: فمحبونا؟ قال: من ورائكم (2). في كونها في خطيرة القدس * وعنه صلى الله عليه وآله: إن فاطمة وعليا والحسن والحسين في خطيرة القدس في قبة بيضاء، سقفها عرش الرحمن (3).
(1) تأويل الآيات: 1 / 98. (2) مسند فاطمة الزهراء عليها السلام للسيوطي: 45، 46. (3) مسند فاطمة الزهراء عليها السلام: للسيوطي: 45، 46. 162 في جواز دخولها عليها السلام مسجد النبي وعنه صلى الله عليه وآله: ألا لا يحل المسجد لجنب ولا حائض إلا لرسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام (1). في سكونتها معهم في الجنة * عن النبي صلى الله عليهم وآله قال: في الجنة درجة تدعى الوسيلة، فإذا سألتم الله فاسألوا لي الوسيلة. قالوا: يا رسول الله! من يسكن معك فيها؟ قال: علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام (2). في كونها ركنا لعلي عليهم السلام * على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنه قال لعلي بن أبي طالب عليه السلام: سلام عليك يا أبا الريحانتين، فعن قليل يذهب ركناك، والله خليفتي عليك. فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال علي عليه السلام: هذا أحد الركنين، فلما ماتت فاطمة عليها السلام قال: هذا الركن الآخر (3). أقول: ينبغي إمعان النظر في معنى الركنية، فأي معنى تصور لركنيه صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام فهو ثابت لفاطمة الزهراء عليها السلام، ولعمري هذا مقام شامخ لم ينله أحد إلا هي، وهو من مختصاتها عليها السلام.
(1) تأويل الآيات: 1 / 98. (2) المصدر السابق: 69. (3) ذخائر العقبى: 56. 163 في إصابة نور الله لها * عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لما خلق الله الجنة خلقها من نور وجهه ، ثم أخذ ذلك النور فقذفه فأصابني ثلث النور، وأصاب فاطمة ثلث النور، وأصاب عليا وأهل بيته ثلث النور. فمن أصابه من ذلك النور اهتدى إلى ولاية آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم (1)، ومن لم يصبه من ذلك النور ضل عن ولاية آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم أقول: التدبر في هذا الحديث يعطي جلالة شأنها وعلو درجاتها عليها السلام، إذ جعلها الله - تعالى شأنه - في النور قسيم أبيها وبعلها وبنيها عليهم السلام، بل هي أكبر حظا منهم. وهذا لعمري شأن لا تنالها أيدي المتناولين، وبحر لا يدرك قعرها غوص المتعمقين. في كونها خير خلق الله تعالى * عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث طويل: على ساق العرش مكتوب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وعلي وفاطمة والحسن والحسين خير خلق الله (2). في اختيار الله تعالى إياها على النساء * قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام: إن الله عز وجل أشرف على الدنيا فاختارني منها على رجال العالمين، ثم اطلع الثانية فاختارك على رجال العالمين، ثم اطلع الثالثة فاختار الأئمة من ولدك على رجال العالمين، ثم اطلع الرابعة فاختار فاطمة على نساء العالمين (3). * قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليلة عرج بي إلى السماء رأيت على باب الجنة مكتوبا: لا
(1) البحار: 43 / 44. (2) بحر المعارف: للمولى عبد الصمد الهمداني: 428. (3) زين الفتى: للحافظ العاصمي، كما في فاطمة الزهراء للعلامة الأميني ص 43. 164 إله إلا الله، محمد رسول الله، علي حبيب الله، والحسن والحسين صفوة الله، فاطمة خيرة الله، على باغضهم لعنة الله (1). في وجوب إطاعتها على الكائنات * عن أبي جعفر عليه السلام في حديث طويل: ولقد كانت عليها السلام مفروضة الطاعة على جميع من خلق الله من الجن والإنس والطير والوحش والأنبياء والملائكة - الحديث (2). * عن محمد بن سنان قال: كنت عند أبي جعفر الثاني عليه السلام فأجريت اختلاف الشيعة، فقال: يا محمد إن الله تبارك وتعالى لم يزل متفردا بوحدانيته، ثم خلق محمدا وعليا وفاطمة، فمكثوا ألف دهر، ثم خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها ، وأجرى طاعتهم عليها، وفوض أمورها إليهم، فهم يحلون ما يشاؤون، ويحرمون ما يشاؤون، ولن يشاؤوا إلا أن يشاء الله تبارك وتعالى. ثم قال: يا محمد، هذه الديانة التي من تقدمها مرق (3)، ومن تخلف عنها محق، زن لزمها لحق، خذها إليك يا محمد (4). قال العلامة المجلسي في شرح هذا الحديث: فأشهدهم خلقها، أي خلقها بحضرتهم وهم يطلعون على أطوار الخلق وأسراره. وأجرى طاعتهم عليها أي أوجب على جميع الأشياء طاعتهم حتى الجمادات والسماويات والأرضيات. وفوض أمورها إليهم من التحليل والتحريم والعطاء والمنع، وإن كان ظاهره تفويض تدبيرها إليهم من الحركات والسكنات والأرزاق والأعمار وأشباهها (5). * عن أبي سعيد الخدري قال: كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قبل إليه رجل فقال: يا رسول الله أخبرني عن قول الله عز وجل لإبليس: استكبرت أم كنت من
(1) تاريخ بغداد: 1 / 259. (2) دلائل الإمامة: للطبري، ص 28. (3) مرق من الدين: خرج منه بضلالة أو بدعة. (4) بحار الأنوار: 15 / 19. (5) مرآة العقول: 5 / 190 - 192. 165 العالمين (1)، من هم يا رسول الله الذين هم أعلى من الملائكة المقربين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين، كنا في سرادق العرش نسبح الله فسبحت الملائكة بتسبيحنا قبل أن يخلق الله عز وجل آدم بألفي عام، فلما خلق الله عز وجل آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له، ولم يؤمروا بالسجود إلا لأجلنا، فسجدت الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبي أن يسجد، فقال الله تبارك وتعالى: يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي استكبرت أم كنت من العالمين أي من هؤلاء الخمسة المكتوبة أسماؤهم في سرادق العرش. فنحن باب الله الذي يؤتى منه، وبنا يهتدي المهتدون، فمن أحبنا أحبه الله وأسكنه جنته، ومن أبغضنا أبغضه الله وأسكنه ناره، ولا يحبنا إلا من طاب مولده (2). في ركوبها يوم القيامة * عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: يبعث الله الأنبياء يوم القيامة على الدواب، ويبعث صالحا على ناقته كيما يوافي بالمؤمنين من أصحابه المحشر، وتبعث فاطمة، والحسن والحسين عليهم السلام على ناقتين من نوق الجنة، وعلي بن أبي طالب على ناقتي، وأنا على البراق، ويبعث بلالا على ناقته فينادي بالأذان - الحديث (3 . في تكلمها في بطن أمها * عن بعض الرواة الكرام: إن خديجة الكبرى رضي الله عنها - تمنت يوما من الأيام على سيد الأنام أن تنظر إلى بعض فاكهة دار السلام، فأتى جبرئيل إلى المفضل على الكونين من الجنة بتفاحتين وقال: يا محمد، يقول لك من جعل لكل شئ قدرا:
(1) 75. (2) تأويل الآيات: 2 / 509. (3) كنز العمال: 6 / 193، كما في فضائل الخمسة: 3 / 163. 166 كل واحدة وأطعم الأخرى لخديجة الكبرى، فأغشها، فإني خالق منكما فاطمة الزهراء. ففعل المختار ما أشار به الأمين وأمر. فلما سأله الكفار أن يريهم انشقاق القمر - وقد بان لخديجة حملها بفاطمة وظهر - قالت خديجة: واخيبة من كذب محمدا وهو خير رسول ونبي! فنادت فاطمة من بطنها: يا أماه لا تحزني ولا ترهبي فإن الله مع أبي - الخبر (1). في كونها تحت قبة العرش * قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين يوم القيامة في قبة تحت العرش. قلت الحافظ الكنجي ما كتبناه إلا من هذا الوجه السند المذكور فيه وهو حديث حسن عال (2). في ثواب السلام عليها * عن يزيد بن عبد الملك النوفلي، عن أبيه، عن جده قال: دخلت على الفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فبدأتني بالسلام، قال: وقالت: قال أبي - وهو ذا حي - من سلم علي وعليك ثلاثة أيام فله الجنة. قلت لها: ذا في حياته وحياتك أو بعد موته وموتك؟ قالت: في حياتنا وبعد وفاتنا (3). * عن ابن عباس قال: لما ولدت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم سماها المنصورة، فنزل جبرئيل عليه السلام فقال: الله يقرئك السلام ويقرئ مولودك السلام (4).
(1) روض الفائق: للعلامة الشيخ شعيب الحريفش، مطبعة المصطفى البابي الحلبي، ص 255 وهذا الاشتراك مع ابنها الحسين عليه السلام حيث يكلمها في بطنها. (2) كفاية الطالب: الباب 85 / 311. (3) المناقب: لابن المغازلي: 363. (4) ملحقات إحقاق الحق: 10 / 134. 167 في نزول حنوطها من الجنة * عن ابن سنان رفعه قال: السنة في الحنوط ثلاثة عشر درهما وثلث. قال محمد بن أحمد: ورووا أن جبرئيل عليه السلام نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحنوط، وكان وزنه أربعين درهما، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة أجزاء: جزءا له، وجزءا لعلي، وجزءا لفاطمة صلوات الله عليهم أجمعين (1). اشتراكها معهم في الحرب والسلم * عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: نزر النبي صلى الله عليه وآله سلم إلى الحسن والحسين وفاطمة فقال: أنا حرب لمن حاربكم، وسلم لمن سالمكم (2). أقول: ولما جر البحث بنا إلى هنا ينبغي لنا أن نورد شيئا من الأخبار ثم من الكلام حول المسألة إتماما للفائدة وإيفاء لبعض حقها عليها السلام فنقول: عن مجاهد: خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو آخذ بيد فاطمة، فقال: من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد، وهي بضعة مني، وهي قلبي ، وهي روحي التي بين جنبي، من آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله (3). وعنه صلى الله عليه وآله وسلم إنما فاطمة حذية (4) مني، يقبضني ما يقبضها. وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن فاطمة شعرة مني، فمن آذى شعرة مني فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله لعنه الله مل السماوات والأرض (5). وعن ابن عباس قال: قال صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي إن فاطمة بضعة مني، هي نور عيني وثمرة فؤادي، يسوءني ما ساءها ويسرني ما سرها، وإنها أول من يلحقني من
(1) البحار: 22 / 504. (2) مسند أحمد: 2 / 442. (3) نور الأبصار للشبلنجي: 52. (4) الحذية من اللحم ما قطع طولا. (5) البحار: 43 / 54. 168 أهل بيتي، فأحسن إليها من بعدي، والحسن والحسين فهما ابناي وريحانتاي، وهما سيدا شباب أهل الجنة، فليكونا عليك كسمعك وبصرك. ثم رفع صلى الله عليه وآله وسلم يديه إلي فقال: اللهم إني أشهدك أني محب لمن أحبهم، مبغض لمن أبغضهم، سلم لمن سالمهم، حزب لم حاربهم، عدو لمن عاداهم، ولي لمن والاهم (1). وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنما فاطمة بضعة مني، يسوءني ما ساءها (2). وعن علي عليه السلام إن الله عز وجل ليغضب لغضب فاطمة، ويرضى لرضاها (3). وعنه عليه السلام: يا فاطمة إن الله ليغضب لغضبك، ويرضى لرضاك (4). وإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: فاطمة بضعة مني ن فمن أغضبها أغضبني (5). وقال عليه السلام: إنما فاطمة بضعة مني، يؤذيني ما آذاها (6). وعنه عليه السلام: فإنما ابنتي بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها (7) وعنه عليه السلام: إن فاطمة بنت محمد مضغة مني (8). وعنه عليه السلام: إنما فاطمة بضعة مني، يؤذيني ما آذاها، وينصبني ما أنصبها. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم - يخرجاه (9). وعنه عليه السلام: إنما فاطمة مضغة مني، فمن آذاها فقد آذاني (10). وعنه عليه السلام: فاطمة بضعة مني، يسعفني ما أسعفها (11). وعنه عليه السلام: فاطمة شجنة مني، يبسطني ما يبسطها، ويقبضني ما يقبضها (12).
(1) أهل البيت توفيق أبو علم: 124. (2) الطبقات لابن سعد: 8 / 262. (3) كنز العمال 12 / 111، مجمع الزوائد 9 / 203. (4) كنز العمال: 12 / 111، مجمع الزوائد: 9 / 203. (5) صحيح البخاري: 5 / 26. (6) صحيح مسلم: 7 / 141، 142، باب الفضائل، ورابني الأمر وأرابني إذا رأيت منه ما تكره. (7) صحيح البخاري 5 / 141 و 142، باب الفضائل، ورابني الأمر وأرابني إذا رأيت منه ما تكره. (8) صحيح مسلم: 7 / 141 و 142. باب الفضائل. ورابني الأمر وأرابني إذا رأيت منه ما تكره. (9) مستدرك الصحيحين: 3 / 159. (10) مستدرك الصحيحين: 3 / 159. (11) كنز العمال: 12 / 111. والاسعاف: القرب والإعانة وقضاء الحاجة. (12) كنز العمال: 12 / 111. 169 اشتراكها معهم في تكون الميزان قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنا ميزان العلم، وعلي كفتاه والحسن والحسين خيوطه، وفاطمة علاقته، والأئمة من أمتي عموده، يوزن فيها أعمال المحبين لنا والمبغضين لنا (1). اشتراكها معهم في قصة سفينة نوح عليه السلام * عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لما أراد الله عز وجل أن يهلك قوم نوح عليه السلام أوحى الله إليه أن شق ألواح الساج. فلما شقها لم يدر ما صنع، فحبط جبرئيل عليه السلام فأراه هيئة السفينة ومعه تابوت فيه مائة ألف مسمار وتسعة وعشرون ألف مسمار. فسمر المسامير كلها في السفينة إلى أن بقيت خمسة مسامير ، فضرب بيده إلى مسمار منها، فأشرق في يده وأضاء كما يضئ الكوكب الدري في أفق السماء فتحير من ذلك نوح، فأنطق الله ذلك المسمار بلسان طلق ذلق فقال: أنا على اسم خير الأنبياء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم. فهبط جبرئيل عليه السلام فقال له: يا جبرئيل، ما هذا المسمار الذي ما رأيت مثله ؟ قال: هذا باسم خير الأولين والآخرين محمد بن عبد الله عليه السلام، أسمره في أولها على جانب السفينة الأيمن. ثم ضرب بيده على مسمار ثان، فأشرق وأنار، فقال نوح عليه السلام: وما هذا المسمار؟ قال: مسمار أخيه وابن عمه علي بن أبي طالب، فأسمره على جانب السفينة اليسار في أولها. ثم ضرب بيده على مسمار ثالث، فزهر وأشرق وأنار، فقال له جبرئيل عليه السلام: هذا مسمار فاطمة عليها السلام، فأسمره إلى جانب مسمار أبيها صلى الله عليه وآله وسلم. ثم ضرب بيده إلى مسمار رابع فزهر وأنار، فقال له: هذا مسمار الحسن عليه السلام فأسمره إلى جانب مسمار إليه صلى الله عليه وآله وسلم. ثم ضرب بيده إلى مسمار خامس، فأشرق وأنار وبكى وأظهر النداوة (2)، فقال: يا جبرئيل ما هذه النداوة؟ فقال: هذا مسمار الحسين بن علي سيد
(1) مقتل الحسين الخوارزمي: 107. (2) النداوة: البلل. 170 الشهداء، فأسمره إلى جانب مسمار أخيه. ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال الله تعالى: (وحملناه على ذات ألواح ودسر) (1)، قال النبي عليه السلام: الألواح خشب السفينة، ونحن الدسر، ولولانا ما سارت السفينة بأهلها (2). توسل زكريا بها عليهما السلام * عن مولانا المهدي عليه السلام في جواب سعد بن عبد الله في حديث طويل: إن زكريا سأل ربه أن يعلمه أسماء الخمسة، فأهبط عليه جبرئيل عليه السلام فعلمه إياها. فكان زكريا إذا ذكر اسم الحسين خنقته العبرة ووقعت عليه البهرة (3). فقال ذات يوم: إلهي ما بالي إذا ذكرت أربعا منهم تسليت بأسمائهم من همومي، وإذا ذكرت الحسين تدمع عيني وتثور زفرتي؟ فأنبأه الله تبارك وتعالى عن قصته وقال: كهيعص (4) فالكاف اسم كربلاء، والهاء هلاك العترة، والياء يزيد وهو ظالم الحسين ، والعين عطشه، والصاد صبره. فلما سمع ذلك زكريا عليه السلام لم يفارق مسجده ثلاثة أيام، ومنع فيها الناس من الدخول عليه، وأقبل على البكاء والنحيب، وكانت ندبته: إلهي، أتفجع خير خلقك بولده؟ أتنزل بلوى هذه الرزية بفنائه؟ إلهي أتلبس عليا وفاطمة ثياب هذه المصيبة؟ أتحل كربة هذه الفجيعة بساحتهما؟ ثم كأن يقول: إلهي ارزقني ولدا تقر به عيني على الكبر، أجعله وارثا وصيا، واجعل محله الحسين، فإذا رزقتنيه فافتني بحبه، ثم افجعني به كما تفجع محمدا حبيبك بولده، فرزقه الله يحيى عليه السلام، وفجعه به. وكان حمل يحيى ستة أشهر وحمل الحسين عليه السلام كذلك (5).
(1) القمر: آية 13. (2) عبقات الأنوار: حديث السفينة / 1081. (3) البهرة: تتابع النفس وانقطاعه. (4) مريم: 1. (5) البحار: 52 / 84. 171 تحية الله تعالى إياها معهم بتفاحة * عن ابن عباس قال: كنت جالسا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم وبين يديه علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام إذ هبط جبرائيل ومعه تفاحة فحيى بها النبي صلى الله عليه وآل وسلم فتحيى بها، وحيى بها علي بن أبي طالب عليه السلام فتحيى بها وقبلها وردها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتحيى بها، وحيى بها الحسين فتحيى بها وقبلها وردها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتحيى بها، وحيى بها فاطمة عليها السلام فتحيت بها وقبلتها وردتها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فتحيي بها الرابعة وحيى بها علي بن أبي طالب عليه السلام فتحيى بها، ولما هم أن يردها إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سقطت التفاحة من بين أنامله فانفلقت نصفين فسطع منها نور حتى بلغ السماء الدنيا، فإذا عليها سطران مكتوبان: بسم الله الرحمن الرحيم، تحية من الله تعالى إلى محمد المصطفى، وعلي المرتضى، وفاطمة الزهراء، والحسن والحسين سبطي رسول الله، وأمان لمحبيهم يوم القيامة من النار (1). عرض حبها على البرية * قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله له الحمد عرض حب علي وفاطمة وذريتها على البرية، فمن بادر منهم بالإجابة جعل منهم الرسول، ومن أجاب بعد ذلك جعل منهم الشيعة، وإن الله جمعهم في الجنة (2). اشتراكها معهم في الصلوات * عن كعب بن عجرة قال: لما نزلت هذه الآية (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) (3) قلنا: يا رسول الله قد علمنا
(1) مقتل الحسين للخوارزمي: 95. (2) المناقب المرتضوية للعلامة الكشفي: 97. (3) الأحزاب: آية 56. 172 كيف نسلم عليك، كيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد - إلى آخره. وفي رواية الحاكم: فقلنا: يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت؟ قال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد - إلى آخره. ويروى: لا تصلوا علي الصلاة البتراء، فقالوا: وما الصلاة البتراء؟ قال: تقولون: اللهم صل على محمد، وتسكتون، بل قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد (1)... فقيل له من أهلك يا رسول الله؟ قال: علي وفاطمة والحسن والحسين (2). وقال العلامة المحقق المولى أحمد الأردبيلي: واعلم أنه قد ادعى المصنف العلامة الحلي - ره في المنتهى: إجماع علمائنا أيضا على وجوب الصلاة على آله عليهم السلام، وأن المجزي من الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول: اللهم صل على محمد وآل محمد. ويدل عليه أيضا ما روي عن طرقهم عن كعب الأحبار في كيفية الصلاة عليه حيث قال: قد عرفنا السلام عليك، فكيف الصلاة؟ قال: اللهم صل على محمد وآل محمد. والعجب أنهم يحذفون الآل ويتركون هذا المنقول حتى في هذا الخبر. ويقولون: قال: صلى الله عليه. أفاده بعض السادة رحمهم الله وهو سيد حسن السفطي. ويدل على ذلك غيره أيضا، والظاهر أن المراد بآله - صلوات الله عليه وآله - الأئمة مطلقا وفاطمة عليها السلام حقيقة لا تغليبا، يدل عليه وضع الآل لغة ثم عرفا أيضا، وبعض الأخبار أيضا، ولا يدل على الاختصاص بأمير المؤمنين وفاطمة وولديهما - صلوات الله عليهم أجمعين - الروايات الواقعة في سبب نزول آية التطهير، لأنهم كانوا موجودين في ذلك الزمان، والحصر كان إضافيا حيث يقول لبعض نسائه: إلى خير. ولهذا أثبت الأصحاب عصمتهم بالآية، فلا ينبغي قول المحقق الثاني والشهيد الثاني (3). وقال العلامة الأميني: أخرج الديلمي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: الدعاء محجوب حتى يصلي على محمد وأهل بيته: اللهم صل على محمد وآله. ورواه عنه ابن حجر في الصواعق
(1) ينابيع المودة: 295. (2) إحقاق الحق: 9 / 237، عن عبد الوهاب الشعراني في كشف الغمة: 1 / 110. (3) شرح إرشاد الأذهان: 2 / 276، 277. 173 ص 88. وأخرج الطبراني في الأوسط عن علي أمير المؤمنين عليه السلام: كل دعاء محجوب حتى يصلي على محمد وآل محمد. وذكره الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد ج 1، ص 160. وقال: رجاله ثقات. وأخرج البيهقي وابن عساكر وغيرهما عن علي عليه السلام مرفوعا ما معناه: الدعاء والصلاة معلق بين السماء والأرض لا يصعد إلى الله منه شئ حتى يصلي عليه - صلى الله عليه - وعلى آل محمد. - شرح الشفا للخفاجي، ج 3، ص 506 (1). وقال الرازي في تفسيره الكبير: وأنا أقول: آل محمد صلى الله عليه وآله هم الذين يؤول أمرهم إليه، فكل من كان أمرهم إليه أشد وأكمل كانوا هم الآل. ولا شك أن فاطمة وعليا والحسن والحسين كان التعلق بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أشد التعلقات، وهذا كالمعلوم بالنقل المتواتر، فوجب أن يكونوا هو الآل (2). وقال أيضا: أن أهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم يساوونه في خمسة أشياء: في السلام، قال: السلام عليك أيها النبي، وقال: سلام على آل ياسين الصافات، 120، وفي الصلاة عليه وعليهم في التشهد، وفي الطهارة، قال تعالى: أي يا طاهر. وقال: ويطهركم تطهيرا الأحزاب، 33 وفي تحريم الصدقة وفي المحبة، قال تعالى: فاتبعوني يحببكم الله آل عمران، 31. وقال: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى الشورى، 22. وقال ابن حجر: صح عن كعب بن عجرة قال: لما نزلت هذه الآية يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما قلنا: يا رسول الله، قد علمنا كيف نسلم عليك ، فكيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد - إلى آخره. فسؤالهم بعد نزول الآية وإجابتهم باللهم صل على محمد وعلى آل محمد - إلى آخره دليل ظاهر على أن الأمر بالصلاة على أهل بيته وآله عقب نزولها ولم يجابوا بما ذكر ، فلما أجيبوا به دل على أن الصلاة عليهم من جملة المأمور به، وأنه صلى الله عليه وآله وسلم أقامهم في ذلك مقام نفسه، لأن القصد من الصلاة عليه مزيد تعظيمه، ومنه تعظيمهم. ومن ثم لما
(1) الغدير: 2 / 304. (2) التفسير الكبير: 27 / 166. 174 أدخل من مر في الكساء قال: اللهم إنهم مني وأنا منهم، فاجعل صلاتك ورحمتك ومغفرتك علي وعليهم. وقضية استجابة هذا الدعاء أن الله صلى عليهم معه، فحينئذ طلب من المؤمنين صلواتهم عليهم معه. ويروى: لا تصلوا علي الصلاة البتراء، فقالوا: وما الصلاة البتراء؟ قال تقولون: اللهم صل على محمد، وتمسكون، بل قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد (1). خامسا: صدر من الإمام المهدي عجل الله تعالى فجره الشريف في التوقيع المعروف الذي يقول فيه. ولولا ما عندنا من محبة صلاحكم ورحمتكم والإشفاق عليكم لكنا عن مخاطبتكم في شغل ، مما قد امتحنا من منازعة الظالم الضال الضال المتابع في غيه، المضاد في لربه، المدعي ما ليس له، الجاحد حق من افترض الله طاعته، الظالم الغاصب، وفي ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي أسوة حسنة وسيروي الجاهل رداءة علمه، وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار (2). أنظر من خلال فهم مدلول كلمة أسوة حسنة كيف جعل الإمام المهدي عج جدته الزهراء عليها السلام أسوة حسنة في كل أموره وبحيث يجيب أحد شيعته من خلال بعض المسائل ويذكر له في التوقيع الشريف الصادر منه أنه يقتدي بجدته الزهراء عليها السلام وجعلها قدوة له في حياته وله فيها أسوة حسنة كما لنا أسوة حسنة برسول الله وأهل بيته الطيبين الطاهرين. فاطمة عليها السلام والمعاد من الأمور الهمة والقضايا الحساسة في حياة الفرد المؤمن هو مسألة يوم القيامة - المعاد - حيث نرى الكثير من الناس عندما يسمعون المعاد ويوم القيامة واليوم الآخر يأنون من ذكره حيث هناك تلاقي البشر مع خالقهم والوقوف بين يديه للحساب.
(1) الصواعق: 146. (2) البحار: 53 / 179 - 180. 175 ولا شك ولا ريب أن الكثير من الناس يخافون عدل الله تعالى ويطلبون منه أن يحاسبهم برحمته لا بعدله لأنه لو يحاسبهم الله تعالى. بعدله لما ترك عليها من دابة، لذا نجد من خلال القرآن الكريم والروايات الشريفة إنه من ظاهر رحمته الله تعالى يوم القيامة هو إعطاءه الشفاعة لبعض أولياؤه حيث تعتبر الشفاعة مظهر من ظاهر رحمة الله لكي يبين الله تعالى قدرة ومنزلة ومقام العبد المؤمن ذلك اليوم - أي يوم الحساب - ومن هنا نجد إن من الذين تشملهم العناية الربانية في الشفاعة يوم القيامة هم آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وهذا ما أثبتته الكثير من الآيات والروايات ولا نريد الوقوف الطويل مع هذه الآيات والروايات بل نقف مع أحد دعائم أهل بيت النبوة والمتمثلة في الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام تلك هي بضعة الرسول وريحانته وزوجة الوصي المرتضى وأم الحسنين، وهذه الشفاعة التي نتكلم عنها هي نموذج من يوم المعاد الذي سوف تجتمع به الخلائف، وبذلك تكون الشفاعة جزءا مهما بل هو الأمل الوحيد للخلائق يوم القيامة. إذن الشفاعة مظهر من مظاهر رحمة الله تعالى ومظهر من مظاهر المعاد، ونحن نجد من خلال استقراء الروايات الشريفة الواردة في مقام الشفاعة يوم القيامة هو الشفاعة التي تعطي للزهراء عليها السلام، وعليه تكون الزهراء مرتبطة ارتباط وثيق بيوم القيامة والمعاد الذي نؤوب إليه، أما كيف نثبت أن لها هذا الارتباط من خلال الروايات الشريفة فهذا ما تبينه بعض النصوص الشريفة التي تثبت ارتباط الصديقة الشهيدة بيوم المعاد: * عن أبو القاسم العلوي الحسني - معنعنا ت عن ابن عباس: إذا كان يوم القيامة نادي مناد: يا معشر الخلائق، غضوا أبصاركم حتى تمر فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم... فيجوزون بها الصراط حتى ينتهون بها إلى الفردوس فيتباشر فيها أهل الجنان... فتجلس على كرسي من نور ويجلس حولها، ويبعث إليها ملك لم يبعث إلى أحد قبلها ولا يبعث إلى أحد بعدها فيقول: إن ربك يقرئك السلام ويقول: سليني أعطيك، فتقول قد أتم علي نعمته، وهنأني كرامته وأباحني جنته، أسأله ولدي وذريتي ومن ودهم بعدي، وحفظهم من بعدي، فيوحي الله إلى الملك من غير أن نزول من
176 مكانه: أن سرها وبشرها أني قد شفعتها في ولدها ومن ودهم بعدها وحفظهم فيها. فتقول: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن وأقر عيني. قال جعفر: كان أبي يقول: كان ابن عباس إذا ذكر هذا الحديث تلا هذه الآية ( والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بأيمانهم ألحقنا بهم ذريتهم) (1). * عن الحسن بن سعيد - معنعنا - عن جعفر، عن أبيه عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا كان يوم القيامة نادي مناد من بطنان العرش: يا معشر الخلائق. غضوا أبصاركم حتى تمر بنت حبيب الله إلى قصرها ابنتي فاطمة وعليها ريطتان خضراوان حواليها سبعون ألف حوراء، فإذا بلغت على باب قصرها وجدت الحسن قائما ن والحسين نائما مقطوع الرأس، فتقول للحسن: من هذا؟ فيقول: هذا أخي إن أمة نبيك قتلوه وقطعوا رأسه. فيأتيها النداء من عند الله: يا بنت حبيب الله إني إنما ما فعلت به أمة أبيك لأني ادخرت لك عندي تعزية بمصيبتك فيه، إني جعلت تعزيتك اليوم أني لا أنظر في محاسبة العباد حتى تدخل الجنة أنت وذريتك وشيعتك قبل أم أنظر بمحاسبة العباد، فتدخل فاطمة ابنتي الجنة وذريتها وشيعتها ومن أولاها معروفا ممن ليس من شيعتها، فهو قول الله عز وجل: لا يحزنهم الفزع الأكبر قال: قول يوم القيامة وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون هي والله - فاطمة وذريتها وشيعتها ومن أولاهم معروفا ممن ليس هو من شيعتها (2). * روي عن سلمان قال: أتيت ذات يوم منزل فاطمة عليها السلام - في حديث إلى أن قال - قال صلى الله عليه وآله وسلم: والذي بعثني بالرسالة واصطفاني بالنبوة قد حرم الله تعالى النار على لحم فاطمة، ودمها، وشعرها، وعصبها وعظمها وذريتها وشيعتها . أن من نسل فاطمة من تطيعه النار، والشمس والقمر والنجوم والجبال وقد ضرب الجن بين يديه بالسيف ويوافي إليه الأنبياء بعهودهم وتسلم إليه الأرض كنوزها وينزل عليه من السماء بركات ما فيها، الويل لمن شك في فضل فاطمة لعن الله من يبغضها،
(1) تفسير فرات: 169، دلائل الإمامة: 57 تأويل الآيات: 2 / 618 / ح 7. (2) مستدرك الحاكم: 3 / 161، الخصائص: 2 / 265، الفصول المهمة 127 فضائل الصحابة: 2 / 763 ح 1344، ميزان الاعتدال: 2 / 538، كفاية الطالب: 364، تفسير فوات الكوفي: 97. 177 ويبغض بعلها ولم يرضى بأمامة ولدها، إن لفاطمة يوم القيامة موقفا وإن فاطمة تدعى وتكسى وتشفع، فتشفع على رغم كل راغم (1). * عن علي عليه السلام: دخلت يوما منزلي فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس والحسن عن يمينه، والحسين عن يساره، وفاطمة بين يديه، وهو يقول: يا حسن ويا حسين، أنتما كفتا الميزان وفاطمة لسانه، ولا تعدل الكفتان إلا باللسان ولا يقوم اللسان إلا على الكفتين... أنتما الإمامان ولأمكما الشفاعة (2). * وقد ورد في الخبر أنها لما سمعت بأن أباها زوجها وجعل الدراهم مهرا لها، قالت يا رسول الله، إن بنات الناس يتزوجن بالدراهم فما الفرق بيني وبينهن، أسألك أن تردها وتدعوا الله أن يجعل مهري الشفاعة في عصاة أمتك، فنزل جبريل عليه السلام ومعه بطاقة من حرير مكتوب فيها: جعل الله مهر فاطمة الزهراء عليها السلام شفاعة المذنبين من أمة أبيها، فلما احتضرت أوصت بأن توضع تلك البطاقة على صدرها تحت الكفن فوضعت، وقالت: إذا حشرت يوم القيامة رفعت تلك البطاقة بيدي، وشفعت في عصاة أمة أبي (3). وكثيرة هي الروايات التي ثبتت شفعة فاطمة عليها السلام للشيعة والمحبين والمذنبين من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، هذه تدل دلالة واضحة على ارتباط الزهراء عليها بيوم المعاد وأن لها منزلة وكرامة على الله تعالى في ذلك اليوم. لا بد أن ترد القيامة فاطم * وقميصها بدم الحسين ملطخ ويل لمن شفعاؤه وخصمائه * والصور في يوم القيامة ينفخ.
(1) الثاقب في المناقب: 293 / ح 250. (2) كشف الغمة: 1 / 506. (3) أخبار الدول: 88، الإحقاق: 10 / 367، وسيلة النجاة: 217. 178 البحث السادس فاطمة عليها السلام وحديث الكساء الشريف
179 فاطمة عليها السلام وحديث الكساء الشريف للسيد محمد مهدي القزويني الحلي روت لنا فاطمة خير النسا * حديث أهل الفضل أصحاب الكسا تقول: أن سيد الأنام * قد جاءني يوما من الأيام فقال لي: إني أرى في بدني * ضعفا أراه اليوم قد أنحلني قومي علي بالكسا اليماني * وفيه غطيني بلا تواني قالت فجئته وقد لبيته * مشروعة وبالكساء غطيته وكنت أرنو وجهه كالبدر * في أربع بعد ليال عشر فما مضى إلا يسير من زمن * حتى أتى أبو محمد الحسن فقال: يا أماه أني أجد * رائحة طيبة أعتقد بأنها رائحة النبي * أخي الوصي المرتضى علي قلت: نعم هاهو ذا تحت الكسا * مدثر به، مغطى واكتسى فجاء نحوه ابنه مسلما * مستأذنا قال له: ادخل مكرما فما مضى إلا القليل إلا * جاء الحسين السبط مستقلا فقال يا أم أشم عندك * رائحة كأنها المسك الذكي وحق من أولاك منه شرفا * أظنها ريح النبي المصطفى قلت: نعم تحت الكسا هذا * بجنبه أخوك فيه لاذا فأقبل السبط له مستأذنا * مسلما قال له: ادخل معنا وما مضى من ساعة إلا وقد * جاء أبوهما الغضنفر الأسد أبو الأئمة الهداة النجبا * المرتضى رابع أصحاب الكسا فقال يا سيدة النساء * ومن بها زوجت في السماء أني أشم في حماك رائحة * كأنها الورد الندي فايحة يحكي شذاها عرف سيد البشر * وخير من لبى وطاف واعتمر
181 قلت نعم: تحت الكساء والتحفا * وضم شبليك وفيه اكتنفا فجاء يستأذن منه سائلا * منه الدخول قال: فادخل عاجلا قالت: فجئت نحوهم مسلمة * قال: ادخلي محبوة مكرمة فعندما بهم أضاء الموضع * وكلهم تحت الكساء اجتمعوا قال الأمين: قلت: يا رب ومن * تحت الكسا؟ بحقهم لنا أبن فقال لي: هم فاطمة وبعلها * والمصطفى والحسنان نسلها فقال علي: قلت يا حبيبي * ما لجلوسنا من النصيب؟ قال النبي والذي اصطفاني * وخصني بالوحي واجتباني ما أن جرى ذكر لهذا الخبر * في محفل الأشياع خير معشر إلا وأنزل الإله الرحمة * وفيهم حفت جنود جمة من الملائك الذين صدقوا * تحرسهم في الدهر ما تفرقوا كلا وليس فيهم مغموم * إلا وعنه كشفت هموم كلا ولا طالب حاجة يرى * قضاؤها عليه قد تعسرا إلا قضى الله الكريم حاجته * وأنزل الرضوان فضلا ساحته قال علي نحن والأحباب أشياعنا * الذين قدما طابوا فزنا بما نلنا ورب الكعبة * فليشكرن كل فرد ربه يا عجبا يستأذن الأمين * عليهم ويهجم الخؤون قال سليم قلت: يا سلمان * هل دخلوا ولم يك استئذان فقال: أي وعزة الجبار * ليس على الزهراء من خمار لكنها لاذت وراء الباب * رعاية للستر والحجاب فمذ رأوها عصروها عصرة * كادت بروحي أن تموت حسرة تصيح: يا فضة أسنديني * فقد وربي قتلوا جنيني فأسقطت بنت الهدى واحزنا * جنينها ذاك المسمى محسنا
182 حديث الكساء الشريف عن جابر بن عبد الله الأنصار قال سمعت فاطمة عليها السلام أنها قالت: (دخل علي أبي رسول الله في بعض الإيام فقال السلام عليك يا فاطمة فقلت عليك السلام قال إني أجد في بدني ضعفا فقلت له أعيذك بالله يا أبتاه من الضعف فقال يا فاطمة آتيني بالكساء اليماني فغطيني به فأتيته بالكساء اليماني فغطيته به وصرت أنظر إليه وإذا وجهه يتلألأ كأنه البدر في ليلة تمامه وكماله فما كانت إلا ساعة وإذا بولدي الحسن قد أقبل وقال السلام عليك يا أماه فقلت وعليك السلام ويا قرة عيني وثمرة فؤادي فقال يا أماه إني أشم عندك رائحة طيبة كأنها رائحة جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت نعم إن جدك تحت الكساء فأقبل الحسن نحو الكساء وقال السلام عليك يا جداه يا رسول الله أتأذن لي أن أدخل معك تحت الكساء فما كانت إلا ساعة وإذا بولدي الحسين عليه السلام قد أقبل وقال السلام عليك يا أماه فقلت وعليك السلام يا ولدي ويا قرة عيني وثمرة فؤادي فقال لي يا أماه أني أشم عندك رائحة طيبة كأنها رائحة جدي رسول الله فقلت نعم أن جدك وأخاك تحت الكساء فدنى الحسين نحو الكساء وقال السلام عليك يا جداه السلام عليك يا من اختاره الله أتأذن لي أن أكون معكما تحت الكساء فقال وعليك السلام يا ولدي ويا شافع أمتي قد أذنت لك فدخل معهما تحت الكساء فأقبل عند ذلك أبو الحسن علي بن أبي طالب عليه السلام وقال السلام عليك يا بنت رسول الله فقلت وعليك السلام يا أبا الحسن ويا أمير المؤمنين فقال يا فاطمة إني أشم عندك رائحة طيبة كأنها رائحة أخي وابن عمي رسول الله فقلت نعم هاهو مع ولديك تحت الكساء فأقبل علي نحو الكساء وقال السلام عليك يا رسول الله أتأذن لي أن أكون معكم تحت الكساء قال وعليك السلام يا أخي ويا وصيي وخليفتي وصاحب لوائي قد أذنت لك فدخل علي تحت الكساء ثم أتيت نحو الكساء وقلت السلام عليك يا أبتاه يا رسول الله أتأذن لي أن أكون معكم تحت الكساء قال وعليك السلام يا بنتي ويا بضعتي قد أذنت لك فدخلت تحت الكساء فلما اكتملنا جميعا تحت الكساء أخذ أبي رسول الله بطرفي الكساء وأومئ بيده اليمنى إلى السماء وقال
183 اللهم إن هؤلاء أهل بيتي وخاصتي وحامتي لحمهم لحمي ودمهم دمي يؤلمني ما يؤلمهم ويحزنني ما يحزنهم أنا حرب لمن حاربهم وسلم لمن سالمهم وعدو لمن عاداهم ومحب لمن أحبهم إنهم مني وأنا منهم فاجعل صلواتك وبركاتك ورحمتك وغفرانك ورضوانك علي وعليهم وأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا فقال الله عز وجل يا ملائكتي ويا سكان سماواتي إني ما خلقت سماء مبنية ولا أرضا مدحية ولا قمرا منيرا ولا شمسا مضيئة لا فلكا يدور ولا بحرا يجري ولا فلكا يسري إلا في محبة هؤلاء الخمسة الذين هم تحت الكساء فقال الأمين جبرائيل يا رب ومن تحت الكساء فقال عز وجل هم أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة هم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها فقال جبرائيل يا رب أتأذن لي أن أهبط إلى الأرض لأكون معهم سادسا فقال الله نعم قد أذنت لك فهبط الأمين جبرائيل وقال السلام عليك يا رسول الله العلي الأعلى يقرئك السلام ويخصك بالتحية والإكرام ويقول لك وعزتي وجلالي إني ما خلقت سماء مبنية ولا أرضا مدحية ولا قمرا منيرا ولا شمسا مضيئة ولا فلكا يدور ولا بحرا يجري ولا فلكا يسري إلا لأجلكم ومحبتكم وقد أذن لي أن أدخل معكم فهل تأذن لي يا رسول الله فقال رسول الله وعليك السلام يا أمين وحي الله إنه نعم قد أذنت لك فدخل جبرائيل معنا تحت الكساء فقال لأبي إن الله قد أوحى إليكم يقول إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا فقال علي لأبي يا رسول الله أخبرني ما لجلوسنا هذا تحت الكساء من الفضل عند الله فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذي بعثني بالحق نبيا واصطفاني بالرسالة نجيا ما ذكر خبرنا هذا في محفل من محافل أهل الأرض وفيه جمع من شيعتنا ومحبينا إلا ونزلت عليهم الرحمة وحفت بهم الملائكة واستغفرت لهم إلى أن يتفرقوا فقال علي عليه السلام إذا والله فزنا وفاز شيعتنا ورب الكعبة فقال أبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا علي والذي بعثني بالحق نبيا واصطفاني بالرسالة نجيا ما ذكر خبرنا هذا في محفل من محافل أهل الأرض وفيه جمع من شيعتنا ومحبينا وفيهم مهموم إلا وفرج الله همه ولا مغموم إلا وكشف الله غمه ولا طالب حاجة إلا وقضى الله حاجته فقال علي عليه السلام إذا والله فزنا وسعدنا وكذلك شيعتنا فازوا وسعدوا في الدنيا والآخرة ورب الكعبة.
184 البحث السادس فاطمة عليها السلام وحديث الكساء الشريف يعتبر حديث الكساء من الأحاديث النورانية الولائية والذي عبر عن مدى ارتباط أهل البيت عليهم السلام بالسماء وذلك من خلال المضامين العالية التي وردت في طياته، فما أدراك ما حديث الكساء وهل أتاك نبأه! أنه الحديث المتصل بين الأرض والسماء، فقد وعته كواكب الكون ونجوم السماوات السبع وما زال الإنسان في ريب من أمره ذلك إن الإنسان كان جهولا. لقد وعته قلوب المؤمنين وأفئدتهم قبل أن تعيه أسماعهم لذا سوف نعيش في رحابه ونقف مع حلقاته ونستضئ من نوره ونستجلي حقائقه ونحيا مع بركاته كي نصل إلى شاطي نور العلم والمعرفة تلكم هي معرفة نورانية أهل البيت عليهم السلام، فحديث الكساء الشريف يعتبر مرسوم رباني قد قلده الله تبارك وتعالى لنبيه الشريف محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولآله الطيبين الطاهرين حيث جاء موضحا لإرادة رب العالمين التي وسمت قوله تعالى (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) كل ذلك حرصا ومحبتا من الله تعالى للرسول ولأهل بيته عليهم السلام ولكي لا يشرق الناس أو يغربوا ولا تأخذهم الأهواء والميول والرغبات يمينا وشمالا وحتى لا يحرف المغرضون هذه الآية المباركة العظيمة عن أهلها وأصحابها الحقيقين الذي أرادهم رب العالمين أطهارا مطهرين يتولون قيادة الأمة ويوضحون معالم طريقها بعد رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم. إن هذا الحديث يستحق منا أن نقف عنده وقفة متأملة لكي ننفذ إلى الأبعاد الإنسانية والحقائق العلمية والمسائل العقائدية التي يرمي إليها والنتائج الرائعة التي تترتب عليه فهو ليس مجرد حديث يروى لأجل أن نأخذ معلومة جامدة تتوقف عند حدود الحديث وظاهر الألفاظ بل يجب أن نستشف المرامي الحضارية الكامنة خلف ألفاظه وكلماته، لا سيما أن الله سبحانه وتعالى
185 قد ميزنا عن سائر المخلوقات الأخرى بأن وهب لنا عقلا وألهمنا كيف نستخدمه ونوظفه لخدمة المجتمع والإنسانية جمعاء لا أن نكون مجرد مخلوقات تأكل وتنام وتضاجع دون أن نعي ما كان ويكون حولها. وسيكون حديثنا حول هذا الحديث المبارك في ثلاث وقفات: الوقفة الأولى: ارتباط هذا الحديث بآية التطهير. الوقفة الثانية: سند هذا الحديث الشريف. الوقفة الثالثة: مضامين هذا الحديث المختلفة. الوقفة الأولى حديث الكساء وآية التطهير ارتبط حديث الكساء الشريف بنزول آية التطهير ارتباطا وثيقا حيث جاءت هذه الآية المباركة إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا لتؤكد على مسألة عصمة أهل البيت عليهم السلام جميعا بما فيهم فاطمة الزهراء عليها السلام، والذي يهمنا في المقام هو عصمة فاطمة الزهراء عليها السلام، أما مسألة البحث حول هذه الآية المباركة ودلالتها على عصمة أهل البيت عليهم السلام فهذا موكول إلى الكتب الكلامية الخاصة بهذا الموضوع، أما دلالة هذه الآية على عصمة فاطمة الزهراء عليها السلام فهذا ما تجده من خلال الروايات التي بينت من هم أهل البيت الذين عنتهم الآية المباركة وكيفية اشتراك الزهراء مع أهل البيت في طهارتهم وعصمتهم، أما الروايات فسنذكر بعضها بعدما أن نقف مع مفهوم أهل البيت، ومن المراد بهم فلربما يقول قائل إننا لا نؤمن بالروايات أو لا نقبل هذه الروايات فنقول له تعال معنا لنقف سوية على مفهوم أهل البيت ومن المراد بهم؟. إن التعرف على مفهوم أهل البيت لغة والمقصود منه في هذه الآية المباركة يعد من الأبحاث الضرورية في فهم مفاد هذه الآية فلقد ضل
186 الكثير في تفسير هذه الآية والمراد فيها من أهل البيت ولأجل ذلك نبحث أولا وقبل كل شئ هذا المفهوم لغة على وجه يرفع الستار عن وجه الحقيقة. مفهوم أهل البيت عند أهل اللغة قد ورد لفظ أهل البيت في القرآن الكريم مرتين أحداهما في هذه الآية المرتبطة بحديث الكساء الشريف والأخرى في قوله تعالى (قولوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت) (1). ويمكن تحديد مفهوم الأهل من موارد استعماله فيقال : 1 - أهل الأمر والنهي. 2 - أهل الإنجيل. 3 - أهل الكتاب. 4 - أهل الإسلام. 5 - أهل الرجل. 6 - أهل الماء. وهذه الموارد توقفنا على أن كلمة أهل تستعمل مضافا فيمن كان له علاقة قوية بمن أضيف إليه، فأهل الأمر والنهى هم الذين يمارسون الحكم والبعث والزجر، وأهل الإنجيل هم الذين لهم اعتقاد به كأهل الكتاب وأهل الإسلام. وقد اتفقت كلمة أهل اللغة على أن الأهل والآل كلمتان بمعنى واحد قال ابن منظور: آل الرجل: أهله وآل الله وآل رسوله: أولياؤه، أصلها أهل ثم بدلت الهاء همزة فصارت في التقدير أأل فلما توالت الهمزتان أبدلوا الثانية ألفا. كما قالوا: آدم وآخر، وفي الفعل آمن وآزر. وقد أنشأ عبد المطلب عند هجوم أبرهة على مكة المكرمة وقد أخذ حلقة باب الكعبة وقال: وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك وعلى ما ذكرنا فهذا اللفظ إذا أضيف إلى شئ يقصد منه المضاف الذي له علاقة
(1) هود: آية 73. 187 خاصة بالمضاف إليه، فأهل الرجل مثلا أخص الناس به، وأهل المسجد المترددون كثيرا إليه، وأهل الغابة القاطنون فيها... فإذا لاحظنا موارد استعمال هذه الكلمة لا نتردد في شمولها للزوجة والأولاد وبل غيرهم ممن تربطهم رابطة خاصة بالبيت من غير فرق بين الأولاد والأزواج ولأجل ذلك ترى أنه سبحانه يطلقه على زوجة إبراهيم كما عرفت في الآية هذه هو حق الكلام في تحديد مفهوم هذه الكلمة ولنأتي ببعض نصوص أئمة اللغة. قال ابن منظور: أهل البيت سكانه وأهل الرجل أخص الناس به وأهل البيت أزواجه وبناته وصهره أعني عليا عليه السلام، وقيل نساء النبي والرجال الذين هم أهله (1). فلقد أحسن الرجل في تحديد المفهوم، أولا، وتوضيح معناه في القرآن الكريم كما أشار بقوله: قيل: إلى ضعف القول الآخر لأنه نسبه إلى القيل. وقال ابن فارس ناقلا عن الخليل ابن أحمد: أهل الرجل زوجه والتأهل التزوج وأهل الرجل أخص الناس به وأهل البيت سكانه وأهل الإسلام من يدين به (2). وعلى ما ذكرنا فهذا اللفظ إذا أضيف إلى شئ يقصد منه المضاف الذي له علاقة خاصة بالمضاف إليه فأهل الرجل مثلا أخص الناس به فإذا لا حظنا موارد استعمال هذه الكلمة لا نتردد في شمولها للزوجة والأولاد بل وغيرهم ممن تربطهم رابطة خاصة البيت من غير فرق بين الأولاد والأزواج. إذن هذه الكلمات ونظائرها بين أعلام اللغة كلها تعرب عن أن مفهوم أهل البيت في اللغة هم الذين لهم صلة وطيدة بالبيت وأهل الرجل من له صلة به ينسب أو سبب أو غيرهما، وهناك إشكال من بعض المفسرين الذين قالوا إن لفظ أهل البيت يطلق فقط على الزوجة ويستعمل في الأولاد والأقارب تجوزا أي يكون استعماله حقيقة في الزوجة ومجازا في الأولاد والأقارب وقد استدل هذا الذي أثار هذا الإشكال على ذلك عن طريق إثباته ذلك من القرآن الكريم كما وردت هذه اللفظة - أهل البيت - في قصة إبراهيم بالبشرى حيث قال الله تعالى (وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها
(1) لسان العرب: 11 / 29 أهل. (2) معجم مقاييس اللغة: 1 / 150. 188 بإسحاق من وراء إسحاق يعقوب قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشئ عجيب، قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت) (1). وفي قصة موسى عليه السلام أيضا: (فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا أني آنست نارا) (2). فالمستشكل قال: إن الله استعمل هذه اللفظة على لسان ملائكته في زوجة إبراهيم عليه السلام لا غير كما في الآية الأولى الخاصة بالبشرى واستعمل الأهل في زوجة موسى عليه السلام وهي بنت شعيب ما في الآية، إذن فالمستشكل قال إن الأهل تطلق على الزوجة حقيقة، وهذا مردود من عدة جهات: أولا: تقدم على لسان أهل اللغة أن لفظة أهل تطلق على أخص الناس بالزوج وهم الأولاد. ثانيا: إن كلامه غير صحيح من كون الأهل تطلق حقيقة على الزوجة ومجازا على الأولاد فنحن نقول له من أين استظهرت هذا، فإذا قلت من آية البشرى وآية موسى فإنه مردود لأنه الإطلاق هنا على كلمة الأهل ليس دليلا على الانحصار - أي انحصار اللفظة على الزوجة فقط.. ثالثا: إن الآية في قصة إبراهيم قالت عليكم أهل البيت ولم تقول الآية المباركة عليك تكون ظاهرة في زوجته فقط كلمة أهل. أما السؤال المهم في هذا المقام هو هل أن مفهوم ولفظ أهل البيت يطلق على الزوجة أو على الزوجة والأولاد؟ وفيما نحن فيه هل هناك قرائن في آية التطهير أو قبلها أو بعدها تصرف هذا اللفظ خاصة إلى أهل البيت الذين يقصد بهم على وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، أم لا توجد قرائن؟ والجواب على ذلك: إن بعض من وقف مع هذه الآية المباركة ومدلولاتها قال إن المراد من أهل البيت هم أزواجه ونسائه صلى الله عليه وآله وسلم والبعض الآخر قال إن لفظ أهل البيت خاصة يطلق علي بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصهره وولداهما الحسن والحسين عليهم السلام.
(1) هود: آية 73. (2) القصص: آية 30. 189 والحق مع من ذهب إلى القول الثاني - على وفاطمة والحسن والحسين - بدلالة عدة شواهد وقرائن حفت بالآية المباركة سواء كانت قرائن حالية أو مقامية وإليك هذه القرائن. 1 - القرينة الأولى اللام في أهل البيت للعهد وبيان ذلك: إن اللام قد يراد منها الجنس المدخول عليه مثل قوله تعالى إن الإنسان لفي خسر، وقد يراد من اللام الاستغراق مثل قوله تعالى يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم وقد يراد منها باعتبار معهودية مدخولها بين المتكلم والمخاطب، أما الأول والثاني من الأقوال لا يمكن أن نحمل اللام عليهما أما القول الثالث فهو الحق لأن الله تعالى إنما يريد إذهاب الرجس عن أهل بيت معهودين بين المتكلم والمخاطب، فمن هم هؤلاء أهل البيت؟!! 2 - القرينة الثانية على أن المراد من أهل البيت هم علي وفاطمة والحسن والحسين هو تذكير الضمائر في الآية خلاف الضمائر الأخرى التي وردة في الآية المباركة حيث جاءت مؤنثة مثل وقلن، اتقيتن. فلا تخضعن... الخ. 3 - القرينة الثالثة: - هي أن الإرادة وكما أثبتتها الكتب الكلامية هي الإرادة التكوينية.. إنما يريد الله - لا التشريعية فلا يصح حمل مفهوم أهل البيت على نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ لم يدع أحد من المسلمين كونهن معصومات من الذنب مطهرات من الزلل فلا مناص من تطبيقه على جماعة خاصه من المنتمين إلى البيت النبوي الذين تحقق فيهم تعلقهم بالأسباب والمقتضيات التي تنتهي بصاحبها إلى العصمة ولا ينطبق هذا إلا على الإمام علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام. وأضف إلى ذلك إلى أن المراد من أهل البيت عليهم السلام هم أصحاب الكساء الخمسة هو وقوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم ستة أشهر على باب فاطمة ويناديهم بقوله تعالى - إنما يريد الله... ليوقضهم للصلاة وليؤكد على حرمة أهل هذا البيت عليهم السلام ، وكذلك نزول آية التطهير في بيت فاطمة عليها السلام حيث قالت دخل علي أبي وفيه دلالة على أن حديث الكساء كان في بيت فاطمة عليها السلام خلاف ما يدعيه البعض أن حديث الكساء كان في بيت أم سلمة وكما سيأتينا هذا البحث.
190 إذن كان للنبي العناية الوافرة بتعريف أهل البيت لم ير مثلها إلا في أقل الموارد حيث قام بتعريفهم بطرق مختلفة كما كان المحدثين والمفسرين وأهل السير والتأريخ لهم العناية الكاملة بتعريف أهل البيت عليهم السلام في مواضع مختلفة وحسب المناسبات التي تقتضي طرح هذه المسألة وكذلك الشعراء المخلصين الإسلاميين الذين كان لهم العناية البارزة ببيان فضائل أهل البيت وتعريفهم للناس والتصريح بأسمائهم على وجه يظهر من الجميع اتفاقهم على نزول الآية في حق العترة الطاهرة. أما الروايات الواردة في بيان من هم أهل البيت عليهم السلام فنروي لك شاهدين الشاهد الأول: ما روي عن أم سلمة أنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في بيتي فاستدعى عليا وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وجللهم بعباءة خيبرية ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا فقالت أم سلمة: قلت يا رسول الله أنا من أهل بيتك؟ قال لا: ولكنك إلى خير (1). أما الشاهد الثاني: ما روي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام في احتجاجه على أبي بكر حيث قال له أخبرني عن وقول الله عز وجل إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا أفينا نزلت أو في غيرنا نزلت؟ قال: فيكم: فأخبرني لو أن شاهدين من المسلمين شهدا على فاطمة عليها السلام بفاحشة ما كنت صانعا؟ قال: كنت أقيم عليها الحد كما أقيم على نساء المسلمين!! قال الإمام عليه السلام كنت إذن عند الله من الكافرين قال: ولم؟ قال: لأنك رددت شهادتها وقبلت شهادة غيرها كنت عند الله من الكافرين قال: فبكى الناس وتفرقوا ودمدموا (2). وعلى هذا يكون الشاهدين فيهما دلالة على أن فاطمة كانت من أهل بيت العصمة فهي معصومة من الزلل والخطأ والعصمة هنا لها هي العصمة الذاتية وليس الفعلية، ومما يؤكد العصمة فيها كذلك الأقوال والأحاديث الواردة من خلال استقراء كتب الحديث حيث روت لنا هذه الكتب إن الرسول كان دائما يقول: فاطمة بضعة مني
(1) التبيان في تفسير القرآن للشيخ الطوسي: 8 / 339. (2) علل الشرائع: 191 باب 151. 191 يغضبني من أغضبها ويسرني من أسرها وإن الله ليغضب لغضبها ويرضى لرضاها. فإن هذا كاشف عن إناطة رضاها بما فيه مرضاة الرب جل شأنه وغضبه بغضبها حتى إنها لو غضبت أو رضيت على أمر مباح لا بد أن تكون له جهة شرعية تدخله في الراجحات لم تكن حالة الرضا والغضب فيها منبعثة عن جهة نفسانية وهذا مثل العصمة الثابتة لها عليها السلام (1) وقد قال الشيخ المفيد طاب ثراه (2) في إثبات الحكم بكون فاطمة معصومة من الزلل والخطأ ما نصه: قد ثبت عصمة فاطمة عليها السلام بإجماع الأمة على ذلك فتيا مطلقة، وإجماعهم على إنه لو شهد شهود بما يوجب إقامة الحد من الفعل المنافي للعصمة، لكان الشهود مبطلين في شهادتهم، ووجب على الأمة تكذيبهم وعلى السلطان عقوبتهم، فإن الله تعالى قد دل على ذلك بقوله: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا. ولا خلاف بين نقلة الآثار إن فاطمة عليها السلام كانت من أهل هذه الآية، وقد بينا فيما سلف إن ذهاب الرجس عن أهل البيت الذين عنوا بالخطاب يوجب عصمتهم ولإجماع الأمة أيضا على قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من آذى فاطمة فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله عز وجل. فلولا أن فاطمة عليها السلام كانت معصومة من الخطأ، مبرأة من الزلل، لجاز منها وقوع ما يجب آذاها بالأدب والعقوبة ولو وجب ذلك لوجب آذاها ولو جاز وجوب آذاها لجاز آذى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والأذى لله عز وجل فلما بطل ذلك دل على أنها عليها السلام كانت معصومة حسب ما ذكرناه، وإذا ثبت عصمة فاطمة عليها السلام وجب القطع بقولها، واستغنت عن الشهود في دعواها - في قضية فدك - لأن المدعي إنما افتقر للشهود لارتفاع العصمة عنه وجواز ادعائه الباطل فيستظهر بالشهود وعلى قوله لئلا يطمع كثير من الناس في أموال غيرهم، وجحد الحقوق الواجبة عليهم وإذا كانت العصمة مغنية عن الشهادة وجب القطع على قول فاطمة عليها السلام وعلى ظلم مانعها فدكا ومطالبتها بالبينة عليها. ويكشف عن صحة ما ذكرناه أن الشاهدين إنما يقبل قولهما على الظاهر مع جواز
(1) وفاة الصديقة الزهراء: 55 للمقرم. (2) الفصول المختارة من العيون المحاسن: 88. 192 أن يكونا مبطلين كاذبين فيما شهدا به، وليس يصح الاستظهار على قول من قد أمن من الكذب بقول من لا يؤمن عليه، ذلك كيما لا يصح الاستظهار على قول المؤمن بقول الكافر، وعلى قول العدل البر بقول الفاسق الفاجر. ويدل أيضا على ذلك: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استشهد على قوله فشهد خزيمة بن ثابت في ناقة نازعه فيها منازع، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: من أين علمت يا خزيمة، أن هذه الناقة لي؟ أشهدت شرائي لها؟ فقال: لا ولكني علمت أنها لك من حيث إنك رسول الله، فأجاز النبي صلى الله عليه وآله وسلم شهادته كشهادة رجلين وحكم بقوله فلو لا أن العصمة دليل الصدق وتعني عن الاستشهاد، لما حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقول خزيمة من ثابت وحده وصوبه في الشهادة له على ما لم يره ولم يحضره، باستدلاله عليه بدليل نبوته وصدقه على الله سبحانه فيما أراده إلى بريته، وإذا وجب قبول قول فاطمة عليها السلام بدلائل صدقها، واستغنت عن الشهود لها ثبت أن من قطع حقها وأوجب الشهود على صحة قولها، قد جار في حكمه وظلم في فعله، وآذى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم بإيذائه لفاطمة عليها السلام وقد قال الله عز وجل: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا) (1). إذن لا شك في عصمة فاطمة عليها السلام، أما عندنا فللإجماع القطعي المتواتر والأخبار المتواترة في فضائلها ومناقبها. وأما الحجة على المخالفين: 1 - فبآية التطهير الدالة على عصمتها، وكما بينا في إثبات نزول هذه الآية في جماعة كانت داخلة فيهم بل هي قطب الرحى الذي يدور فيه أهل البيت عليهم السلام. 2 - وبالأخبار المتواترة الدالة على أن إيذائها إيذاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وإن الله تعالى يغضب لغضبها ويرضى لرضاها: ووجه الاستدلال بالروايات على عصمتها صلوات الله عليها: أنه كانت فاطمة عليها السلام ممن تقارف الذنوب وترتكبها ، لجاز إيذاؤها، بل إقامة الحد عليها، لو فعلت معصية، وارتكبت ما يوجب حدا، لم يكن رضاها رضى الله
(1) الأحزاب: آية 57. 193 سبحانه إذا رضيت بالمعصية، ولا من سرها في معصية سارا لله سبحانه، ومن أغضبها بمنعها عن ارتكابها مغضبا له جل شأنه، فإن قيل: لعل المراد، من آذاها ظلما فقد آذاني، ومن سرها في طاعة الله فقد سرني، وأمثال ذلك، لشيوع التخصيص في العمومات قلنا: أولا: التخصيص خلاف الأصل، ولا يصار إليه إلا بدليل فمن أراد التخصيص فعليه إقامة الدليل. ثانيا: إن فاطمة صلوات الله عليها تكون حينئذ كسائر المسلمين، لم تثبت لها خصوصية ومزية في تلك الأخبار، ولا كان لها فيها تشريف وخدمة، وذلك باطل بوجوه: 1 - إنه لا معنى حينئذ لتفريع كون إيذائها إيذاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على كونها بضعة منه كما يصرح بذلك صحيح البخاري ومسلم في رواياته. 2 - إن كثيرا من الأخبار السالفة المتضمنة لإنكاره صلى الله عليه وآله وسلم على بني هاشم، في أن ينكحوا ابنتهم علي بن أبي طالب عليه السلام، أو النكاح بنت أبي جهل، ليس من المشتركات بين المسلمين فإن ذلك النكاح كان مما أباحه الله سبحانه، بل مما رغب فيه وحث عليه لولا كان كونه إيذاء لسيدة النساء، وقد علل رسول صلى الله عليه وآله وسلم عدم الإذن بكونها بضعة منه يؤذيها ما آذاها ويربيه ما يريبها تظهر بطلان القول بعموم الحكم لكافة المسلمين، على إنه لو ثبت هذا القول بأن علي صلى الله عليه وآله وسلم ربما أو أراد أن يتزوج من المتقدمي الذكر. 3 - إن القول بذلك يوجب إلقاء كلامه صلى الله عليه وآله وسلم وخلوه من الفائدة، إذ مدلوله حينئذ أن بضعته كسائر المسلمين ولا يقول ذلك من أوتي حظا من الفهم والفطانة، أو أتصف بشئ من الإنصاف والأمانة، وقد أطبق محدثوهم على إيراد تلك الروايات في باب مناقبها صلوات الله عليها. فإن قيل: أقصى ما يدل عليه الأخبار، هو أن إيذاؤها إيذاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومن جوز صدور الذنب عنه صلى الله عليه وآله وسلم، لا يأبى عن إيذائه إذا فعل ما يستحق به الإيذاء. قلنا: بعد ما مر من الدلائل على عصمة الأنبياء عليهم السلام، قال الله تعالى (والذين
194 يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم) (1). وقال سبحانه: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) (2). وقال تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا معينا) (3). فالقول بجواز إيذائه صلى الله عليه وآله وسلم رد لصريح القرآن، ولا يرضى به أحد من أهل الإيمان، فإن قيل: إنما دلت الأخبار على عدم عدم جواز إيذائها، وهو إنما ينافي صدور الذنب منها يمكن للناس الاطلاع عليه، حتى يؤذيها نهيا عن المنكر، ولا ينافي صدور معصية عنها خفية فلا يدل على عصمتها مطلقا. قلنا: نتمسك في دفع هذا الاحتمال بالإجماع المركب أن ما جرى في قصة فدك وصدر عنها من الإنكار على أبي بكر ومجاهرتها بالحكم بكفره وكفر طائفة من الصحابة وفسقهم تصريحا وتلويحا، وتظلمها وغضبها على أبي بكر، وهجرتها وترك كلامها حتى ماتت، لو كانت معصية لكانت من المعاصي الظاهرة التي قد أعلنت بها على رؤوس الأشهاد، وأي ذنب أظهر وأفحش من مثل هذا الرد والإنكار على الخليفة المفترض الطاعة على العالمين ؟ بزعمهم فلا محيص لهم عن القول ببطلان خلافة خليفتهم العظمى تحرزا عن إسناد هذه المعصية الكبرى إلى سيدة النساء. 3 - ونحتج أيضا في عصمتها عليها السلام بالأخبار الدالة على وجوب التمسك بأهل البيت عليهم السلام وعدم جواز التخلف عنهم، وما يقرب هذا المعنى، ولا ريب في ذلك لا يكون ثابتا لأحد، إلا إذا كان معصوما إذ لو كان ممن يصدر عنه الذنوب لما جاز اتباعه عند ارتكابها، بل يجب ردعه ومنعه وإيذاؤه وإقامة الحد عليه وإنكاره بالقلب واللسان وكل ذلك ينافي ما حث عليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأوصى به الأمة في شأنهم، ويكفي في ذلك ما رواه المخالفون لنا عن الترمذي عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، أحدهما أعظم من الآخر وهو كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فلا يهولنك ما يقرع سمعك من الطنين آخذا
(1) التوبة: آية 61. (2) الأحزاب: آية 53. (3) الأحزاب: آية 57. 195 من الميول والأهواء المردية بأن العصمة الثابتة لمن شاركها في الكساء لأجل تحملهم الحجية من رسالة أو إمامة، وقد تخلت الزهراء عليها السلام عنها - النبوة والإمامة - فلا تجب عصمتها، الجواب إنا لم نقل بتحقق العصمة فيهم عليهم السلام لأجل تبليغ الأحكام حتى يقال بعدم عصمة الصديقة لعدم توقف التبليغ عليها، وإنما تمسكنا بعصمتهم بعد نص الكتاب العزيز باقتضاء الطبيعة المتكونة من النور الإلهي المستحيل فيمن اشتقت منه مقارفة إثم أو تلوث بما لا يلائم ذلك النور الأرفع حتى في ترك الأولى (1). وإلى ذلك يشير المرحوم الشيخ الأصفهاني في إرجوزته: تبتلت عن دنس الطبيعة * فيا لها من رتبة رفيعة مرفوعة الهمة والعزيمة * عن نشأة الزخارف الذميمة في أفق المجد هي الزهراء * للشمس من زهرتها الضياء بل هي نور عالم الأنوار * ومطلع الشموس والأقمار رضيعة الوحي من الجليل * حليفة لمحكم التنزيل مفطومة من زلل الأهواء * معصومة من وصمة الخطاء إذن في النتيجة النهائية نصل إلى أن حديث الكساء ارتباط ارتباط وثيق بنزول آية التطهير والتي تمثل الأساس المتين لإثبات عصمة أهل البيت عليهم السلام وبما فيهم فاطمة الزهراء عليها السلام ولذلك جاءت الآية المباركة للتطهير لتكون نور من أنوار حديث الكساء حيث كلما ذكرت ذكر حديث الكساء ليكون من الأهمية البارزة في حياتنا العقائدية والروحانية والدعائية، ونختم الكلام في عصمة فاطمة عليها السلام فيما قاله الأستاذ العلامة حسن زاده آملي حيث يقول: - كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - ذات عصمة بلا دغدغة ووسوسة، وقد نص كبار العلماء كالمفيد والمرتضى وغيرهما بعصمتها عليها السلام بالآيات والروايات والحق معهم والمكابر محجوج مفلوج، وكانت عليها السلام جوهرة قدسية في تعين إنسي، فهي إنسية حوراء وعصمة الله الكبرى وحقيقة العصمة أنها قوة نورية ملكوتية تعصم صاحبها عن كل ما يشينه من رجس الذنوب
(1) وفاة الصديقة الزهراء: 54. 196 والأدناس والسهو والنسيان ونحوها من الرذائل النفسانية... فاعلم أن العترة وفاطمة منهم معصومة كما نص به الوصي الإمام علي عليه السلام في النهج: وكيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم وهم أزمة الحق وأعلام الدين والسنة الصدق فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن وردوهم ورود الهيم العطشان. ونطق ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه بالصواب حيث قال: فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن تحته سر عظيم وذلك أنه أمر المكلفين بأن يجروا العترة في إجلالها وإعظامها والانقياد لها والطاعة لأوامرها مجرى القرآن. ثم قال: فإن قلت: فهذا القول منه يشعر بأن العترة معصومة فما قول أصحابكم - يعني القائلين بمذهب الاعتزال - في ذلك؟ قلت: نص أبو محمد بن متويه في كتاب الكفاية على أن عليا عليه السلام معصوم وأدلة النصوص قد دلت على عصمته والقطع على باطنه ومغيبه وأن ذلك أمر اختص هو به دون غيره من الصحابة فتدبر. وإذا دريت أن بقية النبوة وعقيلة الرسالة ووديعة المصطفى وزوجة ولي الله وكلمة الله والتامة فاطمة عليها السلام ذات عصمة فلا بأس بأن تشهد في فصول الآذان والإقامة بعصمتها وتقول مثلا: أشهد أن فاطمة بنت رسول الله عصمة الله الكبرى أو نحوها (1). الوقفة الثانية سند هذا الحديث أما سند حديث الكساء الشريف فهو في غاية المتانة والصحة بل يعتبر من الأحاديث المتواترة وليس المشهورة بل هو المتواتر القطعي، ويكفي في ذلك إن روايات جمة تزيد على سبعين رواية من طرق أهل السنة تروي هذا الحديث المبارك،
(1) قص حكمة عصمتية في كلمة فاطمية 14. 197 هذا فضلا عن الطرق الخاصة لأهل المذهب الحق الشيعة الإمامية، هذا من جهة ومن جهة أخرى فيكفي في رواية هذا الحديث من ناحية السند جابر بن عبد الله الأنصاري الذي روى الحديث بسند معتبر عن لسان فاطمة الزهراء عليها السلام، حيث يعتبر هذا الصحابي الجليل - جابر الأنصاري - من الذين حملوا سلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حفيده الإمام محمد الباقر عليه السلام، حيث تروي لنا كتب الرجال أن هذا الصحابي يكفي في وثاقته أنه عاصر الرسول والإمام علي والحسن والحسين وعلي بن الحسين عليهم السلام حتى أدرك الإمام الباقر عليه السلام. فلقد روى لنا التأريخ كيف دخل جابر الأنصاري على الإمام الباقر عليه السلام قائلا له: إن جدك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقرك السلام والتحية والإكرام وقال لي يا جابر ستدرك واحد من أبنائي : اسمه اسمي يبقر العلم بقرا فأبلغه عني السلام. فتعتبر هذه من الكرامات والمعجزات التي تثبت مدى صدق دعوة النبي وإنه ما ينطق عن الهوي إن هو إلا وحي يوحى وأن له شأن مع الله تعالى. إذن حديث الكساء من الأحاديث المؤكدة وسنده صحيح معتبر وأنه من الأحاديث المستفيضة عند العامة والخاصة. الوقفة الثالثة مضامين هذا الحديث المختلفة قبل كل شئ لا بد من التأكيد على مسألة مهمة ألا وهي مسألة عرض أي موضوع يطرح في عالم الإمكان على القرآن والسنة النبوية الشريفة الصحيحة فما كان موافقا للقرآن الكريم فإنا نأخذ به وما كان مخالف للقرآن الكريم نضرب به عرض الحائط وهذا ما أكدته الكثير من الروايات في هذا المقام، وعلى ضوء هذا الأساس سيكون استقرائنا لهذا الحديث المبارك واستجلاء حقائقه على ضوء القرآن الكريم والسنة الشريفة وهذا لا يعني أننا لا بد من ذكر كل الأمور القرآنية التي توافق هذا
198 الحديث فإن هذا سوف يكون بحاجة إلى كتاب مستقل في هذا الموضوع وأنما يكون الأمر على ضوء التمعن والتأمل على ضوء المرتكزات القرآنية لدى الإنسان المؤمن. * فالحديث على كل حال قد رواه المسلمون كافة وبصورة مختلفة وهيئات متعددة ولكن جوهر الحديث واحد: هو أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جمع أهل بيته وألقى عليهم رداء وقال: اللهم إن هؤلاء أهل بيتي وخاصتي وحامتي لحمهم لحمي ودمهم دمي يؤلمني ما يؤلمهم.... * إن حديث الكساء ذو مصداقية كبيرة من خلال توافقه الكبير مع القرآن الكريم وهذا ما نجده أثناء تطبيق حقائقه التي يدعو إليها سواء العقائدية أو العلمية أو الروحانية أو المادية مع القرآن الكريم ومضمونه وحقائقه وعليه بعد إثبات ذلك - وكما هو مثبوت في محله - فإننا لا بد من الأخذ به والوقوف معه الوقفة الجلية لنستظهر حقائقه المعصومية. * هناك مسألة قد أثيرت حول هذا الحديث الشريف وهي هل آنئذ هذا الحديث وقضيته والتي كان من مضمونها أن الرسول تغطي بكساء - كانت في بيت أم سلمة كما روى ذلك مجموعة من العامة أم في بيت فاطمة عليها السلام؟ والجواب على ذلك: إن قضية حديث الكساء وماله من الأهمية الكبرى كان في بيت فاطمة عليها السلام وبدلالة الحديث نفسه حيث إننا سلمنا بصحة سند الحديث واستفاضته أيضا فعليه نقول: إن هناك قرينة واضحة ومتصلة لا منفصلة في نفس الحديث تؤكد على كون الحديث كان في بيت فاطمة والقرينة هي إن الحديث يبدأ بقوله على لسان فاطمة عليها السلام عن فاطمة الزهراء عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت دخل علي أبي رسول الله في بعض الأيام.... فقولها عليها السلام دخل علي أبي رسول الله فيه دلالة واضحة على كون دخوله صلى الله عليه وآله وسلم في بيتها لا في بيت أم سلمة أضف إلى ذلك دخول الحسن والحسين وأبيهما الإمام علي عليه السلام في بيت أم سلمة لا معنى له، ثم ما هي الثمرة العملية على هذه المسألة فلربما يقول قائل سواء كان الحديث في بيت أم سلمة أم في بيت فاطمة عليها السلام ما الفائدة في ذلك؟ فنقول إن الفائدة تظهر إنه لو كان في بيت أم سلمة لكان البعض ممن يقول بهذا
199 القول إن العصمة والطهارة والإرادة التكوينية تخص نساء النبي بدلالة بيت أم سلمة، وإن كان عندنا إنه لا ملازمة فيه فتأمل. * وفي معرض الكلام حول أم سلمة هناك إشارة لطيفة لمن تمعن فيها وتأمل حيث تظهر من خلال حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعدم قبوله أم سلمة بالدخول تحت الكساء وعدم إعطائها الإذن في ذلك حيث الإشارة تدل على الرسول قال لها إنك على خير ولم يطردها ولم يأذن لها بالدخول تحت الكساء، وهذا فيه دلالة واضحة من خلال استظهار كلمة - إنك على خير - إنها سوف تكون عاقبة أمرها إلى خير وإنك الآن فعلا على خير وإنه سوف يكون مآل حياتك إلى العاقبة الحسنة وهذا بخلاف ما نجده في بعض نساء النبي اللواتي خرجن على إمام زمانهن. * دخل علي أبي في بعض الأيام فقال... في الحديث أن فاطمة هي الملجأ لأبيها فإذا شعر بضعف أو ألم أسرع إلى فاطمة حيث يجد عندها الراحة والطمأنينة والهدوء لأن النظر إلى فاطمة يمسح الهموم والأحزان من قلب النبي كما كان الإمام علي عليه السلام يقول: إذا نظرت إلى فاطمة انجلت عني الهموم والأحزان... وإلا لماذا لم يذهب النبي إلى إحدى زوجاته علما بأن الرجل يشعر بالسكن لدى زوجته حيث يقول القرآن الكريم (خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة)، ويقول الله تعالى: (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن)، فلماذا لم يذهب النبي إلى واحدة من زوجاته وإنما ذهب إلى الزهراء؟ والجواب أن فاطمة كانت أم أبيها... وكان يشعر بالدف ء والراحة عندما يزور الزهراء، بل يتزود بالطاقة والحنين حيث يرى فاطمة عليها السلام ولذلك نجد أن التأريخ الإسلامي يروي لنا أن آخر من يودع النبي في غزواته وسفره هي فاطمة وأول من يمر عليه بعد رجوعه من سفره خارج المدينة هو بيت فاطمة عليها السلام. * إني أجد في بدني ضعفا فقلت له أعيذك بالله يا أبتاه من الضعف، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا القول ولم يقل أني أجد في روحي ضعفا أو فكري وهذا خلاف ما اتهمه بعض المشركين بأنه شاعر مجنون... إنما هو ضعف بدني أصابه نتيجة الإجهاد والمثابرة على العمل فهو يقول لها: أني لأجد في بدني ضعفا وهي تقول له: أعيذك بالله
200 يا أبتاه من الضعف أي أنها أعاذت أباها بالله العلي العظيم من الضعف وإن لا يصيبه الضعف لأن العالم كله بحاجة إلى هذه الطاقة الجبارة الخلاقة التي تنضج رحمة وتتفجر خيرا وعطاء. * يا فاطمة إيتيني بالكساء فغطيني به فأتيته بالكساء اليماني فغطيته به وصرت أنظر إليه وإذا وجهه يتلألأ كأنه البدر في ليلة تمامه وكماله. والسؤال المطروح حول هذا المضمون من هذه الفقرة: هو لماذا طلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم كساء يتغطى به... لماذا لم يطلب شيئا آخر كالطعام أو الشراب؟ لماذا طلب ذلك الكساء؟ وما هي المناسبة التي جعلت وجهة يتلألأ نورا كأنه البدر في ليلة تمامة وكماله؟ إن المناسبة هي تلقي الوحي فهناك عدة شواهد تأريخية تنقل لنا كيفية تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وآل وسلم أثناء تلقيه الوحي، أما لماذا طلب الكساء اليماني فذلك ليجمع أهل بيته ويركز عليهم دون غيرهم، وأنهم المحور الأساس الذي تدور عليه ولاية الله تعالى، وأنهم المرتبطين بشأن نزول الوصي أثناء تغطيتهم بالكساء لتكون آية التطهير النازلة وإرادة السماء فيهم عليهم السلام، إذن فالكساء إنما جاء للعصر... وليس لشئ آخر كما حديث يوم المباهلة حيث إن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يخرج معه إلا هؤلاء الذين هم تحت الكساء بالإضافة إلى أنه أراد تأكيد الوصية وصية الغدير. * إني أشم عندك رائحة طيبة كأنها رائحة جدي رسول.... وحديث الكساء فيه تصوير رائع لجمال أهل البيت وطيبة رائحتهم فإنها رائحة طيبة تعبق الشذى.. وأكثر من ذلك فقد كانت صبات عرق الرسول تتفوح بالعطر كما كان عطر الزهراء ورائحتها عطر الجنة.. والرسول كان يشم فاطمة ويقول كلما اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمة، ريحانة أشمها وتشمني. * ويظهر الحديث أدب الكلام والمحادثة مع النبي وأدب المعاملة مع أهل البيت بعضهم من بعض في وقوف كل واحد أمام الكساء وطلب الإذن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم جواب النبي له وهكذا تجري فصول هذا الحديث المقدس وفاطمة ترقبه وتسجله ثم تجيئ به في النهاية لإكمال المشوار.
201 * وتقول الزهراء لما اكتملنا جميعا تحت الكساء أخذ أبي رسول الله بطرفي الكساء - وهذا يعني أنهم خمسة أصحاب الكساء لا ينقصون ولا يزيدون.. بل هم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها.. خمسة لا غير أبي قبل دخول فاطمة لم يكتمل النصاب بعد ولم يكتمل العدد بعد والقول اكتملنا جميعا يشير إلى أنهم خمسة أصحاب الكساء ودعاء الرسول لهم هو تسديد من السماء لأن الرسول لا ينطق عن الهوى إنه إلا وحي يوحى. * قولها عليها السلام: أوحى الله إلى ملائكته وسكان سماواته... وهذا الحدث بحد ذاته يجعل فاطمة في أعلى قمة في الوجود الإمكاني وبالإضافة إلى أنه يكشف لنا عن حقيقة أهل البيت وأنه لولاهم لما خلق الله الأكوان والأفلاك. * وحديث الكساء حينما نعرضه على الميزان الفكري للإسلام وأساسياته فإنه نجد أن الحديث يسير تماما مع القرآن الكريم وليس فيه خرق ولا تجاوز عن أساسيات القرآن الكريم، فهم عليهم السلام عدل القرآن وعلى أساس ذلك يكون عدل القرآن معصوم ومحفوظ كما أن القرآن معصوم ومحفوظ، إذن يكون كل شئ في حديث الكساء هو معصوم من الخطأ والزلل وذلك لكون راوي الحديث ومثبته هو معصوم عن الخطأ والزلل، وهي فاطمة عليها السلام. * وهناك مسألة مهمة تعرض لها حديث الكساء وهي أن جبرئيل يسأل من الله تعالى ويقول يا رب ومن تحت الكساء؟ وربما أراد بذلك - جبرئيل - وعبر انتقال هذا الحديث المبارك عبر الأجيال إلينا أن يؤكد على شرافة أصحاب الكساء وأنهم من الله تعالى يستمدون عصمتهم وقداستهم وتربيتهم . والملفت للنظر عندما يجيب الله تعالى عن أسماء أصحاب الكساء يقول هم فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها، ولم يقل مثلا هم رسول الله وعلي وفاطمة... كل ذلك للتأكيد على محورية فاطمة الزهراء عليها السلام بالنسبة لأهل بيت النبوة وأنها القطب المركزي لدائرة أهل البيت عليهم السلام. * ويشير حديث الكساء إلى نزول جبرئيل إلى الأرض بعد معرفة أصحاب الكساء والتشرف في خدمتهم وطلب الأذن من الله تعالى في الدخول تحت الكساء
202 وكذلك يظهر من الحديث أن الله ورسوله قد أعطوا الأذن لجبرئيل وذلك لكونه معصوم من الخطأ والزلل بالعصمة الربانية الذاتية فلذلك لا ضير أن يكون معهم تحت الكساء لأنه لا يختلف عنهم من جهة العصمة وهذا بخلاف أم سلمة رضوان الله عليها. * وهناك إشارة لطيفة في الحديث حيث قال الله تعالى هم فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها ولم يقل وأبنيها ونحن نعلم أن الذي كان تحت الكساء الحسن والحسين وربما أراد بذلك الصلب والذرية الطاهرة للأئمة عليهم السلام وأنهم سوف يكونون أيضا معصومون وامتداد لأصحاب الكساء * ويأتي سؤال الإمام علي عليه السلام عن الفضل والأجر لهذا الجلوس تحت الكساء؟ وفضل ذكر هذا الحديث وماله من الأهمية؟ حيث بين هذا الجواب الذي يظهر من الحديث أنه - أي الحديث - غذاءا للروح والعقل والقلب والبدن معا، إذ أن حاجات الإنسان محدودة كالطعام والشراب واللباس فكمية منها معينة تصل بالإنسان إلى حد الاكتفاء والارتواء والشبع. أما حاجات الروح والعقل فهي بلا حدود كالصلاة والعلم والتفقه، فغن الروح تبقى في حالة فهم إلها كلما نهلت منها شعرت بأنها بحاجة إلى المزيد منها. لذلك سأل الإمام علي ولذلك كان جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ففي المرة الأولى كان جواب الرسول الأعظم تحديد لحاجات العقل والروح والنفس نزلت عليهم الرحمة وحفت بهم الملائكة واستغفرت لهم. أما في المرة الثانية فقد كان في جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحديدا لحاجات الجسد وفيهم مهموم إلا وفرج الله همه ولا مغموم إلا وكشف الله غمه ولا طالب حاجة إلا وقضى الله حاجته. فتفريج الهموم وكشف الغموم وقضاء الحاجات إنما هي حاجات جسدية بينما الرحمة وإحاطة الملائكة والاستغفار إنما هي هموم عقلية وروحية ونفسية. * ويكشف الحديث عن السعادة والفوز والنصر والظفر في الحياة.. لأن الذي يمشي في خط أهل البيت لا بد أن ينتصر ويظفر لا محالة ولو بعد حين. * ويقول الحديث أنه ما ذكر في حفل فيه جمع ولم يقل على فرد واحد. وهي إشارة رائعة إلى أهمية تنظيم المجتمع وتكثير المجالس التي يذكر فيها أهل البيت عليهم السلام.
203 لأن الإمام الصادق عليه السلم يقول تجلسون وتتحدثون... أحيوا أمرنا فإني أحب تلك المجالس... والمجلس الذي يذكر فيه هذا الحديث هو قطعا مجلس في الخير والصلاح ورضوان الله.. لأنك تذكر قوما ما عصوا الله طرفة عين أبدا، وقد ورد في دعاء أبي حمزة الثمالي:... أو لعلك رأيتني مجالس البطالين فخذلتني يقول من ترك الاستماع من ذوي العقول مات عقله لأن الابتعاد عن مجالس العلم والعلماء يؤدي إلى الخذلان، أو لعلك فقدتني من مجالس العلماء فخذلتني. * وحديث الكساء يشير إلى الأمور والمسائل العلمية التي وافقت القرآن الكريم كالأرض المدحية والسماء المبنية والقمر المنير والشمس المضيئة وهي من الحقائق المطابقة للواقع والقرآن الكريم. هكذا يقرأ الحديث وهكذا يفهم جواب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن الأسئلة التي وردت في الحديث عن لسان الإمام علي عليه فلعل الإمام علي عليه السلام أراد من خلال طرحه وكذلك ربط حديث الكساء بهموم الناس وحوائجهم حتى لا يبقى مجرد حديث فحسب نقرأه من أجل معلومة نعلمه أو من أجل حديث نتعرف إليه وإذا كان الأمر كذلك فما أجدرنا ونحن نقف مع هذا الحديث أن نستغل هذه المضامين ونعيشها بعقولنا وأرواحنا ونفوسنا لكي نجعل من هذا الحديث المبارك حسنة لنا فنصلح به أحوالنا ونقوم أخلاقنا ونثبت عقائدنا الصحيحة ونربي أبناءنا تربية صالحة لا سيما أن أهل البيت ليسوا بعيدين عنا وطقوسنا ليست جامدة أو فارغة بل هي طقوس هادفة إلى تربيتنا تربية إسلامية حقة.
204 البحث السابع فاطمة عليها السلام سيدة نساء العالمين
205 فاطمة سيدة نساء العالمين إن قيل حوا قلت فاطم فخرها * أو قيل مريم قلت فاطم أفضل أفهل لحوا والد كمحمد * أم هل لمريم مثل فاطم أشبل كل لها عند الولادة حالة * منها عقول ذوي البصائر تذهل هذي لنخلتها التجت فتساقطت * رطبا جنيا فهي منه تأكل وضعت بعيسى وهي غير مروعة * أني وحارسها السرى (1) الأبسل وإلى الجدار وصفحة الباب التجت * بنت النبي فأسقطت ما تحمل سقطت وأسقطت الجنين وحولها * من كل ذي حسب لئيم جحفل هذا يعنفها وذاك يدعها * ويردها هذا وهذا يركل وأمامها أسد الأسود يقوده * بالحبل قنفذ هل كهذا معضل ولسوف تأتي في القيامة فاطم * تشكو إلى رب السماء وتعول ولتعرفن جنينها وحنينها * بشكاية منها السما تتزلزل رباه ميراثي وبعلي حقه * غصبوا وأبنائي جميعا قتلوا (2)
(1) السرى: السيد الشريف السخي، الأبسل: الموطن نفسه علي الموت. (2) القصيدة للمرحوم الشيخ محسن أبو الحب الكبير. قال السيد جواد شبر في أدب الطف ج 8: ص 56: الشيخ محسن خطيب بارع وشاعر واسع الآفاق خصب الخيال. ولد سنة 1235 ه ونشأ بعناية أبيه وتربيته، وتحدر من أسرة عربية تعرف بآل أبي الحب تمت بنسبها إلى قبيلة خثعم. تدرج على نظم الشعر ومحافل الأدب وندوات العلم، ولا سيما مجالس أبي الشهداء عليه السلام مدارس سيارة وهي من أقوى الوسائل لنشر الأدب وقرض الشعر، وشاعرنا الشيخ محسن نظم فأجاد وأكثر من النوح والبكاء علي سيد الشهداء عليه السلام وصور بطوله شهداء الطف تصويرا شعريا لا زالت الأدباء ومجالس العلماء تترشفه وتستعيده وتتذوقه. كتب عنه الشيخ محمد السماوي في كتاب الطليعة فقال: محسن بن محمد الحويزي الحائري المعروف بأبي الحب كان خطيبا ذاكرا بليغا متصرفا في فنون الكلام إذا ارتقى الأعواد تنقل في المناسبات. 207 البحث السابع فاطمة عليها السلام سيدة نساء العالمين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إن هذا ملك مقرب لم ينزل الأرض قط قبل هذه الليلة، استأذن ربه أن يسلم علي ويبشرني بأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة (1). ورد هذا الحديث بسند معتبر في عدة كتب روائية سواء من العامة أو الخاصة والظاهر من خلال مراجعة هذا الحديث أنه ممن اتفقت عليه العامة والخاصة حيث
(1) 5 / 660 ح 7381، عنه ذخائر العقبى: 129، ومفتاح النجا: 117، وجامع الأصول: 10 / 82 وتيسير الوصول: 2 / 154، وكنز العمال: 12 / 96 ح 34158 و ص 102 ح 34192 و ص 107 ح 34217 و ص 110 ح 34230 وفي ج 13 / 640 ح 37617 وفي ص 189، والفتح الكبير: 1 / 28 و ص 249 و ص 426. وسعد الشموس: 203، والإدراك: 49، وحسن الأسوة: 290، وينابيع المودة: 165 و ص 264، ومرقاة المفاتيح: 11 / 393، وأحمد في مسنده: 5 / 391، عنه الفصول المهمة: 127، وتاريخ دمشق: 51 ح 73، والخصائص: 118، ومقتل الحسين: 1 / 80 و 130، وروى في ص 55 صدره، وكفاية الطالب: 422، وحلية الأولياء: 4 / 190، عنه المنتخب من صحيح البخاري ومسلم: 219 مخطوط، وتاريخ الإسلام: 2 / 90 و ص 217، وفوائد السمطين: 2 / 20 ح 363. وأخرجه في الحبائك: 105 و 106، وتوضيح الدلائل: 348، ووسيلة المآل: 161. ورواه في مصابيح السنة: 108، ومرآة المؤمنين: 184، ومنال الطالب: 22، وغالية المواعظ: 2 / 73، والبداية والنهاية: 3 / 206 ووسيلة النجاة: 207، وابتسام البرق على ما في الإحقاق: 19 / 32، والتاج الجامع للأصول: 3 / 206 ووسيلة النجاة : 207، وابتسام البرق على ما في الإحقاق: 19 / 32، والتاج الجامع للأصول: 3 / 317، والمطالب العالية: 4 / 67، وأشعة اللمعات: 4 / 705، وآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم: 92 ح 418 وأخرجه في ص 145 ح 662، والروض الأزهر: 200، والحاوي للفتاوي: 2 / 267، وأسد الغابة: 5 / 574، وجمع الوسائل: 1 / 269، وجامع الأحاديث: 4 / 515 ح 14120. والحاكم في المستدرك: 3 / 151، عنه جواهر البحار: 1 / 360 والخصائص الكبرى: 2 / 226، وسير أعلام المستدرك: 3 / 151، عنه جواهر البحار: 1 / 360 والخصائص الكبرى: 2 / 226، وسير أعلام النبلاء: 2 / 123، وأرجح المطالب: 241، والجامع الصغير: 1 / 71، والمختار: 56، أخرجه عن بعضها الإحقاق: 10 / 69 ح 1 و ج 19 / 31، و ج 18 / 384. ورواه مرسلا في طرح التثريب: 1 / 149، ورسالة المفاضلة: 216، وفي جمع الوسائل: 1 / 270، وشرح الفقه: 120، عنها الإحقاق: 10 / 102. ورواه مرسلا أيضا في تاريخ الإسلام: 2 / 88، عنه الإحقاق 10 / 110، وفي ج 19 / 25، عن سير أعلام النبلاء: 2 / 120 عن العوالم ج 1 ص 137. 209 نقلته كتب الفريقين المعتدة خصوصا عند السنة وفي الصحاح الستة وعليه فلا مجال للطعن أو النقاش في سند هذا الحديث المبارك الذي يظهر كرامة فاطمة الزهراء عليها السلام على الله وعلى الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والحديث يروي لنا قصة ملكا لم ينزل إلى أرض سابقا أستأذن الله تعالى أن يسلم على رسوله الكريم وإن يبشره بأن فاطمة الزهراء عليها السلام هي سيدة نساء هل الجنة، وعليه نقف مع هذا الحديث لنرى مدى شموليته وسعته في دلالته على كون فاطمة الزهراء أفضل من مريم عليها السلام أم لا؟ باعتبار وجود آية قرآنية ذكرت مريم عليها السلام في كونها سيدة نساء العالمين في قوله تعالى: (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين) فلنقف مع هذه الآية ومع الحديث المبارك: 1 - لنعرف أيهما أفضل فاطمة عليها السلام أم مريم عليها السلام؟ 2 - ومن هي سيدة نساء العالمين؟ 3 - وما هي الثمرة العقائدية في ذلك؟ كل هذه الأسئلة تطرح في المقام الذي نحن فيه وعليه لا بد لنا أن نجيب عليها لكي تكون لنا قدرة خاصة على الفهم العقائدي لحياة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام. فنقول ومن باب مقدمة للبحث في هذا الموضوع المهم إنه: - لا شك ولا ريب إنه ورد في كتب الفريقين عدة أحاديث تبين أفضل النساء في الدنيا والآخرة وإنه لم يكمل من النساء إلا الجنة إشتاقت إلى أربع من النساء وكذلك ورد أيضا إن الله أختار من النساء أربع وكثيرة هي الأحاديث التي تظهر هذه المسألة وقد تظاهرت الروايات من العامة والخاصة في ذلك. ونحن نذكر في هذه المقدمة، بعض هذه الأحاديث وعلى أثر ذلك ندخل في صلب الموضوع الذي اخترنا البحث عنه والوقوف معه والاستفادة من دلالته، أما هذه الأحاديث التي نقلت في طياتها النساء اللواتي اختارهن الله تعالى فمنها: * ما ورد عن أبي الحسن الأول عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن الله تعالى اختار
210 من النساء أربعا: مريم وآسية وخديجة وفاطمة (1). * وروي عن مسلم والترمذي، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد (2). * وجاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: اشتاقت الجنة إلى أربع من النساء: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم زوجة فرعون، وخديجة بنت خويلد وفاطمة (3). * وعن ابن عباس قال: خط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الأرض أربعة خطوط قال: تدرون ما هذا؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم: فقال رسول صلى الله عليه وآله وسلم: أفضل نساء أهل الجنة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم بنت عمران (4). إذن يظهر من هذا الأحاديث أن الإيمان كمل فيهن وإن الله تعالى اختارهن
(1) الخصائص: 225، وسائل الشيعة: 1 / 225 ح 58، البحار: 14 / 201 ح 11. (2) الفصول المهمة ص 127، مطالب السؤول ص 10 / شرح ثلاثيات مسند أحمد 2 / 511. إحقاق الحق 10 / 100، 19 / 49. (3) قلائد الدرر على ما في الإحقاق: 10 / 99. (4) مسند أحمد ج 1 / 293، رواه مثله في الاستيعاب: 4 / 376، ومستدرك الحاكم: 2 / 497، و ج 3 / 160 من طريقين والإصابة: 4 / 378، وتهذيب التهذيب: 12 / 441، ومرآة المؤمنين: 184، وسير أعلام النبلاء: 2 / 126، وتهذيب الكمال: 22، وجامع الأحاديث: 685، وتفسير القرآن لابن كثير: 9 / 467، وكنز العمال: 12 / 143، ومنتخب كنز العمال: 5 / 284، والفتح الكبير: 1 / 214، وقصص الأنبياء: 2 / 377 ، وينابيع المودة: 172 و 198 من ثلاث طرق، ومجمع الزوائد: 9 / 223، وتهذيب التهذيب: 134، وأرجح المطالب: 240 و 243، وآل محمد: ح 106، ومشكل الآثار: 1 / 48، وأسد الغابة: 5 / 437، والبداية والنهاية: 2 / 60، وتأريخ الخميس: 1 / 265، وذخائر العقبى: 42، ووسيلة المآل: 80، وإرشاد الساري: 6 / 168، وطرح التثريب: 149، وخصائص السيوطي: 3 / 362، ومسنده ص 57 ح 139، والجامع الصغير: 1 / 168، والاعتقاد: 165، وروضة الأحباب: 626 مخطوط والسراج المنير: 271، ومفتاح النجا: 102 مخطوط وحسن الأسوة: 31، والبيان والتعريف: 1 / 123، وضوء الشمس: 91، وتأريخ الإسلام: 2 / 92 من قوله: أفضل...، عن بعضها الإحقاق : 10 / 52، وفي ج 19 / 41 عن ضوء الشمس، ورواه في ذخائر العقبى: 42، وفي سير أعلام النبلاء: 2 / 124 عنه في الإحقاق: 19 / 51، وفي وسيلة المآل: 80، عنه الإحقاق: 10 / 57، وذكره في الدرة اليتيمة على ما في الإحقاق: 19 / 25، وكذا في الأنوار المحمدية على ما في الإحقاق: 10 / 85 عن العوالم ص 119 / ج 1. 211 وفضلهن على كثير من نساء الدنيا والآخرة فهلم معي لنقف معهن لنرى خصوصية كل واحدة منهن - وهن آسية ومريم وخديجة وفاطمة - بحيث ورد الحديث بأنهن خير النساء، ونقول : لو نظرنا إلى حياة هؤلاء النسوة صارفين النظر عن نصوص الكتاب والسنة لألفينا أن كل واحدة منهن تختص بفضيلة دون غيرها من الصالحات الباقيات. * فآسية امرأة فرعون آمنت بالله مخلصة له لائذة به وحده وهي في بيت شر العباد، ورأس الكفر والإلحاد، وقد جاهرت بإيمانها منكرة على فرعون كفره وفساده، متحدية ظلمه وطغيانه، فأوتد لها الأوتاد، حتى قضت شهيدة الحق والإيمان ولم تكن هذه الكرامة لواحدة من الثلاثة. * أما السيدة مريم فقد كرمها بولادة السيد المسيح من غير أب وما عرفت هذه الكرامة لامرأة على وجه الأرض. * أما السيدة خديجة فإنها أول من آمن وصدق الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم وصلت هي وعلي بن أبي طالب عليهم السلام أول صلاة أقيمت في الإسلام، وهي أول من بذل الأموال لنصرة هذا الدين... ولولا أموالها، وحماية أبي طالب لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم لقضي على الإسلام في مهده، ولم يكن له عين ولا أثر.. ولم تكن هذه الكرامة لغيرها من نساء العالمين. أما فاطمة الزهراء عليها السلام فإنها بضعة من رسول الله، بل هي نفسه خلقا وخلقا ومنطقا وصلاحا وتقى يرضيه ما يرضيها، ويؤذيها ما يؤذيه، وهي أم الحسنين سيدي شباب أهل الجنة، وعقيلة سيد الكونين، بعد رسول الله ولم تكن هذه الكرامة لأمها خديجة ولا لآسية ولا لمريم (1). أما التفاضل بينهن فإننا نتركه لئلا يطول المقام بنا ونقف هنا مع حياة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام، ومريم بنت عمران لإثبات المراد من هذا البحث. فمن القضايا العقائدية المهمة لدى الشيعة الإمامية والتي تأخذ حيزا كبيرا على الصعيد الفكري والعقائدي هي مسألة تفضيل سيدة نساء العالمين على مريم وبقية
(1) تفسير الكاشف: 2 / 59. 212 النساء المؤمنات الأخريات، فنحن باعتبارنا شيعة ونعتقد بأهل البيت عليهم السلام وبما ورد من مقامهم ومنزلتهم وقداستهم إن هذه مسألة مسلمة لدينا ولكن هناك من يدعي خلاف ذلك وإن مريم عليها السلام هي سيدة العالمين وهي المفضلة على بقية النساء الأخريات والسبب إلى ذهاب بعض من يدعي هذه المقولة هو بما ورد من القرآن الكريم حيث جاء قوله تعالى (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين) (1). ليثبت كون مريم عليها السلام رمزا قرآنيا قد طرحه القرآن في الفكر العقائدي لدى المسيحية، فكيف إذن تحل هذه القضية وخصوصا نحن الشيعة يجب علينا أن نحمل عقائدنا عن وعي واستدلال وبرهان صحيح معتمد على الاستدلالات العقلية المثبوت في محلها، أما أن نأخذ عقائدنا في هذه القضية أو في قضايا أخرى اعتمادا على العواطف والمديح والمبالغات فهذا مما لا يقبله أهل البيت عليهم السلام وخصوصا نحن أبناء الدليل حيث ما مال نميل، وكذلك فإن أهل البيت عليهم السلام ليسوا محتاجين مديحنا وقد مدحهم من هو أفضل وأحسن وهو القرآن الكريم بأعظم ما يكون ويكون من المدح والثناء العلي حيث وصفهم بأنهم مطهرون ويطهركم تطهيرا وكذلك قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنهم عدل القرآن، فما يكون كلامنا ومديحنا بعد ذلك، إذن فالقضية ليست قضية مديح وإطراء مواقف بل هي قضية عقائدية نعم، إذا أردنا أن نمدحهم ونقدم لهم الذكر والثناء فذلك من باب التقرب إلى الله تعالى وليس من باب رفع مقامهم بل مقامهم رفيع وإذا وتينا علم وفهم إنما لكي نتعرف على علو مقامهم وشأنهم عند الله تعالى فعليه إذا طرحت هذه الفكرة، أو القضية بكون فاطمة عليها السلام أفضل من مريم يجب أن تكون مدعومة بالدليل العلمي الشرعي والاستدلال المنطقي وخاصة من القرآن الكريم والسنة لكي تكون عقيدتنا في هذه القضية مبنية على المتانة والصحة، إذن فالسؤال المطروح هو كيفية كون فاطمة أفضل من مريم والحال إن مريم يخاطبها القرآن الكريم (يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ) والظاهر أن نساء العالمين نص قرآني
(1) آل عمران: آية 42. 213 بالصراحة يقول مريم اصطفيت على نساء العالمين فكيف تكون فاطمة أفضل منها؟ هذه سؤال مطروح فيما نحن فيه وكيف نحمله مع الحديث الذي قدمناه في أول البحث من أن فاطمة سيدة نساء الجنة. ومن جهة أخرى ينقدح سؤال مهم أيضا وهو أن مريم عليها السلام ولدت نبيا وهو عيسى ، على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام وكانت طريقة ولادتها بمعجزة ربانية حيث حملت به من غير أب، فهي إذن ليست ولدت شخصا عاديا بل نبي من الأنبياء العظماء وهذا الحال لم يحدث لفاطمة عليها السلام لم تولد نبيا من غير زوج فما هو باب التفضيل والحال أن مريم محاطة ومحفوفة بالمعاجز فهذه الأمور تطرح ولا بد أن تعالج واحدة، ويجب على ذلك ألا نحمل العقائد على السذاجة وعلى العواطف والتقليد لأن التقليد يفيد في الأحكام الشرعية أما في العقائد فيجب على الإنسان أن يحملها عن وعي وإدراك واستدلال وفهم. لذا أصول الدين لا يجب أن يقلد فيها الآخرين بل التقليد في الفروع باعتبار إنها تحتاج إلى تفحص وإفناء عمر في دراستها والبحث فيها وهذا لا يتسنى ولا يتيسر لكافة الناس فيكون الوجوب الكفائي فيها أما الأصول فيجب على الجميع أن يفهموها بوعي عميق واستدلال ولا يكون الإنسان المتدين فيها ساذج وتبعي للآخرين بل لا بد من أن يصل إليها بالتفكر والاستدلال، وعليه تكون هذه الأسئلة مهمة من الناحية العقائدية ولا بدون فهمها بالدليل القرآني والسنتي فكيف نصل إلى غاية المطلوب وكيف نحصل على الجواب الصحيح فيها؟ فنقول: قبل إن نجيب على هذه الأسئلة وكيفية بنائها البناء الصحيح العقائدي وعلى ضوء القرآن والسنة نقدم مقدمة بسيطة وهي أن هذه الأسئلة والإشكالات التي تطرح حول فاطمة الزهراء عليها السلام ليست شبهات ولا إشكالات جديدة بل هي كانت مطروحة من زمن نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم واللطيفة إن هذه الإشكالات والإثارات والشبهات هي في الحقيقة تخدمنا جدا، لأنها تكون مربية ومعمقة لعقائدنا فنحن نجد الكثير من العقائد في حياتنا نمر عليها مرور الكرام إما عندما تثار الشبهات حول عقيدة معينة فكما تؤدي إلى زعزعة بعض النفوس الضعيفة كذلك تؤدي إلى أن يكون
214 أهل الأقلام والفكر والتحقيق يغوصون في فهم العقائد ودعمها قرآنيا أو روائيا وعلى ضوء الاستدلالات الصحيحة وبالنتيجة تكون العقيدة معمقة ودقيقة وتقف بوجه الشبهات والإشكالات التي تطرح عليها، والأمثلة على ذلك كثير جدا مثلما طرحت بعض الإشكالات المغرضة حول وجود صاحب الزمان عج وقضية الزهراء بصورة عامة كل هذه الإشكالات بالنتيجة وكما قلنا كانت مفيدة بقدر ما هي مضرة ببعض ضعاف النفوس وعلى كل فالذي نريد القول به هو أن الردود العلمية الدقيقة للإشكالات والشبهات التي تطرح قد أنضجت القضايا العقائدية بشكل أو آخر. أما الجواب على مسألة تفضيل الزهراء عليها السلام على مريم عليها السلام فيكون على شكل نقاط نذكرها لكي يتبين لنا الحق في ذلك: 1 - إن الحديث الذي بدأنا به البحث قال بأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة وهذا القول يحمل نفس معنى أن فاطمة سيدة نساء العالمين لأن الجنة فيها المؤمنات فقط والقديسات الطاهرات فتكون فاطمة سيدتهن فمن باب الأولوية تكون فاطمة سيدتهن في الدنيا كما هي سيدتهن في الآخرة فالمعنى واحد سواء في الدنيا أو في الجنة. 2 - أن ما طرحه القرآن الكريم من كون مريم عليها السلام قد اصطفاها الله تعالى على نساء العالمين كان على لسان النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو الذي أخبرنا بالقرآن وهو الذي أوحي إليه من الله تعالى، ونقول كذلك باعتبار الرسول ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى أخبرنا وبلغنا أن فاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين ومريم سيدة عالمها فكما بلغنا الرسول القرآن في الآيات الأولى من اصطفاء مريم كذلك بلغنا بقوله حول ابنته فاطمة الزهراء عليها السلام والشاهد على قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه القصة هو ما ورد عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان جالسا ذات يوم، وعنده علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام فقال: اللهم إنك تعلم أن هؤلاء أهل بيتي وأكرم الناس علي فأحب من أحبهم وأبغض من أبغضهم وأوالي من والاهم وأعادي من عاداهم ... إلى أن يقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حق فاطمة... وإنها لسيدة نساء العالمين. فقيل يا رسول الله، أهي سيدة نساء عالمها؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ذاك لمريم بنت عمران، فأما ابنتي فاطمة فهي سيدة نساء العالمين من
215 الأولين والآخرين: وإنها لتقوم في محرابها فيسلم عليها سبعون ألف ملك بن الملائكة المقربين، وينادونها بما نادت به الملائكة مريم فيقولون: يا فاطمة! (إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين) 42 آل عمران (1). إلى آخر الحديث. فيكون الحديث الحديث بمثابة تحديد لإطلاق كلمة العالمين التي وردت في الآية القرآنية فتكون النتيجة أن مريم سيدة نساء عالمها وفاطمة سيدة نساء الأولين والآخرين. أما القرآن الكريم فلقد وردت كلمة تفضيل على العالمين ليست لمريم فقط بل جاءت لبني إسرائيل ولأنبياء بني إسرائيل فمثلا قوله تعالى (وإسماعيل واليسع ويونس ولوط وكلا فضلنا على العالمين) (2). فالآية الشريفة بينت أن الله تعالى فضلهم على العالمين هذا هو الظاهر منها ولكن من منا يقول إن هؤلاء الأنبياء أفضل من نبينا محمد صلى الله عليه وآل وسلم، ولا يوجد أحد يقول ذلك فنبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم خاتم الأنبياء، بل هناك فرقا شاسعا بينه وبينهم وخاصة نحن نرى أن القرآن الكريم يقول (وتلك رسلنا فضلنا بعضهم على بعض)... إذن بلسان القرآن الكريم أن هناك فرقا بين الأنبياء وهناك تفضيل بينهم، وهذا دليل واضح على أنهم - أي هؤلاء الأنبياء - أفضل أنبياء زمانهم، إذ من القرآن الكريم نستفيد أن هذا الاطلاق يحمل تقييده معه أي يحمل قيده. وهناك شواهد أخرى تدل على هذه المسألة المطروحة في المقام، فهذا القرآن الكريم يقول (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين). فالمعروف أن بني إسرائيل هم اليهود والقرآن يقول فضلتكم على العالمين فهل هناك إنسان مسلم أو مسيحي يقول أن اليهود أفضل من عليها أو أفضل من المسلمين؟ لا شك ولا ريب لا أحد يقول بهذه المقالة إلا من كان منهم إذن ما معنى أني فضلتكم على العالمين ؟ هل لأنه في زمانهم كثرة الأنبياء؟ وهذا في الحقيقة لا يدل على
(1) أمالي الصدوق: 393 / ح 18، عنه البحار: 43 / 24 ح 20 / تأويل الآيات: 1 / 111 ح 17 نور الثقلين: 1 / 281 ح 135. إثبات الهداة: 1 / 538 ح 166. بشارة المصطفى: 218 روضة الواعظين 180، غاية المرام 52 ح 32. (2) الأنعام: آية 86. 216 الأفضلية وإذا كانت ثمة أفضلية في المقام فهي للأنبياء لكثرتهم لا لذلك الشعب المتعجرف فبالعكس أن كثرة الأنبياء تدل على كثرة الفساد وشدة الانحراف عن طريق الأنبياء والطغيان الذي ملأهم، فالأنبياء إنما يبعثون لحاجة البشر إليهم، وهذا ما أخبرنا به القرآن الكريم حيث كان اليهود يقتلون الأنبياء بغير حق فكلما كان يقتل نبي يبعث نبي آخر وهكذا وفي ذلك يقول القرآن الكريم: (ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق) (1). (فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق) (2). إذن كثرة الأنبياء تدل على سقوط ذلك الشعب وكفره وانتشار الفساد فيه وليس تدل على أفضلية ذلك الشعب، وبني إسرائيل تلك الأمة المنحرفة والتي لا زال شرها إلى الآن على العالم الإسلامي بل على كل العالم كانت في الحقيقة أمة غير ناجحة وفاشلة جدا والسبب في ذلك هو تمردها على أنبياءها وعلمائها وقديسيها وقادتها وهذا هو السبب في فشلهم، وعلى هذا الأساس تكون كلمة الاصطفاء على العالمين مثل كلمة التفضيل إذن من نفس مفردات القرآن الكريم نستفيد من كلمة عالمين أي عالم زمانها سواء كانت كلمة عالمين في قضية تفضيل اليهود أو تفضيل الأنبياء أو تفضيل مريم عليها السلام، فتكون كلمة عالمين يعني عالم زمانها ليس إلا. 4 - روي أن زكريا كلما دخل على مريم عليها السلام وهي في محرابها (وكان آنذاك رئيس الهيكل اليهودي فاهتم بها وتفقد شؤونها) وجد عندها طعاما وعهده بها أن لا يدخل عليها أحد، فسألها متعجبا: أنى لك هذا!... قالت هو من عند الله - أي لا بواسطة أحد من الناس - أن الله يرزق من يشاء بغير حساب. ولا شك ولا ريب أن هذه كرامة لمريم عليها السلام فهل في فاطمة الزهراء عليها السلام موجودة هذه الكرامة أن أنها إختصت بمريم فقط فتكون مفضلة على الصديقة عليها السلام؟ قلنا: نعم حدثت مثل هذه الكرامة لسيدة النساء فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد جاء في تفسير روح البيان للشيخ إسماعيل حقي عند تفسير قوله تعالى حكاية عن مريم: (هو من عند الله) جاء في هذا التفسير ما نصه
(1) البقرة: آية 61. (2) النساء: 155. 217 بالحرف: جاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في زمن قحط، فأهدت له فاطمة رغيفين ولحما.. فأتاها وإذا بطبق عندها مملوء خبزا ولحما، فقال لها: أنى لك هذا؟ قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، فقال: الحمد لله الذي جعلك شبيهه بسيدة بني إسرائيل، ثم جمع رسول الله عليا والحسنين، وجمع أهل بيته عليه فأكلوا وشبعوا، وبقي الطعام كما هو فأوزعت فاطمة على جيرانها (1). وفي كتاب ذخائر العقبى لحب الدين الطبري إن عليا عليه السلام استقرض دينارا ليشتري به طعاما لأهله، فالتقى بالمقداد بن الأسود في حال إزعاج ولما سأله الإمام قال: تركت أهلي يبكون جوعا، فآثره بالدينار على نفسه وأهله وانطلق إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصلى خلفه وبعد الصلاة قال النبي لعلي: هل عند شئ تعشينا به؟ وكأن الله قد أوحى إليه أن يتعشى عند علي، فأطرق علي لا يحير جوابا، فأخذ النبي بيده، وانطلقا إلى بيت فاطمة، وإذا بجفنة من الطعام فقال لها علي عليه السلام أنى لك هذا؟ قال له النبي: هذا ثواب الدينار، هذا من عند الله يرزق من يشاء بغير حساب، الحمد لله الذي أجراك يا علي مجرى زكريا وأجراك يا فاطمة مجري مريم، كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا... (2). وعليه قد ثبتت هذه الفضيلة للزهراء عليها السلام ملما ثبتت لمريم سواء من طرق العامة أو الخاصة. 5 - واستدل الكثير من العامة والخاصة بأفضلية فاطمة عليها السلام على مريم وخصوصا ما تواتر عن أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم م الخاصة والعامة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها أغضبني فهذا الحديث من المتواترات وفيه دلالة على كونها من نور الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكونها لحمه ودمه فهو خاتم الرسل فإنه تكون ابنته أفضل من ابنة عمران. أو ما قال خاتم الرسل فيها * فاطم بضعتي ولأي ولاها فاطم روحي التي بين جنبي * وريحانتي التي أهواها
(1) الخرائج والجرائح: 528 ح 3، البحار: 43 / 27 ح 30، الثاقب في المناقب: 295 تفسير الثعلبي: 202 /، فرائد السمطين: 2 / 51، ابن كثير البداية والنهاية: 6 / 111 وروح المعاني: 3 / 124، الدرر المنثور: 2 / 20، وإحقاق الحق: 3 / 538 . (2) ذخائر العقبى: 45، كفاية الطالب: 367، ووسيلة المآل: 89، ينابيع المودة : 199، كشف الغمة: 1 / 469، أمالي الطوسي: 2 / 228 البحار: 43 / 59 ح 51. 218 أيها الناس باب فاطم بابي * مثلما قد غدا حماي حماها أيها الناس فاحفظوني فيها * تاه في الغي من بسوء أتاها 6 - إن فاطمة الزهراء عليها السلام أفضل من مريم بل هي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين وهذا ما أثبته الحديث المروي عن أبي جعفر عليه السلام في حديث طويل: ولقد كانت عليها السلام مفروضة الطاعة على جميع من خلق الله، من الجن والإنس والطير والوحش والأنبياء والملائكة (1) وكذلك ما ورد في الحديث الشريف عن أهل بيت العصمة أنه ما تكاملت نبوة نبي من الأنبياء حتى أقر بفضلها ومحبتها وهي الصديقة الكبرى وعلى معرفتها دارت القرون الأولى (2). فالذي يظهر من هذين الحديثين أن فاطمة مفروضة الطاعة على جميع الأولين والآخرين بما فيهم النساء والأنبياء والخلق كلهم وكذلك لا تتكامل نبوة نبي إلا أن يقر بفضلها ومحبتها، فإذا كان حال الصديقة الكبرى هكذا مع الأنبياء فكيف مع مريم عليها السلام ولم تكن نبية؟ 7 - ويمكن أن نستفيد من الحديث المروي عن شفاعة فاطمة الزهراء عليها السلام يوم القيامة وأن لها الشفاعة الكبرى كما لأبيها رسول الله أنها الأفضل وأنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين بينما لا يوجد عندنا نص في شفاعة مريم عليها السلام فلذلك يكون هذا الحديث المروي عن شفاعة فاطمة دليل على كونها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين وإلا كيف يكون لها مقام الشفاعة؟ وإليك الحديث المروي في شفاعتها لمحبيها وشيعتها يوم القيامة. * عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: لفاطمة وقفة على باب جهنم فإذا كان يوم القيامة كتب بين عيني كل رجل: مؤمن أو كافر، فيؤمر بمحب قد كثرة ذنوبه إلى النار، فتقرأ بين عينيه محبا، فتقول: إلهي وسيدي سميتني فاطمة، وفطمت بي من تولاني وتولى ذريتي من النار، ووعدك الحق وأنت لا تخلف الميعاد. فيقول الله عز وجل: صدقت يا فاطمة إني سميتك فاطمة وفطمت بك من أحبك وتولاك وأحب ذريتك وتولاهم من النار، ووعدي الحق وأنا لا أخلف الميعاد وإنما
(1) دلائل الإمامة: 28. (2) البحار: 43 / 105. 219 أمرت بعبدي هذا إلى النار لتشفعي فيه فأشفعك، ليتبين لملائكتي وأنبيائي ورسلي وأهل الموقف موقفك مني ومكانتك عندي فمن قرأت بين عينيه مؤمنا فجذبت بيده وأدخلته الجنة (1). إذن لا يبقى أي إشكال في كون فاطمة سيدة نساء الجنة وسيدة نساء العالمين والأولين والآخرين ولا تنافي في كون مريم قد دعمها القرآن الكريم وإن الله قد اصطفاها فإن ذلك كان في زمانها ولا يمتد إلى زمان الصديقة الطاهرة فاطمة عليها السلام، هذا من جهة اصطفاء مريم وكيفية التوفيق بين ذلك، أما بالنسبة للمعجزة الربانية التي خصت بها مريم عليها السلام والكرامة التي أعطاها الله تبارك وتعالى إياها وهي إنها ولدت عيسى من غير أب عيسى عليه السلام، وإنه نبي من الأنبياء، وهذا غير موجود في الصديقة فاطمة عليها السلام ولم يقع لها بل ولدت الحسن والحسين وزينب عليها السلام بالطريقة الطبيعية فتكون مريم مفضلة على فاطمة فيكون الجواب على ذلك: إننا لا نتصور ولا نصدق على أن يكون هذا دليلا على أفضلية مريم عليها السلام لماذا؟ لأنه بالنسبة لولادتها لعيسى عليه السلام وحملها به من غير أب يكون وحسب رأينا القاصر لسببين: 1 - إن مريم عليها السلام حملت بعيسى بهذه الطريقة لأنه لم يكن في بني إسرائيل كفوء لها فمن من بني إسرائيل يستحق أن يكون زوجا للقديسة الطاهرة وأبا لعيسى عليه السلام هذا من جهة، ومن جهة أخرى إنها نذرت نفسها لخدمة بيت الله آنذاك ولذلك كان اصطفائها من قبل الله تعالى والدليل على عدم وجود كفوء لها إنها عندما حملت بعيسى وولدته فقدوها بني إسرائيل في المحراب فخرجوا في طلبها وخرج زكريا فأقبلت مريم وعيسى في صدرها وأقبلت مؤمنات بني إسرائيل يبزقن في وجهها فلم تكلمهن حتى دخلت في محرابها فجاء إليها بنو إسرائيل وزكريا فقالوا لها يا مريم لقد جئت شيئا فريا أي شيئا عظيما في المناهي يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا ومعنى قولهم يا أخت هارون إن هارون هل كان رجلا فاسقا زانيا فشبهوها به يعني أين هذا البلاء الذي جئت به والعار الذي ألزمته بني
(1) البحار: 8 / 51. 220 إسرائيل؟! فأشارت إلى عيسى في المهد فقالوا لها كيف نكلم في المهد من كان صبيا فأنطق الله عيسى عليه السلام فقال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا، والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا. إذن عندما جاءت إلى بني إسرائيل تحمل الطفل الكل شمتوا بها وانقلبوا عليها كما قال القرآن الكريم في ذلك يا أخت هارون يعني شماته... والقرآن الكريم حكى جانب من شماتتهم فمريم عرفت أنه ليس في بني إسرائيل لها ناصر ولا يذكر القرآن الكريم إن هناك من وقف مع مريم وانبرى للدفاع عنها مثلا حتى يقول إنها كانت امرأة طاهرة تاريخها نظيف، هذه كانت صاحبة معجزات في أحضان نبي فلا بد أن نرى القضية قبل أن نحكم عليها بهذه السرعة، فمن هذا القبيل لم يوجد رجل دافع عنها فإذا كان هكذا موقفهم معها فأين يوجد الكفوء لها حتى تتزوج به وتكون ولادتها طبيعية فأذن لا يوجد كفوء لها يشاركها المعجزة والكرامة ويتحمل إلى جانبها مسؤولية السماء فالأكثرية بل الكل كانوا أناس غير ملتزمين والدليل على ذلك إننا نجد أيضا، بعض أنصار الأنبياء جرحوا الأنبياء، أصحاب موسى عليه السلام مثلا وهكذا فما كان هناك كفوء. بينما توفر الكفوء لفاطمة عليها السلام ألا وهو سيد الأوصياء وأمير الموحدين علي أبن أبي طالب أي نفس الرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وكما أخبر بذلك القرآن، فتوفر الكفوء إذن دلالة على عدم الحاجة إلى المعجزة، هذا ما نتصوره في الجواب الأول. بنت النبي الذي لولا هدايته * ما كان للحق لا عين ولا أثر هي التي ورثت حقا مفاخره * والعطر فيه الذي في الورد مدخر تزوجت في السما بالمرتضى شرفا * والشمس يقرنها في الرتبة القمر 2 - أما بالنسبة لمريم وأنها ولدت نبيا ولم تلد فاطمة نبيا فهذا يرد عليه بأن ولادة الأنبياء في بني إسرائيل حتى وإن كانت ولادتهم طبيعية أو غير طبيعية لا يدل ذلك أن الأنبياء من بني إسرائيل أفضل من أهل البيت عليهم السلم فلقد ثبت بالأدلة القاطعة أن أهل البيت لا يدانيهم آل من الآل سواء آل عمران أو آل لوط... وغيرهم ممن ذكرهم القرآن
221 الكريم فهؤلاء لا يصلون ولا يرتقون إلى منزلة أهل البيت عليهم السلام وهذا مسلم به وحتى أن حديث الكساء يشير إلى ذلك الأمر، هذا الحديث الذي اعترف به أحقد من عليها - أي على الشيعة - ألا وهو ابن تيمية في كتابه منهاج السنة الذي ثنى ركبتيه وشد الأحزم لنقض كل فضائل أهل البيت عليهم السلام وحتى الرواية التي يجدها تحمل فضيلة فإنه ينكرها من الأساس فيكون بذلك مخالف لأسلوب العلماء والذين يريدون التخلص مثلا من رواية بإسقاط سندها وضعفه عن القيام بالحجية. إذن فحديث الكساء الشريف أثبت أفضلية أهل البيت عليهم السلام من بقية الآل وهذا بالحقيقة يجعل هذا الحديث يتألق في سماء العقيدة والمعرفة فإنه فاطمة ولدت حسنا وحسينا ولا يقاس بهم لا نبي من أنبياء بني إسرائيل ولا وصي وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم علماء أمتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل فيه دلالة واضحة على ذلك لأنه لو أخذنا وفسرنا أن علماء أمتي هم الأئمة عليهم السلام بالخصوص فيكون الأفضلية لفاطمة عليها السلام من هذه الجهة وأضف إلى ذلك أن عيسى بن مريم عليه السلام وكما وردت الروايات في ذلك إنه سوف يصلي خلف الإمام المهدي عج عند ظهوره الشريف وأضف إلى ذلك أنه أمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام كان يقينهم ثابت ووصل مرحلة لا يصل إليها أحد من أنبياء بني إسرائيل أليس القرآن الكريم يقول في حق نبي من الأنبياء أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي يعني لم يصل إلى مرحلة الاطمئنان القلبي الراسخ الذي هو عبارة عن اليقين الحقيقي، أما علي وأولاد علي عليهم السلام لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا. إذن ولادة مريم لعيسى بالمعجزة الربانية وإنه كان نبيا لا يدل أفضليتهما من الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام وعليه كل الأدلة المطروحة حول ذلك مردودة، وهذا لا يعني إننا نطعن بشخصية مريم أو نريد أن نقلل من شأنها بل اتخذناها عظيمة من العظيمات وقسنا عليها عظماء الأمة. والثمرة في هذا البحث من الناحية العقائدية وحسب ما نتصوره أنه عندما ثبت أنها سيدة نساء العالمين وأنها أفضل النساء من الأولين والآخرين فإنه سوف يكون ظلمها وعدم رعاية حقها من قبل الذين ظلموها والذين رضوا بذلك ذا وبال عليهم
222 في الدنيا بلعنهم والبراءة من ظلمهم وأفعالهم بحق سيدة نساء العالمين وفي الآخرة الخزي والعذاب الأليم إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنوا في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا أليما. وأيضا الثمرة في ذلك هو أننا بقدر معرفتنا بمقامات أولياء الله تعالى - ومنهم فاطمة عليها السلام - والتي ورد البحث عليها وعلى طلب المزيد منها، نزداد عند ذلك معرفة الله تعالى لأنه من عرفكم فقد عرف الله تعالى لأنهم هم الدالين عليه وعلى عظمته، وهذا ثابت للزهراء عليها السلام كما ثبت للأئمة عليهم السلام. وكذلك أنه متى ما عرفنا أنه فاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين عرفنا عند ذلك أن لها مقاما ساميا وكرامة ربانية، وخاصة نحن نؤمن بأنها كانت مفروضة الطاعة على جميع الخلق بما فيهم الملائكة والجن والأنبياء وإنه ما تكاملت نبوة نبي حتى أقر بفضلها ومحبتها وعلى معرفتها دارت القرون الأولى، كل ذلك له الأثر الكبير في أن يعمق ارتباطنا بفاطمة عليها السلام ويدخل حبها في قلوبنا وفي صميم عقائدنا ونزداد تفاعلا مع ظلاماتها وما جرى عليها من الظلم والعدوان وعظيم المحن التي مرت عليها. وأخيرا نختم هذا البحث بما ورد من كلمات الأعلام حول ثبوت كونها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين والأمر لا يخلو من فائدة فيما نحن فيه، وإليك أقوال المحدثين: * قال ابن أبي الحديد: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مال إليها وأحبها ، فأزاد ما عند فاطمة بحسب زيادة ميله، وأكرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إكراما عظيما أكثر مما كان الناس يظنونه، وأكثر من إكرام الرجال لبناتهم، حتى خرج بها عن حد الآباء للأولاد، فقال بمحضر الخاص والعام مرارا لا مرة واحدة، وفي مقامات مختلفة لا في مقام واحد إنها سيدة نساء العالمين، وإنها عديلة مريم بنت عمران، وإنها إذا مرت في المواقف ناد مناد من جهة العرش: يا أهل الموقف غضوا أبصاركم لتعبر فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله، وهذا من الأحاديث الصحيحة (1)... * وقال شهاب الدين الآلوسي: عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أربع
(1) شرح النهج: 9 / 193. 223 نسوة سادات عالمهن: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وأفضلهن عالما فاطمة.. والذي أميل إليه أن فاطمة البتول أفضل النساء المتقدمات والمتأخرات من حيث إنها بضعة رسول صلى الله عليه وآله وسلم ، بل ومن حيثيات أخرى أيضا، ولا يعكر على ذلك الأخبار السابقة لجواز أن يراد بها أفضلية غيرها عليها من بعض الجهات، وبحيثية من الحيثيات... إذ البضعية من روح الوجود وسيد كل موجود، لا أراها تقابل بشئ، وأين الثريا من يد المتناول؟ ومن هنا يعلم أفضليتها على عائشة رضي الله تعالى عنها الذاهب إلى خلافها الكثير محتجين بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: خذوا ثلثي دينكم عن الحميراء... وأنت تعلم ما في هذا الاستدلال، وأنه ليس بنص على أفضلية الحميراء على الزهراء ، أما أولا، فلأن قصارى ما في الحديث الأول على تقدير ثبوته إثبات أنها عالمة إلى حيث يؤخذ منها ثلثا الدين، وهذا لا يدل على نفي العلم المماثل لعلمها عن بضعته عليه الصلاة والسلام، ولعلمه صلى الله عليه وآله وسلم أنها لا تبقى بعده زمنا معتدا به يمكن أخذ الدين منها فيه لم - يقل فيها ذلك، ولو علم لربما قال : خذوا كل دينكم عن الزهراء... على أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم إني تركت فيكم الثقلين كتاب الله تعالى وعترتي أهل بيتي، لا يفترقان حتى يردا علي الحوض يقوم مقام ذلك الخبر وزيادة كما لا يخفى. كيف لا، وفاطمة رضي الله تعالى منها سيدة تلك العترة (1). * وقال العلامة المجاهد السيد شرف الدين رحمة الله: تفضيلها على مريم عليها السلام أمر مفروغ عنه عند أئمة العترة الطاهرة وأوليائهم من الإمامية وغيرهم، وصرح بأفضليتها على سائر النساء حتى السيدة مريم كثير من محققي أهل السنة والجماعة كالتقي السبكي، والجلال السيوطي، والبدر، والزركشي، والتقي المقريزي، وابن أبي داود، والمناوي فيما نقله عنهم العلامة النبهاني في فضائل الزهراء ص 59 من كتابه الشرف المؤبد، وهذا هو الذي صرح به السيد أحمد زيني دحلان مفتي الشافعية ونقله عن عدة من أعلامهم، وذلك حيث أورد تزويج فاطمة بعلي في سيرته
(1) تفسير روح المعاني: 3 / 155. 224 النبوية (1) حتى مريم رضي الله عنها، كما اختاره المقريزي والزركشي والحافظ السيوطي في كتابه شرح النقابة وشرح جمع الجوامع بالأدلة الواضحة التي منها أن هذه الأمة أفضل من غيرها، والصحيح أن مريم ليست بنبية بل حكي الإجماع على أنه لم يتنبأ امرأة قط. وقال صلى الله عليه وآله وسلم مريم خير نساء عالمها، وفاطمة خير نساء عالمها (2) رواه الترمذي. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: يا بنية، ألا ترضين أنك سيدة نساء العالمين؟ قالت: يا أبت فأين مريم؟ قال: تلك سيدة نساء عالمها رواه ابن عبد البر. وقد أخرج الطبراني بإسناد على شرط الشيخين، قالت عائشة: ما رأيت أحدا قط أفضل من فاطمة غير أبيها (3)... وروى المجلسي ره قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قالت فاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وإنها لتقوم في محرابها فيسلم عليها سبعون ألف ملك من المقربين، وينادونها بما نادت به الملائكة مريم، فيقولون: يا فاطمة إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين (4). وقال صلى الله عليه وآله وسلم: حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون. وفي رواية مقاتل والضحاك وعكرمة عن ابن عباس: وأفضلهن (5). وعن محمد بن سنان، عن المفضل قال: قلت لأبي عبد الله عليها السلام: أخبرني عن قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في فاطمة: إنها سيدة نساء العالمين أهي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين (6). وعن الحسن بن زياد العطار قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، أسيدة نساء عالمها ؟ قال: ذاك مريم، وفاطمة سيدة نساء أهل الجنة من الأولين والآخرين (7).
(1) هامش النص والاجتهاد: المورد، 114. (2) إنما قال عالمها لأن عالمها أفضل من عالم مريم كما صرح به المؤلف آنفا . فاطمة مهجة قلب المصطفى 95. (3) السيرة الحلبية: 2 / 6. (4) البحار: 43 / 49، وقد تقدم، والآية في آل عمران، 42. (5) العوالم: 11 / 46، 49. (6) نفس المصدر السابق. (7) العوالم: 11 / 49، 51. 225 وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الحسن والحسين خير أهل الأرض بعدي وبعد أبيهما، وأمهما أفضل نساء أهل الأرض (1). وفي الحديث: إن آسية بنت مزاحم، ومريم بنت عمران، وخديجة يمشين أمام فاطمة كالحجاب لها إلى الجنة (2). * وروى السيد الشبر رحمه الله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فاطمة خير نساء أمتي إلا ما ولدته مريم. ثم قال: وأحسن توجيهاته على تقدير صحته أن تكون فيه إلا بمعنى الواو كما ذكره أهل العربية، وحملوا عليه قوله تعالى لئلا يكون الناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا (3)، ويكون المعنى أنها خير نساء أمتي وخير نساء أمة ما ولدته مريم وهو عيسى، وخصص تلك الأمة بالذكر لكثرة النساء الصالحات العابدات فيها دون أمم سائر الأنبياء (4).
(1) نفس المصدر السابق. (2) نفس المصدر السابق. (3) البقرة: آية 150. (4) مصابيح الأنوار 2 / 393، 394. 226 البحث الثامن فاطمة الزهراء عليها السلام علة غائية
227 الشيخ عبد المنعم الفرطوسي شجون تستهل لها الدموع * وتحرق من لواعجها الضلوع وقفت على البقيع فسأل طرفي * وقلبي فالدموع هي النجيع كأن مصيبة الزهراء بيت * بقلبي للأسى وهو البقيع أمثل البضعة الزهراء تجفى * ويعفي قبرها وهو الرفيع ويغصب حقها جهرا وتؤذى * بحيث وصية الهادي تضيع تصد عن البكاء على أبيها * فتحبس في محاجرها الدموع وتقتطع الأراكة حين تأوي * لظل غصونها كف قطيع ويحرق بيتها بالنار حقدا * ويهتك سترها وهو المنيع ويكسر ضلعها بالباب عصرا * فيسقط حملها وهو الشفيع ويدمي صدرها المسمار كسرا * فينبع بين ثدييها النجيع وينثر قرطها لطما ويلوى * عليها السوط والسيف الصنيع (1) وحمرة عينها للحشر تبقى * بها من كف لاطمها تشيع تنوح فتسمع الشكوى وتدعو * وما في المسلمين لها سميع مصائب بالفظاعة قد تناهت * وكل مصيبة خطب فظيع قضت ألما من الزهراء * حشاشة قلبها وهو المروع
(1) السيف: الصقيل. 229 البحث الثامن فاطمة الزهراء عليها السلام العلة الغائية (يا أحمد لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما) (1). هذا الحديث من الأحاديث المأثورة التي رواها جابر بن عبد الله الأنصاري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الله تبارك وتعالى ومن المعلوم أن كلام الله تعالى جاء على قسمين أحدهما ما ورد في القرآن الكريم والأخر ما جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من دون أن يكون له وجود في القرآن الكريم وهو ما يعبر عنه بالأحاديث القدسية التي خاطب بها الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولقد جمعت كثير من الكتب هذه الأحاديث القدسية مثل كتاب كلمة الله وكتاب الأحاديث القدسية عند الفريقين وغيرهما من الكتب والذي يهمنا في المقام هذا الحديث القدسي الذي جاء ليثبت للصديقة فاطمة عليها السلام كرامة أخرى، ومنقبة عظمي وذلك من خلال التمعن في مدلولات هذا الحديث المبارك. يا أحمد لولاك لما خلقت الأفلاك والخطاب هنا من الباري عز وجل لرسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومن المعلوم لدينا أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم له عدة أسماء وردت على لسان القرآن الكريم مثل مسجد صلى الله عليه وآله وسلم (ما كان محمدا أبا أحد من رجالكم) ومثل أحمد (ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد)، وكذلك ياسين، وغيرها من الأسماء التي جاءت بتعابير مختلفة،
(1) الجنة العاصمة: 148، مستدرك سفينة البحار: 3 / 334 عن مجمع النورين: 14، عن العوالم: 44. 231 وفيما نحن فيه جاء الخطاب للرسول باسم أحمد، حيث توجه إليه الخطاب الإلهي ليقول له لولاك يا رسول الله لما خلقت الموجودات التي هي متيسرة في الأفلاك، والأفلاك هنا معناها كل الموجودات التي تدور حياتها ووجودها في الكون سواء نعلم بوجودها أم لا نعلم، فعلة خلق الموجودات هو لأجل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام وهذا ما أكدته كثير من الأحاديث المأثورة في هذا المقام منها عن النبي لما خلق الله آدم أبو البشر نفخ فيه من روحه التفت آدم يمنة العرش فإذا في النور خمسة أشباح سجدا وركعا. قال آدم: يا رب! هل خلقت أحدا من طين قبلي؟ قال: لا، يا آدم، قال: من هؤلاء الخمسة الأشباح الذين أراهم في هيئتي وصورتي؟ قال: هؤلاء خمسة من ولدك لولاهم ما خلقتك، هؤلاء خمسة شققت لهم خمسة أسماء من أسمائي لولاهم ما خلقت الجنة ولا النار، ولا العرش ولا الكرسي، ولا السماء ولا الأرض، ولا الملائكة ولا الأنس ولا الجن، فإن المحمود وهذا محمد، وأنا العالي وهذا علي وأنا الفاطر وهذه فاطمة، وأنا الإحسان وهذا الحسن، وأنا الحسن وهذا الحسين آليت بعزتي أنه لا يأتيني أحد بمثقال ذرة من خردل من بغض أحدهم إلا أدخلته ناري ولا أبالي يا آدم، هؤلاء صفوتي من خلقي بهم أنجيهم، وبهم أهلكهم فإذا كان لك إلي حاجة فبهؤلاء توسل فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحن سفينة النجاة. من تعلق بها نجا، ومن حاد عنها هلك، فمن كان له إلى الله حاجة فليسأل بنا أهل البيت (1). أقول: يظهر من هذا الحديث عدة أمور مهمة تتطابق في مدلولاتها مع الحديث القدسي الذي نحن بشأن توضيحه، فأنوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام مخلوقة قبل وجود آدم، وأكد الحديث على أن علة خلق آدم هو من أجل هذه الأنوار - حيث قال الله تعالى لآدم: لولاهم ما خلقتك بل تجاوز الأمر إلى أن كل الموجودات هي مخلوقة بسببهم فالعرش والجنة والنار والكرسي والسماء والأرض والملائكة والإنس والجن كلهم لن يوجدوا لولا وجود أنوار أهل البيت بما فيهم جدهم رسول
(1) فرائد السبطين: 1 / 36 ح 1، عنه غاية المرام: 5 ح 1، ح 15 ح 1 أرجح الطالب : 461. 232 الله صلى الله عليه وآله وسلم لذلك نجد في حديث الكساء المتقدم الذكر في كتابنا هذا أنه يصف علة إيجاد الأفلاك هو لأجل أهل البيت عليهم السلام حيث يقول الله تعالى ملائكتي ويا سكان سماواتي إني ما خلقت سماء مبنية ولا أرضا مدحية ولا قمرا منيرا ولا شمسا مضيئة ولا فلكا يدور ولا بحرا يجري ولا فلكا يسري إلا في محبة هؤلاء عليهم السلام (1) أي إني لأجل حبهم وأنوارهم خلقت هذه الأفلاك. إذن يظهر من هذه الأمور ومن خلال عدة أحاديث مأثورة أن الأفلاك والموجودات ما خلقت لولا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا أحمد لولاك لما خلقت الأفلاك وهذه العبارة مطابقة لمضمون كثير من الأحاديث الولائية سواء كانت من كتب الخاصة أو العامة. وبعبارة أخرى لتوضيح المطلب: أولا: حينما نسأل، لماذا خلق الله الكون الأفلاك؟ فإن الجواب يأتي من القرآن الكريم وهو أن الله خلق الكون والحياة من أجل الإنسان، لأنه قال: ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا...)، وقال: (وسخر لكم الشمس والقمر... وسخر الليل والنهار) وسخر كل شئ في السماوات، وكل شئ في الأرض، وسخرها في خدمة الإنسان، لأنه حينما يقول: سخرها، فإن ذلك يعني أنه جعلها، في خدمة الإنسان مسخرة له، يتصرف بها كيف يشاء... مثل تسخير القمر، والبحر للإنسان، فمن القمر، ننتفع بالضوء، ومن البحر ننتفع بالماء... وكما أن القمر يحمل السفن الفضائية على ظهره، كذلك البحر يحمل السفن الشراعية على ظهره أيضا. إذا: فالجواب على السؤال المتقدم: لماذا خلق الله الأفلاك والكون، والحياة؟ أقول: الجواب، خلقها من أجل الإنسان، كما صرح بذلك القرآن الكريم، في أكثر من مائة آية كلها تؤكد المعنى، وتصب اهتماما في هذا الجانب، بكلمة: سخر... وجعل.. الخ. وثانيا: نسأل، لماذا خلق الله الإنسان؟ ويأتي الجواب من القرآن أيضا: إنه للعبادة، (وما خلقت الجن، والإنس إلا ليعبدون) (2).
(1) راجع حديث الكساء الشريف. (2) سورة الذاريات: الآية 56. 233 والعبادة لا تتحقق إلا بشروط، ومن أهم تلك الشروط: (أ) معرفة الطريق. وكشف الوسيلة.. ووجود القائد، لأنه من دون القائد، لا يمكن الانطلاق في اتجاه صحيح، ولذلك صار القائد، الإمام المعصوم.. ومعنى ذلك: أن فقدان القائد، يعني فقدان العبادة، وإذا فقدت العبادة، انتفت الحكمة من وجود الإنسان، وإذا انتفت الحكمة من وجود الإنسان، ولم يعد لوجود الأفلاك معنى، لأن الأفلاك إنما وجدت بوجود الإنسان الذي يعبد الله، ولذلك عندما تقوم الساعة، وينتهي دور الإنسان في الحياة، فإن الكواكب، والنجوم، والأفلاك كلها تتمزق شذر مذر، وينتهي دورها: وحملت الأرض والجبال، فدكتا، دكة واحدة، ويقول: ( ويسألونك عن الجبال، فقل ينسفها ربي نسفا) (1) ويقول القرآن الكريم: (إذا السماء انشقت). (وإذا النجوم..). وعليه فمن كل ما تقدم، نخرج بالنتيجة التالية: وهي أن الله سبحانه - لولا الحبيب المصطفى - لم يخلق الكون، ولا الأفلاك.. ولأن هذه الحكمة، لا تسقط بموت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما تستمر الحكمة، من خلال الأئمة الطاهرين عليهم السلام أجمعين. وعلى هذا الأساس كان خلق السماوات والأرض وما بينهما لأجل الإنسان وليعبد الله تعالى بعد معرفة الإنسان بأن الله تعالى خلقه بقدرته لذلك وأنه سيبعثه يوم القيامة لتجزى كل نفس بما كسبت ومن الضروري الذي ثبت في محله إن الذين الذي رضى به الله تعالى وأتمه وأكمله لعباده هو الذي قال فيه تعالى - (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا). هذا هو الدين القيم الذي أرسل به رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم (بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله)، فظهر مما ذكرنا إجمالا معنى قوله لولاك ما خلقت الأفلاك وذلك لكونه سيد المرسلين وخاتم النبيين، ورسولا إلى الناس جميعا بهذا
(1) سورة طه: الآية 105. 234 الدين المبين، وفي ذلك يقول سيدنا الأستاذ آية الله السيد عادل العلوي ما نصه: فغاية الخلق هو الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما هو الصادر الأول - لقاعدة الأشرف كما في الفلسفة - وقد ورد في الخبر الشريف - كما تقدم ذلك - أول ما خلق الله نور محمد فهو العلة التامة بعد علة العلل وهو الله سبحانه (1). ولولا علي لما خلقتك أي يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لولا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لما خلقتك، وربما يظهر من هذا الكلام بعض التشويه لمن ليس له الباع الطويل لفهم ودراية أحاديث أهل البيت عليهم السلام، ولكن بأبسط تأمل وتدقيق في معاني هذا الكلام ينحل لنا هذا اللغز المحير، فالرواية التقدمة في علة خلق الموجودات تبين أن لولاهم ما خلقتك يا آدم، أي أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي عليه السلام مشتركين في نفس الأمر لكون الإمام علي هو نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكما عبرت عنه آية المباهلة أنفسنا فلا يتوهم المتوهمين في عدم تأويل وبيان هذا الأمر وتوجد نكته مهمة في هذا المقام متعلقة بأسرار البسملة ليست بقابلة للتقرير والتحرير، حيث قيل في هذا المقام أن الوجود ظهر من باء بسم الله الرحمن الرحيم وكما ورد ذلك في الأحاديث المأثورة عن أهل بيت العصمة وقيل بالباء ظهر الوجود وبالنقطة تميز العابد عن المعبود. وقال أمير المؤمنين ومولى الموحدين علي عليه السلام والله! لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من شرح باء بسم الله الرحمن الرحيم. وقال أيضا أنا النقطة تحت الباء لأنه كنقطة بالنسبة إلى التعين الأول الذي هو النور الحقيقي المحمدي لقوله - أي رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم - أول ما خلق الله نوري المسمى بالرحيم ولقوله أنا وعلي من نور واحد لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كالباء وعلي عليه السلام كالنقطة تحتها ، لأن الباء لا تعين إلا بالنقطة، كما أن النبي لا يتكمل إلا بالولاية، ومن هنا كان لولا علي لما خلقتك يا رسول الله فأفهم تغنم والله الهادي إلى
(1) راجع فاطمة ليلة القدر: 14. 235 الحق، وعلى هذا الأساس فإنه لا بد للرسالة السماوية من حجج وأئمة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما أثبت هذا في محله من علم الكلام. لأن الأرض لا تخلو من حجة وإمام في كل زمان، وأنه من لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية وهذا علي عليه السلام إمام وأب الأئمة المعصومين عليهم السلام كلهم خلقوا من أجل هذا الدين الحنيف الذي روحه العبودية لله رب العالمين برسالة رسوله وخلافة هؤلاء الأئمة الأمناء على الدين، وصفوة الله وخزان علمه... عليه السلام. إذن العلة التامة كما قلنا في كمالاتها وصفاتها التي هي مظهر لأسماء الله وصفاته هو رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهذا الإنسان الكامل والمخلوق الأتم - محمد صلى الله عليه وآله وسلم - لا بد لمثل هذه العلة النورانية والكلمة الإلهية التامة من معلول يشابهه ويسانخه لقانون العلة والمعلول كما هو ثابت في الفلسفة والحكمة المتعالية ويكون عندئذ هو نفسه وهو أمير المؤمنين أسد الله الغالب علي بن أبي طالب عليه السلام ومما يدل على ذلك هو آية المباهلة، فيظهر من هذا كله معنى ولولا علي لما خلقتك. ولولا فاطمة لما خلقتكما وذلك لكون فاطمة عليها السلام أم أبيها فهي جمعت الكمالات المحمدية وكانت مظهرا للصفات الربوبية وهي بقية النبوة ولولاها لما قام بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم للدين عمود ولا أخضر له عود بنورها زهرت السماوات العلى. وكذلك كونها أم الأئمة. وهي الوعاء الطاهر لذرية النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وهي الكوثر الذي لا ينقطع عطاؤه... ومنها الامتداد العلوي لأئمة أهل البيت عليهم السلام، فإذا عرفنا ذلك أدركنا عظمة الزهراء وحكمة وجودها لأن صلاح العالم كله إنما يكون وينطلق من أبناءها ويكفي دليلا على ذلك، أن يكون صلاح العالم، وإصلاح الدنيا اليوم، بواحد من أبناء فاطمة عليها السلام وهو الإمام المهدي عليه السلام يقول الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم المهدي من ولد فاطمة. إذا فإن فاطمة الزهراء، هي الصديقة الكبرى، وهي الكوثر المتدفق بالعطاء، وهي
236 أم الأئمة الطاهرين، ولولاها، لانعدمت الحكمة، من وجود الإسلام، وتكوين الحضارة ، لأن الحضارة إنما قامت بأبناء فاطمة أخذا من الإمام الحسن والحسين، وعلي بن الحسين والباقر والصادق... ومرورا بالإمام الكاظم، والرضا والجواد، وانتهاء بالإمام الهادي، والعسكري والإمام الحجة المنتظر عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام. ومن هنا جاء في تعريف فاطمة، أنها ليلة القدر.. وأن الذي يعرف حقها، وقدرها يدرك ليلة القدر، ويستوعب مفهوم هذه الليلة العظمية التي نزل فيها القرآن هدى للناس، وبينات من الهدى والفرقان، ولا يتحقق هذا المعنى من وجود الهداية، والبينات إلا بوجود الأئمة المعصومين، من أبناء فاطمة... (1). والنتيجة هي: أنه لولا فاطمة، لما كان هناك حكمة من وجود الإسلام، وعلى هذا الأساس، دون هذا المنطلق، تنتفي حكمة البعثة، وإذا لم يبعث النبي، لم يوجد الوصي، وهكذا نجد أن هذه المسألة على عمقها، فإنها واضحة وضوح الشمس في رائعة النهار، ولذلك جاء هذا الحديث القدسي، جامعا، معبرا، قال: يا أحمد - لولاك ، لما خلقت الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك ولولا فاطمة، لما خلقتكما....
(1) اعلموا أني فاطمة: 8 / 522. 237 البحث التاسع فاطمة عليها السلام والولاية التكوينية
239 الشيخ علي مديحلي العاملي أدمت خشاشة فاطم آلامها * مذ ضم والدها العظيم رغامها ودت غداة بفقده قد أثكلت * لو زادها من قبل ذاك حمامها تبكي وما بكت الفوائد مثلها * مولى تضن بمثله أيامها كم كابدت محنا تنوء بحملها * همم الرجال ويشتكي ضرغامها أم الأئمة بنت من بلغ الذرى * مجدا أظلما تخفي أعلامها بالله كيف تضام زجرا بعدما * مدح الإله لها وبان مقامها شلت يد مدت إلى حرم الهدى * كانت تعنفها وخاب مرامها شاءوا مذلتها بظعن محمد * فعدا على بيت النبي لئامها تبا لمن قاد الهجوم لبيتها * بعد النبي وما ثناه كلامها تبا لمن أمر اللعين بضربها * فازداد من ألم السياط سقامها تبا لغاصبها وكاسر ضلعها * حتى يتم له بذاك نظامها وجنينها لا تذكرن جنينها * فبذكره عيني يزول منامها ولعينيها بكت الملائك في السما * وكذا أمير المؤمنين إمامها لهفي عليها مذ قضت وبجنبها * أسد الإله وقد أبيح ذمامها قد قيد الصبر الجميل حسامه * وبحده كل الأمور (حسامها)
241 البحث التاسع فاطمة عليها السلام والولاية التكوينية من المواضيع المهمة التي أخذت حيزا كبيرا في العقائد الشيعية هي مسألة الولاية التكوينية حيث كانت بين النفي والإثبات عند بعض علماء الكلام، وسوف نتطرق إلى إثباتها على ضوء الكتاب الكريم والسنة الشريفة، وينبغي أولا وقبل كل شئ بسط الكلام في معرفتها وبيان معناها وحدودها الشرعية التي أثبتها الباري عز وجل للأنبياء والأوصياء بما فيهم خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الطيبين الطاهرين فالولاية المطلقة التي كانت للرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته إنما كانت على جميع أصناف المخلوقين من الجهاد والنبات والحيوان والإنسان والملائكة ، وبتعبير أدق الولاية هي باطن النبوة المطلقة، وصاحبها هو الموسوم بالخليفة الأعظم وقطب الأقطاب والإنسان الكبير، وآدم الحقيقي المعبر عنه بالقلم الأعلى والعقل الأول والروح الأعظم وإليه أشير في الحديث الشريف الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أول ما خلق الله نوري وكنت نبيا وآدم بين الماء والطين وإليه استند كل العلوم والأعمال، وإليه ينتهي جميع المراتب والمقامات نبيا كان أو وليا، ورسولا كان أو وصيا وقد قال بعض الأعلام في هذه الولاية (1): فحقيقة الولاية الرتق والفتق في المولى عليه ما بإمساكه عما عليه وجربه فيما له. وبعبارة أخرى: استحقاق تربية المملوك: لكونه أولى به من نفسه، فهو اسم له تعالى باعتبار أولويته بخلقه من أنفسهم، ثم إن هذه الولاية منشأها هو احتواء الولي للمولى عليه قادرا على الاستبداد به، الذي هو حقيقة الملك فهو الولاية الحقيقية، وإما منشأها الخلافة من المولى الحقيقي، لكونه متعاليا عن مجانسة مخلوقاته وجليلا عن ملائمة كيفياتهم، فينصب الخليفة لتربية المملوكين ما هو يستحقه منهم عليه، لحفظ
(1) هو العلامة المحقق السيد حسن الهمداني في رسالته في شرح الأسماء الحسنى: 103. 243 علو شأنه وصون ضياع مماليكه عماله عليهم. مثلا من لوازم ولايته تعالى على العباد بذل مالهم، ووقف أنفسهم عليه تعالى، وتفديتهم أنفسهم وأولادهم فلما كان غنيا عن ذلك، ومنزها عما هو من صفات المخلوقين ، وكان عباده لا يظهر صدقهم وحقيقة عبوديتهم إلا بأمثال ذلك من لوازم العبودية، فنصب الخليفة لمثل هذه اللوازم، لأن ترتبها عليه والعباد ملتزمون بها فقال: ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) فالرسول والمؤمنون إنما هم خلفاؤه تعالى في الولاية لا شركاؤه تعالى أن يكون له ولي من الذل عوا كبيرا. أقول: لقد بين من خلال قوله هذا حقيقة الولاية التكوينية بالوجه العقلي، مع اختصاص الولاية الحقيقية لله تعالى بنحو لا ينقدح في ذهن أحد فيه غلو والشرك. وقال بعض العارفين (1): اعلم أنه لما اقتضت الكلمة الإلهية الجامعة لجميع الكلمات ، المشتملة على الأسماء الحسنى والصفات العليا بسط مملكة الايجاد والرحمة، ونشر لواء القدرة والحكمة بإظهار المملكات، وإيجاد المكونات، وخلق الخلائق، وتسخير الأمور وتدبيرها، وكانت مباشرة هذا الأمر من الذات القديمة الأحدية بغير واسطة بعيدة جدا. والأحسن أن يقال: واقتضت الحكمة الأزلية عدم مباشرة الأمور بذاته المقدسة، بل اقتضت الوساطة، كما أشير إليه في بعض الأخبار، وذلك لأن التعبير المذكور ربما يعطي عدم إمكان المباشرة بلا واسطة، مع أنه لا ريب في إمكان ذلك له تعالى بقدرته، نعم لا بالمباشرة الحسية بل بالقدر والخلق لكل شئ حين لزومه بلا واسطة فتدبر تفهم، لبعد المناسبة بين عزة القدم وذلة الحدوث (2). فقضى سبحانه بتخليف نائب عنه في التصرف والولاية والحفظ والرعاية، فلا محالة له وجه له القدم يخلف عنه في التصرف، وخلع عليه خلع جميع أسمائه وصفاته، ومكنه في مسند الخلافة بإلقاء مقادير الأمور إليه وإحالة الجمهور عليه. فالمقصود من وجود العالم أن يوجد الإنسان، الذي هو خليفة الله في العالم، فالغرض من الأركان
(1) صاحب كتاب هداية المسترشد: 226. (2) شرح الزيارة الجامعة: 1 / 305. 244 حصول النباتات، ومن النباتات حصول الحيوانات، ومن الحيوان حصول الإنسان، ومن الإنسان حصول الأرواح، ومن الأرواح الناطقة حصول خليفة الله في الأرض كما قال الله تعالى: (إني جاعل في الأرض خليفة). فالنبي لا بد من أن يكون آخذا من الله، متعلما من لدنه، معطيا لعباده، هاديا لهم، فهو واسطة بين العالمين سمعا من جانب ولسانا إلى جانب، وهكذا حال سفراء الله إلى عباده وشفعاء يوم تناده، فلقلب النبي بابان مفتوحان: باب مفتوح إلى عالم الملكوت، وهو عالم اللوح المحفوظ، ومنشأ الملائكة العليمة والعملية، وباب مفتوح إلى القوى المدركة، ليطلع على سوانح مهمات الخلق، فهذا النبي يجب أن يلزم الخلائق في شرعه الطاعات والعبادات، ليسوقهم بالتعويد عن مقام الحيوانية إلى مقام الملكية، فإن الأنبياء رؤوس القوافل. وقال في الفرق بين النبوة والولاية: اعلم أن النبوة وضع الآداب الناموسية والولاية كشف الحقائق الإلهية، فإن ظهر من النبي تبين الحقائق فهو بما هو ولي، فإن كل نبي ولي ولا عكس، لأن النبي كمرآة لها وجهان: وجه إلى الخلق، ووجه إلى الخلق، فولايته من وجهه إلى الحق، ونبوته من وجهه إلى الخلق. وقيل: النبوة وضع الحجاب، والولاية رفع الحجاب، لأن دفع الفساد أهم في نظر النبي، وهو لا يتأتى إلا بوضع الحجاب. وفي شرح الصحيفة السجادية على منشيها آلاف الثناء والتحية ما ملخصه: الولي فعيل: بمعنى المفعول، وهو من يتولى الله أمره كما قال تعالى: (وهو يتولى الصالحين) (1) وقيل: بمعنى الفاعل أي الذي يتولى عبادة الله، ويوالي طاعته من غير تخلل معصية، وكلا الوصفين شرط في الولاية. وقال المتكلمون: الولي من كان آتيا بالاعتقاد الصحيح المبني على الدليل، وبالأعمال الشرعية، والتركيب يدل على القرب، فكأنه قريب منه تعالى لاستغراقه في أنوار معرفته وجمال جلاله. وقيل في بيانه: الولي من يتولي الله تعالى بذاته أمره، فلا تصرف له أصلا إذ
(1) الأعراف: 196. 245 لا وجود له ولا ذات ولا فعل، ولا وصف، فهو الفاني بيد المفني يفعل ما يشاء حتى يمحو رسمه واسمه ويمحق عينه وأثره، ويحييه بحياته ويبقيه ببقائه، هذا عام يشمل غير الأئمة عليهم السلام. وقيل: الولي هو المطلع على الحقائق الإلهية، ومعرفة ذاته تعالى وصفاته وأفعاله كشفا وشهودا من الله خاصة من غير واسطة ملك أو بشر. وقيل: هو من تثبت له الولاية، التي توجب لصاحبها التصرف في العالم العنصري، وتدبيره بإصلاح فساده وإظهار الكمالات فيه، لاختصاص صاحبها بعناية إلهية توجب له قوة في نفسه، لا يمنعها الاشتغال بالبدن عن الاتصال بالعالم العلوي، واكتساب العلم الغيبي منه في حال الصحة واليقظة، بل تجمع بين الأمرين لما فيها من القوة التي تسع الجانبين، والولاية بهذا المعنى مرادفة للإمامة عند الإمامية. وفي الكلمات المكنونة للمولى العارف الكامل الفيض الكاشاني (رضوان الله تعالى عليه) كلمة فيها إشارة إلى النبوة والولاية: الإنسان الكامل أما نبي أو ولي ولكل من النبوة والولاية اعتباران: اعتبار الإطلاق، واعتبار التقييد، أي العالم والخاص. فالنبوة المطلقة وهي النبوة الحقيقية الحاصلة في الأزل، الباقية إلى الأبد، وهو اطلاع النبي المخصوص لها على استعداده من حيث إنه الإنباء الذاتي والتعليم الحقيقي الأزلي المسمى بالربوبية العظمى والسلطنة الكبرى. وصاحب هذا المقام هو الموسوم بالخليفة الأعظم، وقطب الأقطاب، والإنسان الكبير، وآدم الحقيقي المعبر عنه بالقلم الأعلى، والعقل الأول، والروح الأعظم، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: أول ما خلق الله نوري، وكنت نبيا وآدم بين الماء والطين ونحو كان أو وليا، رسولا كان أو وصيا. وباطن هذه النبوة هي الولاية المطلقة، وهي عبارة عن حصول هذه الكمالات بحسب الباطن في الأزل وبقائها إلى الأبد، ويرجع إلى فناء العبد في الحق وبقائه به، وإله الإشارة بقوله: أنا وعلى من نور واحد، وخلق روحي وروح علي ابن أبي طالب قبل أن يخلق الخلق بألفي عام، وبعث عليا مع كل نبي سرا ومعي جهرا، وبقول أمير المؤمنين عليه السلام: كنت وليا وآدم بين الماء والطين إلى غير ذلك. والنبوة المقيدة هي الأخبار عن الحقائق الإلهية أي معرفة ذات الحق وأسمائه وصفاته وأحكامه، فإن ضم مع تبليغ الأحكام والتأديب بالأخلاق
246 والتعليم، وبالحكمة والقيام بالسياسة، فهي النبوة التشريعية وتختص بالرسالة، وقس عليها الولاية المقيدة. فكل من النبوة والولاية من حيث هي صفة إلهية مطلقة، ومن حيث استنادها إلى الأنبياء والأولياء مقيدة، والمقيد متقوم بالمطلق، والمطلق ظاهر في المقيد فنبوة الأنبياء كلهم جزئيات النبوة المطلقة، وكذلك ولاية الأولياء جزئيات الولاية المطلقة، ولكل من الأقسام الأربعة ختم، أي مرتبة ليست فوقها مرتبة أخرى، ومقام لا نبي على ذلك المقام ولا ولي سوى الشخص المخصوص به، بل الكل يكون راجعا إليه وإن تأخر وجود طينة صاحبه فإنه بحقيقته موجودة قبله. وخاتم النبوة المطلقة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وخاتم الولاية المطلقة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام والنبوة المقيدة إنما كملت وبلغت غايتها بالتدريج، فأصلها تمهد بآدم عليه السلام ولم تزل تنمو وتكمل حتى بلغ كمالها نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ولهذا كان خاتم النبيين، وإليه الإشارة بما روى عنه صلى الله عليه وآله وسلم : مثل النبوة مثل دار معمورة لن يبق فيها إلا موضع لبنة، وكنت أنا تلك اللبنة، أو لفظ هذا معناه. وكذلك الولاية المقيدة إنما تدرجت إلى الكمال حتى بلغت غايتها إلى المهدي الموعود ظهوره، الذي هو صاحب الأمر في هذا العصر، وبقية الله اليوم في بلاده وعباده (صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه المعصومين). وقال بعضهم (1): الولاية هي قيام العبد بالحق عند الفناء عن نفسه، وعند ذلك يتولى الحق إياه حتى يبلغه مقام القرب الكمين، وشرحه بعضهم بقوله: الولاية مأخوذة من الولي وهو القرب ولذا يسمى الحبيب وليا، لكونه قريبا من محبه، وفي الاصطلاح: هو القرب من الحق وهي عامة وخاصة، والعامة حاصلة لكل نبي آمن بالله وعمل صالحا، والخاصة هي الفناء في الله ذاتا وصفة وفعلا، فالولي هو الفاني في الله القائم به الظاهر بأسمائه وصفاته. وعن السيد نعمة الله الجزائري رحمة الله قال: الولاية بقاء العبد بالحق في حال الفناء. وقيل: هي التخلق بأخلاق الله تعالى بأخلاق الله تعالى والفناء بعد الفناء وصحو بعد المحو. وقال السبزواري في شرحه على الأسماء الحسنى ص 9: الولي له معان كثير منها: المتولي لأمور العالم التصرف فيه، إلى أن قال: وهو بما هو ولي أتم
(1) وهو الملا عبد الرزاق الكاشاني على ما في عقائد الإيمان. 247 وأكمل منه بما هو نبي، لأن ولايته جنبته الحقانية واشتغاله بالحق ونبوته وجهه الخلقي وتوجيه إليهم. ولا شك في أن الأولى أشرف لكونها أبدية، بخلاف الثانية فإنها منقطعة. فإذا سمعتم يقولون: الولاية أفضل من النبوة، فيعنون ذلك في شخص واحد وهو: أن النبي من حيث هو ولي أفضل من حيث هو نبي لا الولي التابع، هذه بعض التعارف في معنى النبوة والولاية في كلمات القوم وهناك تعاريف متقاربة اللفظ والمعنى حاصلها يرجع إلى الولاية الحقيقية التي بيناها، فما ذكرنا من التعاريف يشير إلى تعريفها الحقيقي الوجداني الجامع ولكن معلوم لدينا أن أحاديثهم عليهم السلام من الصعب المستصعب، وأن بعض الأحاديث المأثورة تشير إلى حقيقة ولايتهم التي منحها الله تعالى إياهم وهي من غوامض أسرارهم ومعارفه، فأصل حقيقتها لم يحتملها أحد بل هي أمر مخصوص بهم، وربما منحوا بعض شؤونها للأولياء الخلص، إذن فأصل الولاية لم تظهر حقيقتها لأحد، وأما ما سمعت من التعاريف لها فهي التي عرضها كل منهم على حسب دركه وإلا فحقيقتها بعد مبهمة علينا والوجه في ذلك عدم قابليتنا لدركها كما أشير إليه في بعض الأحاديث، ففي البصائر عن جابر قال عليه السلام يا جابر ما سترنا عنكم أكثر مما أظهرنا لكم. وفي حديث مفضل في البصائر قوله عليه السلام: فأحسن الحديث حديثنا، لا يحتمل أحد من الخلائق أمره بكماله حتى يجده، لأنه من حد شيئا فهو أكبر منه. ولذا ترى الأئمة عليهم السلام إنما بينوا ولايتهم المطلقة التكوينية ببيان آثارها أما علما أو عملا أما الأول: فكا الأحاديث الواردة في بيان شؤون ولايتهم بالسنة وهي مختلفة التي منها الزيارة الكبيرة. وأما الثاني: فكالمعجزات التي صدرت عنهم فإنها تحكي حقيقة ولايتهم التكوينية وهي أكثر من أن تحصى وقد ذكر كثيرا منها السيد السند السيد هاشم البحراني رضي الله عنه في كتاب مدينة المعاجز، فراجع. وهكذا القرآن الكريم أيضا فإنه سبحانه وتعالى بين فيه غالبا ولاية أوليائه بأفعالهم الغريبة التي أقدرهم الله عليها، وكما سيأتي بيان ذلك. * الولاية التكوينية يمكن أن تعرف بأنها: القدرة والقابلية على التصرف في التكونيات مطلقا من قبل النبي والأوصياء عليهم السلام وبإذن الله تعالى وليست بالاستقلال
248 ويمكن إعطاء معنى آخر لهذه الولاية بأن نقول: إن الولاية تكوينية الثانية بالوجدان للنبي والأئمة عليهم السلام ومن الأحاديث الشريفة ومن القرآن نفسه هو أنه تعالى لما كانت ذاته المقدسة علم وقدرة كله ونور كله كما في توحيد الصدوق (1)، بإسناده عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: لم يزل الله جل وعز ربنا، والعلم ذاته ولا معلوم، والسمع ذاته ولا مسموع، والبصر ذاته ولا مبصر، والقدرة ذاته ولا مقدرة فلما أحدث الأشياء وكان المعلوم وقع العلم على المعلوم، والسمع على المسموع، والبصر على البصر والقدرة على المقدور. وأراد أن يخلق لكي يعرف، فخلق كلهم مظاهر لعلمه وقدرته ونوره، أي وجوده، فجميع ما في الوجود مظاهر لصفاته وأفعاله، فالموجودات لها مراتب مختلفة في اتصافها بالمظهرية حسب اختلافها في القرب إليه تعالى والبعد عنه تعالى، فكل موجود كان أقرب إليه تعالى كان أكثر مظهرا لصفاته وأفعاله تعالى. ومن المعلوم أن المستفاد من الآيات والأحاديث هو: أن أول الموجودات قربا حدوثا وبقاء بالنسبة إليه تعالى هو أرواح محمد وآله الطاهرين الأئمة المعصومين عليهم السلام. فلذا هم المظاهر الأتم لصفاته وأفعاله تعالى، فكل موجود كان أتم وأكمل في المظهرية فهو أكبر من آية وعلامة ودليلا عليه تعالى، وحيث لا أقرب إليه تعالى ولا أتم في المظهرية منهم عليهم السلام فهم الآية الكبرى. ولذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم والوصي عليه السلام: مالله آية أكبر مني وجهة كونهم أتم المظاهر، لكونهم أقرب الموجودات إليه تعالى، ولأن علمه تعالى وقدرته ونوره أكثر ظهورا فيهم عليهم السلام وذلك لأنهم الأسماء الحسنى. ففي كتاب التوحيد من الكافي، في باب النوادر بإسناده عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها) (2 قال: نحن والله الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد عملا إلا بمعرفتنا (3).
(1) توحيد الصدوق: 139. (2) الأعراف: 180. (2) الكافي - كتاب التوحيد: 2 / 115. 249 وشرحه الإجمالي ما قاله الصادق عليه السلام ففيه في ذلك الباب بإسناده عن مروان ابن صباح قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إن الله خلقنا فأحسن خلقنا، وصورنا فأحسن صورنا، وجعلنا عينه في عباده، ولسانه الناطق في خلقه، ويده المبسوطة على عباده بالرأفة والرحمة، ووجهه الذي يؤتى منه، وبابه الذي يدل عليه، وخزانه في سمائه وأرضه، بنا أثمرت الأشجار، وأينعت الثمار، وجرت الأنهار، وبنا ينزل غيث السماء، وينبت عشب الأرض، وبعبادتنا عبد الله، ولولا نحن ما عبد الله، هكذا غيره من الأحاديث الأخر. ولازم ذلك هو أن آثار القدرة وآثار العلم فيهم عليهم السلام أكثر ظهورا مما ظهر من غيرهم، ومن المعلوم أن قدرته تعالى هي النافذة في الأشياء والمتصرفة فيها، بل لا وجود لغيره تعالى مطلقا إلا بالقدرة، فحينئذ لازمه أن قدرتهم هي قدرة الله الظاهرة فيهم عليهم السلام النافذة في الأشياء بإذنه تعالى، فهم بهذا المعنى أولياؤه تعالى أي المتصرفون بإذنه في الوجود، وهذا معنى الولاية التكوينية (1). وعلى أساس هذا البيان الذي قدمناه في معنى الولاية وتعريف الولاية التكوينية، وكلام القوم فيها، سوف يكون بحثنا في مقامين: المقام الأول: إمكان وقوع الولاية التكوينية. المقام الثاني: الولاية التكوينية لفاطمة عليها السلام. المقام الأول: إمكان وقوع الولاية التكوينية اختلف العلماء الأعلام في إمكان الولاية التكوينية ووقوعها في ثلاث أقوال: 1 - فمنهم من قال لا وجود للولاية التكوينية في القرآن ولا يوجد دليل واحد يدل عليها، واستدل على ذلك بأن القرآن الكريم نفسه يؤكد على أن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يملك من أمره شيئا إلا ما ملكه الله بشكل طارئ... وأيضا الأنبياء لا يملكون أن
(1) شرح الزيارة الجامعة: 326. 250 يقدموا أي شئ فيما يقترحه الناس، ولو كانوا يملكون لاستجابوا لاقتراحات الناس. 2 - القول الثاني يقول بإمكان هذه الولاية التكوينية للأنبياء والأوصياء ولكن اختلف في وقوعها أو عدم وقوعها. 3 - والقول الأخير يقول بإمكان هذه الولاية وأنها وقعت في المحيط الخارجي واستدل هذا الأخير بعدة أدلة قدمها لكي تكون له برهان على مصداقية هذه المسألة. وقبل أن مختار أي الأقوال هو الصحيح؟ لا بد لنا من الوقوف مع المصدر الأول الذي أمرنا الله تعالى بالرجوع إليه والذي هو (تبيانا لكل شئ) والذي نعتبره أهم مصادرنا التي نستدل به على كثير من القضايا بل كل الوقائع وهو القرآن الكريم. أقول: لا بد لنا من استنطاق القرآن الكريم ليخبرنا عن إمكان هذه المسألة وإمكان وقوعها في الخارج، وعليه لا بد من أن نوضح مسألة مهمة قبل الدخول في بحث القرآن الكريم لإثبات هذه القضية، وهي أن كل ما نقوله في شأن هذه الولاية التكوينية ولمن ثبتت له نقول إنما تكون بالتبع لا بالذات ولا بالاستقلال فإنه لا يوجد من يقول من العلماء بأنه هذه الولاية إنما تكون بالذات كلا وألف كلا فإن كل من قال بها إنما يقول هي بالذات وبالأصل لله تعالى وبالتبع وبالتفرع للأنبياء والأوصياء عليهم السلام فلا بد لنا ونحن نقف مع هذا البحث المهم أن نتذكر في كل استدلالاتنا هذا الأصل أي أنها بالتبع لا بالذات. السؤال المطروح الآن هو: هل توجد آيات قرآنية تدل على إمكان هذه الولاية أو بتعبير أدق على وقوع هذه الولاية التكوينية؟ والجواب: جاء في لسان القرآن الكريم عدة آيات مباركة تدل على إمكان وقوعها بل إنها وقعت لكثير من الأنبياء، وليس هذا مجرد قول من دون دليل أو برهان علمي يصدق هذه المسألة بل لتوضيح الأمر لا بد لنا أن نقف مع هذه الآيات لكي نعرف مدى دلالاته على هذه المسألة ومنها: * قوله تعالى: (... أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا
251 بأذن الله وأبرئ الأكمة والأبرص وأحي الموتى بأذن الله) (1). فالمستفاد من هذه الآية هو نسبة الخلق إلى غير الله تعالى كما يشعر به قوله تعالى (فتبارك الله أحسن الخالقين) حيث الله هو الخلق الحقيقي، وفي هذه الآية نسب الله تبارك وتعالى الخلق إلى عيسى عليه السلام وعليه هذه التصرفات التي صدرت من عيسى عليه السلام وأثبتها القرآن الكريم إنما هي كانت منصبة على التكوينات مثل خلق الطير أي جمع أجزاءه وكذلك إبراء الأكمة والأبرص الذين هم في خلقتهم خلل تكويني، والأعظم من هذا كله هو إحياء الموتى، وهل هذا إلا في دلالة كبيرة على عظمه الأنبياء وعلى الولاية العظيمة التي أعطاها الله تبارك وتعالى لهم والتي نعبر عنها بالولاية التكوينية أي الولاية العظيمة التي أعطاها الله تبارك وتعالى لهم والتي نعبر عنها بالولاية التكوينية أي التصرف في التكوينيات، على أن قوله تعالى بأذن الله الذي تكرر في الآية المباركة مرتين سيق للدلالة على أن صدور هذا التصرف التكويني عبر الآيات الباهرات للعقول من عيسى عليه السلام إنما كان مستندا إلى الله تعالى من غير أن يستقل عيسى عليه السلام بشئ من ذلك وإنما كرره تكرارا يشعر بالإصرار منه تعالى بألوهيته استدلالا بالآيات المعجزة الصادرة عنه، ولذا كان يقيد كل آية يخبر بها عن نفسه مما يمكن أن يضلوا به الخلق والإحياء بأذن الله. وفي ذلك يقول العلامة السيد الطباطبائي في تفسيره الميزان وظاهر قوله: أني أخلق لكم الخ أن هذه الآيات كانت تصدر عنه صدورا خارجيا لا أن الكلام مسوق لمجرد الاحتجاج والتحدي ، ولو كان مجرد قول لقطع العذر وإتمام الحجة لكان من حق الكلام أن يقيد بقيد يفيد ذلك كقولنا: إن سألتم أو أردتم أو نحو ذلك. على أن ما يحكيه الله سبحانه من مشافهته لعيسى يوم القيامة يدل على أن وقوع هذه الآيات أتم الدلالة، قال: (إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك - إلى أن قال - وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بأذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بأذني وتبرئ الأكمة والأبرص بأذني وإذ تخرج الموتى) (2). ومن هنا يظهر فسد ما ذكره بعضهم: أن قصارى ما تدل عليه الآية إن الله سبحانه جعل في عيسى بن مريم هذا السر، وأن أحتج على
(1) آل عمران: آية 49. (2) المائدة: آية 110. 252 الناس بذل وأتم الحجة عليهم بحيث لو سألوه شيئا من ذلك لأتى به، أما أن كلها أو بعضها فلا دلالة فيها على ذلك (1). وعلى أساس هذا البيان يظهر لنا من خلال التمعن والتدقيق في مدلولات هذه الآية إضافة إلى آيات أخرى الولاية التكوينية لنبي الله عيسى وعلى ضوء الأساس والأصل الذي اعتمدناه في مقدمة حديثنا الذي نقول فيه أن الولاية التكوينية إنما هي بالتبع لا بالاستقلال لذلك نجد أن الآية المباركة تقول بأذن الله أي جعلت الولاية والتصرف في التكوينات بإذن الله تعالى لا بالاستقلال، وعليه ثبوت هذا القول بهذا البيان، تكون هذه الولاية أيضا ثابتة لأهل البيت عليهم السلام وذلك لأنهم عليهم السلام أفضل من جميع الأنبياء وكيف وقد ثبت لنا بالأدلة النقلية أن عيسى عليه السلام يصلي خلف الإمام المهدي عند ظهوره الشريف هذا ملخص البيان في الآية الأولى التي أثبت الولاية التكوينية وعلى لسان القرآن الكريم. * أما الآية الثانية فهي في قصة سليمان وملكة سبأ: (قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين * قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل إن تقوم من مقامك وأني عليه لقوي أمين * قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أشكر أم أكفر... ) (2). والذي يهمنا في هذه الآيات قوله تعالى قال الذي عنده علم من الكتاب الذي يستفاد منه أن الذي عنده علم من الكتاب إنما قال قوله هذا قبال من كان من الجن وهذا يدل على أنه كان من الإنس، وقد وردت الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أنه كان آصف بن برخيا وزير سليمان وأنه كان كما قيل عنده اسم الله الأعظم، وقد تصرف آصف بن برخيا في التكوينات عن طريق ولايته، في ذلك حيث نقل عرش بلقيس بأقل من طرفة عين، وهذا فيه دلالة واضحة على ولايته التكوينية على أنه لم تقل الآية المباركة التي جاءت لسياق بيان هذه الولاية أنها كانت بأذن الله تعالى وإنما بينت القضية عن طريق العلم الذي بحوزته من الكتاب، والمراد من هذا الكتاب الذي هو مبدأ هذا العلم العجيب الذي جعله يتصرف هذا التصرف أما جنس
(1) تفسير الميزان: 3 / 200. (2) النمل: آية 38، 40. 253 الكتب السماوية أو اللوح المحفوظ والعلم الذي أخذه هذا العالم منه كان علما يسهل الوصول إلى هذه البغية، وهذه كله ليس فيه تنافي من أن تكون ولايته بأذن الله تعالى لأنه هو الذي أعطاها له، وعليه تكون هذه الولاية مطابقة للأصل الذي يقول بالتبع لا بالاستقلال وقد ذكر المفسرون أنه كان يعلم اسم الله الأعظم إذا سئل به أجاب ذكر بعضهم أن ذلك الاسم هو الحي القيوم، وقيل: ذو الجلال والإكرام وقيل: الله الرحمن وقيل: هو العبرانية آهيا شراهيا، وقيل: إنه دعا بقوله: يا الهنا وإله كل شئ إلها واحدا لا إله إلا أنت آتيني بعرشها إلى غير ذلك مما قيل. على أنه من الحال - على ما ذكره المفسرون - أن يكون الاسم الأعظم الذي له التصرف في كل شئ من قبيل الألفاظ ولا المفاهيم التي تدل عليها وتكشف عنها الألفاظ بل إن كان هناك اسم له هذا الشأن أو بعض هذا الشأن فهو حقيقة الاسم الخارجية التي ينطبق عليها مفهوم اللفظ نوعا من الانطباق وهي الاسم حقيقة واللفظ الدال عليها اسم الاسم، ولم يرد في لفظ الآية نبأ من هذا الاسم الذي ذكروه بل الذي تتضمنه الآية أنه كان عنده علم من الكتاب وأنه قال: أنا آتيك به، ومن المعلوم مع ذلك أن الفعل فعل الله حقيقة، وبذلك كله يتحصل أنه كان له من العلم بالله والارتباط به ما إذا سأل ربه شيئا بالتوجه إليه لم يتخلف عن الاستجابة وان وتبين مما تقدم أيضا أن هذا العلم لم يكن من سنخ العلوم الفكرية التي تقبل الاكتساب والتعلم (1). وعلى كل حال فإن الآية المباركة أثبتت الولاية التكوينية في التصرف في الأشياء من خلال اسم الله الأعظم، فتكون هذه الآية الثانية في إثبات حقيقة الولاية لوصي نبي من الأنبياء وهو أصف بن برخيا. * (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم أجعل على كل جبل منهن جزء ثم أدعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم) (2). وهذا الآية من الآيات التي استدل بها على الولاية التكوينية وإمكان وقوعها في الواقع الخارجي وعلى ضوء المصدر الأول للمسلمين القرآن الكريم وبيان الحال فيها
(1) تفسير الميزان: 15 / 363. (2) البقرة: آية 260. 254 يكون على ضوء التقرير المستفاد من هذه الآية المباركة وهو كالآتي: إن إبراهيم عليه السلام طلب من الله تعالى الرؤية في قضية إحياء الموتى وأنه كيف يحيي الله الموتى، وليس المراد من الله تعالى البيان الاستدلالي لإبراهيم في هذه القضية فإن الأنبياء ، وليس المراد من الله تعالى البيان الاستدلالي لإبراهيم في هذه القضية فإن الأنبياء مثل إبراهيم الخليل أرفع قدرا وشأنا من أن يعتقد البعث ولا حجة له عليه، والاعتقاد النظري من غير حجة عليه ما اعتقاد تقليدي أو ناشئ عن اختلال فكري وشئ من هذا القبيل لا ينطبق على إبراهيم عليه السلام، على أنه سأل بلفظ كيف وإنما يستفهم بكيف عن خصوصية وجود الشئ لا عن أصل وجوده فإنك إذا قلت: أرأيت زيدا كان معناه السؤال عن تحقق أصل الرؤية، وإذا قلت كيف رأيت زيدا كان أصل الرؤية مفروغا عنه وإنما السؤال عن خصوصيات الرؤية، فنظر أنه أنظر سأل البيان بالإراءة والإشهاد لا بالاحتجاج والاستدلال. على أن إبراهيم إنما سأل عن يشاهد كيفية الإحياء لا أصل الإحياء كما أن ظاهر قوله : كيف تحي الموتى، والسؤال بأجزائها الذي به تلبس الحياة، ويرجع محصلة أي السؤال عن السبب وكيفية تأثيره، وهذا بوجه هو الذي يسميه الله سبحانه بملكوت الأشياء في قوله تعالى عز من قائل: (إنما أمره إذا أراد أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ وإليه ترجعون) ولقد أعطى الله تبارك وتعالى القدرة على التصرف عن طريق ولاية أو عن طريق قوة أو شئ آخر في إحياء الطيور الأربعة، وقضية إحيائها إنما عن طريق التصرف في التكوينيات بواسطة قوة مؤثرة فاعلة حقيقية جعلها البارئ على يد إبراهيم عليه السلام وليس مثل ما توهم بعضهم من دعوة إبراهيم للطيور في إحيائها وقول عيسى عليه السلام لميت عند إحيائه: قم بأذن الله وجريان الله تعالى في ألفاظهم المؤلفة من حروف الهجاء، أو في إدراكهم التخيلي الذي تدل عليه ألفاظهم نظير النسبة التي بين ألفاظنا العادية ومعانيها وقد خفى عليهم أن ذلك أنما هو عن اتصال باطني بقوة إلهية غير مغلوبة وقدرة غير متناهية هي المؤثرة الفاعلة بالحقيقة ، وعلى أي حال إنما أمر الله تعالى نبيه إبراهيم الخليل بأخذ أربعة من الطير ليعرفها فلا شك فيها عند إعادة الحياة إليها، ولا ينكرها، وليرى ما هي عليه من
255 الاختلاف والتغير أولا وزوالها ثانيا، وقوله تعالى فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا أي اذبحهن وبدد أجزائهن واخلطها ثم فرقها على الجبال، الموجودة هناك لتتباعد الأجزاء وهي غير متميزة، وقوله ثم أدعهن أي أدع الطيور يأتينك سعيا، أي يتجسدن واتصفن بالإتيان والإسراع إليك. والذي نريد القول به من كل هذا البيان أن الله تعالى أجرى الولاية التكوينية على يد إبراهيم الخليل وبإذنه تعالى حيث يقول الباري عز وجل: فخذ، فصرهن، ثم اجعل بصيغة الأمر ويقول ثم أدعهن يأتينك فإن الله تعالى جعل إتيانهن سعيا وهو الحياة مرتبطا متفرعا على دعوة إبراهيم نفسه فهذه الدعوة هي السبب الذي يفيض عنه حياة ما أريد إحيائه، ولا الإحياء إلا بأمر الله تعالى، قد كانت متصلة نحو اتصال بأمر الله الذي منه تترشح حياة الإحياء، وعند ذلك شاهده إبراهيم ورأى كيفية فيضان الأمر بالحياة، ولو كانت دعوة إبراهيم إياهن غير متصلة بأمر الله الذي هو أن يقول لشئ أراده: كن فلا يكون فلا تأثير جزافي في الوجود فيظهر من هذا كله أن إبراهيم كان تصرفه تكوينيا أي أعطاه الله الولاية التي نسميها ولاية تكوينية وبإذن الله تعالى. وكذلك قوله تعالى: (فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب) (1) في قضية سليمان حيث أعطاه لله تبارك وتعالى ولاية وتصرف في الريح وهل هذا إلا ولاية وتصرف في التكوينات؟ ومنها قوله تعالى: (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل الله الأمر جميعا...) (2 عن تفسير علي بن إبراهيم قوله: ولو أن قرآنا الخ الآية قال: لو كان شئ من القرآن كذلك لكان هذا أقول: يعني لو كان شئ مما أقدره الله لعباده فيما أنزل عليهم من الوحي مما فيه هذه القدرة، التي بها تسير الجبال وتقطع الأرض ويحي الموتى لكان هو هذا القرآن المنزل عليه صلى الله عليه وآله وسلم. ولا ريب أن هذه الآثار الثلاثة تنبئ عن أن المنزل عليهم هذا القرآن قد أمكنهم الله من هذه الأمور، فم أعطاهم من القدرة، التي بها يتصرفون في الموجودات، وهذه حقيقة الولاية التكوينية الثابتة، لهم
(1) سورة ص: آية 36. (2) الرعد: آية 31. 256 بنص القرآن، وإليه يشير ما عن أصول الكافي بإسناده عن إبراهيم، عن أبيه، عن أبي الحسن الأول عليه السلام قال: قلت له: جعلت فداك، أخبرني عن النبي ورث النبيين كلهم قال: نعم، قلت: من لدن آدم حتى انتهى إلى نفسه؟ قال: ما بعث الله نبيا إلا ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم اعلم منه، قال: قلت إن عيسى بن مريم كان يحيي الموتى بإذن الله، قال: صدقت، وسليمان بن داود كان يفهم منطق الطير، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقدر على هذه المنازل؟ قال فقال: إن سليمان بن داود قال للهدهد حين فقده وغضب عليه (لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين)، وإنما غضب لأنه كان يدله على الماء فهذا وهو طائر قد أعطي ما لم يكن يعرف الماء تحت الهواء وكان الطير يعرفه، وإن الله يقول في كتابه: (ولو قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى). وقد ورثنا نحن هذا القرآن الذي فيه ما تسير به الجبال، وتقطع به البلدان ويحيي به الموتى، ونحن نعرف الماء تحت الهواء، وإن في كتاب الله لآيات ما يراد بها أمر إلا بإذن الله به مع ما قد يأذن الله بما كتبه الماضون جعله الله لنا في أم الكتاب، إن الله يقول: (وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين) ثم قال (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفيناه من عبادنا) فنحن الذين اصطفانا الله عز وجل وأورثنا هذا الكتاب فيه تبيان كل شئ. حيث دل هذا الحديث على أنه تعالى أعطى أنبياءه الأئمة عليهم السلام قدرة يتصرفون بها في الأمور الغيبية، التي يعجز عنها غيرهم من إحياء الموتى كما لعيسى ومن تسيير الجبال وتقطيعها وتكليم الموتى وغيرها مما ستأتي الإشارة إليه، ثم بين عليه السلام جامعا كليا في هذا الأمر مما جعله الله لهم في أم الكتاب، واستدل عليه بأن قوله تعالى: (وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين) يدل على أن أي أمر غائب عن الناس مما هو ثابت في السماء أو الأرض يكون في كتاب مبين. ثم بين قوله تعالى: ثم أورثنا الكتاب، دل على أن الكتاب الذي ما من غائبة سماوية أو أرضية إلا وهي فيه، هو هذا الكتاب الذي أورثه الله تعالى إياهم فقوله عليه السلام: فنحن اصطفانا الله عز وجل، أورثنا هذا الكتاب فيه تبيان كل شئ، بيان لأن المراد من العباد في الآية المباركة هو النبي والأئمة عليهم السلام. ثم إن
257 المراد من قوله فيه تبيان كل شئ، اقتباسا من الآية الشريفة لا يراد التبيان العلمي ، بل المراد الأعم منه، ومن التبيان الشهودي والعلمي بأعمال القدرة وما أقدرهم الله عليه كما لا يخفى على الناقد البصير، والله العالم وأولياؤه بكلامه، وقوله تعالى: (وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم) (1). ففي تفسير البرهان عن الإمام العسكري... إلى أن قال عليه السلام: ثم قال الله عز وجل: (وإذ استسقى موسى لقومه) قال: واذكروا يا بني إسرائيل إذ استسقى موسى لقومه، طلب لهم السقايا لما لحقهم العطش في التيه، وضجوا بالبكاء، وقالوا: أهلكنا العطش يا موسى. فقال موسى: إلهي بحق محمد سيد الأولياء، وبحق علي سيد الأوصياء، وبحق فاطمة سيدة النساء، وبحق الحسن سيد الأولياء، وبحق الحسين أفضل الشهداء، وبحق عترتهم وخلفاؤهم سادة الأزكياء لما سقيت عبادك هؤلاء، فأوحى الله تعالى إليه، يا موسى اضرب بعصاك الحجر، فضرب بها، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم، كل قبيلة من أولاد يعقوب مشربهم، فلا يزاحمهم الآخرون في مشربهم الحديث. فظاهر هذا الحديث ونحوه إعطاءه تعالى هذا القدر لموسى عليه السلام بظهور هذا المعجز منه بواسطة ضرب العصا، وحقيقته ترجع إلى أنه تعالى مكنه من هذا الأمر المعجز بما منحه من الولاية التكوينية، التي أثرها التصرف في الموجودات وسيجئ قريبا توضيحه. ولعصا موسى معاجز أخرى، منها ما في تفسير نور الثقلين، عن تفسير العياشي، عاصم بن المصري في قضية بعثة موسى إلى فرعون، إلى أن قال: فمكث بذلك ما شاء الله يسأله أن يستأذن له قال: فلما أكثر عليه (أي على الإذن) قال له: أما وجد رب العالمين من يرسله غيرك ؟ قال: فغضب موسى عليه السلام فضرب الباب بعصاه، فلم يبق بينه وبين فرعون باب إلا انفتح حتى أنظر إليه فرعون وهو في مجلسه، الخبر، وفيه عن أصول الكافي بإسناده إلى محمد ابن الفيض عن أبي جعفر عليه السلام قال: كانت عصا موسى لآدم عليه السلام فصارت إلى شعيب عليه السلام ثم صارت إلى موسى عليه السلام وأنها لعندنا، وأن عهدي بها آنفا وهي خضر
(1) البقرة: آية. 258 كهيئتها حين انتزعت من شجرتها، وأنها لتنطق إذا استنطقت، أعدت لقائمنا يصنع بها ما كان يصنع موسى، وأنها لتروع ولتلقف ما يأفكون وتصنع ما تؤمر به، أنها حيث أقبلت، تلقف ما يأفكون تفتح لها، شفتان أحدهما في الأرض والأخرى في السقف وبينهما أربعون ذراعا تلقف ما يأفكون بلسانها، وفي تفسير البرهان عند قوله تعالى: ( وقطعناهم اثنتي عشرة أسباط) أي وأوحينا إلى موسى إذا استسقاه أن اضرب بعصاك الحجر ، حيث جاء محمد بن يعقوب بإسناده إلى أبي سعد الخراساني، قال: أبو جعفر عليه السلام: أن القائم إذا قام بمكة وأراد أن يتوجه إلى الكوفة نادى مناديه: ألا لا يحمل أحد منكم طعاما ولا شرابا، ويحمل حجر موسى بن عمران وهو وقر بعير، فلا ينزل منزلا إلا انبعثت عين منه، فمن كان جائعا شبع، ومن كان ظامئا روي، فهو زادهم حتى ينزلوا النجف من ظهر الكوفة. وفيه وعنه بإسناده عن أبي حمزة الثمالي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: ألواح موسى عندنا وعصا موسى عندنا ونحن ورثة النبيين. فهذه الآيات تثبت هذا النحو من التصرف للأنبياء وهذه الأحاديث دلت على أنها للأئمة أيضا. إذن هذه الأدلة القرآنية يظهر منها أن الله تعالى قد أعطى الولاية التكوينية لكثير من الأنبياء وبإذنه يستعملونها وبأمره يعملون (وعباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) وعليه لا مانع من أن يتصرفوا في الكون بالقدرة التي أودعها الله تعالى فيهم لكن، لا على نحو الاستقلال بل بإرادة الله تعالى فالله تعالى منحهم هذه القدرة فيقولون للشئ كن فيكون لكن بإرادة الله ومع وجود هذه القدرة فيهم فهم لا يتمكنون من أعمالها إلا بأمر من الله تعالى وإرادته، أما الذي يقول إن الله تعالى لا بد أن يباشر نفسه إدارة نظام الكون فإن قوله هذا مخالف لصريح القرآن الكريم الذي يقول (والمدبرات أمرا) حيث جعل الله تعالى نظام العلية والمعلولية وسيلة لصدور كثير من الأشياء في الكون وكما بينا من خلال توضيح الآيات المباركة المتقدمة وعلى هذا الأساس فإن الولاية التكوينية ثابتة للأنبياء ولأوصيائهم وإمكانها متحقق في القرآن الكريم.
259 المقام الثاني: الولاية التكوينية لفاطمة عليها السلام بعد أن ثبت لدينا إمكان وقوع الولاية التكوينية لكثير من الأنبياء عليهم السلام من خلال القرآن الكريم، نجد أيضا وقوع هذه الولاية من خلال استقرائنا لكثير من الروايات والحوادث التاريخية التي قدمت لنا الكثير من النماذج الخارقة للعادة والتي صدرت من أئمة أهل البيت عليهم السلام ويكفي في الدلالة على ذلك بعد ثبوت هذه الولاية من خلال القرآن الكريم. أقول: يكفي ما ورد في متن الزيارة الجامعة الكبيرة التي أثبتت الولاية التكوينية لأهل البيت عليهم السلام، وذلك من خلال التدقيق في مدلولاتها بكم فتح الله وبكم يختم وبكم ينزل الغيث وبكم ينفس الهم ويكشف الضر وعندكم ما نزلت به رسله وهبطت به ملائكته على أن هذه الولاية التكوينية كانت ثابتة لأئمة أهل البيت عليهم السلام من خلال اسم الله الأعظم الذي كان عندهم وفي بيان ذلك نقول: قد تقدم في بداية البحث كيف أن آصف بن برخيا الذي كان وزيرا لسليمان عنده علما من الكتاب وكان عنده أيضا اسم الله الأعظم على ما قيل واستطاع من خلال ذلك التصرف في التكوينات حتى بعرش ملكة سبأ في أقل من طرفت عين، فإذا كان هذا ثابت لوزير نبي الله سليمان فما ظنك بأهل البيت عليهم السلام الذين هم أفضل من جميع الأنبياء ما خلا نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإنهم أفضل وأعظم في هذه الولاية وتوجد عدة أدلة على ذلك، فإن أصف برخيا، استخدم ولايته بما عنده من اسم الله الأعظم بينما عندنا أحاديث مأثورة وشواهد تدل على أن أهل البيت عليهم السلام كان عندهم اسم الله الأعظم وخصوصا أن الأحرف التي عندهم من اسم الله الأعظم أكثر من الأحرف التي كانت عند آصف بن برخيا، فلقد ورد في الحديث الشريف عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن اسم الله الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفا، وإنما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس حتى تناول السرير بيده، ثم عادت الأرض كما كانت، أسرع من طرقة عين، ونحن عندنا من الاسم الأعظم اثنان
260 وسبعون حرفا، وحرف واحد عند الله استأثر به في علم الغيب عنده ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (1) (2). وأيضا عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله عز وجل جعل اسمه الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفا فأعطى آدم منها خمسة وعشرين حرفا وأعطى نوحا منها خمسة عشر حرفا وأعطى منها إبراهيم ثمانية أحرف وأعطى موسى منها أربعة أحرف وأعطى عيسى منها حرفين وكان يحيي بهما الموتى ويبرئ بهما الأكمة والأبرص وأعطى محمد صلى الله عليه وآله وسلم اثنين وسبعين حرفا واحتجب حرفا لئلا يعلم ما في نفسه ويعلم ما نفس العباد (3). أقول: يظهر من الحديثين أن اسم الله الأعظم أنه قد استفاد منه الأنبياء عليهم السلام في استخدام ولايتهم التكوينية لأعمال المعجزات والكرامات وقضاء حاجات الناس وحسب ما ترتضيه المشيئة الإلهية وعلى هذا الأساس نفهم أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأطهار مما استأثرهم به الله تعالى هو إعطاءهم اسمه الأعظم وبقابلية أكبر وأكثر من الأنبياء السابقين وأوصيائهم. إذن الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته كانت لديهم هذه الولاية التكوينية ويستخدمونها بما عندهم من اسم الله الأعظم وبما فيهم الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام باعتبارها أم الأئمة ووعاء الإمامة وأم أبيها وكونها حجة الله الكبرى على الأنبياء والأوصياء من أبناءها عليهم السلام وسيأتينا كيفية أعمال فاطمة لهذه الولاية والشواهد عليها من خلال الأحاديث الشريفة. الولاية التكوينية إنما يكون بإذن الله تعالى هذه بعض الأحاديث المأثورة تبين إن إعمال الولاية التكوينية إنما يكون بإذن الله تعالى، وأنها وقعت لأهل بيت النبوة هذه الولاية واستخدموها كما يظهر ذلك من
(1) أي لا يقع من هذه الأمور أو غيرها إلا بإرادة الله وقدرته سبحانه. (2) الكافي: 1 / 286، بصائر الدرجات 4 / 228 ح 1. (3) بصائر الدرجات: 4 / 229. 261 الأحاديث الآتية: 1 - عن أبي بصير قال دخلت على أبي عبد الله عليه السلام وأبي جعفر عليه السلام وقلت لها: أنتما ورثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال نعم. قلت: فرسول الله وارث الأنبياء علم كلما علموا؟ فقال لي: نعم. فقلت: أنتم تقدرون على أن تحيوا الموتى وتبرؤا الأكمة والأبرص فقال لي: نعم بإذن الله ثم قال: ادن مني يا أبا محمد فمسح يده على عيني ووجهي وأبصرت الشمس والسماء والأرض والبيوت وكل شئ في الدار. قال: أتحب أن تكون هكذا ولك ما للناس وعليك ما عليهم يوم القيامة أو تعود كما كنت ولك الجنة خالصا. قلت: أعود كما كنت قال فمسح عيني فعدت كما كنت. قال علي: فحدثت به ابن أبي عمير. فقال: أشهد أن هذا حق كما أن النهار حق. 2 - عن محمد بن الفضل عن أبي حمزة الثمالي عن علي بن الحسين عليه السلام قال: قلت له أسألك فداك عن ثلاث خصال أنفي عني فيه التقية قال: فقال ذلك لك، قلت: أسألك عن فلان بن فلان قال: فعليها لعنة الله بلعناته كلها ماتا والله وهما كافران مشركان بالله العظيم قلت الأئمة يحيون الموتى ويبرؤون الأكمة والأبرص ويمشون على الماء قال: ما أعطى الله نبيا شيئا قط إلا وقد أعطاه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم وأعطاه ما لم يكن عندهم. قلت: وكل ما كان عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد أعطاه أمير المؤمنين صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: نعم ثم الحسن والحسين عليهم السلام ثم بعد كل إمام إماما إلى يوم القيامة مع الزيادة التي تحدث في كل سنة وفي كل شهر ثم قال: أي والله في كل ساعة. 3 - عن علي بن معيد يرفعه قال: دخلت حبابة الوالبية على أبي جعفر عليه السلام محمد بن علي عليهم السلام قال: يا حبابة ما الذي أبطأك، قالت: قلت: بياض عرض لي في مفرق رأسي كثرت له همومي، فقال: يا حبابة ادنيني به قال: فدنوت منه فوضع يده في مفرق رأسي، ثم قال: ائتوا لها بالمرأة فأتيت فنظرت فإذا شعر مفرق رأسي قد اسود فسررت بذلك وسر أبو جعفر عليه السلام بسروري. 4 - وعن علي ابن أبي حمزة عن أبي بصير قال حججت مع أبي عبد الله عليه السلام فلما كنا في الطواف قلت له: جعلت فداك يا بن رسول الله يغفر الله الخلق؟ فقال: يا أبا بصير إن أكثر من ترى قردة وخنازير، قال: قلت له أرنيهم قال: فتكلم بكلمات ثم أمر
262 يده إلى بصري فرأيتهم قردة وخنازير فهالني ذلك ثم أمر يده على بصري فرأيتهم كما كانوا في المرة الأولى ثم قال: يا أبا محمد أنتم في الجنة تحبرون وبين إطباق النار تطلبون فلا توجدون والله لا يجتمع في النار منكم ثلاثة لا والله ولا اثنان لا والله ولا واحد. 5 - وعن أبي بصير قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام تريد أن تنظر بعينك إلى السماء. قلت نعم فمسح يده على عيني فنظرت إلى السماء. 6 - وعن أبي عوف عن أبي عبد الله عليه السلام قال: دخلت عليه فألطفني وقال إن رجلا مكفوف البصر أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ادع الله أن يرد علي بصري فدعا الله له فرد عليه بصره ثم أتاه آخر فقال يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ادع الله لي أن يرد علي بصري قال فقال الجنة أحب إليك أم أن يرد عليك بصرك قال يا رسول الله وأن ثوابها الجنة فقال إن الله أكرم من أن يبتلي عبده المؤمن بذهاب بصره لا يثيبه الجنة. 7 - وعن جميل بن دراج قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فدخلت عليه امرأة فذكرت أنها تركت ابنها بالملحفة على وجهه ميتا قال لها: لعله لم يمت فقومي فاذهبي إلى بيتك واغتسلي وصلي ركعتين وادعي وقولي يا من وهبه لي ولم يك شيئا جدد لي هبته ثم حركيه ولا تخبري بذلك أحدا قال ففعلت فجائت فحركته فإذا هو قد بكى. حدثنا أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن علي بن المغيرة قال مر العبد الصالح عليه السلام بامرأة بمنى وهي تبكي وصبيانها حولها يبكون وقد ماتت بقرة لها فدنا منها ثم قال لها ما يبكيك يا أمة الله قالت يا عبد الله إن لي صبيانا أيتاما فكانت لي بقرة معيشتي ومعيشة صبياني كان منها فقد ماتت وبقيت منقطعة بي وبولدي ولا حيلة لنا فقال لها يا أمة الله هل لك أن أحييها لك قالت فألهمت أن قالت نعم يا عبد الله قال فتنحي يا حية فصلى ركعتين ثم رفع يديه يمينه وحرك شفتيه ثم قام فمر بالبقرة فنخسها نخسا أو ضربها برجله فاستوت على الأرض قائمة فلما نظرت المرأة إلى البقرة قد قامت صاحب عيسى بن مريم ورب الكعبة قال فخالط الناس وصار بينهم ومضى عليه السلام وعلى آبائه الطاهرين (1).
(1) راجع بصائر الدرجات: 6 / 289، 293. 263 أقول: يظهر من هذه الأحاديث المأثورة إن أهل البيت عليهم السلام كانوا يعملون الولاية التكوينية بما أعطاهم من علمه وبإذنه تعالى، وذلك لكونهم ورثوا علوم جميع الأنبياء، بل إن الذي عندهم أفضل وأعلى رتبة ودرجة في العلم الرباني، وعلى هذا الأساس فإن الولاية التكوينية لهم ثابتة ولا ينكرها إلا معاند أوليس له حظ من العلم إلا قليلا، فهم عليهم السلام تارة يستخدمون هذه الولاية عن طريق اسم الله الأعظم فيتصرفون في التكوينات وتارة من خلال ما عندهم من العلوم الربانية التي ورثوها من الأنبياء والأوصياء السابقين بل من الذي ورثوه من جدهم رسول الله عليه السلام لذا نرى في الزيارات الواردة في حقهم هذه العبارات الواضحة البيان بل هي مطلقة في كل شئ يرثونه من الأنبياء حيث تقول هذه الزيارات السلام عليك يا وارث آدم صفوة الله تعالى، السلام عليك يا وارث نوح نبي الله السلام عليك يا وارث موسى كليم الله السلام عليك يا وارث عيسى روح الله... الخ. فدلالة قوله عليه السلام يا وارث أي مطلق الوراثة سواء المادية أو المعنوية، إذن فهم ورثة الأنبياء في كل ما أعطاهم الله تبارك وتعالى. وأيضا استخدم أهل البيت عليهم السلام الولاية التكوينية من خلال كرامات ومعجزات بل ازدادوا عليهم بأنهم ورثوا كل ما عند نبي عن الآخر زيادة، وهكذا الحال في كل أهل البيت الذي عصمهم وأمنهم الله من الزلل، ومن هنا كانت فاطمة الزهراء عليها السلام عندها الولاية التكوينية حيث ثبتت لها من خلال عدة أمور منها: * إنها حليلة سيد الأوصياء أمير المؤمنين علي عليه السلام فهي كفؤ له وهو كفو لها وهذا يقتضي كونها عندها من المقامات ما لأمير المؤمنين علي عليه السلام إلا ما خصه الله تعالى من الولاية التي يتصدى بها لخلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومن المعلوم أن أمير المؤمنين عنده هذه الولاية أعني الولاية التكوينية وقد أعطت الكثير من الكتب الشواهد العديدة على هذه القضية ويكفي شاهد على ذلك في قضية رده الشمس، وهل هذا إلا تصرف تكويني من خلال اسم الله الأعظم، وعليه المقام ثابت للصديقة الطاهرة فاطمة عليها السلام. * إنها حجة الله الكبرى على الخلق بما فيهم الأنبياء والأوصياء ويدل على ذلك الحديث المروي نصه: ما تكاملت نبوة نبي حتى أقر بفضلها ومحبتها وعلى معرفتها
264 دارت القرون الأولى، فإذا كانت النبوة لا تكتمل لنبي من الأنبياء حتى يقر بفضلها ومحبتها، فمن باب الأولوية إن كل مقام من المقامات المعنوية والمادية التي كانت ثابتة للأنبياء كانت ثابته أيضا للصديقة الطاهرة فاطمة عليها السلام إلا ما خرج بالدليل مثل النبوة الخاصة بكل نبي، وأيضا بينا في حديث نحن حجج الله على الخلق وجدتنا فاطمة عليها السلام حجة الله علينا قضية أنها حجة الله الكبرى فما كان ثابت للأئمة من الولاية التكوينية فهو ثابت لها عليها السلام، هذه بعض الأدلة بصورة إجمالية ولو كان لنا تقصي المسألة لاحتجنا إلى كتاب خاص في هذه المسألة، وأعطى لك شاهدين على ثبوت الولاية التكوينية لفاطمة عليها السلام وأترك لك مراجعة المطولات في هذه القضية.... * عن أبي عبد الله عليه السلام عن سلمان الفارسي: أنه استخرج أمير المؤمنين من منزله، خرجت فاطمة حتى انتهت إلى القبر، فقالت: خلوا عن ابن عمي، فوالذي بعث محمدا بالحق لئن تخلوا عنه لا نشرن شعري ولا ضعن قميص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رأسي ولا صرخن إلى الله، فما ناقة صالح بأكرم على الله من والدي. قال سليمان: فرأيت والله أساس حيطان المسجد تقلعت من أسفلها، حتى لو أراد وتعالى بعث أباك رحمة فلا تكوني نقمة، فرجعت الحيطان حتى سطعت الغبرة من أسفلها، فدخلت في خياشيمنا (1). * وفي مشارق أنوار اليقين ص 86 مثل هذا الحديث ولكن باختلاف وهو: ثم رفعت جنب قناعها إلى السماء، وهمت أن تدعو فارتفعت جدران المسجد عن الأرض وتدل العذاب... وأخيرا أختم هذا الموضوع بقول الإمام الخميني قدس سره الذي يرى ثبوت الولاية التكوينية للصديقة الطاهرة فاطمة حيث يقول ما نصه: وثبوت الولاية والحاكمية للإمام عليه السلام لا تعني تجرده عن منزلته التي هي له عند الله، ولا تجعله مثل من عداه من الحاكم فإن للإمام مقاما محمودا ودرجة سامية
(1) المناقب: 3 / 118. 265 وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع ذرات هذا الكون، وأن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا مقاما لا يبلغه ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وبموجب ما لدينا من الروايات والأحاديث فإن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام كانوا قبل هذا العالم أنوارا فجعلهم الله بعرشه محدقين، وجعل لهم من المنزلة والزلفى ما لا يعلمه إلا الله وقد قال جبرئيل، كما ورد في روايات المعراج لو دنوت أنملة لاحترقت، وقد ورد عنهم عليهم السلام: إن لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل، ومثل هذه المنزلة موجودة لفاطمة الزهراء عليها السلام لا بمعنى أنها خليفة أو حاكمة أو قاضية، فهذه المنزلة شئ آخر وراء الولاية والخلافة والأمرة، وحين نقول: إن فاطمة عليها السلام لم تكن قاضية أو حاكمة أو خليفة فليس يعني تجردها عن تلك المنزلة المقربة كما لا يعني ذلك أنها امرأة عادية من المثال ما عندنا (1).
(1) الحكومة الإسلامية: 52. 266 البحث العاشر فاطمة (عليها السلام) أم أبيها
267 ألقاب بنت المصطفى كثيرة * نظمت منها نبذة يسيرة سيدة إنسية حوراء * نورية حانية عذراء كريمة رحيمة شهيدة * عفيفة قانعة رشيدة شريفة حبيبة محترمة * صابرة سليمة مكرمة صفية عالمة عليمة * معصومة مغصوبة مظلومة ميمونة منصورة محتشمة * جميلة جليلة معظمة حاملة البلوى بغير شكوى * حليفة العبادة والتقوى حبيبة الله وبنت الصفوة * ركن الهدى وآية النبوة شفيعة العصاة أم الخيرة * تفاحة الجنة والمطهرة سيدة النساء بنت المصطفى * صفوة ربها وموطن الهدى قرة عين المصطفى وبضعته * مهجة قلبه كذا بقيته حكيمة فهيمة عقيلة * محزونة مكروبة عليلة عابدة زاهدة قوامة * باكية صابرة صوامة عطوفة رؤوفة حنانة * البرة الشفيقة الأنانة والدة السبطين دوحة النبي * نور سماوي وزوجة الوصي بدر تمام غرة غراء * روح أبيها درة بيضاء واسطة قلادة الوجود * درة بحر الشرف والجود ولية الله وسر الله * أمينة الوحي وعين الله مكينة في عالم السماء * جمال الآباء شرف الأبناء درة بحر العلم والكمال * جوهرة العزة والجلال قطب رحى المفاخر السنية * مجموعة المآثر العلية مشكاة نور الله والزجاجة * كعبة الآمال لأهل الحاجة ليلة قدر ليلة مباركة * ابنة من صلت به الملائكة قرار قلب أمها المعظمة * عالية المحل سر العظمة مكسورة الضلع رضيض الصدر * مغصوبة الحق خفي القبر (1)
(1) الجنة العاصمة: 66 - 68، عنه بهجة قلب المصطفى: 29. 269 البحث العاشر فاطمة (عليها السلام) أم أبيها عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال إن فاطمة (عليها السلام) كانت تكنى: أم أبيها (1) نقف مع هذا الحديث لكي نستلهم منه المعاني الرائعة والجميلة التي تضمنها بين طياته، فكلمة أم أبيها كلمة عذبة أفضل ما تفوهت به حنجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما قال مرحبا بأم أبيها، فهذه الكلمة رغم أنها صغيرة ولكنها في نفس الوقت كبيرة مملوءة بالحب والأمل والعطف وكل ما في القلب البشري من الرقة والعذوبة، لذا نرى لا بد من تسليط الأضواء على هذه الكلمة لكي نستخلص روائع الفكر من هذا الحديث الشريف الذي قلده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لابنته فاطمة فجعل جيدها يشع نورا لمن أراد أن يستضئ من نور معرفته. ولقد ورد في صحاح اللغة العربية أن معنى كلمة أم هو الأصل كما هو معروف في لسان القرآن الكريم حيث عبر عن مكة المكرمة ب * (أم القرى) * أي أصل القرى في الجزيرة العربية، ومنها انطلقت روح الحياة لكي تغذي القرى ومن حولها وتقوم برعايتها، وذلك لما لها من مكان وموقع جغرافي في قلب الجزيرة العربية مما جعلها قطب الرحى لبقية القرى.. وعلى هذا الأساس نفهم معنى هذا الحديث " أم أبيها " حيث نستطيع تفسير بأن فاطمة (عليها السلام) كانت مصدر ذرية رسول الله ومنبع نسله وهذا ينطبق ويتماشى مع تفسير الكوثر الذي هو مصدر ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). أقول: إن في التأمل في حياة فاطمة (عليها السلام) واستقراء حياتها في ظل رعاية أبيها رسول
(1) مقاتل الطالبيين: 29، المناقب لابن المغازلي: 340 ح 392، أسد الغابة: 5 / 520، الإستيعاب: 4 / 380، تهذيب التهذيب: 12 / 440. 271 الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نجد عدة معاني وتفاسير تجعل هذا الحديث وهذه الكلمة أم أبيها كنظرية ولها تطبيقات عديدة في حياة الصديقة الطاهرة (عليها السلام) وعلى هذا الأساس نرى الوقوف مع هذا الحديث مما يزيدنا معرفة في فاطمة (عليها السلام) ويجعلنا نتقرب من الأسرار التي كانت تحيط بحياتها الشخصية وإليك بعض التفاسير والمعاني الرائعة لهذه الكلمة: * إن التدقيق في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع ابنته فاطمة (عليها السلام) يجعلنا نفهم معنى أم أبيها حيث أن الزهراء (عليها السلام) كانت تقوم بمداراة أبيها رسول الله ورعايته أفضل ما تكون المراعاة بالنسبة لأم لولدها وفي قبال ذلك كان الرسول يحترمها كما يحترم الولد أمه، وهذا نجده جليا وواضحا في سيرته الشريفة وعلاقته بالبضعة الطاهرة (عليها السلام) حيث كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ينادي بالزهراء عندما تقبل عليه: مرحبا بأم أبيها، ويقدم لها ضروب الاحترام وألوان التعظيم، حتى وصل الأمر إلى أن يقوم لها إجلالا وتعظيما ويأخذ يدها ويقبلها ثم يجلسها إلى جانبه ويقبل عليها بكليته، وكان إذا يقبلها يقول: أشم منها رائحة الجنة. * إن رسالة نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لا بد لها من امتداد يمثلها في كافة جوانبها ويعطيها التفسير الصحيح، وهذا لم نجده إلا من خلال الامتداد الطبيعي للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المتمثل في ذريته من فاطمة (عليها السلام)، لذا كان الرسول يقول: " حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا " أي إن الحسين ابني وامتدادي الطبيعي فهو قرة عيني وثمرة فؤادي وفي نفس الوقت أنا من حسين، وعليه فإن هذا الحديث يحدد المفهوم الذي أراده من هذا الحديث أي بدقة متكاملة وبتمعن نرى أن هذا الأمر يعني استمرار الرسالة السماوية وإحياء معالم الدين والعقيدة إنما هو بوجود الحسين وذرية فاطمة من الأئمة المعصومين، لذلك قيل إن الدين الإسلامي محمدي الوجود حسيني البقاء وهذا ما نراه في التضحية التي قدمها الحسين يوم عاشوراء حيث أرخص الغالي والنفيس لإحياء شجرة الرسالة المحمدية في كل جوانبها فغذاها بدمه ودم عيالاته من الأطفال والشباب والشيوخ والنساء حتى الطفل الرضيع. وعلى هذا الأساس يكون معنى أم أبيها إن استمرار الإسلام وبقاء رسالة السماء وحفظ القرآن الكريم وعقائده مناهجه إنما يكون بواسطة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ومن خلال ذريتها، وهذا ما كان يراه الرسول
272 في فاطمة من خلال تطلعه إلى آفاق المستقبل الذي سيكون لولد فاطمة فكان يكرمها ويحترمها ويقول لها مرحبا بأم أبيها. * ولعل وجه تكنيتها بأم أبيها هو أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يعاملها (عليها السلام) معاملة الولد أمه، وأنها تعامله معاملة الأم ولدها كما أن التاريخ يؤيد ذلك والأخبار تعضده، ففي الأخبار الكثيرة أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يقبل يدها ويخصها بالزيارة عند كل عودة منه إلى المدينة المشرفة ويودعها منطلقا عنها في كل أسفاره ورحلاته. وكأنه يتزود من هذا النبع الصافي عاطفة لسفره كما يتزود الولد المؤدب من أمه. ونلاحظ من جهة أخرى أن فاطمة الزهراء (عليها السلام) تحتضنه وتضمد جروحه وتخفف من آلامه كالأم المشفقة لولدها، وبالجملة كل ما يجده الولد في أمه من العطف والرقة والشفقة والأنس فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) يجده في فاطمة وكأنها أمه (1). * ونقل المولى الأنصاري (ره): إن النكتة في هذه التكنية إنما هي محض إظهار المحبة، فإن الإنسان إذا أحب ولده أو غيره وأراد أن يظهر في حقه غاية المحبة قال: " يا أماه " في خطاب المؤنث، ويا " أباه " في خطاب المذكر، تنزيلا لهما بمنزلة الأم والأب في المحبة والحرمة على ما هو معروف في العرف والعادة (2). أو أن الله عز وجل لما شرف وكرم أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتكنيتهن بأمهات المؤمنين صرن في معرض أن يخطر ببالهن أنهن أفضل النساء حتى من بضعة المصطفى فاطمة الزهراء (عليها السلام)، ولأجل ذلك كناها أبوها بأم أبيها صونا لهذه الخواطر والوساوس، يعني يا نساء النبي إن كنتن أمهات المؤمنين، ففاطمة (عليها السلام) أم النبي، أم المصطفى، أم الرسول، أم أبيها. ويمكن أن يراد بهذه التكنية معنى أدق وأعمق من الأول والثاني وإن كان الأول هو الأظهر، وهو: أن أم كل شئ أصله ومجتمعه كما صرح به أهل اللغة كأم القوم وأم الكتاب وأم النجوم وأم الطرق وأم القرى وهي مكة شرفها الله تعالى، وأم الرأس وأم الدماغ و.. فعليه يمكن أن يقال: إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أراد منها أن ابنتي فاطمة هي أصل شجرة
(1) فاطمة بهجة قلب المصطفى: 204. (2) اللمعة البيضاء: 50. 273 الرسالة وعنصر النبوة، كما قال الباقر (عليه السلام): الشجرة الطيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفرعها علي (عليه السلام) وعنصر الشجرة فاطمة (عليها السلام) وثمرتها أولادها، وأغصانها وأوراقها شيعتها (1). وكما أنه لولا العنصر يبست الشجرة وذهبت نضرتها، فكذلك لولا فاطمة لما اخضرت شجرة الإسلام، فإن الشجرة تسمو وتنمو بتغذيتها من أصلها. وشجرة الشريعة الحنيفية قد سمت ونمت بمجاهداتها ودفاعها عن إمامها وبعلها الشريف المظلوم ومجاهدات أولادها وتضحياتهم، لا سيما شبليها الكريمين، فإن الحسن (عليه السلام) بصلحه أبقى شجرة الإسلام ومنعها من الاصطدام والحسين (عليه السلام) بإبائه عن البيعة وبذل مهجته الشريفة سقاها ورباها، ولولا صلح الحسن وقيام الحسين (عليهما السلام) ليبست شجرة الإسلام وما قام لها عود ولا اخضر لها عمود. ولا يخفى أن أصل الحسن والحسين عليهما السلام أمهما فاطمة الزهراء (عليها السلام)، ولولاها لم يكن أبوها وبعلها وبنوها (عليهم السلام) كما تقدم في صدر الكتاب. ولتمام البحث فاستمع لما يتلى من بعض الأخبار في هذا المعنى: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنا شجرة، وفاطمة أصلها، وعلي لقاحها، والحسن والحسين ثمرها (2). وعن المفضل بن محمد الجعفي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: * (حبة أنبتت سبع سنابل) * (3) قال: الحبة فاطمة (عليها السلام)، والسبع السنابل سبعة من ولدها، سابعها قائمهم... (4). وقال بعض أهل التحقيق: سر التعبير عنها (عليها السلام) بالحبة يحتمل وجهين: الأول: إما كناية عن أنها هي المقصودة أولا وبالذات، وإما أن تكون مجرى هذه الأمانات الإلهية ومظاهر التوحيد الحقيقي صلوات الله عليها، ووجه التشبيه أن من لم يكن من الزراع عنده حبة فهو آيس من تحصيل الزراعة، فأصل النظر عنه دائما إلى الحبة فقط وإلا فالنتيجة منها غير حاصلة، وكذلك وجود الزهراء صلوات الله عليها
(1) مجمع البحرين: مادة شجر. (2) ميزان الإعتدال: 1 / 234، على ما في إحقاق الحق: 9 / 152. (3) البقرة: 261. (4) تفسير نور الثقلين: 1 / 282. 274 هي المصدر والأصل لهذه الأنوار الإلهية، رزقنا الله حبها وشفاعتها. الثاني: أن الزراعة أصلا وحقيقة هي تلك الحبة مع إضافات أخرى أعملت فيها، فتصور بصرة أخرى، وإنما الفرق بينهما الإجمال والتفصيل، وإلا هي هي مادة وأصلا. فعلى هذا تكون الأنوار المقدسة هي المتشعبة والمشتقة من هذه الحبة الإلهية (1)... * إن النبي كان يكشف عن مكانة فاطمة في الإسلام، في كل كلمة يقولها لفاطمة، وكل صنيع يصنعه لها. وهنا أراد النبي الكريم، أن يبين عظمة فاطمة الزهراء، وأنها تختلف عن نسائه اختلافا كبيرا، أي أن مكانة الزهراء تفوق مكانة نساء النبي لأنها معصومة.. وهن لسنن بمعصومات.. ولأنها مطهرة من الرجس، وهن لسن مطهرات من الرجس.. ففاطمة زعيمة آية التطهير، بينما لم تدخل واحدة من نساء النبي في آية التطهير، حتى أم سلمة على جلالة قدرها، لما اقتربت من الكساء والنبي يقرأ قوله تعالى: * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * (2). وكان تحت الكساء يومها محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين - عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام - أقول: لما اقتربت أم سلمة من طرف الكساء، وقالت: وأنا منهم يا رسول الله - روحي فداك -؟ قال: لا.. لست منهم، ولكنك على خير، أو إلى خير. وفي يوم المباهلة نجد النبي لم يخرج معه من النساء سوى فاطمة في حين أن آية المباهلة واضحة بقولها: * (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندعو أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم، وأنفسنا وأنفسكم، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) *. أقول: ولما خرج النبي إلى مباهلة النصارى، لم يخرج معه سوى الحسن والحسين وفاطمة وعلي (عليهم السلام) فالحسن والحسين يمثلان الأبناء، وفاطمة تمثل النساء، وعلي يمثل نفس النبي، وهذا إن دل علي شئ فإنما يدل على أن فاطمة سيدة النساء، ولو كانت واحدة من نساء النبي في مستوى فاطمة لأخرجها معه، ولكنه - أي الرسول - لم يجد
(1) القطرة للسيد أحمد المستنبط: 158. (2) اعلموا أني فاطمة: 2 / 723 - 731. 275 في نسائه، ولا في نساء بني هاشم ولا في نساء الخلافة، واحدة تقوم مقام الزهراء، فاطمة بنت محمد - صلوات الله وسلامه عليها. والذين يحاولون إدخال زوجات النبي في أهل البيت، عليهم أن يتفكروا في أمر آية المباهلة لتستبين لهم جادة الحق والصواب كالشمس الصافية المشرقة. ولتأصيل هذا المعنى، وتأكيده اقرأوا معي إذا شئتم أول سورة التحريم، وهو قوله تعالى: * (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك) * (1)، والتعبير واضح جدا. فحينما يقول: تبتغي مرضاة أزواجك، فإن معنى ذلك أن رضى زوجات النبي لا قيمة له أمام رضا الله سبحانه وتعالى لأن رضا أزواج النبي خاضع للهوى، وليس لموازين الإيمان، وهذا ليس انتقاصا لنساء النبي وإنما هو الواقع، والحقيقة، فنساء النبي لسن معصومات وما فيهن واحدة يمكن أنت تصل إلى مستوى فاطمة، لذلك يقول القرآن في استنكار شديد: * (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك، تبتغي مرضاة أزواجك) *. علما بأن النبي لا يحرم ما أحل الله له في التشريع الإسلامي الحنيف، وإنما كانت القضية، مسألة خاصة تتعلق بشئ من السمن والعسل أهدي إلى زوجة النبي زينت بنت جحش، وحدث أن كان النبي عندها، فقدمت له من ذلك الطعام شيئا يسيرا فأكله النبي، غير أن غيرة عائشة وبعض نسائه أدت إلى أن تقوم اثنتان من نساء النبي - كما ورد في سورة التحريم - وهما عائشة وحفصة، أن تقوما بمظاهرة ضد الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وبدأت المظاهرة بقول عائشة وحفصة للنبي إننا نشم من فمك رائحة كريهة، فتعجب النبي أن تكون رائحة فمه كريهة وهو الذي كانت حبات عرقه تتضوع عطرا، بل كان جسمه يفوح بعطر الجنة كما جاء ذلك في سيرته الذاتية، وأحواله الشخصية.. ولكن لا بأس، إذا كان هذا الطعام الذي أكلته - هكذا قال النبي - فيه رائحة غير جيدة فقد حرمته على نفسي أي أن النبي حرم ذلك الطعام الذي هو
(1) التحريم: 1. 276 عند زوجته زينب بنت جحش ولم يحرم كل أنواع العسل.. ولذلك قلت لكم - آنفا - إن التحريم كان خاصا به ولم يكن عاما وشاملا، لأن النبي لا يحرم ما أحل الله: * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) *. ومحل الشاهد هنا، هو قول الحق سبحانه: * (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك) *. وهذا يدل بوضوح، على أن رضا أزواج النبي لا وزن له ولا قيمة له أمام رضا الله سبحانه وتعالى. هذا بالنسبة لرضا أزواج النبي ونسائه.. أما بالنسبة لفاطمة الزهراء - سلام الله عليها - فالأمر يختلف اختلافا جذريا. يقول النبي: " إن الله ليرضى لرضا فاطمة ويغضب لغضبها ". ويقول: يا فاطمة إن الله ليرضى لرضاك ويغضب لغضبك. ويقول في حديث ثالث: " رضا فاطمة من رضاي وسخطها من سخطي ". والويل لمن غضبت عليه فغضبها يعني غضب الله، وإذا غضب الله على أحد أحل به نقمته، وجنبه رحمته. يقول الله عز وجل: * (ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى) * (1). ونحن نعرف أن فاطمة ماتت وهي غاضبة وواجدة على أبي بكر وعمر، كما جاء في صحيح البخاري. فما أدري كيف تكون المعادلة.. إذا كان غضب فاطمة، هو غضب الله، وأن الله ليرضى لرضا فاطمة، ويغضب لغضبها، ثم تموت الزهراء، وهي واجدة - غاضبة - على أبي بكر وعمر، فالقرآن يقول بصراحة: إن الذي يحلل عليه غضب الله يكون من الهالكين: * (ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى) *. والعجيب أن هذه الأحاديث كلها موجودة في صحيح البخاري وفي كتب الصحاح الأخرى، وكلها تؤكد أن الله ليرضى لرضا فاطمة ويغضب لغضبها.. وأن فاطمة ماتت وهي واجدة على أبي بكر وعمر.. ماتت ولم تكلمهما كلمة واحدة.. ماتت ودفنت في الليل ولم يحضر أبو بكر ولا عمر تجهيزها ولا الصلاة عليها.. وهذه قضية معروفة
(1) طه: 81. 277 لدى المسلمين كافة. أما لماذا يرضى الله لرضا فاطمة ويغضب لغضبها، فواضح جدا وذلك أنها طاهرة نقية، معصومة لا تتعامل مع الخطأ في قول ولا فعل وهي التي كانت تقول: " أيها الناس اعلموا أني فاطمة، وأبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). أقول: حقا عودا وبدءا، ولا أقول ما أقول غلطا، ولا أفعل ما أفعل شططا.. " فلا غلط في قولها.. ولا شطط في فعلها على الإطلاق. * حادثتان تكشفان حقيقة حديث النبي: والذي يهمني هنا هو ذكر حادثتين اثنتين فقط، لأنهما تسلطان الضوء على الحديث الذي نحن بصدده، إضافة إلى كون الحادثتين اللتين سأذكرهما، تعكسان صورة واضحة وجلية تكشف لنا عن حقيقة حديث مرحبا بأم أبيها. الحادثة الأولى هي المؤاخاة، فقد آخى النبي بين كل أصحابه لينزع الغل من بعض القلوب، ويجعلهم صفا واحدا في مواجهة العدو، كأنهم بنيان مرصوص.. فقال: هذا أخو هذا، وفلان أخو فلان، حتى لم يبق أحد سوى علي ظل واقفا إلى جوار النبي فأخذ النبي بعضده وقال له: أنت أخي أو قال: " وهذا أخي.. ".. وهنا تجدر الملاحظة بدقة متناهية، حيث أن النبي اختار عليا من دون أصحابه ليكون أخا له دون غيره. إذن اجعلوا هذه الحادثة، عالقة في أذهانكم ثم تعالوا معي إلى الحادثة الثانية: وهي لما نزلت آية الحجاب: * (وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب) * (1). قال طلحة: أيريد محمد أن يمنعنا من النظر إلى بنات عمنا، أما والله لئن مات محمد لنتزوجن نساءه، ونجول بين خلاخيلهن...!!... حقا إنه عجب يثير الهم ويجلب الحزن، أن نسمع مثل هذا الكلام من طلحة وهو من العشرة المبشرين بالجنة (....) ولا أعتقد أن بوابة الجنة سوف تنخلع أمامه ليدخل الجنة من أعرض الأبواب. هذا الذي لا يتورع من إظهار الهوى والغرام لزوجات النبي وهن أمهات المؤمنين. ولم يحفظ حرمة رسول الله. ولكن ما علينا بطلحة، لنتركه يعيش مع غرامه الباطل فإن عذاب جهنم كان غراما. ولنرجع إلى الحادثة الثانية،
(1) الأحزاب: 53. 278 وهي حين نزلت آيات الحجاب، وظهر من بعض المنافقين مثل الكلام الذي قد مر نزلت آية تقول: * (ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا) * (1). ثم جاء آية ثانية تتحدث عن مكانة زوجات النبي وأنهن بمثابة الأمهات لكم أيها المؤمنون قالت الآية: * (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم) * (2). وهذا يعني أن عائشة أم المؤمنين وأن زينب بنت جحش أم المؤمنين، ومارية القبطية أم المؤمنين، وحفصة أم المؤمنين، وخديجة الكبرى أم المؤمنين.. فأثارت هذه الآية سؤالا عريضا على الشفاه السؤال هو: إذا كانت كل واحدة من زوجات النبي أما للمؤمنين.. ففاطمة أم من؟ وهنا جاء الجواب على لسان الرسول الأمين الذي ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى حيث قال " فاطمة أم أبيها... " ومن ذلك الحين أصبحت فاطمة أم أبيها، وصار الرسول يناديها بأم أبيها، فيقول: مرحبا بأم أبيها. وأورد صاحب كتاب " رياحين الشريعة " جملة من الألقاب والكنى للسيدة الكبيرة فاطمة الزهراء صلوات الله عليها وعلى بعلها وبنيها، وهي: ابنة الصفوة، إحدى الكبر، أرومة العناصر، أعز البرية، أم الأئمة المعصومين، أم الأبرار، أم الأبرار، أم الأخيار، أم الأزهار، أم الأطهار، أم الأنوار، أم البدريين، أم البررة، أم البرية، أم البلجة، أم التقى، أم الحسن، أم الحسين، أم الخيرة، أم الرأفة، أم الرواق الحسيبة، أم الريحانتين، أم السبطين، أم العطية، أم العلا، أم العلوم، أم الفضائل، أم الكتاب، أم المحسن، أم المؤمنين، أم الموانح، أم النجباء، أم النقى، أم النورين، أمة الله، آية الله، آية الله العظمى. باكية العين، البتول، برزخ النبوة والولاية، بضعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، بقية النبوة، بهجة الفؤاد، بهجة بيضاء بضة. تفاحة الفردوس، التقية، ثالثة الشمس والقمر، ثمرة النبوة، جرثومة المفاخر، جمال الآباء، الجميلة الجلية. حاملة البلوى، الحانية، الحبة النابتة حبها خير العمل، حبيبة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، حجاب الله المرخى، حجة الله الكبرى،
(1) الأحزاب: 53. (2) الأحزاب: 6. 279 الحرة، الحصان، حظيرة القدس، الحوراء خامسة أهل العبا، الخيرة من الخير، درة التوحيد، الدرة المنضدة، الدعوة المستجابة، الذروة الشامخة، ذريعة الشيعة، الراضية، ربيبة مكة، الرشيدة، ركن الدين، روح بين جنبي المصطفى، ريحانة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). زجاجة الوحي، الزكية زوجة ولي الله الأعظم، الزهراء، زين الفواطم، ستر الله الكبرى، سفينة النجاة، سلالة الرضوان، سلالة الفخر، سماء الكواكب الدرية، السيدة، سيدة بنات آدم (عليه السلام)، سيدة الأولين والآخرين، سيدة نساء الجنة، سيدة نساء هذه الأمة، سيدة النسوان، شرف الأبناء، شفيعة الأمة، الشفيعة يوم القيامة، الشمس المضيئة، الشهيدة، الصائمة في النهار، الصابرة في المحن، صاحبة الأحزان الطويلة، صاحبة الجنة السامية، صاحبة المصحف، الصادقة في السر والعلن، الصدف الفخار، الصديقة، الصديقة الكبرى، صفوة الشرف، صلاة الوسطى، أمن الشفاعة، الطاهرة، الطاهرة في الأفعال، الطاهرة الميلاد، ظل الله الممدود، العابدة التقية، العارفة بالأشياء، العالمة بما كان وما يكون، عالية الهمة، عديلة مريم الكبرى، العذراء، عروة الوثقى، العفيفة، عقيلة الرسالة، عيبة العلم، عين الحجة، عين الحياة الغرة الغراء، الفاضلة الفضلى، فخر الأئمة، فلذة كبد المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، القائمة في الليل، القانتة، القانعة، القدوة المسددة، قرار القلب، قرة عين الخلائق، قلادة الوجود، الكئيبة، الكريمة في النفقة، كلمة الله التامة، كلمة التقوى، الكلمة الطيبة، الكوثر، الكوكب الدري. ليلة القدر، المباركة، مبشرة الأولياء، المتعوبة في الدنيا، المتهجدة، محترقة القلب، المحدثة، المرضية، مريم الكبرى، المزوجة في الملأ الأعلى، مشكاة الأنوار، المضطهدة، المظلومة، معدن الحكمة، المعروفة في السماء، معصبة الرأس، المعصومة، المغصوبة حقها، مقتولة الجنين، مكسورة الضلع، الممتحنة، الممنوعة إرثها، المنصورة، المنعوتة في الإنجيل، المنهدة الركن، الموصوفة بالبر والتبجيل، موطن الرحمة، مهجة العالم، مهجة قلب المصطفى، الميمونة، ناحلة الجسم، الناطقة بالشهادتين عند الولادة، النبيلة، نجمة إكليل النبوة، نخبة أبيها، النعمة الجليلة، نور الأنوار، النورية، والدة الحجج، والدة الحسن والحسين (عليه السلام)، الوالهة الثكلى، الوحيدة الفريدة، وديعة الرسول، وعاء المعرفة، ولية الله العظمى، الوليدة في الإسلام، ينابيع الحكمة. ينبوع العلم.
280 البحث الحادي عشر فلسفة تسبيح فاطمة الزهراء (عليها السلام)
281 الشيخ صالح كواز الحلي الواثبين لظلم آل محمد * ومحمد ملقى بلا تكفين والقائلين لفاطم آذيتنا * في طول نوح دائم وحنين والقاطعين أراكة كي ما تقيل * بظل أوراق لها وغصون ومجمعي حطب على البيت الذي * لم يجتمع لولاه شمل الدين والداخلين على البتولة بيتها * والمسقطين لها أعز جنين والقائدين إمامهم بنجاده * والطهر تدعو خلفهم برنين خلو ابن عمي أو لأكشف للدعا * رأسي وأشكو للإله شجوني ما كان ناقة صالح وفصيلها * بالفضل عند الله إلا دوني ورنت إلى القبر الشريف بمقلة * عبرى وقلب مكمد محزون قالت وأظفار المصاب بقلبها * غوثاه قل على العداة معيني أبتاه هذا السامري وعجله * تبعا ومال الناس عن هارون أي الرزايا اتقي بتجلدي * هو في النوائب مذ حييت قريني فقدي أبي أم غصب بعلي حقه * أم كسر ضلعي أم سقوط جنيني أم أخذهم إرثي وفاضل نحلتي * أم جهلهم حقي وقد عرفوني قهروا يتيميك الحسين وصنوه * وسئلتهم حقي وقد نهروني (1)
(1) هذه القصيدة العصماء للشاعر المرحوم الشيخ صالح الكواز الحلي. 283 البحث الحادي عشر فلسفة تسبيح فاطمة الزهراء (عليها السلام) من الشعائر الإسلامية التي أكد عليها القرآن الكريم هي شعيرة التسبيح، تلكم الشعيرة التي تزيد في إيمان الإنسان وتضيف عليه هالة من النورانية عبر أداء هذه الركيزة الإسلامية التي أكد عليها القرآن الكريم في كثير من آياته المباركة فقد جاء في قوله تعالى * (وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم) * ليؤكد على هذه الحقيقة الخالدة التي أثبتها الله تبارك وتعالى لجميع الأشياء، فالكون يسبح والنجوم تسبح في مداراتها الغارقة في أعماق الفضاء والشجر والنباتات والحيوانات بكل صنوفها تشترك في هذا الموكب الرهيب الذي يثير الدهشة ويجتذب القلوب، وفي ذلك يقول القرآن الكريم: * (والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه) * (1). وأيضا قوله تعالى: * (فسبح باسم ربك العظيم) *.. أي نزه الله سبحانه عن السوء، والشرك وعظمه بحسن الثناء عليه، ومعناه أيضا نزه اسمه عما لا يليق به.. فلا تضف إليه صفة نقص أو عملا قبيحا.. ومعناه أيضا قولوا سبحان ربي العظيم.. والعظيم في صفة الله تعالى معناه كل شئ سواه يقصر عنه فإنه القادر العالم الغني الذي لا يساويه شئ ولا يخفى عليه شئ جلت آلاؤه وتقدست أسماؤه. وورد في التفسير المروي في هذه الآية المباركة: أي فبرئ الله تعالى مما يقولون في وصفه، ونزهه عما لا يليق بصفاته، وقيل معناه قل سبحان (الله) ربي العظيم، فقد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه لما نزلت هذه الآية قال " اجعلوها في ركوعكم " وراجع في ذلك تفسير مجمع البيان ليتضح لك الحال والبيان. ولقد ورد في القرآن الكريم عدة ألفاظ للتسبيح فتارة يأتي على نحو صيغة الأمر تسبح وتارة أخرى بصيغة الماضي أو الحاضر.. يسبح.. تسبح.. وسبحان الله.. وهذا
(1) النور: 41. 285 يعني أن التسبيح له صفة الاستمرارية في كل شئ وكما قلنا فالكون يسبح.. الخ. وإذا تفحصنا القرآن الكريم نجد زخما كبير من الآيات المباركة تصل العشرات تؤكد على مسألة التسبيح ومنها: * (سبح لله ما في السماوات والأرض) * (1). * (يسبح له ما في السماوات وما في الأرض) * (2). * (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب) * (3). * (سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى) * (4). إذن رحلة التسبيح في القرآن الكريم عظيمة وكبيرة جدا كل ذلك ليكون إيمان الإنسان عبر التسبيح أعظم وأفضل ما يكون عليه الإيمان، وقد ذكرنا هذه المقدمة لتكون لنا عونا على استيعاب الموضوع الذي نحن فيه - تسبيح الزهراء (عليها السلام) - ومن الطبيعي جدا نرجع إلى المصدر الأول للمسلمين الذي هو القرآن الكريم لنرى كيف أكد على هذا التسبيح، وبعد ذلك ننطلق ونسبح في فضاء تسبيح الصديقة الطاهرة فاطمة (عليها السلام). فالقرآن الكريم قال إن الكل يسبح ولكن لا نعرف نحن القاصرون عن إدراك الكثير من الحقائق التي تخصنا نحن كبشر في حياتنا، وإلا فالكل يسبح ولكن نحن لا نعرف لغة هذا التسبيح الذي يخص الكائنات الأخرى سواء النباتية أو الحيوانية أو الجمادية أو الأفلاك المتحركة، فإن لهذه الوجودات لغات خارجة عن تصوراتنا وعن حدود معرفتنا، وليس لنا القابلية في معرفة هوية هذا التسبيح الخاص بها، إلا من وفقه الله تعالى في مجاهدة نفسه ووصل إلى مرحلة الكشف والشهود لكثير من الحقائق الكونية.. وهذا ما نجده متحقق في كثير من الأنبياء (عليهم السلام) كما في قصة سليمان (عليه السلام) الذي أعطاه الله تبارك وتعالى معرفة لغة الحيوانات * (وعلمنا منطق الطير) * ويقول الله تعالى في ذلك: * (قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فتبسم ضاحكا من قولها) * (5).
(1) الحديد: 1. (2) الحشر: 24. (3) ق: 31. (4) الأعلى: 1. (5) النمل: 18 - 19. 286 فسليمان يعرف لغة الغير من الحيوانات كالنمل والطير وإلا لو كان لا يعرف لغة النمل لما تبسم ضاحكا من قولها، وعلى هذا الأساس فإن لكل شئ في هذا الكون لغة ومنطق ولكننا لا نفقه لغته ولا نعرف منطقه ولا ندرك ذلك إلا لمن أعطاه الله تبارك وتعالى نور البصيرة في كل شئ * (ومن لم يجعل الله له نور فما له من نور) *. إذن فكل شئ له لغة وله منطق غير أننا لا نفقه تلك اللغات اللهم إلا أن يكون الإنسان نبيا أو وصي نبي أو أحد الأئمة الهداة الذين علمهم الله منطق كل شئ وكما ورد ذلك في كتاب مدينة المعاجز الذي يعطيك عشرات الشواهد على ذلك.. أما نحن فلا حظ لنا من ذلك على الإطلاق، وفي حديث أن الحصى كانت تسبح في كف النبي والصحيح هو أن النبي كان يسمع صوت الحصى حينما تسبح الله وتقدسه.. وإلا فالحصى هي مسبحة لله تعالى في يد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي يد غيره من البشر غاية ما في الأمر أن الأنبياء لهم القدرة على سماع هذا التسبيح بشكل واضح وملموس. وبعد أن وقفنا بعض الشئ مع معالم التسبيح في القرآن الكريم نأتي الآن إلى نورانية تسبيح فاطمة (عليها السلام) الذي يعتبر من الشعائر الدينية لدى الشيعة والسنة والذي يعتزون به كأفضل الأعمال عقيب الصلاة المفروضة. ولقد جاء الحث عليه من قبل الأئمة (عليهم السلام) في كثير من الأحاديث التي وصلت إلينا عبر الرواة والمحدثين ومنها ما جاء عن لسان أبي جعفر (عليه السلام) قال: " ما عبد الله بشئ من التمجيد أفضل من تسبيح فاطمة (عليها السلام)، ولو كان شئ أفضل منه لنحله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة (عليها السلام) " (1). وعنه (عليه السلام) قال: " من سبح تسبيح الزهراء (عليها السلام) ثم استغفر غفر له وهي مائة باللسان، وألف في الميزان، وتطرد الشيطان، وترضي الرحمان " (2). وجاء عن أبي هارون المكفوف، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " يا أبا هارون! إنا نأمر صبياننا بتسبيح فاطمة (عليها السلام) كما نأمرهم بالصلاة فالزمه، فإنه لم يلزمه عبد فشقي " (3).
(1) الكافي: 3 / 343 / ح 14، الوسائل: 4 / 1024 / ح 1، التهذيب: 2 / 105. (2) ثواب الأعمال: 196 / ح 2، الوسائل: 4 / 1023 ح 3. (3) أمالي الصدوق: 464 ح 16، ثواب الأعمال: 195، الكافي: 3 / 343 ح 13. 287 وأيضا عن الصادق (عليه السلام) قال: " من سبح تسبيح فاطمة (عليها السلام) قبل أن يثني رجله بعد انصرافه من صلاة الغداة غفر له ويبدأ بالتكبير " ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) لحمزة بن حمران: " حسبك بها يا حمزة " (1). تشريع التسبيح من منا لا يعرف كفاح فاطمة (عليها السلام) وكيف كانت حياتها تجري في بيت زوجها علي أمير المؤمنين - عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام - فالتاريخ يحدثنا أنها كانت قليلة الهجوع في لليل، وكانت تستغفر الله في الأسحار، فتقف في محرابها للصلاة حتى تورمت قدماها من كثرة العبادة والدعاء... وكانت تذوب رقة وخشوعا في صلاتها وعند دعائها، ولدى قراءتها القرآن الكريم... فإذا مرت بآية فيها وعد أو وعيد رددتها في بكاء وحزن ودموع... هذا كان بعض شأنها في الليل... أما في النهار، فقد كانت فاطمة تطحن بالرحى حتى أثرت الرحى بيدها، واستقت بالقربة حتى أثرت القربة بنحرها، وكنست البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى طبع الدخان أثره على ملابسها وترك لونه على ثيابها وقت العمل بالطبع (2) وبلغ بها الحال أن دخل عليها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات صباح، وهي تطحن بالرحى وعليها كساء من وبر الإبل، وطفلها يبكي إلى جانبها، فبكى النبي، وقال " تجرعي يا فاطمة مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة " (3). وذات مرة، وقفت فاطمة الزهراء (عليها السلام) بين يدي أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنظر إليها، وقد بدت آثار التعب على وجهها، من شدة الجوع والكفاح، فوضع يده الكريمة على صدرها، ورمق السماء بطرفه، وراح يدعو لها، والدموع تترقرق في عينيه، وهو يقول: " يا فاطمة تجرعي مرارة الدنيا، لحلاوة الآخرة ". وقد تكرر هذا الموقف من رسول الله
(1) قرب الإسناد: 165. (2) صفوة الصفوة: 2 / 6 وكتاب فاطمة الزهراء لمحمد علي دخيل: 63. (3) أعلام النساء لعمر كحالة 3 / 216 وكتاب فاطمة الزهراء لمحمد على دخيل: 63. 288 لفاطمة، وفي كل مرة يكرر عليها هذه العبارة: يا فاطمة تجرعي مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة.. وفي ذلك درس عظيم لكل فتاة تبحث عن النجاح في الحياة.. فيه درس عظيم لكل امرأة تفتش عن السمو.. تفتش عن التكامل في الإسلام. يقول جابر بن عبد الله الأنصاري (رحمه الله): رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ابنته فاطمة، وعليها كساء من أجلة الإبل، وهي تطحن بيدها، وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: يا بنتاه تجرعي مرارة الدنيا لحلاوة الآخرة، فقالت: الحمد لله على نعمائه، والشكر لله على آلائه (1). إن فاطمة الزهراء من خلال سيرتها الذاتية هذه تعطي الفتاة المسلمة أعظم درس في الحياة، يؤدي بها إلى سلوك الصراط المستقيم لتعيش في ظلال رحمة الله سبحانه. أجل.. إن فاطمة تعلم المرأة كيف تصبح فتاة مسؤولة...، تتحمل مسؤولية الأسرة، والمجتمع في ثقة وشجاعة. ونعلم من سيرة الزهراء أنها لما أرهق بدنها الكدح والنضال، وأتعبها الطحن بالرحى، جاءت أباها تمشي على استحياء، تطلب منه خادمة تساعدها على تخفيف أعباء المنزل، وثقل الحياة العائلية التي كانت تكابدها ليلا نهارا، علها تخفف عنها بعض همومها. وقفت بين يدي أبيها رسول الله، مطرقة برأسها حياء بعد أن سلمت عليه، فرد عليها السلام، وكان من عادته أنه إذا أقبلت عليه فاطمة، كان يقوم إجلالا لها ويقبل يدها ثم يجلسها في مجلسه، فجلست وهي مطرقة برأسها إلى الأرض، وما كادت تجلس في مكانها، حتى سألها الرسول الأعظم قائلا: ما جاء بك.. وما حاجتك أي بنية؟ فغلبها الحياء ولم تتمكن من سؤال النبي، فقالت: جئت لأسلم عليك.. وبعد لحظات قامت فودعها النبي، ورجعت إلى دارها دون أن تحقق هدفها الرامي إلى طلب فتاة لخدمة المنزل. وبعد هذا اللقاء بأيام وجدت فاطمة نفسها لا تستطيع مواصلة العمل دون وجود فتاة إلى جانبها في البيت، فقررت أن تشكو حالها إلى أبيها الحبيب المصطفى لعله هذه
(1) سفينة البحار: 1 / 571 وكتاب فاطمة الزهراء لمحمد علي دخيل: 65. 289 المرة يلبي نداءها، ويستجيب لدعوتها، خصوصا وقد انتصر المسلمون في معارك الجهاد، فأحرزوا غنائم كثيرة وأموالا عظيمة.. فقامت فاطمة الزهراء (عليها السلام) من ساعتها، وأتت أباها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وطلبت منه خادمة، فقال لها: يا فاطمة أعطيك ما هو خير لك من خادم ومن الدنيا وما فيها. قالت: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: " تكبرين الله بعد كل صلاة أربعا وثلاثين تكبيرة، وتحمدين الله ثلاثا وثلاثين تحميدة، وتسبحين الله ثلاثا وثلاثين تسبيحة، ثم تختمين ذلك بلا إله إلا الله، وذلك خير لك من الذي أردت ومن الدنيا وما فيها " (1). وإليك قضيته كما نقله كتاب من لا يحضره الفقيه: روي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لرجل من بني سعد: ألا أحدثك عني وعن فاطمة الزهراء (سلام الله عليها)؟ إنها كانت عندي فاستقت بالقربة حتى أثر في صدرها، وطحنت بالرحى حتى مجلت يداها (2)، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها (3) فأصابها من ذلك ضر شديد، فقلت لها: لو أتيت أباك فسألته خادما يكفيك حر ما أنت فيه من هذا العمل. فأتت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فوجدت عنده حداثا، فاستحيت فانصرفت، فعلم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنها قد جاءت لحاجة، فغدا علينا ونحن في لحافنا، فقال: السلام عليكم، فسكتنا واستحيينا لمكاننا، ثم قال: السلام عليكم، فسكتنا، ثم قال: السلام عليكم، فخشينا إن لم نرد عليه أن ينصرف - وقد كان يفعل ذلك فيسلم ثلاثا، فإن أذن له وإلا انصرف - فقلنا: وعليك السلام يا رسول الله أدخل، فدخل وجلس عند رؤوسنا، ثم قال: يا فاطمة ما كانت حاجتك أمس عند محمد؟ فخشيت إن لم نجبه أن يقوم، فأخرجت رأسي فقلت: أنا والله أخبرك يا رسول الله، إنها استقت بالقربة حتى أثر في صدرها، وجرت
(1) شرح خطبة الزهراء للشيخ نزيه: 29. (2) مجلة يداها أي ظهر فيها المجل وهو ماء يكون بين الجلد واللحم من كثرة العمل الشاق. والمجلة القشرة الرقيقة التي يجتمع فيها ماء من أثر العمل الشاق. (3) الدكنة: لون يضرب إلى السواد. 290 بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فقلت لها: لو أتيت أباك فسألته خادما يكفيك حر ما أنت فيه من هذا العمل. قال: أفلا أعلمكما ما هو خير لكما من الخادم؟ إذا أخذتما منامكما فكبرا أربعا وثلاثين تكبيرة، وسبحا ثلاثا وثلاثين تسبيحة، واحمدا ثلاثا وثلاثين تحميدة. فأخرجت فاطمة رأسها وقالت: رضيت عن الله وعن رسوله، رضيت عن الله وعن رسوله (1). وعادت فاطمة إلى دارها تحمل معها أعظم هدية ربانية، وأكبر عطاء تربوي فكري. تلكم كانت قصة حديث تسبيح فاطمة الذي أطلقوا عليه اسم تسبيح الزهراء، وشاع صيته في الآفاق وأصبح المسلمون يرددونه في أعماق كل صلاة في خشوع ودموع. ولكن هل انتهت قصة هذا التسبيح العظيم - تسبيح الزهراء -؟ كلا.. بالطبع إن تسبيح الزهراء - سلام الله عليها يعتبر شعيرة عظيمة، من شعائر الله التي هي من تقوى القلوب. ونحن نعرف أن فاطمة لها أسلوب خاص، وسيرة ذاتية تتعامل بها مع شعائر الله.. إن مفهوم الشعائر عند فاطمة يختلف عن مفهوم الآخرين للشعائر.. ولكي تأتي الصورة - صورة البحث - أكثر وضوحا، فإنه لا بد من الدخول في الموضوع من أبوابه العريضة، ولكن باختصار شديد مع الوضوح الكامل في الفكرة والتعبير. إن الصفة الملازمة لفاطمة الزهراء - صلوات الله عليها - هي أنها تستطيع أن تصور الإسلام في كل خطوة تخطوها، وفي كل شئ تلمسه بيدها الطاهرة وهي - أي هذه الصفة - وإن كانت موجودة في كل أهل البيت - (عليهم السلام) - إلا أنها تتألق في شخص الصديقة فاطمة الزهراء، بشكل يشد القلوب، ويبهر الألباب. إن فاطمة تصور الإسلام بكل أبعاده حيث تجلس إلى الرحى تطحن فيها القمح والشعير - لتسد أود أبنائها وبعلها ومن يلوذ بها في ظل أهل البيت. وإن فاطمة تصور
(1) من لا يحضره الفقيه: 1 / 320 - 321. 291 الإسلام بكل أبعاده، حين تخرج مع أبيها رسول الله في ساحات القتال والجهاد، تضمد جراحه وجراح بعلها الوصي، وتمسح عنهما الآلام والأحزان. كانت تصور الإسلام، عندما تستقبل بطل الإسلام عليا أمير المؤمنين، وهو عائد من الحرب، فيدفع السيف لها قائلا: أفاطم هاك السيف غير ذميم * فلست برعديد ولا بمليم أجل.. إنها تصور الإسلام عندما تخلع ثوبها ليلة الزفاف وتدفعه لفتاة فقيرة تبدو عليها رقة الحال، ويسألها أبوها عن ثوبها الجديد، فتجيبه بقولها: أبتاه يا رسول الله لقد طرقت علي الباب فتاة فقيرة تطلب ثوبا فأخذت ثوبي القديم لأدفعه لها.. ولكنني تذكرت قوله تعالى: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) * (1). وأنا أحب الثوب الجديد فآثرتها به على نفسي فخلعت ثوبي الجديد وأعطيته لها! آية عظمة هذه، وأية نفس كبيرة تطالعنا بها حياة فاطمة، وسيرتها العذبة التي تتضوع عطر الجنة؟! إن فاطمة الزهراء - سلام الله عليها - لتصور الإسلام بشكل جذاب وجميل بكل خطوة تخطوها.. وبكل كلمة تقولها.. إن ذلك يظهر بوضوح في خطبتها المشهورة المليئة بالفكر، والعطاء، والمبادرة. إن شعائر الإسلام تتحول إلى سلوك عندها فإذا أنت أمام شعائر تفور بالحركة، والعطاء، وتتفجر بالصور الساخنة، والمعاني الحية وتتحول في النهاية إلى واقع معيوش أساسه الإيمان وركائزه الفضائل وهياكله التسامح والرحمة. ليس عند فاطمة شعائر جامدة، ولا عبادة راكدة، ولا طقوس فارغة من المحتوى، بل الشعيرة الدينية عند فاطمة متدفقة بالعطاء، مليئة بالمبادرة والانطلاق الصائب نحو الهدف والغاية إن الشعيرة الدينية - أية شعيرة - من دون فاطمة، تغدو شعيرة جامدة باهتة، تجري في رتابة مملة، فإذا لمستها فاطمة الزهراء، لمسة واحدة، اهتزت، وربت وأعطت ثمارها. إن لمسة واحدة من فاطمة للشعائر، تكفي لتحويله إلى سلوك عملي يمشي في الناس مشية النور.. وذلك أن فاطمة لا تتأمل مع الشعارات الفارغة، ولا
(1) آل عمران: 92. 292 تتعاطى مع الأوهام.. وإنما هي تؤمن بالحق ولا تتعامل إلا مع الحق والحقيقة. إن فاطمة الزهراء - سلام الله عليها - لتضرب آباط الإبل بحثا عن الحق ورواده.. علما بأن الحق لا يتمثل إلا بها ولكن مع هذا كله، ففاطمة البتول، تفتش أبدا عن أهل الحق، ولا تمشي إلا في طريق الحق، وإن قل سالكوه. إنها لا تستوحش من طريق الحق لقلة سالكيه.. فإذا كان هناك واحد يمشي معها في هذا الطريق، فإن ذلك يدخل السرور في قلبها، ويجعلها تأنس برفيق الإيمان ولهذا كانت إذا نظرت إلى وجه الإمام علي، تدفقت السعادة في وجهها وإذا نظر علي إليها أشرق وجهه بالبشرى، حتى كأن يقول: إذا رأيت فاطمة انجلت عني الهموم والأحزان. فهي حين علمها أبوها النبي، التسبيح المعروف بتسبيح الزهراء، أخذته بقوة لتحوله - رأسا - إلى منهج عملي، وسلوك يتحرك بنوره في الناس.. فهي بدل أن تذهب إلى بتيها نراها ذهبت إلى قبر الحمزة بن عبد المطلب لتصنع من تراب القبر حبات لمسبحتها التي ستدير تسبيح الزهراء فيها! (1). ومن هذا القصة والقضية التي حصلت للصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) شرع هذا التسبيح المنسوب إليها. كيفية التسبيح قد وقع الخلاف بين العامة والخاصة في كيفية تسبيحها (عليها السلام)، ومنشأ هذا الاختلاف ناشئ من الأخبار المختلفة في الباب من كلا الفريقين على أن كلاهما يقول عند البدء به بالتكبير ووقوع الاختلاف إنما كان في تقديم التحميد على التسبيح أو العكس، واختلف أصحابنا والمخالفون في ذلك، مع اتفاقهم جميعا على استحبابه. وإليك الأقوال المختلفة في الأخبار عند العامة ثم نقدم بعد ذلك أخبار وأقوال الخاصة من الشيعة الإمامية لكي يتضح لنا بعد ما هو الصحيح. * عن مسند فاطمة للسيوطي: عن ابن شهاب (2). سمعت أبا هريرة يقول: سمعت
(1) للاطلاع أكثر راجع كتاب اعلموا أني فاطمة: 2 / 661 - 672. (2) هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن مهاجر الحارث بن زهرة. راجع " تهذيب التهذيب: 9 / 445 ". 293 النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: كل أمتي معافى إلا المجاهرين، فإن من الإجهار أن يعمل العبد بالليل عملا ثم يصبح وقد ستره ربه فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه فيبيت يستره ويكشف ستر الله عنه... وكان يأمر عند الرقاد، وخلف الصلاة بأربع وثلاثين تكبيرة، وثلاث وثلاثين تسبيحة وثلاث وثلاثين تحميدة، فتلك مائة، و.. أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال ذلك لابنته فاطمة (عليها السلام) (1). * وعن الذرية الطاهرة المطهرة: (بإسناده) عن أبي هريرة، عن فاطمة ابنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إنها انطلقت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تسأله خادما، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا أدلك على ما هو خير لك من ذلك؟ إذا أويت إلى فراشك فسبحي ثلاثا وثلاثين، واحمدي ثلاثا وثلاثين، وكبري أربعا وثلاثين، فهو خير لك من ذلك، أرضيت يا بنية! قالت: قد رضيت (2). * وعن شرح السنة: (بإسناده) عن أبي هريرة قال: جاءت فاطمة (عليها السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تسأله خادما، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا أدلك ما هو خير من خادم؟ تسبحين الله ثلاثا وثلاثين، وتحمدين الله ثلاثا وثلاثين، وتكبرين الله أربعا وثلاثين عند كل صلاة، وعند منامك. (هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم بن أمية بسطام، ولم يذكر الصلاة) (3). * وعن مسند أحمد بن حنبل: (بإسناده) عن شهر، قال: سمعت أم سلمة تحدث، زعمت أن فاطمة (عليها السلام) جاءت إلى نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تشتكي إليه الخدمة، فقالت: يا رسول الله! لقد مجلت يدي من الرحى، أطحن مرة، وأعجن مرة، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن يرزقك الله شيئا يأتك، وسأدلك على خير من ذلك. إذا الزمت مضجعك فسبحي الله ثلاثا وثلاثين، وكبري ثلاثا وثلاثين، واحمدي
(1) هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي، أبو عبد الله المدني روى عن أبيه وعن أبي هريرة، وعنه ابنه أبو بكر والزهري. راجع في ذلك " تهذيب التهذيب: 3 / 436 ". (2) 103، عنه الإحقاق: 25 / 346. (3) 5 / 107، عنه الإحقاق: 25 / 345. 294 أربعا وثلاثين، فذلك مائة، فهو خير لك من الخادم... (1). أقول: يظهر من هذه الأخبار التي روتها العامة أن الاختلاف وقع بينهم في قضية تقديم التكبير على التسبيح وبالعكس فالخبر الأول يقدم التكبير والخبر الثاني يقدم التسبيح ومنه يظهر التعارض بين أخبارهم على أنه هناك الكثير من الأخبار التي تنقل لنا هذا الاختلاف فيما بينهم ولا يسعنا المقام لنقل أخبارهم كلها فنكتفي بهذه. وأما ما ورد عن الخاصة: * فعن جامع الأحاديث: عن القاسم مولى معاوية: أنه سمع علي بن أبي طالب (عليه السلام) فذكر أنه أمر فاطمة (عليها السلام) تستخدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقالت: يا رسول الله، أنه قد شق علي الرحى - وأرته أثرا في يديها من أثر الرحى - فسألته أن يخدمها خادما، فقال: أو لا أعلمك خيرا من ذلك - أو قال: خيرا من الدنيا وما فيها؟ - إذا أويت إلى فراشك: فكبري أربعا وثلاثين تكبيرة، وثلاثا وثلاثين تحميدة، وثلاثا وثلاثين تسبيحة، فذلك خير لك من الدنيا وما فيها (2). * وعن مشكاة الأنوار: قال: دخل رجل على أبي عبد الله (عليه السلام) وكلمه فلم يسمع كلام أبي عبد الله (عليه السلام) وشكى إليه ثقلا في أذنيه، فقال له: ما يمنعك؟ وأين أنت من تسبيح فاطمة (عليها السلام)؟ قال: جعلت فداك، وما تسبيح فاطمة (عليها السلام)؟ فقال: تكبر الله أربعا وثلاثين، وتحمد الله ثلاثا وثلاثين، وتسبح الله ثلاثا وثلاثين تمام المائة. قال: فما فعلت ذلك إلا يسيرا، حتى أذهب عني ما كنت أجده (3). وعن المحاسن: عن يحيى بن محمد، وعمرو بن عثمان، عن محمد بن عذافر، قال: دخلت مع أبي على أبي عبد الله (عليه السلام) فسأله أبي عن تسبيح فاطمة (عليها السلام)؟ فقال: الله أكبر حتى أحصاها أربعة وثلاثين، ثم قال: الحمد لله حتى بلغ سبعا
(1) 6 / 298، كنز العمال: 20 / 55. (2) جامع الأحاديث: 4 / 614، كنز العمال: 2 / 57. (3) مشكاة الأنوار: 278 ح 14، البحار: 85 / 334 ح 21. 295 وستين، ثم قال: سبحان الله حتى بلغ مائة، يحصيها بيده جملة واحدة. أقول: هذه الأخبار ظاهرة في تقديم التكبير أولا ثم يعقبها بالتحميد وبعد ذلك التسبيح.. أما الطائفة من الأخبار التي رواها أصحابنا فهي ظاهرة في أن التسبيح مقدم على التحميد وإليك بعضها: * عن فقه الرضا (عليه السلام) قال: إذا فرغت من صلاتك فارفع يديك - وأنت جالس - فكبر ثلاثا وقل: لا إله إلا الله وحده وحده [لا شريك له]، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، وأعز جنده وحده، فله الملك وله الحمد، يحيي ويميت، ويميت ويحيي، بيده الخير وهو على كل شئ قدير. وتسبح بتسبيح فاطمة (عليها السلام): وهو أربع وثلاثون تكبيرة، وثلاث وثلاثون تسبيحة وثلاث وثلاثون تحميدة، ثم قل: اللهم أنت السلام، ومنك السلام، ولك السلام، وإليك يعود السلام، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. وتقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام على الأئمة الراشدين المهديين من آل طه ويس... (1). * وعن الاحتجاج: وسأل عن تسبيح فاطمة (عليها السلام)، من سهى فجاز التكبير أكثر من أربع وثلاثين، هل يرجع إلى أربع وثلاثين أو يستأنف؟ وإذا سبح تمام سبعة وستين هل يرجع إلى ستة وستين أو يستأنف، وما الذي يجب في ذلك؟ فأجاب (عليه السلام): إذا سهى في التكبير حتى تجاوز أربعا وثلاثين، عاد إلى ثلاث وثلاثين، ويبني عليها، وإذا سهى في التسبيح فتجاوز سبعا وستين تسبيحة عاد إلى ست وستين، وبنى عليها، فإذا جاوز التحميد فلا شئ عليه (2). * وعن التهذيب: علي بن حاتم، عن محمد بن جعفر بن أحمد بن بطة القمي، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن محمد بن سنان، وأبو محمد هارون بن موسى، قال: حدثنا محمد بن علي بن معمر، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن محمد
(1) فقه الرضا: 115، مستدرك الوسائل: 5 / 51 ح 1. (2) الإحتجاج: 1 / 315، الوسائل: 4 / 1039 ح 4. 296 بن سنان، عن المفضل بن عمر، عن أبي عبد (عليه السلام) - في حديث نافلة شهر رمضان - قال: سبح تسبيح فاطمة (عليها السلام)، وهو " الله أكبر " أربعا وثلاثين مرة، و " سبحان الله " ثلاثا وثلاثين مرة، و " الحمد لله " ثلاثا وثلاثين مرة، - فوالله - لو كان شئ أفضل منه لعلمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إياها (1). أقول: يظهر من هذه الأخبار اختلافها عن المتقدمة من جهة الحيثية التي استظهرناها، ومن هنا كان لا بد لنا من معالجة الأخبار لكي نخرج هذا الاختلاف عن ظاهره وتوجيهه التوجيه الصحيح بحيث لا يبقى أي اختلاف وتعارض قال في المختلف: المشهور تقديم التكبير، ثم التحميد، ثم التسبيح ذكره الشيخ في النهاية والمبسوط والمفيد في المقنعة وسلار وابن الصلاح وابن إدريس. وقال علي بن بابويه، يسبح تسبيح الزهراء، وهو أربع وثلاثون تكبيرة، وثلاث وثلاثون تسبيحة، وثلاث وثلاثون تحميدة، وهو يشعر بتقديم التسبيح على التحميد وكذا قال ابنه أبو جعفر وابن جنيد، والشيخ في الاقتصاد واحتجوا برواية فاطمة (عليها السلام). والجواب: أنه ليس فيها تصريح بتقديم التسبيح، أقصى ما في الباب أنه قدمه في الذكر، وذلك لا يدل على الترتيب، والعطف بالواو لا يدل عليه، انتهى. وقال الشيخ البهائي (رحمه الله) في مفتاح الفلاح: اعلم أن المشهور استحباب تسبيح الزهراء (عليها السلام) في وقتين: أحدهما بعد الصلاة، والآخر عند النوم، وظاهر الرواية الواردة به عند النوم يقتضي تقديم التسبيح على التحميد، وظاهر الرواية الصحيحة الواردة في تسبيح الزهراء (عليها السلام) على الاطلاق يقتضي تأخيره عنه. والمشهور الذي عليه العلماء في التعقيبات: تقديم التحميد على التسبيح، وظاهر الروايات المعتبرة الصحيحة ذلك وهي شاملة بإطلاقها لما يفعل بعد الصلاة وما يفعل عند النوم، وما احتج به بعضهم في كون تقديم التسبيح على التحميد إنما يكون عند النوم مردود بكون الرواية التي استدلوا بها غير صريحة في تقديم التسبيح على التحميد فإن الواو لا تفيد الترتيب وإنما هي لمطلق الجمع على الأصح كما مبين في محله من الأصول، إلا اللهم أن يقال إن ظاهر اللفظ يقتضي ذلك.
(1) التهذيب: 3 / 67 ح 21. 297 على أنه لم يوجد قائلا بالفرق بين التسبيح عند النوم وبعد الصلاة بل يظهر من خلال تتبع أقوال الفريقين القائلين بتقديم التحميد على التسبيح مطلقا سواء وقع بعد الصلاة كتعقيب أو قبل النوم وهذا هو الصحيح، وأما من ذهب بالتفصيل فقوله إحداث لقول آخر في مقابل الإجماع الذي عليه الشيعة وهو مخالف كما ترى. التسبيح من شعائر الدين (1) فالتسبيح شعار، أو قل: شعيرة من شعائر الدين ومحتواه الفداء والتضحية والفداء لا يكون إلا إذا سبقته تربية، وهو بعد ذلك كله يحتاج إلى رمز يدل عليه، وهنا نستطيع بقليل من التركيز والانتباه أن نلمس هذين الشرطين في تسبيح الزهراء... الشرط الأول، هو الشرط التربوي.. ونلمسه في تركيبة هذا التسبيح الذي علمه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لابنته فاطمة الزهراء والتسبيح يتكون من أربع وثلاثين مرة الله أكبر.. وثلاث وثلاثين مرة الحمد لله، وثلاث وثلاثين مرة سبحان الله ... وفي نظرة واعية نلقيها على هذا الترتيب المتقدم نجد أن التسبيح يبدأ باسم الله وينتهي باسم الله، فهو لم يبدأ بالحمد لله، ولا بدأ بسبحان الله، وإنما بدأ بالله أكبر. وختم بسبحان الله حتى تكون أول كلمة في التسبيح هي كلمة الله، وآخر كلمة في التسبيح هي كلمة الله. (الله أكبر.. سبحان الله.. الحمد لله). انظروا إلى الكلمتين اللتين أحاطتا بالتسبيح كما يحيط الهلال بحفة النجوم في صدره. هذا هو الشرط الأول، الشرط التربوي.. حيث ظهرت فيه الإشارة واضحة إلى المبدأ والمعاد.. فنحن من الله وسنرجع إليه... إنا لله، وإنا إليه راجعون. وهذا معناه أن القراءة والدعاء، والتسبيح وكل حركة في الحياة يجب أن تكون باسم الله... كما كانت أول كلمة في القرآن: * (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم) * (2).
(1) من كتاب اعلموا أني فاطمة: 2 / 642. (2) سورة العلق: الآيات من 1 - 5. 298 فجعل القراءة منصبة في قالب أدبي تربوي.. * (اقرأ باسم ربك) * أي أن القراءة يجب أن تنصب في إطار تربوي أدبي، لأن التربية مشتقة من الرب، أو كلمة الرب مشتقة من التربية وهو الأصح في اللغة. هذا هو الشرط الأول، أما الشرط الثاني والذي يعني أن هناك رمزا نتخذ منه قدوة، وأسوة حسنة في تطبيق مضمون التسبيح، فهو الفداء، والتضحية... وهنا تجد فاطمة الزهراء (عليها السلام) حين أخذت درس هذا التسبيح من أبيها الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أقول: حين أخذته من أبيها، هذا الدرس انطلقت به إلى قبر سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب (عليه السلام) وحين وصلت إلى القبر، جلست تصنع حبات لمسبحتها من تراب قبر الشهيد. أجل.. فاطمة تصنع مسبحة من تراب قبر الحمزة من أجل أن تعبق حبات هذه المسبحة برائحة الشهادة، وتتضوع بعطر الشهيد الذي أقدم الفداء والتضحية، من أجل الحق، من أجل أن يحيا الإنسان في أمن وطمأنينة، من أجل أن يعبد الناس رب العالمين في حرية ودون إكراه.. من أجل إعطاء الناس حرية وحقا وعدالة اجتماعية... من أجل أن يندحر الظالمون، وينهزم المستكبرون ويذل الطغاة في الأرض. وفاطمة الزهراء، هنا تعطي الصلاة بعدا جهاديا تربويا، إنها تعطي العبادات أبعادا توعوية تزيد في رشد الأمة، وتنقص من غبائها وبلادتها، نعم إنها مسبحة للصلاة، ولكنها ليست مسبحة جامدة فيها حبات من الطين.. كلا.. إنما هي مسبحة مصنوعة من تراب ممزوج بدم الشهادة ونور الولاية.. وهذا هو الذي يجعل للصلاة معنى وقيمة ووزنا. ومن هنا جاءت فكرة السجود على تربة الحسين (عليه السلام) في الصلاة وذلك حتى نتذكر دائما أن الصلاة لا تقوم في الأرض إلا بدماء الشهداء حيث: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى * حتى يراق على جوانبه الدم من كل ذلك نخرج بحصيلة نافعة مفادها: أن الشعائر الفارغة لا تؤدي دورا نافعا في الحياة.. بخلاف الشعائر المليئة بالمضمون، والمحتوى فإنها تبني الحياة وتسعد القلوب، وتربي النفوس، وهي بعد ذلك قائمة على التقوى، وملاكها طهارة القلوب وصفاء النفوس. ولهذا نجد الزهراء، حولت الشعائر الإسلامية إلى سلوك يتحرك في أعماق الإنسان، وبين يديه ومن خلفه.. أن فاطمة حركت الشعائر في القلوب وأعطتها قوة
299 دفع كبيرة يوم استطاعت أن تحرك العواطف، وكثيرا من المشاعر، وتغذي العقول بفصاحتها وبلاغتها وقوة بيانها. فهي لم تحرك مشاعر الذين عاصروها، بل وأيضا استطاعت أن تؤثر في كل الأجيال، وفي الشعوب كافة بحيث أصبح اسمها رمزا للفداء والتضحية والبطولة والعظمة. نعم، عندما يكون للشعار مضمون، فهذه كانت نظرة الزهراء الثاقبة في التسبيح. الشعار وحامله شعارات كثيرة ارتفعت في الدنيا، وزعماء لمعت أسماؤهم فترة من الزمن، ولكنهم انطفأوا وانطفأت أسماؤهم، عندما داست الجماهير شعاراتهم تحت الأرجل. في حين نجد شعارات انطلقت على أفواه زعماء آخرين مخلصين فعاش الزعماء والقادة في القلوب، وظلت الشعارات متوجهة متدفقة لا ينقطع عطاؤها أبدا.. ولم تستطع قوى الظلام والضلال مجتمعة أن تطفئ شعيرة واحدة من تلكم الشعائر.. لأنها انطلقت من الصدق والحق والحرية فعاشت في القلوب. ومن هنا نستطيع أن ندرك - على الفور - السبب المباشر في بقاء شعائر، واندثار أخرى.. وفي انطفاء زعيم وعيش زعيم آخر. إن السبب الرئيسي في كل ذلك هو الصدق.. والصدق وحده هو الذي يستبقي الشعار ويجعله خالدا.. لأن معنى ذلك أن ليس هناك تنافر ولا تنازع بين الشعار وبين المبدأ الذي يحمله هذا القائد أو ذاك. إن أول ما يؤدي سقوط الشعار هو أن يكون الشعار مخالفا لسلوك الزعيم الذي يرفعه.. أما إذا التقيا: الشعار والمبدأ فإن النتيجة واضحة وستكون حسنة وجيدة، وهي الخلود الكامل للشعار وحامله، ومن هنا فإننا نجد شعارات الإسلام خالدة وباقية لأنها تنطلق من فطرة الإنسان تتغذى بالتقوى، والإيمان بالله. يقول الحق: * (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) * (1). أي أن القلوب المليئة بالتقوى هي وحدها التي تغذي هذه الشعائر وتحفظها من
(1) سورة الحج: الآية 32. 300 الضياع، ومن هذا المنطلق نجد الشعائر حين تلمسها فاطمة الزهراء - (عليها السلام) - تحولها إلى حياة ونور، وواقع... وآلية تحفظ الحقوق وترعى الزمام، فمثلا - التسبيح من شعائر الله، لأنه يعيد الإنسان إلى واقعه، وحقيقته التي خلق من أجلها، وهي العبادة المطلقة لله وحده والتوجه إلى الخالق القادر الذي لا إله غيره.. وهو - أي - التسبيح بعد كل ذلك رحلة ينسجم المرء فيها مع كل ما يجري في هذا الكون، لأنه ما من شئ في الأرض ولا في السماء إلا وهو يسبح الله ويقدسه، تقول الأرقام العلية التي نأخذها من القرآن الكريم: إن كل شئ في هذا الكون ساجد يسبح لله ويقدسه، آخذا من الذرة والخلية وانتهاء بأكبر سديم في الفضاء ابتداء من الأميبا، الحيوان ذي الخلية الواحدة، وانتهاء بأكبر جرم حيواني في الأرض. ابتداء من أصغر عشب نائم في العراء، وانتهاء بأكبر دوحة في الأرض، هذه كلها تشترك في تسبيحة واحدة، وسجود واحد وتقديس للحق جل وعلا.. ومن هنا جاءت فكرة التسبيح لترد الإنسان إلى هذه الحقيقة وهي الانسجام الكامل مع ما يجري في هذا الكون. هذا هو كل ما يمكن أن يقال في التسبيح في مثل هذا المجال.. ولكن تعالوا معي لنرى الصديقة الزهراء كيف حولت هذا الشعار إلى صهريج ملئ بالنور والحركة والعطاء.. انظروا كيف استطاعت الزهراء أن تجعل من هذه الشعيرة الإسلامية، منهجا تربويا، حضاريا، يسكب الراحة والطمأنينة في النفس، ويجعل المسلم أقوى من الجبال في مواجهة الطغاة والظالمين. فالتسبيح بتسبيح الزهراء يبدأ ب 34 تكبيرة و 33 تحميدة، و 33 تسبيحة، وهو تسبيح معروف، ومشهور، وخصوصا عند أهل البيت (عليهم السلام) حيث كانوا يأمرون أولادهم بحفظه وقراءته، قبل النوم، وكان الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: كنا نعلم أولادنا، أو قال: نعلم صبياننا حفظ هذا التسبيح وقرائته بعد الصلاة وفي أول دقائق النوم، وقد تقدم ذكر هذا التسبيح والتعليق عليه، ونحن إذا أردنا أن ندرك ما تقول فاطمة.. علينا أن نجعل منها قدوة، وأسوة حسنة تفتح أبواب الحياة أمامنا، وتضئ عالمنا الذي أطبق عليه الظلام، وذلك في فهمنا لتسبيح الزهراء.. فعندما نسبح بتسبيح فاطمة في أعقاب الفرائض.. يجب أن نتأثر به، ونتخلق بآدابه ونسعى إلى أن يترك أثره الطيب في سلوكنا في الحياة بحيث إن الذي يقرأ هذا التسبيح أو يقدم على أن عمل في حياته
301 اليومية عليه أن يشعر أنه من أحبة الزهراء أو من أنصارها الذين يحملون مبادئها، وأفكارها وأهدافها إلى شعوب الأرض وإلى الناس أجمعين، ولم لا؟ ألم تكن فاطمة رحمة للعالمين، كما كان أبوها النبي رحمة للعالمين؟.. وإذا كانت كذلك، فإن رسالتها هي رسائل لكل شعوب الأرض، وعلى شيعتها أن يرفعوا صوتها إلى العالم أجمع فإنه أحب وأقرب صوت إلى القلوب. الزهراء تعلمت التسبيح من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي تسبيح الزهراء، نجد أن الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (عليها السلام) قد حاولت هذا الشعار إلى سلوك يومي، وذلك عندما علمها أبوها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا التسبيح، ذهبت إلى قبر الحمزة بن عبد المطلب.. وأخذت تصنع من تراب قبره حبات لمسبحتها لتدير بها هذا التسبيح. ومعنى ذلك أنها أعطت الشعار محتوى ومضمونا، ومعنى، أي أنها جعلته شعارا حيا، وليس مجرد كلمات تتحرك بها الشفاه واللسان، دون إدراك ولا استيعاب. أن التسبيح هو تنزيه الله عن العبث، أنه تسبيح يؤكد الحكمة التي أقامها الله عز وجل عليها الكون والحياة والإنسان.. والشهادة هي قمة هذه الحكمة.. أي أن الشهيد قد بلغ حدا من الحكمة والكمال ليس بعده حد.. وهذه هي الفلسفة، والرشد، الذي تريده الزهراء، أنه امتزاج بين التسبيح وبين دماء الشهداء. أن الصلاة من دون دم الشهيد لا تساوي شيئا. أو قل: لولا الشهداء لما قام لهذا الدين عمود، وحمزة هو سيد الشهداء، طبعا قبل واقعة الطف، وقبل مجئ يوم عاشوراء، فلما جاء يوم عاشوراء، يوم الحسين، أصبح الحسين (عليه السلام) هو سيد الشهداء، كما أنه سيد شباب أهل الجنة، وسيد الأحرار في العالم. أنه احتكاك فكري، وحضاري بين التسبيح وبين دماء الشهداء، وهذا هو الفارق الذي تنفرد به الحضارة الإسلامية عن غيرها من حضارات خاوية فارغة. ونحن حينما نصلي على تربة الحسين، فإننا نقيم هذا المعنى في القلوب، وهو: أن الصلاة لا تقوم إلا بالشهادة، ولذلك نخاطب الحسين في الزيارة: أشهد أنك قد أقمت الصلاة " أي أشهد أنك بشهادتك قد أقمت الصلاة، وحفظتها من
302 الضياع، وأنت قد أقمت الصلاة بأهدافها ومبادئها قبل مصرعك، وقبل يوم شهادتك. على أن السجود هو على التربة الحسينية، وليس للتربة، وهناك فرق بين السجود على الشئ والسجود للشئ، فالسجود للأشياء قطعا حرام. كأن يسجد أحد الناس لصنم أي يسجد له لا عليه. في حين أن السجود على التربة إنما هو سجود لله وليس للتربة. فالتربة ليست أكثر من أنها تحقق مصداق السجود على الأرض لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول: جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا. ونحن نعرف أن المسلمين كانوا يصلون على تراب المسجد في أيام رسول الله. ثم إن التسبيح جاء في إطار التربية، فهو يبدأ بالله، وينتهي بالله، وأنه ليلخص مسيرة الحضارة الإسلامية، من منطلقها وإلى هدفها.. من الله وإلى الله فهو يبدأ بالله أكبر.. وينتهي بسبحان الله، فيكون قد بدأ بالله وأختتم بالله، في حين أن هذا المعنى لم يكن ليحصل لو كان البدء بالحمد لله مثلا. إذن: فالتسبيح - تسبيح الزهراء - قد جاء في إطار تربوي لأنه يستقي نوره من القرآن الكريم، والقرآن قد جاء للتربية، وأول آية، وسورة نزلت في القرآن، نجدها نزلت في إطار تربوي، فأول كلمة فيه هي: * (اقرأ باسم ربك الذي خلق) *. ولم يقل: اقرأ باسم الله مثلا، وإنما قال: اقرأ باسم ربك وكلمة الرب مأخوذة من التربية، بمعنى أن القراءة يجب أن تأتي في إطار تربوي. ونفس الشئ في تسبيح فاطمة الزهراء (عليها السلام). وروي في كتاب مزار المفيد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: إن فاطمة كانت مسبحتها من خيط صوف مفتل معقود عليه عدد التكبيرات، فكانت عليها السلام بيدها تديرها تكبر وتسبح إلى أن قتل حمزة بن عبد المطلب (عليه السلام) فاستعملت تربته وعملت التسابيح فاستعملها الناس... (1). وهنا أود أن أتوقف معكم لحظات نتأمل من خلالها هذا الحديث العظيم إذ لا شك أن ذهابها إلى قبر سيد الشهداء الحمزة بن عبد المطلب الذي هد مصرعه قلب النبي فقال في تأبينه: ما وقفت موقفا أغيظ علي من هذا الموقف حيث كانت هند زوجة أبي سفيان قد قامت بأبشع جريمة يمكن أن تقوم بها امرأة في مثل وضع هند آكلة الأكباد، إذ شقت صدر الحمزة وأخرجت كبده وأرادت أن تمضغها
(1) المزار الكبير: 149 / ح 207، مستدرك الوسائل: 4 / 12 ح 2. 303 فحولها الله إلى حجر في فمها فلفظتها، ثم جدعت أنفه، وأذنه، وقطعت أعضائه وشوهت صورته النورانية بوحشية وحقد يظهران نكسة الشر في طبعها، والدناءة والخباثة القابعة في داخلها، والمعروف أن الحمزة بن عبد المطلب، يوم شهادته في أحد، كان صائما فأفطر في الجنة مع الشهداء والصديقين والزاكيات الطيبات فيما تغتدي وتروح على روحه الطاهرة، فهو يومذاك كان يمثل قمة الشهادة، وسيد الشهداء، لأنه قتل يوم أحد، وأحد قبل يوم كربلاء بقرابة خمسين عاما من الزمن، ومعنى ذلك أن الحمزة كان سيد الشهداء بحق ودون منازع، فماذا يعني بالنسبة لنا ذهاب فاطمة إلى قبر الحمزة سيد شهداء أحد؟.. أن فاطمة عندما تذهب إلى قبر الحمزة، وتصنع مسبحة من التراب الممزوج بدم الشهادة، فإنها تعطينا درسا بليغا في أن الشعار وحده لا يبني مجتمعا، ويقيم أمة، وإنما لا بد للشعار من محتوى عملي، ومنهج تطبيقي، وبكلمة .. لا بد للشعار من ممارسة فعلية وذلك أن الشعار لا بد له من هدف يتجه نحوه، ومن دون هدف، يغدو تافها لا يثير دهشة أحد، ولا يشد انتباه أحد، ولا يربط على قلب أحد. وأقبح ما يكون أن يرفع الإنسان شعارا يخالفه، ويعمل ضده. يقول القرآن الكريم في هذا المضمار: * (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) * (1). وفي مكان آخر يقول: * (لم تقولون ما لا تفعلون.. كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) * (2) ولذلك كان ولا يزال ملاك الشعائر وتطبيقها.. وأصبح تعظيمها يعني العمل بها.. ولا يطبقها إلا من امتحن الله قلبه للتقوى * (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) * (3). وللفائدة أقول: إنه لا فرق بين الشعار والشعيرة في هذا الموضوع بالذات.. فالشعار جمعه شعارات والشعيرة جمعه شعائر، وكلها تصب في نهر واحد، لأن الغاية من ذكرها هنا تحقيق غاية سامية، وهدف شريف رباني وإذا كان الشعار وحده لا يبني مجتمعا خاصة، إذا كان خاليا من محتوى، فإن أهداف الشهادة هي المضمون الجيد للشعار، وهي المحتوى الراقي لشعائر الله والتسبيح معناه التنزيه لله من كل عبث في الكون
(1) سورة البقرة: الآية 44. (2) سورة الصف: الآيتان 2 و 3. (3) سورة الحج: الآية 32. 304 والحياة والإنسان، وإذا كان التسبيح معناه التنزيه ومعناه معرفة الله، فمن - يا ترى - ينزه الله، ويعرف الله أكثر من الشهداء؟ إن الشهيد يشكل قمة حضارية عالية في معرفة الحق سبحانه وتعالى، ولذلك صنعت فاطمة حبات المسبحة من تراب أقدس شهيد هوى إلى الأرض بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويكفي أن الزهراء حين تصلي وتسبح الله في صلاتها، تتمثل صورة الشهادة في أنصع أشكالها، وأروع معانيها أمام عينيها وكفى بذلك فخرا وتربية وارتفاعا في سماء المجد، وآفاق السماحة والشجاعة، والفصاحة والمحبة في قلوب المؤمنين، من هنا جاءت فكرة السجود على تراب كربلاء، لأن تراب كربلاء تضمن جسد الحسين (عليه السلام)... ومن هو الحسين؟ الحسين بن رسول الله... الحسين ابن فاطمة.. الحسين الذي قال فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسينا " علما بأن الرسول قال: " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ". فالسجود على الأرض وترابها سنة شريفة متبعة في سيرة النبي الأكرم.. ونحن عندما نسجد على قطعة من تراب كربلاء ونحتفظ بها في جيوبنا فإن ذلك يرمز إلى شيئين: الأول: إننا نطبق سنة شريفة جارية، وهي السجود على الأرض وفقا لتعاليم الحبيب المصطفى. والثاني: إننا نتذكر الحسين دائما الذي كان أقرب الناس إلى قلب جده رسول الله، والذي كان يوم عاشوراء يلبس جبة النبي، وعمامته.. والقرآن الكريم يقول: * (ما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا) * (1). وقد أتانا النبي بالحسين وأهل بيته، فقال: " حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسينا ". فكما أن الزهراء، تريد أن تجعل أهداف الشهداء نصب عينيها حين تصنع سبحة لها من تراب قبر الشهيد، كذلك نحن نريد أن نتذكر أهداف الإمام الحسين - عليه السلام - حين نصلي على قطعة من تراب أرض كربلاء المقدسة. إذن ففاطمة الزهراء بذهابها إلى قبر الحمزة، أعطت شعيرة للتسبيح هذه دفقا معنويا، وحياة، وعطاء تربويا، لا حدود له، هذا بالإضافة إلى أنها علمتنا كيف نتعامل مع شعائر الله، وكيف نحول الشعار إلى
(1) سورة الحشر: الآية 7. 305 سلوك عملي نمشي به في الناس، على أن تسبيح الزهراء، قد صبه النبي في إطار تربوي عميق حين جعله يبدأ بالله وينتهي بالله عز وجل. إن نظرة فاحصة نلقيها على هيكل التسبيح المذكور، ترينا بوضوح، أن التسبيح مؤلف من أربع وثلاثين تكبيرة وثلاث وثلاثين تحميدة.. وثلاث وثلاثين تسبيحة وهذا يعني أنه بدأ بالله أكبر. فأول كلمة في التسبيح كلمة الله إذ أنه لو بدأ مثلا في التحميد لكانت أول كلمة فيه كلمة الحمد وليس كلمة الله، وهكذا أراد النبي لهذا التسبيح أن يصب في قالب تربوي كما هو شأن كل الشعائر الإسلامية.. فجعله يبدأ بالله أكبر.. وينتهي بسبحان الله إنه بدأ بالله وختم بالله .. وهذا هو المراد من الإطار التربوي في منهج التسبيح.. وهو موافق لسلسلة الفكر الإسلامي في القرآن الكريم... فنحن نعرف أن أول كلمة نزلت في القرآن هي: * (اقرأ باسم ربك الذي خلق..) * والرب كلمة مشتقة من التربية، بمعنى أن القراءة المطلوبة يجب أن تكون في إطار التربية الربانية.. وإلا لكأن يقول: اقرأ باسم الله الذي خلق... ولكنه لم يقل باسم الله الذي خلق، في هذه السورة بالذات، وإنما قال: * (اقرأ باسم ربك الذي خلق...) * هذا بالإضافة إلى أن القراءة معناها تغذية العقل، لأن العقل يتغذى بالعلم، ومن دون علم تموت العقول، وحين يقول الحق سبحانه: اقرأ باسم ربك.. فإن ذلك يعني غذ عقلك بالتربية العلمية، حتى يصل عقلك إلى مرحلة الرشد الفكري. إن لفاطمة الزهراء - سلام الله عليها - قدرة عجيبة، ومدهشة على تصوير المعاني الجافة وإعطائها صورا حية، ثم منحها ريشا رقيقا فيه المعاني في أرفع درجات الفهم، والاستيعاب وأن قدرتها كما قلت آنفا - على تصوير قضايا الإسلام تصويرا دقيقا، لمدهشة جدا، فما من كلمة تقولها فاطمة، وما من دمعة تسكبها من عينها، وما من خطوة تخطوها فاطمة إلا صورت الإسلام بكل أبعاده تصويرا حقيقيا وواضحا، يبهر الألباب ويأخذ بمجامع القلوب. وهذه ميزة في أهل البيت لا يشاركهم فيها أحد من العالمين... بخلاف غيرهم من الناس، أو بتعبير أكثر دقة بخلاف الآخرين.. فالإسلام الذي يعرضه الآخرون يبدو إسلاما مزيفا مرقعا مهلهلا يضرب بعضه بعضا في حين أن الإسلام الذي يعرضه أهل البيت (عليهم السلام) يبدوا إسلاما يشد بعضه بعضا، وله نور وعليه حلاوة وجمال رشيق، له قوة جذب شديدة، وبكلمة: الحديث
306 الذي يأتينا من النبي وأهل بيته، وهم فاطمة وعلي والحسن والحسين، والتسعة المعصومون، من ذرية الحسين (عليهم السلام). أقول: الحديث الذي يأتينا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، يأتي حديثا لهم نور هو من نور القرآن، بل إننا نجد حديثهم يتعانق مع القرآن عناقا طويلا، في مودة وإخلاص.. فليس هناك حديث عن أهل البيت يخالف القرآن أبدا.. ومن هنا جاء حديث الثقلين الشهير الذي تذكره كل كتب الصحاح والحديث بدءا من صحيح البخاري ومسلم، مرورا بصحيح الترمذي والنسائي وابن ماجة وأبي داود، وانتهاء بمسند بن حنبل والصواعق المحرقة لابن حجر العسقلاني... كل هذه الكتب قد أجمعت واتفقت على كلمة واحدة وهي: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي، وقد نبأني اللطيف الخبير أنهما، أي الكتاب والعترة لن يفترقا حتى يردا على الحوض ". والآن وبعد هذه الجولة السريعة في رحاب التسبيح، وبعد هذه السباحة في شاطئ تسبيح الصديقة فاطمة الزهراء - صلوات الله وسلامه عليها - فإنه يجدر بنا أن نرجع إلى معالم هذا التسبيح الذي أصبح شعارا يرفعه المناضلون، والمجاهدون في وجوه الطغاة والجلادين.. بل إن هذا التسبيح - أعني تسبيح الزهراء - قد جمع كل مناهج الإنسان المؤمن في، الحياة فهو يبدأ بالله أكبر.. ثم الحمد لله وينتهي بسبحان الله. وهذه هي مناهج المؤمن ومعالم الإيمان في الأرض. أن تبدأ بسم الله.. وتعتقد أن الله أكبر من كل شئ في هذا الوجود، أنه أكبر من المال، وأكبر من السلطان، وأكبر من الأهل، والنفس، والحياة، وإذا كان أكبر من كل هذه الأشياء، فمعنى ذلك أنك تكون على أهبة الاستعداد لأن تضحي بنفسك وأهلك، ومالك وكل غال ونفيس في سبيل كلمة " الله أكبر ".. ومن هنا ندرك السر المكنون الذي جعل الصديقة الزهراء تذهب إلى قبر الحمزة سيد الشهداء وتصنع من تراب قبره حبات لمسبحتها، وكأنها بهذا العمل تلقنا درسا لا ننساه أبدا، وهو أن كلمة الله أكبر التي جاءت في أول تسبيح الزهراء، هذه الكلمة لا يحفظها إلا الشهداء، ولا يحصنها من غائلة العوادي إلا دماء الشهداء... إن كلمة الله أكبر.. تعني الصدق والوفاء والإخلاص، والشجاعة والعفة والزهد، والشرف
307 الرفيع، وهذه لا تسلم أبدا من أيدي العابثين إلا بسفك المهج وإراقة الدماء. وصدق الشاعر حين قال: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى * حتى يراق على جوانبه الدم ويقول أبو القاسم الشابي إذا الشعب يوما أراد الحياة * فلا بد أن يستجيب القدر ولا بد لليل أن ينجلي * ولا بد للقيد أن ينكسر أجل.. إن فاطمة الزهراء (عليها السلام) لتدرك جيدا أن هذا الشعار الذي أخذته من النبي لا يمكن حفظه إلا بالتضحية، والشهادة ولذلك قامت بخطوة تكريمية للشهداء، وهي أنها جعلت من تراب قبر الشهيد حبات لمسبحتها، لتدير عليها هذا المنهج الملائكي النوراني الذي سمي: تسبيح الزهراء. ونفس الشئ يقال بالنسبة للحمد، فالحمد هو أعلى قمة يمكن أن يصل إليها الإنسان، ومن هنا كانت سورة الحمد أم الكتاب، لأنها جمعت التعبير كله ولخصت مسيرة الأنبياء جميعا في مضمونها، وكما في التكبير والتحميد كذلك في التسبيح، وهو سبحان الله وكما قلت سابقا أن هذا التسبيح جاء مصبوبا في قالب أدبي وأخلاقي وتربوي، وذلك أنه بدأ ب " اسم الله " وانتهى ب " باسم الله " فهو يبدأ ب " الله أكبر " وينتهي ب " سبحان الله " فنجد كلمة الله في أوله، والله في آخره، ولو بدأ ب " الحمد لله " مثلا لما حصل هذا المعنى وهذا الإطار التربوي الجميل، وهو مشتق ونابع من قول الله تعالى: * (إنا لله وإنا إليه راجعون) *. إذن تسبيح فاطمة الزهراء - سلام الله عليها - إنما جاء ليزرع في أعماقنا شتائل النور، ويبادر الحب والعطاء.. لقد جاء هذا التسبيح الجامعي العظيم، ليشعل في قلوبنا قناديل الأمل والرجاء، ويمنحنا الطمأنينة والسلام، ولكي نتذوق حلاوة التسبيح، فإنه لا بد لنا من المواظبة على قراءته في أعقاب كل صلاة نصليها وذلك لأنه يدفع البلاء عنا، ويجلب الرزق ويعمنا بسحاب البركة والخير الكثير والله ولي التوفيق (1). وختاما للموضوع نذكر أهم فوائد وآثار هذا التسبيح المبارك الذي منه رسول الله علينا من لسان ابنته
(1) اعلموا أني فاطمة: 2 / 681 - 698. 308 فاطمة علما بأن هذه الآثار والفوائد إنما أخذناها واستفدناها من خلال عدد كبير من الأحاديث المأثورة عن لسان أهل البيت (عليهم السلام). 1 - إن تسبيح فاطمة عليها السلام من الخير الكثير للمؤمن (1). 2 - من قرأ هذا التسبيح عند النوم بات وله ألف حسنة وعند قيامه من نومه - الذي قرأ فيه التسبيح - له ألف حسنة (2). 3 - أن هذا التسبيح مائة باللسان وألف في الميزان وذلك قوله تعالى " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها " إلى مائة ألف (3). 4 - إنه ما عبد الله تعالى بشئ من التمجيد أفضل من تسبيح فاطمة (4). 5 - من سبح هذا التسبيح ثم استغفر الله غفر له وهي مائة باللسان - أي التسبيحة - وألف في الميزان وتطرد الشيطان وترضي الرحمن (5). 6 - إنه ما يلزمه عبد مؤمن فشقي في حياته (6). 7 - إنه من سبح هذا التسبيح في دبر الصلاة المكتوبة من قبل إن يبسط رجليه أوجب الله له الجنة - وفي رواية غفر له (7). 8 - من سبح هذا التسبيح قبل إن يثني رجليه بعد انصرافه من صلاة الغداة غفر له (8). 9 - إن من قرأه وكان في سمعه ثقل دفع الله عنه هذا الثقل الذي في أذنيه (9). 10 - إن هذا التسبيح أفضل شئ علمه رسول الله لفاطمة (عليها السلام) (10).
(1) شرح السنة: 5 / 107، مسند أحمد: 6 / 298 وكنز العمال: 20 / 55. (2) حلية الأولياء: 1 / 69، نظم درر السمطين: 192 فتح الباري في شرح البخاري: 11 / 102، أعلام النساء: 3 / 1202. (3) كنز العمال: 2 / 58. (4) الكافي: 3 / 343 ح 14، الوسائل: 4 / 1204 ح 1. (5) ثواب الأعمال: 196 ح 2، البلد الأمين: 9 قطعة - الوسائل: 4 / 1023 ح 3. (6) أمالي الصدوق: 464 ح 16، ثواب الأعمال: 195. (7) فلاح السائل: 165، ثواب الأعمال: 196 ح 4. (8) المصدر السابق. (9) مشكاة الأنوار: 278 ح 14. (10) التهذيب: 3 / 67 ح 21. 309 11 - إن هذا التسبيح عند الأئمة (عليهم السلام) دبر كل صلاة أحب إليهم من صلاة ألف ركعة في كل يوم (1). 12 - إنه من الذكر الكثير - أي من سبح هذا التسبيح المبارك كان من الذاكرين من الله كثيرا " واذكروا الله ذكرا كثيرا " " والذاكرين الله والذاكرات الله " (2). 13 - إن من سبح تسبيح الصديقة الطاهرة فاطمة (عليها السلام) بسبحة من طين قبر الحسين (عليه السلام) كتب الله له أربعمائة حسنة ومحى عنه أربعمائة سيئة وقضيت له أربعمائة حاجة ورفع له أربعمائة درجة (3).
(1) كشف الغمة: 1 / 471. (2) معاني الأخبار: 193 ح 5، تفسير العياشي: 1 / 68. (3) البحار: 85 / 340 ح 32. 310 البحث الثاني عشر معرفة فاطمة (عليها السلام)
311 السيد محمد رضا حيدر شرف الدين العاملي يا صاح لا عذل ولا إرغام * رفقا بنفسي فالملام حرام لا غرو خلي إن بكيت بعبرة * حرى فقلبي ألهب وضرام ما كنت أذرف للصبابة أدمعي * سفها ولا أدمى الفؤاد غرام حفت بشخصي الحادثات ترومني * فدفعت جيش الحزن وهو غرام ولكم جرعت من الحياة حميمها * لم يثني منها أذى وسقام صرعت فرسان الليالي والإبا * طبعي فأحنت هامها الأيام ما هزني الخطب المروع بعظه * حتى ولو هتنت علي سهام لكن يوم الدار خلف في الحشى * ندبا فما بين الضلوع حطام يوم به أربد الفضاء وغاض * نور الخافقين فحلها الأظلام وتداعت الأفلاك في عليائها * بالنوح والسبع الطباق جهام والشمس وارت في الحجاب ضياءها * حزنا وصدع البدر لا يلتام إذ أوزفت بضغائن معهودة * والناس في مهد الخنوع نيام زمر النفاق تروم أكرم منزل * فيه البتولة والفتى الضرغام هجموا على دار الوصي وحرقوا * بابا أعز حريمه العلام وانهال صاحبهم يلوع فاطما * بالسوط ضربا رق منه لئام ثم انبرى عصرا يهشم ضلعها * فهوى الجنين وقد عراه حمام سقطت مضرجة تجود بنفسها * لم يرع فيها للنبي ذمام فاهتز عرش الله من أناتها * وبكى دما لمصابها الإسلام
313 البحث الثاني عشر معرفة فاطمة (عليها السلام) " من عرف فاطمة حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر وإنما سميت فاطمة لأن الخلق فطموا عن معرفتها، ما تكاملت النبوة لنبي حتى أمر بفضلها ومحبتها وهي الصديقة الكبرى وعلى معرفتها دارت القرون الأولى " (1). تعتبر مسألة المعرفة والبحث عن الحقيقة من المسائل العقائدية المهمة التي تأخذ وتشغل حيزا كبيرا في العقيدة الإسلامية والتي لا بد من دراستها وتوجيه العقل نحوها لكي يدركها إدراكا منطقيا عقلائيا، فلقد أقدمت المدرسة الشيعية الحقة على وضع الكثير من القضايا العقائدية على طاولة البحث والتحقيق للوصول إلى المعرفة الحقيقية التي تتمثل في كافة المستويات العقائدية، وحسب ما أعتقده فإن أكثر المدارس وأفضلها في تقديم الشروط الصحيحة واللازمة للوصول للحقيقة هي مدرسة الشيعة الإمامية، تلك المدرسة التي دعت الناس إلى التحقيق والتفكير والتفقه والتعقل في عقائدها ومبادئها لكي يصلوا إلى نور الحقيقة وفهمها والاستضاءة من نورها في كل جوانب الحياة الإنسانية، فنحن نرى أن أبسط حركات الإنسان الإرادية يجب أن تكون مدروسة ومسموحا بها من جانب العقل، ففي وصية أمير المؤمنين علي (عليه السلام) لكميل قال: " يا كميل ما من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة ". وهذا يعني أن الإسلام لا يسمح للإنسان بالقيام بعمل من دون التحقيق والعلم بصحته، لكي تكون النتيجة النهائية هي المعرفة الحقيقية، فأكثر المؤمنين أفضلية أكثرهم معرفة وإيمانا، والمعرفة لا تكون إلا بإدراك القضايا المطروحة ودراستها
(1) البحار: 42 / 105. 315 الدراسة الصحيحة والتي يكون بناءها على ضوء الاستدلالات العقلية والمنطقية، من هنا كان لا بد لنا من الوقوف مع بعض الأحاديث المأثورة عن أهل بيت العصمة لكي نفهمها وندركها إدراكا عقليا ونورانيا وحسب ما يمليه علينا المنطق السليم والذوق الرفيع. ومرة أخرى نقف مع حديث آخر في معرفة الصديقة الطاهرة فاطمة (عليها السلام) لكي ندركه الإدراك الصحيح الذي جاء المدح عليه، وخاصة معرفة دراية الرواية وفهمها، وهذا ما أوصى به الإمام الباقر (عليه السلام) لولده الإمام الصادق (عليه السلام) بقوله: " يا بني اعرف منازل الشيعة على قدر روايتهم ومعرفتهم فإن المعرفة هي الدراية للرواية ". و " الرواية " هي عبارة عن كلام منقول عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الإمام (عليه السلام) أما " الدراية " فهي عبارة عن التحقيق والدراسة والاجتهاد للمعرفة وإدراك المفهوم الحقيقي للرواية وعين ما يقصده النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الإمام (عليه السلام)، وبعبارة أخرى، الرواية هي حفظ الحديث ونقله، والدراية هي تفقه الحديث وفهمه، والراوي هو ناقل ا لحديث والفقيه هو المحقق وعالم الحديث " درى دريا ودراية الشئ وبالشئ توصل إلى علمه... المنجد ". فالإمام الباقر (عليه السلام) يوصي ابنه الصادق (عليه السلام) أولا بمعرفة منازل الشيعة على قدر رواياتهم ومعرفتهم، ثم يوضح بعد ذلك أن ما يعنيه من بالمعرفة، هو دراية الروايات، حيث يقول: " وبالدرايات للروايات يعلو المؤمن إلى أقصى درجات الإيمان ". أي أن المهم، هو التحقيق والمعرفة وفهم الحديث لأن الرواية إذا لم تصحبها الدراية لا تجدي فتيلا. وقال الإمام الصادق (عليه السلام) في كلام آخر له بشأن قيمة دراية الرواية ومعرفة الحديث: " حديث تدريه خير من ألف حديث ترويه " (1). فرواية الحديث ونقله، يمكن أن تكون لها فائدتها الكبيرة وقيمتها العظيمة وتقع موقعها الأفضل لدى من ينقل الحديث إليهم - فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه غير فقيه - ولكنها بالنسبة للراوي تكون مفيدة إذا ما اقترنت
(1) البحار: 2 / 182. 316 بالدراية، ورواية الحديث دون درايته لا تجدي نفعا للراوي - " وكما قال أمير المؤمنين " " قيمة كل امرء وقدره معرفته " (1) - بل ربما كانت في بعض الأحيان مضرة له ولغيره أيضا إذ لو لم يكن الراوي على علم بالحديث فقد يتسبب حتى في تحريفه ولهذا قال أمير المؤمنين: " عليكم بالدرايات لا بالروايات " (2). وجاء في كلام آخر له (عليه السلام): " همة السفهاء الرواية، وهمة العلماء الدراية " (3). من هذا المنطلق وعلى هذا الأساس كانت لنا هذه الوقفة الجديدة مع حديث آخر يوضح لنا معرفة الصديقة الشهيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) وارتباطها الوثيق بليلة القدر، وسيأتي إن شاء الله ارتباطها الوثيق بليلة في البحث الثالث عشر. معرفة فاطمة (عليها السلام) إن من القضايا المهمة في عقيدة الفرد المؤمن هي معرفة الحقيقة التي دعا إليها القرآن الكريم إضافة إلى دعوة أهل البيت (عليهم السلام) إلى الوقوف عليها ولو على قدر القابليات والاستعدادات التي يمتلكها الفرد المؤمن * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) *، فلذا جاء في الحديث المأثور عن الإمام الصادق (عليه السلام) الذي يقول فيه " من كانت له حقيقة ثابتة لم يقم على شبهة هامدة حتى يعلم منتهى الغاية، ويطلب الحادث من الناطق عن الوارث وبأي شئ جهلتم ما أنكرتم، وبأي شئ عرفتم ما أبصرتم إن كنتم مؤمنين "، أي لا بد من أن يكون للمؤمن حقيقة في معرفة، والتي من شأنها (هذه الحقيقة) أن لا تخرج الإنسان عن الاستقامة عن الجادة التي أمرنا الله تعالى باتباعها والالتزام بها، ومعرفة هذه الحقيقة يحتاج فيها الإنسان المؤمن إلى وجود عدة أمور لا يستغني عنها في سبيل تحصيل هذه الحقيقة، ومن هذه الأمور هو التعقل عن الله تعالى والذي من شأن هذا التعقل أن يؤدي إلى المعرفة الصحيحة التي لا تزيل قدم الإنسان المؤمن عن
(1) معاني الأخبار: 2. (2) البحار: 2 / 160. (3) البحار: 2 / 160. 317 الصراط المستقيم فيكون نور هذه الحقيقة يظهر في قلب المؤمن على سبيل الذوق والوجدان فتأخذ هذه الحقيقة كل كيانه بل تكون هذه الشغل الشاغل في حياته ويسعى إلى الوصول إليها وعلى قدر القابليات والاستعدادات التي منحها الله تبارك وتعالى إليه وهذا ما نجده من خلال أصحاب الأئمة (عليهم السلام) الذين كانوا دائما يسعون إلى الوصول والحصول على هذه الحقيقة فلذا ترى كميل بن زياد يسأل أمير المؤمنين علي بن طالب (عليه السلام) عن هذه الحقيقة في الحديث المروي وهو أنه سأله عن الحقيقة بقوله ما الحقيقة فقال له (عليه السلام) ما لك والحقيقة؟ فقال كميل: " أولست صاحب سرك " قال: " بلى! ولكن يرشح عليك ما يطفح مني " فقال كميل: " أو مثلك يخيب سائلا؟ ". فقال (عليه السلام): " الحقيقة كشف سبحات الجلال من غير إشارة " فقال كميل: " زدني فيه بيانا ". قال الإمام (عليه السلام): " صحو الموهوم مع محو المعلوم ". قال كميل: " زدني فيه بيانا " قال الإمام (عليه السلام): " هتك السر لغلبة الستر " قال كميل: " زدني فيه بيانا ". قال الإمام (عليه السلام): " نور يشرق من صبح الأزل، فيلوح على هياكل التوحيد آثاره " قال كميل: " زدني فيه بيانا ". قال الإمام (عليه السلام): " إطف السراج، فقد طلع الصبح ". إذن بسؤال المؤمن عن الحقيقة يصل إلى العلم بها وببعض جوانبها فلربما لا يستطيع معرفة كنهها كما في قضية كميل بن زياد التي مرت عليك الآن، فالعلم أول دليل يؤدي إلى المعرفة التي تنور القلب بحقيقة الإيمان، والتي تكون هذه المعرفة برهان صدق على نور الإسلام وحقيقة الإيمان، وعليه نجد في كثير من الروايات الشريفة أن الأفضلية فيما بين المؤمنين بغض النظر عن التقوى إلي هي من ملازمات المعرفة، أقول نجد أن الأفضلية هي بالمعرفة فبعضنا أكثر حجا من بعض وبعضنا أكثر صياما وصلاة وصدقة من البعض، ولكن الأفضلية بالمعرفة، وعليه نجد في الروايات المأثور أن " أفضلكم إيمانا أفضلكم معرفة " (1). إذن يظهر من خلال استقراء الأحاديث المأثور عن أهل بيت العصمة أن قضية المعرفة الحقيقة في حياة الفرد المؤمن مما لا يمكن الاستهانة بها بل لا بد من السعي إلى
(1) البحار: 3 / 14. 318 الوقوف عليها في كل جوانبها التي تدعو إلى التعقل بها وهضمها بالصورة الصحيحة، فلقد جاء في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " لا يقبل الله عملا إلا بمعرفة ولا معرفة إلا بعمل، فمن عرف دلته المعرفة على العمل ومن لم يعمل فلا معرفة له... " (1). حيث دل هذا الحديث على أن العمل والمعرفة أحدهما ملازم للآخر وأن من الضروري على أن الذي يعمل لا بد له من المعرفة بحقيقة عمله وإلا فإن الله تعالى لا يقبل عملا إلا بمعرفة، وعلى هذا الأساس تأخذ قضية المعرفة حيزا كبيرا في جميع جوانب الشريعة الإسلامية سواء كان على مستوى الأصول أو على مستوى الفروع، فعلى المستوى الأول الذي يتمثل في التوحيد والنبوة والإمامة والعدل والمعاد لا بد من المعرفة التي من شأنها أن تجعل الحقيقة التي سعى المؤمنون الأوائل في الوقوف عليها ثابتة والراسخة في قلوبهم لكي لا تميل بهم الأهواء شرقا ولا غربا، والمعرفة التي نسعى الوقوف عليها في الجانب العقائدي المتمثل في قضيتنا التي نطرحها الآن هي المعرفة الخاصة بالصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) لكي ندرك بعض الحقيقة الخاصة بها وإلا فالمعرفة الحقيقية لها لا يستطيع الوصول إلى طبيعتها ومعرفة كنهها إلا من كان في مستواها وهذا لا يكون إلا في الذي كان كفوا لها وهي كفو له ذلك هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أما نحن فمعرفتنا لها تكون أما بالحواس الخمس أو تكون معرفتنا من خلال معرفة الشئ بأشباهه، أما الحواس الخمسة فإن لا بد لها من من دليل يرشدها ويعرفها بالوجدان الأمر الذي يعرض عليها، وهذا ما جاء في مناظرة الإمام الصادق (عليه السلام) للطبيب الهندي حيث قال له: " أما إذ أبيت إلا الجهالة وزعمت أن الأشياء لا تدرك إلا بالحواس فإني أخبرك أنه ليس للحواس دلالة على الأشياء ولا فيها معرفة إلا بالقلب، فإنه دليلها ومعرفها الأشياء التي تدعى أن القلب لا يعرف إلا بها " (2). حيث يظهر من هذا الحديث أن المعرفة الذوقية الوجدانية تكون نابعة من القلب،
(1) الكافي: 1 / 44. (2) البحار: 3 / 159. 319 لذا فإن معرفة فاطمة (عليها السلام) تحتاج إلى ذوق سليم ووجدان حكيم لكي تظهر لنا بعض أنوار هذه المعرفة، هذا من جهة ومن ناحية أخرى يمكن معرفة فاطمة من خلال دراسة حياتها دراسة تحليلية مقارنة للقديسات والمؤمنات على مر العصور وإن كان القياس مع الفارق وكما هو مثبوت في محله فإن فاطمة لا تصل إلى مقامها أي امرأة مهما كانت في المستوى الإيماني الذي تعلق بحياتها. وعلى كل حال فإن ما نطرحه في هذا البحث حول معرفة فاطمة إنما هو معرفة ظاهرية وعلى ما نمتلكه من وسائل المعرفة الظاهرية وإلا فنحن كما قال أمير المؤمنين في غرر الحكم: " كيف يعرف غيره من جهل نفسه " فأكثر الناس يجهلون حال أنفسهم فكيف بغيرهم ولكن الميسور لا يسقط بالمعسور فمن هذا الباب لا بد لنا أن نلج في هذا الأمر ونقف مع معرفة فاطمة (عليها السلام) الحقيقية. مستويات معرفة فاطمة (عليها السلام) هناك عدة مستويات نستطيع من خلالها معرفة أي شخصية تاريخية أو إسلامية ولا بد لنا من الالتفات إليها ونحن نسعى في طريق معرفة فاطمة أم أبيها فاطمة سلام الله عليها بل كل الأئمة (عليهم السلام) يتجلى هذا الأمر في معرفتهم المعرفة الحقيقية أما المستويات فهي: 1 - المستوى الأول: المعرفة التأريخية لها (عليها السلام). 2 - المستوى الثاني: المعرفة المناقبية لها (عليها السلام). 3 - المستوى الثالث: المعرفة العلمية والفكرية لها (عليها السلام). 3 - المستوى الرابع: المعرفة النورانية لها (عليها السلام).
320 محمد جمال الهاشمي شعت فلا الشمس تحكيها ولا القمر * زهراء من نورها الأكوان تزدهر بنت الخلود لها الأجيال خاشعة * أم الزمان إليها تنتمي العصر روح الحياة فلولا لطف عنصرها * لم تأتلف بيننا الأرواح والصور سمت عن الأفق لا روح ولا ملك * وفاقت الأرض لا جن ولا بشر مجبولة من جلال الله طينتها * يرف لطفا عليها الصون والخفر ما عاب مفخرها التأنيث أن بها * على الرجال نساء الأرض تفتخر خصالها الغر جلت أن تلوك بها * منا المقاول أو تدنو لها الفكر معنى النبوة سر الوحي قد نزلت * في بيت عصمتها الآيات والسور حوت خلال رسول الله أجمعها * لولا الرسالة ساوى أصله الثمر تدرجت في مراقي الحق عارجة * لمشرق النور حيث السر مستتر ثم انثنت تملأ الدنيا معارفها * تطوى القرون عياءا وهي تنتشر قل للذي راح يخفي فضلها حسدا * وجه الحقيقة عنا كيف ينستر أتقرن النور بالظلماء من سفه * ما أنت في القول إلا كاذب أشر بنت النبي الذي لولا هدايته * ما كان للحق لا عين ولا أثر هي التي ورثت حقا مفاخرة * والعطر فيه الذي في الورد مدخر في عيد ميلادها الأملاك حافلة * والحور في الجنة العليا لها سمر تزوجت في السما بالمرتضى شرفا * والشمس يقرنها في الرتبة القمر على النبوة أضفت في مراتبها * فضل الولاية لا تبقي ولا تذر أم الأئمة من طوعها لرغبتهم * يعلو القضاء بنا أو ينزل القدر قف يا يراعي عن مدح البتول ففي * مديحها تهتف الألواح والزبر وارجع لنستخبر التاريخ عن نبأ * قد فاجئتنا به الأنباء والسير هل أسقط القوم حقا حملها فهوت * تئن مما بها والضلع منكسر وهل كما قيل قادوا بعلها فعدت * وراه نادبة والدمع منهمر إن كان حقا فإن القوم قد مرقوا * عن دينهم وبشرع المصطفى كفروا
321 المستوى الأول المعرفة التاريخية لها (عليها السلام) وذلك من جهة ولادتها وشهادتها زمانا ومكانا وما رافق ذلك من ملابسات وأحداث مهمة وما عاصرته تغيرات في حياة الأمة سياسيا وفكريا واجتماعيا وما يرتبط بذلك من سلاطين الجور وأتباع الظالمين وفقهاء الفسق والفجور وغدر المنافقين والمتملقين وأتباع اللقمة والراقصين على رنين الدراهم والدنانير وأنصار الوفاء والإخلاص وما ساوق ذلك من تفصيلات لها الأهمية في حياتهم (عليهم السلام) أو في حياة أتباعهم وأولياؤهم. ولادة فاطمة (عليها السلام) أما ولادة الصديقة فكان في العشرين من جمادي الآخرة كما صرح به المفيد في مساره (1) ونقل عن حدائقه (2)، وصرح به الشيخ في مصباحه (3)، ورواه الطبري الإمامي (4) عن الصادق (عليه السلام) ولم نقف على مخالف صريح، وإن سكت كثير. واختلف في سنته فالكليني (5) قال: بعد النبوة بخمس سنين وكذلك المسعودي في الأثبات (6) وذهب المفيد في الكتابين (7) إلى أنه بعده باثنتين.
(1) مسار الشيعة: 21. (2) حدائق الرياض: نقلا عن الإقبال: 621، عن البحار: 43 / 8 ح 12. (3) مصباح المتهجد: 733، عن البحار: 43 / 9 ح 15. (4) دلائل الإمامة: 10 عن البحار: 43 / 9 ح 16. (5) الكافي: 1 / 457 ح 10، عن البحار: 43 / 9 ح 13. (6) إثبات الوصية: 154، وذهب المسعودي في ذكر تاريخ ولادة الإمام الحسن عليه السلام ونسبه له إلا أن هذا التاريخ لفاطمة عليها السلام علما بأن ولادة الإمام الحسن المشهورة سنة 2 للهجرة. (7) مسار الشيعة: 31. 322 وفي مصباح الشيخ (1) كان مولدها (عليها السلام) سنة اثنين من المبعث في بعض الروايات، وفي رواية أول سنة والعامة تروي قبل المبعث بخمس. والصحيح الأول كما رواه ابن خشاب على نقل الكشف (2) عن شيوخه، مرفوعا عن الباقر (عليه السلام)، والطبري الإمامي (3) مسندا عن الصادق، والكليني (4) صحيحا عن الباقر (عليه السلام) وذهب العامة كمحمد بن إسحاق (5)، وأبي نعيم (6) وأبي الفرج (7). إلى أنها كانت قبل النبوة حين تبني قريش الكعبة، ورواه الأخير بإسناده عن الصادق والتعويل عليه على رواية الخاصة، ولا يبعد أنهم قالوا بكون مولدها قبل النبوة إنكارا لما ورد أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول أشم من فاطمة رائحة الجنة لأن انعقادها كان من فاكهة الجنة ليلة المعراج (8). عن أبي عبد الله جعفر بن محمد بن علي (عليهم السلام)، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): معاشر الناس، أتدرون لما خلقت فاطمة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: خلقت فاطمة حوراء إنسية لا إنسية، وقال: خلقت من عرق جبرئيل ومن زغبه. قالوا: يا رسول الله، استشكل ذلك علينا، تقول: حوراء إنسية لا إنسية. ثم تقول: من عرق جبرئيل ومن زغبه! قال: إذا أنبئكم: أهدي إلى ربي تفاحة من الجنة، أتاني بها جبرئيل عليه السلام، فضمها إلى صدره فعرق جبرئيل، وعرقت التفاحة، فصار عرقهما شيئا واحدا، ثم قال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، قلت: وعليك السلام يا جبرئيل فقال: إن الله أهدي إليك تفاحة من الجنة، فأخذتها وقبلتها ووضعتها على عيني وضممتها إلى صدري. ثم قال يا محمد، كلها. قلت: يا حبيبي يا جبرئيل، هدية ربي تؤكل؟ قال: نعم، قد أمرت بأكلها، فأفلقتها فرأيت منها نورا ساطعا ففزعت من ذلك النور، قال: كل فإن ذلك نور المنصورة قلت: يا جبرئيل، ومن
(1) مصباح المتهجد: 733، عن البحار: 43 / 9 ح 8. (2) كشف الغمة: 1 / 449، عن البحار: 43 / 7 ح 8. (3) دلائل الإمامة: 79 ح 18. (4) الكافي: 1 / 457 ح 10. (5) لم نعثر عليه في السيرة. (6) حلية الأولياء. (7) مقاتل الطالبين: 48. (8) تواريخ النبي والآل: 25. 323 المنصور؟ قال: جارية تخرج من صلبك واسمها في السماء منصورة، وفي الأرض فاطمة، فقلت: يا جبرئيل ولم سميت في السماء منصورة وفي الأرض فاطمة؟ قال: سميت " فاطمة " في الأرض لأنه فطمت شيعتها من النار، وفطموا أعداؤها عن حبها، وذلك قول الله في كتابه: * (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) * (1) بنصر فاطمة (عليها السلام). بيان: الزغب: الشعيرات الصغرى على ريش الفرخ، وكونها من زغب جبرئيل إما لكون التفاحة فيها وعرقت من بينها، أو لأنه التصق بها بعض ذلك الزغب فأكله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (2). وعن المفضل بن عمر قال: قلت لأبي عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام): كيف كانت ولادة فاطمة (عليها السلام)؟ قال: نعم، إن خديجة عليها رضوان الله لما تزوج بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هجرتها نسوة مكة، فكن لا يدخلن عليها ولا يسلمن عليها ولا يتركن امرأة تدخل عليها، فاستوحشت خديجة من ذلك، فلما حملت بفاطمة (عليها السلام) صارت تحدثها في بطنها وتصبرها، وكانت خديجة تكتم ذلك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فدخل يوما وسمع خديجة تحدث فاطمة، فقال لها: يا خديجة، من يحدثك؟ قالت: الجنين الذي في بطني يحدثني ويؤنسني. فقال لها: هذا جبرئيل يبشرني أنها أنثى وأنها النسمة الطاهرة الميمونة، وأن الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة في الأمة يجعلهم خلفاء في أرضه بعد انقضاء وحيه فلم تزل خديجة رضي الله عنها على ذلك إلى أن حضرت ولادتها، فوجهت إلى نساء قريش ونساء بني هاشم يجئن ويلين منها ما تلي النساء من النساء، فأرسلن إليها: عصيتينا ولم تقبلي قولنا، وتزوجت محمدا يتيم أبي طالب فقيرا لا مال له، فلسنا نجئ ولا نلي من أمرك شيئا فاغتمت خديجة لذلك، فبينا هي كذلك إذ دخل عليها أربع نسوة طوال كأنهن من من نساء بني هاشم. ففزعت منهن، فقالت لها إحداهن: لا تحزني يا خديجة، فإنا رسل ربك إليك، ونحن أخواتك، أنا سارة وهذه آسية بنت مزاحم وهي رفيقتك في الجنة، وهذه مريم بنت
(1) الروم: 4. (2) " البحار ": 43 / 18. 324 عمران، وهذه صفراء (1) بنت شعيب، بعثنا الله تعالى إليك لنلي من أمرك ما تلي النساء من النساء. فجلست واحدة عن يمينها، والأخرى عن يسارها، والثالثة من بين يديها، والرابعة من خلفها، فوضعت خديجة فاطمة عليها السلام طاهرة مطهرة. فلما سقطت إلى الأرض أشرق منها نور حتى دخل بيوتات مكة، ولم يبق في شرق الأرض ولا غربها موضع إلا أشرق فيه ذلك النور فتناولتها المرأة التي كانت بين يديها، فغسلتها بماء الكوثر، وأخرجت خرقتين بيضاوين أشد بياضا من اللبن وأطيب رائحة من المسك والعنبر، فلفتها بواحدة، وقنعتها بالآخر، ثم استنطقتها فنطقت فاطمة (عليها السلام) بشهادة " أن لا إله إلا الله، وأن أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سيد الأنبياء وأن بعلي سيد الأوصياء، وأن ولدي سيد الأسباط "، ثم سلمت عليهن، وسمت كل واحدة منهن باسمها، وضحكن إليها، وتباشرت الحور العين، وبشر أهل الجنة بعضهم بعضا بولادة فاطمة (عليها السلام)، وحدث في السماء نور زاهر لم تره الملائكة قبل ذلك اليوم، فلذلك سميت " الزهراء " (عليها السلام)، وقالت: خذيها يا خديجة طاهرة مطهرة، زكية ميمونة، بورك فيها وفي نسلها. فتناولتها خديجة عليها السلام فرحة مستبشرة فألقمتها ثديها فشربت، فدر عليها. وكانت (عليها السلام) تنمي في كل يوم كما ينمي الصبي في الشهر، وفي شهر كما ينمي الصبي في سنة صلى الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها (2). وقيل: بينما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جالس بالأبطح ومعه عمار ابن ياسر والمنذر بن الضحضاح وأبو بكر وعمر وعلي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وحمزة بن عبد المطلب، إذ هبط عليه جبرئيل (عليه السلام) في صورته العظمى، قد نشر أجنحته حتى أخذت من المشرق إلى المغرب، فناداه: يا محمد العلي الأعلى يقرئ عليك السلام وهو يأمرك أن تعتزل عن خديجة أربعين صباحا. فشق ذلك على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان لها محبا وبها وامقا (3). قال: فأقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعين يوما يصوم النهار ويقوم الليل، حتى إذا كان
(1) قيل إنها صفوراء. (2) " البحار ": 16 / 80. (3) الوامق: المحب. 325 في آخر أيامه تلك، بعث إلى خديجة بعمار بن ياسر وقال: قل لها: يا خديجة لا تظني أن انقطاعي عنك (هجرة) ولا قلى، ولكن ربي عز وجل أمرني بذلك لتنفذ أمره، فلا تظني يا خديجة إلا خيرا، فإن الله عز وجل ليباهي بك كرام ملائكته كل يوم مرارا. فإذا جنك الليل فأجيفي الباب (1) وخذي مضجعك من فراشك فإني في منزل فاطمة بنت أسد. فجعلت خديجة تحزن في كل يوم مرارا لفقد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فلما كان في كمال الأربعين هبط جبرئيل (عليه السلام) فقال: يا محمد، العلي الأعلى يقرئك السلام وهو يأمرك، أن تتأهب لتحيته وتحفته، قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا جبرئيل، وما تحفة رب العالمين؟ وما تحيته؟ قال: لا علم لي. قال: فبينما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كذلك إذ هبط ميكائيل ومعه طبق مغطى بمنديل سندس - أو قال إستبرق - فوضعه بين يدي البني (صلى الله عليه وآله وسلم) حسست بثقل فاطمة في بطني (2). ولقد علق العلامة الهمداني على هذا الحديث بقوله: يستفاد من هذا الحديث الشريف أمور مهمة وفوائد عظيمة هي دالة على سمو جلالة بضعة خير المرسلين، وعلو منزلة زوجة أفضل الوصيين وأم الأئمة الطاهرين - صلوات الله عليهم أجمعين. منها نزول جبرئيل (عليه السلام) على صورته الأصلية كنزوله في أول البعثة. ففي " البحار " ج 18 / ص 247: " إن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) كان بحراء، فطلع له جبرئيل (عليه السلام) من المشرق، فسد الأفق إلى المغرب ". ومعلوم أن مجيئه (عليه السلام) على هذه الهيئة لأمر عظيم. ومنها اعتكافه (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعين يوما في بيت فاطمة بنت أسد - رضي الله عنها - قائما ليله، صائما نهاره، واعتزاله عن الناس وعن زوجته الكريمة خديجة الكبرى سلام الله عليها، كما كان معتكفا ومعتزلا في أول البعثة بحراء، نعم كان اعتكافه (صلى الله عليه وآله وسلم) يومئذ لأجل أن يكون مهيئا للنبوة والرسالة، وفي هذا الموقف لكونه متأهبا للتحفة الإلهية التي ستكون منشأ الإمامة والولاية، بل هي عنصر شجرة النبوة كما جاء عن الباقر (عليه السلام) (3). ومنها نزول ترك سنته في إفطاره، من إدخال كل من يرد للإفطار، واختصاصه (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك الطعام. ومنها ترك سنته في التطهر عند وروده
(1) أجفت الباب: رددته. (2) البحار: 16 / 78 - 80. (3) أنظر " مجمع البحرين ". 326 المنزل للصلاة عند النوم. ولا يخفى أن الترك إنما يكون للأهم، فتفطن. تحقيق وتبيين الذي يستفاد من الأخبار والأحاديث التي وصلت إلينا من طريق أهل البيت (عليهم السلام) إن فاطمة (عليها السلام) ولدت على فطرة الإسلام وبعد نزول الوحي على أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) خلافا لما في بعض كتب العامة، فإليك بعض نصوصها: 1 - قال علي بن الحسين (عليهما السلام) في حديث طويل: ولم يولد لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من خديجة (عليها السلام) على فطرة الإسلام إلا فاطمة (عليها السلام)، وقد كانت خديجة قبل الهجرة بسنة، ومات أبو طالب بعد موت خديجة بسنة (1)... 2 - عن حبيب السجستاني قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: ولدت فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد مبعوث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بخمس سنين، وتوفيت ولها ثماني عشرة سنة وخمسة وسبعون يوما (2). 3 - عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ولدت فاطمة في جمادي الآخرة اليوم العشرين منها سنة خمس وأربعين من مولد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأقامت بمكة ثمان سنين، وبالمدينة عشر سنين وبعد وفاة أبيها خمسا وسبعين يوما (3). 4 - قال ابن الخشاب في تاريخ مواليد ووفاة أهل البيت (عليهم السلام) نقله عن شيوخه يرفعه عن أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) قال: ولدت فاطمة بعد ما أظهر الله نبوة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنزل عليه الوحي بخمس سنين وقريش تبني البيت، وتوفيت ولها ثمانية عشر سنة وخمسة وسبعون يوما (4). أقول: قوله " وقريش تبني البيت " لا تنطبق على نزول الوحي، لأن بناء البيت منهم
(1) روضة الكافي: 340، الرقم 536. (2) البحار: 43 / 9. (3) " البحار " ج 43، ص 9. (4) " كشف الغمة " ج 1، ص 339. 327 كان قبل المبعث. ثم في هذا الموقف أخبار تؤكد وتؤيد مضامين تلك الأخبار، وهي روايات تدل على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أسري به إلى السماء وأدخل الجنة فتناول من ثمار الجنة، فلما رجع واقع خديجة (عليها السلام) فتكونت نطفة فاطمة الزهراء (عليها السلام) من تلك الثمار، ومعلوم إن قضية الإسراء وقعت بعد البعثة بلا خلاف. شهادة الصديقة فاطمة (عليها السلام) إلام التواني صاحب الطلعة الغرا * أما آن من أعداك أن تطلب الوترا فديناك لم أغضيت عما جرى على * بني المصطفى منها وقد صدع الصخرا أتغضي وتنسى أمك الطهر فاطما * غداة عليها القوم قد هجموا جهرا أتغضي وشبوا النار في باب دارها * وقد أوسعوا في عصرهم ضلعها كسرا أتغضي ومنها أسقطوا الطهر محسنا * وقادوا علي المرتضى بعلها قسرا أتغضي وسوط العبد وشح متنها * ومن لطمة الطاغي غدت عينها حمرا أتغضي وقد ماتت وملؤا فؤادها * شجى وعلي بعد شيعها سرا (1) أما كيفية شهادتها (عليها السلام) فلقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) سبب وفاتها (عليها السلام): أن قنفذ مولى عمر لكزها بنعل السيف بأمره فأسقطت محسنا، ومرضت من ذلك مرضا شديدا (2)، وكان علي (عليه السلام) يمرضها بنفسه، وتعينه على ذلك أسماء بنت عميس، وفي يوم دخلت نسوة من المهاجرين والأنصار على فاطمة بنت رسول الله يعدنها فقلن: السلام عليك يا بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف أصبحت؟ فقالت: أصبحت والله عائفة لديناكن قالية لرجالكم، لفظتهم بعد إذ مججتهم وسئمتهم بعد أن سبرتهم، فقبحا لأفون الرأي وخطل القول وخور القناة، ولبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون لا جرم والله لقد قلدتهم ربقتها وشننت عليهم عارها فجدعا ورغما للقوم الظالمين.
(1) القصيدة للمرحوم الخطيب السيد خضر القزويني، ديوان شعراء الحسين (عليه السلام): ص 230. (2) دلائل الإمامة 45، البحار 43 ص 170. 328 ويحهم أنى زحزحوها عن أبي الحسن، ما نقموا والله منه إلا نكير سيفه ونكال وقعه، وتنمره في ذات الله، وتا الله لو تكافوا عليه عن زمام نبذه إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأتميله، ثم لسار بهم سيرة سجحا فإنه قواعد الرسالة ورواسي النبوة، ومهبط الروح الأمين، والطبيب بأمر الدين والدنيا والآخرة إلا ذلك هو الخسران المبين. والله لا يلتكم خشاشة، ولا يتعتع راكبه، ولأوردهم منهلا رويا فضفاضا تطفح ضفته، ولأصدرهم بطانا قد خثر بهم الري، غير متحل بطائل إلا تغمر الناهل وردع سورة سغب، ولو فتحت عليهم بركات من السماء والأرض وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون، فهلم فاسمع، فما عشت أراك الدهر عجبا، وإن تعجب بعد الحادث، فما بالهم بأي سند استندوا، أم بأي عروة تمسكوا، لبئس العشير، وبئس للظالمين بدلا، استبدلوا الذنابى بالقوادم، والحرون بالقاحم، والعجز بالكاهل، فتعسا لقوم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ألا أنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون، أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدي لكم كيف تحكمون. لقحت قنطرة فنظرة ريثما تنتج، ثم احتبلوا طلاع القعب دما عبيطا، وذعافا ممضا، هنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غب ما أسس الأولون، ثم طيبوا بعد ذلك بأنفسكم لفتنها، ثم اطمأنوا للفتنة جأشا وأبشروا بسيف صارم، وهرج دائم شامل، واستبداد من الظالمين. يدع فيئكم زهيدا، وجمعكم حصيدا، فيا حسرة لهم، ولقد عميت عليهم الأنباء أنلزمكموها وأنتم لها كارهون (1). الهموم المتراكمة ليس المرض لوحده سبب آلام الزهراء، (عليها السلام) ووجدها وحزنها، وإنما كانت الهموم تجتاحها من كل حدب وصوب، فحينما كانت تمد جسدها النحيل المكدور على جلد الكبش وتتكئ على وسادة الليف، تنساب الخواطر إلى رأسها الشريف، وتهجم عليها الهواجس، وكأن لسان حالها الشريف: آه.. تركوا وصية أبي... وغصبوا الخلافة
(1) الإحتجاج للطبرسي: 1 / 147، البحار: 43 / 161، شرح ابن أبي الحديد: 16 / 233، بلاغات النساء: 19. 329 من زوجي؟! ولن تنتهي آثارها إلى يوم القيامة... فبئس عاقبة الخلافة التي توسلت بالحيلة والجور.. بماذا سار المسلمون وانتشرت كلمة الإسلام؟! بوحدة الكلمة! والاتحاد بين فصائل المجتمع وصلوا إلى العظمة والرقي.. آه.. اذهبوا ريحهم.. وأوقعوا الخلاف بينهم، وبدلوا قوة الإسلام الواحدة وطاقة المسلمين المهيبة إلى قوى وطاقات متناثرة، وجروا العالم الإسلامي إلى العجز والضعف والفرقة والذلة.. آه... أنا فاطمة - عزيزة رسول الله - ارقد الآن على فراش المرض؟! لم يخف أنيني من ضربات هذه الأمة المبرحة.. وأقف على أعتاب الموت؟... أين وصايا أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟. .. رباه.. أعلي الشجاع القوي أراه - اليوم - مضطرا إلى السكوت عن حقه المشروع لحفظ مصلحة الإسلام العليا؟... اقتربت ساعتي.. وحان أجلي.. وها أنذا أودع الحياة في ربيع عمري وأيام شبابي... وسأنجو من الهموم والغصص.. ولكن.. ماذا عن أيتامي الذين سيبقون بعدي؟.. أولادي... الحسن.. الحسين.. زينب.. أم كلثوم.. آه.. يا للمصائب التي تصب عليهم - أيتامي الأعزاء على قلبي -.. فإني سمعت أبي يقول - مرارا -: يموت ولدك الحسن مسموما، والحسين مقتولا بالسيف شهيدا عطشانا.. وهذه علامات ذلك وإمارته تلوح لي وأراها بعيني... كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يأخذ صغيري الحسين - مرة - ويقبل نحره ويبكي لمصيبته، ويأخذ الحسن - أخرى - ويلصق صدره بصدره ويقبله في فمه، ويذكر مصائب زينب، وأم كلثوم فيبكي... نعم.. كانت تمر هذه الخواطر في ذهن فاطمة (عليها السلام) وتؤلمها، فتشحب يوما بعد يوم، وتنحل ساعة بعد ساعة، وقد ورد في الأثر أن فاطمة لما حضرتها الوفاة بكت، فقال لها أمير المؤمنين: يا سيدتي ما يبكيك؟ قالت: أبكي لما تلقى بعدي، فقال لها: لا تبكي، فوالله إن ذلك لصغير عندي في ذات الله (1).
(1) البحار: 43 / 218. 330 العيادة المبغوضة كان الصحابة رجالا ونساء يعودون فاطمة (عليها السلام) بين الحين والحين، إلا عمر وأبا بكر لم يعوداها لأنها قاطعتهم ورفضتهم ولم تأذن لهم بعيادتها، وحينما ثقل عليها المرض وقاربتها الوفاة لم يجدا بدا من عيادتها لئلا تموت بنت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي ساخطة عليهما، وتبقى وصمة العار تلاحق الخليفة وجهازه الحاكم إلى يوم القيامة. فجاءا لعيادتها تحت ضغط الرأي العام، فسألا عنها، وقالا لأمير المؤمنين (عليه السلام): قد كان بيننا وبينها ما قد علمت فإن رأيت أن تأذن لنا لنعتذر إليها من ذنبنا. قال: ذلك إليكما. فقاما فجلسا الباب. ودخل علي (عليه السلام) على فاطمة (عليها السلام) فقال لها: أيتها الحرة، فلان وفلان بالباب، يريدان أن يسلما عليك فما تريدين؟ قالت: البيت بيتك، والحرة زوجتك، افعل ما تشاء! فقال: شدي قناعك، فشدت قناعها، وحولت وجهها إلى الحائط. فدخلا وسلما وقالا: أرضي عنا رضي الله عنك، فقالت: ما دعا إلى هذا؟ فقالا: اعترفنا بالإساءة ورجونا أن تعفي عنا. فقالت: إن كنتما صادقين فأخبراني عما أسألكما عنه، فإني لا أسألكما عن أمر إلا وأنا عارفة، بأنكما تعلمانه، فإن صدقتماني علمت أنكما صادقان في مجيئكما. قالا: سلي عما بدا لك. قالت: نشدتكما بالله، هل سمعتما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني "؟ قالا: نعم. فرفعت يدها إلى السماء، فقالت: اللهم إنهما قد آذاني، فأنا أشكوهما إليك وإلى رسولك، لا والله لا أرضى عنكما أبدا حتى ألقى أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأخبره بما صنعتما فيكون هو الحاكم فيكما. قال: فعند ذلك دعا أبو بكر بالويل والثبور، فقال عمر: تجزع يا خليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قول امرأة؟ (1).
(1) البحار: 43 / 198. 331 وصية فاطمة (عليها السلام) مرضت فاطمة (عليها السلام) مرضا شديدا، ومكثت أربعين ليلة في مرضها، فلما نعيت إليها نفسها قالت لعلي (عليه السلام): يا بن عم، أنه قد نعيت إلي نفسي، وأنني لا أرى ما بي إلا أنني لاحقة بأبي ساعة بعد ساعة، وأنا أوصيك بأشياء في قلبي. قال لها علي (عليه السلام): أوصي بما أحببت يا بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجلس عند رأسها وأخرج من كان في البيت، ثم قالت: يا بن عم، ما عهدتني كاذبة، ولا خائنة، ولا خالفتك منذ عاشرتني. فقال (عليه السلام): معاذ الله، أنت أعلم بالله وأبر وأتقى وأكرم وأشد خوفا من الله، من أن أوبخك بمخالفة، وقد عز علي مفارقتك وفقدك إلا أنه أمر لا بد منه، والله جددت علي مصيبة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد عظمت وفاتك وفقدك، فإنا لله وإنا إليه راجعون من مصيبة ما أفجعها وآلمها وأمضها وأحزنها، هذه والله مصيبة لا عزاء لها، ورزية لا خلف لها، ثم بكيا جميعا ساعة (1). لخصت فاطمة (عليها السلام) في هذا الحوار حياتها الزوجية في هذه العبارات، فذكرت الأمير (عليه السلام) بإخلاصها وطهارتها وإطاعتها لزوجها. وشكر لها الإمام وفاءها، وأثنى على طهارتها وقدسيتها ومعاناتها وتقواها، وأبدى لها حبة ووده وتعلقه بها. وهاجت بهما الذكريات وجاشت الخواطر وتذكرا حياتهما السعيدة التي غمرتها الغبطة والدفئ، والوقوف جنبا إلى جنب في مواجهة الأحداث والمشاكل وتذليل الصعاب، فانهمرت لذلك عيناهما بالدموع، لعلها تطفئ نار القلب التي تقضي على الجسد. وبعد أن بكيا ساعة أخذ علي (عليه السلام) رأسها وضمها إلى صدره ثم قال: أوصيني بما شئت، فإنك تجديني فيها أمضي كما أمرتيني به، وأختار أمرك على أمري. ثم قالت: جزاك الله عني خير الجزاء، وأوصته بوصاياها، وهي: 1 - يا بن عم، أوصيك أن تتزوج بعدي بابنة أختي أمامة، فإنها تكون لولدي مثلي،
(1) البحار: 43 / 191. 332 فإن الرجال لا بد لهم من النساء (1). 2 - إن أنت تزوجت امرأة فاجعل لها يوما وليلة واجعل لأولادي يوما وليلة، يا أبا الحسن لا تصح في وجوههم فيصبحا يتيمين غريبين (2). 3 - أوصيك يا بن عم، أن تتخذ لي نعشا، فقد رأيت الملائكة صوروا صورته، فقال لها: صفية لي.. فوصفته، فاتخذه لها (3). 4 - أوصت لأزواج النبي لكل واحدة منهن اثنتي عشرة أوقية (4). 5 - ولنساء بني هاشم مثل ذلك. 6 - وأوصت لأمامة بنت أبي العاص بشئ (5). وكانت لها وصية مكتوبة جاء فيها: " هذا ما أوصت فاطمة بنت رسول الله بحوائطها السبع، ذي الحسنى والساقية، والدلال، والغراف، والرقمة، والهيثم، ومال أم إبراهيم، إلى علي بن أبي طالب، ومن بعده فإلى الحسن، فإلى الحسين، ومن بعد الحسين فإلى الأكبر فالأكبر من ولده، شهد الله على ذلك وكفى به شهيدا، وشهد المقداد ابن الأسود، والزبير بن العوام، وكتب علي بن أبي طالب (6). وروى ابن عباس وصية مكتوبة أخرى لها (عليها السلام) جاء فيها: " بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أوصت به فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أوصت وهي تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، يا علي: أنا فاطمة بنت محمد، زوجني الله منك لأكون لك في الدنيا والآخرة، أنت أولى بي من غيري، حنطني وغسلني وكفني بالليل وصل علي وادفني بالليل ولا تعلم أحدا، وأستودعك الله وأقرأ على ولدي السلام إلى يوم القيامة " (7).
(1) مناقب ابن شهرآشوب: 3 / 362. (2) البحار: 43 / 178. (3) البحار: 43 / 192. (4) المصدر السابق. (5) دلائل الإمامة: 42. (6) دلائل الإمامة: 42. (7) البحار: 43 / 214. 333 لحظات عمرها الأخيرة ثقل عليها المرض، والإمام لا يفارقها، وأسماء تمرضها، والحسن والحسين وزينب وأم كلثوم عندها، وهي تفيق مرة ويغشى عليها أخرى من شدة المرض، وتجيل بصرها في أولادها.. يقول الإمام علي (عليه السلام): إنها لما حضرتها الوفاة فتحت عينيها وقالت: السلام عليك يا جبريل، السلام عليك يا رسول الله، اللهم احشرني مع رسولك، اللهم اسكني جنتك وفي جوارك. ثم قالت: هؤلاء ملائكة ربي، جبريل ورسول الله حاضرون عندي، وأبي يقول: القدوم إلينا (1) يقول علي (عليه السلام): فلما كانت الليلة التي أراد الله أن يكرمها ويقبضها إليه أخذت تقول: وعليكم السلام. يا بن عم، هذا جبريل أتاني مسلما، وقال: السلام يقرئك السلام يا حبيبة حبيب الله وثمرة فؤاده - اليوم تلحقين بالرفيق الأعلى وجنة المأوى ثم انصرف عني. ثم أخذت تقول: وعليكم السلام، وتقول: يا بن عم، هذا ميكائيل يقول كقول صاحبه 0 ثم أخذت ثالثا تقول: وعليك السلام، ثم فتحت عينيها شديدا وقالت: يا بن عم هذا والله الحق، عزرائيل نشر جناحه في المشرق والمغرب، وقد وصفه لي أبي وهذه صفته. ثم قالت: يا قابض الأرواح عجل بي ولا تعذبني، ثم قالت: إليك ربي لا إلى النار، ثم غمضت عينيها، ومدت يديها ورجليها، وكأنها لم تكن حية قط. أبكني إن بكيت يا خير هادي * وأسبل الدمع فهو يوم الفراق يا قرين البتول أوصيك بالنسل * فقد أصبحنا حليف اشتياق أبكني وابك لليتامى ولا تنسى * قتيل العدى بطف العراق فارقوا فأصبحوا حيارى * يخلف الله فهو يوم الفراق وروي عن أسماء أن فاطمة لما حضرتها الوفاة قالت لأسماء: إن جبريل أتى
(1) دلائل الإمامة: 44. 334 النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - لما حضرته الوفاة - بكافور من الجنة فقسمه أثلاثا، ثلثا لنفسه، وثلثا لعلي، وثلثا لي، وكان أربعين درهما، فقالت يا أسماء آتيني ببقية حنوط والدي من موضع كذا وكذا وضعيه عند رأسي، فوضعته ثم قالت يا أسماء أتيني ببقية حنوط والدي من موضع كذا وكذا وضعيه عند رأسي، فوضعته ثم قالت لأسماء حين توضأت وضوءها للصلاة، هاتي طيبي الذي أتطيب به، وهاتي ثيابي التي أصلي فيها، فتوضأت ثم تسجت بثوبها، ثم قالت: انتظريني هنيئة وادعيني، فإن أجبتك وإلا فاعلمي أني قدمت على أبي فأرسلني إلى علي. فانتظرت هنيئة ثم نادتها، فم تجبها، فكشف الثوب عن وجهها فإذا بها قد فارقت الدنيا، فوقعت عليها تقبلها، فبينا هي كذلك إذ دخل الحسن والحسين فقالا لها: يا أسماء ما ينيم أمنا في هذه الساعة، قالت: يا ابني رسول الله. ليست أمكما نائمة، قد فارقت الدنيا، فوقع عليها الحسن يقبلها مرة ويقول: يا أماه كلميني قبل أن تفارق روحي بدني، وأقبل الحسين يقبل رجلها ويقول: أنا ابنك الحسين كلميني قبل أن يتصدع قلبي فأموت. قالت لهما أسماء: يا ابني رسول الله، انطلقا إلى أبيكما علي فأخبراه بموت أمكما، فخرجا حتى إذا كانا قرب المسجد رفعا أصواتهما بالبكاء فقالا: قد ماتت أمنا فاطمة (عليها السلام) فوقع علي (عليه السلام) على وجهه يقول: بمن العزاء يا بنت محمد، كنت بك أتعزى فبمن العزاء من بعدك؟ (1). التشييع والدفن ارتفعت أصوات البكاء من بيت علي (عليه السلام) فصاح أهل المدينة صيحة واحدة، واجتمعت نساء بني هاشم في دارها، فصرخن صرخة واحدة كادت المدينة تتزعزع لها، وأقبل الناس مثل عرف الفرس إلى علي (عليه السلام)، وهو جالس، والحسن والحسين بين يديه يبكيان، وخرجت أم كلثوم، وهي تقول: يا أبتاه يا رسول الله، الآن فقدناك حقا لا لقاء بعده أبدا. واجتمع الناس فجلسوا وهم يضجون، وينتظرون خروج الجنازة
(1) البحار: 43 / 186. 335 ليصلوا عليها، وخرج أبو ذر، وقال: انصرفوا فإن ابنة رسول الله قد أخر إخراجها في العشية (1). وأقبل أبو بكر وعمر يعزيان عليا (عليه السلام)، ويقولان له: يا أبا الحسن لا تسبقنا بالصلاة على ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (2). ولكن عليا غسلها وكفنها هو وأسماء في تلك الليلة ثم نادى: يا أم كلثوم، يا زينب، يا حسن، يا حسين، هلموا تزودوا من أمكم فهذا الفراق واللقاء والجنة، وبعد قليل نحاهم أمير المؤمنين (عليه السلام) (3) عنها. ثم صلى علي على الجنازة، وشيعها والحسن والحسين وعقيل وسلمان وأبو ذر والمقداد وعمار وبريدة والعباس وابنة الفضل (4). فلما هدأت الأصوات ونامت العيون ومضى شطر من الليل أخرجها أمير المؤمنين (عليه السلام) ودفنها سرا وأهال عليها التراب، والمشيعون من حوله يترقبون لئلا يعرف القوم، ويمنعهم المنافقون، فدفنوها وعفوا تراب قبرها. وقوف الإمام (عليه السلام) على قبرها انتهت مراسم الدفن بسرعة خوفا من انكشاف أمرهم وهجوم القوم عليهم، فلما نفض الإمام يده من تراب القبر هاج به الحزن لفقد بضعة الرسول التي تذكر به ، وزوجته الودود التي عاشت معه الصفا والطهارة والتضحية، وتحملت من أجله الأهوال والصعاب فواغوثاه... من هظمها.. من آلامها... من تصدع قلبها... وا غوثاه من كسر ضلعها... واسوداد عضدها... وإسقاط جنينها... ولكن. لكل اجتماع من خليلين فرقة * وكل الذي دون الممات قليل وإن افتقادي فاطم بعد أحمد * دليل على أن لا يدوم خليل فأرسل دموعه على خديه، وحول وجهه إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك من ابنتك وحبيبتك وقرة عينك وزائرتك، والبائنة
(1) البحار: 43 / 192. (2) البحار: 43 / 199. (3) البحار: ج 43 / ص 179. (4) البحار: 43 / 183. 336 في الثرى ببقعتك، المختار الله لها سرعة اللحاق بك، قل - يا رسول الله عن صفيتك صبري وضعف عن سيدة النساء تجلدي، إلا أن في التأسي لي بسنتك، والحزن الذي حل بي لفراقك، موضع التعزي، ولقد وسدتك في ملحودة قبرك، بعد أن فاضت نفسك على صدري، وغمضتك بيدي وتوليت أمرك بنفسي. نعم، وفي كتاب الله أنعم القبول، إنا لله وإنا إليه راجعون، قد استرجعت الوديعة، وأخذت الرهينة، واختلست الزهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء، يا رسول الله. أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد، لا يبرح الحزن من قلبي أو يختار الله لي دارك التي أنت مقيم، كمد مقيح، وهم مهيج، سرعان ما فرق الله (بيننا)، وإلى الله أشكو، وستنبئك ابنتك بتظافر أمتك علي، وعلى هضمها حقها، فاستخبرها الحال، فكم من عليل معتلج بصدرها، لم تجد إلى بثه سبيلا، وستقول، ويحكم الله وهو خير الحاكمين. سلام عليك يا رسول الله، سلام مودع لا سئم ولا قال، فإن أنصرف فلا عن ملالة وإن أقم فلا عن سوء ظني بما وعد الله الصابرين، الصبر أيمن وأجمل. ولولا غلبة المستولين علينا، لجعلت المقام عند قبرك لزاما، وللبثت عنده معكوفا، ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزية، فبعين الله تدفن ابنتك سرا، ويهتضم حقها قهرا، ويمنع إرثها جهرا، ولم يطل العهد، ولم يخلق منك الذكر، فإلى الله - يا رسول الله - المشتكى وفيك أجمل العزاء، فصلوات الله عليها ورحمة الله وبركاته (1). وروي أن عليا (عليها السلام) سوى قبرها مع الأرض مستويا، وقيل: سوى حواليها قبورا مزورة سبعة حتى لا يعرف أحد قبرها، وروي أنه رش أربعين قبرا حتى لا يبين قبرها من غيره من القبور خوفا من الأعداء (2). فلما أصبح الناس أقبل عمر وأبو بكر والناس يريدون الصلاة على فاطمة (عليها السلام). فقال المقداد: قد دفنا فاطمة (عليها السلام) البارحة. فالتفت عمر إلى أبي بكر فقال: ألم أقل لك، أنهم سيفعلون؟ قال العباس: إنها أوصت أن لا تصليا عليها. فقال عمر: لا تتركون - بني هاشم - حسدكم القديم لنا أبدا، إن هذه الضغائن التي في
(1) البحار: 43 / 211، 193. (2) البحار: 43 / 183. 337 صدوركم لن تذهب، والله لقد هممت أن أنبشها فأصلي عليها، فقال علي (عليه السلام): والله لو رمت ذاك لا رجحت إليك يمينك، لئن سللت سيفي لا أغمدته دون إزهاق روحك، فانكسر عمر وسكت وعلم أن عليا إذا حلف صدق (1). تاريخ وفاتها (عليها السلام) لا شك أن وفاتها (عليها السلام) كانت في السنة الحادية عشر من الهجرة - ظاهرا - لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حج حجة الوداع في السنة العاشرة وتوفي في أوائل السنة الحادية عشر، واتفق المؤرخون والكتاب على أن فاطمة عاشت بعد أبيها أقل من سنة، إلا أنهم اختلفوا في يوم وشهر وفاتها اختلافا شديدا، فروى المعروف بالدلائل (2) عن أبي بصير، عن الصادق (عليه السلام) قبضت في جمادي الآخرة، يوم الثلاثاء لثلاث خلون منه سنة إحدى عشر من الهجرة. وبه صرح المفيد في المسار (3)، وفي المصباح (4)، ونسبه الإقبال (5) إلى جماعة، فقال: روينا عن جماعة من أصحابنا ذكرناهم في كتاب التعريف للمولد الشريف، أن وفاة فاطمة (عليها السلام) كانت يوم ثالث جمادي الآخرة، وعن ابن همام، قال: روي لعشر بقين منه. وعن الكشف (6) قيل: لثلاث ليال من شهر رمضان. ونقل عن العاصمي (7) بإسناده عن محمد بن عمر. ونقل المصباح (8)، عن ابن عياش أنه في اليوم الحادي والعشرين من رجب. وبعضهم لم يعين يومه، لكن قالوا بعيشها بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمدة واختلفوا.
(1) البحار: 43 / 199. (2) دلائل الإمامة: 46، عن البحار: 43 / 171 ح 11. (3) مسار الشيعة: 31. (4) مصباح المتهجد: 733، عنه البحار: 43 / 215 ح 46. (5) الإقبال: 633، عنه البحار: 43 / 196 ح 26. (6) كشف الغمة: 1 / 503 عنه البحار: 43 / 189. (7) ونقل البحار عن العاصمي: 43 / 213 ح 44. (8) مصباح المتهجد: 748، عنه البحار: 43 / 215 ح 47. 338 قال أبو الفرج (1) فالمكثر يقول: ثمانية أشهر، والمقلل: أربعين يوما. إلا أن الثابت في ذلك ما روي عن أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) أنها توفيت بعده بثلاثة أشهر. حدثني بذلك الحسن بن علي، عن الحارث، عن ابن سعيد، عن الواقدي، عن عمرو بن دينار، عنه (عليه السلام). قلت: نقل الثلاثة أشهر، الكشف (2) عن كتاب الذرية للدولابي عن رجاله، وعن ابن شهاب الزهري ستة أشهر. وقال ابن قتيبة (3): مائة يوم بعده. وقال الكشف (4)، عن الباقر (عليه السلام): خمس وتسعين ليلة. وروى الاحتجاج (5) عن كتاب سليم: أربعين يوما. وقال الكليني (6): خمس وسبعون يوما. ورواه ابن الخشاب (7)، عن شيوخه، عن الباقر (عليه السلام). وبه قال في عيوم المعجزات (8)، ورواه الكليني (9) صحيحا في خبرين عن الصادق (عليها السلام). سند أحدهما: أحمد بن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن أبي محبوب، عن ابن رباب، عن أبي عبيدة، عنه (عليها السلام). والآخر: العدة (10)، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر، عن هشام بن سالم، عنه (عليها السلام). وفي خبر (11) حسن وصحيح سنده علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عنه (عليه السلام). ويمكن تأويل خمسة وسبعين في الثلاثة بكونه محرف خمسة وتسعين، حتى ينطبق
(1) مقاتل الطالبيين: 49، عنه البحار: 43 / 215. (2) كشف الغمة: 1 / 502، عنه البحار: 43 / 188 ح 19. (3) المعارف لابن قتيبة: 142. (4) كشف الغمة: 1 / 503. (5) الإحتجاج: عن كتاب سليم بن قيس الهلالي: 212، عنه البحار: 43 / 199 ضمن ح 29 . (6) الكافي: 458 / 1. (7) كشف الغمة: 1 / 449، عن ابن الخشاب. (8) عيوم المعجزات: 55، عنه البحار: 43 / 212 ح 41. (9) الكافي: 1 / 241 ح 5، عنه البحار: 43 / 194 ح 22. (10) الكافي: 4 / 561 ح 4، عنه البحار: 43 / 195 ح 24. (11) الكافي: 3 / 228 ح 3، عنه البحار: 43 / 195 ذ ح 24. 339 على الخبر الدال على كونه في ثالث جمادي الآخرة، مع كون وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الثامن والعشرين من صفر، وينطبق على خبر ثلاثة أشهر بحمله على التسامح في الكمية الزائدة. ويشهد له ما قاله الكشف (1) عن الباقر (عليه السلام) خمس وتسعين إن صحت النسخة لكن وقوع التحريف في أخبار ثلاثة مشكل، مع عدم ثبوت كون وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) في الثامن والعشرين من صفر، بل عرفت قول كثير بكونه الثاني عشر من ربيع الأول من أن الخبر الخامس من أربعين أبي نعيم في أخبار المهدي الذي نقله الكشف (2)، قال علي (عليه السلام): لم تبقى فاطمة بعده إلا خمسة وسبعين يوما، حتى ألحقها الله به (صلى الله عليه وآله وسلم). لكن الكلام في ثبوت عدد صفر (3)، وإلا فالتحريف للتشابه الخطي ولو في أكثر غير بعيد (4).
(1) كشف الغمة: 1 / 503. (2) كشف الغمة: 1 / 503. (3) كلام المؤلف (ره) هنا في ثبوت وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من صفر من كونه الثامن والعشرين وعدم ثبوته، وعلى قول أنه الثاني عشر من ربيع الأول والمقصود هنا وقع التحريف والتصحيف للتشابه وفي أكثر من هذا من الأقوال وهو غير بعيد من التحريف. (4) تواريخ النبي والآل: 55 - 57. 340 المستوى الثاني المعرفة المناقبية لها (عليها السلام) وذلك بالاطلاع على معاجزها وكراماتها المحيرة للعقول والأفكار سواء في حياتها أو بعد شهادتها (عليها السلام) وما أنبأت به من غيب وأسرار تعجز أكثر العقول البشرية عن الإحاطة بها والإلمام بحقائق دقائقها، وما كانت عليه من أخلاق عالية وشرف رفيع، وسمو أدب وكرامة نفس وسخاء طبع لا مثله سخاء وعبادة لا نظير لها، وعلى هذا الأساس سيكون كلامنا في هذا المقام في أمرين وهما: (1) - معاجزها في حياتها (عليها السلام). (2) - أخلاقها (عليها السلام). معاجزها في حياتها (عليها السلام) * روي أن سلمان قال: كانت فاطمة (عليها السلام) جالسة قدامها رحى تطحن بها الشعير، وعلى عمود الرحى دم سائل، والحسين في ناحية الدار (يتضور من الجوع). فقلت: يا بنت رسول الله، دبرت كفاك، وهذه فضة، فقالت: أوصاني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تكون الخدمة لها يوما، فكان أمس يوم خدمتها. قال سلمان: قلت إني مولى عناقة، إما أنا أطحن الشعير أو أسكت الحسين لك؟ فقالت: أنا بتسكيته أرفق، وأنت تطحن الشعير. فطحنت شيئا من الشعير، فإذا أنا بالإقامة، فمضيت وصليت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما فرغت قلت لعلي ما رأيت، فبكى وخرج، ثم عاد فتبسم. فسأله عن ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: دخلت على فاطمة وهي مستلقية لقفاها،
341 والحسين نائم على صدرها، وقدامها رحى تدور من غير يد. فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: يا علي، أما علمت أن لله ملائكة سيارة في الأرض يخدمون محمدا وآل محمد إلى أن تقوم الساعة (1). * وروي عن أسامة بن زيد، قال: افتقد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات يوم عليا، فقال: اطلبوا إلي أخي في الدنيا والآخرة، اطلبوا إلي فاصل الخطوب اطلبوا إلي المحكم في الجنة في اليوم المشهود، اطلبوا إلي حامل لوائي في المقام المحمود. قال أسامة: فلما سمعت من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك، بادرت إلى باب علي، فناداني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من خلفي: يا أسامة، عجل علي بخبره وذلك بين الظهر والعصر. فدخلت فوجدت عليا كالثوب الملقى لاطيا بالأرض، ساجدا يناجي الله تعالى، وهو يقول: سبحان الله الدائم، فكاك المغارم، رزاق البهائم، ليس له في ديمومته ابتداء، ولا زوال ولا انقضاء. فكرهت أن أقطع عليه ما هو فيه حتى يرفع رأسه، وسمعت أزيز الرحى فقصدت نحوها لأسلم على فاطمة (عليها السلام) وأخبرها بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعلها، فوجدتها راقدة على شقها الأيمن، مخمرة وجهها بجلبابها - وكان من وبر الإبل - وإذا الرحى تدور بدقيقها، وإذا كف يطحن عليها برفق، وكف أخرى تلهي الرحى، لها نور، لا أقدر أن أملي عيني منها، ولا أرى إلا اليدين بغير أبدان، فامتلأت فرحا بما رأيت من كرامة الله لفاطمة (عليها السلام). فرجعت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتباشير الفرح في وجهي بادية، وهو في نفر من أصحابه، قلت: يا رسول الله! انطلقت أدعو عليا، فوجدته كذا وكذا، وانطلقت نحو فاطمة (عليها السلام) فوجدتها راقدة على شقها الأيمن. ورأيت كذا وكذا! فقال: يا أسامة! أتدري من الطاحن، ومن الملهي لفاطمة؟ إن الله قد غفر لبعلها بسجدته سبعين مغفرة، واحدة منها لذنوبه ما تقدم منها وما
(1) الخرائج والجرائح: 530 / ح 6. 342 تأخر، وتسعة وستين مذخورة لمحبيه، يغفر الله بها بها ذنوبهم يوم القيامة. وإن الله تعالى رحم ضعف فاطمة لطول قنوتها بالليل، ومكابدتها للرحى والخدمة في النهار، فأمر الله تعالى وليدين من الولدان المخلدين أن يهبطا في أسرع من الطرف، وإن أحدهما ليطحن، والآخر ليلهي رحاها. وإنما أرسلتك لترى وتخبر بنعمة الله علينا، فحدث يا أسامة! لو تبديا لك لذهب عقلك من حسنهما، وإنما سألتني خادما فمنعتها، فأخدمها الله بذلك سبعين ألف ألف وليدة في الجنة، الذين رأيت منهن. وإنا من أهل بيت اختار الله لنا الآخرة الباقية على الدنيا الفانية (1) * وعن حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، عن أنس قال: سألني الحجاج بن يوسف عن حديث عائشة، وحديث القدر التي رأت في بيت فاطمة بنت سول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي تحركها بيدها، قلت: نعم أصلح الله الأمير دخلت عائشة على فاطمة (عليها السلام) وهي تعمل للحسن والحسين عليهما السلام حريرة بدقيق ولبن وشحم، في قدر، والقدر على النار يغلي (وفاطمة صلوات الله عليها) تحرك ما في القدر بإصبعها، والقدر على النار يبقبق (2). فخرجت عائشة فزعة مذعورة، حتى دخلت على أبيها، فقالت: يا أبه، إني رأيت من فاطمة الزهراء أمرا عجيبا [عجبا]، رأيتها وهي تعمل في القدر، والقدر على النار يغلي، وهي تحرك ما في القدر بيدها! فقال لها: يا بنية! اكتمي، فإن هذا أمر عظيم. فبلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فصعد المنبر، وحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الناس يستعظمون ويستكثرون ما رأوا من القدر والنار، والذي بعثني بالرسالة، واصطفاني بالنبوة، لقد حرم الله تعالى النار على لحم فاطمة، ودمها، وشعرها، وعصبها، [وعظمها] وفطم من النار ذريتها وشيعتها. إن من نسل فاطمة من تطيعه النار، والشمس، والقمر، والنجوم، والجبال، وتضرب الجن بين يديه بالسيف، وتوافي إليه الأنبياء بعهودها، وتسلم إليه الأرض كنوزها، وتنزل عليه من السماء بركات ما فيها
(1) الثاقب في المناقب: 291 ح 249. (2) البقبقة: حكاية صوت القدر في غليانه (تاج العروس: 6 / 297). 343 . الويل لمن شك في فضل فاطمة. [لعن الله من يبغضها] لعن الله من يبغض بعلها، ولم يرض بإمامة ولدها. إن لفاطمة يوم القيامة موقفا، ولشيعتها موقفا. وإن فاطمة تدعى فتكسى، وتشفع فتشفع، على رغم كل راغم (1). * روي عن جابر بن عبد الله قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أقام أياما ولم يطعم طعاما حتى شق ذلك عليه، فطاف في ديار أزواجه فلم يصب عند إحداهن شيئا، فأتى فاطمة فقال: يا بنية! هل عندك شئ آكله، فإني جائع؟ قالت: لا - والله - بنفسي وأمي. فلما خرج عنها، بعثت جارية لها رغيفين وبضعة لحم، فأخذته ووضعته في جفنة وغطت عليها، وقال: لأوثرن بها بهذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فرجع إليها فقالت: قد أتانا الله بشئ فخبأته لك، فقال: هلمي يا بنية، فكشفت الجفنة، فإذا هي مملوءة خبزا ولحما، فلما نظرت إليه بهتت وعرفت أنه من عند الله، فحمدت الله، وصلت على نبيه أبيها، وقدمته إليه فلما رآه حمد الله. وقال: من أين لك هذا؟ قالت: هو من عند الله، * (إن الله يزرق من يشاء بغير حساب) * (2). فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى علي، فدعاه وأحضره، وأكل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين، وجميع أزواج النبي حتى شبعوا. قالت فاطمة (عليها السلام): وبقيت الجفنة كما هي، فأوسعت منها على جميع جيراني، جعل الله فيها بركة وخيرا كثيرا (3). * وعن أبي الفرج محمد بن أحمد المكي، عن المظفر بن أحمد بن عبد الواحد، عن محمد بن علي الحلواني، عن كريمة بنت أحمد بن محمد الروندي، وأخبرني أيضا به عاليا قاضي القضاة محمد بن الحسين البغدادي، عن الحسين ابن
(1) العوالم: 1 / 198. (2) آل عمران: 37. (3) الخرائج والجرائح: 528 ح 3، عنه البحار: 43 / 27 ح 30. ورواه في الثاقب في المناقب: 295 بإسناده عن زينب، والعرائس: 57، ومقتل الحسين: 1 / 57، وفرائد السمطين: 2 / 51 ، وابن كثير في البداية والنهاية: 6 / 111 وفي تفسيره: 2 / 222، والدر المنثور: 2 / 20، وروح المعاني: 3 / 124، عن بعضها الإحقاق: 3 / 538، و 10 / 314. 344 محمد بن علي الزينبي، عن الكريمة فاطمة بنت أحمد بن محمد المروزية بمكة حرسها الله تعالى، عن أبي علي زاهر بن أحد، عن معاذ بن يوسف الجرجاني، عن أحمد بن محمد بن غالب، عن عثمان بن أبي شيبة، عن نمير، عن مجالد، عن ابن عباس، قال: خرج أعرابي من بني سليم يتبدى في البرية، فإذا هو بضب قد نفر من بين يديه، فسعى وراءه حتى اصطاده، ثم جعله في كمه، وأقبل يزدلف نحو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - إلى أن قال - فقال: من يزود الأعرابي، وأضمن له على الله عز وجل زاد التقوى. قال: فوثب إليه سلمان الفارسي فقال: فداك أبي وأمي وما زاد التقوى؟ قال: يا سلمان، إذا كان آخر يوم من الدنيا، لقنك الله عز وجل قول: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن أنت قلتها لقيتني ولقيتك، وإن أنت لم تقلها لم تلقني ولم ألقك أبدا. قال: فمضى سلمان حتى طاف تسعة أبيات من بيوت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم، يجد عندهن شيئا، فلما أن ولى راجعا نظر إلى حجرة فاطمة (عليها السلام). فقال: إن يكن خير فمن منزل فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقرع الباب، فأجابته من وراء الباب: من بالباب؟ فقال لها: أنا سلمان الفارسي. فقالت له: يا سلمان! وما تشاء؟ فشرح قصة الأعرابي والضب مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). قالت له: يا سلمان! والذي بعث محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) بالحق نبيا إن لنا ثلاثا ما طعمنا، وإن الحسن والحسين قد اضطربا علي من شدة الجوع، ثم رقدا كأنهما فرخان منتوفان، ولكن لا أرد الخير [إذا نزل الخير ببابي] يا سلمان، خذ درعي هذا، ثم امض به إلى شمعون اليهودي، وقل له: تقول فاطمة بنت محمد: أقرضني عليه صاعا من تمر وصاعا من شعير أرده عليك إن شاء الله تعالى. قال: فأخذ سلمان الدرع، ثم أتى به إلى شمعون اليهودي، قال: فأخذ شمعون الدرع، ثم جعل يقلبه في كفه وعيناه تذرفان بالدموع وهو يقول: يا سلمان! هذا هو الزهد في الدنيا، هذا الذي أخبرنا به موسى بن عمران في التوراة، أنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فأسلم وحسن إسلامه. ثم دفع إلى سلمان صاعا من تمر، وصاعا من شعير، فأتى به سلمان إلى فاطمة (عليها السلام)،
345 فطحنته بيدها، واختبزته، ثم أتت به إلى سلمان، فقالت له: خذه وامض به إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). قال: فقال لها سلمان: يا فاطمة، خذي منه قرصا تعللين به الحسن والحسين. فقالت: يا سلمان، هذا شئ أمضيناه لله عز وجل لسنا نأخذ منه شيئا. قال: فأخذه سلمان، فأتى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما نظر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى سلمان قال له: يا سلمان، من أين لك هذا؟ قال: من منزل بنتك فاطمة. قال: وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يطعم طعاما منذ ثلاث. قال: فوثب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى ورد إلى حجرة فاطمة، فقرع الباب، وكان إذا قرع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الباب لا يفتح له الباب إلا فاطمة، فلما أن فتحت له الباب، نظر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى صفار وجهها وتغير حدقتيها. فقال لها: يا بنية، ما الذي أراه من صفار وجهك وتغير حدقيك؟ فقالت: يا أبة، إن لنا ثلاثا ما طعمنا طعاما، وإن الحسن والحسين قد اضطربا علي من شدة الجوع، ثم رقدا كأنهما فرخان منتوفان. قال: فأنبهما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخذ واحدا على فخذه الأيمن، والآخر على فخذه الأيسر، وأجلس فاطمة (عليها السلام) بين يديه واعتنقها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ودخل علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فاعتنق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من ورائه، ثم رفع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طرفه نحو السماء، فقال: إلهي وسيدي ومولاي، هؤلاء أهل بيتي، اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا! قال: ثم وثبت فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى دخلت إلى مخدع لها، فصفت قدميها، فصلت ركعتين ثم رفعت باطن كفيها إلى السماء وقالت: إلهي وسيدي، هذا محمد نبيك، وهذا علي ابن عم نبيك، وهذان الحسن والحسين سبطا نبيك، إلهي أنزل علينا مائدة [من السماء] كما أنزلتها علي بني إسرائيل، أكلوا منها وكفروا بها، اللهم أنزلها علينا فإنا بها مؤمنون. قال ابن عباس: - والله - ما استتمت الدعوة، فإذا هي بصحفة من ورائها يفور قتارها، وإذا قتارها (1) أزكى من المسك الأذفر، فاحتضنتها. ثم أتت بها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي والحسن والحسين، فلما أن نظر إليها علي بن أبي
(1) القتار: هو ريح القدر والشواء ونحوهما (النهاية: 4 / 12). 346 طالب (عليه السلام) قال لها: يا فاطمة، من أين لك هذا؟ ولم يكن أجد عندك شيئا! فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): كل يا أبا الحسن، ولا تسأل، الحمد لله الذي لم يمتني حتى رزقني ولدا، مثلها مثل مريم بنت عمران * (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب) * (1). قال: فأكل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي والحسن والحسين، وخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، الحديث (2). وعن عبيد بن كثير - معنعنا - عن أبي سعيد الخدري قال: أصبح علي بن أبي طالب (عليه السلام) ذات يوم فقال: يا فاطمة! هل عندك شئ تغذينه؟ قالت: لا، والذي أكرم أبي بالنبوة، وأكرمك بالوصية، ما أصبح الغداة عندي شئ وما كان شئ أطعمنا مذ يومين إلا شئ كنت أوثرك به على نفسي وعلى ابني هذين الحسن والحسين (عليهما السلام). فقال علي (عليه السلام): يا فاطمة! إلا كنت أعلمتني فأبغيكم شيئا؟ فقالت: يا أبا الحسن! أني لأستحي من إلهي أن أكلف نفسك ما لا تقدر عليه. فخرج علي بن أبي طالب (عليه السلام) من عند فاطمة (عليها السلام) واثقا بالله بحسن الظن بالله فاستقرض دينارا، فبينا الدينار في يد علي بن أبي طالب (عليه السلام) يريد أن يبتاع لعياله ما يصلحهم، فتعرض له المقداد بن الأسود في يوم شديد الحر، قد لوحته الشمس من فوقه وآذته من تحته، فلما رآه علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنكر شأنه، فقال: يا مقداد! ما أزعجك هذه الساعة من رحلك! قال: يا أبا الحسن خلي سبيلي ولا تسألني عما ورائي. فقال: يا أخي إنه لا يسعني أن تجاوزني حتى أعلم علمك. فقال: يا أبا الحسن! رغبة إلى الله وإليك أن تخلي سبيلي ولا تكشفني عن حالي. فقال
(1) آل عمران: 37. (2) البحار: 43 / 69 ح 61، وقد قال في البحار بعد هذه الرواية: أقول: وجدت هذا الحديث في كتاب قديم من مؤلفات العامة، قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن علي الطرشيشي ببغداد سنة 84، قال: حدثتنا كريمة بنت أحمد بن محمد بن حاتم المروزي بمكة حرسها الله بقراءتها علينا في المسجد الحرام في ذي الحجة 431، قالت: أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد الفقيه - الخ. يراجع البحار. ورواه في مقتل الحسين: 1 / 71، وفي نزهة المجالس: 1 / 224 (نحوه)، عنه الإحقاق: 10 / 318، المستدرك: 10 / 310 ح 1 (قطعة). 347 له: يا أخي أنه لا يسعك أن تكتمني حالك. فقال: يا أبا الحسن! أما إذا أبيت فوالذي أكرم محمدا بالنبوة، وأكرمك بالوصية، ما أزعجني من رحلي، إلا الجهد، وقد تركت عيالي يتضوعون جوعا، فلما سمعت بكاء العيال لم تحملني الأرض، فخرجت مهموما راكبا رأسي، هذه حالي وقصتي، فانهملت عينا، علي (عليه السلام) بالبكاء حتى بلت دمعته لحيته، فقال له: أحلف بالذي حلفت، ما أزعجني إلا الذي أزعجك من رحلك، فقد استقرضت دينارا، فقد آثرتك على نفسي، فدفع الدينار إليه، ورجع حتى دخل مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فصلى فيه يوم الظهر والعصر والمغرب. فلما قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المغرب مر بعلي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو في الصف الأول، فغمزه برجله، فقام علي (عليه السلام) متعقبا خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى لحقه على باب من أبواب المسجد، فسلم عليه فرد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه السلام. فقال: يا أبا الحسن! هل عندك شئ نتعشاه فنميل معك؟ فمكث مطرقا لا يحير جوابا، حياء من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهو يعلم ما كان من أمر الدينار ومن أين أخذه، وأين وجهه، وقد كان أوحى الله تعالى إلى نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتعشى الليلة عند علي ابن أبي طالب (عليه السلام). فلما نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى سكوته، فقال: يا أبا الحسن! ما لك لا تقول: لا، فانصرف، أو تقول: نعم، فأمضي معك؟ فقال - حياء وتكرما -: فاذهب بنا؟ فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يد علي بن أبي طالب (عليه السلام) فانطلقا حتى دخلا على فاطمة الزهراء (عليها السلام) وهي في مصلاها قد قضت صلاتها، وخلفها جفنة تفور دخانا، فلما سمعت كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في رحلها، خرجت من مصلاها، فسلمت عليه، وكانت أعز الناس إليه، فرد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومسح على رأسها، وقال لها: يا بنتاه! كيف أمسيت رحمك الله. قالت: بخير، قال عشينا غفر الله لك، وقد فعل. فأخذت الجفنة فوضعتها بين يدي النبي وعلي بن أبي طالب عليهما الصلاة والسلام. فلما نظر علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى الجفنة والطعام وشم ريحه، رمى فاطمة ببصره رميا شحيحا (1) قالت: له فاطمة سبحان الله، ما أشح نظرك وأشده! هل أذنبت فيما بيني
(1) قوله: رميا شحيحا، الشح: البخل مع حرص، وهو لا يناسب المقام إلا بتكلف. ويحتمل أن يكون أصله سحيحا، بالسين المهملة من السح بمعنى: السيلان، كناية عن المبالغة في النظر والتحديق بالبصر وعلى ما في النسخ يحتمل أن يكون من الحرص كناية عن المبالغة في النظر، أو البخل كناية عن النظر بطرف البصر على وجه الغيظ. 348 وبينك ذنبا استوجبت به السخطة؟! قال: وأي ذنب أعظم من ذنب أصبته، أليس عهدي إليك اليوم الماضي وأنت تحلفين بالله مجتهدة، ما طعمت طعاما مذ يومين؟ قال: فنظرت إلى السماء، فقالت: إلهي يعلم في سمائه ويعلم في أرضه أني لم أقل إلا حقا. فقال لها: يا فاطمة! أنى لك هذا الطعام الذي لم أنظر إلى مثل لونه قط، ولم أشم مثل ريحه قط، وما لم آكل أطيب منه قط؟ قال: فوضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كفه الطيبة المباركة بين كتفي علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فغمزها، ثم قال: يا علي! هذا بدل دينارك، وهذا جزاء دينارك من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب. ثم استعبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باكيا، ثم قال: الحمد لله الذي هو أبي لكم أن تخرجا من الدنيا حتى يجزيكما، ويجزيك يا علي، مجرى زكريا، ويجري فاطمة مجرى مريم بنت عمران * (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا) * (1). * وروي عن يوسف بن يحيى، عن أبيه، عن جده، قال: رأيت رجلا بمكة شديد السواد له بدن، وخلق غابر، وهو ينادي: أيها الناس، دلوني على أولاد محمد، فأشار إليه بعضهم وقال: ما لك؟ قال: أنا فلان بن فلان. قالوا: كذبت إن فلانا كان صحيح البدن صبيح الوجه، وأنت شديد السواد غابر الخلق. قال: وحق محمد أني لفلان، اسمعوا حديثي. اعلموا أني كنت جمال الحسين، فلما أن صرنا إلى بعض المنازل برز للحاجة وأنا معه فرأيت تكة لباسه وكان أهداها ملك فارس حين تزوج بنت أخيه شاه زنان بنت يزدجرد، فمنعني هيبة أسألها إياه، فدرت حوله لعلي أسرقها، فلم أقدر عليها. فلما صار القوم بكربلاء، وجرى ما جرى، وصارت أبدانهم ملقاة تحت سنابك
(1) كشف الغمة: 1 / 469، أمالي الطوسي: 2 / 228، عنها البحار: 43 / 59 ح 51. تأويل الآيات: 1 / 108 ح 15، والبحار: 96 / 147 ح 25، وأخرجه في ذخائر العقبى: 45، وكفاية الطالب: 367 وينابيع المودة: 199، ملخصا عن الأربعين الطوال الدمشقي، ورواه في أهل البيت: 122، والإحقاق: 10 / 323 و ج 19 / 120. ورواه في المعيار والموازنة: 236، وتوضيح الدلائل عنهما الإحقاق: 18 / 50. 349 الخيل، أقبلنا نحو الكوفة راجعين، فلما أن صرت إلى بعض الطريق ذكرت التكة، فقلت في نفسي: قد خلا ما عنده، فصرت إلى موضع المعركة، فقربت منه. فإذا هو مرمل بالدماء، قد حز رأسه من القفا، وعليه جراحات كثيرة من السهام والرماح، فمددت يدي إلى التكة وهممت أن أحل عقدها، فرفع يده وضرب بها يدي، فكادت أوصالي وعروقي تتقطع، ثم أخذ التكة من يدي، فوضعت رجلي على صدره وجهدت جهدي لأزيل إصبعا من أصابعه، فلم أقدر، فأخرجت سكينا كان معي، فقطعت أصابعه ثم مددت يدي إلى التكة، وهممت بحلها ثانيا، فرأيت خيلا أقبلت من نحو الفرات، وشممت رائحة لم أشم رائحة أطيب منها، فلما رأيتهم قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، إنما أقبلوا هؤلاء لينظروا إلى كل إنسان به رمق " فيجهزوا عليه ". فصرت بين القتلى، وغاب عني عقلي من شدة الجزع. فإذا رجل يقدمهم - كان وجهه الشمس - وهو ينادي: أنا محمد رسول الله، والثاني ينادي: أنا حمزة أسد الله، والثالث ينادي: أنا جعفر الطيار، والرابع ينادي: أنا الحسن بن علي. وأقبلت فاطمة وهي تبكي وتقول: حبيبي، وقرة عيني، أبكي على رأسك المقطوع، أم على يديك المقطوعتين، أم على بدنك المطروح، أم على أولادك الأسارى. ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أين رأس حبيبي وقرة عيني الحسين، فرأيت الرأس في كف النبي، فوضعه على بدن الحسين، فاستوى جالسا، فاعتنقه النبي وبكى - فذكر الحديث - إلى أن قال -: فمن قطع أصابعك، فقال الحسين (عليه السلام): هذا الذي يختبئ يا جداه - إلى أن قال -: فقال: يا عدو الله! ما حملك على قطع أصابع حبيبي وقرة عيني الحسين - إلى أن قال: - ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): اخسأ يا عدو الله! غير الله لونك، فقمت، فإذا أنا بهذه الحالة (1). * وروي أن رجلا كان محبوسا بالشام مدة طويلة مضيقا عليه، فرأى في منامه كان الزهراء صلوات الله عليها أتته فقالت: أدع بهذا الدعاء، فتعلمه ودعا به فتخلص ورجع إلى منزله وهو: اللهم بحق والعرش ومن علاه، وبحق الوحي ومن أوحاه ، وبحق النبي من نباه، وبحق البيت ومن بناه، ويا سامع كل صوت، ويا جامع كل فوت،
(1) مدينة المعاجز: 239. 350 يا بارئ النفوس بعد الموت، صل على محمد وأهل بيته، وآتنا وجميع المؤمنين والمؤمنات في مشارق الأرض ومغاربها فرجا من عندك، عاجلا بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبدك ورسولك، صلى الله عليه وعلى ذريته الطيبين الطاهرين وسلم تسليما (1). وفي جواهر العقدين للشريف السمهودي المصري من العجائب أن أبا الحسن نصر بن عيين الشاعر توجه إلى مكة المعظمة ومعه متاع ومال، فخرج عليه بعض الأشراف من بني داود المقيمين بوادي الصغرى فأخذوا ما كان معه وجرحوه فكتب قصيدة إلى الملك، الناصر أن يذهب بالساحل ويفتحه من أيدي الإفرنج القصيدة هذه: أغنت صفاتك ذاك المصقع اللسنا * جزت بالجود حد الحسن والمحسنا ولا تقل ساحل الإفرنج اقتحمه * فما يساوي إذا قاسيته عدنا طهر سيفك بيت الله من دنس * وما أحاط به من خسة وخنا ولا تقل إنهم أولاد فاطمة * لو أدركوا آل حرب حاربوا الحسنا فلم أتم هذه القصيدة رأى في النوم فاطمة (عليها السلام) وهي تطوف بالبيت فسلم عليها فلم تجبه، فتضرع إليها وتذلل عندها وسألها عن ذنبه الذي أوجب ذلك، فأنشدت فاطمة (عليها السلام) هذه القصيدة:
(1) البحار: 89 / 365 ح 59، البلد الأمين: 523، الجنة الواقية: 179. 351 حاشا بني فاطمة كلهم * من خسة يعرض أو من خنا وإنما أيام في غدرها * وفعلها السوء أساءت بنا لئن جنا من ولدي واحد * تجعل كل السب عمدا لنا فتب إلى الله فمن يقترف * إثما بنا لا يأمن مما جنا فاصفح لأجل المصطفى أحمد * ولا تثر من آله أعينا فكل ما نالك منهم غدا * تلقى به في الحشر منامنا ثم صب بيدها المباركة المكرمة المقدسة شيئا شبيه الماء على جرحه، ثم أيقظ من منامه فرأى أن جراحته التي كانت في بدنه صارت ملتئمة صحيحة، فكتب فورا قصيدة فاطمة (عليها السلام) التي أنشدتها في رؤياه، ثم قال معتذرا: عذر إلى بنت نبي الهدى * تصفح عن ذنب محب جنا وتوبة تقبلها عن أخي * مقالة توقعها في العنا والله لو قطعني واحد * منهم بسيف البغي أو بالقنا لم أره بفعله ظالما * بل إنه في فعله أحسنا فكتب هذه الحكاية إلى ملك اليمن فأرسل الملك الهدايا الكثيرة لهذه الأشراف وأهل مكة وهذه القصيدة مشهورة بين الناس ومسطورة في ديوان ابن عيين (1). * وروي أن عليا (عليها السلام) أستقرض من يهودي شعيرا، فاسترهنه شيئا فدفع إليه ملاءة (2) فاطمة، رهنا، وكانت من الصوف فأدخلها اليهودي إلى داره ووضعها في البيت. فلما كانت الليلة دخلت زوجته البيت الذي فيه الملاءة بشغل، فرأت نورا ساطعا في البيت أضاء به كله فانصرفت إلى زوجها، فأخبرته بأنها رأت في ذلك البيت ضوءا عظيما فتعجب اليهودي من ذلك وقد نسي أن في بيته ملاءة فاطمة. فنهض مسرعا ودخل البيت فإذا ضياء الملاءة ينشر شعاعها كأنه يشتعل من بدر منير، يلمع من قريب فتعجب من ذلك، فأنعم النظر في موضع الملاءة، فعلم أن ذلك النور من ملاءة فاطمة (عليها السلام)، فخرج اليهودي يعدو إلى أقربائه وزوجته تعدوا إلى أقربائها
(1) ينابيع المودة: 367. (2) الملاءة - بالضم والمد -: الإزار والريطة. 352 فاجتمع ثمانون من اليهود فرأوا ذلك فأسلموا كلهم (1). * وعن سلمان الفارسي: أنه لما استخرج أمير المؤمنين من منزله، خرجت فاطمة حتى انتهت إلى القبر، فقالت خلوا عن ابن عمي فوالذي بعث محمدا بالحق لئن لم تخلوا عنه لأنشرن شعري ولأضعن قميص رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على رأسي، ولأصرخن إلى الله، فما ناقة صالح بأكرم على الله من ولدي. قال سلمان: فرأيت والله أساس حيطان المسجد تقلعت من أسفلها، حتى لو أراد الرجل أن ينفذ من تحتها نفذ فدنوت منها وقلت: يا سيدتي ومولاتي: إن الله تبارك وتعالى بعث أباك رحمة فلا تكوني نقمة، فرجعت الحيطان حتى سطعت الغبرة من أسفلها فدخلت في غياشيمنا (2). أخلاقها (عليها السلام) تجسدت في شخصية فاطمة (عليها السلام) مختلف أبعاد الأخلاق الإسلامية التي دعت وأكدت عليها التعاليم القرآنية، ولقد ضربت المثل الأعلى للمرأة المؤمنة الكاملة، وهذا ما نراه واضحا، وجليا من خلال استقراء سيرتها (عليها السلام) وفي مختلف الأبعاد الإنسانية، فقد ورد عن علي (عليه السلام) قال: كنا جلوسا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أخبروني أي شئ خير للنساء؟ فعيينا بذلك حتى تفرقنا، فرجعت إلى فاطمة، فأخبرتها الذي قال لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس أحد منا علمه، ولا عرفه. قالت: ولكني أعرفه: خير للنساء أن لا يرين الرجال ولا يراهن الرجال فرجعت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت يا رسول الله، سألتنا: أي شئ خير للنساء؟ وخيرهن أن لا يرين الرجال ولا يراهن الرجال. قال: من أخبرك، فلم تعلمه وأنت عندي؟ قلت فاطمة فأعجب ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال إن فاطمة بضعة مني (3).
(1) المناقب: 3 / 117، والخرائج والجرائح: 357 ح 13. (2) المناقب: 3 / 118. (3) كشف الغمة: 1 / 466، مقتل الخوارزمي: 1 / 62، حلية الأولياء: 2 / 40 أرجح المطالب: 244، إسعاف الراغبين: 187. 353 أقول: والذي يظهر من هذه الأحاديث أن فاطمة حددت الضابطة الكلية التي فيها خير المرأة والصلاح لها في الحياة الدنيا والآخرة ذلك هو أن لا يرى المرأة رجل ولا ترى رجل، وفي أمر ورد أيضا عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) استأذن أعمى على فاطمة (عليها السلام) فحجبته. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لها: لم حجبته وهو لا يراك؟ فقالت (عليها السلام): إن لم يكن يراني فأني أراه، وهو يشم الريح، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أشهد إنك بضعة مني (1). وسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه عن المرأة، ما هي؟ قالوا: عورة: قال فمتى تكون أدنى من ربها؟ فلم يدروا، فلما سمعت فاطمة (عليها السلام) ذلك قالت: أدنى ما تكون من ربها أن تلزم قعر بيتها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن فاطمة بضعة مني (2). أقول: يظهر من هذا الحديث أن الرسول سأل أصحابه ولم يكن فيهم علي (عليه السلام)، وهذا معارض للحديث الأول من حيثية وجود علي (عليه السلام)، فالحديث الأول بين أن الإمام علي يعرف جواب السؤال الذي سأله الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا مخالف لكثير من الأحاديث التي تبين مقام علي (عليه السلام) العلمية ولذا سيكون من حيث الدلالة الحديث الأخير الذي قدمناه وهو الأصح، وإلا لو كان علي (عليه السلام) حاضرا لأجاب على سؤال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وخاصة نحن نعلم أن علي (عليه السلام) وفاطمة أحدهما كفوا للآخر في كل الأمور التي أقرأتها الأحاديث التي وردت عن لسان المعصومين (عليهم السلام). وأعطي لك شاهدا واحدا من خلال استقراء أحاديث العلماء والصالحين في قضية أخلاق فاطمة الزهراء (عليها السلام) تاركا لك مراجعة أقوال الآخرين فضلا عن أحاديث أهل البيت الذي هي بحر عميق لمن أراد الغوص فيه واستخراج الدرر المتناثرة فيه، ومن هذه الأقوال (3). لم تكن الزهراء امرأة عادية كانت امرأة روحانية امرأة ملكوتية... كانت إنسانا بتمام معنى الكلمة نسخة إنسانية متكاملة... امرأة حقيقية كاملة... حقيقة الإنسان الكامل، لم تكن امرأة عادية، بل هي كائن ملكوتي تحلى في الوجود بصورة
(1) نوادر الراوندي: 13. (2) البحار: 43 / 92. (3) المرأة في فكر الإمام الخميني: 23 - 24. 354 إنسان... بل كائن إلهي جبروتي ظهر على هيئة امرأة... فقد اجتمعت في هذه المرأة جميع الخصال الكمالية المتصورة للإنسان وللمرأة. إنها المرأة التي تتحلى بجميع خصال الأنبياء... المرأة التي لو كانت رجلا لكانت نبيا... لو كانت رجلا لكانت بمقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). غدا يوم المرأة حيث ولدت جميع أبعاد منزلتها وشخصيتها، غدا ذكرى مولد كائن الذي اجتمعت فيه المعنويات، والمظاهر الملكوتية، والإلهية والجبروتية والملكية والإنسية، غدا ميلاد الإنسان لجميع الإنسانية من معنى، غدا ميلاد امرأة بكل ما تحمله كلمة " المرأة " من معنى إيجابي. أن المرأة تتسم بأبعاد مختلفة كما هو الرجل، وإن هذا المظهر الصوري الطبيعي يمثل أدنى مراتب الإنسان أدنى مراتب المرأة، وأدنى مراتب الرجل، بيد أن الإنسان يسمو في مدارج الكمال انطلاقا من هذه المرتبة المتدنية، فهو في حركة دؤبة من مرتبة الطبيعة إلى مرتبة الغيب، إلى الفناء في الإلهية وأن هذا المعنى متحقق في الصديقة الزهراء، التي انطلقت في حركتها من مرتبة الطبيعة وطوت مسيرتها التكاملية بالقدرة الإلهية، بالمدد الغيبي وبتربية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لتصل إلى مرتبة دونها الجميع. امرأة هي مغفرة بيت النبوة وتسطع كما تسطع الشمس في جبين الإسلام العزيز، امرأة تماثل فضائلها الرسول الأكرم والعترة الطاهرة غير متناهية... امرأة لا يفي حقها من الثناء كل من يعرفها مهما كانت نظرته، ومهما ذكر لأن الأحاديث التي وصلتنا عن بيت النبوة هي على قدر أفهام المخاطبين، واستيعابهم فمن غير الممكن صب البحر في جرة، ومهما تحدث عنها الآخرون فهو على قدر فهمهم ولا يضاهي منزلتها. إذن فمن الأولى أن نمر سريعا من هذا الوادي العجيب. وكانت الصديقة فاطمة (عليها السلام) عابدة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، فمتى ما كانت تقوم في محرابها بين يدي الله تعالى، زهر عند ذلك نورها لملائكة السماوات والأرض كما نير هو نور الكواكب لأهل الأرض (1)، وروت هي سلام الله عليها أنها قالت: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إن في الجمعة لساعة لا يراقبها رجل مسلم يسأل الله عز وجل فيها خيرا إلا أعطاه إياه. فقلت: يا رسول الله أي ساعة هي؟ قال إذا تدلى
(1) أمالي الصدوق: 394 ح 18 بشارة المصطفى: 218. 355 نصف عين الشمس للغروب. لذا نجدها سلام الله عليها كانت تقول لغلامها اصعد على الظراب فإذا رأيت نصف عين الشمس قد تدلى للغروب فأعلمني حتى ادعوا ولذلك نجد في كتب الأدعية والزيارة استحباب قراءة دعاء السمات آخر ساعة من يوم الجمعة تأسيا بما ورد عن لسان فاطمة عن أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وورد عن الإمام الحسن (عليها السلام) أنه قال: رأيت أمي فاطمة (عليها السلام) قامت في محرابها ليلة جمعتها فلم تزل راكعة ساجدة حتى أنصع عمود الصبح وسمعتها تدعو للمؤمنين وتسميهم وتكثر الدعاء لهم ولا تدعو لنفسها بشئ فقلت لم لهذا يا أماه، لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟! فقالت: يا بني الجار ثم الدار (1)، وأخيرا قول الحسن البصري الذي قال في حقها (عليها السلام): " ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة (عليها السلام) كانت تقوم حتى تتورم قدماها " (2).
(1) علل الشرايع: 1 / 181 ح 1، دلائل الإمامة (56). (2) المناقب: 3 / 119، ربيع الأبرار: 2 / 104. 356 المستوى الثالث المعرفة العلمية والفكرية لها (عليها السلام) ألا هل إلى طول الحياة سبيل * وأنى وهذا الموت ليس يحول وأني وإن أصبحت بالموت موقنا * فلي أمل من دون ذاك طويل وللدهر ألوان تروح وتغتدي * وأن نفوسا بينهن تسيل ومنزل حق لا معرج دونه * لكل امرئ منها إليه سبيل قطعت بأيام التعزز ذكره * وكل عزيز ما هناك ذليل أرى علل الدنيا علي كثيرة * وصاحبها حتى الممات عليل وأني وإن شطت بي الدار نازحا * وقد مات قبلي بالفراق جميل وقد قال في الأمثال في البين قائل * أضر به يوم الفراق رحيل لكل اجتماع من خليلين فرقة * وكل الذي دون الفراق قليل وأن افتقادي فاطما بعد أحمد * دليل على أن لا يدوم خليل وكيف هناك العيش من بعد فقدهم * لعمرك شئ ما إليه سبيل (1) وليس جليلا رزء مال وفقده * ولكن رزء الأكرمين جليل يتساوى الناس في الحقوق والواجبات من جهة التشريع الإسلامي ومنطلقاته الأصلية، فهم سواسية كأسنان المشط في المظهر الخارجي، ولكن من حيث حقيقة وجوهر كل إنسان تختلف من شخصية إلى أخرى، وقديما قيل: الناس مخابر، وليسوا بمناظر أي الإنسان بجوهره وحقيقته، وذلك أن المخبر يكشف عن سلوك الإنسان ويبدو على سيرته الذاتية بشكل واضح لا لبس فيه.. فما أضمر ابن آدم شيئا إلا وظهر
(1) البحار: ج 43 / ص 216، عن الديوان المنسوب لأمير المؤمنين أنشدها بعد وفاة الصديقة فاطمة الزهراء عليها السلام ولم يذكر الجامع للديوان المنسوب لأمير المؤمنين عليه السلام من هذه القصيدة سوى ثلاثة أبيات فقط. 357 على فلتات لسانه وصفحات وجهه، كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) ذلك في نهج البلاغة " تكملوا تعرفوا فإن المرء مخبوء تحت طيات لسانه " فالكلمة تعرف حقيقة الإنسان وطبيعة شخصيته، حيث أثبت العلم النفسي الحديث أن معرفة أي حقيقة لأي شخصية يكون عبر توجيه بعض الأسئلة إليه ومن خلال الجواب عليها يظهر طبع شخصيتها وحقيقتها ومدى سعتها واستيعابها، وهل هي شخصية عالية ذا همة كبيرة أم لا؟ وغير ذلك من الأمور المعمة، ذلك أن الكلمة التي تخرج من الفم تحمل معها صورة قائلها ونبضات قلبه، وخلجات نفسه ودخائل شخصيته، وهذه حقيقة معروفة لدى علماء النفس والتربية والاجتماع، كل ذلك نقوله لكي نهتدي إلى سواء السبيل. وعلى هذا الأساس إننا نهتدي إلى معرفة الشخصية العلمية والفكرية بها سلام الله عليها من خلال عدة أمور مهمة ومن خلالها نعبر إلى شخصيتها وندخل في فهم حقيقتها وهذه الأمور هي: * الأمر الأول: يمكن معرفة شخصيتها من خلال سيرتها الذاتية التي يرويها لنا أهل البيت (عليهم السلام) والأقربون من ذويها، ذلك لأن أهل البيت أدرى بما فيه وأهل مكة أدرى بشعابها كما يقول المثل. إذ أن هناك أمور في الحياة صحيحة وثابتة وفق مقاييس العقل والبرهان ولا تحتاج إلى إثبات إثبات أحقيتها وأصحيتها إلى دليل من الخارج ولا تحتاج إلى إثبات صحة دعواها أيضا إلى شاهد فدليلها مستمد منها، ومن هذه الأمور الثابتة في حياة الإنسان الكامل " فاطمة الزهراء " هي سيرتها الذاتية التي تثبت من خلالها معرفتها الحقيقية فهذه السيرة هي السبيل الصحيح للوقوف على حياتها (عليها السلام). فهي الضابط والمعيار الصحيح للحكم عليها من خلالها. فالإنسان لا يعرف المعرفة الصحيحة إلا من خلال هذه السيرة على وجه الدقة أما بقية المسائل الأخرى في حياة المسائل الأخرى في حياة الإنسان من الشعارات والأطروحات والأدلة والشواهد وغير ذلك لا تمثل سوى الجانب النظري من حياة الإنسان الشخصية، ومدى صدق هذه الدعوى
358 فهي متروكة للجانب التطبيقي في حياته، إذن السيرة الذاتية الصديقة الطاهرة تمثل جانب تطبيقي من حياتها الشخصية على كافة المستويات، ولا نريد الوقوف مع السيرة الذاتية لفاطمة (عليها السلام) في هذا الكتاب بصورة تفصيلية حيث قد أعطينا بعض النماذج للسيرة الذاتية لها في نفس هذا الكتاب وكانت هذه النماذج، على شكل أمور متناثرة في طيات البحوث فلا نقف تفصيليا معها هنا. * الأمر الثاني: يمكن أن نعرف شخصيتها من خلال مواقفها لأن الموقف عمل والعمل ما هو إلا انعكاس لطبيعة شخصية الفرد وهذا ما أثبته التاريخ الإسلامي لفاطمة (عليها السلام) حيث أخبرنا بمواقفها الفذة في جميع الحالات التي مرت بها. فعندما كانت قريش تؤذي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتتعرض له بأنواع المواجهة كانت الزهراء (عليها السلام) تقف إلى جانبه صابرة محتسبة، فيدخل إلى البيت وقد حثى الكافرون التراب على رأسه الشريف، فتستقبله الزهراء (عليها السلام) وتغسل التراب عن رأسه وهي باكية، فيقول لها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تبكي فإن الله ناصر أباك. وعندما رمى أبو لهب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بروث البقر اندفعت فاطمة (عليها السلام) لتذب عن أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتسمع أبا لهب من الكلام ما يتوقف خلاله من الاندفاع بالسخرية برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). كما أنها (عليها السلام) التحقت بأبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد هجرته إلى المدينة مجازفة بحياتها ومضحية بروحها في سبيل نصر الإسلام وإعزاز مبادئه المثلى، ولا يمكن أن يغفل دورها في الوقوف إلى جانب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيام دعوته المباركة، تؤنسه وتزيح عنه الهموم والآلام، وتعيد البسمة إلى وجهه المبارك إذا اشتدت عليه الخطوب. أضف إلى مواقفها الرسالية أيام الحروب وهي صغيرة السن بعد، ففي معركة أحد تكسر رباعية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويشج جبينه، فتقبل الزهراء (عليها السلام) لتغسل وجهه، وتزيل الدماء عن محياه، وتعالج نزيف جراحاته، فقد جاء في صحيح مسلم: " قال سهل بن سعد: جرح وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة عن رأسه، فكانت فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تغسل الدم، وكان علي بن أبي طالب
359 يسكب عليها بالمحن، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة، أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادا ثم ألصقته بالجرح فاستمسك الدم ". ونقل أبي نعيم في (حلية الأولياء) عن أبي ثعلبة أنه قال: " قدم رسول الله من غزاة له، فدخل المسجد فصلى فيه ركعتين، ثم خرج فأتى فاطمة (عليها السلام) فبدأ بها قبل بيوت أزواجه، فاستقبلته فاطمة (عليها السلام) وجعلت تقبل عينيه ووجهه وتبكي " والأعجب من ذلك أن فاطمة (عليها السلام) كانت تهئ لأبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) السلاح في المعركة التي جرت في اليوم القادم. وفي معركة الخندق تقبل على أبيها بأقراص من الخبز معدودة بعد أن بقي أياما بلا طعام، فجاء في ذخائر العقبى: " روي عن علي (عليه السلام) في حفر الخندق عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن فاطمة (عليها السلام) جاءت إليه بكسرة من خبز فرفعتها إليه فقال: ما هذه يا فاطمة؟ قالت: من قرص اختبزته لابنتي جئتك منه بهذه الكسرة. فقال: يا بنية أما أنها لأول طعام دخل في فم أبيك منذ ثلاث ". وفي الفتح المبين نرى الزهراء (عليها السلام) تضرب لأبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) خيمة وتهئ له طعاما ليستحم ويغتسل حتى يزول عن جسده المبارك غبار الطريق، ويرتدي ثيابا نظيفة يخرج بها إلى المسجد الحرام. ومن موقع الأمومة وكونها زوجة وفية مخلصة لعلي (عليه السلام) نرى أنها (عليها السلام) زهدت في الدنيا وترفعت عن الدنيا، ولم يكن لها من هم إلا تحمل المسؤولية الإلهية بجدارة واستحقاق وتجسيد الصفات الإلهية كأمثل ما يكون. فيروى أن عليا (عليه السلام) قد اشترى لها عقدا (عليها السلام) من أموال الفئ، وتقلدته الزهراء (عليها السلام) وتقبلت هذه الهدية من زوجها بسرور، وبينما هي متقلدة ذلك وإذا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يأتي لزيارتها، فسلمت عليه وسلم عليها، إلا أنها وعلى غير المعتاد رأت مسحة من الحزن يقولون ابنة محمد تلبس لباس الجبابرة، ويوصيها أن تذخر ذلك لآخرتها لتكون أسوة في الزهد ومثالا للإيثار والقناعة، فتنزع الزهراء (عليها السلام) ذلك العقد وتتصدق بثمنه في سبيل الله وهي مليئة بالرضا والقناعة. ويروى أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يدخل يوما على فاطمة (عليها السلام) فيراها قد علقت سترا على أحد الأبواب لتزين الدار، فيتألم رسول الله (عليها السلام) لذلك ويقول لابنته: " أني لا أحب أن يأكل أهل بيتي طيباتهم في حياتهم الدنيا ". فتبادر الزهراء (عليها السلام) من حينها للقيام ونزع الستر ممتثلة أوامر أبيها، ومن أورع أمثلة
360 للإيثار ما طفحت به كتب الحديث والتفسير من تقديم الزهراء (عليها السلام) وزوجها وولديها لطعامهم لثلاثة أيام متوالية لمسكين ويتيم وأسير وبقائهم جياعا طيلة هذه المدة قربة لوجه الله الكريم، فنزل بشأنهم: * (إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا، عينا يشرب بها عباد الله ويفجرونها تفجيرا، يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا، ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءا ولا شكورا) *. ومن المواقف التي خلدت من خلالها الزهراء (عليها السلام) الزهد والإيثار والقناعة أنها (عليها السلام) قد طلبت من أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكون مهرها الشفاعة للمذنبين من أمته يوم القيامة، فنزل جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مخبرا إياه بتلبية الله تعالى لطلب فاطمة (عليها السلام) وبما أن درع علي (عليه السلام) كان المهر التقليدي لفاطمة (عليها السلام) فإن أغلى قيمة ذكرت لذلك الدرع هي خمسمائة درهم (1). * الأمر الثالث وتستطيع معرفة فاطمة وشخصيتها الربانية من خلال نور كلامها الشريف الذي هو عبارة عن صورة حقيقية وانعكاس صادق لشخصيتها الإلهية، فمن خلال أقوالها وكلماتها نستطيع أن نستدل عليها، ونكتشف حقيقتها في سهولة ويسر وبساطة. ولقد تجلت أنوار كلماتها المضيئة في مختلف أبواب العلوم والفنون كعلم الفقه والأخلاق وسائر العلوم الأخرى التي تكلمت فيها، أو عرف عنها على اختلاف أنواعها من علوم رتيبة أو غريبة ظاهرة أو باطنة، نقلية أو عقلية، علمية أو أدبية إنسانية أو طبيعية إلهية أو دنيوية فإنها سلام الله عليها قد كشف القناع عن الكثير من الأسرار التي تخص هذا الوجود وبينت الكثير من عجائبه وفي كل ذلك نستطيع أن نلتمس منه وفيه شيئا يسيرا من معرفتها سلام الله عليها أما أنوار كلامها فهذا ما بينته الكثير من الكتب الروائية التي نقلت لنا بين طياتها أحاديثها وعد ذاتها أحرازها وأدعيتها وولايتها وغير ذلك فراجع المطويات للاطلاع والوقوف على هذه الأنوار الفاطمية.
(1) السفينة: 5 " الشيخ جعفر الباقري ". 361 قصيدة للشيخ المنصوري لك ذكرى تمر في كل عام * وعليها تمر مر الكرام هي ذكرى لها نقيم احتفالا * بابتهاج وفرحة وابتسام هي ذكرى ولادة سر فيها * سيد المرسلين خير الأنام بصبوح يشع في الكون شمسا * لا كشمس الضحى وبدر التمام هي شمس والشمس يا صاح فيها * إن تقسمها فما لها من مقام هي شمس الهدى وشمس المعالي * وهي أحرى بالذكر والاحترام من سواها فخلني وسروري * لحظات بعد الدموع السجام إن قلبي من الهموم ملئ * وملئ من الخطوب الجسام ثم أمسى خلي بال طروبا * راقدا بين، نايه، والمدام إن ضرب الأمثال في مثل هذا * هو ضرب، ومن فضول الكلام فالتزامي بحب آل رسول الله * يغني عن البيان التزامي فمصاب الزهراء روحي فداها * هو في وسط قلبي المستظام والحسين الشهيد في الطف ليلا * يتراءى لمقلتي في المنام فكأن السيوف تنهل منه * نصب عيني والظالمون أمامي هو مرمى فوق الصعيد ومرمى * بعد وخز الضبا لرشق السهام فسماحا أم الحسين إذا ما * شط بي مزبر الشجا عن مرامي وطأة الرزء أثقلتني فراحت * دون قصد تخطه أقلامي علمتها أناملي أن تطيل * القول في وذم اللئام فعليك السلام مني يترى * إن تفضلت في قبول سلامي يا ابنة المصطفى ويا خير أم * لبني المرتضى الهداة الكرام إمنحينا بنظرة منك فضلا * فسماها ملبد بالظلام أنت باب النجاة من كل سوء * فادفعي السوء عن ربى الإسلام واحرسينا من خصنا بدعاء * هو أمضى من ألف ألف حسام
362 المستوى الرابع المعرفة النورانية لها (عليها السلام) وذلك بالاطلاع على حقيقة نورها سلام الله عليها والمبدأ الذي منه انحدر وفيه علا ذلك النور، ويمكن مراجعة الكثير من الروايات الواردة في المقام لكي تعرف هذه المعرفة النورانية لها والتي هي كفوا لعلي عليه السلام والذي يقول هو نفسه (عليه السلام) عندما سأله أبو ذر الغفاري وسلمان رضوان الله عليهما عن معرفته بالنورانية فقال (عليه السلام). " إنه لا يستكمل أحد الإيمان حتى يعرفني كنه معرفتي بالنورانية فإذا عرفني بهذه المعرفة فقد امتحن الله قلبه للإيمان وشرح صدره للإسلام وصار عارفا مستبصرا ومن قصر عن معرفة ذلك فهو شاك مرتاب. يا سلمان ويا جندب، قالا: لبيك يا أمير المؤمنين، قال (عليه السلام): معرفتي بالنورانية معرفة الله عز وجل، معرفة الله عز وجل، ومعرفة الله عز وجل معرفتي بالنورانية وهو الدين الخالص الذي قال الله تعالى: * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له حنفاء ويقيمون الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) *. إلى أن يقول (عليه السلام): (يا سلمان ويا جندب، قالا: لبيك صلوات الله عليك، قال (عليه السلام): أنا أمير كل مؤمن ومؤمنة ممن مضى وممن بقي، وأيدت بروح العظمة، وإنما أنا عبد من عبيد الله لا تسمونا أربابا وقولوا في فضلنا ما شئتم فإنكم لن تبلغوا من فضلنا كنه ما جعله الله لنا، ولا معشار العشر ". وهذا يؤيده على ما ورد في الزيارة الجامعة الكبيرة " من عرفكم فقد عرف الله " أي أن معرفتكم من شأنها أن تؤدي إلى معرفة الله تعالى لأنهم هم الدالين عليه تعالى لذا ورد في الحديث عن جابر عن عبد الله الأنصاري يقول: " سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إنما يعرف الله عز وجل ويعبده من عرف وعرف إمامه منا أهل البيت ومن لا يعرف الله عز وجل ولا يعرف الإمام منا أهل البيت فإنما يعرف ويعبد غير الله هكذا والله ضلالا " (1). إذن معرفة فاطمة بالنورانية
(1) الكافي: 1 / 181 ح 4. 363 كمعرفة علي (عليه السلام) بالنورانية " نحن أهل البيت عجنت طينتنا بيد العناية بعد رش علينا فيض الهداية ثم خمرت بخميرة النبوة وسقيت بماء والوحي ونفخ فيها روح الأمر فلا أقدامنا تنزل، ولا أبصارنا تضل، ولا أنوارنا تفل، وإذا ضللنا فمن بالقوم يدل ". الناس من شجرة شتى وشجرة النبوة واحدة محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصلها وأنا فرعها وفاطمة الزهراء ثمرها، والحسن والحسين أغصانها، أصلها نور وفرعها نور وثمرها نور، وغصنها نور، يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار، نور على نور " (1). على أن هناك مراتب عديدة للمعرفة فهي كلي مشكك له مراتب طولية وعرضية وقد قسموهما إلى: 1 - المعرفة البرهانية: والتي تكون بالدليل العقلي 2 - المعرفة الإيمانية: والتي تكون بالدليل النقلي من الكتاب والسنة. 3 - المعرفة الشهودية: والتي تكون بالإشراف والكشف والشهود بالقلب. ولقد أضاف إليها سيدنا الأستاذ آية الله السيد عادل العلوي (دام ظله) تقسيما آخر كما يلي: 1 - المعرفة الجلالية: وهي تعني معرفة الشئ في حدوده وشكله الهندسي كمعرفة الجبل من بعيد. 2 - المعرفة الجمالية: وهي تعني معرفة الشئ من باطنه وجوهره. 3 - المعرفة الكمالية: وهي تعني الوقف على هدف الشئ وغايته.
(1) عن الإمام علي ع من حبه عنوان الصحيفة 38 نقلها عن عبقات الأنوار. 364 البحث الثالث عشر فاطمة (عليها السلام) وليلة القدر
365 للشيخ محمد علي اليعقوبي ولقد يعز على رسول * الله ما جنت الصحابة قد مات فانقلبوا على * الأعقاب لم يخشوا عقابه منعوا البتولة أن تنوح * عليه أو تبكي مصابه نعش النبي أمامهم * ووراءهم نبذوا كتابه لم يحفظوا للمرتضى * رحم النبوة والقرابة لو لم يكن خير الورى * بعد النبي لما استنابه قد أطفأوا نور الهدى * مذ أضرموا بالنار بابه وعدوا علي بنت الهدى * ضربا بحضرته المهابة في أي حكم قد أباحوا * إرث فاطم واغتصابه بيت النبوة بيتها * شادت يد الباري قبابه أذن الإله برفعه * والقوم قد هتكوا حجابه بأبي وديعة أحمد * جرعا سقاها الظلم صابه عاشت معصبة الجبين * تئن من تلك العصابة حتى قضت وعيونها * عبرى ومهجتها مذابة وأمض خطب في حشا * الإسلام قد أورى التهابه بالليل واراها الوصي * وقبرها عفى ترابه (1)
(1) القصيدة للمرحوم الشيخ محمد علي اليعقوبي / الذخائر: ص 12. 367 البحث الثالث عشر فاطمة (عليها السلام) وليلة القدر " من عرف فاطمة حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر وإنما سميت فاطمة لأن الخلق فطموا عن معرفتها... " في فاطمة الزهراء (عليها السلام) سر مستودع كما تقدم ذلك في حديثنا حول هذا الموضوع - أي السر المستودع - وأيضا في ليلة القدر سر عظيم لا يعرفه إلا المقربون الذين امتحن الله قلوبهم للإيمان والتقوى، فليلة القدر رفعها الباري عز وجل وجعلها خيرا من ألف شهر وفيها تشويق لذيذ لمعرفة ذلكم السر المكنون في أعماقها، * (وما أدراك ما ليلة القدر) * حيث خاطب الله تعالى المؤمنين في ضمائرهم لكي يحرك فيهم أمواج المعرفة عبر وسائل العلم والوعي ولتنفتح لهم أسرار ليلة القدر بالتمعن والتدقيق فيها، على أن معرفة ليلة القدر تفوق الادراك البشري العادي أي أنها تفوق إدراك سائر الناس من السواد الأعظم فإنه لا بد أن يكون فيها سر عظيم، والسر تقتضي معرفته استيعابا كاملا لمعنى ليلة القدر والغاية التي نزلت ليلة القدر من أجلها ولأجل تحقيقها في الأرض. وعلى هذا الأساس لا بد من معرفة الأساس الذي بنى عليه الحديث الذي ذكرناه في أول بحثنا حول علاقة معرفة فاطمة (عليها السلام) بليلة القدر فإنه لا بد من وجود الترابط في هذا الموضوع المهم، ففاطمة فيها سر مستودع وكذلك ليلة القدر فيها سر مكنون، فمن عرف فاطمة والسر المستودع فيها عرف سر ليلة القدر وعظمتها، فليلة القدر عظيمة كعظمة فاطمة (عليها السلام) لذا كانت مجهولة في إثباتها ودقتها من حيث الزمان المختص بليالي شهر رمضان. على أن من عرف فاطمة فقد أدرك ليلة القدر هذا كونه ناتج عن معرفة فاطمة التي
369 تجعلنا ندرك الإسلام ونستوعب أهمية ليلة القدر من خلال هذه المعرفة، ولقد طرح الكثير من العلماء أوجه للشبه بين ليلة القدر وفاطمة (عليها السلام) (1) ومنها: * ليلة القدر وعاء وظرف زماني لنزول كل القرآن الكريم * (إنا أنزلناه في ليلة القدر) *، * (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) *، لا يأتيه الباطل من بين يديه، وفيه كل شئ، وتبيان كل شئ، وسعادة الدارين. وكذلك الحوراء الإنسية فاطمة الزكية، فإن قلبها ظرف مكاني وروحاني، وصدرها وعاء إلهي للقرآن الكريم والمصحف الشريف، وأنها كانت محدثة تحدثها الملائكة، فهي وعاء للإمامة وللمصحف الشريف. * وفي ليلة القدر يفرق كل أمر أحكمه الله خلال السنة، فيفرق ما يحدث فيها من الأمور الحتمية وغيرها، وينزل بها روح القدس على ولي العصر والزمان وحجة الله على الخلق الذي بيمنه رزق الورى وبوجوده ثبتت الأرض والسماء، وأن الإيمان بليلة القدر فارق بين المؤمن والكافر. كذلك بفاطمة الزهراء الطيبة الطاهرة المطهرة يفرق بين الحق والباطل، والخير والشر، والمؤمن والكافر، وقد ارتد الناس في العمل وفي الولاية بعد رحلة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا ثلاث أو خمس أو سبع، وفيهم سيدة النساء فهم على حق، وغيرهم استحوذ عليهم الشيطان فأغرهم وأضلهم فكانوا أئمة الضلال. * وفي ليلة القدر معراج الأنبياء والأولياء إلى الله سبحانه فيزاد في علمهم اللدني والرباني ويكسبوا من الفيض الأقدس الإلهي. كذلك ولاية فاطمة المعصومة النقية التقية، فهي مرقاة لوصولهم إلى النبوة ومقام الرسالة والعظمة الشموخ الإنساني والروحاني، فما تكاملت النبوة لنبي حتى أقر بفضلها ومحبتها وذلك في عالم * (ألست بربكم) * أو في عالم الذر أو عالم الأنوار أو الأرواح أو النشأة الإنسانية التي وراء نشأتنا هذه، وهذه إنما هي صورة لتلك كما عند بعض الأعلام. ففاطمة الزهراء قطب الأولياء والعرفاء ومعراج الأنبياء والأوصياء، صدرها خزانة
(1) راجع فاطمة الزهراء ليلة القدر - لآية الله السيد عادل العلوي حفظه الله. 370 الأسرار، ووجودها ملتقى الأنوار، فهي حلقة الوصل بين أنوار النبوة وأنوار الإمامة، فأبوها محمد رسول الله، وبعلها علي وصيه وخليفته إمام المتقين وأمير المؤمنين، ومنها أئمة الحق والرشاد وأركان التوحيد وساسة العباد. * وليلة القدر خير من ألف شهر فيضاعف فيها العمل والثواب كل واحد بألف، فالتسبيح والتمجيد والتهليل والتكبير والصلاة وكل عمل كل واحد بألف، فكذلك محبة الزهراء وولايتها يوجب مضاعفة الأعمال فإن تسبيحها (34 مرة الله أكبر و 33 مرة الحمد لله و 33 مرة سبحان الله) بعد كل صلاة واجبة أو نافلة يجعل كل ركعة بألف ركعة كما ورد في الخبر الشريف. فمودتها هي الإكسير الأعظم، يجعل من كان معدنه الحديد ذهبا، وأن الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، فمن والاها وأحبها وأطاعها وأطاع أبنائها الأطهار، وعادى عدوها وأعداء ذريتها، فإنه يكون كالذهب المصفى وباقي الناس كلهم التراب، وأن الله يضاعف الأعمال بحبها كما تضاعف في ليلة القدر. وامتازت ليلة القدر عن كل ليالي السنة بالخير والبركة والشرافة والعظمة وعلو الشأن والرفعة، كذلك خير نساء الأولين والآخرين فاطمة الزهراء (عليها السلام) فهي خير أهل الأرض والسماء عنصرا وشرفا وكرامة بعد أبيها الرسول المصطفى وبعلها الوصي المرتضى. * وليلة القدر ليلة مباركة * (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) *، والبركة بمعنى النماء والزيادة والخير المستمر والمستقر الدائم والثابت وما يأتي من قبله الخير الكثير، ومن ألقاب فاطمة الزهراء أنها (المباركة) ففيها كل بركات السماوات والأرض، فهي الكوثر في الدنيا والآخرة، وهي المنهل العذب والمعين الصافي لكل من أراد البركة، فما أدراك ما فاطمة، خير من في الوجود بعد أبيها وبعلها. ولو كن النساء كمثل هذه * لفضلت النساء على الرجال ولا التأنيث لاسم الشمس عار * ولا التذكير فخر للهلال وقال آخر: هي مشكاة نور الله جل جلاله * زيتونة عم الورى بركاتها فهي الكوثر، والكوثر، الخير الكثير * (إنا أعطيناك الكوثر) *، ومنها ذرية الرسول
371 الأكرم، وعدم انقطاع نسله إلى يوم القيامة، وفي وصف النبي، إنما نسله من مباركة لها بيت في الجنة لا صخب فيه ولا نصب. والعبادة في ليلة القدر تكون منشأ للفيوضات الإلهية، والكمالات الربانية والفيوضات القدسية، والبركات السماوية، كذلك التوسل بفاطمة الزهراء فهي منشأ البركات والخيرات. ونزل القرآن الكريم وهو النور والفرقان والبيان والتبيان في ليلة القدر، فليلة القدر نزول النور الإلهي، وفاطمة الزهراء (عليها السلام) هي نور الله، وهي الكوكب الدري، كما جاء ذلك في تفسير آية النور في قوله تعالى: * (الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في رجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار نور على نور والله يهدي لنوره من يشاء) * (1). عن موسى بن القاسم عن علي بن جعفر قال: سألت أبا الحسن - الإمام الكاظم (عليه السلام) - عن قول الله عز وجل * (كمشكاة فيها مصباح) *، قال: المشكاة فاطمة والمصباح الحسن والحسين. * (كأنها كوكب دري) * قال: كانت فاطمة كوكبا دريا من نساء العالمين. * (يوقد من شجرة مباركة) *، الشجرة المباركة إبراهيم * (لا شرقية ولا غربية) *، لا يهودية ولا نصرانية، * (يكاد زيتها يضئ) * قال: يكاد العلم أن ينطق * (ولو لم تمسسه نار نور على نور) *، قال: يهدي الله عز وجل لولايتنا من يشاء (2). عن فاطمة الزهراء سلام الله عليها: اعلم يا أبا الحسن أن الله تعالى خلق نوري وكان يسبح الله جل جلاله، ثم أودعه شجرة من شجر الجنة فأضاءت، فلما دخل أبي الجنة أوحى الله إليه إلهاما أن اقتطف الثمرة من تلك الشجرة وأدرها في لهواتك، ففعل، فأودعني الله سبحانه صلب أبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم أودعني خديجة بنت خويلد فوضعتني، وأنا من ذلك النور أعلم ما كان وما يكون وما لم يكن، يا أبا الحسن المؤمن ينظر بنور الله تعالى (3). وما أروع ما يقوله الشاعر:
(1) سورة النور: آية 66. (2) المناقب لابن المغازلي: (من علماء العامة): 317. (3) عوالم العلوم والمعارف 6: 7. 372 مشكاة نور الله جل جلاله * زيتونة عم الورى بركاتها هي قطب دائرة الوجود ونقطة * لما تنزلت أكثرت كثراتها هي أحمد الثاني وأحمد عصرها * هي عنصر التوحيد في عرصاتها ويقول المحقق العلامة الشيخ محمد باقر صاحب (الخصائص الفاطمية) في كتابه: سبحانك اللهم يا فاطر السماوات العلى وفالق الحب والنوى، أنت الذي فطرت اسما من اسمك واشتققته من نورك، فوهبت اسمك بنورك حتى يكون هو المظهر لظهورك، فجعلت ذلك الاسم أصل لجملة أسمائك وذلك النور أرومة لسيدة إمائك، وناديت بالملأ الأعلى: أنا الفاطر وهي فاطمة، وبنورها ظهرت الأشياء من الفاتحة إلى الخاتمة، فاسمها اسمك ونورها نورك وظهورك ظهورها، ولا إله غيرك، وكل كمال ظلك وكل وجود ظل وجودك، فلما فطرتها فطمتها عن الكدورات البشرية واختصصتها بالخصائص الفاطمية، مفطومة عن الرعونات العنصرية، ونزهتها عن جميع النقائص مجموعة من الخصائل المرضية بحيث عجزت العقول عن إدراكها، والناس فطموا عن كنه معرفتها، فدعا الأملاك في الأفلاك بالنورية السماوية وبفاطمة المنصورة... أم السبطين وأكبر حجج الله على الخافقين، ريحانة سدرة المنتهى وكلمة التقوى والعروة الوثقى وستر الله المرخى والسعيدة العظمى والمريم الكبرى والصلاة الوسطى والإنسية الحوراء التي بمعرفتها دارت القرون الأولى. وكيف أحصي ثناها وأن فضائلها لا تحصى وفواضلها لا تقضى، البتول العذراء الحرة البيضاء أم أبيها وسيدة شيعتها وبنيها، ملكة الأنبياء الصديقة فاطمة الزهراء عليها سلام الله (1). * وكثير من الناس أدركتهم السعادة في ليلة القدر، فهي ليلة السعادة، وكذلك السيدة فاطمة الزهراء، فهي سر السعادة، ومحبتها ومعرفتها والاقتداء بها وإطاعتها ونصرتها يوجب السعادة الأبدية، ويحلق الإنسان في آفاق الكمال ويسبح في يم الجلال. وكم من شاهد وقصة تدل على أن هناك من أدركتهم السعادة ببركة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، كما أن الله هدى ذلك المجوسي وأهل بيته إلى الإسلام فأسلموا جميعا لما
(1) فاطمة الزهراء بهجة قلب المصطفى: 24 / عن الخصائص الحسينية: 1. 373 أكرم العلوية التي جاءت إليه تشكو حالها، كما يحدثنا بذلك العلامة المجلسي (قدس سره) في كتابه القيم (بحار الأنوار 93: 225 - 236)، فراجع. * إن الله سبحانه جعل حريما لكل أمر مقدس ومعظم، فإنه لا صلاة إلا بطهور وتكبيرة الإحرام، وأن الحجر الأسود ومكة المكرمة جعل لها حرما، فلا يدخلها إلا من كان محرما، وقد حرم على نفسه الملاذ، كالنساء واستعمال الطيب ولبس المخيط وطلب الراحة كالاستظلال، فكان الحجر الأسود مواقيت، وتقدست بقعة من الأرض لأجله، ولأن مكة المكرمة والكعبة المعظمة مهبط الوحي ونزول الرسالة المحمدية السمحاء المتمثلة بالقرآن الكريم، فمكة المكرمة مكان نزول القرآن وليلة القدر زمان نزوله، وصار للكعبة حرما أثر عظمة الوحي، وكذلك شهر رمضان، فإنه نزل القرآن كله في ليلة قدره، ولكن سرت القداسة والتكريم والتعظيم إلى أن كل أيام وليالي الشهر، بل تشرف ذلك العصر الذي نزل فيه القرآن فأقسم به الله في سورة العصر، كما أقسم بالمكان الذي نزل فيه الوحي * (لا أقسم بهذا البلد) * فشعاع الوحي والقرآن الكريم قد نور ميدانا وسيعا في الزمان والمكان. فما تقدس عند ربك الأكرم الذي علم الإنسان ما لم يعلم، فإنه يكون له حريم مقدس وتوابع مقدسة، كليلة القدر بشرفها تشرفت ليالي شهر رمضان وأيامه. وكذلك فاطمة الزهراء تقدست عند ربها ، فوجب إجلالها وإكرامها، بل وينبغي تعظيم ذريتها ومودتهم وتكريمهم، فإنه ألف عين لأجل عين تكرم، فوجب على كل مسلم إكرام السادة والذرية الطيبة، من ولد فاطمة الزهراء وعلي المرتضى (عليهما السلام)، فالصالح منهم يكرم لله والطالح منهم لرسوله وعترته. إن الله سبحانه وتعالى قد دعا عباده لضيافتهم العامة في شهر رمضان المبارك، فالصائم وافد على الله وضيفه ولكل ضيف قرى، وقرى الله الإعتاق من النار ودخول الجنة، وإن الله ليغفر لعباده الصائمين ويعتق الرقاب من جهنم في الشهر كله، فإنها خير من ألف شهر، كما جاء نص ذلك في الأخبار، وفاطمة الزهراء (عليها السلام) سميت فاطمة، لأنها تفطم شيعتها من النار، وتعتق رقابهم وتدخلهم الجنة * (ومن زحزح عن
374 النار، وأدخل الجنة فقد فاز) * (1). عن الإمام الرضا (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنما سميت ابنتي فاطمة لأن الله فطمها وفطم محبيها عن النار (2). قال النبي: إنما سميت فاطمة ابنتي لأن الله فطمها ومحبيها عن النار (3). وانفردت ليلة القدر بعظمتها وشموخها من بين ليالي السنة، فليس لها مثيل ولا نظير، فهي سيدة الليالي والأيام. وفاطمة الزهراء (عليها السلام) لا مثيل لها بين النساء، فهي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين في الدنيا والآخرة، ولولا أمير المؤمنين علي المرتضى (عليها السلام) لما كان لها كفؤ من الرجال آدم ومن دونه، وهذا ما نصت عليه الأخبار الشريفة عند الفريقين السنة والشيعة، ذات الله سبحانه سر لا يعلمه إلا هو، وله في خلقه أسرار لا يعلمها إلا هو ورسوله والراسخون في العلم من عترة النبي الهادي المختار (عليهم السلام). * وليلة القدر سر من أسرار الله، وفاطمة الزهراء (عليها السلام) عصمة الله وسر من أسراره العظمى، لا يعرف حقيقتها ومقامها الرفيع وآياتها الباهرة إلا الله ورسوله وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام)، فهي سر في وجودها وفي ولادتها وحياتها ورحلتها إلى جوار ربها. * وليلة القدر قد جهلها الناس من حيث الليالي ومن حيث القدر والمنزلة فقطعوا وفطموا عن معرفتها، كذلك البضعة الأحمدية والجزء المحمدي فهي مجهولة القدر (وإنما سميت فاطمة لأن الخلق فطموا عن معرفتها)، كما جهل قدرها أولئك الكفرة أحرقوا بابها وكسروا ضلعها وأسقطوا جنينها وغصبوا فدكها وحقها، ولم ينصروها فخفي على الناس مقامها وقدرها حتى قبرها الشريف وتأريخ وفاتها، ليكون شاهدا في التأريخ على مظلوميتها وشهادتها ومظلومية بعلها (اللهم العن أول ظالم ظلم حق محمد وآل محمد وآخر تابع له على ذلك). عن مجاهد: خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو آخذ بيد فاطمة فقال: من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد، وهي بضعة مني وهي قلبي وهي روحي التي
(1) سورة آل عمران: الآية 185. (2) فرائد السمطين 2: 58. (3) البحار 43: 16. 375 بين جنبي من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله (1). ومن آذى الله لعنه الله ملأ السماوات والأرض (2) ومن طرق العامة، عن نصر بن مزاحم، عن زياد بن المنذر، عن زادان، عن سلمان، قال: قال النبي: يا سلمان، من أحب فاطمة بنتي فهو في الجنة معي ومن أبغضها فهو في النار، يا سلمان، حب فاطمة ينفع في مائة من المواطن، أيسر ذلك المواطن الموت والقبر والميزان والمحشر والصراط والمحاسبة، فمن رضيت عنه ابنتي فاطمة رضيت عنه ومن رضيت عنه رضي الله عنه، ومن غضبت عليه غضبت عليه، ومن غضبت عليه غضب الله عليه، يا سلمان، ويل لمن يظلمها ويظلم بعلها أمير المؤمنين عليا وويل لمن يظلم ذريتها وشيعتها (3). وأخيرا نختم هذا الموضوع بحديث ورد في معرفة ليلة القدر وما الذي يفرق في هذه الليلة حيث جاء عن زرارة عن حمران قال: " سألت أبا عبد الله عما يفرق في ليلة القدر هل هو ما يقدر سبحانه وتعالى فيها؟ قال: لا توصف قدرة الله تعالى إلا أنه قال فيها يفرق كل أمر حكيم فكيف يكون حكيما إلا ما فرق ولا توصف قدرة الله سبحانه لأنه يحدث ما يشاء وأما قوله " خير من ألف شهر " يعني فاطمة في قوله تعالى " تنزل الملائكة والروح فيها " والملائكة في هذا الموضع المؤمنون الذين يملكون علم آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والروح روح القدس وهي فاطمة عليها السلام " من كل أمر سلام " يقول كل أمر سلمه حتى يطلع الفجر يعني حتى يقوم القائم " عج " (4).
(1) نور الأبصار: 52. (2) البحار: 43 / 54. (3) فرائد السمطين: 2 / 67. (4) تفسير البرهان: 3 / 487 ح 24. 376 البحث الرابع عشر فلسفة أسماء فاطمة الزهراء (عليها السلام)
377 الشيخ صالح الكواز هل بعد موقفنا على يبرين * أحبي بطرف بالدموع ضنين واد إذا عاينت بين طلوله * أجريت عيني للظباء العين لم تخب نار قطينة حتى ذكت * نار الفراق بقلبي المحزون وابتاع جدته الزمان بمخلق * ورمى حماه بصفقة المغبون قال الحداة وقد حبست مطيهم * من بعدما أطلقت ماء شؤوني ماذا وقوفك في ملاعب خرد * جد العفاء بربعها المسكون وقفوا معي حتى إذا ما استيأسوا * خلصوا نجيبا بعدما تركوني فكأن يوسف في الديار محكم * وكأنني بصواعه اتهموني ويلاه من قوم أساؤوا صحبتي * من بعد إحساني لكل قرين قد كدت لولا الحلم من جزعي لما * ألقاه أصفق بالشمال ويميني لكنما والدهر يعلم أنني * ألقى حوادثه بحلم رزين قلبي يقل من الهموم جبالها * وتسيخ عن حمل الرداء متوني وأنا الذي لا أجزعن لرزية * لولا رزاياكم بني ياسين تلك الرزايا الباعثات لمهجتي * ما ليس يبعثه لظى سجين كيف العزاء لها وكل عشية * دمكم بحمرتها السماء تريني والبرق يذكرني وميض صوارم * أردتكم في كف كل لعين والرعد يعرب عن حنين نسائكم * في كل لحن للشجون مبين يندبن قوما ما هتفن بذكرهم * إلا تضعضع كل ليث عرين السالبين النفس أول ضربة * والمبلسين الموت كل طعين لا عيب فيهم غير قبضهم اللوا * عند اصطكاك السمر قبض ضنين سلكوا بحارا من دماء أمية * بظهور خيل لا بطون سفين
379 ما ساهموا الموت الزؤام ولا اشتكوا * نصبا بيوم بالردى مقرون حتى إذا التقمتهم حوت القنا * وهي الأماني دون خير أمين نبذتهم الهيجاء فوق تلاعها * كالنون ينبذ بالعرا ذا النون خذ في ثنائهم الجميل مقرضا * فالقوم قد جلوا عن التأبين هم أفضل الشهداء والقتلى الأولى * مدحوا بوحي في الكتاب مبين ليت الكواكب والوصي زعيمها * وقفوا كموقفهم على صفين بالطف كي يروا الأولى فوق القنا * رفعت مصاحفها اتقاء منون جعلت رؤوس بني النبي مكانها * وشفت قديم لواعج وضغون الواثبين لظلم آل محمد * ومحمد ملقى بلا تكفين والقائلين لفاطم آذيتنا * في طول نوح دائم وحنين والقاطعين أراكة كي لا تقيل * بظل أوراق لها وغصون ومجمعي حطب على البيت الذي * لم يجتمع لولا شمل الدين والداخلين على البتولة بيتها * والمسقطين لها أعز جنين والقائدين إمامهم بنجاده * والطهر تدعو خلفهم برنين خلوا ابن عمي أو لأكشف للدعا * رأسي وأشكو للإله شجوني ما كان ناقة صالح وفصيلها * بالفضل عند الله إلا دوني ورنت إلى القبر الشريف بمقلة * عبرى وقلب مكمد محزون نادت وأظفار المصاب بقلبها * أبتاه عز على العداة معيني أبتاه هذا السامري وعجله * تبعا ومال الناس عن هارون أي الرزايا أتقي بتجلد * هو في النوائب مذ حييت قريني فقدي أبي أم غصب بعلي حقه * أم كسر ضلعي أم سقوط جنيني أم أخذهم إرثي وفاضل نحلتي * أم جهلهم حقي وقد عرفوني قهروا يتيميك الحسين وصنوه * وسألتهم حقي وقد نهروني
380 البحث الرابع عشر فلسفة أسماء فاطمة الزهراء (عليها السلام) عن يونس بن ظبيان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لفاطمة عليها السلام تسعة أسماء عند الله عز وجل: فاطمة والصديقة والمباركة والطاهرة والزكية والراضية والمرضية والمحدثة والزهراء (1). من الأمور المهمة التي أخذت جانبا وحيزا واضحا في الشريعة الإسلامية وأكد عليها الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة: من خلال أحاديثهم المباركة مسألة تسمية المولود باسم مبارك يدل على معنى لائق وجميل وحسب ما ترتضيه النفس المؤمنة ويميل إليه الوجدان الإنساني ذلك لأن الاسم الذي يمنحه الأب أو الأم للمولود يكون ذو أثر كبير ومهم في النفس الإنسانية حيث أثبتت البحوث العلمية المتأخرة التي قام بها علماء النفس والاجتماع أن للاسم أثرا بالغا على منشأ تصرفات وسلوك الأفراد الذين يحملون ذلك الاسم، وإن كانت هذه المسألة تتفاوت في مدى تأثيرها على السلوك الفردي للإنسان من فرد إلى آخر إلا أنه في النتيجة النهائية يترك بعض الآثار المعينة الواضحة البرهان لذلك المعنى الذي يحمله الاسم، على أن هذه الأمور الواضحة تدرك بأدنى تأمل لدى الإنسان الواعي الفطن الذي يدرك الكثير من الحقائق المعنوية قبل أن تطرق ذهنه وسمعه. وعلى هذا الأساس نجد أن هناك تمايزا واضحا في الأسماء التي تطرح وتعطى لأي فرد، حيث نجد أن الكثير من الأسماء التي حملها بعض الأفراد وإن كانت ذات مغزى
(1) أمالي الصدوق: 474، ح 18، علل الشرائع: 1 / 178، الخصال: 414، ح 3، روضة الواعظين: 179. 381 لطيف وأصيل وحسن إلا أنه المسمى بها غير منزه بل أنه مثلا يدل على خلاف اسمه، وهذا بخلاف ما نجده في بعض الأسماء التي تحمل معنى قبيح وصاحبها ذو أصالة وأخلاق حسنة وأفعال جميلة. وهكذا نجد من خلال استقراء سيرة التاريخ في هذا المجال أن هناك الكثير من الأسماء اللامعة والتي يشير إليها المسلمون بالبنان مثل عبد الملك وهارون الرشيد والمتوكل على الله والواثق بالله أن بينهم وبين أسماءهم وألقابهم البون الشاسع، فأسماءهم تدل على أنهم عاشوا في ملكوت التوكل والرشد والتقوى والوثوق بالله والاعتصام به بينما السيرة الذاتية لحياتهم وشخصياتهم تدل على خلاف ذلك، فمثلا لو طالعنا حياة هارون الرشيد ذلك الخليفة العباسي وكيف تصرف برعونة وحماقة مع الأحرار والسادة العلويين من ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وخصوصا (1) وخاصة إجرامه بحق الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) نجد أن هذا الأمر واضح وبصورة جلية، ولنعم ما قال الشاعر الكبير أبو فراس الحمداني في رائعته التي يقول فيها: الدين مخترم والحق مهتضم * وفي آل رسول الله مقتسم إلى أن يقول... ليس الرشيد كموسى في القياس ولا * مأمونكم كالرضا إن أنصف الحكم إذا تلوا آية غنى خطيبكم * قف بالديار التي لم يعفها القدم بينما إذا نظرنا إلى أهل بيت النبوة (عليهم السلام) نجد أن أسماءهم تدل على المعاني العالية المنال وفي نفس الوقت نرى أن السيرة الذاتية لحياتهم ومواقفهم وتصرفاتهم ذات دلالة واضحة على أسماءهم وألقابهم. فحين نقرأ سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) نجد كل ألقابه وكناه منطلقة من صفاته الأصيلة الثابتة في أعماقه وفي جذوره المشرقة المضيئة بنور الله تعالى فهو الإمام العابد الزاهد الصادق القائد إمام المتقين وقائد الغر المحجلين، وهكذا في الحسن المجتبى والحسين الشهيد والساجد والباقر عليهم السلام أجمعين.
(1) راجع كتابنا العبد الصالح الإمام موسى بن جعفر. 382 ومن هذا المنطلق نرى أن الرسول وأهل بيته (عليهم السلام) قد أكدوا ومن خلال الكثير من الروايات على ضرورة تسمية المولود بخير الأسماء وأفضلها وذلك لما يتركه الاسم من البصمات الواضحة والآثار الجميلة على طبيعة تصرف الفرد وعلى ضوء ذلك المعنى الذي يحمله الاسم، ولذلك جاءت الأحاديث لتؤكد على هذه المسألة وللفلسفة الرائعة لها، حيث ورد الاستحباب المؤكد على ضرورة تسمية المولود بأحسن الأسماء حيث روي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) أنه قال: " لا يولد لنا ولد إلا سميناه محمد فإذا مضى لنا سبعة أيام فإن شئنا غيرنا وإن شئنا تركنا " (1). وقد أكد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على هذه التسمية بقوله: " من ولد له أربعة أولاد ولم يسم أحدهم باسمي فقد جفاني " (2). وكان الديدن العام لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) على هذا الأمر والاهتمام به كل الاهتمام فهم (عليهم السلام) كانوا يحثوا المسلمين على تسمية أبناءهم وبناتهم بالأسماء التالية (عبد الرحمن - وباقي أسماء العبودية - محمد، أحمد، علي، حسن، حسين، جعفر، طالب، فاطمة) (3). وجاء التأكيد على هذه الأسماء من خلال عدة روايات أثبتت هذه المسألة المهمة كل ذلك لأجل تحصين الطفل من السخرية والاستهزاء من قبل الآخرين في حالة تسميته بأسماء ورد فيها الكراهة مثل الحكم، خالد، مالك، حارث، ولئلا تكون سببا للشعور بالنقص كما هو الحال في الأسماء المستهجنة. وبعد هذه المقدمة المهمة في مضمونها نصل إلى موضوع البحث الذي نريد الدخول فيه وهو أسماء فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) وفلسفتها، فإن اسمها من الباري عز وجل وهو الواضع لهذه المعصومة الشهيدة اسمها وكما سيتبين من خلال البحث، وهنا في هذا المقام ينقدح لدينا عدة أسئلة مهمة مرتبطة بصميم بحث أسماءها ألا وهي: 1 - لماذا الباري عز وجل وضع الأسماء لفاطمة الزهراء (عليها السلام)؟ 2 - وما فلسفة أسماءها؟
(1) الكافي: 2: 18، باب الأسماء والكنى. (2) الكافي: 6: 19، باب الأسماء والكنى. (3) الكافي: 6: 19، باب الأسماء والكنى. 383 3 - وماهية المعاني لها؟ ولم التأكيد من قبل الله تعالى على أهمية أسماء الزهراء (عليها السلام)؟ كل هذه الأسئلة لا بد لنا من التوقف عندها والإلمام بمعرفتها من خلال مراجعة أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) واستظهارها وكيفية بيان معاني أسماء فاطمة الزهراء (عليها السلام). أما كون أسماءها من الله تعالى وهو الذي سماها بفاطمة فيوجد في هذا المضار أحاديث كثيرة تبين هذه المنقبة لفاطمة (سلام الله عليها)، فلقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال لفاطمة (عليها السلام): " شق الله لك يا فاطمة اسما من أسمائه، فهو الفاطر وأنت فاطمة ". وجاء في حديث عن يونس بن ظبيان قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " لفاطمة (عليها السلام) تسعة أسماء عند الله عز وجل: فاطمة والصديقة والمباركة والطاهرة والزكية والراضية والمرضية والمحدثة والزهراء " (1). وفي حديث آخر قال أبو الحسن (عليه السلام): "... فلما ولدت فاطمة سماها الله تبارك وتعالى فاطمة ". أقول: فيتبين من خلال هذه الأحاديث وأحاديث أخرى أغفلنا عن ذكرها لئلا يطول المقام بها إن أكثر أسماء فاطمة الزهراء (عليها السلام) هي من وضع الله تعالى وهو الذي سماها بهذه الأسماء المباركة، ففي رواية يثبت الإمام (عليه السلام) أن للزهراء (عليها السلام) اسم واحد سماها به الله تعالى وفي رواية أخرى يثبت معصوم آخر أن للزهراء (عليها السلام) تسعة أسماء عند الله تبارك وتعالى، كل ذلك نتيجة المقام السامي لفاطمة الزهراء عند الله تعالى، وربما يوحي هذا الكلام أن هناك تعارض في عدد أسماء الزهراء (عليها السلام) ولكن بأدنى تأمل للروايات يظهر لنا أن هذا ناشئ من طبيعة حال السائل. وعلى هذا الأساس انقدح في ذهننا الأسئلة المتقدمة الذكر وهو لماذا الباري عز وجل هو الذي سمى فاطمة بهذه الأسماء؟ وما هي فلسفتها؟ وما هي المناسبة بين ذات الزهراء وأسماءها التي أعطاها الله تبارك إياها؟ وعليه كل الأسئلة المتقدمة سوف نجيب عليها من خلال
(1) أمالي الصدوق: 474 ح 18، علل الشرائع: 1 / 178، الخصال: 414 ح 3، روضة الواعظين: 179، دلائل الإمامة:. 10 384 هذا البحث بإجماله. فنقول: إنما وضع الله أسماء فاطمة الزهراء (عليها السلام) منه لتكون علامة لشئ ما، وهذا الشئ سوف يتضح لنا من خلال الأبحاث القادمة، وربما تسأل أيها القارئ العزيز كيف يكون الاسم علامة للمسمى والمفهوم من العلامة هو الوسم والذي يظهر هذا من خلال مراجعة أفراد اللغة العربية؟ والجواب على ذلك: أن بين الأسماء والمعاني الموضوع لها مناسبة ذاتية، والواضع عندما يضع الاسم المعين للمسمى المعين يكون عالما بالمناسبة وقادرا عليها ولوجود الحكمة والإتقان في وضع الأسماء لتلك المعاني، ومن هنا كان الواضع لأسماء فاطمة الزهراء هو الله تعالى وذلك لوجود المناسبة والحكمة في ذات الزهراء (عليها السلام)، وكذلك اقتضت حكمة الباري عز وجل أن تكون العلامة فيها مناسبة لها وهي ذات الزهراء في مادتها وصورتها حيث كانت دلالة فاطمة الزهراء ذاتية ومرتبطة ارتباطا وثيقا مع اسمها فكان التعبير من الله تعالى أدق في التعريف لذات الزهراء (عليها السلام) وأظهر في تمييز ذاتها عن بقية الذوات. فالله سبحانه وتعالى لم يهمل الحكمة ولم يظلمها ولم يضعها في غير ما جعلها مقتضية لها فمن شاء أن يطلعه على علل الأشياء وأسبابها علمه ذلك بتفهيمه أو بوضع القرائن له والأمارات على ذلك وكما فعل ذلك مع أهل البيت (عليهم السلام) حيث هو الذي وضع أسماءهم وهذا ما نجده من خلال المأثور الروائي لأهل البيت (عليهم السلام)، فالله تبارك وتعالى يحب أن تكون أسماء أهل البيت (عليها السلام) منه تعالى وكما قال الله تعالى: * (لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون) *. وأما إن قال شخص ما إن الواضع لأسماء فاطمة هو غير الله تعالى وبغض النظر عن الرواية الواردة في المقام والشواهد والقرائن الأخرى؟ فالجواب عليه: أنه لو قلنا بأن الواضع غير الله تعالى لم يكن هناك محذور في أن الألفاظ بينها وبين المعاني مناسبة ذاتية لأن الوضع لا يمكن إلا ممن له قوة المعرفة التي تنقص عن المعرفة بالمناسبة واعتبارها، ويدل على هذا إنا وجدنا في اللغة واشتقاق الألفاظ بعضها من بعض ونظمها على ما يوافق الحكمة ما يبصر العقول مع ما عرفنا
385 من قصورنا عن أكثر أسرارها ولا يكون ذلك إلا ممن يقدر على المناسبة ويعرف كمال حسنها وشرفها على عدمها وإذا كان قادرا على العلم بها وعلى معرفتها بأنها أكمل وأدل على المطلوب وأوفق بالحكمة كان العدول عن ذلك نقصا في الكمال وعدولا إلى الإهمال عن الحكمة لأن الأسماء في الحقيقة صفات المسميات فلو لم يكن بين الصفة وموصوفها مناسبة ذاتية ومطابقة حقيقة لكانت صفة فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) التي تطلب بها تمييزها تصلح أن تكون لغيرها وإذا صلحت لغيرها كان تميزها بها مما يزيد في الالتباس وعدم المعرفة. وعلى كل حال فإن البحث في هذا المقام لطويل وشائك فالذي نريد القول به والنتيجة التي نريد استعراضها وإظهارها هو أن الواضع هو الله تبارك وتعالى لأسماء فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وإنما وضعها لتكون العلامات المميزات والصفات المعينات لفاطمة الزهراء (عليها السلام)، ولكي يتبين معرفة الحال في المقام أكثر نقول: إن المراد من هذه الأسماء الأعم من اللفظية والمعنوية لأن العلامة والتمييز يحصل بكل منهما، والحاصل أن أسماءها (سلام الله عليها) التي أشير إليها في الرواية المتقدمة الذكر سواء كانت من الأسماء الصفاتية أو اللفظية فإنها مشتقة من أسمائه تعالى يعني اشتقها سبحانه وتعالى من أسمائه وهذا معنى ما روي عن علي بن الحسين (عليه السلام) حيث قال: حدثني أبي عن أبيه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن قال: " قال الله يا آدم هذه أشباح أفضل خلائقي وبرياتي هذا محمد وأنا الحميد المحمود في فعالي شققت له اسما من اسمي وهذا علي وأنا العلي العظيم شققت له اسما من اسمي وهذه فاطمة وأنا فاطر السماوات والأرض فاطم أعدائي من رحمتي يوم فصل قضائي وفاطم أوليائي عما يعرهم ويشينهم شققت لها اسما من اسمي... ". وهذا يعني أنها فيض وجودها ونورها من فيض نور الله تبارك وتعالى ونسبتها إلى الله تعالى من حيث وجودها ومبدأ نورها وصفاتها (سلام الله عليها) وبأبسط تأمل لهذا الحديث يظهر أنه سبحانه وتعالى يريد بالاسم ما هو أعم من اللفظ ولو أراد خصوص اللفظ فقط يعني اسم فاطمة لما قال تعالى وهذه فاطمة وأنا فاطر السماوات والأرض ولو أراد خصوص المعنى لما علقه بالألفاظ ولكنه تعالى يريد الأسماء
386 المعنوية والأسماء اللفظية وهو المفهوم من أحاديثهم الكثيرة وكما سيتبين لنا من خلال إظهار معاني أسماء فاطمة (سلام الله عليها) فافهم تغنم (1). معاني أسماء فاطمة الزهراء (عليها السلام) عن يونس بن ظبيان قال: قال أبو عبد الله (عليها السلام) لفاطمة (عليها السلام) تسعة أسماء عند الله عز وجل: فاطمة والصديقة والمباركة والطاهرة والزكية والراضية والمرضية والمحدثة والزهراء (2). على ضوء هذا الحديث سوف يكون كلامنا حول أسماء فاطمة الزهراء (سلام الله عليها) حيث نأخذ كل اسم من أسماءها وحسب تسلسله ووروده في الحديث المبارك ومن خلال ذلك نقف مع أقوال أهل البيت (عليهم السلام) في ذلك وبيان أقوال العلماء في هذه الأسماء المباركة. 1 - فاطمة (عليها السلام) إن الظاهر من خلال استقراء أحاديث أهل بيت العصمة (سلام الله عليهم) أن أول اسم سميت به بضعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) هو فاطمة، وهذا على القطع اليقيني ثابت ولا يعتريه الشك ولا الشبهة ولذا ورد في كثير من أحاديث أهل البيت التأكيد على هذا الاسم وإكرامه وإعطائه الهيبة اللائق به حيث كان لاسم فاطمة (سلام الله عليها) وقع كبير في نفوس ومحبي أهل البيت وخصوصا في نفوس أهل البيت (عليهم السلام) وكان له المنزلة العظمى كما يظهر من الروايات والأخبار الصحيحة المسندة.
(1) المراد من الأسماء المعنوية أي المعاني التي تدل عليها الأسماء الظاهرية لفاطمة (عليها السلام). (2) أمالي الصدوق: 474، ح 18، علل الشرائع: 1 / 178، الخصال: 414، ح 3، روضة الواعظين: 179. 387 فلقد روي عن فضالة بن أيوب، عن السكوني قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) وأنا مغموم مكروب، فقال لي: يا سكوني ما غمك؟ فقلت: ولدت لي ابنة، فقال: يا سكوني على الأرض ثقلها، وعلى الله رزقها، تعيش في غير أجلك وتأكل من غير رزقك، فسري والله عني، فقال: ما سميتها؟ قلت: فاطمة. قال: آه آه آه ثم وضع يده على جبهته - إلى أن قال - ثم قال: أما إذا سميتها فاطمة فلا تسبها ولا تلعنها ولا تضربها (1). وعن بشار المكاري قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) بالكوفة وقد قدم له طبق طبرزد (2) وهو يأكل، فقال: يا بشار أدن فكل. فقلت: هناك الله وجعلني فداك، قد أخذتني الغيرة من شئ رأيته في طريق! أوجع قلبي وبلغ مني، فقال لي: بحقي لما دنوت فأكلت. قال: فدنوت فأكلت، فقال لي: حديثك، قلت: رأيت جلوازا (3) يضرب رأس امرأة ويسوقها إلى الحبس وهي تنادي بأعلى صوتها: " المستغاث بالله ورسوله " ولا يغيثها أحد. قال: ولم فعل بها ذلك؟ قال: سمعت الناس يقولون إنها عثرت فقالت: " لعن الله ظالميك يا فاطمة " فارتكب منها ما ارتكب. قال: فقطع الأكل ولم يزل يبكي حتى ابتل منديله ولحيته وصدره بالدموع. ثم قال: يا بشار، قم بنا إلى مسجد السهلة فندعوا الله عز وجل ونسأله خلاص هذه المرأة. قال: ووجه بعض الشيعة إلى باب السلطان وتقدم إليه بأن لا يبرح إلى أن يأتيه رسوله، فإن حدث بالمرأة حدث صار إلينا حيث كنا. قال: فصرنا إلى مسجد السهلة، وصلى كل واحد منا ركعتين، ثم رفع الصادق (عليه السلام) يده إلى السماء وقال: أنت الله - إلى آخر الدعاء - قال: فخر ساجدا لا أسمع منه إلا النفس ثم رفع رأسه فقال: قم فقد أطلقت المرأة. قال: فخرجنا جميعا، فبينما نحن في بعض الطريق إذ لحق بنا الرجل الذي وجهناه
(1) وسائل الشيعة: 15 / 100 باب 87. (2) نوع من التمر سمي به لشدة حلاوته تشبيها بالسكر الطبرزد. (3) الجلواز الشرطي الذي يخف في المجئ والذهاب بين يدي الأمير. 388 إلى باب السلطان، فقال له (عليه السلام): ما الخبر؟ قال: قد أطلق عنها، قال: كيف كان إخراجها؟ قال: لا أدري ولكنني كنت واقفا على باب السلطان، إذ خرج حاجب فدعاها وقال لها: ما الذي تكلمت؟ قالت: عثرت فقلت " لعن الله ظالميك يا فاطمة "، ففعل بي ما فعل. قال: فأخرج مائتي درهم وقال: خذي هذه واجعلي الأمير في حل، فأبت أن تأخذها، فلما رأى ذلك منها دخل وأعلم صاحبه بذلك ثم خرج فقال: انصرفي إلى بيتك فذهبت إلى منزلها. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أبت أن تأخذ المائتي درهم؟ قال: نعم، وهي والله محتاجة إليها، قال: فأخرج من جيبه صرة فيها سبعة دنانير وقال: اذهب أنت بهذه إلى منزلها فاقرئها مني السلام، وادفع إليها هذه الدنانير، قال: فذهبنا جميعا، فأقرأناها منه السلام، فقالت: بالله أقرأني جعفر بن محمد السلام، فشقت جيبها ووقعت مغشية عليها قال: فصبرنا حتى أفاقت، وقال: أعدها علي، فأعدناها عليها حتى فعلت ذلك ثلاثا، ثم قلنا لها: خذي، هذا ما أرسل به إليك، وأبشري بذلك، فأخذته منا وقالت: سلوه أن يستوهب أمته من الله، فما أعرف أحدا توسل به إلى الله أكثر منه ومن آبائه وأجداده (عليهم السلام) (1). أقول: الذي يظهر من خلال التأمل في هذه الرواية أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كانوا يتأثرون أشد التأثر عندما يسمعون اسم فاطمة وخصوصا ما جرى عليها من الظلم والعدوان بعد وفاة أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكذلك نرى كيف أن الإمام ألقى اهتمامه البالغ بهذه المرأة التي لعنت ظالمي فاطمة الزهراء ودعى له الدعاء الذي على أثره أطلق الله سراحها، وكذلك كيف أكرمها بالسبعة دنانير لأنها موالية ومؤمنة بالتولي لأهل البيت والتبري من أعدائهم. وورد عن سليمان الجعفري أنه قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: لا يدخل الفقر بيتا فيه اسم محمد أو أحمد أو علي أو الحسن أو الحسين أو جعفر أو طالب أو عبد الله أو فاطمة من النساء (2).
(1) البحار: 47 / 379 - 381. (2) سفينة البحار: 1 / 662. 389 وأيضا عن الإمام موسى بن جعفر عن أبيه (عليه السلام) في حديث طويل عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند قرب وفاته: " ألا إن فاطمة بابها بابي، وبيتها بيتي، فمن هتكه فقد هتك حجاب الله " قال عيسى (الراوي للحديث) *: فبكى أبو الحسن (عليه السلام) طويلا وقطع بقية كلامه وقال: هتك والله حجاب الله، هتك والله حجاب الله، هتك والله حجاب الله يا أمة - صلوات الله عليها (1). هذه هي بعض الأحاديث التي بينت كرامة اسم فاطمة عند الأئمة: أما معنى فاطمة وتسميتها بهذا الاسم المبارك فلا يخلو من أسباب ومناسبات فهلم معي إلى طائفة كبيرة من الأحاديث التي تذكر اسم سيدتنا فاطمة الزهراء ووجه التسمية وبيان معاني اسمها المبارك فاطمة وأقوال العلماء فيه. وعن يونس بن ظبيان أنه قال له الإمام أبو عبد الله (عليه السلام): أتدري أي شئ تفسير فاطمة؟ قلت: أخبرني يا سيدي. قال: فطمت من الشر. قال: ثم قال: لولا أن أمير المؤمنين (عليه السلام) تزوجها لما كان لها كفو إلى يوم القيامة على وجه الأرض آدم فمن دونه (2). وعن علي بن إبراهيم، عن اليقطيني، عن محمد بن زياد مولى بني هاشم قال: حدثنا شيخ لنا ثقة يقال له نجية بن إسحاق الفزاري قال: حدثنا عبد الله بن الحسن بن حسن قال: قال أبو الحسن (عليه السلام): لم سميت فاطمة فاطمة؟ قلت: فرقا بينه وبين الأسماء. قال: إن ذلك لمن الأسماء، ولكن الاسم الذي سميت به، أن الله تبارك وتعالى علم ما كان قبل كونه، فعلم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتزوج في الأحياء وأنهم يطمعون في وراثة هذا الأمر من قبله، فلما ولدت فاطمة سماها الله تبارك وتعالى " فاطمة " لما أخرج منها وجعل في ولدها، ففطمهم عما طمعوا، فبهذا سميت فاطمة " فاطمة "، لأنها فطمت طمعهم. ومعنى فطمت: قطعت (3). وعن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: " إنا أنزلناه في ليلة القدر " الليلة: فاطمة، والقدر:
(1) البحار: 22 / 477. (2) كشف الغمة: 1 / 463. (3) البحار: 43 / 13 ح 7، علل الشرائع: 1 / 178 ح 2. 390 الله، فمن عرف فاطمة حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر. وإنما سميت " فاطمة " لأن الخلق فطموا عن معرفتها (1). وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لفاطمة: شق الله لك يا فاطمة اسما من أسمائه، فهو الفاطر وأن فاطمة (2). وقال علي (عليه السلام): إنما سميت فاطمة لأن الله فطم من أحبها عن النار (3). وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إنما سميت ابنتي فاطمة لأن الله فطمها وفطم محبيها عن النار. وقال الصادق (عليه السلام): تدري أي شئ تفسير فاطمة؟ قال: فطمت من الشر. ويقال: إنما سميت فاطمة لأنها فطمت عن الطمث (4). وعن محمد بن مسلم الثقفي، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لفاطمة (عليها السلام) وقفة على باب جهنم، فإذا كان يوم القيامة كتب بين عيني كل رجل: مؤمن أو كافر، فيؤمر بمحب قد كثرت ذنوبه إلى النار، فتقرأ فاطمة بين عينيه محبا فتقول: إلهي وسيدي سميتني فاطمة وفطمت بي من تولاني وتولى ذريتي من النار، ووعدك الحق وأنت لا تخلف الميعاد، فيقول الله عز وجل: صدقت يا فاطمة، إني سميتك فاطمة، وفطمت بك من أحبك وتولاك وأحب ذريتك وتولاهم من النار، ووعدي الحق وأنا لا أخلف الميعاد - الحديث (5). وعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما ولدت فاطمة (عليها السلام) أوحى الله عز وجل إلى ملك فانطلق به لسان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فسماها فاطمة، ثم قال: إني فطمتك بالعلم، وفطمتك عن الطمث. ثم قال أبو جعفر (عليه السلام): والله لقد فطمها الله تبارك وتعالى بالعلم وعن الطمث بالميثاق (6). أقول: أما معنى قوله " فطمتك بالعلم " يعني أرضعتك بالعلم أو قطعتك عن الجهل
(1) البحار: 43 / 65. (2) البحار: 43 / 15. (3) البحار: 43 / 16، المناقب لابن شهرآشوب: 3 / 110. (4) البحار: 43 / 16. (5) البحار: 43 / 14 - 15، الجواهر السنية: 247، المختصر: 132. (6) البحار: 43 / 13 - 14، الكافي: 1 / 46 ح 6، المحجة البيضاء: 4 / 212. 391 بسبب العلم، وهذا كناية عن كونها في بدو فطرتها عالمة بالعلوم الربانية. وقال المولى محمد علي الأنصاري (رحمه الله): وقد تلخص منها (أي الأخبار) وجوه متعددة لتسميتها (عليها السلام) بتلك التسمية: مثل فطم نفسها بالعلم، وفطمها عن الشر، وفطمها عن الطمث، وفطم ذريتها وشيعتها من النار، وكذلك فطم من تولاها وأحبها منها، وفطم الأعداء عن طمع الوراثة في الملك، وعن حبها، ونحو ذلك. ولا منافاة بين الأخبار، لأن الفطم معنى يصدق مع كل من الوجوه المذكورة، واختلاف الأخبار من جهة اختلاف حال الرواة والحضار من حيث الاستعداد الذاتية، واختلاف المصالح في الأزمنة والأمكنة، وكل هذه المعاني مرادة من اللفظ عند التسمية، ولا يلزم من ذلك استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، الذي هو مخالف للقواعد الظاهرية اللفظية، لأن فاطمة مشتق من الفطم بمعنى الفصل، ومنه الفطام في الطفل بمعنى فصله عن اللبن والارتضاع، يقال: فطمت المرضع الرضيع فطما، من باب ضرب، فصلته عن الرضاع، فهي فاطمة، والصغير فطم بمعنى المفطوم. وأفطم الرجل: دخل في وقت الفطام، مثل أحصد الزرع، إذا حان حصاده. وفطمت الحبل: قطعته. وفطمت الرجل عن عادته: إذا منعته عنها. وليس الفطم مخصوصا بالفصل عن اللبن وإن كثر استعماله فيه، بل هو مطلق الفصل عن الشئ، ومعنى القطع والمنع راجع إليه أو متفرع منه، فيكون معنى " فاطمة " فاصلة أو قاطعة أو مانعة، وكل منها معنى كلي وماهية مطلقة يصدق مع القيود الكثيرة، فسميت من عند الله بها. ويلزم في تحقق معنى الفصل أن يكون هناك فاصل ومفصول له، مثلا إذا كانت الأم فاطمة لطفلها، فهي فاصلة، والطفل مفصول، واللبن مفصول عنه، والغذاء مفصول به. فيكون معنى فاطمة أنها تفطم نفسها ولو بسبب قابليتها الذاتية عن الجهل بالعلم، وعن الشر بالخير، وعن الطمث بالطهارة عن الحمرة، وتفطم ذريتها وشيعتها ومن توليها وأحبها من النار بالجنة، وتفطم أعداءها عن طمع الوراثة باليأس عنها، وعن حبها ببغضها. فلوحظ في وجه تسميتها بهذا الاسم وجوه متعددة وهي غير داخلة في مفهوم الاسم حتى توجب تعدد معاني اللفظ، بل هي لحاظات خارجية باعتبارها وقعت التسمية.
392 مثلا لو كان مجئ زيد من جهة أغراض مختلفة وأسباب متعددة، فقيل: " جاء زيد "، لم يوجب ذلك كون المجئ مستعملا في المعاني المتعددة. نعم لو جعل فاطمة بالنسبة إلى فطم الأعداء أو الأحباء بمعنى كونها ذات فطم من المبني للفاعل - كما هو كذلك - أي ذات فاطمية، وفي فطمها عن الشر بمعنى ذات فطم من المبني للمفعول أي ذات مفطومية لزم المحذور المذكور، ولكن على التقرير المسطور لا يلزم ذلك المحذور. ويمكن جعلها بمعنى ذات الفطم مطلقا من باب النسبة فيكون جامدا يستوي فيه المذكر والمؤنث... نعم، يمكن جعل فاطمة في جميع الوجوه بمعنى المفعول، أي المفطومة، من باب الصفة بحال المتعلق بلحاظ المآل والحقيقة، أو جعله بمعنى ذات الفطم، من المصدر المبني للفاعل أو المفعول لكن على سبيل القضية الكلية لا الجزئية، كما لا يخفى. وبالجملة فاختلاف الأخبار في بيان وجه التسمية إشارة إلى عدم انحصاره في شئ، أو كون معناها معنى كليا يشمل على وجوه كثيرة، فيحتمل احتمالا ظاهرا أن يكون ملحوظا في وجه التسمية أمور على حدة أيضا كفطمها على الإخلاق الرذيلة بالأخلاق الفاضلة، وعن الأحوال الخبيثة بالأحوال الطيبة الزكية، وعن الأفعال القبيحة بالأفعال الحسنة، وعن الظلمانية بالنورانية، وعن السهو والغفلة بالذكر والمعرفة، وعن عدم العصمة بالمعصومية، وبالجملة عن جميع جهات النقيصة بالكمالات العقلانية والروحانية والنفسانية ولوازمها الظاهرية والباطنية، فيلزم حينئذ أن تكون لها العصمة الكبرى في الدنيا والآخرة والأولى. فتكون حينئذ معصومة تقية نقية ولية صديقة مباركة طاهرة إلى آخر الأسماء المذكورة في الرواية وغير الرواية. وتخصيص أسمائها بالتسعة في الخبر الصادقي (عليه السلام) إما من جهة اشتمالها من حيث المعنى على سائر الأسماء أيضا، أو من جهة صدور التسمية بها من جانب الله سبحانه بلا واسطة كما يشعر به قوله (عليه السلام): لفاطمة تسعة أسماء عند الله (1)... وقال العلامة الهمداني (2) في بيان اسم فاطمة (صلوات الله وسلامه عليها) ما نصه: هذا الاسم سواء كان من عند الله عز وجل أو بإلهام من الله تعالى كما لاحظت في
(1) اللمعة البيضاء: 37 - 39. (2) فاطمة بهجة قلب المصطفى: 152. 393 الأخبار الماضية، لم يكن للعلامة وتمييز المسماة به عن غيرها فحسب، كما في أسامي سائر الناس التي لم تراع المناسبة غالبا بينها وبين الأعيان والذوات، بل في هذا الجعل وهذه التسمية الإلهية حكمة وسر وتناسب عميق بين الاسم والمسماة به. وإن مادة " فطم " على أي وجه فرضت فيها فاعلا أو مفعولا، كانت بمعنى القطع والفصل على نحو الإطلاق، ولا يختص بأحد الوجوه السابقة من الشر والطمث والجهل والخطأ وسوء الخلق والحمرة والحيض وما أشبه ذلك، لأنها (سلام الله عليها) متصفة بجميع المكارم، منفطمة عن جميع العيوب والنقائص، فتناسب الاسم لها - فاعلا - لكونها (سلام الله عليها) فطمت نفسها وذريتها وشيعتها من النار وما يوجب الشنار والعار، وتناسبه لها - مفعولا - لأنها (سلام الله عليها) مفطومة عن معرفتها الناس فهو وصف المتعلق. فمن الذي يبلغ معرفتها؟! هيهات! ضلت العقول، وتاهت الحلوم، وحارت الألباب، وخسئت العيون، وتصاغرت العلماء، وحصرت الخطباء، وتحيرت الحكماء، وتقاصرت الحلماء، وجهلت الألباء، وكلت الشعراء، وعجزت الأدباء، وعييت البلغاء عن وصف شأن من شأنها، ودرك درجة من سمو رفعتها. هي قطب دائرة الوجود ونقطة * لما تنزلت أكثرت كثراتها هي أحمد الثاني وأحمد عصرها * هي عنصر التوحيد في عرصاتها ومن عرف فاطمة (عليها السلام) حق معرفتها فقد أدرك ليلة القدر (1). والتشابه من وجوه: الأول: إن ليلة القدر مجهولة للناس من حيث القدر والمنزلة والعظمة، والناس فطموا وقطعوا عن معرفتها، وكذلك البضعة الأحمدية والجزء المحمدية (عليها السلام) مجهولة قدرها، محفية قبرها. والثاني: كما أن ليلة القدر يفرق فيها كل أمر حكيم، كذلك بفاطمة يفرق بين الحق والباطل، والمؤمن والكفار. والثالث: كما صارت ليلة القدر ظرفا لنزول الآيات والسور، فهي (سلام الله عليها)
(1) البحار: 43 / 65. 394 صارت وعاء للإمامة والمصحف. الرابع: إن ليلة القدر معراج الأنبياء والأولياء، وكذلك ولايتها مرقاة لوصولهم إلى النبوة الرسالة والعظمة (1). والخامس: إن ليلة القدر منشأ للفيوضات والكمالات، وكذلك التوسل بها وسيلة للخيرات والبركات ودفع البليات (2). والسادس: إن ليلة القدر خير من ألف شهر، وكذلك هي (سلام الله عليا) خير نساء الأولين والآخرين، بل إن فاطمة خير أهل الأرض عنصرا وشرفا وكرما. هي مشكاة نور الله جل جلاله * زيتونة عم الورى بركاتها وهي (سلام الله عليها) كما قال الباقر (عليه السلام) عنصر الشجرة الطيبة التي هي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصلها وفرعها علي (عليه السلام). فلاحظ هذا الحديث وتدبر فيها، ثم ارجع البصر كرتين حتى يظهر لك المعارف والحكم وسر " لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما " وسر قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " يا علي، أنفذ ما أمرتك به الزهراء (عليها السلام) " وسر قول علي (عليه السلام): " يا بقية النبوة "، فوالله لولا فاطمة ما قام بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عمود، ولا اخضر له عود. ولنعم ما قال الأزري (رحمه الله): نحن من باري السماوات سر * لو كرهنا وجودها ما براها بل بآثارنا ولطف رضانا * سطح الأرض والسماء بناها وبأضوائنا التي ليس تخبو * حوت الشمس ما حوت من سناها ومما ينبغي لفت النظر إليه هو أن المعصومين ينتمون بهذا الاسم الشريف اهتماما شديدا، ويكرمونه إكراما عظيما، وإذا سمعوا به يبكون ويتأسفون، ويحبون التي سميت به، ويحبون بيتا كان فيه اسم فاطمة، وهم يتوسلون به. فلاحظ الحديث الذي نقلناه عن أبي جعفر (عليه السلام) فإنه ذيله بالقسم والتأكيد بقوله: والله لقد فطمها الله تبارك وتعالى بالعلم وعن الطمث بالميثاق.
(1) ما تكاملت النبوة لنبي حتى أقر بفضلها ومحبتها، ملتقى البحرين، للمرندي: 39. (2) راجع فرائد السمطين: 1 / 38. 395 وأيضا إنه (عليه السلام) - إذا وعكه الحمى (وقبل وجعها آلمها) استعان بالماء البارد، ثم ينادي حتى يسمع صوته على باب الدار: فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). قال العلامة المجلسي (رحمه الله): لعل النداء كان استشفاعا بها صلوات الله عليها للشفاء. قال المحدث القمي: إني أحتمل قويا كما أنه أثر الحمى في جسده اللطيف كذلك أثر كتمان حزنه على أمه المظلومة في قلبه الشريف، فكما أنه يطفي حرارة جسده بالماء، يطفي لوعة وجده بذكر اسم فاطمة سيدة النساء، وذلك مثل ما يظهر من الحزين المهموم من تنفس الصعداء، فإن تأثير مصيبتها صلوات الله عليها على قلوب أولادها الأئمة الأطهار آلم من حز الشفار، وأحر من جمرة النار (1). 2 - الصديقة وهو ثاني الأسماء المباركة لفاطمة الزهراء الذي هو معروف على لسان أهل البيت:، وقد سماها به الله تبارك وتعالى إجلالا وإكراما لمقامها السامي ولما وصلت إليه من التصديق بكل ما آتاه الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم). والصديقة صيغة مبالغة في الصدق والتصديق أي أنها سلام الله عليها كثيرة الصدق، ولقد ورد في كتاب تاج العروس معنى التصديق والصدق حيث قيل إن الصديق أبلغ من الصدوق، وقيل: إنه الكامل في الصدق الذي يصدق قوله بالعمل، البار، الدائم التصديق، وقيل: إنه من لم يكذب قط، وقيل: من صدق بقوله واعتقاده، وحقق صدقه بفعله، وأيا كان منها معنى الصديق فإن فاطمة الزهراء سلام الله عليها تنطبق عليها جميع الأقوال فهي سلام الله عليها كانت المداومة على التصديق بما يوجبه الحق جل وعلا حيث كانت المصدقة بكل ما أمر الله به وبأنبيائه ولا يدخلها في أي شئ من ذلك أي شك كان وكانت المصداق الأفضل - مع أوليائه المعصومين - لقوله تعالى: * (والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون) * (2). وقوله تعالى: * (وما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت من قبله
(1) بيت الأحزان: 100. (2) سورة الحديد: 19. 396 الرسل وأمه صديقة) * (1)، حيث فسرت كلمة صديقة في هذا الآية المباركة بأنها تصدق بآيات ربها، ومنزلة ولدها وتصدقه فيها أخبرها به، بدلالة قوله تعالى: * (وصدقت بكلمات ربها) *، وقيل: لكثرة صدقها وعظم منزلتها فيما تصدق به من أمرها. وعلى كل حال فإن فاطمة الزهراء سلام الله عليها كانت الصديقة الطيبة التي صدقت بالله ورسوله وبما جاء به من عند الله تعالى وكانت المؤمنة بكل عقائدها الربانية والتي كانت تعمل على ضوء تلك العقائد والمعتقدات ولقد جاءت الروايات الكثيرة لكي تؤكد على هذه الحقيقة الواضحة للزهراء (عليها السلام) فلقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث طويل: يا علي، إني قد أوصيت فاطمة ابنتي بأشياء وأمرتها أن تلقيها إليك، فأنفذها، فهي الصادقة الصدوقة، ثم ضمها إليه وقبل رأسها، وقال: فداك أبوك يا فاطمة (2). وعن مفضل بن عمر قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): من غسل فاطمة (عليها السلام)؟ قال: ذاك أمير المؤمنين (عليه السلام)، فكأنما استضقت (استفظعت) ذلك من قوله، فقال لي: كأنك ضقت مما أخبرتك به، فقلت: قد كان ذلك جعلت فداك، فقال: لا تضيقن فإنها صديقة لم يكن يغسلها إلا صديق، أما علمت أن مريم لم يغسلها إلا عيسى؟ (3) - الحديث. وكذلك قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنه قال لعلي (عليه السلام): أوتيت ثلاثا لم يؤتيهن أحد ولا أنا: أوتيت صهرا مثلي ولم أوت أنا مثلي، وأوتيت زوجة صديقة مثل ابنتي ولم أوت مثلها زوجة، وأوتيت الحسن والحسين من صلبك ولم أوت من صلبي مثلهما، ولكنكم مني وأنا منكم (4). وجاء عن علي بن جعفر، عن أخيه، عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: " إن فاطمة (عليها السلام) صديقة شهيدة ". والصديقة فعيلة للمبالغة في الصدق والتصديق، أي كانت كثيرة التصديق لما
(1) المائدة: 75. (2) البحار: 22 / 491. (3) الوسائل: 2 / 714 - 715. (4) الرياض النضرة: 2 / 202 على ما في الغدير: 2 / 305. 397 جاء به أبوها (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانت صادقة في جميع أقوالها، مصدقة أقوالها بأفعالها، وهي معنى العصمة، ولا ريب في عصمتها صلوات الله عليها لدخولها في الذين نزلت فيهم آية التطهير بإجماع الخاصة والعامة، والروايات المتواترة من الجانبين (1). وقال الصادق (عليه السلام): وهي الصديقة الكبرى، وعلى معرفتها دارت القرون الأولى (2). 3 - المباركة وهو ثالث الأسماء التي وردت عن لسان المعصوم (عليه السلام) لفاطمة الزهراء سلام الله عليها عند الباري عز وجل، والظاهر من خلال سيرتها (عليها السلام) وما تركت من ذرية طيبة من بعدها أن مسألة البركة واضحة البرهان في حياتها الواقعية، حيث نجد أن ذرية كل رسول من ولده وخصوصا الذكور إلا نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كانت ذريته من ابنته المباركة فاطمة سلام الله عليها، وهذا ما نجده من خلال المأثور الروائي في حياة الرسول وأهل بيته (عليهم السلام). وقبل الدخول في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) ومدى دلالات هذه الأحاديث على هذا الاسم لفاطمة سلام الله عليها نراجع كتب اللغة لنرى مدى انطباق معنى المباركة أو البركة على حياتها الشخصية وما تركته في هذه الدنيا. فلقد ورد في معنى كلمة البركة هي النماء والزيادة، وعن الزجاج المبارك ما يأتي من قبله الخير الكثير (3). وقيل: إن البركة: هي النماء والسعادة والزيادة (4). وقال الراغب: ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحبس، وعلى وجه لا يحصى ولا يحصر قيل - لكل ما يشاهد منه زيادة محسوسة هو مبارك فيه وفيه بركة.
(1) مرآة العقول: 5 / 315. (2) البحار: 43، 105. (3) لسان العرب: مادة برك. (4) تاج العروس: مادة البركة. 398 ولا شك ولا ريب ومن خلال استقراء حياة فاطمة (عليها السلام) قبل وبعد وفاتها أنها هي الخير الكثير الذي ورد فيه قوله تعالى: * (إنا أعطيناك الكوثر) *، ولقد انطبقت عليها هذه المعاني لكثرة بركتها على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى أهل بيته وعلى شيعة أمير المؤمنين، فأي بركة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مثل فاطمة والتي على معرفتها دارت القرون الأولى، وأي بركة أكبر وأفضل من بركة فاطمة سلام الله عليها على الشيعة وخاصة في هذه الحياة الدنيا حيث كانت الوعاء الأكبر للإمامة التي مثلت أفضل مصاديق الولاية الكبرى وأي بركة أفضل منها عندما تأتي يوم القيامة وتخلص شيعتها ومحبيها من عذاب النار. ولقد طفحت كتب السيرة والتاريخ دلالة على كثرة بركة فاطمة الزهراء سلام الله عليها وكذلك الكتب الروائية والكلامية والتفسيرية حيث أظهرت من خلال طيات صفحاتها هذه الصفة الواردة فيها، فاقرأ معي ما كتب حول بركة الزهراء سلام الله عليها فيما ورد عن عبد الله بن سليمان قائلا... (قرأت في الإنجيل في وصف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): نكاح النساء ذو النسل القليل، إنما نسله من مباركة لها بيت في الجنة لا صغب فيه ولا نصب، يكفلها في آخر زمان كما كفل زكريا أمك، لها فرخان مستشهدان) (1). ولقد ورد في تفسير سورة الكوثر (إنا أعطيناك الكوثر) إن الكوثر هي فاطمة الزهراء سلام الله عليها، والكوثر معناه الخير الكثير. ويعني ذلك أن لكثرة ذرية رسول الله من جهة ابنته فاطمة الزهراء سلام الله عليها خاطب القرآن الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه له الكوثر كرامة من الله تعالى له. قال العلامة الطباطبائي (رحمه الله): إن كثرة ذريته هي المرادة وحدها بالكوثر الذي أعطيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو المراد بها الخير الكثير، وكثرة الذرية مرادة في ضمن الخير الكثير، ولولا ذلك لكان تحقيق الكلام بقوله: * (إن شانئك هو الأبتر) * خاليا عن الفائدة. وقد استفاضت الروايات أن السورة إنما نزلت فيمن عابه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالأبتر بعد ما مات ابنه القاسم وعبد الله، وبذلك يندفع ما قيل: إن مراد الشانئ بقوله (أبتر) المنقطع عن
(1) البحار: 43 / 22. 399 قومه أو المنقطع عن الخير، فرد الله عليه بأنه هو المنقطع من كل خير. ولما فيه قوله (إنا أعطيناك) من الامتنان عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) جئ بلفظ المتكلم مع الغير الدال على العظمة، ولما فيه من تطبيب نفسه الشريفة أكدت الجملة بأن، وعبر بلفظ الإعطاء الظاهر في التمليك. وبالجملة لا تخلو من دلالة على أن ولد فاطمة (عليها السلام) ذريته (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا في نفسه من ملامح القرآن الكريم، فقد كثر الله تعالى نسله بعد كثرة لا يعادلهم فيها أي نسل آخر، مع ما نزل عليهم من النوائب، وأفنى جموعهم من المقاتل الذريعة (1). وقال الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: * (إنا أعطيناك الكوثر) *، والقول الثالث: الكوثر أولاده. قالوا: لأن هذه السورة إنما نزلت ردا على من عابه (عليه السلام) بعدم الأولاد، فالمعنى أنه يعطيه نسلا يبقون على مر الزمان. فانظر كم قتل من أهل البيت، ثم العالم ممتلي منهم ولم يبق من بني - أمية في الدنيا أحد يعبأ به! ثم انظر كم كان فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر والصادق والكاظم والرضا (عليهم السلام) والنفس الزكية وأمثالهم (2). وقال أيضا: إنا إذا حملنا الكوثر على كثرة الأتباع أو على كثرة الأولاد وعدم انقطاع النسل كان هذا إخبارا عن الغيب، وقد وقع مطابقا له، فكان معجز (3). وقال الآلوسي في تفسير: * (إن شانئك هو الأبتر) *، الأبتر: الذي لا عقب له حيث لا يبقى منه نسل ولا حسن ذكر، وأما أنت فتبقى ذريتك... عليه دلالة على أن أولاد البنات من الذرية (4). وقال العلامة القزويني: ووجه المناسبة أن الكافر شمت بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين مات أحد أولاده وقال: إن محمدا أبتر، فإن مات مات ذكره. فأنزل الله هذه السورة على نبيه (عليه السلام) تسلية له، كأنه تعالى يقول: إن كان ابنك قد مات فإنا أعطيناك فاطمة، وهي وإن كانت واحدة وقليلة ولكن الله سيجعل هذا الواحد كثيرا.
(1) الميزان: 20 / 370 - 371. (2) التفسير الكبير: 32 / 124. (3) التفسير الكبير: 32 / 128. (4) روح المعاني: 30 / 247. 400 وتصديقا لهذا الكلام ترى في العالم - اليوم - ذرية فاطمة الزهراء (عليه السلام) الذين هم ذرية رسول الله (عليه السلام) منتشرين في بقاع العالم، ففي العراق حوالي مليون، وفي إيران حوالي ثلاث ملايين، وفي مصر خمس ملايين، وفي المغرب الأقصى خمس ملايين، وفي الجزائر وتونس وليبيا عدد كثير، وكذلك في الأردن وسوريا ولبنان والسودان وبلاد الخليج والسعودية ملايين، وفي اليمن والهند وباكستان والأفغان وجزر أندونيسيا حوالي عشرين مليون، وقل أن تجد في البلاد الإسلامية بلدة ليس فيها أحد من نسل السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، ويقدر مجموعهم بخمسة وثلاثين مليونا، ولو أجريت إحصائيات دقيقة وصحيحة فلعل العدد يتجاوز هذا المقدار (1). ويؤيد ما استفاده العلامة (ره) وغيره أخبار كثيرة وردت من الفريقين العامة والخاصة، كما روى الحافظ الكنجي الشافعي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إن الله عز وجل جعل ذرية كل نبي في صلبه، وإن الله عز وجل جعل ذريتي في صلب علي بن أبي طالب ". قلت: رواه الطبراني في معجمه الكبير، في ترجمة الحسن. فإن قيل: لا اتصال لذرية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعلي (عليه السلام) إلا من جهة فاطمة (عليها السلام)، وأولاد البنات لا تكون ذرية لقول الشاعر: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا * بنوهن أبناء الرجال الأباعد قلت: في التنزيل حجة واضحة تشهد بصحة هذه الدعوى، وهو قوله عز وجل في سورة الأنعام: * (ووهبنا له (أي لإبراهيم) إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته (أي ذرية نوح) داود وسليمان (إلى أن قال) وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس) * (2). فعد عيسى (عليه السلام) من جملة الذرية الذين نسبهم إلى نوح (عليه السلام) وهو ابن بنت لا اتصال له إلا من جهة أمه مريم. وفي هذا أكد دليل [على] أن أولاد فاطمة (عليها السلام) ذرية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا عقب له إلا من جهتها... وقد قال عطاء ومن شايعه من المفسرين: الهاء من قوله (ومن ذريته) راجعة إلى إبراهيم. ويحصل في هذا فائدة
(1) فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد: ص 86 - 87. (2) الأنعام: 84 - 85. 401 أخرى لطيفة وهو أنه عد من جملة الذرية الذين نسبهم إلى إبراهيم لوطا ولم يكن من صلبه، لأن لوطا ابن أخي إبراهيم، والعرب تجعل العم أبا كما أخبر عز وجل عن ولد يعقوب حيث قال: (نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق) ومعلوم أن إسماعيل عم يعقوب ولكن نزله منزلة الأب، فيحصل من هذا جواز انتساب أولاد علي (عليه السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الإطلاق، لأنه أخوه وهو منه بمنزلة هارون من موسى، كما نسب الله لوطا إلى إبراهيم، ولوط إنما هو ابن أخيه، وكذلك هنا... ابن حصين عن عمر قال: سمعت رسول الله يقول: كل بني أنثى فإن عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة، فإني أنا عصبتهم وأنا أبوهم (1). وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث طويل: يا فاطمة، ما بعث الله نبيا إلا جعل له ذرية من صلبه، وجعل ذريتي من صلب علي، ولولا علي ما كانت لي ذرية (2). قال ابن أبي الحديد في ذيل كلام علي (عليه السلام): " املكوا عني هذا الغلام لا يهدني، فإنني أنفس بهذين - يعني الحسن والحسين 8 - على الموت لئلا ينقطع بهما نسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " (3). فإن قلت: أيجوز أن يقال للحسن والحسين وولدهما أبناء رسول الله وولد رسول الله وذرية رسول الله ونسل رسول الله؟ قلت: نعم، لأن الله سماهم أبنائه في قوله تعالى: * (ندع أبنائنا وأبنائكم) * (4)، وإنما عنى الحسن والحسين... وسمى الله تعالى عيسى ذرية إبراهيم في قوله: (ومن ذريته داود وسليمان - إلى أن قال - ويحيى وعيسى) *... فإن قلت: فما تصنع بقوله تعالى: * (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) * (5)؟ قلت: أسألك عن أبوته لإبراهيم بن مارية، فكل ما تجيب به عن ذلك فهو جوابي عن الحسن والحسين (عليهما السلام). والجواب الشامل للجميع أنه عنى زيد بن حارثة، لأن
(1) كفاية الطالب: 379. (2) البحار: 43 / 101. (3) نهج البلاغة: الخطبة 205. (4) آل عمران: 61. (5) الأحزاب: 40. 402 العرب كانت تقول: زيد بن محمد، على عادتهم في تبني العبيد، فأبطل الله ذلك ونهى عن سنة الجاهلية... قيل لمحمد ابن الحنفية: لم يغرر بك أبوك في الحرب ولم لا يغرر بالحسن والحسين؟ فقال: لأنهما عيناه، وأنا يمينه، وهو يذب عن عينيه بيمينه (1). وروى الخطيب عن عبد الله بن عباس قال: كنت أنا وأبي العباس بن عبد المطلب جالسين عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ دخل علي بن أبي طالب، فسلم فرد عليه رسول الله: وبش به وقام إليه واعتنقه وقبل بين عينيه وأجلسه عن يمينه، فقال العباس: يا رسول الله، أتحب هذا؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا عم رسول الله، والله لله أشد حبا له مني، إن الله جعل ذرية كل نبي في صلبه، وجعل ذريتي في صلب هذا (2). وجرت مناظرة طويلة بين الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) وبين هارون الرشيد، وفيه قال له هارون: لم جوزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقولون لكم: يا بني رسول الله، وأنتم بنو علي؟ وإنما ينسب المرء إلى أبيه، وفاطمة إنما هي وعاء، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جدكم من قبل أمكم! فقلت: يا أمير المؤمنين، لو أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نشر فخطب إليك كريمتك هل كنت تجيبه؟ فقال: سبحان الله! ولم لا أجيبه بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك. فقلت: لكنه عليه السلام لا يخطب إلي ولا أزوجه. فقال: ولم؟ فقلت: لأنه ولدني ولم يلدك. فقال: أحسنت يا موسى. ثم قال: كيف قلتم إنا ذرية النبي، والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعقب، وإنما العقب للذكر لا للأنثى، وأنتم ولد الابنة ولا يكون لها عقب؟ فقلت: أسألك بحق القرابة والقبر ومن فيه إلا ما أعفيتني عن هذه المسألة، فقال: أولا تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي، وأنت يا موسى يعسوبهم وإمام زمانهم؟ كذا أنهي إلي، ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه حتى تأتيني فيه بحجة من كتاب الله، فأنتم تدعون معشر ولد علي أنه لا يسقط عنكم منه شئ ألف ولا واو إلا وتأويله عندكم، واحتججتم بقوله عز وجل: * (ما فرطنا في
(1) شرح النهج: 11 / 26. (2) تاريخ بغداد: 1 / 316 - 317. 403 الكتاب من شئ) * (1). وقد استغنيتم عن رأي العلماء وقياسهم. فقلت: تأذن لي في الجواب؟ قال: هات. فقلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: * (ومن ذريته داور وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى) * (2)، من أبو عيسى، يا أمير المؤمنين؟ فقال: ليس لعيسى أب، فقلت: إنما ألحقناه بذراري الأنبياء (عليهم السلام) من طريق مريم (عليها السلام)، وكذلك ألحقنا بذراري النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبل أمنا فاطمة (عليها السلام). أزيدك يا أمير المؤمنين؟ قال: هات. قلت: قول الله عز وجل: * (فمن حاجك فيه من بعد ما جائك من العلم فقل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) * (3)، ولم يدع أحد أنه أدخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت الكساء عند مباهلة النصارى إلا علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وكان تأويل قوله عز وجل (أبنائنا) الحسن والحسين (ونسائنا) فاطمة (وأنفسنا) علي بن أبي طالب. إن العلماء قد أجمعوا على أن جبرئيل قال يوم أحد: " يا محمد، إن هذه لهي المواساة من علي. قال: لأنه مني وأنا منه. فقال: جبرئيل: وأنا منكما يا رسول الله. ثم قال: لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي ". فكان كما مدح الله عز وجل به خليله عليه السلام إذ يقول: (فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) (4)، إنا معشر بني عمك نفتخر بقول جبرئيل إنه منا. فقال: أحسنت يا موسى - الحديث (5). عن عبد الصمد بن بشير، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: قال لي أبو جعفر (عليه السلام): يا أبا الجارود، ما يقولون في الحسن والحسين (عليهما السلام)؟ قلت: ينكرون علينا أنهما ابنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: فبأي شئ احتججتم عليهم؟ قلت: بقول الله عز وجل في عيسى بن مريم: * (ومن ذريته داود وسليمان (إلى قوله) وكذلك نجزي
(1) الأنعام: 38. (2) الأنعام: 84. (3) آل عمران: 61. (4) الأنبياء: 60. (5) البحار: 48 / 127. 404 المحسنين) *، وجعل عيسى من ذرية إبراهيم، قال: فأي شئ قالوا لكم؟ قلت: قالوا: قد يكون ولد الابنة من الولد ولا يكون من الصلب. قال: فبأي شئ احتججتم عليهم؟ قال: قلت: احتججنا عليهم بقول الله تعالى: * (قل تعالوا ندع أبنائنا وأبنائكم ونسائنا ونسائكم) * الآية، قال: فأي شئ قالوا لكم؟ قلت: قالوا قد يكون في كلام العرب ابني رجل واحد، فيقول: أبنائنا، وإنما هما ابن واحد. قال: فقال أبو جعفر (عليه السلام): والله يا أبا الجارود لأعطينكها من كتاب الله تسمى لصلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يردها إلا كافر. قال: قلت: جعلت فداك، وأين؟ قال: حيث قال الله * (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم (إلى أن ينتهي إلى قوله) وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) * (1)، فسلهم يا أبا الجارود، هل حل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نكاح حليلتهما؟ فإن قالوا: نعم، فكذبوا والله وفجروا، وإن قالوا: لا، فهما والله ابناه لصلبه، وما حرمتا عليه إلا للصلب (2). وعن عامر الشعبي إنه قال: بعث إلي الحجاج ذات ليلة، فخشيت، فقمت وتوضأت وأوصيت. ثم دخلت عليه فنظرت فإذا نطع منشور وسيف مسلول. فسلمت عليه، فرد علي السلام فقال: لا تخف، فقد أمنتك الليلة وغدا إلى الظهر. وأجلسني عنده، ثم أشار فأتي برجل مقيد بالكبول والأغلال، فوضعوه بين يديه فقال: إن هذا الشيخ يقول: إن الحسن والحسين كانا ابني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ليأتيني بحجة من القرآن وإلا لأضربن عنقه. فقلت: يجب أن تحل قيده فإنه إذا أحتج فإنه لا محالة يذهب، وإن لم يحتج فإن السيف لا يقطع هذا الحديد. فحلوا قيوده وكبوله، فنظرت فإذا هو سعيد بن جبير، فحزنت بذلك وقلت: كيف يجد حجة على ذلك من القرآن؟ فقال له الحجاج: إئتني بحجة من القرآن على ما ادعيت وإلا أضرب عنقك. فقال له: انتظر. فسكت ساعة ثم قال له مثل ذلك، فقال: انتظر. فسكت ساعة ثم قال له مثل ذلك، فقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قال: * (ووهبنا له إسحاق ويعقوب (إلى
(1) النساء: 23. (2) البحار: 43 / 233. 405 قوله) وكذلك نجزي المحسنين) *. ثم سكت. وقال للحجاج: اقرأ ما بعده، فقرأ: * (وزكريا ويحيى وعيسى) *، فقال سعيد: كيف يليق ههنا عيسى؟ قال: إنه كان من ذريته. قال: أين كان عيسى من ذرية إبراهيم ولم يكن له أب بل كان ابن ابنة فنسب إليه مع بعده، فالحسن والحسين أولى أن ينسبا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع قربهما منه. فأمر له بعشرة آلاف دينار وأمر بأن يحملوها معه إلى داره، وأذن له في الرجوع. قال الشعبي: فلما أصبحت قلت في نفسي: قد وجب علي أن آتي هذا الشيخ فأتعلم منه معاني القرآن، لأني كنت أظن أني أعرفها فإذا أنا لا أعرفها. فأتيته فإذا هو في المسجد وتلك الدنانير بين يديه يفرقها عشرا عشرا ويتصدق بها، ثم قال: هذا كله ببركة الحسن والحسين عليهما السلام، لئن كنا أغممنا واحدا لقد أفرحنا ألفا وأرضينا الله ورسوله (1). 4 - الطاهرة من الأسماء الجميلة والتي تدل على معنى يصبو إليه كل مؤمن هو الطهارة الباطنية والظاهرية، حيث سميت به فاطمة سلام الله عليها، وقد دلت عدة روايات مهمة في هذا الباب على مدى طهارتها عليها السلام هذا بالإضافة إلى الشواهد الأخرى التي أيدت هذه المسألة عنها (عليها السلام) من أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة بل هي المحور الذي يدور عليه أهل البيت (عليهم السلام)، وأفضل دليل على طهارتها هو آية التطهير، فهي سلام الله عليها مطهرة نقية مبرأة من كل الأرجاس الظاهرية والباطنية وإليك بعض الأحاديث والشواهد التي تدل على أنها طاهرة سواء الطهارة الظاهرية أو الباطنية. فلقد ورد عن أبي جعفر، عن آبائه: قال: إنما سميت فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) " الطاهرة " لطهارتها من كل دنس، وطهارتها من كل رفث، وما رأت قط يوما حمرة
(1) البحار: 43 / 229. 406 ولا نفاسا (1). وعن الصادق (عليه السلام) قال: إن الله حرم النساء على علي ما دامت فاطمة حية، لأنها طاهرة لا تحيض (2). ولقد بين العلامة المولى محمد علي الأنصاري وجه الطهارة عن أهل البيت: بما فيهم فاطمة سلام الله عليها حيث قال: ووجه الطهارة في جميع ما ذكر منهم من حيث الحكمة أن منشأ النجاسة ونحوها إنما هو جهة النفسانية، وليس في تلك الأنوار الإسفهبدية جهة النفسانية بالمرة ولو مثقال ذرة. وما ورد في طهارة أجسادهم الشريفة إنما هو محمول على أجزائها الظاهرية والباطنية من كل حيثية، وإلا فظواهر الأجساد طاهرة من كل مسلم أيضا فلا يكون لهم حينئذ فضل من هذه الجهة... (3). أما قضية سد الأبواب بالنسبة للمسجد النبوي الشريف إلا لأهل البيت (عليهم السلام) في زمن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فهي أفضل شاهد على طهارتهم الظاهرية والباطنية. وقال العلامة الأميني (4) (رحمه الله) إشارة إلى هذا المسألة: إن سد الأبواب الشارعة في المسجد كان لتطهيره عن الأدناس الظاهرية والمعنوية، فلا يمر به أحد جنبا، ولا يجنب فيه أحد. وأما ترك بابه (صلى الله عليه وآله وسلم) وباب أمير المؤمنين (عليه السلام) فلطهارتهما عن كل رجس ودنس بنص آية التطهير، حتى إن الجنابة لا تحدث فيهما من الخبث المعنوي ما تحدث في غيرهما... وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا إن مسجدي حرام على كل حائض من النساء وكل جنب من الرجال إلا على محمد وأهل بيته (عليهم السلام) علي وفاطمة والحسن والحسين (5) (صلوات الله عليهم أجمعين). وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا لا يحل هذا المسجد لجنب ولا لحائض إلا لرسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين، ألا قد بينت لكم الأسماء أن لا تضلوا (6)...
(1) البحار: 43 / 19، 16. مصباح الأنوار على ما في العوالم: 222 مخطوط. (2) المناقب: 3 / 110. التهذيب: 7 / 475. بشارة المصطفى: 306. (3) اللمعة البيضاء: 24. (4) الغدير: 3 / 211. (5) سنن البيهقي: 7 / 65. (6) سنن البيهقي: 7 / 65. 407 فزبدة المخض من هذه كلها أن إبقاء ذلك الباب والإذن لأهله بما أذن الله لرسوله مما خص به مبتن على نزول آية التطهير النافية عنهم كل نوع من الرجاسة. وقال العلامة الشيخ السعيد جمال الدين الحسن بن زين الدين الشهيد الثاني (رحمه الله): وروى الصدوق في كتاب " من لا يحضره الفقيه " عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرسلا أنه قال: " إن فاطمة (صلوات الله عليها) ليست كأحد منكن، إنها لا ترى دما في حيض ولا نفاس كالحورية... " ولا يخفى ما في هذه الروايات من المنافاة لما سبق في حديث قضاء الحائض للصوم دون الصلاة من أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأمر فاطمة (عليه السلام) بذلك. ووجه الجمع حمل أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) لها (عليها السلام) على إرادة تعليم المؤمنات، وهو نوع من التجوز في الخطاب شائع، ولعل المقتضي له في هذا الموضع رعاية خفاء هذه الكرامة كغيرها مما ينافي ظهوره بلاء التكليف (1). وفي ختام هذا البحث ينبغي أن تلاحظ ما جاء في غسلها ووصيتها (عليه السلام) قبل الوفاة، وهو أدل دليل وأقوى حجة على أنها كانت طاهرة ميمونة في حياتها وبعد مماتها، ولم يحدث الموت فيها رجاسة ولا دناسة، مع أنك تعلم أنه مما لا خلاف فيه تنجس البدن بعد الموت وبعد خروج النفس عنه، ولأجل ذلك لا بد أن يغسل الميت حتى يطهر بدنه وينظف جسمه، إلا أن سيدة النساء (عليه السلام) أوصت أن لا يكشفها أحد، وأن تدفن بغسلها قبل الوفاة. روى أحمد في مسنده عن أم سلمى (زوجة أبي رافع) قالت: اشتكت فاطمة شكواها التي قبضت فيه، فكنت أمرضها، فأصبحت يوما كأمثل ما رأيتها في شكواها تلك، قالت: وخرج علي لبعض حاجته، فقالت: يا أمة اسكبي لي غسلا. فسكبت لها غسلا، فاغتسلت كأحسن ما رأيتها تغسل، ثم قالت: يا أمة أعطيني ثيابي الجدد، فأعطيتها، فلبستها، ثم قالت: يا أمة قدي لي فراشي وسط البيت، ففعلت، واضطجعت واستقبلت القبلة وجعلت يدها تحت خدها، ثم قالت: يا أمة إني مقبوضة الآن وقد تطهرت، فلا يكشفني أحد، فقبضت مكانها. قالت: فجاء علي فأخبرته (2).
(1) منتقى الجمان: 1 / 224. (2) مسند أحمد: 6 / 461، وكذلك ورد هذا الخبر في كتب مختلفة للعامة والخاصة، منها " الإصابة " لابن حجر في ترجمتها عليها السلام، و " حلية الأولياء ": 2 / 43، و " كشف الغمة ": 1 / ص 502، و " المناقب " لابن شهرآشوب: 3 / 364، و " المستدرك " للمحدث النوري: 1 / 104 في نوادر الغسل. 408 وقال في " كشف الغمة ": واتفاقهما من طرق الشيعة والسنة على نقله مع كون الحكم على خلافه عجيب، فإن الفقهاء من الطرفين لا يجيزون الدفن إلا بعد الغسل إلا في موضع ليس هذا منه... ولعل هذا أمر يخصها (عليها السلام). نعم إنها (عليها السلام) كأبيها في طهارتها كما تقدم عن الصادق (عليه السلام) إنه لما سئل: هل اغتسل علي حين غسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: النبي طاهر مطهر ولكن اغتسل علي (عليه السلام) وجرت به السنة. 5 - الزكية ومعنى هذا الاسم مماثل ومرادف للمباركة، والذي يقتضي الحال أن الزكاة هي النمو والزيادة في الشئ على وجه ما بحيث يكون ذا أثر واضح نتيجة تلك الزيادة التي تطرأ عليه، فالزهراء زكية من جهة أن الله تعالى قد جعل ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد ازدادت ونمت عن طريق الرحم الطاهر للزهراء سلام الله عليها فلقد كثر وبانت ذرية الرسول من جهتها سلام الله عليها وهذا يقتضي أن تكون الزهراء هي المنبع الذي عن طريقه كثرة ذرية رسول الله، فهي الزكية بكثرة بركتها على شيعتها ويمن المراجعة في هذا الموضوع في باب اسمها المباركة فإنه كما هي مباركة فهي زكية بسبب إخلاصها وحبها لله تعالى تفانيها في ذات الله. 6 - الراضية من الأمور المهمة والتي تكون ذا أهمية كبيرة في معرفة درجة أيمان الفرد المسلم مسألة الرضا عن الله تعالى، فمقام الرضا يحتاج إلى معرفة ويقين حتى يصل إليه الإنسان ويكون من الراضين بما قسم الله تعالى حتى يصل في النهاية إلى مرحلة إيمانية
409 عالية جدا، وكما ورد في دعاء كميل " وتجعلني بقسمك راضيا قانعا " أي أن الإنسان المؤمن يطلب من الله تعالى أن يوصله إلى مقام الرضا منه جل وعلا في كل ما يقسمه له سواء من خير أو بلاء أو غير ذلك، ومع هذا كله فلقد ورد في عدة أحاديث مروية عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام) أن رأس طاعة الله تعالى الصبر والرضا عن الله تبارك وتعالى. فلقد جاء في الحديث الشريف عن علي بن الحسين (عليه السلام) أنه قال: " الصبر والرضا عن الله رأس طاعة الله، ومن صبر ورضي عن الله فيما قضى عليه فيما أحب أو كره، لم يقض الله عز وجل له فيما أحب أو كره إلا ما هو خير له " (1) لأنه سبحانه وتعالى كما ورد في بعض الأخبار - عند حسن ظن عبده المؤمن به، إضافة إلى أن الله سبحانه لا يختار لعبده إلا ما فيه خيره ومصلحته، وإن خفيت تلك المصلحة على العبد لمحدوديته وقصوره عن الإحاطة بمصالحه ومفاسده. وجاء في حديث آخر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن أعلم الناس بالله أرضاهم بقضاء الله عز وجل (2). فمن خلال هذا الحديث وأحاديث أخرى يظهر مقام الزهراء سلام الله عليها العلي حيث أنها كانت راضية عن الله تعالى بكل ما قدر لها من خير وبلاء، وهذا ينم عن الحالة الإيمانية عند فاطمة سلام الله عليها، فبملاحظة اسمها هذا - الراضية - باعتبار أنه اسم معروفة به عند الله تعالى والله لا يعطي هذا الاسم إلا لمن حاز على مرتبة شريفة وسامية، فبملاحظة أمور أخرى في حياتها سلام الله عليها يتضح ويظهر أنها (عليها السلام) كانت ذا مرتبة علمية وعرفانية بلغت أوج عظمتها، وكما ورد على لسان المعصوم (عليه السلام) " نحن حجج الله على الخلق وجدتنا فاطمة حجة الله علينا " والحجة لا يكون على الآخرين إلا إذا كان ذو مقام علمي وسامي على الآخرين وإلا لا يكون حجة على غيره. إذن فاطمة كانت راضية وهذا يظهر من خلال أبسط تأمل لحياتها وما جرى عليها
(1) أصول الكافي: 2 / 66. (2) أصول الكافي: 2 / 66. 410 من الظلم والأذى، وبما قدر لها من مرارة الدنيا ومشقاتها ومصائبها وبلاياها. وبمراجعة بعض الروايات في المقام يظهر أن هناك حالة ترابط بين اسم الصديقة لفاطمة سلام الله عليها وبين اسمها الراضية، فهناك حالة تلازم كما يظهر من الحديث الذي سوف أنقله إليك بين حالة الرضا بقضاء الله تعالى وبين الصديق الذي يكون عند الله بهذا المقام، فلقد روي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: " قال الله عز وجل: عبدي المؤمن لا أصرفه في شئ إلا جعلته خيرا له، فليرض بقضائي، وليصبر على بلائي، وليشكر نعمائي أكتبه، أكتبه يا محمد من الصديقين عندي " (1). وتمام هذا الحديث منطلق على سيرتها الذاتية (عليها السلام) فهي كانت راضية بقضاء الله تعالى وصابرة على ما جرى عليها من الظلم والهوان، وكانت شاكرة لله تعالى فالشكر يدل على الرضا، وبملاحظة أسماء الزهراء في الرواية المتقدمة في أول الفصل نجد أن من أسماءها الصديقة وأن من الأسماء الأخرى لها هو الراضية، إذن الرضا يؤدي بالعبد إلى درجة الصديقين، والزهراء من خلال استقراء حياتها وسيرتها الذاتية نجد أنها كانت راضية بكل ما قدر الله لها، فهي إذن صديقة وهذا من أفضل البراهين على أنها كانت صديقة سلام الله عليها. أما من خلال الأحاديث والأقوال الواردة في المقام فهي كثيرة والتي من خلالها بينت أن فاطمة سلام الله عليها كانت الراضية، وكما قلنا أن سيرتها الذاتية طافحة بالأحداث الكثيرة التي أثبت أنها كانت راضية بما قدر الله لها، فعن علي بن أعبد قال: قال لي علي رضي الله عنه: ألا أحدثك عني وعن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكانت من أحب أهله إليه؟ قلت: بلى. قال: إنها جرت بالرحى حتى أثر في يدها، واستقت بالقربة حتى أثر في نحرها، وكنست البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت القدر حتى دكنت ثيابها، وأصابها من ذلك ضر، فأتي النبي (عليه السلام) خدم، فقلت: لو أتيت أباك فسألته خادما. فأتته فوجدت عنده حداثا، فاستحيت فرجعت، فأتاها من الغد، فقال: ما كان حاجتك؟ فسكتت، فقلت: أحدثك يا رسول (عليه السلام)، جرت عندي
(1) أصول الكافي: 2 / 68. 411 بالرحى حتى أثر في يدها، وحملت القربة حتى أثر في نحرها وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، [و] أوقدت القدر حتى دكنت ثيابها، فلما جاءك الخدم أمرتها أن تأتيك فتستخدمك خادما يقيها حر ما هي فيه. قال: اتقي الله يا فاطمة، وأدي فريضة ربك، واعملي عمل أهلك، إن أخذت مضجعك فسبحي ثلاثا وثلاثين، واحمدي ثلاثا وثلاثين، وكبري أربعا وثلاثين، فتلك مائة، فهي خير لك من خادم. فقالت: رضيت عن الله وعن رسوله، ولم يخدمها (1). ولقد ذكر المولى محمد علي الأنصاري شارح الخطبة، في مسألة رضاها سلام الله عليها ومسألة من وجوه اقتضاها حال الرواية حيث قال: وإطلاق الرضية لرضاها عن الله ورسوله حين ذهبت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فطلبت منه خادمة وقالت: لا أطيق على شدائد أشغال البيت، فعلمها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تسبيح فاطمة وبشر لها بثوابه، فقالت ثلاثا: رضيت عن الله ورسوله. فرجعت إلى بيتها فقالت: طلبت من أبي خير الدنيا، فأعطاني خير الآخرة. أو لرضاها عن الله تعالى فيما أعطاها من القرب والمنزلة وطهارة الطينة وغير ذلك من المراتب والعالية في الدنيا والبرزخ والآخرة من حيث الجاه والمنزلة النعمة والشرف والفضيلة. أو لرضاها عنه تعالى في جعل الشفاعة الكبرى بيدها من الانتقام من قتلة ولدها في الدنيا والآخرة (2). 7 - المرضية وهذا اسم آخر لفاطمة الزهراء سلام الله عليها، والذي يظهر من خلال التأمل والتدبر في السيرة الذاتية لها أنه هناك احتمالان في معنى كونها مرضية، أحدهما هو كون جميع أعمالها وأفعالها وأقوالها وما صدر منها خلال مسيرة حياتها مرضية عند الله تبارك وتعالى فهي رضي الله عنها ورضت عنه، فهي راضية مرضية راضية عن
(1) مسند فاطمة عليها السلام للحافظ البوطي: 110. (2) اللمعة البيضاء: 92. 412 الباري عز وجل ومرضية بما وعد الله تبارك وتعالى عباده بالرضوان الأكبر. والاحتمال الآخر أنها سلام الله عليها كانت مرضية من جهة ما أعطاها الله تبارك وتعالى من المقامات النورانية التي بها فضلها على غيرها وكذلك، ومن خلال ما أعطاها تبارك وتعالى من الذرية ا لكثيرة حيث جعل منها الأئمة الهاديين، وكذلك هي مرضية سلام الله عليها من جهة أن لها مقام الشفاعة الكبرى وكما ورد في أحاديث مجيئها يوم القيامة وكيفية شفاعتها لشيعتها ومحبيها، وهذا ما بحثناه في الفصل الخاص الذي بيناه فيه مقاماتها سلام الله عليها، وأيا كان تفسير معنى المرضية سواء كان الاحتمال الأولى أو الثاني، فإن فاطمة سلام الله عليها قد حازت وفازت بهذه المنزلة الرفيعة والدرجة الراقية فهي راضية مرضية أعمالها عند الله عز وجل (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي). 8 - المحدثة ونقف هنا في هذا الصفحات مع اسم آخر لفاطمة سلام الله عليها والذي نستفيده من خلال مراجعة مصادر اللغة إن هذا الاسم ومن دون تحريك حرف الدال نحتمل فيه أما أن تكون الدال المشددة مكسورة وأما أن تكون الدال المشددة فيه مفتوحة، وعلى الاحتمال الأول يكون معنى هذا الاسم أنها سلام الله عليها كانت تحدث أمها خديجة (عليه السلام) وهذا ما يظهر من خلال مراجعة بعض الروايات، حيث أنها سلام الله عليها كانت تحدث أمها وهي في بطنها، وكما ورد عندما سئل رسول الله من زوجته خديجة أثناء دخوله عليها قائلا لها مع من تتحدثين قالت: الجنين الذي في بطني يؤنسني ويحدثني. وعلى الاحتمال الثاني وهو الأصح على ما يظهر من بعض الأحاديث في المقام (وسوف تأتينا خلال البحث) يكون معنى المحدثة هو أنها سلام الله عليها كانت تحدثها الملائكة وتؤنسها وخصوصا بعد فقد أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وهنا سؤال يطرح نفسه في المقام وينقدح في ذهن القارئ وهو هل من الممكن أن
413 تكون الملائكة تحدث بعض الناس مع أن المعلوم أن الوحي انقطع بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي حالة كون تحديث الملائكة وإمكان وقوعه ولو على غير نحو الوحي هل يقع هذا مع فاطمة سلام الله عليها؟ وللإجابة على هذا السؤال لا بد لنا من مراجعة القرآن الكريم ونستقرأه في هذه المسألة وإمكان وقوعها في الأمم السابقة باعتبار أن القرآن الكريم المصدر الأول للمسلمين في عرض الأشياء عليه. فنجد من خلال عدة آيات قرآنية كثيرة جدا ثبتت هذه الحقيقة وهي أن الملائكة يمكن أن تتحدث مع البشر، فهذا صريح القرآن يثبت هذه الحقيقة الواضحة البرهان والتي لا يبقى معها شك وإليك بعض هذه الآيات القرآنية التي ثبتت هذه المسألة: 1 - قال الله تعالى (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا...) * (1). 2 - (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك...) * (2). إن الظاهر من خلال التأمل في الآيتين المباركتين أن مريم سلام الله عليها تحدثت مع الملائكة، وهذا من أفضل الأدلة على مسألة تحدث الملائكة مع أناس ليسوا بأنبياء فإن مريم سلام الله عليها لم تكن بنبي ولم تكن إمام بل هي أم نبي من أنبياء الله تعالى، ومع ذلك فالملائكة تحدثت معها. 3 - قوله تعالى: * (وامرأته قائمة...) * (3). 4 - وقوله تعالى: * (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه) * (4). وقوله تعالى: * (فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا) * (5). * (فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها) * (6). * (وإذ أوحيت
(1) سورة مريم: آية 16 - 21. (2) آل عمران: 43. (3) هود آية: 71 - 73. (4) القصص: 7. (5) سورة مريم: آية 11. (6) فصلت: 12. 414 إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي) * (1). * (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا) * (2). * (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا) * (3). * (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه) * (4). * (إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى) * (5). إذن يظهر من خلال هذه الآيات القرآنية وآيات أخرى أن الوحي ليس مختص بالأنبياء والرسل فقط بل هو يتعدى إلى أولياء الله تعالى، نعم الوحي هنا في هذه الآيات المفهوم منه غير الوحي في إبلاغ الرسالات إلى الأنبياء بل هو شأن آخر من الوحي. فالوحي لغة الإعلام الخفي السريع، واصطلاحا الطريقة الخاصة التي يتصل بها الله تعالى برسله وأنبيائه لإعلامهم ألوان الهداية والعلم، وإنما جاء تعبير الوحي عن هذه الطريقة باعتبارها خفية عن الآخرين ولذا عبر الله تعالى عن اتصاله برسوله الكريم بالوحي (6). قال سبحانه * (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده...) * (7). وقال الله تعالى * (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم) * (8). وهذه الآية الأخيرة حددت معنى الوحي الذي يختص بالأنبياء والمرسلين أما الآيات الأخرى المتقدمة الذكر فلها معاني أخر للوحي، والذي نقول به أن فاطمة الزهراء إنما كانت محدثة من قبل الملائكة بنحو من أنحاء الوحي الذي بينته الآيات
(1) المائدة: 111. (2) الأنفال: 12. (3) النحل: 68. (4) القصص: 7. (5) طه: 38. (6) موجز علوم القرآن: 110. (7) النساء: 163. (8) الشورى: آية 51. 415 الآنفة الذكر، فلا محالة أن تكون قد حدثت من قبل الملائكة كما دل القرآن على إمكان وقوع ذلك كما حدث مع أم موسى وكيفية إيحاء الله تعالى لها. وثمة شواهد أخرى تدل على أنها كانت محدثة من قبل الملائكة، وهذا ما نجده في المأثور الروائي الذي نقل إلينا عبر الرواة والمحدثون. فعن إسحاق بن جعفر بن محمد بن عيسى بن زيد بن علي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إنما سميت فاطمة محدثة لأن الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران فتقول: يا فاطمة، إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين. يا فاطمة، اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين (1). فتحدثهم ويحدثونها، فقالت لهم ذات ليلة: أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران؟ فقالوا: إن مريم كانت سيدة نساء عالمها، وإن الله جعلك سيدة نساء عالمك وعالمها وسيدة نساء الأولين والآخرين (2). وعن عبد الله بن الحسن المؤدب، عن أحمد بن علي الأصفهاني، عن إبراهيم بن محمد الثقفي، عن إسماعيل بن بشار قال: حدثنا علي بن جعفر الحضرمي بمصر منذ ثلاثين سنة قال: حدثنا سليمان قال: محمد بن أبي بكر لما قرأ: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي) * (3) ولا محدث، قلت: وهل يحدث الملائكة إلا الأنبياء؟ قال: إن مريم لم تكن نبية وكانت محدثة، وأم موسى بن عمران كانت محدثة ولم تكن نبية، وسارة امرأة إبراهيم قد عاينت الملائكة فبشروها بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، ولم تكن نبية، وفاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت محدثة ولم تكن نبية (4). وجاء في الكتاب القيم (الغدير الذي يعتبر من أهم الكتب التي ألفت في حق ولاية أهل البيت (عليهم السلام)) حول مسألة الأناس المحدثون حيث قال: " أصفقت الأمة الإسلامية على أن في هذه الأمة كما لدى الأمم السابقة أناس محدثون - على صيغة المفعول -.
(1) إشارة إلى الآية 42، 43 من سورة آل عمران. (2) البحار: 43 / 78. (3) الحج: 52. (4) البحار: 43 / 79. 416 وقد أخبر بذلك النبي الأعظم كما ورد في الصحاح والمسانيد من طرق الفريقين العامة والخاصة. والمحدث من تكلمه الملائكة بلا نبوة ولا رؤية صورة، أو يلهم له ويلقى في روعه شئ من العلم على وجه الإلهام والمكاشفة من المبدأ الأعلى، أو ينكت له في قلبه من حقايق تخفى على غيره، أو غير ذلك من المعاني التي يمكن أن يراد منه. فوجود من هذا شأنه من رجالات هذه الأمة مطبق عليه بين فرق الإسلام، بيد أن الخلاف في تشخيصه. فالشيعة ترى عليا أمير المؤمنين وأولاده الأئمة صلوات الله عليهم من المحدثين... " (1). وقال (رحمه الله): " إن في هذه الأمة أناس محدثون كما كان في الأمم الماضية، وأمير المؤمنين وأولاده الأئمة الطاهرون علماء محدثون وليسوا بأنبياء. وهذا الوصف ليس من خاصة منصبهم ولا ينحصر بهم بل كانت الصديقة كريمة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) محدثة، وسلمان الفارسي محدثا. نعم كل الأئمة من العترة الطاهرة محدثون، وليس كل محدث بإمام. ومعنى المحدث هو العالم بالأشياء بإحدى الطرق الثلاث المفصلة في الأحاديث. هذا ما عند الشيعة ليس إلا " (2). وورد عن العلامة المناوي في ذيل الحديث الذي جاء عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حول مسألة تحديث الملائكة مع الناس ما نصه: " قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم أناس محدثون ". قال القرطبي: الرواية بفتح الدال، اسم مفعول جمع محدث بالفتح أي ملهم، أو صادق الظن، وهو من ألقي في نفسه شئ على وجه الإلهام والمكاشفة من الملأ الأعلى، أو من يجري الصواب على لسانه بلا قصد، أو تكلمه الملائكة بلا نبوة، أو من إذا رأى رأيا أو ظن ظنا أصاب، كأنه حدث به والقي في روعه من عالم الملكوت فيظهر على نحو ما وقع له. وهذه كرامة بكرم الله بها من شاء من صالح عباده، وهذه منزلة جليلة من منازل الأولياء (3). إذن يظهر من الأحاديث والأقوال المأثورة عن الخاصة والعامة أن مسألة تحديث
(1) الغدير: 5 / 42. (2) الغدير: 5 / 49. (3) فيض القدير: 4 / 507. 417 الملائكة لأناس ليسوا بأنبياء كانت متسالمة وما شذ عنها إلا من يدعي الزور والبهتان ضد الشيعة، فالأمم الماضية وقع فيها هذا الأمر وهذا ما ظهر لنا من خلال القرآن الكريم حيث أوحى الله إلى الحواريين وإلى الملائكة وإلى النحل وإلى أم موسى... مصحف فاطمة وعلى هذا الأساس كان مصحف فاطمة سلام الله عليها، هذا المصحف الذي أثاروا عليه الأقاويل الباطلة التي ليس لها أي حقيقة وأي برهان سوى أنهم اعتبروا إطلاق هذا المصحف على أنه قرآنا غير القرآن الموجودة حاليا وأنه عند الشيعة يخفونه تقية، وأمثال هذا الدعاوى الباطلة والتي لا تمت إلى الدين بصلة وكل دليلهم الذي اعتمدوا عليه هو أن لفظ المصحف يطلق على القرآن لذلك قالوا بأن مصحف فاطمة قرآن غير هذا القرآن الكريم المتداول الآن. أما القول الصحيح في هذا المقام فبعد معرفة أن فاطمة سلام الله عليها كانت محدثة دون أن تكون نبية وحسب ما ورد من الاستدلال على هذه المسألة، فإن حديث الملائكة لها كان يكتب من قبل الإمام علي (عليه السلام) أو من قبل فاطمة نفسها سلام الله عليها وهذا ما يظهر من الأحاديث الآتية، أما مضمون هذا المصحف وماهيته وكيف نعطي القول الفصل فيه فهذا ما سيتبين من خلال بيان معنى لفظ المصحف، وماهية مضمون هذا المصحف وما فيه من العلم والأحداث والأمور الغيبية. أما لفظ المصحف في صحاح اللغة: ورد في كتاب لسان العرب: المصحف والمصحف الجامع للصحف المكتوبة بين الدفتين كأنه أصحف والكسر والفتح فيه لغة. وفي المصباح المنير: والصحيفة قطعة من جلد أو قرطاس كتب فيه... والجمع صحف بضمتين وصحائف... والمصحف بضم الميم أشهر من كسرها. وفي أقرب الموارد: المصحف اسم مفعول... وحقيقتها مجمع الصحف أو ما جمع منها بين دفتي الكتاب المشدود... وفيه لغتان أخريات وهما المصحف والمصحف جمع
418 مصاحف. إذن يظهر من هذه المعاني التي وردت في صحاح اللغة أن المصحف ما جمعت فيه الصحف وليس كما يدعى أنه قرآن غير هذا القرآن الموجودة. وهناك شواهد أخرى تثبت هذه الحقيقة حيث ورد في حديث عن الإمام أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: وأن عندنا لمصحف فاطمة عليها السلام، وما يدريهم ما مصحف فاطمة؟ قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد، إنما هو شئ أملاها الله وأوحى إليها. قال: قلت: هذا والله العلم (1). إن هذا الحديث يعطي دلالة واضحة على أن مصحف فاطمة سلام الله عليها يختلف اختلافا كبيرا عن ما موجود في القرآن من جهة مضمونه، وقد علق العلامة السيد محسن العاملي (ره) على هذه المسألة بقوله: " لا يخفى أنه قد تكرر نفي أن يكون فيه شئ من القرآن والظاهر أنه لكون تسميته بمصحف فاطمة يوهم أنه أحد قد نسخ المصاحف الشريفة، فنفى هذا الإيهام وفي بعض الأحاديث أن فيه وصيتها، ولعل أحد محتوياته، ثم إن بعضها دال على أنه من إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخط علي (عليه السلام) " (2). وعلق العلامة الخطيب محمد كاظم القزويني (ره) على هذه الرواية بقوله: " وليس معناه أن القرآن الموجود بين أيدينا ناقص، وأن مصحف فاطمة مكمل له، كلا وألف كلا، وليس معناه أن الله أنزل على فاطمة (عليها السلام) قرآنا وكل من ادعى غير هذا فهو إما جاهل أو معاند مفتر كذاب " (3). أقول: يظهر من أقوال علماء الشيعة الإمامية وعلى ما ورد في أحاديث أهل البيت أن مسألة مصحف فاطمة قد تسالمت عليه الشيعة، ويؤمنون به، ويعتبرونه من المواريث التي تركتها فاطمة سلام الله عليها لأبنائها الأئمة المعصومين، ولا يظهر هذا المصحف إلا بظهور الحجة بن الحسن العسكري عجل الله تعالى فرجه باعتباره الوريث الشرعي لجدته الزهراء سلام الله عليها.
(1) بصائر الدرجات: 156. (2) أعيان الشيعة: 1 / 97. (3) فاطمة من المهد إلى اللحد: 83. 419 مصحف فاطمة في الأحاديث الشريفة في حديث عن أبي عبد الله (عليه السلام): " ومصحف فاطمة ما أزعم أن فيه قرآنا وفيه ما يحتاج الناس إلينا، ولا نحتاج إلى أحد حتى إن فيه الجلدة ونصف الجلدة وثلث الجلدة وربع الجلدة وأرش الخدش " (1). وفي حديث طويل عن أبي عبد الله (عليه السلام): " وإن عندنا لمصحف فاطمة (عليها السلام)، وما يدريهم ما مصحف فاطمة؟ قال: مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد، إنما هو شئ أملاها الله وأوحى إليها. قال: قلت: هذا والله العالم... (2) ". وفي حديث آخر: " وخلفت فاطمة مصحفا ما هو قرآن، ولكنه كلام من كلام الله أنزل عليها، إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخط علي (عليه السلام) " (3). وعن أبي عبد الله (عليه السلام)، قيل له: إن عبد الله بن الحسن يزعم أنه ليس عنده من العلم إلا ما عند الناس، فقال: " صدق والله ما عنده من العلم إلا ما عند الناس، ولكن عندنا والله الجامعة فيها الحلال والحرام، وعندنا الجفر، أفيدري عبد الله أمسك بعير أو مسك شاة؟ وعندنا مصحف فاطمة، أما والله ما فيه حرف من القرآن، ولكنه إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخط علي (عليه السلام)، كيف يصنع عبد الله إذا جاءه الناس من كل فن يسألونه، أما ترضون أن تكونوا يوم القيامة آخذين بحجزتنا، ونحن آخذون بحجزة نبينا، ونبينا آخذ بحجزة ربه "؟ (4). وعن حماد بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: " تظهر زنادقة سنة ثمانية وعشرين ومائة، وذلك لأني نظرت في مصحف فاطمة. قال: فقلت: وما مصحف فاطمة؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى لما قبض نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل على فاطمة من وفاته
(1) 3 - 9 راجع بصائر الدرجات: 151 - 161. (2) بصائر الدرجات: 151 - 161. (3) نفس المصدر السابق. (4) نفس المصدر السابق. 420 من الحزن ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فأرسل إليها ملكا يسلي عنها غمها ويحدثها، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال لها: إذا أحسست بذلك وسمعت الصوت قولي لي. فأعلمته، فجعل يكتب كل ما سمع حتى أثبت من ذلك مصحفا. قال: ثم قال: أما إنه ليس الحلال والحرام، ولكن فيه علم ما يكون " (1). وفي حديث آخر قال له الراوي: فمصحف فاطمة؟ فسكت طويلا ثم قال: " إنكم لتبحثون عما تريدون وعما لا تريدون، إن فاطمة مكثت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خمسة وسبعين يوما وقد كان دخلها حزن شديد على أبيها، وكان جبرئيل يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها، ويطيب نفسها، ويخبرها عن أبيها ومكانه، ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها، وكان علي (عليه السلام) يكتب ذلك، فهذا مصحف فاطمة (عليها السلام) " (2). وعن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) عن مصحف فاطمة، فقال: " أنزل عليها بعد موت أبيها. قلت: ففيه شئ من القرآن؟ فقال: ما فيه شئ من القرآن. قلت فصفه لي، قال: له دفتان من زبرجدتين على طول الورق، وعرضه حمراوين. قلت: جعلت فداك فصف لي ورقه، قال: ورقه من در أبيض، قيل له: كن فكان. قلت: جعلت فداك فما فيه؟ قال: فيه خبر ما كان وخبر ما يكون إلى يوم القيامة، وفيه خبر سماء سماء، وعدد ما في السماوات من الملائكة، وغير ذلك، وعدد كل من خلق الله مرسلا وغير مرسل وأسماؤهم، وأسماء من أرسل إليهم، وأسماء من كذب ومن أجاب، وأسماء جميع من خلق الله من المؤمنين والكافرين من الأولين والآخرين، وأسماء البلدان، وصفة كل بلد في شرق الأرض وغربها، وعدد ما فيها من المؤمنين، وعدد ما فيها من الكافرين، وصفة كل من كذب، وصفة القرون الأولى وقصصهم، ومن ولي من الطواغيت ومدة ملكهم وعددهم، وأسماء الأئمة وصفتهم، وما يملك كل واحد واحد، وصفة كبرائهم، وجميع من تردد في الأدوار. قلت: جعلت فداك وكم الأدوار؟ قال: خمسون ألف عام، وهي سبعة أدوار، فيه
(1) البحار: 43 / 80. (2) البحار: 43 / 80. 421 أسماء جميع ما خلق الله وآجالهم، وصفة أهل الجنة، وعدد من يدخلها، وعدد من يدخل النار، وأسماء هؤلاء وهؤلاء، وفيه علم القرآن كما أنزل، وعلم التوراة كما أنزلت، وعلم الإنجيل كما أنزل، وعلم الزبور، وعدد كل شجرة ومدرة في جميع البلاد ". قال أبو جعفر (عليه السلام): " ولما أراد الله تعالى أن ينزل عليها جبرئيل وميكائيل وإسرافيل أن يحملوه فينزلون به عليها، وذلك في ليلة الجمعة من الثلث الثاني من الليل، فهبطوا به وهي قائمة تصلي، فما زالوا قياما حتى قعدت، ولما فرغت من صلاتها سلموا عليها وقالوا: السلام يقرئك السلام، ووضعوا المصحف في حجرها، فقالت: لله السلام ومنه السلام وإليه السلام وعليكم يا رسل الله السلام، ثم عرجوا إلى السماء. فما زالت من بعد صلاة الفجر إلى زوال الشمس تقرأه حتى أتت على آخره. ولقد كانت عليها السلام مفروضة الطاعة على جميع من خلق الله من الجن والإنس، والطير والوحش، والأنبياء والملائكة ". قلت: جعلت فداك فلمن صار ذلك المصحف بعد مضيها؟ قال: " دفعته إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلما مضى صار إلى الحسن ثم إلى الحسين عليهما السلام، ثم عند أهله حتى يدفعوه إلى صاحب هذا الأمر. فقلت: إن هذا العلم كثير! قال: يا أبا محمد، إن هذا الذي وصفته لك لفي ورقتين من أوله، وما وصفت لك بعد ما في الورقة الثانية ولا تكلمت بحرف منه " (1). وختاما للبحث حول اسم المحدثة نذكر ما قاله العلامة الهمداني تعليقا حول الروايات الواردة في هذا المقام حيث قال تحت عنوان فائدتان: إن ما يستفاد من هذا الأخبار في شأن مصحف فاطمة سلام الله عليها في وجوه مختلفة: منها: ما يدل على أن الله تعالى أرسل ملكا أو يأتيها جبرئيل بعد قبض نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) يحدها (عليه السلام) ويكتب علي (عليه السلام)، كما في الحديث الأول والثاني من البحار. ومنها: ما يدل على أن مصحف فاطمة (عليه السلام) كان موجودا في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما
(1) دلائل الإمامة للطبري: 27 - 28. 422 لاحظت في حديث " البصائر " بقوله (عليه السلام): ولكنه إملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخط علي (عليه السلام). ومنها: ما يدل على أن الله عز وجل أوحى إليها كما لاحظت في الحديث الثالث من " البصائر " بقوله (عليه السلام): " إنما هو شئ أملاها الله وأوحى إليها ". ويستفاد أيضا أن مصحفها سلام الله عليها يشتمل على جميع الأحكام الشرعية من نصف الجلدة أو جلدة واحدة حتى أرش الخدش، وأن فيه أسماء جميع الناس والكائنات جميعها من الشجر والمدر وغير ذلك كما في حديث " دلائل الإمامة "، وفيه ذكر الحوادث المهمة إلى يوم القيامة. ويستفاد أيضا أن من مصادر علوم أهل البيت (عليهم السلام) وكانوا يرجعون إليه (1). 9 - الزهراء وهو من أشهر أسماءها وأشهرها شيوعا عند الشيعة، فنراهم كثيرا ما يسمون أسماء مواليدهم من الإناث بهذا الاسم المبارك إضافة إلى اسمها فاطمة، وقد تقدم بنا الحديث في كيفية تطابق الاسم على المسمى وبيان فلسفته، وكذلك الحال في هذا المقام ، ففاطمة سلام الله عليها سميت بهذا الاسم (زهراء) لأن نورها الذي زهرت به السماوات والأرض ولم يأت هذا الاسم اعتباطا وإنما جاء ليعبر عن طبيعة ذاتها، فنجد ومن خلال مطابقة الكثير من الروايات التي تروي مبدء نور فاطمة وخلقته أن لها نورا يسطع من جبينها ومن وجهها المتلألئ بنور الله تعالى والذي كان من شأنه أن زهرت به السماوات والأرض كرامة من الله تعالى لها ولمقامها السامي عنده، أما بيان هذا الاسم فإنه لا يحتاج إلى كثير تأمل وخاصة بالنسبة للمطلع على الأسماء العربية، فإنها بسيطة ومفهومة عندما تطرق الأذهان، ومع ذلك نقف مع هذه الروايات التي تبين علة تسميتها الزهراء ففي حديث طويل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
(1) فاطمة بهجة قلب المصطفى: ص 176. 423 " ثم أظلمت المشارق والمغرب، فشكت الملائكة إلى الله تعالى أن يكشف عنهم تلك الظلمة، فتكلم الله جل جلاله كلمة فخلق منها روحا، ثم تكلم بكلمة فخلق من تلك الكلمة نورا، فأضاف النور إلى تلك الروح وأقامها مقام العرش، فزهرت المشارق والمغارب فهي فاطمة الزهراء، ولذلك سميت " الزهراء " لأن نورها زهرت به السماوات (1) "، الحديث. وعن أبان بن تغلب قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): يا ابن رسول الله، لم سميت الزهراء " زهراء "؟ فقال: " لأنها تزهر لأمير المؤمنين (عليه السلام) في النهار ثلاث مرات بالنور، كان يزهر نور وجهها صلاة الغداة والناس في فراشهم، فيدخل بياض ذلك النور إلى حجراتهم بالمدينة، فتبيض حيطانهم، فيعجبون من ذلك، فيأتون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيسألونه عما رأوا، فيرسلهم إلى منزل فاطمة عليها السلام فيأتون منزلها فيرونها قاعدة في محرابها تصلي والنور يسطع من محرابها من وجهها، فيعلمون أن الذي رأوه كان من نور فاطمة، فإذا انتصف النهار وترتبت للصلاة، زهر نور وجهها عليها السلام بالصفرة فتدخل الصفرة في حجرات الناس، فتصفر ثيابهم وألوانهم، فيأتون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيسألونه عما رأوا، فيرسلهم إلى منزل فاطمة عليها السلام فيرونها قائمة في محرابها وقد زهر نور وجهها عليها السلام بالصفرة، فيعلمون أن الذي رأوا كان من نور وجهها، فإذا كان آخر النهار وغربت الشمس، احمر وجه فاطمة، فأشرق وجهها بالحمرة فرحا وشكرا لله عز وجل، فكانت تدخل حمرة وجهها حجرات القوم وتحمر حيطانهم، فيعجبون من ذلك ويأتون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويسألونه عن ذلك، فيرسلهم إلى منزل فاطمة، فيرونها جالسة تسبح وتمجده ونور وجهها يزهر بالحمرة، فيعلمون أن الذي رأوا كن من نور وجه فاطمة عليها السلام، فلم يزل ذلك النور في وجهها حتى ولد
(1) البحار: 40 / 44، إرشاد القلوب: 403، الفضائل لابن شاذان: 172. 424 الحسين (عليه السلام)، فهو يتقلب في وجوهنا إلى يوم القيامة في الأئمة منا أهل البيت إمام بعد إمام " (1). وعن أبي هاشم العسكري قال: سألت صاحب العسكر (عليه السلام): لم سميت فاطمة " الزهراء " (عليه السلام)؟ فقال: " كان وجهها يزهر لأمير المؤمنين (عليه السلام) من أول النهار كالشمس الضاحية، وعند الزوال كالقمر المنير، وعند غروب الشمس كالكوكب الدري " (2). وعن الحسن بن يزيد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): لم سميت فاطمة " الزهراء "؟ قال: " لأن لها في الجنة قبة من ياقوت حمراء ارتفاعها في الهواء مسيرة سنة، معلقة بقدرة الجبار، لا علاقة لها من فوقها فتمسكها، ولا دعامة لها من تحتها فتلزمها، لها مائة ألف باب، على كل باب ألف من الملائكة، يراها أهل الجنة كما يرى أحدكم الكوكب الدري الزاهر في أفق السماء، فيقولون: هذه الزهراء لفاطمة " (3). وعن ابن عمارة، عن أبيه قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن فاطمة لم سميت " زهراء "؟ فقال: " لأنها كانت إذا قامت في محرابها زهر نورها لأهل السماء كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض " (4). وعن جابر، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: لم سميت فاطمة الزهراء زهراء؟ فقال: " لأن الله عز وجل خلقها من نور عظمته، فلما أشرقت أضاءت السماوات والأرض بنورها، وغشيت أبصار الملائكة، وخرت الملائكة لله ساجدين، وقالوا: إلهنا وسيدنا، ما هذا النور؟ فأوحى الله إليهم: هذا نور من نوري، وأسكنته في سمائي، خلقته من عظمتي، أخرجه من صلب نبي من أنبيائي، أفضله على جميع الأنبياء، وأخرج من ذلك النور أئمة يقومون بأمري، ويهدون إلى حقي، وأجعلهم خلفائي في أرضي بعد انقضاء وحيي " (5).
(1) البحار: 43 / 11 ح 2، علل الشرائع 1 / 180 ح 2. (2) البحار: 43 / 16، المناقب: 3 / 110. (3) البحار: 43 / 16، المناقب: 3 / 111. (4) معاني الأخبار: 64 ح 15، دلائل الإمامة: 54. (5) البحار: 43 / 12. 425 وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " لما خلق الله آدم وحواء تبخترا في الجنة، فقال آدم لحواء: ما خلق الله خلقا هو أحسن منا. فأوحى الله إلى جبرئيل (عليه السلام): ائت بعبدي الفردوس الأعلى. فلما دخلا الفردوس نظرا إلى جارية على درنوك من درانيك الجنة، وعلى رأسها تاج من نور، وفي أذنيها قرطان من نور قد أشرقت الجنان من حسن وجهها ، فقال آدم: حبيبي جبرئيل! من هذه الجارية التي قد أشرقت الجنان من حسن وجهها؟ فقال: هذه فاطمة بنت محمد نبي من ولدك يكون في آخر الزمان. قال: فما هذا التاج الذي على رأسها؟ قال: بعلها علي بن أبي طالب (عليه السلام)... قال: فما القرطان اللذان في أذنيها؟ قال: ولداها الحسن والحسين. قال آدم: حبيبي جبرئيل ! أخلقوا قبلي؟ قال: هم موجودون في غامض علم الله قبل أن تخلق بأربعة آلاف سنة " (1). في الدر كونها الباري وصورها * من قبل إيجاد خلق اللوح والقلم وتوجت تاج نور حوله درر * يضئ كالشمس أو كالنجم في الظلم لله أشباح نور طالما سكنوا * سر الغيوب فسادوا سائر الأمم قال العلامة المقرم: اشتهرت الصديقة بالزهراء لجمال هيئتها والنور الساطع في غرتها، حتى إذا قامت في محرابها زهر نورها لأهل السماء كما يزهر الكوكب لأهل الأرض، وإن حضرت للاستهلال أول الشهر لا يرى نور الهلال لغلبة نور وجهها على ضيائه (2)... وعن سلمان الفارسي (ره) مرفوعا قال: كنت جالسا عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المسجد إذ دخل العباس بن عبد المطلب، فسلم، فرد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ورحب به، فقال: يا رسول الله بما فضل الله علينا أهل البيت علي بن أبي طالب والمعادن واحدة؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذن أخبرك يا عم، إن الله خلقني وخلق عليا ولا سماء ولا أرض ولا جنة ولا نار ولا لوح ولا قلم. فلما أراد الله عز وجل بدو خلقنا تكلم بكلمة فكانت نورا، ثم تكلم بكلمة ثانية فكانت روحا، فمزج فيما بينهما واعتدلا، فخلقني وعليا منهما.
(1) البحار: 43 / 52. (2) وفاة الزهراء: 15. 426 ثم فتق من نوري نور العرش، فأنا أجل من العرش. ثم فتق من نور علي نور السماوات، فعلي أجل من السماوات. ثم فتق من نور الحسن نور الشمس، ومن نور الحسين نور القمر، فهما أجل من الشمس والقمر. وكانت الملائكة تسبح الله تعالى وتقول في تسبيحها: " سبوح قدوس من أنوارها ما أكرمها على الله تعالى "! فلما أراد الله تعالى أن يبلو الملائكة أرسل عليهم سحابا من ظلمة، وكانت الملائكة لا تنظر أولها من آخرها ولا آخرها من أولها، فقالت الملائكة، إلهنا وسيدنا منذ خلقتنا ما رأينا مثل ما نحن فيه، فنسألك بحق هذه الأنوار إلا ما كشفت عنا. فقال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لأفعلن، فخلق نور فاطمة الزهراء عليها السلام يومئذ كالقنديل، وعلقه في قرط العرش، فزهرت السماوات السبع والأرضون السبع، من أجل ذلك سميت فاطمة " الزهراء ". وكانت الملائكة تسبح الله وتقدسه، فقال الله: وعزتي وجلالي، لأجعلن ثواب تسبيحكم وتقديسكم إلى يوم القيامة لمحبي هذه المرأة وأبيها... ". إذن قد تبين من هذه الأخبار والأحاديث الشريفة الوجه من تسميتها بالزهراء فتارة لإشراق نورها للإمام علي (عليه السلام) وأخرى لأن الأرض والسماوات العلى زهرت من نورها، وتارة أخرى نتيجة عبادتها ودخول نورها إلى بيوتات المدينة وإشعاع هذا النور على جميع الناس آنذاك. خجلا من نور بهجتها * تتوارى الشمس بالشفق وحياء من شمائلها * يتغطى الغصن بالورق 10 - البتول جرت عادة الباحثين والكاتبين حول حياة السيدة فاطمة الزهراء سلام الله عليها عند التعرض لاسمها المبارك (البتول) البحث حول قانون العلية والمعلولية كقانون وسنة ربانية جعلها البارئ عز وجل منذ الخلقة الأولى، فنجد أنه لا يوجد معلول دون علة مؤثرة فيه أو لا توجد أسباب إلا ولها مسبب حقيقي، وبعبارة أخرى لا
427 يوجد أي شئ دون أن تكون له علة مؤثرة فيه، وعلى هذا الأساس نجد أن الكثير قد طعنوا في اسمها الذي نحن بصدد الوقوف معه في هذه الصفحات حيث يقتضي اسم البتول مخالفة قانون العلية كل ذلك لما لهذا الاسم (البتول) من معنى مؤثر وفاعل على طبيعة الحياة البشرية، ولو أن هؤلاء الذين وقفوا موقف التعنت لهذه الكرامة ولهذا المقام السامي وتأملوا في مراجعة القوانين الكونية والسنن الإلهية لوجدوا أن هناك الكثير من هذه القوانين قد خرقت وبتأييد من الله تعالى وهذا ما نجده من خلال مراجعة القرآن الكريم باعتباره المصدر الأول للتشريع الإسلامي ولقضايا المهمة التي ربما لا يوجد لها حل (ونزلنا القرآن تبيانا لكل شئ) أي لا يوجد شئ من الأمور التي تعرض لنا في الحياة إلا وله أساس ومعرفة وبيان من القرآن الكريم، أما من الذي يستطيع إدراك هذا البيان ومعرفته المعرفة الحقة فهذا ما نراه واضحا بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة من بعده: ثم من بعد ذلك نرجع إلى الذين أوصى بهم الأئمة بالعودة إليهم بعد غيبة القائم عجل الله تعالى فرجه " وأما الحوادث الواقعة في زمن الغيبة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم)، إذن لا بد بالنتيجة النهائية أن نرجع إلى القرآن الكريم ونرى هل أن هناك قوانين شذ عنها الكثير من الناس وحسب ما ارتضاه الله تبارك وتعالى؟ (نعم) بهذا القول سوف يجيبنا القرآن الكريم فثمة هناك شواهد واضحة البرهان جلية البيان، صريحة في معناها متقدة في مغزاها أثبتت من خلال واقعيتها مدى صحة مدركيتها فهذه النار التي جعلت لإبراهيم (عليه السلام) بردا وسلاما وخالفت قوانين الطبيعة في سلوكها وخاصيتها المحرقة وهذه شجرة من يقطين أنبتت ليونس (عليه السلام) بعد أن نبذه الحوت بالعراء وهو سقيم، مع العلم بأن حبة اليقطين تحتاج إلى مدة غير قصيرة، حتى تنبت وتورق وتستر بورقها جسم إنسان أو غير إنسان، وهكذا نجد في شذوذ الكثير من المسائل عن القوانين والسنن الإلهية، فهذه مريم مخالفة في ولادة عيسى (عليه السلام) من غير أب مسألة قانون التناسل البشري الطبيعي، وكذلك هناك طوائف عديدة وأمثلة واضحة تدل دلالة صريحة على أنه هناك الكثير من القوانين قد خرقت بقدرة الله تعالى باعتباره هو مسبب الأسباب الطبيعي بل هو الجاعل لهذه السنن القدرة بهذه
428 الكيفية كل هذا المقال الذي قلنا به وبينا الشئ اليسير منه لكي نرجع إلى قضية فاطمة سلام الله عليها في كونها بتول منقطعة عن الحيض، فهل هذا اختلاف وتغير في قانون الطبيعة أم هي كرامة من الله تعالى لها؟ وهل لهذه المسألة وجه يخرج عنه المتحير فكره إلى الصحيح من البيان؟ نعم نقول في فاطمة (عليها السلام) كانت بتول بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى وسبق أن قلنا أن هذه المسألة لم تكن الفريدة من نوعها، بل توجد شواهد قرآنية عليها ومن خلال أبسط استقراء للقرآن الكريم نرى هذا الشئ الواضح. أما بيان البتول والوقوف عليها، وبيان الوجه في ذلك فهذا ما سيظهر لنا من خلال مراجعة كتب اللغة والحديث والتاريخ لنرى كيف كانت فاطمة سلام الله عليها بتول بكل ما تحمل هذه الكلمة من مدلولات واضحة. أما بيان معنى هذه الكلمة من خلال مراجعة كتب اللغة فيظهر من خلال هذه الكتب أنه سئل أحمد بن يحيى عن فاطمة رضوان الله عليها بنت سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لم قيل لها: البتول؟ فقال: لانقطاعها عن نساء أهل زمانها ونساء الأمة عفافا وفضلا ودينا وحسبا. وقيل: لانقطاعها عن الدنيا إلى الله عز وجل... وقيل: تبتيل خلقها انفراد كل شئ عنها بحسنه لا يتكل بعضه على بعض. قال ابن الأعرابي: المبتلة من النساء: الحسنة الخلق، لا يقصر شئ عن شئ، لا تكون حسنة العين سمجة الأنف، ولا حسنة الأنف سمجة العين، ولكن تكون تامة (1). وقال ابن الأثير: وامرأة بتول: منقطعة عن الرجال لا شهوة لها فيهم، وبها سميت مريم أم المسيح (عليهما السلام). وسميت فاطمة " البتول " لانقطاعها عن نساء زمانها فضلا ودينا وحسبا. وقيل: لانقطاعها عن الدنيا إلى الله تعالى (2). وقال الطريحي: والبتول فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قيل: سميت بذلك لانقطاعها إلى الله وعن نساء زمانها فضلا، وعن نساء الأمة فضلا وحسبا ودينا (3).
(1) لسان العرب: مادة بتل. (2) النهاية: مادة بتل. (3) مجمع البحرين: مادة بتل. 429 وورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " سميت فاطمة بتولا لأنها تبتلت وتقطعت عما هو معتاد العورات في كل شهر، ولأنها ترجع كل ليلة بكرا. وسميت مريم بتولا لأنها ولدت عيسى بكرا " (1). وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم): " وإنما سميت فاطمة " البتول " لأنها تبتلت من الحيض والنفاس... " (2). وعن علي (عليه السلام) قال: " إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل: ما البتول؟ فإنا سمعناك يا رسول الله تقول: إن مريم بتول، وفاطمة بتول؟ فقال: البتول التي لن تر حمرة قط، أي لم تحض، فإن الحيض مكروه في بنات الأنبياء " (3). وعن عائشة قال: إذا أقبلت فاطمة كانت مشيتها مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانت لا تحيض قط، لأنها خلقت من تفاحة الجنة، ولقد وضعت الحسن بعد العصر، وطهرت من نفاسها، فاغتسلت وصلت المغرب (4)... وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن ابنتي فاطمة حوراء، إذ لم تحض ولم تطمث " (5). وروى الحافظ أبو بكر الشافعي عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ابنتي حوراء آدمية لم تحض ولم تطمث... " (6)... الخ. وروى ابن عساكر عن أنس بن مالك عن أم سليم قالت: لم تر فاطمة (رضي الله عنها) دما في حيض ولا في نفاس (7). وروى الطبري عن أسماء بنت عميس قالت: قبلت: (أي ولدت) فاطمة بالحسن فلم أر لها دما في حيض ولا نفاس، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أما علمت أن ابنتي طاهرة، لا يرى لها دم في طمث ولا ولادة " (8).
(1) إحقاق الحق: 10 / 25، المناقب المرتضوية 119. (2) ينابيع المودة: 260. (3) معاني الأخبار: 64. (4) أخبار الدول: 87، إحقاق الحق: 10 / 244. (5) ذخائر العقبى: 26. (6) تاريخ بغداد: 3 / 331. (7) التاريخ الكبير لابن عساكر: 1 / 391. (8) نزهة المجالس: 227. 430 وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: حرم الله النساء على علي ما دامت فاطمة حية، لأنها طاهرة لا تحيض " (1). وفي كتاب " مولد فاطمة عليها السلام " لابن بابويه، يرفعه إلى أسماء بنت عميس قالت: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد كنت شهدت فاطمة إن فاطمة خلقت حورية في صورة إنسية (2). وعن أبي جعفر (عليه السلام)، عن آبائه: قال: " إنما سميت فاطمة بنت محمد " الطاهرة " لطهارتها من كل دنس، وطهارتها من كل رفث، وما رأت قط يوما حمرة ولا نفاسا " (3). أقول: يظهر من التأمل في كلمات أصحاب الصحاح من أهل اللغة والبيان أنهم حملوا معنى الانقطاع بالنسبة للفظ البتول محملا جيدا وفسروه بأنه انقطاع عن نساء زمان فاطمة سلام الله عليها من ناحية العفة والفضل والدين والحسب، وكذلك حملوه على الزهد عن الدنيا وانقطاعها سلام الله عليها عن الدنيا وهذه المعاني التي حملوا اسم البتول عليها وإن كانت جيدة ومفيدة وواضح من خلال السليقة العربية ومفاهيمها إلا واقع الحال والمقام لا يساعد على هذا الحمل ولا يظهر فيه نتيجة وجود مرجحات وشواهد وقرائن واضحة لمن أراد استقصاءها في معنى اسم البتول، وخير شاهد على هذه القرائن هو ما قدمناه من الروايات الواردة في المقام من الخاصة والعامة، فهي أفضل دليل على أن المراد من كلمة واسم البتول هو ما أطلقت وبينت الروايات الشريفة، فالمقول الذي نقول به ونرجحه على كلمات أهل اللغة في معنى البتول في أنه هذا الاسم ظاهر في التي لم تر حمرة قط ولم تحض أبدا وهو الذي يساعد عليه المقام فتأمل في هذه الروايات المباركة. أما ما يظهر من كلمات بعض الذين وقفوا موقف المتحير ولا يجد أي طريق لحل هذه المعضلة والتي حسب آرائهم أنها مخالفة لنظام العلل والمعاليل والأسباب، وأن
(1) البحار: 43 / 16. (2) البحار: 43، ص 7. (3) البحار: 43 / 19. 431 قضية أن فاطمة سلام الله عليها لا ترى الدم ولا الحيض وأمثال هذه القذارة، فحسب قولهم أنها مخالفة لحديث الإمام الصادق (عليه السلام) حيث قال: " أبى الله أن يجري الأشياء إلا بأسبابها فجعل لكل شئ سببا " وذلك من جهة خروجها عن هذا النظام الأكمل في الطبيعة فنقول: قد تبين الحال من خلال مراجعة القرآن الكريم وأن الكثير من الشواهد القرآنية تدل دلالة قطعية على أن الله تعالى قد تصرف في ملكه وقهر الكثير من القواعد المطردة في الطبيعة الكونية " ذلت لقدرتك الصعاب وتسببت بلطفك الأسباب " " ويا مسبب الأسباب من غير سبب ". وقد علق المحقق الهمداني (1) على هذه المسألة ببيان واضح ذو فائدة جلية ومضامين عالية وغير مخالفة لما هو الأساس من هذه المسألة حيث قال: توجد في القرآن الكريم طائفة من القصص والوقائع والحوادث لا يساعد عليها جريان العادة المشهورة في عالم الطبيعة على نظام العلة والمعلول المعهودة، كحمل مريم سلام الله عليها، فإنها مع أنه لم تمسسها بشر حملت بولدها عيسى (عليه السلام)، وكحمل سارة بإسحاق (عليه السلام) مع أنها كانت عجوزا، وكحمل امرأة زكريا بيحيى مع أنها كانت عاقرا، وأمثال ذلك في المعجزات وخوارق العادات التي يثبتها القرآن لعدة من الأنبياء الكرام كمعجزات نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وداود وسليمان وموسى وعيسى ومحمد (عليهم السلام)، فإن كل ذلك أمور خارقة للعادة. فبعد هذا البيان يظهر للقارئ الكريم بطلان ما يقال: إن الحيض في النساء من لوازم الخلقة، فخلو المرأة عنه نقص، وإن العادة الشهرية علامة وسبب للولادة، لأنا نقول: ليس الخروج من مضايق الطبيعة نقصا بل ربما يكون كرامة يا لها من كرامة! على أن الحيض بنفسه قذارة ورجس، كما قال الله عز وجل (قل هو أذى) أي قذارة يتأذى منها، فإن المرأة حين حدثت لها العادة الشهرية تنفعل وتخجل وتنكسر ولا ترضى أن تصرح بها لكل أحد وإن كان أمس الناس إليها من الرجال والنساء، وقد تحدث فيها ضعف، ومن ذلك سقطت عنها في هذه الأيام الصلاة والصوم، وحرم عليها اللبث في
(1) فاطمة بهجة قلب المصطفى: 160 - 161. 432 المساجد، وغير ذلك من الأحكام المذكورة في كتب الفقه، حتى حين حاضت صارت ناقصة الإيمان كما نبه عليه الإمام علي (عليه السلام) بقوله: " فأما نقصان إيمانهن فقعودهن عن الصلاة والصيام في أيام حيضهن " (1). فعلى هذا: إن الله عز وجل تفضل على سيدة النساء فاطمة البتول العذراء سلام الله عليها بالولادة الكاملة من دون رؤية هذه القذارة. وهذه فضيلة سامية لها، وتطهير زائد في ذاتها سلام الله عليها. وإن الله عز وجل لا يرضى أن تتلوث سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين بهذه القذارة أو غيرها ظاهرة كانت أو باطنة، كما قال في حقها: * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) *، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا حميراء، إن فاطمة ليست كنساء الآدميين، لا تعتل كما يعتللن (2).
(1) نهج البلاغة: خطبة 78. (2) البحار: 43 / 16. 433 البحث الخامس عشر فدك عنوان الولاية
435 لبعض أشراف مكة (1) ما لعيني قد غاب عنها كراها (2) * وعراها من عبرة ما عراها الدار نعمت فيها زمانا * ثم فارقتها فلا أغشاها أم لحي بانوا بأقمار ثم * يتجلى الدجى بضوء سناها حاش لله لست أطمع نفسي * آخر العمر في اتباع هواها بل بكائي لذكر من خصها الله * تعالى بلطفه واجتباها ختم الله رسله بأبيها * واصطفاه لوحيه واصطفاها وحباها بالسيدين الزكيين * الإمامين منه حين حباها ولفكري في الصاحبين اللذين * استحسنا ظلمها وما راعياها منعا بعلها من العهد والعقد * وكان المنيب والأواها واستبدا بأمرة دبراها * قبل دفن النبي وانتهزاها وأتت فاطم تطالب بالإرث * من المصطفى فما ورثاها ليت شعري لم خولفت سنن * القرآن فيها والله قد أبداها نسخت آية المواريث منها * أم هما بعد فرضها بدلاها قالا أبوك جاء بهذا * حجة من عنداهم نصباها قال للأنبياء حكم بأن لا * يورثوا في القديم وانتهراها أفبنت النبي لم تدر إن كان * نبي الهدى بذلك فاها بضعة من محمد خالفت ما قال * حاشا مولاتنا حاشاها سمعته يقول ذاك وجاءت * تطلب الإرث ضلة وسفاها هي كانت لله أتقى وكانت * أفضل الخلق عفة ونزاها أو تقول النبي قد خالف * القرآن ويح الأخبار ممن رواها سل بإبطال قولهم سورة النمل * وسل مريم التي قبل طه
(1): يقول السيد الأمين في المجالس السنية ص 101 ج 5 وجدت هذه القصيدة بخط الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي ويظهر أنها لبعض أشراف مكة. (2) الكرى: النعاس. 437 فهما ينبئان عن إرث يحيى * وسليمان من أراد انتباها فدعت واشتكت إلى الله من ذا * ك وفاضت بدمعها مقلتاها ثم قالت فنحلة لي من والدي * المصطفى فلم ينحلاها فأقامت بها شهودا فقالوا * بعلها شاهد لها وابناها لم يجيزوا شهادة ابني رسول الله * هادي الأنام إذ ناصباها لم يكن صادقا علي ولا فاطمة * عندهم ولا ولداها كان أتقى لله منهم فلان * قبح القائل المحال وشاها جرعاها من بعد والدها * الغيض مرارا فبئس ما جرعاها ليت شعري ما كان ضرهما * الحفظ لعهد النبي لو حفظاها كان إكرام خاتم الرسل الهادي * البشير النذير لو أكرماها ولو ابتيع ذاك بالثمن الغالي * لما ضاع في اتباع هواها ولكان الجميل أن يقطعاها * فدكا لا الجميل أن يقطعاها أترى المسلمين كانوا يلومونهما * في العطاء لو أعطياها كان تحت الخضراء بنت نبي * صادق ناطق أمين سواها بنت من أم من حليلة من * ويل لمن سن ظلمها وأذاها قل لنا أيها المجادل في القول * عن الغاصبين إذ غصباها أهما ما تعمداها كما قلت * بظلم كلا ولا اهتضماها فلماذا إذ جهزت للقاء * لله عند الممات لم يحضراها شيعت نعشها ملائكة الرحمن * رفقا بها وما شيعاها كان زهدا في أجرها أم عنادا * لأبيها النبي لم يتبعاها أم لأن البتول أوصت بألا * يشهدا دفنها فما شهداها أغضباها وأغضبا عند ذاك الله * رب السماء إذ أغضباها وكذا أخبر النبي بأن * الله يرضى سبحانه لرضاها لا نبي الهدى أطيع ولا * فاطمة أكرمت ولا حسناها ولأي الأمور تدفن سرا * بضعة المصطفى ويعفى ثراها
438 البحث الخامس عشر فدك عنوان الولاية قد تعرض الكثير من الباحثين والمحققين لقضية فدك وكتبت أقلامهم الشريفة في ما يتعلق بها من أمور عقائدية وولائية أفضل وأروع الكتب والتحقيقات سواء كانت هذه المؤلفات من الأفذاذ من العلماء الدينيين وكتاب الشيعة المخلصين أو الذين تنورت بصيرتهم بنور الإيمان من جمهور العامة، حيث تعتبر هذه الكتب من روائع التراث الإسلامي عبر مر السنين والدهور، وفي خضم الأحداث إلى وقتنا الحاضر ولا زال الجهال بحقائق الأمور يتغافلون ويتناسون هذه الحقيقة الواضحة البرهان في أرث الزهراء (عليها السلام) خاصة والولاية لعلي (عليه السلام) بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عامة، ويدافعون عن الباطل ويمدهم الشيطان بطغيانهم لحرف المسلمين عن الطريق المستقيم، والمحجة البيضاء بولاية علي وأولاده الأئمة الأطهار (عليهم السلام). فمن هذا المنطلق كان لا بد لنا من وقفة يسيرة مع عنوان الولاية والحق السليب من أهل بيت النبوة (عليهم السلام) تلك هي فدك التي جاءت لتعبر عن معاني الولاء أو البراءة بالنسبة للذين يقفون في سدة الحكم الإسلامي إذ بان رحلة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفدك قرية بالحجاز، بينهما وبين المدينة يومان، وقيل: ثلاثة، أفاءها الله إلى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سنة " سبع " صلحا، وذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما نزل خيبر وفتح حصونها، ولم يبق إلا ثلاث واشتد بهم الحصار، راسلوا رسول الله يسألونه أن ينزلهم على الجلاء وفعل، وبلغ ذلك من أهل فدك، فأرسلوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يصالحهم على النصف من ثمارهم وأموالهم فأجابهم إلى ذلك، فهي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فكانت خالصة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفيها عين خوارة ونخيل كثيرة، وهي التي أقطعها رسول الله فاطمة صلوات الله عليهما (1) ولقد نزلت الآيات القرآنية الكريمة على قلب الرسول الأكرم كي تثبت حقيقة خالدة على مر العصور ألا وهي منح فاطمة الزهراء فدكا
(1) معجم البلدان: 4 / 238، لسان العرب: 10 / 203. 439 وعلى لسان القرآن الكريم، لذلك تعتبر فدك منحة ربانية قبل أن تكون هدية نبوية، حيث جاء قوله تعالى: * (وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شئ قدير * ما أفاء الله على رسوله من أهل القربى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل لكيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم * وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب) * (1). ليكون دليلا على أن قوله تعالى " وآت ذا القربى حقه " هو كون فدك للصديقة الطاهرة فاطمة (عليها السلام)، ولقد أيدت هذا القول الكثير من الكتب الواردة في تفسير قوله تعالى " وآت ذا القربى حقه " منها كشف الغمة (2) وتفسير العياشي (3) وكتاب تأويل الآيات (4) وتفسير مجمع البيان (5) وتفسير فرات (6)، حيث أجمعت جميع هذه الكتب أن فدك هبة من الله تعالى في القرآن الكريم وعلى لسان الرسول لفاطمة (عليها السلام)، والذي يظهر من جميع هذه الكتب إن فدك لفاطمة ولعقبها من بعدها أي للأئمة عليهم السلام، ولقد غصبت فدك ظلما وعدوانا بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، أما الشاهد على كونها هبة من الله تعالى ما روي في تفسير الإمام الرضا (عليه السلام)، في مسألة اصطفاء أهل البيت في الكتاب العزيز في أثني عشر موطنا... قال (عليه السلام): والآية الخامسة: قول الله عز وجل: * (وآت ذي القربى حقه) *، خصوصية خصهم الله العزيز الجبار بها، واصطفاهم على الأمة، فلما نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال ادعوا إلي فاطمة، فدعيت له، " فقال، قالت: لبيك يا رسول الله. فقال: هذه فدك، هي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب وهي لي خاصة، دون المسلمين، قد جعلتها لك لما أمرني الله تعالى به، فخذيها لك ولي ولدك " (7).
(1) الحشر: آية 6 - 7. (2) ج 1 / ص 476. (3) 2 / 287 ح 50. (4) 1 / 435 ح 5، البرهان: 3 / 264 ح 3. (5) 6 / 411. (6) 239 / ح 323، 322 / ح 437. (7) عيون أخبار الرضا: 1 / 233 ضمن ح 1، البرهان: 2 / 415 ح 2، غاية المرام: 323 ح 219، نور الثقلين: 5 / 275. 440 ولكن القوم لم يتحملوا أن تكون فدك خالصة لأهل بيت النبوة بل شحت عليها أنفس القوم، وإلى ذلك أشار الإمام علي (عليه السلام) في رسالته لابن حنيف: " بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أضلته السماء فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرين ونعم الحكم الله " (1)، والذي يظهر من جميع الروايات الواردة في المقام: إن فدك كانت فيئا أفاءها الله على نبيه خاصة دون المسلمين لأنه لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فأنزل الله تعالى: * (وآت ذي القربى حقه) * فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لجبرائيل (عليه السلام) ومن ذا القربى؟ وما حقه؟: أعط فاطمة فدكا، فأعطاها حوائط فدك، وما لله ولرسوله فيها فدعا حسنا وحسينا وفاطمة (عليهم السلام) وقال لها (عليه السلام): إن الله قد أفاء على أبيك فدكا، واختصه بها، فهي لي خاصة دون المسلمين، أفعل بها ما أشاء. وقال: كان لأمك خديجة على أبيك مهر وأن أباك قد جعل فدك لك بذلك. أقول: يظهر من هذا الكلام أن مسألة المهر الحاضر للزوجة يكون في ذمة الرجل في حالة عدم دفعه بعد وفاة الزوجة ولا بد من إعطاءه للورثة الذين هم أبناء الزوجة لذا كانت فاطمة وريثة أمها خديجة في مهرها فأعطاها فدك في قبال ذلك، هذا ما نستفيده من خلال الرواية وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): نحلتكها لتكون لك ولولدك من بعدك فخذيها، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أكتب لفاطمة نحلة من رسول الله. وبالجملة فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعطاها حقها بأمر الله فدكا، فكانت لها من الله تعالى وقد جعلها في حياته لها نحلة، وأشهد على ذلك أمير المؤمنين وأم أيمن. وقالت فاطمة (عليها السلام): لست أحدث فيها حدثا وأنت حي، أنت أولى بي من نفسي وما لي لك ثم قالت في احتجاجها (عليها السلام) في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): هذا كتاب رسول الله أوجبها لي ولولدي دون المؤمنين، وعلى كل فليس في الروايات في تعيين من له فدك، ذكر علي أو ما يشعر بأن فدكا له وهو أول الأئمة، أو لخصوص الأئمة من ولد الحسين (عليه السلام)، أو للإمامة ومن يتصدى لها، بل هي عطية ونحلة وهبها وأعطاها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة (عليها السلام) لذي قربى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في اليوم، وهم فاطمة وولديها الحسن والحسين (عليهم السلام) كما
(1) نهج البلاغة: 417 ضمن كتاب: 45. 441 دعاهم وأعطاها لتكون لفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) ولا اختصاص في عقب فاطمة (عليها السلام) بالأئمة من ولد الحسين دون الحسن (عليهم السلام)، وبعد فاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) تكون ميراثا لعقب الحسن والحسين (عليهم السلام). ثم قالت فنحلة لي من والدي * المصطفى فلم ينحلاها فأقامت بها شهودا فقالوا * بعلها شاهد لها وابناها لم يجيزوا شهادة ابني رسول * الله هادي الأنام إذ ناصباها إخراج عمال فاطمة (عليها السلام) من فدك وردت عدة أحاديث وروايات أثبتت حقيقة واضحة البرهان (1) جليلة البيان وهي أنه لما بويع أبو بكر، واستقام له الأمر على جميع المهاجرين والأنصار، بعث إلى فدك وأخرج وكيل فاطمة (عليها السلام) بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منها، فجاءت فاطمة (عليها السلام) مستعدية فطالبها بالبينة، فجاءت بعلي والحسنين صلوات الله عليهم وأم أيمن المشهود لها بالجنة، فرد شهادة أهل البيت عليهم السلام بجر النفع وشهادة أم أيمن بقصورها عن نصاب الشهادة ثم ادعتها على وجه الميراث، فغضبت عليه وعلى عمر فهجرتهما، وأوصت بدفنها ليلا، لئلا يصليا عليها فأسخطا بذلك ربهما ورسوله، واستحقا أليم النكال، وشديد الوبال. ثم لما انتهت الإمارة إلى عمر بن عبد العزيز ردها علي بني فاطمة (عليهم السلام)، ثم انتزعها منهم يزيد بن عبد الملك، ثم دفعها السفاح إلى الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام)، ثم أخذها المنصور، ثم أعادها المهدي، ثم قبضها الهادي، ثم ردها المأمون لما جاءه رسول بني فاطمة، فنصب وكيلا من قبلهم وجلس محاكما فردها عليهم، وفي ذلك يقول دعبل الخزاعي: أصبح وجه الزمان قد ضحكا * برد مأمون هاشما فدكا
(1) العوالم: 707 الخاصة بفاطمة عليها السلام. 442 خطأ الخليفة الأول ولنبين خطأ أبي بكر في تلك القضية مع وضوحها بوجوه: أما أن فدكا كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فمما لا نزاع فيه، وقد أوردنا من رواياتنا وأخبارنا للمخالفين ما فيه كفاية ونزيده وضوحا بما رواه في جامع الأصول: مما أخرجه من صحيح " أبي داود "، عن عمر، قال: إن أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة قرى عرينة وفدك وكذا وكذا ينفق على أهله منها نفقة سنتهم، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة في سبيل الله وتلا: * (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول) * الآية. وروي أيضا: عن مالك بن أوس قال: كان فيما احتج به عمر أن قال: كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاث صفايا: بنو النضير، وخيبر، وفدك، إلى آخر الخبر. وروى ابن أبي الحديد: قال أبو بكر: حدثني أبو زيد عمر بن شبه، قال: حدثنا حيان ابن بشير، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: أخبرنا ابن أبي زائدة (1)، عن محمد ابن إسحاق، عن الزهري، قال: بقيت بقية من أهل خيبر تحصنوا، فسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحقن دماءهم ويسيرهم، ففعل، فسمع ذلك أهل فدك فنزلوا على مثل ذلك، وكانت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة، لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب " قال ": قال أبو بكر: وروى محمد بن إسحاق أيضا: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما فرغ من خيبر قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك، فبعثوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فصالحوه على النصف من فدك، فقدمت عليه رسلهم بخيبر أو بالطريق، أو بعد ما قدم المدينة (2)، فقبل ذلك منهم وكانت فدك لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خالصة له، لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب. قال: وقد روي أنه صالحهم عليها كلها، الله أعلم أي الأمرين كان. انتهى. وسيأتي اعتراف عمر بذلك في تنازع علي (عليه السلام) والعباس، وأما أنه وهبها لفاطمة (عليها السلام)
(1) شرح نهج البلاغة: 16 / 210. (2) في الشرح: ما أقام بالمدينة. 443 فلأنه لا خلاف في أنها صلوات الله عليها ادعت النحلة مع عصمتها بالأدلة المتقدمة، وشهد له من ثبت عصته بالأدلة الماضية والآتية والمعصوم لا يدعي إلا الحق ولا يشهد إلا بالحق ويدور الحق معه، حيثما دار، وأما أنها كانت في يدها صلوات الله عليها فلأنها ادعتها بعد الوفاة (صلى الله عليه وآله وسلم) على وجه الاستحقاق وشهد المعصوم بذلك لها، فإن كانت الهبة قبل الموت تبطل بموت الواهب، كما هو المشهود، ثبت القبض وإلا فلا حاجة إليه في إثبات المدعى. قد مر من الأخبار الدالة على نحلتها وأنها كانت في يدها (عليها السلام) ما يزيد على كفاية المنصف بل يسد طريق إنكار المتعسف، ويدل على أنها كانت في يدها صلوات الله عليها ما ذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) في كتابه إلى عثمان بن حنيف، حيث قال: " بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليهم نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين، ونعم الحكم الله " وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانها في غير جدث! " (1). وأما أن أبا بكر وعمر أغضبا فاطمة (عليها السلام) فقد اتضح بالأخبار المتقدمة. ثم اعلم أنا لم نجد أحدا من المخالفين أنكر كون فدك خالصة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته، ولا أحدا من الأصحاب طعن على أبي بكر بإنكاره ذلك، إلا ما تفطن به بعض الأفاضل من الأشارف، مع أنه يظهر من كثير من أخبار المؤالف والمخالف ذلك. وقد تقدم ما رواه ابن أبي الحديد في ذلك، عن أحمد بن عبد العزيز الجوهري وغيرها من الأخبار،
(1) أقول: إن فدك كانت في أيديهم، وتحت تصرفهم، وعلى هذا فلم يكن للخليفة الغاصب مطالبتهم بالبينة، فإنها خلاف موازين القضاء، ولم يكن إقطاع الرسول صلى الله عليه وآله لفاطمة عليها السلام وأهلها أمرا فريدا يخصها: ففي فتوح البلدان للبلاذري: 31: أنه صلى الله عليه وآله أقطع من أرض بني النضير أبا بكر وعبد الرحمن بن عوف وأبا دجانة، وغيرهم، وفي ص 34: وأقطع الزبير بن العوام أرضا من أرض بني النضير ذات نخل. وفي ص 27: وأقطع بلالا أرضا فيها جبل ومعدن. وقال مالك بن أنس: أقطع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بلال بن الحارث معادن بناحية الفرع، وأقطع عليا عليه السلام أربع أرضين: الفقيرين وبئر قيس والشجرة. وفي ص 34: وأبو بكر نفسه أقطع الزبير الجرف، وعمر أقطعه العقيق أجمع. فما أدري لماذا أخذوا من فاطمة نحلة أبيها صلى الله عليه وآله؟ وهل كانت هي فقط من الأموال العامة للمسلمين؟! نعم، كان سبب ابتزازها أن نحلة فاطمة وأبنيها تكون دعما لبيت الإمامة ملازمة. 444 ولا يخفى، أن ذلك يتضمن إنكار الآية وإجماع المسلمين، إذ القائل: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يصرف شيئا من غلة فدك وغيرها من الصفايا في بعض مصالح المسلمين، لم يقل بأنها لم تكن لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل قال: بأنه فعل ذلك على وجه التفضل وابتغاء مرضاة الله تعالى، وظاهر الحال أنه أنكر ذلك دفعا لصحة النحلة، فكيف كان يسمع الشهود على النحلة مع ادعائه أنها كانت من أموال المسلمين. واعتذر المخالفون من قبل أبي بكر بوجوه سخيفة: الأول: منع عصمتها صلوات الله عليها، وقد تقدمت الدلائل المثبتة لها. الثاني: أنه لو سلم عصمتها، فليس للحاكم أن يحكم بمجرد دعواها، وإن تيقن صدقها، وأجاب أصحابنا بالأدلة الدالة على أن الحاكم يحكم بعلمه، وأيضا اتفقت الخاصة والعامة على رواية قصة خزيمة بن ثابت وتسميته بذي الشهادتين لما شهد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدعواه، ولو كان المعصوم كغيره لما جاز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبول شاهد واحد والحكم لنفسه، بل كان يجب عليه الترافع إلى غيره. وقد روى أصحابنا: أن أمير المؤمنين (عليه السلام) خطأ شريحا في طلب البينة، وقال: إن إمام المسلمين يؤتمن من أمور على ما هو أعظم من ذلك، وأخذ ما ادعاه من درع طلحة بغير حكم شريح، والمخالفون حرفوا هذا الخبر وجعلوه حجة لهم، واعتذروا بوجوه أخرى سخيفة لا يخفى على عاقل بعد ما أوردنا في تلك الفصول ضعفها ووهنها، فلا نطيل الكلام بذكرها. بطلان دعوى عدم توريث الأنبياء (عليهم السلام) استدل أصحابنا على بطلان ذلك بآي من القرآن الكريم منها: قوله تعالى مخبرا عن زكريا (عليه السلام): * (وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا) * قوله تعالى: " وليا " أي: ولدا يكون أولى بميراثي، وليس المراد بالولي من يقوم مقامه ولدا كان أو غيره، لقوله
445 تعالى حكاية عن زكريا: * (رب هب لي من لدنك ذرية طيبة) *. وقوله: * (رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين * فاستجبنا له ووهبنا له يحيى) *، والقرآن يفسر بعضه بعضا، واختلف المفسرون في أن المراد بالميراث العلم أو المال فقال ابن عباس والحسن والضحاك: أن المراد به في قوله تعالى: " يرثني " وقوله سبحانه: * (ويرث من آل يعقوب) * ميراث المال. وقال أبو صالح: المراد به في الموضعين ميراث النبوة. وقال السدي ومجاهد والشعبي: المراد به في الأول: ميراث المال، وفي الثاني: ميراث النبوة، وحكى هذا القول عن ابن عباس والحسن والضحاك. وحكي عن مجاهد، أنه قال: المراد من الأول: العلم، ومن الثاني: النبوة. وأما وجه دلالة الآية على المراد فهو أن لفظ الميراث في اللغة والشريعة والعرف إذا أطلق ولم يقيد، لا يفهم منه إلا الأموال وما في معناها، ولا يستعمل في غيرها إلا مجازا، وكذا لا يفهم من قول القائل: " لا وارث لفلان " إلا من ينتقل إليه أمواله وما يضاهيها دون العلوم وما يشاكلها، ولا يجوز العدول عن ظاهر اللفظ وحقيقته إلا لدليل، فلو لم يكن في الكلام قرينة توجب حمل اللفظ على أحد المعنيين، لكفى في مطلوبنا، كيف والقرائن الدالة على المقصود موجودة في اللفظ. أما أولا: فلأن زكريا (عليه السلام) اشترط في وارثه أن يكون رضيا، وإذا حمل الميراث على العلم والنبوة لم يكن الإشتراط معنى، بل كان لغوا عبثا، لأنه إذا سأل من يقوم مقامه في العلم والنبوة فقد دخل في سؤاله الرضا، وما هو أعظم منه، فلا معنى لاشتراطها، ألا ترى أنه لا يحسن أن يقول أحد: اللهم ابعث إلينا نبيا واجعله مكلفا عاقلا. وأما ثانيا: فلأن الخوف من بني العم ومن يحذو حذوهم يناسب المال دون النبوة والعلم، وكيف يخاف مثل زكريا (عليه السلام) من أن يبعث الله تعالى إلى خلقه نبيا يقيمه مقام زكريا ولم يكن أهلا للنبوة والعلم سواء كان من موالي زكريا أو من غيرهم، على أن زكريا (عليه السلام) كان إنما بعث لإذاعة العلم ونشره في الناس، فلا يجوز أن يخاف من الأمر الذي هو الغرض في بعثته، فإن قيل: كيف يجوز على مثل زكريا (عليه السلام) الخوف من أن يرث الموالي ماله، وهل هذا إلا الشح والبخل؟ قلنا: لما علم زكريا (عليه السلام) من حال الموالي أنهم من أهل الفساد، خاف أن ينفقوا أمواله
446 في المعاصي، ويصرفوه في غير الوجوه المحبوبة، مع أن في وراثتهم ماله كان يقوي فسادهم وفجورهم، فكان خوفه خوفا من قوة الفساق، وتمكنهم في سلوك الطرائق المذمومة وانتهاك محارم الله عز وجل، وليس مثل ذلك من الشح والبخل، فإن قيل: كما جاز الخوف على المال جاز الخوف على وراثتهم العلم، لئلا يفسدوا به الناس ويضلوهم، ولا ريب في أن ظهور آثار العلم كان فيهم من دواعي اتباع الناس وإياهم وانقيادهم لهم؟ قلنا: لا يخلو هذا العلم الذي ذكرتموه من أن يكون هو كتب علمية وصحف حكمية، لأنه قد يسمى علما مجازا، أو يكون هو العلم الذي يملأ القلوب وتعيه الصدور، فإن كان الأول، فقد رجع إلى معنى المال، وصح أن الأنبياء (عليهم السلام) يورثون الأموال وكان حاصل خوف زكريا (عليه السلام) أنه خاف من أن ينتفعوا ببعض أمواله نوعا خاصا من الانتفاع، فسأل ربه أن يرزقه الولد حذرا من ذلك، وإن كان الثاني، فلا يخل أيضا من أن يكون هو العلم الذي بعث النبي لنشره وأدائه إلى الخلق، أو أن يكون علما مخصوصا لا يتعلق بشريعة، ولا يجب اطلاع الأمة عليه كعلم العواقب وما يجري في مستقبل الأوقات ونحو ذلك. والقسم الأول: لا يجوز أن يخاف النبي من وصوله إلى بني عمه، وهم من جملة أمته المبعوث إليهم لأن يهديهم ويعلمهم وكان خوفه من ذلك خوفا من غرض البعثة. والقسم الثاني: لا معنى للخوف من أن يرثوه إذ كان أمره بيده، ويقدر على ن يلقيه إليهم ولو صح الخوف على القسم الأول لجرى ذلك فيه أيضا فتأمل. هذا خلاصة ما ذكره السيد المرتضى (رضي الله عنه) في الشافي عند تقرير هذا الدليل وما أورده عليه من تأخر عنه يندفع بنفس التقرير، كما لا يخفى على الناقد البصير فلذا لا نسود بإيرادها الطوامير. الآية الثانية: قوله تعالى: * (وورث سليمان داود) * وقال: * (يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ إن هذا لهو الفضل المبين) * وجه الدلالة هو أن المتبادر من قوله تعالى ورث: أنه ورث ماله كما سبق في الآية المتقدمة، فلا يعدل عنه إلا لدليل،
447 وأجاب قاضي القضاة في المغني: بأن في ما يدل على أن المراد وراثة العلم دون المال، وهو قوله تعالى: وقال: * (يا أيها الناس علمنا منطق الطير) *، فإنه يدل على أن الذي ورث هو هذا العلم وهذا الفضل، وإلا لم يكن لهذا تعلق بالأول، وقال الرازي في تفسيره: لو قال تعالى ورث سليمان داود ماله لم يكن لقوله تعالى وقال: * (يا أيها الناس علمنا منطق الطير) * معنى، وإذا قلنا: ورث مقامه من النبوة والملك حسن ذلك، لأن علم منطق الطير يكون داخلا في جملة ما ورثه، وكذلك قوله: * (وأوتينا من كل شئ) * لأن وارث العلم يجمع ذلك، ووارث المال لا يجمعه، وقوله: * (إن هذا لهو الفضل المبين) * يليق أيضا بما ذكر دون المال، الذي يحصل للكامل والناقص. وما ذكره الله تعالى من جنود سليمان بعده، لا يليق إلا بما ذكرنا فبطل بما ذكرنا قول من زعم أنه لا يورث إلا المال فأما إذا ورث المال والملك معا، فهذا لا يبطل بالوجوه الذي ذكرنا بل بظاهر قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " نحن معاشر الأنبياء لا نورث "، ورد السيد المرتضى (رضي الله عنه) في الشافي كلام المغني بأنه: لا يمتنع أن يريد ميراث المال خاصة، ثم يقول مع ذلك إنا علمنا منطق الطير ويشير بالفضل المبين إلى العلم والمال جميعا، فله في الأمرين جميعا فضل على من لم يكن كذلك، وقوله: * (وأوتينا من كل شئ) * يحتمل المال كما يحتمل العلم، فليس بخالص لما ظنه ولو سلم دلالة الكلام لما ذكره، فلا يمتنع، أن يريد أنه ورث المال بالظاهر والعلم بهذا النوع من الاستدلال، فليس يجب إذا دلت الدلالة في بعض الألفاظ على المجاز أن نقتصر بها عليه، بل يجب أن نحملها على الحقيقة التي هي الأصل، إذا لم يمنع من ذلك مانع، وقد ظهر بما ذكره السيد (قدس سره)، بطلان قول الرازي أيضا، وكان القاضي يزعم أن العطف لو لم يكن للتفسير لم يكن للمعطوف تعلق بما عطف عليه، وانقطع نظام الكلام وما اشتهر من أن التأسيس أولى من التأكيد، من الأغلاظ المشهورة، وكان الرازي يذهب إلى أنه لا معنى للعطف، إلا إذا كان المعطوف داخلا في المعطوف عليه، فعلى أي شئ يعطف حينئذ قوله تعالى: * (وأوتينا من كل شئ) * فتدبروا، أما قوله: أن المال يحصل للكامل والناقص، فلو حمل الميراث على المال لم يناسب قوله: * (إن هذا لهو الفضل المبين) * فيرد عليه: أنه إنما يستقيم إذا كانت الإشارة إلى أول الكلام فقط، وهو وراثة المال وبعده ظاهر،
448 ولو كانت الإشارة إلى مجموعة الكلام كما هو الظاهر أو إلى أقرب الفقرات، أعني قوله: * (وأوتينا من كل شئ) * لم يبق لهذا الكلام مجال، وكيف لا يليق الإشارة دخول المال في جملة المشار إليه وقد من الله تعالى على عباده، وفي غير موضع من كلامه المجيد بما أعطاهم في الدنيا من صنوف الأموال وأوجب على عباده الشكر عليه، فلا دلالة فيه على عدم إرادة وراثة المال سواء كان من كلام سليمان أو من كلام المالك المنان، وقد ظهر بذلك بطلان قوله أخيرا إن ما ذكره الله من جنود سليمان لا يليق إلا بما ذكرنا، بل الأظهر أن حشر الجنود من الجن والإنس والطير قرينة على عدم إرادة الملك من قوله: * (ورث سليمان داود) * فإن تلك الجنود لم تكن لداود حتى يرثها سليمان، بل كانت عطية مبتدأة من الله تعالى لسليمان (عليه السلام)، وقد أجرى الله تعالى على لسانه أنه أخبر الاعتراف بأن ما ذكره لا يبطل قول من حمل الآية على وراثة الملك معا فإنه يكفينا في إثبات المدعى، وسيأتي الكلام في الحديث الذي تمسك به. الآية الثالثة: ما يدل على وراثة الأولاد والأقارب، كقوله تعالى: * (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل نصيب أو كثر مفروضا) * وقوله تعالى: * (وصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الاثنين) * وقد اجتمعت الأمة على عمومها إلا من أخرجه الدليل، فيجب أن يتمسك بعمومها إلا إذا قامت دلالة قاطعة، وقد قال سبحانه عقيب آيات الميراث: * (تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك هو الفوز العظيم * ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين) *، ولم يقل دليل على خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من قوله: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة، قال صاحب المغني: لم يقتصر أبو بكر على رواية حتى استشهد عليه عمر وعثمان وطلحة والزبير وسعدا وعبد الرحمن بن عوف، فشهدوا به فكان لا يحل لأبي، وقد صار الأمر إليه أن يقسم التركة ميراثا، وقد أخبر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنها صدقة وليس بميراث، وأقل ما في الباب أن يكون الخير من أخبار الآحاد، فلو أن شاهدين شهدا
449 في التركة أن فيها حقا، أليس كان يجب أن يصرفه عن الإرث؟ فعلمه بما قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مع شهادة غيره أقوى، ولسنا نجعله مدعيا، لأنه لم يدع ذلك لنفسه وإنما بين أنه ليس بميراث، وأنه صدقة ولا يمتنع تخصيص القرآن بذلك كما يخص في العبد والقاتل وغيرهما. ويرد عليه: أن الاعتماد في تخصيص الآيات، إما على سماع أبي بكر ذلك الخبر من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويجب على الحاكم أن يحكم بعلمه، وإما على شهادة من زعموهم شهودا على الرواية، أو على مجموع الأمرين، أو على سماعه من حيث الرواية مع انضمام الباقين إليه، فإن كان الأول فيرد عليه بوجوه من الإيراد عليه: الأول: ما ذكره السيد (رضي الله عنه) في " الشافي " من أن أبا بكر في حكم المدعي لنفسه والجار إليها نفعا في حكمه، لأن أبا بكر وسائر المسلمين سوى أهل البيت (عليه السلام) تحل لهم الصدقة، ويجوز أن يصيبوا منها، وهذه تهمة في الحكم والشهادة ثم قال (رضي الله عنه): وليس له أن يقول يقتضي أن لا تقبل شهادة شاهدين في تركة فيها صدقة بمثل ما ذكرتم، وذلك لأن الشاهدين إذا شهدا بالصدقة فحظهما منها كحظ صاحب الميراث، بل سائر المسلمين، وليس كذلك حال تركة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن كونها صدقة يحرمها على ورثته ، ويبيحها لسائر المسلمين، انتهى. ولعل مراده (رحمهم الله) أن لحرمان الورثة في خصوص تلك المادة شواهد على التهمة بأن كان غرضهم إضعاف جانب أهل البيت (عليهم السلام)، لئلا يتمكنوا من المنازعة في الخلافة، ولا يميل الناس لنيل الزخارف الدنيوية، فيكثر أعوانهم وأنصارهم ويظفروا بإخراج الخلافة والإمارة من أيدي المتغلبين، إذ لا يشك أحد ممن نظر في أخبار العامة والخاصة، في أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان في ذلك الوقت طالبا للخلافة، مدعيا لاستحقاقه لها، وأنه لم يكن انصراف الأعيان والأشراف عنه، وميلهم إلى غيره إلا لعلمهم بأنه لا يفضل أحدا منهم على ضعفاء المسلمين، وأنه يسوى بينهم في العطاء والتقريب، ولم يكن انصراف سائر الناس عنه إلا لقلة ذات يده، وكون المال والجاه مع غيره. والأولى أن يقال في الجواب: أنه لم تكن التهمة لأجل أن له حصة في التركة، بل لأنه
450 كان يريد أن يكون تحت يده، ويكون حاكما فيه يعطيه من يشاء، ويمنعه من يشاء ويؤيده: قول أبي بكر فيما رواه في جامع الأصول من سنن أبي داود، عن أبي الطفيل، قال: جاءت فاطمة (عليها السلام) إلى أبي بكر تطلب ميراثها من أبيها، فقال لها: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله إذا أطعم نبيا طعمة فهو للذي يقوم من بعده، ولا ريب في أن ذلك مما يتعلق به الأغراض، ويعد من جلب المنافع، ولذا لا تقبل شهادة الوكيل فيما هو وكيل فيه والوصي فيما هو وصي فيه، وقد ذهب قوم إلى عدم جواز الحكم بالعلم مطلقا لأنه مظنة التهمة، فكيف إذا قامت القرائن عليه من عداوة ومنازعة، وإضعاف جانب ونحو ذلك، والعجب أن بعضهم في باب النحلة منعوا بعد تسليم عصمة فاطمة (عليها السلام) جواز الحكم بمجرد الدعوى وعلم الحاكم بصدقها، وجوزوا الحكم بأن التركة صدقة، للعلم بالخبر مع معارضته للقرآن وقيام الدليل على كذبه. الثاني: أن الخبر معارض للقرآن لدلالة الآية في شأن زكريا وداود (عليهما السلام) على الوراثة وليست الآية عامة حتى تخصص بالخبر فيجب طرح الخبر، لا يقال: إذا كانت الآية خاصة فينبغي تخصيص الخبر بها، وحمله على غير زكريا وداود (عليهما السلام) لأنا نقول: الحكم بخروجهما عن حكم الأنبياء مخالف لإجماع الأمة، لانحصارها بالإيراث مطلقا، وعدمه مطلقا، فلا محيص عن الحكم بكذب الخبر، وطرحه. الثالث: أن أمير المؤمنين صلوات الله عليه كان يرى الخبر موضوعا باطلا، وكان (عليه السلام) لا يرى إلا الحق والصدق، فلا بد من القول بأن من زعم أنه سمع الخبر كاذب ؤ أما الأولى: فلما رواه مسلم، في " صحيحة " وأورده في " جامع الأصول " أيضا عن مالك بن أوس - في رواية طويلة - قال: عمر لعلي (عليه السلام) والعباس، قال أبو بكر: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا نورث، ما تركناه صدقة، فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا، والله يعلم أنه لصادق بار راشد تابع للحق، ثم توفي أبو بكر، فقلت: أنا ولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وولي أبي بكر، فرأيتماني كاذبا غادرا آثما خائنا، ولله يعلم أني لصادق بار تابع للحق فوليتها. وعن البخاري: في منازعة علي والعباس فيما أفاء الله على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بني
451 النضير، أنه قال عمر بن الخطاب: قال أبو بكر: أنا ولي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقبضها فعمل فيها بما عمل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - وأنتما حينئذ - وأقبل على علي (عليه السلام) والعباس تزعمان أن أبا بكر فيها كذا. والله يعلم أنه فيها صادق بار راشد تابع للحق وكذلك زاد في حق، نفسه، قال: والله يعلم أني فيها صادق بار راشد تابع للحق، إلى آخر الخبر. وقد روى ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة: من كتاب " السقيفة " عن أحمد بن عبد العزيز الجوهري " مثله " بأسانيد. وأما المقدمة الثانية: فلما مر وسيأتي من الأخبار المتواترة، في أن عليا (عليه السلام) لا يفارق الحق والحق لا يفارقه، بل يدور معه حيث ما دار، ويؤيده روايات السفينة والثقلين وأضرابهما. الرابع: أن فاطمة (عليها السلام) أنكرت رواية أبي بكر، وحكمت بكذبه فيها، ولا يجوز الكذب عليها، فوجب الرواية وراويها. أما المقدمة الأولى: فلما مر في خطبتها وغيرها، وسيأتي من شكايتها في مرضها وغيرها، وقد رووا في صحاحهم: أنها (عليها السلام) انصرفت من عند أبي بكر ساخطة، وماتت عليه واجدة، وقد اعترف بذلك ابن أبي الحديد، وأما الثانية: فلما مر من عصمتها وجلالتها (عليها السلام). الخامس: أنه لو كانت تركة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صدقة، ولم يكن لها صلوات الله عليها حظ فيها، لبين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الحكم لها إذ التكليف في تحريم أخذها، يتعلق بها ولو بينه لها لما طلبتها لعصمتها، ولا يرتاب عاقل في أنه لو كان بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأهل بيته أن تركتي صدقة لا تحل لما خرجت ابنته وبضعته من بيتها مستعدية ساخطة صارخة في معشر المهاجرين والأنصار، تعاتب إمام زمانها بزعمكم، وتنسبه إلى الجور والظلم في غصب تراثها، وتستنصر المهاجر، والأنصار، في الوثوب عليه، وإثارة الفتنة بين المسلمين، وتهيج الشر، ولم تستقر بعد أمر الإمارة والخلافة، وقد أيقنت بذلك طائفة من المؤمنين، أن الخليفة غاصب للخلافة ناصب لأهل الإمامة، فصبوا عليه اللعن والطعن إلى نفخ الصور وقيام النشور، وكان ذلك من أكد الدواعي إلى شق عصا المسلمين، وافتراق كلمتهم، وتشتت ألفتهم، وقد كانت تلك النيران يخمدها بيان الحكم لها ولأمير المؤمنين (عليه السلام)، ولعله لا يجسر من أوتي حظا من الإسلام على القول
452 بأن فاطمة (عليها السلام) مع علمها بأن ليس لها في التركة بأمر الله نصيب، كانت تقدم على مثل ذلك الصنيع، أو كان أمير المؤمنين (عليه السلام) مع علمه بحكم الله، لم يزجرها عن التظلم والاستعداء، ولم بالقعود في بيتها، راضية بأمر الله فيها، وكان ينازع العباس، بعد موتها ويتحاكم إلى عمر ابن الخطاب، فليت شعري هل كان ذلك الترك والإهمال لعدم الاعتناء بشأن بضعته التي كانت تؤذيه ما آذاها، ويريبه ما رابها، أو بأمر زوجها وابن عمه وأخيه المساوي لنفسه ومواسيه بنفسه، أو لقلة المبالاة بتبليغ أحكام الله وأمر أمته، وقد أرسله الله بالحق بشيرا ونذيرا للعالمين. السادس: أنا مع قطع النظر عن جميع ما تقدم، نحكم قطعا بأن مدلول هذا الخبر كاذب باطل ومن أسند إليه هذا الخبر، لا يجوز عليه الكذب، فلا بد من القول بكذب من رواه، والقطع بأنه وضعه وافتراه، وأما المقدمة الثانية فغنية عن البيان. وأما الأولى: فبيانها أنه قد جرت عادة الناس قديما وحديثا بالإخبار عن كل ما جرى، بخلاف المعهود بين كافة الناس، وخرج عن سنن عاداتهم، سيما إذا وقع في كل عصر وزمان، وتوفرت الدواعي، إلى نقله وروايته، ومن المعلوم لكل أحد، أن جميع الأمم على اختلافهم في مذاهبهم يهتمون بضبط أحوال الأنبياء وسيرتهم، وأحوال أولادهم، وما يجري عليهم بعد آبائهم، وضبط خصائصهم، وما يتفردون به عن غيرهم، ومن المعلوم أيضا أن العادة قد جرت من يوم خلق الله الدنيا وأهلها، إلى زمان انقضاء مدتها وفنائها، بأن يرث الأقربون من الأولاد، وغيرهم أقاربهم وذوي أرحامهم، وينتفعون بأموالهم وما خلفوه بعد موتهم، ولا شك لأحد في أن عامة الناس، عالمهم وجاهلهم، وغنيهم وفقيرهم وملوكهم، ورعاياهم يرغبون إلى كل ما نسب إلى ذي شرف وفضيلة، ويتبركون به ويحرزه الملوك في خزائنهم، ويوصون به لأحب أهلهم، فكيف بسلاح الأنبياء في ثيابهم وأمتعتهم، ألا ترى إلى الأعمى إذ أبصر في مشهد من المشاهد المشرفة، أو توهمت العامة أنه أبصر اقتطعوا ثيابه وتبركوا بها وجعلوها حرزا من كل بلاء، إذا تمهدت المقدمات فنقول: لو كان ما تركه الأنبياء من لدن آدم (عليه السلام) إلى الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) صدقة، لقسمت بين الناس، بخلاف المعهود من توارث الآباء والأولاد وسائر الأقارب، ولا يخلو الحال: إما أن
453 يكون كل نبي يبين هذا الحكم لورثته بخلاف نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، أو يتركون البيان كما تركه (صلى الله عليه وآله وسلم) فجرى على سنة الذين خلوا من قبله، من أنبياء الله عليهم السلام، فإن كان الأول، فمع أنه خلاف الظاهر، كيف خفي هذا الحكم على جميع أهل الملل والأديان، ولم يسمعه أحد إلا أبو بكر، ومن يحذو حذوه، ولم ينقل أحد أن عصا موسى (عليه السلام) فجرى على وجه الصدقة إلى فلان، وسيف سليمان (عليه السلام) صار إلى فلان، وكذا ثياب سائر الأنبياء وأسلحتهم وأدواتهم فرقت بين الناس، ولم يكن في ورثة أكثر من مائة ألف نبي، قوم ينازعون في ذلك، وإن كان بخلاف حكم الله عز وجل، وقد كان أولاد يعقوب (عليه السلام) مع علو قدرهم يحسدون على أخيهم، ويلقونه في الجب لما رأوه أحبهم إليه، أو وقعت تلك المنازعة كثيرا، ولم ينقلها أحد في الملل السابقة وأرباب السير، مع شدة اعتنائهم بضبط أحوال الأنبياء وخصائصهم، وما جرى بعدهم كما تقدم، وإن كان الثاني، فكيف كانت حال ورثة الأنبياء أكانوا يرضون بذلك ولا ينكرون؟ فكيف صارت ورثة الأنبياء جميعا يرضون بقول القائمين بالأمر مقام الأنبياء، ولم ترض به سيدة النساء؟ أو كانت سنة المنازعة جارية في جميع الأمم، ولم ينقلها أحد ممن تقدم، ولا ذكر من انتقلت تركات الأنبياء إليهم، إن هذا لشئ عجاب، وأعجب من ذلك، أنهم ينازعون في وجود النص على أمير المؤمنين (عليه السلام)، مع كثرة الناقلين له من يوم السقيفة إلى الآن، ووجوه الأخبار في صحاحهم، وادعائهم الشيعة تواتر ذلك، من أول الأمر إلى الآن ويستندون في ذلك إلى أنه لو كان حقا، لما خفي ذلك لتوفر الدواعي إلى نقله وروايته، فانظر بعين الإنصاف أن الدواعي لشهرة أمر خاص، ليس الشاهد له إلا قوم مخصوص من أهل قرن معين أكثر، أم لشهرة أمر قل زمان من الأزمنة من لدن آدم (عليه السلام) إلى الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم) عن وقوعه فيه؟ مع أنه ليس يدعو إلى كتمانه وإخفائه في الأمم السالفة داع، ولم يذكره رجل في كتاب، ولم يسمعه أحد من أهل ملة، ولعمري لا أشك في أن من لزم الإنصاف وجانب المكابرة، والاعتساف، وتأمل في مدلول الخبر وأمعن النظر، يجزم قطعا بكذبه وبطلانه، وإن كان القسم الثاني، وهو أن يكون اعتماد أبي بكر في تخصيص الآيات بالخبر من حيث رواية الرواة له دون علمه بأنه من كلام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، لسماعه بأذنه فيرد عليه أيضا
454 وجوه من النظر: الأول: أن ما ذكره قاضي القضاة، من أنه شهد بصدق الرواية في أيام أبي بكر: عثمان وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمان، باطل غير مذكور في سيرة ورواية من طرقهم وطرق أصحابنا، وإنما المذكور في رواية مالك بن أوس التي رووها في صحاحهم: أن عمر بن الخطاب لما تنازع عنده أمير المؤمنين (عليه السلام) والعباس استشهد نفرا فشهدوا بصدق الرواية، ولنذكر ألفاظ صحاحهم في رواية مالك بن أوس على اختلافها، حتى يتضح حقيقة الحال: روى البخاري ومسلم وأخرجه الحميدي، وحكاه في جامع " الأصول " في الفرع الرابع من كتاب الجهاد من حرف الجيم، عن مالك أنه قال: أرسل إلي عمر فجئته حين تعالى النهار، قال: فوجدته في بيته جالسا على سرير مفضيا (1)، إلى رماله، متكئا على وسادة (2) من أدم، فقال لي: يا مالك، أنه قد دف أهل أبيات من قومك (3) وقد أمرت فيهم برضخ (4) فخذه فأقسم بينهم قال: قلت: لو أمرت بهذا غيري، قال: خذه يا مالك، قال: فجاء يرفأ (5) فقال: هل لك في عثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد، فقال عمر: نعم فأذن لهم فدخلوا، ثم جاء فقال: هل لك في عباس وعلي (عليه السلام) قال: نعم فأذن لهما، فقال العباس: إقض بيني وبين هذا، فقال القوم أجل! فاقض بينهم وأرحهم، قال مالك بن أوس: فخيل إلى أنهم قد كانوا قدموهم لذلك، فقال عمر اتئدوا (6): أنشدكم بالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا نورث ما تركنا صدقة؟ قالوا: نعم، ثم أقبل على العباس وعلي (عليه السلام) فقال: أنشدكما بالله الذي بأذنه تقوم السماء والأرض، أتعلمان أن رسول
(1) أي ملقيا نفسه على الرمال لا حاجز بينهما، ورمال السرير - بالكسر: ما رمل أي نسج، جمع رمل بمعنى مرمول كالخلق بمعنى المخلوق، والمراد به أنه كان السرير قد نسج وجهه بالسعف ولم يكن على السرير وطا سوى الحصير. (2) الوسادة: المخدة. (3) ودف أهل أبيات: أي دخلوا المصر، يقال: دف دافة من العرب. (4) الرضخ - بالضاد والخاء المعجمتين -: العطاء القليل. (5) يرفأ - بالراء والفاء والهمز على صيغة المضارع -: كينع، علم مولى عمر بن الخطاب. (6) اتئدوا: أمر من التؤدة أي التأني والتثبت. 455 الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا نورث، ما تركنا صدقة؟ قالا: نعم، إلى آخر الخبر، ثم حكى في جامع الأصول، عن البخاري ومسلم، أنه قال عمر لعلي (عليه السلام): قال أبو بكر: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا نورث، ما تركناه صدقة، فرأيتماه كاذبا آثما غادرا خائنا، وتزعمان أنه فيها كذا كما نقلنا سابقا، وحكى في جامع الأصول، عن أبي داود، أنه قال أبو البختري: سمعت حديثا من رجل فأعجبني، فقلت: اكتبه لي، فأتى به مكتوبا مدبرا (1)، دخل العباس وعلي (عليه السلام) على عمر، وعنده طلحة والزبير وعبد الرحمان وسعد وهما يختصمان، فقال عمر لطلحة والزبير وعبد الرحمان وسعد: ألم تعلموا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: كل مال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صدقة، إلا ما أطعمه أهله، أو كساهم، إنا لا نورث؟ قالوا: بلى (2). توضيح: ولا يذهب على ذي فطنة أن شهادة الأربعة التي تضمنتها الرواية الأولى والثانية على اختلافهما، لم يكن من حيث الرواية والسماع عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل لثبوت الرواية عندهم بقول أبي بكر، بقرينة أن عمر ناشد عليا (عليه السلام) والعباس: أتعلمان أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا نورث، ما تركناه صدقة؟ فقالا: نعم، وذلك لأنه لا يقدر أحد في ذلك الزمان على تكذيب تلك الرواية، وقد قال عمر في آخر الرواية: رأيتماه، يعني أبا بكر كاذبا آثما غادرا خائنا، وكذا في حق نفسه، والعجب أن القاضي لم يجعل عليا (عليه السلام) والعباس شاهدين على الرواية مع تصديقهما كما صدق الباقون، بل جميع الصحابة لأنهم يشهدون بصدقهما. وقال ابن أبي الحديد بعد حكاية كلام السيد (رضي الله عنه) في أن الاستشهاد كان في خلافة عمر دون أبي بكر، وأن معول المخالفين على إمساك الأمة عن النكير على أبي بكر دون الاستشهاد ما هذا لفظه: قلت: صدق المرتضى فيما قال، أما عقيب وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومطالبة فاطمة (عليها السلام) بالإرث فلم يرو الخبر إلا أبا بكر وحده، وقيل: إنه رواه معه مالك بن أوس ابن الحدثان، وأما المهاجرون الذين ذكرهم قاضي القضاة فقد شهدوا بالخبر في خلافة عمر، وقد تقدم ذكر ذلك، وقال في الموضع المتقدم الذي أشار إليه،
(1) أي مسندا. (2) جامع الأصول: 3 / 311. 456 وهو الفصل الذي ذكر فيه روايات أبي البختري على ما رواه أحمد بن عبد العزيز الجوهري بإسناده عنه: قال جاء علي والعباس إلى عمر، وهما يختصمان، فقال عمر لطلحة والزبير وعبد الرحمان وسعد: أنشدكم الله، أسمعتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: كل مال نبي فهو صدقة إلا ما أطعمه أهله، إنا لا نورث! فقالوا: نعم، قال: وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتصدق به، ويقسم فضله، ثم توفي، فوليه أبو بكر سنتين يصنع فيه ما كان يصنع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأنتما تقولان: إنه كان بذلك خاطئا، وكان بذلك ظالما وما كان بذلك إلا راشدا، ثم وليته بعد أبي بكر فقلت لكما: إن شئتما قبلتماه على عمل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعهده الذي عهد فيه، فقلتما: نعم، وجئتماني الآن تختصمان، يقول هذا: أريد نصيبي من ابن أخي، ويقول هذا: أريد نصيبي من امرأتي! والله لا أقضي بينكما إلا بذلك. قال ابن أبي الحديد: قلت: وهذا أيضا مشكل، لأن أكثر الروايات أنه لم يرو هذا الخبر إلا أبا بكر وحده، ذكر ذلك معظم المحدثين، حتى أن الفقهاء في أصول الفقه أطبقوا على ذلك في احتجاجهم في الخبر برواية الصحابي الواحد. وقال شيخنا أبو علي: لا يقبل في الرواية إلا رواية اثنين كالشهادة، فخالفه المتكلمون والفقهاء كلهم، واحتجوا عليه بقبول الصحابة رواية أبي بكر وحده، قال: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث "، حتى أن أصحاب أبي علي تكلف لذلك جوابا، فقال: قد روي أن أبا بكر يوم حاج فاطمة (عليها السلام) قال: أنشد الله امرء سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا شيئا! فروى مالك بن أوس بن الحدثان: أنه سمع من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهذا الحديث ينطق بأنه استشهد عمر وطلحة والزبير وعبد الرحمان وسعدا، فقالوا: سمعناه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأين كانت هذه الرواية أيام أبي بكر! ما نقل أن أحدا من هؤلاء يوم خصومة فاطمة (عليها السلام) وأبي بكر روى من هذا شيئا. انتهى. فظهر أن قول القاضي ليس إلا شهادة زور، ولو كان لما ذكره من استشهاد أبي بكر مستند لأشار إليه كما هو الدأب في مقام الاحتجاج، وأما هذه الرواية التي رواها ابن أبي الحديد فمع أنها لا تدل على الاستشهاد في خلافة أبي بكر، فلا تخلو من تحريف، لما عرفت من أن لفظ رواية
457 أبي البختري على ما رواه أبو داود، وحكاه في جامع الأصول (1): ألم تعلموا أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: كل مال النبي صدقة لا أسمعتم (2) رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما رواه الجوهري، على أنه لا يقوم فيما تفردوا به من الأخبار حجة علينا، وأنما الاحتجاج بالمتفق عليه، أو ما اعترف به الخصم والاستشهاد على الرواية لم يثبت عندنا لا في أيام أبي بكر ولا في زمن عمر ثم أورد السيد (رحمه الله) على كلام صاحب المغني بأنا لو سلمنا استشهاد من ذكر على الخبر لم يكن فيه حجة، لأن الخبر على كل حال لا يخرج من أن يكون غير موجب للعلم، وهو في حكم أخبار الآحاد، وليس يجوز أن يرجع عن ظاهر القرآن بما يجري هذا المجرى، لأن المعلوم لا يخص إلا بمعلوم، قال: على أنه لو سلم لهم أن الخبر الواحد يعمل به في الشرع لاحتاجوا إلى دليل مستأنف على أنه يقبل في تخصيص القرآن لأن ما دل على العمل به في الجملة لا يتناول هذا الموضع كما لا يتناول جواز النسخ به، وتحقيق هاتين المسئلتين من وظيفة أصول الفقه. والثاني: أن رواة الخبر كانوا متهمين في الرواية بجلب النفع من حيث حل الصدقة وما أجاب به شارح كشف الحق من الفرق بين الرواية والشهادة، وأن التهمة إنما تضر في الشهادة دون الرواية، فسخيف جدا ولم يقل أحد بهذا الفرق غيره. الثالث والرابع: ما تقدم في الإيراد الثالث والرابع من القسم الأول. الخامس: ما تقدم من وجوب البيان للورثة. أما القسم الثالث: وهو أن يكون مناط الحكم على علم أبي بكر مع شهادة النفر، وكذلك الرابع: وهو أن يكون الاعتماد على روايته معهم، فقد ظهر بطلانهما مما سبق، فإن المجموعة وإن كان أقوى من كل واحد من الجزئين، إلا أنه لا يدفع التهمة ولا مناقضة الآيات الخاصة ولا باقي الوجوه السابقة، وقد ظهر بما تقدم أن الجواب عن قول أبي علي: " أتعلمون كذب أبي بكر أم تجوزون صدقه، وقد علم أنه لا شئ يعلم به كذبه قطعا فلا بد من تجويز كونه صادقا كما حكاه في المغني " هو أنا نعلم كذبه قطعا والدليل عليه:
(1) 3 / 311. (2) كذا في البحار. 458 ما تقدم من الوجوه الستة المفصلة، وأن تخصيص الآيات من هذا الخبر ليس من قبيل تخصيصها في القاتل والعبد كما ذكره قاضي القضاة. إذ مناط الثاني روايات معلومة الصدق، والأول خبر معلوم الكذب. وقد سبق في خطبة فاطمة (عليها السلام) استدلالها بقوله تعالى: * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) * وبثلاث من الآيات السابقة، وهو يدل مجملا، على بطلان ما فصلوه من الأجوبة، ثم إن بعض الأصحاب حمل الرواية على وجه لا يدل على ما فهم منها الجمهور وهو أن يكون ما تركناه صدقة مفعولا ثانيا للفعل أعني " نورث " سواء كان بفتح الراء على صيغة المجهول من قولهم: ورثت أبي شيئا، أو بكسرها من قولهم: أورثه الشئ أبوه. وأما بتشديد الراء فالظاهر أنه لحن، فإن التوريث إدخال أحد في المال على الورثة كما ذكره الجوهري وهو لا يناسب شيئا من المحامل ويكون صدقة منصوبا على أن يكون مفعولا لتركنا، والإعراب لا تضبط في أكثر الروايات، ويجوز أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقف على الصدقة فتوهم أبو بكر أنه بالرفع وحينئذ يدل على أن ما جعلوه صدقة في حال حياتهم لا ينتقل بموتهم إلى الورثة أي ما نووا فيه الصدقة من غير أن يخرجوه من أيديهم لا يناله الورثة حتى يكون للحكم اختصاص بالأنبياء (عليهم السلام) ولا يدل على حرمان الورثة مما تركوه مطلقا، والحق أنه لا يخلو عن بعد، ولا حاجة لنا إليه لما سبق ، وأما الناصرون لأبي بكر فلم يرضوا به وحكموا ببطلانه، وإن كان لهم فيه التخلص عن القول بكذب أبي بكر، فهو إصلاح لم يرض به أحد المتخاصمين، ولا يجري في بعض رواياتهم. واعلم أن بعض المخالفين استدلوا - على صحة الرواية وما حكم به أبو بكر - بترك الأمة النكير عليه، وقد ذكر السيد الأجل (رضي الله عنه) في الشافي كلامهم ذلك على وجه السؤال، وأجاب عنه بقوله فإن قيل: إذا كان أبو بكر قد حكم بخطأ في دفع فاطمة (عليها السلام) من الميراث واحتج بخبر لا حجة فيه، فما بال الأمة أقرته على هذا الحكم ولم تنكر عليه وفي رضاها وإمساكها دليل على صوابه، قلنا قد مضى أن ترك النكير لا يكون دليل الرضا، إلا في الموضع الذي لا يكون له وجه سوى الرضا وبينا في الكلام على إمامة أبي بكر هذا الموضع بيانا شافيا.
459 وقد أجاب أبو عثمان الجاحظ في كتاب العباسية عن هذا السؤال جوابا جيد المعنى واللفظ، نحن نذكره على وجهه ليقابل بينه وبين كلامه في العثمانية وغيرها. قال: وقد زعم ناس أن الدليل على صدق خبرهما يعني أبا بكر وعمر في منع الميراث وبراءة ساحتهما ترك أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) النكير عليهما، ثم قال: فيقال لهم: لئن كان ترك النكير دليلا على صدقهما ليكونن ترك النكير على المتظلمين منهما والمحتجين عليهما والمطالبين لهما بدليل دليلا على صدق دعواهم واستحسان مقالتهم لا سيما وقد طالت المشاحنات، وكثرت المراجعة والملاحات، وظهرت الشكيمة، واشتدت الموجدة، وقد بلغ ذلك من فاطمة (عليها السلام) حتى أنها أوصت أن لا يصلي عليها أبو بكر وقد كانت، قالت له حين أتته طالبة بحقها ومحتجة برهطها: من يرثك يا أبا بكر، إذا مت؟ قال: أهلي وولدي، قالت: فما بالنا لا نرث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما منعها ميراثها وبخسها حقها، واعتل عليها، ولج في أمرها، وعاينت التهضم، وآيست من النزوع، ووجدت مس الضعف وقلة الناصر، قالت: والله لأدعون الله عليك، قال: والله لأدعون الله لك. قالت: - والله - لا أكلمك أبدا، قال: والله أهجرك أبدا، فإن يكن ترك النكير على أبي بكر دليلا على صواب منعه إن في ترك النكير على فاطمة (عليها السلام) دليلا على صواب طلبها، وأت ما كان يجب عليهم في ذلك تعريفها ما جهلت وتذكيرها ما نسيت وصرفها عن الخطأ ورفع قدرها عن البذاء وأن تقول هجرا أو تجور عادلا، أو تقطع واصلا، فإذا لم نجدهم أنكروا على الخصمين جميعا فقد تكافأت الأمور واستوت الأسباب والرجوع إلى أصل حكم الله في المواريث أولى بنا وبكم، وأوجب علينا وعليكم، وإن قالوا كيف يظن ظلمها والتعدي عليها؟ وكلما، ازدادت فاطمة (عليها السلام) غلظة ازداد عليها لينا ورقة حيث تقول: - والله - لا أكلمك أبدا فيقول: والله لا أهجرك أبدا، ثم تقول: والله لأدعون الله عليك فيقول: والله لأدعون الله لك، ثم يحتمل هذا الكلام الغليظ والقول الشديد في دار الخلافة وبحضرة قريش والصحابة مع حاجة الخلافة إلى البهاء والرفعة وما يجب لها من التنويه والهيبة، ثم لم يمنعه ذلك أن قال معتذرا أو متقربا كلام المعظم لحقها، المكبر لقيامها والصائن لوجهها، والمتحنن عليها: ما أحد أعز علي منك فقرا ولا أحب إلي منك غنى
460 ولكن سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه فهو صدقة، قيل لهم: ليس ذلك بدليل على البراءة من الظلم والسلامة من الجور، وقد يبلغ من مكر الظالم ودهاء الماكر إذا كان أريبا وللخصومة معتادا أن يظهر كلام المظلوم وذلة المنتصف، وجدة الوامق، ومقة المحق، وكيف جعلتم ترك النكير حجة قاطعة ودلالة واضحة؟ وقد زعمتم أن عمر قال على منبره: متعتان كان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متعة النساء ومتعة الحج، أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما، فما وجدتم أحدا أنكر قوله، ولا استشنع مخرج نهيه، ولا خطأه في معناه، ولا تعجب منه ولا استفهمه، وكيف تقضون بترك النكير، وقد شهد عمر يوم السقيفة، وبعد ذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: الأئمة من قريش ثم قال في مكانه: لو كان سالم حيا ما يخالجني فيه شك حين أظهر الشك في استحقاق كل واحد من الستة الذين جعلهم شورى وسالم عبد لامرأة من الأنصار وهي أعتقته وحازت ميراثه، ثم لم ينكر ذلك من قريش قوله منكر ولا قابل إنسان بين قوليه ولا تعجب منه، وإنما يكون ترك النكير على من لا رغبة ولا رهبة عنده دليلا على صدق قوله وثواب عمله، فأما ترك النكير على من يملك الضعة والرفعة والأمر والنهي والقتل والاستحياء والحبس والإطلاق فليس بحجة تشفي ولا دليل يغني، قال: وقال آخرون: بل الدليل على صدق قولهما وصواب عملهما إمساك الصحابة عن خلعهما والخروج عليهما وهم الذين وثبوا على عثمان في أيسر من جحد التنزيل ورد النصوص، ولو كانوا يقولون ويصفون ما كان سبيل الأمة فيهما إلا كسبيلهم فيه وعثمان كان أعز نفرا وأشرف رهطا وأكثر عددا وثروة وأقوى عدة. قلنا: إنهما لم يجحدا التنزيل ولم ينكرا المنصوص ولكنهما بعد إقرارهما بحكم الميراث وما عليه الظاهر من الشريعة ادعيا رواية وتحدثا بحديث لم يكن محالا كونه ولا يمتنع في حجج العقول مجيئه وشهد لهما عليه من علته مثل علتهما فيه، ولعل بعضهم كان يرى التصديق للرجل إذا كان عدلا في رهطه مأمونا في ظاهره، ولم يكن قبل ذلك عرفه بفجرة، ولا جرب عليه غدرة، فيكون تصديقه له على جهة حسن الظن وتعديل الشاهد، ولأنه لم يكن كثير منهم يعرف حقائق الحجج والذي يقطع بشهادته على
461 الغيب، وكان ذلك شبهة على أكثرهم، فلذلك قل النكير وتواكل الناس واشتبه الأمر، فصار لا يتخلص إلى معرفة حق ذلك من باطله إلا العالم المتقدم والمؤيد المرشد، ولأنه لم يكن لعثمان في صدور العوام، وفي قلوب السفلة والطغات ما كان لهما من الهيبة والمحبة، ولأنهما كانا أقل استيثارا بالفئ وأقل تفكها بمال الله منه، ومن شأن الناس إهمال السلطان ما وفر عليهم أموالهم ولا يستأثر بخراجهم ولم يعطل ثغورهم، ولأن الذي صنع أبو بكر من منع العترة حظها والعمومة ميراثها قد كان موافقا لجلة قريش ولكبراء العرب، ولأن عثمان أيضا كان مضعوفا في نفسه مستخفا بقدره لا يمنع ضيما ولا يقمع عدوا، ولقد وثب ناس على عثمان بالشتم والقذف والتشنيع والنكير لأمور لو أتى عمر أضعافها وبلغ أقصاها لما اجترؤا على اغتيابه فضلا عن مباداته والإغراء به ومواجهته كما أغلظ عيينة بن حصين له: فقال: أما إنه لو كان عمر لقمعك ومنعك، فقال عيينة: إن عمر كان خيرا إلي منك أرهبني فأبقاني، ثم قال: والعجب أنا وجدنا جميع من خالفنا في الميراث على اختلافهم في التشبيه والقدر والوعيد يرد كل صنف منهم من أحاديث مخالفيه وخصومه، ما هو أقرب استنادا وأوضح رجالا وأحسن اتصالا حتى إذا صاروا إلى القول في ميراث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نسخوا الكتاب وخصوا الخبر العام بما لا يداني بعض ما رووه وأكذبوا ناقليه وذلك أن كل إنسان منهم إنما يجري إلى هواه ويصدق ما وافق وضاه، هذا آخر كلام الجاحظ، ثم قال السيد (رضي الله عنه): فإن قيل: ليس ما عارض به الجاحظ من الاستدلال بترك النكير، وقوله كما لم ينكروا على أبي بكر فلم ينكروا أيضا على فاطمة (عليها السلام) ولا غيرها من المطالبين بالميراث كالأزواج وغيرهن معارضته صحيحة، وذلك أن نكير أبي بكر لذلك ودفعه والاحتجاج عليه يكفيهم ويغنيهم عن تكلف نكير ولم ينكر على أبي بكر ما رواه منكر فيستغنوا بإنكاره، قلنا: أول ما يبطل هذا السؤال أن أبا بكر لم ينكر عليها ما أقامت عليه بعد إحتجاجها بالخبر من التظلم والتألم والتعنيف والتبكيت وقولها على ما روي: والله لأدعون الله عليك، ولا كلمتك أبدا، وما جرى هذا المجرى فقد كان يجب أن ينكره غيره فمن المنكر الغضب على المنصف وبعد فإن كان إنكار أبي بكر مقنعا أو مغنيا عن إنكار غيره من المسلمين،
462 فإنكار فاطمة (عليها السلام) حكمه ومقامها على التظلم منه يغني عن نكير غيرها، وهذا واضح لمن أنصف من نفسه، انتهى كلامه " رفع الله مقامه " الخامس: قال ابن أبي الحديد: اعلم أن الناس يظنون أن نزاع فاطمة (عليها السلام) أبا بكر كان في أمرين في الميراث والنحلة، وقد وجدت في الحديث أنها نازعت في أمر ثالث ومنعها أبو بكر إياها أيضا وهو سهم ذي القربى، روى أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن أنس، أن فاطمة (عليها السلام) أتت أبا بكر فقالت: قد علمت الذي حرم علينا أهل البيت من الصدقات وما أفاء الله علينا من الغنائم في القرآن من سهم ذوي القربى، ثم قرأت عليه قوله تعالى: * (واعلموا أنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) * الآية، فقال لها أبو بكر: بأبي أنت وأمي وولدي وولدك، السمع والطاعة لكتاب الله ولحق رسوله وحق قرابته وأنا أقرأ من كتاب الله الذي تقرأين، ولم يبلغ علمي منه أن هذا السهم من الخمس مسلم إليكم كاملا، قالت: أملك هو لك ولأقربائك؟ قال: لا، بل أنفق عليكم منه وأصرف الباقي في مصالح المسلمين. قالت: ليس هذا بحكم الله تعالى، فقال: هذا حكم الله فإن كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عهد إليك في هذا عهدا صدقتك وسلمته كله إليك وإلى أهلك. قالت: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يعهد إلي في ذلك بشئ إلا أني سمعته يقول لما أنزلت هذه الآية: أبشروا آل محمد فقد جاءكم الغنى، قال أبو بكر: لم يبلغ من هذه الآية أن أسلم إليكم هذا السهم كله كاملا ولكن لكم الغنى الذي يغنيكم ويفضل عنكم، هذا عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وغيرهما فاسأليهم عن ذلك وانظري هل يوافقك على ما طلبت أحد منهم؟ فانصرفت إلى عمر فقالت له مثل ما قالت لأبي بكر، فقال لها مثل ما قال لها أبو بكر فتعجبت فاطمة (عليها السلام) من ذلك وتظنت قد تذاكرا ذلك واجتمعا عليه. ثم قال: قال أحمد بن عبد العزيز: حدثنا أبو زيد بإسناده إلى عروة قال: أرادت فاطمة (عليها السلام) أبا بكر على فدك وسهم ذي القربى تأبى عليها وجعلهما في مال الله تعالى. ثم روي عن الحسن بن علي (عليه السلام): أن أبا بكر منع فاطمة (عليها السلام) وبني هاشم سهم ذي القربى وجعلها في سبيل الله في السلاح والكراع. ثم روي بإسناده عن محمد بن
463 إسحاق قال: سألت أبا جعفر محمد بن علي (عليه السلام) قلت: أرأيت عليا (عليه السلام) حين ولى العراق وما ولى من أمر الناس، كيف صنع في سهم ذي القربى؟ قال: سلك بهم طريق أبي بكر وعمر، قلت: كيف ولم وأنتم تقولون، ما تقولون: أما والله ما كان أهله يصدرون إلا عن رأيه، فقلت: فما منعه، قال: يكره أن يدعى عليه مخالفة أبي بكر وعمر. انتهى ما أخرجه ابن أبي الحديد من كتاب أحمد بن عبد العزيز. وروي في جامع الأصول: من سنن أبي داود، عن جبير بن مطعم: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يقسم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل من الخمس شيئا كما قسم لبني هاشم قال: وكان أبو بكر يقسم الخمس نحو قسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غير أنه لم يكن يعطي منه قربى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يعطيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان عمر يعطيهم ومن كان بعده منه. وروى مثله بسند آخر، عن حبير بن مطعم، ثم قال: وفي أخرى له والنسائي: لما كان يوم خيبر وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سهم ذي القربى في بني هاشم وبني عبد المطلب. ثم قال: وأخرج النسائي أيضا بنحو من هذه الروايات من طرق متعددة بتغيير بعض ألفاظها واتفاق المعنى. وروي أيضا، عن أبي داود بإسناده، عن يزيد بن هرمز: أن ابن الزبير أرسل إلى ابن العباس يسأله عن سهم ذي القربى لمن يراه؟ فقال له: لقربى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قسمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم، وقد كان عمر عرض علينا من ذلك عرضا رأيناه دون حقنا ورددناه عليه وأبينا أن نقبله. وروي مثله عن النسائي أيضا وقال: وفي أخرى له مثل أبي داود، وفيه: وكان الذي عرض عليهم أن يعين ناكحهم ويقضي عن غارمهم ويعطي فقيرهم وأبى أن يزيدهم على ذلك. وروى العياشي في تفسيره: رواية ابن عباس ورويناه في موضع آخر. وروى أيضا: عن أبي جميلة، عن بعض أصحابه، عن أحدهما (عليهما السلام)، قال: قد فرض الله الخمس نصيبا لآل محمد عليهم السلام فأبى أبو بكر أن يعطيهم نصيبهم، حسدا وعداوة، وقد قال الله: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) *، والأخبار من طريق أهل البيت عليهم السلام في ذلك أكثر من أن تحصى، وسيأتي
464 بعضها في أبواب الخمس والأنفال إن شاء الله تعالى، فإذا اطلعت على ما نقلناه من الأخبار من صحاحهم، نقول: لا ريب في دلالة الآية، على اختصاص ذي القربى بسهم خاص، سواء كان هو سدس الخمس كما ذهب إليه أبو العالية، وأصحابنا، ورووه عن أئمتنا عليهم السلام وهو الظاهر من الآية كما اعترف به البيضاوي وغيره، أو خمس الخمس لاتحاد سهم الله وسهم رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وذكر الله للتعظيم كما زعم ابن عباس، وقتادة وعطا، أو ربع الخمس، والأرباع الثلاثة الباقية للثلاثة الأخيرة، كما زعمه الشافعي، وسواء كان المراد بذي القربى أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حياته، وبعده الإمام من أهل البيت كما ذهب إليه أكثر أصحابنا، أو جميع بني هاشم كما ذهب إليه بعضهم وعلى ما ذهب إليه الأكثر يكون دعوى فاطمة (عليها السلام) نيابة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) تقية أو كان المراد بني هاشم وبني المطلب كما زعمه الشافعي، أو آل علي، وعقيل وآل عباس، وولد الحارث بن عبد المطلب، كما قال أبو حنيفة. وعلى أي حال فلا ريب أيضا في أن الظاهر من الآية تساوي الستة في السهم، ولم يختلف الفقهاء في أن إطلاق الوصية والإقرار لجماعة معدودين يقتضي التسوية لتساوي السنة، ولم يشترط الله عز وجل في ذي القربى فقرا أو مسكنة بل قرنه بنفسه وبرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) للدلالة على عدم الإشتراط، وأما التقييد اجتهادا فمع بطلان الاجتهاد الغير المستند إلى حجة فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يدفع التقييد لدلالة خبر جبير وغيره على أنه لم يعطيها ما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعطيهم، وقد قال أبو بكر في رواية أنس: لكم الغنى الذي يغنيكم ويفضل عنكم، فما زعمه أبو بكر من عدم دلالة الآية على أن السهم مسلم لذي القربى ووجوب صرف الفاضل من السهم عن حاجتهم في مصالح المسلمين مخالف للآية والأخبار المتفق على صحتها، وقد قال سبحانه في آخر الآية: * (إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا) *، واعترف الفخر الرازي في تفسيره بأن من لم يحكم بهذه القسمة فقد خرج عن الإيمان، وقال تعالى: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) *، وقال: هم الفاسقون، وقال: هم الظالمون، فاستحق بما صنع ما يستحقه الراد على الله وعلى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).
465 السادسة: ما دلت عليه الروايات السالفة وما سيأتي في باب شهادة فاطمة (عليها السلام)، من أنها أوصت أن تدفن سرا، وأن لا يصلي عليها أبو بكر وعمر لغضبها عليهما في منع فدك وغيره من أعظم الطعون عليهما، وأجاب عنه قاضي القضاة في " المغني ": بأنه قد روي أن أبا بكر هو الذي صلى على فاطمة (عليها السلام) وكبر أربعا، وهذا أحد ما استدل به كثير من الفقهاء في التكبير على الميت ولا يصح أنها دفنت ليلا، وإن صح ذلك فقد دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلا وعمر دفن ليلا، وقد كان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يدفنون بالنهار ويدفنون بالليل، فما في هذا ما يطعن به بل الأقرب في النساء أن دفنهن ليلا أستر وأولى بالسنة. ورد عليه السيد الأجل في الثاني: بأن ما ادعيت من أن أبا بكر هو الذي صلى على فاطمة (عليها السلام) وكبر أربعا، وإن كثيرا من الفقهاء يستدلون به في التكبير على الميت فهو شئ ما سمع إلا منك وإن كنت تلقيته عن غيرك فممن يجري مجراك في العصبية وإلا فالروايات المشهورة وكتب الآثار والسير خالية من ذلك، ولم يختلف أهل النقل في أن أمير المؤمنين (عليه السلام) صلى على فاطمة (عليها السلام) إلا رواية شاذة نادرة وردت بأن العباس صلى عليها. روى الواقدي: بإسناده، عن عكرمة، قال: سألت ابن عباس متى دفنتم فاطمة (عليها السلام)؟ قال: دفناها بليل بعد هدأة. قال: قلت: فمن صلى عليها؟ قال: علي (عليه السلام). وروى الطبرسي، عن الحرث بن أبي أسامة، عن المدايني، عن أبي زكريا العجلاني أن فاطمة (عليها السلام) عمل لها نعش قبل وفاتها فنظرت وقالت: سترتموني ستركم الله. قال أبو جعفر محمد بن جرير: والثبت في ذلك أنها زينب، لأن فاطمة (عليها السلام) دفنت ليلا ولم يحضرها إلا العباس وعلي (عليه السلام)، والمقداد والزبير. وروى القاضي أبو بكر أحمد بن كامل بإسناده في تاريخه: عن الزهري، قال: حدثني عروة بن الزبير: أن عائشة أخبرته: أن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عاشت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ستة أشهر فلما توفيت دفنها علي (عليه السلام) ليلا وصلى عليها علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وذكر في كتابه هذا أن أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهما السلام دفنوها ليلا وغيبوا قبرها.
466 وروى سفيان بن عيينة، عن عمرو عن الحسن بن محمد: أن فاطمة (عليها السلام) دفنت ليلا وروى عبد الله بن أبي شيبة، عن يحيى بن سعيد العطار، عن معمر، عن الزهري: مثل ذلك، وقال البلاذري في تاريخه: إن فاطمة (عليها السلام) لم تر مبتسمة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يعلم أبو بكر وعمر بموتها، والأمر في هذا أوضح وأظهر من أن يطنب في الاستشهاد عليه، وبذكر الروايات فيه، فأما قوله ولا يصح، أنها دفنت ليلا، وإن صح فقد دفن فلان وفلان ليلا فقد بينا أن دفنها ليلا في الصحة كالشمس الطالعة، وأن منكر ذلك كدافع المشاهدات ولم نجعل دفنها ليلا بمجرد، وهو الحجة. فيقال: فقد دفن فلان وفلان ليلا بل مع الاحتجاج بذلك على ما وردت به الروايات المستفيضة الظاهرة التي هي كالمتواتر أنها (عليها السلام) أوصت بأن تدفن ليلا حتى لا يصلي عليها الرجلان، وصرحت بذلك وعهدت فيه عهدا بعد أن كانا أستاذنا عليها في مرضها ليعوداها فأبت أن تأذن لهما فلما طال عليهما المدافعة رغبا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، في أن يستأذن لهما وجعلاها حاجة إليه فكلما أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذلك وألح عليها فأذنت لهما في الدخول ثم أعرضت عنهما عند دخولهما ولم تكلمهما، فلما خرجا قالت لأمير المؤمنين (عليه السلام): قد صنعت ما أردت، قال: نعم، قالت: فهل أنت صانع ما آمرك؟ قال: نعم، قالت: فإني أنشدك الله لا يصليا على جنازتي، ولا يقوما على قبري. وروي أنه (عليه السلام) عمى على قبرها، ورش أربعين قبرا في البقيع ولم يرش على قبرها حتى لا يهتديا إليه، وأنهما عاتباه على ترك إعلامهما بشأنها وإحضارهما للصلاة عليها، فمن هاهنا احتججنا بالدفن ليلا، ولو كان ليس غير الدفن بالليل من غير ما تقدم عليه وتأخر عنه، لم يكن فيه حجة، انتهى كلامه رفع الله مقامه. ومما يدل من صحاح أخبارهم على دفنها ليلا، وأن أبا بكر لم يصل عليها، وعلى غضبها عليه وهجرتها إياه: ما رواه مسلم في " صحيحة " وأورده في " جامع الأصول " في الباب الثاني من كتاب الخلافة والإمارة من حرف الخاء عن عائشة - في حديث طويل - بعد ذكر مطالبة فاطمة (عليها السلام) أبا بكر في ميراث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفدك وسهمه من خيبر، قالت: فهجرته فاطمة (عليها السلام)، فلم تكلمه في ذلك حتى ماتت، فدفنها علي (عليه السلام) ولم يؤذن بها
467 أبا بكر، قالت: فكان لعلي وجه من الناس حياة فاطمة (عليها السلام) فلما توفيت فاطمة (عليها السلام) انصرفت وجوه الناس عن علي، ومكثت فاطمة (عليها السلام) بعد رسول الله ستة أشهر ثم توفيت. وروى ابن أبي الحديد: عن أحمد بن عبد العزيز الجوهري، عن هشام بن محمد، عن أبيه، قال: قالت فاطمة (عليها السلام) لأبي بكر: إن أم أيمن تشهد لي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعطاني فدك، فقال: يا بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والله ما خلق الله خلقا أحب إلي من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبيك ولوددت أن السماء وقعت على الأرض يوم مات أبوك، والله لئن تفتقر عائشة أحب إلي من أن تفتقري، أتراني أعطي الأسود والأحمر حقه وأظلمك حقك وأنت بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إن هذا المال لم يكن للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وليته كما كان يليه، قالت: والله لا كلمتك أبدا قال: والله لا هجرتك أبدا قالت: والله لأدعون الله عليك قال: والله لأدعون الله لك، فلما حضرتها الوفاة أوصت أن لا يصلي عليها، فدفنت ليلا وصلى عليها العباس بن عبد المطلب، وكان بين وفاتها ووفاة أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) اثنتان وسبعون ليلة. ومما يؤيد إخفاء دفنها، جهالة قبرها والاختلاف فيه بين الناس إلى يومنا هذا، ولو كان بمحضر من الناس لما اشتبه على الخلق ولا اختلف فيه. السابعة: مما يرد على الطعون على أبي بكر في تلك الواقعة. أنه مكن أزواج النبي التصرف في حجراتهن بغير خلاف ولم يحكم فيها بأنها صدقة، وذلك يناقض ما منعه في أمر فدك وميراث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن انتقالها إليهن إما على جهة الإرث أو النحلة والأول مناقض لروايته في الميراث، والثاني يحتاج إلى الثبوت ببينة ونحوها ولم يطالبهن بشئ منها كما طلب فاطمة (عليها السلام) في دعواها وهذا من أعظم الشواهد لمن له أدنى بصيرة على أنه لم يفعل ما فعل إلا عداوة لأهل بيت الرسالة ولم يقل ما قال إلا افتراء على الله وعلى رسوله!! ولنكتف بما ذكرناه، فإن بسط الكلام في تلك المباحث مما يوجب كثرة حجم الكتاب وتعسر تحصيله على الطلاب، فانظر أيها العاقل المنصف بعين البصيرة فيما اشتمل عليه الأخبار الكثيرة التي أوردوها في كتبهم المعتبرة عندهم، من حكم سيدة النساء صلوات الله عليها مع عصمتها وطهارتها باغتصابهم للخلافة، وأنهم أتباع الشيطان وأنه ظهر فيه حسيكة النفاق، وأنهم أرادوا إطفاء نور الدين وإهمال سنن سيد
468 المرسلين صلوات الله عليه وآله وأنهم آذوا أهل بيته وأضمروا لهم العداوة وغير ذلك مما اشتملت عليه الخطبة الجليلة فهل يبقى بعد ذلك شك في بطلان خلافة أبي بكر ونفاقه ونفاق أهل بيته؟! ثم إنها (عليها السلام) حكمت بظلم أبي بكر في منعها الميراث صريحا بقولها (عليها السلام): لقد جئت شيئا فريا، ودعت الأنصار إلى قتاله فثبت جواز قتله، ولو كان إماما لم يجز قتله. ثم انظر إلى هذا المنافق كيف شبه أمير المؤمنين وسيد الوصيين وأخا سيد المرسلين وزوجته الطاهرة بثعالة شهيده ذنبه وجعله مريا لكل فتنة! ثم إلى موت فاطمة صلوات الله عليها ساخطة على أبي بكر، مغضبة عليه منكرة لإمامته وإلى إنكار أبي بكر كون فدك خالصة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع كونه مخالفا للآية والإجماع وأخبارهم وإلى أنه انتزع فدك من يد وكلاء فاطمة (عليها السلام) وطلب منها الشهود مع أنها لم تكن مدعية، فحكم بغير حكم الله وحكم الرسول وصار بذلك من الكافرين بنص القرآن وإلى طلب الشاهد من المعصومة ورد شهادة المعصومين الذين أنزل الله تعالى فيهم ما أنزل وقال فيهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما قال، ومنعها الميراث خلافا لحكم الكتاب وافترائه على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بما شهد الكتاب والسنة بكذبه فتبوء مقعده من النار وظلمه عليها صلوات الله عليها في منع سهم ذي القربى خلافا لله تعالى ومناقضة لما رواه حيث مكن الأزواج من التصرف في الحجر وغيرهما مما يستنبط من فحاوي ما ذكر من الأخبار ولا يخفى طريق استنباطها على أولي الأبصار.
469 احتجاج فاطمة الزهراء (عليها السلام) على القوم لما منعوها فدك (1) روى عبد الله بن الحسن (عليه السلام) بإسناده عن آبائه (عليهم السلام) أنه لما أجمع (2) أبو بكر على منع فاطمة (عليها السلام) فدك، وبلغها ذلك، لاثت خمارها على رأسها (3)، واشتملت بجلبابها (4)، وأقبلت في لمة (5) من حفدتها (6) ونساء قومها، تطأ ذيولها (7)، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (8)، حتى دخلت على أبي بكر - وهو في حشد (9) من المهاجرين
(1) قال العلامة المجلسي رضي الله عنه في البحار ج 8 / ص 114، ط الكمباني: ولنوضح الخطبة الغراء عن سيدة النساء صلوات الله عليها، التي تحير من العجب منها والإعجاب بها أحد الفصحاء والبلغاء، ونبني الشرح على رواية، " الاحتجاج " ونشير أحيانا إلى الروايات الأخر. (2) أي أحكم النية والعزيمة عليه. (3) أي عصبته وجمعته يقال: لاث العمامة على رأسه يلوثها لوثا، أي شدها وربطها. (4) الجلباب، بالكسر: يطلق على الملحفة والرداء والإزارة، والثوب الواسع للمرأة دون الملحفة والثوب كالمقنعة تغطي بها المرأة رأسها وصدرها وظهرها. والأول هنا أظهر. (5) اللمة، بضم اللام وتخفيف الميم: الجماعة. قال في النهاية: " في حديث فاطمة (عليها السلام) أنها خرجت في لمة من نسائها، تتوطأ ذيلها إلى أبي بكر فعاتبته، أي في جماعة من نسائها. قيل: هي ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقيل: اللمة: المثل في السن والترب ". وقال الجوهري: " الهاء عوض من الهمزة الذاهبة من وسطه، وهو مما أخذت عينه كسه ومذ، وأصلها فعلة من الملائمة وهي الموافقة ". انتهى. أقول: ويحتمل أن يكون بتشديد الميم، قال الفيروزآبادي: " اللمة بالضم: الصاحب والأصحاب في السفر والمؤنس، للواحد والجمع ". (6) الحفدة، بالتحريك: الأعوان والخدم. (7) أي كانت أثوابها طويلة تستر قدميها وتضع عليها قدمها عند المشي. وجمع الذيل باعتبار الأجزاء أو تعدد الثياب. (8) في بعض النسخ " من مشي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ". والخرم: الترك والنقص والعدول. والمشية بالكسر: الاسم من مشى يمشي مشيا، أي لم تنقص مشيتها من مشيته (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئا كأنه هو بعينه. قال في النهاية: " فيه: ما خرمت من صلاة رسول الله شيئا، أي ما تركت. ومنه الحديث: لم أخرم منه حرفا، أي لم أدع ". (9) الحشد، بالفتح وقد يحرك: الجماعة. وفي الكشف: " إن فاطمة (عليها السلام) لما بلغها إجماع أبي بكر على منعها فدكا لاثت خمارها، وأقبلت في لميمة من حفدتها ونساء قومها، تجر أدراعها، وتطأ في ذيولها، ما تخرم من مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى دخلت على أبي بكر وقد حشد المهاجرين والأنصار، فضرب بينهم بريطة بيضاء - وقيل: قبطية - فأنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء، ثم أمهلت طويلا حتى سكنوا من فورتهم، ثم قالت: أبتدئ بحمد من هو أولى بالحمد والطول والمجد، الحمد لله على ما أنعم ". 470 والأنصار وغيرهم فنيطت دونها ملاءة (1)، فجلست، ثم أنت أنه أجهش القوم (2) لها بالبكاء. فارتج المجلس (3) ثم أمهلت هنية (4) حتى إذا سكن نشيج القوم (5)، وهدأت فورتهم (6)، افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله، فعاد القوم في بكائهم، فلما أمسكوا عادت في كلامها، فقالت (عليها السلام): الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدم، من عموم نعم ابتدأها (7)، وسبوغ آلاء أسداها (8)، وتمام منن والاها (9)، جم عن الإحصاء عددها (10)، ونأى عن الجزاء أمدها (11)، وتفاوت عن الإدراك أبدها (12)، وندبهم
(1) الملاءة، بالضم والمد: الريطة والأزار. ونيطت بمعنى علقت، أي ضربوا بينها (عليها السلام) وبين القوم سترا وحجابا. والريطة، بالفتح: الملاءة إذا كانت قطعة واحدة ولم تكن لفقين، أو هي كل ثوب لين رقيق. والقبطية، بالكسر: ثياب بيض رقاق من كتان تتخذ بمصر، وقد يضم لأنهم يغيرون في النسبة. (2) الجهش أن يفزع الإنسان إلى غيره وهو مع ذلك يريد البكاء كالصبي يفزع إلى أمه وقد يتهيأ للبكاء، يقال: جهش إليه - كمنع - وأجهش. (3) الارتجاج: الاضطراب. (4) أي صبرت زمانا قليلا. (5) النشيج: صوت معه توجع وبكاء كما يردد الصبي بكاءه في صدره. (6) هدأت - كمنعت - أي سكنت. وفورة الشئ: شدته، وفار القدر أي جاشت. (7) أي بنعم أعطاها العباد قبل أن يستحقوها. ويحتمل أن يكون المراد بالقديم الإيجاد والفعل من غير ملاحظة معنى الابتداء فيكون تأسيسا. (8) السبوغ: الكمال. والآلاء: النعماء، جمع إلى، بالفتح والقصر وقد يكسر الهمزة. وأسدى وأولى وأعطى بمعنى واحد. (9) والاها، أي تابعها بإعطاء نعمة بعد أخرى بلا فصل. (10) جم الشئ أي كثر. والجم: الكثير، والتعدية بعن لتضمين معنى التعدي والتجاوز. (11) الأمد بالتحريك: الغاية " و " المنتهي، أي بعد عن الجزاء بالشكر غايتها. فالمراد بالأمد إما الأمد المفروض إذ لا أمد لها على الحقيقة، أو الأمد الحقيقي لكل حد من حدودها المفروضة. ويحتمل أن يكون المراد بأمدها ابتداؤها، وقد مر في كثير من الخطب بهذا المعنى. وقال في النهاية: " في حديث الحجاج قال للحسن: ما أمدك؟ قال: سنتان من خلافة عمر. أراد أنه ولد لسنتين من خلافته. وللإنسان أمدان: مولده وموته " انتهى. وإذا حمل عليه يكون أبلغ. ويحتمل على بعد أن يقرأ بكسر الميم، قال الفيروزآبادي: " الآمد: المملو من خير وشر، والسفينة المشحونة ". (12) التفاوت: البعد. والأبد: الدهر، والدايم، والقديم الأزلي. وبعده عن الإدراك لعدم الانتهاء. 471 لاستزادتها بالشكر لاتصالها (1)، واستحمد إلى الخلايق بإجزالها (2)، وثنى بالندب إلى أمثالها (3). وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها (4)، وضمن القلوب موصولها (5)، وأنار في الفكر معقولها (6). الممتنع من
(1) يقال: ندبه لأمر وإليه فانتدب، أي دعاه فأجاب. واللام في قولها " لاتصالها " لتعليل الندب، أي رغبهم في استزادة النعمة بسبب الشكر لتكون نعمة متصلة لهم غير منقطعة عنهم. وجعل اللام الأولى للتعليل والثانية للصلة بعيد. وفي بعض النسخ: " لإفضالها " فيحتمل تعلقه بالشكر. (2) أي طلب منهم الحمد بسبب إجزال النعم وإكمالها عليهم، يقال: أجزلت له من العطاء، أي أكثرت، وأجزاك النعم، كأنه طلب الحمد، أو طلب منهم الحمد حقيقة لإجزال النعم. وعلى التقديرين التعدية بإلى لتضمين معنى الانتهاء أو التوجه، وهذه التعدية في الحمد شايع بوجه آخر، يقال: أحمد إليك الله، قيل: أي أحمده معك، وقيل: أي أحمد إليك نعمة الله بتحديثك إياها. ويحتمل أن يكون " استحمد " بمعنى تحمد، يقال: فلان يتحمد علي، أي يمتن، فيكون إلى بمعنى على، وفيه بعد. (3) أي بعد أن أكمل لهم النعم الدنيوية ندبهم إلى تحصيل أمثالها من النعم الأخروية أو الأعم منها ومن مزيد النعم الدنيوية. ويحتمل أن يكون المراد بالندب إلى أمثالها أمر العباد بالإحسان والمعروف وهو إنعام على المحسن إليه، وعلى المحسن أيضا، لأنه به يصير مستوجبا للأعواض والمثوبات الدنيوية والأخروية. (4) المراد بالإخلاص جعل الأعمال كلها خالصة لله تعالى، وعدم شوب الرياء والأغراض الفاسدة، وعدم التوسل بغيره تعالى في شئ من الأمور، فهذا تأويل كلمة التوحيد، لأن من أيقن بأنه الخالق والمدبر وبأنه لا شريك له في الإلهية فحق له أن لا يشرك في العبادة غيره، ولا يتوجه في شئ من الأمور إلى غيره. (5) هذه الفقرة تحتمل وجوها: الأول: أن الله تعالى ألزم وأوجب على القلوب ما تستلزمه هذه الكلمة من عدم تركيبه تعالى وعدم زيادة صفاته الكمالية الموجودة وأشباه ذلك مما يؤول إلى التوحيد. الثاني: أن يكون المعنى: جعل ما يصل إليه العقل من تلك الكلمة مدرجا في القلوب بما أراهم من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم، أو بما فطرهم عليه من التوحيد. الثالث: أن يكون المعنى لم يكلف العقول الوصول إلى منتهى دقايق كلمة التوحيد وتأويلها، بل إنما كلف عامة القلوب بالإذعان بظاهر معناها وصريح مغزاها، وهو المراد بالوصول. الرابع: أن يكون الضمير في " موصولها " راجعا إلى القلوب، أي لم يلزم القلوب إلا ما يمكنها الوصول إليها من تأويل تلك الكلمة الطيبة والدقايق المستنبطة منها، أو مطلقا، ولولا التفكيك لكان أحسن الوجوه بعد الوجه الأول، بل مطلقا. (6) أي أوضح في الأذهان ما يتعقل من تلك الكلمة بالتفكر في الدلايل والبراهين. ويحتمل إرجاع الضمير إلى القلوب. والفكر بصيغة الجمع، أي أوضح بالتفكر ما يعقلها العقول. وهذا يؤيد الوجه الرابع من وجوه الفقرة السابقة. 472 الأبصار رؤيته (1)، ومن الألسن صفته (2)، ومن الأوهام كيفيته، ابتدع الأشياء لا من شئ كان قبلها (3)، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها (4)، كونها بقدرته، وذرأها بمشيته، من غير حاجة منه إلى تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها إلا تثبيتا لحكمته، وتنبيها على طاعته (5)، وإظهارا لقدرته، وتعبدا لبريته (6)، وإعزازا لدعوته (7). ثم جعل الثواب على طاعته، ووضع العقاب على معصيته، ذيادة لعباده عن نقمته (8)، وحياشة منه إلى جنته (9). وأشهد أن أبي محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) عبده ورسوله، اختاره وانتجبه قبل أن أرسله، وسماه قبل أن اجتبله (10)، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة وبستر الأهاويل مصونة (11)، وبنهاية العدم مقرونة، علما من الله تعالى بمآيل
(1) يمكن أن يقرأ " الأبصار " بصيغة الجمع، والمصدر. والمراد بالرؤية العلم الكامل والظهور التام. (2) الظاهر أن الصفة هنا مصدر، ويحتمل المعنى المشهور بتقدير، أي بيان صفته. (3) " لا من شئ " أي مادة. (4) احتذى مثاله: اقتدى به. " وامتثلها " أي تبعها ولم يتعد عنها، أي لم يخلقها على وفق صنع غيره. (5) لأن ذوي العقل يتنبهون بمشاهدة مصنوعاته بأن شكر خالقها والمنعم بها واجب وأن خالقها مستحق للعبادة، أو بأن من قدر عليها يقدر على الإعادة والانتقام. (6) أي خلق البرية ليتعبدهم، أو خلق الأشياء ليتعبد البرايا بمعرفته والاستدلال بها عليه. (7) أي خلق الأشياء ليغلب ويظهر دعوة الأنبياء إليه بالاستدلال بها. (8) الذود والذياد، بالذال المعجمة: السوق والطرد والدفع والإبعاد. (9) حشت الصيد أحوشه: إذا جئته من حواليه لتصرفه إلى الحبالة، ولعل التعبير بذلك لنفور الناس بطباعهم عما يوجب دخول الجنة. (10) الجبل: الخلق، يقال: جبلهم الله أي خلقهم، وجبله على الشئ أي طبعه عليه، ولعل المعنى أنه تعالى سماه لأنبيائه قبل أن يخلقه *، ولعل زيادة البناء للمبالغة تنبيها على أنه خلق عظيم. وفي بعض النسخ بالحاء المهملة، يقال: احتبل الصيد، أي أخذه بالحيالة، فيكون المراد به الخلق أو البعث مجازا، وفي بعضها " قبل أن اجتباه " أي اصطفاه بالبعثة، وكل منها لا تخلو من تكلف. * قال السيوطي في " الإتقان " ج 2 / ص 141: أخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن مرة قال: خمسة سموا قبل أن يكونوا: محمد: ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد... (11) لعل المراد بالستر ستر العدم، أو حجب الأصلاب والأرحام. ونسبته إلى الأهاويل لما يلحق الأشياء في تلك الأحوال من موانع الوجود وعوائقه ويحتمل أن يكون المراد أنها كانت مصونة عن الأهاويل بستر العدم إذ هي إنما تلحقها بعد الوجود. وقيل: التعبير بالأهاويل من قبيل التعبير عن درجات العدم بالظلمات. 473 الأمور (1)، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع المقدور (2)، ابتعثه الله تعالى إتماما لأمره (3) وعزيمة على إمضاء حكمه، وإنفاذا لمقادير حتمه (4). فرأى الأمم فرقا في أديانها، عكفا على نيرانها (5) عابدة لأوثانها منكرة لله مع عرفانها (6). فأنار الله بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ظلمها (7) وكشف عن القلوب بهمها (8)، وجلى عن الأبصار غممها (9) وقام في الناس بالهداية، وأنقذهم من الغواية، وبصرهم من العماية (10)، وهداهم إلى الدين القويم، ودعاهم إلى الطريق المستقيم. ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار (11) ورغبة وإيثار بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (12) عن تعب هذه الدار في راحة، قد حف بالملائكة
(1) على صيغة الجمع أي عواقبها، وفي بعض النسخ بصيغة المفرد. (2) أي لمعرفته تعالى بما يصلح وينبغي من أزمنة الأمور الممكنة، المقدورة وأمكنتها ويحتمل أن يكون المراد بالمقدور المقدر، بل هو أظهر. (3) أي للحكمة التي خلق الأشياء لأجلها. (4) الإضافة في " مقادير حتمه " من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة، أي مقاديره المحتومة. (5) تفصيل وبيان للفرق بذكر بعضها، يقال: عكف على الشئ - كضرب ونصر - أي أقبل عليه مواظبا ولازمه فهو عاكف، ويجمع على عكف بضم العين وفتح الكاف المشددة كما هو الغالب في فاعل الصفة نحو شهد وغيب. والنيران جمع نار وهو قياس مطرد في جمع الأجوف نحو تيجان وجيران. (6) لكون معرفته تعالى فطرية، أو لقيام الدلائل الواضحة الدالة على وجوده سبحانه. (7) الضمير في " ظلمها " راجع إلى الأمم، والضميران التاليان له يمكن إرجاعهما إليها وإلى القلوب والأبصار. والظلم بضم الظاء وفتح اللام: جمع ظلمة، استعيرت هنا للجهالة. (8) البهم: جمع بهمة بالضم، وهي مشكلات الأمور. (9) جلوت الأمر: أوضحته وكشفته. والغمم: جمع غمة. يقال: أمر غمة، أي مبهم ملتبس، قال الله تعالى: " ثم لا يكن أمركم عليكم غمة " قال أبو عبيدة: مجازها ظلمة وضيق، وتقول غممت الشئ إذا غطيته وسترته. (10) العماية: الغواية واللجاج، ذكره الفيروزآبادي. (11) واختيار، أي من الله له ما هو خير له، أو باختيار منه صلى الله عليه وآله ورضا، وكذا الإيثار، والأول أظهر فيهما. (12) لعل الظرف متعلق بالإيثار بتضمين معنى الضنة أو نحوها، وفي بعض النسخ: " محمد " بدون الباء فتكون الجملة استينافية، أو مؤكدة للفقرة السابقة أو حالية بتقدير الواو. وفي بعض كتب المناقب القديمة " فمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) " وهو أظهر. وفي رواية كشف الغمة: " رغبة بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عن تعب هذه الدار " وفي رواية أحمد بن أبي طاهر: " بأبي عزت هذه الدار " ولعل المراد بالدار دار القرار، ولو كان المراد الدنيا تكون الجملة معترضة. وعلى التقادير لا يخلو من تكلف. 474 الأبرار ورضوان الرب الغفار، ومجاورة الملك الجبار. صلى الله على أبي نبيه وأمينه على الوحي، وصفيه وخيرته من الخلق ورضيه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته. ثم التفت إلى أهل المجلس وقالت: أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه (1) وحملة دينه ووحيه، وأمناء الله على أنفسكم، وبلغاؤه إلى الأمم (2)، وزعمتم حق لكم (3) لله فيكم، عهد قدمه إليكم، وبقية استخلفها عليكم (4): كتاب الله الناطق، والقرآن الصادق، والنور الساطع، والضياء اللامع، بينة بصائره (5)، منكشفة سرائره (6)، متجلية ظواهره، مغتبطة به أشياعه (7)، قائد إلى الرضوان أتباعه، مؤد إلى النجاة إسماعه (8). به تنال حجج الله المنورة، وعزائمه المفسرة، ومحارمه المحذرة، وبيناته الجالية، وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة، ورخصه الموهوبة (9)، وشرايعه المكتوبة.
(1) قال الفيروزآبادي: " النصب بالفتح: العلم المنصوب، ويحرك. وهذا نصب عيني، بالضم والفتح " انتهى. أي نصبكم الله لأوامره ونواهيه وهو خير الضمير. و " عباد الله " منصوب على النداء. (2) أي تؤدون الأحكام إلى ساير الناس لأنكم أدركتم صحبة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). (3) أي زعمتم أن ما ذكر ثابت لكم، وتلك الأسماء صادقة عليكم بالاستحقاق. ويمكن أن يقرأ على الماضي المجهول. وفي إيراد لفظ الزعم إشعار بأنهم ليسوا متصفين بها حقيقة وإنما يدعون ذلك كذبا. ويمكن أن يكون " حق لكم " جملة أخرى مستأنفة، أي زعمتم أنكم كذلك وكان يحق لكم وينبغي أن تكونوا كذلك لكن قصرتم. وفي بعض النسخ: " وزعمتم حق له فيكم وعهد " وفي كتاب المناقب القديم: " زعمتم أن لا حق لي فيكم، عهدا قدمه إليكم " فيكون " عهدا " منصوبا باذكروا ونحوه. * وفي الكشف: " إلى الأمم حولكم، لله فيكم عهد ". * وفي الاحتجاج المطبوع: " زعيم حق له فيكم وعهد... " فلا يحتاج إلى التكلف. (4) العهد: الوصية. وبقية الرجل: ما يخلفه في أهله. والمراد بهما القرآن، أو بالأول ما أوصاهم به في أهل بيته وعترته، وبالثاني القرآن. وفي رواية أحمد بن أبي طاهر: " وبقية استخلفنا عليكم ومعنا كتاب الله " فالمراد بالبقية أهل البيت عليهم السلام، وبالعهد ما أوصاهم به فيهم. (5) البصائر: جمع بصيرة وهي الحجة. (6) المراد بانكشاف السرائر وضوحها عند حملة القرآن وأهله. (7) الغبطة أن يتمنى المرء مثل حال المغبوط من غير أن يريد زوالها منه، تقول: غبطته فاغتبط. والباء للسببية أي أشياعه مغبوطون بسبب اتباعه. وتلك الفقرة غير موجودة في ساير الروايات. (8) علي بناء الإفعال، أي تلاوته. وفي بعض نسخ الاحتجاج وساير الروايات: " استماعه ". (9) المراد بالعزائم: الفرائض، وبالفضائل: السنن، وبالرخص: المباحات بل ما يشمل المكروهات، وبالشرايع ما سوى ذلك من الأحكام كالحدود والديات والأعم، وأما الحجج والبينات والبراهين فالظاهر أن بعضها مؤكدة لبعض، ويمكن تخصيص كل منها ببعض ما يتعلق بأصول الدين لبعض المناسبات. وفي رواية ابن أبي طاهر: " وبيناته الجالية وجمله الكافية " فالمراد بالبينات: المحكمات، وبالجمل: المتشابهات، ووصفها بالكافية لدفع توهم نقص فيها لإجمالها فإنها كافية فيما أريد منها، ويكفي معرفة الراسخين في العلم بالمقصود منها فإنهم المفسرون لغيرهم. ويحتمل أن يكون المراد بالجمل العمومات التي يستنبط منها الأحكام الكثيرة. 475 فجل الله الإيمان تطهيرا لكم من الشرك، والصلاة تنزيها لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس (1) ونماء في الرزق (2)، والصيام تثبيتا للإخلاص (3)، والحج تشييدا للدين (4)، والعدل تنسيقا للقلوب (5)، وطاعتنا نظاما للملة، وإمامتنا أمانا من الفرقة، والجهاد عزا للإسلام، والصبر معونة على استيجاب الأجر (6)، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة، وبر الوالدين وقاية من السخط (7)، وصلة الأرحام منماة للعدد (8)، والقصاص حصنا للدماء، والوفاء بالنذر تعريضا للمغفرة، وتوفية المكاييل والموازين
(1) أي من دنس الذنوب، أو من رذيلة البخل، إشارة إلى قوله تعالى: * (تطهرهم وتزكيهم بها) *. (2) إيماء إلى قوله تعالى * (وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون) *، على بعض التفاسير. (3) أي لتشييد الإخلاص وإبقائه أو لإثباته وبيانه. ويؤيد الأخير أن في بعض الروايات: " تبيينا ". وتخصيص الصوم بذلك لكونه أمرا عدميا لا يظهر لغيره تعالى، فهو أبعد من الرياء وأقرب إلى الإخلاص. وهذا أحد الوجوه في تفسير الحديث المشهور: " الصوم لي وأنا أجزي به " وقد شرحناه في حواشي الكافي وسيأتي في كتاب الصوم إن شاء الله تعالى. (4) إنما خص التشييد به لظهوره ووضوحه وتحمل المشاق فيه وبذل النفس والمال له، فالإتيان به أدل دليل على ثبوت الدين، أو يوجب استقرار الدين في النفس لتلك العلل وغيرها مما لا نعرفه . ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما ورد في الأخبار الكثيرة من أن علة الحج التشرف بخدمة الإمام وعرض النصرة عليه وتعلم شريع الدين منه، فالتشييد لا يحتاج إلى تكلف. وفي العلل ورواية ابن أبي طاهر: " تسلية للدين " فلعل المعنى تسلية للنفس بتحمل المشاق وبذل الأموال بسبب التقيد بالدين، أو المراد بالتسلية الكشف والإيضاح فإنها كشف الهم، أو المراد بالدين أهل الدين، أو أسند إليه مجازا. والظاهر أنه تصحيف " تسنية " وكذا في بعض نسخ العلل، أي يصير سببا لرفعة الدين وعلوه. (5) التنسيق: التنظيم. وفي العلل: " مسكا للقلوب " أي ما يمسكها. وفي القاموس: " المسكة بالضم: ما يتمسك به وما يمسك الأبدان من الغذاء والشراب، والجمع كصرد. والمسك محركة: الموضع يمسك الماء ". وفي رواية ابن أبي طاهر والكشف: " تنسكا للقلوب " أي عبادة لها، لأن العدل أمر نفساني تظهر آثاره على الجوارح. (6) إذ به يتم فعل الطاعات وترك السيئات. (7) أي سخطهما أو سخط الله تعالى، والأول أظهر. (8) المنماة: اسم مكان أو مصدر ميمي أي يصير سببا لكثرة عدد الأولاد والعشاير، كما أن قطعها يذر الديار بلاقع من أهلها. 476 تغييرا للبخس (1)، والنهي عن شرب الخمر تنزيها عن الرجس (2)، واجتناب القذف حجابا عن اللعنة (3)، وترك السرقة إيجابا للعفة (4)، وحرم الله الشرك إخلاصا له بالربوبية، * (فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، فإنه * (إنما يخشى الله من عباده العلماء) *. ثم قالت: أيها الناس! اعلموا أني فاطمة، وأبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أقول عودا وبدءا (5)، ولا أقول ما أقول غلطا، ولا أفعل ما أفعل شططا (6): * (لقد جاءكم رسول من أنفسكم (7) عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم (8) بالمؤمنين رؤوف رحيم (9) * (10) فإن تعزوه (11) وتعرفوه تجدوه أبي دون نسائكم وأخا ابن عمي دون رجالكم، ولنعم المعزي إليه (صلى الله عليه وآله وسلم). فبلغ الرسالة صادعا بالنذارة (12) مائلا عن مدرجة
(1) في ساير الروايات: " للبخسة "، أي لئلا ينقص مال من ينقص المكيال والميزان إذ التوفية موجبة للبركة وكثرة المال، أو لئلا ينقصوا أموال الناس، فيكون المقصود أن هذا أمر يحكم العقل بقبحه. (2) أي النجس أو ما يجب التنزه عنه عقلا، والأول أوضح في التعليل، فيمكن الاستدلال على نجاستها. (3) أي لعنة الله، أو لعنة المقذوف، أو القاذف، فيرجع إلى الوجه الأخير في السابقة، والأول أظهر، إشارة إلى قوله تعالى: * (لعنوا في الدنيا والآخرة) *. (4) أي لاولة عن التصرف في أموال الناس مطلقا، أو يرجع إلى ما مر، وكذا الفقرة التالية. وفي الكشف بعد قوله " للعفة ": " والتنزه عن أموال الأيتام، والاستيثار بفيئهم إجارة من الظلم، والعدل في الأحكام إيناسا للرعية، والتبري من الشرك إخلاصا للربوبية ". (5) أي أولا وآخرا، وفي رواية أبن أبي الحديد وغيره " أقول عودا على بدء "، والمعنى واحد. (6) الشطط بالتحريك: البعد عن الحق ومجاوزة الحد في كل شئ. وفي الكشف: " ما أقول ذلك سرفا ولا شططا ". (7) أي لم يصبه شئ من ولادة الجاهلية، بل عن نكاح طيب، كما روي عن الصادق (عليه السلام). وقيل: أي من جنسكم من البشر، ثم من العرب، ثم من بني إسماعيل. (8) أي على إيمانكم وصلاح شأنكم. (9) التوبة: آية 128. (10) أي رحيم بالمؤمنين منكم ومن غيركم، والرأفة: شدة الرحمة. والتقديم لرعاية الفواصل. وقيل: رؤوف بمن رآه، رحيم بمن لم يره. فالتقديم للاهتمام بالمتعلق. (11) يقال: " عزوته إلى أبيه " أي نسبته إليه، أي إن ذكرتم نسبه وعرفتموه تجدوه أبي وأخا بن عمي، فالأخوة ذكرت استطرادا، ويمكن أن يكون الانتساب أعم من النسب ومما طرأ أخيرا، ويمكن أن يقرأ " وآخا " بصيغة الماضي، وفي بعض الروايات: " فإن تعزروه وتوقروه ". (12) الصدع: الإظهار تقول: صدعت الشئ، أي أظهرته، وصدعت بالحق إذا تكلمت به جهارا، قال الله تعالى: " فاصدع بما تؤمر ". والنذارة بالكسر: الإنذار وهو الإعلام على وجه التخويف. 477 المشركين (1)، ضاربا ثبجهم (2)، آخذا بأكظامهم، داعيا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة (3)، يكسر الأصنام وينكت الهام (4) حتى انهزم الجمع وولوا الدبر، حتى تفرى الليل عن صبحه (5) وأسفر الحق عن محضه (6)، ونطق زعيم الدين (7)، وخرست شقاشق الشياطين (8)، وطاح وشيظ النفاق (9)، وانحلت عقد الكفر والشقاق، وفهتم بكلمة الإخلاص (10) في نفر من البيض الخماص (11)، وكنتم على شفا
(1) المدرجة: المذهب والمسلك. وفي الكشف: " ناكبا عن سنن مدرجة المشركين " وفي رواية ابن أبي طاهر " مائلا على مدرجة " أي قائما للرد عليهم، وهو تصحيف. (2) الثبج بالتحريك: وسط الشئ ومعظمه، والكظم بالتحريك: مخرج النفس من الحلق، أي كان صلى الله عليه وآله لا يبالي بكثرة المشركين واجتماعهم ولا يداريهم في الدعوة. (3) كما أمره سبحانه: " أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ". وقيل: المراد بالحكمة: البراهين القاطعة، وهي للخواص وبالموعظة الحسنة،: الخطابات المقنعة والعبر النافعة، وهي للعوام، وبالمجادلة التي هي أحسن: إلزام المعاندين والجاحدين بالمقدمات المشهورة والمسلمة، وأما المغالطات والشعريات فلا يناسب درجة أصحاب النبوات. (4) النكت: إلقاء الرجل على رأسه، ويقال: طعنه فنكته. والهام جمع الهامة، بالتخفيف فيهما، وهي الرأس والمراد قتل رؤساء المشركين، وقمعهم وإذلالهم، أو المشركين مطلقا وقيل: أريد به إلقاء الأصنام على رؤوسها، ولا يخفى بعده لا سيما بالنظر إلى ما بعده. وفي بعض النسخ: " ينكس الهام " وفي الكشف وغيره: " يجذ الأصنام " ومن قولهم: جذذت الشئ: كسرته. ومنه قوله تعالى: " فجعلهم جذاذا ". (5) الواو مكان حتى كما في رواية ابن أبي طاهر أظهر: و " تفرى الليل " أي انشق حتى ظهر ضوء الصباح. (6) يقال: " أسفر الصبح " أي أضاء. (7) زعيم القوم: سيدهم والمتكلم عنهم. والزعيم أيضا الكفيل. والإضافة لامية، ويحتمل البيانية. (8) خرس بكسر الراء. والشقاشق جمع شقشقة بالكسر، وهي شئ كالرية يخرجها البعير من فيه إذا هاج. وإذا قالوا للخطيب: ذو شقشقة فإنما يشبه بالفحل. وإسناد الخرس إلى الشقاشق مجازي. (9) يقال: طاح فلان يطوح، إذا هلك أو أشرف على الهلاك وتاه في الأرض وسقط. والوشيظ بالمعجمتين: الرذل والسفلة من الناس، ومنه قولهم: إياكم والوشايظ. وقال الجوهري: " الوشيظ: لفيف من الناس " ليس " أصلهم واحد " ا " أو بنو فلان وشيظة في قومهم أي هم حشو فيهم. والوسيط بالمهملتين: أشرف القوم نسبا وأرفعهم محلا: وكذا في بعض النسخ وهو أيضا مناسب. (10) يقال: فاه فلان بالكلام - كقال - أي لفظ به، كتفوه. وكلمة الإخلاص كلمة التوحيد. وفيه تعريض بأنه لم يكن إيمانهم عن قلوبهم. (11) البيض: جمع أبيض وهو من الناس خلاف الأسود. والخماص بالكسر: جمع خميص، والخماصة تطلق على دقة البطن خلقة وعلى خلوه من الطعام، يقال: فلان خميص البطن من أموال الناس، أي عفيف عنها. وفي الحديث: " كالطير تغدو خماصا، وتروح بطانا ". والمراد بالبيض الخماص إما أهل البيت عليهم السلام ويؤيده ما في كشف الغمة: " في نفر من البيض الخماص الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا "، ووصفهم بالبيض لبياض وجوههم، أو هو من قبيل وصف الرجل بالأغر، وبالخماص لكونهم ضامري البطون بالصوم وقلة الأكل ولعفتهم عن أكل أموال الناس بالباطل. أو المراد بهم من آمن من العجم كسلمان - رضي الله عنه - وغيره، ويقال لأهل فارس: بيض، لغلبة البياض على ألوانهم وأموالهم، إذا الغالب في أموالهم الفضة، كما يقال لأهل الشام: حمر، لحمرة ألوانهم وغلبة الذهب في أموالهم، والأول أظهر. ويمكن اعتبار نوع تخصيص في المخاطبين فيكون المراد بهم غير الراسخين الكاملين في الإيمان، وبالبيض الخماص الكمل منهم. 478 حفرة من النار (1)، مذقة الشارب، ونهزة الطامع (2)، وقبسة العجلان (3)، وموطئ الأقدام (4)، تشربون الطرق (5)، وتقتاتون الورق (6)، أذلة خاسئين (7)، " تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم " (8). فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد اللتيا والتي (9)، وبعد أن مني ببهم الرجال وذؤبان العرب ومردة أهل الكتاب (10)، " كلما
(1) شفا كل شئ: طرفه وشفيره، أي كنتم على شفير جهنم مشرفين على دخولها لشرككم وكفركم. (2) مذقة الشارب: شربته. والنهزة بالضم: الفرصة، أي محل نهزته. أي كنتم قليلين أذلاء يتخطفكم الناس بسهولة. (3) القبسة بالضم: شعلة من نار يقتبس من معظمها. والإضافة إلى العجلان لبيان القلة والحقارة. (4) وطي الأقدام مثل مشهور في المغلوبية والمذلة. (5) الطرق بالفتح: ماء السماء الذي تبول فيه الإبل وتعبر. (6) الورق بالتحريك: ورق الشجر. وفي بعض النسخ: " تقتاتون القد " وهو بكسر القاف وتشديد الدال: سير يقد من جلد غير مدبوغ. والمقصود وصفهم بخباثة المشرب وجشوبة المأكل لعدم اهتدائهم إلى ما يصلحهم في دنياهم، ولفقرهم وقلة ذات يدهم، وخوفهم من الأعادي. (7) الخاسئ: المبعد المطرود. (8) التخطف: استلاب الشئ وأخذه بسرعة، اقتبس من قوله تعالى: " واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ". وفي نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام إن الخطاب في تلك الآية لقريش خاصة، والمراد بالناس ساير العرب أو الأعم. (9) اللتيا بفتح اللام وتشديد الياء: تصغير التي، وجوز بعضهم فيه ضم اللام، وهما كنايتان عن الداهية الصغيرة والكبيرة. (10) يقال: مني بكذا - على صيغة المجهول - أي ابتلي. وبهم الرجال - كصرد -: الشجعان منهم، لأنهم لشدة بأسهم لا يدري من أين يؤتون. وذؤبان العرب: لصوصهم وصعاليكهم الذين لا مال لهم ولا اعتماد عليهم. والمردة: العتاة المتكبرون المجاوزون للحد. 479 أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله "، أو نجم قرن للشيطان (1)، وفغرت فاغرة من المشركين (2) قذف أخاه في لهواتها (3)، فلا ينكفئ (4) حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه (5)، مكدودا في ذات الله (6)، مجتهدا في أمر الله، قريبا من رسول الله سيد أولياء الله (7)، مشمرا ناصحا (8)، مجدا كادحا (9)، وأنتم في رفاهية من العيش، وادعون فاكهون آمنون (10)، تتربصون بنا الدوائر (11)، وتتوكفون
(1) نجم الشئ - كنصر - نجوما: ظهر وطلع. والمراد بالقرن: القوة. وفسر قرن الشيطان بأمته ومتابعيه. (2) فغر فاه، أي فتحه، يتعدى ولا يتعدى. والفاغرة من المشركين: الطائفة العادية منهم تشبيها بالحية أو السبع. ويمكن تقدير الموصوف مذكرا على أن يكون التاء للمبالغة. (3) القذف: الرمي، ويستعمل في الحجارة، كما أن الحذف يستعمل في الحصا، يقال: هم بين حاذف وقاذف. واللهوات بالتحريك: جمع لهاة وهي اللحمة في أقصى سقف الفم. وفي بعض الروايات: " في مهواتها " بالميم وهي بالتسكين: الحفرة وما بين الجبلين ونحو ذلك. وعلى أي حال المراد أنه صلى الله عليه وآله كلما أراده طائفة من المشركين أو عرضت له داهية عظيمة بعث عليا عليه السلام لدفعها وعرضه للمهالك. وفي رواية الكشف وابن أبي طاهر: " كلما حشوا نارا للحرب ونجم قرن للضلال ". قال الجوهري: " حششت النار: أوقدتها ". (4) انكفأ، بالهمزة: أي رجع، من قولهم: كفأت القوم كفأ: إذا أرادوا وجها فصرفتهم عنه إلى غيره فانكفؤا، أي رجعوا. (5) الصماخ، بالكسر: ثقب الأذن، والأذن نفسها. وبالسين كما في بعض الروايات لغة فيه. والأخمص: ما لا يصيب الأرض من باطن القدم عند المشي. ووطي الصماخ بالأخمص عبارة عن القهر والغلبة على أبلغ وجه، وكذا إخماد اللهب بماء السيف استعارة بليغة شايعة. (6) المكدود: من بلغه التعب والأذى. وذات الله: أمره ودينه وكل ما يتعلق به سبحانه. وفي الكشف: " مكدودا دؤوبا في ذات الله ". (7) بالجر صفة الرسول، أو بالنصب عطفا على الأحوال السابقة، ويؤيد الأخير ما في رواية ابن أبي طاهر " سيدا في أولياء ". (8) التشمير في الأمر: الجد والاهتمام فيه. (9) الكدح: العمل والسعي. (10) قال الجوهري: " الدعة: الخفض، تقول منه: ودع الرجل فهو وديع أي ساكن، ووادع أيضا، يقال: نال فلان المكارم وادعا من غير كلفة ". وقال: " الفكاهة بالضم: المزاح، وبالفتح مصدر فكه الرجل - بالكسر - فهو فكه: إذا كان طيب النفس مزاجا والفكه أيضا: الأشر والبطر " وقرئ: " ونعمة كانوا فيه فاكهين " أي أشرين، وفاكهين أي ناعمين. والمفاكهة: الممازحة. وفي رواية ابن أبي طاهر: " وأنتم في بلهنية وادعون آمنون " قال الجوهري: " هو في بلهنية من العيش أي سعة ورفاهية، وهو ملحق بالخماسي بألف في آخره، وإنما صارت ياء لكسرة ما قبلها " وفي الكشف: " وأنتم في رفهنية " وهي مثلها لفظا ومعنى. (11) صروف الزمان وحوادث الأيام والعواقب المذمومة، وأكثر ما تستعمل الدائرة في تحول النعمة إلى الشدة. أي كنتم تنتظرون نزول البلايا علينا، وزوال النعمة عنا. 480 الأخبار (1)، وتنكصون عند النزال (2)، وتفرون عند القتال. فلما اختار الله لنبيه دار أنبيائه ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسيكة النفاق (3)، وسمل جلباب الدين (4)، ونطق كاظم الغاوين (5)، ونبغ خامل الأقلين (6)، وهدر فنيق المبطلين (7). فخطر في عرصاتكم (8)، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه، هاتفا بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين (9)، وللغرة فيه ملاحظين (10). ثم استنهضكم (11) فوجدكم
(1) التوكف: التوقع. والمراد إخبار المصائب والفتن. وفي بعض النسخ: " تتواكفون الأخيار "، يقال: واكفه في الحرب أي واجهه. (2) النكوص: الإحجام والرجوع عن الشئ. والنزال بالكسر: أن ينزل القرنان عن إبلهما إلى خيلهما فيتضاربا. والمقصود من تلك الفقرات أنهم لم يزالوا منافقين لم يؤمنوا قط. (3) الحسيكة: العداوة. قال الجوهري: " الحسك: حسك السعدان، الواحدة: حسكة. وقولهم: في صدره علي حسيكة وحساكة أي ضغن وعداوة ". وفي بعض الروايات " حسكة النفاق " فهو على الاستعارة. (4) سمل الثوب - كنصر -: صار خلقا. والجلباب بالكسر: الملحفة، وقيل: ثوب واسع للمرأة غير الملحفة، وقيل: هو إزار ورداء، وقيل: هو كالمقنعة تغطي به المرأة رأسها وظهرها وصدرها. (5) الكظوم: السكوت. (6) نبغ الشئ - كمنع ونصر - أي ظهر، ونبغ الرجل: إذا لم يكن في إرث الشعر ثم قال وأجاد. والخامل: من خفي ذكره وصوته وكان ساقطا لا نباهة له. والمراد بالأقلين: الأذلون. وفي بعض الروايات: " الأولين " وفي الكشف: " فنطق كاظم، ونبغ خامل ". (7) الهدير: ترديد البعير صوته في حنجرته. والفنيق: الفحل المكرم من الإبل الذي لا يركب ولا يهان لكرامته على أهله. (8) يقال: خطر البعير بذنبه يخطر - بالكسر - خطرا وخطرانا: إذا رفعه مرة بعد مرة وضرب به فخذيه، ومنه قول الحجاج لما نصب المنجنيق على الكعبة: " خطارة كالجمل الفنيق "، شبه رميها بخطران الفنيق. (9) مغرز الرأس، بالكسر: ما يختفي فيه. وقيل: لعل في الكلام تشبيها للشيطان بالقنفذ، فإنه إنما يطلع رأسه عند زوال الخوف، أو بالمرجل الحريص المقدم على أمر، فإنه يمد عنقه إليه. والهتاف: الصياح. " وألفاكم " أي وجدكم. (10) الغرة، بالكسر: الاغترار والانخداع. والضمير المجرور راجع إلى الشيطان. وملاحظة الشئ: مراعاته، وأصله من اللحظ وهو النظر بمؤخر العين، وهو أينما يكون عند تعلق القلب بشئ، أي وجدكم الشيطان لشدة قبولكم للانخداع كالذي كان مطمح نظره أن يغتر بأباطيله. ويحتمل 0 أن يكون " للعزة " بتقدم المهملة على المعجمة. وفي الكشف: " وللعزة ملاحظين " أي وجدكم طالبين للعزة. (11) النهوض: القيام، واستنهضه لأمر أي أمره بالقيام إليه. 481 خفافا (1)، وأحمشكم فألفاكم غضابا (2)، فوسمتم (3) غير إبلكم، وأوردتم غير شربكم (4)، هذا والعهد قريب، والكلم رحيب (5)، والجرح لما يندمل (6)، والرسول لما يقبر (7)، ابتدارا زعمتم خوف الفتنة (8)، " ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين " (9). فهيهات منكم، وكيف بكم، وأنى تؤفكون؟ وكتاب الله بين أظهركم (10)، أموره ظاهرة، وأحكامه زاهرة (11)، وأعلامه باهرة، وزواجره لائحة، وأوامره واضحة، قد خلفتموه وراء ظهوركم، أرغبة عنه تريدون، أم بغيره تحكمون، " بئس للظالمين بدلا (12) " (13) " ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من
(1) أي مسرعين إليه. (2) أحمشت الرجل: أغضبته، وأحمشت النار: ألهبتها. أي حملكم الشيطان على الغضب فوجدكم مغضبين لغضبه، أو من عند أنفسكم. وفي المناقب القديم: " عطافا " بالعين المهملة والفاء، من العطف بمعنى الميل والشفقة، ولعله أظهر لفظا ومعنى. (3) الوسم: أثر الكي، يقال: وسمته - كوعدته - وسما. (4) الورود: حضور الماء للشرب، والإيراد: الإحضار. والشرب بالكسر: الحظ من الماء، وهما كنايتان عن أخذ ما ليس لهم بحق من الخلافة والإمامة وميراث النبوة. وفي الكشف: " وأوردتموها شربا ليس لكم ". (5) الكلم: الجرح. والرحب بالضم: السعة. (6) الجرح بالضم، الاسم، وبالفتح المصدر. و " لما يندمل " أي لم يصلح بعد. (7) قبرته: دفنته. (8) " ابتدارا " مفعول له للأفعال السابقة، ويحتمل المصدر بتقدير الفعل. وفي بعض الروايات: " بدارا زعمتم خوف الفتنة " أي ادعيتم وأظهرتم لناس كذبا وخديعة أنا إنما اجتمعنا في السقيفة دفعا للفتنة، مع أن الغرض كان غصب الخلافة عن أهلها وهو عين الفتنة. والالتفات في " سقطوا " لموافقة الآية الكريمة. (9) التوبة: 49. (10) " هيهات " للتبعيد، وفيه معنى التعجب كما صرح به الشيخ الرضي، وكذلك " كيف " و " أنى " تستعملان في التعجب. وأفكه - كضربه -: صرفه عن الشئ وقلبه، أي إلى أين يصرفكم الشيطان وأنفسكم والحال أن كتاب الله بينكم! وفلان بين أظهر قوم وبين ظهرانيهم أي مقيم بينهم محفوف من جانبيه أو من جوانبه بهم. (11) الزاهر: المتلألئ المشرق. وفي الكشف: " بين أظهركم، قائمة فرائضه، واضحة دلائله، نيرة شرائعه. (12) الكهف، 50. (13) " بدلا " أي من الكتاب ما اختاروه من الحكم الباطل. 482 الخاسرين " (1). ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها، ويسلس قيادها (2) ثم أخذتم تورون وقدتها (3)، وتهيجون جمرتها (4)، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي (5)، وإطفاء أنوار الدين الجلي، وإهماد سنن النبي الصفي (6)، تسرون حسوا في ارتغاء (7)، وتمشون لأهله ووله في الخمر والضراء (8)، ونصبر منكم على مثل حز المدى (9)، ووخز السنان في الحشا (10)، وأنتم تزعمون ألا إرث لنا، " أفحكم
(1) آل عمران: 85. (2) ريث - بالفتح - بمعنى قدر، وهي كلمة يستعملها أهل الحجاز كثيرا، وقد يستعمل مع ما، يقال: لم يلبث إلا ريثما فعل كذا. وفي الكشف هكذا: " ثم لم تبرحوا ريثا " وقال بعضهم: هذا ولم تريثوا حتها إلا ريث. وفي رواية ابن أبي طاهر: " ثم لم تريثوا أختها " وعلى التقديرين ضمير المؤنث راجع إلى فتنة وفاة الرسول صلى الله عليه وآله. وحت الورق من الغصن: نثرها، أي لم تصبروا إلى ذهاب أثر تلك المصيبة. ونفرة الدابة، بالفتح: ذهابها وعدم انقيادها. والسلس، بكسر اللام: السهل اللين المنقاد، ذكره الفيروزآبادي، وفي مصباح اللغة: سلسل سلسا من باب تعب: سهل ولان. والقياد بالكسر: ما يقاد به الدابة من خبل وغيره. (3) في الصحاح: " وري الزند يري وريا: إذا خرجت ناره. وفي لغة أخرى: " وري الزند يري، بالكسر فيهما، وأوريته أنا وكذلك وريته تورية. وفلان يستوري زناد الضلالة ". ووقده النار بالفتح: وقودها، ووقدها: لهبها. (4) الجمرة: المتوقد من الحطب، فإذا برد فهو فحم. والجمر بدون التاء جمعها. (5) الهتاف، بالكسر: الصياح، وهتف به أي دعاه. (6) إهماد النار: إطفاؤها بالكلية. والحاصل أنكم إنما صبرتم حتى استقرت الخلافة المغصوبة عليكم، ثم شرعتم في تهييج الشرور والفتن وأتباع الشيطان وإبداع البدع وتغيير السنن. (7) الإسرار: ضد الإعلان. والحسو بفتح الحاء وسكون السين المهملتين: شرب المرق وغيره شيئا بعد شئ: والارتغاء: شرب الرغوة وهو زبد اللبن. قال الجوهري: " الرغوة مثلثة: زبد البن. وارتغيت: شربت الرغوة. وفي المثل: " يسر حسوا في ارتغاء " يضرب لمن يظهر أمرا ويريد غيره. قال الشعبي لمن سأله عن رجل قبل أم امرأته [قال]: يسر حسوا في ارتغاء، وقد حرمت عليه امرأته ". وقال الميداني: قال أبو زيد والأصمعي: أصله الرجل يؤتى باللبن فيظهر أنه يريد الرغوة خاصة ولا يريد غيرها فيشربها وهو في ذلك ينال من اللبن، يضرب لمن يريك أنه يعينك وإنما يجر النفع إلى نفسه. (8) الخمر، بالتحريك ما واراك من شجر وغيره، يقال: توارى الصيد عني في خمر الوادي، ومنه قولهم: دخل فلان في خمار الناس - بالضم - أي ما يواريه ويستره منهم. والضراء، الضاد المعجمة المفتوحة والراء المخففة: الشجر الملتف في الوادي، ويقال لمن ختل صاحبه وخادمه: يدب له الضراء ويمشي له الخمر. وقال الميداني: قال ابن الأعرابي: الضراء ما انخفض من الأرض. (9) الحز، بفتح الحاء المهملة: القطع أو قطع الشئ من غير إبانة. والمدى بالضم: جمع مدية وهي السكين والشفرة. (10) الوخز: الطعن بالرمح ونحوه لا يكون نافذا، يقال: وخزه بالخنجر. 483 الجاهلية تبغون ومن أحسن من حكما لقوم يوقنون " (1) أفلا تعلمون؟ بلى تجلى لكم كالشمس الضاحية (2) أني ابنته. أيها المسلمون أأغلب على إرثيه (3) يا ابن أبي قحافة! أفي كتاب الله أن ترث أباك، ولا أرث أبي؟ " لقد جئت شيئا فريا (4) " (5)، أفعلى عمد تركتم كتاب الله، ونبذتموه وراء ظهوركم، إذ يقول: " وورث سليمان داود " (6)، وقال فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا (عليهما السلام) إذ قال رب " هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب " (7) وقال: " وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " (8) وقال: " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين " (9) وقال: " إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين " (10)، وزعمتم ألا حظوة لي (11)، ولا إرث من أبي لا رحم بيننا!
(1) المائدة: 50. وفيها " يبغون ". (2) أي الظاهرة البينة، يقال: فعلت ذلك الأمر ضاحية أي علانية. (3) في رواية ابن أبي طاهر: " ويها معشر المهاجرة ابتز إرث أبيه " قال الجوهري: " إذا أغريته بالشئ قلت: ويها يا فلان، وهو تحريض " انتهى. ولعل الأنسب هنا التعجب. والهاء في " أبيه " في الموضعين " وإرثيه " - بكسر الهمزة بمعنى الميراث - للسكت، كما في سورة الحاقة. " كتابيه وحسابيه وماليه وسلطانيه " تثبت في الوقف وتسقط في الوصل. وقرئ بإثباتها في الوصل أيضا. وفي الكشف : " ثم أنتم أولاء تزعمون أن لا إرث ليه " فهو أيضا كذلك. (4) اقتباس من سورة مريم: 27. (5) أي أمرا عظيما بديعا، وقيل: أي أمرا منكرا قبيحا. وهو مأخوذ من الافتراء بمعنى الكذب . واعلم أنه قد وردت الروايات المتظافرة - كما ستعرف - في أنها عليها السلام ادعت أن فدكا كانت نحلة لها من رسول الله صلى الله عليه وآله، فلعل عدم تعرضها - صلوات الله عليها - في هذه الخطبة لتلك الدعوى ليأسها عن قبولهم إياها، إذ كانت الخطبة بعد ما رد أبو بكر شهادة أمير المؤمنين عليه السلام ومن شهد معه، وقد كان المنافقون الحاضرون معتقدين لصدقه، فتمسكت بحديث الميراث لكونه من ضروريات الدين. (6) النمل: 16. (7) مريم: 6. (8) الأنفال: 75. (9) النساء: 11. (10) البقرة: 180. (11) بكسر الحاء وضمها وسكون الظاء المعجمة: المكانة والمنزلة، يقال: حظيت المرأة عند زوجها: إذا دنت من قلبه. 484 أفخصكم الله بآية أخرج منها أبي؟ أم هل تقولون أهل ملتين لا يتوارثان، ولست أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟! أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي (1)؟ فدونكها مخطمة مرحولة (2) تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم محمد (3)، والموعد القيامة، وعند الساعة ما تخسرون (4)، ولا ينفعكم إذ تندمون، " ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه (5) ويحل عليه عذاب مقيم " (6). ثم رمت بطرفها (7) نحو الأنصار فقالت: يا معاشر الفتية (8)، وأعضاد الملة (9)، وأنصار الإسلام! ما هذه الغميزة في حقي (10)؟ والسنة عن
(1) في الكشف: " فزعمتم أن لاحظ لي ولا إرث لي من أبيه. أفحكم الله بآية أخرج أبي منها، أم تقولون أهل ملتين لا يتوارثان، أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي؟ أفحكم الجاهلية (الآية). إيها معاشر المسلمة أأبتز إرثيه؟ الله أن ترث أباك ولا أرث أبيه؟ لقد جئتم شيئا فريا ". (2) الضمير راجع إلى فدك المدلول عليها بالمقام، والأمر بأخذها للتهديد، والخطام، بالكسر: كل ما يوضع في أنف البعير ليقاد به، والرحل - بالفتح - للناقة كالسرج للفرس، ورحل البعير - كمنع - شد على ظهره الرحل. شبهتها عليها السلام في كونها مسلمة لا يعارضه في أخذها أحد بالناقة المنادة المهيأة للركوب. (3) في بعض الروايات: " والغريم " أي طالب الحق. (4) كلمة " ما " مصدرية، أي في القيامة يظهر خسرانكم. (5) " ولكل نبأ مستقر " أي لكل خبر - يريد نبأ العذاب أو الإيعاد به - وقت استقرار ووقوع " وسوف تعلمون " عند وقوعه " من يأتيه عذاب يخزيه ". (6) الاقتباس من موضعين: أحدهما سورة الأنعام، والآخر في سورة هود قصة نوح (عليه السلام) حيث قال: " إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم " فالعذاب الذي يخزيهم الغرق والعذاب المقيم عذاب النار. (7) الطرف بالفتح: مصدر طرفت عين فلان: إذا نظرت، وهو أن ينظر ثم يغمض. والطرف أيضا: العين. (8) المعشر: الجماعة، والفتية بالكسر: جمع فتى وهو الشاب والكريم السخي. وفي المناقب " يا معشر البقية، وأعضاد الملة وحصنة الإسلام " وفي الكشف: " يا معشر البقية، ويا عماد الملة وحصنة الإسلام ". (9) الأعضاد: جمع عضد بالفتح: يقال: عضدته كنصرته لفظا ومعنى. (10) قال الجواهري: " ليس في فلان غميزة، أي مطعن "، ونحوه ذكر الفيروزآبادي وهو لا يناسب المقام إلا بتكلف، وقال الجواهري: " رجل غمز، أي ضعيف ". وقال الخليل في كتاب العين: " الغميزة بفتح العين المعجمة والزاي: ضعفة في العمل وجهلة في العقل، ويقال: سمعت كلمة فاغتمزتها في عقله، أي علمت أنه أحمق " وهذا المعنى أنسب. وفي الكشف: " ما هذه الغميزة " بالفاء المفتوحة وسكون التاء، وهو السكون، وهو أيضا مناسب، وفي رواية ابن أبي طاهر بالراء المهملة، ولعله من قولهم: غمر على أخيه، أي حقد وضغن، أو من قولهم، غمز عليه، أي أغمي عليه، أو من الغمر، بمعنى الستر، ولعله كان بالضاد المعجمة فصحف، فإن استعمال اغماض العين في مثل هذا المقام شايع. 485 ظلامتي (1)؟ أما كان (صلى الله عليه وآله وسلم) أبي يقول: " المرء يحفظ في ولده "؟ سرعان ما أحدثتم، وعجلان ذا إهالة (2)، ولكم طاقة بما أحاول، وقوة على ما أطلب وأزاول! أتقولون مات محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! فخطب جليل استوسع وهيه (3)، واستنهر فتقه، وانفتق رتقه (4)، وأظلمت الأرض لغيبته، وكسفت النجوم لمصيبته (5)، وأكدت الآمال (6)، وخشعت
(1) السنة بالكسر: مصدر وسن يوسن - كعلم يعلم - وسنا وسنة، والسنة: أول النوم أو النوم الخفيف، والهاء عوض عن الواو. والظلامة بالضم كالمظلمة بالكسر: ما أخذه الظالم منك فتطلبه عنده. والغرض تهييج الأنصار لنصرتها، أو توبيخهم على عدمها. وفي الكشف بعد ذلك،: " أما كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يحفظ ". (2) سرعان مثلثة السين: وعجلان بفتح العين كلاهما من أسماء الأفعال بمعنى سرع وعجل، وفيهما معنى التعجب، أي ما أسرع وأعجل. وفي رواية ابن أبي طاهر: " سرعان ما أجديتم فأكديتم " يقال: أجدب القوم أي أصابهم الجدب. وأكدى الرجل: إذا قل خيره، والإهالة بكسر الهمزة: الودك وهو دسم اللحم. وقال الفيروزآبادي: " قولهم: سرعان إذا أهالة، أصله أن رجلا كانت له نعجة عجفاء وكانت رغامها يسيل من منخريها لهزالها، فقيل له: ما هذا الذي يسيل؟ فقال السائل: سرعان ذا أهالة. ونصب " أهالة " على الحال: وذا إشارة إلى الرغام أو تميز على تقدير نقل الفعل كقولهم: تصبب زيد عرقا، والتقدير: سرعان أهالة هذه، وهو مثل يضرب لمن يخبر بكينونة الشئ قبل وقته " انتهى. والرغام بالضم: ما يسيل من أنف الشاة والخيل، ولعل المثل كان بلفظ عجلان، فاشتبه على الفيروزآبادي أو غيره، أو كان كل منهما مستعملا في هذا المثل. وغرضها صلوات الله عليها التعجب من تعجيل الأنصار ومبادرتهم إلى إحداث البدع، وترك السنن والأحكام، والتخاذل عن نصرة سيد الأنام، مع قرب عهدهم به، وعدم نسيانهم ما أوصاهم به فيهم، وقدرتهم على نصرتها وأخذ حقها ممن ظلمها ولا يبعد أن يكون المثل إخبارا مجملا بما يترتب على هذه البدعة من المفاسد الدنيوية وذهاب الآثار النبوية. (3) الخطب، بالفتح: الشأن والأمر عظم أو صغر. والوهي كالرمي: الشق والخرق، يقال: وهي الثوب: إذا بلي وتخرق واستوسع. (4) استنهر: استفعل من النهر - بالتحريك - بمعنى السعة، أي اتسع، والفتق: الشق، والرتق ضده. انفتق أي انشق. والضماير المجرورات الثلاثة راجعة إلى الخطب بخلاف المجرورين بعدهما فإنهما راجعان إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). (5) كسف النجوم: ذهاب نورها، والفعل منه يكون متعديا ولازما، والفعل كضرب. وفي رواية ابن أبي طاهر مكان الفقرة الأخيرة: " واكتأبت خيرة الله المصيبة " والاكتئاب: افتعال من الكآبة بمعنى الحزن. وفي الكشف: " واستنهر فتقه، وفقد راتقه، وأظلمت الأرض، واكتأبت لخيرة الله - إلى قولها - وأديلت الحرمة - " من الإدالة بمعنى الغلبة. (6) يقال: أكدى فلان أي بخل أو قل خيره. 486 الجبال، وأضيع الحريم (1)، وأزيلت الحرمة عند مماته (2). فتلك والله النازلة الكبرى (3)، والمصيبة العظمى، لا مثلها نازلة ولا بائقة عاجلة (4) أعلن بها كتاب الله - جل ثناؤه - في أفنيتكم في ممساكم ومصبحكم (5) هتافا وصراخا وتلاوة وإلحانا (6)، ولقبله ما حل بأنبياء الله ورسله، حكم فصل (7) وقضاء حتم (8): " وما محمد إلا رسول قد خلت (9) من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم (10) ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين (11) " (12).
(1) حريم الرجل: ما يحميه ويقاتل عنه. (2) الحرمة: ما لا يحل انتهاكه. وفي بعض النسخ: " الرحمة " مكان " الحرمة ". (3) النازلة: الشديدة. (4) البائقة: الداهية. (5) فناء الدار، ككساء: العرصة المتسعة أمامها. والممسى والمصبح. بضم الميم فيها - مصدران وموضعان من الإصباح والامساء. (6) الهتاف، بالكسر: الصياح، والصراخ، كغراب: الصوت أو الشديد منه، والتلاوة، بالكسر: القراءة والألحان: الإفهام يقال: ألحنه القول أي أفهمه إياه، ويحتمل أن يكون من اللحن بمعنى الغناء والطرب، قال الجوهري: " اللحن واحد الألحان واللحون، ومنه الحديث: اقرأوا القرآن بلحون العرب، وقد لحن في قرائته إذا طرد به وغرد، وهو ألحن الناس إذا كان أحسنهم قراءة أو غناء " انتهى. ويمكن أن يقرأ على هذا بصيغة الجمع أيضا، والأول أظهر. وفي الكشف: " فتلك نازلة أعلن بها كتاب الله في قبلتكم ممساكم ومصبحكم هتافا هتافا ". (7) الحكم الفصل: هو المقطوع به الذي لا ريب فيه ولا مرد له، وقد يكون بمعنى القاطع الفارق بين الحق والباطل. (8) والحتم في الأصل: إحكام الأمر، والقضاء الحتم هو الذي لا يتطرق إليه التغيير. (9) مضت. (10) الانقلاب على العقب: الرجوع القهقري، أريد به الارتداد بعد الإيمان. (11) آل عمران: 144. (12) الشاكرون: المطيعون المعترفون بالنعم الحامدون عليها. قال بعض الأماثل: واعلم أن الشبهة العارضة للمخاطبين، بموت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أما عدم تحتم العمل بأوامره وحفظ حرمته في أهله، فإن العقول الضعيفة مجبولة على رعاية الحاضر أكثر من الغايب وإنه إذا غاب عن أبصارهم ذهب كلامه عن أسماعهم ووصاياه عن قلوبهم، فدفعها إشارة إليه صلوات الله عليه وآله - من إعلان الله جل ثناؤه وإخباره بوقوع تلك الواقعة الهايلة قبل وقوعها وأن الموت مما قد نزل بالماضين من أنبياء الله ورسله - تثبيتا للأمة على الإيمان، وإزالة لتلك الخصلة الذميمة عن نفوسهم. ويمكن أن يكون معنى الكلام. أتقولون مات محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعد موته ليس لنا زاجر ولا مانع عما، نريد ولا نخاف أحدا في ترك الانقياد للأوامر وعدم الانزجار عن النواهي. ويكون الجواب ما يستفاد من حكاية قوله سبحانه " أفإن مات أو قتل " الآية لكن لا يكون حينئذ لحديث إعلان الله سبحانه وإخباره، بموت الرسول مدخل في الجواب إلا بتكلف. ويحتمل أن يكون شبهتهم عدم تجويزهم الموت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما أفصح عنه عمر بن الخطاب، وسيأتي في مطاعنه، فبعد تحقق موته عرض لهم شك في الإيمان، ووهن في الأعمال، فلذلك خذلوها وقعدوا عن نصرتها، وحينئذ مدخلية حديث الإعلان وما بعده في الجواب واضح. وعلى التقادير لا يكون قولها - صلوات الله عليها - " فخطب جليل " داخلا في الجواب ولا مقولا لقول المخاطبين على استفهام التوبيخي، بل هو كلا مستأنف لبث الحزن والشكوى، بل يكون الجواب ما بعد قولها " فتلك والله النازلة الكبرى "، ويحتمل أن يكون مقولا لقوهم، فيكون حاصلا شبهتهم أن موته صلى الله عليه وآله والذي هو أعظم الدواهي قد وقع، فلا يبالي بما وقع بعده من المحظورات، فلذلك لم ينهضوا بنصرها، والانتصاف ممن ظلمها. ولما تضمن ما زعموه كون مماته صلى الله عليه وآله أعظم المصائب سلمت عليها السلام أولا في مقام تلك المقدمة لكونها محض الحق ثم نبهت على خطابهم في أنها مستلزمة لقلة المبالاة بما وقع والقعود عن نصرة الحق وعدم اتباع أوامره صلى الله عليه وآله بقولها أعلن بها كتاب الله إلى آخر الكلام، فيكون حاصل الجواب: إن الله قد أعلمكم بها قبل الوقوع وأخبركم بأنها سنة ماضية في السلف من أنبيائه وحذركم الانقلاب على أعقابكم كيلا تتركوا العمل بلوازم الإيمان بعد وقوعها، ولا تهنوا عن نصرة الحق وقمع الباطل، وفي تسليمها ما سلمته أولا دلالة على أن كونها أعظم المصائب مما يؤيد وجوب نصرتي، فإني أنا المصاب بها حقيقة وإن شاركني فيها غيري، فمن نزلت به تلك النازلة الكبرى فهو بالرعاية أحق وأحرى. ويحتمل أن يكون قولها عليها السلام " فخطب جليل " من أجزاء الجواب، فتكون شبهتهم بعض الوجوه المذكورة أو المركب من بعضها مع بعض، وحاصل الجواب حينئذ أنه إذا نزل بي مثل تلك النازلة وقد كان الله عز وجل أخبركم بها وأمركم أن لا ترتدوا بعدها على أعقابكم، فكان الواجب عليكم دفع الضيم عني والقيام بنصرتي. ولعل الأنسب بهذا الوجه ما في رواية ابن أبي طاهر من قولها " وتلك نازلة أعلن بها كتاب الله " بالواو دون الفاء. ويحتمل أن لا تكون الشبهة العارضة للمخاطبين مقصورة على أحد الوجوه المذكورة بل تكون الشبهة لبعضهم بعضا وللأخرى أخرى، ويكون كل مقدمة من مقدمات الجواب إشارة إلى دفع واحدة منها. أقول: ويحتمل أن لا تكون هناك شبهة حقيقية، بل يكون الغرض أنه ليس لهم في ارتكاب تلك الأمور الشنيعة حجة ومتمسك إلا أن يتمسك أحد بأمثال تلك الأمور الباطلة الواهية التي لا يخفى على أحد بطلانها. وهذا شايع في الاحتجاج. 487 أيها بني قيلة! (1) أأهضم تراث أبيه (2) وأنتم بمرأى مني ومسمع (3)، ومبتدأ
(1) أيها - بفتح الهمزة والتنوين - بمعنى هيهات. وبنو قيلة: الأوس والخزرج قبيلتا الأنصار. وقيلة بالفتح: اسم أم لهم قديمة وهي قيلة بنت كاهل. (2) الهضم: الكسر يقال: هضمت الشئ أي كسرته، وهضمته: إذا ظلمه وكسر عليه حقه. والتراث، وأصل التاء فيه الواو. (3) أي بحيث أراكم وأسمعكم (أسمع ظ) كلامكم. وفي رواية ابن أبي طاهر: " منه " أي من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. 488 ومجمع (1)؟! تلبسكم الدعوة، وتشملكم الخبرة (2)، وأنتم ذوو العدد والعدة، والأداة والقوة، وعندكم السلاح والجنة، توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون، وأنتم موصوفون بالكفاح (3)، معروفون بالخير والصلاح، والنجبة التي انتجبت (4)، والخيرة التي اختيرت! (5) قاتلتم العرب، وتحملتم الكد والتعب، وناطحتم الأمم (6)، وكافحتم البهم (7)، فلا نبرح أو تبرحون (8)، نأمركم فتأتمرون (9) حتى دارت بنا رحى الإسلام (10)،
(1) والمبتدأ في أكثر النسخ بالباء الموحدة مهموزا، فلعل المعنى أنكم في مكان يبتدأ منه الأمور والأحكام. والأظهر أنه تصحيف المنتدا بالنون غير مهموز بمعنى المجلس، وكذا في المناقب القديم، فيكون " المجمع " كالتفسير له. والغرض الاحتجاج عليهم بالإجماع (بالإجماع - خ ل) الذي هو من أسباب القدرة على دفع الظلم. واللفظان غير موجودين في رواية ابن أبي طاهر. (2) " تلبسكم " علي بناء المجرد أي تغطيكم وتحيط بكم. والدعوة: المرة من الدعاء أي النداء كالخبرة - بالفتح - من الخبر بالضم بمعنى العلم، أو الخبرة بالكسر بمعناه. والمراد بالدعوة نداء المظلوم للنصرة، وبالخبرة علمهم بمظلوميتها صلوات الله عليها. والتعبير بالإحاطة والشمول للمبالغة أو للتصريح بأن ذلك قد عمهم جميعا. وليس من قبيل الحكم على الجماعة بحكم البعض أو الأكثر. وفي رواية ابن أبي طاهر: " الحيرة " بالحاء المهملة، ولعله تصحيف، ولا يخفى توجيهه. (3) الكفاح: استقبال العدو في الحرب بلا ترس ولا جنة، ويقال: فلان يكافح الأمور أي يباشرها بنفسه. (4) النجبة، كهمزة: النجيب الكريم. وقيل: يحتمل أن يكون بفتح الخاء المعجمة أو سكونها بمعنى المنتخب المختار. ويظهر من ابن الأثير أنها بالسكون تكون جمعا (5) الخيرة، كعنبة: المفضل من القوم المختار منهم. (6) أي حاربتم الخصوم ودافعتموها بجد واهتمام كما يدافع الكبش قرنه بقرنه. وإليهم: الشجعان كما مر ومكافحتها: التعرض لدفعها من غير توان وضعف. (7) في المناقب: " لنا هل البيت قاتلتم وناطحتم الأمم وكافحتم البهم ". (8) " أو تبرحون " معطوف على مدخول النفي، فالمنفي أحد الأمرين، ولا ينتفي إلا بانتفائهما معا، فالمعنى لا نبرح ولا تبرحون. (9) أي كما لم نزل آمرين، وكنتم مطيعين لنا في أوامرنا، وفي كشف الغمة: " وتبرحون " بالواو، فالعطف على مدخول النفي أيضا ويرجع إلى ما مر. وعطفه على النفي إشعارا بأنه قد كان يقع منهم براح عن الإطاعة كما في غزوة أحد وغيرها بخلاف أهل البيت عليهم السلام إذا لم يعرض لهم كلال عن الدعوة والهداية، بعيد عن المقام. والأظهر ما في رواية ابن أبي طاهر من ترك المعطوف رأسا: " لا نبرح نأمركم " أي لم نزل عادتنا الأمر، وعادتكم الايتمار. وفي المناقب " لا نبرح ولا تبرحون نأمركم " فيحتمل أن يكون " أو " في تلك النسخة أيضا بمعنى الواو، أي لا نزال نأمركم ولا تزالون تأتمرون. ولعل ما في المناقب أظهر النسخ وأصوبها. (10) دوران الرحى كناية عن انتظام أمرها، والباء للسببية. 489 ودر حلب الأيام (1)، وخضعت نعرة الشرك (2)، وسكنت فورة الإفك (3)، وخمدت نيران الكفر (4)، وهدأت دعوة الهرج (5)، واستوسق نظام الدين (6)، فأنى جرتم بعد البيان (7)، وأسررتم بعد الإعلان، ونكصتم بعد الإقدام (8)، وأشركتم بعد الإيمان؟ " ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين (9) " (10).
(1) در اللبن: جريانه وكثرته. والحلب بالفتح: استخراج ما في الضرع من اللبن، وبالتحريك: اللبن المحلوب، والثاني أظهر للزوم ارتكاب تجوز في الاستناد، أو في المسند إليه على الأول. (2) والنعرة بالنون والراء المهملتين مثال همزة: الخيشوم والخيلاء والكبر أو بفتح النون من قولهم نعر العرق بالدم أي فار. فيكون الخضوع بمعنى السكون، أو بالغين المعجمة من نغرت القدر أي فارت. وقال الجوهري " نغر الرجل - بالكسر - أي اغتاض. قال الأصمعي: هو الذي يغلي جوفه من الغيظ. وقال ابن السكيت: يقال: ظل فلان يتنعر على فلان أي يتذمر عليه ". وفي أكثر النسخ بالثاء المثلثة المضمومة والغين المعجمة وهي نقرة النحر بين الترقوتين. فخضوع ثغرة الشرك كناية عن محقه وسقوطه كالحيوان الساقط على الأرض، نظيره قول أمير المؤمنين - صلوات الله عليه وسلامه عليه -: " أنا وضعت كلكل العرب " أي صدورهم. (3) الإفك، بالكسر: الكذب وفورة الإفك: غليانه وهيجانه. (4) خمدت النار: أي سكن لهبها ولم يطفأ جمرها. ويقال: همدت - بالهاء - إذا طفي جمرها. وفيه إشعار بنفاق بعضهم وبقاء مادة الكفر في قلوبهم. وفي رواية ابن أبي طاهر: " وبأخت نيران الحرب " قال الجوهري: " بأخ الحر والنار والغضب والحمى أي سكن وفتر ". (5) هدأت أي، سكنت، والهرج: الفتنة والاختلاط. وفي الحديث: الهرج القتل. (6) استوسق أي اجتمع وانضم، من الوسق بالفتح وهو ضم الشئ إلى الشئ، واتساق الشئ: انتظامه. وفي الكشف: " فناويتم العرب، وبادهتم الأمور (إلى قولها (عليها السلام) حتى دارت لكم بنا رحى الإسلام، ودر حلب البلاد وخبت نيران الحرب " يقال: بدهه بأمر أي استقبله به، وبادهه: فاجأه. (7) كلمة " أنى " ظرف مكان بمعنى " أين " وقد يكون بمعنى " كيف " أي من أين حرتم وما كان منشأه؟ و " جرتم " أما بالجيم من الجور وهو الميل عن القصد والعدول عن الطريق، أي لماذا تركتم سبيل الحق بعد ما تبين لكم. أو بالحاء المهملة المضمومة من الحور بمعنى الرجوع أو النقصان، يقال : " نعوذ بالله من الحور بعد الكور " أي من النقصان بعد الزيادة، وأما بكسرها من الحيرة. (8) النكوص: الرجوع إلى الخلف. (9) التوبة: 13. (10) نكث العهد، بالفتح: نقضه والإيمان جمع يمين وهو القسم. والمشهور بين المفسرين أن الآية نزلت في اليهود الذين نقضوا عهودهم، وخرجوا مع الأحزاب، وهموا بإخراج الرسول من المدينة، وبدأوا بنقض العهد والقتال. وقيل: نزلت في مشركي قريش وأهل مكة حيث نقضوا أيمانهم التي عقدوها مع الرسول والمؤمنين على أن لا يعاونوا عليهم أعدائهم، فعاونوا بني بكر على خزاعة، وقصدوا إخراج الرسول صلى الله عليه وآله من مكة حين تشاوروا بدار الندوة وأتاهم إبليس بصورة شيخ نجدي - إلى آخر ما مر في القصة -، فهم بدأوا بالمعاداة والمقاتلة في هذا الوقت، أو في يوم بدر، أو بنقض العهد، والمراد بالقوم الذين نكثوا أيمانهم في كلامها - صلوات الله عليها - أما الذين نزلت فيهم الآية، فالغرض بيان وجوب قتال الغاصبين للإمامة ولحقها، الناكثين لما عهد إليهم الرسول صلى الله عليه وآله في وصيه (عليه السلام) وذوي قرباه وفي أهل بيته كما وجب بأمره سبحانه قتال من نزلت الآية فيهم. أو المراد بهم الغاصبون لحق هل البيت عليهم السلام، فالمراد بنكثهم أيمانهم نقض ما عهدوا إلى الرسول حين بايعوه من الانقياد له في أوامره والانتهاء عند نواهيه وأن لا يضمروا له العداوة، فنقضوه وناقضوا ما أمرهم به، والمراد بقصدهم إخراج الرسول عزمهم على إخراج من كنفس الرسول وقائم مقامه بأمر الله وأمره عن مقام الخلافة، وعلى إبطال أوامره ووصاياه في أهل بيته النازل منزلة إخراجه من مستقره وحينئذ يكون من قبيل الاقتباس. وفي بعض الروايات: " لقوم نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة أتخشونهم ". فقوله " لقوم " متعلق بقوله " تخشونهم ". 490 ألا قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض (1)، وأبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض (2)، وخلوتم بالدعة (3)، ونجوتم من الضيق بالسعة، فمججتم ما وعيتم (4)، ودسعتم الذي تسوغتم (5)، " فإن تكفروا (6) أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني
(1) الرؤية هنا بمعنى العلم أو بالنظر بالعين، وأخلد إليه: ركن ومال. والخفض بالفتح: سعة العيش. (2) المراد بمن هو أحق بالبسط والقبض أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وصيغة التفضيل مثلها في قوله تعالى: " قل أذلك خير أم جنة الخلد ". (3) خلوت الشئ: انفردت به واجتمعت معه في خلوة. والدعة: الراحة والسكون. (4) مج الشراب من فيه: رمى به. و " وعيتم " أي حفظتم. (5) الدسع، كالمنع: الدفع والقئ وإخراج البعير جرته إلى فيه. وساغ الشراب يسوغ سوغا: إذا سهل مدخله في الحلق، وتسوغه: شربه بسهولة. (6) صيغة " تكفروا " في كلامها عليها السلام إما من الكفران وترك الشرك كما هو الظاهر من سياق الكلام المجيد حيث قال تعالى: " وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد ". وقال موسى: " وإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد " أو من الكفر بالمعنى الأخص. والتغيير في المعنى لا ينافي الاقتباس، مع أن في الآية أيضا يحتمل هذا المعنى. والمراد أن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا من الثقلين فلا يضر ذلك إلا أنفسكم فإنه سبحانه غني عن شكركم وطاعتكم، مستحق للحمد في ذاته، أو محمود تحمده الملائكة بل جميع الموجودات بلسان الحال، وضرر الكفران عائد إليكم حيث حرمتم من فضله تعالى ومزيد إنعامه وإكرامه. والحاصل إنكم إنما تركتم الإمام بالحق، وخلعتم بيعته من رقابكم، ورضيتم ببيعة أبي بكر لعلمكم بأن أمير المؤمنين عليه السلام لا يتهاون ولا يداهن في دين الله ولا تأخذه في الله لومة لائم، ويأمركم بارتكاب الشدائد في الجهاد وغيره، وترك ما تشتهون من زخارف الدنيا، ويقسم الفئ بينكم بالسوية، ولا يفضل الرؤساء والأمراء، وأن أبا بكر رجل سلس القياد، مداهن في الدين لإرضاء العباد، فلذا رفضتم الإيمان، وخرجتم عن طاعته سبحانه إلى طاعة الشيطان، ولا يعود وباله إلا إليكم. وفي الكشف: " إلا وقد أرى - أن قد أخلدتم إلى الخفض وركنتم إلى الدعة فمججتم الذي أوعيتم، ولفظتم الذي سوغتم " وفي رواية ابن أبي طاهر: " فعجتم عن الدين ". يقال: ركن إليه بفتح الكاف - وقد يكسر - أي مال إليه وسكن. وقال الجوهري: " وعجت بالمكان أعوج أي أقمت به. وعجت غيري، يتعدى ولا يتعدى. وعجت البعير: عطفت رأسه بالزمام. والعايج: الواقف. وذكر ابن الأعرابي: فلأن ما يعوج عن شئ أي ما يرجع عنه ". 491 حميد " (1) ألا وقد قلت ما قلت على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم (2)، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم (3)، ولكنها فيضة النفس (4)، ونفثة الغيظ (5)، وخور القنا (6)، وبثة الصدور (7)، وتقدمة الحجة (8). فدونكموها فاحتقبوها (9) دبرة الظهر (10)، نقبة الخف (11)، باقية العار (12)، موسومة بغضب الله وشنار الأبد (13)، موصولة بنار الله الموقدة (14) التي تطلع على
(1) إبراهيم: 8. وفيها " إن تكفروا ". (2) الخذلة: ترك النصر. و " خامرتكم " أي خالطتكم. (3) الغدر: ضد الوفاء. واستشعره أي لبسه، والشعار: الثوب الملاصق للبدن. (4) الفيض في الأصل كثرة الماء وسيلانه، يقال: فاض الخبر أي شاع، وفاض صدره بالسر أي باح به وأظهره، ويقال: فاضت نفسه أي خرجت روحه، والمراد به هنا إظهار المضمر في النفس لاستيلاء الهم وغلبة الحزن. (5) النفث بالضم شبيه بالنفخ، وقد يكون للمغتاظ تنفس عال تسكينا لحر القلب وإطفاء لنائرة الغضب. (6) الخور، بالفتح والتحريك: الضعف. والقنا: جمع قناة وهي الرمح، وقيل: كل عصا مستوية أو معوجة قناة. ولعل المراد بخور القنا ضعف النفس عن الصبر على الشدة وكتمان الضر أو ضعف ما يعتمد عليه في النصر على العدو، والأول أنسب. (7) البث: النشر والإظهار والهم الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثه أي يفرقه. (8) تقدمة الحجة: إعلام الرجل قبل وقت الحاجة قطعا لاعتذاره بالغفلة والحاصل أن استنصاري منكم وتظلمي لديكم وإقامة الحجة عليكم لم يكن رجاء للعون والمظاهرة، بل تسلية للنفس وتسكينا للغضب وإتماما للحجة، لئلا تقولوا يوم القيامة " إنا كنا عن هذا غافلين ". (9) الحقب، بالتحريك: حبل يشد به الرحل إلى بطن البعير، يقال: أحقبت البعير، أي شددته به، وكل ما شد في مؤخر رحل أو قتب فقد احتقب، ومنه قيل: احتقب فلان الإثم كأنه جمعه واحتقبه من خلفه، فظهر أن الأنسب في هذا المقام " أحقبوها " بصيغة الأفعال، أي شدوا عليها ذلك ، وهيأوها للركوب، لكن فيما وصل إلينا من الروايات علي بناء الافتعال. (10) الدبر، بالتحريك: الجرح في ظهر البعير، وقيل: جرح الدابة مطلقا. (11) النقب، بالتحريك: رقة خف البعير. (12) العار الباقي: عيب لا يكون في معرض الزوال. (13) وسمته وسما وسمة: إذا أثرت فيه بسمة وكي: والشنار: العيب والعار. (14) نار الله الموقدة: المؤججة على الدوام. والاطلاع على الأفئدة: إشرافها على القلوب بحيث يبلغ المها، كما يبلغ ظواهر البدن. وقيل: معناه أن هذه النار تخرج من الباطن إلى الظاهر بخلاف نيران الدنيا، وفي الكشف " أنها عليهم مؤصدة " والمؤصدة: المطبقة. 492 الأفئدة. فبعين الله ما تفعلون (1) " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب (2) ينقلبون (3) "، وأنا ابنة نذير لكم (4) بين يدي عذاب شديد، " فاعملوا (5) إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون (6) ". فأجابها أبو بكر عبد الله بن عثمان، فقال: يا ابنة رسول الله، لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفا كريما، رؤوفا رحيما، وعلى الكافرين عذابا أليما وعقابا عظيما، فإن عزوناه وجدناه أباك دون النساء، وأخا لبعلك دون الأخلاء، آثره على كل حميم، وساعده في كل أمر جسيم، لا يحبكم إلا كل سعيد، ولا يبغضكم إلا كل شقي، فأنتم عترة رسول الله صلى الله عليه وآله الطيبون، والخيرة المنتجبون، على الخير أدلتنا، وإلى الجنة مسالكنا، وأنت - يا خيرة النساء وابنة خير الأنبياء - صادقة في قولك، سابقة في وفور عقلك، غير مردودة عن حقك، ولا مصدودة عن صدقك، ووالله، ما عدوت رأي رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا ولا فضة ولا دارا ولا عقارا، وإنما نورث الكتب والحكمة، والعلم والنبوة، وما كان لنا من طعمة فلولي الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه ". وقد جعلنا ما حاولته في الكراع والسلاح يقابل به المسلمون، ويجاهدون الكفار، ويجالدون المردة (7) ثم الفجار. وذلك بإجماع من المسلمين لم أتفرد به وحدي، ولم
(1) أي متلبس بعلم الله أعمالكم ويطلع عليها كما يعلم أحدكم ما يراه ويبصره. وقيل في قوله تعالى: " تجري بأعيننا " أن المعنى تجري بأعين أولياؤنا من الملائكة والحفظة. (2) المنقلب: المرجع والمنصرف. " أي " منصوب على أنه صفة مصدر محذوف والعامل فيه " ينقلبون " لأن ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه وإنما يعمل فيه ما بعده والتقدير: " سيعلم الذين ظلموا ينقلبون انقلابا أي انقلاب ". (3) الشعراء: آية 227. (4) أي أنا ابنة من أنذركم بعذاب الله على ظلمكم، فقد تمت الحجة عليكم. (5) الأمر في " اعملوا " و " انتظروا " للتهديد. وأما قول الملعون: " الرائد لا يكذب أهله " * فهو مثل استشهد به في صدق الخبر الذي افتراه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم. الرايد: من يتقدم القوم يبصر لهم الكلاء ومساقط الغيث، جعل نفسه لاحتماله الخلافة التي هي الرياسة العامة بمنزلة الرائد للأمة الذي يجب عليه أن ينصحهم ويخبرهم بالصدق. * هذه الفقرة غير موجودة في الخطبة. (6) اقتباس من سورة هود: آية 121، و 122. (7) المجالدة: المضاربة بالسيوف. 493 أستبد (1) بما كان الرأي فيه عندي. وهذه حالي، ومالي هي لك وبين يديك، لا نزوي عنك (2) ولا ندخر دونك، وأنت سيدة أمة أبيك، والشجرة الطيبة لبنيك، لا يدفع ما لك من فضلك، ولا يوضع من فرعك وأصلك، (3) حكمك نافذ فيما ملكت يدأي، فهل ترين (4) أن أخالف في ذلك أباك صلى الله عليه وآله؟ فقالت (عليها السلام): سبحان الله! ما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن كتاب الله صادفا (5)، ولا لأحكامه مخالفا، بل كان يتبع أثره (6)، ويقفو سوره (7)، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالا عليه بالزور (8)، وهذا بعد وفاته شبيه بما بغي له من الغوائل في حياته (9). هذا كتاب الله حكما عدلا، وناطقا فصلا، يقول: " يرثني ويرث من آل يعقوب "، " وورث سليمان داود " فبين عز وجل فيما وزع عليه من الأقساط، وشرع من الفرايض والميراث، وأباح من حظ الذكران والإناث ما أزاح علة المبطلين (10)، وأزال التظني والشبهات في الغابرين (11)، كلا " بل سولت لكم أنفسكم (12) أمرا فصبر جميل (13) والله المستعان على
(1) استبد فلان بالرأي، أي انفرد به واستقل. (2) أي لا نقبض ولا نصرف. (3) أي لانحط درجتك ولا ننكر فضل أصولك وأجدادك وفروعك وأولادك. (4) ترين: من الرأي بمعنى الاعتقاد. (5) الصادف عن الشئ: المعرض عنه. (6) الأثر، بالتحريك وبالكسر: أثر القدم. (7) القفو: الاتباع والسور بالضم: كل مرتفع عال، ومنه سور المدينة، ويكون جمع سورة وهي كل منزلة من البناء، ومنه سورة القرآن، لأنها منزلة بعد منزلة، وتجمع على سور بفتح الواو، وفي العبارة يحتملها، والضماير المجرورة تعود إلى الله تعالى أو إلى كتابه والثاني أظهر. (8) الاعتلال: إبداء العلة والاعتذار، والزور: الكذب. (9) البغي: الطلب، والغوايل: المهالك والدواهي إشارات عليها السلام بذلك إلى ما دبروا - لعنهم الله - في إهلاك النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستيصال أهل بيته عليهم السلام في العقبتين وغيرهما مما أوردناه متفرقا. أقول: سيأتي الكلام في مواريث الأنبياء في باب المطاعن إن شاء الله تعالى. والتوزيع: التقسيم، والقسط بالكسر: والحصة والنصيب. (10) الإزاحة: الإذهاب والإبعاد. (11) التظني: إعمال الظن وأصله التظنن. والغابر: الباقي: وقد يطلق على الماضي. (12) التسويل: تحسين ما ليس بحسن وتزيينه وتحبيبه إلى الإنسان ليفعله أو يقوله: وقيل: هو تقدير معنى في النفس على الطمع في تمامه. (13) أي فصبري جميل أو الصبر الجميل أولى من الجزع الذي لا يغني شيئا. وقيل: إنما يكون الصبر جميلا إذا قصد به وجه الله تعالى وفعل للوجه الذي وجب، ذكره السيد المرتضى (رضي الله عنه). 494 ما تصفون " (1). فقال أبو بكر: صدق الله ورسوله، وصدقت ابنته، أنت معدن الحكمة، وموطن الهدى والرحمة، وركن الدين وعين الحجة، لا أبعد صوابك، ولا أنكر خطابك (2) هؤلاء المسلمون بيني وبينك، قلدوني ما تقلدت، وباتفاق منهم أخذت ما أخذت (3) غير مكابر ولا مستبد ولا مستأثر (4)، وهم بذلك شهود. فالتفتت فاطمة (عليها السلام) وقالت: معاشر الناس المسرعة إلى قيل الباطل (5)، المغضية (6) على الفعل القبيح الخاسر " أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (7) " (8) كلا بل ران على قلوبكم (9) ما أسأتم من أعمالكم، فأخذ بسمعكم وأبصاركم، ولبئس ما تأولتم (10)، وساء ما به أشرتم (11)، وشر ما منه اعتضتم (12)، لتجدن - والله - محمله ثقيلا (13)، وغبه وبيلا (14) إذا كشف لكم الغطاء، وبان ما وراءه
(1) يوسف: آية 18. (2) من المصدر المضاف إلى الفاعل. (3) مراده بما تقلدوا ما أخذ فدك أو الخلافة، أي أخذت الخلافة بقول المسلمين واتفاقهم فلزمني القيام بحدودها التي من جملتها أخذ فدك، للحديث المذكور. (4) المكابرة: المغالبة والاستبداد والاستيثار: الانفراد بالشئ. (5) القيل بمعنى القول، وكذا القال، وقيل: القول في الخير، والقيل والقال في الشر، وقيل: القول مصدر، والقيل والقال اسمان له. (6) الإغضاء: إدناء الجفون، وأغضى على الشئ، أي سكت ورضي به. (7) روي عن الصادق والكاظم عليهما السلام في الآية: أن المعنى: أفلا يتدبرون القرآن فيقضوا بما عليهم من الحق؟ وتنكير القلوب لإرادة قلوب هؤلاء ومن كان مثلهم من غيرهم. (8) محمد: آية 24. (9) الرين: الطبع والتغطية، وأصله الغلبة. (10) التأول والتأويل: التصيير والإرجاع ونقل الشئ عن موضعه، ومنه تأويل الألفاظ أي نقل اللفظ عن الظاهر. (11) الإشارة: الأمر بأحسن الوجوه في أمر. (12) شر - كفر - بمعنى ساء - والاعتياض: أخذ العوض والرضاء به، والمعنى: ساء ما أخذتم منه عوضا عما تركتم. (13) المحمل - كمجلس - مصدر. (14) الغب، بالكسر: العاقبة، والوبال، في الأصل: الثقل والمكروه، ويراد به في عرف الشرع عذاب الآخرة، والعذاب الوبيل: الشديد. 495 الضراء (1)، " وبدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون (2) " (3) و " خسر هنالك المبطلون (4) " (5). ثم عطفت على قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالت: (6) قد كان بعدك أنباء وهنبثة * لو كنت شاهدها لم تكبر الخطب إنا فقدناك فقد الأرض وابلها * واختل قومك فاشهدهم وقد نكبوا (7) وكل أهل له قربى ومنزلة * عند الإله على الأدنين مقترب (8)
(1) الضراء، بالفتح والتخفيف: الشجر الملتف كما مر، يقال: توارى الصيد مني في ضراء، والوراء يكون بمعنى قدام كما يكون بمعنى خلف، وبالأول فسر قوله تعالى: " وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ". ويحتمل أن تكون الهاء زيدت من النساخ، أو الهمزة، فيكون على الأخير بتشديد الراء من قولهم " وري الشئ تورية " أي أخفاه، وعلى التقادير فالمعنى: وظهر لكم ما ستره عنكم الضراء. (2) اقتباس من سورة الزمر، 47. (3) أي ظهر لكم من صنوف العذاب ما لم تكونوا تنتظرونه ولا تظنونه واصلا إليكم ولم يكن في حسبانكم. (4) الغافر: آية 78. (5) المبطل: صاحب الباطل، من أبطل الرجل: إذا أتى بالباطل. (6) في الكشف: " ثم التفتت إلى قبر أبيها متمثلة بقول هند ابنة أثاثة " ثم ذكر الأبيات. (7) قال في النهاية: " الهنبثة: واحدة الهنابث، وهي الأمور الشداد المختلفة، والهنبثة: الاختلاط في القول، والنون زائدة " وذكر " فيه: أن فاطمة عليها السلام قالت بعد موت النبي صلى الله عليه وآله: " قد كان بعدك أنباء " إلى آخر البيتين، إلا أنه قال: " فاشهدهم ولا تغب ". والشهود: الحضور، والخطب، بالفتح: الأمر الذي تقع فيه المخاطبة، والشأن والحال، والوابل: المطر الشديد ونكب فلان عن الطريق - كنصر وفرح - أي عدل ومال. (8) القربى، في الأصل: القرابة في الرحم. والمنزلة: المرتبة والدرجة، ولا تجمع. والأدنين: هم الأقربون. واقترب أي تقارب. وقال في مجمع البيان: " في اقترب زيادة مبالغة على قرب. كما أن في اقتدر زيادة مبالغة على قدر ". ويمكن تصحيح تركيب البيت وتأويل معناه على وجوه: الأول، وهو الأظهر: أن جملة " له قربى " صفة لأهل، والتنوين في " منزلة " للتعظيم. والظرفان متعلقان بالمنزلة لما فيها من معنى الزيادة والرجحان، و " متقرب " خبر لكل، أي ذو القرب الحقيقي، أو عند ذي الأهل كل أهل كانت له مزية وزيادة على غيره من الأقربين عند الله تعالى. والثاني: تعلق الظرفين بقولها " مقترب " أي كل أهل له قرب ومنزلة من ذي الأهل فهو بين عند الله تعالى مقترب مفضل على ساير الأدنين. والثالث: تعلق الظرف الأول بالمنزلة، والثاني بالمقترب، أي كل أهل اتصف بالقربى بالرجل وبالمنزلة عند الله، فهو مفضل على من هو أبعد منه. والرابع: أن يكون جملة " له قربى " خبرا للكل، و " مقترب " خبرا ثانيا، وفي الظرفين يجري الاحتمالات السابقة، والمعنى: أن كل أهل نبي من الأنبياء له قرب ومنزلة عند الله ومفضل على ساير الأقارب عند الأمة. 496 أبدت رجال لنا نجوى صدورهم * لما مضيت وحالت دونك الترب (1) تجهمتنا رجال واستخف بنا * لما فقدت وكل الأرض مغتصب (2) وكنت بدرا وقورا يستضاء به * عليك تنزل من ذي العزة الكتب وكان جبريل بالآيات يؤنسنا * فقد فقدت فكل الخير محتجب (3) فليت قبلك كان الموت صادفنا * لما مضيت وحالت دونك الكثب (4) إنا رزئنا بما لم يرز ذو شجن * من البرية لا عجم ولا عرب (5) ثم انكفأت (عليها السلام) وأمير المؤمنين (عليه السلام) يتوقع رجوعها إليه، ويتطلع طلوعها عليه (6). فلما استقرت بها الدار (7) قالت لأمير المؤمنين (عليه السلام): يا بن أبي طالب! اشتملت شملة الجنين (8)،
(1) بدا الأمر بدوا: ظهر، وأبداه: أظهر. والنجوى: الاسم من نجوته. إذا ساررته، ونجوى صدورهم: ما أضمروه في نفوسهم من العداوة ولم يتمكنوا من إظهاره في حياته (صلى الله عليه وآله وسلم). وفي بعض النسخ: " فحوى صدورهم "، وفحوى القول: معناه، المآل واحد. وقال الفيروزآبادي: " الترب والتراب، معروف. وجمع التراب: أتربة وتربان، ولم يسمع لسايرها بجمع " انتهى. فيمكن أن يكون بصيغة المفرد، والتأنيث بتأويل الأرض، كما قيل، والأظهر أنه بضم التاء وفتح الراء: جمع تربة، قال في مصباح اللغة: " التربة: المقبرة، والجمع: ترب، مثل غرفة وغرف ". وحال الشئ بيني وبينك أي منعني من الوصول إليك، ودون الشئ: قريب منه، يقال: دون النهر جماعة، أي قبل أن تصل إليه. (2) التهجم: الاستقبال بالوجه الكريه، والمغتصب علي بناء المفعول: المغصوب. (3) المحتجب علي بناء الفاعل. (4) صادفه: وجده ولقيه. والكثب، بضمتين: جمع كثيب وهو التل من الرمل. (5) الرزء، بالضم مهموزا: المصيبة بفقد الأعزة، ورزينا علي بناء المجهول، والشجن بالتحريك: الحزن. وفي القاموس: " العجم، بالضم وبالتحريك، خلاف العرب ". أقول: وجدت في نسخة قديمة لكشف الغمة منقولة من خط المصنف مكتوبا على هامشها بعد إيراد خطبتها - صلوات الله عليها - ما هذا لفظه: وجد بخط السيد المرتضى علم الهدى الموسوي - قدس الله روحه - أنه لما خرجت فاطمة عليها السلام من عند أبي بكر ردها عن فدك استقبلها أمير المؤمنين عليه السلام فجعلت تعنفه ثم قالت: اشتملت إلى آخر كلامها عليها السلام. (6) الانكفاء: الرجوع. وتوقعت الشئ واستوقعته، أي انتظرت وقوعه. وطلعت على القوم: أتيتهم. وتطلع الطلوع. انتظاره. (7) أي سكنت كأنها اضطربت وتحركت لخروجها، أو على سبيل القلب، وهذا شايع، يقال: استقرت نوى القوم واستقرت بهم النوى، أي أقاموا. (8) اشتمل بالثوب أي أداره على جسده كله. والشملة، بالفتح: كساء يشتمل به. والشملة، بالكسر: هيئة الاشتمال، فالشملة إما مفعول مطلق من غير الباب كقوله تعالى: " نباتا "، أو في الكلام حذف وإيصال. وفي رواية السيد: " مشية الجنين " وهي محل الولد في الرحم، ولعله أظهر. والجنين: الولد ما دام في البطن. 497 وقعدت حجرة الظنين (1)! نقضت قادمة الأجدل (2)، فخانك ريش الأعزل (3)، هذا ابن أبي قحافة (4) يبتزني نحيلة أبي وبلغة ابني (5)، لقد أجهر في خصامي (6)، وألفيته ألد في كلامي (7)، حتى حبستني قيلة نصرها، والمهاجرة وصلها (8)، وغضت الجماعة
(1) الحجرة، بالضم: حظيرة الإبل، ومنه حجرة الدار. والظنين: المتهم، والمعنى: اختفيت عن الناس الجنين، وقعدت عن طلب الحق ونزلت منزلة الخائف المتهم. وفي رواية السيد: " الحجزة " بالزاء المعجمة. وفي بعض النسخ: " قعدت حجزة الظنين ". وقال في النهاية: " الحجزة: موضع شد الإزار، ثم قيل للإزار حجزة، للمجاورة ". وفي القاموس: " الحجزة، بالضم: معقد الإزار، ومن الفرس: مركب مؤخر الصفات بالحقو. " وقال: " شدة الحجزة كناية عن الصبر ". (2) قوادم الطير: مقاديم ريشه، وهي عشر في كل جناح، واحدتها: قادمة. والأجدل: الصقر. (3) الأعزل الذي لا سلاح معه. قيل: لعلها - صلوات الله عليها - شبهت الصقر الذي نقضت قوادمه. بمن لا سلاح له. والمعنى: تركت طلب الخلافة في أول الأمر قبل أن يتمكنوا منها ويشيدوا أركانها، وظننت أن الناس لا يرون غيرك أهلا للخلافة، ولا يقدمون عليك أحدا، فكنت كمن يتوقع الطيران من صقر منقوضة القوادم. أقول: يحتمل أن يكون المراد أنك نازلت الأبطال، وخضت الأهوال، ولم تبال بكثرة الرجال حتى نقضت شوكتهم، واليوم غلبت من هؤلاء الضعفاء والأرذال، وسلمت لهم الأمر ولا تنازعهم. وعلى هذا، الأظهر أنه كان في الأصل " خاتك " بالتاء المثناة الفوقانية فصحف. قال الجوهري: " خات البازي واختات، أي انقض ليأخذه " وقال الشاعر: " يخوتون أخرى القوم خوت الأجادل ". والخائتة: العقاب إذا انقضت فسمعت صوت انقضاضها. والخوات: دوي جناح العقاب. والخوات، بالتشديد: " الرجل الجرئ ". وفي رواية السيد: " نفضت " بالفاء، وهو يؤيد المعنى الأول. (4) قحافة بضم القاف وتخفيف المهملة. (5) الابتزاز: الاستلاب وأخذ الشئ بقهر وغلبة، من البز بمعنى السلب. والنحلة: فعيلة مفعول، من النحلة - بالكسر - بمعنى الهبة والعطية عن طيبة نفس من غير مطالبة أو من غير عوض. والبلغة، بالضم: ما يتبلغ به من العيش يكتفي به. وفي أكثر النسخ: " بليغة " بالتصغير، فالتصغير في النحيلة أيضا أنسب. وابني إما بتخفيف الياء، فالمراد به الجنس، أو تشديدها على التثنية. (6) إجهاز الشئ: إعلانه. والخصام: مصدر كالمخاصمة، ويحتمل أن يكون جمع خصم، أي أجهر العداوة أو الكلام لي بين الخصام، والأول أظهر. (7) " ألفيته " أي وجدته. والألد: شديد الخصومة، وليس فعلا ماضيا، فإن فعله علي بناء المجرد. * والإضافة في " كلامي " أما من قبيل الإضافة إلى المخاطب أو إلى المتكلم. و " في " للظرفية أو السببية. وفي رواية السيد " هذا بني أبي قحافة - إلى قوله - لقد أجهد في ظلامتي، وألد في خصامتي ". قال الجزري: " يقال جهد الرجل في الأمر، إذا جد وبالغ فيه. واجهد دابته، إذا حمل عليها في السير فوق طاقتها ". * قد أتى فعله علي بناء الأفعال أيضا كما في القاموس وغيره. (8) قيلة، بالفتح: اسم أم قديمة لقبيلتي الأنصار، والمراد بنو قيلة. وفي رواية السيد: " حين منعتني الأنصار نصرها " وموصوف المهاجرة الطائفة أو نحوها. والمراد بوصلها عونها. 498 دوني طرفها (1)، فلا دافع ولا مانع، خرجت كاظمة، وعدت راغمة (2)، أضرعت خدك (3) يوم أضعت حدك (4)، افترست الذئاب، افترشت التراب (5)، ما كففت قائلا، ولا أغنيت باطلا (6)، ولا خيار لي. ليتني مت قبل هنيتي (7) ودون زلتي (8). عذيري الله منك عاديا ومنك حاميا (9).
(1) الطرف، بالفتح: العين. وغضه: حفظه. (2) في رواية السيد بعد قولها " ولا مانع ولا ناصر ولا شافع ": " خرجت كاظمة، وعدت راغمة "، كظم الغيظ: تجرعه والصبر عليه. ورغم فلان، بالفتح: إذا ذل وعجز عن الانتصاف ممن ظلمه. والظاهر من الخروج، الخروج من البيت وهو لا يناسب " كاظمة " إلا أن يراد بها الامتلاء من الغيظ فإنه من لوازم الكظم. ويحتمل أن يكون المراد الخروج من المسجد المعبر عنه ثانيا بالعود، كما قيل في رواية السيد مكان " عدت " " رجعت ". (3) ضرع الرجل، مثلثة: خضع وذل. وأضرعه غيره. وإسناد الضراعة إلى الخد، لأنه أظهر أفرادها وضع الخد على التراب، أو لأن الذل يظهر في الوجه. (4) إضاعة الشئ وتضييعه: إهماله وإهلاكه. وحد الرجل، بالحاء المهملة: بأسه وبطشه. وفي بعض النسخ بالجيم، أي تركت اهتمامك وسعيك. وفي رواية السيد: " فقد أضعت جدك يوم أصرعت خدك ". (5) فرس الأسد فريسته - كضرب - وافترستها: دق عنقها، ويستعمل في كل قتل. ويمكن أن يقرأ بصيغة الغايب، فالذئاب مرفوع، والمعنى: قعدت عن طلب الخلافة ولزمت الأرض مع أنك أسد الله والخلافة كانت فريستك، حتى افترسها وأخذها الذئب الغاصب لها. ويحتمل أن يكون بصيغة الخطاب، أي كنت تفترس الذئاب واليوم افترشت التراب. وفي بعض النسخ: " الذباب " بالبائين الموحدتين، جمع ذبابة، فيتعين الأول. وفي بعضها: " افترست الذئاب، وافترسك الذئاب ". وفي رواية السيد مكانهما: " وتوسدت الوراء كالوزع، ومستك الهناة والنزع "، والوراء بمعنى خلف والهناة: الشدة والفتنة. والنزع: الطعن والفساد. (6) الكف: المنع. والإغناء: الصرف والكف، يقال: اغن عني شرك، أي اصرفه وكفه و " و " به فسر قوله سبحانه: " إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا " وفي رواية السيد: " ولا أغنيت طائلا " وهو أظهر. قال الجوهري: " يقال: هذا أمر لا طائل فيه، إذا لم يكن فيه غناء ومزية " انتهى. فالمراد بالغناء: النفع، ويقال: ما يغني عنك هذا، أي ما يجديك وما ينفعك. (7) الهنية بالفتح: العادة في الرفق والسكون، ويقال: امش على هنيتك، أي على رسلك، أي ليتني مت قبل هذا اليوم الذي لا بد لي من الصبر على ظلمهم ولا محيص لي عن الرفق. (8) الزلة، بفتح الزاي كما في النسخ: الاسم من قولك: زللت في طين أو منطق، إذا زلقت، ويكون بمعنى السقطة، والمراد بها عدم القدرة على دفع الظلم، ولو كانت الكلمة بالذال المعجمة كان أظهر وأوضح كما في رواية السيد، فإن فيها: " والهفتاه! ليتني مت قبل ذلتي ودون هنيتي ". (9) العذير بمعنى العاذر كالسميع، أو بمعنى العذر كالأليم. وقولها " منك " أي من أجل الإساءة إليك وإيذائك. و " عذيري الله " مرفوعان بالابتدائية والخبرية. و " عاديا " أما من قولهم: عدوت فلانا عن الأمر أي صرفته عنه، أو من العدوان بمعنى تجاوز الحد، وهو حال عن ضمير المخاطب، أي الله يقيم العذر من قبلي في إساءتي إليك حال صرفك المكاره ودفعك الظلم عني، أو حال تجاوزك الحد في القعود عن نصري، أي عذري في سوء الأدب إنك قصرت في إعانتي والذب عني. والحماية عن الرجل: الدفع عنه. ويحتمل أن يكون " عذيري " منصوبا كما هو الشايع في هذه الكلمة، و " الله " مجرورا بالقسم، يقال: عذيرك من فلان أي هات من يعذرك فيه. ومنه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) حين نظر إلى ابن ملجم - لعنه الله -: " عذيرك من حليلك من مراد ". والأول أظهر. 499 ويلاي في كل شارق (1)، مات العمد (2)، ووهت العضد. شكواي إلى أبي، وعدواي إلى ربي (3). اللهم أنت أشد قوة وحولا (4)، وأحد بأسا وتنكيلا (5). فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا ويل عليك، الويل لشانئك (6)، نهنهي عن وجدك يا ابنة الصفوة (7) وبقية النبوة، فما ونيت عن ديني، ولا أخطأت مقدوري (8)، فإن كنت تريدين البلغة فرزقك مضمون، كفيلك مأمون، وما أعد لك أفضل مما قطع عنك (9)،
(1) قال الجوهري: " ويل " كلمة مثل ويح إلا أنها كلمة عذاب، يقال: ويله وويلك وويلي، وفي الندبة ويلاه ". ولعله جمع بين ألف الندبة وياء المتكلم. ويحتمل أن يكون بصيغة التثنية، فيكون مبتدأ والظرف خبره، والمراد به تكرر الويل. وفي رواية السيد: " ويلاه في كل شارق، ويلاه في كل غارب، ويلاه مات العمد، وذل العضد - إلى قولها (عليها السلام) - اللهم أنت أشد قوة وبطشا ". والشارق: الشمس، أي عند كل شروق شارق وطلوع صباح كل يوم. قال الجوهري: " والشرق: المشرق، والشرق: الشمس، يقال: طلع الشرق، ولا آتيك ما ذر شارق، وشرقت الشمس تشرق شروقا، وشرقا، أيضا، أي طلعت، أشرقت أي أضاءت ". (2) العمد، بالتحريك وبضمتين: جمع العمود. ولعل المراد هنا ما يعتمد عليه في الأمور. (3) الشكو: الاسم من قولك: شكوت فلانا شكاية. والعدوي: طلبك إلى وال لينتقم لك ممن ظلمك. (4) الحول: القوة والحيلة والدفع والمنع، والكل هنا محتمل. (5) البأس: العذاب. والتنكيل: العقوبة، وجعل الرجل نكالا وعبرة لغيره. (6) العذاب والشر لمبغضك، والشناءة: البغض. وفي رواية السيد: " لمن أحزنك ". (7) نهنهت الرجل عن الشئ فتنهنه، أي كففته وزجرته فكف. والوجد: الغضب أي امنعي نفسك عن غضبك، وفي بعض النسخ: " تنهنهي " وهو أظهر. والصفوة، مثلثة: خلاصة الشئ وخياره. (8) الونى، كفتي: الضعف والفتور والكلال، والفعل كوقى يقي، أي ما عجزت عن القيام بما أمرني به ربي، وما تركت ما دخل تحت قدرتي. (9) البلغة، بالضم: ما يتبلغ به من العيش، والضامن والكفيل للرزق هو الله تعالى. وما أعد لها هو ثواب الآخرة. 500 فاحتسبي الله (1)، فقالت: حسبي الله، وأمسكت (2). كلامها (عليها السلام) مع نساء المهاجرين والأنصار عندما يعدنها روى العلامة المجلسي (رحمه الله) عن الشيخ الثقة الصدوق (رحمه الله): حدثنا أحمد بن الحسن القطان، قال: حدثنا عبد الرحمان بن محمد الحسيني، قال: حدثنا أبو الطيب محمد بن الحسين بن حميد اللخمي، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن زكريا، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمان المهلبي، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن سليمان، عن أبيه، عن عبد الله بن ا لحسن، عن أمه فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) قالت: لما اشتدت علة فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وغلبها، اجتمع عندها نساء المهاجرين والأنصار، فقلت لها، يا بنت رسول الله: كيف أصبحت عن علتك؟ فقالت (عليها السلام): أصبحت والله عائفة لدنياكم (3)، قالية لرجالكم (4)، لفظتهم قبل أن عجمتهم (5)، وشنئتهم بعد أن سبرتهم (6)، فقبحا
(1) الاحتساب: الاعتداد. ويقال لمن ينوي بعمله وجه الله تعالى: احتسبه. أي اصبري وادخري ثوابه عند الله تعالى. وفي رواية السيد: " فقال لها أمير المؤمنين عليه السلام: لا ويل لك، بل الويل لمن أحزنك، نهنهي عن وجدك يا بنية الصفوة وبقية النبوة، فما ونيت عن حظك، ولا أخطأت (مقدرتي)، فقد ترين. فإن ترزئي حقك، فرزقك مضمون، وكفيلك مأمون، وما عند الله خير لك مما قطع عنك. فرفعت يدها الكريمة وقالت: رضيت وسلمت ". قال في القاموس: " رزأه ماله - كجعله وعلمه - رزءا، بالضم: أصاب منه شيئا ". (2) " بحار الأنوار " ج 8، ص 109 - 112، ط الكمباني. وإنما أوردنا الخطبة من نفس المصدر لا من " الاحتجاج " لأن الألفاظ المفسرة كانت على نسخة المؤلف (ره)، ولها اختلاف معتد به مع النسخة المطبوعة من " الاحتجاج " وقد أشير إلى موارده في ضمن الشرح. (3) عائفة: أي كارهة، يقال: عاف الرجل الطعام يعافه عيافا إذا كرهه. (4) القالية: المبغضة، قال تعالى: " ما ودعك ربك وما قلى ". (5) لفظت الشئ من فمي: أي رميته وطرحته. العجم: العض، تقول: عجمت العود أعجمه - بالضم - إذا عضضته. (6) شنأة، كمنعه وسمعه: أبغضه، وسبرتهم: أي اختبرتهم. فعلى ما في أكثر الروايات المعنى: طرحتهم وأبغضتهم بعد امتحانهم ومشاهدة سيرتهم وأطوارهم. وعلى رواية الصدوق المعنى: أني كنت عالمة بقبح سيرتهم وسوء سريرتهم فطرحتهم ثم لما اختبرتهم شنأتهم وأبغضتهم، أي تأكد إنكاري بعد الاختبار. ويحتمل أن يكون الأول إشارة إلى شناعة أطوارهم الظاهرة، والثاني إلى خبث سرائرهم الباطنة. 501 لفلول الحد (1)، وخور القناة (2)، وخطل الرأي (3)، " بئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون " (4) لا جرم لقد قلدتهم ربقتها، وشننت عليهم غارها (5)، فجدعا وعقرا وسحقا للقوم الظالمين (6). ويحهم أنى زحزحوها عن رواسي الرسالة (7)، وقواعد النبوة، ومهبط الوحي الأمين، والطبين بأمر الدنيا والدين (8)، ألا ذلك هو الخسران المبين، وما نقموا من أبي الحسن (9)، نقموا والله منه نكير سيفه (10)، وشدة وطئه (11)، ونكال وقعته (12)، وتنمره في ذات الله عز وجل (13).
(1) قبحا، بالضم: مصدر حذف فعله، أما من قولهم: قبحه الله قبحا، أو من قبح بالضم قباحة، فحرف الجر على الأول داخل على المفعول، وعلى الثاني على الفاعل. والفلول بالضم: جمع فل بالفتح، وهو الثملة والكسر في حد السيف، وحكى الخليل في " العين " أنه يكون مصدرا، ولعله أنسب بالمقام، وحد الشئ: شباته، وحد الرجل بأسه. (2) الخور بالفتح وبالتحريك: الضعف. والقناة: الرمح. (3) الخطل بالتحريك: المنطق الفاسد المضطرب، وخطل الرأي: فساده واضطرابه. (4) المائدة: 80. (5) الشن: رش الماء رشا متفرقا والسن بالمهملة: الصب المتصل، ومنه قولهم: شنت عليهم الغارة إذا فرقت عليهم من كل وجه. (6) الجدع قطع الأنف أو الأذن أو الشفة، وهو بالأنف أخص، ويكون بمعنى الحبس. والعقر بالفتح: الجرح، ويقال في الدعاء على الإنسان: عقرا له وحلقا، أي عقر الله جسده وأصابه بوجع في حلقه، وأصابه بوجع في حلقه، وأصل العقر: ضرب قوائم البعير أو الشاة بالسيف ثم اتسع فيه فاستعمل في القتل والهلاك، وهذه المصادر يجب حذف الفعل منها. والسحق بالضم: البعد. (7) ويح كلمة تستعمل في الترحم والتوجع والتعجب، والزحزحة: التنحية والتبعيد. والزعزعة: بالتحريك. والرواسي من الجبال: الثوابت الرواسخ. وقواعد البيت: أساسه. (8) الطبين، هو بالطاء المهملة والباء الموحدة: الفطن الحاذق. (9) في كشف الغمة: " وما الذي نقموا من أبي الحسن ". يقال: نقمت على الرجل كضربت، وقال الكسائي: كعلمت لغة، أي عتبت عليه وكرهت شيئا منه. (10) التنكير: الإنكار، والتنكير: التغير عن حال يسرك إلى حال تكرهها، والاسم: النكير، وما هنا يحتمل المعنين، والأول أظهر أي إنكار سيفه فإنه عليه السلام كان لا يسل سيفه إلا لتغيير المنكرات. (11) الوطأة: الأخذة الشديدة والضغطة، وأصل الوطئ: الدوس بالقدم ويطلق على الغزو والقتل لأن من يطأ الشئ فقد استقصى في هلاكه وإهانته. (12) النكال: العقوبة التي تنكل الناس. والوقعة: صدمة الحرب. (13) تنمر فلان: أي تغير وتنكر وأوعد، لأن النمر لا تلقاه أبدا إلا متنكرا غضبان. " في ذات الله "، قال الطيبي: ذات الشئ: نفسه وحقيقته، والمراد ما أضيف إليه، وقال الطبرسي في قوله تعالى: " وأصلحوا ذات بينكم ": كناية عن المنازعة والخصومة، والذات: هي الخلقة والبينة، يقال: فلان في ذاته صالح: أي في خلقته وبينته، يعني اصلحوا نفس كل شئ بينكم، أو اصلحوا حال كل نفس بينكم، وقيل: معناه: وأصلحوا حقيقة وصلكم، وكذلك معنى اللهم أصلح ذات البين: أي أصلح الحال التي بها يجتمع المسلمون. انتهى. أقول: فالمراد بقولها: في ذات الله، أي في الله ولله، بناء على أن المراد بالذات الحقيقة، أو في الأمور والأحوال التي تتعلق بالله من دينه وشرعه وغير ذلك كقوله تعالى: " إنه عليم بذات الصدور " أي المضمرات التي في الصدور. 502 والله لو تكافوا عن زمام نبذه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إليه لاعتلقه (1)، ولسار بهم سيرا سجحا (2)، لا يكلم خشاشه (3)، ولا يتعتع راكبه (4)، ولأوردهم منهلا نميرا فضفاضا (5) تطفح ضفتاه (6) ولأصدرهم بطانا (7)، قد تحير بهم الري (8) غير متحل منه بطائل إلا بغمر الماء (9) وردعة شررة الساغب (10)، ولفتحت عليهم بركات من
(1) التكاف، تفاعل من الكف: هو الدفع والصرف، والزمام ككتاب: الخيط الذي يشد في البرة والخشاش ثم يشد في طرفه المقود، وقد يسمى المقود زماما. ونبذه: أي طرحه. وفي " الصحاح ": " اعتلقه: أي أحبه " ولعله هنا بمعنى تعلق به وإن لم أجد فيما عندنا من كتب اللغة. (2) السجح، بضمتين: اللين السهل. (3) الكلم: الجرح والخشاش بكسر الخاء المعجمة: ما يجعل في أنف البعير من خشب ويشد به الزمام ليكون أسرع لانقياده. (4) تعتعت الرجل: أي أقلقته وأزعجته. (5) المنهل: المورد، وهو عين ماء ترده الإبل في المراعي، وتسمى المنازل التي في المفاوز على طرق السفار: مناهل، لأن فيها ماء، قاله الجوهري، وقال: ماء نمير: أي ناجع، عذبا كان أو غيره. وقال الصدوق نقلا عن الحسين بن عبد الله بن سعيد العسكري: النمير: الماء النامي في الجسد (في الحشد - ظ). وقال الجوهري: " الروي سحابة عظيمة القطر، شديدة الوقع ويقال: شربت شربا رويا " والفضفاض: الواسع، يقال: ثوب فضفاض، وعيش فضفاض، ودرع فضفاضة. (6) تطفح: أي تمتلئ حتى تفيض. وضفتا النهر بالكسر وقيل: وبالفتح أيضا: جانباه. (7) بطن كعلم: عظم بطنه من الشبع، ومنه الحديث: تغدو خماصا وتروح بطانا، والمراد عظم بطنهم من الشرب. (8) تحير الماء: أي اجتمع ودار كالمتحير، يرجع أقصاه إلى أدناه، ويقال: تحيرت الأرض بالماء، إذا امتلأت، ولعل الباء بمعنى في، أي تحير فيهم الري، أو للتعدية، أي صاروا حيارى لكثرة الري. والري بالكسر والفتح: ضد العطش. وفي رواية الشيخ: " قد خثر " بالخاء المعجمة والثاء المثلثة: أي أثقلهم، من قولك: أصبح فلا خاثر النفس أي ثقيل النفس غير طيب ولا نشيط. (9) حلي منه بخير: كرضي: أي أصاب خيرا، وقال الجوهري: " قولهم: لم يحل منها بطائل، أي يستفاد منها كثير فائدة ". والتحلي: التزين، والطائل: الغناء والمزية والسعة والفضل. (10) الردع: الكف والدفع. والردعة: الدفعة منه، وفي جميع الروايات سوى معاني، الأخبار: " سورة الساغب " وفيه " شررة الساغب "، ولعله من تصحيف النساخ. والشرر: ما يتطاير من النار، ولا يبعد أن يكون من الشره بمعنى الحرص، وسورة الشئ بالفتح: حدته وشدته. والسغب: الجوع. 503 السماء والأرض، وسيأخذهم الله بما كانوا يكسبون. ألا هلم فاسمع وما عشت أراك الدهر العجب (1)، وإن تعجب فقد أعجبك الحادث! إلى أي سناد استندوا، وبأي عروة تمسكوا، استبدلوا الذنابى والله بالقوادم (2)، والعجز بالكاهل (3)، فرغما لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون (4)، * (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) * (5). أما لعمر إلهك (6) لقد لقحت (7) فنظرة ريث ما
(1) في رواية ابن أبي الحديد: " ألا هلمن فاسمعن، وما عشتن أراكن الدهر عجبا، إلى أي لجأوا واستندوا، وبأي عروة تمسكوا؟ لبئس المولى ولبئس العشير ولبئس للظالمين بدلا ". قال الجوهري: " هلم يا رجل، بفتح الميم: بمعنى تعال، يستوي فيه الواحد والجمع والتأنيث، في لغة أهل الحجاز، وأهل نجد يصرفونها فيقولون للاثنين: هلما، وللجمع هلموا، وللمرأة: هلمي، وللنساء هلمن، والأول أفصح، وإذا أدخلت عليه النون الثقيلة قلت: هلمن يا رجل، وللمرأة هلمن بكسر الميم، وفي التثنية هلمان للمؤنث والمذكر جميعا، وهلمن يا رجال بضم الميم، وهلممنان يا نسوة " انتهى، وعلى الروايات الأخر الخطاب عام. وما عشتن: أي أراكن الدهر شيئا عجيبا لا يذهب عجبه وغرابته مدة حياتكن، أو يتجدد لكن كل يوم أمر عجيب متفرع على هذا الحادث الغريب. (2) الذنابي: بالضم: ذنب الطائر، ومنبت الذنب، والذنابي، في الطائر أكثر استعمالا من الذنب، وفي الفرس والبعير ونحوهما الذنب أكثر، وفي جناح الطائر أربع ذنابي بعد الخوافي، وفي الفرس والبعير ونحوهما الذنب أكثر، وفي جناح الطائر أربع ذنابي بعد الخوافي وهي ما دون الريشات العشر من مقدم الجناح التي تسمى قوادم، والذنابي من الناس: السفلة والأتباع. (3) العجز كالعضد: مؤخر الشئ، يؤنث ويذكر، وهو للرجل والمرأة جميعا، والكاهل: الحارك، وهو ما بين الكتفين، وكاهل القوم: عمدتهم في المهمات وعدتهم للشدائد والملمات. (4) رغما، مثلثة: مصدر رغم أنفه أي لصق بالرغام، بالفتح، وهو التراب، ورغم الأنف يستعمل في الدل والعجز عن الانتصار، والانقياد على كره. والمعاطس جمع معطس بالكسر والفتح وهو الأنف، وقال الجوهري: " شعرت بالشئ أشعر به شعرا أي فطنت له ومنه قولهم: ليت شعري، أي ليتني علمت ". واللجأ محركة: الملاذ والمعقل كالملجأ، ولجأت إلى فلان إذا استندت إليه واعتضدت به. والسند: ما يستند إليه. (5) يونس: 35. (6) في بعض نسخ ابن أبي الحديد: " أما لعمر الله " وفي بعضها: " أما لعمر إلهكن "، والعمر بالفتح والضم بمعنى: العيش الطويل، ولا يستعمل في القسم إلا العمر بالفتح، ورفعه بالابتداء، أي لعمر الله قسمي، ومعنى عمر الله بقاؤه ودوامه. (7) لقحت كعلمت: أي حملت، والفاعل فعلتهم، أو فعالهم، أو الفتنة، أو الأزمنة. 504 تنتج (1) ثم احتلبوا طلاع القعب دما عبيطا (2)، وذعافا ممقرا (3)، هنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غب ما سن الأولون (4)، ثم طيبوا عن أنفسكم نفسا (5)، وطأمنوا للفتنة جأشا (6)، وأبشروا بسيف صارم (7)، وهرج شامل (8)، واستبداد من الظالمين (9)، يدع فيئكم زهيدا (10)، وزرعكم حصيدا (11) فيا حسرتي لكم وأنى بكم (12)، وقد عميت [قلوبكم] عليكم أنلزمكموها (13) وأنتم لها كارهون (14).
(1) النظرة بفتح النون وكسر الظاء: التأخير، واسم يقوم مقام الأنظار، ونظرة إما مرفوع بالخبرية والمبتدأ محذوف كما في قوله: " فنظرة إلى ميسرة " أي فالواجب نظرة ونحو ذلك، وإما منصوب بالمصدرية، أي انتظروا " أو انظروا " نظرة قليلة، والأخير أظهر كما اختاره الصدوق. وريثما تنتج: أي قدر ما تنتج، يقال: نتجت الناقة - على ما لم يسم فاعله - تنتج نتاجا وقد نتجها أهلها نتجا - وأنتجت الفرس: إذا حان نتاجها. (2) القعب: قدح من خشب يروي الرجل، أو قدح ضخم. واحتلاب طلاع القعب: هو أن يمتلئ من اللبن حتى يطلع عنه ويسيل. والعبيط: الطري. (3) الذعاف كغراب: السم. والمقر بكسر القاف: الصبر، وربما يسكن، وأمقر أي صار مرا. (4) غب كل شئ: عاقبته. (5) طاب نفس فلان بكذا: أي رضي به من دون أن يكرهه عليه أحد، وطابت نفسه عن كذا، أي رضي ببذله. ونفسا، منصوب على التمييز. (6) في كتاب ناظر عين الغريبين: " طأمنته: سكنته فاطمأن ". والجأش مهموزا: النفس والقلب، أي اجعلوا قلوبكم مطمئنة لنزول الفتنة. (7) الصارم: القاطع. والغشم: الظلم. (8) الهرج: الفتنة والاختلاط. وفي رواية ابن أبي الحديد: " وقرح شامل " فالمراد بشمول القرح، أما للأفراد أو للأعضاء. (9) الاستبداد بالشئ: التفرد به. (10) الضمير المرفوع في " يدع " راجع إلى الاستبداد. والفئ: الغنيمة والخراج وما حصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب. والزهيد: القليل. (11) الحصيد: المحصود، وعلى رواية " زرعكم "، كناية عن أخذ أموالهم بغير حق، وعلى رواية " جمعكم " يحتمل ذلك، وأن يكون كناية عن قتلهم واستئصالهم. (12) أي وأنى تلحق الهداية بكم. (13) عميت عليكم، بالتخفيف: أي خفيت والتبست، وبالتشديد على صيغة المجهول أي، لبست، وقرئ في الآية بهما، والضمائر فيها، قيل: هي راجعة إلى الرحمة المعبر عن النبوة بها، وقيل إلى البينة وهي المعجزة، أو اليقين والبصيرة في أمر الله، وفي المقام يحتمل رجوعها إلى رحمة الله الشاملة للإمامة والاهتداء إلى الصراط المستقيم بطاعة إمام العدل، أو إلى الإمامة الحقة، وطاعة من اختاره الله وفرض طاعته، أو إلى البصيرة في الدين ونحوها. (14) " البحار " 43 / 158 - 159. وقد أخذنا الشرح منه مع حذف الزوايد والمكررات وأوردناه كالتعليقة كما فعلنا ذلك بشرح الخطبة الفدكية. وقد أورد هذا الكلام جمع من الأفذاذ 1 / 147 - 149. من الخاصة والعامة وهم: 1 - ابن أبي الحديد المعتزلي المتوفى 655 في " شرح النهج ": 16 / 234. 2 - ابن أبي طيفور أحمد بن طاهر المتوفى 280 في " بلاغات النساء ": 19. 3 - ابن جرير بن رستم الطبري، من أعلام القرن الرابع في " دلائل الإمامة ": 40 - 41. 4 - الشيخ الثقة الصدوق ابن بابويه المتوفى 381 في " معاني الأخبار ": 354 - 355. 5 - العلامة علي بن عيسى الإربلي (قدس سره) المتوفى 693 في " كشف الغمة ": 1 / 492 - 494. 6 - الشيخ الجليل أبو منصور الطبرسي من أعلام القرن السادس، في " الاحتجاج ": 1 / 147 - 149. 505 إن هذه الخطبة الفاطمية والدرة البيضاء لفي غاية الفصاحة ونهاية البلاغة من ناحية عذوبة ألفاظها وجميل محتواها وعظيم مضمونها الذي لا بد للموالي والمخالف من الوقوف على مضمونها وطبيعة أهدافها التي أنشدتها الصديقة الطاهرة فاطمة (عليها السلام) والتي لم تخرج فيها عن حد الشرع المقدس بل سارت مع كل ما دعى إليه الرسول وأهل بيته الأطهار، ففيها من الجلالة والنور بحيث لا بد من الاستضاءة من نورها الذي لو عرض على الظلمات لأضاءت منه، ولو خوطب بها الجبال الشامخات لرأيتها خاشعة من بهائها وجلالها، وإن كانت لم تترك الأثر الواضح على القلوب القاسية التي لم تمل إلى هداية بل كانت كالحجارة بل أن الحجارة لما يتفجر منها الماء الذي فيه حياة القلوب والنفوس، فكانت سلام الله عليها في هذه الخطبة مظهرة لنور ثمار النبوة وعبق أرج الرسالة فهي عصن الدوحة المحمدية وحليلة العصمة العلوية ومجمع الأنوار الولائية فهي كلمة الله التامة وأم أبيها التي يفرغ لسانها عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وهي الصديقة الكبرى التي فطمت الخلق عن معرفتها فضلا عن معرفة أنوارها وكلامها الذي لا بد من الوقوف معه وتجلية أنواره، ومعرفة أركانه وأهدافه فلذا لا بد من التعرض لأهداف هذه الخطبة لكي يتضح لنا برهانها الظاهر، وكلامها المؤثر الذي ينبع من مشكاة النبوة المحمدية وظهر على لسان الأسرار الفاطمية.
506 أهداف خطبة الزهراء (عليها السلام) هناك مجموعة أهداف لتصلب الزهراء في مواقفها: أولا - أرادت الزهراء استرجاع حقها المغصوب، وهذا أمر طبيعي لكل إنسان غصب حقه أن يطالب به بالطرق المشروعة. ثانيا - كان الحزب الحاكم قد استولى على جميع الحقوق السياسية والاقتصادية لبني هاشم، وألغى جميع امتيازاتهم المادية والمعنوية، فهذا عمر بن الخطاب يقول لابن عباس: أتدري ما منع قومكم (أي قريش) منكم بعد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتبجحوا على قومكم بجحا، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت (1)، هذا بالنسبة للخلافة. وبالنسبة للأموال فقد منعوا بني هاشم فدك والميراث والخمس - أي سهم ذوي القربى - واعتبروهم كسائر الناس. وكان بنو هاشم وفي مقدمتهم علي (عليه السلام) لا يقدرون على المطالبة بحقوقهم المغصوبة بأنفسهم، فجعلت الزهراء من نفسها مطالبة بحق بني هاشم وحقها، ومدافعة عنهم اعتمادا على فضلها وشرفها وقربها من رسول الله، واستنادا إلى أنوثتها حيث النساء أقدر من الرجال في بعض المواقف. ومعلوم أن الزهراء إذا استردت حقوقها استردت حينئذ حقوق بني هاشم معها. ثالثا - استهدفت الزهراء من مطالبتها الحثيثة بفدك فسح المجال أمامها للمطالبة بحق زوجها المغلوب على أمره، والواقع أن فدك صارت تتمشى مع الخلافة جنبا إلى جنب، كما صار لها عنوان كبير وسعة في المعنى، فلم تبق فدك قرية زراعية محدودة بحدودها في عصر الرسول، بل صار معناها الخلافة والرقعة الإسلامية بكاملها. ومما يدل على هذا تحديد الأئمة لفدك، فقد حدها علي (عليه السلام) في زمانه بقوله: حد منها جبل أحد، وحد منها عريش مصر، وحد منها سيف البحر، وحد منها دومة الجندل (2). وهذه الحدود التقريبية للعالم الإسلامي آنذاك.
(1) ذكره ابن أبي الحديد في شرح النهج: 12 / 53، والطبري في تأريخه: 5 / 31. (2) مجمع البحرين: مادة فدك. 507 أما الإمام الكاظم (عليه السلام) فقد حدها للرشيد بعد أن ألح عليه الرشيد أن يأخذ فدكا، فقال له الإمام: ما آخذها إلا بحدودها، قال الرشيد: وما حدودها؟ قال: الحد الأول عدن، والحد الثاني سمرقند، والحد الثالث أفريقية، والحد الرابع سيف البحر مما يلي الخزر وأرمينية، فقال له الرشيد: فلم يبق لنا شئ فتحول في مجلسي (1)، أي أنك طالبت بالرقعة الإسلامية في العصر العاسي بكاملها. فقال الإمام: قد أعلمتك أني إن حددتها لم تردها. ففدك تعبير ثان عن الخلافة الإسلامية، والزهراء جعلت فدكا مقدمة للوصول إلى الخلافة، فأرادت استرداد الخلافة عن طريق استرداد فدك. ومما يدل على هذا تصريحات الزهراء في خطبتها بحق علي وكفاءته وجهاده، فهي القائلة في خطبتها الكبيرة التي ألقتها في مسجد رسول الله: " فأنقذكم الله بأبي محمد بعد بعد اللتيا والتي، وبعد أن مني ببهم الرجال وذؤبان العرب ومرده أهل الكتاب، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله أو نجم قرن للشيطان، أو فغرت فاغرة من المشركين، قذف أخاه (أي عليا) في لهواتها، فلا ينكفي حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه، مكدودا في ذات الله، مجتهدا في أمر الله، قريبا من رسول الله، سيد أولياء الله، مشمرا ناصحا، مجدا كادحا، وأنتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون، تتربصون بنا الدوائر وتتوكفون الأخبار، وتنكصون عن النزال، وتفرون من القتال ". وتقول أيضا: " ألا وقد أرى والله أن قد أخلدتم إلى الخفض، وبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض "، وهو أمير المؤمنين. وكان لإشادة الزهراء بفضل علي (عليه السلام) في خطبتها أثر بالغ في نفوس الأنصار حتى هتف قسم منهم باسمه، فاستشعر أبو بكر الخطر من هذه البادرة، وشق عليه مقالتها، فصعد المنبر وقال: " أيها الناس ما هذه الرعة إلى كل قالة، أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ ألا من سمع فليقل، ومن شهد فليتكلم، إنما هو ثعالة:
(1) أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين: القسم الثالث من الجزء الرابع: 47، عن ربيع الأبرار للزمخشري. 508 شهيده ذنبه، مرب لكل فتنة، هو الذي يقول كروها جذعة بعد ما هرمت، يستعينون بالضعفة، ويستنصرون بالنساء كأم طحال أحب أهلها إليها البغي، ألا إني لو أشاء أن أقول لقلت، ولو قلت لحبت، إني ساكت ما تركت ". ثم التفت إلى الأنصار فقال: " قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم، وأحق من لزم عهد رسول الله أنتم، فقد جاءكم فآويتم ونصرتم، ألا إني لست باسطا يدا ولا لسانا على من لم يستحق ذلك منا ". ثم نزل (1). قال ابن أبي الحديد: قرأت هذا الكلام على النقيب أبي يحيى جعفر بن يحيى بن أبي زيد البصري وقلت له: بمن يعرض؟ فقال: بل يصرح، قلت: لو صرح لم أسألك، فضحك وقال: بعلي بن أبي طالب (عليه السلام). قلت: هذا الكلام كله لعلي يقوله؟ قال: نعم، إنه الملك يا بني، قلت: فما مقالة الأنصار؟ قال: هتفوا بذكر علي، فخاف من اضطراب الأمر عليهم - انتهى. لهذا قلت: إن الزهراء اتخذت من فدك ذريعة للوصول إلى استرداد خلافة علي عليه السلام، وإلا فما الذي حداها وهي تطالب بميراثها أن تشيد بمواقف الإمام وأحقيته بالخلافة حتى أثارت الأنصار، فهتفوا بذكر علي؟ وما الذي حدا أبا بكر أن يذكر عليا بسوء في خطبته كقوله: إنما هو ثعالة شهيده ذنبه، مرب لكل فتنة. رابعا: أرادت الزهراء (عليها السلام) بمنازعة أبي بكر إظهار حاله وحال أصحابه للناس، وكشفهم على حقيقتهم، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، وإلا فبضعة الرسول أجل قدرا وأعلى شأنا من أن تقلب الدنيا على أبي بكر حرصا على الدنيا، ولا سيما أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبرها بقرب موتها وسرعة لحاقها به، ولذا لم ينهها علي (عليه السلام) عن منازعة أبي بكر في فدك وهو القائل: " وما أصنع بفدك وغير فدك،
(1) شرح ابن أبي الحديد: 16 / 214 - الرعة: بالتخفيف أي الاستماع والإصغاء، القالة: القول ، فعالة: اسم الثعلب تحكم غير معروف، شهيده ذنبه: أي لا شاهد له على ما يدعي إلا بعضه وجزء منه، وأصله مثل، قالوا: إن الثعلب أراد أن يغري الأسد بالذئب فقال الثعلب: إنه قد أكل الشاة التي كنت قد أعددتها لنفسك وكنت حاضرا قال: فمن يشهد لك بذلك؟ فرفع ذنبه وعليه دم، وكان الأسد قد افتقد الشاة فقبل شهادته وقتل الذئب. 509 والنفس مكانها في غد جدث " (1)، ولم تكن الزهراء أقل من علي تقى وزهدا في الدنيا. ثم إن عليا (عليه السلام) كان بإمكانه أن يعوض الزهراء عن ما غصب منها بما يملكه من الأموال، ويمنعها من الهوان، فإن مما يملك إرثي البغيبغة وأبي نيزر، وهما أكثر قيمة من فدك، وقد جعلهما (عليه السلام) قبل وفاته وقفا على الفقراء، وكان واردهما السنوي 470 ألف درهم. وأيضا هذا هو السبب في حمل علي الزهراء على بغلة، والمرور بها على دور المهاجرين والأنصار، ومطالبتهم بنصرتها مع علمها بخذلانهم، كل ذلك لاطلاع الناس أبد الدهر على حقيقة الأمر، وإظهار حال الغاصبين وحال أصحابهم.... قال ابن أبي الحديد: قلت لمتكلم من متكلمي الإمامية يعرف بعلي ابن تقي من بلدة النيل: وهل كان فدك إلا نخلا يسيرا وعقارا ليس بذلك الخطير؟ فقال لي: ليس الأمر كذلك، بل كانت جليلة جدا، وكان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الآن. (أي في القرن السادس الهجري)، وما قصد أبو بكر وعمر بمنع فاطمة عنها إلا ألا يتقوى بحاصلها وغلتها على المنازعة في الخلافة، ولهذا أتبعا ذلك بمنع فاطمة وعلي وسائر بني هاشم وبني المطلب حقهم في الخمس، فإن الفقير الذي لا مال له تضعف همته، ويتصاغر عند نفسه، ويكون مشغولا بالاحتراف والاكتساب عن طلب الملك والرئاسة (2). وقال الإمام الصادق (عليه السلام) للمفضل بن عمر: " لما بويع أبو بكر أشار عليه عمر أن يمنع عليا وأهل بيته الخمس والفئ وفدكا، فإن شيعته إذا عملوا ذلك تركوه وأقبلوا إليك رغبة في الدنيا، فصرفهم أبو بكر عن جميع ما هو لهم ". وثمة سبب أخر وهو إرادة التظاهر بالقوة أمام أهل البيت، وسد الطريق أمامهم، وقطع أي أمل في نفوسهم للوصول إلى غايتهم (3). قال العلامة المجلسي (رحمه الله): إن طلب الحق والمبالغة فيه وإن لم يكن منافيا للعصمة لكن زهدها صلوات الله عليها وتركها للدنيا، وعدم اعتدادها بنعيمها ولذتها، وكمال عرفانا
(1) نهج البلاغة: قسم الكتب، 45. (2) شرح نهج البلاغة: 16 / 236. (3) فدك: 166 - 174. 510 ويقينها بفناء الدنيا، وتوجه نفسها القدسية وانصراف همتها العالية دائما إلى اللذات المعنوية والدرجات الأخروية، لا تناسب مثل هذا الاهتمام في أمر فدك، والخروج إلى مجمع الناس، والمنازعة مع المنافقين في تحصيله. والجواب عنه من وجهين، الأول: أن ذلك لم يك حقا مخصوصا لها، بل كان أولادها البررة الكرام مشاركين لها فيه، فلم يكن يجوز لها المداهنة والمساهلة والمحاباة وعدم المبالاة في ذلك ليصير سببا لتضييع حقوق جماعة من الأئمة الأعلام والأشراف الكرام. نعم لو كان مختصا بها كان لها تركه والزهد فيه وعدم التأثر من فوته. والثاني: إن تلك الأمور لم تكن لمحبة فدك وحب الدنيا، بل كان الغرض إظهار ظلمهم وجورهم وكفرهم ونفاقهم، وهذا كان من أهم أمور الدين وأعظم الحقوق على المسلمين. ويؤيده أنها صلوات الله عليها صرحت في آخر الكلام حيث قال: " قلت ما قلت على معرفة مني بالخذلة... "، وكفى بهذه الخطبة بينة على كفرهم ونفاقهم... (1). قال المحقق الفاضل الألمعي عبد الزهراء عثمان محمد: ربما يعترض البعض على موقف فاطمة فيقول: لماذا إذن تقف فاطمة هذا الموقف الصلب في مطالبتها بفدك، فلو لم يكن هناك هدف آخر تبتغيه من ورائه، لما طالبت هذه المطالبة الحقيقية به. ولأجل أن نبرز الحقائق التي دفعت الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) للمطالبة بفدك نضع أمامنا النقاط الآتية: 1 - إنها (عليها السلام) رأت أن تأميم فدك قد هيأ لها فرصة ذهبية في الإدلاء برأيها حول الحكومة القائمة، وكان لا بد لها أن تدلي بتصريحاتها أمام الجماهير، وقد هيأت لها قضية فدك هذه الملابسات المناسبة، فحضرت دار الحكومة في المسجد النبوي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وألقت بتصريحاتها التي لا تنطوي على أي لبس أو غموض. 2 - تبيان أحقية علي في قيادة الأمة بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد تجلى ذلك في خطبتها التي ألقتها في مسجد أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد تجلى ذلك في خطبتها التي ألقتها في مسجد
(1) البحار: 8 / 127 - 128. 511 أبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) على مسمع ومرأى من المسلمين وبضمنهم الحكومة الجديدة، فكان من بعض أقوالها: " أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟ " وقولها : " وأبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض ". حيث أوضحت أن عليا (عليه السلام) أعلم الناس بعد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بمعرفة الرسالة وأحكامها وقوانينها، وهو لذلك أحق برعاية شؤون الأمة التي صنعها الوحي المقدس. 3 - كشف ألاعيب الحكومة الجديدة على الشرع المقدس، واجتهاداتهم التي لا علاقة لها بأهداف الرسالة... وهذه النقاط الثلاث هي التي استهدفتها فاطمة (عليها السلام) في مطالبتها الحثيثة بفدك، ليس غير، وليس لها وراء ذلك هدف مادي رخيص، كما يعتقد البعض من مؤرخي حياتها، فهي - لعمر الحق - قد تصرفت ما من شأنه أن يحفظ الرسالة من شبح الانحراف الذي تنبأت بوقوعه بعد انتخاب الحكومة الجديدة، فاتخذت من فدك خير فرصة لخدمة المبدأ، وإلقاء الحجة على الأمة تأدية للمسؤولية، ونصرا للرسالة، وحفظا لبيضة الإسلام (1). قال المحقق المتتبع السيد كاظم القزويني: من الممكن أن يقال: إن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) الزاهدة عن الدنيا وزخارفها، والتي كانت بمعزل عن الدنيا ومغريات الحياة، ما الذي دعاها إلى هذه النهضة وإلى هذا السعي المتواصل، والجهود المستمرة في طلب حقوقها؟ وما سبب هذا الإصرار والمتابعة بطلب فدك والاهتمام بتلك الأراضي والنخيل، مع ما كانت تتمتع به السيدة فاطمة من علو النفس وسمو المقام؟ وما الداعي إلى طلب الدنيا التي كانت أزهد عندهم من عفطة عنز، وأحقر من عظم خنزير في فم مجذوم، وأهون من جناح بعوضة؟ وما الدافع بسيدة نساء العالمين أن تتكلف هذا التكليف وتتجشم هذه الصعوبات المجهدة للمطالبة بأراضيها، وهي تعلم أن مساعيها تبوء بالفشل، وأنها لا تستطيع التغلب على الموقف، ولا تتمكن من انتزاع تلك الأراضي من المغتصبين؟ هذه تصورات يمكن أن تتبادر إلى الأذهان حول الموضوع.
(1) الزهراء عليها السلام: 118 - 120. 512 أولا: إن السلطة حينما صادرت أموال السيدة فاطمة الزهراء، وجعلتها في ميزانية الدولة (بالاصطلاح الحديث) كان هدفهم تضعيف جانب أهل البيت، أرادوا أن يحاربوا عليا محاربة اقتصادية، أرادوا أن يكون علي فقيرا حتى لا يلتف الناس حوله، ولا يكون له شأن على الصعيد الاقتصادي (1). وهذه سياسة أراد المنافقون تنفيذها في حق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قالوا: " لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا " (2). ثانيا: لم تكن أراضي فدك قليلة الإنتاج، ضئيلة الغلات، بل كان لها وارد كثير يعبأ به، بل ذكر ابن أبي الحديد أن نخيلها كانت تمثل نخيل الكوفة في زمان ابن أبي الحديد، وذكر الشيخ المجلسي عن " كشف المحجة " أن وارد فدك كان أربعة وعشرين ألف دينار في كل سنة، وفي رواية أخرى: سبعين ألف دينار. ولعل هذا الاختلاف في واردها بسبب اختلاف السنين. وعلى كل تقدير فهذه ثروة طائلة واسعة لا يصح التغاضي عنها. ثالثا: إنها كانت تطالب من وراء المطالبة بفدك الخلافة والسلطة لزوجها علي بن أبي طالب، تلك السلطة العامة والولاية الكبرى التي كانت لأبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقد ذكر ابن أبي الحديد في شرحه، قال: سألت عليم بن الفارقي مدرس مدرسة الغربية ببغداد، فقلت له: أكانت فاطمة صادقة؟ قال: نعم، قلت: فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟ فتبسم، ثم قال كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته، قال: لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها، لجاءت إليه غدا وادعت لزوجها الخلافة، وزحزحته عن مقامه، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشئ، لأنه يكون قد أسجل على نفسه بأنها صادقة فيما تدعي كائنا ما كان من غير حاجة إلى بينة ولا
(1) قال العلامة المجلسي (رحمه الله): روى العلامة في كشكوله المنسوب إليه عن المفضل بن عمر قال: قال مولاي جعفر الصادق (عليه السلام): لما ولي أبو بكر بن أبي قحافة، قال له عمر: إن الناس عبيد هذه الدنيا، لا يريدون غيرها، فامنع عن علي وأهل بيته الخمس والفئ وفدكا، فإن شيعته إذا عملوا ذلك تركوا عليا، وأقبلوا إليك رغبة في الدنيا وإيثارا ومحاماة عليها... (البحار: ج 8، ص 104، ط الكمباني). (2) المنافقون: 7. 513 شهود. وهذا كلام صحيح وإن كان أخرجه مخرج الدعابة والهزل (1). ... لهذه الأسباب قامت السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، وتوجهت نحو مسجد أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأجل المطالبة بحقها. إنها لم تذهب إلى دار أبي بكر ليقع الحوار بينها وبينه فقط، بل اختارت المكان الأنسب وهو المركز الإسلامي يومذاك، ومجمع المسلمين حينذاك، وهو مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما وأنها اختارت الزمان المناسب أيضا ليكون المسجد غاصا بالناس على اختلاف طبقاتهم من المهاجرين والأنصار، ولم تخرج وحدها إلى المسجد بل خرجت في جماعة من النساء، وكأنها في مسيرة نسائية، وقبل ذلك تقرر اختيار موضع من المسجد لجلوس بضعة رسول الله وحبيبته، وعلقوا سترا لتجلس السيدة فاطمة خلف الستر، إذ هي فخر المخدرات، وسيدة المحجبات. كانت هذه النقاط مهمة جدا واستعد أبو بكر لاستماع احتجاج سيدة نساء العالمين، وابنة أفصح من نطق بالضاد، وأعلم امرأة في العالم كله. خطبت السيدة فاطمة الزهراء خطبة ارتجالية منظمة منسقة بعيدة عن الاضطراب في الكلام، ومنزهة عن المغالطة والمراوغة والتهريج والتشنيع، بل وعن كل ما لا يلائم عظمتها وشخصيتها الفذة، ومكانتها السامية، وتعتبر هذه الخطبة معجزة خالدة للسيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، وآية باهرة تدل على جانب عظيم من الثقافة الدينية التي كانت تتمتع بها الصديقة فاطمة الزهراء. وأما الفصاحة والبلاغة، وحلاوة البيان، وعذوبة المنطق، وقوة الحجة، ومتانة الدليل، وتنسيق الكلام، وإيراد أنواع الاستعارة بالكناية، وعلو المستوى، والتركيز على الهدف، وتنوع البحث... (2).
(1) شرح النهج: 16 / 284. (2) فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد: 352 - 359. 514 البحث السادس عشر فاطمة (عليها السلام) وعلاقتها بالحسين (عليه السلام)
515 الشيخ محمد علي اليعقوبي أي برق حزوى فاستهلت دموعه * وهاج بمن يهواه فيها ولوعه خليلي مالي كلما صنت في الحشا * هواي بدا دمع الشؤون يذيعه أحن لعهد قد خلا بعدما حلى هيهات * يرجى عوده ورجوعه لي الله كم نهنهت قلبي عن هوى * تحمل منه فوق ما يستطيعه وكفكفت من طرفي الدموع فلم تكن * لغير بني الزهراء تهمي دموعه وخطب جرى بالطف لم ينس وقعه * ولم تلتئم طول الزمان صدوعه عشية أمسى منزل البغي أهلا * ومنزل وحي الله أقوت ربوعه لقد كان من يوم السقيفة أصله * وكل الرزايا الحادثات فروعه فما عذرهم عند النبي ولم يزل * يرى كل آن منهم ما يروعه أفي غصبهم حق الوصي وظلمهم * لبضعته الزهراء يجزى صنيعه لو أن رسول الله ينظر فاطما * تنوح ولم تهجع لعز هجوعه فلولا جنين أسقطوه لما هوى * صريعا على صدر الحسين رضيعه ومن رضهم ضلع البتولة قد غدت * ترض بجري الصافنات ضلوعه
517 البحث السادس عشر فاطمة (عليها السلام) وعلاقتها بالحسين (عليه السلام) للصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) عدة أولاد منهم الحسن والحسين (عليهما السلام)، علما أن علاقتها كانت بهذين الولدين تفوق علاقة أكثر الأمهات في تاريخ البشرية وذلك نابع من كونهم ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إضافة إلى كونهم النسل الطاهر لها، وبمقتضى علاقة الأم بأبنائها ولقد حدثنا التاريخ عن نشوء هذه العلاقة بين الأم من جهة وبين أبنائها ومن خلال الأحاديث المروية عن أهل البيت (عليهم السلام) من جهة أخرى، والذي نريد التركيز عليه هنا في هذا الموضوع الختامي لكتابنا هذا هو علاقة الصديقة الطاهرة فاطمة (عليها السلام) بولدها الحسين (عليها السلام) ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذي كان يلقمه حبا وحجرا دافئا خلال حياته الشريفة، كيف لا وكان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ينظر إلى الحسين بأنه حامل فكره على مدى الزمن حياة وشهادة لكي يضئ من خلال ذلك للناس حياتهم الفكرية والاجتماعية والسياسية عبر مر العصور، وعلى أي حال فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استمد من وراء الغيب علمه بأن بضعته الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام) سوف يتفرع منها الغصن والثمرة الطيبة لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) والذين يعملون أعباء الإمامة ويدعون الناس عبر مر السنين والأعوام إلى طريق الهداية والتقوى والصلاح في الدين والدنيا والآخرة لذا كان الرسول يولي اهتماما بالغا ببضعته الطاهرة (عليها السلام) وبولديها الحسن والحسين (عليهما السلام)، وفي هذا الموضوع وعلى هذا الأساس سوف نولي اهتماما بارزا من خلال النصوص بحياة الصديقة الشهيدة وعلاقتها آنذاك بولدها الحسين (عليه السلام) مستمدين ذلك من آثار الرسول وأهل بيته وكلماتهم النورانية التي نشروها خلال مسيرة حياتهم الشريفة والتي كلها دروس وعبر للمؤمنين على مر العصور والأزمان.
519 الولادة الميمونة مضت عدة أيام على ولادة الإمام الحسن (عليه السلام) وامتلأ البيت النبوي سرورا وفرحا ولم تمض الأيام القليلة حددها المؤرخين باثنين وخمسين يوما حتى علقت سيدة النساء بحمل جديد ظل يتطلع إليه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر المسلمين بفارغ الصبر وكلهم رجاء وأمل في أن يشفع الله ذلك الكوكب بكوكب آخر ليضئ في سماء الأمة الإسلامية ويكون امتدادا لحياة المنقذ العظيم (1). ورأت السيدة أم الفضل بنت الحارث (2) في منامها رؤية غريبة لم تهتد إلى تأويلها، فهرعت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلة له: " إني رأيت حلما منكرا كأن قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري؟... " فأزاح النبي مخاوفها وبشرها بخير قائلا: " خيرا رأيت، تلد فاطمة إن شاء الله غلاما فيكون في حجرك... " ومضت الأيام سريعا فوضعت سيدة النساء فاطمة ولدها الحسين فكان في حجر أم الفضل كما أخبرها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (3). إخبار فاطمة بقتل الحسين (عليه السلام) عن أبي عبد الله (عليه السلام): إن جبرئيل (عليه السلام) نزل على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد إن الله يقرأ عليك السلام، ويبشرك بمولود يولد من فاطمة (عليها السلام) تقتله أمتك من بعدك. فقال: يا جبرئيل، وعلى ربي السلام، لا حاجة لي في مولود تقتله أمتي من بعدي، قال: فعرج جبرئيل إلى السماء، ثم هبط فقال له مثل ذلك. فقال: يا جبرئيل وعلى ربي السلام، لا حاجة لي في مولود تقتله أمتي من بعدي، فعرج جبرئيل إلى السماء، ثم هبط فقال له: يا محمد إن ربك يقرؤك السلام، ويبشرك أنه جاعل في ذريته الإمامة والولاية والوصية، فقال: قد رضيت، ثم أرسل إلى
(1) حياة الإمام الحسين للشيخ القرشي: 1 / 25. (2) راجع ترجمتها في الطبقات الكبرى: 8 / 278، والإصابة: 4 / 464. (3) مستدرك الصحيحين: 3 / 127 عن حياة الإمام الحسين للقرشي: 26. 520 فاطمة (عليها السلام) أن الله " تبارك وتعالى " يبشرك بمولود يولد منك تقتله أمتي من بعدي، فأرسلت إليه: أن لا حاجة لي في مولود يولد مني تقتله أمتك من بعدك. فأرسل إليها أن الله جاعل في ذريته الإمامة والولاية والوصية فأرسلت: أني قد رضيت. " حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن اشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضيه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وأني من المسلمين " (1). وأيضا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان الحسين مع أمه (صلى الله عليه وآله وسلم) تحمله، فأخذه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقال: لعن الله قاتلك، ولعن الله سالبك وأهلك الله المتوازرين عليك، وحكم الله بيني وبين من أعان عليك. قالت فاطمة الزهراء (عليها السلام): يا أبة، أي شئ تقول؟ قال: يا بنتاه، ذكرت ما يصيبه بعدي وبعدك من الأذى والظلم والغدر والبغي وهو يومئذ في عصبة، كأنهم نجوم السماء يتهاوون إلى القتل، وكأني أنظر إلى معسكرهم وإلى موضع رحالهم وتربتهم. قالت يا أبة، وأين الموضع الذي تصف؟ قال الموضع يقال له: " كربلاء " وهي دار كرب وبلاء علينا وعلى الأمة. يخرج عليهم شرار أمتي، ولو أن أحدهم شفع له من في السماوات والأرضين ما شفعوا فيه وهم المخلدون في النار. قال يا أبة، فيقتل؟ قال: نعم يا بنتاه، وما قتل قتلته أحد كان قبله، وتبكيه السماوات والأرضين والملائكة والوحش والنباتات والبحار والجبال، ولو يؤذن لها ما بقي على الأرض منقذ، ويأتيه من محبينا ليس في الأرض أعلم بالله ولا أقوم بحقنا منهم، وليس على ظهر الأرض أحد يلتفت إليه غيرهم، أولئك مصابيح في ظلمات الجور، وهم الشفعاء وهم واردون حوضي غدا، أعرفهم - إذا وردوا علي - بسيماهم. وكل أهل دين يطلبون أئمتهم وهم يطلبوننا ولا يطلبون غيرنا، وهم قوام الأرض وبهم ينزل الغيث.
(1) كامل الزيارات: 56 / الكافي: 1 / 464 ح 4، إثبات الهداية: 1 / 414 ح 13. 521 فقالت فاطمة الزهراء (عليها السلام): يا أبة إنا لله، وبكت. فقال لها: يا بنتاه، إن أفضل أهل الجنان هم الشهداء في الدنيا بذلوا أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا، فما عند الله خير من الدنيا وما فيها، قتلة أهون من ميتة ومن كتب عليه القتل خرج إلى مضجعه ومن لم يقتل سوف يموت. يا فاطمة بنت محمد، أما تحبين أن تأمرين غدا بأمر، فتطاعين في هذا الخلق عند الحساب؟ أما ترضين أن يكون ابنك من حملة العرش؟ أما ترضين أن يكون أبوك يأتونه يسألونه الشفاعة؟ أما ترضين أن يكون بعلك يذود الخلق يوم العطش عن الحوض، فيسقي منه أوليائه ويذود عنه أعدائه؟.. أما ترضين أن يكون بعلك مشيم النار يأمر النار، فتطيعه يخرج منها من يشاء، ويترك من يشاء. أما ترضين أن تنظرين إلى الملائكة على أرجاء السماء ينظرون إليك وما تأمرين به وينظرون إلى بعلك، قد حضر الخلائق وهو يخاصمهم عند الله، فما ترين الله صانع بقاتل ولدك وقاتلك وقاتل بعلك إذا أفلجت حجته على الخلائق وأمرت النار أن تطيعه؟ أما ترضين أن تكون الملائكة تبكي لابنك ويأسف عليه كل شئ؟ أما ترضين أن يكون من أتاه زائرا في ضمان الله، ويكون من أتاه بمنزلة من حج إلى بيت الله واعتمر ولم يخل من الرحمة طرفة عين، وإذا مات مات شهيدا، وأن بقي لم تزل الحفظة تدعو له ما بقي ولم يزل في حفظ الله وأمنه، حتى يفارق الدنيا. قالت يا أبة، سلمت ورضيت وتوكلت على الله فمسح على قلبها ومسح على عينيها وقال: إني وبعلك وأنت وابنيك في مكان تقر عيناك ويفرح قلبك (1).
(1) تفسير فرات الكوفي: 171، عنه البحار: 44 / 264 ح 22. 522 أول مأتم عقد للحسين (عليه السلام) عندما بشر جبرئيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بولادة الحسين من ابنته الزهراء (عليها السلام) فرح فرحا شديدا ولكن سرعان ما تبدد هذا الفرح وتحول إلى حزن وذلك عندما أخبر جبرئيل الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن ولده هذا سوف يقتل من قبل أمته في أرض تسمى كربلاء في العراق، ولكن الله سبحانه وتعالى على أثر شهادته وكرامة له يجعل من صلبه تسعة من الأئمة الطاهرون المطهرون آخرهم قائمهم " عج " يملأ الله به الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا، ولذلك كان أول مأتم عزاء حقيقي في تأريخ هذه الأمة عندما ولد الحسين (عليه السلام) حيث بكته أمه الزهراء وأباه أمير المؤمنين (عليه السلام) وكذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإلى ذلك أشار التأريخ عبر رواياته وتاريخه الحافل، حيث يقول الشيخ التستري في كتابه الخصائص الحسينية " إن أول مأتم للحسين أقيم في عهد هذه الأمة في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " فلو نظرنا إلى قوله هذا نجد هناك قرينة واضحة البيان وهي " في عهد هذه الأمة " دالة على أنه كانت هناك مآتم في غير عهد هذه الأمة. أذن كانت هناك مآتم عزاء على الحسين (عليه السلام) من قبل الأنبياء والرسل الذين سبقوا خاتم الأنبياء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن كيف أقاموا هؤلاء الأنبياء المآتم على الحسين، وكيف بكوا عليه؟ هذا ما نجده واضحا من خلال استقراء التاريخ حيث يخبرنا التاريخ أن ذلك كان ناتج من أخبار الله تعالى لهم بما يجري على الحسين وأن يجعلوه وسيلة لقربة وأن يدعوا على قاتليه باللعنة وسوء العذاب وهذا ما تراه في كتاب عوالم الإمام الحسين واضحا وجليا، إذن كان أول مأتم في عهد أمه الزهراء حيث بكت عليه وناحت لأجله لذا لا بد لنا أن نقوي علاقتنا مع الحسين لما له من تأثير كبير في زيادة علاقتنا بالصديقة الطاهرة فاطمة (عليها السلام).
523 حب فاطمة (عليها السلام) للحسين (عليه السلام) روي أنه دخل الحسن والحسين (عليهما السلام) على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما فشم الحسن في فمه الشريف وشم الحسين في نحره فقام الحسين وأقبل إلى أمه فقال لها: أماه شمي فمي هل تجدين فيه رائحة يكرهها جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فشمته في فمه فإذا هو أطيب من المسك ثم جاءت به إلى أبيها فقالت له: أبه لم كسرت قلب ولدي الحسين فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) مم؟ قالت: تشم أخاه في فمه وتشمه في نحره فلما سمع بكى وقال: بنيه أما ولدي الحسن فإني شممته في فمه لأنه يسقى السم فيموت مسموما وأما الحسين (عليه السلام) فإني شممته في نحره لأنه يذبح من الوريد إلى الوريد فلما سمعت فاطمة بكت بكاء شديدا وقالت: أبه متى يكون ذلك؟ فقال: بنية في زمان خال مني ومنك ومن أبيه وأخيه فاشتد بكاؤها ثم قالت: أبه فمن يبكي عليه ومن يلتزم بإقامة العزاء عليه؟ فقال لها: بنية فاطمة إن نساء أمتي يبكين على نساء أهل بيتي ورجالهم يبكون على ولدي الحسين وأهل بيته ويجددون عليه العزاء جيلا بعد جيل فإذا كان يوم القيامة أنت تشفعين للنساء وأنا أشفع للرجال وكل من يبكي على ولدي الحسين أخذنا بيده وأدخلناه الجنة. الحسين (عليه السلام) وحجر فاطمة (عليها السلام) وعنت سيدة النساء (عليها السلام) بتربية وليدها الحسين فغمرته بالحنان والعطف لتكون له بذلك شخصيته الاستقلالية والشعور بذاتياته كما غذته بالآداب الإسلامية، وعودته على الاستقامة والإتجاه المطلق نحو الخير والصلاح، كيف لا، وهي ربيبة الوحي وسليلة التقوى فهي أم أبيها، وزوجة أمير المؤمنين، كيف لا ونحن نعلم أن الأم الطاهرة هي المدرسة الأولى للطفل فيها ينشأ وإليها يغدوا وعليها يربوا، وكما قيل: الأم مدرسة إذا أعددتها * أعددت شعبا طيب الأعراق الأم روض أن تعهده الحيا * بالري أورق أيما إيراق الأم أستاذ الأساتذة الألى * شغلت مآثرهم مدى الآفاق
524 هكذا هي الأم فهي شمعة مقدسة تضئ ليل الحياة بتواضع ليل الحياة بتواضع ورقة وفائدة، فهي التي تصنع الحياة وهي الكنز الحقيقي الذي لا اضمحلال له، وكما قيل: مدرستي الأولى على صدر أمي، وإني مدين بكل ما وصلت إليه وما أرجو أن أصل إليه من الرفعة إلى أمي الملاك فالأم التي تهز السرير بيمينها تهز العالم بيسارها، وهكذا كانت الزهراء الأم المثالية التي تربى في حجرها الحسين (عليه السلام) وغذته بالأخلاق الحميدة والخصال الرفيعة وإلى ذلك يقول العلائلي في كتابه الإمام الحسين ص 289: " والذي انتهى إلينا من مجموعة أخبار الحسين أن أمه عنيت ببث المثل الإسلامية الاعتقادية لتشييع في نفسه فكره الفضيلة على أتم معانيها، وأصح أوضاعها ولأبدع فأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أشرف على توجيهه أيضا في هذا الدور الذي يشعر الطفل فيه بالاستقلال، فالسيدة فاطمة نمت في نفسها فكرة الخير، والحب المطلق والواجب ومددت في جوانحه وخوالجه أفكار الفضائل العليا بأن وجهت المبادئ الأدبية في طبيعته الوليدة. من أن تكون هي نقطة دائرتها إلى الله الذي هو فكرة يشترك فيها الجميع، وبذلك يكون الطفل قد رسم بنفسه دائرة محدودة قصيرة حين أدار هذه المبادئ الأدبية على شخص والدته وقصرها عليها وما تجاوز بها إلى سواها من الكوائن، ورسمت له والدته دائرة غير متناهية حين جعلت فكرة الله نقطة الارتكاز، ثم أدارت المبادئ الأدبية والفضائل عليها فاتسعت نفسه لتشمل وتستغرق العالم بعواطفها المهذبة، وتأخذه بالمثل الأعلى للخير والجمال... " لقد نشأ الحسين في تلك الأسرة الطبيعية الأعراف الطاهرة من الأدناس وفي حجر سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وقد صار بهذه التربية المثل الأعلى للأجيال حيث رسم الشهادة في جبين الإسلام كتضحية من أجل الأهداف التربوية التي تغذاها من حجر أمه ومن ضمير جده ورعاية أبيه المرتضى، أجل إنه الحسين الكبير ذلك الفذ من الأفذاذ الذي علموا البشرية وعلموا الأجيال كل طرق الخير والصلاح لا خير في أن يقول غاندي محرر الهند " تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوما فأنتصر ".
525 " فاطمة (عليها السلام) يوم القيامة " للصديقة فاطمة (عليها السلام) يوم القيامة مواقف عديدة تقف فيها ضد قتلة الحسين وأنصارهم، فمنها عندما تأتي يوم القيامة وتقف في عرصات المحشر، فيأتيها الخطاب من الباري عز وجل... يا فاطمة: سلي حاجتك، فتقول... يا رب أرني الحسين.. فيأتيها الحسين (عليه السلام) وأوداجه تشخب دما، وهو يقول: يا رب، خذ لي اليوم حقي ممن ظلمني، عند ذلك تقف سلام الله عليها مؤقتا موقفا شريفا من مواقف يوم القيامة، ثم تنزل عن نجيبها فتأخذ قميص الحسين (عليه السلام) بيدها ملطخا بدمه: لا بد أن ترد القيامة فاطم * وقميصها بدم الحسين ملطخ ويل لمن شفعاؤه خصمائه * والصور في القيامة ينفخ وتقول يا رب، هذا قميص ولدي، وقد علمت ما صنع به، يا عدل، احكم بيني وبين قاتل ولدي... أنت الجبار العدل اقضي بيني وبين من قتل ولدي... فيغضب عند ذلك الجليل، وتغضب لغضبه جهنم والملائكة أجمعون... فيأتيها النداء من قبل الله عز وجل: يا فاطمة! لك عندي الرضا فتقول يا رب انتصر لي من قاتله، فيأمر الله تعالى عنقا من النار فتخرج من جهنم، فتلتقط من جهنم قتلة الحسين بن علي (عليه السلام) كما يلتقط الطير الجيد من الحب الردئ، ثم يعود العنق بهم إلى النار فيعذبون فيها بأنواع العذاب. ولها مواقف آخر مع أنصار الحسين وأصحابه وشيعته وفيمن بكى عليه في الدنيا وأقام العزاء لمصابه الجليل حيث ورد في الأخبار الشريفة، أنها تأتي يوم القيامة، فتقول يا رب حاجتي أن تغفر لي، ولمن نصر ولدي الحسين (عليه السلام). اللهم اشفعني فيمن بكى على مصيبته... إلهي أنت المنى وفوق المنى، أسألك أن لا تعذب محبي ومحب عترتي بالنار... إلهي وسيدي ذريتي من النار ووعدك الحق وأنت لا تخلف الميعاد... فيأتيها الخطاب... يا فاطمة قد غفرت لشيعتك... وشيعة ولدك الحسين... يا فاطمة وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لقد آليت على نفسي من قبل أن أخلق السماوات والأرض بألفي عام أن لا أعذب محبيك ومحبي عترتك بالنار... فعند ذلك يود الخلائق أنهم كانوا فاطميين، فتسير فاطمة ومعها شيعتها، وشيعة ولدها
526 الحسين (عليه السلام) وشيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) آمنة روعاتهم، مستورة عوراتهم، قد ذهبت عنهم الشدائد، وسهلت لهم الموارد، يخاف الناس وهم لا يخافون، ويظمأ الناس وهم لايظمأون... عند ذلك تصر فاطمة (عليها السلام) وتسير إلى الجنة... فتكون أول من تكسى ويستقبلها من الفردوس، اثنتا عشر ألف حوراء لم يستقبل أحدا قبلها ولا أحد بعدها على نجائب من ياقوتة أجنحتها وأزمتها اللؤلؤ عليها، حائل من در... فيجوزون بها الصراط حتى ينتهون بها إلى الفردوس... فيباشر بها أهل الجنان... فتجلس على كرسي من نور ويجلس حولها، ويبعث إليها ملك لم يبعث إلى أحد بعد فتقول: قد أتم علي نعمته، وهنأني كرامته، وأباحني جنته، أسأله ولدي وذريتي ومن ودهم بعدي، وحفظهم من بعدي، فيوحي الله إلى الملك من غير أن يزول من مكانه: أن سرها وبشرها أني قد شفعتها في ولدها ومن ودهم بعدها وحفظهم فيها... فتقول (عليها السلام): الحمد لله الذي أذهب عني الحزن وأقر عيني * (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بأيمانهم ألحقنا بهم ذريتهم) * (1).
(1) هذه المضامين ملخص أحاديث من الكتب التالية: تفسير فرات: 169، ينابيع المودة: 260، مجالس المفيد: 84، عيون أخبار الرضا: 2 / 8 ح 12، أمالي الصدوق: 25 ح 4، علل الشرائع 1 / 179 ح 6، دلائل الإمامة: 57، تأويل الآيات: 2 / 483 ح 12، روضة الواعظين: 179، مناقب ابن شهرآشوب: 3 / 107 بشارة المصطفى: 22. 527 يا بن العسكري لا صبر يا بن العسكري فشرعة الهادي * النبي استنصرت أنصارها هدمت قواعدها وطاح منارها * فأقم بسيفك ذي الفقار منارها فالأم تغضي والطغاة تحكمت * في المسلمين وحكمت أشرارها مولاي ما سن الضلال سوى الألى * هجموا على الطهر البتولة دارها منعوا البتول عن النياحة إذ غدت * تبكي أباها ليلها ونهارها قالوا لها قري فقد آذيتنا * أنا وقد سلب المصاب قرارها قطعوا أراكتها ومن أبنائها * قطعت أمي يمينها ويسارها جمعوا على بيت النبي محمد * حطبا وأوقدت الضغائن نارها رضوا سليلة أحمد بالباب * حتى أنبتوا في صدرها مسمارها عصروا ابنة الهادي الأمين وأسقطوا * منها الجنين وأخرجوا كرارها قادوه والزهراء تعدو خلفهم * عبرى فليتك تنظر استعبارها والعبد سود متنها فاستنصرت * أسفا فليتك تسمع استنصارها فقضت وآثار الصياد بمتنها * يا ليت عينك عاينت آثارها تم الانتهاء من تأليف ووضع اللمسات الأخيرة لهذا الكتاب في ذكرى تنصيب أمير المؤمنين (عليه السلام) في يوم الغدير المبارك، نسأل الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن القبول ويجعله في الباقيات الصالحات، وأن ينفعنا به يوم لا ينفع مال ولا بنون. محمد فاضل المسعودي