إمامة تلك الحقيقة القرآنية نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

إمامة تلك الحقيقة القرآنية - نسخه متنی

زهیر بیطار

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: الإمامة تلك الحقيقة القرآنية
المؤلف: الدكتور زهير بيطار
الجزء:
الوفاة: معاصر
المجموعة: من مصادر العقائد عند الشيعة الإمامية
تحقيق:
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: 1422
المطبعة: دار السيرة - بيروت
الناشر: دار السيرة - بيروت
ردمك:
ملاحظات:
الإمامة
تلك الحقيقة القرآنية
الدكتور زهير بيطار
دار السيرة
بيروت - لبنان

1
حقوق الطبع محفوظة
للمؤلف
1422 ه‍. ق / 2001 م
دار السيرة
بيروت - لبنان
ص. ب: 49 / 25 الغبيري
قم - إيران ص پ: 3115 / 37185

2
بسم الله الرحمن الرحيم
الإهداء
إليكم يا مولاي، يا إمام العصر الحجة بن الحسن روحي لك الفداء لآبائك الطاهرين،
أقدم هذا العمل الصغير، في جانب حقكم العظيم.
ولقد أحزنني كثرة الافتئات على منازلكم الجلية، وسكوت ساكتين وتغافل آخرين، فأعقبهم
ذلك نفاقا في قلوبهم وهم لا يشعرون
وروعني جاهلية تتجدد في غلبة الحمية للنفس والأشخاص، على الحمية للدين، ووزن
الحق بالرجال، لا الرجال بالحق.
وأذهلني أن أرى في هذه الأنحاء كثرة اللحى وجلباب الدين، مع قلة الغيرة على الحق يجار
عليه، وقلة الحمية للدين يفترى فيه.
إليكم يا سادتي الأنجبين الأطهار.
يا بقية الذرية المصطفاة على العالمين من آل إبراهيم المباركين الأبرار..
والأمة المسلمة التي تفضل الله على الأخرين بدعاء أبيكم إبراهيم لابنه إسماعيل عليهما
وعليكم السلام..
* (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك) *
الذين صدقوا لسان أبيهم إبراهيم في الأخرين * (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) *
الذين بهم عرفت ورجعت إلى كلمة التوحيد * (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون) *
محمد المصطفى وآله الأصفياء المطهرين، سلام الله عليكم أجمعين.
راجيا من الله تعالى أن يكتبني من الذين ادخرهم شهداء تحت لوائك في يوم الفتح
الموعود.
عجل الله تعالى لكم النصر يا مولاي، ولا أحرمني من دعائكم وظلكم الوارف.
والسلام عليكم سادتي ورحمة الله وبركاته.

3
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
كم كنت أتمنى لو أن الجهد الذي بذلته لإخراج هذا الكتاب قد
وظفته في بحث يتناول مواضيع الصراع الفكري بين الغرب والعالم
الإسلامي، فذلك ربما يكون أجدى للأمة، لكن البحث في قضايا من مثل
موضوع الكتاب قد أصبح فرضا لا بد منه، بعد أن كثر الافتئات على
عقائد الشيعة الإمامية الحقة، وبدا واضحا أنها كثيرة هي الجهات التي
تدعي، أو تصورها وسائل الإعلام المشبوهة على أنها رائدة الحركات
الإسلامية العالمية، في حين أنه لم يكن لديها من هم معالجة المواضيع
الحقيقية ذات الأثر في موضوع الصراع المذكور، بل كان همها الأكبر هو
التهشيم بعقائد الشيعة وإثارة الشكوك بتراثهم، وذلك من داخل البيت
الشيعي وخارجه، وبدا واضحا أن الإثارات في الساحة الإسلامية العامة
والشيعية الخاصة في هذا الإطار ليست وليدة صدفة، ولا هي بدافع من
طلب الحقيقة العلمية، بل هي خطة مترابطة الأوصال ذات أهداف

5
تبشيرية، أخطر ما فيها الجهود الحثيثة الموجهة من قبل بعض الجهات إلى
الانحراف بالناشئة عن خط التشيع الصحيح، بغرس مفاهيم مغلوطة في
اللا وعي لديهم، بواسطة التكرار المستمر للمغالطات في العقيدة والتاريخ،
وبوسائل كثيرة بالغة الأثر من مثل المجلات الموجهة للكبار، وأخرى
للأطفال، والإذاعات المتكاثرة ووسائل النشر الثرية التي توزع المؤلفات
والأشرطة المسجلة مجانا دون حساب.
ومن الواضح أن مثل هذه الأساليب لا علاقة لها بالبحث العلمي
عن الحقيقة، بل هي تدل على أن أصحابها قد تبنوا موقفا بما تحمله من
أبعاد تبشيرية، تهدف إلى حرف الأحداث الذين لا اطلاع لديهم ولا
قدرة على المناظرة الفكرية، هي وسائل تذكرنا بأساليب الأحزاب
العقائدية وبوسائل المؤسسات التبشيرية الكهنوتية التي غزت العالم
الإسلامي تحت جلباب الاستعمار الغربي، فاستطاعت أن تخرج شرائح
كبرى من المسلمين من حقيقة الإسلام، إلى حيرة عقائدية، أو إلى حالة
من الاغتراب الفكري، كما أنها تجعلنا نرتاب بمن ورائها الذين يمدونها بما
تحتاجه من أموال طائلة.
أجل، إننا نرى أن الإسلام والمسلمين يتعرضون منذ زمن طويل إلى
أشرس هجمة تهدف إلى استئصالهم حضاريا، ولئن كانت هذه الهجمة
تطال كل المسلمين، فإنها أكثر استهدافا للشيعة الإمامية بالخاصة، نتيجة
لبنيتهم العقائدية التي تجعل، خلافا لحالة سواهم، من العسير السيطرة
عليهم من خلال القوى الحاكمة للسلطة السياسية، أو حتى الجهات

6
المولجة بالفتوى والشأن الديني العام، إضافة إلى أثر عقائدهم والرموز
المثالية التي قد تعلق بها وجدانهم الفردي والعام، والتي جعلت منهم جماعة
صعبة المراس في وجه الباطل والظلم، قادرة على الصبر والتضحية وعشق
الشهادة والإخلاص للمبدأ. والذي يدرس في التاريخ القديم والحديث
يعلم حقيقة ما نقول، ويعلم أن المسلمين الشيعة يمثلون أصعب عقبة باقية
في وجه ما يخطط للمنطقة والعالم من سيطرة صهيونية غربية تحت ستار
عالم القطب الواحد، أو الحكومة العالمية كما يخططون، أو على الأقل،
العقبة الأصعب في وجه ما يخطط من " شرق أوسطي جديد " حسب
مصطلحهم.
إننا نرى أن تعاظم الهجمة على عقائد المسلمين الشيعة، ابتداء من
العصمة والإمامة وانتهاء بعقيدة المهدي (عج)، إنما هو من معالم هذا
المخطط، بهدف تهجين الشيعة من منطلق عقائدي، وذلك بانتزاع عناصر
القوة المختزنة في البنية النفسية والوجدانية للشيعي، بزعزعة ما ترتبط به
من العناصر في العقائد المتماسكة في منطق قوي واضح، وفي الوعي الناقد
للتاريخ الديني والسياسي، وفي الرموز التي تجسد واقعيا القيم الكبرى
للإنسان السوي، المتمثلة بالأنبياء (عليهم السلام) والأئمة المعصومين
(عليهم السلام)، وبالخاصة نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وأصحاب
الكساء (عليهم السلام)، وحيثيات عاشوراء، وحياة الأئمة (عليهم
السلام)، الأمر الذي يفقد الشيعي الأثر الاستنهاضي لمكونات عقيدته

7
ومكونات موقفه من التاريخ ومحركات وجدانه وما قد بني على هذا من
حاضر، وأمل مستقبلي، في تمهيد واضح إلى الاستبدال.
من أجل ذلك، ولأن عناصر الوعي في العقل الإسلامي مرتبطة
بالحقيقة، وهي تخبو كلما ابتعدت عنها وتكبلت بالغموض واللا منطقية
الناشئة عن الفهم المبهم للتاريخ والتراث، وكلما كبلت بالنهج التجميلي
المزور، وبالتبرير الملفق للانحراف المزمن. فمن أجل هذا وذاك كان من
مستلزمات النهوض أن نزيل هذا المكبلات بالنقد الموضوعي، لتشخيص
الانحراف والمؤثرات التي قادت الأمة إلى هاويتها عبر التاريخ، لنعلم في
المقابل المؤثرات التي تصلح الشأن.
من ناحية أخرى، إننا نرى أن الإثارات التي ألمحنا إليها حول عقائد
الشيعة، لم يكن أمرا ضروريا في عملية المواجهة مع الغرب الظالم، لا
سيما أن هذه الإثارات بالذات ليست جديدة، بل قد اجترت كثيرا منذ
عشرة قرون أو يزيد، وامتلأت كتب علم الكلام في مناقشة هذه
المواضيع، بحيث لم يبقى من مزيد لأحد ليدلي به دلوه، ولقد انطفأ الكلام
حولها منذ عدة عقود من الزمن، لذلك فإن إثارتها اليوم في هذه الظروف
بالذات، ولو بحلة لفظية جديدة تحمل مضمونها القديم المبتذل، أو تحت
شعارات براقة كالانفتاح وتوحيد المسلمين، يبدو أنه ولو دون قصد من
أصحابها، جزء من مخطط الهجمة الغربية على حصون المسلمين عموما،
لعلم مثيريها أنه لا ينتج عنها سوى استدراج النخب وإشغالها بالرد، في
عملية إلهاء خطيرة عن المصير الخطير. ولو أن هذه الإثارات كانت عابرة،

8
بحيث لو تجاهلها أهل العلم والغيارى على حقائق الرسالة الإلهية، لمرت
دون أذى يذكر، لتجاهلنا الأمر، لكن إصرار مثيريها ومثابرتهم على
الإثارات وتعاظمها، وتعاضد الأدوار في هذا الاتجاه بما يبدو أنه نهج
تبشيري منظم، يركز على تضليل الناشئة الذين لا اطلاع لديهم، جعل
من الضروري معالجة الارتياب الذي تحدثه، ولسان حالنا يقول لا حول
ولا قوة إلا بالله، فالسكوت أشد ضررا، وأسوأ أثرا.
على أن توحيد المسلمين لا يقتضي توحيد المذاهب ولا إزالة
الفروقات بين المسلمين، فهذا مطلب لا ينال، فاختلاف الآراء لا خطر
فيه، بل الخطر هو في عدائية الاختلاف التي تتجلى بتكفير شريحة من
المسلمين، والافتراء عليهم، بتشويه صورتهم في أذهان العامة، مما يخلق
البغضاء والحواجز النفسية بين المسلمين ويصدع وحدتهم. إن الوحدة لا
تستلزم انعدام الفوارق، فهذا مستحيل، بل تقتضي الاعتراف بالآخر
ضمن إطار الإسلام الجامع، ولا تقتضي حجر الفكر، بل هدف الوحدة
لا يسقط التكليف على كل نفس في البحث عن حقيقة كل أمر فيه
اختلاف، وليس مهما أن يكون المسلم هنا أو هناك، بل المهم أن يستبصر
الحقائق من أي موقع هو فيه، لأن الله تعالى يقول: * (.. قفوهم إنهم
مسؤولون..) *، إنما إثارة المواضيع من هذا القبيل في هذا الظرف بالذات
هو الذي يؤذي الموقف العام، لذلك وجدناه موضع شبهة وارتياب، حتى
لو جاء مع حسن نية وقصد. لكن الإثارة، خاصة ضمن المعطيات التي
نوهنا بها، جعلت الدفاع ضروريا ومشروعا، حفاظا على الخط الإسلامي

9
المناهض للفساد عبر التاريخ الإسلامي، والممتنع على سيطرة الغرب
والصهيونية في التاريخ الحديث، وصونا لمقومات القوة والاستنهاض فيه.
ومما يثير العجب، أن بعض مريدي الأحزاب الإسلامية الذين
يقاومون الرد على الافتراءات ويتذرعون بضرورة عدم الخوض في القضايا
المذهبية حرصا على الوحدة الإسلامية، هم أنفسهم أصحاب الشبهات
المفتراة التي نوهنا بها، فلو أن همهم هو الوحدة لما أثاروا تلك الإثارات.
فهذا من التناقض الظاهر بين القول والعمل، في حين أنهم يعلمون أن
إثاراتهم لا بد أنها ستلقى الرد.
ونرى التناقض مرة ثانية في مسلك هؤلاء القوم، فبينما يرفعون نقد
التراث شعارا يخاطبون به عامة الناس الذين لا صلاحية لهم في هذا الأمر،
ولا قدرة لهم على تمييز الغث من السمين واضعين المشكلة في غير
موضعها، إذا بهم يصبحون من أشد الناس محافظة على قدسية التراث،
وأشدهم حرصا على عدم فتح ملفات التاريخ، وذلك عندما تمت القضية
إلى الخلافة ومجرياتها من بدئها إلى سقوطها، فنجدهم يغلقون باب النقد
والتساؤل حينما يبشرون حلافا للوقائع بأن خلافات الصحابة لم تؤثر
على مسيرة الإسلام، وأن مسيرة الإسلام لم تخرج عن الخط السوي،
ويغلقون باب النقد حين يرددون * (... تلك أمة قد خلت...) * تجنبا
للمس بما يصفونه " عظماء الإسلام " حتى لو كان ذلك من مقتضيات النقد
الموضوعي للتراث والتاريخ. فتظهر الحقيقة في انغلاق أفكارهم خلافا لما
يدعونه من مسايرة التطور والانفتاح، ما يعني بوضوح أن القضية ليست

10
نقدا علميا بناء، بل عملية تهشيم موجهة إلى التشيع بالخاصة. ومن أجل
هذا فإننا معذورون، بل مكلفون ببذل الجهد لإظهار أحقية المنهج الإمامي
في الإسلام، في وجه التشويه المبرمج الذي يطال عقائده الحقة.
على أية حال، إن الوحدة الإسلامية التي تقوم على تجاهل الأخطاء
التي ساقت المسلمين إلى هاويتهم، أو تزور حقائق الدين والتاريخ، ما هي
إلا ضعف لا قوة فيها، وهي بهذا النحو لا ضرورة لها. والوحدة لا تكون
بإلغاء الفوارق، بل ببناء الإطار الجامع من عناصر الالتقاء، وما أكثرها بين
مذاهب الأمة، وفي ذات الوقت تترك مساحات لاختلاف الرأي والموقف
ضمن الإطار العام. وعلينا أن نتذكر أن النظام الذي يعجز عن استيعاب
الخلاف في بعض التفاصيل لهو عاجز وفاشل يعاني من الخلل، وأن المجتمع
الذي لا يستطيع أن يؤطر في نسيجه الشرائح المغايرة في الرأي، لهو مجتمع
زائل، وأن الجماعة التي لا يحتمل جمهورها بين أظهرهم أصحاب الرأي
الآخر، إنما تعاني من خلل في البنية الثقافية والنفسية، وهي لا بد أنها
حاصدة البوار. ومثله أيضا، فإن الفرد الذي لا يحتمل الاطلاع على الرأي
المخالف، فإنه فاقد للسواء في بنيته النفسية والفكرية، حالة تجعله يتشنج
ضد الآخر ويواجهه بالعنف والكراهية والافتراء، ولا أمل له في هداية.
من هذه المنطلقات كان هدفنا من هذا البحث، الذي توخينا به
توضيح نذر مما قد تحتاج إليه الأجيال الشابة من معرفة حول موضوع
الإمامة في القرآن الكريم، راجيا من الله تعالى التسديد إلى الصواب
والكلمة الطيبة. واستغفر الله الغفار لنفسي أولا ولإخوان لي طالما

11
أحببتهم، فكانت مساهمتهم في إثارة الشبهات مع من أثار، مع علم بحسن
مقاصدهم، سببا لقيامنا بهذا العمل، آملا من العلي القدير أن يهدينا جميعا
سواء السبيل.

12
الفصل الأول:
الإمامة المعصومة والمرجعية الربانية
في مقابل خط الخلافة البشري
إيقاظ المشتبهين في الحق

13
التمهيد:
إن هذا الكتاب يقدم دراسة قرآنية تفسر ثلة من نصوص الإمامة في
القرآن الكريم، وتناقش موضوع الإمامة ضمن معطياتها، ومما يشد الانتباه
أن المنهج الشائع في تفسير آيات الذكر الحكيم كان غالبا يعتمد على
استخلاص المعنى الإجمالي للنص، بينما يشار إلى المضمون الخاص من
خلال أسباب النزول، بالرغم من أن بعض النصوص تحمل دلالتها الخاصة
من خلال أسلوب البيان والتعبير بما يتلاقى وأسباب النزول المعلومة ولو
بمعزل عن العلم بها، والنصوص المتعلقة بموضوع الإمامة تشكل نموذجها
الرئيسي، ولعله لم يعط لهذه الحقيقة قدر كاف من الاهتمام، ولم تتناول
التفاسير في الأغلب هذا الأمر بما يستحقه من الجهد. والذي يميز بحوثنا في
هذا الكتاب هو أننا قد تناولنا البحث في بعض من نصوص الإمامة، التي
أتاح لنا الوقت فرصة النظر فيها، من خلال استخراج الدلالة المباشرة التي
يحملها أسلوب البيان وطريقة التعبير، ويفرضها النص علينا وبمعزل عن
أسباب النزول.

15
ومما تجدر الإشارة إليه أن نصوص الإمامة في الكتاب قد تعرضت
إلى الافتراء لجهة تزوير أسباب النزول أحيانا، ولجهة التأول في المضمون
أحيانا أخرى، لإخراجها عن دلالاتها الحقيقية، بهدف عدم معارضة الواقع
الذي ساد في ولاية الأمر وانسجاما مع توجهات السلطة المهيمنة على
الأمة; ولأن الخطأ إذا أصبح مزمنا وشائعا تملك من النفس، وترسخ في
خلفية الذهن والقلب، بحيث إذا وقف المرء أمام أحد النصوص التي
تعرضت إلى مثل ذلك الافتئات، انطلق في فمه من تلك الخلفية، فكان
يسقطها عليه من حيث لا يدري، لذا فإن الفهم السليم لنصوص الإمامة
كغيرها يحتاج إلى البصر الثاقب، والعقل الصافي، والوجدان الشفاف،
للتمكن من القفز فوق الخطأ الشائع الذي تملك من نفوس بعض
المسلمين، ولعل انسجام المرء مع فطرته السليمة في سلامة الوجدان
واستقامة المنطق، يكون معينا كبيرا على رؤية الصواب في هذه النصوص
العظيمة. ولعل بعض الشيعة الذين يعيشون أقليات في العالم العربي،
وخاصة في بعض بلاد الشام، يصيبهم أحيانا بعض هذا بحكم المناخ العام
المسيطر في مجتمعاتهم، وبحكم تلقي التعليم في مناهج مطابقة لتوجهاتها،
وبحكم التقصير في التوجيه والإرشاد للشبان، حول كثير من قضايا العقيدة
بما فيها نصوص الإمامة في القرآن الكريم.
إخلاص النية لله مدخل الفهم الصحيح:
على أنه لا يمكن التجاهل أن أي نص مهما كان صريحا ومباشرا في
دلالته، يكون قابلا للتأول، إذا شاء صاحب الغرض ذلك حين يجده لا

16
ينسجم مع تو جهاته، وهذا أمر نابع من طبيعة اللغة، وتشترك به كل
الألسن، إلا أن المرء إذا أخلص النية لله، وجد بعقله، وأحس بوجدانه،
بطلان الادعاء فيه، وعدم انسجامه مع النص تارة، أو مع المناخ القرآني
العام تارة أخرى، أو مع ثوابت الكتاب والسنة تارة ثالثة، أو مع العقل
السليم تارة رابعة، ومثاله أنه، مهما حاولنا اصطناعا في علم الكلام، حول
أولي الأمر الذين فرض الله تعالى ولايتهم على الأمة من قوله تعالى:
* (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) *، فإن الفطرة السليمة
تأبى أن لا يكونوا جهة خاصة علم تعالى أن طاعتها هادية كطاعتهما حتى
جعلها فريضة طاعة موازية لولايته وولاية رسوله (صلى الله عليه وآله)،
ويأبى أن يكونوا مطلق ولي أمر يحمله رحم الزمان ليتولى على الأمة، لما
يحمله ذلك من احتمال أن يأتي من لا يتوافق مع أهداف الرسالة، ولا
يكون أمينا عليها، من فاسق أو ظالم أو ضال أو جاهل ليس على مستوى
المسؤولية، أو منافق، واستحالة أن يفرض الله تعالى على عباده سبيلا
يوقعهم في ضلال أو هلكة في الدين أو الدنيا، والوجدان يأبى أن لا يكون
أهل الذكر * (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) * جهة لها من
مصداقية الذكر ما جعلها تستحق أن توصف بأنها أهله، هذه العبارة التي
لم تستعمل في القرآن إلا هنا على كثرة ورود عبارة الذكر فيه، ويأبى أن
يكون الوصف يعني اليهود والنصارى أو أحبارهم مع العلم بصفاتهم التي
بينها القرآن الكريم وأكد عليها بما لا يدع لهم أدنى مصداقية تخول إحالة
جاهل عليهم ليحصل العلم بأي حقيقة من حقائق الإيمان، مشركا كان

17
الجاهل أو مسلما أو حتى من أتباعهم، وقد علم حقدهم على نبي الإسلام
(صلى الله عليه وآله)، وتحريفهم للكلم عن مواضعه وتزويرهم لكلام الله
وكتمانهم للحق، وغشهم للمؤمنين ليصدوهم عن الإسلام، وغشهم
للمشركين ليحولوا دون إسلامهم بقولهم عن الجبت والطاغوت
* (... هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا...) * بل وغشهم لأتباعهم
ليحولوا بينهم وبين الحقيقة بكتمان كلام الله. والعقل السليم يأبى أن
تكون الواو في * (... والراسخون في العلم...) * استئنافية لما يترتب عليه من
أن الله تعالى قد احتبس بعلم التأويل لديه ولم يجعله متاحا للناس، مما
يناقض مبررات الوحي والتنزيل، وتأبى قواعد البيان والتعبير أن يكون
معنى وهم راكعون في قوله: * (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا
الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) * مجازيا بالخضوع
وليس الركوع من الصلاة كما هو ظاهر الكلام إذ يصبح الوصف شاملا
لجميع المؤمنين ويصبح المعنى أن جميع المؤمنين أولياء لجميعهم، وتغدو
العبارة كالآتي: (يا أيها الذين آمنوا إنما وليكم الذين آمنوا)، مما يصدع
النص ويخرجه عن أسلوب اللسان العربي في التعبير والبيان، إذ أن أداء مثل
هذا المعنى لو كان هكذا القصد يحتاج إلى تعبير آخر كقوله تعالى:
* (والمؤمنات والمؤمنون بعضهم أولياء بعض) * لذا لا بد من فهم
* (راكعون) *، بظاهرها لتبقى جملة * (يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم
راكعون) *، تخدم في تمييز جهة من المؤمنين لهم الولاية على جميعهم،
فيستقيم بهذا بنية النص وأسلوب بيانه.

18
والمنطق السليم لا يرضى أن يكون قوله تعالى: * (لا يمسه إلا
المطهرون) *، يعني اللمس المادي لا الإدراك المعنوي، لما ينطوي عليه من
تقزيم لموضوع القسم، ومن خروج بالعبارة عن سياق ما قبله وبعده في
القسم العظيم: * (فلا أقسم بمواقع النجوم، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم،
إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب
العالمين) *، وعدم تناسب مع القسم العظيم بأن القرآن الكريم في * (كتاب
مكنون) * الذي لا يعني المصحف المكتوب في الجرائد، بل الكتاب في
المجرد والمعنى والمضمون المحفوظ عند الله والذي أنزله على الرسل * (تنزيل
من رب العالمين) *.
وهكذا فإن الذوق السوي، والفطرة السوية، والمنطق السديد،
والوجدان الشفاف، تجعل المرء يتوقف عند التأولات المفتعلة، ويرى
بعفويته الصادقة إن في ذلك التأول اختلالا، مما يجعله إن تابع البحث
والاستقصاء يهتدي إلى الحق، الذي قد احتجب عن بعض الأذواق، نتيجة
الحجب الكثيفة من الحجر والتزوير، والتوجيه المغلوظ للناس عبر القرون.
وهكذا فإنه من الضروري لمن يريد الحقيقة مهما كان انتماؤه، أن
يتجرد عن أي موقف سابق، حين يقف أمام نصوص الإمامة ليرى دلالتها
من خلال ما يفرضه أسلوب البيان والتعبير، وبما يرضي المنطق السديد
والوجدان السليم، فيرى من ذلك مطابقتها مع الذي صح من أسباب
7 النزول، ولو فعلنا هذا لو جدنا أن هذه النصوص، وإن كانت تتفاوت في
حجم دلالتها، لكنها جميعا تلتقي في دلالة واحدة على أن هناك جهة

19
محددة يتعين لها المرجعية الواجبة على المؤمنين في شأن الحيز الذي يتناوله
النص، في وجوب الطاعة والولاية العامة على الأمة في نص أولي الأمر
ونص الولاية، ومرجعية العلم والإرشاد في شأن الكتاب وما يتعلق به من
شأن الرسالة والأمة في نصوص الراسخون في العلم، وأهل الذكر، ولا
يمسه إلا المطهرون، وفي وراثة مرجعية الكتاب في حقبة القرآن بعد النبي
(صلى الله عليه وآله) في نص وراثة الكتاب، وفي الشاهدية الكبرى في
نص الاجتباء للشاهدية، ومن عنده علم الكتاب. وترتسم من خلال هذه
النصوص شروط ووظائف الإمامة العامة.
على أن تعيين النصوص القرآنية لمرجعية واجبة صادرة عن الله
تعالى، يؤيد منطق الدعوى بأن الرسالة قد شخصت هذه المرجعية على
أرض الواقع من خلال نصوصها الأخرى في الكتاب، أو السنة، أو
كليهما معا.
ومن هنا نفهم شدة حرص النبي (صلى الله عليه وآله) وبشتى
أساليب البيان من القول والفعل على إظهار من هم أهل البيت المطهرون
المعنيون بنص آية التطهير، وموقعهم من الرسالة والأمة، وأنهم هم
أصحاب هذه المرجعية المفروضة من الله، وذلك حتى لو حصرنا النظر في
النصوص التي استطاعت أن تخرق الحجر والتعتيم، والمتفق على صحتها
عند جميع المسلمين، وليس في السنة من موضوع قد حظي باهتمام النبي
(صلى الله عليه وآله) بمثل هذا الموضوع، لذلك نجد أن النصوص المتعلقة
بمنزلة أهل البيت وإمامتهم (عليهم السلام)، تشكل شطرا كبيرا من السنة

20
النبوية الشريفة، ولذلك يصبح يسيرا على ذي لب أن يفهم كنه ذلك
التصرف العجيب بإحراق سنة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) وبيانات
آخر مبلغ بلا واسطة عن السماء، ومنع تداولها على إثر ما حدث بعد
وفاته (صلى الله عليه وآله) مباشرة.
أضف أن الحالات الواقعية لأهل البيت الأطهار (عليهم أفضل
الصلاة السلام) تحقق مصداق هذه المرجعية، بينما واقع غيرهم ينأى بهم
عنها، الأمر الذي يتلاقى مع دلالات الذي قد نفذ من السنة النبوية عبر
الحجر وحجب التزوير.
لكن بالرغم من ذلك فإن القرآن الكريم قد بين لنا بيانات عديدة
لا يصعب بعدها أن نفهم أيضا أنها منوطة بآل محمد (صلى الله عليه وآله).
وهكذا نجد أن بعص النصوص قد حدد نسب الشاهدين بإبراهيم
(عليه السلام) من ابنه إسماعيل (عليه السلام) كنص الاجتباء للشاهدية،
وأخرى قد أثبتت لأهل البيت (عليهم السلام) موقعية متميزة في الرسالة
وفريدة من الأمة، مقترنة مع موقعية النبي (صلى الله عليه وآله)، كما في
آيات المودة وآيات المباهلة، وأخرى حددت الولاية بعلي (عليه السلام
فمكنت هكذا بمعرفة أول الأولياء من معرفتهم جميعا، لدلالة كل أحد على
الذي يليه، وأخرى اختصت أهل البيت (عليهم السلام) بالتطهير كآية
إذهاب الرجس، لتجعلهم مصداق المرجعية التي أفادت بها النصوص
الأخرى، كما سنرى تفصيل ذلك خلال أبحاث الكتاب.

21
القرآن قد أجمل في جميع القضايا الكبرى ومنها الإمامة:
والذي يلفت الانتباه أن معرفة الأجيال الشابة محدودة جدا بحقيقة
نصوص الإمامة في القرآن الكريم، وهي في أحسن الأحوال تقتصر على ما
يبذله المرء من جهد شخصي لتحصيل المعرفة بذلك لأن مناهج التربية،
كما حلقات التوجيه الديني في المساجد، والمؤلفات التي تنتشر بين الناس
في سبيل التوعية الدينية، وجهود العلماء المخلصين، كلها تفتقر إلى تناول
هذا الموضوع الهام بما يقتضيه من تركيز واهتمام، مما جعل ممكنا تسرب
بعض المفاهيم المغلوطة عن هذا الأمر لدى الناشئة، وجعلهم يفتقرون إلى
رؤية واضحة في هذا الحيز، وجعل يسيرا لبعض الجهات أن تطرح على
الناشئة دعوى خطيرة مضللة في أن الإيمان الكامل بالمفهوم القرآني لا
يشتمل على الإمامة، مما يترتب عليه نتائج خطيرة في البنية العقائدية لدى
الأجيال الصاعدة، يسهل معها بعد ذلك انسلاخها من التشيع.
وبالرغم من أن للسنة الصحيحة ذات القوة الثبوتية التي للنص
القرآني، وأن لها ذات القوة الإلزامية للمسلم في الاعتقاد والعمل، لكن
مثل هذا التوجه الذي يجافي الحقيقة بوضوح يدعو إلى الريبة والشك في
مقاصده، لأن السنة قد تعرضت للدس والتزوير، واختلف المسلمون حول
النصوص، تارة لجهة ثبوتها، وتارة لجهة دلالتها، ورغم أن النصوص النبوية
المتعلقة بإمامة آل محمد (صلى الله عليه وآله) قد ورد الغالبية الساحقة
منها بالطرق الصحيحة لدى جميع المسلمين إماميين وغيرهم، والكثير منها

22
الذي هو بيضة القبان متواتر لدى الفريقين، وأن دلالتها واضحة لا تحتمل
تأويلا إلا من قبيل المماحكة والتعسف لإخراج النص عن دلالته، ورغم
أنه بالمثل تعرضت نصوص الكتاب المتعلقة بالإمامة إلى التأولات، فبالرغم
من كل ذلك، تبقى هذه النصوص المتفق على صحتها السند القوي الذي
لا يجوز التنازل عنه، أو تجاهله تحت ضغط من إرادة الوحدة بين المسلمين
أو غيره من الذرائع، علما أن هذا الهدف على مشروعيته لا يتحقق
بالتجهيل بحقائق الكتاب والسنة، وتزوير التاريخ; بل له أساليبه الأخرى
الحكيمة التي ليست مثل هذه التنازلات من شروطها، لذلك لم يكن من
السهل القبول بمثل هذه التسريبات المضللة.
ومن الجدير بالذكر أن عقيدة الإمامة وفريضة الولاية العامة من
خلال القرآن الكريم هي على حال تشبه فيه الكثير من القضايا الكبرى،
فنجد أن ضرورة النبوات لم تحظ بحوارات تفصيلية كثيرة شبيهة بتلك التي
تناولت التوحيد والبعث. ولعل مرد ذلك إلى أن صدق الأنبياء يحصل من
صواب دعوتهم، وإلى أن ضرورة الرسالات الإلهية إلى البشر يرتبط بوجود
الله وصفاته في الكمال والعدل وامتناع العبثية على خلقه للإنسان. لذلك
كان تركيز الكتاب على ترسيخ القناعة بوجود الله وصفاته، وعلى عقيدة
البعث. فيكون إحراز هذه القناعة المدخل إلى معرفة صواب الدعوة
وصدق صاحبها. والإمامة التي لها ذات مبررات النبوة، والتي تقوم
بوظائفها بعد النبوة الخاتمة، عدا الوحي، في هداية البشرية، هي مثلها
تندرج في ذات الاعتبار.

23
إلى ذلك نجد أن الفرائض الأم في القرآن الكريم من صلاة وزكاة
وحج وصيام قد وردت مجملة بدرجات متفاوتة، خاصة الصلاة التي هي
عمود الدين والزكاة - وترك التفصيل للنبي (صلى الله عليه وآله)، الذي
جعل تعالى أوامره وتوجيهاته ملزمة كالقرآن الكريم، * (ما آتاكم الرسول
فخذوه...) * و * (من أطاع الرسول فقد أطاع الله) * و * (وما ينطق عن
الهوى إن هو إلا وحي يوحى) *. لذلك فإن عدم ذكر أسماء الأئمة
المعصومين بعد النبي (صلى الله عليه وآله) في القرآن، الذي هو من
التفصيل، لا يخرج عن نهج الكتاب في الأمور الكبرى في الدين.
فالقرآن قد شرع الولاية العاصمة للأمة من الضلال، وترك للنبي
(صلى الله عليه وآله)، الدلالة على مصداقها كما هو الحال مع الفرائض
الأخرى، وهو (صلى الله عليه وآله) لا يصدر عن نفسه بل عن الله
وبتكليف منه * (أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) * فيكون
لبياناته ذات القدسية والقوة الإلزامية التي للقرآن. ولقد فصلنا في هذا
خلال البحث في مضمون نص أولي الأمر فسيرى القارئ ذلك في حينه.
النبوة والإمامة يرتكزان إلى ذات الأدلة العقلية:
أن العقائد الركنية، التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد والعدل، هي
عقائد ذات ارتكاز عقلي في المنطق السليم، غير أن التوحيد والنبوة
يرتكزان إلى العقل وحده، بينما العقائد الثلاث الأخرى، فمع ضرورة
ارتكازها إلى العقل في عملية الإيمان، هي أيضا مؤيدة بالنص، وهذا الأمر

24
ناشئ من أنها تالية للعقيدتين السابقتين ومرتبطة بهما في المنطق العقلي.
ومن جهة الارتكاز العقلي فإن ضرورة الإمام وعصمته بعد خاتم الأنبياء
(صلى الله عليه وآله) تثبت عقلا بكل ما ثبتت به ضرورة الأنبياء
وعصمتهم، ولسنا هنا في صدد البحث عن تلك الحجج، فعلم الكلام قد
أو في الأمر حقه ولمن يريد أن يرجع إلى كتبه، لكننا نشير إلى أنها جميعا
تلتقي عند نتيجة واحدة مفادها أن الغاية من الرسالات والوحي الإلهيين
هي هداية البشرية بالمقاييس الربانية للهداية، لذا كان الأنبياء والأوصياء
يتوالون منذ آدم (عليه السلام) وانتهاء بخاتم الأنبياء محمد المصطفى (صلى
الله عليه وآله) في كل الأزمان والبقاع من المعمورة، وما ذكر منهم في
القرآن الكريم هو القليل، بينما يبلغون في بعض الروايات الألوف، ولا
ريب في أن هدف الهداية الإلهية للبشرية يبقى دائما أيضا بعد الرسالة
الخاتمة إلى يوم الدين، مما يعني أنها تحمل وتتضمن البرنامج والأهداف
الربانية التي تتجاوز زمن ومكان نزولها إلى يوم الدين، وإلى كل البقاع
والأمم. ومن الواضح أن الهداية المرجوة للبشرية تكون بالرسالة بوجهها
الصحيح المطابق للنزول، ولما عند الله تعالى في أم الكتاب، مطابقة بالنص
والمضمون، فلو أصيبت بالتحريف أو النقص أو الزيادة، امتنعت الهداية
لأنه الهداية لا تكون إلا كلا أو أنها لا تكون جزءا، والشاهدية على الناس
والأمم عند الله تعالى، هي أيضا من خلال معطياتها كما هي لدى الله، لا
كما يراها المتطوعون للشهادة بظنونهم وآرائهم الذاتية، ولنا تفصيل في
ذلك في بحث الشاهدية. لذلك لا بد لديمومة الهداية بالرسالة بعد خاتم
الأنبياء (صلى الله عليه وآله) من أن يصان هذا الخط الإلهي بوجهه الأصل

25
نصوصا ومضمونا، أهدافا وبرنامجا، آنيا ومستقبليا، فما لم يكن هذا
امتنعت الهداية وتعطل الهدف الرباني منها (1)، لذا كان لا بد بعد خاتم
الرسل من مرجعية صالحة، عالمة بكل ما استودع الله تعالى أنبياءه (عليهم
السلام) وخاتمهم (صلى الله عليه وآله) من برنامج إلهي في رسالاته
ورسالته الخاتمة، ومن الطبيعي أن لا تكون هذه المرجعية على سبيل
التطوع لما يعكس ذلك من ذاتية ونسبية لجهة التطلعات والفهم، بل أن
تكون صادرة عن الله تعالى، فلا يمثل الخط الإلهي تمثيلا يعكس إرادة الله
منه إلا من كان صادرا عن الله، مسددا ربانيا، ولا وجه معقول في أن
يكون الأمر بعد خاتم الأنبياء غير ما كان قبله، فالناس هم الناس بكل ما
يعتري الإنسان من نقص وضعف ونسيان وميل مع الهوى والمصالح الآنية
وجهل، ومن قيام احتمال التحريف في الدين، ولقد فعلت الأمم السابقة
ذلك رغم وجود الأنبياء فيهم، وأخبرنا نبينا (صلى الله عليه وآله) بأن
أمته ستحذو حذو من قبلها من الأمم... وأنها ستفترق إلى ما يزيد على
السبيعين فرقة، واحدة ناجية... ولقد كذب على النبي (صلى الله عليه
وآله) في حياته، والواقع الذي حصل في تاريخ المسلمين يؤكد هذه



(1) إن الرسالة التي اكتملت نصوصها مع انقطاع الوحي، لم تكتمل غايتها ولا برنامجها
وخططها التي تحملها في طيات نصوصها إلى يوم الدين وجميع الأمم، بل هي حينئذ قد
بدأت، وهي جزء أساس من الرسالة لا يمكن الفصل بينهما، لذلك فإن الإمامة بما هي
قيمة على هذا الجزء الركني من بنية الرسالة كانت مكملة في دورها لدور النبوة في
سلسلة الهداية الربانية للبشرية، وكانت جزءا من بنية الرسالة وفي نسيجها واختيارا ربانيا،
كحلقة متصلة بحلقة النبوة ومكملة لغاياتها، ابتداء من إمامة رسول الله (صلى الله عليه
وآله) ومرورا بأئمة الهدى (عليهم السلام) من آل محمد (صلى الله عليه وآله).
26
الإخبارات، خاصة لجهة ما لحق السنة من محق والكتاب من اختلاف في
المضمون، ولجهة الفتن والرزايا التي أصابت المسلمين، بل إن الحاجة بعد
الرسالة الخاتمة أشد إلى استمرار المرجعية المسددة إلهيا، إذ لن يكون بعدها
وحي ينزل على البشرية، ولقد جاءت نصوص الإمامة لتترجم هذا الواقع،
ولتعبر عن ذلك المنطق السليم حين تربط بين المرجعية المنصبة ربانيا وبين
ضمان الهداية ووقاية الأمة والدين من الانحراف والضلال، ومن تلك
الآفات التي أخبر بها النبي (صلى الله عليه وآله) ورأيناها في الواقف المعاش،
وعلى سبيل المثال فإن حديث الثقلين أوضح أن الوقاية من الضلالة
والهلكة تكون باتباع الخط الإلهي الممثل بالثقلين الكتاب والعترة، ومثله
حديث السفينة والنجوم والعدول من أهل بيتي، كما أن آية الولاية
فرضت ولاية النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام)، ووعدت
الموالين بأن * (فإن حزب الله هم الغالبون) * وجائت بعد أن حذر تعالى
المؤمنين في الآية التي سبقتها من الردة في إشارة واضحة إلى أن فريضة
الولاية هذه ضرورة لاستمرار المؤمنين على الخط الإلهي. ومعظم نصوص
الإمامة من القرآن والسنة تحمل ذات المضمون لتجعل الإمامة الربانية
المصدر تمثل الامتداد المتوقع للخط الإلهي على الأرض المتصل منذ آدم
عليه السلام إلى يوم الدين، لمواكبة أهداف وخطط الرسالة الخاتمة التي قد
أكملت نصوصها مع انقطاع الوحي، لكن لم تكتمل مقاصدها وبرنامجها
التي تتجاوز زمن ومكان النزول إلى كل المعمورة والأمم إلى يوم الدين،
بل إنها حينئذ قد بدأت، ولذلك كان الرسول (صلى الله عليه وآله) مع
نبوته إماما رباني التعيين، ولنا عودة إليه، وكان مثل ذلك بعده الأئمة

27
الاثنا عشر من أهل بيته (عليهم السلام) الذين هم بعده خلاصة الذرية
الإبراهيمية التي اصطفى الله على العالمين وجعل فيها النبوة والكتاب. ولم
يكن الإمام في مرجعيته صادرا عن ذاته يمثل نسبية علمه وذاتية فهمه
ومقاصده، بل يصدر عن الله تعالى ممثلا المقاصد الإلهية والإرادة الربانية
من الرسالة الخاتمة، التي بديمومة أصالتها يرتبط الهدف الأساس من الوحي
في هداية البشرية بها إلى يوم البعث.
المرجعية الربانية في مقابل خط الخلافة البشري:
وعلى أنه لم يكن في الكتاب من نصوص أخرى حول مرجعية
الرسالة والحاكمية العليا في الأمة، إلا تلك المتمحورة حول الإمامة
المعصومة (1) مما يفسر لنا لماذا جاءت الاجتهادات حول الخلافة بعد
استقرار الأمر على النحو المعلوم تاريخيا، لتعكس آراء ذاتية لتبرير الواقع
الغالب لا سند لها من النصوص كما سنفصله في مكانه من هذا الكتاب.
فالأحداث التي واكبت أواخر حياة النبي (صلى الله عليه وآله) وعقب
وفاته (صلى الله عليه وآله) مباشرة، أدت تحت وطأة دوافع من اعتبارات
سياسية ومصلحية وعصبيات وطموحات قرشية جاهلية إلى تراجع فئة من
المسلمين عن هذا الخط، ففرضوا موقفهم على العامة، وساعدت عليه
ظروف موضوعية في تركيبة المجتمع وعلاقاته القبلية وتوزع جماعته
الجغرافي المترامي، وحركة النفاق التي اتسعت اشتدت باستسلام قريش



(1) راجع كتاب " نظام الحكم والإدارة " للعلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين الذي قدم
نقاشا فذا لهذا الموضوع.
28
للدين الجديد حقنا لدمائها، وحداثة العهد بالإسلام التي جعلت خضوع
الكثرة الأعم من المسلمين إلى سلطة النبي (صلى الله عليه وآله) خضوعا
سياسيا يفتقر إلى نضج في الإيمان وفهم كاف للدين، وتأسس من هذا
الرفض خط الخلافة من منطلق بشري، فكانت الخلافة مشروعا بشريا
جاء ترجمة لذاتية مؤسسية، ثم لذاتية الذين تقلدوا مسؤولية الحاكمية على
مر العصور، لجهة التطلعات والفهم والسلوك، ولم يكن ليصدر عن ولا
ليحقق التكافؤ مع مسؤولية الرسالة ومقاصدها وخططها الربانية، المعانقة
للزمان، فكان هدف الحكم هو الأبرز في هذا الخط البشري مع انكماش
دور المرجعية الرسالية في بدايته ثم إهماله كليا في الأدوار اللاحقة، بل
أصبحت الرسالة بحاجة إلى من يحميها من الخلفاء، لذلك انصدعت سريعا
في سنوات معدودة، فامتدت الأيدي إلى السنة الشريفة وهي نصفها
ومرآة الكتاب، فبدأ سحقها منذ حرق ما كان دون منها ومنذ أن منع
من تداولها. مما فتح الباب لاحقا للدس والتحريف فيها، وبالتالي في فهم
الكتاب وفي الدين كله، ولئن حاول رواد الخلافة ربطها بالإرادة الإلهية،
من خلال الادعاء بأن شرعية الخليفة ومصدر سلطته ربانيان، استنادا إلى
فهم معكوس لنص أولي الأمر، فإن هذا لا يغير من الواقع الذي يجعل
الخليفة صادرا في الحقيقة عن الذي ولاه، سواء عن نفسه إن كان قد
استولى على الحكم أو عن غيره إن كان غيره فردا أو جماعة قد ولوه، لذا
كانت الذاتية البشرية ظاهرة في هذا الخط لجهة التطلعات والمقاصد
والمنهاج، فوجدنا هدفه الحكم والسلطة، ووجدنا التبرير يعظم دور
الخليفة في الحكم وإدارة الدولة لتحقيق استقرار الشأن الحياتي للناس، مع

29
انكماش دور المرجعية الرسالية والقيمومة على الدين وأهدافه المرحلية
والبعيدة، في الوقت الذي اعتبروه نائبا عن النبي (صلى الله عليه وآله)،
فقد سمي بالخليفة من خلافة النبي (صلى الله عليه وآله) في أمته، ثم وجدنا
أن هذا الهدف الأبرز مما يبرر في الأزمان اللاحقة للمجتهدين في الإمامة
أن يجعلوا إطاعة الولي الفاسق أو الظالم واجبا، ويحرمون القيام عليه بحجة
عدم الإخلال بالنظام العام وسير الحياة للأمة، حتى لو كانت هذه الإطاعة
تشكل خطرا على الرسالة ومصالح الأمة العميقة في تقديم واضح
للمصلحة الحياتية الآنية لبعض فئات الناس ومصلحة السلطان، على
مصلحة الرسالة وضرورات العقيدة، ولئن كان في هذا المنطق تناقضا بين
مقدماته ونتائجه، فإن نقاشه هنا يخرجنا عن الموضوع، إنما أردنا إظهار
الفارق بين مضمون الخلافة البشرية التأسيس، وبين الإمامة الربانية المصدر
التي تتمحور أساسا حول توفير المرجعية العليا للرسالة وللأمة في كل
شؤونها المرتبطة بالدين، بما فيها الشأن السياسي والحكومة، وشأن
الأخلاق والقيم والسلوك، لذا فالحكم والإدارة اللذان هما محور الخلافة
البشرية ما هما إلا جزء بسيط من محور الإمامة الربانية المصدر.
ثم أن الذاتية التي تجلت في الغايات في خط الخلافة البشري، لا بد
لها أيضا أن تتجلى في الأداء، فلما كان مسلك صاحب الرسالة ومنهجه
في الحكم ما زال ماثلا في الأذهان في العقود الأولى، وكان الناس الذين
عاصروه، أي الصحابة، يتوقعون عدم التباين عنه، لذا جاء مسلك الخليفة
الأول والثاني (ر)، وهما ينتميان إلى ذات الجيل من الصحابة، متجلببا

30
بذلك المنهج ولو في التوجهات العامة، ولما خرج الخليفة الثالث (ر) عنه
خروجا فاضحا وأصر على ذلك في وجه مراجعات الصحابة المتكاثرة
واعتراضاتهم المتنامية، حصلت الثورة عليه، ثم جاء أمير المؤمنين علي (عليه
السلام)، وبحكم كونه الوصي ودوره في المرجعية والقيمومة على الرسالة،
عاد إلى إحياء ما عطل من السنة، والقيم الكبرى في حياة الأمة وفي
مسلكية الحاكم وطريقة مباشرته لشؤون الحكم والرعية وفي حياته
الخاصة، لذلك وجد المعارضة الدموية من أجنحة الخلافة البشرية التي قد
رسخت نفوذها في المجتمع خلال عهود الخلفاء الثلاثة السابقين ونتيجة
لسياساتهم في الحكم، سواء بما حصلته من ثراء إقطاعي مفرط كحالة
الطلحة والزبير وعموم قريش وحزبهم، أو بما أحكمت قبضتها عليه من
الولايات الغنية كحالة الأمويين في الشام، وساعد هؤلاء، ونتيجة
للسياسات السابقة أيضا، ترسخ نهج عام لدى فئات من الأمة في ترجيح
الضرورات السياسية والولاءات القبلية على فروضات القيم الرسالية
والولاء للدين، ذلك النهج الذي كان في خلفية الانقلاب الأول على
المرجعية المنصوبة ربانيا وتأسيس الخلافة البشرية المصدر، والذي تعكسه
وقائع من جملتها قول عمر (ر) للعباس (ر) حين سأله: " ما الذي جعلكم
تعدلون عن علي (ع) " فأجاب: " لم تكن قريش لترضى أن تجتمع النبوة
والإمامة في بني هاشم " أو " في حي واحد " هذا الكلام الذي يعبر عن
تطلعات رواد الخلافة تلك، لجهة عدم التفاعل مع المقاصد الربانية من
الرسالة الإلهية وما يرتبط بها من نبوة ومن إمامة، ولجهة تجاهل هذه

31
المقاصد أو عدم استيعابها أو الانسجام معها، والتعامل مع الأمر كحالة
سياسية لا كرسالة إلهية (1)، وهكذا لما استتب الأمر لمعاوية ونتيجة لحقيقة



(1) ومنها انصياع أبي بكر لنصيحة المغيرة بن شعبة حين قال له: " يا أبا بكر إن تلقوا العباس
فتجعلوا له في هذه الإمرة نصيبا يكون له ولعقبه، وتكون لكما الحجة على علي وبني
هاشم إذا كان العباس معكم " (الإمامة والسياسة ص 15)، ومنها عمله باقتراح عمر كما
روى الجوهري في كتاب السقيفة أن يترك لأبي سفيان ما بيده من الصدقات التي جمعها.
(شرح النهج، ابن أبي حديد: ج 1 ص 306 - 307) وأن يجعل لأبي سفيان مصلحة
في خلافة أبي بكر بأن يولي ابنه يزيد قيادة جيش ويرسل معه معاوية كقائد من قواده
وهو وأبوه من الطلقاء والمؤلفة قلوبهم الذين لا يجوز جعل سبيل لهم على المؤمنين ويتلقى
أبو سفيان تلك المنن ويقول عن أبي بكر وصلته رحم (تاريخ الطبري ج 3 ص 209 -
210، ونظام الحكم للقاسمي ص 152) وأنظر في المقابل موقف على (عليه السلام) من
أبي سفيان حين جاء يقول: " والله إني لأرى عجاج لا يطفئها إلا الدم يا آل عبد مناف "،
ثم قال: " يا أبا الحسن ابسط يدك لأبايعك ". فأبى ذلك وزجره وقال له:! تالله ما أردت
بهذا إلا الفتنة. والله طالما بغيت الإسلام شرا لا حاجة لنا بنصيحتك " (تاريخ الطبري ج 3
ص 203) ومنه جرأتهم على الزهراء (عليها السلام) وقد هموا بإحراق بيتها وفيه
أصحاب الكساء الأطهار، وحرمانهم لها من ميراثها بدعوى أن الأنبياء لا يورثون، بينما
أعطوا الزوجات من ميراثه بعد ذلك (صحيح البخاري ج 3 ص 68)، وحرمانهم لها من
فدك فرفضوا ادعاءها وشهادة أم سلمة وشهادة علي (ع)، رغم أن الزهراء وأبا الحسن
عليهما السلام قد طهر هما الله بنص القرآن، ولم يجز النبي (ص) عليها كذبا من قوله:
" فاطمة يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها " و " علي مع الحق والحق مع علي ". بينما قبلوا
ادعاء جابر بن عبد الله (ر) دون شهود وأعطوه المال الذي ادعاه (البخاري ج 3 كتاب
الشهادات). ومنه أيضا: حين دخل عمار بن ياسر على عثمان ليبلغه الكتاب الذي كتبه
الصحابة يعرضون فيه مخالفاته في حكمه لسنة النبي (صلى الله عليه وآله) فضربه عثمان
وبنوا أمية حتى فتقوا بطنه، وأغمي عليه فطرحوه على باب الدار، فغضبت له بنو المغيرة
لأنه حليفهم، ولم يغضبوا له لسابقته ولا للقضية التي تواجه بها مع عثمان وأدت إلى
ضربه، وقالوا لعثمان لئن مات عمار لنقتلن به رجلا عظيما من بني أمية.
32
أن الخلافة مشروع بشري لا بد أن يعكس ذاتية أصحابه فقد تعرى كليا
على يده وأيدي من بعده، لتظهر الحقيقة في أنه لم يكن صادرا عن، ولا
متكافئا مع عظم المسؤولية الرسالية ومقاصدها الربانية المواكبة للأجيال
والأمم، فأصبحت الخلافة النسخة القيصرية الأشد سوءا لجهة أساليب
القمع والاستخفاف بقيم الرسالة، لا بل وبالقيم الإنسانية، والتعدي على
الحريات وارتكاب المجازر، والظلم العام والتمييز الطبقي والعرقي،
والشذوذ في المسلك الشخصي للولي على أعين الناس، وفي طريقة التعاطي
مع الأمم الأخرى بعيدا عن روح الرسالة وأهدافها، وتلاحقت الأحداث
في المجتمع الإسلامي على النحو المعلوم تاريخيا، إلى أن أصبحوا عددا لا
قيمة له في حسابات الأمم، وسيطر عليهم الكافرون، خلافا لما كان
يرتجى لو لم ينحرف الناس عن الخط الإلهي المتمثل في المرجعية الصادرة
عن الله تعالى المجسدة لأهداف الرسالة ومضمونها وبرنامجها والتي نص
عليها القرآن والسنة متمثلة بالإمامة المعصومة، فلا ريب أن مشروع
الخلافة البشري كان منذ بدايته مشروع الصراع على السلطة، الذي
سرعان ما بدت آثار الخلل الجسيم الذي أحدثه في مسيرة الرسالة والأمة
ومستقبلهما.

33
انحراف الأمة عن المرجعية الربانية، ولمحة سريعة عن موقف الأئمة (ع):
إن الأئمة (عليهم السلام) لم يمكنوا من القيام بكل وظائفهم بعد
وفاة النبي (صلى الله عليه وآله). والظاهر من هذه الوظائف: الولاية العامة
على الأمة والمرجعية العليا للرسالة، وحفظها من البدع والتحريف، ودرء
الريب، والشاهدية على الناس، ومواكبة تطور البشرية وحاجاتها بالرسالة
الخاتمة بما حملها الله تعالى من خطط وبرنامج تقوم بحاجاتها إلى يوم الدين.
وحينما تعطلت بعض وظائف الأئمة بمعصية الأمة لهم، كوظيفة الحاكمية
وأنكرت الأمة مرجعيتهم، فإنهم مارسوا المرجعية العليا للرسالة والولاية
على من عرف حقيقتهم، فرسخوا الخط السليم الذي يمثل أصالة الرسالة.
ولم يكن من الحكمة أن يجبروا عموم المسلمين على الخضوع لمرجعيتهم بما
أتاحه الله تعالى لهم من قوى غيبية، بل هذا يحتاج إلى هداية وقناعة وجهاد
من المؤمنين لترسيخ الرسالة في مجتمعاتهم بكل معطياتها. وإن عدم توفر
الناصر للإمام يعني عدم إحراز الأمة لاستحقاق هذه الهداية في تلك
المرحلة، فلا معنى لفرض الحق بالقوى الغيبية حينئذ. ولم يكن حرب النبي
(صلى الله عليه وآله) للمشركين إلا لأنهم مشركون وقد حاربوه واعتدوا
على المسلمين، وكان ذلك بعد توفر الناصر الذي يدل على استعداد
جسم الأمة لحمل الأمانة ولم نجده حارب مانعي الزكاة من المسلمين
رغم قدرته عليه، فالأمر مع المسلمين بحاجة إلى أساليب أخرى، والله أعلم
برسالته، ولم يكن الحسين (عليه السلام) طالبا للحكم حين قام على يزيد،

34
بل كان يريد إنقاذ الإسلام والمسلمين بعد أن وصلت الأمور إلى شفا
جرف الردة على يد الحزب المنافق من الطلقاء والطرداء والمؤلفة قلوبهم
من بني أمية وقريش، وبعد توفر الناصر، ولما خذلوه فإن ظرف الأمة فرض
عليه التضحية وعدم الاستسلام، وكان عالما بأن القتل المفروض عليه
سيكون سببا في تقويض دعائم الظالمين، وفي تحقيق ما قام لأجله من إحياء
الدين، الأمر الذي يختلف عن ظرف الإمام الحسن (عليه السلام) الذي
كان له أن ينتج موضوعيا آثارا مختلفة تماما فيما لو حل به وبذرية النبي
(صلى الله عليه وآله) كالذي حل بالحسين (عليه السلام). أما حرب أمير
المؤمنين (عليه السلام) فكان بعد توفر الناصر لضرب خط النفاق
التحريفي، أما حين حصل الانقلاب عليه بعد النبي (صلى الله عليه وآله)
فلقد قاوم بالاحتجاج والموعظة، ولم يلجأ إلى القوة لعدم توفر الناصر،
وباعتبار الظروف المحيطة التي اقتضت منه مرحليا أن يعطي الفرصة
لترسيخ الحد الأدنى من الإسلام، لكي يصبح ممكنا في المستقبل تثبيت
الصورة المتقدمة من الإيمان.
ولقد كان الأئمة (عليهم السلام) حريصين على الإسلام
والمسلمين قبل أي شئ، وليس على أتباعهم فقط، لما يمثلونه من قيمومة
صادرة عن الله، ورغم تكاثر الأتباع واتساع القاعدة الشعبية في عصور
الأئمة (عليهم السلام) في العقود اللاحقة فإنهم لم ينفصلوا بجزء من الأمة
لكي لا ينشأ معسكران في الإسلام يتناحران عسكريا، بل اختاروا
لأنفسهم ولأتباعهم البقاء ضمن جسم الأمة، بالرغم من الملاحقة والقتل

35
وأقسى أشكال الاضطهاد، وكانت حركات المعارضة الطالبية التي تقوم
تهدف إلى إسقاط الحكم الجائر لا إلى الانفصال ببعض الأمة جغرافيا، مع
بقائه متاحا لو أرادوه، بل في الحالات النادرة التي استطاع من يدعي
ولا يتهم أن يؤسس حكومة مستقلة في جانب من أرض الإسلام، ثابروا
(عليهم السلام) على تمركزهم في الحجاز أو العراق بما يمثلانه من مركزية
للأمة رغم التنكيل المستمر بهم، لأن وظيفتهم هي اتجاه كل المسلمين، بل
كل الناس، وهذا كله من دلائل صدقهم وتوجهاتهم الربانية، التي تتجاوز
آفاق الطموحات الدنيوية في السلطة والنفوذ، وثابروا مع ذلك على بث
ما استحفظوا عليه من العلوم في الأمة بمجموعها، وبمقدار ما يتيحه العصر
والظرف وقابلية الأمة، وثابروا على درء التحريف الريب ضمن الثقافة
الإسلامية عامة، بإظهار الصواب في مقابل كل خطأ، ولولاهم (عليهم
السلام) لو جدنا مزيدا من الانحراف عن الرسالة، ربما بلغ تمام الانحراف
نتيجة خضوع العامة المطلق لحكام الجور، ومن الواضح أن درء التحريف
لا يحتاج من الإمام إلى سلاح ولا سلطان ولا حتى إلى علنية وظهور، ما
دام أن الإمام قائم يعاين ما يجري.
وتطورت الظروف إلى أن قضت حكمة الله تعالى في تغييب الإمام
(عليه السلام) الذي وإن كان محتجبا عن أنظار الناس، لكنهم ليسوا
بمحتجبين عنه، فهو موجود بينهم يعايشهم وله أعوانه الذين لا يعلمهم

36
الناس [n 1] (1)، فهو عليه السلام يقوم بوظائفه التي تحتاج إلى هذا الوجود
لا إلى الظهور، ومثالها الظاهر الشاهدية على الناس، كذلك درء التحريف
والريب; فالإمام الذي له أعوانه وبطانته ويرقب مجريات الأمور، لا تعييه
الوسيلة عن تسريب الوجه الصحيح من أي موضوع يصيبه التحريف
حين لا يبقى من شاهد حق له.
على أن للإمام، ظاهرا كان أو مستترا، وظائف أخرى يحتاج
إدراكها إلى عمق النظر في حقائق الخلق والوجود (2) ومنها أن وجود
المعصوم يتصل بالغايات الكبرى للخلق، إذ يمثل الوجود البشري الذي
يحقق الطاعة الخالصة لله اختياريا، علما أن العصمة ليست جبرية كما
يدعي البعض، بل هي قضاء إلهي حكم به تعالى لعباده بما استحقوه من
تحقيقهم لمقدماته الموجبة للعصمة في قضاء الله تعالى، ولو علمنا أن كل
الخلق خاضع لله لكن جبريا، بينما خلق الله الإنس والجن ليعبدوه طوعا لا
جبر فيه، فلهذه الجهة إن الإمام المعصوم يحقق هذا المعنى من الخلق، فلو



(1) عن أمير المؤمنين (ع): (حتى إذا غاب المتغيب من ولدي عن عيون الناس، وباح الناس
بفقده، وأجمعوا على أن الحجة ذاهبة والإمامة باطلة... فورب علي - حتى إذا بقيت
الأمة وتدلهت وأكثرت في قولهم إن الحجة هالكة والإمامة باطلة - فورب علي إن
حجتها عليها قائمة، ماشية في طرقاتها، داخلة في دورها وقصورها، جوالة في شرق
الأرض وغربها، تسمع الكلام وتسلم على الجماعة، ترى ولا ترى إلى الوقت والوعد
ونداء من السماء...) (بشارة الإسلام ص 37، والغيبة للنعماني ص 72 و 73).
(2) ولقد ورد عن الإمام الصادق (ع) ما معناه أن وجه انتفاع الناس بالإمام في غيبته
كانتفاعهم بالشمس إذا حجبتها الغيوم.
37
فرغ هذان الوجودان من مثل هذه الطاعة الخالصة حل بهما الهلاك،
لتعارض واقعهما مع مبررات وجودهما، وخروجه عن سياق الوجود العام
للكون، واعتراضه اتجاه حركته باندفاع وجودهما عكس المسار الكلي
للوجود. وهذا قد يفسر ما روي عنهم (عليهم السلام) بما معنا أنه لو
خلت الأرض من الإمام المعصوم لساخت بأهلها، وليس غريبا أن يكون
هناك تداخل بين أفعال البشر والطبيعة المادية للوجود، والذي نراه في
بعض الآيات الكريمة ومعطيات السنة الشريفة، ومثاله قوله تعالى: * (ولو
أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم
ومن تحت أرجلهم، منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما
يعملون) * {سورة المائدة: الآية 66}، وما أثر من السنة الشريفة " إذا ظهر
الزنا كثرت الزلازل " وما أثر فيها من أن الله تعالى يدفع العذاب عن
الناس بما فيهم من مؤمنين صالحين ولو كانوا قليلا، لذلك كان الله يأمر
أنبياءه ومن معهم من المؤمنين بمغادرة أممهم حين يقضي عليهم بالهلاك بما
قدمت أيديهم * (ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج
المؤمنين) * {سورة يونس: الآية 103}.
حجة الإمام قائمة ولو تعطلت وظائفه بمعصية الأمة:
إن معصية الناس للمرجعية الربانية من نبي أو إمام بما يؤدي إلى
تعطل في وظائفه بعضا أو كلا، كالذي حصل لكثير من مرجعيات الأمم
السابقة، كما أخبرنا القرآن الكريم، وكما حصل للأئمة المعصومين
(عليهم السلام) بعد وفاة خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله)، وإن كان قد

38
غير جذريا في مسار الأمة، وفي حجم التغيرات الحضارية المعقودة على
الرسالة الإلهية الخاتمة، لكنه مع ذلك لم يلغ حجة الإمام على الناس (1)،
فهو ما دام حيا موجودا، فإنه بوجوده يمثل دعوة دائمة إلى الناس إلى
اتباعه ليأمنوا من الضلال، ولا حجة لهم إن هم ضلوا بمخالفته، وهذا
يسري على الإمام ظاهرا أو محتجبا (2) لأن حاله وهو محتجب مع العلم
بوجوده، هي كتعطل وظائفه مع ظهوره، ولأن اتباعه في أي حال لا
يقتضي رؤيته ولا المكث بقربه، بل يكون باتباع منهجه الذي يذيعه
العدول من أصحابه، فما الغيبة إلا بمثابة تعطل بعض وظائفه نتيجة معصية
الناس لله في شأنه، والأمر في هذا التعطل سيان في الغيبة والظهور، ومجرد
وجوده وبمعزل عن مدى تمكنه من وظائفه، وبمعزل عن حجم ظهوره
واحتجابه هو حجة في ذاته على الناس، ما دام أن وجوده وحقه عليهم
يطرق أسماعهم، وأن منهجه متاح لهم ماثل أمامهم، وهم يعايشون أتباعه،
بحيث لو أن أحدهم أخلص في استبيان الدليل لم يكن ليعدمه، ويبقى



(1) وفي وصف النبي (صلى الله عليه وآله) للأئمة الاثني عشر من آله (عليهم السلام) قوله:
(... لا يضرهم من ناواهم..) وفي قوله عن الحسن والحسين: (الحسن والحسين إمامان
قاما أو قعدا).
(2) عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (اللهم لا بد لأرضك من حجة على خلقك يهديهم إلى
دينك ويعلمهم علمك، ولا يضيع أولياؤك بعد إذ هديتهم، ظاهر وليس بالمطاع، أو
متكتم مترقب، إن غاب شخصه عن الناس في حال هدنة، لم يغب عنهم ثبوت علمه،
فإذا قلوب المؤمنين مثبتة) (الغيبة للنعماني ص 68 والإمام المهدي ص 85).
عن النبي (صلى الله عليه وآله): " لا تخلو الأرض من قائم بحجة، إما ظاهر مشهور أو خائف
مستور، لئلا تبطل حجج الله وبيناته (نهج البلاغة ج 4 ص 37).
39
تصديق الناس به واتباع منهجه تكليفا على كل نفس، لأن استقامة
موقف الأمة منه هو من جملة الظروف الموضوعية التي يجب توفرها لكي
يمارس وظائفه كاملة، سواء كان قبل ذلك ظاهرا أم محتجبا.
على أن احتجاب الإمام (عليه السلام) في ذاته كان من نتائج
ومظاهر معصية الناس لله في شأنه، وتماديهم فيه، وقتل الأئمة الواحد تلو
الآخر، إلى أن وصل الوقت إليه (عليه السلام)، حيث احتبسوا أباه الإمام
الحسن العسكري (عليه السلام) ووضعوا الرقابة عليه وعلى نسائه ترقبا
لأي حامل منهن للقضاء على الوليد حين ولادته، ثم ولادته في هذه
الظروف وحجب أبيه له عن عموم الناس دون خاصة الخاصة حفاظا عليه
من الظالمين، ثم افتضاح أمره للسلطة وبلوغ خبره عند وفاة أبيه (عليه
السلام) وتقدمه للصلاة عليه ووشاية عمه به، وإرسال السلطان في طلبه
للقبض عليه، كله كان من الأسباب الموضوعية ليس فقط لإحاطة ولادته
(عليه السلام) بالتستر من قبل، كما في ولادة موسى (عليه السلام)، بل
أيضا في حجب الله تعالى له (عليه السلام) حين بات ظهوره سببا مؤكدا
للقضاء عليه، كما في حجبه عيسى (عليه السلام) برفعه إليه في ظروف
مشابهة ولأهداف متطابقة مرتبطة بالدور المرسوم لهما في قضاء الله تعالى.
والله تعالى يعلم منذ الأزل بأن هذه الظروف التي تفرض موضوعيا
غيبة الإمام ستكون للإمام الثاني عشر (عليه السلام)، لذلك جعل في
قضائه الأئمة (عليهم السلام) بهذا العدد، وقضى بالعمر المديد له، كمثل
عمر نوح والخضر وعيسى عليهم السلام، وذلك لأن غيبة الإمام المفروضة

40
بظروفها الواقعية، مع ضرورة الإمام إلى يوم الدين، تستدعي الإمام الذي
علم الناس بولادته ورأوه، فالإمام المهدي (عج) قد علم مولده وتناقل
الناس خبره، ونعموا ببركات اتصالهم به خلال فترة الغيبة الصغرى، بما
كانوا يوجهون إليه من أسئلة عبر سفرائه، ويتلقون إجاباتها، وبما يطلبونه
منه من الدعاء فيجدون قبول الله تعالى، وبما كان يصل المحتاجين منه من
العطايا، وبما كان يبتدئ به شيعته من التوجيه في الشدائد على مستوى
الأفراد والجماعة، وبما كانوا يلمسون من الكرامات له من إخبار لهم
بالغيب، فلم يختلف الحال على الشيعة عما كان عليه قبل ذلك مع آبائه
الطاهرين (عليهم السلام)، فاطمأنت نفوسهم. وتناقل الناس خبره، فكان
انتقال خبر وجوده وغيابه وكراماته من جيل إلى جيل، انتقالا لأمر قد
عاينوه، لا سيما أن النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام)
من بعده قد بشروا به وبغيبته قبل ولادته، حتى كان سلاطين العباسيين
يترقبون الولد لأبيه لكي يقتلوه حال ولادته، لعلمهم بما كان يحدث به
المسلمون من أن المهدي الذي يملأ الأرض قسطا، ويقوض دعائم الظالمين
هو الإمام الثاني عشر من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، فكان هذا
الإخبار بالغيبة قبل حدوثها، من دلائل صدق النبي (صلى الله عليه وآله)
والأئمة (عليهم السلام) من بعده إضافة إلى أن كون الأئمة اثنا عشر بعد
النبي (صلى الله عليه وآله)، كان مما أثبته صحاح عموم المسلمين قبل
اكتمال هذه العدة (أنظر مثلا مسند أحمد وكتاب سليم بي قيس)، فكان
هذا من النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) مرة ثانية دليل
صدقه وصدقهم، بل دليل تنصيب إلهي على لسان الرسول (صلى الله عليه

41
وآله)، لا مجرد إخبار بالغيب. وبعد اكتمال عدة الأئمة (عليهم السلام)
باثني عشر، تحقق مصداق بشارة النبي باثني عشر إمام بعده، كما أنه قد
تحققت بشارة التوراة بالنبي واثني عشر عظيم من ولد إسماعيل، كل واحد
كأمة عظيمة، الأمر الذي لم يفهمه أحبار اليهود قبل ذلك لجريان الأمور
مخالفة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، وهذا جعل بعض الأحبار
يدخلون الإسلام حين اكتملت صورة البشارة التوراتية.
على أننا لو نظرنا بعمق إلى موضوع الغياب لو جدنا أنه من زاوية
أخرى يمثل عقوبة ربانية للأمة التي بغت على رسولها وأهل بيته، وعتت
على أمر ربها (1) وتمادت في ذلك حتى قتلت كل الأئمة (عليهم السلام)
وقتلت أتباعهم وتعقبتهم عبر الأزمان، فهذا الإصرار على البغي الذي
استمر ما يقارب الثلاثة قرون، كان مدعاة للعذاب، بما يشبه حال الأمم
التي حق عليها الهلاك نتيجة تماديها في البغي والتنكر للحق، الأمر الذي
نراه في مجمل الآيات القرآنية التي تحدثنا عن تلك الأقوام، حتى إذا حق
عليها القول، فإن أول مظاهره تكون بحجب مرجعياتهم الربانية عنهم
بجعلهم يغادرونهم ويبتعدون عنهم، ويلي ذلك الفصل وقوع العذاب،
لكن الله تعالى واستجابة لدعاء نبيه ووعدا له (صلى الله عليه وآله) لم
يكن ليهلك المسلمين، دون أن يعني هذا أنه لا يعذبهم، فكان العذاب



(1) قال الإمام الباقر (ع): (إذا غضب الله تبارك وتعالى على خلقه نحانا عن جوارهم) (الكافي
م 1 ص 343)، وقال أيضا: (إن الله إذا كره لنا جوار قوم نزعنا من بين أظهرهم)، وعن
الإمام الصادق (ع): (واعلموا أن الأرض لا تخلو من حجة، ولكن سيعمي خلقه عنها
بظلمهم وجورهم وإسرافهم على أنفسهم.
42
بتحميلهم آثار بغيهم من وقوع البأس والشدة والعذاب عليهم بأيديهم
وأيدي حكامهم وأيدي عدوهم، حتى غدوا عبيدا للقوى الكافرة كما
نرى منذ حين، بينما لو أنهم حققوا الطاعة المطلوبة منهم لكانوا أسياد
الأرض والكون، وسيبقى هذا الحال إلى أن يؤوبوا إلى رشدهم ويلقوا
معاذيرهم، ويطلبوا الخلاص من الله بأهل بيت نبيهم (صلى الله عليه وآله)
وإمامهم المنصوب ربانيا، قائم آل محمد (صلى الله عليه وآله.
وهل من صاحب بصيرة لا يرى اليوم كم هي الأمة الإسلامية
بحاجة إلى القيادة الاستثنائية المتميزة والقائد الاستثنائي الذي يستطيع
بعلمه ونزاهته وإخلاصه لله، وإدراكه المتميز لمعطيات الواقع، والذي
يستصغر الحكام شأنهم أمام شأنه، فتلتف الأمة حوله بكلمة رجل واحد،
ولو حصل هذا التوحد ولو بقيادة " عادية " لما اجترأ الغرب الكافر على
ذبح المسلمين وهتك أعراضهم في البوسنة والهرسك وكوسوفو والشيشان
وفلسطين، لكن قيادة الأمة لإخراجها إلى نور الإسلام ثانية بعد طول
غياب وإصلاح شأنها وعلاج ضعفها، وحملها إلى درجة حكم الأرض
المملوءة بالأمم التي امتلكت التكنولوجيا حتى سيطرت على الفضاء
والأرض تحتاج إلى قيادة في مستوى المرجعيات الربانية المصدر والتي
غيرت مجرى التاريخ.
على أن هذا الاحتجاب الذي هو ابتداء واستمرارا من النتائج الواقعية
لمعصية الأمة وما تولد عنها من ظروف، ومن القضاء الإلهي بعقوبة الأمة
المترتب على المعصية المتمادية في شأن الإسلام وشأن المرجعية الربانية، لم

43
يكن القضاء الإلهي به، كما هو في علم الله تعالى، مواكبا لمرحلة الإمام
الثاني عشر (عليه السلام)، ليلحق الأذى بعملية الإيمان، ولا بالخط القويم
الذي تأسس بعد ما يقارب الثلاثة قرون من حياة الرسالة، فلقد أصبحت
أرضية الإسلام في صميم شخصية الأمة وثقافتها وعلاقاتها الحياتية، خلافا
لما كانت الحال حين وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) وخلال العقود
الكثيرة التي تلت ذلك، وتأسس في داخله الخط الذي يمثل الوجه المتكامل
الصحيح للرسالة الإسلامية ليكون شاهدا على ما عداه، وأصبح راسخا
كالجبال، وأصحابه على درجة من اليقين تجعلهم مستعدين للتضحية
بدمائهم وأموالهم في سبيل الحق ودفع الظلم، ولم يعد القضاء على هذا
النهج ممكنا، وسيبقى قائما، وكل مسلم مكلف بالإقرار لإمام الحق، حتى
يأذن الله لوليه حين تتوفر الشروط الموضوعية لذلك، والتي من جملتها
عودة الأمة عن غيها، والإذعان لله ورسوله (صلى الله عليه وآله) في شأن
هذه المرجعية الربانية التنصيب، وطلبها بصدق.
أما قولنا لماذا لا يظهر للمؤمنين به ليحكم بهم العالم، فذلك سؤال
يحتاج إلى مقدمات واقعية، وليس من العسير أن نثبت عدم نضجها بعد،
وظهوره سلام الله عليه قبل ذلك لن ينتج عنه في أحسن الأحوال إلا
تأسيس دولة من الشيعة تستعديها بقية الدول بما فيها دول المسلمين.
وهذه دولة الجمهورية الإسلامية تمثل شاهدا حيا على ذلك الواقع. ولا
يمكن القول لماذا لا يفرض سيطرته حينئذ على العالم بما آتاه الله من
العلوم، فهذا القول خطأ في المبدأ، لأن الله تعالى لو أراد أن يجبر الناس

44
على سبيل الحق لفعل منذ بداية الخلق، لكنه جل وعلا إنما يريد للناس أن
يؤمنوا ويستقيموا على الحق طواعية، لذلك لم يستعمل النبي (صلى الله
عليه وآله) ولا الأئمة المعصومون من بعده (عليهم السلام) ما آتاهم الله
من القوى الغيبية الطابع ليمكنوا لأنفسهم وأتباعهم، بل كان كفاحهم
من خلال المتاحات للبشر في ظروفهم الواقعية، ذلك ليحيي من حي عن
بينة ويهلك من هلك عن بينة.
نعم قد أظهر تعالى للأنبياء معجزات وكرامات لا ليقهروا بها
أعداءهم، ولكن لينبهوهم ويوقظوا قلوبهم، ومثله ما كان من معجزات
وكرامات لنبينا (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته من بعده (عليهم السلام)،
ضمن تلك الحدود التي لا تتعدى إلى إبادة الأعداء أو قهرهم بالقوى
الغيبية، التي لا تنتج قناعة الإيمان; بل استسلام العاجز. وهكذا فقد أرجأ
الله تعالى ظهور وليه روحي له الفداء إلى يوم يرى فيه المسلمون خاصة
والشعوب عامة بوار ما ابتدعوه من المبادئ والمذاهب، ويقعون في منتهى
البوار نتيجة ما قد ظلموا واعتدوا وتمادوا، فيعلمون أن لا خلاص إلا
بالخط الإلهي المتمثل بالمرجعية الربانية في الإمام المهدي الموعود سلام الله
عليه، فيلقون المعاذير ويطلبونه. فإذا قام عندئذ وقضى على قرون العناد
والإلحاد والنفاق، فيكون هذا القضاء لتخليص جموع المستضعفين من
الخلائق الذين ينتظرون الحق ليتبعوه، فيقيم دولة الحق الإلهي ويتم الله به
نوره ويبسط سلطان الحق على الأرض ذلك الهدف الكبير من الرسالة
الإلهية الذي وعدنا تعالى به * (... ليتم نوره...) * * (ليظهره على الدين

45
كله..) * اللهم عجل فرجه واجعلنا من الممهدين له ومن أنصاره
والمستشهدين بين يديه.
التعتيم على النصوص:
إن النصوص القرآنية والنبوية التي تتعلق بالإمامة واضحة
كالشمس في السماء الصافية، قاطعة الحجة بثبوت صدورها ووضوح
دلالاتها. ولأنها كذلك توسل مخالفوا آل محمد (صلى الله عليه وآله) في
محاولة التخلص منها عدة أساليب.
أولا: منع الناس من الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله)
وإحراق ما كان قد دون منه في عهده، وهذا حصل على عهد الخليفتين
الأول (ر) (1) والثاني (ر) (2)، ثم نهي الصحابة عن الحديث عن النبي (صلى
الله عليه وآله) (3) واحتجازهم في المدينة حتى لا يتوجهوا إلى الأمصار لكي
لا يحدثوا عن عن النبي (صلى الله عليه وآله) (4)، وكذلك منعهم من
تدوين السنة، كما أخرج ابن عبد البر في كتاب جامع بيان العلم وفضله
من أن عمر بين الخطاب أراد أن يكتب السنة ثم بدا له أن لا يكتبها ثم
كتب إلى الأمصار من كان عنده شئ فليمحه.



(1) كنز العمال ج 5 ص 237، وابن كثير في مسند الصديق، والذهبي في تذكرة الحفاظ
ج 1 ص 5.
(2) الطبقات الكبرى لابن سعد ج 5 ص 188، والخطيب البغدادي في تقييد العلم.
(3) الذهبي في تذكرة الحفاظ ج 1 ص 3 و 4.
(4) كنز العمال ج 5 ص 239. مستدرك الحاكم ج 1 ص 110.
46
إن هذا العمل لا حجة يستند إليها، والقول لكي لا تخلط بكتاب
الله ما هو إلا لتغطية الأهداف الحقيقية من ذلك ومن أهمها الحيلولة دون
انتشار أوامر النبي (صلى الله عليه وآله) بإمامة علي (عليه السلام) وآل
محمد (صلى الله عليه وآله)، والتي هي جزء مهم من السنة وأخبار
أحداثها، وذلك انسجاما مع المقالة الشنيعة في رزية يوم الخميس " إن
نبيكم ليهجر، عندنا كتاب الله، حسبنا كتاب الله " هذا الإعلان برفض
جزء من الأمة للسنة والعترة معا، والإبقاء على الكتاب لما يتيحه ذلك من
التأول بما يوافق توجهاتهم فلا يكون ما يحول دون ذلك من سنة ولا
عترة، وانسجاما مع هذا الإعلان، جاء قول الخليفة الأول (ر) حين يخطب
الناس في أول عهده ويقول... فلا تحدثوا عن الرسول (صلى الله عليه
وآله) شيئا، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا
حلاله وحرموا حرامه) (تذكرة الحفاظ الجزء الأول والصفحة الثالثة،
للذهبي) (1) وهل من عاقل يرضى بالتجهيل بكلام الرسول (صلى الله عليه
وآله) وأوامره، وبالتحديث عن أخلاقه وأحواله، والله تعالى قد جعل ما
يصدر عن رسوله ملزما، كأنه صادر عن ذاته تعالى * (ما آتاكم الرسول
فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) * و * (من يطع الرسول فقد أطاع الله) *،
وجعله قدوة يقتدي بها الناس * (ولكم في رسول الله أسوة حسنة) * وجعل



(1) إن كان الهدف منع الاختلاف، ألم يكن الأجدى جمع السنة وتدوينها بينما الصحابة على
قيد الحياة؟ عوضا عن إحراقها ومنع التداول بها علما أن كل اختلاف في الدين حدث
بعد ذلك كان منشأه عدم الحفاظ على السنة. ثم كيف لهم أن يعرفوا حلاله وحرامه من
دون البيان الذي في السنة.
47
ما يصدر عنه وحيا * (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) *. ثم
كيف يختلط على الناس كلام الرسول (صلى الله عليه وآله) بكلام الله،
وهم على سليقتهم السليمة، وكلام الله له خصائص لا يشابه فيها كلام
رسوله (صلى الله عليه وآله) أو سواه. ولماذا لم يكن هذا المحذور في
حياته حتى سجلت بعض السنة، ثم أحرقت بعد وفاته، كما أشرنا إليه قبل
قليل، ولم يؤثر عنه نهي عن كتابتها، بل أثر عنه الاعتناء بها والمحافظة
عليها (1) بل إن النبي (صلى الله عليه وآله) وهو عالم بكثرة الكذب عليه
في حياته وبعد وفاته لم يهمل الحفاظ على سننه ولا على كتاب الله، فهو



(1) مستدرك الحاكم ج 1، ص 105، مسند أحمد ج 2 ص 162 (قال عبد الله بن عمرو:
كنت أكتب كل شئ أسمعه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فنهتني قريش وقالوا:
تكتب كل شئ تسمعه من رسول الله وهو بشر يتكلم في الغضب والرضا؟ قال عبد
الله: فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فأومأ إلى فيه
وقال: (أكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا الحق) وروى البخاري ج 1 ص 36
باب كتابة العلم " عن أبي هريرة قال: ما من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) أحد
أكثر حديثا عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو فإنه كان يكتب ولا أكتب ".
وروى البخاري ج 2 ص 221 عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن علي (عليه
السلام) قال: ما عندنا شئ إلا كتاب الله وهذه الصحيفة عن النبي (صلى الله عليه وآله)
في إشارة إلى الصحيفة الجامعة التي كتبها علي عليه السلام عن رسول الله (صلى الله عليه
وآله). وقد ظهر لنا خلال البحث كيف أن كثيرا من الصحابة كان لديهم صحف كتبوا
فيها سنة الرسول (صلى الله عليه وآله)، فأبو بكر أحرق ما لديه حين تولى الخلافة،
(وكان فيها خمسمائة حديث) وعمر جمع ما كان لدى الصحابة منها وأحرقه، وبعث إلى
الأمصار من كان عنده شئ فليمحه; فهذه الحقائق كلها لا يمكن معارضتها بالرواية عن
أبي سعيد الخدري بأن النبي (صلى الله عليه وآله) أمر من كان عنده حديث مكتوب
فليمحه، وهو من ناحية أخرى يعارض المنطق حين تعلم أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد
علم بالكذب عليه في حياته وأخبر أنه سيكون بعد وفاته، ولما كانت الرواية عن
حفظ مدعاة للخطأ عن سهو أو كذب، لذلك كان الأولى أن يأمر بالكتابة كما ظهر من
حديث عبد الله بن عمرو الذي يؤيده حديث أبي هريرة، والأحاديث الأخرى التي تدل
على أنه كان كثير من الصحابة قد كتبوا إلى أن أحرق أبو بكر ثم عمر ما جمعوا منها
وأمر عمر بعدم الكتابة والحديث.
48
حياته وبعد وفاته لم يهمل الحفاظ على سننه ولا على كتاب الله، فهو
(صلى الله عليه وآله) قد استودع كل ذلك لدى وصيه علي (عليه
السلام) وأمر الناس باتباعه، لكنهم لما تنكروا له، كان عليهم أن يعملوا
برأيهم، فرفضوا القرآن الذي جمعه لهم (عليه السلام) على أسباب النزول
لكي لا يختلف في التأويل، وجمعوه على النحو المعلوم، - أما السنة فبدلا
من جمعها وتدوينها لكي لا يختلف فيها بعد ذلك، أحرقوها ومنعوا
تداولها، ما ذلك إلا لأنها مليئة بالنصوص التي لا يمكن تأويلها فيما يخص
ولاية علي وأهل البيت (عليهم السلام).
والأعجب أن يتطوع بعض المعاصرين في كتب مدرسية تدرس
للناشئة والأحداث من أبنائنا الذين لا علم لهم بخلفية الأمور، بالقول (لم
تسجل السنة في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) ولم يتحمس أحد من
أصحابه بعد وفاته لذلك، لكي لا تختلط بكتاب الله) فمع كل ما يحمل
هذا التطوع من افتئات على التاريخ، ودون أدنى وعي لإبعاده (1)، ما هو
إلا تكرار لهذا التبرير المجافي للمنطق الذي ابتدعوه لتغطية هذه الجريمة التي



(1) تأسيس هذا المعنى في عقول الناشئة يولد صعوبة في فهم ما حدث لاحقا من انحرافات
وتزوير، فضلا عن أن فيه نسخ لمؤشر رئيسي على انحراف القوم بعد وفاة النبي (ص) عن
أوامره في أوصيائه (ع).
49
ترافقت مع تمدد الدولة السريع، ودخول كثيف في الدين الجديد مع
الفتوح، وموت كثير من الصحابة فيها، فكانت السبب الأول والمباشر في
كل اختلاف في الدين، نتيجة التجهيل في سنة النبي (صلى الله عليه وآله)،
وفتح الباب لاحقا أمام الكذب على الرسول (صلى الله عليه وآله) لتزوير
حقائق الدين، وصرفه عن أهدافه، وإيجاد السند الشرعي لحكم الفسقة
والجهلة، حتى نشأت أجيال لم تعلم من السنة إلا ما وافق توجهات أولياء
الجور، ولم تسمع عن الولاية الحقيقية لأهل البيت (عليهم السلام)، أجيال
قد تخمت بالمفاهيم المحرفة، حتى لم يعد غريبا أن تقوم جماعة من الأمة
يقتلون الصالحين من آل محمد (صلى الله عليه وآله) الذين يدعونهم إلى
الإصلاح في الدين فيستأصلون ذرية نبيهم حتى الولد والرضيع ويمثلون
بهم، ويسبون نساءه، في طاعة جاهل معلن بالفسوق، ثم يأتي بعد ذلك في
أزمان لاحقة من يعذرهم في ذلك بحجة أنهم اجتهدوا في عقاب جماعة
تمردوا على إمام زمانهم، فهل بعد هذا من عجب؟.
والواقع أن أمير المؤمنين عليا (عليه السلام)، بقي يقوم بدور المحامي
عن السنة والكتاب، فكما سبق القول جمع القرآن على أسباب النزول لما
لذلك من علاقة بالتأويل، فرفضوه لما يظهر من حقائق لا توافق ما بنوا
عليه، ولما عرض عليه عبد الرحمن بن عوف أن يبايعه على كتاب الله
وسنة رسوله وسنة الشيخين، رفضه قائلا تبايعني على كتاب الله وسنة
رسوله، إيذانا بأن لا حجة لسنة الشيخين أو غيرهما من الشيوخ إن
خالفت الكتاب وسنة النبي (صلى الله عليه وآله)، وذلك إحياء للسنة بعد

50
أن انتهكت، ثم أنه (عليه السلام) قد أعاد خلال السنوات الخمس التي
تولى فيها الخلافة والتي كانت مفعمة بالأحداث، أعاد إلى الذاكرة كثيرا
من السنة في الممارسة، وجدد التذكير بالنصوص، ومنها نص الغدير في
حادثة الرحبة، وكان يحمل الصحيفة معلقة بسيفه كلما صعد المنبر ليذكر
الناس بها وبأنه الحافظ لسنة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأمر سليم بن
قيس أن يضع كتابا في السنة النبوية الشريفة، ولما كان لهذا الكتاب الأهمية
القصوى في إظهار الحقائق النبوية، كونه دون في صدر الإسلام حين كان
جمهرة من الصحابة على قيد الحياة وحين كان الخطر على السنة على
أشده، وحين كان أهل البيت وشيعتهم في أشد حالة من الاضطهاد، مما
جعل الرواية الصادقة خطرا لا يحتمله إلا أهل البصائر، فكان هذا مما يزيد
في مصداقية الكتاب ورواته، فجاء بما فيه من حقائق فاضحة ووقائع دامغة
لا يمكن مجابهتها إلا بالتشكيك، لذلك تعرض إلى التشنيع عليه من خصوم
الإمامية، ومن المؤسف أن بعض الشيعة قد ينزلقون أحيانا، وتلتبس عليهم
الأمور وحجتهم أنه في مورد أو اثنين يذكر أن الأئمة ثلاثة عشر، بينما
في عشرات المواضع الأخرى يذكر أنهم اثنا عشر، مما لا يطعن في صحة
الكتاب (راجع: الصحيح من السيرة)، بل يدل على أنه تصحيف غير
مقصود، نتيجة النقل والتداول، بل يعطي مزيدا من الثقة بأسانيده
ورواته، لدلالته على أنهم قد نقلوه حسبما وجدوه ولم يتصرفوا حتى بما
يعلمون أنه خطأ في النسخ، ويدل على أنه لم يقصد فيه مطابقة الواقع
الاثني عشري بعد أن استقر بغيبة الإمام الثاني عشر (عج)، ويدل على
نزاهة رواته بعد أن ظهر هذا الواقع واكتمل، ولو كان مثل هذه الذرائع

51
مقبولا، لأبطلنا صحاح السنة قبل صحاح الشيعة، لما فيها من أخبار
تتناقض مع ثوابت الكتاب أحيانا ولما فيها من التشنيع على النبي (صلى
الله عليه وآله) ذاته، وفيها بعض التناقض في الأخبار (راجع أضواء على
السنة المحمدية للشيخ محمود أبو رية).
ثانيا: منع الناس من رواية ما فيه فضل أو منزلة لعلي (عليه السلام)
أو أهل البيت (عليهم السلام) ولقد مارس الأمويون في هذا أشد أنواع
الحظر والعقاب من قطع ألسن وسمل عيون وتهديم منازل الذاكرين لهم
بخير. وصلبهم وقتلهم وتشريدهم (المدائني في كتابه " الأحداث ").
ورغم ذلك فقد وصل إلينا من طريق محدثي السنة ما فيه الكفاية في
إظهار حق آل محمد (صلى الله عليه وآله) مما يدل على أن هذا الذي
خرق حجب الحظر كلها، كان على درجة من القوة والشهرة بما لم يكن
ممكنا حجبه وتجاوز نقله.
ثالثا: ما عجز حكام الجور عن إخفائه من النصوص لجأ أتباعهم إلى
التلاعب بمعانيه، ليخرجوها عن مدلولها مثل حمل الولي على المحب
والنصير في حديث الغدير، أو حمل ما عجزوا عن تأويله على قصد النصح
والتوجيه لا قصد الفريضة، كحديث الثقلين، وهذا كله واضح الفساد لا
ضرورة للجدل فيه.
رابعا: بتر النصوص، ومثاله " قال ابن عباس، يوم الخميس وما يوم
الخميس اشتد برسول الله (صلى الله عليه وآله) وجعه فقال: ائتوني أكتب
لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا:

52
ما شأنه أهجر، استفهموه، فذهبوا يردون عليه فقال: دعوني فالذي أنا فيه
خير مما تدعوني إليه، وأوصاهم بثلاث قال: أخرجوا المشركين من جزيرة
العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم وسكت عن الثالثة أو قال:
فنسيتها (1) فهل هذا نسيان من الراوي أم أنه إسقاط من الناقل لأمر مهم
لا يراد أن يشيع بين الناس لمخالفته لإرادة المتسلطين الذين يعاقبون الذاكر
لعلي وأهل البيت عليه وعليهم الصلاة والسلام بالتشريد وهدم الدور
وقطع الألسن والقتل.
خامسا: معارضة النصوص بوضع نصوص مكذوبة يظهر فسادها
من تلقاء ذاتها، كحديث أنا مدينة العلم وعلي بابها، فجعلوا للمدينة سقفا
وجدرانا ونوافذ لإعطاء المنزلة لثلاثة آخرين والتقليل من وقع الدلالة على
منزلة علي (عليه السلام) من العلم.
وكحديث الكساء الذي يدل على أن أهل البيت في آية التطهير
وآية المودة هم إلى جانب الرسول (صلى الله عليه وآله) علي وفاطمة
والحسن والحسين (ع)، فعارضوه برواية تضيف خادم النبي، وأخرى
تضييف إحدى زوجاته، في مقابل النص المستفيض لدى غير الإمامية
الذي يبين أن أهل البيت هم أصحاب الكساء الخمسة (عليهم السلام) (2)



(1) البخاري ج 5 ص 137 أفست دار الفكر على ط استامبول و ج 6 ص 11 ط مطابع
الشعب. وتاريخ الطبري ج 3 ص 192 - 193
(2) راجع في استقصاء الأسانيد والروايات كتاب العصمة للعلامة السيد كمال الحيدري
والملحق التوثيقي بذيل المراجعات ط 2 بيروت 1982.
53
أو كآية من عنده علم الكتاب، إذ دفع الأمويون ابن عبد الله بن سلام
لينادي في المدينة ويقول (ليس كما تذهبون، بل هو أبي عبد الله بن
سلام (1) ونص الرواية يدل على أن السائد في المدينة إذ ذاك أنه علي (عليه
السلام) لقوله ليس كما تذهبون.
إلا أن هذه المكذوبات ولو لم تستطع الصمود أمام قوة النصوص
الصادقة حول منزلة أهل البيت عليهم السلام لكنها أنتجت تضليل العامة
وإفساد أذواق كثير من المسلمين في فهم الكتاب والسنة. والذي يلفت
الانتباه أن الكثير من غير الإمامية قد تابعوا البناء على مقتضياتها رغم
كونها ظاهرة الفساد حتى في صحاحهم، ومثاله الفاضح التمسك بالقول
بأن حديث الثقلين يتكلم عن الكتاب والسنة، رغم أن هذا قد ورد في
سند واحد يعاني من الاعتلال والضعف في مقابل الحديث المتواتر للكتاب
والعترة، وما هذا التمسك إلا استمرارا تقليديا للحال الذي كان سائدا في
عصر الخلافة، لأن هذه النصوص المكذوبة، إن هي إلا تجسيد لإرادة
السلطة الحاكمة التي تريد طمس حقيقة المرجعية الشرعية المتمثلة بأهل
البيت (عليهم السلام).
الإمامة المعصومة حقيقة ربانية لا اجتهاد بشري:
إن تعسف فريق من المسلمين في فهم نصوص الإمامة، كان لتبرير
الأمر الواقع الذي ساد بعد أن أدارت الأمة ظهرها لآل محمد (صلى الله



(1) راجع كتاب (من عنده علم الكتاب) للشيخ جلال الدين الصغير.
54
عليه وآله)، واستقر الأمر على ذلك، ولقد جاء القول بالاجتهاد في شأن
الإمامة متأخرا بهدف إيجاد تبرير وتشريع للواقع الغالب، ولئن كان
الاختلاف حولها يجعلها أمرا خلافيا لا محالة، لكن ذلك ليس لأنها شأن
اجتهادي، أو يجوز الاجتهاد فيه، إذ لا اجتهاد في مقابل النص، ومثل هذا
الاجتهاد لا يلزم أحدا. على أنه لو الشريعة أغفلت شأن الإمامة، لا يحق
لأحد أن يجتهد بأن الخليفة الذي امتلك الولاية بأساليب بشرية غدى يمثل
إرادة الله ويحكم بشرعيته وسلطته، بحيث أن مخالفته تكون مخالفة لله
ورسوله، لأن ما من أحد يمثل إرادة الله الحقة إلا من اختاره الله لذلك
التمثيل وعصمه عن الضلال فيه، فإرادة الله التي يحاسب عليها العباد هي
الهداية، وهو لا يريد لهم الضلال ولا يرضاه.
إن مقولة أصحاب الاجتهاد في الإمامة، بأن الخلافة أمر اجتهادي،
يجعلها شأنا بشريا غير مقدس وخاضعا للتغيير ويجعلها مشروعا بشريا لا
سماويا، له غاياته البشرية. بينما الإمامة شأن رباني لا بشري، مقدس ثابت
إلى يوم الدين، يوجبه العقل بكل ما أوجب به النبوة. وهو خط إلهي
كحلقة متصلة بحلقة النبوات، غاياتها ربانية لا بشرية، ومكملة لأهداف
النبوة الخاتمة إلى يوم الدين، يراد بها هداية البشرية. وقد جعلته الرسالة
فريضة إلهية في الكتاب والسنة بالنصوص القاطعة للحجة، التي لامكان
للاجتهاد فيها، بل جعلته ركنا أساسيا، فكان مع إمامة النبي (صلى الله
عليه وآله) فريضته واحدة في نص أولي الأمر، ومعادلا القرآن في حديث

55
الثقلين، بل لا يكتمل الدين إلا به، فإذا سقط، سقط ما عداه فكانت
الميتة جاهلية والعياذ بالله.
إن توسل شعارات الوحدة والانفتاح على المسلمين لتسريب
مقولات من مثل; إن الإمامة كالخلافة أمر اجتهادي، لهو تكريس
للموقف المعادي لإمامة أهل البيت (عليهم السلام)، لما يقتضيه من القول
بأن الإسلام أغفل شأن الإمامة بعد النبي (صلى الله عليه وآله) فباتت
موردا للاجتهاد، ولما يقتضيه من جعل الإمامة مثل الخلافة صادرة عن
البشر لا عن الله تعالى. ولو أن الله أغفل شأن الإمامة، ما كان ليحق
لأحد أن يجتهد فيقول إن الله تعالى قد اختار أئمة معصومين طاعتهم
فريضة، فيكون افتراء على ذي العزة والجلال، مما يظهر خطورة الادعاء
بأن الإمامة المعصومة شأن اجتهادي كالخلافة البشرية، ويجعله بهتانا لا
يحتمل، سواء جاء عن إدراك لمترتباته أو دونما إدراك.
مثل هذه المحاولات التي تقوم على إسقاط عقائد أحد الطرفين لا
تعبر عن حالة انفتاح ولا تنتج وحدة، بل مزيدا من التباعد باستدعاء
الطرف المعني إلى الدفاع عن عقائده المستهدفة، مما يكشف أن الهدف
الحقيقي ليس انفتاحا ولا وحدة بمقدار ما هو استهداف لعقائد الشيعة
بالتوهين، فلا ينتج إلا مزيدا من تمسك الشيعة والدفاع عن عقائدهم،
ولطالما أجادوا في ذلك خلال 14 قرنا في مواجهة مخالفيهم، حتى أفلجوا
الحجة، ولم يتركوا لأحد ما يقول، بل أن إثارة مواضيع من هذا القبيل في
العقائد والتاريخ ليست ذات طبيعة ملحة في ما يتعرض له وجود المسلمين

56
من خطر داهم ولا في أسلوب مواجهته، وإثارتها اليوم بالذات، بعد أن
كانت أقفلت منذ زمن، يترتب عليه موضوعيا، إذ كاء النقاش، والنزاع
الفكري من جديد، وإلهاء الطرفين عن الواقع المصيري الذي يتهدد
وجودهم جميعا، وهذه الإثارات في هذه المرحلة بالذات تنتج إرباكا يؤذي
الواقع الإسلامي في الصميم.
الإطار الصحيح للوحدة الإسلامية:
إن أئمة آل محمد (صلى الله عليه وآله) الذين جعل الله لهم
الولاية، لعلمه أنهم الأمناء على الرسالة والأمة كانوا حريصين في تعاليمهم
لشيعتهم على عدم جعل الخلاف حول موضوع الإمامة سببا لتكفير بقية
المسلمين، وعلى توجيه الشيعة إلى مشاركة إخوانهم في الحياة العامة وعدم
العزلة عنهم، ولحسن التعامل معهم، لذلك علينا أن ننظر إلى الموضوع من
هذه الزاوية، فلسنا بحاجة إلى تحوير حقائق الدين والتاريخ، لأجل الوحدة
الإسلامية، أو قل لأجل وحدة الأحزاب الإسلامية كتعبير أصدق عن
الهدف من إطلاق هذه المقولات في الزمن الحاضر، فالوحدة إن ضاقت أو
اتسعت، لا تكون بإبطال الحقائق، وتزويرها، ولا بإبطال الشيعة أو
السنة، بل بأن ينظر الطرفان إلى ما يجمعهما لا إلى ما اختلفا عليه، أي
باعتراف كل طرف بالآخر، وعدم جعل المواضيع الخلافية مدخلا للتكفير
والخروج من الإسلام. إن هذا السبيل هو ما خطه آل البيت (عليهم
السلام،) وهو السبيل الصحيح لتعذر إلغاء طرف أو آخر، بل أي محاولة

57
من هذا القبيل لا ينتج عنها إلا المزيد من التباعد أو خلق تيارات جديدة
تزيد في الفرق التي تنوف عن السبيعين.
إن التوجيه النبوي الشريف وتوجيه أئمة أهل البيت (عليهم
السلام) كما في الثابت عن النبي (صلى الله عليه وآله) وعنهم (عليهم
السلام)، يجعل الشهادتين عنوان الإسلام، ويوجب لمن أقر بهما ما يجب
للمسلم، مما يصلح أن يكون الإطار الصحيح للوحدة الإسلامية الذي
يستند إلى دلالات واضحة في السنة الشريفة دون الحاجة إلى ابتكار أطر
تخالف ثوابت الكتاب والسنة والتاريخ والمنطق السديد، فيجدر بالمهتمين
بهذا الأمر التركيز على هذه الحقيقة، وعلى خط التوجيه الذي تعهد به
أهل البيت (عليهم السلام) اتباعهم بعدم العزلة عن باقي المسلمين، فيكون
مثل هذا سلوكا للجميع حيال بعضهم البعض، والإسلام الذي تقبل أهل
الكتاب في مجتمعه، لا يمكن أن يعجز عن تقبل المسلمين بالرغم من
الاختلاف في بعض تفاصيل الإيمان، ولقد كان عجيبا أن لا يحدث ذلك
خلال القرون المنصرمة، وما ذلك إلا بسبب خوف السلاطين وبطاناتهم
على سلطانهم، فلم يكن لهم مندوحة عن اتهام معارضيهم بالكفر وما هو
أشد منه، لخلق الحواجز النفسية بين الرعية وبينهم، وإذا رمنا اليوم انفتاحا
ووحدة فلا بد من علاج هذه الرواسب على ضوء ما ذكرنا من خلال
الإطار الجامع لجميع المسلمين.
عودة إلى الاجتهاد وأثر العقيدة والرموز في شخصية الجماعة.
وسنرى في طي الأبحاث القادمة حقيقة الاجتهاد في الإمامة لدى

58
الجمهور، وكيف أنه لم ينتج نظام حكم إسلامي متميز، لافتقاره إلى
أصول في الشريعة يستند إليها بعد أن تأول أصحابه نصوص الإمامة
المعصومة وعزفوا عنها، لذا بنوا اجتهاداتهم على عمل الصحابة الذي لم
يستند في هذا الحيز إلى النصوص، فجائت نتائج الاجتهاد متناقضة، لاحقة
لما استقر عليه واقع الخلافة، محكومة بها لا حاكمة عليها، جاءت لتبررها
وتعطيها الشرعية لا لتصويب مسارها وتقويمها.
والكلام عن خضوع شأن الخلافة أو الإمامة للاجتهاد يعني الحقبة
من وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) إلى غيبة الإمام الثاني عشر (عج) لدى
الشيعة، وسقوط الخلافة لدى السنة، وتلك هي نقطة الخلاف الجوهرية بين
الفريقين، أما الكلام عن الحقبة المعاصرة، لإيجاد صيغة لحكومة إسلامية،
فذلك أمر يختلف كليا في الاعتبار، وليس من هدفنا في هذا البحث،
ولقائل أن يقول، وما الفرق في العصر الحاضر بين خط الإمامة وسواه من
الخطوط في غيبة الإمام الثاني عشر (عج)، هذا الكلام ينطوي على نظرة
سطحية، لإهماله أثر العقيدة التي تعتنقها الجماعة البشرية، وأثر النموذج
والرموز التي يرتبط بها وجدانها، وتتجسد فيها قيمها. فلقد كانت عقيدة
العصمة التي تجسد الكمال البشري المنشود في الأنبياء والإمامة المعصومة
والنبي (صلى الله عليه وآله) وآل بيته (عليهم السلام) كرموز مثالية
متحققة في الواقع الحياتي للشيعة، وما كان من سلوكهم وسيرتهم التي
تجسدت في أصحاب الكساء (عليهم السلام) وتضحيات الحسين (عليه
السلام) وعقيدة المهدي (عج) التي منها تستمد الثقة بحتمية انتصار الحق

59
ولو طال الاحتمال، كلها كانت من وراء صمود الشيعة عبر القرون،
بالرغم من أقصى أشكال الاضطهاد، وكانت المحرك لوجدان الجماعة
الشيعية في رفض الخضوع للظلم والانحراف، والطلب الدائم للإصلاح في
المجتمع الإسلامي، في مقابل خضوع الأمة في الطرف الآخر، لولاة الأمر
الفسقة الفجرة الظالمين من منطلق ديني عبر القرون، إلى أن أصبح هذا
السلوك في كل طرف مميزا له، وطابعا لشخصيته. لذا فتسريب المقولة
بالاجتهاد من شأن الخلافة البشري إلى الإمامة الربانية المصدر، يجعل
عقيدة الإمامة كالخلافة من الفكر البشري حصيلة الاجتهاد وليست أمرا
إلهي المصدر، ويلزم منه أن يعتبر الشيعي عقيدته المذكورة أمرا بشريا غير
مقدس، لا ربانيا ذا قدسية عالية مما يفقده أثره الوجداني، لا سيما أن هذا
الادعاء مقترن مع تأسيس أن العصمة ليست سوى في التبليغ، من خلال
تفسير الآيات المتعلقة بالأنبياء تفسيرا يهشم صورة الكمال البشري، أو
يبدله بما يدعون به من الضعف البشري لدى الأنبياء، مما يفقد رموز
الجماعة المؤمنة وما يرتبط بها من المثل والقيم، أثرهما النافذ إلى الوجدان.
مثل هذه الترويجات نظن أنها من حيث لا يقصد أصحابها تصب في قناة
المخطط الحثيث الهادف إلى تهجين الشيعة، لكن يكون التهجين هنا وهو
الأخطر، من خلال منطلقات عقائدية، الأمر المطلوب لصيغة الشرق
أوسطية الجديدة، كونهم العثرة الأقوى الباقية في وجه الهيمنة الصهيونية
الغربية. لذا على النخبة المؤمنة أن تتوقع الاستمرار في تعاظم المحاولات
الهادفة إلى تشكيك الشيعة بعقائدهم وتراثهم، خاصة حول الإمامة
والعصمة وعقيدة المهدي (عج) وتراث عاشوراء وقدسية النبي (صلى الله

60
عليه وآله)، وأفراد أهل بيت النبوة (عليهم السلام)، مما يستدعي حذر
أهل الفكر ورصدهم الدقيق لتلك المحاولات، ليجري حماية الأجيال
الناشئة من انحرافاتها، تلك الأجيال التي لم تتزود بالكفاية من الرصيد
العقائدي والمعرفي، نتيجة فقر مناهج التربية للتوجيه المناسب، وتقصير
الأسرة في هذا الاتجاه، ومن هذا المنطلق نقترح على أصحاب الشأن جعل
العقائد جزءا أساسيا في الدراسات الحوزوية، وإحداث تخصص فيها على
غرار التخصص في الفقه وغيره، وتركيز حلقات التوجيه الديني في
المساجد والحسينيات والمناسبات، خاصة عاشوراء على العقائد في هذه
المرحلة الحساسة التي يواجهها الشيعة خاصة والمسلمون عامة.
النقد الذاتي: متى وكيف؟
إن التعاطي مع قضايا بهذا الحجم من الخطورة، لا يمكن تبريره
بمحاولات النقد الذاتي، الذي إن لم ينجز بأساليبه الصحيحة وفي مواقعه
المناسبة أحدث نتائج كارثية.
إن النقد الذاتي ضرورة لكل جماعة مستنيرة، ولا ضير من النظر في
تراثنا لتنقيته مما قد يكون علق به من الدخائل، لكن هذه المهمة لها أربابها
من أهل الاختصاص، ولها مكانها في مراكز العلم، ولا يجوز بأي حال
جعل هذا الأمر شعارا يطرح على عامة الناس صباح مساء، فهؤلاء لا
قدرة لهم على تمييز الغث من السمين، ولا ينتج طرح كهذا إلا تشكيكهم
بالتراث، الأمر الذي يقدم خدمة مجانية للغرب، الذي كان وما زال يدفع
بهذا الاتجاه بعنف ودهاء، تمهيدا لاستبدال المفاهيم والقيم والمعتقدات بما

61
يخدم في تهجين المسلمين حيال سيطرة الصهيونية والغرب، لذلك فإن
الذين يطرحون من المسلمين موضوع نقد التراث خارج إطار أهل العلم
والاختصاص، وهم لا شك يعلمون بتلك المعطيات، ومع حسن النية بهم،
نرى أنهم يحولون النقد إلى غوغاء، والتصحيح إلى التشكيك، بهدف
الاستقواء بالعامة على أهل العلم والاختصاص، من أجل استبدال غوغائي
ليس له أساس علمي. لذا نربأ بكل من يتصرف على هذا النحو بالعودة
عن هذا الخطأ الفاضح الذي هو بمثابة الجريمة في حق التراث والجماعة التي
تنتمي إليه، لأن تعريض التراث إلى مناقشات من قبل من ليسوا أهل علم
واختصاص في كل حقل من حقوله، يلحق الأذى بالناس والتراث معا،
وينتج انحرافات لا يمكن إصلاحها، إنا نهيب بالمخلصين أن يؤوبوا إلى
ضمائرهم، قبل أن يأتي يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب
سليم.
نقد أفكار لا نقد أشخاص:
على أننا نربأ بالقراء الكرام أن يظن أحدهم أننا نعني أحدا من
الجهات بإشاراتنا السابقة، أو بما قد يرد من مناقشة لبعض الأقوال خلال
بحوثنا، إن هذا الأمر ليس من مطالب هذا الكتاب إطلاقا، وأن الإثارات
التي ألمحنا إلى بعضها والتي صدرت من قبل بعض الأقلام المعاصرة، ما هي
إلا تكرار لما كان قد قاله السابقون من الذين قصروا عن ولاية أهل البيت
(عليهم السلام)، ولا يستطيع أحد أن يدعي ملكية أي من الأفكار التي
تعرضنا لها بالتفنيد والنقض. بل إن الفكرة إذا خرجت من فم قائلها، فقد

62
ملكيتها حتى ولو كان الوحيد الذي يقول بها، وأصبحت ملكا للناس
يتفاعلون معها في أي اتجاه. ولا بد لأي نقاش موضوعي من أخذ الأفكار
مجردة عن قائليها، وتفنيد فكرة يقولها واحد أو بعض من الناس لا يعني
تفنيدا لهم، ولا يجوز ربط الفكرة بقائلها، بحيث لو جاءت من فلان
رفضناها، فهذا من العناد المضل، ولو جاءت من فلان تحمسنا في الدفاع
عنها، فهو أيضا عبادة للأشخاص وأولى بالضلال، ولقد علمنا إمام المتقين
أمير المؤمنين علي (عليه السلام) إنه (أعرف الحق تعرف أهله) وأن
للحق موازينه التي ليس الرجال منها في أية حال، ولقد خاف علينا إمامنا
الصادق (عليه السلام) من الضلال إن محضنا ثقتنا الكاملة لرجل نصدقه
في كل ما يقول، وذلك لأن ما من أحد يخطئ إلا الذين عصمهم الله
تعالى وجعلهم سبيل الهداية إليه، فكانوا يصدرون عنه تعالى لا عن ظنونهم
وذاتياتهم، فلننتقل الآن إلى فصول الكتاب بروح من النزاهة والموضوعية،
سائلين المولى الرحيم التسديد إلى كل صواب.

63
الفصل الثاني
أولو الأمر في القرآن الكريم
بسم الله الرحمن الرحيم
* (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله
والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا) * {سورة النساء الآية 59}.
إن هذا النص القرآني العظيم يختزن موضوع الإمامة في معظم جوانبه، لذلك يشكل البحث فيه جانبا كبيرا من
هذا الكتاب، وذلك تحت العناوين الآتية:
أولا: المعنى الإجمالي.
ثانيا: هل أولو الأمر المعنيين بالنص هم عمال النبي (صلى الله عليه وآله) أم هم أولياء أمر الأمة بعده؟
ثالثا: هل لا يقتضي النص عصمة الإمام؟
رابعا: هل شأن الإمام قد أغفلته الرسالة فجاز الاجتهاد فيه وأن أولي الأمر المعنيين بالنص هم مطلق ولي أمر
سيتولى على المسلمين بعد صدور النص؟ وفيه:
خصائص الفريضة التي يمليها النص.
الفريضة لا تخرج عن سيرة العقلاء.
مجتمع الصحابة وظروفه الموضوعية، وأنماط السلوك فيه.
الحاكمية تمثل مضمون النظام.
بطلان دعوى الاجتهاد في الإمامة.
أ - بناء الاجتهاد على عمل الصحابة وافتراض صحته لا على النصوص.
ب - أشكال الاجتهاد في الإمامة، وفيه:
الاختيار: حقيقة أم استئثار؟
الشورى.
الأشكال الأخرى:
الوصاية، الاستئثار والغلبة
طاعة الولي الفاسق.
ج - الواقع التاريخ.
د - الهروب من العصمة إلى الإجماع.
خامسا: خاتمة: كمال الرسالة.
سادسا: جملة من النصوص التي تظهر من هم المعنيون بالفريضة في هذا النص.
نصوص قرآنية.
نصوص نبوية.

65
أولا: المعنى الإجمالي
لقد فرض هذا النص على المؤمنين جميعا من قوله * (يا أيها الذين
آمنوا..) * فريضة في طاعة الله ورسوله وأولي الأمر. إن صيغة الخطاب
تؤدي أن الفريضة هي على كل مؤمن وعلى مجموع الأمة، وليس في
الكتاب أمر رباني بطاعة على هذا النحو المباشر سوى هذا النص
والنصوص الأخرى التي تأمر بطاعة الله وطاعة رسوله، وسيأتي ذكر
بعضها خلال البحث، ولقد جاء الأمر بالطاعة غير مقيد مما يجعلها
تشمل كل أوجه الكيان المجتمعي للأمة ومما يصح معه نعت الذين
وجبت طاعتهم (أولي الأمر) فهم أولياء أمور الجماعة المؤمنة، وإن فهم
حدود ما أوجبه النص من الطاعة لأولي الأمر المعنيين يزداد وضوحا
بفهم ما أوجبه منها لرسوله (صلى الله عليه وآله)، حيث جعلهما فريضة
واحدة ناشئة من طاعة الله ومترتبة عليها. فالفريضة قائمة بقيام النص
إلى يوم الدين، وليست مقتصرة للرسول (صلى الله عليه وآله) على فترة
حياته، لذا لا يمكن اختصارها على شأن المنازعات والخصومات التي هي

67
من قبيل ما يحكم به القضاة والتي يحكم بها في حياته، ولكنها تشمل
مرجعيته من الدين في التبليغ والبيان والتعليم والتشريع المستمرة باستمرار
الرسالة، وموقعيته من القيادة في الأمة، علما أن الرسالة الإسلامية شاملة
في نظمها لكل أوجه المجتمعية البشرية بما فيها شأن الحكومة والدولة، مما
يفيد القيمومة على الرسالة الإلهية والأمة المؤمنة بها، حيث لا يمكن
الفصل بين شؤون الأمة وبين الرسالة الناظمة لهذه الشؤون، وليس في
القرآن الكريم نصوص أخرى تقيد فريضة الطاعة التي أطلقها هذا النص
للرسول (صلى الله عليه وآله)، بل كل ما فيه يزيدها تأكيدا وشمولا
وإطلاقا، مما يفيد الولاية العامة له على الرسالة والأمة، ولقد أوردنا في
مكان آخر من هذا البحث جمله من هذه النصوص فلتراجع، وأما أولو
الأمر فقد شملهم تعالى مع الرسول (صلى الله عليه وآله) في هذه الفريضة
من الطاعة التي أطلقها بلا تقييد على النحو المذكور، فكانت تفيد لهم
من الطاعة مثل ذلك، وليس في القرآن الكريم نصا آخر يتعلق بأولي
الأمر يفيد تقييدا للطاعة المستفادة من هذا النص، وإن أي تقييد يدعى
لها، فإنه يكون من نتيجة موقف سابق على النص، يفترض أولي الأمر
المعنيين بالنص أنهم على شاكلة أولي الأمر الذين تولوا أمور الأمة في
تاريخها، مما يستدعي لدى هؤلاء وضع قيود على الطاعة المفروضة
بالنص خارجة عنه لتناسب ذلك الواقع، علما أنه لا دليل من كتاب أو
سنة على أن أولي الأمر المعنيين هنا هم كذلك، بل الدليل القرآني
والنبوي قائم على خلاف ذلك، ويأتي في حينه. على أنه لا بد لكي
نفهم النص فهما صحيحا من أن نلتزم الحياد، بحيث نفهمه من خلال ما

68
تفرضه أساليب اللغة والبيان وتداعيات السياق، دون التزام مسبق حول
خصائص أولي الأمر المعنيين يتم إسقاطه على مضمون الفريضة، هذا لأن
النص لم يبين بصورة مباشرة خصائص أولي الأمر، بل قد بين فريضة
طاعتهم، فمن خلال فهم خصائص الفريضة يكون حينئذ فهم
خصائصهم، فيكون هذا الفهم منطلقا موضوعيا من النص ذاته دونما
إسقاط عليه.
وهكذا فإن النص الذي قد فرض طاعة الرسول وأولي الأمر في
فريضة واحدة غير مقيدة، تفرض علينا أن طبيعة أولي الأمر هؤلاء
المعنيين بها هي على شاكلتها وبما يناسب حجمها، فكما أن الله تعالى قد
أطلق هذه الفريضة لرسوله (صلى الله عليه وآله) غير مقيدة لعلمه أنه لا
يحمل الأمة على ضلال أو هلكة، فكذلك قد أطلقها غير مقيدة أيضا
لأولي الأمر لعلمه بأنهم لا يحملون الأمة على مثل ذلك، ولو كان غير
هذا لجاء النص على نحو آخر، وسيرد مزيد من النقاش حول هذه النقطة
خلال البحث لاحقا.
* (فإن تنازعتم) *...
الضمير هنا عائد إلى الضمير في وأطيعوا، أي إلى الذين آمنوا
المخاطبين الذين فرض الله عليهم الطاعة المزدوجة الأركان، طاعة الله
وطاعة الرسول وأولي الأمر، لذا لا يصح الادعاء بأنه إن تنازعتم أنتم مع
أولي الأمر، فتلك إضافة على النص واضحة، بينما أولو الأمر قد أخرجوا

69
من الخطاب مع الرسول (صلى الله عليه وآله) حين فرض النص طاعتهم
على المخاطبين، ولا يقوم على مثل هذه الزيادة منطق ولا دليل من كتاب
أو سنة، ولعل ما يدعو إلى هذا الافتراض اتخاذ أصحابه موقفا حول طبيعة
أولي الأمر سابقا على فهم النص تجعلهم على شاكلة الذين تولوا أمور
الأمة واقعيا، كما سبقت الإشارة قبل قليل، مما يجعلهم يسقطون هذا
الفهم على النص في كل مراحله، ولقد بينا وجه الخطأ في مثل هذا الموقف
هناك، وهو يسري هنا كذلك، فلا بد لنا أن نفهم النص حياديا، بما يمليه
علينا أسلوب البيان، على نحو ما بيناه أعلاه.
على أن الرد هنا لا يخص المنازعات اليومية والخصومات أو على
الأقل لا يقتصر عليها، إذ قد أطلق عبارة، (تنازعتم في أمر) دون تخصيص،
فيشمل كل شؤون الأمة والدين.
ولقد عظم تعالى أمر الرد إلى الله ورسوله في هذا حين قال: * (إن
كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) * فعدم الرد نقض للإيمان، مما يشير إلى
عظم التنازع المذكور، وأهمية هذا الرد لجهة أنه يرفع الخلاف عن الأمة
فالنص قد قرر أمرين، الأول: الجهة التي لها الولاية العامة على
الأمة، وهذه الولاية هي للرسول وأولي الأمر، والثاني وجوب الرد إلى
الله والرسول في أي تنازع يحصل، مما يعني أن أحد أهداف الفريضة رفع
الخلاف والتنازع عن الأمة، لذلك قد شخص لها المرجعية الصالحة في
شؤونها من خلال فريضة الولاية العامة تلك، لا سيما في حالات
التنازع، فتستبطن أن الرد المذكور إنما هو مترتب على الفريضة وناشئ

70
منها، والفريضة قائمة إلى يوم الدين، ففي حياة النبي (صلى الله عليه
وآله) ينتفي التنازع بحكم موقعه من الرسالة والأمة فيبين وجه الحق
والصواب، وبعد فراقه (صلى الله عليه وآله) لأمته، فإن أولي الأمر،
وكذلك بحكم موقعهم المذكور يبينون للأمة وجه الحق في كل تنازع
ينشأ، ولما أنهم لا يحكمون بشئ، من عندهم، بل بما عند الله ورسوله،
فلقد كان الرد واقعيا إليهما فالنص ناظر إلى هذا الواقع، لذا لم يكن
ضرورة لذكرهم بالرد بعد أن بين صدر الآية ولا يتهم العامة، ووجوب
إطاعتهم على الأمة، لا سيما فيما كان من شأنه التنازع فيه، إذ الإطاعة
هنا لصاحب الولاية أولى وأوجب، وما لم يكن هذا الرد إلى أولي الأمر
بحكم ولايتهم بعد حياة النبي (صلى الله عليه وآله) وما لم تلتزم الأمة
بهذه المرجعية المقررة بالنص، فإن هدف الفريضة في رفع التنازع عن
الأمة لا يتحقق، كنتيجة لما لدى الأمة واقعيا من القابلية إلى الاختلاف
في فهم الكتاب والسنة، ومما يؤكد هذا المعنى قوله تعالى " وإذا جائهم
أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي
الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم، ولولا فضل الله عليكم ورحمته
لا تبعتم الشيطان إلا قليلا "، فالرد هنا هو إلى الرسول وإلى أولي الأمر،
ولا يقصر الأمر على موضوع الشائعات، وحتى لو كان النزول افتراضا
في مناسباتها فالمورد لا يخصص الوارد، علما أن عبارة " أمر من الأمن أو
الخوف " عامة تشمل كل أمر يعرض للأمة وينشأ لها من أمن أو خوف،
بما فيها من المنازعات والاختلاف في أي شأن من شؤون الدين والأمة،
وعبارة أذاعوا به بليغة البيان في الجهر به وإظهاره، نتيجة التنازع فيه

71
واللغط به، ففي كل ما يعرض للأمة من حالات أمنا أو خوفا يجب رده
إلى الرسول وإلى أولي الأمر، وهم إن فعلوا " لعلمه الذين يستنبطونه
" منهم " فينبؤونهم بحقيقته التي يستحصلونها من أصولها كما تستبطن عبارة
يستنبطونه، فلا يكون تنازع.
إن جمع هذا النص إلى النص موضوع البحث يؤكد صحة المعنى
الذي ذهبنا إليه من الرد إلى أولي الأمر حين التنازع بعد حياة الرسول
(صلى الله عليه وآله) في النص الأول وصحة قرائته المروية عن أهل
البيت (ع) * (.. فإن تنازعتم في شئ فردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى
أولي الأمر منكم..) *.
بعد أن أوضحنا المعنى الإجمالي فإننا نتابع النقاش في الخطوات التي
رسمناها في مطلع البحث ومن خلال اعتبارات عديدة قد طرحها
أصحاب المقولات بإهمال الشريعة لشأن الإمامة فجعلوها محل اجتهاد.
ثانيا: هل أولو الأمر المعنيين بالنص هم عمال النبي (ص)؟.
لا بد بادئ ذي بدء من إجلاء الغموض الذي قد يعتري أذهان
بعض الناس حول أبعاد هذا النص العظيم نتيجة ادعاء البعض أن أولي
الأمر المعنيين به هم الأشخاص الذين كان النبي (صلى الله عليه وآله)
يوكل إليهم بعض المهام، مثل جباة الزكاة وأمراء السرايا وما إلى ذلك.

72
هذا الادعاء يمثل سطحية غريبة في التعامل مع النصوص الإلهية، إذ
أن فريضة بحجم هذه الطاعة التي أو جبها النص لا يكون مثلها إلا لولي
أمر الأمة، ولا ريب أن كل من تعامل مع هذا النص قد فهم منه طاعة
الولاية العامة، مما جعل فقهاء الجمهور يحرمون القيام على أولي الأمر ولو
كانوا فاسقين أو ظلمة، بل اعتبروا من يقوم عليهم الأبغياء ولو كانوا من
أهل العدالة، وسنعود إلى ذلك لاحقا خلال البحث، وهكذا يظهر أن
حجم هذه الفريضة يفوق كثيرا الحجم الوظيفي الموكل إلى عمال النبي
(صلى الله عليه وآله)، أو عمال الولي بعده، لجهة الصلاحية والمسؤولية،
هذه المهام التي تستدعي خضوع الناس لها من قبيل الجري مع الضرورات
الواقعية التي تفرضها طبيعة العلاقات في المجتمع، مثلها في ذلك كمثيلاتها
في أي مجتمع إنساني له دولة وحكومة، وهي تنطبق على كل موظفي
الدولة من أكبرهم إلى أصغرهم، حتى الحاجب في دائرة حكومية، أو
الحارس على مؤسسة ذات طابع عام، فلا حاجة إلى جعل هذه العلاقة
فريضة إلهية، ولا أن تعطى طاعة بحجم الولاية، بينما هي تستمد شرعيتها
من السلطة العليا التي هي ما تشرع له الشرائع في العادة، والتي بتشريعها
يستمد منها كل ما دونها شرعيته في مراتب الحاكمية.
إن ضرورة بناء الدولة تقتضي تشريع نظام الحاكمية فيها، ولا يمكن
تشريع الطاعة لعمال الدولة مع إهمال تشريع طاعة السلطة العليا فيها، فلو
لم تكن هذه الآية تحدثنا عن الولاية العامة لأولي الأمر كما أسلفنا، بل
كانت تعني عمال النبي (صلى الله عليه وآله)، فماذا يكون الوضع بعده،

73
وكيف تكون مراتب السلطة حينئذ، إذ تكون الآية قد فرضت طاعة
العمال ممن دون مرتبة الإمام، بينما قد فرغت يدنا من نص في الكتاب
يفرض طاعة ما للإمام، بملاحظة أن أصحاب هذه الدعوى ذاتهم يتأولون
النصوص القرآنية الأخرى في الإمامة ليخرجوها عن دلالتها على الولاية
العامة (كنص الولاية)، الأمر الذي يظهر الخلل في هذا المستوى من الفهم
للنصوص، ذلك لأن في سيرة العقلاء وعرف المشرعين لا يمكن للشريعة
التي تعد لبناء دولة أن تشرع طاعة عمال السلطان، بينما تهمل تشريع
ولايته، فهذا من بدع الأمثال، وهو نقص في الأفعال، تنزه عنه الشارع
الأقدس ذو الحكمة والكمال. لذلك اضطر القائلون به أن يضيفوا في
مضمون أولي الأمر إلى جانب عمال النبي (صلى الله عليه وآله) من يأتي
بعده من أولياء الأمور، فخلط هذا الفهم بين ولي أمر الأمة وبين عماله،
وجعل ولاية الجميع على قدم المساواة، مما لا يمكن قبوله بأبسط قواعد
المنطق، فطاعة عماله من سنخ آخر، لأنها نسبية محدودة بما يوكل إليه
الولي من مهام، ويبقى المحكوم فيها مالكا لزمام أمره في الحيز ذي صلة،
بحيث لو خرج العامل عن طاعة الإمام أو عن حدود وظيفته أو حدود
المصلحة أو الشريعة، وجب على المكلف عدم طاعته والعودة إلى مصدر
شرعيته أي الإمام، لذلك ومن حيث المبدأ، لم تكن هذه العلاقة بحاجة
إلى فريضة ربانية توجبها، بل مثل هذه الفريضة لو وجدت تكبل الناس في
حال شذوذ العامل عن جادة الصواب، بل هي تعطي قدسية لا ضرورة
لها، يمكن أن يسئ استخدامها ليفرض على الناس ولاء لا مصلحة فيه،
ولو كان جدلا من حاجة إلى تشريع من هذا القبيل، لوجب بنص آخر

74
يوضح محدوديتها ونسبيتها، بينما هذا النص بالذات قد جعل الطاعة
شاملة غير مقيدة، فلا ينسجم مع ما دون ولاية الإمام من مسؤوليات.
ثالثا: النص يقضي بعصمة أولي الأمر:
إن الإنسان الذي يتلقى هذه الفريضة الإلهية يدرك بالبداهة وبدافع
من فطرته بعيدا عن تعقيدات الفلسفة وعلم الكلام، أن الله تعالى لا يأمر
عبده بما يؤدي به إلى الشر، بل لا بد أن طاعته فيما يأمر به عبده تؤدي
به إلى الهدى والسلامة، هذه الفطرة السليمة هي أساس المنطق الديني الذي
يستمد قوته من عفويتها المعبرة عن الأصالة في البنية النفسية والوجدانية
والعقلية للإنسان، التي لم تشوهها الأهواء والمؤثرات المضلة، فأساس الفكر
الديني يقوم على أن الله تعالى أرسل الأنبياء وأنزل عليهم الوحي ليقيم
للناس سبيل الهدى الذي يرضاه، فأقام الحجة عليهم " لكي لا يكون للناس
على الله حجة من بعد الرسل " فهم محاسبون على الاهتداء بسبيله، ويحتج
عليهم به إن ضلوا بمخالفته، فهدف الرسالة السماوية هو هداية الإنسان
وسلامته، والله تعالى حينما يأمر بطاعة لجهة، فإنه لا شك يقيمها على
نحو لا يمكن معه إذا امتثل لها الناس أن تؤدي بهم إلى الضلالة أو التهلكة
لقابلية فيها بمعزل عن تقصيرهم، إذ مثل هذا يناقض أساس المنطق الديني،
وينقض مبررات الرسالة السماوية في أهدافها، فالأمر الإلهي في هذه الآية
الكريمة بالطاعة غير المقيدة للرسول وأولي الأمر، ما كان ليصدر عن الله
تعالى لو لم تكن هذه الطاعة عاصمة من الضلال هادية من السلامة،
وصائنة لأهداف الرسالة. وهذا لا يكون إلا بعصمة الجهة التي أولاها هذا

75
الحجم من الفريضة. فأما الرسول (صلى الله عليه وآله) فهو العالم بعصمته
لأنه اصطفاه وعصمه، وأما طاعة أولي الأمر المعنيين بهذه الفريضة الإلهية،
فلا بد أنه خص بها عبادا له قد علم كعلمه برسوله أن طاعتهم عاصمة
هادية، وهذا يقتضي أن يكون قد اجتباهم كما اجتبى رسوله لهذه
الوظيفة، فهيأهم لها وعصمهم فيها، لذلك جعل ولايتهم كولايته، وأطلق
الأمر الرباني بطاعتهم عبر الزمان وإلى يوم القيامة، جاعلا للناس سبيلا
للهدى والسلامة، محققا لأهداف الرسالة، التي لن يكون بعدها وحي ولا
رسالة.
بيد أنه من المفيد التذكير بأن الإنسان قد يقع في ضلال أو هلكة
نتيجة سوء امتثاله للفريضة والخطأ في التعامل معها، وهذا يكون من
فعله، ومثل ذلك يختلف عن ضلال أو هلكة يقع فيها لامتثاله الفريضة
نتيجة لقابلية فيها إلى ذلك، حينئذ تكون الفريضة أو الشارع الأقدس
هو المتسبب في هذه النتيجة، ومثال الحالة الأولى كما لو أن المجتهد
حكم بما هو خارج الأصول فحينئذ يشكل خروجا عن خط الرسالة ولا
حجية لحكمه أصلا. أما الحالة الثانية فإن أوضح مثال عليها هو فريضة
الطاعة لولي الأمر على النحو الذي قال به أصحاب الاجتهاد في الإمامة،
أي أن أولي الأمر الذين فرض الله طاعتهم هم مطلق ولي أمر يستولي
على مقاليد الأمور، وليسوا أشخاصا معينين من الله ورسوله، عرف بهم
الناس لأن طاعتهم عاصمة هادية، فلو تسلط أولياء أمر فسقة أو ظلمة،
أو دون مستوى الوظيفة، أو منافقون يكيدون للدين، فكان خضوع

76
الأمة لهم امتثالا لهذه الفريضة، لا جريا مع الحاجة المجتمعية كالحال في
النظم الأرضية، فما يترتب على هذا الامتثال من خروج عن الرسالة أو
من أذية تلحق بالأمة، كله يكون لأن الفريضة على هذا النحو قابلة لمثل
هذه النتائج وهذا محال أن يكون في الفرائض الإلهية التي لا بد أن تكون
هادية ومحققة لمصلحة الإنسان.
ولقد بدا لأحد الأصدقاء في معرض الحديث أن يقول: لقد أمر
الله بطاعة الوالدين والزوج ولم يشترط عصمتهما فما هو الفارق بين
هذا وبين فريضة الولاية العامة للإمام، والجواب واضح لا يجوز فيه
الالتباس، فإطاعة الوالدين والزوج لم تأت في القرآن الكريم بأمر مباشر،
بل استخلصت من مجموع نصوص في الكتاب والسنة هي ذاتها جعلتها
مقيدة، بينما طاعة أولي الأمر جاءت في النص الذي نحن بصدده مطلقة
غير مقيدة، وبأمر رباني مباشر بالطاعة لم يأت مثله إلا في طاعة الله
ورسوله، فطاعة من هذا القبيل لا تكون هادية إلا إن كان الذي خصه
الله بها هاديا لا توقع طاعته في ضلال، فالفريضة بالطاعة تختلف في
مضمونها وشكلها بين الحالتين، لاختلاف الحيز ذي الصلة، وهي على
النحو الذي فرضه تعالى، مقيدة في الأولين، وغير مقيدة في الأخرى لا
بد أنها هادية تصيب عين الصواب بتحقيق ما نظرت إليه الشريعة، وهو
صيانة الأسرة والعلاقة الاجتماعية والقيم في الأولين، وحفظ الرسالة
وصون الأمة من الانحراف في الأخرى، الأمر الذي لا يتحقق في حالة
الطاعة المطلقة إلا بعصمة الذي أو جبها الله له.

77
على أن البعض قد تأول هذا النص كسواه محاولة لمطابقة
النصوص مع واقع الخلافة الذي أخذ طريقه بعد أن تنكرت الأمة
للأولياء الشرعيين من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، فاعتبروا أن
وجوب الطاعة المفروض بهذا النص للإمام لا يقتضي عصمته في ولايته،
واستدلوا على قولهم بأن الشريعة الإلهية ليست معصومة بل تنظر في
أحكامها إلى المتاحات ضمن طبائع البشر، لتغليب المصلحة على المضرة
والحكم بأولى الأحكام والقواعد، وأن كثيرا من قواعد الشريعة يحكم
على الظاهر ولا يقود إلى معرفة عين الحقيقة، وأن الاجتهاد في الفقه قد
يخطئ في الأحكام، ومع ذلك كله تبقى الشريعة وأحكامها حجة على
الناس.
ونحن نقول إن في هذه الاحتجاجات مغالطات تخلق التباسا
مصطنعا، ففي المقدمات بعض الصواب، لن نخوض هنا في بحثها لحاجتها
إلى اعتبار مستقل غير أن ما بني عليها من نتائج غير صحيح.
أولا: لقد جعلوا معيار الصواب لديهم بقاء الحجية قائما، ولم
يأخذوا بعين الاعتبار أن المعيار الحقيقي هو الهداية والضلال، فالهدف
من الرسالات السماوية ليس إقامة الحجة على الخلق بذاته، بل وضع
السبيل الهادي لهم لهدايتهم به، وتكون الحجة حينئذ مترتبة على ذلك
ومرتبطة به، وتسقط الحجة إن سقطت الهداية بالسبيل المفروض، إذن
معيار الصواب في أي نقاش حول موضوع الشريعة وأحكامها وخاصة
موضوع الإمامة، هو تحقيق الهداية والوقاية من الضلال باتباع الفرائض

78
الإلهية، وما كان تعالى ليقيم الحجة على الناس لسبيل أمر به لو لم يكن
هذا السبيل المفروض هاديا باتباعه، وهذا من أبسط مقدمات المنطق
الديني، فمن هذه الزاوية يجب ولوج البحث لتحصل النتائج الصحيحة.
ثانيا: إن أحكام الشريعة الإلهية المقدسة ومن خلال الهدف العام
في الهداية والوقاية من الضلال، تختلف في مراميها باختلاف الحيز الذي
تشرع له، ولئن كانت الرسالة الإلهية هي سبيل الهداية الذي وضعه تعالى
للناس فأقام الحجة عليهم إن ضلوا بعدم اتباعه، فإن بقاء الحجة
واستمرارها مرتبط ببقاء الهداية بالرسالة، وهذا بدوره متوقف على بقاء
الرسالة وسلامتها من التحريف. لذلك كان لا بد عند النظر إلى أي
حيز يتناوله التشريع من الالتفات إلى اختلاف الوظيفة والأثر على هدف
الهداية بالرسالة الإلهية، ومن الواضح أن قيادة الأمة هي الأبلغ أثرا في
هذا الأمر، وأي تشريع يتناولها لا بد أن يكون ناظرا إلى هذه الحقيقة،
لذا لا يصح في المبدأ المقارنة بين الإمامة وما يلازمها من الولاية العامة،
وبين ما هو دونها من قواعد الشريعة وأحكامها، في الفقه والقضاء ودور
الفقهاء في الاجتهاد، ذلك لاختلاف الوظيفة والأثر في الحيزين، وما
يترتب على ذلك من الاختلاف في غايات التشريع ومنحى قواعده.
فالشريعة في الحيز الثاني ناظرة إلى حفظ الفرد والمجتمع بنظام تعبر أصوله
وأحكامه أصدق تعبير عن مصلحة الإنسان ضمن واقع الوجود، لذا
كانت الهداية باتباعه لجهة أنه يحقق الحد الأقصى من مصلحته ضمن
الواقع المذكور، ولئن كانت بعض الاستنباطات لا تعبر عن أصولها

79
المرتبطة بها بدقة، لعيب في المجتهد، فإن ذلك لا يعتبر خروجا عن الالتزام
بالشريعة ما دام الاستنباط مرتكزا أساسا إلى أصولها، ولا يضر بالتوجه
العام للأمة في لزوم الشريعة والاهتداء بها إذ ما هو موضع نظر الشريعة
هنا هو الأصول والتزام الاستنباط بها، أما وإن بعض القواعد لا يكشف
عن عين الواقع فنناقشه من خلال المثالين الآتيين ليتضح المطلب:
الأول: في تشرع الطهارة يحكم على الأصل إذا لم يعلم حدوث
الطارئ عليه بتغيير حاله، أي ما كان أصله الطهارة يحكم ببقائه على
طهارته إذا لم يعلم بتنجسه، ويصح العمل المترتب على ذلك حتى لو
صادف في عين الواقع أنه قد تنجس، ذلك لأن هدف التشريع هنا ليس
تحقيق الطهارة الفيزيائية، بل التعبد لله بما سن من شريعة الطهارة للحصول
على ما لها من غايات روحية ومادية فردية واجتماعية، والتي من جملتها
أنها تحقق بالوسائل المتاحة لكل إنسان وفي كل مكان حدا من الطهارة
النسبية اللازمة من أجل ضرورات النظافة والصحة العامة، أما الطهارة
الفيزيائية فليست من ضرورات هذه الغايات، ولا من ضرورات الحياة
العملية، ولا هي متاحة في الممارسة اليومية، لحاجتها إلى استخدام الوسائل
الطبية، هذه الغايات تكون متاحة ولازمة فقط للغايات الطبية الخاصة.
لذلك لو صادف حكمنا بالطهارة على ثوب كان واقعيا متنجسا، لا
يحدث الخلل في الغايات الكلية لتشريع الطهارة، الذي باتباع قواعده
تتحقق تلك الغايات التي نظر إليها التشريع هنا والتي هي عين المصلحة
عقلائيا. فنصاب الحقيقة هنا هو إصابة المصلحة التي هي في غاية التشريع.

80
الثاني: القاعدة في القضاء أن الأصل البراءة، ولا إدانة إلا بإقامة
البينة. هدف التشريع هنا ليس الإدانة بذاتها، إنما إقامة إطار من العلاقات
يحترم باطن الفرد ويصون حرمته من طغيان الجماعة عليه، ويصون
المجتمع من طيان الفرد. لذلك سن العقوبات الرادعة للفرد، وجعل
الإدانة بالبينة، لكي يحمي الفرد من التروات، وجعل حدود نظر المجتمع
في شأنه يقف عند الظاهر ولا يتعدى إلى الباطن الذي هو ملك له
وحده، ولا يحاسبه عليه إلا خالقه، فلم يكن عقلائيا من قاعدة أصوب
من تلك لتحقيق هذه الغايات، ولو صادف الحكم ببراءة مذنب في
واقع الحال فذلك لا يضر في تحقيق الغايات الكلية من التشريع، وهذا
معاقب على كل حال من خالقه في الدنيا والآخرة الذي يعلم وحده
بباطن الإنسان، وعدم اتباع هذه القواعد محصلته فوضى الأحكام،
ووقوعها تحت سيطرة الأهواء، وعموم الظلم والفساد، أما اتباعها فهو
محقق لتلك الغايات الكلية التي هي موضع نظر التشريع هنا والتي هي
عين المصلحة اللازمة لسلامة الحياة، ونصاب الحقيقة هنا هو صواب هذا
التشريع في مطابقة عين المصلحة الإنسانية وتحقيقها.
وهكذا فإن غايات التشريع تختلف من حيز إلى آخر في نواحي
الحياة، وبعض القواعد لا يكشف عن عين الواقع في حيز الفقه والقضاء،
ومثله ما قد يكون من بعض استنباطات الفقهاء، وهو لا يحدث الخلل في
الغايات الكلية التي هي موضع نظر التشريع ضمن الحيز ذي الصلة، واتباع الشريعة بجزئيتها وكليتها يحقق عين مصلحة الإنسان المعلومة

81
عقلائيا، فإصابة عين الحقيقة هو بتحقق عين المصلحة التي في غاية
التشريع. فهذا التشريع يكون سبيلا هاديا للبشر واقيا من التهلكة، ولا
يكون الوقوع في درجات من الهلاك والضلال إلا بالخروج عنه، حتى إذا
انحرفت الأمة من خلال ضلالات اجتهادية تصدر أحكاما لا سند لها في
الأصول، أو أحكاما استنسابية في القضاء، لا يكون إلا حينما تفسد
شؤون الأمة بفساد أئمتها ومرجعيتها، بينما الإمام الذي هو على
مستوى الرسالة، يشكل الضمانة من عدم الوقوع في مثل هذا، ومن
هذه النقطة بالذات نبدأ بفهم الفارق في غايات التشريع بين الإمامة وما
دونها من مواضيع الشريعة، لاختلاف الوظيفة والأثر لجهة ضمان
استمرار الهداية بالرسالة، إذ أن قضية الحاكمية في الأمة تطال مباشرة
هذا الأمر بغض النظر عن المراد بالولي، أكان له الولاية العامة على
الرسالة والأمة، أم كان له فقط ولاية الحكم والسلطة السياسية، إذ أنه
حتى في الحالة الأخيرة فإن السلطة السياسية العليا في المجتمع المتمتعة
بالنفوذ والسيطرة على مقدرات الأمور، وبيدها القوة والسلطان، لقادرة
على التأثير على كل نواحي الحياة، بما فيها تلك المتعلقة بالرسالة، وقادرة
على حرف مسيرة الحياة العامة عنها، سواء عن جهل أو عن نية مبيتة.
على أنه مما لا شك فيه أن للإمامة ولاية عامة على الدين والأمة التي
دانت به، وذلك بدليل هذا النص ذاته، بل ولقد فهم فقهاء جمهور العامة
ذلك منه كما ذكرنا سابقا، وظيفة بهذا الحجم، مع ما للولي من حق
الطاعة الشاملة، إن كان أولياء الأمر دون مستوى الرسالة الإلهية، قابلة
إلى أن تنحرف بالرسالة والأمة، وأن يحرف الدين وتفقد الرسالة أبعادها

82
وتتعطل أهدافها، وأن يفشوا الظلم وتفسد شؤون الأمة بفقهها وقضائها
وإدارتها، وأن تضل الأمة عن الخط الإلهي وتقع في التهلكة، كالذي
حصل للمسلمين حين سيطر على أمورهم ولاة الأمر المعلوم حالهم
تاريخيا، وغدا المجتمع الإسلامي دولة قيصرية ليس فيها من بقايا الإسلام
سوى ما نسميه اليوم بقوانين الأحوال الشخصية، وطقوس العبادة،
والمظاهر العامة للدين، فغدت الرسالة عارية أمام أعدائها الداخليين
بتعطيل مرجعيتها الحقيقية، فحرفت السنة ومحقت وهي نصف الدين،
وحرف تأويل نصوص الكتاب بما يوافق توجيه الحاكمين، وأصاب
الفراغ موقعية الرسالة من الأمة، وفقدت دورها الأممي، وانحدر
المسلمون إلى الحضيض، حتى غدوا أفقر وأجهل وأضعف وأذل من
عليها، وساد على الأرض الكافرون،. ذلك لأن الله تعالى إنما جعل
هداية البشر بواسطة الرسالة، فلئن لم تلتزم الأمة بخطها، أو لم تحفظ
الرسالة وتصن بنصوصها ومضمونها وأهدافها وأبعادها وبرنامجها الآني
والمستقبلي، لكل الأجيال والأمم بالوجه الذي يريده الله تعالى، كما بلغه
رسوله (صلى الله عليه وآله)، لم يكن حينئذ بعد ذلك من ضمانة
للهداية، لذا إذا ما شرع الله تعالى في شأن الإمامة مع ما لموقعها من
الأثر البالغ في ذلك، كان لا بد أن يشرع على نحو لا يحتمل معه أن
يؤدي إلى انحراف الرسالة عن سبيلها وخروج الأمة عن رسالتها، وإجهاض الرسالة وهلاك للأمة بذلك، أي لا بد أن يكون التشريع هنا
عاصما من الضلال واقيا من الهلاك، وهذا لا يكون إلا بعصمة الإمام
الذي فرض له الولاية العامة بهذا النص وأمثاله، فلو ضل الناس بمخالفة

83
السبيل والتنكر عنه يكون ذلك من فعلهم ونتيجة معصيتهم، والحجة
قائمة عليهم به، أما لو كان الوقوع في الضلال عن قابلية له في السبيل
ذاته، لأصبح ضلالهم نتيجة امتثالهم لفريضته، لا عن قصور منهم، فلا
يبقى من حجة عليهم بذلك، بل لكانت الحقيقة أن الله تعالى من خلال
نصوص شريعته قد أبطل غايات رسالته، وتسبب في إجهاضها وفشل
أمتها التي دانت بها، تنزه تعالى عن ذلك وعلا علوا كبيرا.
والبديل المفترض عن عصمة الإمام المفروض الطاعة في هكذا
تشريع، بعد أن جعل تعالى طاعة ولي الأمر فريضة إلهية وأعطاه بها
الولاية العامة، يكون بسبيل يسنه تعالى للناس في وسيلة حصولهم على
ولي الأمر وحدود صلاحياته، بحيث يكون ذلك السبيل المفروض المشرع
إلهيا، أيضا سبيلا عاصما هاديا، بمعنى أنه يضمن تحقيق سلامة الرسالة
وحفظ الأمة على خطها، وما هذا الأمر بحاجة إلى عناء لإثبات أنه ليس
موجودا في الشريعة الإسلامية، بل دعوى الذين يبطلون عصمة الإمام
هو أن موضوع الإمامة برمته متروك ومسكوت عنه، بما فيه سبيل
الحصول على الإمام، فجعلوا لأنفسهم المبرر للاجتهاد في ذلك، ولنا
عودة إلى هذا خلال البحث بالتفصيل.
وفي محصلة البحث، فإن هدف الرسالة الإلهية الخاتمة ككل
الرسالات السماوية، هو سن السبيل الهادي للإنسان الذي باتباعه تكون
هدايته وسلامته، وأحكام الشريعة تختلف فيما تنظر إليه باختلاف الحيز
الذي تتناوله، والهدف في الأحكام التي هي دون الإمامة هو إقامة نظام

84
العلاقات الذي يناسب طبائع البشر، فكان فيها تغليب للمصلحة على
المضرة، والحكم بأولى الأحكام، ضمن ما هو متاح من طبيعة البشر، لذا
كانت الأحكام أصدق تعبير عن مصلحة الإنسان، والهداية تكون بالتزام
الإنسان فردا وجماعة للشريعة في هذا المستوى من الأحكام، والشريعة
بهذا المعنى لا يصح وصفها بأنها غير معصومة، بل هي معصومة لجهة
صدق تعبيرها عن عين مصلحة البشر ولجهة تحقيقها الغايات الناظرة
إليها في كل حيز تناولته بالتشريع، أما في موضوع الإمامة الذي له
الأثر البالغ على سلامة الرسالة وحفظ الأمة على خطها، فإن التشريع
ناظر في حيزها إلى هذا الهدف، وضمانته لا تكون إلا بعصمة الإمام في
وظيفته، لأن الهداية إنما هي بالرسالة، وما لم تحفظ من العبث امتنعت
الهداية بها وخرجت الأمة عن خطها، عن حسن نية، أو سوء طوية،
وبطلت الحجة.
رابعا: هل إن أولي الأمر المعنيين بفريضة النص هم مطلق ولي أمر،
وهل إن الله تعالى قد أهمل شأن الإمامة فغدت محلا للاجتهاد؟.
تقودنا الإجابة عن هذا السؤال إلى البحث في عناوين عديدة، بهدف
سد الذرائع التي يسوقها البعض جدلا تحت هذا الادعاء، فسيكون النقاش
تحت العناوين التالية:
1 - خصائص الفريضة التي يمليها النص. 2 - الفريضة لا تخرج عن سيرة العقلاء.

85
3 - مجتمع الصحابة وظروفه الموضوعية.
4 - الحاكمية تمثل مضمون النظام.
5 - بطلان دعوى الاجتهاد في الإمامة.
بداية، إن النص يكذب الادعاء بإغفال الشريعة لشأن الإمامة، حين
جعل الولاية العامة للإمام فريضة ربانية وجزءا من الدين يحاسب الناس
على تركه.
أما الادعاء بأن الله تعالى وإن كان قد فرض ولاية ربانية لأولياء
الأمر لكنه لم يعين من هم، لظاهر الخطأ بالبداهة وسلامة الفطرة، لما
تقضي به سيرة العقلاء من أن الآمر لا بد أن يشخص لمأموريه الجهة التي
أولاها طاعتهم، لضمانه تحقيق هذه الجهة لأهدافه، بيد أن أزمان الخطأ
جعل ممكنا أن يتشبث في أذهان الناس شبهات ظاهرة التناقض من هذا
القبيل.
ولقد ألمحنا سابقا إلى أنه رغم عدم الذكر المباشر في النص ذاته من
هم أولو الأمر المعنيين بالفريضة، فإن ذلك يستخلص من فهم النص
وفريضة الطاعة التي أوجبها، فهما حياديا دون الالتزام المسبق بفهم خاص
حول طبيعتهم (يتم إسقاطه على الفريضة)، إذ لا بد أن يكونوا على حال
يناسب الفريضة التي أوجبت لهم.

86
1 - خصائص الفريضة التي يمليها النص:
ويفهم من طبيعة الفريضة أمران: وهما قد ظهرا بعض الشئ
للقارئ من خلال ما تقدم من البحث، لكننا سنعود إليهما ببعض
التفصيل على ضوء المزاعم التي أشرنا إليها في هذه الفقرة
أولا: قد أعطى النص لأولي الأمر طاعة واجبة في فريضة ربانية
شاملة غير مقيدة، أفادت ولاية عامة كما أشرنا في بداية البحث، مما صح
تسميتهم، معها أولي الأمر، ولم يخرج فقهاء الاجتهاد في الإمامة عن هذا
الاعتبار، وأيده السلوك العملي بقبول غالبيتهم من الخليفة التشريع في
الدين برأيه ولو في مخالفة السنة والكتاب، فقد تلقوا هذا بالقبول وصار
سنة يحتج بها، كما أنهم قد أوجبوا لولي الأمر طاعة غير مقيدة فحرموا
القيام عليه مطلقا ولو كان فاسقا وجائرا، وأوجبوا حرب من يقوم عليه
ولو من أهل العدالة واعتبروهم أهل البغي، وسنعود إلى كل هذا في بحث
الاجتهاد في الإمامة. وإن كل حديث يدعي تقييدا لطاعة ولي الأمر على
المستوى النظري يبقى بلا مثال من الواقع الذي جرى تاريخيا، وقول
البعض أن هذه الطاعة يستثنى منها ما كان في معصية، من قول النبي
(صلى الله عليه وآله) " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " لم يحصل عمليا
في أي حال على صعيد الأمة التي نجدها قد انصاعت إلى أمراء الفسوق
والظلم، وأعانتهم على ظلمهم بخضوعها وبانفضاضها عن أهل العدالة،
لذا في أحسن الأحوال يبقى هذا الاستثناء ذا أثر محصور في السلوك
الفردي لا يتعداه إلى موقف الأمة، وذلك نتيجة تحريم القيام على الولي

87
الفاسق أو الظالم، علما إن مثل هذا الولي يحمل الأمة على ما هو أسوء
من المعصية الخاصة بالفرد، إذ يخرج الأمة برمتها عن خط الدين،
ويحدث في الرسالة ما ليس منها، لذلك فالفهم، الصحيح لهذا النص
يكون بحرمة ولاية من يأمر بالمعصية، لأن مجرد القبول بولايته فهي طاعة
له، ولأن ولايته لا بد تقود إلى معصية الخالق على صعيد الأفراد والجماعة
إذ هي تمكين له من ذلك.
ولو قال أحد أن هناك في الكتاب استثناءات من فريضة الطاعة
المستفادة من هذا النص، وذلك بالنصوص التي تحرم طاعة الفاسق والظالم
والكاذب والذي أغفل الله قلبه وما من هذا القبيل فهو قول فيه التباس
على من لا يمعن النظر في فحوى النصوص.
* (ولا تطع من أغفلنا قلبه..) * (1)، * (فلا تطع المكذبين..) * (2)،
* (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) * (3)، * (ولا تطيعوا أمر المسرفين) (4)، الذين
يفسدون ولا يصلحون) * (5) * (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا..) *.
فالنص الذي نحن بصدده يتكلم عن طاعة خاصة بأولي الأمر،
بينما هذه النصوص لا تتكلم عن أولياء الأمر، بل تتكلم عن طاعة لمن



(1) سورة الكهف / الآية 28.
(2) سورة القلم / الآية 8.
(3) سورة الإنسان / الآية 24.
(4) سورة الشعراء / الآية 151.
(5) سورة الشعراء / الآية 152.
88
كان فيه تلك الصفات ليس حالة كونه ولي أمر للأمة بل في المطلق، فلو
جمعناها إلى نص أولي الأمر لاستفدنا أننا نستثني مثل هؤلاء من ولاية
الأمر لأن طاعتهم محرمة في الأصل ومن حيث المبدأ، بينما طاعة ولي
الأمر واجبة وشاملة، فلا يجوز لمثل أولئك أن يكون أولياء لأمر الأمة،
فيمتلكون الولاية وهم على تلك الحال، إذن هذه النصوص تفيد
الاستثناء من أهلية الولاية، لا الاستثناء من حجمها.
على أية حال لم يفهم فقهاء جمهور العامة أصحاب الاجتهاد في
موضوع الإمامة من هذه النصوص على أنها تستثني من فريضة النص، بل
جعلوا هذه على ما هي عليه من إطلاق وعدم تقييد حاكمة على تلك،
بدليل تحريمهم القيام على ولي الأمر ولو كان فاسقا أو جائرا كما سبق
القول، استنادا إلى هذا النص بالذات، سواء فسق أو جار بعد توليه
حسب بعضهم، أو كانت تلك حالته لحظة توليه حسب البعض الآخر،
والحقيقة التي لا يمكن تجاهلها أنهم قد فشلوا في الجمع بين النصوص،
وذلك لأن اجتهاداتهم في أساسها لم تستند إلى نصوص بعد أن تأولوا
نصوص الإمامة في الكتاب والسنة على غير واقعها، بل بنوا اجتهاداتهم
على عمل الصحابة كما سيأتي البيان في حينه، رغم أن لا دليل من عقل
أو كتاب أو سنة على حجية عمل مطلق إنسان ما لم يكن مطابقا لأصل
التشريع في الكتاب والسنة. ولا مندوحة من الاعتراف بأن هذه
النصوص إنما تؤيد ما ذهبت إليه الإمامية من أنه لا يمكن للنص الذي
نحن بصدده أن يعني أن الله تعالى قد أطلق فريضة الطاعة لأولي الأمر أيا

89
كانوا دون تعيين منه، للاحتمال الدائم من أن يكون فيهم مثل أولئك
الذين قد نهى عن طاعتهم لما لهم من خطر على الرسالة والأمة، فيؤكد
أن أولي الأمر المعنيين بالفريضة هم فئة قد علم تعالى أنهم لا يحملون
الأمة على معصية أو ضلال لذا خصهم بها، وهذا يستدعي أن يكون قد
شخصهم للأمة لكي لا تخضع إلى طاعة أخرى يكون فيها ضلالة.
أما ما يروى من نصوص نبوية تتكلم عن طاعة الفاسق أو الظالم،
فهي على فرض صحتها لو جمعت إلى بعضها البعض لنتج عنها أن النبي
(صلى الله عليه وآله) إنما يخبر المسلمين عن ما سيأتي في المستقبل، وأن
حكاما جائرين وفسقة سيتسلطون على رقابهم بما لا يرضي الله، نتيجة
مخالفة الأمة للأولياء الشرعيين، ويوجه المسلم على مستوى الفرد كيف
يتعامل مع هؤلاء أن شاء أن ينجو بنفسه.
على أن هذه النصوص لا بد من جمعها مع النصوص القرآنية
الواضحة التي تنهي عن مثل هذه الطاعة، والنصوص الأخرى في الكتاب
والسنة التي تكلف الأمة فردا أو جماعة بتقويم المنكر، وحينئذ نستطيع أن
نفهم أن هذه التوجيهات إن صحت تلك النصوص، على أنها في حالة
العجز عن التصحيح، أي حين ينطبق أمر النبي (صلى الله عليه وآله)
".. فمن لم يستطع فبقلبه.. " أو قوله تعالى * (.. إلا من أكره وقلبه
مطمئن للإيمان..) * ولا يمكن في أي حال فهمها على أنها تعطى شرعية
الخضوع إلى مثل هؤلاء الحكام أو تعطيهم الشرعية، بل الشرعية هي
لأولي الأمر المعنيين بالنص موضع البحث وبصفتهم على النحو المذكور

90
أعلاه، والمؤيدة بنصوص قرآنية ونبوية أخرى كثيرة لا لبس فيها، وأي
فهم آخر إنما يحدث تناقضا في الدين، ويفتح ثغرة في البنية العقائدية لا
يمكن الدفاع عنها بأي شكل من الأشكال.
ثانيا: وما نفهمه ثانيا من طبيعة الفريضة، إن النص قد جعل
مصدر شرعية أولياء الأمر وأساس سلطتهم من الله تعالى.
وهذا على ما يبدو لا خلاف عليه في المبدأ بين السنة والشيعة.
رغم ما يحكي في مباحث علم الكلام لدى السنة عن مصدرية الأمة،
بينما مراجعة أحكامهم في هذا الصدد تؤدي إلى خلاصة مؤداها أن هذا
النص بالذات هو المرتكز الأول في تشريع الطاعة لأولياء الأمر الذين
تداولوا السلطة بمختلف العناوين: (راجع نظام الحكم والإدارة للعلامة
الشيخ محمد مهدي شمس الدين.
الماوردي: " ففرض علينا طاعة أولي الأمر فينا وهم الأئمة
المتأمرون علينا " (1).
وابن خلدون: ".. ويجب على الخلق جميعا طاعته لقوله تعالى
وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم.. " (2).



(1) الأحكام السلطانية ص 5.
(2) المقدمة 1 / 342 من التاريخ.
91
وابن حزم في الفصل 4 / 87: " فأمر بطاعة (أولي الأمر) وهم
ولاة الأمور على ما ذهب إليه كثير من المفسرين ".
ومثل ذلك ما لدى القلقشندي في مآثر الأناقة 1 / 62 والتفتزاني
في شرح المقاصد 5 / 239.
فكل من فسر أولي الأمر أنها خاصة بالحاكمين أو على الأقل
تشملهم، فقد ألزم نفسه بشرعية للحاكم ذات مصدر رباني بحكم أن
النص جعل طاعته فريضة إلهية، وهذا هو حال كل التفاسير (1) ومما يؤكد
أن هذا هو المبتنى الفقهي لديهم في الولاية الواجبة للإمام أنهم " قد
اعتبروا تعيين الخليفة بالاختيار - على اختلاف صيغه - أو بغيره من
الطريق، لا يسبغ الشرعية على سلطته، وإنما يكشف عن إمامته وخلافته
الثابتة في علم الله تعالى " (2)، ومن الأمثلة الصريحة على هذا المعنى قول
الإيجي والجرجاني في الرد على القائلين بعدم انعقاد الإمامة بالبيعة " قلنا:
ذلك أي اختيار أهل البيعة للإمام دليل لنيابة الله ورسوله، نصباه علامة



(1) جامع البيان في تفسير القرآن للطبري 5 / 94 - 95 بولاق مصر.
أبو بكر المعروف (ابن العربي) في أحكام القرآن 1 / 452 ط دار الجيل بيروت 1982 م.
القرطبي في الجامع لأحكام القرآن 5 / 168 - 169 دار الكتب العلمية بيروت 1988.
الزمخشري في الكشاف 1 / 275.
ابن كثير في تفسير القرآن العظيم ج 530 - 531 دار المعرفة بيروت 1405 ه‍.
أبو بكر الجصاص أحكام القرآن 3 / 177 - 178.
(2) الشيخ محمد مهدي شمس الدين: نظام الحكم والإدارة في الإسلام ص 193.
92
لحكمهما بها أي بتلك النيابة كعلامات سائر الأحكام " (1) وأيضا " البيعة
إمارة دالة على حكم الله ورسوله بإمامة صاحب البيعة " (2).
وقد قال الرازي في رده على من قال بأنه إذا كان نصب الإمام
راجعا إلى الأمة فإنه يكون نائبا عنها لا عن الله: " لم لا يجوز أن
يكون اختيار الأمة شخصا يكشف عن كونه نائبا لله تعالى " (3).
ويقول القاضي أبو يوسف في خطابه لهارون الرشيد في مقدمة
كتاب الخراج الذي ألفه له " يا أمير المؤمنين إن الله وله الحمد قد قلدك
أمرا عظيما، ثوابه أعظم الثواب وعقابه أشد العقاب، قلدك أمر هذه
الأمة.. (4).
وهناك الكثير من النصوص التي تحمل ذات المضمون عند فقهاء
السنة لا مجال لاستقصائها، وكلها تحكي أن مصدر الشرعية للإمام
عندهم وأساس ما وجب له من ولاية وسلطة إنما هو الله تعالى وليس
الأمة، إنما تأمره مع اختلاف الوسيلة (بالاختيار أو الوصاية أو الغلبة) ما
هو إلا علامة كاشفة عن إرادة الله في اختياره للناس إماما، وفي منحه
شرعية الولاية العامة على الرسالة والأمة.



(1) شرح المواقف 8 / 351 - 352.
(2) شرح المواقف 8 / 351 - 352.
(3) الأربعين في أصول الدين: ص 439.
(4) كتاب الخراج ص 305 / ط 2 1352 ه‍.
93
ولكن مضمون هذا الموقف واقعيا جعل شأن الإمام متوقفا على
إرادة الناس، ويلزم عنه أن يكون الله تعالى قد فوض للناس تنصيب
إمامهم، فأما أن مصدر الشرعية والولاية هو الله، فهو مجمع عليه لدى كل
المسلمين، أما أن الله فوض التنصيب إلى الناس نيابة عنه، فهذا مما لا دليل
عليه من كتاب ولا سنة، بل هو أمر افتراضي اضطر إليه فقهاء الاجتهاد
في الإمامة للتوفيق بين دلالة النص وخلافة الأمر الواقع، فضلا عن أن
المنطق لا يرضى لهذا المزج بين ربانية الولاية وبشرية التنصيب، لما يتيحه
ذلك من إمكان إنتاج ولاية ضالة مضلة، فيكون ضلال الأمة عن سبيل
الله ووقوعها في الهلكة ناتجا عن الفريضة ذاتها، لأن الامتثال لهذه الولاية
كان بدافع منها، لا بدافع من حاجة المجتمعية الإنسانية كالحال في النظم
الأرضية.
وما هذا الوجه من الاجتهاد إلا وجها من الجبرية التي ابتدعها
الأمويون لتبرير خلافة الفساق والطلقاء من بني أمية، فكثيرا ما كان
معاوية يردد أنه إمام من الله واجب الطاعة لأن " الملك لله يؤتيه من يشاء "
وقد آتاه الله الملك حين مكنه منه. وهو من القول بأن فعل الإنسان
كاشف عن إرادة الله، وفيه تخليط وإلباس بين المفاهيم، إذ فعل الإنسان
يكشف عن إرادة الله في قضائه بالتخلية بين الإنسان وبين اختياره، لكن
ليس كاشفا عن رضى الله بذينك الفعل والاختيار.
على أنه مهما موهت العبارات في شأن هذا الاجتهاد وألبست من
قوالب الكلام، فإن المضمون الواقعي أن الناس هم مانحو الولاية، يمنحونها

94
بالبيعة لمن تولى عليهم، أعن اختيار أم عن قهر واقتناص، وهذا بالضرورة
يجعل الولاية بشرية المصدر وربانية بالادعاء، حيث أصبحت الشرعية تابعة
للولي، تالية له، ومحكومة للبشر، وهي بيدهم يمنحونها لمن يختارون أو
يتنازلون عنها لمن قهرهم عليها واقتنصها، أو يمنحها السابق إلى اللاحق
وهو إبطال في الواقع لفريضة النص، إذ في عرف الشرائع أن الجهة التي
تنصب الولي هي واقعيا الجهة التي تمنحه الولاية وتكون مصدر شرعية
ولايته، ولا يمكن عمليا الفصل بين الأمرين، فلو استولى واحد على
الولاية بالقهر أو استخلفه الذي قبله، أو اختاره بعض الناس أو كلهم،
كانت شرعيته صادرة عن ذاته أو الذي استخلفه أو الذي اختاره، ولو
قررت الشريعة أن القائد ينتخب من الأمة فجاءت جماعة، فرضت عليهم
قائدا، كانوا هم مصدر ولايته وشرعيته لا الأمة التي خضعت لحكم الأمر
الواقع لا عن اختيار حر، ولا يتبدل الواقع مهما موهته الجهة المسيطرة
بشرعية وهمية تدعيها باسم الله والدين أو باسم الشعب والأمة وسوى
ذلك، فالحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن شرعية سلطة الولي مصدرهما
الذي ولاه، إما ذاته أو فرد آخر استخلفه أو فرضه بوسيلة ما، أو جماعة
من الأمة أو الأمة التي انتدبته بحرية الاختيار، أو الله تعالى، والحقيقة الثانية
التي ترتبط بالأولى هي أن الجهة التي تمنحه شرعية الولاية هي ذاتها التي
تنصبه واقعيا في موقع الولي، ولا يمكن الازدواجية في هذا الأمر بأن تكون
جهة أولى تمنح الشرعية للولي، بينما الذي ينيبه في الولاية جهة أخرى، إلا
أن تكون هذه الإنابة عن توكيل من الجهة المانحة، مثلا لا يمكن أن تكون
الأمة مصدر السلطة بينما الذي ينتدب إليها أحدها أو بعضها، إلا أن

95
يكون ذلك حصيلة توكيل حر من الأمة لهذه الجهة بهذه الإنابة، وبالمثل لا
يمكن أن يكون مصدر الشرعية والولاية هو الله بينما الذي ينصب الولي
جهة أخرى، ولذلك فإن هذا النص العظيم الذي قد جعل شرعية أولياء
الأمر وولايتهم صادرة عن الله، فقد دل بذاته ودونما حاجة إلى دليل من
خارجه، أنه لا يتكلم عن مطلق ولي بل عن أولياء قد نصبهم تعالى في
الولاية، وليس متاحا أن ينصبهم أحد غيره فيها، إذ يصبح الذي نصبهم
مصدر ولايتهم ومصدر شرعيتهم واقعيا، ويكون ذلك مصادرة للولاية
وللشرعية، وإبطالا لفريضة النص، علما أنه ما من دليل على أن الشارع
الأقدس قد أو كل للناس تنصيب الإمام ذي الشرعية الإلهية، ولم يكن
استناد هذا الاجتهاد سوى إلى عمل الصحابة الذي لا دليل عليه بذاته من
كتاب ولا سنة مما يجعل عملهم مصادرة للفريضة.
وهكذا فإن الجهة التي أسماها تعالى أولي الأمر والتي منحها الشرعية
والولاية هم جهة قد نصبهم الله أولياء على الأمة بحكم هذا النص، فلا بد
أن يكون قد جعلهم معلومين على لسان رسوله المبلغ (صلى الله عليه
وآله).
ولا عبرة لما قد يقال مماحكة بأن النص لا يعني أكثر من إقرار
الشريعة لضرورة الولي، فمثل هذا القول لا ينطوي سوى على ظلم
للشريعة الإلهية الخاتمة بجعلها من مستوى بدائي متخلف حتى عن الشرائع
التي عاصرتها أو سبقتها بأحقاب كثيرة، فضلا عن تخلفها عن مستوى ما
سيأتي من شرائع بشرية بعدها، بينما قد جعلها الله تعالى خاتمة الشرائع

96
السماوية إلى يوم الدين. فضرورة الحاكمية في المجتمع أمر فطري يقتضيه
طبيعة المجتمعية البشرية، فترى المجتمعات البدائية بحكم هذه الضرورة
تخضع لفرد يفرض سلطانه عليها، ومع تقدم الإنسان في المدنية صار
للمجتمع شريعة تنظم شأن الحاكمية على نحو أو آخر، ولم يعلم منذ أن
سجل التاريخ أن جماعة ذات شريعة قد اقتصرت شريعتها على تقرير
ضرورة الحاكمية، إذ ذلك تقرير لأمر كائن واقعيا لا حاجة إلى تقريره،
بل الشرائع إنما تشرع في تنظيم شأن الحاكمية، وإن حيازة المجتمع على
مثل هذا التشريع هو من دلائل ارتقائه ومزيد تطوره، واتهام النص على
أنه يعني مجرد إقرار بضرورة الحاكمية وإن كان ادعاء ظاهر التكلف
لإزاحة النص عن مجراه، ولكنه مع ذلك هو بمثابة عدم التشريع المنظم لهذا
الأمر الخطير، وهو بهذا المعنى حالة بدائية تتخلف فيها الشريعة الإلهية عن
غيرها من الشرائع البشرية، وتقصر عن حاجة الأمة، وحاشا للشارع
الأقدس عن ذلك.
على أن النص واضح الدلالة لهذه الجهة لمن يفهم أساليب البيان
العربي على النحو الذي فصلناه من أنه يتحدث عن أولي أمر صادرين عن
الله ذووي ولاية ربانية.
وإذ لم يجعل الله تعالى الإمامة شأنا ربانيا إلا للغايات العظيمة التي
لهذه الوظيفة، والآثار الخطيرة التي لموقعيتها على الرسالة والأمة، فنجد
أنه بعد تنكر الناس للأولياء الحقيقيين المعنيين بهذا النص، وفي زمن قصير
بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) وقع الخلل الخطير في مسيرة الرسالة

97
وتعثرت الأمة، ذلك نتيجة الازدواجية المصطنعة في ولاية شرعيتها ربانية
المصدر، وتنصيب الإمام فيها صادر عن أهواء البشر، إذ بعد أن صادروا
موقع الإمام أبقوا على ربانية الشرعية وعلى حاكمية باسم الله ذات
السلطة المطلقة، مما جعل ممكنا خضوع الناس بامتثال الفرض الرباني على
هذا النحو المزعوم، إلى الولي الذي لا يمثل تطلعات الرسالة، من مقصر
عن إدراك مضمونها، أو فاسق أو ظالم أو فاسد لا يريد سوى الملك، أو
منافق يهدم الرسالة من قمة الهرم، وبهذا الفهم المعكوس للنص أصبح
ممكنا للعامة أن تتقبل ما يجافي المنطق والوجدان وثوابت الدين في التعبد
لله بطاعة مزعومة باطلة من هذا النوع لا ينتج عنها إلا ضلال الأمة
وانحلال الرسالة، ولم يعد ممكنا التغيير ولا الحكم إلا بسيول من الدماء
وبشتى وسائل القذارة في القهر والاستيلاء، ذلك لأن هذا المزج العجيب
بين البشرية في تولية الإمام، وبين ربانية الفريضة، أنتج إمامة غير متكافئة
الأركان، لا تكافؤ فيها بين الإمام من جهة وبين طبيعة الولاية وغاياتها
المنشودة في الشريعة الإلهية، وطبيعة السلطة الممنوحة للإمام من الله،
وقدسيتها وشمولها، التي تجعل منازعة الإمام فيها مناعة لله الذي منحها
وباسمه تقلدها، من جهة ثانية. وأفضل مثال على هذا ما كان مع الخليفة
الثالث ولما يمضي على وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) إلا الزمن القصير،
إذ حين وجد منه الصحابة إساءة استخدام السلطة وعال صبرهم، طلبوا
إليه أن يقيل نفسه، لأنه لم يكن بيدهم إقالته حسب النظام الذي فرضوه

98
منذ السقيفة بالمزج العجيب بين ربانية الولاية وبين بشرية التنصيب
فيها، ولكنه أجابهم بالرفض قائلا (ما كنت لأنزع رداء ألبسنيه الله) (1)،
و (أما أن أبرأ من خلافة الله، فالقتل أحب إلي من ذلك) (2) فهو يحتج
عليهم بالولاية الإلهية التي له من الله وأنه ليس في يدهم إقالته، ولا يملك
إقالة نفسه، بل لا يملك إقالته إلا الله الذي قد ولاه الخلافة، لأنه هو
مانح السلطة وهو وحده الذي يقيل منها، وهذه هي الحقيقة الثالثة التي
يجب معرفتها لتصبح صورة الولاية الربانية في هذا النص واضحة
بحقائقها الثلاث التي قد؟؟؟ النص وهي: أن الله مانح شرعية الولاية
للإمام، لذا هو الذي ينصب الإمام في الولاية، لا أحد سواه إلا
بالمصادرة، كما أنه هو الذي يقيل الإمام لا أحد غيره لأنه هو مانح
الشرعية وهو ينصبه، ولا يوجد نصوص جانبية تشرع هذه الإقالة بعد
هذا التنصيب الرباني.
فمن ذلك المزج العجيب المغلوط نشأت كل آفات الأمة بعد ذلك،
نتيجة لعدم التكافؤ بين الإمام وسلطته، لذا لم يكن من سبيل أمام
الصحابة إلا قتل عثمان، وفتح باب الصراع على السلطة بعد أن كان أمير
المؤمنين علي (ع) قد أغلقه عنوة يوم السقيفة ليبقى الإسلام، بممارسته
لأقصى الحكمة والصبر.



ابن الأثير (الكامل في التاريخ) 3 / 169 - ط دار صادر وبيروت (1965 م). شرح
النهج 2 / 150. الطبري 4 / 371.
(2) الطبري 4 / 377 - ابن الأثير 3 / 170 - شرح النهج 2 / 150.
99
حقا أن الإمام في الإسلام رباني السلطة والشرعية ولا يقيله إلا الله،
لكن الحق كذلك أن الله تعالى، مانح السلطة ومصدر الشرعية وهو الذي
قد نصب الأئمة في هذه الوظيفة الربانية الطابع والأهداف، أولي الأمر
الذين عصمهم في ولايتهم هذه من الضلال، لذلك لم يكن من عزل
للإمام. والحقيقتان في أن الله تعالى هو مانح الولاية وأنه لا عزل للإمام،
هما من المعالم التي تبقت شاخصة إلى الأنظار بعد أن عبث القوم بالفريضة
الإلهية، وادعوا تنصيب الإمام، فظهر من هاتين الحقيقتين أن الله هو الذي
ينصب الأئمة، وأن شأنهم غير متروك للناس، ولو شاء الله أن يوكل
تنصيب الإمام لعباده، لما جعل ولايته ربانية فيفقدون بعد تنصيبه أي آلية
لضبط حاكميته، ويعجزون عن خلعه إذا ظهر فساد حكمه، فتقع الأمة
في المأزق الذي لا حل له إلا بالدماء، واضطراب شأن المجتمع، كالذي
حصل تاريخيا، وكان المدخل إلى كل ضعف أصاب الأمة، وكل تعثر
لحق الرسالة إلى يومنا هذا، فلو صدر تشريع كهذا عن أي جهة لاتهمت
بالقصور والعجز أو الظلم، وحاشا لله، بل لو شاء تعالى ذلك، خلافا
لمدلول النص الواضح، لكان قد سن للناس سبيلا يتبعونه في هذا الأمر
يقيهم من الزلل والخطأ ويقي الرسالة من التعثر، غير أنه لا وجود في
الكتاب ولا السنة لنصوص حاكمة لشأن الإمامة سوى تلك التي شرعت
الإمامة المعصومة العاصمة، لذلك حين تنكرت الأمة، تحت تأثير عوامل
شتى، لا مجال لبحثها هنا، لهذه الإمامة الهادية ذات الشرعية الربانية،
تعثرت اجتهاداتهم بآراء ذاتية مضطربة، أنتجت نظام حكم أساسه شرعية
من تولى وكيفما تولى، أي تمحورت حول إيجاد الذرائع التي بها تفرض

100
خضوع الأمة للذين استولوا على الولاية، ولم تنتج نظاما إسلاميا للحكم
يهيمن على مسار الخلافة ويصوبها.
إلى هنا قد اتضحت لنا خصائص أولي الأمر ذوي الولاية الربانية
المعنيين بالنص من خلال فهم خصائص الفريضة، التي أملاها، على أن
بديهة المرء ترفض أخذ النص بما يخالف سيرة العقلاء كما سنرى فيما
يأتي.
2 - الفريضة لا تخرج عن سيرة العقلاء:
على أن الادعاء بأن الله تعالى وإن أوجب طاعة أولي الأمر لكنه
لم يحدد من هم، بل هؤلاء هم الذين سيلون واقعيا أمر المسلمين، لا
حاجة إلى كثير من علم الاجتماع السياسي لإظهار سفهه، لأنه من
بديهيات الأمور أن الآمر لا يفرض طاعة يحاسب عليها مأموريه دون أن
يحدد الجهة التي فرض لها هذه الطاعة، لارتباط هذه الجهة بالهدف الذي
يريده من تلك الطاعة، وللاحتمال القائم بأن مأموريه قد يؤدون الطاعة
لجهة لا تتوافق مع تطلعاته وأهدافه.
ولا يصح الاعتذار عن هذا بالقول إن هدف الطاعة لأولي الأمر
هو أن تستقر أمور المسلمين، إذ الضرورة تقضي بأن يخضع الناس لجهة
حاكمة تنظم شؤونهم وتدبرها، فمن يلي الأمر وجبت طاعته. فهذا
المنطق المعكوس ينقض ذاته بذاته، إذ أن انتظام شأن المجتمع لا يتحقق ما

101
لم يكن على حاكميته الولي الكفؤ النزيه، المأمون على مصالحه، لا
مطلق ولي أمر.
وفي علم الاجتماع أكثر ما يفسد الأمة وشؤونها ويخلق
الاضطراب في حياتها هو فساد ولاتها وتردي أخلاقهم وجور أحكامهم.
على أن هذا المنطق يعني أن مصالح الجماعة الآنية المرتبطة بدعة الحياة،
حاكمة على شأن الرسالة، بينما العكس هو الصحيح في حالة الأمة
صاحبة الرسالة، إذ تكون بأفرادها وجماعتها مستعدة للتضحية بالغالي
والنفيس من مال وأرواح لحفظ الرسالة وتحقيق غاياتها.
مثل هذا يكون حال الأمة التي لا رسالة على عاتقها لتضحي من
أجلها، فلا يكون في همها إلا العيش برخاء، فأين من هذا الشاهدية التي
يدعونها لهذه الأمة على الناس أجمعين؟ ولنا على كل حال عودة إلى هذا
الموضوع خلال البحث المتعلق بآيات الشاهدية.
وإن مثل هذا القول ينطوي على تقزيم الولاية العامة بعدم التمييز
بين الحكم بالمفهوم المتداول في الأنظمة البشرية، وبين شأن الإمامة في
الإسلام في الولاية العامة على الرسالة وعلى شأن الأمة، والنيابة عن
الرسول (صلى الله عليه وآله) في إمامته، وفي إكمال ما كان قد بدأه من
تحقيق الأهداف الربانية من الرسالة، الأمر الذي يجعل شأن الحكومة
جزءا من الوظيفة الكبرى في الحاكمية العليا، وفي هذا الاعتبار تقصير
عن إدراك الفارق بين رسالة إلهية هادية عاصمة، وبين نظام بشري لا

102
يدخل في اعتباره موضوع الهداية الربانية، وفيه سطحية عجيبة في فهم
الأمور، بعيد كل البعد عن استيعاب أهداف الرسالة، يجعل مستساغا
لهؤلاء الناس تبني مقولات تخلق تناقضات في بنية الدين، إذ ليس المطلوب
في حالة الأمة الحاملة لأمانة الرسالة الإلهية استمرار نظام المجتمع كيفما
كان، بل على نحو ينسجم مع الرسالة وتطلعاتها، وبما يتيح لها أن تتجذر
وتنمو، وللأمة أن تتألق بها، لتكون قدوة للأمم، لتعين إمامها على أداء
الرسالة لدورها العالمي، فكيف يكون هذا مع ولاية لا تمثل تطلعات
الرسالة، ولا تنسجم مع مضمونها، أم كيف تستقيم أمور الأمة مع ولاية
الفاسقين، أو مع ولاية منافق يكيد للدين، أم كيف ينوب مثل هؤلاء
عن أعظم الرسل في وظيفته الربانية حيال الأمة وفي مقابل الأمم
الأخرى، بل إن هذا الاعتبار ينطوي على ما هو أدهى من عبثية الفعل
وسوء التقدير، تنزه البارئ عن ذلك، فالله تعالى لا يعقل أن يرضى
بأي طاعة، بل لا يرضى إلا بالطاعة الهادية، ولا يفرض على عباده
طاعة توقهم في ضلال أو هلاك، ومثل هذا الأمر بالفرض المذكور يجعل
ممكنا أن يؤدي الممتثلون له طاعة تنتج ولاية لا ترضي الله، بل ولاية قد
تكون معادية للرسالة والمؤمنين بها.
ويعن لبعض المجادلين القول إن الأمة عليها ألا تعطي الطاعة إلا لمن
كان أهلا لها، فلا تقع تلك المحاذير، هذا الافتراض نظري صرف لا
يوجد إلا في خيال كتاب المدائن الفاضلة، ولم يتحقق في تاريخ المسلمين
أو سواهم، وهو يستدعي أمة على درجة كبيرة من النضج والوعي

103
والنزاهة ووحدة الرأي، مما لم يتوفر كما سنفصل بعد حين في كلامنا
عن مجتمع الصحابة، فضلا عن أنه يبقي احتمالات التنازع قائمة، كما
حصل تاريخا، إذ كما قال الشهرستاني " ما سل سيف في الإسلام على
قاعدة دينية كما سل على الإمامة "، كما تجعل الإمامة مسرحا لتصارع
الطامعين وذوي المآرب، ولا يحول أي درجة من نضج الأمة دون تسلل
المنافقين والذين أبطنوا المكيدة إلى قمة السلطة، وهكذا تقع الأمة من
خلال الفريضة الإلهية في عكس ما يراد منها، إذ أن الفريضة على هذا
النحو المزعوم وبمعزل عن ما ينشأ عن قصور لدى الأمة، قابلة بذاتها إلى
أن توقع في مثل المحاذير التي نوهنا بها قبل حين، ومما يعجب له المرء حين
يراجع أحكام الفقهاء لا يجد فيها معايير تقي الأمة من الوقوع في مثل ما
ذكرنا من محاذير، ولقد ألمحنا سابقا إلى أن النصوص الناهية عن طاعة
أصناف من الناس كالغافل القلب والظالم وسواه والتي قد أوضحنا
علاقتها بالنص الذي نحن بصدده، لم يفهموا منها حرمة ولاية هؤلاء
الأصناف من الناس، وعلى العكس نجد أنهم قد توسلوا في تصحيح عمل
الصحابة بالخضوع إلى الفساق والظالمين كثيرا مما قد دس في السنة مما
يأمر بطاعة الفاسق والظالم، رغم مخالفته لصريح النصوص القرآنية
والنبوية، ولقد أوضحنا سابقا دور موقع مثل هذه النصوص إن صح
بعضها، على أن كثيرا من النصوص النبوية المتفق على صحتها لدى كافة
المسلمين قد أهملت دلالاتها الواضحة التي تنسجم مع مضمون هذا النص
القرآني وغيره من القرآن الكريم، والتي كلها تخبر أن الله تعالى قد جعل
على الأمة ولاية هادية لا تخرج من هدى ولا تدخل في ضلال.

104
إن ما ذكرناه إلى الآن من حقائق كان منطلقه طبيعة الفريضة التي
أملاها النص، وجوهر الرسالة في مضمونها وأهدافها، وإن استعراض
الواقع التاريخي الذي ساد مجتمع الصحابة قبيل وفاة النبي (صلى الله عليه
وآله) وحولها يعطي مزيدا من الوضوح والتأكيد.
3 - مجتمع الصحابة وظروفه الموضوعية:
أولا: إن السواد الأعظم من المسلمين كان إسلامهم حديثا جدا،
أي بعد فتح مكة، وفي وقت قصير قبل وفاة الرسول (صلى الله عليه
وآله). ولم يكن الإسلام قد تمكن من قلوبهم وعقولهم، بل إن الغالبية
الساحقة لم تكن قد شاهدت النبي (صلى الله عليه وآله) ولا سمعت منه
مباشرة، وكان خضوع السواد الأعظم من الناس خضوعا سياسيا أكثر
منه إيمانا.
ثانيا: إن قريشا كانت تشكل أكبر ثقل مالي وثقافي وسياسي،
وإن كانت المدينة قد سلبتها مركز الصدارة بعد أن أصبحت مركز
الدعوة، قريش هذه لم تدخل الإسلام إلا بعد الفتح، بل بقيت مصرة
على قتال الني (صلى الله عليه وآله) والقضاء على الدعوة، واتخذت
موقع القيادة في المعسكر المضاد للإسلام، ودفعت ثمنا باهظا مقتل
الكثيرين من زعمائها وكبرائها، حتى غلبت على أمرها بفتح مكة،
فدخل القريشيون في الإسلام حقنا لدمائهم، فاشتد بهم عضد المنافقين في
المدينة، وهؤلاء القرشيون هم الذين أسماهم النبي (صلى الله عليه وآله

105
بالطلقاء، لأنه أطلقهم بعد أن استحقوا القتل حين غلبوا وهم ما زالوا
على الشرك، وذلك إيذانا بأنهم قد أسلموا استسلاما وحقنا لدمائهم.
ثالثا: إن المدينة التي هي قلب الإسلام كانت مخترقة بالمنافقين
الذين كانوا حزبا له أثره، كما يعكس ذلك كثرة الآيات التي عالجت
موضوع النفاق، وتنوع المناسبات التي استدعت نزولها، فهؤلاء كانوا
داخل صفوف المؤمنين والصحابة، ويعلمون على تقويض الإسلام من
الداخل، ويتحينون الفرص، ولما كثر دخول المهزومين في الإسلام حقنا
لدمائهم اشتد الحزب وعظم وصار له امتدادات واسعة لا سيما في
جماعة قريش. ولقد كانوا حزبا منظما خفيا، يعكس خطره كثير من
الوقائع، نذكر مثالا عليها رجوع ما يقارب ثلث الجيش إلى المدينة حين
سار النبي (صلى الله عليه وآله) إلى أحد، وكقصة مسجد ضرار، وتنفير
الناقة، وكإحداث الضجيج والهياج حين كان يخطب بالناس في حجة
الوداع، إيذانا بمعارضته ولمنع الناس من سماعه وهو يعلن عن الأئمة أنهم
اثنا عشر بعده.
رابعا: من المؤمنين سماعون للمنافقين * (لو خرجوا معكم ما
زادوك إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم الفتنة، وفيكم سماعون لهم، والله
عليم بالظالمين) * (1) فهم يصغون لدعاياتهم ويعيرونها اهتمامهم.
خامسا: الذين كانوا خارج المدينة من الأعراب كان إيمانهم



(1) سورة التوبة / الآية 47.
106
سطحيا، وخير تعبير عن حالهم قوله تعالى فيهم * (قالت الأعراب آمنا،
قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) * (1).
وقوله تعالى * (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا
حدود ما أنزل الله على رسوله) * (2).
ولقد وصفهم الله هكذا رغم أنهم كانوا لدى الناس مسلمين
ومؤمنين.
سادسا: قبيل وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) بدأت حركات
الردة وادعاءات النبوة تظهر في أطراف الجزيرة العربية مهددة الدولة
الجديدة.
سابعا: القوى العظمى في العالم حول الجزيرة من روم وفرس
يتوجسون الخيفة من الحركة الجديدة.
من هذه الحقائق يظهر أن المجتمع الذي تلقى الإسلام حديث
العهد به، إذ أقدم عهد له كان مدة العشر سنوات في المدينة قبل وفاة
النبي (صلى الله عليه وآله)، وأما الغالبية الساحقة فعهدها به كان بعد
الفتح، أي قبيل وفاته (صلى الله عليه وآله)، وأنه لمن طبائع الأمور أن لا
نتوقع في هذه المدة الوجيزة من الدين الجديد، مع ما يمثل من انقلاب



(1) سورة الحجرات / الآية 14.
(2) سورة التوبة / الآية 97.
107
جذري على ما كان سائدا في الجزيرة، أن يكون قد تمكن من نفوس
الناس وعقولهم، فضلا عن أن يكون قد رسخ وتجذر، فذلك يتطلب
أجيالا تنشأ على قيمه وأخلاقه وروحيته، ليصبح جزءا من ثقافتها، قبل
أن يتجذر في حياتها الاجتماعية. لا سيما أن العرب كانوا جاهليين
وثنيين، ولم يكن لهم أرضية يشتركون بها مع روحية الرسالة السماوية،
إذ لا سابق عهد لهم بالوحي والأنبياء، كل هذا يعني أن الرسالة
الإسلامية، وإن كانت قد اكتملت بالنصوص والتشريع، لكن مجتمعها
ما زال في طور التكامل معها، وأمتها ما زالت في دور التكوين.
إن حداثة عهد الصحابة بالإسلام واستمرار الأثر الجاهلي
بدرجات متفاوتة إن على مستوى النفس والميول وإن على مستوى
العلاقات والولاء، يمكن قراءته من أحداث كثيرة خاصة بالصحابة
كأفراد وجماعة خالفوا فيها أوامر النبي (صلى الله عليه وآله) الصريحة، بما
فيهم بل وبالأخص، أصحاب ممن أصبحوا السلطة أو القادة أو من
القياديين في الفترة التالية لوفاة الرسول (صلى الله عليه وآله). إن مخالفة
أوامر النبي (صلى الله عليه وآله) على مستوى الفرد وإن كان أقل أهمية
من المخالفة على المستوى الجماعي، لكن بذاته يعكس نمطا من السلوك
كان متفشيا في مجتمع الصحابة، هذا النمط الذي لا يتورع عن مخالفة
النص القرآني أو النبوي تحت مختلف الذرائع والظروف، والعمل بالرأي
الذاتي ولو كان مخالفا للنص بكل صراحة ووضوح، سواء في حياة النبي
(صلى الله عليه وآله) وبعد وفاته، والنماذج من الأحداث التي سنشير

108
إليها لا نقصد من ورائها الطعن بهؤلاء الأصحاب الذي تعنيهم ولا
التشنيع عليهم، بل القصد توضيح أنماط السلوك السائد في مجتمع
الصحابة لضرورة الفهم الموضوعي لمجريات الأحداث بعد وفاة النبي
(صلى الله عليه وآله)، والتي عليها تأسس ومنها نشأت خصائص
العصور اللاحقة.
وإن تكرار الظواهر الفردية من ذات الطابع وتزايدها في أواخر
حياة النبي (صلى الله عليه وآله) يكشف عن أنماط من السلوك،
نستعرض بسرعة ثلاثة أنماط لما لها من علاقة قوية بموضوع بحثنا.
أنماط السلوك في مجتمع الصحابة:
أولا: غلبة الولاء القبلي وضآلة الولاء الديني، واستمرار العصبيات
الجاهلية مستحكمة من نفوس الصحابة وذات أثر على سلوكهم.
نسوق على هذا الأمر الأمثلة الآتية:
البخاري في ج / 3 باب حديث الإفك من كتاب الشهوات:
" إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من يعذرني من رجل
بلغني أذاه في أهلي، فقام سعد بن معاذ، فقال: يا رسول الله أنا والله
أعذرك منه، إذا كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخوتنا من
الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك، فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج
وكان قبل ذلك رجلا صالحا، ولكن احتملته الحمية فقال: كذبت لعمر

109
الله لا تقتله ولا تقدر على ذلك، فقام أسيد بن الحضير فقال: كذبت
لعمر الله، والله لنقتلنه فإنك منافق تجادل عن المنافقين، فثار الحيان الأوس
والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله (صلى الله عليه وآله) على المنبر
فلم يزل يخفضهم حتى سكتوا وسكت " (1).
وأخرج البخاري من جزئه السادس في باب قوله: سواء عليهم
استغفرت لهم أم لم تستغفر.. من كتاب فضائل القرآن سورة
المنافقين (2).
إن رجلا من المهاجرين كسح رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري
يا للأنصار، وقال المهاجري يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله
(صلى الله عليه وآله) فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟ قالوا يا رسول الله
كسح رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال: دعوها إنها منتنة،
فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال: فعلوها، أما والله لئن رجعنا إلى
المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي (صلى الله عليه وآله)، فقام
عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي (صلى
الله عليه وآله): دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه.
صحيح البخاري في باب بعث النبي (صلى الله عليه وآله) خالد بن
الوليد إلى بني جذيمة من كتاب المغازي:



(1) صحيح البخاري ج 3 / ص 156 و ج / 6 ص 8.
(2) البخاري ج 6 ص 65.
110
عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: بعث النبي صلى الله عليه
وآله) خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن
يقولوا أسلمنا فجعلوا يقولون صبأنا فجعل خالد يقتل منهم ويأسر،
ودفع كل رجل منا أسيره، حتى قدمنا على النبي (صلى الله عليه وآله)
فذكرناه له، فرفع يده (صلى الله عليه وآله) فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما
صنع خالد مرتين. (1)
ويذكر عباس محمود العقاد هذه الحادثة بشئ من التفصيل في
كتابه عبقرية خالد ص 57 و 58 وهو يتحدث عن إرسال النبي (صلى
الله عليه وآله سرايا إلى البوادي، " ومنها سرية إلى بني جذيمة في نحو
ثلاثمائة وخمسين من المهاجرين والأنصار وبني سليم أرسلهم دعاة ولم
يأمرهم بقتال، وكان بنو جذيمة شرحي في الجاهلية، يسمون لعقة الدم،
ومن قتلاهم الفاكه بن المغيرة وأخوه عما خالد بن الوليد ووالد عبد
الرحمن بن عوف، ومالك بن شريد وإخوته الثلاثة من بني سليم في
موطن واحد، وغير هؤلاء من قبائل شتى. فلما أقبل خالد وعلموا أن بني
سليم معه لبسوا السلاح وركبوا للحرب وأبو النزول. فسألهم خالد
أمسلمون أنتم؟ فقيل إن بعضهم أجابه بنعم، وبعضهم أجاب صبأنا
صبأنا، أي تركنا عبادة الأصنام، ثم سألهم: فما بال السلاح عليكم
قالوا: إن بيننا وبين قوم من العرب عداوة فخفنا أن تكونوا هم فأخذنا
السلاح، فناداهم: ضعوا السلاح فإن الناس قد أسلموا، فصاح بهم رجل



(1) البخاري ج 5 ص 107 و ج 8 ص 118.
111
منهم يقال له جحدم، ويلكم يا بني جذيمة إنه خالد والله ما بعد وضع
السلاح إلا الأسار وما بعد الأسار إلا ضرب الأعناق، والله لا أضع
سلاحي أبدا، فما زالوا به حتى نزع سلاحه فيمن نزع وتفرق الآخرون.
فأمر خالد بهم فكتفوا وعرضهم على السيف، فأطاعه في قتلهم بنو سليم
ومن معه من الأعراب.. "
وسمعت ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين بلغه الخبر،
وإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد بعث عليا (ع) إلى القوم فودى
لهم الدماء حتى أنه ليدي ميلغة الكلب، وبقي معه من المال فضلة فقال
لهم: هل بقي لكم مال أو دم لم يؤد؟ قالوا لا، قال فإني أعطيتكم هذه
البقية احتياطا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ففعل، ثم رجع فأخبر
النبي (صلى الله عليه وآله) فقال أصبت وأحسنت. (1)
هذه الأحداث ومثيلاتها تحكي عن نفسها، لكن مما يلفت الانتباه
وتجدر الإشارة إليه، كيف أن العصيبة قد احتملت زعيم الأوس لحماية
منافق من عشيرته فتحزب له ليحميه وتحزب قومه معه، على الرغم من
أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) شخصيا هو الخصم لهذا المنافق الذي
كان يؤذيه في أهله، على ما تحمله هذه الكلمة من تعد على حرمته
الشخصية، فما بالك لو كانت القضية منحصرة في شخص من عامة
المسلمين، ويلفت النظر اتهام أسيد بن الحضير لسعد بن عبادة أنه منافق



(1) تاريخ الطبري ج 3 / ص 122، الكامل لابن الأثير ج 2 ص / 173.
112
يجادل عن المنافقين، فلم نجد من النبي (صلى الله عليه وآله) بعد هدوء
من الطرفين ردا لهذه التهمة عنه على خطورتها وخطورة موقع سعد بن
عبادة نفسه، ونجد الراوي كيف التفت إلى هذه الحقيقة وهي أن الذي
يجادل عن المنافقين منافق لذا قال: وكان رجلا صالحا قبل ذلك.
ويلفت الانتباه في الكلام عن عبد الله بن أبي قول النبي (صلى الله
عليه وآله): دعه لا يتحدث الناس أن محمد يقتل أصحابه، هذا الكلام
الذي تكرر مع كل حادثة نفاق. وهو يشير إلى أن قتل هذا المنافق أو
غيره في مناسبات أخرى لا تحل الإشكال، فلو أراد قتل المنافقين لقتل
كثيرا من أصحابه، لذا لا يريد الناس أن يتحدثوا أنه يقتل أصحابه.
وقضية خالد هذه مع بني جذيمة وإطاعته من قبل من معه من
الصحابة ومن بني سليم إلا القليل من القوم، يشير إلى استحكام ثارات
الجاهلية من النفوس حتى لو كانت الدماء دماء مشركين، فعم خالد
الفاكه كان مشركا وكان مهدور الدم والآخرون من بني سليم كانوا
كذلك قد قتلوا من قبل بني جذيمة والطرفان كانوا على الشرك،
والإسلام يجب ما قبله ويسقط دماء الجاهلية، ورغم أن القوم ظهر
إسلامهم لذا وضعوا سلاحهم فإنهم غدروا بهم وكتفوهم وقتلوهم بلا
قتال، مما جعل عبد الرحمن بن عوف يتهم خالدا بأنه قتلهم بعمه الفاكه،
فأجابه بل قتلتهم بأبيك.

113
فانظر إلى خطورة ما تحكي عنه هذه الحادثة لجهات عدة، معصية
أوامر النبي (صلى الله عليه وآله)، مخالفة النصوص القرآنية والنبوية
المباشرة التي تمنع قتل المسلم، الانحدار الأخلاقي لجهة خديعة القوم ولجهة
قتلهم بدم بارد وهم مقيدون، والأخطر أمران.
الأول: انسياق الجماعة معه مما يوحي أن بني سليم قد وجدوا
الفرصة في أخذ الثأر منهم وفهموا قصد خالد، ولم يعترض إلا نفر قليل
من المهاجرين والأنصار، فلم يقتلوا أسراهم.
والثاني: تعريض مصداقية النبي (صلى الله عليه وآله) للشك،
وتعريض خطط الرسالة في إرساء الأمان بين العرب، ووضع دمائهم
وجعلهم يطمئنون للدين الجديد وأخلاقه وصلاحيته لحكم الجزيرة
العربية.
وانظر في المقابل فعل علي (ع) لما بعثه النبي (صلى الله عليه وآله)
ليدي دمائهم، كيف تعامل معهم حتى ودى لهم كل خسارة في الأرواح
والممتلكات حتى ميلغة الكلاب، ثم أعطاهم المال الذي بقي معه
احتياطا، وذلك كله ليطيب خاطرهم ويؤكد على مصداقية النبي
ورسالته والمؤمنين معه، فتزكوا أنفسهم وتطمئن قلوبهم إلى الدين
الجديد، وصاحب الكلمة في الدولة الجديدة.
ثانيا: عدم التفاعل مع حقائق الرسالة وخاصة قدسية النبي (صلى
الله عليه وآله).

114
فكثيرة هي المناسبات التي لم يتورع فيها أصحابه عن أن يحتملوا
في حقه ما يتورع عنه الرجل العادي، كاتهامه في الحيف في سلوكه
وانسياقه مع عاطفته الشخصية اتجاه أرحامه، كتلك الحادثة التي أوردها
البخاري في صحيحه ج 3 ص 171 أن الزبير خاصم رجلا من الأنصار
قد شهد بدرا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) في شراج من الحرة
كانا يسقيا به كلاهما فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) للزبير: اسق
يا زبير ثم أرسل إلى جارك، فغضب الأنصاري فقال: يا رسول الله إن
كان ابن عمتك؟.
وكاتهامه في الحيف في القسمة، أورد البخاري ج 4 ص 61 في
باب ما كان النبي يعطي المؤلفة قلوبهم من كتاب الجهاد والسير، عن
عبد الله رضي الله عنه قصة حول قسمة النبي يوم حنين " قال رجل: والله
إن هذه القسمة ما عدل بها ولا أريد بها وجه الله ". وأخرج البخاري في
باب علامات النبوة في الإسلام من كتاب بدء الخلق ج 4 ص 179 عن
أبي سعيد الخدري " بينما نحن عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو
يقسم قسما إذ أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم فقال، يا رسول
الله اعدل.. ".
على أنه يمكن أن يقال أن هؤلاء من المنافقين وهم أفراد لا يؤبه لهم،
غير أن جرأتهم هذه على مقام الرسول (صلى الله عليه وآله) تدل أنهم قد
أمنوا على أنفسهم، أما لعلمهم أن لهم الحماية من عشائرهم أو لأنهم من
تيار قوي، فلا يهابون معه من هذه الجرأة، وفي كلا الاحتمالين نتيجة

115
واحدة، وفي الحوادث المروية ذاتها ما يشير إلى الاحتمالين: ففي القضية
التي رواها أبو سعيد الخدري: ".. فقال عمر: يا رسول الله إئذن لي فيه
فأضرب عنقه، فقال دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم
وصيامه مع صيامهم يقرأون القرآن فلا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين
كما يمرق السهم من الرمية.. " مشيرا إلى أن له أشباه بين الصحابة أما
الاحتمال الأول فلقد وجدنا ما يؤيده في قضية المنافق الذي كان يؤذي
رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أهله وكيف لقي الحماية من زعيم قومه
سعد بن عبادة، وتحزب له جمع الأوس في ذلك، هذه الحادثة التي
أوردناها في الفقرة السابقة.
لكن هل هذه كانت ظواهر فردية فحسب؟ إن الحقيقة تقول
عكس ذلك:
لقد أورد البخاري في جزئه الثامن من كتاب التوحيد في باب قول
الله تعالى " تعرج الملائكة والروح إليه " ج 8 ص 178: أن عليا بن أبي
طالب (ع) بعث وهو باليمن إلى النبي (صلى الله عليه وآله) بقطع من
الذهب قسمه رسول الله (صلى الله عليه وآله) على بعض الناس فتغضبت
قريش والأنصار، فقالوا: يعطيه صناديد أهل نجد ويدعنا؟ قال النبي
(صلى الله عليه وآله): إنما أتألفهم، فأقبل رجل فقال: يا محمد اتق الله.. "
فقريش والأنصار لا يعني بضعة منهم، بل يعني وفي أقل تقدير أن
التغضب كان واسعا بين الطرفين، فمن الظاهر هنا أن هذا الكلام
الجارح من الذي عبرت عنه الرواية برجل دون أن يخاف بطش المؤمنين،

116
كان مستندا إلى هذه الخليفة من التذمر الواسع، الذي في ذاته يستبطن
الاتهام للنبي (صلى الله عليه وآله)، ويلفت الانتباه التعبير " برجل " كلما
اتصل الأمر بقريش، مما يوحي أن صاحب الكلام في مثل هذه الحالات
كان ممن يهاب سطوتهم أو لا يروق لمن بيدهم السلطة الإساءة إليه في
زمن نقل الروايات.
وأورد البخاري في جزئه الرابع ما كان النبي يعطي المؤلفة قلوبهم
من كتاب الجهاد والسير (ج 4 ص 60) عن أنس بن مالك قصة نورد
منها محل الشاهد ".. فأعطى رجالا من قريش، فقال الأنصار: يغفر الله
لرسول الله يعطي قريشا ويدعنا وسيوفنا تقطر من دمائهم، فجمعهم
رسول الله (صلى الله عليه وآله) في قبة ولم يدع معهم أحدا غيرهم وقال
لهم: ما كان حديث بلغني عنكم؟ ولما أعادوا عليه مقالتهم قال: إني
أعطي رجالا حديث عهدهم بكفر، أما ترضون أن يذهب الناس
بالأموال وترجعون إلى رحالكم برسول الله.. ".
فانظر كيف أن المقالة كانت صادرة عن جماعة الأنصار لا عن
أفراد منهم، وانظر كيف لم يكن فيهم رجل رشيد يردعهم عن مثل
هذا، وأن مقالتهم كانت واسعة حتى لزم من النبي (صلى الله عليه وآله)
جمعهم لكي يعالج قولهم.
إن هذه الحوادث تدل على ظاهرة ليست فردية منعزلة، بل شائعة
في صفوف الصحابة تشكل نمطا من أنماط السلوك لدى جماعتهم،

117
والدافع في كل هذه الحالات كان المصلحة المادية البحتة، هذا النمط
السلوكي يحكي عن افتقار النضج في الإيمان، إلى درجة لا يتفاعلون
معها مع حقيقة موقع النبي (صلى الله عليه وآله) الرباني، على الرغم من
كثرة ما سمعوا من آيات الذكر الحكيم التي تؤكد لهم ذلك * (ما كان
لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من
أمرهم) * ورغم تنديد الله بمثل هذا السلوك * (ومنهم من يلمزك في
الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم
يسخطون) * (1) كما ينم هذا الأمر عن شدة تأثير المصلحة المادية الآنية
على السلوك.
وهذا كله يشكل خليفة مناسبة تهيئ مثل هؤلاء إلى مخالفة
النبي (صلى الله عليه وآله)، إذا كانت القضية المعنية أشد ملامسة لمصالح
أكثر حيوية وخطورة.
ثالثا: الميل إلى العمل بالرأي الشخصي ولو مخالفا إلى أوامر
النبي (صلى الله عليه وآله) والأمثلة على هذا النمط من السلوك كثيرة
جدا، لو دخلنا في استقصائها لخرجنا بالقارئ من سياق موضوعنا
الأساسي لذا ننصح القارئ الطالب للحقيقة أن يراجع في ذلك كتاب
النص والاجتهاد وهو للعلامة السيد عبد الحسين شرف الدين أسكنه الله
فسيح جناته، ومن يراجع تلك الأحداث يجد أن هذا النمط من السلوك



سورة التوبة. آية 58.
118
كان شائعا بين الصحابة وعلى الأخص بين اللذين أصبحوا سادة الموقف
بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، ولئن كان هذا نمطا من أنماط
السلوك في مجتمع الصحابة، فإن الأمر يبلغ مدى من الخطورة لا يمكن
تجاهله حين يكون من سلوك جماعي من هذا القبيل، فيه مخالفة للنص
ومعصية واضحة لله ورسوله، حتى في مواقف تشكل المخالفة فيها تهديدا
جذريا لرسالة ووجودها، كالذي حصل في أحد وتسبب بالهزيمة بعد
النصر، وكاد النبي (صلى الله عليه وآله) أن يقتل، فهؤلاء الرماة
وعددهم خمسون، ورغم تأكيد النبي أوامره عليهم بعدم ترك أماكنهم
على الجبل مهما كانت الظروف حتى لو كان النصر حليف المسلمين،
وأن عليهم أن لا يخالفوا أمر رئيسهم عبد الله بن جبير (ر)، ورغم ذلك
فلما شاهدوا فرار المشركين تركوا مكانهم في حركة جماعية، ولم يبق
ملتزما بأوامر النبي (صلى الله عليه وآله) سوى أقل من العشرة، فقتلوا
جميعا حين كر عليهم خالد بن الوليد ليهاجم المسلمين من الخلف.
فهؤلاء بمعصيتهم هذه تسببوا بهزيمة وكارثة حلت بالإسلام، قتل فيها
سبعون شهيدا من خيار المسلمين الأوائل وعلى رأسهم أسد الإسلام
حمزة بن عبد المطلب عم النبي (صلى الله عليه وآله، وكان فيه خسارة
كبرى لما كان فيه من البأس والقوة والغيرة على الإسلام وعلى ضعاف
المسلمين. (1)



(1) ابن الأثير ج 2 ص 153 بيروت 1965 وغيره من كتب السيرة.
119
على أن مخالفة الأمر الإلهي المباشر جماعيا، تجلى بأخطر صورة
وأفظعها حين حصل الفرار من الزحف، رغم علمهم بأنه يوجب غضب
الله والنار * (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم
الأدبار، ومن يولهم دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء
بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) * (1). وذلك مرات عديدة كان
أخطرها يوم أحد مما عرض النبي (صلى الله عليه وآله) للإصابة وكاد أن
يقتل، ولم يبق مع النبي سوى علي (ع) إلى أن عاد بعد الفرار نفر قليل
اختلفت الأخبار حوله، وفي أحسنها يقل عن العشرة، ولئن كانت هذه
الكارثة في بداية العهد، فإن يوم حنين كان في أواخره، وفي كلا
الفرارين يناديهم الرسول بأخراهم ولا يلوون على شئ، كما عبر عنه
القرآن الكريم.
فأي خطر يمكن أن يتعرض له الإسلام أشد من الفرار وترك
الرسول (صلى الله عليه وآله) وحده بين جحافل الأعداء. وكلتا
الحادثتين ذكرهما القرآن الكريم، ومراجعة بعض التفاصيل في كتب
السيرة مدعاة إلى الخزي (2) على أن هناك فرارا في مناسبات أخرى



(1) سورة الأنفال / الآية 15.
(2) قال ابن جرير وابن الأثير في تاريخهما: وانتهت الهزيمة بجماعة من المسلمين وفيهم عثمان
بن عفان وغيره إلى الأعوص فقاموا ثلاثا ثم أتوا النبي (ص) فقال لهم حين رآهم لقد
ذهبتم فيها عريضة. ابن الأثير ج 2 / 110. الطبري ج 2 / 203 وذكر ابن جرير
الطبري وابن الأثير: أن أنس بن النصر إنتهى إلى عمر وطلحة في رجال من المهاجرين قد
ألقوا بأيديهم فقال ما يحبسكم فقالوا قتل النبي (ص). قال فما تصنعون بالحياة بعده؟
موتوا على ما مات عليه النبي، فاستقبل القوم فقاتل حتى قتل فوجد به سبعون ضربة
وطعنة وما عرفته، إلا أخته، عرفته بحسن بنانه (شرح النهج ج 14 / 276، تفسير
الرازي ج 9 / 67 الدر المنور ج 2 / 80 و 88 كنز العمال ج 2 / 242.
ونقل البخاري عن أبي قتادة الأنصاري: وانهزم المسلمون يوم حنين - وانهزمت
معهم فإذا عمر بن الخطاب في الناس فقلت: ما شأن الناس، قال: أمر الله.. وذلك في
صحيح البخاري ج 3 / ص 46 في باب قوله تعالى * (يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم..) *
120
كخبير، وغزوة السلسلة بوادي الرمل. ومن المخالفات الجماعية الخطيرة
لأوامر الرسول (صلى الله عليه وآله) ما يصل إلى مستوى الانحدار
الأخلاقي والسلوك الجاهلي وتعريض أهداف الرسالة إلى الخطر
والتسبب بخدش مصداقية الرسول (صلى الله عليه وآله)، كالذي حصل
في بعث النبي (صلى الله عليه وآله) لخالد إلى بني جذيمة الذي ذكرناه قبل
قليل.
ومن المخالفات الجماعية ما يصل إلى مستوى التمرد على
الرسول (صلى الله عليه وآله) وتعريض خططه للفشل. منها ما كان من
عمر بن الخطاب (ر) يوم صلح الحديبية ومجابهته للنبي (صلى الله عليه
وآله) والرد عليه كما أخرج البخاري (ج 3 ص 256 دار إحياء
التراث) فلما فرغ النبي (صلى الله عليه وآله) من الكتاب قال: لأصحابه
قوموا فانحروا ثم أحلقوا فما قام منهم رجل وقد قال ذلك ثلاث مرات،
وجاء في السيرة الحلبية (ص 19 ج 3 المكتبة الإسلامية بيروت) " عمر
جعل يرد على رسول الله (صلى الله عليه وآله) الكلام فقال له أبو
عبيدة بن الجراح: ألا تسمع يا بن الخطاب رسول يقول، ما يقول

121
نعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قال الحلبي: وقال رسول الله يومئذ:
يا عمر إني رضيت وتأبى ". وهو يقول عن نفسه " وفعلت الأفاعيل " مما
خلق حالة من التمرد العامة لدى الجماعة التي أثرت فيها الإثارة ولم
تدرك وشأنها شأن عمر، بعد النظر الذي كان ينطوي عليه هذا الصلح
الذي ظهرت نتائجه لاحقا في زمن قصير، ولا عبرة للدفاع عن هذا
الموقف من الذين يحاولون اختلاق الأعذار للسلف وينادون بعدم النقد
لكي لا تهتز حسب دعواهم صورة " السلف الصالح " أو عظماء
الإسلام "، عوضا عن تناول الماضي كما تفعل الأمم الواعية بالنقد
والتحليل، للاستفادة منه في تقدم الحاضر والمستقبل، لذا يقول بعضهم
أن هذا الموقف في صلح الحديبية، يمثل وعي الصحابة، فأي وعي هذا
الذي يسمح لصاحبه بأن يخالف صريح القرآن * (ما آتاكم الرسول
فخذوه وما نهاكم عنهم فانتهوا) * * (من أطاع الرسول فقد أطاع
الله) *، * (لا وربك يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا
يجدون في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) * فما كان
موقف الصحابة ليشير هاهنا إلا إلى فقدان التماهي في الرسالة
ومضمونها، والتقصير عن إدراك قدسية النبوة وحقيقتها، الأمر الذي
جعل كثيرا منهم يتعاملون مع النبي (صلى الله عليه وآله) في كثير من
الأحيان تعاملهم مع حاكم زمني كأحدهم، إذ لا يدركون قدسية الموقع
والوظيفة وحصانة التسديد الإلهي الذي جعله تعالى لنبيه (صلى الله عليه
وآله)، وأنه لا يصدر إلا عن أمر ربه، رغم تركيز النبي (صلى الله عليه

122
وآله) مرارا على هذا الأمر، على أن معارضة النبي (صلى الله عليه وآله)
بهذا العنف، والإصرار الذي ذكرته كتب التاريخ، وكتب السيرة، الذي
دل على تقصير عن هذه الحقائق النبوية، فإنه كذلك يدل على تقصير في
الوعي السياسي لجهة المرامي التي توقعها النبي (صلى الله عليه وآله) من
هذا الصلح.
ومن أمثلة المعصية الجماعية للنبي (صلى الله عليه وآله) التخلف
عن بعث أسامة، رغم تأكيد النبي (صلى الله عليه وآله) على ذلك مرارا
وتكرارا وقوله " جهزوا جيش أسامة لعن الله من لم يجهز جيش أسامة "
فطعنوا في تأميره أسامة لحداثة سنه، وتخلفوا وتثاقلوا ولم ينفذوا البعثة
(تفاصيله في الطبقات الكبرى لا بن سعد ج / 2 ص 190، تاريخ
اليعقوبي ج 2 ص 93 ط الغربي، الكامل لابن الأثير ج 2 / 317
وغيرها).
والذي يدرس هذه الحادثة ويرى كيف أن القوم قد أصروا على
موقفهم بعناد تحت أعذار واهية، من قبيل كراهتهم أن يتوفى النبي (ص)
ويسمعون نبأه من السيارة، ورغم إصراره عليهم بالالتحاق بالبعث حين
يسمع منهم هذه الأعذار، ورغم تكراره الصعود على المنبر محمولا
ورجلاه تخطان الأرض لشدة مرضه ليؤكد عليهم من جديد بالالتحاق
بأسامة، وحصل ذلك ثلاث مرات، مما حال دون إنفاذ البعث كما كان
النبي (ص) يريد، كل هذا يشير بوضوح إلى حالة تمرد واسع في صفوف
الصحابة، تخلف كليا عن حالات مماثلة كانت تنتهي بعودتهم إلى

123
رشدهم وعودة الأمور إلى نصابها كما حدث في صلح الحديبية، أو عدم
الحؤول دون تحقيق المراد كما حصل في أحد وتبوك، حيث تخلف العدد
الكبير من الصحابة، فلم يمنع خروج الجيش في مهمته.
هذه الحادثة تمثل إصرارا على إسقاط قدسية أوامر النبي (ص)،
وتمردا خطيرا، ينبئ أن زمام الأمر قد أخرج من يده، وأن سير
الأحداث بدأ بالخروج عن الخط الذي أمر به النبي (ص) في شأن الإمامة
بعده. وإن الذي حدث في " رزية يوم الخميس "، مرتبط ارتباطا وثيقا
بهذا الأمر. فبينما كان القوم ما زالوا متلبسين بهذا الإثم، إذا بهم يقعون
في إثم جماعي أشد وأدهى والنبي (ص) على فراش الموت. حين قالوا إن
نبيكم ليجهر، حين طلب إليهم أن يحضروا له كتفا وقلما ليكتب لهم
عهدا لن يضلوا به بعده أبدا، وذلك ليحولوا بينه وبين ذلك، فاختلف
القوم بين مؤيد لهذا القول وبين من يقول قدموا له يكتب لكم، ولما كثر
الاختلاف قال لهم بما معناه: " قوموا عني، فوالله الذي أنا فيه خير مما
تدعوني إليه، وقال أوصيكم بثلاث: جهزوا الوفد على نحو ما كنت
أجهزه، وأخرجوا المشركين من جزيرة العرب. أما الثالثة فيقول الناقلون
للحادثة " ونسيت الثالثة ". وهذا يشير إلى أن الثالثة هي الموضوع الذي
حدا بالقوم إلى التمرد بهذا العنف الذي جعلهم يسقطون قدسية
الرسول (ص) ويتهمونه بالهجر، على ما يحمل ذلك من مترتبات خطيرة،
فلو صح أن يهجر الآن لأمكن أن يكون قد هجر قبله، ولا يخفى على
ذي لب ماذا يحمل ذلك من الطعن بكل قول وفعل للنبي (ص)، أي في

124
سنته، فقولهم: إن نبيكم ليهجر، عندنا كتاب الله، حسبنا كتاب الله. هو
إعلان عن تخلي هذا الشطر من الصحابة عن أوامر النبي (ص) للأمة
بلزوم الكتاب والعترة معا لكي لا يضلوا، ورفض ليس للعترة فحسب،
ولكن للسنة أيضا، لأن منزلة العترة وموقعيتها في الإمامة يشكل واحدا
من أكبر اهتماماتها وشطرا كبيرا من مضمونها. ومن الواضح أن هذا
إسقاط لقدسية النبي (ص) وإرادته وأوامره، وإعلان تمرد عليه، وهو ما
زال حاضرا، ومن باب أولى تمرد على وصيه (ع) الذي يمثل الامتداد
لإرادته، وكل ذلك تحت ستار شرعية مموهة بحجة الاكتفاء بكتاب الله.
ومن المعاصي الجماعية انحياز القوم مع العصبية القبلية ولو كان في
مقابل النبي (صلى الله عليه وآله) ولقد أوردنا قبل قليل نماذج عن أثر
العصبية القبلية على السلوك وأوردنا قصة سعد بن عبادة الذي حمى
المنافق الذي من قومه وكيف تحزب له قومه. وعلى عظم الخطورة في
هذه الحادثة أدهى ما فيها أن العصبية الجاهلية غلبت عليهم حتى في
مواجهة النبي (صلى الله عليه وآله) وكرامته الشخصية في أهله.
إن ما أوردناه ما هو إلا نماذج من أحداث كانت من سلوك
الصحابة جماعة وأفرادا، ولها نظائر كثيرة لا يستوعبها المقام، وهي تدل
موضوعيا على أن مجتمع الصحابة لم يبلغ مستوى كاف من النضج،
خلافا لما يدعي البعض، لجهة استيعاب مضمون الرسالة أخلاقا وتعاليما
وأبعادا، ولجهة التماهي به، وأن هذا المجتمع لم يكن منيعا على الزلل، إن
على مستوى الأفراد أو الجماعة تحت عوامل ضاغطة من الخوف أو بلبلة

125
الأفكار، أو تأثير العصبيات الجاهلية والولاءات القبلية والمصالح، وحتى
لو كان الزلل بمستوى تهديد الرسالة. وهذا وحده كاف لتوضيح خطأ
الزعم بحجية عمل الصحابة، ناهيك عن كثير من الأدلة الأخرى في
السنة والكتاب لا مجال لاستقصائها في هذا المقام، بل هدفنا كان الحد
الأدنى من توضيح المراد في علاقته ببحثنا.
ومما لا مرية فيه أن الانقلاب السريع الذي عم الجزيرة بانتشار
الإسلام، وقلب المفاهيم السائدة رأسا على عقب، ولم يتح له الوقت
ليتجذر في عقول ووجدان الأمة وواقعها الحياتي وعلاقاتها الاجتماعية،
كان من الطبيعي أن يستدعي ويستدرج انقلابا مضادا، ومع هذا فإن
كل العناصر المواتية له موفورة، تتجلى فيما قدمنا من وصف للعناصر
البارزة في الواقع الذي صاحب أواخر حياة الرسول (صلى الله عليه
وآله) وفي أنماط السلوك لدى مجتمع الصحابة على مستوى الفرد
والجماعة، مما يبقي الباب مفتوحا أمام استغلال الولاءات القبلية المتجذرة
في وجه الولاء للدين الجديد الذي ما زال بحاجة إلى تجذير.
أضف إليه أن الرسالة التي لم تكمل بعد أهدافها داخليا بتجذيرها
في مجتمعها حديث التكوين، كانت في البدايات من احتكاكها بالأمم
المجاورة، ولم تكمل بعد أهدافها على الصعيد الأممي بحملها إلى كل
الشعوب لتظهر على الدين كله ولو كره المشركون، وفي المهمة خطر
لا يقل عن الخطر الذي تبدو ملامحه من الداخل، لما لتلك الشعوب من
حضارات متجذرة على مئات السنين في مجتمعاتها، ولما لها من كيانات

126
سياسة وقوى عسكرية يخشى منها على الدولة الجديدة، ولما لاختراق
هذه الكيانات من خطر خفي عن الأنظار، وهو تعرض صفاء الرسالة
إلى الشوائب حين تدخل إلى هذه الشعوب، نتيجة ما قد يعلق بها من
رواسب ثقافاتها وعقائدها.
وهكذا فإن الظروف الموضوعية للرسالة والظروف الموضوعية
للأمة تجعل الحاجة على أشدها إلى مرجعية تمثل الرسالة ومضمونها
وأهدافها الربانية أصدق تمثيل، يكون لها القيمومة على الرسالة
والحاكمية القائدة للأمة في خطواتها التالية لوفاة النبي (صلى الله عليه
وآله)، الأمر الذي لا يسمح في أي احتمال عاقل أن تهمل الرسالة من
شريعتها شأن الإمامة في المحل الأول، ولا أن توقفها على إرادة الأمة في
المحل الثاني خلافا لما هو مقتضى الادعاء بأن أولي الأمر الذين فرض
النص ولايتهم لم يشخصهم الله ورسوله للأمة، وأنهم مطلق ولي يتولى،
ذلك لأن لمرجعية الأمة وحاكميتها العليا الأثر الحاسم على الرسالة
والأمة ومستقبلهما، لا سيما إذا أضفنا إلى ما سبق حقيقة أن هذه الأمة
لا سابق عهد لها بدولة، ولا بشأن حكم وحاكمية، ولم تسمح لها
ظروفها السابقة في حالتها البدوية أن تطلع كفاية على ما عاصرها من
مدنيات، لذلك فإن أي عاقل لا يقبل تحت أي عذر أن يكون النبي
(صلى الله عليه وآله) وهو الذي كان عالما بدنو أجله، وعالما بالظروف
الموضوعية لأمته التي هو على وشك مفارقتها، أن يكون قد أهمل هذه
الحقائق وانتقل إلى الملأ الأعلى دون أن يوفر القيادة العليا، التي تمثل

127
مضمون رسالته، أصدق تمثيل، لقيادة الأمة والدولة التي أسس، والنظام
الذي بدأ بإرسائه وليتابع الأهداف الربانية التي يريدها الله تعالى من هذه
الرسالة الخاتمة، بما تحمل من برنامج آني ومستقبلي لكل الأمم والأجيال.
والاحتمال المضاد يومئ إلى تقصير وإهمال من صاحب الرسالة (ص)
وهو قد جل عن ذلك، رغم علمنا بشدة حرصه على أن لا يترك جماعة
مهما صغرت في مهمة يريدها إلا ويجعل عليهم آمرا، وما كان يغادر
المدينة إلا ويستخلف عليها، مما ينافي ما علم عنه وعن حكمته وشدة
عنايته بموضوع القيادة للجماعة، وقبولنا بمثل هذا الأمر من التقصير لو
كان حقا يخدش بمصداقية المصدر الرباني للرسالة، إذ يلزم منه أن يكون
الأجل قد داهم صاحب الرسالة على حين غرة وقبل أن يعطي الاهتمام
لهذا الأمر، وهذا بمثابة الشك بمصدره الإلهي والعياذ بالله من كل جهل،
إذ لا شك لكل مراقب بصير، أن هذا الظرف بالذات الذي غادر النبي
(ص) فيه الأمة، كان ظرف الرسالة والأمة الأكثر إلحاحا على الحاجة
إليه ليستكمل التأسيس، ومغادرته الأمة وشأن الرسالة دون أن يستخلف
عليها المرجعية الموازية التي تمثل المضمون والتطلعات أصدق تمثيل، يجعل
الأمر مع هذا الاحتمال يبدو وكأن المنية قد عاجلته قبل أن يتدارك
الأمر، وكأن الله تعالى قد بتر رسالته وحاشا لله.
4 - الحاكمية العليا تمثل مضمون النظام:
ومما لا مرية فيه أن كل نظام عقائدي يؤطر شأن القيادة العالية
لمجتمعه على نحو ينتج ولاية تمثل أعلى درجات الولاء للنظام، لكي يمتن

128
من ربط الأمة به، ويصون مسيرته وأهدافه، ويحول دون خصومه أو من
لا يحملون قناعاته من الوصول إلى قمة السلطة لتقويضه من الداخل، هذا
الموقف تفرضه طبائع البشر في تجانسها وتصارعها على الصعيد الفردي
والمجتمعي. والأمر لا يخرج عن هذا حتى في النظم غير العقائدية والتي تقوم
على حكم الأكثرية، ففي الدول الرأس مالية نجد أن هذه السلطة ولو لم
تكن معلنة قد تركزت في يد التحالف الرأسمالي الذي من خلال سيطرته
على المال والاقتصاد والإعلام، فإنه يتحكم بمسيرة المجتمع، ليضمن
استمرار نظامه وخدمة مصالحه، وما الأحزاب الكبرى مثل الحزب
الجمهوري والحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة الأميركية التي تدعي
أنها أم الديمقراطية وحاميتها، على سبيل المثال، إلا واجهات سياسية
للقوى الرأسمالية، وفضلا عما يمارسه الإعلام الواقع تحت سيطرة أموالها،
من غسيل أدمعة، فإن حرية الاقتراع تبقى حرية نسبية ظاهرية تدور في
فلك تلك القوى، فكل حزب ينتخب مرشحه إلى الرئاسة، ثم يقدم
مرشحو الأحزاب للناس لينتخبوا منهم، لذا فحرية الناخبين محدودة
بخيارات الأحزاب، بينما كل مرشح يعبر عن إرادة كوادره التي تمثل في
الواقع المصالح الرأسمالية الممولة لها، وليس مصالح الناس. وهكذا حتى
النظم القائمة على حكم الأكثرية العددية، قد وجدت لنفسها آلية ضابطة
عليا، وتكونت فيها بحكم الضرورة جهة ثابتة تمثل مضمون النظام
وأهدافه، تمارس الرقابة وتضمن استمرار النظام، وليس بدعا من البدع ما
يكون في حالة الإسلام الذي يمثل مجتمعا عقائديا صاحب رسالة، والفارق
هو في التطلعات والأهداف والنظافة الوسائل.

129
إن طبيعة الإسلام لجهة بنيته العقائدية والأخلاقية والتشريعية،
وحقيقة كونه رسالة سماوية لا نظاما وضيعا بشريا، وأن أهدافه تتمحور
حول هداية البشرية وصونها من الانحراف والضلال، ودوره العالمي
والضرورة الملازمة له في استمرارية الدعوة إلى الناس بما بلغ النبي (صلى
الله عليه وآله) لكل الأجيال والأمم إلى يوم الدين، ونهجه في التحرر من
كل عبودية وظلم، يجعله حيثما وأينما كان مستهدفا من أصحاب
الترعات التسلطية، والقيم المادية في داخل مجتمعه، ومن طواغيت الكفر
والمال والمادية على الصعيد الأممي، لما يشكل من تناقض جذري معها،
وخطر على مصالحها ووجودها، هذا كله يجعل موقع الإمامة الممسكة
بزمام القرار فيه، بما لها من أثر بالغ على سلامة الرسالة وتوجهاتها
وعلاقة الأمم بها كقطب الرحى، يتوقف عليها مسيرة الرسالة وصيانة
أصالتها، ودرء التحريف عنها على مر العصور، وخلال عملية اختراق
أنواع الحضارات والثقافات، والتداول بين مختلف الشعوب واللغات،
فالإسلام هكذا يكون أكثر من أي نظام آخر على الإطلاق، لحكم
طبيعته وطبيعة أهدافه، يقضي بأن يلحظ الشارع الأقدس في بنيته نظاما
للقيادة العليا، لا ينتج إلا الإمامة التي قد مخضت الرسالة مخضا، ولا يتيح
في أي حال إنتاج إمامة لا أهلية لها، أو لا تنسجم مع تطلعاته
ومضامينه، أو إمامة معادية له، الأمر الذي يحرف المسيرة ويجهضها،
ويلغي مبررات الرسالة والوحي الإلهيين في الهداية بالرسالة، فالحاجة في
الإسلام على أشدها إلى أن تشخص لأتباعها الجهة التي تتجسسد فيها
تطلعاتها، فتكون لها الولاية على الأمة والرسالة، لما لوظيفتها من الخطورة

130
البالغة على النحو السابق الذكر، مما يجعل الافتراض بأن الله تعالى الذي
أنزل هذه الرسالة الأخيرة لتعم البشرية، قد أهمل من شريعتها شأن
الإمامة والحاكمية العليا، افتراضا بعيدا عن الواقع، ولا ينسجم مع
حقائق الرسالة ولا مع الضرورات التي تفرضها ظروفها الموضوعية، لا
سيما تلك التي واكبت أواخر حياة النبي (صلى الله عليه وآله) وعند
وفاته، إن من داخل المجتمع أو من خارجه، فلا يمكن في أي احتمال
عاقل أن يهمل تعالى هذا الشأن، ومن يقبل بمثل هذا الاحتمال في حق
الإسلام كمن يشكك بمصداقية مصدره الإلهي والعياذ بالله.
5 - بطلان دعوى الاجتهاد في الإمامة:
أ - بناء الاجتهاد على عمل الصحابة لا على النص.
بيد أن الدعوى بأن الإمامة أمر متروك للاجتهاد التي أقامها الذين
لم يلتزموا بالولاية لأهل البيت (ع)، لم يكن مبناها أن الله تعالى قد أمر
بالاجتهاد فيها استنادا إلى نص يأمر بذلك، بل أن الله قد أهملها، مما
جعل الاجتهاد فيها ضرورة، الأمر الذي ظهر بطلانه جليا حتى الآن
فيما سبق من أبحاث، غير أنه لمزيد من إظهار بطلان الادعاء سنبين فيما
يلي من سطور باختصار كيف أن الاجتهاد لم يستند إلى أصول واضحة
في الكتاب والسنة، بل عكس آراء ذاتية عن الإمامة بررت الواقع الذي
استقرت عليه حال الخلافة بعد الصدود عن الأئمة الشرعيين من آل
محمد (صلى الله عليه وآله)، وإذ عجز الاجتهاد عن بلورة صيغة متميزة

131
للحكومة الإسلامية ولو بالخطوط العريضة، لتصوب مجرى ولاية الأمر
في الدولة الإسلامية عبر العصور، فإنه قد شرع كل أنواع الحكم التي
حصلت من اختيار ومشورة (مع أن المضمون لا يتوافق مع التسمية كما
سنرى) ووصاية، واستيلاء وغلبة، ومن وجوب طاعة الفاسق وحرمة
القيام عليه ولو من قبل أهل العدالة، ومن صحة تعدد الأئمة، مما أفقد
الإسلام قدرته على توجيه وتصويب ولاية الأمر والحاكمية، وجعله
محكوما لها بدلا من أن يكون حاكما عليها، وأتاح للحكم في الدولة
الإسلامية أنماطا قد تفوق في فسادها القيصرية والعنصرية، هذا كله
لافتقار الاجتهادات إلى أصول تستند إليها في الكتاب والسنة، وذلك
لأن النصوص عن ولاية الأمر محصورة بالإمامة المعصومة، ولا نصوص
غيرها، وهذه الحقيقة تؤدي دلالة أخرى وهي أن الله تعالى لو لم
يشخص للأمة، كما يدعون، الأئمة الذين فرض طاعتهم بهذا النص
وغيره من النصوص، لكان حينئذ قد جعل في شريعته الكاملة أصولا
للأمة تستنير بها وتنطلق منها لتشكيل النظام الذي لا تضل بالانقياد له،
والذي ينسجم مع أهداف الرسالة وروحها، ولكن لأن هذا مفقود من
جهة أولى، ولأن نصوص الإمامة قد أهملت، فقد أصبح المرتكز
الأساسي للاجتهاد هو افتراض صحة عمل الصحابة وبناء الأحكام
عليه، رغم أن عملهم هذا لا سند له في النصوص، لذلك قد جاء
الاجتهاد، تاليا لاستقرار الخلافة على الواقع المعلوم تاريخيا، وجاء تابعا له
لا مهيمنا عليه، محكوم به ليبرره، لا حاكما عليه ليصوب خطه.

132
ولتوضيح هذه النقطة بالذات نورد نماذج أساسية كالآتي:
أولا: " في المواقف ص 400 " تجد أن الإيجي يبني صحة اختيار النفر
الواحد في اختيار الخليفة عن النبي (صلى الله عليه وآله) دون الحاجة إلى
جماعة من أهل الحل والعقد فضلا عن جميعهم يقول: " وإذا ثبت حصول
الإمامة بالاختيار والبيعة، فاعلم أن ذلك لا يفتقر إلى الإجماع، إذ لم يقم
عليه دليل من العقل أو السمع. بل الواحد والاثنان من أهل الحل والعقد
كاف ".
ويتابع في تبرير ذلك ".. لعلمنا أن الصحابة مع صلابتهم بالدين
اكتفوا بذلك، كعقد عمر لأبي بكر وعقد عبد الرحمن بن عوف
لعثمان، ولم يشترطوا إجماع من في المدينة فضلا عن إجماع الأمة ".
ثانيا: يقول الشيخ سعد الدين في (شرح العقائد النسفية: ص
180 و 181) في تبرير وجوب طاعة الفاسق والجائر ".. وقد ظهر الفسق
واشتهر الجور في الأئمة والأمراء بعد الخلفاء الراشدين، والسلف كانوا
ينقادون لهم ويقيمون الجمع والأعياد بإذنهم ولا يرون الخروج عليهم ".
ثالثا: وهذا الكمال بن الهمام في (المسامرة ص 278) وفي معرض
تبرير طاعة أهل الفسوق يقول: " وكلمتهم متفقة على أن وجهه هو
أن الصحابة صلوا خلف بعض بني أمية وقبلوا الولاية عنهم.. ".
من الواضح إذن أن الاجتهاد ارتكز إلى عمل الصحابة غم أن
عمل هؤلاء لم يرتكز إلى النصوص، ولو كان هناك من نصوص قد

133
استند إلها الصحابة لرد هؤلاء الفقهاء أحكامهم إليها كما ردها
الصحابة أنفسهم، ولما لم يكن ذلك، دل على أنه لا نصوص من هذا
القبيل لتبرير عمل الصحابة، ولا الاجتهاد المرتكز عليه، لأن المبدأ الذي
لا جدال فيه هو أن الشريعة هي مقياس العمل، وليس من حق الصحابة
أن يشرعوا في دين الله.
وما لا يمكن إنكاره أن لو كان ما يدعيه هؤلاء القوم صحيحا، من
أن الشريعة قد أهملت شأن الإمامة، لبات ما فعله الصحابة بعد وفاة النبي
(صلى الله عليه وآله) يعني أنهم قاموا بتدارك النقص الذي وقع فيه الدين
الإلهي الكامل، وسد الثغرة الخطيرة التي غفل عنها الشارع الأقدس ذو
العزة والكمال، تنزه عن ذلك، فهل كان الصحابة أكثر وعيا لحاجة
الرسالة والأمة من الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)؟ لا أطن أن أحدا
يقبل بهذا الاعتبار مع كل الظروف الموضوعية التي عاشتها الرسالة
وواكبت أواخر حياة النبي (صلى الله عليه وآله)، التي كانت تفرض على
أي عاقل عدم إهمال هذا الشأن المفصلي في مستقبل الرسالة والأمة؟.
ومهما يكن من الأمر، فإن البناء على صحة عمل الصحابة ينطلق
من حسن الظن بهم، ومن افتراض عدالتهم جميعا، وهو المرتكز لدى
أصحاب الاجتهاد في الإمامة، ولكن لعلمهم بأن صحة العمل لا بد لها
من مرتكز في النصوص، فقد حاولوا إيجاد الأسانيد الشرعية لهذا الاعتبار
من عدالة الصحابة جميعا.

134
على أنه لا بد من التنويه بأن عدالة المرء لا تقيه من الزلل في
العمل ولا من الضلال في الرأي، مع ذلك فقد أظهرنا من خلال الواقع
التاريخي لمجتمع الصحابة قبل حين افتقارهم على صعيد الفرد والجماعة
إلى النضج الرسالي، ناهيك عن أن الغالبية كانت ما زالت في المراحل
الأولى من أبجدية الإيمان، لحداثة عهدها بالدين الجديد، وأن الصحابة لم
تكن جماعتهم تمتلك المناعة ضد الانحراف في السلوك، حتى في المواقف
المفصلية التي يتوقف عليها بقاء الرسالة ومستقبلها حين تتوفر ظروف
ضاغطة، أو حين حدوث تشويش للأفكار من إشاعات المنافقين، وأن
كثيرا من الأفراد منهم بما فيه الذين تربعوا في القيادة بعد النبي (صلى الله
عليه وآله) لم يكن لديهم أيضا تلك المناعة، وكان لديهم الميل إلى اتباع
آرائهم الذاتية في مقابل أوامر النبي (صلى الله عليه وآله) الواضحة
والصريحة.
كل هذه الحقائق تجعل افتراض صحة عمل الصحابة بمعنى مطابقته
لحقائق الدين، أمرا بعيدا بعدا واضحا عن الواقع ومجافيا للمنطق السديد.
ولأن أصحاب الاجتهاد يعلمون أن لا حجية لعمل إنسان إلا إن
كان مطابقا للنصوص، فإنهم حاولوا تشريع عدالة الصحابة برواية نسبوها
إلى النبي (صلى الله عليه وآله) " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم "
علما أن مصطلح الصحابة في مفهومهم شديد الاتساع إلى حدود
الغرابة، فهو يتسع إلى الطلقاء الذين أسلموا بعد فتح مكة حقنا لدمائهم،
بل إلى أشخاص كانوا ظاهري العداء ببقائهم على عداء نبي الإسلام

135
(صلى الله عليه وآله) مما دعاه إلى طردهم من مدينته كمروان بن الحكم،
أو إهدار دمائهم كعكرمة بن أبي جهل، فما هي هذه الحالة العجيبة التي
تجعل من رؤية النبي (صلى الله عليه وآله) أو معاصرته سببا لهذه الخاصة
النفسية الرفيعة المتميزة من العدالة التي تعادل العصمة، إذ لا يصح
حسب أصحاب هذا النهج تكذيب أحد من هؤلاء أو مناقشته في فعل
أو قول، حتى الذين حكم بطردهم أو إهدار دمهم. بينما يقول تعالى "
ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم " فهؤلاء
المنافقون الذين لم يكن النبي (صلى الله عليه وآله) ولا المسلمون
يعلمونهم، ألم يكونوا من عداد الصحابة وهم يضمرون المكيدة للدين؟.
ويقول تعالى * (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا
ولما يدخل الإيمان في قلوبكم) * {الحجرات 14}، فهل هؤلاء قد
نضجوا في الإيمان، وقال تعالى * (الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر أن
لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله {التوبة 97} (1)
على أن التاريخ يظهر بوضوح كذب الادعاء بعدالة الصحابة
جميعا، بل وعدم صحة الرواية المذكورة لكثرة ما سجل التاريخ عليهم
من موبقات في سيرة الكثير منهم، بل إن المنصف في دراسة التاريخ يجد



(1) من الجدير بالذكر أن المؤمنين لم يكونوا يعلمون أغلب المنافقين، لذلك فقد جعل
النبي (ص) للمؤمنين من أصحابه وللأمة من بعده علامة يميزون بها المنافقين وهي بغض
أحدهم لوصيه علي (ع)، لأن الاستجابة لله ورسوله في ولاية علي (ع) دليل خلوص النية
والإيمان.
136
أن الانحرافات التي وقعت فيها الأمة بعدهم كانوا هم قد أسسوا لها
باتباعهم أهوائهم، ولأن هذا معلوم اضطر أصحاب النهج المذكور أن
يبتكروا طريقة أخرى لتبرير قولهم بعدالتهم على ما كان منهم مما ينافي
العدالة، بقولهم أن الصحابة لا يفسقون بما يفسق به غيرهم، وكأن للدين
وجهان، واحد للصحابة وواحد لباقي الناس، وهيهات من هذا الهذر
الذي يجافي المنطق ويناقض الكتاب والسنة، بل إثم أحدهم أشد وأكبر،
لأن الحجة كانت عليه أبلغ، وهل كون المرء ممن شاهد النبي (صلى الله
عليه وآله) يسمح له بالفسوق عن أمر ربه والخروج عن أوامر رسوله
(صلى الله عليه وآله)، أم أن ذلك مدعاة إلى مزيد من اللوم والاستهجان
في حال حدوثه؟.
أضف إليه أن الرواية عن نجوم الصحابة في ذاتها تحمل ما ينقضها
لمخالفتها لواقع الاهتداء بالنجوم، فالإنسان لا يهتدي بأي من النجوم،
بل هناك نجوم خاصة يهتدي بها أهل البادية لمعرفة الاتجاهات، مما يناقض
نص الرواية، إذ لا يمكن أن يصدر عن النبي (صلى الله عليه وآله) ما
كان غير منسجم مع الواقع (1).



(1) من الجدير هنا أن هذا الحديث قد وضع لمعارضة الحديث الثابت لدى جميع المسلمين
" النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الضلال " فانظر كيف أن
النبي (ص) قد تكلم عن جنس النجوم لأن فيها النجوم التي يهتدي بها الناس إلى الاتجاهات
في سيرهم في البحر أو البر، بينما في الحديث المزعوم عن الصحابة نسبوا إليه أن الاهتداء
يحصل بأي منها، وهذا هو المخالف لواقع الاهتداء بالنجوم.
137
إن مثل هذه العقائد تؤسس في شخصية المسلم التناقض الذي لا
حل له، إذ يتوجب عليه أن يصدق بصواب القاتل والمقتول، المعتدي
والمعتدى عليه، الإمام العادل والمتمرد عليه، والحاكم الجائر والثائر عليه،
وبصواب من سجلت كتب السيرة عليه مآخذ قاتلة في السلوك
والأخلاق وسوى ذلك، علما بأن مثل هذه التناقضات تخلق غموضا في
الدين، ينعكس بخطورة على البنية النفسية للفرد والجماعة، ويتجلى خللا
في الموقف والسلوك، لذلك كان سهلا أن يقبل الناس الخضوع لولاة
الجور والسوء على مر القرون، رغم تعارض ذلك مع روح الرسالة
ونصوص الشريعة، مما أخرج الرسالة عن مجراها، وعطل دورها الأممي،
وأدى أخيرا إلى ذهاب ريح المسلمين.
ومن الواضح أن الاجتهاد في الإمامة جاء لاحقا لما كان قد
تأسس على أرض الواقع، ونبت في مناخ من ولاية الأمر ظالم، شديد
البطش والتسلط، بعيد كل البعد عن معطيات الرسالة، وجاء عندما
وصل، كنتيجة لما حصل من قبل، إلى الخلافة عن النبي (صلى الله عليه
وآله) من لم يعد فساد حالهم ولا فساد سلطانهم يسمح بتغطية نتائج
السقيفة بهالة من الزهد في شخص الخليفة ومن الغيرة على مصلحة الدين
في سلوكه، من فساق بني أمية طلقاء الرسول وطردائه، فأصبح النهج
كله بحاجة إلى مستند شرعي، فكان ادعاء الاجتهاد في الإمامة على
النحو السابق الذكر، لذا جاءت نتائجه محكومة بواقع الخلافة لا حاكمة

138
عليها، فإلى السطور القادمة لكي نرى نماذج الإمامة التي اجتهدوا
حولها.
ب - أشكال الاجتهاد في الإمامة
الاختيار حقيقة أم استئثار؟.
إن ما يقال عن الاختيار لا يحمل سوى الاسم، أما المضمون
فمختلف تماما، إذ أن مفهوم الأمة في عملية اختيار الخليفة يتقلص إلى
أهل الحل والعقد (التفتازاني في شرح المقاصد ج 5 \ 234)، الذين
حدودهم بأنهم هم (العلماء والرؤساء ووجوه الناس) (التفتازاني في شرح
المقاصد ج 5 \ 233). وهذا بذاته تعريف فضفاض غير مفيد عمليا
يفتقر إلى الوضوح، ويحتاج إلى من يشخص للأمة من يكونون في كل
مرة تنتقل الخلافة من سابق إلى لاحق.
ولقد اختلف في عدد أهل الحل والعقد الذي به تنعقد البيعة،
يقول أبو الحسن الأشعري في (مقالات الإسلاميين ص 460):
" واختلفوا في كم تنعقد الإمامة من رجل، فقال قائلون: تنعقد برجل
واحد من أهل العلم والمعرفة والستر، وقل قائلون: لا تنعقد بأقل من
رجلين، وقال قائلون: لا تنعقد بأقل من أربعة يعقدونها، وقال قائلون: لا
تنعقد إلا بخمسة يعقدونها، وقال قائلون: لا تنعقد إلا بجماعة لا يجوز
عليهم أن يتواطؤا على الكذب، ولا تلحقهم الظنة، وقال الأصم: لا
تنعقد إلا بإجماع المسلمين ". واعتبر الماوردي في (الأحكام السلطانية ص

139
40) إجماع أهل الحل والعقد في بلد الإمام، والقلقشندي في (مآثر
الإنافة في معالم الخلافة) في الفصل الثالث من بيان الطرق التي تنعقد بها
الخلافة اعتبر كفاية الاثنين، وفي معنى الاحتجاج 4 \ 131 قيل بكفاية
ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو أربعين. ويبدو أن ما عليه الأشاعرة والجمهور
من المسلمين هو كفاية الواحد (الشيخ محمد مهدي شمس الدين في نظام
الحكم والإدارة في الإسلام) والماوردي في أصول الدين ص 280)
والباقلاني في (الرد على الملحدة المعطلة والرافضة والخوارج والمعتزلة).
الخضيري وأبو ريدة ط القاهرة 1947 م ص 164 - 239)، والإيجي
في (المواقف ص 40) ولقد أوردناه سابقا.
وهكذا نجد أن الاختيار يتقلص من اختيار الأمة إلى النفر القليل
فالواحد، نيابة عن الأمة بأسرها. علما أن هذا الاختيار لم يشترطوا فيه
توكيل الأمة لهم بالنيابة فيه عنها. فلو سبق واحد ممن عرفوهم بأهل
الحل والعقد دون مشورة غيره، فضرب على يد آخر بالبيعة، ألزم الأمة
بأسرها حسب منطوق هذا الاجتهاد، ولو كان فيها من هو أعلم منهما
وأكثر بصيرة وعدالة، كبيعة عمر لأبي بكر (كما نقلنا من قول الإيجي في
المواقف ص 400).
الشورى: إن القول بالشورى جاء متأخرا يعبر عن ما سمي قبلا
بالاختيار، ولقد ظهر مما سبق أن التسمية لا تتطابق مع المضمون من
قريب ولا من بعيد، ولقد وجدوا لهذه التسمية سندا من قوله تعالى
" وأمرهم شورى بينهم ". وهذا الارتكاز غير صحيح في ذاته لأن الآية

140
ليست واردة في الكلام عن ولاية الأمر، بل في ذكر صفات المؤمنين
الذين من صفاتهم أن أمرهم شورى بينهم، فهي تشير إلى صفة للمؤمن
في سلوكه، وليست فريضة ربانية في المطلق، ولا أمرا ربانيا في موضوع
الإمامة، وما هذا الاعتبار إلا من قبيل التوسع الذي لا دليل عليه، ولو
كان صحيحا فلماذا لم يروا فيما يليها * (والذين إذا أصابهم البغي هم
ينتصرون) * فريضة في الانتفاض على الحاكم الجائر بينما قد قالوا بحرمة
ذلك؟ ثم هي تتحدث عن أمرهم، وليست الإمامة أمرا من أمورهم، إلا
أن نعتبر أن الرسالة دين لحالات الفرد الخاصة، ولا علاقة له بالشأن
المجتمعي، دين لا دين ودولة، الأمر الذي يعلم كل من له أدنى معرفة
بالشأن الإسلامي أنه غير صحيح، وإلا أن نعتبر أن الدولة التي أسسها
الرسول (صلى الله عليه وآله) وكان أمامها، عملا بشريا من عنده، لا
علاقة له بالرسالة والوظيفة الربانية، كلا، بل الشأن المجتمعي والدولة
ركيزته، والإمامة قطب الرحى من دولته ونظامه، أمر رباني، لأنها جزء
من الدين، والذين كله لله، لا خيار للناس فيه، والإمامة التي تعتبر
الحاكمية جزءا منها، هي الركن الركين من الدين لا يستقيم أمره إلا
بها، ويتعطل بفقدها الجزء الأهم منه، وهو الوجه المجتمعي، ويتعطل البعد
العالمي ودوره على الصعيد الإنساني العام، بل ويصاب الوجه الفردي
بالخلل وكثير من البطلان، لذلك فالإمامة أمر من أمور الدين الكبرى،
وليست جزءا منه فحسب، بل ركن يفوق في الخطورة الصلاة والحج
والزكاة والجهاد والأمر بالمعروف، بل هو السبيل إليها وإلى غيرها من

141
شؤون الدين الأساسية، فهي إذن من أمر الله كشأن الدين كله، ولا
يكون الدين من أمر الناس ليشمله قوله تعالى * (وأمرهم شورى بينهم) *
بل هذا النص يندب للمؤمنين صفة يتحلون بها في التشاور في أمورهم
الإجرائية والحياتية ضمن حدود الدين، وفيما لا يمس أصوله وقواعده.
ومما يكذب ادعاء القوم، أن الجهة التي ادعيت لها الشورى، لم
تطبقها بل كانت البيعة، إما بيعة الواحد كما في بيعة عمر لأبي بكر
وعبد الرحمن لعثمان، كقول الإيجي الذي ذكرنا سابقا، أو الاستخلاف
والوصاية، كاستخلاف أبي بكر لعمر، ما عدا بيعة أمير المؤمنين علي (ع)
التي تمت بتشاور الصحابة وإصرارهم عليه بعد ممانعته، ثم كانت بعده
وبعد الإمام الحسن (ع) لمن غلب عليها وقهر الناس على البيعة.
أما قوله تعالى * (وشاورهم في الأمر) * فذلك موجه إلى نبي الأمة
وإمامها (صلى الله عليه وآله) الذي ليس للناس في نبوته ولا إمامته
اختيار، ويطلب إليه مشاورتهم في الحرب، وهو من الأمور الإجرائية،
علما أن القرار النهائي بيده * (فإذا عزمت فتوكل على الله) * ولا علاقة
لهذه المشاورة في مسألة الولي.
أشكال الولاية الأخرى بالاجتهاد:
قد صحح الاجتهاد الوصاية من السابق إلى اللاحق: يقول أبو
الحسن الأشعري في (الإبانة عن أصول الديانة ص 189، مكتبة دار
البيان دمشق ط \ 1981): " وإذا ثبتت إمامة الصديق، ثبتت إمامة

142
الفاروق، لأن الصديق نص عليه، وعقد له الإمامة واختاره لها ". ويقول
أبو بكر الباقلاني في (التمهيد في الرد ص 179) ".. ويوضح ذلك أيضا
أن أبا بكر عقدها لعمر فتمت إمامته وسلم عهده بعقده له ". ويقول ابن
حزم الأندلسي في (الفصل: 4 \ 169 - 170) " فوجدنا عقد الإمامة
يصح بوجوه، أولها وأفضلها وأصحها أن يعهد الإمام الميت إلى إنسان
يختاره إماما بعد موته.. " ويقول الشيخ محمد شربيني في (معنى
الإحتجاج: 4 \ 131) " لا يشترط في الاستخلاف رضى أهل الحل
والعقد ولا مشاورة أحد، ويجوز العهد إلى الولد والوالد، كما يجوز إلى
غيرهما، وقد جزم به صاحب الأنوار، وابن المقري ".
وصححوا الخلافة بالتسلط والغلبة:
الباجوري في (حاشية الباجوري على شرح القزي: 2
\ 259 - 260) ثالثها استيلاء شخص مسلم ذي شوكة، يتغلب على
الإمامة، ولو غير أهل لها، كصبي وامرأة وفاسق وجاهل، فتنعقد إمامته
لينظم شمل المسلمين، وتنعقد أحكامه بالضرورة ". ويقول ابن حزم
الأندلسي في (الفصل: 4 \ 169 - 170) ".. فإن مات الإمام ولم يعهد إلى
إنسان بعينه، فوثب رجل يصلح للإمامة فبايعه واحد فأكثر، ثم قام آخر
ينازعه ولو بطرفة عين بعده، فالحق حق الأول سواء أكان الثاني أفضل منه
أو مثله أو دونه ".
وأوجبوا طاعة الفاسق: كما في قول الباجوري أعلاه، وقول
التفتازاني في (شرح المقاصد: 5 \ 233) ".. ولا ينعزل الإمام بالفسق

143
والإغماء وينعزل بالجنون والعمى والخرس وبالمرض ينسيه العلوم.. "
والباجوري أيضا في (حاشية الباجوري على شرح القزي:
2 \ 259 - 260) " فتجب طاعة الإمام ولو جائرا، وفي شرح مسلم:
يحرم الخروج على الإمام الجائر إجماعا.. " ويقول زين بن نجيم في
) الأشباه والنظائر: ص 205) ".. ولا ينعزل الإمام بالفسق.. " ويعتبر ابن
حزم في (الفصل: 4 \ 116) أنه من المكروه تولي الإمامة من قبل فاقد
العدالة، وهكذا فهو يحمل ذلك على الكراهة لا على الحرمة.
وحسب الاجتهاد غدى أهل البغي هم المخالفون للإمام الجائر
ولو كانوا من أهل العدالة: الشربيني في (مغني الإحتجاج في شرح
ألفاظ المنهاج: 4 \ 123) " وقد عرف المصنف (صاحب المنهاج) البغاة
بقوله: هم مسلمون مخالفوا الإمام ولو جائرا وهم عادلون، كما قاله
القفال، وحكاه ابن القشيري عن معظم الأصحاب. وما في (الشرح)
و (الروضة) من التقييد بالإمام العادل، وكذا في (الأم) و (المختصر)
مرادهم إمام أهل العدل، فلا ينافي ذلك. ويدل لذلك قول مسلم: إن
الخروج على الأئمة وقتالهم حرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فسقة
ظالمين ".
إذن هذه هي نتائج الاجتهاد في الإمامة، قد جاءت مزيجا متنافرا،
يعكس آراء ذاتية، لا تستند إلى نصوص الكتاب والسنة، ولا تستنير
بضروراتها، قد عجزت عن صياغة نظام متميز للحاكمية العليا يمكن
تسميته بنظام إسلامي للحكم، وعجزت عن تصويب ولاية الأمر

144
وتطويرها، بل جاءت الاجتهادات لتبرر الأمر الواقع وتعطيه الشرعية
رغم فساده وانحرافه، وحملت الأمة من خلال هذه التشريعات على
الرضوخ له، وهذا مرة أخرى يظهر عدم النضج لدى النخبة من الأمة،
إذ هكذا كان المسار الفقهي الذي عليه المعول، بينما كان المفروض أن
تتصدى هذه النخبة لفساد الحكم، وتحمل الناس على رفضه، بل وتحمله
على الاستقامة والصلاح.
إذن وبعد استعراض الظروف الموضوعية للأمة والرسالة، قد بينا
استحالة أن يهمل الله تعالى من رسالته شأن الإمامة العامة، وبعد أن
استعرضنا نتائج ما ادعي من الاجتهاد في الإمامة الذي انطلق من دعوى
إهمال الرسالة لشأن الإمامة، فبينا دليلا آخر على افتقار الأمة إلى النضج
واستيعاب مضمون الرسالة وأبعادها بالدرجة التي لا تسمح بتوقيف أمر
الإمامة على إرادتها، هكذا أصبح واضحا أن الله تعالى لا يمكن أن يكون
قد سن فريضة الطاعة لأولي الأمر بالنص موضع النقاش على النحو
المدعى لا يخص بها جهة يعلم أنها لا تقود بولايتها إلى ضلال أو هلكة،
وأنها تكون ضمانة للأمة والرسالة.
إن ما قدمناه ليس نقاشا نظريا في المطلق، بل الواقع التاريخي الذي
اتخذه مسار الخلافة ومجتمعها بعد الصدود عن ولاية آل محمد (صلى الله
عليه وآله) الشرعية يظهر بما لا يقبل الجدل رجحان ما ذكرنا من المحاذير
التي لها أن تترتب على فريضة من النوع الذي ادعاه البعض وتأسس عليه
مجرى الأحداث.

145
ت - الواقع التاريخي:
فلم يمض الزمن الطويل حتى استطاع أعداء النبي (صلى الله عليه
وآله) أن يصلوا إلى قيادة الدين الذي حاربوه والذين بعد إسلامهم
أبطنوا عداوته، فكان من الولاة والعمال طرداء للرسول (صلى الله عليه
وآله) كعبد الله بن أبي سراح ومروان بن الحكم والحكم بن العاص ممن
لعنهم النبي (صلى الله عليه وآله) وطردهم فقربهم عثمان وأجزل عليهم
العطايا واستعملهم على الناس بدافع من عصبيته العائلية، بل وكان
مثلهم لاحقا من الخلفاء كمروان نفسه والطلقاء والمؤلفة قلوبهم كآل أبي
سفيان، وكان في أقل تقدير كثير من أولياء الأمور وعمالهم معلنين
بالفسوق، كالكثير من الأمويين والعباسيين والعثمانيين وسواهم من
أمراء الأمر الواقع، بل من الخلفاء الأوائل من أساء في الولاية عن سوء
تقدير وبدافع العصبية العائلية، كعثمان بن عفان الذي استعمل طرداء
النبي (صلى الله عليه وآله) وآخرين فسقة لا خلاق لهم، واستأثر بمال
المسلمين، وآثر بني أمية عليهم، وتصرف في الخلافة كالملك، مما أغرى
الأمة به فخلعوه وقتلوه، وكانت باب الفتة التي لم تنطفئ، وكان قد
مكن لمعاوية بتوسيع ولايته وضم أغنى الولايات له، مما مكنه من حرب
أمير المؤمنين علي (ع) بهدف السيطرة على الخلافة بذريعة الثأر لعثمان،
بينما كان قد تخلف عن نصرته والدفاع عنه إذ طلب إليه عثمان ذلك،
فدخلت الأمة بعدها طيلة تاريخها في نزاعات دامية تتمحور حول ولاية
الأمر، وارتكبت الجرائم السياسية والدينية وشلت قدرات الأمة

146
الإبداعية، وأصبحت الخلافة منذ معاوية وبعده قيصرية، هم الخليفة
الحكم والسلطان، لا شأن الرسالة، واستعمل فيها الخلفاء على الناس
ولاة سوء على شاكلتهم لا دين لهم ولا خلاق، واتبعوا في سياستهم
داخليا وعلى صعيد العلاقة بالأمم المجاورة، أساليب لا تنسجم مع روح
الدين وأهدافه، ففقدت الرسالة عالمية دورها إلى يومنا هذا وعطلت كثير
من الأحكام وبدلت حتى استطاع الأمويون شراء من يدس الأحاديث
المزورة على النبي (صلى الله عليه وآله) تأمر بطاعة الفاسق، لإيجاد سند
ديني لولايتهم الفاسقة، وأخرى تقول بالجبر والإرجاء لسد أفواه الناس
عن تناول انحرافاتهم، وأخرى تتناول تأويلا محرفا لنصوص قرآنية تتعلق
بالإمامة ومنزلة آل محمد (صلى الله عليه وآله)، ومنها هذه الآية
بالتخصيص لطمس معالم الولاية الحقيقية، ولإيجاد سند ديني لسلطانهم،
وأخرى تتأول الآيات المتعلقة بالأنبياء (ع) ونبينا (صلى الله عليه وآله)
تركز على تفاسير تطعن بصورة الكمال البشري المنشود في وجدان
الأمم، وتركز بالمقابل في شخصية النبي على الضعف البشري المزعوم
لإضعاف ارتباط الأمة الوجداني برموز التوجيد، وزورت روايات
تستبطن الانتقاص من حكمة وعصمة وأخلاق النبي (صلى الله عليه
وآله) وآله (ع)، ولاحقا أصبحت مما تتداوله كتب الصحاح، ذلك
لتشويه صورته ولجم أثر أوامره في حق أهل البيت (ع) وقدسيتهم في
وجدان الناس، ولكي لا يستعظموا ما يرون من الحكام من انحرافات،
ولكي يدعموا سلطانهم في وجدانهم مقابل تراجع قدسية أولياء الرسالة
الحقيقيين، وتشتت المسلمون وتفتت الكيان الإسلامي، وخيم أخيرا على

147
الأمة الفقر والجهل، حتى ذهبت ريح المسلمين وساد على الأرض
الظالمون. كل ذلك كان في ظل ولاية الأمر وتحت مظلة الطاعة لأولي
الأمر، وكله لأن بعض الأمة بعد نبيهم (صلى الله عليه وآله) قد عطلوا
فريضة الإمامة بذرائع شتى، نزولا تحت ضغط الأطماع القرشية
والموازنات القبلية وكأن أمر الإمامة مهمل كما يدعون، وفرضوا على
الآخرين موقفهم، حتى استقر عليه الحال وصار المعمول به أن الولاية لمن
تولى، فلو كان هذا حقا يعكس مضمون فريضة النص، للزم أن تكون
كل تلك المفاسد وبوار أمر المسلمين نتيجة انصياع الأمة لهذه الفريضة
الإلهية بمضمونها المدعى، وأن الرسالة قد حملت في نصوصها أسباب
تعطلها ودمارها، ويعني خللا خطيرا فيها، ونقصا قاتلا، بل قصر نظر
تنزه عنه الباري حين تجعل الشريعة فريضة، ولو على سبيل الرضا على
النحو الذي تأولوه، فتتيح لأهل الجور والفساد وسيلة لتطويع الناس
وإخضاع رقابهم بوكالة إلهية.
ث - الهروب من العصمة إلى الإجماع:
وإذا تجاوزنا الحقائق الواقعية في التاريخ فلا يجبر هذان الخلل
والنقص نظريا إلا أن يفترض أصحاب الادعاء بأن الله تعالى علم بأن
الأمة لن تعطي الطاعة إلا لأهلها.
وهذا ما عبر عنه محمد بن زكريا الرازي (في تفسير الرازي
1 \ 144) بصورة غير مباشرة، إذ أقر بضرورة العصمة في الولاية

148
حسب فريضة هذا النص، لكنه جعلها منوطة بإجماع العلماء مستندا في
عصمتهم إلى آية أولي الأمر، ومعتبرا أن أولي الأمر هم أهل الإجماع في
محاولة للربط بين هذا النص وما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) " لا
تجمع أمتي على خطأ "، ليصبح أولوا الأمر الواجب طاعتهم والأمة التي
لا تجمع على خطأ هم أهل الحل والعقد، وما من دليل على هذه
الاعتبارات من عقل أو كتاب أو سنة، فلا ندري كيف يخول لنفسه
تفسير أولي الأمر بأهل الإجماع، ولا كيف يتم الانتقال العجيب والربط
الغريب. لكن هذا الإجماع في شأن الولاية العامة يبقى نظريا لا قيمة له
عمليا، لتعذر تحققه نتيجة الإبهام الذي يعتور توصيف هذه الجهة
المفترض إجماعها، خلافا للوضوح في تشخيص عصمة أولي الأمر ذاتهم
بعصمة من الله لهم في وظيفتهم الإلهية المصدر والأهداف، والواقع يثبت
أن إجماع الأمة لم يحدث في التاريخ يوما، ولا ندري هل سيحدث، بل
لم يشترطه مجتهدوا جمهور العامة، ولعل ذلك لعلمهم بتعذره، بل
اختصروا الإجماع والأمة بإجماع بعضها من العلماء أو أهل الحل والعقد،
الذي هو في ذاته غير قابل للانعقاد ويفتقر إلى وضوح الحدود التي تعرفنا
من هم جميعا، وهو على كل حال لم يحصل في أمر الخلافة أو فيما هو
أدنى منها خطرا في يوم من الأيام. وبسبب تعذر هذا الانعقاد عمليا
تجاوزه الاجتهاد ليتخذ منحنى مختلفا كليا ويعتبر كفاية بعض أهل الحل
والعقد في عقد الخلافة، بل والقلة منهم، بل الواحد، ثم تجاوز ذلك
لتصحيح الخلافة بالوصاية أو الاستيلاء والقهر.

149
إن مثل هذا الادعاء بعصمة الأمة وامتناعها عن إعطاء الطاعة لغير
أهلها أمر لا يجد له أحد منطقا معقولا والرواية المذكورة كدليل عليه
غير قابلة لتحقق حتى لو نزل الاعتبار من كامل الأمة إلى أهل الحل
والعقد مما يضعف الرواية ويفقدها أثرها. بيد أن الواقع يكذب المدعى
فلا الأمة ولا أولياء أمرها كانوا على نحو يوافق الافتراض المذكور، بل
إن الأمة قد دانت بالطاعة والولاء، إن طوعا أو كرها لمن لم يكن أهلا
لذلك، بينما استغل أولياء الجور النصوص المحرفة المدلول أو المدسوسة
لفرض ولايتهم على الناس من خليفة إلهية مدعاة، ووجدوا في الأمة من
يعينهم على ذلك، وبرر الفقهاء هذا الواقع الشاذ المخالف لأصول الدين
وروحه باجتهادات في باب ولاية الأمر، كالتي سقناها أقل ما يقال عنها
أنها تهدف إلى إعطاء الشرعية لهذا الواقع، حتى درج الناس جيلا بعد
جيل على فهم مغلوط للنصوص القرآنية والنبوية المتعلقة بالإمامة،
بالتوفيق بينها وبين ذلك الواقع، فصار الشائع المحرف مألوفا لأذواق
العامة رغم بعده عن الظاهر والفطرة وروح الرسالة وسلامة اللسان،
والصواب أصبح شاذا يحتاج تذوقه إلى العقل الناضج والوجدان الصافي
والكثير من النظر الثاقب لخرق حجب التضليل والكذب والتزوير.
وإذ لا يصمد هذا المدعى أمام حقائق التاريخ، فإنه يستبطن مبدأ
العصمة دون أن يضعها في مكانها الصحيح، ويدل على ضرورة الإقرار
بالعصمة لجهة مخصوصة لإحراز الانسجام مع أهداف الرسالة، وحقيقة
أن هذه الولاية شأن رباني وفريضة إلهية لا وضعية، أي لا تحمل في

150
طياتها قابلية أن توقع في الضلالة، هذه الحقيقة التي يحاول الذين تخلفوا
عن آل محمد (صلى الله عليه وآله) المكابرة في تجاهلها. بلى إن الله تعالى
قد جعل هذه الولاية عاصمة بعصمة الذين اختارهم لحملها، ولم يكن
تعالى ليجعل هذا الجزء الركني من الرسالة الذي يتوقف عليه سلامتها
وأهدافها بعد النبوة متوقفا على مشيئة الناس ليعبثوا فيها بآرائهم
واجتهاداتهم وأهوائهم.
سادسا: خاتمة: كمال الرسالة:
إن الرسالة الإسلامية ليست عبادات وأخلاقا وشؤونا فردية
فحسب، بل هي نظام متكامل للبشرية، يشمل كل جوانب الحياة
الإنسانية الفردية والمجتمعية، والأبعاد الأممية، ولقد أرست قواعد مجتمع
له دولته وشريعته، فكيف تقيم الشريعة الدستور بينما تغفل أهم فقرة في
دستور أي مجتمع وهي شأن الحكم، وكيف تبني دولة ومجتمعا بينما
تغفل أهم حلقة في هذه البنية وهي الحاكمية والقيادة العليا، بينما هي لم
تغفل حتى عن أبسط شؤون الإنسان وأبسط العلاقات الاجتماعية. إنه
حقا لغريب هذا الادعاء، وهو بمثابة اتهام للرسالة بالخلل والنقص
الفادحين. كلا بل لم يغفل الله تعالى هذا الأمر أبدا، إذ أن هذا النص
الإلهي الذي نحن بصدده كما أظهرنا بجلاء في ما سبق، ونصوص أخرى
كلها تدل على بطلان هذا المدعى، بل يكفي أن جعل هذا النص
بالذات تلك الولاية فريضة ربانية ليدل على أنه قد جعلها بعض الدين،
وشأنا من شؤونه، فلم يتركها هملا منسيا، ويكفي أن ننظر إلى الحال

151
الذي كان في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) لنعلم حقيقة الأمر، بأن
الإمامة شأن إلهي غير منسي في الشريعة الإلهية الكاملة ولا هو متروك
لأهواء البشر.
فلم يكن النبي (صلى الله عليه وآله) مبلغا فحسب، بل كان إماما
للأمة كذلك، قيما على الرسالة وحفظها وتطبيقها في الواقع الحياتي،
وكان القائد الأعلى له قرار الأمة في السلم والحرب، وكان الشاهد على
البشرية جمعاء فهذه المهام التي للإمامة لم تكن خيارا بشريا، بل كانت
خيارا ربانيا كحال النبوة ذاتها، وهذا الواقع يكذب القول بأن النبي
(صلى الله عليه وآله) لم يكن له من ميزة على غيره من الناس إلا أنه
يتلقى الوحي ويبلغه، ذلك في محاولة لنزع العصمة عنه في غير التبليغ،
لكن تلقي الوحي وتبليغه لا يقتضيان هذه المهام القيادية العليا والولاية
العامة على الناس، وهذا الموقع من الحاكمية الكبرى لها، التي كانت بلا
أدنى ريب من المهام التي للنبي، (صلى الله عليه وآله) كما أثبتها القرآن
الكريم في نصوص كثيرة نذكر منها * (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) *
و * (من أطاع الرسول فقد أطاع الله) * و * (أطيعوا الله والرسول وأولي
الأمر منكم..) * و * (ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا
أن تكون لهم الخيرة من أمرهم) * فمن الواضح أن تلقي الوحي ونقله إلى
الناس لا يستلزمان هذا كله، فهذه الولاية كانت فريضة ربانية وليس مما
تطوع النبي (صلى الله عليه وآله) لفعله، ولا مما اختاره الناس لأدائه، مما
يوضح أن الرسول (صلى الله عليه وآله) كان مختارا للإمامة العامة من

152
الله كما كان مختارا للنبوة، وأنه معصوم فيها كعصمته في نبوته، وأنها
مثلها وظيفة ربانية الأهداف تصدر عن الله، لا عن الناس، ذلك لأن
الإمامة بعد النبوة هي الركن الأهم من الدين، لما للإسلام من أبعاد
تتجاوز الفرد إلى بنية المجتمع ودولته وشرائعه، وتتجاوز في برنامجها
للبشرية زمن الوحي إلى يوم الدين، فهي وظيفة فيها استمرار لوظيفة
النبوة الخاتمة في إتمام أهدافها وخططها عبر الزمن، يتوقف عليها سلامة
الرسالة وضمانة أصالتها عبر الزمان، الذي يتوقف عليه استمرارية
الهدف الرباني منها في ديمومة الهداية بها لكل الأجيال والأمم الآتية،
كونها خاتمة الرسالات والوحي الإلهي، لذلك كانت ميتة من قصر عن
إمام زمانه ميتة جاهلية، وكان فيها كمال الدين * (اليوم أكملت لكم
دينكم وأتممت عليكم نعمتي..) * هذا النص الذي نزل بعد أن امتثل
النبي (صلى الله عليه وآله) لأمر ربه بالتبليغ بولاية أخيه أمير المؤمنين
علي (ع) في غدير خم، حين أعاد التذكير بمرجعية الثقلين والتأكيد على
إمامة آل محمد (صلى الله عليه وآله) فكان فيها كمال الدين، وبفقدها
تصاب الرسالة بالصدع وتخرج الأمة عن أهدافها الربانية، ولا يصلح لها
من يندبه الناس أو من يتطوع لها، بل لا يصلح لحمل وظيفة ذات منشأ
رباني وأهداف إلهية وجزئية أساسية من الرسالة السماوية إلا من اختاره
الله لها، فهي ككل الدين شأن رباني يصدر عن الله تعالى ليس بشريا،
ولم يترك للناس ليجتهدوا فيه، أو قل ليعبث فيه العابثون بالرأي والهوى،
يصيبون ويخطئون، يصلحون ويفسدون، فالخطأ هنا ليس كالخطأ في

153
فروع الدين في أحكام الفقه والعبادات والمعاملات، بل خطأ قاتل
يصيب الشريان الأبهر من دورة الرسالة وكيان الأمة، ويترك آثارا كارثية
عليهما.
ولما كانت الرسالة مستمرة إلى يوم الدين ودعوتها قائمة إلى كل
الأجيال والأمم ورسولها خاتم الأنبياء، فالإمامة بعد انتهاء الوحي
مستمرة معها بوظائفها ما بقيت، وهي في نسيجها لا تنفك عنها،
وضرورة من ضروراتها، لذلك فإن الله تعالى بعد أن اصطفى محمدا
(صلى الله عليه وآله) للنبوة فعصمه، جعله كذلك إماما وعصمه، ثم
جعل من بعده أئمة أولي الأمر عصمهم، وجعل له ولهم الولاية العامة
والمرجعية العليا للرسالة والأمة، بما أو جب لهم من طاعة شاملة كطاعته
جل وعلا، كما تصف أية أولي الأمر التي نحن بصددها.
وهكذا نستفيد من النص:
أولا: أنه قد جعل ولاية الأمر بعد النبي (صلى الله عليه وآله) فريضة
ربانية مقترنة بولايته (ص)، فدل أنها جزء هام من الدين وشأن رباني، لا
بشري، ولم تغفله الرسالة ولا تركته للبشر.
ثانيا: من خلال فهم طبيعة الفريضة نفهم خصائص أولياء الأمر
المعنيين دون حاجة إلى أدلة خارجية، ويفهم منها:
1 - أنها تفرض طاعة شاملة ومطلقة غير مقيدة، وهذا يعني ولاية
عامة على الرسالة والأمة، ويقتضي عصمة الذين قد منحت لهم، وما لم

154
يكن هذا تصاب الفريضة بالتناقض، بوقوع الأمة من خلال الامتثال لها في
معصية الله والخروج عن خط الرسالة أو إصابة الأمة أو الرسالة
بالانتكاس، بولاية جاهل أو منافق أو فاسق أو من هو دون مستوى
الرسالة وأهدافها.
2 - أن الله تعالى هو مصدر الشرعية للأولياء وهو المانح للولاية،
وهذا يعني أنهم صادرون عنه وهو الذي قد نصبهم في الولاية، ولا يمكن
أن ينصبهم غيره، إذ يصبح الذي نصبهم مصدر شرعيتهم ومانحة ولايتهم،
ليس الله تعالى، وهذا مصادرة للولاية، وإبطال للفريضة.
ثالثا: تبين خلال البحث أنه لا عزل للإمام بعد تولي، لأن الله تعالى
هو مانح الولاية، لذا لا يملك أحد عزله، وهذا دليل آخر على أن أولي
الأمر المعنيين بالنص في أصل الفريضة، هم جهة صادرة عن الله وهو الذي
قد نصبهم، لا مطلق ولي يستولي أن يوليه الناس، ولو أراد الله مثل ذلك
لأوضح آلية العزل إذا ظهر فسادهم، الأمر الذي لا أثر له في كتاب ولا
سنة.
رابعا: إن الشريعة الإلهية تختلف أهدافها حين تشرع من حيز إلى
آخر، لاختلاف الوظيفة والأثر، وفي موضوع الإمامة، فإن التشريع ناظر
إلى دور الإمام الحاسم في صون الرسالة على أصالتها، وقيادة الأمة على
خطها، لضمانة استمرار الهداية بها إلى يوم الدين، مما اقتضى أن تجعل
الشريعة فريضة الولاية على نحو ليس قابلا بامتثال الأمة له أن يوقع في

155
عكس هذه الأهداف، التي هي الهدف الأساس من الوحي والأنبياء، وهذا
يقتضي عصمة الذين جعل الله لهم الإمامة بعد إمامة خاتم الأنبياء (صلى الله
عليه وآله)، لإكمال الأهداف الربانية من الرسالة، وإنجاز أبعادها التي
تتجاوز زمن الوحي إلى يوم الدين.
جملة من النصوص التي تظهر من هم المعنيون بالفريضة في النص:
إذن يبقى أن نعلم من هم أولوا الأمر المعصومون الذين تعتصم
الأمة بهم من الضلال، الذين نصبهم الله تعالى أولياء على الأمة بعد
رسوله (صلى الله عليه وآله)، وذلك بأن نتبين منه (صلى الله عليه وآله)
وهو الذي جعله تعالى ترجمان وحيه ومفصل كتابه، إذ أمره أن يبين
للناس ما نزل إليهم * (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) *
إذ هذا هو الحال المعهود في القضايا الكبرى وأمهات الفرائض التي
أوجبها تعالى في كتابه العزيز جعلها مجملة وأمر رسوله (صلى الله عليه
وآله) أن يفصلها للناس ويبين لهم ماذا فيها، إذ أن الوحي هو بالنص
والمضمون، والتبليغ يشملها، لذلك فبيانات النبي (صلى الله عليه وآله)
هي جزء من الوحي. ففرض الصلاة ولم يبين كم هي ولا عدد ركعاتها ولا ما فيها من
الأذكار والتلاوة، وفرض الزكاة ولم يبين كم هي في أي من مواردها،
وكذلك الصيام والحج ولم يبين كل تفاصيلهما، وكذلك غيرهما من
الفرائض، بل أمر رسوله (صلى الله عليه وآله) ليبين ذلك، فلا غرابة في

156
ما يكون من ذلك في فريضة الولاية، فلا نتوقع ذكر أسماء الأئمة واحدا
واحدا في فريضة الكتاب العزيز ما دام قد بين حدودها التي إذا تنزه
المؤمن لم يكن معها التباس.
غير أن القرآن الكريم قد ذهب في فريضة الإمامة أبعد مما ذهب
إليه في أمهات الفرائض الأخرى، فحين بين نص أولي الأمر أن الله تعالى
قد جعل على الأمة أولياء طاعتهم كطاعته وطاعة رسوله (ص)، فقد أفاد
بذلك أن هذه الطاعة عاصمة من الضلال كطاعة رسوله، لذلك جعلها
مثلها وشاملة عير مقيدة، ثم بين لنا من هم المعصومون من العباد بنص
التطهير ليدلنا على مصداق الفريضة، وبين لنا صفة في الأولياء لم تكن
في غيرهم أبدا، هؤلاء الذين ولايتهم كولايته وولاية رسوله وذلك بنص
الولاية * (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة
ويؤتون الزكاة وهم راكعون..) * التي علم أنها نزلت في علي (ع) حين
تصدق بخاتمه في الركوع أثناء الصلاة، فعلى الأقل لهذه الجهة قد بين
القرآن أول الأئمة التالين لرسوله (صلى الله عليه وآله)، الذي إذ علم
أولهم فقد علم آخرهم لدلالة كل إمام على من يليه، وكذلك قد بين
نسبهم في أنهم أبناء إبراهيم من ابنه إسماعيل عليه السلام في نص الاجتباء
للشاهدية، فهل بعد من مناص لو ضمت هذه كلها إلى ما دأب النبي
(صلى الله عليه وآله) على تبيانه مرارا وتكرارا لزاد الأمر تأكيدا ودقة في
التحديد أن هؤلاء هم آل محمد (صلى الله عليه وآله).

157
على أن كثيرا من الآيات قد نزلت في أناس فلم تذكر أسماءهم،
إنما علموا من الواقع النزول، ومن اختصاصهم بالفعل الذي نوهت به
النصوص، باستثناء ذكر أبي لهب وامرأته، ولو لم يكن هذا عم النبي
(صلى الله عليه وآله) مما يعجب أعداءه من الطلقاء القرشيين والمنافقين،
لامتدت الأيدي إلى النص بالتحريف، وهل لو ذكرت أسماء الأئمة في
القرآن كانت ستحل عقدة الذين عقدوا العزم على المخالفة؟ وهل أن
تلك النصوص لم تكن كافية؟ وها قد تأولوها ليخرجوها عن دلالتها
ليبرروا ما أمضوه من دفعهم لآل محمد (صلى الله عليه وآله) عن موقعهم
الرباني، وهل كان كلام النبي (صلى الله عليه وآله) المتواتر في مختلف
الحالات والموارد وكذلك قوله وفعله يوم الغدير أقل قدسية وإلزاما من
نصوص الكتاب؟
وها هم لم يوفروا جهدا ليخفوا الحقيقة، فحرقوا ما كان قد
سجل منها على عهد النبي (صلى الله عليه وآله) ومنعوا من الحديث
عنه، ومنعوا من تدوين سنته العقود الطويلة، ثم بعد الإفراج عن السنة
جاء اللاحقون ليتأولوا ما لم يستطيعوا له دفعا لقوة ثبوته ونفوذه عبر
العصور رغم حجب الحجر، أفلوا ذكرت الأسماء في القرآن سيكون
حظها أفضل من حظ كلام النبي (صلى الله عليه وآله) والله تعالى يقول:
* (.. ما آتاكم الرسول فخذوه..) * فخالفوه في حياته وبعد وفاته حتى
أنهم جوزوا عليه الخطأ في غير التبليغ، لكي يجيزوا لأنفسهم مخالفة ما لا
يروق لهم من تعاليمه، خاصة في موضوع خلافته، إذ حينئذ يسهل

158
عليهم الأمر إذ ادعوا أنها صادرة منه أي من سنته، وليس من الكتاب،
علما أن التبليغ لا يقتصر على القرآن، بل يشمل كل أوامر النبي (صلى
الله عليه وآله) وتعاليمه، لأنها إيضاح له وتبيان بأمر من الله، وليس من
خلال فهمه الذاتي، ولولا ذلك لبطل معظم الدين وأكثر الشريعة. ولقد
بدأت هذه الدعوى الباطلة منذ حياة النبي (صلى الله عليه وآله) حين
كان يسأله بعض ذوي الغرض أحيانا عن أشياء يبلغها: أهو من عندك
أم من عند الله؟ فيا للعجب؟ فكان يؤكد لهم ويقسم أنه لا يصدر عن
نفسه بل لا يصدر إلا عن الله تعالى. ولقد حسم تعالى الأمر حين قال:
* (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) *. ولقد شرع تعالى
وظيفة النبي في التبيان وجعلها جزءا من التبليغ بقوله * (وأنزلنا إليك
الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) *. ومن الواضح أن التبيان ليس للنص
فحسب بل للمضمون كذلك، وإلا لأمتنع التبيان لنقص في غرضه،
ولقد أمر تعالى الناس بالأخذ بما يصدر عن النبي (صلى الله عليه وآله)
* (.. وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا..) * وبطاعة
النبي (صلى الله عليه وآله) التي جعلها جزءا من طاعته * (من يطع
الرسول فقد أطاع الله) * مما يجعل كل ما له علاقة بالدين من قوله وفعله
جزءا من التبليغ، ويجعل هذا التمييز بين الكتاب والسنة تمييزا مصطنعا
مخالفا لصريح القرآن الكريم، يراد منه النفوذ إلى الدين بما يناسب
أغراض الذين ابتدعوه. ومما يؤسف له ويثير العجب أن أحد المحدثين،
وتجديدا لأباطيل أموية من حيث لا يدري حول آية * (ومناة الثالثة

159
الأخرى) *، جاءنا بالمزيد، بأن جوز نظريا عليه الخطأ حتى في تبليغ
القرآن، على أن يعود إلى التصحيح، الأمر الذي لو تأسس في الفكر
الإسلامي فتح ثغرة للشك في كل شئ حتى القرآن، ذلك لأن طبيعة
الموضوع تجعله غير خاضع لأساليب الاستقراء التي يدعي أنها تحل
الإشكال بتأكيد صحة التصحيح إذا اعترض أحد بأنه إذا جاز خطأه في
الأول فيجوز في الثاني، إذ أن أساليب الاستقراء في أحسن الأحوال تقود
إلى الظن لا إلى اليقين، وإلى الاختلاف في نتائجه حسب قوة القرائن التي
يعتمد عليها، مما يجعل مستحيلا تحصيل اليقين ووحدة الرأي في صحة
أي نص يراد الشك به. وهل من شاهد على الوحي؟ لذا كان لا بد من
التصديق ابتداء بعصمة التبليغ، ومثله بعصمة الوظائف المتصلة بالنبوة، مما
يترتب عليه صحة الرسالة، بل لولا عصمة النبي المطلقة لسقطت عصمة
التبليغ، لأننا لا نعلم حينئذ إن كان ما ينقله إلينا بلاغا عن الله أو كلاما
من الله أم تطوعا منه وادعاء حاشا لله.
على أنهم وإصرارا على ذلك النهج، رغم معارضته لصريح
الكتاب وللمنطق السديد، قد دسوا الروايات المختلقة ليؤيدوا توجهاتهم
التي يدعون فيها أخطاء للرسول ليس فقط على مستوى القرار، بل على
مستوى السلوك الشخصي، بل وتصل أحيانا إلى مستوى السذاجة أو
فقدان النزاهة، أو عدم التنزه حتى عن ما يتنزه عنه الإنسان العادي،
لكننا نجده حين جاءه أحد الصحابة يستفسر منه عن نهي قريش له عن
عنايته بكتابة أحاديثه والسخرية منه لذلك، وقولهم له إنه بشر يخطئ

160
ويصيب، وأن القرآن يغني عن ذلك، نجده يقسم بالله في إشارة إلى
لسانه * (.. والله ما ينطق إلا بالحق..) * ويحثه على الكتابة عنه خلافا لما
أمروه به (1). وهنا تجدر ملاحظة أن الذين كنى عنهم ناقل الرواية
بقريش لا شك أنهم ممن كان يحسب لهم الحساب في زمن نقل الرواية،
أو لا يروق لأهل السلطة في حينه بالتحديث بما قد يسئ إلى صورتهم
وأنهم جماعة وليسوا واحدا، قد كانوا على مثل هذه العقيدة بالنبي (صلى
الله عليه وآله)، ومثل هذا الموقف من كل ما يصدر عنه من غير القرآن
الكريم، وأنهم كانوا وفي حياة النبي (صلى الله عليه وآله) يروجون
لدعواهم ويؤسسون لها، رغم كل ما بدر عن النبي (صلى الله عليه وآله)
من توضيح للحقيقة الناصعة، ورغم النصوص القرآنية الكثيرة التي تثبت
عكس ما يقولون، كما أسلفنا قبل حين.
ومما له مغزى في فهم سير الأحداث، أن نجد أن هذا الكلام من
قريش هو أساس ومنشأ مخالفة الصحابة لأوامر النبي (صلى الله عليه
وآله) في الموارد التي ذكرنا نماذج عنها في مبحث مجتمع
الصحابة، والأساس لمثل هذا النمط من السلوك في ذلك المجتمع، وأنه
الأساس في وقوع جماعتهم في تلك المعصية الكبرى والتمرد الجماعي
على أوامر الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) حين طعنوا بتأميره أسامة
عليهم، وتخلفوا عن البعث رغم إصرار النبي (صلى الله عليه وآله)
والإلحاح في ذلك، وبينما كانوا متلبسين بهذه المعصية التي لم تنته فصولها



(1) ذكرناه مع مصدره في حاشية الفصل الأول.
161
بعد، إذا بهم يقعون ثانية في واحدة من أخطر أخطائهم على مستوى
الجماعة، ترجمة للمنطق ذاته المذكور أعلاه حين طلب إليهم النبي
(صلى الله عليه وآله) وهو يحتضر أن يحضروا له كتفا وقلما ليكتب لهم
عهدا لن يضلوا بعده أبدا، فانقسموا على أنفسهم بعد أن تصدى له
عمر بتلك المقولة المحزنة عندنا كتاب الله حسبنا كتاب الله، فوجد من
يؤيده ويقول مقولته، فكانت تلك الجرأة امتدادا لمقالة قريش، وكان هذا
التأييد الذي لقيته، تعبيرا عن قوة الجماعة بين صفوف الصحابة، مما دفع
بالنبي (صلى الله عليه وآله) أن يقول لهم قوموا عني غضبا منهم، لعلمه
بمدى التصميم لدى القوم على فعل أي شئ حتى اتهامه بالهجر، فلو
كتب العهد اتخذوه دليلا على دعواهم، فمنعوا بذلك النبي (صلى الله
عليه وآله) من الكتابة، رغم أن العهد كان قائما قبل ذلك وساريا
ومؤكدا بالبيعة لعلي في غدير خم، وبالتأكيد المستمر على مرجعية آل
محمد (صلى الله عليه وآله)، لكن هذا يظهر مدى التصميم على رفضهم
لذلك، فهل إن حظ النصوص القرآنية سيكون أقل تعديا في حال
ذكرت أسماء الأئمة مباشرة؟ وهل النبي (صلى الله عليه وآله) في ذاته
وفي الانصياع لأوامره أقل قدسية من نصوص الكتاب؟ وهل أن معصية
النبي (صلى الله عليه وآله) المتكررة، واتهامه بالحيف، والتمرد على أوامره
في بعث أسامة، وعلى أوامره لمنعه من كتابة الكتاب، بل واتهامه بالهجر،
هل كل هذا أو بعضه أقل خطرا وأهون عند الله من معصيتهم لوصيه
وتمردهم على ولايته؟ بل لعل الله تعالى لعلمه بحال الناس، لم يذكر
الأسماء مباشرة بعد أن ذكر عنهم ما فيه الكفاية، وعرف عنهم بما يغني

162
لمن شاء الانصياع، حتى لا يكون سببا لامتداد الأيدي إلى نصوص
الكتاب، والله العالم بما هم عليه من التصميم على رفض ولاية آل
محمد (صلى الله عليه وآله) منذ حياة رسوله الكريم (صلى الله عليه وآله).
فلنستعرض جملة من النصوص القرآنية والنبوية على سبيل الإحاطة
والاستقصاء، والتي كلها تظهر مرجعية آل محمد (صلى الله عليه وآله).
بعض النصوص القرآنية:
نص التطهير * (إنما يريد الله أن يذهب عنكم الرجس أهل البيت
ويطهر كم تطهيرا) * من هذا النص العظيم نعلم عصمة أهل البيت، محمد
وآله (صلى الله عليه وآله)، هذه الصفة اللازمة للولاية العاصمة للرسالة
والأمة، التي أقرها نص أولي الأمر، فدل بذلك على أنهم مصداق هذه
الولاية وأصحابها.
وهذا النص على وضوحه قد تعرض كغيره من المحكمات إلى
المحاولات اليائسة، تارة لإخراجه عن آل محمد (صلى الله عليه وآله)،
وتارة بتأوله لإخراجه عن دلالته الظاهرة في العصمة، ولسنا هنا في مورد
التفصيل في هذا البحث، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى الكتاب القيم (
العصمة للعلامة السيد كمال الحيدري)، إنما نشير هنا إلى بعض النقاط
الأساسية التي نظن أنها لم تلحظ في كتابات أخرى.
أولا: من المعلوم أن أهل البيت (ع) المعنيين هنا هم محمد وآله
(صلى الله عليه وآله)، فالذي لا يقبل الجدل أن أخا رسول الله

163
علي (ع) وسيدة نساء العالمين فاطمة (ع) وبنوهما (ع) هم الآل
المطهرون (1)، والخلاف يقع مع بعض من الذين لم ينصاعوا لولايتهم
حين يدعون أن زوجات النبي (صلى الله عليه وآله)، داخلون في ذلك



(1) نزول هذه الآية في أهل البيت (ع)، وأنهم محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم
الصلاة والسلام، وقد أقر به جمع غفير من علماء السنة، نذكر منهم على سبيل المثال:
صحيح مسلم، الترمذي، مسند أحمد، مستدرك الحاكم، خصائص النسائي، تلخيص
الذهبي، معجم الطبراني، شواهد التنزيل للحسكاني، البخاري في التاريخ الكبير، الإصابة
لابن حجر العسقلاني، تذكرة الخواص لابن الجوزي، تفسير الرازي، ينابيع المودة،
مناقب الخوارزمي، السيرة الحلبية، السيرة الدحلانية، أسد الغابة لابن الأثير، تفسير
الطبري، الدر المنثور للسيوطي، تاريخ ابن عساكر، تفسير الكشاف للزمخشري، أحكام
القرآن لبن العربي، تفسير القرطبي، الصواعق المحرقة لابن حجر، الإستيعاب لابن عبد البر،
العقد الفريد لابن عبد ربه، منتخب كنز العمال، مصابيح السنة للبغوي، أسباب النزول
للواحدي، تفسير ابن كثير، وغيرها الكثير، فليراجع فيه الملحق التوثيقي بذيل المراجعات
ط 2 بيروت 1982 من أجل معرفة المصادر مع طبعاتها وصفحاتها.
وننقل عن الشيخ معتصم سيد أحمد في كتابه الحقيقة الضائعة " لم يقل أحد أن آية التطهير
نازلة في أزواج النبي (ص) إلا عكرمة ومقاتل " ثم أشار إلى " اشتهار عكرمة بالكذب على
ابن عباس، حتى كان ابن المسيب يقول لمولى له اسمه برد: لا تكذب علي كما كذب
عكرمة على ابن عباس، وفي ميزان الاعتدال أن ابن عمر قال ذلك أيضا لمولاه نافع " وفي
وفيات الأعيان ج 1 ص 320 " يقول عبد الله بن أبي الحرث: دخلت على ابن عبد الله بن
عباس وعكرمة موقف على باب الكنيف، فقلت: أتفلون هذا بمولاكم؟ فقال: إن هذا
يكذب على أبي " وأما مقاتل فعده النسائي في جملة الكذابين المعروفين بوضع الحديث
(دلائل الصدق ج 2 ص 95). وقال الجوزجاني كما في ترجمة مقاتل من ميزان الذهب:
كان مقاتل كذابا جسورا (الكلمة الغراء لشرف الدين ص 217). وقال للمهدي
العباسي: إن شئت وضعت لك أحاديث في العباس، قال: لا حاجة لي فيها (الغدير ج 5
ص 266). وعكرمة ومقاتل كانا معروفين بكرههما وعداوتهما لعلي (ع).
164
لإخراجه عن المضمون الحقيقي، ليس اعتمادا على نص يمكن الركون
إلى صحته يوضح ذلك، بل اعتمادا على أن النص قد جاء في المصحف
الشريف في سياق آيات تخاطب زوجات النبي (صلى الله عليه وآله)
علما أن السياق لا يقوم دليلا بذاته حين توفر أسباب للنزول متعددة
لجملة من الآيات التي تم جمعها في سياق واحد، إذ هذا يغلب على ما قد
يظهر من السياق، لأن القرآن نزل منجما ولم يتم جمعه على أسباب
النزول، على أنه من المتفق عليه أن النبي (صلى الله عليه وآله) في
مناسبات عديدة قد أشار إلى أن أهل بيته هم على وفاطمة عليهما
السلام قبل أن يكون لهما ولد، وأنهم هما والحسن والحسين عليهم
السلام بعد أن ولداهما، مما يشير إلى أن آل محمد (صلى الله عليه وآله)
هم إلى جانب سيدهم الأكبر محمد (صلى الله عليه وآله) علي وفاطمة
وبنوهما سلام الله عليهم جميعا، وكانت هذه الإشارة في كثير من
المناسبات، مثل زواج علي وفاطمة (ع)، ومثل جمعهم تحت الكساء
الذي تكرر في عدة مواقف، ومثل وقوفه (صلى الله عليه وآله) على
بابهم وقت كل صلاة لدعوتهم إلى الصلاة مدة 9 شهور، وكان دوما
يقرن هذا التحديد مع قراءة آية التطهير، ليعلم أن هذا النص يعني هؤلاء
دون غيرهم، وفي مراجعة أسباب النزول التي يقر بها كل من السنة
والشيعة، نجد أن النزول كان مترافقا مع جمع هؤلاء مع النبي (صلى الله
عليه وآله) تحت الكساء، ولقد سمي بعد ذلك بحديث الكساء، وهو نص
متواتر بين العامة والخاصة، لذا لا مجال للتشكيك بسنده مع تواتره، علما
أن معظم طرقه صحيحة السند لدى الجمهور، فيكون التشكيك بسنده

165
من قبيل الجهل بهذه الحقائق، وليراجع البحث التوثيقي للحديث في
كتاب العصمة (1) الذي نوهنا به قبل قليل، وهذا كله يؤدي بنا إلى
قول بأن اعتبار أهل البيت (ع) أنهم هم محمد وآله (صلى الله عليه
وآله) هو مما يوافق الواقع الذي لكل إنسان في أهل بيته من جهة أولى،
وهو مؤيد بالنص النبوي المتفق عليه من جهة أخرى، أما الدعوى بأن
الزوجات فيهم، فلا تعتمد على نص صحيح يؤيده، بل يعتمد على
سياق الآيات، الأمر الذي لا يصلح دليلا على سبب النزول في هذا
المورد أو غيره من آيات القرآن في وجه أسباب نزول معلومة، هذا من
جهة أولى، بينما نجد في عدة روايات موثقة لحديث الكساء لدى
صحاح السنة مروية عن أمهات المؤمنين أم سلمة (ر) وعائشة (ر) أن
زوجات النبي (صلى الله عليه وآله) مستثنون من الآل، وهكذا لا يبقى
من سبب وجيه للإدعاء بذلك.
إن هذه الحقيقة ليست أمرا جدليا نظريا، بل أمر بالغ الأهمية لأن
هذه الصفة، آل محمد (صلى الله عليه وآله)، ليست حالة من القرابة



(1) كتاب العصمة للسيد كمال الحيدري، وكذلك يراجع الملحق التوثيقي للعلامة الشيخ
حسين الراضي بذيل المراجعات ط 2 بيروت 1982 حيث أثبت المصادر الكثيرة لحديث
الكساء وفي مختلف مناسباته ص 28، 29، 40، 41، 42، 43، ويذكر الشيخ معتصم
سيد أحمد في كتابه (الحقيقة الضائعة ص 96) في كلامه عن حديث الكساء وأنه في
النبي (ص) وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام " وهو من الأخبار الصحيحة
المتواترة لم يضعفه أحد من الأولين والآخرين، ويطول بنا المقام إذا ذكرنا كل هذه
الروايات، فإنا أحصيت منها سبعا وعشرين رواية كلها صحيحة ".
166
توازي حالة أي امرئ مع أهل بيته، بل هي منزلة ربانية المنشأ، على
علاقة وثيقة بالدين والرسالة الخاتمة، ولا عذر لأي مسلم لا يعلم بها،
مهما بلغ من البساطة وضالة العلم، ولئن كانت الأدلة الساطعة قائمة
عليها بوفرة في القرآن والسنة، فإنما إلى جانب ذلك، قد ذكر بها تعالى
المسلم خمس مرات كل يوم في صلاته حين يصلي على محمد وآل محمد
(صلى الله عليه وآله)، وإذ جعلها جزءا من الصلاة، كما عبر عنه الإمام
الشافعي " من لا يصلي عليكم لا صلاة له ". لذلك ليس عسيرا أن
يدرك المسلم حتى الساذج، أن الصلاة على محمد وآله (صلى الله عليه
وآله) التي هي جزء من الصلاة يتعبد بها إلى الله ويتقرب بها إليه، إنما هي
تعبير عن منزلة فرضها الله تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله) العظيم
الذي أخرج تعالى به الناس من الظلمات إلى النور، وبالمثل فإننا نضيف
إليه آله بالصلاة عليه وعليهم (1)، فليس ذلك لقرابتهم منه (صلى الله



عن قوله تعالى * (أن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا
تسليما) *، وفي كيفية الصلاة والسلام على النبي (ص)، يراجع في ذلك صحيح البخاري
ج 6 / 27 ط دار الفكر، صحيح مسلم ج 2 / 16 ط شركة الإعلانات، الترمذي ج
1 / 301 ح 481 و ج 5 / 38 ط دار الفكر، النسائي ج 3 / 45 - 49، سنن ابن
ماجة ج 1 / 292 ح 903 سنن ابن داوود ج 1 / 257 ح 976، أسباب النزول
للواحدي ص 207، المستدرك للحاكم ج 1 / 268، مسند أحمد ج 2 / 47 و ج 5 /
353 ط الميمنية بمصر، موطأ مالك المطبوع مع شرحه تنوير الحوالك ج 1 / 179، ومثله
تفسير القرطبي وابن كثير والفخر الرأي والدر المنثور، وللمزيد حول هذا مع مصادره
والجزء والصفحة وكذلك حول أن الصلاة على محمد وآله جزء من الصلاة، يراجع
الملحق التوثيقي بذيل المراجعات ط 2 بيروت 1982 ص 72.
167
عليه وآله)، ولو قبلنا بهذا سببا لهذه الصلاة، لكان اتهاما لله ورسوله
بمحاباة بعض الناس لقرابتهم من النبي وانتسابهم إليه ودون استحقاق،
بينما الإسلام لم يجعل النسب في ذاته مما يميز بين الناس لا في الدنيا ولا
الآخرة * (.. لا أنساب بينهم يومئذ..) * بل لم يجعل فضلا لأحد على
أحد فردا أو جماعة إلا بالعمل والخصائص الذاتية من الطهر والعلم
والتقوى والصلاح والقرب من الله، وهذا مما لا يحتاج إلى نقاش ولا
استدلال فهو من مسلمات الدين والقرآن، إذن هذه الصلاة على الآل
مع النبي (صلى الله عليه وآله) قطعا ليست تفضيلا لهم لانتسابهم له
فحسب، وإذ كانت صلاتنا عليه (صلى الله عليه وآله) تنويها بمنزلته من
الأمة والرسالة وعند الله تعالى، فاقتضى حكما أن تكون صلاتنا على آله
لمنزلة جعلها الله لهم كما جعل المنزلة لنبيه، ولم يكن تفضيله لهم على
الناس لمجرد القرابة منه (صلى الله عليه وآله).
ويؤيد هذا، حين يعلم المسلم بأن الله تعالى قد جعل أجر الرسالة
من الناس للنبي (صلى الله عليه وآله) مودته في قرباه * (قل لا أسألكم
عليه أجرا إلا المودة في القربى) * فلم يكن النبي (صلى الله عليه وآله) ولا
كان الله تعالى ليأمره، أن يطلب إلينا مودة قرباه لمجرد قرابتهم منه
وانتسابهم إليه، فلقد تنزه النبي (صلى الله عليه وآله) عن مثل هذه
المحاباة، وتعالى رب العزة والجلال عن مثل هذا العبث، ومن يدعي ذلك
فإنه كمن يتهم النبي (صلى الله عليه وآله) في نزاهته وعدالته وصدق
نبوته، إذ أن هذا التصرف يصدر عن الملوك والسلاطين، لا عن الأنبياء

168
المرسلين من الله، الذين لا يصدرون إلا عن أمره، والحق الذي لا مرية
فيه، إن صاحب الرسالة المتنزه عن العيوب، والمتصف بالعدالة والحكمة
وكمال النفس والأخلاق، إذ لم يكن ليطلب أجرا على رسالة بلغها
ودولة أقامها، ومجتمع أسسه، ونظام أرساه، ونور من الله أضاء به درب
البشرية، ولم يكن في وجدانه ليحرص على أي شئ أكثر من حرصه
على حفظ رسالته، لذا لم يكن أي أمر ليصلح لذلك أجرا، كمثل
المحافظة على ما قد أنجز، لذلك إن طلب أجرا، فلا بد أنه مما يرجى منه
حفظها واستمراريتها، ولا بد أنه من مقتضيات ذلك، لذا كانت مودته
في قرباه أجره الذي يترجم إرادته بذلك، وكانت هذه المودة سبيلا لمن
شاء أن يسلك السبيل إلى الله * (ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن
يتخذ إلى ربه سبيلا) * فما أسألكم عليه من أجر (أي مودته في قرباه)
ليس بالأجر الشخصي لنفسي، بل ليس إلا سبيلا إلى الله لمن شاء أن
يتخذ إليه سبيلا، ثم كان هذا الأجر الذي سأله عائدا على الناس لما فيه
هدايتهم لا على النبي (صلى الله عليه وآله) شخصيا * (ما أسألكم عليه
من أجر فهو لكم) *. ولم تكن هذه المودة سبيلا إلى الله، وخيره عائدا
عليهم إلا لأنه يريد منها انقياد الأمة لهم من خلال وظيفتهم في الرسالة
وحفظها.
من هذا يظهر جليا أن عبارة " آل محمد (صلى الله عليه وآله) " أو
" أهل البيت (ع) " ليست لتقارن بقولنا آل فلان أو أهل بيت فلان من
الناس، التي هي علاقة بشرية الطابع، بل هذه تعبير عن منزلة جعلها الله

169
تعالى للمعنيين بها في رسالته وفضلهم بها على الناس، وهكذا نفهم
بوضوح أن زوجات النبي (صلى الله عليه وآله) رضي الله عنهن لا علاقة
لهن من قريب أو بعيد بمنزلة من هذا القبيل، فعلاقتهن الزوجية من النبي
(صلى الله عليه وآله) علاقة شخصية إنسانية الطابع، لا علاقة بالرسالة
وشؤونها، مما يخرجهن تلقائيا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)
ومنزلتهم، وما كان لهن من مؤهل من أي نوع لا ذاتي فيهن ولا
لكونهن زوجات النبي (صلى الله عليه وآله)، ليترتب عليه موقع خاص
في الرسالة، ولا وظيفة من وظائفها التي تقضي بهذا التفصيل، بينما
المعنيون بعبارة الآل والمنزلة المتعلقة بها، هم على خلاف ذلك، من آل
إبراهيم (ع) الذين اصطفى على العالمين * (واصطفينا آدم ونوحا وآل
إبراهيم وآل عمران على العالمين) * ومن الذرية التي جعل فيها تعالى
النبوة والكتاب * (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة
والكتاب) *، وهكذا نعلم أننا إذ نصلي على محمد وآل محمد (صلى الله
عليه وآله)، وإذ أمرنا تعالى بمودتهم، فما ذلك إلا لمنزلتهم التي تندرج في
هذا الاصطفاء الرباني لآل إبراهيم (صلى الله عليه وآله)، علما أن الصلاة
الإبراهيمية المتواترة رواية لدى جميع المسلمين، والمعلومة بالتواتر في السنة
العملية لدى جميعهم، مما يقطع بصدورها عن النبي (صلى الله عليه وآله)،
فإنها تركز هذا الفهم وتثبته في أذهان المسلمين في أنها تقرن وتوازي
الصلاة على محمد وآل محمد بالصلاة على إبراهيم وآله، وتجعلها من
خلالها، ليعلم أنه وآله من ذرية إبراهيم المصطفاة على العالمين، وإن

170
استقصاء النصوص الإبراهيمية في تفسير موضوعي تجلي هذه الحقيقة،
وهو ما سيجده القارئ لاحقا خلال البحث المفصل في تفسير آية
الاجتباء للشاهدية من هذا الكتاب.
بعد هذا نعود إلى دلالة آية التطهير على عصمة آل محمد (صلى
الله عليه وآله): إن إذهاب الرجس يعني نفي كل فعل من السوء صغيرا
أم كبيرا، ويعني نفي الضلال تماما لأن كل ذلك من الرجس الذي يعتري
الإنسان، وإذ لا خلاف في الدلالة اللغوية للنص يبرز ادعاء البعض بأن
الإرادة الربانية هنا موقوفة على العمل والالتزام بما أمر الله وشرع، أي
موقوفة على إرادتهم هم بالالتزام بذلك، فتكون إرادة الله متعلقة بما سن
من شرائع لإذهاب الرجس، ولئن ظهرت غرابة هذا المنطق فإن خطأه
أظهر لما يقتضيه من إضافة عنصر على الآية خارج عنها في عملية إسقاط
لا ضرورة له لاكتمال المعنى بدونه، فضلا عن ذلك فالإضافة لو قبلنا بها
على سبيل الجدل، فإن النص يبقى دالا على تعلق الإرادة بإذهاب
الرجس، وما تقدير التشريع إلا من قبيل افتراض الواسطة التي يريد تعالى
بها إتمام متعلق الإرادة الذي هو إذهاب الرجس كما يدل سياق النص،
فيكون سن تلك التعاليم من ضمن الإرادة القاضية بإذهاب الرجس،
وقد تكون الواسطة التي قرر تعالى بها إذهاب الرجس عنهم أمرا آخر
يعلمه هو سبحانه، الذي خلق لكل خلق مقاديره، وقوله المؤكد ب‍
* (إنما) * ثم لام التأكيد * (ليذهب) * يشير إلى تأكيد مكرر للإرادة الإلهية
في إذهاب الرجس عنهم، وجاء التعبير بصيغة المضارع من قبيل التأكيد

171
على حقيقة كائنة لا ريب فيها كقوله * (إن الله يصطفي من الملائكة
والناس رسلا) * فعبر عنه بالمضارع كحقيقة ناجزة. فإرادة الله ناجزة لا
تكون موقوفة خلافا لإرادة المخلوقين، وهي إذا صدرت حصلت * (إنما
شأنه إذا أراد الله شيئا أن يقول له كن فيكون) * فالنص يعبر عن إرادة
إلهية مؤكدة، قائمة كحقيقة راهنة، لا مفر منها في إذهاب الرجس عن
أهل البيت (ع).
وفي المحصلة فإن هذا النص العظيم يدل على أن الله تعالى قد عصم
آل محمد (صلى الله عليه وآله) وأنهم هم مصداق الولاية العاصمة للأمة
التي فرضها لهم بنص أولي الأمر (1).
2 - آية الولاية * (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين
يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) * والروايات في نزولها
بعلي (ع) مستفيضة وإليه ذهب تقريبا جميع المفسرين، وهي ذكرت أول
الأئمة بصفة ليست في أحد غيره ليعلمه الناس. فإن علم أول الأولياء
علموا جميعا لدلالة السابق على اللاحق. ولتفصيل النقاش حول هذا
النص يرجع إليه في مكانه في هذا الكتاب.



(1) وهذا ما أشار إليه أمير المؤمنين علي (ع) بقوله " إن الله عز وجل فضلنا أهل البيت، وكيف
لا يكون كذلك والله عز وجل يقول في كتابه * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل
البيت ويطهركم تطهيرا) * فقد طهرنا الله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، فنحن على
منهاج الحق "، فالضلال هو من الرجس وأهم ما فيه فالذين أذهب عنهم الله الرجس،
يكونون على منهاج الحق، واتباع الناس لهم عصمة من الضلال.
172
3 - آية الاجتباء للشاهدية، وللتفصيل والمناقشة تراجع في
مكانها من هذا الكتاب. وفيها تحديد للشاهدين بأنهم من ذرية إبراهيم
من ابنه إسماعيل عليهما السلام، وآل محمد (صلى الله عليه وآله) هم
الأساس والجوهر في هذه الذرية في عصر القرآن الكريم، فلا يكون
عسيرا معرفتهم بعد كل التفضيل الذي جعله لهم على بقية الناس في
الصلاة عليهم ووجوب مودتهم ومن النصوص النبوية المتواترة التي
سنستعرض بعضها بعد حين، علما أن الشاهدية من وظائف الإمامة
كما سيأتي بيانه.
نصوص نبوية شريفة:
لنلاحظ هنا أننا سنأتي فقط بالنصوص النبوية التي اتفق المسلمون
جميعا على صدورها عن النبي (صلى الله عليه وآله)، لذلك سنأتي
بمصدرها من صحاح أهل السنة لا من صحاح الشيعة.
أولا: حديث الثقلين:
(إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا، كتاب الله
وعترتي أهل بيتي، فلا تتقدموهما فتهلكوا ولا تتأخروا عنهما فتهلكوا، ولا
تعلموهما فإنهما أعلم منكم وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى
يردا علي الحوض) (1).



(1) الترمذي والنسائي عن جابر ونقله الهندي وهو في ص 44 من كنز العمال الجزء الأول،
والترمذي عن زيد بن أرقم الحديث 874 من الكنز ص 44 ج 1. وبألفاظ متعددة لها
173
والعبارة واضحة في أن العترة هم المرجعية الصالحة للأمة التي بها
ترتبط مرجعية القرآن، فلا تكتمل الهداية ولا يمتنع الضلال إلا بهما معا،
فلا مجال للإدعاء أن ذلك فقط في حيز التعلم والإرشاد من شأن
الرسالة، لأن الرسالة هي الناظم لحياة الأمة، والمهين على كل شؤونها
بما فيها الحاكمية العليا، لذا فهذا النص والنصوص التي تليه تدل على أن
الأمة في كل شؤونها تعتصم بهم من الضلالة، وأنهم في محل الرأس من
الجسد وفي موقع الحاكمية العليا.



ذات المعنى: الإمام أحمد في المسند عن زيد بن ثابت بطريقين صحيحين ص 182، و
189، الحكم على شرط الشيخين ص 148 من المستدرك والإمام أحمد عن أبي سعيد
الخدري بطريقين صحيحين في المسند ص 17 و 26، والحاكم في سياق حديث الغدير
عن زيد ابن أرقم في المستدرك ص 109 و 533 بطريقين والطبراني عن عبد الله بن
حنطب كما في الأربعين للنبهاني وابن حجر في الصواعق ص 75، وغيرها الكثير، ولقد
أحصى العلامة الشيخ حسين الراضي في ملحقه التوثيقي بذيل المراجعات ط 2 ببيروت
1982 خمسا وثلاثين صحابيا ذكر أسمائهم تنتهي إليهم أسانيد الحديث الكثيرة، وتمكن
مراجعة المصادر موثقة هناك، فهو حديث متواتر وله ألفاظ عديدة وكلها تفيد التمسك
بالقرآن والعترة الطاهرة. قال ابن حجر الشافعي " ثم علم أن لحديث التمسك بذلك
(الثقلين) طرقا كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابيا... الخ " كما جاء في الصواعق
المحرقة ص 148 ط المحمدية وص 89 ط المنية بمصر، وفي ينابيع المودة ص 296 ط
إسلامبول. ولقد ذكر الكاتب السوداني الشيخ معتصم سيد أحمد، في كتابه (الحقيقة
الضائعة، ص 65 و 66 و 67 ط دار المحجة البيضاء - بيروت 1966 م) ما نصه: " لقد
تواتر هذا الحديث عن مجموعة من الصحابة إليك بعض أسمائهم، فذكر منهم 24
صحابيا، ثم قال: وقد تواتر هذا النقل في عهد التابعين أيضا، وإليك بعضهم، فذكر أسماء
19 تابعيا، وذكر عدد الناقلين خلال القرون: الثاني 36، الثالث: 69، الرابع: 38،
الخامس: 21، السادس: 27، السابع: 21، الثامن: 24،... إلخ ".
174
فانظر كيف أنه يحمل ذات الدلالات التي حملها لنا نص أولي
الأمر:
وجوب التمسك بالكتاب والعترة، ويفسر النص ذاته هذا التمسك
بالملازمة وذلك بعدم التقدم والتأخر، أي بالطاعة الشاملة التي تمثل الولاية
العامة.
أن هذا السبيل عاصم من الضلال كليا (لن تضلوا بعدي أبدا).
أن العترة كالقرآن لديهم علوم ليست لدى الأمة، فهي والكتاب
أعلم.
وأن هذه الولاية مستمرة إلى يوم القيامة.
وأنها بمنزلة الكتاب، فلا تكون العصمة من الضلال إلا بهما معا.
فهذا كله يؤكد ما يظهر من نص أولي الأمر، ويبين أن أولي الأمر
الذين فرض تعالى ولايتهم العامة هم آل محمد (صلى الله عليه وآله)
تحديدا. ولا لبس في من هم الآل الأطهار، بعد بيانات النبي (صلى الله عليه
وآله) الوافرة في كثير من المناسبات كما سبق الذكر.
ثانيا: (وليقتد بأهل بيتي من بعدي، فإنهم عترتي، خلقوا من طينتي
ورزقوا فهمي وعلمي) (1). وفي روايات أخرى (فإنهم لن يخرجوكم من
هدى ولن يدخلوكم في باب ضلالة) (2)



(1) كنز العمال ج 6 حديث رقم 3819، ومسند أحمد: 5 / 94،
(2) كنز العمال (12) الفصل الثاني في فضائل علي،
175
ثالثا: (في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي ينفون عن هذا
الدين تحريف الضالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ألا وإن
أئمتكم وفدكم إلى الله فانظروا من توفدون) (1).
رابعا: (إن مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجى ومن
تركها غرق) (2) وهو من الأحاديث المتواترة.
خامسا: " إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجى
ومن تخلف عنها غرق، وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني
إسرائيل من دخله غفر له " (3).
سادسا: النجوم أمان أهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي
من الاختلاف، فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب
إبليس " (4).
سابعا: عن زياد بن مطرف " سمعت رسول الله (صلى الله عليه
وآله) يقول: (من أحب أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويدخل الجنة التي



(1) أخرجه الملا في سيرته كما في تفسير قوله تعالى * (وقفوهم فإنهم مسؤولون) * ص 90 من
الصواعق لابن حجر.
(2) الحاكم في المستدرك ج 3 عن أبي ذر ص 151.
(3) الطبراني في الأوسط عن أبي سعيد وهو الحديث 18 من الأربعين الخامسة والعشرين في
أربعين الأربعين للنبهاني ص 216،
(4) الحاكم في المستدرك عن ابن عباس ص 149 من ج 3.
176
وعدني ربي، وهي جنة الخلد، فليتول عليا وذريته من بعده، فإنهم لن
يخرجوكم باب هدى، ولن يدخلوكم باب ضلالة) (1).
وهناك نصوص نبوية كثيرة في صحاح أهل الستة، بعضها متواتر
كحديث الثقلين تفيد القطع، وبعضها متفاوت الشهرة مع اتفاق جميعها
على ذات المدلول لتفيد التواتر والقطع فيما اتفقت عليه من مضمون.
ثامنا: حديث الغدير (2): (.. ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم، قالوا
بلى، قال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والي من والاه وعادي من
عاداه، وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه كيفما دار).



(1) الحديث 2578 من الكنز ص 155 من ج 6، ومثله عن ابن عباس كل من الطبراني في
الكبير والرافعي في مسنده وهو الحديث 3819 من الكنز ص 217 ج 6، وعن زيد
الحاكم في المستدرك ج 3 ص 128، وللمزيد من هذه الأحاديث الصحيحة وحول الذي
ذكرناها، يراجع الملحق التوثيقي بذيل المراجعات ط 2 بيروت 1982 لمعرفة المصادر ص
24 ولغاية ص 30، وتجد هناك أيضا كثيرا من الصحاح التي تتفق بالمدلول على مرجعية
علي (ع) وأهل البيت (ع) وعلى ولايتهم.
(2) عن الملحق للعلامة الشيخ حسين راضي بذيل كتاب المراجعات ط 2 بيروت 1982
رواه أحمد بن حنبل من 40 طريقا، وابن جرير الطبري من 72 طريقا، والجزري المقري
من 80 طريقا وابن عقدة من 105 طرق وأبو سعيد السجستاني من 120 طريقا، وأبو
بكر الجعابي من 125 طريقا، محمد اليمني ذكر أنه له 150 طريقا، ورواه أبو العلاء
العطار الهمداني من 250 طريقا، مسعود السجتاني يرويه ب‍ (1300) إسناد، وقال
الشيخ عبد الله الشافعي في كتابه المناقب ص 108 (مخطوط) وهذا الخبر أي حديث
الغدير، قد تجاوز حد التواتر، فلا يوجد خبر قط نقل من طرق كهذه الطرق... كما في إحقاق الحق ج 6 / 290،
ولقد ألف محمد بن مسعود الطبري المتوفى 310 ه كتاب الولاية في طرق حديث
الغدير، رواه فيه بخمس وسبعين طريقا وذكر بن كثير في البداية والنهاية ج 11 ص 147
".. وقد رأيت له (أي الطبري) كتابا جمع فيه أحاديث الغدير في مجلدين فخمين وكتابا
جمع فيه حديث الطير المشوي " وأبو العباس أحمد بن عقدة المتوفى 333 ه له كتاب
الولاية رواه فيه بمائة وخمس طرق، وأبو بكر الجعابي المتوفى 355 ه‍ له كتاب م (من
روى حديث غدير خم) رواه بمائة وخمسة وعشرين طريقا ولقد ذكر الشيخ الراضي في
الملحق المذكور أسماء الصحابة الذين رووه فبلغوا 116 صحابيا وهذا لا يشمل كل من
رواه من الصحابة، وذكر من التابعين أسماء بلغت 84 تابعيا.
أقول: إن هذا الحديث قد تجاوز حدود التواتر القاطع للحجة، بحيث لم يكن في تاريخ
الأمم من حادثة رويت بمثل الوثاقة التي روي فيه حديث الغدير وحادثته لدى المسلمين،
فهذا الحديث هو من أثبت السنن وأثبت الحوادث التاريخية رواية ونقلا، رغم كل
محاولات السلطة السياسية لتصفية أثره، وحمل الناس على إهماله، وحملهم على سب علي
(ع)، والتنكيل بمن يذكره وولده بخير، هذا بالرغم مما يحمل من الدلالة المعارضة لشرعية
السلطة الحاكمة، مما يشير إلى شدة وثاقة هذا الخبر وشهرته.
ولمن يريد استقصاء الحديث بروايته وأسانيده فليرجع إلى كتاب الغدير للعلامة الأميني
رحمة الله.
177
وحديث الغدير متواتر لدى المسلمين، وفي هذه المناسبة يوم غدير
خم عاد النبي (صلى الله عليه وآله) ليذكر الناس بمرجعية الثقلين التي
ذكرنا حديثها سابقا، ثم أتبعه ببيان أن عليا (ع) هو الولي بعده، وأن ما
كان من ولاية للنبي (صلى الله عليه وآله) (ألست أولى بالمؤمنين من
أنفسهم) فهو لعلي (ع) (فمن كنت مولاه فعلي مولاه وكما أكد أن
الهدف من ولاية العترة إلى جانب الكتاب هو عصمة الأمة من الضلالة

178
فكذلك أكد أن اتباع علي وولايته عصمة للأمة من ذلك (وأدر الحق معه
كيفما دار).
تاسعا: أخرج النسائي في ص 17 من خصائصه العلوية عن بريدة
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) (ولا تبغضن يا بريدة لي عليا، فإن
عليا مني وأنا منه، وهو وليكم بعدي)، ومثله بألفاظ أخرى أخرجه أبو
داوود الطيالسي عن ابن عباس في الاستيعاب، وعن عمران بن حصين
أخرجه أحمد في المسند ص 438 ج 4، ومثله في الكنز الحديث 6048
ص 396 ج 6، وعن وهب بن حمزة الحديث 2579 ص 155 ج 6 من
الكنز (وللذي يرغب يرجع إلى مصادره الكثيرة في الملحق التوثيقي بذيل
المراجعات ط 2 بيروت 1982).
عاشرا: حديث المنزلة (يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا
أنه لا نبي بعدي) (1) فقد أعطى النبي (صلى الله عليه وآله) عليا (ع) منازل



(1) هو في البخاري ج 3 ص 58، ومسلم ص 323 ج 2، والمستدرك ص 109 ج 3، وقد
أثبته كل صحاح الجمهور وروي في مجموعها عن كل من سعد بن أبي وقاص وابن عباس
وأسماء بنت عميس وأبي سعيد الخدري ومعاوية بن أبي سفيان وأم سلمة وحبيش بن
جنادة وابن عمرة وجابر بن سمرة وزيد بن أرقم والبراء بن عازب وعلي بن أبي طالب
وجابر بن عبد الله، وأورده ابن عبد الله في الاستيعاب ثم قال وهو من أثبت الآثار
وأقيمها، وأم سلمة (الحديث 2554 من الكنز ج 6 ص 154) وعن زيد بن أبي أو في
في حديث المؤاخاة الأولى (الحديث 918 ج 5 ص 40 من الكنز للمتقي الهندي وعن
حذيفة بن أسد الغفاري في الكلام عن سد الأبواب على المسجد إلا باب علي في الباب
17 من ينابيع المودة، ومثله ما يؤدي ذات الدلالة أخرجه الثعلبي في تفسير آية الولاية عن
أبي ذر ولقد ذكر الشيخ حسن الراضي في ملحقه التوثيقي بذيل المراجعات ط 2 بيروت
1982 ستة وعشرين صحابيا تنتهي طرقهم الكثيرة إليهم وذكر عشرات المصادر في
صحاح العامة ص 117 لغاية 125 جاء خلالها على ذكر مصادر المؤاخاة الأولى.
179
هارون (ع) إلا النبوة، فكان الأخ والوزير والعضد والشريك في الأمر،
وعزز ذلك بالمؤاخاة بين نفسه (صلى الله عليه وآله) وبين علي (صلى الله
عليه وآله) في المؤاخاة الأولى والثانية المرويتان بالطرق الصحيحة في
صحاح الجمهور، فمن يكون بعده غيره ولي المؤمنين؟ وليلاحظ أن هذا
الحديث متواتر.
أحد عشر: (يا عمار إذا رأيت عليا قد سلك واديا، وسلك الناس
واديا غيره، فالسلك مع علي ودع الناس، فإنه لن يدلك على ردى ولن
يخرجك من هدى) (1).
هذه النصوص الشريفة كلها تؤكد على مضمون واحد وهو وضع
العترة من الأمة موضع المرجعية العليا للرسالة، علما أن الرسالة تشمل كل
وجوه حياة الأمة بما فيها الشأن السياسي والحكومة، وكلها تؤكد على
أن عصمة الأمة من الضلال يكون بالعترة، فثبت بذلك، أن اتباعهم
واجب في كل ما تلامسه الرسالة الإلهية من جوانب، وظهر أنهم مصداق
الولاية الربانية العاصمة للأمة من الضلال التي نصت عليها آية أولي الأمر،
فضلا عن أن كثيرا من هذه النصوص كحديث الثقلين وحديث الغدير فيه



(1) أخرجه الديلمي عن عمار وأبي أيوب ص 156 ج / 6 من الكنز، وله مصادر أخرى في
الملحق التوثيقي بديل المراجعات ط 2 بيروت 1982.
180
الأمر المباشر من الرسول (صلى الله عليه وآله)، بالتزام العترة ووجوب
طاعتهم، والأحاديث المتعلقة بعلي (ع) بما فيها حديث الغدير تحمل من
المعنى ما أثبتته تلك الأحاديث للعترة وتشير إلى أنه أولها في هذا الموقع من
المرجعية للأمة والولاية العامة عليها ومن وجوب الطاعة له.
هذا ولقد ذكرنا أن لدى الشيعة نصوصا كثيرة عن كثرة من
الصحابة وعن أئمة آل محمد (صلى الله عليه وآله) تظهر أن أول الأئمة
بعد النبي هو علي (ع) ثم الحسن فالحسين ثم التسعة المعصومون من ذرية
الحسين عليهم السلام جميعا، تذكرهم بأسمائهم وخصائصهم المميزة لهم،
وآخرهم صاحب العصر ابن الحسن، قائم آل محمد، ومهدي هذه الأمة
أرواحنا له الفدى ولآبائه الطاهري، هكذا ليكون المجموع بعد النبي (صلى
الله عليه وآله) اثنا عشر إماما عليهم السلام، فلقد روى بعض محدثي
العامة أحاديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذات المعنى، وتذكر
أسماءهم، دون أن تبلغ حد التواتر، بيد أن لدى الجمهور أيضا ما هو
متواتر ويشير إلى الأئمة الاثني عشر ويؤكد ما لدى الشيعة في ذلك. وهو
حديث الأئمة الاثني عشر المتواتر بالمعنى (الأئمة بعدي اثنا عشر) (1) أو
(الخلفاء بعدي اثنا عشر) فهذا الحديث قد أثبتته صحاح الجمهور
وصحاح الشيعة قبل أن تكتمل عدة أئمة أهل البيت (ع) بإثني عشر. مما



(1) مسلم ج 6 ص 4 وص 3، البخاري ج 8 ص 105 و 128 وص 127 ينابيع المودة ج
3 ص 104 وجاء هنا في صيغة (كلهم من بني هاشم)، وص 105 وهذا الحديث
متواتر في المضمون بأن الأئمة بعد النبي (ص) اثنا عشر وذلك لدى جميع المسلمين.
181
يقطع بأنه حديث صحيح، ويقطع الطريق على من يحاول أن يدعي بأنه
وضع ليعكس الواقع الاثني عشري لدى الشيعة الإمامية الاثني عشرية،
وإذا ضم هذا الحديث إلى حديث الثقلين الذي ينبئ أن إمامة العترة قائمة
إلى يوم الدين، كان فيه تأييد لما تقوله الشيعة من أن الإمام الثاني عشر
من العترة الطاهرة هو الإمام صاحب العصر والقائم بالأمر من آل محمد
(صلى الله عليه وآله). وهذه يزيدها تأكيدا ما روي من السنة الصحيحة
" من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية (1) وما في معناه في
الرواية " من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية " (2) لتفيد أن في
كل زمان إمام طاعته فريضة ربانية، من لم يودها مات ميتة جاهلية،
فالبيعة هنا دلالة على الاعتراف بالولاء للإمام والالتزام بالطاعة، ولئن
كان النص الأول وما هو على شاكلته أصرحها في ذلك، لكن النص
الثاني وأمثاله يفيد تلك الدلالة لما تقتضيه من إمام في كل زمان تجب له
البيعة، فإذا ضم هذا إلى حديث الثقلين الذي دل على أن الإمامة هي لآل
محمد (صلى الله عليه وآله) وأنها مستمرة إلى يوم القيامة، وأن عدة الأمة
بعد النبي اثنا عشر علم صدق ما تقوله الشيعة الاثني عشرية بالدليل مما
صح من النصوص لدى جميع المسلمين. ومما يجب التوقف عنده أن هذه
الولاية تعدل في أهميتها الدين كله، فمن آمن وصلى وصام، وحج وزكى
وترك المحرمات، وتحلى بمكارم الأخلاق، فلم يكمل ذلك بالإقرار بهذه



(1) تراجع مصادره الكثيرة في الغدير للعلامة الأميني ص 360.
(2) صحيح مسلم ج 6 / 20 - 22 باب الأمر بلزوم الجماعة، وله مصادر أخرى كثيرة.
182
الولاية لإمام زمانه مات ميتة جاهلية، وهذه المنزلة العظمى التي للإمام
تنسجم مع آية أولي الأمر التي جعلت ولايتهم مع ولاية النبي (صلى الله
عليه وآله) فريضة واحدة، وجعلتها جزءا من الدين وبعض الشريعة،
وجعلها حديث الثقلين معادلة للقرآن، ولا تعتصم الأمة من الضلال إلا
بها جنبا إلى جنب مع كتاب الله، الذي جعل فيها إكمال الدين * (اليوم
أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) *
بعد أن بلغ النبي (صلى الله عليه وآله) بولاية علي في غدير خم وأخذ له
من الناس البيعة، فكانت من هذا كله جزءا من الدين الأكثر أهمية بعد
النبوة، لأنها سبيل الهداية للأمة والبشرية، فيها حفظ الرسالة والكتاب،
وتحقيق أهداف الدين، ودرء التحريف عنه وإبطال الريب، وأداء لوظيفة
الرسالة اتجاه الأمة وعلى الصعيد الأممي، بالأسلوب الذي ينسجم مع رؤية
صاحب الرسالة ومع الأهداف الربانية.
إنا نفهم أن ولاية بهذا الحجم تكون شأنا إلهيا، وبوزن الدين كله،
لما يتوقف عليها من سلامة الرسالة واستمرار فاعلية دورها في الاهتداء
والهداية بها واستمراريته، فمن مات ولم يلتحق بها مات جاهليا، ولا
تكون كذلك ولاية متوقفة على مشيئة الناس، تتيح أن تنتج عن اختيار
منهم أو عن غلبة عليهم، ولاية فاسق يئن الدين من موبقاته أو ولاية
منافق يكيد للدين وأهله، أو ولاية مقصر في العلم يخبط فيها على غير
هدى، أو ولاية طامع لا يهمه من شأن الدين والرسالة من شئ، بل همه
الملك والسلطان.

183
وفي المحصلة فإنه ليس عسيرا على من نظر إلى الموضوع بنزاهة
ضمير، وسلامة عقل وقلب، أن يعلم حقيقة إمامة آل محمد (صلى الله
عليه وآله)، حتى من النصوص النبوية التي أخذت طريقها عنوة إلى
صحاح الجمهور، لا سيما إذا ضمت إلى النصوص القرآنية الناصعة البيان،
فإذا أضفناها إلى النصوص القرآنية المذكورة حصلنا على: (أن الله تعالى
قد جعل ولاية عامة على الأمة والرسالة للرسول (صلى الله عليه وآله)
وأولي الأمر (عليهم السلام)، وأن ولايتهم هذه عاصمة من الضلال، وأن
هذه الوظيفة اجتباء رباني من الذرية المصطفاة ذرية إبراهيم من إسماعيل
عليهما السلام، وأن أولي الآمر هم آل محمد (صلى الله عليه وآله)، وأن
ولايتهم فريضة قائمة إلى يوم الدين، وأن عددهم اثنا عشر بعد نبوة محمد
(صلى الله عليه وآله) وإمامته. وأن هذه الولاية من الشأن الخطير بحيث
جعلها تعالى مع ولاية رسوله (صلى الله عليه وآله) فريضة واحدة،
ومعادلة للقرآن وموازنة للدين كله، فمن مات مقصرا عنها مات ميتة
جاهلية، فهي جزء من الدين، وركن من الرسالة، تنصدع بدونه، وشأن
رباني، لم تغفلها الرسالة ولا تركتها للناس وما يرون فيها، وأنها أصل من
الأصول ولا تكون من الفروع في أية حال.

184
الفصل الثالث
نص الاجتباء للشاهدية
الشاهدية الكبرى والشاهدون المباركون
1 - المعنى الإجمالي
2 - الاجتباء
3 - من هم المجتبون وأبوهم إبراهيم وسماهم المسلمين قبل القرآن؟
4 - الشاهدية الكبرى والشاهدون:
- الرسالة الإلهية الخاتمة هي سبيل الهداية الربانية للبشرية
- الهداية بالرسالة الإلهية لا تتحقق إذا لم تحفظ من النقص والتحريف.
- الشاهدية حلقة متوسطة بين النبي (ص) والناس في خط الهداية الإلهية
للبشرية إلى يوم الدين.
- الشاهدون هم المستحفظون على حقائق الوحي بعد النبي، يشهدون
لها وبها، لا بظنونهم، هم مرجعيتها وهم حجج الله بعد خاتم الأنبياء.
5 - الأمة الوسط: والتفسير الموضوعي للنصوص.
6 - النخبة والشاهدية.
7 - النصوص الإبراهيمية والحقيقة القرآنية.

185
بسم الله الرحمن الرحيم
* (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع
بصير) * (75) * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم وإلى الله ترجع الأمور) *
(76) * يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا
الخيرات لعلكم تفلحون) * (77) وجاهدوا في الله حق جهاده هو
اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج، ملة أبيكم إبراهيم هو
سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول عليكم شهيدا
وتكونوا شهداء على الناس، فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واعتصموا
بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير) * (78) (1).
الدلالة:
لقد بدأ الوحي الإلهي العظيم بالكلام عن اصطفاء الرسل ليذكر
الناس بأن اختيار الله تعالى بعض الناس للوظائف الربانية يصدر عن



(1) سورة الحج.
187
حكمته وعلمه بهم، فهو السميع البصير، علمه بأحوالهم التي تجعلهم
مؤهلين لما يحملهم بهذا الاصطفاء من مهام وأعباء، وإليه ترجع الأمور،
فهو الحاكم والمدبر ولا شأن للناس بهذا الاصطفاء. ويذكرنا الكلام عن
الاصطفاء هنا بما علمناه من قوله تعالى: * (واصطفينا آدم ونوحا وآل
إبراهيم وأل عمران على العالمين) * وقوله تعالى * (ولقد أرسلنا نوحا
وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب..) * فيحضر لنا أن هذا
الاصطفاء وجعل النبوة والكتاب في هذه الذريات المصطفاة إنما هو من
الشأن الرباني الصادر عن حكمته تعالى، وعلمه باستعدادات خلقه
ومصالح عباده، الذي أشارت إليه هذه الآية، وأن الاصطفاء المذكور فيها
للرسل هو من سنخ وضمن خط الاصطفاء الذي خص به هذه الذريات.
ويتبع ذلك الكلام عن الاصطفاء كلامه تعالى عن اجتباء الذين آمنوا،
الذين أبوهم إبراهيم لمهمة الشاهدية الكبرى، فنعلم أن هذا الاجتباء كان
من خلال ذلك الاصطفاء على العالمين، ومن سنخه، إذ يأتي خطاب
مباشر بعنوان الذين آمنوا، يأمرهم أمرا خاصا ببعض تكاليف المؤمنين، لما
فيها من أبعاد في عقل المؤمن وضميره، ذات أثر في الوظيفة الاجتماعية،
والوظيفة موضع الاجتباء، من عبادة، وفعل الخيرات والجهاد في سبيل الله
حق الجهاد، ويتابع خطابهم يقوله * (هو اجتباكم، وما جعل عليكم في
الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم، هو سماكم المسلمين من قبل وفي
هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم، وتكونوا شهداء على الناس..) *
فنعلم من هذا أن الاجتباء هو ليكون الرسول شهيدا عليهم ويكونوا

188
شهداء على الناس، أي لمهمة الشاهدية. ونعلم أيضا أن الخطاب الذي
بدأه بعنوان الذين آمنوا مخصص لفئة من عموم المؤمنين قد ميزها بثلاثة
أوصاف هي: الاجتباء لهم، أبوهم إبراهيم، سبق تسميتهم من قبل
بالمسلمين من قبل أبيهم إبراهيم. وكل واحد من عناسر التمييز هذه
كافية ولو منفردة لتحقيق التمييز المذكور. غير أنه تجب الإشارة هنا إلى
ادعاء البعض في أن الخطاب بصيغة الجمع * (يا أيها الذين آمنوا..) * يجعله
خطابا موجها إلى كافة المؤمنين لذا يدعون أنها تفرض تعميم ما تلاها من
أوصاف أعطيت للمخاطبين، ليصبح جميع المسلمين مجتنبين وأبوهم
إبراهيم وسماهم المسلمين من قبل نزول القرآن.
بيد أن صيغة الخطاب المذكور لا تدل على أن الخطاب لجميع
المؤمنين. نعم هي صيغة جمع يصح لو كان المخاطبون جماعة من المؤمنين
دون جميعهم، وهذا معلوم من أساليب الخطاب والبيان، فأنت لا تخاطب
أربعة عشر مؤمن كلا باسمه في خطاب يخصهم جميعا، تخاطبهم بصيغة
الجمع والعنوان الذي تريد إبرازه فيهم مما اشتركوا به جميعا، فإن كان
عنوان الإيمان ما ترغب إبرازه وهم جميعهم مؤمنون خاطبتهم به، دون أن
تعني بالضرورة المؤمنين قاطبة. وليس في الخطاب ذاته ما يرجح أحد
الاحتمالين. بل يحتاج الترجيح إلى قرينة خارجية، لذلك لا تصلح صيغة
الجمع في الخطاب بذاتها قرينة على ما عداها في أي من الاتجاهين لذا فإن
الوجه الأظهر دلالة في عناصر التوصيف التي تلت هذا الخطاب، له أن
يفرض نفسه، بل له أن يرتد على الخطاب بعنوان الذين آمنوا قرينة

189
مخصصة بمن توفرت له هذه الصفات دون غيره. فالجماعة من المؤمنين
الذين علم بقرينة أو بدليل اجتباؤهم أو أن أباهم إبراهيم أو أنه سماهم
المسلمين من قبل، يكونون المعنيين بالخطاب دون سواهم. وفي القرآن
الكريم كثير من المناسبات خوطب فيها بعض المؤمنين بصيغة الذين آمنوا،
فلئن لم يكن في الخطاب إشارة إلى صفة أو حالة تختص بهم دون غيرهم
من المؤمنين، كان قابلا لتعميم ما خصهم به من خطاب، لكن حين يميز
المخاطبون بصفة فيهم تخصهم دل على اختصاص الخطاب بهم. كقولك يا
أيها المؤمنون الذين أبوهم حذيفة بن اليمان أو الذين سماهم أبوهم كذا مما
كان قد علم. وهكذا كان هذا النص العظيم فقد ميز المؤمنين المخاطبين
بأنهم المجتبون، والذين أبوهم إبراهيم والذين سماهم المسلمين من قبل بعثة
محمد (صلى الله عليه وآله)، ولما لم تكن صيغة الجمع بالذين آمنوا قادرة
على تعميم هذه الميزات، لأنها هي بذاتها بحاجة إلى دليل على عموم
الخطاب، أصبحت خصوصية الميزات قادرة على تخصيص الخطاب بمن
توفرت فيهم، ولقد علمنا أن هذه الصفات قائمة في أهل البيت عليهم
السلام دون غيرهم بعد سيدهم المصطفى (صلى الله عليه وآله)، تارة
بالدليل القرآني والنبوي معا، كما في الاجتباء والتسمية بالمسلمين قبل
نزول القرآن، وتارة بالدليل الواقعي من حيث أن أباهم إبراهيم (ع)،
فبأي حق بعد هذا نسمح لأنفسنا بادعاء صفة ليست لنا، تمحلا لكي
نخرج النص عن دلالته على شاهدية آل محمد (صلى الله عليه وآله)
وإمامتهم. فلنرى فيما يلي مزيدا من التفصيل.

190
أولا: * (هو اجتباكم..) *
إن الاجتباء هو انتقاء الأفضل بعناية، وهو من هذه الناحية تعبير
آخر عن الاصطفاء، ولعله يستبطن معنى إضافيا في تقريب المجتبى إلى ذات
المجتبي، وجعله خصيصته، وفي أية حالة فإن المضمون كالاصطفاء فيه
انتقاء للأمثل والأصلح، ولقد ناقشنا هذا الأمر خلال بحثنا حول الآية * (ثم
أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) * فليراجع هناك، إذ ما قيل فيه
يجري هنا بتمامه، ولا ضرورة للتكرار، على أن استعراض النصوص
الواردة في الاجتباء يزيد الصورة وضوحا.
بسم الله الرحمن الرحيم.
* (أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن
حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا..) * (1).
* (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين
(120) شاكرا لأنعمه، إجتباه وهداه إلى صرط مستقيم (121) وأتيناه
في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين (122)) * (2).
* (ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى) * (3).



(1) سورة مريم / الآية 58.
(2) سورة النحل.
(3) سورة طه / 122.
191
* (فاجتباه ربه فجعله من الصالحين) * (1).
* (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه، نرفع درجات من
نشاء، إن ربك حكيم عليم (83) ووهبنا له إسحق ويعقوب، وكلا
هدينا، ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داوود وسليمان وأيوب
ويوسف وموسى وهارون، وكذلك نجزي المحسنين (84) وزكريا ويحيى
وعيسى وإلياس، كل من الصالحين (85) وإسماعيل واليسع ويونس
ولوطا، وكلا فضلنا على العالمين (86) ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم،
واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم (87)) * (2).
* (وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته
عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم
وإسحق، إن ربك عليم حكيم) * (3).
وفي النص الآتي أفضل تعبير الاجتباء عامة * (وإذا لم تأتهم بآية قالوا
لولا اجتبيتها، قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي، هذا بصائر من ربكم،
وهدى ورحمة لقوم يؤمنون) * (4).



(1) سورة القلم / الآية 50.
(2) سورة الأنعام.
(3) سورة يوسف / الآية 16.
(4) سورة الأعراف / الآية 203.
192
فانظر إلى تعريض المشركين بالنبي (صلى الله عليه وآله) في أنه هو
الذي ينشئ الآيات ويتقن صنعها، إذ يقولون له لولا أنشأتها فاجتهدت
في اختيار الأفضل من اللفظ والبيان مما يستنبطه معنى اجتبيتها.
وكأنهم يقولون لولا أنشأت لنا آية فبذلت الجهد في تنميقها، تعبيرا
عن بلاغة آيات القرآن التي لا يضاهيها شئ عهده المشركون قبله من
البلاغة.
ألا يظهر من هذه النصوص مجتمعة حقيقة الاجتباء الرباني، كيف
أنه يأتي دوما تعبيرا عن اصطفاء الأمثل من الخلق، ويأتي دوما تعبيرا عن
عناية ربانية خاصة بعباد قد قربهم تعالى لما لهم من خصوصية الأمثلية في
الصلاح والهدي، يصطفيهم من خلال رسالته ومن أجل وظائفها؟ فلو
وضعنا النص الذي نحن بصدده قبالة النصوص القرآنية التي تتكلم عن
الاجتباء، ألا يظهر لنا حينئذ أن الاجتباء في هذا النص سيصاب بالتشويه
ويدفع خارج سياقه القرآني بل وخارج مضمونه اللغوي إذا اعتبرنا أنه
يعني جميع المسلمين، والذين اعتدنا سماع الخطاب القرآني لهم بصيغة الذين
آمنوا؟ بينما منهم جهلة لا يكادون يفقهون حديثا، ومنهم فاسدون
مفسدون لا يجد العقل وجها لأمثليتهم حتى يكونوا من المجتبين وفي
عدادهم، بل إن القرآن الكريم ذاته يخبرنا أن فيهم المنافقون والفسقة
والظالمون والفجرة والذين لم يلمس الإيمان قلوبهم ولا عقولهم؟ فبأي معنى
يكون مثل هؤلاء من المجتبين، وإن الوجدان ليمج وإن العقل ليأبى أن يميز
الذي تلفظ بالشهادتين فلم تلامسان عقله وقلبه فكان جاهلا لا يكاد

193
يفقه حديثا، أو كان مفسدا في الأرض مؤذيا للناس بيده ولسانه، على من
صلح عمله وسلم قلبه، فلم يحمل غلا للذين آمنوا، وقد أجرى الله به
النفع الكبير لعياله، لكنه لم يسمع بالإسلام أو لم يبحث فيه إذ صده عن
ذلك سوء الأمثولة التي رآها فيمن أسموا بالمسلمين بهتانا؟ فهل هؤلاء أمثل
طريقة من هذا وقد أتيح لهم الإيمان ففسدوا رغم إقرارهم؟ أفيكونون
المنتجبين المقربين إلى رب الخلق أجمعين، بينما إثمهم أكبر إذ قامت الحجة
عليهم، وقال تعالى * (يوم لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ولم
تكسب في إيمانها خيرا) * أم نريد أن نضاهي قول الذين كذبوا على الله
من اليهود في قولهم إنهم شعب الله المختار؟.
يقول تعالى * (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله
عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك
رفيقا) * (سورة النساء 69). فطاعة الله ورسوله تعني الدرجات السامية
من الالتزام بالرسالة مقتضياتها، وهي حال أخيار الناس. فهؤلاء رفاق
للشهداء ولكن ليسوا منهم كما يوضح النص * (وحسن أولئك رفيقا) *،
فكونهم معهم لا يعني أنهم منهم مثلما لا يعني أنهم من النبيين، فالآية
عبرت عن المعية " مع " ولم تقل " من ". فإذا كان الأخيار من المسلمين
بصحبة الشهداء ولكن ليسوا الشهداء أنفسهم، فهل يبقى وجه لاعتبار
آيات الشاهدية أنها تعني مجمل المسلمين؟ وإذا كان هذا حال أهل
الطاعات فما بالك بأهل المعاصي والسوء؟

194
أم نقول أن الله تعالى قد اجتبى عباده للإسلام. فهل يبقى من
حساب على الذي كفر إذ استثني من الاجتباء.
إن التصديق برسالات الله لا يكون اجتباء ربانيا، بل هو تكليف
أوجبه تعالى على كل نفس قامت عليها الحجة برسله، بل الاجتباء هو
للأمثل من عباده يصطفيهم ويجتبيهم بحكمته ليحملوا رسالاته ويقوموا
بكتبه، ليكونوا أعلام الهدى لمن يشاء أن يهتد. قال تعالى * (ما كان ليذر
المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله
ليطلعكم على الغيب، ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء، فآمنوا بالله
ورسله، وإن تؤمنوا فلكم أجر عظيم) * (1)، فهذا النص ينبؤنا أن من
الذين صدق عنهم عنوان الخطاب بالمؤمنين خبيث وطيب، فكيف يجتبي
الله الخبيث إن كان كل هؤلاء مجتبين؟ فالاجتباء هو شأن للرسل * (ولكن
الله يجتبي من رسله من يشاء) * وهو أمر رباني لا شأن للناس به، * (وما
كان الله ليطلعكم على الغيب) *، أما شأنهم فالتصديق الذي هو تكليف
على كل نفس * (فآمنوا بالله ورسله) * وعليه الحساب * (وإن تؤمنوا
وتتقوا فلكم أجر عظيم) *.
وكذلك قال تعالى * (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا
والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى، أن أقيموا
الدين ولا تتفرقوا فيه، كبر على المشركين ما تدعوهم إليه. الله يجتبي



(1) سورة آل عمران / الآية 179.
195
إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب) * (1). فلقد كبر على المشركين
دعوتك، فليعلموا أن الله يجتبي إليه من يشاء لرسالاته بحكمته، لا تبعا
لأهوائهم، بينما يهدي إليه من يسلم بأمره واختياره (من ينيب)
فيستجيب إلى ما دعاه إليه الرسول.
ففي محصلة الكلام عن الاجتباء، أنه في اللغة الاختيار الممزوج
بالجهد المتقن لاستخلاص الأمثل من كل شئ، وأن الاجتباء الرباني
للبشر كما يفهم من السياق القرآني يحمل معنى من العناية الإلهية يخص بها
الأمثل من عباده ليصطفيهم بما يتصل بشأن رسالاته ووظائفها، والاجتباء
في هذا النص الذي نحن في معرض شرحه لا وجه لإخراجه عن المضمون
اللغوي والسياق القرآني للاجتباء الإلهي. ولئن كان يعني أن المخاطبين هم
مجتبون، لكنه لا يعني أن جميع المؤمنين كذلك، ذلك لأن صيغة الخطاب
بالذين آمنوا لا تعني بالضرورة المؤمنين قاطبة، بل تصح أيضا لو كان
الخطاب موجها إلى مجموعة منهم دون جميعهم، وهذا الخطاب بحاجة إلى
دليل خارجي عنه يملي أحد الاحتمالين لذا فإن صيغة الخطاب هذه
بعنوان الذين آمنوا لا تصلح دليلا على تعميم الاجتباء لكافة المسلمين
بينما هي بذاتها بحاجة إلى دليل على هذا الشمول، بل على العكس من
ذلك فإن مضمون الاجتباء الذي أوضحناه آنفا، له أن يرتد على صيغة
الخطاب ليخصصها بالجماعة من المؤمنين الذين يحققون هذا المضمون،
ولقد علمنا بالدليل الواقعي والدليل القرآني أن كثيرا من الذين يدخلون في



(1) سورة الشورى / الآية 13.
196
عنوان الخطاب بالمسلمين أو بالمؤمنين لا يحققون شيئا من ذلك المضمون.
هنا يلح السؤال علينا من هم هؤلاء المؤمنون المجتبون في أمة القرآن،
فيأتينا الجواب سريعا من وجوه عدة من النص ذاته الذي نحن بصدده،
ومن نصوص قرآنية أخرى، ومن نصوص نبوية لا يرقى الشك إلى
صدورها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فالنص يتابع خطاب هؤلاء المؤمنين المجتبين بقوله تعالى * (ملة أبيكم
إبراهيم) *، فيتضح أن الخطاب خاص بآل إبراهيم في أمة القرآن الذين
أخبرنا تعالى بأنهم من الذريات المجتباة * (واصطفينا آدم ونوحا وآل
إبراهيم وآل عمران على العالمين) *، ثم ما بعده يعطي مزيدا من التوضيح
بقوله تعالى * (هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا..) * أي أبوكم
سماكم المسلمين قبل القرآن. فلنرى تفصيل ذلك.
ثانيا: قوله تعالى * (ملة أبيكم إبراهيم..) * هذا الوصف لا يجوز أن
يترك أدنى شك حول من هم المخاطبون، إذ ميزهم من جميع المؤمنين
والناس بأن أباهم إبراهيم (ع)، فهم الذين آمنوا المعنيون بالخطاب،
المجتبون دون الناس لمهمة الشاهدية الكبرى، بما يتوافق مع مضمون
الاجتباء في خصوصيته للأمثل من العباد بحكمة الله من أجل الوظائف
الربانية، ويتوافق مع كتاب الله الذي أخبرنا عن اصطفاء ذرية إبراهيم
(ع) على العالمين، وجعل الكتاب والنبوة والإمامة فيها. ولا يجوز القول
بأن ملة أبيكم إبراهيم تعني جميع المسلمين قياسا على * (من آمن بي فهو

197
مني) * إذ هذه العبارة لا تشير إلى أنه منه نسبا ليكون أباه، بل يعني أنه
يمت إليه بالإيمان، وهو واضح الدلالة عليه. بل ذلك الاعتبار غير جائز
لجملة أسباب، أولها أن الأصل في معنى الأب في اللغة هو الدلالة على
العلاقة النسبية من والد وجد وعم، أما المعاني الأخرى كالأبوة المعنوية
فهي من المجاز فلا تثبت إلا بدليل. ثانيها: أن هذا المعنى النسبي يتوافق
مع الاستعمال القرآني للفظ الأب الذي لم يرد إلا للدلالة على هذا المعنى
في كل النصوص الأخرى، و * (وادعوهم لآبائهم) * و * (.. ما سمعنا بهذا في
آبائنا الأولين..) * و * (.. إذ قال لأبيه..) * وغيرها لتدل على الأب والعم
والأجداد. ثالثها: أن معنى العلاقة النسبية في اللفظ أظهر من المجاز
المفترض بمعنى التبعية في الدين، فالأول ثابت في أصل اللفظ، فهو الأولى
أما الثاني فعارض عليه بالمجاز، لذا يحتاج إلى دليل، وهو مفقود في النص
ذاته وسواه من نصوص الكتاب، أما الخطاب بصيغة الذين آمنوا في الآية
التي سبقتها، فهو كما سبق القول يصح أن يكون خطابا لجماعة منهم
دون جميعهم، وأنه لا يحمل في ذاته دليلا على أحد الاحتمالين، بل بحاجة
إلى دليل من خارجه على الدعوى بعمومه لجميع المؤمنين، لذا لا يصح
بذاته قرينة على تعميم سواه، وهكذا فإن الأصل الظاهر في الدلالة اللغوية
لمعنى الأب على العلاقة النسبية يفرض نفسه، بل هذه تغدو قرينة على
تخصيص الخطاب الأول بمن علم أنهم أبناء إبراهيم (ع)، ويزيده قوة
وتماسكا وصفهم الذي يليه * (هو سماكم المسلمين من قبل) *.

198
ثالثا: قوله * (هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا..) * يؤكد
الدلالات السابقة الذكر، بأن المعني هم آل إبراهيم من ابنه إسماعيل
عليهم السلام، وذلك من قوله تعالى حكاية عن دعاء إبراهيم لابنه
إسماعيل وذريته * (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة
لك) *. وقوله * (من قبل) * أي من قبل نزول القرآن الكريم، ذلك حين
نشوء هذا الدعاء الذي أشار إليه، وليس في المسلمين قبل ولا بعد نزول
القرآن أحد ينطبق عليه هذا الوصف إلا هؤلاء، ولا أي جماعة أخرى من
المسلمين قد سماهم بالأمة المسلمة سواهم، ويزيد تأكيدا ووضوحا تتمة
دعاء إبراهيم عليه السلام * (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم
آياتك ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة..) * فقوله * (فيهم) * يعود إلى
ذريتنا، فكانت رسالة محمد (صلى الله عليه وآله) التي بعثه بها للناس عامة
رسالة لهم بالخاصة (1)، فكانوا هم خاصة المسلمين، وكانت الأمة المسلمة
من الذرية الإبراهيمية خاصة الخاصة، وإنما سمي من أسلموا لله مسلمين تبعا
لأسم أبيهم واسمهم الذي سماهم به قبل نزول القرآن الكريم، وكانوا
خلاصة الإسلام وعصارته ومركز ثقله والنخبة فيه، والعقل يحكم أن
الشاهدين على الخلق بدين الله لا يصح أن يكونوا إلا هكذا في موقعهم
من الدين.



(1) وهذا مصداق قوله تعالى * (وأنذر عشيرتك الأقربين) *.
199
الشاهدية الكبرى والشاهدون المباركون:
وهكذا يظهر بوضوح أن الخطاب في هذه الآية الكريمة بصيغة
الذين آمنوا، خاص بالذين آمنوا المجتبين الذين أبوهم إبراهيم، تلك الأمة
المسلمة من ذرية إسماعيل (ع) الذين سماهم المسلمين من قبل، وقد اجتباهم
تعالى لمهمة الشاهدية الكبرى على الناس، فجعلهم حلقة متوسطة بين
النبي (ص) الذي تلقى الوحي، وبين الناس المستهدفين بالهداية، هذا الهدف
الأساس من الرسالة الخاتمة الذي لا يتحقق إن لم تحفظ حقائقها عبر
الزمان; فهؤلاء الشاهدون هم الذين يشهدون لهذه الحقائق ويشهدون بها.
هم يشهدون لها حين ينشأ الجهل أو التحريف، فتتعرى البدع ويحصل
العلم لطالبه، وهم يشهدون بها حين يقصر الناس أو ينحرفون عنها،
ليأووب إلى الحق طلابه. ولا يجد العقل معنى وجيها لهذه الشاهدية غير
هذا، ولا سببا لجعلها متوسطة بين النبي (ص) وبين الناس، إلا ما له علاقة
بتحقيق هدف الرسالة في هدايتهم وفي صون الرسالة لتبقى هادية إلى يوم
الدين. لذا فهذه الشاهدية تعني بالضرورة أن لدى الشاهدين العلم بحقائق
الوحي كاملة، مطابقة لأصله، وأنهم هم المستحفظون عليها، وأن لهم
مرجعيتها. ومثل هذه الموقعية الخطيرة المرتبطة بهدف الرسالة في الهداية، لا
يكون إلا عن اصطفاء رباني للقلة الأمثل من الخلق التي قد هيأها لذلك،
وهذا هو منطوق الآية في قوله " هو اجتباكم ". أما من عداهم مهما بلغ
من العلم والتقوى، فإنه يبقى عرضة إلى النقص في العلم والضلال في

200
الرأي والعمل (راجع أنماط السلوك في مجتمع الصحابة)، لذلك فهو من
الناس المستهدفين بالشهادة. وهنا يلزم التمييز بين هذا الشاهدية الكبرى
على جميع الخلق، كوظيفة ربانية المصدر هادفة إلى حفظ الدين والهداية
به، وبين شهادة ظرفية قد تكون لبعض الناس على بعضهم فيما اختلفوا
فيه من الحق، فيكون الشاهد في هذه الواقعة مشهودا عليه في غيرها، وهذا
أمر آخر يختلف في المضمون عن الشاهدية الكبرى المستحفظة على الدين
والمتصلة بخط الهداية الربانية الممتد من آدم إلى يوم الدين.
فمهمة الشاهدية هكذا هي وظيفة ربانية كبرى تعبر عن أن
الشاهدين هم حجج الله على الناس إن هم ضلوا عن السبيل الحق، وتعبير
عن الإمامة العامة على الناس، تعبير عنها من خلال توصيف وظائفها،
وسنذكر المزيد من هذه الناحية لاحقا من خلال دلالات آيات الشاهدية.
على أن لقائل أن يقول أن من ذرية إسماعيل التي دخلت الإسلام
آخرون إلى جانب آل محمد (صلى الله عليه وآله)، لكن العارف بحقائق
الكتاب والسنة والواقع الاجتماعي لا يلتبس عليه الأمر فيمن هم المعنيون،
فالإسلام الذي سأله إبراهيم (ع) للأمة المسلمة من ذريته ليس الإسلام
بمفهومه السطحي، ولا هو مواز لإسلام الناس العاديين من المؤمنين، حتى
يجعل منه تعالى قدوة للناس ينوه بها في القرآن، ويسأل بها إبراهيم (ع) ربه
تعالى قبل القرآن في الزمن الغابر، بل هو من سنخ إسلام إبراهيم
وإسماعيل حسب منطوق الآية نفسها، إذ كان الكلام شاملا لهما وثلة من
ذريته عبر عنها * (ومن ذريتنا) * أي بعضا منها، دعاها بالأمة المسلمة،

201
وسأل لنفسه ولإسماعيل عليهما السلام ولهذه الأمة الإسلام الذي رغب
فيه لنفسه إلى الله، وهو عند الله في المنزلة الغنية عن التوصيف، فإسلامه
هو التوحيد الخالص، ودعاؤه هذا مرادف لقوله تعالى في معرض الكلام
عن توحيد إبراهيم * (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون..) *
ومواز لدعائه * (.. واجعل لي لساني صدق في الآخرين) * وفيه توضيح
لمضمونها.
فتخصيص دعاء إبراهيم (ع) هذه الثلة من ذريته بالإسلام الذي
رغبه لنفسه وابنه إسماعيل وهما النبيان المصطفان، يعني أنهم هم من الخاصة
من الذرية الإبراهيمية المصطفاة على العالمين، وهم بحكم هذا النص
سيكونون بعد إسماعيل وفي حقبة محمد (صلى الله عليه وآله) الذي بعث
بالخاصة إلى الذرية في العموم، مما يجعله (صلى الله عليه وآله) مع هذه الثلة
الأمة المسلمة المعنية، ويجعلهم معا مصداق قوله * (وجعلها كلمة باقية في
عقبه لعلهم يرجعون) *، فهم من هذه الكلمة الباقية ومن حملة عهده
ودعاته، يرجع بهم الناس إلى التوحيد، ومصداق قوله * (واجعل لي لسان
صدق في الآخرين) * فهم في الأمم المتأخرة لسان صدق له، هو الناطق
بدعوته، ويجعلهم المصطفين في حقبة القرآن الذين أورثهم الله الكتاب * (ثم
أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) *. فمن يكون هؤلاء غير محمد
وآله (صلى الله عليه وآله)، الذين طهرهم تعالى (1) وأمر بالصلاة عليه



(1) يقول الإمام الحسن (ع) " وأقول معشر الخلائق فاسمعوا، ولكم أفئدة وأسماع فعوا، إنا أهل
بيت كرمنا الله بالإسلام واختارنا واصطفانا واجتبانا فأذهب عنا الرجس وطهرنا تطهيرا "
نقلناه عن كتاب الحقيقة الضائعة للشيخ معتصم سيد أحمد ط 1 ص 98، دار المحجة
البيضاء - بيروت 1966).
202
وعليهم بالصلاة الإبراهيمية، التي يجب أن تكون مصدرا لفهمنا أن هذا
التمييز بالصلاة والتسليم والتبريك هو من خلال الاصطفاء للذرية
الإبراهيمية، ولقد كان حرص النبي (صلى الله عليه وآله) شديدا على
إظهار من هم أهل بيته الذين طهرهم الله والذين خصهم بالصلاة عليهم
معه. ووصفهم تعالى في كتابه * (نور على نور يهدي الله لنوره من
يشاء) * و * (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه) * ولطالما دأب
النبي (صلى الله عليه وآله) على إظهار هذه الحقائق في بياناته الكثيرة من
حديث الثقلين والنجوم والسفينة والغدير وما لا يسع إحصاؤه. فلئن
شملت أبوة إبراهيم سوى آل محمد (صلى الله عليه وآله) قليلا من الذين
اتبعوه بصدق، فكان هؤلاء الخاصة في الإسلام، فإن الأمة المسلمة من
ذريته التي دعا بها الله تعالى والتي إسلامها موازي لإسلام آبائها المقربين،
هم المصطفون من هذه الذرية، وهم نخبة النخبة والشاهدون من كل أمة
لا يكونون إلا هكذا.
إذن هذا النص العظيم يفيد في النتيجة:
أولا: أن مهمة الشاهدية وظيفة ربانية أساسها الاجتباء الرباني لعباد
له علم أنهم أهل لحمل الرسالة وأمانتها، فهي اجتباء واصطفاء قد قدمت
الآيتان (75. 76) مبرراته من أنه ينطلق من علم الله بالذين خصهم

203
بالاصطفاء من الملائكة والناس، ومن علمه بمصالح عباده، وضرورات
رسالاته.
ثانيا: أن الله تعالى قد اجتبى الأمة المسلمة من ذرية إبراهيم من
إسماعيل عليهم السلام، لمهمة الشاهدية، فكان محمد (صلى الله عليه
وآله) الشاهد على الشاهدين وآله المطهرون الشاهدين على الناس.
ثالثا: توضيح حقيقة النصوص الأخرى التي تتكلم عن شاهدية
الأمة الوسط * (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس،
ويكون الرسول عليكم شهيدا..) * (1).
الأمة الوسط في النصوص الأخرى:
إن التفسير الموضوعي لآيات الشاهدية، يجعل هذا النص بوضوح
دلالته حاكما على سواه، والجمع بينه وبين الآيتين اللتين تتكلمان عن
* (الأمة) * وهذه الآية قد أوردناها نموذجا لهما، نجد من هذا الجمع المعنى
المعقول والوجيه لصفة الوسيطة ولمعنى الأمة المراد. فالشاهدون يتوسطون
في الشهادة الموقع بين الناس والرسول (صلى الله عليه وآله)، والأمة هي
الأمة المسلمة من ذرية إسماعيل (ع).
علما أن معنى * (أمة) * يدل على جماعة من الناس اختصوا بأمر
واحد مميز لهم، ولئن ورد في القرآن الكريم الخطاب * (.. وأن هذه أمتكم



(1) سورة البقرة / الآية 143
204
أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) * فإنه جاء فيه كثير من الآيات التي
استعملت لفظ أمة للدلالة على فئة من مجموع الذين اتبعوا الرسول دون
جميعهم كقوله تعالى * (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) *،
وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما) * و * (لتكن منكم أمة يدعون إلى
الخير..) * وهكذا فإن عبارة الأمة الوسط لا تعني ضرورة مجموع
المسلمين، فلا بد لنا من أن نفهم نصوص الشاهدية مجتمعة في سياق
موضوعي واحد لكي نحرز الصواب فيها. وأن النص الذي نحن في صدده
كما أظهرنا بوضوح قد جعل وظيفة الشاهدية الكبرى منوطة بالمجتبين من
آل إبراهيم من ابنه إسماعيل الذين ساهم المسلمين قبل القرآن ونعتهم
بالأمة المسلمة، لذا فحين يأتي الكلام عن الشاهدية الكبرى في آيات
أخرى لا بد من فهم عبارة الأمة على هذا النحو من أنها هي الأمة المسلمة
من ذرية إبراهيم (ع). ولو فرضنا جدلا أن لفظ الأمة هو لعموم
المسلمين فيكون لأن هؤلاء الشاهدين فيهم وليس لأنهم جميعا شاهدون،
على أن الاعتراف بأن الأمة الوسط يراد بها هذه الأمة المسلمة بالخاصة،
كما وصفها رب العزة، دون التوسط والالتفاف في التعبير هو أولى
وأوجب للأسباب التي قدمناها.
وذات النقاش في معنى أمة ينسحب على قوله تعالى " كنتم خير أمة
أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله " وذلك
لذات الأسباب التي قدمناها، ولصلة هذا الكلام بوظيفة الشاهدية على
الخلق، مما يفرض فهمها على ضوء آية الاجتباء للشاهدية التي نحن في

205
صددها، وكذلك لتناقض دلالة الآية مع الواقع حين يحمل الخطاب على
عموم المسلمين، إذ لم يقم المسلمون كأمة وجماعة بدور في الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، على الصعيد الأممي، بل انشغلوا بالحروب
والنزاعات الدامية فيما بينهم، ثم بالدفاع عن بلادهم، فكان سلوك
دولتهم أو دولهم بين الأمم كسلوك أي دولة، غاية ملوكها الحفاظ على
السلطان وتوسيعه، ولم يكن لهم من هم الرسالة شئ، حتى أن التاريخ
سجل أن بعض الملوك الأمويين لم يكونوا يقبلون إسلام بعض الجماعات
في ولايتهم، لكي لا ينقص مدخول بيت المال من الجزية، ولم يسجل
التاريخ من بعد النبي (صلى الله عليه وآله) أن أحدا من الخلفاء أو الملوك
قد بعث إلى دول العالم يدعوهم إلى الإسلام على سبيل المثال، على أن
الفتوحات التي كانت في صدر الإسلام لم تأخذ طابع الأمر بالمعروف،
لأنها لم تكن مسبوقة بدعوة واضحة من قبل الخلفاء، ولا بمحاولة للحوار
الفكري من قوله تعالى * (وادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة
الحسنة) *، لذلك اتخذت طابع الفتوحات العسكرية، مما ترك أثرا سلبيا
على علاقة الدين الجديد بالشعوب المجاورة، التي لم يصلها سلطان
المسلمين، بينما كان دخول كثير من الشعوب بالإسلام بتأثير المسلمين
الذين دخلوا بلادهم مسالمين كتجار لا كفاتحين، أكثر فعالية من
الفتوحات ذاتها في بلاد آسيا وكثير من أفريقيا.
أما ما قيل حول الوسطية من توسط الإسلام بين اليهودية
والنصرانية، أو بين المادية والروحانية، فما هو إلا محض إفتراض لا يوحي

206
به شئ من النص، ولا يستند إلى مرتكز من الكتاب أو السنة أو الواقع،
ولو كنا نتكلم عن الإسلام واليهودية والنصرانية كأديان، فهي في
جوهرها واحد، وأصل الوحي نموذج واحد، كما يخبرنا به القرآن الكريم
* (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا
عليه) * (1)
ولو كنا نتكلم عن الوضع الذي آل إليه اليهود والنصارى في مقابل
الإسلام، فالمقارنة لا تصح، إذ يجب اعتبار ما آل إليه المسلمون في
المقارنة، وهو لا يختلف كثيرا عن حال سابقيه، وقد جاء فيما قيل أنه
روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) ما ينبئ باقتفاء المسلمين أثر الذين
من قبلهم شبرا بشبر، والواقع يؤكد ذلك.
ومن يتأمل في تعبير الوسطية من خلال النص ذاته والنصوص
المتعلقة بالشاهدية، لا يجد معنى مقنعا وجيها من خلال النصوص ذاتها
ودون توسط افتراضات خارجة عنها، معنى له ارتكاز في الكتاب والسنة
والواقع، إلا ما تظهره آية الاجتباء التي نحن في صددها، بحيث يبدو أن
توسط الأمة المسلمة من ذرية إسماعيل (ع) في الشاهدية بين الناس وبين
شهادة الرسول (صلى الله عليه وآله) هو المعنى الأصيل للعبارة، الذي
يتوافق مع السياق البياني لأي من نصوص الشاهدية، فكلها تقرر شهادة
على مرحلتين، على الناس، وعلى الشاهدين، فتجعل الشاهدين وسطا في



(1) سورة المائدة / آية 48.
207
الشهادة بين النبي (صلى الله عليه وآله) وبين الناس، فيكون الشاهدون هم
الوسط، وهم الأمة المعنية:
النخبة والشاهدية..
لقد عرفوا النخبة بأنهم الفقهاء والرواة وأهل العلم والتقوى وزاد
عليهم المحدثون المثقفين بالإسلام الذين يفهمون الإسلام حق الفهم
والعاملين الإسلاميين، لعله ليقال إنهم قد جاءوا بجديد.
مما لا خلاف عليه أن آل محمد (صلى الله عليه وآله) هم النخبة،
نخبة النخبة من الإسلام، وشاهديتهم تعني تعلق هذه الوظيفة بالنخبة، إنما
تعريف النخبة على النحو المذكور أعلاه، وربط الشاهدية بها يخرج الأمر
عن نصابه، وفيه الكثير من الشاعرية والتمني والتجاوز للحقائق
الموضوعية، وهو من قبيل الاستطراد خارج الدلالة القرآنية في شرح معاني
القرآن، بإسقاطات على النصوص لا يقوم عليها دليل من قرآن أو سنة أو
عقل أو واقع. وليس في النصوص المتعلقة بالشاهدية ما يوحي بذلك. غير
أنه بعد أن استقرت حال ولاية الأمر على ما هو عليه من أن الولاية لمن
تولى، وأصبح إنكار إمامة آل محمد (صلى الله عليه وآله) سنة متوارثة،
كان لا بد من حرف مضمون أي نص قرآني عن حقيقته، ليخرجوه عن
دلالته على مرجعيتهم وإمامتهم، التي تتعارض مع إمامة الممسكين بزمام
الأمة، ولا تتعارض مع سلوك آبائهم الأولين، بما فيه هذا النص الصريح
الذي نحن بصدده، والذي لا يترك أدنى ريب في من هم الشاهدون على

208
الناس، فلكي يخرجوا الشاهدية عن آل محمد (صلى الله عليه وآله) ادعوا
أن المسلمين جميعا أبناء إبراهيم مجازيا (وفي هذا روح يهودية حيث
يدعون لأنفسهم مثله، وما هم) فأصبح هكذا الخطاب لجميعهم وأصبحوا
الشاهدين، ولما كانت هذه الدعوى ظاهرة البطلان، حيث أن كثيرا من
المسلمين إن لم نقل أكثرهم، لا يصلح للشهادة على حمار حتى يشهد على
الخلائق والأمم، وفيهم أساطين العلوم، ومنظرو المعارف البشرية، فلذلك
قالوا إن الشهادة فيهم لأن الشاهدين وهم النخبة كما عرفوها، هي فيهم،
لكن يبقى الإشكال قائما بتعريف النخبة المذكورة.
والمتأمل بالنص لا يملك إلا أن يفهم أن الشهادة المطلوبة من الله
تعالى إنما هي بالحق في كل أمر يخضع للشهادة، فإذا كان المعيار هو
الرسالة الإلهية التي هي محل الابتلاء، فيشهدون على الناس لها وبها، علمنا
حينئذ أن الشهادة المطلوبة هي بحقائق الرسالة ومعطياتها، بأصلها
وحقيقتها التي يريدها الله تعالى، لا بوجهات نظر شخصية تصدر عن
الشاهدين، وهذا يقضي بضرورة أن يكون لدى الشاهدين الوجه الحق
للدين الإلهي، وأن يكونوا على درجة من العلم والطهر فلا ينطقون إلا
بالحق، وهذا كله ناشئ من أن الشهادة هي لله، وهو الذي قد طلبها
وأناط وظيفتها بالشاهدين حسب منطوق هذا النص ذاته، وهذه
الاعتبارات كلها مصداق قوله تعالى * (.. إلا من أذن له الرحمن وقال
صوابا..) * وقوله تعالى: * (وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب،

209
وجئ بالنبيين والشهداء، وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون) * (سورة
الزمر 69).
ولقد جعل النص الشهادة على مرحلتين، النبي (صلى الله عليه وآله)
يشهد على الشاهدين بالحق الذي بلغه عن الله تعالى، وهم يشهدون على
الناس به. ولو كان ما لديهم من العلم محرفا عن أصله الذي لدى الله
ورسوله (صلى الله عليه وآله) لا يبقى محل لشهادة النبي عليهم، ولا محل
لشهادتهم ولا اعتبار، وهذا يستبطن بالضرورة أن يكون النبي (صلى الله
عليه وآله) قد جعل لديهم العلم الكامل بحقائق الوحي الإلهي، وأن يكون
الله تعالى قد ميزهم عن باقي الناس، بأن هيأهم بما يلزم من الفهم
لاستيداع ذلك لديهم، وبما يلزم من الطهر الذاتي لكي لا يضلوا فيه، كما
ميز رسوله بالعصمة وهيأه لاستيداع ما حباه به من العلم والوحي، خلافا
لغيرهم من الناس الذين يعتريهم النقص في العلم والضلال في الرأي أو
العمل، كما يستبطن أنهم المستحفظون على تلك الحقائق الربانية وهم
مرجعيتها، وأنهم حجج الله تعالى يحتج بهم على عباده، بما يمثلونه من
الوجه الصحيح للرسالة الإلهية علما وعملا، وكما أنهم يشهدون بحقائق
الرسالة والوحي على الناس / فإنهم بالضرورة يشهدون لها كذلك، مما يعني
أنهم مرجعيتها الذين بهم حفظ الله تعالى رسالته من التحريف، والأمة من
الاختلاف والضلال. وهذا هو الجوهر في شاهديتهم، التي هي بحقيقة
الدين لا بآرائهم الذاتية. وكما هو الحال في شاهدية النبي (صلى الله عليه
وآله)، وكما يقول النص ذاته بكل وضوح، كانت شاهديتهم اجتباء

210
إلهيا، وتكليفا ربانيا لا تطوعا بشريا، مما يوضح أنها وظيفة من وظائف
الرسالة، وحلقة متصلة بحلقة النبوة ومكملة لغاياتها، والنص واضح في هذا
المعنى حين جعل الشاهدين حلقة تتوسط بين النبي (صلى الله عليه وآله)
وبين الناس في خط الالتزام بالرسالة والاهتداء بها.
وفي المقابل فإن المتأمل في ما دعوه بالنخبة حسب تعريفهم، على
افتقاره للدقة والوضوح، يجد أن من أعطي هذه الصفة يصدر غالبا في
أفكاره ومواقفه عن رأيه، لا عن علم يقين، والقول " الذين يفهمون
الإسلام حق الفهم " لا يغير شيئا، فحق الفهم هذا هو في ظنهم ومن
زاويتهم الشخصية. فلا يكون بالضرورة مطابقا للصواب أو المصلحة أو
لأصل الدين، ولا يجترئ أحد على الادعاء بخلاف ذلك، إلا من زين له
الشياطين أعماله وأقواله، ومثل هؤلاء لا يصلح للشهادة في دين الله الذي
لا بد أن تكون بحقيقته. على أن النخبة هذه متعددة المشارب، متشعبة
الأهواء، مختلفة في فهم الأمور، وليست على رأي واحد في كثير من
المواضيع، ولا في كثير من المواقف التي يتطلب من الأمة اعتمادها، ولم
تكن في يوم من الأيام، هذا وقد افترق المسلمون إلى اثنتين وسبعين فرقة،
كما أخبر به النبي (صلى الله عليه وآله) ولكل فرقة نخبتها، فأي نخبة من
هذه النخب هي الشاهدة.
أجل، كل هؤلاء عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكليفا
كفائيا للأمة، وسيشهد الشاهدون المباركون يوم لا تبقى إلا الحقيقة،
بحقائق الدين والإيمان على كل من هؤلاء في الحيز الذي تصدى له، إذ

211
الشاهدية تتجاوز حيزهم كثيرا كثيرا، فهي وظيفة تختزن حفظ الدين
مطابقا لأصل الوحي مضمونا ونصوصا، وتختزن القيمومة عليه بروحه
وأهدافه، في كل أبعاده الفردية والمجتمعية والإنسانية العالمية، والنخبة
بالمفهوم المذكور هم من المتنورين في الأمة في أحسن تقدير، عليهم أن
يقوموا بواجبات كل مؤمن في خدمة الدين، أما الشاهدية فهي عليهم
ككل الناس، بل قبل غيرهم، إذ من يراجع التاريخ، يرى أن مثل هذه
النخب - التي كل منها ظن أنه يفهم الإسلام حق الفهم أو ظن مريدوه
كذلك - كثيرا ما كان سبب الفتنة والانحراف وسفك الدماء، بل أكثر
الذي حصل من هذا كان منها. بل إن من الأمثلة الدامغة على حقيقة
هذه النخبة ما يطالع المرء من مسلك الفقهاء ونتائج اجتهاداتهم في
موضوع الخلافة، بعد العزوف عن إمامة آل محمد (صلى الله عليه وآله)،
فيرى المهزلة حين خضع اجتهادهم لتقلبات الخلافة، ليبرر ويعطي الشرعية
لكل نماذجها، حتى الأسوأ منها، فخلافة الاختيار والشورى تصح حتى
بسبق الواحد إلى بيعة آخر، ولو عن غير سابق مشورة، فيلزم بها الأمة
بأسرها، كما تصح الخلافة بالاستخلاف وبالغلبة والسطو على المقاليد،
وتجب طاعة الولي الفاسق والجائر، ويصح تعدد الأئمة، وهكذا خضع
الاجتهاد لأسوأ تقلبات الخلافة بكل مفاسدها، يبررها ويشرعها،
وعجزت هذه النخبة، خلافا لما كان يرجى منها، عن بلورة نظام حكم
إسلامي متميز، يكون معيارا يصحح مسار الخلافة. ولو كان ذلك
لاختلف مسار تاريخ المسلمين برمته، فكشفت هذه الحقيقة عن انكسار
النخبة أمام الواقع المنحرف، بل حملت الرعية على الخضوع له باسم

212
الدين، وفقد الإسلام دوره العالمي، ولإزمان هذا الخطأ علاقة كبرى
بفشل المسلمين، وما آل إليه أمرهم من البوار. هذا هو حال النخبة التي
يدعون شاهديتها على مر التاريخ. والمضحك أنهم لما أرادوا تجديد
الحكاية، أضافوا إلى نخبة أسلافهم ما يمكن تلخيصه بالعاملين الإسلاميين،
وهؤلاء في معظمهم تعبير عن جماعات الأحزاب الإسلامية المعاصرة التي
كل واحد منها يصدر عن خلفية سياسية، ويتلقى التمويل من سلطة
حاكمة خلفه، فأي شاهدية ترجى إذن..
ألا أن النخبة في المقياس القرآني، تختلف كليا عن ذلك التعريف،
فالنخبة هي الأمثل طريقة في كل جماعة، لا يعلمها إلا ربها، ولا يدعيها
أحد من عباده إلا مغرور مختال أشر، لذا كانت الشاهدية التي تتطلب
هذه النخبة الأمثل اجتباء ربانيا، كما حكى هذا النص العظيم، ولم تكن
تطوعا ينتدب إليه الناس أنفسهم أو بعضهم، ولقد من تعالى على المسلمين
والبشرية بأن جعل فيهم بقية الذرية الإبراهيمية التي اصطفى على العالمين،
لا تفترق عن الوحي المنزل في القرآن، ثقلين لا يفترقا إلى يوم القيامة،
ذرية إبراهيم المصطفاة، التي جعل فيها النبوة والكتاب، فلننظر ما أوحى
رب العزة لرسوله الأمين (ص) من هذا الأمر بمحكم الكتاب المبين:
النصوص الإبراهيمية والحقيقة القرآنية:
إننا حين نجمع النصوص الإبراهيمية في كتاب الله تعالى في تفسير
موضوعي، إلى جانب نص الشاهدية الاجتبائية الذي نحن بصدده، يظهر

213
لنا بوضوح تام كثير من الحقائق القرآنية التي دأب أعداء آل محمد (صلى
الله عليه وآله) على طمسها.
فالله تعالى قد اجتباهم بموجب هذا النص لمهمة الشاهدية الكبرى
على الخلائق، وميزهم بأبيهم إبراهيم (ع)، لكي لا يفتري أحد ويجترئ
على ادعائها، وميزهم أيضا بأنهم الذين سماهم أبوهم بالمسلمين من قبل
نزول القرآن الكريم، إشارة إلى قوله تعالى * (ربنا واجعلنا مسلمين لك
ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا..) * فظهر أنهم
الأمة المسلمة من ذريته من إسماعيل (ع) التي سألها الله، فأجاب تعالى
سؤله فاجتباهم لمهمة الشاهدية، فعلمنا من هذا الاجتباء أنهم في عداد
الذرية الإبراهيمية الطاهرة التي اصطفاها على العالمين * (واصطفينا آدم
ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) * والتي جعل فيها النبوة
والكتاب * (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة
والكتاب..) * وأن ذلك الاجتباء من خلال هذين الاصطفاء والجعل، وأنهم
من الكلمة التي جعلها باقية في عقبه، كلمة التوحيد وحملة عهده
الشاهدين به على الناس ليرجعوا فيه إليهم ويهتدوا إليه بهم * (وإذ قال
إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون (26) إلا الذي فطرني فإنه
سيهدين (27) وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون) * (28) (1)
فمحمد (صلى الله عليه وآله) وآله عليهم السلام هم من كلمة التوحيد



(1) سورة الزخرف.
214
التي أبقاها الله في عقب إبراهيم ليرجع الناس بهم إليه، وعلمنا أيضا أنهم
لسان صدقه في الآخرين * (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) * فهم
لسانه الناطق بدعوته في الآخرين إلى يوم الدين، وأنهم من الأئمة الذين
وعد الله إبراهيم (ع) في ذريته * (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن
قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي
الظالمين) *، وأنهم أئمة معصومون لأن الإمامة التي وعدها تعالى لإبراهيم في
ذريته لا تكون إلا في من لم يخالطهم ظلم أبدا.
فهؤلاء هم آل محمد (صلى الله عليه وآله) الذين قد طهرهم الله
تعالى * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم
تطهيرا) *، ليدلنا على أنهم هم المصطفون في حقبة القرآن، الذين اجتباهم
الله من ذرية إبراهيم من أجل هذا الموقع الديني الخطير. لذلك حرص
النبي (صلى الله عليه وآله) أشد الحرص على إظهار من هم أهل البيت
المطهرون معه، ولم يفوت مناسبة إلا وأظهر ذلك مرارا وتكرارا، مما يفسر
كثرة المناسبات التي وردت في هذا المعنى. وهذا الحرص النبوي يترجم
الحرص الإلهي على إظهار موقعيتهم الرسالية حين أوجب الصلاة عيلهم
مع الصلاة على نبيه (صلى الله عليه وآله)، وأنهم في موقع القمة من
المؤمنين حين جعل مودتهم أجر الرسالة وكذلك حين جعلهم شركاء في
المباهلة وأخبرنا أنهم مع رسوله من نوره * (الله نور السماوات والأرض،
مثل نوره كمشكاة..) * وأنهم * (نور على نور) * وأنهم * (من شجرة
زيتونة مباركة لا شرقية ولا غربية) * الشجرة الإبراهيمية المباركة

215
المصطفاة على العالمين، وأنهم * (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها
اسمه..) *. وحرص النبي (صلى الله عليه وآله) بأمر ربه على أن يظهر أن
آله (ع) هم من المصطفين من آل إبراهيم (ع) حين أمر المسلمين بالصلاة
عليه وآله بالصلاة الإبراهيمية المعلومة، وأنهم هم مرجعية الأمة وأن
مرجعيتهم موازية لمرجعية القرآن، تعتصم الأمة بهما من الضلال، وما أكثر
السنن الصحيحة، وكثير منها متواتر في الدلالة على ما ذكرنا، ولقد
أوردنا بعضا منها في الفصل الثاني. هؤلاء هم الذين هيأهم الله تعالى
واجتباهم لمهمة الشاهدية الكبرى، وهم الشاهدون المباركون.

216
الفصل الرابع
من عنده علم الكتاب
* (ويقول الذين كفروا لست مرسلا، قل كفى بالله شهيدا بيني
وبينكم ومن عنده علم الكتاب) *.
- أي كتاب؟
- ما مضمون الشهادة؟
- من هو الذي عنده علم الكتاب؟
- الله تعالى ورسوله (ص) قد أوضحنا لنا من هم الشاهدون من
خلال الواقع العملي.

217
بسم الله الرحمن الرحيم
* (ويقول الذين كفروا لست مرسلا، قل كفى بالله شهيدا بيني
وبينكم ومن عنده علم الكتاب) * (1)
في البداية لا بد من معرفة من هم الكافرون المعنيون بهذا الكلام
وذلك من خلال النظر في سياق الآيات في سورة الرعد المباركة ابتداء من
الآية 30 * (كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلوا عليهم
الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن..) * ومرورا بالآيتين 32 و 33
* (ولقد استهزئ برسل من قبلك، فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم
فكيف كان عقاب (32) أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت
وجعلوا لله شركاء، قل سموهم، أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض، أم
بظاهر من القول، بل زين للذين كفروا مكرهم.. (33)) * ثم الآية (40)



(1) سورة الرعد / الآية 43
219
* (وإن ما نرينك بعض الذين نعدهم..) * والآية (42) * (وقد مكر الذين
من قبلهم، فلله المكر جميعا، يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكافر
لمن عقبى الدار) *.
نجد في سياق هذه الآيات الكريمة أن الكلام هو عن المشركين
الذين يكفرون بالرحمن، واستهزأوا بالرسل من قبل، وجعلوا لله شركاء،
وتوعدهم الله بالعذاب، وهم كمثل من قبلهم إذ مكر الذين من قبلهم.
فهذه الصفات هي للمشركين، مما يجعل قوله تعالى * (ويقول الذين كفروا
لست مرسلا..) * عائدا على هؤلاء.
إن الهدف من الكلام عن هذا النص الإلهي هو أن نعلم من الذي عنده علم الكتاب الذي
عنته الآية الكريمة، ومن أجل ذلك لا بد من
الإجابة عن عدة أسئلة، وإذا اتضح الجواب ظهر القصد، والأسئلة هي:
أي كتاب؟ حقيقة علم الكتاب؟ أي شهادة؟.
ونمهد لذلك بما يلي:
أن قول الكافرين * (لست مرسلا) * تستبطن رفضهم لرسالته بإنكار
نبوته (صلى الله عليه وآله)، لذلك إن الشهادة التي أشار إليها النص هي
للنبي (صلى الله عليه وآله) على الذين كفروا، بأنه مرسل من الله حقا،
وأنه قد بلغهم بالحق ولم يذعنوا له، يشهد بها تبارك وتعالى والذي عنده
علم الكتاب، فيما تعنيه * (من) * من واحد أو أكثر. فهل من أي إيحاء في

220
النص بأن هذه الشهادة مرتكزة على بشارة نبوته في التوراة أو الإنجيل؟
لتصبح الشهادة حينئذ بأنه نبي لأن اسمه في تلك الكتب؟ أليس هذا
إسقاطا على النص وإضافة على المعنى؟ وهل أن ذكر اسمه في الذي سبق
من الكتب يصلح دليلا على نبوته لولا وضوح حقانية دعوته، وظهور
منطقها وغلبتها على العقل والوجدان في مقابل نقيضها؟ وهل كان
تصديق الذين آمنوا مرتكزا إلى أن اسمه جاء في التوراة أو الإنجيل، أم كان
تصديقهم نتيجة قناعتهم بمنطقها؟
ولو تدبرنا في النص جيدا لاستوقفتنا حقيقة أن الشهادة صادرة عن
الله تعالى أولا وفي الأصل، وأنها قائمة بقيام النص إلى يوم الدين، الأمر
الذي يشكل المدخل إلى فهم المضمون. فهل شهادة الله تعالى بحاجة إلى أن
تكون من خلال الكتب المحرفة التي بين أيدي الناس، وهو جل وعلا منزل
الوحي، ولديه أم الكتاب ولديه أصل الحقيقة ومنشأها؟
وهذه الشهادة الحية بحياة الإنسان، والتي لا تختص بزمن صدور
النص، بل بكل زمن إلى يوم القيامة، ما دام هناك كافرون منكرون لنبوة
خاتم الأنبياء، هل كان يصلح لها كتاب إذ خضع للتحريف يبقى خاضعا
لمزيد منه ما دام أصحابه مصرين على الباطل؟ فلو أسقطوا منه البشارة
بعد صدور النص ومرور الزمن فهل يبقى شاهدا على أصحابه الغافلين
عن أصله؟ وهل تسقط الشهادة للحق على عموم الناس إذ لا يبقى لها
مصداق فيه للأجيال اللاحقة؟

221
كلا، إنها الشهادة الأزلية بأصل الحقيقة التي عند الله، ولا يغيرها إن
خالفت أو وافقت ما في الكتب التي لدى الناس، لذلك جاءت منه أولا
وفي الأصل، وثم من الذي جعل لديه علمها في * (الكتاب) *، فاقتضى أن
تكون هذه المطابقة لتلك، ومن سنخها لجهة كشفها عن أصل الحقيقة التي
عند الله، والتي جعلها معلومة لهذا الشاهد من خلال علم الكتاب الذي
جعله لديه، مما يرجح أن يكون الكتاب الذي فيه حقائق الرسالات الإلهية
والوحي الإلهي، لا أحد الكتب التي داخلها ما ليس من الله، فمثل هذه
الشهادة لا يضيرها إن خالفها ما في أيدي الناس من كتب علم أنها محرفة،
ولا يزيدها موافقتها مصداقا، بل هي كافية بذاتها. لذا ركز النص على
هذه الحقيقة، فأبرزها حين بدأ بقوله * (قل كفى..) * فهي كافية لتقرير
الحقيقة الربانية، دون حاجة إلى إقرار آخر من جهة أخرى، طائفة كانت
أم كتابا، وسيزداد المطلب وضوحا وتأكيدا بالإجابة على الأسئلة التي
طرحناها بداية.
أي كتاب؟
على أنه في النص ذاته، لو أخذنا ضرورات المعهود من اللغة
بالاعتبار، ما يكفي للدلالة على طبيعة الكتاب المعني، ألا ترى أن الآية
الكريمة قد ذكرت * (الكتاب) * معرفا بألف لام التعريف، للدلالة على أنه
الكتاب الغني عن التعريف، لأنه إذا ذكر لم يذكر معه سواه، ولم يتبادر
إلى الذهن غيره، فلو كان لدينا كتب عديدة وأردنا أن نخبر أحدا أن يقرأ
أحدها دون تعيين صح أن نقول: " إقرأ كتابا " فيعني أحدها لا فرق، وإن

222
شئنا أن يقرأ واحدا منها دون سواه لوجب تعيين صفته المميزة له، كأن
نقول: إقرأ الكتاب الأخضر، أو إقرأ كتاب التوراة، لحلول الصفة محل
الكتاب في الشائع، لانفراده بها عن غيره. أما لو كان أحد الكتب متميزا
على كل ما عداه، بحيث لو ذكر دون صفة عرفه الناس، لجاز لنا أن
نقول: إقرأ الكتاب معرفا بألف لام التعريف للدلالة على أنه الكتاب
المعروف، لأنه غني عن التوصيف. لذلك قال تعالى: * (ومن عنده علم
الكتاب) * وقال * (الذي عنده علم من الكتاب) *، فلو أن القصد واحد
من الكتب السابقة، كالتوراة أو الإنجيل أو الزبور أو سواها، مما عرف
قبلا لاقتضى ذكره بصفته التي عرف بها، أما وقد ذكر على هذا النحو
المشار إليه، فدل على أنه ليس أيا منها، بل الكتاب الغني عن التعريف،
والذي إذا ذكر لم يذكر معه غيره، وإذا حضر رفع الحاجة لسواه. فماذا
عساه أن يكون من الكتب إلا الكتاب الذي إليه يرجع سواه، لأنه الأصل
الشامل والوجه الصحيح لكل ما عداه، المتميز بأصالة المضمون وصدقه
وشموله لحقائق الدين، فهو المعتبر * (الكتاب) * عند خالقه تعالى، دون ما
عداه من الكتب التي أصابتها الشوائب التي من صنع الإنسان وأهوائه،
فخرجت بذلك عن الحقائق الربانية وعن مصداقية (الكتاب) الإلهي في
عين الحقيقة. فهذا الكتاب إذ يذكره لا ذكر لغيره معه، لذا جاء معرفا
بألف لام التعريف، ليعلم أنه مصداق الكتاب عند الله.
على أننا نستطيع أن نؤكد هذا المعنى الذي ذهبنا إليه في معنى
" الكتاب " إذا أخذنا النصوص القرآنية التي تتكلم عن الكتاب في تفسير

223
موضوعي واحد. قال تعالى: * (ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي
أحسن وتفصيلا لكل شئ وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم
يؤمنون...) * (1)... وقال تعالى * (أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على
طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين) * (2) * (أو تقولوا لو أنا
أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم..) * (3) * (ولقد أرسلنا رسلنا
بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) * (4)
و * (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب
فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون) * (5).
فنجد أن (الكتاب) ينزله تعالى على جميع الرسل، مما يشير إلى أنه
يعبر عن ما ينزل الله من الوحي الإلهي والرسالات السماوية، وأنه هو
الكتاب الذي ينزل على كل نبي مرسل، وذلك لتطابق ما نزل على كل
رسول مع ما قبله، من قوله تعالى عن القرآن الكريم: * (وأنزلنا إليك
الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه) * فالذكر
الحكيم الذي هو آخر الكتب السماوية مطابق لما قبله من الكتب، ولما
كانت نسخ الكتب التي بين أيدي الناس محرفة (كما ينص القرآن



(1) سورة الأنعام، الآية 154.
(2) سورة الأنعام، الآية 156.
(3) سورة الأنعام، الآية 157.
(4) سورة الحديد، الآية 25.
(5) سورة الحديد، الآية 26.
224
الكريم)، فمطابقة القرآن للكتب السابقة تعني في أصلها المنزل على
رسلها، لا في وضعها الذي آلت إليه في عصر نزول القرآن. وهذا يقدم
قرينة أخرى على أن " الكتاب " حيث يذكر فيعني ذلك الكتاب، الذي فيه
الوحي المنزل ورسالات السماء، كما نزلها تعالى على رسله. ولما كان ما
في أيدي الناس محرفا، صار القرآن الكريم هو مصداق الكتاب في الاعتبار
الإلهي وغدى هو مرجعية الرسالات الإلهية لتمييز الحق من الباطل، وهذا
ما دل عليه قوله * (ومهيمنا عليه) *. ومما يعطي مزيدا من التأكيد لمعنى
" كتاب " الذي ذكرنا، قوله تعالى * (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم
من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم..) * فما أنزل إلى
محمد (صلى الله عليه وآله) مصدق لما عند النبيين قبله من كتاب وحكمة،
- أي: الكتاب في أصله - لا لما عند الناس مما طرأ عليه التحريف،
وقوله تعالى * (وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن
تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب
العالمين) * (1) ولما كان القرآن الكريم مصدقا لما قبله من الكتب وفي ذات
الوقت تفصيلا للكتاب، دل على أن الكتاب هو مجمل ما ينزله تعالى إلى
رسله، وأن في القرآن الكريم مزيدا من التفصيل لما كان قد أجمل للأنبياء
الذين سبقوه.
فالكتاب بهذا المعنى هو ما ينزله تعالى على رسله، فهو عندهم
جميعا. على أن في القرآن الكريم ما يشير إلى أن الله تعالى يظهر من



(1) سورة يونس، الآية 37.
225
" الكتاب " الذي ينزله لكل رسله إلى الناس بقدر ما يناسب زمانهم، وهذا
ما يوافق قوله تعالى * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى
كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون) * (1) * (ألم تر
إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت) * (2) بينما
يقول تعالى * (ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا
لكل شئ..) * (3) هذا يدل على أن ما أوتي موسى (ع) هو الكتاب، بينما
قد يعني أن ما ظهر منه للناس بحكم زمانه هو تأويل بعضه، بينما تمام
تأويله مستحفظ لدى أوصيائه وأنبياء بني إسرائيل، ليظهروا لأهل زمانهم
لكل ما يحتمله زمانهم، أو أن لدى موسى (ع) الكتاب، لكن التوراة
بعضه، ونرى أن المعنى الأول أظهر.
على أن أحدهم قد يقول عن بعض النصوص من مثل قوله تعالى
* (.. وأنتم تتلون الكتاب..) * فهم يتلون الذي بين أيديهم، وقد سمي هنا
بالكتاب على ما كان فيه من تحريف في زمن بعثة محمد (صلى الله عليه
وآله). لكن الذي يتبصر في النص فيعلم خلاف ذلك. إذ أن من يقرأ
بعضا من الكتاب ويتلوه، يقال له أنه يقرأ أو يتلو الكتاب، ولا يعني
بالضرورة أنه يتلوه جميعا، والذي بين أيديهم هو بعض الكتاب بالأصل أو
بالتحريف فتلاوة هذا البعض وجزءا منه أو كله، هي قراءة في الكتاب،



(1) سورة آل عمران، الآية 23.
(2) سورة النساء، الآية 51.
(3) سورة الأنعام، الآية 154.
226
وتلاوة للكتاب، لأن من هذا البعض ما هو من أصل الكتاب، لا سيما ما
كان أمرا بالعدل وقول الحق الذي هو موضوع اهتمام النص المذكور، لذا
يصح أن يقال عن تلاوة هذا الجزء من الكتاب أنها تلاوة الكتاب ما
دامت أنها تلاوة للبعض الصحيح منه المطابق لأصل الكتاب.
إذن قوله تعالى * (.. ومن عنده علم الكتاب) * هو هذا الكتاب
الذي فيه مجمل الوحي الإلهي والرسالات السماوية، كما تنزل على
الرسل، فمثل هذا الكتاب يكون الحق المطلق والصدق الخالص، ويمتلك
مصداقية الشهادة على نبوة محمد (صلى الله عليه وآله) وصدقه ودعوته،
كلما كفر به كافر وأنكر حقانية دعوته منكر إلى يوم الدين، لأنها
مصداق لأصل الحقيقة التي عند الله، والتي فيها الكفاية بذاتها، لا يغير منها
إنكار أو إقرار من جهة أخرى، من طائفة أو كتاب. وسيزداد المعنى
وضوحا حين نعلم غاية الشهادة المطلوبة.
حقيقة علم الكتاب؟
قوله تعالى * (ومن عنده علم الكتاب) * تعني كامل العلم لا بعضه،
فلو كان العلم هذا مجتزءا، لوجب القول من عنده بعض علم الكتاب، أو
كما قال تعالى * (قال الذي عنده علم من الكتاب) * إشارة إلى آصف بن
برخيا، وهو يعني أن عنده بعض علم الكتاب، لأن (من) تفيد التبعيض.
إذن وبحكم قواعد اللغة العربية، وأساليب البيان، نعلم من النص
ذاته دون اللجوء إلى دلالات خارجية، أن الجهة المعنية بالنص الإلهي لديها

227
كامل علم الكتاب. وهذا يخرج من دائرة الاحتمالات بغض النظر عن
الكتاب المعني عبد الله بن سلام الذي ادعي له هذا الأمر، فلو فرضا جدلا
أن الكتاب هو التوراة فهل كان لديه كامل العلم بها؟ فلو كان ذلك فلم
لم يؤمن بعيسى (ع) إلى أن جاء محمد (صلى الله عليه وآله)؟ هل جهلا
بمضمون الكتاب أم جحودا للحق؟ فإن كان الأول فقد نقض قولهم وإن
كان الثاني فلا يصلح معه للشهادة على هذا الأمر الذي فيه مصداقية
الرسالة.
على أن ما يدل دلالة قاطعة على أن ما عنده من العلم وما عند
سواه، ممن أسموهم علماء توراة أو إنجيل، هو علم ببعض الكتاب قوله
تعالى الذي أشرنا إليه في الفقرة السابقة * (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من
الكتاب..) * ليدل أن ما لدى أهل الكتاب ما هو إلا بعض الكتاب وليس
كله، وأن علم علمائهم هو علم ببعض الكتاب لا كله، لأنه حتى لو
استوفى كل ما أوتوه ولو لم يكن مشوبا بالتحريف، فإنه يبقى علما
بنصيب من الكتاب بعد أن أثبتنا في الفقرة السابقة مدلول " الكتاب " وأن
العلم المشار إليه علم به كله.
إلى هنا خرجنا بمعلومتين هامتين أن الكتاب المقصود هو الذي فيه
مجمل الوحي الإلهي ورسالات السماء، كما هي لدى الله وكما أنزلها
على الرسل، وأن العلم المعني هو العلم الكامل بهذا الكتاب، أي
بالرسالات الإلهية، فلا مفر أمام أي مكابر من الاعتراف بأن مثل هذا
العلم لا يكون علما كسبيا عن رواية وسماع واستقراء، مما هو متاح

228
لعموم الناس، فهو علم رباني جعله تعالى عند رسله الذين أنزله عليهم،
كما ينص القرآن الكريم، ومن خلال وظيفتهم كرسل. فلو وجد عند
أحد غيرهم من العباد، لاقتضى بالمثل أن يكون عن عطاء إلهي، من خلال
وظيفة مقررة إلهيا. ولقد جاء هذا النص العظيم * (قل كفى بالله شهيدا
بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) * ليخبرنا بأنه إلى جانب النبي (صلى
الله عليه وآله)، الذي جعل لديه علم الكتاب لأنه رسول الله، فقد جعل
هذا العلم عند جهة أخرى، وقد كلفها بالشهادة للنبي (صلى الله عليه
وآله)، فكان هذا الجعل بسبب ذلك التكليف، وكان العلم جعلا ربانيا،
لا علما كسبيا، وكانت الشاهدية تكليفا إلهيا لا خيارا أو تطوعا بشريا.
ما هي الشهادة المطلوبة؟
من العجيب: قول بعضهم أن من عنده علم الكتاب لا يكون أمير
المؤمنين (ع) لأن الخصم لا يقرون به، كونه من صف النبي (صلى الله عليه
وآله). إن هذا الكلام ينطق من اعتبارهم أن الشهادة تهدف إلى إقناع
المشركين بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله) من خلال التبشير بها في الكتب
السابقة، وتنطوي على مغالطة وسطحية عجيبة.
أولا: ادعاؤهم أن عبد الله بن سلام أو غيره ممن سموهم علماء أهل
الكتاب هم المعنيون بالآية، يوقعهم في نفس المحذور الذي على أساسه
أزاحوها عن أمير المؤمنين (ع)، ذلك لأن هؤلاء بعد إسلامهم قد أصبحوا
لدى المشركين بذات المستوى، وفي صف النبي (صلى الله عليه وآله) كعلي

229
(ع)، وهذا يجري أيضا فيما لو شمل النص إلى جانب المشركين أهل
الكتاب، فضلا عن أن المشركين لا يعترفون بهم ولا بأنبيائهم ولا كتبهم
لا قبل الإسلام ولا بعده، فلا معنى لطلب شهادتهم بتلك الكتب إن
كانت الشهادة للإقناع.
ثانيا: لو كان هذا النوع من الاحتجاج سليما، لجرى مثله أيضا
على شهادة الله تعالى. ألم يقل تعالى " كفى بالله شهيدا.. " فهل المشركون
يرون الله أو يكلمونه؟ حتى تنفع شهادته تعالى بإقناعهم؟ فمثل هذه
الشهادة لا تضيف على قول الرسول (صلى الله عليه وآله) بأنه مرسل من
الله، إذ ما زالت بالنسبة للخصم في موقع الدعوى ولم تتعده إلى الإقناع،
مثلها في هذا مثل شهادة من عنده علم الكتاب الذي هو من صف النبي
(صلى الله عليه وآله)، أيا كان أمير المؤمنين أو من آمن من علماء أهل
الكتاب، فكل هذه الشهادات لا تخدم في إقناع المشركين. أما لو كان
المخاصمون هم أهل الكتاب، فلا فرق حينئذ في أن يخبرهم بالبشارة التي
هي في كتبهم أي مخبر عالم بها يذكرهم ويدلهم عليها، فالعبرة حينئذ هي
في وجود البشارة، لا في شخص المخبر.
هذا يظهر طبيعة الشهادة المطلوب الادعاء بها، فهي ليست شهادة
الإقحام والإقناع من قبيل الفض بين مدع ومدعى عليه أمام القضاء، بل
هي شهادة أسمى موقعا، لا تحصل القناعة بموضوعها الذي هو حقانية
الرسول ودعوته، بواسطة شهود مهما عظموا، بل ما يمنح القناعة
بموضوعها صوابية محتواها، ومطابقتها للعقل وموافقتها للوجدان، ومواقف

230
هؤلاء كانت عنادا وتعجيزا، غير منطلقة من عقلانية أو مصداقية، فهم قد
أوصدوا عقولهم وقلوبهم لأنهم لا يريدون الإيمان، لذلك لم يكن الهدف
هنا من الشهادة الاحتجاج عليهم لإقناعهم، ولو كان ذلك فلا معنى
لشهادة الله فيه كما تقدم القول، بل قوله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله)
في هذا الحال * (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم
الكتاب) * يعني أنه لا تهتم لافتراءاتهم وأقوالهم، فهم معاندون والحق واضح
لمن أراده، ولا يضرك شيئا إن لم يعترفوا لك بالنبوة، وإنكارهم لن يغير
حقيقة أنك نبي مرسل، لذا قل لهم (كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن
عنده علم الكتاب)، فالله يشهد ومن عنده علم الكتاب لك عليهم، بأنك
بلغتهم وأقمت الحجة، وأنك نبي الله حقا، فهي الشهادة للرسول (صلى
الله عليه وآله) بقيام الحجة على المنكرين، وكذلك هي الشهادة بالحقيقة
الأزلية الأبدية، التي لا يضيرها المشككون والمعاندون، والتي سيعلمها
الناس مهما طال الزمن، ومهما طال صدود هؤلاء، وعبر مطلق الزمان ما
دام في الناس جاهلون ومشككون، ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى * (قل أي
شئ أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم) * (1) ذلك لأن الشهادة الله
هي الحق المطلق وكذلك * (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه
والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا " (2) فإضافة شهادة الملائكة لها ذات
الدلالة، فهؤلاء لا يرونهم ولا يكلمونهم، فهي الشهادة للرسول (صلى الله



(1) سورة الأنعام، الآية 19.
(2) سورة النساء، الآية 166.
231
عليه وآله) بقيام الحجة على المشركين، والشهادة للحقيقة المطلقة بأنه نبي
الله حقا، ومثله كانت شهادة من عنده علم الكتاب.
وهكذا تتضح السطحية والمغالطة في دعواهم التي على أساسها
أنكروا أن يكون أخو رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين
علي (ع) هو من عنده علم الكتاب.
ولما كانت الشهادة المطلوبة هي للحقيقة المطلقة، فلقد كانت
تستدعي من علمه مطابق للحقيقة التي هي في علم الله، لذلك جاءت
الشهادة منه تعالى، وأضيف إليها تارة شهادة الملائكة، وأخرى شهادة من
عنده علم الكتاب، فعلم الله هو الحق المطلق، وأما علم الملائكة فهو
كذلك في الموضوع الذي يشاء الله لهم العلم فيه، وعلم من عنده علم
الكتاب هو كذلك في موضوع علم الكتاب الذي سبقت الإشارة إلى أنه
مجمل حقائق الأديان والوحي المنزل على الأنبياء، فهو يعكس الحقيقة
المطلقة، لأنه علم من الله خلافا لعلم الآخرين من علماء التفسير وسواهم
الكسبي القائم على السماع والرواية والاستقراء، ومثل هذه الشهادة
يكون فيها الكفاية * (قل كفى..) * إذ لا يضيرها أطابقت ما عند أولئك أم
خالفت، أكان لها مصداق في كتبهم أم لا، أأقروا بذلك المصداق أم
أنكروه، أظهروه أو أخفوه، أثبتوه أم حرفوه زمنا بعد زمن، فالحقيقة التي
عند الله هي هذه، ولا تتغير، وهذا يجري على كل الكافرين أكانوا
مشركين أم كتابيين.

232
في الخلاصة وجدنا أن سياق الآية ذاتها ودون الحاجة إلى التفاسير
المروية تفرض علينا أن: الكتاب المعني هو مجمل الرسالات السماوية، أو
الكتاب الذي فيه علم ذلك، وأن العلم المعني هو العلم الكامل به، وأن
طلب الشهادة ليس بهدف الإقحام والإقناع، بل يعني شهادة للنبي (صلى
الله عليه وآله) عليهم بأنه بلغهم وأقام الحجة، كما يعني تقرير حقيقة أبدية
للإنسانية ما وجد مشككون وأن إنكار المعاندين لا يغير من الحق شيئا،
فالحقيقة المطلقة أن محمدا (صلى الله عليه وآله) رسول الله تعالى، لا يشك
فيه من طلب الحقيقة.
وهكذا فإن الجهة التي عندها علم الكتاب، لا بد أنها جهة حباها
الله به من خلال ما حملها من وظيفة ربانية في حمل الرسالة، إذ جعله تعالى
عند نبيه المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وعند الرسل عليهم السلام،
الذين نزل عليهم الكتاب، من خلال وظيفتهم في حمل الرسالة. وحين
يوجد عند آخرين من عباد الله، كما دل هذا النص بالذات، لا يكون
ذلك عن تحصيل مما هو متاح للناس من سبيل علم، بل يكون كذلك
جعلا ربانيا، من خلال وظيفة ربانية من وظائف الرسالة، دل هذا النص
على أنها وظيفة الشاهدية، وهكذا يدلنا هذا النص العظيم على جملة أمور
أوجزها:
أولا: أن الجهة الشاهدة تشهد بالكتاب، وأن علم الكتاب ضرورة
وشرط للشاهدية.

233
ثانيا: أن وظيفة الشاهدية اصطفاء رباني بالضرورة، وليست تطوعا
بشريا، لارتباطها بعلم الكتاب الذي لا يكون كسبا بل جعلا إلهيا من
جهة أولى، وبدلالة النص المباشرة على تكليف بها لمن عنده علم الكتاب
من جهة ثانية.
وهكذا تتضح حقيقة الشاهدية والشاهدين في باقي النصوص
القرآنية المتعلقة بالموضوع.
إذن من هو الشاهد الذي عنده علم الكتاب؟
من هنا نعلم صدق قول الشيعة وكثيرين من السنة أن * (من عنده
علم الكتاب) * هو عبد الله ووليه وأخو رسوله (صلى الله عليه وآله) علي
بن أبي طالب (ع)، وتفاهة الادعاء بأن هذا يخص عبد الله بن سلام أو ربما
سواه من أسموهم علماء التوراة، وذلك لجملة أسباب:
أولا: هؤلاء لا يحققون فروض النص ذاته وبمعزل عن أي رواية في
التفسير، لجهة طبيعة الكتاب والعلم والشهادة، الأمر الذي يخرجهم من
الاعتبار كليا، ويجعل في الادعاء استخفافا بعقول الناس، ويسقط بضع
روايات لدى السنة قد لا تعدو الثلاثة التي بني عليها هذا الادعاء، ويثبت
كذبها والأيدي الأموية التي خلفها، فضلا عن ما تواجهه هذه الروايات في
مقاييس علم الحديث من تعارض في كل واحدة منها، ومن وهن في
الأسانيد والمتن، فلا تصلح لمعارضة الكثرة من الروايات لدى السنة التي
تقر بأن الشاهد المعني هو علي بن أبي طالب (ع)، وهي جميعا تواجه

234
ضوابط علم الحديث ومقاييسه، فضلا عن الروايات المتواترة شيعيا بهذا
المعنى، ولمن أراد المزيد من الناحية الروائية لهذا الموضوع فعليه مراجعة
الكتاب القيم (من عنده علم الكتاب) لفضيلة الشيخ جلال الدين الصغير،
حيث قد أوفاها حقها.
ونموذج هذه الروايات عن عبد الله بن سلام أن ابنه طاف في المدينة
ينادي (ليس كما تذهبون إن من عنده علم الكتاب هو أبي عبد الله بن
سلام وأباهل على ذلك).
هذا الكلام يدل أولا على أن الادعاء ليس رواية عن النبي (صلى الله
عليه وآله) مما يجعله ادعاء شخصيا ليس إلا، ثانيا على أن الذي كان
سائدا في المدينة حينئذ أن من عنده علم الكتاب هو أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب (ع) بدليل قوله (ليس كما تذهبون)، ثالثا قد يقال إن هذا يدل
على أن الرجل ينفذ أمرا مطلوبا منه بهذا الادعاء لمعارضة السائد لدى
الناس، فلم نر في تاريخ الأمم أن صاحب علم يطوف في شوارع مدينة
وينادي بعلم يريد أن يعلمه للناس، أو عالما بسنة أو قرآن ينادي في الأزقة
لينقل للناس حديثا سمعه أو تفسيرا علمه، ولئن دل هذا الفعل على شئ
فإنما يدل على دعاية يراد إذاعتها بما ينسجم مع السياسة الأموية في محاربة
أي فضيلة متبقية لدى عامة الناس لأمير المؤمنين عليه السلام وآل
محمد (صلى الله عليه وآله) بعد أن جعلوا مسبتهم للمسلمين سنة (1).



(1) وللمنافقين الكارهين لعلي وأهل البيت من خدام معاوية مواقف كثيرة، فشبيه بهذا الأمر
الذي ذكرناه عن ابن عبد الله بن سلام، موقف عكرمة الذي ينادي في المدينة عن آية
التطهير لأهل البيت " ليس كما تذهبون إليه، إنما هو نساء النبي " (الدر المنثور ج 5
ص 198). فقول عكرمة كقول ابن عبد الله: ليس كما تذهبون، لا يدل إلا على أنه يريد
إشاعة أمر يخالف ما هو سائد لدى الصحابة والتابعين في المدينة. وهو مثله ينادي، فما
سر هذه الغيرة على الدين والعلم يا ترى؟ وكلاهما يقول إني أباهل، يقول عكرمة " من
شاء باهلته أنها نازلة في أزواج النبي " (الدر المنثور ج 5 ص 198)، فما سر هذا الحماس
وهذا الإصرار على تغيير ما تسالم عليه الصحابة والتابعون؟ السر معلوم في وحدة الانتماء
لدى هؤلاء كأسيادهم من الطلقاء والمؤلفة قلوبهم، الانتماء إلى حزب المنافقين الذين أظهر
رسول الله (ص) علامتهم وهي بغض علي (ع): يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا
منافق ". وهؤلاء كانوا معروفين بذلك. ولعكرمة تاريخ معلوم في الكذب على ابن عباس،
وفي وفيات الأعيان ج 1 ص 320 عن عبد الله بن أبي أوفى " دخلت على ابن عبد الله بن
عباس وعكرمة موثق على باب الكنيف، فقلت: أتفعلون هذا بمولاكم؟ فقال: إن هذا
يكذب على أبي ".
235
ثانيا: إن قول الشيعة بأن من عنده علم الكتاب هو علي بن أبي
طالب وآل محمد (صلى الله عليه وآله) مؤيد بجملة أمور:
فالادعاء دائر بين عبد الله بن سلام وربما أمثاله، وبين علي بن أبي
طالب (ع) وآل محمد (ص)، ولقد سقط الأول بحكم بيانات النص ذاته من
جهة، وعدم قيام دليل عليه من خارج النص من جهة ثانية، وبكثرة
المروي من أسباب النزول في علي (ع) وحجته بمقاييس علم الحديث، في
مقابل سقوط القليل الذي خالفها واستنادا إلى ذات المقاييس.
فيبقى الاحتمال الثاني.
على أن هذا الاحتمال يؤيده جملة من النصوص الثابتة سنيا وشيعيا
وبعضها متواتر، والتي تجعل في علي خاصة وآل محمد (صلى الله عليه وآله)

236
عامة صفات تواجه فروضات النص، إضافة إلى شواهد واقعية.
ففضلا عن أن في التفسير المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أن
من عنده علم الكتاب هو علي (ع) كما سبق الذكر قبل قليل، وأن هذه
الروايات كثيرة لدى السنة وهي صحيحة بمقاييس علم الحديث، فهناك
نصوص نبوية ثابتة لدى السنة والشيعة كذلك، والتي تعطي أمير
المؤمنين (ع) صفة العالمية بالكتاب التي يفرضها النص، بل وصفة الشاهدية
كذلك، ومنها على سبيل المثال لأداء الغرض لا على سبيل الحصر: * (أنا
مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأت الباب) * (1)، فالنبي (صلى
الله عليه وآله) لا ريب أنه كان لديه علم الكتاب، ككل الرسل قبله،
والذين ينزل الله عليه الكتاب حسب محكم القرآن، وقد أوردنا من ذلك
نصوصا عديدة خلال البحث، وهذا يجعل عند أخيه علي (ع)، علم
الكتاب أيضا بنص هذا الحديث.
ومنها: " علي مع القرآن والقرآن مع علي " (2).
ومنها: " علي يقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل " (3) ولهذين
الحديثين دلالة مشابهة للسابق.



(1) تراجع مصادره الموثقة في الملحق التوثيقي للعلامة الشيخ حسين الراضي بذيل المراجعات،
ط، بيروت 1982، ص 144 و 145 وهو حديث مشهور ومتواتر.
(2) يراجع ذات المصدر، ص 169.
(3) ذات المصدر ص 147 و 148.
237
ومنها: " يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي
بعدي " (1). فله عليه السلام كل منازل هارون من موسى إلا النبوة، وهي
الأخوة والوزارة والشراكة، مما يجعله طبيعيا جزءا من بنيه الرسالة، ويحمل
من أسرارها وعلومها ما كان لدى النبي (صلى الله عليه وآله)، كما كان
هارون من موسى (ع).
ونصوص أخرى تعطي صفة العالمية هذه إلى آل محمد (صلى الله
عليه وآله):
منها حديث الثقلين المتواتر سنيا وشيعيا (إني تارك فيكم ما إن
تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فلا
تتقدموهم فتهلكوا ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم
أعلم منكم) (2). فالعترة قرينة الكتاب وهي العالمة به، وأعلم الأمة مع
القرآن، الذي هو المرجعية الصادقة للوحي والرسالات السماوية والتي هي
مضمون " الكتاب " كما أوضحنا، لأن فيه مصداق ذلك كله بل وهو
المهيمن عليها.
هذا وإن النص القرآني الذي يطلب شهادة من عنده علم الكتاب،
بعد أن دل بذاته ومن خلال فروضه بالخاصة أن المعني ليس عبد الله بن
سلام ولا أيا من اليهود والنصارى الذين أسلموا، فلزم أن يكون في



(1) ذكرنا عنه في بحث آية أولي الأمر.
(2) ذكرنا عنه الكفاية في بحث آية أولي الأمر، وهو متواتر ومن أشهر الآثار وأثبتها.
238
غيرهم من المسلمين، وهذا يقودنا إلى الصواب المقصود بغض النظر عن
النصوص الأخرى، فهل أحد من المسلمين يجترئ على أن يدعي أنه أعلم
بكتاب الله من علي بن أبي طالب (ع)؟ والله لا يدعيها إلا كاذب أفاك،
فهل يكون إذن أولى منه بهذا المقام؟ ومن جهة ثانية، إن كان يحلو للبعض
معارضة آل محمد (صلى الله عليه وآله) بعد أن اجترأ فسقه الأمة ومنافقوها
عليهم وعلى سبهم وسفك دمائهم وهتك حرمهم، فإننا وإياه نعود إلى ما
أنفقنا على صحة صدوره من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لنرى أنهم
هم أعلم الأمة، وحديث الثقلين الذي أوردناه نموذج في هذا فلا
ضرورة لمزيد في هذا الإطار.
هذا النصوص النبوية الصحيحة والتي بعضها متواتر، تفيد القطع
بأعلمية أخي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبأن عنده كامل علم
الكتاب كما كان عند النبي (صلى الله عليه وآله)، مما يجعله يحقق فروض
النص الذي نحن بصدده، ويجعله بما لا يقبل الشك * (من عنده علم
الكتاب) * أو ممن عنده. ومن جهة ثانية تلك النصوص تفيد أعلمية آل
محمد (صلى الله عليه وآله) وتجعلهم بعد النبي عليهما السلام هم
أولى الناس بهذه الصفة، فإن كان من أحد عنده علم الكتاب حقيقة كما
يدل النص، فلا أحد يكونه بعد النبي (صلى الله عليه وآله) سوى علي
والآل الأطهار عليهم السلام.
على أن ما يؤكد كل هذا نص الاجتباء للشاهدية الذي يختص بها
أبناء إبراهيم من إسماعيل عليهم السلام، * (هو اجتباكم وما جعل عليكم

239
في الدين من حرج، ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي
هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس) * وكما
أوضحنا في مكانه من هذا الكتاب أن محمدا وآله (صلى الله عليه وآله) هم
الشاهدون، النبي (صلى الله عليه وآله) شاهد عليهم، وآله (ع) الشاهدون
على الناس، يشهدون بكتاب الله ورسالته، ولا يكون الشاهد على الناس
بأمر إلا من كان أعلمهم به وأكثر إحاطة بمضمونه.
الله تعالى ورسوله (ص) يدلان على الشاهدين في الواقع العلمي:
على أنه هناك وقائع تاريخية في التطبيق العملي من قبل رسول
الله (صلى الله عليه وآله)، تدل على هذا المعنى، فلما ناظر (صلى الله عليه
وآله) قوم (عبد الله بن صوريا) اصطحب معه أخاه عليا (ع)، ومن جملة
ما حصل النقاش حوله أن طلب النبي (صلى الله عليه وآله) منه أن يخبرهم
بحكم الزانية في التوراة، وكذلك في مناظرته مع وفد نجران، قد اصطحبه
معه ليشارك في النقاش والاحتجاج في حقيقة عيسى (ع) التي لها جوانب
غيبية مهمة لا يحصل العلم فيها إلا من الله تعالى، فها هنا يظهر الكثير من
الحقائق، إذ جعل النبي (صلى الله عليه وآله) أخاه عليا (ع) شاهدا على
اليهود وعلى النصارى، وهل كان (صلى الله عليه وآله) لا يعلم بالذي
يريد من أخيه (ع) قوله والاحتجاج به على هؤلاء، كلا، بل
الرسول (صلى الله عليه وآله) مدينة العلم وعلي (ع) بابها، لكنه جعله
شاهدا بينه وبينهم، وأراد أن يظهر للناس جميعا موقع أخيه (ع) من نفسه
ومن الرسالة، وأنه واقعا منه بمنزلة هارون من موسى، كما فعل في

240
مناسبات أخرى حين خلفه على المدينة في غزوة تبوك حين قال: ألا
ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، وقال
لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي، وحين بعثه وراء أبي بكر ليأخذ منه
سورة براءة ويبلغها، فرجع أبو بكر وسأله: نزل في شئ؟ فقال (ص)
" لا، ولكن جبريل جاءني فقال: لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك " (1).
والأداء هنا ليس لأمر شخصي، بل لأمر رباني وجزء من الرسالة، مما يعني
أن لعلي وآل محمد (صلى الله عليه وآله) هذه الصفة والوظيفة الربانية في
التبليغ عن النبي (صلى الله عليه وآله) في حياته وبعد وفاته، والتي فيها
مضمون الشاهدية. وهي قرار إلهي، فالرسول لا يصدر عن نفسه * (ما
أتاكم الرسول فخذوه..) * وهكذا يتضح لماذا أدخل النبي (صلى الله عليه
وآله) عليا (ع) مع نفسه في الاحتجاج على اليهود والنصارى، وجعله
شاهدا له من الله عليهم، تارة بما في كتبهم كما في حكم الزانية في
التوراة، وتارة بحقائق الوحي بالرسالات الإلهية كما في حقيقة خلق
عيسى (ع) وحقيقة أنه بشر لا ابن الله، هذا الأمر الذي قد زور في
الأناجيل التي كانت متداولة بين الناس، فها هنا لم يكن من ضرورة في
الاحتجاج والشهادة من قبل علي (ع) عليهم أن يكون ذلك في كتبهم،
كما لم يكن ضروريا مثله في مناسبة الشهادة على الذين قالوا * (لست



(1) وفي رواية ثانية " علي مني وأنا من علي ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي " والحديثان أخرجهما
ابن ماجة في باب فضائل الصحابة ج 1 ص 92 من سننه، وأخرجه الترمذي والنسائي،
وهو الحديث 2531 من الكنز ص 153 ج 6، وأخرجه الإمام أحمد في 164 ج 4
من مسنده وص 151 ج 1.
241
مرسلا..) *. أفلا يعني هذا تفسيرا عمليا واقعيا لقوله تعالى: * (قل كفى
بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) *، فلم يكن النبي (صلى
الله عليه وآله بحاجة إلى من يعينه على الاحتجاج على هؤلاء من كتبهم،
ولم يكونوا ليقتنعوا من أخيه بما لم يقنعهم منه، ولا كانوا يعترفون بأي
منهما، فما كان حضور أخي رسول الله صلوات الله عليهما لمزيد من
الاقتناع، وإن كان مما يرتجي، بل للشهادة بينه وبينهم، الشهادة الخالصة
للحق، لتكون الحجة عليهم أبلغ، فكما يشهد له على اليهود والنصارى
فيشهد له على المشركين بأنه حقا رسول الله، ولئن كان حكم الزانية
موجودا في التوراة لكنهم جهلوه أو أنكروه، فشهد عليهم بكتابهم، فإن
حقيقة عيسى وخلقه كانت قد شوهت في الأناجيل المتداولة بين الناس،
فكانت الشهادة حولها على النصارى من خلال أصل الحقيقة، وبالمثل
شهادته على الكافرين من مشركين وغيرهم، بأن محمدا (صلى الله عليه
وآله) رسول الله حقا وأنه قد أدى إليهم البلاغ، ليس بحاجة إلى أن يكون
من خلال أي من الكتب السابقة. لذلك فإن مضمون شهادة الشاهدين
الذين وكلهم تعالى بها ينطلق من أصل الحقيقة، أكان لها مصداق في
الكتب التي لدى الناس أم لم يكن، هي الشهادة بحقائق الأديان والحقائق
الربانية التي كان قد حرف منها الكثير، فلا يصلح في مثلها إلا الذي لديه
علمها بوجهها الأصيل المشترك بينها جميعا، وهذا موضوع علم الكتاب.
فمن أين لأمير المؤمنين علي (ع) هذا العلم وهو شاب دون الثلاثين من
عمره، وحاله كحال أخيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يتتلمذ على

242
كاهن من النصارى أو حبر من اليهود، وهو القائل (لو طويت لي
الوسادة لقضيت لأهل التوراة بتوراتهم ولأهل الإنجيل بإنجيلهم). أليس
هذا دليلا واقعيا وبرهانا عمليا على دلالة (أنا مدينة العلم وعلي بابها)
ودلالة (علي مع القرآن والقرآن مع علي) ودلالة (أنت مني بمنزلة
هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) ودلالة * (كفى بالله شهيدا بيني
وبينكم ومن عنده علم الكتاب) *. فإن كنا من الذين آمنوا حقا فصدقنا
قوله تعالى بأن هناك حقا من عنده علم الكتاب، وحال أخي رسول
الله (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب (ع) هكذا، فهل من منصف
يرى أولى منه أن يكونه، ومن يكون أولى منه بهذه الشهيدية لأخيه على
المشركين وقد أشهده على اليهود والنصارى؟ أليست شهادته هنا لرسول
الله تعطيه مصداقيتها هاك وكل حين تنشأ الحاجة إليها؟ وهل بعد هذا
يجترئ المنصف أن يزيح هذا النص الإلهي العظيم عنه؟ بأعذار واهية لا
تعدو كونها استخفافا بعقول البسطاء من قبيل أنه لا يكون الشاهد
عليا (ع)، لأنه من صف رسول الله (صلى الله عليه وآله).
هذا وإذا كان علم الكتاب عند رسول الله (صلى الله عليه وآله)
وأخيه ولي الله (ع)، فهل بعد وفاتهما يزول علم الكتاب؟ وهل جعل الله
تعالى علم الكتاب عندهما نوعا من الترف لهما يريد أن يزينهما به؟ أم لأن
هذا من ضرورات الرسالة؟ بل لا بد من استمرار ذلك بعدهما لارتباط
الهداية بالرسالة الإلهية بهذا العلم، وعلاقته بخط الهداية الإلهي الممتد من آدم
إلى يوم القيامة. ولقد دل النص ذاته على ارتباط الشاهدية بعلم الكتاب،

243
وحمل نص الاجتباء للشاهدية الذي ذكرناه آنفا دلالة مشابهة كما
أوضحنا في موضعه، وكذلك نص الثقلين المتواتر، ومما يؤيد هذا المعنى في
التطبيق العملي حادثة المباهلة مع وفد نجران التي خلدها تعالى بقوله
* (.. قل تعالوا ندع أبناءنا، أبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا
وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) * (1). فقد أحضر (صلى
الله عليه وآله) للمباهلة مع نفسه عليا وفاطمة والحسن والحسين عليهم
السلام فأصبح المباهلون هم أصحاب الكساء صلوات الله عليهم، وذلك
بأمر من الله، ولهذا دلالات عظيمة لها علاقة بموضوعنا.
أولا: إن المباهلة هي أن يجتمع الطرفان المتخاصمان على أمر
فيبتهلان إلى الله في أن يهلك صاحب الدعوى الباطلة. لذا لا يجرؤ على
الدخول فيها إلا من كان على يقين تام بصدق دعواه، ويتوجب على
صاحب الدعوى أن يباهل لا سواه من محازبيه، لأن هذا يكشف
مصداقيته، وتقضي به الضرورة لحمل مسؤوليتها ونتائج ما يترتب على
كذبها من هلاك. أما اشتراك المحازبين فهو تطوع لا فرض فيه، بل لا
يصح أن يفرض ذلك، لأنه يكون تكليفا للإنسان بما لا تكليف عليه. ولما
كان حضور أهل البيت مع النبي (صلى الله عليه وآله) مفروضا من الله



(1) آل عمران الآية 61، فلقد أجمعت الأمة على نزولها في النبي (ص) وعلي وفاطمة والحسن
والحسين (ع) واختصاصها بهم. والواقع يثبت ذلك، ويراجع في هذا المصادر في الملحق
التوثيقي بذيل المراجعات، ط / بيروت 1982، ص 44 لغاية ص 47 حيث أورد فيه الشيخ
الراضي عشرات المصادر الموثقة.
244
تعالى، وليس تطوعا، دل على موقعية لهم من الرسالة إلى جانب سيدهم
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، تجعلهم معنيين مباشرة بالمباهلة وآثارها،
لا مجرد محازبين للنبي (صلى الله عليه وآله) نتيجة قرابتهم أو تصديقهم له
كباقي المسلمين، وأنهم أصحاب القضية ينطقون فيها عن الله تعالى
بتكليف منه، وبالأصالة عن أنفسهم لا نيابة عن المسلمين، فالنبي (صلى الله
عليه وآله) من موقع صاحب الرسالة، وأما آله (ع) فليس من موقع القرابة
منه قطعا، إذ لا شأن للقرابة في الرسالة ولا في المباهلة، فاقتضى أن يكون
لوظيفة لهم فيها، قد أهلهم لها عصمتهم بإذهاب الرجس عنهم
وتطهيرهم، وأن النصوص القرآنية والنبوية الكثيرة لا سيما آية الاجتباء
للشاهدية وآية الولاية ونص الثقلين توضح هذه الوظيفة في الشاهدية
الكبرى والمرجعية العليا، ولم يكن النبي (صلى الله عليه وآله) بحاجة إلى من
يعينه على الابتهال، بل حضورهم معه (صلى الله عليه وآله) على جانبيه
ومن خلفه كحضور أخيه علي (ع) معه (صلى الله عليه وآله) في المناظرة
التي سبقتها، ما هو إلا تجسيد حي واقعي لوظيفتهم هذه، وموقعهم في
الرسالة، ويقينهم المطلق بحقائقها الذي أهلهم لذلك. فالمتبصر في المضمون
البعيد للمباهلة التالية للمناظرة، يجد فيها أعلى درجات الشاهدية للحق
الذي به جاء محمد (صلى الله عليه وآله)، على هؤلاء الجاحدين.
ثانيا: أن هؤلاء مع النبي (صلى الله عليه وآله) هم النخبة الأطهر
نفسا والأصفى وجدانا والأقرب إلى الله، مما يجعلهم الأرجى لقبول
الدعاء، فهؤلاء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، بينما

245
باقي المسلمين قد خالطتهم الذنوب في الإسلام، والشرك أو الكفر في
الجاهلية.
ثالثا: أنهم هم آل بيت النبي (صلى الله عليه وآله)، لأن تعالى يقول:
تعالوا ندع أبناءنا، نساءنا، أنفسنا، ولم يقل من أبناءنا، من نسائنا... إلخ،
التي تفيد البعض، فالكلام حصري للأبناء والنساء والأنفس، لا سيما أن
الآية بدأت بقوله * (فإن حاجوك..) * فالخطاب للنبي نفسه، والأبناء
والنساء والأنفس خاص به كذلك، فلما حضر ومعه أخوه علي (ع)
وبضعته الزهراء (ع) وسبطاه الحسنان عليهما السلام دل على أن آل
محمد (صلى الله عليه وآله) هم هؤلاء الخمسة أصحاب الكساء النبي (ص).
رابعا: أنهم مع سيدهم رسول الله (ص)، هم أصحاب اليقين المطلق
بحقائق الرسالة، وعلى إدراك تام لهذه الحقائق، ولولا هذا اليقين والإدراك،
لما كان الله ورسوله ليجبراهم على المباهلة فيكون جورا، وحاشا لله
ورسوله من ذلك.
وما كانت دلالة آية المباهلة تحتاج كثيرا من الجهد لإظهار
مضمونها، لولا تعنت البعض ممن يغص في كل منقبة من مناقب آل
محمد (صلى الله عليه وآله) ويشرق بها في مجرى النفس حتى يقارب الموت،
فلقد عن لابن تيمية أن إحضار النبي (صلى الله عليه وآله) أقرب الناس إليه
لا دلالة له إلا على أنه يريد إظهار يقينه بصدقه (صلى الله عليه وآله).
وللأسف قد سايره في هذا التبسيط الذي فيه الكثير من السذاجة واحد

246
من المحدثين، ولئن كان ذلك قد يلقي مثل هذا المعنى في عين الطرف
الآخر، فما هو بحقيقة المضمون، فهذا القول يستبطن محاولة استعراضية
من النبي (ص) ليرهب الخصوم، فيتراجعون عن المباهلة، فهل أنه لم يكن
جادا في عزمه عليها، وهل كان هذا العرض مجرد مناورة لم يكن يريد لها
أن تتم؟ أم أنه عرض عليهم المباهلة بأمر من الله لإقامة الحجة عليهم، وهل
في المقابل اصطحابه أخاه إلى مناظرتهم قبل المباهلة كان أيضا من هذا
القبيل، أم لإقامة الحجة والشهادة؟ على أن اصطحاب النبي (صلى الله عليه
وآله) لآل بيته (ع) معه لم يكن بدافع ذاتي، بل أمر إلهي، مما يفك الارتباط
بين سبب الاصطحاب والدافع الذاتي في وجدان النبي (صلى الله عليه
وآله)، ويجعل منه أبعد مضمونا، فما كان النبي (صلى الله عليه وآله) بحاجة
إلى من يشاركه أو يباهل عنه، وما كان ليجبر أهل بيته على ذلك لمجرد
أنهم أهله لو لم يكونوا معنيين بالقضية، فما ذلك إلا تكليف للمرء بما لا
تكليف فيه، وتحميله تبعة دعوى لا علاقة له بها إلا لأنه يمت إلى صاحبها
بالقرابة، وفيه ظلم وعبثية، تتره عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله)
وتعالى عنها الله رب العالمين، على أن الدلالة الحقيقة قد أوضحناها
أعلاه، لمن يريد الحقيقة، وسيشهد آل محمد (صلى الله عليه وآله) الذين
انتجبهم الله على أمثال هؤلاء وعلى الخلق أجمعين.

247
الفصل الخامس
نص الولاية
ولاية أمير المؤمنين علي (ع) حقيقة قرآنية

249
بسم الله الرحمن الرحيم
* (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة
ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا فإن
حزب الله هم الغالبون) * (1).
المعنى الإجمالي:
هذا النص الإلهي العظيم يقرر على المؤمنين ولاية لله ورسوله والذين
آمنوا الذين وصفهم بأنهم * (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم
راكعون) *، أي يقيمون الصلاة مع إيتائهم الزكاة حال الركوع، وهي
تشير إلى أخي رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين (ع) لما تصدق
بخاتمه وهو راكع في الصلاة في المسجد، وسياق الكلام يوجب أن الولاية
التي جعلها تعالى لرسوله والذين آمنوا المعنيين بالوصف المذكور، هي
فريضة واحدة مع ولاية الله تعالى، ومن جملتها ومن سنخها، لشمولها



(1) سورة المائدة الآيتان 55 و 56
251
جميعا بقوله تعالى * (إنما وليكم..) *، فأنشأ من وليكم ولاية لرسوله والذين
آمنوا بعد ولايته تعالى. وولاية الخالق جل وعلا في الأصل شاملة تامة،
وجوهرها امتلاك السبيل وحق الطاعة والانقياد على المؤمنين، والتصرف
بشؤونهم، مما يجعل النص يفيد فريضة الولاية العامة على أمر المسلمين
وشؤونهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله) والذين آمنوا المعنيى بالنص،
أي أمير المؤمنين علي (ع).
أما صيغة الكلام بالجمع بينما أمير المؤمنين (ع) مفرد، فلا ضرر منها
على المعنى، ذلك لأن هذا النحو من التعبير بالجمع حين تكون المناسبة
للمفرد شائع في القرآن الكريم، وعليه أمثلة، ومنها كما في آية سابقة لهذه
الآية ببضع آيات.
* (ترى الذين في قلوبهم مرض..) * إذ الكلام حسب مدعى بعض
الذين يقدمون هذا الاعتراض، هو عبد الله بن أبي، وهو فرد لا جماعة.
على أن للكلام بصيغة الجمع هنا وجها آخر، لعله إشارة إلى أخي
رسول الله (صلى الله عليه وآله) وما يحمل في صلبه من الأئمة.
هذه الآية الكريمة نص واضح صريح على إمامة علي بن أبي طالب
عليه السلام، إذ أن صيغه النص تظهر بما لا يقبل اللبس أن الذين آمنوا
الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، هم جهة مخصوصة
من المؤمنين، بدلالة إنما التي تفيد حصر الولاية في الذين آمنوا الذين
وصفهم بالوصف المشار إليه، ونفيا عن كل من عداهم، وهكذا هم غير

252
الذين شملهم الخطاب من جميع من تبقى من المؤمنين، لذا فإن هدف النص
تمييزهم بذلك الوصف الذي قد تفردوا به دون سواهم، بأنهم يؤتون
الزكاة حال الركوع من الصلاة. ولا يمكن أن يكون القصد من الركوع
الخضوع ليصبح الوصف شاملا لكل المؤمنين، فيتعارض مع وظيفة إنما
الحصرية من جهة أولى، بينما يفقد الوصف مبرراته، وتغدوا العبارة كلها
فضولا لأن أداء الصلاة والزكاة بذاتهما مظهر وفعل وخضوع، ولا يزيد
قولنا خاضعين على صورتهما، كما ويصبح إقام الصلاة وإيتاء الزكاة بهذا
الاعتبار كالحال المعهود لكل المؤمنين، فلا يضيف على قولنا الذين آمنوا،
إذ من لا يفعلها لا يوصف باسم الإيمان، لذا لا بد من فهم لفظ وهم
راكعون على ظاهره المتبادر ليستقيم النص في عبارته، فيكون الوصف
هادفا إلى تمييز الذين آمنوا الذين وجبت لهم الولاية على باقي المؤمنين.
فوجب إذن أن نعلم من هؤلاء الذين خصهم الله تعالى بهذه المنزلة
الكبرى، ويعلم ذلك من أسباب النزول ومن السنة الشريفة، فلقد صرح
المفسرون على أنها نزلت في أمير المؤمنين (ع) (1) وقد نقل إجماعهم على



(1) شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي ج 1 ص 161 الأحاديث 216 لغاية
219 و 221 لغاية 239 و 240 و 241 ط بيروت. مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي الشافعي
ص 311 ط الغري الأحاديث 354 لغاية 358. كفاية الطالب للكنجي الشافعي
ص 228 و 250 و 251 ط الحيدرية وص 106 و 122 و 123 ط الغري. ذخائر العقبى
لمحب الدين الطبري الشافعي ص 88 و 102. المناقب للخوارزمي الحنفي ص 187. ترجمة
الإمام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي ج 4 ص 409 ح 908
و 909. الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي ص 108 و 123. الدر المنثور للسيوطي ج 2
ص 293. فتح الغدير للشوكاني ج 2 ص 53. التسهيل لعلوم التنزيل للكلبي ج 1
ص 181.
253
هذا غير واحد من أعلام السنة، كالإمام القوشجي في مبحث الولاية من
شرح التجريد، وفي الباب 18 من غاية المرام 24 حديثا من طريق
الجمهور في نزولها بما قلناه (نقلنا عن المرحوم السيد عبد الحسين شرف
الدين في كتاب المراجعات الطبعة العاشرة ص 181، ولمن يريد المزيد في
التفصيل حول هذا يمكنه مراجعة تفسير البيان.



(1) الكشاف للزمخشري ج 1 ص 649. تفسير الطبري ج 6 ص 288 - 289. زاد
المسير في علم التفسير لابن الجوزي الحنبلي ج 2 ص 383. تفسير القرطبي ج 6 ص 219
- 220. التفسير المنير لمعالم التنزيل للحاوي ج 1 ص 210. فتح البيان في مقاصد القرآن
ج 3 ص 51. أسباب النزول للواحدي ص 148 ط الهندية. تذكرة الخواص للسبط
الجوي الحنفي ص 18 وص 208 ط النجف. نور الأبصار للشبلنجي ص 71 ط
العثمانية. ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص 115 ط استانبول. تفسير الفخر الرازي
ج 12 ص 26 و 20 ط البهية بمصر. تفسير ابن كثير ج 2 ص 71 إحياء الكتب أحكام
القرآن للجصاص ج 4 ص 120 ط عبد الرحمن محمد. مجمع الزوائد ج 7 ص 17. نظم
الدرر السميطي للزرندي الحنفي ص 86 - 88. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 13
ص 277 ط مصر بتحقيق محمد أبو الفضل. الصواعق المحرقة لابن حجر ص 24 ط الميمنة
وص 39 ط المحمدية. أنساب الأشراف للبلاذري ج 2 ص 150 ح 151 ط بيروت.
تفسير النسفي ج 1 ص 289. الحادي للفتاوي السيوطي ج 1 ص 139 و 110 كنز
العمال ج 15 ص 146 ح 416 وص 95 ح 269 ط 2. الرياض النضرة ج 2 273
و 302. إحقاق الحق ج 2 ص 399. الغدير للأميني ج 2 ص 52 و ج 3 ص 156. مطالب
السؤول لابن طلحة الشافعي ص 31 ط طهران و ج 1 ص 87 ط النجف. معالم التنزيل
بهامش تفسير الخازن ج 2 ص 55. فرائد السمطين ج 11 ص 190 ح 150، 151، 153.
254
ردود ومناقشة:
إن الذي اضطر بعض العامة إلى تحجيم معنى الولاية في * (إنما
وليكم..) * هو أنهم بعد تجاهل ولاية أمير المؤمنين (ع) وثبوت شأن
الخلافة على النحو المعروف، وخاصة بعد الذي اجترحه الأمويون في حقه
وحق آل محمد (صلى الله عليه وآله)، أصبح لازما تحوير مفهوم النص
كغيره من النصوص القرآنية والنبوية، ليتلاءم مع الواقع الغالب في شأن
ولاية الأمر، فالممانعة في قبول ما يفرضه النص من ولاية علي (ع) تستلزم
اعتبار ما قرره من ولاية أنها غير عامة بل خاصة بالنصرة، ولما رأوا أن
ذلك لا يفي بالغرض، إذ يبقى لعلي (ع) منزلة قررها تعالى لا يرقى إليها
أحد، زاد أكثرهم تنكبا للصراط أن أخرجوا الركوع في الآية عن ظاهره
الذي يدل على فعل من أفعال الصلاة إلى معنى مجازي هو الخضوع،
وهكذا ادعوا أن الولاية هنا بمعنى النصرة حسب قولهم، ولكنها غدت
تخص جميع المؤمنين لا عليا (ع) فقط، إذ غدى الوصف الذي أعطي الذين
آمنوا هكذا الحال المعهود لجميع المؤمنين من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة.
والنقاش الذي سنسوقه هنا يعتمد على النص القرآني ذاته،
والنصوص المتعلقة به حسب مدعى هؤلاء، وكعادتنا دون الحاجة إلى
اللجوء إلى أسباب النزول المختلف فيها، لنظهر خطأ الاعتراض المذكور،
وصحة ما يذهب إليه الشيعة في هذا الخصوص، من دلالة النص على
الولاية العامة من جهة، ومن معنى الركوع كفعل من أفعال الصلاة من
جهة ثانية.

255
أولا: معنى الولاية:
إن مدعى هؤلاء البعض أن الآيات (51 - 52 - 53 - 54 - 55
- 56) من سورة المائدة المباركة مرتبطة بسياق واحد وحسب ورودها
في القرآن الكريم، ولذلك ألحقوا سبب نزول الآيتين (55 - 56) بسبب
نزول الآيات السابقة لها، حين جاء عبادة بن الصامت الخزرجي إلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال يا رسول الله إن لي أولياء من
اليهود كثيرا عددهم، قوية أنفسهم، شديدة شوكتهم، وإني أبرأ من
ولايتهم، ولا مولى لي إلا الله ورسوله، فقال عبد الله بن أبي لكنني لا أبرأ
من ولاية اليهود، لأني أخاف الدوائر ولا بد لي منهم، هذا ما قاله عطية
بن سعد والزهري، ونقلناه عن تفسير البيان، في الكلام عن ما قيل في
أسباب النزول في الآية (51 - 52).
هكذا حملوا معنى الولاية في الآيات (51 و 52) على النصرة
والأولياء على الأنصار لما كان من ظاهر قصد كلام عبد الله بن أبي كما
أوردوه وأتبعوا، * (إنما وليكم..) * بهذا فاقتضى حسب المدعى تخصيص
الولي بالناصر.
إن هذا التخصيص غير مبرر لأسباب:
1 - ليس من المعلوم وحدة السياق هنا، إذ القرآن الكريم نزل
منجما، في الوقت الذي لم ينكر معظم مفسري العامة أن نزول الآيتين
55 و 56 كان في أمير المؤمنين علي (ع)، فكان له سبب نزول مستقل

256
عن نزول الآيتين 51 و 52، بل هو أكثر شهرة، بل من أكثر أسباب
نزول الآيات شهرة، فلا يكون منطقيا إلحاقهما.
2 - لو سلمنا جدلا بوحدة النزول والسياق، فما قبل الآية لا
يفرض هذا التخصيص لمعنى الولاية كما يدعون.
إن حادثة النزول التي جاء فيها الكلام عن النصرة أو المودة، ليست
سببا كافيا لتخصيص معنى الولاية في الآية (51) * (لا تتخذوا اليهود
والنصارى أولياء..) * بمعنى النصرة أو المودة دون سواهما من مضمون
الولاية، إذ جاء النص بلفظ الولاية مطلقا دون غيره من الألفاظ التي تدل
على أي معنى من معاني الولاية. فلا بد من الأخذ بشمول معنى اللفظ من
جهة، لا سيما أن الكلام بهذا المعنى ينسجم في النص وما بعده، وينسجم
مع حادثة النزول المفترضة، كما سيأتي لاحقا، ولا يتوقف على
التخصيص من جهة ثانية، نعم، لو كان استقامة الكلام يتوقف عليه للزم
حمل عموم اللفظ على خصوص المعنى تبعا لحادثة النزول، أما وأن استقامة
المعنى لا تتوقف عليه، فلزم إبقاء عموم اللفظ على عموم معناه،
والتخصيص يصبح إسقاطا على النص وتعد عليه.
إن أصل الولي الذي هو أولى أي أحق، كما قال المبرد في العبارة
عن صفات الله تعالى (نقلا عن البيان)، فولي أي أمر هو أولى به وأحق،
فيكون تابعا له، وله التصرف بشأنه ويمتلك قياده وله سبيل عليه، كولي
المال، وولي الدم، وولي المرأة، وولي القاصر، وولي اليتيم، وولي أمر

257
المسلمين، الذي هو أولى بهم بما له من حق التصرف وامتلاك السبيل
عليهم، لذلك سمي بولي المسلمين، ومن والى امرءا فقد أسلمه قياده،
وجعل له السبيل على نفسه، وأعطاه حق التصرف، وذلك هو جوهر
الولاية ومضمونها. ومن مترتبات الولاية حماية الولي لمن كان في ولايته،
لذلك فالولي حام وناصر، لأنه الأولى بمن والاه، وهذه العلاقة مزدوجة
الاتجاه بين الولاية والنصرة، بحيث أحدهما يقود واقعيا إلى الأخرى، لكن
الولاية أشمل، والنصرة جزء منها. لذلك من تعاهد مع قوم على نصره
وحمايته والذب عنه فقد والاهم، لأن هذه العلاقة في الأصل من مترتبات
الولاية أولا، وتقود إلى جوهرها ثانيا، فهو بحاجة إليهم، وباعتماده عليهم
قد جعل لهم يدا وسبيلا على نفسه، وغدت مصلحته وشأنه متوقفا
عليهم، لذا يسعد بقوتهم ويسعى لها كأحدهم، فيصبح ولاؤه وإخلاصه
لهم، وينقاد إليهم، فيملكون عليه السبيل والقياد، وهكذا من جعلت
نفسك تحت حمايته أصبحت تابعا له، وهو أولى بك ووليا لك.
ومثله يقال حول علاقة المرء ببطانة يتخذها أو خلة أو مودة يتعلق
بها، وإن كانت المولاة في هذه من درجة دون ما هي عليه في علاقة
الحماية والنصرة، لكنها جميعا تتفق بجوهر واحد بإعطاء السبيل على
نفسه للجهة المتعلقة، ومنها كذلك، إيكال المرء أمره أو بعضه إلى جهة
فيجعل لها اليد والسبيل على نفسه فيكون قد ولاها شأنه، كما لو
أوكلت شأن حمايتك من عدو محتمل إلى جهة خارجة عن نفسك،
فتكون قد جعلت لها اليد عليك وواليتها.

258
على أن التمييز بين الولي والنصير واضح في القرآن الكريم، كما في
قوله تعالى:
* (فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا، أتريدون
أن تهدوا من أضل الله، ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا (88) ودوا لو
تكفرون كما كفروا فتكونون سواء، فلا تتخذوا منهم أولياء حتى
يهاجروا في سبيل الله، فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم
ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا (89)) * [سورة النساء].
فمن الواضح أن تولي المنافقين يعني أن تجعل لهم عليك يدا وسبيلا
بأي شكل من أشكال العلاقة، وبعد ذلك ميز النص النصير من الولي،
فحرم الولاية بشمولها * (لا تتخذوا منهم وليا) * فلا يحل للمؤمن أن يجعل
للمنافقين على نفسه أي سبيل، ثم حرم النصرة * (ولا نصيرا) * بسبب ما
تقود إليه من ولاية بإعطاء المنافقين السبيل على المؤمنين. ومن غير المقبول
أن نقول أن " وليا " و " نصيرا " بمعنى واحد، لما يلزم عنه من تكرار لا
ضرورة له، والأمر مشابه في آيات أخرى.
ومثله قوله تعالى * (... واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من
لدنك نصيرا) * [سورة النساء الآية 75]. وكذلك * (والله أعلم
بأعدائكم، وكفى بالله وليا، وكفى بالله نصيرا) * [سورة النساء الآية
45]. وأيضا * (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب، من يعمل سوءا
يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) * [سورة النساء الآية

259
123]. فالتمييز واضح بين الولي والنصير، حيث تؤدي هذه النصوص
المعنى الذي أوضحناه في السطور السابقة من أن الولاية ذات دلالة واسعة،
تشمل كل علاقة تعطي يدا وسبيلا للآخر على نفسك، ومن نتائجها
النصرة، التي هي وجه من وجوهها، ونوع خاص من أنواعها، لما يترتب
عليها من الولاية أي من إعطاء السبيل على نفسك. والربط واضح بين
الأمرين، كما في قوله تعالى * (كفى بالله وليا) * يتولى شؤونكم، فتكونون
في عينه ورعايته وحمايته، فهي تغني المؤمنين عن أية ولاية أخرى، وكافية
لنصرتهم * (وكفى بالله نصيرا) * لأن الله تعالى حين يتولى المؤمنين يرعى
شؤونهم ويحميهم وينصرهم، فهذه الآثار كلها من مترتبات الولاية.
وهكذا مهما كان سبب النزول، وخلفية الولاية التي حرمها النص،
فما دام أنه عبر عن موضوع التحريم بلفظ الولي العام الدلالة، المستفاد من
(أولياء) تبقى الدلالة على أن الحرمة هي في شمولها وفي مضمونها
وجوهرها، أي حرمة إعطاء اليد والسبيل للكافر على المؤمن، وإلقاء القياد
له. هذا الأصل الجامع لكل أوجه الولاية، والذي عليه ترتكز بالخاصة
نتائج طلب المؤمنين حماية الكافرين، ولو كان يريد تعالى مضمونا خاصا
منها لجاء باللفظ الذي يشير إليه، كما جاء في نصوص أخرى حرمت
خلة ومودة الكافرين واتخاذهم بطانة أو أنصارا، فجاءت بهذه الألفاظ
تشير إليها بالخاصة، وهكذا ومع حادثة النزول المفترضة بوجه خاص،
ونزول النص فيها بلفظ الأولياء العام دون تخصيص معنى ثانوي من
الولاية، فإن الفهم الذي لا يدافع من قبل السامع هو حرمة جوهر الولاية

260
ومضمونها، لما يستبطنه طلب الحماية من ذلك، فيظهر من هذا أن لا مفر
من تلقي معنى الولاية هذا بعمومها.
إن حمل لفظ الأولياء هنا على عموم معنى الولاية، هو من قبيل
إبقاء اللفظ على أصل معناه، دون الحاجة إلى تخصيصه بمعنى ثانوي من
معانيه، وذلك لأن المعنى على هذا النحو يستقيم في النص ذاته والنصوص
المتعلقة به لو صح تعلقها، ولا تتوقف استقامة المعنى على التخصيص
بمدلول ثانوي، أما لو كانت هذه الاستقامة لا تحصل إلا به للزم
التخصيص، سواء فهم من سبب النزول أم من نص متعلق بهذا النص،
وهذه قاعدة عامة ينبغي الالتفات إليها في فهم القرآن الكريم، بل على
العكس من ذلك فإن أخذ معنى الولاية بجوهرها وشمول مدلولها، هو أبلغ
في إبانة التحريم ووجهه، فيكون معنى النص كالآتي: * (يا أيها الذين آمنوا
لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء..) * تحريم ولايتهم بكل وجوهها لا
سيما في جوهرها المشترك بين تلك الوجوه وهو جعل اليد والسبيل على
المسلمين. ثم يلي ذلك * (ترى الذين في قلوبهم مرض..) * حيث يذم ويقرع
الذين يستنصرون بهم أو يوادونهم أو يعلقون شأنهم بهم بأي وجه،
فتكون النتيجة حرمة هذا الأمر لأنه وجه من الولاية من جهة، ولأنه يقود
بالضرورة إليها. وهذا الأمر كقولك للذين يأكلون أموال الناس بالباطل:
إن الظلم حرام، لم تأكلون أموال الناس بالباطل. فصدر الكلام يحرم الظلم
عامة، وذيله ينكر عليهم أكل الأموال بالباطل، لأنه وجه من الظلم. ولا
مبرر للإدعاء بأن الظلم في صدر الكلام مخصص بذيله، لأن استقامة المعنى

261
لا تتوقف على هذا التخصيص، بل المدلول يستقيم دون حاجة إليه، وهو
بعموم معنى الظلم أبلغ، وأقوى في الدلالة على حرمة الأكل بالباطل.
فالنص القرآني الذي نحن بصدده، قد حرم ولاية اليهود والنصارى مطلقة
في صدر الكلام، ثم ذم في ذيله الذين يوادونهم أو يستنصرونهم وأنكر
عليهم ذلك، فيكون هذا الفعل حراما لأنه وجه من الولاية ولأنه فعل
يستنبطها، بل هذا الفهم أبلغ أثرا وأظهر بيانا بما يثبته من خطر مودتهم
والاستنصار بهم، فيما يقود إليه من إعطائهم اليد والسبيل على المؤمنين،
وبما يظهر من العلة في التحريم.
وهكذا نجد أن أسباب النزول لا تفيد في تخصيص معنى الولاية في
(أولياء) ما دام أن الكلام قد جاء بهذا اللفظ الذي يحمل مضمونا عاما
للولاية، لا خاصا بأي معنى ثانوي من مدلوله، وما دام أن النص يستقيم
بالأصل الشامل للمعنى ولا يتوقف على تخصيصه. ومما يؤكد هذا دلائل
في النص ذاته. فالله تعالى يقول * (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) * فلو لم
تكن الولاية التي حرمها صدر الكلام هي جوهر الولاية الذي ذكرناه،
بجعل اليد والسبيل لأهل الكتاب على المؤمنين وإعطائهم القياد والولاء، لما
أضحى من يتولاهم منهم، أي مرتدا عن الدين، كما يؤكده بعد آيتين
قوله تعالى * (.. من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم
ويحبونه..) * فهذا تحذير لهم من الردة وتهديد لهم إن فعلوا، فما كانت
ولاية الكافرين ردة لو لم تكن بالمفهوم الذي ذكرناه.

262
ولعل لقائل أن يقول إن قوله تعالى * (ترى الذين في قلوبهم
مرض..) * الآية لها أن تخصص ما قبلها وبعدها، فالجواب هو ذاته الذي
قدمناه أعلاه، إذ أن النص في ذاته ومجموع النصوص التي ادعوا أنها
مشتركة السياق والنزول، تستقيم منفردة ومجتمعة في سياق واحد باعتبار
أساس الولاية وجوهرها وعموم مدلولها، ولا يتوقف الأمر على
التخصيص، لذا يتوجب الأخذ بأصل المعنى في شموله، أما التخصيص
فيصبح إسقاطا لا مبرر له، بل إن المعنى لا يستقيم إلا بهذا الأصل
والعموم، ذلك لأن ما أشرنا إليه من قوله تعالى * (من يتولهم منكم فإنه
منهم) * وقوله تعالى * (من يرتد منكم..) * تفرض عموم معنى الولاة،
فيكون هذا المعنى لازما، لأن العام يشمل الخاص، فيستقيم المعنى بين
الآيات مجتمعة كما استقام منفردة، بينما المعنى الثانوي الخاص يخرج ما
عداه فيحدث التعارض والتناقض بين الآيات في السياق الواحد، وهكذا
فإن مجموع الآيات يقصد إلى تحريم عموم الولاية، ويأتي في سياقه قوله
تعالى * (ترى الذين في قلوبهم مرض..) * الآية تحريما لمضامين ثانوية منها
بالتفريع عن الأصل.
وليس غريبا أن ينزل الوحي بمناسبة خاصة بما هو أعم منها ليشمل
التحريم موردها والموارد المتعلقة بها، وعليه أمثلة كثيرة من القرآن الكريم
فلا داعي للإفاضة في هذا المعنى.
ومما يزيد شمولية النص وضوحا أن التحريم شمل النصارى الذين لم
يكن لهم علاقة بسبب النزول كما أوردوه، الأمر الذي يوفر قرينة حسنة

263
على أن النص قد سن قاعدة عامة تتجاوز مورد النزول المفترض، ومن
القواعد المعروفة: إن المورد لا يخصص الوارد.
وهكذا نجد بوضوح أن لا مبرر للكلام عن تخصيص قوله تعالى
* (إنما وليكم..) * بما سبقه مع افتراض وحدة السياق، والنزول، بيد أنه
لمعنى الولاية في قوله تعالى * (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا..
الآية) * خصوصية ليست متوفرة في الآيات السابقة واللاحقة: ذلك لأن
الكلام هنا عن ولاية لله تعالى، التي هي في الأصل الولاية العامة،
والأساس فيها امتلاك السبيل على المؤمنين بكل أشكاله وأوسع صوره في
وجوب انقيادهم وطاعتهم له تعالى.
فذلك هو الأصل والجوهر في ولاية الله تعالى، وكل ما يتفرع عن
الولاية من معنى إنما هو يتصل بهذا ويؤدي إليه، فلا مبرر إطلاقا لتحجيم
مدلول الآية هنا بمعنى خاص منها، بعد أن جاءت عبارة النص بلفظ
الولاية الشاملة، فمن حيث المبدأ يتوجب أن يحكم هذا النص على ما
سبقه ولحقه بوضوح حدود الولاية التي يتكلم عنها لجهة كونها ولاية لله،
لا سيما أن الكلام يستقيم في بنية النص ذاته، وعلاقته بما قبله وبعده، على
فرض الارتباط ووحدة النزول، وهكذا لا يملك أي نص سبقه أو لحقه
القدرة على تخصيصه واجتزاء معنى الولاية التي قررها، بل أن ذلك
التخصيص يكون إسقاطا وتعد على النص مرفوض.
إذن فالولاية التي تفرض نفسها من هذا النص هي الولاية العامة
على المؤمنين، ولقد بدأت بقوله تعالى * (إنما وليكم الله) * وعطف على

264
وليكم رسوله والذين آمنوا المتميزين بالوصف المذكور، مما يجعل ولايتهما
متفرعة من ولاية الله تعالى، بمثابة القول: الله ولي المؤمنين (أي أولى
بهم)، فمن كان الله وليه فرسوله والذين آمنوا وليه، لذلك جاز عطفهما
في الولاية على لفظ الجلالة في ولاية واحدة، ابتدأت بذكر اسمه تعالى
أولا لتشير إلى حقيقة أن ولايتهما من ولايته، ومن سنخها وجزء منها في
فريضة واحدة، وكما أن الله تعالى أولى بالمؤمنين، فهما أولى بهم، لتشير
إلى الولاية العامة للرسول (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (ع).
على أن الولاية العامة في هذا النص تفهم من جهات أخرى:
إن قوله تعالى * (إنما وليكم..) * كما تفيد تأكيد إثبات الولاية لله
ورسوله والذين آمنوا المعنيين بالوصف المذكور، فإنها أيضا تفيد نفيها
عن غيرهم، لذلك لا يكون أحدا من المخاطبين وليا للمؤمنين بعد الله
ورسوله سوى الذين آمنوا الذين ميزهم تعالى بذلك الوصف، فالولاية
حصرية فيهم وموقوفة عليهم، وهذا يؤكد أنها الولاية العامة لا ولاية
النصر، لأن الأخيرة عامة تشمل كل المؤمنين وليست موقوفة على أحدهم
أو بعضهم، وسيأتي مزيد من التفصيل في هذا لاحقا.
ثانيا: معنى الركوع.
الركوع لغويا (نقلا عن تفسير البيان)، هو التطأطؤ المخصوص،
قال الخليل كل شئ ينكب لوجهه فتمس ركبته الأرض أو لا يمس بعد
أن يطأطئ رأسه فهو راكع، وقال ابن دريد الراكع الذي يكبو على

265
وجهه ومنه الركوع في الصلاة. وقد يوصف الخاضع بأنه راكع على
سبيل المجاز لما يستعمله من التطامن والتطأطؤ، مما يعني أن أصل المعنى فيه
هو ذلك الفعل من التطأطؤ أو الكبو على الوجه، وإن الأساس فيه اقترانه
بهيئة الركوع أي بفعله، لذلك فإن ما يتبادر إلى المخيلة وإلى الذهن من
قوله ويؤتون الزكاة وهم راكعون صورة الراكع وفعل الركوع، ولو شئنا
أن نفهمه بمعنى الخضوع مجازيا فلا يكون هذا الفهم إلا من خلال
استحضار فعل الركوع ذاته وهيأته، لذلك لا مناص من فهم لفظ
الركوع بأصل دلالته اللغوية من خلال المصطلح العلمي للكلمة، والذي
يمثله ركوع الصلاة خير تمثيل، فيكون المعنى من قوله تعالى * (.. ويؤتون
الزكاة وهم راكعون..) * إنهم يؤتون الزكاة حال الركوع أي خلاله،
على أن هناك وجوها أخرى عدة تظهر الخطأ في إخراج لفظ الركوع عن
أصل دلالته إلى المجاز.
أولا: الأساس في فهم القرآن الكريم هو الظاهر، فلا نلجأ إلى
المجاز إلا إذا توفر دليل يوجب ترك الظاهر، من الكتاب أو السنة أو
النص ذاته، أو من العقل إذا قضي بأن الظاهر يناقض ثوابت الدين
والعقيدة أو الواقع، كما لو كان الظاهر يعني أن الجزء أكبر من الكل،
وفي حالتنا التي نحن في صددها لا يتوفر أي دليل من هذا القبيل يسمح
بإخراج اللفظ عن معناه من فعل الركوع إلى معنى ثانوي مجازي
بالخضوع، لذلك وجب إبقاؤه على ظاهره وأصل معناه المذكور.

266
وللفائدة نذكر أن المجاز قد يكون من الظاهر حين توفر قرينة توجه المسار
التعبيري إليه، ولكن مع فقدان القرينة كما في هذا النص، سيكون المجاز
إقحاما لا مبرر له.
ثانيا: الركوع في القرآن الكريم قد استعمل فقط للدلالة على فعل
الركوع من الصلاة، والذي هو فعل على صورة الركوع بمدلوله اللغوي،
أو أحيانا للدلالة على الصلاة بمجموعها كونه الأظهر من أفعالها، إذا
شاهده الإنسان علم أن الفاعل في حال الصلاة، ومثله في ذلك السجود،
الذي استعمل على نحو مطابق، وهكذا لا معنى لإخراج مدلول الركوع
هنا عن السياق المعهود في استعماله القرآني.
ثالثا: إن حمل الركوع على الخضوع يجعل الكلام ركيكا ويتعارض
مع مقتضيات البلاغة في التعبير، ذلك لأن إقام الصلاة وإيتاء الزكاة
بذاتهما فعل خضوع ومظهر من مظاهره، وإضافة وهم خاضعون لا
تضيف شيئا مفيدا على قوله تعالى يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، فتكون
فضولا من الكلام لا مبرر له، وهذا ما تنزه عنه كلام البارئ تعالى. نعم
لو لم يكن الفعل ذاته من مظاهر الخضوع لصحت الإضافة، ويظهر
الفارق حين نقارنه بقولنا: يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم مخلصون،
فهذه العبارة قد زادت على الفعل الموصوف، لأن ليس كل إقام للصلاة
وإتاء للزكاة مقترنا بإخلاص، خلافا لقولنا يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة
وهم خاضعون، لذلك لا بد من حمل لفظ الركوع على فعل الركوع من

267
الصلاة كما هي صورة الفعل وهيئته في أصل اللفظ، وكما هو
الاستعمال القرآني للكلمة، لكي تؤدي هذه الإضافة معنى مفيدا.
رابعا: إن قوله تعالى * (.. الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة
وهم راكعون) * هو وصف للذين آمنوا المعنيين بالولاية، فاقتضى أن يكون
وصفا مفيدا، وعلى علاقة بمورد الكلام عن فريضة الولاية. ولو لم يكن
هكذا لكان خارجا عن سياق الكلام، أي فضولا تنزه عنه كلام الله
تعالى، فما هو موقع الوصف في مورد الكلام؟.
1 - أن يكون تمييزا للذين آمنوا المعنيين بالولاية بصفة فيهم عن
غيرهم من بقية المؤمنين لكي تحصل معرفتهم، فلو استبدلنا (خاضعون)
مكان (راكعون) لأحلنا جملة الوصف برمتها عديمة الجدوى إذ يصبح أداء
الصلاة وإيتاء الزكاة بالحال المعهود لجميع المؤمنين، فلا يخدم تميزا على
النحو المذكور، بل لا بد من إبقاء لفظ الركوع على أصل دلالته ليخدم
في هذا.
ومثله لو اعتبرناها بمعنى الخشوع، لأن هذا الأمر قلبي لا يعلم صدقه
إلا الله، فلا يخدم في الهدف المذكور.
2 - أن يكون الوصف تمييزا للمؤمنين جملة عن غير المؤمنين، فلا
ضير في أن يصبح الوصف شاملا لجميع المؤمنين على النحو السابق
الذكر. غير أن هذا يقتضي بأن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة دليل الإيمان
وصلاحية الولاية، فيتيح أن يوالي المؤمنون أشخاصا تكون موالاتهم خطرا

268
على الدين والمؤمنين، مما ينقض مبررات تحريم ولاية اليهود والنصارى
ووجوب ولاية المؤمنين وحدهم، إذ من الوضوح بمكان أن وجه تحريم
ولاية غير المؤمنين هو حفظ شأن الإسلام وأهله، كما يفهم من سياق
الآيات مجتمعة ومن آيات كثيرة في القرآن الكريم، فلا حاجة للإفاضة فيه،
ومن المعلوم أن ليس كل مقيم للصلاة ومؤد للزكاة مأمونا على الدين
وأهله، بل بعضهم قد يكون مصدر خطر يفوق أهل الكتاب، لأن من لم
يكن على ديننا حذرناه، أما من كان ظاهره ظاهرنا فلن نتيقظ إلى ما قد
يفعله من الخيانة، أليس بعض ممن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة يقصر في
واجبات أخرى أساسية، بل وركنية، أليس بعضهم لا يمتنع عن المحرمات
بل والكبائر، أليس بعضهم يغش ويرتشي، ويأكل أموال الناس بالباطل،
وربما يزني ويتواطأ على الخيانة، وهل هذه النماذج ممن يسمون بالمؤمنين
هم من الذين آمنوا حقا وكمالا.
وهل مثل هؤلاء جميعا ممن يصلون ويزكون أقل خطرا بولايتهم من
أهل الكتاب. ثم أليس بعض ممن يصلي ويزكي ويفعل الواجبات ويحضر
مع المؤمنين بالجهاد ويعجبك قوله وهو منافق يكيد للدين. أليس بعض من
الذين يصلون ويزكون خاطبهم تعالى * (قالت الأعراب آمنا، بل قولوا
أسلمنا ولما يدخل الإيمان إلى قلوبكم) * وهل هؤلاء لم يكونوا يصلون
ويزكون؟ فبماذا سموا مسلمين؟ كل هذا يظهر بوضوح أن لو كان
الركوع بمعنى الخضوع وكان المعنيون جميع المؤمنين، فلن يخدم في تمييز
المؤمنين الحقيقيين عن غيرهم، ولا هو دليل أمن وأمان في تولي فاعلهما

269
دون سواه، فيسقط هذا الاحتمال، وتغدو جملة الوصف هذه بلا مبرر
معقول.
ومن الظاهر أن حمل معنى الركوع على الخشوع يسري عليه ذات
الاعتبارات السابقة ن لأن الظاهر منه لا يغني عن الباطن، الذي لا يعلمه
إلا الله تعالى، وقصة ذي الثدية التي أوردناها في بحث أنماط السلوك في
مجتمع الصحابة أوضح مثال على ذلك، وكيف أن النبي (ص) قال " إن له
أصحابا يحقر أحدكم صلاته أمام صلاتهم... الحديث " رغم وصفهم
بالمنافقين وإخباره أنهم سيمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية.
فمظهر الخشوع لا يصلح لتمييز المؤمنين الحقيقيين عن غيرهم، كما لا
يصلح إقام الصلاة وإيتاء الزكاة في ذلك ويجري عليه ذات النقاش، فلا
ضرورة للإعادة.
3 - أن يكون هدفه إظهار صفة فيهم مهمة يراد منها التأكيد على
أهمية التمسك بها. إلا أن ورود هذا الوصف من خلال الكلام عن فريضة
الولاية وقبلها عن التحذير من الردة، يجعل من غير الممكن أن يكون
منعزلا عن مورده، بل يقتضي أن يكون الوصف على علاقة بمناسبة
الكلام، فلو لم يكن متعلقا بوجه أو آخر بالمورد كان خارجا عن السياق،
مما يتنافى مع مقتضيات البيان السليم، الأمر الذي تنزه عنه الخالق تعالى.
فلو كان المراد هكذا، لوجب أن يكون الوصف المعلوم متعلقا بموضوع
الولاية وبمناخ تقرير هذه الفريضة، بأسبابها، بنتائجها، بمتعلقاتها. فمن
الواضح أن هذه النصوص مجتمعة، كما يدعون من وحدة السياق، قد

270
عالجت موضوعا على درجة عالية من الخطورة يتعلق بصيانة الدين وثبات
المؤمنين عليه، فحرمت تولي اليهود والنصارى وجعلته ردة عن الدين
بقوله تعالى * (ومن يتولهم منكم فإنه منهم) * وذمت الذين يقيمون معهم
علاقات من قبيل الولاية أشار إليها * (يسارعون فيهم) * ثم حذرت من
الارتداد وهددت باستبدال آخرين يكون ولاؤهم خالصا لله فوصفهم
بأنهم يحبونه ويحبهم وإلى آخر الآية، ثم بعد ذلك فرض الولاية حصرية
ومتعينة لمن وصفهم * (يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) *
وعقب بقوله * (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم
الغالبون) * (علما أن الذين آمنوا هنا بدل من الذين آمنوا في جملة * (إنما
وليكم) *) وذلك ليعلم أن فرض الولاية هذا من ضرورات الصراع بين
الإسلام وأعدائه، في الصراع بين الخط الإلهي الذي عبر عنه بحزب الله
وبين الذين يتنكرون لهذه الولاية، وأن هذه الولاية ضمانة غلبة الدين
ولزوم خطه القويم، والوقاية من مسببات الردة ومقدماتها التي حذر منها
آنفا.
وهكذا يظهر جليا أن الوصف الذي أعطاه تعالى للذين آمنوا
المعنيين بالولاية لو كان حسب الافتراض المذكور صفة للمؤمنين مهمة
يراد منها التأكيد على التمسك بها يقتضي أن يكون منسجما مع سياق
الكلام ووحي الفريضة، الذي أوضحناه، من قبيل ما يرتجى منه حفظ
الدين، وثبات المؤمنين على الإيمان، ومنعتهم ضد أعدائه، من مثل
الإخلاص الأمثل لله الذي يليق بوصف الله تعالى لهؤلاء البدائل بقوله

271
* (يحبهم الله ويحبونه) * والتفاني في حب المؤمنين وصيانتهم من قوله * (أذلة
على المؤمنين) *، وفي الصلابة ضد الكافرين من قوله * (أعزة على
الكافرين) * ومن مثل الجهاد جهادا لا شبهة فيه ليقتضي التنويه الرباني
* (يجاهدون في سبيل الله) *، والإخلاص المطلق الذي لا يعتريه مساومة
* (ولا يخافون لومة لائم) *، ليستحق كل هذا الوصف أن يصفه رب العزة
* (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) * فمثل هذه الصفات هي من متعلقات
المناسبة ومن تداعياتها، لو تولى المؤمنون من توفرت فيه لكان يرتجي صيانة
الدين وأهله، لدلالاتها الواضحة على الصدق في الإيمان، الأمر الذي لا
يتوفر في الكلام عن إقام الصلاة والزكاة على النحو المفترض حين يكون
الركوع بمعنى الخضوع، جاعلا إياهما كالحال المعهود لجميع الذين اعتدنا
على سماع الخطاب القرآني لهم بالمؤمنين، على علم بما فيهم من منافقين،
وسماعين لقوم آخرين، ولا مزين في الصدقات، والمؤذين لرسول الله،
والفارين من الزحف، والقاعدين عن الجهاد.
ومثله يسري حين نجعل الركوع بمعنى الخشوع، لكون هذه الحالة
أمرا قلبيا لا يعلم حقيقته إلا الله، بل إن التظاهر بالخشوع يصلح لخداع
المؤمنين بينما صاحبه يبطن النفاق أو الوقيعة، لذا وإن كان الخشوع
الحقيقي صفة يرغب بها المؤمنون في المطلق، لكنها لا تنسجم مع مناسبة
النص وفريضته، لأن مظهر الخشوع ليس هو مما يرتجى منه حفظ الدين
والوقاية من الردة، فيما لو تولى المؤمنون من يتوفر فيه.

272
من جهة ثانية إذا كان الركوع بمعنى الخضوع ليغدو إقام الصلاة
وإيتاء الزكاة بالحال المعهود لكل المؤمنين، سواء منهم المعنيون بالولاية
والمخاطبون، فلا يبقى معه وجه لاعتبار جملة * (يقيمون الصلاة ويؤتون
الزكاة) * صفة في من وجبت لهم الولاية لحض المخاطبين على الاقتداء بها،
بينما هي موجودة فيهم أصلا ولا تفاضل بين هؤلاء وهؤلاء، بل لا يكون
في عداد المؤمنين من لم تكن فيه حتى صح أصلا خطابه بعنوانهم.
وهكذا يبدو واضحا أن لا وجه للافتراض بأن الله تعالى إنما أراد
بهذا التوصيف إظهار أهمية خاصة للصلاة والزكاة على علاقة بهذه المناسبة
وحض المؤمنين على التمسك بهما.
لقد بات واضحا إلى هنا أن تفسير الركوع مجازيا بالخضوع يجعل
إقام الصلاة وإيتاء الزكاة بوجهه المعتاد لجميع المؤمنين، فيخرج الكلام عن
مدلول مفيد، إذ لا يبقى يصلح تمييزا للمؤمنين الذين أوجب ولايتهم عن
سواهم، ولا تمييزا للمؤمنين عن غير المؤمنين، ولا معيارا لمن في ولايته
صون للدين وأهله، ولا يسمح مورد الحديث عن الولاية وعن الردة
ومتعلقاتها باعتباره ترغيبا للمؤمنين بصفات من تداعيات المناسبة، فيغدو
هكذا ذلك الوصف فاقد الدلالة خارجا عن السياق وفضولا لا مبرر له
ومثله لو اعتبر الركوع بمعنى الخشوع فيغدو غير صالح في أي تمييز أو
معيار.
ولا يكون الوصف مفيدا لأي من الأغراض ومنسجما مع مناخ
النص والنصوص التي افترضوا صلتها به، إلا بفهم الركوع بظاهر معناه

273
وأصل دلالته اللغوية، دون المجاز، وبما يتوافق مع السياق السائد في
استعماله القرآني، وبهذا يصبح الوصف الذي أعطي للمؤمنين المعنيين
بالولاية مميزا لهم بأمر عظيم قد تفردوا به، فتتضح حدود الفريضة، ويعطى
المبرر المعقول لماذا حصرت الولاية في هؤلاء المؤمنين دون غيرهم كما
يقتضيه قوله " إنما... "، ويتجلى الوصف كفعل ينطوي على دلالات عميقة
في البنية النفسية والأخلاقية لصاحبه، ويستحق التنويه الإلهي، وجعله
نموذجا يدعى إليه المؤمنون المخاطبون، ويغدو مضمونه منسجما مع مناخ
الفريضة، إذ يعبر عن عميق حرص فاعله على مصداقية الدين وحقائقه
وقيمه التي يدعو إليها، وعلى مصداقية المؤمنين، وعلى مشاعر
المستضعفين، وعميق التصاقه بالرسالة وقيمها، حين بادر إلى تلبية السائل
الفقير وهو في حال الركوع من الصلاة خشية أن يغادر المسجد خائبا،
بعد أن صده الحاضرون جميعا، ولم يلهفوه في حاجته، مع ما يعبر عنه هذا
الصدود الجماعي من ضعف الإحساس الاجتماعي بقيم الإسلام في
التعاون والإحسان والرحمة والتواضع للضعيف وطلب رضى الرب،
فجاءت مسارعة علي (ع) إلى التصدق ولو خلال الصلاة ليكشف
للمؤمنين ضعفهم، ويصحح ما وقعت جماعتهم فيه من الخطأ، وليؤكد
مصداقية الدعوة وقيمها ويظهر تجسيدها في الواقع الحياتي.
على أن إزاحة اللفظ عن ظاهر الدلالة وأصلها إلى المعنى الثانوي
بالمجاز، إضافة إلى ما سبق بيانه فإنه كذلك يؤدي إلى اضطراب شديد
وتناقضات جذرية في دلالة النص، تصدع بنيته وصياغته، وتتنافى مع
صحة التعبير وسلامة البيان.

274
فالخطاب في هذا النص الإلهي موجه إلى المؤمنين جميعا في قوله * (إنما
وليكم الله..) * ليؤكد أن ولايته على جميع المؤمنين، ولما أضاف
* (ورسوله) * أخرجه من المخاطبين وأضحت له عليهم ولاية مضافة إلى
ولايته تعالى، وأضحى كل من تبقى من المؤمنين تابع له في الولاية، ولما
أضاف * (الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم
راكعون) * أخرجهم كذلك من الخطاب وأضحت لهم الولاية مضافة إلى
ولايته تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله)، وأضحى كل من عداهم تابعا
لهم في الولاية، وهكذا فالنص يجعل المؤمنين صنفين متميزين، صنفا لهم
الولاية، وصنفا تابعا لهم فيها وهم المخاطبون، على أن هذا يفهم كذلك
من دلالة إنما التي بدأ فيها الخطاب لتفيد حصر الولاية في الله ورسوله
والذين آمنوا الموصوفين بالوصف المعلوم، ونفيها عن كل من عداهم، مما
يجعلهم بالضرورة جهة من المؤمنين غير الذين وجه إليهم الخطاب، فالنص
إذن يجعل المؤمنين جهة أوجب لها الولاية، وجهة المخاطبين الذين فرضت
عليهم، لذا كان منطقيا تمييز الذين وجبت لهم بوصف خاص بهم لا
يوجد في غيرهم، فجاء قوله تعالى * (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون
الزكاة وهم راكعون) *، فلا مندوحة عن تلقي الركوع بظاهره وأصل
دلالة الكلمة اللغوي ليؤدي الوصف هدفه من التمييز (فيصبح الوصف
أنهم يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة حال الركوع، فيخدم الوصف غايته
في التميز ويتصل بسياق الكلام) أما لو أزحنا اللفظ عن ظاهره، لنأخذ
بالمجاز، وعن أصله لنأخذ بمعنى ثانوي كالخضوع، كما هو المعهود لجميع

275
المؤمنين، فيصبح عندئذ الأولياء، جميع المؤمنين، الأمر الذي يتعارض مع
دلالة إنما الحصرية، وهذا يحدث اضطرابا في الدلالة، وتناقضا في العبارة،
إذ يكون المخاطبون هم الأولياء أنفسهم وتصبح العبارة كالآتي: يا أيها
الذين آمنوا جميعا إنما وليكم الذين آمنوا جميعا.
وهذا لا يصح كأسلوب للتعبير، إن كان القصد صرف الولاية إلى
النصرة لصرفها عن أمير المؤمنين (ع) إلى جميع المسلمين، فلو أن القصد من
النص تقرير مبدأ نظري بالمطلق في أن النصرة وقف على المؤمنين وأن كل
مؤمن ناصر لكل مؤمن، فلا يصح حينئذ في مقاييس اللغة وأساليب البيان
مثل تلك العبارة، بل العبارة الصحيحة هي من قبيل قوله تعالى
* (والمؤمنات والمؤمنون بعضهم أولياء بعض) * التي قد لحظت أن الولاية
وقف على المؤمنين نصرا واستنصارا، دون سواهم، دون تعيين وتمييز، إذ
لم يجعلها واجبا موقوفا على جهة منهم دون غيرها، ولا حقا موقوفا لجهة
منهم هي ذاتها كل حين، بل إن أسلوب النص في البيان قد جعل الجهتين
على طرفي الولاية قابلتين للتبادل والتداخل كلما نشأت الولاية بين
المؤمنين، وذلك لمطابقة واقع الولاية حين نشوئه في الخارج، الذي
يستحيل معه أن يكون المؤمنون جميعا على طرفي العلاقة في كل حين،
ورغم أن الولاية هنا تحمل معنى الولاية بأصله وجوهره، فقد حرمت أن
يجعل المؤمن لنفسه أي علاقة تعطي يدا وسبيلا على ذاته إلا مع المؤمنين،
لكن لأن العبارة جاءت على النحو المذكور، بات ممكنا صرفها إلى ما
دون ولاية الأمر في أي مضمون ثانوي يوافق هذه العلاقة في معطياتها التي

276
ذكرناها أعلاه، كالنصرة، والمودة، واتخاذ البطانة والخلة، وإيلاء شأنك
لأحد المؤمنين، خلافا للنص الذي نحن في صدده الذي ميز المؤمنين فئتين
من لحظة نشوئه إلى يوم الدين، المخاطبين الذين جعل عليهم الولاية فرض
عين على كل مؤمن لا فرض كفاية، والذين آمنوا الذين ميزهم بالوصف
المعلوم، الذين جعل لهم ولاية على وجه الحصر والتعيين دون غيرهم من
باقي المؤمنين، الأمر الذي أفادته إنما، فريضة واحدة مع ولاية الله تعالى
ورسوله (صلى الله عليه وآله) فهذه لا تكون إلا ولاية الأمر والولاية
العامة، أي الإمامة. والنص ببناء صيغته لا يستقيم بيانه إلا في تلقي معنى
الركوع على ظاهره وأصل معنى المفردة لغويا ليكون الوصف الذي أعطاه
للذين وجبت لهم مميزا وداخلا في سياق الكلام لا فضول فيه. والعجيب
في الذين تنكروا لولاية علي (ع) أخي رسول الله (صلى الله عليه وآله)
كيف أنهم يرفضون المجاز حين يفرضه ضرورة مثل تنزيه البارئ عن
التجسيم والحركة والمكان، أو تنزيه النبي (صلى الله عليه وآله) عن الدنس
والمعصية والضلال أو رجس الشيطان يترغ في قلبه وداخل نفسه ويسبب
أخطاء في سلوكه تنعكس على المجتمع، فيصرون على الظاهر، ولو خالف
ثوابت الكتاب والسنة والعقل، رغم أن المجاز في أكثر هذه المناسبات
أدعى للفصاحة وأبلغ في البيان، ثم في هذا النص وأمثاله من نصوص
الإمامة يصرون على المجاز رغم كل الدلائل على بطلانه، وتنافيه مع
استقامة التعبير وسلامة اللسان.

277
الفصل السادس
لا يدرك مكنون الكتاب إلا المطهرون
* (لا يمسه إلا المطهرون) *
- معنى المس
- معنى الكتاب المكنون
- المطهرون
- حقيقة حفظ التنزيل
- مقولة تطور المضمون دون تقييد تفتقر إلى الدقة العلمية
- لو اتبعوا المرجعية المنصبة إلهيا.

279
بسم الله الرحمن الرحيم
* (لا يمسه إلا المطهرون) *.
* (فلا أقسم بمواقع النجوم (74) وإنه لقسم لو تعلمون عظيم
(75) إنه لقرآن كريم (76) في كتاب مكنون (77) لا يمسه إلا
المطهرون (78) تنزيل من رب العالمين (79)) * (1).
يعظم تعالى هذا القسم بقوله * (إنه لقسم لو تعلمون عظيم) * القسم
يكون عظيما بمضمون ما يكون القسم به، وبمضمون الموضوع الذي
يجري عليه القسم، ومما لا جدال فيه أن عظمة ما يقسم به تنبئ بعظمة
وخطورة ما يقسم عليه. لذلك نفهم من تعظيم الخالق جل وعلا لهذا
القسم خطورة مضمونه.
إن القسم العظيم قد شمل تقرير أربع حقائق هي: إنه لقرآن كريم في
كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين.



(1) سورة الواقعة المباركة.
281
إذن فهو يتناول حقائق تتعلق بما أنزله تعالى على رسوله (ص)،
وشرح هذه الحقائق يحتاج إلى مجلد برمته، إنما قصدنا هنا إيضاح معنى " لا
يمسه إلا المطهرون " مع ما يستدعي من التطرق إلى مجمل هذه الآيات
المترابطة سياقا ومضمونا ضمن حدود الضرورة التي تخدم الحاجة.
المس:
المس هذا هو الإدراك والفهم، وهو غير اللمس، قال تعالى * (.. إذا
مسهم طائف من الشيطان..) * (1)، و * (والذين يأكلون الربا لا يقومون
إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) * (2).
ولا يكون المس هذا بمعنى اللمس، إذ يترتب عليه أن يكون القسم
قد قرر أمرا غير متحقق في الواقع، حيث نرى أن المصحف المجيد كثيرا ما
يلمسه غير المتطهرين، وهذا يستحيل أن يصدر عن الله تعالى. لذلك إذا
اعتبرنا المس بمعنى اللمس لوجب انتزاع الآية من سياقها لتصبح جملة
اعتراضية بمعنى إنشاء الأمر بعدم لمسه إلا من المتطهرين، وهذا كما هو
واضح يخالف السياق الظاهر، ويخل بترابط موضوع القسم ويفسد ببلاغة
البيان.
ولا سيما أنه لا دليل في أسباب النزول أو سواها على أن هذه الآية
نزلت مستقلة عن سياقها، لذا يبقى ظهور السياق هو الحاكم هنا.



(1) سورة الأعراف، الآية 201.
(2) سورة البقرة، الآية 275.
282
الكتاب المكنون:
على أن قوله تعالى * (في كتاب مكنون) * هو كقوله تعالى * (.. أنزلنا
إليك الكتاب..) *، * (أنزلنا إليكم كتابا..) *، * (ثم أورثنا الكتاب الذين
اصطفينا من عبادنا..) * حيث يعني أنه الكتاب في المجرد، لا المكتوب
بالصحف أي المصحف، مما يظهر أن المس هو الإدراك لا اللمس.
ومكنون بمعنى محفوظ من كل الجهات أي في النص والمعنى، أي هو
محفوظ كما يريده الله تعالى بالوجه المطابق لوحيه، وذلك كقوله تعالى
* (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) * (1)، فهو محفوظ لدى الله، وكذلك
* (إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون، وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي
حكيم) * (2)، فالقرآن الكريم لدى الله في أم الكتاب وفي لوح محفوظ
وكتاب مكنون، فهذا كله يشير إلى أن قوله لا يمسه يعني الإدراك لا
اللمس.
المطهرون:
والمطهرون أي الذين طهروا ووقع التطهير عليهم وهذا غير
المتطهرين، فالأول اسم مفعول والثاني اسم فاعل. فهي تدل على طهارة
النفس لا طهارة البدن، لأن الثانية فعل يحققه الإنسان فيسمى متطهرا، أما



(1) سورة البروج، الآية 22.
(2) سورة الزخرف، الآية 4.
283
طهارة النفس، فهي تقع بفعل الإنسان وبفعل الله لطفا به لما استحقه من
فعل مقدماته، والذين قضى الله تعالى بتطهيرهم بمحكم الكتاب هم محمد
وآله (صلى الله عليه وآله) * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل
البيت ويطهركم تطهيرا) * فهؤلاء هم المطهرون الذين طهرهم الله تعالى
بإذهاب الرجس عنهم وعصمتهم، فهؤلاء هم الذين يدركون مضمون
القرآن الكريم الذي في الكتاب المكنون عند الله، أي يدركونه كما هو
عند الله على حقيقة ما يريده تعالى لا بظنونهم خلافا لحال غيرهم من
الناس.
وهذا لا يعني أن من طهرت نفسه فسمى وجدانه وعقله لا يدرك
من معاني القرآن الكريم، بلى كلما كان الإنسان أطهر نفسا كان أقرب
إلى ذلك، لكن مدار النص أنه لا يدركه على سبيل الإحاطة والمطابقة لما
هو المكنون عند الله إلا المطهرون، الذين استحقوا هذا الوصف لكمال
طهرهم بعصمتهم من الذنب والضلال.
معنى حفظ القرآن:
ولا بد لنا هنا من العودة إلى النظر في معنى حفظ القرآن الذي
أخبرنا عنه تعالى في نصوص ثلاث هي: * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له
لحافظون) * و * (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون) *
و * (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) *.

284
هذا الحفظ لا بد أنه يشمل اللفظ والمضمون، لأن تحريف المضمون
على غير ما يريده تعالى من القرآن يكون في ذاته تحريفا يتنافى مع الحفظ،
ولا بد أن هذا الحفظ لا يعني عند الله فحسب، ولو كان القصد من
الحفظ ذلك، دون حفظه لدى الناس، لكان تنزيله في الأصل عملا عبثيا،
إذ يجعله غير متاح للناس ليهتدوا به ويناقض الهدف من الوحي، بل قوله
تعالى * (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) * يرجح الدلالة على حفظ
الذكر المنزل، فلا بد أنه حفظ ليكون متاحا للناس بوجهه الأصيل الذي
يريده تعالى.
على أن المعرفة على النحو المطابق لما يريده تعالى منه، ليست متاحة
بالرأي والاستقراء كما أخبرنا تعالى * (منه آيات محكمات هن أم الكتاب
وأخر متشابهات فالذين في قلوبهم زيغ يتبعون ما تشابه منه ابتغاء
تأويله، ولا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل
من عند ربنا) * فالمتشابه منه لا يعلم بالرأي، وهذا ما ذمه تعالى بقوله
* (يتبعون ما تشابه منه ابتغاء تأويله) * واعتبر ذلك من زيغ القلوب، لأن
تأويله بالرأي لا يغني من حقيقة مضمونه الذي * (لا يعلم تأويله إلا
الله..) * لذلك فإن علم الناس به لا يكون إلا من الله، أي لا يكون علمه
إلا عند من جعله الله لديهم، وهذه محصلة طبيعية، لأن ما كان علما لله
وحده فلا يعلم بالوسائل المتاحة من سماع ورواية واستقراء، بل لا يكون
إلا جعلا إلهيا.

285
فإذا كان الله تعالى قد حفظ القرآن لفظا ومضمونا، وكان ذلك
الحفظ لكي يتيح حقيقته لمن يريد ذلك من الناس ليهتدي به ويقتدي،
وكان علمه عنده وحده، مما جعله لا يعلم إلا منه وبجعل إلهي، كان لا بد
أنه قد جعله عند بعض من عباده القادرين على حمله، فاستحفظهم عليه
لكي يرجع الناس إليهم في معرفة حقائقه وتعلمه، فهؤلاء يخبرون عن
حقائقه عن علم به من الله لا بآرائهم، مما يرفع التحريف عنه لفظا
ومضمونا، ويكون الحفظ متحققا لدى الله تعالى ويكون متاحا للخلق،
وهذا ما ينسجم مع قوله تعالى * (في كتاب مكنون لا يمسه إلا
المطهرون) * فهم الذين قد أعطتهم طهارتهم من الرجس والدنس الفكري
والنفسي الأهلية لحمل هذا العلم المجعول ربانيا، والاستحفاظ عليه، وذلك
ينسجم مع وصفه تعالى بعضا من عباده بالراسخين في العلم الذين يؤمنون
بمحكمه ومتشابهه بنفس المستوى من قوة اليقين، فإن كان بعض العباد
يعلمون به من الله، فلا أولى من الراسخين في العلم منهم بأن يكونوا هم
أولئك العالمين.
مقولة تحول المضمون دون تقييد تفتقر إلى الدقة العلمية:
أما القول بأن الحفظ هو للنص، ليكون متاحا ليفهموا منه تبعا
لمعطيات مرحلة التطور التي بلغوها، وعلى ضوء المعارف التي اكتسبوها،
فتلك لعمري مغالطة، ما بعدها مغالطة، إذ بهذا المفهوم يكون النص تابعا
لتطور الإنسان يحوره حسب ما يلائمه، ولا يكون له دور في التحفيز
والتوجيه، خلافا للهدف من رسالة السماء والوحي الإلهي، في دفع تطور

286
البشرية ووضعها على الطريق السوي، أي أن يكون النص هو الحافز على
الارتقاء والموجه له، بل ذلك الاعتبار يضع الوحي الإلهي في إطار المعارف
النسبية التي تتبدل تبعا لزيادة قدرة الإنسان على الكشف والاختبار، فلا
يكون لتنزيله من الله تعالى ميزة على ما لدى البشر، وبهذا المفهوم يكون
الإنسان حاكما على النص الموحى، ويفهمه بما يسقطه عليه مما لديه من
مواقف متفاوتة ومعارف متبدلة، بينما يجب أن يكون النص هو الحاكم
على الإنسان، إذ أنه يحمل الحقيقة له من كل شأن تطرق إليه الوحي في
حياة الإنسان والمخلوقات والكون، ولو علم الإنسان حقائقها كان من
شأنه أن توجهه في تطوره وتدفعه وتصوبه، هذه حقيقة أولى، والحقيقة
الثانية أن الناس لم يكونوا قادرين على استيعاب هذه الحقائق جملة واحدة
في عصر التنزيل، لذلك قال تعالى " لا يعلم تأويله إلا.. " فكان علمه عند
الله خاصا به ولا يعلم منه إلا بالجعل الإلهي، وللذين جعل الله عندهم هذا
العلم الإلهي أن يظهروا للناس منه ما يناسب مرحلة النضج التي بلغوها،
مع تعاظم التطور الإنساني، وفي الوقت الذي يستطيعون توظيفه إيجابيا في
حياتهم وتعاطيهم مع الوجود، فيكون ما يظهرون لهم من الحقائق حافزا
على الارتقاء وموجها للتطور البشري، لكن هذا يحتاج إلى أمة ملتزمة
بالحق قوامة عليه، لكي لا يكون وسيلة بيد الظالمين للطغيان والجبروت.
تحول المضمون مقيد بالموضوع:
ومن ناحية أخرى، فإن المواضيع التي تعالجها النصوص كثيرة، ولا
يصح إطلاق عبارة تحول المضمون دون تقييد، ولو من حيث أن التحول

287
يمثل فهم الإنسان تبعا لمعارفه المكتسبة، لا إنه تحول في الحقائق المكتنزة
فيها، وذلك لأن من النصوص ما يتناول العقائد والشرائع والأخلاق، وهو
ثابت مع الزمان بتعبيره عن حقائق الوجود في العقائد، وتعبيره عن الوجه
السوي للإنسان الممثل لأصالته في الشرائع والأخلاق، وهي بهذا ثابتة
بثبات إنسانيته، وتغيرها يوجب تغير الدين، في الوقت الذي أتاح الإسلام
للناس أن يعالجوا جديد قضاياهم بواسطة الاجتهاد الذي يجب أن يلتزم
عملية الاستنباط من خلال النصوص، وأن لا يخرج عنها لكي لا ينحرف
عن الصواب، بينما من النصوص ما هو خارج هذا الإطار ويتناول قضايا
الكون والخلق والحياة، فلا بد أنه يعبر عن الحقيقة في أي شأن تناوله
النص، ولا يمكن أن يحمل في داخله التناقضات، ولا هو يعبر عن معرفة
نسبية، بل هذا الفهم قد نشأ من عجز الناس عن إدارك الحقائق في
النصوص بعد تنكرهم لمرجعيتها التي جعل الله عندها علمها الحقيقي،
فأصبح الإنسان يفهم هذه النصوص من خلال معارفه النسبية المتبدلة مع
الزمن، وذلك في عملية إسقاط على النص، وأصبحت النصوص محكومة
بتطور الإنسان ليرى فيها معارفه، لا حاكمة على التطور وحافزة له
ومصوبة لمساره، فلو كانت مقولة تطور المضمون تعبيرا عن هذا الواقع
الذي نشأ عن عزوف الأمة عن مرجعيتها الصادرة عن الله، لصحت،
ولكن تبقى مقيدة بطبيعة الموضوع الذي تتناوله النصوص خارج إطار
العقيدة والشريعة. ولا صحة للتنظير بأن هذا من وجوه الإعجاز، لأنه لا
إعجاز في نسبية المعرفة، بل يناقض الإعجاز، في أن ما يسقطه الإنسان

288
عليها من معارفه في زمن ماض يظهر خطأ في زمن لاحق، فهل هذا خطأ
في دلالة النص أم خطأ في فهم الإنسان له؟.
الجواب واضح، الإعجاز يكون لو كشف الإنسان حقيقة المضمون
فيما يحمله من حقائق الوجود، ووظفه إيجابيا في حياته فكان سببا لكشف
العلوم والسيطرة على الطبيعة.
لو اتبعوا المرجعية المنصبة إلهيا:
فلو أن المسلمين لم يقعوا في الخطيئة الكبرى، بالتنكر للمرجعية التي
أقامها تعالى لهم ثقلا ثانيا مع القرآن مستحفظين عليه، ولو أنهم رجعوا
إليهم، لفهموا من القرآن أسرارا عظمي سبقوا بها أهل الكفر والإلحاد إلى
السيطرة على الأرض والسماء، لكن لما تنكروا لهم وآثروا الرأي والهوى
على النص والوحي الإلهي، وعلى مرجعية الرسالة العاصمة من الضلال
التي نصبها الله لهم، تعثرت الرسالة وانحرفت الأمة عن سبيلها القويم،
وأصبح أئمة الهدى والحق في موقع لا يسمح بإظهار تلك العلوم للأمة، إذ
تغدوا بيد الظالمين وسيلة يزدادون بها طغيانا على بعضهم بعضا وعلى
الأمم، وإذ كان المرجو من أمة القرآن أن تقيم دولة الحق والعدل الإلهي
على الأرض، لتلتحق الأمم بهديها وتستنير بنورها، تحولت الخلافة المدعاة
إلى قيصرية، ودولة الإسلام إلى مملكة ككل الممالك، وعطلت السنة
وأولت نصوص الكتاب على غير حقيقتها، وأصبح الفساق والظالمون
مالكين على رقاب الأمة، وهي خاضعة لهم تعينهم على عزل أهل الحق
والعدالة والصواب والعلم.

289
لذلك أصبحت الأولوية في وظيفة إمام الحق العمل على تأصيل
الرسالة في مجتمعها، ودفع الريب والتحريف عنها، وترسيخ الذين استناروا
بنورهم، للمحافظة على الوجه الصحيح للإسلام عبر القرون، إلى أن يأذن
الله لإمام الحق ليعيد الأمور إلى نصابها، فيعود أهل الإسلام إلى رشدهم
والطريق الذي أراده لهم تعالى فحينئذ يظهر إمام الحق المنتظر هذه العلوم
للناس، لأنهم يكونون عندها مستحقين لها، ومؤهلين لحملها والعمل لها،
فلا تكون بيدهم وسيلة طغيان واستكبار وضلال.
وهكذا يصبح لتلك النصوص المقررة لحفظ القرآن الكريم مدلولا
معقولا، ينسجم مع المنطق الديني في مبررات الوحي وبعث الرسل، إذ قد
نزل الوحي لهداية الإنسان وتحقيق مصلحته، فلو أن علمه الحقيقي يبقى لله
وحده، فما الفائدة من تنزيله؟ تنزه الله تعالى عن العبث وعن أن ينزل
للناس سبيل هداية يكون سببا للحيرة والخلاف، مما يناقض مبررات
التنزيل، ومن هذا يفهم حقيقة قوله تعالى * (في كتاب مكنون لا يمسه إلا
المطهرون) *. بمعنى لا يدركه إلا المطهرون على النحو الذي شرحناه في
بداية البحث، ويفهم معنى قوله * (ولا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في
العلم..) * بأن * (الراسخون في العلم..) * معطوفة على لفظ الجلالة،
ليكون علم تأويله الذي لا يعلمه إلا الله ولذلك لا يعلم إلا بجعل منه، قد
جعله عند هؤلاء الراسخين في العلم الذين هم المطهرون، الذين طهرهم
الله وأذهب عنهم الرجس بما حققوا من مقدمات التطهير الإلهي في علم
الله، فاصطفاهم الله تعالى من عباده * (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل

290
إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض..) * وسأل
أبوهم إبراهيم (ع) بهم ربه تعالى * (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا
أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا..) * فأورثهم علم الكتاب
ومرجعيته * (ثم أورثنا الكتاب الذي اصطفينا من عبادنا..) * وذلك من
خلال جعل الكتاب ربانيا في الذريات المصطفاة * (ولقد أرسلنا نوحا
وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب..) * وجعلهم الشاهدين لله
ورسوله على الناس * (هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج
ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول
شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس) *.

291
الفصل السابع
وراثة المصطفين للكتاب
- المعنى الإجمالي
- الاصطفاء والمصطفون
- وراثة الكتاب
- وراثة الكتاب بين المصطفين وعموم الناس
- المحصلة.

293
شرح الآية 32 من سورة فاطر المباركة
بسم الله الرحمن الرحيم: * (والذي أوحينا إليك من الكتاب هو
الحق مصدقا لما بين يديه، إن الله بعباده لخبير بصير (31) ثم أورثنا
الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا، فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد،
ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله، وذلك هو الفضل الكبير (32) [سورة
فاطر].
المعنى الإجمالي:
نفهم من هذا النص الإلهي أن الله تعالى قد أورث الكتاب لفئة من
عباده قد اصطفاهم على الخلق، وأن هذا التوريث تال لنزول الكتاب على
محمد (صلى الله عليه وآله) وتال لقيامه بالرسالة، إذ جاء قوله تعالى
* (والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق..) * وبعده جاء قوله * (ثم
أورثنا الكتاب..) * لتشير * (ثم) * إلى أن هذا الأمر حصل بعد ذلك التنزيل
فهو في حقبة القرآن، وليس الكلام هنا عن الأمم السابقة له، مما يجعل

295
هؤلاء المصطفين تالين له.
فالسؤال من هم هؤلاء المصطفون، ولمعرفة ذلك لا بد من البحث
في عدة أمور من خلال التفصيل الآتي:
التفصيل:
الاصطفاء:
إن الاصطفاء من الصفوة، وهي خلاصة كل شئ وأفضل ما فيه،
فصفوة الخلق هم أفضلهم وأمثلهم، وقد جاء الاصطفاء في القرآن الكريم
تعبيرا عن اختيار الأفضل المتميز على كل ما عداه وذلك في النصوص
الآتية:
* (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه، ولقد اصطفيناه
في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين (130) إذ قال له ربه أسلم قال
أسلمت لرب العالمين (131) ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن
الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن غلا وأنتم مسلمون (132)) * (1).
* (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على
العالمين (33) ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم (34)) * (2). * (قل
الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى) * (3).



(1) سورة البقرة.
(2) سورة آل عمران.
(3) سورة النمل، الآية 59.
296
* (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك
على نساء العالمين) * (1).
* (وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا، قالوا أنى
يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال، قال
الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم، والله يؤتي ملكه من
يشاء والله واسع عليم) * (2).
* (قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالتي وبكلامي فخذ
ما آتيتك وكن من الشاكرين) * (3).
* (إن الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس، إن الله سميع
بصير) * (4).
فالنصوص القرآنية كلها التي ذكرت الاصطفاء وأثبتته لبعض من
عباد الله هي في مقام اختيار الأمثل.
وهناك نصوص أخرى ذكرت الاصطفاء في موضع النفي، لكن
تبقى تستبطن معنى اختيار الأفضل في معرض نفيه. فقوله تعالى
* (فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون (149) أم خلقنا الملائكة إناثا



(1) سورة آل عمران، الآية 42.
(2) سورة البقرة، الآية 247.
(3) سورة الأعراف، الآية 144.
(4) سورة الحج، الآية 75.
297
وهم شاهدون (150) ألا إنهم من إفكهم ليقولون (151) ولد الله
وإنهم لكاذبون (152) اصطفى البنات على البنين (153) ما لكم
كيف تحكمون (154)) * (1).
فالبارئ جل وعلا يسفه دعواهم بأسلوب الاستفهام الاستنكاري
ليدل على أنه لا تمييز بين الذكر والأنثى، فلم تكن الإناث صفوة الخلق
حتى يختص تعالى بهن نفسه وحتى يجعل الملائكة إناثا كما يفترون، ومثله
يقال في قوله تعالى * (أأصفاكم بالبنين..) * وأما قوله تعالى * (.. لو أراد الله
أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الواحد
القهار) * (2).
فالخلق كلهم لله فلو أراد الله أن يتخذ ولدا لاختار لنفسه
صفوتهم وأمثلهم ممن يشاء، لكنه تنزه عن ذلك.
فهذه النصوص الثلث هي في مورد نفي الاصطفاء، أما النصوص
الأخرى التي تتحدث عن الاصطفاء فهي في مورد إثباته وكلها جاءت في
مورد انتقاء الأمثل وتمييزه على جميع من عداه من جهة أولى وتستبطن
علاقة وظيفية للمصطفين بالرسالات الإلهية من جهة ثانية، فالاصطفاء
الإلهي ليس غاية في ذاته، بل ينبئ عن إرادة ربانية في اختيار الأمثل من
البشر لأجل رسالاته، كما أن أغلب نصوص الاصطفاء تعبر عنها مباشرة
(75 الحج - 144 الأعراف - 147 البقرة - 42 آل عمران - 130
و 132 البقرة) إلى جانب النص الذي نحن في صدده (الآية 32 من سورة



(1) سورة الصافات.
(2) سورة الزمر، الآية 4.
298
فاطر)، وهناك عدد من الآيات الأخرى التي تبين هدف الاصطفاء عامة في
الحديث عن العباد المصطفين، كقوله تعالى * (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم
وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب..) * و * (قال إني جاعلك للناس إماما
قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين) * و * (هو اجتباكم وما جعل
عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من
قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على
الناس) *.
وغيرها الكثير، تتحدث عن الذريات المصطفاة وعن علاقة
الاصطفاء بحمل أعباء النبوات والكتاب والإمامة والشاهدية الكبرى على
الخلق. ولئن كان المصطفون هم الصفوة الأمثل، وضح أن الكفرة
والملحدين والمنافقين والفسقة والفجرة والظالمين وأهل السوء والمعاصي لا
يشملهم أي معنى من معاني الاصطفاء، بل هؤلاء إذا مبزهم تعالى بقول
فمن مثل * (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الإنس والجن لهم قلوب لا
يفقهون بها ولهم آذان لا يسمعون بها..) * كما أن المنطق السديد يقضي
بأن الاصطفاء لا يشمل الجهلة والذين لا يكادون يفقهون حديثا ولو
حسنت سرائرهم، فهؤلاء وأولئك وهم على ما هم عليه من جهل أو
عمل سوء، ليسوا من الأمثل في شئ، فلا يكونون من صفوة الخلق، بل
لقلقة اللسان بالشهادتين دون أن تمس العقل والقلب ودون الالتزام
بمقتضياتها، وبينما العمل أسوأ من عمل الذين لم يشهدوا بذلك، مثل
أولئك أسوأ فعلا من هؤلاء، فالذي بلغته أمثولة الحق ولم يعمل بها هو شر

299
مكانا ممن لم يعمل بها إذا لم تبلغه * (يوم لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت
من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا) * وهل من كان جاهلا، لم يحدث نفعا
لخلق الله بل ربما أضر بجهله ولو عن غير قصد، أيشفع له الشهادتان أقر
بهما دون فهم لأبعادهما فيكون بهذه الحال صفوة على أحد أساطين العلم
الذي قدم النفع العميم للناس وآمن بوحدانية الله بفطرته وعلمه، وحسن
خلقه وسلم الناس من يده ولسانه، ولم يحمل غلا على الذين آمنوا، وربما
أنه لم يسمع بالإسلام أو صده عن التقصي ما رآه من سوء الأمثولة في
مثل أولئك الذين حملوا اسمه وخالفوا حقيقته؟ ولئن كان الثاني خارج
الاصطفاء لأنه يفتقر إلى مقدماته التي أولها التلبس بالإيمان عقلا ووجدانا
وسلوكا فالأول كذلك خارجه لافتقاره إلى مثل ذلك وأكثر.
وهكذا يبدو جليا أن قوله تعالى * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا
من عبادنا) * لا يعني جميع أمة محمد (صلى الله عليه وآله) على ما فيها من
تلك النماذج قديما وحديثا، من جهلة وفساق وظلمة ومفسدين ومن
يصح وصف دينهم بلعق اللسان، فمثل هؤلاء لا يكونون من الأمثل في
الخلق، وهم خارج الاصطفاء بلا ريب، فلا يبقى من مدلول معقول إلا
أن يكون الاصطفاء للصفوة الأمثل من العباد. على أن تتمة الآية تعطي
مزيدا من الوضوح من قوله تعالى * (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد
ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله..) * فالضمير في * (فمنهم) * عائد إلى
عبادنا، لا إلى الذين اصطفينا، إذ هي الأقرب، ولا يكون الرد إلى الأبعد
ما لم يكن من مسوغ بدليل خارجي أو لزوم بلاغي، على أن ظلم النفس

300
يشمل كل عمل سوء، بما فيه الكفر، وضلال الفكر والعمل.. ومن يكون
هكذا لا يكون من المصطفين في أي معيار لتعارضه مع الدلالة اللغوية
للاصطفاء ولنشوزه عن الذي عهد من سياق استعماله القرآني، وهكذا
فقد ميز تعالى بين العباد ثلاثة أصناف: الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق
بالخيرات، فالظالم هو الذي كفر بالكتاب أو تنكر له، أو عمل فيه بهواه،
والمقتصد هو الذي مزج السئ بالحسن والطاعة بالمعصية والضلال
بالهدى، فلم يغلب عليه الظلم لذا ميز عن الظالم لنفسه، وأما السابق
بالخيرات، فقد ميزهم عن الصنفين الأولين بقوله * (ذلك هو الفضل
الكبير) *، ولعلهم هم المصطفون أنفسهم لانطباق صفة الأمثلية عليهم،
وهكذا فالنص قد ميز المصطفين عن أهل الظلم والضلال وأهل السيئات
والمعصية، فيكون فيه إشعار بتنزههم عن المعاصي والضلال، الأمر الذي
يتوافق مع دلالة الاصطفاء لغويا في اختيار الأمثل ومضمونها القرآني، في
اختيار الله تعالى للصفوة من خلقه، الذين بارك فيهم وحملهم وظائف
رسالته العظيمة التي لا يقوى على حملها إلا مثل هؤلاء.
ومن الطبيعي أن تكون الوظائف الربانية في الرسالات الإلهية
اصطفاء ربانيا، لا شأنا بشريا ينتدب له الناس بعضهم بعضا، ولقد أخبرنا
تعالى عن هذه الحقيقة بصيغة المضارع بقوله " إن الله يصطفي من الملائكة
رسلا ومن الناس، إن الله سميع بصير (75) يعلم ما بين أيديهم وما
خلفهم وإلى الله ترجع الأمور (76)) * (1). فالنص يخبرنا عن حقيقة كائنة



(1) سورة الحج.
301
وهي أن الله يصطفيهم لعلمه بقابلياتهم وبشأنهم في الأمثلية، بالمقاييس
الربانية لا بالمنظور البشري، والله وحده يعلم حقائق الأمور وبواطنها،
بينما للبشر الظاهر، والواقع يملي حقائق لا يمكن تجاهلها، فبعض الناس قد
يبلغ شأنا عاليا في العلم، وبعضهم في التقوى، وآخرون في الزهد، وغيرهم
في الصبر أو في نكران الذات والجهوزية للتضحية في سبيل الحق وغير
ذلك، ومن كان في الدرجات العليا من إحدى الفضائل قد يكون مقصرا
في سواها، بينما الصفوة الأمثل هم الذين لا يضاهون فيما بلغوه من
الأمثلية في كل بعد من الأبعاد الضرورية لحمل الرسالة ومسؤولياتها، تبعا
لما تمليه حاجة هذه الوظيفة في مراحل الرسالة المتعددة، فهؤلاء لا يعلم
حقائقهم إلا الخالق عز وجل.
ولقد اصطفى تعالى الذين شاء من عباده منذ بداية الخلق لعلمه بما
سيكون من شأنهم وقابلياتهم، فأخبرنا أنه اصطفى الأنبياء والرسل
والأوصياء، وأنه اصطفى ذريات من الناس * (إن الله اصطفى آدم ونوحا
وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين (33) ذرية بعضهم من بعض
والله سميع عليم (34)) * (1)، فذلك الاصطفاء متحقق وراهن، ومثله قوله
تعالى * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) * فيخبرنا أن هذين
التوريث والاصطفاء ناجزان في قضاء الله، كائنان في الحقبة القرآنية، وأن
هناك من العباد المصطفين في هذه الحقبة من قضى الله في أن يرثوا
الكتاب. ومن جهة ثانية فإن التفسير الموضوعي لآيات الكتاب يقضي أن



(1) سورة آل عمران.
302
نفهم الموضوع من خلال النصوص المتعلقة بالاصطفاء جملة، مما يفرض
علينا أن نبحث عن هؤلاء المصطفين في ضمن الذريات التي أخبرنا تعالى
باصطفائها، وهل من هذه الذريات المباركة في أمة القرآن إلا ذرية إبراهيم
من ابنه إسماعيل عليهما السلام، أي محمد وآله (صلى الله عليه وآله)، والتي
أخبرنا عنها تعالى * (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة
لك.. ربنا وابعث فيهم رسولا منهم..) * فهذه الأمة المسلمة من ذرية
إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام هم من آل إبراهيم الذين اصطفى على
العباد وجعل فيهم النبوة والكتاب، فإذا قال تعال لرسوله * (والذي أوحينا
إليك من الكتاب..) * وأردف * (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من
عبادنا) * فهمنا أن هؤلاء المصطفين من العباد هم هذه الأمة المسلمة من آل
إبراهيم والذين بعث الله فيهم النبي (صلى الله عليه وآله) من أنفسهم،
والذين أخبرنا بأنه قد جعل النبوة والكتاب في شجرتهم، وليس عسيرا أن
نعلم أن محمدا وآله (صلى الله عليه وآله) هم المعنيون من هذه الذرية في
حقبة القرآن كما أوضحنا في شرح آية الشاهدية.
على أننا إذا اتضح لنا المقصود من عبارة " الكتاب " فهمنا مزيدا من
حقيقة الاصطفاء الرباني لوراثته.
وراثة الكتاب:
لقد أوفينا البحث في دلالة " الكتاب " أثناء تفسير آية * (قل كفى بالله
شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) * من خلال تفسير موضوعي

303
لمجمل الآيات المتعلقة بالكتاب فليراجع هناك، ولقد أظهرنا المدلول القرآني
لهذا اللفظ حين يكون متعلقا بالرسالات الإلهية، ووجدنا أنه يشير إلى
مجمل الوحي الإلهي المنزل على الرسل ومجمل الرسالات الإلهية وبوجهها
الصحيح الذي عند الله، ووجدنا أن إحاطة العلم بذلك وبحكم طبيعته
الربانية لا يكون كسبيا بالوسائل المتاحة للناس في السماع والرواية
والاستقراء، لعجزها عن حقيقة الإحاطة والمطابقة مع ما عند الله مضمونا
وأبعادا وبرنامجا، بل لا يكون إلا جعلا إلهيا، ولولا أن جعل الله علم ذلك
عند رسله وأنبيائه لما حصل لهم، إذ كان الجعل من خلال تنزيل الكتاب
عليهم في وظيفتهم الرسولية، كما تنبؤنا بذلك النصوص القرآنية المتعلقة
بموضوع الكتاب، ولأجل هذا إن وجد عند غيرهم من العباد، فلا بد
أيضا أن يكون جعلا إلهيا، وأيضا من خلال وظيفة ربانية من وظائف
الرسالات، ووجدنا أن نص * (.. ومن عنده علم الكتاب) * يشير إلى جهة
لديها كامل علم الكتاب لا بعضه، بالمقارنة مع " قال الذي عنده علم من
الكتاب " مما اقتضى أن يكون جعل هذا العلم عند الجهة المشار إليها
بالنص هو من أجل وظيفة الشاهدية التي أفاد بها النص ذاته * (كفى بالله
شهيدا...) *.
وفي العودة إلى النص الذي نحن في صدده نجد أن الله تعالى قد
أورث " الكتاب " للمصطفين من العباد، وهذا يندرج في سياق جعل
الكتاب في الذريات المصطفاة من الخلق * (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم
وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب) * أي حملنا المصطفين منهم النبوة

304
والكتاب وليس كل الذرية، لأن الذين هم خارج الاصطفاء منهم لا
يتميزون بالنسب عن بقية المؤمنين لجعل الكتاب فيهم حصرا، وحمل
الكتاب هو في حمل علمه ومرجعيته والقيام به، بلا ريب، ولما كانت
طبيعة علم " الكتاب " جعلا إلهيا لا موضوعا كسبيا، ظهر لنا مضمون
الاصطفاء لوراثة الكتاب وضروراته، فالله تعالى قد أورث " الكتاب " للعباد
المصطفين، الذين قد اصطفاهم بحكمته لما علم قابليتهم، فجعل لديهم
علمه، وحملهم مرجعيته.
من ناحية أخرى، هذا النص الذي يقرر وراثة الكتاب بالاصطفاء،
يقدم لنا دليلا على أن علم الكتاب على سبيل الإحاطة والمطابقة لما عند
الله تعالى، هو شأن أساسه الاصطفاء الرباني، فيؤيد ما ذهبنا إليه في دلالة
نصوص الشاهدية من أنها وظيفة قائمة على الاصطفاء والاجتباء الإلهيين.
إن الدلالات السابقة الذكر يفرضها النص حين جعل وراثة الكتاب
قائمة على الاصطفاء، هذا الأمر الذي يختلف كليا عن وراثة المؤمنين عامة
للكتاب، كما سيظهر في الفقرة الآتية.
وراثة الكتاب بين المصطفين وعموم الناس.
لقائل أن يدعي أن هذا النص يماثل قوله تعالى * (ولقد آتينا موسى
الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب (35) هدى وذكرى لأولي الألباب
(54)) * (1)، فلماذا لا تكون الوراثة هنا أيضا عام لكل أمة القرآن.



(1) سورة غافر.
305
هذا النص في بني إسرائيل هو من قبيل قوله تعالى فيهم أيضا * (وآتينا
بني إسرائيل النبوة والكتاب) * فمن الواضح أنه تعالى قد أتى ذلك
أنبياءهم لا جميعهم، إنما عمم الكلام لأنهم فيهم من جهة أولى، وليدل
على قيام الحجة به على مجموعهم من جهة ثانية، ومثله في ذلك النص عن
وراثة الكتاب، إذ الوارثون هم المصطفون منهم كما أخبرنا تعالى بقوله
عن نوح (ع)، وإبراهيم (ع) * (.. وجعلنا في ذريتهما النبوة
والكتاب..) * وفي الذرية المصطفاة وليس في عموم بني إسرائيل، إنما عمم
الكلام لأن هؤلاء الوارثون المصطفون هم فيهم، وتقريرا لقيام الحجة بهذه
الوراثة عليهم. على أنه في فهم الموضوعات القرآنية لا بد من النظر في
مجمل الآيات المتعلقة بموضوع وراثة الكتاب، فنجد وجهين منها، وراثة
الكتاب الخاصة بالمصطفين ووراثة الكتاب لعموم الذين انتسبوا إليه،
ونفهم الفرق من قوله تعالى * (إنا أنزلنا إليك الكتاب..) * (1) في مقابل
* (لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون) * (2)، فتنزيل الكتاب في
الحالتين له مدلول مختلف لجهة الوظيفة والمضمون، فالتنزيل على الأنبياء
يعطيهم المرجعية في شأنه، ويدل على تكليفهم القيام به، وجعل علمه
لديهم واستحفاظهم عليه بوجهه المطابق لما عند الله، أما التنزيل على
الناس فهو من خلال التنزيل على الأنبياء، ليعني قيام الحجة عليهم به
ووجوب الالتزام به، والقيام به من خلال مرجعيته العالمة به لا من خلال



(1) سورة المائدة / الآية 48.
(2) سورة الأنبياء / الآية 10.
306
ظنونهم، ومنه نفهم وراثة الكتاب في بني إسرائيل وكل الأمم، فالوارثون
من المصطفين رسل وأنبياء وأئمة، ووراثتهم هي وراثة علمه ومرجعيته
والقيام به واستحفاظه، وهي وظيفة ربانية أساسها الاصطفاء كما في هذا
النص ذاته، والله أعلم حيث يضع رسالته، بينما وراثة المنتسبين إليه هي
من خلال وراثة المصطفين، وتشير إلى قيام الحجة عليهم به، والقيام به من
خلال مرجعيته، وهي دور لا اصطفاء فيه، بل أساسه استجابة الناس إلى
فريضة بالإيمان على كل نفس، فمنهم من أحسن ومنهم من أساء، ولقد
كان من الأمم التي ورثت الكتاب من لم يحمله بل ضيعه بعدم الالتزام
بفروضه، وبالتحريف من اتباعهم الكتاب بأهوائهم وظنونهم وبمخالفة
مرجعيتهم، وهذا يفهم من مجموع النصوص التي تكلمت عن شأن بني
إسرائيل مع أنبيائهم وتحريفهم كلام الله، ومن أجل هذا السلوك قال تعالى
* (.. كالذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كالحمار يحمل أسفارا) *
و * (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا
الأدنى) * (1) و * (.. وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه
مريب) * (2)، ومثله يكون في الأمم الأخرى بما فيها أمة محمد (صلى الله
عليه وآله)، ومنها قوله تعالى * (ربي إن قومي اتخذوا هذا القرآن
مهجورا) * فهذا الكلام لعله ليس في المشركين، لأن الهجر لا يكون إلا
بعد وصل، فالمشركون لم يأتوا إلى القرآن ولم يدخلوا في ظله ليهجروه



(1) سورة الأعراف / الآية 169.
(2) سورة الشورى / الآية 14.
307
بعد ذلك، بل هو في بعض أمة محمد (صلى الله عليه وآله)، ومثله * (من
يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم..) * ومثله * (أفإن مات أو قتل
انقلبتم على أعقابكم..) * ومن النصوص النبوية ما يؤكد هذه المعاني من
ارتداد كبير يقع في أصحابه بعد وفاته (صلى الله عليه وآله)، وفي أمته في
آخر الزمان، ومن افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا
واحدة ناجية، ومن محاكاة أمته للأمم السابقة حرفا بحرف، بينما قال في
الذين ورثوا الكتاب من المصطفين * (ولنجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) *
ولأنهم أوفوا بالعهد قال تعالى فيهم * (قل الحمد لله وسلام على عباده
الذين اصطفى) * فهل يا ترى هذا السلام المقترن بحمده تعالى يشمل كل
بني إسرائيل أو كل المسلمين على ما فيهم من فسقة وظالمين عاقين لله
ورسوله؟ فالوارثتان تختلفان مضمونا ووظيفة.
إذن يظهر لنا أن النص بتخصيصه الوراثة بالمصطفين في حقبة القرآن
بعد رسوله (صلى الله عليه وآله) قد أخرج من دلالته من لا تتوفر فيهم
صفات الأمثلية التي يتضمنها معنى الاصطفاء، فلذلك لا يكون النص
شاملا لكل أمة محمد (صلى الله عليه وآله) بل فقط ثلة قد اصطفاها الله
تعالى لهذه الوراثة، بالمضمون الذي أوضحناه.
رد الاحتمالات الأخرى:
على أنه لا بد من الإشارة إلى ما قيل من احتمالات في معنى المصطفين
لإظهار الخطأ فيها، فقد قيل هم بنو إسرائيل لأنهم من بني إبراهيم أي من

308
الذرية المصطفاة، وفضلا عن خطأ الزعم بأن بني إسرائيل هم واقعيا جميعا
أبناء إبراهيم، فإن خطأ هذا الزعم يظهر من ذات النقاش الذي سبق حول
قولهم هم أمة محمد (صلى الله عليه وآله)، لجهة أن فيهم من لا يتحقق لهم
صفات الاصطفاء الإلهي، ولقد ظهر بوضوح كذلك في الكلام عن
الفارق بين وراثة المصطفين ووراثة عموم الناس، ومن أن تحديد الوراثة
بالمصطفين يخرج عموم بني إسرائيل منها، إذ المصطفون فيهم هم الأنبياء
والأوصياء الذين حملهم الله الوظائف الإلهية كما تدل النصوص، وليس
جميعهم، كما أنه ليس من سبب للإدعاء أن المصطفين في هذا النص هم
ذاتهم المصطفون من بني إسرائيل، إذ لا توجد أي إشارة في النص توحي
بذلك الإنتقاء لحقبتهم.
ولقد قيل هم الأنبياء عموما، وما ذلك إلا لمسايرة مضمون الاصطفاء
في النص، لكن هذا التفسير يضفي على النص إبهاما لا إيضاحا. فالنص
يذكر المصطفين من العباد، وليس كلهم أنبياء كمريم (ع) وغيرها، وما
من قرينة تسمح بتخصيص اللفظ بالأنبياء، في وقت يقدم سياق النص
القرينة على أن الكلام خاص بحقبة القرآن من قوله تعالى * (... ثم...) *
ليفيد أن التوريث كان بعد التنزيل على محمد (صلى الله عليه وآله) الذي
ذكرته الآية التي سبقتها. وليس من المصطفين بعده (صلى الله عليه وآله) في
حقبته إلا أهل بيته (ع).
على أننا لو اعتبرنا أن الكلام هو عن الحقبة السابقة للقرآن لكان بمثابة
انتزاع للنص من سياقه، إذ أن الآيات السابقة واللاحقة تتكلم كلها عن

309
حقبته والناس الذين أرسل النبي (صلى الله عليه وآله) إليهم به، فلا مبرر
لهذا الانتزاع، بينما النص ذاته يشير إلى هذا الارتباط بحقبة القرآن على
النحو السالف الذكر، لا سيما أنه لا يوجد في أسباب النزول ما يبرر
نزوله مستقلا، فاقتضى أخذه بظاهر سياقه، ولو قبلنا جدلا بسلخ النص
عن سياقه لما دل منفردا على تعلقه بالحقبة السابقة للقرآن فضلا عن
غيرها، بل يغدو ذا دلالة عامة، تفيد حينئذ بالضرورة تعبيرا عن حقيقة
ربانية أن الله تعالى يورث الكتاب للمصطفين من عباده بعد التنزيل على
رسله، وإنما جاءت العبارة في الماضي للدلالة على أن هذا قضاء ناجز،
ويكون عندئذ شاملا لحقبة القرآن، أي يتضمن توريث الكتاب بعد
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويعود المعنى إلى الذي إليه أشرنا بداية.
من ناحية ثانية، إن انتزاع النص من موضعه يفرض النظر إليه في علاقته
بمجمل الآيات التي قبله التي تتكلم عن الكتب والرسل وهي الآيات (24،
25، 31) * (إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا، وإن من أمة إلا خلا فيها
نذير (24) وإن يكذبوك فقد كذب الذين من قبلهم، جاءتهم رسلهم
بالبينات والزبر والكتاب المنير (25)..) * إلى قوله * (والذي أوحينا إليك
من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه، إن الله بعباده لخبير بصير (31)
ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا... (32)) * فلو شئنا فهم
النص من خلال العلاقة بمجمل هذه الآيات وجدناه يدل على توريث
الكتاب تاليا لتنزيله على مجمل الرسل والأنبياء، بما فيهم خاتمهم (صلى الله
عليه وآله)، أي بعد انتهاء عصر الوحي الإلهي.

310
المحصلة:
1 - إن في وراثة الكتاب في القرآن الكريم وراثة المصطفين ووراثة
مجموع الذين انتسبوا إلى الدين وهما يختلفان لجهة المضمون والوظيفة،
فالأولى هي وراثة علمه ومرجعيته، وهي وظيفة ربانية أساسها الاصطفاء
الإلهي، أما الثانية فهي وراثة من خلال وراثة المصطفين، تتضمن قيام
الحجة عليهم به، ولزوم الالتزام به، ويرتب هذه الوراثة تصديق الإنسان
بالرسالة الذي هو فرض على كل إنسان، ولا اصطفاء فيها.
2 - هذا النص الإلهي يخبرنا أن الله تعالى قد أورث الكتاب بعد
رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعباد له مصطفين أي أورثهم علمه
ومرجعيته، وبالضرورة مرجعية الرسالة الخاتمة.
3 - ولما كانت هذه الوراثة اصطفاء ربانيا فقد أخرج منها سوى
المصطفين من العباد مهما بلغ أحدهم.
4 - ولقد علم من مراجعة نصوص الاصطفاء الإلهي والاجتباء
الرباني أنه ليس في أمة محمد (صلى الله عليه وآله) من المصطفين إلا ثلة
من ذرية إبراهيم من ابنه إسماعيل عليهما السلام، الذين سماهم أبوهم
المسلمين قبل القرآن من قوله تعالى * (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن
ذريتنا أمة مسلمة لك..) * أظهرنا سابقا أن هؤلاء هم محمد (صلى الله
عليه وآله) وأهل بيته (ع)، وأنهم هم المجتبون الذين أبوهم إبراهيم، الذين

311
سماهم المسلمين قبل القرآن، والذين اجتباهم الله للشاهدية الكبرى.
ويرجع لمعرفة دلالات هذه النصوص إلى بحث آية الشاهدية.
ولئن كان هناك نفر قليل من المسلمين ممن ينسبون إلى إسماعيل (ع)
إلى جانب النبي (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (ع)، فإنه ليس عسيرا
معرفة أن الاجتباء هو خاص بهم عليهم السلام من مجمل النصوص القرآنية
والنبوية التي خصهم الباري بها ورسوله (صلى الله عليه وآله)، من مثل آية
التطهير وآيات المودة، ومثل آية المباهلة وحديث الكساء الذين حددا
بوضوح من هم أهل البيت المطهرون (ع) ومثل نصوص الثقلين والغدير
والسفينة وباب حطة والنجوم والعدول من أهل بيتي ينفون عن هذا الدين
التحريف في كل زمان، التي أظهرت كلها أن آل محمد (صلى الله عليه
وآله) هم المرجعية العليا والثقل الثاني مع القرآن، الذين بهم وبالكتاب
تأمن الأمة من الضلال. ونصوص أخرى كثيرة غيرها.
ولقد أظهر تعالى لنا أمثليتهم على الأمة وأنهم الصفوة المباركة في آية
التطهير وكذلك في آية المباهلة التي مهما قلنا في دلالتها، فإنها في أقل
تقدير دلت على أنهم هم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) الصفوة
وأصحاب الأمثلية في كل ما يطلب لمثل هذا المباهلة التاريخية من
مواصفات الطهر والقرب من الله والإخلاص لرسالته ورسولها والعلم
بحقائقها والتسليم بقضاء الله وأمره، فإن كان في أمة محمد (صلى الله عليه
وآله) مصطفون بعده فهل يرى صاحب بصيرة وبصر غيرهم؟ والواقع
التاريخي يؤيد هذه الدلالة القرآنية بالذات ودلالات النصوص القرآنية

312
والنبوية الأخرى، إذ بينما قد سجل التاريخ على كل الذين تسنموا
مرجعية الأمة حالات من الجهل بالكتاب والسنة والفتوى وحالات من
الانحراف في السلوك والظلم، وفي الوقت الذي كانت هذه المرجعيات هي
التي سطرت التاريخ وانتدبت من يسجل لها السنة وسواها، وبينما كان
الحصار على أشده على أهل البيت (ع)، والاضطهاد عليهم وعلى من
تشيع لهم قد بلغ مبالغ لم يرى التاريخ لها مثيلا قديما ولا حديثا، وكان
هم أعدائهم إطفاء ذكرهم والتشنيع عليهم والحط من شأنهم، فإنه لم
يسجل عليهم شئ من مثل ما سجل على أعدائهم، بل سجل لهم في كل
مفخرة أعلاها وأمثلها، من العلم والتقوى والزهد والطهارة والتضحية،
فكان التاريخ الذي سجله خصومهم، أو على الأقل الدائرون في فلك
خصومهم، أفضل دليل على أمثليتهم وأنهم الصفوة من الأمة، فكان ذلك
تصديقا لتقديم الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) لهم، وكان من المعجزات
الإلهية والكرامات الربانية التي أظهرها لرسوله في آله الذين أمر تعالى
بطاعتهم، بل جعل في علمهم وزهدهم وأمثليتهم وما أجرى لهم من
كرامات تحدث فيها الأجيال دلائل صدق لنبيه (صلى الله عليه وآله)
الذي منه نهلوا، وعلمه حملوا صلوات الله عليه وعليهم أجمعين. ولا بد هنا
من التذكير بدلالة الصلاة على محمد وآله في كل فريضة صلاة، ودلالة
الصلاة الإبراهيمية المعلومة في السنة المروية والسنة العملية، ودلالة الصلاة
على محمد وآله (صلى الله عليه وآله) المفروضة بقوله تعالى * (إن الله
وملائكته يصلون على النبي..) * ولقد شرحنا هذه الدلالات أثناء الكلام

313
عن آية التطهير في بحث آية أولي الأمر، ووثقنا مصادرها هناك، وهي في
أقل تقدير تعني أن الصلاة على النبي وآله (صلى الله عليه وآله) هي من
خلال الصلاة على إبراهيم وآله، وأن منزلتهم من الرسالة والمؤمنين هي
من خلال كونهم في عداد آل إبراهيم المصطفين على العالمين. فهل بعد
كل هذا من مناص؟
الحمد لله الذي هدانا إلى الذين اصطفى من عباده، محمد وآله
الأطهار، اللهم صلي على محمد وآل محمد كأفضل ما صليت على
إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد. * (قل الحمد لله وسلام
على عباده الذين اصطفى) *

314
الفصل الثامن
أهل الذكر

315
بسم الله الرحمن الرحيم
* (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم، فاسألوا أهل
الذكر إن كنتم لا تعلمون * بالبينات والزبر، وأنزلنا إليك الذكر لتبين
للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) * {سورة النحل 43 و 44}.
بداية نذكر أنه قد اختلف في من هم أهل الذكر، فالذي ورد عن
أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن أهل الذكر هم أهل البيت عليهم
السلام، ومثله كذلك ورد لدى بعض السنة (أنظر الحاشية) (1) ولكن
البعض الآخر اعتبر أنهم أهل الكتاب أو علماؤهم، ونحن لكي يتاح لنا



(1) نذكر على سبيل المثال لا الحصر: الإمام الثعلبي في تفسيره الكبير، تفسير القرآن لابن
كثير، ج 2 ص 570، تفسير الطبري ج 14 ص 109 تفسير الآلوسي (روح لمعاني) ج
14 ص 134 تفسير القرطبي ج 11 ص 272، تفسير الحاكم (شواهد التنزيل) ج 1
ص 334 تفسير التستري (إحقاق الحق) ج 3 ص 482 ط 1 بطهران، ينابيع المودة
القندوزي الحنفي ص 51 و 140 ط الحيدرية وص 46 و 119 ط إسلامبول وشواهد
الترتيل للحاكم الحسكاني الحنفي ج 1 / 334 حديث 459 و 460 و 463 و 464
و 465 و 466.
317
الفهم الصحيح لهذه النص الإلهي وأبعاده، لا بد لنا من أن تقارب
الموضوع بعد تخلينا أي موقف سابق حول مفهوم أهل الذكر، لكي
نتجنب أي إسقاط خارجي على دلالات النص، وعلينا أن نتعامل مع
النص بدراسة أسلوب البيان وطبيعة الخطاب موضوعيا، لنعلم حجم
الدلالة التي يحملها، ومن أجل هذا علينا أن نعلم هل أن هذا الأمر بسؤال
أهل الذكر هو خاص لهذه الحقيقة التي بدأ النص بذكرها * (وما أرسلنا
من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم) *، أم هو عام يشمل كل حقائق
الأديان، وهل هو أمر موجه إلى المشركين وحدهم ولا ينطبق على
غيرهم. إن أجابتنا عن هذه الأسئلة ومعرفتنا لحجم دلالات النص تجعلنا
نفهم من هم أهل الذكر.
المعنى الإجمالي.
* (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم) * ذلك رد على
قولهم في الآيات السابقة من نفس السورة * (لو شاء الله ما عبدنا من دونه
من شئ،...) * كما ذهب صاحب الميزان، ليتبين أن الأنبياء هم بشر
ينذرون الناس ولا سيطرة لهم عليهم، وأن الله تعالى ينذر الناس بهم ولا
يجبرهم على الإيمان، إذ ذلك تكليف لهم محاسبون عليه، وذهب البعض
إلى اعتبار الآية ردا على قول المشركين لماذا لا يبعث الله ملكا رسولا،
لكن ليس في ما قبلها ولا بعدها من الآيات ما يدل على ذلك، بل هي
آيات من سور أخرى، لذلك فالأقرب هو المعنى الأول وإن كانت النتيجة
لا تختلف كثيرا.

318
* (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر...) *
البينات والزبر متعلقة ب‍ * (لا تعلمون) * ولا يصح ردها إلى أرسلنا أو إلى
نوحي، فالرد إلى الأقرب أولى مع استقامة المعنى، وأكثر انسجاما مع
فصاحة الكلام، ولا يصح الرد إلى الأبعد مع تجاوز الأقرب ما لم تتوفر
ضرورة بلاغية له، أو دليل خارجي يبرر من سنة أو سواه، وكلا الأمرين
مفقود، فلزم الرد إلى الأقرب جريا مع مألوف اللسان وقواعد الكلام،
ولكن على تقدير أن جملة * (إن كنتم لا تعلمون) * اعتراضية تعود إلى * (ما
أرسلنا من قبلك إلا رجالا) * فحينئذ يقتضي رد * (بالبينات والزبر) * إلى
فاسألوا إذ تصبح هي الأقرب انسجاما مع ما أسلفنا، وفي الحالة الأولى
يكون السؤال لأهل الذكر مترتبا في حالة عدم العلم بالبينات والزبر، وفي
الحالة الثانية يكون سؤالهم بالبينات والزبر مترتبا، نتيجة عدم العلم بحقيقة
أن الله تعالى يرسل رجالا يوحي إليهم، وفي الحالتين فإن السؤال هو في
موضوع البينات والزبر، فيكون المعنى أن السؤال بها يجب توجيهه إلى
الذين نعتهم تعالى ب‍ * (أهل الذكر) *.
والبينات: هي البراهين الواضحة وتعني الدلالات التي تؤكد الحقائق
الربانية من مثل بشرية الرسل وعدم جبرية الإيمان، ولقد ورد في القرآن
الكريم تنزيل البينات على الرسل في معرض الكلام عن موسى (عليه
السلام) ومحمد (صلى الله عليه وآله) وأنبياء آخرين عليهم السلام فلا
مبرر للقول بأن العبارة تعني إحدى الرسالات السماوية أو الكتب
كالتوراة. ولما جاءت العبارة مطلقة هكذا دون تخصيص فهي تشير إلى

319
جنس البينات ومجملها، وليس ما يدل على أنها إشارة إلى ما له علاقة
بإحدى الرسالات دون سواها بل هي شاملة لها.
وأما الزبر: فهي مجموع زبور أي كتاب، ومن الغني عن القول أنها
إشارة إلى الكتب السماوية، وجاءت بصيغة الجمع لتشير إلى مجملها
وجنسها لا إلى كتاب دون سواه، ومما يتوافق مع عموم عبارة البينات.
وهكذا لا نجد مبررا لاعتبار البينات والزبر إشارة إلى كتب اليهود
والنصارى دون القرآن الكريم ودون الكتب السماوية الأخرى، فلا النص
يعين على ذلك، ولا دليل عليه من كتاب أو سنة، وهو بمثابة الإسقاط
الخارجي على النص ناشئ عن الاعتبار المسبق بأن أهل الذكر هم علماء
أهل الكتاب، فهذا الإسقاط لا يصح، بينما الأسلوب الصحيح في التعامل
مع هذا الموضوع حين يعتريه الغموض أو الاختلاف، هو في أن تفهم أولا
دلالة عبارة البينات والزبر، حيث أن النص يستبطن أن أهل الذكر هم
العالمون بها، ولو علمنا ما هي، علمنا منه من هم أهل الذكر، والعبارة
جاءت في النص عامة لا تخصص فيها، فلا بد من أخذها بعمومها،
ويكون السؤال لأهل الذكر بجنس البينات والزبر في العموم، سيان بأي
منها أو كلها حسب حاجة السائل، أي أن السؤال هو بالرسالات وكتبها
وبراهينها، لا سيما أنه هو الذي ينسجم مع الواقع الخارجي، إذ أن جهل
المشركين ببشرية الرسول أو بعدم جبرية الإيمان، هو من مجمل الجهل
بحقائق الرسالات الإلهية التي ليست خاصة بكتب اليهود والنصارى، وأن
براهينها ليست خاصة بتلك الكتب، ولا هي متوقفة على استقصائها فيها

320
للإدلاء بها للجاهل والذي لم يستيقن، علما أن موضوع السؤال المطلوب
حسب إفادة النص هو بالبراهين والبينات الدالة على هذه الحقيقة وغيرها
من حقائق الإيمان، وليس السؤال فقط للحصول على الجواب بمجرد نفي
أو إثبات. فالحقائق الربانية واحدة وبراهينها واحدة لكل الرسالات
والكتب في أصلها الذي لم يحرف، إنما يتوقف تعليم الجاهل وهدايته على
الجهة التي يتوجه إليها في السؤال بها، لجهة مدى حيازتها على العلم
الصحيح المطابق للأصل الذي يريده تعالى، ومستوى الفهم والنضج،
ولجهة المصداقية في الإرشاد، مما يعني تلقائيا إن أهل الذكر هم الذين
يحققون هذه الصفات، ليكون سؤالهم مفيدا للهداية.
ومثله يقال عن الذكر في (أهل الذكر) فهو من ذكر يذكر ذكرا،
وهو في المبدأ يصح لكل ما أنزل الله تعالى على الأنبياء ليذكر الناس به،
فكله ذكر، وليس هناك ما يدل على تخصيص لها، بل استعملت في ذكر
موسى (ع)، إنما أكثر استعمالها كان في وصف ما أنزل على رسول الله
(صلى الله عليه وآله) بالذكر، * (ص، والقرآن ذي الذكر) *، * (وقالوا يا
أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون) * {الحجر 6} * (والذكر
الحكيم) * * (وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون) * {الزخرف 43}.
* (وأنزلنا إليك الذكر) * {النحل 44}، مما يمنح مزيدا من الوضوح فيما
ذهبنا إليه من معنى البينات والزبر، ويؤكد أن لا مبرر لاعتبار الذكر كناية
عن ما أنزل إلى موسى أو عيسى (عليهما السلام) دون سواهما، بل لعل
تتمة الآية التي بعدها * (وأنزلنا إليك الذكر) * تشير إلى أن الذكر فيها بدل

321
من الذكر في أهل الذكر، مما يصح معه أن تكون قرينة على أن الذكر
فيها هو القرآن، لا سيما أن القرآن الكريم كما دلت كثير من الآيات،
هو الوجه الصحيح لما أنزل على الأنبياء وهو المهيمن عليه، ولئن كنا
نعتقد بهذا، لكن المعنى الإجمالي للآية لا يختلف في النتيجة، إذ إن عموم
معنى الذكر هنا يمنح مزيدا من التأييد لما قلناه قبل حين من وجوب سؤال
أهل الذكر بالرسالات وكتبها وبراهينها وبأي منها وفي العموم، حسب
حاجة السائل مما يلزم عنه أن يكون لديهم العلم بها.
هل سؤال أهل الذكر خاص لهذا المورد الذي تحدث عنه النص؟
وهل هو خاص بالمشركين؟.
يقول النص * (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات
والزبر..) * فالسؤال هنا مشروط بعدم العلم بالبينات والزبر، فيكون
متوجبا حين يكون الجهل بها، دون خصوصية، لموضوعه.
ومن ناحية ثانية، إن قلنا إن * (إن كنتم لا تعلمون) * اعتراضية
راجعة إلى * (وما أرسلنا...) * فحينئذ تغدو * (بالبينات والزبر) * متعلقة
ب‍ * (فاسألوا) * كما سبق القول، ويكون سؤال أهل الذكر هو بالبينات
والزبر، وفي كلتا الحالتين يكون النص قد شرع سؤال أهل الذكر بعموم
البينات والزبر سواء كان عدم العلم هو بعمومها أو فقط في مورد خاص
منها، فليس السؤال وقفا على بشرية الرسل أو على جبرية الإيمان، بل إن
المعنى الذي يفرض نفسه هو أن النص قد أنشأ قاعدة عامة في هذه المناسبة
الخاصة، تقضي بسؤال أهل الذكر بالبينات والزبر، حين ينشأ أي جهل

322
بها، كقولك إن الماء مفطر فاسألوا أهل العلم إن كنتم لا تعلمون بالدين،
أو على التقدير الثاني من اعتراضية إن كنتم لا تعلمون: إن الماء مفطر، إن
كنتم لا تعلمون، فاسألوا أهل العلم بالدين، فأنت قد أنشأت قاعدة عامة
في مناسبة الجهل بمفطرية الماء، تقضي بسؤال أهل العلم بشأن الدين،
وسؤالهم بعموم شأنه في كل مناسبة أخرى من الجهل فيه. ومثله هذا
النص العظيم الذي في مناسبة الجهل ببشرية الرسول أو عدم جبرية
الإيمان، فقد أنشأ قاعدة عامة تقضي بسؤال أهل الذكر بعموم البينات
والزبر حين ينشأ الجهل بحقائقها، ولا يكون السؤال وقفا على مناسبتها،
بل الرد إلى أهل الذكر في هذه الحالة كان من خلال القاعدة العامة التي
أنشأها النص.
ولقائل أن يتساءل أنه كما قبلنا بإمكان اعتراضية * (إن كنتم لا
تعلمون) * في سياق * (فاسألوا أهل الذكر بالبينات والزبر) * فلماذا لا
نقبل بإمكان اعتراضية مجمل الجملة * (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا
تعلمون) * بين قوله * (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم) *
وقوله * (بالبينات والزبر) * لتصبح هذه الأخيرة متعلقة بأرسلنا أو نوحي.
والفارق واضح، إذ أنه في الاحتمال الأول * (إن كنتم لا تعلمون) *
مرتبطة ب‍ * (فاسألوا) *... حيث أن عدم العلم هو شرط السؤال، لذلك
فإن اعتراضيتها تأتي من سياق العبارة ومن خلالها، ولا تحدث خروجا عن
السياق، ولا انقطاعا فيه، بل كله سياق واحد مترابط. بينما في الاحتمال
الثاني، فإن جملة * (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) * غير مرتبطة

323
بأصل العبارة، بمعنى أنه لا يتوقف المراد منها عليها، لذا فهي مضافة،
تضيف معنى جديدا، وجعلها اعتراضية في سياق العبارة الأساس يشكل
خروجا عن سياقها وانقطاعا فيه، دون توفر ضرورة بيانية أو بلاغية لهذه
الاعتراضية، بل تأخيرها إلى بعد * (بالبينات والزبر) * أفضل إبانة للمراد
من كلتا العبارتين وأبلغ، مما يجعل هذا الاحتمال ساقطا، لتعارضه مع
أمثلية العبارة القرآنية، لجهة البيان الأفضل مع الاحتفاظ بالدرجة الأعلى
من البلاغة. وفي القرآن الكريم حالات مشابهة لما ذكرنا في الاحتمال
الأول لجهة أنك تجد الجملة الاعتراضية تأتي في سياق جملة أخرى مرتبطة
بذلك السياق، تخدم ضرورة بيانية أو بلاغية، كمزيد من بيان المراد من
الجملة الاعتراضية أو المراد من الجملة التي اعترضت سياقها، وهكذا لا
تشكل خروجا عن سياق الكلام.
على أية حال فلو قبلنا جدلا بأن يكون سؤال أهل الذكر يعني
بالخاصة الموضوع الذي يتضمنه قوله * (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا
نوحي إليهم) *، فإن مصداقية أهل الذكر في تعليم الجاهل عن حقيقة من
خصائص الإيمان الكبرى، تعطيهم مصداقية لتعليمه في غيرها، إذ أن
المصداقية إما أن تكون كلا أو أن لا تكون.
وهكذا، فإن النتيجة التي لا يمكن تفاديها هي أن النص يؤدي
مشروعية سؤال أهل الذكر بمطلق البينات والزبر.
من ناحية ثانية فإن هذه القاعدة العامة ليست وقفا على حالة
المشركين ولا خاصة بهم، فلقد جعل النص موجب ومبرر سؤال أهل

324
الذكر الجهل لا الجحود، فالثاني هو من نتائج الأول، ألا ترى أنه قال
* (إن كنتم لا تعلمون) * وجعل غاية السؤال تحصيل العلم بالكتب الإلهية
وبراهينها وليس مجرد تحصيل الخبر بأن النبي بشر أو الإيمان اختيار لا جبر
فيه. ولا سيما أن التسليم بالحقائق الربانية وإن كان ينفي الجحود، لكن إن
لم يحرز صاحبه العلم ببراهينها لكي يعقلها فهذا من الجهل بها. ولذلك
فإن الإقرار بها لا يكفي في عملية الإيمان، بل لا بد من فهم المبررات
والدلائل مما يستبطنه معنى العلم في قوله * (لا تعلمون) *، وهكذا فإن الأمر
بتوجيه السؤال لأهل الذكر قد جاء للذين لا يعلمون، وهذا يشمل المنكر
والذي أقر دونما علم، وليس في النص ما يجزم بأن الخطاب خاص
بالمشركين، وما إفتراض هذا التخصيص إلا بسبب أن فيها رد على بعض
مقولاتهم، لكن هذه المقولات لم تكن خاصة بالمشركين في عصر النزول،
ولن تكون كذلك بعده كما هو في علم الله تعالى الذي أنزل آياته للعمل
بها إلى يوم الدين، فأما قضية الجبر فلقد ضل بها كثير من أهل الكتاب
وسنعود بالإشارة إليه لاحقا، كما أنه اشتبه الأمر فيها على المسلمين،
وأما حتمية بشرية المرسلين فلقد اشتبه فيها اليهود في عزير (ع) والنصارى
في عيسى (ع). وهكذا فإن الشك بهذه الحقيقة وغيرها أو عدم فهم
مبرراتها بوضوح، ليس حصرا على رؤوس الشرك الذين يطلقون مثل هذه
المقولات، كما أنه ممكن حتى لسذج المسلمين، وإن إطلاقها من قبل
المشركين، له أن يثير تساؤل بعض المسلمين، لا سيما أن الكثير منهم لم
يكونوا قد نضجوا في الإيمان لحداثة عهد بالجاهلية، لذلك جاء النص

325
خطابا عاما، يصح لكل من جهل بالحقائق الإلهية وبيناتها وكتبها، ولكل
من توجب عليه العلم ببراهينها، وهو أمر يتوجب على كل إنسان، وعلى
المسلم قبل غيره، لأن تسليمه لا يسقط عنه إحراز اليقين بها، الذي يستلزم
أن يعقلها ويفهم دلالتها، وفي القرآن الكريم حوارات كثيرة حول الحقائق
الربانية والكونية من قبيل البعث والوحدانية التي علم أن الكافرين أو
المشركين ينكرونها، وجاءت أساسا ردا على شكوكهم، لكنها تبقى
حوارات تمثل دلالات، لكل من ينشأ لديه شك أو غموض حولها، أو
يحتاج إلى براهينها، فلا معنى لاعتبارها خاصة بإقناع المشركين كقوله
تعالى * (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) * وقوله * (لو كان
فيهما آلهة غير الله لفسدتا) * أو * (كماء أنزلناه من السماء فأحيينا به
أرضا ميتة وكذلك النشور) * فلا وجه لاعتبار هذه وكل الحوادث المماثلة
تعني المشركين وحدهم، بل هي لكل من يترتب عليه فهم هذه الحقائق
ودلالاتها، وهذه متوجبة على كل إنسان سواء أنكر الوحدانية أو البعث
أو أقر بهما تسليما، فإن الإيمان بها مطلوب فوق التسليم، وهو يحتاج إلى
السؤال والعلم ومعرفة بيناتها.
ألا ترى أن بعض المسلمين يقولون بالتجسيم؟ وغير ذلك من
المقالات التي تناقض حقائق الإيمان؟ ألا ترى أن كثيرا من المسلمين يقولون
بالجبر، وأن الإيمان والكفر حسب ذلك قضاء منذ أول الخلق لا خيار فيه،
كما يروون من الحديث المنحول بقولهم " قبض الله قبضة وقال هذه إلى
الجنة ولا أبالي وقبض قبضة وقال هذه إلى النار ولا أبالي " أليس هذا

326
كقول المشركين * (لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ) * فمن الذي
بين لهؤلاء الذين لا يفهمون حقائق الذكر الحكيم وهم يقرأونها؟ من يبين
لهم إلا العالمون بحقائق الوحي وكتبه على وجهها الذي يريده الله، لا كما
يتوهمونها بتأولاتهم وظنونهم؟ فلئن صح أن يبين أهل الذكر للمشركين،
أفلا يصح أن يبينوا ذات الحقيقة ودلالاتها للمسلم إذا نشأ لديه الشك
والإبهام، علما أن حقائق الإيمان ودلالاتها واحدة؟.
من أجل هذا جاء الخطاب عاما في هذا النص العظيم يؤكد إحدى
حقائق الأديان، ثم يقرر في مناسبة عدم العلم بهذه الحقيقة قاعدة عامة
لكل من يتوجب عليه العلم بحقائق الرسالات ودلالاتها وكتبها أن يعود في
ذلك إلى أهل الذكر.
وفي محصلة الكلام حتى هذه اللحظة وجدنا أنه:
أولا: يتكلم النص عن البينات والزبر والذكر بعموم العبارة، فلا
مبرر لتخصيصها لبعض الكتب الإلهية دون غيرها، بل لا بد من فهمها
على أنها تعني مطلق الرسالات الإلهية وكتبها.
ثانيا: وإن كان الكلام قد أنشئ في معرض ذكر حقيقة ربانية
واحدة هي بشرية الرسل أو عدم جبرية الإيمان، فإن النص قد جعل
السؤال لأهل الذكر بمطلق البينات والزبر، وجعل شرطه الجهل، سواء
فهمنا على أنه الجهل بالحقيقة التي قررها النص، أو بمطلق حقائق الإيمان،
فإن السؤال المنوط بأهل الذكر هو بمجملها وليس وقفا على هذه الحقيقة
بالذات. ومن الواضح أن غاية السؤال ليست تحصيل خبر بالنفي أو

327
الإثبات في موضوع السؤال أيا كان، بل الغاية هي تحصيل العلم بالبينات
والبراهين حول هذه الحقيقة أو أي حقيقة من حقائق الإيمان في الزبر.
ثالثا: جاء الخطاب عاما، ولا وجه لتخصيصه بالمشركين، والحقيقة
التي قررها بداية ليست مما يشك به المشركون وحدهم، لكنها مورد شبهة
لدى بعض من أهل الديانات السماوية وهي ذاتها كما غيرها من حقائق
الإيمان قابلة إلى أن تكون موردا للغموض أو التساؤل من قبل أي إنسان
مشركا أو موحدا، خاصة إذا طرح المشركون التشكيك بها قبالة حديثي
الإسلام، وضعاف الإيمان. لذلك لا يصح القول أن الخطاب يخص
المشركين دون غيرهم، لا سيما أن هذا الإرشاد يوجه إلى الذين لا
يعلمون * (إن كنتم لا تعلمون) * والتسليم بأمر دون إحراز القناعة بدلالاته
هو من الجهل به، كما هي حالة الموحد تسليما دون علم.
رابعا: وهكذا فإن النص قد أنشأ قاعدة عامة في مناسبة الكلام عن
الحقيقة التي بدأ بذكرها، وبموجب هذه القاعدة يحيل كل من لا يعلم
بالحقائق الربانية نتيجة الكفر أو نتيجة ما اعتراه من الجهل أو الشك أو
الغموض على أهل الذكر لتحصيل العلم بالرسالات والكتب الإلهية
ودلالاتها وبراهينها.
خامسا: ونشأ من هذا أن يكون أهل الذكر عالمين بعموم الرسالات
وكتبها، وبوجهها الصحيح لا المحرف ليكون خبرهم مفيدا للصواب الذي
هو غاية السؤال كلما نشأت الحاجة إليه، فليس منطقيا أن يجعل السؤال
منوطا بجهة لا تفيد بالحق، كذلك يجعل علم أهل الذكر جعلا إلهيا لا

328
كسبيا، إذ لا يكون مطابقا لما عند الله إلا إن كان كذلك. ولا أظن أحدا
يدعي أن اليهود والنصارى كان عندهم العلم بعموم البينات والزبر
الخاصة بهم والسابقة لهم بوجهها المتداول فضلا عن وجهها المطابق لما
عند الله، ولا دليل على مثل هذا الادعاء، وغني عن البيان أنه لم يكن
لديهم العلم بما له علاقة بالقرآن الكريم.
نفي شبهة:
على أن لهذا الأمر وجها آخر، فلقد أورد البعض أن العرب في
الجاهلية كانوا يلجأون إلى اليهود لسؤالهم عن أخبار السماء، وكانوا
يصدقونهم، بل كانوا يستشيرونهم حول دخول الإسلام. مما جعل البعض
يرى وجها في أن يكون النص قد قصد بأهل الذكر أهل الكتاب، بينما لو
تدبرنا في الموضوع بمزيد من العمق لوجدنا أن مثل هذا التوجه في الجاهلية
لو كان حقيقيا، فإنه يخدم في عكس ما ذهبوا إليه في فهم هذا النص. على
أنه لدى مراجعة الحوادث النادرة التي استندوا إليها وجدناها لا تشكل
دليلا مقنعا على التعمم، كما أن بعضها يؤكد غش اليهود في شأن الدين
الجديد، فتخدم في عكس ما أرادوه في تبرير ما يقولون.
لقد أخبرنا القرآن الكريم في كثير من المناسبات والآيات عن سوء
النية لدى اليهود وأهل الكتاب حيال الإسلام ونبيه (ص) ومحاولتهم
تضليل المشركين ببعض الأقاويل لكي لا يؤمنوا به، * (يا أهل الكتاب لم
تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) * {71 - آل

329
عمران} * (قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من أمن تبغونها
عوجا وأنتم شهداء) * {99 - آل عمران} * (ودت طائفة من أهل
الكتاب، لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون) * {69 -
آل عمران} * (وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على
الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون) * [72 آل
عمران] * (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من
الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند
الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) * {78 - آل عمران}.
فإذا كان هذا حال اليهود والنصارى من كراهية للإسلام والحقد
عليه وعلى نبيه، والاستماتة في ابتكار الأساليب لصد الناس عن الإيمان
به، بل وفي حمل من آمن على الردة، فهل يكون منطقيا بعد هذا كله، أن
يحيل الله تعالى أحدا من الناس يرجو له الإسلام على هؤلاء الذين امتلأت
قلوبهم بالحقد، وعقولهم بأساليب وفنون الإفتئات والتضليل لكل الناس
مشركين ومسلمين، بل هؤلاء الذين كانوا يعلمون الحق ويكتمونه من
أحبارهم ورهبانهم، كانوا أيضا يضللون أتباعهم من اليهود والنصارى
ليصدونهم عن الإسلام * (... وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم
يعلمون...) * {146 سورة البقرة} * (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من
الكتاب والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله
ويلعنهم اللاعنون) * {159 سورة البقرة}، بل قد بين القرآن الكريم لنا
كيف أنهم يغشون المشركين * (أنظر كيف يفترون على الله الكذب

330
وكفى به إثما مبينا، ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون
بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا
سبيلا) * {سورة آل عمران 50 و 51} فهل بعد كل هذا من ضمانة في أن
لا يلبسوا الحق بالباطل ولا يكتموا الحق، أو يدعوا بأشياء أنها من عند
الله وهي من عندهم * (... ويقولون هو من عند الله وما هو من عند
الله) *، أفكانوا يؤمنون على تعليم من لا يعلم حيث أحيل عليهم الذين لا
يعلمون * (... إن كنتم لا تعلمون...) *. وما الذي يضمن إن هم أقروا
ببشرية الرسل، لأنه لا مناص من ذلك، أن لا يضيفوا من عندهم
مواصفات ومعايير كاذبة في الرسول البشر تخرج إقرارهم بالشرية عن
جدواه لدى هؤلاء الجاهلين بالرسالات، ولقد حصل منهم مثل هذا
بقولهم * (الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان
تأكله النار، قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم
قتلتموهم إن كنتم صادقين) * {آل عمران - 183}، بل كيف يحيل
السؤال عليهم في جبرية الإيمان وقد ضلوا هم فيه واختلفوا به * (وإذ قالت
أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا، قالوا
معذرة إلى ربكم ولعلهم يرجعون، فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين
ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا
يفسقون) * {سورة الأعراف - 164 و 165}. أم كيف يحيل عليهم
السؤال في حتمية بشرية الرسل ولا بديته وقد اشتبه الأمر عليهم في شأن
عزير (ع) وعيسى (ع)؟.

331
إن الذي يبدو أقرب إلى منطق الواقع وأكثر انسجاما مع مناخ
القرآن الكريم هو أن يقرع المشركين على مثل هذا السلوك في اللجوء إلى
اليهود والنصارى والوثوق بأخبارهم لو كان حاصلا في الواقع، لا أن
يقرهم عليه، وأن ينهاهم عنه لا أن يدلهم عليه، وأن يبين لهم سوء نواياهم
هؤلاء الذين محضوهم ثقتهم وهم على ما هم من الغش ونية السوء وعدم
النزاهة.
ويجدر الالتفات هنا إلى أن هذه الإحالة على (أهل الذكر)
بالسؤال، إن كان القصد أهل الكتاب، وكانت الإحالة تعنى هذه الحالة
الخاصة، وبغض النظر عن أن النص قد أنشأ قاعدة عامة، هذه الإحالة
تكسب سؤالهم في حالات أخرى مشروعية، على الأقل من وجهة نظر
المشركين، خاصة أن الإقرار ببشرية الرسول أو عدم جبرية الإيمان لا
يحسم الموضوع، ولا يعني الدلالة على نبوة محمد (صلى الله عليه وآله)
ليصبح قوله بعد ذلك ميزان الحق، ويستغنى به عن مزيد من سؤالهم.
ومع افتراض حسن النية والأمانة لدى المسؤولين، فإن نشوء هذه
المشروعية لا يمكن علاجه، حين يكون موضوع السؤال مما يختلف
مضمونه لدى أهل الكتاب عما هو في القرآن، فلا معنى على الأقل من
وجهة نظر المشركين أن يقبل قولهم حين يوافق ويرفض حين يخالف، لا
سيما أن المشركين يكونون أقرب إلى تصديق اليهود، إن كان ما ادعاه
ابن خلدون أو سواه من رجوع العرب إليهم صحيحا.

332
ولأن الواقع لا يقاوم في أن تصحيح رجوع أي جاهل مشركا أو
غيره إلى اليهود، لمعرفة وجه الحق في شأن من شؤون الرسالات الإلهية،
يشرع هذا الرجوع ويمنحهم مصداقية، وجدنا بعد التدليس في فهم حقيقة
أهل الذكر على هذا النحو، بأن ذلك جعل الذين لم يستوعبوا حقائق
الإسلام من المسلمين، يستسيغون سؤال الذين أسلموا من علماء اليهود
والنصارى عن أخبار التوراة والأمم السابقة، ومحضوهم الثقة في ذلك،
فوجد المنافقون منهم السبيل إلى المكر والتخريب في الإسلام مثل كعب
الأحبار. فاستخفوا بعضا من الرواة وبثوا عن طريقهم الخرافات التي
شوهت كثيرا من جوانب الإسلام، حين خلط بعضهم مثل أبي هريرة
وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر (1) وغيرهم بين ما هو صادر عن
النبي (صلى الله عليه وآله) وما هو صادر عن كعب الأحبار، فسوغ
هؤلاء الرواية عنهم نقلا عن كتبهم كما يدعون، ثم اختلط الأمر عليهم
والتبس بين ما يروونه عن النبي (صلى الله عليه وآله) وما يروونه عن هذا
الدساس، هذا بالرغم من كل ما أوردناه من نصوص قرآنية ترتب عدم
ذلك، وبالرغم من نهي النبي (صلى الله عليه وآله) عنه، ولقد ذكر الشيخ
محمود أبو رية في كتابه أضواء على السنة المحمدية ص 124 ط / 1 سنة
1958 (... وكان يغضب أشد الغضب إذا رأى أحدا ينقل عنهم، فقد
روى أحمد عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب أتى النبي بكتاب
أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه على النبي فغضب وقال: أمهوكون



(1) أضواء على السنة المحمدية ص 125 ط / 1 سنة 1958 (نشر مطبعة دار التأليف بمصر).
333
فيها يا بن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لو أن موسى حيا ما وسعه إلا أن
يتبعني، وفي رواية فغضب وقال: لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوا
أهل الكتاب عن شئ فيخبرونكم بحق فتكذبوا به أو بباطل فتصدقوا به).
ونقل في ذات الصفحة عن البخاري عن أبي هريرة (لا تصدقوا أهل
الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا
وإلهكم واحد ونحن له مسلمون).
وكذلك نقل رواية البخاري من حديث الزهري عن ابن عباس أنه
قال (كيف تسألون أهل الكتاب عن شئ، وكتابكم الذي أنزل على
رسول الله أحدث الكتب تقرأونه محضا لم يشب، وقد حدثكم أن أهل
الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من
عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن
مسألتهم، لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل إليكم)
ولعل هذه الرواية تنفي ادعاء البعض أن ابن عباس قد وقع في مثل ما وقع
به الذين ذكرناهم من الخطأ في الأخذ عن كعب وغيره.
وذكر كذلك في ص 125 من ذلك الكتاب (روى ابن جرير عن
عبد الله بن مسعود أنه قال: لا تسألوا أهل الكتاب عن شئ فإنهم لن
يهدوكم وقد ضلوا، إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل)، بلى، قول ابن
مسعود يطابق الواقع لقد ضل اليهود والنصارى فكيف يهدون سواهم،
ألم يضل اليهود في جبرية الإيمان كما نوهنا سابقا، أما بشرية الأنبياء فإنهم
يشترطون فيها النسب الإسرائيلي لإسحاق (ع) وكما ذكر القرآن الكريم

334
يشترطون قربانا تأكله النار، وما يدرينا إن أقروا لهم ببشرية الرسل أن لا
يضيفوا المزيد مما يخرج الإقرار عن فائدته الدالة على الحق. وماذا عن
النصارى، هل كانوا سيعترفون أن نبيهم ليس إلها؟.
ولولا أن الرجوع إلى هؤلاء كان لا يرجى به هداية، بل يخشى معه
من الضلال والتضليل لما نهى عنه النبي (صلى الله عليه وآله)، فلو سلمت
نواياهم لم تسلم مصادرهم من التحريف، فما بالك وقد ظهر منهم الغش
وقصد التضليل، فتلك هي حالهم المعلوم في سلوكهم حيال المسلمين
والمشركين على السواء، بل ميلهم إلى تضليل المشركين لصدهم عن
الإسلام أولى وأظهر كما وضح في الواقع الذي بينه القرآن كما أسلفنا
قبل حين، فهل يبقى مع كل هذا وجه لاعتبار أن النص الكريم قد قصد
علماء اليهود والنصارى من عبارة " أهل الذكر " وأن الله تعالى أحال
بالسؤال عليهم أكان السؤال حصرا في شأن ما جهله المشركون أم في
غيره؟.
إن هؤلاء الصحابة أو التابعين الذين نقلوا روايات عن الذين أسلموا
من اليهود والنصارى، لم يفهموا كتاب الله حين أخبرهم عن أن كتبهم
محرفة، وأن القرآن الكريم هو المهيمن عليها والمعيار للصواب منها، فما
هي الضرورة إذن في سؤالهم عن أخبار كتبهم؟ فما كان منها مطابقا
للقرآن كان صحيحا، ولا حاجة للعلم به منهم، وما كان مخالفا فلا
صدق فيه، وما لم يكن في القرآن فما وجه الصحة فيه بعد أن علمنا أن
تلك الكتب قد شابه النقص والزيادة؟. وهل علماؤهم الذين أسلموا كان

335
لديهم العلم في زمانهم بما كان فيها من عند الله وبما لم يكن من عنده، بل
من دسائس من قبلهم؟، حتى يجعلوهم مصدرا لعلومهم بالخلق والعالم
الآخر وأمور الغيب.
ما كان المسلمون بحاجة إلى خرافات ودسائس بعض أولئك ممن
أبطنوا يهوديتهم كيدا للإسلام، لو أنهم لم يصدوا عن أهل الذكر
الحقيقيين الذي أمرهم الله بأخذ علم رسول الله عنهم (أنا مدينة العلم
والحكمة وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها) (إني تارك فيكم
ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا، كتاب وعترتي أهل بيتي، فلا
تتقدموهما فتهلكوا، ولا تتأخروا عنهما فتهلكوا ولا تعلموهما فإنهما
أعلم منكم).
مرجعية أهل الذكر.
وهكذا فإن النص قد سن قاعدة عامة في مناسبة خاصة، مفادها أن
الجاهلين بحقائق الرسالات الإلهية أو براهينها وكتبها، عليهم أن يسألوا
أهل الذكر بها، وهذه الإحالة التي يقصد منها تحصيل الوجه المطابق
للحقيقة التي عند الله، تقضي بأنهم جهة لديها هذا العلم كاملا وبوجهه
الأصيل، ليبرر الإحالة بالسؤال عليهم، ومثل هذا لا يكون إلا جعلا إلهيا،
والنص إلى هنا يظهر أن لأهل الذكر مرجعية التبيان، تتضح أكثر مع تتمة
الآية * (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم...) * فترابط الآيتين
وتقاسمهما الكلام عن الوحي والإرشاد في شؤونه يجعل مرجعية البيان من

336
دلالات النص، وهي للنبي (صلى الله عليه وآله) من قوله (لتبين) ولأهل
الذكر من قوله * (فاسألوا أهل الذكر..) * ويجعل النبي (صلى الله عليه
وآله) من أهل الذكر وسيدهم لما له من هذه الوظيفة ولما له من العلم
الرباني بالذكر، ويجعل أهل الذكر جهة في حقبة القرآن إذ أن الخطاب مع الناس في هذه الحقبة، فهذه الجهة عليها التبيان بما لديها من هذا العلم
كذلك، بل لعله يوحي بأن الناس الذين يبين لهم النبي (صلى الله عليه
وآله) هم أهل الذكر بالخاصة كما ورد عن المعصومين (عليهم السلام)
الذين استودع تعالى لديهم هذا العلم الرباني وعصمهم في أقل تقدير عن
الكذب والسهو والنسيان، ليكونوا مرجعيته بعد سيدهم (صلى الله عليه
وآله)، لأن هذا العلم رباني كما يفيد نص الراسخين في العلم من قوله
تعالى * (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم..) * والذي سيأتي
بيانه، لذلك لا يعلم هذا العلم على سبيل الإحاطة إلا من الله، ولا يمكن
الإحاطة به بوسائل الاستقراء بسبب نسبية نتائجه، ولا بالرواية لما يعتريها
من نقص أو تحريف عن كذب أو نسيان أو سهو، فالنبي (صلى الله عليه
وآله) وإن كان يبين لكافة الناس، لكن بيانه على نحو ينتج علم إحاطة
يستمر بعده لتحقيق غايته في الهداية، مثل هذا البيان يكون لمثل هؤلاء
الناس الذين هيأهم الله لهذا العلم، والذين نعتهم بأهل الذكر لتكون لهم
المرجعية بعده. ولعل المقصود من البيان هنا هو هذا النمط من البيان، لأنه
لو لم يكن على نحو يفيد الإحاطة والاستمرارية بعده (صلى الله عليه
وآله)، لا يحقق غايته ولا يكون بيانا.

337
على أية حال، فما أوضحناه من وظيفة البيان من هذا النص، لا
يتوقف على هذا الاعتبار وإن كنا نعتقد به ونراه صحيحا.
لا مصداقية لأهل الكتاب بأي إرشاد:
يبقى أن نشير إلى أن بعضهم قد استحسن أن لا يكون أهل الذكر
من المسلمين، لعدم اعتراف المشركين بهم ليصار إلى إحالتهم عليهم، فلا
تكون هذه الإحالة مصدرا لإقناعهم، فاقتضى أن يكونوا من أهل
الكتاب.
لقد أوضحنا سابقا أن حالة عدم العلم بالحقيقة التي بدأ النص
بإعلانها، أو بغيرها من حقائق الأديان وبيناتها وكتبها، ليس وقفا على
المشركين، فلا يصح اعتبار الخطاب خاصا لهم ليصار إلى إسقاطه بعد
ذلك على مجمل النص، بيد أن في هذا الاعتبار سطحية لا مبرر لها،
فالمشركون لم يكونوا يعترفون أيضا بأهل الديانات السابقة ولا بكتبهم،
والمشركون لم يكن اعتراضهم على أن محمدا (صلى الله عليه وآله) من
بين الأنبياء خاصة بشر، فلذلك لا يؤمنون به، بل إن اعتراضهم هو على
مبدأ بشرية الرسل، فهذا هو اعتراضهم على كل الأنبياء، وحال أهل
الكتاب في هذا كحال المسلمين، فهل كان عند أهل الكتاب من الدلائل
المقنعة ما ليس عند أهل الإسلام؟ وهل إن أهل الكتاب لو سألهم
المشركون كانوا سيعطون الإفادة المطابقة للحقيقة القرآنية؟ فهل كان
النصارى سيعترفون بأن نبيهم بشر ليس إلها؟ وهل كان اليهود سيكتفون
بالإقرار بالبشرية ثم لا يضيفون شروطهم به في النسب لإسحاق (عليه

338
السلام) أو في قربان تأكله النار؟ أو لم يقولوا هذا كما أخبرنا القرآن
الكريم؟ وهل إفادتهم بالبشرية تبقى ذات فائدة، أم هي إفادة يراد منها
مزيد من تكذيب محمد (ص)؟ وهل رأينا أحدا ممن أسلم كان نتيجة سؤال
اليهود أو النصارى؟ أم كان نتيجة قناعة بصدق محمد (ص) وحقانية
دعوته، بغض النظر عن مطابقتها أو مخالفتها للذي سبقها؟ لذلك لما كان
الإيمان يمر بالقناعة فإن الله تعالى وفي معرض ذكر حقيقة من حقائق
الرسالات موضع الاعتراضات، أرشد الذين لا يعلمون، سواء المنكر أو
المسلم الذي لم يعقل بيناتها، إلى السبيل الذي يحقق العلم واليقين بها
وبغيرها من حقائق الكتب الإلهية، بما يتوافق مع السيرة العقلانية التي
تقضي على من لا يعلم بشئ، أن يستحصل علمه وبراهينه من أهله
العالمين به والصادقين في القصد إلى بيانه، فالغاية من الإحالة على أهل
الذكر بالسؤال هي للحصول على براهين هذه الحقيقة أو سواها من
حقائق الكتب الإلهية، كما تفيد عبارة * (بالبينات والزبر) *، حصولا يفيد
العلم ويدفع الريب في مقابل عدم العلم الذي أشار إليه قوله * (إن كنتم لا
تعلمون) *، وليس مجرد الحصول على شهادة بنعم أو كلا من جهة خارجة
عن الإسلام كما يفيد الاعتراض المذكور، والغاية في النص هو إظهار
الحقائق ودلالاتها، أي التعليم والإرشاد، لذا فإن صلاحية الجهة التي أنيط
بها الأمر يتوقف على مصداقية تمثيلها للحقائق الربانية وكتبها، لجهة
العالمية بها بما يطابق أصلها الذي عند الله، ولجهة الأمانة لها والحرص على
الهداية بها والإرشاد، ولجهة النضج في العلم والإيمان واستيعاب الدلالات

339
المقنعة القادرة على التفريق بين الحق والباطل ليصح معها تسميتها
بالبينات.
فهل هذه المصداقية كانت متوفرة في أهل الكتاب؟ إن الحقائق من
الكتاب والسنة وواقع سلوكهم حيال المشركين والذي ذكرنا بعضها قبل
صفحات، كلها تعارض أن يكون لعلمائهم أهلية ما لمصداقية إرشاد
للمشركين، بل ولا حتى لأتباعهم ناهيك عن المسلمين.
إن رؤوس الكفر الذين يطلقون الأقوال كقولهم لماذا لا يبعث الله
ملكا رسولا، أو يروجون بالجبر في الإيمان، أو أن محمدا (صلى الله عليه
وآله) ساحر أو كاهن، هؤلاء لا رجاء لهم في الإيمان، بما صدوا
واستكبروا. وقد عبر القرآن الكريم عن هذه الحقيقة في أكثر من آية فلا
ضرورة للاستقصاء. أما الذين يرجى إيمانهم فهم التابعون المستضعفون
الذين لا يعلمون، وكذلك ضعاف العقيدة من المسلمين الذين يلقون
السمع إلى المنافقين والمشركين، مثل أولئك وهؤلاء، إن تعرفوا إلى حقائق
الرسالات وبراهينها، لهم أن يؤمنوا أو أن يترسخ إيمانهم من سلم دون
قناعة ويقين، لذلك وفي معرض الرد الإلهي على مقالات رؤوس الكفر،
فإنه قد أرشد الجاهل من منكر أو مرتاب، لكي يحصل على الحقائق
الربانية ودلالاتها، من أهلها الذين لهم مصداقية المرجعية، لجهة العالمية
والطهر والأمانة لها، والحرص على الهداية بها، مما صح معه نعتهم * (بأهل
الذكر) *، فهم خاصته الأكثر التصاقا وعلما به، فهؤلاء هم الذين
بالرجوع إليهم يرجى تعليم الجاهل واستبانة الحق ورفع الريب، والهداية

340
إلى السبيل، ولقد علم إن مصداق هؤلاء هم أهل البيت (عليهم السلام)
لما علم من حالاتهم الواقعية ومن جملة من البيانات النبوية.
أمثلة عن البيانات النبوية:
فلقد بين رسول الله (ص) أن أهل الذكر هم أهل البيت (ع) ولقد
ذكرنا في بداية البحث بعضا من مصادر أهل السنة في ذلك على سبيل
المثال لا الحصر، ولقد بينا من خلال استقراء النص استقراء موضوعيا من
خلال ما يمليه أسلوب البيان أنه يلتقي مع هذا الاعتبار بما يفرضه من
الدلالة على جهة في حقبة القرآن لها العلم بالرسالات وكتبها بما فيها
القرآن، ولها مصداقية التبيان ومرجعيته، وما بنى عليه بعض العامة
خلافا لذلك من أن أهل الذكر هم أهل الكتاب أو علماؤهم قد وجدنا مناقضته
لفحوى النص من جهة، ولكثير من المعطيات في الكتاب والسنة كما بينا
قبل حين. على أننا لو تجاوزنا ذلك فإننا نستطيع أن نعلم الحقيقة من
خلال ما اتفق عليه الشيعة والسنة من نصوص نبوية أخرى في مثل حديث
الثقلين المتواتر لديهما والذي يفيد عالمية العترة وضرورة لزومهم لكي لا
يقع الناس في الضلال، ويفيد أن العترة الطاهرة ملازمة للقرآن والأعلم به،
والأكثر به لصوقا، وهل القرآن إلا الذكر، بل الوجه الصحيح المهيمن
عليه، وهل أهل كل أمر والأولى به إلا الأعلم به والأكثر لصوقا؟ وهل
ألصق به وأكثر ملازمة من الذين جعلهم الله أعدا له والملازمين له إلى يوم
الحشر؟ وقد أمر تعالى الناس بملازمتهم ليعتصموا من الضلال، أفهم
يعصمون الناس برأيهم أم بالقرآن ذي الذكر؟ فمن يكون أهل الذكر

341
غيرهم بعد كل هذا؟ وكيف يتخرصون بأنهم اليهود الذين حملوا التوراة
فلم يحملوها كالحمار يحمل أسفارا، أو أنهم النصارى الذين قالوا أن
عيسى ابن مريم إله وابن الله؟ أليس هذا من العجب؟ ثم نجد من يكرر
افتراءاتهم بلا حياء؟ بل على قلوب أقفالها.
والحديث المتواتر الثاني هو (أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد
المدينة فليأتها من بابها) وهو متواتر بين الفريقين. فرسول الله (صلى الله
عليه وآله) لا ريب أنه من أهل الذكر وسيدهم كونه العالم بكل حقائق
الرسالات الإلهية، وعلومه هذه كلها تؤخذ من علي (صلى الله عليه وآله)
مما يجعله من أهل الذكر كذلك.
(وليقتد بأهل بيتي من بعدي، فإنهم عترتي، خلقوا من طينتي
ورزقوا فهمي وعلمي (مسند أحمد 5 / 94 كنز العمال ج 6 رقم
3819).
فهل أوضح دلالة من هذا الكلام، قد جعل الله لدى عترة النبي
(ص) علمه وفهمه، أفلا يكون عندهم إذن ما لديه من علم الكتاب
والرسالات؟
(في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي، ينفون عن هذا
الدين تحريف الضالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، ألا وأن
أئمتكم وفدكم إلى الله، فانظروا من توفدون) (أخرجه الملا في سيرته

342
كما تفسير قوله تعالى * (وقفوهم فإنهم مسؤولون) * (ص 90 من
الصواعق المحرقة لابن حجر).
فانظر إلى قوله ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين وانتحال
المبطلين وتأويل الجاهلين، ترى كيف إن ذلك يجعل لهم المرجعية في تبيان
الوجه الصحيح للرسالة وكتابها والدين بمجمله كما عبر عنه الحديث
الشريف، فيظهرون الصواب من الخطأ الذي يفتريه المحرفون والضالون
والذين يتأولون القرآن بجهلهم، وهذا يوافق دلالات النصوص السابقة
ودلالة آية أهل الذكر.
وهكذا فإن النص يفيد أن في حقبة القرآن الكريم جهة إلى جانب
النبي (صلى الله عليه وآله) لها المرجعية في التبيان لحقائق الرسالات الإلهية
وكتبها، نعتها تعالى ب‍ * (أهل الذكر) * إشارة إلى أنها الجهة الأكثر التصاقا
بالذكر، والأكثر لزوما له والأعلم به، مما جعل علاقتها بالذكر علاقة
التماهي، فكانت الأولى به، مما صح معها وصفها بأنها " أهل الذكر "،
ومؤهلة إلى أن تكون لها مرجعية علمه، ولقد علمنا أن هذه الجهة المعنية
هي آل محمد (ص) من جملة من النصوص النبوية الشريفة التي بعضها
متواتر في صحاح العامة بما يتلاقى مع ما لدى الشيعة، ولقد أظهرت هذه
النصوص أن العترة الطاهرة هي مصداق الجهة التي نعتها النص بأهل
الذكر على نحو ما فصلنا. على أن الأمر يزداد وضوحا حين نعلم أن
محمدا وأهل بيته الطاهرين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم هم الأمة
المسلمة التي سأل بها إبراهيم (ع) ربه من ذرية إسماعيل (ع) والتي فيها

343
بعث الله تعالى محمدا (ص) نبيا لهم بالخاصة كما بعثه للناس كافة "... ربنا
واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب
علينا... ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويزكيهم
ويعلمهم الكتاب... " وهكذا يظهر أن الذكر الذي أتى به محمد (ص)
للناس عامة قد أنزل لهذه الذرية بالخاصة مما يجعلهم خاصته، بينما هذه
الأمة المسلمة هي الخاصة من تلك الذرية بما ميزهم الله تعالى بإسلام
مقترن ومواز لإسلام أبويهم إبراهيم وإسماعيل، لذا فهم خاصة الخاصة من
الذكر والأولى به، وهل يكون أهل كل أمر إلا هكذا؟ وهؤلاء هم الذين
طهرهم الله وأذهب عنهم الرجس * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس
أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * فكانوا هم " المطهرون " في كتاب الله، وقد
أخبرنا أن القرآن ذي الذكر لا يمس حقائقه على سبيل الإحاطة إلا
المطهرون * (في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون) * وليس في كتاب الله
مطهرون سواهم، فهل يكون أحد أقرب إليه منهم، وهم الذين جعلهم
الله أنوارا من نوره يهدي بها من يشاء، كما في سورة النور، * (نور على
نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس، والله بكل
شئ عليم) * (35) * (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح
له فيها بالغدو والآصال (36) رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر
الله... (النور 37)) * (1) فنوه بهم بالذكر إذ كان طابعا لسلوكهم، ونوه



(1) أنها في أهل البيت (ع): الدر المنثور للسيوطي ج 5 / 50، روح المعاني للآلوسي
ج 18 / 157، غاية المرام ص 317، ط / إيران، وكذلك " مثل نوره كمشكاة... "
(النور / 35) تراجع في مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي الشافعي ص 316 حديث
361 ط / طهران.
344
ببيوتهم بما فيها من الذكر، لما له فيها من الخصوصية، فبيوتهم هي بيوت
الذكر وهم أهل بيت الذكر.
فهل بعد كل هذا البيان من شك في أن محمدا وآله (ص) هم أهل
الذكر الذين أمر الله تعالى بالرجوع إليهم وسؤالهم، وهم الذين جعلهم الله
عدل القرآن والثقل الثاني معه، وجعلهم الأعلم به، وجعل أتباعهم عصمة
من الضلال، ورزقهم علم محمد (ص) وفهمه، وجعلهم العدول الذين
يردون عن الدين تحريف الضالين وتأويل الجاهلين في كل زمان، والأمة
المسلمة، من ذرية إسماعيل (ع) من الذرية المصطفاة على العالمين ذرية
إبراهيم (ع) التي جعل فيها النبوة والكتاب، وجعل ما أنزل على رسوله
للناس عامة ذكرا لهم بالخاصة، فهل يكون ألصق منهم به وأخص وأولى،
فمن يكون أهله إذن غيرهم؟ وهل ينكر بعد هذه الحقائق القرآنية والسنن
النبوية، والدلالة التي حملها النص مباشرة، من خلال أسلوب بيانه إلا
مكابر أو جاهل أو أصم قلب؟.

345
الفصل التاسع
الراسخون في العلم

347
بسم الله الرحمن الرحيم
* (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم
الكتاب، وأخر متشابهات، فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه
منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في
العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا، وما يذكر إلا أولوا
الألباب) * {7 - سورة آل عمران}.
لهذه الآية الكريمة دلالات ذات أبعاد عقائدية في بنية الدين. فهي
تقرر جملة أمور مهمة:
المحكم والمتشابه
أولا: إن في الكتاب آيات محكمات هن أم الكتاب. والمحكمات، لو
التزم الإنسان جانب النزاهة وأحسن الفهم، لا يكون حولها اختلاف. بيد
أن كل كلام مهما كان ذا دلالة مباشرة، يمكن لأصحاب الغرض أن
يدعوا حول فهمه ما لا يتناسب مع دلالته الحقيقية، فذلك من طبيعة

349
اللسان، إنما لو تجرد الإنسان في فهم المحكمات بدا له أن مثل ذلك الفهم
تأول يمجه النص لا ينسجم معه. لذا فاختلاف الناس حول فهم نص
قرآني لا يعني أنه من المتشابه، بمقدار ما يعني أحيانا أن بعض الناس
يتأولون بما تمليه عليهم مواقف مسبقة ألزموا أنفسهم بها; علما بأننا في
فهم أي نص قرآني يجب أن تلتزم عدة معايير، منها، صياغة النص ذاته من
الناحية اللغوية والبلاغية، روح الرسالة وغاياتها، سياق الكتاب بحيث لا
يكون تناقض بين ما نفهم من النص وبين أسس الرسالة وغاياتها من
جهة، وبينه وبين دلالات الكتاب ونصوصه الأخرى من جهة ثانية، لذا
وجب فهم النصوص المتعلقة بذات الموضوع فهما في سياق موضوعي
واحد، وهو ما سمي بالتفسير الموضوعي (الشهيد محمد باقر الصدر).
والقاعدة هي حمل النص القرآني على ظاهره، ولا يخرج عن الظاهر إلا
بدليل من كتاب أو سنة، أو في حال تناقض الظاهر مع ثوابت العقيدة أو
الشريعة، أو مع ثوابت المعقولية، على أن القرائن تعين في تحديد مسار
الاتجاه التعبيري في نطاق المجازات والكنايات، وهي قد تستفاد من النص
ذاته أو من خارجه، وأما ثوابت المعقولية فإنها تعني تحديدا: السببية (لكل
حادث سبب ومسبب) والهدفية في الوجود (في مقابل الغيبية)، ووحدة
الهوية (مثلا لا يكون الإنسان بشرا وإلها أو الشجرة حجرا في ذات
الوقت)، والكل أكبر من الجزء (أنظر الحاشية) (1) بيد أن المحكمات مما لا



(1) هذا هو المفهوم الصحيح لمبدأ تحكيم العقل في بعض النصوص وليس أبدا ذلك السلوك
الخطأ، في رفض شئ لعدم استطاعة العقل إدراك مضمونه أو غايته، لأن هذا العجز
يعكس تقصير الإنسان ولا يعني عدم المعقولية، كالقول ما الفائدة من الرجعة في آخر
الزمان لإدانة أئمة الضلال أمام أئمة الحق ما دام أنهم سيلقون عقابهم يوم القيامة؟ إن عدم
فهم المبررات لا يصح سببا لإنكار الحادثة، أو التشكيك بصحة الخبر، ولا يصلح هذا
أسلوبا في الاستدلال لدى الذين يلتزمون بالضرورات العلمية في البحث، ولو قبلنا بمثل
هذا السلوك المجافي للصواب، فإنه حينئذ ينسحب على كثير من القضايا التي هي في علم
الله، كالملائكة والجن والعقوبة بالنار وغير ذلك من أمور كثيرة آمنا بها، لأن النص القرآني
أو النبوي جاء بها، وهي في ذاتها ممكنة لعدم مخالفتها للمعقولية، وتقصيرنا عن إدراك
مبرراتها لا يكون سببا لإنكارها أو لاعتقاد بعدم صحتها، على أنه لو تقدم الإنسان في
المعارف لاستطاع فهم كثير منها، كما أصبحنا اليوم نفهم عن حقيقة الزمن الكوني الذي
أخبرنا به القرآن، أو إمكانية وجود عوالم أخرى غير عالمنا التي أخبرنا عنها الإمام
الصادق (ع)، والأمثلة لا تحصى. ولذا لا يصح أن يقول لماذا أمات الله تعالى الذي مر
بالقرية الخاوية على عروشها فقال من يحيي هذه بعد موتها، فأماته مائة عام ثم بعثه ليريه
البعث والقدرة الإلهية في ذلك؟ ولا أن نقول: وكان بالإمكان أن يريه ذلك على شخص
آخر ميت، دون الحاجة إلى موته مائة عام أولا؟ ومع أننا لو تبصرنا بالرجعة التي أشرنا
إليها أعلاه، والتي ثبتت بالنص المتواتر الذي لا يمكن مدافعته، لوجدنا أنها تنطوي على
تحقيق ما يجب أن يكون عليه الوجود الإنساني لولا أهواء البشر، من أخذ الحق مجراه في
الحياة الدنيا مهما طال الصبر، مع كل ما ينطوي عليه الحق من مفاهيم العدل والخير
والقيم الكبرى والطاعة لله ورد المظالم والحقوق، وهي من هذه الجهة على علاقة بأهداف
الرسالات الإلهية، التي وجب اتباعها لكي تأخذ مجراها في الدنيا قبل الآخرة، وأن تتحقق
في الواقع لا أن تبقى في الحيز النظري، وهي من هذه الناحية على علاقة بدور صاحب
العصر (ع) في إقامة العدل الإلهي بعد أن تفلس البشرية وتلقي معاذيرها، ولعل لها وجوها
أخرى يعلمها الله، وفي أي حال لا يجوز من حيث المبدأ مقاربة الأمور الغيبية بهذا
الأسلوب، ليدفعنا عجزنا عن تبريرها على مقاييسنا إلى إنكارها، ولو قبلنا بمثل هذا النهج
لكان مدخلا لإنكار كثير من العقائد الأخرى الثانوية والحالات الكثيرة المتصلة بالغيب
والثابتة بالقرآن أو السنة الصحيحة، وما هذا النهج من العقل بشئ.
350
يحتاج غالبا لمثل هذه المعايير لدلالتها المباشرة، إلا من حيث أنك تحتاج
أحيانا للاستدلال لدحض ما يدعى من فهمها على نحو التأويل.
ثانيا: أن في الكتاب آيات أخرى هي المتشابه، التي قد يشتبه فهمها
على الناس.
ثالثا: ذم الذين يتبعون المتشابه ابتغاء تأويله ونعتهم بزيغ القلوب.
والذم هنا ليس ذما للاتباع، إنما الذم لابتغاء التأويل، فالمراد باتباعه إرادته
والقصد إليه من أجل عطفه عن مساره الحقيقي من خلال التأول بالرأي
والهوى، إذ عملهم فيه على هذا النحو لا يفيد سوى الظن دون الحقيقة
مما يوقع في الضلال، ذلك لأن تأويله الحقيقي لا يعلمه إلا الله.
رابعا: إن تأويله لا يعلمه إلا الله تعالى، وعلى تقدير أن الواو التي
بعده للعطف فيكون الراسخون في العلم يعلمونه أيضا، وعلى تقدير أنها
استئنافية يخرجهم من العلم فيكون العلم له وحده، وعلى أي تقدير فإن
النص يفيد أن هذا العلم رباني قد اختص تعالى به، لذلك لو كان عند
أحد من الناس فلا يكون كسبيا بالوسائل المعهودة، بل جعلا إلهيا، وهذا
من المترتبات التي يستبطنها النص، فهذا العلم الإلهي لا يحصل سوى
بالجعل الرباني.
وأما الاجتهاد فيه بالرأي فلا ينتج بالضرورة حقيقة التأويل، لذلك
ذم تعالى الاتباع على هذا النحو.

352
خامسا: السؤال يفرض نفسه علينا عن هذا العلم الرباني الذي
اختص نفسه به والذي لم يكن ليحصل للبشر إلا بجعل منه، هل جعله
حبيسا لديه؟، فلم يجعله عند أحد من عباده؟ وهل الواو فيه " والراسخون
في العلم... " عاطفة أم استئنافية؟.
هل إن الله لا يريد أن يعلم التأويل؟
إن الافتراض بأن الله تعالى قد حجب هذا العلم عن الخلق طرا،
يناقض مبررات الوحي وإرسال الأنبياء. ومما لا شك فيه أن الله تعالى إنما
بعث أنبياءه وخاتمهم محمدا (ص) هداية للناس، ولا تكون الهداية إن أنزل
إليهم ما يحجب عنهم علمه، والقول بخلاف هذا يبطل غايات الرسالة
والوحي، وهذا محكم الكتاب يعلن هذه الحقيقة * (وأنزلنا إليك الذكر
لتبين للناس ما نزل إليهم) * فالبيان لا بد أنه يشمل النص والمضمون، ولو
كان للنص وحده لم يحصل البيان لنقص في غايته، فالبيان إذن من غايات
التنزيل الملازمة للنص لا تنفك عنه، وهكذا عندما يخبرنا تعالى بأن العلم
بالمتشابه علم رباني لا يعلمه إلا هو، فإنه بالضرورة يعني أمرين، أولا أن
أحدا لا يعلم به إلا إذا جعله الله لديه، وثانيا ولضرورة البيان المذكور، أنه
قد جعله لدى بعض من عباده ليؤدوا البيان فيكونوا مرجعية له، وهذا
يجعل الواو للعطف فيكون الراسخون في العلم يعلمونه أيضا، ولهم
مرجعيته، والرسول (ص) أولهم بلا ريب بحكم نص البيان المذكور.
على أن النص يستبطن ضرورة أن يكون هذا العلم متاحا للناس
حينما يحتاجون إليه فيطلبونه ويجدونه، وذلك حين يذم الذين يتبعون

353
المتشابه ابتغاء تأويله، فلو أن الله تعالى حجب تأويله مطلقا، فكيف يذم
من يتبعه حسب فهمه الذاتي له، وهل يكون عندئذ من سبيل إليه إلا
هكذا؟، ولكي يخرج البعض من هذا المأزق ادعوا أن التكليف هو
بالتصديق بها لا العمل، ولا ضرورة عندئذ للفهم، واعتبروا أن التأويل
" يرجع إلى العلم بمدة أكل هذه الأمة ووقت قيام الساعة وفناء الدنيا
ووقت طلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى وخروج الدجال ونحو
ذلك مما استأثر الله بعلمه " " نقلناه عن تفسير البيان، ومن الواضح أن في
هذا الاعتبار إسقاط على النص ليس فيه ما يوحي به، على أن المتشابه لا
يقتصر على ما ذكروه، بل يشمل الكثير من الآيات التي تتكلم عن الخلق
والبعث وأسرار الكون والطبيعة والحياة. والقول بأن الله تعالى لا يريد لنا
أن نعلم شيئا من أسرارها يخالف المنهج القرآني، فها هو القرآن الكريم
حين يتحدث عن أسرار خاصة بالخالق كالخلق يدعونا إلى النظر فيها * (قل
سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) *، وتراه كلما حدثنا بأسرار
الحياة والطبيعة دعانا إلى أن نتفكر فيها، أو أن نعقلها، أو أن نتبصر بها،
فيكون هذا مدخلا إلى الفهم وسببا إلى الإيمان. ولولا أن الله تعالى يريد
للإنسان أن يعلم حقائق الوجود لما طلب إليه النظر فيها، ولولا أن هذه
الآيات تختزن للإنسان فائدة لما أنزلها على رسوله ليبلغها ويبينها، ولقد
ذكرنا بعض أوجه هذا الموضوع في بحث آية " لا يمسه إلا المطهرون "،
فالاعتبار السابق بعيد عن حقيقة القرآن، والله تعالى أنزل آياتها ليعمل بها
ويستفاد بها، ولم يخبرنا في الكتاب عن أمر عبثا ولا ترفا، فما كان متصلا
بالتكليف لم يستقم العمل به إلا مع فهم مضمونه، وما كان غير ذلك

354
فهو مما يحمل أوجه الفائدة للإنسان في حياته ومعارفه، وفهم ذاته ومحيطه
وأسرار الكون، مما يؤثر في سلوكه وعمله وهو مدعو إلى الاستفادة منها،
بعد أن سخر تعالى له الكون كما تعلم من كثير من النصوص، ودعاه إلى
النظر في آياتها كلها التي جعل فيها آيات للعالمين، كما في كثير من
النصوص الأخرى.
وهذا كله يرجح أن تكون الواو عاطفة، لتعني أن هذا العلم الذي لا
يحصل إلا بجعل إلهي، قد جعله تعالى لدى الذين وصفهم بالراسخين في
العلم، بمعنى أنهم ثابتون مستقرون في هذا العلم لا يعتريهم فيه تبدل ولا
تناقض، إشارة إلى مطابقة علمهم للحقيقة في موضوعه، على تفصيل
سيأتي، فيكون بهذا الجعل متاحا للناس بالرجوع إليهم، توافقا ما أهداف
الوحي، كما قدمنا، وكون الواو للاستئناف يتعارض مع غاية الوحي في
جعله متاحا للناس ليهتدوا به، لا سيما أن أصحاب هذا القول إنما
يهدفون منه إلى أن هذا العلم هو لله وحده، وأنه ليس متاحا إلى أحد من
عباده، كما أن هذا الاعتبار يترتب عليه استثناء الرسول (ص) من هذا
العلم الذي أثبته له النص الذي أوردناه قبل قليل.
الراسخون في العلم: أي علم؟
وهنا نتوقف عند الوصف الذي أنعم به تعالى في هذا النص على
بعض من عباده فنعتهم بالراسخين في العلم. فما هو العلم المراد؟ هناك
احتمالات ثلاث، إما أن يكون علم التأويل الذي هو موضوع النص، أو

355
العلم الأشمل الذي يتضمن علم التأويل، أو أي علم آخر لا علاقة له
بالتأويل على فرض أن هذا قد حجبه الله عن البشر مطلقا.
إن سياق النص يفرض علينا أن العلم المقصود هو علم التأويل أو ما
يشتمل عليه، لأنه هو العلم الذي يستقصيه النص، وقد بين لنا أن اتباع
المتشابه بالرأي والظنون ينتج زيغ القلوب عن الحق، لأن علمه لله فلا يعلم
إلا منه لا بالاجتهاد فيه، بينما قد شخص لنا في المقابل، جهة هي
الراسخون في العلم الذين قد أنتج رسوخهم هذا يقين الإيمان، مما يستدعي
أن يكون الرسوخ في العلم الذي أنتج اليقين هنا، في مقابل ظنية الرأي
الذي أنتج الريب هناك، إنما هو الرسوخ في علم التأويل، وأما أن يكون
رسوخا في ما لا علاقة له بالأمر فيستعصي على المنطق قبوله، فهؤلاء قوم
رسوخهم في العلم كان الدافع إلى يقين إيمانهم بمحكمه ومتشابهه، مما يعني
تعلق إيمانهم هذا برسوخهم في العلم بموضوع الإيمان ذاته، ولا يمكن أن
يكون العلم المشار إليه موضوعا لا علاقة له بالتأويل في جملته، كالفيزياء
وحدها، أو الكيمياء وحدها أو الفلك وحده، فلو كان هكذا وكان
السبب في يقين الإيمان كما هو ظاهر النص، لكان يستدعي واقعيا الإيمان
ببعض الذي له علاقة بهذا العلم المفرد دون بعضه الذي لا علاقة له به،
وهذا يناقض شمول الإيمان الذي يتكلم عنه.
إن الراسخ في العلم هو الثابت المستقر فيه، فلا يعتريه تبدل أو نقص
أو تناقض، لذا يقتضي أن يكون لديه من العلم ما يمثل حقيقة موضوعه،
ولما لم يخضع القرآن للتحريف في نصه، فلقد كان العلم المطابق لحقيقة

356
مضمونه مطابق لأصل الحقيقة التي عند الله، بينما أخبرنا النص أن هذا
العلم رباني، فاقتضى أن يكون علمهم المذكور جعلا إلهيا، وحتى نرفع أي
التباس يمكن أن يحصل للقارئ، فإن هذا الأمر يختلف عن وصفنا لأي
جهة أخرى بالرسوخ في العلم بأي موضوع آخر، كالعلم بالتوراة مثلا
التي خضعت للتحريف، فالراسخ في علمها يعني بالمثل أن علمه مطابق
لحقيقة موضوعها الذي بين يديه في حالته المحرفة بما فيه من أصل الحقيقة
في بعضه كالبشارة بمحمد (ص) ومما فيه من محرف في بعضه الآخر، فهذا
يختلف عن الرسوخ في علم القرآن، فلئن كان علمه يطابق الكتاب الذي
بين يديه لكنه لا يطابق على سبيل الإحاطة أصل الكتاب عند الله، وذلك
لأن الوصف هو للعالم وليس للعلم، فتختلف النتيجة باختلاف مضمون
العلم.
وهكذا فإن هذا النص يخبرنا عن جهة راسخة في علم القرآن، ينتج
علمها يقين الإيمان في مقابل النهي عن اتباع الرأي فيه، لكي لا يقع الناس
في الضلال، فلا يبقى معه من فارق بين أن تكون الواو استئنافية أم
عاطفة، فالنتيجة الظاهرة من النص تفرض نفسها، بأن هناك جهة لديها
هذا العلم الرباني الذي لا يحصل كسبيا بل بالجعل الإلهي، ويفرض
مرجعية هذه الجهة حتى لا نحتاج إلى الرأي المؤدي إلى الضلال عن حق،
على أن القول بأن الواو للاستئناف بهدف القول بأن علمه محجوب عن
الخلق طرا، هو بهذا المعنى يعارض في المبدأ غايات الوحي، ويخالف المنطق

357
السديد، ولا يعين القائلين به على دعواهم تلك، لما سبقت الإشارة إليه
من ذكر الراسخين في العلم على النحو الذي قدمناه.
على أن القول بأن الله تعالى لم يجعل هذا العلم عند أحد من عباده،
فضلا عن ما قد بيناه أعلاه من معارضته للمنطق الديني، فإنه يتعارض مع
نصوص أخرى تثبت هذا العلم لبعض العباد، مما يجعلها تؤيد أن تكون
الواو عاطفة. ومن هذه النصوص ما ذكرنا قبل قليل * (وأنزلنا إليك
الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) * فلو لم يكن النبي (ص) عالما بمضمون
الكتاب لم يكن ليبين. ومنها * (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن
عنده علم الكتاب) * فهذا العلم حقيقة قد جعله تعالى عند من وصفهم
* (من عنده علم الكتاب) * ولقد فصلنا في معنى الكتاب خلال شرح هذا
النص بالذات. ومنها * (فلا أقسم بمواقع النجوم، وإنه لقسم لو تعلمون
عظيم، إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون، تنزيل
من رب العالمين) * فلقد أقسم تعالى قسما عظيما بأن إدراك مضمون كتابه
العظيم لا يقدر عليه إلا المطهرون، وهنا نتذكر أننا لا يجوز أن نحتمل في
حق الكلام الإلهي إلا الدقة الكاملة وعدم التجاوز، فالمطهرون بدقيق
العبارة هم الذين قد طهروا من كل دنس، ومنها، * (ثم أورثنا الكتاب
الذين اصطفينا من عبادنا) *، فالكتاب هنا ليس المصحف بمفهومه
المتداول، بل هو الكتاب بنصه ومضمونه، فليراجع القارئ تفصيله في
مكانه من شرح هذا النص.

358
إذن فإن النص يفيدنا في المحصلة نتيجة مهمة، هي أن هناك جهة من
عباد الله وصفهم بالراسخين في العلم، لديهم علم التأويل بجعل إلهي،
فكان لهم مرجعيته ليرجع الناس إليهم فيه. وليس من العسير معرفة هذه
الجهة أنها آل محمد (ص)، من مجموع النصوص المتضافرة التي منها * (... لا
يمسه إلا المطهرون..) * إذ ليس في القرآن الكريم مطهرون سواهم، ومنها
* (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا..) * وليس بعد محمد (ص)
من المصطفين إلا أهل بيته، فمحمد (ص) وآله (ع) هم الخاصة من آل
إبراهيم الذي اصطفى الله على العالمين وجعل فيهم النبوة والكتاب. إلى
ذلك، كثير من النصوص النبوية التي تحدد منزلة العترة الطاهرة بعد النبي
(ص) في مرجعية الأمة في كل شؤونها بما فيها العلم والإرشاد، ويكفي أن
نذكر منها حديث الثقلين المتواتر، الذي يقطع في دلالته لجهة أن علم
الكتاب هو عند العترة الطاهرة التي هي أعلم الناس به، وهي الثقل الثاني
معه الذين أمر الناس باتباعهم ليأمنوا من الضلال.

359
/ 1