بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: الاعتصام بالكتاب والسنة المؤلف: الشيخ جعفر السبحاني الجزء: الوفاة: معاصر المجموعة: من مصادر العقائد عند الشيعة الإمامية تحقيق: مؤسسة إمام الصادق ( ع ) . قم الطبعة: سنة الطبع: المطبعة: الناشر: مؤسسة إمام الصادق ( ع ) . قم ردمك: ملاحظات: الإعتصام بالكتاب والسنة دراسة مبسطة في مسائل فقهية مهمة تأليف العلامة الفقيه جعفر السبحاني مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام للتحقيق والتأليف قم المقدسة - إيران مقدمة المجمع العالمي لأهل البيت - عليهم السلام -: بسم الله الرحمن الرحيم وله الحمد والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين. وبعد، فإن الوحدة الإسلامية هي من أهم خصائص الأمة الإسلامية التي أكد عليها القرآن الكريم ودعا كل مسلم للعمل على تحقيقها، وخطط لها بشتى الأساليب. وأعلن أن هذه الوحدة ليست وحدة مصالح، ولا وحدة مكان أو عنصر وإنما هي وحدة قلوب، وهبها الله تعالى التآلف والتحاب وهو أمر لا يتحقق عبر الوسائل المادية مهما تعاظمت... وبها تم الانتصار الإسلامي الأول على كل طواغيت الكفر وأساطين الاستكبار فقال تعالى: * (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين * وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم) * (الأنفال 62 - 63). وقد ظن البعض أنها وحدة عاطفية مما يجعلها واهية أيضا إلا أن الحقيقة هي أنها وحدة قلوب، وليس القلب عاطفة لا تقوم على أسس عقلية كما أنه ليس عقلا مجردا يبتعد عن التجسد العاطفي، إنه التحام الوعي بالإحساس... وهكذا الوحدة الإسلامية.. إنها تنطلق من أسس عقائدية متينة واقعية تنير الوجود الإنساني بأنوارها وتصوغ الأحاسيس بلطفها كما تصوغ المفاهيم عن الكون والحياة والإنسان تماما، وحينئذ يشكل المجموع (العقيدة، والمفاهيم والأحاسيس) القاعدة الأساسية لقيام المجتمع الإسلامي الرصين الواحد. ولا ريب في أن الإسلام أراد من كل نظمه أن تساهم في إغناء هذه الحقيقة والمساهمة الفاعلة في إيجاد أمة موحدة تغييرية تعمل جادة لتحقيق هدف الخلقة على المستوى الحضاري التاريخي الممتد. ومن هذه النظم الإسلامية نفس نظام الاجتهاد الذي يعبر عن أروع صورة للمرونة الإسلامية كما تعبر عن أرضية
1 الخصوبة الفكرية المستمرة وطبيعي أن يعلن الإسلام وهو المبدأ الواقعي حرية الاجتهاد والاستنباط نظرا لأنه دين الحياة، ونظرا لأنه يعطي رأيه في كل واقعة، والوقائع متكثرة والإسلام إذ يفتح باب الاجتهاد يمنح المتخصصين والعلماء كل القواعد وكل المنابع الواضحة، ويعين كل الشروط التي تضمن للعملية الاجتهادية أن تبقى في الخط العام تنتج وتثمر وتتعامل مع الواقع منطلقة من الرؤية المبدئية فإذا الاجتهاد، انطلاقة مبدئية، وثراء علمي وقدرة على استيعاب الجديد وامتداد مع المسيرة الفطرية الصافية نحو الغد المرسوم هكذا شاء الله تعالى للاجتهاد أن يكون مصدر عظمة، ومصدر توحد، ولا خير في أن تختلف النتائج وتختلف الآراء إن كانت جميعا في الخط العام.. وما ورد من النصوص الناهية عن الاختلاف إنما تنصب على الموقف العملي الاجتماعي والسياسي للأمة في حين تصور البعض أنها تشير للاختلاف الاستنباطي الفقهي أو المفهومي وليس الأمر كذلك. هذه الحقائق كان ينبغي للقادة والعلماء أن يعلنوها بكل صراحة وأن يمرنوا الأمة عليها وهذا هو ما أكده الإسلام ورسوله العظيم وأهل بيته الطاهرون، ومن هنا أمكننا أن نقول إن مدرسة أهل البيت - عليهم السلام - كانت من أهم المدارس مرونة ورحابة صدر، يجلس فيها أئمة المذاهب لينهلوا من علومها ويرشفوا من معينها الصافي بروح الإخوة والمحبة الخالصة. إلا أن عصور الظلمة، ودسائس الأعداء، وجهل البعض حول هذه الحالة الأخوية مع الأسف أدت إلى حالات تنافر وتباعد، وتصور بعض العامة أن الاختلاف في الآراء الفقهية يعني الاختلاف في المواقف الإسلامية الاجتماعية. وهذا الكتاب القيم يعبر عن محاولة علمية جادة تجمع بين الرأي العلمي القوي والنظرة الاجتماعية القويمة واللغة السمحة لبيان الموقف في بعض الموارد الفقهية المختلف فيها مما يؤكد ما قلناه... وسماحة آية الله الشيخ السبحاني رجل غني عن التعريف... خصوصا وإن نتاجه العلمي الثر وقدرته الاستقلالية الفائقة تبدو بوضوح من كتبه الكثيرة والغزيرة بمعلوماتها. وإننا إذ نسأل الله جل وعلا أن يوفق كل القراء الكرام للانتهال من هذا المنهل العذب لنرجوه عز وجل أن يوفقنا جميعا لوعي أهداف رسالتنا والعمل بجد ووعي على تحقيقها بما نستطيع إنه السميع المجيب. الشيخ محمد علي التسخيري الأمين العام للمجمع العالمي لأهل البيت - عليهم السلام -
2 مقدمة المؤلف: بسم الله الرحمن الرحيم المذاهب الفقهية تراث إسلامي ثمين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله نبي الرحمة وعترته الأسوة، وعلى من اهتدى بهداهم واعتصم بالعروة الوثقى. بني الإسلام على دعامتين: العقيدة والشريعة. فالعقيدة تتكفل البحث عن الله سبحانه وصفاته وأفعاله. والشريعة تبحث عن وظائف العباد أمام الله وأمام أنبيائه وعباده. فلكل من المجالين رجال وأبطال خدموا الإسلام بآرائهم وأفكارهم وأقلامهم. فالمناهج الكلامية تحاول أن تشق الطريق وصولا إلى الواقع كما أن المذاهب الفقهية تسعى إلى كشف الستر عن وجه الأحكام الواقعية. والحق لا يتلخص في منهج دون منهج أو في مذهب دون آخر، إذ لازم ذلك بطلان سائر المناهج والمذاهب من رأس وإن كانت تتميز بقلة الخطأ وكثرته. ومع ذلك فللمصيب أجران وللمخطئ أجر واحد.
3 إن الطريق المهيع لكسح الخلاف، وتقريب السبل، وتداني الآراء، هو دراسة الآراء والمقارنة ما بينها في العقيدة والشريعة، فعند ذاك يتجلى الحق في إطار النقاش بصورة واضحة ويرجع المخطئ المنصف عن خطئه، ويدعم الحق برجوع الآخر إليه. إن المذاهب الفقهية ثمرة ناضجة لدراسة الكتاب والسنة وتراث إسلامي وصل إلينا من المشايخ الكبار فللخلف النظر إليها بالإكبار والتقدير، فإنها جهود رجال نذروا حياتهم في استثمار تلك الشجرة الطيبة. ولكن ذلك لا يعني عدم جواز النقاش فيها على ضوء المنطق الصحيح فإن التقاء الفكرين أشبه بالتقاء الأسلاك الكهربائية التي يتفجر منها النور. ففي ضوء هذا الأصل نستعرض في هذه الرسالة مسائل فقهية اختلف فيها مذهب فقهاء الشيعة مع سائر المذاهب الفقهية وليس الاختلاف ناجما عن الرغبة في الإطاحة بالحق. بل هو أمر طبيعي في كل علم له مسائل نظرية تستنبط من أصول وضوابط. فابتغاء الوفاق في جميع المسائل أمر في غير محله. وقد سبقنا في هذا النمط من البحث سيدنا الجليل العلامة الأكبر السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي (1290 - 1377) المغفور له، ف آثرنا مواقفه وخطواته، ومشينا على الخط الذي مشى عليه في النقاش والجدال في كتابه المعروف ب " مسائل فقهية " وإن كانت المسائل مختلفة جوهرا لكنها متشاكلة عرضا واستدلالا. وقد اخترنا للبحث المسائل التالية ورتبناها حسب ترتيب الكتب الفقهية:
4 1 - مسح الرجلين أو غسلهما. 2 - التثويب في أذان صلاة الفجر. 3 - وضع اليد اليمنى على اليسرى في القراءة. 4 - السجود على الأرض أو ما أنبت منها. 5 - الخمس في الأرباح والمكاسب. 6 - الزواج المؤقت. 7 - الإشهاد على الطلاق. 8 - الطلاق ثلاثا في مجلس واحد. 9 - الحلف بالطلاق. 10 - الطلاق في الحيض والنفاس. 11 - الوصية للوارث إذا لم تتجاوز الثلث. 12 - إرث المسلم من الكافر. 13 - التعصيب في الإرث. 14 - العول. 15 - التقية في الكتاب والسنة.
5 وبما أنا صدرنا في هذه المسائل عن الأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت بعد الاستضاءة من الكتاب والسنة، فيطيب لنا البحث في الخاتمة حول مصادر علومهم ليكون كالأساس لكل ما نقلنا عنهم. وإن كان حسب وضع الكتاب خاتمة المطاف. وإني أتقدم بكتابي هذا إلى حملة لواء التقريب بين المسلمين ودعاته في جميع أصقاع العالم الإسلامي وبهذه الأبيات الرائعة التي تفجرت من روح موارة تسعى لصالح تقريب المسلمين ولا تهدأ حتى تتحقق تلك الأمنية بأحسن ما يمكن إن شاء الله تعالى. فيم التفرق والكتاب المرجع * قلبا إلى قلب يضم ويجمع فيم التفرق والنبي محمد * ينهى عن الصف الشتيت ويردع الوحدة البيضاء نهج نبينا * فعلام نهج نبينا لا يتبع الوحدة البيضاء صخرة عزنا * فعلام صخرة عزنا تتصدع إن الخلاف طريق كل مضلل * مهما يزين قبحه ويرقع الدين دين الله لا دين الهوى * فتوحدوا بطريقه وتسرعوا يا من تفرقنا وتنقض صفنا * هبطت عليك مصيبة لا ترفع (1)
1 - الأبيات للأستاذ: محمود البغدادي - دام علاه -. 6 ونحن وجميع المؤلفين الإسلاميين كما يصفهم شاعر الأهرام، محمد حسن عبد الغني المصري: إنا لتجمعنا العقيدة أمة * ويضمنا دين الهدى أتباعا ويؤلف الإسلام بين قلوبنا * مهما ذهبنا في الهوى أشياعا اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله، وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة. قم - الحوزة العلمية جعفر السبحاني 16 رمضان المبارك 1413 ه
7 المسألة الأولى: مسح الرجلين أو غسلهما في الوضوء اختلف المسلمون في غسل الرجلين ومسحهما، فذهب الأئمة الأربعة إلى أن الواجب هو الغسل وحده، وقالت الشيعة الإمامية: إنه المسح، وقال داود بن علي والناصر للحق من الزيدية: يجب الجمع بينهما وهو صريح الطبري في تفسيره: ونقل عن الحسن البصري: إنه مخير بينهما (1). ومما يثير العجب اختلاف المسلمين في هذه المسألة، مع أنهم رأوا وضوء رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " كل يوم وليلة في موطنه ومهجره، وفي حضره وسفره، ومع ذلك اختلفوا في هذه المسألة التي هي من أشد المسائل ابتلاء، وهذا يعرب عن أن الاجتهاد لعب في هذه المسألة دورا عظيما، فجعل أوضح المسائل أبهمها. إن الذكر الحكيم تكفل ببيان المسألة وما أبقى فيها إبهاما وإعضالا، وقد بينها رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " ومن هنا فلا بد من الجزم بأن المسلمين كانوا قد اتفقوا على فعل واحد، وإلا فما كان هذا الأمر يخفى، إذن فلا محيص من القول بأن الحاضرين في عصر النزول فهموا من الآية معنى واحدا: إما المسح أو
1 - الطبري: التفسير: 6 / 86 ومفاتيح الغيب: 11 / 162 والمنار: 6 / 228. 9 الغسل، ولم يترددوا في حكم الرجلين أبدا. ولو خفي حكم هذه المسألة بعد رحلة الرسول " صلى الله عليه وآله وسلم " على الأجيال الآتية فلا غرو في أن يخفى على المسلمين حكم أكثر المسائل. وليس فيها شئ أوثق من كتاب الله فعلينا دراسة ما جاء فيه، قال سبحانه: * (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) * (1) وقد اختلف القراء في قراءة: * (وأرجلكم إلى الكعبين) * فمنهم من قرأ بالفتح، ومنهم من قرأ بالكسر. إلا أنه من البعيد أن تكون كل من القراءتين موصولة إلى النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " فإن تجويزهما يضفي على الآية إبهاما وإعضالا، ويجعل الآية لغزا، والقرآن كتاب الهداية والإرشاد، وتلك الغاية تطلب لنفسها الوضوح وجلاء البيان، خصوصا فيما يتعلق بالأعمال والأحكام التي يبتلى بها عامة المسلمين، ولا تقاس بالمعارف والعقائد التي يختص الامعان فيها بالأمثل فالأمثل. وعلى كل تقدير فممن حقق مفاد الآية وبينها الإمام الرازي في تفسيره، ننقل كلامه بتلخيص - وسيوافيك مفصل كلامه في آخر البحث -: قال: حجة من قال بوجوب المسح مبني على القراءتين المشهورتين في قوله: * (وأرجلكم) * وهما: الأول: قرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وعاصم - في رواية أبو بكر عنه - بالجر. الثاني: قرأ نافع وابن عامر وعاصم - في رواية حفص عنه - بالنصب.
1 - المائدة / 6. 10 أما القراءة بالجر فهي تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس فكما وجب المسح في الرأس، فكذلك في الأرجل. فإن قيل لم لا يجوز أن يكون الجر على الجوار؟ كما في قوله: " جحر ضب خرب " وقوله: " كبير أناس في بجاد مزمل ". قيل: هذا باطل من وجوه: 1 - إن الكسر على الجوار معدود من اللحن الذي قد يتحمل لأجل الضرورة في الشعر، وكلام الله يجب تنزيهه عنه. 2 - إن الكسر على الجوار إنما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس كما في قوله: " جحر ضب خرب " فإن " الخرب " لا يكون نعتا للضب بل للجحر، وفي هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل. 3 - إن الكسر بالجوار إنما يكون بدون حرف العطف وأما مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب. وأما القراءة بالنصب فهي أيضا توجب المسح، وذلك لأن * (برؤوسكم) * في قوله: * (فامسحوا برؤوسكم) * في محل النصب (1) بامسحوا لأنه المفعول به، ولكنها مجرورة لفظا بالباء، فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس جاز في الأرجل النصب عطفا على محل الرؤوس، وجاز الجر عطفا على الظاهر.
1 - يقال: ليس هذا بعالم ولا عاملا. قال الشاعر: معاوي إننا بشر فاسجح * فلسنا بالجبال ولا الحديدا لاحظ: المغني لابن هشام: الباب الرابع. 11 ونزيد بيانا أنه على قراءة النصب يتعين العطف على محل برؤوسكم، ولا يجوز العطف على ظاهر * (أيديكم) * لاستلزامه الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بجملة أجنبية وهو غير جائز في المفرد، فضلا عن الجملة. هذا هو الذي يعرفه المتدبر في الذكر الحكيم، ولا يسوغ لمسلم أن يعدل عن القرآن إلى غيره، فإذا كان هو المهيمن على جميع الكتب السماوية، فأولى أن يكون مهيمنا على ما في أيدي الناس من الحق والباطل، والمأثورات التي فيها الحديث ذو شجون. مع كونها متضاربة في المقام، فلو ورد فيها الأمر بالغسل، فقد جاء فيها الأمر بالمسح، رواه الطبري عن الصحابة والتابعين نشير إليه على وجه الاجمال. 1 - ابن عباس، قال: الوضوء غسلتان ومسحتان. 2 - كان أنس إذا مسح قدميه بلهما، ولما خطب الحجاج وقال: ليس شئ من ابن آدم أقرب إلى خبثه في قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وعراقيبهما، قال أنس: صدق الله وكذب الحجاج، قال الله: * (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) * وكان أنس إذا مسح قدميه بلهما. 3 - عكرمة، قال: ليس على الرجلين غسل وإنما نزل فيهما المسح. 4 - الشعبي قال: نزل جبرئيل بالمسح وقال: ألا ترى إن التيمم أن يمسح ما كان غسلا ويلغى ما كان مسحا. 5 - عامر: أمر أن يمسح في التيمم ما أمر أن يغسل بالوضوء، وأبطل ما أمر أن يمسح في الوضوء: الرأس والرجلان. وقيل له: إن أناسا يقولون: إن جبرئيل نزل
12 بغسل الرجلين فقال: نزل جبرئيل بالمسح. 6 - قتادة: في تفسير الآية: افترض الله غسلتين ومسحتين. 7 - الأعمش: قرأ * (وأرجلكم) * مخفوضة اللام. 8 - علقمة: قرأ * (أرجلكم) * مخفوضة اللام. 9 - الضحاك: قرأ * (وأرجلكم) * بالكسر. 10 - مجاهد: مثل ما تقدم (1). وهؤلاء من أعلام التابعين وفيهم الصحابيان: ابن عباس وأنس وقد أصفقوا على المسح وقراءة الجر الصريحة في تقديم المسح على الغسل، وجمهور أهل السنة يحتجون بأقوالهم في مجالات مختلفة فلماذا أعرض عنهم في هذا المجال المهم والحساس في عبادة المسلم. إن القول بالمسح هو المنصوص عن أئمة أهل البيت - عليهم السلام -، وهم يسندون المسح إلى النبي الأكرم " صلى الله عليه وآله وسلم "، ويحكون وضوءه به، قال أبو جعفر الباقر - عليه السلام -: " ألا أحكي لكم وضوء رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم "؟ ثم أخذ كفا من الماء فصبها على وجهه... إلى أن قال: ثم مسح رأسه وقدميه. وفي رواية أخرى: ثم مسح ببقية ما بقي في يديه رأسه ورجليه ولم يعدهما في الإناء (2). وفي ضوء هذه الروايات والمأثورات اتفقت الشيعة الإمامية على أن
1 - الطبري: التفسير: 6 / 82 - 83. 2 - الحر العاملي: الوسائل 1، الباب 15 من أبواب الوضوء، الحديث 9 و 10. 13 الوضوء غسلتان ومسحتان، وإلى ذلك يشير السيد بحر العلوم في منظومته الموسومة بالدرة النجفية: إن الوضوء غسلتان عندنا * ومسحتان والكتاب معنا فالغسل للوجه ولليدين * والمسح للرأس وللرجلين وبعد وضوح دلالة الآية، وإجماع أئمة أهل البيت على المسح، واستنادا إلى جملة الأدلة الواضحة التي ذكرنا بعضا منها، فإن القول بما يخالفها يبدو ضعيفا ولا يصمد أمام النقاش، إلا أنا سنحاول أن نورد الوجوه التي استدل بها القائلون بالغسل ليتبين للقارئ الكريم مدى ضعف حجيتها: 1 - إن الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل، والغسل مشتمل على المسح ولا ينعكس، فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط فوجب المصير إليه، ويكون غسل الأرجل يقوم مقام مسحها (1). يلاحظ عليه: أن أخبار الغسل معارضة بأخبار المسح، وليس شئ أوثق من كتاب الله، فلو دل على لزوم المسح لا يبقى مجال لترجيحه على روايات المسح. والقرآن هو المهيمن على الكتب والمأثورات، والمعارض منها للكتاب لا يقام له وزن. وأعجب من ذلك قوله: إن الغسل مشتمل على المسح، مع أنهما حقيقتان مختلفتان، فالغسل إمرار الماء على المغسول، والمسح إمرار اليد على الممسوح (2)
1 - مفاتيح الغيب: 11 / 162. 2 - قال سبحانه حاكيا عن سليمان: * (ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق) * - ص / 33 - أي مسح بيده على سوق الصافنات الجياد وأعناقها. 14 وهما حقيقتان مختلفتان لغة وعرفا وشرعا، ولو حاول الاحتياط لوجب الجمع بين المسح والغسل، لا الاكتفاء بالغسل. 2 - ما روي عن علي - عليه السلام - من أنه كان يقضي بين الناس فقال: " * (وأرجلكم) * هذا من المقدم والمؤخر في الكلام فكأنه سبحانه قال: (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق واغسلوا أرجلكم وامسحوا برؤوسكم) ". لكنه يرد: بأن أئمة أهل البيت كالباقر والصادق - عليهما السلام - أدرى بما في البيت، وهما اتفقا على المسح، وهل يمكن الاتفاق على المسح مع اعتقاد كبيرهم بالغسل؟! إن المؤكد هو أن هذه الرواية موضوعة عن لسان الإمام ليثيروا الشك بين أتباعه وشيعته. ولا نعلق على احتمال التقديم والتأخير شيئا، سوى أنه يجعل معنى الآية شيئا مبهما في المورد الذي يطلب فيه الوضوح، إذ هي المرجع للقروي والبدوي، وللحاضر عصر النزول، والغائب عنه، فيجب أن يكون على نسق ينتقل منه إلى المراد، ثم إنه أي ضرورة اقتضت هذا التقديم والتأخير، مع إنه كان من الممكن ذكر الأرجل بعد الأيدي من دون تأخير؟ ولو كان الدافع إلى التأخير هو بيان الترتيب، وإن غسل الأرجل بعد مسح الرأس، فكان من الممكن أن يذكر فعله ويقال: (فامسحوا برؤوسكم واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين). كل ذلك يعرب عن أن هذه محاولات فاشلة لتصحيح الاجتهاد تجاه النص وما عليه أئمة أهل البيت من الاتفاق على المسح. 3 - ما روي عن ابن عمر في الصحيحين قال: تخلف عنا رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " في سفره، فأدركنا وقد أرهقنا العصر، وجعلنا نتوضأ ونمسح
15 على أرجلنا، قال: فنادى بأعلى صوته: " ويل للأعقاب من النار " - مرتين أو ثلاث - (1). ويرد هذا الاستدلال: أن هذه الرواية على تعين المسح أدل من دلالتها على غسل الرجلين، فإنها صريحة في أن الصحابة يمسحون، وهذا دليل على أن المعروف عندهم هو المسح، وما ذكره البخاري من أن الانكار عليهم كان بسبب المسح لا بسبب الاقتصار على بعض الرجل، اجتهاد منه، وهو حجة عليه لا على غيره، فكيف يمكن أن يخفى على ابن عمر حكم الرجلين حتى يمسح رجليه عدة سنين إلى أن ينكر عليه النبي المسح؟! على أن للرواية معنى آخر تؤيده بعض المأثورات، فقد روي: أن قوما من أجلاف العرب، كانوا يبولون وهم قيام، فيتشرشر البول على أعقابهم وأرجلهم فلا يغسلونها ويدخلون المسجد للصلاة، وكان ذلك سببا لذلك الوعيد (2) ويؤيد ذلك ما يوصف به بعض الأعراب بقولهم: بوال على عقبيه، وعلى فرض كون المراد ما ذكره البخاري، فلا تقاوم الرواية نص الكتاب. 4 - روى ابن ماجة القزويني عن أبي إسحاق عن أبي حية، قال: رأيت عليا توضأ فغسل قدميه إلى الكعبين ثم قال: " أردت أن أريكم طهور نبيكم " (3). يلاحظ عليه: أن أبا حية مجهول لا يعرف، ونقله عنه أبو إسحاق الذي شاخ ونسي واختلط وترك الناس روايته (4) أضف إليه أنه يعارض ما رواه عنه أهل
1 - صحيح البخاري ج 1 كتاب العلم ص 18 باب من رفع صوته، الحديث 1. 2 - مجمع البيان: 2 / 167. 3 - سنن ابن ماجة: 1 / 170 باب ما جاء في غسل القدمين الحديث الأول. 4 - لاحظ التعليقة لسنن ابن ماجة 170 وميزان الاعتدال للذهبي: 4 / 519، برقم 10138 وص 489 باب " أبو إسحاق ". 16 بيته، وأئمة أهل بيته، خصوصا من لازمه في حياته وهو ابن عباس كما مر. 5 - قال صاحب المنار: وأقوى الحجج اللفظية على الإمامية جعل الكعبين غاية طهارة الرجلين، وهذا لا يحصل إلا باستيعابهما بالماء، لأن الكعبين هما العظمان الناتئان في جانبي الرجل. وهذا القول يلاحظ عليه: أنا نفترض أن المراد من الكعبين هو ما ذكره، لكنا نسأله: لماذا لا تحصل تلك الغاية إلا باستيعابها بالماء؟ مع أنه يمكن تحصيل تلك الغاية بمسحهما بالنداوة المتبقية في اليد، والاختبار سهل، ونحن لا نرى في العمل إعضالا وعسرا. 6 - وقال: إن الإمامية يمسحون ظاهر القدم إلى معقد الشراك عند المفصل بين الساق والقدم، ويقولون هو الكعب، ففي الرجل كعب واحد على رأيهم، فلو صح هذا لقال: إلى الكعاب كما قال في اليدين: * (إلى المرافق (1) *. أقول: إن المشهور بين الإمامية هو تفسير الكعب بقبة القدم التي هي معقد الشراك، وهناك من يذهب إلى أن المراد هو المفصل بين الساق والقدم، وذهب قليل منهم إلى أن المراد هما العظمان الناتئان في جانبي الرجل. وعلى كل تقدير، يصح إطلاق الكعبين، وإن كان حد المسح هو معقد الشراك أو المفصل، فيكون المعنى: (فامسحوا بأرجلكم إلى الكعبين منكم) إذ لا شك أن كل مكلف يملك كعبين في رجليه.
1 - المنار: 6 / 234. 17 أضف إلى ذلك: أنه لو صح التفسير بما ذكره فإنه يجب أن يوسع الممسوح ويحدد بالعظمين الناتئين لا أن يبدل المسح بالغسل، وكأنه تخيل أن المسح بالنداوة المتبقية في اليد لا يتحقق بها، وأنه تجف اليد قبل الوصول إليهما. ولعمري أن هذه اجتهادات واهية، وتخرصات لا قيمة لها في مقابل الذكر الحكيم. 7 - آخر ما عند صاحب المنار في توجيه غسل الأرجل هو التمسك بالمصالح، حيث قال: لا يعقل لإيجاب مسح ظاهر القدم باليد المبللة بالماء حكمة، بل هو خلاف حكمة الوضوء، لأن طروء الرطوبة القليلة على العضو الذي عليه غبار أو وسخ يزيده وساخة، وينال اليد الماسحة حظ من هذه الوساخة. يلاحظ عليه: أن ما ذكره استحسان لا يعرج عليه مع وجود النص، فلا شك أن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح الواقعية ولا يجب علينا أن نقف عليها، فأي مصلحة في المسح على الرأس ولو بمقدار إصبع أو إصبعين حتى قال الشافعي: إذا مسح الرأس بإصبع واحدة أو بعض إصبع أو باطن كفه، أو أمر من يمسح له أجزأه ذلك؟! وهناك كلمة قيمة للإمام شرف الدين الموسوي نأتي بنصها، قال - رحمه الله: نحن نؤمن بأن الشارع المقدس لاحظ عباده في كل ما كلفهم به من أحكامه الشرعية، فلم يأمرهم إلا بما فيه مصلحتهم، ولم ينههم إلا عما فيه مفسدة لهم، لكنه مع ذلك لم يجعل شيئا من مدارك تلك الأحكام منوطا من حيث المصالح والمفاسد بآراء العباد، بل تعبدهم بأدلة قوية عينها لهم، فلم يجعل لهم مندوحة
18 عنها إلى ما سواها. وأول تلك الأدلة الحكيمة كتاب الله عز وجل، وقد حكم بمسح الرؤوس والأرجل في الوضوء، فلا مندوحة عن البخوع لحكمه، أما نقاء الأرجل من الدنس فلا بد من إحرازه قبل المسح عليها عملا بأدلة خاصة دلت على اشتراط الطهارة في أعضاء الوضوء قبل الشروع فيه (1). ولعل غسل رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " رجليه - المدعى في أخبار الغسل - إنما كان من هذا الباب ولعله كان من باب التبرد، أو كان من باب المبالغة في النظافة بعد الفراغ من الوضوء. والله أعلم (2). 0 0 0 ثم إن هناك لفيفا من أهل السنة اعترفوا بما ذكرنا من أن المستفاد من الكتاب هو المسح لا الغسل، ويطيب لي نقل نصوصهم: 1 - قال ابن حزم: إن القرآن نزل بالمسح، قال الله تعالى: * (وامسحوا برءوسكم وأرجلكم) * وسواء قرئ بخفض اللام أو بفتحها هي على كل حال عطف على الرؤوس: إما على اللفظ وإما على الموضع، لا يجوز غير ذلك، لأنه لا يجوز أن يحال بين المعطوف والمعطوف عليه بقضية مبتدأة. وهكذا جاء عن ابن عباس: نزل القرآن بالمسح - يعني في الرجلين - في الوضوء. وقد قال بالمسح على الرجلين جماعة من السلف، منهم علي بن أبي طالب
1 - ولذا ترى حفاة الشيعة والعمال منهم - كأهل الحرث وأمثالهم وسائر من لا يبالون بطهارة أرجلهم في غير أوقات العبادة المشروطة بالطهارة - إذا أرادوا الوضوء غسلوا أرجلهم ثم توضأوا فمسحوا عليها نقية جافة. 2 - مسائل فقهية: 82. 19 وابن عباس والحسن وعكرمة والشعبي وجماعة غيرهم، وهو قول الطبري، ورويت في ذلك آثار. منها أثر من طريق همام، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة: ثنا علي بن يحيى بن خلاد عن أبيه، عن عمه - هو رفاعة بن رافع - أنه سمع رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " يقول: " إنها لا تجوز صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله عز وجل ثم يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح رأسه ورجليه إلى الكعبين ". وعن إسحاق بن راهويه: ثنا عيسى بن يونس، عن الأعمش، عن عبد خير، عن علي: " كنت أرى باطن القدمين أحق بالمسح حتى رأيت رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " يمسح ظاهرهما ". ثم إنه ذكر خبر " ويل للأعقاب من النار " واستظهر منها أنه يستفاد من الخبر شئ زائد على ما في الآية، ويكون ناسخا لما فيها، والأخذ بالزائد واجب. ولكنك عرفت أن هذا الخبر - على فرض صحته - لا يهدف إلى ما يرتئيه من وجوب الغسل، وقد عرفت معنى الرواية. ثم قال: وقال بعضهم: إنه سبحانه وتعالى قال في الرجلين: * (إلى الكعبين) * كما قال في الأيدي: * (إلى المرافق) *، دل على أن حكم الرجلين حكم الذراعين. فأجاب عنه بقوله: ليس ذكر المرفقين والكعبين دليلا على وجوب غسل ذلك، لأنه تعالى قد ذكر الوجه ولم يذكر في مبلغه حدا، وكان حكمه الغسل، لكن لما أمر الله تعالى في الذراعين بالغسل كان حكمهما الغسل، وإذا لم يذكر ذلك في
20 الرجلين وجب أن لا يكون حكمهما ما لم يذكر فيها إلا أن يوجبه نص آخر. قال علي: والحكم للنصوص لا للدعاوي والظنون. وبالله تعالى التوفيق (1). 2 - قال الإمام الرازي: اختلف الناس في مسح الرجلين وفي غسلهما، فنقل القفال في تفسيره عن ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر: أن الواجب فيهما المسح، وهو مذهب الإمامية من الشيعة. وقال جمهور الفقهاء والمفسرين: فرضهما الغسل، وقال داود الأصفهاني: يجب الجمع بينهما وهو قول الناصر للحق من أئمة الزيدية. وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري: المكلف مخير بين المسح والغسل. حجة من قال بوجوب المسح مبنى على القراءتين المشهورتين في قوله * (وأرجلكم) * فقرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر عنه بالجر ، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه بالنصب، فنقول: أما القراءة بالجر فهي تقتضي كون الأرجل معطوفة على الرؤوس فكما وجب المسح في الرأس فكذلك في الأرجل. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: هذا كسر على الجوار كما في قوله: جحر ضب خرب. وقوله: كبير أناس في بجاد مزمل. قلنا: هذا باطل من وجوه: الأول: أن الكسر على الجوار معدود في اللحن الذي قد يتحمل لأجل الضرورة في الشعر، وكلام الله يجب تنزيهه عنه. وثانيها: أن الكسر إنما يصار إليه حيث يحصل الأمن من الالتباس، كما في
1 - ابن حزم: المحلى: 2 / 56 برقم 200. 21 قوله: جحر ضب خرب، فإن من المعلوم بالضرورة أن الخرب لا يكون نعتا للضب بل للجحر، وفي هذه الآية الأمن من الالتباس غير حاصل. وثالثها: أن الكسر بالجوار إنما يكون بدون حرف العطف، وأما مع حرف العطف فلم تتكلم به العرب، وأما القراءة بالنصب فقالوا أيضا: إنها توجب المسح. وذلك لأن قوله: * (وامسحوا برؤوسكم) * فرؤوسكم في محل النصب ولكنها مجرورة بالباء، فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس جاز في الأرجل النصب عطفا على محل الرؤوس، والجر عطفا على الظاهر، وهذا مذهب مشهور للنحاة. إذا ثبت هذا فنقول: ظهر أنه يجوز أن يكون عامل النصب في قوله: * (وأرجلكم) * هو قوله: * (وامسحوا) * ويجوز أن يكون هو قوله: * (فاغسلوا) * لكن العاملان إذا اجتمعا على معمول واحد كان إعمال الأقرب أولى، فوجب أن يكون عامل النصب في قوله * (وأرجلكم) * هو قوله * (وامسحوا) * فثبت أن قراءة * (وأرجلكم) * بنصب اللام توجب المسح أيضا، فهذا وجه الاستدلال بهذه الآية على وجوب المسح. ثم قالوا: ولا يجوز دفع ذلك بالأخبار لأنها بأسرها من باب الآحاد، ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز. واعلم أنه لا يمكن الجواب عن هذا إلا من وجهين: أن الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل، والغسل مشتمل على المسح ولا ينعكس، فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط فوجب المصير إليه (1)، وعلى هذا الوجه يجب القطع بأن غسل الرجل يقوم مقام مسحها، والثاني: أن فرض الرجلين محدود إلى الكعبين، والتحديد إنما جاء في الغسل لا في المسح.
1 - قد عرفت الجواب عنه فيما سبق. 22 والقوم أجابوا عنه بوجهين: الأول: أن الكعب عبارة عن العظم الذي تحت مفصل القدم، وعلى هذا التقدير فيجب المسح إلى ظهر القدمين. والثاني: أنهم سلموا أن الكعبين عبارة عن العظمين الناتئين من جانبي الساق، إلا أنهم التزموا أنه يجب أن يمسح ظهور القدمين إلى هذين الموضعين، وحينئذ لا يبقى هذا السؤال (1). 3 - إن الزمخشري لما سلم بأن قراءة الجر تجره إلى القول بوجوب المسح أراد التخلص منه بقوله: فإن قلت: فما تصنع بقراءة الجر ودخولها في حكم المسح؟ قلت: الأرجل من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة تغسل بصب الماء عليها، فكانت مظنة للإسراف المذموم المنهية عنه، فعطفت على الثالث " الرؤوس " الممسوح لا لتمسح ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها (2). يلاحظ عليه: أن الوجوه والأيدي مظنة للإسراف المذموم مثل الأرجل، فلماذا نبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء في خصوص الأرجل دون غيرهما مع كون الجميع مظنة للإسراف في صب الماء. ولا يخفى أنه تفلسف في تفسير الآية بشئ تافه لا يرضى به الذوق العربي. فإنه لو صح ما ذكره من الفلسفة فإنما يصح فيما إذا أمن من الالتباس لا في مثل المقام الذي لا يؤمن منه، ويحمل ظاهر اللفظ على وجوب المسح من دون التفات لما ذكره من النكتة البديعة!.
1 - الإمام الرازي: مفاتيح الغيب: 11 / 161. 2 - الزمخشري: الكشاف: 1 / 449. 23 المسألة الثانية: التثويب (1) في أذان صلاة الفجر اتفقت الشيعة الإمامية - تبعا للنصوص المتضافرة من أئمة أهل البيت - على أن الأذان - ومثله الإقامة - من صميم الدين ومن شعائره، أنزله الله سبحانه على قلب سيد المرسلين وأن الله الذي فرض الصلاة، هو الذي فرض الأذان، وأن منشئ الجميع واحد، ولم يشارك في تشريعه أي ابن أنثى، لا في اليقظة ولا في المنام. ففي جميع فصوله من التكبير إلى التهليل مسحة إلهية، وعذوبة وإخلاص، وسمو المعنى وفخامته، تثير شعور الإنسان إلى مفاهيم أرقى، وأعلى وأنبل مما في عقول الناس. ولو حاولت يد التشريع الإنساني أن تضيف فصلا إلى فصوله أو تقحم جملة في جمله لأصبح المضاف كالحصى بين الدرر والدراري. والفصل الأول من فصوله يشهد على أنه سبحانه أكبر من كل شئ وبالتالي: أقدر وأعظم وأن غيره من الموجودات وإن بلغ من العظمة ما بلغ، ضئيل وصغير عنده خاضع لمشيئته. والفصل الثاني يشهد على أنه سبحانه هو الإله في صفحة الوجود وأن ما سواه سراب ما أنزل الله به من سلطان.
1 - سيوافيك معنى التثويب في محله فانتظر. 25 وثالث الفصول، يشهد على أن محمدا " صلى الله عليه وآله وسلم " رسوله، الذي بعثه لإبلاغ رسالاته وإنجاز دعوته. ففي نهاية ذلك الفصل يتبدل صراحه وإعلانه من الشهادة، إلى الدعوة إلى الصلاة التي فرضها والتي بها يتصل الإنسان بعالم الغيب، وفيها يمتزج خشوعه، بعظمة الخالق، ثم الدعوة إلى الفلاح والنجاح، وخير العمل (1) التي تنطوي عليها الصلاة. وفي نهاية الدعوة إلى الفلاح وخير العمل، يعود ويذكر الحقيقة الأبدية التي صرح بها في أوليات فصوله ويقول: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله. هذه هي حقيقة الأذان وصورته والجميع سبيكة واحدة أفرغتها يد التشريع السماوي في قالب جمل، تحكي عن حقائق أبدية، تصد الإنسان عن الإنكباب في شواغل الدنيا وملاذها. هذا ما يحسه كل إنسان واع منصت للأذان، ومتدبر في فصوله ومعانيه، ولكن هنا حقيقة مرة لا يمكن لي ولا لغيري إخفاؤها - بشرط التجرد عن كل رأي مسبق، أو تعصب لمذهب - وهو أن المؤذن إذا انحدر من الدعوة إلى الصلاة، والفلاح وخير العمل - في أذان صلاة الفجر - إلى الإعلان بأن الصلاة خير من النوم ، فكأنما ينحدر من قمة البلاغة إلى كلام عار عن الرفعة والبداعة، يعلن شيئا يعرفه الصبيان ومن دونهم، يصيح - بجد وحماس - على شئ لا يجهله إلا من يجهل البديهيات، فإن صراخه وإعلانه بأنها خير من النوم، أشبه بصراخ من يعلن في محتشد كبير بأن الاثنين نصف الأربعة.
1 - سيأتي أنه من فصول الأذان أسقط منها لغاية خاصة. 26 هذا هو الذي أحسسته عندما تشرفت بزيارة بيت الله الحرام عام 1375 وأنا أستمع للأذان في الحرمين الشريفين، ولم تزل تجول في ذهني ومخيلتي أن هذا الفصل ليس من كلام الوحي وإنما أقحم بسبب، بين فصول الأذان، فهذا ما دعاني إلى البحث والتنقيب في هذا الموضوع فلم أر بدا من البحث عن أمرين: 1 - كيفية تشريع الأذان ودراسة تاريخه. 2 - ما هو السبب لدخول هذا الفصل بين فصول الأذان. المقام الأول: كيفية تشريع الأذان ودراسة تاريخه: اتفقت أئمة أهل البيت على أن الله سبحانه هو المشرع للأذان، وإنه هبط به جبرئيل وعلمه رسول الله وهو علمه بلالا، ولم يشارك في تشريعه أحد. وهذا عندهم من الأمور المسلمة، نذكر بعض ما أثر عنهم: 1 - روى ثقة الإسلام الكليني بسند صحيح عن زرارة والفضيل، عن أبي جعفر الباقر - عليه السلام - قال: لما أسري برسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " إلى السماء فبلغ البيت المعمور، وحضرت الصلاة، فأذن جبرئيل - عليه السلام - وأقام فتقدم رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " وصفت الملائكة والنبيون خلف محمد " صلى الله عليه وآله وسلم ". 2 - روى أيضا بسند صحيح عن الإمام الصادق - عليه السلام - قال: لما هبط جبرئيل بالأذان على رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " كان رأسه في حجر علي - عليه السلام - فأذن جبرئيل وأقام (1) فلما انتبه رسول الله " صلى الله
1 - لا منافاة بين الروايتين وكم نزل أمين الوحي بآية واحدة مرتين، والغاية من التأذين في الأول غيرها في الثاني كما هو واضح لمن تدبر. 27 عليه وآله وسلم " قال: علي سمعت؟ قال: نعم (1) قال: حفظت؟ قال: نعم. قال: ادع لي بلالا، فدعا علي - عليه السلام - بلالا فعلمه. 3 - روى أيضا بسند صحيح أو حسن عن عمر بن أذينة عن الصادق - عليه السلام - قال: تروي هؤلاء؟ فقلت: جعلت فداك في ماذا؟ فقال: في أذانهم... فقلت: إنهم يقولون إن أبي بن كعب رآه في النوم. فقال: كذبوا فإن دين الله أعز من أن يرى في النوم. قال: فقال له سدير الصيرفي: جعلت فداك فأحدث لنا من ذلك ذكرا. فقال أبو عبد الله (الصادق): إن الله تعالى لما عرج بنبيه " صلى الله عليه وآله وسلم " إلى سماواته السبع إلى آخره (2). 4 - وروى محمد بن مكي الشهيد في الذكرى عن فقيه الشيعة في أوائل القرن الرابع، أعني ابن أبي عقيل العماني أنه روى عن الإمام الصادق: أنه لعن قوما زعموا أن النبي أخذ الأذان من عبد الله بن زيد (3) فقال: ينزل الوحي على نبيكم فتزعمون أنه أخذ الأذان من عبد الله بن زيد (4). وليست الشيعة متفردة في هذا النقل عن أئمة أهل البيت، فقد روى الحاكم وغيره نفس النقل عنهم وإليك بعض ما أثر في ذلك المجال عن طريق أهل السنة.
1 - كان علي - عليه السلام - محدثا وهو يسمع كلام الملك. لاحظ صحيح البخاري وشرحه: إرشاد الساري: 6 / 99 وغيره باب رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء... روى عن النبي أنه قال: لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل... 2 - الكليني: الكافي: 3 / 302 باب بدء الأذان الحديث 1 - 2 وباب النوادر ص 482 الحديث 1. وسيأتي أنه ادعى رؤية الأذان في النوم ما يقرب من أربعة عشر رجلا. 3 - سيوافيك نقله عن السنن. 4 - وسائل الشيعة: الجزء 4 / 612، الباب الأول من أبواب الأذان والإقامة، الحديث 3. 28 5 - روى الحاكم عن سفيان بن الليل قال: لما كان من الحسن بن علي ما كان، قدمت عليه المدينة قال: فقد ذكروا عنده الأذان فقال بعضنا: إنما كان بدء الأذان برؤيا عبد الله بن زيد، فقال له الحسن بن علي: إن شأن الأذان أعظم من ذلك، أذن جبرئيل في السماء مثنى، وعلمه رسول الله وأقام مرة مرة (1) فعلمه رسول الله (2). 6 - روى المتقي الهندي عن هارون بن سعد عن الشهيد زيد بن الإمام علي ابن الحسين عن آبائه عن علي: أن رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " علم الأذان ليلة أسري به وفرضت عليه الصلاة (3). 7 - روى الحلبي عن أبي العلاء، قال: قلت لمحمد بن الحنفية: إنا لنتحدث أن بدء الأذان كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه، قال: ففزع لذلك محمد بن الحنفية فزعا شديدا وقال: عمدتم إلى ما هو الأصل في شرائع الإسلام، ومعالم دينكم، فزعمتم أنه كان من رؤيا رآها رجل من الأنصار في منامه، يحتمل الصدق والكذب وقد تكون أضغاث أحلام، قال: فقلت له: هذا الحديث قد استفاض في الناس. قال: هذا والله الباطل... (4). 8 - روى المتقي الهندي عن مسند رافع بن خديج: لما أسري برسول الله إلى السماء أوحي إليه بالأذان فنزل به فعلمه جبرئيل. (الطبراني في الأوسط عن ابن عمر) (5).
1 - المروي عنهم - عليهم السلام - أن الإقامة مثنى مثنى إلا الفصل الأخير وهو مرة. 2 - الحاكم: المستدرك: 3 / 171، كتاب معرفة الصحابة. 3 - المتقي الهندي: كنز العمال: 6 / 277 برقم 397. 4 - برهان المدني الحلبي: السيرة: 2 / 297. 5 - المتقي الهندي: 8 / 329 برقم 23138، فصل في الأذان. 29 9 - ويظهر مما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج: قال عطاء: إن الأذان كان بوحي من الله سبحانه (1). 10 - قال الحلبي: ووردت أحاديث تدل على أن الأذان شرع بمكة قبل الهجرة، فمن تلك الأحاديث ما في الطبراني عن ابن عمر... ونقل الرواية الثامنة (2). هذا هو تاريخ الأذان وطريق تشريعه أخذته الشيعة من عين صافية من أناس هم بطانة سنة الرسول يروي صادق عن صادق حتى ينتهي إلى الرسول. وأما غيرهم فقد رووا في تاريخ تشريع الأذان أمورا لا تصح نسبتها إلى الرسول الأعظم، يروون أن الرسول كان مهتما بأمر الصلاة ولكن كان متحيرا في أنه كيف يجمع الناس إلى الصلاة، مع بعد الدار وتفرق المهاجرين والأنصار في أزقة المدينة، فاستشار أصحابه في حل العقدة فأشاروا إليه بعدة أمور: 1 - أن يستعين بنصب الراية فإذا رأوها آذن بعضهم بعضا، فلم يعجبه. 2 - أشاروا إليه باستعمال القبع أي بوق اليهود، فكرهه النبي. 3 - أن يستعين بالناقوس كما يستعين به النصارى، كرهه أولا ثم أمر به فعمل من خشب ليضرب به للناس حتى يجتمعوا للصلاة. كان النبي الأكرم على هذه الحالة إذ جاء عبد الله بن زيد وأخبر رسول الله بأنه كان بين النوم واليقظة إذ أتاه آت فأراه الأذان، وكان عمر بن الخطاب قد رآه
1 - عبد الرزاق: همام الصنعاني (126 - 211): المصنف: 1 / 456 برقم 1775. 2 - الحلبي: السيرة: 2 / 296 باب بدء الأذان ومشروعيته. 30 قبل ذلك بعشرين يوما فكتمه ثم أخبر به النبي فقال: ما منعك أن تخبرني؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت، فقال رسول الله: يا بلال قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فعلمه، فتعلم بلال الأذان وأذن. هذا مجمل ما يرويه المحدثون حول تاريخ تشريع الأذان، فتجب علينا دراسة أسناده ومتونه، وإليك البيان. روايات حول كيفية تشريع الأذان: 1 - روى أبو داود (202 - 275) قال: حدثنا عباد بن موسى الختلي، وزياد بن أيوب، - وحديث عباد أتم - قالا: ثنا هشيم، عن أبي بشر، قال زياد: أخبرنا أبو بشر، عن أبي عمير بن أنس، عن عمومة له من الأنصار، قال: اهتم النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " للصلاة كيف يجمع الناس لها، فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة، فإذا رأوها آذن بعضهم بعضا، فلم يعجبه ذلك، قال: فذكر له القبع - يعني الشبور - قال زياد: شبور اليهود، فلم يعجبه ذلك، وقال: " هو من أمر اليهود " قال: فذكر له الناقوس فقال: " هو من أمر النصارى ". فانصرف عبد الله بن زيد (بن عبد ربه) وهو مهتم لهم رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم "، فأري الأذان في منامه، قال: فغدا على رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " فأخبره فقال (له): يا رسول الله، إني لبين نائم ويقظان، إذ أتاني آت فأراني الأذان، قال: وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قد رآه قبل ذلك
31 فكتمه عشرين يوما (1)، قال: ثم أخبر النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " فقال له: " ما منعك أن تخبرني "؟ فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت، فقال رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم ": " يا بلال، قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله " قال: فأذن بلال، قال أبو بشر: فأخبرني أبو عمير أن الأنصار تزعم أن عبد الله بن زيد لولا أنه كان يومئذ مريضا، لجعله رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " مؤذنا. 2 - حدثنا محمد بن منصور الطوسي، ثنا يعقوب، ثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه، قال: حدثني أبي: عبد الله بن زيد، قال: لما أمر رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة طاف بي، وأنا نائم، رجل يحمل ناقوسا في يده فقلت: يا عبد الله، أتبيع الناقوس؟ قال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة قال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت (له): بلى، قال: فقال تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. قال: ثم استأخر عني غير بعيد ثم قال: وتقول إذا أقمت الصلاة: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. فلما أصبحت أتيت رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " فأخبرته بما
1 - أفيصح في منطق العقل أن يكتم الإنسان تلك الرؤيا التي فيها إراحة للنبي وأصحابه عشرين يوما، ثم يعلل ذلك - بعد سماعها من ابن زيد - بأنه استحيى... 32 رأيت فقال: " إنها لرؤيا حق إن شاء الله، فقم مع بلال فالق عليه ما رأيت فليؤذن به، فإنه أندى صوتا منك ". فقمت مع بلال، فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به، قال: فسمع ذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجر رداءه ويقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأى، فقال رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم ": فلله الحمد " (1). ورواه ابن ماجة (207 - 275) بالسندين التاليين: 3 - حدثنا أبو عبيد: محمد بن ميمون المدني، ثنا محمد بن سلمة الحراني، ثنا محمد بن إسحاق، ثنا محمد بن إبراهيم التيمي، عن محمد بن عبد الله بن زيد عن أبيه، قال: كان رسول الله قد هم بالبوق، وأمر بالناقوس فنحت، فأري عبد الله بن زيد في المنام... إلخ. 4 - حدثنا: محمد بن خالد بن عبد الله الواسطي: ثنا أبي، عن عبد الرحمان بن إسحاق، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: أن النبي استشار الناس لما يهمهم إلى الصلاة فذكروا البوق فكرهه من أجل اليهود، ثم ذكروا الناقوس فكرهه من أجل النصارى، فأري النداء تلك الليلة رجل من الأنصار يقال عبد الله بن زيد وعمر بن الخطاب... قال الزهري: وزاد بلال في نداء صلاة الغداة: الصلاة خير من النوم، فأقرها رسول الله... (2). ورواه الترمذي بالسند التالي: 5 - حدثنا سعد بن يحيى بن سعيد الأموي، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن
1 - أبو داود: السنن: 1 / 134 - 135 برقم 498 - 499 تحقيق محمد محيي الدين. 2 - ابن ماجة: السنن: 1 / 232 - 233 باب بدء الأذان، برقم 706 - 707. 33 إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن محمد بن عبد الله بن زيد، عن أبيه قال: لما أصبحنا أتينا رسول الله فأخبرته بالرؤيا... إلخ. 6 - وقال الترمذي: وقد روى هذا الحديث إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق أتم من هذا الحديث وأطول، ثم أضاف الترمذي: وعبد الله بن زيد هو ابن عبد ربه، ولا نعرف له عن النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " شيئا يصح إلا هذا الحديث الواحد في الأذان (1). هذا ما رواه أصحاب السنن المعدودة من الصحاح أو الكتب الستة ولها من الأهمية ما ليس لغيرها كسنن الدارمي أو الدارقطني أو ما يرويه ابن سعد في طبقاته، والبيهقي في سننه، ولأجل تلك المكانة الخاصة فصلنا ما روي في السنن المعروفة، عما روي في غيرها. فلندرس هذه الروايات متنا وسندا حتى تتضح الحقيقة ثم نذكر بقية النصوص الواردة في غيرها فنقول: هذه الروايات لا تصلح للاحتجاج: إن هذه الروايات غير صالحة للاحتجاج لجهات شتى: الأولى: لا تتفق مع مقام النبوة: إنه سبحانه بعث رسوله لإقامة الصلاة مع المؤمنين في أوقات مختلفة. وطبع القضية يقتضي أن يعلمه سبحانه كيفية تحقق هذه الأمنية. فلا معنى لتحير
1 - الترمذي: السنن: 1 / 358، باب ما جاء في بدء الأذان برقم 189. 34 النبي أياما طويلة أو عشرين يوما على ما في الرواية الأولى التي رواها أبو داود وهو لا يدري كيف يحقق المسؤولية الملقاة على عاتقه، فتارة يتوسل بهذا، وأخرى بذاك حتى يرشد إلى الأسباب والوسائل التي تؤمن مقصوده، مع أنه سبحانه يقول في حقه: * (وكان فضل الله عليك عظيما) * (النساء / 113) والمقصود من الفضل هو العلم بقرينة ما قبله: * (وعلمك ما لم تكن تعلم) *. إن الصلاة والصيام من الأمور العبادية وليسا كالحرب والقتال الذي ربما كان النبي يتشاور فيه مع أصحابه ولم يكن تشاوره في كيفية القتال عن جهله بالأصلح، وإنما كان لأجل جلب قلوبهم كما يقول سبحانه: * (ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله) * (آل عمران / 159). أليس من الوهن في أمر الدين أن تكون الرؤيا والأحلام والمنامات من أفراد عاديين، مصدرا لأمر عبادي في غاية الأهمية كالأذان والإقامة؟... إن هذا يدفعنا إلى القول بأن كون الرؤيا مصدرا للأذان أمر مكذوب على الشريعة. ومن القريب جدا أن عمومة عبد الله بن زيد هم الذين أشاعوا تلك الرؤيا وروجوها، لتكون فضيلة لبيوتاتهم وقبائلهم. ولذلك نرى في بعض المسانيد أن بني عمومته هم رواة هذا الحديث، وأن من اعتمد عليهم إنما كان لحسن ظنه بهم. الثانية: إنها متعارضة جوهرا: إن الروايات الواردة حول بدء الأذان وتشريعه متعارضة جوهرا من جهات:
35 1 - إن مقتضى الرواية الأولى (رواية أبي داود) أن عمر بن الخطاب رأى الأذان قبل عبد الله بن زيد بعشرين يوما. ولكن مقتضى الرواية الرابعة (رواية ابن ماجة) أنه رأى في نفس الليلة التي رأى فيها عبد الله بن زيد. 2 - إن رؤيا عبد الله بن زيد هو المبدأ للتشريع، وأن عمر بن الخطاب لما سمع الأذان جاء إلى رسول الله وقال: إنه أيضا رأى نفس تلك الرؤيا ولم ينقلها إليه استحياء. 3 - إن المبدأ به، هو نفس عمر بن الخطاب، لا رؤياه لأنه هو الذي اقترح النداء بالصلاة الذي هو عبارة أخرى عن الأذان، روى الترمذي في سننه وقال: كان المسلمون حين قدموا المدينة... - إلى أن قال: - وقال بعضهم: اتخذوا قرنا مثل قرن اليهود، قال: فقال عمر بن الخطاب: أولا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؟ قال: فقال رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم ": يا بلال قم فناد بالصلاة، أي الأذان. نعم فسر ابن حجر النداء بالصلاة ب " الصلاة جامعة " (1) ولا دليل على هذا التفسير. ورواه النسائي والبيهقي في سننهما (2). 4 - إن مبدأ التشريع هو نفس النبي الأكرم. روى البيهقي:... فذكروا أن يضربوا ناقوسا أو ينوروا نارا فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة. قال: ورواه البخاري عن محمد بن عبد الوهاب ورواه مسلم
1 - الحلبي: السيرة النبوية: 2 / 297. 2 - الترمذي: السنن: 1 / 362 رقم 190، النسائي: السنن: 2 / 3، البيهقي: السنن: 1 / 389 في باب بدء الأذان الحديث الأول. 36 عن إسحاق بن عمار (1). فمع هذا الاختلاف في النقل كيف يمكن الاعتماد على هذه النقول. الثالثة: إن الرائي كان أربعة عشر شخصا لا واحدا: يظهر مما رواه الحلبي أن الرائي للأذان لم يكن منحصرا بابني زيد والخطاب، بل ادعى أبو بكر أنه أيضا رأى نفس ما رأياه وقيل: إنه ادعى سبعة من الأنصار، وقيل: أربعة عشر (2) كلهم ادعوا أنهم رأوا في الرؤيا الأذان، وليست الشريعة وردا لكل وارد، فإذا كانت الشريعة والأحكام خاضعة للرؤيا والأحلام فعلى الإسلام السلام. فالرسول " صلى الله عليه وآله وسلم " يستسقي تشريعاته من الوحي لا من أحلامهم. الرابعة: التعارض بين نقلي البخاري وغيره: إن صريح صحيح البخاري أن النبي أمر بلالا في مجلس التشاور بالنداء للصلاة وعمر حاضر حين صدور الأمر، فقد روى عن ابن عمر: كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة، ليس ينادى لها فتكلموا يوما في ذلك فقال بعضهم: اتخذوا ناقوسا مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: بل قرنا مثل قرن اليهود، فقال عمر: أو لا تبعثون رجلا ينادي بالصلاة؟ فقال رسول الله: يا بلال قم فناد بالصلاة (3). وصريح أحاديث الرؤيا: أن النبي إنما أمر بلالا بالنداء عند الفجر إذ قص
1 - البيهقي: السنن: 1 / 390. الحديث 1 و 2. 2 - الحلبي: السيرة الحلبية: 2 / 300. 3 - البخاري: الصحيح: 1 / 120 باب بدء الأذان. 37 عليه ابن زيد رؤياه ذلك بعد الشورى بليلة - في أقل ما يتصور - ولم يكن عمر حاضرا وإنما سمع الأذان وهو في بيته، خرج وهو يجر ثوبه ويقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأى. وليس لنا حمل ما رواه البخاري على النداء ب " الصلاة جامعة " وحمل أحاديث الرؤيا على التأذين بالأذان، فإنه جمع بلا شاهد أولا، ولو أمر النبي بلالا برفع صوته ب " الصلاة جامعة " لحلت العقدة ثانيا، ورفعت الحيرة خصوصا إذا كررت الجملة " الصلاة جامعة " ولم يبق موضوع للحيرة وهذا دليل على أن أمره بالنداء، كان بالتأذين بالأذان المشروع (1). هذه الوجوه الأربعة ترجع إلى دراسة مضمون الأحاديث وهي بوحدتها كافية في سلب الركون عليها. وإليك دراسة أسنادها واحدا بعد الآخر. وهي بين موقوف لا يتصل سندها بالنبي الأكرم، ومسند مشتمل على مجهول أو مجروح أو ضعيف متروك، وإليك البيان حسب الترتيب السابق. أما الرواية الأولى التي رواها أبو داود فهي ضعيفة: 1 - تنتهي الرواية إلى مجهول أو مجاهيل، لقوله: عن عمومة له من الأنصار. 2 - يروي عن العمومة، أبو عمير بن أنس، فيذكره ابن حجر ويقول فيه: روى عن عمومة له من الأنصار من أصحاب النبي في رؤية الهلال وفي الأذان. وقال ابن سعد: كان ثقة قليل الحديث. وقال ابن عبد البر: مجهول لا يحتج به (2).
1 - شرف الدين: النص والاجتهاد: 137. 2 - ابن حجر: تهذيب التهذيب: 12 / 188 برقم 767. 38 وقال جمال الدين: هذا ما حدث به في الموضوعين: رؤية الهلال والأذان جميع ما له عندهم (1). أما الرواية الثانية: فقد جاء في سندها من لا يصح الاحتجاج به نظراء: 1 - محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي: أبو عبد الله المتوفى حدود عام 120. قال أبو جعفر العقيلي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي وذكر محمد بن إبراهيم التيمي المدني فقال: في حديثه شئ، يروي أحاديث مناكير، أو منكرة (2). 2 - محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار، فإن أهل السنة لا يحتجون برواياته، وإن كان هو الأساس ل " سيرة ابن هشام - المطبوعة - ". قال أحمد بن أبي خيثمة: سئل يحيى بن معين عنه فقال:... ضعيف عندي سقيم ليس بالقوي. وقال أبو الحسن الميموني: سمعت يحيى بن معين يقول: محمد بن إسحاق ضعيف، وقال النسائي: ليس بالقوي (3). 3 - عبد الله بن زيد، راوية الحديث وكفى في حقه أنه قليل الحديث، قال الترمذي: لا نعرف له شيئا يصح عن النبي إلا حديث الأذان، قال الحاكم: الصحيح: أنه قتل بأحد، والروايات عنه كلها منقطعة، قال ابن عدي: لا نعرف له شيئا يصح
1 - جمال الدين المزي: تهذيب الكمال: 34 / 142 برقم 7545. 2 - المصدر نفسه: 24 / 304. 3 - المصدر نفسه: 24 / 423 - 424، ولاحظ تاريخ بغداد: 1 / 221 - 224. 39 عن النبي إلا حديث الأذان (1). وروى الترمذي عن البخاري: لا نعرف له إلا حديث الأذان (2). وقال الحاكم: عبد الله بن زيد هو الذي أري الأذان، الذي تداوله فقهاء الإسلام بالقبول ولم يخرج في الصحيحين لاختلاف الناقلين في أسانيده (3). وأما الرواية الثالثة: فقد اشتمل السند على محمد بن إسحاق بن يسار، ومحمد بن إبراهيم التيمي، وقد تعرفت على حالهما كما تعرفت على أن عبد الله بن زيد كان قليل الرواية، والروايات كلها عنه منقطعة. وأما الرواية الرابعة: فقد جاء في سنده: 1 - عبد الرحمان بن إسحاق بن عبد الله المدني. قال يحيى بن سعيد القطان: سألت عنه بالمدينة، فلم أرهم يحمدونه وكذلك قال علي بن المديني. وقال علي أيضا: سمعت سفيان وسئل عن عبد الرحمان بن إسحاق، قال: كان قدريا فنفاه أهل المدينة فجاءنا هاهنا مقتل الوليد فلم نجالسه. وقال أبو طالب: سألت أحمد بن حنبل عنه فقال: روى عن أبي الزناد أحاديث منكرة. وقال أحمد بن عبد الله العجلي: يكتب حديثه وليس بالقوي.
1 - السنن: الترمذي: 1 / 361، ابن حجر: تهذيب التهذيب: 5 / 224. 2 - جمال الدين المزي: تهذيب الكمال: 14 / 541. 3 - الحاكم: المستدرك: 3 / 336. 40 وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال البخاري: ليس ممن يعتمد على حفظه... ولا يعرف له بالمدينة تلميذ إلا موسى الزمعي، روى عنه أشياء في عدة منها اضطراب. وقال الدارقطني: ضعيف يرمى بالقدر. وقال أحمد بن عدي: في حديثه بعض ما ينكر ولا يتابع (1). 2 - محمد بن عبد الله الواسطي (150 - 240) فيعرفه جمال الدين المزي بقوله: قال ابن معين: لا شئ، وأنكر روايته عن أبيه، وقال أبو حاتم: سألت يحيى بن معين فقال: رجل سوء كذاب، وأخرج أشياء منكرة، وقال أبو عثمان سعيد بن عمر البردعي: وسألته - أبا زرعة - عن محمد بن خالد، فقال: رجل سوء، وذكره ابن حبان في كتاب الثقات وقال: يخطئ ويخالف (2). وقال الشوكاني بعد نقل الرواية: وفي إسناده ضعف جدا (3). وأما الرواية الخامسة: فقد جاء في سندها: 1 - محمد بن إسحاق بن يسار. 2 - محمد بن الحارث التيمي. 3 - عبد الله بن زيد. وقد تعرفت على جرح الأولين، وانقطاع السند في كل ما يرويان عن الثالث
1 - جمال الدين المزي: تهذيب الكمال: 16 / 519 برقم 3755. 2 - المصدر نفسه: 25 / 139 برقم 5178. 3 - الشوكاني: نيل الأوطار: 2 / 42. 41 وبذلك يتضح حال السند السادس فلاحظ. هذا ما ورد في الصحاح. أما ما ورد في غيرها فنذكر منه ما رواه الإمام أحمد، والدارمي، والدارقطني في مسانيدهم، والإمام مالك في موطئه، وابن سعد في طبقاته والبيهقي في سننه وإليك البيان: ألف - ما رواه الإمام أحمد في مسنده: روى الإمام أحمد رؤيا الأذان في مسنده عن عبد الله بن زيد بأسانيد ثلاثة (1): 1 - قد ورد في السند الأول زيد بن الحباب بن الريان التميمي (المتوفى 203 ه). وقد وصفوه بكثرة الخطأ وله أحاديث تستغرب عن سفيان الثوري من جهة إسنادها، وقال ابن معين: أحاديثه عن الثوري مقلوبة (2). كما اشتمل على عبد الله بن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه، وليس له في الصحاح والمسانيد إلا رواية واحدة وهي هذه، وفيها فضيلة لعائلته، ولأجل ذلك يقل الاعتماد عليها. كما اشتمل الثاني على محمد بن إسحاق بن يسار الذي تعرفت عليه. واشتمل الثالث على محمد بن إبراهيم الحارث التيمي، مضافا إلى محمد بن إسحاق، وينتهي إلى عبد الله بن زيد وهو قليل الحديث جدا.
1 - الإمام أحمد: المسند: 4 / 42 - 43. 2 - الذهبي: ميزان الاعتدال: 2 / 100 برقم 2997. 42 وقد جاء في الرواية الثانية بعد ذكر الرؤيا وتعليم الأذان لبلال: إن بلالا أتى رسول الله فوجده نائما فصرخ بأعلى صوته: الصلاة خير من النوم، فأدخلت هذه الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر. ب - ما رواه الدارمي في مسنده: روى رؤيا الأذان الدارمي في مسنده بأسانيد، وكلها ضعاف وإليك الأسانيد وحدها: 1 - أخبرنا محمد بن حميد، ثنا سلمة، حدثني محمد بن إسحاق وقد كان رسول الله حين قدمها... الخ. 2 - نفس هذا السند وجاء بعد محمد بن إسحاق: حدثني هذا الحديث، محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن محمد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربه عن أبيه بهذا الحديث. 3 - أخبرنا محمد بن يحيى، ثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق ... والباقي نفس ما جاء في السند الثاني (1). والأول منقطع، والثاني والثالث مشتملان على محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي وقد عرفت حاله، كما تعرفت على حال ابن إسحاق. ج - ما رواه الإمام مالك في الموطأ: روى الإمام مالك رؤيا الأذان في موطئه: عن يحيى، عن مالك، عن يحيى
1 - الدارمي: السنن: 1 / 267 - 269 باب بدء الأذان. 43 ابن سعيد أنه قال: كان رسول الله قد أراد أن يتخذ خشبتين يضرب بهما... (1). والسند منقطع، والمراد يحيى بن سعيد بن قيس المولود عام 70 وتوفي بالهاشمية سنة 143 (2). د - ما رواه ابن سعد في طبقاته: رواه محمد بن سعد في طبقاته بأسانيد (3) موقوفه لا يحتج بها: الأول: ينتهي إلى نافع بن جبير الذي توفي في عشر التسعين وقيل سنة 99. والثاني: ينتهي إلى عروة بن الزبير الذي تولد عام 29 وتوفي عام 93. والثالث: ينتهي إلى زيد بن أسلم الذي توفي عام 136. والرابع: ينتهي إلى سعيد بن المسيب الذي توفي عام 94 وإلى عبد الرحمان ابن أبي ليلى الذي توفي عام 82، أو 83. وقال الذهبي في ترجمة عبد الله بن زيد: حدث عنه سعيد بن المسيب وعبد الرحمان بن أبي ليلى - ولم يلقه - (4). وروى أيضا بالسند التالي: أخبرنا أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي، أخبرنا مسلم بن خالد، حدثني
1 - مالك: الموطأ: 75 باب ما جاء في النداء للصلاة برقم 1. 2 - الذهبي: سير أعلام النبلاء: 5 / 468 برقم 213. 3 - ابن سعد: الطبقات الكبرى: 1 / 246 - 247. 4 - الذهبي: سير أعلام النبلاء: 2 / 376 برقم 79، وسيوافيك تفصيله في المقام الثاني. والضمير يرجع إلى عبد الرحمن، وسيوافيك أنه من البعيد أن يروي سعيد بن المسيب عن عبد الله بن زيد. 44 عبد الرحيم بن عمر، عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " أراد أن يجعل شيئا يجمع به الناس... حتى أري رجل من الأنصار يقال له عبد الله بن زيد، وأريه عمر بن الخطاب تلك الليلة... - إلى أن قال: - فزاد بلال في الصبح " الصلاة خير من النوم " فأقرها رسول الله. فقد اشتمل السند على: 1 - مسلم بن خالد بن قرقرة: ويقال: ابن جرحة. ضعفه يحيى بن معين. وقال علي بن المديني: ليس بشئ، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال أبو حاتم: ليس بذاك القوي، منكر الحديث يكتب حديثه ولا يحتج به، تعرف وتنكر (1). 2 - محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري المدني (51 - 123). قال أنس بن عياض، عن عبيد الله بن عمر: كنت أرى الزهري يعطي الكتاب فلا يقرأه ولا قرئ عليه فيقال له: نروي هذا عنك فيقول: نعم. وقال إبراهيم بن أبي سفيان القيسراني عن الفريابي: سمعت سفيان الثوري: أتيت الزهري فتثاقل علي فقلت له: لو أنك أتيت أشياخنا، فصنعوا بك مثل هذا، فقال: كما أنت، ودخل فأخرج إلي كتابا فقال: خذ هذا فاروه عني فما رويت عنه حرفا (2).
1 - جمال الدين المزي: تهذيب الكمال: 27 / 508 برقم 5925. 2 - المصدر نفسه: 26 / 439 - 440. 45 ه: ما رواه البيهقي في سننه: روى البيهقي رؤيا الأذان بأسانيد لا يخلو الكل عن علة أو علات وإليك الإشارة إلى الضعاف الواردين في أسانيدها: الأول: يشتمل على أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار، وقد تعرفت على أبي عمير بن أنس، أنه قال فيه ابن عبد البر: وإنه مجهول لا يحتج به يروي عن مجاهيل (1) باسم العمومة، ولا دليل على كون هؤلاء من الصحابة، وإن افترضنا عدالة كل صحابي، وعلى فرض التسليم أن العمومة كانوا منهم لكن موقوفات الصحابي ليست بحجة إذ لا علم بأنه روى عن الصحابي. الثاني: يشتمل على أناس لا يحتج بهم: 1 - محمد بن إسحاق بن يسار. 2 - محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي. 3 - عبد الله بن زيد. وقد تعرفت على الجميع. الثالث: مشتمل على ابن شهاب الزهري، يروي عن سعيد بن المسيب المتوفى عام 94 عن عبد الله بن زيد وقد عرفت أنه لم يدركا عبد الله بن زيد. (2)
1 - ابن حجر: تهذيب التهذيب: 12 / 188 برقم 768. 2 - البيهقي: السنن: 1 / 390. 46 وقد توفي عبد الله بن زيد سنة 32 ه وقد تولد سعيد بن المسيب - حسب ما ينقله الذهبي - لسنتين مضتا من خلافة عمر (؟؟؟). وعلى ذلك فقد تولد عام 15 ه فيكون عمره عند وفاة زيد قريبا من 17 سنة. و - ما رواه الدارقطني: روى الدارقطني رؤيا الأذان بأسانيد، إليك بيانها: 1 - حدثنا محمد بن يحيى بن مرداس، حدثنا أبو داود، حدثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا حماد بن خالد، ثنا محمد بن عمرو، عن محمد بن عبد الله، عن عمه عبد الله بن زيد. 2 - حدثنا محمد بن يحيى: ثنا أبو داود، ثنا عبيد الله بن عمر، ثنا عبد الرحمان ابن مهدي، ثنا محمد بن عمرو، قال: سمعت عبد الله بن محمد، قال: كان جدي عبد الله بن زيد بهذا الخبر (1). وقد اشتمل السندان على محمد بن عمرو، وهو مردد بين الأنصاري، الذي ليس له في الصحاح والمسانيد إلا هذه الرواية، قال الذهبي: لا يكاد يعرف، وبين محمد بن عمرو أبو سهل الأنصاري الذي ضعفه يحيى القطان، وابن معين وابن عدي (2). 3 - حدثنا أبو محمد بن ساعد، ثنا الحسن بن يونس، ثنا الأسود بن عامر، ثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمان بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل، قال: قام رجل من الأنصار، يعني عبد الله بن زيد، إلى النبي فقال: إني رأيت في النوم... (3).
1 - الدارقطني: السنن: 1 / 245 برقم 56 و 57. 2 - الذهبي: ميزان الاعتدال: 3 / 674 برقم 8017 و 8018، جمال الدين المزي: تهذيب الكمال: 26 / 220 برقم 5516، ابن حجر: تهذيب التهذيب: 9 / 378 برقم 620. 3 - الدارقطني: السنن: 1 / 242 برقم 31. 47 وهذا السند منقطع لأن معاذ بن جبل توفي عام 20 أو 18 وتولد عبد الرحمان بن أبي ليلى، سنة 17، مضافا إلى أن الدارقطني ضعف عبد الرحمان وقال: ضعيف الحديث سيئ الحفظ وابن أبي ليلى لا يثبت سماعه من عبد الله بن زيد (1). إلى هنا تم الكلام في المقام الأول واتضح أن الأذان إنما شرع بوحي إلهي لا برؤيا عبد الله بن زيد ولا برؤيا عمر بن الخطاب ولا غيرهما كائنا من كان، وإن هذه الأحاديث، متعارضة جوهرا، غير تامة سندا، لا يثبت بها شئ، مضافا إلى ما ذكرنا في صدر البحث من الاستنكار العقلي فلاحظ. وحان البحث عن كيفية دخول التثويب في أذان الفجر، وهذا هو المقام الثاني الذي نتلوه عليك فنقول: المقام الثاني: ما هو السبب لدخول التثويب في أذان صلاة الفجر التثويب من ثاب يثوب: إذا رجع فهو بمعنى الرجوع إلى الأمر بالمبادرة إلى الصلاة، فإن المؤذن إذا قال: " حي على الصلاة " فقد دعاهم إليها، فإذا قال: " الصلاة خير من النوم " فقد رجع إلى كلام معناه: المبادرة إليها. وفسره صاحب القاموس: بمعان منها: الدعاء إلى الصلاة، وتثنية الدعاء، وأن يقول في أذان الفجر " الصلاة خير من النوم - مرتين - ". وقال في المغرب: التثويب: القديم، هو قول المؤذن في أذان الصبح: " الصلاة خير من النوم - مرتين - " والمحدث " الصلاة الصلاة " أو " قامت
1 - الدارقطني: السنن: 1 / 242 برقم 31. 48 قامت " (1). والظاهر أنه غلب استعماله بين أئمة الحديث في القول المذكور أثناء الأذان، ربما يطلق على مطلق الدعوة بعد الدعوة، فيعم ما إذا نادى المؤذن بعد تمام الأذان بالقول المذكور أيضا أو بغيره مما يفيد الدعوة إليها بأي لفظ شاء. قال السندي في حاشيته على سنن النسائي: التثويب هو العود إلى الإعلام بعد الإعلام، وقول المؤذن " الصلاة خير من النوم " لا يخلو عن ذلك. فسمي تثويبا (2). فالمقصود في المقام تبيين حكم قول المؤذن أثناء الأذان لصلاة الفجر: الصلاة خير من النوم، فهل هو مشروع أو بدعة حدثت بعد النبي لما استحسنه بعض الناس من إقراره في الأذان، سواء كان هو التثويب فقط أو عم مطلق الدعوة إلى الصلاة ولو بعد تمام الأذان، بهذا اللفظ أو بغيره. فنقول: التثويب بهذا المعنى ورد تارة في خلال أحاديث رؤية الأذان، وأخرى في غيرها، أما الأول فقد ورد في ما يلي: 1 - ما رواه ابن ماجة (الرواية الرابعة) وقد عرفت نص الشوكاني على ضعفها (3). 2 - ما رواه الإمام أحمد: وقد عرفت ما في سنده من الضعف حيث جاء فيه:
1 - ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث: 1 / 226 وابن منظور: لسان العرب مادة " ثوب "، والفيروز آبادي: القاموس، مادة " ثوب ". والبحراني: الحدائق: 7 / 419. 2 - السنن: 2 / 14 قسم التعليقة. 3 - لاحظ ص 41 من هذا الكتاب. 49 محمد بن إسحاق، وابن شهاب الزهري وعبد الله بن زيد بن عبد ربه (1). 3 - ما رواه ابن سعد في طبقاته: وفي سنده: مسلم بن خالد بن قرقرة وقد عرفت ضعفه (2). وأما الثاني فقد نقله أصحاب السنن وإليك النصوص: 4 - ما رواه ابن ماجة: بالسند التالي: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا محمد بن عبد الله الأسدي، عن أبي إسرائيل، عن الحكم، عن عبد الرحمان بن أبي ليلى عن بلال، قال: أمرني رسول الله أن أثوب في الفجر ونهاني أن أثوب في العشاء (3) وفي هذه الرواية دلالة على أن التثويب يستعمل في مطلق الدعوة إلى الصلاة، وإن لم يكن بلفظ " الصلاة خير من النوم " بشهادة النهي عن التثويب في العشاء، لأن الأنسب للتثويب في صلاة العشاء هو " الصلاة جامعة "، أو " قد قامت الصلاة " وغيرهما. 5 - حدثنا عمرو بن رافع، ثنا عبد الله بن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب عن بلال: أنه أتى النبي يؤذنه بصلاة الفجر فقيل: هو نائم، فقال: الصلاة خير من النوم الصلاة خير من النوم، فأقرت في تأذين الفجر فثبت الأمر على ذلك (4). والسندان منقطعان أما الأول: فابن أبي ليلى ولد عام 17 ومات بلال عام 20 أو 21 بالشام وكان مرابطا بها قبل ذلك من أوائل فتوحها، فكيف يسمع منه مع
1 - لاحظ ما نقلناه عن الإمام أحمد، بعد أحاديث السنن ص 42. 2 - لاحظ ص 44 من هذا الكتاب. 3 - ابن ماجة: السنن: 1 / 237 برقم 715 - 716. 4 - ابن ماجة: السنن: 1 / 237 برقم 715 - 716. 50 حداثة السن وتباعد الديار (1). ورواه الترمذي مع اختلاف في أول السند وقال: حديث بلال لا نعرفه إلا من حديث أبي إسرائيل الملائي، وأبو إسرائيل لم يسمع هذا الحديث من الحكم (ابن عيينة) قال: إنما رواه عن الحسن بن عمارة عن الحكم. وأبو إسرائيل اسمه: إسماعيل بن أبي إسحاق وليس هو بذاك القوي عند أهل الحديث (2). أما الثاني فقد قال فيه ابن ماجة نقلا عن الزوائد: إسناده ثقات إلا أن فيه انقطاعا (لأن) سعيد بن المسيب لم يسمع من بلال (3). 6 - ما رواه النسائي: أخبرنا سويد بن نصر قال: أنبأنا عبد الله، عن سفيان، عن أبي جعفر، عن أبي سلمان، عن أبي محذورة، قال: كنت أؤذن لرسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " وكنت أقول في أذان الفجر: حي على الفلاح، الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله (4). وفي سنن البيهقي (5) وسبل السلام (6) مكان " أبي سلمان ": " أبي سليمان ". قال البيهقي: وأبو سليمان اسمه " همام المؤذن " ولم نجد ترجمة لهمام المؤذن فيما بأيدينا من كتب الرجال فلم يذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء، ولا المزي في تهذيب الكمال، والرجل غير معروف.
1 - الشوكاني: نيل الأوطار: 2 / 42. 2 - الترمذي: السنن: 1 / 378، برقم 198. 3 - ابن ماجة: السنن: 1 / 237، برقم 716، وولد سعيد بن المسيب عام 13 وتوفي عام 94. 4 - النسائي: السنن: 2 / 13 باب التثويب في الأذان. 5 - البيهقي: السنن: 1 / 422، الصنعاني: سبل السلام: 1 / 221. 6 - البيهقي: السنن: 1 / 422، الصنعاني: سبل السلام: 1 / 221. 51 وأما أبو محذورة فهو من الصحابة لكنه قليل الرواية، لا يتجاوز ما رواه عن عشر روايات وقد أذن لرسول الله في العام الثامن، في غزوة حنين (1). 7 - ما رواه البيهقي في سننه بسند ينتهي إلى أبي قدامة عن محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة عن أبيه، عن جده قال: يا رسول الله علمني سنة الأذان، وذكر الحديث وقال فيه: حي على الفلاح، حي على الفلاح، فإن كان صلاة الصبح قل: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم... 8 - ما رواه أيضا بسند ينتهي إلى عثمان بن السائب: أخبرني أبي، وأم عبد الملك بن أبي محذورة عن أبي محذورة عن النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " نحوه (2). ومحمد بن عبد الملك قد تعرفت على حاله. وعثمان بن السائب ولدا ووالدا، غير معروفين ليس لهما إلا رواية واحدة (3). 9 - ما رواه أبو داود بسند ينتهي إلى الحرث بن عبيد، عن محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة، عن أبيه، عن جده، قال: قلت: يا رسول الله علمني سنة الأذان - إلى أن قال: - فإن كان صلاة الصبح قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم... (4). والسند مشتمل على محمد بن عبد الملك، قال ابن حجر: قال عبد الحق: لا يحتج بهذا الإسناد، وقال ابن القطان: مجهول الحال، لا نعلم روى عنه إلا
1 - ابن حزم الأندلسي: أسماء الصحابة الرواة: برقم 188. 2 - البيهقي: السنن: 1 / 421 - 422 باب التثويب في أذان الصبح. 3 - الذهبي: ميزان الاعتدال: 2 / 114، برقم 3075 (السائب)، وابن حجر: تهذيب التهذيب: 7 / 117 برقم 252 (عثمان بن السائب). 4 - أبو داود: السنن: 1 / 136، برقم 500. 52 الحارث (1). وقال الشوكاني في حق محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة: غير معروف الحال، والحرث بن عبيد وفيه مقال (2). 10 - روى أيضا بسند ينتهي إلى عثمان بن سائب: أخبرني أبي، وأم عبد المالك بن أبي محذورة عن أبي محذورة عن النبي. نحو هذا الخبر (3). وقد عرفت ضعف السند. 11 - روى أيضا بسند ينتهي إلى إبراهيم بن إسماعيل بن عبد الملك بن أبي محذورة قال: سمعت جدي عبد الملك بن أبي محذورة يذكر أنه سمع أبا محذورة يقول: ألقى علي رسول الله الأذان حرفا حرفا - إلى أن قال -: وكان يقول في الفجر: الصلاة خير من النوم... (4). وإبراهيم بن إسماعيل له رواية واحدة، وهو بعد لم يوثق (5) مضافا إلى احتمال الانقطاع في السند. وما رواه الدارقطني فعلى أقسام: 12 - ما يدل على أنه سنة في الأذان، رواه عن أنس من دون أن ينسبه " أنس " إلى النبي وفيه أحاديث ثلاثة (6).
1 - ابن حجر: تهذيب التهذيب: 9 / 317. 2 - الشوكاني: نيل الأوطار: 2 / 43. 3 - أبو داود: السنن: 1 / 136 - 137، باب كيفية الأذان برقم 501 - 504. 4 - أبو داود: السنن: 1 / 136 - 137، باب كيفية الأذان برقم 501 - 504. 5 - جمال الدين المزي: تهذيب الكمال: 2 / 44 برقم 147. 6 - الدارقطني: السنن: 1 / 243 برقم 38 - 39 - 40. 53 13 - ما يدل على أن النبي أمر بلالا بذلك لكن السند منقطع. رواه عبد الرحمان بن أبي ليلى عن بلال (1) مع ضعف في سنده لمكان عبد الرحمان بن الحسن فيه المكنى ب " أبي مسعود الزجاج " وقد عرفه أبو حاتم: بأنه لا يحتج به وإن لينه الآخرون (2). 14 - ما يدل على جواز الإعلام بعد الأذان، بأي شكل اتفق وهو خارج عن المقصود وقد ضعف بعض من جاء في سنده (3). ما رواه الدارمي: 15 - روى الدارمي بسند ينتهي إلى الزهري عن حفص بن عمر بن سعد المؤذن... قال حفص: حدثني أهلي، أن بلالا أتى رسول الله يؤذنه لصلاة الفجر فقالوا: إنه نائم، فنادى بلال بأعلى صوته: الصلاة خير من النوم. فأقرت في أذان صلاة الفجر (4). والرواية لا يحتج بها لمكان الزهري أولا، وحفص بن عمر الذي ليس له إلا رواية واحدة وهي هذه (5) مضافا إلى كون الأصل الناقل مجهولا. 16 - ما رواه الإمام مالك: إن المؤذن جاء إلى عمر بن الخطاب يؤذنه لصلاة
1 - الدارقطني: السنن: 1 / 243 برقم 41. 2 - الذهبي: ميزان الاعتدال: 2 / 556 برقم 4851. 3 - الدارقطني: السنن: 1 / 244 - 245 برقم 48، 51، 52، 53. 4 - الدارمي: السنن: 1 / 270، باب التثويب في أذان الفجر. 5 - جمال الدين المزي: تهذيب الكمال: 7 / 30 برقم 1399، وقال الذهبي في ميزان الاعتدال: 1 / 560 برقم 2129: تفرد عن حفص، الزهري. 54 الصبح فوجده نائما فقال: الصلاة خير من النوم. فأمر عمر أن يجعلها في نداء الصبح (1). حصيلة الروايات: إن روايات التثويب متعارضة جدا لا يمكن إرجاعها إلى معنى واحد، وإليك أقسامها: 1 - ما يدل على أن عبد الله بن زيد رآه في رؤياه وأنه كان جزءا من الأذان من أول الأمر. 2 - ما يدل على أن بلالا زاده فيه وقرره النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " على أن يجعله بلال جزءا من الأذان كما في رواية الدارمي. 3 - ما يدل على أن عمر بن الخطاب أمر المؤذن أن يجعلها في نداء الصبح كما رواه الإمام مالك. 4 - ما يدل على أن رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " علمها أبا محذورة، كما رواه البيهقي في سننه. 5 - ما يظهر أن بلالا ينادي بالصبح فيقول: " حي على خير العمل " فأمره النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " أن يجعل مكانها: " الصلاة خير من النوم " وترك " حي على خير العمل " كما رواه المتقي الهندي في كنزه (8 / 345 برقم 23188). ومع هذا التعارض الواضح، لا يمكن الركون إليها وبما أن أمرها دائر بين
1 - الإمام مالك: الموطأ: 78 برقم 8. 55 السنة والبدعة، فتركها متعين لعدم العقاب على تركها، بخلاف ما لو كانت بدعة. تصريح أعلام الأمة على كونها بدعة: وهناك من يراها بدعة وأنه لم يأمر بها النبي الأكرم " صلى الله عليه وآله وسلم " وإنما حدثت بعده " صلى الله عليه وآله وسلم " وإليك نصوصهم: 1 - قال ابن جريج: أخبرني عمرو بن حفص أن سعدا (المؤذن) أول من قال: الصلاة خير من النوم، في خلافة عمر فقال عمر: بدعة، ثم تركه وإن بلالا لم يؤذن لعمر. 2 - وعنه أيضا: أخبرني حسن بن مسلم أن رجلا سأل طاووسا: متى قيل الصلاة خير من النوم؟ فقال: أما أنها لم تقل على عهد رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " ولكن بلالا، سمعها في زمان أبي بكر بعد وفاة رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم ". يقولها رجل غير مؤذن، فأخذها منه. فأذن بها فلم يمكث أبو بكر إلا قليلا حتى إذا كان عمر قال: لو نهينا بلالا عن هذا الذي أحدث وكأنه نسيه وأذن بها الناس حتى اليوم (1). 3 - روى عبد الرزاق عن ابن عيينة عن ليث عن مجاهد قال: كنت مع ابن عمر فسمع رجلا يثوب في المسجد فقال: اخرج بنا من (عند) هذا المبتدع (2).
1 - المتقي الهندي: كنز العمال: 8 / 357 برقم 23252 و 23251، ورواه عبد الرزاق في المصنف: 1 / 474 برقم 1827 و 1828 و 1829. 2 - عبد الرزاق الصنعاني: المصنف: 1 / 475 برقم 1832، ورواه أيضا المتقي الهندي: 8 / 357 برقم 23250. 56 نعم يظهر مما رواه أبو داود في سننه أن الرجل ثوب في الظهر والعصر لا في صلاة الفجر (1). 4 - ما روي عن أبي حنيفة كما في جامع المسانيد عنه عن حماد عن إبراهيم قال: سألته عن التثويب؟ فقال: هو مما أحدثه الناس وهو حسن، مما أحدثوه. وذكر أن تثويبهم كان حين يفرغ المؤذن من أذانه: إن الصلاة خير من النوم - مرتين -. قال: أخرجه الإمام محمد بن الحسن (الشيباني) في الآثار فرواه عن أبي حنيفة ثم قال محمد: وهو قول أبي حنيفة - رضي الله عنه - وبه نأخذ (2). وهذه الرواية تدل على أن التثويب في عصر الرسول " صلى الله عليه وآله وسلم " أو في عصر الخلفاء كان بعد الفراغ عن الأذان ولم يكن جزءا منه وإنما كان يذكره المؤذن من عند نفسه إيقاظا للناس من النوم. ثم إنه أدرج في نفس الأذان. 5 - قال الشوكاني نقلا عن البحر الزخار: أحدثه عمر فقال ابنه: هذه بدعة. وعن علي - عليه السلام - حين سمعه: لا تزيدوا في الأذان ما ليس منه، ثم قال بعد أن ذكر حديث أبي محذورة وبلال: قلنا لو كان لما أنكره علي وابن عمر وطاووس سلمنا فأمرنا به إشعارا في حال، لا شرعا جمعا بين الآثار (3). 6 - وقال الأمير اليمني الصنعاني المتوفى عام 182: قلت: وعلى هذا ليس " الصلاة خير من النوم " من ألفاظ الأذان المشروع للدعاء إلى الصلاة والإخبار بدخول وقتها، بل هو من الألفاظ التي استعملت لإيقاظ النائم فهو كألفاظ التسبيح
1 - أبو داود: السنن: 1 / 148 برقم 538. 2 - الخوارزمي: جامع المسانيد: 1 / 296. 3 - الشوكاني: نيل الأوطار: 2 / 43 ولعل الصحيح " شعارا " لا " إشعارا ". 57 الأخير الذي اعتاده الناس في هذه الأعصار المتأخرة عوضا عن الأذان الأول. ثم قال: وإذا عرفت هذا، هان عليك ما اعتاده الفقهاء من الجدال في التثويب هل هو من ألفاظ الأذان أو لا، وهل هو بدعة أو لا؟ (1). 7 - نقل ابن قدامة عن إسحاق أنه بعد ما نقل رواية أبي محذورة قال: هذا شئ أحدثه الناس، وقال أبو عيسى: هذا التثويب الذي كرهه أهل العلم وهو الذي خرج منه ابن عمر من المسجد لما سمعه (2). 8 - ما استفاض من أئمة أهل البيت من كونها بدعة: روى الشيخ الطوسي بسند صحيح عن معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبد الله عن التثويب الذي يكون بين الأذان والإقامة؟ قال: لا نعرفه (3). والذي أحتمله جدا من خلال دراسة ما ورد حول الأذان: أن عائلتين استغلتا ما روي عن جدهم عبد الله بن زيد وأبي محذورة فعمدتا إلى نشر ما نسب إلى جدهما لما فيه من فضيلة للعائلة، ولولا ذلك لم يكن لهذين الأمرين (تشريع الأذان بالرؤيا والتثويب في أذان صلاة الفجر) انتشار بهذا النحو الواسع، ولأجل ذلك ربما يرتاب الإنسان فيما نقل عن جدهما، وقد عرفت وجود رواة في أسانيد الروايات ينسبون إلى هاتين العائلتين. 0 0 0
1 - الصنعاني: سبل السلام في شرح بلوغ المرام: 1 / 222. 2 - ابن قدامة: المغني: 1 / 419 - 420. 3 - الوسائل: 4 / الباب 92 من أبواب الأذان والإقامة، الحديث 1، ولاحظ أحاديث الباب. 58 قد تقدم منا أن التصرف في الأذان بإدخال التثويب ليس فريدا في بابه، بل له نظير آخر، وهو: حذف " حي على خير العمل " من فصول الأذان والإقامة، وذلك لغاية أن لا يكون الإعلان به في الأذان سببا في تثبيط العامة عن الجهاد، لأن الناس إذا عرفوا أن الصلاة خير العمل، لاقتصروا عليها وأعرضوا عن الجهاد. وهذا بعين الله إطاحة بالتشريع وتصرف فيه، بتفلسف تافه. فإن المشرع كان واقفا على هذا المحذور، ومع ذلك أدخله في الأذان. قال القوشجي - وهو من متكلمي الأشاعرة - ناقلا عن الخليفة الثاني أنه قال على المنبر: ثلاث كن على عهد رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " وأنا أنهى عنهن وأحرمهن وأعاقب عليهن: متعة النساء، ومتعة الحج، وحي على خير العمل (1). وقد أطبقت الشيعة على كونه جزءا من الأذان، وعلى ذلك جروا، من العهد النبوي إلى يومنا هذا، وصار ذلك شعارا لهم. وإن كثيرا من المؤرخين يكنون عن الشيعة بمن يحيعلون أي الذين يقولون: " حي على خير العمل ". قال أبو الفرج في " مقاتل الطالبيين " في مقتل الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن أمير المؤمنين - عليه السلام -: أنه استولى على المدينة، وصعد عبد
1 - علاء الدين القوشجي (المتوفى عام 879 ه بالقسطنطينية): شرح التجريد: اقرأ ترجمته في كتابنا " بحوث في الملل والنحل ج 2 - ط. بيروت. 59 الله بن الحسن الأفطس المنارة التي عند رأس النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " عند موضع الجنائز، فقال للمؤذن: أذن ب " حي على خير العمل "... (1). وقال الحلبي: إن ابن عمر والإمام زين العابدين علي بن الحسين - عليهما السلام - كانا يقولان في الأذان بعد " حي على الفلاح ": " حي على خير العمل " (2).
1 - أبو الفرج الأصفهاني (284 ه - 356 ه): مقاتل الطالبيين: 297. 2 - برهان الدين الحلبي: السيرة: 2 / 295. 60 المسألة الثالثة: وضع اليد اليمنى على اليسرى في القراءة اتفق المسلمون على عدم وجوب القبض الذي يعبر عنه بوضع اليمين على الشمال أو بالتكتيف أو بالتكفير (1) ولكن اختلفوا في حكمه في ما عدا الوجوب. فقالت الحنفية: إن التكتف مسنون وليس بواجب، والأفضل للرجل أن يضع باطن كفه اليمنى على ظاهر كفه اليسرى تحت سرته، وللمرأة أن تضع يديها على صدرها. وقالت الشافعية: أنه يسن للرجل والمرأة، والأفضل وضع باطن يمناه على ظهر يسراه تحت الصدر وفوق السرة، مما يلي الجانب الأيسر. وقالت الحنابلة: أنه سنة والأفضل أن يضع باطن يمناه على ظاهر يسراه، ويجعلها تحت السرة. وقالت المالكية: بأنه جائز، ولكن يندب إرسال اليدين في صلاة الفرض.
1 - من تكفير العلج للملك، بمعنى وضع يده على صدره، والتضامن له. 61 فهؤلاء اتفقوا على عدم وجوبه بينما تراه الأكثرية أنه مسنون، والمالكية على خلافه، وقد صرح غير واحد من أهل السنة بكونه غير واجب (1). وقد نقل عن المالكية أن بعضهم استحبه وبعضهم استحب الارسال وكرهه، وبعضهم خير بين الوضع والإرسال (2). وأما الشيعة، فالمشهور بينهم كونه حراما ومبطلا وقال بعضهم: إنه حرام وليس بمبطل، إلى ثالث كالحلبي، قال: إنه مكروه. ومن أراد أن يقف على دلائل القائلين والروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت في هذا المجال فليرجع إلى مظانه (3). ومع أن أهل السنة اتفقوا على عدم وجوبه، فقد أثارت المسألة مشكلا في الأوساط الإسلامية، أن الشيعة بأجمعهم تبعا للنهي عن أئمة أهل البيت، يرسلون الأيدي في حال الصلاة فترى أن كثيرا من عوام أهل السنة ينظرون إليهم بنظر خاص، وربما يعدونهم مبتدعين بتركهم هذا العمل مع أن أقصى ما عندهم كونه أمرا مسنونا، ولا يعد ترك السنة بدعة مع أن المالكية يكرهونه، مضافا إلى أن أئمة أهل البيت نهوا عنه. وعلى كل تقدير فعلى المخلصين من دعاة التقريب السعي في أن لا يقع إرسال اليدين أو قبضهما ذريعة للتفرقة.
1 - محمد جواد مغنية: الفقه على المذاهب الخمسة: ص 110. 2 - صحيح مسلم: 1 / 382، مؤسسة عز الدين، بيروت 1407. 3 - النجفي، جواهر الكلام: 11 / 15 و 16، ولاحظ وسائل الشيعة: 4 / 126 الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة. 62 والمسألة لم تحدث مشكلا بين الشيعة بل ربما صارت ذريعة بين أهل السنة للضرب والشتم وسفك الدم بحجة أن إمام هذا المصلي يتكتف على كيفية، وإمام المصلي الآخر يقبض على كيفية أخرى أو يرسل يديه. يقول محمد صالح العثيمين: " لقد جرى في سنة من السنين مسألة في " منى " على يدي ويد بعض الإخوان، وقد تكون غريبة عليكم، حيث جيئ بطائفتين، وكل طائفة من ثلاثة أو أربعة رجال، وكل واحدة تتهم الأخرى بالكفر واللعن - وهم حجاج - وخبر ذلك أن إحدى الطائفتين، قالت: إن الأخرى إذا قامت تصلي وضعت اليد اليمنى على اليسرى فوق الصدر، وهذا كفر بالسنة، حيث إن السنة عند هذه الطائفة إرسال اليدين على الفخذين، والطائفة الأخرى تقول: إن إرسال اليدين على الفخذين دون أن يجعل اليمنى على اليسرى، كفر مبيح للعن، وكان النزاع بينهم شديدا. ثم يقول: فانظر كيف لعب الشيطان بهم في هذه المسألة التي اختلفوا فيها، حتى بلغ أن كفر بعضهم بعضا بسببها التي هي سنة من السنن فليست من أركان الإسلام ولا من فرائضه، ولا من واجباته، غاية ما هنالك إن بعض العلماء يرى أن وضع اليد اليمنى على اليسرى فوق الصدر هو السنة وآخرين من أهل العلم يقولون: إن السنة هو الارسال، مع أن الصواب الذي دلت عليه السنة هو وضع اليد اليمنى على الذراع اليسرى " (1). وقد سمعت عن بعض الشباب المصريين في مكة المكرمة عام 1412: أن
1 - محمد بن صالح العثيمين: دروس وفتاوى في الحرم المكي ص 26. 63 الشباب المجاهدين في مصر الذين يقومون في وجه الحكومة المصرية الاستعمارية جرهم البحث في هذه المسألة إلى اختلاف شديد ما كانت تحمد عقباه لولا أن من الله عليهم بائتلاف جديد. أقول: لا أظن أن الشباب ولا الإخوان ولا غيرهم مقصرين في المسألة، وإنما التقصير في المسألة يرجع إلى العلماء والخطباء، حيث يأمرون بالمسنون كأمرهم بالواجب، فتظن العامة أكثر المسنونات فرائض. وكما أن ترك المسنون من رأس، يخالف روح الشريعة فهكذا المداومة به على وجه يتخيل الناس أنه واجب كسائر الفرائض، ليس ببعيد عن البدعة، بل يجب الاصحار بالحقيقة مع المداومة. إن النبي الأكرم كان يفرق الصلوات الخمس، وربما كان يجمع بينهما (1) لئلا يتخيل الناس أن التفريق فريضة وللأسف إنه صار كذلك، عند الفقيه والمتفقه والمقلد. والحديث ذو شجون. إن إمام كل صقع وخطيبه، يعتقد أن ما عليه إمام مذهبه في الفقه هو الوحي المنزل الذي لا غبار عليه، فانتهى ذلك إلى جهل المسلمين بأحكام صلواتهم إلى أن عاد يكفر بعضهم بعضا، وهم مساكين لا يعلمون من الإسلام شيئا.
1 - روى مسلم عن ابن عباس قال: صلى رسول الله الظهر والعصر جميعا بالمدينة في غير خوف ولا سفر. قال أبو الزبير: فسألت سعيدا لم فعل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس كما سألتني فقال: أراد أن لا يحرج أحدا من أمته. (صحيح مسلم: 2 / 151 باب الجمع بين الصلاتين في الحضر). 64 أضف إلى ذلك، أن ما استدلوا به من الروايات، على كونه سنة، غير وافية بإثباته أمرا مسنونا، فإليك بما استدلوا به على كونه مسنونا - والذي هو عند أئمة أهل البيت بدعة - وإليك دراسة ما روي في المقام. إن مجموع ما يمكن الاستدلال به على أن القبض سنة في الصلاة لا يعدو عن مرويات ثلاثة: 1 - حديث سهل بن سعد. رواه البخاري. 2 - حديث وائل بن حجر. رواه مسلم ونقلها البيهقي بأسانيد ثلاثة. 3 - حديث عبد الله بن مسعود. رواه البيهقي في سننه. وإليك دراسة كل حديث. ألف: حديث سهل بن سعد: روى البخاري عن أبي حازم عن سهل بن سعد، قال: " كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة " قال أبو حازم: لا أعلمه إلا ينمي ذلك إلى النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " (1). قال إسماعيل (2): ينمى ذلك ولم يقل ينمي. والرواية متكفلة لبيان كيفية القبض إلا أن الكلام في دلالته على وروده من النبي الأكرم " صلى الله عليه وآله وسلم ". ولا يدل عليه بوجهين:
1 - ابن حجر، فتح الباري في شرح صحيح البخاري: 2 / 224، باب وضع اليمنى على اليسرى. ورواه البيهقي في السنن الكبرى: 2 / 28 الحديث 3 في باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة. 2 - المراد: إسماعيل بن أبي أويس شيخ البخاري كما جزم به الحميدي. لاحظ فتح الباري: 5 / 325. 65 أولا: لو كان النبي الأكرم هو الآمر بالقبض فما معنى قوله: " كان الناس يؤمرون "؟ أو ما كان الصحيح عندئذ أن يقول: كان النبي يأمر؟ أوليس هذا دليلا على أن الحكم نجم بعد ارتحال النبي الأكرم حيث إن الخلفاء وأمراءهم كانوا يأمرون الناس بالقبض بتخيل أنه أقرب للخشوع؟ ولأجله عقد البخاري بعده بابا باسم باب الخشوع. قال ابن حجر: الحكمة في هذه الهيئة أنه صفة السائل الذليل، وهو أمنع عن العبث وأقرب إلى الخشوع، كان البخاري قد لاحظ ذلك وعقبه بباب الخشوع. وثانيا: إن في ذيل السند ما يؤيد أنه كان من عمل الآمرين، لا الرسول الأكرم نفسه حيث قال: قال إسماعيل: " لا أعلمه إلا ينمى ذلك إلى النبي " بناء على قراءة الفعل بصيغة المجهول. ومعناه أنه لا يعلم كونه أمرا مسنونا في الصلاة غير أنه يعزى وينسب إلى النبي، فيكون ما يرويه سهل بن سعد مرفوعا. قال ابن حجر: ومن اصطلاح أهل الحديث إذا قال الراوي: ينميه، فمراده: يرفع ذلك إلى النبي (1). هذا كله إذا قرأناه بصيغة المجهول، وأما إذا قرأناه بصيغة المعلوم، فمعناه أن سهلا ينسب ذلك إلى النبي، فعلى فرض صحة القراءة وخروجه بذلك من الارسال والرفع، يكون قوله: " لا أعلمه إلا... " معربا عن ضعف العزو والنسبة وأنه سمعه عن رجل آخر ولم يسم.
1 - المصدر السابق، هامش رقم (1). 66 ب - حديث وائل بن حجر: وروي بصور: 1 - روى مسلم عن وائل بن حجر: أنه رأى النبي رفع يديه حين دخل في الصلاة كبر ثم التحف بثوبه ثم وضع يده اليمنى على اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب، ثم رفعهما ثم كبر فركع... (1). والاحتجاج بالحديث احتجاج بالفعل، ولا يحتج به إلا أن يعلم وجهه، وهو بعد غير معلوم لأن ظاهر الحديث أن النبي جمع أطراف ثوبه فغطى صدره به، ووضع يده اليمنى على اليسرى وهل فعل ذلك لأجل كونه أمرا مسنونا في الصلاة، أو فعله لئلا يسترخي الثوب بل يلصق الثوب بالبدن ويتقي به نفسه عن البرد؟ والفعل أمر مجهول العنوان، لا يكون حجة إلا إذا علم أنه فعل به لأجل كونه مسنونا. إن النبي الأكرم صلى مع المهاجرين والأنصار أزيد من عشر سنوات، فلو كان ذلك ثابتا من النبي لكثر النقل وذاع، ولما انحصر نقله بوائل بن حجر، مع ما في نقله من الاحتمالين. نعم روي بصورة أخرى ليس فيه قوله " ثم التحف بثوبه " وإليك صورته:
1 - مسلم: الصحيح: 1 / 382، الباب الخامس من كتاب الصلاة، باب وضع يده اليمنى على اليسرى، وفي سند الحديث " همام " ولو كان المقصود، هو همام بن يحيى فقد قال ابن عمار فيه: كان يحيى القطان لا يعبأ ب " همام " وقال عمر بن شيبة: حدثنا عفان قال: كان يحيى بن سعيد يعترض على همام في كثير من حديثه. وقال أبو حاتم: ثقة في حفظه. لاحظ هدي الساري: 1 / 449. 67 2 - روى البيهقي بسنده عن موسى بن عمير: حدثني علقمة بن وائل عن أبيه: أن النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " كان إذا قام في الصلاة قبض على شماله بيمينه ورأيت علقمة يفعله (1). وبما أنه إذا دار الأمر بين الزيادة والنقيصة فالثانية هي المتعينة، فيلاحظ عليها بما لوحظ على الأولى وأن وجه الفعل غير معلوم. على أنه لو كان النبي مقيما على هذا العمل، لاشتهر بين الناس، مع أن قوله: " ورأيت علقمة يفعله " يعرب عن أن الرواي تعرف على السنة من طريقه. 3 - رواه البيهقي أيضا بسند آخر عن وائل بن حجر (2) ويظهر الإشكال فيه بنفس ما ذكرناه في السابق. 4 - روى البيهقي مسندا عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه كان يصلي فوضع يده اليسرى على اليمنى فرآه النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " فوضع يده اليمنى على اليسرى (3). يلاحظ عليه مضافا إلى أنه من البعيد أن لا يعرف مثل عبد الله بن مسعود ذلك الصحابي الجليل ما هو المسنون في الصلاة مع أنه من السابقين في الإسلام: أن في السند هشيم بن بشير وهو مشهور بالتدليس (4).
1 - سنن البيهقي: 2 / 28 وفي سند الحديث عبد الله بن جعفر، فلو كان هو ابن نجيح قال ابن معين: ليس بشئ، وقال النسائي: متروك، وكان وكيع إذا أتى على حديثه جز عليه، متفق على ضعفه. لاحظ دلائل الصدق للشيخ محمد حسن المظفر: 1 / 87. 2 - المصدر نفسه وفي سنده عبد الله بن رجاء. قال عمرو بن علي الفلاس: كان كثير الخلط والتصحيف، ليس بحجة. لاحظ هدي الساري: 1 / 437. 3 - سنن البيهقي: 2 / 28 باب وضع اليد اليمنى على اليسرى الحديث 5. 4 - هدي الساري: 1 / 449. 68 ولأجل ذلك نرى أن أئمة أهل البيت كانوا يتحرزون عنه ويرونه من صنع المجوس أمام الملك. روى محمد بن مسلم عن الصادق أو الباقر - عليهما السلام - قال: قلت له: الرجل يضع يده في الصلاة - وحكى - اليمنى على اليسرى؟ فقال: ذلك التكفير، لا يفعل. وروى زرارة عن أبي جعفر - عليه السلام - أنه قال: وعليك بالإقبال على صلاتك، ولا تكفر، فإنما يصنع ذلك المجوس. وروى الصدوق بإسناده عن علي - عليه السلام - أنه قال: لا يجمع المسلم يديه في صلاته وهو قائم بين يدي الله عز وجل يتشبه بأهل الكفر - يعني المجوس - (1). على أن الاعتبار لو قلنا بحجية الاستحسان، يقتضي أن يقوم العبد أمام الرب مرسل اليد، لأن التكتف شعار المتمردين الذين ألقي عليهم القبض فصاروا أسارى أمام الملوك والجبابرة - ومقام المصلي أمام الله فوق ذلك فهو عبد خاضع خاشع لا يملك لنفسه موتا ولا حياة ولا بعثا ولا نشورا، فالأولى أن يطرق رأسه ويقوم أمام الله سبحانه مشعرا بأنه لا يملك شيئا وأنه أذل من كل شئ، والقبض إشعار بالشخصية المقهورة، وعباد الرحمن الذين يبيتون لربهم سجدا وقياما، وتتجافى جنوبهم عن المضاجع، أعلى منزلة من ذلك. وفي الختام نلفت نظر القارئ إلى كلمة صدرت من الدكتور علي السالوس:
1 - الحر العاملي: الوسائل 4 / الباب الخامس عشر من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 1 و 2 و 7. 69 فهو بعد ما نقل آراء فقهاء الفريقين، وصف القائلين بالتحريم والإبطال بقوله: " وأولئك الذين ذهبوا إلى التحريم والإبطال، أو التحريم فقط، يمثلون التعصب المذهبي وحب الخلاف، تفريقا بين المسلمين " (1). ما ذنب الشيعة إذا هداهم الاجتهاد والفحص في الكتاب والسنة إلى أن القبض أمر حدث بعد النبي الأكرم وكان الناس يؤمرون بذلك أيام الخلفاء، فمن زعم أنه جزء من الصلاة فرضا أو استحبابا، فقد أحد ث في الدين ما ليس منه، أفهل جزاء من اجتهد أن يرمى بالتعصب المذهبي وحب الخلاف؟! ولو صح ذلك، فهل يمكن توصيف الإمام مالك به؟ لأنه كان يكره القبض مطلقا أو في الفرض أفهل يصح رمي إمام دار الهجرة بأنه كان يحب الخلاف؟! أجل لماذا لا يكون عدم الارسال ممثلا للتعصب المذهبي وحب الخلاف بين المسلمين، يا ترى؟!
1 - فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة / 183. 70 المسألة الرابعة: السجود على الأرض لعل من أوضح مظاهر العبودية والانقياد والتذلل من قبل المخلوق لخالقه، هو السجود، وبه يؤكد المؤمن عبوديته المؤكدة لله تعالى، ومن هنا فإن البارئ عز اسمه يقدر لعبده هذا التصاغر وهذه الطاعة فيضفي على الساجد فيض لطفه وعظيم إحسانه، لذا روي في بعض المأثورات " أقرب ما يكون العبد إلى ربه حال سجوده ". ولما كانت الصلاة من بين العبادات معراجا يتميز بها المؤمن عن الكافر، وكان السجود ركنا من أركانها، فليس هناك أوضح في إعلان التذلل لله تعالى من السجود على التراب والرمل والحجر والحصى، لما فيه من التذلل شئ أوضح وأبين من السجود على الحصر والبواري، فضلا عن السجود على الألبسة الفاخرة والفرش الوثيرة والذهب والفضة، وإن كان الكل سجودا، إلا أن العبودية تتجلى في الأول بما لا تتجلى في غيره. والإمامية ملتزمة بالسجدة على الأرض في حضرهم وسفرهم، ولا يعدلون عنها إلا إلى ما أنبت منها من الحصر والبواري بشرط أن لا يؤكل ولا يلبس، ولا
71 يرون السجود على غيرهما صحيحا في حال الصلاة أخذا بالسنة المتواترة عن النبي الأكرم " صلى الله عليه وآله وسلم " وأهل بيته وصحبه. وسيظهر - في ثنايا البحث - أن الالتزام بالسجود على الأرض أو ما أنبتت، كانت هي السنة بين الصحابة، وأن العدول عنها حدث في الأزمنة المتأخرة. ولأجل توضيح المقام نقدم أمورا: 1 - اختلاف الفقهاء في شرائط المسجود عليه: اتفق المسلمون على وجوب السجود في الصلاة في كل ركعة مرتين، ولم يختلفوا في المسجود له، فإنه هو الله سبحانه الذي له يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها (1) وشعار كل مسلم قوله سبحانه: * (لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن) * (2) وإنما اختلفوا في شروط المسجود عليه - أعني ما يضع الساجد جبهته عليه - فالشيعة الإمامية تشترط كون المسجود عليه أرضا أو ما ينبت منها غير مأكول ولا ملبوس كالحصر والبواري، وما أشبه ذلك. وخالفهم في ذلك غيرهم من المذاهب، وإليك نقل الآراء: قال الشيخ الطوسي (3) - وهو يبين آراء الفقهاء -: لا يجوز السجود إلا على الأرض أو ما أنبتته الأرض مما لا يؤكل ولا يلبس من قطن أو كتان مع الاختيار.
1 - إشارة إلى قوله سبحانه: * (ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال) * - الرعد / 15 -. 2 - فصلت: الآية 37. 3 - من أعلام الشيعة في القرن الخامس صاحب التصانيف والمؤلفات ولد 385 ه وتوفي عام 460 ه من تلاميذ الشيخ المفيد 336 - 413 ه، والسيد الشريف المرتضى 355 - 436 ه - رضي الله عنهما -. 72 وخالف جميع الفقهاء في ذلك حيث أجازوا السجود على القطن والكتان والشعر والصوف وغير ذلك - إلى أن قال -: لا يجوز السجود على شئ هو حامل له ككور العمامة، وطرف الرداء، وكم القميص، وبه قال الشافعي، وروي ذلك عن علي - عليه الصلاة والسلام - وابن عمر، وعبادة بن الصامت، ومالك، وأحمد بن حنبل. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا سجد على ما هو حامل له كالثياب التي عليه أجزأه. وإن سجد على ما لا ينفصل منه مثل أن يفترش يده ويسجد عليها أجزأه لكنه مكروه، وروي ذلك عن الحسن البصري (1). وقال العلامة الحلي (2) - وهو يبين آراء الفقهاء فيما يسجد عليه -: لا يجوز السجود على ما ليس بأرض ولا من نباتها كالجلود والصوف عند علمائنا أجمع، وأطبق الجمهور على الجواز. وقد اقتفت الشيعة في ذلك أئمتهم الذين هم أعدال الكتاب وقرناؤه في حديث الثقلين ونحن نكتفي هنا بإيراد شئ مما روي في هذا الجانب: روى الصدوق بإسناده عن هشام بن الحكم أنه قال لأبي عبد الله - عليه السلام -: أخبرني عما يجوز السجود عليه، وعما لا يجوز؟ قال: " السجود لا يجوز إلا على الأرض، أو على ما أنبتت الأرض إلا ما أكل أو لبس ". فقال له: جعلت فداك ما العلة في ذلك؟
1 - الخلاف: 1 كتاب الصلاة / 357 - 358، المسألة 112 - 113. 2 - الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي 648 - 726 ه وهو زعيم الشيعة في القرن السابع، لا يسمح الدهر بمثله إلا في فترات خاصة. 73 قال: " لأن السجود خضوع لله عز وجل فلا ينبغي أن يكون على ما يؤكل ويلبس، لأن أبناء الدنيا عبيد ما يأكلون ويلبسون، والساجد في سجوده في عبادة الله عز وجل، فلا ينبغي أن يضع جبهته في سجوده على معبود أبناء الدنيا الذين اغتروا بغرورها " (1). فلا عتب على الشيعة إذا التزموا بالسجود على الأرض أو ما أنبتته إذا لم يكن مأكولا ولا ملبوسا اقتداء بأئمتهم، على أن ما رواه أهل السنة في المقام، يدعم نظرية الشيعة، وسيظهر لك فيما سيأتي من سرد الأحاديث من طرقهم، ويتضح أن السنة كانت هي السجود على الأرض، ثم جاءت الرخصة في الحصر والبواري فقط، ولم يثبت الترخيص الآخر بل ثبت المنع عنه كما سيوافيك. روى المحدث النوري في المستدرك عن دعائم الإسلام: عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن علي - عليهم السلام -، أن رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " قال: " إن الأرض بكم برة، تتيممون منها، وتصلون عليها في الحياة (الدنيا) وهي لكم كفاة في الممات، وذلك من نعمة الله، له الحمد، فأفضل ما يسجد عليه المصلي الأرض النقية ". وروى أيضا عن جعفر بن محمد - عليهما السلام - أنه قال: " ينبغي للمصلي أن يباشر بجبهته الأرض، ويعفر وجهه في التراب، لأنه من التذلل لله " (2). وقال الشعراني - ما هذا نصه -: المقصود إظهار الخضوع بالرأس حتى يمس الأرض بوجهه الذي هو أشرف أعضائه، سواء كان ذلك بالجبهة أو الأنف، بل
1 - الوسائل: ج 3، الباب 1 من أبواب ما يسجد عليه، الحديث 1، وهناك روايات بمضمونه. والكل يتضمن أن الغاية من السجود التي هي التذلل لا تحصل بالسجود على غيرها فلاحظ. 2 - مستدرك الوسائل: 4 باب 10 من أبواب ما يسجد عليه. ولعل الحديث ورد في أوائل الهجرة وقد كان المسلمون آنذاك يسجدون على الأرض فقط ولا منافاة بينه وبين ما يأتي من الرخصة بالنسبة إلى ما أنبتته الأرض. 74 ربما كان الأنف عند بعضهم أولى بالوضع من حيث إنه مأخوذ من الأنفة والكبرياء، فإذا وضعه على الأرض، فكأنه خرج عن الكبرياء التي عنده بين يدي الله تعالى إذ الحضرة الإلهية محرم دخولها على من فيه أدنى ذرة من كبر فإنها هي الجنة الكبرى حقيقة وقد قال " صلى الله عليه وآله وسلم ": " لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر " (1). نقل الإمام المغربي المالكي الروداني: عن ابن عباس رفعه: من لم يلزق أنفه مع جبهته بالأرض إذا سجد لم تجز صلاته (2). 2 - الفرق بين المسجود له والمسجود عليه: كثيرا ما يتصور أن الالتزام بالسجود على الأرض أو ما أنبتت منها بدعة ويتخيل الحجر المسجود عليه وثنا، وهؤلاء هم الذين لا يفرقون بين المسجود له، والمسجود عليه، ويزعمون أن الحجر أو التربة الموضوعة أمام المصلي وثنا يعبده المصلي بوضع الجبهة عليه. ولكن لا عتب على الشيعة إذا قصر فهم المخالف، ولم يفرق بين الأمرين، وزعم المسجود عليه مسجودا له، وقاس أمر الموحد بأمر المشرك بحجة المشاركة في الظاهر، فأخذ بالصور والظواهر، مع أن الملاك هو الأخذ بالبواطن والضمائر، فالوثن عند الوثني معبود ومسجود له يضعه أمامه ويركع ويسجد له، ولكن الموحد الذي يريد أن يصلي في إظهار العبودية إلى
1 - اليواقيت والجواهر في عقائد الأكابر: عبد الوهاب بن أحمد بن علي الأنصاري المصري المعروف بالشعراني (من أعيان علماء القرن العاشر): 1 / 164. الطبعة الأولى. 2 - محمد بن محمد بن سليمان المغربي (المتوفى عام 1049): جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد: 1 / 214 برقم 1515. 75 نهاية مراتبها، يخضع لله سبحانه ويسجد له، ويضع جبهته ووجهه على التراب والحجر والرمال والحصى، مظهرا بذلك مساواته معها عند التقييم قائلا: أين التراب ورب الأرباب. نعم: الساجد على التربة غير عابد لها، بل يتذلل إلى ربه بالسجود عليها، ومن توهم عكس ذلك فهو من البلاهة بمكان، وسيؤدي إلى إرباك كل المصلين والحكم بإشراكهم، فمن يسجد على الفرش والقماش وغيره لا بد أن يكون عابدا لها على هذا المنوال فيا للعجب العجاب!! 3 - السنة في السجود في عصر الرسول " صلى الله عليه وآله وسلم " وبعده: إن النبي الأكرم " صلى الله عليه وآله وسلم " وصحبه كانوا ملتزمين بالسجود على الأرض مدة لا يستهان بها، متحملين شدة الرمضاء، وغبار التراب، ورطوبة الطين، طيلة أعوام. ولم يسجد أحد يوم ذاك على الثوب وكور العمامة بل ولا على الحصر والبواري والخمر، وأقصى ما كان عندهم لرفع الأذى عن الجبهة، هو تبريد الحصى بأكفهم ثم السجود عليها، وقد شكى بعضهم رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " من شدة الحر، فلم يجبه، إذ لم يكن له أن يبدل الأمر الإلهي من تلقاء نفسه، إلى أن وردت الرخصة بالسجود على الخمر والحصر، فوسع الأمر للمسلمين لكن في إطار محدود، وعلى ضوء هذا فقد مرت في ذلك الوقت على المسلمين مرحلتان لا غير: 1 - ما كان الواجب فيها على المسلمين السجود على الأرض بأنواعها المختلفة من التراب والرمل والحصى والطين، ولم تكن هناك أية رخصة لغيرها.
76 2 - المرحلة التي ورد فيها الرخصة بالسجود على نبات الأرض من الحصى والبواري والخمر، تسهيلا للأمر، ورفعا للحرج والمشقة، ولم تكن هناك أية مرحلة أخرى توسع الأمر للمسلمين أكثر من ذلك كما يدعيه البعض، وإليك البيان: المرحلة الأولى: السجود على الأرض: 1 - روى الفريقان عن النبي الأكرم " صلى الله عليه وآله وسلم " أنه قال: " وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " (1). والمتبادر من الحديث أن كل جزء من الأرض مسجد وطهور يسجد عليه ويقصد للتيمم، وعلى ذلك فالأرض تقصد للجهتين: للسجود تارة، وللتيمم أخرى. وأما تفسير الرواية بأن العبادة والسجود لله سبحانه لا يختص بمكان دون مكان، بل الأرض كلها مسجد للمسلمين بخلاف غيرهم حيث خصوا العبادة بالبيع والكنائس، فهذا المعنى ليس مغايرا لما ذكرناه، فإنه إذا كانت الأرض على وجه الإطلاق مسجدا للمصلي فيكون لازمه كون الأرض كلها صالحة للعبادة، فما ذكر معنى التزامي لما ذكرناه، ويعرب عن كونه المراد ذكر " طهورا " بعد " مسجدا " وجعلهما مفعولين ل " جعلت " والنتيجة هو توصيف الأرض بوصفين: كونه مسجدا وكونه طهورا، وهذا هو الذي فهمه الجصاص وقال: إن ما جعله من الأرض مسجدا هو الذي جعله طهورا (2). ومثله غيره من شراح الحديث.
1 - صحيح البخاري: 1 / 91 كتاب التيمم الحديث 2 وسنن البيهقي: 2 / 433 باب: أينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد، ورواه غيرهما من أصحاب الصحاح والسنن. 2 - أحكام القرآن للجصاص: 2 / 389 نشر بيروت. 77 تبريد الحصى للسجود عليها: 2 - عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: كنت أصلي مع النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " الظهر، ف آخذ قبضة من الحصى، فأجعلها في كفي ثم أحولها إلى الكف الأخرى حتى تبرد ثم أضعها لجبيني، حتى أسجد عليها من شدة الحر (1). وعلق عليه البيهقي بقوله: قال الشيخ: ولو جاز السجود على ثوب متصل به لكان ذلك أسهل من تبريد الحصى بالكف ووضعها للسجود (2). ونقول: ولو كان السجود على مطلق الثياب سواء كان متصلا أم منفصلا جائزا لكان أسهل من تبريد الحصى، ولأمكن حمل منديل أو ما شابه للسجود عليه. 3 - روى أنس قال: كنا مع رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " في شدة الحر فيأخذ أحدنا الحصباء في يده فإذا برد وضعه وسجد عليه (3). 4 - عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " شدة الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا (4). قال ابن الأثير في معنى الحديث: إنهم لما شكوا إليه ما يجدون من ذلك لم يفسح لهم أن يسجدوا على طرف ثيابهم (5).
1 - مسند أحمد: 3 / 327 من حديث جابر وسنن البيهقي: 1 / 439 باب ما روي في التعجيل بها في شدة الحر. 2 - سنن البيهقي: 2 / 105. 3 - السنن الكبرى: 2 / 106. 4 - سنن البيهقي: 2 / 105 باب الكشف عن الجبهة. 5 - ابن الأثير: النهاية: 2 / 497 مادة " شكى ". 78 هذه المأثورات تعرب عن أن السنة في الصلاة كانت جارية على السجود على الأرض فقط، حتى أن الرسول " صلى الله عليه وآله وسلم " لم يفسح للمسلمين العدول عنها إلى الثياب المتصلة أو المنفصلة، وهو " صلى الله عليه وآله وسلم " مع كونه بالمؤمنين رؤوفا رحيما أوجب عليهم مس جباههم الأرض، وإن آذتهم شدة الحر. والذي يعرب عن التزام المسلمين بالسجود على الأرض، وعن إصرار النبي الأكرم بوضع الجبهة عليها لا على الثياب المتصلة ككور العمامة أو المنفصلة كالمناديل والسجاجيد، ما روي من حديث الأمر بالتتريب في غير واحد من الروايات. الأمر بالتتريب: 6 - عن خالد الجهني: قال: رأى النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " صهيبا يسجد كأنه يتقي التراب فقال له: " ترب وجهك يا صهيب " (1). 7 - والظاهر أن صهيبا كان يتقي عن التتريب، بالسجود على الثوب المتصل والمنفصل، ولا أقل بالسجود على الحصر والبواري والأحجار الصافية، وعلى كل تقدير، فالحديث شاهد على أفضلية السجود على التراب في مقابل السجود على الحصى لما مر من جواز السجدة على الحصى في مقابل السجود على غير الأرض. 8 - روت أم سلمة - رضي الله عنها -: رأى النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " غلاما لنا يقال له أفلح ينفخ إذا سجد، فقال: " يا أفلح ترب " (2).
1 - المتقي الهندي: كنز العمال: 7 / 465 برقم 19810. 2 - المصدر نفسه: 7 / 459 برقم 19776. 79 9 - وفي رواية: " يا رباح ترب وجهك " (1). 10 - روى أبو صالح قال: دخلت على أم سلمة، فدخل عليها ابن أخ لها فصلى في بيتها ركعتين، فلما سجد نفخ التراب، فقالت أم سلمة: ابن أخي لا تنفخ، فإني سمعت رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " يقول لغلام له يقال له يسار - ونفخ -: " ترب وجهك لله " (2). الأمر بحسر العمامة عن الجبهة: 11 - روي: أن النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " كان إذا سجد رفع العمامة عن جبهته (3). 12 - روي عن علي أمير المؤمنين أنه قال: " إذا كان أحدكم يصلي فليحسر العمامة عن وجهه "، يعني حتى لا يسجد على كور العمامة (4). 13 - روى صالح بن حيوان السبائي: أن رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " رأى رجلا يسجد بجنبه وقد اعتم على جبهته فحسر رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " عن جبهته (5). 14 - عن عياض بن عبد الله القرشي: رأى رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " رجلا يسجد على كور عمامته فأومأ بيده: " ارفع عمامتك " وأومأ إلى جبهته (6). هذه الروايات تكشف عن أنه لم يكن للمسلمين يوم ذاك تكليف إلا
1 - المتقي الهندي: كنز العمال: 7 / 459 برقم 19777. 2 - المصدر نفسه: 7 / 465، برقم 19810 ومسند أحمد: 6 / 301. 3 - ابن سعد: الطبقات الكبرى: 1 / 151 كما في السجود على الأرض 41. 4 - منتخب كنز العمال المطبوع في هامش المسند: 3 / 194. 5 - البيهقي: السنن الكبرى: 2 / 105. 6 - المصدر نفسه. 80 السجود على الأرض، ولم يكن هناك أي رخصة سوى تبريد الحصى، ولو كان هناك ترخيص لما فعلوا ذلك، ولما أمر النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " بالتتريب، وحسر العمامة عن الجبهة. المرحلة الثانية: الترخيص في السجود على الخمر والحصر: هذه الأحاديث والمأثورات المبثوثة في الصحاح والمسانيد وسائر كتب الحديث تعرب عن التزام النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " وأصحابه بالسجود على الأرض بأنواعها، وأنهم كانوا لا يعدلون عنه، وإن صعب الأمر واشتد الحر، لكن هناك نصوصا تعرب عن ترخيص النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " - بإيحاء من الله سبحانه إليه - السجود على ما أنبتت الأرض، فسهل لهم بذلك أمر السجود، ورفع عنهم الإصر والمشقة في الحر والبرد، وفيما إذا كانت الأرض مبتلة، وإليك تلك النصوص: 1 - عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " يصلي على الخمرة (1). 2 - عن ابن عباس: كان رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " يصلي على الخمرة، وفي لفظ: وكان النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " يصلي على الخمرة (2). 3 - عن عائشة: كان النبي يصلي على الخمرة (3). 4 - عن أم سلمة: كان رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " يصلي على الخمرة (4).
1 - أبو نعيم الأصفهاني: أخبار أصبهان: 2 / 141. 2 - مسند أحمد: 1 / 269 - 303 - 309 و 358. 3 - المصدر نفسه: 6 / 179 وفيه أيضا قال للجارية وهو في المسجد: ناوليني الخمرة. 4 - المصدر نفسه: 302. 81 5 - عن ميمونة: ورسول الله يصلي على الخمرة فيسجد (1). 6 - عن أم سليم قالت: كان [رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم "] يصلي على الخمرة (2). 7 - عن عبد الله بن عمر: كان رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " يصلي على الخمر (3). السجود على الثياب لعذر: قد عرفت المرحلتين الماضيتين، ولو كانت هناك مرحلة ثالثة فإنما هي مرحلة جواز السجود على غير الأرض وما ينبت منها لعذر وضرورة. ويبدو أن هذا الترخيص جاء متأخرا عن المرحلتين لما عرفت أن النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " لم يجب شكوى الأصحاب من شدة الحر والرمضاء، وراح هو وأصحابه يسجدون على الأرض متحملين الحر والأذى، ولكن الباري عز اسمه رخص لرفع الحرج السجود على الثياب لعذر وضرورة، وإليك ما ورد في هذا المقام: 1 - عن أنس بن مالك: كنا إذا صلينا مع النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " فلم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض، طرح ثوبه ثم سجد عليه. 2 - وفي صحيح البخاري: كنا نصلي مع النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " فيضع أحدنا طرف الثوب من شدة الحر. فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن جبهته من الأرض، بسط ثوبه. 3 - وفي لفظ ثالث: كنا إذا صلينا مع النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " فيضع
1 - مسند أحمد: 6 / 331 - 335. 2 - المصدر نفسه: 377. 3 - المصدر نفسه: 2 / 92 - 98. 82 أحدنا طرف الثوب من شدة الحر مكان السجود (1). وهذه الرواية التي نقلها أصحاب الصحاح والمسانيد تكشف حقيقة بعض ما روي في ذلك المجال الظاهر في جواز السجود على الثياب في حالة الاختيار أيضا. وذلك لأن رواية أنس نص في أنهم كانوا يفعلون ذلك حالة الضرورة، فتكون قرينة على المراد من هذه المطلقات، وإليك بعض ما روي في هذا المجال: 1 - عبد الله بن محرز عن أبي هريرة: كان رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " يصلي على كور عمامته (2). إن هذه الرواية مع أنها معارضة لما مر من نهي النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " عن السجود عليه، محمولة على العذر والضرورة، وقد صرح بذلك الشيخ البيهقي في سننه، حيث قال: قال الشيخ: " وأما ما روي في ذلك عن النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " من السجود على كور العمامة فلا يثبت شئ من ذلك، وأصح ما روي في ذلك قول الحسن البصري حكاية عن أصحاب النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " (3). وقد روي عن ابن راشد قال: رأيت مكحولا يسجد على عمامته فقلت: لما تسجد عليها؟ قال أتقي البرد على أسناني (4). 2 - ما روي عن أنس: كنا نصلي مع النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " فيسجد
1 - صحيح البخاري: 1 / 101، صحيح مسلم: 2 / 109، مسند أحمد: 1 / 100، السنن الكبرى: 2 / 106. 2 - كنز العمال: 8 / 130 برقم 22238. 3 - البيهقي: السنن: 2 / 106. 4 - المصنف لعبد الرزاق: 1 / 400 كما في سيرتنا وسنتنا، والسجدة على التربة 93. 83 أحدنا على ثوبه (1). والرواية محمولة على صورة العذر بقرينة ما رويناه عنه، وبما رواه عنه البخاري: كنا نصلي مع النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " في شدة الحر، فإذا لم يستطع أحدنا أن يمكن وجهه من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه (2). ويؤيده ما رواه النسائي أيضا: كنا إذا صلينا خلف النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " بالظهائر سجدنا على ثيابنا اتقاء الحر (3). وهناك روايات قاصرة الدلالة حيث لا تدل إلا على أن النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " صلى على الفرو. وأما أنه سجد عليه فلا دلالة لها عليه. 3 - عن المغيرة بن شعبة: كان رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " يصلي على الحصير والفرو المدبوغة (4). والرواية مع كونها ضعيفة بيونس بن الحرث، ليست ظاهرة في السجود عليه. ولا ملازمة بين الصلاة على الفرو والسجدة عليه، ولعله " صلى الله عليه وآله وسلم " وضع جبهته على الأرض أو ما ينبت منها. وعلى فرض الملازمة لا تقاوم هي وما في معناها ما سردناه من الروايات في المرحلتين الماضيتين. حصيلة البحث: إن المتأمل في الروايات يجد وبدون لبس أن قضية السجود في الصلاة مرت بمرحلتين أو ثلاثة مراحل ففي المرحلة الأولى كان الفرض السجود على
1 - البيهقي: السنن الكبرى: 2 / 106، باب من بسط ثوبا فسجد عليه. 2 - البخاري: 2 / 64 كتاب الصلاة باب بسط الثوب في الصلاة للسجود. 3 - ابن الأثير: الجامع الأصول: 5 / 468 برقم 3660. 4 - أبو داود: السنن: باب ما جاء في الصلاة على الخمرة برقم 331. 84 الأرض ولم يرخص للمسلمين السجود على غيرها، وفي الثانية جاء الترخيص فيما تنبته الأرض، وليست وراء هاتين المرحلتين مرحلة أخرى إلا جواز السجود على الثياب لعذر وضرورة، فما يظهر من بعض الروايات من جواز السجود على الفرو وأمثاله مطلقا فمحمولة على الضرورة، أو لا دلالة لها على السجود عليها، بل غايتها الصلاة عليها. ومن هنا يظهر بوضوح أن ما التزمت به الشيعة هو عين ما جاءت به السنة النبوية، ولم تنحرف عنه قيد أنملة، ولعل الفقهاء أدرى بذلك من غيرهم، لأنهم الأمناء على الرسالة والأدلاء في طريق الشريعة، ونحن ندعو إلى قليل من التأمل لإحقاق الحق وتجاوز البدع. ما هو السر في اتخاذ تربة طاهرة؟ بقي هنا سؤال يطرحه كثيرا إخواننا أهل السنة حول سبب اتخاذ الشيعة تربة طاهرة في السفر والحضر والسجود عليها دون غيرها. وربما يتخيل البسطاء - كما ذكرنا سابقا - أن الشيعة يسجدون لها لا عليها، ويعبدون الحجر والتربة، وذلك لأن هؤلاء المساكين لا يفرقون بين السجود على التربة، والسجود لها. وعلى أي تقدير فالإجابة عنها واضحة، فإن المستحسن عند الشيعة هو اتخاذ تربة طاهرة طيبة ليتيقن من طهارتها، من أي أرض أخذت، ومن أي صقع من أرجاء العالم كانت، وهي كلها في ذلك سواء. وليس هذا الالتزام إلا مثل التزام المصلي بطهارة جسده وملبسه ومصلاه، وأما سر الالتزام في اتخاذ التربة هو أن الثقة بطهارة كل أرض يحل بها، ويتخذها
85 مسجدا، لا تتأتى له في كل موضع من المواضع التي يرتادها المسلم في حله وترحاله، بل وأنى له ذلك وهذه الأماكن ترتادها أصناف مختلفة من البشر، مسلمين كانوا أم غيرهم، ملتزمين بأصول الطهارة أم غير ذلك، وفي ذلك محنة كبيرة تواجه المسلم في صلاته لا يجد مناصا من أن يتخذ لنفسه تربة طاهرة يطمئن بها وبطهارتها، يسجد عليها لدى صلاته حذرا من السجدة على الرجاسة والنجاسة، والأوساخ التي لا يتقرب بها إلى الله قط ولا تجوز السنة السجود عليها ولا يقبله العقل السليم، خصوصا بعد ورود التأكيد التام البالغ في طهارة أعضاء المصلي ولباسه والنهي عن الصلاة في مواطن منها: المزبلة، والمجزرة، وقارعة الطريق، والحمام، ومواطن الإبل، بل والأمر بتطهير المساجد وتطييبها (1). وهذه القاعدة كانت ثابتة عند السلف الصالح وإن غفل التاريخ عن نقلها، فقد روي: أن التابعي الفقيه مسروق بن الأجدع المتوفى عام 62 كان يصحب في أسفاره لبنة من المدينة يسجد عليها. كما أخرجه بن أبي شيبة في كتابه المصنف، باب من كان حمل في السفينة شيئا يسجد عليه. فأخرج بإسنادين أن مسروقا كان إذا سافر حمل معه في السفينة لبنة يسجد عليها (2). إلى هنا تبين أن التزام الشيعة باتخاذ التربة مسجدا ليس إلا لتسهيل الأمر للمصلي في سفره وحضره خوفا من أن لا يجد أرضا طاهرة أو حصيرا طاهرا فيصعب الأمر عليه، وهذا كادخار المسلم تربة طاهرة لغاية التيمم عليها.
1 - العلامة الأميني: سيرتنا وسنتنا 158 - 159. 2 - أبو بكر بن أبي شيبة: المصنف: 1 / 400 كما في السجدة على التربة 93. 86 وأما السر في التزام الشيعة استحبابا بالسجود على التربة الحسينية فإن من الأغراض العالية والمقاصد السامية منها، أن يتذكر المصلي حين يضع جبهته على تلك التربة، تضحية ذلك الإمام بنفسه وأهل بيته والصفوة من أصحابه في سبيل العقيدة والمبدأ ومقارعة الجور والفساد. ولما كان السجود أعظم أركان الصلاة، وفي الحديث " أقرب ما يكون العبد إلى ربه حال سجوده " فيناسب أن يتذكر بوضع جبهته على تلك التربة الزاكية، أولئك الذين جعلوا أجسامهم ضحايا للحق، وارتفعت أرواحهم إلى الملأ الأعلى، ليخشع ويخضع ويتلازم الوضع والرفع، وتحتقر هذه الدنيا الزائفة، وزخارفها الزائلة، ولعل هذا هو المقصود من أن السجود عليها يخرق الحجب السبع كما في الخبر، فيكون حينئذ في السجود سر الصعود والعروج من التراب إلى رب الأرباب (1). وقال العلامة الأميني: نحن نتخذ من تربة كربلاء قطعا لمعا، وأقراصا نسجد عليها كما كان فقيه السلف مسروق بن الأجدع يحمل معه لبنة من تربة المدينة المنورة يسجد عليها، والرجل تلميذ الخلافة الراشدة، فقيه المدينة، ومعلم السنة بها، وحاشاه من البدعة. فليس في ذلك أي حزازة وتعسف أو شئ يضاد نداء القرآن الكريم أو يخالف سنة الله وسنة رسوله " صلى الله عليه وآله وسلم " أو خروج من حكم العقل والاعتبار. وليس اتخاذ تربة كربلاء مسجدا لدى الشيعة من الفرض المحتم، ولا من واجب الشرع والدين، ولا مما ألزمه المذهب، ولا يفرق أي أحد منهم منذ أول
1 - الأرض والتربة الحسينية: 24. 87 يومها بينها وبين غيرها من تراب جميع الأرض في جواز السجود عليها خلاف ما يزعمه الجاهل بهم وبآرائهم، وإن هو عندهم إلا استحسان عقلي ليس إلا، واختيار لما هو الأولى بالسجود لدى العقل والمنطق والاعتبار فحسب كما سمعت، وكثير من رجال المذهب يتخذون معهم في أسفارهم غير تربة كربلاء مما يصح السجود عليه كحصير طاهر نظيف يوثق بطهارته أو خمرة مثله ويسجدون عليه في صلواتهم (1). هذا إلمام إجمالي بهذه المسألة الفقهية والتفصيل موكول إلى محله، وقد أغنانا عن ذلك ما سطره أعلام العصر وأكابره، وأخص بالذكر منهم. 1 - المصلح الكبير الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (1295 - 1373 ه) في كتابه الأرض والتربة الحسينية. 2 - العلامة الكبير الشيخ عبد الحسين الأميني مؤلف الغدير (1320 - 1390 ه) فقد دون رسالة في هذا الموضوع طبع في آخر كتابه " سيرتنا وسنتنا ". 3 - السجود على الأرض للعلامة الشيخ علي الأحمدي - دام عزه - فقد أجاد في التتبع والتحقيق. فما ذكرنا في هذه المسألة اقتباس من أنوار علومهم. رحم الله الماضين من علمائنا وحفظ الله الباقين منهم. هذا ما وقفنا عليه من الأبحاث والتي أوردناها في هذا المختصر. 0 0 0
1 - العلامة الأميني: سيرتنا وسنتنا: 166 - 167 طبعة النجف الأشرف. 88 ليست هذه أول قارورة كسرت في الإسلام: قد وقفت على أن السجود على الأرض أو على الحصر والبواري وأشباهها هو السنة، وأن السجود على الفرش والسجاجيد وأشباهها هو البدعة، وأنه ما أنزل الله به من سلطان، ولكن يا للأسف صارت السنة بدعة والبدعة سنة. فلو عمل الرجل بالسنة في المساجد والمشاهد، وسجد على التراب والأحجار يوصف عمله بالبدعة، والرجل بالمبدع. ولكن ليس هذا فريدا في بابه فقد نرى في فقه المذاهب الأربعة نظائر. نذكر موضعين: 1 - قال الشيخ محمد بن عبد الرحمان الدمشقي: السنة في القبر، التسطيح. وهو أولى على الراجح من مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك: التسنيم أولى، لأن التسطيح صار شعارا للشيعة (1). 2 - قال الإمام الرازي: روى البيهقي عن أبي هريرة قال: كان رسول الله يجهر في الصلاة ب " بسم الله الرحمن الرحيم " وكان علي - رضي الله عنه - يجهر بالتسمية وقد ثبت بالتواتر، وكان علي بن أبي طالب يقول: يا من ذكره شرف للذاكرين، ومثل هذا كيف يليق بالعاقل أن يسعى في إخفائه. وقالت الشيعة: السنة، هي الجهر بالتسمية، سواء أكانت في الصلاة الجهرية
1 - الدمشقي: رحمة الأمة في اختلاف الأئمة: 1 / 88 ونقله أيضا العلامة الأميني في الغدير: 10 / 209. 89 أو السرية، وجمهور الفقهاء يخالفونهم - إلى أن قال -: إن عليا كان يبالغ في الجهر بالتسمية، فلما وصلت الدولة إلى بني أمية بالغوا في المنع من الجهر، سعيا في إبطال آثار علي - رضي الله عنه - (1).
1 - الرازي: مفاتيح الغيب: 1 / 205 - 206. 90 المسألة الخامسة: الخمس في الأرباح والمكاسب (1) الأصل في ضريبة الخمس هو قوله سبحانه: * (واعلموا أنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شئ قدير) * (الأنفال / 41). لا شك أن الآية نزلت في مورد خاص، أعني يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان وهو غزوة " بدر " الكبرى، لكن الكلام في أن قوله * (ما غنمتم) * هل هو عام لكل ما يفوز به الإنسان في حياته أو خاص بما يظفر به في الحرب من السلب والنهب؟ وعلى فرض كونه عاما فهل المورد مخصص أو لا؟ فيقع الكلام في مقامين:
1 - ربما يتخيل بعض البسطاء أن الشيعة تنفرد بالقول بوجوب الخمس في غير الغنائم، ولأجل توضيح الحال ندرس الموضوع في ظل الكتاب والسنة، وكلمات الفقهاء. 91 الأول: الغنيمة مطلق ما يفوز به الإنسان: أما الأول فالظاهر من أئمة اللغة أنه في الأصل أعم مما يظفر به الإنسان في ساحات الحرب، بل هو لغة لكل ما يفوز به الإنسان وإليك بعض كلماتهم. 1 - قال الأزهري: " قال الليث: الغنم: الفوز بالشئ، والاغتنام انتهاز الغنم " (1). 2 - قال الراغب: الغنم معروف... والغنم: إصابته والظفر به، ثم استعمل في كل مظفور به من جهة العدى وغيرهم قال: * (واعلموا أنما غنمتم من شئ) * * (فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا) * والمغنم: ما يغنم وجمعه مغانم، قال: * (فعند الله مغانم كثيرة (2)) *. 3 - قال ابن فارس: " غنم " أصل صحيح واحد يدل على إفادة شئ لم يملك من قبل ثم يختص بما أخذ من المشركين (3). 4 - قال ابن منظور: " الغنم " الفوز بالشئ من غير مشقة (4). 5 - قال ابن الأثير: في الحديث: " الرهن لمن رهنه، له غنمه وعليه غرمه، غنمه: زيادته ونماؤه وفاضل قيمته " (5). 6 - قال الفيروزآبادي: " الغنم " الفوز بالشئ لا بمشقة، وأغنمه كذا تغنيما
1 - الأزهري: تهذيب اللغة، مادة " غنم ". 2 - الراغب الأصفهاني: المفردات، مادة " غنم ". 3 - ابن فارس: مقاييس اللغة مادة " غنم ". 4 - ابن منظور الإفريقي: لسان العرب نفس المادة. 5 - نهاية اللغة، مادة " غنم ". 92 نفله إياه، واغتنمه وتغنمه، عده غنيمة (1). وهذه النصوص تعرب عن أن المادة لم توضع لما يفوز به الإنسان في الحروب، بل معناها أوسع من ذلك وإن كان لا يستعمل في العصور المتأخرة عن نزول القرآن إلا في ما يظفر به في ساحة الحرب. ولأجل ذلك نجد أن المادة استعملت في مطلق ما يفوز به الإنسان في الذكر الحكيم والسنة النبوية. لقد استعمل القرآن لفظة " المغنم " فيما يفوز به الإنسان وإن لم يكن عن طريق القتال بل كان عن طريق العمل العادي الدنيوي أو الأخروي إذ يقول سبحانه: * (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة) * (2). والمراد بالمغانم الكثيرة: هو أجر الآخرة، بدليل مقابلته لعرض الحياة الدنيا فيدل على أن لفظ المغنم لا يختص بالأمور والأشياء التي يحصل عليها الإنسان في هذه الدنيا وفي ساحات الحرب فقط، بل هو عام لكل مكسب وفائدة. ثم إنه قد وردت هذه اللفظة في الأحاديث وأريد منها مطلق الفائدة الحاصلة للمرء.
1 - قاموس اللغة، مادة " غنم ". 2 - النساء: الآية 94. 93 روى ابن ماجة في سننه: أنه جاء عن رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " : " اللهم اجعلها مغنما ولا تجعلها مغرما " (1). وفي مسند أحمد عن رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم ": " غنيمة مجالس الذكر الجنة " (2). وفي وصف شهر رمضان عنه " صلى الله عليه وآله وسلم ": " غنم للمؤمن " (3). وفي نهاية ابن الأثير: الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة، سماه غنيمة لما فيه من الأجر والثواب (4). فقد بان مما نقلناه من كلمات أئمة اللغة وموارد استعمال تلك المادة في الكتاب والسنة، أن العرب تستعملها في كل مورد يفوز به الإنسان، من جهة العدى وغيرهم، وإنما صار حقيقة متشرعة في الأعصار المتأخرة في خصوص ما يفوز به الإنسان في ساحة الحرب، ونزلت الآية في أول حرب خاضها المسلمون تحت لواء رسول الله، ولم يكن الاستعمال إلا تطبيقا للمعنى الكلي على مورد خاص. الثاني: المورد لا يخصص: إذا كان مفهوم اللفظ عاما يشمل كافة ما يفوز به الإنسان، فلا يكون وروده في مورد خاص، مخصصا لمفهومه ومضيقا لعمومه، إذا وقفنا على أن التشريع الإسلامي فرض الخمس في الركاز والكنز والسيوب أولا، وأرباح المكاسب ثانيا، فيكون ذلك التشريع مؤكدا لإطلاق الآية، ولا يكون وروده في الغنائم الحربية
1 - ابن ماجة: السنن: كتاب الزكاة، باب ما يقال عند إخراج الزكاة، الحديث 1797. 2 - أحمد: المسند: ج 2 ص 330 و 374 و 524. 3 - المصدر نفسه: ص 177. 4 - النهاية، مادة " غنم ". 94 رافعا له. وإليك ما ورد في السنة من الروايات في الموردين: 1 - الخمس في الركاز والكنز والسيوب: تضافرت الروايات عن النبي الأعظم على وجوب الخمس في الركاز والكنز والسيوب وإليك النصوص أولا، ثم تبيين مفادها ثانيا. روى لفيف من الصحابة كابن عباس وأبي هريرة وجابر وعبادة بن الصامت وأنس بن مالك، وجوب الخمس في الركاز والكنز والسيوب، وإليك قسما مما روي في ذلك المجال: 1 - في مسند أحمد وسنن ابن ماجة واللفظ للأول: عن ابن عباس قال: قضى رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " في الركاز، الخمس (1). 2 - وفي صحيحي مسلم والبخاري واللفظ للأول: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم ": " العجماء جرحها جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس "، وفي بعض الروايات عند أحمد: البهيمة عقلها جبار (2). قال أبو يوسف في كتاب الخراج: كان أهل الجاهلية إذا عطب الرجل في قليب جعلوا القليب عقله، وإذا قتلته دابة جعلوها عقله، وإذا قتله معدن جعلوه عقله. فسأل سائل رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " عن ذلك فقال: " العجماء
1 - أحمد: المسند: 1 / 314، وسنن ابن ماجة 2 / 839 ط 1373 ه. 2 - مسلم: الصحيح: 5 / 127 باب جرح العجماء والمعدن والبئر جبار، من كتاب الحدود، وصحيح البخاري 1 / 182 باب في الركاز الخمس. 95 جبار، والمعدن جبار، والبئر جبار، وفي الركاز الخمس " فقيل له: ما الركاز يا رسول الله؟ فقال: " الذهب والفضة الذي خلقه الله في الأرض يوم خلقت " (1). 3 - وفي مسند أحمد: عن الشعبي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم ": " السائمة جبار، والجب جبار، والمعدن جبار، وفي الركاز الخمس " قال الشعبي: الركاز: الكنز العادي (2). 4 - وفيه أيضا: عن عبادة بن الصامت قال: من قضاء رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " أن المعدن جبار، والبئر جبار، والعجماء جرحها جبار، والعجماء: البهيمة من الأنعام وغيرها، والجبار هو الهدر الذي لا يغرم، وقضى في الركاز الخمس (3). 5 - وفيه: عن أنس بن مالك قال: خرجنا مع رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " إلى خيبر فدخل صاحب لنا إلى خربة يقضي حاجته فتناول لبنة ليستطيب بها فانهارت عليه تبرا، فأخذها فأتى بها النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " فأخبره بذلك، قال: " زنها " فوزنها فإذا مائتا درهم فقال النبي: " هذا ركاز وفيه الخمس " (4). 6 - وفيه: أن رجلا من مزينة سأل رسول الله مسائل جاء فيها: فالكنز نجده في الخرب وفي الآرام؟ فقال رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم ": " فيه وفي الركاز الخمس " (5).
1 - الخراج: 22. 2 - أحمد: المسند: 3 / 335. 3 - المصدر نفسه: 5 / 326. 4 - المصدر نفسه: 3 / 128. 5 - المصدر نفسه: 2 / 186. 96 7 - وفي نهاية اللغة ولسان العرب وتاج العروس في مادة " سيب " واللفظ للأول: وفي كتابه - أي كتاب رسول الله - لوائل بن حجر: " وفي السيوب الخمس " السيوب: الركاز. قالوا: " السيوب: عروق من الذهب والفضة تسيب في المعدن، أي تتكون فيه وتظهر " والسيوب: جمع سيب، يريد به - أي يريد النبي بالسيب - المال المدفون في الجاهلية، أو المعدن لأنه من فضل الله تعالى وعطائه لمن أصابه " (1). تفسير ألفاظ الأحاديث: العجماء: الدابة المنفلتة من صاحبها، فما أصابت في انفلاتها فلا غرم على صاحبها، والمعدن جبار يعني: إذا احتفر الرجل معدنا فوقع فيه إنسان فلا غرم عليه، وكذلك البئر إذا احتفرها الرجل للسبيل فوقع فيها إنسان فلا غرم على صاحبها، وفي الركاز الخمس، والركاز: ما وجد من دفن أهل الجاهلية فمن وجد ركازا أدى منه الخمس إلى السلطان وما بقي له (2). والآرام: الأعلام وهي حجارة تجمع وتنصب في المفازة يهتدى بها، واحدها إرم كعنب. وكان من عادة الجاهلية أنهم إذا وجدوا شيئا في طريقهم لا يمكنهم استصحابه، تركوا عليه حجارة يعرفونه بها حتى إذا عادوا أخذوه (3). وفي لسان العرب وغيره من معاجم اللغة،: ركزه يركزه ركزا: إذا دفنه.
1 - ابن الأثير: النهاية، مادة " سيب ". 2 - الترمذي: السنن 6 / 145 باب ما جاء في العجماء. 3 - النهاية، مادة " إرم ". 97 والركاز: قطع ذهب وفضة تخرج من الأرض أو المعدن، واحده الركزة كأنه ركز في الأرض. وفي نهاية اللغة: والركزة: القطعة من جواهر الأرض المركوزة فيها وجمع الركزة الركاز. إن هذه الروايات تعرب عن كون وجوب الخمس في الكنز والمعادن، ضريبة غير الزكاة، وقد استند إليها أستاذ الفقهاء أبو يوسف في كتابه " الخراج " وإليك نصه: كلام أبي يوسف في المعدن والركاز: قال أبو يوسف: في كل ما أصيب من المعادن من قليل أو كثير، الخمس، ولو أن رجلا أصاب في معدن أقل من وزن مائتي درهم فضة أو أقل من وزن عشرين مثقالا ذهبا فإن فيه الخمس، وليس هذا على موضع الزكاة إنما هو على موضع الغنائم (1)، وليس في تراب ذلك شئ إنما الخمس في الذهب الخالص والفضة الخالصة والحديد والنحاس والرصاص، ولا يحسب لمن استخرج ذلك من نفقته عليه شئ، وقد تكون النفقة تستغرق ذلك كله فلا يجب إذن فيه خمس عليه، وفيه الخمس حين يفرغ من تصفيته قليلا كان أو كثيرا، ولا يحسب له من نفقته شئ من ذلك وما استخرج من المعادن سوى ذلك من الحجارة - مثل الياقوت والفيروزج والكحل والزئبق والكبريت والمغرة - فلا خمس في (2) شئ من ذلك،
1 - ترى أن أبا يوسف يعد الخمس الوارد في هذا الموضع من مصاديق الغنيمة الواردة في آية الخمس وهو شاهد على كونها عامة مفهوما. 2 - هذا رأي أبي يوسف، وإطلاق الآية يخالفه مضافا إلى مخالفته مع روايات أئمة أهل البيت فإنها تفرض الخمس في الجميع. 98 إنما ذلك كله بمنزلة الطين والتراب. قال: ولو أن الذي أصاب شيئا من الذهب أو الفضة أو الحديد أو الرصاص أو النحاس، كان عليه دين فادح لم يبطل ذلك الخمس عنه، ألا ترى لو أن جندا من الأجناد أصابوا غنيمة من أهل الحرب خمست ولم ينظر أعليهم دين أم لا، ولو كان عليهم دين لم يمنع ذلك من الخمس. قال: وأما الركاز فهو الذهب والفضة الذي خلقه الله عز وجل في الأرض يوم خلقت، فيه أيضا الخمس، فمن أصاب كنزا عاديا في غير ملك أحد - فيه ذهب أو فضة أو جوهر أو ثياب - فإن في ذلك الخمس وأربعة أخماسه للذي أصابه وهو بمنزلة الغنيمة يغنمها القوم فتخمس وما بقي فلهم. قال: ولو أن حربيا وجد في دار الإسلام ركازا وكان قد دخل بأمان، نزع ذلك كله منه ولا يكون له منه شئ، وإن كان ذميا أخذ منه الخمس كما يؤخذ من المسلم، وسلم له أربعة أخماسه. وكذلك المكاتب يجد ركازا في دار الإسلام فهو له بعد الخمس... (1). 2 - الخمس في أرباح المكاسب: يظهر من غير واحد من الروايات أن النبي الأكرم أمر بإخراج الخمس من مطلق ما يغنمه الإنسان من أرباح المكاسب وغيرها وإليك بعض ما ورد في المقام: 1 - لما وفد عبد القيس لرسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " فقالوا: " إن
1 - الخراج: 22. 99 بيننا وبينك المشركين وإنا لا نصل إليك إلا في الأشهر الحرم فمرنا بجمل الأمر، إن عملنا به دخلنا الجنة وندعوا إليه من وراءنا " فقال " صلى الله عليه وآله وسلم ": " آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، آمركم بالإيمان بالله، وهل تدرون ما الإيمان، شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتعطوا الخمس من المغنم " (1). ومن المعلوم أن النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " لم يطلب من بني عبد القيس أن يدفعوا غنائم الحرب كيف وهم لا يستطيعون الخروج من حيهم في غير الأشهر الحرم، خوفا من المشركين. فيكون قد قصد المغنم بمعناه الحقيقي في لغة العرب وهو ما يفوزون به فعليهم أن يعطوا خمس ما يربحون. وهناك كتب ومواثيق، كتبها النبي وفرض فيها الخمس على أصحابها وستتبين بعد الفراغ من نقلها، دلالتها على الخمس في الأرباح وإن لم تكن غنيمة حربية فانتظر. 2 - كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن: " بسم الله الرحمن الرحيم... هذا... عهد من النبي رسول الله لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن، أمره بتقوى الله في أمره كله، وأن يأخذ من المغانم خمس الله، وما كتب على المؤمنين من الصدقة من العقار عشر ما سقى البعل وسقت السماء، ونصف العشر مما سقى الغرب " (2).
1 - البخاري: الصحيح: 4 / 250 باب " والله خلقكم وما تعملون " من كتاب التوحيد، وج 1 ص 13 و 19، وج 3 ص 53، ومسلم: الصحيح 1 / 35 - 36 باب الأمر بالإيمان، النسائي: السنن: 1 / 333، وأحمد: المسند 1 / 318، الأموال: ص 12 وغيرها. 2 - البلاذري: فتوح البلدان: 1 / 81 باب اليمن، وسيرة ابن هشام: 4 / 265. وتنوير الحوالك في شرح موطأ مالك: 1 / 157. 100 والبعل ما سقي بعروقه، والغرب: الدلو العظيمة. 3 - كتب إلى شرحبيل بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال قيل ذي رعين، ومعافر وهمدان: " أما بعد، فقد رجع رسولكم وأعطيتم من المغانم خمس الله " (1). 4 - كتب إلى سعد هذيم من قضاعة، وإلى جذام كتابا واحدا يعلمهم فرائض الصدقة، ويأمرهم أن يدفعوا الصدقة والخمس إلى رسوليه أبي وعنبسة أو من أرسلاه " (2). 5 - كتب للفجيع ومن تبعه: " من محمد النبي للفجيع، ومن تبعه وأسلم وأقام الصلاة وآتى الزكاة وأطاع الله ورسوله وأعطى من المغانم خمس الله... " (3). 6 - كتب لجنادة الأزدي وقومه ومن تبعه: " ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطاعوا الله ورسوله وأعطوا من المغانم خمس الله وسهم النبي وفارقوا المشركين فإن لهم ذمة الله وذمة محمد بن عبد الله " (4). 7 - كتب لجهينة بن زيد فيما كتب: " إن لكم بطون الأرض وسهولها وتلاع الأودية وظهورها، على أن ترعوا
1 - الوثائق السياسية: 227 برقم 110. (ط 4 بيروت). 2 - ابن سعد: الطبقات الكبرى: 1 / 270. 3 - المصدر نفسه: ص 304 - 305. 4 - المصدر نفسه: ص 270. 101 نباتها وتشربوا ماءها، على أن تؤدوا الخمس " (1). 8 - كتب لملوك حمير فيما كتب: " وآتيتم الزكاة، وأعطيتم من المغانم: خمس الله، وسهم النبي وصفيه وما كتب الله على المؤمنين من الصدقة " (2). 9 - كتب لبني ثعلبة بن عامر: " من أسلم منهم وأقام الصلاة وآتى الزكاة وأعطى خمس المغنم وسهم النبي والصفي " (3). 10 - كتب إلى بعض أفخاذ جهينة: " من أسلم منهم وأقام الصلاة وآتى الزكاة وأطاع الله ورسوله وأعطى من الغنائم الخمس " (4). إيضاح الاستدلال بهذه المكاتيب: يتبين - بجلاء - من هذه الرسائل أن النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " لم يكن يطلب منهم أن يدفعوا خمس غنائم الحرب التي اشتركوا فيها، بل كان يطلب ما استحق في أموالهم من خمس وصدقة. ثم إنه كان يطلب منهم الخمس دون أن يشترط - في ذلك - خوض الحرب واكتساب الغنائم.
1 - الوثائق السياسية: ص 265 برقم 157. 2 - فتوح البلدان: 1 / 82 وسيرة ابن هشام: 4 / 258. 3 - الإصابة: 2 / 189 وأسد الغابة: 3 / 34. 4 - ابن سعد: الطبقات الكبرى: 1 / 271. 102 هذا مضافا إلى أن الحاكم الإسلامي أو نائبه هما اللذان يليان بعد الفتح قبض جميع غنائم الحرب وتقسيمها بعد استخراج الخمس منها، ولا يملك أحد من الغزاة عدا سلب القتيل شيئا مما سلب وإلا كان سارقا مغلا. فإذا كان إعلان الحرب وإخراج خمس الغنائم على عهد النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " من شؤون النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " فماذا يعني طلبه الخمس من الناس وتأكيده في كتاب بعد كتاب، وفي عهد بعد عهد؟ فيتبين أن ما كان يطلبه لم يكن مرتبطا بغنائم الحرب. هذا مضافا إلى أنه لا يمكن أن يقال: إن المراد بالغنيمة في هذه الرسائل هو ما كان يحصل الناس عليه في الجاهلية عن طريق النهب، كيف وقد نهى النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " عن النهب والنهبى بشدة، ففي كتاب الفتن باب النهي عن النهبة عنه " صلى الله عليه وآله وسلم ": " من انتهب نهبة فليس منا " (1)، وقال: " إن النهبة لا تحل " (2)، وفي صحيح البخاري ومسند أحمد عن عبادة بن الصامت: بايعنا النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " على أن لا ننهب (3). وفي سنن أبي داود، باب النهي عن النهبى، عن رجل من الأنصار قال: خرجنا مع رسول الله فأصاب الناس حاجة شديدة وجهد، وأصابوا غنما فانتهبوها، فإن قدورنا لتغلي، إذ جاء رسول الله يمشي متكئا على قوسه فأكفأ قدورنا بقوسه، ثم جعل يرمل اللحم بالتراب ثم قال: " إن النهبة ليست بأحل من الميتة " (4).
1 - ابن ماجة: السنن: كتاب الفتن ص 1298 برقم 3937 و 3938. 2 - ابن ماجة: السنن: كتاب الفتن ص 1298 برقم 3937 و 3938. 3 - البخاري: الصحيح: 2 / 48 باب النهب بغير إذن صاحبه. 4 - أبو داود: السنن: 2 / 12. 103 وعن عبد الله بن زيد: نهى النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " عن النهبى والمثلة (1). إلى غير ذلك من الأحاديث التي وردت في كتاب الجهاد. وقد كانت النهيبة والنهبى عند العرب تساوق الغنيمة والمغنم - في مصطلح يومنا هذا - الذي يستعمل في أخذ مال العدو. فإذا لم يكن النهب مسموحا به في الدين، وإذا لم تكن الحروب التي يقوم بها أحد بغير إذن النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " جائزة، لم تكن الغنيمة في هذه الوثائق تعني دائما ما يؤخذ في القتال، بل كان معنى الغنيمة الواردة فيها هو ما يفوز به الناس من غير طريق القتال بل من طريق الكسب وما شابهه، ولا محيص حينئذ من أن يقال: إن المراد بالخمس الذي كان يطلبه النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " هو خمس أرباح الكسب والفوائد الحاصلة للإنسان من غير طريق القتال أو النهب الممنوع في الدين. وعلى الجملة: أن الغنائم المطلوب في هذه الرسائل النبوية أداء خمسها إما أن يراد ما يستولي عليه أحد من طريق النهب والإغارة، أو ما يستولى عليه من طريق محاربة بصورة الجهاد، أو ما يستولى من طريق الكسب والكد. والأول ممنوع، بنص الأحاديث السابقة فلا معنى أن يطلب النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " خمس النهيبة. والثاني يكون أمر الغنائم فيه بيد النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " مباشرة، فهو الذي يأخذ كل الغنائم ويضرب لكل من الفارس والراجل ما له من الأسهم بعد أن يستخرج الخمس بنفسه من تلك الغنائم، فلا معنى لأن يطلبه النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " من الغزاة، فيكون الثالث هو المتعين.
1 - رواه البخاري في الصيد، راجع التاج: 4 / 334. 104 وورد عن أئمة أهل البيت - عليهم السلام - ما يدل على ذلك، فقد كتب أحد الشيعة إلى الإمام الجواد - عليه السلام - قائلا: أخبرني عن الخمس أعلى جميع ما يستفيد الرجل من قليل وكثير من جميع الضروب وعلى الصناع وكيف ذلك؟ فكتب - عليه السلام - بخطه: الخمس بعد المؤنة (1). وفي هذه الإجابة القصيرة يظهر تأييد الإمام - عليه السلام - لما ذهب إليه السائل، ويتضمن ذكر الكيفية التي يجب أن تراعى في أداء الخمس: وعن سماعة قال: سألت أبا الحسن (الكاظم) - عليه السلام - عن الخمس؟ فقال: في كل ما أفاد الناس من قليل أو كثير (2). وعن أبي علي بن راشد (وهو من وكلاء الإمام الجواد والإمام الهادي - عليهما السلام -) قال: قلت له (أي الإمام - عليه السلام -): أمرتني بالقيام بأمرك، وأخذ حقك، فأعلمت مواليك بذلك فقال لي بعضهم: وأي شئ حقه؟ فلم أدر ما أجيبه؟ فقال: يجب عليهم الخمس، فقلت: وفي أي شئ؟ فقال: في أمتعتهم وصنائعهم، قلت: والتاجر عليه، والصانع بيده؟ فقال: إذا أمكنهم بعد مؤنتهم (3). إلى غير ذلك من الأحاديث والأخبار المروية عن النبي الأكرم " صلى الله عليه وآله وسلم " وأهل بيته الطاهرين - عليهم السلام - التي تدل على شمول الخمس لكل مكسب. 0 0 0
1 - الوسائل: ج 6 الباب 8 من أبواب الخمس، الحديث 1. 2 - المصدر نفسه، الحديث 6. 3 - المصدر نفسه، الحديث 3. 105 مواضع الخمس في الكتاب: يقسم الخمس حسب تنصيص الآية على ستة أسهم، فيفرق على مواضعها الواردة في الآية، قال سبحانه: * (واعلموا أنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) * (الأنفال / 41) غير أنه يطيب لي تعيين المراد من ذي القربى. إن * (ذي القربى) * بمعنى صاحب القرابة والوشيجة النسبية، ويتعين فرده، بتعيين المنسوب إليه. وهو يختلف حسب اختلاف مورد الاستعمال، ويستعان في تعيينه بالقرائن الموجودة في الكلام - إن وجدت - ومنها السياق، وإلا فيستعان بالسنة. قال سبحانه: * (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى) * (التوبة / 113) والمراد أقرباء المذكورين في الآية أي النبي والمؤمنين. وقال سبحانه: * (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى) * (الأنعام / 152)، والمراد أقرباء المخاطبين في الآية بقوله: * (قلتم) * و * (فاعدلوا) *. وقال سبحانه: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى) * (النساء / 8) والمراد أقرباء من يقسم ماله أعني الميت. وعلى ضوء ذلك فالمراد منه في آية الخمس، أقرباء الرسول، المذكور قبل هذه الكلمة، قال سبحانه: * (وللرسول ولذي القربى) *.
106 ومثلها قوله سبحانه: * (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى) * (الحشر / 7) وقوله سبحانه: * (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) * (الشورى / 23) المراد في الآيتين قرابة الرسول " صلى الله عليه وآله وسلم " لتقدم ذكره وعدم صلاحية السياق إلا لذلك. وأما آية الخمس من سورة الأنفال المتقدم ذكرها فقد اتفق المفسرون على أن المراد من ذي القربى قرابة الرسول " صلى الله عليه وآله وسلم " واختلفوا في اليتامى والمساكين وابن السبيل أنهم مطلق اليتامى والمساكين وأبناء السبيل أو من ذوي القربى على الخصوص. والسياق هنا وإن لم يقتض الالتزام بأحدهما إلا أن السنة الشريفة الواردة عن الرسول " صلى الله عليه وآله وسلم " وأهل بيته اقتضت الأخير كما يأتي في البحث التالي. مواضع الخمس في السنة: وأما السنة فهي أيضا تدعم ما هو مفاد الآية: روي عن ابن عباس: " كان رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " يقسم الخمس على ستة: لله وللرسول سهمان وسهم لأقاربه حتى قبض " (1). وروي عن أبي العالية الرياحي (2): كان رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم "، يؤتى بالغنيمة فيقسمها على خمسة فتكون أربعة أخماس لمن شهدها، ثم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه فيأخذ منه الذي قبض كفه، فيجعله للكعبة و هو سهم الله، ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم فيكون سهم للرسول وسهم لذي القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل. قال: والذي جعله للكعبة فهو سهم الله (3).
1 - النيسابوري: ط بهامش الطبري: 10 / 4. 2 - أبو العالية الرياحي: هو رفيع بن مهران مات سنة 90، لاحظ تهذيب التهذيب: 3 / 246. 3 - أبو عبيد القاسم بن سلام: الأموال: 325، الطبري: التفسير: 10 / 4، والجصاص: أحكام القرآن: 3 / 60. 107 ولعل جعله للكعبة كان لتجسيد السهام وتفكيكها وربما خالفه كما روى عطاء بن أبي رباح (1) قال: " خمس الله، وخمس رسوله واحد، وكان رسول الله يحمل منه ويعطي منه ويضعه حيث شاء ويصنع به ما شاء " (2). والمراد من كون سهمهما واحدا، كون أمره بيده " صلى الله عليه وآله وسلم " بخلاف الأسهم الأخر، فإن مواضعها معينة. وبذلك يظهر المراد مما رواه الطبري: " كان نبي الله إذا اغتنم غنيمة جعلت أخماسا، فكان خمس لله ولرسوله. ويقسم المسلمون ما بقي (الأخماس الأربعة) وكان الخمس الذي جعل لله ولرسوله، لرسوله، ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، فكان هذا الخمس خمسة أخماس خمس لله ولرسوله " (3). فالظاهر أن المراد كان أمر السهمين بيد الرسول ولذا جعلهما سهما واحدا، بخلاف السهام الأخر، وإلا فالخبر مخالف لتنصيص القرآن الكريم. وأما تخصيص بعض سهام الخمس بذي القربى ومن جاء بعدهم من اليتامى والمساكين وابن السبيل، فلأجل الروايات الدالة على أنه لا تحل لهم الصدقة فجعل لهم خمس الخمس. روى الطبري: كان آل محمد " صلى الله عليه وآله وسلم " لا تحل لهم الصدقة فجعل لهم خمس الخمس، وقال: قد علم الله أن في بني هاشم الفقراء فجعل لهم الخمس مكان الصدقة (4). كما تضافرت الروايات
1 - عطاء بن أبي رباح مات سنة 114، أخرج حديثه أصحاب الصحاح. 2 - الطبري: التفسير: 10 / 4. 3 - المصدر نفسه. والأصح أن يقول ستة أسداس وعرفت وجه العدول عنه. 4 - المصدر نفسه / 5، فجعل خمس الخمس، بلحاظ المواضع الخمسة ما سوى لله، وجعله كله لهم باعتبار أن أمره أيضا بيده، فلا منافاة بين الجعلين. 108 عن أئمة أهل البيت أن السهام الأربعة من الخمس، لآل محمد " صلى الله عليه وآله وسلم " (1). هذا ما يستفاد من الكتاب والسنة غير أن الاجتهاد لعب دورا كبيرا في تحويل الخمس عن أصحابه وإليك ما ذهبت إليه المذاهب الأربعة: " قالت الشافعية والحنابلة: تقسم الغنيمة، وهي الخمس، إلى خمسة أسهم، واحد منها سهم الرسول، ويصرف على مصالح المسلمين، وواحد يعطى لذوي القربى، وهم من انتسب إلى هاشم بالأبوة من غير فرق بين الأغنياء والفقراء، والثلاثة الباقية تنفق على اليتامى والمساكين وأبناء السبيل سواء أ كانوا من بني هاشم أو من غيرهم. وقالت الحنفية: إن سهم الرسول سقط بموته، أما ذوو القربى فهم كغيرهم من الفقراء يعطون لفقرهم لا لقرابتهم من الرسول. وقالت المالكية: يرجع أمر الخمس إلى الإمام يصرفه حسبما يراه من المصلحة. وقالت الإمامية: إن سهم الله وسهم الرسول وسهم ذوي القربى يفوض أمرها إلى الإمام أو نائبه، يضعها في مصالح المسلمين. والأسهم الثلاثة الباقية تعطى لأيتام بني هاشم ومساكينهم وأبناء سبيلهم، ولا يشاركهم فيها غيرهم ". (2) وقال ابن قدامة في المغني، بعد ما روى أن أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - قسما الخمس على ثلاثة أسهم: " وهو قول أصحاب الرأي - أبي حنيفة وجماعته -
1 - الوسائل: ج 6 الباب 29 من أبواب المستحقين للزكاة، ولاحظ أيضا صحيح البخاري 1 / 181، باب تحريم الزكاة على رسول الله. 2 - محمد جواد مغنية: الفقه على المذاهب الخمسة: 188. 109 قالوا: يقسم الخمس على ثلاثة: اليتامى والمساكين وابن السبيل، وأسقطوا سهم رسول الله بموته، وسهم قرابته أيضا. وقال مالك: الفئ والخمس واحد يجعلان في بيت المال. وقال الثوري: والخمس يضعه الإمام حيث أراه الله عز وجل. وما قاله أبو حنيفة مخالف لظاهر الآية، فإن الله تعالى سمى لرسوله وقرابته شيئا وجعل لهما في الخمس حقا كما سمى الثلاثة الأصناف الباقية، فمن خالف ذلك فقد خالف نص الكتاب، وأما جعل أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - سهم ذي القربى في سبيل الله، فقد ذكر لأحمد فسكت وحرك رأسه ولم يذهب إليه، ورأى أن قول ابن عباس ومن وافقه أولى، لموافقته كتاب الله وسنة رسوله " صلى الله عليه وآله وسلم "... " (1). الاجتهاد مقابل النص: ثم إن الخلفاء بعد النبي الأكرم اجتهدوا مقابل النص في موارد منها: إسقاط سهم ذي القربى من الخمس، وذلك أن الله سبحانه وتعالى جعل لهم سهما، افترض أداءه نصا في الذكر الحكيم والفرقان العظيم يتلوه المسلمون آناء الليل وأطراف النهار، وهو قوله عز من قائل: * (واعلموا أنما غنمتم من شئ فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شئ قدير) * (2).
1 - أبو فرج عبد الرحمان بن قدامة المقدسي: الشرح الكبير - على هامش المغني -: 10 / 493 - 494. 2 - الأنفال: الآية 41. 110 وقد أجمع أهل القبلة كافة على أن رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " كان يختص بسهم من الخمس ويخص أقاربه بسهم آخر منه، وأنه لم يعهد بتغيير ذلك إلى أحد حتى دعاه الله إليه، واختار الله له الرفيق الأعلى. فلما ولى أبو بكر تأول الآية فأسقط سهم النبي وسهم ذي القربى بموت النبي " صلى الله عليه وآله وسلم "، ومنع بني هاشم من الخمس، وجعلهم كغيرهم من يتامى المسلمين ومساكينهم وأبناء السبيل منهم. قال الزمخشري: وعن ابن عباس: الخمس على ستة أسهم: لله ولرسوله، سهمان، وسهم لأقاربه حتى قبض فأجرى أبو بكر الخمس على ثلاثة، وكذلك روي عن عمر ومن بعده من الخلفاء قال: وروي أن أبا بكر منع بني هاشم الخمس (1). وقد أرسلت فاطمة - عليها السلام - تسأله ميراثها من رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا، فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " ستة أشهر فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلى عليها. الحديث (2). وفي صحيح مسلم عن يزيد بن هرمز. قال: كتب نجدة بن عامر الحروري الخارجي إلى ابن عباس قال ابن هرمز: فشهدت ابن عباس حين قرأ الكتاب وحين كتب جوابه وقال ابن عباس: والله لولا أن أرده عن نتن يقع فيه ما كتبت
1 - الكشاف: 2 / 126. 2 - البخاري: الصحيح: 3 / 36 باب غزوة خيبر. وفي صحيح مسلم: 5 / 154: "... وصلى عليها علي ". 111 إليه، ولا نعمة عين. قال: فكتب إليه: إنك سألتني عن سهم ذي القربى الذين ذكرهم الله من هم؟ وإنا كنا نرى أن قرابة رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " هم نحن فأبى ذلك علينا قومنا، الحديث (1). وأخرجه الإمام أحمد من حديث ابن عباس في أواخر ص 294 من الجزء الأول من مسنده. ورواه كثير من أصحاب المسانيد بطرق كلها صحيحة، وهذا هو مذهب أهل البيت المتواتر عن أئمتهم - عليهم السلام -. لكن الكثير من أئمة الجمهور أخذوا برأي الخليفتين - رضي الله عنهما - فلم يجعلوا لذي القربى نصيبا من الخمس خاصا بهم. فأما مالك بن أنس فقد جعله بأجمعه مفوضا إلى رأي الإمام يجعله حيث يشاء في مصالح المسلمين، لا حق فيه لذي قربى ولا ليتيم ولا لمسكين ولا لابن سبيل مطلقا. وأما أبو حنيفة وأصحابه فقد أسقطوا بعد النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " سهمه وسهم ذي قرباه، وقسموه بين مطلق اليتامى والمساكين وابن السبيل على السواء، لا فرق عندهم بين الهاشميين وغيرهم من المسلمين. والشافعي جعله خمسة أسهم: سهما لرسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " يصرف إلى ما كان يصرف إليه من مصالح المسلمين كعدة الغزاة من الخيل والسلاح والكراع ونحو ذلك، وسهما لذوي القربى من بني هاشم وبني
1 - مسلم: الصحيح: 2 / 105، كتاب الجهاد والسير. 112 المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل يقسم بينهم * (للذكر مثل حظ الأنثيين) *، والباقي للفرق الثلاث: اليتامى والمساكين وابن السبيل مطلقا (1). إلى هنا خرجنا بنتيجتين: 1 - وجوب الخمس في كل ما يفوز به الإنسان. وأنه لا يختص بالغنائم الحربية. 2 - إن الخمس يقسم على ستة أسهم، الثلاثة الأولى، أمرها بيد الإمام يتولاها حسب ما رأى من المصلحة، والثلاثة الأخرى، للأيتام والمساكين وأبناء السبيل من آل النبي الأكرم لا مطلقهم.
1 - لشرف الدين: النص والاجتهاد: 25 - 27. 113 المسألة السادسة: الزواج المؤقت اتفقت المذاهب الفقهية على أن المتعة كانت نكاحا حلالا أحلها رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " بوحي منه سبحانه في برهة من الزمن، وإنما اختلفوا في استمرار حليتها، والشيعة الإمامية على بقاء حليتها وعدم ورود أي نسخ عليها خلافا للمذاهب الأربعة فهي على التحريم البات قائلة بالنسخ. ولما كانت الحلية من مختصات فقه الشيعة، آثرنا أن نبحث عنها في إطار الكتاب والسنة، على وجه الاجمال، حتى يقف القارئ على أن القول بأصل تشريعها وعدم نسخها مما يثبته الكتاب والسنة، وأن قول بعضهم بعدم تشريعها بتاتا أو ادعاء نسخها يضادهما. وسيوافيك أن لفيفا من الصحابة والتابعين كانوا يفتون بجوازها وعدم نسخها، وإنما منع عنها عمر بن الخطاب لحافز نفسي أو اجتهاد شخصي لا دليل عليه وليس حجة على الآخرين. وقد قال بنظيره في متعة الحج التي كانت في زمن رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم ". فأما زواج المتعة: فهو عبارة عن تزويج المرأة الحرة الكاملة نفسها إذا لم يكن بينها وبين الزوج مانع - من نسب أو سبب أو رضاع أو إحصان أو عدة أو غير ذلك من الموانع الشرعية - بمهر مسمى إلى أجل مسمى بالرضا والاتفاق، فإذا
115 انتهى الأجل تبين منه من غير طلاق. ويجب عليها مع الدخول بها - إذا لم تكن يائسة - أن تعتد عدة الطلاق إذا كانت ممن تحيض وإلا فبخمسة وأربعين يوما (1). وولد المتعة - ذكرا كان أو أنثى يلحق بالأب ولا يدعى إلا به، وله من الإرث ما أوصانا الله سبحانه به في كتابه العزيز. كما يرث من الأم، وتشمله جميع العمومات الواردة في الآباء والأبناء والأمهات، وكذا العمومات الواردة في الإخوة والأخوات والأعمام والعمات. وبالجملة: المتمتع بها زوجة حقيقة، وولدها ولد حقيقة. ولا فرق بين الزواجين: الدائم والمنقطع إلا أنه لا توارث هنا ما بين الزوجين، ولا قسمة ولا نفقة لها إلا أن تشترط ذلك في العقد. كما أن له العزل عنها. وهذه الفوارق الجزئية فوارق في الأحكام لا في الماهية، لأن الماهية واحدة غير أن أحدهما مؤقت والآخر دائم، وأن الأول ينتهي بانتهاء الوقت والآخر ينتهي بالطلاق أو الفسخ. وقد أجمع أهل القبلة على أنه سبحانه شرع هذا النكاح في صدر الإسلام، ولا يشك أحد في أصل مشروعيته، وإنما وقع الكلام في نسخه أو بقاء مشروعيته. والأصل في مشروعيته قوله سبحانه: * (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما * والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن ف آتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما) * (2).
1 - لاحظ الكتب الفقهية للشيعة الإمامية في ذلك المجال. 2 - النساء: الآية 23 - 24. 116 والآية ناظرة إلى نكاح المتعة وذلك لوجوه: 1 - الحمل على النكاح الدائم يستلزم التكرار بلا وجه: إن هذه السورة، أي سورة النساء، تكفلت ببيان أكثر ما يرجع إلى النساء من الأحكام والحقوق، فذكرت جميع أقسام النكاح في أوائل السورة على نظام خاص، أما الدائم فقد أشار إليه سبحانه بقوله: * (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة...) * (1). وأما أحكام المهر فقد جاءت في الآية التالية: * (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) * (2). وقال سبحانه: * (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن...) * (3). وقال سبحانه: * (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا) * (4). وأما نكاح الإماء فقد جاء في قوله سبحانه: * (ومن لم يستطع منكم طولا أن
1 - النساء: الآية 3. 2 - النساء: الآية 4. 3 - النساء: الآية 19. 4 - النساء: الآية 20. 117 ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان...) * (1). فقوله سبحانه: * (من ما ملكت أيمانكم) * إشارة إلى نكاح السيد لأمته، الذي جاء في قوله سبحانه أيضا: * (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين...) * (2). وقوله سبحانه: * (فانكحوهن بإذن أهلهن) * إشارة إلى تزويج أمة الغير. فإلى هنا تم بيان جميع أقسام النكاح فلم يبق إلا نكاح المتعة، وهو الذي جاء في الآية السابقة، وحمل قوله سبحانه: * (فما استمتعتم) * على الزواج الدائم. وحمل قوله: * (ف آتوهن أجورهن) * على المهور والصدقات مستلزم للتكرار. وسيوافيك وجود نكاح المتعة في صدر الإسلام، ولا يصح للشارع السكوت عن حكمها. فالناظر في السورة يرى أن آياتها تكفلت ببيان أقسام الزواج على نظام خاص ولا يتحقق ذلك إلا بحمل الآية على نكاح المتعة كما هو ظاهرها أيضا. 2 - تصريح جماعة من الصحابة بشأن نزولها: ذكرت أمة كبيرة من أهل الحديث نزولها فيها، وينتهي نقل هؤلاء إلى أمثال ابن عباس، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وحبيب بن أبي ثابت، وسعيد بن جبير، إلى غير ذلك من رجال الحديث الذين لا يمكن اتهامهم بالوضع والجعل.
1 - النساء: الآية 25. 2 - المؤمنون: الآية 6. 118 وقد ذكر نزولها من المفسرين والمحدثين: إمام الحنابلة أحمد بن حنبل في مسنده (1). وأبو جعفر الطبري في تفسيره (2). وأبو بكر الجصاص الحنفي في أحكام القرآن (3). وأبو بكر البيهقي في السنن الكبرى (4). ومحمود بن عمر الزمخشري في الكشاف (5). وأبو بكر بن سعدون القرطبي في تفسير جامع أحكام القرآن (6). وفخر الدين الرازي في مفاتيح الغيب (7). إلى غير ذلك من المحدثين والمفسرين الذين جاءوا بعد ذلك إلى عصرنا هذا، ولا نطيل الكلام بذكرهم. وليس لأحد أن يتهم هؤلاء الأعلام بذكر ما لا يفتون به. وبملاحظة هذه القرائن لا يكاد يشك في ورودها في نكاح المتعة. ومعنى الآية: إن الله تبارك وتعالى شرع لكم نكاح ما وراء المحرمات لأجل
1 - أحمد: المسند: 4 / 436. 2 - الطبري: التفسير: 5 / 9. 3 - أحكام القرآن: 2 / 178. 4 - السنن الكبرى: 7 / 205. 5 - الكشاف: 1 / 360. 6 - جامع أحكام القرآن: 5 / 13. 7 - مفاتيح الغيب: 3 / 267. 119 أن تبتغوا بأموالكم ما يحصنكم ويصون عفتكم ويصدكم عن الزنا، فإذا تزوجتم استمتاعا ف آتوهن أجورهن. والغاية من النكاح مطلقا هو صيانة النفس، وهي موجودة في جميع الأقسام، النكاح الدائم، والمؤقت والزواج بأمة الغير المذكورة في هذه السورة من أولها إلى الآية 25. هذا هو الذي يفهمه كل إنسان من ظواهر الآيات غير أن من لا يروقه الأخذ بظاهر الآية: * (فما استمتعتم به منهن ف آتوهن أجورهن) * لرواسب نفسية أو بيئية حاول أن يطبق معنى الآية على العقد الدائم، وذكر في المورد شبهات ضعيفة لا تصمد أمام النقاش نجملها بما يلي: الشبهة الأولى: إن الهدف من تشريع النكاح هو تكوين الأسرة وإيجاد النسل، وهو يختص بالنكاح الدائم دون المنقطع الذي لا يترتب عليه إلا إرضاء القوة الشهوية وصب الماء وسفحه (1). ويجاب عنها: بأنه خلط بين الموضوع والفائدة المترتبة عليه، وما ذكر إنما هو من قبيل الحكمة، وليس الحكم دائرا مدارها، لضرورة أن النكاح صحيح وإن لم يكن هناك ذلك الغرض، كزواج العقيم واليائسة والصغيرة. بل أغلب المتزوجين في سن الشباب بالزواج الدائم لا يقصدون إلا قضاء الوطر واستيفاء الشهوة من طريقها المشروع، ولا يخطر ببالهم طلب النسل أصلا وإن حصل لهم قهرا، ولا يقدح ذلك في صحة زواجهم.
1 - وسنعود إلى هذه الشبهة في نقد كلام " الدريني " أيضا. 120 ومن العجب حصر فائدة المتعة في قضاء الوطر، مع أنها كالدائم قد يقصد منها النسل والخدمة وتدبير المنزل وتربية الأولاد والإرضاع والحضانة وإن كانت قليلة. ونسأل المانعين الذين يعتبرون نكاح المتعة، مخالفا للحكمة، التي من أجلها شرع النكاح، نسألهم عن الزوجين اللذين يتزوجان نكاح دوام، ولكن ينويان الفراق بالطلاق بعد شهرين، فهل هذا نكاح صحيح أو لا؟ لا أظن أن فقيها من فقهاء الإسلام يمنع ذلك إلا إذا أفتى بغير دليل ولا برهان، وبهذا الشكل يتعين الجزم بأصحية هذا النكاح، فأي فرق يكون حينئذ بين المتعة وهذا النكاح الدائم سوى أن المدة مذكورة في الأول دون الثاني؟ يقول صاحب المنار: إن تشديد علماء السلف والخلف في منع المتعة يقتضي منع النكاح بنية الطلاق، وإن كان الفقهاء يقولون إن عقد النكاح يكون صحيحا إذا نوى الزوج التوقيت ولم يشترطه في صيغة العقد، ولكن كتمانه إياه يعد خداعا وغشا وهو أجدر بالبطلان من العقد الذي يشترط فيه التوقيت (1). أقول: نحن نفترض أن الزوجين رضيا بالتوقيت لبا، حتى لا يكون هناك خداع وغش، فهو صحيح بلا إشكال. الشبهة الثانية: إن تسويغ النكاح المؤقت ينافي ما تقرر في القرآن كقوله عز وجل في صفة المؤمنين: * (والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) * (2).
1 - المنار: 5 / 17. 2 - المؤمنون: الآية: 5 - 7. 121 والمراد من قوله: * (من ابتغى) * هم المتجاوزون ما أحله الله لهم إلى ما حرمه عليهم. والمرأة المتمتع بها ليست زوجة فيكون لها على الرجل مثل الذي عليها بالمعروف. إلا أنه يرد عليها: إنها دعوى بلا دليل. فإنها زوجة ولها أحكام، وعدم وجود النفقة والقسمة لا يخرجانها عن الزوجية، فإن الناشزة زوجة ليست لها النفقة وحق القسمة، ومثلها الصغيرة. والعجب أن يستدل بعدم وجود الأحكام على نفي الماهية، فإن الزوجية رابطة بين الزوجين تترتب عليها جملة من الأحكام وربما تختص بعض الأحكام ببعض الأقسام. الشبهة الثالثة: إن المتمتع في النكاح المؤقت لا يقصد الإحصان، بل يكون قصده المسافحة، وإن كان هناك نوع ما من الإحصان بالنسبة إليه حيث يمنعها من التنقل في دمن الزنا، فإنه لا يكون فيه شئ من الإحصان بالنسبة إلى المرأة التي تؤجر نفسها كل مدة من الزمن لرجل فتكون كما قيل: كرة حذفت بصوالجة * فتلقفها رجل رجل (1) ويرد على هذه الشبهة: إنه من أين وقف على أن الإحصان في النكاح المؤقت يختص بالرجل دون المرأة، فإنا إذا افترضنا كون العقد شرعيا، فكل واحد من الطرفين يحصن نفسه من هذا الطريق، وإلا فلا محيص عن التنقل في دمن
1 - المنار: 5 / 13. 122 الزنا. والذي يصون الفتى والفتاة عن البغي أحد الأمور الثلاثة: 1 - النكاح الدائم. 2 - النكاح المؤقت بالشروط الماضية. 3 - كبت الشهوة الجنسية. فالأول ربما يكون غير ميسور خصوصا للطالب والطالبة اللذين يعيشان بمنح ورواتب مختصرة يجريها عليهما الوالدان أو الحكومة، وكبت الشهوة الجنسية أمر شاق لا يتحمله إلا الأمثل فالأمثل من الشباب والمثلي من النساء، وهم قليلون، فلم يبق إلا الطريق الثاني، فيحصنان نفسهما عن التنقل في بيوت الدعارة. إن الدين الإسلامي هو الدين الخاتم، ونبيه خاتم الأنبياء، وكتابه خاتم الكتب، وشريعته خاتمة الشرائع، فلا بد أن يضع لكل مشكلة اجتماعية حلولا شرعية، يصون بها كرامة المؤمن والمؤمنة، وما المشكلة الجنسية عند الرجل والمرأة إلا إحدى هذه النواحي التي لا يمكن للدين الإسلامي أن يهملها، وعندئذ يطرح هذا السؤال نفسه: ماذا يفعل هؤلاء الطلبة والطالبات الذين لا يستطيعون القيام بالنكاح الدائم، وتمنعهم كرامتهم ودينهم عن التنقل في بيوت الدعارة والفساد، والحياة المادية بجمالها تؤجج نار الشهوة في نفوسهم؟ فمن المستحيل عادة أن يصون نفسه أحد إلا من عصمه الله، فلم يبق طريق إلا زواج المتعة، الذي يشكل الحل الأنجح لتلافي الوقوع في الزنا، وتبقى كلمة الإمام علي بن أبي طالب ترن في الآذان
123 محذرة من تفاقم هذا الأمر عند إهمال العلاج الذي وصفه المشرع الحكيم له، حيث قال - عليه السلام -: " لولا نهي عمر عن المتعة لما زنى إلا شقي أو شقية ". وأما تشبيه المتعة بما جاء في الشعر فهو يعرب عن جهل الرجل بحقيقة نكاح المتعة وحدودها، فإن ما جاء فيه هي المتعة الدورية التي ينسبها الرجل (1) وغيره إلى الشيعة، وهم براء من هذا الإفك، إذ يجب على المتمتع بها بعد انتهاء المدة الاعتداد على ما ذكرنا، فكيف يمكن أن تؤجر نفسها كل طائفة من الزمن لرجل؟! سبحان الله ما أجرأهم على الكذب على الشيعة والفرية عليهم، وما مضمون الشعر إلا جسارة على الوحي والتشريع الإلهي، وقد اتفقت كلمة المحدثين والمفسرين على التشريع، وأنه لو كان هناك نهي أو نسخ فإنما هو بعد التشريع والعمل. الشبهة الرابعة: إن الآية منسوخة بالسنة، واختلفوا في زمن نسخها على أقوال شتى: 1 - أبيحت ثم نهي عنها عام خيبر. 2 - ما أحلت إلا في عمرة القضاء. 3 - كانت مباحة ونهي عنها في عام الفتح. 4 - أبيحت عام أوطاس ثم نهي عنها (2).
1 - لاحظ كتابه: السنة والشيعة: 65 - 66. 2 - لاحظ للوقوف على مصادر هذه الأقوال مسائل فقهية: لشرف الدين: 63 - 64، الغدير: 6 / 225، أصل الشيعة وأصولها: 171، والأقوال في النسخ أكثر مما جاء في المتن. 124 وهذه الأقوال تنفي الثقة بوقوع النسخ، كما أن نسخ القرآن بأخبار الآحاد ممنوع جدا، وقد صح عن عمران بن الحصين أنه قال: " إن الله أنزل المتعة وما نسخها بآية أخرى، وأمرنا رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " بالمتعة وما نهانا عنها، ثم قال رجل برأيه "، يريد به عمر بن الخطاب. وسيوافيك مصدره. إن الخليفة الثاني لم يدع النسخ وإنما أسند التحريم إلى نفسه، ولو كان هناك ناسخ من الله عز وجل أو من رسوله، لأسند التحريم إليهما، وقد استفاض قول عمر وهو على المنبر: متعتان كانتا على عهد رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة الحج ومتعة النساء. بل نقل متكلم الأشاعرة في شرحه على شرح التجريد أنه قال: أيها الناس ثلاث كن على عهد رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم "، وأنا أنهى عنهن، وأحرمهن، وأعاقب عليهن، متعة النساء، ومتعة الحج، وحي على خير العمل (1). وقد روي عن ابن عباس - وهو من المصرحين بحلية المتعة وإباحتها - في رده على من حاجه بنهي أبي بكر وعمر لها، حيث قال: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم "، وتقولون: قال أبو بكر وعمر. حتى أن ابن عمر لما سئل عنها، أفتى بالإباحة، فعارضوه بقول أبيه، فقال لهم: أمر رسول الله أحق أن يتبع أم أمر عمر؟ كل ذلك يعرب عن أنه لم يكن هناك نسخ ولا نهي نبوي وإنما كان تحريما من جانب الخليفة، وهو في حد ذاته يعتبر اجتهادا قبالة النص الواضح، وأنه ما انفك يعلن جملة من الصحابة رفضهم له وعدم إذعانهم لأمره، وإذا كان الخليفة
1 - مفاتيح الغيب: 10 / 52 - 53، القوشجي: شرح التجريد: 484 طبع إيران. 125 قد اجتهد لأسباب رآها وأفتى على أساسها فكان الأولى بمن لحقوه أن يتنبهوا لهذا الأمر لا أن يسرفوا في تسويغه دون حجة ولا دليل. المنكرون للتحريم: ذكرنا أن لفيفا من وجوه الصحابة والتابعين أنكروا هذا التحريم ولم يقروا به، ومنهم: 1 - علي أمير المؤمنين، في ما أخرجه الطبري بالإسناد إليه أنه قال: " لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي " (1). 2 - عبد الله بن عمر، أخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن عمر، قال - وقد سئل عن متعة النساء -: والله ما كنا على عهد رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " زانين ولا مسافحين، ثم قال: والله لقد سمعت رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " يقول: " ليكونن قبل يوم القيامة المسيح الدجال وكذابون ثلاثون وأكثر " (2). 3 - عبد الله بن مسعود، روى البخاري عن عبد الله بن مسعود، قال: كنا نغزو مع رسول الله وليس لنا شئ، فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، ثم رخص لنا أن تنكح المرأة بالثوب إلى أجل معين، ثم قرأ علينا: * (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) * (3). (4)
1 - الطبري: التفسير: 5 / 9. 2 - أحمد: مسند: 2 / 95. 3 - المائدة: الآية 87. 4 - البخاري: الصحيح: 7 / 4، كتاب النكاح، الباب 8، الحديث 3. 126 4 - عمران بن حصين، أخرج البخاري في صحيحه عنه، قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناها مع رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم "، ولم ينزل قرآن يحرمها ولم ينه عنها حتى مات. قال رجل برأيه ما شاء (1). أخرج أحمد في مسنده عن أبي رجاء عن عمران بن حصين، قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله وعملنا بها مع رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم "، فلم تنزل آية تمنعها، ولم ينه عنها النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " حتى مات (2). 5 - كما أن الخليفة العباسي المأمون أوشك أن ينادي في أيام حكمه، بتحليل المتعة إلا أنه توقف خوفا من الفتنة وتفرق المسلمين. قال ابن خلكان، نقلا عن محمد بن منصور: قال: كنا مع المأمون في طريق الشام فأمر فنودي بتحليل المتعة، فقال يحيى بن أكثم لي ولأبي العيناء: بكرا غدا إليه فإن رأيتما للقول وجها فقولا، وإلا فاسكتا إلى أن أدخل، قال: فدخلنا عليه وهو يستاك ويقول وهو مغتاظ: متعتان كانتا على عهد رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " وعلى عهد أبي بكر - رضي الله عنه - وأنا أنهى عنهما، ومن أنت يا جعل حتى تنهى عما فعله رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " وأبو بكر - رضي الله عنه -؟! فأومأ أبو العيناء إلى محمد بن منصور وقال: رجل يقول في عمر بن الخطاب ما يقول نكلمه نحن؟ فأمسكنا، فجاء يحيى بن أكثم فجلس وجلسنا، فقال المأمون ليحيى: ما لي أراك متغيرا؟ فقال: هو غم يا أمير المؤمنين لما حدث في الإسلام، قال: وما حدث فيه؟ قال: النداء بتحليل الزنا، قال: الزنا؟ قال: نعم، المتعة زنا، قال: ومن أين قلت هذا؟ قال: من كتاب الله عز وجل، وحديث رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم "، قال
1 - البخاري: الصحيح: 6 / 27، كتاب التفسير، تفسير قوله تعالى: * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) * من سورة البقرة. 2 - أحمد: المسند: لاحظ مسائل فقهية للسيد شرف الدين: 70. 127 الله تعالى: * (قد أفلح المؤمنون) * إلى قوله: * (والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) * (1) يا أمير المؤمنين زوج المتعة ملك يمين؟ قال: لا، قال: فهي الزوجة التي عند الله ترث وتورث وتلحق الولد ولها شرائطها؟ قال: لا، قال: فقد صار متجاوز هذين، من العادين (2). أقول: هل عزب عن ابن أكثم - وقد كان ممن يكن العداء لآل البيت - أن المتعة داخلة في قوله سبحانه: * (إلا على أزواجهم) * وإن عدم الوراثة تخصيص في الحكم، وهو لا ينافي ثبوتها، وكم لها من نظير، فالكافرة لا ترث الزوج المسلم، وبالعكس، كما أن القاتلة لا ترث وهكذا العكس، وأما الولد فيلحق قطعا، ونفي اللحوق ناشئ إما من الجهل بحكمها أو التجاهل به. وما أقبح كلامه حيث فسر المتعة بالزنا وقد أصفقت الأمة على تحليلها في عصر الرسول والخليفة الأول، أفيحسب ابن أكثم أن الرسول " صلى الله عليه وآله وسلم " حلل الزنا ولو مدة قصيرة. وهناك روايات مأثورة عن الخليفة نفسه، تعرب عن أن التحريم كان صميم رأيه، من دون استناد إلى آية أو رواية. فقد روى مسلم في صحيحه: عن ابن أبي نضرة قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة، وكان ابن الزبير ينهى عنها، فذكر ذلك لجابر، فقال: على يدي دار الحديث: تمتعنا مع رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " فلما قام عمر قال: إن
1 - المؤمنون: الآية 1 - 7. 2 - ابن خلكان: وفيات الأعيان: 6 / 149 - 150. 128 الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء، فأتموا الحج والعمرة وأبتوا نكاح هذه النساء، فلئن أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته بالحجارة (1). وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي نضرة قال: قلت لجابر: إن ابن الزبير ينهى عن المتعة، وإن ابن عباس يأمر بها، فقال لي: على يدي جرى الحديث: تمتعنا مع رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " ومع أبي بكر، فلما ولي عمر خطب الناس فقال: إن القرآن هو القرآن، وإن رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " هو الرسول، وإنهما كانتا متعتان على عهد رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " إحداهما متعة الحج والأخرى متعة النساء (2). وهذه المأثورات تعرب جملة من الملاحظات نجملها بملاحظتين اثنتين: أولا: إن المتعة كانت باقية على الحل إلى عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وبقيت لوقت في أيامه حتى نهى عنها ومنع. وثانيا: إنه باجتهاده قام بتحريم ما أحله الكتاب والسنة، ومن المعلوم أن اجتهاده - لو صحت تسميته بالاجتهاد - حجة على نفسه لا على غيره. وفي الختام نقول: إن الجهل بفقه الشيعة أدى بكثير من الكتاب إلى التقول على الشيعة، وخصوصا في مسألة المتعة التي نحن بصدد الحديث عنها، برميهم بآراء وأحكام، يدل على جهل مطبق أو خبث سريرة لا يدمغ، ومن هذه الأقوال: إن من أحكام المتعة عند الشيعة أنه لا نصيب للولد من ميراث أبيه، وأن المتمتع بها لا عدة لها،
1 - مسلم: الصحيح: 4 / 130، باب نكاح المتعة الحديث 8، طبع محمد علي صبيح. 2 - أحمد: المسند: 1 / 52. 129 وأنها تستطيع أن تنتقل من رجل إلى رجل إن شاءت. ومن أجل هذا استقبحوا المتعة واستنكروها وشنعوا على من أباحها. وقد خفي الواقع على هؤلاء. وإن المتعة عند الشيعة كالزواج الدائم لا تتم إلا بالعقد الدال على قصد الزواج صراحة، وإن المتمتع بها يجب أن تكون خالية من جميع الموانع، وإن ولدها كالولد من الدائمة من وجوب التوارث، والإنفاق وسائر الحقوق المادية، وإن عليها أن تعتد بعد انتهاء الأجل مع الدخول بها، وإذا مات زوجها وهي في عصمته اعتدت كالدائمة من غير تفاوت، إلى غير ذلك من الآثار (1). على أن الأمر الذي ينبغي الالتفات إليه وإدراكه بوضوح، إن الشيعة رغم إدراكهم وإيمانهم بحلية زواج المتعة وعدم تحريمه - وهو ما يعلنون عنه صراحة ودون تردد - إلا أنهم لا يلجأون إلى هذا الزواج إلا في حدود ضيقة وخاصة، وليس كما يصوره ويتصوره البعض من كونه ظاهرة متفشية في مجتمعهم وبشكل مستهجن ممجوج.
1 - الاثنا عشرية وأهل البيت تأليف مغنية 46. 130 نحن والدكتور محمد فتحي الدريني: قد وقفت - أخيرا - على كتاب حول المتعة بقلم: السائح علي حسين، أسماه بهذا النحو: " الأصل في الأشياء..؟ ولكن المتعة حرام!! " نشرته دار قتيبة، وقدم له الدكتور محمد فتحي الدريني، عميد كلية الشريعة بدمشق. والذي دعاني إلى التعليق عليه أمران: 1 - اسم الكتاب، حيث أسماه بما عرفت، وحاول أن يقرر أن الأصل الأولي في الأشياء الحلية، والمتعة داخلة في هذا الأصل، ولكن خرج عنه بالدليل ولولاه لكانت محكومة بالحلية. وبعبارة أخرى: حاول أن يتظاهر لصالح الخصم (القائل بحلية المتعة) مؤقتا وأن الأصل معه، ولكنه خرج عن الأصل بدليل حاسم. 2 - تقديم الدكتور الدريني المحرر بقلم نزيه من دون همز ولمز للمخالف الذي يرى كون المتعة حلالا، وموقفه من رعاية أدب المناظرة مشكور، والحق أن مثله قليل فيما كتب حول عقائد الشيعة بقلم أهل السنة فإن الغالب - إلا ما شذ وندر - لا يفارق اللذع واللدغ أو الطعن والسب، وأحيانا التكفير أعاذنا الله من شرور أنفسنا. ومع ذلك كله لنا تأملات فيما كتب يظهر بعضها من الامعان فيما سبق، ولكن لأجل إيقاف القارئ على النقاط الخاطئة في كلامه، نذكر أهم ما أفاده مع التعليق. وإن مر بعضها عند مناقشة الشبهات. أما حول الاسم فنقول: إن قول الفقهاء والأصوليين الأصل في الأشياء الحلية، لا يعم الدماء والأعراض والأموال فإن الأصل فيها هو الحرمة، يعرف ذلك
131 من له أدنى إلمام بالفقه، فلأجل ذلك نرى أن الله سبحانه يجعل الأصل في الدماء الحرمة، ويستثني موردا واحدا وذلك إذا كان القتل عن حق فيقول: * (ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق) * (الفرقان / 68) كما أنه سبحانه يأتي بذلك البيان في الأعراض واستباحة الفروج، فيقول: * (والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) * (المؤمنين / 5 - 6). ويكفي في كون الأصل في الأموال، الحرمة قوله سبحانه: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) * (النساء / 29) وقول النبي الأكرم: لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه (1) فالأصل في التصرف في مال الغير هو الحرمة إلا إذا طابت نفسه. وعلى ضوء ذلك فالأصل في المتعة بما أنها استباحة للفروج هو الحرمة والخروج عن الأصل يحتاج إلى دليل، وما ذكره الأصوليون من كون الأصل في الأشياء هو الحلية راجع إلى غير هذه الموارد مما يرجع إلى استفادة الإنسان من مظاهر الطبيعة ومعطياتها. وعلى ضوء ذلك فما حاوله مؤلف الكتاب من التظاهر بالمرونة في البحث وأنه يوافق أخاه الشيعي في حلية المتعة - حسب الأصل الأولي - ولكن الأدلة القطعية دفعته إلى القول بالتحريم، محاولة خاطئة واقعة في غير محلها، وأظن أن الكاتب قصير الباع في هذه المسائل. والكتاب - بلا إنكار وبخس لحقوق المؤلف - أشبه بكتاب قصصي، لا فقهي، وإني استغربت من قيام الدكتور الدريني بالتقديم لهذا الكتاب، ولذلك
1 - حديث رواه الفريقان. 132 أعرضنا عن مناقشة محتوياته واكتفينا بما جاء في التقديم. وأما التقديم فقد ذكرنا وصفه ولكن لنا فيما ذكره تأملات وتعليقات نذكرها بعد نقل كلامه موجزا. فإن نقل كل كلامه يوجب الإطناب. ولأجل أن يسهل للقارئ الوقوف على الفكرتين، نفصل كل موضوع بعنوان معه رقم رياضي. 1 - الأحكام الشرعية تابعة للمصالح: يقول الأستاذ: من المتفق عليه بين الأصوليين والفقهاء ممن يعتد برأيهم في ميزان العلم والاجتهاد أن أحكام التشريع الإسلامي ذات مقاصد وغايات قد توخى الشارع تحقيقها قطعا من خلال تشريعه للأحكام، وقد أشار المحققون إلى هذا الأصل: أن الأحكام معللة بمصالح العباد. ثم قال: وقد ألف الإمام الشاطبي كتاب الموافقات في أصول الشريعة ومقاصدها وأثبت أن أحكام الشريعة ما عدا التعبديات ذات مقاصد معتبرة من قبل الشارع في تشريعه للحكم، وأنه لا عبرة بالوسيلة إذا تخلفت عنها غايتها، أو أفضت إلى النقيض منها. يلاحظ على هذا الكلام بأمور: 1 - إن كون الأحكام معللة بمصالح، أمر يصدقه الذكر الحكيم، وأحاديث العترة الطاهرة، يقول سبحانه: * (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون * إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم
133 منتهون) * (المائدة / 90 - 91) إلى غير ذلك من الآيات الواردة حول تشريع الأحكام ففيها إلماع إلى المصالح التي صارت سببا لتشريعها. وأما أحاديث أئمة أهل البيت فقد جمعها الشيخ الصدوق محمد بن علي بن بابويه (306 - 381) في كتاب أسماه ب " علل الشرائع " وهو نسخة من علوم أئمة أهل البيت يليق بكل مسلم واع الرجوع إليها والصدور عنها، وذلك قبل أن يولد الشاطبي أو يكون أثر من أستاذه أو أستاذ أستاذه، والشيعة الإمامية معروفة بالقول بتبعية الأحكام للمصالح تبعا لأئمتهم كما هو ظاهر لمن راجع كتبهم الفقهية والأصولية. فكان التركيز على هذا الأصل أشبه بنقل التمر إلى هجر. 2 - إن الشيخ الأشعري الإمام الشهير لأكثر أهل السنة ممن يخالف هذا الأصل ويراه تحديدا لإرادة الله تعالى، ومزاحما لإطلاقها. وهذا ظاهر لمن راجع كتب الأشاعرة (1) في الأصول والفروع، وهؤلاء هم المنددون بالقائلين بتبعية الأحكام للمصالح، ومع ذلك فكيف يجعله الأستاذ قولا متفقا عليه بين الأصوليين والفقهاء، نعم قيد القائلين بالتبعية بمن يعتد برأيهم في ميزان العلم والاجتهاد. ولا أظن أن لا يكون الإمام الأشعري والجماهير التابعة له ممن لا يعتد برأيهم في ذلك المجال. 3 - إن الأستاذ تبعا للإمام الشاطبي خص تبعية الأحكام للمقاصد والمصالح بما عدا التعبديات، ولم يظهر لي وجه الاستثناء، مع أن الدليل على
1 - لاحظ أصول الدين للإمام أبي منصور البغدادي: 150 طبع بيروت، ونهاية الإقدام للشهرستاني: 397، تحقيق " الفرد جيوم " والمواقف للإيجي: 321 وغيرها. 134 التبعية في الجميع واحد وهو صون فعل الحكيم عن اللغو، وهذا يشارك فيه التعبدي وغير التعبدي. نعم ربما لا نصل إلى المقاصد الموجودة في التعبديات ولكنه غير كونها خالية عنها، قال سبحانه: * (وأقم الصلاة لذكري) * (طه / 14) وقال سبحانه: * (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) * (العنكبوت / 45) وقال سبحانه في حق الصيام: * (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) * (البقرة / 183). فإخراج التعبديات عن تحت الضابطة أشبه بتخصيص القاعدة العقلية ومن المعلوم أن القاعدة العقلية لا تخصص فلا يصح أن يقال: إن حاصل ضرب 2 × 2 = 4 إلا في مورد خاص. إن القائلين بلزوم تبعية الأحكام للمناطات والملاكات هم القائلون بحجية العقل في مجال استنباط الأحكام الشرعية في باب الملازمات العقلية ونظائرها، والعقل الحاكم بتبعية الأحكام للمصالح، لا يفرق بين العبادات وغيرها، بين التعبديات والتوصليات قائلا بأن الشارع حكيم، والحكيم مصون فعله عن اللغو والعبث فلأحكامه وتشريعاته سبحانه، غايات ترجع إلى العباد، ومصالح تتم لصالح العاملين بها. 2 - المقصد الأساسي للنكاح هو تكوين الأسرة: قال الدكتور: شرع النكاح في الإسلام لمقاصد أساسية قد نص عليها القرآن الكريم صراحة، ترجع كلها إلى تكوين الأسرة الفاضلة التي تشكل النواة الأولى
135 للمجتمع الإسلامي، بخصائصه الذاتية من العفة، والطهر، والولاية، والنصرة والتكافل الاجتماعي - ثم استشهد بآيات على ذلك الأصل - ثم يقول: إن الله إذ يربط الزواج بغريزة الجنس، لم يكن ليقصد مجرد قضاء الشهوة، بل قصد أن يكون على النحو الذي يحقق ذلك المقصد بخصائصه من تكوين الأسرة التي شرع أحكامها التفصيلية القرآن الكريم. وعلى هذا فإن الاستمتاع مجردا عن الإنجاب وبناء الأسرة، يحبط مقصد الشارع من كل أصل تشريع النكاح (1). يلاحظ عليه أمران: الأول: أن الأستاذ خلط علة التشريع ومناطه، بحكمته، فإن العلة عبارة عما يدور الحكم مدارها، يحدث الحكم بوجودها ويرتفع بارتفاعها، وهذا بخلاف الحكمة، فربما يكون الحكم أوسع منها، وإليك توضيح الأمرين: إذا قال الشارع اجتنب المسكر، فالسكر علة وجوب الاجتناب بحجة تعليقه على ذلك العنوان، فما دام المائع مسكرا، له حكمه، فإذا انقلب إلى الخل يرتفع. وأما إذا قال: * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر...) * (البقرة / 228).
1 - المقدمة: وقد أخذه من تفسير " المنار " قال: " إن مصلحة البشر أن تكون هذه الداعية الفطرية سائقة لكل فرد من أفراد أحد الجنسين لأن يعيش مع فرد من الجنس الآخر عيشة الاختصاص، لتتكون بذلك البيوتات ويتعاون الزوجان على تربية أولادهما، فإذا انتفى قصد هذا الإحصان، انحصرت طاعة الداعية الفطرية في قصد سفح الماء... " (المنار: 5 / 8) ط عام 1367. 136 فإن الامعان في الآية يكشف عن أن وجه التربص لأجل تبين وضع الرحم، وإنها هل تحمل ولدا أو لا؟ ومن المعلوم أن هذا حكمة الحكم، لا علته ولأجل ذلك نرى أن الحكم أوسع منها بشهادة أن الفقهاء يحكمون بوجوب التربص على من نعلم بعدم وجود حمل في رحمها. 1 - كما إذا كانت عقيما لا تلد أبدا. 2 - إذا كان الرجل عقيما. 3 - إذا غاب عنها الزوج مدة طويلة كستة أشهر فما فوق، ونعلم بعدم وجود حمل في رحمها. 4 - إذا تبينت عن طريق إجراء الفحوصات الطبية خلو رحمها عنه. فالآية محكمة وإن لم تكن حكمة الحكم موجودة، وهذا لا ينافي ما توافقنا عليه من تبعية الأحكام للمصالح، فإن المقصود منه هو وجود الملاكات في أغلب الموارد لا في جميعها. إذا عرفت الفرق بين الحكمة والعلة تقف على أن الأستاذ خلط بين العلة والحكمة، فتكوين الأسرة والإنجاب والتكافل الاجتماعي كلها من قبيل الحكم بشهادة أن الشارع حكم بصحة الزواج في موارد فاقدة لهذه الغايات. 1 - يجوز زواج العقيم بالمرأة الولود. 2 - يجوز زواج المرأة العقيم بالرجل المنجب. 3 - يجوز نكاح اليائسة.
137 4 - يجوز نكاح الصغيرة. 5 - يجوز نكاح الشاب من الشابة مع العزم على عدم الإنجاب إلى آخر العمر. أفيصح للأستاذ أن يشطب على هذه الأنكحة بقلم عريض بحجة افتقادها لتكوين الأسرة؟! على أن من الأمور الواضحة، أن أغلب المتزوجين في سن الشباب بالزواج الدائم لا يقصدون إلا قضاء الوطر، واستيفاء اللذة من طريقها المشروع، ولا يخطر ببالهم طلب النسل، وإن كان يحصل لهم قهرا. الثاني: يجب على الأستاذ التفصيل بين من يتزوج متعة لغاية الإنجاب وتشكيل الأسرة بخصائصها الذاتية من العفة، والطهر، والولاية، والنصرة، والتكافل الاجتماعي، وبين من يتزوج لقضاء الوطر، ودفع الشهوة بهذا الطريق، وأما إنه لماذا يتزوج زواجا مؤقتا فلأجل وجود بعض التسهيلات في المؤقت دون الدائم. إن الأستاذ كأكثر من كتب عن المتعة من أهل السنة، يتعامل مع المتمتع بها معاملة الغانيات المفتوحة أبوابهن، يدخل عليهن في كل يوم رجل ويجتمع معها ذلك اليوم ثم يفارق ويأتي رجل آخر بهذه الخصوصية. فلو كان هذا معنى التمتع بالمرأة والزواج المؤقت، فالشيعة الإمامية وأئمتها ورسولها وكتابها بريئون من هذا التشريع الذي يرادف الزنا إلا في التسمية. ولكن المتعة يفارق ذلك مائة بالمائة، فربما يكون هناك نساء توفي عنهن أزواجهن ولهن جمالهن وكمالهن، وربما لا يتمكن الرجل من الزواج الدائم لمشاكل اجتماعية، ومع ذلك يرغب إلى هذه
138 الطبقة من النساء فيتزوجها طالبا بها رفع العنت أولا وتشكيل الأسرة بمالها من الخصوصيات ثانيا. والحق أن ما اختمر في ذهن الكاتب وغيره من المتعة أشبه بالنساء المبذولات في بيوت خاصة، ومحلات معينة فمثل ذلك لا يمكن أن تضفي عليه المشروعية، غير أن المتعة الشرعية غير ذلك، وربما يتوقف التزوج بهن على طي عقبات، فيشترط فيها ما يشترط في الدائم، ويفارق الدائم بأمرين: الطلاق والنفقة. وأما التوارث فيتوارثان بالاشتراط ومثل ذلك يلازم الغايات المطلوبة للنكاح غالبا. وقد أوضحنا حقيقة زواج المتعة في صدر البحث. والحق أن الغاية القصوى في كل مورد رخص فيه الشارع العلاقة الجنسية بعامة أقسامها حتى ملك اليمين وتحليل الإماء... هو صيانة النفس عن الوقوع في الزنا والسفاح. وأما سائر الغايات من تشكيل الأسرة، والتكافل الاجتماعي، فإنما هي غايات ثانوية تحصل بالنتيجة سواء توخاها الزوجان أم لا. والغاية القصوى موجودة في الزواج المؤقت، وأن الهدف من تشريعه هو صيانة النفس عن الحرام لمن لا يتمكن من الزواج الدائم، ولأجل ذلك استفاض عن ابن عباس قال: " يرحم الله عمر ما كانت المتعة إلا رحمة من الله رحم بها أمة محمد ولولا نهيه عنها ما احتاج إلى الزنا إلا شقي " (1). إن قوله سبحانه: * (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله...) * (النور / 33) دليل على أن الغاية من تجويز النكاح، والنهي عن الرهبانية
1 - السيوطي: الدر المنثور: 2 / 141 وروى النص عن علي - عليه السلام - أيضا لاحظ تفسير الإمام الرازي: 3 / 200 المسألة الثالثة في بيان نكاح المتعة. 139 هو صيانة النفس عن الفحشاء ودفعها إلى التعفف، وهذه الغاية كما عرفت موجودة في جميع الأنكحة والعلاقات الجنسية من الزواج الدائم إلى الزواج المؤقت إلى ملك اليمين إلى تحليل الإماء بشروطها المقررة في الفقه. 3 - المتعة داخلة تحت السفح المنهى عنه في الآية: ذكر الأستاذ أن مجرد قضاء الشهوة والاستمتاع، هو ما أطلق عليه القرآن " السفاح " ولذا حذر الإسلام من اتباع هذا السبيل بقوله: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين) * (النساء / 24) إذ مؤداه أن تتزوجوا النساء بالمهور، قاصدين ما شرع الله النكاح لأجله من الإحصان، وتحصيل النسل دون مجرد سفح الماء وقضاء الشهوة كما يفعل الزناة، وفي هذا إشعار بتحريم أن تبتغى المرأة من أجل مجرد الاستمتاع بها وسفح الماء في رحمها. (؟؟؟) يلاحظ عليه بأمرين: الأول: أن السفح في الآية إنما هو بمعنى الزنا لا بمعنى صب الماء حتى ولو كان الطرف زوجة شرعية، وبعبارة أخرى أريد من قوله: * (محصنين غير مسافحين) * كونهم متزوجين غير زانين، ويظهر ذلك بتوضيح معنى الإحصان، وبالتالي معنى السفح الواردين في الآية. وإليك نص الآية وما بعدها. * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن ف آتوهن أجورهن فريضة...) * (النساء / 24).
140 * (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بالمعروف محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ذلك لمن خشي العنت منكم...) * (النساء / 25). ترى أن مادة الإحصان وردت بصورها المختلفة في الآيتين ست مرات وأما معناه لغة فليس له إلا معنى واحدا وهو المنع، غير أن أسباب المنع أو متعلقاته يختلف، فالمرأة تكون محصنة بأمور: 1 - الإسلام 2 - العفاف 3 - الحرية 4 - الزواج. فالإسلام يمنعها عن التزوج بالمشرك مثلا، والعفاف يصدها عن الزنا، والحرية تمنعها عن التبذل الجنسي أكثر من الأمة، أو التزوج بغير الكفوء، والزواج يصد المرأة عن الفحشاء أو الزواج مع الغير. (1) روى السيوطي في الدر المنثور عن النبي الأكرم " صلى الله عليه وآله وسلم " أنه قال: الإحصان إحصانان: إحصان نكاح، وإحصان عفاف (2) وعلى ضوئه يتبين المقصود من الإحصان الوارد في الآيتين، فقد أريد: من قوله: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت) *. وقوله: * (محصنين غير مسافحين) *. وقوله: * (فإذا أحصن) *. الإحصان بالتزويج.
1 - ابن الأثير: النهاية، مادة " الحصن " بتوضيح منا. 2 - السيوطي: الدر المنثور: 2 / 139. 141 كما أريد من قوله: * (محصنات غير مسافحات) *. هو الإحصان بالعفة. وأريد: من قوله: * (أن ينكح المحصنات المؤمنات) *. وقوله: * (نصف ما على المحصنات من العذاب) *. الإحصان بالحرية. إلى هنا تبين المقصود من الإحصان واتضح أن المراد من قوله * (محصنين غير مسافحين) * هو كونهم متزوجين، كما أن المراد من قوله * (محصنات غير مسافحات) * أي كونهن عفائف (1). هذا حول الإحصان، وأما السفح فهو في اللغة بمعنى صب الماء، يقال: سفحت الماء: إذا صببته. ودم مسفوح أي مراق، والسفاح: الزنا مأخوذ من سفحت الماء إذا صببته. وفي الحديث أوله سفاح وآخره نكاح، والمراد أن المرأة تسافح رجلا مدة ثم يتزوجها بعد ذلك. إذا تبين ذلك تقف على أن المراد من قوله: * (غير مسافحين) * هو غير زانين كما هو الحال في قوله: * (غير مسافحات) * وذلك بحكم كونهما قرينين ل " محصنين " أو " محصنات ". فقوله سبحانه في الآية: * (محصنين غير مسافحين) * يدعو إلى أن مباشرة الرجل للمرأة يجب أن يكون بالتزويج، لا بالزنا، كما أن قوله سبحانه في الآية الثانية: * (محصنات غير مسافحات) * يدعو إلى أن الأمة التي يباشرها الرجل يجب أن تكون عفيفة لا زانية، والهدف هو الدعوة إلى التزوج والنهي عن الزنا، لا الدعوة إلى تكوين النسل والنهي عن مطلق صب الماء.
1 - نظيره قوله سبحانه * (ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها) * (التحريم: الآية 12) أي منعت فرجها من دنس المعصية وعفت عن الحرام. 142 وأظن أن من حمل قوله سبحانه: * (غير مسافحين) * على المعنى اللغوي، لأجل أنه اتخذ موقفا خاصا من المتعة وهو موقف التحريم فحاول البرهنة على مدعاه فتمسك بهذه الكلمة حاملا إياه على المعنى اللغوي، أي تحريم صب الماء سواء كانت المرأة زوجة أو غيرها. ثم إنه كيف يمكن القول بحرمة صب الماء فيما إذا كان الطرف للرجل زوجته الشرعية فيجامعها التذاذا ودفعا للعنت والشبق، ولا يطلب الولد أفيمكن لفقيه الافتاء بالحرمة؟ فإذا كان المتمتع بها زوجة شرعية كما هو المفترض، فمباشرتها للالتذاذ بلا طلب للولد نفس المباشرة للزوجة الدائمة بهذه الكيفية، فكما أن الثاني مباح، فهكذا الأول. فلو كان القائل بالتحريم يريد البرهنة على مدعاه فليركز على نفي كونها زوجة وإلا مع التسليم بكونها زوجة لا دليل على حرمة صب الماء بلا طلب للولد، وقد وقع الكاتب في هذا الاشتباه تبعا لما ذكره الإمام عبده في تفسيره (1) وأنا - شخصيا - أجل الإمام عن هذا التفسير، إنما هو من منشئ المنار السيد محمد رشيد رضا وقد أدخل أفكاره في ثنايا نظريات الإمام عبده. الثاني: لو كان سبب الحرمة كون التزوج متعة لغاية صب الماء لا لتكوين الولد وتشكيل الأسرة، يلزم التفصيل بين كون الغاية منه هو صب الماء وما إذا
1 - الإمام عبده: المنار: 5 / 9: ليكن عفيفات طاهرات ولا يكون التزوج لمجرد التمتع وسفح الماء وإراقته وهو يدل على بطلان النكاح المؤقت وهو نكاح المتعة الذي يشترط فيه الأجل. 143 كانت الغاية تشكيل الأسرة أو طلب الولد. فهل الأستاذ يفتي به أو لا؟ 4 - الآية تهدف إلى تأكيد المهر بعد الاستمتاع: إن القائلين بحلية المتعة تبعا للنصوص الواردة في السنة (وإن أغفل الكاتب ذكرها، وذكر القائلين بنزول الآية فيها من أهل السنة) يستدلون على حلية المتعة بقوله سبحانه: * (فما استمتعتم به منهن ف آتوهن أجورهن فريضة...) * وسيوافيك كيفية الاستدلال بها ولأجل إخلاء الآية عن الدلالة على حكم المتعة حملها الأستاذ على معنى آخر وقال: إنما أوردها تعالى هنا للدلالة على تأكيد المهر بعد الاستمتاع وعدم قابليته للسقوط بعد هذا الاستمتاع إذ من المعلوم أن " عقد الزواج " وإن كان يثبت به المهر كاملا إثر إبرامه، وتستحقه الزوجة بنفس العقد، غير أنه يثبت ثبوتا قابلا لسقوط بعضه، كالطلاق قبل الدخول مثلا، حيث يثبت نصفه فقط، أما بعد " الاستمتاع " بالزوجة فيتأكد " المهر " كملا ويصبح العقد غير قابل لأن يسقط شئ منه. فالآية الكريمة * (فما استمتعتم به منهن) * تفيد أن المهر - كما ذكرنا - يتأكد وجوبه كاملا بالاستمتاع، لا بعقد الزواج وحده، لأنه عرضة لأن يسقط نصفه بالطلاق قبل الدخول، فيتأكد حق المرأة في تمام المهر بالدخول. فالاستمتاع هنا، أثر لعقد النكاح الصحيح الدائم الذي يثبت به المهر كملا غير قابل للسقوط. وليس إنشاء لعقد المتعة (1).
1 - مقدمة الدريني على كتاب " الأصل في الأشياء... " ص 16 - 17. 144 يلاحظ عليه بأمرين: الأول: أن الاستمتاع ورد في الآية على وجه الاطلاق، وهو كما يشمل الدخول، يشمل سائر الوجوه من الاستمتاعات من التقبيل إلى سائر ألوانها، فلو حملنا الآية على أنها بصدد بيان استقرار جميع المهر على الزوج يلزم القول بوجوبه عليه بمجرد التمتع وهذا باطل بضرورة الفقه، لأن استقراره كاملا يتوقف على الدخول وإلا فلا يجب إلا النصف، قال سبحانه: * (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم) * (البقرة / 237). فعلى ما فسر به الآية يجب دفع جميع المهر لمطلق التمتع وهو أمر باطل، والقول بتخصيص الآية بإخراج جميع ألوان التمتع، يستلزم الاستهجان في الكلام لأنه يكون من قبيل تخصيص الأكثر. الثاني: أن القرآن الكريم تكفل ببيان حكم المهر في الآية السابقة حيث فرق بين المس وعدمه فلا حاجة إلى إعادة مضمونه بلا ملزم. أضف إليه أنه سبحانه ذكر حكم المهور قبل هذه الآية في نفس السورة فقال: * (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) * (النساء / 4). وقال سبحانه: * (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا) * (النساء / 20). وعلى ذلك فلا حاجة للإعادة مع هذه الآيات الصريحة.
145 5 - حمل الآية على المتعة يوجب انقطاعها عن قبلها: إن حمل الآية على المتعة يستلزم كونها كلاما جديدا منقطعا عما قبلها وعما بعدها لأنه - من وجهة نظرهم - يتناول موضوعا جديدا وهو " عقد المتعة " خلافا لما قبله، وهو النكاح الصحيح الدائم، وهذا غير صحيح لغة، لأن المعلوم أن " الفاء " في قوله تعالى: * (فما استمتعتم) * تربط ما بعدها بما قبلها، وإلا تفكك النظم القرآني، فالعطف بالفاء مانع من قطع المعنى بعدها، عما قبلها، فيتعين أن يكون قوله تعالى: * (فما استمتعتم به منهن) * منصرفا إلى الاستمتاع بالنكاح الدائم الصحيح، لا بالمتعة، لأن العطف يمنع هذا الانقطاع. يدلك على هذا، آخر الآية الكريمة من قوله تعالى: * (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم) * ويتبع ذلك قوله تعالى معللا السبب: * (ذلك لمن خشي العنت منكم وإن تصبروا خير لكم) *. ولا جرم، أن هذا السياق من أول الآية إلى آخرها خاص بالنكاح المشروع الدائم، فكان هذا مانعا من أن يقحم نكاح المتعة في وسطها، ومانعا أيضا من الدلالة على ذلك، لوحدة السياق الذي ينتظم وحدة الموضوع التي تتناولها الآيات بأحكامها، إذ لو كانت " المتعة " جائزة لما نصت الآية صراحة على التزوج من الإماء، ولما اضطر الناس إلى ذلك، ولما جعل الشارع خشية العنت، ثم جعل الصبر على ترك نكاح الأمة خيرا من نكاحهن، ولكان في نكاح المتعة مندوحة عن ذلك كله، لو كان جائزا!! (1).
1 - المصدر السابق: ص 17 - 18. 146 يلاحظ عليه بأمور: ألف: أن حاصل كلامه في المقام يرجع إلى أمرين: أحدهما: أن حمل قوله سبحانه: * (فما استمتعتم...) * على المتعة يوجب تفكيك النظم القرآني. الثاني: أنه لو كانت المتعة جائزة لما نصت الآية صراحة على التزوج بالإماء ولما اضطر الناس إلى ذلك مع أنه سبحانه يقول: * (ومن لم يستطع منكم طولا...) *. والأول مأخوذ من كتاب " الوشيعة في نقض عقائد الشيعة " لموسى جار الله قال فيها: " وأرى أن أدب البيان يأبى، وعربية هذه الجملة الكريمة تأبى أن تكون هذه الجملة الجليلة الكريمة قد نزلت في المتعة لأن تركيب هذه الجملة يفسد، ونظم هذه الآية الكريمة يختل لو قلنا بأنها نزلت فيها " (1) وأدب المناظرة تقتضي بيان مصادر الفكرة وأداء حق كل ذي حق حقه، ولكن الأستاذ شطب على هذا الأصل الأخلاقي بقلم عريض، وقد تكرر منه ذلك كما عرفت. ب: أن دراسة الظروف السائدة للبيئة التي نزلت فيها الآية تعين على دراسة الآية وتحديد مفهومها. فيجب على المفسر الواعي النظر إلى الشرائط الموجودة في زمان نزولها بذهن خال عن كل رأي مسبق وإلا فدراسة الآية، بالذهن المكتظ بالمفاهيم السلبية، تعرقل خطى المفسر وتصده عن الوصول إلى الحقيقة فنقول: إن الظاهر من السنة، أن المتعة شرعت بسنة النبي الأكرم وتحليله، أو
1 - موسى جار الله: الوشيعة في نقض عقائد الشيعة / 32. 147 بإمضائه ما هو الموجود في صدر الإسلام والآية نزلت تأكيدا لما شرعه النبي الأكرم بأمر منه سبحانه ويدل على ذلك: 1 - ما رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كانت متعة النساء في أول الإسلام، كان الرجل يقدم البلدة ليس معه من يصلح له ضيعته ولا يحفظ متاعه فيزوج المرأة إلى قدر ما يرى أنه يفرغ من حاجته فتنظر له متاعه وتصلح له ضيعته... 2 - ورواه الطبراني والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: كانت المتعة في أول الإسلام... فكان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج بقدر ما يرى أنه يفرغ من حاجته لتحفظ متاعه وتصلح له شأنه... 3 - أخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: كنا نغزو مع رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " وليس معنا نساؤنا فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك ورخص لنا أن نتزوج المرأة بالثوب إلى أجل ثم قرأ عبد الله: * (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) *. 4 - وأخرج عبد الرزاق وأحمد ومسلم عن سبرة الجهني قال: أذن لنا رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " عام فتح مكة في متعة النساء، فخرجت أنا ورجل من قومي ولي عليه فضل في الجمال وهو قريب من الدمامة... 5 - وأخرج ابن شيبة وأحمد ومسلم عن سبرة قال: رأيت رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " قائما بين الركن والباب وهو يقول: يا أيها الناس إني كنت أذنت في الاستمتاع ألا وأن الله حرمها إلى يوم القيامة... (1).
1 - السيوطي: الدر المنثور: 2 / 140. 148 6 - روى البخاري في صحيحه بسنده عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع قال: كنا في جيش فأتانا رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " فقال: إنه قد أذن لكم أن تستمتعوا فاستمتعوا (1). 7 - روى مسلم في صحيحه بسنده: خرج علينا منادي رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " فقال: إن رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " قد أذن لكم أن تستمتعوا، يعني متعة النساء (2). 8 - روى مسلم في صحيحه أيضا بسنده عن سلمة بن الأكوع، وجابر بن عبد الله: أن رسول الله أتانا فأذن لنا في المتعة (3). إلى غير ذلك من الروايات التي دعت الفخر الرازي وغيره في تفسيره إلى القول بأنها كانت مباحة في ابتداء الإسلام (4). وبما أن الآية مدنية فقد نزلت في أجواء كان هنا وراء النكاح الدائم الذي هو الأصل في النكاح، نكاح المتعة، وتزويج الإماء، والآية واردة في سورة النساء التي تكفلت لبيان أحكام النساء وما يرجع إليهم في مختلف الأحوال، وعلى ذلك فلا يكون هنا اقتضاب ولا ارتجال في أن تبين حكم المتعة أولا وتزويج الإماء ثانيا، بعد الفراغ من حكم النكاح الدائم. إن الناظر في آيات السورة من أولها إلى الآية الخامسة والعشرين التي تكفلت ببيان تزويج الإماء، يقف على أن المحور للأحكام الواردة فيها هو النكاح الدائم فأصدرت فيها أحكاما بالشكل التالي:
1 - البخاري: الصحيح: 7 / 13 كتاب النكاح. 2 - مسلم: الصحيح: 4 / 130 باب نكاح المتعة. 3 - مسلم: الصحيح: 4 / 130 باب نكاح المتعة. 4 - الفخر الرازي: مفاتيح الغيب: 10 / 49. 149 1 - يجوز نكاح ما طاب من النساء إلى أربع بشرط رعاية العدالة وإلا فواحدة (الآية 3). 2 - يجب إيتاء صدقات النساء ومهورهن ولا يجوز أخذ شئ، منها إلا بإذنهن (الآية 4). 3 - حكم من يأتي الفاحشة من النساء (الآية 7). 4 - ميراث الأزواج زوجا وزوجة، ذات ولد أو غير ذات ولد (الآية 12). 5 - ردع السنة الجاهلية من إرث النساء حيث كانت نساء الموتى معدودة من التركة (الآية 19). 6 - النهي عن إمساك الزوجة التي لا رغبة له فيها، إضرارا ليأخذ بعض ما آتاها من المهر. 7 - الأمر بالمعاشرة معها بالمعروف في القول والنفقة والمبيت (الآية 19). 8 - إذا أراد استبدال زوج مكان زوج، وأعطى لواحدة من زوجاته مالا كثيرا صداقا فليس له الأخذ، فلو أخذ، فقد أخذ ظلما وزورا. (الآية 20). ثم بين المحرمات اللاتي، لا يجوز نكاحهن ضمن آيات ثلاث (21 و 22 وصدر الآية 23). فبقوله سبحانه: * (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم) * تم بيان ما يرجع إلى أحكام النكاح الدائم وما حوله من وظائف للزوجين. غير أن التشريع لما كان بصدد بيان حكم ما هو الرائج يوم ذاك، ذكر حكم
150 أمرين: 1 - النكاح المؤقت فأشار إليه بقوله: * (فما استمتعتم به منهن ف آتوهن أجورهن فريضة) *. 2 - تزويج الإماء فأشار إليه بقوله: * (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم) *. ولا يعد مثل ذلك الانتقال من الدائم، إلى المؤقت، ثم إلى نكاح الإماء، اقتضابا في الكلام أو ارتجالا في البيان، لما عرفت أن الآية نزلت، والمتعة كانت أمرا رسميا، مثل نكاح الإماء فالاكتفاء ببيان حكم النكاح الدائم والسكوت عن الآخرين مخالف لإكمال التشريع. ومن هنا يعلم: أن قوله: * (استمتعتم) * ليس بمعناه اللغوي أي التمتع والالتذاذ، بل بمعنى عقد المتعة، يظهر ذلك بملاحظة ما سبق من الروايات، حيث جاءت فيها المتعة، بمعنى العقد على المرأة متعة. والذي أوقع الأستاذ وغيره فيما أوقع، هو تصور أن اللفظ بمعناه اللغوي، غافلا عما هو المصطلح في ذلك اليوم، وحمله على المعنى اللغوي، أشبه بحمل ألفاظ الصلاة والصوم والحج على معانيها اللغوية. فلو رجع الأستاذ ومن لف لفه إلى النصوص الواردة حول المتعة جوازا ومنعا في التفاسير بالأثر، نظير تفسير الطبري والدر المنثور لأذعن بأن اللفظة، كانت في ذلك اليوم حقيقة في النكاح المؤقت، بحيث لا يراد منها سوى هذا. وأما العدول عن لفظ النكاح والزواج إلى هذا اللفظ فللإشعار إلى ما هو الغاية من هذا العقد، ولأجل ذلك أتى بلفظ الأجر مكان المهر، للإيماء إلى لزوم أدائه وعدم
151 التهاون في دفعه. فاتضح أن السورة من أولها إلى نهاية الآية الخامسة والعشرين عالجت الموضوعات المطروحة في ذلك اليوم، وبين أحكامها وأوضح معالمها وحدودها وكان ذلك مقتضى إكمال الشريعة. وجه تصدير الجملة ب " فاء " التفريع: بقي الكلام في أنه لماذا صدر بيان الزواج المؤقت بلفظة " فاء " التفريع حيث قال: * (فما استمتعتم به منهن ف آتوهن أجورهن) * مع أنه لم يسبق منه في الظاهر شئ في الآيات المتقدمة: ولكن الإجابة عنه واضحة لأن المصحح لدخولها، تقدم جملتين في كل واحدة إيماء إلى هذا النوع من النكاح: أحدهما: * (أن تبتغوا بأموالكم) *. ثانيهما: * (محصنين غير مسافحين) *. وفي كل من هذين القيدين إشارة إلى الزواج المؤقت. قال سبحانه: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم...) *. توضيحه: ماذا يريد سبحانه من قوله: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم) * هل يريد حل ما وراءه بالنكاح الدائم فقط أو يريد شيئا وراء ذلك؟ والاحتمال الأول يوجب خروج الكلام مخرج توضيح الواضح للعلم الضروري، بحلية نكاح ما وراء المحرمات بالنكاح الدائم، فما هو الدافع على توضيح الواضح خصوصا أنه تقدم
152 في صدر السورة قوله: * (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) * (النساء / 3). فلا مناص عن احتمال آخر، وهو: أنه يهدف إلى بيان حلية النكاح الذي يبتغى بالأموال بحيث يكون للمال (الصداق) هناك دور واسع. بحيث لولاه لبطل، أو لما تحقق. فيوضح قوله: * (ما وراء ذلكم) * بقوله: * (أن تبتغوا بأموالكم) * وليس ذلك إلا نكاح المتعة، لا النكاح الدائم، فإن الصداق في الثاني ليس بركن، بل يجوز تركه قال سبحانه: * (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة) * (البقرة / 236) قال ابن قدامة: ويستحب أن لا يعرى النكاح عن تسمية الصداق، لأن النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " كان يزوج بناته وغيرهن ويتزوج، فلم يكن يخلي ذلك من صداق (1). وهذا بخلاف المتعة، فإن الأجل والصداق فيها ركن، تبطل بترك واحد منهما، قال الإمام الصادق: " لا تكون متعة إلا بأمرين: أجل مسمى، وأجر مسمى " (2) ولأجل ذلك صح الإتيان بفاء التفريع. ثم وصف الزوج بأن يكون محصنا لا زانيا وقال: * (محصنين غير مسافحين) * بأن يكون اللقاء بنية الزواج لا الزنا، وبما أن عقد المتعة ربما ينحرف عن مجراه ومسيره الصحيح فيتخذ لنفسه لون السفاح لا الزواج، أمر سبحانه بأن يكون الهدف هو الزواج لا السفاح. فصار ذلك أيضا مصححا لدخول الفاء في الجملة لما فيها من الإيماء إلى ما ربما يكون الرجل فيه زانيا لا متزوجا.
1 - المغني: 7 / 136 وكلامه صريح في عدم الوجوب وعدم الخلاف فيه بين المذاهب. 2 - الحر العاملي: الوسائل: 14 الباب 17 من أبواب المتعة الحديث 1 والسند صحيح. 153 وبما أن نكاح الإماء أيضا، مظنة لذلك الأمر إذ الغالب على الإماء هو روح الابتذال قيد سبحانه العفة في نكاحين بقوله: * (محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان) * (النساء / 25). وبالجملة: إن افتتاح الكلام، بجملتين، حاملتين مفهوم المتعة، هو المسوغ لدخول الفاء. وبذلك تقف على أن النظم القرآني بعد لم يتفكك، وأن أدب البيان يقتضي حمله على ما فهمه السلف الصالح من هذه الجملة وإن اختلفوا في نسخها وعدمها. ومن رجع إلى كتب الحديث والتفسير والفقه، يرى أن المحدثين والمفسرين والفقهاء، تسلموا نزول الآية في عقد المتعة وإنما اختلفوا في بقاء حليتها، فقد رووا عن النبي الأكرم أنه " صلى الله عليه وآله وسلم " حرمها، كما رووا عن غيره. ولم يخطر ببال أحد منهم أن حملها على الزواج المؤقت يهدم نظم الآية، أو يوجد خللا في بيانها. هذا كله حول الأمر الأول وأما الأمر الثاني وهو لو كانت المتعة جائزة لما وصلت النوبة إلى نكاح الإماء، مع أنه سبحانه قيد نكاحهن بعدم الاستطاعة على نكاح الحرائر دائما أو منقطعا حسب الفرض. يلاحظ عليه: أن الإماء بطبيعة الحال تكون مبتذلة ولأجل ذلك لا يجوز نكاحهن إلا عند الضرورة وعدم الطول لنكاح المحصنات، ولأجل ذلك اشترط فيهن الإحصان، قال سبحانه: * (محصنات غير مسافحات ولا متخذات أخدان) *
154 ولا ترى هذا الشرط في جانب الحرائر وما هذا إلا للابتذال السائد عليهن. وأما إغناء نكاح المتعة عن نكاح الإماء فهو رجم بالغيب إذ ليست بالوفرة التي يتخيلها الكاتب حتى يستغنى بها عن نكاح الإماء، فإن كثيرا من النساء الثيب تأبى نفسها عن العقد المنقطع، فضلا عن الأبكار، فليس للشارع إلا فتح طريق ثالث وهو نكاح الإماء عند عدم الطول. إن المرأة المتمتع بها عند الكاتب لا تختلف عن النساء المبتذلات اللاتي يعرضن أنفسهن في النوادي والفنادق وبيوت الدعارة والالتذاذ بهن يغني عن نكاح الإماء، لكن المتمتع بهن متعة مشروعة بالكتاب والسنة حرائر عفاف لا صلة بينهن وبين المتواجدات في دمن الفحشاء أعاذنا الله وإياكم من شرور أنفسنا. إلى هنا تبين أن دلالة الذكر الحكيم على جواز الزواج المؤقت مما لا غبار عليها، بشرط أن يتجرد الناظر عن كل رأي مسبق وعما يقوله هذا الإمام، أو ذاك، فلا محيص عن الأخذ بمفاد الذكر الحكيم إلا إذا ثبت النسخ بالدليل القاطع وأنى للقائل بالتحريم إثباته فقد اختلفوا في زمان النسخ إلى أقوال مختلفة تسلب الركون إلى الجميع، كما عرفت. وأما قراءة الآية بزيادة " إلى أجل مسمى " فلا تعني كونها جزءا من الآية سقطت منها، بل تعني إلى تبيين المراد، وقد قرأ بها ابن مسعود، وأبي بن كعب وابن عباس وليست خاصة بابن مسعود كما زعمه الكاتب فلاحظ (1).
1 - لاحظ التفاسير بالأثر: الدر المنثور: 2 / 140. 155 6 - نقد استدلال المجيزين بالسنة: إن الكاتب عطف عنان البيان إلى نقد استدلال المجيزين وقال: " قالوا إن الرسول " صلى الله عليه وآله وسلم " قد أباح المتعة لأصحابه. ويرد عليهم أن هذه الإباحة إنما كانت عارضة لأمر عارض يوم فتح مكة، وهذا استثناء من أصل التحريم، وقد ثبت قطعا نسخها بالأحاديث الصحيحة فتعود إلى الأصل وهو التحريم " (1). كان المترقب من كاتب موضوعي، أن ينقل دليل المخالف برحابة صدر والأسف أنه تخلف عن ذلك الطريق فنقل دليل المجوز بصورة ناقصة جدا، إن المجيز يستدل بروايات صحيحة في الصحاح والمسانيد تدل بوضوح على أن النبي الأكرم شرع المتعة بوحي منه سبحانه ولم يحرمها إلى رحيله، وقد نصت على أن التحريم إنما جاء بعد رحيله وإليك بعض ما روي فإن الاستيعاب لا يناسب المقام: 1 - روى مسلم بسنده: عن أبي نضر قال: كنت عند جابر بن عبد الله فأتاه آت فقال: ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين. فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله ثم نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما (2). 2 - روى البيهقي عن أبي نضرة عن جابر - رضي الله عنه - قال: قلت: إن ابن الزبير ينهى عن المتعة وإن ابن عباس يأمر، قال: على يدي جرى الحديث تمتعنا مع رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " ومع أبي بكر - رضي الله عنه - فلما
1 - المقدمة: 22. 2 - مسلم: الصحيح، الجزء 4 باب نكاح المتعة، ص 131 الحديث 8، البيهقي: السنن: 7 / 206. 156 ولي عمر خطب الناس: إن رسول الله هذا الرسول، وإن القرآن هذا القرآن، وإنهما كانتا متعتان على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: إحداهما متعة النساء ولا أقدر على رجل تزوج امرأة إلى أجل إلا عيبته بالحجارة، والأخرى متعة الحج... (1). 3 - روى الإمام أحمد بإسناد رجال كلهم ثقات، عن عمران بن حصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله تبارك وتعالى وعملنا بها مع رسول الله فلم تنزل آية تنسخها ولم ينه عنها النبي حتى مات (2). 4 - روى أبو جعفر الطبري في تفسيره بإسناد صحيح، عن شعبة، عن الحكم قال، قال: سألته عن هذه الآية أمنسوخة هي؟ قال: لا. قال الحكم: وقال علي - رضي الله عنه - لولا أن عمر - رضي الله عنه - نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي (3). إلى غير ذلك من المرويات في السنن والمسانيد، الدالة على جوازها شرعا في عصر الرسول وأنها بقيت على ما كانت عليه، غير أنه قال فيها رجل برأيه، وصارت السنة بدعة. وأوضح دليل على أن مبدأ التحريم هو منع الخليفة عنها، ما جاء في بعض خطبه: متعتان كانتا على عهد رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة الحج ومتعة النساء. وقد اشتهر هذا الكلام منه، اشتهار الشمس في رابعة النهار رواه عنه نظراء
1 - البيهقي: السنن: 7 / 206، ومسلم: الصحيح الجزء 4 باب في المتعة بالحج الحديث 1. 2 - الإمام أحمد: المسند: 4 / 436. 3 - الطبري: التفسير: 5 / 9. 157 الجاحظ في البيان والتبيين 2 / 223، الجصاص في أحكام القرآن 1 / 342 و 345، القرطبي: جامع الأحكام 2 / 370، التفسير الكبير: الرازي 2 / 167، ابن قيم: زاد المعاد 1 / 444 إلى غيرها من المصادر التي جاءت فيها هذه الجملة. قال الراغب في المحاضرات: قال يحيى بن أكثم لشيخ بالبصرة: بمن اقتديت في جواز المتعة؟ قال: بعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: كيف وعمر كان أشد الناس فيها؟ فقال: لأن الخبر الصحيح أنه صعد المنبر فقال: إن الله ورسوله قد أحلا لكم متعتين وإني محرمهما عليكم وأعاقب عليهما. فقبلنا شهادته ولم نقبل تحريمه (1). 7 - أدلة جماهير الأمة القائلين بتحريم نكاح المتعة: ذكر الأستاذ في هذا الفصل أدلة القائلين بتحريم نكاح المتعة، وجعل القول بالحرمة رأيا لجماهير الأمة كما عرفت، وكأن الشيعة وهم ربع المسلمين أو ثلثهم ليسوا من جماهير الأمة، وكأنهم شذاد الآفاق، كما أن أئمة أهل البيت الذين هم أعدال الكتاب وقرناؤه ليسوا منهم. ولو أنصف كان عليه أن يقول: أدلة القائلين بالتحريم، بحذف كلمة " جماهير الأمة ". وعلى كل تقدير فقد نقل استدلالهم بقوله تعالى: * (والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) * (المؤمنون / 5 - 7). وجه الاستدلال: أن المرأة المتمتع بها ليست أمة كما هو واضح، ولا زوجة،
1 - الراغب: المحاضرات: 2 / 94. 158 لعدم ترتب آثار عقد النكاح الصحيح كالنفقة والإرث والطلاق (1). يلاحظ عليه: بأنه خلط آثار الشئ بمقوماته، فالذي يضر هو فقدان المقومات لا الآثار، فإن النكاح رابطة وعلقة بين الزوجين، كما أن البيع رابطة بين المالين، فالذي يجب وجوده هو ما جاء في التعريف من وجود الزوجين، أو وجود المالين، وأما ما وراء ذلك فإنما هي آثار ربما تترتب، وربما تتخلف، فقد ذكر من آثار النكاح: النفقة، والإرث، والطلاق. وزعم أن فقدان واحد منها يوجب فقدان حقيقة النكاح، ولكن الأمر ليس كذلك، بشهادة الموارد التالية التي تفقد الآثار ولا تفقد حقيقة النكاح: 1 - الزوجة الناشزة لا تجب نفقتها مع أنها زوجة. 2 - الزوجة الصغيرة زوجة ولا تجب نفقتها. 3 - الزوجة القاتلة لا ترث الزوج مع أنها زوجة. 4 - الزوجة الكافرة لا ترث زوجها المسلم مع أنها زوجة، وكذا الزوجة المسلمة زوجة ولا ترث زوجها الكافر عند أهل السنة. 5 - الزوجة المجنونة وغيرها من ذوي العاهات (2) تبين بلا طلاق. إلى غير ذلك من الموارد التي يبين فيها الزوجان بلا طلاق مما ذكره الفقهاء في مجوزات الفسخ. 6 - الزوجة التي باهلها الزوج تبين بلا طلاق.
1 - مقدمة كتاب " الأصل في الأشياء... " ص 26. 2 - قال الخرقي في متن المغني: " وأي الزوجين وجد بصاحبه جنونا أو جذاما أو برصا أو كانت المرأة رتقاء أو قرناء أو عفلاء أو فتقاء أو الرجل مجنونا فلمن وجد ذلك منهما يصاحبه الخيار في فسخ النكاح " المغني: 7 / 109 تصحيح محمد خليل، ولاحظ الخلاف للطوسي: 2 / 396 فصل في العيوب المجوزة للفسخ المسألة 124. 159 وكان على الأستاذ أن يدرس مقومات الموضوع ويميزها عن آثاره، وعلى ذلك فالمتمتع بها داخلة في قوله: * (إلا على أزواجهم) * بلا إشكال. ثم نقل استدلالا آخر للقائلين بالمنع، وهو قوله تعالى: * (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله) * (النور / 33) قائلين بأن المتعة لو كانت جائزة لما أمر الله تعالى بالاستعفاف، لأن أعباء الاستمتاع وتكاليفه سهلة ميسورة، فلا حاجة إذن إلى الأمر بالاستعفاف (1). يلاحظ عليه: أن الكاتب خلط بين النساء المتعففات، والمبتذلات في النوادي والفنادق وبيوت الدعارة، وقد عرفت أن كثيرا من النساء لعلو طبعهن لا يخضعن للمتعة وإن كانت حلالا، إذ ليس كل حلال مرغوبا عند الكل، ولأجل ذلك تصل النوبة إلى الاستعفاف ولا يجد الشاب نكاحا مؤقتا ولا دائما. والعجب أنه استدل على التحريم بالسنة بروايتين، وأغفل عما تدل على الإباحة من السنة (ما هكذا تورد يا سعد الإبل) وقد سمعت أذن العالم أن السلطة أيام خلافة عمر بن الخطاب حالت بين الأمة وحلالها، ولولاه لما كان للمنع صخب وهياج. ولأجل ذلك أخرج ابن أبي شيبة النافع: أن ابن عمر سئل عن المتعة فقال: حرام، فقيل له: إن ابن عباس يفتي بها، قال: فهلا تزمزم بها في زمان عمر. نعم، لو تزمزم بها في أيامه لعلته الدرة التي كانت أهيب من سيف الحجاج. وأخيرا نذكر كلام السدي أحد التابعين، قال في تعريفه نكاح المتعة: الرجل
1 - المقدمة: 28. 160 ينكح المرأة بشرط إلى أجل مسمى ويشهد شاهدان، وينكح بإذن وليها، وإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل، وهي منه بريئة وعليها أن تستبرئ ما في رحمها، وليس بينهما ميراث (1). 8 - هل المتعة من أقسام السفاح؟ إن في كلام الكاتب إيماء إلى أن المتعة من أقسام الزنا، يقول: " ولطالما نهى القرآن عن السفاح، وحرمه تحريما قاطعا وحاسما بالنسبة إلى الرجال والنساء على السواء، ودعا إلى النكاح المشروع الدائم ورغب فيه... " (2). يلاحظ عليه: أن المسلمين عامة أصفقوا على أن الإسلام أحل المتعة، أياما قلائل في فتح مكة - على قول الكاتب - أو قبله في خيبر وغيره على قول الأخيرين، ومعنى كون المتعة داخلة تحت السفاح، أن الوحي السماوي أمر به في أيام أو شهور أو سنوات، والسفاح من أقسام الفحشاء والله سبحانه لا يأمر به وإن بلغ الأمر ما بلغ * (قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون) * (الأعراف / 28). والمسلم المؤمن بكتاب الله وسنة رسوله، لا يخطر بباله أن التشريع، الإسلامي جوز الزنا للمسلمين فترة من الزمن، وأمر بالقبيح، مكان الأمر بالحسن ولا محيص إلا بتفكيك المتعة عن السفاح، موضوعا وحدا وخصوصية، وقد عرفت تعريف السدي لها. وأظن - وظن الألمعي يقين - أن العناية بحفظ كرامة الخليفة وتبرئته من
1 - الطبري: التفسير: 5 / 9. 2 - المقدمة: 31. 161 تحريم ما أحل الله سبحانه، جر القوم إلى هذه التسويلات. مع أن المتتبع لسيرة الخلفاء يقف على أنها ليست أول قارورة كسرت في الإسلام، وليست أول مرة، صارت السنة بدعة، ولعبت يد الهوى في التشريع فغيرت الكلم عن مواضعها، وسيوافيك أن الخليفة حكم على الطلاق ثلاثا - في مجلس واحد - بلا تخلل العدة والرجوع، بأنها تحسب تطليقات ثلاث، مع أنها على خلاف نص الكتاب والسنة، وقد وقف عليه الخليفة بعد أن بلغ السيل الزبى. زلة لا تستقال: إن الدكتور الدريني يصر على أن المتعة أبيحت يوم فتح مكة ثلاثة أيام فقط (أي أباح نبي العظمة والعصمة الفروج ثلاثة أيام لجنوده يوم فتح مكة سفاحا) ولما رأى أن هناك أحاديث تدل على أنه " صلى الله عليه وآله وسلم " نهى يوم خيبر وهي تدل التزاما على وجود إباحة لها قبل هذا اليوم وكانت غزوة خيبر في العام السابع من الهجرة وفتح مكة في الثامن منها، حاول أن يجمع بينها بوجه يمس كرامة الصحابة العدول، وقال: " إن نهي الرسول " صلى الله عليه وآله وسلم " عن المتعة يوم خيبر، لا يدل على أنه أذن لأصحابه بها أولا ثم نهاهم عنها، فلم لا يكون من بعضهم استمرار العادات الجاهلية وكانوا حديثي عهد بها، فيكون النهي عنها كغيرها من العادات الجاهلية التي حرمها الإسلام دون أن تكون مسبوقة بإذن أو ترخيص (1). يلاحظ عليه: أن بين المستمتعين، عبد الله بن مسعود، وجابر بن عبد الله الأنصاري، ولا يمكن رميهما بالجهل بحكم الله، ومعنى ما ذكره الكاتب أنهم كانوا
1 - المقدمة: 23. 162 يقترفون الزنا، مدة طويلة إلى أن وصل إليهم نهي النبي في خيبر وهذا مما لا يلتزم به أحد في أمثال ذينك الصحابيين الجليلين، قال ابن مسعود: كنا نغزوا مع رسول الله وليس معنا نساؤنا فقلنا: ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك ورخص لنا أن نتزوج المرأة بالثوب إلى أجل ثم قرأ عبد الله * (يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) * (1). وفي ذيل كلامه إيماء إلى التحريم البدعي الذي قامت به السلطة. وليست استباحة فروج النساء أمرا نادرا يعذر فيه المقترف، خصوصا إذا كان نظير عبد الله ابن مسعود وجابر بن عبد الله. وكان الأول كثير الولوج على النبي وقال رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم ": " إذنك علي أن ترفع الحجاب ". أسلم بمكة قديما، وتوفي عام 32 ه (2). وهل يصح أن يجهل مثله حكم الله وينجرف في سنن الجاهلية. ولو رمى شيعي أحد الصحابة بهذا الأمر لثارت ثورة القائلين بعدالة كل صحابي ولكن... هذا بعض الكلام حول هذه السنة التي اتخذت لنفسها في هذه الأيام عند إخواننا أهل السنة لون البدعة، وكثير منهم غير واقفين على منطق القائلين بالجواز، ولو أنهم رجعوا إلى الكتاب والسنة من غير رأي مسبق لعادوا إلى الحق. وأقصى ما يمكن أن يقال تبريرا لعمل الخليفة هو أن النهي كان نهيا حكوميا لا إلهيا، ومثله يتبع المصالح والمفاسد، فلو فقد الملاك ارتفع النهي.
1 - السيوطي: الدر المنثور: 2 / 140. والآية في سورة المائدة / 87. 2 - جمال الدين المزي: تهذيب الكمال: 16 / 123. 163 المسألة السابعة: الإشهاد على الطلاق ومما انفردت به الإمامية، القول: بأن شهادة عدلين شرط في وقوع الطلاق، ومتى فقد لم يقع الطلاق وخالف باقي الفقهاء في ذلك (1). وقال الشيخ الطوسي: كل طلاق لم يحضره شاهدان مسلمان عدلان وإن تكاملت سائر الشروط، فإنه لا يقع. وخالف جميع الفقهاء ولم يعتبر أحد منهم الشهادة (2). ولا تجد عنوانا للبحث في الكتب الفقهية لأهل السنة وإنما تقف على آرائهم في كتب التفسير عند تفسير قوله سبحانه: * (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله) * (الطلاق / 2). وهم بين من يجعلونه قيدا للطلاق والرجعة، ومن يخصه قيدا للرجعة المستفادة من قوله: * (فامسكوهن بمعروف) *. روى الطبري عن السدي أنه فسر قوله سبحانه: * (وأشهدوا ذوي عدل
1 - المرتضى: الإنتصار: 127 - 128. 2 - الطوسي: الخلاف: 2، كتاب الطلاق المسألة 5. 165 منكم) * تارة بالرجعة وقال: أشهدوا على الامساك إن أمسكتموهن وذلك هو الرجعة، وأخرى بها وبالطلاق وقال: عند الطلاق وعند المراجعة. ونقل عن ابن عباس: أنه فسرها بالطلاق والرجعة (1). وقال السيوطي: أخرج عبد الرزاق عن عطاء قال: النكاح بالشهود، والطلاق بالشهود، والمراجعة بالشهود. وسئل عمران بن حصين عن رجل طلق ولم يشهد، وراجع ولم يشهد؟ قال: بئس ما صنع طلق في بدعة وارتجع في غير سنة فليشهد على طلاقه ومراجعته وليستغفر الله (2). قال القرطبي: قوله تعالى: * (وأشهدوا) * أمرنا بالإشهاد على الطلاق، وقيل: على الرجعة، والظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق. ثم الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة كقوله: * (وأشهدوا إذا تبايعتم) * وعند الشافعي واجب في الرجعة (3). وقال الآلوسي * (وأشهدوا ذوي عدل منكم) * عند الرجعة إن اخترتموها أو الفرقة إن اخترتموها تبريا عن الريبة (4). إلى غير ذلك من الكلمات الواردة في تفسير الآية. وممن أصحر بالحقيقة عالمان جليلان: أحمد محمد شاكر القاضي المصري، والشيخ أبو زهرة. قال الأول بعد ما نقل الآيتين من أول سورة الطلاق:
1 - الطبري: جامع البيان: 28 / 88. 2 - السيوطي: الدر المنثور: 6 / 232، وعمران بن حصين من كبار أصحاب الإمام علي - عليه السلام -. 3 - القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 18 / 157. 4 - الآلوسي: روح المعاني: 28 / 134. 166 والظاهر من سياق الآيتين أن قوله: * (وأشهدوا) * راجع إلى الطلاق وإلى الرجعة معا والأمر للوجوب، لأنه مدلوله الحقيقي، ولا ينصرف إلى غير الوجوب - كالندب - إلا بقرينة ولا قرينة هنا تصرفه عن الوجوب، بل القرائن هنا تؤيد حمله على الوجوب - إلى أن قال: - فمن أشهد على طلاقه، فقد أتى بالطلاق على الوجه المأمور به، ومن أشهد على الرجعة فكذلك، ومن لم يفعل فقد تعدى حدود الله الذي حده له فوقع عمله باطلا، لا يترتب عليه أي أثر من آثاره - إلى أن قال: - وذهب الشيعة إلى وجوب الإشهاد في الطلاق وأنه ركن من أركانه، ولم يوجبوه في الرجعة والتفريق بينهما غريب لا دليل عليه (1). وقال أبو زهرة: قال فقهاء الشيعة الإمامية الاثني عشرية والإسماعيلية: إن الطلاق لا يقع من غير إشهاد عدلين، لقوله تعالى " في أحكام الطلاق وإنشائه في سورة الطلاق ": * (وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا * ويرزقه من حيث لا يحتسب) * فهذا الأمر بالشهادة جاء بعد ذكر إنشاء الطلاق وجواز الرجعة، فكان المناسب أن يكون راجعا إليه، وإن تعليل الإشهاد بأنه يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر يرشح ذلك ويقويه، لأن حضور الشهود العدول لا يخلو من موعظة حسنة يزجونها إلى الزوجين، فيكون لهما مخرج من الطلاق الذي هو أبغض الحلال إلى الله سبحانه وتعالى. وأنه لو كان لنا أن نختار للمعمول به في مصر لاخترنا هذا الرأي فيشترط لوقوع الطلاق حضور شاهدين عدلين (2).
1 - أحمد محمد شاكر: نظام الطلاق في الإسلام: 118 - 119. 2 - أبو زهرة: الأحوال الشخصية: 365 كما في الفقه على المذاهب الخمسة: 131 (والآية: 2 - 3 من سورة الطلاق). 167 وهذه النصوص تعرب عن كون القوم بين من يقول برجوع الإشهاد إلى الرجعة وحدها، وبين من يقول برجوعه إليها وإلى الطلاق، ولم يقل أحد برجوعه إلى الطلاق وحده إلا ما عرفته من كلام أبي زهرة. وعلى ذلك فاللازم علينا بعد نقل النص، التدبر والاهتداء بكتاب الله إلى حكمه. قال سبحانه: * (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا * فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهدة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا) * (الطلاق / 1 - 2). إن المراد من بلوغهن أجلهن: اقترابهن من آخر زمان العدة وإشرافهن عليه. والمراد بإمساكهن: الرجوع على سبيل الاستعارة، كما أن المراد بمفارقتهن: تركهن ليخرجن من العدة ويبن. لا شك أن قوله: * (وأشهدوا ذوي عدل) * ظاهر في الوجوب كسائر الأوامر الواردة في الشرع ولا يعدل عنه إلى غيره إلا بدليل، إنما الكلام في متعلقه. فهناك احتمالات ثلاثة: 1 - أن يكون قيدا لقوله: * (فطلقوهن لعدتهن) *. 2 - أن يكون قيدا لقوله: * (فأمسكوهن بمعروف) *. 3 - أن يكون قيدا لقوله: * (أو فارقوهن بمعروف) *.
168 لم يقل أحد برجوع القيد إلى الأخير فالأمر يدور بين رجوعه إلى الأول أو الثاني، فالظاهر رجوعه إلى الأول وذلك لأن السورة بصدد بيان أحكام الطلاق وقد افتتحت بقوله سبحانه: * (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) * فذكرت للطلاق عدة أحكام: 1 - أن يكون الطلاق لعدتهن. 2 - إحصاء العدة. 3 - عدم خروجهن من بيوتهن. 4 - خيار الزوج بين الامساك والمفارقة عند اقتراب عدتهن من الانتهاء. 5 - إشهاد ذوي عدل منكم. 6 - عدة المسترابة. 7 - عدة من لا تحيض وهي في سن من تحيض. 8 - عدة أولات الأحمال. وإذا لاحظت مجموع آيات السورة من أولها إلى الآية السابعة تجد أنها بصدد بيان أحكام الطلاق لأنه المقصود الأصلي، لا الرجوع المستفاد من قوله: * (فأمسكوهن) * وقد ذكر تبعا. وهذا هو المروى عن أئمتنا - عليهم السلام -. روى محمد بن مسلم قال: قدم رجل إلى أمير المؤمنين - عليه السلام - بالكوفة فقال: إني طلقت امرأتي بعد ما طهرت من محيضها قبل أن أجامعها، فقال أمير المؤمنين - عليه السلام -
169 : أشهدت رجلين ذوي عدل كما أمرك الله؟ فقال: لا، فقال: اذهب فإن طلاقك ليس بشئ (1). وروى بكير بن أعين عن الصادقين - عليهما السلام - أنهما قالا: وإن طلقها في استقبال عدتها طاهرا من غير جماع، ولم يشهد على ذلك رجلين عدلين، فليس طلاقه إياها بطلاق (2). وروى محمد بن الفضيل عن أبي الحسن - عليه السلام - أنه قال لأبي يوسف: إن الدين ليس بقياس كقياسك وقياس أصحابك، إن الله أمر في كتابه بالطلاق وأكد فيه بشاهدين ولم يرض بهما إلا عدلين، وأمر في كتابه التزويج وأهمله بلا شهود، فأتيتم بشاهدين فيما أبطل الله، وأبطلتم شاهدين فيما أكد الله عز وجل، وأجزتم طلاق المجنون والسكران، ثم ذكر حكم تظليل المحرم (3). قال الطبرسي: قال المفسرون: أمروا أن يشهدوا عند الطلاق وعند الرجعة شاهدي عدل حتى لا تجحد المرأة المراجعة بعد انقضاء العدة ولا الرجل الطلاق. وقيل: معناه وأشهدوا على الطلاق صيانة لدينكم، وهو المروى عن أئمتنا - عليهم السلام - وهذا أليق بالظاهر، لأنا إذا حملناه على الطلاق كان أمرا يقتضي الوجوب وهو من شرائط الطلاق، ومن قال: إن ذلك راجع إلى المراجعة، حمله على الندب (4). ثم إن الشيخ أحمد محمد شاكر، القاضي الشرعي بمصر كتب كتابا حول " نظام الطلاق في الإسلام " وأهدى نسخة منه مشفوعة بكتاب إلى العلامة الكبير
1 - الوسائل: ج 15 الباب 10 من أبواب مقدمات الطلاق الحديث 7 و 3 و 12 ولاحظ بقية أحاديث الباب. 2 - الوسائل: ج 15 الباب 10 من أبواب مقدمات الطلاق الحديث 7 و 3 و 12 ولاحظ بقية أحاديث الباب. 3 - الوسائل: ج 15 الباب 10 من أبواب مقدمات الطلاق الحديث 7 و 3 و 12 ولاحظ بقية أحاديث الباب. 4 - مجمع البيان: 5 / 306. 170 الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء وكتب إليه: إنني ذهبت إلى اشتراط حضور شاهدين حين الطلاق، وإنه إذا حصل الطلاق في غير حضرة الشاهدين لم يكن طلاقا ولم يعتد به، وهذا القول وإن كان مخالفا للمذاهب الأربعة المعروفة إلا أنه يؤيده الدليل ويوافق مذهب الأئمة أهل البيت والشيعة الإمامية. وذهبت أيضا إلى اشتراط حضور شاهدين حين المراجعة، وهو يوافق أحد قولين للإمام الشافعي ويخالف مذهب أهل البيت والشيعة، واستغربت (1) من قولهم أن يفرقوا بينهما والدليل له: * (وأشهدوا ذوي عدل منكم) * واحد فيها. وأجاب العلامة كاشف الغطاء في رسالة إليه بين وجه التفريق بينهما وإليك نص ما يهمنا من الرسالة: قال بعد كلام: " وكأنك - أنار الله برهانك - لم تمعن النظر هنا في الآيات الكريمة كما هي عادتك من الامعان في غير هذا المقام، وإلا لما كان يخفى عليك أن السورة الشريفة مسوقة لبيان خصوص الطلاق وأحكامه حتى أنها قد سميت بسورة الطلاق، وابتدأ الكلام في صدرها بقوله تعالى: * (إذا طلقتم النساء) * ثم ذكر لزوم وقوع الطلاق في صدر العدة أي لا يكون في طهر المواقعة، ولا في الحيض، ولزوم إحصاء العدة، وعدم إخراجهن من البيوت، ثم استطرد إلى ذكر الرجعة في خلال بيان أحكام الطلاق حيث قال عز شأنه: * (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف) * أي إذا أشرفن على الخروج من العدة، فلكم إمساكهن بالرجعة أو تركهن على المفارقة. ثم عاد إلى تتمة أحكام الطلاق فقال: * (وأشهدوا ذوي عدل منكم) * أي في الطلاق الذي سيق الكلام كله لبيان أحكامه ويستهجن عوده إلى
1 - مر نص كلامه حيث قال: والتفريق بينهما غريب. 171 الرجعة التي لم تذكر إلا تبعا واستطرادا، ألا ترى لو قال القائل: إذا جاءك العالم وجب عليك احترامه وإكرامه وأن تستقبله سواء جاء وحده أو مع خادمه أو رفيقه، ويجب المشايعة وحسن الموادعة، فإنك لا تفهم من هذا الكلام إلا وجوب المشايعة والموادعة للعالم لا له ولخادمه ورفيقه، وإن تأخرا عنه، وهذا لعمري حسب القواعد العربية والذوق السليم جلي واضح لم يكن ليخفى عليك وأنت خريت العربية لولا الغفلة (وللغفلات تعرض للأريب)، هذا من حيث لفظ الدليل وسياق الآية الكريمة. وهنالك ما هو أدق وأحق بالاعتبار من حيث الحكمة الشرعية والفلسفة الإسلامية وشموخ مقامها وبعد نظرها في أحكامها. وهو أن من المعلوم أنه ما من حلال أبغض إلى الله سبحانه من الطلاق، ودين الإسلام كما تعلمون - جمعي اجتماعي - لا يرغب في أي نوع من أنواع الفرقة لا سيما في العائلة والأسرة، وعلى الأخص في الزيجة بعد ما أفضى كل منهما إلى الآخر بما أفضى. فالشارع بحكمته العالية يريد تقليل وقوع الطلاق والفرقة، فكثر قيوده وشروطه على القاعدة المعروفة من أن الشئ إذا كثرت قيوده، عز أو قل وجوده، فاعتبر الشاهدين العدلين للضبط أولا وللتأخير والأناة ثانيا، وعسى إلى أن يحضر الشاهدان أو يحضر الزوجان أو أحدهما عندهما يحصل الندم ويعودان إلى الألفة كما أشير إليه بقوله تعالى: * (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) * وهذه حكمة عميقة في اعتبار الشاهدين، لا شك أنها ملحوظة للشارع الحكيم مضافا إلى الفوائد الأخر، وهذا كله بعكس قضية الرجوع فإن الشارع يريد التعجيل به ولعل للتأخير آفات فلم يوجب في الرجعة أي شرط من الشروط.
172 وتصح عندنا معشر الإمامية - بكل ما دل عليها من قول أو فعل أو إشارة - ولا يشترط فيها صيغة خاصة كما يشترط في الطلاق، كل ذلك تسهيلا لوقوع هذا الأمر المحبوب للشارع الرحيم بعباده والرغبة الأكيدة في ألفتهم وعدم تفرقهم، وكيف لا يكفي في الرجعة حتى الإشارة ولمسها ووضع يده عليها بقصد الرجوع وهي - أي المطلقة الرجعية - عندنا معشر الإمامية لا تزال زوجة إلى أن تخرج من العدة، ولذا ترثه ويرثها، وتغسله ويغسلها، وتجب عليه نفقتها، ولا يجوز أن يتزوج بأختها، وبالخامسة، إلى غير ذلك من أحكام الزوجية ". (1)
1 - أصل الشيعة وأصولها: 163 - 165، الطبعة الثانية. 173 المسألة الثامنة: الطلاق ثلاثا دفعة أو دفعات في مجلس واحد من المسائل التي أوجبت انغلاقا وعنفا في الحياة وانتهت إلى تمزيق الأسرة وتقطيع صلات الأرحام في كثير من البلاد، مسألة تصحيح الطلاق ثلاثا دفعة واحدة، بأن يقول: أنت طالق ثلاثا، أو يكرره ثلاث دفعات ويقول في مجلس واحد: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. فتحسب ثلاث تطليقات حقيقة وتحرم المطلقة على زوجها حتى تنكح زوجا غيره. إن الطلاق عند أكثر أهل السنة غير مشروط بشروط عائقة عن التسرع في إيقاعه، ككونها غير حائض، أو في غير طهر المواقعة، أو لزوم حضور العدلين. فربما يتغلب الغيظ على الزوج ويأخذه الغضب فيطلقها ثلاثا في مجلس واحد، ثم يندم على عمله ندامة شديدة تضيق عليه الأرض بما رحبت فيطلب المخلص عن أثره السيئ، ولا يجد عند أئمة المذاهب الأربعة والدعاة إليها مخلصا فيقعد ملوما محسورا ولا يزيده السؤال والفحص إلا نفورا عن الفقه والفتوى. نحن نعلم علما قاطعا بأن الإسلام دين سهل وسمح، وليس فيه حرج وهذا
175 يدفع الدعاة المخلصين إلى دراسة المسألة من جديد دراسة حرة بعيدة عن أبحاث الجامدين الذين أغلقوا باب الاجتهاد في الأحكام الشرعية على وجوههم، وعن أبحاث أصحاب الهوى الهدامين الذين يريدون تجريد الأمم عن الإسلام، وأن ينظروا إلى المسألة ويطلبوا حكمها من الكتاب والسنة، متجردين عن كل رأي مسبق فلعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، وربما تفك العقدة ويجد المفتي مخلصا من هذا المضيق الذي أوجده تقليد المذاهب. وإليك نقل الأقوال: قال ابن رشد: جمهور فقهاء الأمصار على أن الطلاق بلفظ الثلاث حكمه حكم الطلقة الثالثة، وقال أهل الظاهر وجماعة: حكمه حكم الواحدة ولا تأثير للفظ في ذلك (1). قال الشيخ الطوسي: إذا طلقها ثلاثا بلفظ واحد، كان مبدعا ووقعت واحدة عند تكامل الشروط عند أكثر أصحابنا، وفيهم من قال: لا يقع شئ أصلا وبه قال علي - عليه الصلاة والسلام - وأهل الظاهر، وحكى الطحاوي عن محمد بن إسحاق أنه تقع واحدة كما قلناه، وروي أن ابن عباس وطاوسا كانا يذهبان إلى ما يقوله الإمامية. وقال الشافعي: فإن طلقها ثنتين أو ثلاثا في طهر لم يجامعها فيه، دفعة أو متفرقة كان ذلك مباحا غير محذور ووقع. وبه قال في الصحابة عبد الرحمان بن عوف، ورووه عن الحسن بن علي - عليهما الصلاة والسلام -، وفي التابعين ابن سيرين، وفي الفقهاء أحمد وإسحاق وأبو ثور.
1 - ابن رشد: بداية المجتهد: 2 / 62، ط بيروت. 176 وقال قوم: إذا طلقها في طهر واحد ثنتين أو ثلاثا دفعة واحدة، أو متفرقة، فعل محرما وعصى وأثم، ذهب إليه في الصحابة علي - عليه الصلاة والسلام -، وعمر، وابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وفي الفقهاء أبو حنيفة وأصحابه ومالك، قالوا: إلا أن ذلك واقع (1). قال أبو القاسم الخرقي في مختصره: وإذا قال لمدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، لزمه تطليقتان إلا أن يكون أراد بالثانية إفهامها أن قد وقعت بها الأولى فتلزمه واحدة، وإن كانت غير مدخول بها بانت بالأولى ولم يلزمها ما بعدها لأنه ابتداء كلام. وقال ابن قدامة في شرحه على مختصر الخرقي: إنه إذا قال لامرأته المدخول بها: أنت طالق مرتين ونوى بالثانية إيقاع طلقة ثانية، وقعت لها طلقتان بلا خلاف، وإن نوى بها إفهامها أن الأولى قد وقعت بها أو التأكد لم تطلق إلا مرة واحدة، وإن لم تكن له نية وقع طلقتان وبه قال أبو حنيفة ومالك، وهو الصحيح من قولي الشافعي وقال في الآخر: تطلق واحدة. وقال الخرقي أيضا في مختصره: " ويقع بالمدخول بها ثلاثا إذا أوقعها مثل قوله: أنت طالق، فطالق فطالق، أو أنت طالق ثم طالق، ثم طالق، أو أنت طالق، ثم طالق وطالق أو فطالق. وقال ابن قدامة في شرحه: إذا أوقع ثلاث طلقات بلفظ يقتضي وقوعهن
1 - الشيخ الطوسي: الخلاف: 2 كتاب الطلاق، المسألة 3. وعلى ما ذكره، نقل عن الإمام علي رأيان متناقضان، عدم الوقوع والوقوع مع الإثم. 177 معا، فوقعن كلهن كما لو قال: أنت طالق ثلاثا (1). وقال عبد الرحمان الجزيري: يملك الرجل الحر ثلاث طلقات، فإذا طلق الرجل زوجته ثلاثا دفعة واحدة، بأن قال لها: أنت طالق ثلاثا، لزمه ما نطق به من العدد في المذاهب الأربعة وهو رأي الجمهور، وخالفهم في ذلك بعض المجتهدين: كطاوس وعكرمة وابن إسحاق وعلى رأسهم ابن عباس - رضي الله عنهم - (2). إلى غير ذلك من نظائر تلك الكلمات التي تعرب عن اتفاق جمهور الفقهاء بعد عصر التابعين على نفوذ ذلك الطلاق محتجين بما، تسمع، ورائدهم في ذلك تنفيذ عمر بن الخطاب، الطلاق الثلاث بمرأى ومسمع من الصحابة ولكن لو دل الكتاب والسنة على خلافه فالأخذ به متعين. دراسة الآيات الواردة في المقام: قال سبحانه: * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم) * (البقرة / 228). * (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن
1 - ابن قدامة: المغني: 7 / 416. 2 - عبد الرحمان الجزيري: الفقه على المذاهب الأربعة: 4 / 341. 178 تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) * (البقرة / 229). * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون) * (البقرة / 230). * (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه...) * (البقرة / 231). جئنا بمجموع الآيات الأربع - مع أن موضع الاستدلال هو الآية الثانية - للاستشهاد بها في ثنايا البحث وقبل الخوض في الاستدلال نشير إلى نكات في الآيات: 1 - قوله سبحانه: * (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) * كلمة جامعة لا يؤدي حقها إلا بمقال مسهب، وهي تعطي أن الحقوق بينهما متبادلة، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلا وعلى الرجل عمل يقابله، فهما - في حقل المعاشرة - متماثلان في الحقوق والأعمال، فلا تسعد الحياة إلا باحترام كل من الزوجين الآخر، وقيام كل بوظيفته تجاه الآخر، فعلى المرأة القيام بتدبير المنزل والقيام بالأعمال فيه، وعلى الرجل السعي والكسب خارجه، هذا هو الأصل الأصيل في حياة الزوجين الذي تؤيدها الفطرة، وقد قسم النبي الأمور بين ابنته فاطمة وزوجها علي فجعل أمور داخل البيت على ابنته وأمور خارجه على زوجها - صلوات الله عليهما -.
179 2 - " المرة " بمعنى الدفعة للدلالة على الواحد في الفعل، و " الامساك " خلاف الاطلاق، و " التسريح " مأخوذ من السرح وهو الاطلاق يقال: سرح الماشية في المرعى: إذا أطلقها لترعى. والمراد من الامساك هو إرجاعها إلى عصمة الزوجية. كما أن المقصود من " التسريح " عدم التعرض لها لتنقضي عدتها في كل طلاق أو الطلاق الثالث الذي هو أيضا نوع من التسريح. على اختلاف في معنى الجملة. وإن كان الأقوى هو الأول لأن الظاهر أن تصريح عدم إرجاعها بعد الطلاق لأنها قبل انقضاء العدة لا زالت في قيده فتركها وعدم إرجاعها يخرجها من القيد. 3 - قيد الإمساك بالمعروف، والتسريح بإحسان، مشعرا بأنه يكفي في الامساك قصد عدم الإضرار بالرجوع، وأما الإضرار فكما إذا طلقها حتى تبلغ أجلها فيرجع إليها ثم يطلق كذلك، يريد بها الإضرار والإيذاء، وعلى ذلك يجب أن يكون الامساك مقرونا بالمعروف، وعندئذ لو طلب بعد الرجوع ما آتاها من قبل، لا يعد أمرا منكرا غير معروف، إذ ليس إضرارا. وهذا بخلاف التسريح فلا يكفي ذلك بل يلزم أن يكون مقرونا بالإحسان إليها فلا يطلب منها ما آتاها من الأموال. ولأجل ذلك يقول تعالى: * (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا) * أي لا يحل في مطلق الطلاق استرداد ما آتيتموهن من المهر، إلا إذا كان الطلاق خلعا فعندئذ لا جناح عليها فيما افتدت به نفسها من زوجها. وقوله سبحانه: * (فيما افتدت به) * دليل على وجود النفرة من الزوجة فتخاف أن لا تقيم حدود الله فتفتدي بالمهر وغيره لتخلص نفسها. 4 - لم يكن في الجاهلية للطلاق ولا للمراجعة في العدة، حد ولا عد، فكان الأزواج يتلاعبون بزوجاتهم يضاروهن بالطلاق والرجوع ما شاءوا، فجاء الإسلام بنظام دقيق وحدد الطلاق بمرتين، فإذا تجاوز عنه وبلغ الثالث تحرم عليه
180 حتى تنكح زوجا غيره. روى الترمذي: كان الناس، والرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها، وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة، وإن طلقها مائة مرة أو أكثر، حتى قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك فتبيني مني، ولا آويك أبدا قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة فأخبرت النبي فسكت حتى نزل القرآن: * (الطلاق مرتان...) * (1). 5 - اختلفوا في تفسير قوله سبحانه: * (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * إلى قولين: ألف: إن الطلاق يكون مرتين، وفي كل مرة إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، والرجل مخير بعد إيقاع الطلقة الأولى بين أن يرجع فيما اختار من الفراق فيمسك زوجته ويعاشرها بإحسان، وبين أن يدع زوجته في عدتها من غير رجعة حتى تبلغ أجلها وتنقضي عدتها. وهذا القول هو الذي نقله الطبري عن السدي والضحاك فذهبا إلى أن معنى الكلام: الطلاق مرتان فإمساك في كل واحدة منهما لهن بمعروف أو تسريح لهن بإحسان، وقال: هذا مذهب مما يحتمله ظاهر التنزيل لولا الخبر الذي رواه إسماعيل بن سميع عن أبي رزين (2). يلاحظ عليه: أن هذا التفسير ينافيه تخلل الفاء بين قوله: * (مرتان) * وقوله * (فإمساك بمعروف) * فهو يفيد أن القيام بأحد الأمرين بعد تحقق المرتين، لا في
1 - الترمذي: الصحيح: 3 كتاب الطلاق، الباب 16، الحديث 1192. 2 - الطبري: التفسير: 2 / 278 وسيوافيك خبر أبي رزين. 181 أثنائهما. وعليه لا بد أن يكون كل من الامساك والتسريح أمرا متحققا بعد المرتين، ومشيرا إلى أمر وراء التطليقتين. نعم يستفاد لزوم القيام بأحد الأمرين بعد كل تطليقة، من آية أخرى أعني قوله سبحانه: * (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) * (1). ولأجل الحذر عن تكرار المعنى الواحد في المقام يفسر قوله: * (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * بوجه آخر سيوافيك. ب - أن الزوج بعد ما طلق زوجته مرتين، يجب أن يتفكر في أمر زوجته أكثر مما مضى، فيقف أن ليس له بعد التطليقتين إلا أحد الأمرين: إما الامساك بمعروف وإدامة العيش معها، أو التسريح بإحسان بالتطليق الثالث الذي لا رجوع بعده أبدا، إلا في ظرف خاص. فيكون قوله تعالى: * (أو تسريح بإحسان) * إشارة إلى التطليق الثالث الذي لا رجوع فيه ويكون التسريح متحققا به. وهنا سؤالان أثارهما الجصاص في تفسيره: 1 - كيف يفسر قوله: * (أو تسريح بإحسان) * بالتطليق الثالث. مع أن المراد من قوله في الآية المتأخرة * (أو سرحوهن بإحسان) * هو ترك الرجعة وهكذا المراد من قوله * (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف) * (الطلاق / 2) هو تركها حتى ينتهي أجلها، ومعلوم أنه لم يرد من قوله: * (أو سرحوهن بمعروف) * أو قوله: * (أو فارقوهن بمعروف) *: طلقوهن واحدة أخرى
1 - البقرة: الآية 231 وأيضا في سورة الطلاق: * (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف) * (الطلاق / 2). 182 (1). يلاحظ عليه: أن السؤال أو الإشكال ناشئ من خلط المفهوم بالمصداق، فاللفظ في كلا الموردين مستعمل في السرح والإطلاق، غير أنه يتحقق في مورد بالطلاق، وفي آخر بترك الرجعة، وهذا لا يعد تفكيكا في معنى لفظ واحد في موردين، ومصداقه في الآية 229، هو الطلاق، وفي الآية 231، هو ترك الرجعة، والاختلاف في المصداق لا يوجب اختلافا في المفهوم. 2 - إن التطليقة الثالثة مذكورة في نسق الخطاب بعده في قوله تعالى: * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) * وعندئذ يجب حمل قوله تعالى: * (أو تسريح بإحسان) * المتقدم عليه على فائدة مجددة وهي وقوع البينونة بالاثنين (2) بعد انقضاء العدة. وأيضا لو كان التسريح بإحسان هو الثالثة لوجب أن يكون قوله تعالى: * (فإن طلقها) * عقيب ذلك هي الرابعة، لأن الفاء للتعقيب قد اقتضى طلاقا مستقلا بعد ما تقدم ذكره (3). والإجابة عنه واضحة، لأنه لا مانع من الاجمال أولا ثم التفصيل ثانيا، فقوله تعالى: * (فإن طلقها) * بيان تفصيلي للتسريح بعد البيان الإجمالي، والتفصيل مشتمل على ما لم يشتمل عليه الاجمال من تحريمها عليه حتى تنكح زوجا غيره.
1 - الجصاص: التفسير: 1 / 389. 2 - الأولى أن يقول: بكل طلاق. 3 - الجصاص: التفسير: 1 / 389. 183 فلو طلقها الزوج الثاني عن اختياره فلا جناح عليهما أن يتراجعا بالعقد الجديد إن ظنا أن يقيما حدود الله فأين هذه التفاصيل من قوله: * (أو تسريح بإحسان) *. وبذلك يعلم أنه لا يلزم أن يكون قوله: * (فإن طلقها) * طلاقا رابعا. وقد روى الطبري عن أبي رزين أنه قال: أتى النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " رجل فقال: يا رسول الله أرأيت قوله: * (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * فأين الثالثة؟ قال رسول الله: * (إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * هي الثالثة (1). نعم الخبر مرسل وليس أبو رزين الأسدي صحابيا بل تابعي. لكن تضافرت الروايات عن أئمة أهل البيت أن المراد من قوله: * (أو تسريح بإحسان) * هي التطليقة الثالثة (2). إلى هنا تم تفسير الآية وظهر أن المعنى الثاني لتخلل لفظ " الفاء " أظهر بل هو المتعين بالنظر إلى روايات أئمة أهل البيت - عليهم السلام -. بقي الكلام في دلالة الآية على بطلان الطلاق ثلاثا بمعنى عدم وقوعه بقيد الثلاث، وأما وقوع واحدة منها فهو أمر آخر، فنقول: الاستدلال على بطلان الطلاق ثلاثا: إذا تعرفت على مفاد الآية، فاعلم أن الكتاب والسنة يدلان على بطلان الطلاق ثلاثا، وأنه يجب أن يكون الطلاق واحدة بعد الأخرى، يتخلل بينهما
1 - الطبري: التفسير: 2 / 278. 2 - البحراني: البرهان: 1 / 221، وقد نقل روايات ست في ذيل الآية. 184 رجوع أو نكاح، فلو طلق ثلاثا مرة واحدة. أو كرر الصيغة فلا يقع الثلاث. وأما احتسابها طلاقا واحدا، فهو وإن كان حقا، لكنه خارج عن موضوع بحثنا، وإليك الاستدلال عن طريق الكتاب أولا والسنة ثانيا: أولا: الاستدلال عن طريق الكتاب: 1 - قوله سبحانه: (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان). تقدم أن في تفسير هذه الفقرة من الآية قولين مختلفين، والمفسرون بين من يجعلونها ناظرة إلى الفقرة المتقدمة أعني قوله: * (الطلاق مرتان...) * ومن يجعلونها ناظرة إلى التطليق الثالث الذي جاء في الآية التالية، وقد عرفت ما هو الحق، فتلك الفقرة تدل على بطلان الطلاق ثلاثا على كلا التقديرين. أما على التقدير الأول، فواضح لأن معناها أن كل مرة من المرتين يجب أن يتبعها أحد أمرين: إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان. قال ابن كثير: أي إذا طلقتها واحدة أو اثنتين، فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية، بين أن تردها إليك ناويا الاصلاح والإحسان وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها، فتبين منك، وتطلق سراحها محسنا إليها لا تظلمها من حقها شيئا ولا تضار بها (1) وأين هذا من الطلاق ثلاثا بلا تخلل واحد من الأمرين - الامساك أو تركها حتى ينقضي أجلها - سواء طلقها بلفظ: أنت طالق ثلاثا، أو: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق.
1 - ابن كثير: التفسير: 1 / 53. 185 وأما على التقدير الثاني، فإن تلك الفقرة وإن كانت ناظرة لحال الطلاق الثالث، وساكتة عن حال الطلاقين الأولين، لكن قلنا إن بعض الآيات، تدل على أن مضمونها من خصيصة مطلق الطلاق، من غير فرق بين الأولين والثالث فالمطلق يجب أن يتبع طلاقه بأحد أمرين: 1 - الامساك بمعروف. 2 - التسريح بإحسان. فعدم دلالة الآية الأولى على خصيصة الطلاقين الأولين، لا ينافي استفادتها من الآيتين الماضيتين (1). ولعلهما تصلحان قرينة لإلقاء الخصوصية من ظاهر الفقرة * (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * وإرجاع مضمونها إلى مطلق الطلاق ولأجل ذلك قلنا بدلالة الفقرة على لزوم اتباع الطلاق بأحد الأمرين على كلا التقديرين، وعلى أي حال فسواء كان عنصر الدلالة نفس الفقرة أو غيرها - كما ذكرنا - فالمحصل من المجموع هو كون اتباع الطلاق بأحد أمرين من لوازم طبيعة الطلاق الذي يصلح للرجوع. ويظهر ذلك بوضوح إذا وقفنا على أن قوله: * (فبلغن أجلهن) * من القيود الغالبية، وإلا فالواجب منذ أن يطلق زوجته، هو القيام بأحد الأمرين، لكن تخصيصه بزمن خاص وهو بلوغ آجالهن، هو لأجل أن المطلق الطاغي عليه غضبه وغيظه، لا تنطفئ سورة غضبه فورا حتى تمضي عليه مدة من الزمن تصلح فيها، لأن يتفكر في أمر زوجته ويخاطب بأحد الأمرين، وإلا فطبيعة الحكم الشرعي * (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * تقتضي أن يكون حكما سائدا
1 - الآية 231 من سورة البقرة والآية 2 من سورة الطلاق. 186 على جميع الأزمنة من لدن أن يتفوه بصيغة الطلاق إلى آخر لحظة تنتهي معها العدة. وعلى ضوء ما ذكرنا تدل الفقرة على بطلان الطلاق الثلاث وأنه يخالف الكيفية المشروعة في الطلاق، غير أن دلالتها على القول الأول بنفسها، وعلى القول الثاني بمعونة الآيات الأخر. 2 - قوله سبحانه: * (الطلاق مرتان) *. إن قوله سبحانه: * (الطلاق مرتان) *: ظاهر في لزوم وقوعه مرة بعد أخرى لا دفعة واحدة وإلا يصير مرة ودفعة، ولأجل ذلك عبر سبحانه بلفظ " المرة " ليدل على كيفية الفعل وإنه الواحد منه، كما أن الدفعة والكرة والنزلة، مثل المرة، وزنا ومعنى واعتبارا. وعلى ما ذكرنا فلو قال المطلق: أنت طالق ثلاثا، لم يطلق زوجته مرة بعد أخرى، ولم يطلق مرتين، بل هو طلاق واحد، وأما قوله " ثلاثا " فلا يصير سببا لتكرره، وتشهد بذلك فروع فقهية لم يقل أحد من الفقهاء فيها بالتكرار بضم عدد فوق الواحد. مثلا اعتبر في اللعان شهادات أربع، فلا تجزي عنها شهادة واحدة مشفوعة بقوله " أربعا ". وفصول الأذان المأخوذة فيها التثنية، لا يتأتى التكرار فيها بقراءة واحدة وإردافها بقوله " مرتين " ولو حلف في القسامة وقال: " أقسم بالله خمسين يمينا أن هذا قاتله " كان هذا يمينا واحدا. ولو قال المقر بالزنا: " أنا أقر أربع مرات أني زنيت " كان إقرارا واحدا، ويحتاج إلى إقرارات، إلى غير ذلك من الموارد التي لا يكفي فيها العدد عن التكرار.
187 قال الجصاص: * (الطلاق مرتان) *، وذلك يقتضي التفريق لا محالة، لأنه لو طلق اثنتين معا لما جاز أن يقال: طلقها مرتين، وكذلك لو دفع رجل إلى آخر درهمين لم يجز أن يقال: أعطاه مرتين، حتى يفرق الدفع، فحينئذ يطلق عليه، وإذا كان هذا هكذا، فلو كان الحكم المقصود باللفظ هو ما تعلق بالتطليقتين من بقاء الرجعة لأدى ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر المرتين، إذ كان هذا الحكم ثابتا في المرة الواحدة إذا طلق اثنتين، فثبت بذلك أن ذكر المرتين إنما هو أمر بإيقاعه مرتين، ونهى عن الجمع بينهما في مرة واحدة. (1) هذا كله إذا عبر عن التطليق ثلاثا بصيغة واحدة، أما إذا كرر الصيغة كما عرفت، فربما يغتر به البسطاء ويزعمون أن تكرار الصيغة ينطبق على الآية، لكنه مردود من جهة أخرى وهي: أن الصيغة الثانية والثالثة تقعان باطلتين لعدم الموضوع للطلاق، فإن الطلاق إنما هو لقطع علقة الزوجية، فلا زوجية بعد الصيغة الأولى حتى تقطع، ولا رابطة قانونية حتى تصرم، وبعبارة واضحة: إن الطلاق هو أن يقطع الزوج علقة الزوجية بينه وبين امرأته ويطلق سراحها من قيدها، وهو لا يتحقق بدون وجود تلك العلقة الاعتبارية الاجتماعية، ومن المعلوم أن المطلقة لا تطلق، والمسرحة لا تسرح. وربما يقال: إن المطلقة ما زالت في حبالة الرجل وحكمها حكم الزوجة، فعندئذ يكون للصيغة الثانية والثالثة تأثير بحكم هذه الضابطة. ولكن الإجابة عنه واضحة وذلك لأن صيغة الثانية لغو جدا، وذلك لأن الزوجة بعدها أيضا بحكم الزوجة. وإنما تخرج عنه إذا صار الطلاق بائنا وهو يتحقق بالطلاق ثلاثا. والحاصل: أنه لا يحصل بهذا النحو من التطليقات الثلاث، العدد الخاص الذي هو الموضوع للآية التالية أعني قوله سبحانه: * (فإن طلقها فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره) * وكيف لا يكون كذلك، وقد قال " صلى الله عليه وآله وسلم ": لا
1 - الجصاص: أحكام القرآن: 1 / 378. 188 طلاق إلا بعد نكاح، وقال: ولا طلاق قبل نكاح (1). فتعدد الطلاق رهن تخلل عقدة الزواج بين الطلاقين، ولو بالرجوع، وإذا لم تتخلل يكون التكلم أشبه بالتكلم بكلام لغو. قال السماك: إنما النكاح عقدة تعقد، والطلاق يحلها، وكيف تحل عقدة قبل أن تعقد؟! (2). 3 - قوله سبحانه: * (فطلقوهن لعدتهن) *. إن قوله سبحانه: * (الطلاق مرتان) * وارد في الطلاق الذي يجوز فيه الرجوع (3)، ومن جانب آخر دل قوله سبحانه: * (وإذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة) * (الطلاق / 1). على أن الواجب في حق هؤلاء هو الاعتداد وإحصاء العدة، من غير فرق بين أن نقول أن " اللام " في * (عدتهن) * للظرفية بمعنى " في عدتهن " أو بمعنى الغاية، والمراد لغاية أن يعتددن، إذ على كل تقدير يدل على أن من خصائص الطلاق الذي يجوز فيه الرجوع، هو الاعتداد وإحصاء العدة، وهو لا يتحقق إلا بفصل الأول عن الثاني، وإلا يكون الطلاق الأول بلا عدة وإحصاء لو طلق اثنتين مرة. ولو طلق ثلاثا يكون الأول والثاني كذلك. وقد استدل بعض أئمة أهل البيت بهذه الآية على بطلان الطلاق ثلاثا.
1 - البيهقي: السنن الكبرى: 7 / 318 - 321، الحاكم: المستدرك: 2 / 24. 2 - المصدر نفسه: 7 / 321. 3 - فخرج الطلاق البائن كطلاق غير المدخولة، وطلاق اليائسة من المحيض الطاعنة في السن وغيرهما. 189 روى صفوان الجمال عن أبي عبد الله - عليه السلام -: أن رجلا قال له: إني طلقت امرأتي ثلاثا في مجلس واحد؟ قال: ليس بشئ، ثم قال: أما تقرأ كتاب الله: * (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن - إلى قوله سبحانه: - لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) * ثم قال: كل ما خالف كتاب الله والسنة فهو يرد إلى كتاب الله والسنة (1). أضف إلى ذلك: أنه لو صح التطليق ثلاثا فلا يبقى لقوله سبحانه: * (لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) * فائدة لأنه يكون بائنا ويبلغ الأمر إلى ما لا تحمد عقباه، ولا تحل العقدة إلا بنكاح رجل آخر وطلاقه مع أن الظاهر أن المقصود حل المشكل من طريق الرجوع أو العقد في العدة. ثانيا: الاستدلال عن طريق السنة: قد تعرفت على قضاء الكتاب في المسألة، وأما حكم السنة، فهي تعرب عن أن الرسول كان يعد مثل هذا الطلاق لعبا بالكتاب. 1 - أخرج النسائي عن محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقام غضبانا ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ حتى قام رجل وقال: يا رسول الله ألا أقتله؟ (2). إن محمود بن لبيد صحابي صغير وله سماع، روى أحمد بإسناد صحيح عنه قال: أتانا رسول الله
1 - عبد الله بن جعفر الحميري: قرب الإسناد: 30، ورواه الحر العاملي في وسائل الشيعة ج 15 الباب 22، الحديث 25. 2 - النسائي: السنن: 6 / 142، السيوطي: الدر المنثور: 1 / 283. 190 " صلى الله عليه وآله وسلم " فصلى بنا المغرب في مسجدنا فلما سلم منها... (1). ولو سلمنا عدم سماعه كما يدعيه ابن حجر في فتح الباري (2) فهو صحابي ومراسيل الصحابة حجة بلا كلام عند الفقهاء، أخذا بعدالتهم أجمعين. 2 - روى ابن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال: طلق ركانة زوجته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا، فسأله رسول الله: كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثا في مجلس واحد. قال: إنما تلك طلقة واحدة فارتجعها (3). والسائل هو ركانة بن عبد يزيد، روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني مطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا قال: فسأله رسول الله: كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثا. قال، فقال: في مجلس واحد؟ قال: نعم. قال: فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت. قال: فأرجعها فكان ابن عباس يرى إنما الطلاق عند كل طهر (4).
1 - أحمد بن حنبل: المسند: 5 / 427. 2 - ابن حجر: فتح الباري: 9 / 315، ومع ذلك قال: رجاله ثقات، وقال في كتابه الآخر بلوغ المرام 224: رواته موثقون، ونقل الشوكاني في نيل الأوطار: 7 / 11، عن ابن كثير أنه قال: إسناده جيد، أنظر " نظام الطلاق في الإسلام " للقاضي أحمد محمد شاكر: 37. 3 - ابن رشد: بداية المجتهد: 2 / 61، ورواه آخرون كابن قيم في إغاثة اللهفان: 156 والسيوطي في الدر المنثور: 1 / 279 وغيرهم. 4 - أحمد بن حنبل: المسند: 1 / 265. 191 الاجتهاد مقابل النص: التحق النبي الأكرم بالرفيق الأعلى وقد حدث بين المسلمين اتجاهان مختلفان، وصراعان فكريان، فعلي ومن تبعه من أئمة أهل البيت، كانوا يحاولون التعرف على الحكم الشرعي من خلال النص الشرعي آية ورواية، ولا يعملون برأيهم أصلا، وفي مقابلهم لفيف من الصحابة يستخدمون رأيهم للتعرف على الحكم الشرعي من خلال التعرف على المصلحة ووضع الحكم وفق متطلباتها. إن استخدام الرأي فيما لا نص فيه، ووضع الحكم وفق المصلحة أمر قابل للبحث والنقاش، إنما الكلام في استخدامه فيما فيه نص، فالطائفة الثانية كانت تستخدم رأيها تجاه النص، لا في خصوص ما لا نص فيه من كتاب أو سنة بل حتى فيما كان فيه نص ودلالة. يقول أحمد أمين المصري: ظهر لي أن عمر بن الخطاب كان يستعمل الرأي في أوسع من المعنى الذي ذكرناه، وذلك أن ما ذكرناه هو استعمال الرأي حيث لا نص من كتاب ولا سنة، ولكنا نرى الخليفة سار أبعد من ذلك، فكان يجتهد في تعرف المصلحة التي لأجلها نزلت الآية أو ورد الحديث، ثم يسترشد بتلك المصلحة في أحكامه، وهو أقرب شئ إلى ما يعبر عنه الآن بالاسترشاد بروح القانون لا بحرفيته (1). إن الاسترشاد بروح القانون الذي أشار إليه أحمد أمين أمر، ونبذ النص والعمل بالرأي أمر آخر، ولكن الطائفة الثانية كانوا ينبذون النص ويعملون بالرأي،
1 - أحمد أمين: فجر الإسلام: 238، نشر دار الكتاب. 192 وما روي عن الخليفة في هذه المسألة، من هذا القبيل. وإن كنت في ريب من ذلك فنحن نتلو عليك ما وقفنا عليه: 1 - روى مسلم عن ابن عباس، قال: كان الطلاق على عهد رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم (1). 2 - وروى عن ابن طاووس عن أبيه: أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم إنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " وأبي بكر وثلاثا من (خلافة) عمر؟ فقال: نعم (2). 3 - وروى أيضا: أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر واحدة؟ قال: قد كان ذلك فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم (3). 4 - روى البيهقي، قال: كان أبو الصهباء كثير السؤال لابن عباس، قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها، جعلوها واحدة على عهد النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " وأبي بكر - رضي الله عنه - وصدرا من إمارة عمر - رضي الله عنه - فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها، قال: أجيزوهن عليهم (4). 5 - أخرج الطحاوي من طريق ابن عباس أنه قال: لما كان زمن عمر - رضي الله عنه - قال: يا أيها الناس قد كان لكم في الطلاق أناة وإنه من تعجل أناة الله في
1 - مسلم: الصحيح: 4 باب الطلاق الثلاث، الحديث 1 - 3. التتابع: بمعنى الاكثار من الشر. 2 - مسلم: الصحيح: 4 باب الطلاق الثلاث، الحديث 1 - 3. التتابع: بمعنى الاكثار من الشر. 3 - مسلم: الصحيح: 4 باب الطلاق الثلاث، الحديث 1 - 3. التتابع: بمعنى الاكثار من الشر. 4 - البيهقي: السنن: 7 / 339، السيوطي: الدر المنثور: 1 / 279. 193 الطلاق ألزمناه إياه (1). 6 - عن طاووس قال: قال عمر بن الخطاب: قد كان لكم في الطلاق أناة فاستعجلتم أناتكم وقد أجزنا عليكم ما استعجلتم من ذلك (2). 7 - عن الحسن: أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري: لقد هممت أن أجعل إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس أن أجعلها واحدة، ولكن أقواما جعلوا على أنفسهم، فألزم كل نفس ما ألزم نفسه. من قال لامرأته: أنت علي حرام، فهي حرام، ومن قال لامرأته: أنت بائنة، فهي بائنة، ومن قال: أنت طالق ثلاثا، فهي ثلاث (3). هذه النصوص تدل على أن عمل الخليفة لم يكن من الاجتهاد فيما لا نص فيه ولا أخذا بروح القانون الذي يعبر عنه بتنقيح المناط وإسراء الحكم الشرعي إلى المواضع التي تتشارك المنصوص في المسألة، كما إذا قال: الخمر حرام، فيسري حكمه إلى كل مسكر أخذا بروح القانون وهو أن علة التحريم هي الاسكار الموجود في المنصوص وغير المنصوص، وإنما كان عمله من نوع ثالث وهو الاجتهاد تجاه النص ونبذ الدليل الشرعي، والسير وراء رأيه وفكره وتشخيصه، وقد ذكروا هنا: تبريرات لحكم الخليفة: لما كان الحكم الصادر عن الخليفة يخالف نص القرآن أو ظاهره، حاول بعض المحققين تبرير عمل الخليفة ببعض الوجوه حتى يبرر حكمه ويصححه ويخرجه عن مجال الاجتهاد مقابل النص بل يكون صادرا عن دليل شرعي، بيانها:
1 - العيني: عمدة القارئ: 9 / 537، وقال: إسناده صحيح. 2 - المتقي الهندي: كنز العمال: 9 / 676، برقم 27943. 3 - المتقي الهندي: كنز العمال: 9 / 676، برقم 27943. 194 1 - نسخ الكتاب بالإجماع الكاشف عن النص: إن الطلاق الوارد في الكتاب منسوخ، فإن قلت: ما وجه هذا النسخ وعمر - رضي الله عنه - لا ينسخ، وكيف يكون النسخ بعد النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " ؟ قلت: لما خاطب عمر الصحابة بذلك فلم يقع إنكار، صار إجماعا، والنسخ بالإجماع جوزه بعض مشايخنا، بطريق أن الاجماع موجب علم اليقين كالنص فيجوز أن يثبت النسخ به، والإجماع في كونه حجة أقوى من الخبر المشهور. فإن قلت: هذا إجماع على النسخ من تلقاء أنفسهم فلا يجوز ذلك في حقهم، قلت: يحتمل أن يكون ظهر لهم نص أوجب النسخ ولم ينقل إلينا (1). يلاحظ عليه أولا: أن المسألة يوم أفتى بها الخليفة، كانت ذات قولين بين نفس الصحابة، فكيف انعقد الاجماع على قول واحد، وقد عرفت الأقوال في صدر المسألة. ولأجل ذلك نرى البعض الآخر ينفي انعقاد الاجماع البتة ويقول: وقد أجمع الصحابة إلى السنة الثانية من خلافة عمر على أن الثلاث بلفظ واحد واحدة، ولم ينقض هذا الاجماع بخلافه، بل لا يزال في الأمة من يفتي به قرنا بعد قرن إلى يومنا هذا " (2). وثانيا: أن هذا البيان يخالف ما برر به الخليفة عمله حيث قال: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم، ولو كان هناك نص عند الخليفة، لكان التبرير به هو المتعين.
1 - العيني: عمدة القارئ: 9 / 537. 2 - تيسير الوصول: 3 / 162. 195 وفي الختام نقول: أين ما ذكره صاحب العمدة مما ذكره الشيخ صالح بن محمد العمري (المتوفى 1298) حيث قال: إن المعروف عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعند سائر العلماء المسلمين: أن حكم الحاكم المجتهد إذا خالف نص كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " وجب نقضه ومنع نفوذه، ولا يعارض نص الكتاب والسنة بالاحتمالات العقلية والخيالات النفسية، والعصبية الشيطانية بأن يقال: لعل هذا المجتهد قد اطلع على هذا النص وتركه لعلة ظهرت له، أو أنه اطلع على دليل آخر، ونحو هذا مما لهج به فرق الفقهاء المتعصبين وأطبق عليه جهلة المقلدين (1). 2 - تعزيرهم على ما تعدوا به حدود الله: لم يكن الهدف من تنفيذ الطلاق ثلاثا في مجلس، إلا عقابهم من جنس عملهم، وتعزيرهم على ما تعدوا حدود الله، فاستشار أولي الرأي، وأولي الأمر وقال: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم؟ فلما وافقوه على ما اعتزم أمضاه عليهم وقال: أيها الناس قد كانت لكم في الطلاق أناة وأنه من تعجل أناة الله ألزمناه إياه (2). لم أجد نصا فيما فحصت في مشاورة عمر أولي الرأي والأمر، غير ما كتبه إلى أبي موسى الأشعري بقوله: " لقد هممت أن أجعل إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا
1 - العمري: إيقاظ همم أولي الأبصار: 9. 2 - أحمد بن حنبل: المسند: 1 / 314، برقم 2877، وقد مر تخريج الحديث أيضا، لاحظ نظام الطلاق في الإسلام لأحمد محمد شاكر: 79. 196 في مجلس أن أجعلها واحدة... " (1) وهو يخبر عن عزمه وهمه ولا يستشيره، ولو كانت هنا استشارة كان عليه أن يستشير الصحابة من المهاجرين والأنصار القاطنين في المدينة وعلى رأسهم علي بن أبي طالب، وقد كان يستشيره في مواقف خطيرة ويقتفي رأيه. ولا يكون استعجال الناس، مبررا لمخالفة الكتاب والسنة بل كان عليه ردع الناس عن عملهم السيئ بقوة ومنعة، وكيف تصح مؤاخذتهم بما أسماه رسول الله لعبا بكتاب الله (2). يقول ابن قيم: إن هذا القول قد دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم، ولم يأت بعده إجماع يبطله ولكن رأى أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة، وحرمت عليه، حتى تنكح زوجا غيره نكاح رغبة، يراد للدوام لا نكاح تحليل، فإذا علموا ذلك كفوا عن الطلاق المحرم، فرأى عمر أن هذا مصلحة لهم في زمانه، ورأى أن ما كانوا عليه في عهد النبي وعهد الصديق، وصدرا من خلافته كان الأليق بهم، لأنهم لم يتابعوا فيه وكانوا يتقون الله في الطلاق، وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجا، فلما تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله وطلقوا على غير ما شرعه الله ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم فإن الله شرع الطلاق مرة بعد مرة، ولم
1 - المتقي الهندي: كنز العمال: 9 / 676، برقم 27943. 2 - السيوطي: الدر المنثور: 1 / 283. 197 يشرعه كله مرة واحدة (1). يلاحظ عليه: أن ما ذكره من التبرير لعمل الخليفة غير صحيح، إذ لو كانت المصالح المؤقتة مبررة لتغير الحكم فما معنى " حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة " ولو صح ما ذكره لتسرب التغير إلى أركان الشريعة، فيصبح الإسلام ألعوبة بيد الساسة، فيأتي سائس فيحرم الصوم على العمال لتقوية القوة العاملة في المعامل. وفي الختام نذكر تنبه بعض علماء أهل السنة في هذه العصور لما في تنفيذ هذا النوع من الطلاق، ولأجل ذلك تغير قانون محاكم مصر الشرعية وخالف مذهب الحنفية بعد استقلالها وتحررها عن سلطنة الدولة العثمانية. ويا للأسف أن كثيرا من مفتي أهل السنة على تنفيذ هذا النوع من الطلاق، ولأجل ذلك يقول مؤلف المنار بعد البحث الضافي حول المسألة: " ليس المراد مجادلة المقلدين أو ارجاع القضاة والمفتين عن مذاهبهم، فإن أكثرهم يطلع على هذه النصوص في كتب الحديث وغيرها ولا يبالي بها لأن العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب الله وسنة رسوله (2).
1 - ابن قيم الجوزية: إعلام الموقعين: 3 / 36. 2 - السيد محمد رشيد رضا: المنار: 2 / 386، الطبعة الثالثة 1376. 198 تغير الأحكام بالمصالح: ولابن قيم كلام مسهب في تحليل إمضاء عمر الطلاق ثلاثا نأتي بملخصه، وهو يعتمد على تغير الأحكام بالمصالح ويخلط الصحيح بالسقيم وإليك كلامه قال: الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة، كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم. والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها - ثم أتى بأمثلة كثيرة عن باب التعزيرات - وقال: ومن ذلك أنه - رضي الله عنه -، يريد عمر بن الخطاب - لما رأى الناس قد أكثروا في الطلاق، رأى أنهم لا ينتهون عنه إلا بعقوبة فرأى إلزامهم بها عقوبة لهم ليكفوا عنها وذلك: إما من التعزير العارض الذي يفعل عند الحاجة كما كان يضرب في الخمر ثمانين ويحلق فيها الرأس. وإما ظنا أن جعل الثلاث واحدة كان مشروعا بشرط وقد زال. وإما لقيام مانع قام في زمنه منع من جعل الثلاث واحدة. - إلى أن قال: - فلما رأى أمير المؤمنين أن الله سبحانه عاقب المطلق ثلاثا، بأن حال بينه وبين زوجه وحرمها عليه حتى تنكح زوجا غيره، علم أن ذلك لكراهة الطلاق المحرم، وبغضه له، فوافقه أمير المؤمنين في عقوبته لمن طلق ثلاثا
199 بأن ألزمه بها وأمضاها عليه. وقال: فإن قيل: كان أسهل من ذلك أن يمنع الناس من إيقاع الثلاث، ويحرمه عليهم ويعاقب بالضرب والتأديب من فعله لئلا يقع المحذور الذي يترتب عليه. قيل: نعم، لعمر الله كان يمكنه ذلك ولذا ندم في آخر أيامه وود أنه كان فعله، قال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في مسند عمر: أخبرنا أبو يعلى، حدثنا صالح بن مالك، حدثنا خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: ما ندمت على شئ مثل ندامتي على ثلاث: أن لا أكون حرمت الطلاق، وعلى أن لا أكون أنكحت الموالي، وعلى أن لا أكون قتلت النوائح. وليس مراده من الطلاق الذي حرمه، الطلاق الرجعي الذي أباحه الله تعالى وعلم من دين رسول الله جوازه، ولا الطلاق المحرم الذي أجمع المسلمون على تحريمه كالطلاق في الحيض والطهر المجامع فيه، ولا الطلاق قبل الدخول، فتبين قطعا أنه أراد تحريم الطلاق الثلاث - إلى أن قال: - ورأى عمر - رضي الله عنه - أن المفسدة تندفع بإلزامهم به فلما تبين أن المفسدة لم تندفع بذلك وما زاد الأمر إلا شدة، أخبر أن الأولى كان عدوله إلى تحريم الثلاث الذي يدفع المفسدة من أصلها، واندفاع هذه المفسدة بما كان عليه الأمر في زمن رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " وأبي بكر وأول خلافة عمر - رضي الله عنه - (1).
1 - ابن قيم الجوزية: إعلام الموقعين: 3 / 36، وأشار إليه أيضا في كتابه " إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان ": 1 / 336. 200 تغير الأحكام حسب مقتضيات الزمان: يلاحظ عليه: أن ما ذكره من تقسيم الأحكام إلى نوعين، صحيح. لكن من أين علم أن حكم الطلاق الثلاث من النوع الثاني، فأي فرق بين حكم الواجبات والمحرمات وقوله سبحانه: * (الطلاق مرتان) * وكيف يتغير حكم وصف رسول الله خلافه لعبا بالدين؟ وما ذكره من الاحتمالات الثلاثة فالاحتمال الأول هو المتعين وهو الموافق لكلام الخليفة نفسه، وأما الاحتمالان الأخيران من أن جعل الثلاث واحدة كان مشروعا بشرط وقد زال، أو قام مانع عن إمضائه، فلا يعتمد عليهما والدافع إلى تصوير الاحتمالين هو الخضوع للعاطفة وتبرير عمل الخليفة بأي نحو كان. تغير الأحكام حسب مقتضيات الزمان: إن الأحكام التي تتغير بتغير الزمان وتبدل الظروف، عبارة عن الأحكام التي حدد جوهرها برعاية المصالح، وتركت خصوصياتها وأشكالها إلى رأي الحاكم الإسلامي، فهذا النوع من الأحكام يتعرض للتغير دون ما قام الشارع بتحديد جوهره وشكله وكيفيته، ولم يترك للحاكم الإسلامي أي تدخل فيه والأحكام الواردة في الأحوال الشخصية من هذا القبيل، فليس للحاكم التدخل في أحكام النسب والمصاهرة والرضاع والعدد، فليس له أن يحرم ما أحل الله عقوبة للخاطئ. وبالعكس وإنما هي أحكام ثابتة لا تخضع لرأي حاكم وغيره. وأما ما يجوز للحاكم التدخل فيه فهو عبارة عن الأحكام التي تركت خصوصياتها وأشكالها إلى الحاكم، ليصون مصالح الإسلام والمسلمين، بما تقتضيه الظروف السائدة وإليك نزرا يسيرا منها، لئلا يخلط أحدهما بالآخر:
201 1 - في مجال العلاقات الدولية الدبلوماسية: يجب على الدولة الإسلامية أن تراعي مصالح الإسلام والمسلمين، فهذا أصل ثابت وقاعدة عامة، وأما كيفية تلك الرعاية، فتختلف باختلاف الظروف الزمانية والمكانية، فتارة تقتضي المصلحة، السلام، والمهادنة والصلح مع العدو، وأخرى تقتضي ضد ذلك. وهكذا تختلف المقررات والأحكام الخاصة في هذا المجال، باختلاف الظروف ولكنها لا تخرج عن نطاق القانون العام الذي، هو رعاية مصالح المسلمين، كقوله سبحانه: * (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) * (النساء / 141). وقوله سبحانه: * (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين) *. * (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون) * (الممتحنة / 8 - 9). 2 - العلاقات الدولية التجارية: فقد تقضي المصلحة عقد اتفاقيات اقتصادية وإنشاء شركات تجارية أو مؤسسات صناعية، مشتركة بين المسلمين وغيرهم، وقد تقتضي المصلحة غير ذلك. ومن هذا الباب حكم الإمام المغفور له، الفقيد المجدد السيد الشيرازي بتحريم التدخين ليمنع من تنفيذ الاتفاقية الاقتصادية التي عقدت في زمانه بين إيران وانكلترا، إذ كانت مجحفة بحقوق الأمة المسلمة الإيرانية لأنها خولت لانكلترا حق احتكار التنباك الإيراني. 3 - الدفاع عن بيضة الإسلام وحفظ استقلاله وصيانة حدوده من الأعداء،
202 قانون ثابت لا يتغير، فالمقصد الأسنى لمشرع الإسلام، إنما هو صيانة سيادته من خطر أعدائه وأضرارهم ولأجل ذلك أوجب عليهم تحصيل قوة ضاربة ضد الأعداء، وإعداد جيش عارم جرار، تجاه الأعداء كما يقول سبحانه: * (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) * (الأنفال / 60) فهذا هو الأصل الثابت في الإسلام الذي يؤيده العقل والفطرة، أما كيفية الدفاع وتكتيكه ونوع السلاح، أو لزوم الخدمة العسكرية وعدمه، فكلها موكولة إلى مقتضيات الزمان، تتغير بتغيره، ولكن في إطار القوانين العامة فليس هناك في الإسلام أصل ثابت، حتى مسألة لزوم التجنيد الإجباري، الذي أصبح من الأمور الأصلية في غالب البلاد. وما نرى في الكتب الفقهية من تبويب باب أو وضع كتاب خاص، لأحكام السبق والرماية، وغيرها من أنواع الفروسية التي كانت متعارفة في الأزمنة الغابرة، ونقل أحاديث في ذلك الباب، عن الرسول الأكرم " صلى الله عليه وآله وسلم " وأئمة الإسلام فليست أحكامها أصلية ثابتة في الإسلام، دعا إليها الشارع بصورة أساسية ثابتة، بل كانت هي نوع تطبيق لذلك الحكم، والغرض منه، تحصيل القوة الكافية تجاه العدو في تلك العصور، وأما الأحكام التي ينبغي أن تطبق في العصر الحاضر، فإنه تفرضها مقتضيات العصر نفسه (1).
1 - قال المحقق في الشرائع: 152: وفائدة السبق والرماية: بعث النفس على الاستعداد للقتال والهداية لممارسة النضال وهي معاملة صحيحة. وقال الشهيد الثاني: في المسالك في شرح عبارة المحقق: لا خلاف بين المسلمين في شرعية هذا العقد، بل أمر به النبي في عدة مواطن لما فيه من الفائدة المذكورة وهي من أهم الفوائد الدينية لما يحصل بها من غلبة العدو في الجهاد لأعداء الله تعالى. الذي هو أعظم أركان الإسلام ولهذه الفائدة يخرج عن اللهو واللعب المنهى عن المعاملة عليهما. فإذا كانت الغاية من تشريعها الاستعداد للقتال والتدرب للجهاد، فلا يفرق عندئذ بين الدارج في زمن النبي وغيره أخذا بالملاك المتيقن. 203 فعلى الحاكم الإسلامي تقوية جيشه وقواته المسلحة بالطرق التي يقدر معها على صيانة الإسلام ومعتنقيه من الخطر، ويصد كل مؤامرة عليه من جانب الأعداء حسب إمكانيات الوقت. والمقنن الذي يتوخى ثبات قانونه ودوامه وسيادة نظامه الذي جاء به، لا يجب عليه التعرض إلى تفاصيل الأمور وجزئياتها، بل الذي يجب عليه هو وضع الكليات والأصول ليساير قانونه جميع الأزمنة بأشكالها وصورها المختلفة، ولو سلك غير هذا السبيل لصار حظه من البقاء قليلا جدا. 4 - نشر العلم والثقافة واستكمال المعارف التي تضمن سيادة المجتمع ماديا ومعنويا يعتبر من الفرائض الإسلامية، أما تحقيق ذلك وتعيين نوعه ونوع وسائله فلا يتحدد بحد خاص، بل يوكل إلى نظر الحاكم الإسلامي، واللجان المقررة لذلك من جانبه حسب الإمكانيات الراهنة في ضوء القوانين الثابتة. وبالجملة: فقد ألزم الإسلام، رعاة المسلمين، وولاة الأمر نشر العلم بين أبناء الإنسان واجتثاث مادة الجهل من بينهم ومكافحة أي لون من الأمية، وأما نوع العلم وخصوصياته، فكل ذلك موكول إلى نظر الحاكم الإسلامي وهو أعلم بحوائج عصره. فرب علم، لم يكن لازما، لعدم الحاجة إليه، في العصور السابقة، ولكنه أصبح اليوم في الرعيل الأول من العلوم اللازمة التي، فيها صلاح المجتمع، كالاقتصاد والسياسة. 5 - حفظ النظام وتأمين السبل والطرق، وتنظيم الأمور الداخلية ورفع مستوى الاقتصاد وغيرها من الضروريات، فيتبع فيه وأمثاله، مقتضيات الظروف
204 وليس فيه للإسلام حكم خاص يتبع، بل الذي يتوخاه الإسلام، هو الوصول إلى هذه الغايات، وتحقيقها بالوسائل الممكنة، دون تحديد وتعيين لنوع هذه الوسائل وإنما ذلك متروك إلى إمكانيات الزمان الذي يعيش فيه البشر، وكلها في ضوء القوانين العامة. 6 - قد جاء الإسلام بأصل ثابت في مجال الأموال وهو قوله سبحانه: * (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) * وقد فرع الفقهاء على هذا الأصل شرطا في صحة عقد البيع أو المعاملة فقالوا: يشترط في صحة المعاملة وجود فائدة مشروعة وإلا فلا تصح المعاملة ومن هنا حرموا بيع (الدم) وشراءه. إلا أن تحريم بيع الدم وشرائه ليس حكما ثابتا في الإسلام بل التحريم كان في الزمان السابق صورة إجرائية لما أفادته الآية من حرمة أكل المال بالباطل وكان بيع الدم في ذلك الزمان مصداقا له، فالحكم يدور مدار وجود الفائدة (التي تخرج المعاملة عن كونها أكل المال بالباطل) وعدم تحقق الفائدة (التي تخرج المعاملة عن كونها أكل المال بالباطل) فلو ترتبت فائدة معقولة على بيع الدم أو شرائه فسوف يتبدل حكم الحرمة إلى الحلية، والحكم الثابت هنا هو قوله تعالى: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) *. وفي هذا المضمار ورد أن عليا - عليه السلام - سئل عن قول الرسول " صلى الله عليه وآله وسلم ": غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود؟ فقال - عليه السلام -: إنما قال " صلى الله عليه وآله وسلم " ذلك والدين قل، فأما الآن فقد اتسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤ وما اختار (1). هذا ولما كان الحكم بصحة الطلاق ثلاثا، مثيرا للفساد، عبر التاريخ، قام ابن
1 - نهج البلاغة، الحكمة رقم 16. لاحظ كتابنا مفاهيم القرآن: 3 / 265 - 275. 205 قيم - مع تبريره عمل الخليفة بما ذكر - ببيان ما ترتب عليه من شماتة أعداء الدين عليه، وها نحن ننقل نص كلامه: جزاء الانحراف عن الطريق المهيع: إن ابن قيم - كما عرفت - كان من المدافعين المتحمسين عن فتيا الخليفة، وقد برر حكمه بأن المصلحة يومذاك كانت تقتضي الأخذ بما التزم به المطلق على نفسه، وقد عرفت ضعف دفاعه ووهن كلامه، ولكنه ذكر في آخر كلامه بأن المصلحة في زماننا هذا على عكس ما كان عليه زمن الخليفة، وأن تصحيح التطليق ثلاثا، جر الويلات على المسلمين في أجوائنا وبيئاتنا وصار سببا لاستهزاء الأعداء، بالدين وأهله، وأنه يجب في زماننا هذا الأخذ بمر الكتاب والسنة، وهو أنه لا يقع منه إلا واحد. ولكنه غفل عما هو الحق في المقام وأن المصلحة في جميع الأزمنة كانت على وتيرة واحدة، وأن ما حده سبحانه من الحدود، هو المطابق لمصالح العباد ومصائرهم، وأن الشناعة والاستهزاء اللتين يذكرهما ابن قيم إنما نجمتا من الانحراف عن الطريق المهيع والاجتهاد مقابل النص بلا ضرورة مفضية إلى العدول ومن دون أن يكون هناك حرج أو كلفة، ولأجل ذلك نأتي بكلامه حتى يكون عبرة لمن يريد في زماننا هذا أن يتلاعب بالأحكام الشرعية بهذه المصالح المزعومة، وإليك نص كلامه: هذه المسألة مما تغيرت الفتوى بها بحسب الأزمنة وأما في هذه الأزمان التي قد شكت الفروج فيها إلى ربها من مفسدة التحليل، وقبح ما يرتكبه المحللون
206 مما هو رمد بل عمى في عين الدين، وشجى في حلوق المؤمنين، من قبائح تشمت أعداء الدين بها، وتمنع كثيرا ممن يريد الدخول فيه بسببه، بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب، ولا يحصرها كتاب، يراها المؤمنون كلهم من أقبح القبائح ويعدونها من أعظم الفضائح، قد قلبت من الدين رسمه، وغيرت منه اسمه، وضمخ التيس المستعار فيها المطلقة بنجاسة التحليل، وقد زعم أنه قد طيبها للحليل، فيا لله العجب! أي طيب أعارها هذا التيس الملعون؟ وأي مصلحة حصلت لها ولمطلقها بهذا الفعل الدون؟ أترى وقوف الزوج المطلق أو الولي على الباب، والتيس الملعون قد حل إزارها وكشف النقاب، وأخذ في ذلك المرتع، والزوج أو الولي يناديه: لم يقدم إليك هذا الطعام لتشبع، فقد علمت أنت والزوجة ونحن والشهود والحاضرون والملائكة الكاتبون، ورب العالمين، أنك لست معدودا من الأزواج، ولا للمرأة أو أوليائها بك رضا ولا فرح ولا ابتهاج، وإنما أنت بمنزلة التيس المستعار للضراب، الذي لولا هذه البلوى لما رضينا وقوفك على الباب، فالناس يظهرون النكاح ويعلنونه فرحا وسرورا، ونحن نتواصى بكتمان هذا الداء العضال، ونجعله أمرا مستورا بلا نثار ولا دف، ولا خوان ولا إعلان، بل التواصي بهس ومس والإخفاء والكتمان، فالمرأة تنكح لدينها وحسبها ومالها وجمالها. والتيس المستعار لا يسأل عن شئ من ذلك، فإنه لا يمسك بعصمتها، بل قد دخل على زوالها، والله تعالى قد جعل كل واحد من الزوجين سكنا لصاحبه، وجعل بينهما مودة ورحمة ليحصل بذلك مقصود هذا العقد العظيم، وتتم بذلك المصلحة التي شرعه لأجلها العزيز الحكيم.
207 فسل التيس المستعار: هل له من ذلك نصيب، أو هو من حكمة هذا العقد ومقصوده ومصلحته أجنبي غريب؟ وسله: هل اتخذ هذه المصابة حليلة وفراشا يأوي إليه؟ هل رضيت به قط زوجا وبعلا تعول في نوائبها عليه؟ وسل أولي التمييز والعقول: هل تزوجت فلانة بفلان؟ وهل يعد هذا نكاحا في شرع أو عقل أو فطرة إنسان؟ وكيف يلعن رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " رجلا من أمته نكح نكاحا شرعيا صحيحا، ولم يرتكب في عقده محرما ولا قبيحا؟ وكيف يشبهه بالتيس المستعار، وهو من جملة المحسنين الأبرار؟ وكيف تعير به المرأة طول دهرها بين أهلها والجيران، وتظل ناكسة رأسها إذا ذكر ذلك التيس بين النسوان؟ وسل التيس المستعار: هل حدث نفسه وقت هذا العقد الذي هو شقيق النفاق، بنفقة أو كسوة أو وزن صداق؟ وهل طمعت المصابة منه في شئ من ذلك، أو حدثت نفسها به هنالك؟ وهل طلب منها ولدا نجيبا واتخذته عشيرا وحبيبا؟ وسل عقول العالمين وفطرهم: هل كان خير هذه الأمة أكثرهم تحليلا، وكان المحلل الذي لعنه الله ورسوله أهداهم سبيلا؟ وسل التيس المستعار ومن ابتليت به: هل تجمل أحد منهما بصاحبه كما يتجمل الرجال بالنساء والنساء بالرجال، أو كان لأحدهما رغبة في صاحبه بحسب أو مال أو جمال؟ وسل المرأة: هل تكره أن يتزوج عليها هذا التيس المستعار أو يتسرى، أو تكره أن تكون تحته امرأة غيرها أخرى، أو تسأله عن ماله وصنعته أو حسن عشيرته وسعة نفقته؟ وسل التيس المستعار: هل سأل قط عما يسأله عنه من قصد حقيقة النكاح، أو يتوسل إلى بيت أحمائه بالهدية والحمولة، والنقد الذي يتوسل به خاطب الملاح؟ وسله: هل هو " أبو يأخذ " أو " أبو يعطي "؟ وهل قوله عند قراءة أبي جاد هذا العقد: خذي
208 نفقة هذا العرس أو حطي؟ وسله: هل تحمل من كلفة هذا العقد خذي نفقة هذا العرس أو حطي؟ وسله عن وليمة عرسه: هل أولم ولو بشاة؟ وهل دعا إليها أحدا من أصحابه فقضى حقه وأتاه؟ وسله: هل تحمل من كلفه هذا العقد ما يتحمله المتزوجون، أم جاءه - كما جرت به عادة الناس - الأصحاب والمهنئون؟ وهل قيل له بارك الله لكما وعليكما وجمع بينكما في خير وعافية، أم لعن الله المحلل والمحلل له لعنة تامة وافية؟ (1). يلاحظ عليه: أن العار الذي - على زعمه - دخل الإسلام رهن تصحيح الطلاق ثلاثا، وأن الطلاق الواحد حقيقة يعد ثلاثا، وأما ما شرعه الذكر الحكيم من توقف صحة النكاح بعد التطليقات الثلاث على المحلل فهو من أفضل قوانيه المشرقة، وأرسخها وأتقنها فلا يدخل العار من جانبه على الإسلام أبدا، وذلك: أولا: أنه يصد الزوج عن الطلاق الثالث لما يعلم أن النكاح بعده يتوقف على التحليل الذي لا يتحمله أكثر الرجال. وثانيا: أنه لا يقوم به إلا إذا يئس من التزويج المجدد، لأن التجارب المتكررة، أثبتت أن الزوجين ليسا على شاكلة واحدة من جانب الأخلاق والروحيات فلا يقدم على الطلاق إلا إذا كان آيسا من الزواج المجدد وقلما يتفق تجدد الجنوح إلى بناء البيت بالزوجة التي طلقها ثلاثا لو لم نقل إنه يندر جدا - فعند ذاك تقل الحاجة إلى المحلل جدا، وهذا بخلاف تصحيح الطلاق الواحد،
1 - ابن قيم (المتوفى 751): إعلام الموقعين. 3 / 41 - 43، ولاحظ إغاثة اللهفان له أيضا: 1 / 312. 209 ثلاثا، فكثيرا ما يندم الزوج من الطلاق ويريد إعادة بناء البيت الذي هدمه بالطلاق - وهو حسب الفرض يتوقف على المحلل الذي يلصق العار بهما ويترتب عليه ما ذكره ابن قيم في كلامه المسهب. وفي كلامه ملاحظات أخرى تركناها خصوصا في تصويره المحلل كأنه الأجير للتحليل، ويتزوج لتلك الغاية وهو تصوير خاطئ جدا بل يتزوج بنفس الغاية التي يتزوج لأجلها، سائر النساء، غير أنه لو طلق الزوجة عن اختيار يصير حلالا للزوج السابق وأين ذلك مما جاء في كلامه.
210 المسألة التاسعة: الحلف بالطلاق اعلم أن الطلاق غير المنجز ينقسم إلى قسمين: 1 - الطلاق المعلق. 2 - الحلف بالطلاق. وكلاهما من أقسام غير المنجز، والفرق بينهما أنه لو قصد من التعليق الحث على الفعل، أو المنع عنه، يسمى حلفا بالطلاق كقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق، أو إن لم تدخلي الدار فأنت طالق، أو قصد منه تصديق المخبر، كقوله: أنت طالق إن لم يقدم زيد، أو زوجتي طالق لو كان في حقيبتي بضاعة ممنوعة. وأما إذا علق ولم يكن منه لا الحث على الفعل ولا المنع منه، ولا التنبيه على تصديق المخبر، يسمى طلاقا معلقا، كقوله: أنت طالق إن طلعت الشمس، أو أنت طالق إن قدم الحاج، أو أنت طالق إن لم يقدم السلطان، فهو شرط محض ليس بحلف، لأن حقيقة الحلف القسم. وإنما سمي تعليق الطلاق على شرط حلفا تجوزا، لمشاركته الحلف في المعنى المشهور وهو الحث أو المنع أو تأكيد الخبر نحو قوله: والله لأفعلن، أو لا
211 والله لا أفعل، أو والله لقد فعلت أو والله لم أفعل، وما لم يوجد فيه هذا المعنى لا يصح تسميته حلفا (1). وقال السبكي: إن الطلاق المعلق، منه ما يعلق على وجه اليمين، ومنه ما يعلق على غير وجه اليمين، فالطلاق المعلق على غير وجه اليمين كقوله: إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق، أو إن أعطيتني ألفا فأنت طالق. والذي على وجه اليمين كقوله: إن كلمت فلانا فأنت طالق، أو إن دخلت الدار فأنت طالق، وهو الذي يقصد به الحث أو المنع أو التصديق، فإذا علق الطلاق على هذا الوجه، ثم وجد المعلق عليه وقع الطلاق (2). هذا هو مذهب أكثر أهل السنة إلا من شذ وسنشير إليه، فقد أجازت هذه المذاهب الطلاق بغير الحلف، بكل ما دل عليه لفظا وكتابة وصراحة وكناية، مثل: أنت علي حرام، أو أنت برية، أو اذهبي فتزوجي، أو حبلك على غاربك، أو الحقي بأهلك، إلى غير ذلك من الصيغ. والجدير بالذكر أنهم سودوا الصفحات الطوال العراض حول أقسام الطلاق المعلق خصوصا النوع الخاص به، أعني: الحلف به، وجاءوا بآراء وفتاوى لم يبرهنوا عليها بشئ من الكتاب والسنة، والراجع إليها يقطع بأن الطلاق عند هؤلاء ألعوبة، يتلاعب به الرجل بصور شتى. وإن كنت في شك مما ذكرت فلاحظ الكتابين المعروفين: 1 - المغني: تأليف محمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة
1 - ابن قدامة: المغني: 7 / 365. 2 - السبكي: تقي الدين علي بن عبد الكافي (المتوفى 756): الدرة المضيئة: 155. 212 (المتوفى عام 620) وهو أوسع فقه ظهر عند الحنابلة مع الترجيح بين الأقوال بالدليل المقنع لهم. فقد خص (45) صفحة من كتابه بهذا النوع من الصيغ (1). 2 - الفقه على المذاهب الأربعة: تأليف الشيخ عبد الرحمان الجزيري، فقد ألفه ليعرض الفقه بثوبه الجديد على الناشئ، ومع ذلك فقد خص من كتابه لهذا النوع من صور الطلاق صفحات كثيرة (2) وإليك نماذج من هذه الصور حتى تقف على صدق ما قلناه، ننقله من الكتاب الأول: 1 - إن قال لامرأتيه: كلما حلفت بطلاقكما فأنتما طالقتان، ثم أعاد ذلك ثلاثا، طلقت كل واحدة منهما ثلاثا. 2 - إن قال لإحداهما: إن حلفت بطلاقك فضرتك طالق، ثم قال للأخرى مثل ذلك... 3 - وإن كان له ثلاث نسوة فقال: إن حلفت بطلاق زينب، فعمرة طالق، ثم قال: وإن حلفت بطلاق عمرة، فحفصة طالق، ثم قال: إن حلفت بطلاق حفصة، فزينب طالق، طلقت عمرة، وإن جعل مكان زينب عمرة طلقت حفصة، ثم متى أعاده بعد ذلك طلقت منهن واحدة... 4 - ومتى علق الطلاق على صفات فاجتمعن في شئ واحد وقع بكل صفة ما علق عليها كما لو وجدت متفرقة وكذلك العتاق، فلو قال لامرأته: إن كلمت رجلا فأنت طالق، وإن كلمت طويلا فأنت طالق، وإن كلمت أسود فأنت طالق،
1 - لاحظ الجزء السابع 369 - 414 بتصحيح الدكتور محمد خليل هراس. 2 - الفقه على المذاهب الأربعة الجزء الرابع. 213 فكلمت رجلا أسود طويلا، طلقت ثلاثا (1). إلى غير ذلك من الصور التي لا يترتب على نقلها سوى إضاعة الوقت والورق. وفي مقابل هؤلاء، أئمة أهل البيت، لا يذكرون للطلاق إلا صيغة واحدة، روى بكير بن أعين عن أحدهما: الباقر والصادق - عليهما السلام - قال: ليس الطلاق إلا أن يقول الرجل لها - وهي طاهر في غير جماع -: أنت طالق ويشهد شاهدي عدل، وكل ما سوى ذلك فهي ملغى (2). ومع أن المشهور عند أهل السنة وقوع الطلاق بالحلف به، فنجد بين الصحابة والتابعين من ينكر ذلك ويراه باطلا، ووافقه بعض المتأخرين من الظاهريين كابن حزم، وابن تيمية من الحنابلة. قال ابن حزم: وصح خلاف ذلك (وقوع الطلاق باليمين) عن السلف. 1 - روينا من طريق حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن: إن رجلا تزوج امرأة وأراد سفرا فأخذها أهل امرأته فجعلها طالقا إن لم يبعث بنفقتها إلى شهر، فجاء الأجل ولم يبعث بشئ، فلما قدم خاصموه إلى علي، فقال علي - عليه السلام -: اضطهدتموه حتى جعلها طالقا، فردها عليه (3). 2 - روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء: في رجل قال
1 - المغني: 7 / 369 - 376. 2 - وسائل الشيعة 15، الباب 16 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه، الحديث 1. 3 - ظاهر الحديث: أن الإمام رد المرأة لوقوع الطلاق مكرها، وبما أنه لم تكن هناك كراهة ولم يطلب أهل المرأة سوى النفقة، يحمل على خلاف ظاهره، من بطلان الطلاق لأجل الحلف به. 214 لامرأته: أنت طالق إن لم أتزوج عليك. قال: إن لم يتزوج عليها حتى تموت أو يموت، توارثا. والحكم بالتوارث آية بقاء العلقة. 3 - ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن غيلان بن جامع عن الحكم بن عتيبة قال: في الرجل يقول لامرأته: أنت طالق إن لم أفعل كذا ثم مات أحدهما قبل أن يفعل، فإنهما يتوارثان. إن في عدم اعتداد الإمام علي بالطلاق - بلا إكراه - والحكم بالتوارث في الروايتين الأخيرتين دلالة على عدم الاعتداد باليمين بالطلاق. 4 - ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج: أخبرني ابن طاووس عن أبيه أنه كان يقول: الحلف بالطلاق ليس شيئا. قلت: أكان يراه يمينا؟ قال: لا أدري. قال ابن حزم بعد نقل هذه الروايات: فهؤلاء علي بن أبي طالب وشريح (1) وطاووس لا يقضون بالطلاق على من حلف به فحنث، ولا يعرف لعلي في ذلك مخالف من الصحابة - رضي الله عنهم - ثم يقول: من أين أجزتم الطلاق بصفة ولم تجيزوا النكاح بصفة، والرجعة بصفة كمن قال: إذا دخلت الدار فقد راجعت زوجتي المطلقة، أو قال: فقد تزوجتك وقالت هي مثل ذلك، وقال الولي مثل ذلك ولا سبيل إلى فرق (2). فقد سئل ابن تيمية عن مسألة الحلف بالطلاق، فأفتى بعدم وقوع الطلاق بنفس الحلف ولكن قال: تجب الكفارة إذا لم يطلق بعد، فقال: إن في المسألة بين السلف والخلف أقوالا ثلاثة:
1 - نقل رواية عن شريح تركنا نقلها لعدم دلالتها. وكان عليه عطف عطاء عليه أيضا. 2 - ابن حزم الأندلسي: المحلى: 10 / 212 - 213. 215 1 - إنه يقع به الطلاق إذا حنث في يمينه، وهذا هو المشهور عند أكثر الفقهاء المتأخرين حتى اعتقد طائفة منهم أن ذلك إجماع، ولهذا لم يذكر عامتهم عليه حجة، وحجتهم عليه ضعيفة، وهي أنه التزم أمرا عند وجوب شئ فلزمه ما التزمه (1). 2 - إنه لا يقع به طلاق ولا تلزمه كفارة، وهذا مذهب داود وأصحابه، وطوائف من الشيعة، ويذكر ما يدل عليه عن طائفة من السلف (2)، بل هو مأثور عن طائفة صريحا كأبي جعفر الباقر - عليه السلام - رواية جعفر بن محمد، وأصل هؤلاء أن الحلف بالطلاق والعتاق والظهار لغو كالحلف بالمخلوقات. 3 - وهو أصح الأقوال، وهو الذي يدل عليه الكتاب والسنة، والاعتبار أن هذا يمين من أيمان المسلمين فيجري فيها ما يجري في أيمان المسلمين، وهو الكفارة عند الحنث إلا أن يختار الحالف إيقاع الطلاق، فله أن يوقعه، ولا كفارة، وهذا قول طائفة من السلف والخلف كطاووس وغيره، وهو مقتضى المنقول عن أصحاب رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " في هذا الباب، وبه يفتي كثير من المالكية وغيرهم، حتى يقال: إن في كثير من بلاد المغرب من يفتي بذلك من أئمة المالكية، وهو مقتضى نصوص أحمد ابن حنبل، وأصول في غير هذا الموضع (3). إن هنا أمورا: الأول: في وقوع الطلاق بنفس هذا الانشاء.
1 - سيوافيك ضعف هذا الدليل بعد الفراغ من نقل كلامه. 2 - قد تعرفت على القائلين بعدم كفاية الحلف في تحقق الطلاق في كلام ابن حزم الظاهري. 3 - ابن تيمية، الفتاوى الكبرى: 3 / 12 و 13. 216 الثاني: لزوم الكفارة عند الحنث أي عدم إيقاع الطلاق. الثالث: ما هو حكم الزوجة في الفترة التي لم يقع المعلق عليه. أما الأول: فالدليل الذي نقله ابن تيمية عن القائل كان عبارة أنه التزم أمرا عند وجوب شرط فلزمه ما التزمه، مثلا التزم بأنه إذا كلمت الزوجة فلانا فهي طالق. يلاحظ عليه: أنه ليس لنا دليل مطلق يعم نفوذ كل ما التزم به الإنسان حتى فيما يحتمل أن الشارع جعل له سببا خاصا كالطلاق والنكاح، إذ عند الشك يكون المرجع هو بقاء العلقة الزوجية إلى أن يدل دليل على خروجها عن عصمته، أخذا بالقاعدة المأثورة عن أئمة أهل البيت بأنه لا ينقض اليقين بالشك، المعبر عنه في مصطلح الأصوليين بالاستصحاب. قال السبكي: " قد أجمعت الأمة على وقوع المعلق كوقوع المنجز، فإن الطلاق مما يقبل التعليق، ولا يظهر الخلاف في ذلك إلا عن طوائف من الروافض، ولما حدث مذهب الظاهريين، المخالفين لإجماع الأمة، المنكرين للقياس، خالفوا في ذلك - إلى أن قال -: ولكنهم قد سبقهم الاجماع (1). ثم قال: وقد لبس ابن تيمية بوجود خلاف في هذه المسألة وهو كذب وافتراء وجرأة منه على الإسلام، وقد نقل إجماع الأمة على ذلك أئمة لا يرتاب في قولهم ولا يتوقف في صحة نقلهم. كيف يحكم بسبق الاجماع مع خلاف الإمام علي ولفيف من التابعين وأئمة أهل البيت، وليس ابن تيمية ناقلا للخلاف بل نقله ابن حزم الأندلسي ونقله هو
1 - السبكي: الدرة المضيئة: 155 - 156. 217 عنه كما صرح في رسائله. وهناك كلمة لبعض مشايخ الإمامية نأتي بنصها وفيها بيان وبلاغ، قال: إن الإمامية يضيقون دائرة الطلاق إلى أقصى الحدود، ويفرضون القيود الصارمة على المطلق والمطلقة، وصيغة الطلاق وشهوده. كل ذلك لأن الزواج عصمة ومودة ورحمة وميثاق من الله. قال تعالى: * (وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا) * (النساء / 21) وقال سبحانه: * (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) * (الروم / 21) إذن لا يجوز بحال أن ننقض هذه العصمة والمودة والرحمة، وهذا العهد والميثاق إلا بعد أن نعلم علما قاطعا لكل شك بأن الشرع قد حل الزواج ونقضه بعد أن أثبته وأبرمه (1). وقد تضافرت الروايات عن أئمة أهل البيت على بطلان هذا الطلاق، بل وعدم الاعتداد بهذا اليمين مطلقا، ومن أخذ دينه عن أئمة أهل البيت، فقد أخذ عن عين صافية. نكتفي ببعض ما ورد عنهم: 1 - روى الحلبي عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: كل يمين لا يراد به وجه الله في طلاق أو عتق فليس بشئ (2). 2 - جاء رجل باسم " طارق " إلى أبي جعفر الباقر وهو يقول: يا أبا جعفر إني هالك إني حلفت بالطلاق والعتاق والنذر، فقال: يا طارق إن هذا من خطوات الشيطان (3).
1 - الفقه على المذاهب الخمسة: 414. 2 - وسائل الشيعة: الجزء 16، الباب 14 من أبواب كتاب الإيمان، الحديث 1 و 4، ولاحظ سائر أحاديث الباب. 3 - وسائل الشيعة: الجزء 16، الباب 14 من أبواب كتاب الإيمان، الحديث 1 و 4، ولاحظ سائر أحاديث الباب. 218 3 - عن أبي أسامة الشحام، قال: قلت لأبي عبد الله - عليه السلام -: إن لي قريبا لي أو صهرا لي حلف إن خرجت امرأته من الباب فهي طالق ثلاثا، فخرجت وقد دخل صاحبها منها ما شاء الله من المشقة فأمرني أن أسألك فأصغى إلي، فقال: مره فليمسكها فليس بشئ، ثم التفت إلى القوم فقال: سبحان الله يأمرونها أن تتزوج ولها زوج (1). وقد عرفت الشيعة بإنكارها الأمور الثلاثة في باب الطلاق: 1 - طلاق المرأة وهي حائض. 2 - الطلاق بلا إشهاد عدلين. 3 - الحلف على الطلاق. هذا كله حول وقوع الطلاق وإليك الكلام في المقامين الثاني والثالث: وأما الثاني وهو ترتب الكفارة أو لا، فيحتاج إلى تنقيح ما هو الموضوع للكفارة، فلو دل الدليل على أن الكفارة من آثار الحلف بلفظ الجلالة أو ما يعادله أو يقاربه، كالرب وغيره فلا تترتب على الحلف بالطلاق والعتاق، وبما أن المسألة خارجة عن موضوع البحث لذا نحيل تحقيقها إلى محله. وأما الثالث: فقد نقل ابن حزم عن الشافعي: الطلاق يقع عليه والحنث في آخر أوقات الحياة فلو قال لامرأته: أنت طالق إن لم أضرب زيدا، فإنما يتحقق الحنث - إذا لم يضرب - عند موته، ومعنى هذا أنها زوجته إلى ذلك الآن، ونقل عن مالك: يوقف عن امرأته وهو على حنث حتى يبر، ثم استشكل على الإمامين (2).
1 - الوسائل: الجزء 15، الباب 18 من أبواب مقدمات الطلاق الحديث 3. 2 - ابن حزم الأندلسي: المحلى: 10 / 213. 219 وجملة الكلام فيه - على القول بانعقاد الطلاق به - أن المعلق عليه تارة يكون أمرا وجوديا - كالخروج عن الدار - وأخرى عدميا - مثل إن لم أفعل - وعلى التقديرين تارة يكون محددا مؤقتا بزمان وأخرى مطلقا مرسلا عنه، فلو كان أمرا وجوديا فهي زوجته ما لم يتحقق، فإذا تحقق في ظرفه المعين، أو مطلقا - حسب ما علق - تكون مطلقة. ولو كان أمرا عدميا، فلو كان محددا ومؤقتا بزمان، فلو لم يفعل في ذلك الزمان تكون مطلقة، بخلاف ما لو لم يكن كذلك، فلا تكون مطلقة إلا في آخر الوقت الذي لا يستطيع القيام به. ولكنها فروض على أساس منهار. الكلام في الطلاق المعلق: قد عرفت أن الطلاق المعلق ينقسم إلى قسمين: منه ما يوصف بالحلف بالطلاق ومنه ما يوصف بالمعلق فقط، وقد عرفت حكم الأول وإليك الكلام في التالي: فنقول: إن للشروط تقسيمات: 1 - ما يتوقف عليه صحة الطلاق ككونها زوجة، وما لا يتوقف عليه كقدوم زيد. 2 - ما يعلم المطلق بوجوده عند الطلاق كتعليقه بكون هذا اليوم يوم الجمعة، وأخرى ما يشك في وجوده. 3 - ما يذكر في الصيغة تبركا، لا شرطا وتعليقا كمشيئته سبحانه (إن شاء الله)، وما يذكر تعليقا حقيقة.
220 ومورد البحث هو القسم الأول من الأقسام الثلاثة وقد اتفقت كلمة الإمامية (1) على بطلان المعلق والدليل المهم هو النص والإجماع وإليك البيان: الطلاق المعلق باطل نصا وإجماعا: دل النص عن أئمة أهل البيت على بطلان الطلاق المعلق، ويكفي في ذلك ما رواه بكير بن أعين عنهم - عليهم السلام - أنهم قالوا: ليس الطلاق إلا أن يقول الزوج لزوجته وهي طاهرة من غير جماع: أنت طالق، ويشهد شاهدي عدل، وكل ما سوى ذلك فهي ملغى (2). فأي تصريح أولى من قوله: " وكل ما سوى ذلك فهي ملغى " مع شيوع الطلاق المعلق خصوصا قسم الحلف في أعصارهم. وإذا أضيف إلى ذلك ما روي عنهم - عليهم السلام - في بطلان الحلف بالطلاق لاتضح الحكم بأجلى وضوح لأن الحلف به قسم من أقسام المعلق، فليس بطلانه إلا لبطلان المعلق غاية الأمر يتضمن حلفا ويمينا، وقد عرفت أن الإمام قال: سبحان الله يأمرونها أن تتزوج ولها زوج (3). وأما الاجماع فقد قال المرتضى: ومما انفردت به الإمامية أن تعليق الطلاق بجزء من أجزاء المرأة أي جزء كان لا يقع فيه الطلاق (4).
1 - الطوسي: الخلاف: 2، كتاب الطلاق، المسألة 40. 2 - الوسائل: الجزء 15، الباب 16، الحديث 1. 3 - المصدر نفسه: الباب 18 من أبواب مقدمات الطلاق، الحديث 4. 4 - السيد المرتضى: الإنتصار: 14. 221 وقال الشيخ في الخلاف: إذا قال لها: أنت طالق إذا قدم فلان، فقدم فلان. لا يقع طلاقه (1). وقال ابن إدريس: اشترطنا إطلاق اللفظ احترازا من مقارنة الشرط (2). ومن تفحص فقه الإمامية يجد كون البطلان أمرا متفقا عليه. ويؤيد ذلك: أن عناية الإسلام بنظام الأسرة الذي أسها النكاح والطلاق، يقتضي أن يكون الأمر فيها منجزا لا معلقا، فإن التعليق ينتهي إلى ما لا تحمد عاقبته من غير فرق بين النكاح والطلاق، فالمرء إما أن يقدم على النكاح والطلاق أو لا، فعلى الأول فينكح أو يطلق بتاتا، وعلى الثاني يسكت حتى يحدث بعد ذلك أمرا، فالتعليق في النكاح والطلاق لا يناسب ذلك الأمر الهام، فقد قال سبحانه: * (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما) * (النساء / 129). والله سبحانه يشبه المرأة التي يترك الزوج أداء الواجب لها بالمعلقة التي هي لا ذات زوج ولا أيم، فالمنكوحة معلقة، أو المطلقة كذلك، أشبه شئ بالمعلقة الواردة في الآية، فهي لا ذات زوج ولا أيم. نعم ربما استدل ببعض الوجوه العقلية على البطلان وهي ليست تامة عندنا نظير: أ - أن الطلاق المعلق من قبيل تفكيك المنشأ عن الانشاء، لأن المفروض
1 - الطوسي: الخلاف، كتاب الطلاق، المسألة 13. 2 - ابن إدريس الحلي: السرائر، كتاب الطلاق: 322. ولاحظ الطبعة الحديثة 2: 665. 222 عدم وقوعه قبل الشرط، فيلزم تفكيك المنشأ عن الانشاء. وأنت خبير بعدم استقامة الدليل، فإن المنشأ بعد الانشاء محقق من غير فرق بين المنجز والمعلق، غير أن المنشأ تارة يكون منجزا وأخرى معلقا، وفائدة الانشاء أنه لو وقع المعلق عليه لا يحتاج إلى إنشاء جديد. ب - ظاهر الأدلة ترتب الأثر على السبب فورا، فاشتراط تأخره إلى حصول المعلق عليه، خلاف ظاهر الأدلة. يلاحظ عليه: أنه ليس في الأدلة ما يثبت ذلك، فالوارد في الأدلة هو لزوم الوفاء بالإنشاء غير أن الوفاء يختلف حسب اختلاف مضمونه، فالأولى الاستدلال بالنص والإجماع.
223 المسألة العاشرة: الطلاق في الحيض والنفاس اتفقت كلمتهم على أنه يجب أن تكون المطلقة في حال الطلاق طاهرة عن الحيض والنفاس بلا خلاف، ولكن اختلفوا في أن الطهارة هل هي شرط الصحة والإجزاء، أو شرط الكمال والتمام، وبعبارة أخرى هل هي حكم تكليفي متوجه إلى المطلق، وهو أنه يجب أن يحل العقدة في حال كونها طاهرة من الحيض والنفاس، فلو تخلف أثم وصح الطلاق، أو هو حكم وضعي قيد لصحة الطلاق، ولولاه كان الطلاق باطلا؟ فالإمامية وقليل من سائر المذاهب الفقهية على الثاني وأكثر المذاهب على الأول وإليك بعض كلماتهم: قال الشيخ الطوسي في الخلاف: الطلاق المحرم، هو أن يطلق مدخولا بها غير غائب عنها غيبة مخصوصة، في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه، فما هذا حكمه فإنه لا يقع عندنا، والعقد ثابت بحاله، وبه قال ابن علية، وقال جميع الفقهاء: إنه يقع وإن كان محظورا. ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه ومالك والأوزاعي والثوري والشافعي - دليلنا - إجماع الفرقة، وأيضا الأصل بقاء العقد، ووقوع الطلاق يحتاج إلى دليل شرعي،
225 وأيضا قوله تعالى: * (فطلقوهن لعدتهن) * وقد روي لقبل عدتهن، ولا خلاف أنه أراد ذلك، وإن لم تصح القراءة به، فإذا ثبت ذلك دل على أن الطلاق إذا كان ما غير الطهر محرما منهيا عنه، والنهي يدل على فساد المنهى عنه (1). وستوافيك دلالة الآية على اشتراط الطهارة من الحيض والنفاس. وقال ابن رشد في حكم من طلق في وقت الحيض: فإن الناس اختلفوا من ذلك في مواضع منها أن الجمهور قالوا: يمضي طلاقه، وقالت فرقة: لا ينفذ ولا يقع، والذين قالوا: ينفذ، قالوا: يؤمر بالرجعة، وهؤلاء افترقوا فرقتين، فقوم رأوا أن ذلك واجب، وأنه يجبر على ذلك، وبه قال مالك، وأصحابه، وقالت فرقة: بل يندب إلى ذلك ولا يجبر، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وأحمد (2). وقد فصل الجزيري وبين آراء الفقهاء في كتابه (3). هذه هي الأقوال، غير أن البحث الحر يقتضي نبذ التقليد والنهج على الطريقة المألوفة بين السلف حيث كانوا يصدعون بالحق ولا يخافون لومة المخالف، وكانوا لا يخشون إلا الله، فلو وجدنا في الكتاب والسنة ما يرفض آراءهم فهما أولى بالاتباع.
1 - الشيخ الطوسي: الخلاف: 2، كتاب الطلاق المسألة 2. وما ذكره من تقدير " قبل " إنما يتم على القول بكون العبرة في العدة بالحيض فيكون قبلهما بين طهرها من الحيض والنفاس فتتم الدلالة. 2 - ابن رشد: بداية المجتهد: 2 / 65 - 66. 3 - الجزيري: الفقه على المذاهب الأربعة: 4 / 297 - 302. 226 الاستدلال بالكتاب: قال الله تعالى: * (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم) * (1). توضيح دلالة الآية يتوقف على تبيين معنى العدة في الآية، فهل المراد منها، الأطهار الثلاثة أو الحيضات الثلاث؟ وهذا الخلاف يتفرع على خلاف آخر هو تفسير " قروء " بالأطهار أو الحيضات. توضيحه: أن الفقهاء اختلفوا في معنى قوله سبحانه: * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) * (2) فذهبت الشيعة الإمامية إلى أن المراد من القروء هو الأطهار الثلاثة، وقد تبعوا في ذلك ما روي عن علي - عليه السلام -: روى زرارة عن أبي جعفر - عليه السلام - قال: فقلت: أصلحك الله أكان علي يقول: إن الأقراء التي سمى الله في القرآن إنما هي الطهر فيما بين الحيضتين وليست بالحيض؟ قال: نعم، كان يقول: إنما القرء الطهر، تقرأ فيها الدم فتجمعه فإذا جاء الحيض، قذفته (3). وذهب أصحاب سائر المذاهب إلا قليل كربيعة الرأي إلى أن المراد منها هي الحيضات. ولسنا في مقام تحقيق ذلك إنما الكلام في بيان دلالة الآية - على كلا المذهبين - على اشتراط الطهارة في حال الطلاق، بعد الوقوف على أن من جوز الطلاق في الحيض قال بعدم احتساب تلك الحيضة من " القروء " فنقول:
1 - الطلاق: الآية 2. 2 - النساء: الآية 228. 3 - الحر العاملي: الوسائل: 15، الباب 15 من أبواب العدد، الحديث 4. 227 أما إذا قلنا بأن المراد من العدة في قوله سبحانه: * (لعدتهن) * هي الأطهار الثلاثة، فاللام متعينة ظاهرة في الغاية والتعليل، والمعنى: فطلقوهن لغاية أن يعتددن، والأصل هو ترتب الغاية على ذيها بلا فصل ولا تريث (ما لم يدل دليل على الخلاف)، مثل قوله سبحانه: * (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) * (1) وقوله تعالى: * (وما أنزلنا عليك الكتب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه) * (2)، واحتمال كون اللام للعاقبة التي ربما يكون هناك فيها فصل بين الغاية وذيها، مثل قوله سبحانه: * (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا و ح (3) زنا) * غير صحيح، لأن موردها فيما إذا كانت النتيجة مرتبة على ذيها ترتبا قهريا غير إرادي كما في الآية، ومثل قولهم: لدوا للموت وابنوا للخراب. وأما إذا قلنا بأن العدة في الآية هي الحيضات الثلاث، فبما أن الحيضة التي تطلق فيها لا تحسب من العدة باتفاق القائلين بجواز الطلاق في الحيض، يكون الأمر به فيها لغوا، والتعجيل بلا غاية، فلا محيص لم يجد المفسرون حلا إلا بتقدير جملة مثل " مستقبلات لعدتهن " نظير قولهم: لقيته لثلاث بقين من الشهر، يريد مستقبلا لثلاث، وعندئذ يدل على وقوع الطلاق في حالة الطهر، وذلك لأنها إذا كانت العدة هي الحيضة فيكون قبيلها ضدها، وهي الطهارة. ونخرج بهذه النتيجة أن الآية ظاهرة في شرطية الطهارة من الحيض في صحة الطلاق. ثم إن بعض الباحثين ذكر الحكمة في المنع من الطلاق في الحيض: أن ذلك يطيل على المرأة العدة، فإنها إن كانت حائضا لم تحتسب الحيضة من عدتها، فتنتظر حتى تطهر من حيضها وتتم مدة طهرها ثم تبدأ العدة من الحيضة التالية (4).
1 - النحل: الآية 44. 2 - النحل: الآية 64. 3 - القصص: الآية 8. 4 - أحمد محمد شاكر: نظام الطلاق في الإسلام: 27. 228 هذا على مذاهب أهل السنة من تفسير " القروء " وبالتالي العدة بالحيضات، وأما على مذهب الإمامية من تفسيرها بالأطهار، فيجب أن يقال:... فإنها إن كانت حائضا لم تحتسب الحيضة من عدتها فتنتظر حتى تطهر من حيضها وتبدأ العدة من يوم طهرت. وعلى كل تقدير، فبما أنهم اتفقوا على أن الحيضة التي وقع الطلاق فيها لا تحسب من العدة إما لاشتراط الطهارة أو لعدم الاعتداد بتلك الحيضة، تطيل على المرأة العدة سواء كان مبدؤها هو الطهر أو الحيضة التالية. الاستدلال بالسنة: إن الروايات تضافرت عن أئمة أهل البيت على اشتراط الطهارة. روى الكليني بسند صحيح عن أبي جعفر الباقر - عليه السلام - قال: كل طلاق لغير العدة (السنة) فليس بطلاق: أن يطلقها وهي حائض أو في دم نفاسها أو بعد ما يغشاها قبل أن تحيض فليس طلاقها بطلاق (1). هذا ما لدى الشيعة وأما ما لدى السنة فالمهم لديهم في تصحيح طلاق الحائض هو رواية عبد الله بن عمر، حيث طلق زوجته وهي حائض، وقد نقلت بصور مختلفة نأتي بها (2). الأولى: ما دل على عدم الاعتداد بتلك التطليقة وإليك البيان: 1 - سئل أبو الزبير عن رجل طلق امرأته حائضا؟ قال: طلق عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - امرأته وهي حائض على عهد رسول الله " صلى الله عليه وآله
1 - الحر العاملي: الوسائل: 15، الباب 8 من أبواب مقدمات الطلاق، الحديث 9، وغيره. 2 - راجع في الوقوف على تلك الصور، السنن الكبري للبيهقي: 7 / 324 - 325. 229 وسلم " فسأل عمر - رضي الله عنه - رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " فقال: إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض؟ فقال النبي: ليراجعها، فردها علي وقال: إذا طهرت فليطلق أو ليمسك، قال ابن عمر: وقرأ النبي " صلى الله عليه وآله وسلم ": * (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) * أي في قبل عدتهن. 2 - روى أبو الزبير قال: سألت جابرا عن الرجل يطلق امرأته وهي حائض؟ فقال: طلق عبد الله بن عمر امرأته وهي حائض، فأتى عمر رسول الله فأخبره بذلك فقال رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم ": ليراجعها فإنها امرأته. 3 - روى نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض، قال ابن عمر: لا يعتد بها. الثانية: ما يتضمن التصريح باحتساب تلك التطليقة طلاقا صحيحا وإن لزمت إعادة الطلاق وإليك ما نقل بهذا المضمون: 1 - يونس بن جبير قال: سألت ابن عمر قلت: رجل طلق امرأته وهي حائض؟ فقال: تعرف عبد الله بن عمر؟ قلت: نعم، قال: فإن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض، فأتى عمر - رضي الله عنه - النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " فسأله، فأمره أن يراجعها ثم يطلقها من قبل عدتها. قال، قلت: فيعتد بها؟ قال: نعم، قال: أرأيت إن عجز واستحمق. 2 - يونس بن جبير قال: سألت ابن عمر قلت: رجل طلق امرأته، وهي حائض؟ قال: تعرف ابن عمر؟ إنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " فأمره أن يراجعها، قلت: فيعتد بتلك التطليقة؟ قال: فمه؟ أرأيت إن عجز واستحمق.
230 3 - يونس بن جبير قال: سمعت ابن عمر قال: طلقت امرأتي وهي حائض. فأتى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " فذكر ذلك له، فقال النبي " صلى الله عليه وآله وسلم ": ليراجعها، فإذا طهرت فليطلقها، قال: فقلت لابن عمر: فاحتسبت بها؟ قال: فما يمنعه؟ أرأيت إن عجز واستحمق. 4 - أنس بن سيرين قال: سمعت ابن عمر يقول: طلقت امرأتي وهي حائض، قال: فذكر ذلك عمر للنبي " صلى الله عليه وآله وسلم " قال، فقال: ليراجعها فإذا طهرت فليطلقها. قال: فقلت له - يعني لابن عمر -: يحتسب بها؟ قال: فمه؟ 5 - أنس بن سيرين: ذكر نحوه غير أنه قال: فليطلقها إن شاء. قال: قال عمر - رضي الله عنه -: يا رسول الله أفتحتسب بتلك التطليقة؟ قال: نعم. 6 - أنس بن سيرين قال: سألت ابن عمر عن امرأته التي طلق؟ فقال: طلقتها وهي حائض. فذكر ذلك لعمر - رضي الله عنه - فذكره للنبي " صلى الله عليه وآله وسلم " فقال: مره فليراجعها فإذا طهرت فليطلقها لطهرها. قال: فراجعتها ثم طلقتها لطهرها. قلت: واعتدت بتلك التطليقة التي طلقت وهي حائض؟ قال: ما لي لا أعتد بها، وإن كنت عجزت واستحمقت. 7 - عامر قال: طلق ابن عمر امرأته وهي حائض واحدة، فانطلق عمر إلى رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " فأخبره، فأمره إذا طهرت أن يراجعها ثم يستقبل الطلاق في عدتها ثم تحتسب بالتطليقة التي طلق أول مرة. 8 - نافع عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه طلق امرأته، وهي حائض، فأتى عمر - رضي الله عنه - النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " فذكر ذلك له فجعلها واحدة. 9 - سعيد بن جبير عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: حسبت علي بتطليقة.
231 الثالثة: ما ليس فيه تصريح بأحد الأمرين: 1 - ابن طاووس عن أبيه: أنه سمع ابن عمر سئل عن رجل طلق امرأته حائضا؟ فقال: أتعرف عبد الله بن عمر؟ قال: نعم. قال: فإنه طلق امرأته حائضا، فذهب عمر - رضي الله عنه - إلى النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " فأخبره الخبر، فأمره أن يراجعها. قال: لم أسمعه يزيد على ذلك لأبيه. 2 - منصور بن أبي وائل: إن ابن عمر طلق امرأته، وهي حائض، فأمره النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " أن يراجعها حتى تطهر، فإذا طهرت طلقها. 3 - ميمون بن مهران عن ابن عمر أنه طلق امرأته في حيضها، قال: فأمره رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " أن يرتجعها حتى تطهر فإذا طهرت فإن شاء طلق وإن شاء أمسك قبل أن يجامع. وهناك رواية واحدة تتميز بمضمون خاص بها، وهي رواية نافع قال: إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض، على عهد رسول الله، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " عن ذلك؟ فقال رسول الله: فليراجعها، فليمسك حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، إن شاء أمسكها بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء. وبعد تصنيف هذه الروايات نبحث عن الفئة الراجحة منها بعد معرفة طبيعة الإشكالات التي تواجه كلا منها ومعالجتها.
232 معالجة الصور المتعارضة: لا شك أن الروايات كانت تدور حول قصة واحدة، لكن بصور مختلفة، فالحجة بينها مرددة بين تلك الصور والترجيح مع الأولى لموافقتها الكتاب وهي الحجة القطعية، وما خالف الكتاب لا يحتج به، فالعمل على الأولى. وأما الصورة الثالثة، فيمكن إرجاعها إلى الأولى لعدم ظهورها في الاعتداد والصحة، نعم ورد فيه الرجوع الذي ربما يتوهم منه، الرجوع بعد الطلاق الملازم لصحته، لكن ليس بشئ. فإن المراد من المراجعة فيها هو المعنى اللغوي لا مراجعة المطلقة الرجعية، ويؤيد ذلك أن القرآن يستعمل كلمة الرد أو الامساك، فيقول: * (وبعولتهن أحق بردهن) * (1). وقال سبحانه: * (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف) * (2). وقال سبحانه: * (فأمسكوهن بمعروف) * (3) وقال تعالى: * (ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) * (4). نعم استعمل كلمة الرجعة في المطلقة ثلاثا إذا تزوجت رجلا آخر فطلقها، قال سبحانه: * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا) * (5).
1 - البقرة: الآية 228. 2 - البقرة: الآية 229. 3 - البقرة: الآية 231. 4 - البقرة: الآية 231. 5 - البقرة: الآية 230. 233 بقي الكلام في النصوص الدالة على الاحتساب أعني الصورة الثانية، فيلاحظ عليها بأمور: 1 - مخالفتها للكتاب، وما دل على عدم الاحتساب. 2 - أن غالب روايات الاحتساب لا تنسبه إلى النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " وإنما إلى رأي ابن عمر وقناعته، فلو كان النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " قد أمر باحتسابها، لكان المفروض أن يستند ابن عمر إلى ذلك في جواب السائل، فعدم استناده إلى حكم النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " دليل على عدم صدور ما يدل على الاحتساب من النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " نفسه، فتكون هذه النصوص موافقة للنصوص التي لم تتعرض للاحتساب، لأنها كلها تتفق في عدم حكم النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " باحتساب التطليقة، غايته اشتمل بعضها على نسبة الاحتساب إلى ابن عمر نفسه، وهو ليس حجة لإثبات الحكم الشرعي. نعم روايتا نافع رويتا بصيغتين، نسب الحكم بالاحتساب في إحدى الصيغتين إلى النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " نفسه (الرواية 8 من القسم الثاني)، بينما رويت الثانية بصيغة أخرى تضمنت النسبة إلى ابن عمر بعدم الاحتساب (الرواية 3 من القسم الأول). وأما رواية أنس فرويت بصيغتين تدلان أن الحكم بالاحتساب هو قناعة ابن عمر نفسه لا قول النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " (الرواية 4 و 6 من القسم الثاني) وبصيغة ثالثة نسبت الاحتساب إلى النبي (الرواية 5 من القسم الثاني) ومع هذا الاضطراب لا تصلح الرواية لإثبات نسبة الحكم بالاحتساب إلى النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " نفسه. 3 - أن فرض صحة التطليقة المذكورة لا يجتمع مع أمر النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " بإرجاعها وتطليقها في الطهر هذه، لأن القائلين بصحة الطلاق في
234 الحيض لا يصححون إجراء الطلاق الثاني في الطهر الذي بعده، بل يشترطون بتوسط الحيض بين الطهرين وإجراء الطلاق في الطهر الثاني. فالأمر من النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " بإرجاعها وتطليقها في الطهر الثاني ينافي احتساب تلك تطليقة صحيحة. 4 - اشتهر في كتب التاريخ أن عمر كان يعير ولده بالعجز عن الطلاق، وظاهره يوحي بأن ما فعله لم يكن طلاقا شرعا. وبعد ملاحظة كل ما قدمناه يتضح عدم ثبوت نسبة الاحتساب إلى النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " والذي يبدو أن النص - على فرض صدوره - لم يتضمن احتساب التطليقة من قبل النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " وإنما هي إضافات أو توهمات بسبب قناعة ابن عمر أو بعض من هم في سلسلة الحديث، ولذلك اضطربت الصيغ في نقل الحادثة. وأما رواية نافع المذكورة فيلاحظ عليها أنها لا تدل على صحة التطليقة الأولى إلا بادعاء ظهور " الرجوع " في صحة الطلاق وقد علمت ما فيه، وأما أمره بالطلاق في الطهر الثاني بعد توسط الحيض بين الطهرين حيث قال: " مره فليراجعها، فليمسك حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر. إن شاء أمسكها وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمره أن يطلق لها النساء " فلعل أمره بمضي طهر وحيض، لأجل مؤاخذة الرجل حيث تسرع في الطلاق وجعله في غير موضعه فأرغم عليه أن يصبر طهرا وحيضا، فإذا استقبل طهرا ثانيا فليطلق أو يمسك. وبعد كل هذا يمكننا ترجيح الحكم ببطلان الطلاق في الحيض، لاضطراب النقل عن ابن عمر، خصوصا مع ملاحظة الكتاب العزيز الدال على وقوع الطلاق في العدة.
235 المسألة الحادية عشرة: الوصية للوارث إذا لم تتجاوز الثلث اتفقت المذاهب الخمسة على أن الوصية التبرعية تنفذ في مقدار الثلث فقط، مع وجود الوارث سواء صدرت في المرض أم في الصحة، وما زاد عن الثلث يفتقر إلى إجازة الورثة. وإن كان الأفضل في بعض المذاهب أن لا يستوعب الثلث بالوصية (1). وأما في مقدار الثلث فتنفذ وصيته عند الإمامية في الأقرب والأجنبي، ومن غير فرق في الأقرب، بين الوارث وغيره. وأما المذاهب الأربعة فأجازت الوصية للأقرب بشرط أن لا يكون وارثا، وأما الوارث فلا تجوز الوصية له سواء كان بمقدار الثلث أم أقل أم أكثر، إلا بإجازة الورثة. قال السيد المرتضى: ومما ظن انفراد الإمامية به، ما ذهبوا إليه من أن الوصية للوارث جائزة، وليس للوارث (غير الموصى له) ردها. وقد وافقهم في هذا المذهب بعض الفقهاء (2) وإن كان الجمهور والغالب، على خلافه (3).
1 - ابن قدامة: المغني: 6 / 78. 2 - سيوافيك التصريح به من صاحب المنار أيضا. 3 - السيد المرتضى: الانتصار: 308. 237 وقال الشيخ الطوسي: تصح الوصية للوارث مثل الابن والأبوين. وخالف جميع الفقهاء في ذلك وقالوا: لا وصية للوارث (1). وقال الخرقي في متن المغني: " ولا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة ذلك ". وقال ابن قدامة في شرحه: إن الإنسان إذا أوصى لوارثه بوصية فلم يجزها سائر الورثة، لم تصح، بغير خلاف بين العلماء. قال ابن المنذر وابن عبد البر: أجمع أهل العلم على هذا، وجاءت الأخبار عن رسول الله بذلك فروى أبو أمامة قال: سمعت رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " يقول: " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي، ولأن النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " منع من عطية بعض ولده وتفضيل بعضهم على بعض في حال الصحة وقوة الملك وإمكان تلافي العدل بينهم بإعطاء الذي لم يعطه فيما بعد ذلك، لما فيه من إيقاع العداوة والحسد بينهم، ففي حال موته أو مرضه وضعف ملكه وتعلق الحقوق به وتعذر تلافي العدل بينهم أولى وأحرى، وإن أجازها جازت في قول الجمهور من العلماء (2). ومع أن الكتب الفقهية للمذاهب الأربعة تنفي جواز الوصية للوارث، إلا إذا أجاز الورثة، حتى أن بعضهم يقول بأن الوصية باطلة وإن أجازها سائر الورثة إلا أن يعطوه عطية مبتدأة (3) - ومع هذا التصريح - ينقل الشيخ محمد جواد مغنية: كان عمل المحاكم في مصر على المذاهب الأربعة، ثم عدلت عنها إلى مذهب الإمامية، وما زال عمل المحاكم الشرعية السنية في لبنان على عدم صحة الوصية للوارث،
1 - الطوسي: الخلاف: 2 كتاب الوصية 1. 2 - المغني: 6 / 79 - 80. 3 - المصدر نفسه. 238 ومنذ سنوات قدم قضاتها مشروعا إلى الحكومة يجيز الوصية للوارث ورغبوا إليها في تبنيه (1). يلاحظ على ما ذكره ابن قدامة من الحكمة: أنها لا تقاوم الذكر الحكيم، واتفاق أئمة أهل البيت، ولو صحت لزم تحريم تفضيل بعضهم على بعض في الحياة في البر والإحسان، لأن ذلك يدعو إلى الحسد والبغضاء مع أنه لا خلاف في جوازه، وما نقل عن النبي من النهي، فهو محمول على التنزيه لا التحريم إذ لم يقل أحد بحرمة التفضيل في الحياة. والعجب استدلال من ينكر التحسين والتقبيح العقليين، بهذه الحكم والمصالح التي لا يدركها إلا العقل، مع أنه بمعزل عندهم عن إدراكهما عند أصحاب المذاهب الأربعة، وسيوافيك الكلام فيما تصور من الحكمة. والأولى عرض المسألة على الكتاب والسنة، أما الكتاب فيكفي في جواز الوصية قوله سبحانه: * (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين) * (البقرة / 180). المراد من حضور الموت: ظهور أماراته من المرض والهرم وغيره، ولم يرد إذا عاين ملك الموت، لأن تلك الحالة تشغل الإنسان عن الوصية، وأيضا يجب أن يراعى جانب المعروف في مقدار الوصية والموصى له، فمن يملك المال الكثير إذا أوصى بدرهم فلم يوص بالمعروف، كما أن الايصاء للغني دون الفقير خارج عن المعروف، فان المعروف هو العدل الذي لا ينكر، ولا حيف فيه ولا جور. والآية صريحة في الوصية للوالدين، ولا وارث أقرب للإنسان من والديه،
1 - الفقه على المذاهب الخمسة: 465. 239 وقد خصهما بالذكر لأولويتهما بالوصية ثم عمم الموضوع وقال: * (والأقربين) * ليعم كل قريب، وارثا كان أم لا. وهذا صريح الكتاب ولا يصح رفع اليد عنه إلا بدليل قاطع مثله، وقد أجاب القائلون بعدم الجواز عن الاستدلال بالآية بوجهين: 1 - آية الوصية منسوخة بآية المواريث: قالوا: إنها منسوخة بآية المواريث، فعن ابن عباس والحسن: نسخت الوصية للوالدين بالفرض في سورة النساء (1)، وتثبت للأقربين الذين لا يرثون، وهو مذهب الشافعي وأكثر المالكيين، وجماعة من أهل العلم. ومنهم من يأبى عن كونها منسوخة، وقال: بأنها محكمة ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الوالدين اللذين لا يرثان كالكافرين والعبدين، وفي القرابة غير الورثة (2). ومرجع الوجه الأول: إلى النسخ في الوالدين وأنه لا يوصى لهما وارثين كانا أو ممنوعين، والتخصيص في الأقربين فيصح الايصاء لهم إذا لم يكونوا وارثين. ومرجع الوجه الثاني: إلى التخصيص في كلا الموردين. وقال الجصاص في تفسير الآية: نسختها آية الفرائض. 1 - قال ابن جريج عن مجاهد: كان الميراث للولد والوصية للوالدين والأقربين. فهي منسوخة (3).
1 - * (ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد...) * النساء: الآية 12. 2 - القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 2 / 262 - 263. 3 - رواه الدارمي في سننه، مرسلا عن قتادة: السنن: 2 / 419. 240 2 - وقالت طائفة أخرى: قد كانت الوصية واجبة للوالدين والأقربين فنسخت عمن يرث، وجعلت للوالدين والأقربين الذين لا يرثون (1). وعلى الوجه الأول ف آية الوصية منسوخة بالمعنى الحقيقي، وعلى الثاني مخصصة حيث أخرج الوارث منهما وأبقى غير الوارث، لكن لازم كون الوصية واجبة وبقاء الأقربين تحت العموم، وجوب الوصية لغير الوارث منهما. وهو كما ترى. ترى نظير هذه الكلمات في كتب التفسير والفقه لأهل السنة ونحن نعلق عليها بوجهين: الأول: إن السابر في كتب القوم يقف على أن الذي حملهم على ادعاء النسخ والتخصيص في الآية هو رواية أبي أمامة أو عمر بن خارجة وأنه سمع رسول الله يقول في خطبته - عام حجة الوداع -: ألا أن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث (2). ولولا هذه الرواية لما خطر في بال أحد بأن آية المواريث ناسخة لآية الوصية، إذ لا تنافي بينهما قيد شعرة حتى تكون إحداهما ناسخة أو مخصصة، حيث لا منافاة أن يكتب سبحانه على الإنسان فرضا أو ندبا أن يوصي للوالدين والأقربين بشئ، لا يتجاوز الثلث، وفي الوقت نفسه يور ث الوالدين والأقربين على النظام المعروف في الفقه. والذي يوضح ذلك: هو أن الميراث، في طول الوصية، ولا يصح للمتأخر أن يعارض المتقدم، وأن الوراث يرثون بعد إخراج الدين والوصية، قال سبحانه: * (من
1 - الجصاص: أحكام القرآن: 1 / 164. 2 - سيوافيك نصه وسنده. 241 بعد وصية يوصى بها أو دين) * (1) وفي موردين آخرين: * (من بعد وصية يوصى بها أو دين) * (2) فلا موضوع للنسخ ولا للتخصيص. وقد تفطن القرطبي لبعض ما ذكرنا وقال: ولولا هذا الحديث لأمكن الجمع بين الآيتين بأن يأخذوا المال عن المورث بالوصية، وبالميراث إن لم يوص، أو ما بقي بعد الوصية، لكن منع من ذلك هذا الحديث والإجماع (3). أقول: أما الاجماع، فغير متحقق، وكيف يكون كذلك مع أن أئمة أهل البيت - كما سيوافيك - اتفقوا على جوازه وكذلك فقهاء الإمامية طوال القرون وهم ثلث المسلمين، وبعض السلف كما يحدث عنه صاحب المنار، وأما الحديث فسيوافيك ضعفه، وأنه على فرض الصحة سندا، قابل للتأويل والحمل على ما زاد الايصاء عن الثلث. الثاني: إن ادعاء النسخ أو التخصيص في الآية، بآية المواريث، متوقف على تأخر الثانية عن الا ولى وأنى للقائل بهما اثباته، بل لسان آية الوصية بما فيها من التأكيد لأجل الإتيان بلفظ * (كتب) * وتوصيفه بكونه حقا على المؤمنين يأبى عن كونه حكما مؤقتا لا يدوم إلا شهرا أو شهور. قال الإمام عبده: إنه لا دليل على أن آية المواريث نزلت بعد آية الوصية هنا فان السياق ينافي النسخ، فان الله تعالى إذا شرع للناس حكما وعلم أنه مؤقت وأنه سينسخه بعد زمن قريب فإنه لا يؤكده ولا يوثقه بمثل ما أكد به أمر الوصية هنا
1 - النساء: الآية 11. 2 - النساء: الآية 12. 3 - القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 1 / 263. 242 من كونه حقا على المتقين ومن وعيد لمن بدله. ثم قال: " وبامكان الجمع بين الآيتين إذا قلنا أن الوصية في آية المواريث مخصوصة بغير الوارث بأن يخص القريب هنا بالممنوع من الإرث ولو بسبب اختلاف الدين، فإذا أسلم الكافر وحضرته الوفاة ووالداه كافران، فله أن يوصي لهما بما يؤلف به قلوبهما " (1). ولا يخفى ما في صدر كلامه من الاتقان لولا ما تنازل في آخره وحاول الجمع بين الآيتين بتخصيص جواز الوصية لمن لا يرثان من الوالدين لسبب كالقتل والكفر والسرقة، إذ لقائل أن يسأل الإمام أنه إذا كان المراد من الوالدين والأقربين في آية الوصية هم الممنوعين من الوراثة، فما معنى هذا التأكيد والعناية البارزة في الآية مع ندرة المصداق أو قلته بالنسبة إلى غير الممنوعين، أوليس هذا أشبه بالتخصيص المستهجن فلا محيص عن القول بعموم الآية، لكل والد ووالدة وأقرب، ممنوعين كانوا أم غيره. وأما ما يثيرون حول الايصاء للوالدين من كونه سببا لظهور العداء، فقد مر جوابه في صدر البحث وهنا نزيد ما ذكره ذلك الإمام بقوله: وجوز بعض السلف الوصية للوارث نفسه بأن يخص بها من يراه أحوج من الورثة كأن يكون بعضهم غنيا والبعض الآخر فقيرا. مثال ذلك أن يطلق أبوه أمه وهو غني، ولا عائل لها إلا ولدها، ويرى أن ما يصيبها من التركة لا يكفيها، ومثله أن يكون بعض ولده أو إخوته - إن لم يكن له ولد - عاجزا عن الكسب فنحن نرى أن الحكيم الخبير اللطيف بعباده، الذي وضع الشريعة والأحكام لمصلحة خلقه، لا
1 - المنار: 2 / 136 - 137. 243 يحكم أن يساوي الغني الفقير. والقادر على الكسب من يعجز عنه، فإذا كان قد وضع أحكام المواريث العادلة على أساس التساوي بين الطبقات باعتبار أنهم سواسية في الحاجة كما أنهم سواء في القرابة، فلا غرو أن يجعل أمر الوصية مقدما على أمر الإرث... ويجعل الوالدين والأقربين في آية أخرى أولى بالوصية لهم من غيرهم لعلمه سبحانه وتعالى بما يكون من التفاوت بينهم في الحاجة أحيانا، فقد قال في آيات الإرث في سورة النساء: * (من بعد وصية يوصى بها أو دين) * فأطلق أمر الوصية وقال في آية الوصية هنا ما هو تفصيل لتلك. لقد بان الحق مما ذكرنا وان الذكر الحكيم أعطى للإنسان حق الايصاء للوالدين لمصالح هو أعرف بها، على حد لا يتجاوز الثلث، وليكون ايصاؤه أيضا على حد المعروف. ويؤيده اطلاق قوله سبحانه في ذيل آية المواريث قال سبحانه: * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا) * (الأحزاب / 7). ويريد من الذيل الاحسان في الحياة والوصية عند الموت فإنه جائز (1) وإطلاقه يعم الوارث وغيره. والله سبحانه هو العالم بمصالح العباد، فتارة يخص بعض الوراث ببعض التركة عن طريق تنفيذ الوصية ما لم تتجاوز الثلث، وأخرى يوصي لغير الوارث
1 - الجامع لأحكام القرآن: 14 / 126. 244 بشئ منها، يقول سبحانه: * (وإذا حضر القسمة أولوا القربى واليتامى والمسكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا) * (النساء / 8). والمراد من ذوي القربى الأخ للميت الشقيق وهو لا يرث، وكذلك العم والخال والعمة والخالة ويعدون من ذوي القربى للوارث، الذي لا يرثون معه وقد يسري إلى نفوسهم الحسد فينبغي التودد إليهم، واستمالتهم باعطائهم شيئا من ذلك الموروث، بحسب ما يليق بهم ولو بصفة الهبة أو الهدية... (1). 2 - آية الوصية منسوخة بالسنة: قد عرفت مدى صحة نسخ الآية بآية المواريث فهلم معي ندرس منسوخية الآية بالسنة التي رواها أصحاب السنن ولم يروها الشيخان: البخاري ومسلم في صحيحيهما، وإليك ما نقل سندا أو متنا. روى الترمذي في باب ما جاء لا وصية لوارث: 1 - حدثنا علي بن حجر وهناد قالا: حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا شرحبيل بن مسلم الخولاني، عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " يقول في خطبته عام حجة الوداع: إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه فلا وصية لوارث، الولد للفراش وللعاهر الحجر... 2 - حدثنا قتيبة، حدثنا أبو عوانة، عن قتادة عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمان بن غنم عن عمرو بن خارجة: أن النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " خطب
1 - المنار: 4 / 396. 245 على ناقته وأنا تحت جرانها وهي تقصع بجرتها (1) وإن لعابها يسيل بين كتفي فسمتعه يقول: إن الله أعطى كل ذي حق حقه، ولا وصية لوارث والولد للفراش وللعاهر الحجر... (2). وفي الاسناد: من لا يحتج به. 1 - إسماعيل بن عياش: قال الخطيب: عن يحيى بن معين يقول: أما روايته عن أهل الحجاز فإن كتابه ضاع، فخلط في حفظه عنهم. وقال محمد بن عثمان بن أبي شيبة، عن علي بن المديني: كان يوثق فيما روى عن أصحابه أهل الشام فأما ما روى عن غير أهل الشام ففيه ضعف. وقال عمر بن علي: كان عبد الرحمان بن المهدي: لا يحدث عن إسماعيل بن عياش (3). وقال ابن منظور: وقال مضر بن محمد الأسدي، عن يحيى: إذا حدث عن الشاميين وذكر الخبر فحديثه مستقيم، فإذا حدث عن الحجازيين والعراقيين خلط ما شاء (4). وقال الحافظ جمال الدين المزي: قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سئل أبي عن إسماعيل بن عياش فقال: نظرت في كتابه عن يحيى بن سعيد أحاديث
1 - " الجران ": هو من العنق ما بين المذبح إلى المنحر. و " تقصع بجرتها ": أراد شدة المضغ وضم بعض الأسنان على بعض، وقيل: قصع الجرة: خروجها من الجوف إلى الشدق. النهاية. 2 - الترمذي: السنن: 4 / 433، باب ما جاء لا وصية لوارث، الحديث 2120 - 2121. 3 - الخطيب: تاريخ بغداد: 6 / 226 - 227. 4 - ابن منظور: مختصر تاريخ دمشق: 4 / 376. 246 صحاح، وفي " المصنف " أحاديث مضطربة. وقال عثمان بن سعيد الدارمي عن دحيم: إسماعيل بن عياش في الشاميين غاية، وخلط عن المدنيين. وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت وكيعا يقول: قدم علينا إسماعيل بن عياش فأخذ من أطراف لإسماعيل بن أبي خالد، فرأيته يخلط في أخذه. وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: ما أشبه حديثه بثياب سابور يرقم على الثوب المائة، وأقل شرائه دون عشرة. قال: كان من أروى الناس عن الكذابين. وقال أبو إسحاق الفزاري في حقه: ذاك رجل لا يدري ما يخرج من رأسه (1). ونقل الترمذي بعد ذكر الحديث عن أبي إسحاق الفزاري: ولا تأخذوا عن إسماعيل بن عياش ما حدث عن الثقات ولا عن غير الثقات. 2 - شرحبيل بن مسلم الخولاني الشامي: قال ابن معين: ضعيف واختتن في ولاية عبد الملك بن مروان (2) ووثقه الآخرون. 3 - شهر بن حوشب: تابعي توفي حدود عام 100. قال النسائي: ليس بالقوي (3).
1 - جمال الدين المزي: تهذيب الكمال: 3 / 175 - 178. 2 - الترمذي: السنن: 4 / 433، الحديث 220. 3 - النسائي: الضعفاء والمتروكين: 134 برقم 310. 247 وقال يحيى بن أبي بكر الكرماني عن أبيه: كان شهر بن حوشب على بيت المال فأخذ خريطة فيها دراهم فقال القائل: لقد باع شهر دينه بخريطة * فمن يأمن القراء بعدك يا شهر (1) وقال جمال الدين المزي: قال شبابة بن سوار عن شعبة: ولقد لقيت شهرا فلم أعتد به. وقال عمرو بن علي: كان يحيى لا يحدث عن شهر بن حوشب. وقال أيضا: سألت ابن عون عن حديث هلال بن أبي زينب عن شهر... فقال: ما يصنع بشهر إن شعبة نزك شهرا. فقال النضر: نزكوه. أي طعنوا فيه. وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: أحاديثه لا تشبه حديث الناس. وقال موسى بن هارون: ضعيف. وقال علي بن المديني: كان يحيى بن سعيد لا يحدث عن شهر، وقال يعقوب بن شيبة:... على أن بعضهم قد طعن فيه (2). 3 - روى أبو داود: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة، ثنا ابن عياش، عن شرحبيل بن مسلم: سمعت أبا أمامة: سمعت رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " يقول: " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " (3). والاسناد مشتمل على إسماعيل بن عياش وشرحبيل بن مسلم وقد عرفت حالهما. فلاحظ. 4 - روى النسائي: أخبرنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا أبو عوانة عن قتادة عن
1 - ابن حجر: تهذيب التهذيب: 4 / 286، برقم 570. 2 - جمال الدين المزي: تهذيب الكمال: 12 / 581. 3 - أبو داود: السنن: 3 / 114، باب ما جاء في الوصية للوارث، برقم 2870. 248 شهر بن حوشب، عن عبد الرحمان بن غنم، عن عمرو بن خارجة قال: خطب رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " فقال: إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه، ولا وصية لوارث. 5 - أخبرنا إسماعيل بن مسعود، قال: حدثنا خالد، قال: حدثنا شعبة، قال: حدثنا قتادة عن شهر بن حوشب، أن ابن غنم ذكر أن ابن خارجة ذكر له أنه شهد رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " يخطب الناس على راحلته، وإنها لتقصع بجرتها وإن لعابها ليسيل. فقال رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " في خطبته: إن الله قد قسم لكل إنسان قسمة من الميراث، فلا تجوز لوارث وصية. فالإسنادان اشتملا على شهر بن حوشب، وقد تعرفت عليه. 6 - أخبرنا عتبة بن عبد الله المروزي قال: أنبأنا عبد الله بن المبارك، قال: أنبأنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قتادة عن عمرو بن خارجة قال: قال رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم ": " إن الله عز اسمه قد أعطى كل ذي حق حقه، ولا وصية لوارث " (1). وقد اشتمل الإسناد على قتادة بن دعامة بن قتادة: أبو الخطاب البصري (61 - 117 ه) الذي ورد في حقه عن حنظلة بن أبي سفيان: كنت أرى طاووسا إذ أتاه قتادة يسأله يفر منه، قال: وكان قتادة يتهم بالقدر. وقال علي بن المديني: قلت ليحيى بن سعيد: إن عبد الرحمان يقول: اترك كل من كان رأسا في بدعة يدعو إليها. قال: كيف تصنع بقتادة...؟ ثم قال يحيى: إن ترك هذا الضرب ترك ناسا كثيرا. وقال الحاكم في علوم الحديث: لم يسمع قتادة من صحابي غير أنس.
1 - النسائي: السنن: 6 / 207، كتاب الوصايا باب ابطال الوصية للوارث، الحديث بأسناده الثلاثة ينتهي إلى عمرو بن خارجة الذي قال البزارفي حقه: إنه لا نعلم له عن النبي إلا هذا الحديث. 249 وقال أبو داود: حدث قتادة عن ثلاثين رجلا لم يسمع منهم (1). 7 - روى ابن ماجة: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا يزيد بن هارون: أنبأنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمان بن غنم، عن عمرو بن خارجة: أن النبي خطبهم وهو على راحلته، وإن راحلته لتقصع بجرتها، وإن لغامها ليسيل بين كتفي، قال: إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، فلا يجوز لوارث وصية، والولد للفراش... كذلك فالإسناد مشتمل على شهر بن حوشب. 8 - حدثنا هشام بن عمار، ثنا إسماعيل بن عياش، ثنا شرحبيل بن مسلم الخولاني: سمعت أبا أمامة الباهلي يقول: سمعت رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " يقول في خطبته، عام حجة الوداع: إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث. وفي الاسناد إسماعيل بن عياش، وقد عرفت حاله. 9 - حدثنا هشام بن عمار، ثنا محمد بن شعيب بن شابور، ثنا عبد الرحمن ابن يزيد بن جابر، عن سعيد بن أبي سعيد، أنه حدثه عن أنس بن مالك قال: إني لتحت ناقة رسول الله، يسيل علي لعابها فسمعته يقول: إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث (2). وفي السند، من لا يحتج به: 1 - عبد الرحمان بن يزيد بن جابر الأزدي أبو عتبة الشامي (المتوفى عام
1 - ابن حجر: تهذيب التهذيب: 8 / 319، جمال الدين المزي: تهذيب الكمال: 23 / 509. 2 - سنن ابن ماجة: 2 / 905، كتاب الوصايا باب لا وصية لوارث، الأحاديث 2712 - 2714. 250 153). قال الفلاس: ضعيف الحديث... روى عن أهل الكوفة أحاديث مناكير (1). 2 - سعيد بن أبي سعيد، واسمه كيسان المقبري أبو سعد المدني (المتوفى عام 125). قال يعقوب بن شيبة: قد كان تغير واختلط قبل موته يقال بأربع سنين، وقال الواقدي: اختلط قبل موته بأربع سنين، وقال ابن حبان في الثقات: اختلط قبل موته بأربع سنين (2). 10 - روى الدارقطني: نا أبو بكر النيسابوري، نا يوسف بن سعيد، نا حجاج، عن جريج، عن عطاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم ": لا تجوز الوصية لوارث إلا أن يشاء الورثة. وفي الاسناد عطاء بن أبي مسلم الخراساني (50 ه - 135 ه). قال الدارقطني: لم يلق ابن عباس. وقال أبو داود: ولم يدرك ابن عباس ولم يره. البخاري قد ذكر عطاء الخراساني في الضعفاء... والبخاري لم يخرج له شيئا. وقال ابن حبان: كان ردئ الحفظ يخطئ ولا يعلم فبطل الاحتجاج به (3). وقال البيهقي: عطاء هذا هو الخراساني لم يدرك ابن عباس ولم يره. قاله
1 - ابن حجر: تهذيب التهذيب: 6 / 266 برقم 581. 2 - المصدر نفسه: 4 / 34 برقم 61. 3 - المصدر نفسه: 7 / 190 برقم 395. 251 أبو داود السجستاني وغيره وقد روى من وجه آخر عن عكرمة عن ابن عباس (1). 11 - نا علي بن إبراهيم بن عيسى، نا أحمد بن محمد الماسرجسي، نا عمرو ابن زرارة، نا زياد بن عبد الله، نا إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن عمرو بن خارجة قال: قال رسول الله: لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة. ولو صح الاسناد، فهو محمول على ما إذا زاد عن الثلث كما سيأتي نقله. 12 - نا عبيد الله بن عبد الصمد بن المهتدي، نا محمد بن عمرو بن خالد، نا أبي، عن يونس بن راشد، عن عطاء الخراساني، عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله: " لا يجوز لوارث وصية إلا أن يشاء الورثة " (2). ولا أظن أن فقيها يحتج بحديث في سنده: عكرمة البربري: أبو عبد الله المدني مولى ابن عباس: وقد عرفه أهل الرجال بما يلي: قال ابن لهيعة: عن أبي الأسود: كان عكرمة قليل العقل خفيفا، كان قد سمع الحديث من رجلين، وكان إذا سئل حدث به عن رجل يسأل عنه بعد ذلك، فيحدث به عن الآخر، فكانوا يقولون: ما أكذبه. وقال يحيى بن معين: إنما لم يذكر مالك بن أنس عكرمة لأن عكرمة كان ينتحل رأي الصفرية (طائفة من الخوارج) وقال عطاء: كان أباضيا. وقال أبو خلف الخزاز، عن يحيى البكاء: سمعت ابن عمر يقول لنافع: اتق
1 - البيهقي: السنن الكبرى: 6 / 264. 2 - الدارقطني: السنن: 4 / 152 " الوصايا " الحديث 10 و 11. 252 الله ويحك يا نافع ولا تكذب علي كما كذب عكرمة على ابن عباس. وعن سعيد بن المسيب أنه كان يقول لغلامه: لا تكذب علي كما يكذب عكرمة على ابن عباس. وعن عطاء الخراساني: قلت لسعيد بن المسيب: إن عكرمة يزعم أن رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " تزوج ميمونة وهو محرم، فقال: كذب مخبثان. وقال سعيد بن جبير: كذب عكرمة. وقال وهيب بن خالد عن يحيى بن سعيد الأنصاري: كان كذابا. وكان مالك لا يرى عكرمة ثقة ويأمر أن لا يؤخذ عنه. وقال حنبل بن إسحاق عن أحمد بن حنبل:... وعكرمة مضطرب الحديث يختلف عنه. وقال ابن عليه: ذكره أيوب فقال: قليل العقل. وقال الحاكم: أبو أحمد احتج بحديثه الأئمة القدماء لكن بعض المتأخرين أخرج حديثه من حيز الصحاح (1). 13 - نا أحمد بن كامل، نا عبيد بن كثير، نا عباد بن يعقوب، نا نوح بن دراج، عن أبان بن تغلب، عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قال رسول الله: لا وصية لوارث ولا إقرار بدين. وفي الاسناد من لا يحتج به أهل السنة وهونوح بن دراج (المتوفى عام
1 - ابن حجر: تهذيب التهذيب: 7 / 234 رقم 476. 253 182) والحديث نقل محرفا. فقد تضافر عن جعفر بن محمد، صحة الوصية للوارث إلا إذا تجاوز عن الثلث، فإنه اضرار بالورثة ويؤيده ذيل الحديث " ولا إقرار بدين " والإقرار بالدين، والايصاء فوق الثلث مظنة الاضرار بالورثة. 14 - نا أحمد بن زياد، نا عبد الرحمان بن مرزوق، نا عبد الوهاب، نا سعيد، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمان بن غنم عن عمرو بن خارجة قال: خطبنا رسول الله بمنى فقال: إن الله عز وجل قد قسم لكل إنسان نصيبه من الميراث، فلا يجوز لوارث وصية إلا من الثلث، قال: ونا سعيد بن مطر عن شهر، عن عمرو بن خارجة عن النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " مثله (1). والسند مشتمل على شهر بن حوشب، والمتن يؤيد مقالة الإمامية حيث قال: فلا يجوز له ارث إلا من الثلث. 15 - روى الدارمي: حدثنا مسلم بن إبراهيم، ثنا هشام الدستوائي، ثنا قتادة، عن شهر بن حوشب، عن عبد الرحمان بن غنم، عن عمرو بن خارجة، قال: كنت تحت ناقة النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " وهي تقصع بجرتها ولعابها وينوص بين كتفي، سمعته يقول: ألا إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا يجوز وصية لوارث (2). وفي الاسناد شهر بن حوشب وكفى به ضعفا. 16 - روى البيهقي بأسانيد مختلفة، لا تخلو من ضعف.
1 - الدارقطني: السنن: 4 / 152 " الوصايا " الحديث 12 و 13. 2 - الدارمي: السنن: 2 / 419، باب الوصية للوارث. 254 فالأول مقطوع برواية عطاء عن ابن عباس وقد عرفت عدم ادراكه له وعطاء هذا هو عطاء الخراساني. والثاني مشتمل على رواية: عطاء عن عكرمة عن ابن عباس، وقد عرفت حال الرجلين. والثالث أيضا مثل الثاني. والرابع مشتمل على الربيع بن سليمان، الذي كان يوصف بغفلة شديدة، وعن الشافعي أنه ليس بثبت وإنما أخذ أكثر الكتب من آل البويطي بعد موت البويطي (1). وعلى سفيان بن عيينة (المتوفى عام 198) قال محمد بن عبد الله بن عمار : سمعت يحيى بن سعيد يقول: اشهدوا أن سفيان بن عيينة اختلط سنة 97، فمن سمع في هذه السنة وبعدها، سماعه لا شئ (2). وعلى مجاهد بن جبر المكي المولود في خلافة عمر (المتوفى عام 100) فمضافا إلى أن الرواية مقطوعة فقد ورد في حقه: مجاهد معلوم التدليس فعنعنته لا تفيد الوصل (3). والخامس مشتمل على ابن عياش وشرحبيل بن مسلم وقد تعرفت عليهما. والسادس مشتمل على شهر بن حوشب.
1 - ابن حجر: تهذيب التهذيب: 3 / 213 برقم 473. 2 - جمال الدين المزي: تهذيب الكمال: 11 / 196. 3 - ابن حجر: تهذيب التهذيب: 10 / 40 برقم 68. 255 والسابع مشتمل على حماد بن سلمة عن قتادة، والسند إما مقطوع أو موصول بواسطة شهر بن حوشب بقرينة الرواية السابقة. والثامن مشتمل على إسماعيل بن مسلم وهو مردد بين العبدي (أبو محمد (البصري) والمكي (أبو إسحاق البصري) الذي ضعفه جمال الدين المزي بقوله: قال: عمرو بن علي: كان يحيى وعبد الرحمان لا يحدثان عن إسماعيل المكي. وقال أبو طالب: قال أحمد بن حنبل: إسماعيل بن مسلم المكي منكر الحديث. وقال عباس الدوري عن يحيى بن معين: إسماعيل بن مسلم المكي ليس بشئ. وكذلك قال عثمان بن سعيد الدارمي وأبو يعلى الموصلي عن يحيى. وعن علي بن المديني: إسماعيل بن مسلم المكي لا يكتب حديثه... وكان ضعيفا في الحديث... يكثر الخلط. وقال أبو زرعة: هو بصري سكن مكة، ضعيف الحديث. وقال النسائي:... متروك الحديث. وقال في موضع آخر: ليس بثقة (1). والتاسع مشتمل على عبد الرحمان بن يزيد بن جابر الأزدي، وسعيد بن أبي سعيد وقد تعرفت عليهما. والعاشر مشتمل على سفيان بن عيينة وقد تعرفت عليه وعلى طاووس بن كيسان اليماني وهو تابعي لم يدرك النبي وإنما ينقل ما ينقل عن ابن عباس (2).
1 - جمال الدين المزي: تهذيب الكمال: 3 / 198 برقم 483. 2 - البيهقي: السنن: 6 / 264 - 265. 256 17 - روى الحافظ سعيد بن منصور المكي (المتوفى 227) في سننه هذا الحديث بأسنايد مختلفة. فالأول - مضافا إلى أنه مقطوع بمجاهد -: مشتمل على سفيان بن عيينة. والثاني: مقطوع بعمرو بن دينار (المتوفى حدود عام 125) ومشتمل على سفيان بن عيينة. والثالث: مشتمل على إسماعيل بن عياش وشرحبيل بن مسلم. والرابع: مشتمل على شهر بن حوشب. والخامس: مشتمل على سفيان بن عيينة وهشام بن حجر المكي الذي ضعفه يحيى بن معين، وعن غيره أنه يضرب على حديثه، وعن أبي داود أنه ضرب الحد بمكة (1). 18 - روى الصنعاني بسند ينتهي إلى شهر بن حوشب عن عمرو بن خارجة، قال: سمعت رسول الله يقول: لا وصية لوارث (2) وقد تعرفت على حال " شهر ". ملاحظات على نسخ الآية بالسنة: ويلاحظ على هذه الإجابة، أي نسخ الكتاب بهذه الروايات، بوجوه: 1 - الكتاب العزيز، قطعي السند، وصريح الدلالة في المقام. وظاهر الآية
1 - ابن حجر: تهذيب التهذيب: 11 / 32 برقم 74. 2 - الصنعاني: عبد الرزاق بن همام (176 - 211): المصنف: 9 / 70 برقم 16376. 257 كون الحكم أمرا أبديا وأنه مكتوب على المؤمنين، وهو حق على المتقين، أفيصح نسخه أو تخصيصه برواية لم يسلم سند منها عن خلل ونقاش فرواتها مخلط، من أروى الناس عن الكذابين، لا يرى ما يخرج من رأسه، إلى ضعيف أختتن في كبر سنه، إلى بائع دينه بخريطة، إلى مسند ولم ير المسند إليه، إلى محدود أجري عليه الحد في مكة، إلى خارجي يضرب به المثل، إلى، إلى، إلى (1). ولو قلنا بجواز نسخ الكتاب فإنما نقول به إذا كان الناسخ، دلالة قرآنية أو سنة قاطعة. 2 - كيف يمكن الاعتماد على رواية، تدعي أن النبي الأكرم خطب في محتشد كبير لم ينقل لنا التاريخ له مثيلا في حياة النبي إلا في وقعة الغدير، وقال: إنه لا وصية لوارث، ولم يسمعه أحد من الصحابة إلا أعرابي مثل عمرو بن خارجة الذي ليس له رواية عن رسول الله سوى هذه (2) أو شخص آخر كأبي أمامة الباهلي وهذا ما يورث الاطمئنان على وجود الخلل فيها سندا أو دلالة. 3 - لو سلم أن الحديث قابل للاحتجاج، لكنه لا يعادل ولا يقاوم ما تواتر عن أئمة أهل البيت من جواز الوصية للوارث. فهذا هو محمد بن مسلم أحد فقهاء القرن الثاني، من تلاميذ أبي جعفر الباقر - عليه السلام - يقول: سألت أبا جعفر عن الوصية للوارث؟ فقال: تجوز، ثم تلا هذه الآية: * (إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين) *.
1 - لاحظ ما نقلناه عن أئمة الرجال في حق رواة الحديث ونقلته. 2 - ابن حجر: الإصابة: 2 / 527 والمزي: تهذيب الكمال: 21 / 599 وابن حبان: الثقات: 3 / 271. 258 وهذا أبو بصير المرادي شيخ الشيعة في عصر الصادق - عليه السلام - يروي عنه أنه سأله عن الوصية للوارث؟ فقال: تجوز (1). 4 - أن التعارض فرع عدم وجود الجمع الدلالي بين نص الكتاب والحديث، إذ من المحتمل جدا أن الرسول " صلى الله عليه وآله وسلم " ذكر قيدا لكلامه، ولم يسمعه الراوي أو سمعه، وغفل عن نقله، أو نقله ولم يصل إلينا وهو أنه مثلا قال: " ولا تجوز وصية للوارث " إذا زاد عن الثلث أو بأكثر منه، كما ورد كذلك من طرقنا، وطرق أهل السنة. وقد عرفت: أن الدارقطني نقله عن الرسول الأكرم بهذا القيد (2) وقد ورد من طرقنا عن النبي الأكرم أنه قال في خطبة الوداع: " أيها الناس إن الله قد قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا تجوز وصية لوارث بأكثر من الثلث " (3). وبعد هذه الملاحظات لا يبقى أي وثوق للرواية بالصورة الموجودة في كتب السنن. أضف إلى ذلك: أن الإسلام دين الفطرة، ورسالته خاتمة الرسالات فكيف يصح أن يسد باب الإيصاء للوارث، مع أنه ربما تمس الحاجة إلى الايصاء للوارث، بعيدا عن الجور والحيف، من دون أن يثير عداء الباقين وحسد الآخرين كما إذا كان طفلا، أو مريضا، أو معوقا أو طالب علم، لا يتسنى له التحصيل إلا بعون آخرين. كل ذلك يدعو فقهاء المذاهب في الأمصار، إلى دراسة المسألة من الأصل عسى أن يتبدل المختلف إلى المؤتلف والخلاف إلى الوفاق بفضله وكرمه سبحانه.
1 - وسائل الشيعة: 13، الباب 15 من أبواب أحكام الوصايا الحديث، وفيه ثلاثة عشر حديثا تصرح على جواز الوصية للوارث. 2 - لاحظ الرقم 14 مما سلف وفيه: فلا يجوز لوارث وصية إلا من الثلث. 3 - الحسن بن علي بن شعبة (من محدثي القرن الرابع) تحف العقول: 34. 259 المسألة الثانية عشرة: ارث المسلم من الكافر لا خلاف بين المسلمين أن الكافر لا يرث المسلم، وإنما الخلاف في أن المسلم يرث الكافر أو لا، فأئمة أهل البيت على الأول، قائلين بأن الإسلام لا يزيد إلا عزا، لا بؤسا وشقاء، فلا وجه معقول لمنع المسلم عن ارث ما ترك آباؤه أو أبناؤه، نعم الكفر يزيد بؤسا وشقاء وحرمانا، فلا يرث الكافر المسلم لكرامة المورث ودناءة الوارث إلا إذا أسلم. وقد تضافرت رواياتهم على الإرث، إذا كان الوارث مسلما سواء كان المورث مسلما أو كافرا. وأما الصحابة فقد ذهب كثير منهم إلى هذا القول وهو مروي عن علي - عليه السلام - ومعاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان ومن التابعين مسروق وسعيد وعبد الله بن معقل، ومحمد بن الحنفية، ومحمد بن علي الباقر - عليهم السلام - وإسحاق ابن راهويه. وقال الشافعي: لا يرث المسلم الكافر، وحكوا ذلك عن علي - عليه السلام - وعمر، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس، وزيد بن ثابت والفقهاء كلهم (1).
1 - الطوسي: الخلاف 2 / كتاب الفرائض المسألة 16. 261 وقال ابن قدامة: أجمع أهل العلم على أن الكافر لا يرث المسلم. وقال جمهور الصحابة والفقهاء لا يرث المسلم الكافر يروى هذا عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأسامة بن زيد وجابر بن عبد الله، وبه قال عمرو بن عثمان وعروة، والزهري وعطاء وطاووس والحسن، وعمر بن عبد العزيز وعمرو بن دينار، والثوري وأبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي وعامة الفقهاء وعليه العمل. وروي عن عمر ومعاذ ومعاوية، أنهم ورثوا المسلم من الكافر، ولم يورثوا الكافر من المسلم، وحكي ذلك عن محمد بن الحنفية، وعلي بن الحسين، وسعيد ابن المسيب، ومسروق، وعبد الله بن معقل، والشعبي، والنخعي، ويحيى بن يعمر، وإسحاق وليس بموثوق به عنهم، فإن أحمد قال: ليس بين الناس اختلاف في أن المسلم لا يرث الكافر (1). دليلنا: إطلاقات الكتاب وعموماته مثل قوله سبحانه: * (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الا نثيين) * وقوله سبحانه: * (ولكم نصف ما ترك أزواجكم) * وقوله تعالى: * (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون) * فإنها تعم ما إذا كان المورث كافرا والوارث مسلما وأما عكس المسألة فقد خرج بالدليل. أضف إلى ذلك، ما تضافر من الروايات عن أئمة أهل البيت الصريحة في التوريث. منها: صحيحة أبي ولاد قال: سمعت أبا عبد الله يقول: المسلم يرث امرأته
1 - ابن قدامة: المغني: 6 / 340. 262 الذمية، وهي لا ترثه (1). منها موثقة سماعة: عن أبي عبد الله قال: سألته عن المسلم هل يرث المشرك؟ قال: نعم فأما المشرك فلا يرث المسلم (2). وقد علل في بعض الروايات حكم التوريث بقولهم " نحن نرثهم ولا يرثونا إن الله عز وجل لم يزدنا بالإسلام إلا عزا (3). وفي رواية أخرى قال أبو عبد الله: نرثهم ولا يرثونا إن الإسلام لم يزده في ميراثه إلا شدة (4). وقد فهم معاذ بن جبل من قول النبي: " الإسلام يزيد ولا ينقص " حكم المسألة فورث المسلم، من أخيه اليهودي (5). نعم استدل المخالف بأمور: 1 - رواية أسامة بن زيد عن النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " أنه قال: لا يرث الكافر المسلم، ولا المسلم الكافر. وقال ابن قدامة: متفق عليه (6). يلاحظ عليه: أنها رواية واحدة لا تقابل اطلاق الكتاب وعمومه، وقد قلنا في البحوث الا صولية أنه لا يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد، وإن منزلة الكتاب أرقى من أن يخصص بالظن وقد قال به أيضا المحقق الحلي في المعارج. 2 - روي عن عمر أنه قال: لا نرث أهل الملل ولا يرثوننا (7). لكنه خبر موقوف لم يسنده إلى النبي فهو كسائر موقوفات الصحابة ليس حجة كما حققناه
1 - الوسائل: 17 الباب 1 من أبواب موانع الإرث ح 1 و 5، ولاحظ ح 6 و 7 و 8 و 14 و 17 و 19 من ذلك الباب. 2 - الوسائل: 17 الباب 1 من أبواب موانع الإرث ح 1 و 5، ولاحظ ح 6 و 7 و 8 و 14 و 17 و 19 من ذلك الباب. 3 - لاحظ الرواية 6 و 17 و 8 من ذلك الباب. 4 - لاحظ الرواية 6 و 17 و 8 من ذلك الباب. 5 - لاحظ الرواية 6 و 17 و 8 من ذلك الباب. 6 - ابن قدامة: المغني: 6 / 341. 7 - ابن قدامة: المغني: 6 / 341. 263 في " أصول الحديث وأحكامه ". 3 - ما رواه الفريقان عن النبي الأكرم أنه قال: " لا يتوارث أهل ملتين " لكنه غير دال على المدعى إذ الحديث بصدد نفي التوارث، حتى يتوارث كل من الآخر، بل لا يرث الكافر من المسلم، ويرث المسلم من الكافر. وقد تضافرت الروايات عن أهل البيت - عليهم السلام - على هذا التفسير، روى عبد الرحمان بن أعين عن أبي جعفر - عليه السلام - قال: لا يتوارث أهل ملتين نحن نرثهم ولا يرثونا إن الله - عز وجل - لم يزدنا بالإسلام إلا عزا (1). وفي صحيحة جميل وهشام، عن أبي عبد الله - عليه السلام - أنه قال: فيما روى الناس عن النبي أنه قال: " لا يتوارث أهل ملتين "، قال: نرثهم ولا يرثونا إن الإسلام لم يزده في حقه إلا شدة (2). وروى أبو العباس، قال: سمعت أبا عبد الله - عليه السلام - يقول: لا يتوارث أهل ملتين يرث هذا هذا، ويرث هذا هذا إلا أن المسلم يرث الكافر، والكافر لا يرث المسلم (3)، إلى غير ذلك من الروايات المفسرة للنبوي والرادة على فتوى الفقهاء المشهورة في عصرهم - عليهم السلام -. وبذلك تظهر حال مسائل أخرى مذكورة في الفرائض.
1 - الوسائل: 17 الباب 1 من أبواب موانع الإرث ح 6 و 14 و 15. 2 - الوسائل: 17 الباب 1 من أبواب موانع الإرث ح 6 و 14 و 15. 3 - الوسائل: 17 الباب 1 من أبواب موانع الإرث ح 6 و 14 و 15. 264 المسألة الثالثة عشرة: التوريث بالعصبة اتفقت الإمامية على أن ما فضل عن السهام يرد على أصحاب السهام بخلاف سائر الفقهاء. ولأجل إيضاح محل الخلاف بين الإمامية وسائر الفقهاء نذكر أمورا: الأول: إذا بقي من سهام التركة شئ - بعد اخراج الفريضة - فله صور: الصورة الا ولى: إن الميت إذا لم يخلف وارثا إلا ذوي فروض ولا يستوعب المال كالبنات وليس معهن أحد، أو الأخوات كذلك، فإن الفاضل عن ذوي الفروض يرد عليهم على قدر فروضهم إلا الزوج والزوجة (1). الصورة الثانية: أن يكون بين أصحاب الفروض مساو لا فرض له، وبعبارة أخرى أن يجتمع من لا فرض له مع أصحاب الفرض، ففيها يرد الفاضل، على المساوي الذي ليس له سهم خاص في الكتاب وإليك بعض الأمثلة: 1 - إذا ماتت عن أبوين وزوج. 2 - إذا مات عن أبوين وزوجة.
1 - المغني: 6 / 256 ونقل عن ابن سراقة أنه قال: أن عليه العمل اليوم في الأمصار. 265 فالزوج في الأول، والزوجة في الثاني، والا م في كليهما من أصحاب الفروض دون الأب فما فضل بعد أخذهم، فهو لمن لا فرض له، أي الأب، فللزوج والزوجة نصيبهما الأعلى وللا م الثلث، والباقي للأب لأنه لا فرض له، نعم الأب من أصحاب الفروض إذا كان للميت ولد قال سبحانه: * (ولأبويه لكل واحد منهما السدس إن كان له ولد) * (النساء / 11) بخلاف الا م فهي مطلقا من ذوات الفروض. قال الخرقي في متن المغني: " وإذا كان زوج وأبوان، أعطي الزوج النصف والا م ثلث ما بقي، وما بقي فللأب، وإذا كانت زوجة أعطيت الزوجة الربع، والا م ثلث ما بقي، وما بقي للأب. قال ابن قدامة: هاتان المسألتان تسميان العمريتين لأن عمر - رضي الله عنه - قضى فيهما بهذا القضاء، فتبعه على ذلك عثمان وزيد بن ثابت وابن مسعود، وروي ذلك عن علي، وبه قال الحسن والثوري ومالك والشافعي - رضي الله عنهم - وأصحاب الرأي، وجعل ابن عباس ثلث المال كله للا م في المسألتين، ويروى ذلك عن علي " (1). 3 - ذلك الفرض ولكن كان للا م حاجب، فللزوج والزوجة نصيبهما الأعلى وللا م السدس، والكل من أصحاب الفرض، والباقي للأب الذي لا فرض له.
1 - المغني: 6 / 236 - 237. وهذا ونظائره الكثيرة في الفرائض يعرب عن عدم وجود نظام محدد في الفرائض في متناول الصحابة، ومع أنهم يروون عن النبي أن أعلم الصحابة بالفرائض هو زيد بن ثابت وانه " صلى الله عليه وآله وسلم " قال: " أفرضهم زيد، وأقرأهم أبي ". لكنه تبع قضاء عمر ولم يكن عنده شئ في المسألة التي يكثر الابتلاء بها. 266 4 - إذا مات عن أبوين وابن وزوج أو زوجة، فلهما نصيبهما الأدنى - لأجل الولد - وللوالدين السدسان والباقي للابن الذي لا فرض له. 5 - إذا مات عن زوج أو زوجة وإخوة من الا م، وإخوة من الأبوين أو من الأب، فللزوج النصف أو للزوجة الربع، وللإخوة من الا م الثلث، والباقي لمن لا فرض له أي الإخوة من الأبوين أو الذين يتقربون بالأب. ففي هذه الصورة فالزائد بعد اخراج الفرائض للمساوي في الطبقة الذي لا فرض له. ولعل هذه الصورة موضع اتفاق بين الفقهاء: السنة والشيعة. الصورة الثالثة: إذا لم يكن هناك قريب مساو لا فرض له وزادت سهام التركة عن الفروض فهناك رأيان مختلفان بين الفقهاء: الشيعة والسنة. 1 - الشيعة كلهم على أن الزائد يرد إلى أصحاب الفرائض عدا الزوج والزوجة (1) بنسبة سهامهم، فإذا مات عن أبوين وبنت وليس في طبقتهم من ينتمي إلى الميت بلا واسطة سواهم، يرد الفاضل - أي السدس - عليهم بنسبة سهامهم، فيرد السدس عليهم أخماسا فللأبوين: الخمسان من السدس، وللبنت ثلاثة أخماس منه، ولا تخرج التركة عن هذه الطبقة أبدا. 2 - أهل السنة يرون أنه يرد إلى أقرباء الميت من جانب الأب والابن وهم العصبة.
1 - اتفقت عليه المذاهب كلها قال ابن قدامة: " فأما الزوجان فلا يرد عليهما، باتفاق أهل العلم " المغني: 6 / 257. 267 الأمر الثاني: ما هو المراد من العصبة لغة واصطلاحا؟ قال ابن منظور: العصبة والعصابة: جماعة ما بين العشرة إلى الأربعين. وفي التنزيل: * (ونحن عصبة) * (1). قال الأخفش: والعصبة والعصابة: جماعة ليس لها واحد. وقال الراغب: العصب: اطناب المفاصل، ثم يقال: لكل شد عصب، والعصبة: جماعة متعصبة متعاضدة. قال تعالى: * (لتنوأ بالعصبة) * (2). والعصابة: ما يعصب بها الرأس والعمامة. وقال في النهاية: العصبة: الأقارب من جهة الأب لأنهم يعصبونه ويعتصب بهم أي يحيطون به ويشتد بهم. وقال الطريحي: عصبة الرجل، جمع " عاصب " ككفرة جمع كافر، وهم بنوه وقرابته، والجمع: العصاب، قال الجوهري: وإنما سموا عصبة، لأنهم عصبوا به أي: أحاطوا به فالأب طرف، والابن طرف، والأخ طرف، والعم طرف... وكلامه توضيح لما أجمله ابن الأثير. وقد سبق الطريحي، ابن فارس في مقاييسه فقال: له أصل واحد يدل على ربط شئ بشئ ثم يفرع ذلك فروعا وتطلق على أطناب المفاصل التي تلائم بينها، وعلى العشرة من الرجال لأنها قد عصبت كأنها ربط بعضها ببعض. وعلى كل تقدير فهو في الأصل بمعنى الربط والإحاطة وكأن الإنسان يحاط
1 - يوسف: الآية 8. 2 - القصص: الآية 76. 268 بالعصبة ويرتبط بها مع غيرهم. وأما في اصطلاح الفقهاء فهو لا يتجاوز عما ذكره الطريحي في كلامه، وأحسن التعاريف ما ذكره صاحب الجواهر حيث قال: العصبة: الابن والأب ومن تدلى بهما، وهو يشمل الأخ والعم وغيرهما. وقال ابن قدامة: هو الوارث بغير تقدير، وإذا كان معه ذو فرض أخذ ما فضل عنه قل، أو كثر، وإن انفرد أخذ الكل، وإن استغرقت الفروض المال سقط (1). وما ذكره أشبه ببيان حكم العصبة من حيث الحكم الشرعي وليس تفسيرا لمادة العصبة. ثم إن العصبة عندهم تنقسم إلى العصبة بالنفس، وإلى العصبة بالغير والأول أقرب العصبات، كالابن، ابن الابن، الأب، الجد لأب وإن علا، الأخ لأبوين، ابن الأخ لأبوين، أو أب، العم لأبوين أو لأب، ابن العم لأبوين أو لأب. وأما الثاني فينحصر في الإناث كالبنت، وبنت ابن وأخت لأبوين، أو لأب. لأن العصبة من تدلى إلى الميت من جانب الأب وهو يعم الجميع ولا يختص بالذكور، نعم توارثهم بالعصبة على نظام خاص مذكور في كتبهم (2). قال الخرقي: " وابن الأخ للأب والأم، أولى من ابن الأخ للأب. وابن الأخ
1 - المغني: 6 / 226. 2 - لاحظ المغني: 6 / 236 عند قول الماتن: وابن الأخ للأب أولى من ابن ابن الأخ للأب. 269 للأب، أولى من ابن ابن الأخ للأب والا م. وابن الأخ وإن سفل إذا كان للأب (1)، أولى من العم. وابن العم للأب، أولى من ابن ابن العم للأب والا م. وابن العم وإن سفل، أولى من عم الأب " (2). الأمر الثالث: في تبيين ملاك الوراثة عند الطائفتين: إن الضابط لتقديم بعض الأقرباء السببيين على البعض الآخر عندنا أحد الأمرين: 1 - كونه صاحب فريضة في الكتاب قال سبحانه: * (آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما) * (النساء / 11). 2 - القربى إذا لم يكن صاحب فريضة فالأقرب إلى الميت، هو الوارث للكل أو لما فضل عن التركة قال سبحانه: * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شئ عليم) *. وأما عند أهل السنة فالملاك بعد الفرض، هو التعصيب - بالمعنى الذي عرفت بعد أصحاب الفرض - وإن بعد عنهم، كالأخ عندما مات، عن أخت أو أختين فيرث الأخ، أو العم، الفاضل من التركة، بما أنهما عصبة ويرد عندنا إلى أصحاب الفروض وربما لا يترتب على الخلاف ثمرة كما في الموردين التاليين: كما لو اجتمع الأب مع الابن، فالأب يأخذ فرضه وهو السدس، وما بقي يأخذه الابن بالاتفاق لكن عندنا بالقرابة وعند أهل السنة بالعصبة.
1 - في المصدر: " الأب " والصحيح ما أثبتناه. 2 - المغني: 6 / 236. 270 ومثله لو اجتمع الأب مع ابن الابن فبما أن الأولاد تنزل منزلة الآباء فللأب السدس والباقي لابن الابن عندنا بالقرابة وعندهم بالتعصيب. لكن تظهر الثمرة في موارد أخر. كما إذا كانت العصبة بعيدا عن ذي فرض كالأخ فيما إذا ترك بنتا أو بنات، ولم يكن له ولد ذكر، أو العم فيما إذا ترك أختا أو أخوات ولم يكن له أخ، فعلى مذهب الإمامية لا يرد إلى البعيد أبدا، سواء كان أخا أو عما، لأن الضابط في التقديم والتأخير هو الفرض والقرابة والأخ والعم بعيدان عن الميت مع وجود البنت أو الا خت، فيرد عليهما الفاضل، فالبنت ترث النصف فرضا والنصف الآخر قرابة، وهكذا الصور الا خرى. وأما على مذاهب أهل السنة، فبما أنه حكموا بتوريث العصبة مع ذي فرض قريب يردون الفاضل إلى الأخ في الأول، والعم في الثاني. قال الشيخ الطوسي: القول بالعصبة باطل عندنا ولا يورث بها في موضع من المواضع، وإنما يورث بالفرض المسمى أو القربى، أو الأسباب التي يورث بها من الزوجية والولاء. وروي ذلك عن ابن عباس لأنه قال فيمن خلف بنتا وأختا: إن المال كله للبنت دون الا خت، ووافقه جابر بن عبد الله في ذلك. وروى موافقة ابن عباس عن إبراهيم النخعي، روى عنه الأعمش ولم يجعل داود الأخوات مع البنات عصبة، وخالف جميع الفقهاء في ذلك وأثبتوا العصبات من جهة الأب والابن (1).
1 - الطوسي: الخلاف: 2 / كتاب الفرائض المسألة 80. 271 إذا عرفت ذلك فلنأخذ بدراسة أدلة نفاة العصبة فنقول: دراسة أدلة نفاة العصبة: احتجت الإمامية على نفي التعصيب وأنه مع وجود الأقرب وإن كان ذا فرض لا يرد الباقي إلى البعيد وإن كان ذكرا، بوجوه: الأول: قوله سبحانه: * (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا) * (النساء / 6). وجه الاستدلال: أنه أوجب توريث جميع النساء والأقربين ودلت على المساواة بين الذكور والإناث في استحقاق الإرث، لأنها حكمت بأن للنساء نصيبا كما حكمت بأن للرجال نصيبا، مع أن القائل بالتعصيب عليه توريث البعض دون البعض مع كونهما في رتبة واحدة وذلك في الصور التالية: 1 - لو مات وترك بنتا، وأخا وأختا، فالفاضل عن فريضة البنت يرد إلى الأخ، ويحكم على الا خت بالحرمان. 2 - لو مات وترك بنتا، وابن أخ، وابن أخت، فالقائل بالتعصيب يعطي النصف للبنت، والنصف الآخر لابن الأخ، ولا شئ لابن أخته مع أنهما في درجة واحدة. 3 - لو مات وترك أختا، وعما، وعمة، فالفاضل عن فريضة الا خت يرد إلى
272 العم، لا العمة. 4 - لو مات وترك بنتا، وابن أخ، وبنت أخ، فإنهم يعطون النصف للبنت، والنصف الآخر لابن الأخ، ولا يعطون شيئا لبنت الأخ مع كونهما في درجة واحدة. فالآية تحكم على وراثة الرجال والنساء معا وبوراثة الجميع، والقائل بالتعصيب يورث الرجال دون النساء والحكم به أشبه بحكم الجاهلية المبنية على هضم حقوق النساء كما سيوافيك بيانه. وحمل الآية في مشاركة الرجال والنساء، على خصوص الميراث المفروض، لا الميراث لأجل التعصيب كما ترى، والحاصل أن نتيجة القول بالتعصيب هو توريث الرجال وإهمال النساء على ما كانت الجاهلية عليه. قال السيد المرتضى: توريث الرجال دون النساء مع المساواة في القربى والدرجة، من أحكام الجاهلية، وقد نسخ الله بشريعة نبينا محمد " صلى الله عليه وآله وسلم " أحكام الجاهلية، وذم من أقام عليها واستمر على العمل بها بقوله: * (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما) * وليس لهم أن يقولوا إننا نخصص الآية التي ذكرتموها بالسنة، وذلك أن السنة التي لا تقتضي العلم القاطع لا يخصص بها القرآن، كما لم ينسخه بها، وإنما يجوز بالسنة أن يخصص وينسخ إذا كانت تقتضي العلم واليقين، ولا خلاف في أن الأخبار المروية في توريث العصبة أخبار آحاد لا توجب علما، وأكثر ما يقتضيه غلبة الظن، على أن أخبار التعصيب معارضة بأخبار كثيرة ترويها الشيعة من طرق مختلفة في إبطال أن يكون الميراث بالعصبة، وأنه بالقربى والرحم، وإذا تعارضت الأخبار رجعنا إلى ظاهر
273 الكتاب (1). الثاني: قوله سبحانه: * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شئ عليم) * (الأنفال / 75). وجه الاستدلال: أن المراد من الأولوية هو الأقربية أي الأقرب فالأقرب، وعلى ذلك فكيف يرث الأخ أو العم مع وجود الأقرب أعني البنت أو الا خت، وهما أقرب إلى الميت من الأخ والعم، لأن البنت تتقرب إلى الميت بنفسها، والأخ يتقرب إليه بالأب، والا خت تتقرب إلى الميت بالأب، والعم يتقرب إليه بواسطة الجد، والا خت تتقرب بواسطة، والعم يتقرب بواسطتين، وأولاده بوسائط. والعجب أنهم يراعون هذا الملاك في ميراث العصبة حيث يقدمون الأخ لأبوين، على الأخ لأب. وابن الأخ لأبوين، على ابن الأخ لأب، كما أن العم لأبوين يقدمونه على العم لأب، وابن العم لأبوين على ابن العم لأب. هذا في العصبة بالنفس ومثلها العصبة بالغير. ومما يدل على أن الآية في بيان تقديم الأقرب فالأقرب - مضافا إلى ما ورد من أنها وردت ناسخة للتوارث بمعاقدة الإيمان والتوارث بالمهاجرة اللذين كانا ثابتين في صدر الإسلام (2). إن عليا كان لا يعطي الموالي شيئا مع ذي رحم، سميت له فريضة أم لم تسم له فريضة وكان يقول:
1 - الانتصار: 278. 2 - مجمع البيان: 2 / 563 طبع صيدا. 274 * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شئ عليم) * قد علم مكانهم فلم يجعل لهم مع أولي الأرحام (1). وروى زرارة عن أبي جعفر - عليه السلام - في قول الله: * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) *: إن بعضهم أولى بالميراث من بعض لأن أقربهم إليه رحما أولى به، ثم قال أبو جعفر: أيهم أولى بالميت وأقربهم إليه؟ أمه؟ أو أخوه؟ أليس الا م أقرب إلى الميت من إخوته وأخواته؟ (2). وروي عن زيد بن ثابت أنه قال: من قضاء الجاهلية أن يورث الرجال دون النساء (3). قال العلامة الصافي في تفسير قوله سبحانه: * (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون...) * قد أبطل الله بهذه الآية النظام الجاهلي المبني على توريث الرجال دون النساء، مثل توريث الابن دون البنت، وتوريث الأخ دون الا خت، وتوريث العم دون العمة، وابن العم دون بنته، فقرر بها مشاركة النساء مع الرجال في الإرث، إذا كن معهم في القرابة في مرتبة واحدة، كالابن والبنت، والأخ والا خت، وابن الابن وبنته، والعم والعمة وغيرهم، فلا يوجد في الشرع مورد تكون المرأة مع المرء في درجة واحدة إلا وهي ترث من الميت بحكم الآية... فكما أن القول بحرمان الرجال الذين هم من طبقة واحدة نقض لهذه الضابطة المحكمة الشريفة، كذلك القول بحرمان النساء أيضا... ومثل هذا النظام - الذي تجلى فيه اعتناء الإسلام بشأن المرأة ورفع مستواها في الحقوق المالية كسائر حقوقها - يقتضي أن يكون عاما لا يقبل التخصيص والاستثناء (4).
1 - الوسائل: 17، الباب 8 من أبواب موجبات الإرث الحديث 10 و 11 و 2. 2 - الوسائل: 17، الباب 8 من أبواب موجبات الإرث الحديث 10 و 11 و 2. 3 - الوسائل: 17، الباب 8 من أبواب موجبات الإرث الحديث 10 و 11 و 2. 4 - مع الشيخ جاد الحق، شيخ الأزهر: 15 - 16. 275 ويظهر من السيد في الانتصار أن القائلين بالتعصيب ربما يعترضون على الإمامية بأن الحرمان موجود في فقههم، كما إذا مات الرجل عن بنت وعم أو ابن عم، فإن التركة كلها للبنت عندهم ولاحظ لهما. وهو حرمان الرجال دون النساء عكس القول بالتعصيب، ويشتركان في الحرمان ومخالفة الذكر الحكيم. والجواب: أن الحرمان في المثال لأجل عدم الاستواء في القرابة ألا ترى أن ولد الولد (ذكورا كانوا أو إناثا) لا يرث مع الولد، لعدم التساوي في الدرجة والقرابة، وإن كانوا يدخلون تحت التسمية بالرجال والنساء، وإذا كانت القرابة والدرجة مراعاة بين العم وابنه، فلا يساوي - العم - البنت في القربى والدرجة وهو أبعد منها كثيرا. وليس كذلك العمومة والعمات وبنات العم وبنو العم، لأن درجة هؤلاء واحدة وقرباهم متساوية والمخالف يورث الرجال منهم دون النساء، فظاهر الآية حجة عليه وفعله مخالف لها، وليس كذلك قولنا في المسائل التي وقعت الإشارة إليها وهذا واضح فليتأمل (1). الثالث: قوله سبحانه: * (إن امرؤا هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك...) * (النساء / 176) والآية ظاهرة في أن توريث الا خت من الأخ مشروط بعدم وجود الولد له. مع أنه يلزم في بعض صور التعصيب توريث الا خت مع وجود الولد (البنت) للميت وذلك فيما إذا كان التعصيب بالغير كأخت أو أخوات لأبوين، أو أخت وأخوات لأب، فإنهن عصبة بالغير من جانب الأب فلو مات عن بنت وأخت لأبوين أو لأب، فالنصف للبنت، والنصف الآخر للعصبة وهي الا
1 - الانتصار: 283. 276 خت أو الأخوات مع أن وراثة الا خت مشروطة بعدم الولد في صريح الآية. قال الخرقي: والأخوات مع البنات عصبة، لهن ما فضل، وليس لهن معهن فريضة مسماة. وقال ابن قدامة في شرحه: والمراد بالأخوات هاهنا، الأخوات من الأبوين، أو من الأب وإليه ذهب عامة الفقهاء إلا ابن عباس ومن تابعه، فإنه يروى عنه أنه كان لا يجعل الأخوات مع البنات عصبة فقال في بنت وأخت: للبنت النصف ولا شئ للأخت. فقال ابن عباس: أنتم أعلم أم الله، يريد قول الله سبحانه: * (إن امرؤا هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك...) * فإنما جعل لها الميراث بشرط عدم الولد. ثم إن ابن قدامة رد على الاستدلال بقوله: إن الآية تدل على أن الا خت لا يفرض لها النصف مع الولد، ونحن نقول به، فإن ما تأخذه مع البنت ليس بفرض، وإنما هو بالتعصيب كميراث الأخ، وقد وافق ابن عباس على ثبوت ميراث الأخ مع الولد مع قول الله تعالى: * (وهو يرثها إن لم يكن لها ولد) * وعلى قياس قوله " ينبغي أن يسقط الأخ لاشتراطه في توريثه منها عدم ولدها " (1). حاصل كلامه: أن الا خت ترث من الأخ النصف في حالتي وجود الولد وعدمه، غاية الأمر عند عدم الولد ترث فرضا، وعند وجوده ترثه عصبة. يلاحظ عليه: أن المهم عند المخاطبين هو أصل الوراثة، لا التسمية فإذا كان الولد وعدمه غير مؤثر فيها، كان التقييد لغوا، وما ذكره من أنها ترث النصف عند الولد تعصيبا لا فرضا أشبه بالتلاعب بالألفاظ، والمخاطب بالآية هو العرف العام
1 - ابن قدامة: المغني: 6 / 227. 277 وهو لا يفهم من الآية سوى حرمان الأخت عند الولد وتوريثها معه باسم آخر، يراه مناقضا. وما نسبه إلى ابن عباس من أنه كان يرى ميراث الأخ مع الولد، غير ثابت وعلى فرض تسليمه فهو ليس بحجة. الرابع: الروايات المروية في الصحاح والمسانيد وفي جوامعنا، ننقل منها ما يلي: 1 - روى الشيخان عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: مرضت بمكة مرضا فأشفيت (1) منه على الموت فأتاني النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " يعودني فقلت: يا رسول الله: إن لي مالا كثيرا وليس يرثني إلا ابنتي أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: فالشطر؟ قال: لا، قلت: الثلث؟ قال: الثلث كبير، إنك إن تركت ولدك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس (2). وفي لفظ مسلم في باب الوصية بالثلث: " ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة ". والرواية صريحة في أنه كان يدور في خلد سعد، أنها الوارثة المتفردة والنبي سمع كلامه وأقره عليه ولم يرد عليه بشئ وقد كان السؤال والجواب بعد نزول آيات الفرائض. 2 - روى البيهقي عن سويد بن غفلة في ابنة وامرأة ومولى قال: كان علي - عليه السلام - يعطي الابنة النصف والمرأة الثمن ويرد ما بقي على الابنة (3).
1 - أي فأشرفت وقاربت. 2 - صحيح البخاري: 8 / 150، كتاب الفرائض، باب ميراث البنات. 3 - السنن الكبرى: 6 / 242 باب الميراث بالولاء. 278 3 - روى: من ترك مالا فلأهله (1). 4 - وربما يستدل بما روي عن واثلة بن الأسقع، قال: قال رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم ": والمرأة تحوز ثلاث مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي تلاعن عليه (2). وجه الاستدلال: أن سهم الا م هو السدس أو الثلث وقد حكم على الفاضل عن التركة بالرد عليها دون العصبة. إلا أن يقال: إن عدم الرد لعدم وجود العصبة (بحكم اللعان) فلا يصح الاستدلال به على ما إذا كانت هناك عصبة. الخامس: إن القول بالتعصيب يقتضي كون توريث الوارث مشروطا بوجود وارث آخر وهو مخالف لما علم الاتفاق عليه لأنه إما أن يتساوى الوارث الآخر فيرثان، وإلا فيمنع وذلك في المثال الآتي: إذا خلف الميت بنتين، وابنة ابن، وعم. فبما أن العم من العصبة بالنفس والابنة عصبة بالغير يرد الفاضل إلى العم. ولا شئ لبنت الابن. ولكنه لو كان معها أخ أي ابن الابن، فهي تتعصب به، وبما أنه أولى ذكر بالميت يكون مقدما على العم ويكون الفاضل بينهما أثلاثا، للإجماع على المشاركة، لقوله سبحانه: * (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الا نثيين) * (النساء / 11) وهذا هو ما قلناه من أنه يلزم أن يكون توريث الابنة مشروطا بالأخ وإلا فيرث العم.
1 - صحيح البخاري: 8 / 150 كتاب الفرائض باب قول النبي: من ترك مالا فلأهله، وكنز العمال: 11 / 7 الحديث 30388، وجامع الا صول: 9 / 631 قال: رواه الترمذي. 2 - المسند: 3 / 490، وسنن ابن ماجة: 2 / 916 باب ما تحوزه المرأة، ثلاث مواريث رقم 2742، وفي جامع الا صول: 9 / 614، برقم 7401... ولدها الذي لاعنت عنه. أخرجه أبو داود والترمذي. 279 قال الخرقي في متن المغني: " فإن كن بنات، وبنات ابن، فللبنات الثلثان وليس لبنات الابن شئ إلا أن يكون معهن ذكر فيعصبهن فيما بقي للذكر مثل حظ الا نثيين ". وقال ابن قدامة: " فإن كان مع بنات الابن، ابن في درجتهن كأخيهن أو ابن عمهن، أو أنزل منهن كابن أخيهن أو ابن ابن عمهن أو ابن ابن ابن عمهن، عصبهن في الباقي فجعل بينهم للذكر مثل حظ الا نثيين " (1). السادس: لقد تضافر عن أئمة أهل البيت أن الفاضل عن الفروض للأقرب، وهي متضافرة لو لم نقل أنها متواترة ولعل الشهيد الثاني لم يتفحص في أبواب الإرث فقال: يرجع الإمامية إلى خبر واحد (2) ويظهر من الروايات أنه كان مكتوبا في كتاب الفرائض لعلي - عليه السلام -. 1 - روى حماد بن عثمان قال: سألت أبا الحسن - عليه السلام - عن رجل ترك أمه وأخاه؟ قال: يا شيخ تريد على الكتاب؟ قال، قلت: نعم. قال: كان علي - عليه السلام - يعطي المال للأقرب، فالأقرب. قال: قلت: فالأخ لا يرث شيئا؟ قال: قد أخبرتك أن عليا - عليه السلام - كان يعطي المال الأقرب فالأقرب (3). 2 - روى زرارة عن أبي جعفر - عليه السلام - في رجل مات وترك ابنته وأخته لأبيه وأمه؟ فقال: المال كله للابنة وليس للا خت من الأب والا م شئ (4).
1 - المغني: 6 / 229. 2 - المسالك، كتاب الفرائض عند شرح قول المحقق: ولا يثبت الميراث عندنا بالتعصيب. 3 - الوسائل: 17، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين الحديث: 6 و 1. 4 - الوسائل: 17، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين الحديث: 6 و 1. 280 3 - روى عبد الله بن خداش المنقري أنه سأل أبا الحسن عن رجل مات وترك ابنته وأخاه؟ فقال: المال للابنة (1). 4 - عن بريد العجلي عن أبي جعفر - عليه السلام - قال: قلت له: رجل مات وترك ابنة وعمه؟ فقال: المال للابنة وليس للعم شئ، أو قال: ليس للعم مع الابنة شئ (2). ويظهر من مناظرة الرشيد مع الإمام أبي الحسن الأول، أن توريث العم مع الأبناء كان مؤامرة سرية لإقصاء علي عن حقه، بتقديم العم على ابنة رسول الله (3). 5 - ما رواه حسين الرزاز قال: أمرت من يسأل أبا عبد الله - عليه السلام - المال لمن هو؟ للأقرب أو العصبة؟ فقال: المال للأقرب والعصبة في فيه التراب (4). 6 - ما رواه العياشي في تفسيره عن ابن سنان عن أبي عبد الله قال: اختلف علي بن أبي طالب وعثمان في الرجل يموت وليس له عصبة يرثونه وله ذو قرابة لا يرثونه، ليس لهم سهم مفروض، فقال علي: ميراثه لذوي قرابته لأن الله تعالى يقول: * (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) * وقال عثمان: اجعل ماله في بيت مال المسلمين (5).
1 - الوسائل: 17، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين الحديث: 3 و 14 ولاحظ الحديث 4 و 5 و 7 - 13. من ذلك الباب. 2 - الوسائل: 17، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين الحديث: 3 و 14 ولاحظ الحديث 4 و 5 و 7 - 13. من ذلك الباب. 3 - الوسائل: 17، الباب 5 من أبواب ميراث الأبوين الحديث: 3 و 14 ولاحظ الحديث 4 و 5 و 7 - 13. من ذلك الباب. 4 - وفي السند " صالح بن السعدي وهو ممدوح، والحسين الرزاز مجهول، وفي التهذيب: 9 / 267 رقم 972 " البزاز " وهو أيضا مجهول. 5 - الوسائل: 17، الباب 8 من أبواب موجبات الإرث الحديث 1 و 9. 281 دراسة أدلة المخالف: لقد اتضح الحق وتجلى بأجلى مظاهره، بقي الكلام في دراسة أدلة المخالف فقد استدل بوجوه: الأول: لو أراد سبحانه توريث البنات ونحوهن أكثر مما فرض لهن لفعل ذلك والتالي باطل، فإنه تعالى نص على توريثهن مفصلا ولم يذكر زيادة على النصيب. بيان الملازمة أنه تعالى لما ورث الابن الجميع لم يفرض له فرضا، وكذا الأخ للأب والعم وأشباههم، فلولا قصر ذوي الفروض على فرضهم لم يكن في التنصيص على المقدار فائدة. وحاصله: أن كل من له فرض لا يزاد عنه وكل من لم يفرض له يعطى الجميع. يلاحظ عليه: أولا: بالنقض بورود النقيصة على ذوات الفروض عند أهل السنة إذا عالت الفرائض على السهام، كما سيوافيك شرحه فإنهم يدخلون النقص على الجميع مثل باب الديون، فربما يكون سهم البنت والا خت أقل من النصف، فإذا جاز النقص فما المانع من الزيادة، بل الأمر في النقصان أولى لأن النقصان ينافي الفرض بخلاف الزيادة عليه بدليل آخر، فإن فيه أعمال الدليلين والأخذ بمفادهما. وثانيا: بالحل إن تحديد الفرض بالنصف إنما يكون لغوا إذا لم تترتب عليه فائدة مطلقا،، ولكنه ليس كذلك لترتب الثمرة عليه فيما إذا كان معه وارث ذو
282 فرض كالا م، فإن كيفية الرد على الوارثين لا تعلم إلا بملاحظة فرضهما ثم الرد عليهما بحسب تلك النسبة فلو لم يكن سهم البنت والبنتين منصوصا في الذكر الحكيم لما علمت كيفية الرد. وبالجملة: أنه وإن كان لا تظهر للقيد ثمرة إذا كان الوارث هو البنت أو الا خت وحدها، ولكنه ليس كذلك إذا كان معه وارث آخر وهو ذو فرض مثلها كالا م، فإن الرد عليهما يتوقف على ملاحظة فرضهما ثم الرد بتلك النسبة. وثالثا: أن التصريح بالفرض لأجل التنبيه على أنها لا تستحق بالذات إلا النصف أو الثلثان، بخلاف الأخ وإنما تأخذ الزائد بعنوان آخر وهو أنه ليس معه وارث مساو بخلاف الابن أو الأخ، فإن كلا يستحق المال كله بالذات. ورابعا: إن المفهوم في المقام أشبه بمفهوم اللقب وهو ليس بحجة فيه. الثاني: قوله سبحانه: * (إن امرؤا هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد) * (النساء / 176). وجه الاستدلال: أنه سبحانه حكم بتوريث الا خت، نصف ميراث أخيها مع عدم الولد وحكم بتوريث الأخ ميراثها أجمع بدليل قوله تعالى: * (وهو يرثها) * فلو ورثت الا خت الجميع كما هو مذهبكم لن تبقى للفرق بين الأخ والا خت ثمرة أصلا. الجواب: أن التقييد بالنصف مع أنها ربما ترث الكل لأجل التنبيه، على أنها لا تستحق بالذات إلا النصف وأن الأصل القرآني هو استحقاق الذكر ضعف سهم الا نثى وهو النصف، وأنها إن ورثت المال كله فإنما هو لأجل طارئة خاصة، على
283 أن التصريح بالفرض لأجل تبيين ما يتوقف عليه تقسيم الفاضل، بينها وبين من يشاركه في الطبقة كالإخوة أو الأخوات من الا م، فإن الباقي يرد عليهما بنسبة سهامهما فلو لم يكن هناك تحديد بالنصف فمن أين تعلم كيفية الرد. الثالث: قوله تعالى: * (وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا) * (مريم 5 - 6). وجه الاستدلال: أن زكريا - عليه السلام - لما خاف أن ترثه العصبة، سأل الله سبحانه أن يهبه وليا حتى يرث المال كله، لا ولية حتى ترث المال نصفه ويرث الموالي الفاضل، ولولا ذلك لما أكد على كون الولد الموهوب من الله ذكرا، في قوله سبحانه: * (وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا * يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا) *. يلاحظ عليه: أن المقصود من " وليا " هو مطلق الأولاد ذكرا كان أو أنثى، وذلك على مساق اطلاق المذكر وإرادة الجنس وهو شائع في القرآن الكريم. مثل قوله سبحانه: * (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) * بشهادة قوله تعالى في آية أخرى: * (هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء) * (آل عمران / 38). بل يمكن أن يقال إنه طلب ذرية مثل مريم لقوله سبحانه قبل هذه الآية: * (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب * هنالك دعا...) * أي في هذه الحال التي رأى فيها في مريم من الكرامة سأل الله سبحانه أن يرزقه ذرية طيبة
284 (مثل مريم) فلو لم نقل إنه سأل أنثى مثل مريم، ليس لنا أن نقول إنه طلب الذكر. ولو سلمنا أنه طلب الذكر لكنه لم يطلب لأجل أنه لو رزق الا نثى ترثه العصبة وإنما سأله الذكر لمحبة كثيرة له، أو لأنه أولى بالإدارة من الا نثى كما لا يخفى. الرابع: الروايات والآثار الواردة في هذا المجال ولعلها أهم المدارك والمصادر لهذه الفتيا. الرواية الا ولى: رواية عبد الله بن طاووس بن كيسان اليماني (المتوفى عام 132) رواها الشيخان في غير مورد. روى البخاري عن مسلم بن إبراهيم عن وهيب عن ابن طاووس عن أبيه، عن ابن عباس: قال رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم ": ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فهو لأولى رجل ذكر (1).
1 - صحيح البخاري: 8 / 151 باب ميراث ابن الابن إذا لم يكن ابن، وص 152، باب ميراث الجد مع الأب والإخوة، ورواها عن سليمان بن حرب (مكان مسلم بن إبراهيم) ورجال السند في غيرهما، واحد وباب ابني عم أحدهما أخ والآخر زوج ص 153، رواها عن أمية بن بسطام، عن يزيد بن زريع عن روح عن عبد الله بن طاووس. وصحيح مسلم: 5 / 59 باب ألحقوا الفرائض بأهلها عن ابن طاووس عن ابن عباس رقم 1615. وصحيح الترمذي في الفرائض باب ميراث العصبة رقم 2099. وسنن أبي داود في الفرائض باب ميراث العصبة رقم 2898. ولاحظ السنن الكبرى: 6 / 238 باب العصبة، وجامع الا صول: 9 / 6104 رقم 7421. 285 يلاحظ عليه أولا: الروايات تنتهي إلى عبد الله بن طاووس بن كيسان اليماني وقد وثقه علماء الرجال (1) لكن يعارض توثيقهم مع ما ذكره أبو طالب الأنباري (2) في حق هذه الرواية قال: حدثنا محمد بن أحمد البربري، قال: حدثنا بشر بن هارون، قال: حدثنا الحميري، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن قاربة بن مضرب قال: جلست عند ابن عباس وهو بمكة، فقلت: يا ابن عباس حديث يرويه أهل العراق عنك وطاووس مولاك يرويه: إن ما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر؟ قال: أمن أهل العراق أنت؟ قلت: نعم، قال: أبلغ من وراءك أني أقول: إن قول الله عز وجل: * (آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله) * وقوله: * (أولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) * وهل هذه إلا فريضتان وهل أبقتا شيئا، ما قلت هذا، ولا طاووس يرويه علي، قال قاربة بن مضرب: فلقيت طاووسا فقال: لا والله ما رويت هذا على ابن عباس قط وإنما الشيطان ألقاه على ألسنتهم، قال سفيان: أراه من قبل ابنه عبد الله بن طاووس فإنه كان على خاتم سليمان بن عبد الملك (3) وكان يحمل على هؤلاء القوم حملا
1 - تهذيب التهذيب: 5 / 268 رقم 458 سير أعلام النبلاء، حوادث عام 132 وغيرهما. 2 - هو عبيد الله بن أبي زيد أحمد بن يعقوب بن نصر الأنباري: قال النجاشي: شيخ من أصحابنا " أبو طالب " ثقة في الحديث، عالم به، كان قديما من الواقفة توفي عام 356 (رجال النجاشي برقم 615 طبع بيروت). وأما رجال السند ففي تعليقة الخلاف أنه لم يتعرف على البربري، وأما بشر بن هارون لعله تصحيف بشر بن موسى إذ هو الراوي عن الحميدي على ما في تاريخ البغدادي: 86. والحميدي هو عبد الله بن الزبير القرشي توفي بمكة 219 كما في تذكرة الحفاظ 2: 413، وسفيان هو سفيان بن عيينة وأبو إسحاق هو: عمرو بن عبد الله بن عبيد السبيعي. 3 - سليمان بن عبد الملك بن مروان سابع خلفاء بني أمية بويع سنة 96 وتوفي سنة 98 وهو ابن خمس وأربعين سنة وكان خاتمه بيده يختم رسائله بخاتمه صيانة عن التزوير. 286 شديدا - أي بني هاشم - (1). إن سليمان بن عبد الملك الأموي المرواني هو الذي قتل أبا هاشم عبد الله بن محمد بن علي الحنفية بالسم ظلما وخداعا، فكيف يكون حال من يواليهم. وثانيا: أن نسبة الآيات المتقدمة إلى هذه الرواية وإن كان نسبة الاطلاق إلى التقييد، ولكن الاعتماد على هذه الرواية في تقييد الذكر الحكيم، مما لا يجترئ عليه الفقيه الواعي. إن وراثة العصبة ليست من المسائل التي يقل الابتلاء بها، بل هي مما تعم البلوى بها في عصر النبي وعصور الخلفاء، فلو كان هناك تشريع على مضمون هذه الرواية لما خفي على غيره ونقله الآخرون، وقد عرفت أن الأسناد تنتهي إلى عبد الله بن طاووس. وثالثا: أن فقهاء المذاهب أفتوا في موارد على خلاف مضمون هذا الخبر، وقد أشار إليها فقيه الطائفة الطوسي، نذكر قسما منها. 1 - لو مات وخلف بنتا وأخا وأختا، فقد ذهبوا إلى أن للبنت النصف والنصف الآخر للأخ والا خت * (للذكر مثل حظ الا نثيين) * مع أن مقتضى خبر ابن طاووس أن النصف للبنت أخذا بقوله " صلى الله عليه وآله وسلم ": " ألحقوا الفرائض بأهلها والنصف الآخر للأخ لأنه أولى رجل ذكر ". 2 - لو أن رجلا مات وترك بنتا، وابنة ابن، وعما، فقد ذهبوا إلى أن النصف للبنت والنصف الآخر لابنة الابن والعم، مع أن مقتضى الخبر أن يكون النصف الآخر للعم وحده لأنه أولى ذكر (2).
1 - التهذيب: لشيخ الطائفة: 9 / 262. الخلاف: 2، المسألة 80. 2 - الخلاف: 2 / 278، المسألة 80 والتهذيب للشيخ الطوسي: 9 / 262. 287 قال السيد المرتضى: وفيهم من يذهب فيها إلى أن المراد بها قرابة الميت من الرجال الذين اتصلت قرابتهم به من جهة الرجال كالأخ والعم، دون الا خت والعمة، ولا يجعل للرجال الذين اتصلت قرابتهم من جهة النساء عصبة كإخوة الميت لا مه، وفيهم من جعل العصبة مأخوذة من التعصب والرايات والديوان والنصرة. ومع هذا الاختلاف لا اجماع يستقر على معناها، على أنهم يخالفون لفظ هذا الحديث الذي يروونه لأنهم يعطون الا خت مع البنت بالتعصيب وليست برجل ولا ذكر كما تضمنه لفظ الحديث (1). إلى غير ذلك من الأحكام التي اتفقوا عليها وهي على طرف النقيض من الخبر. فإن قلت: فماذا تصنع بالخبر، مع أن الشيخين نقلاه بل نقله غيرهما على ما عرفت. قلت: يمكن حمل الخبر على ما لا يخالف اطلاق الكتاب ولا ما أطبق المسلمون عليه وهو أنه وارد في مجالات خاصة: مثلا: 1 - رجل مات وخلف أختين من قبل الا م، وابن أخ، وابنة أخ لأب وأم، وأخا لأب، فالا ختان من أصحاب الفرائض، كلالة الا م، يعطى لهما الثلث والباقي لأولى ذكر، وهو الأخ لأب. 2 - رجل مات وخلف زوجة وخالا وخالة، وعما وعمة، وابن أخ، فالزوجة من أصحاب الفرائض تلحق بفريضتها وهي الربع والباقي يدفع إلى أولى ذكر، وهو ابن الأخ.
1 - الانتصار 279. 288 3 - رجل مات وخلف زوجة، وأختا لأب، وأخا لأب وأم، فإن الزوجة من أصحاب الفرائض تلحق بفريضتها وهي الربع والباقي للأخ للأب والا م، ولا ترث الا خت لأب معه. 4 - امرأة ماتت وخلفت زوجا، وعما من قبل الأب والا م، وعمة من قبل الأب، فللزوج النصف سهمه المسمى وما بقي للعم للأب والا م، ولا يكون للعمة من قبل الأب شئ. إلى غير ذلك من الصور التي يمكن أن ينطبق عليها الخبر. قال السيد المرتضى، ولا عتب إذا قلنا إن الرواية وردت: في من خلف أختين لا م، وابن أخ، وبنت أخ لأب وأم، وأخا لأب فإن الا ختين من الا م فرضهن الثلث وما بقي فلأولى ذكر أقرب وهو الأخ من الأب وسقط ابن الأخ وبنت الأخ، لأن الأخ أقرب منهما. وفي موضع آخر وهو أن يخلف الميت امرأة وعما وعمة، وخالا وخالة، وابن أخ، فللمرأة الربع وما بقي فلأولى ذكر وهو ابن الأخ وسقط الباقون. والعجب أنهم ورثوا الا خت مع البنت عصبة، فان قالوا: من حيث عصبها أخوها، قلنا: فألا جعلتم البنت عصبة عند عدم البنين ويكون أبوها هو الذي يعصبها. وكذلك يلزمهم أن يجعلوا العمة عند عدم العم عصبة في ما توجه لإنجازه وفعله، فإن قالوا: البنت لا تعقل عن أبيها، قلنا: والا خت أيضا لا تعقل عن أخيها فلا تجعلوها عصبة مع البنات (1).
1 - الانتصار: 280. 289 الرواية الثانية: ما أخرجه الترمذي، وابن ماجة، وأبو داود، وأحمد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع، بابنتيها من سعد إلى رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " فقالت: يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك يوم أحد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا، ولا تنكحان إلا ولهما مال، قال: يقضي الله في ذلك، فنزلت آية الميراث فبعث رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " إلى عمهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي فهو لك (1). يلاحظ عليه أولا: أن جابر بن عبد الله نقل نزول الآية في واقعة أخرى قال السيوطي: أخرج عبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه، من طرق عن جابر بن عبد الله قال: عادني رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " وأبو بكر في بني سلمة ماشيين فوجدني النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " لا أعقل شيئا فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش علي فأفقت فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت: * (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الا نثيين (2) ) * واحتمال نزول الآية مرتين، أو كون سبب النزول متعددا كما ترى.
1 - سنن الترمذي 4 / باب ما جاء في ميراث البنات رقم 2092، سنن ابن ماجة: 2 / 908 باب فرائض الصلب رقم 272، سنن أبي داود: 3 / 121، باب ما جاء في ميراث الصلب رقم 2891. 2 - الدر المنثور: 2 / 124. 290 وثانيا: أن الرواية نقلت بصورة أخرى وهي أن الوافدة إلى النبي كانت زوجة ثابت بن قيس بن شماس لا زوجة سعد بن الربيع (1). وثالثا: أن في سند الرواية من لا يصح الاحتجاج به وإليك البيان: 1 - عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، والأسانيد في سنن الترمذي وابن ماجة وابن داود، تنتهي إليه. ذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من أهل المدينة وقال: كان منكر الحديث، لا يحتجون بحديثه وكان كثير العلم، وقال بشر بن عمر: كان مالك لا يروي عنه، وقال يعقوب بن أبي شيبة عن ابن المديني: لم يدخله مالك في كتبه، قال يعقوب: وابن عقيل صدوق وفي حديثه ضعف شديد جدا، وكان ابن عيينة يقول: أربعة من قريش يترك حديثهم فذكره فيهم، وقال ابن المديني عن ابن عيينة: رأيته يحدث نفسه فحملته على أنه قد تغير، إلى غير ذلك من الكلمات الجارحة التي تسلب ثقة الفقيه بحديثه (2). 2 - الراوي عنه في سنن الترمذي هو عبيد بن عمرو البصري الذي ضعفه الأزدي وأورد له ابن عدي حديثين منكرين وضعفه الدارقطني ووثقه ابن حبان (3). 3 - الراوي عنه في سنن أبي داود: بشر بن المفضل، قال ابن سعد: كان ثقة
1 - البيهقي: السنن الكبرى ص 69 باب فرض الابنتين، وقد أخطأ البيهقي كون الابنتين لقيس وقال: إنهما كانتا بنتي سعد، وقال أبو داود 3 / 121 رقم 2891: أخطأ بشر فيه انما هما ابنتا سعد بن الربيع، وثابت بن قيس قتل يوم اليمامة. 2 - ابن حجر: تهذيب التهذيب: 6 / 140 لاحظ بقية كلامه. 3 - المصدر نفسه: 4 / 121. 291 كثير الحديث عثمانيا (1). إلى غير ذلك من رجال في الأسانيد، مرميين بأمور لا يحتج معها. الرواية الثالثة: روى الأسود بن يزيد قال: " أتانا معاذ بن جبل باليمن معلما وأميرا، فسألناه عن رجل توفي وترك ابنة وأختا؟ فقضى: أن للابنة النصف، وللا خت النصف. ورسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " حي (2). وفي لفظ أبي داود: أن معاذ بن جبل ورث أختا وابنة، جعل لكل واحدة منهما النصف، وهو باليمن، ونبي الله يومئذ حي (3). والأثر يتضمن عمل الصحابة وهو ليس بحجة إلا إذا أسند إلى المعصوم. والرجوع إلى الآثار الواردة عن الصحابة في مجال الفرائض يعرب عن أنه لم يكن عندهم إحاطة بأحكام الفرائض، بل كل كان يفتي حسب معايير ومقاييس يتخيلها صحيحة. ويكفي في ذلك اختلاف أبي موسى الأشعري مع ابن مسعود في رجل ترك بنتا وأختا وابنة ابن. روى البخاري: سئل أبو موسى عن ابنة وابنة ابن، وأخت؟ فقال: للابنة النصف، وللا خت النصف وأت ابن مسعود فسيتابعني، قال: سئل ابن مسعود
1 - ابن حجر: تهذيب التهذيب: 1 / 459. 2 - البخاري: الصحيح: 8 / 150 في الفرائض باب ميراث البنات، وباب ميراث الأخوات مع البنات عصبة. 3 - صحيح أبي داود في الفرائض باب ما جاء في ميراث الصلب رقم 2893. ولاحظ جامع الا صول: 9 / 610 رقم 7394. 292 وأخبر بقول أبي موسى فقال: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين، أقضي فيها بما قضى النبي " صلى الله عليه وآله وسلم ": للابنة النصف، ولابنة ابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللا خت، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود فقال: لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم (1). مضاعفات القول بالتعصيب: ثم إنه يلزم على القول بالتعصيب أمور يأباها الطبع ولا تصدقها روح الشريعة نأتي بنموذج واحد: لو كان للميت عشر بنات وابن، يأخذ الابن السدس، وتأخذ البنات خمسة أسداس، وذلك أخذا بقوله سبحانه: * (للذكر مثل حظ الا نثيين) *. لو كان له مكان الابن، ابن عم للميت، فللبنات فريضتها وهي الثلثان، والباقي أي الثلث لابن العم. فيكون الابن أسوأ من ابن العم. قال السيد المرتضى: فإذا تبين بطلان القول بالتعصيب يظهر حكم كثير من المسائل، منها: فمن هذه المسائل أن يخلف الرجل بنتا وعما فعند المخالف أن للبنت النصف والباقي للعم بالعصبة، وعندنا أنه لاحظ للعم والمال كله للبنت بالفرض والرد، وكذلك لو كان مكان العم ابن عم، وكذلك لو كان مكان البنت ابنتان، ولو خلف الميت عمومة وعمات أو بني عم وبنات عم فمخالفنا يورث
1 - البخاري: الصحيح: 8 / 151 باب ميراث ابنة ابن مع ابنة، وسنن الترمذي: 4 / 415 باب ما جاء في ميراث ابنة الابن مع ابنة الصلب رقم 2093، وسنن أبي داود: 3 / 120، باب ما جاء في ميراث الصلب رقم 2890. 293 الذكور من هؤلاء دون الإناث لأجل التعصيب، ونحن نورث الذكور والإناث. ومسائل التعصيب لا تحصى كثرة (1). يقول المحقق محمد جواد مغنية: إن الإنسان أرأف بولده منه بإخوته، وهو يرى أن وجود ولده ذكرا أو أنثى امتداد لوجوده، ومن هنا رأينا الكثير من أفراد الا سر اللبنانية الذين لهم بنات فقط يبدلون مذهبهم من التسنن إلى التشيع، لا لشئ إلا خوفا أن يشترك مع أولادهم الإخوان أو الأعمام. ويفكر الآن، الكثير من رجال السنة بالعدول عن القول بالتعصيب، والأخذ بقول الإمامية من ميراث البنت تماما كما عدلوا عن القول بعدم صحة الوصية للوارث، وقالوا بصحتها كما تقول الإمامية، على الرغم من اتفاق المذاهب على عدم الصحة (2).
1 - الانتصار: 282. 2 - الفقه على المذاهب الخمسة: 517 - 518. 294 المسألة الرابعة عشرة: حكم الفرائض إذا عالت إذا كانت الوراثة بالتعصيب، تجري عند نقص الفرائض عن استيعاب التركة، فالعول يعني زيادة الفرائض عليها وهو مأخوذ من " عال يعول عولا ": إذا زادت، أو من العول بمعنى الميل، ومنه قوله سبحانه: * (ذلك أن لا تعولوا) * (النساء / 3). وكأن الفريضة عايلة لميلها بالجور على أهل السهام بإيراد النقص عليهم، أو من العول بمعنى الارتفاع يقال: عالت الناقة ذنبها: إذا رفعته، لارتفاع الفريضة بزيادة السهام. وعلى كل تقدير فمورد العول على طرف النقيض من مورد التعصيب. إن مسألة العول أي زيادة الفرائض على سهام التركة، من المسائل المستحدثة التي لم يرد فيها نص عن رسول الله، وقد ابتلي بها عمر بن الخطاب عندما ماتت امرأة في عهده وكان لها زوج وأختان فجمع الصحابة فقال لهم: فرض الله تعالى للزوج النصف، وللا ختين الثلثين، فإن بدأت للزوج لم يبق للا ختين حقهما، وإن بدأت للا ختين لم يبق للزوج حقه فأشيروا علي، فاتفق رأي أكثرهم (1) على العول أي إيراد النقص على الجميع من دون تقديم ذي فرض على
1 - وعلى ما نقله أبو طالب الأنباري اتفق عليه اثنان: عمر، وعبد الله بن مسعود، وكانت الصحابة وفي مقدمهم الإمام علي - عليه السلام - على خلاف هذا القول ولكن القوة التنفيذية حالت بينهم وبين رأيهم. 295 آخر، وخالف ابن عباس وقال: إن الزوجين يأخذان تمام حقهما ويدخل النقص على البنات. ومن ذلك العصر صار الفقهاء على فرقتين، فالمذاهب الأربعة وما تقدمها من سائر المذاهب الفقهية قالوا بالعول، والشيعة الإمامية، تبعا للإمام علي وتلميذه ابن عباس على خلافه، فهم على إيراد النقص على البعض دون بعض من دون أن يكون عملهم ترجيحا بلا مرجح. وخلاصة مذهب الشيعة الإمامية: أن المال إذا ضاق عن سهام الورثة قدم ذوو السهام المؤكدة المذكورة من الأبوين والزوجين على البنات، والأخوات من الا م على الأخوات من الأب والا م أو من الأب، وجعل الفاضل عن سهامهم لهن، وذهب ابن عباس - رحمة الله عليه - إلى مثل ذلك، وقال به أيضا عطاء بن أبي رياح. وحكى فقهاء السنة هذا المذهب عن محمد بن علي بن الحسين الباقر - صلوات الله عليهم - ومحمد بن الحنفية - رضي الله عنه - وهو مذهب داود بن علي الأصبهاني، وقال باقي الفقهاء: إن المال إذا ضاق عن سهام الورثة قسم بينهم على قدر سهامهم، كما يفعل ذلك في الديون والوصايا إذا ضاقت التركة عنها، والذي يدل على صحة ما نذهب إليه اجماع الطائفة عليه، فإنهم لا يختلفون فيه، وقد بينا أن اجماعهم حجة (1). قال الشيخ الطوسي: " العول عندنا باطل فكل مسألة تعول على مذهب المخالفين فالقول عندنا
1 - الانتصار: 284. 296 فيها بخلاف ما قالوه ". وبه قال ابن عباس وأدخل النقص على البنات، وبنات الابن، والأخوات للأب والا م، أو للأب. وبه قال محمد بن الحنفية، ومحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - عليهم الصلاة والسلام - وداود بن علي. وأعالها جميع الفقهاء " (1). ولأجل إيضاح مذهب العول، لا بأس بالإشارة إلى مسألة من مسائل العول المعروفة بأم الفروخ (2) ونكتفي بعناوين الوارثين روما للاختصار: 1 - زوج وأختان: للزوج النصف أي ثلاثة من ستة، وللا ختين الثلثان أي أربعة منها. ومن المعلوم أن المال ليس فيه نصف وثلثان فلو أخذ من الست، النصف، لا يفي الباقي بالثلثين وهكذا العكس فتعول السهام إلى السبعة (3 + 4 = 7). فالقائل بالعول يقسم التركة إلى سبعة سهام، مكان الستة فيعطي للزوج ثلاثة سهام، وللا ختين أربعة سهام لكن من السبعة، وبذلك يدخل النقص على الجميع، فلا الزوج ورث النصف الحقيقي ولا الا ختان، الثلثين، بل أخذ كل أقل من سهمه المقرر. 2 - تلك الصورة ومعهما أخت واحدة من الا م فريضتها السدس، ومن المعلوم أن التركة لا تفي بالنصف والثلثين والسدس، فتعول التركة إلى ثمانية سهام
1 - الخلاف: 2، كتاب الفرائض: المسألة 81. 2 - وما ذكرناه قريب من أم الفروخ المذكورة في الخلاف فلاحظ. 297 وذلك (3 + 4 + 1 = 8). فالقائل بالعول يورد النقص على الجميع، فيقسم المال إلى ثمانية سهام، فيعطي للزوج ثلاثة. وللا ختين أربعة، وللا خت من الا م واحدا، ولكن الكل من ثمانية أجزاء، فلا الزوج نال النصف، ولا الا ختان الثلثين، ولا الا خت من الا م، السدس. 3 - تلك الصورة ومعهم أخ من أم وفريضته أيضا السدس فتعول الفريض إلى تسعة وذلك (3 + 4 + 1 + 1 = 9). فيعطى للزوج ثلاثة، وللا ختين أربعة، ولكل من الا خت والأخ من الا م واحد لكن من تسعة أسهم، لا من ستة سهام، ولا يمتع الزوج بالنصف، ولا الا ختان بالثلثين، ولا الا خت والأخ من الا م بالثلث إلا لفظا. وإنما سميت أم الفروخ لأنها تعول بوتر، وتعول بالشفع أيضا. وهناك مسألة أخرى معروفة باسم المسألة المنبرية، وهي التي سئل عنها الإمام علي - عليه السلام - وهو على المنبر فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين رجل مات وترك ابنتيه وأبويه وزوجة؟ فقال الإمام - عليه السلام -: صار ثمن المرأة تسعا، ومراده: أنه على الرأي الرائج، صار سهمها تسعا. وذلك لأن المخرج المشترك للثلثين والسدس والثمن هو عدد (24) فثلثاه (16) وسدساه (8) وثمنه (3) وعند ذلك تعول الفريضة إلى (27) سهما، وذلك مثل (16 + 8 + 3 = 27). فالقائل بالعول، يورد النقص على جميع أصحاب الفروض، فيعطي
298 لأصحاب الثلثين (16) سهما وللأبوين (8) سهام، وللزوجة (3) سهام، من (27)، بدل اعطائهم بهذا المقدار من (24) سهما، والزوجة وإن أخذت (3) سهام، لكن لا من (24) سهما حتى يكون ثمنا واقعيا، بل من (27) وهو تسع التركة التي هي (24) سهما في الواقع (1). هذه هي نظرية العول وبيانها بوجه سهل غير مبتن على المحاسبات الدقيقة وإن كان بيانه على ضوئها أتقن وأدق، فلنذكر أدلة (2) القائلين به. ويظهر من السيد المرتضى أن القائلين بالعول ربما يوافقون الإمامية في بعض الصور، كامرأة ماتت وخلفت بنتين وأبوين وزوجا، والمال يضيق عن الثلثين والسدسين والربع فنحن بين أمور: إما أن ندخل النقص على كل واحد من هذه السهام أو ندخله على بعضها، وقد أجمعت الا مة على أن البنتين هاهنا منقوصتان بلا خلاف، فيجب أن نعطي الأبوين السدس والزوج الربع، ويجعل ما بقي للابنتين، ونخصهما بالنقص لأنهما منقوصتان بالإجماع (3). أدلة القائلين بالعول: استدل القائلون بالعول بوجوه: 1 - إن الديان يقتسمون المال على تقدير قصوره عن دينهم بالحصص، وكذلك الوراث، والجامع الاستحقاق للمال.
1 - سهم الزوجة 19 = 327 = مجموع السهام 27 = 3 + 8 + 16. 2 - أخذنا الدلائل الثلاثة الأول من المغني: 6 / 242 مع تفصيل منا. 3 - الانتصار: 284. 299 يلاحظ عليه: أنه قياس مع الفارق فان الدين يتعلق بالذمة، والتركة كالرهن عند الدائن، وبعبارة أخرى: تعلق الدين بعين المال تعلق استحقاق لا تعلق انحصار، فلو لم يؤدوا حق الغرماء فلهم مصادرة التركة واستيفاء طلبهم من باب التقاص، ولو قاموا بالتأدية من غير التركة فليس لهم أي اعتراض ولأجل ذلك ليس بمحال أن يكون لرجل على رجل ألف، ولآخر ألفان، ولثالث عشرة آلاف وإن صار الدين أضعاف التركة، لأن المديون أتلف مال الغير بالاستقراض والصرف، فصار مديونا بما أتلف، كان بمقدار ماله أو أزيد أو أنقص فلا اشكال في تعلق أضعاف التركة بالذمة لأنها تسع أكثر من ذلك. وأما سهام الإرث فإنها انما تتعلق بالتركة والأعيان الموروثة، ومن المحال أن يكون للمال نصف، ونصف وثلث، فامتلاك الورثة من التركة بقدر هذه الفروض أمر غير معقول، فلابد أن يكون تعلقها بشكل آخر تسعها التركة. بأن لا يكون لبعض أدلة الفروض اطلاق يعم حالي الانفراد والاجتماع حتى لا يستلزم المحال، وسيوافيك بيان ماله اطلاق لحال الاجتماع مع سائر الفروض وما ليس له اطلاق. وقد فصل أصحابنا في نقد هذا الدليل وجوها وما ذكرناه أتقن. قال المرتضى: ما يقولونه في العول أن الديون إذا كانت على الميت ولم تف تركته بالوفاء بها، فإن الواجب القسمة للمال على أصحاب الديون بحسب ديونهم من غير إدخال النقص على بعضهم، وذلك أن أصحاب الديون مستوون في وجوب استيفاء أموالهم من تركة الميت، وليس لأحد مزية على الآخر في ذلك، فإن اتسع المال لحقوقهم استوفوها، فإن ضاق تساهموه وليس كذلك مسائل العول، لأنا قد بينا أن بعض الورثة أولى بالنقص من بعض، وأنهم غير
300 مستويين كاستواء أصحاب الديون فافترق الأمران (1). 2 - إن التقسيط مع القصور واجب في الوصية للجماعة فالميراث كذلك، والجامع بينهما استحقاق الجميع التركة، فلو أوصى لزيد بألف، ولعمرو بعشرة آلاف، ولبكر بعشرين ألفا، وضاق ثلثه عن القيام بالجميع يورد النقص على الجميع حسب سهامهم. يلاحظ عليه: أن الحكم ليس بمسلم في المقيس عليه حتى يستظهر حال المقيس منها. بل الحكم فيه أنه يعطى الأول فالأول إلى أن يبقى من المال شئ ويسقط من لم يسعه الثلث، لأنه أوصى بشئ لم يملكه فتكون وصيته باطلة. نعم لو ذكر جماعة ثم سمى، كما إذا قال: زيد وعمرو وبكر لكل واحد ألف، فعجز عنه مقدار ما ترك، فلا شك أنه يدخل النقص على الجميع والفارق بينه وبين المقام هو تصريح الموصي بالعول، ولو ورد التصريح به في الشريعة - وأغضينا عما سيوافيك - يجب اتباعه فكيف يقاس، ما لم يرد فيه التصريح بما ورد. 3 - إن النقص لابد من دخوله على الورثة على تقدير زيادة السهام أما عند العائل فعلى الجميع وأما عند غيره فعلى البعض لكن هذا ترجيح من دون مرجح. يلاحظ عليه: أن رفع الأمر المحال بإيراد النقص على الجميع فرع احراز صحة أصل تشريعه، وأنه يصح أن يتملك شخص نصف المال، وآخر نصفه الآخر، وثالث ثلثه، وقد عرفت أنه غير صحيح وأن المال لا يتحمل تلك الفروض، ومع عدم صحة تشريعه لا تصل النوبة إلى احتمال ورود النقص على
1 - الانتصار: 285. 301 الجميع، وتصويره بصورة العول، وإيراد النقص على الجميع رجوع عن الفرض، واعتراف بأنه ليس فيه نصفان وثلث. كما سيظهر عند بيان أدلة القائلين ببطلانه. أضف إلى ذلك وجود المرجح الذي أشار إليه الإمام أمير المؤمنين وتلميذه ابن عباس وسيأتي كلامهما. وكلام العترة الطاهرة. 4 - ما رواه أبو طالب الأنباري (1) باسناده عن سماك عن عبيدة السلماني، قال: كان علي - عليه السلام - على المنبر فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين رجل مات وترك ابنتيه، وأبويه وزوجة؟ فقال علي - عليه السلام -: صار ثمن المرأة تسعا. قالوا: إن هذا صريح في العول لأنكم قد قلتم إنها لا تنقص عن الثمن وقد جعل - عليه السلام - ثمنها تسعا (2). وذيله دال على أن الإمام ذكره مجاراة للرأي السائد في ذلك العصر وإلا فمن يجهل بأن الإمام وعترته الطاهرة وخريجي منهجهم ينكرون العول بحماس. وإليك الذيل: قلت لعبيدة: وكيف ذلك؟ قال: إن عمر بن الخطاب وقعت في امارته هذه الفريضة فلم يدر ما يصنع وقال: للبنتين الثلثان، وللأبوين السدسان، وللزوجة الثمن. قال: هذا الثمن باق بعد الأبوين والبنتين، فقال له أصحاب محمد " صلى الله عليه وآله وسلم ": اعط هؤلاء فريضتهم، للأبوين السدس، وللزوجة الثمن،
1 - هو عبيد الله بن أبي زيد أحمد بن يعقوب بن نصر الأنباري شيخ من أصحابنا، ثقة في الحديث عالم به، كان قديما من الواقفة توفي عام 356، اقرأ ترجمته في رجال النجاشي: 2 / 41 رقم 615، وتنقيح المقال وغيره وهو الذي روى خبر تكذيب ابن عباس رواية التعصيب. وقد تقدمت الإشارة إليه أيضا. 2 - سهم الزوجة 19 = 327 = مجموع السهام 27 = 3 + 8 + 16. 302 وللبنتين ما يبقى، فقال: فأين فريضتهما الثلثان؟ فقال له علي بن أبي طالب - عليه السلام -: لهما ما يبقى. فأبى ذلك عمر وابن مسعود فقال علي - عليه السلام -: على ما رأى عمر. قال عبيدة: وأخبرني جماعة من أصحاب علي - عليه السلام - بعد ذلك في مثلها أنه أعطى للزوج الربع، مع الابنتين، وللأبوين السدسين والباقي رد على البنتين وذلك هو الحق وإن أباه قومنا (1). ويستفاد من الحديث أولا: أن عليا وأصحاب النبي إلا شخصين كانوا يرون خلاف العول، وأن انتشاره لكون الخليفة يدعم ذلك آنذاك. وثانيا: أن الإمام عمل في واقعة برأيه وأورد النقص على البنتين فقط، وعلى ذلك يكون المراد من قوله، فقال علي - عليه السلام -: على ما رأى عمر، هو المجاراة والمماشاة، وإلا يصير ذيل الحديث مناقضا له. إلى هنا تمت دراسة أدلة القائلين بالعول. فلنذكر أدلة المنكرين. أدلة القائلين ببطلان العول: 1 - يستحيل أن يجعل الله تعالى في المال نصفين وثلثا، أو ثلثين ونصفا ونحو ذلك مما لا يفي به وإلا كان جاهلا أو عابثا تعالى الله عن ذلك. 2 - أن القول بالعول يؤدي إلى التناقض والإغراء بالجهل، أما التناقض فقد بينا عند تفصيل القول بالعول أنه إذا مات وترك أبوين وبنتين وزوجا، وقلنا: إن فريضتهم من اثني عشر، فمعنى ذلك أن للأولين أربعة من اثني عشر، وللثانيتين،
1 - الوسائل: 17، الباب 7، من أبواب موجبات الإرث الحديث 14 ولاحظ التهذيب لشيخ الطائفة: 9 / 259 رقم 971. 303 ثمانية من اثني عشر، وللزوج ثلاثة من اثني عشر، فإذا أعلناها إلى خمسة عشر فأعطينا الأبوين أربعة من خمسة عشر وللبنتين ثمانية من خمسة عشر، وللزوج ثلاثة من خمسة عشر، فقد دفعنا للأبوين (مكان الثلث) خمسا وثلثه، وإلى الزوج (مكان الربع) خمسا، وإلى الابنتين (مكان الثلثين) ثلثا وخمسا وذلك نفس التناقض. وأما الاغراء بالجهل، فقد سمى الله سبحانه، الخمس وثلثه باسم الثلث، والخمس باسم الربع، وثلثا وخمسا باسم الثلثين (1). والأولى أن يقرر الدليلان بصورة دليل واحد، مؤلف من قضية حقيقية بأن يقال: إذا جعل الله سبحانه في المال نصفين وثلثا، فأما أن يجعلها بلا ضم حلول - مثل العول - إليه، فيلزم كونه سبحانه جاهلا أو عابثا تعالى عن ذلك، وأما أن يجعل مع النظر إلى حلول مثل العول، فيلزم التناقض بين القول والعمل والإغراء مع كونه قبيحا. 3 - أنه يلزم على القول بالعول تفضيل النساء على الرجال في موارد ومن المعلوم أنه يخالف الشريعة الإسلامية، منها ما يلي: 1 - إذا خلفت زوجا وأبوين وابنا. 2 - إذا خلفت زوجا وأختين لا م، وأخا لأب. بيان الملازمة: أنه لو خلفت المرأة زوجا وأبوين، فعلى ظاهر النصوص،
1 - سهام الأبوين 15 × 13 + 15 = 115 + 315 = 415 مجموع السهام 15 = 8 + 3 + 2 + 2. للبنتين 13 + 15 = 515 + 315 = 815. سهم الزوج 15 = 315. 304 يدفع إلى الزوج النصف أي ثلاثة من ستة، وللا م اثنان من ستة، والباقي وهو الواحد للأب، ولكن المذاهب لم تعمل بظاهر النصوص لاستلزامه تفضيل النساء على الرجال. ولكنه يلزمهم التفضيل في الموردين المتقدمين على القول بالعول بالبيان التالي. أنهم التزموا في المورد الأول بدفع الربع إلى الزوج والسدسين للأبوين والباقي (وهو خمسة أسهم من اثني عشر) للابن. وفي المورد الثاني يدفع إلى الزوج النصف وإلى الا ختين الثلث، والباقي وهو الواحد إلى الأخ لأب بلا عول. ولكن: لو كان بدل الابن بنتا وبدل الأخ أختا لأب فهما تأخذان أكثر من الذكر. وذلك لاستلزامهما العول في كلتا الصورتين وورود النقص على الجميع، وإن شئت التوضيح فلاحظ التعليقة (1). ما هي الحلول لهذه المشكلة: كان الإمام علي يندد القول بالعول ويقول: " إن الذي أحصى رمل عالج يعلم أن السهام لا تعول على ستة لو يبصرون وجهها لم تجز ستة " (2). وقد تضافر القول
1 - لو كان ابنا 5 = 7 - 12. 7 = 2 + 2 + 3. فلو كان مكان الابن بنتا يلزم أن يكون نصيبها أكثر من الابن 512 612 - للبنت 612 = 16 لو كان الوارث أخا لأب 1 = 5 - 6 - 5 = 2 + 3 ولو كان مكان الأخ أختا لأب فسهمها 38 وسهم الأخ 16 - 8 = 3 + 2 + 3 - 16 38 2 - الوسائل: 17 الباب 6 من أبواب موجبات الإرث، الحديث 7 و 9 و 14. 305 " السهام لا تعول " عن أئمة أهل البيت (1). وقد جاء تفصيل تاريخ العول في رواية ابن عباس وبيان الحلول التي لجأ إليها تلميذ الإمام في رواية عبيد الله بن عبد الله وإليك نصها: " جالست ابن عباس فعرض ذكر الفرائض في المواريث فقال ابن عباس: سبحان الله العظيم أترون أن الذي أحصى رمل عالج عددا جعل في مال نصفا ونصفا وثلثا، فهذان النصفان قد ذهبا بالمال فأين موضع الثلث؟ فقال له زفر بن أوس البصري: فمن أول من أعال الفرائض؟ فقال: عمر بن الخطاب لما التفت الفرائض عنده ودفع بعضها بعضا فقال: والله ما أدري أيكم قدم الله وأيكم أخر وما أجد شيئا هو أوسع من أن أقسم عليكم هذا المال بالحصص، فأدخل على كل ذي سهم ما دخل عليه من عول الفرائض، و أيم الله لو قدم من قدم الله وأخر من أخر الله ما عالت فريضة. فقال له زفر: وأيها قدم وأيها أخر؟ فقال: كل فريضة لم يهبطها الله عن فريضة إلا إلى فريضة فهذا ما قدم الله. وأما ما أخر: فلكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يبق لها إلا ما بقي، فتلك التي أخر. فأما الذي قدم: فالزوج له النصف فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى الربع لا يزيله عنه شئ، والزوجة لها الربع، فإذا دخل عليها ما يزيلها عنه صارت إلى الثمن لا يزيلها عنه شئ، والا م لها الثلث فإذا زالت عنه صارت إلى السدس، ولا
1 - الوسائل: 17 الباب 6 من أبواب موجبات الإرث، الحديث: 1 - 2 - 3 - 5 - 7 - 8 - 10 - 11 - 12 - 15 - 16 306 يزيلها عنه شئ، فهذه الفرائض التي قدم الله. وأما التي أخر: ففريضة البنات والأخوات لها النصف والثلثان، فإذا أزالتهن الفرائض عن ذلك لم يكن لهن إلا ما بقي، فتلك التي أخر، فإذا اجتمع ما قدم الله وما أخر بدئ بما قدم الله فأعطي حقه كاملا، فإن بقي شئ كان لمن أخر، وإن لم يبق شئ فلا شئ له " (1). فقد جاء في كلام ابن عباس ذكر الطوائف الذين لا يدخل بهم النقص وهم عبارة عن: 1 - الزوج. 2 - الزوجة. 3 - الام، وهؤلاء يشاركون في أنهم لا يهبطون عن فريضة إلا إلى فريضة أخرى وهذا آية أن سهامهم محدودة لا تنقص. وكان عليه أن يذكر الأخ والا خت من أم، لأنهم أيضا لا يهبطون من سهم (الثلث) إلا إلى سهم آخر وقد جاء الجميع في كلام الإمام أمير المؤمنين. روى أبو عمر العبدي عن علي بن أبي طالب أنه كان يقول: الفرائض من ستة أسهم: الثلثان أربعة أسهم، والنصف ثلاثة أسهم، والثلث سهمان، والربع سهم ونصف، والثمن ثلاثة أرباع سهم، ولا يرث مع الولد إلا الأبوان والزوج والمرأة، ولا يحجب الا م عن الثلث إلا الولد والإخوة، ولا يزاد الزوج عن النصف ولا ينقص من الربع، ولا تزاد المرأة على الربع ولا تنقص عن الثمن، وإن كن أربعا أو دون ذلك فهن فيه سواء، ولا تزاد الإخوة من الا م على الثلث ولا ينقصون من السدس وهم فيه سواء الذكر والا نثى، ولا يحجبهم عن الثلث إلا الولد، والوالد، والدية تقسم على من
1 - الوسائل: 17 الباب 7 من أبواب موجبات الإرث، الحديث: 6، لاحظ المستدرك للحاكم: 4 / 340 كتاب الفرائض والحديث صحيح على شرط مسلم، وأورده الذهبي في تلخيصه اذعانا بصحته. 307 أحرز الميراث (1). نعم روى أبو بصير عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: أربعة لا يدخل عليهم ضرر في الميراث: الوالدان، والزوج، والمرأة (2). وبما أن المراد من المرأة هي الزوجة فلابد من تقييد الرواية بكلالة الا م. فإذا كان هؤلاء من قدمهم الله ولا يزيد عليهم النقص، فيكون من أخره الله عبارة عن البنت أو البنتين أو من يتقرب بالأب والا م أو بالأب من الا خت أو الأخوات. روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر - عليه السلام - قال: قلت له: ما تقول في امرأة تركت زوجها وإخوتها لا مها وإخوة وأخوات لأبيها؟ قال: للزوج النصف ثلاثة أسهم، ولإخوتها من أمها الثلث سهمان الذكر والا نثى فيه سواء، وما بقي سهم للإخوة والأخوات من الأب: * (للذكر مثل حظ الا نثيين) * لأن السهام لا تعول ولأن الزوج لا ينقص من النصف، ولا الإخوة من الا م من ثلثهم فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث (3). وورد تعبير لطيف في رواية الصدوق في عيون الأخبار: عن الرضا - عليه السلام - في كتابه إلى المأمون وهو أنه " وذو السهم أحق ممن لا سهم له " (4). ما الفرق بين البنت وكلالة الا م: بقي الكلام في عد البنت والبنات والا خت والأخوات، ممن يدخل عليهم النقص دون الا خت والأخ من الا م، مع أن الطوائف الثلاث على وتيرة واحدة.
1 - الوسائل: 17 الباب 7 من أبواب موجبات الإرث، الحديث 12، 3 و 17 و 15. 2 - الوسائل: 17 الباب 7 من أبواب موجبات الإرث، الحديث 12، 3 و 17 و 15. 3 - الوسائل: 17 الباب 7 من أبواب موجبات الإرث، الحديث 12، 3 و 17 و 15. 4 - الوسائل: 17 الباب 7 من أبواب موجبات الإرث، الحديث 12، 3 و 17 و 15. 308 فللبنت والبنات: النصف والثلثان، وللا خت والأخوات: النصف والثلثان، ولكلالة الا م: الثلث والسدس. فما هو الفارق بين الطائفة الثالثة والا وليين؟ يتضح الجواب ببيان أمر: وهو دخول الأخ في كلالة الا م، لا يخرجها عن كونها وارثة بالفرض، فالواحد منها سواء كان ذكرا أم أنثى له السدس، وغير الواحد، سواء كانوا ذكرا أم أنثى، أو ذكرا وأنثى لهم الثلث يقتسمون بالمناصفة. وهذا بخلاف الطائفتين الا وليين فللبنت والا خت المنفردتين النصف، ولأزيد من الواحدة الثلثان، ولو انضم إليهما الأخ فللذكر مثل حظ الا نثيين في الطائفتين، أي لا يرثن بالفرض بل بالقرابة. وعلى ذلك وكلالة الا م مطلقا وارثة بالفرض لا ترث إلا به، بخلاف البنت وأزيد، أو الا خت وأزيد، فربما يرثن بالقرابة وذلك فيما إذا انضم إليهن الأخ. إذا عرفت ما ذكرنا فنقول: إن كلالة الا م، ترث بالفرض مطلقا كان معهم ذكر أو لا، تفردت من الطبقة بالإرث أو لا، فلو لم يكن وارث سواها ترث الثلث فرضا والباقي ردا. ولا ينقص حظهم في صورة من الصور لو لم يزد عند الرد، وهذا آية عدم ورود النقص عند التزاحم. وبالجملة: لا نرى فيهم أي إزالة من الفرض في حال من الحالات ولا ورود نقص عليهم عند تطور الأحوال. وهذا بخلاف البنت والا خت فلو دخل فيهم: الأخ، يتغير الفرض من النصف أو الثلثين، إلى مجموع ما ترك بعد دفع سهام الآخرين كالوالدين، أو كلالة الا م، ثم يقتسمون بالتثليث وتنقص حظوظ البنت أو
309 البنات أو الا خت والأخوات عن النصف والثلثين بكثير، وهذا آية جواز دخول النقص عليهم عند التزاحم. وبعبارة أخرى: أن كلالة الا م ترث دائما بالفرض حتى فيما إذا تفردت، وأما الطائفتان الا وليان فإنما ترثان بالفرض تارة كما إذا لم يكن بينهم أخ، وأخرى بالقرابة فقط كما إذا انضم الأخ إليهن. وأيضا: كلالة الا م لا يرد عليها النقص ولا ينقص حظهم عن الثلث والسدس، بخلاف الأخيرتين فينقص حظهما عن النصف والثلثين. ولعله إلى ما ذكرنا من التوضيح يشير صاحب الجواهر بقوله: " دون من يتقرب بالا م الذي لا يرث إلا بالفرض، بخلاف غيره فإنه يرث به تارة وبالقرابة أخرى كالبنت والبنتين، اللتين ينقصن إذا اجتمعن مع البنين عن النصف أو الثلثين بنص الآية لأن للذكر حينئذ مثل حظ الا نثيين " (1). وقال العاملي: " ويدخل النقص على البنت والبنات لأنهن إذا اجتمعن مع البنين ربما نقصن عن العشر أو نصفه لنص الآية * (للذكر مثل حظ الا نثيين) * وكذا الحال في الإخوة والأخوات من قبل الأب أو من قبلهما " (2). قال المحقق: يكون النقص داخلا على الأب أو البنت أو البنتين أو من يتقرب بالأب والا م أو بالأب من الا خت والأخوات دون من يتقرب بالا م، ولم يذكر العلامة في القواعد (3) " الأب " وهو الصحيح لأن الكلام في المقام هو زيادة
1 - الجواهر 39: 110. وحاشية جمال الدين على الروضة البهية: 2 / 297 في هامش الكتاب. 2 - مفتاح الكرامة: 8 / 120. 3 - المصدر نفسه. 310 الفروض على التركة، فيقع الكلام في تقديم بعض أصحاب الفروض على بعض، وأما الوارث الذي ليس بصاحب فرض وإن كان في جنب ذيه فهو خارج عن محل البحث، والأب كذلك لأنه مع الولد للميت لا ينقص فرضه عن السدس (1)، ومع عدمه ليس ذا فرض بخلاف الا م فإنها من ذوات الفروض مطلقا. وليعلم أن عامل العول هو الزوج أو الزوجة إذا اجتمع أحدهما مع البنت أو البنات، أو مع الا خت أو الأخوات من قبل الأبوين أو لأب، وإلا لما يلزم العول. وعلى ذلك: 1 - فلو خلفت زوجا وأبوين وبنتا، يختص النقص بالبنت بعد الربع والسدس. 2 - لو خلفت زوجا وأحد الأبوين وبنتين، يختص النقص بهما بعد الربع والسدسين. 3 - لو خلف زوجة وأبوين وبنتين، يختص النقص بهما بعد الثمن والسدسين. 4 - لو خلفت زوجا مع كلالة الا م وأختا أو أخوات لأب وأم أو لأب، يدخل النقص بالا خت أو الأخوات بعد النصف والسدس إن كانت الكلالة واحدة أو الثلث إن كانت متعددة.
1 - الوسائل: 17 الباب 7 من أبواب موجبات الإرث الحديث 2 و 4 و 10. 311 بقيت هنا نكات نذكرها: 1 - إن الآثار المروية عن ابن عباس تشهد على أن حبر الا مة كان قاطعا ببطلان العول على حد كان مستعدا للمباهلة. قال ابن قدامة: روي عن ابن عباس أنه قال في زوج وأخت وأم: من شاء باهلته أن المسائل لا تعول، إن الذي أحصى رمل عالج عددا، أعدل من أن يجعل في مال نصفا ونصفا وثلثا، هذان نصفان ذهبا بالمال فأين موضع الثلث؟ فسميت هذه المسألة، مسألة المباهلة لذلك (1). 2 - إن فقيه المدينة: الزهري كان يستحسن فتوى ابن عباس ويقول: إنها الحجة لولا أنه تقدم عليه عمر بن الخطاب. روى الشيخ في الخلاف عن عبيد الله بن عبد الله وزفر بن أوس البصري أنهما سألا ابن عباس: من أول من أعال الفرائض؟ قال: عمر بن الخطاب، قيل له: هلا أشرت به عليه؟ قال: هبته وكان أمره مهيبا، قال الزهري: لولا أنه تقدم ابن عباس، امام عدل وحكم به وأمضاه وتابعه الناس على ذلك لما اختلف على ابن عباس اثنان (2). 3 - إن موسى جار الله قد أطنب الكلام في مسألة " العول " إلى حد ممل جدا وأخذ يجتر كلاما واحدا، وحصيلة كلامه: يغلب على ظني أن القول بأن لا عول عند الشيعة، قول ظاهري فإن العول هو النقص فإن كان النقص في جميع السهام
1 - المغني: 6 / 241 ونقله عن ابن عباس أكثر من تعرض للمسألة. 2 - الخلاف: 2 / 282، المسألة 81 وغيره. 312 بنسبة متناسبة، فهو العول العادل أخذت به الا مة وقد حافظت على نصوص الكتاب، وإن كان النقص في سهم المؤخر، فهو العول الجائر أخذت به الشيعة وخالفت به نصوص الكتاب (1). يلاحظ عليه: 1 - أن المعنى المناسب للعول في المقام هو الارتفاع أو الميل إلى الجور ، وتفسيره بالنقص - لو افترضنا صحة استعماله فيه - غير مناسب جدا، لظهور ارتفاع الفرائض عن سهام التركة، وارتفاعها وإن كان ملازما لنقص التركة عن الإجابة لجميع الفروض، لكن ينظر إلى المسألة من زاوية ارتفاع الفرائض دون نقصان سهام التركة ولأجل ذلك يقول ابن عباس: " وأيم الله لو قدموا من قدم الله، وأخروا من أخر الله ما عالت فريضة " ومن المعلوم عدم صحة تفسيره ب " وما نقصت الفريضة ". 2 - سلمنا أن العول بمعنى النقص لكن رمي الشيعة بأنهم يقولون به حيث إنهم يوردون النقص على المؤخر، غفلة من نظرهم، فان النقص إنما يتصور إذا كان المؤخر ذا فرض، ولكنه عندهم ليس بذي فرض بل يرث بالقرابة كسائر من يرثون بها وعندئذ لا يصدق النقص أبدا في هذه الحالة. يشهد بذلك كلام ابن عباس حيث يفسر المقدم بأنه ممن له فرضان، والمؤخر بأنه ممن ليس له إلا فرض واحد وهو في غير هذا المورد: حيث قال في جواب " زفر " الذي سأله عمن قدمه ومن أخره؟ فقال: والذي أهبطه من فرض إلى
1 - الوشيعة في نقض عقائد الشيعة، وقد نقلنا كلامه مجردا عن الطعن بأئمة أهل البيت. 313 فرض فذلك الذي قدمه، والذي أهبطه من فرض إلى ما بقي فذلك الذي أخره الله (1) وبعبارة أخرى: إن الذي أخره الله لم يجعل له حقا مفروضا في حالة التزاحم والاجتماع فيرث ما بقي، وليس هو بذي فرض في هذا الفرض لكونه وارثا بالقرابة. وبذلك تبين أنه لا عول عند الشيعة بالمعنى المصطلح عند الفقهاء. 3 - ما ذكره من أن السنة حافظت على نصوص الكتاب ولكن الشيعة بإدخال النقص على المؤخر خالفت نصوصه، من أعاجيب الكلام، فإذا كان في دخول النقص على المؤخر (على وجه المسامحة) مخالفة لظاهر الكتاب ففي دخولها على الجميع مخالفة مضاعفة، فقد عرفت في ما سبق أن من فرض الله له النصف أعطوه أقل منه، ومن فرض له الثلثان أعطوه أقل منهما. فكيف لا يكون فيه مخالفة (2).
1 - لاحظ الوسائل: 17 الباب 7 من أبواب موجبات الإرث، الحديث 6. 2 - وقد كفانا في نقد ما اختلقه من الشبهات أو أخذها ممن تقدم عليه: العلمان الجليلان: السيد عبد الحسين العاملي في كتابه " أجوبة موسى جار الله ". والسيد محسن العاملي في " نقض الوشيعة " - قدس الله أسرارهما -. * جعل التقية من المسائل الفقهية لأجل اتصافها بالجواز والمنع عند الفقهاء، وهذا يكفي في كونها مسألة فقهية، مضافا إلى البحث عن صحة الأعمال الموافقة للتقية وعدمها. 314 المسألة الخامسة عشرة: التقية (*) التقية من المفاهيم القرآنية التي وردت في أكثر من موضع في القرآن الكريم، وفي تلك الآيات إشارات واضحة إلى الموارد التي يلجأ فيها المؤمن إلى استخدام هذا المسلك الشرعي خلال حياته أثناء الظروف العصيبة، ليصون بها نفسه وعرضه وماله، أو نفس من يمت إليه بصلة وعرضه وماله، كما استعملها مؤمن آل فرعون لصيانة الكليم عن القتل والتنكيل (1) ولاذ بها عمار عندما أخذ وأسر وهدد بالقتل (2) إلى غير ذلك من الموارد الواردة في الكتاب والسنة، فمن المحتم علينا أن نتعرف عليها، مفهوما وغاية ودليلا وحدا، حتى نتجنب الافراط والتفريط في مقام القضاء والتطبيق.
1 - القصص: الآية 20. 2 - النحل: الآية 106. 315 إن التقية، اسم ل " إتقى يتقي " (1) والتاء بدل من الواو، وأصله من الوقاية، ومن ذلك اطلاق التقوى على إطاعة الله، لأن المطيع يتخذها وقاية من النار والعذاب. والمراد هو التحفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحق. مفهومها: إذا كانت التقية هي اتخاذ الوقاية من الشر، فمفهومها في الكتاب والسنة هو: إظهار الكفر وإبطان الإيمان، أو التظاهر بالباطل وإخفاء الحق. وإذا كان هذا مفهومها، فهي تقابل النفاق، تقابل الإيمان والكفر، فإن النفاق ضدها وخلافها، فهو عبارة عن إظهار الإيمان وابطان الكفر، والتظاهر بالحق وإخفاء الباطل، ومع وجود هذا التباين بينهما فلا يصح عدها من فروع النفاق. نعم: من فسر النفاق بمطلق مخالفة الظاهر للباطن، وبه صور التقية - الواردة في الكتاب والسنة - من فروعه، فقد فسره بمفهوم أوسع مما هو عليه في القرآن، فإنه يعرف المنافقين بالمتظاهرين بالإيمان والمبطنين للكفر بقوله تعالى: * (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) * (2) فإذا كان هذا حد المنافق فكيف يعم من يستعمل التقية تجاه الكفار والعصاة فيخفي إيمانه ويظهر الموافقة لغاية صيانة النفس والنفيس،
1 - قال ابن الأثير في النهاية: 5 / 217: وأصل اتقى: أوتقى فقلبت الواو ياء لكسرة قبلها ثم أبدلت تاء وأدغمت. ومنه حديث علي - عليه السلام -: كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله، أي جعلناه وقاية من العدو. ولاحظ لسان العرب مادة " وقى ". 2 - المنافقون: الآية 1. 316 والعرض والمال من التعرض؟! ويظهر صدق ذلك إذا وقفنا على ورودها في التشريع الإسلامي، ولو كانت من قسم النفاق، لكان ذلك أمرا بالقبيح ويستحيل على الحكيم أن يأمر به: * (قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون) * (1). غايتها: الغاية من التقية: هي صيانة النفس والعرض والمال، وذلك في ظروف قاهرة لا يستطيع فيها المؤمن أن يعلن عن موقفه الحق صريحا خوفا من أن يترتب على ذلك مضار وتهلكة من قوى ظالمة غاشمة كممارسة الحكومات الظالمة الارهاب، والتشريد والنفي، والقتل والتنكيل، ومصادرة الأموال، وسلب الحقوق الحقة، فلا يكون لصاحب العقيدة الذي يرى نفسه محقا محيص عن إبطانها، والتظاهر بما يوافق هوى الحاكم وتوجهاته حتى يسلم من الاضطهاد والتنكيل والقتل، إلى أن يحدث الله أمرا. إن التقية سلاح الضعيف في مقابل القوي الغاشم، سلاح من يبتلى بمن لا يحترم دمه وعرضه وماله، لا لشئ إلا لأنه لا يتفق معه في بعض المبادئ والأفكار. إنما يمارس التقية من يعيش في بيئة صودرت فيها الحرية في القول والعمل، والرأي والعقيدة فلا ينجو المخالف إلا بالصمت والسكوت مرغما أو بالتظاهر بما يوافق هوى السلطة وأفكارها، أو قد يلجأ إليها البعض كوسيلة لابد منها من أجل إغاثة الملهوف المضطهد والمستضعف الذي لا حول له ولا قوة،
1 - الأعراف: الآية 28. 317 فيتظاهر بالعمل إلى جانب الحكومة الظالمة وصولا إلى ذلك كما كان عليه مؤمن آل فرعون الذي حكاه سبحانه في الذكر الحكيم. إن أكثر من يعيب التقية على مستعملها، يتصور أو يصور أن الغاية منها هو تشكيل جماعات سرية هدفها الهدم والتخريب، كما هو المعروف من الباطنيين والأحزاب الإلحادية السرية، وهو تصور خاطئ ذهب إليه أولئك جهلا أو عمدا دون أن يركزوا في رأيهم هذا على دليل ما أو حجة مقنعة، فأين ما ذكرناه من هذا الذي يذكره، ولو لم تلجئ الظروف القاهرة والأحكام المتعسفة هذه الجموع المستضعفة من المؤمنين لما كانوا عمدوا إلى التقية، ولما تحملوا عب ء اخفاء معتقداتهم ولدعوا الناس إليها علنا ودون تردد، إلا أن السيف والنطع سلاح لا تتردد كل الحكومات الفاسدة من التلويح به أمام من يخالفها في معتقداتها وعقائدها. أين العمل الدفاعي من الأعمال البدائية التي يرتكبها أصحاب الجماعات السرية للإطاحة بالسلطة وامتطاء ناصية الحكم، فأعمالهم كلها تخطيطات مدبرة لغايات ساقطة. وهؤلاء هم الذين يحملون شعار " الغايات تبرر الوسائل " فكل قبيح عقلي أو ممنوع شرعي يستباح عندهم لغاية الوصول إلى المقاصد المشؤومة. إن القول بالتشابه بين هؤلاء وبين من يتخذ التقية غطاء، وسلاحا دفاعيا ليسلم من شر الغير، حتى لا يقتل ولا يستأصل، ولا تنهب داره وماله، إلى أن يحدث الله أمرا، من قبيل عطف المبائن على مثله. إن المسلمين القاطنين في الاتحاد السوفيتي السابق قد لاقوا من المصائب
318 والمحن ما لا يمكن للعقول أن تحتملها ولا أن تتصورها، فإن الشيوعيين طيلة تسلطهم على المناطق الإسلامية قلبوا لهم ظهر المجن، فصادروا أموالهم وأراضيهم، ومساكنهم، ومساجدهم، ومدارسهم، وأحرقوا مكتباتهم، وقتلوا كثيرا منهم قتلا ذريعا ووحشيا، فلم ينج منهم إلا من اتقاهم بشئ من التظاهر بالمرونة، وإخفاء المراسم الدينية، والعمل على إقامة الصلاة في البيوت إلى أن نجاهم الله سبحانه بانحلال تلك القوة الكافرة، فبرز المسلمون إلى الساحة من جديد، فملكوا أرضهم وديارهم، وأخذوا يستعيدون مجدهم وكرامتهم شيئا فشيئا، وما هذا إلا ثمرة من ثمار التقية المشروعة التي أباحها الله تعالى لعباده بفضله وكرمه سبحانه على المستضعفين. فإذا كان هذا معنى التقية ومفهومها، وكانت هذه غايتها وهدفها، فهو أمر فطري يسوق الإنسان إليه قبل كل شئ عقله ولبه، وتدعوه إليه فطرته، ولأجل ذلك يستعملها كل من ابتلي بالملوك والساسة الذين لا يحترمون شيئا سوى رأيهم وفكرتهم ومطامعهم وسلطتهم ولا يترددون عن التنكيل بكل من يعارضهم في ذلك، من غير فرق بين المسلم - شيعيا كان أم سنيا - وغيره، ومن هنا تظهر جدوى التقية وعمق فائدتها. ولأجل دعم هذا الأصل الحيوي ندرس دليله من القرآن والسنة. دليلها في القرآن والسنة: شرعت التقية بنص القرآن الكريم حيث وردت جملة من الآيات الكريمة (1) سنحاول استعراضها في الصفحات التالية:
1 - غافر: الآية 28 و 45، والقصص: الآية 20 وستوافيك نصوص الآيات في ثنايا البحث. 319 الآية الا ولى: قال سبحانه: * (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم) * (النحل / 106). ترى أنه سبحانه يجوز إظهار الكفر كرها ومجاراة للكافرين خوفا منهم، بشرط أن يكون القلب مطمئنا بالإيمان، وصرح بذلك لفيف من المفسرين القدامى والجدد، سنحاول أن نستعرض كلمات البعض منهم تجنبا عن الإطالة والإسهاب، ولمن يبتغي المزيد فعليه بمراجعة كتب التفسير المختلفة: 1 - قال الطبرسي: قد نزلت الآية في جماعة أكرهوا على الكفر، وهم عمار وأبوه ياسر وأمه سمية، وقتل الأبوان لأنهما لم يظهرا الكفر ولم ينالا من النبي، وأعطاهم عمار ما أرادوا منه، فأطلقوه، ثم أخبر عمار بذلك رسول الله، وانتشر خبره بين المسلمين، فقال قوم: كفر عمار، فقال الرسول: كلا إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه. وفي ذلك نزلت الآية السابقة، وكان عمار يبكي، فجعل رسول الله يمسح عينيه ويقول: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت (1). 2 - وقال الزمخشري: روي أن أناسا من أهل مكة فتنوا فارتدوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه، وكان فيهم من أكره وأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد للإيمان، منهم عمار بن ياسر وأبواه: ياسر وسمية، وصهيب وبلال وخباب.
1 - الطبرسي: مجمع البيان: 3 / 388. 320 أما عمار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها... (1). 3 - وقال الحافظ ابن ماجة: " والايتاء: معناه الاعطاء أن وافقوا المشركين على ما أرادوا منهم تقية، والتقية في مثل هذه الحال جائزة لقوله تعالى: * (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) * " (2). 4 - وقال القرطبي: قال الحسن: التقية جائزة للإنسان إلى يوم القيامة - ثم قال: - أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل إنه لا اثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بالكفر، هذا قول مالك والكوفيين والشافعي (3). 5 - قال الخازن: " التقية لا تكون إلا مع خوف القتل مع سلامة النية، قال الله تعالى: * (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) * ثم هذه التقية رخصة " (4). 6 - قال الخطيب الشربيني: " * (إلا من أكره) * أي على التلفظ به * (وقلبه مطمئن بالإيمان) * فلا شئ عليه لأن محل الإيمان هو القلب " (5). 7 - وقال إسماعيل حقي: " * (إلا من أكره) * أجبر على ذلك اللفظ بأمر يخاف على نفسه أو عضو من أعضائه... لأن الكفر اعتقاد، والإكراه على القول دون الاعتقاد، والمعنى: " ولكن المكره على الكفر باللسان "، * (وقلبه مطمئن بالإيمان) *
1 - الزمخشري: الكشاف عن حقائق التنزيل: 2 / 430. 2 - ابن ماجة: السنن: 1 / 53، شرح حديث رقم 150. 3 - القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 4 / 57. 4 - تفسير الخازن: 1 / 277. 5 - الخطيب الشربيني: السراج المنير. في تفسير الآية. 321 لا تتغير عقيدته، وفيه دليل على أن الإيمان المنجي المعتبر عند الله، هو التصديق بالقلب " (1). الآية الثانية: قال سبحانه: * (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير) * (2). وكلمات المفسرين حول الآية تغنينا عن أي توضيح: 1 - قال الطبري: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) *: قال أبو العالية: التقية باللسان، وليس بالعمل، حدثت عن الحسين قال: سمعت أبا معاذ قال: أخبرنا عبيد قال: سمعت الضحاك يقول في قوله تعالى: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * قال: التقية باللسان من حمل على أمر يتكلم به وهو لله معصية فتكلم مخافة نفسه * (وقلبه مطمئن بالإيمان) * فلا اثم عليه، إنما التقية باللسان (3). 2 - وقال الزمخشري في تفسير قوله تعالى: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) *: رخص لهم في موالاتهم إذا خافوهم، والمراد بتلك الموالاة: مخالفة ومعاشرة ظاهرة، والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء وانتظار زوال المانع (4).
1 - إسماعيل حقي: تفسير روح البيان: 5 / 84. 2 - آل عمران: الآية 28. 3 - الطبري: جامع البيان: 3 / 153. 4 - الزمخشري: الكشاف: 1 / 422. 322 3 - قال الرازي في تفسير قوله تعالى: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) *: المسألة الرابعة: اعلم: أن للتقية أحكاما كثيرة ونحن نذكر بعضها: ألف: إن التقية إنما تكون إذا كان الرجل في قوم كفار، ويخاف منهم على نفسه، وماله، فيداريهم باللسان، وذلك بأن لا يظهر العداوة باللسان، بل يجوز أيضا أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة، ولكن بشرط أن يضمر خلافه وأن يعرض في كل ما يقول، فإن للتقية تأثيرها في الظاهر لا في أحوال القلوب. ب: التقية جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة: لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله " صلى الله عليه وآله وسلم ": " حرمة مال المسلم كحرمة دمه " ولقوله " صلى الله عليه وآله وسلم ": " من قتل دون ماله فهو شهيد " (1). 4 - وقال النسفي: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * إلا أن تخافوا جهتهم أمرا يجب اتقاؤه، أي ألا يكون للكافر عليك سلطان فتخافه على نفسك ومالك فحينئذ يجوز لك اظهار الموالاة وإبطان المعاداة (2). 5 - وقال الآلوسي: وفي الآية دليل على مشروعية التقية وعرفوها بمحافظة النفس أو العرض أو المال من شر الأعداء. والعدو قسمان: الأول: من كانت عداوته مبنية على اختلاف الدين، كالكافر والمسلم. الثاني: من كانت عداوته مبنية على أغراض دنيوية، كالمال والمتاع والملك والامارة (3).
1 - مفاتيح الغيب: 8 / 13. 2 - النسفي: التفسير بهامش تفسير الخازن: 1 / 277. 3 - الآلوسي: روح المعاني: 3 / 121. 323 6 - وقال جمال الدين القاسمي: ومن هذه الآية: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * استنبط الأئمة مشروعية التقية عند الخوف، وقد نقل الاجماع على جوازها عند ذلك الإمام مرتضى اليماني في كتابه (إيثار الحق على الخلق) (1). 7 - وفسر المراغي قوله تعالى: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) * بقوله: أي إن ترك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال إلا في حال الخوف من شئ تتقونه منهم، فلكم حينئذ أن تتقوهم بقدر ما يتقى ذلك الشئ، إذ القاعدة الشرعية " ان درء المفاسد مقدم على جلب المصالح ". وإذا جازت موالاتهم لاتقاء الضرر فأولى أن تجوز لمنفعة المسلمين، وإذا فلا مانع من أن تحالف دولة إسلامية دولة غير مسلمة لفائدة تعود إلى الا ولى إما بدفع ضرر أو جلب منفعة، وليس لها أن تواليها في شئ يضر المسلمين، ولا تختص هذه الموالاة بحال الضعف، بل هي جائزة في كل وقت. وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التقية بأن يقول الإنسان أو يفعل ما يخالف الحق، لأجل توقي ضرر من الأعداء يعود إلى النفس، أو العرض، أو المال. فمن نطق بكلمة الكفر مكرها وقاية لنفسه من الهلاك، وقلبه مطمئن بالإيمان، لا يكون كافرا بل يعذر كما فعل عمار بن ياسر حين أكرهته قريش على الكفر فوافقها مكرها وقلبه مليئ بالإيمان وفيه نزلت الآية: * (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) * (2).
1 - جمال الدين القاسمي: محاسن التأويل: 4 / 82. 2 - تفسير المراغي: 3 / 136. 324 هذه الجمل الوافية والعبارات المستفيضة لا تدع لقائل مقالا إلا أن يحكم بشرعية التقية بالمعنى الذي عرفته بل قد لا يجد أحد مفسرا أو فقيها وقف على مفهومها وغايتها يتردد في الحكم بجوازها، كما أنك أخي القارئ لا تجد إنسانا واعيا لا يستعملها في ظروف عصيبة، ما لم تترتب عليها مفسدة عظيمة، كما سيوافيك بيانها عند البحث عن حدودها. واما المعارض لجوازها أو المغالط في مشروعيتها، فإنما يفسرها بالتقية الرائجة بين أصحاب التنظيمات السرية والمذاهب الهدامة كالنصيرية والدروز، والباطنية كلهم، إلا أن المسلمين جميعا بريئون من هذه التقية الهدامة لكل فضيلة رابية. الآية الثالثة: قوله سبحانه: * (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد ج آءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب (1) *. وكانت عاقبة أمره أن: * (وقاه الله سيئات ما مكروا وحاق ب آل فرعون سوء العذاب) * (2). وما كان ذلك إلا لأنه بتقيته استطاع أن ينجي نبي الله من الموت: * (قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين) * (3). وهذه الآيات تدل على جواز التقية لإنقاذ المؤمن من شر عدوه الكافر.
1 - غافر: الآية 28. 2 - غافر: الآية 45. 3 - القصص: الآية 20. 325 اتقاء المسلم من المسلم في ظروف خاصة: إن مورد الآيات وإن كان هو اتقاء المسلم من الكافر، ولكن المورد ليس بمخصص لحكم الآية، إذ ليس الغرض من تشريع التقية عند الابتلاء بالكفار إلا صيانة النفس والنفيس من الشر، فإذ ابتلي المسلم بأخيه المسلم الذي يخالفه في بعض الفروع ولا يتردد الطرف القوي عن إيذاء الطرف الآخر، كأن ينكل به أو ينهب أمواله أو يقتله، ففي تلك الظروف الحرجة يحكم العقل السليم بصيانة النفس والنفيس عن طريق كتمان العقيدة واستعمال التقية، ولو كان هناك وزر فإنما يتوجه على من يتقى منه لا على المتقي، فلو سادت الحرية جميع الفرق الإسلامية، وتحملت كل فرقة آراء الفرقة الا خرى لوقفت على أن الرأي الآخر هو نتيجة اجتهادها، ولما اضطر أحد من المسلمين إلى استخدام التقية، ولساد الوئام مكان النزاع. وقد فهم ذلك لفيف من العلماء وصرحوا به، وإليك نصوص بعضهم: 1 - يقول الإمام الرازي في تفسير قوله سبحانه: * (إلا أن تتقوا منهم تقاة) *: ظاهر الآية يدل على أن التقية إنما تحل مع الكفار الغالبين، إلا أن مذهب الشافعي - رضي الله عنه -: أن الحالة بين المسلمين إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والكافرين حلت التقية محاماة عن النفس، وقال: التقية جائزة لصون النفس، وهل هي جائزة لصون المال؟ يحتمل أن يحكم فيها بالجواز لقوله " صلى الله عليه وآله وسلم ": " حرمة مال المسلم كحرمة دمه "، وقوله " صلى الله عليه وآله وسلم ": " من قتل دون ماله فهو شهيد " (1).
1 - الرازي: مفاتيح الغيب: 8 / 13 في تفسير الآية. 326 2 - ينقل جمال الدين القاسمي عن الإمام مرتضى اليماني في كتابه " إيثار الحق على الخلق " ما نصه: " وزاد الحق غموضا وخفاء أمران: أحدهما: خوف العارفين - مع قلتهم - من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق مع جواز التقية عند ذلك بنص القرآن، وإجماع أهل الإسلام، وما زال الخوف مانعا من إظهار الحق، ولا برح المحق عدوا لأكثر الخلق، وقد صح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال - في ذلك العصر الأول -: حفظت من رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " وعاءين، أما أحدهما فبثثته في الناس وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم (1). 3 - وقال المراغي في تفسير قوله سبحانه: * (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) *: ويدخل في التقية مداراة الكفرة والظلمة والفسقة، وإلانة الكلام لهم، والتبسم في وجوههم وبذل المال لهم، لكف أذاهم وصيانة العرض منهم، ولا يعد هذا من الموالاة المنهي عنها، بل هو مشروع، فقد أخرج الطبراني قوله " صلى الله عليه وآله وسلم ": " ما وقى المؤمن به عرضه فهو صدقة " (2). إن الشيعة تتقي الكفار في ظروف خاصة لنفس الغاية التي لأجلها يتقيهم السني، غير أن الشيعي ولأسباب لا تخفى، يلجأ إلى اتقاء أخيه المسلم لا لقصور في الشيعي، بل في أخيه الذي دفعه إلى ذلك لأنه يدرك أن الفتك والقتل مصيره إذا صرح بمعتقده الذي هو موافق لا صول الشرع الإسلامي وعقائده، نعم كان الشيعي وإلى وقت قريب يتحاشى أن يقول: إن الله ليس له جهة، أو أنه تعالى لا يرى يوم القيامة، وإن المرجعية العلمية والسياسية لأهل البيت بعد رحلة النبي
1 - جمال الدين القاسمي: محاسن التأويل: 4 / 82. 2 - مصطفى المراغي: التفسير: 3 / 136. 327 الأكرم، أو أن حكم المتعة غير منسوخ. إن الشيعي إذا صرح بهذه الحقائق - التي استنبطت من الكتاب والسنة - سوف يعرض نفسه ونفيسه للمهالك والمخاطر. وقد مر عليك كلام الرازي وجمال الدين القاسمي والمراغي الصريح في جواز هذا النوع من التقية، فتخصيص التقية بالتقية من الكافر فحسب، جمود على ظاهر الآية وسد لباب الفهم، ورفض للملاك الذي شرعت لأجله التقية، واعدام لحكم العقل القاضي بحفظ الأهم إذا عارض المهم. والتاريخ بين أيدينا يحدثنا بوضوح عن لجوء جملة معروفة من كبار المسلمين إلى التقية في ظروف عصيبة أوشكت أن تودي بحياتهم وبما يملكون، وخير مثال على ذلك ما أورده الطبري في تاريخه (7 / 195 - 206) عن محاولة المأمون دفع وجوه القضاة والمحدثين في زمانه إلى الإقرار بخلق القرآن قسرا حتى وإن استلزم ذلك قتل الجميع دون رحمة، ولما أبصر أولئك المحدثون حد السيف مشهرا عمدوا إلى مصانعة المأمون في دعواه وأسروا معتقدهم في صدورهم، ولما عوتبوا على ما ذهبوا إليه من موافقة المأمون برروا عملهم بعمل عمار بن ياسر حين أكره على الشرك وقلبه مطمئن بالإيمان، والقصة شهيرة وصريحة في جواز اللجوء إلى التقية التي دأب البعض على التشنيع فيها على الشيعة وكأنهم هم الذين ابتدعوها من بنات أفكارهم دون أن تكون لها قواعد وأصول إسلامية ثابتة ومعلومة. الظروف العصيبة التي مرت بها الشيعة: الذي دفع بالشيعة إلى التقية بين إخوانهم وأبناء دينهم إنما هو الخوف من السلطات الغاشمة فلو لم يكن هناك في غابر القرون - من عصر الأمويين ثم
328 العباسيين والعثمانيين - أي ضغط على الشيعة، ولم تكن بلادهم وعقر دارهم مخضبة بدمائهم والتاريخ خير شاهد على ذلك، كان من المعقول أن تنسى الشيعة كلمة التقية وأن تحذفها من ديوان حياتها، ولكن ياللأسف إن كثيرا من إخوانهم كانوا أداة طيعة بيد الأمويين والعباسيين الذين كانوا يرون في مذهب الشيعة خطرا على مناصبهم، فكانوا يؤلبون العامة من أهل السنة على الشيعة يقتلونهم ويضطهدونهم وينكلون بهم، ولذا ونتيجة لتلك الظروف الصعبة لم يكن للشيعة، بل لكل من يملك شيئا من العقل وسيلة إلا اللجوء إلى التقية أو رفع اليد عن المبادئ المقدسة التي هي أغلى عنده من نفسه وماله. والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى أو أن تعد، إلا أنا سنستعرض جانبا مختصرا منها: فمن ذلك ما كتبه معاوية بن أبي سفيان باستباحة دماء الشيعة أينما كانوا وكيفما كانوا، وإليك نص ما ذكرته المصادر عن هذه الواقعة لتدرك محنة الشيعة: بيان معاوية إلى عماله: روى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني في كتاب " الأحداث " قال: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممن روى شيئا من فضل أبي تراب وأهل بيته، فقامت الخطباء في كل كورة، وعلى كل منبر، يلعنون عليا ويبرأون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشد الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة، لكثرة من بها من شيعة علي - عليه السلام - فاستعمل عليها زياد بن سمية، وضم إليه البصرة، فكان يتبع الشيعة وهو بهم
329 عارف، لأنه كان منهم أيام علي - عليه السلام -، فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشردهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم، وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق: ألا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة. ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته، فامحوه من الديوان، وأسقطوا عطاءه ورزقه، وشفع ذلك بنسخة أخرى: من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم، فنكلوا به، واهدموا داره. فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق، ولا سيما بالكوفة حتى أن الرجل من شيعة علي - عليه السلام - ليأتيه من يثق به، فيدخل بيته، فيلقي إليه سره، ويخاف من خادمه ومملوكه، ولا يحدثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة، ليكتمن عليه. وأضاف ابن أبي الحديد: فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي - عليهما السلام -، فازداد البلاء والفتنة، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلا وهو خائف على دمه، أو طريد في الأرض. ثم تفاقم الأمر بعد قتل الحسين - عليه السلام -، وولي عبد الملك بن مروان، فاشتد على الشيعة، وولى عليهم الحجاج بن يوسف، فتقرب إليه أهل النسك والصلاح والدين ببغض علي وموالاة أعدائه، وموالاة من يدعي من الناس أنهم أيضا أعداؤه، فأكثروا في الرواية في فضلهم وسوابقهم ومناقبهم، وأكثروا من البغض من علي - عليه السلام - وعيبه، والطعن فيه، والشنان له، حتى أن إنسانا وقف للحجاج - ويقال إنه جد الأصمعي - عبد الملك بن قريب بن قريب فصاح به: أيها الأمير إن أهلي عقوني فسموني عليا، وإني فقير وبائس وأنا إلى صلة الأمير
330 محتاج، فتضاحك له الحجاج، وقال: للطف ما توسلت به، قد وليتك موضع كذا (1). ونتيجة لذلك شهدت أوساط الشيعة مجازر بشعة على يد السلطات الغاشمة، فقتل الآلاف منهم، وأما من بقي منهم على قيد الحياة فقد تعرض إلى شتى صنوف التنكيل والإرهاب والتخويف، والحق يقال إن من الا مور العجيبة أن يبقى لهذه الطائفة باقية رغم كل ذلك الظلم الكبير والقتل الذريع، بل العجب العجاب أن تجد هذه الطائفة قد ازدادت قوة وعدة، وأقامت دولا وشيدت حضارات وبرز منها الكثير من العلماء والمفكرين. فلو كان الأخ السني يرى التقية أمرا محرما فليعمل على رفع الضغط عن أخيه الشيعي، وأن لا يضيق عليه في الحرية التي سمح بها الإسلام لأبنائه، وليعذره في عقيدته وعمله كما هو عذر أناسا كثيرين خالفوا الكتاب والسنة وأراقوا الدماء ونهبوا الدور فكيف بطائفة تدين بدينه وتتفق معه في كثير من معتقداته، وإذا كان معاوية وأبناء بيته والعباسيون كلهم عنده مجتهدين في بطشهم وإراقة دماء مخالفيهم فماذا يمنعه عن إعذار الشيعة باعتبارهم مجتهدين. وإذا كانوا يقولون - وذاك هو العجيب - ان الخروج على الإمام علي - عليه السلام - غير مضر بعدالة الخارجين والثائرين عليه، وفي مقدمتهم طلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة، وإن إثارة الفتن في صفين - التي انتهت إلى قتل كثير من الصحابة والتابعين وإراقة دماء الآلاف من العراقيين والشاميين - لا تنقص شيئا من ورع المحاربين وهم بعد ذلك مجتهدون معذورون لهم ثواب من اجتهد
1 - شرح نهج البلاغة: 11 / 44 - 46. 331 وأخطأ فلم لا يتعامل مع الشيعة ضمن هذا الفهم ويذهب إلى أنهم معذورون ومثابون!! نعم كانت التقية بين الشيعة تزداد تارة وتتضاءل أخرى، حسب قوة الضغط وض آلته، فشتان بين عصر المأمون الذي يجيز مادحي أهل البيت، ويكرم العلويين، وبين عصر المتوكل الذي يقطع لسان ذاكرهم بفضيلة. فهذا ابن السكيت أحد أعلام الأدب في زمن المتوكل، وقد اختاره معلما لولديه فسأله يوما: أيهما أحب إليك ابناي هذان أم الحسن والحسين؟ قال ابن السكيت: والله إن قنبر خادم علي - عليه السلام - خير منك ومن ابنيك. فقال المتوكل: سلوا لسانه من قفاه، ففعلوا ذلك به فمات. وذلك في ليلة الاثنين لخمس خلون من رجب سنة أربع وأربعين ومائتين، وقيل ثلاث وأربعين، وكان عمره ثمانية وخمسين سنة. ولما مات سير المتوكل لولده يوسف عشرة آلاف درهم وقال: هذه دية والدك!! (1). وهذا ابن الرومي الشاعر العبقري يقول في قصيدته التي يرثي بها يحيى بن عمر بن الحسين بن زيد بن علي: اكل أوان للنبي محمد * قتيل زكي بالدماء مضرج بني المصطفى كم يأكل الناس شلوكم * لبلواكم عما قليل مفرج أبعد المكنى بالحسين شهيدكم * تضئ مصابيح السماء فتسرج (2)
1 - ابن خلكان: وفيات الأعيان: 3 / 33. الذهبي: سير أعلام النبلاء: 12 / 16. 2 - ديوان ابن الرومي: 2 / 243. 332 فإذا كان هذا هو حال أبناء الرسول، فما هو حال شيعتهم ومقتفي آثارهم؟! قال العلامة الشهرستاني: إن التقية شعار كل ضعيف مسلوب الحرية. إن الشيعة قد اشتهرت بالتقية أكثر من غيرها لأنها منيت باستمرار الضغط عليها أكثر من أية أمة أخرى، فكانت مسلوبة الحرية في عهد الدولة الأموية كله، وفي عهد العباسيين على طوله، وفي أكثر أيام الدولة العثمانية، ولأجله استشعروا بشعار التقية أكثر من أي قوم، ولما كانت الشيعة، تختلف عن الطوائف المخالفة لها في قسم مهم من الاعتقادات في أصول الدين وفي كثير من الأحكام الفقهية، والمخالفة تستجلب بالطبع رقابة وتصدقه التجارب، لذلك أضحت شيعة الأئمة من آل البيت مضطرة في أكثر الأحيان إلى كتمان ما تختص به من عادة أو عقيدة أو فتوى أو كتاب أو غير ذلك، تبتغي بهذا الكتمان صيانة النفس والنفيس، والمحافظة على الوداد والاخوة مع سائر إخوانهم المسلمين، لئلا تنشق عصا الطاعة، ولكي لا يحس الكفار بوجود اختلاف ما في المجتمع الإسلامي فيوسع الخلاف بين الا مة المحمدية. لهذه الغايات النزيهة كانت الشيعة تستعمل التقية وتحافظ على وفاقها في الظواهر مع الطوائف الا خرى، متبعة في ذلك سيرة الأئمة من آل محمد وأحكامهم الصارمة حول وجوب التقية من قبيل: " التقية ديني ودين آبائي "، إذ أن دين الله يمشي على سنة التقية لمسلوبي الحرية، دلت على ذلك آيات من القرآن العظيم (1).
1 - غافر: الآية 28، النحل: الآية 106. 333 روي عن صادق آل البيت - عليهم السلام - في الأثر الصحيح: " التقية ديني ودين آبائي " و: " من لا تقية له لا دين له ". لقد كانت التقية شعارا لآل البيت - عليهم السلام - دفعا للضرر عنهم، وعن أتباعهم، وحقنا لدمائهم، واستصلاحا لحال المسلمين، وجمعا لكلمتهم، ولما لشعثهم، وما زالت سمة تعرف بها الإمامية دون غيرها من الطوائف والأمم. وكل إنسان إذا أحس بالخطر على نفسه، أو ماله بسبب نشر معتقده، أو التظاهر به لا بد أن يتكتم ويتقي مواضع الخطر. وهذا أمر تقتضيه فطرة العقول. من المعلوم أن الإمامية وأئمتهم لاقوا من ضروب المحن، وصنوف الضيق على حرياتهم في جميع العهود ما لم تلاقه أية طائفة، أو أمة أخرى، فاضطروا في أكثر عهودهم إلى استعمال التقية في تعاملهم مع المخالفين لهم، وترك مظاهرتهم، وستر عقائدهم، وأعمالهم المختصة بهم عنهم، لما كان يعقب ذلك من الضرر في الدنيا. ولهذا السبب امتازوا بالتقية وعرفوا بها دون سواهم. وللتقية أحكام من حيث وجوبها وعدم وجوبها، بحسب اختلاف مواقع خوف الضرر، مذكورة في أبوابها في كتب العلماء الفقهية (1).
1 - مجلة المرشد: 3 / 252، 253، ولاحظ: تعليقة أوائل المقالات: ص 96. 334 حدها: قد تعرفت على مفهوم التقية وغايتها، ودليلها، بقي الكلام في تبيين حدودها، فنقول: عرفت الشيعة بالتقية وأنهم يتقون في أقوالهم وأفعالهم، فصار ذلك منشأ لوهم عالق بأذهان بعض السطحيين والمغالطين، فقالوا: بما أن التقية من مبادئ التشيع فلا يصح الاعتماد على كل ما يقولون ويكتبون وينشرون، إذ من المحتمل جدا أن تكون هذه الكتب دعايات والواقع عندهم غيرها. هذا ما نسمعه منهم مرة بعد مرة. ولكن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أن مجال التقية إنما هو في حدود القضايا الشخصية الجزئية عند وجود الخوف على النفس والنفيس، فإذا دلت القرائن على أنه في إظهار العقيدة أو تطبيق العمل على مذهب أهل البيت يحتمل أن يدفع بالمؤمن إلى الضرر يصبح هذا المورد من مواردها، ويحكم العقل والشرع بلزوم الاتقاء حتى يصون بذلك نفسه ونفيسه عن الخطر. وأما الا مور الكلية الخارجة عن إطار الخوف فلا تتصور فيها التقية، والكتب المنتشرة من جانب الشيعة داخلة في هذا النوع الأخير، إذ لا خوف هناك حتى يكتب خلاف ما يعتقد، حيث ليس هناك لزوم للكتابة أصلا في هذه الحال فله أن يسكت ولا يكتب شيئا. فما يدعيه هؤلاء أن هذه الكتب دعايات لا واقعيات ناشئ عن قلة معرفتهم بحقيقة التقية عند الشيعة. والحاصل: أن الشيعة إنما كانت تتقي في عصر لم تكن
335 لهم دولة تحميهم، ولا قدرة ولا منعة تدفع عنهم الأخطار. وأما هذه الأعصار فلا مسوغ ولا مبرر للتقية إلا في موارد خاصة. إن الشيعة كما ذكرنا لم تلجأ إلى التقية إلا بعد أن اضطرت إلى ذلك، وهو حق لا أعتقد أن يخالفها فيه أحد ينظر إلى الأمور بلبه لا بعواطفه، إلا أن من الأمور المسلمة في تاريخ التشيع، انحصار التقية في مستوى الفتاوى، ولم تترجم إلا قليلا على المستوى العملي، بل كانوا عمليا من أكثر الناس تضحية، وبوسع كل باحث أن يرجع إلى مواقف رجال الشيعة مع معاوية وغيره من الحكام الأمويين، والحكام العباسيين، أمثال حجر بن عدي، وميثم التمار، ورشيد الهجري، وكميل بن زياد، ومئات من غيرهم، وكمواقف العلويين على امتداد التاريخ وثوراتهم المتتالية. التقية المحرمة: إن التقية تنقسم حسب الأحكام الخمسة، فكما أنها تجب لحفظ النفوس والأعراض والأموال، فإنها تحرم إذا ترتب عليها مفسدة أعظم، كهدم الدين وخفاء الحقيقة على الأجيال الآتية، وتسلط الأعداء على شؤون المسلمين وحرماتهم ومعابدهم، ولأجل ذلك ترى أن كثيرا من أكابر الشيعة رفضوا التقية في بعض الأحيان وقدموا أنفسهم وأرواحهم أضاحي من أجل الدين، فللتقية مواضع معينة، كما أن للقسم المحرم منها مواضع خاصة أيضا. إن التقية في جوهرها كتم ما يحذر من إظهاره حتى يزول الخطر، فهي
336 أفضل السبل للخلاص من البطش، ولكن ذلك لا يعني أن الشيعي جبان خائر العزيمة، خائف متردد الخطوات يملأ حناياه الذل، كلا إن للتقية حدودا لا تتعداها، فكما هي واجبة في حين، هي حرام في حين آخر، فليست التقية في جوازها ومنعها تابعة للقوة والضعف، وإنما تحددها جوازا ومنعا مصالح الإسلام والمسلمين. إن للإمام الخميني - قدس الله سره - كلاما في المقام ننقله بنصه حتى يقف القارئ على أن للتقية أحكاما خاصة وربما تحرم لمصالح عالية. قال - قدس الله سره -: تحرم التقية في بعض المحرمات والواجبات التي تمثل في نظر الشارع والمتشرعة مكانة بالغة، مثل هدم الكعبة، والمشاهد المشرفة، والرد على الإسلام والقرآن والتفسير بما يفسر المذهب ويطابق الالحاد وغيرها من عظائم المحرمات، ولا تعمها أدلة التقية ولا الاضطرار ولا الاكراه. وتدل على ذلك معتبرة مسعدة بن صدقة وفيها: " فكل شئ يعمل المؤمن بينهم لمكان التقية مما لا يؤدي إلى الفساد في الدين فإنه جائز " (1). ومن هذا الباب ما إذا كان المتقي ممن له شأن وأهمية في نظر الخلق، بحيث يكون ارتكابه لبعض المحرمات تقية أو تركه لبعض الواجبات كذلك مما يعد موهنا للمذهب وهاتكا لحرمه، كما لو أكره على شرب المسكر والزنا مثلا، فإن
1 - الوسائل كتاب الأمر بالمعروف الباب 25 الحديث رقم 6. 337 جواز التقية في مثله متمسكا بحكومة دليل الرفع (1) وأدلة التقية مشكل بل ممنوع، وأولى من ذلك كله في عدم جواز التقية، ما لو كان أصل من أصول الإسلام أو المذهب أو ضروري من ضروريات الدين في معرض الزوال والهدم والتغيير، كما لو أراد المنحرفون الطغاة تغيير أحكام الإرث والطلاق والصلاة والحج وغيرها من أصول الأحكام فضلا عن أصول الدين أو المذهب، فإن التقية في مثلها غير جائزة، ضرورة أن تشريعها لبقاء المذهب وحفظ الأصول وجمع شتات المسلمين لإقامة الدين وأصوله، فإذا بلغ الأمر إلى هدمها فلا تجوز التقية، وهو مع وضوحه يظهر من الموثقة المتقدمة. (2) وهكذا فقد بينا للجميع الأبعاد الحقيقية والواقعية للتقية، وخرجنا بالنتائج التالية: 1 - إن التقية أصل قرآني مدعم بالسنة النبوية، وقد استعملها في عصر الرسالة من ابتلي بها من الصحابة لصيانة نفسه فلم يعارضه الرسول بل أيده بالنص القرآني كما في قضية عمار بن ياسر، حيث أمره " صلى الله عليه وآله وسلم " بالعودة إذا عادوا. 2 - إن التقية بمعنى تشكيل جماعات سرية لغاية التخريب والهدم، مرفوضة عند المسلمين عامة والشيعة خاصة، وهو لا يمت إلى التقية المتبناة من قبل الشيعة بصلة. 3 - إن المفسرين في كتبهم التفسيرية عندما تعرضوا لتفسير الآيات الواردة في التقية اتفقوا على ما ذهبت إليه الشيعة من إباحتها للتقية.
1 - قال رسول الله ص: " رفع عن أمتي ما اضطروا إليه وما استكرهوا عليه ". 2 - الإمام الخميني: الرسائل: 171 - 178. 338 4 - إن التقية لا تختص بالاتقاء من الكافر، بل تعم الاتقاء من المسلم المخالف، الذي يريد السوء والبطش بأخيه. 5 - إن التقية تنقسم حسب انقسام الأحكام إلى أقسام خمسة، فبينما هي واجبة في موضع فهي محرمة في موضع آخر. 6 - إن مجال التقية لا يتجاوز القضايا الشخصية، وهي فيما إذا كان الخوف قائما، وأما إذا ارتفع الخوف والضغط، فلا موضوع للتقية لغاية الصيانة. وفي الختام نقول: نفترض أن التقية جريمة يرتكبها المتقي لصيانة دمه وعرضه وماله ولكنها في الحقيقة ترجع إلى السبب الذي يفرض التقية على الشيعي المسلم ويدفعه إلى أن يتظاهر بشئ من القول والفعل الذي لا يعتقد به، فعلى من يعيب التقية للمسلم المضطهد، أن يسمح له الحرية في مجال الحياة ويتركه بحاله، وأقصى ما يصح في منطق العقل، أن يسأله عن دليل عقيدته ومصدر عمله، فإن كان على حجة بينة يتبعه، وإن كان على خلافها يعذره في اجتهاده وجهاده العلمي والفكري. نحن ندعو المسلمين للتأمل في الدواعي التي دفعت بالشيعة إلى التقية، وأن يعملوا قدر الإمكان على فسح المجال لإخوانهم في الدين فإن لكل فقيه مسلم، رأيه ونظره، وجهده وطاقته. إن الشيعة يقتفون أثر أئمة أهل البيت في العقيدة والشريعة، ويرون رأيهم، لأنهم هم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وأحد الثقلين اللذين أمر الرسول " صلى الله عليه وآله وسلم " بالتمسك بهما في مجال العقيدة
339 والشريعة، وهذه عقائدهم لا تخفى على أحد، وهي حجة على الجميع. نسأل الله سبحانه: أن يصون دماء المسلمين وأعراضهم عن تعرض أي متعرض، ويوحد صفوفهم، ويؤلف بين قلوبهم، ويجمع شملهم، ويجعلهم صفا واحدا في وجه الأعداء، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
340 خاتمة المطاف مصادر التشريع عند الشيعة الإمامية و أحاديث أئمة أهل البيت إن الإمامية - كما تصدر عن الكتاب والسنة في مجالي العقيدة والشريعة - كذلك تصدر عن أحاديث أئمة أهل البيت وترى قولهم وفعلهم وتقريرهم حجة، وهذا لا يعني أن أحاديثهم، حجة ثالثة، في عرض الكتاب والسنة أو أنهم أنبياء يوحى إليهم كما ربما يتخيله من ليس له إلمام بعقائدهم وأصولهم، بل العترة الطاهرة لما كانوا وعاة علمه وحفظة سنته، وخلفاءه بعده، يحكون بقولهم وأفعالهم وتقريرهم، سنة النبي الأكرم، فالاحتجاج بأحاديثهم، احتجاج في الحقيقة بحديث النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " وكلامه. ولأجل إيضاح الموضوع، نأتي بتفصيل ذلك: أئمة الشيعة أوصياء الرسول: اتفقت الشيعة على أن الأئمة الاثني عشر أوصياء الرسول، وأنهم أئمة الأمة وأحد الثقلين اللذين أوصى بهما رسول الله في غير موقف من المواقف، وقال:
341 " إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي " والحديث من التواتر بمكان أغنانا عن ذكر مصادره ويكفي في ذلك ما نشرته دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة في هذا المجال. إن الشيعة الإمامية كسائر المسلمين مؤمنون بعالمية رسالة النبي الأكرم كما هم مؤمنون بخاتمية رسالته، مستدلين بقوله سبحانه: * (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شئ عليما) * (1). وقوله سبحانه: * (وإنه لكتاب عزيز * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (2)) * إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث. إن خاتمية رسالة النبي الأكرم من الأمور الدينية الضرورية تكفل لبيانها الذكر الحكيم والأحاديث المتضافرة التي بلغت حد التواتر، منها قوله " صلى الله عليه وآله وسلم " عندما خرج إلى غزوة تبوك فقال له علي: أأخرج؟ فقال: لا، فبكى علي، فقال له رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم ": " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " (3). وهذا علي أمير المؤمنين أول الأئمة الاثني عشر قال وهو يلي غسل رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم ": " بأبي أنت وأمي لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأنباء وأخبار السماء " (4).
1 - الأحزاب: الآية 40. 2 - فصلت: الآيتان 41 - 42. 3 - أمالي الصدوق: 29، معاني الأخبار: 94 وغيرها من المصادر الشيعية ولاحظ صحيح البخاري: 6 / 3 باب غزوة تبوك. 4 - نهج البلاغة: الخطبة 129. 342 وفي كلام آخر له: " أما رسول الله فخاتم النبيين ليس بعده نبي ولا رسول، وختم رسول الله الأنبياء إلى يوم القيامة " (1). ونكتفي في هذه العجالة بهذا المقدار من النصوص فمن أراد أن يقف على نصوص الأئمة الاثني عشر على ختم النبوة وانقطاع الوحي وسد باب التشريع بعد رحلة الرسول، فعليه الرجوع إلى الجزء الثالث من كتابنا " مفاهيم القرآن " فقد جاء فيه قرابة (134) نصا من النبي الأكرم وأهل بيته الطاهرين في ذلك المجال. إن فقهاء الشيعة حكموا بارتداد من أنكر عالمية الرسالة، أو خاتميتها، ولأجل ذلك فالبابية والبهائية وهكذا القاديانية مرتدون عندهم ارتدادا فطريا أو مليا (2) أحيانا، وهذه كتبهم الفقهية في باب الحدود وأحكام المرتد وغير ذلك. هذا قليل من كثير اكتفينا به لتبيين عقيدة الشيعة في حق الرسول الأعظم وأنهم عن بكرة أبيهم معتقدون بعالمية رسالة الرسول وخاتميته، ولم ينحرفوا عن هذا الخط قيد شعرة، ويظهر ذلك من المرور على الكتب الاعتقادية المدونة من بداية القرن الثالث الهجري إلى عصرنا هذا، فقد ألفوا مئات الكتب والرسائل، بل الموسوعات الكبيرة حول العقائد الإسلامية وهي بين مخطوطة ومطبوعة منتشرة في العالم وهذه كتبهم ومكتباتهم وجامعاتهم العلمية، وخطباؤهم ومنشوراتهم الرسمية لا تجد فيها كلمة تشير إلى نبوة غير النبي الأكرم " صلى الله عليه وآله وسلم "، أو بنزول الوحي على غيره فلا محيص عن القول بأن هذه النظرية الخاطئة، استنبطها البعض من خلال أمور لا دلالة لها على ما يرتئيه ولا بأس
1 - نهج البلاغة: الخطبة 230، مجالس المفيد: 527، بحار الأنوار: 22 / 527. 2 - المرتد الملي: عبارة عن من لم يكن أحد والديه مسلما حين انعقاد نطفته، كما إذا كان الوالدان كتابيين فأسلم الولد بعد البلوغ ثم ارتد. 343 بالإشارة إلى بعض هذه الأمور التي كانت سببا لهذا الوهم، وقد ألمح إليها بعض دكاترة العصر من المستهترين وهي لا تتجاوز أمرين: 1 - حجية أحاديثهم وأفعالهم. 2 - القول بعصمتهم من الإثم والخطأ. وإليك تحليل هذين الأمرين: الأول: الشيعة وحجية أقوال العترة الطاهرة: إن الشيعة يتعاملون مع أحاديث العترة الطاهرة كالتعامل مع أحاديث النبي الأكرم " صلى الله عليه وآله وسلم "، فلولا كونهم أنبياء أو طرفا للوحي فكيف تكون أحاديثهم حجة؟ الجواب: إن الشيعة الإمامية تأخذ بأقوالهم للأمور التالية: ألف: إن النبي الأكرم هو الذي أمر المسلمين قاطبة بالأخذ بأقوال العترة حيث قال: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي... (1) فالتمسك بأحاديثهم وأقوالهم امتثال لقول الرسول الأكرم " صلى الله عليه وآله وسلم "، وهو لا يصدر إلا عن الحق، فمن أخذ بالثقلين فقد تمسك بما ينقذه من الضلالة ومن أخذ بواحد منهما فقد خالف الرسول.
1 - ربما يروى عنه " صلى الله عليه وآله وسلم ": إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وسنتي. ولا تعارض بين الخبرين، غير أن الأول متواتر دون الثاني والأول مسند، والثاني مرسل نقله الإمام مالك في موطئه، وأين هو من حديث العترة الذي أطبق المحدثون على نقله. والتفصيل موكول إلى محله. 344 ب: نرى أن الرسول الأكرم يأمر الأمة بالصلاة على آل محمد في الفرائض والنوافل، والمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يذكرون العترة بعد النبي الأكرم في تشهدهم ويصلون عليهم مثل الصلاة عليه، والفقهاء وإن اختلفوا في صيغة التشهد ولكنهم لا يختلفون في لزوم الصلاة على النبي وآله وفيها يقول الإمام الشافعي: يا أهل بيت رسول الله حبكم * فرض من الله في القرآن أنزله كفاكم من عظيم الشأن أنكم * من لم يصل عليكم لا صلاة له فلو لم يكن للعترة شأن ومقام في مجال هداية الأمة ولزوم الاقتفاء بهم، فما معنى جعل الصلاة عليهم فريضة في التشهد وتكرارها في جميع الصلوات ليلا ونهارا، فريضة ونافلة؟ وهذا يعرب عن سر نقف عليه من خلال أمر النبي الأكرم " صلى الله عليه وآله وسلم " في هذا المجال، وهو أن لآل محمد شأنا خاصا في الأمور الدينية والقيادة الإسلامية أظهرها: أن أقوالهم وآراءهم حجة على المسلمين، وأن لهم المرجعية الكبرى بعد رحلة الرسول، سواء أكان في مجال العقيدة والشريعة أم في مجال آخر. ج: إن النبي الأكرم " صلى الله عليه وآله وسلم " شبه العترة الطاهرة بسفينة نوح، وأنه من ركبها نجا، وأن من تخلف عنها غرق (1). وهو يدل على حجية أقوالهم وأفعالهم. إلى غير ذلك من الوصايا الواردة في حق العترة التي نقلها أصحاب
1 - الحاكم: المستدرك: 2 / 151، السيوطي: الخصائص الكبرى: 2 / 266، ابن حجر: الصواعق: 191، الباب 12. 345 الصحاح والمسانيد ومن أراد فليرجع إلى مصادرها. فالمسلم المؤمن بصحة هذه الوصايا لا يشك في حجية أقوال العترة سواء أعلم مصدر علومهم أم لم يعلم. قال سبحانه: * (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) * (1). ومع ذلك كله نحن نشير إلى بعض مصادر علومهم حتى يتضح أن حجية أقوالهم لا تدل على أنهم أنبياء أو فوض إليهم أمر التشريع: 1 - السماع عن رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم ": إن الأئمة يروون أحاديث رسول الله سماعا منه " صلى الله عليه وآله وسلم "، إما بلا واسطة أو بواسطة آبائهم، ولأجل ذلك ترى في كثير من الروايات أن الإمام الصادق - عليه السلام - يقول: حدثني أبي، عن أبيه، عن زين العابدين، عن أبيه الحسين بن علي، عن علي أمير المؤمنين، عن الرسول الأكرم " صلى الله عليه وآله وسلم ". وهذا النمط في الروايات كثير في أحاديثهم وقد تضافر عن الإمام الصادق أنه كان يقول: " حديثي، حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي " ، فعن هذا الطريق تحملوا أحاديث كثيرة عن الرسول الأكرم وبلغوها، من دون أن يعتمدوا على الأحبار والرهبان، أو على أناس مجاهيل، أو شخصيات متسترة بالنفاق وهذا النوع من الأحاديث ليس بقليل.
1 - الأحزاب: الآية 36. 346 2 - كتاب علي - عليه السلام -: يرجع قسم آخر من أحاديثهم إلى ما أخذوه عن كتاب الإمام أمير المؤمنين بإملاء رسول الله وخط علي وقد أشار أصحاب الصحاح والمسانيد إلى بعض هذه الكتب (1). فقد كان لعلي كتاب خاص بإملاء رسول الله وقد حفظته العترة الطاهرة وصدرت عنه في مواضع كثيرة ونقلت نصوصه في موضوعات مختلفة، وقد بث الحر العاملي في موسوعته الحديثية، أحاديث ذلك الكتاب حسب الكتب الفقهية من الطهارة إلى الديات ومن أراد فليرجع إلى تلك الموسوعة. وقال الإمام الصادق - عليه السلام - عندما سئل عن الجامعة؟ فقال: " فيها كل ما يحتاج الناس إليه وليس من قضية إلا فيها حتى أرش الخدش ". وكان كتاب علي مصدرا لأحاديث العترة الطاهرة يرثونه واحدا بعد آخر وينقلون عنه ويستدلون به على السائلين. وهذا هو أبو جعفر الباقر - عليه السلام - يقول لأحد أصحابه - أعني حمران بن أعين - وهو يشير إلى بيت كبير: يا حمران إن في هذا البيت صحيفة طولها سبعون ذراعا بخط علي - عليه السلام - وإملاء رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " لو ولينا الناس لحكمنا بما أنزل الله لم نعد ما في هذه الصحيفة. وهذا هو الإمام الصادق - عليه السلام - يعرف كتاب علي - عليه السلام -
1 - الإمام أحمد: المسند: 1 / 81، صحيح مسلم: 4 / 217، البيهقي: السنن الكبرى: 8 / 26 نقلا عن الإمام الشافعي. 347 بقوله: فهو كتاب طوله سبعون ذراعا إملاء رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " من فلق فيه وخط علي بن أبي طالب - عليه السلام - بيده، فيه والله جميع ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة حتى أن فيه أرش الخدش والجلدة ونصف الجلدة. ويقول سليمان بن خالد: سمعت أبا عبد الله يقول: " إن عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعا إملاء رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " وخط علي - عليه السلام - بيده، ما من حلال ولا حرام إلا وهو فيها حتى أرش الخدش. ويقول أبو جعفر الباقر - عليه السلام - لبعض أصحابه: " يا جابر إنا لو كنا نحدثكم برأينا وهوانا لكنا من الهالكين، ولكنا نحدثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " " (1). 3 - الاستنباط من الكتاب والسنة: المصدر الثالث لأقوالهم، هو إمعانهم في الكتاب والسنة وتدبرهم فيهما، فاستخرجوا من المصدرين الرئيسيين ما يخص العقيدة والشريعة بصورة يقصر عنها أكثر الأفهام، وهذا هو الذي جعلهم متميزين بين المسلمين بالوعي والدقة والفهم، وخضع لهم أئمة الفقه في مواقف شتى حتى قال الإمام أبو حنيفة بعد تتلمذه على الإمام الصادق " سنتين ": لولا السنتان لهلك النعمان. ولأجل ذلك كانوا يستدلون على كثير من الأحكام عن طريق الكتاب والسنة ويقولون: " ما من شئ
1 - وقد جمع العلامة المجلسي ما ورد من الأثر حول كتب الإمام علي في موسوعته " بحار الأنوار ": 26 / 18 - 66 تحت عنوان " باب جهات علومهم وما عندهم من الكتب " فلاحظ الباب، الحديث 12، 1، 10، 30. 348 إلا وله أصل في كتاب الله وسنة نبيه ". أخرج الكليني بإسناده عن عمر بن قيس عن أبي جعفر - عليه السلام - قال: سمعته يقول: " إن الله تبارك وتعالى لم يدع شيئا تحتاج إليه الأمة إلا أنزله في كتابه وبينه لرسوله وجعل لكل شئ حدا. وجعل عليه دليلا يدل عليه، وجعل على من تعدى ذلك الحد حدا ". أخرج الكليني بإسناده عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: سمعته يقول: " ما من شئ إلا وفيه كتاب أو سنة ". وأخرج عن سماعة عن أبي الحسن موسى - عليه السلام - قال: قلت له: أكل شئ في كتاب الله وسنة نبيه أو تقولون فيه؟ قال: " بل كل شئ في كتاب الله وسنة نبيه " (1). ومن وقف على الأحاديث المروية عنهم يقف على أنهم كيف يستدلون على الأحكام الإلهية عن المصدرين بفهم خاص ووعي متميز يبهر العقول، ويورث الحيرة. ولولا الخوف من الإطالة لنقلت في المقام نماذج من ذلك ونكتفي ببيان موردين: 1 - قدم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة مسلمة فأراد أن يقيم عليه الحد، فأسلم، فقال يحيى بن أكثم: الإيمان يمحو ما قبله، وقال بعضهم: يضرب ثلاثة حدود، فكتب المتوكل إلى الإمام الهادي يسأله، فلما قرأ الكتاب، كتب: يضرب حتى يموت، فأنكر الفقهاء ذلك، فكتب إليه يسأله عن العلة، فكتب: بسم
1 - راجع الكافي " باب الرد إلى الكتاب والسنة ": 1 / 59 - 62 تجد فيه أحاديث تصرح بما ذكر، والمراد منها أصول الأحكام وجذورها لا فروعها وجزئياتها. 349 الله الرحمن الرحيم * (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين * فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون) * (1) فأمر به المتوكل فضرب حتى م (2) ات. إن الإمام الهادي ببيانه هذا شق طريقا خاصا لاستنباط الأحكام من الذكر الحكيم، طريقا لم يكن يحلم به فقهاء عصره، وكانوا يزعمون أن مصادر الأحكام الشرعية هي الآيات الواضحة في مجال الفقه التي لا تتجاوز ثلاثمائة آية، وبذلك أبان للقرآن وجها خاصا لدلالته، لا يلتفت إليه إلا من نزل القرآن في بيته، وليس هذا الحديث غريبا في مورده، بل له نظائر في كلمات الإمام وغيره من آبائه وأبنائه - عليهم السلام -. 2 - لما سم المتوكل نذر لله: إن رزقه الله العافية أن يتصدق بمال كثير، أو بدراهم كثيرة. فلما عوفي اختلف الفقهاء في مفهوم " المال الكثير " فلم يجد المتوكل عندهم فرجا، فبعث إلى الإمام علي الهادي فسأله؟ قال: يتصدق بثلاثة وثمانين دينارا، فقال المتوكل: من أين لك هذا؟ فقال: من قوله تعالى: * (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة...) * (3). والمواطن الكثيرة: هي هذه الجملة، وذلك لأن النبي " صلى الله عليه وآله وسلم " غزا سبعا وعشرين غزوة، وبعث خمسا وخمسين سرية، وآخر غزواته يوم حنين، وعجب المتوكل والفقهاء من هذا الجواب (4).
1 - غافر: الآية 84 - 85. 2 - ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب: 4 / 405. 3 - التوبة: الآية 25. 4 - ابن الجوزي: تذكرة الخواص: 202. 350 وقد ورد عن طريق آخر أنه قال " بثمانين " مكان " ثلاثة وثمانين " وذلك لأن عدد المواطن التي نصر الله المسلمين فيها إلى يوم نزول هذه الآية كان أقل من ثلاثة وثمانين (1). 4 - الإشراقات الإلهية: إن هناك مصدرا رابعا لأحاديثهم نعبر عنه بالإشراقات الإلهية، وأي وازع من أن يخص سبحانه بعض عباده بعلوم خاصة يرجع نفعها إلى العامة من دون أن يكونوا أنبياء، أو معدودين من المرسلين، والله سبحانه يصف مصاحب موسى بقوله: * (فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما) * ولم يكن المصاحب نبيا بل كان وليا من أولياء الله سبحانه وتعالى بلغ في العلم والمعرفة مكانا حتى قال له موسى - وهو نبي مبعوث بشريعة -: * (هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا) * (2). يصف سبحانه وتعالى جليس سليمان - الذي نسميه آصف بن برخيا - بقوله: * (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي) * (3). وهذا الجليس لم يكن نبيا، ولكن كان عنده علم من الكتاب، وهو لم يحصله من الطرق العادية التي يتدرج عليها الصبيان والشبان في المدارس
1 - ابن شهرآشوب: مناقب آل أبي طالب: 4 / 402. 2 - الكهف: الآية 66. 3 - النمل: الآية 40. 351 والجامعات، بل كان علما إلهيا أفيض إليه لصفاء قلبه وروحه ولأجل ذلك ينسب علمه إلى فضل ربه ويقول: * (هذا من فضل ربي) *. تضافرت الروايات على أن في الأمة الإسلامية - مثل الأمم السابقة - رجالا مخلصين محدثين تفاض عليهم حقائق من عالم الغيب من دون أن يكونوا أنبياء، وإن كنت في شك من ذلك فارجع إلى ما رواه أهل السنة في هذا الموضوع. روى البخاري في صحيحه: لقد كان في من كان قبلكم من بني إسرائيل يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء، فإن يكن من أمتي منهم أحد فعمر (1). قال القسطلاني ليس قوله: " فإن يكن " للترديد بل للتأكيد كقولك: إن يكن لي صديق ففلان، إذ المراد اختصاصه بكمال الصداقة لا نفي الأصدقاء. وإذا ثبت أن هذا وجد في غير هذه الأمة المفضولة فوجوده في هذه الأمة الفاضلة أحرى (2). وأخرج البخاري في صحيحه بعد حديث الغار: عن أبي هريرة مرفوعا: أنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون إن كان في أمتي هذه منهم فإنه عمر ابن الخطاب (3). قال القسطلاني في شرحه: قال المؤلف: يجري على ألسنتهم الصواب من غير نبوة (4).
1 - البخاري: الصحيح: 2 / 149. 2 - القسطلاني: إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري: 6 / 99. 3 - البخاري: الصحيح: 2 / 171. 4 - القسطلاني: إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري: 5 / 431. 352 وقال الخطابي: يلقى الشئ في روعه، فكأنه قد حدث به يظن فيصيب، ويخطر الشئ بباله فيكون، وهي منزلة رفيعة من منازل الأولياء. وأخرج مسلم في صحيحه في باب فضائل عمر عن عائشة عن النبي " صلى الله عليه وآله وسلم ": قد كان في الأمم قبلكم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم. ورواه ابن الجوزي في صفة الصفوة وقال: حديث متفق عليه (1). وأخرجه أبو جعفر الطحاوي في " مشكل الآثار " بطرق شتى عن عائشة وأبي هريرة، وأخرج قراءة ابن عباس: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث. قال: معنى قوله محدثون أي ملهمون، فكان عمر - رضي الله عنه - ينطق بما كان ينطق ملهما (2). قال النووي في شرح صحيح مسلم: اختلف تفسير العلماء للمراد بمحدثون فقال ابن وهب: ملهمون، وقيل: مصيبون إذا ظنوا فكأنهم حدثوا بشئ فظنوه. وقيل: تكلمهم الملائكة، وجاء في رواية: مكلمون. وقال البخاري: يجري الصواب على ألسنتهم وفيه إثبات كرامات الأولياء. وقال الحافظ محب الدين الطبري في " الرياض ": ومعنى " محدثون - والله أعلم - أي يلهمون الصواب، ويجوز أن يحمل على ظاهره وتحدثهم الملائكة لا بوحي وإنما بما يطلق عليه اسم حديث، وتلك فضيلة عظيمة " (3).
1 - ابن الجوزي: صفة الصفوة: 1 / 104. 2 - مشكل الآثار: 2 / 257. 3 - الطبري: الرياض: 1 / 199. 353 قال القرطبي: محدثون - بفتح الدال - اسم مفعول جمع محدث - بالفتح - أي ملهم أو صادق الظن، وهو من ألقي في نفسه شئ على وجه الإلهام والمكاشفة من الملأ الأعلى، أو من يجري الصواب على لسانه بلا قصد، أو تكلمه الملائكة بلا نبوة، أو من إذا رأى رأيا أو ظن ظنا أجاب كأنه حدث به، وألقي في روعه من عالم الملكوت فيظهر على نحو ما وقع له، وهذه كرامة يكرم الله بها من شاء من عباده، وهذه منزلة جليلة من منازل الأولياء. فإن يكن من أمتي منهم أحد فإنه عمر، كأنه جعله في انقطاع قرينة في ذلك كأنه نبي، فلذلك أتى بلفظ " إن " بصورة التردد. قال القاضي: ونظير هذا التعليق في الدلالة على التأكيد والاختصاص قولك: إن كان لي صديق فهو زيد، فإن قائله لا يريد به الشك في صداقته بل المبالغة في أن الصداقة مختصة به لا تتخطاه إلى غيره (1). فإذا كان في الأمم السالفة رجال بهذا القدر والشأن فلم إذا لا يكون بين الأمة الإسلامية رجال شملتهم العناية الإلهية فأحاطوا بالكتاب والسنة إحاطة كاملة يرفعون حاجات الأمة في مجال العقيدة والتشريع. فمن زعم أن مثل هذه الإفاضة تساوق النبوة والرسالة، فقد خلط الأعم بالأخص فالنبوة منصب إلهي يقع طرفا للوحي يسمع كلام الله تعالى ويرى رسول الوحي، ويكون إما صاحب شريعة مستقلة أو مروجا لشريعة من قبله. وأما الإمام: وهو الخازن لعلوم النبوة في كل ما تحتاج إليه الأمة من دون أن يكون طرفا للوحي أو سامعا كلامه سبحانه أو رائيا للملك الحامل له. ولإحاطته
1 - لاحظ للوقوف على سائر الكلمات حول المحدث، كتاب الغدير: 5 / 42 - 49. 354 بعلوم النبوة طرقا أشرنا إليها. ومن التصور الخاطئ: الحكم بأن كل من ألهم من الله سبحانه أو كلمه الملك فهو نبي ورسول، مع أن الذكر الحكيم يعرف أناسا، ألهموا أو رأوا الملك ولم يكونوا بالنسبة إلى النبوة في حل ولا مرتحل. هذه أم موسى يقول في حقها سبحانه: * (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين) * (1). أفصارت أم موسى بهذا الإلهام نبية من الأنبياء؟ وهذه مريم البتول، تكلمها الملائكة من دون أن تكون نبية قال سبحانه: * (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين * يا مريم اقنتي لربك...) * (2). بلغت مريم العذراء مكانا شاهدت رسول ربها المتمثل لها بصورة البشر قال سبحانه: * (فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا * قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا * قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا * قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا * قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا) * (3). نرى أن مريم البتول رأت الملك وسمعت كلامه ولم تصبح نبية ولا رسولة،
1 - القصص: الآية 7. 2 - آل عمران: الآية 42 - 43. 3 - مريم: الآية 17 - 21. 355 فمن تدبر في الكتاب والسنة يقف على أبدال شملتهم العناية الإلهية وقفوا على أسرار الشريعة ومكامن الدين بفضل من الله سبحانه من دون أن يصيروا أنبياء. الثاني: عصمة الأئمة الاثني عشر: إن القول بعصمة الأئمة الاثني عشر وقعت ذريعة لتخيل أنهم أنبياء، زاعمين بأن العصمة تساوي النبوة، غافلين عن أنها أعم من النبوة وإليك البيان: العصمة: قوة تمنع صاحبها من الوقوع في المعصية والخطأ، حيث لا يترك واجبا، ولا يفعل محرما مع قدرته على الترك والفعل، وإلا لم يستحق مدحا ولا ثوابا، وإن شئت قلت: إن المعصوم قد بلغ في التقوى حدا لا تتغلب عليه الشهوات والأهواء، وبلغ من العلم في الشريعة وأحكامها مرتبة لا يخطأ معها أبدا. وليست العصمة شيئا ابتدعته الشيعة وإنما دلهم عليها في حق العترة الطاهرة كتاب الله وسنة رسوله، أما الكتاب: فقد قال سبحانه: * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) * (الأحزاب / 33) وليس المراد من الرجس إلا الرجس المعنوي وأظهره الفسق. وأما السنة فنذكر بعضها: 1 - قال الرسول " صلى الله عليه وآله وسلم ": " علي مع الحق والحق مع
356 علي يدور معه كيفما دار " (1) ومن دار معه الحق كيفما دار محال أن يعصي أو أن يخطئ. 2 - وقال الرسول " صلى الله عليه وآله وسلم " في حق العترة: " إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا " (2) فإذا كانت العترة عدل القرآن، تصبح معصومة كالكتاب، لا يخلف أحدهما الآخر وليس القول بعصمة العترة بأعظم من القول بكون الصحابة كلهم عدول. ولا أظن أن يرتاب فيما ذكرنا أحد، إلا أن اللازم التعرف على أهل بيته عن طريق نصوص الرسول الأكرم فنقول: من هم العترة وأهل البيت؟ لا أظن أن أحدا، قرأ الحديث والتاريخ، يشك في أن المراد من العترة وأهل البيت لفيف خاص من أهل بيته، ويكفي في ذلك مراجعة الأحاديث التي جمعها ابن الأثير في جامعه عن الصحاح، ونكتفي بالقليل من الكثير منها. روى الترمذي عن سعد بن أبي وقاص قال: لما نزلت هذه الآية: * (فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم...) * الآية، دعا رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " عليا، وفاطمة، وحسنا، وحسينا، فقال: " اللهم هؤلاء أهلي ". وروى أيضا عن أم سلمة - رضي الله عنها -: أن هذه الآية نزلت في بيتي: * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) *. قالت: وأنا جالسة عند الباب، فقلت: يا رسول الله، ألست من أهل البيت؟ فقال: إنك إلى خير، أنت من أزواج رسول الله. قال: وفي البيت رسول الله، وعلي،
1 - حديث مستفيض، رواه الخطيب في تاريخه: 14 / 321، والهيثمي في مجمعه: 7 / 236. 2 - حديث متواتر أخرجه مسلم في صحيحه والدارمي في فضائل القرآن وأحمد في مسنده: 2 / 114 وغيرهم. 357 وفاطمة، وحسن، وحسين، فجللهم بكسائه وقال: " اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ". وروى أيضا عن أنس بن مالك: أن رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " كان يمر بباب فاطمة إذا خرج إلى الصلاة حين نزلت هذه الآية قريبا من ستة أشهر، يقول: " الصلاة أهل البيت ": * (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) *. وروى مسلم عن زيد بن أرقم قال: قال يزيد بن حيان: انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن مسلم، إلى زيد بن أرقم، فلما جلسنا إليه قال له حصين: لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا، رأيت رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم "، وسمعت حديثه، وغزوت معه، وصليت خلفه، لقد لقيت يا زيد خيرا كثيرا، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم "؟ قال: يا ابن أخي والله، لقد كبر سني، وقدم عهدي، فما حدثتكم فاقبلوا وما لا فلا تكلفونيه. ثم قال: قام رسول الله " صلى الله عليه وآله وسلم " يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما، بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر ثم قال: " أما بعد، ألا أيها الناس، إنما أنا بشر، يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين، أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به - فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: - وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي ". فقلنا: من أهل بيته؟ نساؤه؟ قال: وأيم الله، إن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر، ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته الذين
358 حرموا الصدقة بعده (1). 3 - روى المحدثون عن النبي الأكرم أنه قال: " إنما مثل أهل بيتي في أمتي، كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق " (2). فشبه - صلوات الله عليه وآله - أهل بيته بسفينة نوح في أن من لجأ إليهم في الدين فأخذ أصوله وفروعه منهم نجا من عذاب النار، ومن تخلف عنهم كان كمن آوى يوم الطوفان إلى جبل ليعصمه من أمر الله غير أن ذاك غرق في الماء وهذا في الحميم. فإذا كانت هذه منزلة علماء أهل البيت * (فأنى تصرفون) *؟ يقول ابن حجر في صواعقه: " ووجه تشبيههم بالسفينة: أن من أحبهم وعظمهم، شكرا لنعمة مشرفهم وأخذا بهدي علمائهم، نجا من ظلمة المخالفات. ومن تخلف عن ذلك، غرق في بحر كفر النعم، وهلك في مفاوز الطغيان " (3).
1 - لاحظ فيما نقلناه من الأحاديث، جامع الأصول: 1 / 100 - 103 الفصل الثالث، من الباب الرابع. 2 - الحاكم: المستدرك: ج 2 / 151، السيوطي: الخصائص الكبرى: 2 / 266 وللحديث طرق ومسانيد كثيرة من أراد الوقوف عليها، فعليه بتعاليق إحقاق الحق: 9 / 270 - 293. 3 - الصواعق: 191 الباب 11. يقول سيدنا شرف الدين في مراجعاته: إلا أني مسائل ابن حجر أنه إذا كان هذا مقام أهل البيت، فلماذا لم يأخذ هو بهدي أئمتهم في شئ من فروع الدين وعقائده، ولا في شئ من علوم السنة والكتاب ولا في شئ من الأخلاق والسلوك والآداب؟ ولماذا تخلف عنهم، فأغرق نفسه في بحار كفر النعم، وأهلكها في مفاوز الطغيان؟!. 359 عصمة الإمام في الكتاب: ومما يدل على عصمة الإمام على وجه الاطلاق قوله سبحانه: * (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) * (النساء / 59). والاستدلال مبني على دعامتين: 1 - إن الله سبحانه أمر بطاعة أولي الأمر على وجه الاطلاق، أي في جميع الأزمنة والأمكنة وفي جميع الحالات والخصوصيات، ولم يقيد وجوب امتثال أوامرهم ونواهيهم بشئ كما هو مقتضى الآية. 2 - إن من البديهي أنه سبحانه لا يرضى لعباده الكفر والعصيان * (ولا يرضى لعباده الكفر) * (الزمر / 7). من غير فرق بين أن يقوم به العباد ابتداء من دون تدخل أمر آمر أو نهي ناه، أو يقومون به بعد صدور أمر ونهي من أولي الأمر. فمقتضى الجمع بين هذين الأمرين: وجوب إطاعة أولي الأمر على وجه الاطلاق وحرمة طاعتهم إذا أمروا بالعصيان، وأن يتصف أولو الأمر الذين وجبت إطاعتهم على وجه الاطلاق، بخصوصية ذاتية وعناية إلهية ربانية، تصدهم عن الأمر بالمعصية والنهي عن الطاعة. وليس هذا إلا عبارة أخرى عن كونهم معصومين، وإلا فلو كانوا غير واقعين تحت العناية، لما صح الأمر بإطاعتهم على وجه الاطلاق ولما صح الأمر بالطاعة بلا قيد وشرط. فيستكشف من إطلاق الأمر بالطاعة اشتمال المتعلق على خصوصية تصده عن الأمر بغير الطاعة. هذه الآية تدل على عصمة من أمر الله بطاعتهم ولا تحدد مصداق المعصوم الواجب طاعته. ولكن اتفقت الأمة على عدم عصمة غير النبي والأئمة الاثني عشر، فلا محيص عن انطباقه عليهم لئلا تخلو الآية عن المصداق.
360 وممن صرح بدلالة الآية على العصمة الإمام الرازي في تفسيره ويطيب لي أن أذكر نصه حتى يمعن فيه من يعشق الحقيقة قال: " إن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع، لا بد وأن يكون معصوما عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته، فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه خطأ منهي عنه، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، وأنه محال فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم وثبت أن كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوما عن الخطأ، فثبت قطعا أن أولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بد وأن يكون معصوما " (1). تم بيد مؤلفه الفقير إلى رحمة الله جعفر السبحاني ابن الفقيه الشيخ محمد حسين التبريزي - قدس الله سره - نحمده سبحانه ونشكره وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين