بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: البدعة ، مفهومها ، حدها ، آثارها المؤلف: الشيخ جعفر السبحاني الجزء: الوفاة: معاصر المجموعة: من مصادر العقائد عند الشيعة الإمامية تحقيق: الطبعة: سنة الطبع: 1416 المطبعة: اعتماد - قم الناشر: مؤسسة الإمام الصادق (ع) ردمك: ملاحظات: توزيع : مكتبة التوحيد - قم - ايران البدعة مفهومها، حدها وآثارها تأليف العلامة الفقيه جعفر السبحاني - دام ظله -
1 اسم الكتاب: البدعة مفهومها، حدها وآثارها المؤلف: جعفر السبحاني المطبعة: اعتماد قم التاريخ: 1416 ه الناشر: مؤسسة الإمام الصادق (ع). قم
2 البدعة مفهومها، حدها وآثارها
3 بسم الله الرحمن الرحيم المقدمة: البدعة وآثارها الموبقة والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد رسله، وخاتم أنبيائه وآله ومن سار على خطاهم وتبعهم بإحسان إلى يوم الدين. البدعة في الدين من كبائر المعاصي وعظائم المحرمات، دل على حرمتها الكتاب والسنة، وقد أوعد صاحبها النار على لسان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما هذا إلا لأن المبتدع ينازع سلطان الله تبارك وتعالى في التشريع والتقنين، ويتدخل في دينه ويشرع ما لم يشرعه الدين، فيزيد عليه شيئا وينقص منه شيئا في مجالي العقيدة والشريعة، كل ذلك افتراء على الله. بعث النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) بحبل الله المتين وأمر المسلمين الاعتصام به ونهى عن التفرق وقال: * (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا) * (آل عمران / 103).
5 ولكن المبتدع يستهدف حبل الله المتين ليوهنه ويخرجه من متانته بما يزيد عليه أو ينقص منه، وبالتالي يجعل من الأمة الواحدة أمما شتى، يبغض بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا، فيحولون إلى شيع وطوائف متفرقين، فرائس للشيطان وأذنابه، وعلى شفا حفرة من النار، على خلاف ما كانوا عليه في عصر الرسالة. إن المسلمين بعد رحيل الرسول تفرقوا إلى أمم ومذاهب مختلفة ولم يكن ذلك إلا إثر تلاعب المبتدعين في الدين والشريعة بإدخال ما ليس من الدين في الدين وكان عملهم تحويرا لصميم العقيدة الإسلامية وشريعتها. فلولا البدعة والمبتدعون وانتحال المبطلين، لكانت الأمة الإسلامية أمة واحدة، لها سيادتها على جميع الأمم والشعوب في المعمورة. وما أثنى ظهورهم إلا دبيب المبتدع بينهم، فشتتهم وفرقهم بعد ما كانوا صامدين كالجبل الأشم. إن الحروب الدموية التي خاضها المسلمون في عصر الخلافة وبعدها وخضبت الأرض بالدماء الطاهرة وسل المسلمون سيوفهم في وجه بعضهم، مكان سلها في وجه الأعداء فسقط منهم آلاف القتلى والجرحى على الأرض كانت نتيجة البدع في الدين النابعة عن الأهواء والميول النفسانية فكانوا يحاربون باسم الدين. ولم يكن الدين إلا في جانب واحد، لا في جوانب متكثرة. إن صراط النجاة في الإسلام هو صراط واحد مستقيم دعا إليه المؤمنين عامة وقال: * (وأن هذا صراطي مستقيا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) * (الأنعام - 153) ويأمر المسلمين أن يدعوا الله سبحانه، أن يديمهم على هذا الصراط كي لا ينحرفوا يمينا وشمالا كما يقول سبحانه تعليما لعباده: * (اهدنا الصراط المستقيم) * ولكن المبتدع يسوق بالناس إلى سبل منحرفة لا تنتهي إلى السعادة التي أراد الله سبحانه لعباده.
6 إن حق التشريع والتقنين لله تبارك وتعالى وقد استأثر به وقال: * (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه) * (يوسف - 40) والمراد من الحكم هو التشريع بقرينة قوله: * (أمر ألا تعبدوا إلا إياه) * فالبدعة هو تشريك الناس في ذلك الحق المستأثر، ودفع زمام الدين إلى أصحاب الأهواء كي يتلاعبوا في الشريعة كيفما شاءوا، وكيفما اقتضت مصلحتهم ومصلحة أسيادهم وأربابهم، فذلك الحق المستأثر يقتضي ألا يتدخل أحد في سلطان الله وحظيرته، قال سبحانه: * (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا) * (الأحزاب - 26). إن المبتدع يتصرف في التشريع الإسلامي فيجعل منه حلالا وحراما بدون إذن منه سبحانه وفي ذلك يقول سبحانه: * (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل أالله أذن لكم أم على الله تفترون) * (يونس - 59) الآية واردة في عمل المشركين، حيث جعلوا ما أنزل الله لهم من الرزق بعضه حراما وبعضه حلالا فحرموا السائبة والبحيرة والوصيلة ونحوها فرد عليهم سبحانه وقال: * (أالله أذن لكم أم على الله تفترون) * أي أنه لم يأذن لكم في شئ من ذلك، بل أنتم تكذبون على الله، ثم يهددهم بالعذاب فيقول: * (وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون) * (يونس - 60) ويؤكد عليه في آية أخرى ويقول سبحانه: * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون) * (النحل - 116). إن أصحاب الأهواء في كل زمان حتى في عصر الرسالة كانوا يقترحون على النبي الأكرم أن يغير دينه ويأتي بقرآن غير هذا، حتى يكون مطابقا لما تستهويه
7 أنفسهم، فأمر الله سبحانه أن يرد اقتراحهم بقوله: * (قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) * (يونس - 15). كان في عصر الرسالة من كان يتقدم على الله ورسوله لا مشيا وإنما تقديما لفكرته على الوحي فنزل الوحي منددا لهم وقال: * (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم) * (الحجرات - 1). إن الكذب من المحرمات الموبقة التي أوعد الله عليها النار، والبدعة من أفحش الكذب، لأنها افتراء على الله ورسوله، قال سبحانه: * (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون) * (الأنعام - 21) فالمبتدع يظهر بزي المحق عند المسلمين فيفتري على الله تعالى دون أن يكشفه الناس فيضلهم عن الصراط المستقيم. إن لله في كل واقعة حكما إلهيا لا يتبدل ولا يتغير إلى يوم القيامة، فإذا حكم الحاكم وفق ذلك الحكم فهو حاكم عادل معتمد على منصة الحق، إلا أن المبتدع يحكم على خلاف ذلك الحق فيصفه سبحانه بكونه كافرا وظالما وفاسقا، قال سبحانه: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) * وقال عز من قائل: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) * وقال تعالى: * (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) * (المائدة - 44، 45، 47). فما حال إنسان يحكم عليه القرآن بالكفر تارة، والظلم ثانيا والفسق ثالثا؟ فهل ترجى له النجاة بعد أن أضل كثيرا من الناس وشق صفوف المسلمين وجعل السبيل الواحد سبلا كثيرة تضلهم إلى مهاوي الهالكين. ولعل هذا المقدار من التقديم يكفي في تبين موضع البدعة وموقف المبتدع عند الله سبحانه، ولأجل ذلك نرى أن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) شدد على البدعة، وندد
8 بالمبتدع بأفصح العبارات وأبلغها وسيوافيك لفيف من الروايات. ولقد قام العلماء القدامى والجدد بتأليف كتب ورسائل حول البدعة نذكر البعض منها: 1 - البدع والنهي عنها. لابن وضاح القرطبي. 2 - الحوادث والبدع. للطرطوشي. 3 - الباعث. لأبي شامة. 4 - الإعتصام. لأبي إسحاق الشاطبي الغرناطي في جزأين وقد أسهب الكلام فيها. 5 - البدعة أنواعها وأحكامها. لصالح بن فوزان بن عبد الله فوزان - طبع الرياض. 6 - البدعة تحديدها وموقف الإسلام منها. تأليف الدكتور عزت علي عطية - نشر دار الكتاب العربي. 7 - البدعة في مفهومها الإسلامي الدقيق. تأليف الدكتور عبد الملك السعدي - طبع بغداد. 8 - البدع. تأليف أبي الحسين محمد بن بحر الرهني الشيباني، ذكرها أبو العباس النجاشي (352 - 450 ه) في رجاله (1). 9 - البدع المحدثة. للشريف أبو القاسم الكوفي المتوفى بفسا سنة 352 ه وطبع باسم الاستغاثة، في النجف الأشرف. 10 - البدعة. تأليف الدكتور الشيخ جعفر الباقري. وهي دراسة موضوعية لمفهوم البدعة وتطبيقاتها على ضوء منهج أهل البيت وقد قرأنا خلاصة الكتاب وهو على وشك الصدور قريبا.
(1) النجاشي: الرجال: رقم الترجمة 1044. 9 مع الاحترام والتكريم لجهودهم إلا أن غالب هؤلاء الكتاب نظروا إلى المسألة على أساس إمام مذهبهم فالأول والثاني من هذه الكتب اعتمدا على رأي الإمام مالك - رضي الله عنه - كما أن الكتاب الخامس اتخذ من مذهب ابن تيمية مقياسا في حكمه، فخرج بنفس النتيجة التي خرج بها إمام مذهبه. وأما الإمام الشاطبي فقد أطنب وأسهب كثيرا في تأليفه ولم يركز على نفس البدعة تحديدا ومصداقا. ودراسة البدعة تتوقف على دراسة منهجية غير منحازة لمذهب خاص، وهذا يتوقف على الاجتهاد الحر من دون أن يتخذ رأي إمام محورا ورأي إمام آخر مسندا بل ينظر إلى الكتاب والسنة وسيرة المسلمين نظرة عامة شمولية فاحصة. نعم لا تفوتنا الإشارة إلى الميزة الموجودة فيما كتبه الدكتور السعدي فقد أفاض الكلام في الجزئيات التي ربما وصفت بالبدعة وأثبت بدليل قاطع كونها غير بدعة، كما لا تفوتنا الإشارة بمنهجية البحث في كتاب الدكتور عزت علي عطية وقد نال به درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى، ولكنه في بعض المواضيع افتقد الشجاعة الأدبية ولم يتجرأ على تجاوز السدود التي فرضتها عليه البيئة، فترى أنه يتوقف في التوسل بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أنه قد تضافرت الروايات على جوازه. وللجميع منا الشكر الجزيل، ولكن الحقيقة بنت البحث فلا عتب علينا إذا ناقشنا بعض آرائهم نتيجة الاجتهاد الحر، رزقنا الله توحيد الكلمة كما رزقنا كلمة التوحيد. 10 رمضان المبارك عام 1415 ه جعفر السبحاني
10 ألقينا الضوء على موضوع البدعة ودرسناه بما يغني معرفة جميع جوانبه وطرحناه هنا في الفصول التالية: الفصل الأول: نصوص البدعة في الكتاب والسنة. الفصل الثاني: البدعة في اللغة والاصطلاح. الفصل الثالث: تحديد مفهوم البدعة ومقوماتها. الفصل الرابع: الابتداع في تفسير البدعة. الفصل الخامس: البدعة وأسباب نشوئها. الفصل السادس: تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة. الفصل السابع: تقسيم البدعة إلى عادية وشرعية. الفصل الثامن: تقسيم البدعة إلى حقيقية وإضافية. الفصل التاسع: لا بدعة في ما فيه الدليل نصا أو إطلاقا. الفصل العاشر: الخطوط العامة لحصانة الدين من الابتداع. الفصل الحادي عشر: كيفية التوصل إلى مكافحة البدع والقضاء عليها. الفصل الثاني عشر: مسائل عشر على طاولة التطبيق.
11 الفصل الأول نصوص البدعة في الكتاب والسنة لقد اتفقت الأدلة الشرعية على حرمة البدعة، وقد ذكرنا قسما وافرا من الآيات الكريمة في مقدمتنا التي تعرفت عليها ولا لزام لتكرارها، ونذكر هنا ما لم يرد هناك: البدعة في الكتاب: 1 - قال سبحانه: * (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها) * (الحديد - 27)، فالآية تعبر عن الرهبانية بأنها كانت من مبتدعات الرهبان ولم تكن مفروضة عليهم من قبل، وإنما تكلفوها من عند أنفسهم وسيوافيك تفسير الاستثناء في مبحث تحديد البدعة. 2 - قال سبحانه: * (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شئ إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) * (الأنعام - 159) وقد
13 فسرت الآية بأهل الضلالة وأصحاب الشبهات والبدع من هذه الأمة، قال الطبرسي: ورواه أبو هريرة وعائشة مرفوعا وهو المروي عن الباقر (عليه السلام) فجعلوا دين الله أديانا لإكفار بعضهم بعضا وصاروا أحزابا وفرقا ويخاطب سبحانه نبيه بقوله: * (لست منهم في شئ) * وإنه على المباعدة التامة من أن يجتمع معهم في معنى من مذاهبهم الفاسدة، وليس كذلك بعضهم مع بعض لأنهم يجتمعون في معنى من معانيهم الباطلة، وإن افترقوا في شئ فليس منهم في شئ لأنه برئ من جميعهم (1). 3 - قال سبحانه: * (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض) * (الأنعام - 65) والآية بعموم لفظها تبين أنواع النذر التي أنذر الله بها عباده، تبدأ من بعث العذاب من فوق، إلى بعثه من تحت الأرجل وتنتهي بتمزيق الجماعة إلى شيع، فتفرق الأمة إلى فرق وشيع يعادل إنزال العذاب عليها من كل جهاتها. قال الحسن البصري: التهديد بإنزال العذاب والخسف يتناول الكفار وقوله: * (أو يلبسكم شيعا) * يتناول أهل الصلاة (2). وقال مجاهد وأبو العالية: إن الآية لأمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أربع، ظهر اثنتان بعد وفاة رسول الله فألبسوا شيعا وأذيق بعضكم بأس بعض وبقيت اثنتان (3). 4 - قال سبحانه: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) * (التوبة - 31).
(1) الطبرسي: مجمع البيان: 2 / 389. (2) المصدر نفسه: 315. (3) الشاطبي (أبو إسحاق): الإعتصام: 2 / 61. 14 يظهر مما رواه الطبري وغيره أنهم كانوا مشركين في مسألة التقنين، روي عن الضحاك: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم) * أي قراءهم وعلماءهم * (أربابا من دون الله) * يعني سادة لهم من دون الله، يطيعونهم في معاصي الله فيحلون ما أحلوه لهم مما قد حرمه الله عليهم، ويحرمون ما يحرمونه عليهم مما قد أحله الله لهم. وروي أيضا عن عدي بن حاتم قال: انتهيت إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يقرأ في سورة براءة: * (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) * قال: قلت: يا رسول الله إنا لسنا نعبدهم، فقال: " أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ " قال: قلت: بلى، قال: " فتلك عبادتهم " (1). * * * البدعة في السنة: لقد تعرفت في التقديم وبعده على مجموعة من الآيات الواردة في البدعة وموبقاتها، وإليك ما ورد في السنة النبوية من نصوص وما رواه أئمة أهل البيت عن جدهم، ونقتصر على قليل من كثير منها إذ يتعذر علينا نقلها جميعا. روى الفريقان حول البدعة والتشديد عليها روايات كثيرة نقتبس منها ما يلي: 1 - روى الإمام أحمد عن جابر قال: " خطبنا رسول الله فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهل له ثم قال: أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وإن أفضل الهدى هدى محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة " (2).
(1) الطبري: التفسير: 10 / 80 - 81. (2) الإمام أحمد: المسند: 3 / 310، طبع بيروت، دار الفكر. 15 2 - روى أيضا عن جابر قال: " كان رسول الله يقوم فيخطب فيحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ويقول: من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، إن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة " (1). 3 - روى أيضا عن عرباض بن سارية قال: " صلى بنا رسول الله الفجر ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بينة، قال: أوصيكم بتقوى الله... وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " (2). 4 - روى ابن ماجة عن جابر بن عبد الله: " كان رسول الله إذا خطب احمرت عيناه ثم يقول: أما بعد فإن خير الأمور كتاب الله وخير الهدى هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة " (3). 5 - روى مسلم في صحيحه: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا خطب: احمرت عيناه وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول: صبحكم ومساكم، ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين إصبعيه: السبابة والوسطى، ويقول: أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، ثم يقول: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالا فلأهله، ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي وعلي " (4).
(1) الإمام أحمد: المسند: 371. (2) المصدر نفسه: 4 / 126 ولاحظ أيضا ص 127 ولاحظ البحار: 2 / 263 فقد جاءت فيها نفس النصوص وفي ذيلها: " وكل ضلالة في النار ". (3) ابن ماجة القزويني: السنن: 1 الباب السابع الحديث 45، ط بيروت دار إحياء التراث العربي عام 1395. (4) ابن الأثير: جامع الأصول: 5 الفصل الخامس، الخطبة رقم 3974. 16 6 - روى النسائي قال: " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في خطبته: نحمد الله ونثني عليه بما هو أهله، ثم يقول: من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدى هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ثم يقول: بعثت أنا والساعة كهاتين، وكان إذا ذكر الساعة احمرت وجنتاه، وعلا صوته، واشتد غضبه، كأنه نذير جيش، يقول: صبحكم ومساكم، ثم قال: من ترك مالا فلأهله، ومن ترك دينا أو ضياعا فإلي، (أو علي) وأنا أولى بالمؤمنين " (1). 7 - روى ابن ماجة: " قال رسول الله: لا يقبل الله لصاحب بدعة صوما ولا صلاة ولا صدقة ولا حجا ولا عمرة ولا جهاد " (2). 8 - قال رسول الله: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " (3). قال الشاطبي: وهذا الحديث عده العلماء ثلث الإسلام لأنه جمع وجوه المخالفة لأمره (عليه السلام) ويستوي في ذلك ما كان بدعة أو معصية (4). 9 - روى مسلم عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله: من دعى إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعى إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا " (5).
(1) ابن الأثير: جامع الأصول: 5 الفصل الخامس الخطبة رقم 3974. (2) ابن ماجة القزويني: السنن: 1 / 19. (3) مسلم: الصحيح: 5 / 133 كتاب الأقضية الباب 8، ومسند أحمد: 6 / 270. (4) الشاطبي (أبو إسحاق): الإعتصام: 1 / 68. (5) مسلم: الصحيح: 8 / 62 كتاب العلم، ورواه البخاري في الصحيح الجزء 9، كتاب الإعتصام بالكتاب والسنة. 17 10 - روى مسلم عن جرير بن عبد الله: " من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده، كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شئ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب له مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شئ " (1). 11 - روى مسلم عن حذيفة أنه قال: " يا رسول الله هل بعد هذا الخير شر؟ قال: نعم، قوم يستنون بغير سنتي ويهتدون بغير هداي... " (2). 12 - روى مالك في الموطأ من حديث أبي هريرة: " أن رسول الله خرج إلى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون - إلى أن قال: - فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم ألا هلم! ألا هلم! ألا هلم! فيقال: إنهم قد بدلوا بعدكم، فأقول: فسحقا! فسحقا! فسحقا! " (3). وعموم اللفظ يشمل أهل البدع أيضا. وإن لم يرتدوا عن الدين. هذا اثنا عشر حديثا رواه الحفاظ من المحدثين ولنقتصر بهذا المقدار من هذا الطريق. وأما ما رواه أصحابنا عن النبي الأكرم أو عن أئمة أهل البيت فحدث ولا حرج وربما تكون هناك وحدة في اللفظ واختلاف جزئي في التعبير. 13 - روى الكليني عن محمد بن جمهور رفعه قال: قال رسول الله: " إذا
(1) مسلم: الصحيح: 8 / 61، كتاب العلم. (2) المصدر نفسه: 5 / 206، كتاب الإمارة. (3) مالك: الموطأ، كتاب الطهارة باب جامع الوضوء، الحديث 30، مسلم: الصحيح: 1 / 150، كتاب الطهارة. 18 ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله " (1). 14 - وبهذا الإسناد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أتى ذا بدعة فعظمه فإنما يسعى في هدم الإسلام " (2). 15 - وبهذا الإسناد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أبى الله لصاحب البدعة بالتوبة " قيل: يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال: " إنه قد أشرب في قلبه حبها " (3). 16 - روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) الناس فقال: " أيها الناس إنما بدء وقوع الفتن، أهواء تتبع، وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب الله، يتولى فيها رجال رجالا، فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين، ولو أن الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فهناك يستولي الشيطان على أوليائه، وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى " (4). 17 - روى الحسن بن محبوب رفعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: " إن من أبغض الخلق إلى الله عز وجل لرجلين: رجل وكله الله إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل، مشغوف بكلام بدعة، قد لهج بالصوم والصلاة فهو فتنة لمن افتتن به، ضال عن هدى من كان قبله، مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد موته، حمال خطايا غيره، رهن بخطيئته " (5). 18 - روى عمر بن يزيد عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " لا تصحبوا أهل البدع ولا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم قال رسول الله: المرء
(1) الكليني: الكافي: 1 / 54 - 55 ح 2، 3، 4، 1، باب البدع. ولفظ الأخير مطابق لما في نهج البلاغة الخطبة: 50، دون الكافي لكونه أتم. (2) الكليني: الكافي: 1 / 54 - 55 ح 2، 3، 4، 1، باب البدع. ولفظ الأخير مطابق لما في نهج البلاغة الخطبة: 50، دون الكافي لكونه أتم. (3) الكليني: الكافي: 1 / 54 - 55 ح 2، 3، 4، 1، باب البدع. ولفظ الأخير مطابق لما في نهج البلاغة الخطبة: 50، دون الكافي لكونه أتم. (4) الكليني: الكافي: 1 / 54 - 55 ح 2، 3، 4، 1، باب البدع. ولفظ الأخير مطابق لما في نهج البلاغة الخطبة: 50، دون الكافي لكونه أتم. (5) المصدر نفسه: ح 6. 19 على دين خليله وقرينه " (1). 19 - وروى داود بن سرحان عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا رأيتم أهل الريب والبدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم، وأكثروا من سبهم والقول فيهم والوقيع... " (2). 20 - قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " ما اختلفت دعوتان إلا كانت إحداهما ضلالة " (3). 21 - وقال (عليه السلام): " ما أحدثت بدعة إلا ترك بها سنة فاتقوا البدع وألزموا المهيع إن عوازم الأمور أفضلها وإن محدثاتها شرارها " (4). 22 - قال الإمام الصادق (عليه السلام): " من تبسم في وجه مبتدع فقد أعان على هدم دينه " (5). 23 - وقال (عليه السلام): " من مشى إلى صاحب بدعة فوقره فقد مشى في هدم الإسلام " (6) وقد روي أيضا باختلاف يسير " مضى " (تحت رقم 14). 24 - روي مرفوعا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " عليكم بسنة، فعمل قليل في سنة خير من عمل كثير في بدعة " (7). وللإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة وراء ما نقلناه كلمات درية في ذم البدعة، نقتبس ما يلي: 25 - فاعلم أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هدي وهدى فأقام سنة معلومة وأمات بدعة مجهولة، وإن شر الناس عند الله إمام جائر ضل وضل به،
(1) المصدر نفسه: 2 / 375. (2) المصدر نفسه: 2 / 375. (3) المجلسي: البحار: 2 / 264 ح 14 و 15، ولاحظ أيضا: 36 / 288 - 289. (4) المجلسي: البحار: 2 / 264 ح 14 و 15، ولاحظ أيضا: 36 / 288 - 289. (5) المصدر نفسه: 8 / 23 الطبعة القديمة. (6) المجلسي: البحار: 2 / 304 ح 45. (7) المصدر نفسه: 2 / 261 ح 3. 20 فأمات سنة مأخوذة وأحيا بدعة متروكة (1). 26 - وقال: " أوه على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه وتدبروا الفرض فأقاموه، أحيوا السنة وأماتوا البدعة " (2). 27 - وقال أيضا: " إنما الناس رجلان: متبع شرعة، ومبتدع بدعة " (3). 28 - وقال: طوبى لمن ذل في نفسه وطالب كسبه - إلى أن قال: - وعزل عن الناس شره وسعته السنة ولم ينسب إلى البدعة (4). ختامه مسك: ونذكر حديثين عن رسول الله وبذلك يكون ختامه مسك. 29 - قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا رأيتم صاحب بدعة فاكفهروا في وجهه فإن الله ليبغض كل مبتدع ولا يجوز أحد منهم على الصراط ولكن يتهافتون في النار مثل الجراد والذباب " (5). 30 - وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " من غش أمتي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين " قالوا: يا رسول الله وما الغش؟ قال: " أن يبتدع لهم بدعة فيعملوا بها " (6). هذا قسم مما وقفنا عليه من الروايات، وهي كثيرة يفوتنا حصرها. وقد نقل الشاطبي قسما وافرا من كلمات الصحابة والتابعين ومن أراد فليرجع إلى كتابه الإعتصام ونكتفي بهذا المقدار.
(1 - 3) الرضي: نهج البلاغة، الخطب 164، 182، 176. (4) المصدر نفسه: قسم الحكم - رقم 123. (5) ابن الأثير: جامع الأصول: 9 / 566، المتقي الهندي: كنز العمال: 1 / 221 ح 1118 ويشتمل الأخير على أحاديث لم نذكرها وقد بثها في الأجزاء التالية من كتابه: 8، 15، 7، 11، 2، 3 فلاحظ. (6) ابن الأثير: جامع الأصول: 9 / 566، المتقي الهندي: كنز العمال: 1 / 221 ح 1118 ويشتمل الأخير على أحاديث لم نذكرها وقد بثها في الأجزاء التالية من كتابه: 8، 15، 7، 11، 2، 3 فلاحظ. 21 الفصل الثاني البدعة في اللغة والاصطلاح لقد مضت نصوص الكتاب والسنة في حرمة البدعة وآثارها الهدامة، ولأجل تحديد مفهومها تحديدا دقيقا يلزم علينا نقل نصوص أهل اللغة في تفسير البدعة وكلمات الفقهاء والمحدثين حتى تلقي ضوءا على ما نتبناه من الوقوف على مفهوم البدعة. قال الخليل: البدع: إحداث شئ لم يكن له من قبل خلق ولا ذكر ولا معرفة... البدع: الشئ الذي يكون أولا في كل أمر كما قال الله: * (ما كنت بدعا من الرسل) * أي لست بأول مرسل. والبدعة اسم ما ابتدع من الدين وغيره، والبدعة ما استحدث بعد رسول الله من الأهواء والأعمال (1). وقال ابن فارس: البدع له أصلان: ابتداء الشئ وصنعه لا عن مثال، والآخر الانقطاع والكلال (2). والمقصود في المقام هو المعنى الأول. وقال الراغب: الإبداع إنشاء صنعة بلا احتذاء ولا اقتداء والبدعة في
(1) الخليل: ترتيب العين: 72. (2) ابن فارس: المقاييس: 1 / 209 مادة " بدع ". 23 المذهب، إيراد قول لم يستن قائلها وفاعلها بصاحب الشريعة وأماثلها المتقدمة وأصولها المتقنة (1). وقال الفيروزآبادي: البدعة - بالكسر - الحدث في الدين بعد الإكمال، أو ما استحدث بعد النبي من الأهواء والأعمال (2). إلى غير ذلك من الكلمات المماثلة لللغويين، ولا نطيل الحديث بنقل غير ما ذكر. والإمعان في هذه الكلمات يثبت بأن البدعة في اللغة وإن كانت شاملة لكل جديد لم يكن له مماثل سواء أكان في الدين، أم العادات، كالأطعمة والألبسة والأبنية والصناعات وما شاكلها، ولكن البدعة التي ورد النص على حرمتها هي ما استحدثت بعد رسول الله من الأهواء والأعمال في أمور الدين، وينص عليه الراغب في قوله: " البدعة في المذهب، إيراد قول لم يستن قائلها وفاعلها فيه "، ونظيره قول القاموس: " الحدث في الدين بعد الإكمال ". كل ذلك يعرب عن أن إطار البدعة المحرمة، هو الإحداث في الدين، ويؤيده قوله سبحانه في نسبة الابتداع إلى النصارى بإحداثهم الرهبانية وإدخالهم إياها في الديانة المسيحية، قال سبحانه: * (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها) * (الحديد - 27). فقوله سبحانه: * (ما كتبناها عليهم) * يعني ما فرضناها عليهم ولكنهم نسبوها إلينا عن كذب. وأما التطوير في ميادين الحياة وشؤونها فإن كان بدعة لغة فليس بدعة شرعا بل يتبع التطوير في الحياة جوازا ومنعا الحكم الشرعي بعناوينه فإن حرمه الشرع ولو تحت عنوان عام فهو محرم، وإلا فهو حلال لحاكمية أصل البراءة في العادات ما لم يرد دليل على الحرمة، وسيوافيك تفصيلها في المستقبل.
(1) الراغب: المفردات: 28. (2) الفيروزآبادي: القاموس: 3 / 6. 24 البدعة في اصطلاح العلماء: لا ريب أن البدعة حرام ولا يشك في حرمتها مسلم واع، لكن المهم في الموضوع تحديدها وتعيين مفهومها بشكل دقيق، حتى تكون قاعدة كلية يرجع إليها عند الشك في المصاديق، فإن واجب الفقيه رسم القاعدة وواجب غيره تطبيقها على مواردها، وهذا الموضوع من أهم المواضيع فيها. وقد عرفت البدعة بتعاريف مختلفة، بين دقيق يحددها بالدقة ولا يتسامح فيها، وبين من يتسامح في تعريفها، وإليك بعضها: 1 - البدعة: ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، أما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعا وإن كان بدعة لغة (1). 2 - البدعة: أصلها ما أحدث على غير مثال سابق، وتطلق في الشرع في مقابل السنة فتكون مذمومة (2). ويقول ابن حجر في موضع آخر: المحدثات جمع محدثة، والمراد بها أي في حديث " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ": ما أحدث وليس له أصل في الشرع ويسمى في عرف الشرع بدعة، وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة (3). 3 - البدعة لغة: ما كان مخترعا، وشرعا ما أحدث على خلاف أمر الشرع ودليله الخاص أو العام (4). 4 - البدعة في الشرع موضوعه الحادث المذموم (5).
(1) ابن رجب الحنبلي: جامع العلوم الحكم: 160 طبع الهند. (2) ابن حجر العسقلاني: فتح الباري: 5 / 156 و 17 / 9. (3) ابن حجر العسقلاني: فتح الباري: 5 / 156 و 17 / 9. (4) ابن حجر الهيتمي: التبيين بشرح الأربعة: 221. (5) الزركشي: الابداع: 22. 25 5 - إن البدعة الشرعية هي التي تكون ضلالة، ومذمومة (1). 6 - البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية، وعرفه الشاطبي أيضا في مكان آخر بنفس ذلك وأضاف في آخره: " يقصد بالسلوك عليها: المبالغة في التعبد لله تعالى " (2) وما أضافه ليس أمرا كليا كما سيوافيك عند البحث عن أسباب نشوء البدعة ودواعيها. وهذه التعاريف، تحدد البدعة تحديدا وتصور لها قسما واحدا والمحدود في هذه التعاريف هو البدعة في الشرع والدين الإسلامي، والتدخل في أمر التقنين والتشريع. وهناك من حددها ثم قسمها إلى: محمودة ومذمومة، منهم من يلي: 1 - عن حرملة بن يحيى، قال: سمعت الشافعي - رحمه الله - يقول: البدعة، بدعتان: بدعة محمودة وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو محمود وما خالف السنة فهو مذموم. 2 - وقال الربيع: قال الشافعي - رحمه الله -: المحدثات من الأمور ضربان: أحدهما يخالف كتابا أو سنة أو إجماعا أو أثرا، فهذه البدعة الضلالة، والثاني ما أحدث من الخبر لا خلاف فيه لواحد من هذا، فهي محدثة غير مذمومة (3). 3 - قال ابن حزم: البدعة في الدين، كل ما لم يأت في القرآن ولا عن رسول الله إلا أن منها ما يؤجر عليه صاحبه ويعذر بما قصد إليه من الخير، ومنها ما يؤجر عليه صاحبه ويكون حسنا وهو ما كان أصله الإباحة كما روي عن عمر - رضي الله عنه - " نعمت البدعة هذه - إلى أن قال: - ومنها ما يكون مذموما ولا يعذر صاحبه وهو ما قامت الحجة على فساده فتمادى القائل به " (4).
(1) محمد بخيت المصري: أحسن الكلام: 6. (2) الشاطبي: الإعتصام: 1 / 37. (3) ابن حجر العسقلاني: فتح الباري: 17 / 10. (4) ابن حزم: الفصل كما في البدعة، للدكتور عزت: 161. 26 4 - وقال الغزالي: وما يقال: إنه أبدع بعد رسول الله، فليس كل ما أبدع منهيا بل المنهي عنه بدعة تضاد سنة ثابتة، وترفع أمرا من الشرع مع بقاء علته، بل الإبداع قد يجب في بعض الأحوال إذا تغيرت الأسباب (1). 5 - وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في شرح المشكاة: إعلم أن كل ما ظهر بعد رسول الله بدعة، وكل ما وافق أصول سنته وقواعدها أو قيس عليها فهو بدعة حسنة وكل ما خالفها فهو بدعة سيئة وضلالة (2). 6 - وقال ابن الأثير: البدعة بدعتان: بدعة هدى، وبدعة ضلال، فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو في حيز الذم والإنكار، وما كان واقعا تحت عموم ما ندب الله إليه، وحث عليه الله أو رسوله فهو في حيز المدح، وما لم يكن له مثال موجود كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف فهو من الأفعال المحمودة، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به، لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد جعل له في ذلك ثوابا فقال: " من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها " وقال في ضده: " ومن سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها " وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم). ومن هذا النوع قول عمر - رضي الله عنه -: " نعمت البدعة هذه (التراويح) " لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح، سماها بدعة ومدحها، إلا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يسنها لهم وإنما صلاها ليالي ثم تركها ولم يحافظ عليها، ولا جمع الناس لها، ولا كانت في زمن أبي بكر، وإنما عمر - رضي الله عنه - جمع الناس عليها وندبهم إليها، فبهذا سماها بدعة، وهي على الحقيقة سنة، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي " وقوله: " اقتدوا باللذين
(1) الغزالي: الإحياء: 2 / 3 ط الحلبي. (2) الكشاف لاصطلاحات الفنون كما في البدعة، للدكتور عزت: 162. 27 من بعدي: أبي بكر وعمر " وعلى هذا التأويل يحمل الحديث الآخر " كل محدثة بدعة " إنما يريد ما خالف أصول الشريعة ولم يوافق السنة. وأكثر ما يستعمل المبتدع عرفا في الذم (1). هذه كلمات أعلام السنة وإليك ما ذكره أصحابنا في الموضوع مقتصرا بالأقل منها: 7 - قال السيد المرتضى: البدعة: الزيادة في الدين أو نقصان منه من إسناد إلى الدين (2). 8 - قال العلامة في المختلف: كل موضع لم يشرع فيه الأذان فإنه يكون بدعة (3). 9 - قال الشهيد السعيد محمد بن مكي العاملي (ت - 786 ه): محدثات الأمور بعد عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تنقسم أقساما لا يطلق اسم البدعة عندنا إلا على ما هو محرم منها (4). ومع ذلك كله فقد خالف الشهيد كلامه في كتاب الذكرى، وقال: 10 - إن لفظ البدعة غير صريح في التحريم فإن المراد بالبدعة ما لم يكن في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم تجدد بعده وهو ينقسم إلى: محرم ومكروه. 11 - قال الطريحي (ت - 1086 ه): البدعة: الحدث في الدين وما ليس له أصل في كتاب ولا سنة وإنما سميت بدعة لأن قائلها ابتدع هو نفسه، والبدع -
(1) ابن الأثير: النهاية: 1 / 79 وكلامه صريح في أن النبي لم يصلها جماعة إلا ليالي فتركها، وإن أقامتها جماعة كانت من سنة عمر، إذ للخليفتين - حسب الرواية - حق التسنين الذي يعبر عنه بسنة الصحابي. (2) الشريف المرتضى: الرسائل: 3 / 83. (3) العلامة: المختلف: 2 / 131. (4) الشهيد الأول: القواعد والفوائد: 2 / 144 - 145 القاعدة 205 وقد ذكر الأقسام الخمسة غير واحد من الفقهاء منهم القرافي في الفروق: 4 / 202 - 205 وسيوافيك الكلام في عدم صحة هذا التقسيم. 28 بالكسر والفتح -: جمع بدعة ومنه الحديث " من توضأ ثلاثا فقد أبدع " أي فعل خلاف السنة لأن ما لم يكن في زمنه (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو بدعة (1). 12 - وقال المجلسي (ت - 1110 ه): البدعة في الشرع: ما حدث بعد الرسول ولم يرد فيه نص على الخصوص ولا يكون داخلا في بعض العمومات، أو ورد نهي عنه خصوصا أو عموما، فلا تشمل البدعة ما دخل في العمومات مثل بناء المدارس وأمثالها الداخلة في عمومات إيواء المؤمنين وإسكانهم وإعانتهم، وكإنشاء بعض الكتب العلمية، والتصانيف التي لها مدخل في العلوم الشرعية، وكالألبسة التي لم تكن في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والأطعمة المحدثة فإنها داخلة في عمومات الحلية، ولم يرد فيها نهي. وما يفعل منها على وجه العموم إذا قصد كونها مطلوبة على الخصوص كان بدعة كما أن الصلاة خير موضوع ويستحب فعلها في كل وقت. ولو عين ركعات مخصوصة على وجه مخصوص في وقت معين صارت بدعة، وكما إذا عين أحد سبعين تهليلة في وقت مخصوص على أنها مطلوبة للشارع في خصوص هذا الوقت بلا نص ورد فيها كانت بدعة، وبالجملة إحداث أمر في الشريعة لم يرد فيها نص بدعة سواء كانت أصلها مبتدعة أو خصوصيتها مبتدعة، ثم ذكر كلام الشهيد عن قواعده (2). 13 - وقال المحدث البحراني (ت - 1186 ه): الظاهر المتبادر من البدعة لا سيما بالنسبة إلى العبادات إنما هو المحرم، ولما رواه الشيخ الطوسي عن زرارة ومحمد بن مسلم والفضيل عن الصادقين (عليهما السلام): " إن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة سبيلها النار " (3).
(1) الطريحي النجفي: مجمع البحرين: ج 1، مادة " بدع " لاحظ " ترتيب المجمع ". (2) المجلسي: البحار: 74 / 202 - 203. (3) البحراني (الشيخ يوسف): الحدائق: 10 / 180. 29 14 - وقال المحقق الآشتياني (ت - 1322 ه): البدعة: إدخال ما علم أنه ليس من الدين في الدين ولكن يفعله بأنه أمر به الشارع (1). 15 - وقال أيضا: البدعة: إدخال ما لم يعلم أنه من الدين في الدين (2). 16 - وقال السيد محسن الأمين: البدعة: إدخال ما ليس من الدين في الدين كإباحة محرم أو تحريم مباح، أو إيجاب ما ليس بواجب أو ندبة، أو نحو ذلك سواء كانت في القرون الثلاثة أو بعدها، وتخصيصها بما بعد القرون الثلاثة لا وجه له، ولو سلمنا حديث " خير القرون قرني " فإن أهل القرون الثلاثة غير معصومين بالاتفاق وتقسيم بعضهم لها إلى حسنة وقبيحة، أو إلى خمسة أقسام ليس بصحيح، بل لا تكون إلا قبيحة، ولا بدعة فيما فهم من إطلاق أدلة الشرع أو عمومها أو فحواها أو نحو ذلك وإن لم يكن موجودا في عصر النبي (3). تلك ستة عشر نصا من كلمات مشاهير علماء الإسلام، فمنهم من خص التعريف بالبدعة في الدين فجعله قسما واحدا، ومنهم عممها فقسمها، إلى ممدوحة ومذمومة، والحافز الوحيد إلى ذاك هو اقتفاء قول عمر في صلاة التراويح ولولا صدور ذاك التقسيم عنه لما خطر في بال هؤلاء ذاك التقسيم. ويبدو أن أوضح التعاريف ما نقلناه عن العلمين: الآشتياني والسيد الأمين، فإنهما - قدس سرهما - أتيا باللب، وحذفا القشر فمقوم البدعة، هو التصرف في الدين عقيدة وتشريعا بإدخال ما لم يعلم أنه من الدين فيه فضلا عما علم أنه ليس منه قطعا، والذي يؤخذ على تعريفهما أنه لا يشمل البدعة بصورة النقص كحذف شئ من أجزاء الفرائض.
(1) الآشتياني: بحر الفوائد: 80 وترى قريبا من هذه الكلمات في فرائد الشيخ الأنصاري: 30 وفوائد الأصول للمحقق النائيني: 2 / 130. (2) الآشتياني: بحر الفوائد: 80 وترى قريبا من هذه الكلمات في فرائد الشيخ الأنصاري: 30 وفوائد الأصول للمحقق النائيني: 2 / 130. (3) الأمين العاملي (السيد محسن): كشف الارتياب: 143. 30 الفصل الثالث تحديد مفهوم البدعة ومقوماتها إن الأمر المهم بعد الوقوف على النصوص، هو تحديد مفهوم البدعة التي وقعت موضوعا للحكم الشرعي كسائر الموضوعات الواردة في المصدرين الرئيسيين، فما لم تحدد ولم نقف على مفهومها الدقيق وعلى ما هو معتبر في صميمها عند الشرع، لا يمكن لنا تطبيق الحكم الكلي على مصاديقها ومواضيعها. والذي حصل لدينا بعد دراسة الأدلة أن البدعة التي هي الموضوع لدى الشرع، تتمتع بقيود ثلاثة نذكرها بالتدريج: الأول: التدخل في الدين عقيدة وحكما، بزيادة أو نقيصة. الثاني: أن تكون هناك إشاعة ودعوة. الثالث: أن لا يكون هناك دليل في الشرع يدع جوازها لا بالخصوص ولا بالعموم. وإليك دراسة هذه القيود المكونة لمفهوم البدعة التي اتخذها الكتاب والسنة موضوعا للحكم:
31 1 - التدخل في الدين بزيادة أو نقيصة: هل إن الموضوع في المصدرين هو نفس البدعة أو خصوص البدعة في الدين؟ فلو قلنا بأن الموضوع نفس البدعة بسيطا، سواء كان الإحداث والإبداع راجعا إلى صميم الدين أو غيره، فيكون الحكم بحرمة ذلك الموضوع الواسع أمرا غير ممكن ولأجل ذلك لجأ أصحاب ذلك القول إلى تقسيمها إلى أقسام خمسة حسب انقسام الأحكام. وأما إذا كان الموضوع هو الأمر المركب، أي البدعة في الدين، فذلك له حكم واحد لا يقبل التخصيص ولا تعلم صحة أي النظرتين إلا بدراسة الآيات والروايات. إن دراسة ما سبق من النصوص تثبت بوضوح على أن الموضوع في الكتاب والسنة هو البدعة في الدين لا مطلقها، فلو كان الكتاب والسنة يتكلمان فيها فإنما يتكلمان فيها باسم الدين والشريعة وعن البدعة فيهما، لأن كل متكلم إنما يتكلم في إطار اختصاصه ومقامه وحسب شأنه، فالكتاب العزيز كتاب إلهي جاء لهداية الناس إلى ما فيه مرضاة الله بتشريعه القوانين والسنن، والنبي الأكرم مبعوث لتبيان ذلك الكتاب بأقواله وأفعاله وتقريراته قال تعالى: * (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما أنزل إليهم ولعلهم يتفكرون) * (النحل - 44). وعلى ضوء ذلك فإن الكتاب والسنة يتكلمان بتلك الخصوصية التي يمتلكانها، فإذا تكلما عن البدعة فإنما يتكلمان عن البدعة الواردة في حوزتهما وقيد الدين والشريعة وإن لم يذكرا في متون النصوص غالبا، لكنهما مفهومان من القرائن الموجودة فيها فلا عبرة بالإطلاق بعد القرائن الحافة على الكلام، هذا ما نستنبطه من مجموع الخطابات الواردة في الأدلة قبل دراسة أي واحد منها تفصيلا.
32 وأما دراستها تفصيلا فإليك البيان: 1 - تضافرت الآيات على ذم عمل المشركين حيث كانوا يقسمون رزق الله إلى ما هو حلال وحرام فجاء الوحي منددا بقوله: * (قل أالله أذن لكم أم على الله تفترون) * (يونس - 59) وفي آية أخرى يعد عملهم افتراء على الله كما يقول: * (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب) * (النحل - 116) ومن المعلوم أن المشركين كانوا ينسبون الحكمين إلى الله سبحانه، وأنه سبحانه جعل منه حلالا وحراما، فكان عملهم بدعة في الدين. 2 - قد تعرفت في التقديم، أنه سبحانه يصف من لم يحكم بما أنزل الله، بكونه كافرا وفاسقا، ومن المعلوم أن أحبار اليهود كانوا يحرفون الكتاب فيصفون ما لم يحكم به الله، بكونه حكم الله، قال سبحانه: * (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون) * (البقرة - 79) فقوله: * (هذا من عند الله) * صريح في أنهم كانوا يتدخلون في الشريعة الإلهية فيعرفون ما ليس من عند الله على أنه من عند الله، وهذا يثبت بأن الموضوع في هذه الآية وأمثالها هو البدعة في الدين لا مطلقها. 3 - ترى أنه سبحانه يذم الرهبان لابتداعهم ما لم يكتب عليهم قال سبحانه: * (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها) * (الحديد - 27) ومعنى الآية أنهم كانوا ينسبون الرهبانية إلى شريعة المسيح مدعين بأنه هو الذي شرع لهم ذلك العمل، والقرآن يردهم بقوله: * (ما كتبناها عليهم) *. 4 - إنه سبحانه وصف أهل الكتاب بأنهم اتخذوا رهبانهم وأحبارهم أربابا من دون الله، وقد فسره النبي الأكرم بأنهم كانوا يحرمون ما أحل الله فيتبعونهم أتباعهم، أو يحللون ما حرم الله عليهم فيقبلونه بلا تردد، ومن المعلوم أن
33 الأحبار والرهبان يعرفون ما تخيلوه من الحرام والحلال حكم الله سبحانه، وليس هذا إلا البدعة في الشرع، والتدخل في أمر الشريعة، وإذا تدبرت في هذه الآيات وأمثالها تقف على أن الآيات تدور على محور واحد هو البدعة في الدين لا مطلقها، ولا يضر عدم ذكر القيد في اللفظ إذ هو مفهوم من القرائن القطعية. ثم إن في قوله: * (إلا ابتغاء رضوان الله) * وجهان: فمنهم من يجعله استثناء منقطعا، أي ما كتبا عليهم الرهبانية وإنما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله، ومنهم من يجعله استثناء متصلا، بمعنى أنه سبحانه كتب عليهم أصل الرهبانية لأجل كسب رضوان الله ولكنهم لم يراعوا حقها. فتكون البدعة على الأول نفس الرهبانية وعلى الثاني الخروج عن حدودها. هذا كله حول الآيات، وأما السنة، ففيها قرائن كثيرة تعطي نفس المفهوم الذي أعطته الآيات وإليك تلك القرائن: 1 - ففي الرواية الأولى: يبتدئ النبي كلامه بقوله: " أصدق الحديث كتاب الله وأفضل الهدى هدي محمد " وهذا يدل على أن ما اتخذه النبي موضوعا للبحث هو ما يرجع إلى كتاب الله وهدي نبيه، فإذا قال بعده: " وشر الأمور محدثاتها " يكون المراد أي ما دخل في الشريعة من أمور، وإذا قال: " كل بدعة ضلالة أي البدعة فيما يتكلم عنه، ومن المعلوم أنه يتكلم عن دعوته وشريعته، فتحوير كلامه إلى مطلق البدعة وإن لم يمس الكتاب والسنة، تأويل للظاهر بلا دليل. 2 - ثم إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يحكم على كل بدعة بالضلال، ومن المعلوم أنه لا يصدق إلا على البدعة في الشريعة وأما غيرها فهي على أقسام كما قالوا. 3 - روى مسلم في صحيحه أن رسول الله إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته، واشتد غضبه كأنه منذر جيش ثم يقول: " أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدي محمد الخ " ومن المعلوم أن الأرضية الصالحة لثوران غضبه ليس إلا تدخل المبتدع في شريعته، لا مطلق التدخل في شؤون الحياة وإن لم تمس
34 دينه، خصوصا إذا كان في مصلحة الإنسان. 4 - إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وصف البدعة بالضلالة وقال: " إن صاحبها في النار " ولا تصدق تلك القاعدة إلا على صاحب البدعة في الشريعة. 5 - إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما رأى أن رجالا يذادون عن حوضه فأخذ يناديهم بقوله: " ألا هلم ألا هلم ألا هلم " فإذ ينادي المنادي بقوله: " إنهم قد بدلوا بعدك " فيقول النبي: " فسحقا! فسحقا! فسحقا! " ومن المعلوم أنه قد بدلوا دين الرسول وشريعته وإلا لما كانوا مستحقين دعاءه بقوله: " فسحقا... ". 6 - دلت الروايات السابقة على أنه إذا ظهرت البدع في الأمة فعلى العالم أن يظهر علمه وإلا فعليه لعنة الله. 7 - كما دلت على أن صاحب البدعة لا تقبل توبته. 8 - وإن من زار ذا بدعة فقد سعى في هدم الإسلام. 9 - وأوضح من الكل ما خطب الإمام علي (عليه السلام) حيث قال: " إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع، وأحكام تبتدع يخالف كتاب الله ". 10 - وفي رواية أخرى: ما أحدثت بدعة إلا تركت فيها سنة، فاتركوا البدع والزموا المهيع إن عوازم الأمور أفضلها، وإن محدثاتها شرارها (1). 11 - هذا ما تعطيه نصوص الكتاب والسنة، وتليهما نصوص لفيف من أهل اللغة الذين سبقت نصوصهم نظير: قول الخليل: والبدعة: ما استحدثت بعد رسول الله. وقول الراغب: البدعة في المذهب: إيراد قول لم يستن قائلها وفاعلها فيه بصاحب الشريعة.
(1) قد سبقت مصادرها في الفصل الأول فلاحظ. 35 وقول الفيروزآبادي: البدعة: الحدث في الدين بعد الإكمال أو ما استحدث بعد النبي من الأهواء والأعمال. وتليه نصوص لفيف من الفقهاء نظير قول ابن رجب الحنبلي: البدعة: ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه. وقول ابن حجر العسقلاني: البدعة: ما أحدث وليس له أصل في الشرع. وقول ابن حجر الهيتمي: البدعة: ما أحدث على خلاف أمر الشارع ودليله الخاص. وقول الزركشي: البدعة الشرعية: هي التي تكون ضلالة (1). ومن يدرس هذه النصوص جليلها ودقيقها يقف على أن موضوع البحث في مجموع الأدلة هو الأمر الذي يمت إلى الشريعة بصلة، وأن الله سبحانه ونبيه الصادع بالحق يهيبان بالمجتمع الإسلامي عن البدعة والكذب على الله والتدخل في الكتاب والسنة والتلاعب بما أنزل الله في مجالي العقيدة والشريعة، وهذا أمر واضح لا سترة عليه، وبذلك يختلف اتجاهنا في تفسير النصوص عن غيرنا. فإذا ثبت ذلك تقف على أن البدعة ليس لها إلا قسم واحد ولها حكم واحد لا يخصص ولا يقيد بل هو بمثابة لا يقبل التخصيص، وهذا نظير قوله سبحانه: * (إن الشرك لظلم عظيم) * (لقمان - 23) فإن تلك القاعدة لا تقبل التخصيص أي يمتنع تجويز الظلم والشرك في مكان دون مكان، نظير قوله سبحانه: * (أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون) * (القلم - 35). ثم إن ما توصلنا إليها من نتيجة قد توصل إليها الشاطبي بطريقة أخرى نأتي بموجزها:
(1) قد مضت النصوص في مواضعها. 36 " قال: الباب الثالث في أن ذم البدع والمحدثات عام لا يخص محدثة دون غيرها - إلى أن قال: - فاعلموا - رحمكم الله - أن ما تقدم من الأدلة حجة في عموم الذم من أوجه: أحدها: أنها جاءت مطلقة عامة على كثرتها لم يقع فيها استثناء البتة، ولم يأت فيها ما يقتضي أن منها ما هو هدى، ولا جاء فيها: كل بدعة ضلالة إلا كذا وكذا. ولا شئ من هذه المعاني، فلو كان هنالك محدثة يقتضي النظر الشرعي فيها الاستحسان، أو أنها لاحقة بالمشروعات، لذكر ذلك في آية أو حديث، لكنه لا يوجد، فدل على أن تلك الأدلة بأسرها على حقيقة ظاهرها من الكلية التي لا يتخلف عن مقتضاها فرد من الأفراد. الثاني: أنه قد ثبت في الأصول أن كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلي إذا تكررت في مواضع كثيرة وأتى بها شواهد على معان أصولية أو فروعية ولم يقترن بها تقييد ولا تخصيص، مع تكررها وإعادة تقررها، فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم كقوله تعالى: * (ألا تزر وازرة وزر أخرى * وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) * (النجم - 38 - 39)، فما نحن بصدده من هذا القبيل إذ جاء في الأحاديث المتعددة أن كل بدعة ضلالة، وأن كل محدثة بدعة، وما كان نحو ذلك من العبارات الدالة على أن البدع مذمومة ولم يأت في آية ولا حديث، تقييد ولا تخصيص، ولا ما يفهم منه خلاف ظاهر الكلية فيها. الثالث: إجماع السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن يليهم على ذمها كذلك وتقبيحها والهروب عنها - إلى أن قال: - فهو بحسب الاستقراء، إجماع ثابت، فدل على أن كل بدعة ليست بحق، بل هي من الباطل. الرابع: أن متعقل البدعة يقتضي ذلك بنفسه، لأنه من باب مضادة الشارع
37 واطراح الشرع، وكل ما كان بهذه المثابة فمحال أن ينقسم إلى حسن وقبيح (1) وأن يكون منه ما يمدح منه وما يذم، إذ لا يصح في معقول ولا منقول استحسان مشاقة الشارع (2). إلى هنا تم الكلام في تحديد البدعة من حيث كون الموضوع بسيطا ومركبا، ويترتب عليه أنه لا تعم البدعة غير الشريعة كالعادات والصناعات والاعلام وغيرها، بل يستخرج حكمها من الكتاب والسنة بنفس عناوينها، لا بما هي بدعة، فربما تكون حلالا وأخرى حراما، لكن ليس كل حرام بدعة، كما سيوافيك بيانه. 2 - البدعة إشاعة ودعوة: إذا كانت البدعة هي إدخال ما ليس في الدين فيه أو نقصه منه في مجال العقيدة والشريعة، فهل يتحقق مفهومها بقيام الشخص بذلك العمل، وحده في بيته ومنزله، كأن يزيد في صلاته ما ليس فيها أو ينقص منها شيئا، أو أنه ليس ببدعة وإن كان عمله باطلا وبفعله عاصيا؟ بل إنما البدعة تتوقف على إشاعة فكرة خاطئة في العقيدة، أو عمل غير مشروع في المجتمع ودعوتهم إليه بعنوان أنه من الشرع، ولك أن تستظهر ذلك القيد من الآيات والروايات، فإن عمل المشركين في التحليل والتحريم لم يكن عملا شخصيا في الخفاء، بل إن المبتدع الأول قد أحدث فكرة وأشاعها، ودعا الناس إليها، كما كان الحال كذلك في الرهبان والأحبار، ويشهد على ذلك بوضوح ما رواه مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول
(1) لا يخفى أن الإمام الشاطبي يقول في كلمته هذه بالحسن والقبح العقليين مع أنه خلاف مذهبه، لاحظ الصفحة 114 من الإعتصام. (2) الإمام الشاطبي: الإعتصام: 1 / 141 - 142. 38 الله: (صلى الله عليه وآله وسلم) من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا (1). ويدل عليه قول القائل يوم القيامة: " إنهم قد بدلوا بعدك " فإن تبديل الدين، ليس عملا شخصيا بل هو عمل جماعي، إلى غير ذلك من القرائن الموجودة في الروايات. إلى هنا خرجنا بنتيجتين: الأولى: أن مصب البدعة في الأدلة هو الدين والشرع. الثانية: أن البدعة لا تنفك عن الدعوة إلى الباطل. وإليك بيان القيد الثالث. 3 - عدم وجود أصل لها في الدين: العنصر الثالث المقوم لمفهوم البدعة هو فقدان الدليل على جواز العمل لا في الكتاب ولا في السنة وذلك ظاهر، إذ لو كان هناك دعم من الشارع للعمل، لما كان أمرا جديدا في الدين أو تدخلا في الشرع، ولأجل ذلك قلنا: إن أفضل التعاريف هو قولهم: " إدخال ما ليس من الدين في الدين " أو " إدخال ما لم يعلم من الدين في الدين " وبعبارة واضحة، البدعة في الشرع: ما حدث بعد الرسول ولم يرد فيه نص على الخصوص ولم يكن داخلا في بعض العمومات، وإن شئت قلت: إحداث شئ في الشريعة لم يرد فيه نص، سواء كان أصله مبتدعا، كصوم عيد الفطر، أو خصوصيته مبتدعة كالإمساك إلى غسق الليل ناويا به الصوم المفروض
(1) لاحظ الفصل الأول، الحديث التاسع. 39 معتقدا بأنه الواجب في الشرع، وفي النصوص السابقة للعلماء تصريح على ذلك. قال ابن حجر العسقلاني: والمراد بالبدعة، ما أحدث وليس له أصل في الشرع، وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة. قال ابن رجب الحنبلي: البدعة: ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، أما ما كان له أصل في الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعا وإن كان بدعة لغة (1). وقال العلامة المجلسي: البدعة في الشرع: ما حدث بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يرد فيه نص على الخصوص ولا يكون داخلا في بعض العمومات أو ورد نهي عنه خصوصا أو عموما (2). وعلى ضوء ذلك تنحل هناك عويصة المصاديق التي ربما تعد من البدعة لأجل عدم ورود نص خاص فيه ولكن تشمله العمومات بصورة كلية، فهذا لا يكون بدعة. وذلك لأنه لو كان هناك نص خاص لأخرجه عن البدعة وهذا واضح جدا، أما إن لم يكن هناك نص خاص ولكن العمومات تشمله بعمومها، فهذا ما نوضحه بالمثال التالي: إن الدفع عن بيضة الإسلام وحفظ استقلاله وصيانة حدوده عن الأعداء أصل ثابت في القرآن الكريم، قال سبحانه: * (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) * (الأنفال - 60) فإن قوله: * (من قوة) * مفهوم كلي يشمل عامة كيفية الدفاع ونوع السلاح وشكل الخدمة العسكرية المتبعة كل عصر ومصر، فالجميع برمته هو تطبيق لهذا المبدأ، وتجسيد لهذا الأصل، فالتسلح بالغواصات والأساطيل البحرية والطائرات المقاتلة
(1) مضت النصوص في محلها. (2) المجلسي: البحار: 74 / 202. 40 إلى غير ذلك من أدواة الدفاع، ليس بدعة بل تجسيد لهذا الأصل ومن حلاله. إن من يرم التجنيد العسكري بأنه بدعة فهو غافل عن حقيقة الحال فإن الإسلام يأمر بالأصل ويترك الصور والأشكال لمقتضيات العصور. إلى هنا خرجنا بلزوم قيود ثلاثة في تحقق البدعة وصدقها: 1 - أن يكون تدخلا في الشريعة وتصرفا فيها عقيدة وحكما. 2 - أن تكون هناك إشاعة بين الناس. 3 - أن لا يكون هناك أصل على المشروعية لا خاصا ولا عاما. ويجمع الكل " القول في الدين بغير علم على الأغلب، بل مع العلم بالخلاف ولكن يقدم رأيه عليه، بظن الإصلاح أو غيره من الحوافز ". هذا هو تحديد البدعة بمفهومها الدقيق الذي نتخذه قاعدة كلية، ونستكشف به حال الموضوعات التي تضاربت فيها الأقوال والأفكار بين موسع ومضيق وسيوافيك شرحها.
41 الفصل الرابع الابتداع في تفسير البدعة ما لم يكن في القرون الثلاثة: ارتحل النبي الأكرم إلى الرفيق الأعلى بعد أن أكمل الشريعة وبين جليلها ودقيقها وما تحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة، قال سبحانه: * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) * (المائدة - 4) وحفاظا على دينه وصيانته من التحريف والتبديل، أمر التمسك بالثقلين ولم يرض للأمة غيرهما لئلا يكون الدين ألعوبة بأيدي المغرضين والطامعين، والمقياس في تميز البدعة عن السنة هو الرجوع إلى الثقلين سواء أفسر بالكتاب والعترة كما هو المتضافر، أم بالكتاب والسنة كما رواه الإمام مالك في الموطأ بسند مرسل (1)، والحديثان متقاربا المضمون، لأن العترة لا تنشد إلا السنة النبوية، أخذها كابر عن كابر إلى أن تصل إلى النبي الأكرم، فما وافقهما فهو سنة وما خالفهما فهو بين
(1) مالك بن أنس: الموطأ: 648 برقم 1619. 43 معصية وبدعة، مع الفرق الواضح بينهما فلو أذيعت الفكرة أو العمل بين الناس فتصير بدعة، وإن اكتفى بها من دون دعوة وإشاعة فهي معصية. ومن العجب أن أناسا صاروا بتحديد البدعة وتمييزها عن السنة، وقد جاءوا في تحديدها ببدعة وفرية جديدة لا دليل لها في الكتاب والسنة، وهي أن المقياس في تمييز البدعة عن السنة هو القرون الثلاثة الأولى بعد رحيل الرسول. فما حدث فيها فهو سنة وما حدث بعدها فهو بدعة، وإن تعجب فإليك نص القائل: ومما نحن عليه، أن البدعة - وهي ما حدثت بعد القرون الثلاثة - مذمومة مطلقة خلافا لمن قال: حسنة وقبيحة، ولمن قسمها خمسة أقسام إلا إن أمكن الجمع بأن يقال: الحسنة ما عليها السلف الصالح شاملة للواجبة والمندوبة والمباحة وتكون تسميتها بدعة مجازا، والقبيحة ما عدا ذلك شاملة للمحرمة والمكروهة فلا بأس بهذا الجمع (1). وهذه النظرية الشاذة عن الكتاب والسنة، نظرية خاصة استنتجها القائل مما رواه الشيخان في باب فضائل أصحاب النبي وإليك نصهما. روى البخاري قال: سمعت عمران بن الحصين يقول: قال رسول الله: خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة، ثم إن بعدكم قوما، يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يفون ويظهر فيهم السمن. وروى أيضا عن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي قال: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم يجيئ قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمنيه شهادته، قال: قال إبراهيم: وكانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار (2).
(1) الهدية السنية، الرسالة الثانية: 51. (2) ابن حجر العسقلاني: فتح الباري في شرح صحيح البخاري: 7 / 6 باب فضائل أصحاب النبي، النووي: شرح صحيح مسلم: 8 / 84 - 85. 44 إن الاحتجاج بهذه الرواية على أن الميزان في تمييز البدعة عن السنة، هو أن كل ما حدث في القرون الثلاثة الأولى فليس ببدعة، وأما الحادث بعدها فهو بدعة، باطل بوجوه: الأول: إن القرن في اللغة هو النسل (1) وبهذا المعنى استعمل في القرآن الكريم قال سبحانه: * (فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين) * (الأنعام - 6) وبما أن المتعارف في عمر كل نسل هو الستون أو السبعون، يكون المراد، مجموع تلك السنين التي تتراوح بين 180 و 210 وأين هو من تفسير الحديث بثلاثمائة سنة؟! الثاني: إن شراح الحديث اختلفوا في تفسير الرواية، وعلى كل تفسير لا يستفاد منها ما يتبناه الكاتب، فمن قائل إلى أن المراد من القرن في قوله: " قرني " هو أصحابه ومن " الذين يلونهم " أبناءهم ومن " الثالث " أبناء أبنائهم. إلى آخر بأن قرنه ما بقيت عين رأته، ومن الثاني ما بقيت عين رأت من رآه، ثم كذلك. إلى ثالث أن قرنه الصحابة، والثاني التابعون والثالث تابعوهم (2). وعلى كل تقدير تكون المدة أقل من ثلاثة قرون، فمثلا نأخذ بالقول الأخير الذي هو أعم الأقوال وأوسعها. فإن آخر من مات من الصحابة هو أبو الطفيل وقد اختلفوا في تاريخ وفاته على أقوال: أنه توفي سنة 120 ه أو دونها أو فوقها بقليل، وأما قرن التابعين ف آخر من توفي منهم كان عام 170 ه أو 180 ه وآخر من عاش من أتباع التابعين ممن يقبل قوله، من توفي حدود 220 ه، فيقل عن ثلاثة قرون بثمانين سنة وهذا
(1) الخليل: العين: ابن منظور: اللسان، مادة " قران ". (2) النووي: شرح صحيح مسلم: 16 / 85. 45 كثير جدا، ولأجل عدم انطباقه على ثلاثة قرون قال ابن حجر العسقلاني: وفي هذا الوقت (220 ه) ظهرت البدع فاشيا، وأطلقت المعتزلة ألسنتها، ورفعت الفلاسفة رؤوسها، وأمتحن أهل العلم ليقولوا بخلق القرآن، وتغيرت الأحوال تغيرا شديدا ولم يزل الأمر في نقص إلى الآن (1). ولو افترضنا أن القرن يستعمل في مائة سنة فلا يصح تفسير الحديث به، لأن المحور في الحديث في تمييز قرن عن قرن آخر هو الأشخاص حسب أعمارهم، فعلى ذلك يجب أن يكون الملاك في تبادل القرون وتمايزها ملاحظة من كانوا يعيشون فيه حيث قال: " خير أمتي قرني " ولم يقل القرن الأول ثم قال " ثم الذين يلونهم " فلم يقل ثم القرن الثاني وقال: " ثم الذين يلونهم " ولم يقل القرن الثالث، فلا محيص عند حساب السنين ملاحظة الأشخاص الذين كانوا يعيشون في قرنه والقرنين اللذين يليانه. الثالث: ماذا يراد من خير القرون وشرها، وما هو الملاك في الوصف بالخير والشر؟ فإن هناك ملاكات ثلاثة للخير والشر للوصف بهما وكل محتمل: 1 - فإن أهل القرن الأول كانوا خير القرون لأجل أنه لم يدب فيهم دبيب الخلاف في الأصول والعقائد، وكانوا متماسكين في الأصول متحدين في العقائد. 2 - كونهم خير القرون لأجل سيادة الطمأنينة عليهم وكان الجميع متظلل بظل الصلح والسلم إخوانا. 3 - كونهم خير القرون لأجل تمسكم بأهداف الدين في مقام العمل وتطبيق الشريعة. وأي واحد أريد من هذه الملاكات، فالقرآن والسنة والتاريخ القطعي لا
(1) ابن حجر العسقلاني: فتح الباري في شرح صحيح البخاري: 7 / 4. 46 يدعمه بل يكذبه، وإليك البيان: فإن كان الملاك، العقائد الصحيحة والباطلة وأن المسلمين كانوا متمسكين جملة واحدة، بمعتقد واحد صحيح في القرون الثلاثة الأولى ثم ظهرت رؤوس الشياطين ودبت فيهم المناهج الكلامية الفاسدة - فإن كان الملاك هذا - فتاريخ الملل والنحل لا يصدق ذلك بل ويكذبه، فإن الخوارج ظهروا بين الثلاثين والأربعين من القرن الأول وكانت لهم ادعاءات وشبهات وعقائد سخيفة خضبوا في طريقها وجه الأرض، ولم يتم القرن الأول إلا ظهرت المرجئة الذين دعوا المجتمع الإسلامي إلى الانحلال الأخلاقي رافعين عقيرتهم بأنه لا تضر مع الإيمان معصية، فقد ضلوا وأضلوا كثيرا حتى دب الإرجاء بين المحدثين وغيرهم في القرن الثاني وقد ذكر أسماءهم جلال الدين السيوطي في تدريب الراوي (1). كان الإرجاء يقود المجتمع الإسلامي إلى الانحلال الأخلاقي والفوضى في جانب العمل إلى أن ظهرت المعتزلة في أوائل القرن الثاني عام 105 ه قبل وفاة الحسن البصري بقليل، فتوسع الشقاق بين المسلمين وقسمهم إلى فرق كثيرة، وكان النزاع قائما على قدم وساق منذ أن ظهر الاعتزال عن طريق واصل بن عطاء إلى أواسط القرن الخامس الذي قضي فيه على الاعتزال. إن القرن الثاني كان عصر ازدهار المذاهب الكلامية وكانت الأمصار ميدانا لتضارب الأفكار. فمن متزمت يقتصر في وصفه سبحانه بالألفاظ الواردة في الكتاب والسنة ويفسرها بمعانيها الحرفية، من دون إمعان وتدبر، ويرفع صوته بأن لله يدا ووجها ورجلا وأنه مستقر على عرشه. إلى مرجئي يكتفي بالإيمان بالقول، ويقدمه ويؤخر العمل يسوق المجتمع
(1) السيوطي: تدريب الراوي: 1 / 328. 47 إلى الانحلال الخلقي وترك الفرائض. إلى محكم يكفر كل الطوائف الإسلامية غير أهل نحلته الذين كانوا يبغضون الخليفتين عثمان وعليا وكانوا يكفرون الصديق الأعظم علي (عليه السلام). إلى معتزلي يؤول الكتاب والسنة إلى ما يوافق معتقده وعقليته. إلى جهمي ينفي صفات الله كلها، وينفي الاستطاعة والقدرة عن الإنسان ويحكم بفناء الجنة والنار. وقد هلك جهم بن صفوان عام 128 ه. إلى كرامي يقول: الإيمان قول باللسان وإن اعتقد الكفر بقلبه فهو مؤمن، وإنه سبحانه جسم لا كالأجسام. وقد هلك " كرام " عام 255 ه. إلى غير ذلك من المناهج الرجعية التي أفسدت المسلمين والمجتمع الإسلامي بعقائدها الفاسدة، فكيف يمكن - من هذا الجانب - وصف هذه القرون خيرا؟! هذا إذا كان الملاك في الوصف بالخير وحدة، المسلمين في العقيدة. وإن كان الملاك صفاء المجتمع من حيث السلم والصلح وسيادة الطمأنينة على المسلمين فهذا ما يكذبه التاريخ، فإن القرن الأول كان صحيفة سوداء في التاريخ الإسلامي، وكان قرنا دمويا لم ير التاريخ مثله. فكيف يكون خير القرون؟! وأي يوم فيه كان يوم صفاء وصلح؟! أيوم قتل فيه الخليفة عثمان بن عفان في عقر داره بمرآى ومسمع من المهاجرين والأنصار؟ أيوم فتنة الجمل الذي قتلت فيه عشرات الآلاف من الطرفين بين صحابي وتابعي وقد عقب ذلك ترميل النساء وإيتام الأطفال وحدوث الأزمة والشدة؟ أيوم صفين الذي خرج فيه أمير الشام بوجه الإمام علي (عليه السلام) الذي
48 بايعه المهاجرون والأنصار، بيعة لم ير لها نظير في التاريخ، فظهر صدام بين طائفتين من المسلمين كانت نتيجته إراقة دماء عشرات الألوف إلى أن انتهت إلى التحكيم؟ أيوم ظهر الخوارج على الساحة الإسلامية يغيرون ويقتلون الأبرياء إلى أن انتهت فتنتهم بقتل مشايخهم في النهروان؟ أيوم أغير على آل رسول الله بكربلاء وقتل فيه أبناء المصطفى وفيهم سبطه وريحانته سيد شباب أهل الجنة، وسبيت بنات الزهراء ومن معهن من نساء أهل البيت حتى لم يبق بيت له برسول الله صلة إلا وقد ضجت فيه النوائح وعمته الآلام والأحزان؟ أيوم أبيحت فيه مدينة رسول الله في وقعة الحرة الشهيرة فقتل الأصحاب والتابعون ونهبت الأموال، وبقرت بطون الحوامل، وهتكت الأعراض، حتى ولدت الأبكار لا يعرف من أولادهن؟ (1). أيوم حاصر جيش بني أمية مكة المكرمة والبيت العتيق ورموه بالحجارة لأجل القضاء على عبد الله بن الزبير؟ أيوم تسلم عبد الملك بن مروان منصة الخلافة وقد عين الحجاج بن يوسف عاملا على العراق، فسفك دماء طاهرة وقتل الأبرياء وزج بالسجون رجالا ونساء من دون أن تظلهم مظلة تقيهم حر الشمس وبرد الليل القارص؟ هذا وبعد لم يتم القرن الأول وهذه نماذج من حوادث دموية وقعت فيه، فكيف يمكن أن يكون ذلك القرن خير القرون وأفضلها وإن كان صاحب القرن هو الرسول الأعظم أفضل الخلق؟ إلا أن سيرته، من سيرة أمته التي وقفت على
(1) صائب عبد الحميد: منهج في الانتماء المذهبي: 281. 49 صورة مجملة من سيرتها الدموية (1). وإن كان الملاك هو تمسكهم بالدين في مجال الأحكام والفروع فهو أيضا لم يكن متحققا، وإن شئت فارجع إلى ما حدث بعد رحيل النبي في نفس عام الرحلة، فإن كثيرا ممن رأى النبي الأكرم وأدركه وسمع حديثه أصبح يمتنع عن أداء الزكاة، بل أصبح البعض مرتدا عن دين الإسلام لولا أن الخليفة الأول قام بقمعهم ورد عاديتهم. لا ندري هل نصدق هذا الحديث أم نؤمن بما حدث القرآن الكريم، حيث يعرف قوما أفضل وأعرف بمواقع الإسلام ممن كان في حضرة النبي من الصحابة الكرام، يقول سبحانه: * (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) * (المائدة - 54) قل لي من هؤلاء الذين يعتز الله بهم سبحانه ويفضلهم على أصحاب النبي؟ فلاحظ التفاسير (2). لا ندري هل نؤمن بهذا الحديث الذي رواه الشيخان أم نؤمن بما رواه نفسهما في باب آخر، قالا: قال رسول الله: يرد علي يوم القيامة رهط من أصحابي فيهلئون عن الحوض فأقول: يا رب أصحابي، فيقول: إنه لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى (3).
(1) لاحظ في الوقوف على هذه الحوادث المرة، تاريخ الطبري، تاريخ اليعقوبي، مروج الذهب للمسعودي وتاريخ الكامل للجزري، والإمامة والسياسة لابن قتيبة إلى غير ذلك من المعاجم التاريخية المعتبرة. (2) الرازي: مفاتيح الغيب: 3 / 427 تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري: 6 / 165. (3) ابن الأثير: جامع الأصول: 11 / 120 برقم 7973. 50 هل نؤمن بهذا الحديث أم نؤمن بما رواه المؤرخون في حياة الوليد بن عقبة وهو الذي وصفه سبحانه بكونه فاسقا وقال: * (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) * (الحجرات - 6) وقد أطبق المفسرون في نزولها على الوليد بن عقبة. هذا وقد ولي الكوفة أيام خلافة الخليفة الثالث فشرب الخمر وقام يصلي بالناس صلاة الفجر فصلى أربع ركعات، وكان يقول في ركوعه وسجوده: اشربي واسقني، ثم قاء في المحراب ثم سلم وقال: هل أزيدكم إلى آخر ما ذكره (1). وليس الوليد شخصا وحيدا بين من عاصر النبي الأكرم، بل كان فيهم أصناف مختلفة لا يمكن الحكم باستقامتهم فضلا عن الحكم بعدالتهم. فقد كان فيهم المنافقون المعروفون بالنفاق (2) والمختفون به (3) ومرضى القلوب (4) والسماعون كالريشة في مهب الرياح (5) وخالطوا العمل الصالح بالسيئ (6) والمشرفون على الارتداد (7) والمسلمون غير المؤمنين (8) والمؤلفة قلوبهم (9) والمولون أمام الكفار (10) والفاسق (11). نحن نترك تفسير الحديث إلى آونة أخرى ولعل المحققين يجدون له تفسيرا ينطبق على التاريخ القطعي المشهور والملموس.
(1) ابن الأثير: الكامل: 2 / 52، الجزري: أسد الغابة: 5 / 91 إلى غيرهما من المصادر الكثيرة. (2) سورة المنافقون: الآيات 1 - 8. (3) التوبة: 101. (4) الأحزاب: 12. (5) التوبة: 45 - 47. (6) التوبة: 102. (7) آل عمران: 154. (8) الحجرات: 14. (9) التوبة: 60. (10) الأنفال: 16. (11) الحجرات: 6. 51 الابتداع في تفسير البدعة: إن من البدعة في تفسيرها، هو جعل السلف معيارا للحق والباطل والإصرار عليه، ترى أن كثيرا ممن ينتمون إلى السلفية يصفون كثيرا من الأمور بالبدعة بحجة أنها لم تكن في عصر الصحابة والتابعين، وهذا ابن تيمية يصف الاحتفال في مولد النبي بدعة بحجة أنه لم يفعله السلف مع قيام المقتضى له وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا، لكان السلف - رضي الله عنهم - أحق منا فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله وتعظيما له منا وهم على الخير أحرص (1). ويقول في حق القيام للمصحف وتقبيله: " لا نعلم فيه شيئا مأثورا عن السلف " (2). وقد ورث هذه الفكرة كثير ممن يؤمن بمنهجه، وهذا هو عبد الله بن سليمان ابن بليهد الذي قام باستفتاء علماء المدينة بتخريب قباب الصحابة وأئمة أهل البيت في بقيع الغرقد عام 1344 ه وقد نشر مقالا في جريدة أم القرى في عدد جمادى الآخر سنة 1345 ه وجاء فيها قوله: لم نسمع في خير القرون أن هذه البدعة: البناء على القبور، حدثت فيها بل بعد القرون الخمسة (3). وبدورنا نشكر الشيخ ابن بلهيد حيث وسع الأمر على المسلمين وأدخل عليها قرنين آخرين بعدما قصر مؤلف الهدية السنية العصمة على أهل القرون الثلاثة الأولى، ولكن نهيب بصاحب المقال بأن المسلمين وفي مقدمتهم عمر بن
(1) ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم: 276. (2) ابن تيمية: الفتاوى الكبرى: 1 / 176. (3) السيد الأمين: كشف الارتياب: 357 - 358. 52 الخطاب - رضي الله عنه - قد فتحوا القدس وفيها مقابر الأنبياء ومقام إبراهيم ويعقوب وأولادهم وعليها قباب وأبنية ولم يدر بخلد أحد، حتى الخليفة بأنها بدعة كي يهدموها بمعاولهم. إن هناك كلاما جميلا للأستاذ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، فقد ألف كتابا باسم " السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي " وقد أدى فيه حق المقال، نقتطف منه ما يلي: إن من الخطأ بمكان أن نعمد إلى كلمة (السلف) فنصوغ منها مصطلحا جديدا، طارئا على تاريخ الشريعة الإسلامية والفكر الإسلامي، ألا وهو " السلفية " فنجعله عنوانا مميزا تندرج تحته فئة معينة من المسلمين، تتخذ لنفسها من معنى هذا العنوان وحده مفهوما معينا، وتعتمد فيه على فلسفة متميزة، بحيث تغدوا هذه الفئة بموجب ذلك، جماعة إسلامية جديدة، في قائمة جماعات المسلمين المتكاثرة والمتعارضة بشكل مؤسف في هذا العصر، تمتاز عن بقية المسلمين بأفكارها وميولاتها بل تختلف عنهم حتى بمزاجها النفسي ومقاييسها الأخلاقية كما هو الواقع اليوم فعلا. بل إنما لا نعدو الحقيقة إن قلنا: إن اختراع هذا المصطلح بمضامينه الجديدة التي أشرنا إليها، بدعة طارئة في الدين، لم يعرفها السلف الصالح لهذه الأمة ولا الخلف الملتزم بنهجه. فإن السلف - رضوان الله عليهم - لم يتخذوا من معنى هذه الكلمة بحد ذاتها مظهرا لأي شخصية متميزة، أو أي وجود فكري أو اجتماعي خاص بهم، يميزهم عمن سواهم من المسلمين، ولم يضعوا شيئا من يقينهم الاعتقادي أو التزاماتهم السلوكية والأخلاقية في إطار جماعة إسلامية ذات فلسفة وشخصية فكرية مستقلة. بل كان بينهم وبين من نسميهم اليوم بالخلف منتهى التفاعل وتبادل
53 الفهم والأخذ والعطاء تحت سلطان ذلك المنهج الذي تم الاتفاق عليه، والاحتكام إليه، ولم يكن يخطر في بال السابقين منهم ولا اللاحقين بهم أن حاجزا سيختلق ليرتفع ما بينهما، بصنع طائفة من المسلمين فيما بعد، وليقسم سلسلة الأجيال الإسلامية إلى فريقين، يصبغ كلا منهما بلون مستقل من الأفكار والتصورات والاتجاهات، بل كانت كلمتا السلف والخلف في تصوراتهم لا تعني - من وراء الانضباط بالمنهج الذي ألمحنا إليه - أكثر من ترتيب زماني كالذي تدل عليه كلمتا: (قبل وبعد) (1). إن ما ذكره هذا المحقق هو الحق القراح الذي لا يرتاب فيه من له إلمام بالكتاب والسنة وسيرة المسلمين وتاريخهم، وأين هذا وما ذكره الدكتور سيد الجميلي حيث جعل للسلفية والسلف حقيقة شرعية وقال: كلمة السلفية والسلف مصطلحان شرعيان (2) وليس هذا الاشتباه منه ببعيد لضآلة علمه بالتاريخ وإن كنت في شك فانظر كيف فسر الأشاعرة بقوله: هم من أتباع أبي موسى الأشعري المتوفى سنة 44 ه مع أنهم من أتباع أبي الحسن الأشعري المولود عام 260 ه والمتوفى عام 324 ه وهو من أحفاد أبي موسى الأشعري، فهذا مبلغ علمه ويريد أن يقضي به بين الفقهاء والمجتهدين والمحدثين!!
(1) الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي: السلفية: 13 - 14. (2) الدكتور سيد الجميلي: مناظرات ابن تيمية مع فقهاء عصره. 54 الفصل الخامس البدعة وأسباب نشوئها البدعة عمل اختياري للمبدع ولها - كسائر الأفعال الاختيارية - أسباب وغايات يعد الجميع مناشئ لها ولا توجد البدعة إلا في ظل أسباب وغايات، ومن خلال عرض النصوص الدينية وما دخل في التاريخ من بدع، يمكن التوصل إلى ما نتبناه في هذا الفصل. 1 - المبالغة في التعبد لله تعالى: هذا العنوان ذكره الشاطبي لدى تعريفه للبدعة، حيث قال: " طريقة مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تبارك وتعالى " (1). وهذا وإن لم يكن أمرا كليا صادقا في جميع مواردها لكنه أحد أسباب نشوء البدع، كما يشهد له التاريخ، ولعل من هذا المنطلق استأذن عثمان بن مظعون النبي في
(1) الشاطبي: الإعتصام: 1 / 37. 55 الإخصاء فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " ليس منا من خصي أو اختصى إن اختصاء أمتي الصيام "، إلى أن قال: ائذن لي في الترهب، قال: " إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد لانتظار الصلاة " (1). فإن المبتدع ربما يتصور أن ما اخترعه من طريقة توصله إلى رضا الله سبحانه أكثر مما رسمه صاحب الشريعة، فلأجل ذلك يترك قول الشارع ويعمل طبق فكرته ويذيع ذلك بين الناس باسم الشرع، ولهذا أيضا شواهد في التاريخ نقتطف منها ما يلي: أ - روى جابر بن عبد الله: إن رسول الله كان في سفر فرأى رجلا عليه زحام قد ظلل عليه فقال: " ما هذا؟ " قالوا: صائم، قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " ليس من البر الصيام في السفر " (2). ب - روى الكليني عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج من المدينة إلى مكة في شهر رمضان ومعه الناس وفيهم المشاة، فلما انتهى إلى كراع الغميم دعا بقدح من ماء فيما بين الظهر والعصر فشرب وأفطر ثم أفطر الناس معه وثم أناس على صومهم فسماهم رسول الله العصاة وإنما يؤخذ بآخر أمر رسول الله (3). فإن الإنسان المتزمت يتخيل أنه لو سافر صائما يكن عمله أكثر قبولا عند الله تبارك وتعالى، ولكنه غافل عن مناطات التشريع وملاكاتها العامة التي توجب الإفطار في السفر ليكون الدين رفقا بالإنسان يجذب الناس إليه، قال سبحانه: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * (الحج - 78). ج - روى مالك في الموطأ: إن رسول الله رأى رجلا قائما في الشمس فقال؟
(1) الشاطبي: الإعتصام: 1 / 325. (2) أحمد بن حنبل: المسند: 3 / 319 و 399، لاحظ الفقيه للصدوق: 2 / 92 الحديث 2. (3) الكليني: الكافي: 4 / 127 ح 5 باب كراهية الصوم في السفر. 56 " ما بال هذا؟ " قال: نذر ألا يتكلم ولا يستظل من الشمس ويصوم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " مره فليتكلم وليستظل وليجلس وليتم صيامه " (1). د - روى البخاري عن قيس بن أبي حازم: دخل رسول الله على امرأة فرآها لا تتكلم فقال: " ما لها؟ " فقيل: حجة مصمتة، فقال لها: " تكلمي فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية " فتكلمت (2). ه - إن متعة الحج مما نص عليها الكتاب العزيز فقال: * (ومن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) * (البقرة - 196) والمقصود من متعة الحج هو حج التمتع، وهو أن ينشئ المتمتع بها إحرامه في أشهر الحج من الميقات، فيأتي مكة ويطوف بالبيت ثم يسعى بين الصفا والمروة ثم يقصر ويحل من إحرامه، فيقيم بعد ذلك محلا حتى ينشئ في تلك السنة نفسها إحراما آخر للحج من مكة ويخرج إلى عرفات، ثم يفيض إلى المشعر الحرام ثم يأتي بأفعال الحج على ما هو مبين في محله، هذا هو التمتع بالعمرة إلى الحج وهو فرض بعد عن مكة بثمانية وأربعين ميلا من كل جانب، وإنما أضيف الحج بهذه الكيفية إلى التمتع (حج التمتع) أو قيل عنه: التمتع بالحج، لما فيه من المتعة أي اللذة بإباحة محظورات الإحرام في المدة المتخللة بين الإحرامين. ولكن كان بين صحابة النبي من يستكره ذلك، روى الدارمي قال: سمعت عام حج معاوية يسأل سعد بن مالك: كيف تقول بالتمتع بالعمرة إلى الحج؟ قال: حسنة جميلة، فقال: قد كان عمر ينهى عنها فأنت خير من عمر؟ قال: عمر خير مني وقد فعل ذلك النبي هو خير من عمر (3).
(1) مالك ابن أنس: الموطأ، كتاب الإيمان والنذور: 317 ح 1022. (2) البخاري: الصحيح: 5 / 41 - 42 باب أيام الجاهلية. (3) الدارمي: السنن: 2 / 36 كتاب المناسك. 57 وروى الترمذي قال: حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك بن أنس عن ابن شهاب عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك ابن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال الضحاك بن قيس: لا يصنع ذلك إلا من جهل أمر الله تعالى. فقال سعد: بئس ما قلت يا بن أخي! فقال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك. فقال سعد: قد صنعها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصنعناها معه، هذا حديث صحيح. وروى ابن إسحاق عن الزهري عن سالم قال: إني لجالس مع ابن عمر في المسجد إذ جاءه رجل من أهل الشام فسأله عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال ابن عمر: حسن جميل. قال: فإن أباك كان ينهى عنها. فقال: ويلك! فإن كان أبي نهى عنها وقد فعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمر به، أفبقول أبي آخذ، أم بأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟! قم عني (1). ولأجل ذلك كان هذا الصحابي يحرم بإحرام واحد للعمرة والحج، مع أن النبي أمر بإحرامين: إحرام للعمرة ثم يتحلل ويتمتع بمحظورات الإحرام ثم يحرم للحج، وما هذا إلا لزعم أن ترك التمتع بين العملين أكثر قربة إليه تعالى وقد برر فتواه بعد الاعتراف، بأن عمرة التمتع سنة رسول الله بقوله: ولكنني أخشى أن يعرسوا بهن تحت الأراك ثم يروحوا بهن حجاجا (2). هذه نماذج من كثير مما تعرض إليها التاريخ في شتى المناسبات، والجامع لذلك هو المبالغة في التعبد لله - حسب زعمه - وهي ناشئة عن قلة استيعاب المبتدع على ما يجب أن يعرفه، فإن الله سبحانه أعرف بمصالح العباد ومفاسدهم
(1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 2 / 388. (2) أحمد بن حنبل: المسند: 1 / 49. 58 وبأسباب السعادة والشقاء ولا يشذ عن علمه شئ، وكم في التاريخ الإسلامي شواهد واضحة على هذا النوع من السبب (1). 2 - اتباع الهوى: إن استعراض تاريخ المتنبئين الذين ادعوا النبوة عن كذب ودجل، يثبت بأن الأهواء وحب الظهور والصدارة كان له دور كبير في نشوء هذه الفكرة وظهورها على صعيد الحياة، والمبتدع وإن لم يكن متنبئا إلا أن عمله شعبة من شعب التنبؤ، وفي الروايات إشارات وتصريحات على ذلك. خطب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الناس فقال: أيها الناس إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع، وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب الله، يتولى فيها رجال رجالا... (2). إن لحب الظهور دورا كبيرا في الحياة الإنسانية فلو كانت هذه الغريزة جامحة لأدت بالإنسان إلى ادعاء مقامات ومناصب تختص بالأنبياء، ولعل بعض المذاهب الظاهرة بين المسلمين في القرون الأولى كانت ناشئة عن تلك الغريزة. روى ابن أبي الحديد في شرح النهج أن عليا مر بقتلى الخوارج فقال: بؤسا لكم لقد ضركم من غركم، فقيل: ومن غرهم؟ فقال: الشيطان المضل، والنفس الأمارة بالسوء، غرهم بالأماني وفسحت لهم في المعاصي ووعدتهم الإظهار فاقتحمت بهم النار (3).
(1) لاحظ السيرة النبوية لابن هشام، صلح الحديبية: 2 / 316 - 317. (2) الكليني: الكافي: 1 / 54 ح 1، باب البدع. (3) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة: 19 / 235. 59 3 - حب الاستطلاع إلى ما هو دونه: إن حب الاستطلاع من نعم الله سبحانه، إذ في ظله يقف الإنسان على مجاهيله ويكتشف معلومات تهمه في حياته، ولولا ذلك الحب لكان الإنسان اليوم في أوليات حياته في العلم والمعرفة قال سبحانه: * (الله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) * (النحل - 78) ومع اشتراك الكل في تلك النعمة المعنوية إلا أن الطاقات الكامنة لدى الإنسان تختلف من واحد إلى آخر، فليس لكل إنسان قابلية التطلع إلى كل شئ واستعراض جميع المجاهيل، ولأجل ذلك ربما أدى ذلك العمل إلى الزلة في الفكر والمعتقد، ولذلك ترى عليا (عليه السلام) ينهى عن الغور في القدر فيقول: " طريق مظلم فلا تسلكوه، وبحر عميق فلا تلجوه، وسر الله فلا تتكلفوه " (1). ولكن الإمام نفسه تكلم في مواضيع أخر عن القضاء والقدر ولكن حينما يجد إنسانا مقتدرا على درك المفاهيم الغامضة. إن القرون الثلاثة الأول، كانت قرون ظهور المذاهب الكلامية والفقهية وكانت الأمصار وحواضرها الكبرى ميدانا لمطارحات الفرق المختلفة، وقد ظهرت في تلك القرون أكثر المذاهب والفرق، مع أن الحق كان في طرف واحد، فلو أنهم توحدوا في العقائد، لما أدى بهم الأمر إلى شق العصى وإيجاد الفرقة، وبالتالي ذهاب الوحدة الإسلامية في مهب الريح ضحية البحوث الكلامية والفقهية وغير ذلك. كان للخوض في الآيات المتشابهات دور كبير في ظهور البدع في الصفات
(1) نهج البلاغة: قسم الحكم: رقم 287. 60 الخبرية، وفي تفسير اليد والرجل والوجه لله سبحانه الواردة في الكتاب والسنة، فقد كان البسطاء يخوضون في تفسيرها من دون إرجاعها إلى المحكمات التي هي أم الكتاب وما هذا إلا لأجل قصور أفهامهم وقلة بضاعتهم العلمية، فكان واجبهم السكوت وسؤال الراسخين في العلم، دون الخوض فيها. إن للشيخ الرئيس أبي علي ابن سينا نصيحة لطلاب الفلسفة والحكمة، يحثهم على أن لا يذيعوا ذلك العلم بين أناس ليس لهم قابلية التفكر الواسع ويقول في آخر كتاب الإشارات: " أيها الأخ إني قد مخضت لك في هذه الإشارات عن زبدة الحق، وألقمتك قفي (1) الحكم في لطائف الكلم. فصنه عن الجاهلين والمبتذلين ومن لم يرزق الفطنة الوقادة والدربة والعادة وكان صغاه (2) مع الغاغة، أو كان من ملحدة هؤلاء الفلاسفة ومن همجهم فإن وجدت من تثق بنقاء سريرته واستقامة سيرته وبتوقفه عما يتسرع إليه الوسواس، وبنظره إلى الحق بعين الرضا والصدق فآته ما يسألك منه مدرجا مجزءا مفرقا تستفرس مما تسلفه لما تستقبله. وعاهده بالله وبأيمان لا مخارج لها ليجري فيما يأتيه مجراك متأسيا بك فإن أذعت هذا العلم أو أضعته فالله بيني وبينك وكفى بالله وكيلا (3). 4 - التعصب الممقوت: وهناك سبب آخر لا يقل تأثيره عما سبق من الأسباب وهو تقليد الآباء والأجداد وصيانة كيانهم وسننهم فإن اتباع الأهواء القبلية والقومية وما شاكل فإنها
(1) القفي: الشئ الذي يؤثر به للضيف. (2) صغاه: ميله. (3) كتاب الإشارات: 3 / 419. 61 من أعظم سدود المعرفة وموانعها، وهي التي منعت الأمم عبر التاريخ من الخضوع أمام براهين الأنبياء ورسله الواضحة كما يقول سبحانه: * (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) *. ومن هذا المنطلق، اقترح تميم بن جراشة على النبي - عندما جاء على رأس وفد من الطائف يخبره بإسلام قومه - اقترح عليه: أن يكتب لهم كتابا بأن يفي لهم بأمور يقول: قدمت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في وفد ثقيف فأسلمنا وسألناه أن يكتب لنا كتابا فيه شروط؟ فقال: اكتبوا ما بدا لكم ثم إيتوني به، فسألناه في كتابه أن يحل لنا الربا والزنا فأبى علي - رضي الله عنه - أن يكتب لنا، فسألنا خالد بن سعيد بن العاص فقال له علي: تدري ما تكتب؟ قال: أكتب ما قالوا ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أولى بأمره، فذهبنا بالكتاب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال للقارئ: إقرأ، فلما انتهى إلى الربا قال: ضع يدي عليها في الكتاب، فوضع يده فقال: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا) * الآية، ثم محاها، وألقيت علينا السكينة فما راجعناه فلما بلغ الزنا وضع يده عليها (وقال): * (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة) * الآية، ثم محاه وأمر بكتابنا أن ينسخ لنا (1). ورواه ابن هشام بصورة أخرى قال: وقد كان مما سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدع لهم الطاغية، وهي اللات، لا يهدمها ثلاث سنين، فأبى رسول الله ذلك عليهم فما برحوا يسألونه سنة سنة، ويأبى عليهم، حتى سألوا شهرا واحدا بعد مقدمهم، فأبى عليهم أن يدعها شيئا مسمى، وإنما يريدون بذلك فيما يظهرون أن يتسلموا بتركها من سفهائهم ونسائهم وذراريهم ويكرهون أن يروعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الإسلام، فأبى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أن يبعث أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن
(1) ابن الأثير: أسد الغابة: 1 / 216 مادة " تميم " و ج 3 / 406. 62 شعبة فيهدماها، وقد كانوا سألوه مع ترك الطاغية أن يعفيهم من الصلاة، وأن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أما كسر أوثانكم بأيديكم فسنعفيكم منه، وأما الصلاة، فإنه لا خير في دين لا صلاة فيه، فقالوا: يا محمد! فسنؤتيكها، وإن كانت دناءة (1). انظر إلى التعصب المميت للعقل يسأل رسول الله - الذي بعث لكسر الأصنام وتحطيم كل معبود سوى الله - أن يدع لهم الطاغية وهي اللات لا يهدمها ثلاث سنين وكان هذا الاقتراح نابعا عن العصبية لطرق الآباء وسلوكهم. وكان المقترح في حضرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يريد الابتداع في الدين بيده. هذه هي الأسباب العامة وهناك أسباب خاصة لظهور البدع في المجتمع الإسلامي لا تخفى على القارئ الكريم. 5 - التسليم لغير المعصوم: إن من أسباب نشوء البدع التسليم لغير المعصوم، فلا شك أنه يخطأ وربما يكذب فالتسليم لقوله سبب للفرية على الله سبحانه والتدخل في دينه عقيدة وشريعة. إذا كان النبي الأكرم خاتم النبيين وكتابه خاتم الكتب وشريعته خاتم الشرائع فلا حكم إلا ما حكم به، ولا سنة إلا ما سنه، والخروج عن هذا الإطار تمهيد لطريق المبتدعين، وعلى ضوء ذلك فلا معنى معقول لتقسيم السنة إلى سنة النبي وسنة الصحابة، وتلقي الأخيرة حجة شرعية وإن لم يسندها إلى المصدرين
(1) ابن هشام: السيرة النبوية: 2 / 537 - 543. 63 الرئيسيين. إن كتب الحديث والفقه تطفح بسنة الصحابة، وهناك سنن تنسب إلى الخليفة الأول وإلى الثاني وإلى الثالث، فما معنى هذه السنن لو لم تستند إلى الكتاب والسنة ولو أسندت فلا معنى لإضافتها إليهم. والإفتاء بمضمون تلك السنن بدعة في الشريعة. وهناك كلام للدكتور عزت علي عطية، فقد جعل الاقتداء بأئمة أهل البيت تسليما لغير المعصوم ثم قال: نتسائل عن الصلة بين هذا الإمام وبين الله جل جلاله، هل هي وحي، أم إلهام أم حلول؟ إن كانت وحيا فقد نفوه، وإن كانت حلولا فهو الكفر، بعينه، وإن كانت إلهاما فما الذي يفرق بينه وبين وساوس الشيطان وخطرات النفوس (1). إن الدكتور عطية لم يدرس عقائد الإمامية حقها وإنما اكتفى بكتاب صغير كتب في بيان العقائد لا في البرهنة عليها، ولو أنه رجع إلى علمائهم ومؤلفاتهم لوقف على الدليل على عصمة الأئمة فإن أحد الأدلة هو حديث الثقلين الذي أطبق المحدثون على نقله وهو أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما. فإن كانت العترة عدلا للكتاب وقرينا له فتوصف بوصفه، فالكتاب معصوم عن الخطأ * (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) * فتكون العترة مثله. وأما مصدر علومهم، فغالب علومهم مأخوذ من الكتاب والسنة إذ أخذ علي (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأخذ الحسن (عليه السلام) عن أبيه، وهكذا كل إمام أخذ عن أبيه، علم يتناقل ضمن هذه السلسلة الطاهرة المعروفة، ولم يأخذ أحد
(1) الدكتور عزت علي عطية: البدعة: 245. 64 منهم (عليهم السلام) عن صحابي ولا تابعي أبدا، بل أخذ الجميع عنهم ومنهم انتقلت العلوم إلى الآخرين كما تلقاها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من لدن حكيم خبير. قال الإمام الباقر (عليه السلام): " لو كنا نحدث الناس برأينا وهوانا لهلكنا ولكن نحدثهم بأحاديث نكنزها عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم ". وهناك مصدر آخر لعلومهم وهو أنهم محدثون كما أن مريم كانت محدثة، كما كان عمر بن الخطاب محدثا حسب ما رواه البخاري، روى أبو هريرة قال: قال النبي: " لقد كان فيمن قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء فإن كان من أمتي أحد فعمر " (1). والدكتور خلط التحدث بالوحي: وأما أنهم بماذا يميزون الإلهام عن وساوس الشيطان، فليس بأمر عسير فإن الوساوس تدخل القلب بتردد والإلهام يرد النفس بصورة علم قاطع ولأجل ذلك تلقت مريم وأم موسى ما ألهما به، كلاما إلهيا، لا وسوسة شيطانية.
(1) البخاري: الصحيح: 2 / 194، باب مناقب عمر بن الخطاب. 65 الفصل السادس في تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة إذا كانت البدعة بمعنى التدخل في أمر الشرع بزيادة أو نقيصة في مجالي العقيدة والشريعة من غير فرق بين العبادات والمعاملات والإيقاعات والسياسات، فليس لها إلا قسم واحد لا يثنى ولا يتكثر ولكن ربما تقسم البدعة إلى تقسيمات نذكر منها ما يلي: البدعة الحسنة والبدعة السيئة: لقد جاء هذا التقسيم في كلمات الإمام الشافعي، وابن حزم والغزالي والدهلوي وابن الأثير إلى غير ذلك، والأصل في ذلك قول الخليفة عمر بن الخطاب، وقد ظهر على لسانه في السنة الرابعة عشرة من الهجرة عندما جمع الناس للصلاة بإمامة أبي بن كعب في شهر رمضان، ووصف الجماعة بقوله " نعمت البدعة هذه " والأصل في ذلك ما رواه البخاري (1) وغيره.
(1) البخاري: الصحيح: 3 / 44 - 45 كتاب الصوم، باب فضل من قام رمضان. 67 قال عبد الرحمن بن عبد القارئ: خرجت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ليلة رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجال فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب، ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعمت البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله (1). إن إقامة صلاة التراويح جماعة لا تخلو من صورتين: الأولى: إذا كان لها أصل في الكتاب والسنة، فعندئذ يكون عمل الخليفة إحياء لسنة متروكة سواء أراد إقامتها جماعة أو جمعهم على قارئ واحد، فلا يصح قوله: " نعمت البدعة هذه " إذ ليس عمله تدخلا في الشريعة. الثانية: إذا لم يكن هناك أصل في المصدرين الرئيسين، لا لإقامتها جماعة أو لجمعهم على قارئ واحد، وإنما كره الخليفة تفرق الناس، ولأجل ذلك أمرهم بإقامتها جماعة، أو بقارئ واحد، وعندئذ تكون هذه بدعة قبيحة محرمة. توضيح ذلك: إن البدعة التي تحدث عنها الكتاب والسنة هي التدخل في أمر الدين بزيادة أو نقيصة والتصرف في التشريع الإسلامي، وهي بهذا المعنى لا يمكن أن تكون إلا أمرا محرما ومذموما ولا يصح تقسيمه إلى حسنة وقبيحة، وهذا شئ واضح ولا يحتاج إلى استدلال. نعم، البدعة بالمعنى اللغوي التي تعم الدين وغيره تنقسم إلى قسمين، فكل شئ محدث مفيد في حياة المجتمعات من العادات والرسوم، إذا أدي به من دون
(1) ابن الأثير: النهاية: 1 / 79. 68 الإسناد إلى الدين، ولم يكن محرما بالذات شرعا، كان بدعة حسنة، أي أمرا جديدا مفيدا للمجتمع، كما إذا احتفل الشعب بيوم استقلاله في كل عام، أو اجتمع للبراءة من أعدائه أو أقام الأفراح لمولد بطل من أبطاله، وبالجملة ما هو حلال بالذات لا مانع من أن تتفق عليه الأمة وتتخذه عادة ومتبعا في المناسبات ويكون بدعة لغوية. نعم، ما كان محرما بالذات، فلو اتخذ أمرا مرسوما ورائجا مثل دخول النساء سافرات متبرجات في مجالس الرجال في الاستقبالات والضيافات، فهذا أمر حرام بالذات أولا، وليس بمحرم من باب البدعة الشرعية بمعنى التدخل في أمر الدين والتسنين فيه والتشريع على خلاف ما شرعه الشارع، وإنما هو عمل محرم اتخذ رائجا لا باسم الدين ولا باسم الشريعة وأقصى ما يعتذر بأنه مقتضى الحضارة العصرية مع الاعتراف بكونه مخالفا للشرع، ولو قيل إنه بدعة قبيحة أو مذمومة، فإنما هو بحسب معناها اللغوي. وبذلك يظهر أن أكثر من أطنب الكلام في تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة، فقد خلط البدعة في مصطلح الشرع بالبدعة اللغوية فأسهبوا في الكلام وأتوا بأمثلة كثيرة زاعمين أنها من البدع الشرعية مع أن أمرها يدور بين أمرين: إما أنها عمل ديني يؤتى بها باسم الدين والشريعة ولكن يوجد لها أصل فيهما فتخرج بذلك من تحت البدعة، كتدوين الكتاب والسنة إذا خيف عليهما التلف من الصدور، وبناء المدارس والربط وغيرهما، وقد مثلوا بالتدوين للبدعة الواجبة وببناء المدارس والربط بالبدعة المستحبة، مع أنهما ليسا ببدعة لوجود أصل صالح لهما في الشريعة. أو أنها عمل عادي لا يؤتى بها باسم الدين بل يؤتى بها لأجل تطوير الحياة وطلب الرفاه، فتكون خارجا عن موضوع البدعة في الشرع كنخل الدقيق، فقد ورد
69 أن أول شئ أحدثه الناس بعد رسول الله، اتخاذ المناخل ولين العيش من المباحات. وإنما يصح إطلاق البدعة عليها بالمعنى اللغوي بمعنى الشئ الجديد سواء كان عملا دينيا أو عاديا، وقد وافقنا على نفس ذاك التقسيم لفيف من المحققين. منهم أبو إسحاق الشاطبي في كلام مسهب نذكر منه ما يلي: إن متعقل البدعة يقتضي ذلك بنفسه لأنه من باب مضادة الشارع واطراح الشرع، وكل ما كان بهذه المثابة فمحال أن ينقسم إلى حسن وقبيح، وأن يكون منه ما يمدح ومنه ما يذم، إذ لا يصح في معقول ولا منقول استحسان مشاقة الشارع، وأيضا فلو فرض أنه جاء في النقل استحسان بعض البدع أو استثناء بعضها عن الذم لم يتصور لأن البدعة طريقة تضاهي المشروعة من غير أن تكون كذلك. وكون الشارع يستحسنها دليل على مشروعيتها إذ لو قال الشارع: " المحدثة الفلانية حسنة " لصارت مشروعة. ولما ثبت ذمها، ثبت ذم صاحبها لأنها ليست بمذمومة من حيث تصورها فقط، بل من حيث اتصف بها المتصف، فهو إذن المذموم على الحقيقة، والذم خاصة التأثيم، فالمبتدع مذموم آثم، وذلك على الإطلاق والعموم (1). ومنهم العلامة المجلسي قال: إحداث أمر لم يرد فيه نص بدعة، سواء كان أصله مبتدعا أو خصوصياته مبتدعة فما ربما يقال: إن البدعة منقسمة بانقسام الأحكام الخمسة أمر باطل، إذ لا تطلق البدعة إلا على ما كان محرما كما قال رسول الله: " كل بدعة ضلالة وكل ضلالة سبيلها إلى النار " (2).
(1) الشاطبي: الموافقات: 1 / 142. (2) المجلسي: البحار: 2 / 303 ح 42. 70 ومنهم الشهيد في قواعده: محدثات الأمور بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تنقسم أقساما لا يطلق اسم البدعة عندنا إلا على ما هو محرم منها (1). سؤال وإجابة: وهناك سؤال يطرح نفسه، وهو أنه إذا كانت البدعة قسما واحدا وأمرا محرما مقابل السنة، لا تقبل التقسيم إلى غيره فما معنى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده، كتب له أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم من شئ، ومن سن سنة سيئة فعمل بها بعده كتب له مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شئ " (2). والجواب: أن الشق الأول راجع إلى المباحات العامة المفيدة للمجتمع كإنشاء المدارس والمكتبات وسائر الأعمال الخيرة، فلو أن رجلا قام - برفض الأمية - بإنشاء مدرسة أو مكتبة وصار عمله أسوة للغير، فقام الآخرون بإنشاء مدارس في سائر الأمكنة، فهو سنة حسنة. وأما الشق الثاني: فهو راجع إلى الأمور المحرمة بالذات فلو قام أحد بضيافة أشرك فيها النساء السافرات المتبرجات، ثم صار عمله قدوة للآخرين، فعلى هذا المسنن وزر عمله ووزر من عمل بسنته. وعلى ضوء ذلك فالحديث لا يمت بالبدعة المصطلحة، ولم يكن ببال أحد من الشخصين التدخل في أمر الشارع بالزيادة والنقيصة بل كل قام بعمل خاص حسب دواعيه وحوافزه النفسية، فالإنسان العاطفي يندفع إلى القسم الأول الذي
(1) الشهيد: القواعد والفوائد: 2 / 144 - 145 القاعدة 205، ونعلق على كلامه أن القسم إنما يكون بدعة إذا أتى باسم الدين، وإلا يكون محرما ومعصية لا بدعة. (2) مسلم: الصحيح: 8 / 61 كتاب العلم. 71 ربما يكون مباحا أو مسنونا، ومن حسن الحظ، يكون عمله قدوة، والإنسان الإجرامي يندفع إلى القسم الثاني، فيعصى الله سبحانه لا باسم البدعة بل بارتكاب عمل محرم ومن سوء الحظ يكون عمله قدوة. فكلا العملين لا صلة لهما بالبدعة الشرعية أصلا، ولو أطلقت فإنما تطلق عليهما بالمعنى اللغوي، أي إبداع أمر لم يكن، سواء أكان مباحا أم حراما، ومن المعلوم أنه ليس كل محرم بدعة وإن كانت كل بدعة محرمة.
72 الفصل السابع تقسيم البدعة إلى عادية وشرعية قد تعرفت على أن للبدعة تقسيمات باعتبارات مختلفة، وعرفت مدى صحة تقسيمها إلى الحسنة والسيئة، ومنها تقسيمها إلى عادية وشرعية، وهذا العنوان أوضح مما ذكره الشاطبي حيث قال: تقسيمها إلى العادية والتعبدية (1)، وذلك لأن الأمور التعبدية قسم من الأحكام الشرعية التي يعتبر في صحة امتثالها قصد القربة والإتيان بها لأجل التقرب وكسب الرضا وامتثال الأمر، وهي منحصرة بالطهارات الثلاث: الوضوء والتيمم والغسل بأقسامه، والصلاة والزكاة والصوم والحج والنذر وما ضاهاها ولكن الأمور الشرعية التي للشارع فيها دور، أوسع من التعبديات. ولذلك قسم الفقهاء الأحكام الشرعية إلى أربعة: 1 - العبادات ويدخل فيها ما ذكرناه من الأصناف. 2 - العقود وتدخل فيها عامة المعاملات مما تحتاج إلى إيجاب وقبول، كالبيع والرهن والوديعة والصلح والشركة والمضاربة والمساقاة والمزارعة إلى غير ذلك مما
(1) الشاطبي: الإعتصام: 2 / 79. 73 هو مذكور في محله. 3 - الإيقاعات وهي ما تقوم بجانب واحد كالطلاق بأقسامه والإيلاء والظهار وتدخل فيها المواريث إلحاقا حكما. 4 - السياسات ويدخل فيها القضاء والحدود والديات وما شابهها. فلو كان هناك شئ خارج عن الأبواب الأربعة موضوعا فهو بوجه ملحق بواحد منها، فهذه كلها أمور شرعية للشارع فيها دور، إما تأسيسا واختراعا كالعبادات والحدود والديات، أو إمضاء واعترافا لما في يد العقلاء لكن بتحديدها بشروط مذكورة في الفقه، فالتدخل في هذه الأبواب الأربعة بزيادة أو نقيصة كالنكاح بلا صداق، أو البيع بلا ثمن، والإجارة بلا أجرة، والطلاق في أيام الحيض، أو تجويز الربا وبيع الكلب والخنزير، أو تحوير الأحكام الشرعية في باب السياسات، كلها بدعة في أمور شرعية. فهذا ما يلزمنا من أن نعبر بالشرعية مكان التعبدية، إلا أن يراد منها ما يرادف مطلق الأحكام والأمور الشرعية فإذا لا مشاحة في الاصطلاح. وأما العادية فهي تدور بين تقاليد أو أعراف بين الناس سواء أكانت لها جذور في تاريخ الأقوام أم كانت أمرا محدثا، وبين ما هو تطوير في الحياة في عامة مظاهرها مما يمت بحياتهم الصناعية أو الثقافية أو الزراعية أو غير ذلك، وكل ذلك أمور عادية تركها الشارع إلى الناس وجعل الأصل فيها الإباحة لكنه حددها بأطر عامة ولم يتدخل في جزئياتها، فكلما لم تخالف الضوابط العامة فالناس فيها أحرار يفعلون ما يشاءون ويعملون ما يريدون بشرط أن لا تخرج عن تلك الأطر الكلية. فعلى ذلك يقع البحث في صدق البدعة في الأمور العادية مقابل الأمور الشرعية التي تعرفت على معناها الواسع، أو لا يقع. وبما أنك وقفت على حدود
74 البدعة وأنها عبارة عن الزيادة أو النقيصة في الشريعة والتدخل في الأمور الدينية، فلا تصدق في مورد الأمور العادية بأي نحو كانت، إذ ليست هي أمورا تمت بالشرع، فأمرها يدور بين الجائز والحرام لا بين البدعة والسنة. وليس كل حرام بدعة وإليك التوضيح: إن لكل قوم آدابا خاصة وسنة في اللقاءات السنوية والأمور العمرانية والخياطة والمعاشرة وفي كيفية استغلال الطبيعة، مثلا ربما تقتضي مصلحتهم تخصيص يوم واحد لتكريم زعيمهم، أو يوم واحد للبراءة من عدوهم، أو توجب المصالح التطوير في الأمور العمرانية وماضاهاها، أو في استغلال الطبيعة بالأجهزة الحديثة فقد ترك الشارع هذه الأمور إلى الناس ولم يتدخل فيها، إلا بوضع الأطر العامة لها، وهي أن لا يكون العمل مخالفا للقواعد والضوابط العامة، ولولا هذه المرونة لما كان الإسلام دينا عالميا سائدا ولتوقفت حركته منذ أقدم العصور، ونأتي بمزيد من التوضيح بمثال: قد حدثت في العصور الأخيرة عدة تقاليد في ميدان الألعاب الرياضية ككرة القدم والسلة، والطائرة والمصارعة والملاكمة وغير ذلك، فبما أنها أمور عادية محدثة فلا تعد بدعة في الدين ولو صح إطلاق البدعة فإنما هو باعتبار المعنى اللغوي أي الشئ الجديد في ميادين الحياة، لا في الأمور الشرعية، غاية الأمر يجب أن تحدد شرعيتها بالضوابط الكلية بأن لا يكون هناك اختلاط بين اللاعبين نساء ورجالا وأن لا يكون هناك ضرر وأضرار كما هو المحتمل في الملاكمة. والحاصل: أن الأصل في الأمور العادية هو البراءة حتى يدل دليل على خلافه. وقد صرح بذلك لفيف من العلماء منهم، ابن تيمية، يقول: إن أعمال الخلق تنقسم إلى قسمين:
75 1 - عبادات (1) يتخذونها دينا ينتفعون بها في الآخرة أو في الدنيا والآخرة والأصل أن لا يشرع منها إلا ما شرع الله. 2 - عادات ينتفعون بها في معايشهم والأصل فيها أن لا يحظر فيها إلا ما حظر الله (2). ثم إنه لو أتى في العادات بما حظر الله لا تعد بدعة بل يكون محرما، لأن المفروض أنه يأتي به ويحدثه باسم التقاليد لا باسم الدين، وربما يعترف بكونه على خلاف الدين كإشراك النساء السافرات في الضيافة مع الرجال. حتى وإن صار الأمر العادي المحرم رائجا بينهم. نعم، شذ قول الدكتور عزت علي في المقام حيث يقول: في ما حظره الله منها إذا كان من الأمور المحدثة كان بدعة (3). يلاحظ عليه: بما ذكرناه في تحديد البدعة بتضافر الكتاب والسنة على كونه التداخل في أمر الشريعة بالزيادة والنقيصة وتنسيبه إلى الشارع، وهذا لا يصدق على كل محدث في الأمور العادية وإن كان محرما، نعم هو بدعة بالمعنى اللغوي، حتى لو صار عمله الإجرامي سنة سيئة يكون عليه وزر كل من عمله بها، لكن لا بما أنه أبدع في الدين، وتدخل في الشريعة وقد مر نص في تفسير قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) من سن سنة حسنة... إلخ ما يفيدك في المقام. قال الشيخ شلتوت: التكاليف الشرعية تنقسم إلى عقائد وعبادات ومحرمات (4)، ثم قال: أما ما لم يتعبدنا (5) الله بشئ منه، وإنما فوض لنا الأمر فيه
(1) يريد من العبادات: الأمور الشرعية من دون أن تختص بما يعتبر في امتثالها قصد القربة. (2) ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم: 129. (3) عزت علي: البدعة: 265. (4) لا يخفى ما من المسامحة في هذا الحصر، لأن التكاليف الشرعية أوسع من الثلاثة كالأحوال الشخصية. (5) يريد من التعبد، ما للشارع فيه دور فيعم جميع أبواب الفقه والأقسام الأربعة. 76 باختيار ما نراه موافقا لمصلحتنا، ومحققا لخيرنا بحسب العصور والبيئات، فإن التصرف فيه بالتنظيم أو التغير، لا يكون من الابتداع الذي يؤثر على تدين الإنسان وعلاقته بربه، بل أن الابتداع فيه من مقتضيات التطور الزمني الذي لا يسمح بالوقوف عند حد الموروث من وسائل الحياة عن الآباء والأجداد (1). الإسلام بين التزمت والتحلل من القيود الشرعية: إن بين المسلمين من يريد حصر الأمور السائغة الموجودة في عصر الرسول الأكرم حتى يعد نخل الدقيق بدعة بحجة أنه لم يكن في عصره (صلى الله عليه وآله وسلم) أي منخل (2). وبين من يريد التحلل من كل قيد ديني في مجال العمل، فلا يلتزم في حياته بشئ مما جاء به الإسلام. فالإسلام لا هذا ولا ذاك، فهو يرفض التزمت إذا كان العمل غير خارج عن الأطر العامة الواردة في الكتاب والسنة، كما يرفض التحلل من كل قيد، ف آفة الدين ليست منحصرة بالثاني بل آفة الأول ليست بأقل منه. فإن حصر الجائز من الأمور العادية بما كان رائجا في عصر النبي أو عصر الصحابة، كبت للأدمغة وتقييد للحركة الحضارية عن التقدم نحو الكمال. وإظهار للإسلام بأنه غير قابل للتطبيق في جميع الأعصار المتقدمة فضلا عن عصر الذرة. من الأسباب التي أوجبت خلود الدين الإسلامي، وأعطته الصلاحية للبقاء مع اختلاف الظروف وتعاقب الأجيال كونه دينا جامعا بين الدعوة إلى المادة والدعوة إلى الروح، ودينا وسطا بين المادية البحتة والروحية المحضة، فقد آلف
(1) الشيخ شلتوت: الفتاوى: 163. (2) الشاطبي: الإعتصام: 2 / 73. 77 بتعاليمه القيمة بينهما، مؤالفة تفي بحق كل منهما، بحيث يتيح للإنسان أن يأخذ قسطه من كل منهما بقدر ما تقتضيه المصلحة. وذلك أن المسيحية غالت في التوجه إلى الناحية الروحية، حتى كادت أن تجعل كل مظهر من مظاهر الحياة المادية خطيئة كبرى، فدعت إلى الرهبانية والتعزب وترك ملاذ الحياة والانعزال عن المجتمع، والعيش في الأديرة وقلل الجبال وتحمل الظلم والرفق مع المعتدين، كما غالت اليهودية في الانكباب على المادة حتى نسيت كل قيمة روحية وجعلت الحصول على المادة بأي وسيلة كانت، المقصد الأسنى، ودعت إلى القومية الغاشمة والطائفية الممقوتة. وهذه المبادئ سواء أصحت عن الكليم والمسيح (عليهما السلام) أم لم تصح (ولن تصح إلا أن يكون لإصلاح انغمار الشعب الإسرائيلي في ملاذ الحياة يوم ذاك وإنجائهم عن التوغل في الماديات وسحبهم إلى المعنويات بشدة وعنف وإن شئت قلت: كانت تعاليمه إصلاحا مؤقتا لإسراف اليهود وغلوهم في عبادة المال حتى أفسدوا أخلاقهم، وآثروا دنياهم على دينهم) هذه المبادئ لا تتماشى مع الحضارات الإنسانية التقدمية ولا تسعدها في معترك الحياة، ولا تتلاءم مع حكم العقل ولا الفطرة السليمة. لكن الإسلام جاء لينظر إلى واقع الإنسان، بما هو كائن، لا غنى له عن المادة، ولا عن الحياة الروحية، فأولاهما عنايته، ودعا إلى المادة والالتذاذ بها بشكل لا يضر الحياة الروحية كما دعا إلى الحياة الروحية بشكل لا تصادم فطرته وطبيعته. هذه هي حقيقة الإسلام ومرونته وسبب تماشيه مع الحضارات المختلفة حتى حضارة اليوم الصناعية، فلو حددنا الجائزة من العاديات بما في عصر النبي تكون النتيجة حياد الإسلام عن الساحة، وبطلانه مع أنه خاتم الشرائع وكتابه خاتم الكتب ونبيه خاتم النبيين.
78 هلم معي ندرس آراء المتزمتين في الأمور العادية ثم نبكي على الإسلام وأهله: 1 - يقول الشاطبي: إن من السلف من يرشد كلامه إلى أن العاديات كالعبادات، فكما أننا مأمورون في العبادات بأن لا نحدث فيها فكذلك العاديات، وهو ظاهر كلام محمد بن أسلم، حيث كره في سنة العقيقة مخالفة من قبله في أمر العاديين وهو استعمال المناخل، مع العلم بأنه معقول المعنى نظرا - والله أعلم - إلى أن الأمر باتباع الأولين على العموم غلب عليه جهة التعبد، ويظهر أيضا من كلام من قال: أول ما أحدث الناس بعد رسول الله، المناخل (1). 2 - يحكى عن الربيع بن أبي راشد، أنه قال: لولا أني أخاف من كان قبلي لكانت الجبانة مسكني إلى أن أموت، إذ السكنى أمر عادي بلا إشكال، ثم يقول: وعلى هذا الترتيب يكون قسم العاديات داخلا في قسم العباديات فدخول الابتداع فيه ظاهر، والأكثرون على خلاف هذا (2). 3 - روى الغزالي: أن رجلا قال لأبي بكر بن عياش: " كيف أصبحت؟ " فما أجابه قال: دعونا من هذه البدعة (3). 4 - روى عن أبي مصعب صاحب مالك أنه قال: " قدم علينا ابن مهدي - يعني المدينة - فصلى ووضع رداءه بين يدي الصف، فلما سلم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكا - وكان قد صلى خلف الإمام - فلما سلم قال: من هاهنا من الحرس؟ فجاءه نفسان، فقال: خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه. فحبس، فقيل له: إنه ابن مهدي، فوجه إليه وقال: أما خفت الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف وشغلت المصلين بالنظر إليه، وأحدثت في مسجدنا شيئا ما
(1) الشاطبي: الإعتصام: 2 / 79. (2) الشاطبي: الإعتصام: 2 / 79. (3) أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين: 2 / 251 كتاب العزلة. 79 كنا نعرفه وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أحدث في مسجدنا حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين "؟ فبكى ابن مهدي، وآلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبدا في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا في غيره " (1). 5 - حكى ابن وضاح قال: ثوب المؤذن بالمدينة في زمان مالك. فأرسل إليه مالك فجاءه، فقال له مالك: ما هذا الذي تفعل؟ فقال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر فيقوموا. فقال له مالك: لا تفعل، لا تحدث في بلدنا شيئا لم يكن فيه، قد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا البلد عشر سنين وأبو بكر وعمر وعثمان فلم يفعلوا هذا، فلا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه، فكف المؤذن عن ذلك وأقام زمانا، ثم إنه تنحنح في المنارة عند طلوع الفجر، فأرسل إليه مالك فقال له: ما الذي تفعل؟ قال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر، فقال له: ألم أنهك أن لا تحدث عندنا ما لم يكن؟ فقال: إنما نهيتني عن التثويب. فقال له: لا تفعل. فكف زمانا. ثم جعل يضرب الأبواب، فأرسل إليه مالك. فقال: ما هذا الذي تفعل؟ فقال: أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر، فقال له مالك: لا تفعل، لا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه (2). ومراده من التثويب هو ما يقوله المؤذن بين الأذان والإقامة " قد قامت الصلاة " أو " حي على الصلاة " أو " حي على الفلاح " أو قوله " الصلاة يرحمكم الله ". والعجب أن الشاطبي مع إمامته في الفقه ربما يتأثر أحيانا بتلك الكلمات فيقول: فتأمل كيف منع مالك من إحداث أمر يخف شأنه عند الناظر فيه ببادي
(1) الشاطبي: الإعتصام: 2 / 68. (2) المصدر نفسه: 69. 80 الرأي، وجعله أمرا محدثا وقد قال في التثويب أنه ضلال وأنه بين لأن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ولم يسامح المؤذن في التنحنح ولا في ضرب الأبواب، لأن ذلك جدير بأن يتخذ سنة كما منع من وضع رداء عبد الرحمن بن مهدي خوفا من أن يكون حدثا أحدثه. 6 - يقول الشاطبي: وقد أحدث في المغرب المسمى بالمهدي تثويبا عند طلوع الفجر وهو قولهم " أصبح ولله الحمد " إشعارا بأن الفجر قد طلع، لإلزام الطاعة، وحضور الجماعة، وللغد ولكل ما يؤمرون به فيخصه هؤلاء المتأخرون تثويبا بالصلاة كالأذان، ونقل أيضا إلى أهل المغرب فصار ذلك كله سنة في المساجد إلى الآن. فإنا لله وإنا إليه راجعون (1). هذه نماذج مما ذكره الشاطبي وغيره فتخيلوها بدعة في الدين، وأين هذه من البدعة في الدين؟ أفترى هل يقوم أحد بهذه الأعمال الماضية باسم الدين؟ أو يقوم باسم الأمور العادية لتسهيل الأمور ولو كان الجاهل يتلقاها أمرا دينيا فوباله على جهله لا على الفاعل وقد اتفقنا مع الشاطبي في تحديد البدعة، وقد جعلها هو خاصة بالأمور الشرعية - ومع ذلك نسي هنا ما ذكره في مقام التحديد - نحن نفترض أن هذه الأعمال تتخذ سنة حسب مرور الأيام ولكنها تكون سنة عادية، لا دينية، ولا يمنع عنها إذا كانت مصلحة ولم ينطبق عليها عنوان محرم، ولو تخيله الجاهل سننا دينية فعلى العالم إرشاده، لا إعمال الضغط على المجتمع حتى يولى عن الإسلام وأهله ويوادعهما. والسبب الوحيد لهذه الزلات والاشتباهات التي تشوش سمعة الإسلام، وتعرفه دينا متزمتا لا يقبل المرونة إنما هو جعل سيرة السلف وجودا وعدما معيارا للحق والباطل مكان الكتاب والسنة في ذلك، فأين هذه الغلظة من المرونة الملموسة في الكتاب والسنة؟ يقول سبحانه:
(1) الشاطبي: الإعتصام: 2 / 70. 81 * (وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل) * (الحج - 78). * (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج) * (المائدة - 6). * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) * (البقرة - 185). * (ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) * (البقرة - 286). فهذه الآيات تصرح بأن الله تعالى رفع عن أمة محمد الإصر، ولم يفرض عليهم حكما حرجا صعبا كما كان في الأمم الماضية. وقد ورد في حديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " مما أعطى الله أمتي وفضلهم على سائر الأمم، أعطاهم ثلاث خصال لم يعطها إلا لنبي، وذلك أن الله تبارك وتعالى كان إذا بعث نبيا قال له: اجتهد في دينك ولا حرج عليك، وإن الله تبارك وتعالى أعطى ذلك أمتي حيث يقول: * (ما جعل عليكم في الدين من حرج) * (1). وظاهر هذا الحديث أن رفع الحرج الذي من الله به على هذه الأمة المرحومة كان في الأمم الماضية خاصا بالأنبياء، وأن الله أعطى هذه الأمة ما لم يعط إلا الأنبياء الماضين - صلوات الله عليهم أجمعين -. وسئل علي (عليه السلام): أيتوضأ من فضل وضوء جماعة المسلمين (أحب إليك) أو يتوضأ من ركو أبيض مخمر؟ فقال: " لا، بل من فضل وضوء جماعة المسلمين، فإن أحب دينكم إلى الله الحنيفية السمحة السهلة " (2). واشتهر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: " بعثت بالحنيفية السمحة السهلة " (3).
(1) البحراني: البرهان: 3 / 105. (2) الحر العاملي: الوسائل: ج 1 باب 8 من أبواب الماء المضاف والمستعمل الحديث 3. (3) الكليني: الكافي: 1 / 164. 82 إن الإسلام دين عالمي لا إقليمي، ودين خاتم ليس بعده دين. وقد انتشر الدين في المجتمعات البشرية بصورة سريعة وكانت لذلك أسبابا وعللا، منها: يسر التكاليف وسهولة الشريعة، فلو كان الإسلام خاضعا لهذا النوع من التزمت وما يتغناه ابن الحاج (1) من سمادير الأهازيج في كتاب المدخل لقرئ عليه السلام في أول يومه، فهذا الرجل أخذ يحدث ألوانا من شتى الأباطيل ويفتريها ويسميها بدعة مع أنها لا تمت لها بصلة، بل تدور بين كونها إما أمورا عادية خارجة عن موضوع البدعة بتاتا، وإما أمورا شرعية لها دليلها العام وإن لم يكن لها دليل خاص، وسيوافيك توضيح القسم الأخير في الفصل القادم. يقول ابن الحاج: 1 - المراوح في المساجد من البدع وقد منعها علماؤنا - رحمة الله عليهم - إذ أن اتخاذها في المساجد بدعة (2). 2 - إن فرش البسط والسجادات قبل مجئ أصحابها من البدع المحدثة وينبغي لإمام المسجد أن ينهى الناس عما أحدثوه من إرسال البسط والسجادات وغيرها قبل أن يأتي أصحابها (3). 3 - إلى أن جاء ابن الحاج يحدد ثمن اللباس الذي يجوز لبسه ويقول: أثمان أثوابهم القميص من الخمس إلى العشر وما بينهما من الأثمان، وكان جمهور العلماء وخيار التابعين قيمة ثيابهم ما بين العشرين والثلاثين، وكان بعض العلماء يكره أن يكون على الرجل من الثياب ما يجاوز قيمته أربعين درهما وبعضهم إلى المائة
(1) أبو عبد الله العبدري المالكي المتوفى سنة 737 ه ومع ذلك له كلمة قيمة في زيارة القبور لاحظ ج 1 / 254. (2) ابن الحاج: المدخل: 2 / 212، 224. (3) ابن الحاج: المدخل: 2 / 212، 224. 83 ويعده إسرافا فيما جاوزها وعلى ذلك فهو من البدع الحادثة بعدهم (1). 4 - لا بد من ترك فرش السجاد على المنبر لأنها ليست موضعا للصلاة (2). هذه نماذج من أفكار الرجل حول البدعة، أفترى أن الإسلام الذي يعرفه هذا الرجل المتزمت مما يصلح نشره في العالم، ويصلح لدعوة المثقفين والمفكرين إليه، وهل هذا هو الإسلام الذي يصفه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالحنيفية السمحة السهلة؟! الأصل في العادات الإباحة: كان على هؤلاء الذين يتحدثون باسم الإسلام أن يدرسوا الكتاب والسنة ويقفوا على أن الأصل في العادات الإباحة ما لم يدل دليل على خلافها، فإن كل ما ذكره من الأمور عادية حتى سكب ماء الورد على قبر الميت احتراما له، من هذه الأمور التي يتصورها ابن الحاج من البدعة (3) والأصل فيها الإباحة لا الحظر فإن الحكم بالحظر بدعة، صدر من القائل. يقول سبحانه: * (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) * (الإسراء - 15) ويقول: * (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا) * (القصص - 59) ومعنى الآيتين أنه ليس من شأن الله أن يعذب الناس أو يهلكهم قبل أن يبعث رسولا وليست لبعث الرسول خصوصية وموضوعية، ولو أنيط جواز العذاب ببعثهم فإنما هو لأجل كونهم وسائط للبيان والإبلاغ، والملاك هو عدم جواز التعذيب بلا بيان وإبلاغ، فتكون النتيجة أنه لا يحكم على حرمة شئ قبل بيان حكمه ووصوله إلى يد المكلف وهذه الأمور التي أضفى ابن الحاج عليها اسم البدعة، كلها أمور عادية ما ورد النهي عنها، مثلا: إذا شككنا أن لعبة كرة القدم أو الاستماع إلى الإذاعة هل هما جائزان أو لا
(1 - 3) المصدر نفسه: 238، 264، 224. 84 فالأصل بعد التتبع وعدم العثور على الدليل المحرم، هو الحلية. فبذلك علم أن جميع العادات من قول أو فعل محكوم بالإباحة ما لم نجد نصا على تحريمه في الكتاب والسنة، سواء أكان حادثا أم غير حادث، أو سواء أصارت سنة أم لا ما لم ينطبق عليه عنوان خاص أو أحد العناوين الكلية المحرمة " كالإسراف " و " الإعانة على الإثم " و " تقوية شوكة الكفار " و " الإضرار بالمسلمين " و " الإضرار بالنفس والنفيس " تعد أمرا مباحا. وعلى أساس ذلك فإن جميع المصنوعات الحديثة التي هي من نتائج التقدم الحضاري التكنولوجي مثل الهاتف والتلغراف والتلفزيون والسيارة والطائرة وما شابهها واستخداماتها المتعارفة، محكومة بالحلية والإباحة لعدم وجود نص خاص على تحريمها في الكتاب والسنة، ولعدم انطباق أحد العناوين العامة المحرمة عليها. وقد كان معظم المشايخ المتزمتين يحرمون كل ذلك في بدء حركتهم ودعوتهم أيام " عبد العزيز " ولكنهم عندما أزيحوا عن منصة الحكم، وحل الآخرون محلهم أباحوه وصاروا يتحدثون في الإذاعة والتلفزيون ويستخدمون كل معطيات الحضارة الحديثة، ويحللون كل أشيائها واستخداماتها. فإذا كان قول الرجل " كيف أصبحت " وإدخال المراوح إلى المساجد، وفرش البسط في المساجد وعلى المنابر ولبس ما زادت قيمته على ما حدده، وسكب ماء الورد على القبر من البدع، فعلى الإسلام السلام. ثم إن بعض ما عده ابن الحاج من الأمور الدينية من البدع بتصور أنه لم يكن بين السلف، مردود بوجود دليل عليه في الشرع وهذا ما سندرسه في الفصل القادم.
85 الفصل الثامن تقسيم البدعة إلى حقيقية وإضافية هذا التقسيم قام به الشاطبي في كتابه وعرف الحقيقية بأنها ما لم يدل عليها دليل شرعي لا من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا استدلال معتبر عند أهل العلم لا في الجملة ولا في التفصيل وإن ادعى مبتدعها ومن تابعه أنها داخلة في ما استنبط من الأدلة لأن ما استند إليه شبه واهية لا قيمة لها. أما البدعة الإضافية فقد عرفها بأنها ما لها شائبتان: إحداهما: لها من الأدلة متعلق فلا تكون من تلك الجهة بدعة. والأخرى: ليس لها متعلق إلا مثل ما للبدعة الحقيقية، أي أنها بالنسبة لإحدى الجهتين سنة لاستنادها إلى دليل وبالنسبة للجهة الأخرى بدعة، لأنها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل أو لأنها غير مستندة إلى شئ. وسميت إضافية لأنها لم تتخلص لأحد الطرفين: (المخالفة الصريحة) أو (الموافقة الصريحة) (1).
(1) الشاطبي: الإعتصام: 1 / 286 - 287. 87 أقول: قد تقدم البحث عن البدعة الحقيقية فلا حاجة إلى إيضاحها من جديد فإن تحريم الحلال أو تحليل الحرام استنادا إلى شبه واهية أو بلا شبهة، بدعة حقيقية، وقد مرت الأمثلة فيما سبق والمهم إيضاح المقصود من البدعة الإضافية التي لها شائبتان من جهة تشبه السنة ومن جهة تشبه البدعة، وتتضح بالأمثلة التالية التي ذكرها الشاطبي نفسه: 1 - تخصيص يوم أو أيام، غير ما نهى الشارع من صومه أو ندب إلى صومه، بالصوم والمداومة عليه. 2 - تخصيص الأيام الفاضلة بأنواع من العبادات لم تشرع لها خصوصا كتخصيص اليوم الفلاني بكذا وكذا من الركعات أو بصدقة كذا وكذا، أو الليلة الفلانية بكذا وكذا من الركعات أو قراءة القرآن أو الذكر، فإن ذلك التخصيص والعمل به إذا لم يكن بحكم الوفاق، أو بقصد يقصد مثله أهل العقل والفراغ والنشاط كان تشريعا زائدا. 3 - ومن ذلك تحري ختم القرآن في بعض ليالي رمضان أو قراءة القرآن أو الدعاء بهيئة الاجتماع في عشية يوم عرفة في المسجد تشبها بأهل عرفة ونحو ذلك. 4 - ومن ذلك الأذان والإقامة في صلاة العيدين. والسبب في كون هذه الأمور بدعا أمور ذكرها الشاطبي: أولا: أن فيها تخصيصا بغير مخصص من الشرع وقد أصبحت بهذا التخصيص غير ما كانت عليه بدونه، فكما أن الصلاة المفروضة لا تصح قبل الوقت مع كونها هي هي، لوقوعها في غير وقتها المخصص لها. فكذلك ما تقدم من الأمثلة بما انضم إليها من الأوصاف غير الواردة تصير غير مشروعة. ثانيا: أن مثل هذه الأمور عمل اشتبه أمره، أهو بدعة فينهى عنه أم غير بدعة فيعمل به؟ ومثل هذا جاء الأمر بالتوقي فيه والاحتراز منه كما يجب التوقف عن تناول اللحم المشتبه فيه.
88 ثالثا: مخالفة السنة، حيث ترك مثل هذا العمل مع ظهور ما يقتضي فعله في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه، وعلى فرض أنه وقع في بعض الأحيان فالأمر الأشهر والأكثر عدم فعله كما في سجود الشكر حيث لم يداوم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والصحابة عليه وإن ورد. رابعا: أن العمل بمثل هذه الأمور قد يؤدي إلى اعتقاد ما ليس بسنه سنة، وكذلك فالمداومة على فعل لم يداوم عليه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قد تؤدي إلى اعتقاد النافلة سنة، وهذا فساد عظيم لأن اعتقاد ما ليس بسنة سنة، والعمل به على حد العمل بالسنة، نحو من تبديل الشريعة، وعلى ذلك كان قطع عمر للشجرة التي يتبرك بها الصحابة، ونهيه الصحابي عن الإحرام من بلده، ونحو ذلك ونهيه عن إتيان المساجد التي صلى فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولذلك كان مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة يكرهون إتيان تلك المساجد وتلك الآثار للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما عدا " قباء " وحده، وأيضا كان مالك يكره المجيئ إلى بيت المقدس خيفة أن يتخذ ذلك سنة، وكان يكره مجيئ قبور الشهداء ويكره مجيئ " قباء " خوفا من ذلك (1). يلاحظ على هذا التقسيم: أنه لا طائل تحته ويعلم ذلك ببيان أمرين: 1 - شمول الدليل لجميع الحالات والكيفيات: أن مورد النقاش ما إذا كان لدليل العمل العبادي إطلاق يعم جميع الصور والكيفيات بأن كان جميع الحالات والصور المتصورة له، أمرا مسوغا يشمله الدليل بإطلاقه أو عمومه وسعة دلالته، مثلا إذا دل الدليل على استحباب قراءة القرآن مطلقا من غير تقييد بحالة خاصة فعم جميع الحالات سواء أكانت بهيئة الانفراد أم بهيئة الاجتماع.
(1) الشاطبي: الإعتصام: 1 / الباب الخامس بأجمعه. 89 أو دل على استحباب قراءة الدعاء مطلقا من غير تقييد بحالة خاصة فعم الدليل جميع الكيفيات، وبعبارة أخرى: دل الدليل بإطلاقه بسوغ جميع الأقسام من غير تخصيص بتلاوة القرآن بصورة الانفراد أو بهيئة الاجتماع ومثله دليل الدعاء. ومثل ذلك إقامة الصلاة في المساجد فالدليل يشمل جميع المساجد سواء أصلى فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أم لم يصل، سواء أقيمت الصلاة فيها يوما أو أياما أو طول السنة أو لا وهكذا سائر الأمثلة، فلو نفترض عدم وجود إطلاق للدليل فهو خارج عن حريم البحث. 2 - التداوم على هيئة أو فرد لا يرجع إلى تخصيص التشريع: إن اختيار كيفية خاصة كالدعاء بهيئة الاجتماع أو تخصيص يوم في الأسبوع للصوم ليس بمعنى تخصيص التشريع بالفرد المختار وإن السائغ هو، لا غير، بل العامل يعتقد بتسويغ جميع الصور والكيفيات وفي الوقت نفسه يختار كيفية أو فردا خاصا لأجل أنه أوفق بنشاطه والعوامل المحيطة به. وبعبارة أخرى: لا يلتزم بكيفية خاصة إلا لأجل أنه يتلاءم مع نشاطه ويساعده على تحقيق غرضه مع الاعتراف بأن جميع الكيفيات من حيث الفضيلة سواء. * * * إذا تعرفت على الأمرين تقف على أن الأمثلة التي قدمها الشاطبي مثالا للبدعة الإضافية بين بدعة حقيقية أو سنة حقيقية، فلو افترصنا عدم إطلاق الدليل للكيفية التي اختارها العامل أو كان له إطلاق ولكنه يخصص التشريع بمختاره وينفي غيره فيكون عمله هذا مصداقا للبدعة الحقيقية. وأما إذا لم يكن هناك قصور في سعة الدليل أو لم يكن في نيته أي تخصيص وتدخل في أمر الشريعة وإنما كان الاختيار لملاكات اتفاقية، فلا يعد العمل بدعة
90 إذ لم يكن تدخلا في أمر الشارع وبذلك يظهر حكم الأمثلة، كتخصيص يوم أو أيام - غير ما نهي عن صيامه - بالصوم، أو كتخصيص يوم بنوع من العبادة كقضاء الصلوات الواجبة التي فاتت منه، أو ختم القرآن بهيئة الاجتماع مطلقا أو في يوم عرفة، فإن سعة رقعة الدليل كافية في كونها سنة إذا لم يكن من قصده نفي سائر الكيفيات بل كان التخصيص تابعا لعوامل داخلة في حياة الإنسان. وأما الأسباب التي اتخذها ذريعة للحكم بالبدعة فإليك دراستها: أما السبب الأول أعني قوله " إن فيها تخصيصا بغير مخصص من الشرع " فغير مضر، إذ التخصيص إنما يكون بدعة إذا نسبه إلى الشرع دون ما كان نتيجة ظروف فرضت عليه اختيار هذا الفرد مع الاعتراف بأنه مثل سائر الأفراد. وأما السبب الثاني: أعني قوله " إن مثل هذه الأمور عمل اشتبه أمره... " فهو مثل الأول فإنه مشتبه لمن لم يدرس البدعة حقها دون من درسها. وأما السبب الثالث: أعني قوله: " مخالفة السنة حيث ترك مثل هذا العمل ... " فذلك لأن تركهم لا يكون حجة على كون العمل بدعة بعد افتراض سعة رقعة الدليل وتركهم فردا خاصا لا يدل على عدم مشروعيته إذ لم يكونوا يعانون من الإتيان بسائر الأفراد فلأجله تركوا ذاك الفرد، بخلاف الإنسان الذي فرضت الظروف عليه مداومة هذا الفرد أو كان نشاطه محفوظا فيه دون سائر الأفراد. قال التفتازاني: " ومن الجهلة من يجعل كل أمر لم يكن في زمن الصحابة بدعة مذمومة، وإن لم يقم دليل على قبحه تمسكا لقوله (عليه السلام): " إياكم ومحدثات الأمور "، ولا يعلمون أن المراد بذلك هو أن يجعل في الدين ما ليس منه. عصمنا الله من اتباع الهوى، وثبتنا على اقتفاء الهدى بالنبي وآله " (1). وأما السبب الرابع: أعني قوله: " انتهاء هذا العمل إلى اعتقاد ما ليس بسنة
(1) التفتازاني: شرح المقاصد: 5 / 232. 91 سنة " فهو أيضا مثله فإنه يجب على العالم إرشاد الجاهل لا ترك العمل الذي دل الشرع على جوازه بالإطلاق والعموم. ولو صح ما ذكره يجب ترك المسنونات أحيانا، لئلا يتخيل الجاهل أنها فريضة، فعلى من يرى القبض في الصلاة سنة، تركه في حين بعد حين، دفعا لعادية الجهل. وعلى من يقم صلاة التراويح جماعة، تركها والإتيان بها فرادى لئلا يعتقد الجاهل أن التشريع مختص بالجماعة. إلى غير ذلك من المضاعفات التي لا يلتزم بها الشاطبي وغيره، فجهل الجاهل لا يكون سببا لترك المسنون، لأنه لو قصر في التعليم فما ذنب من يريد الإتيان به وإنما علينا دفع عاديته. وبذلك يظهر حسن الإتيان بالصلاة في المساجد التي صلى النبي فيها، وذلك لعموم الدليل الشامل لتمام المساجد التي صلى فيها أم لم يصل، وإنما يختار ذلك لأجل التبرك الذي تضافر النص بجوازه، وليس تخصيصها بالعبادة بمعنى ورود النص به بالخصوص، وإنما يختاره لغرض آخر وهو التبرك. وأما كراهة مالك، المجيئ إلى بيت المقدس، فهو على خلاف السنة حيث رخص النبي السفر إليه كما سيوافيك عند البحث عن شد الرحال إلى زيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). ومنه يظهر حال كراهته زيارة قبور الشهداء أو المجيئ إلى مسجد قباء فإنه إعراض عن السنة التي رسمها النبي، حيث أمر بزيارة القبور، وكان يجيئ إلى مسجد قباء كل أسبوع مرة ويصلي فيه. وما أجمل قول الإمام الباقر عن جده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق " (1).
(1) الكليني: الكافي: 2 / 86 ح 1. 92 الفصل التاسع لا بدعة في ما فيه الدليل نصا أو إطلاقا قد تعرفت على أن حقيقة البدعة هي الافتراء على الله والفرية عليه بإدخال شئ في دينه أو نقصه منه وتنسيبه إلى الله ورسوله، وإذا كان هذا هو الملاك فالمورد الذي يتمتع بالدليل يكون خارجا عن البدعة موضوعا. والدليل على قسمين: الأول: أن يكون هناك نص في القرآن والسنة بشخص المورد وحدوده وتفاصيله وجزئياته، كالاحتفال بعيدي الفطر والأضحى والاجتماع في عرفة ومنى، فعندئذ لا يكون هذا الاحتفال والاجتماع بدعة، بل سنة إذ قد أمر به الشارع بالخصوص فيكون امتثالا، لا ابتداعا. الثاني: أن يكون هناك دليل عام في المصدرين الرئيسين يشمل بعمومه المصداق الحادث وإن كان الحادث يتحد مع الموجود في عهد الرسالة حقيقة وماهية، ويختلف معه شكلا، ولكن الدليل العام يعم المصداقين ويشمل الموردين ويكون حجة فيهما. وإليك بعض الأمثلة:
93 1 - قال سبحانه: * (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) * (الأعراف - 204) والآية تبعث إلى استماع القرآن عند قراءته والإنصات له، والمصداق الموجود لها في ظرف الرسالة هو استماع القرآن مباشرة من فم القارئ الذي يقرأ القرآن في المسجد، أو في البيت، ولكن الحضارة الصناعية أحدثت مصداقا آخرا لم يكن به عهد في ظرف الرسالة كقراءة القرآن من خلال المذياع والإذاعة المرئية، فالآية حجة في كلا الموردين وليس لنا ترك الاستماع والإنصات في القسم الثاني بحجة أنه لم يكن في ظرف الرسالة، وذلك لأن العربي الصميم عندما يتدبر في مفهوم الآية لا يرى فرقا بين القراءتين، فلو قلنا حينئذ بوجوب الاستماع أو ندبه فليس هذا قولا بغير دليل أو بدعة في الدين. 2 - قال النبي الأكرم: " طلب العلم فريضة على كل مسلم " (1) ومن الواضح أن العلوم حتى ما يمت إلى الشرع، كانت في ظرف صدور الحديث محدودة، ولكن المحدودية لا تمنع عن شمول الحديث للعلوم التي ابتكرها المسلمون لفهم الكتاب والسنة كعلم اللغة والصرف والنحو والبلاغة، بل والفقه المدون عبر العصور وذلك لأن الحديث بصدد ضرب قاعدة كلية، فليس لمسلم وصف هذه العلوم بالبدعة بحجة أنها لم تكن في عصر الرسالة. لأن شأن الشارع الصادع إلقاء الأصول وبيان القواعد والضوابط لا بيان المصاديق وبالأخص ما لم يكن في عصره. 3 - لا شك أن من واجب المسلمين حفظ القرآن والسنة النبوية من الضياع، لأن الإسلام ليس دينا إقليميا بل دينا عالميا وليس دينا مؤقتا بل خاتما، فطبيعة ذلك الدين تقتضي لزوم حفظ نصوصه وسنته حتى ترجع إليها الأجيال اللاحقة. لحق النبي إلى الرفيق الأعلى ورأى المسلمون أن من واجبهم حفظ القرآن من
(1) الهيتمي: مجمع الزوائد: 1 / 19. 94 الضياع خصوصا بعد ما لحقت بالمسلمين في الحروب، خسارة كبيرة باستشهاد مجموعة كبيرة من القراء فصار الحكم الكلي (لزوم حفظ القرآن) مبدأ لإجراء عمليات مختلفة عبر الزمان، وكلها أمور دينية مستمدة من الحكم الكلي أي لزوم حفظ القرآن والسنة، فعمدوا على كتابة القرآن وتنقيطه وإعراب كلمه وجمله، وعد آياته وتمييزها بالنقاط الحمراء وأخيرا طباعته ونشره، وتشجيع حفاظه وقرائه وتكريمهم في احتفالات خاصة إلى غير ذلك من الأمور التي تعتبر كلها دعما لحفظ القرآن وتثبيته وإن لم يفعل بعضها رسول الله ولا أصحابه ولا التابعون، إذ يكفينا وجود أصل له في الأدلة. 4 - إن من واجب المسلمين الاستعداد الكامل أمام هجمات الكفار، وأخذ الحيطة والحذر في كل ما يكون هناك احتمال للخطر عليهم، يقول سبحانه: * (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) * (الأنفال - 60) ففي الآية نوعان من الدليل: خاص في مورد رباط الخيل فلو جهزت الحكومة الإسلامية جندها بالخيل فقد امتثلت الأمر الإلهي، كما أنه إذا قامت بالتسلح بالغواصات والأساطيل البحرية والطائرات المقاتلة إلى غير ذلك من وسائل الدفاع فقد جسدت الآية وطبقتها على مصاديقها التي لم تكن موجودة في عصر النبي، وإنما حدثت بعده، فهذه الموارد كلها أمور شرعية غير عادية بشهادة أن الإنسان يقوم بها بنية امتثال ما ورد في الشرع، وليس للمتزمت أن يرفضها بحجة أنه ليس هنا دليل خاص عليها، وذلك لأن اللازم في نفي البدعة لزوم الدليل عاما أو خاصا لا وجود دليل خاص، فالدليل العام بعمومه حجة في جميع الأجيال على جميع الناس في كل الموارد التي تجسد الضابطة الكلية. 5 - قال رسول الله: إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه (1).
(1) البخاري: الصحيح: 2 / 158، لاحظ سنن الترمذي رقم 3071 وغيرهما. 95 وغير خفي على القارئ النابه أن كيفية التعليم في عصر الرسالة تختلف كثيرا بما في عصرنا، فكلا العملين يعدان تعليما وتجسيدا لكلام الرسول، يقصد به رضا الله سبحانه وتقربه، وليس للمتزمت رفض الأساليب الحادثة لتعلم الكتاب والسنة. والحق أن هذا الموقف موضع زلة لأكثر من يصف عمل المسلمين في بعض الموارد بالبدعة بحجة عدم وجود دليل خاص عليه، فقد ضلوا ولم يميزوا بين الدليل الخاص والدليل العام. وخصوا الدليل بالأول مع أن الكتاب والسنة مليئان بالضوابط والقوانين العامة، وإليك بعض الأمثلة: أ - قال سبحانه: * (لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) * (النساء - 141) فالآية تنفي أي سبيل للكافر على المؤمن، فمن المعلوم أن السبل مختلفة حسب تطوير الحضارات وكثرة المواصلات وتطور العلاقات بين الناس، ففي عصر الرسالة كان السبيل السائد هو تسلط الفرد الكافر على المسلم ككون العبد المسلم رقا للكافر أو تمليك المصحف منه وما قاربهما، وأما في عصرنا هذا، فحدث عن السبيل ولا حرج، فأين هو من تدخل الكفار في مصير المسلمين حكومة وشعبا حتى صار رؤساء الحكومات الإسلامية أسرى بيد الاستكبار العالمي. ب - يقول سبحانه: * (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) * (المائدة - 2) فإن التعاون الموجود في العصور السابقة كان محدودا في إطار ضيق، وأكثر ما كان يتحقق هو اشتراك جمع من مدينة واحدة أو من قبيلة معينة على أن يتعاونوا فيما بينهم، وأين هذا من التعاون السائد في عصرنا هذا كتعاون دول المنطقة على إجراء مشروع مفيد للمنطقة، أو تعاونهم على ضرب حكومة إسلامية فتية خوفا على كراسيهم ومناصبهم. ولو أن المتزمتين درسوا هذا البحث دراسة عميقة لربما خمدت ثورتهم ضد المسلمين الذين يقومون بأعمال الخير امتثالا لحكم الدين، ولكن بحجة أنها
96 مدعمة من الشرع، بدليل عام لا خاص. كان في التاريخ الإسلامي أناسا يفهمون - بصفاء أذهانهم وخلوص قرائحهم - أن ما ورد في الكتاب والسنة من وصفه سبحانه بصفات الجمال والكمال أسوة لما لم يرد، فللمسلم أن يدعو ربه بأوصاف جميلة وإن لم يرد بحرفيتها في الكتاب والسنة. روى الطبراني: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مر علي أعرابي وهو يدعو في صلاته ويقول: " يا من لا تراه العيون، ولا تخالطه الظنون، ولا يصفه الواصفون، ولا تغيره الحوادث، ولا يخشى الدوائر، يعلم مثاقيل الجبال، ومكاييل البحار، وعدد قطر الأمطار، وعدد ورق الأشجار، وعدد ما أظلم عليه الليل، وأشرق عليه النهار، لا توارى سماء منه سماء، ولا أرض أرضا، ولا بحر ما في قعره، ولا جبل ما في وعره، اجعل خير عمري آخره، وخير عملي خواتمه، وخير أيامي يوم ألقاك ". فوكل رسول الله بالأعرابي رجلا وقال: إذا صلى فأتني به، وكان قد أهدي بعض الذهب إلى رسول الله، فلما جاء الأعرابي، وهب له الذهب، وقال له: تدري لم وهبت لك؟ قال الأعرابي: للرحم التي بيني وبينك. قال الرسول الكريم: إن للرحم حقا، ولكن وهبت لك الذهب لحسن ثنائك على الله (1). وأين هذا الكلام مما روي عن الشاذلي أنه كان يقول: " من دعا بغير ما دعا به رسول الله فهو مبتدع " (2).
(1) محمد الغزالي: تراثنا الفكري في ميزان الشرع والعقل: 102. (2) إسماعيل حقي البروسوي: روح البيان: 9 / 385. 97 الفصل العاشر الخطوط العامة لحصانة الدين من الابتداع كان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) واقفا على أنه يدب دبيب البدعة في دينه بعد رحيله، وأن سماسرة الأهواء يبثون بذور البدع في المجتمع الإسلامي وتنمو عبر الزمان، ولم يكن شئ عند الرسول أعز من الدين الذي بعث من أجله وضحى في نشره النفس والنفيس وتحمل عبأ عظيما في طريق دعوته. وقد قام بأمر الحصانة بطرق متعددة نذكر منها ما يلي: الأولى: التحذير من البدع والمبتدعين: إن الخط الدفاعي الأول الذي وضعه رسول الله لحصانة دينه تمثل في ذم البدع والمبتدعين وتحذير المجتمع الإسلامي منهما في هتافاته الكثيرة وبياناته البليغة، وقد تعرفت على قسم منها في التقديم وبعده، وإليك بعضها:
99 قال رسول الله: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " (1). وقال: " إياكم والبدع فإن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة تسير إلى النار " (2). وقال: " أصحاب البدع كلاب النار " (3). وقال: " أهل البدع شر الخلق والخليقة " (4). وقال: " يجيئ قوم يميتون السنة ويوغلون في الدين، فعلى أولئك لعنة الله ولعنة اللاعنين والملائكة والناس أجمعين " (5). وقال: " من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام " (6). وقال: " إذا رأيتم صاحب بدعة فاكفهروا في وجهه " (7). إلى غير ذلك من البيانات البليغة التي تحذر المجتمع الإسلامي من البدعة والمبتدعين الذين يظهرون بعد رحيله، وبذلك أعطى بصيرة لمن خلفه حتى لا يغتروا بكلام المبتدعين فإنه سراب لا ماء. الثانية: الإشارة بوجود الكذابة على لسانه: وقف النبي الأكرم على أن هناك أناسا في حياته أو بعد رحيله يكذبون أو سيكذبون على لسانه فيبدلون دينه، وقال في حديث يرشد المسلمين إلى وجود الكذابين ليأخذوا حذرهم: " من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار " (8). أو " من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار " (9). أو " من يقل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار " (10).
(1) لاحظ علاء الدين الهندي: كنز العمال: 1 حديث 1101، 1113، 1094، 1095، 1145، 1102 و 1676. (7) لاحظ علاء الدين الهندي: كنز العمال: 1 حديث 1101، 1113، 1094، 1095، 1145، 1102 و 1676. (8) البخاري: الصحيح: 1 / 27، السنن لابن ماجة: 1 / 13، الصحيح لمسلم: بشرح النووي: 661 والترمذي رقم 2796 إلى غير ذلك من المصادر. (10) البخاري: الصحيح: 1 / 27، السنن لابن ماجة: 1 / 13، الصحيح لمسلم: بشرح النووي: 661 والترمذي رقم 2796 إلى غير ذلك من المصادر. 100 إن التاريخ يشهد بأن الأمة الإسلامية - في عصر الخلفاء - يوم اتسعت رقعة البلاد الإسلامية واستوعبت شعوبا كثيرة، شهدت دخول جماعات عديدة من أحبار اليهود وعلماء النصارى في الإسلام، مثل كعب الأحبار، وتميم الداري ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام، الذين تسللوا إلى صفوف المسلمين، وراحوا يدسون الأحاديث الإسرائيلية، والخرافات والأساطير النصرانية في أحاديث المسلمين وكتبهم وأذهانهم. وقد ظلت هذه الأحاديث المختلفة تخيم على أفكار المسلمين ردحا طويلا من الزمن، وتؤثر في حياتهم العملية، وتوجهها الوجهة المخالفة لروح الإسلام الحنيف في غفلة من المسلمين وغفوتهم، ولم ينتبه إلى هذا الأمر الخطير، إلا من عصمه الله كعلي (عليه السلام) الذي راح يحذر المسلمين عن الأخذ بمثل هذه الأحاديث المختلفة فقال: " فلو علم الناس أنه منافق كاذب، لم يقبلوا منه ولم يصدقوا قوله، ولكنهم قالوا: صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ورآه وسمع منه ولقف عنه " (1). نماذج وأرقام عن الأحاديث الموضوعة: وحسبك لمعرفة ما أصاب المسلمين وما تعرضت له الأحاديث، ولمعرفة الذين لعبوا هذا الدور الخبيث في غفلة من الأمة ما كتب في هذا الصدد مثل كتاب: ميزان الاعتدال للذهبي. تهذيب التهذيب للعسقلاني. لسان الميزان للعسقلاني.
(1) نهج البلاغة: الخطبة 210. 101 ونظائرها من الكتب التي صنفت في هذا المجال. ولعل فيما قاله البخاري صاحب " الصحيح " المعروف، إشارة إلى طرف من هذه الحقيقة المرة، حيث قال ابن حجر في مقدمة فتح الباري: إن أبا علي الغساني روى عنه قال: خرجت الصحيح من 600 ألف حديث (1). وروى عنه الإسماعيلي أنه قال: أحفظ مائة ألف حديث صحيح وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح (2). ويعرب عن كثرة الموضوعات اختيار أئمة الحديث أخبار تآليفهم (الصحاح والمسانيد) من أحاديث كثيرة هائلة، والصفح عن غيرها، وقد أتى أبو داود في سننه بأربعة آلاف وثمانمائة حديثا وقال: انتخبته من خمسمائة ألف حديث (3). ويحتوي صحيح البخاري من الخالص بلا تكرار على ألفي حديث وسبعمائة وواحد وستين حديثا، اختاره من زهاء ستمائة ألف حديث (4). وفي صحيح مسلم أربعة آلاف حديث أصول دون المكررات صنفه من ثلاثمائة ألف (5). وذكر أحمد في مسنده ثلاثين ألف حديث، وقد انتخبه من أكثر من سبعمائة
(1) من الهدى الساري مقدمة فتح الباري: 4. (2) المصدر نفسه: 5. (3) الذهبي: طبقات الحفاظ: 2 / 154، تاريخ بغداد: 9 / 57. (4) إرشاد الساري: 1 / 208، صفوة الصفوة: 4 / 143. (5) الذهبي: طبقات الحفاظ: 2 / 151، 157، شرح صحيح مسلم للنووي: 1 / 32. 102 خمسين وألف حديث وكان يحفظ ألف ألف حديث (1). وقد قام الباحث الكبير المجاهد العلامة الأميني في موسوعته (الغدير) - الجزء الخامس - باستخراج أسماء الكذابين والوضاعين للحديث على حسب الحروف الهجائية فبلغ عددهم 700. وما قام به رحمه الله، وإن كان عملا كبيرا يشكر عليه، غير أنه لو قامت بهذا الأمر لجنة من الباحثين لعثروا على أضعاف ما ذكره ذلك الباحث الكبير. كان تحذير النبي الأكرم عن الدجالين الكذابين وشيوع الكذب على لسانه سببا لقيام العلماء لوضع علم الرجال وبيان مقاييس يميز به الصحيح عن السقيم. وقال: وقد تنبأ الرسول بما سيصيب سنته الشريفة ويصيب المسلمين فيما بعد على أيدي الكذابين ووضاعي الحديث وأعداء الإسلام، وفي الوقت نفسه أخبر عمن يقف في وجه هذا الخطر العظيم إذ قال: " يحمل هذا الدين في كل قرن عدول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحوير الغالين وانتحال الجاهلين كما ينفي الكير خبث الحديد " (2). روى السيوطي أن عثمان بن عفان لما أراد أن يكتب المصاحف، أرادوا أن يلقوا الواو التي في سورة التوبة في قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) * (التوبة - 34) قال أبي بن كعب: لتلحقنها أو لأضعن سيفي على عاتقي (3).
(1) الذهبي: طبقات الحفاظ: 9 / 17. (2) الكشي: الرجال: 5. (3) السيوطي: الدر المنثور: 3 / 232. 103 كان الخليفة: يريد أن يقرأ قوله تعالى: * (والذين يكنزون) * بدون واو العطف لتكون هذه الجملة وصفا للأحبار واليهود. وهذا مضافا إلى كونه خلاف التنزيل وتغييرا في ما نزل به الوحي كما تلاه الرسول وقرأه على مسامع القوم، فإن حذف الواو كان يعني أن آية حرمة الكنز لا ترتبط بالمسلمين بل هي صفة للأحبار والرهبان وكان يقصد من هذه إضفاء طابع الشرعية على اكتناز الأموال الطائلة. وهذا يكشف عن مدى حفظ الأمة لنص الكتاب بهذه الصورة الدقيقة الأمينة، بيد أن حفظ الأمة كان محدودا لا يتجاوز هذا الحد، إذ كان غير شامل لجوانب أخرى من الشريعة وأصولها ومصادرها وينابيعها. الثالثة: محاولة كتابة الصحيفة: هذا هو الخط الدفاعي الثالث الذي حاول الرسول وضعه لمكافحة دبيب البدعة، وهنا نقتبس ما ذكره الإمام الشاطبي حرفيا، يقول: لقد كان عليه الصلاة والسلام حريصا على ألفتنا وهدايتنا، حتى ثبت من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: لما حضر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: " هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده " فقال عمر: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غلبه الوجع، وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله، واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كتابا لن تضلوا بعده، وفيهم من يقول كما قال عمر، فلما كثر اللغط والاختلاف عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " قوموا عني " فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب اختلافهم ولغطهم (1).
(1) الشاطبي: الإعتصام: 2 / 171 - 172 ولاحظ صحيح البخاري. 104 الرابعة: التعريف بالثقلين: إن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) نبه الأمة وبين لها المرجع والملاذ بعد رحيله بقوله: " يا أيها الناس، إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي " (1). وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " إني تركت ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما " (2). وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " إني تارك فيكم خليفتين: كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض، وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض " (3). وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وأهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض " (4). وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " إني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله عز وجل، وعترتي، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما " (5). وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) في منصرفه من حج الوداع ونزوله غدير خم: " كأني دعيت
(1) كنزل العمال: 1 / 44، أخرجه الترمذي والنسائي عن جابر. (2) المصدر نفسه: أخرجه الترمذي عن زيد بن أرقم. (3) أحمد: المسند: 5 / 182 - 189. (4) الحاكم: المستدرك: 3 / 148. (5) أحمد: المسند: 3 / 17 - 26. أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري. 105 فأجبت، إني قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله، وعترتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض " (1). وللكاتب الإسلامي منشئ المنار كلام ذكره في تعليقته على كتاب الإعتصام للشاطبي قال: رواه ابن أبي شيبة والخطيب في المتفق والمفترق عنه وهو: " تركت فيكم ما لن تضلوا إن اعتصمتم به: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي "، ورواه الترمذي والنسائي عنه بلفظ " يا أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي " والحديث مروي بلفظ " العترة " بدل " السنة " عن كثير من الصحابة منهم: زيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وأبو سعيد الخدري، وروي عن أبي هريرة بلفظ " السنة " بدل " العترة " وفي كلا السياقين بلفظ " لن يفترقا حتى يردا علي الحوض " والجمع بينهما في المعنى أن عترته أهل بيته يحافظون على سنته، أي لا يخلو الزمان عن قدوة منهم يقيمون سنته لا يثنيهم عنها التقليد ولا الابتداع ولا الفتن (2). الخامسة: التعريف بسفينة النجاة: إن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) شبه أهل بيته بسفينة نوح فقال: " ألا إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركبها نجى، ومن تخلف عنها غرق " (3). وفي حديث آخر يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجى، ومن تخلف عنها غرق. وإنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة
(1) الحاكم: المستدرك: 3 / 109، أخرجه عن حديث زيد بن أرقم. (2) الشاطبي: الإعتصام: 2 / 156، قسم التعليقة. (3) رواه الحاكم في مستدركه بسنده عن أبي ذر: 3 / 151. 106 في بني إسرائيل من دخله غفر له " (1). وفي حديث ثالث: " النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس " (2). ومن المعلوم أن المراد ليس جميع أهل بيته على سبيل الاستغراق، لأن هذه المنزلة ليست إلا لحجج الله، وهم ثلة منتخبة مصطفاة من أهل بيته، وقد فهمه ابن حجر فقال: يحتمل أن المراد بأهل البيت الذين هم أمان: علماؤهم، لأنهم الذين يهتدى بهم كالنجوم، والذين إذا فقدوا جاء أهل الأرض من الآيات ما يوعدون. وقال في مقام آخر: إنه قيل لرسول الله: ما بقاء الناس بعدهم؟ قال: " بقاء الحمار إذا كسر صلبه " (3). والمراد من تشبيههم (عليهم السلام) بسفينة نوح، من أن من لجأ إليهم في الدين فأخذ فروعه وأصوله عنهم نجا من عذاب الله، ومن تخلف عنهم كان كمن أوى يوم الطوفان إلى جبل ليعصمه من أمر الله فما أفاده شيئا فغرق وهلك. والوجه في تشبيههم بباب حطة، هو أن الله تعالى جعل ذلك الباب مظهرا من مظاهر التواضع لجلاله والبخوع لحكمه، وبهذا كان سببا للمغفرة، وقد جعل انقياد هذه الأمة لأهل بيت نبيها وأتباعهم أيضا مظهرا من مظاهر التواضع لجلاله والبخوع لحكمه، وبهذا كان سببا للمغفرة. وقد أوضح ابن حجر حقيقة التشبيه في الحديث الشريف فقال: " ووجه تشبيههم بالسفينة أن من أحبهم، وعظمهم شكرا لنعمة مشرفهم وأخذ بهدي
(1) النبهاني: الأربعون حديثا: 216 نقله عن الطبراني في الأوسط. (2) رواه الحاكم في مستدركه بسنده عن ابن عباس: 3 / 149. (3) ابن حجر: الصواعق: 91، 142 (الباب الحادي عشر). 107 علمائهم نجا من ظلمة المخالفات، ومن تخلف عن ذلك غرق في بحر كفر النعم، وهلك في مفاوز الطغيان - إلى أن قال: - وبباب حطة - يعني ووجه تشبيههم بباب حطة - أن الله جعل دخول ذلك الباب الذي هو باب أريحاء أو بيت المقدس من التواضع والاستغفار سببا للمغفرة، وجعل لهذه الأمة مودة أهل البيت سببا لها " (1). دور أئمة أهل البيت في مكافحة البدع: إن لأئمة أهل البيت دورا بارزا في مكافحة البدع، والرد على الأفكار الدخيلة على الشريعة عن طريق أهل الكتاب الذين تظاهروا بالإسلام وبزي المسلمين نظراء كعب الأحبار، وتميم الداري، ووهب ابن منبه ومن كان على شاكلتهم. إن كتب الحديث - من غير فرق بين الصحاح وغيرها - مشحونة بأخبار التجسيم والتشبيه والجبر ونفي الاستطاعة المكتسبة ونسبة الكذب والعصيان إلى الأنبياء والرسل، وقد تأثر بها المحدثون السذج وحسبوا أنها حقائق راهنة فنقلوها إلى الأجيال اللاحقة، وقد حيكت العقائد على نول هذه الأحاديث، ولم يتجرأ أحد من المفكرين الإسلاميين القدامى والجدد على نقدها إلا من شذ. نرى في مقابل هذه البدع أن أئمة أهل البيت يكافحون التجسيم والتشبيه والجبر وغيرهما، بخطبهم ورسائلهم ومناظراتهم أمام حشد عظيم وفي وسع القارئ الكريم مراجعة نهج البلاغة للإمام علي (عليه السلام) وكتاب التوحيد للشيخ الصدوق (306 - 381 ه) وكتاب الإحتجاج للشيخ الطبرسي (ت 550 ه) إلى غير ذلك من الكتب المؤلفة في ذلك المضمار، وما أحلى المناظرات التي أجراها
(1) لاحظ الصواعق: 153 (الباب الحادي عشر). 108 الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في عاصمة الخلافة الإسلامية (مرو) يوم ذاك مع الماديين والملحدين وأحبار اليهود وقساوسة النصارى، بل ومع المتزمتين المغترين بتلك الأحاديث. كانت لفكرة الإرجاء التي تدعو إلى التسامح الديني في العمل، واجهة بديعة عند السذج من المسلمين ولا سيما الشباب منهم، فقام الإمام الصادق (عليه السلام) بردها والتنديد بها، وقد أصدر بيانا فيها حيث قال: " بادروا أولادكم بالحديث قبل أن تسبقكم إليهم المرجئة " (1). هذا هو الإمام الثامن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) يكافح فكرة رؤية الله تبارك وتعالى بالعين، ويرد الفكرة المستوردة من اليهود والتي اغتر بها بعض المحدثين، وإليك ما جرى بينه وبين أحدهم باسم أبي قرة. قال أبو قرة: إنا روينا أن الله عز وجل قسم الرؤية والكلام بين اثنين، فقسم لموسى (عليه السلام) الكلام ولمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الرؤية. فقال الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام): فمن المبلغ عن الله عز وجل إلى الثقلين الجن والإنس * (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) * (الأنعام - 103) * (ولا يحيطون به علما) * (طه - 110) و * (ليس كمثله شئ) * (الشورى - 11) أليس محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال أبو قرة: بلى. قال الإمام: فكيف يجئ رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنه جاء من عند الله وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله ويقول: * (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) * و * (ولا يحيطون به علما) * و * (ليس كمثله شئ) * ثم يقول: أنا رأيته بعيني وأحطت
(1) الكليني: الكافي: 6 / 47، الحديث 5، ولاحظ البحار: 68 / 297. 109 به علما وهو على صورة البشر. أما تستحيون؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي عن الله بشئ ثم يأتي بخلافه من وجه آخر (1). هذا نموذج من نماذج كثيرة أوردناه حتى يكون أسوة لنماذج أخرى. وإن أردت أن تقف على مدى مكافة الأئمة الاثني عشر للبدع المحدثة فعليك مقارنة كتابين قد ألفا في عصر واحد بيد محدثين في موضوع واحد، وهما: 1 - التوحيد لابن خزيمة (ت - 311 ه). 2 - التوحيد للشيخ الصدوق (306 - 381 ه). قارن بينها، تجد الأول مشحونا بأخبار التجسيم والتشبيه والجبر وما زال المتسمون بالسلفية ينشرونه عاما بعد عام، كأن ضالتهم فيه. وأما الثاني ففيه الدعوة إلى التوحيد وتنزيه الحق، ومعرفته بين التشبيه والتعطيل، وتبيين الآيات التي اغتر بعضهم بظواهرها من دون التدبر بالقرائن الحافة بها. وبذلك تبين أن النبي الأكرم قد جعل من الأئمة واجهة دفاعية لصد البدع وأفكار المتبدعين ولا تتبين تلك الحقيقة إلا بعد معرفتهم ومراجعة كلماتهم. * * * السادسة: دعم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر: إذا كانت البدعة من أعظم الكبائر والمنكرات، فعلى السلطة التنفيذية للحكومات الإسلامية، دعم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر للقيام بمواجهة المبتدعين وردعهم عن أعمالهم، فإن البدعة أول يومها بذرة في الأذهان،
(1) الصدوق: التوحيد، باب ما جاء في الرؤية: 111. 110 ثم يستفحل عودها عبر الزمن حتى تصير شجرة خبيثة ولذلك دعا الذكر الحكيم إلى القيام بهذا الأمر وقال: * (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) * (آل عمران - 104) وفي آية أخرى: * (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) * (آل عمران - 110). والأمة عبارة عن جماعة تجمعهم رابطة العقيدة ووحدة الفكر، غير أن الواجب على الجميع غير الواجب على جماعة خاصة، فيجب على كل مسلم ردع المنكر بقلبه ولسانه، وأما القيام بأكثر من ذلك فهو على القوي المطاع العالم بالمعروف، وبذلك يجمع بين الآيتين، حيث إن الثانية ترى الأمر بالمعروف فريضة على الجميع والأولى تراه فريضة على أمة خاصة، فالمراتب النازلة فريضة على الكل والمراتب العالية وظيفة للأقوياء من الأمة. ويكفي في أهمية تلك الفريضة قوله سبحانه: * (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور) * (الحج - 41). وهذا الإمام أمير المؤمنين يعلل قيامه ونضاله، بردع البدع ويقول: " اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا، منافسة في سلطان، ولا التماس شئ من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك " (1) و رد المعالم من دينه، كناية عن رفض البدع التي كانت قد ظهرت على الساحة الإسلامية لأجل التساهلات. وقال الإمام الباقر (عليه السلام): " إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتأمن المذاهب، وتحل
(1) نهج البلاغة، الخطبة: 127. 111 المكاسب، وترد المظالم، وتعمر الأرض، وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر " (1). وقد كان في العصور الماضية نشاط للآمرين بالمعروف في خصوص متابعة المساجد والمؤذنين والوعاظ والقراء حتى لا يخرجوا عن حدود الشريعة، يقول ابن إخوة: ومن وظائف المحتسب مراقبة المساجد والمؤذنين والوعاظ والقراء، وعدم السماح لتصدي هذه المشاغل إلا لمن اشتهر بين الناس بالدين والخير والفضيلة ويكون عالما بالأمور والعلوم الشرعية - إلى آخر ما ذكره - (2). فهذه هي الخطوط الدفاعية التي وضعها الإسلام أمام المبتدعين، وهناك أمور أخرى للقضاء على البدعة والحد من نشاط المبتدعين، نؤخر بيانها إلى آونة أخرى.
(1) الحر العاملي: الوسائل: 11 / 395. (2) ابن إخوة القرشي: معالم القربة في أحكام الحسبة: 179. 112 الفصل الحادي عشر كيفية التوصل إلى مكافحة البدع والقضاء عليها؟ بقي هنا أمر هام وهو، كيف نتوصل إلى مكافحة البدع ونقضي عليها؟ وهو سؤال مهم يبين موقفنا في هذا العصر أمام تيارات البدع قديما وحديثا، وفي الحقيقة أن ما نذكره في الجواب، هو واجب العلماء المفكرين الذين يتحرقون لمعرفة الحق بين منعرجات الأهواء النفسية والانتماءات العصبية. إن القضاء على البدع ولو نسبيا يتم بالقيام بأمور هي: الأول: دراسة العقائد الإسلامية على ضوء الكتاب والسنة الصحيحة والفطرة الإنسانية والعقل السليم ونفي الاكتفاء برسالة الطحاوية " للإمام الطحاوي "، والإبانة " للإمام الشيخ الأشعري " فإنهما - رضوان الله عليهما - قد أديا رسالتهما في عصرهما بأحسن وجه، ولم يكن في وسعهما إلا ما ألفا ونشرا وإن تأثرا بالروايات غير الصحيحة، إذ في ثنايا ذينك الكتابين التلميح إلى التشبيه والتعطيل وتعريف الإنسان بلا اختيار وإرادة، كالريشة في مهب الريح، إلى غير ذلك مما ترده الفطرة السليمة كجواز تعذيب الطفل يوم القيامة بالنار، ومن المؤسف جدا
113 الاكتفاء بدراسة العقائد بهذين الكتابين وما شاكلهما في مقابل التشكيكات البراقة التي تثيرها كل يوم الوسائل الإعلامية على الإطلاق في معسكر الغرب والشرق، وهل يمكن صد هذا التيار بهذه الكتب، كلا ومن قال نعم، فإنما يقوله بلسانه وينكره بقلبه. كل ذلك يسوقنا إلى أن نعطي للعقائد والمعارف قسما أوفر في دراساتنا، حتى تتميز البدع عن غيرها، نعم إن من يتلقى كل ما ذكره أحمد بن حنبل في كتاب السنة والإمامين السابقين في رسالتهما لا غبار عليه، وإن كان ضد الكتاب والسنة المتواترة والعقل الفطري الصريح فلا يحس وظيفة أصلا، وكلامنا مع المفكرين الواعين العالمين بما يجري في البلاد، على الإسلام والشباب وما تثار من إشكالات حول الأصول حتى التوحيد نفسه. الثاني: تمحيص السنة ودراستها من جديد دراسة عميقة سندا ومضمونا مقارنة مع الكتاب والسنن القطعية عن الرسول، فإن أكثر البدع لها جذور في السنة المدونة وهو عنها برئ وإنما اختلقها الوضاعون الكذابون على لسانه. غير أن مسلمة أهل الكتاب وبما أنهم لم يروا النبي الأكرم قد نسبوها إلى أنبيائهم وكتبهم، ونسبها بعض السلف إلى نفس النبي الأكرم، وها نحن نضع أمامك حديثين رواهما إلى الشيخان في مورد الأنبياء حتى نتخذهما مقياسا لما لم نذكره. إنه سبحانه يعرف فضله على النبي الأكرم بقوله: * (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) * (النساء - 131) والمراد من فضله سبحانه في ذيل الآية هو علم النبي الذي أفاضه الله عليه ووصفه بكونه عظيما، مضافا إلى ما في صدر الآية من إنزال الكتاب والحكمة عليه. ومع ذلك نرى أن الرسول في الصحيحين يعرف بصورة أنه لا علم له بأبسط الأمور وأوضح السنن الطبيعية في عالم النباتات، حيث رأى أن قوما يلقحون النخيل فنهاهم عن ذلك قائلا بأنه لا يظن أنه يغني شيئا فتركه الناس،
114 وواجهوا الخسارة وعدم الإثمار، فأتوا إلى النبي الأكرم فقال ما قال، وإليك نص الرواية: 1 - روى مسلم، عن موسى بن طلحة عن أبيه، قال: مررت ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوم على رؤوس النخل، فقال: " ما يصنع هؤلاء؟ " فقالوا: يلقحونه، يجعلون الذكر في الأنثى فتلقح، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما أظن يغني ذلك شيئا "، فأخبروا بذلك، فتركوه، فأخبر رسول الله بذلك، فقال: " إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل " (1). وروى عن رافع بن خديج، قال: قدم نبي الله المدينة وهم يأبرون النخل يقولون: يلقحون النخل فقال: " ما تصنعون "؟ قالوا: كنا نصنعه، قال: " لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا " فتركوه، فنقصت قال: فذكروا ذلك له، فقال: " إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشئ من رأيي فإنما أنا بشر " (2). والعجب أن مؤلف الصحيح مسلم النيسابوري ذكر الحديث في باب أسماه ب " وجوب امتثال ما قاله شرعا دون ذكره (صلى الله عليه وآله وسلم) من معايش الدنيا على سبيل الرأي " نحن نعلق على الحديث بشئ بسيط ونترك التفصيل إلى القارئ. أولا: نفترض أن النبي الأكرم ليس نبيا، ولا أفضل الخليقة، ولا من أنزل إليه الكتاب والحكمة، ولا من وصف الله سبحانه علمه بكونه عظيما، ولكن كان عربيا صميما ولد في أرض الحجاز، وعاش بين ظهراني قومه وغيرهم في الحضر والبادية، وقد تكررت سفراته إلى الشام، وكل إنسان كان هذا شأنه يقف على أن النخيل لا يثمر إلا بالتلقيح، فما معنى سؤاله ما يصنع هؤلاء؟! فيجيبونه بقولهم: إنهم "
(1) مسلم: الصحيح: 15 / 125 و 126 الباب 38، كتاب الفضائل. (2) مسلم: الصحيح: 15 / 125 و 126 الباب 38، كتاب الفضائل. 115 يلقحونه " أفيمكن أن يكون هذا الشئ البسيط خفيا على النبي؟! ثانيا: كيف يمكن للنبي النهي عن التلقيح وهو سنة من سنن الله في عالم الحياة، وقال سبحانه: * (ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا) * (فاطر - 43) ومع ذلك فكيف يقول: " ما أظن يغني ذلك شيئا "؟! ثالثا: إن الاعتذار الوارد في الرواية يسيئ الظن بكل ما يقوله النبي الأكرم، فإن كان المخبر بهذه الدرجة من العلم، فكيف يمكن الاعتماد بما يخبر عن الله سبحانه؟! كل ذلك يسئ الظن بكل ما يذكره بلسانه ويخرج من شفتيه، والأسوأ من ذلك ما نسب إليه من الاعتذار بقوله: " وإذا حدثتكم عن الله شيئا فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل "، لأن فيه تلميحا إلى أنه - والعياذ بالله - يكذب في مواضع أخر. فلو كانت الرواية ونظائرها مصادر للعقيدة، تكون النتيجة أن النبي ربما يكون جاهلا بأبسط السنن الجارية في الحياة، فهل يصح التفوه بذلك؟ 2 - لو كان الحديث الأول يحط من منزلة النبي الأكرم، فالحديث الثاني يحط من مكانة الكليم موسى (عليه السلام). أخرج الشيخان في صحيحهما بالإسناد إلى أبي هريرة، قال: لما جاء ملك الموت إلى موسى (عليه السلام) فقال له: أجب دعوة ربك، فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها، قال: فرجع الملك إلى الله تعالى فقال: إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت، ففقأ عيني، قال فرد الله إليه عينه، وقال: ارجع إلى عبدي فقل: الحياة تريد، فإن كنت تريد الحياة، فضع يدك على متن ثور، فما توارت بيدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة (1).
(1) مسلم: الصحيح: 7، كتاب الفضائل في باب فضائل موسى، البخاري: الصحيح: 4، كتاب بدء الخلق، باب وفاة موسى: 157. 116 وأخرجه ابن جرير الطبري في تاريخه، وقال: إن ملك الموت كان يأتي الناس عيانا حتى أتى موسى فلطمه ففقأ عينه - إلى أن قال: - إن ملك الموت جاء إلى الناس خفيا بعد وفاة موسى (1). والحديث غني عن التعليق ولا يوافق الكتاب ولا سنة الأنبياء ولا العقل السليم من جهات هي: 1 - إنه سبحانه يقول: * (إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) * (يونس - 49) فظاهر قوله: " أجب ربك " أنه كان ممن كتب عليه الموت وجاء أجله ومع ذلك تأخر. 2 - من درس حياة الأنبياء بشكل عام يقف على أنهم (عليهم السلام) ما كانوا يكرهون الموت كراهة الجاهلين، وهل كانت الدنيا عند الكليم أعز من الآخرة، وهل كانت تخفى عليه نعمها ودرجاتها؟! 3 - ما ذنب ملك الموت إن هو إلا رسول من الله مجند له، يعمل بإمرته، فهل كان يستحق لمثل هذا الضرب؟! 4 - كيف ترك القصاص من موسى مع أنه سبحانه يقول: * (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص) * (المائدة - 45). 5 - وهل كان ملك الموت أضعف من موسى حتى غلبه عليه وفقأ عينه ولم يتمكن من الدفاع، ولم يزهق روحه مع كونه مأمورا به من ربه؟ أنا لا أدري، وأظن أن القارئ في غنى عن هذه التعليقات فإن مضمون الحديث يصرح بأعلى صوته إنه مكذوب.
(1) الطبري: التاريخ: 1 / 305، باب وفاة موسى. 117 فتمحيص السنة فريضة على المفكرين لكي يقضوا بذلك على البدع التي ما انفكت تتلاعب بالدين، ولا يقوم بذلك إلا من امتحن الله قلبه بالتقوى ولا تأخذه في الله لومة لائم، وإن رماه المتطرفون بأنواع التهم والأباطيل، ولا غرو فإن المصلحين في جميع الأجيال كانوا أغراضا لنبال الجهال.
118 الفصل الثاني عشر مسائل عشر على طاولة التطبيق إن الغاية القصوى من تحديد مفهوم البدعة، هو الاهتداء إلى مصاديقها وتمييزها عن السنة فهناك أمور وصفها البعض بالبدعة والآخر بالسنة وما زال النزاع على قدم وساق، وسنختار مسائل عشر لبحثها وهي: 1 - الاحتفال بمولد الرسول. 2 - شد الرحال لزيارة قبر النبي الأكرم. 3 - القبض في الصلاة. 4 - صلاة الضحى في السنة. 5 - إقامة صلاة التراويح جماعة. 6 - الطلاق ثلاثا دفعة أو دفعات في مجلس واحد. 7 - النهي عن متعة الحج. 8 - الاتمام في السفر. 9 - الصيام في السفر. 10 - رؤية الله تعالى.
119 فلعل من العسير على القارئ الذي كانت سيرته القبض في الصلاة عند التلاوة، أو إقامة صلاة التراويح جماعة، أن يترك مذهبه الذي نشأ عليه منذ نعومة أظفاره، بل ونشأ عليه قومه طيلة قرون عديدة، ولكن لما كان الحق أحق أن يتبع، لذا نقترح عليه أن يتخلى عما كان عليه حسب تقليده ويدرس المسألة من رأس على ضوء أدلتها، منحازا عن كل رأي مسبق، وعند ذلك يتجلى له الحق بأجلى مظاهره ويسهل قبوله وإن كان على خلاف ما نشأ عليه، وهذا ما نطلبه من القراء في دراستهم لهذا الفصل. وإليك البحث عن الجميع واحدا تلو الآخر:
120 المسألة الأولى: الاحتفال بمولد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لقد طال النزاع في الآونة الأخيرة عن طريق وسائل الإعلام وغيرها في الاحتفال بمولد النبي الأكرم، وقد رفع بعضهم شعار البدعة فيه بينما يراه الأكثرون أنه من السنة. وإليك دراسة الموضوع في ضوء الأدلة. حب النبي أصل في الكتاب والسنة: قد تعرفت على أن العنصر المقوم للبدعة هو عدم الدليل على جواز العمل، فلو كان هناك دليل خاص على جواز العمل، أو دليل عام يشمل المصاديق المحدثة فليس ذلك ببدعة، وقد ذكرنا لك أمثالا كثيرة، وعلى ضوء ما ذكر نركز في هذا الفصل على وجود دليل عام على الاحتفال بيوم ميلاده، وإن لم يكن هناك دليل خاص، وأما الدليل فكما يلي: الحب والبغض خلتان تتواردان على قلب الإنسان، تشتدان وتضعفان، ولنشوئهما واشتدادهما أو ضعفهما عوامل وأسباب. ولا شك أن حب الإنسان لذاته من أبرز مصاديق الحب، وهو أمر بديهي لا يحتاج إلى البيان، وجبلي لا يخلو منه إنسان، ومن هذا المنطق حب الإنسان لما يرتبط به أيضا، فهو كما يحب نفسه يحب كذلك كل ما يمت إليه بصلة، سواء كان اتصاله به جسمانيا كالأولاد والعشيرة، أو معنويا كالعقائد والأفكار والآراء
121 والنظريات التي يتبناها، وربما يكون حبه للعقيدة أشد من حبه لأبيه وأمه فيذب عن حياض العقيدة بنفسه ونفيسه، وتكون العقيدة أغلى عنده من كل شئ حتى نفسه التي بين جنبيه. فإذا كانت للعقيدة هذه المنزلة العظيمة تكون لمؤسسها ومغذيها والدعاة إليها منزلة لا تقل عنها إذ لولاهم لما قام للعقيدة عمود، ولا اخضر لها عود، ولأجل ذلك كان الأنبياء والأولياء بل جميع الدعاة إلى الأمور المعنوية والروحية محترمين لدى جميع الأجيال من غير فرق بين نبي وآخر ومصلح وآخر، فالإنسان يجد من صميم ذاته خضوعا تجاههم، وإقبالا عليهم. ولهذا لم يكن عجيبا أن تحترم، بل تعشق النفوس الطيبة طبقة الأنبياء والرسل منذ أن شرع الله الشرائع وابتعث الرسل، فترى أصحابها يقدمونهم على أنفسهم بقدر ما أوتوا من المعرفة والكمال. حب النبي في الكتاب: ولوجود هذه الأرضية في النفس الإنسانية والفطرة البشرية، تضافرت الآيات والأحاديث على لزوم حب النبي وكل ما يرتبط به، وليست الآيات إلا إرشادا إلى ما توحي فطرة الإنسان إليه قال سبحانه: * (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين) * (التوبة - 24). وقال سبحانه: * (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) * (المائدة - 56). ويقول سبحانه: * (فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) * (الأعراف - 157).
122 فالآية الكريمة تأمر بأمور أربعة: 1 - الإيمان به. 2 - تعزيره. 3 - نصرته. 4 - اتباع كتابه وهو النور الذي أنزل معه. وليس المراد من تعزيره، نصرته، لأنه قد ذكره بقوله: * (ونصروه) * وإنما المراد توقيره، وتكريمه وتعظيمه بما إنه نبي الرحمة والعظمة، ولا يختص تعزيره وتوقيره بحال حياته بل يعمها وغيرها، تماما كما أن الإيمان به والتبعية لكتابه لا يختصان بحال حياته الشريفة. هذه هي العوامل الباعثة إلى حب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذه هي الآيات المرشدة إلى ذلك. ولأجل دعم المطلب نذكر بعض ما ورد من الروايات في الحث على حبه ومودته. حب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في السنة: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): 1 - " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده والناس أجمعين ". 2 - " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب الناس إليه من والده وولده ". 3 - " ثلاث من كن فيه ذاق طعم الإيمان: من كان لا شئ أحب إليه من الله ورسوله، ومن كان لئن يحرق بالنار أحب إليه من أن يرتد عن دينه، ومن كان يحب لله ويبغض لله ".
123 4 - " والله لا يكون أحدكم مؤمنا حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده ". 5 - " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه ". 6 - " من أحب الله ورسوله صادقا غير كاذب، ولقي المؤمنين فأحبهم، وكان أمر الجاهلية عنده كمنزلة نار ألقي فيها، فقد طعم طعم الإيمان، أو قال: فقد بلغ ذروة الإيمان ". إن الذي يرى سعادته في ما جاء به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من شريعة ودين، هو الذي يذوق طعم الإيمان، وتذوق طعم الإيمان لا يتحقق إلا عندما يستن الإنسان بسنة رسول الله ويعمل بشريعته فيحصل على سعادته. 7 - عن أبي رزين قال: قلت: يا رسول الله! ما الإيمان؟ قال: " أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا، ويكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما، وتكون أن تحرق بالنار أحب إليك من أن تشرك بالله شيئا، وتحب غير ذي نسب لا تحبه إلا لله، فإذا فعلت ذلك فقد دخل حب الإيمان في قلبك كما دخل قلب الظمآن حب الماء في اليوم القائظ ". 8 - " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ". 9 - عن أنس أن رجلا سأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ قال: " وما أعددت لها "؟ قال: لا شئ إلا أني أحب الله ورسوله، فقال: " أنت مع من أحببت ". قال أنس: فما فرحنا بشئ فرحنا بقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنت مع من أحببت ". 10 - أبو ذر قال: يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولا يستطيع أن يعمل بعملهم؟ قال: " أنت يا أبا ذر مع من أحببت " قال: فإني أحب الله ورسوله، قال: " فإنك مع من أحببت "، قال: فأعاد (ها) أبو ذر، فأعادها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
124 11 - " من أحيا سنتي فقد أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة ". 12 - " والذي نفس محمد بيده ليأتين على أحدكم يوم ولا يراني، ثم لئن يراني أحب إليه من أهله وماله معهم ". 13 - " إن أحدكم سيوشك أن يحب ينظر إلي نظرة بما له من أهل وعيال ". 14 - " من أشد أمتي لي حبا أناس يكونون بعدي يود أحدهم لو رآني بأهله وماله ". 15 - " أشد أمتي لي حبا قوم يكونون بعدي يود أحدهم أنه فقد أهله وماله وأنه رآني ". 16 - " إن أناسا من أمتي يأتون بعدي يود أحدهم لو اشترى رؤيتي بأهله وماله ". 17 - " من دعا بهؤلاء الدعوات في دبر كل صلاة مكتوبة حلت له الشفاعة مني يوم القيامة: اللهم أعط محمد الوسيلة، واجعل في المصطفين محبته، وفي العالمين درجته، وفي المقربين ذكر داره ". 18 - " من قال في دبر كل صلاة مكتوبة: اللهم أعط محمدا الدرجة والوسيلة، اللهم اجعل في المصطفين محبته وفي العالمين درجته، وفي المقربين ذكره، من قال تلك في دبر كل صلاة فقد استوجب علي الشفاعة، ووجبت له الشفاعة ". وقد روي عن أبي بكر قال: الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمحق للخطايا من الماء للنار، والسلام على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل من عتق الرقاب، وحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أفضل من عتق الأنفس أو قال: من ضرب السيف في سبيل الله عز وجل (1). * * *
(1) راجع للوقوف على هذه الأحاديث ونظائرها جامع الأصول: ج 1 نقلا عن صحيح البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، وكنز العمال: ج 2، و 6 و 12. 125 اختلاف الأمة في درجات حبهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): وليست الأمة المؤمنة في ذلك شرعا سواء، بل هم فيه متفاوتون على اختلاف درجات عرفانهم به كاختلافهم في حب الله تعالى. قال الإمام القرطبي: كل من آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إيمانا صحيحا لا يخلو عن وجدان شئ من تلك المحبة الراجحة غير أنهم متفاوتون، فمنهم من أخذ من تلك المرتبة بالحظ الأوفى، ومنهم من أخذ منها بالحظ الأدنى، كمن كان مستغرقا في الشهوات محجوبا في الفضلات في أكثر الأوقات، لكن الكثير منهم إذا ذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اشتاق إلى رؤيته بحيث يؤثرها على أهله وولده وماله ووالده، ويبذل نفسه في الأمور الخطيرة، ويجد مخبر ذلك من نفسه وجدانا لا تردد فيه (1). مظاهر الحب في الحياة: إن لهذا الحب مظاهر ومجالي، إذ ليس الحب شيئا يستقر في صقع النفس من دون أن يكون له انعكاس خارجي على أعمال الإنسان وتصرفاته، بل إن من خصائص الحب أن يظهر أثره على جسم الإنسان وملامحه، وعلى قوله وفعله، بصورة مشهورة وملموسة. فحب الله ورسوله الكريم لا ينفك عن اتباع دينه، والاستنان بسنته، والإتيان بأوامره والانتهاء عن نواهيه، ولا يعقل أبدا أن يكون المرء محبا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أشد الحب، ومع ذلك يخالفه فيما يبغضه ولا يرضيه، فمن ادعى حبا في نفسه وخالفه في عمله فقد جمع بين شيئين متخالفين متضادين.
(1) فتح الباري: لابن حجر: 1 / 50 - 51. 126 ولنعم ما قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) في هذا الصدد موجها كلامه إلى مدعي الحب الإلهي كذبا: تعصي الإله وأنت تظهر حبه * هذا لعمري في الفعال بديع لو كان حبك صادقا لأطعته * إن المحب لمن يحب مطيع (1) للحب مظاهر وراء الاتباع: نعم لا يقتصر أثر الحب على هذا، بل له آثار أخرى في حياة المحب، فهو يزور محبوبه ويكرمه ويعظمه ويزيل حاجته، ويذب عنه، ويدفع عنه كل كارثة ويهيئ له ما يريحه ويسره إذا كان حيا. وإذا كان المحبوب ميتا أو مفقودا حزن عليه أشد الحزن، وأجرى له الدموع كما فعل النبي يعقوب (عليه السلام) عندما افتقد ولده الحبيب يوسف (عليه السلام) فبكاه حتى ابيضت عيناه من الحزن، وبقي كظيما حتى إذا هب عليه نسيم من جانب ولده الحبيب المفقود، هش له وبش، وهفا إليه شوقا وحبا. بل يتعدى أثر الحب عند فقد الحبيب وموته هذا الحد، فنجد المحب يحفظ آثار محبوبه، وكل ما يتصل به، من لباسه وأشيائه كقلمه ودفتره وعصاه ونظارته. كما ويحترم أبناءه وأولاده، ويحترم جنازته ومثواه، ويحتفل كل عام بميلاده وذكرى موته، ويكرمه ويعظمه حبا به ومودة له. إلى هنا ثبت، أن حب النبي وتكريمه أصل من أصول الإسلام لا يصح لأحد إنكاره، ومن المعلوم أن المطلوب ليس الحب الكامن في القلب من دون أن يرى أثره على الحياة الواقعية، وعلى هذا يجوز للمسلم، القيام بكل ما يعد مظهرا
(1) سفينة البحار: مادة " حب ". 127 لحب النبي شريطة أن يكون عملا حلالا بالذات ولا يكون منكرا في الشريعة، نظير: 1 - تنظيم السنة النبوية، وإعراب أحاديثها وطبعها ونشرها بالصور المختلفة، والأساليب الحديثة، وفعل مثل هذا بالنسبة إلى أقوال أهل البيت وأحاديثهم. 2 - نشر المقالات والكلمات، وتأليف الكتب المختصرة والمطولة حول حياة النبي وعترته، وإنشاء القصائد بشتى اللغات والألسن في حقهم، كما كان يفعله المسلمون الأوائل. فالأدب العربي بعد ظهور الإسلام يكشف عن أن إنشاء القصائد في مدح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مما يعبر به أصحابها عن حبهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فهذا هو كعب بن زهير ينشئ قصيدة مطولة في مدح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منطلقا من إعجابه وحبه له (صلى الله عليه وآله وسلم) فيقول في جملة ما يقول: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول * متيم إثرها لم يفد مكبول نبئت أن رسول الله أوعدني * والعفو عند رسول الله مأمول ويقول: مهلا هداك الذي أعطاك نافلة * القرآن فيها مواعيظ وتفصيل إن الرسول لنور يستضاء به * مهند من سيوف الله مسلول (1) وقد ألقى هذه القصيدة في حضرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه، ولم ينكر عليه
(1) ابن هشام: السيرة النبوية: 2 / 513. 128 رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وهذا هو حسان بن ثابت الأنصاري يرثي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ويذكر فيه مدائحه، ويقول: بطيبة رسم للرسول ومعهد * منير وقد تعفو الرسول وتحمد إلى أن قال: يدل على الرحمان من يقتدي به * وينقذ من هول الخزايا ويرشد إمام لهم يهديهم الحق جاهدا * معلم صدق إن يطيعوه يسعدوا (1) وهذا هو عبد الله بن رواحة ينشئ أبياتا في هذا السياق فيقول فيها: خلوا بني الكفار عن سبيله * خلوا فكل الخير في رسوله يا رب إني مؤمن بقيله * أعرف حق الله في قبوله (2) هذه نماذج مما أنشأها الشعراء المعاصرون لعهد الرسالة في النبي الأكرم ونكتفي بها لدلالتها على ما ذكرنا. ولو قام باحث بجمع ما قيل من الأشعار والقصائد حول النبي الأكرم لاحتاج في تأليفه إلى عشرات المجلدات. فإن مدح النبي كان الشغل الشاغل للمخلصين والمؤمنين منذ أن لبى الرسول دعوة ربه، ولا أظن أن أحدا عاش في هذه البسيطة نال من المدح بمقدار ما ناله الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من المدح بمختلف الأساليب والنظم.
(1) ابن هشام: السيرة النبوية: 2 / 666. (2) المصدر نفسه: 371. 129 وهناك شعراء مخلصون أفرغوا فضائل النبي ومناقبه في قصائد رائعة وخالدة مستلهمين ما جاء في الذكر الحكيم والسنة المطهرة في هذا المجال، فشكر الله مساعيهم الحميدة وجهودهم المخلصة. 3 - تقبيل كل ما يمت إلى النبي بصلة كباب داره، وضريحه وأستار قبره انطلاقا من مبدأ الحب الذي عرفت أدلته. وهذا أمر طبيعي وفطري فبما أن الإنسان المؤمن لا يتمكن بعد رحلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من تقبيل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (1) فيقبل ما يتصل به بنوع من الاتصال، وهو كما أسلفنا أمر طبيعي في حياة البشر حيث يلثمون ما يرتبط بحبيبهم ويقصدون بذلك نفسه. فهذا هو المجنون العامري كان يقبل جدار بيت ليلى ويصرح بأنه لا يقبل الجدار، بل يقصد تقبيل صاحب الجدار، يقول: أمر على الديار ديار ليلى * أقبل ذا الجدار وذا الجدارا فما حب الديار شغفن قلبي * ولكن حب من سكن الديارا 4 - إقامة الاحتفالات في مواليدهم وإلقاء الخطب والقصائد في مدحهم وذكر جهودهم ودرجاتهم في الكتاب والسنة، شريطة أن لا تقترن تلك الاحتفالات بالمنهيات والمحرمات. ومن دعا إلى الاحتفال بمولد النبي في أي قرن من القرون، فقد انطلق من هذا المبدأ أي حب النبي الذي أمر به القرآن والسنة بهذا العمل. هذا هو مؤلف تاريخ الخميس يقول في هذا الصدد: لا يزال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده، ويعملون الولائم، ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات،
(1) دخل أبو بكر حجرة النبي ص بعد رحيله وهو مسجى ببرد حبرة فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله ثم بكى فقال: بأبي أنت يا نبي الله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقدمتها. لاحظ صحيح البخاري: 2 / 17 كتاب الجنائز. 130 ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرات، ويعتنون بقراءة مولده الشريف، ويظهر عليهم من كراماته كل فضل عظيم (1). وقال أبو شامة المقدسي في كتابه: ومن أحسن ما ابتدع في زماننا ما يفعل في اليوم الموافق ليوم مولده (صلى الله عليه وآله وسلم) من الصدقات والمعروف بإظهار الزينة والسرور، فإن في ذلك مع ما فيه من الإحسان للفقراء شعارا لمحبته (2). أنا لا أوافق الشيخ المقدسي في تسميته للاحتفال بالبدعة إلا أن يريد البدعة بالمعنى اللغوي، كما أن الاحتجاج على حسن الاحتفال بالأعمال الجانبية من صدقات ومعروف وإظهار الزينة...، فإن هذه الأمور الجانبية لا تسوغ الاحتفال، ولا تضفي عليه صبغة شرعية ما لم يكن هناك دليل في الكتاب والسنة، قد عرفت وجود الدليل. وقال القسطلاني: ولا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده (عليه السلام)، ويعملون الولائم، ويتصدقون في لياليه بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كل فضل عظيم... فرحم الله امرئ اتخذ ليالي شهر مولده المبارك أعيادا، ليكون أشد علة على من في قلبه مرض وأعيا داء (3). إذا عرفت ما ذكرناه فلا نظن أن يشك أحد في جواز الاحتفال بمولد النبي الأكرم، احتفالا دينيا فيه رضى الله ورسوله، ولا تصح تسميته بدعة، إذ البدعة هي التي ليس لها أصل في الكتاب والسنة، وليس المراد من الأصل، الدليل الخاص، بل يكفي الدليل العام في ذلك.
(1) الديار بكري: تاريخ الخميس: 1 / 323. (2) الحلبي: السيرة: 1 / 83 - 84. (3) المواهب اللدنية: 1 / 148. 131 ويرشدك إلى أن هذه الاحتفالات تجسيد لتكريم النبي، وجدانك الحر، فإنه يقضي - بلا مرية - على أنها إعلاء لمقام النبي وإشادة بكرامته وعظمته، بل يتلقاها كل من شاهدها عن كثب على أن المحتفلين يعزرون نبيهم ويكرمونه ويرفعون مقامه اقتداء بقوله سبحانه: * (ورفعنا لك ذكرك) * (الانشراح - 4). السنة النبوية وكرامة يوم مولده (صلى الله عليه وآله وسلم): 1 - أخرج مسلم في صحيحه عن أبي قتادة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن صوم يوم الاثنين فقال: " ذاك يوم ولدت فيه، وفيه أنزل علي " (1). يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي - عند الكلام في استحباب صيام الأيام التي تتجدد فيها نعم الله على عباده - ما هذا لفظه: إن من أعظم نعم الله على هذه الأمة إظهار محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعثته وإرساله إليهم، كما قال الله تعالى: * (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم) * فصيام يوم تجددت فيه هذه النعمة من الله سبحانه على عباده المؤمنين حسن جميل، وهو من باب مقابلة النعم في أوقات تجددها بالشكر (2). 2 - روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: لما قدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسئلوا عن ذلك، فقالوا: هو اليوم الذي أظفر الله موسى وبني إسرائيل على فرعون، ونحن نصوم تعظيما له، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " نحن أولى بموسى " وأمر بصومه (3). وقد استدل ابن حجر العسقلاني بهذا الحديث على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي على ما نقله الحافظ السيوطي، فقال: فيستفاد فعل الشكر لله على ما
(1) مسلم: الصحيح: 2 / 819. (2) ابن رجب الحنبلي: لطائف المعارف: 98. (3) مسلم: الصحيح: 113، وأخرجه البخاري: 7 / 215. 132 من به في يوم معين من إسداء نعمة، أو دفع نقمة ويعاد ذلك، نظير ذلك اليوم من كل سنة. والشكر لله يحصل بأنواع العبادة، كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم (1). 3 - وللسيوطي أيضا كلام آخر نأتي بنصه، يقول: وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر، وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عق عن نفسه بعد النبوة مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عق عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين وتشريع لأمته كما كان يصلي على نفسه، لذلك فيستحب لنا أيضا إظهار الشكر بمولده بالاجتماع، وإطعام الطعام، ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرات (2). 4 - أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب أن رجلا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين! آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. فقال: أي آية؟ قال: * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) * (المائدة - 3). فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائم بعرفة يوم الجمعة (3). وأخرج الترمذي عن ابن عباس نحوه وقال: فيه نزلت في يوم عيد من يوم جمعة ويوم عرفة، وقال الترمذي: وهو صحيح (4).
(1) السيوطي: الحاوي للفتاوي: 1 / 196. (2) السيوطي: الحاوي للفتاوي: 1 / 196. (3) البخاري: الصحيح: 8 / 270، وكما أخرجه الترمذي في 5 / 250، وفي الروايات المتضافرة أنها نزلت في الثامن عشر من ذي الحجة في حجة الوداع. (4) البخاري: الصحيح: 8 / 270، وكما أخرجه الترمذي في 5 / 250، وفي الروايات المتضافرة أنها نزلت في الثامن عشر من ذي الحجة في حجة الوداع. 133 وفي هذا الأثر موافقة سيدنا عمر بن الخطاب (رض) على اتخاذ اليوم الذي حدثت فيه نعمة عظيمة، عيدا لأن الزمان ظرف للحدث العظيم، فعند عود اليوم الذي وقعت فيه الحادثة كان موسما لشكر تلك النعمة، وفرصة لإظهار الفرح والسرور (1). نرى أن المسيح عندما دعا ربه أن ينزل مائدة عليه وعلى حوارييه قال: * (اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين) * (المائدة - 114). فقد اتخذ يوم نزول النعمة المادية التي تشبع البطون عيدا، والرسول الأكرم نعمة عظيمة من بها الله على المسلمين بميلاده، فلم لا نتخذه يوم فرح وسرور؟ الاستدلال بالإجماع: ذكروا أن أول من أقام المولد هو الملك المظفر صاحب إربل، وقد توفي عام 630 ه، وربما يقال: أول من أحدثه بالقاهرة الخلفاء الفاطميون، أولهم المعجز لدين الله، توجه من المغرب إلى مصر في شوال 361 ه، وقيل في ذلك غيره، وعلى أي تقدير فقد احتفل المسلمون حقبا وأعواما من دون أن يعترض عليهم أي ابن أنثى، وعلى أي حال فقد تحقق الإجماع على جوازه وتسويغه واستحبابه قبل أن يولد باذر هذه الشكوك، فلماذا لم يكن هذا الإجماع حجة؟ مع أن اتفاق الأمة بنفسه أحد الأدلة، وكانت السيرة على تبجيل مولد النبي إلى أن جاء ابن تيمية، والعز بن عبد السلام (2)، والشاطبي فناقشوا فيه ووصفوه بالبدعة، مع أن الإجماع انعقد قبل هؤلاء بقرنين أو قرون، أوليس انعقاد الإجماع في عصر من العصور حجة بنفسه؟
(1) عيسى الحميري: بلوغ المأمول: 29. (2) هو عبد العزيز بن عبد السلام السلمي الدمشقي (577 - 660 ه): فقيه شافعي، له من الكتب " التفسير الكبير " و " مسائل الطريقة " وغيرها. (أعلام الزركلي: 4 / 21. دار الملايين - بيروت). 134 أوهام وتشكيكات: إن للقائلين بالمنع تشكيكات وشبه كلها سراب لا ماء، نذكرها بنصوصهم: أ - الاحتفال نوع من العبادة: قال محمد حامد الفقي: والمواليد والذكريات التي ملأت البلاد باسم الأولياء هي نوع العبادة لهم وتعظيمهم (1). يلاحظ عليه: أن العنصر المقوم لصدق العبادة على العمل هو الاعتقاد بإلوهية المعظم له أو ربوبيته، أو كونه مالك لمصير المعظم المحتفل، وأن بيده عاجله وآجله، ومنافعه ومضاره ولا أقل، وبيده مفاتيح المغفرة والشفاعة. وأما إذا خلا التعظيم عن هذه العناصر وقام بالاحتفال بذكرى رجل ضحى بنفسه ونفيسه في طريق هداية المحتفلين، فلا يعد ذلك عبادة له وإن أقيمت له عشرات الاحتفالات وألقيت فيها القصائد والخطب. ومن المعلوم أن المحتفلين المسلمين يعتقدون أن النبي الأكرم عبد من عباد الله الصالحين، وفي الوقت نفسه هو أفضل الخليقة، ونعمة من الله إليهم، فلأجل تكريمه يقيمون الاحتفال أداء لشكر النعمة. ب - لم يحتفل السلف بمولد النبي: قال ابن تيمية: إن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له، وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا لكان السلف - رضي الله عنهم - أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعظيما له منا، وهم على الخير أحرص (2).
(1) محمد حامد الفقي في تعليقته على فتح المجيد: 154. (2) ابن تيمية: اقتضاء الصراط المستقيم: 293 - 294. 135 يلاحظ عليه: بما تعرفت عليه في الفصل الرابع من أن المقياس في السنة والبدعة هو الكتاب والسنة وإجماع المسلمين أو السيرة العملية المتصلة بعصر النبي، وأما غير ذلك فليس له وزن ولا قيمة ما لم يكن هناك اعتماد على هذه الأصول الأربعة، ولم يكن السلف أنبياء ولا رسلا، وليس الخلف بأقل منهم، بل الجميع أمام الكتاب والسنة سواسية، فلو كان هناك دليل من الكتاب والسنة على جواز الاحتفال، فترك السلف لا يكون مانعا، على أن ترك السلف لم يكن مقارنا بتحريم الاحتفال أو كراهيته فغاية ما هناك أنهم لم يفعلوا، وقد أمر الله بما في هذه الآية: * (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) * (الحشر - 7) ولم يقل في حق النبي " وما تركه فانتهوا عنه " فكيف الحال في حق السلف؟! ج - إنها مضاهاة للنصارى في ميلاد المسيح: يقول ابن تيمية: وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد المسيح (عليه السلام)، وإما محبة للنبي وتعظيما له والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع (1). يلاحظ عليه: أن ابن تيمية ليس على يقين بأن المسلمين يقيمون الاحتفال مضاهاة للنصارى، أضف إلى ذلك أن الأساس الذي يجب أن يبنى عليه عمل المسلم هو: انطباق العمل على الكتاب والسنة، فلا تكون المضاهاة مانعة عن اتباع الكتاب والسنة، وإن افترضنا أن أول من احتفل، احتفل مضاهاة، إلا أن المحتفلين في هذه القرون براء من هذه التهمة. د - تخصيص المولد بيوم للاحتفال به بدعة: إن عموم الدليل يقتضي أن تكون جميع الأيام بالنسبة للاحتفال سواسية،
(1) المصدر السابق. 136 فتخصيص يوم واحد في جميع البلاد بالاحتفال بدعة، وإن لم يكن أصل العمل بدعة (1). هذا هو الدليل الهام للقائلين بالمنع، ولكن الجواب عنه واضح، وذلك لأن جميع الأيام بالنسبة إلى الاحتفال وإن كانت سواسية إلا أن تخصيص يوم واحد للاحتفال به، فلأجل خصوصيات في ذلك اليوم، وليست في غيره إلا ما شذ، وهو أن ذلك اليوم تشرف بولادته فهو من أفضل الأيام، كما أن البقعة التي ضمت جسده الشريف هي من أفضل البقاع، ومن ثم خص النبي الأكرم يوم الاثنين بفضيلة الصوم وبين أن سبب التخصيص هو أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ولد فيه، فصار كل ذلك سببا لاختيار هذا اليوم دون سائر الأيام، نعم في وسعهم الاحتفال في غير هذا اليوم أيضا، بل كل يوم أرادوا تكريم النبي والاحتفاء به. ثم إن الذي نلفت نظر القائل بالمنع إليه،. هو أنه لم يقترن ولن يقترن ادعاء ورود الأمر الشخصي على هذا التخصيص، وإنما الكل يتفق على جواز الاحتفال في جميع الأيام غير أن تخصيص ذلك اليوم هو لأجل خصوصية كامنة فيه. نعم، من احتفل في مولد النبي وادعى ورود الشرع به، أو حثه على هذا التخصيص فهو مبتدع، ولا أظن على أديم الأرض رجلا يدعي ذلك. وبعبارة موجزة، فإن كون الاحتفال بدعة رهن أمرين، وكلاهما منتفيان: 1 - عدم الدليل العام على الاحتفال. 2 - ادعاء ورود الشرع بذلك اليوم الخاص وحثه عليه. فعندئذ فلا معنى لادعاء البدعة. ه - الاحتفالات تشتمل على أمور محرمة: إن هذه الاحتفالات مشتملة على أمور محرمة في الغالب كاختلاط النساء
(1) صالح الفوزان: البدعة: 17. 137 بالرجال، وقراءة المدائح مع الموسيقى والغناء (1). يلاحظ عليه: أن هذا النوع من الاستدلال ينم عن قصور باع المستدل، وهذا يدل على أنه قد أعوزه الدليل، فأخذ يتمسك بالطحلب شأن الغريق المتمسك به. فإن البحث، في نفس مشروعية العمل بحد ذاتها. وأما الأمور الجانبية العارضة عليه فلا تكون مانعا من الحكم بالجواز، وما ذكره لا يختص بالاحتفال، بل كل عمل يجب أن يكون بعيدا عن المحرمات، فعلى المحتفلين أن يلتزموا بذلك، ويجعلوا مجالسهم مهبطا للنور. وفي الختام نركز على أمر وهو، أن الاستدلال على الجواز أو المنع بالأمور الجانبية خروج عن الاستدلال الفقهي، فإن الحكم بالجواز والمنع ذاتا يتوقف على كون الشئ بما هو هو جائزا أو ممنوعا، وأما الاستدلال على أحدهما بالأمور الطارئة فليس استدلالا صحيحا. وهناك نكتة أخرى، وهي أن الاستدلال على الجواز بما جرت عليه سيرة العقلاء من إقامة الاحتفالات على عظمائهم قياس مع الفارق، لأن الاحتفالات الرائجة بين العقلاء من الأمور العادية، والأصل فيها هو الحلية، وأما الاحتفال بمولد النبي فإنما هو احتفال ديني وعمل شرعي فلا يقاس بتلك الاحتفالات، بل لا بد من طلب دليل شرعي على جوازه، وبذلك تقدر على القضاء بين أدلة الطرفين. نعم، لا يمكن أن ننكر أن ما يقيمه العقلاء من احتفال، له تأثير في نفوسنا وتحفيز لنا للإقبال على الاحتفال بمولد النبي، وفي هذا الصدد يقول العلامة الأميني:
(1) ابن الحاج: المدخل: 2 / 2. 138 " لعل تجديد الذكرى بالمواليد والوفيات، والجري على مراسم النهضات الدينية، أو الشعبية العامة، والحوادث العالمية الاجتماعية، وما يقع من الطوارق المهمة في الطوائف والأحياء، بعد سنيها، واتخاذ رأس كل سنة بتلكم المناسبات أعيادا وأفراحا، أو مآتما وأحزانا، وإقامة الحفل السار، أو التأبين، من الشعائر المطردة، والعادات الجارية منذ القدم، ودعمتها الطبيعة البشرية، وأسستها الفكرة الصالحة لدى الأمم الغابرة، عند كل أمة ونحلة، قبل الجاهلية وبعدها، وهلم جرا حتى اليوم. هذه مراسم اليهود، والنصارى، والعرب، في أمسها ويومها، وفي الإسلام وقبله، سجلها التاريخ في صفحاته. وكأن هذه السنة نزعة إنسانية، تنبعث من عوامل الحب والعاطفة، وتسقى من منابع الحياة، وتتفرع على أصول التبجيل والتجليل، والتقدير والإعجاب، لرجال الدين والدنيا، وأفذاذ الملأ، وعظماء الأمة إحياء لذكراهم، وتخليدا لاسمهم، وفيها فوائد تاريخية اجتماعية، ودروس أخلاقية ضافية راقية، لمستقبل الأجيال، وعظات وعبر، ودستور عملي ناجع للناشئة الجديدة، وتجارب واختبارات تولد حنكة الشعب، ولا تختص بجيل دون جيل، ولا بفئة دون أخرى. وإنما الأيام تقتبس نورا وازدهارا، وتتوسم بالكرامة والعظمة، وتكتسب سعدا ونحسا، وتتخذ صبغة مما وقع فيها من الحوادث الهامة، وقوارع الدهر ونوازله... " (1).
(1) الأميني: سيرتنا وسنتنا: 38 - 39، الطبعة الثانية. 139 المسألة الثانية: شد الرحال لزيارة قبر النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) اتفق المسلمون على جواز زيارة القبور وخاصة زيارة قبور الأنبياء والصالحين، إلا ما حكي عن ابن سيرين والنخعي والشعبي والنسبة غير ثابتة، وقد تضافرت الروايات على هذا الجواز وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله وقال: " استأذنت ربي في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت " (1). وقال: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة " (2). ونقتصر من الروايات الكثيرة على هذا المقدار (3).
(1) مسلم: الصحيح: 3 / 65، باب استئذان النبي ربه في زيارة قبر أمه. (2) الترمذي: الصحيح: 3 / 274، باب الجنائز المطبوع مع شرح ابن العربي المالكي. وقال بعد نقل هذا الحديث عن بريدة: حديث بريدة صحيح والعمل على هذا عن أهل العلم ولا يرون بزيارة القبور بأسا وهو قول ابن مالك والشافعي وإسحاق. (3) تحسن مراجعة المصادر الآتية: سنن ابن ماجة: 1 / 114 ط. الهند باب ما جاء في زيارة القبور، أبو داود: الصحيح: 2 / 195، كتاب الجنائز، باب زيارة القبور.. مسلم: الصحيح: 4 / 73 كتاب الجنائز، باب زيارة القبور. إلى غيرها من المصادر. 140 وقد روى في السنن كيفية زيارة النبي الأكرم لقبور البقيع، فلاحظ المصدر (1). وأما زيارة قبر النبي الأكرم فليس هناك أي خلاف بين المسلمين في استحباب زيارته، وهذا محمد بن عبد الوهاب يقول: " تسن زيارة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أنه لا يشد الرحال إلا لزيارة المسجد والصلاة فيه " (2). نعم، ينسب إلى ابن تيمية التشكيك في مندوبية زيارة النبي الأكرم، ولكن كلامه في كتاب الرد على الأخنائي على خلاف ذلك (3). حتى أن المقدسي (4) صرح بأنه كان معتقدا بزيارة النبي الأكرم وقال: " قال رحمه الله (يعني ابن تيمية) في بعض مناسكه، باب زيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا أشرف على مدينة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل الحج أو بعده فليقل ما تقدم فإذا دخل استحب له أن يغتسل، نص عليه الإمام أحمد، فإذا دخل المسجد بدأ برجله اليمنى وقال: بسم الله والصلاة على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، ثم يأتي الروضة بين القبر والمنبر فيصلي بها ويدعو بما شاء، ثم يأتي قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيستقبل جدار القبر ولا يمسه ولا يقبله، ويجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر على رأسه ليكون قائما وجاه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقف متباعدا كما يقف لو ظهر في حياته بخشوع وسكون منكس الرأس غاض الطرف متحضرا بقلبه جلالة موقفه ثم يقول: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه، السلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين وقائد الغر
(1) النسائي: السنن: 4 / 76 - 77 مضافا إلى المصادر المتقدمة. (2) الهدية السنية، الرسالة الثانية. (3) لاحظ ابن تيمية: الرد على الأخنائي: 13. (4) أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي المقدسي. 141 المحجلين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، أشهد أنك قد بلغت رسالات ربك ونصحت لأمتك ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وعبدت الله حتى أتاك اليقين، فجزاك الله أفضل ما جزى نبيا ورسولا عن أمته. اللهم آته الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا " (1). ولذلك لا نطيل الكلام في إثبات استحباب زيارة قبر النبي الأكرم، ولعلنا نخصص بحثنا لبيان حكم مطلق الزيارة وبالأخص زيارة قبور الأنبياء والأولياء في المستقبل، إنما الكلام هنا هو التركيز على حكم شد الرحال لزيارة قبر النبي الأكرم، فقد رآه ابن تيمية ومن لف لفه، أمرا حراما مستدلا بحديث أبي هريرة أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام والمسجد الأقصى ". وروي هذا الحديث بصورة أخرى وهي: " إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة، ومسجدي ومسجد إيليا " وروي بصورة ثالثة وهي: " تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد... " (2). أقول: رفع القناع عن وجه الحقيقة يتوقف على دراسة أمرين: الأول: ما يدل على استحباب السفر لزيارة قبره (صلى الله عليه وآله وسلم). الثاني: دراسة وتحليل الحديث الذي تمسك به ابن تيمية على تحريم السفر. وإليك الكلام حولهما واحدا تلو الآخر:
(1) المقدسي: الصارم المنكي في الرد على السبكي: ص 7. ط 1، القاهرة، المطبعة الخيرية. (2) مسلم: الصحيح: 4 / 126، كتاب الحج، باب لا تشد الرحال. أبو داود: السنن: 1 / 469 كتاب الحج. النسائي: السنن: 2 / 37 - 38 المطبوع مع شرح السيوطي. 142 ما يدل على استحباب السفر: يمكن الاستدلال على استحباب السفر بوجوه كثيرة لكننا نقتصر على وجهين: الأول: إطباق السلف والخلف على السفر للزيارة: وهذا لا يمكن لأحد إنكاره، وقد استمرت السيرة قرونا عديدة، وممن أوضح تلك السيرة الفقيه السبكي، بقوله: 1 - إن الناس لم يزالوا في كل عام إذا قضوا الحج يتوجهون إلى زيارته (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومنهم من يفعل ذلك قبل الحج، هكذا شاهدناه وشاهده من قبلنا، وحكاه العلماء عن الأعصار القديمة، كما ذكرناه في الباب الثالث، وذلك أمر لا يرتاب فيه، وكلهم يقصدون ذلك ويعرجون إليه، وإن لم يكن طريقهم، ويقطعون فيه مسافة بعيدة وينفقون فيه الأموال، ويبذلون فيه المهج، معتقدين أن ذلك قربة وطاعة، وإطباق هذا الجمع العظيم من مشارق الأرض ومغاربها على مر السنين. وفيهم العلماء والصلحاء وغيرهم، يستحيل أن يكون خطأ، وكلهم يفعلون ذلك على وجه التقرب به إلى الله عز وجل، ومن تأخر عنه من المسلمين فإنما يتأخر بعجز أو تعويق المقادير، مع تأسفه عليه و وده لو تيسر له، ومن ادعى أن هذا الجمع العظيم مجمعون على خطأ فهو المخطئ (1). إن جريان السيرة على السفر في القرون الماضية بلغ في الوضوح ما لم يستطع أحد أن ينكره، حتى أن الحنبلي المقدسي الذي أفرد كتابا في الرد على السبكي لم يتعرض للسيرة وما تحدث عنها بكلمة مع أنه كان بصدد نقد الكتاب، ولأجل أن
(1) الإمام تقي الدين السبكي، شفاء السقام في زيارة خير الأنام: 100. 143 تتضح حال السيرة نذكر بعض النصوص من العلماء: 2 - قال أبو الحسن الماوردي (ت / 450 ه): فإذا عاد ولي الحاج، سار به على طريق المدينة لزيارة قبر رسول الله ليجمع لهم بين حج بيت الله عز وجل، وزيارة قبر رسول الله رعاية لحرمته وقياما بحقوق طاعته وذلك وإن لم يكن من فروض الحج، فهو من مندوبات الشرع المستحبة وعبادات الحجيج المستحبة (1). 3 - قال ابن الحاج محمد بن محمد العبدري القيرواني المالكي (ت / 737 ه): وأما عظيم جناب الأنبياء والرسل - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - فيأتي إليهم الزائر ويتعين عليه قصدهم من الأماكن البعيدة، فإذا جاء إليهم فليتصف بالذل والانكسار، والمسكنة والفقر، والفاقة والحاجة والاضطرار والخضوع ويحضر قلبه وخاطره إليهم وإلى مشاهدتهم بعين قلبه لا بعين بصره لأنهم لا يبلون ولا يتغيرون... إلى آخر ما ذكره (2). 4 - قال شيخ الإسلام أبو يحيى زكريا الأنصاري الشافعي (ت / 925 ه) في ما يستحب لمن حج: ثم يزور قبر النبي ويسلم عليه وعلى صاحبيه بالمدينة المشرفة (3). إلى غير ذلك من النصوص الواردة حول استحباب السفر لزيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الحاكية عن تطابق الأمة على السفر. 5 - قال الشيخ علاء الدين الحصكفي الحنفي في آخر كتاب الحج: وزيارة قبره (صلى الله عليه وآله وسلم) مندوبة بل قيل واجبة لمن له سعة، ويبدأ بالحج
(1) أبو الحسن الماوردي: الأحكام السلطانية: 105. (2) ابن الحاج: المدخل: 1 / 257 فضل زيارة القبور. (3) أسنى المطالب في شرح روض الطالب: 1 / 501. 144 لو كان فرضا ويخير لو كان نفلا ما لم يمر به، فيبدأ بزيارته لا محالة ولينوي معه زيارة مسجده " (1). 6 - وقد نقل أنه لما صالح عمر بن الخطاب أهل بيت المقدس جاءه كعب الأحبار فأسلم ففرح به، فقال عمر له: هل لك أن تسير معي إلى المدينة، وتزور قبره وتتمتع بزيارته؟ قال: نعم (2). 7 - وقد تضافر النقل على أن بلالا بعد ما نزل الشام وأقام بها، شد الرحال لزيارة قبر النبي الأكرم، قال جمال الدين المزي: أنه لم يؤذن لأحد بعد النبي إلا مرة واحدة في قدمة قدمها لزيارة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طلب منه الصحابة ذلك، فأذن ولم يتم الأذان (3). الثاني: إن مقدمة المستحب مستحبة: إذا كان زيارة النبي الأكرم أمرا مندوبا ولم تخصص الزيارة لمن كان مقيما في المدينة ونزيلا فيها، فلم لا تكون مقدمتها مستحبة إذ من القواعد إن وسيلة القربة قربه، وقد وردت روايات على مشروعية تلك القاعدة؟ يقول السبكي في هذا الصدد: قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط " رواه مسلم (4) والخطى إلى المساجد إنما شرفت لكونها وسيلة إلى عبادة. وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد،
(1) الحنفي المفتي بدمشق (ت / 1088): الدر المختار في شرح تنوير الأبصار، آخر كتاب الحج. (2) الزرقاني المالكي المصري: شرح المواهب: 8 / 299. (3) جمال الدين المزي: تهذيب الكمال: 4 / 286، ابن منظور: مختصر تاريخ دمشق: 5 / 365. (4) ورواه الإمام مالك، وأحمد، والترمذي، والنسائي. 145 لا تخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة " رواه البخاري ومسلم (1). وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى " رواه البخاري ومسلم (2). وقال رجل: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " قد جمع الله لك ذلك كله " رواه مسلم. وقال جابر: كانت ديارنا نائية عن المسجد، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقرب من المسجد، فنهانا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " إن لكم بكل خطوة درجة " رواه مسلم. وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " من تطهر في بيته، ثم مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله، كانت خطوتاه إحداهما تحط خطيئة والأخرى ترفع درجة " رواه مسلم. وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلا كلما غدا أو راح " رواه البخاري ومسلم والإمام أحمد (3). هذا كله ما ذكره السبكي في مقدمة المستحب وقال بالملازمة بين استحباب ذي المقدمة ومقدمته. ولو قلنا بعدم الملازمة بين الاستحبابين ولكن لا محيص عن عدم التضاد بين الحكمين، إذ كيف يمكن أن تكون الزيارة مستحبة للنائي ويكون السفر حراما؟ فلا محيص عن كونه مباحا لا حراما. هذا كله حول دليل القائل بجواز شد الرحال.
(1) ورواه أبو داود والبيهقي، وفيه زيادات، وكذلك الطبراني، والحاكم. (2) ورواه ابن ماجة. (3) السبكي: شفاء السقام، باب في كون السفر إليه قربة: 102، ولكلامه صلة فمن أراد فليرجع إليه فإنه ممتع. 146 دراسة دليل القائل بالتحريم: ليس للقائل بالتحريم إلا دليل واحد وهو ما عرفت من رواية أبي هريرة وقد نقلت بصور مختلفة قد تعرفت عليها، والمناسب لما يرومه المستدل الصورة التالية: " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى " فتحليل الحديث يتوقف على تعيين المستثنى منه وهو لا يخلو من صورتين: 1 - لا تشد إلى مسجد من المساجد إلا إلى ثلاثة مساجد... 2 - لا تشد إلى مكان من الأمكنة إلا إلى ثلاثة مساجد... فلو كانت الأولى كما هو الظاهر، كان معنى الحديث عدم شد الرحال إلى أي مسجد من المساجد سوى المساجد الثلاثة ولا يعني عدم شد الرحال إلى أي مكان من الأمكنة إذا لم يكن المقصود مسجدا، فالحديث يكون غير متعرض لشد الرحال لزيارة الأنبياء والأئمة الطاهرين والصالحين لأن موضوع الحديث إثباتا ونفيا هو المساجد، وأما غير ذلك فليس داخلا فيه، فالاستدلال به على تحريم شد الرحال إلى غير المساجد، باطل. وأما الصورة الثانية: فلا يمكن الأخذ بها إذ يلزمها كون جميع السفرات محرمة سواء كان السفر لأجل زيارة المسجد أو غيره من الأمكنة، وهذا لا يلتزم به أحد من الفقهاء. ثم إن النهي عن شد الرحال إلى أي مسجد غير المساجد الثلاثة ليس نهيا تحريميا، وإنما هو إرشاد إلى عدم الجدوى في سفر كهذا، وذلك لأن المساجد الأخرى لا تختلف من حيث الفضيلة، فالمساجد الجامعة كلها متساوية في الفضيلة، فمن العبث ترك الصلاة في جامع هذا البلد والسفر إلى جامع بلد آخر
147 مع أنهما متماثلان. وفي هذا الصدد يقول الغزالي: القسم الثاني وهو أن يسافر لأجل العبادة إما لحج أو جهاد... ويدخل في جملته: زيارة قبور الأنبياء (عليهم السلام) وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والأولياء، وكل من يتبرك بمشاهدته في حياته يتبرك بزيارته بعد وفاته، ويجوز شد الرحال لهذا الغرض، ولا يمنع من هذا قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى، لأن ذلك في المساجد، فإنها متماثلة (في الفضيلة) بعد هذه المساجد، وإلا فلا فرق بين زيارة قبور الأنبياء والأولياء والعلماء في أصل الفضل، وإن كان يتفاوت في الدرجات تفاوتا عظيما بحسب اختلاف درجاتهم عند الله " (1). يقول الدكتور عبد الملك السعدي: إن النهي عن شد الرحال إلى المساجد الأخرى لأجل أن فيه إتعاب النفس دون جدوى أو زيادة ثواب لأن في الثواب سواء، بخلاف الثلاثة لأن العبادة في المسجد الحرام بمائة ألف، وفي المسجد النبوي بألف، وفي المسجد الأقصى بخمسمائة فزيادة الثواب تحبب السفر إليها وهي غير موجودة في بقية المساجد (2). والدليل على أن السفر لغير هذه المساجد ليس أمرا محرما ما رواه أصحاب الصحاح والسنن: " كان رسول الله يأتي مسجد قباء راكبا وماشيا فيصلي فيه ركعتين " (3). ولعل استمرار النبي على هذا العمل كان مقترنا لمصلحة تدفعه إلى السفر إلى قباء والصلاة فيه مع كون الصلاة فيه أقل ثوابا من الثواب في مسجده.
(1) الغزالي: إحياء علوم الدين: 2 / 247 كتاب آداب السفر، ط دار المعرفة، بيروت. (2) الدكتور عبد الملك السعدي، البدعة: 60. (3) مسلم: الصحيح: 4 / 127. البخاري: الصحيح 2 / 76. النسائي: السنن 2 / 37 المطبوع مع شرح السيوطي. 148 دراسة النهي عن شد الرحال: إن لابن تيمية في المقام كلمة فيها مغالطة واضحة، إذ مع أنه قدر المستثنى منه لفظ المساجد إلا أنه استدل على منع شد الرحال لزيارة قبور الأنبياء والصالحين بمدلوله أي بالقياس الأولوي، فقال في الفتاوى: " فإذا كان السفر إلى بيوت الله غير الثلاثة ليس بمشروع باتفاق الأئمة الأربعة بل قد نهى عنه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فكيف بالسفر إلى بيوت المخلوقين الذين تتخذ قبورهم مساجد وأوثانا وأعيادا ويشرك بها وتدعى من دون الله حتى أن كثير من معظميها يفضل الحج إليها على الحج إلى بيت الله " (1). ولو صح ذلك النقل من ابن تيمية ففي كلامه أوهام شتى وإليك بيانها: 1 - قال: " إذا كان السفر إلى بيوت الله غير الثلاثة ليس بمشروع ". يلاحظ عليه: من أين وقف على أن السفر إلى غير المساجد الثلاثة محرم، وقد عرفت أن النهي ليس تحريميا مولويا وإنما هو إرشاد إلى عدم الجدوى، ولأجل ذلك لو ترتبت على السفر مصلحة لجاز كما عرفت من سفر النبي إلى مسجد قباء مرارا. 2 - نسب عدم المشروعية إلى الأئمة الأربعة، إلا أننا لم نجد نصا منهم على التحريم، ووجود الحديث في الصحاح لا يدل على أنهم فسروا الحديث بنفس ما فسر به ابن تيمية. ولا يخفى على الأئمة ظهور الحديث في الدلالة على عدم الجدوى، لا كون العمل محرما.
(1) ابن تيمية: الفتاوى، كما في كتاب البدعة للدكتور عبد الملك السعدي. 149 3 - إن عدم جواز السفر إلى غير المساجد الثلاثة لا يكون دليلا على عدم جوازه إلى * (بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه) * (1) إذ لا ملازمة بينهما، لأنه لا يترتب على السفر في غير مورد الثلاثة أية فائدة سوى تحمل عناء السفر، وقد عرفت أن فضيلة أي جامع في بلد، نفسها في البلد الآخر، وليس اكتساب الثواب متوقفا على السفر، وهذا بخلاف المقام فإن درك فضيلة قبر النبي يتوقف على السفر، ولا يدرك بدونه. 4 - يقول: " إن المسلمين يتخذون قبور الأنبياء أوثانا وأعيادا ويشرك بها " * (كبرت كلمة تخرج من أفواههم) * أفمن يشهد كل يوم بأن محمدا عبده ورسوله ويكرمه ويعظمه لأنه سفير التوحيد ومبلغه، - أفهل - يمكن أن يتخذ قبره وثنا؟! 5 - يقول: " تدعى من دون الله " إن عبادة الغير حرام لا مطلق دعوته، فعامة المسلمين حتى ابن تيمية يقول في صلاته " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ". والمراد من قوله سبحانه: * (ولا تدعوا مع الله أحدا) * (الجن - 18): لا تعبدوا مع الله أحدا. قال سبحانه: * (أدعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) * (غافر - 60) فسمى سبحانه دعوته: عبادة فإذا الدعوة على قسمين: دعوة عبادية إذا كان معتقدا بإلوهية المدعو بنحو من الأنحاء، ودعوة غير عبادية، إذا دعاه على أنه عبد من عباده الصالحين، يستجاب دعاؤه عند الله، والدعوة بهذا النوع تؤكد التوحيد. 6 - نقل: أن بعض المسلمين يفضل السفر إلى تلك الأماكن على الحج إلى بيت الله، لكنها فرية بلا مرية، وليس على وجه البسيطة مسلم واع يعتقد بهذا ويعمل عليه. 7 - لو كان السفر إلى القبور أمرا محرما فلماذا شد النبي الرحال لزيارة قبر
(1) سورة النور: 36. 150 أمه بالأبواء وهو منطقة بين مكة والمدينة، أفصار النبي بهذا - والعياذ بالله - مشركا أو أن الرواية التي أطبق المحدثون على نقلها مكذوبة، الله لا هذا ولا ذاك وأنما......... 8 - إن ما ذكره من أسباب المنع تتحقق للمجاور للقبر بدون شد الرحال، فاللازم منع ارتكاب المحرمات عند قبره لا منع السفر إليه. 9 - احتمال أن المراد من زيارة القبور هو زيارة جميع القبور بدون تخصيص لزيارة قبر مشخص، احتمال ساقط وذلك لأن " ال " (الجنسية) إذا دخلت على الجمع أبطلت جمعيته وصار المراد بالمدخول أي فرد يتحقق به جنس القبر ويستوي في ذلك المفرد والجمع. 10 - كيف يقال ذلك مع أن السيدة عائشة - رضي الله عنها - كانت تزور قبر أخيها عبد الرحمن بخصوصه (1) حتى أن النبي يخص بعض القبور بالزيارة وقد وضع حجرات على قبر أخيه من الرضاعة عثمان بن مضعون وقال: " لتعرف بها قبر أخي " ولا تترتب على التعرف فائدة سوى زيارته.
(1) ابن قدامة: المغني: 2 / 270. 151 المسألة الثالثة: القبض بين البدعة والسنة إن قبض اليد اليسرى باليمنى مما اشتهر ندبه بين فقهاء أهل السنة. فقالت الحنفية: إن التكتف مسنون وليس بواجب، والأفضل للرجل أن يضع باطن كفه اليمنى على ظاهر كفه اليسرى تحت سرته، وللمرأة أن تضع يديها على صدرها. وقالت الشافعية: يسن للرجل والمرأة، والأفضل وضع باطن يمناه على ظهر يسراه تحت الصدر وفوق السرة مما يلي الجانب الأيسر. وقالت الحنابلة: إنه سنة، والأفضل أن يضع باطن يمناه على ظاهر يسراه، ويجعلها تحت السرة. وشذت عنهم المالكية فقالوا: يندب إسدال اليدين في الصلاة الفرض، وقالت جماعة أيضا قبلهم، منهم: عبد الله بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء، وابن جريج، والنخعي، والحسن البصري، وابن سيرين، وجماعة من الفقهاء. والمنقول عن الإمام الأوزاعي التخيير بين القبض والسدل (1).
(1) محمد جواد مغنية: الفقه على المذاهب الخمسة: 110، ولاحظ رسالة مختصرة في السدل للدكتور عبد الحميد: 5. 152 وأما الشيعة الإمامية، فالمشهور أنه حرام ومبطل، وشذ منهم من قائل بأنه مكروه، كالحلبي في الكافي (1). ومع أن غير المالكية من المذاهب الأربعة قد تصوبوا وتصعدوا في المسألة، لكن ليس لهم دليل مقنع على جوازه في الصلاة، فضلا عن كونه مندوبا، بل يمكن أن يقال: إن الدليل على خلافهم، والروايات البيانية عن الفريقين التي تبين صلاة الرسول خالية عن القبض، ولا يمكن للنبي الأكرم أن يترك المندوب طيلة حياته أو أكثرها، وإليك نموذجين من هذه الروايات: أحدهما عن طريق أهل السنة، والآخر عن طريق الشيعة الإمامية، وكلاهما يبينان كيفية صلاة النبي وليست فيهما أية إشارة إلى القبض فضلا عن كيفيته. ألف - حديث أبي حميد الساعدي: روى حديث أبي حميد الساعدي غير واحد من المحدثين، ونحن نذكره بنص البيهقي، قال: أخبرناه أبو عبد الله الحافظ: فقال أبو حميد الساعدي: أنا أعملكم بصلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قالوا: لم، ما كنت أكثرنا له تبعا، ولا أقدمنا له صحبة؟! قال: بلى، قالوا: فأعرض علينا، فقال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يكبر حتى يقر كل عضو منه في موضعه معتدلا، ثم يقرأ، ثم يكبر ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه، ثم يعتدل ولا ينصب رأسه ولا يقنع، ثم يرفع رأسه، فيقول: سمع الله لمن حمده، ثم يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه حتى يعود كل عظم منه إلى موضعه معتدلا، ثم يقول: الله أكبر، ثم يهوي إلى
(1) النجفي: جواهر الكلام: 11 / 15 - 16. 153 الأرض فيجافي يديه عن جنبيه، ثم يرفع رأسه فيثني رجله اليسرى فيقعد عليها ويفتح أصابع رجليه إذا سجد، ثم يعود، ثم يرفع فيقول: الله أكبر، ثم يثني برجله فيقعد عليها معتدلا حتى يرجع أو يقر كل عظم موضعه معتدلا، ثم يصنع في الركعة الأخرى مثل ذلك، ثم إذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما فعل أو كبر عند افتتاح صلاته، ثم يصنع مثل ذلك في بقية صلاته، حتى إذا كان في السجدة التي فيها التسليم أخر رجله اليسرى وقعد متوركا على شقه الأيسر، فقالوا جميعا: صدق هكذا كان يصلي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (1). والذي يوضح صحة الاجتماع به الأمور التالية: 1 - تصديق أكابر الصحابة (2) وهذا العدد لأبي حميد يدل على قوة الحديث، وترجيحه على غيره من الأدلة. 2 - أنه وصف الفرائض والسنن والمندوبات ولم يذكر القبض، ولم ينكروا عليه، أو يذكروا خلافه، وكانوا حريصين على ذلك لأنهم لم يسلموا له أول الأمر أنه أعملهم بصلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل قالوا جميعا: صدقت هكذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي، ومن البعيد جدا نسيانهم وهم عشرة، وفي مجال المذاكرة. 3 - الأصل في وضع اليدين هو الإرسال، لأنه الطبيعي فدل الحديث عليه. 4 - هذا الحديث لا يقال عنه إنه عام وأحاديث القبض خصصته، لأنه وصف وعدد جميع الفرائض والسنن والمندوبات وكامل هيئة الصلاة، وهو في معرض التعليم والبيان، والحذف فيه خيانة، وهذا بعيد عنه وعنهم.
(1) البيهقي: السنن: 2 / 72، 73، 101، 102، أبو داود: السنن: 1 / 194، باب افتتاح الصلاة، الحديث 730 - 736، الترمذي: السنن: 2 / 98 باب صفة الصلاة. (2) منهم أبو هريرة، وسهل الساعدي، وأبو أسيد الساعدي، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، ومحمد بن مسلمة. 154 5 - بعض من حضر من الصحابة قد روى أحاديث القبض، فلم يعترض، فدل على أن القبض منسوخ، أو على أقل أحواله بأنه جائز للاعتماد لمن طول في صلاته، وليس من سنن الصلاة، ولا من مندوباتها، كما هو مذهب الليث بن سعد، والأوزاعي، ومالك (1). هذا هو الحديث الذي قام ببيان كيفية صلاة النبي وقد روي عن طريق أهل السنة، وقد عرفت وجه الدلالة، وإليك ما رواه الشيعة الإمامية. ب - حديث حماد بن عيسى: روى حماد بن عيسى عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: " ما أقبح بالرجل أن يأتي عليه ستون سنة أو سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامة " قال حماد: فأصابني في نفسي الذل، فقلت: جعلت فداك فعلمني الصلاة، فقام أبو عبد الله مستقبل القبلة منتصبا فأرسل يديه جميعا على فخذيه قد ضم أصابعه وقرب بين قدميه حتى كان بينهما ثلاثة أصابع مفرجات، واستقبل بأصابع رجليه (جميعا) لم يحرفهما عن القبلة بخشوع واستكانة، فقال: الله أكبر، ثم قرأ الحمد بترتيل، وقل هو الله أحد، ثم صبر هنيئة بقدر ما تنفس وهو قائم، ثم قال: الله أكبر، وهو قائم ثم ركع وملأ كفيه من ركبتيه مفرجات، ورد ركبتيه إلى خلفه حتى استوى ظهره، حتى لو صبت عليه قطرة ماء أو دهن لم تزل لاستواء ظهره وتردد ركبتيه إلى خلفه، ونصب عنقه، وغمض عينيه ثم سبح ثلاثا بترتيل وقال: سبحان ربي العظيم وبحمده، ثم استوى قائما، فلما استمكن من القيام قال: سمع الله لمن حمده، ثم كبر وهو قائم، ورفع يديه حيال وجهه، وسجد، ووضع يديه إلى الأرض قبل ركبتيه وقال: سبحان ربي الأعلى وبحمده، ثلاث مرات، ولم يضع شيئا من
(1) الدكتور عبد الحميد: رسالة مختصرة في السدل: 11. 155 بدنه على شئ منه، وسجد على ثمانية أعظم: الجبهة، والكفين، وعيني الركبتين، وأنامل إبهامي الرجلين، والأنف، فهذه السبعة فرض، ووضع الأنف على الأرض سنة، وهو الإرغام، ثم رفع رأسه من السجود فلما استوى جالسا قال: الله أكبر، ثم قعد على جانبه الأيسر، ووضع ظاهر قدمه اليمنى على باطن قدمه اليسرى، وقال: أستغفر الله ربي وأتوب إليه، ثم كبر وهو جالس وسجد الثانية، وقال كما قال في الأولى ولم يستعن بشئ من بدنه على شئ منه في ركوع ولا سجود، وكان مجنحا، ولم يضع ذراعيه على الأرض، فصلى ركعتين على هذا. ثم قال: " يا حماد هكذا صل، ولا تلتفت، ولا تعبث بيديك وأصابعك، ولا تبزق عن يمينك ولا (عن) يسارك ولا بين يديك " (1). ترى أن الروايتين بصدد بيان كيفية الصلاة المفروضة على الناس وليست فيهما أية إشارة إلى القبض بأقسامه المختلفة فلو كان سنة لما تركه الإمام في بيانه، وهو بعمله يجسد لنا صلاة الرسول، لأنه أخذه عن أبيه الإمام الباقر، وهو عن أبيه عن آبائه، عن أمير المؤمنين، عن الرسول الأعظم - صلوات الله عليهم أجمعين - فيكون القبض بدعة، لأنه إدخال شئ في الشريعة وهو ليس منه. ثم إن للقائل بالقبض أدلة نأخذ بدراستها: إن مجموع ما يمكن الاستدلال به على أن القبض سنة في الصلاة لا يعدو عن مرويات ثلاثة: 1 - حديث سهل بن سعد. رواه البخاري. 2 - حديث وائل بن حجر. رواه مسلم ونقله البيهقي بأسانيد ثلاثة. 3 - حديث عبد الله بن مسعود. رواه البيهقي في سننه.
(1) الحر العاملي: الوسائل: 4، الباب 1 من أبواب أفعال الصلاة، الحديث 1. ولاحظ الباب 17، الحديث 1 و 2. 156 وإليك دراسة كل حديث: ألف: حديث سهل بن سعد: روى البخاري عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: " كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة " قال أبو حازم: لا أعلمه إلا ينمي ذلك إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (1). قال إسماعيل (2): ينمى ذلك ولم يقل ينمي. والرواية متكفلة لبيان كيفية القبض إلا أن الكلام في دلالته بعد تسليم سنده. ولا يدل عليه بوجهين: أولا: لو كان النبي الأكرم هو الآمر بالقبض فما معنى قوله: " كان الناس يؤمرون "؟ أوما كان الصحيح عندئذ أن يقول: كان النبي يأمر؟ أوليس هذا دليلا على أن الحكم نجم بعد ارتحال النبي الأكرم حيث إن الخلفاء وأمراءهم كانوا يأمرون الناس بالقبض بتخيل أنه أقرب للخشوع؟ ولأجله عقد البخاري بعده بابا باسم باب الخشوع. قال ابن حجر: الحكمة في هذه الهيئة أنه صفة السائل الذليل، وهو أمنع عن العبث وأقرب إلى الخشوع، كان البخاري قد لاحظ ذلك وعقبه بباب الخشوع. وثانيا: أن في ذيل السند ما يؤيد أنه كان من عمل الآمرين، لا الرسول الأكرم نفسه حيث قال: قال إسماعيل: " لا أعلمه إلا ينمى ذلك إلى النبي " بناء على قراءة الفعل
(1) ابن حجر: فتح الباري في شرح صحيح البخاري: 2 / 224، باب وضع اليمنى على اليسرى. ورواه البيهقي في السنن الكبرى: 2 / 28، الحديث 3، باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة. (2) المراد: إسماعيل بن أبي أويس شيخ البخاري كما جزم به الحميدي. لاحظ فتح الباري: 5 / 325. 157 بصيغة المجهول. ومعناه أنه لا يعلم كونه أمرا مسنونا في الصلاة غير أنه يعزى وينسب إلى النبي، فيكون ما يرويه سهل به سعد مرفوعا. قال ابن حجر: ومن اصطلاح أهل الحديث إذا قال الراوي: ينميه، فمراده: يرفع ذلك إلى النبي (1). هذا كله إذا قرأناه بصيغة المجهول، وأما إذا قرأناه بصيغة المعلوم، فمعناه أن سهلا ينسب ذلك إلى النبي، فعلى فرض صحة القراءة وخروجه بذلك من الإرسال والرفع، يكون قوله: " لا أعلمه إلا... " معربا عن ضعف العزو والنسبة، وأنه سمعه عن رجل آخر ولم يسم. ب - حديث وائل بن حجر: وروي بصور: 1 - روى مسلم، عن وائل بن حجر: أنه رأى النبي رفع يديه حين دخل في الصلاة كبر، ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب، ثم رفعهما، ثم كبر فركع... (2). والاحتجاج بالحديث احتجاج بالفعل، ولا يحتج به إلا أن يعلم وجهه، وهو بعد غير معلوم، لأن ظاهر الحديث أن النبي جمع أطراف ثوبه فغطى صدره به،
(1) المصدر نفسه: هامش رقم 1. (2) مسلم: الصحيح: 1 / 382، الباب 5 من كتاب الصلاة، باب وضع يده اليمنى على اليسرى، وفي سند الحديث " همام " ولو كان المقصود، هو همام بن يحيى فقد قال ابن عمار فيه: كان يحيى القطان لا يعبأ ب " همام " وقال عمر بن شيبة: حدثنا عفان قال: كان يحيى بن سعيد يعترض على همام في كثير من حديثه. وقال أبو حاتم: ثقة في حفظه. لاحظ هدى الساري: 1 / 449. 158 ووضع يده اليمنى على اليسرى، وهل فعل ذلك لأجل كونه أمرا مسنونا في الصلاة، أو فعله لئلا يسترخي الثوب بل يلصق الثوب بالبدن ويتقي به نفسه عن البرد؟ والفعل أمر مجهول العنوان، لا يكون حجة إلا إذا علم أنه فعل به لأجل كونه مسنونا. إن النبي الأكرم صلى مع المهاجرين والأنصار أزيد من عشر سنوات، فلو كان ذلك ثابتا من النبي لكثر النقل وذاع، ولما انحصر نقله بوائل بن حجر، مع ما في نقله من الاحتمالين. نعم روي بصورة أخرى ليس فيه قوله: " ثم التحف بثوبه " وإليك صورته: 2 - روى البيهقي بسنده عن موسى بن عمير: حدثني علقمة بن وائل، عن أبيه: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا قام في الصلاة قبض على شماله بيمينه، ورأيت علقمة يفعله (1). وبما أنه إذا دار الأمر بين الزيادة والنقيصة فالثانية هي المتعينة، فيلاحظ عليها بما لوحظ على الأولى وأن وجه الفعل غير معلوم. على أنه لو كان النبي مقيما على هذا العمل، لاشتهر بين الناس، مع أن قوله: " ورأيت علقمة يفعله " يعرب عن أن الرواي تعرف على السنة من طريقه. 3 - رواه البيهقي أيضا بسند آخر عن وائل بن حجر (2) ويظهر الإشكال فيه بنفس ما ذكرناه في السابق.
(1) البيهقي: السنن: 2 / 28، وفي سند الحديث عبد الله بن جعفر، فلو كان هو ابن نجيح قال ابن معين: ليس بشئ، وقال النسائي: متروك، وكان وكيع إذا أتى على حديثه جز عليه، متفق على ضعفه. لاحظ دلائل الصدق للشيخ محمد حسن المظفر: 1 / 87. (2) المصدر نفسه: وفي سنده عبد الله بن رجاء. قال عمرو بن علي الفلاس: كان كثير الخلط والتصحيف ليس بحجة. لاحظ هدى الساري: 1 / 437. 159 ج - حديث عبد الله بن مسعود: روى البيهقي مسندا عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه كان يصلي فوضع يده اليسرى على اليمنى فرآه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فوضع يده اليمنى على اليسرى (1). يلاحظ عليه: مضافا إلى أنه من البعيد أن لا يعرف مثل عبد الله بن مسعود ذلك الصحابي الجليل ما هو المسنون في الصلاة مع أنه من السابقين في الإسلام، أن في السند هشيم بن بشير وهو مشهور بالتدليس (2). ولأجل ذلك نرى أن أئمة أهل البيت كانوا يتحرزون عنه ويرونه من صنع المجوس أمام الملك. روى محمد بن مسلم عن الصادق أو الباقر (عليه السلام) قال: قلت له: الرجل يضع يده في الصلاة - وحكي - اليمنى على اليسرى؟ فقال: ذلك التكفير، لا يفعل. وروى زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: وعليك بالإقبال على صلاتك، ولا تكفر، فإنما يصنع ذلك المجوس. وروى الصدوق بإسناده عن علي (عليه السلام) أنه قال: وعليك بالإقبال على صلاتك، ولا تكفر، فإنما يصنع ذلك المجوس. وروى الصدوق بإسناده عن علي (عليه السلام) أنه قال: لا يجمع المسلم يديه في صلاته وهو قائم بين يدي الله عز وجل يتشبه بأهل الكفر - يعني المجوس - (3).
(1) البيهقي: السنن: 2 / 28، باب وضع اليد اليمنى على اليسرى، الحديث 5. (2) هدى الساري: 1 / 449. (3) الحر العاملي: الوسائل: 4 الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 1 و 2 و 7. 160 وفي الختام نلفت نظر القارئ إلى كلمة صدرت من الدكتور علي السالوس، فهو بعد ما نقل آراء فقهاء الفريقين، وصف القائلين بالتحريم والإبطال بقوله: " وأولئك الذين ذهبوا إلى التحريم والإبطال، أو التحريم فقط، يمثلون التعصب المذهبي وحب الخلاف، تفريقا بين المسلمين " (1). ما ذنب الشيعة إذا هداهم الاجتهاد والفحص في الكتاب والسنة إلى أن القبض أمر حدث بعد النبي الأكرم، وكان الناس يؤمرون بذلك أيام الخلفاء، فمن زعم أنه جزء من الصلاة فرضا أو استحبابا، فقد أحدث في الدين ما ليس منه، أفهل جزاء من اجتهد أن يرمى بالتعصب المذهبي وحب الخلاف؟! ولو صح ذلك، فهل يمكن توصيف الإمام مالك به؟ لأنه كان يكره القبض مطلقا، أو في الفرض أفهل يصح رمي إمام دار الهجرة بأنه كان يحب الخلاف؟! أجل لماذا لا يكون عدم الإرسال ممثلا للتعصب المذهبي وحب الخلاف بين المسلمين، يا ترى؟!
(1) فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة: 183. 161 المسألة الرابعة: صلاة الضحى صلاة الضحى من النوافل الرواتب المشهورة في كتب الفقه والحديث لأهل السنة وإن كانت مجهولة ومتروكة عند الكثير من عامتهم. وفي هذه العجالة نلقي نظرة خاطفة على ما يتعلق بصلاة الضحى من قبيل: حكمها وأقوال الفقهاء حولها، ووقتها، وعدد ركعاتها وأدلة مشروعيتها عندهم وبالأخير نظر فقهاء الشيعة حولها. ما هو حكمها؟ صلاة الضحى على المشهور عندهم سنة كما عليه الحنابلة والحنفية والشافعية. وفي مقابل المشهور هناك أقوال أخر وهي: 1 - إنها مندوبة (1) - كما عليه المالكية - فيستحب المداومة عليها. 2 - لا تستحب أصلا.
(1) يفرق بين المسنون والمندوب، بأن الأول هو ما واظب عليه النبي ص والخلفاء الراشدون والثاني هو ما أمر به النبي ص ولم يواظب عليه. (الفقه على المذاهب الخمسة، للشيخ محمد جواد مغنية: 78). 162 3 - يستحب فعلها تارة وتركها أخرى فلا يستحب المداومة عليها. 4 - تستحب صلاتها والمحافظة عليها في البيوت. 5 - لا تشرع إلا بسبب مثل الشكر وغيره. 6 - إنها بدعة (1). متى وقتها؟ وقتها من ارتفاع الشمس قدر رمح، إلى زوالها والأفضل أن يبدأها بعد ربع النهار. وعبر عن وقتها بهذه العبارة أيضا: وأفضل وقتها إذا علت الشمس واشتد حرها ويمتد وقتها إلى زوال الشمس، وأوله حين تبيض الشمس (2). كم عدد ركعاتها؟ أقلها ركعتان وأكثرها ثمان، وقيل أثنتا عشرة ركعة، وقال الحنفية: أكثرها ست عشرة، وذهب بعض الشافعية والطبري إلى أنه لا حد لأكثرها. وقالوا بأنه يكره أن يصلى في نفل النهار زيادة على أربع ركعات بتسليمة واحدة (3). ما هي أدلة مشروعيتها عندهم؟ لا دليل لهم على مشروعيتها إلا مجموعة أحاديث وردت في مجاميعهم الحديثية.
(1 - 2 - 3) راجع: الشرح الكبير على المغني، لابن قدامة المقدسي: 1 / 775 - والفقه على المذاهب الأربعة، لعبد الرحمن الجزيري: 1 / 332، وفقه السنة، للسيد سابق: 1 / 185، وزاد المعاد، لابن قيم الجوزية: 1 / 116 - 119. ونيل الأوطار، للشوكاني: 3 / 62. 163 ولكن بعد التمحيص والتنقيب يتجلى عدم نهوضها للحجية على ذلك. لأنها إما مجملة تقصر دلالتها عن الإثبات، وإما مروية عن طرق لا يصح الاحتجاج بها. مضافا إلى معارضتها بأحاديث نافية للمشروعية راجحة عليها سندا ودلالة. وإليك نماذج من تلك الطوائف الثلاث، وعليها يمكن قياس سائر الأحاديث التي لم نذكرها هنا رعاية للاختصار: الطائفة الأولى: الأحاديث المحاطة بالإجمال، منها: 1 - ما روي عن نعيم بن هماز، قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: قال الله عز وجل: يا ابن آدم لا تعجزني من أربع ركعات في أول نهارك أكفك آخره (1). رواه أبو داود وأحمد والترمذي. ولفظه: ابن آدم اركع من أول النهار أربع ركعات أكفك آخره ". وليس في هذا تصريح بصلاة الضحى ولا ظهور لاحتمال أن المقصود من الأربع هو فريضة الفجر ونافلتها كما اختاره ابن تيمية وابن قيم (2) واحتمله البعض الآخر مثل الشوكاني والعراقي (3). 2 - ما روي عن أبي هريرة قال: " أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى
(1) التاج الجامع للأصول: 1 / 321. (2) زاد المعاد: 1 / 120. (3) نيل الأوطار: 3 / 64. 164 أموت: صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى ونوم على وتر " (1). احتمل في هذا الحديث اختصاص الوصية بأبي هريرة وأمثاله الذين لا يستيقظون لنافلة الليل أو ينشغلون عنها، بأن يصلوها في الضحى قضاء ويؤيده قوله: " ونوم على وتر ". قال ابن قيم: " وأما أحاديث الترغيب فيها والوصية بها فالصحيح منها كحديث أبي هريرة وأبي ذر لا يدل على أنها سنة راتبة لكل أحد، وإنما أوصى أبا هريرة بذلك، لأنه قد روي أن أبا هريرة كان يختار درس الحديث بالليل على الصلاة فأمره بالضحى بدلا من قيام الليل، ولهذا أمره لا ينام حتى يوتر ولم يأمر بذلك أبا بكر وعمر وسائر الصحابة " (2). 3 - روي عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه قال: " دخلت على عمر بن الخطاب بالهاجرة فوجدته يسبح فقمت وراءه فقربني حتى جعلني حذاءه عن يمينه، فلما جاء يرفأ تأخرت فصففنا وراءه " (3). ولكن عمل الخليفة مجهول العنوان فمن أين يعلم بأنه كان يصلي الضحى؟ خاصة مع شهادة ولده كما سيأتي بأنه ما كان يصليها. ثم إن الهاجرة لغة ليس بمعنى الضحى، بل " بمعنى نصف النهار عند زوال الشمس إلى العصر " (4) على المشهور، فسبحة الهاجرة تنطبق على نافلة الظهر وبناء على ما حكي عن ابن السكيت بأن: الهاجرة إنما تكون بالقيظ وقبل الظهر بقليل وبعدها بقليل (5) فالرواية مجملة إذ كما يحتمل فيها صلاة الضحى يحتمل نافلة
(1) صحيح البخاري: 2 / 73. (2) زاد المعاد: 1 / 118. (3) الموطأ للإمام مالك: 131، الحديث 209. " يرفأ " اسم خادم عمر. (4) لسان العرب مادة هجر. (5) لسان العرب مادة هجر. 165 الظهر ولا مرجح للأول على الثاني. 4 - ما روي عن أبي هريرة قال: " ما رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي الضحى قط إلا مرة " (1). فصدر الحديث ينفي صلاة الضحى وذيله مجمل لاحتمال أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد صلى صلاة بسبب آخر كالحاجة أو غيرها وخفي على أبي هريرة فتصور أنه صلى الضحى، إذ ليس فيه أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أعرب عن نية عمله. 5 - ما روي عن أنس أنه قال: " رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سفر صلى سبحة الضحى ثماني ركعات فلما انصرف قال: " إني صليت صلاة رغبة ورهبة، سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنين ومنعني واحدة: سألته ألا يبتلي أمتي بالسنين ففعل، وسألته ألا يظهر عليهم عدوهم ففعل، وسألته ألا يلبسهم شيعا فأبى علي " (2). يرد على الاستدلال به، أولا: مثل ما مضى على سابقه، وثانيا: يتناقض ذيله مع الواقع التاريخي للأمة الإسلامية، فكم من بلد إسلامي ابتلي بالقحط والسنين، وما أكثر البلدان الإسلامية التي وقعت تحت سيطرة أعدائها في الزمن الغابر والحاضر. وهذا مما يطمئننا باختلاقه ووضعه. الطائفة الثانية: الأحاديث الموضوعة: قال ابن قيم الجوزية (691 - 751) في تقييم أحاديث صلاة الضحى:
(1) مسند الإمام أحمد بن حنبل: 2 / 446. (2) فقه السنة: 1 / 185. 166 " وعامة أحاديث الباب في أسانيدها مقال، وبعضها موضوع لا يحل الاحتجاج به " (1). ثم ذكر عدة أحاديث قد صرح أعلام الرجاليين بكون نقلتها وضاعين كذبة، منها: 1 - ما روي عن أنس مرفوعا: " من داوم على صلاة الضحى ولم يقطعها إلا عن علة كنت أنا وهو في زورق من نور في بحر من نور ". وضعه زكريا بن دريد الكندي عن حميد. 2 - حديث يعلى بن أشدق عن عبد الله بن جراد: عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من صلى منكم صلاة الضحى فليصلها متعبدا، فإن الرجل ليصليها السنة من الدهر ثم ينساها ويدعها فتحن إليه كما تحن الناقة على ولدها إذا فقدته ". ويا عجبا للحاكم كيف يحتج بهذا وأمثاله؟! فإنه يروي هذا الحديث في كتاب أفرده للضحى وهذه نسخة موضوعة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يعني نسخة يعلى بن الأشدق. وقال ابن عدي: روى يعلى بن الأشدق عن عمه عبد الله بن جراد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أحاديث كثيرة منكرة وهو وعمه غير معروفين. وبلغني عن أبي مسهر قال: قلت ليعلى بن الأشدق: ما سمع عمك من حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقال: جامع سفيان وموطأ مالك وشيئا من الفوائد. وقال أبو حاتم بن حبان: لقي يعلى عبد الله بن جراد فلما كبر اجتمع عليه من لا دين له فوضعوا له شبها بمائتي حديث فجعل يحدث بها وهو لا يدري. وهو الذي قال له بعض أصحابنا: أي شئ سمعته عن عبد الله بن جراد ؟ فقال: هذه النسخة، وجامع أبي سفيان لا تحل الرواية عنه بحال.
(1) زاد المعاد: 1 / 119. 167 3 - حديث عمر بن صبيح عن مقاتل بن حبان عن عائشة: " كان رسول الله يصلي الضحى اثنتي عشرة ركعة ". وهو حديث طويل ذكره الحاكم في صلاة الضحى وهو حديث موضوع المتهم به عمر بن صبيح. قال البخاري: حدثني يحيى بن علي بن جبير قال: سمعت عمر بن صبيح يقول: أنا وضعت خطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال ابن عدي: منكر الحديث. وقال ابن حبان: يضع الحديث على الثقات لا يحل حديثه إلا على جهة التعجب منه. وقال الدارقطني: متروك، وقال الأزدي: كذاب. 4 - حديث عبد العزيز بن إبان عن الثوري عن حجاج بن فرافصة عن مكحول عن أبي هريرة مرفوعا: " من حافظ على سبحة الضحى غفرت ذنوبه وإن كانت بعدد الجراد وأكثر من زبد البحر ". ذكره الحاكم أيضا. وعبد العزيز هذا، قال ابن نمير: هو كذاب. وقال يحيى: ليس بشئ كذاب خبيث يضع الحديث. وقال البخاري والنسائي والدار قطني: متروك الحديث. 5 - حديث النهاس بن فهم عن شداد عن أبي هريرة يرفعه: " من حافظ على سبحة الضحى غفرت ذنوبه وإن كانت أكثر من زبد البحر ". والنهاس، قال يحيى: ليس بشئ ضعيف. كان يروي عن عطاء عن ابن عباس أشياء منكرة. وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن عدي: لا يساوي شيئا. وقال ابن حبان: كان يروي المناكير عن المشاهير، ويخالف الثقات، لا يجوز الاحتجاج به. وقال الدارقطني: مضطرب الحديث تركه يحيى القطان (1).
(1) راجع حول الأحاديث الموضوعة وعما جاء حول رواتها، زاد المعاد: 1 / 119 - 120. 168 الطائفة الثالثة: الأحاديث النافية لمشروعية صلاة الضحى: فهي معارضة للأحاديث المثبتة وباعتبار قوة دلالتها وأسنادها رجحها جماعة من علماء العامة على غيرها كما صرح بذلك ابن قيم. قال: " وطائفة ثانية ذهبت إلى أحاديث الترك ورجحتها من جهة صحة إسنادها وعمل الصحابة بموجبها " (1). منها: 1 - ما رواه البخاري بسنده عن مورق قال: قلت لابن عمر: أتصلي الضحى؟ قال: لا. قلت: فعمر؟ قال: لا. قلت: فأبو بكر؟ قال: لا. قلت: فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: لا أخاله " (2). 2 - وما رواه أيضا بسنده عن عائشة، قالت: ما رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سبح سبحة الضحى وإني لأسبحها " (3). وقد استدل بعضهم بهذه الرواية لنفي الضحى لصحة إسنادها. " قال أبو الحسن علي بن بطال: فأخذ قوم من السلف بحديث عائشة ولم يروا صلاة الضحى وقال قوم: إنها بدعة " (4).
(1) زاد المعاد: 1 / 117. (2) صحيح البخاري: 2 / 73. (3) المصدر نفسه - ومسند أحمد بن حنبل: 6 / 209. (4) زاد المعاد: 1 / 117. 169 وأما قول عائشة: بأني أسبحها، فهو اجتهاد في مقابل النص ولا قيمة له في سوق الاعتبار الشرعي. 3 - وما رواه أيضا بسنده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال: ما حدثنا أحد أنه رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي الضحى غير أم هانئ، فإنها قالت: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثماني ركعات فلم أر صلاة أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود " (1). ونفى هذا الحديث حديث أحد رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي الضحى، وأما رواية أم هانئ فليست ظاهرة في صلاة الضحى، ويحتمل قويا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى تلك الركعات شكرا لله على ما من عليه بفتح مكة. ولذلك ذهب جماعة من علماء العامة " بأنها لا تشرع إلا بسبب (2) الخ ". 4 - ما رواه أحمد بن حنبل بسنده عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، قال: رأى أبو بكرة ناسا يصلون الضحى فقال: إنهم ليصلون صلاة ما صلاها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا عامة أصحابه - رضي الله عنهم - " (3). 5 - ما رواه مسلم في صحيحه بسنده عن حفص بن عاصم قال: مرضت مرضا فجاء ابن عمر يعودني. قال: وسألته عن السبحة في السفر؟ فقال: صحبت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في السفر فما رأيته يسبح ولو كنت مسبحا لأتممت وقد قال الله: * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * " (4).
(1) البخاري: 2 / 73. (2) نيل الأوطار للشوكاني: 3 / 53. (3) مسند الإمام أحمد بن حنبل: 5 / 45. (4) صحيح مسلم: 5 / 199، كتاب المسافرين. 170 6 - وما رواه البخاري بسنده عن مجاهد، قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد الله بن عمر جالس إلى حجرة عائشة وإذ أناس يصلون في المسجد صلاة الضحى. قال: فسألناه عن صلاتهم؟ فقال: بدعة " (1). 7 - وروي عن الشعبي قال: " سمعت ابن عمر يقول: ما ابتدع المسلمون أفضل من صلاة الضحى " (2). ففي هاتين الروايتين صرح ابن عمر بكون صلاة الضحى بدعة، وإن رآها فضيلة بناء على مسلك والده في جواز الابتداع الحسن. 8 - روي عن ابن عباس أنه قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " أمرت بالضحى ولم تؤمروا بها " (3). بناء على صحة الحديث، فالظاهر أن المراد من الأمر هنا هو أصل التشريع لا الوجوب لأنه لم يثبت وجوب شئ من النوافل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة ما عدا نافلة الليل. وعليه فلم تشرع نافلة الضحى للمسلمين لأنه نفى الأمر بها عليهم. * * * إلى هنا تبين أنه لم يوجد حديث صحيح فيه دلالة واضحة على مشروعية صلاة الضحى. وأما ما ادعيت صحته فهو إما معارض بالراجح عليه سندا ودلالة، أو فيه إجمال لا يمكن أن يستدل به على المقصود.
(1) صحيح البخاري: 3 / 3، باب العمرة. (2) زاد المعاد: 1 / 118. (3) نيل الأوطار للشوكاني: 3 / 61. 171 موقف الإمامية من صلاة الضحى: صلاة الضحى عند فقهاء الإمامية، بدعة لا يجوز فعلها. وقد اتفقوا وأجمعوا على هذا الرأي كما صرح بذلك السيد الشريف المرتضى في رسائله (1) وشيخ الطائفة في الخلاف (2)، والعلامة الحلي في المنتهى (3)، والعلامة المجلسي في البحار (4)، والمحدث البحراني في الحدائق الناضرة (5). ويدل على هذا الرأي قبل الإجماع، أولا: عدم الدليل الشرعي المعتبر على مشروعية صلاة الضحى، وهذا يكفي للقول بعدمها إذ لا يطالب النافي بدليل، بل الدليل على المدعي. وثانيا: الأخبار المستفيضة الواردة عن طرق أهل البيت (عليهم السلام) النافية لمشروعية صلاة الضحى والمصرح في بعضها أن العمل بها بدعة ومعصية، منها: 1 - ما رواه الشيخ الطوسي عن الحسين بن سعيد عن حماد بن عيسى عن حريز عن زرارة وابن مسلم والفضيل، قالوا: سألناهما (عليهما السلام) عن الصلاة في رمضان نافلة بالليل جماعة؟ فقالا: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا صلى العشاء الآخرة انصرف إلى منزله، ثم يخرج من آخر الليل إلى المسجد فيقوم فيصلي فخرج في أول ليلة من شهر رمضان ليصلي كما كان يصلي، فاصطف الناس خلفه فهرب منهم
(1) رسائل الشريف المرتضى: 1 / 221. (2) الخلاف، موسوعة الينابيع الفقهية: 28 / 220. (3) البحار: 80 / 158. (4) المصدر نفسه: 155. (5) الحدائق الناضرة: 6 / 77. 172 إلى بيته وتركهم ففعلوا ذلك ثلاثة ليال، فقام في الرابع على منبره فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: " أيها الناس إن الصلاة بالليل في شهر رمضان النافلة في جماعة بدعة، وصلاة الضحى بدعة فلا تجتمعوا ليلا في شهر رمضان ولا تصلوا صلاة الضحى فإن ذلك معصية، ألا وأن كل بدعة ضلالة وكل ضلالة سبيلها إلى النار " ثم نزل وهو يقول: " وقليل في سنة خير من كثير في بدعة " (1). 2 - ما حكي عن دعائم الإسلام عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) أنه قال لرجل من الأنصار سأله عن صلاة الضحى فقال: " إن أول من ابتدعها قومك الأنصار سمعوا قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " صلاة في مسجدي تعدل ألف صلاة " فكانوا يأتون من ضياعهم ضحى فيدخلون المسجد فيصلون، فبلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنهاهم عنه (2).
(1) التهذيب: 3 / 69 - 70 ومثله في الإستبصار: 1 / 467، الفقيه: 2 / 132 والوسائل: 5 / 192. (2) المجلسي: البحار: 80 / 159، النوري: المستدرك: 3 / 70. لاحظ: من لا يحظره الفقيه: 1 / 566 وفي الأخير زيادة على ما في المتن. 173 المسألة الخامسة: إقامة صلاة التراويح جماعة اتفقت كلمة الفقهاء على أن نوافل شهر رمضان (صلاة التراويح) سنة مؤكدة، وأول من سنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه (1). إن استجلاء الحق في جواز إقامتها جماعة، أو كونها بدعة يطلب تقديم أمور: 1 - هل تسن الجماعة في مطلق النوافل أو لا؟ المشهور عند أهل السنة جواز إقامة النوافل بالجماعة وأن الأفضل في بعضها إقامتها منفردا، وإليك تفصيل مذاهبهم: قالت المالكية: الجماعة في صلاة التراويح مستحبة أما باقي النوافل فإن صلاتها جماعة تارة يكون مكروها، وتارة يكون جائزا، فيكون مكروها إذا صليت بالمسجد أو صليت بجماعة كثيرين، أو كانت بمكان يكثر تردد الناس عليه،
(1) البخاري: الصحيح: باب فضل من قام رمضان، برقم: 2008، مسلم: الصحيح: 2 / 176 باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح. ط دار الجيل، ودار الآفاق، بيروت. 174 وتكون جائزة إذا كانت بجماعة قليلة، ووقعت في المنزل ونحوه في الأمكنة التي لا يتردد عليها الناس. وقالت الحنفية: تكون الجماعة سنة كفاية في صلاة التراويح والجنازة، وتكون مكروهة في صلاة النوافل مطلقا والوتر في غير رمضان، وإنما تكره الجماعة في ذلك إذا زاد المقتدون عن ثلاث. أما الجماعة في وتر رمضان ففيها قولان مصححان، أحدهما: أنها مستحبة فيه، وثانيهما: أنها غير مستحبة ولكنها جائزة وهذا القول أرجح. وقالت الشافعية: أما الجماعة في صلاة العيدين والاستسقاء والكسوف والتراويح ووتر رمضان فهي مندوبة. وقالت الحنابلة: أما النوافل فمنها ما تسن فيه الجماعة وذلك كصلاة الاستسقاء والتراويح والعيدين، ومنها ما تباح فيه الجماعة كصلاة التهجد و رواتب الصلاة المفروضة (1). وقال المقدسي في الشرح الكبير: ويجوز التطوع في جماعة وفرادى، لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فعل الأمرين كليهما، وكان أكثر تطوعه منفردا ومع ذلك اتفقوا على أن التطوع في البيت أفضل، لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " عليكم بالصلاة في بيوتكم فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ". وقال (عليه السلام): " إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته، فإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرا " رواهما مسلم، وعن زيد بن ثابت أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا
(1) الفقه على المذاهب الأربعة، كتاب الصلاة، حكم الإمامة في صلاة الجمعة والجائزة والنوافل: ص 407. وفي ص 340 هي سنة عين مؤكدة عند ثلاثة من الأئمة وخالفت المالكية. 175 إلا المكتوبة " رواه ابن داود، ولأن الصلاة في البيت أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء وهو من عمل السر، والسر أفضل من العلانية (1). قالت الإمامية: تشرع الجماعة في الصلوات الواجبة، ولا تشرع في المستحبة، إلا في الاستسقاء والعيدين مع فقد الشروط (2). وقالت المذاهب الأربعة: تشرع مطلقا في الواجبة والمستحبة (3). 2 - التراويح لغة واصطلاحا: التراويح جمع ترويحة وهي في الأصل اسم للجلسة مطلقا، ثم سميت بها الجلسة بعد أربع ركعات في ليالي رمضان، لاستراحة الناس بها، ثم سميت كل أربع ركعات ترويحة، وهي أيضا اسم لعشرين ركعة في الليالي نفسها. قال ابن منظور: والترويحة في شهر رمضان سميت بذلك لاستراحة القوم بعد كل أربع ركعات. وفي الحديث صلاة التراويح، لأنهم كانوا يستريحون بين كل تسليمتين. والتراويح جمع ترويحة، وهي المرة الواحدة من الراحة، تفعيلة منها، مثل تسليمة من السلام (4). عدد ركعاتها عند الفريقين: اختلف الفقهاء في عدد صلاة نوافل شهر رمضان، أما الشيعة فقد ذهبت إلى أن نوافل ليالي شهر رمضان، ألف ركعة في تمام الشهر.
(1) المغني والشرح: 1 / 771، دار الكتاب العربي، وط أفست: 1403 / 1983. (2) إذ عند اجتماع الشروط، تكون واجبة. (3) محمد جواد مغنية: الفقه على المذاهب الخمسة: 1 / 133. (4) لسان العرب: ج 2، مادة " روح ". 176 قال الإمام الصادق (عليه السلام): مما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصنع في شهر رمضان كان يتنفل في كل ليلة ويزيد على صلاته التي كان يصليها قبل ذلك منذ أول ليلة إلى تمام عشرين ليلة، في كل ليلة عشرين ركعة: ثماني ركعات منها بعد المغرب، واثنتي عشرة بعد العشاء الآخرة، ويصلي في العشر الأواخر في كل ليلة ثلاثين ركعة: اثنتي عشرة منها بعد المغرب، وثماني عشرة بعد العشاء الآخرة ويدعو ويجتهد اجتهادا شديدا، وكان يصلي في ليلة إحدى وعشرين: مائة ركعة ويصلي في ليلة ثلاث وعشرين: مائة ركعة ويجتهد فيهما (1). وأما غيرهم فقد قال الخرقي في مختصره: وقيام شهر رمضان عشرون ركعة، يعني صلاة التراويح (2). وقال ابن قدامة في شرحه: والمختار عند أبي عبد الله (الإمام أحمد) عشرون ركعة، وبهذا قال الثوري، وأبو حنيفة، والشافعي. وقال مالك: ستة وثلاثون، وزعم أنه الأمر القديم، وتعلق بفعل أهل المدينة (3). والظاهر أنه ليس في عددها عند أهل السنة دليل معتمد عليه يحكي عن قول الرسول أو فعله أو تقريره، والقول بالعشرين يعتمد على فعل عمر، كما أن القول بالستة والثلاثين يعتمد على فعل عمر بن عبد العزيز. وقد فصل القول في ذلك عبد الرحمان الجزيري في " الفقه على المذاهب الأربعة " وقال: روى الشيخان أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج من جوف الليل ليالي من رمضان، وهي ثلاث متفرقة: ليلة الثالث، والخامس، والسابع والعشرين، وصلى في المسجد، وصلى الناس بصلاته فيها، وكان يصلي بهم ثماني ركعات ويكملون باقيها في بيوتهم،
(1) الطوسي: التهذيب: 3 / 62 رقم 213. (2) المغني: 2 / 137 - 138. (3) المغني: 2 / 137 - 138. 177 فكان يسمع لهم أزيز، كأزيز النحل " وقال: ومن هذا يتبين أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سن لهم التراويح، والجماعة فيها، ولكن لم يصل بهم عشرين ركعة، كما جرى عليه من عهد الصحابة ومن بعدهم إلى الآن، ولم يخرج إليهم بعد ذلك، خشية أن تفرض عليهم، كما صرح به في بعض الروايات، ويتبين أن عددها ليس مقصورا على الثماني ركعات التي صلاها بهم، بدليل أنهم كانوا يكملونها في بيوتهم، وقد بين فعل عمر (رض) أن عددها عشرون، حيث إنه جمع الناس أخيرا على هذا العدد في المسجد، ووافقه الصحابة على ذلك. نعم زيد فيها في عهد عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - فجعلت ستا وثلاثين ركعة، ولكن كان القصد من هذه الزيادة مساواة أهل مكة في الفضل، لأنهم كانوا يطوفون بالبيت بعد كل أربع ركعات مرة، فرأى - رضي الله عنه - أن يصلى بدل كل طواف أربع ركعات (1). هذا وقد بسط شراح البخاري وغيرهم القول في عدد ركعاتها إلى حد قل نظيره في أبواب العبادات، فمن قائل: إن عدد ركعاتها 13 ركعة، إلى آخر: أنها 20 ركعة، إلى ثالث: أنها 24 ركعة، إلى رابع: أنها 28 ركعة، إلى خامس: أنها 36 ركعة، إلى سادس: أنها 38 ركعة، إلى سابع: أنها 39 ركعة، إلى ثامن: أنها 41 ركعة، إلى تاسع: أنها 47 ركعة، وهلم جرا (2).
(1) الفقه على المذاهب الأربعة: 1 / 251، كتاب الصلاة، مبحث صلاة التراويح، ولا يخفى أنه لو كان المقياس في الزيادة، هو عدد الطواف بعد كل أربع ركعات فعندئذ يصل عددها إلى أربعين ركعة في كل ليلة لأنهم إذا كانوا يطوفون بعد كل أربع ركعات مرة واحدة، يكون عدده خمس مرات، فإذا كان مقابل كل مرة منه أربع ركعات، يصل عددها إلى عشرين ركعة (5 * 4 = 20) فتضاف إلى العشرين ركعة الأصلية فيصير المجموع 40 ركعة. نعم يصح ذلك بناء على ما نقله ابن قدامة المقدسي من أن الطواف كان بين كل ترويحة، لاحظ: 1 / 749. (2) ابن حجر العسقلاني: فتح الباري: 4 / 204، شهاب الدين القسطلاني: إرشاد الساري: 3 / 426، العيني: عمدة القاري: 11 / 126، وقد تكلفوا في الجمع بين هذه الأقوال المتشتتة، فلاحظ. 178 والأغرب من هذا تدخل عمر بن عبد العزيز في أمر الشريعة، فأدخل فيها ما ليس منها ليتساوى - في رأيه - أهل المدينة وأهل مكة في الفضل والثواب، فإن فسح المجال لهذا النوع من التدخل يجعل الشريعة ألعوبة بيد الحكام يحكمون فيها بآرائهم. حكم إقامتها جماعة: إن الشيعة الإمامية - تبعا للإمام علي وأهل بيته (عليهم السلام) - يقيمون نوافل شهر رمضان بلا جماعة ويرون إقامتها جماعة بدعة حقيقية، حدثت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بمقياس (1) ما أنزل الله به من سلطان. قال الشيخ الطوسي: نوافل شهر رمضان تصلى انفرادا والجماعة فيها بدعة. وقال الشافعي: صلاة المنفرد أحب إلي منه، وشنع ابن داود على الشافعي في هذه المسألة، فقال: خالف فيها السنة والإجماع. واختلف أصحاب الشافعي في ذلك على قولين: فقال أبو العباس وأبو إسحاق وعامة أصحابه: صلاة التراويح في الجماعة أفضل بكل حال، وتأولوا قول الشافعي فقالوا: إنما قال: النافلة ضربان، نافلة سن لها الجماعة، وهي: العيدان، والخسوف، والاستسقاء. ونافلة لم تسن لها الجماعة، مثل: ركعتي الفجر، والوتر، وما سن لها الجماعة أوكد مما لم تسن لها الجماعة، ثم قال: فأما قيام شهر رمضان فصلاة المنفرد أحب إلي، يعني ركعات الفجر والوتر، التي تفعل على الانفراد أوكد عن قيام شهر رمضان.
(1) العسقلاني: فتح الباري: 4 / 204، ذكره لجمع الناس على إمام واحد. 179 والقول الثاني: منهم من قال بظاهر كلامه، فقال: صلاة التراويح على الانفراد أفضل منها في الجماعة، بشرطين، أحدهما: أن لا تختل الجماعة بتأخره عن المسجد، والثاني: أن يطيل القيام والقراءة فيصلي منفردا، أو يقرأ أكثر مما يقرأ إمامه. وقد نص في القديم على أنه لو صلى في بيته في شهر رمضان فهو أحب إلي، وإن صلاها في جماعة فهو حسن، واختار أصحابه مذهب أبي العباس وأبي إسحاق. ثم استدل الشيخ الطوسي على مذهب الإمامية بإجماعهم على أن ذلك بدعة، وأيضا روى زيد بن ثابت (1): أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في المسجد إلا المكتوبة (2). إذا وقفت على آراء الفقهاء فإليك دراسة الأدلة: أما أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فقد اتفقت كلمتهم على أن الجماعة في النوافل مطلقا بدعة، من غير فرق بين صلاة التراويح وغيرها، وهناك صنفان من الروايات: أحدهما: يدل على عدم تشريع الجماعة في مطلق النوافل. ثانيهما: ما يدل على عدم تشريعها في صلاة التراويح. أما الصنف الأول فنذكر منه روايتين: 1 - قال الإمام الباقر (عليه السلام): " ولا يصلى التطوع في جماعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار " (3).
(1) أبو داود: السنن: 2 / 69. (2) الطوسي: الخلاف، كتاب الصلاة، المسألة: 268. (3) الصدوق: الخصال: 2 / 152. 180 2 - قال الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في كتابه إلى المأمون: " ولا يجوز أن يصلى تطوع في جماعة لأن ذلك بدعة " (1). وأما الصنف الثاني، فقد تحدث عنه الإمام الصادق (عليه السلام) وقال: لما قدم أمير المؤمنين (عليه السلام) الكوفة أمر الحسن بن علي أن ينادي في الناس: لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة. فنادى في الناس الحسن بن علي بما أمره به أمير المؤمنين، فلما سمع الناس مقالة الحسن بن علي (عليه السلام) صاحوا: وا عمراه، وا عمراه، فلما رجع الحسن إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) قال له: ما هذا الصوت؟ قال: يا أمير المؤمنين! الناس يصيحون: وا عمراه وا عمراه، فقال أمير المؤمنين: قل لهم: صلوا (2). وربما يتعجب القارئ من قول الإمام " قل لهم صلوا " حيث تركهم يستمرون في الإتيان بهذا الأمر المبتدع ولكن إذا رجع إلى سائر كلماته يتجلى له سر تركهم على ما كانوا عليه. قال الشيخ الطوسي: إن أمير المؤمنين لما أنكر، أنكر الاجتماع، ولم ينكر نفس الصلاة فلما رأى أن الأمر يفسد عليه ويفتتن الناس، أجاز أمرهم بالصلاة على عادتهم (3). ويدل عليه: ما رواه سليم بن قيس قال: خطب أمير المؤمنين، فحمد الله وأثنى عليه ثم صلى على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم قال: ألا إن أخوف ما أخاف عليكم خلتان: اتباع الهوى، وطول الأمل - ثم ذكر أحداثا ظهرت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: - ولو حملت
(1) الصدوق: عيون أخبار الرضا: 266. (2) الطوسي: التهذيب: 3 الحديث 227. (3) المصدر نفسه. 181 الناس على تركها... لتفرق عني جندي حتى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي... والله لقد أمرت الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة وأعلمتهم أن اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل معي: يا أهل الإسلام غيرت سنة عمر، ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوعا، وقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب عسكري... (1). تسنم الإمام منصة الخلافة بطوع ورغبة من جماهير المسلمين، وواجه أحداثا ظهرت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأراد إرجاع المجتمع الإسلامي إلى عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مجالات مختلفة، ولكن حالت العوائق دون نيته، فترك بعض الأمور بحالها، حتى يشتغل بالأهم فالأهم، فلأجله أمر ابنه الحسن أن يتركهم بحالهم حتى لا يختل نظام البلاد، ولا يثور الجيش ضده. روى أبو القاسم ابن قولويه (ت 369 ه) عن الإمامين: الباقر والصادق (عليهما السلام) قالا: كان أمر أمير المؤمنين بالكوفة إذا أتاه الناس فقالوا له: اجعل لنا إماما - يؤمنا في رمضان فقال لهم: لا، ونهاهم أن يجتمعوا فيه، فلما أحسوا، جعلوا يقولون: ابكوا رمضان وارمضاناه، فأتى الحارث الأعور في أناس فقال: يا أمير المؤمنين ضج الناس وكرهوا قولك، قال: فقال عند ذلك: دعوهم وما يريدون يصل بهم من شاءوا (2). هذه الروايات تدلنا إلى موقف أئمة أهل البيت في إقامة نوافل شهر رمضان بالجماعة.
(1) الكليني: الكافي: 8 / 58. (2) محمد بن إدريس: السرائر: 3 / 638. 182 صلاة التراويح في حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): تختلف روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عن بعض ما رواه أصحاب السنن فرواياتهم (عليهم السلام) صريحة في أن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كان ينهى عن إقامة نوافل رمضان بالجماعة وإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لما خرج بعض الليالي إلى المسجد ليقيمها منفردا، ائتم به الناس فنهاهم عنه، ولما أحس إصرارهم على الائتمام ترك الصلاة في المسجد واكتفى بإقامتها في البيت، وإليك بعض ما روي: سأل زرارة، ومحمد بن مسلم، والفضيل أبا جعفر الباقر وأبا عبد الله [الصادق] (عليهما السلام) عن الصلاة في شهر رمضان نافلة بالليل جماعة؟ فقالا: " إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا صلى العشاء الآخرة انصرف إلى منزله ثم يخرج من آخر الليل إلى المسجد فيقوم فيصلي، فخرج في أول ليلة من شهر رمضان ليصلي كما كان يصلي، فاصطف الناس خلفه فهرب منهم إلى بيته وتركهم، ففعلوا ذلك ثلاث ليال فقام (صلى الله عليه وآله وسلم) في اليوم الرابع على منبره فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إن الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة في جماعة بدعة، وصلاة الضحى بدعة، ألا فلا تجتمعوا ليلا في شهر رمضان لصلاة الليل ولا تصلوا صلاة الضحى، فإن تلك معصية ألا فإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة سبيلها إلى النار " ثم نزل وهو يقول: قليل في سنة خير من كثير في بدعة (1). روى عبيد بن زرارة عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: كان رسول الله (عليه السلام) يزيد في صلاته في شهر رمضان إذا صلى العتمة صلى بعدها، فيقوم الناس خلفه فيدخل ويدعهم ثم يخرج أيضا فيجيئون ويقومون خلفه فيدعهم ويدخل مرارا (2).
(1) الصدوق: الفقيه، كتاب الصوم: 87. (2) الكليني: الكافي: 4 / 154. 183 ولعله (صلى الله عليه وآله وسلم) قام بهذا العمل مرتين، تارة في آخر الليل - كما في الرواية الأولى -، وأخرى في صلاة العتمة - كما في الرواية الثانية -. لكن المروي عن طريق أهل السنة بخلاف ذلك وإليك نص الشيخين البخاري ومسلم: روى الأول، قال: حدثني يحيى بن بكير: حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب: أخبرني عروة: إن عائشة - رضي الله عنها - أخبرته أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد، وصلى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم، فصلى فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فصلى بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال: أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم. ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها. فتوفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأمر على ذلك (1). وروى أيضا في باب التهجد: إن رسول الله صلى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة والرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيت أن تفرض عليكم وذلك في رمضان (2). روى مسلم قال: حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى ذات ليلة فصلى بصلاته
(1) أي على ترك الجماعة في صلاة التراويح. لاحظ البخاري: الصحيح: باب فضل من قام رمضان: 3 / 58. (2) البخاري: الصحيح: 2 / 63 باب التهجد بالليل. وبين الروايتين اختلاف فيما خرج ص فيها من الليالي فعلى الأولى خرج ثلاث ليال وعلى الثانية خرج ليلتين. 184 ناس، ثم صلى من القابلة فكثر الناس ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة (1) فلم يخرج إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إلا أني خشيت أن تفرض عليكم، قال: وذلك في رمضان. وحدثني حرملة بن يحيى: أخبرنا عبد الله بن وهب: أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج من جوف الليل فصلى في المسجد فصلى رجال بصلاته فأصبح الناس يتحدثون بذلك، فاجتمع أكثر منهم، فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الليلة الثانية فصلوا بصلاته فأصبح الناس يذكرون ذلك فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج فصلوا بصلاته فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله فلم يخرج إليهم رسول الله، فطفق رجال منهم يقولون: الصلاة، فلم يخرج إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى خرج لصلاة الفجر، فلما قضى الفجر أقبل الناس ثم تشهد فقال: أما بعد فإنه لم يخف علي شأنكم الليلة ولكني خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها (2) والاختلاف بين ما رواه أصحابنا عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وما رواه الشيخان واضح فعلى الأول، نهى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن إقامتها جماعة، وأسماها بدعة، وعلى الثاني ترك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الإقامة جماعة خشية أن تفرض عليهم، مع كونها موافقة للدين والشريعة، إذا فأي القولين أحق أن يتبع؟ يعلم بالبحث التالي: إن في حديث الشيخين مشاكل جديرة بالوقوف عليها من جهات: إن بعض الروايات تؤيد موقف أمير المؤمنين (عليه السلام) من صلاة التراويح
(1) مسلم: الصحيح: 6 / 41. وغيره، والظاهر وحدة الرواية الثانية للبخاري مع هذه الرواية لاتحاد الراوي والمروي عنه والمضمون. (2) مسلم: الصحيح: 6 / 41. والاختلاف بين روايتي مسلم كالاختلاف بين روايتي البخاري فلاحظ. 185 وتوقفنا على أن القضية لم تنقل على وجه الدقة، وذلك ما رواه زيد بن ثابت حيث قال: " احتجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حجيرة بخصفة أو حصير فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلى فيها، قال: فتتبع إليه رجال وجاءوا يصلون بصلاته، ثم جاءوا ليلة فحضروا وأبطأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنهم فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم، وحصبوا الباب، فخرج إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مغضبا فقال لهم: " ما زال بكم صنيعكم حتى ظننت أنه سيكتب عليكم، فعليكم الصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة " رواه مسلم (1). وأما ما ورد من طرق الخاصة فأصرح في النهي، بل هو صريح في كون التنفل جماعة في رمضان بدعة ومعصية. والذي ينسبق إلى الذهن من ملاحظة مجموع الروايات أن القضية لم تنقل بحذافيرها في كل واحدة منها، وإن الطائفة الأولى التي توهم استفادة مشروعية التراويح منها، لم تذكر إلا جانبا واحدا من القضية، وأغفل رواتها بقية الجوانب إما عمدا أو سهوا، وإذا أردنا أن نستنبط حكما شرعيا فعلينا أن ننظر إلى مجموعها. والذي يظهر من المجموع أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما التفت إلى اقتداء المسلمين به نهاهم عن ذلك ولم يقرر عملهم، وأما سكوته في الليلة الأولى أو الثانية، فهو لمصلحة خاصة، ولعلها كانت من أجل طرح الردع والنهي عن الإتيان بها جماعة بحضور ملأ عظيم من الناس حتى تتناقله الجماهير كي لا يقع في بقعة النسيان. الثانية: ما معنى قوله: " خشيت أن تفرض عليكم. فتعجزوا عنها "؟ وهل مفاده: أن التشريع تابع لإقبال الناس وإدبارهم، فلو كان هناك اهتمام ظاهر من الناس، فيفرض عليهم، وإذا كان إدبار، فلا يفرض عليهم؟! مع أن الملاك في الفرض هو وجود مصالح واقعية في المتعلق، سواء أكان
(1) ابن قدامة المقدسي: الشرح الكبير على المقنع: 1 / 749. 186 هناك اهتمام ظاهر أم لا. إن تشريعه سبحانه ليس تابعا لرغبة الناس أو إعراضهم، وإنما يتبع لملاكات هو أعلم بها سواء أكان هناك إقبال أم إدبار. قال ابن حجر في شرح جملة " إلا أني خشيت أن تفرض عليكم ": إن ظاهر هذا الحديث أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) توقع ترتب افتراض الصلاة بالليل جماعة على وجود المواظبة عليها - ثم قال: - وفي ذلك إشكال (1). ولكن ابن حجر لم يبين مقصوده من الإشكال ويمكن أن يكون إشارة - مضافا إلى ما ذكرنا من أن الأحكام تابعة للملاكات الواقعية لا لرغبة الناس بها وعنها - إلى أن كثيرا من الأعمال المستحبة واظب عليها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمون ولم يخش الافتراض عليهم، وبعض الأحكام الواجبة لم يواظب عليها كثير من المسلمين حتى في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فضلا عما بعده ولم يتغير حكمها من الوجوب إلى عدمه، مثل حكم الجهاد الذي تقاعس عنه بعض المسلمين فواجههم الله سبحانه بالتقريع والتبكيت في مثل قوله سبحانه: * (وما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض) * (التوبة - 38). أضف إلى ذلك أن هذه الخشية تتنافى والأحاديث الناصة على أن الفرائض خمس لا غير، قال العسقلاني: " وقد استشكل الخطابي أصل هذه الخشية مع ما ثبت في حديث الإسراء من أن الله تعالى قال: هن خمس وهن خمسون، لا يبدل القول لدي، فإذا أمن التبديل فكيف يقع الخوف من الزيادة؟ " (2). نعم ذكر العسقلاني في فتح الباري وكذلك القسطلاني في إرشاد الساري من هنا وهناك عدة أجوبة، لكنها جميعا توجيهات باردة وتمحلات واهية لا تغني ولا تسمن من جوع. وقد حكى عن صاحب شرح التقريب بعد أن ذكر تلك الأجوبة أنه قال:
(1) فتح الباري: 3 / 10. (2) فتح الباري: 3 / 10. 187 " ومع هذا فإن المسألة مشكلة ولم أر من كشف الغطاء في ذلك " (1). وإن هذه الإشكالات الواردة والتي بقيت بلا جواب تجعل الإنسان يشكك في صحة انتساب هذه الجملة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيحتمل قويا أنها موضوعة. الثالثة: لو افترضنا أن الصحابة أظهرت اهتمامها بصلاة التراويح بإقامتها جماعة أفيكون ذلك ملاكا للفرض على غيرهم ولم تكن نسبة الحاضرين إلى الغائبين إلا شيئا لا يذكر، فإن مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يومذاك كان مكانا محدودا لا يسع إلا ما يقارب ستة آلاف نفر أو أقل، فقد جاء في الفقه على المذاهب الخمسة: " كان مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) 35 مترا في 30 مترا ثم زاده الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعله 57 مترا في 50 مترا " (2). أفيمكن جعل اهتمامهم كاشفا عن اهتمام جميع الناس بها في جميع العصور إلى يوم القيامة؟! الرابعة: وجود الاختلاف في عدد الليالي التي أقام النبي فيهما نوافل رمضان جماعة. فعلى ما نقله البخاري في كتاب الصوم أن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى التراويح مع الناس ثلاث ليال، وعلى ما نقله في باب التحريض على قيام الليل، أنه صلاها ليلتين، ووافقه مسلم في كلا النقلين ويظهر مما ذكره غيرهما - كما مر في صدر المقال - أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أقامها في ليال متفرقة (ليلة الثالث، والخامس، والسابع والعشرين). وهذا يعرب عن عدم الاهتمام بنقل فعل الرسول على ما عليه، فمن أين تطمئن على سائر ما جاء فيه من أن النبي استحسن عملهم؟! الخامسة: إن الثابت من فعل النبي، أنه صلاها ليلتين، أو أربع في آخر الليل، وهي لا تزيد عن ثماني ركعات، فلو كان النبي أسوة فعلينا الاقتداء به فيما
(1) إرشاد الساري: 3 / 428. (2) محمد جواد مغنية: الفقه على المذاهب الخمسة: 2850. 188 ثبت. لا فيما لم يثبت بل ثبت عدمه. وقد صرح بما ذكر القسطلاني، ووصف ما زاد عليه بالبدعة وقال: 1 - أن النبي لم يسن لهم الاجتماع لها. 2 - ولا كانت في زمن الصديق. 3 - ولا أول الليل. 4 - ولا كل ليلة (1). 5 - ولا هذا العدد (2). ثم التجأ في إثبات مشروعيتها إلى اجتهاد الخليفة وسيوافيك الكلام فيه. وقال العيني: إن رسول الله لم يسنها لهم ولا كانت في زمن أبي بكر. ثم اعتمد في شرعيته إلى اجتهاد عمر واستنباطه من إقرار الشارع الناس يصلون خلفه ليلتين (3). وسيوافيك الكلام فيه. وقال الشاطبي: " وممن نبه بذلك من السلف الصالح، أبو أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: أحدثتم قيام شهر رمضان ولم يكتب عليكم. إنما كتب عليكم الصيام فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه، فإن أناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فعاتبهم الله بتركها فقال: * (ورهبانية ابتدعوها) * " (4).
(1) لاحظ أيضا رواية أبي ذر في سنن النسائي: 3 / 165، وسنن ابن ماجة: 42، فقد أقام النبي ثلاث ليال: ليلة 23 و 25 و 27 من ليال شهر رمضان. مضافا إلى ما مر من الاختلاف في نقل البخاري بين روايتيه ومسلم كذلك. (2) القسطلاني: إرشاد الساري: 3 / 426. (3) العيني: عمدة القاري: 11 / 126. (4) الشاطبي: الإعتصام: 2 / 291. 189 السادسة: إنه إذا أخذنا برواية أحد الثقلين (أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)) تصبح إقامة النوافل جماعة، بدعة على الإطلاق، وإن أخذنا برواية الشيخين فالمقدار الثابت ما جاء في كلام القسطلاني، والزائد عنه يصبح بدعة إضافية، حسب مصطلح الإمام الشاطبي والمقصود منها ما يكون العمل بذاته مشروعا، والكيفية التي يقام بها غير مشروعة. ولم يبق ما يحتج به على المشروعية إلا جمع الخليفة الناس على إمام واحد، ويحتج بعمله على مشروعية الإتيان بها جماعة في عصر الرسالة إلا أن الخليفة أبدع وحدة الإمام بعد ما كان الناس أوزاعا، وهو ما نشرحه في البحث التالي: جمع الناس على إمام واحد في عصر عمر: روى البخاري: توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والناس على ذلك (يعني ترك إقامة التراويح بالجماعة) ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر، وصدرا من خلافة عمر (1). وروى أيضا عن عبد الرحمان بن عبد القاري أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل بصلاته الرهط (2)، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل. ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب. ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون - يريد آخر الليل - وكان الناس يقومون أوله.
(1) البخاري: الصحيح، باب فضل من قام رمضان: الحديث 2010. (2) الرهط: بين الثلاثة إلى العشرة. 190 لكن الظاهر من شراح الصحيح، إن الإتيان جماعة لم تكن مشروعة وإنما قام التشريع بعمله وإليك بيانه في ضمن أمرين: 1 - قوله: " فتوفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والناس على ذلك، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر ". فقد فسره الشراح بقولهم: أي على ترك الجماعة في التراويح، ولم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جمع الناس على القيام (1). وقال بدر الدين العيني: والناس على ذلك (أي على ترك الجماعة) ثم قال: فإن قلت: روى ابن وهب عن أبي هريرة: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإذا الناس في رمضان يصلون في ناحية المسجد، فقال: " ما هذا " فقيل: ناس يصلي بهم أبي بن كعب، فقال: " أصابوا ونعم ما صنعوا "، ذكره ابن عبد البر. ثم أجاب بقوله، قلت: فيه مسلم بن خالد وهو ضعيف، والمحفوظ أن عمر - رضي الله عنه - هو الذي جمع الناس على أبي بن كعب - رضي الله عنه - (2). وقال القسطلاني: والأمر على ذلك (أي على ترك الجماعة في التراويح) ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر، إلى آخر ما ذكره (3). 2 - قوله: " نعم البدعة ": إن الظاهر من قوله " نعم البدعة هذه " أنها من سنن نفس الخليفة ولا صلة لها بالشرع، وقد صرح بذلك لفيف من العلماء. قال للقسطلاني: سماها (عمر) بدعة، لأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يسن لهم الاجتماع لها، ولا كانت
(1) ابن حجر العسقلاني: فتح الباري: 4 / 203. (2) عمدة القاري في شرح صحيح البخاري: 6 / 125، وجاء نفس السؤال والجواب في فتح الباري. (3) إرشاد الساري: 3 / 425. 191 في زمن الصديق، ولا أول الليل ولا كل ليلة ولا هذا العدد - إلى أن قال: - وقيام رمضان ليس بدعة لأن (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر "، وإذا اجتمع الصحابة مع عمر على ذلك زال عنه اسم البدعة. وقال العيني: وإنما دعاها بدعة، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يسنها لهم، ولا كانت في زمن أبي بكر - رضي الله عنه - ولا رغب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها (1). وهناك من نقل أن عمر أول من سن الجماعة، ونذكر منهم من يلي: 1 - قال ابن سعد في ترجمة عمر: هو أول من سن قيام شهر رمضان بالتراويح، وجمع الناس على ذلك، وكتب به إلى البلدان، وذلك في شهر رمضان سنة أربع عشرة (2). 2 - وقال ابن عبد البر في ترجمة عمر: وهو الذي نور شهر الصوم بصلاة الاشفاع فيه (3). قال الوليد بن الشحنة عند ذكر وفاة عمر في حوادث سنة 23 ه: وهو أول من نهى عن بيع أمهات الأولاد... أول من جمع الناس على إمام يصلي بهم التراويح (4). إذا كان المفروض أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يسن الجماعة فيها، وإنما سنها عمر، وهل يكفي في كونها مشروعة؟ مع أنه ليس لإنسان - حتى الرسول - حق التسنين والتشريع، وإنما هو (صلى الله عليه وآله وسلم) مبلغ عن الله سبحانه. إن الوحي يحمل التشريع إلى النبي الأكرم وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) الموحى إليه وبموته
(1) عمدة القاري: 6 / 126 - وقد سقط لفظة " لا " من قوله و " رغب " كما أن كلمة " بقوله " بعد هذه الجملة في النسخة مصحف " قوله " فلاحظ. (2) ابن سعد: الطبقات الكبرى: 3 / 281. (3) الإستيعاب: 3 / 1145 برقم 1878. (4) روضة المناظر كما في النص والاجتهاد: 150. 192 انقطع الوحي وسد باب التشريع والتسنين، فليس للأمة إلا الاجتهاد في ضوء الكتاب والسنة، لا التشريع ولا التسنين ومن رأى أن لغير الله سبحانه حق التسنين فمعنى ذلك عدم انقطاع الوحي. قال ابن الأثير في نهايته، قال: ومن هذا النوع قول عمر - رضي الله عنه -: نعم البدعة هذه (التراويح) لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح سماها بدعة ومدحها، إلا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يسنها لهم وإنما صلاها ليالي ثم تركها، ولم يحافظ عليها، ولا جمع الناس لها، ولا كانت في زمن أبي بكر وإنما عمر - رضي الله عنه - جمع الناس عليها وندبهم إليها فبهذا سماها بدعة وهي في الحقيقة سنة، لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي "، وقوله: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " (1). التشريع مختص بالله سبحانه: إن هؤلاء الأكابر مع اعترافهم بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يسن الاجتماع، برروا إقامتها جماعة بعمل الخليفة، ومعناه أن له حق التسنين والتشريع، وهذا يضاد إجماع الأمة، إذ لا حق لإنسان أن يتدخل في أمر الشريعة بعد إكمالها، لقوله تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) * (المائدة - 3) وكلامه يصادم الكتاب والسنة، فإن التشريع حق الله سبحانه لم يفوضه لأحد والنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) مبلغ عنه. أضف إلى ذلك: لو كان للخليفة استلام الضوء الأخضر في مجال التشريع والتسنين، فلم لا يكون لسائر الصحابة ذلك الضوء مع كون بعضهم أقرأ منه كأبي بن كعب، وأفرض كزيد بن ثابت، وأعلم كعلي بن أبي طالب (عليه السلام)؟ فلو
(1) ابن الأثير: النهاية: 1 / 79. 193 كان للجميع ذلك الضوء لانتشر الفساد وعمت الفوضى أمر الدين ويكون الدين ألعوبة بأيدي غير المعصومين. وأما التمسك بالحديثين، فلو صح سندهما فإنهما لا يهدفان إلى أن لهما حق التشريع، بل يفيد لزوم الاقتداء بهما لأجل أنهما يعتمدان على سنة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا أن لهما حق التسنين. نعم يظهر مما رواه السيوطي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يعتقد أن للخلفاء حق التسنين، قال: قال حاجب بن خليفة: شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو خليفة، فقال في خطبته: ألا أن ما سن رسول الله وصاحباه فهو دين نأخذ به وننتهي إليه، وما سن سواهما فإنا نرجئه (1). وعلى كل تقدير، نحن لسنا بمؤمنين بأنه سبحانه فوض أمر دينه في التشريع والتقنين إلى غير الوحي، وفي ذلك يقول الشوكاني: " والحق أن قول الصحابي ليس بحجة فإن الله سبحانه وتعالى لم يبعث إلى هذه الأمة إلا نبينا محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) وليس لنا إلا رسول واحد، والصحابة ومن بعدهم مكلفون على السواء باتباع شرعه والكتاب والسنة، فمن قال إنه تقوم الحجة في دين الله بغيرهما، فقد قال في دين الله بما لا يثبت، وأثبت شرعا لم يأمر به الله (2). نعم، نقل القسطلاني عن ابن التين وغيره: إن عمر استنبط ذلك من تقرير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من صلى معه في تلك الليالي وإن كان كره ذلك لهم فإنما كرهه خشية أن يفرض عليهم. فلما مات النبي حصل الأمن من ذلك ورجح عند عمر ذلك لما في الاختلاف من افتراق الكلمة، ولأن الاجتماع على واحد أنشط لكثير من المصلين (3).
(1) أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية. كما في بحوث مع أهل السنة: 235. (2) المصدر نفسه. (3) العسقلاني: فتح الباري: 4 / 204. 194 يلاحظ عليه أولا: أن ما ذكره في آخر كلامه يبرر جمع الناس على إمام واحد، مكان الأئمة المتعددة دونما إذا كان موضع النقاش إقامتها بالجماعة واحدا كان الإمام أو كثيرا. وثانيا: أن معنى كلامه أن هناك أحكاما لم تسن ما دام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حيا، لمانع خاص كخشية الفرض ولكن في وسع آحاد الأمة تشريعها بعد موته (صلى الله عليه وآله وسلم) ومفاده فتح باب التشريع بملاكات خاصة في وجه الأمة إلى يوم القيامة، وهذه رزية ليست بعدها رزية، وتلاعب بالدين واستئصاله. نعم حاول الكثير من القائلين بمشروعية التراويح التفصي عن نهي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن إقامة نافلة رمضان جماعة بأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) علل نهيه بخشية الافتراض وقد أمن هذا بعده (1)، وزالت تلك الخشية (2). ليت شعري، لماذا زالت تلك الخشية فحصل الأمن من الافتراض بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ هل ذلك إلا من أجل انقضاء عصر التشريع؟ وإذا سلم انتهاء عصر التشريع الافتراض، لماذا لم نقل بانتهاء عصر أي تشريع آخر كجعل التجميع مستحبا أو مباحا أيضا؟ والصحيح هو انتهاء عصر التشريع بكل جوانبه وأنحائه لأنه منحصر بيد الله على لسان نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأي تصرف في الأحكام الشرعية بنقصها أو زيادتها على لسان غير المعصوم، يعتبر بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. * * *
(1) ابن قدامة: الشرح الكبير على المقنع: 1 / 749. (2) إرشاد الساري: 3 / 426. 195 ثم إن لسيدنا شرف الدين العاملي هناك كلاما نافعا نورده بنصه قال: كان هؤلاء - عفا الله عنهم وعنا - رأوه رضي الله عنه قد استدرك (بتراويحه) على الله ورسوله حكمة كانا عنها غافلين. بل هم للغفلة - عن حكمة الله في شرائعه ونظمه - أحرى، وحسبنا في عدم تشريع الجماعة في سنن شهر رمضان وغيرها انفراد مؤديها - جوف الليل في بيته - بربه عز وعلا يشكو إليه بثه وحزنه ويناجيه بمهماته مهمة مهمة حتى يأتي على آخرها ملحا عليه، متوسلا بسعة رحمته إليه، راجيا لاجئا، راهبا راغبا، منيبا تائبا، معترفا لائذا عائذا، لا يجد ملجأ من الله تعالى إلا إليه، ولا منجي منه إلا به. لهذا ترك الله السنن حرة من قيد الجماعة ليتزودوا فيها من الانفراد بالله ما أقبلت قلوبهم عليه، ونشطت أعضاؤهم له، يستقل منهم من يستقل، ويستكثر من يستكثر، فإنها خير موضوع، كما جاء في الأثر عن سيد البشر. إما ربطها بالجماعة فيحد من هذا النفع، ويقلل من جدواه. أضف إلى هذا أن إعفاء النافلة من الجماعة يمسك على البيوت حظها من البركة والشرف بالصلاة فيها، ويمسك عليها حظها من تربية الناشئة على حبها والنشاط لها، ذلك لمكان القدوة في عمل الآباء والأمهات والأجداد والجدات، وتأثيره في شد الأبناء إليها شدا يرسخها في عقولهم وقلوبهم، وقد سأل عبد الله بن مسعود رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أيما أفضل، الصلاة في بيتي، أو الصلاة في المسجد؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) " ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد، فلأن أصلي في بيتي أحب إلي من أن أصلي في المسجد إلا أن تكون صلاة مكتوبة " رواه أحمد وابن ماجة وابن خزيمة في صحيحه كما في باب الترغيب في صلاة النافلة من كتاب الترغيب والترهيب للإمام زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري. وعن زيد بن ثابت أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " صلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا
196 الصلاة المكتوبة " رواه النسائي وابن خزيمة في صحيحه. وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أكرموا بيوتكم ببعض صلاتكم " وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت " وأخرجه البخاري ومسلم. وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته، وإن الله جاعل في بيته من صلاته خيرا " رواه مسلم وغيره ورواه ابن خزيمة في صحيحه بالإسناد إلى أبي سعيد. والسنن في هذا المعنى لا يسعها هذا الإملاء. لكن الخليفة - رضي الله عنه - رجل تنظيم وحزم، وقد راقه من صلاة الجماعة ما يتجلى فيها من الشعائر بأجلى المظاهر إلى ما لا يحصى من فوائدها الاجتماعية التي أشبع القول علماؤنا الأعلام ممن عالجوا هذه الأمور بوعي المسلم الحكيم، وأنت تعلم أن الشرع الإسلامي لم يهمل هذه الناحية، بل اختص الواجبات من الصلوات بها، وترك النوافل للنواحي الأخر من مصالح البشر * (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم) * (1). وحصيلة الكلام: قد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " فصلوا أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة " (2). وأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأداء النوافل في البيوت ابتعادا عن الرياء والسمعة مطلقا وليس مقيدا بزمانه، وهذا يدل على مرجوحية أداء النوافل في المساجد. فلو كانت الجماعة مشروعة في النوافل لكان الإتيان بها في المساجد جماعة أفضل من الإتيان بها في البيوت، إلا أن تصريح النبي بأن الإتيان بها في البيوت
(1) النص والاجتهاد: 151 - 152. (2) النسائي: السنن: 3 / 161. 197 أفضل كما في الحديث، فهذا مما يلوح - على الأقل - بعدم مشروعية الجماعة فيها. والعجيب أن ابن حزم مع اعترافه بأفضلية كل تطوع في البيوت استثنى ما صلي جماعة في المسجد. قال: " مسألة: وصلاة التطوع في الجماعة أفضل منها منفردا، وكل تطوع فهو في البيوت أفضل منه في المساجد إلا ما صلي منه جماعة في المسجد فهو أفضل " (1). ولنعم ما ذكر في التعليقة على كلامه السالف حيث قال المعلق ما نصه: " قال ابن حزم: ما كان (عليه السلام) ليدع الأفضل، وهذا في هذه الوجهة، ثم قال هنا: الجماعة أفضل للمتطوع، وقد علم كل عالم أن عامة تنفل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان منفردا، فعلى ما أصل ابن حزم، كيف يدع الأفضل!! فعلمنا بهذا أن صلاة الجماعة تفضل بخمسة وعشرين درجة إذا كانت فريضة لا تطوعا وهو نقد وجيه، وهو الحق " (2). خاتمة المطاف: إن عمل الخليفة، لم يكن إلا من قبيل تقديم المصلحة على النص وليس المورد أمرا وحيدا في حياته، بل له نظائر في عهده نذكر منها ما يلي: 1 - تنفيذ الطلاق ثلاثا بعد ما كان في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعده طلاقا واحدا. 2 - تحريم متعة الحج. وقد كانت جائزة في عصر الرسول. وإليك الكلام فيهما واحدا بعد الآخر.
(1) ابن حزم (456 ه): المحلى: 3 / 38. (2) المصدر نفسه. 198 المسألة السادسة: الطلاق ثلاثا دفعة أو دفعات في مجلس واحد من المسائل التي أوجبت انغلاقا وعنفا في الحياة وانتهت إلى تمزيق الأسرة وتقطيع صلات الأرحام في كثير من البلاد، مسألة تصحيح الطلاق ثلاثا دفعة واحدة، بأن يقول: أنت طالق ثلاثا، أو يكرره ثلاث دفعات ويقول في مجلس واحد: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. فتحسب ثلاث تطليقات حقيقة وتحرم المطلقة على زوجها حتى تنكح زوجا غيره. إن الطلاق عند أكثر أهل السنة غير مشروط بشروط عائقة عن التسرع في إيقاعه، ككونها غير حائض، أو في غير طهر المواقعة، أو لزوم حضور العدلين. فربما يتغلب الغيظ على الزوج ويأخذه الغضب فيطلقها ثلاثا في مجلس واحد، ثم يندم على عمله ندامة شديدة تضيق عليه الأرض بما رحبت فيطلب المخلص عن أثره السيئ، ولا يجد عند أئمة المذاهب الأربعة والدعاة إليها مخلصا فيقعد ملوما محسورا ولا يزيده السؤال والفحص إلا نفورا عن الفقه والفتوى. نحن نعلم علما قاطعا بأن الإسلام دين سهل وسمح، وليس فيه حرج وهذا يدفع الدعاة المخلصين إلى دراسة المسألة من جديد دراسة حرة بعيدة عن أبحاث
199 الجامدين الذين أغلقوا باب الاجتهاد في الأحكام الشرعية على وجوههم، وعن أبحاث أصحاب الهوى الهدامين الذين يريدون تجريد الأمم عن الإسلام، وأن ينظروا إلى المسألة ويطلبوا حكمها من الكتاب والسنة، متجردين عن كل رأي مسبق فلعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، وربما تفك العقدة ويجد المفتي مخلصا من هذا المضيق الذي أوجده تقليد المذاهب. وإليك نقل الأقوال: قال ابن رشد: جمهور فقهاء الأمصار على أن الطلاق بلفظ الثلاث حكمه حكم الطلقة الثالثة، وقال أهل الظاهر وجماعة: حكمه حكم الواحدة ولا تأثير للفظ في ذلك (1). قال الشيخ الطوسي: إذا طلقها ثلاثا بلفظ واحد، كان مبدعا ووقعت واحدة عند تكامل الشروط عند أكثر أصحابنا، وفيهم من قال: لا يقع شئ أصلا وبه قال علي - عليه الصلاة والسلام - وأهل الظاهر، وحكى الطحاوي عن محمد بن إسحاق أنه تقع واحدة كما قلناه، وروي أن ابن عباس وطاوسا كانا يذهبان إلى ما يقوله الإمامية. وقال الشافعي: فإن طلقها ثنتين أو ثلاثا في طهر لم يجامعها فيه، دفعة أو متفرقة كان ذلك مباحا غير محذور ووقع. وبه قال في الصحابة عبد الرحمان بن عوف، ورووه عن الحسن بن علي - عليهما الصلاة والسلام -، وفي التابعين ابن سيرين، وفي الفقهاء أحمد وإسحاق وأبو ثور. وقال قوم: إذا طلقها في طهر واحد ثنتين أو ثلاثا دفعة واحدة، أو متفرقة،
(1) ابن رشد: بداية المجتهد: 2 / 62، ط بيروت. 200 فعل محرما وعصى وأثم، ذهب إليه في الصحابة علي - عليه الصلاة والسلام -، وعمر، وابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس، وفي الفقهاء أبو حنيفة وأصحابه ومالك، قالوا: إلا أن ذلك واقع (1). قال أبو القاسم الخرقي في مختصره: وإذا قال لمدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، لزمه تطليقتان إلا أن يكون أراد بالثانية إفهامها أن قد وقعت بها الأولى فتلزمه واحدة، وإن كانت غير مدخول بها بانت بالأولى ولم يلزمها ما بعدها لأنه ابتداء كلام. وقال ابن قدامة في شرحه على مختصر الخرقي: إذا قال لامرأته المدخول بها: أنت طالق مرتين ونوى بالثانية إيقاع طلقة ثانية، وقعت لها طلقتان بلا خلاف، وإن نوى بها إفهامها أن الأولى قد وقعت بها أو التأكد لم تطلق إلا مرة واحدة، وإن لم تكن له نية وقع طلقتان وبه قال أبو حنيفة ومالك، وهو الصحيح من قولي الشافعي وقال في الآخر: تطلق واحدة. وقال الخرقي أيضا في مختصره: " ويقع بالمدخول بها ثلاثا إذا أوقعها مثل قوله: أنت طالق، فطالق فطالق، أو أنت طالق ثم طالق، ثم طالق، أو أنت طالق، ثم طالق وطالق أو فطالق. وقال ابن قدامة في شرحه: إذا أوقع ثلاث طلقات بلفظ يقتضي وقوعهن معا، فوقعن كلهن كما لو قال: أنت طالق ثلاثا (2). وقال عبد الرحمان الجزيري: يملك الرجل الحر ثلاث طلقات، فإذا طلق الرجل زوجته ثلاثا دفعة واحدة، بأن قال لها: أنت طالق ثلاثا، لزمه ما نطق به من
(1) الشيخ الطوسي: الخلاف: 2 كتاب الطلاق، المسألة 3. وعلى ما ذكره، نقل عن الإمام علي رأيان متناقضان، عدم الوقوع والوقوع مع الإثم. (2) ابن قدامة: المغني: 7 / 416. 201 العدد في المذاهب الأربعة وهو رأي الجمهور، وخالفهم في ذلك بعض المجتهدين: كطاوس وعكرمة وابن إسحاق وعلى رأسهم ابن عباس - رضي الله عنهم - (1). إلى غير ذلك من نظائر تلك الكلمات التي تعرب عن اتفاق جمهور الفقهاء بعد عصر التابعين على نفوذ ذلك الطلاق محتجين بما، تسمع، ورائدهم في ذلك تنفيذ عمر بن الخطاب، الطلاق الثلاث بمرأى ومسمع من الصحابة ولكن لو دل الكتاب والسنة على خلافه فالأخذ به متعين. دراسة الآيات الواردة في المقام: قال سبحانه: * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم) * (البقرة / 228). * (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) * (البقرة / 229).
(1) عبد الرحمان الجزيري: الفقه على المذاهب الأربعة: 4 / 341. 202 * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون) * (البقرة / 230). * (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه...) * (البقرة / 231). جئنا بمجموع الآيات الأربع - مع أن موضع الاستدلال هو الآية الثانية - للاستشهاد بها في ثنايا البحث وقبل الخوض في الاستدلال نشير إلى نكات في الآيات: 1 - قوله سبحانه: * (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) * كلمة جامعة لا يؤدى حقها إلا بمقال مسهب، وهي تعطي أن الحقوق بينهما متبادلة، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلا وعلى الرجل عمل يقابله، فهما - في حقل المعاشرة - متماثلان في الحقوق والأعمال، فلا تسعد الحياة إلا باحترام كل من الزوجين الآخر، وقيام كل بوظيفته تجاه الآخر، فعلى المرأة القيام بتدبير المنزل والقيام بالأعمال فيه، وعلى الرجل السعي والكسب خارجه، هذا هو الأصل الأصيل في حياة الزوجين الذي تؤيدها الفطرة، وقد قسم النبي الأمور بين ابنته فاطمة وزوجها علي (عليه السلام) فجعل أمور داخل البيت على ابنته وأمور خارجه على زوجها - صلوات الله عليهما -. 2 - " المرة " بمعنى الدفعة للدلالة على الواحد في الفعل، و " الامساك " خلاف الاطلاق، و " التسريح " مأخوذ من السرح وهو الاطلاق يقال: سرح الماشية في المرعى: إذا أطلقها لترعى. والمراد من الامساك هو إرجاعها إلى عصمة الزوجية. كما أن المقصود من " التسريح " عدم التعرض لها لتنقضي عدتها في كل
203 طلاق أو الطلاق الثالث الذي هو أيضا نوع من التسريح. على اختلاف في معنى الجملة. وإن كان الأقوى هو الثاني وسيوافيك توضيحه ودفع ما أثار الجصاص من الإشكالين حول هذا التفسير بإذن من الله سبحانه. 3 - قيد الإمساك بالمعروف، والتسريح بإحسان، مشعرا بأنه يكفي في الامساك قصد عدم الإضرار بالرجوع، وأما الإضرار فكما إذا طلقها حتى تبلغ أجلها فيرجع إليها ثم يطلق كذلك، يريد بها الإضرار والإيذاء، وعلى ذلك يجب أن يكون الامساك مقرونا بالمعروف، وعندئذ لو طلب بعد الرجوع ما آتاها من قبل، لا يعد أمرا منكرا غير معروف، إذ ليس إضرارا. وهذا بخلاف التسريح فلا يكفي ذلك بل يلزم أن يكون مقرونا بالإحسان إليها فلا يطلب منها ما آتاها من الأموال. ولأجل ذلك يقول تعالى: * (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا) * أي لا يحل في مطلق الطلاق استرداد ما آتيتموهن من المهر، إلا إذا كان الطلاق خلعا فعندئذ لا جناح عليها فيما افتدت به نفسها من زوجها. وقوله سبحانه: * (فيما افتدت به) * دليل على وجود النفرة من الزوجة فتخاف أن لا تقيم حدود الله فتفتدي بالمهر وغيره لتخلص نفسها. 4 - لم يكن في الجاهلية للطلاق ولا للمراجعة في العدة، حد ولا عد، فكان الأزواج يتلاعبون بزوجاتهم يضاروهن بالطلاق والرجوع ما شاءوا، فجاء الإسلام بنظام دقيق وحدد الطلاق بمرتين، فإذا تجاوز عنه وبلغ الثالث تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره. روى الترمذي: كان الناس، والرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها، وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة، وإن طلقها مائة مرة أو أكثر، حتى قال رجل
204 لامرأته: والله لا أطلقك فتبيني مني، ولا آويك أبدا قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة فأخبرت النبي فسكت حتى نزل القرآن: * (الطلاق مرتان...) * (1). 5 - اختلفوا في تفسير قوله سبحانه: * (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * إلى قولين: ألف: إن الطلاق يكون مرتين، وفي كل مرة إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، والرجل مخير بعد إيقاع الطلقة الأولى بين أن يرجع فيما اختار من الفراق فيمسك زوجته ويعاشرها بإحسان، وبين أن يدع زوجته في عدتها من غير رجعة حتى تبلغ أجلها وتنقضي عدتها. وهذا القول هو الذي نقله الطبري عن السدي والضحاك فذهبا إلى أن معنى الكلام: الطلاق مرتان فإمساك في كل واحدة منهما لهن بمعروف أو تسريح لهن بإحسان، وقال: هذا مذهب مما يحتمله ظاهر التنزيل لولا الخبر الذي رواه إسماعيل بن سميع عن أبي رزين (2). يلاحظ عليه: أن هذا التفسير ينافيه تخلل الفاء بين قوله: * (مرتان) * وقوله * (فإمساك بمعروف) * فهو يفيد أن القيام بأحد الأمرين بعد تحقق المرتين، لا في أثنائهما. وعليه لا بد أن يكون كل من الامساك والتسريح أمرا متحققا بعد المرتين، ومشيرا إلى أمر وراء التطليقتين. نعم يستفاد لزوم القيام بأحد الأمرين بعد كل تطليقة، من آية أخرى أعني قوله سبحانه: * (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو
(1) الترمذي: الصحيح: 3 كتاب الطلاق، الباب 16، الحديث 1192. (2) الطبري: التفسير: 2 / 278 وسيوافيك خبر أبي رزين. 205 سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا) * (1). ولأجل الحذر عن تكرار المعنى الواحد في المقام يفسر قوله: * (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * بوجه آخر سيوافيك. ب - أن الزوج بعد ما طلق زوجته مرتين، يجب أن يتفكر في أمر زوجته أكثر مما مضى، فيقف أن ليس له بعد التطليقتين إلا أحد الأمرين: إما الامساك بمعروف وإدامة العيش معها، أو التسريح بإحسان بالتطليق الثالث الذي لا رجوع بعده أبدا، إلا في ظرف خاص. فيكون قوله تعالى: * (أو تسريح بإحسان) * إشارة إلى التطليق الثالث الذي لا رجوع فيه ويكون التسريح متحققا به. وهنا سؤالان أثارهما الجصاص في تفسيره: 1 - كيف يفسر قوله: * (أو تسريح بإحسان) * بالتطليق الثالث. مع أن المراد من قوله في الآية المتأخرة * (أو سرحوهن بإحسان) * هو ترك الرجعة وهكذا المراد من قوله * (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف) * (الطلاق / 2) هو تركها حتى ينتهي أجلها، ومعلوم أنه لم يرد من قوله: * (أو سرحوهن بمعروف) * أو قوله: * (أو فارقوهن بمعروف) *: طلقوهن واحدة أخرى (2). يلاحظ عليه: أن السؤال أو الإشكال ناشئ من خلط المفهوم بالمصداق، فاللفظ في كلا الموردين مستعمل في السرح والإطلاق، غير أنه يتحقق في مورد بالطلاق، وفي آخر بترك الرجعة، وهذا لا يعد تفكيكا في معنى لفظ واحد في
(1) البقرة: الآية 231 وأيضا في سورة الطلاق: * (فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف) * (الطلاق / 2). (2) الجصاص: التفسير: 1 / 389. 206 موردين، ومصداقه في الآية 229، هو الطلاق، وفي الآية 231، هو ترك الرجعة، والاختلاف في المصداق لا يوجب اختلافا في المفهوم. 2 - إن التطليقة الثالثة مذكورة في نسق الخطاب بعده في قوله تعالى: * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) * وعندئذ يجب حمل قوله تعالى: * (أو تسريح بإحسان) * المتقدم عليه على فائدة مجددة وهي وقوع البينونة بالاثنين (1) بعد انقضاء العدة. وأيضا لو كان التسريح بإحسان هو الثالثة لوجب أن يكون قوله تعالى: * (فإن طلقها) * عقيب ذلك هي الرابعة، لأن الفاء للتعقيب قد اقتضى طلاقا مستقلا بعد ما تقدم ذكره (2). والإجابة عنه واضحة، لأنه لا مانع من الاجمال أولا ثم التفصيل ثانيا، فقوله تعالى: * (فإن طلقها) * بيان تفصيلي للتسريح بعد البيان الإجمالي، والتفصيل مشتمل على ما لم يشتمل عليه الاجمال من تحريمها عليه حتى تنكح زوجا غيره. فلو طلقها الزوج الثاني عن اختياره فلا جناح عليهما أن يتراجعا بالعقد الجديد إن ظنا أن يقيما حدود الله فأين هذه التفاصيل من قوله: * (أو تسريح بإحسان) *. وبذلك يعلم أنه لا يلزم أن يكون قوله: * (فإن طلقها) * طلاقا رابعا. وقد روى الطبري عن أبي رزين أنه قال: أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل فقال: يا رسول الله أرأيت قوله: * (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * فأين الثالثة؟ قال رسول الله: * (إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * هي الثالثة (3).
(1) الأولى أن يقول: بكل طلاق. (2) الجصاص: التفسير: 1 / 389. (3) الطبري: التفسير: 2 / 278. 207 نعم الخبر مرسل وليس أبو رزين الأسدي صحابيا بل تابعي. وقد تضافرت الروايات عن أئمة أهل البيت أن المراد من قوله: * (أو تسريح بإحسان) * هي التطليقة الثالثة (1). إلى هنا تم تفسير الآية وظهر أن المعنى الثاني لتخلل لفظ " الفاء " أظهر بل هو المتعين بالنظر إلى روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام). بقي الكلام في دلالة الآية على بطلان الطلاق ثلاثا بمعنى عدم وقوعه بقيد الثلاث، وأما وقوع واحدة منها فهو أمر آخر، فنقول: الاستدلال على بطلان الطلاق ثلاثا: إذا تعرفت على مفاد الآية، فاعلم أن الكتاب والسنة يدلان على بطلان الطلاق ثلاثا، وأنه يجب أن يكون الطلاق واحدة بعد الأخرى، يتخلل بينهما رجوع أو نكاح، فلو طلق ثلاثا مرة واحدة. أو كرر الصيغة فلا يقع الثلاث. وأما احتسابها طلاقا واحدا، فهو وإن كان حقا، لكنه خارج عن موضوع بحثنا، وإليك الاستدلال عن طريق الكتاب أولا والسنة ثانيا: أولا: الاستدلال عن طريق الكتاب: 1 - قوله سبحانه: * (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) *. تقدم أن في تفسير هذه الفقرة من الآية قولين مختلفين، والمفسرون بين من
(1) البحراني: البرهان: 1 / 221، وقد نقل روايات ست في ذيل الآية. 208 يجعلونها ناظرة إلى الفقرة المتقدمة أعني قوله: * (الطلاق مرتان...) * ومن يجعلونها ناظرة إلى التطليق الثالث الذي جاء في الآية التالية، وقد عرفت ما هو الحق، فتلك الفقرة تدل على بطلان الطلاق ثلاثا على كلا التقديرين. أما على التقدير الأول، فواضح لأن معناها أن كل مرة من المرتين يجب أن يتبعها أحد أمرين: إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان. قال ابن كثير: أي إذا طلقتها واحدة أو اثنتين، فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية، بين أن تردها إليك ناويا الاصلاح والإحسان وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها، فتبين منك، وتطلق سراحها محسنا إليها لا تظلمها من حقها شيئا ولا تضار بها (1) وأين هذا من الطلاق ثلاثا بلا تخلل واحد من الأمرين - الامساك أو تركها حتى ينقضي أجلها - سواء طلقها بلفظ: أنت طالق ثلاثا، أو: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. وأما على التقدير الثاني، فإن تلك الفقرة وإن كانت ناظرة لحال الطلاق الثالث، وساكتة عن حال الطلاقين الأولين، لكن قلنا إن بعض الآيات، تدل على أن مضمونها من خصيصة مطلق الطلاق، من غير فرق بين الأولين والثالث فالمطلق يجب أن يتبع طلاقه بأحد أمرين: 1 - الامساك بمعروف. 2 - التسريح بإحسان. فعدم دلالة الآية الأولى على خصيصة الطلاقين الأولين، لا ينافي استفادتها من الآيتين الماضيتين (2). ولعلهما تصلحان قرينة لإلقاء الخصوصية من ظاهر الفقرة * (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * وإرجاع مضمونها إلى مطلق الطلاق
(1) ابن كثير: التفسير: 1 / 53. (2) الآية 231 من سورة البقرة والآية 2 من سورة الطلاق. 209 ولأجل ذلك قلنا بدلالة الفقرة على لزوم اتباع الطلاق بأحد الأمرين على كلا التقديرين، وعلى أي حال فسواء كان عنصر الدلالة نفس الفقرة أو غيرها - كما ذكرنا - فالمحصل من المجموع هو كون اتباع الطلاق بأحد أمرين من لوازم طبيعة الطلاق الذي يصلح للرجوع. ويظهر ذلك بوضوح إذا وقفنا على أن قوله: * (فبلغن أجلهن) * من القيود الغالبية، وإلا فالواجب منذ أن يطلق زوجته، هو القيام بأحد الأمرين، لكن تخصيصه بزمن خاص وهو بلوغ آجالهن، هو لأجل أن المطلق الطاغي عليه غضبه وغيظه، لا تنطفئ سورة غضبه فورا حتى تمضي عليه مدة من الزمن تصلح فيها، لأن يتفكر في أمر زوجته ويخاطب بأحد الأمرين، وإلا فطبيعة الحكم الشرعي * (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) * تقتضي أن يكون حكما سائدا على جميع الأزمنة من لدن أن يتفوه بصيغة الطلاق إلى آخر لحظة تنتهي معها العدة. وعلى ضوء ما ذكرنا تدل الفقرة على بطلان الطلاق الثلاث وأنه يخالف الكيفية المشروعة في الطلاق، غير أن دلالتها على القول الأول بنفسها، وعلى القول الثاني بمعونة الآيات الآخر. 2 - قوله سبحانه: * (الطلاق مرتان) *. إن قوله سبحانه: * (الطلاق مرتان) *: ظاهر في لزوم وقوعه مرة بعد أخرى لا دفعة واحدة وإلا يصير مرة ودفعة، ولأجل ذلك عبر سبحانه بلفظ " المرة " ليدل على كيفية الفعل وإنه الواحد منه، كما أن الدفعة والكرة والنزلة، مثل المرأة، وزنا ومعنى واعتبارا. وعلى ما ذكرنا فلو قال المطلق: أنت طالق ثلاثا، لم يطلق زوجته مرة بعد أخرى، ولم يطلق مرتين، بل هو طلاق واحد، وأما قوله " ثلاثا " فلا يصير سببا
210 لتكرره، وتشهد بذلك فروع فقهية لم يقل أحد من الفقهاء فيها بالتكرار بضم عدد فوق الواحد. مثلا اعتبر في اللعان شهادات أربع، فلا تجزي عنها شهادة واحدة مشفوعة بقوله " أربعا ". وفصول الأذان المأخوذة فيها التثنية، لا يتأتى التكرار فيها بقراءة واحدة وإردافها بقوله " مرتين " ولو حلف في القسامة وقال: " أقسم بالله خمسين يمينا أن هذا قاتله " كان هذا يمينا واحدا. ولو قال المقر بالزنا: " أنا أقر أربع مرات أني زنيت " كان إقرارا واحدا، ويحتاج إلى إقرارات، إلى غير ذلك من الموارد التي لا يكفي فيها العدد عن التكرار. قال الجصاص: * (الطلاق مرتان) *، وذلك يقتضي التفريق لا محالة، لأنه لو طلق اثنتين معا لما جاز أن يقال: طلقها مرتين، وكذلك لو دفع رجل إلى آخر درهمين لم يجز أن يقال: أعطاه مرتين، حتى يفرق الدفع، فحينئذ يطلق عليه، وإذا كان هذا هكذا، فلو كان الحكم المقصود باللفظ هو ما تعلق بالتطليقتين من بقاء الرجعة لأدى ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر المرتين، إذ كان هذا الحكم ثابتا في المرة الواحدة إذا طلق اثنتين، فثبت بذلك أن ذكر المرتين إنما هو أمر بإيقاعه مرتين، ونهى عن الجمع بينهما في مرة واحدة (1). هذا كله إذا عبر عن التطليق ثلاثا بصيغة واحدة، أما إذا كرر الصيغة كما عرفت، فربما يغتر به البسطاء ويزعمون أن تكرار الصيغة ينطبق على الآية، لكنه مردود من جهة أخرى وهي: أن الصيغة الثانية والثالثة تقعان باطلتين لعدم الموضوع للطلاق، فإن الطلاق إنما هو لقطع علقة الزوجية، فلا زوجية بعد الصيغة الأولى حتى تقطع، ولا رابطة قانونية حتى تصرم. وبعبارة واضحة: إن الطلاق هو أن يقطع الزوج علقة الزوجية بينه وبين
(1) الجصاص: أحكام القرآن: 1 / 378. 211 امرأته ويطلق سراحها من قيدها، وهو لا يتحقق بدون وجود تلك العلقة الاعتبارية الاجتماعية، ومن المعلوم أن المطلقة لا تطلق، والمسرحة لا تسرح. وربما يقال: إن المطلقة ما زالت في حبالة الرجل وحكمها حكم الزوجة، فعندئذ يكون للصيغة الثانية والثالثة تأثير بحكم هذه الضابطة. ولكن الإجابة عنه واضحة وذلك لأن الصيغة الثانية لغو جدا، وذلك لأن الزوجة بعدها أيضا بحكم الزوجة. وإنما تخرج عنه إذا صار الطلاق بائنا وهو يتحقق بالطلاق ثلاثا. والحاصل: أنه لا يحصل بهذا النحو من التطليقات الثلاث، العدد الخاص الذي هو الموضوع للآية التالية أعني قوله سبحانه: * (فإن طلقها فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره) * وكيف لا يكون كذلك، وقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم): لا طلاق إلا بعد نكاح، وقال: ولا طلاق قبل نكاح (1). فتعدد الطلاق رهن تخلل عقدة الزواج بين الطلاقين، ولو بالرجوع، وإذا لم تتخلل يكون التكلم أشبه بالتكلم بكلام لغو. قال السماك: إنما النكاح عقدة تعقد، والطلاق يحلها، وكيف تحل عقدة قبل أن تعقد؟! (2). 3 - قوله سبحانه: * (فطلقوهن لعدتهن) *. إن قوله سبحانه: * (الطلاق مرتان) * وارد في الطلاق الذي يجوز فيه الرجوع (3)، ومن جانب آخر دل قوله سبحانه: * (وإذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة) * (الطلاق / 1). على أن الواجب في حق هؤلاء هو
(1) البيهقي: السنن الكبرى: 7 / 318 - 321، الحاكم: المستدرك: 2 / 24. (2) المصدر نفسه: 7 / 321. (3) فخرج الطلاق البائن كطلاق غير المدخولة، وطلاق اليائسة من المحيض الطاعنة في السن وغيرهما. 212 الاعتداد وإحصاء العدة، من غير فرق بين أن نقول أن " اللام " في * (عدتهن) * للظرفية بمعنى " في عدتهن " أو بمعنى الغاية، والمراد لغاية أن يعتددن، إذ على كل تقدير يدل على أن من خصائص الطلاق الذي يجوز فيه الرجوع، هو الاعتداد وإحصاء العدة، وهو لا يتحقق إلا بفصل الأول عن الثاني، وإلا يكون الطلاق الأول بلا عدة وإحصاء لو طلق اثنتين مرة. ولو طلق ثلاثا يكون الأول والثاني كذلك. وقد استدل بعض أئمة أهل البيت بهذه الآية على بطلان الطلاق ثلاثا. روى صفوان الجمال عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن رجلا قال له: إني طلقت امرأتي ثلاثا في مجلس واحد؟ قال: ليس بشئ، ثم قال: أما تقرأ كتاب الله: * (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن - إلى قوله سبحانه: - لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) * ثم قال: كل ما خالف كتاب الله والسنة فهو يرد إلى كتاب الله والسنة (1). أضف إلى ذلك: أنه لو صح التطليق ثلاثا فلا يبقى لقوله سبحانه: * (لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) * فائدة لأنه يكون بائنا ويبلغ الأمر إلى ما لا تحمد عقباه، ولا تحل العقدة إلا بنكاح رجل آخر وطلاقه مع أن الظاهر أن المقصود حل المشكل من طريق الرجوع أو العقد في العدة. ثانيا: الاستدلال عن طريق السنة: قد تعرفت على قضاء الكتاب في المسألة، وأما حكم السنة، فهي تعرب عن أن الرسول كان يعد مثل هذا الطلاق لعبا بالكتاب.
(1) عبد الله بن جعفر الحميري: قرب الإسناد: 30، ورواه الحر العاملي في وسائل الشيعة ج 15 الباب 22، الحديث 25. 213 1 - أخرج النسائي عن محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقام غضبانا ثم قال: أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟ حتى قام رجل وقال: يا رسول الله ألا أقتله؟ (1). إن محمود بن لبيد صحابي صغير وله سماع، روى أحمد بإسناد صحيح عنه قال: أتانا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فصلى بنا المغرب في مسجدنا فلما سلم منها... (2). ولو سلمنا عدم سماعه كما يدعيه ابن حجر في فتح الباري (3) فهو صحابي ومراسيل الصحابة حجة بلا كلام عند الفقهاء، أخذا بعدالتهم أجمعين. 2 - روى ابن إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس قال: طلق ركانة زوجته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا، فسأله رسول الله: كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثا في مجلس واحد. قال: إنما تلك طلقة واحدة فارتجعها (4). والسائل هو ركانة بن عبد يزيد، روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني مطلب امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا قال: فسأله رسول الله: كيف طلقتها؟ قال: طلقتها ثلاثا. قال، فقال: في مجلس واحد؟ قال: نعم. قال: فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت. قال: فأرجعها فكان ابن عباس يرى إنما الطلاق عند كل طهر (5).
(1) النسائي: السنن: 6 / 142، السيوطي: الدر المنثور: 1 / 283. (2) أحمد بن حنبل: المسند: 5 / 427. (3) ابن حجر: فتح الباري: 9 / 315، ومع ذلك قال: رجاله ثقات، وقال في كتابه الآخر بلوغ المرام 224: رواته موثقون، ونقل الشوكاني في نيل الأوطار: 7 / 11، عن ابن كثير أنه قال: إسناده جيد، أنظر " نظام الطلاق في الإسلام " للقاضي أحمد محمد شاكر: 37. (4) ابن رشد: بداية المجتهد: 2 / 61، ورواه آخرون كابن قيم في إغاثة اللهفان: 156 والسيوطي في الدر المنثور: 1 / 279 وغيرهم. (5) أحمد بن حنبل: المسند: 1 / 265. 214 الاجتهاد مقابل النص: التحق النبي الأكرم بالرفيق الأعلى وقد حدث بين المسلمين اتجاهان مختلفان، وصراعان فكريان، فعلي ومن تبعه من أئمة أهل البيت، كانوا يحاولون التعرف على الحكم الشرعي من خلال النص الشرعي آية ورواية، ولا يعملون برأيهم أصلا، وفي مقابلهم لفيف من الصحابة يستخدمون رأيهم للتعرف على الحكم الشرعي من خلال التعرف على المصلحة ووضع الحكم وفق متطلباتها. إن استخدام الرأي فيما لا نص فيه، ووضع الحكم وفق المصلحة أمر قابل للبحث والنقاش، إنما الكلام في استخدامه فيما فيه نص، فالطائفة الثانية كانت تستخدم رأيها تجاه النص، لا في خصوص ما لا نص فيه من كتاب أو سنة بل حتى فيما كان فيه نص ودلالة. يقول أحمد أمين المصري: ظهر لي أن عمر بن الخطاب كان يستعمل الرأي في أوسع من المعنى الذي ذكرناه، وذلك أن ما ذكرناه هو استعمال الرأي حيث لا نص من كتاب ولا سنة، ولكنا نرى الخليفة سار أبعد من ذلك، فكان يجتهد في تعرف المصلحة التي لأجلها نزلت الآية أو ورد الحديث، ثم يسترشد بتلك المصلحة في أحكامه، وهو أقرب شئ إلى ما يعبر عنه الآن بالاسترشاد بروح القانون لا بحرفيته (1). إن الاسترشاد بروح القانون الذي أشار إليه أحمد أمين أمر، ونبذ النص والعمل بالرأي أمر آخر، ولكن الطائفة الثانية كانوا ينبذون النص ويعملون بالرأي، وما روي عن الخليفة في هذه المسألة، من هذا القبيل. وإن كنت في ريب
(1) أحمد أمين: فجر الإسلام: 238، نشر دار الكتاب. 215 من ذلك فنحن نتلو عليك ما وقفنا عليه: 1 - روى مسلم عن ابن عباس، قال: كان الطلاق على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر: طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم (1). 2 - وروى عن ابن طاووس عن أبيه: أن أبا الصهباء قال لابن عباس: أتعلم إنما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر وثلاثا من (خلافة) عمر؟ فقال: نعم (2). 3 - وروى أيضا: أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هات من هناتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول الله وأبي بكر واحدة؟ قال: قد كان ذلك فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم (3). 4 - روى البيهقي، قال: كان أبو الصهباء كثير السؤال لابن عباس، قال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها، جعلوها واحدة على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبي بكر - رضي الله عنه - وصدرا من إمارة عمر - رضي الله عنه - فلما رأى الناس قد تتابعوا فيها، قال: أجيزوهن عليهم (4). 5 - أخرج الطحاوي من طريق ابن عباس أنه قال: لما كان زمن عمر - رضي الله عنه - قال: يا أيها الناس قد كان لكم في الطلاق أناة وإنه من تعجل أناة الله في الطلاق ألزمناه إياه (5).
(1 - 3) مسلم: الصحيح: 4 باب الطلاق الثلاث، الحديث 1 - 3. التتابع: بمعنى الاكثار من الشر. (4) البيهقي: السنن: 7 / 339، السيوطي: الدر المنثور: 1 / 279. (5) العيني: عمدة القارئ: 9 / 537، وقال: إسناده صحيح. 216 6 - عن طاووس قال: قال عمر بن الخطاب: قد كان لكم في الطلاق أناة فاستعجلتم أناتكم وقد أجزنا عليكم ما استعجلتم من ذلك (1). 7 - عن الحسن: أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري: لقد هممت أن أجعل إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس أن أجعلها واحدة، ولكن أقواما جعلوا على أنفسهم، فألزم كل نفس ما ألزم نفسه. من قال لامرأته: أنت علي حرام، فهي حرام، ومن قال لامرأته: أنت بائنة، فهي بائنة، ومن قال: أنت طالق ثلاثا، فهي ثلاث (2). هذه النصوص تدل على أن عمل الخليفة لم يكن من الاجتهاد فيما لا نص فيه ولا أخذا بروح القانون الذي يعبر عنه بتنقيح المناط وإسراء الحكم الشرعي إلى المواضع التي تتشارك المنصوص في المسألة، كما إذا قال: الخمر حرام، فيسري حكمه إلى كل مسكر أخذا بروح القانون وهو أن علة التحريم هي الاسكار الموجود في المنصوص وغير المنصوص، وإنما كان عمله من نوع ثالث وهو الاجتهاد تجاه النص ونبذ الدليل الشرعي، والسير وراء رأيه وفكره وتشخيصه، وقد ذكروا هنا: تبريرات لحكم الخليفة: لما كان الحكم الصادر عن الخليفة يخالف نص القرآن أو ظاهره، حاول بعض المحققين تبرير عمل الخليفة ببعض الوجوه حتى يبرر حكمه ويصححه ويخرجه عن مجال الاجتهاد مقابل النص بل يكون صادرا عن دليل شرعي، بيانها:
(1) المتقي الهندي: كنز العمال: 9 / 676، برقم 27943. (2) المتقي الهندي: كنز العمال: 9 / 676، برقم 27943. 217 1 - نسخ الكتاب بالإجماع الكاشف عن النص: إن الطلاق الوارد في الكتاب منسوخ، فإن قلت: ما وجه هذا النسخ وعمر - رضي الله عنه - لا ينسخ، وكيف يكون النسخ بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قلت: لما خاطب عمر الصحابة بذلك فلم يقع إنكار، صار إجماعا، والنسخ بالإجماع جوزه بعض مشايخنا، بطريق أن الاجماع موجب علم اليقين كالنص فيجوز أن يثبت النسخ به، والإجماع في كونه حجة أقوى من الخبر المشهور. فإن قلت: هذا إجماع على النسخ من تلقاء أنفسهم فلا يجوز ذلك في حقهم، قلت: يحتمل أن يكون ظهر لهم نص أوجب النسخ ولم ينقل إلينا (1). يلاحظ عليه أولا: أن المسألة يوم أفتى بها الخليفة، كانت ذات قولين بين نفس الصحابة، فكيف انعقد الاجماع على قول واحد، وقد عرفت الأقوال في صدر المسألة. ولأجل ذلك نرى البعض الآخر ينفي انعقاد الاجماع البتة ويقول: وقد أجمع الصحابة إلى السنة الثانية من خلافة عمر على أن الثلاث بلفظ واحد واحدة، ولم ينقض هذا الاجماع بخلافه، بل لا يزال في الأمة من يفتي به قرنا بعد قرن إلى يومنا هذا " (2). وثانيا: أن هذا البيان يخالف ما برر به الخليفة عمله حيث قال: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم، ولو كان هناك نص عند الخليفة، لكان التبرير به هو المتعين. وفي الختام نقول: أين ما ذكره صاحب العمدة مما ذكره الشيخ صالح بن محمد العمري (المتوفى 1298) حيث قال: إن المعروف عند الصحابة والتابعين
(1) العيني: عمدة القارئ: 9 / 537. (2) تيسير الوصول: 3 / 162. 218 لهم بإحسان إلى يوم الدين، وعند سائر العلماء المسلمين: أن حكم الحاكم المجتهد إذا خالف نص كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجب نقضه ومنع نفوذه، ولا يعارض نص الكتاب والسنة بالاحتمالات العقلية والخيالات النفسية، والعصبية الشيطانية بأن يقال: لعل هذا المجتهد قد اطلع على هذا النص وتركه لعلة ظهرت له، أو أنه اطلع على دليل آخر، ونحو هذا مما لهج به فرق الفقهاء المتعصبين وأطبق عليه جهلة المقلدين (1). 2 - تعزيرهم على ما تعدوا به حدود الله: لم يكن الهدف من تنفيذ الطلاق ثلاثا في مجلس، إلا عقابهم من جنس عملهم، وتعزيرهم على ما تعدوا حدود الله، فاستشار أولي الرأي، وأولي الأمر وقال: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم؟ فلما وافقوه على ما اعتزم أمضاه عليهم وقال: أيها الناس قد كانت لكم في الطلاق أناة وأنه من تعجل أناة الله ألزمناه إياه (2). لم أجد نصا فيما فحصت في مشاورة عمر أولي الرأي والأمر، غير ما كتبه إلى أبي موسى الأشعري بقوله: " لقد هممت أن أجعل إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا في مجلس أن أجعلها واحدة... " (3) وهو يخبر عن عزمه وهمه ولا يستشيره، ولو كانت هنا استشارة كان عليه أن يستشير الصحابة من المهاجرين والأنصار القاطنين في المدينة وعلى رأسهم علي بن أبي طالب، وقد كان يستشيره في مواقف خطيرة
(1) العمري: إيقاظ همم أولي الأبصار: 9. (2) أحمد بن حنبل: المسند: 1 / 314، برقم 2877، وقد مر تخريج الحديث أيضا، لاحظ نظام الطلاق في الإسلام لأحمد محمد شاكر: 79. (3) المتقي الهندي: كنز العمال: 9 / 676، برقم 27943. 219 ويقتفي رأيه. ولا يكون استعجال الناس، مبررا لمخالفة الكتاب والسنة بل كان عليه ردع الناس عن عملهم السيئ بقوة ومنعة، وكيف تصح مؤاخذتهم بما أسماه رسول الله لعبا بكتاب الله (1). يقول ابن قيم: إن هذا القول قد دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم، ولم يأت بعده إجماع يبطله ولكن رأى أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة، وحرمت عليه، حتى تنكح زوجا غيره نكاح رغبة، يراد للدوام لا نكاح تحليل، فإذا علموا ذلك كفوا عن الطلاق المحرم، فرأى عمر أن هذا مصلحة لهم في زمانه، ورأى أن ما كانوا عليه في عهد النبي وعهد الصديق، وصدرا من خلافته كان الأليق بهم، لأنهم لم يتابعوا فيه وكانوا يتقون الله في الطلاق، وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجا، فلما تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله وطلقوا على غير ما شرعه الله ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم فإن الله شرع الطلاق مرة بعد مرة، ولم يشرعه كله مرة واحدة (2). يلاحظ عليه: أن ما ذكره من التبرير لعمل الخليفة غير صحيح، إذ لو كانت المصالح المؤقتة مبررة لتغير الحكم فما معنى " حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة " ولو صح ما ذكره لتسرب التغير إلى أركان الشريعة، فيصبح الإسلام ألعوبة بيد الساسة، فيأتي سائس فيحرم الصوم على العمال لتقوية القوة العاملة في المعامل.
(1) السيوطي: الدر المنثور: 1 / 283. (2) ابن قيم الجوزية: إعلام الموقعين: 3 / 36. 220 وفي الختام نذكر تنبه بعض علماء أهل السنة في هذه العصور لما في تنفيذ هذا النوع من الطلاق، ولأجل ذلك تغير قانون محاكم مصر الشرعية وخالف مذهب الحنفية بعد استقلالها وتحررها عن سلطنة الدولة العثمانية. ويا للأسف أن كثيرا من مفتي أهل السنة على تنفيذ هذا النوع من الطلاق، ولأجل ذلك يقول مؤلف المنار بعد البحث الضافي حول المسألة: " ليس المراد مجادلة المقلدين أو ارجاع القضاة والمفتين عن مذاهبهم، فإن أكثرهم يطلع على هذه النصوص في كتب الحديث وغيرها ولا يبالي بها لأن العمل عندهم على أقوال كتبهم دون كتاب الله وسنة رسوله (1).
(1) السيد محمد رشيد رضا: المنار: 2 / 386، الطبعة الثالثة 1376. 221 المسألة السابعة: النهي عن متعة الحج إن الكاتب المصري أحمد أمين، يصف الخليفة عمر بن الخطاب بأنه كان ممن يأخذ بروح القانون لا بلفظه (1). وهو يريد بذلك تفسير ما شوهدت منه في بعض الموارد من مخالفة للنصوص ولو صح ما ذكره في بعضها، لكنه غير صحيح في البعض الآخر. ونحن نرى أنه كان ممن يجتهد تجاه النص، ويأخذ بالرأي مكان الأخذ بالدليل. إن العاطفة الدينية دفعت الكاتب المصري إلى ذاك التفسير، ولكنه لو كان متأملا فيما سبق من تنفيذ الطلاق الثلاث وما يأتي منه في هذه المسألة من تحريم حج التمتع، وحصره في القران والإفراد يقف على أنه كان ممن يقدم المصلحة المزعومة على الذكر الحكيم وتنصيص النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وإنه ما نهى عن متعة الحج وما هدد فاعلها، إلا لأجل أنه كان يكره أن يغتسل الحاج تحت الأراك ثم يفيض منه إلى الحج ورأسه يقطر ماء، لأن التحلل من محظورات الإحرام بين العمرة والحج، من لوازم ذاك النوع من الحج، وهو مما كان لا يروقه.
(1) أحمد أمين: فجر الإسلام: 238. نشر دار الكتاب. 222 وإن كنت في شك فاقرأ ما نتلوه عليك: اتفق الفقهاء على أن أنواع الحج ثلاثة: تمتع، وقران، وإفراد. والمقصود من الأول، هو إحرام الشخص بالحج في أشهره (شوال وذي القعدة وذي الحجة) والإتيان بأعمالها، والتحلل من محظورات الإحرام بالفراغ منها، ثم الإحرام بالحج من مكة والإتيان بأعماله من الوقوف بعرفات والإفاضة إلى المشعر و... ويصح هذا النوع من الحج ممن كان آفاقيا، أي من لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ويبتعد بيته من مكة بمقدار يجوز فيه تقصير الصلاة. وعند الإمامية من نأى عن مكة 48 ميلا من كل جانب وهو لا يتجاوز عن 16 فرسخا. وأما القسمان الآخران، فالقران عند أهل السنة هو الإحرام بالحج والعمرة معا ويقول: لبيك اللهم بحج وعمرة، فيأتي بأعمال الحج أولا ثم العمرة بإحرام واحد. وهو القران الحقيقي. وهناك قسم يسمى بالقران الحكمي، وهو أن يدخل إحرام الحج في إحرام العمرة ثم يجمع بين أعمالهما. وذلك بأن يحرم بالعمرة أولا. وقبل: أن يطوف لها إما أربعة أشواط، أو قبل أن يشرع فيه يحرم بالحج، على اختلاف ببين الحنفية والشافعية، وهل يكتفي بطواف وسعي واحد، أو لكل طوافه وسعيه؟ فيه اختلاف. وأما الإفراد، فهو أن يحرم بالحج من ميقات بلده، وبعد الفراغ من أعماله، يحرم بالعمرة، والقران والإفراد، يشترك فيهما جميع الناس ولا يختص بغير الآفاقي. هذا لدى أهل السنة وأما الإمامية، فالقران والإفراد واجب على من لم يكن بين مكة وبيته 48 ميلا، وأما النائي عن هذا الحد، فواجبه هو حج التمتع.
223 والقران والإفراد، ليسا أمرين متغايرين عندهم، بل يتمتع كل منهما بإحرام للحج وإحرام للعمرة، غير أن الإحرام في الأول يقترن بسوق الهدي دون الثاني، وعلى ذلك لا يجوز عندهم الإتيان بالحج والعمرة بإحرام واحد، ولا إدخال إحرام الحج في إحرام العمرة كما في القران الحكمي (1). والأصل في حج التمتع، قوله سبحانه: * (فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب) * (البقرة - 196). وتفسير الآية: إن من * (تمتع) * بسبب الإتيان * (بالعمرة) * بما يحرم على المحرم كالطيب والمخيط والنساء ومتوجها * (إلى الحج) * فعليه * (ما استيسر من الهدي) * من البدنة أو البقرة أو الشاة. ثم بين كيفية الصيام وقال: * (ثلاثة أيام في الحج) * متواليات و * (سبعة إذا رجعتم) * إلى أوطانكم * (تلك عشرة كاملة وذلك) * أي التمتع بالعمرة إلى الحج فرض من لم يكن أهله باعتبار موطنه ومسكنه * (حاضري المسجد الحرام) * أي لم يكن من أهل مكة وقراها * (واتقوا الله) * فيما أمرتم به ونهيتم عنه في أمر الحج * (واعملوا أن الله شديد العقاب) *. والآية صريحة في جواز التمتع بمحظورات الإحرام بعد الإتيان بأعمال العمرة وقبل التوجه إلى الحج ولم يدع أحد كونها منسوخة بآية، أو قول أو فعل، بل أكد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) تشريعه بعمله. روى أهل السير والتاريخ: إن رسول الله خرج في العام العاشر من الهجرة إلى الحج لخمس ليال بقين من ذي القعدة، وقالت عائشة: لا يذكر ولا يذكر الناس إلا الحج حتى إذا كان بسرف وقد ساق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الهدي،
(1) لاحظ المختصر النافع للمحقق الحلي: 78، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2 / 391، والمغني لابن قدامة: 3 / 233، والفقه على المذاهب الأربعة للجزيري: 2 / 684 وغيرها. 224 وأشراف من أشراف الناس، أمر الناس أن يحلوا بعمرة إلا من ساق الهدي - إلى أن قالت: - ودخل رسول الله مكة فحل كل من كان لا هدي معه وحلت نساؤه بعمرة، ولما أمر رسول الله نساءه أن يحللن بعمرة قلن: فما يمنعك يا رسول الله أن تحل معنا؟ فقال: إني أهديت فلا أحل حتى أنحر هديي. إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان بعث عليا - رضي الله عنه - إلى نجران فلقيه بمكة وقد أحرم، فدخل على فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فوجدها قد حلت وتهيأت فقال: ما لك يا بنت رسول الله؟ قالت: أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن نحل بعمرة فحللنا، ثم أتى رسول الله فلما فرغ من الخبر عن سفره قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): انطلق فطف بالبيت وحل كما حل بأصحابك، قال: يا رسول الله إني أهللت، فقال: إرجع فاحلل كما حل أصحابك، قال: يا رسول الله إني قلت حين أحرمت: اللهم إني أهل بما أهل به نبيك وعبدك ورسولك (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: فهل معك من هدي؟ قال: لا، فأشركه رسول الله في هديه وثبت على إحرامه مع رسول الله حتى فرغا من الحج ونحر رسول الله الهدي عنهما (1). هذا هو الذكر الحكيم المدعم بالسنة وإجماع الأمة ومع ذلك نرى أن بعض الصحابة لا يروقه متعة الحج لا في عصر الرسالة ولا بعده بل يفتي بتحريمها! وإليك البيان: 1 - روى ابن داود أن النبي أمر أصحابه أن يجعلوها عمرة يطوفوا ثم يقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدي فقالوا: أننطلق إلى منى وذكورنا تقطر، فبلغ ذلك رسول الله فقال: " لو أني استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ولولا أن معي الهدي لأحللت " (2). 2 - روى مالك عن محمد بن عبد الله أنه سمع سعد بن أبي وقاص
(1) ابن هشام: السيرة النبوية: 4 / 601 - 602. (2) أبو داود: السنن: 2 / 156، رقم 1789. 225 والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج فقال الضحاك بن قيس: لا يفعل ذلك إلا من جهل أمر الله عز وجل. فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخي، فقال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك فقال سعد: قد صنعها رسول الله وصنعناها معه (1). 3 - وروى عن عبد الله بن عمر: أنه قال: والله لأن أعتمر قبل الحج وأهدي أحب إلي من أن أعتمر بعد الحج في ذي الحجة (2). 4 - روى الترمذي عن سالم بن عبد الله أنه سمع رجلا من أهل الشام وهو يسأل عبد الله بن عمر عن التمتع بالعمرة إلى الحج فقال عبد الله بن عمر: حلال، فقال الشامي: إن أباك قد نهى عنها؟! فقال عبد الله بن عمر: أرأيت إن كان أبي نهى عنها وصنعها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أأمر أبي نتبع أم أمر رسول الله؟ فقال الرجل: بل أمر رسول الله، فقال: لقد صنعها رسول الله (3). 5 - روى مسلم عن أبي نضرة قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة وكان ابن الزبير ينهى عنها، قال: فذكرت ذلك لجابر بن عبد الله فقال: على يدي دار الحديث، تمتعنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما قام عمر قال: إن الله كان يحل لرسوله ما شاء، بما شاء وإن القرآن قد نزل منازله، فأتموا الحج والعمرة لله كما أمركم الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - إلى أن قال في الحديث: - فأفصلوا حجكم من عمرتكم، فإنه أتم لحجكم وأتم لعمرتكم (4). ومن العجب أن الزرقاني يقوم بتصويب فتوى الخليفة ويعلق على الرواية ويقول: الإتمام في قوله سبحانه * (فأتموا الحج والعمرة لله) * يقتضي استمرار الإحرام
(1) الإمام مالك: الموطأ، كتاب الحج رقم 60، والترمذي: السنن، كتاب الحج رقم 823. (2) المصدر نفسه: رقم 61. (3) الترمذي: الصحيح: كتاب الحج، باب ما جاء في التمتع رقم 824. (4) مسلم: الصحيح: 4 / 38 كتاب الحج، باب في المتعة بالحج والعمرة. 226 إلى فراغ الحج ومنع التحلل، والمتمتع متحلل ويستمتع بما كان محظورا عليه (1). يلاحظ عليه أولا: لو صح ما ذكره من التفسير تلزم المعارضة بين صدر الآية، أعني قوله * (وأتموا الحج والعمرة لله) * وبين ذيلها الدالة على جواز التمتع بين الإحرامين بقوله * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) * وهو كما ترى. وثانيا: أن الإتمام يهدف إلى فعل كل من الحج والعمرة تماما، بمعنى: إذا شرعتم في فعل كل فأتموه، مثل قوله: * (وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) * (البقرة - 124). وقوله سبحانه: * (ثم أتموا الصيام إلى الليل) * (البقرة - 187) لا إلى الاستمرار. وثالثا: إذ كان التفسير تبريرا لنهي الخليفة، فهو في الوقت نفسه تخطئة للنبي الأكرم حيث أمر أصحابه وأهل بيته بالتحلل وإنما لم يتحلل نفسه لأجل سوق الهدي. نعم أراد الخليفة من قوله: " فافصلوا حجكم من عمرتكم " وهو الإتيان بالعمرة في غير أشهر الحج، روى الجصاص عن ابن عمر أن عمر قال: أن تفرقوا بين الحج والعمرة فتجعلوا العمرة في غير أشهر الحج، أتم لحج أحدكم (2). 6 - روى الإمام أحمد بن أبي نضرة عن جابر قال: متعتان كانتا على عهد النبي فنهانا عنهما عمر - رضي الله عنه - فانتهينا (3). 7 - روى ابن حزم في المحلى بسنده قال: قال عمر بن الخطاب: متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنا أنهى عنهما وأضرب عليهما - ثم قال: - هذا لفظ أيوب، وفي رواية خالد: أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج (4).
(1) تعليقة الزرقاني، المطبوعة على هامش صحيح مسلم: 4 / 38. (2) الجصاص: أحكام القرآن: 1 / 285. (3) الإمام أحمد: المسند: 1 / 52، و 3 / 325. (4) ابن حزم: المحلى: 7 / 107، الجامع للأحكام للقرطبي: 2 / 392. 227 8 - لم يكن نهي الخليفة عن متعة الحج مستندا إلى دليل شرعي وإنما نهى عنه لما كرهه أن يظلوا معرسين بهن في الأراك، ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم (1). وهذا هو الذي نوهنا به في صدر البحث، أن الخليفة ومن لف لفه، كانوا يقدمون المصالح المزعومة على النصوص الشرعية مهما تضافرت وتواترت. ثم إن المتأخرين قاموا بحفظ كرامة الخليفة، فحرفوا الكلم عن مواضعه وأولوا نهي الخليفة بوجهين: 1 - قالوا: إن ما حرمه وأوعد عليه، غير هذا وإنما هو أن يحرم الرجل بالحج حتى إذا دخل مكة فسخ الحج إلى العمرة، ثم حل وأقام حلالا حتى يهل بالحج يوم التروية (2). وهذا كما ترى، لا يوافق ما مر من النصوص، خصوصا ما نقلناه من المناظرة بين سعد والضحاك بن قيس من صحيح مسلم، ومن وقف على النصوص الكثيرة، والمناظرة الدائرة بين النبي وأصحابه، وبين الصحابة أنفسهم يقف على أنه نهى عن حج التمتع. روى البخاري عن مروان بن الحكم قال: شهدت عثمان وعليا - رضي الله عنهما -، وعثمان ينهى عن المتعة وأن يجمع بينهما، فلما رأى علي (النهي) أهل بهما: لبيك بعمرة وحجة قال: ما كنت لأدع سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لقول أحد (3). 2 - إن نهي الخليفة عن متعة الحج لأجل اختصاص إباحة المتعة بالصحابة في عمرتهم مع رسول الله فحسب.
(1) الإمام أحمد: المسند: 1 / 50، ابن ماجة: السنن: 2، كتاب الحج، باب التمتع بالعمرة إلى الحج: 2979، والبيهقي: السنن: 5 / 20. (2) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 2 / 2092. (3) العيني: عمدة القاري: 5 / 198. 228 ويكفينا في الرد عليه قول ابن القيم: " إن تلكم الآثار الدالة على الاختصاص بالصحابة بين باطل لا يصح، عمن نسب إليه البتة، وبين صحيح عن قائل غير معصوم لا يعارض به نصوص المشرع المعصوم، ففي صحيحة الشيخين وغيرهما عن سراقة بن مالك قال: متعتنا هذه يا رسول الله ألعامنا هذا أم للأبد؟ قال: لا بل للأبد (1). قال العيني في قوله سبحانه: * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) *: أجمع المسلمون على إباحة التمتع في جميع الأعصار وأما السنة فحديث سراقة " المتعة لنا خاصة أو هي للأبد؟ قال: هي للأبد "، وحديث جابر المذكور في صحيح مسلم في صفة الحج نحو هذا. ومعناه: " أهل الجاهلية كانوا لا يجيزون التمتع، ولا يرون العمرة في أشهر الحج فبين النبي أن الله قد شرع العمرة في أشهر الحج وجوز المتعة إلى يوم القيامة " (2).
(1) صحيح البخاري: 3 / 148 كتاب الحج، باب عمرة التنعيم، مسند أحمد: 3 / 388 و 4 / 175، سنن البيهقي: 5 / 19. (2) العيني: عمدة القاري: 5 / 198. 229 المسألة الثامنة: وجوب القصر في السفر قد تعرفت على أن غير الحنفية والزيدية والظاهرية تذهب إلى التخيير بين القصر والإتمام غير أن الحنفية والإمامية تذهبان إلى كون القصر فرضا وعزيمة، وإليك دراسة المسألة قولا ودليلا: نصوص فقهاء الشيعة على كون القصر عزيمة: قال السيد المرتضى علم الهدى (355 - 436 ه) في الإنتصار: " ومما انفردت به الإمامية القول: بأن المسافر يلزمه التقصير ما لم ينو المقام في البلد الذي يدخله عشرة أيام فصاعدا، وإذا نوى ذلك وجب عليه الإتمام، وأن من عداهم من الفقهاء يخالف في ذلك. فأبو حنيفة وأصحابه والثوري يقولون: إنه إذا نوى إقامة خمسة عشر يوما أتم وإن نوى أقل من ذلك قصر. وقال الشافعي ومالك وهو قول سعيد بن المسيب والليث: إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم. وقال الأوزاعي: إذا نوى إقامة ثلاثة عشر يوما أتم. وروى عن ابن حي أنه
230 قال: إن مر المسافر بمصره الذي فيه أهله وهو منطلق ماض في سفره قصر فيه الصلاة ما لم يقم به عشرا، فإن أقام به عشرا أو بغيره من سفره أتم الصلاة " (1). وقال الشيخ الطوسي (385 - 460 ه) في الخلاف: " التقصير في السفر فرض وعزيمة، والواجب من هذه الصلوات الثلاث: الظهر والعصر والعشاء الآخرة ركعتان، فإن صلى أربعا مع العلم وجب عليه الإعادة. وقال أبو حنيفة مثل قولنا إلا أنه قال: إن زاد على ركعتين، فإن كان تشهد في الثانية صحت صلاته، وما زاد على الثنتين يكون نافلة إلا أن يأتم بمقيم فيصلي أربعا فيكون الكل فريضة أسقط بها الفرض. والقول بأن التقصير عزيمة مذهب علي (عليه السلام) وعمر، وفي الفقهاء مالك وأبي حنيفة وأصحابه. وقال الشافعي: هو بالخيار بين أن يصلي صلاة السفر ركعتين وبين أن يصلي صلاة الحضر أربعا، فيسقط بذلك الفرض عنه. وقال الشافعي: التقصير أفضل. وقال المزني: والإتمام أفضل، وبمذهبه قال في الصحابة: عثمان، وعبد الله ابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وعائشة، وفي الفقهاء: الأوزاعي، وأبو ثور " (2). وقال المحقق الحلي (602 - 676 ه) في شرائع الإسلام:
(1) المرتضى: الإنتصار: في ضمن سلسلة الينابيع الفقهية: 3 / 207. (2) الطوسي: الخلاف: 1 / 569 كتاب الصلاة: المسألة 321، ط. جماعة المدرسين، قم. 231 " وأما القصر: فإنه عزيمة إلا أن تكون المسافة أربعا ولم يرد الرجوع ليومه على قول، أو في أحد المواطن الأربعة: مكة والمدينة والمسجد الجامع بالكوفة والحائر، فإنه مخير والإتمام أفضل، وإذا تعين القصر فأتم عامدا أعاد على كل حال، وإن كان جاهلا بالتقصير فلا إعادة ولو كان الوقت باقيا، وإن كان ناسيا أعاد في الوقت ولا يقضى إن خرج الوقت (1). هذا يرجع إلى قول الشيعة الإمامية، وقد تعرفت على اتفاقهم على القصر وسيوافيك نصوص أئمة الشيعة (عليهم السلام) في ذلك الموضوع بعد إنهاء الكلام في أقوال سائر الفقهاء من السنة: آراء أهل السنة في كون القصر عزيمة أو رخصة: قال أبو بكر الرازي الجصاص (ت 370 ه): وقد اختلف الفقهاء في فرض المسافر، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: فرض المسافر ركعتان إلا صلاة المغرب فإنها ثلاث: فإن صلى المسافر أربعا ولم يقعد في الاثنتين، فسدت صلاته وإن قعد فيهما مقدار التشهد تمت صلاته بمنزلة من صلى الفجر أربعا بتسليمة، وهو قول الثوري، وقال حماد بن أبي سليمان: إذا صلى أربعا أعاد. وقال الحسن بن صالح: إذا صلى أربعا متعمدا أعاد إذا كان ذلك منه الشئ اليسير، فإذا طال في سفره وكثر لم يعد. قال: وإذا افتتح الصلاة على أن يصلي أربعا، استقبل الصلاة حتى يبتدئها بالنية على ركعتين، وإن صلى ركعتين وتشهد، ثم بدا له أن يتم فصلى أربعا، أعاد. وإن نوى أن يصلي أربعا بعد ما افتتح الصلاة على ركعتين ثم بدا له فسلم في الركعتين، أجزأته.
(1) الحلي: الشرائع: 1 / 135. 232 وقال مالك: إذا صلى المسافر أربعا، فإنه يعيد ما دام في الوقت، فإذا مضى الوقت فلا إعادة عليه. قال: ولو أن مسافرا افتتح المكتوبة ينوي أربعا فلما صلى ركعتين بدا له، فسلم، أنه لا يجزيه، ولو صلى مسافر بمسافرين فقام في الركعتين فسبحوا به فلم يرجع، فإنهم يقعدون ويتشهدون ولا يتبعونه. وقال الأوزاعي: يصلي المسافر ركعتين، فإن قام إلى الثالثة وصلاها فإنه يلغيها ويسجد سجدتي السهو. وقال الشافعي: ليس للمسافر أن يصلي ركعتين إلا أن ينوي القصر مع الإحرام، فإذا أحرم ولم ينو القصر كان على أصل فرضه أربعا (1). وقال ابن حزم: صلاة الصبح ركعتان في السفر والحضر أبدا، وفي الخوف كذلك، وصلاة المغرب ثلاث ركعات في الحضر والسفر أبدا، ولا يختلف عدد الركعات إلا في الظهر والعصر والعتمة فإنها أربع ركعات في الحضر للصحيح والمريض وركعتان في السفر، وفي الخوف ركعة كل هذا إجماع متيقن إلا أن كون هذه الصلوات ركعة في الخوف ففيه خلاف (2). وقد مضى شمس الدين السرخسي على مذهب الإمام أبي حنيفة وقال: مسافر صلى في سفره أربعا أربعا فإن كان قعد في كل ركعتين قدر التشهد فصلاته تامة والأخريان تطوع له، وإن كان لم يقعد فصلاته فاسدة عندنا. ثم استدل بحديث عائشة كما سيوافيك (3). وذكر ابن قدامة الأقوال بالتفصيل ننقل منه ما يلي: قال: المشهور عن أحمد أن المسافر إن شاء صلى ركعتين، وإن شاء أتم،
(1) الجصاص: أحكام القرآن: 2 / 253. (2) ابن حزم: المحلى: 4 / 264، المسألة 5110. (3) السرخسي: المبسوط: 1 / 229. 233 وروى عنه أنه توقف وقال: أنا أحب العافية في هذه المسألة. وممن روي عنه الإتمام في السفر: عثمان وسعد بن أبي وقاص وابن مسعود وابن عمر وعائشة - رضي الله عنهم - وبه قال الأوزاعي والشافعي وهو المشهور عن مالك. وقال حماد بن أبي سليمان: ليس له الإتمام في السفر، وهو قول الثوري وأبي حنيفة. وأوجب حماد الإعادة على من أتم. وقال أصحاب الرأي: إن كان جلس بعد الركعتين قدر التشهد فصلاته صحيحة وإلا لم تصح، وقال عمر بن عبد العزيز: الصلاة في السفر: ركعتان حتم لا يصلح غيرهما. وروي عن ابن عباس أنه قال: من صلى في السفر أربعا فهو كمن صلى في الحضر ركعتين (1). وقد ذكر القرطبي الأقوال مع الأدلة، والأقوال المذكورة في كتابه نفس الأقوال التي مر ذكرها والأدلة فسيوافيك بيانها. وأنت تجد الأقوال مبسوطة في الكتب الفقهية فلا نطيل المقام بتكرارها. فتخلص أن الأقوال لا تتجاوز الاثنين بين الرخصة والعزيمة وإن اختلف القائلون بالرخصة في أفضلية القصر أو الإتمام، كما أن القائلين بالعزيمة كالأحناف الحاكمين ببطلان التمام يستثنون ما إذا جلس المصلي بعد إتمام الركعتين مقدار التشهد. ثم هنا مواضع أخر للبحث وراء كون القصر رخصة أو عزيمة ولكن الذي يهمنا في هذه الرسالة هو التركيز على أن القصر عزيمة لا رخصة ونترك البحث في سائر المواضع إلى آونة أخرى.
(1) ابن قدامة: المغني، مع الشرح الكبير: 1 / 107 - 108. 234 حجة القائل بكون القصر عزيمة: استدل القائل بالعزيمة بوجوه: الأول: ما ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام). الروايات الواردة عن طرق أهل البيت (عليهم السلام) حول وجوب القصر على المسافر فوق حد التواتر، فقد جمع صاحب وسائل الشيعة حوالي (248) حديثا حول صلاة المسافر أكثرها يدل على المطلوب. وهذه الأحاديث تركز على وجه التفصيل تارة وعلى وجه الإجمال أخرى بأن القصر عزيمة وكان أمرا مسلما عند أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وإنما حدث القول بالجواز في عهد بعض الخلفاء، وقد أتينا بهذه الروايات، لأن كل واحدة منها تشير إلى نكتة خاصة في صلاة المسافر وإن كان الجميع يركز على أن القصر فريضة لا تترك. ونذكر هنا نماذج منها على سبيل المثال لا الحصر: 1 - لما سأل زرارة ومحمد بن مسلم أبا جعفر الباقر (عليه السلام) عن حكم التقصير في السفر وذكرا أن الكتاب قال: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) * ولم يقل: " افعلوا " فكيف يدل على الوجوب؟ فأجاب الإمام (عليه السلام): " أوليس قال الله: * (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) * ألا ترون أن الطواف بهما واجب مفروض، لأن الله عز وجل ذكره في كتابه وصنعه نبيه، كذلك التقصير في
235 السفر شئ صنعه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذكره الله تعالى ذكره في كتابه " (1) وسيوافيك الحديث برمته عند نقد دليل القائل برخصة التقصير: 2 - وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من صلى في السفر أربعا فأنا إلى الله منه برئ " يعني متعمدا (2). 3 - وقال الصادق (عليه السلام): " المتمم في السفر كالمقصر في الحضر " (3). 4 - وقال الرضا (عليه السلام): " إن الصلاة إنما قصرت في السفر، لأن الصلاة المفروضة أولا إنما هي عشر ركعات، والسبع إنما زيدت فيها بعد فخفف الله عز وجل عن العبد تلك الزيادة لموضع سفره وتعبه ونصبه واشتغاله بأمر نفسه وظعنه وإقامته لئلا يشتغل عما لا بد منه من معيشته رحمة من الله عز وجل وتعطفا عليه، إلا صلاة المغرب فإنها لا تقصر، لأنها صلاة مقصرة في الأصل. وإنما وجب التقصير في ثمانية فراسخ لا أقل من ذلك ولا أكثر، لأن ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامة والقوافل والأثقال فوجب التقصير في مسيرة يوم، ولو لم يجب في مسيرة يوم، لما وجب في مسيرة ألف سنة، وذلك لأن كل يوم يكون بعد هذا اليوم فإنما هو نظير هذا اليوم، فلو لم يجب في هذا اليوم لما وجب في نظيره إذا كان نظيره مثله لا فرق بينهما، وإنما ترك تطوع النهار ولم يترك تطوع الليل، لأن كل صلاة لا يقصر فيها لا يقصر في تطوعها. وذلك أن المغرب لا يقصر فيها فلا تقصير فيما بعدها من التطوع، وكذلك الغداة لا تقصير فيها فلا تقصير فيما قبلها من التطوع، وإنما صارت العتمة مقصورة وليس تترك ركعتيها، لأن الركعتين ليستا من الخمسين، وإنما هي زيادة في الخمسين تطوعا ليتم بها بدل كل ركعة من الفريضة ركعتين من التطوع، وإنما جاز للمسافر والمريض أن يصليا صلاة الليل في أول الليل لاشتغاله
(1) الشيخ الصدوق: من لا يحضره الفقيه: 1 / 338. (2) الشيخ الصدوق: من لا يحضره الفقيه: 1 / 341. (3) نفس المصدر. 236 وضعفه، وليحرز صلاته، فيستريح المريض في وقت راحته، وليشتغل المسافر بأشغاله وارتحاله وسفره " (1). 5 - وروى الشيخ الطوسي بإسناده عن أبي جعفر علي بن يقطين قال: سألت أبا الحسن الأول (عليه السلام) عن الرجل يخرج في سفره وهو في مسيرة يوم، قال: " يجب عليه التقصير في مسيرة يوم، وإن كان يدور في عمله " (2). 6 - وعن الكليني بسنده عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " بينا نحن جلوس وأبي عند وال لبني أمية على المدينة، إذ جاء أبي فجلس فقال: كنت عند هذا قبيل فسألهم عن التقصير فقال قائل منهم: في ثلاث، وقال قائل منهم: في يوم وليلة، وقال قائل منهم: روحة، فسألني. فقلت له: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما نزل عليه جبرئيل بالتقصير، قال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في كم ذاك؟ فقال: في بريد، قال: وأي شئ البريد؟ فقال ما بين ظل عير إلى فئ وعير. قال: ثم عبرنا زمانا ثم رأى بنو أمية يعملون أعلاما على الطريق وأنهم ذكروا ما تكلم به أبو جعفر (عليه السلام) فذرعوا ما بين ظل عير إلى فئ وعير، (3) ثم جزوه على اثني عشر ميلا فكانت ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع كل ميل، فوضعوا الأعلام، فلما ظهر بنو هاشم غيروا أمر بني أمية غيره، لأن الحديث هاشمي فوضعوا إلى جنب كل علم علما " (4).
(1) نفس المصدر: 349. (2) الحر العاملي: وسائل الشيعة: الباب 1 من أبواب صلاة المسافر الحديث 16. (3) هما جبلان بالمدينة معروفان والأول في جانب المشرق، والثاني في جانب المغرب. (4) وسائل الشيعة، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 13. قال ابن إدريس في السرائر حول معنى البريد: وأصل البريد أنهم ينصبون في الطريق أعلاما فإذا بلغ بعضها راكب البريد نزل عنه وسلم ما معه من الكتب إلى غيره فكأن ما به من الحر والتعب يبرد في ذلك أو ينام فيه الراكب والنوم يسمى بردا، فسمي ما بين الموضعين بريدا، وإنما الأصل الموضع الذي ينزل فيه الراكب: ثم قيل: للدابة بريد وإنما كانت البرد للملوك ثم قيل للسائر بريد. لاحظ موسوعة الينابيع الفقهية: 4 / 743. 237 7 - روى الكليني بسنده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " حج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأقام بمنى ثلاثا يصلي ركعتين، ثم صنع ذلك أبو بكر، وصنع ذلك عمر، ثم صنع ذلك عثمان ست سنين، ثم أكملها عثمان أربعا فصلى الظهر أربعا - إلى أن قال: - فقال للمؤذن: اذهب إلى علي (عليه السلام) فقل له فليصل بالناس العصر، فأتى المؤذن عليا (عليه السلام) فقال له: إن أمير المؤمنين عثمان يأمرك أن تصلي بالناس العصر فقال: إذن لا أصلي إلا ركعتين كما صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فرجع (فذهب) المؤذن فأخبر عثمان بما قال علي (عليه السلام). قال: اذهب إليه وقل له: إنك لست من هذا في شئ اذهب فصل كما تؤمر، فقال (عليه السلام): لا والله لا أفعل، فخرج عثمان فصلى بهم أربعا، فلما كان في خلافة معاوية واجتمع الناس عليه وقتل أمير المؤمنين (عليه السلام) حج معاوية فصلى بالناس بمنى ركعتين الظهر، ثم سلم فنظر بنو أمية بعضهم إلى بعض وثقيف ومن كان من شيعة عثمان ثم قالوا: قد مضى على صاحبكم وخالف وأشمت به عدوه، فقاموا فدخلوا عليه فقالوا: أتدري ما صنعت؟ ما زدت على أن قضيت على صاحبنا وأشمت به عدوه ورغبت عن صنيعه وسنته، فقال: ويلكم أما تعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى في هذا المكان ركعتين وأبو بكر وعمر وصلى صاحبكم ست سنين كذلك، فتأمروني أن أدع سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما صنع أبو بكر وعمر وعثمان قبل أن يحدث؟! فقالوا: لا والله ما نرضى عنك إلا بذلك، قال: فاقبلوا فإني متبعكم (مشفعكم) وراجع إلى سنة صاحبكم فصلى العصر أربعا، فلم يزل الخلفاء والأمراء على ذلك إلى اليوم " (1). 8 - روى الشيخ الطوسي بإسناده عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن التقصير؟ قال: إذا كنت في الموضع الذي تسمع فيه الأذان فأتم، وإذا كنت في الموضع الذي لا تسمع فيه الأذان فقصر وإذا قدمت من
(1) الوسائل: الباب 3 من أبواب صلاة المسافر: الحديث 9. 238 سفرك فمثل ذلك (1). 9 - روى الشيخ الصدوق بإسناده عن عمار بن مروان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: " من سافر قصر وأفطر إلا أن يكون رجلا سفره إلى صيد أو في معصية الله أو رسول لمن يعصي الله أو في طلب عدو أو شحناء أو سعاية أو ضرر على قوم من المسلمين " (2). 10 - روى الشيخ الطوسي بإسناده عن أبي سعيد الخراساني قال: دخل رجلان على أبي الحسن الرضا (عليه السلام) بخراسان فسألاه عن التقصير؟ فقال لأحدهما: " وجب عليك التقصير لأنك قصدتني "، وقال للآخر: " وجب عليك التمام لأنك قصدت السلطان " (3). 11 - وعن الكليني بسنده عن محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السلام) قال: " ليس على الملاحين في سفينتهم تقصير، ولا على المكاري والجمال " (4). 12 - وروى الشيخ الطوسي بإسناده عن أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): " إذا عزم الرجل أن يقيم عشرا فعليه إتمام الصلاة، وإن كان في شك لا يدري ما يقيم فيقول: اليوم أو غدا، فليقصر ما بينه وبين شهر فإن أقام بذلك البلد أكثر من شهر فليتم الصلاة " (5). إلى هنا تم ما أردنا نقله عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ومن حسن الحظ ورود روايات تدعم تلك النظرية رويت عن طرق أهل السنة وبضم هذه إلى هاتيك يعلم تضافر الروايات على كون القصر عزيمة وإليك دراسة ما روي في الصحاح والسنن والمسانيد.
(1) الوسائل: الباب 6 من أبواب صلاة المسافر: الحديث 3. (2) المصدر نفسه: الباب 8 من أبواب صلاة المسافر: الحديث 3. (3) المصدر نفسه: الحديث 6. (4) المصدر نفسه: الباب 11 الحديث 4. (5) المصدر نفسه: الباب 15 الحديث 13. 239 تضافر الروايات على لزوم القصر من طرق أهل السنة: صرح المحققون من أهل السنة والجماعة بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في عامة أسفاره كان ملتزما بالإتيان بالصلوات الرباعية قصرا ولم يثبت أنه أتم. قال ابن قدامة: " أما السنة فقد تواترت الأخبار أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقصر في أسفاره حاجا ومعتمرا وغازيا " (1). وقال ابن قيم الجوزية: " وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يقصر الرباعية فيجعلها ركعتين من حين يخرج مسافرا إلى أن يرجع إلى المدينة، ولم يثبت أنه أتم الرباعية في سفره البتة " (2). وهذه السيرة المباركة القطعية إن دلت على شئ، فإنما تدل على وجوب قصر الصلاة في السفر، لأنه لو كان القصر رخصة لأتم في بعض أسفاره في ملأ من الناس حتى لا يظنوا بأن القصر عزيمة ومرض. كما هو ديدنه في فعل المستحبات فضلا عن المباحات، إذ كان ربما يتركها لئلا يتصور الناس أنها فريضة. وإليك نماذج من الروايات الحاكية لسنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وعمل أصحابه به حول القصر في الصلاة والتي يستفاد منها أن القصر عزيمة: 1 - ما روي عن يعلى بن أمية أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) * فقد أمن الناس، فقال: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " رواه الخمسة إلا البخاري (3).
(1) ابن قدامة: المغني: 2 / 87. (2) ابن قيم: زاد المعاد في هدى خير العباد: 1 / 158. (3) التاج الجامع للأصول: 1 / 295. والآية 101 من سورة النساء. 240 وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " فاقبلوا صدقته " أمر والظاهر أنه يدل على الوجوب فلا يجوز رد صدقة الله بإتيان الصلاة تماما في السفر، إذ في رد صدقته سبحانه أنانية أمامه. نعم، القصر في الآية مقيد بالخوف مع أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قصر في الخوف والأمن، وهذا يكشف عن أن الخوف حكمة التشريع لا علته. وبعبارة أخرى ليس مناطا للتشريع حتى يدور الحكم مداره، وكم له في التشريع من نظير. ويمكن أن يقال: إن التشريع في بدء الأمر كان مختصا بصورة الخوف، ولكن توسعت دائرة التشريع في عصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بإيحاء من الله إلى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن المعلوم أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس مشرعا بل هو مبلغ للتشريع. 2 - ما روي عن ابن عمر أنه قال: صحبت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبو بكر وعمر وعثمان كذلك (1). 3 - عن نافع عن عبد الله (بن عمر) قال: صليت مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمنى ركعتين وأبي بكر وعمر وعثمان صدرا من إمارته ثم أتمها (2). 4 - ما روى عمران بن حصين، قال: غزوت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وشهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين، ويقول: " يا أهل البلد، صلوا أربعا فإنا (قوم) سفر " (3). وفي هذا الحديث تصريح بمواظبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على إتيان الرباعية قصرا طيلة ثماني عشرة ليلة، ولو كان رخصة لأتى بها بعض الأحيان تامة، خاصة وأن المقام يقتضي تعليم أحكام الصلاة لأهل مكة الذين أصبحوا يدخلون في دين الله أفواجا عام الفتح، فهم جديدو عهد بالإسلام.
(1) البخاري: الصحيح: 2 / 57. (2) البخاري: الصحيح: 2 / 54، مسلم الصحيح: 5 / 202. (3) أبو داود السجستاني: السنن: 2 / 10: الحديث 1229. 241 وأما صلاته قصرا بعد مرور ثماني عشرة ليلة، فالظاهر أنه كان لأجل عدم نية الإقامة مدة تقطع السفر وأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ربما كان يخرج من مكة إلى خارجها فلم يكن متمكنا عن الإقامة. 5 - ما روي عن حارثة بن وهب أنه قال: صلى بنا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) آمن ما كان بمنى ركعتين (1). 6 - وعن عبد الرحمن بن يزيد يقول: صلى بنا عثمان بن عفان (رض) بمنى أربع ركعات، فقيل ذلك لعبد الله بن مسعود (رض) فاسترجع ثم قال: صليت مع رسول الله بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر (رض) بمنى ركعتين، وصلت مع عمر بن الخطاب (رض) بمنى ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان (2). وجاء في المغني بدل الجملة الأخيرة " ثم تفرقت بكم الطرق ووددت أن لي من أربع ركعتين متقبلتين " (3). وهل استرجاع ابن مسعود إلا للظاهرة التي طرأت آنذاك أول مرة، وهي عدم الاكتراث بسيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والتي استمر عليها الشيخان ونفس عثمان في صدر خلافته؟ 7 - وعن عائشة أنها قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين، ثم أتمها في الحضر، فأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى (4). 8 - وعن سفيان، عن الزهري، عن عروة عن عائشة (رض) قالت: الصلاة
(1) البخاري: الصحيح: 2 / 53، مسلم: الصحيح: 5 / 205، ولفظ " آمن " أفعل التفضيل من الأمن. (2) البخاري: الصحيح: 2 / 54، مسلم: الصحيح: 5 / 204. (3) ابن قدامة: المغني: 2 / 89. (4) مسلم: الصحيح: 5 / 194. 242 أول ما فرضت ركعتين فأقرت صلاة السفر وأتمت صلاة الحضر، قال الزهري: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم؟ قال: تأولت ما تأول عثمان (1). الظاهر من الروايتين الأخيرتين أن الفريضة في السفر هو الركعتان، وعلى ذلك فالزيادة عليها لا تصدقه الأدلة. قال الشوكاني في شرح الحديث: وهو دليل ناهض على الوجوب، لأن صلاة السفر إذا كانت مفروضة ركعتين لم تجز الزيادة عليها كما أنها لا تجوز الزيادة على أربع في الحضر (2). وأما تأويل عثمان وكذلك عائشة فسيأتي الكلام عنهما. 9 - عن مجاهد، عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة (3). قال الشوكاني: فهذا الصحابي الجليل قد حكى عن الله عز وجل أنه فرض صلاة السفر ركعتين، وهو أتقى لله وأخشى من أن يحكي أن الله فرض ذلك بلا برهان. 10 - عن موسى بن سلمة الهذلي قال: سألت ابن عباس: كيف أصلي إذا كنت بمكة إذا لم أصل مع الإمام؟ فقال: ركعتين سنة أبي القاسم (صلى الله عليه وآله وسلم) (4). 11 - وروي عن عمر (رض) أنه قال: صلاة السفر وصلاة الجمعة ركعتان والفطر والأضحى ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (5).
(1) البخاري: الصحيح: 2 / 54، مسلم: الصحيح: 5 / 194. (2) الشوكاني: نيل الأوطار: 2 / 200. (3) مسلم: الصحيح: 5 / 196. (4) الشوكاني: نيل الأوطار: 2 / 201. (5) مسلم: الصحيح: 5 / 196. (6) ابن ماجة: السنن: 1 / 338: الحديث 1063 و 1064. 243 12 - عن عاصم قال: صحبت ابن عمر في طريق مكة، قال: فصلى لنا الظهر ركعتين، ثم أقبل وأقبلنا معه حتى جاء رحله وجلس وجلسنا معه، فحانت منه التفاتة نحو حيث صلى فرأى أناسا قياما، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلت: يسبحون. قال: لو كنت مسبحا أتممت صلاتي. يا ابن أخي صحبت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وصحبت عمر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، ثم صحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله، وقد قال الله: * (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) * (1). والظاهر أن نظر ابن عمر إلى عمل عثمان في غير منى، وإلا فقد أتم هو فيها. 13 - وعن ابن عباس قال: افترض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ركعتين في السفر كما افترض في الحضر أربعا (2). 14 - وروي عنه أيضا أنه قال: " من صلى في السفر أربعا فهو كمن صلى في الحضر ركعتين " (3). 15 - وروى عن صفوان بن محرز أنه سأل ابن عمر عن الصلاة في السفر؟ فقال: ركعتان فمن خالف السنة كفر (4). 16 - وعن ابن عمر قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أتانا ونحن ضلال فعلمنا، فكان فيما علمنا أن الله عز وجل أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر. رواه النسائي (5).
(1) صحيح مسلم بشرح النووي: 5 / 197. (2) الطبراني: نصب الراية: 2 / 189. (3) ابن قدامة: المغني: 2 / 107. (4) ابن قدامة: المغني: 2 / 107. (5) الشوكاني: نيل الأوطار: 2 / 204. 244 قوله: " أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر " تصريح بأن القصر في السفر أمر من قبل الله، وأي شئ أصرح منه يدل على أنه فرض وعزيمة؟ 17 - وقال عمر بن العزيز: الصلاة في السفر ركعتان حتم لا يصلح غيرها (1). 18 - وعن عمر بن الخطاب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " صلاة المسافر ركعتان حتى يؤوب إلى أهله أو يموت " (2). 19 - عن إبراهيم أن عمر بن الخطاب (رض) صلى الظهر بمكة ركعتين فلما انصرف قال: يا أهل مكة إنا قوم سفر فمن كان منكم من أهل البلد فليكمل، فأكمل أهل البلد (3). 20 - عن أنس بن مالك قال: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة (4). 21 - عن أبي الكنود عبد الله الأزدي قال: سألت ابن عمر عن صلاة السفر، فقال: ركعتان نزلتا من السماء فإن شئتم فردوهما (5). 22 - عن السائب بن يزيد الكندي قال: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، ثم زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر (6). 23 - عن ابن مسعود قال: من صلى في السفر أربعا أعاد الصلاة (7).
(1) ابن قدامة: المغني: 2 / 108: ابن حزم: المحلى: 4 / 271. (2) الجصاص: أحكام القرآن: 2 / 254. (3) أبو يوسف: الآثار: ص 30، 75 كما في الغدير: 8 / 113. (5) الإمام أحمد: المسند: 3 / 190، البيهقي: السنن الكبرى: 3 / 136 - 145. (4) الحافظ الهيثمي: مجمع الزوائد: 2 / 145: فقال: رجاله موثقون. (5) المصدر نفسه: ص 155. ومر نظير هذا الحديث عن السيدة عائشة. (6) المصدر نفسه: ص 155. 245 24 - عن سلمان قال: فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فصلاها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة حتى قدم المدينة فصلاها بالمدينة ما شاء الله، وزيد في صلاة الحضر ركعتين وتركت الصلاة في السفر على حالها (1). 25 - عن جعفر بن عمر قال: انطلق بنا أنس بن مالك إلى الشام إلى عبد الملك ونحن أربعون رجلا من الأنصار ليفرض لنا فلما رجع وكنا بفج الناقة صلى بنا الظهر ركعتين، ثم دخل فسطاطه وقام القوم يضيفون إلى ركعتيهم ركعتين أخريين، فقال: قبح الله الوجوه فوالله ما أصابت السنة ولا قبلت الرخصة، فأشهد لسمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " إن قوما يتعمقون في الدين، يمرقون كما يمرق السهم من الرمية " (2). 26 - عن ثمامة بن شراحيل قد خرجت إلى ابن عمر فقلت: ما صلاة المسافر؟ قال: ركعتين ركعتين إلا صلاة المغرب ثلاثا. إلى آخر الحديث (3). 27 - عن أبي هريرة قال: أيها الناس إن الله عز وجل فرض لكم على لسان نبيكم (صلى الله عليه وآله وسلم) الصلاة في الحضر أربعا (4). هذا ما وقفنا عليه من النصوص عن النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وقد أخذ بها لفيف من الصحابة وغيرهم، منهم: عمر بن الخطاب، وابنه، وابن عباس، وجابر، وجبير بين مطعم، والحسن، والقاضي إسماعيل، وحماد بن أبي سليمان، وعمر بن عبد العزيز، وقتادة، والكوفيون (5). * * *
(1) المصدر نفسه: ص 156. (2) الإمام أحمد: المسند: 3 / 159، الحافظ الهيثمي: مجمع الزوائد: 2 / 155. (3) الإمام أحمد: المسند: 2 / 154. (4) المصدر نفسه: 2 / 400. (5) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن: 5 / 351. 246 أضف إلى ذلك اتفاق فقهاء الشيعة من عصر الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى يومنا هذا. أترى مع هذه الأحاديث مجالا للقول بأن القصر في السفر رخصة لا عزيمة؟! ولو كان الإتمام في السفر سائغا لكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعرب عنه بقول أو بفعل ولو بإتيانه في العمر مرة لبيان جوازه كما يفعل في غير هذا المورد. أخرج مسلم في صحيحه من حديث بريدة قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتوضأ عند كل صلاة فلما كان يوم الفتح صلى صلوات بوضوء واحد. فقال له عمر: إنك صنعت شيئا لم تكن تصنعه؟ فقال: " عمدا صنعته " أي لبيان الجواز (1). ولو كان هناك ترخيص لما خفي على أكابر الصحابة حتى نقدوا من أتمها نقدا مرا. وبذلك تعلم قيمة تبرير عمل المتمين بأن الإتمام والقصر مسألة اجتهادية اختلف فيها العلماء (2). وذلك لأن الاجتهاد تجاه النص لا مساغ له، ولم يكن في المسألة أي خلاف إلى يوم أتم فيه عثمان يوم منى. ويعرب عن وحدة الكلمة ما روي أن معاوية لما قدم مكة صلى الظهر قصرا فنهض إليه مروان وعمرو بن عثمان فقال له: ما عاب أحد ابن عمك ما عبته به، فقال لهما: وما ذاك؟ فقالا له: ألم تعلم أنه أتم الصلاة بمكة؟ قال لهما: ويحكما وهل كان غير ما صنعت؟ قد صليتها مع رسول الله ومع أبي بكر وعمر. قالا: فإن ابن عمك قد أتمها وإن خلافك إياه لهو عيب فخرج معاوية إلى العصر فصلاها أربعا (3). إلى هنا تم البحث حول أدلة القول بكون القصر عزيمة. فلنأخذ بالبحث عن أدلة القول بالرخصة.
(1) مسلم: الصحيح: 1 / 122، الشوكاني: نيل الأوطار: 1 / 258. (2) محب الدين الطبري: الرياض النضرة: 2 / 251. (3) الإمام أحمد: المسند: 4 / 94. 247 دراسة أدلة القول بكون القصر رخصة: استدل القائلون بكون القصر رخصة وهم غير الإمامية والحنفية والزيدية والظاهرية بوجوه مختلفة، بالكتاب تارة، والسنة أخرى، والإجماع ثالثة استقصاها ابن قدامة وهي كما يلي: الإحتجاج بالكتاب: قوله تعالى: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا) * (النساء - 101). تقريبه: أن الجناح هو الإثم، ورفع الجناح يدل على الجواز، فتكون النتيجة أن القصر رخصة والمكلف مخير بين فعله وتركه كسائر الرخص. يلاحظ عليه: أولا: أن المفسرين ذكروا للآية تفسيرين: أحدهما: هو أن القصر عبارة عن تخفيف عدد الركعات كما في صلاة المسافر. وثانيهما: عبارة عن تخفيف كيفية الصلاة ووصفها من تبدل الركوع والسجود إلى الإيماء، أو الإتيان بالصلاة راكبا أو ماشيا حسبما تقتضيه الظروف كما ورد في صلاة الخوف أو شدة الخوف والمطاردة والمسايفة - كما روي عن ابن عباس في إحدى روايته وابن جريج عن ابن طاووس عن أبيه، ومال إلى الوجه الثاني بعض الأعلام من أهل السنة كأبي بكر الرازي الجصاص (ت 370 ه) (1) وبعض أكابر الشيعة الإمامية كالسيد المرتضى في الإنتصار (2) والقطب الراوندي في فقه القرآن (3) وعندئذ لا يصح
(1) الجصاص: أحكام القرآن: 2 / 252. (2) السيد المرتضى: الإنتصار: ص 53 ط النجف الأشرف. (3) قطب الدين الراوندي: فقه القرآن، نقلا عن موسوعة الينابيع الفقهية: 4 / 516. 248 الاستدلال بالآية على الرخصة على التقدير الثاني. وثانيا: أن الآية ليست بصدد بيان أن القصر رخصة أو عزيمة، لأنها وردت في رفع توهم الحظر، وكان المخاطب يتصور أن القصر نقصان في الصلاة وهو أمر محظور، فنزلت الآية لدفع هذا التوهم لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه. (1) وأما أنه واجب أو سائغ فإنما يطلب من دليل آخر وهو السنة وقد عرفت أنها تضافرت على كونه عزيمة. نظير ذلك قوله سبحانه في السعي بين الصفا والمروة، فقد وردت فيه تلك اللفظة مع كونه عزيمة قال سبحانه: * (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم) * (البقرة - 158) مع كون الطواف واجبا، وذلك لأن المقام مقام التشريع، ويكفي فيه مجرد الكشف عن جعل الحكم من غير حاجة إلى استيفاء جميع الحكم وخصوصياته (2). ويؤيد هذا التفسير ما روي عن الباقر (عليه السلام) وقد سأله زرارة ومحمد بن مسلم وقالوا: ما نقول في الصلاة في السفر كيف هي؟ وكم هي؟ فقال: " إن الله عز وجل يقول: * (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) * فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر " قالا: قلنا: إنما قال الله عز وجل: * (فليس عليكم جناح) * ولم يقل " افعلوا "، فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟ فقال (عليه السلام): " أوليس قد قال الله عز وجل: * (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) * ألا ترون أن الطواف لهما واجب مفروض؟ لأن الله عز وجل ذكره في كتابه
(1) الزمخشري: الكشاف: 1 / 294 ط دار المعرفة بيروت. (2) السيد الطباطبائي: الميزان في تفسير القرآن: 5 / 61. 249 ووصفه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) وكذلك التقصير في السفر شئ صنعه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذكره الله - تعالى ذكره - في كتابه... " (1). الوجه الثاني: الإحتجاج بالسنة: وهي لا تتجاوز عن أحاديث ثلاثة: الحديث الأول: ما روي عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) * فقال: عجبت مما عجبت منه. فسألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " صدقة من الله بها عليكم فاقبلوا صدقته " رواه مسلم. وهذا يدل على أنه رخصة وليس بعزيمة وأنها مقصورة (2). وذلك لأن المتصدق عليه لا يجب عليه قبول الصدقة. يلاحظ عليه: أولا: قياس صدقة الله وهديته، على صدقات الناس وهداياهم قياس مع الفارق، وذلك لأن المهدى إليه أو المتصدق عليه لا يجب عليه قبول الهدية أو الصدقة إذا كان المتصدق إنسانا مثله، وإما إذا كان المتصدق هو الله سبحانه فيجب قبولها وذلك لأن صدقة الله أمر امتناني وامتناناته سبحانه ليست أمورا اعتباطية، بل هي ناشئة من الحكمة البالغة الإلهية فحيث يعلم الله بأن المصالح الذاتية للبشر تقتضي ذلك الامتنان يمن بها على العباد، فيصبح القبول أمرا مفروضا عليهم. وربما يظهر من أحاديث أئمة أهل البيت أنه يحرم رد صدقة الله فقال الصادق (عليه السلام): أنه قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " إن الله عز وجل تصدق على مرضى
(1) الصدوق: من لا يحضره الفقيه: 1 / 338: ط. دار التعارف، بيروت. (2) ابن قدامة: المغني: 2 / 108. 250 أمتي ومسافريها بالتقصير والإفطار، أيسر أحدكم إذا تصدق بصدقة أن ترد عليه " (1). وثانيا: قوله " فاقبلوا صدقته " أمر وهو يدل على وجوب القبول، فيدل الحديث على أن القصر عزيمة لا رخصة. الحديث الثاني: روى الأسود، عن عائشة أنها قالت: خرجت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في عمرة رمضان فأفطر وصمت، وقصر وأتممت فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أفطرت وصمت وقصرت وأتممت فقال: " أحسنت " رواه أبو داود الطيالسي في مسنده وهذا صريح في الحكم (2). ولم نجد الرواية بعد الفحص في مسند أبي داود الطيالسي، نعم جاء في سنن الدارقطني بهذا الأسناد: حدثنا أبو بكر النيسابوري، ثنا عبد الله بن محمد بن زياد، وعبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي، قالا ثنا محمد بن إبراهيم بن كثير الصوري، وحدثنا أبو بكر النيسابوري، ثنا عبد الله بن محمد بن عمرو الغزي، قالا: ثنا محمد بن يوسف الفريابي، ثنا العلاء بن زهير، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة قالت: خرجت. الحديث (3). يلاحظ على الاستدلال: أولا: أن الحديث لا يحتج به، ويكفي في ذلك ما ذكره ابن حزم قال: " أما الذي من طريق عبد الرحمن بن الأسود فانفرد به العلاء بن زهير الأزدي، لم يروه غيره، وهو مجهول " (4). وحكى الشوكاني عنه أنه قال: " هذا
(1) وسائل الشيعة: 1 / 175. (2) ابن قدامة: المغني: 2 / 108. (3) الإمام الدار القطني (المتوفى 385): السنن: 2 / 188. (4) ابن حزم: المحلى: 4 / 265: ط. دار الجيل، بيروت. 251 حديث لا خير فيه وطعن فيه " (1). قال ابن حبان: كان يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الإثبات فبطل الاحتجاج به فيما لم يوافق الإثبات. وقال ابن معين: ثقة، وقد اختلف في سماع عبد الرحمن منها، فقال الدارقطني: أدرك عائشة ودخل عليها وهو مراهق. قال الحافظ: وهو كما قال ففي تاريخ البخاري وغيره ما يشهد لذلك، وقال أبو حاتم: أدخل عليها وهو صغير ولم يسمع منها. وادعى ابن أبي شيبة والطحاوي ثبوت سماعه منها. وفي رواية الدارقطني، عن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عائشة قال أبو بكر النيسابوري: من قال فيه عن عائشة فقد أخطأ. واختلف قول الدارقطني فيه فقال في السنن، إسناده حسن، وقال في العلل: المرسلة أشبه " (2). وثانيا: جاء في حديث عائشة أنها قالت: خرجت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في عمرة رمضان إلخ، وهذا ما يخالف التاريخ القطفي لسيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد جاء في السيرة الحلبية " لا خلاف أن عمرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم تزد على أربع، أي كلهن في ذي القعدة مخالفا للمشركين، فإنهم كانوا يكرهون العمرة في أشهر الحج ويقولون هي من أفجر الفجور... وأول تلك الأربعة عمرة الحديبية، التي كانت في ذي القعدة التي صده فيها المشركون عن البيت. وثانيها: عمرته من العام المقبل وهي عمرة القضاء وكانت في ذي القعدة ... وثالثها: عمرته (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قسم غنائم حنين، وكانت من الجعرانة وكانت في ذي القعدة. ورابعها: عمرته (صلى الله عليه وآله وسلم) مع حجة الوداع... فإنه أحرم لخمس بقين من ذي القعدة، وقد قالت عائشة (رض): " اعتمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثا سوى التي قرنها
(1) الشوكاني: نيل الأوطار: 3 / 202. (2) الشوكاني: نيل الأوطار: 3 / 203. 252 بحجة الوداع ". وأخرج البخاري ومسلم: " أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) اعتمر أربع عمر كلها في ذي القعدة إلا التي في حجته. أي فإنه لم يوقعها في ذي القعدة، بل أوقعها في ذي الحجة تبعا للحج. ثم قال: ولكن روى الدارقطني - رحمه الله -: عنها أنها - رضي الله عنها - قالت: " خرجت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في عمرة في رمضان فأفطر وصمت، وقصر وأتممت " قال في الهدى: إنه غلط عليها وهو الأظهر، فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ما اعتمر في رمضان قط " (1). وثالثا: الظاهر من هذا الحديث أن عائشة على الرغم من رؤيتها لإفطار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقصره في السفر صامت وأتمت بلا حجة بل من بدع نفسها، ثم بعد ذلك أخبرت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عما صنعت فأقر عملها. وهنا تطرح أسئلة كثيرة، منها: 1 - لماذا خالفت عائشة عمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ وهل هذا كان منها اجتهادا مخالفا لعمل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ ولا يقال بأنها كانت تعلم الحكم الشرعي وهو جواز الإتمام والصوم، لأن ظاهر الحديث يكذب ذلك. 2 - قد روي عنها أنها كانت تتم الصلاة في السفر وبرر عملها بأنها تأولت كما تأول عثمان كما سيوافيك، ولو كان هذا الحديث صحيحا وأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أقر عملها، فأي حاجة لها إلى التساؤل والاجتهاد؟ ولعله لعدم وجود جواب صحيح لتلك الأسئلة قال ابن القيم: " سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هذا الحديث كذب على عائشة، ولم تكن عائشة تصلي بخلاف صلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسائر الصحابة، وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم هي وحدها بلا موجب. كيف وهي القائلة: " فرضت الصلاة ركعتين فزيد في
(1) علي بن برهان الدين الحلبي: السيرة الحلبية: 3 / 340 و 341. 253 صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر " فكيف يظن أنها تزيد على ما فرض الله، وتخالف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه. قال الزهري لعروة لما حدثه عن أبيه عنها بذلك: فما شأنها تتم الصلاة؟ فقال: تأولت كما تأول عثمان، فإذا كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قد حسن فعلها وأقرها عليه فما للتأويل حينئذ من وجه، ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير " (1). الحديث الثالث: وروى (أي أبو داود) بإسناده عن عطاء عن عائشة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتم في السفر ويقصر (2). يلاحظ عليه: أولا: أن هذا الحديث جاء في سنن الدارقطني بهذا الإسناد: حدثنا محمد بن منصور بن أبي الجهم، ثنا نصر بن علي، ثنا عبد الله بن داود، عن المغيرة بن زياد الموصلي، عن عطاء، عن عائشة الخ، ثم قال: المغيرة بن زياد ليس بالقوي (3). ولم نجد هذا الحديث في مسند أبي داود الطيالسي بهذا الشكل، بل ورد ذلك بهذه الكيفية: حدثنا يونس، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا طلحة، قال: سمعت عطاء يحدث عن عائشة قالت: كل ذلك فعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في السفر صام وأفطر (4).
(1) ابن قيم الجوزية: زاد المعاد: 1 / 161. (2) ابن قدامة: المغني: 2 / 109. (3) سنن الدارقطني: 2 / 189 ط. دار المعرفة بيروت. (4) مسند أبي داود الطيالسي: 6 / 209: ط. دار الباز، مكة المكرمة. 254 وجاء نفس الحديث أيضا بهذا الإسناد والمتن في سنن الدارقطني، ثم قال في آخره: طلحة ضعيف (1) إذن فالحديث من حيث السند لا يحتج به. وثانيا: اعترف بعض أعلام السنة بأن الحديث غير صحيح. قال ابن القيم بعد أن ذكر الحديث: " فلا يصح. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هو كذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انتهى. وقد روى " كان يقصر وتتم " الأول بالياء آخر الحروف والثاني بالتاء المثناة من فوق. وكذلك " يفطر وتصوم " أي تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين. قال شيخنا ابن تيمية: وهذا باطل ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجميع أصحابه فتصلي خلاف صلاتهم. كيف والصحيح عنها أن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة زيد في الحضر، وأقرت صلاة السفر فكيف يظن بها - مع ذلك - أن تصلي بخلاف صلاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين معه. قلت: وقد أتمت عائشة بعد موت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). قال ابن عباس وغيره: إنها تأولت كما تأول عثمان، وإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقصر دائما، فركب بعض الرواة من الحديثين حديثا. وقال: فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقصر وتتم هي. فغلط بعض الرواة فقال كان يقصر ويتم، أي هو " (2). وثالثا: الحديث مجمل ولم يبين فيه بأن الإتمام الذي حصل من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هل كان مع اجتماع شرائط القصر من قطع المسافة وعدم الإفاقة وغير ذلك أم لا؟ فحيث يحتمل أنه أتم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع عدم اجتماع شرائط القصر في سفره لا يمكن الاستدلال به على جواز الإتمام مطلقا خاصة وأنه مخالف لما تواتر عن سنته حول القصر في السفر.
(1) الدارقطني: السنن: 2 / 189. (2) ابن القيم: زاد المعاد: 1 / 158. 255 الوجه الثالث: عمل الصحابة وإجماعهم وإجماع الفقهاء: قال ابن قدامة: 1 - عن أنس قال: كنا - أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - نسافر فيتم بعضنا ويقصر بعضنا ويصوم بعضنا ويفطر بعضنا، فلا يعيب أحد على أحد، ولأن ذلك إجماع الصحابة - رحمة الله عليهم - بدليل أن فيهم من كان يتم الصلاة ولم ينكر الباقون عليه بدليل حديث أنس (1). يلاحظ عليه: أولا: أنه ليس المنقول عن أنس في صحيح مسلم أنه يتم بعضنا ويقصر بعضنا، نعم جاء فيه فلم يعب الصائم على المفطر و " المفطر على الصائم " (2) كما لم يوجد في غيره من الصحاح والسنن والمسانيد حسب، فهنا فالظاهر أن الإتمام والقصر زيدا في الحديث من قبل القائلين بالرخصة. وثانيا: سلمنا صحة الزيادة لكن ليس فيه أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اطلع على فعلهم فأقرهم عليه حتى يكون التقرير حجة علينا، وليس عمل الصحابي بمجرده حجة ما لم يعلم كونه مستندا إلى قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعمله. وثالثا: أن إجماع الصحابة المنقول هنا يعارضه عمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإجماع الصحابة الثابت بالتواتر وأن الخلاف - الذي حصل بينهم - حدث زمن الخليفة الثالث، فلم يثبت الإجماع بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بدليل أن جمعا من الصحابة نقدوا عمل عثمان، وأما ما نقل من إجماعهم زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فعلى فرض وقوعه ليس بحجة. قال الشوكاني: " وقد تقرر أن إجماع الصحابة في عصره ليس بحجة والخلاف
(1) ابن قدامة: المغني: 2 / 109. (2) مسلم الصحيح: 7 / 235. 256 بينهم في ذلك مشهور بعد موته وقد أنكر جماعة منهم على عثمان لما أتم بمنى وتأولوا له تأويلات " (1). 2 - واستدل ابن قدامة بعمل بعض الصحابة فقال: " وكانت عائشة تتم الصلاة، رواه مسلم والبخاري وأتمها عثمان وابن مسعود وسعد. قال عطاء: كانت عائشة وسعد يوفيان الصلاة في السفر ويصومان، وروى الأثرم بإسناده عن سعد أنه أقام بمعان شهرين فكان يصلي ركعتين ويصلي أربعا، وعن المسور بن مخرمة قال: أقمنا مع سعد ببعض قرى الشام أربعين ليلة يقصرها سعد ويتمها " (2). ويلاحظ عليه: أن عمل عائشة وعثمان كما ذكر سابقا كان ناشئا عن تأول واجتهاد، وقد خالفهم كثير من الصحابة فلا يكون عملهما حجة خاصة وأن اجتهادهما كان في مقابل النصوص المتواترة عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم). قال ابن قيم نقلا عن شيخه ابن تيمية: " وأما بعد موته (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنها أتمت كما أتم عثمان وكلاهما تأول تأويلا والحجة في رواياتهم لا في تأويل الواحد منهم مع مخالفه غيره له " (3). * * * كلام حول تأويل عثمان وعائشة: ثم إن التأويل الذي صدر من عثمان وعائشة فقد اختلف في معرفة وجهه، وذكر النووي له عدة وجوه وهي: أن عثمان إمام المؤمنين وعائشة أمهم فكأنهما في
(1) الشوكاني: نيل الأوطار: 3 / 202. (2) ابن قدامة: المغني: 2 / 109. (3) ابن قيم: زاد المعاد: 1 / 161. 257 منازلهما... وقيل: لأن عثمان تأهل بمكة، وقيل: فعل ذلك من أجل الأعراب الذين حضروا لئلا يظنوا أن فرض الصلاة ركعتان أبدا حضرا وسفرا... وقيل: كان عثمان نوى الإقامة بمكة بعد الحج... وقيل: كان لعثمان أرض بمنى و... ثم أبطل جميع هذه الوجوه ورجح القول بأنهما رأيا القصر جائزا والإتمام جائزا فأخذا بأحد الجائزين وهو الإتمام " (1). يلاحظ عليه: أن هذا الاجتهاد حجة لصاحبه لو اجتمعت فيه شروط الاجتهاد ولم يكن اجتهاد مقابل النص مضافا إلى أن عثمان قد برر عمله بالوجه الأخير عندما واجه نقود الصحابة له، نعم لما ضاقت به السبل تمسك بالرأي الذي رآه، فقد نقل المؤرخون من الطبري وغيره " حج بالناس في سنة 29 عثمان فضرب بمنى فسطاطا فكان أول فسطاط، ضربه عثمان بمنى، وأتم الصلاة بها وبعرفة، فذكر الواقدي " بالإسناد " عن ابن عباس قال: إن أول ما تكلم الناس في عثمان ظاهرا أنه صلى بالناس بمنى في ولايته ركعتين حتى إذا كانت السنة السادسة أتمها، فعاب ذلك غير واحد من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتحكم في ذلك من يريد أن يكثر عليه حتى جاءه علي (عليه السلام) فيمن جاءه فقال: والله ما حدث أمر ولا قدم عهد ولا عهدت نبيك يصلي ركعتين، ثم أبا بكر، ثم عمر، وأنت صدرا من ولايتك، فما أدري ما يرجع إليه؟ فقال: رأي رأيته. وعن عبد الملك بن عمرو بن أبي سفيان الثقفي عن عمه قال: صلى عثمان بالناس بمنى أربعا فأتى آت عبد الرحمن بن عوف فقال: هل لك في أخيك؟ قد صلى بالناس أربعا، فصلى عبد الرحمن بأصحابه ركعتين، ثم خرج حتى دخل على عثمان فقال له: ألم تصل في هذا المكان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ركعتين؟ قال: بلى، قال: ألم تصل مع أبي بكر ركعتين؟ قال:
(1) صحيح مسلم بشرح النووي: 5 / 195. 258 بلى. قال: أفلم تصل مع عمر ركعتين؟ قال: بلى قال: ألم تصل صدرا من خلافتك ركعتين؟ قال: بلى. قال: فاسمع مني يا أبا محمد إني أجزت أن بعض من حج من أهل اليمن وجفاة الناس قد قالوا في عامنا الماضي: إن الصلاة للمقيم ركعتان هذا إمامكم عثمان يصلي ركعتين، وقد اتخذت بمكة أهلا فرأيت أن أصلي أربعا لخوف ما أخاف على الناس وأخرى قد اتخذت بها زوجة، ولي بالطائف مال، فربما أطلعته فأقمت فيه بعد الصدر. فقال عبد الرحمن بن عوف: ما من هذا شئ لك فيه عذر، أما قولك، اتخذت أهلا، فزوجتك بالمدينة تخرج بها إذا شئت، وتقدم بها إذا شئت، إنما تسكن بسكناك. وأما قولك: ولي مال بالطائف، فإن بينك وبين الطائف مسيرة ثلاث ليال وأنت لست من أهل الطائف. وأما قولك: يرجع من حج من أهل اليمن وغيرهم فيقولون: هذا إمامكم عثمان يصلي ركعتين وهو مقيم. فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ينزل عليه الوحي والناس يومئذ، الإسلام فيهم قليل، ثم أبو بكر مثل ذلك، ثم عمر، فضرب الإسلام بجرانه فصلى بهم عمر حتى مات ركعتين. فقال عثمان: هذا رأي رأيته. قال: فخرج عبد الرحمن فلقي ابن مسعود فقال: أبا محمد غير ما يعلم؟ قال: لا، قال: فما أصنع؟ قال: إعمل أنت بما تعلم، فقال ابن مسعود: الخلاف شر، قد بلغني أنه صلى أربعا فصليت بأصحابي أربعا، فقال: عبد الرحمن بن عوف: قد بلغني أنه صلى أربعا فصليت بأصحابي ركعتين، وأما الآن فسوف يكون الذي تقول، يعني نصلي معه أربعا (1). ومما مضى يعلم أن عبد الله بن مسعود الذي عزى إليه إتمام الصلاة في السفر إنما فعل ذلك مراعاة للسياسة الوقتية اتباعا لما رآه عثمان خلافا لرأي نفسه
(1) البلاذري: الأنساب: 5 / 39: الطبري: التاريخ: 5 / 56، ابن الأثير: الكامل 3 / 42، ابن كثير: التاريخ 7 / 154، ابن خلدون: التاريخ: 2 / 386. 259 في لزوم القصر، فقد روي عنه كما مر أنه استرجع من تلك الظاهرة وقال: ثم تفرقت بكم الطرق فلوددت أن لي من أربع ركعات ركعتين متقبلتين. قال الأعمش: حدثني معاوية بن قرة عن أشياخه: إن عبد الله صلى أربعا فقيل له: عبت على عثمان ثم صليت أربعا؟ قال: الخلاف شر (1). وقد رأى بعض الصحابة مثل رأيه في لزوم متابعة الخليفة تهربا من الشر إلا أنهم كانوا يعيدون صلاتهم قصرا بعد أن يقتدوا بالخليفة أربعا. قال ابن حزم: " روينا من طريق عبد الرزاق، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: إنه كان إذا صلى مع الإمام بمنى أربع ركعات انصرف إلى منزله فصلى فيه ركعتين أعادها " (2). وهؤلاء كانوا يرون رعاية شؤون السياسة الزمنية خوفا من الشر أولى من رعاية حفظ الأحكام كما نزلت من عند الله والوقوف أمام تبدلها وتغييرها إلا أن بعض الصحابة يرى خلاف ذلك، فهذا علي (عليه السلام) أبى أن يصلي أربعا في منى رغم إصرار عثمان وبني أمية. حيث قيل له: صل بالناس، فقال: إن شئتم صليت لكم صلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - يعني ركعتين - قالوا: لا إلا صلاة أمير المؤمنين - يعنون عثمان -: أربعا، فأبى عثمان " (3). هذا وأن بني أمية قد اتخذوا من أحدوثة عثمان سنة مستمرة مقابل سنة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الأبد وإن لم يكن لهم عذر شرعي للإتمام كما حاول عثمان أن يتشبث ببعض الأعذار. فقد قال ابن حنبل بسنده عن عبد الله بن الزبير قال: لما قدم علينا معاوية
(1) أبي داود: السنن: 1 / 308، كتاب الإمام الشافعي: 1 / 159، و 7 / 175. (2) ابن حزم: المحلى: 4 / 270. (3) ابن حزم: المحلى: 4 / 270. 260 حاجا قدمنا معه مكة، قال: فصلى بنا الظهر ركعتين، ثم انصرف إلى دار الندوة قال: وكان عثمان حين أتم الصلاة إذا قدم مكة صلى بها الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعا أربعا، فإذا خرج إلى منى وعرفات قصر الصلاة، فإذا فرغ من الحج وأقام بمنى أتم الصلاة حتى يخرج من مكة، فلما صلى بنا الظهر ركعتين نهض إليه مروان بن الحكم وعمر بن عثمان فقالا له: ما عاب أحد ابن عمك بأقبح ما عبته به. فقال لهما: وما ذاك؟ قال: فقالا له: ألم تعلم أنه أتم الصلاة بمكة؟ قال: فقال لهما: ويحكما وهل كان غير ما صنعت؟ قد صليتهما مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومع أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -: قالا: فإن ابن عمك قد كان أتمها وإن خلافك إياه له عيب. قال: فخرج معاوية إلى العصر فصلاها بنا أربعا " (1). هذا كله حول تأويل عثمان وعبد الله بن مسعود. حول تأويل السيدة عائشة: وأما تأويل عائشة فالمشهور أنها تأولت كما تأول به عثمان وقد ذكر في ذلك من وجوه: قال ابن جرير الطبري في تفسيره قوله: * (وإذا ضربتم في الأرض) * الخ بسنده عن عمر بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قال: سمعت أبي يقول: سمعت عائشة تقول: في السفر أتموا صلاتكم، فقالوا: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي في السفر ركعتين فقالت: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان في حرب وكان يخاف، هل تخافون أنتم (2) وكأنها رأت أن القيد الوارد في الآية، خصص الحكم بالخوف.
(1) أحمد بن حنبل: المسند: 4 / 94. (2) الطبري: جامع البيان في تفسير القرآن: 4 / 155. 261 وقال الشوكاني: " قيل في تأويل عائشة أنها إنما أتمت في سفرها إلى البصرة لقتال علي (عليه السلام) والقصر عندها إنما يكون في سفر طاعة - إلى أن قال: - وأما تأول عائشة فأحسن ما قيل فيه ما أخرجه البيهقي بإسناد صحيح من طريق هشام بن عروة عن أبيه أنها كانت تصلي في السفر أربعا، فقلت لها: لو صليت ركعتين، فقالت: يا ابن أختي أنه لا يشق علي، وهو دال على أنها تأولت أن القصر رخصة وأن الإتمام لمن لا يشق عليه أفضل " (1). حول تأويل ابن أبي وقاص: وأما عمل سعد بن أبي وقاص من أنه أقام بمعان شهرين يصلي ركعتين ويصلي أربعا، أو أنه أقام ببعض قرى الشام ويفعل كذلك فتصحيحه مشكل لأن المسافر إما أن يقصد الإقامة في مكان أو يكون مترددا، فإن قصد الإقامة فحكمه الإتمام من أول القصد، وإن كان مترددا فبعد الشهر يصلي تماما، اللهم إلا أن يقال بأن سعدا كان يحتاط بالجمع بين القصر والإتمام، كما يؤيده ظاهر كلام الراوي، وعلى كل حال لا يكون عمله حجة على غيره، لأنه غاية ما يكون منه اجتهاد قد يعذر فيه لنفسه. 3 - قال ابن قدامة حول إجماع الجمهور من الفقهاء: " لو ائتم بمقيم صلى أربعا وصحت الصلاة، والصلاة لا تزيد بالإئتمام. قال ابن عبد البر: وفي إجماع الجمهور على أن المسافر إذا دخل في صلاة المقيمين فأدرك منها ركعة يلزمه أربع، دليل واضح على أن القصر رخصة، إذ لو كان فرضه ركعتين لم يلزمه أربع بحال " (2).
(1) الشوكاني: نيل الأوطار: 3 / 211 و 212. (2) ابن قدامة: المغني: 2 / 108. 262 يلاحظ عليه: أولا: أن هذا الإجماع غير تام لأن بعض المذاهب الإسلامية كالشيعة الإمامية لا يرون ذلك ولا يجيزون للمسافر إذا اقتدى بمقيم أن يصلي أربعا، بل عليه أن يصلي ركعتين وإن كان الإمام متما. وثانيا: أن بعض المذاهب من السنة كالحنفية وإن كان يرون صحة الإجماع إلا أنهم يقولون بتغير فرض المسافر بمجرد دخوله في الجماعة. وهذا غير القول بأنه له الإتمام من أول الأمر قال أبو بكر الجصاص: " واحتج من قال بالتخيير أنه لو دخل في صلاة مقيم لزمه الإتمام، فدل على أنه مخير في الأصل، وهذا فاسد، لأن الدخول في صلاة الإمام يغير الفرض. ألا ترى أن المرأة والعبد فرضهما يوم الجمعة أربع، ولو دخلا في الجمعة صليا ركعتين، ولم يدل ذلك على أنهما مخيران قبل الدخول بين الأربع والركعتين " (1). * * *
(1) أبو بكر الجصاص: أحكام القرآن: 2 / 255. 263 المسألة التاسعة: الإفطار في السفر اتفقت كلمة الفقهاء على مشروعية الإفطار في السفر تبعا للذكر الحكيم والسنة المتواترة إلا أنهم اختلفوا في كونه عزيمة أو رخصة، نظير الخلاف في كون القصر فيه جائزا أو واجبا. ذهبت الإمامية تبعا لأئمة أهل البيت (عليهم السلام) والظاهرية إلى كون الإفطار عزيمة واختاره من الصحابة: عبد الرحمن بن عوف وعمر وابنه عبد الله وأبو هريرة وعائشة وابن عباس، ومن التابعين: علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) وابنه محمد الباقر (عليه السلام) وسعيد بن المسيب وعطاء وعروة بن الزبير وشعبة والزهري والقاسم بن محمد بن أبي بكر ويونس بن عبيد وأصحابه (1). وذهب جمهور أهل السنة وفيهم فقهاء المذاهب الأربعة إلى كون الإفطار رخصة وإن اختلفوا في أفضلية الإفطار والصوم.
(1) ابن حزم: المحلى: 6 / 258. 264 كلمات أعلام الإمامية في كون الإفطار عزيمة: هذا بيان إجمالي للأقوال والآراء وإليك التفصيل: قال الشيخ الصدوق (306 - 381 ه): " إذا سافرت في شهر رمضان فأفطر على حد ما بينت لك الحد الذي يجب فيه التقصير في الصوم والصلاة في باب المسافر، واعلم أن كل من وجب عليه التقصير في السفر فعليه الإفطار، وكل من وجب عليه التمام في الصلاة فعليه الصيام، متى أتم صام ومتى قصر أفطر ". والذي يلزمه إتمام الصلاة والصوم في السفر: المكاري والكري والاشتقان (1) وهو البريد والراعي والملاح، لأنه عملهم، وصاحب الصيد إذا كان صيده بطرا أو أشرا، فعليه التمام في الصلاة والإفطار في الصوم، وإذا كان صيده مما يعود به على عياله فعليه التقصير في الصوم والصلاة - إلى أن قال: - وقال أبو الحسن [الإمام علي] (عليه السلام): " ليس من البر الصوم في السفر، فإن صام الرجل وهو مسافر، فإن كان بلغه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن ذلك فعليه القضاء وإن لم يكن بلغه فلا شئ عليه " (2). وقال الشيخ المفيد: (636 - 413 ه): " وكل مسافر في طاعة الله عز وجل ممن حضره أكثر من سفره يجب عليه التقصير في الصوم والصلاة، وكل مسافر في مباح فذلك حكمه، إلا المسافر في طلب الصيد للتجارة خاصة، فإنه يلزمه التقصير في الصيام، ويجب عليه إتمام
(1) الظاهر أن الإشتقان معرب " دشتبان ". (2) الصدوق: المقنع: 62. 265 الصلاة.... إلى أن قال: ومن أتم في سفر الطاعة أثم وأخطأ، وكان كمن قصر في حضره، ووجب عليه الإعادة للصيام، إلا أن يفعل ذلك بجهالة، ولا يكون ممن سمع آية التقصير، ولا عرف الحكم في ذلك من الفقهاء.... إلى أن قال: ولا يجوز لأحد أن يصوم في السفر تطوعا ولا فرضا، إلا صوم ثلاثة أيام - لدم المتعة - من جملة العشرة الأيام، ومن كانت عليه كفارة يخرج عنها بالصيام، وصوم النذر إذا نواه في الحضر والسفر، معا أو علقه بوقت من الأوقات، وصوم ثلاثة أيام للحاجة (أربعاء وخميس وجمعة) متواليات عند قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو في مشهد من مشاهد الأئمة (عليهم السلام). وقد روى حديث في جواز التطوع في السفر بالصيام، وجاءت أخبار بكراهية ذلك، وأنه ليس من البر الصوم في السفر، وهي أكثر، وعليها العمل عند فقهاء العصابة، فمن أخذ بالحديث لم يأثم إذا كان أخذه من جهة الاتباع، ومن عمل على أكثر الروايات، واعتمد على المشهور منها في اجتناب الصيام في السفر على كل وجه، سوى ما عددناه كان أولى بالحق والله الموفق للصواب " (1). قال السيد المرتضى: (355 - 436 ه): ومما ظن انفراد الإمامية ولها فيه موافق متقدم، القول بأن من صام شهر رمضان في السفر تجب عليه الإعادة، لأن أبا حنيفة وأصحابه يقولون: إن الصوم في السفر أفضل من الإفطار. وقال مالك والثوري: الصوم في السفر أحب إلينا من الإفطار لمن قوى عليه.
(1) المفيد: المقنعة: 348 - 350. 266 وقال الشافعي: هو مخير بين الصوم والإفطار والصوم أفضل. وروي عن ابن عمران الفطر أفضل، وروي عن أبي هريرة أن من صام في السفر لم يجزه وعليه أن يصوم في الحضر، وهذا مذهب الإمامية والحجة لقولنا الإجماع المتكرر " (1). وقال الشيخ الطوسي (385 - 460 ه): " المسألة 53 كل سفر يجب فيه التقصير في الصلاة يجب فيه الإفطار وقد بينا كيفية الخلاف فيه، فإذا حصل مسافرا لا يجوز له أن يصوم، فإن صام كان عليه القضاء، وبه قال أبو هريرة وستة من الصحابة، وقال داود: هو بالخيار بين أن يصوم ويقضي وبين أن يفطر ويقضي، فوافقنا في وجوب القضاء وخالف في جواز الصوم، وقال أبو حنيفة والشافعي ومالك وعامة الفقهاء: هو بالخيار بين أن يصوم ولا يقضي، وبين أن يفطر ويقضي. وبه قال ابن عباس. وقال ابن عمر: يكره أن يصوم فإن صامه فلا قضاء عليه - دليلنا - إجماع الفرقة، وأيضا قوله تعالى: * (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) * فأوجب القضاء بنفس السفر فليس في الظاهر ذكر الإفطار، وروي عن جابر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ليس من البر الصيام في السفر " والصائم في السفر كالمفطر في الحضر " وروي عن جابر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلغه أن أناسا صاموا فقال: أولئك العصاة " (2). إلى غير ذلك من الكلمات المبثوثة في الكتب الفقهية كالحلبي (374 - 447 ه) في كافيه، وسلار (ت 463 ه) في مراسمه، وابن البراج (400 - 481 ه) في مهذبه، وابن حمزة (ت بعد 576 ه) في وسيلته، وابن إدريس (543 -
(1) المرتضى: الإنتصار: 66. (2) الشيخ الطوسي: الخلاف: 1 / 354: كتاب الصوم: المسألة 53. 267 598 ه) في سرائره، والمحقق (602 - 676 ه) في شرائعه، والعلامة الحلي (648 - 726 ه) في قاطبة كتبه الفقهية، إلى غيرهم حتى نصل إلى فقهاء العصر الحاضر من الشيعة الإمامية من غير فرق بين صوم رمضان أو صوم غيره من الواجبات إلا ما استثني. كلام ابن حزم في كون الإفطار عزيمة: ووافق الشيعة في كون الإفطار عزيمة مذهب الظاهرية، لكن في خصوص صوم رمضان لا في مطلق الصوم الواجب. قال ابن حزم: " مسألة: ومن سافر في رمضان - سفر طاعة أو سفر معصية، أو لا طاعة ولا معصية - فرض عليه الفطر إذا تجاوز ميلا أو بلغه أو إزاءه، وقد بطل صومه حينئذ لا قبل ذلك، ويقضي بعد ذلك في أيام أخر، وله أن يصومه تطوعا، أو عن واجب لزمه، أو قضاء عن رمضان خال لزمه، وإن وافق فيه يوم نذره صامه لنذره. وقد فرق قوم بين سفر الطاعة، وسفر المعصية فلم يروا له الفطر في سفر المعصية وهو قول مالك، والشافعي. قال علي: والتسوية بين كل ذلك هو قول أبو حنيفة، وأبي سليمان... (1) (2). إلى أن قال: وأما قولنا " يجوز الصوم في السفر فإن الناس اختلفوا فقالت طائفة: من سافر بعد دخول رمضان فعليه أن يصومه كله، وقالت طائفة: بل هو مخير إن شاء صام وإن شاء أفطر، وقالت طائفة: لا بد له من الفطر ولا يجزئه صومه، ثم افترق القائلون بتخييره فقالت طائفة: الصوم أفضل، وقالت طائفة: الفطر أفضل، وقالت طائفة: هما سواء، وقالت طائفة: لا يجزئه الصوم ولا بد له
(1) ابن حزم: المحلى: 6 / 243. (2) المصدر: ص 248. 268 من الفطر... ثم استدل على مذهبه وقال: روينا من طرق سليمان بن حرب، نا حماد بن سلمة، عن كلثوم بن جبر، عن رجل من بني قيس أنه صام في السفر فأمره عمر بن الخطاب أن يعيد..... وعن عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال: نهتني عائشة أم المؤمنين عن أن أصوم رمضان في السفر. وعن أبي هريرة: ليس من البر الصيام في السفر. ومن طريق شعبة عن أبي حمزة نصر بن عمران الضبعي قال: سألت ابن عباس عن الصوم في السفر؟ فقال: يسر وعسر خذ بيسر الله تعالى. قال أبو محمد: إخباره بأن صوم رمضان في السفر عسر إيجاب منه لفطره وعنه أيضا: الإفطار في رمضان في السفر عزمة. وعن عمار مولى بني هاشم - هو ابن أبي عمار - عن بن عباس أنه سئل عمن صام رمضان في السفر، فقال ابن عباس: لا يجزئه - يعني لا يجزئه صيامه -. وعن ابن عمر أنه سئل عن الصوم في السفر فقال: من كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر. وعن يوسف بن الحكم الثقفي أن ابن عمر سئل عن الصوم في السفر فقال: إنما هي صدقة تصدق الله بها عليك أرأيت لو تصدقت بصدقة فردت عليك؟ ألم تغضب؟ قال أبو محمد: هذا يبين أنه كان يرى الصوم في رمضان مغضبا لله تعالى، ولا يقال هذا في شئ مباح أصلا. وعن كلثوم بن جبر أن امرأة صحبت ابن عمر في سفر فوضع الطعام فقال لها: كلي قالت: إني صائمة قال: لا تصحبينا. وعن مسلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال: يقال: الصيام في السفر
269 كالإفطار في الحضر. قال أبو محمد: هذا إسناد صحيح، وقد صح سماع أبي سلمة عن أبيه ولا يقول عبد الرحمن بن عوف: في الدين: يقال كذا، إلا عن الصحابة أصحابه رضي الله عنهم، وأما خصومنا فلو وجدوا مثل هذا لكان أسهل شئ عليهم أن يقولوا: لا يقول ذلك إلا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). وعن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه قال: الصائم في السفر كالمفطر في الحضر، وهذا سند في غاية الصحة. وعن المحرر ابن أبي هريرة قال: صمت رمضان في السفر فأمرني أبو هريرة أن أعيده في أهلي وأن أقضيه فقضيته. وعن عبد الرحمن بن حرملة أن رجلا سأل سعيد بن المسيب: أتم الصلاة في السفر وأصوم؟ قال: لا. فقال: إني أقوى على ذلك. قال سعيد: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أقوى منك قد كان يقصر ويفطر. وعن عطاء أنه سئل عن الصوم في السفر فقال: أما المفروض فلا، وأما التطوع فلا بأس به. وعن عروة بن الزبير أنه قال في رجل صام في السفر: أنه يقضيه في الحضر، قال شعبة: لو صمت رمضان في السفر لكان في نفسي منه شئ. وعن الزهري قال: كان الفطر آخر الأمرين من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنما يؤخذ من أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالآخر فالآخر. وعن الشعبي قال: لا تصوموا في السفر. وعن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) أن أباه كان ينهي عن صيام رمضان في السفر، وكان محمد بن علي (عليهما السلام) ينهي عن ذلك أيضا. وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر قال: لا يصوم المسافر أفطر أفطر. وعن يونس بن عبيد وأصحابه أنهم أنكروا صيام رمضان في السفر " (1).
(1) ابن حزم: المحلى: 6 / 256 - 258. 270 ونقلنا كلامه بطوله لما فيه آراء الصحابة والتابعين على وجه مبسط. والمحصل مما نقله ابن حزم أن أعلام الصحابة كعمر، وابنه عبد الله، وعبد الله بن عباس وأبي هريرة وعائشة وعبد الرحمن بن عوف وكبار التابعين كالإمام السجاد (عليه السلام) والإمام الباقر (عليه السلام) وغيرهما كسعيد بن المسيب وعطاء وعروة بن الزبير وشعبة والزهري والقاسم بن محمد بن أبي بكر ويونس بن عبيد وأصحابه كلهم ذهبوا إلى كون الإفطار عزيمة وهو نفس ما ذهبت إليه الإمامية. إلى هنا تم ذكر أسماء القائلين بكون الإفطار عزيمة وإليك بيان أسماء القائلين بكونه رخصة مع اختلافهم في أفضلية الصوم أو الإفطار. كلمات القائلين بكون الإفطار رخصة قال الجصاص (ت 370 ه): قال أصحابنا: الصوم في السفر أفضل من الإفطار. وقال مالك والثوري: الصوم في السفر أحب إلينا لمن قوى عليه. وقال الشافعي إن صام في السفر أجزاه، ثم أخذ في الاستدلال على فضيلة الصوم في السفر (1). وقال السرخسي (ت 456 ه): " إن أداء الصوم في السفر يجوز في قول جمهور الفقهاء وهذا قول أكثر الصحابة وعلى قول أصحاب الظواهر لا يجوز. - إلى أن قال: - إن الصوم في السفر أفضل من الفطر عندنا، وقال الشافعي - رحمه الله تعالى -: الفطر أفضل لأن ظاهر ما روينا من الآثار يدل على أن الصوم في السفر لا يجوز، فإن ترك هذا الظاهر في حق الجواز بقي معتبرا في أن الفطر أفضل وقاس بالصلاة فإن الاقتصار على الركعتين في السفر أفضل من الإتمام، فكذلك الصوم لأن السفر
(1) أبو بكر الرازي الجصاص: أحكام القرآن: 1 / 215. 271 يؤثر فيهما قال (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم " (1). وقال حول المسافر إذا صام فأفطر: " مسافر أصبح صائما في رمضان ثم أفطر قبل أن يقوم عصره أو بعد ما قدم، فلا كفارة عليه لأن أداء الصوم في هذا اليوم ما كان مستحقا عليه حين كان مسافرا في أوله، فهذا والفطر في قضاء رمضان سواء. وحكي عن الشافعي - رحمه الله تعالى - أنه إن أفطر بعدما صار مقيما فعليه الكفارة وجعل وجود الإقامة في آخره كوجودها في أوله ولكنا نقول: الشبهة تمكنت بالسفر الموجود في أول النهار فإنه ينعدم به استحقاق الأداء وصوم يوم واحد لا يتجزى في الاستحقاق (2). وقال ابن قدامة المقدسي: " وحكم المسافر حكم المريض في إباحة الفطر وكراهية الصوم وإجزائه إذا فعله، وإباحة الفطر لمسافر ثابتة بالنص والإجماع وأكثر أهل العلم على أنه إن صام أجزاه. إلى أن قال: والفطر في السفر أفضل، وهو مذهب ابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب والشعبي والأوزاعي، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي: الصوم أفضل لمن قوى عليه، يروي ذلك عن أنس وعثمان بن أبي العاص لما روى سلمة بن المحبق أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " من كانت له حمولة تأوي إلى شبع فليصم رمضان حيث أدركه، رواه أبو داود، ولأن من خير بين الصوم والفطر كان الصوم أفضل كالتطوع، قال عمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة: أفضل الأمرين يسرهما لقول الله تعالى: * (يريد الله بكم اليسر) * ولنا ما تقدم من الأخبار في الفصل الذي قبله، وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " خيركم الذي يفطر في السفر ويقصر " ولأن فيه خروجا من الخلاف فكان أفضل كالقصر وقياسهم ينتقض بالمريض وبصوم الأيام
(1) السرخسي: المبسوط: 3 / 91 - 92. (2) المصدر نفسه: ص 76. 272 المكروه صومها " (1). وقال القرطبي: " واختلف العلماء في الأفضل من الفطر أو الصوم في السفر، فقال مالك والشافعي في بعض ما روي عنهما: الصوم أفضل لمن قوى عليه. وجعل مذهب مالك التخيير وكذلك مذهب الشافعي قال الشافعي ومن اتبعه: هو مخير، ولم يفضل، وكذلك ابن علية (2). إذا وقفت على آراء الفقهاء فلنذكر أدلة القولين وندرسها بدقة وأمانة، ونقدم البحث فيما هو المختار عند الإمامية والظاهرية وخيرة جمع كبير من الصحابة والتابعين وهو القول: الإفطار في السفر عزيمة: ويدل عليه الكتاب والسنة ثم إجماع الإمامية والظاهرية، أما الكتاب فيدل عليه قوله سبحانه: * (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون * أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون * شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون) * (البقرة / 183 - 185).
(1) ابن قدامة المقدسي: الشرح الكبير على المقنع: 3 / 17 - 19. (2) القرطبي الجامع لأحكام القرآن: 2 / 280. 273 سياق الآيات يدل على أنها نازلة مرة واحدة والكل على سبيكة خاصة لا تهدف إلا إلى بيان حكم الصيام في شهر رمضان، فتقطيع الآيات أو حملها بحمل بعضها على شهر رمضان والبعض الآخر إلى غيره لا يساعده السياق وأنت إذا تأملت الآيات وجدتها كلاما موضوعا لبيان عرض واحد وذا سياق مثله، متسق الجمل، رائق المبيان. فإذا حملت جملة على غير موضوع واحد (صيام شهر رمضان) لوجدت الآيات مختلة السياق، متطاردة الجمل يدفع بعضها بعضا. ومن العجيب ما روي عن بعضهم من تسرب النسخ إلى بعض هذه الآيات ببعضها الآخر وهذا القول جدا ينزل الآيات عن روعتها وجمالها. فلنأخذ بتفسير الآيات الثلاث بشكل موجز ونركز على المواضيع التي تصلح لأن تكون دليلا على الحكم الشرعي. أما الآية الأولى: فتحكي عن فرض الصيام على المؤمنين كفرضه على الأمم الماضية والغاية من هذا الفرض هو كسب التقوى كما قال سبحانه: * (لعلكم تتقون) * فإن الصائم يترك شهواته الطبيعية المباحة امتثالا لأمره واحتسابا للأجر عنده فتتقوى بذلك إرادته على ترك الشهوات الجامحة. وأما الآية الثانية: فنفسرها جملة بعد أخرى: قال سبحانه: * (أياما معدودات) * أي معينات بالعدد وقليلات، وليس شيئا كثيرا، وتنكير الأيام للدلالة على القلة والتحقير كقوله سبحانه: * (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة) * (يوسف / 20) وبما أن تلك الأيام مبهمات صارت الآية الثالثة مفسرة لها حيث قال: * (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) *.
274 ومن الزعم الباطل حمل الأيام المعدودات على غير رمضان أعني ثلاثة أيام من كل شهر (وعينها بعضهم بأنها الأيام البيض الثالثة عشر وما بعدها) ثم نسخها بالآية التالية أي آية شهر رمضان...، وقد عرفت أن هذا النوع من التفسير تلاعب بآيات القرآن وتفسير بلا دليل، والآيات الثلاث منظومة واحدة لها دلالة واحدة وتركيز على شئ واحد لا تتجاوز عن بيان حكم شهر رمضان صياما وإفطارا. قال سبحانه: * (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) *. استثنى سبحانه صنفين: المريض والمسافر، والفاء للتفريع، والجملة متفرعة على قوله: * (كتب عليكم الصيام) * وعلى قوله: * (أياما معدودات) * فنبه بالاستثناء على أنه لو عرض عارض فهو يوجب ارتفاع الحكم عن الأيام المعدودات، أعني: شهر رمضان، لا عن صيام عدة من أيام أخر خارج شهر رمضان تساوي ما فات المكلف من صيام الأيام عددا فيكون مفاد الآية: هو: أن المفروض عليهم القضاء بعد شهر رمضان، وعلى هذا فقوله: * (فعدة من أيام أخر) *. وعلى هذا المعنى فالآية بدلالتها المطابقية تفرض عليهما القضاء الذي هو يلازم عدم فرض الصيام عليهما وهذا يدل على أن الإفطار عزيمة إذ المكتوب عليهما من أول الأمر هو القضاء. ثم إن القائلين بالرخصة لما رأوا أن ظاهر الآية تدل على أن المفروض عليهم هو القضاء لا الأداء حاولوا تطبيق الآية على ما يتبنونه من الرخصة فقدروا لفظة " فأفطر " وقالوا: إن معنى الآية فمن كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر، فعليه عدة من أيام آخر، ولو لم يفطر فلا. تلاحظ عليه أمور: 1 - إن التقدير يحتاج إلى دليل، والأصل هو عدم التقدير ولولا كون الرخصة
275 هي المشهورة بين المذاهب لما خطر على بال أحد من المفسرين تقدير اللفظ المزبور. 2 - نفترض تقدير اللفظة ومع ذلك لا يكون صريحا في الرخصة إذ غاية ما يدل عليه أن الإفطار لا يقع معصية بل جائزا بالجواز بالمعنى الأعم من الوجوب والاستحباب والإباحة، وأما كونه جائزا بالمعنى الأخص فلا دليل عليه بل الدليل على خلافه. 3 - لو كان مفاد الآية هو عدم كتابة الصوم على الصنفين وفرض القضاء عليهما كانت الآية وافية بأداء المراد لا قصور فيها، أما لو كان المراد هو كتابة الصيام على الصنفين أيضا غير أنهما مخيران بين الإفطار والقضاء، والصيام وعدم القضاء، فالآية غير وافية بأداء هذا المعنى الذي تتبناه المذاهب الأربعة، والآية في مقام التشريع يجب أن تكون وافية بمراد المشرع بنحو واضح. قال سبحانه: * (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) * هذا هو القسم الثاني من المستثنى وهو من لا يستطيع الصوم إلا بمشقة كثيرة، فالواجب عليه فدية طعام مسكين عن كل يوم من أوسط ما يطعمون منه أهليهم. وهذه الجملة أيضا ظاهرة في أن المشروع في حقه هو الإفطار والفدية، وهو يؤيد ما استظهر أنه من الجملة السابقة الواردة في حق المريض والمسافر، والجميع ظاهر في الوجوب التعييني بمعنى أن المفروض والمشروع في حق هذين الصنفين هو القضاء للمريض والمسافر والفدية على من يشق عليه الصوم وهذا هو الواجب بلا عدل له. قال سبحانه: * (فمن تطوع خيرا فهو خير له) *.
276 التطوع من الطوع مقابل الكره، وهو الإتيان بالفعل بالرضا والرغبة، واختلف المفسرون في تفسير تلك الجملة إلى أقوال، فمنهم من قال بأن المراد أن يزيد على إطعام المسكين (1) وفسرها صاحب المنار بأن المراد من زاد على تلك الأيام المعدودات بأن صام غير شهر رمضان أيضا (2). والظاهر عدم صحتهما لأنه سبحانه لم يقل من تطوع زيادة، بل قال: من تطوع خيرا، فليست الزيادة موردا للنظر بل المراد من أتى بالصوم عن طوع ورغبة فهو خير له يثاب بعمله، وكأنه سبحانه ضرب قاعدة كلية بأن من تطوع الخير والصلاح فهو خير له. قال سبحانه: * (وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) *. أي الصيام خير لكم لما فيه من تربية النفس وتغذية الإيمان وزيادة التقوى وهو حكم كلي لا صلة له بمن سبق من الأصناف السابقة. إن القائلين بكون الإفطار رخصة يتمسكون بتلك الجملة ويزعمون بأن الخطاب فيها لأهل الرخص وإن الصيام في رمضان خير لهم من الترخيص بالإفطار. يلاحظ عليه: أن الحكم بكون الصوم خيرا لهم غير مطرد إذ ربما يكون الصوم ضارا بالمريض والمسافر فكيف يقول سبحانه: * (وأن تصوموا خير لكم) * ، بصورة قضية كلية عامة؟ أضف إلى ذلك أن الظاهر أن الجملة خطاب لجميع المؤمنين الذين سبق ذكرهم في الآية الأولى، حيث قال سبحانه: * (يا أيها الذين آمنوا) * فيخاطبهم مرة ثانية * (وأن تصوموا خير لكم) * فهو خطاب للمؤمنين قاطبة لا أنه خطاب
(1) تفسير الجلالين: 22. (2) الإمام عبده: المنار: 2 / 158. 277 للمسافر والمريض اللذين ذكرا استطرادا. إلى هنا خرجنا بنتيجتين الأولى: أن قوله سبحانه: * (فمن كان مريضا...) * ظاهر في أن التشريع الأولي هو القضاء عليهما ومعنى ذلك عدم كتابة الصوم عليهما في شهر رمضان، فمن حمله على أن الصيام كتب عليهما لكن يجوز لهما الإفطار والقضاء فسر الآية بلا دليل وسلطان. الثانية: أن قوله: * (وأن تصوموا خير لكم) * بصدد ضرب القانون الكلي ولا صلة له بالصنفين وعلى ذلك فقوله: * (فمن كان مريضا) * دليل على أن الإفطار عزيمة كما أن قوله * (وإن تصوموا...) * فاقد للدلالة على الرخصة. قال سبحانه: * (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) * الآية بصدد بيان الأيام المعدودات وأن الحكمة في تخصيص هذا الشهر بالصيام لأجل أنه شهر رمضان، شهر نزل فيه القرآن الذي فيه هدى للناس وآيات بينات واضحات فيها من الهداية، والفرقان بين الحق والباطل. قال سبحانه: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) * والجملة بصدد ضرب القاعدة وهو أن من شهد الشهر بسلامة وحضر فيه بأن لم يكن مسافرا فيلزم عليه الصيام، أي كتب عليه الصيام، وأما من لم يكن كذلك كما كان مريضا أو مسافرا فلا يصمه بمعنى لم يكتب عليه الصوم. فالإتيان بقوله: " فمن كان مريضا " بعد قوله: " فمن شهد منكم الشهر " هو الصوم وحكم غير الشاهد هو الإفطار دليل على أن الله سبحانه بصدد بيان حكم الشاهد للشهر، فيصبح الإفطار عزيمة. ثم إنه سبحانه ذكر جملا ثلاث:
278 أ - * (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) *. وهو بيان لحكمة رفع الصيام عن الأصناف الثلاثة أي أمروا بالإفطار لأجل اليسر ودفع العسر، حتى من غير فرق بين المريض والمسافر ومن يشق عليه الصيام. ب - * (ولتكملوا العدة) *: وهو راجع إلى القضاء للمريض وللمسافر أي أن الموضوع عنهما هو حكم الصيام في شهر رمضان، وأما القضاء بعدد الأيام المعدودات فلا. ج - * (ولتكبروا الله على ما هداكم لعلكم تشكرون) *: الجملة غاية أصل الصيام وليست غاية للاستثناء والله سبحانه يطلب من عباده تكبيره في مقابل هدايتهم حتى يكونوا شاكرين لنعمه. هذا تفسير الآيات الثلاث حسب ما يوحيه ظاهرها، وقد تعرفت على أن القائل بالعزيمة والرخصة يتمسكان بهما وأن المتبادر هو العزيمة لا غير. وأما الروايات فسنعالجها عند البحث عن أدلة القائل بالرخصة. ومن حسن الحظ أنه هناك روايات متضافرة عن أئمة أهل البيت صريحة في كون أن إفطار الصنفين عزيمة كما أن هناك روايات متضافرة عن طريق أهل السنة تنتهي أكثرها إلى النبي الأكرم صريحة في كون الإفطار لهما عزيمة، والشارع بكتابه وعمل نبيه في كراع الغميم أبان الحق وبين أن الإفطار عزيمة وأن الصوم معصية ومن صام فقد عصى، وسمى المتخلفين بالعصاة ولو كان هناك تخيير بين الصوم والإفطار فقد كان قبل عام الفتح وقضى عليه التشريع الأحدث كما سيوافيك بيانه.
279 الثاني: الاستدلال على العزيمة بالسنة: تضافرت السنة المتواترة الواردة من طرق الشيعة والسنة على أن الإفطار في السفر عزيمة، ونذكر من كل من الفريقين أحاديث عشرة. فقد ورد من طرق الشيعة أحاديث كثيرة تدل على وجوب الإفطار في السفر وعدم صحة الصوم من المسافر نذكر منها ما يلي: 1 - ما رواه الكليني بسنده عن الزهري عن علي بن الحسين (عليه السلام) في حديث: قال: وأما صوم السفر والمرض فإن العامة قد اختلفت في ذلك، فقال قوم: يصوم، وقال آخرون: لا يصوم، وقال قوم: إن شاء صام وإن شاء أفطر، وأما نحن فنقول: يفطر في الحالين جميعا، فإن صام في حال السفر أو في حال المرض فعليه القضاء، فإن الله عز وجل يقول: * (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) * فهذا تفسير الصيام " (1). 2 - روى الكليني بسنده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " سمى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوما صاموا حين أفطر وقصر: عصاة، وقال: هم العصاة إلى يوم القيامة، وإنا لنعرف أبناء أبنائهم إلى يومنا هذا ". ورواه الشيخ الطوسي بإسناده عن محمد بن يعقوب، ورواه الصدوق بإسناده عن حريز مثله (2). 3 - روى أيضا بسنده عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن الله عز وجل تصدق على
(1) وسائل الشيعة، الباب 1 من أبواب من يصح منه الصوم، الحديث 2. (2) المصدر نفسه: الحديث 3. 280 مرضى أمتي ومسافريها بالتقصير والإفطار، أيسر أحدكم إذا تصدق بصدقة أن ترد عليه " (1). 4 - روى الكليني بسنده عن يحيى بن أبي العلاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " الصائم في السفر في شهر رمضان كالمفطر فيه في الحضر " ثم قال: " إن رجلا أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله، أصوم شهر رمضان في السفر؟ فقال: لا، فقال: يا رسول الله، إنه علي يسير، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله عز وجل تصدق على مرضى أمتي ومسافريها بالإفطار في شهر رمضان، أيعجب أحدكم لو تصدق بصدقة أن ترد عليه ". ورواه الصدوق والشيخ مثله (2). 5 - روى الكليني بسنده عن أبان بن تغلب عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خيار أمتي الذين إذا سافروا أفطروا وقصروا... " (3). 6 - روى الكليني بسنده عن عيص بن القاسم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " إذا خرج الرجل في شهر رمضان مسافرا أفطر " وقال: " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج من المدينة إلى مكة في شهر رمضان ومعه الناس وفيهم المشاة فلما انتهى إلى كراع الغميم دعا بقدح من ماء فيما بين الظهر والعصر فشربه وأفطر، ثم أفطر الناس معه وتم ناس على صومهم فسماهم العصاة، وإنما يؤخذ بآخر أمور رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " (4).
(1) وسائل الشيعة، الباب 1 من أبواب من يصح منه الصوم، الحديث 4. (2) المصدر نفسه الحديث 5. (3) المصدر نفسه الحديث 6. (4) المصدر نفسه: الحديث 7. 281 7 - روى أيضا بسنده عن عبيد بن زرارة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): " قوله عز وجل * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * قال: ما أبينها، من شهد فليصمه، ومن سافر فلا يصمه ". ورواه الصدوق أيضا (1). 8 - روى الشيخ الطوسي بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن صفوان بن يحيى، عن أبي الحسن (عليه السلام) أنه سئل عن الرجل يسافر في شهر رمضان فيصوم؟ قال: " ليس من البر الصوم في السفر " (2). 9 - روى الصدوق قال: قال الصادق (عليه السلام) " ليس من البر الصيام (الصوم) في السفر " (3). 10 - وروى أيضا بإسناده عن السكوني عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما السلام) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله عز وجل أهدى إلي وإلى أمتي هدية لم يهدها إلى أحد من الأمم كرامة من الله لنا، قالوا: وما ذلك يا رسول الله؟ قال: الإفطار في السفر، والتقصير في الصلاة، فمن لم يفعل ذلك فقد رد على الله عز وجل هديته " (4). وقد مر أن هدية الله واجب القبول على المسلم، لأن ردها على خلاف مقتضى العبودية وهو من المحرمات فيكون الصوم في السفر باعتباره به ردا عمليا لهدية الله من المحرمات. ونقتصر من الكثير بالقليل ونأتي بما رواه أهل السنة.
(1) وسائل الشيعة، الباب 1 من أبواب من يصح منه الصوم، الحديث 8. (2) المصدر نفسه: الحديث 10. (3) المصدر نفسه: الحديث 11. (4) المصدر نفسه: الحديث 12. 282 ما رواه أهل السنة في مجال الإفطار: 1 - ما جاء في الصحيحة عن جابر بن عبد الله (رض) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه، فقال: " ما هذا "؟ فقالوا: صائم، فقال: " ليس من البر الصوم في السفر ". ولفظ الحديث في صحيح مسلم: ليس البر أن تصوموا في السفر (1). لا شك أن المقابل للبر هو الإثم لقوله تعالى: * (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) * (المائدة - 2) فإذا لم يكن الصوم في السفر برا فهو إثم، والذي يبين إطلاق النهي من غير اختصاصه بصورة الحرج هو أن مثل هذا الحديث قد صدر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في غير هذا المورد، وهو ما رواه النمر بن تولب عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وفقا للهجة حمير وطئ الذين يبدلون لام التعريف بالميم حيث قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " ليس من امبر امصيام في امسفر " (2) ويقال: إن السائل سأله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: امن امبر امصيام في امسفر؟ فأجابه (صلى الله عليه وآله وسلم) طبقا للغته: " ليس من امبر امصيام في امسفر " فإذا لم يكن برا فهو إثم لا محالة إذ لا ثالث لهما. ومن المعلوم أن الأمر العبادي إذا انطبق عليه عنوان الإثم يكون محرما والمحرم لا يكون مقربا ويكون باطلا محتاجا إلى القضاء. ولك أن تستظهر مفاد الحديث من الآيات التي تنفي بعض الأشياء أن يكون من مصاديق البر. يقول سبحانه: * (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب...) * (البقرة / 177).
(1) البخاري: الصحيح: 3 / 44، مسلم: الصحيح: 7 / 233. (2) راجع ابن الأثير: النهاية: مادة برور، لسان العرب: مادة برر ومغني اللبيب: 1 / 48: حرف الهمزة أم نعم لم يرد في هذه المصادر سؤال وإنما ورد الجواب. 283 وقوله: * (ليس البر أن تأتوا البيوت من ظهورها...) * (البقرة / 189). ونفي البر كناية عن سقوطه عن القيمة والوزن في مجال التشريع لو لم نقل إنه يكون محرما، لكونه تشريعا وإدخالا في الدين ما ليس منه. ورواية جابر، وإن كانت واردة في من وقع في حرج شديد، ولكن المورد غير مخصص وذلك لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ضرب قاعدة كلية وحكم بأن كل صيام في السفر ليس ببر والحجة هي القاعدة والمورد من أحد مصاديقها، ويشهد لما ذكرنا أن الصيام المقارن للحرج الشديد والضرر العظيم محرم على المسافر والحاضر، فعلم أن النهي لأجل صيامه في السفر لا لوقوعه في حرج شديد لما عرفت من عدم مدخلية للسفر فيما إذا كان مقارنا للحرج والضرر، فتأكيد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على السفر يبين أن الموضوع للحرمة هو السفر لا الحرج. قال ابن حزم: " فإن قيل: إنما منع عليه السلام في مثل حال ذلك الرجل قلنا: هذا باطل لا يجوز، لأن تلك الحال محرم البلوغ إليها باختيار المرء للصوم في الحضر كما هو في السفر، فتخصيص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمنع من الصيام في السفر إبطال لهذه الدعوى المفتراة عليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وواجب أخذ كلامه (عليه السلام) على عمومه " (1). 2 - وما رواه الإمام أحمد من طريق سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان، عن أم الدرداء، عن كعب بن عاصم الأشعري قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: " ليس من البر الصيام في السفر " (2). وروى ابن ماجة مثل ذلك عن ابن عمر وقال في الزوائد: إسناد حديث ابن
(1) ابن حزم: المحلى: 6 / 254. (2) أحمد بن حنبل: المسند: 5 / 434، سنن ابن ماجة: 1 / 532 الحديث 1664. 284 عمر صحيح، لأن محمد بن المصفى، ذكره ابن حبان في الثقات، وثقه مسلمة والذهبي في الكاشف وقال أبو حاتم: صدوق. وقال النسائي: صالح وباقي رجال الإسناد على شرط الشيخين (1). 3 - ما رواه مسلم عن عبد الله بن عباس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد ثم أفطر، قال: وكان صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره (2). 4 - وعن ابن شهاب بهذا الإسناد مثل حديث الليث، قال ابن شهاب: فكان يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره ويرونه الناسخ المحكم (3). يستفاد من هذين الحديثين أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يصوم في السفر ثم نسخ ذلك فأمر بالإفطار، فالأمر بالإفطار ناسخ محكم ولا يجوز لنا اتباع المنسوخ بعد مجئ الناسخ. كما يمكن أن يستفاد هذا النسخ من بعض أحاديث أئمة أهل البيت فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله سبحانه: * (من كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) * أنه قال: لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصوم في السفر تطوعا ولا فريضة منذ نزلت هذه الآية بكراع الغميم عند صلاة الهجير، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بإناء فشرب وأمر الناس أن يفطروا فقال قوم: لو تممنا يومنا هذا، فسماهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) العصاة، فلم يزالوا يسمون بذلك الاسم حتى قبض عليه السلام (4). فإن المفهوم من قوله: " لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصوم في السفر... منذ نزلت
(1) سنن ابن ماجة: 1 / 532: الحديث 1665. (2) صحيح مسلم: 7 / 229. (2) الراوندي: فقه القرآن: في ضمن سلسلة الينابيع الفقهية: 6 / 217. (3) صحيح مسلم: 7 / 229. 285 هذه الآية " هو أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يصوم قبل نزول الآية. 5 - وروى مسلم عن جابر بن عبد الله (رض) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب فقيل له بعد ذلك: إن بعض الناس قد صام؟ فقال: " أولئك العصاة، أولئك العصاة " (1). وهذا الحديث صريح في أن الصوم في السفر معصية لا تجوز 6 - وروى ابن ماجة عن عبد الرحمن بن عوف، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر " (2). 7 - وروى أيضا عن أنس بن مالك، رجل من بني عبد الأسهل (وقال علي بن محمد: من بني عبد الله بن كعب) قال: أغارت علينا خيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يتغدى فقال: " أدن فكل " قلت: إني صائم. قال: " أجلس أحدثك عن الصوم أو الصيام. إن الله عز وجل وضع عن المسافر شطر الصلاة، وعن المسافر والحامل والمرضع، الصوم أو الصيام ". والله لقد قالهما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كلتاهما أو إحداهما. فيا لهف نفسي. فهلا كنت طعمت من طعام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (3). فالوضع بمعنى الرفع وهو كناية عن عدم التشريع ومن المعلوم أن أي عمل عبادي ليس له رصيد في التشريع يكون باطلا. 8 - روى أن دحية الكلبي خرج من قرية من دمشق إلى قدر ثلاثة أميال في رمضان ثم إنه أفطر وأفطر معه أناس وكره آخرون أن يفطروا، فلما رجع إلى قريته،
(1) مسلم: الصحيح: 7 / 232. (2) ابن ماجة: السنن: 1 / 532، الحديث 1666. (3) المصدر نفسه: 1 / 533، الحديث 1667. 286 قال: والله لقد رأيت اليوم أمرا ما كنت أظن أني أراه، إن قوما رغبوا عن هدى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول ذلك للذين صاموا قبل، رواه أبو داود (1). يا ترى فهل يمكن أن يتعجب مثل دحية الكلبي عن قوم لم يفعلوا شيئا إلا أنهم أخذوا بالرخصة في الصوم سفرا؟ فتعجبه وتأوهه هذا ينبي عن أنهم كانوا مخالفين لسنة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا يعرب عن أن الإفطار كان هو السائد على الأوساط الإسلامية ولو كان أمرا جائزا لما كان لتعجبه وجه. 9 - قال البخاري في " باب من أفطر من السفر ليراه الناس " وساق الحديث عن ابن عباس قال: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من المدينة إلى مكة فصام حتى بلغ عسفان، ثم دعا بماء فرفعه إلى يديه ليريه الناس فأفطر حتى قدم مكة وذلك في رمضان (2). 10 - ما نقله الخطابي في أعلام التنزيل عن ابن عمر أنه قال: لو صام في السفر قضى في الحضر (3). إلى هنا تم الكلام حول أدلة القائلين بكون الإفطار في السفر عزيمة، وإليك أدلة القائلين بخلاف ذلك. * * * أدلة القائلين بكون الإفطار رخصة: استدل القائلون بكون الإفطار في السفر رخصة لا عزيمة بدليلين من الكتاب والسنة.
(1) ابن قدامة: المغني: 2 / 93. (2) البخاري: الصحيح: 3 / 44. (3) الفخر الرازي: التفسير الكبير: 5 / 76. 287 أما الكتاب فقوله تعالى: * (أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) * (البقرة - 184). تقريبه: إن قوله * (وأن تصوموا خير لكم) * راجع إلى المسافر فهو يدل مضافا إلى جواز الصيام في السفر، يدل على أفضليته فيه وينتج أن الإفطار رخصة والصيام أفضل. يلاحظ عليه: أولا: أن الاستدلال إنما يتم لو لم نقل بأن الآية الثانية * (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن...) * ناسخة للآية المتقدمة برمتها ومنها قوله: * (وأن تصوموا خير لكم) *. وإلا فعلى القول بالنسخ كما رواه الإمام البخاري يسقط الاستدلال وإليك ما روى: قال: (باب وعلى الذين يطيقونه فدية) قال ابن عمر وسلمة بن الأكوع: نسختها * (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر...) * (1). وثانيا: أن الاستدلال مبني على أن لا يكون قوله سبحانه: * (وأن تصوموا خير لكم) * ناسخا لقوله: * (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له) * كما رواه الإمام البخاري عن ابن أبي ليلى أنه حدثه أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه ورخص لهم في ذلك فنسختها: * (وأن تصوموا خير لكم) * فأمروا بالصوم (2).
(1) البخاري: الصحيح: 3 / 44. (2) البخاري: الصحيح: 3 / 45: باب وعلى الذين يطيقونه فدية. 288 إذ على هذا التفسير لا صلة بالمنسوخ والناسخ بالمسافر، بل كلاهما ناظران إلى الحاضر فقد كان من يطيقه تاركا للصوم مقدما للفدية فنزل الوحي وأمرهم بالصوم، فأي صلة له بالموضوع (1). وثالثا: مع غض النظر عما سبق من الأمرين وتسليم أن الآية ليس فيها نسخ - كما هو الحق على ما قدمناه في صدر البحث - نقول: إن قوله * (وأن تصوموا خير لكم) * حض على الصيام ودعوة إلى تلك العبادة من غير نظر إلى المريض والمسافر والمطيق وإنما هو خروج عن الآية بإعطاء بيان حكم كلي وهو أن الصيام خير للمؤمنين وليس عليهم أن يتخلوا عنه لأجل تعبه. ولأجل ذلك يقول: * (إن كنتم تعلمون) *. قال العلامة الطباطبائي: " قوله تعالى: * (وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون) * جملة متممة لسابقتها، والمعنى بحسب التقدير: تطوعوا بالصوم المكتوب عليكم فإن التطوع بالخير خير والصوم خير لكم فالتطوع به خير، على خير وربما يقال: إن الجملة، أعني: قوله: * (وأن تصوموا خير لكم) * خطاب للمعذورين دون عموم المؤمنين المخاطبين بالعرض والكتابة، فإن ظاهرها رجحان فعل الصوم غير المانع من الترك فيناسب الاستحباب دون الوجوب، ويحمل على رجحان الصوم واستحبابه على أصحاب الرخصة. ومن المريض والمسافر فيستحب لهم اختيار الصوم على الإفطار والقضاء. ويرد عليه: عدم الدليل عليه أولا، واختلاف الجملتين، أعني قوله: * (فمن كان منكم) * قوله: * (وأن تصوموا خير لكم) *، بالغيبة والخطاب ثانيا، وأن الجملة الأولى (ليست) مسوقة لبيان الترخيص والتخيير، بل ظاهر قوله: * (فعدة من أيام أخر) * تعين الصوم في أيام أخر كما مر ثالثا، وإن الجملة الأولى على تقدير ورودها لبيان الترخيص في حق المعذور لم يذكر الصوم والإفطار حتى يكون قوله
289 : * (وأن تصوموا خير لكم) * بيانا لأحد طرفي التخيير، بل إنما ذكرت صوم شهر رمضان وصوم عدة من أيام أخر وحينئذ لا سبيل إلى استفادة ترجيح صوم شهر رمضان على صوم غيره من مجرد قوله: * (وأن تصوموا خير لكم) * من غير قرينة ظاهرة رابعا، وإن المقام ليس مقام بيان الحكم حتى ينافي ظهور الرجحان كون الحكم وجوبيا بل المقام - كما مر سابقا - مقام بيان ملاك التشريع وإن الحكم المشرع لا يخلو عن المصلحة والخير والحسن كما في قوله: * (فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم ذلكم خير لكم) * (البقرة / 54) وقوله تعالى: * (فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم) * (الجمعة - 9) وقوله تعالى: * (تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون) * (الصف - 11) والآيات من ذلك كثيرة خامسا (1). * * * أدلة القائل بالرخصة من السنة: هذا وقد استدل القائل بالرخصة ببعض الروايات، وهي بين قاصرة سندا أو قاصرة دلالة، وإليك دراستها برمتها وقبل أن نذكر النصوص نلفت نظر القارئ إلى أمور: 1 - إن البحث مركز على حكم صيام شهر رمضان في السفر، وإن الإفطار عزيمة أو رخصة، وأما صيام غيره في السفر فخارج عن موضوع البحث. 2 - إن النبي الأكرم أمر بالإفطار في عام الفتح وكان الأمر قبله على التخيير، فلو دل حديث على التخيير فإنما يصح الاستدلال بها إذا ورد بعد عام الفتح، وإلا فالتخيير قبل الفتح ليس موردا للنقاش.
(1) الطباطبائي: الميزان: 2 / 14. 290 3 - لو افترضنا دلالة الروايات على التخيير، فتقع المعارضة بين الإمرة بالإفطار والحاكمة على التخيير فلا بد من الرجوع بالمرجحات فما وافق الكتاب فهو الحجة أولا كما أن الأكثر عددا، أو ما كان رواتها أفقه وأعلم، فهو المقدم على غيره. وعلى ضوء هذه الأمور ندرس الروايات المجوزة للأمرين ونقول: إن الروايات المجوزة على أصناف: أ - ما ليس بصريح في ورودها في شهر رمضان: 1 - ما رواه البخاري بسنده عن عائشة أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أأصوم في السفر؟ وكان كثير الصيام، فقال: " إن شئت فصم وإن شئت فأفطر " (1). يلاحظ عليه: أولا: بأن التخيير بين الصوم والإفطار المستفاد من الحديث ليس صريحا ولا ظاهرا في صوم رمضان ولا الصوم الواجب، بل الظاهر هو الصوم المندوب بدليل قوله: " وكان كثير الصيام " وهذا لا يطلق إلا على المتطوع. وثانيا: يحمل على ما قبل نسخ التخيير في السفر، فإنه يستفاد من بعض الروايات كما مر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فرض الإفطار على المسافر في أمره الأخير. 2 - ما رواه أيضا بسنده عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض أسفاره في يوم حار حتى يضع الرجل يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا ما كان من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وابن رواحة (2). ويرد على الاستدلال ما ذكر في الاستدلال السابق مضافا إلى احتمال أن
(1) البخاري: الصحيح: 3 / 43. (2) البخاري: الصحيح: 3 / 43. 291 صوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وابن رواحة كان نذرا معينا. 3 - ما رواه أيضا بسنده عن أنس بن مالك قال: كنا نسافر مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم (1). يلاحظ عليه: بمثل ما قلناه في الحديثين السابقين مضافا إلى أن الحديث لم يذكر فيه أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علم بصيام بعضهم فسكت عنهم حتى يكون هذا التقرير حجة علينا، وأما سكوت بعض الصحابة فلا يكون حجة علينا لعدم إجماعهم على التخيير بين الصوم والإفطار في السفر كما ذكرنا، ولو حصل إجماع فهو ليس حجة، لأن القائل بحجية إجماع الصحابة إنما قال به بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأما قبل وفاته (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يجمعوا على القول بالرخصة ولا العزيمة كما بينا. 4 - ما رواه مسلم بسنده عن طاووس عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لا تعب على من صام ولا على من أفطر قد صام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في السفر وأفطر (2). ويلاحظ على الاستدلال بما ذكرناه من أنه ليس صريحا في شهر رمضان. 5 - ما رواه أيضا بسنده عن حمزة بن عمرو الأسلمي - رضي الله عنه - أنه قال: يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر فهل علي جناح؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " هي رخصة من الله فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه " قال هارون في حديثه: هي رخصة ولم يذكر: من الله (3). يلاحظ على الاستدلال بما ذكرناه سابقا. 6 - ما روي عن علي أنه صام في سفر، لأنه كان راكبا، وأفطر سعد مولاه لأنه كان ماشيا (4).
(1) البخاري: الصحيح: 3 / 44. (2) مسلم: الصحيح: 7 / 232. (3) مسلم: الصحيح: 7 / 238. (4) ابن حزم: المحلى: 6 / 247. 292 ويحمل هذا على التطوع إذ ليس فيه أنه كان صائما في رمضان. ب - ما يدل على لزوم الصوم لفقد شرط الإفطار 1 - ما روي عن عبيدة السلماني عن علي بن أبي طالب قال: " من أدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر بعد، لزمه الصوم لأن الله تعالى قال: * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * (1). يلاحظ عليه: بأن الظاهر من الحديث أن المقيم إذا كان صائما في رمضان فتجدد له السفر ولم يبيت نية السفر فعليه صوم ذلك اليوم وإن كان مسافرا، ومعنى الرواية اشتراط تبيت نية السفر في الإفطار، وأما إذا تجدد السفر فعليه الصوم، والقول بالصوم في مثله، لا يضر بكون الإفطار عزيمة لمن بيت السفر من الليل. 2 - ما رواه أبو داود بسنده عن سلمة بن المحبق عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " من كانت له حمولة يأوي إلى شبع فليصم رمضان حيث أدركه " (2). يلاحظ عليه: أولا: أن الحديث ظاهر في حكم المكاري وهو دائم السفر، لأن الحمولة - بالضم - هي الأحمال، يعني أنه يكون صاحب أحمال يسافر بها. ولا شك في أن المكاري كما قلنا يجب عليه الصوم ولا يمكن تسرية حكمة إلى غيره. وثانيا: أن الحديث مخدوش من حيث السند. قال ابن حزم: وأما حديث ابن المحبق: " من كان يأوي إلى حمولة أو شبع فليصم " فحديث ساقط، لأن رواية عبد الصمد بن حبيب - وهو بصري - ليس الحديث عن سنان بن سلمة بن المحبق وهو مجهول " (3).
(1) ابن حزم: المحلى: 6 / 247. (2) مسند أبي داود: 2 / 292. (3) ابن حزم: المحلى: 6 / 249. 293 ج - ما هو ضعيف سندا لا يحتج به: وهناك روايات ضعاف لا يصح الاحتجاج بها أو اجتهاد من الراوي ولا يمت إلى النبي بصلة، ولو افترضنا قوة دلالتها وظهورها في شهر رمضان: 1 - ما روي عن العطريف بن هارون مرسلا: أن رجلين سافرا فصام أحدهما وأفطر الآخر فذكرا ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " كلاكما أصاب " (1). 2 - وما روي مرسلا عن أبي عياض: " أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر أن ينادي في الناس من شاء صام ومن شاء أفطر " (2). يلاحظ على الاستدلال أولا: أنهما مرسلان ولا حجة في مرسل. وثانيا: أنهما ليسا ظاهرين في رمضان، ويمكن حملهما على التطوع. وثالثا: يمكن حملهما على ما قبل نسخ التخيير والأمر الأخير ورد على الإفطار في السفر. 3 - ما روي عن حمزة بن عمرو الأسلمي أنه قال: يا رسول الله أجد بي قوة على الصيام في السفر؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " أي ذلك شئت يا حمزة " (3). يلاحظ على الاستدلال بمثل ما ذكر في الحديث الأول أولا، وأن سند هذا الحديث ضعيف ثانيا. قال ابن حزم: " وأما حديث حمزة بن عمرو الذي ذكرناه ههنا الذي فيه إباحة الصوم في رمضان السفر، فإنما هو من رواية ابن حمزة - ابنه محمد بن حمزة - وهو ضعيف وأبوه كذلك، وأما الثابت من حديث حمزة هو ما نذكره إن شاء الله تعالى " (4) وقد نقلناه فيما سبق عن البخاري ومسلم.
(1) ابن حزم: المحلى: 6 / 247. (2) ابن حزم: المحلى: 6 / 248. (3) ابن حزم: المحلى: 6 / 248. (4) ابن حزم: المحلى: 6 / 250. 294 4 - ما روي عن عائشة أنها كانت تصوم في السفر وتتم الصلاة (1). يلاحظ عليه: أن صيام عائشة في السفر وإتمامها للصلاة كان اجتهادا منها غير مستند إلى رواية فليس فيه حجة علينا وذكروا لها تأويلات لاجتهادها، مر البحث عنها في مسألة القصر في الصلاة فلا نعيد. د - ما هو غير دال على ما يتبناه المستدل 1 - ما رواه مسلم بسنده عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكديد، ثم أفطر، قال: وكان صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره (2). قال النووي في شرحه: فيه دليل لمذهب الجمهور أن الصوم والفطر جائزان (3). يلاحظ عليه: أن الحديث ظاهر في أن الأمر الأخير الذي بينه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الإفطار فهو ناسخ للحكم السابق أي جواز الصوم في السفر ويدل عليه قوله: " كان صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره " والمقصود من أمره الأخير هو الأمر بالإفطار لما رواه مسلم بسنده عن الزهري: وكان الفطر آخر الأمرين وإنما يؤخذ من أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالآخر فالآخر. (4) 2 - وفي حديث آخر روى مسلم بسنده عن ابن شهاب، قال ابن شهاب: فكانوا يتبعون الأحدث من أمره ويرونه الناسخ المحكم (5).
(1) ابن حزم: المحلى: 6 / 247. (2) مسلم: الصحيح بشرح النووي: 7 / 230. (3) مسلم: الصحيح بشرح النووي: 7 / 230. (4) مسلم: الصحيح: 7 / 231. (5) مسلم: الصحيح: 7 / 231. 295 فإذا كان الأمر الأخير الناسخ المحكم هو الإفطار والأمر يدل على الوجوب، فأي علاقة بمدعى القوم؟ وحصيلة البحث: أن هذه الروايات بينما هي غير صريحة في كون الصيام المرخص صيام شهر رمضان، بل من المحتمل أن المرخص صياما نذريا في غير شهر رمضان، وبينما هي صريحة في شهر رمضان لكن الأمر بالصيام لأجل فقدان الشرط اللازم للإفطار ككون الرجل مكاريا أو غير مبيت للصيام من الليل وبينما هو ضعيف سندا لا يحتج به. ولو افترضنا دلالة هذا الصنف برمته على أن الإفطار رخصة فيقع التعارض بين الصنفين فيكون المرجع هو المرجحات المذكورة في باب التعادل والترجيح. وأولى المرجحات هو موافقة الكتاب، ومن المعلوم أن الصنف الأول يدعمه الكتاب وهو يرد الصنف الثاني لما عرفت من ظهور الكتاب في أن المفروض على الأصناف الثلاثة هو القضاء من أول الأمر لا الصيام، لكنهم إذا أفطروا قضوا. ثم بعد ذلك المرجح تأتي مرحلة سائر المرجحات، ومن المعلوم أن الصنف الأول أصرح وأظهر دلالة بخلاف الصنف الثاني، وأن رواة الصنف الأول أكابر الصحابة وأعلامها الذين لا يشق غبارهم فعند ذلك لا محيص للفقيه من أخذ الصنف الأول ورفض الصنف الثاني وإرجاع علمه إلى أصحابه.
296 المسألة العاشرة: - 1 - رؤية الله تعالى في الدارين هذه هي المسألة العاشرة التي كان للمبتدعة فيها دور قوي إلى حد إحلال البدعة مكان السنة، والتشبيه محل التنزيه، فصارت رؤية الله في الآخرة من العقائد الإسلامية، واحتلت مكانا عاليا فيها إلى حد تكفير منكرها، وإن كان إنكارها لدليل واجتهاد. ولأجل رفع القناع عن وجهها، ندرسها - حياديا - في ضوء الكتاب والسنة والعقل الصريح الذي به عرفنا وجوده سبحانه، ولكن قبل الخوض في نقل الأقوال، وإقامة البرهان، نذكر مقدمة موجزة، تتضمن سمات العقيدة الإسلامية حتى يرجع إليها القارئ عند الشك والتردد في جانب الإيجاب والسلب للمسألة. سمات العقيدة الإسلامية: إن للعقيدة الإسلامية سمات وعلائم تتميز بها عن غيرها، ونذكر منها في المقام أمورا ثلاثة:
297 1 - سهولة العقيدة ويسرها: العقيدة الإسلامية لها سمات أوضحها أنها عقيدة سهلة يسرة فهمها وتعلمها، وذلك لأنها عقيدة شمولية لا تختص بالفلاسفة والمتكلمين والمفكرين، ولا يعني ذلك سذاجتها وابتذالها وعدم خضوعها للبراهين العقلية، بل يعني أنها في متانتها ورصانتها وخضوعها للبراهين والأدلة، بعيدة عن الألغاز والإبهامات، فلو فسرت وبينت لفهمها عامة الناس حسب مستوياتهم، فهي بسمتها هذه في جبهة مخالفة لما تتبناه نصرانية اليوم والأمس، فقد حاقتها إبهامات في العقيدة وألغاز في الدين، بحيث لم يتيسر لأحد لحد الآن حل مشاكلها وتبيينها للمفكرين فضلا عن عامة الناس، فنأتي بنموذج: إن المسلم إذا سئل عن معتقده في التوحيد وصفاته وسماته يقول: " هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " وقد جاء في الأثر أن جماعة من أهل الكتاب سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: إنسب، لنا ربك فنزلت سورة التوحيد (1). فالعقيدة الإسلامية في هذا المجال واضحة المفاهيم، جلية المعالم لا يكسوها إبهام ولا يسترها لغز فيخرج المسلم في مقام الوصف وتبيين العقيدة، مرفوع الرأس والهامة، إذ مع عقيدته براهينها الواضحة، يقف عليها من درس عقيدته. وأما لو سئل النصراني في ذلك المجال، فإنه يتلعثم في بيانها، فتارة يقول: إنه واحد وفي الوقت نفسه ثلاثة، ثم يضيف: إنه لا منافاة بين كون الشئ واحدا وكثيرا، ومن المعلوم أن هذه العقيدة يعلوها الإبهام ويكسوها الإجمال، لا تقبله الطباع السليمة إذ كيف نذعن بأنه سبحانه واحد لا نظير له ولا مثيل ولا ند، ولكنه مع ذلك له أنداد ثلاثة وأمثال متعددة، فهذه العقيدة يناقض أولها آخرها ويرد آخرها أولها، فهو سبحانه إما واحد لا نظير له وإما كثير له أمثال.
(1) الطبرسي: مجمع البيان: 5 / 564. 298 وقس على ذلك سائر المواضيع في العقيدة الإسلامية، وقابلها مع ما تقول سائر الشرائع فيها، ترى تلك السمة بنفسها في العقيدة الإسلامية ونقيضها في غيرها. إن من العوامل التي ساعدت على انتشار الإسلام بسرعة في مختلف الحضارات وتغلغله بين الأوساط، اتسامه بسهولة العقيدة ويسر التكليف. يقول الأستاذ الشيخ محمد محمد المدني المغفور له: يقول الله عز وجل في حض العباد على التفكر في خلقه وآثاره وما له من تصريف وتدبير: * (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) *. * (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض) *، * (فانظروا كيف بدأ الخلق) *، * (انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه) *، * (فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها) *، * (قل سيروا في الأرض ثم انظروا) *، * (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) *. ويقول الله عز وجل في وصف نفسه، وإعلام المخلوقين بأنه فوق ما يعقلون أو يدركون: * (وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير) *، * (ليس كمثله شئ وهو السميع البصير) *، * (قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد) *، * (وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون * بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شئ وهو بكل شئ عليم * ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه وهو على كل شئ وكيل * لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) *. فالقرآن الكريم لم يأت لنا أبدا بشئ يفصح عن ذات الله تعالى من حيث الحقيقة والكنه، وإنما هو يلفت دائما إلى آثار الله في الخلق والتصريف (1).
(1) مجلة رسالة الإسلام، العدد 49 / 50 - 51، القاهرة دار التقريب بين المذاهب الإسلامية. 299 2 - المطلوب في العقائد هو الإذعان، وفي الأحكام العمل: وهناك أمر ثان نلفت إليه نظر القارئ وهو الفرق الواضح بين العقيدة والأحكام الشرعية العملية فإن المطلوب في الأولى، هو الاعتقاد الجازم ومن المعلوم أن الإذعان بشئ رهن مقدمات بديهية أو نظرية منتهية إليها حتى يستتبع اليقين والإذعان، وهذا بخلاف الأحكام الشرعية فإن المطلوب فيها هو العمل وتطبيقها في مجالات الحياة، من دون التوقف على الإذعان بقطعيتها وصدورها عن الشارع. وهذا الفرق بين العقائد والأحكام يجرنا إلى التأكد من صحة الدليل وإتقانه أو ضعفه وبطلانه في مجال العقائد أكثر من الأحكام، ولذلك نرى أئمة الفقه يعملون بأخبار الآحاد في مجال الأحكام والفروع العملية ولا يشترطون إفادتها القطع واليقين، وهذا بخلاف العقائد فبما أن المطلوب فيها هو عقد القلب ورسوخ الفكرة في القلب والنفس، يرفضون خبر الآحاد في ذلك المجال ويشترطون تواتر النص أو استفاضته إلى حد يورث العلم. 3 - خضوعها للبرهان العقلي: وهناك أمر ثالث وراء هذين الأمرين وهو أنه لا يمكن لباحث إسلامي يريد تبيين العقائد الإسلامية بأسلوب علمي رائع، أن يرفض العقل بتاتا ويقتنع بالنصوص وذلك لأن الأخذ بالنص رهن ثبوت أصول موضوعية قبله، عليها تبتنى نبوة الرسول الأكرم وحجية قوله، فما لم يثبت للعالم صانع حكيم باعث للأنبياء والرسل لهداية الناس مدعمهم بالمعجزات والبينات لا تثبت نبوة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وحجية كلامه في مجال العقيدة، وكيف لنا أن نعتمد في مجال العقائد على النصوص الشرعية حتى في إثبات الصانع ونبوة رسوله فإنه مستلزم للدور المحال.
300 وهذا هو الذي يفرض علينا أن لا نصك أذاننا عن صوت العقل ونقف على أن العمود الفقري للعقائد التي يبنى عليها صرح النبوة المحمدية (صلى الله عليه وآله وسلم) هو اتباع العقل ودلالته، ولذلك نرى أن الكتاب العزيز يتوصل في إثبات هذا الأصل من الأصول بدلالة العقل وإرشاده، فيستدل على أصول التوحيد بقضاء العقل ويتكلم باسم العقل ويقول: * (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون) * (الأنبياء / 22) فيستدل على توحيده ونفي الإله المتعدد بقضية شرطية وهي ترتب الفساد في الكون على تعدد الآلهة. ويقول سبحانه: * (ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون) * (المؤمنون / 91). ويقول سبحانه: * (قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا) * (الإسراء / 42)، فالآيات الثلاث على اختلافها في الإجمال والتفصيل تحتوي برهانا مشرقا خالدا على جبين الدهر. ويقول سبحانه: * (أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون) * (الطور / 35) فيستمد من الفطرة في إبطال وجود الممكن وتحققه بلا علة وصانع. نرى أتقن البراهين وأوضحها في إبطال ربوبية الأجرام السماوية من خلال مناظرة إبراهيم الخليل (عليه السلام) مع عبدتها فيستدل بالأفول على بطلان ربوبيتها ضمن آيات، قال سبحانه: * (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين * فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين * فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين * فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين) * (الأنعام / 75 - 79).
301 فقد بلغ الخليل النهاية في مجال المعرفة على وجه رأى ملكوت السماوات والأرض فأراه سبحانه ملكوتهما، أي كونهما قائمين بالله سبحانه وما ذلك إلا ليكون موقنا ومذعنا لأصول الوحيد، وما أراه ملكوت السماوات والأرض إلا بإلهامه البرهان الدامغ الذي أثبت به بطلان ربوبية الكوكب والقمر والشمس وانتهى في آخره إلى أنه لا إله إلا هو، وقال بعد ذكر البراهين * (إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين) * (الأنعام / 79). فهذه الآيات ونظائرها تكشف عن أصل موضوعي في الشريعة الإسلامية، وهو أن الغاية من طرح الأصول العقائدية هي الوصول إلى الإذعان واليقين لا التعبد بها دون يقين، وهذا يفرض علينا أن نفتح مسامعنا لنداء العقل ودعوته خصوصا في الأصول الأولية التي تبنى عليها نبوة النبي الأكرم، فمن حاول إعدام العقل ورفضه عن ساحة البحث، والاكتفاء بالنص فقد لعب على حبل خاسر إذ أن بديهة العقل تحكم بأن الاكتفاء بالسمع في عامة الأصول مستلزم للدور وتوقف صحة الدليل على ثبوت المدعى وبالعكس. إن رفض العقل في مجال البرهنة على العقيدة عند بعض الفرق صار سببا لتغلغل العقائد الخرافية بين لفيف من الطوائف الإسلامية، وفي ظل هذا الأصل أي إبعاد العقل عن الساحة دخلت أخبار التجسيم والتشبيه في الصحاح والمسانيد عن طريق مستسلمة الأحبار والرهبان الذين تظاهروا بالإسلام وأبطنوا اليهودية والنصرانية وخدعوا عقول المسلمين، فحشروا عقائدهم الخرافية بين المحدثين والسذج من الناس اغترارا بإسلامهم وصدق لهجتهم. إن من مواهبه سبحانه للإنسان أنه أنار مصباح العقل في كل قرن وزمان ليكون حصنا أمام نفوذ الخرافات والأوهام إلى ذهنه وفكره، وليميز به الإنسان الحق عن الباطل فيما له فيه حق القضاء، وكلامنا هذا لا يعني إلى أن المرجع
302 الوحيد في العقيدة هو العقل دون الشرع وإنما يهدف إلى أن اللبنات الأولية لصرح المعتقد الإسلامي يجب أن تكون خاضعة للبرهان غير مناقضة لحكم العقل. نعم، بعد ما ثبتت الأصول الموضوعية في مجال العقيدة وثبتت في ظلها نبوة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) يكون كل ما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حجة في العقائد والأحكام، لكن بشرط الوصول إلينا عن طريق مفيد للعلم، والإذعان بأنه مما صدر عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم). وقد خرجنا في هذه المقدمة الموجزة بنتائج ثلاث: الأولى: أن العقيدة الإسلامية سهلة يسرة، لا تكلف في الاعتناق بها. الثانية: أن المطلوب في العقائد هو الإذعان وعقد القلب، وهذا لا يحصل إلا بعد ثبوت المقدمات المنتهية إليه وليس من شأن أخبار الآحاد، خلق اليقين والإذعان ما لم يثبت صدورها عن مصدر الوحي على وجه القطع واليقين، بخلاف الأحكام فإن المطلوب فيها هو العمل تعبدا. ولا يتوقف على العلم بالصدور. الثالثة: أن الأصول التي تبنى عليها ثبوت النبوة لا تثبت إلا بالعقل دون الشرع. ففي ضوء هذه النتائج الثلاثة ندرس فكرة رؤية الله تعالى يوم القيامة التي أوجدت ضجة في الآونة الأخيرة بين المفكرين الواعين ومقلدة أخبار الآحاد والمخدوعين بالإسرائيليات من الروايات وسوف تقف على حقيقة الأمر بإذنه سبحانه.
303 - 2 - التجسيم، والتشبيه، والجهة، والرؤية أفكار مستوردة وبدع يهودية لما انتشر الإسلام في الجزيرة العربية وضرب بجرانه أراضيها، ودخل الناس في الإسلام زرافات ووحدانا، لم تجد اليهود والنصارى المتواجدين فيها محيصا إلا الاستسلام فدخلوا فيه متظاهرين به، غير معتقدين غالبا إلا من شملتهم العناية الإلهية منهم وكانوا قليلين، ولكن الأغلبية الساحقة منهم خصوصا الأحبار والرهبان، بقوا على ما كانوا عليه من العقائد السابقة. وبما أنهم كانوا من أهل الكتاب عارفين بما في العهدين من القصص والحكايات والأصول والعقائد، عمدوا إلى نشرها بين المسلمين بخداع خاص، وبطريقة تعليمية، وكانت السذاجة تغلب على عامة المسلمين فتلقوهم علماء ربانيين، يحملون العلم فأخذوا ما يلقون، بقلب واع، ونية صادقة وبالتالي نشروا في هذا الجو المساعد كل ما عندهم من القصص الخرافية والعقائد الباطلة، خصوصا فيما يرجع إلى التجسيم والتشبيه وتصغير الأنبياء في أنظار المسلمين بإسناد المعاصي الموبقة إليهم، والتركيز على القدر وسيادته في الكون على كل شئ حتى على إرادة الله سبحانه ومشيئته، ولم تكن رؤية الله بأقل مما سبق في تركيزهم
304 عليها، فما ترى في كتب الحديث قديما وحديثا من الأخبار الكثيرة حول التجسيم، والتشبيه، والقدر السالب للاختيار والرؤية ونسبة المعاصي إلى الأنبياء، فكل ذلك من آفات المستسلمة من اليهود والنصارى فقد حسبها المسلمون حقائق راهنة وقصصا صادقة، فتلقوها بقبول حسن نشرها السلف بين الخلف واستديم الأمر على ذلك. ومن العوامل التي فسحت المجال للأحبار والرهبان لنشر ما في العهدين بين المسلمين حظر تدوين حديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ونشره ونقله والتحدث به أكثر من مائة سنة، فأوجد الفراغ الذي خلفه هذا العمل أرضية مناسبة لظهور بدع يهودية ونصرانية وسخافات مسيحية وأساطير يهودية خصوصا من قبل كهنة الرسول ورهبان النصارى. كان التحدث بحديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرا مكروها بل محظورا من قبل الخلفاء إلى عصر عمر بن عبد العزيز (19 - 101 ه) بل إلى عصر المنصور العباسي (143 ه) ولكن كان المجال للتحدث بالأساطير من قبل هؤلاء أمرا مسموحا به، وهذا هو تميم بن أوس الداري من رواة الأساطير وقد أسلم سنة تسع للهجرة، وهو أول من قص بين المسلمين واستأذن عمر أن يقص على الناس قائما، فأذن له وكان يسكن المدينة ثم انتقل إلى الشام بعد قتل عثمان (1). فإذا سمحت الظروف بمثل هذا الكتابي أن يتحدث بما تعلم في حياته السابقة ومنعت عن التحدث بحديث الرسول كان المجال خصبا لنشر الأساطير والعقائد الخرافية. يقول الشهرستاني: " وضع كثير من اليهود الذين اعتنقوا الإسلام أحاديث
(1) ابن عبد البر: الإستيعاب في هامش الإصابة، وابن حجر: الإصابة: 1 / 189، والجزري: أسد الغابة: 1 / 215، والمتقي الهندي: كنز العمال: 1 / 281 برقم 29448. 305 متعددة في مسائل التجسيم والتشبيه وكلها مستمدة من التوراة " (1). وهذا هو المقدسي يتكلم عن وجود هذه العقائد بين عرب الجاهلية، يقول: وكان فيهم من كل ملة ودين وكانت الزندقة والتعطيل في قريش، والمزدكية والمجوسية في تميم، واليهودية والنصرانية في غسان، وعبادة الأوثان في سائرهم (2). قال ابن خلدون: إن العرب لم يكونوا أهل كتاب ولا علم وإنما غلبت عليهم البداوة والأمية، وإذا تشوقوا إلى معرفة شئ مما تتوق إليه النفوس البشرية في أسباب المكونات وبدء الخليقة وأسرار الوجود فإنما يسألون عنه أهل الكتاب قبلهم، ويستفيدونه منهم وهم أهل التوراة من اليهود ومن تبع دينهم من النصارى مثل كعب الأحبار ووهب بن منبه، وعبد الله بن سلام وأمثالهم فامتلأت التفاسير من المنقولات عندهم وتساهل المفسرون في مثل ذلك وملأوا كتب التفسير بهذه المنقولات، وأصلها كلها كما قلنا من التوراة أو مما كانوا يفترون (3). ولو أردنا أن ننقل كلمات المحققين حول الخسارة التي أحدثتها مستسلمة اليهود والنصارى لطال بنا الكلام وطال مقامنا مع القراء. ومن أكابر أحبار اليهود الذين تظاهروا بالإسلام هو كعب الأحبار فقد خدع عقول المسلمين وحتى الخلفاء والمترجمين عنه من علماء الرجال. وقد أسلم في زمن أبي بكر وقدم من اليمن في خلافة عمر فأخذ عنه الصحابة وغيرهم. قال الذهبي: العلامة الحبر الذي كان يهوديا فأسلم بعد وفاة النبي وقدم المدينة من اليمن في أيام عمر (رض) وجالس أصحاب محمد فكان يحدثهم عن الكتب الإسرائيلية ويحفظ عجائب - إلى أن قال: - حدث عنه أبو هريرة ومعاوية
(1) الشهرستاني: الملل والنحل: 1 / 117. (2) المقدسي: البدء والتاريخ: 4 / 31. (3) ابن خلدون: المقدمة / 439. 306 وابن عباس وذلك من قبيل رواية الصحابي عن تابعي وهو نادر عزيز، وحدث عنه أيضا أسلم " مولى عمر " وتبيع " الحميري ابن امرأة كعب " وروى عنه عدة من التابعين كعطاء بن يسار وغيره مرسلا وقع له رواية في سنن أبي داود والترمذي والنسائي (1). وعرفه الذهبي أيضا في بعض كتبه بأنه من أوعية العلم (2). فقد وجد الحبر الماكر جوا ملائما لنشر الأساطير والقصص الوهمية وبذلك بث سمومه القاتلة بين الصحابة والتابعين وقد تبعوه وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وقد تنبه إلى جسامة الخسارة التي أحدثها ذلك الحبر، لفيف من السابقين منهم ابن كثير في تفسيره حيث إنه بعد ما أورد طائفة من الأخبار في قصة ملكة سبأ مع سليمان قال: والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب، مما وجد في صحفهم كروايات كعب ووهب سامحهما الله تعالى في ما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل من الأوابد والغرائب والعجائب مما كان وما لم يكن، ومما حرف وبدل وفسخ، وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ (3). والذي يدل على عمق مكره وخداعه لعقول المسلمين أنه ربما ينقل شيئا من العهدين، وفي الوقت ذاته نرى أن بعض الصحابة الذين تتلمذوا على يديه وأخذوا منه، ينسب نفس ما نقله إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، والذي يبرر ذلك العمل حسن ظنهم وثقتهم به، فحسبوا المنقول أمرا واقعيا فنسبوه إلى النبي زاعمين أنه إذا كان
(1) الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3 / 489. (2) الذهبي: تذكرة الحفاظ: 1 / 52. (3) ابن كثير: التفسير، قسم سورة النمل: 3 / 339. 307 كعب الأحبار عالما به، فالنبي أولى بالعلم منه. فإن كنت في شك من ذلك فاقرأ نصين في موضوع واحد أحدهما للإمام الطبري في تاريخه ينقله عن كعب الأحبار في حشر الشمس والقمر يوم القيامة، والآخر للإمام ابن كثير صاحب التفسير ينقله عن أبي هريرة عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومضمون الحديث ينادي بأعلى صوته بأنه موضوع مجعول على لسان الوحي نشره الحبر الخادع وقبله الساذج من المسلمين ونشره. 1 - قال الطبري: عن عكرمة قال: بينا ابن عباس ذات يوم جالس إذ جاءه رجل فقال: يا ابن عباس سمعت العجب من كعب الحبر يذكر في الشمس والقمر قال: وكان متكئا فاحتفر ثم قال: وما ذاك؟ قال: زعم يجاء بالشمس والقمر يوم القيامة كأنهما ثوران عقيران فيقذفان في جهنم، قال عكرمة: فطارت من ابن عباس شفة ووقعت أخرى غضبا ثم قال: كذب كعب، كذب كعب، كذب كعب، ثلاث مرات، بل هذه يهودية يريد إدخالها في الإسلام، الله أجل وأكرم من أن يعذب على طاعته، ألم تسمع قول الله تبارك وتعالى: * (وسخر لكم الشمس والقمر دائبين) * إنما يعني دؤوبهما في الطاعة فكيف يعذب عبدين يثني عليهما أنهما دائبان في طاعته قاتل الله هذا الحبر وقبح حبريته، ما أجرأه على الله وأعظم فريته على هذين العبدين المطيعين لله، قال: ثم استرجع مرارا (1). 2 - قال ابن كثير: روى البزار عن عبد العزيز بن المختار قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن في هذا المسجد مسجد الكوفة، وجاء الحسن فجلس إليه فحدث قال: حدثنا أبو هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " إن الشمس والقمر ثوران في النار عقيران يوم القيامة " فقال الحسن: وما ذنبهما؟ فقال: أحدثك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقول أحسبه قال: وما ذنبهما، ثم قال: لا يروى عن أبي هريرة إلا من هذا
(1) الطبري: التاريخ: 1 / 44 ط بيروت. 308 الوجه (1). إن كعب الأحبار لما أسلم بعد رحيل الرسول لم يتمكن من إسناد ما رواه من الأساطير إلى النبي الأكرم، ولو كان مدركا لحياته وإن كان قليلا لنسب الأساطير إليه ولكن حالت المشيئة الإلهية دون أمانيه الباطلة. ولكن أبا هريرة لما صحب النبي واستحسن الظن بكعب الأحبار - أستاذه في الأساطير - نسب الرواية إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). هذا نموذج قدمته إلى القارئ لكي يقف على دور الأحبار والرهبان في نشر البدع اليهودية والنصرانية بين المسلمين، ولا يحسن الظن بمجرد النقل بلا تأكيد من صحته. هذا غيض من فيض وقليل من كثير مما لعب به مستسلمة اليهود والنصارى في أحاديثنا وأصولنا، ولولا أن سبحانه قيض في كل آونة رجالا مصلحين كافحوا هذه الخرافات وأيقظوا المسلمين من السبات، لذهبت هذه الأساطير بروعة الإسلام وصفائه وجلاله. * * * كعب الأحبار وتركيزه على التجسيم والرؤية: إن المتفحص في ما نقل عن ذلك الحبر يقف على أنه كان يركز على فكرتين يهوديتين: الأولى فكرة التجسيم، والثانية رؤية الله تعالى. يقول عن الفكرة الأولى: " إن الله تعالى نظر إلى الأرض فقال إني واطئ على بعضك، فاستعلت إليه الجبال، وتضعضعت له الصخرة، فشكر لها ذلك فوضع
(1) ابن كثير: التفسير: 4 / 475 ط دار الإحياء. 309 عليها قدمه فقال: هذا مقامي، ومحشر خلقي وهذه جنتي وهذه ناري، وهذا موضع ميزاني، وأنا ديان الدين " (1). ففي هذه الكلمة من هذا الحبر تصريح على تجسيمه تعالى أولا، وتركيز على أن الجنة والنار والميزان ستكون على هذه الأرض، ومركز سلطانها سيكون على الصخرة، وهذا من صميم الدين اليهودي المحرف، هذا حول التجسيم. وأما تركيزه على الرؤية فقد أشاع فكرة التقسيم فقال: إن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين موسى ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (2). ومنه انتشرت هذه الفكرة، أي فكرة التقسيم بين المسلمين. ومن أعظم الدواهي أن الرجل تزلف إلى الخلفاء في خلافة عمر وعثمان وحدث عن الكثير من القصص الخرافية، وبعد ما توفي عثمان تزلف إلى معاوية ونشر في عهده ما يؤيد به ملكه ودولته، ومن كلماته في حق الدولة الأموية يقول: مولد النبي بمكة، وهجرته بطيبة وملكه بالشام (3). وبذلك أضفى على الدولة الأموية صبغة شرعية وجعل ملكهم وسلطتهم امتدادا لملك النبي وسلطته. الرؤية في كتب العهدين: إذا كان كعب الأحبار وزملاؤه يحملون فكرة الرؤية فلا غرو ولا عجب في أنهم اتبعوا في نشر الفكرة العهد القديم، وإليك بعض ما ورد فيه تصريح برؤية الرب.
(1) أبو تميم الأصفهاني: حلية الأولياء: 6 / 20. (2) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة: 3 / 237. (3) الدارمي: السنن: 1 / 5. 310 1 - وقال (الرب) لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش. قال الرب هو ذا عندي مكان فتقف على الصخرة، ويكون من اجتاز مجدي أني أضعك في نقرة من الصخرة وأترك بيدي حتى أجتاز، ثم أرفع يدي فتنظر ورائي وأما وجهي فلا يرى (سفر الخروج آخر الإصحاح الثالث والثلاثين). وعلى هذا فالرب يرى قفاه ولا يرى وجهه. 2 - " رأيت السيد جالسا على كرسي عال... فقلت: ويل لي لأن عيني قد رأتا الملك رب الجنود " (أشعيا: ج 6 ص 1 - 6) والمقصود من السيد هو الله جل ذكره. 3 - " كنت أرى أنه وضعت عروش وجلس القديم الأيام، لباسه أبيض كالثلج، وشعر رأسه كالصوف النقي، وعرشه لهيب نار " (دانيال 7: 9). 4 - " أما أنا فبالبر أنظر وجهك " (مزامير داود: 17: 15). 5 - " فقال منوح لامرأته: نموت موتا لأننا قد رأينا الله " (القضاة 13: 23). 6 - " فغضب الرب على سليمان، لأن قلبه مال عن الرب، إله إسرائيل الذي تراءى له مرتين " (الملوك الأول 11: 9). 7 - " وقد رأيت الرب جالسا على كرسيه وكل جند البحار وقوف لديه " (الملوك الأول 22: 19). 8 - " كان في سنة الثلاثين في الشهر الرابع في الخامس من الشهر وأنا بين المسبيين عند نهر خابور، أن السماوات انفتحت فرأيت رؤى الله - إلى أن قال: - هذا منظر شبه مجد الرب، ولما رأيته خررت على وجهي وسمعت صوت متكلم " (حزقيال 1: 1 و 28). إن فكرة الرؤية تسربت إلى المسلمين من المتظاهرين بالإسلام كالأحبار والرهبان، وصار ذلك سببا لجرأة طوائف من المسلمين على جعلها في ضمن
311 العقيدة الإسلامية، بحيث يكفر منكرها أحيانا أو يفسق ولما صارت تلك العقيدة راسخة في القرنين الثاني والثالث بين المسلمين، عاد المتكلمون الذين تربوا بين أحضانهم للبرهنة والاستدلال على تلك الفكرة من الكتاب أولا والسنة ثانيا، ولولا رسوخها بينهم لما تحملوا عب ء الاستدلال وجهد البرهنة، وسوف يوافيك أن الكتاب يرد فكرة الرؤية ويستعظم أمرها وينكرها ويستفظعها بشدة وحماس، وما استدل به على جواز الرؤية من الكتاب فلا مساس له بالموضوع فانتظر حتى يأتيك البيان. إن مسألة رؤية الله تعالى قد طرحت على صعيد البحث والجدال في القرن الثاني عندما حيكت العقائد على نسق الأحاديث، وقد وردت فيها رؤيته سبحانه يوم القيامة فلأجل ذلك عدت من العقائد الإسلامية. حتى أن الإمام الأشعري عندما تاب عن الاعتزال ولحق بأهل الحديث رقى يوم الجمعة كرسيا ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه نفسي، أنا فلان بن فلان كنت قلت بخلق القرآن وأن الله لا يرى بالأبصار وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وإني تائب مقلع معتقد للرد على المعتزلة (1). وقال في الإبانة: وندين بأن الله تعالى يرى في الآخرة بالأبصار كما يرى القمر ليلة البدر يراه المؤمنون، كما جاءت الروايات عن رسول الله (2). وقال في كتابه الآخر: بسم الله إن قائل قائل: لم قلتم إن رؤية الله بالأبصار جائزة من باب القياس؟ قيل له: قلنا ذلك لأن ما لا يجوز أن يوصف به تعالى ويستحيل عليه لا يلزم في القول بجواز الرؤية (3).
(1) ابن النديم: الفهرست: 271، ابن خلكان: وفيات الأعيان: 3 / 285. (2) الإمام الأشعري: الإبانة: 21. (3) الإمام الأشعري، اللمع: 61 بتلخيص. 312 وهذا النص يعرب عن أن الرؤية كانت في ذلك العصر وفي عصر الإمام أحمد جزءا من العقائد الإسلامية ولذلك لا تجد كتابا كلاميا للأشاعرة إلا ويذكر رؤية الله تبارك وتعالى في الآخرة ويقررها جزء من العقائد الإسلامية، حتى أن الإمام الغزالي مع ما أوتي من مواهب كبيرة وكان من المصرين على التنزيه فوق ما يوجد في كتب الأشاعرة، لم يستطع أن يخرج عن إطار العقيدة وقال: العلم بأنه تعالى مع كونه منزها عن الصورة والمقدار، مقدسا عن الجهات والأنظار، يرى بالأعين والأبصار (1). ثم إنهم اختلفوا في الدليل على الرؤية، ففرقة منهم اعتمدوا على الأدلة العقلية دون السمعية كسيف الدين الآمدي أحد مشايخ الأشاعرة في القرن السابع (551 - 631 ه) يقول: لسنا نعتمد في هذه المسألة على غير المسلك العقلي إذ ما سواه لا يخرج عن المظاهر السمعية وهي مما يتقاصر عن إفادة القطع واليقين فلا يذكر إلا على سبيل التقريب (2). وفرقة أخرى كالرازي وغيره قالوا: العمدة في جواز الرؤية ووقوعها هو جواز السمع وعليه الشيخ الشهرستاني في نهاية الإقدام (3). الرؤية بالأبصار لا بالقلب ولا بالرؤيا ولا بالحس السادس: إن محل النزاع بين الأشاعرة وقبلهم الحنابلة وأصحاب الحديث وبين غيرهم من أهل التنزيه، هو رؤية الله سبحانه بالأبصار التي هي نعمة من نعم الله سبحانه وطريق إلى وقوف الإنسان على الخارج.
(1) الغزالي: قواعد العقائد: 169. (2) الآمدي: غاية المرام في علم الكلام: 174. (3) الرازي: معالم الدين: 37، والأربعين: 148، والمحصل: 138، والشهرستاني: نهاية الإقدام: 369. 313 يقول سبحانه: * (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) * (النحل / 78). فالمثبت للرؤية والنافي لها يركز على موضوع واحد هو الرؤية بالأبصار وأن الخارج عن هذا الموضوع خارج عن إطار العقيدة. وبذلك يظهر أن الرؤية بغير الأبصار تأويل للعقيدة التي أصر بها أصحاب أحمد بن حنبل الملتحق به الإمام الأشعري ولا يمت بموضوع البحث بصلة، فقد نقل عن " ضرار " و " حفص الفرد " أن الله لا يرى بالأبصار ولكن يخلق لنا يوم القيامة حاسة سادسة غير حواسنا فندركه بها (1). يقول ابن حزم: إن الرؤية السعيدة ليست بالقوة الموضوعية بالعين بل بقوة أخرى موهوبة من الله (2). إلى غير ذلك من الكلمات التي حرفت النقطة الرئيسة في البحث ومعتقد أهل الحديث والأشاعرة، ونحن نركز في البحث على الرؤية بالأبصار، وأما الرؤية بغيرها فخارجة عن مجاله. فإذا كانت الحنابلة والأشاعرة مصرين على جواز الرؤية فأئمة أهل البيت ومن تبعهم من الإمامية والمعتزلة والزيدية والإباضية قائلون بامتناعها في الدنيا والآخرة. فالبيت الأموي والمنتمون إليه من أهل الأخبار كانوا من دعاة التجسيم والتشبيه والجبر وإثبات الجهة، والرؤية لله سبحانه، وأما الإمام أمير المؤمنين وبيته الطاهر وشيعتهم كانوا من دعاة التنزيه والاختيار ورافضين هذه البدع المستوردة من اليهود بحماس.
(1) الإمام الأشعري: مقالات الإسلاميين: 261. (2) ابن حزم: الفصل: 3 / 2. 314 وقد نجم في ظل العراك الفكري بين العلويين والأمويين منهجان في مجال المعارف كل يحمل شعارا، فشيعة الإمام وأهل بيته، يحملون شعار التنزيه والاختيار، والأمويون وشيعتهم يحملون شعار التشبيه والجبر وقد اشتهر من زمان قديم قولهم: " العدل والتنزيه علويان " " الجبر والتشبيه أمويان " فصارت النتيجة في النهاية أن كل محدث متزلف إلى البيت الأموي يحشد أخبار التجسيم والجبر، بلا مبالاة واكتراث، لكن الواعين من أمة محمد الموالين لأهل بيته، يتجنبون عن نقل تلك الإثارة. قال الرازي في تفسير قوله: * (ليس كمثله شئ) *: احتج علماء التوحيد قديما وحديثا بهذه الآية على نفي كونه جسما مركبا من الأعضاء والأجزاء، حاصلا في المكان والجهة قالوا: لو كان جسما لكان مثلا لسائر الأجسام فيلزم حصول الأمثال والأشياء وذلك باطل بصريح قوله تعالى: * (ليس كمثله شئ) * - إلى أن قال: - واعلم أن محمد بن إسحاق بن خزيمة أورد استدلال أصحابنا بهذه الآية في الكتاب الذي سماه بالتوحيد، وهو في الحقيقة كتاب الشرك، واعترض عليها، وأنا أذكر حاصل كلامه بعد حذف التطويلات، لأنه كان رجلا مضطرب الكلام، قليل الفهم، ناقص العقل، فقال: " نحن نثبت لله وجها ونقول: إن لوجه ربنا من النور والضياء والبهاء، ما لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه كل شئ أدركه بصره، ووجه ربنا منفي عنه الهلاك والفناء، ونقول: إن لبني آدم وجوها كتب الله عليها الهلاك والفناء، ونفى عنها الجلال والإكرام، غير موصوفة بالنور والضياء والبهاء، ولو كان مجرد إثبات الوجه لله يقتضي التشبيه لكان من قال: إن لبني آدم وجوها وللخنازير والقردة والكلاب وجوها، لكان قد شبه وجوه بني آدم بوجوه الخنازير والقردة والكلاب، ثم قال: ولا شك أنه اعتقاد الجهمية لأنه لو قيل له:
315 وجهك يشبه وجه الخنازير والقردة لغضب ولشافهه بالسوء، فعلمنا أنه لا يلزم من إثبات الوجه واليدين لله إثبات التشبيه بين الله وبين خلقه ". إلى أن قال: وأقول: هذا المسكين الجاهل إنما وقع في أمثال هذه الخرافات لأنه لم يعرف حقيقة المثلين، وعلماء التوحيد حققوا الكلام في المثلين ثم فرعوا عليه الاستدلال بهذا الآية (1). وليس ابن خزيمة أول أو آخر محدث تأثر بهذه البدع بل كانت الفكرة تتغلغل بين أكثر أهل الحديث، منهم: 1 - عثمان بن سعيد بن خالد بن سعيد التميمي الدارمي السجستاني صاحب المسند (توفي عام 280 ه) صاحب النقض يقول فيه: إن الله فوق عرشه وسماواته. 2 - خشيش بن اصرم مؤلف كتاب الاستقامة، يعرفه الذهبي بأنه كان صاحب سنة وأتباع يرد فيه على أهل البدع ويريد منه أهل التنزيه الذين يرفضون أخبار التشبيه (توفي عام 253 ه) (2). 3 - أحمد بن محمد بن الأزهر بن حريث السجستاني السجزي، نقل الذهبي في ميزان الاعتدال عن السلمي قال: " سألت الدارقطني عن الأزهري، فقال: هو أحمد بن محمد بن الأزهر بن حريث، سجستاني منكر الحديث، لكن بلغني أن ابن خزيمة حسن الرأي فيه وكفى بهذا فخرا " (3). يلاحظ عليه أنه: كفى بهذا ضعفا، لأن ابن خزيمة هذا رئيس المجسمة والمشبهة، ومنه يعلم حال السجستاني، والجنس إلى الجنس يميل.
(1) الرازي: مفاتيح الغب: 27 / 150 - 151. (2) الذهبي: تذكرة الحفاظ: 2 / 551، وسير أعلام النبلاء: 12 / 250. (3) ميزان الاعتدال: 1 / 132. 316 4 - محمد بن إسحاق بن خزيمة (223 - 311 ه). وقد ألف " التوحيد وإثبات صفات الرب " (1)، وكتابه هذا مصدر المشبهة والمجسمة في العصور الأخيرة، وقد اهتمت به الحنابلة، وخصوصا الوهابية، فقاموا بنشره على نطاق وسيع، وسيوافيك بعض أحاديثه. 5 - عبد الله بن أحمد بن حنبل (213 - 290 ه)، يروي أحاديث أبيه (الإمام أحمد بن حنبل)، وكتابه " السنة " المطبوع لأول مرة بالمطبعة السلفية ومكتبتها عام 1349 ه، مشحون بروايات التجسيم والتشبيه، يروي فيه ضحك الرب، وتكلمه وإصبعه، ويده، ورجله، وذراعيه، وصدره وغير ذلك مما سيمر عليك بعضها. وهذه الكتب الحديثية الطافحة بالإسرائيليات والمسيحيات جرت الويل على الأمة وخدع بها المغفلون من الحنابلة والحشوية وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا. الرؤية في كلمات الإمام علي (عليه السلام): إن المراجع إلى خطب الإمام علي (عليه السلام) في التوحيد وما أثر عن أئمة العترة الطاهرة، يقف على أن مذهبهم في ذلك امتناع الرؤية وإنه سبحانه لا تدركه أوهام القلوب، فكيف بأبصار العيون؟! وإليك نزرا يسيرا مما ورد في هذا الباب: 1 - قال الإمام علي (عليه السلام) في خطبة الأشباح: " الأول الذي لم يكن له قبل فيكون شئ قبله، والآخر الذي ليس له بعد فيكون شئ بعده، والرادع أناسي
(1) سير أعلام النبلاء: 14 / 365. 317 الأبصار عن أن تناله أو تدركه " (1). 2 - وقد سأله ذعلب اليماني فقال: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ فقال (عليه السلام): " أفأعبد ما لا أرى؟ " فقال: وكيف تراه؟ فقال: " لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان. قريب من الأشياء غير ملابس، بعيد منها غير مبائن " (2). 3 - وقال (عليه السلام): " الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد، ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النواظر، ولا تحجبه السواتر " (3). إلى غير ذلك من خطبه (عليه السلام) المطفوحة بتقديسه وتنزيهه عن إحاطة القلوب والأبصار به (4). وأما المروي عن سائر أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فقد عقد ثقة الإسلام الكليني في كتابه " الكافي " بابا خاصا للموضوع روى فيه ثمان روايات (5)، كما عقد الصدوق في كتاب التوحيد بابا لذلك روى فيه إحدى وعشرين رواية، يرجع قسم منها إلى نفي الرؤية الحسية البصرية وقسم منها يثبت رؤية معنوية قلبية سنشير إليه، وفي الكل نور للقلوب وشفاء للصدور (6). إكمال: إن للإمام الطاهر علي بن موسى الرضا (عليه السلام) احتجاجا في المقام على مقال المحدث أبي قرة حيث ذكر الحديث الموروث عن الحبر الماكر " كعب الأحبار ": من أنه سبحانه قسم الرؤية والكلام بين نبيين كما تقدم.
(1) نهج البلاغة: الخطبة 87 طبعة مصر المعروف بطبعة عبده. والإناسي: جمع إنسان، وإنسان البصر هو ما يرى وسط الحدقة ممتاز عنها في لونها. (2) نهج البلاغة: الخطبة 174. (3) نهج البلاغة: الخطبة: 180. (4) لاحظ الخطبتين 48 و 81 من الطبعة المذكورة. (5) الكافي: 1 / 95 باب إبطال الرؤية. (6) التوحيد: الباب 8 ص 107 - 122. 318 فقال أبو قرة: فإنا روينا: أن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين، فقسم لموسى (عليه السلام) الكلام، ولمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الرؤية. فقال أبو الحسن (عليه السلام): " فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين الجن والإنس إنه * (لا تدركه الأبصار) *، * (لا يحيطون به علما) * و * (ليس كمثله شئ) * أليس محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ " قال: بلى. قال أبو الحسن (عليه السلام): " فكيف يجئ رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم إنه جاء من عند الله، وإنه يدعوهم إلى الله بأمر الله، ويقول: إنه * (لا تدركه الأبصار) *، * (لا يحيطون به علما) * و * (ليس كمثله شئ) * ثم يقول: أنا رأيته بعيني وأحطت به علما وهو على صورة البشر، أما تستحيون؟ أما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا: أن يكون أتى عن الله بأمر ثم يأتي بخلافه من وجه آخر ". فقال أبو قرة: إنه يقول: * (ولقد رآه نزلة أخرى) * (النجم - 13). فقال أبو الحسن (عليه السلام): " إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال: * (ما كذب الفؤاد ما رأى) * (النجم - 11) يقول: ما كذب فؤاد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ما رأت عيناه ثم أخبر بما رأت عيناه فقال: * (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) * (النجم - 18) ف آيات الله غير الله، وقال: * (ولا يحيطون به علما) * (طه - 110) فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم ووقعت المعرفة ". فقال أبو قرة: فتكذب بالرواية؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): " إذا كانت الرواية مخالفة للقرآن كذبتها، وما أجمع المسلمون عليه إنه لا يحاط به علما، ولا تدركه الأبصار، وليس كمثله شئ " (1).
(1) الطبرسي: الإحتجاج: 2 / 375 - 376. 319 - 3 - الرؤية في منطق العلم والعقل إن الرؤية في منطق العلم والعقل لا يتحقق إلا إذا كان الشئ مقابلا أو حالا في المقابل من غير فرق بين تفسيرها حسب رأي القدماء أو حسب العلم الحديث، فإن القدماء كانوا يفسرون الرؤية على النحو التالي: خروج الشعاع من العين وسقوطه على الأشياء ثم انعكاسه عن الأشياء فرجوعه إلى العين لكي تتحقق الرؤية. ولكن العلم الحديث كشف بطلان هذا التفسير وقال: إنها صدور الأشعة من الأشياء ودخولها إلى العين عن طريق عدستها وسقوطها على شبكية العين فتحقق الرؤية. وعلى كل تقدير فالضرورة قاضية على أن الإبصار بالعين متوقف على حصول المقابلة بين العين والمرئي، أو حكم المقابلة كما في رؤية الصور في المرآة. وهذا أمر تحكم به الضرورة وإنكاره مكابرة واضحة، فإذا كانت ماهية الرؤية هي ما ذكرناه فلا يمكن تحققها فيما إذا تنزه الشئ عن المقابلة أو الحلول في المقابل. وبعبارة واضحة: أن العقل والنقل اتفقا على كونه سبحانه ليس بجسم ولا جسماني ولا في جهة، والرؤية فرع كون الشئ في جهة خاصة، وما شأنه هذا لا
320 يتعلق إلا بالمحسوس لا بالمجرد. ثم إن الرازي أراد الخدش في هذا الأمر البديهي ولكنه رجع خائبا واعترض على هذا الاستدلال بوجهين: الأول: أن ادعاء الضرورة والبداهة على امتناع رؤية الموجود المنزه عن المكان والجهة أمر باطل، لأنه لو كان بديهيا لكان متفقا عليه بين العقلاء وهذا غير متفق عليه بينهم، فلا يكون بديهيا ولذلك لو عرضنا قضية أن الواحد نصف الاثنين لا يختلف فيه اثنان، وليست القضية الأولى في البداهة في قوة القضية الثانية (1). يلاحظ عليه: بأنه خفى على الرازي أن للبداهة مراتب مختلفة، فكون نور القمر مستفادا من الشمس قضية بديهية ولكن أين هذه البداهة من بداهة قولنا: الواحد نصف الاثنين؟ أضف إلى ذلك أن العقلاء متفقون على لزوم المقابلة أو حكمها على تحقق الرؤية، وإنما خالف فيه، أمثال من خالف القضايا البديهية كالسوفسطائيين حيث ارتابوا في وجودهم وعلومهم وأفعالهم مع أنهم كانوا يعدون من الطبقات العليا في المجتمع اليوناني. الثاني: أن المقابلة شرط في الرؤية في الشاهد فلم قلتم إنه في الغائب كذلك وتحقيقه، هو أن ذات الله تعالى مخالفة بالحقيقة والماهية لهذه الحوادث والمختلفات في الماهية لا يجب استواؤها في اللوازم فلم يلزم من كون الإدراك واجبا في الشاهد عن حضور هذه الشرائط، كونه واجبا في الغائب عند حضورها (2). هذا كلامه في كتاب الأربعين ويقول في تفسيره: " ألم تعلموا أن ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات، ولا يلزم من ثبوت حكم في شئ ثبوت مثل ذلك الحكم فيما يخالفه، والعجب أن القائلين بالامتناع يدعون الفطنة والكياسة ولم يتنبه أحد
(1) الرازي: الأربعون: 190، ولاحظ أيضا مفاتيح الغيب: 13 / 130. (2) الرازي: الأربعون: 190 - 191، وانظر أيضا: 217، 218، 313. 321 لهذا السؤال ولم يخطر بباله ركاكة هذا الكلام " (1). يلاحظ عليه: أن الرازي غفل عن أن الرؤية من الأمور الإضافية القائمة بالرائي والمرئي فالتقابل من لوازم الرؤية بما هي هي، فاختلاف المرئي في الماهيات كاختلاف الرائي في كونه حيوانا أو إنسانا لا مدخلية له في هذا الموضوع، فافتراض نفس الرؤية وتعلقها بالشئ وغض النظر عن الرأي وخصوصيات المرئي يجرنا إلى أن القول بأن الرؤية رهن التقابل أو حكمه. وذلك لأن الموضوع لحكم العقل من لزوم المقابلة في الرؤية، هو نفسها، بما هي هي، والموضوع متحقق في الشاهد والغائب، والمادي والمجرد، فاحتمال انفضاض الحكم باختلاف المرئي، يناقض ما حكم به باتا بأن الرؤية بما هي هي لا تنفك عن التقابل، فإنه أشبه بقول القائل: إن نتيجة 2 + 2، هو الأربعة، لكن إذا كان المعدود ماديا لا مجردا، ويرد بأن الموضوع نفس اجتماع العددين وهو متحقق في كلتا الصورتين. وبكلمة موجزة: إن الرؤية بالعين رابطة مادية بين العين والمرئي وهي تتوقف على كون المرئي ماديا والله سبحانه منزه عن المادة. أضف إلى ذلك ماذا يريد من الغائب، هل يريد الموجود المجرد عن المادة ولوازمها؟ فبداهة العقل تحكم بأن المنزه عن الجسم والجسمانية والجهة والمكان لا يتصور أن يقع طرفا للمقابلة. وإن أراد منه الغائب عن الأبصار مع احتمال كونه جسما أو ذا جهة، فذلك إبطال للعقيدة الإسلامية الغراء التي تبنتها الأشاعرة وحتى الرازي نفسه في غير واحد من كتبه الكلامية وفي غير موضع في تفسيره. ولقائل يسأل الرازي، إنه لو لو وقعت الرؤية على ذاته سبحانه فهل تقع على كله أو بعضه فلو وقعت على الكل يكون محاطا لا محيطا وهذا باطل بالضرورة، ولو وقعت على الجزء فيكون، ذا جزء مركبا. ومما ذكرنا يتميز الفطن عن الغبي، والكلام الرصين عن الركيك فلاحظ.
(1) الرازي: مفاتيح الغيب: 13 / 130. 322 المحاولة اليائسة في تجويز الرؤية: إن مفكري الأشاعرة الذين لهم قدم راسخة في المسائل العقلية لما وقعوا أمام هذا الدليل ذهبوا يمينا ويسارا للجمع بين الرؤية والتنزيه، وإليك بيان ذلك: 1 - الرؤية بلا كيف: هذا العنوان هو الذي يجده القارئ في كتب الأشاعرة وربما يعبر عنه خصومهم ب " البلكفة " ومعناه أن الله تعالى يرى بلا كيف وأن المؤمنين في الجنة يرونه بلا كيف، أي منزها عن المقابلة والجهة والمكان. يلاحظ عليه: أن تمني الرؤية بلا مقابلة ولا جهة ولا مكان، أشبه برسم أسد بلا رأس ولا ذنب على جسم بطل، فالرؤية التي لا يكون المرئي فيها مقابلا للرائي ولا متحققا في مكان ولا متحيزا في جهة كيف تكون رؤية بالعيون والأبصار؟ والحق أن قول الأشاعرة كأهل الحديث: " بلا كيف "، مهزلة لا يعتمد عليها فإن الكيفية ربما تكون من مقومات الشئ ولولاها لما كان عنه أثر، فمثلا يقولون: إن لله يدا ورجلا وعينا وسمعا بلا كيف، ويصرحون بوجود واقعيات هذه الصفات حسب معانيها اللغوية لكن بلا كيفية. وهذا كما ترى فإن اليد في اللغة العربية وضعت للجارحة حسب ما لها من الكيفية، فإثبات اليد لله بالمعنى اللغوي مع حذف الكيفية، يكون مساويا لنفي معناه اللغوي ويكون راجعا إلى تفسيرها بالمعاني المجازية التي تفرون منها فرار المزكوم من المسك، ومثله القدم والوجه وبعبارة أخرى: أن الحنابلة والأشاعرة يصرون على أن الصفات الخبرية كاليد والرجل والقدم والوجه، في الكتاب والسنة، يجب أن تفسر بنفس معانيها اللغوية، ولا يجوز لنا حملها على معانيها المجازية
323 كالقدرة في اليد مثلا ولما رأوا أن ذلك يلازم التجسيم التجأوا إلى قولهم: يد بلا كيف، ولكنهم ما دروا أن الكيفية في اليد والوجه وغيرهما مقومة لمفاهيمها فنفي الكيفية يساوق نفي المعنى اللغوي فكيف يمكن الجمع بين المعنى اللغوي والحمل عليه بلا كيف، ومنه يعلم حال الرؤية بالبصر والعين فإن التقابل، مقوم لمفهومها فإثباتها بلا كيف، يلازم نفي أصل الرؤية وقد عرفت أن الكلام في النظر بالبصر والرؤية بالعين، لا الرؤية بالقلب أو في النوم - وقد أوضحنا حال الصفات الخبرية في بحوثنا الكلامية (1). 2 - اختلاف الأحكام باختلاف الظروف: إن بعض المثقفين من الجدد لما وجدوا في بواطن عقولهم أن الرؤية لا تنفك عن الجهة، التجأوا إلى القول بأن كل شئ في الآخرة غيره في الدنيا، ولعل الرؤية تتحقق في الآخرة بلا هذا اللازم السلبي. يلاحظ عليه: بأنه رجم بالغيب، فإن أرادوا من المغايرة بأن الآخرة ظرف للتكامل وأن الأشياء توجد في الآخرة بأكمل الوجود وأمثله، فهذا لا مناقشة فيه، يقول سبحانه: * (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأوتوا به متشابها) * (البقرة - 25)، إن أرادوا أن القضايا العقلية البديهية تتبدل في الآخرة إلى نقيضها فهذا يوجب انهيار النظم الكلامية والفلسفية والأساليب العلمية التي يعتمد عليها المفكرون من أتباع الشرائع وغيرهم، إذ معنى ذلك أن النتائج المثبتة في جدول الضرب سوف تتبدل في الآخرة إلى ما يباينها فتكون النتيجة ضرب 2 * 2 = 5 أو 10 أو... وإن قولنا: " كل ممكن يحتاج إلى علة " يتبدل في الآخرة إلى أن الممكن غني عن العلة، فعند ذلك لا يستقر حجر على حجر وتنهار جميع المناهج الفكرية، ويصير الإنسان سوفسطائيا مائة بالمائة.
(1) لاحظ بحوث في الملل والنحل: 2 / 96 - 105. 324 3 - عدم الاكتراث عن إثبات الجهة: إن أساتذة الجامعات الإسلامية في الرياض ومكة المكرمة والمدينة المنورة بدل أن يجهدوا أنفسهم في فهم المعارف ويتجردوا في مقام التحليل عن الآراء المسبقة، نرى أنهم يدعمون شباب الجامعات وخريجيها بدعم مالي وفكري ليجمعوا من هنا وهناك أمورا حول الرؤية وبالتالي خرجوا بنتيجة إثبات الجهة لله حتى يتسنى لهم إثبات الرؤية، وهذا العمل أشبه بدفع الفاسد بالأفسد وإن كنت في شك من ذلك فاستمع لما يلي: يقول الدكتور أحمد بن محمد آل حمد خريج جامعة أم القرى: إن إثبات رؤية حقيقية بالعيان من غير مقابلة أو جهة، مكابرة عقلية لأن الجهة من لوازم الرؤية وإثبات اللزوم ونفي اللازم مغالطة ظاهرة. ومع هذا الاعتراف تخلص عن الالتزام بإثبات الجهة لله ويقول: إن إثبات صفة العلو لله تبارك وتعالى ورد في الكتاب والسنة في مواضع كثيرة جدا فلا حرج في إثبات رؤية الله تعالى من هذا العلو الثابت له تبارك وتعالى، ولا يقدح هذا في التنزيه لأن من أثبت هذا أعلم البشر بما يستحق الله تعالى من صفات الكمال. أما لفظة الجهة فهي من الألفاظ المجملة التي لم يرد نفيها ولا إثباتها بالنص فتأخذ حكم مثل هذه الألفاظ (1). يلاحظ عليه: أولا: من أين يدعى أن الكتاب والسنة أثبت العلو لله الذي هو مساوق للجهة فإن أراد قوله سبحانه: * (ثم استوى على العرش) * فقد حقق في محله بأن استواءه على العرش كناية عن استيلائه على السماوات والأرض، وعدم عجزه عن
(1) أحمد بن ناصر: رؤية الله تعالى: 61، نشر معهد البحوث العلمية في مكة المكرمة. 325 التدبير، وأين هو من إثبات العلو لله؟! فقد أوضحنا مفاد هذه الآيات في أسفارنا الكلامية (1). وإن أراد ما جمعه ابن خزيمة وأضرابه من حشويات المجسمة والمشبهة، فكلها بدع يهودية أو مجوسية تسربت إلى المسلمين يرفضها القرآن الكريم وروايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام). ثانيا: إذا افترضنا صحة كونه موجودا في جهة عالية ينظر إلى السماوات والأرض فكيف يكون محيطا بكل شئ وموجودا مع كل شئ؟ فإذا كان هذا معنى التنزيه فسلام الله على التجسيم، ونعم ما قال شاعر المعرة: ويا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل أقول: إن الذي كانت تستهدفه رسالات السماء كان يتلخص في توحيده سبحانه وأنه واحد لا نظير له ولا مثيل أولا، وتنزيهه سبحانه عن مشابهة الممكنات والموجودات ثانيا. لكن أصحاب الحديث بعد رحيل الرسول توغلوا في وحل الشرك والتجسيم وأبطلوا كلتا النتيجتين، فقالوا بحماس، بقدم القرآن وعدم حدوثه فأثبتوا بذلك مثلا لله في الأزلية وكونه قديما كقدمه سبحانه. وأثبتوا لله سبحانه العلو والجهة اغترارا ببعض الظواهر والأحاديث المستوردة فأبطلوا بذلك تنزيهه سبحانه وتعاليه عن مشابهة المخلوقات. فخالفوا رسالات السماء في موردين أصليين: 1 - التوحيد بالقول بقدم القرآن. 2 - التنزيه بإثبات الجهة والرؤية. * (كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا) *. (النحل / 92)
(1) الإلهيات: 1 / 330 - 340. 326 - 4 - موقف الذكر الحكيم من أمر الرؤية إجمالا إن الذكر الحكيم يصف الله سبحانه بصفات تهدف جميعها إلى أنه منزه عن الجسم والجسمانية، وأنه ليس له مثل ولا نظير، ولا ند ولا كفو، وأنه محيط بكل شئ، ولا يحيطه شئ إلى غير ذلك من الصفات المنزهة التي يقف عليها الباحث من جمع الآيات الواردة في هذا المجال وبدورنا نشير إلى بعض منها: قال سبحانه: 1 - * (فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شئ وهو السميع البصير) * (الشورى - 11). 2 - * (قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد) * (الإخلاص: 1 - 4). 3 - * (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شئ عليم) * (الحديد - 3). 4 - * (هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير) * (الحديد - 4).
327 5 - * (هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون) * (الحشر - 23). 6 - * (هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم) * (الحشر - 24). 7 - * (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شئ عليم) * (المجادلة - 7). 8 - * (ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شئ محيط) * (فصلت - 54). 9 - * (الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم) * (البقرة - 255). 10 - * (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) * (الأنعام - 103). وحصيلة هذه الآيات أنه لا يوجد في صفحة الوجود له مثل، وهو أحد لا كفو له، لم يلد ولم يولد بل هو أزلي، فبما أنه أزلي الوجود، فوجوده قبل كل شئ أي لا وجود قبله، وبما أنه أبدي الوجود فهو آخر كل شئ إذ لا وجود بعده، وبما أنه خالق السماوات والأرض فالكون قائم بوجوده فهو باطن كل شئ، كما أن النظام البديع دليل على وجوده فهو ظاهر كل شئ. لا يحويه مكان لأنه خالق السماوات والأرض وخالق الكون والمكان، فكان قبل أن يكون أي مكان، وبما أن العالم دقيقه وجليله، فقير محتاج إليه قائم به، فهو
328 مع الأشياء معية قيومية لا معية مكانية، ومع الإنسان أينما كان. فلا يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا وذلك مقتضى كونه قيوما وما سواه قائما به ولا يمكن للقيوم الغيبوبة عما قام به، وفي النهاية هو محيط بكل شئ لا يحيطه شئ، فقد أحاط كرسيه السماوات والأرض، فالجميع محاط وهو محيط، ومن كان بهذه المنزلة لا تدركه الأبصار الصغيرة الضعيفة ولا يقع في أفقها ولكنه لكونه محيطا يدرك الأبصار. هذه صفاته سبحانه في القرآن ذكرناها على وجه الإيجاز وأوردناها بلا تفسير. وقد علمت أن من سمات العقيدة الإسلامية كونها عقيدة سهلة لا إبهام فيها ولا لغز فلو وجدنا شيئا في السنة أو غيرها ما يصطدم بهذه الصفات فيحكم عليه بالتأويل إن صح السند، أو بالضرب عرض الجدار إن لم يصح فمن تلا هذه الآيات وتدبر فيها، يحكم بأنه سبحانه فوق أن يقع في وهم الإنسان وفكره ومجال بصره وعينه، وعند ذلك لو قيل له: إنه جاء في الأثر أنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا (البدر) لا تضامون في رؤيته (1). يتلقاه أمرا مناقضا لما تلا من الآيات أو استمع إليها، ويحدث في نفسه ويقول: " الخالق البارئ الذي هو ليس بجسم ولا جسماني، لا يحويه مكان، محيط بالسموات والأرض كيف يرى يوم القيامة كالبدر في جهة خاصة وناحية عالية مع أنه كان ولا علو ولا جهة بل هو خالقهما، وأين هذه الرؤية من وصفه سبحانه بأنه لا يحويه مكان ولا يقع في جهة وهو محيط بكل شئ؟!. ولا يكون التناقض بين الوصفين بأقل من التناقض الموجود في العقيدة النصرانية من أنه سبحانه واحد وفي الوقت نفسه ثلاثة، وكلما حاول القائل بالرؤية
(1) البخاري: الصحيح: 4 / 200. 329 الجمع بين العقيدتين، لا يستطيع أن يرفع التعارض والاصطدام بين المعرفتين في أنظار المخاطبين بهذه الآيات والرواية، ومن جرد نفسه عن المجادلات الكلامية والمحاولات الفكرية للجمع بين المعرفتين يرى التعريفين متصادمين فأين القول بأنه سبحانه بعيد عن الحس والمحسوسات، منزه عن الجهة والمكان، محيط بعوالم الوجود من تنزله سبحانه منزلة الحس والمحسوسات، واقعا بمرأى ومنظر من الإنسان يراه ويبصره كما يبصر البدر، يشاهده في أفق عال وقد تعرفت في التمهيد على أن السهولة في العقيدة وخلوها عن الألغاز من سمات العقيدة الإسلامية، فالجمع بين المعرفتين كجمع النصارى بين كونه واحدا وثلاثا. هذا من جانب، ومن جانب آخر نرى أنه سبحانه كلما طرح مسألة الرؤية في القرآن الكريم فإنما طرحها باستعظام من أن ينالها الإنسان ويتلقى سؤالها وتمنيها من الإنسان أمرا فظيعا وقبيحا وتطلعا إلى ما هو دونه. 1 - قال سبحانه: * (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون * ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون) * (البقرة - 55 - 56). 2 - وقال سبحانه: * (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا) * (النساء - 153). 3 - وقال سبحانه: * (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) * (الأعراف - 143).
330 4 - وقال سبحانه: * (واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين) * (الأعراف - 155). فالمتدبر في هذه الآيات يقضي بأن القرآن الكريم يستعظم الرؤية ويستفظع سؤالها ويقبحه ويعد الإنسان قاصرا عن أن ينالها على وجه ينزل العذاب غب سؤالها. فلو كانت الرؤية أمرا ممكنا ولو في وقت آخر لكان عليه سبحانه أن يتلطف عليهم بأنكم سترونه في الحياة الآخرة لا في الحياة الدنيا، ولكنا نرى أنه سبحانه يقابلهم بنزول الصاعقة فيقتلهم ثم يحييهم بدعاء موسى، كما أن موسى لما طلب الرؤية وأجيب بالمنع تاب إلى الله سبحانه وقال: * (أنا أول المؤمنين) * بأنك لا ترى. فإذا كانت الرؤية نعمة عظمي كما يدعيها القوم، فلا وجه لنزول العذاب عند طلبها غاية الأمر، يجاب السائل بعدم الإمكان في الدنيا. فالإمعان بما ورد فيها من عتاب وتنديد بل وإماتة وإنزال عذاب يدل بوضوح على أن الرؤية فوق قابلية الإنسان، وطلبه إليها أشبه بالتطلع إلى أمر محال. فعند ذلك لو قيل للمتدبر بالآيات: إنه روى قيس بن أبي حازم أنه حدثه جرير وقال: خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة البدر فقال: " إنكم سترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته " (1). يجد الحديث مناقضا لما ورد في هذه الآيات ويحدث في نفسه أنه كيف صار الأمر الممتنع أمرا ممكنا، والإنسان غير المؤهل على الرؤية مؤهلا لها. إن هنا محاولتين، للتخلص من التضاد الموجود بين الآيات، وخبر قيس بن أبي حازم الدال على وقوع الرؤية في الآخر نأتي بهما.
(1) البخاري: الصحيح: 4 / 200. 331 المحاولة الأولى: إن تعارض الآيات والرواية من قبيل تعارض المطلق والمقيد، فلا مانع من الجمع بينهما بحمل الأولى على الحياة الحاضرة، والثانية على الحياة الآخرة (1). يلاحظ عليه: بأن الجمع بين الآيات والرواية على نحو ما ذكر أشبه بمحاولة فقيه إذا فوجئ بروايتين تكون النسبة بينهما هو العموم والخصوص المطلق، فيجمع بينهما بحمل المطلق على المقيد، ولو صح ما ذكر فإنما هو في المسائل الفرعية لا العقائدية، وليست الآيات الواردة فيها كالمطلق، والحديث كالمقيد، بل هي بصدد بيان العقيدة الإسلامية على أنه سبحانه فوق أن تناله الرؤية وإن من تمناها فإنما تمنى أمرا محالا. والدافع إلى هذا الجمع إنما هو تزمتهم بالروايات وتلقيهم صحيح البخاري وغيره صحيحا على الإطلاق لا يقبل النقاش والنقد، فلم يكن لهم محيص من المعاملة بالروايات والآيات معاملة الإطلاق والتقيد، ولأجل ذلك فكلما تليت هذه الآيات للقائلين بالجواز يجيبون بأن الجميع يعود إلى هذه الدنيا ولا صلة له بالآخرة، ولكنهم غافلون عن أن الآيات تهدف في تنديدها و توبيخها إلى ملاحظة طلب نفس الرؤية بما هي هي، بغض النظر عن الدنيا والآخرة، ولا صلة لها بظرف السؤال، فحمل تلك الآيات على ظرف خاص تلاعب بالكتاب العزيز وتقديم للسنة على القرآن واعتماد على الظن مكان وجود القطع واليقين. وأيمن الله لو لم يكن في الصحاح حديث قيس بن أبي حازم وغيره لما كان لديهم أي وازع على تأويل الآيات.
(1) يظهر ذلك الجواب عن أكثر المتأولين لآيات النفي حيث يقدرونها بالدنيا. 332 المحاولة الثانية: لقد تصدى أبو الحسن الأشعري للإجابة عن الآيات الأخيرة وزعم أن الاستعظام إنما كان لطلبهم الرؤية تعنتا وعنادا قال: " إن بني إسرائيل سألوا رؤية الله عز وجل على طريق الإنكار لنبوة موسى وترك الإيمان به حتى يروا الله لأنهم قالوا: * (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) * فلما سألوه الرؤية على طريق ترك الإيمان بموسى (عليه السلام) حتى يريهم الله من غير أن تكون الرؤية مستحيلة عليه، كما استعظم الله سؤال أهل الكتاب أن ينزل عليهم كتابا من السماء من غير أن يكون ذلك مستحيلا ولكن لأنهم أبوا أن يؤمنوا بنبي الله حتى ينزل عليهم من السماء كتابا (1). يلاحظ عليه أولا: أن ما ذكره من أن الاستعظام لأجل كون طلبهم كان عن عناد، وتعنت لا لطلب معجزة زائدة، لو صح فإنما يصح في غيره هذه الآيات، أعني في قوله سبحانه: * (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتو عتوا كبيرا) * (الفرقان - 21) لا في ما تلوناه من الآيات فإن الظاهر منها أن الاستعظام والاستفظاع راجعان إلى نفس السؤال بشهادة قوله: * (فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم) * (النساء - 153) والذي يوضح ذلك أن التوبيخ والتنديد راجعان إلى نفس السؤال، مع غض النظر عن سبب السؤال وهل هو لغاية زيادة العلم أو للعتو؟ أمور: 1 - أنه سبحانه سمى سؤالهم ظلما وتعديا عن الحد. 2 - أن موسى سمى سؤالهم، سؤالا سفيها. 3 - عندما طلب موسى الرؤية أجيب بالخيبة والحرمان، ولم يكن سؤاله عن
(1) الإبانة عن أصول الديانة: 15، ط دار الطباعة المنيرية - القاهرة. 333 عناد واستكبار ولو كانت الخيبة مختصة بالدنيا، كان عليه سبحانه، الرجوع إليه بالعطف والحنان بأنها غير ممكنة في هذه الدار وسوف تراني في الآخرة. وثانيا: أنه سبحانه وإن جمع في آية سورة النساء (1)، بين نزول الكتاب من السماء عليهم، ورؤية الله جهرة، لكن كون الأول أمرا ممكنا لا يكون دليلا على كون الثاني مثله، وذلك لأن وجه الشبه بين الأمرين ليس الإمكان أو الاستحالة حتى يكونا مشاركين فيهما بل هو طلب أمر عظيم، وشئ ليسوا مستأهلين له، فلا يكون إمكان الأول دليلا على إمكان الثاني. على أن قوله سبحانه: * (فقد سألوا موسى أكبر من ذلك) *، مشير إلى الفرق بين الطلبين مع المشاركة في أمر الاستعظام وهو استحالة الثاني، دون الأول ولذا أسماه: أكبر. وبذلك يقف على ضعف ما ذكره الرازي في تفسيره، لكونه مأخوذا من كلام إمامه الأشعري. ونقل كلام أبي الحسين المعتزلي في كتاب التصفح وناقشه بوجه غير تام (2).
(1) النساء / 153. (2) الرازي: مفاتيح الغيب: 3 / 85. 334 - 5 - رؤية الله في الذكر الحكيم دراسة أدلة النافين الآية الأولى: * (لا تدركه الأبصار) * قد عرفت تعبير الكتاب عن الرؤية إجمالا، وإنه يعد طلب الرؤية وسؤالها أمرا فظيعا، قبيحا موجبا لنزول الصاعقة والعذاب، والآيات السالفة وضحت موقف الكتاب من هذه المسألة لكن على وجه الإجمال، غير أنا إذا استنطقنا ما سبق من الآيات، نقف على قضاء الكتاب في أمر الرؤية على وجه التفصيل وقد عقدنا هذا الفصل لدراسة بعض ما سبق، وتحليله حتى نتأكد مما فهمنا من الكتاب العزيز وإليك البيان: قال سبحانه: * (ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه وهو على كل شئ وكيل لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) * (الأنعام: 102 - 103) تقرير الاستدلال يتم في مرحلتين:
335 المرحلة الأولى: في بيان مفهوم الدرك لغة: الدرك في اللغة: اللحوق والوصول وليس بمعنى الرؤية، ولو أريد منه الرؤية فإنما هو باعتبار قرينية المتعلق، قال ابن فارس: الدرك له أصل واحد (أي معنى واحد) وهو لحوق الشئ بالشئ ووصوله إليه، يقال: أدركت الشئ، أدركه إدراكا، ويقال: أدرك الغلام والجارية إذا بلغا، وتدارك القوم: لحق آخرهم أولهم، فأما قوله تعالى: * (بل ادارك علمهم في الآخرة) * (النمل / 66) فهو من هذا، لأن علمهم أدركهم في الآخرة حين لم ينفعهم (1). وقال ابن منظور مثله، وأضاف: ففي الحديث " أعوذ بك من درك الشقاء " أي لحوقه يقال: مشيت حتى أدركته، وعشت حتى أدركته وأدركته ببصري أي رأيته (2). إذا كان الدرك بمعنى اللحوق والوصول فله مصاديق كثيرة فالإدراك بالبصر التحاق من الرائي بالمرئي بالبصر، والإدراك بالمشي كما في قول ابن منظور: " مشيت حتى أدركته " التحاق الماشي بالمتقدم بالمشي وهكذا غيره. فإذا قال سبحانه: * (لا تدركه الأبصار) * يتعين ذلك المعنى الكلي (اللحوق والوصول) بالرؤية ويكون معنى الجملة أنه سبحانه تفرد بهذا الوصف تعالى عن الرؤية دون غيره. الثانية: في بيان مفهوم الآيتين: إنه سبحانه لما قال: * (وهو على كل شئ وكيل) * ربما يتبادر إلى بعض
(1) ابن فارس: مقاييس اللغة: 2 / 366. (2) ابن منظور: اللسان: 10 / 419. 336 الأذهان أنه إذا صار وكيلا على كل شئ يكون جسما قائما بتدبير الأمور الجسمانية فدفعه بأنه سبحانه مع كونه وكيلا لكل شئ * (لا تدركه الأبصار) *. ولما يتبادر من ذلك الوصف إلى بعض الأذهان أنه إذا تعالى عن تعلق الأبصار فقد خرج عن حيطة الأشياء الخارجية وبطل الربط الوجودي الذي هو مناط الإدراك، والعلم بينه وبين مخلوقاته دفعه بقوله: * (وهو يدرك الأبصار) * ثم علل بقوله: * (وهو اللطيف الخبير) * و " اللطيف " هو الرقيق النافذ في الشئ و " الخبير " من له الخبرة الكاملة فإذا كان تعالى محيطا بكل شئ لرقته ونفوذه في الأشياء، كان شاهدا على كل شئ، لا يفقده ظاهر كل شئ وباطنه، ومع ذلك فهو عالم بظواهر الأشياء وبواطنها من غير أن يشغله شئ عن شئ أو يحتجب عنه شئ بشئ. وبعبارة أخرى أن الأشياء في مقام التصور على أصناف: 1 - ما يرى ويرى، كالإنسان. 2 - ما لا يرى ولا يرى، كالأعراض النسبية كالأبوة والبنوة. 3 - ما يرى ولا يرى، كالجمادات. 4 - ما يرى ولا يرى وهذا القسم تفرد به خالق جميع الموجودات بأنه يرى ولا يرى والآية بصدد مدحه وثنائه، بأنه جمع بين الأمرين يرى ولا يرى لا بالشق الأول وحده نظير قوله سبحانه: * (فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم) * (الأنعام - 14) ودلالة الآية على أنه سبحانه لا يرى بالأبصار بمكان من الوضوح، غير أن للرازي ومن لف لفه تشكيكات نأتي بها مع تحليلها. الشبهة الأولى: 1 - أن الآية في مقام المدح فإذا كان الشئ في نفسه تمتنع رؤيته فلا يلزم من
337 عدم رؤيته مدح وتعظيم للشئ، أما إذا كان في نفسه جائز الرؤية ثم إنه قدر على حجب الأبصار عن رؤيته وعن إدراكه كانت هذه القدرة الكاملة دالة على المدح والعظمة، فثبت أن هذه الآية دالة على أنه جائز الرؤية حسب ذاته (1). إن هذا التشكيك يحط من مقام الرازي فهو أكثر عقلية من هذا التشكيك، وذلك لأنه زعم أن المدح بالجملة الأولى، أعني قوله سبحانه: * (لا تدركه الأبصار) * وغفل عن أن المدح بمجموع الجزأين المذكورين في الآية، بمعنى أنه سبحانه لعلو منزلته لا يدرك وفي الوقت يدرك غيره، وهذا ظاهر لمن تأمل في الآية ونظيرتها أي يطعم ولا يطعم، فهل يرضى الرازي بأنه سبحانه يمكن له الأكل والطعم. الشبهة الثانية: إن لفظ الأبصار صيغة جمع دخل عليها الألف واللام فهو يفيد الاستغراق فقوله: * (لا تدركه الأبصار) * بمعنى لا يراه جميع الأبصار، وهذا يفيد سلب العموم ولا يفيد عموم السلب (2). يلاحظ عليه: أن المتبادر في المقام كما في نظائره هو عموم السلب أي لا يدركه أحد من ذوي الأبصار نظير قوله سبحانه: * (إن الله لا يحب المعتدين) * (البقرة / 190) وقوله سبحانه: * (فإن الله لا يحب الكافرين) * (آل عمران - 32) وقال سبحانه: * (والله لا يحب الظالمين) * (آل عمران - 57). يقول الإمام علي (عليه السلام): " الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصي نعماءه العادون، ولا يؤدي حقه المجتهدون، الذي لا يدركه بعد الهمم، ولا
(1) الرازي: مفاتيح الغيب: 13 / 125. (2) الرازي: مفاتيح الغيب: 13 / 126. 338 يناله غوض الفطن " (1). فهل يحتمل الرازي في هذه الآيات والجمل سلب العموم وأنه سبحانه لا يحب جميع المعتدين والكافرين والظالمين ولكن يحب بعض المعتدين والكافرين والظالمين، أو أن بعض القائلين يبلغون مدحته، ويحصون نعماءه. وهذا دليل على اتخاذ الرازي للموقف المسبق، ثم دراسة القرآن لأجل دعمه، وهو آفة لفهم الصحيح من الكتاب. الشبهة الثالثة: الإدراك هو الإحاطة: إن هذه الشبهة ذكرها ابن حزم في فصله، والرازي في مفاتيح الغيب، وابن قيم في كتاب حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (2)، وقد أسهبوا الكلام في تطوير الشبهة ولا يسع المقام لنقل عباراتهم كلها وإنما نشير إلى المهم من كلماتهم. وبما أن الأساس - لكلام هؤلاء - هو ابن حزم الظاهري نذكر نص كلامه أولا، قال: إن الإدراك في اللغة يفيد معنى زائد على النظر، وهو بمعنى الإحاطة وليس هذا المعنى في النظر والرؤية، فالإدراك (الإحاطة) فيض عن الله تعالى على كل حال في الدنيا والآخرة والدليل على ذلك قوله سبحانه: * (فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين) * ففرق الله عز وجل بين الإدراك والرؤية فرقا جليا لأنه تعالى أثبت الرؤية بقوله: * (فلما تراءا الجمعان) * وأخبر تعالى بأنه رأى بعضهم بعضا فصحت منهم الرؤية لبني إسرائيل، ولكن نفى الله الإدراك، بقول موسى (عليه السلام) لهم: * (كلا إن معي ربي سيهدين) * فأخبر تعالى أنه رأى أصحاب فرعون بني إسرائيل ولم يدركهم، ولا
(1) نهج البلاغة، الخطبة الأولى. (2) وقبلهم الطبري كما سيوافيك نصه في خاتمة المطاف. 339 شك في أن ما نفاه الله تعالى غير الذي أثبته فالإدراك غير الرؤية والحجة لقولنا قول الله تعالى (1). يلاحظ عليه: أن الشبهة تعرب عن أن صاحبها لم يقف على كيفية الاستدلال بالآية على نفي الرؤية فزعم أن أساسه هو كون الإدراك في اللغة بمعنى الرؤية فرد عليه بأنه ليس بمعنى الرؤية بشهادة أنه سبحانه جمع في الآية بين إثبات الرؤية ونفي الدرك، ولكنه غفل عن أن مبدأ الاستدلال ليس ذلك وقد قلنا سابقا: إن الإدراك في اللغة بمعنى اللحوق والوصول وليس بمعنى الرؤية ابتداء، وإنما يتعين في النظر والرؤية حسب المتعلق، ولأجل ذلك لو جرد عن المتعلق - كما في الآية - لا يكون بمعنى الرؤية، ولذلك جمع فيها بين الرؤية ونفي الدرك، لأن الدرك هناك بحكم عدم المتعلق كالبصر بمعنى اللحوق والوصول فقد وقع التراءي بين الفريقين ورأى فرعون وأصحاب بني إسرائيل ولكن لم يدركوهم أي لم يلحقونهم. وعلى ضوء ذلك إذا جرد عن المتعلق بمثل البصر والسمع يكون بمعنى اللحوق، وإذا اقترن بمتعلق مثل البصر يتعين في النظر والرؤية لكن على وجه الإطلاق من غير تقيد بالإحاطة. فبطل قوله " بأن الإدراك يدل على معنى زائد على النظر وهو الإحاطة "، بل الإدراك مجردا عن القرينة لا يدل على الرؤية أبدا، ومع اقتران القرينة و وجود المتعلق يدل على الرؤية والنظر على وجه الإطلاق من غير نظر إلى الفرد الخاص منها أعني الرؤية. وبذلك يظهر أن ما أطنب به الرازي في كلامه لا يرجع إلى شئ.
(1) ابن حزم: الفصل في الملل والنحل: 3 / 32 ولاحظ: ابن القيم: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح: 229. 340 حيث قال: لا نسلم أن إدراك البصر تعبير عن الرؤية بل هو بمعنى الإحاطة، فالمرئي إذا كان له حد ونهاية وأدركه البصر بجميع حدوده وجوانبه ونهاياته صار كأن ذلك الإبصار إحاطة به فسمى هذه الرؤية إدراكا، أما إذا لم يحط البصر بجوانب المرئي لم تسم تلك الرؤية إدراكا، فالحاصل أن الرؤية جنس تحتها نوعان، رؤية مع الإحاطة ورؤية لا مع الإحاطة. والرؤية مع الإحاطة هي المسماة بالإدراك فنفي الإدراك يفيد نفي نوع واحد من نوعي الرؤية، ونفي النوع لا يوجب نفس الجنس، فلم يلزم من نفي الإدراك عن الله تعالى نفي الرؤية عنه، ثم قال: فهذا وجه حسن مقبول في الاعتراض على كلام الخصم (1). يلاحظ عليه: بأن ما ذكره الرازي افتراء على اللغة حفاظا على المذهب وهذا أشبه بتفسير القرآن بالرأي، ولولا أن الرازي من أتباع المذهب الأشعري لما تجرأ بذلك التصرف. نسأله: ما الدليل على أن الإدراك إذا اقترن بالبصر يكون بمعنى الإدراك الإحاطي، مع أننا نجد خلافه في الأمثلة التالية، نقول: أدركت طعمه، أو ريحه، أو صوته، فهل هذه بمعنى أحطنا إحاطة تامة عليها، أو أنه بمعنى مجرد الدرك بالأدوات المذكورة من غير اختصاص بصورة الإحاطة، مثل قولهم أدرك الرسول، فهل هو بمعنى الإحاطة بحياته أو يراد منه إدراكه مرة أو مرتين، ولم يفسره أحد من أصحاب المعاجم بما ذكره الرازي. وحاصل الكلام أن اللفظة إذا اقترنت ببعض أدوات الإدراك كالبصر والسمع يحمل المعنى الكلي أي اللحوق والوصول على الرؤية والسماع سواء كان الإدراك على وجه الإحاطة أو لا، وأما إذا تجردت اللفظة عن القرينة تكون بمعنى نفس اللحوق، قال سبحانه: * (حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي
(1) الرازي: مفاتيح الغيب: 13 / 127. 341 آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) * (يونس - 90) ومعنى الآية: حتى إذا لحقه الغرق ورأى نفسه غائصا في الماء استسلم وقال * (آمنت...) *. وقال سبحانه: * (فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى) * (طه - 77). أي لا تخاف لحوق فرعون وجيشه بك وبمن معك من بني إسرائيل وقال سبحانه: * (فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون) * (الشعراء - 61) فأثبت الرؤية ونفى الدرك وما ذلك إلا لأن الإدراك إذا جرد عن المتعلق لا يكون بمعنى الرؤية بتاتا بل بمعنى اللحوق. نعم إذا اقترن بالبصر يكون متمحضا في الرؤية من غير فرق بين نوع ونوع، وتخصيصه، بالنوع الإحاطي لأجل دعم المذهب، افتراء على اللغة.
342 رؤية الله في الذكر الحكيم دراسة أدلة النافين الآية الثانية: الرؤية إحاطة علمية بالله سبحانه قال سبحانه: * (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا * يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما) * (طه - 109 - 110). إن الآية تتركب من جزأين: الأول: قوله: * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) *. الثاني: قوله: * (ولا يحيطون به علما) *. والضمير المجرور في قوله * (به) * يعود إلى الله سبحانه. ومعنى الآية: الله يحيط بهم لأنه * (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) * ويكون معادلا لقوله: * (وهو يدرك الأبصار) * ولكنهم * (لا يحيطون به علما) * ويساوي قوله * (لا تدركه الأبصار) *. وأما كيفية الاستدلال فبيانها أن الرؤية سواء أوقعت على جميع الذات أم على
343 جزء منه، نوع إحاطة علمية من البشر به سبحانه، وقد قال: * (ولا يحيطون به علما) *. ولكن الرازي لأجل التهرب من دلالة الآية على امتناع رؤيته سبحانه قال: بأن الضمير المجرور يعود إلى قوله: * (ما بين أيديهم وما خلفهم) * أي لا يحيطون بما بين أيديهم وما خلفهم والله سبحانه محيط بما بين أيديهم وما خلفهم. أقول: إن الآية تحكي عن إحاطة علمه سبحانه يوم القيامة بشهادة ما قبلها * (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا) * وعندئذ يكون المراد من الموصول في قوله سبحانه: * (يعلم ما بين أيديهم) * هو الحياة الأخروية الحاضرة وقوله سبحانه: * (وما خلفهم) * هو الحياة الدنيوية الواقعة خلف الحياة الأخروية وحينئذ لو رجع الضمير في قوله: * (ولا يحيطون به علما) * إلى الموصولين يكون مفاد الآية عدم إحاطة البشر بما يجري في النشأتين وهو أمر واضح لا حاجة إلى التركيز عليه. وهذا بخلاف إذا رجع إلى " الله " تكون الآية بصدد التنزيه ويكون المقصود أن الله يحيط بهم علما وهؤلاء لا يحيطون كذلك على غرار سائر الآيات.
344 رؤية الله في الذكر الحكيم دراسة أدلة النافين الآية الثالثة: رد السؤال بنفي الرؤية مؤبدا قال سبحانه: * (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) * (الأعراف - 143). استدل - بهذه الآية - النافي والمثبت، ومن المعلوم أنه ليس لها إلا مدلول واحد فكيف يمكن التمسك بها على قولين متناقضين، وما هذا إلا لأن أحد المستدلين ينظر إلى الآية لا بنية دراستها مجردة عن كل هوى سابق وإنما ينظر إليها ليحتج بها على ما يتبناه وهذا من قبيل التفسير بالرأي الذي نهى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه بالخبر المتواتر. وبالتالي قل من نظر إليها بموضوعية خالية عن كل رأي مسبق.
345 مفهوم الآية عند عرضها على عربي صميم: لا شك أننا إذا عرضا الآية على عربي صميم لم يتأثر ذهنه بالمناقشات الكلامية الدائرة بين النفاة والمثبتين وطلبنا منه أن يبين الإطار العام للآية ومفادها ومنحاها وأنها بصدد بيان امتناع الرؤية أو جوازها؟ يجيب بصفاء ذهنه بأن الإطار العام لها هو تعاليه سبحانه عن الرؤية وأن سؤاله أمر عظيم فظيع لا يمحى أثره إلا بالتوبة، ففهم ذلك العربي حجة لنا لا يجوز لنا العدول عنها، والقرآن نزل بلسان عربي مبين ولم ينزل بلسان المتكلمين أو المجادلين. كما أنا إذا أردنا أن نفسر مفاد الآية تفسيرا صناعيا، فلا شك أنه يدل أيضا على تعاليه عنها وذلك بوجوه: 1 - الإجابة بالنفي المؤبد: لما سأل موسى رؤية الله تبارك وتعالى أجيب ب * (لن تراني) * والمتبادر من هذه الجملة أي قوله * (لن تراني) * هو النفي الأبدي الدال على عدم تحققها أبدا. والدليل على ذلك هو تتبع موارد استعمال كلمة " لن " في الذكر الحكيم، فلا تراها متخلفة عن ذلك حتى في مورد واحد. 1 - قال سبحانه: * (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له) * (الحج - 73). 2 - * (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) * (التوبة - 80). 3 - * (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم) * (محمد - 34).
346 4 - * (سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم) * (المنافقون - 6). 5 - * (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) * (البقرة - 120). 6 - * (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا) * (التوبة - 83). إلى غير ذلك من الآيات الصريحة في أن " لن " تفيد التأبيد. وربما نوقش في دلالة " لن " على التأبيد مناقشة ناشئة عن عدم الوقوف الصحيح على مقصود النحاة من قولهم " لن " موضوعة للتأبيد، ولتوضيح مرامهم نذكر أمرين ثم نعرض المناقشة عليهما. 1 - إن المراد من التأبيد ليس كون المنفي ممتنعا بالذات بل كونه غير واقع، وكم فرق بين نفي الوقوع ونفي الإمكان، نعم ربما يكون عدم الوقوع مستندا إلى الاستحالة الذاتية. 2 - إن المراد من التأبيد هو النفي البات وهذا قد يكون غير محدد بشئ وربما يكون محددا بظرف خاص، فيكون معنى التأبيد، بقاء النفي بحالة ما دام الظرف باقيا. إذا عرفت الأمرين تقف على وهن ما نقله الرازي عن الواحدي من أنه قال: ما نقل عن أهل اللغة أن كلمة لن للتأبيد، دعوى باطلة، والدليل على فساده قوله تعالى في حق اليهود: * (ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم والله عليم بالظالمين) * (البقرة - 95) قال: وذلك لأنهم يتمنون الموت يوم القيامة بعد دخولهم النار، قال سبحانه: * (ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك قال إنكم ماكثون) * (الزخرف - 77)
347 فإن المراد من * (ليقض علينا) * هو القضاء بالموت (1). وجه الضعف ما عرفت من أن التأبيد على قسمين، غير محدد ومحدد بإطار خاص، ومن المعلوم أن قوله سبحانه: * (ولن يتمنونه) * ناظر إلى التأبيد في الإطار الذي اتخذه المتكلم ظرفا لكلامه وهو الحياة الدنيا، فالمجرمون ما داموا في الحياة الدنيا لا يتمنون الموت أبدا، لعلمهم بأن الله سبحانه بعد موتهم يقدمهم للحساب والجزاء ولأجل ذلك لا يتمنوه أبدا قط. وأما تمنيهم الموت بعد ورودهم العذاب الأليم فلم يكن داخلا في مفهوم الآية الأولى حتى يعد التمني مناقضا للتأبيد. ومن ذلك يظهر وهن كلام آخر وهو: أنه ربما يقال: إن " لن " لا تدل على الدوام والاستمرار، بشهادة قوله: * (إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا) * إذ لو كانت * (لن) * تفيد تأبيد النفي لوقع التعارض بينها وبين كلمة * (اليوم) * لأن اليوم محدد معين، وتأبيد النفي غير محدد ولا معين، ومثله قوله سبحانه على لسان ولد يعقوب: * (فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي) * حيث حدد بقاءه في الأرض بصدور الإذن من أبيه (2). وجه الوهن: أن التأبيد في كلام النحاة ليس مساويا للمعدوم المطلق بل المقصود هو النفي البات الذي لا يشق، والنفي البات الذي لا يكسر ولا يشق على قسمين: تارة يكون الكلام غير محدد بظرف خاص ولا تدل عليه قرينة حالية ولا مقالية فعندئذ يسابق التأبيد المعدوم المطلق، وأخرى يكون الكلام محددا بزمان حسب القرائن اللفظية والمثالية فيكون التأبيد محددا بهذا الظرف أيضا، ومعنى قول مريم: * (فلن أكلم اليوم إنسيا) * هو النفي البات في هذا الإطار ولا ينافي تكلمها بعد هذا اليوم.
(1) الرازي: مفاتيح الغيب: 14 / 227. (2) عباس حسن: النحو الوافي: 4 / 281 كما في كتاب رؤية الله للدكتور أحمد بن ناصر. 348 والحاصل أن ما أثير من الإشكال في المقام ناشئ من عدم الإمعان فيما ذكرنا من الأمرين فتارة حسبوا أن المراد من التأبيد هو الاستحالة فأوردوا بأنه ربما يكون المدخول أمرا ممكنا كما في قوله * (فقل لن تخرجوا معي أبدا) * (التوبة - 83) وأخرى حسبوا أن التأبيد يلازم النفي والمعدوم المطلق فناقشوا بالآيات الماضية التي لم يكن النفي فيها نفيا مطلقا، ولو أنهم وقفوا على ما ذكرنا من الأمرين لسكتوا عن هذه الاعتراضات. وبما أنه سبحانه لم يتخذ لنفي رؤيته ظرفا خاصا، يكون مدلوله أنه لا تتحقق الرؤية أبدا لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة. والحاصل أن الآية صريحة في عدم احتمال الطبيعة البشرية لذلك الأمر الجلل ولذلك أمره أن ينظر إلى الجبل عند تجليه، فلما اندك الجبل خر موسى مغشيا عليه من الذعر، ولو كان عدم الرؤية مختصا بالحياة الدنيا لما احتاج إلى هذا التفصيل بل كان في وسعه سبحانه أن يقول لا تراني في الدنيا ولكن تراني في الآخرة فاصبر حتى يأتيك وقته، والإنسان مهما بلغ كمالا في الآخرة فهو لا يخرج عن طبيعته التي خلق عليها وقد بين سبحانه أنه خلق ضعيفا. 2 - تعليق الرؤية على أمر غير واقع: علق سبحانه الرؤية على استقرار الجبل وبقائه على الحالة التي هو عليها عند التجلي. وعدم تحوله إلى ذرات ترابية صغار بعده، والمفروض أنه لم يبق على حالته السابقة وبطلت هويته وصار ترابا مدكوكا فإذا انتفى المعلق عليه (بقاء الجبل على حالته) ينتفي المعلق، وهذا النوع من الكلام، طريقه معروفة، حيث يعلقون وجود الشئ بما يعلم أنه لا يكون، والله سبحانه بما أنه يعلم أن الجبل لا يستقر في مكانه - بعد التجلي - فيعلق الرؤية على استقراره، حتى يستدل بانتفائه
349 على انتفائه قال سبحانه: * (ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط) * (الأعراف - 40). والحاصل أن المعلق عليه هو وجود الاستقرار بغض النظر عن كونه أمرا ممكنا أو مستحيلا، والمفروض أنه لم يستقر فبانتفائه ينتفي ما علق عليه وهو الرؤية، وبالإمعان فيما ذكر تستغني عن جل ما ذكره المتكلمون من المعتزلة و الأشاعرة حول المعلق عليه (1). ولإراءة نموذج من كلامهم نأتي بما ذكره الرازي قال: إنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز والمعلق على الجائز جائز فيلزم كون الرؤية في نفسها جائزة بدليل قوله: * (فإن استقر مكانه فسوف تراني) * واستقرار الجبل أمر جائز الوجود في نفسه فثبت أنه تعالى علق رؤيته على جائز الوجود في نفسه... (2). يلاحظ عليه: أن المعلق عليه، ليس إمكان الاستقرار وكونه أمرا ممكنا مقابل كونه أمرا محالا عليه حتى يكون أمرا حاصلا، ويلزم عليه وجود المعلق أعني الرؤية مع أن المفروض عدمها بل المعلق عليه بقاء الجبل على ما كان عليه، إذ لو كان المعلق عليه إمكان الاستقرار فقد كان بحالته التي كان عليها حين التكلم، والمفروض أنه لم يبق عليها بل دك وصار ترابا مستويا بالأرض. 3 - تنزيهه سبحانه بعد الإفاقة عن الرؤية: تذكر الآية بأن موسى لما أفاق فأول ما تكلم به هو تسبيحه سبحانه وتنزيهه
(1) القاضي عبد الجبار: شرح الأصول الخمسة: 265، والشريف الجرجاني: المواقف: 8 / 121، والرازي: مفاتيح الغيب: 14 / 231، وإني - بدوري - أضن بالحبر والقلم والورق من صرفها في نقل كلماتهم في المقام. (2) الرازي: مفاتيح الغيب: 14 / 231. 350 وقال * (سبحانك) * وذلك لأن الرؤية لا تنفك عن الجهة والجسمية وغيرهما من النقائص فنزه سبحانه عنها، فطلبها نوع تصديق لها. ومن مصاديق التفسير بالرأي ما ربما يقال: إن المراد هو تنزيه الله وتعظيمه وإجلاله عن أن يتحمل رؤيته من كتب عليه الفناء، حتى لا يتعارض مع ما ورد من إثبات الرؤية عن الله ورسوله في دار الآخرة، وليست الرؤية من النقائص على ما يدعيه نفاتها فهي ليست نقصا في المخلوق بل هي كمال، وكل كمال اتصف به المخلوق وأمكن أن يتصف به الخالق، فالخالق أولى (1). يلاحظ عليه: بأنه من أين وقف على اختصاص النفي بمن كتب عليه الفناء، مع إطلاق الآية ولماذا لا يجعل الموضوع لعدم تحملها، الوجود الإمكاني القاصر المحفوظ في كلتا الدارين. وما ذكره في آخر كلامه من أن كل كمال اتصف به المخلوق وأمكن أن يتصف به الخالق فالخالق أولى به صحيح من حيث الضابطة والقانون، لكنه باطل من حيث التطبيق على المورد، فإن ما يوصف به المخلوق على قسمين فمنه ما يكون كمالا له ككونه عالما قادرا حيا سميعا بصيرا فالله أولى بأن يوصف به، ومنه ما لا يكون كمالا له ككونه مرئيا للغير، فلا يوصف به سبحانه ولو افترضنا كونه كمالا في الأول فهو موجب للنقص في الثاني لاستلزامه التجسيم والتشبيه والجهة والحاجة إلى المكان، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وكان الأولى للكاتب وأشياخه فروخ الحشوية أن لا يخوضوا في أغوار هذه المسائل التي ما شمها ولا ولج بابها، لا هو ولا شيوخه. إذا لم تستطع أمرا فدعه * وجاوزه إلى ما تستطيع
(1) الدكتور أحمد بن ناصر: رؤية الله تعالى: 47 - 48. 351 4 - توبته لأجل طلب الرؤية: إنه (عليه السلام) بعد ما أفاق، أخذ بالتنزيه أولا والتوبة والإنابة إلى ربه ثانيا، وظاهر الآية أنه تاب من سؤاله كما أن الظاهر من قوله: * (وأنا أول المؤمنين) * أنه أول المصدقين بأنه لا يرى بتاتا. إن للباقلاني - أحد دعاة مذهب الإمام الأشعري - كلاما في تفسير التوبة، أشبه بالتفسير بالرأي قال: يحتمل أن موسى تاب لأجل أنه ذكر ذنوبا له قد قدم التوبة منها، فجدد التوبة عند ذكرها لهول ما رأى، أو تاب من ترك استئذانه منه سبحانه في هذه المسألة العظيمة (1). كل ما ذكره وجوه لا يتحملها ظاهر الآية وإنما تورط فيها لأجل دعم المذهب وهذا هو الذي ندد به النبي الأكرم وقال: " من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار " ومثله قول الرازي في تفسير قوله: * (وأنا أول المؤمنين) * بأنه لا يراك أحد في الدنيا، أو أول المؤمنين بأنه لا يجوز السؤال منك إلا بإذنك (2). شبهتان للمخالف: قد تقدم أن الآية استدل بها النفاة والمثبتون وقد تعرفت على استدلال النافين وليس استدلال المثبتين للرؤية استدلالا علميا، وإنما يرجع محصل كلامهم إلى إبداء شبهتين نأتي بهما:
(1) الباقلاني (ت 403 ه): التمهيد: 270 - 271. (2) الرازي: مفاتيح الغيب: 14 / 235 بتلخيص. لاحظ خاتمة المطاف تجد فيها كلمات السلف الصالح في تفسير التوبة. 352 الأولى: لو كانت ممتنعة لما سألها الكليم: إن الآية دالة على أن موسى (عليه السلام) سأل الرؤية ولا شك أن موسى (عليه السلام) يكون عارفا بما يجب ويجوز ويمتنع على الله تعالى، فلو كانت الرؤية ممتنعة على الله تعالى لما سألها وحيث سألها علمنا أن الرؤية جائزة على الله تعالى (1). الاستدلال بطلب موسى إنما يكون متقنا إذا تبين أنه (عليه السلام) طلبها باختيار ومن غير ضغط من قومه فعندئذ يصلح للتمسك به ظاهرا وأنى للمستدل إثبات ذلك، مع أن القرائن تشهد على أنه سأل الرؤية على لسان قومه حيث كانوا مصرين على ذلك على وجه يأتي بيانه، وتوضيحه يتوقف على بيان أمور: 1 - أنه سبحانه ذكر قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية أولا (الأعراف - 143). 2 - أنه سبحانه أتبعها بذكر قصة العجل وما دار بين موسى وأخيه وقومه ثانيا (الأعراف 148 - 154) وقد تقدمت آياتهما. 3 - ثم نقل اختيار موسى من قومه سبعين رجلا لميقاته سبحانه وقال: * (واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين) * (الأعراف - 155). والإجابة الحاسمة تتوقف على توضيح أمر آخر وهو: هل كان سؤال موسى الرؤية من متممات طلب القوم الرؤية أو كان أمرا مستقلا، لا صلة له بطلب القوم من غير فرق بين القول بوقوع الطلبين في زمان واحد أو زمانين بل المهم، وجود
(1) الرازي: مفاتيح الغيب: 14 / 229. 353 الصلة بين السؤالين وعدمها وكون الثاني من توابع السؤال الأول. والظاهر بل المقطوع هو الأول ويدل على ذلك أمران: الأول: سياق الآيات ليس دليلا قطعيا: إن ذهاب موسى بقومه إلى الميقات كان قبل تحقق قصة العجل لقوله سبحانه: * (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك) * (النساء - 153) فإن تخلل لفظة " ثم " حاك عن تأخرها عن الذهاب، ومع ذلك كله فقد جاء ذكر ذهابهم في سورة الأعراف بعد ذكر قصة العجل، وهذا لو دل على شئ فإنما يدل على أن السياق ليس دليلا قطعيا لا يجوز مخالفته، فكما جاز تأخير المتقدم وجودا في مقام البيان فكذلك يجوز تكرار ما جاء في أثناء القصة في آخرها لنكتة ستوافيك. فما نقله الرازي عن بعضهم من أنهم خرجوا إلى الميقات ليتوبوا عن عبادة العجل فقالوا في الميقات: أعطنا ما لم تعطه أحدا قبلنا... (1) ليس بشئ وقد عرفت تصريح الآية على تقدم السؤال على عبادته. الثاني: استقلال السؤالين غير معقول: إن لاحتمال استقلال السؤالين صورتين: الأولى: أن يتقدم سؤال موسى رؤية الله لنفسه ثم يحدث ما حدث، من خروره صعقا وإفاقته وإنابته، ثم إنه بعد ما سار بقومه إلى الميقات سأله قومه أن يري الله لهم جهرة فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون.
(1) الرازي: مفاتيح الغيب: 14 / 239. 354 الثانية: عكس الصورة الأولى، بأن يسير موسى بقومه إلى الميقات ثم يسألونه رؤية الله جهرة فيحدث ما حدث، ثم هو في يوم آخر أو بعد تلك الواقعة يسأل الرؤية لنفسه فيخاطب بقوله: * (لن تراني ولكن انظر إلى الجبل) *. إن العقل يحكم بامتناع كلتا الصورتين عادة حسب الموازين العادية. أما الأولى: فلو كان موسى متقدما في السؤال وسمع من الله ما خاطبه به من قوله: * (لن تراني) * لكان عليه أن يذكر قومه بعواقب السؤال وأنه سألها ربه ففوجئ بالغشيان، مع أنا نرى أنه لم يذكرهم بشئ مما جرى عليه غب طلبهم. ولو ذكرهم لما سكت عنه الوحي. أما الثانية: فهو أيضا مثله لأنه إذا تقدم سؤال قومه الرؤية وشاهد موسى ما شاهد وسمى عملهم فعل السفهاء فلا يصح في منطق العقل أن يطلب الكليم ذلك لنفسه مستقلا. كل ذلك يعرب عن أنه لم يكن هناك ميقاتان ولا لقاءان ولا سؤالان مستقلان وإنما كان هناك ميقات واحد ولقاء واحد وسؤالان بينهما ترتب و صلة، والدافع إلى السؤال الثاني هو نفس الدافع إلى السؤال الأول، وعندئذ لا يدل سؤال موسى الرؤية على كونها أمرا ممكنا لاندفاعه إلى السؤال من قبل قومه. توضيح ذلك: أن الكليم لما أخبر قومه بأن الله كلمه وقربه وناجاه، قال قومه: لن نؤمن بك حتى نسمع كلامه كما سمعت فاختار منهم سبعين رجلا لميقاته، وسأله سبحانه أن يكلمه فلما كلم الله وسمع القوم كلامه قالوا: * (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) * فعند ذلك أخذتهم الصاعقة بظلمهم، وإلى هذه الواقعة تشير الآيات التالية: 1 - * (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون) * (البقرة - 51).
355 2 - * (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون) * (البقرة - 55). 3 - * (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم) * (النساء - 153). 4 - * (واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين) * (الأعراف - 155). إلى هذه اللحظة الحساسة لم يحم الكليم حول الرؤية ولم ينبس بها ببنت شفة ولم يطلب شيئا، وإنما طلب منه سبحانه أن يحييهم حتى يدفع عن نفسه اعتراض قومه إذا رجع إليهم وهو القائل * (قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك) *. فلو كان هناك سؤال فإنما كان بعد هذه المرحلة وبعد إصابة الصاعقة السائلين وعودهم إلى الحياة بدعاء موسى وعندئذ يطرح السؤال نفسه وهو، هل يصح للكليم أن يطلب السؤال بدافع نفسه وقد رأى بأم عينيه ما رأى؟ كلا، وكيف يصح له أن يسأله وقد وصف السؤال فعلا للسفهاء فلم يبق هناك إلا احتمال آخر، وهو أنه بعد ما عاد قومه إلى الحياة أصروا على موسى وألحوا عليه أن يسأل الرؤية لنفسه لا لهم حتى تحل رؤيته لله مكان رؤيتهم فيؤمنوا به بعد إخباره بالرؤية (1). وهذا هو المعقول والمترقب من قوم موسى الذين عرفوا بالعناد واللجاج، وبما أن موسى لم يقدم على السؤال إلا بإصرار منهم حتى يسكتهم لم يتوجه إلى الكليم أي تبعة ولا مؤاخذة بل خوطب بقوله * (لن تراني ولكن انظر إلى
(1) أو لتسمعوا النص باستحالة ذلك من عند الله، كما سيوافيك في كلام الزمخشري. 356 الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني) *. إن للإمام الطاهر علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) كلاما - حول سؤال موسى - نأتي برمته: قال علي بن محمد بن الجهم: حضرت مجلس المأمون وعنده الرضا علي بن موسى (عليهما السلام) فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أليس من قولك: أن الأنبياء معصومون؟ قال: " بلى " فسأله عن آيات من القرآن، فكان فيما سأله أن قال له: فما معنى قول الله عز وجل: * (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني) * الآية؟ كيف يجوز أن يكون كليم الله موسى بن عمران (عليه السلام) لا يعلم أن الله - تعالى ذكره - لا تجوز عليه الرؤية حتى يسأله هذا السؤال؟ فقال الرضا (عليه السلام): " إن كليم الله موسى بن عمران (عليه السلام) علم أن الله، تعالى عن أن يرى بالأبصار، ولكنه لما كلمه الله عز وجل وقربه نجيا، رجع إلى قومه فأخبرهم أن الله عز وجل كلمه وقربه وناجاه، فقالوا: لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت، وكان القوم سبعمائة ألف رجل، فاختار منهم سبعين ألفا، ثم اختار منهم سبعة آلاف ثم اختار منهم سبعمائة ثم اختار منهم سبعين رجلا لميقات ربه، فخرج بهم إلى طور سينا، فأقامهم في سفح الجبل، وصعد موسى (عليه السلام) إلى الطور وسأل الله تبارك وتعالى أن يكلمه ويسمعهم كلامه، فكلمه الله تعالى ذكره، وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وأمام، لأن الله عز وجل أحدثه في الشجرة، ثم جعله منبعثا منها حتى سمعوه من جميع الوجوه، فقالوا: لن نؤمن لك بأن هذا الذي سمعناه كلام الله حتى نرى الله جهرة، فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا بعث الله عز وجل عليهم صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا، فقال موسى: يا رب ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا: إنك ذهبت بهم فقتلتهم لأنك لم تكن صادقا فيما ادعيت من مناجاة الله
357 إياك، فأحياهم الله وبعثهم معه. فقالوا: إنك لو سألت الله أن يريك أن تنظر إليه لأجابك وكنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حق معرفته، فقال موسى (عليه السلام): يا قوم إن الله لا يرى بالأبصار ولا كيفية له، وإنما يعرف بآياته ويعلم بإعلامه، فقالوا: لن نؤمن لك حتى تسأله، فقال موسى (عليه السلام): يا رب إنك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم، فأوحى الله جل جلاله إليه: يا موسى اسألني ما سألوك فلن أؤاخذك بجهلهم، فعند ذلك قال موسى (عليه السلام): * (رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل (بآية من آياته) جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك (يقول: رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي) وأنا أول المؤمنين) * منهم بأنك لا ترى. فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن. والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة، وقد أخرجه الصدوق بتمامه في كتاب عيون أخبار الرضا (عليه السلام) (1). وللزمخشري في المقام تفسير رائع قال: ما كان طلب الرؤية إلا ليبكت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضلالا وتبرأ من فعلهم، وذلك أنهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ ونبههم على الحق فلجوا وتمادوا في لجاجهم، وقالوا لا بد، ولن نؤمن حتى نرى الله جهرة، فأراد أن يسمعوا النص من عند الله باستحالة ذلك وهو قوله: * (لن تراني) * ليتيقنوا وينزاح عنهم ما دخلهم من الشبهة فلذلك قال: * (رب أرني أنظر إليك) * (2). وعلى كل تقدير فما ذكره صاحب الكشاف قريب مما ذكرناه، وكلا البيانين يشتركان في أن السؤال لم يكن بدافع من نفس موسى بل بضغط من قومه.
(1) الصدوق: التوحيد: باب ما جاء في الرؤية: ص 121 برقم 24. (2) الزمخشري: الكشاف: 1 / 573 - 574 ط مصر. 358 ولكن الرازي ناقش في هذه المقالة وقال: " ظاهر الحال يقتضي أن تكون هذه القصة مغايرة للقصة المتقدمة، لأن الأليق بالفصاحة إتمام الكلام في القصة الأولى في وضع واحد ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى غيرها، فأما ذكر بعض القصة (سؤال موسى الرؤية) ثم الانتقال منها إلى قصة أخرى (اتخاذ العجل ربا) ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى بقية الكلام في القصة الأولى (سؤال قوم موسى) يوجب نوعا من الخبط والاضطراب والأولى صون كلام الله تعالى عنه (1). والجواب: أنه سبحانه أخذ ببيان قصة مواعدة موسى ثلاثين ليلة من آية 142 وختمها في الآية 155 فالمجموع قصة واحدة كسبيكة واحدة، ولكن سبب العود إلى ما ذكر في أثناء القصة في آخرها هو إبراز العناية بسؤال الرؤية وأنه كان مسألة مهمة في حياة بني إسرائيل. فقد اتضح مما ذكرنا عدم دلالة الآية على إمكان رؤيته سبحانه بطلب موسى. الشبهة الثانية: تجليه على الجبل: إن تجليه سبحانه للجبل هو رؤية الجبل رب العالمين، وهو لما رآه سبحانه اندكت أجزاؤه، فإذا كان الأمر كذلك ثبت أنه تعالى جائز الرؤية، وأقصى ما في الباب أن يقال: الجماد جماد، والجماد يمتنع أن يرى شيئا، إلا أن نقول: لا يمتنع أن يقال: إنه تعالى خلق في ذلك الجبل الحياة والعقل والفهم ثم خلق فيه الرؤية متعلقة بذات الله (2).
(1) الرازي: مفاتيح الغيب: 15 / 70. (2) المصدر نفسه: 14 / 232. 359 يلاحظ عليه: أن ما ذكره من رؤية الجبال إياه مع الحياة والعقل والفهم شئ نسجه فكره، وليس في الآية أي دليل عليه والحافز إلى هذه الفكرة هو الدفاع عن الموقف المسبق والعقيدة التي ورثها، وظاهر الآية أنه سبحانه تجلى للجبل وهو لم يتحمل تجليه لا أنه رآه وشاهده. وأما التجلي فكما يحتمل أن يكون بالذات كذلك يحتمل أن يكون بالفعل، فمن لم يتحمل تجليه بفعله وقدرته فأولى أن لا يسكت عن تجليه بذاته، وعندئذ فمن المحتمل جدا أن يكون تجليه بآثاره وقدرته وأفعاله فعند ذلك لا يدل على تجليه على الجبل بذاته. أضف إلى ذلك: أن أقصى ما تعطيه الآية هو الإشعار وهل يمكن الأخذ به أمام الدلائل القاطعة عقلا ونقلا على امتناع رؤيته. إلى هنا تم ما أردناه من دلالة الذكر الحكيم على امتناع الرؤية وقد استنطقنا الآيات السالفة بوجه تفصيلي رائع وتعرفت على موقفه من الرؤية بالعيون والأبصار.
360 - 6 - رؤية الله في الذكر الحكيم دراسة أدلة المثبتين استدل القائلون بجواز الرؤية بآيات متعددة، والحق أن الآيات على قسمين: الأول: ما له أدنى ظهور فيما يدعونه من جواز الرؤية. الثاني: ما ليس له أدنى ظهور في مدعاهم. فلأجل ذلك نبحث عن أدلتهم في مقامين: المقام الأول قوله سبحانه: * (إلى ربها ناظرة) * ولا تجد آية صالحة لهذا القسم إلا قوله سبحانه: * (كلا بل تحبون العاجلة * وتذرون الآخرة * وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة * ووجوه يومئذ باسرة * تظن أن يفعل بها فاقرة) * (القيامة: 20 - 25). يقول الشارح القوشجي في شرحه لتجريد الاعتقاد: إن النظر إذا كان بمعنى الانتظار يستعمل بغير صلة، ويقال: انتظرته، وإذا كان بمعنى التفكر يستعمل بلفظة " في " وإذا كان بمعنى الرأفة يستعمل بلفظة " اللام " وإذا كان بمعنى الرؤية استعمل بلفظة " إلى " فيحمل على الرؤية (1). أقول: لقد طال الحوار حول المقصود من النظر في الآية، بين مثبتي الرؤية
(1) القوشجي: شرح التجريد: 334. 361 ونفاتها ولو أتينا بها لطال بنا المقام، فإن المثبتين يركزون على أن الناظرة بمعنى الرؤية كما أن نفاتها يفسرونها بمعنى الانتظار، مع أن تسليم كونه بمعنى الرؤية غير مؤثر في إثبات مدعيها كما سيظهر. والحق عدم دلالتها على جواز رؤية الله بتاتا وذلك لأمرين. الأول: أنه سبحانه استخدم كلمة * (وجوه) * لا " عيون " فقسم الوجوه إلى قسمين " وجوه ناضرة " و " وجوه باسرة " ونسب النظر إلى الوجوه لا العيون، فلو كان المراد هو الرؤية لكان المتعين استخدام العيون بدل الوجوه. والعجب أن المستدل غفل عن هذه النكتة التي تحدد معنى الآية وتخرجه عن الإبهام والتردد بين المعنيين وأنت لا تجد في الأدب العربي القديم ولا الحديث موردا، نسب فيه النظر إلى الوجوه وأريدت منه الرؤية بالعيون والأبصار بل كلما أريدت منه الرؤية، نسب إليهما. الثاني: لا نشك أن " الناظرة " قوله: * (إلى ربها ناظرة) * بمعنى الرائية ونحن نوافق المثبتين بأن النظر إذا استعمل مع " إلى " يكون بمعنى الرؤية، لكن الذي يجب أن نلفت إليه نظر المستدل هو أنه ربما يكون المعنى اللغوي ذريعة لتفهيم معنى كنائي يكون هو المقصود بالأصالة لا المدلول اللغوي، فلو قلنا: زيد كثير الرماد، فلا شك أنه مستعمل في معناه اللغوي ولكن كثرة الرماد مراد استعمالي لا جدي، وإنما المراد الجدي ما اتخذ المعنى الاستعمالي وسيلة لإفهامه للمخاطب وهو جوده وسخاؤه وكثرة إطعامه، فإذا قال الرجل: زيد كثير الرماد، فليس علينا أن نصف القائل بأنه أخبرنا عن كثرة الرماد في بيت زيد الذي يعد أوساخا ملوثة لبيته، فيكون قد ذمه مكان مدحه، بل يجب علينا أن نصفه بأنه أخبر عن جوده وسخائه، والعبرة في النسبة بالمعنى الجدي لا الاستعمالي وهذه هي القاعدة الكلية في تفسير كلمات الفصحاء والبلغاء. هلم معي نستوضح مفاد الآية وأنه ماذا أريد منه استعمالا، وماذا أريد منه جديا؟ فلا يعلم ذلك إلا برفع إبهام الآية بمقابلها، نقول: إن هناك آيات ست
362 وتقابل ثلاثة والتنظيم لها بالشكل التالي: 1 - * (كلا بل تحبون العاجلة) * يقابلها 2 - * (وجوه يومئذ ناضرة) * يقابلها 3 - * (إلى ربها ناظرة) * يقابلها * (وتذرون الآخرة) *. * (وجوه يومئذ باسرة) *. * (تظن أن يفعل بها فاقرة) *. فلا شك أن الآيات الأربع الأول واضحة لا سترة فيها، إنما الإبهام وموضع النقاش هو الشق الأول من التقابل الثالث، فهل المراد منه جدا هو الرؤية، أو أنها كناية عن انتظار الرحمة، والذي يعين أحد المعنيين هو أن ما يقابله أعني * (تظن أن يفعل بها فاقرة) * صريح في أن أصحاب الوجوه الباسرة ينتظرون العذاب الكاسر لظهرهم ويظنون نزوله، ومثل هذا الظن لا ينفك عن الانتظار، فكل ظان نزول العذاب منتظر، فيكون قرينة على أن أصحاب الوجوه المشرقة ينظرون إلى ربهم بمعنى أنهم يرجون رحمته، وهذا ليس تصرفا في الآيات ولا تأويلا لها، وإنما هو رفع الإبهام عن الآية بأختها المتقابلة. وترى ذلك التقابل والانسجام في آيات أخرى، وكأن الجميع سبيكة واحدة. 1 - * (وجوه يومئذ مسفرة) * * (ضاحكة مستبشرة) * 2 - * (ووجوه يومئذ عليها غبرة) * * (ترهقها قترة) * (عبس: 38 - 40) فإن قوله: * (ضاحكة مستبشرة) * قائم مقام قوله: * (إلى ربها ناظرة) * فيرفع إبهام الثاني بالأول. 3 - * (وجوه يومئذ خاشعة) * * (عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية) * (الغاشية: 2 - 4) 4 - * (وجوه يومئذ ناعمة) * * (لسعيها راضية * في جنة عالية) * (الغاشية: 8 - 10)
363 انظر إلى الانسجام البديع، والتقابل الواضح بينهما، والاستهداف الواحد. والجميع بصدد تصنيف الوجوه يوم القيامة، إلى ناضر ومسفر، وناعم وإلى باسر، وأسود (غبرة)، وخاشع. أما جزاء الصنف الأول فهو الرحمة والغفران، وتحكيه الجمل التالية: * (إلى ربها ناظرة) *، * (ضاحكة مستبشرة) *، * (في جنة عالية) *. وأما جزاء الصنف الثاني فهو العذاب، والابتعاد عن الرحمة، وتحكيه الجمل التالية: * (تظن أن يفعل بها فاقرة) *، * (ترهقها قترة) *، * (تصلى نارا حامية) *. أفبعد هذا البيان يبقى الشك في أن المراد من * (إلى ربها ناظرة) * هو انتظار الرحمة، والقائل بالرؤية يتمسك بهذه الآية، ويغض النظر عما حولها من الآيات، ومن المعلوم أن هذا من قبيل محاولة إثبات المدعى بالآية، لا محاولة الوقوف على مفادها. ويدل على ذلك أن كثيرا ما يستخدم العرب النظر بالوجوه في انتظار الرحمة أو العذاب: وإليك بعض ما ورد: 1 - وجوه بها ليل الحجاز على الهوى * إلى ملك كهف الخلائق ناظرة 2 - وجوه ناظرات يوم بدر * إلى الرحمن يأتي بالفلاح فلا نشك أن قوله: " وجوه ناظرات " بمعنى رائيات ولكن النظر إلى الرحمن كناية عن انتظار النصر والفتح. 3 - إني إليك لما وعدت لناظر * نظر الفقير إلى الغني الموسر
364 فلا ريب أن اللفظين في الشعر وإن كانا بمعنى الرؤية ولكن نظر الفقير إلى الغني ليس بمعنى النظر بالعين بل الصبر والانتظار حتى يعينه. قال سبحانه: * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم) * (آل عمران: 77) والمراد من قوله: * (لا ينظر إليهم) * هو طردهم عن ساحته وعدم شمول رحمته لهم وعدم تعطفه عليهم، لا عدم مشاهدته إياهم إذ - مضافا إلى استلزام ذلك التفسير الكفر لأنه سبحانه يرى الجميع * (وهو يدرك الأبصار) * - أن رؤيته وعدمها ليس أمرا مطلوبا لهم حتى يهددوا بعدم نظره سبحانه إليهم، بل الذي ينفعهم هو وصول رحمته إليهم، والذي يصح تهديدهم به هو عدم شمول لطفه لهم فيكون المراد عدم تعطفه إليهم. وعلى ضوء ذلك فنظر العالي إلى الداني بمعنى العطف والحنان، ونظر السافل إلى العالي إنما هو انتظار الرحمة. والحاصل أن النظر إذا أسند إلى العيون يكون المعنى الاستعمالي والجدي هو الرؤية، وإذا أسند إلى الشخص كالفقير أو إلى الوجوه يراد به الرؤية استعمالا والانتظار جدا. إن لصاحب الكشاف كلمة جيدة يقول بهذا الصدد: " يقال أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي " يريد معنى التوقع والرجاء، ومن هذا القبيل قوله: وإذا نظرت إليك من ملك * والبحر دونك زدتني نعما وقال: سمعت سروية مستجدية بمكة وقت الظهر حين يغلق الناس
365 أبوابهم ويأوون إلى معاقلهم تقول: (عيينتي نويظرة إلى الله وإليكم) يقصد راجية ومتوقعة لإحسانهم إليها، كما هو معنى قولهم: (أنا أنظر إلى الله ثم إليك): أتوقع فضل الله ثم فضلك (1).
(1) الزمخشري: الكشاف: 3 / 294. 366 رؤية الله في الذكر الحكيم دراسة أدلة المثبتين المقام الثاني آيات خمس على طاولة التفسير اتفق المحققون على أنه لا يستدل بآية على عقيدة إسلامية إلا إذا كانت الآية واضحة الدلالة، جلية المرمى، لما عرفت من أن المطلوب في باب العقائد هو الاعتقاد وهو رهن الإذعان، ولا يحصل إلا إذا كان هناك سبب قطعي له. وعلى ذلك الأصل، كان المترقب من أصحاب القول بالرؤية، التمسك بما له ظهور في ادعائهم حتى ولو كان الظهور بدائيا زائلا بالتمعن فيه، ولكن أسفا نرى أنهم يتمسكون بما لا دلالة له على ادعائهم، بل لا صلة بينه وبين القول بالرؤية، وعلى ذلك سنتناول في هذا الفصل هذا القسم من الآيات ونفصله عما سبق إيعازا للفرق بين أدلتهم. الآية الأولى: أمره سبحانه موسى بالشكر له: * (قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين) * (الأعراف - 144).
367 قال الرازي: إعلم أن موسى (عليه السلام) لما طلب الرؤية ومنعه الله منها، عدد الله عليه وجوه نعمه العظيمة التي له عليه، وأمره أن يشتغل بذكرها كأنه قال: إن كنت قد منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النعم كذا وكذا، فلا يضيق صدرك بسبب منع الرؤية وانظر إلى سائر أنواع النعم التي خصصتك بها، واشتغل بشكرها. والمقصود تسلية موسى (عليه السلام) عن منع الرؤية وهذا أيضا أحد ما يدل على أن الرؤية جائزة على الله تعالى، إذ لو كانت ممتنعة في نفسها لما كان إلى ذكر هذا القدر حاجة (1). وقد تبعه إسماعيل البروسي فقال في تفسير قوله: * (وكن من الشاكرين) *: أن اشكر، يبلغك إلى ما سألت من الرؤية لأن الشكر يستدعي الزيادة لقوله تعالى: * (لئن شكرتم لأزيدنكم) * (إبراهيم - 7) والزيادة هي الرؤية لقوله تعالى: * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) * (يونس - 26) وقال عليه الصلاة والسلام: الزيادة هي الرؤية، والحسنى هي الجنة (2). وفي مؤخر المثبتين للرؤية من يستحسن مواقف المستدلين بهذه الآية ويقول: إن الاستدلال بهذه الآية على الجواز قوي، لأن الله تعالى عدد لموسى (عليه السلام) هذه النعم التي أنعم الله بها عليه لما منعه من حصول جائز طلبه منه، فذكر ما ذكر تسلية له ولو منعه من ممتنع لكان بخطاب آخر وذلك مثل خطابه تعالى لنوح: * (رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين * قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعضك أن تكون من الجاهلين) * (هود: 45 - 46). وقوله تعالى لإبراهيم (عليه السلام) حين قال: * (رب أرني كيف تحيي الموتى قال
(1) الرازي: مفاتيح الغيب: 14 / 235. (2) إسماعيل حقي البروسي: روح البيان: 3 / 239 وتبعه الآلوسي في روح المعاني: لاحظ 9 / 55. 368 أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) * (البقرة - 260) والفرق بين خطاب الله لموسى (عليه السلام) وبين خطابه لنوح وإبراهيم (عليه السلام) ظاهر (1). وقد نقلنا كلام هؤلاء بالتفصيل ليقف القارئ على أنه كيف يتمسكون بما لا دلالة له على مطلوبهم، والشاهد على ذلك أنا لو عرضنا الآية على أي عربي مخاطب بالقرآن لا ينتقل إلى ما يدعون، ويتلقى إثبات الرؤية بها تحميلا للفكر على الآية لا تفسيرا لها، وإليك الإشارة إلى نقاط الضعف في كلمات هؤلاء. أما الرازي، فمن أين يدعي أن الآية في مقام مواساة موسى لئلا يضيق صدره بسبب منع الرؤية؟ لو لم نقل إن الآية وردت على خلاف ما يدعيه، فإنما وردت في مورد الامتنان على موسى وموعظة له أن يكتفي بما اصطفاه الله به من رسالاته، وكلامه، ويشكره، ولا يزيد عليه. هذا هو الظاهر من الآية، ولا وجه لحمل الآية بكونها في صدد المواساة، بعد ما صدر من موسى في الآية المتقدمة عليها قوله: * (سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين * قال يا موسى إني اصفيتك على الناس...) * (الأعراف: 143 - 144) فمقتضى ما صدر من موسى من تنزيه وتوبة وإيمان بأنه لا يرى، هو موعظته بالاكتفاء بما أوتي ولا يزيد عليه، لا أن يعتذر سبحانه منه ويواسيه بحرمانه رؤيته. وأما ما ذكره صاحب روح البيان فعجيب جدا فإن استدلاله يتوقف على أن المراد من * (زيادة) * في قوله سبحانه: * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) * هو الرؤية وهذا أول الكلام وسيوافيك أن المراد منها هي الزيادة على الاستحقاق، فانتظر حتى يأتيك البيان. وأما ما ذكره الدكتور تأييدا لما ذكره الرازي فضعفه واضح لأن الآية ليست بصدد مواساته، وأما اختلاف الخطاب بينها وبين ما ورد في طلب نوح هو أن
(1) الدكتور أحمد بن ناصر: رؤية الله: 92. 369 طلب موسى لما كان نتيجة ضغط من قومه، دون طلب نوح، صار الاختلاف في مبدأ الطلبين، سببا لاختلاف الخطابين فخوطب نوح بخطاب عتابي دون موسى (عليهما السلام) وإن كان العتاب على ترك الأولى. الآية الثانية: الحسنى والزيادة: * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة وأولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) * (يونس - 26). فقد فسرت الحسنى بالجنة، و " الزيادة " بالنظر إلى وجه الله الكريم، روى مسلم في صحيحه عن صهيب عن النبي قال: إذا أدخل أهل الجنة قال الله تبارك وتعالى تريدون شيئا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئا أحب إليهم من التنظر إلى ربهم عز وجل، وفي رواية ثم تلى * (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) * (1). إن القرآن الكريم كتاب عربي مبين وهو تبيان لكل شئ كما هو مقتضى قوله سبحانه: * (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ) * (النحل - 89) وحاشا أن يكون تبيانا لكل شئ ولا يكون تبيانا لنفسه، وسياق الآية يدل على أن المراد من الزيادة هو الزيادة على الاستحاق فقد جعل سبحانه الجزاء حقا للعامل - لكن بفضله وكرمه - وقال: * (لهم أجرهم عند ربهم) * (آل عمران - 199)، ثم جعل المضاعف منه حقا للعامل أيضا وهذا أيضا بكرمه وفضله وقال: * (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) * (الأنعام - 160) وبالنظر إلى هذه الآيات يتجلى مفاد قوله سبحانه: * (للذين أحسنوا الحسنى " استحقاقا للجزاء والمثوبة الحسنى " وزيادة " على قدر الاستحقاق ") *، قال سبحانه: * (فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله) * (النساء - 173).
(1) مسلم: الصحيح: 1 / 163، الإمام أحمد: المسند: 4 / 332. 370 وبغض النظر عما ذكرنا من تفسير الزيادة على الاستحقاق أن ما بعد الآية قرينة واضحة على أن المراد من " زيادة " هو الزيادة على الاستحقاق، ومفاد الآيتين هو تعلق مشيئته سبحانه على جزاء المحسنين بأكثر من الاستحقاق وجزاء المسيئين بقدر جرائمهم، قال سبحانه بعد هذه الآية * (والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) * (يونس - 27). أفبعد هذا السياق الرافع للإبهام يصح لكاتب عربي واع أن يستدل بالآية على الرؤية. وبذلك يظهر عدم دلالة ما يشابه هذه الآية مدلولا على مدعاهم، قال سبحانه: * (ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود * لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد) * (ق - 34 - 35) فإن المراد أحد المعنيين، إما زيادة على ما يشاؤونه ما لم يخطر ببالهم ولم تبلغهم أمانيهم، أو الزيادة على مقدار استحقاقهم من الثواب بأعمالهم. وأما ما رواه مسلم فسيوافيك القضاء الحق عند البحث عن الرؤية في الروايات. وأن الآحاد في باب العقائد غير مفيدة خصوصا إذا كانت مضادة للقرآن. الآية الثالثة: رؤية الملك: * (وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا) * (الإنسان - 20). قال الرازي: فإن إحدى القراءات في هذه الآية في * (ملكا) * بفتح الميم وكسر اللام وأجمع المسلمون على أن ذلك الملك ليس إلا الله تعالى. وعندي أن التمسك بهذه الآية أقوى من التمسك بغيرها (1).
(1) الرازي: مفاتيح الغيب: 13 / 131. والعجب أن الرازي لم يذكر تلك القراءة عند تفسير الآية في محلها أي سورة الإنسان. 371 وقال الآلوسي عند تفسيرها: وقيل هو النظر إلى الله عز وجل وقيل غير ذلك (1). يلاحظ عليه: أن المسائل العقائدية لا يستدل عليها إلا بالأدلة القطعية لا بالقراءات الشاذة التي لا يحتج بها على الحكم الشرعي فضلا عن العقيدة، وسياق الآية يدل على أنه هو الملك بضم الميم وسكون اللام، وكأنه سبحانه يقول: وإذا رميت ببصرك الجنة رأيت نعيما لا يوصف وملكا كبيرا لا يقدر قدره. والآية نظير قوله: * (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا) * (الأحزاب - 47). الآية الرابعة: آيات اللقاء: 1 - * (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) * (الكهف - 110). 2 - * (وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين) * (البقرة - 223). 3 - * (تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما) * (الأحزاب - 44). 4 - * (قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين) * (البقرة - 249). وجه الاستدلال: أن الآيات تنسب اللقاء إلى الله تعالى ومقتضى الأخذ بالظاهر هو تحقق اللقاء بالمشاهدة والمعاينة. يلاحظ عليه: أن اللقاء كما أضيف في هذه الآيات إليه سبحانه كذلك
(1) الآلوسي: روح المعاني: 29 / 161. 372 أضيف إلى غيره سبحانه في سائر الآيات فتارة أضيف إلى لفظ الآخرة، قال سبحانه: * (والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم) * (الأعراف - 147) وقال * (وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة) * (المؤمنون - 33)، وأخرى إلى لفظ " اليوم " قال سبحانه: * (يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا) * (الزمر - 71) وقال سبحانه: * (وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا) * (الجاثية - 34)، وعلى ذلك يكون المراد من الجميع هو لقاء الناس يوم الجزاء بمعنى حضور الناس في يوم القيامة للمحاسبة والمجازاة، إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وإنما سمي هذا، بلقاء الرب أو لقاء الله لما تعلقت مشيئته على مجازاة المحسنين والمسيئين في ذلك اليوم فبما أنه سبحانه يجزي المحسن والمسيئ في ذلك اليوم فكأنهم يلقونه سبحانه فيه لا قبله. وفي نفس الآيات التي استدل بها، قرينة واضحة على أن المراد من الآيات هو الحضور يوم القيامة، وهي أنه سبحانه يأمر لمن يرجو لقاء الرب بالعمل الصالح ويقول: * (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا) * (أي فليستعد لذلك اليوم بالعمل الصالح) كما أنه في آية أخرى، يأمر بتقديم شئ لهذا اليوم ويقول: * (وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه) * وذلك لأن مقتضى العلم بالحشر في ذلك اليوم والمحاسبة والمجازاة هو تقديم الأعمال الصالحة. والذي يدل على أن المراد من اللقاء ليس هو الرؤية هو أن الرؤية تختص بالمؤمنين ولا تعم الكافرين مع أنه سبحانه يعمم اللقاء بالمؤمن والكافر فيقول: * (فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه) * (التوبة - 77)، فلو كان المراد من لقاء الله هو مشاهدته ورؤيته فيلزم أن يكون المنافق مشاهدا له فلم تبق أي فضيلة للمؤمنين مع أن القائلين بالرؤية يزمرون بأن الرؤية فضيلة وزيادة تختص بالمؤمنين، ولما ضاق الخناق على بعضهم قال برؤيتين إحداهما عامة للمؤمن
373 والكافر، وهي الرؤية يوم القيامة، والأخرى خاصة بالمؤمنين وهي الرؤية في الجنة (1)، وهو كما ترى فإن ظرف الرؤية للمؤمنين في رواية أبي هريرة، هو يوم القيامة كما سيوافيك وفيه يرى المؤمنون خالقهم على صورته الواقعية. وفي الختام نقول: إن منزلة آيات اللقاء هي منزلة آيات الرجوع إلى الله قال سبحانه: * (إنا لله وإنا إليه راجعون) * (البقرة - 156) ولم نر سلفيا أو أشعريا يستدل بها على رؤية الله سبحانه مع أن وزان الجميع واحد. الآية الخامسة: آية الحجب: * (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون * كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون * ثم إنهم لصالوا الجحيم * ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون) * (المطففين: 14 - 17). هذه الآية استدل بها غير واحد من القائلين بالرؤية. قال الآلوسي: لا يرونه تعالى وهو حاضر ناظر لهم بخلاف المؤمنين فالحجاب مجاز عن عدم الرؤية لأن المحجوب لا يرى ما حجب، إذ الحجب: المنع، والكلام على حذف مضاف أي عن رؤية ربهم للممنوعون فلا يرونه سبحانه، واحتج بالآية مالك على رؤية المؤمنين له تعالى من جهة دليل الخطاب، وإلا فلو حجب الكل لما أغنى هذا التخصيص، وقال الشافعي: لما حجب سبحانه قوما بالسخط دل على أن قوما يرونه بالرضا، وقال أنس بن مالك: لما حجب عز وجل أعداءه سبحانه فلم يروه تجلي جل شأنه لأوليائه حتى رأوه عز وجل (2).
(1) الدكتور أحمد بن ناصر: رؤية الله تعالى: 240. (2) الآلوسي: روح المعاني: 30 / 73. 374 يلاحظ عليه: أن الآية بصدد تهديد المجرمين وتنذيرهم وهذا لا يحصل إلا بتحذيرهم بحرمانهم عن رحمته وتعذيبهم في جحيمه، وأما تهديدهم بأنهم سيحرمون عن رؤيته تبارك وتعالى فلا يكون مؤثرا فيمن غلبت على قلبه آثار المعاصي والمآثم فلا يفكر يوما بالله ولا برؤيته، وعلى ذلك فالمراد أن هؤلاء محجوبون يوم القيامة عن رحمته وإحسانه وكرمه، وبعد ما منعوا من الثواب والكرامة يكون مسير هؤلاء إلى الجحيم ولذلك رتب على خيبتهم وحرمانهم قوله: * (إنهم لصالوا الجحيم) * ثم يقال: * (هذا الذي كنتم به تكذبون) *. هذه هي الآيات التي وقعت ذريعة للاستدلال على العقيدة المستوردة من الأحبار والرهبان إلى المسلمين، فزعم المحدثون والمغترون كونها عقيدة إسلامية فحشروا الآيات للبرهنة عليها سواء أكانت بها دلالة أم لا. ولو كان المستدلون مجردين عن عقائدهم لفهموا أن هذه الآيات ضيفت لبيان مفاهيم أخلاقية واجتماعية، وسوق المجتمع إلى العمل الصالح وعدم التورط في المعاصي وأين هي من الدلالة على أصل كلامي باسم الرؤية. إن الله سبحانه ذكر نعم الجنة الكثيرة ومقامات المؤمنين ولو كانت الرؤية من أماثل نعمه سبحانه، فلماذا لم يذكرها بوضوح كسائر النعم؟
375 - 7 - رؤيته تعالى في الأحاديث النبوية قد تعرفت على موقف الكتاب من رؤيته سبحانه وأنه كلما يذكر الرؤية وسؤالها وطلبها، يستعظمه ويستفظعه إجمالا، وعندما يطرحها تفصيلا، يعدها أمرا محالا، كما عرفت أن ما تمسك به القائلون بجواز الرؤية من الآيات لا يدل على ما يدعون. بقي الكلام في الروايات الواردة حول الرؤية في الصحاح والمسانيد، ودلالتها على المطلوب، واضحة كما ستوافيك، لكن الكلام في حجية الروايات التي تضاد الذكر الحكيم، وتباينه فإذا كان الكتاب العزيز مهيمنا على سائر الكتب فلماذا لا يكون مهيمنا على السنن المروية عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) التي دونت بعد مضي 143 سنة من رحيله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم تصن عن دس الأحبار والرهبان قال سبحانه: * (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق) * (المائدة - 48) وقال تعالى: * (إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون) * (النمل - 76) ولا يعني ذلك، حذف السنة من الشريعة ورفع شعار: حسبنا كتاب الله، بل يعني التأكد من الصحة ثم تطبيق العمل عليها. وإليك ما ورد في الصحاح حول الرؤية: روى البخاري في باب " الصراط جسر جهنم " بسنده عن أبي هريرة قال:
376 قال أناس: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: " هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ " قالوا: لا يا رسول الله، قال: " هل تضارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ " قالوا: لا يا رسول الله، قال: " فإنكم ترونه يوم القيامة، كذلك يجمع الله الناس فيقول: من كان يعبد شيئا فليتبعه، فيتبع من كان يعبد الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر، ويتبع من كان يعبد الطواغيت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها، فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا أتانا ربنا عرفناه فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه ويضرب جسر جهنم... - إلى أن يقول: - ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار فيقول: يا رب قد قشبني ريحها، وأحرقني ذكاؤها، فاصرف وجهي عن النار، فلا يزال يدعو الله فيقول: لعلك إن أعطيتك أن تسألني غيره. فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره، فيصرف وجهه عن النار، ثم يقول بعد ذلك: يا رب قربني إلى باب الجنة، فيقول: أليس قد زعمت أن لا تسألني غيره؟ ويلك ابن آدم ما أغدرك، فلا يزال يدعو فيقول: لعلي إن أعطيتك ذلك تسألني غيره، فيقول: لا وعزتك لا أسألك غيره، فيعطي الله من عهود ومواثيق أن لا يسأله غيره، فيقربه إلى باب الجنة فإذا رأى ما فيها، سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: ربي أدخلني الجنة، ثم يقول: أوليس قد زعمت أن لا تسألني غيره، ويلك يا بن آدم ما أغدرك، فيقول: يا رب لا تجعلني أشقى خلقك، فلا يزال يدعو حتى يضحك (الله) فإذا ضحك منه أذن له بالدخول فيها... الحديث (1). ورواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة مع اختلاف يسير (2).
(1) البخاري: الصحيح: 8 / 117 باب الصراط جسر جهنم. (2) مسلم: الصحيح: 1 / 113، باب معرفة طريق الرؤية. 377 ورواه أيضا عن أبي سعيد الخدري باختلاف غير يسير في المتن وفيه: حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله تعالى من بر وفاجر أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها، قال: فما تنتظر تتبع كل أمة ما كانت تعبد، قالوا: يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، لا نشرك بالله شيئا، مرتين أو ثلاثا حتى أن بعضهم ليكاد أن ينقلب، فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه، إلا أذن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه... الحديث (1). وقد نقل الحديث في مواضع من الصحيحين بتلخيص، ورواه أحمد في مسنده (2). تحليل الحديث: إن هذا الحديث مهما كثرت رواته، وتعددت نقلته لا يصح الركون إليه في منطق الشرع والعقل بوجوه: 1 - إنه خبر واحد لا يفيد شيئا في باب الأصول والعقائد، وإن كان مفيدا في باب الفروع والأحكام، إذ المطلوب في الفروع هو الفعل والعمل، وهو أمر ميسور سواء أذعن العامل بكونه مطابقا للواقع أو لا، بل يكفي قيام الحجة على لزوم تطبيق العمل عليه، ولكن المطلوب في العقائد هو الإذعان وعقد القلب ونفي الريب والشك عن وجه الشئ، وهو لا يحصل من خبر الواحد ولا من خبر
(1) مسلم: الصحيح: 1 / 115، باب معرفة طريق الرؤية. (2) أحمد بن حنبل: المسند: 2 / 368. 378 الاثنين، إلا إذا بلغ إلى حد يورث العلم والإذعان، وهو غير حاصل بنقل شخص أو شخصين. 2 - إن الحديث مخالف للقرآن، حيث يثبت لله صفات الجسم ولوازم الجسمانية كما سيوافيك بيانه عن السيد الجليل شرف الدين - رحمه الله -. 3 - ماذا يريد الراوي في قوله: " فيأتي الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم "؟ فكأن لله سبحانه صورا متعددة يعرفون بعضها، وينكرون البعض الآخر، وما ندري متى عرفوا التي عرفوها، فهل كان ذلك منهم في الدنيا، أو كان في البرزخ أم في الآخرة؟! 4 - ماذا يريد الراوي من قوله: " فيقولون: نعم، فيكشف عن ساق، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه... "؟ فإن معناه أن المؤمنين والمنافقين يعرفونه سبحانه بساقه، فكانت هي الآية الدالة عليه. 5 - كفى في ضعف الحديث ما علق عليه العلامة السيد شرف الدين - رحمه الله - حيث قال: إن الحديث ظاهر في أن لله تعالى جسما ذا صورة مركبة تعرض عليها الحوادث من التحول والتغير، وأنه سبحانه ذو حركة وانتقال، يأتي هذه الأمة يوم حشرها، وفيها مؤمنوها ومنافقوها، فيرونه بأجمعهم ماثلا لهم في صورة غير الصورة التي كانوا يعرفونها من ذي قبل. فيقول لهم: أنا ربكم، فينكرونه متعوذين بالله منه، ثم يأتيهم مرة ثانية في الصورة التي يعرفون. فيقول لهم: أنا ربكم، فيقول المؤمنون والمنافقون جميعا: نعم، أنت ربنا. وإنما عرفوه بالساق، إذ كشف لهم عنها، فكانت هي آيته الدالة عليه، فيتسنى حينئذ السجود للمؤمنين منهم، دون المنافقين، وحين يرفعون رؤوسهم يرون الله ماثلا فوقهم بصورته التي يعرفون لا يمارون فيه، كما كانوا في الدنيا لا يمارون في الشمس والقمر، ماثلين فوقهم بجرميهما النيرين ليس دونهما سحاب، وإذا به، بعد هذا يضحك
379 ويعجب من غير معجب، كما هو يأتي ويذهب إلى آخر ما اشتمل عليه الحديثان مما لا يجوز على الله تعالى، ولا على رسوله، بإجماع أهل التنزيه من أشاعرة وغيرهم، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم (1). 2 - روى البخاري في كتاب الصلاة، باب مواقيت الصلاة، وفضيلتها عن قيس (بن أبي حازم) عن جرير قال: كنا عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنظر إلى القمر ليلة يعني البدر فقال: إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا ثم قرأ: * (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب) * (2). وحديث قيس بن أبي حازم مع كونه مضادا للكتاب ضعيف من جانب السند وإن رواه الشيخان، ويكفي فيه وقوع قيس بن أبي حازم في سنده، ترجمه ابن عبد البر وقال: قيس بن أبي حازم الأحمسي جاهلي إسلامي لم ير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في عهده وصدق إلى مصدقه وهو عن كبار التابعين مات سنة ثمان أو سبع وتسعين وكان عثمانيا (3). وقال الذهبي: قيس بن أبي حازم عن أبي بكر وعمر، ثقة حجة كاد أن يكون صحابيا وثقه ابن معين والناس، وقال علي بن عبد الله عن يحيى بن سعيد: منكر الحديث ثم سمى له أحاديث استنكرها، وقال يعقوب الدوسي: تكلم فيه أصحابنا فمنهم من حمل عليه، وقال: له مناكير فالذين أطروه عدوها غرائب وقيل: كان يحمل على علي - رضي الله عنه - إلى أن قال: والمشهور أنه كان يقدم
(1) كلمة حول الرؤية: 65، وهي رسالة قيمة في تلك المسألة وقد مشينا على ضوئها - رحم الله مؤلفها رحمة واسعة -. (2) البخاري: الصحيح: 1 / 111 - 115، الباب 26 و 35 من أبواب مواقيت الصلاة، طبع مصر، ورواه مسلم في صحيحه لاحظ: صحيح مسلم بشرح النووي: 5 / 136 وغيرهما. (3) ابن عبد البر: الإستيعاب: 3 برقم 2126. 380 عثمان، وقال إسماعيل: كان ثبتا قال: وقد كبر حتى جاوز المائة وخرف (1). وقد تقدم أن العدل والتنزيه علويان، كما أن الحبر والتشبيه أمويان وهل يصح في ميزان النصفة الأخذ برواية رجل عثماني الهوى، معرضا عن الإمام علي (عليه السلام)، وعاش حتى خرف؟ أو أن الواجب ضربها عرض الحائط؟ رؤية الله في روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام): إن أهل البيت (عليهم السلام) أحد الثقلين (2) الذين تركهما النبي بعد رحيله وأمر أن يتمسك بأقوالهم وأفعالهم، ونحن إذا راجعنا ما روي عنهم ودونه الأثبات من المحدثين كالشيخ الصدوق (306 - 380 ه) في كتاب التوحيد، نجد مروياتهم الموصولة إلى آبائهم عن علي (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، يضاد مثل رواية قيس بن أبي حازم، ولأجل إيقاف القارئ على نماذج من أحاديثهم نقتبس منها ما يلي: 1 - روى الصدوق عن عبد الله بن سنان عن أبيه قال: حضرت أبا جعفر (محمد الباقر) (عليه السلام) فدخل عليه رجل من الخوارج فقال له: يا أبا جعفر أي
(1) الذهبي: ميزان الاعتدال: 3 برقم 6908. (2) نقل مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم: قام رسول الله ص يوما فينا خطيبا، بماء يدعى خما بين مكة والمدينة، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال: " أما بعد: ألا أيها الناس: فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به " فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال: " وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي " هذا لفظ مسلم، ورواه أيضا بهذا اللفظ الدارمي في " سننه ": 2 / 431 - 432، بإسناد صحيح كالشمس وغيرهما، وفي رواية الترمذي وقع بلفظ " وعترتي أهل بيتي " وفي سنن الترمذي: 5 / 663 برقم 3788 قال رسول الله ص: " إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما ". 381 شئ تعبد؟ قال: " الله "، قال: رأيته؟ قال: " لم تره العيون بمشاهدة العيان ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، لا يعرف بالقياس ولا يدرك بالحواس، ولا يشبه بالناس، موصوف بالآيات، معروف بالعلامات، لا يجور في حكمه، ذلك الله لا إله إلا هو قال: فخرج الرجل وهو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته (1). 2 - روى الصدوق عن أبي الحسن الموصلي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: " جاء حبر إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته؟ فقال: ويلك ما كنت أعبد ربا لم أره، وقال: كيف رأيته؟ قال: ويلك لا تدركه العيون بمشاهدة الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان " (2). 3 - أخرج الصدوق عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال إن الله عظيم، رفيع، لا يقدر العباد على صفته ولا يبلغون كنه عظمته، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير، ولا يوصف بكيف ولا أين ولا حيث فكيف أصفه بكيف وهو الذي كيف الكيف حتى صار كيفا، فعرفت الكيف بما كيف لنا من الكيف، أم كيف أصفه بأين وهو الذي أين الأين حتى صار أينا، فعرفت الأين بما أين لنا من الأين، أم كيف أصفه بحيث وهو الذي حيث الحيث، حتى صار حيثا فعرفت الحيث بما حيث لنا من الحيث فالله تبارك وتعالى داخل في كل مكان، وخارج من كل شئ، لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار لا إله إلا هو العلي العظيم وهو اللطيف الخبير (3). 4 - أخرج الصدوق عن إبراهيم بن أبي محمود قال: قال علي بن موسى
(1) الصدوق: التوحيد، باب ما جاء في الرؤية، الحديث 5، والسائل من الخوارج وهؤلاء كالإمامية والمعتزلة، يذهبون إلى امتناع الرؤية. (2) المصدر نفسه: الحديث 6، والسائل أحد أحبار اليهود القائلين بجواز الرؤية. (3) المصدر نفسه: الحديث 14. 382 (عليهما السلام) في قول الله عز وجل: * (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة) * يعني: مشرقة تنتظر ثواب ربها (1). * * * * (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) * (ق - 37).
(1) الصدوق: التوحيد، باب ما جاء في الرؤية، الحديث 19، وتعرفت على القرينة القطعية التي يرفع بها الإبهام عن وجه الآية أعني التقابل فلاحظ. 383 - 8 - الرؤية القلبية كان المترقب من أئمة الحديث والكلام، الإشارة إلى قسم آخر من الرؤية الذي لا يتوقف على الأعين والأبصار، ينالها الأمثل فالأمثل من المؤمنين، قال سبحانه: * (كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين) * (التكاثر - 5 - 7) فمن علم عين اليقين يرى لهيب الجحيم من هذه النشأة لا بعين مادية ولا بصر جسماني إنما هي رؤية أخبر عنها الكتاب ولا تتوقف على الجهة والمقابلة ولا التجسيم ولا المتشابهة، وليس المراد من الرؤية في الآية العلم القطعي، فإن العلم وإن كان قطعيا غير الرؤية، قال سبحانه: * (وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين) * (الأنعام - 75). قال العلامة الطباطبائي: إنه تعالى يثبت في كلامه قسما من الرؤية والمشاهدة وراء الرؤية البصرية الحسية وهي نوع شعور في الإنسان، يشعر بالشئ بنفسه من غير استعمال آلة حسية أو فكرية، وفي ضوء ذلك إن للإنسان شعورا بربه غير ما يعتقد بوجوده من طريق الفكر واستخدام الدليل، بل يجد وجدانا من غير أن يحجبه عنه حاجب ولا يجره إلى الغفلة عنه اشتغاله بنفسه ومعاصيه التي
384 اكتسبها، والذي يتجلى من كلامه سبحانه أن هذا العلم المسمى بالرؤية واللقاء يتم للصالحين من عباد الله يوم القيامة فهناك مواطن التشرف بهذا التشريف، وأما في هذه الدنيا والإنسان مشتغل ببدنه ومنغمر في غمرات حوائجه الطبيعية وهو سالك لطريق اللقاء فهو بعد في طريق هذا العلم لم يتم له حتى يلقى ربه، قال تعالى: * (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه) * (الانشقاق - 6). فهذا هو العلم الضروري الخاص الذي أثبته الله تعالى لنفسه وسماه رؤية ولقاء، ولا يهمنا البحث عن أنها على نحو الحقيقة أو المجاز والقرآن أول كاشف عن هذه الحقيقة على هذا الوجه البديع، فالكتب السماوية السابقة على ما بأيدينا ساكتة عن إثبات هذا النوع من العلم بالله وتخلو عنه الأبحاث المأثورة عن الفلاسفة الباحثين عن هذه المسائل، فإن العلم الحضوري عندهم كان منحصرا في علم الشئ بنفسه حتى كشف عنه في الإسلام فللقرآن المنة في تنقيح المعارف الإلهية (1). هذا التفسير للرؤية القلبية مما أفاده أستاذنا العلامة الطباطبائي - رحمه الله - ولكن ربما يفسر بالعلم القطعي الضروري الذي لا يتردد إليه الريب كما سننقله عن الشيخ الصدوق توضيحا للروايات الصادرة عن أئمة أهل البيت حول الرؤية القلبية، فإليك ما روي عنهم - صلوات الله عليهم -. إن في روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تصريحا بصحة الرؤية القلبية، واللائح منها زيادة اليقين بظهور عظمته وقدرته وإليك البيان: 1 - أخرج الصدوق عن يعقوب بن إسحاق قال: كتبت إلى أبي محمد
(1) الطباطبائي: الميزان: 8 / 252 - 253. 385 (الحسن العسكري) (عليه السلام) أسأله كيف يعبد ربه وهو لا يراه؟ فوقع (عليه السلام): " يا أبا يوسف جل سيدي ومولاي والمنعم علي وعلى آبائي، أن يرى " قال: وسألته هل رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ربه؟ فوقع (عليه السلام): " إن الله تبارك وتعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحب " (1). 2 - أخرج الصدوق عن ابن أبي نصر (البزنطي) عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لما أسري بي إلى السماء بلغ بي جبرئيل مكانا لم يطأه جبرئيل قط، فكشف لي فأراني الله عز وجل من نور عظمته ما أحب " (2)، وعلى ضوء ذلك فالرؤية القلبية شهود نور عظمته في النشأتين، وهو غير ما نقلناه عن العلامة الطباطبائي. 3 - أخرج الصدوق عن عبيد بن زرارة عن أبيه قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك الغشية التي كانت تصيب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا نزل عليه الوحي؟ فقال: " ذاك إذا لم يكن بينه وبين الله أحد، ذاك إذا تجلى الله له ". قال: ثم قال: " تلك النبوة يا زرارة وأقبل يتخشع " (3). 4 - أخرج الصدوق عن محمد بن الفضيل قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام): هل رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ربه عز وجل؟ فقال: " رآه بقلبه أما سمعت الله عز وجل يقول: * (ما كذب الفؤاد ما رأى) * أي لم يره بالبصر " (4) ولكن رآه بالفؤاد. 5 - أخرج الصدوق عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في جواب سؤال
(1) الصدوق: كتاب التوحيد، باب ما جاء في الرؤية، الحديث 2، 4، 15. (3) الصدوق: كتاب التوحيد، باب ما جاء في الرؤية، الحديث 2، 4، 15. (4) ما جاء في الرواية أحد الاحتمالات في تفسير الآية ولكن الظاهر أن فاعل " رأى " هو البصر والمرئي آثاره وآياته بشهادة قوله سبحانه بعده * (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) * والرواية تحتاج إلى دراسة ومحمد بن الفضيل الراوي للحديث مرمي بالغلو كما ذكره الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الرضا (عليه السلام) برقم 35، فلاحظ. 386 شخص عن رؤية الله يوم القيامة فقال في ذيل الجواب: " وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين تعالى الله عما يصفه المشبهون والملحدون " (1). ثم إن للمحدث الأكبر الشيخ الصدوق (306 - 381 ه) الذي طاف البلاد شرقا وغربا وجمع أحاديث الرسول وعترته، كلاما في الرؤية القلبية وحكى أن محدثين كبيرين من محدثي الشيعة كأحمد بن محمد بن عيسى القمي (المتوفى بعد سنة 280 ه) ومحمد بن أحمد بن يحيى رواها في جامعهما ولكن لم ينقلها في كتاب التوحيد يقول: والأخبار التي رويت في هذا المعنى وأخرجها مشايخنا - رضي الله عنهم - في مصنفاتهم عندي صحيحة وأنا تركت إيرادها في هذا الباب خشية أن يقرأها جاهل بمعانيها فيكذب بها فيكفر بالله عز وجل وهو لا يعلم (2). ثم إن شيخنا الصدوق فسر الرؤية القلبية بما يلي: " ومعنى الرؤية الواردة في الأخبار: العلم، وذلك إن الدنيا دار شكوك وارتياب وخطرات فإذا كان يوم القيامة كشف للعباد من آيات الله وأموره في ثوابه وعقابه، ما يزول به الشكوك، وتعلم حقيقة قدرة الله عز وجل وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل " * (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم...) * (ق - 22) فمعنى ما روي في الحديث أنه عز وجل يرى أي يعلم علما يقينيا كقوله عز وجل: * (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل) * (الفرقان - 45) وقوله: * (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه) * (البقرة - 258) وقوله: * (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل) * (الفيل - 1) وأشباه ذلك من رؤية القلب وليست من رؤية العين (3). * * *
(1) الصدوق: التوحيد، باب ما جاء في الرؤية، الحديث 17 - 20. (2) الصدوق: التوحيد، باب ما جاء في الرؤية، الحديث 17 - 20. (3) الصدوق: التوحيد، باب ما جاء في الرؤية: 120. 387 هذه مسألة رؤية الله، وهذه أقوال الأمة فيها، وهذا خلافهم الممتد من العصور الأولى إلى عصرنا هذا، وهي مسألة كلامية اختلفت فيها أنظار الباحثين ولكل دليله وبرهانه والثاني إنما ينفى لاستلزامه الجهة والتجسيم والتشبيه - مضافا إلى تضافر الآيات على نفيها بدلالات مختلفة، والمثبت إنما يثبتها اغترارا ببعض الظواهر والروايات الواردة في الصحاح. ولكن ليس لكل من الطائفتين تكفير الأخرى لأن النافي يستند إلى الدلائل المشرقة التي تقنع كل من نظر إليها بلا نظر مسبق وقول المثبت وإن كان يستلزم الجهة التجسيم، لكنه يقول بها مع التبري عن تواليها، متحصنا بقوله: " بلا كيف " فتكون المسألة مسألة كلامية كسائر المسائل الكلامية. غير أن مفتي السعودية عبد العزيز بن باز غلا في الموضوع وذلك في الفتوى الصادرة في 8 / 1407 المرقم 717 / 2 جوابا على سؤال وجهه عبد الله بن عبد الرحمن يتعلق بجواز الاقتداء والائتمام بمن لا يعتقد بمسألة الرؤية في يوم القيامة فأفتى: بأن من ينكر رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة لا يصلى خلفه، وهو كافر عند أهل السنة والجماعة، وأضاف أنه قد بحث هذا الموضوع مع مفتي الأباضية في عمان: الشيخ أحمد الخليلي فاعترف بأنه لا يؤمن برؤية الله في الآخرة، ويعتقد أن القرآن مخلوق، واستدل لذلك بما ذكره ابن القيم في كتابه " حادي الأرواح " ذكر الطبري وغيره أنه قيل لمالك: إن قوما يزعمون أن الله لا يرى يوم القيامة فقال مالك - رحمه الله -: السيف السيف. وقال أبو حاتم الرازي: قال أبو صالح كاتب الليث: أملى على عبد العزيز ابن سلمة الماجشون رسالة عما جحدت الجهمية فقال: لم يزل يملي لهم الشيطان حتى جحدوا قول الله تعالى: * (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة) *. وذكر ابن أبي حاتم عن الأوزاعي أنه قال: إني لأرجو أن يحجب الله عز
388 وجل جهما وأصحابه عن أفضل ثوابه، الذي وعده أولياءه حين يقول: * (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة) *. إلى أن نقل عن أحمد بن حنبل وقيل له في رجل يحدث بحديث عن رجل عن أبي العواطف أن الله لا يرى في الآخرة فقال: لعن الله من يحدث بهذا الحديث اليوم، ثم قال: أخزى الله هذا. وقال أبو بكر المروزي: من زعم أن الله لا يرى في الآخرة فقد كفر، وقال: من لم يؤمن بالرؤية فهو جهمي، والجهمي كافر، وقال إبراهيم بن زياد الصائغ: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الرؤية من كذب بها فهو زنديق، وقال: من زعم أن الله لا يرى فقد كفر بالله، وكذب بالقرآن، ورد على الله أمره، يستتاب فإن تاب وإلا قتل.... تحليل لهذه الفتيا: 1 - إن هذه الفتوى لا تصدر عمن يجمع بين الرواية والدراية، وإنما هي من متفرعات القول بأن الله مستقر على عرشه فوق السماوات، وأنه ينزل في آخر كل ليلة نزول الخطيب عن درجات منبره (1)، وأن العرش تحته سبحانه يئط أطيط الرحل تحت الراكب (2) ويفتخر بتلك العقيدة ابن زفيل في قصيدته النونية ويقول: بل عطلوا منه السماوات العلى * والعرش أخلوه من الرحمان (3) ومثل تلك العقيدة تنتج أن الله تعالى يرى كالبدر يوم القيامة، والرؤية لا تنفك عن الجهة والمكان، تعالى عن ذلك كله.
(1) نقله وسمعه السائح الطائر الصيت ابن بطوطة، عن ابن تيمية. لاحظ رحلته: 113 ط دار الكتب العلمية. (2) أحمد بن حنبل: السنة: 80. (3) من قصيدة ابن زفيل النونية، والمراد منه هو ابن القيم فلاحظ السيف الصقيل للسبكي. 389 2 - إن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقبل إسلام من شهد بوحدانيته سبحانه ورسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم ير أن النبي الأكرم يأخذ الإقرار بما وراء ذلك، مثل رؤية الله وما شابهه، وهذا هو البخاري يروي في صحيحه: " إن الإسلام بني على خمس وليس فيه شئ من الإقرار بالرؤية، وهل النبي ترك ما هو مقوم الإيمان والإسلام ". 3 - إن الرؤية مسألة اجتهادية تضاربت فيها أقوال الباحثين من المتكلمين والمفسرين، وكل طائفة تمسكت بلفيف من الآيات، فتمسك المثبت بقوله سبحانه: * (إلى ربها ناظرة) * وتمسك النافي بقوله سبحانه: * (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) *. فكيف يكون إنكار النافي ردا للقرآن، ولا يكون إثبات المثبت ردا له؟ فإذا جاز التأويل لطائفة لما يكون مخالفا لعقيدته، فكيف لا يسوغ لطائفة أخرى؟ وليست رؤية الله يوم القيامة من الأمور الضرورية التي يلازم إنكارها إنكار الرسالة ولا إنكار القرآن، بل كل طائفة تقبل برحابة صدر المصدرين الرئيسيين أعني الكتاب والسنة، ولكن يناقش في دلالتهما على ما تدعيه الطائفة الأخرى، أو تناقش سند الرواية وتقول: إن القول بالرؤية عقيدة موروثة من اليهود والنصارى، أعداء الدين، وقد دسوا هذه الروايات بين أحاديث المسلمين، فلم تزل مسلمة اليهود والنصارى يتحينون الفرص لتفريق كلمة المسلمين وتشويه تعاليم هذا الدين، حتى تذرعوا بعد وفاة النبي بشتى الوسائل إلى بذر بذور الفساد، فأدخلوا في الدين الحنيف ما نسجته أوهام الأحبار والرهبان. 4 - إن الاعتقاد بشئ من الأمور من الظواهر الروحية لا تنشأ جذوره في النفس إلا بعد تحقق مبادئ ومقدمات توجد العقيدة، فما معنى قول من يقول في مقابل المنكر للرؤية: السيف السيف، بدل أن يقول: الدراسة الدراسة، الحوار
390 الحوار. أليس شعار " السيف السيف " ينم عن طبيعة قاسية، ونفسية خالية من الرحمة والسماحة؟ وأنا أجل إمام دار الهجرة عن هذه الكلمة. 5 - إن مفتي الديار النجدية لم يعتمد إلا على نقول وفتاوى ذكرها ابن القيم في كتابه " حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح " دون أن يرجع إلى تفسير الآيات واحدة واحدة، أو يناقش المسألة في ضوء السنة. فما أرخص مهمة الإفتاء ومؤهلات المفتي في هذه الديار، حيث يكتفي في تكفير نصف الأمة بالرجوع إلى كتاب ابن القيم فقط. وفي الختام، إن ما نقله عن ابن القيم يعرب عن جهله المطبق في مسألة الرؤية، فإن نفي الرؤية شعار أئمة أهل البيت، وشعار الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في خطبه، وكلمه قبل أن يتولد الجهم وأذنابه، ولأجل ذلك اشتهر: " العدل والتنزيه علويان، والجبر والتشبيه أمويان ".
391 خاتمة المطاف الآن حصحص الحق لقد تجلت الحقيقة بأجلى مظاهرها وهي أصفى من أن تكدر صفوها الشبه، ومن قرأ فصول هذا الكتاب وكان على أهبة اصطياد الواقع لوقف على أن الحق مع نفاة الرؤية، وأنه ليس للمثبتين دليل لا عقلي ولا نقلي، أما العقل فهو على جانب الخلاف من القول بالرؤية فلا يجتمع التنزيه من الجهة، مع القول بالرؤية، كما لا تنفك الإحاطة بالرب بعضا أو كلا عن القول بها. وأما النقل فليس إلا ظهورات بدئية تزول بعد التأمل. غير أنه هناك مطالب متفرقة لا يجمعها فصل واحد نشير إليها، وأحببت أن أفصلها عما مضى من البحث في صميم المسألة. الأول: إن أكثر من طرح مسألة الرؤية فإنما بحث عنها بدافع روحي وهو إثبات عقيدته والتركيز على نحلة طائفته، ولذلك ربما انتهى البحث والدراسة منهم إلى الخروج عن الأدب الإسلامي. وهذا هو العلامة الزمخشري يشبه أهل الحديث والحنابلة القائلين بالرؤية بما في شعره ويقول: لجماعة سموا هواهم سنة * وجماعة حمر لعمري موكفة قد شبهوه بخلقه وتخوفوا * شنع الورى وتستروا بالبلكفة (1)
(1) الكشاف: 1 / 576. ط مصر في تفسير قوله: * (ولما جاء موسى لميقاتنا) *. 393 إن ما ذكره في البيت الثاني وإن كان حقا، فإن القول بالرؤية لا ينفك عن التجسيم والتشبيه والقول بأنه جسم بلا كيف، أو أنه يرى بلا كيف مهزلة لا قيمة لها لما عرفت من أن الكيفية محققة لمفهوم الرؤية بالبصر كما أنها محققة لمفهوم اليد والرجل، فاليد بالمعنى اللغوي بلا كيفية أشبه بأسد لا رأس له ولا بطن ولا ذنب. ولكن بيته الأول لا يناسب أدب الزمخشري الذي تربى في أحضان الإسلام والمسلمين وخالط القرآن جسمه وروحه. ولما أثار هذا الشعر حفيظة الأشاعرة وأهل الحديث قابلوه بمثل ما قال، فقد قال أحمد ابن المنير الإسكندري في حاشيته على الكشاف باسم الانتصاف: وجماعة كفروا برؤية ربهم * حقا ووعد الله ما لن يخلفه وتلقبوا عدلية قلنا أجل * عدلوا بربهم فحسبهم سفه وتلقبوا الناجين كلا أنهم * إن لم يكونوا في لظى فعلى شفه إن البادي وإن كان أظلم، ولكنهما كليهما خرجا عن مقتضى الأدب الإسلامي، فالمسلم ما دام على حجة على عقيدته ولم يكن مقصرا في سلوكها لا يحكم عليه بشئ من الكفر والفسق ولا العقاب ولا العذاب. وقد نصره تاج الدين السبكي بقوله: عجبا لقوم ظالمين تلقبوا * بالعدل ما فيهم لعمري معرفة قد جاءهم من حيث لا يدرونه * تعطيل ذات الله مع نفي الصفة وتلقبوا عدلية قلنا نعم * عدلوا بربهم فحسبهم سفه (1)
(1) الآلوسي: روح المعاني: 9 / 52. 394 فيا لله ماذا يعني تاج الدين السبكي من قوله: " تعطيل ذات الله مع نفي الصفة " فإن أحدا من المسلمين لا يعطل الذات عن الوصف بالعلم والقدرة والحياة والسمع. نعم إن عنى من تعطيل الذات نفي وصفه سبحانه بالأوصاف الخبرية بمعانيها اللغوية كاليد والرجل والنزول ووضع القدم في الجحيم، فإن هذا ليس تعطيلا بل مرجعه إلى التنزيه مع عدم التعطيل بجعلها كناية عن المعاني الأخر، تبعا لأسلوب الفصحاء والبلغاء والذكر الحكيم، كلام فصيح وبليغ، ليس فوقه شئ فلا يعد مثل ذلك تعطيلا. نعم، من يحاول وصفه سبحانه بهذه الصفات بمعانيها اللغوية، ويقول: إن لله تبارك وتعالى يدا ورجلا ونزولا وحركة بالمعنى الحقيقي ولكن لا تعرف كيفيتها، يحاول الجمع بين المتضادين فإن مقتضى الحمل على المعاني اللغوية سيادة تلك المعاني على موردها و مقتضى نفي الكيفية نفي معانيها اللغوية، فكيف يعدون أنفسهم من المثبتين وأهل التنزيه من المعطلة. ولا يقاس ذلك بوصفه سبحانه بالعلم والقدرة مع عدم العلم بالكيفية، لأن الكيفية فيهما ليست مقومة لواقعهما، فالعلم بمعنى انكشاف الواقع، وأما كونه عرضا أو جوهرا، حالا أو محلا، فليست مقومة لمفهومه حتى يرجع نفي الكيفية إلى نفي واقع العلم، وهذا بخلاف اليد فإنها بلا كيفية ليست يدا لغة. وأظن أنه لو انعقد مؤتمر علمي في جو هادئ واستعدت الطائفتان للتأمل في براهين النفاة لقل الخلاف وتقاربت الطائفتان. نعم إن خلافا دام قرونا لا ينتفي بأسبوع أو شهر أو بعقد مؤتمر أو مؤتمرين، ولكن الرجاء تقريب الخطى وعدم تكفير إحدى الطائفتين الطائفة الأخرى. أوليس الأولى لنا ألا نقسم رحمة ربنا وعذابه وجحيمه بيننا كما قسمه الإسكندري في تعليقته على الكشاف ونتركه إلى الله سبحانه فهو أعلم بمن في لظى
395 أو شفه منه أو قريب من الجنة: * (أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون) * (الزخرف - 32). الثاني: إن أكثر الباحثين في الرؤية يبحثون في مفهوم الرؤية لغة ويحشدون كلمات أهل اللغة من القدامى والجدد، كما أنهم يبحثون في واقع الرؤية علميا وهل هي بسقوط الشعاع من العين على الأشياء أو بالعكس، مع إنا في غنى عن هذه المباحث، إذ ليس البحث في المقام عن لغة الرؤية ولا في واقعها العلمي، وإنما البحث في أمر اختلفت فيه كلمة الأمة، لا هو رؤية الله تعالى بالعين في الدنيا والآخرة، وليس البحث في هذا الإطار متوقفا على دراسة مفهوم الرؤية وواقعها وليس مفهومها أمرا مبهما حتى نستمد في تفسيرها من كتب اللغة. وإن شئت قلت: إن البحث كلامي مركز على إمكان رؤية الله بالعين في الآخرة. نعم من أراد الاستدلال على الجواز ببعض الأحاديث الماضية من أنكم سترون ربكم يوم القيامة... وشككنا في معنى الرؤية كان البحث عن مفهومها أمرا صحيحا، وقد سبق منا أن محل النزاع هو إمكان الرؤية بالعين التي نرى بها الأشياء في الدنيا، وأما الرؤية بحاسة خامسة أو بالقلب أو بالرؤيا فليس مطروحا في المقام، ولذلك استغنينا عن نقل كلمات أصحاب المعاجم كالعين للخليل، والجمهرة لابن دريد، والمقاييس لابن فارس، واللسان لابن منظور، والقاموس للفيروزآبادي وغيرهم. الثالث: لقد أخذنا على عاتقنا التمسك بالأدب الإسلامي في الدراسة والتحليل، ولكن رب حديث يسمعه من آخر ربما يجر إلى القسوة أو التجرأ على المقابل، وبدوري لما كنت أتفحص الكتب والتفاسير حول المسألة رأيت أمورا من
396 بعض المثبتين أشبه بالمهزلة، مع أن القائل يعد من المفسرين الكبار ويكال له بصاع كبير، وإن كنت في ريب مما قلنا فاستمع إلى قول الآلوسي: قال: روى الدارقطني وغيره عن أنس من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): رأيت ربي في أحسن صورة. ومن الناس من حملها على الرؤية المنامية، وإذا صح هذا الحمل فأنا ولله الحمد قد رأيت ربي مناما ثلاث مرات، وكانت المرة الثالثة عام 1246 رأيته جل شأنه وله من النور ما له متوجها جهة المشرق، وكلمني بكلمات أنسيتها حين استيقظت، ورأيت مرة في منام طويل كأني في الجنة بين يديه تعالى وبيني وبينه سترحبيك بلؤلؤ مختلف ألوانه، فأمر سبحانه أن يذهب بي إلى مقام عيسى (عليه السلام) ثم إلى مقام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فذهب بي إليها فرأيت ما رأيت ولله تعالى الفضل والمنة (1). نحن لا نعلق على كلامه بشئ سوى أنها إما كانت أضغاث أحلام ليس لها مسحة من الحقيقة ولا لمسة من الواقع، أو أنها كانت صور تفكير الرجل في يومه ونهاره حول تلك المسألة العقائدية فخرج المخزون في نفسه إلى صفحات ذهنه في المنام. أما آن للواعين من الأمة أن ينزهوا كتبهم من هذه الخرافات حتى لا يتخذها المادي الغاشم ذريعة للسخرية والتهكم على الدين وأهله. الرابع: إن النافين للرؤية يركزون على الروايات المثبتة حسب ادعائهم ولكنهم لا يركزون على الروايات النافية، فإن هذه الروايات من غير فرق بين المثبتة والنافية وإن كانت روايات آحاد لا تفيد علما في مجال العقائد ولكن مقتضى الإنصاف الإدلاء بالرواية المخالفة أيضا، وإليك بعض ما ورد في هذا المضمار: 1 - روى البخاري في تفسير قوله: * (ومن دونهما جنتان) * عن عبد الله بن
(1) الآلوسي: روح المعاني: 9 / 52. 397 قيس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " جنتان من فضة آنيتهما، وجنتان من ذهب آنيتهما، وما فيها وما بين القوم وبين أن ينظروا إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن " (1). 2 - روى مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): هل رأيت ربك؟ قال: " نور أنا أراه؟ " (2) ودلالة الحديث على إنكار الرؤية واضحة، فإن الرسول ينكر الرؤية بأنه سبحانه ليس نورا حتى أراه. نعم رواه مسلم بصورة أخرى أيضا، روى عن عبد الله بن شقيق قال: قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لسألته فقال: عن أي شئ كنت تسأله؟ قال: كنت أسأله هل رأيت ربك؟ قال أبو ذر: قد سألت فقال: " رأيت نورا " (3). ولعل المراد ما رأيت سبحانه وإنما رأيت حجابه كما في الحديث التالي. 3 - روى مسلم عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بخمس كلمات فقال: إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور، وفي رواية أبي بكر.. النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه (4). 4 - روى الطبري في تفسير قوله سبحانه حاكيا على لسان موسى (عليه السلام) عن ابن عباس قال: يقول: أنا أول من يؤمن أنه لا يراك شئ من خلقك (5). نعم من لا يروقه قول ابن عباس من الرواة نقله وذيله بقوله: يعني في الدنيا، وهذا تأويل للرواية.
(1) البخاري: الصحيح: 6 / 145، تفسير سورة الرحمن، الآية: 62. (2) مسلم: الصحيح: 1 / 111، كتاب الإيمان. (3) مسلم: الصحيح: 1 / 111، كتاب الإيمان. (4) مسلم: الصحيح: 1 / 111، كتاب الإيمان. (5) الطبري: التفسير: 9 / 39، المجلد السادس. 398 5 - روى الطبري في تفسير قوله: * (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) * عن قتادة أنه قال: * (لا تدركه الأبصار...) * وهو أعظم من أن تدركه الأبصار (1). 6 - روى مسروق قال: قلت لعائشة: يا أم المؤمنين هل رأى محمد ربه؟ فقالت: سبحانه الله لقد قف شعري مما قلت، ثم قرأت: * (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) * (2). 7 - روى الشعبي قال: قالت عائشة: من قال إن أحدا رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله، قال الله: * (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) * (3). وأضاف الطبري وقال: قال قائل: هذه المقالة معنى الإدراك في هذا الموضع هو الرؤية وأنكروا أن يكون الله ليرى بالأبصار في الدنيا والآخرة (4). ويظهر من الطبري أن القائلين بالرؤية حاولوا منذ زمن قديم على تأويل لفظ الإدراك في الآية بالإحاطة. فقد نقل عن عطية العوفي أنهم ينظرون إلى الله لا تحيط أبصارهم به من عظمته، وبصره يحيط بهم فذلك قوله: * (لا تدركه الأبصار) * (5). وأنا أجل عطية العوفي تلميذ ابن عباس وجابر بن عبد الله الأنصاري عن هذا التفسير الذي لا يوجد له أصل في اللغة، وهذه الكلمة الدارجة بين أهل الرجال في أصحاب الرسول، يقولون: أدرك رسول الله أو لم يدركه، فلا يراد من الأول أنه واكب حياته منذ بعثته حتى رحيله، بل يراد منه أنه رآه مرة أو مرتين، أو أياما قلائل، وربما يقال: إنه أدرك رسول الله وهو صبي فيعدونه من الصحابة. الخامس: إن للإمام عبده وتلميذه صاحب المنار كلمات حول الرؤية قد
(1) الطبري: التفسير: 7 / 200، المجلد الخامس والآية 103 من سورة الأنعام. (2) الطبري: التفسير: 7 / 200، المجلد الخامس والآية 103 من سورة الأنعام. (3) الطبري: التفسير: 7 / 190، المجلد الخامس. (4) الطبري: التفسير: 7 / 190، المجلد الخامس. (5) الطبري: التفسير: 7 / 190، المجلد الخامس. 399 حاول الإخلاص في جمع كلمة المسلمين، من أراد فليرجع إلى تفسيره (1)، وله كلام في تفسير قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ". قال: والمعنى أن النور العظيم هو الحجاب الذي يحول بينه وبين خلقه وهو بقوته وعظمته ملتهب كالنار، ولذلك رأى موسى (عليه السلام) عند ابتداء الوحي نارا في شجرة توجه همه كله إليها فنودي الوحي من ورائها، وفي التوراة أن الجبل كان في وقت تكليم الرب لموسى (عليه السلام) وإيتائه الألواح مغطى بالسحاب. ورأى النبي الخاتم الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة المعراج نورا من غير نار وربما كان هذا أعلى، ولكنه كان حجابا دون الرؤية أيضا، فقد سأله أبو ذر (رض) وقال: هل رأيت ربك؟ فقال: " نور، أنا أراه؟ " وفي رواية أخرى: " رأيت نورا " ومعناها معا رأيت نورا منعني من رؤيته لا أنه تعالى نور، وأنه لذلك لا يرى، وهذا يتلاقى ويتفق مع قوله: " حجابه نور " ولذلك جعلنا أحاديث النور شاهدا واحدا في موضوعنا، وهي تدل على عدم رؤية ذات الله عز وجل وامتناعها (2). السادس: إن القائلين بالرؤية على فرقتين، فرقة تعتمد على الأدلة العقلية دون السمعية، وفرقة أخرى على العكس. فمن الأولى سيف الدين الآمدي (551 - 631) يقول: لسنا نعتمد في هذه المسألة على غير المسلك العقلي إذ ما سواه لا يخرج عن الظواهر السمعية وهي مما يتقاصر عن إفادات القطع واليقين، فلا يذكر إلا على سبيل التقريب (3). ومن الثانية، الرازي في غير واحد من كتبه فقال: إن العمدة في جواز الرؤية
(1) الإمام عبده: المنار: 9 / 140 وما بعدها. (2) الإمام عبده: المنار: 9 / 190. (3) الآمدي: غاية المرام في علم الكلام: 174. 400 ووقوعها هو السمع وعليه الشهرستاني في نهاية الإقدام (1). والحق أن من حاول إثبات الرؤية بالدليل العقلي فقد حرم عن نيل مرامه، فإن الأدلة العقلية التي أقامتها الأشاعرة في غاية الوهن، فإنهم استدلوا على الجواز بوجهين: أحدهما: يرجع إلى الجانب السلبي وأنه لا يترتب على القول بالرؤية شئ محال، والآخر: يرجع إلى الجانب الإيجابي وهو أن مصحح الرؤية في الأشياء هو الوجود، وهو مشترك بين الخالق والمخلوق (2). أظن أن كل من له أدنى معرفة بالمسائل العقلية يدرك ضعف الاستدلال، إذ كيف لا يترتب على الرؤية بالعين تشبيه وتجسيم، مع أن الرؤية بالمعنى الحقيقي لا تنفك عن الجهة للمرئي، مضافا إلى أن واقع الرؤية عبارة عن انعكاس الأشعة على الأشياء، فإثبات الرؤية بلا هذه اللوازم نفي لموضوعها وأوضح ضعفا ما ذكره من أن المجوز للرؤية هو الوجود وهو مشترك بين الواجب والممكن، إذ المجوز ليس الوجود بلا قيد، بشهادة أن النفسيات كالحسد والبخل والعشق والفرح لا ترى بالعين ورؤيتها بغيرها كحضورها عند النفس خارج عن محط البحث، بل المصحح هو الوجود الواقع في إطار الجهة وطرفا للإضافة بين العين وطرفا للإضافة بين البصر والمبصر، ومثل ذلك يساوي الوجود الإمكاني المادي. ولضعف هذا النوع من الاستدلال نرى أن الشريف الجرجاني بعدما أطال البحث حول البرهان العقلي قال: إن التعويل في هذه المسألة على الدليل العقلي متعذر فلنذهب إلى ما ذهب إليه الشيخ أبو منصور الماتريدي من التمسك بالظواهر النقلية (3).
(1) الرازي: معالم الدين: 67، والأربعون: 198، والمحصل: 138، الشهرستاني: نهاية الإقدام: 369. (2) الإمام الأشعري: اللمع: 61 - 62. (3) الشريف الجرجاني: شرح المواقف: 8 / 129. 401 السابع: إن المنكرين للرؤية يفسرون قوله سبحانه: * (إلى ربها ناظرة) * (القيامة - 23) بالانتظار وكلامهم حق في الجملة، لكن أغلب من يذكر هذا التفسير لا يفرق بين المعنى الاستعمالي والمعنى الجدي. وقد عرفت أن المعنى الاستعمالي غير المعنى الجدي فقد أريد من الجملة حسب الاستعمال الرؤية وأريد الانتظار منها جدا، فمثلا نقول: إني أنظر إلى الله ثم إليك، فالمعنى الابتدائي هو الرؤية ولكن المعنى الجدي هو الانتظار. وهناك خلط آخر في كلامهم حيث لا يفرقون بين النظر المستعمل المتعدي ب " إلى " والمتعدي بنفسه، فلذلك يستدلون على أن الناظر في الآية بمعنى الانتظار بقوله تعالى: * (ما ينظرون إلا صيحة واحدة) * (يس - 49) وقوله: * (هل ينظرون إلا تأويله) * (الأعراف - 53) وقوله: * (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) * (البقرة - 210) مع أن الاستشهاد في غير محله، لأن كون اللفظة بمعنى الانتظار فيما إذا تعدت بنفسها غير منكر وإنما البحث فيما إذا كانت متعدية ب " إلى " فعلى ذلك يجب التركيز في إثبات كونها بمعنى الانتظار على الآيات والأشعار التي استعملت وتعدت ب " إلى " وأريد بها الانتظار. الثامن: يقع بعض السطحيين في تفسير المقطع الأول من آيات سورة " النجم " (1 - 18) في خطأين: خطأ في إثبات الجهة لله سبحانه، وخطأ في إثبات الرؤية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإليك الآيات، ثم الإشارة إلى مواضع الاشتباه، قال سبحانه: * (والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى * علمه شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى * ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمرونه على ما يرى * ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما
402 زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من آيات ربه الكبرى) * (النجم: 1 - 18). إن الجمل التالية: * (علمه شديد القوى) * إلى قوله: * (فأوحى إلى عبده ما أوحى) * تؤكد على اقتراب النبي من جبرئيل، أقرب ما يكون منه، على بعد ما بين القوسين أو أدنى وهو تعبير عن منتهى القرب، والضمائر كلها إلا المجرور في * (إلى عبده) * يرجع إلى جبرئيل الذي كني عنه ب * (شديد القوى) * وأين هو من قربه (صلى الله عليه وآله وسلم) منه سبحانه. ومن التفسير الخاطئ، هو إرجاع الضمير في قوله: * (ثم دنا فتدلى) * إلى النبي وتفسير الآية بقرب النبي من الله على أقرب ما يمكن، وبالتالي تصور أن لله جهة وقربا وبعدا وبذلك يتضح خطأ من فسر الآية على نحو أثبت لله جهة وقربا. * * * إن المرئي في قوله: * (ما كذب الفؤاد ما رأى) * حسب الآيات المتقدمة هو الأفق الأعلى، والدنو والتدلي والوحي، وحسب الآية اللاحقة هو آيات الرب حيث قال: * (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) * ومن تلك الآيات هو جبرئيل الذي هو * (شديد القوى) * وأين الآية من الدلالة على رؤية النبي ربه. ومن التفسير الخاطئ، جعل المرئي في قوله: * (ما رأى) * هو الرب ومن حسن الحظ أن السنة أيضا تفسر الآية برؤية جبرئيل. عن مسروق قال: كنت متكئا عند عائشة، فقالت: يا أبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية. قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية. قال: وكنت متكئا فجلست فقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ألم يقل الله عز وجل: * (ولقد رآه بالأفق
403 المبين) * (1) و * (ولقد رآه نزلة أخرى) *؟ فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض " فقالت: أولم تسمع أن الله يقول: * (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) * (2) أو لم تسمع أن الله يقول: * (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم) * (3) قالت: ومن زعم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية والله يقول: * (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) * (4) قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية والله يقول: * (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) * (5). (6) التاسع: إن للشيخ الجصاص الحنفي (م 370) كلاما رائعا في تفسير قوله سبحانه: * (لا تدركه الأبصار) * وقد فسر الروايات الدالة على الرؤية بالعلم الضروري الذي لا يشوبه شبهة ولا تعرض فيه الشكوك، ولأجل إيقاف القارئ على كلام ذلك المفسر الكبير الذي هو من السلف الصالح نذكر نص كلامه، قال: قوله تعالى: * (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) * يقال: إن الإدراك أصله اللحوق، نحو قولك: أدرك زمان المنصور، وأدرك أبا حنيفة، وأدرك الطعام، أي
(1) التكوير: 23. (2) الأنعام: 103. (3) الشورى: 51. (4) المائدة: 67. (5) النمل: 65. (6) النووي: شرح صحيح مسلم: 3 / 8. 404 لحق حال النضج وأدرك الزرع والثمرة، وأدرك الغلام إذا لحق حال الرجال، وإدراك البصر للشئ لحوقه له برؤيته إياه، لأنه لا خلاف بين أهل اللغة أن قول القائل أدركت ببصري شخصا معناه رأيته ببصري ولا يجوز أن يكون الإدراك الإحاطة، لأن البيت محيط بما فيه وليس مدركا له فقوله تعالى: * (لا تدركه الأبصار) * معناه لا تراه الأبصار وهذا بمدح ينفي رؤية الأبصار كقوله تعالى: * (لا تأخذه سنة ولا نوم) * (1) وما تمدح الله بنفيه عن نفسه فإن إثبات ضده ذم ونقص فغير جائز إثبات نقيضه بحال كما لو بطل استحقاق الصفة ب * (لا تأخذه سنة ولا نوم) * لم يبطل إلا إلى صفة نقص، فلما تمدح بنفي رؤية البصر عنه لم يجز إثبات ضده ونقيضه بحال، إذ كان فيه إثبات صفة نقص. ولا يجوز أن يكون مخصوصا بقوله تعالى: * (وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة) * (2) لأن النظر محتمل لمعان منه انتظار الثواب كما روي عن جماعة من السلف، فلما كان ذلك محتملا للتأويل لم يجز الاعتراض عليه بما لا مساغ للتأويل فيه، والأخبار المروية في الرؤية إنما المراد بها العلم لو صحت وهو علم الضرورة الذي لا تشوبه شبهة ولا تعرض فيه الشكوك، لأن الرؤية بمعنى العلم مشهورة في اللغة (3). العاشر: إن من كتب حول الرؤية من إخواننا أهل السنة - من غير فرق بين النافي والمثبت - فقد دق كل باب، ورجع إلى كل صحابي وتابعي، ومتكلم و فيلسوف، ولكن لم يدق باب أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أحد الثقلين اللذين تركهما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهداية الأمة وفي مقدمتهم الإمام علي (عليه السلام) باب علم النبي وأقضى
(1) البقرة: 255. (2) القيامة: 22 - 23. (3) محمد بن علي الرازي الجصاص: أحكام القرآن: 3 / 4. 405 الأمة، فقد طفحت خطبه التوحيدية بتنزيهه سبحانه عن رائحة التجسيم وشوب الجهة، وإمكان الرؤية، فبلغ رسالات الله التي تعلمها في أحضان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأبلغ بيان. ولو ذهبت العدلية كالمعتزلة والإمامية إلى امتناع الرؤية فقد أخذت منه، وتعلمت من منهجه فبلغت الغاية في التنزيه حسب إرشاداته، كما صرح بذلك غير واحد من أئمة العدلية، وقد ذكرنا بعض خطبه فيما مضى، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى خطبه (عليه السلام) في نهج البلاغة وإلى كلمات أبنائه الطاهرين في كتاب التوحيد للشيخ الصدوق. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين جعفر السبحاني قم - مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام) ليلة 26 من شهر محرم الحرام من شهور عام 1416 ه