بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: بداية المعارف الإلهية في شرح عقائد الإمامية المؤلف: السيد محسن الخزازي الجزء: 1 الوفاة: معاصر المجموعة: من مصادر العقائد عند الشيعة الإمامية تحقيق: الطبعة: الخامسة سنة الطبع: 1418 المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة ردمك: 964-470-180-1 ملاحظات: (741) بداية المعارف الإلهية في شرح عقائد الإمامية تأليف آية الله الشيخ محمد رضا المظفر محاضرات الأستاذ السيد محسن الخرازي الجزء الأول مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة
1 اللهم كن لوليك الحجة ابن الحسن صلواتك عليه وعلى ابائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليا وحافظا وقائدا وناصرا ودليلا وعينا حتى تسكنه أرضك طوعا وتمتعه فيها طويلا
3 بسم الله الرحمن الرحيم إن من وظائف الحوزة العلمية رفع مستوى الطلاب العلمي وتحكيم المباني الفقهية والأصولية والاعتقادية وغيرها متناسبا لحاجات الأمة الاسلامية والعالم الإسلامي. ولذلك قرر الشورى المركزي لإدارة الحوزة العلمية بقم المشرفة دروسا أخرى في جنب الدروس الفقهية والأصولية تحقيقا بوظيفته المقدسة. ومما من الله علي هو أن دعاني الشورى المركزي لإلقاء أبحاث ومحاضرات حول عقائد الإمامية لطلاب العلوم الدينية. إني وإن لم أر أهلية لنفسي لذلك ولكن استعنت بحول الله وقوته وهو تعالى أعانني بالتوفيق لإلقاء تلك المباحث. واتخذت كتاب عقائد الإمامية للعلم المعروف في الحوزات العلمية آية الله الشيخ محمد رضا المظفر قدس سره متنا لتلك الأبحاث، لكونه جامعا للمسائل الاعتقادية، بمختصر العبارات، مع ما فيه من الإشارات إلى المهمات من المباحث الراقيات، وشرحته وعلقت عليه تتميما، وتبيينا، وسميته ببداية المعارف الإلهية في شرح عقائد الإمامية. ودأبي في هذا المتن والكتاب والإلقاء هو أن أبين المباحث المهمة وأدللها بالبراهين الواضحة والمحكمات من الأدلة، من دون اقتصار على علم خاص، كالفلسفة أو الكلام، بل كل ما رأيته تاما أخذته وأوردته ولو كان في الروايات
5 والآثار، وأرجو من الله تعالى أن يوفقني لإتمامه، وأن يكون نافعا لي ولإخواني المؤمنين، ولا أدعي أنه تام كامل. كيف يمكن هذه الدعوى مع نقص المؤلف وعجزه وضعفه، ولكن كان رجائي بعون الله ولطفه وهو خير معين. وفي الختام اشكر شكرا جزيلا الشورى المركزي في إعاناتهم حول تلك المقاصد وأدعو وأطلب من الله أن يزيد في توفيقاتهم حتى ينالوا مقاصدهم كمال النيل وشكر الله مساعيهم الجميلة وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. السيد محسن الخرازي سنة 1366 الهجرية الشمسية - قم المقدسة
6 تمهيد 1 - عقيدتنا في النظر والمعرفة 2 - عقيدتنا في التقليد بالفروع 3 - عقيدتنا في الإجتهاد 4 - عقيدتنا في المجتهد
7 1 - عقيدتنا في النظر والمعرفة نعتقد ان الله تعالى لما منحنا قوة التفكير ووهب لنا العقل أمرنا أن نتفكر في خلقه وننظر بالتأمل في آثار صنعه، ونتدبر في حكمته واتقان تدبيره في آياته في الآفاق وفي أنفسنا، قال تعالى: " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " فصلت: 53. وقد ذم المقلدين لآبائهم بقوله تعالى: " قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا " البقرة: 170. كما ذم من يتبع ظنونه ورجمه بالغيب فقال: " إن يتبعون الا الظن " الأنعام: 116 و 148 ويونس: 66 والنجم: 23. وفي الحقيقة أن الذي نعتقده أن عقولنا هي التي فرضت علينا النظر في الخلق ومعرفة خالق الكون، كما فرضت علينا النظر في دعوى من يدعي النبوة وفي معجزته (1).
9 لا يقال: إن العقلاء كثيرا ما يتحملون الضرر لدواع مختلفة فكبرى القياس ممنوعة، لأنا نقول: إن ما يتحمله العقلاء في أمورهم هو الحقير من الضرر أو الضرر المنجبر بفائدة مهمة لا الخطير والكثير منه، لا سيما ما فيه ضرر النفس وهلاكها، والضرر الأخروي على تقدير ثبوته ضرر خطير، فاحتماله يوجب لزوم دفعه وإن كان الاحتمال ضعيفا، لأن المحتمل قوي وخطير. والشاهد عليه هو استحقاق المذمة على عدم دفعه. ثم لا يخفى عليك أنه لا منافاة بين كون لزوم دفع الضرر عقليا وبين كون الدفع المذكور جبليا أيضا لكل ذي شعور، لإمكان اجتماعهما. وإما هو وجوب شكر المنعم، بتقريب أن مع ترك طلب المعرفة يحتمل ترك شكر المنعم وتضييع حقه على تقدير وجوده وحيث إن تضييع حق المنعم قبيح وشكره واجب، فطلب المعرفة واجب حتى لا يلزم تضييع حقه على تقدير وجوده. لا يقال: إن كبرى وجوب شكر المنعم لا تدل على وجوب شكر المنعم ما لم تحرز المنعمية والمفروض أن المقام قبل الفحص عن الدليل كذلك، إذ لم تثبت الخالقية والمنعمية. لأنا نقول: لا مجال للبراءة العقلية قبل الفحص والنظر في الواجبات العقلية، بل اللازم هو الفحص والنظر عن موضوعها وإلا لزم ترك الواجبات العقلية من دون عذر ومن الواضح أنه قبيح. ثم لا يخفى عليك، أن الوجه الثاني لا يرجع إلى الوجه الأول، بل هو وجه آخر لأن ملاك الحكم في الثاني هو ملاحظة حق المولى فيمنع العقل عن تضييع حقه بترك شكره ويحكم بوجوب شكره، بخلاف الوجه الأول، فإن ملاك الحكم فيه هو ملاحظة جانب العبد لئلا يقع في الضرر والتهلكة بسبب ترك المعرفة، فافهم.
10 ثم إنه قد استدل لوجوب طلب المعرفة بأن المعرفة مما اقتضتها الفطرة إذ من الفطريات فطرة طلب الحقايق وكشفها. ويمكن أن يقال: إن مجرد كون الشئ فطريا لا يستلزم الايجاب والالزام بخلاف الحكم العقلي، فإنه وإن كان إدراكا لضرورة المعرفة بأحد الوجوه المذكورة إلا أن الضرورة المدركة بالدرك العقلي تدعو الإنسان نحو تحصيل المعرفة بحيث لو تخلف عنه لاستحق المذمة. نعم، يصلح هذا الوجه لتأييد ما ذكر ولنفي ما توهمه الملحدون من انبعاث الفكر الديني عن العوامل الوهمية. ثم إن وجوب دفع الضرر المحتمل أو وجوب شكر المنعم كما يدلان على وجوب طلب المعرفة وتحصيلها، كذلك يدلان على وجوب التصديق بعد المعرفة والتدين به، إذ بدون التدين والتصديق لا يحصل الايمان ومع عدم حصوله يبقى احتمال الضرر الأخروي وتضييع حق المولى المنعم إن لم نقل بأنه مستلزم للعلم بالضرر الأخروي وتضييع حقه. ولذا ذم سبحانه وتعالى من أيقن ولم يؤمن بما أيقن به " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا " النمل: 14، كما صرح به المحقق الخراساني في تعليقته على فرائد الأصول (1). ثم بعد ما عرفت من وجوب المعرفة والتصديق والتدين فاعلم أن النظر والفحص والتحقيق واجب من باب المقدمة إذ الواجبات المذكورة لا تحصل بدون ذلك، فليس لأحد أن لا ينظر إلى نفسه أو إلى الآفاق لتحصيل معرفة الخالق أو أن لا يسمع دعوى من يدعي النبوة والإمامة ولا يتفحص عن معجزته. ثم لا يخفى عليك، أن للتحقيق والنظر مراتب مختلفة من الإجمال والتفصيل،
(1) ص: 104. 11 أدناها ما يرتفع به احتمال الضرر أو تضييع حق المولى المنعم وهو واجب على العموم وما زاد عنه مستحب، ما لم يدل دليل على وجوبه كما إذا توقف إزالة شبهات المبطلين وحفظ الدين عليه، فيجب على الخواص أن يزيدوا في المراتب حتى يتمكن لهم ذلك. ويتحقق الواجب من المعرفة بتحصيل العلم مطلقا سواء كان من الدليل الفلسفي أو الكلامي أو العقلائي أو غير ذلك من الطرق إلا إذا ورد النهي عن سلوك طريق خاص، فلا مدفع للضرر المحتمل. فالأولى هو الاقتصار على المحكمات من البراهين والأدلة حتى يدفع احتمال الضرر ويحصل شكر المولى المنعم. وأما المعرفة الحسية والتجربية التي تسمى عند الغريبين بالعلم التجربي، فلا يجوز الاكتفاء بها في المسائل الاعتقادية، فان العلم التجربي لا يكشف إلا عما يمكن تجربته وإحساسه، فما لا يكون كذلك كوجود الله تعالى وصفاته والمعاد وغيرهما من الأمور الغيبة التي لا يمكن إحساسها وتجربتها خارج عن حيطة التجربة والإحساس فلا يكشف وجوده أو عدمه بالعلم التجربي. فإنكار الملحدين للمبدأ والمعاد بدليل أنهما لا يكونان قابلين للتجربة، إنكار بلا دليل ومكابرة واقتصارهم على العلم التجربي يستلزم ترك الواجبات العقلية التي منها وجوب دفع الضرر المحتمل. وأما المعرفة التعبدية كإثبات الصانع بقول الصانع أو بقول النبي المدعي أنه مرسل من ناحية الصانع فلا يجوز الاكتفاء بها، للزوم الدور. نعم يمكن الاكتفاء بها في جملة من العقائد بعد إثبات المبدأ والنبوة بالدليل العقلي، كالمعاد وغيره. وأما الاكتفاء بطريقة الكشف والشهود والعرفان، في غير ما اقتضته الفطرة فحيث إن هذه الطريقة لا تخلو عن الخطأ والاشتباه فلا يجوز بدون ضميمة النظر
12 والاستدلال كما لا يخفى (1). نعم من نظر واستدل واهتدى إلى الطريق المستقيم أمكن له الكشف والشهود بالاجتهاد في العبادة ومراحل الإخلاص فلا تغفل. ثم إنه هل يتحقق الواجب المذكور بتحصيل العلم ولو من التقليد أم لا يكفي إلا ما يكون مستندا إلى الدليل؟ ذهب العلامة (2) والحكيم المتأله المولى محمد مهدي النراقي وغيرهما إلى لزوم كون المعرفة عن دليل فلا يكفي العلم الحاصل من التقليد (3). وأورد عليه المحقق الخوانساري بأن من حصل له العلم من التقليد محكوم بالإسلام وإن عصى في ترك تحصيل المعرفة من الدليل (4) وظاهره لزوم كون التحصيل من الدليل، لكن لو عصى كفى في كونه محكوما بالإسلام. وأنكر الشيخ الأعظم الأنصاري - قدس سره - لزوم كونه من الدليل، بل قال ما حاصله: إن مقصود المجمعين هو وجوب معرفة الله لا اعتبار أن تكون المعرفة حاصلة عن النظر والاستدلال كما هو المصرح به عن بعض والمحكي عن آخرين باعتبار العلم ولو حصل من التقليد (5). فالأقوى كما ذهب إليه الشيخ - قدس سره - هو كفاية الجزم ولو حصل من التقليد فلا دليل على لزوم الزائد عليه. ثم لا يخفى أن المخاطب بوجوب تحصيل المعرفة هو الذي لم يعلم بالمبدأ والمعاد وأما الذين عرفوهما ولو بأدنى مرتبة المعرفة كالموحدين والمؤمنين فلا يكونون من المخاطبين بهذا الوجوب، لأن طلب المعرفة منهم تحصيل الحاصل،
(1) راجع قواعد المرام: ص 30 وغيره من الكتب. (2) راجع الباب الحادي عشر. (3) أنيس الموحدين: ص 39. (4) راجع مبدأ ومعاد: ص 11. (5) راجع فرائد الأصول: ص 169 و 175. 13 ولا يصح عندنا تقليد الغير في ذلك مهما كان ذلك الغير منزلة وخطرا (2). وما جاء في القرآن الكريم من الحث على التفكير واتباع العلم والمعرفة فإنما جاء مقررا لهذه الحرية الفطرية في العقول التي تطابقت عليها آراء العقلاء وجاء منبها للنفوس على ما جبلت عليها من الاستعداد
(1) تقريب المعارف: ص 34. 14 للمعرفة والتفكير، ومفتحا للأذهان وموجها لها على ما تقتضيه طبيعة العقول. فلا يصح - والحال هذه - أن يهمل الإنسان نفسه في الأمور الاعتقادية أو يتكل على تقليد المربين أو أي أشخاص آخرين، بل يجب عليه بحسب الفطرة العقلية المؤيدة بالنصوص القرآنية أن يفحص ويتأمل وينظر ويتدبر في أصول اعتقاداته (3) المسماة بأصول الدين التي أهمها التوحيد.
15 والنبوة والإمامة والمعاد (4). ومن قلد آباءه أو نحوهم في اعتقاد هذه الأصول فقد ارتكب شططا وزاغ عن الصراط المستقيم ولا يكون معذورا أبدا.
(1) راجع تعليقة المحقق الخراساني على فرائد الأصول: ص 104. 16 وبالاختصار عندنا هنا ادعاءان: الأول: وجوب النظر والمعرفة في أصول العقائد ولا يجوز تقليد الغير فيها. الثاني: أن هذا وجوب عقلي قبل أن يكون وجوبا شرعيا، أي لا يستقي علمه من النصوص الدينية وإن كان يصح أن يكون مؤيدا بها بعد دلالة العقل (5). وليس معنى الوجوب العقلي، إلا ادراك العقل لضرورة المعرفة ولزوم التفكير والاجتهاد في أصول الاعتقادات (6).
(1) راجع أصول الفقه: ج 1 ص 222، وتعليقة المحقق الأصفهاني - قدس سره - على الكفاية: ج 2 ص 124، ومبحث حجية الظن وفلسفة الأخلاق: ص 40، وگوهر مراد: ص 246. 17 عقيدتنا في التقليد بالفروع أما فروع الدين وهي أحكام الشريعة المتعلقة بالأعمال، فلا يجب فيها النظر والاجتهاد، بل يجب فيها - إذا لم تكن من الضروريات في الدين الثابتة بالقطع كوجوب الصلاة والصوم والزكاة - أحد أمور ثلاثة: إما أن يجتهد المكلف وينظر في أدلة الأحكام إذا كان أهلا لذلك، وإما أن يحتاط في أعماله إذا كان يسعه الاحتياط، وإما أن يقلد المجتهد الجامع للشرائط بأن يكون من يقلده عاقلا عادلا " صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه ". فمن لم يكن مجتهدا ولا محتاطا ثم لم يقلد المجتهد الجامع للشرائط فجميع عباداته باطلة لا تقبل منه، وإن صلى وصام وتعبد طول عمره، إلا إذا وافق عمله رأي من يقلده بعد ذلك وقد اتفق له أن عمله جاء بقصد القربة إلى الله تعالى (1).
18 عقيدتنا في الاجتهاد نعتقد أن الاجتهاد في الأحكام الفرعية واجب بالوجوب الكفائي على جميع المسلمين في عصور غيبة الإمام (1) بمعنى أنه يجب على كل مسلم في كل عصر. ولكن إذا نهض به من به الغنى والكفاية سقط عن باقي المسلمين ويكتفون بمن تصدى لتحصيله وحصل على رتبة الاجتهاد وهو جامع للشرائط فيقلدونه ويرجعون إليه في فروع دينهم. ففي كل عصر يجب أن ينظر المسلمون إلى أنفسهم فإن وجدوا من بينهم من تبرع بنفسه وحصل على رتبة الاجتهاد التي لا ينالها إلا ذو حظ عظيم وكان جامعا للشرائط التي تؤهله للتقليد، اكتفوا به وقلدوه ورجعوا إليه في معرفة أحكام دينهم، وإن لم يجدوا من له هذه المنزلة، وجب عليهم أن يحصل كل واحد رتبة الاجتهاد أو يهيئوا من بينهم من يتفرغ لنيل هذه المرتبة حيث يتعذر عليهم جميعا السعي لهذا الأمر أو يتعسر، ولا يجوز لهم أن يقلدوا من مات من المجتهدين.
19 والاجتهاد هو النظر في الأدلة الشرعية لتحصيل معرفة الأحكام الفرعية التي جاء بها سيد المرسلين وهي لا تتبدل ولا تتغير بتغير الزمان والأحوال " حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة " والأدلة الشرعية هي الكتاب الكريم والسنة والإجماع والعقل على التفصيل المذكور في كتب أصول الفقه. وتحصيل رتبة الاجتهاد تحتاج إلى كثير من المعارف والعلوم التي لا تتهيأ إلا لمن جد واجتهد وفرغ نفسه وبذل وسعه لتحصيلها.
20 4 - عقيدتنا في المجتهد وعقيدتنا في المجتهد الجامع للشرائط أنه نائب للإمام عليه السلام في حال غيبته، وهو الحاكم والرئيس المطلق، له ما للإمام في الفصل في القضايا والحكومة بين الناس، والراد عليه راد على الإمام والراد على الإمام راد على الله تعالى، وهو على حد الشرك بالله كما جاء في الحديث عن صادق آل البيت عليهم السلام (1). فليس المجتهد الجامع للشرائط مرجعا في الفتيا فقط، بل له الولاية العامة فيرجع إليه في الحكم والفصل والقضاء، وذلك من مختصاته
21 لا يجوز لأحد أن يتولاها دونه، إلا بإذنه، كما لا تجوز إقامة الحدود والتعزيرات إلا بأمره وحكمه. ويرجع إليه أيضا في الأموال التي هي من حقوق الإمام ومختصاته. وهذه المنزلة أو الرئاسة العامة أعطاها الإمام عليه السلام للمجتهد الجامع للشرائط ليكون نائبا عنه في حال الغيبة، لذلك يسمى " نائب الإمام ".
(1) النساء: 60. (2) الوسائل: ج 18 ص 98. 22 الفصل الأول الإلهيات 1 - عقيدتنا في الله تعالى 2 - عقيدتنا في التوحيد 3 - عقيدتنا في صفاته تعالى 4 - عقيدتنا بالعدل. 5 - عقيدتنا في التكليف 6 - عقيدتنا في القضاء والقدر 7 - عقيدتنا في البداء 8 - عقيدتنا في أحكام الدين
23 1 - عقيدتنا في الله تعالى نعتقد أن الله تعالى واحد أحد ليس كمثله شئ، قديم لم يزل ولا يزال، هو الأول والآخر، عليم حكيم عادل حي قادر غني سميع بصير، ولا يوصف بما توصف به المخلوقات، فليس هو بجسم ولا صورة، وليس جوهرا ولا عرضا، وليس له ثقل أو خفة، ولا حركة أو سكون، ولا مكان ولا زمان، ولا يشار إليه، كما لا ند له ولا شبه، ولا ضد ولا صاحبة له ولا ولد، ولا شريك، ولم يكن له كفوا أحد، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار (1).
25 تعالى: " إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض " (1) والفطرة كفعلة لبيان كيفية في الخلقة كالجلسة فالمراد من فطرة الإنسان هي كيفية في خلقة الإنسان وهي ترجع إلى كيفية في هويته (2) التي منها: إدراكه بالعقل البديهي وسيأتي الإشارة إليه في الأدلة العقلية. وهذا هو الذي عبر عنه في المنطق بالفطريات أي القضايا التي قياساتها معها كقولهم: الاثنين خمس العشرة. وهذا النوع من الإدراك الذي من خصائص خلقة الإنسان يتوقف على تشكيل القياس وأخذ النتيجة، ولذا يكون من أقسام العلم الحصولي لا العلم الحضوري، وسمي هذا الإدراك بفطرة العقل البديهي. ومنها: إدراكه بقلبه كعلم النفس بالنفس فلا يحتاج إلى وساطة شكل قياسي كما لا يخفى، ولذا يعد من أقسام العلم الحضوري فالإنسان بفطرته يعلم بنفسه ويحب الكمال والجمال. وسمي هذا الإدراك بفطرة القلب. ثم بعد وضوح معنى الفطرة، فليعلم أن المستدل بالفطرة على إثبات المبدأ المتعالي وصفاته وتوحيده أراد الفطرة القلبية وقال: إن القلب يعلم بالعلم الحضوري ربه ويعرفه والدليل عليه هو رجاؤه بالقادر المطلق عند تقطع الأسباب الظاهرية المحدودة وحبه له وإن غفل عنه كثير من الناس بسبب الاشتغال بالدنيا في الأحوال العادية. إذ الرجاء والحب فرع معرفته به وإلا لم يرجه ولم يحبه مع أن الرجاء به أمر واضح عند تقطع الأسباب الظاهرية كما يشهد له رجاء من كسرت سفينته في موضع من البحر لا يكون أحد ولا إمداد، بقدرة وراء الأمور العادية (3)، ومع أن حب الكمال المطلق لاخفاء فيه حيث إنا
(1) الأنعام: 79. (2) لأن الخلق والمخلوق كالإيجاد والوجود حقيقة واحدة وانما الاختلاف بينهما بالاعتبار من جهة الإضافة إلى الفاعل والقابل فالكيفية في الخلق تؤول إلى كيفية في المخلوق. (3) روي في توحيد الصدوق عن الصادق - عليه السلام - ما يدل على ذلك، راجع: ص 221. 26 نرى أنفسنا عند عدم إشباع كمال من الكمالات غير آيسين من النيل إلى كمال فوقه إلى أن ينتهى إلى كمال لا نهاية له وهو الذي يوجب السكون والاطمئنان ولا نشبع من حبه ولا نشمئز من الخضوع والعبادة له، " ألا بذكر الله تطمئن القلوب " (1). ففطرة الرجاء وفطرة حب الكمال المطلق وفطرة عبادته والخضوع له كلها مظاهر مختلفة للمعرفة الفطرية وهي العلم الحضوري بالرب المتعالي لأنها آثار تلك المعرفة ولا يمكن وجودها بدونها بعد كون غير الرب محدودا بمرتبة ومفقودا في بعض الأحيان. ثم مع ثبوت هذه المعرفة الفطرية حصلت المعرفة بالواجب المتعال، لأن العلم عين الكشف ولا حاجة إلى مقدمات أخرى كما ذهب إليها شيخ مشايخنا الشاه آبادي - قدس سره - حيث قال: بأن العشق من الصفات الإضافية يقتضي معشوقا كما كنت عاشقا بالفعل فلتحكم بوجود معشوق الفطرة في دار التحقق كما قال مولانا: " عميت عين لا تراك. الخ " (2). وذلك لأن نفس المعرفة الفطرية عين المعرفة به تعالى ولا حاجة إلى ضميمة أنه لا يعقل وجود أحد المتضايفين بدون الآخر فلا تغفل. ثم إن هذا الإدراك حيث كان من خصائص الخلقة في الإنسان ليس فيه خطأ، كما أن السمع والبصر لا يفعلان إلا ما قرر في خلقتهما له فالسمع لا يريد الرؤية كما أن البصر لا يريد السماع فكل شئ في خلقتنا لا يقصد إلا ما هو له (3). وعليه فتوجيه قلوبنا نحو وجوده تعالى أمر فطري لا خطأ فيه. وليس هذه المعرفة من باب القضايا المعقولة التي يحتمل فيها الصدق والكذب، بل هو من
(1) الرعد: 28. (2) رشحات البحار: كتاب الإنسان والفطرة ص 37. (3) راجع أصول فلسفة: ج 5 ص 46. 27 باب الشهود والعلم الحضوري الذي لا يحتاج إلى وساطة شئ آخر. وهذا الادراك يؤكد بالعبادات المأثورة الشرعية إذ كلما ازدادت النفس تزكية وصفاء كان هذا الإدراك فيها آكد وأتم. وكلما ازدادت النفس فسقا وفجورا كان الإدراك المذكور فيها ضعيفا ويؤول ضعفه إلى حد ربما يتخيل عدمه. وللرسل سهم وافر في ازدياد هذا الإدراك وتقويته كما أشار إليه أمير المؤمنين - عليه السلام - بقوله: " فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستادوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسي نعمته ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول " (1). وكيف كان فهذا الإدراك لا يختص بزمان دون زمان وبقوم، بل هو موجود في الإنسان من بدء حياته إلى زماننا هذا وبعده، كما اعترف به جمع كثير من علماء الغرب أيضا على ما حكاه الأستاذ الشهيد المطهري - قدس سره - وهو من شواهد كون هذا الإدراك فطريا (2). وإلى ما ذكر يشير الإمام الباقر - عليه السلام - في قوله: " فطرهم على المعرفة به " (3). ثم إن الفطرة لا تبديل لها وإن أمكن خفاؤها، بسبب توجه النفس إلى الدنيا والأمور المادية والاشتغال بها. ولعل قوله تعالى: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " (4) يشير إلى ذلك.
(1) نهج البلاغة: خطبة 1. (2) راجع أصول فلسفة: ج 5 ص 72. (3) أصول الكافي: ج 2 ص 13. (4) الروم: 30. 28 ثم إن الفطرة تشبه الغريزة في كونها من خصائص الخلقة ولكنها تفترق عنها بأمور: (أحدها): أن الفطرة بعد الإشارة والتنبيه لو خليت وطبعها يعني لم تقترن بالموانع تسوق الانسان نحو الكمال المطلق بخلاف غرائز الانسانية فإنها لا جهة لها بدون أن يكون للعقل عليها تحديد واشراف. (وثانيها): أن حب الكمال المطلق أو الرجاء به عند تقطع الأسباب العادية أو ملائمة عبادة المعبود المطلق أو غير ذلك من الأمور الفطرية ترجع كما عرفت إلى المعرفة الفطرية التي غفل عنها كثير من الناس، بخلاف الغرائز فإنها لا ترجع إلى المعرفة أصلا كما لا يخفى. ثم إنه يظهر مما ذكر ما في دعوى إن كل ما استدل به لإثبات المبدأ المتعالي متوقف على أصل العلية، لما عرفت من أن المعرفة الفطرية من خصائص الخلقة كالغريزة وإن كان أساس هذه المعرفة والشهود هو معلولية الانسان. نعم تتوقف فطرة العقل على المقدمات البديهية بخلاف فطرة القلب، لما عرفت. ثم ينقدح مما ذكر جواز الاكتفاء بالمعرفة الفطرية مع شواهد وجودها من الرجاء أو الحب لكمال المطلق، لإثبات المبدأ المتعالي ولولا وساط الناس الذين غفلوا عن وجودها في أنفسهم فلا حاجة إلى الأدلة العقلية، كما لا يخفى. الثاني: الإمكان، والمراد به إما هو الامكان الماهوي أو الامكان الوجودي، والأول وصف الماهية وأريد به استواء الذات بالنسبة إلى الوجود والعدم بحيث يحتاج ترجح الوجود على العدم إلى السبب الخارجي، أو أريد به سلب ضرورة الوجود والعدم عن الماهية. والثاني وصف الوجود وأريد به افتقار الوجود بحيث يكون عين التعلق والربط والحاجة إلى العلة بحيث لا استقلال له في أصل وجوده وبقائه. والوجود بعد كونه أصيلا لا يتصف بالإمكان حقيقة إلا بهذا الاعتبار،
29 وأما اتصافه بالإمكان الماهوي فهو باعتبار ماهيته، لأن الوجود ليس له اللاقتضاء بالنسبة إلى الوجود والعدم، بل نسبته إلى نفسه ضروري بالوجوب، لأن ثبوت الشئ لنفسه ضروري وإلى العدم بالامتناع حيث أن امتناع اتصاف الشئ بنقيضه أيضا من الضروري فلا يكون متساوي النسبة بالقياس إليهما (1). ثم إنه استدل بكلا المعنيين لإثبات المبدأ المتعال. أما الأول: فقد نسب إلى ابن سينا وغيره رحمهم الله ولقد أجاد في تقريره المحقق الطوسي والعلامة الحلي - قدس سرهم - وهو: إن كل معقول إما أن يكون واجب الوجود في الخارج لذاته (2)، وإما ممكن الوجود لذاته، وإما ممتنع الوجود لذاته. ولا شك في أن هنا موجودا بالضرورة فإن كان واجبا لذاته فهو المطلوب. وإن كان ممكنا افتقر إلى موجد يوجده بالضرورة، فإن كان الموجد واجبا لذاته فهو المطلوب. وإن كان ممكنا افتقر إلى موجد آخر فإن كان الأول دار، وهو باطل بالضرورة، وإن كان ممكنا آخر تسلسل وهو باطل أيضا، لأن جميع أحاد تلك السلسلة الجامعة لجميع الممكنات، تكون ممكنة بالضرورة فتشترك في إمكان الوجود لذاتها، فلابد لها من موجد خارج عنها بالضرورة فيكون واجبا بالضرورة وهو المطلوب (3). والحد الوسط في هذا البرهان هو الإمكان الماهوي ويمكن تقريره بوجه آخر وهو أن يقال: العالم ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته يحتاج في الوجود إلى الغير
(1) راجع نهاية الحكمة: ص 45 و 63، ودرر الفوائد: ج 1 ص 427. (2) أي من حيث ذاته من غير التفات إلى غيره كما في الإشارات: ج 3 ص 18. (3) راجع الباب الحادي عشر / 7 الطبعة الحديثة وشرح الإشارات: ج 3 ص 18، وشرح التجريد: ص 172. 30 فالعالم يحتاج في الوجود إلى الغير، وهذا الغير إن كان واجبا فهو المطلوب وإلا لزم أن ينتهى إليه، لبطلان الدور والتسلسل. أما بطلان الدور فلأنه تقدم الشئ على نفسه ومعناه وجود الشئ قبل وجوده وهو محال لأنه اجتماع النقيضين. وأما بطلان التسلسل، فلأن جميع آحاد تلك السلسلة ممكنة لذاتها ومحتاجة في الوجود إلى الغير، وتكثر الآحاد الممكنة لا يقلب الممكنات عن ذاتياتها كما أن تكثر آحاد الصفر لا يوجب انقلابها إلى الأرقام فالسلسلة المفروضة محتاجة في الوجود إلى موجد ليس بممكن، بل هو واجب الوجود. ويمكن أيضا تقريب هذا البرهان بنحو أخصر وهو أن يقال: علة الممكن منحصرة في أربعة: العدم ونفس الممكن ومثله وواجب الوجود وحيث أن الثلاثة الأول باطلة بقي الأخير. أما بطلان الأول: فلأن العدم لا يكون واجدا لشئ حتى يعطيه. وأما بطلان الثاني: فلأن الشئ قبل وجوده ليس إلا عدما والعدم لا يصلح للعلية كما عرفت. وأما بطلان الثالث: فلأنه مثل نفس الممكن في الحاجة إلى الغير في الوجود فكيف يمكن له أن يوجد بدون انتهائه إلى الواجب ويعطي الوجود؟ ثم لا فرق في كون المثل شيئا واحدا أو أشياء متعددة، منتهية كانت أو غير منتهية، لأن حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد، فانحصر أن يكون العلة هو واجب الوجود ولعل قوله عز وجل: " أم خلقوا من غير شئ أم هم الخالقون " (1) يشير إلى ذلك. وقد عرفت أن خلقة الممكن بدون استناده إلى الواجب المتعال ترجع إلى خلقته من العدم ومن غير شئ، وهو محال فانحصر الأمر إلى استناد الخلقة إليه
(1) الطور: 35. 31 تعالى حتى تكون الخلقة مستندة إلى شئ وهو حقيقة الوجود. ثم لا يخفى عليك أن المستدل بهذا البرهان أراد إثبات أصل الواجب في مقابل من ينفيه رأسا، وأما أن الواجب واحد أو متعدد مجرد أو مادي متحد مع صفاته أو غير متحد، فهذه مباحث محتاجة إلى الإثبات بالتدريج كما صرح الأستاذ الشهيد المطهري - قدس سره - في ذيل هذا البرهان (1). نعم هذا البرهان كما يدل على حاجة الممكن في حدوثه إلى المبدأ المتعالي، كذلك يدل على حاجته إليه في بقائه، لاستمرار العلة وهي الإمكان الماهوي. وأما الثاني أي الإمكان الوجودي فقد ذهب إليه جملة من المحققين منهم المحقق السبزواري في منظومته وشرحه (2) وتقريبه بأن يقال: إنا إذا نظرنا إلى الوجود العيني فهو لا يخلو عن أحد أمرين: إما هو واجب بمعنى أنه في نهاية شدة الوجود الملازمة لقيامه بذاته واستقلاله بنفسه بحيث لا يشوبه عدم ولا نقص ويكون صرف الوجود الذي لا أتم منه. وإما هو ممكن بمعنى أنه فقير ومتعلق بالغير بحيث لا يستقل في شئ من وجوده عن الغير، بل هو مشروط ومتقيد في أصل وجوده وكماله بالغير. وذلك - أي انحصار الوجود في الوجوب والممكن المذكورين - لأن الوجوب أو الإمكان بالمعنى المذكور شأن من الشؤون القائمة بالوجود وليس الوجود خارجا عنهما. فحينئذ نقول: فإن كان الموجود الخارجي هو الأول فهو المطلوب، وإن كان الثاني فهو لا ينفك عن وجود الواجب المتعال، لأن وجود المتعلق والفقير
(1) راجع شرح المنظومة: ج 2 ص 128. (2) راجع شرح المنظومة: ص 141 حيث قال في شرح قوله في الشعر " إذ الوجود إن كان واجبا فهو ومع الامكان قد استلزمه ": أو على سبيل الاستقامة بأن يكون المراد بالوجود مرتبة من تلك الحقيقة فإذا كان هذه المرتبة مفتقرة إلى الغير استلزم الغني بالذات دفعا للدور والتسلسل. 32 بدون المتعلق عليه والمفتقر إليه خلف في تعلقه وفقره إليه وربطه به. ولا فرق فيما ذكر بين كون المتعلق والفقير واحدا أو متعددا، مترتبا أو متكافئا، لأن الكل متعلق وفقير وربط ولا ينفك عن المتعلق عليه والمفتقر إليه وعليه، ففرض الدور أو التسلسل لرفع الحاجة إلى الواجب المتعالي لا يفيد، لأن مرجع الدور أو التسلسل إلى وجود المتعلق والفقير والربط بدون المتعلق عليه والمفتقر إليه المستقل بنفسه وهو خلف في التعلق والفقر وعدم الاستقلال. فوجود الممكن بمعنى الفقير والمتعلق لا ينفك عن الغني بالذات والمستقل بنفسه. وإليه يشير شيخ مشايخنا الشاه آبادي - قدس سره - حيث قال: " إن نفس هذه الموجودات المحدودة روابط صرفة وذواتها متعلقة كتعلق الأضواء والشروق بذيها فإنك تشاهد انعدامها عند انسداد الروازن يعني أن انسدادها عدمها كما لا يخفى. ويدل على ما ذكرنا أن هذه الموجودات لا تكون نفسها قيومها ولا لعالم ملكها حتى يبقى في الملك دائما، كما قال تعالى: " إنك ميت وإنهم ميتون " (1) " أفإن مت فهم الخالدون " (2) وهكذا لا يكون حافظا لخصوصيات وجوده من صفاته وأحواله كالحسن والجمال والصحة والكمال والعزة والمال. وكذلك الأمر في غير الإنسان، بل هو فيه أوضح من أن يخفى وإذا كان الأمر كذلك في الكل فالحكم بكون الكل فقراء، فذواتهم تدل على حاجتهم وفقرهم. وبفطرة الفقير بالذات تثبت الغني بالذات " (3). وكيف كان، فالحد الوسط في هذا البرهان هو الإمكان الوجودي، ويمكن تقريبه بوجهين آخرين مضيا في الإمكان الماهوي فراجع.
(1) الزمر: 30. (2) الأنبياء: 34. (3) رشحات البحار: ص 204. 33 ولعل قوله تعالى: " يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد " (1) يشير إلى ذلك. الثالث: المعلولية، وتقريب هذا البرهان بأن يقال: لا شك في وجود الموجودات في الخارج فحينئذ نقول: إن هذه الوجودات كلها معاليل وكل معلول يحتاج إلى العلة فهذه الوجودات تحتاج إلى علة ليست بمعلولة وهو الحق المتعال. أما أنها معاليل، فلجواز العدم عليها إذ لا يلزم من فرض عدمها محال وكل ما لا يلزم من فرض عدمه محال فالوجود ليس بذاتي له، فإذا لم يكن الوجود ذاتيا له فترجح الوجود له من ناحية الغير وليس المعلولية إلا ذلك. هذا مضافا إلى خلو الموجودات عن صفات الواجب، لأن من صفات الواجب هو أنه لا يشوبه النقص والعدم ولا يكون مركبا ولا يحتاج إلى شئ ولا يكون محدودا بحدود ولا متقيدا بقيد ولا شرط ولا سبب، بل هو عين الكمال وعين الوجود وبسيط ومطلق من جميع الجهات، ولا حاجة له إلى شئ من الأشياء. وهذه الأمور ليست في الموجودات الخارجية فإنها مشوبة بالنقص والعدم لأن كل واحد منها محدود بحد ومرتبة ولا يكون واجدا لساير المراتب ومركبة بالتركيب الخارجي أو التركيب الذهني من الجنس والفصل ومتقيدة بأسبابها وشرائطها ومحتاجة في وجودها وبقائها إلى الغير فليست الموجودات إلا المعلولات. هذا كل الكلام في ناحية الصغرى. وأما الكلام في ناحية الكبرى فهو واضح إذ لو لم يحتج المعلول إلى العلة لزم الخلف في المعلولية أو الترجح من غير مرجح وكلاهما محال.
(1) فاطر: 15. 34 وينتج من المقدمتين أن الموجودات محتاجة إلى العلة، لكونها معلولات والعلة هي الواجب المتعالي وإلا بقيت المعلولات بدون العلة، لأن المفروض أن جميعها معلولات وتفكيك المعلولات عن العلة محال، ولا فرق فيما ذكر بين أن تكون الموجودات مترتبات أو غير مترتبات، ففرض الدور أو التسلسل لا يفيد في هذا المجال أيضا كما لا يخفى. الرابع: الضرورة والوجوب، والمراد من ذلك أن الشئ ما لم يجب لم يوجد ووجوب الشئ لا يحصل إلا بسد أنحاء عدمه ولا يسد أنحاء عدمه إلا بوجود علته التامة، لأنه ممكن بالذات والممكن بالذات لا يقتضي الوجود كما لا يقتضي العدم. فإذا فرض أن وجود شئ مشروط بألف شرط، فلا يمكن وجوده إلا باجتماع شروطه وتحقق علته، فإذا فقد شرط من بين هذه الشروط، لا يجب وجوده ولا يوجد، فإذا تحققت الشروط ووجب وجوده به وجد، فوجود الممكن مسبوق بضرورة الوجود رتبة وضرورة وجود الممكن قبل وجوده حاكية عن وجود علته، إذ بدونها لا وجود ولا ضرورة له. وهذا الحكم لا يختص بوجود دون وجود، بل يشمل جميع الموجودات سواء كانت مترتبة أم غير مترتبة، لأن السلسلة المترتبة الممكنة بالذات ما لم يجب وجودها لم توجد، ولا يجب وجودها إلا بوجود علة مستقلة ليست بمعلولة وبدونها لا يجب وجود السلسلة، لأنها ممكنة بالذات وما دام لم يجب وجودها لم توجد وحيث كانت الموجودات موجودة بالعيان فعلم أنها وجبت قبل وجودها رتبة، فوجوبها وضرورتها ليس إلا بوجود علة مستقلة ليست بمعلولة وهو الواجب تعالى. ويمكن تقرير هذا البرهان بصورة أخرى وهي أن يقال: إن وجود النظام الإمكاني مسبوق بضرورة الوجود له ووجوبه وإلا لم يوجد، والممكن ليس له ضرورة الوجود ووجوبه إلا بالواجب الوجود بواسطة أو بدونها. فوجوب النظام
35 الإمكاني وضرورته قبل وجوده لا يكون إلا بوجود الواجب المتعال وهو المطلوب. ففي هذا البرهان يكون الحد الوسط هو الضرورة ووجوب الممكن بالغير التي هي من أحكام المعلولية. وهذا البرهان من عوالي الأدلة والبراهين وكذلك قال الأستاذ الشهيد المطهري: إن هذا البرهان من البراهين التي في عين كونها دليلا على وجود الواجب، تكون برهانا على امتناع التسلسل أيضا، ولذا ذكره الخواجة نصير الدين الطوسي - قدس سره - في متن التجريد دليلا على امتناع التسلسل واستدل به صدر المتألهين - قدس سره - لوجود الواجب من دون حاجة إلى ابطال التسلسل قبله (1). ولعل إليه يؤول ما حكي عن الفارابي من أن الممكن سواء كان واحدا أو متعددا، مترتبا أو متكافئا لا يقتضي وجوب الوجود فلا بد في وجود الممكن المترتب على وجوبه من موجود واجب بالذات (2). وإليه يشير أيضا ما حكى عن المحقق الطوسي - قدس سره - حيث قال: إنه لو لم يكن الواجب موجودا لم يكن الشئ من الممكنات وجود أصلا، واللازم كالملزوم في البطلان. وبيان الملازمة أن الموجود يكون حينئذ منحصرا في الممكن وليس له وجود من ذاته كما تقدم، بل من غيره، فإذا لم يعتبر ذلك الغير لم يكن للممكن وجود، وإذا لم يكن له وجود لم يكن لغيره عنه وجود، لأن إيجاده للغير فرع وجوده لاستحالة كون المعدوم موجدا (3). الخامس: الحدوث والتغير، وتقريب ذلك أن العالم متغير وكل متغير حادث فالعالم حادث، مفتقر إلى محدث، ليس بجسم ولا جسماني وهو الواجب تعالى،
(1) أصول فلسفة، ج 5 ص 100. (2) تعليقة على نهاية الحكمة: ص 415. (3) اللوامع الإلهية: ص 70. 36 دفعا للدور والتسلسل. أما الصغرى فهي واضحة بعد ظهور التغيرات في الأشياء المادية، فإنها لا تزال في تبدل من صورة إلى صورة ومن كيفية ومن حال إلى حال، ولا شئ في العالم المادي إلا وهو متبدل ومتغير، بل المادة تتغير وتتبدل إلى الطاقة وهي إلى المادة كما لا يخفى. قال الأستاذ الشهيد المطهري - قدس سره -: كل موجود من الموجودات المحسوسة المادية متغير ومتبدل، ولا يبقى في حال واحد، لأنه إما في حال التكامل والرشد وإما في حال الانكسار والضعف، كما يكون أيضا في حال المبادلة المستمرة، لأنه إما يأخذ وإما يعطي وإما يأخذ ويعطي، وليس موجود باقيا على حالة واحدة (1). أما الكبرى فهي أيضا واضحة، فإن كل صورة وكيفية وحال متبدلة، مسبوقة بالعدم وحادثة فالمقدمتان تنتج أن العالم حادث مفتقر إلى محدث ليس كذلك، لما قرر في محله من بطلان الدور والتسلسل في ناحية العلل. وهذا الاستدلال وإن كان صحيحا ولكن إثبات الواجب به يتوقف على ضميمة البراهين السابقة، فإن غاية التقريب المذكور هو أن محدث التغيير ليس بجسم ولا بجسماني وأما الواجب فلا يثبت به إلا إذا انتهت بالبراهين السابقة إلى الواجب تعالى. السادس: النظم والتناسب، وتقريب ذلك ومن الواضح ان النظم هو عمل منظوم لغرض صحيح كخلقة آلة السمع للاستماع وآلة اللسان للتكلم وهكذا والتناسب هو مناسبة الاعمال المنظومة بعضها مع بعض في ترتب الغاية المترتبة عليها لتناسب الأيدي والأرجل أو تناسب الأسنان بالنسبة إلى الغاية المترتبة
(1) جهان بيني: ج 2 ص 34. 37 عليها ومن الواضح ان النظم والتناسب بالمعنى المذكور أمر يراه كل ذي لب في اجزاء العالم أو الأشياء بعضها مع بعض، يكفيك ما تراه في بدنك من القلب والسمع والبصر وجهاز الهاضمة وجهاز التناسل والتوالد والعروق والعظام، وما تحسه من القوى المودعة في نفسك من الإحساس والتحفظ والتعقل، وغير ذلك من الأمور العظيمة الفخيمة التي لا تنقضي عجائبها ولا ينال الإنسان بعظمتها وأهميتها، إلا إذا فقدها. ثم إن النظم والتناسب لا سيما إذا كان متعددا ومستمرا لا يصدر إلا من ذي شعور عالم حكيم، ولذا يطمئن الإنسان بوجود البناء إذا رأى دارا مجهزة بالأجهزة اللازمة، وهكذا بوجود الصانع إذا رأى سيارة مجهزة بالأجهزة اللازمة، ولا يصغى باحتمال الصدفة، لضعفه، إلى حد يعجز عن حسابه الإنسان بحساب الاحتمالات، بل الفعل المتقن المنظم المتناسب المكرر المستمر لا يسانخ الصدفة الفاقدة للشعور، كما لا يخفى. سأل زنديق من الإمام الصادق - عليه السلام - ما الدليل على صانع العالم؟ فقال أبو عبد الله - عليه السلام -: وجود الأفاعيل التي دلت على أن صانعها صنعها ألا ترى أنك إذا نظرت إلى بناء مشيد مبني علمت أنه له بانيا وإن كنت لم تر الباني ولم تشاهده (1). فإذا عرفت ذلك ظهر لك أن للنظم والتناسب المشاهد في أجزاء العالم ناظما شاعرا وعالما وحكيما مطلقا وهو الله تعالى، لأن الحكمة في الخلق كثيرة عظيمة لا تسانخ إلا للواجب " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح
(1) بحار: ج 3 ص 29. 38 والسحاب المسخر بين السماء والأرض لايات لقوم يعقلون " (1). السابع: المحدودية، تقريب ذلك أن كل موجود من ممكنات العالم محدود بحدود وكل محدود له حاد، فالعالم الإمكاني له حاد غير محدود وهو صرف الوجود، دفعا للدور والتسلسل. أما الصغرى، فلإن كل شئ من أشياء العالم الإمكاني صغيرها أو كبيرها جمادها أو نباتها أو حيوانها محدودة بالحد المكاني والزماني وغيرهما من الكيفيات والخصائص، ولذا لا وجود له في خارج الحد المكاني أو في خارج الحد الزماني أو نحوهما. نعم بعضها بالنسبة إلى بعض آخر أعظم أو أطول أو أدوم، ولكن كلها محدودة بالحدود المذكورة، بل المجردات أيضا محدودة بحد مراتب الوجود وأسبابها وعدمها. وأما الكبرى، فلإن كل محدودية من أي نوع كانت آنية من ناحية غير المحدود، لا من ناحية نفسه وإلا لكان الأمر بيده، مع أن المعلوم خلافه. هذا مضافا إلى أنه يلزم منه مساواة كل محدود مع غيره في الحدود، لاشتراكهم في حقيقة الوجود، فالحدود في المحدودات آية المقهورية والمعلومية ولزم أن تنتهي إلى من ليس له حد من الحدود، بل هو صرف الكمال والوجود وليس هو إلا الله تعالى الذي عبر عنه في الكتاب العزيز بالصمد والقيوم والغني. ويمكن تقريب البرهان المذكور بوجه آخر وهو أنه لا إشكال في وجود الموجودات في الخارج فإن كان مطلقا وصرفا ومحض الوجود فهو المطلوب وإلا استلزمه، لأن لكل محدود حادا دفعا للدور والتسلسل. وقال صدر المتألهين في شرحه على أصول الكافي: كل محدود له حد معين، إذ المطلق بما هو مطلق (في عالم الخلق) لا وجود له في الخارج، فيحتاج إلى علة
(1) البقرة: 164. 39 محددة قاهرة إذ طبيعة الوجود لا يمكن أن تكون مقتضية للحد الخاص وإلا لكان كل موجود يلزمه ذلك الحد، وليس كذلك فثبت أن الحد للوجود من جهة العلة المباينة، فكل محدود معلول لا محالة، فخالق الأشياء كلها يجب أن لا يكون محدودا في شدة الوجود وإلا لكان له خالق محدد فوقه وهو محال (1). وقال العلامة الطباطبائي - قدس سره -: كل حقيقة من حقايق العالم فرضت فهي حقيقة محدودة، لأنها على تقدير وفرض وجود سببها كانت موجودة، وعلى تقدير وفرض عدم سببها كانت معدومة ففي الحقيقة لوجودها حد وشرط معين ليس لها وجود في خارج ذلك الحد والشرط المعين. وهذا الأمر جار في كل شئ عدا الله سبحانه وتعالى حيث أنه ليس له حد ونهاية، بل هو حقيقة مطلقة وموجود على كل التقادير وليس متقيدا بشرط ولا سبب ولا يكون محتاجا إلى شئ (2). ولذا قال أمير المؤمنين - عليه السلام - في توصيفه تعالى: " فلا إليه حد منسوب " (3) وخاطب الإمام علي بن الحسين - عليهما السلام - ربه في دعائه بقوله: " أنت الذي لا تحد فتكون محدودا " (4) وفي توقيع محمد بن عثمان ابن سعيد عن مولانا الحجة بن الحسن المهدي - عليهما السلام - جاء في ضمن الدعاء: " يا موصوفا بغير كنه ومعروفا بغير شبه حاد كل محدود " (5). فحد الوسط في هذا البرهان هو المحدودية، وهي من خصوصيات المعلول اللازمة له إذ لا يمكن ان يوجد معلول بدونها. الثامن: التدبير والهداية وتقريبه هو أن من تأمل في النظام العالمي يرى
(1) شرح الأصول من الكافي: ص 332. (2) شيعه در إسلام: ص 71. (3) بحار الأنوار: ج 4 ص 222. (4) الصحيفة: الدعاء 47. (5) مفاتيح الجنان: أدعية أيام شهر رجب ص 135. 40 - مضافا إلى النظم والتناسب الموجود فيه - أنه تحت تدبير شاعر حكيم بحيث يهدي كل موجود إلى وظائفه بالهداية التكوينية والغريزية، فالنحل والنمل وغيرهما من الحيوانات البرية والبحرية تعرف وظائفها من بناء محلها ومسكنها وذهابها إلى مواطن ارتزاقها وإيابها إلى مأواها وغير ذلك مما يطول الكلام، وهذه الوظائف دقيقة جدا بحيث إذا تأملناها نجدها عجيبة جدا، يكفيك كيفية ارتزاق النحل عن الزهر وعودها إلى محلها وتبنية المسدسات، حتى تملأها بالعسل، وكيفية تنظيم اجتماعاتها بالمقررات اللازمة وغيرها، فهذه الأمور كلها تحت تدبير وهداية ومن وراء ذلك هو تدبير أمورها على نحو يحصل للإنسان ما يلزمه في تعيشه وحياته، وهذا المدد غير المرئي على الدوام لا يختص بالحيوانات، بل يهدي كل شئ إلى وظائفه، كما أشار إليه في القرآن الكريم قال: " ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " (1) " والذي قدر فهدى " (2) " ثم استوى على العرش يدبر الأمر " (3). وهكذا الفعل والانفعال الحاصل في بدن الإنسان يهتدي بهذه الهداية، وعليك بالتأمل حول دفاع البدن نحو الجراثيم والميكروبات الخارجية المهاجمة التي أرادت تخريب البدن، وغير ذلك من الأمور العجيبة جدا. هذا مضافا إلى ما رأيناه في أمورنا من مبدأ الولادة إلى آخر عمرنا من التدبيرات الخفية التي يجدها كل أحد في تعيشه الشخصية لو تأمل حولها حق التأمل من تقدير الرزق وتهيئة أسبابه وتقدير الأزواج وتهيئة مقدماته وبعض المنامات وغير ذلك من الأمور كامداد الحق وابطال الباطل طيلة التاريخ. ثم إن التدبير والهداية سيما إذا كان مستمرا وشايعا ليس إلا أثر الشاعر العالم فالعالم تحت تدبير عالم شاعر وحيث إن ذلك أثر عظيم فلا يسانخ إلا
(1) طه: 50. (2) الاعلى: 3. (3) يونس: 3. 41 للواجب المتعالي. وان أبيت عن ذلك فهو لا محالة ينتهي إلى الواجب بالبراهين السابقة أو يكون من منبهات الفطرة التوحيدية، فالعالم تحت تدبير الله تعالى الحكيم المتعال. هذه جملة من محكمات الأدلة الدالة على إثبات المبدأ المتعال، وكلها عدا دليل الفطرة أدلة عقلية بعضها بديهي والبعض الآخر نظري. وكيف كان فكلها منبهات بالنسبة إلى ما تسوق إليه الفطرة من المعرفة القلبية نور الله قلوبنا بنور الإيمان وثبتنا عليه إلى يوم لقائه. الأمر الثاني: في بيان أنواع صفاته تعالى ولا يخفى عليك أن مقتضى الأدلة السابقة الدالة على إثبات المبدأ المتعال هو أنه تعالى واجب الوجود ومطلق وصرف، فإذا كان كذلك فخصائص الممكنات مسلوبة عنه، لمنافاتها مع وجوب وجوده وإطلاق كماله، فإذا كانت الخصائص المذكورة منفية عنه، فواضح أنه ليس بجسم ولا مركب ولا مرئي ولا صورة ولا جوهر ولا عرض، كما أنه لا ثقل ولا خفة ولا جهة ولا قيد ولا شرط ولا حركة ولا سكون ولا نقصان ولا مكان ولا زمان له، لأن كل هذه الأمور من لوازم الإمكان والمحدودية وخصائصها، وبالآخرة هذه السوالب تستلزم اتصاف ذاته بالصفات الكمالية، فإن سلب أحد النقيضين في حكم إثبات النقيض الآخر، وإلا لزم ارتفاع النقيضين وهو محال. فإذا كان المبدأ المتعالى مسلوبا عنه النقائص والعيوب، فهو لا محالة يكون صرف الوجود وصرف الكمال وغنيا ومستقلا في ذاته، وثابتا ومطلقا وواجدا لجميع الأوصاف الكمالية، وإلا لزم المحدودية وهي من خصائص الممكنات. فالأدلة الدالة على إثبات المبدأ تدل بالإجمال على الصفات السلبية والثبوتية أيضا. هذا كله بيان إجمالي للصفات، وأما تفصيلها فهو بأن يقال:
42 إن الصفات على قسمين: ثبوتية وسلبية. أما الثبوتية: فهي أيضا على قسمين: صفات الذات: وهي التي يكفي في انتزاعها ملاحظة الذات فحسب. وصفات الفعل: وهي التي يتوقف انتزاعها على ملاحظة الغير، وإذ لا موجود غيره تعالى إلا فعله فالصفات الفعلية، هي المنتزعة من مقام الفعل: فمن الأول حياته تعالى وعلمه بنفسه، ومن الثاني الخلق والرزق والغفران والإحياء ونحوها. وربما قيل في الفرق بين الصفات الذاتية والصفات الفعلية: إن كل صفة لا يجوز اجتماعها مع نقيضها ولو بالاعتبارين فيه تعالى فهي ذاتية وكل صفة يجوز اجتماعها مع نقيضها فهي فعلية كالغافر فإنه تعالى غافر بالنسبة إلى المؤمنين ولا يكون كذلك بالنسبة إلى المشركين. ثم إن الصفات الثبوتية الذاتية تكون من الصفات الكمالية، لأنها كمال للذات، دون الصفات الفعلية فإنها متأخرة عن رتبة الذات، فلا تصلح لأن تكون كمالا له نعم هي ناشئة عن كمال ذاته تعالى كما لا يخفى. وكيف كان فقد ذكر المتكلمون أنه تعالى عالم، قادر، مختار، حي، مريد، مدرك، سميع، بصير، قديم، أزلي، باق، أبدي، متكلم وصادق، ولكن من المعلوم أن الصفات الثبوتية لا تنحصر في ذلك، بل تزيد عن ألف وألف. كما يدل عليها الكتاب والسنة والأدعية المأثورة كالخالق والرب. والدليل الإجمالي على اتصافه بالصفات الكمالية أنه كمال مطلق وصرف الوجود وكل الوجود، والكمال المطلق وصرف الوجود لا يمكن أن يسلب عنه كمال وجودي قط وإلا لزم الخلف في إطلاق الكمال وصرفيته. وأما الصفات السلبية: فهي كل صفة لا تليق بجنابه تعالى ولا تنحصر فيما ذكر في علم الكمال والفلسفة من أنه تعالى ليس بمحدود ولا بمركب وليس بجسم ولا بمرئي ولا جوهر ولا عرض ولا يكون في جهة ولا يكون متقيدا بحد
43 وشرط ولا يصح عليه اللذة والألم ولا ينفعل عن شئ ولا يكون له كفؤ ولا شريك وليس بمحتاج إلى غيره لا في ذاته ولا في صفاته ولا يفعل القبيح ولا يظلم، وغير ذلك من الأمور التي لا تليق بجنابه تعالى. والدليل الإجمالي على تنزيهه تعالى عنها، هو ما عرفت من أن المبدأ المتعال واجب الوجود ولا حد ولا نقص ولا حاجة له، بل هو عين الغنى والكمال، وكل هذه الصفات من التركيب وغيره نقص وحد وحاجة وعجز لا سبيل لها إليه تعالى، وتكون مسلوبة عنه، ونفيها عنه تجليل له تعالى، ولذا سميت هذه السوالب بالصفات الجلالية، كما أن الصفات الثبوتية الذاتية الدالة على كمال الذات تسمى بالصفات الكمالية. ثم إن هذه الصفات ترجع بعضها إلى بعض، أو يكون بعضها من لوازم البعض كالعلم والقدرة بالنسبة إلى الحياة، إذ وجودهما بدونها غير ممكن، لأنهما من آثارها ولذا تعرف الحياة بهما، ويقال: إن الحي هو الدراك الفعال، فإذا ثبت العلم والقدرة ثبتت الحياة قهرا ولا حاجة في اثباتها إلى دليل آخر وكالمدرك والسميع والبصير، فإنها ترجع إلى العلم بعد استحالة حاجته إلى الآلات والحواس، فإدراكه تعالى بالنسبة إلى المدركات المحسوسة هو علمه بها ولا مجال لتأثر الحاسة فيه تعالى، وعليه فمعنى كونه سميعا أو بصيرا أنه عالم بالمسموعات أو عالم بالمبصرات، ولعل ذكر ذلك بالخصوص لإثبات علمه تعالى بالجزئيات. وأيضا يرجع كونه قديما، أزليا، باقيا وأبديا، إلى أنه واجب الوجود فإنها من اللوازم البديهية لوجوب وجوده تعالى، إذ يستحيل العدم السابق واللاحق عليه بعد فرض كون وجوده واجبا، وأيضا ترجع الإرادة والكراهة الذاتيتين إلى علمه تعالى بما في الفعل من المصالح والمفاسد على المشهور. وأما على غير المشهور فهما بمعناهما بعد تجريدهما عما لا يناسب ذاته تعالى من التروي والتأمل وطرو نقصه، وغير ذلك من الحلقات. كما أن الإرادة قد تطلق
44 بمعنى الإحداث من دون حاجة إلى التروي والتأمل ونحوهما فالإرادة حينئذ من صفات الأفعال لا الذات. وهكذا الصفات السلبية ترجع بعضها إلى بعض، إذ نفي الرؤية يرجع إلى نفي الجسمية عنه، إذ من لا يكون جسما لا يكون مرئيا وهكذا نفي الجسمية والجوهرية والعرضية يرجع إلى نفي التركيب، سواء كان تحليليا أو خارجيا، وهكذا نفي التركيب ونفي الانفعال والحركة والاشتداد ونفي الجهة ونفي المكان ونحوها من لوازم نفي الحد والحاجة والافتقار، عنه. وأما بقية الصفات السلبية كنفي الظلم والقبيح ونفي الشريك والكفؤ والمثل فهي وإن أمكن إرجاعها إلى نفي الحد والافتقار، ولكن فيها مباحث نافعة تليق بذكرها منفردة. وعلى ما ذكر فالأولى هو البحث في الصفات الثبوتية عن علمه وقدرته ونحوهما مما يتضح بوضوحهما غيرهما واما التكلم فهو من صفات الأفعال وبمعنى إحداث الكلام وتوهم الكلام النفسي القديم لذاته تعالى وراء العلم والقدرة وغيرهما من الصفات الذاتية فاسد جدا، لعدم تعقل شئ قديم وراء علمه تعالى، فلا ينبغي إطالة الكلام فيه كما أن الأولى هو البحث في الصفات السلبية عن وحدته وعدم كفوء ومثل وشريك وضد له تعالى، وعن كونه لا يفعل الظلم والقبيح، وأما البواقي فتكفيها الإشارة المذكورة. الأمر الثالث: في علمه تعالى ولا يخفى عليك أن مقتضى صرفيته تعالى أنه لا يعزب عن علمه شئ من الأمور: لأن الجهل بشئ فقدان ونقص وهو ينافي اللاحدية الثابتة لذاته تعالى. هذا مضافا إلى أن النظم والتناسب وغيرهما من الأمور التي تحكي عن علم وحكمة يدل على علم الناظم وحكمته وإن كان لا يخلو الاستدلال به عن شئ
45 وهو أنه يثبت العلم والحكمة بقدر ما يكون أثرهما موجودا في الموجودات وهو بالآخرة محدود بمحدودية الموجودات، والمطلوب هو إثبات غير المحدود من العلم له تعالى. اللهم إلا أن يقال: إن النظر إلى الدقائق والحكم المودعة في النظام يوجب الحدس القطعي على أن هذه آثار من لا نهاية لعلمه وحكمته. ثم إن مقتضى الدليل الأول أزلية علمه بتبع أزلية صرفيته. وأما الدليل الثاني فلا يدل عليه إلا ببيان زائد، وهو كما قال آية الله الميرزا أحمد الآشتياني - قدس سره -: إن ملاحظة الحكم والدقائق المودعة في النظام تثبت علمه تعالى بالأشياء الموجودة قبل وجودها وحيث أن التغيير في ذاته وصفاته غير معقول، لأنه في قوة النقص والعجز فعلمه بها قبل وجودها كان من الأزل (1). ويدل عليه أيضا إنا نجد أنفسنا عالمين بذاتنا علما حضوريا وهذا العلم ينتهي إلى الله تعالى، لأنه عطاء من ناحيته كأصل وجودنا، ومعطي الشئ لا يكون فاقدا له، فهو تعالى عالم بذاته، وحيث كان الله تعالى علة لكل شئ فالعلم بذاته بما هو عليه علم بكونه مبدأ ولكونه علة لجميع معلولاته، ومن المعلوم أن العلم بحيثية المبدئية للعلية المتحدة مع ذاته لا ينفك عن العلم بمعلولاته (2). وهنا وجه آخر مذكور في محله (3). هذا كله بالنسبة إلى علمه في مرتبة الذات. وله علم آخر في مرحلة الفعل وهو عين الفعل، إذ حقيقة العلم هو كشف
(1) چهارده رسالة فارسي ميرزا احمد آشتياني: 85 - 86. (2) راجع شرح الأصول من الكافي لصدر المتألهين: ص 160، وگوهر مراد للمحقق اللاهيجي: ص 186 - 188، وشرح التجريد الطبعة الحديثة: ص 285. ودرر الفوائد: ج 2 ص 31. (3) راجع نهاية الحكمة: ص 254، ودرر الفوائد: ج 1 ص 485 - 487، وچهارده رسالة فارسي ميرزا احمد آشتياني. 46 الشئ للشئ، وليس سببه إلا حضور الشئ للشئ، فكل فعل ومعلول لكونه حاضرا عند علته فهو مكشوف ومعلوم له، وهذا العلم الفعلي يتجدد بتجدد الفعل، بخلاف علمه في مرتبة الذات، فإنه عين ذاته ولا تجدد فيه أصلا. ومما ذكر ينقدح فساد ما يتوهم من استحالة علمه بالجزئيات الزمانية بدعوى أن العلم يجب تغيره عند تغير المعلوم، وإلا لانتفت المطابقة، لكن الجزئيات الزمانية متغيرة فلو كانت معلومة لله تعالى لزم تغير علمه تعالى، والتغير في علم الله تعالى محال (1). وذلك، لما عرفت من أن الله تعالى علمين، أحدهما: الذاتي، وهو لا يتغير بتغير المتغيرات فإنه في الأزل كان عالما بكل متغير أنه حدث في زمان خاص بكيفية خاصة ولا يتخلف شئ عن هذا العلم، ويقع كما هو معلوم عند ربه ولا يحصل تغير في علمه أصلا وعلمه في الأزل بوجود المعلول في زمان خاص لا يوجب كونه موجودا في الأزل بوجوده الخاص به، وإلا لزم الخلف في علمه، فكل شئ واقع كما علم فلا تغير في العلم، بل التغير والحدوث في المتغير، والحادث والعلم بالمتغير ليس بمتغير، إذ حكم ذات المعلوم لا يسري إلى العلم، كما أن العلم بالحركة ليس بحركة، والعلم بالعدم أو الإمكان ليس عدما ولا إمكانا، والعلم بالمتكثر ليس بمتكثر. وثانيهما: هو العلم في مرحلة الفعل وهو عين الفعل، لأن المراد من العلم الفعلي هو حضور الفعل بنفسه عند الله تعالى، كما أن الصور المعقولة والذهنية حاضرة عندنا بنفسها وعلمنا بها عينها، فالتغير في هذا العلم لا بأس به، لأنه يرجع إلى تغير في ناحية الفعل لا في ناحية الذات، والمحال هو الثاني كما لا يخفى.
(1) شرح التجريد الطبعة الحديثة: ص 287 نقل ذلك عن المتوهم. 47 ولذا صرح المحقق الطوسي - قدس سره - في تجريد الاعتقاد بأن تغير الإضافات ممكن (1). ويظهر مما ذكرنا أنه لا إشكال في حدوث العلم في مرتبة الفعل، فإن المراد منه عين الفعل الحادث، وبالجملة الفعل باعتبار صدوره منه معلوله، وباعتبار حضوره عنده معلومه، ولا إشكال في حدوثه، وبذلك انقدح أنه لا مانع من إثبات العلم الزماني لله تعالى، كما أشار إليه بعض الآيات الكريمة، منها قوله تعالى: " ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين " (2) فإن ظاهره أن العلم يحصل بعد الامتحان والتمحيص، ومنها قوله تعالى: " الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا " (3) فإن ظاهره هو الإنباء عن حصول العلم في الآن المذكور، وغير ذلك من الآيات. والحاصل أن العلم الحادث في الآن أو الزمان الآتي حيث يكون عبارة عن عين الفعل، لا يستلزم حدوثه وتغيره شيئا في ناحية العلم الذاتي كما لا يخفى (4) ثم لا يخفى عليك انه صرحت الآيات والروايات وفقا للأدلة العقلية بتعميم علمه تعالى بجميع الأمور حيث قال عز وجل: " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها الا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة الا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس الا في كتاب مبين " (5). وقال مولانا أمير المؤمنين - عليه السلام -: " يعلم عجيج الوحوش في الفلوات
(1) راجع نهاية الحكمة: ص 254، وراجع تعليقة النهاية: ص 444 سيما ما نقله عن المحقق السبزواري في تعليقته على الاسفار وكشف المراد: ص 287. (2) محمد: 31. (3) الأنفال: 66. (4) راجع مجموعه معارف قرآن: 1 - خداشناسى ص 287 - 293. (5) الانعام: 59. 48 ومعاصي العباد في الخلوات واختلاف النينان في البحار الغامرات وتلاطم الماء بالرياح العاصفات " (1). الأمر الرابع: في قدرته واختياره القدرة هي تمكن الفاعل - العالم بما في الفعل أو الترك من المصلحة أو المفسدة - من الفعل وتركه والقادر هو الذي إذا شاء أن يفعل فعل، وإذا شاء أن يترك ترك، مع الشعور والعلم بما فيه من الخير الذي يدعوه نحوه، فالقدرة قد تكون في مقابل العجز فإن من لم يصدر عنه فعل لفقده إياه، عاجز عنه، بخلاف من يمكن صدوره منه فإنه قادر بالنسبة إليه، وقد تكون القدرة في مقابل الإيجاب فمن أمكن له الفعل والترك فهو قادر، بخلاف من لم يمكن له الترك، فإنه موجب كالنار بالنسبة إلى الإحراق. ثم إن صدور الفعل أو تركه عن الانسان أو ذي شعور آخر يحتاج إلى مرجح، وهو لا يكون بدون العلم والشعور، وعليه فالعلم والشعور من مبادئ الفعل أو الترك. وإن كان في مرتبة من الضعف فالقدرة لا تطلق إلا إذا كان للعلم والشعور مبدئية في ظهور الفعل أو تركه، فلذا لا تطلق القدرة على القوى الطبيعية. ثم إن هذه القدرة من الكمالات الوجودية، ويدل على اتصاف ذاته تعالى بها أمور: منها: صرفية وجوده بحيث لا يشذ عنه كمال من الكمالات الوجودية وإلا لزم الخلف في صرفيته. ومنها: إنا نجد في أنفسنا القدرة وهي كسائر المعاليل منتهية إليه تعالى، فهو واجد لأعلاها، فإنه في رتبة العلة بالنسبة إلى غيره من الموجودات، ومعطي
(1) بحار الأنوار: ج 4 ص 92. 49 الشئ يستحيل أن يكون فاقدا له كما لا يخفى. هذا مضافا إلى أن مشاهدة آثاره وتدبيره في النظام، والاختلاف المشاهد في هبة الولد أو المال ونحوهما لفرد دون فرد مع أنهما متعاكسان في القابلية والاستعداد وهكذا في طول العمر والامكانيات وغير ذلك من الأمور يحكي عن كون أزمة الأمور طرا بيده وقدرته وأنه يفعل ما يشاء. ثم إن تقريب أزلية القدرة كالتقريب الماضي في أزلية العلم فلا نعيد. ثم إن مقتضى اشتمال القدرة على العلم والشعور بما في الفعل أو الترك، ومبدئيتهما هو عدم انفكاك القدرة عن الاختيار، إذ ترجيح أحد الطرفين من الفعل أو الترك لا يمكن بدون الاختيار والإرادة، ولذلك نبحث عن الاختيار والإرادة فيما يلي: وأما الاختيار فهو بمعنى الترجيح في أحد الطرفين من الفعل أو الترك وإرادته مع العلم بما فيها وهو في أفعالنا موقوف على التأمل حول الفعل أو الترك، حتى يحصل العلم بوجود المصلحة وارتفاع المفسدة فيه، وربما يحتاج إلى مضي زمان ومدة، كما إذا كان التأمل نظريا، فالاختيار ربما يتأخر في مثلنا عن القدرة، ولكن فيه تعالى حيث كان العلم بوجود المصلحة وارتفاع المفسدة حاصلا ومقارنا مع قدرته من دون حاجة إلى روية أو تأمل، فلا يتأخر عن القدرة بحسب الزمان. نعم لو كان الراجح أمرا زمانيا مختصا بزمان خاص، لا يتحقق الراجح إلا في ظرف زمانه، لأنه راجح فيه دون غيره، ولكن اختياره وإرادته تعالى إياه من الأزل، وليس بحادث. وكيف كان فالدليل عليه واضح مما مر، حيث إن فقدان الاختيار بالمعنى المذكور يرجع إلى صدور الفعل أو الترك عنه بلا دخل له تعالى فيه، كالقوى الطبيعية، بل ينتهي إلى سلب صدق القدرة عليه، لأن القوى الطبيعية العاملة العادمة للشعور والعلم المؤثر، لا تسمى قادرة. ففقدان الاختيار نقص وهو
50 يتنافى مع كونه صرف الكمال كما مر مرات عديدة، هذا مضافا إلى أن ملاحظة النظام وتناسب كل واحد منه مع آخر وترتب الغايات الراجحة على وجودها، توجب العلم القطعي بأن الله تعالى لم يخلقها إلا لترجيح وجودها على عدمها، لترتيب الغايات الراجحة عليها، بحيث لولاها لما أوجدها (1) فهو تعالى قادر لا عاجز، ومختار في فعله وليس بموجب. ثم إن الإرادة والاختيار بالمعنى المذكور لا تنافي ما دل من الاخبار على أن إرادته تعالى إيجاده وإحداثه، لأن النفي في تلك الأخبار إضافي لا حقيقي وإنما النظر فيها إلى العامة الذين يقولون بامكان الإرادة فيه تعالى مع ما فيها من التأمل والتروي وحدوث الجزم والقصد ومن المعلوم أن الإرادة مع هذه المقرونات محال بالنسبة إليه تعالى، لأنه عالم بجميع الأمور ولا يحتاج إلى التأمل والتروي ولا يكون معرضا للعوارض والطوارئ، ولذا نفت الأخبار المذكورة هذه الإرادة المقرونة ولا نظر لها إلى نفي الإرادة الخالية عن هذه الأمور، فلا مانع من إثبات الإرادة المجردة عن الشوائب المذكورة للذات المتعال ومن المعلوم أن الإرادة والاختيار الخالية عن المقرونات المذكورة من المعاني المدرجة في حقيقة قدرته تعالى فافهم واغتنم. ثم إنه قد يستعمل الاختيار في مقابل الإكراه والاضطرار، ولا إشكال ولا كلام في صدق المختار بهذا المعنى على الله تعالى، لاستحالة انفعاله من غيره، فإن الانفعال عين العجز، وهو ينافي كونه صرف الكمال وغنيا مطلقا كما لا يخفى. ثم إن قدرته تعالى عامة ولا اختصاص لها بشئ، فإن الاختصاص أثر المحدودية، وهو تعالى محيط على كل شئ، ولا موجب بعد إحاطته وكماله
(1) گوهر مراد: ص 180. 51 للاختصاص، فهو قادر على كل شئ يمكن وجوده. وأما المحالات فالنقص من ناحيتها لا من ناحيته سبحانه وتعالى، ومن المحالات هو: أن يخلق الله تعالى مثله لأن معناه أن يكون الممكن المخلوق واجبا وهو خلف. أما في الواجب: فإن اللازم بعد ذلك هو أن يكون المخلوق المماثل في عرضه لا في طوله، ومعه يصير الواجب محدودا وهو خلف. وأما في الممكن: فلأن لازم ذلك هو جعل الممكن واجبا وهو خلف في كون الإمكان ذاتيا له. ومنها أيضا: أن يخلق حجرا بعجز عن رفعه - نعوذ بالله - فإنه خلف في صرفيته وإطلاق إحاطته. هذا مضافا إلى أن المعلول يترشح وجوده منه تعالى، والعلة واجدة لمراتب المعلول بنحو الأشد والأعلى، فكيف يعجز عن ناحية معلوله مع أنه لا استقلال لمعلوله، بل هو عين ربط به تعالى. ومنها أيضا: هو أن يدخل العالم مع كبره في بيضة مع صغرها، وإلا لزم الخلف في صغرها أو كبرها قال مولانا أمير المؤمنين - عليه السلام - في الجواب عن إمكان إدخال العالم في البيضة مع ما عليها من الحجم: إن الله تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز والذي سألتني لا يكون (1). وبالجملة أن المحال لا يكون قابلا للوجود والنقص من ناحيته، وأما غيره من الأشياء فهو بالنسبة إلى قدرته تعالى سواء، من دون فرق بين عظيمه وحقيره، وكبيره وصغيره، وقليله وكثيره، إن الله على كل شئ قدير. ثم إن قدرته تعالى غير متناهية ولتلك القدرة خصائص. منها: أن قدرته تعالى لا تنحصر على المجاري العادية، بل له تعالى أن يجري الأمور من طرق أخرى كالإعجاز. ومنها: أن إعمال القدرة من ناحيته تعالى لا يتوقف على وجود شرط أو عدم مانع، لكونه تام الفاعلية ولعدم استقلال شئ في وجوده حتى
(1) بحار الأنوار: ج 4 ص 143. 52 يمكن له أن يمنعه تعالى. نعم قد يكون مصلحة شئ مترتبة على شئ آخر أو مقرونة بالمفسدة المانعة ولعل إليه يؤول قوله تعالى " إنما قولنا لشئ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون " (1). ثم في ختام البحث عن العلم والقدرة نقول: إن عرفناهما حق المعرفة واطمأننا بهما لم نذهب إلى معصية: لأنه عليم بفعلنا ولم نتوكل إلا عليه، لأنه يقدر على كل شئ وهكذا نترتب عليهما الأصول الأخلاقية القيمة الكثيرة التي لا مجال للإشارة إليها. الأمر الخامس: في توحيده تعالى وقبل أن نستدل عليه، فليعلم أولا أن التوحيد ينقسم إلى سبعة أقسام: 1 - التوحيد الذاتي: والمراد به هو المعرفة بأنه تعالى واحد لا ثاني له كما نص عليه الكتاب العزيز بقوله: " ولم يكن له كفوا أحد ". 2 - التوحيد الصفاتي: والمراد به هو المعرفة بأن ذاته تعالى عين صفاته، بل كل صفة عين الصفة الأخرى من الصفات الثبوتية الذاتية الكمالية، وسيجئ من المصنف - قدس سره - بأن الاعتقاد بالتوحيد الصفاتي يقتضي أيضا الاعتقاد بأنه لا شبه له في صفاته الذاتية فهو في العلم والقدرة لا نظير له. وأما نفي التركيب المطلق وإثبات بساطته فقد مضى بيانه في الصفات السلبية ولا حاجة إلى إعادته في المقام. 3 - التوحيد الأفعالي: والمراد به هو المعرفة بأن كل ما يقع في العالم من العلل والمعلولات، والأساليب والمسببات، والنظامات العادية وما فوقها، يقع
(1) النحل: 40. 53 بإرادته في حدوثه وبقائه وتأثيره، فكل شئ قائم به، وهو القيوم المطلق، ولا حول ولا قوة ولا تأثير إلا به وبإذنه. وهذا القسم يشمل التوحيد في الخالقية والربوبية والرازقية ونحوها من مظاهر الأفعال، ولا حاجة إلى ذكرها على حدة كما لا يخفى. ثم إن التوحيد في هذه الأقسام يكون من نوع المعرفة ويطلق عليه التوحيد النظري. 4 - التوحيد التشريعي: والمراد به هو المعرفة بأن التقنين حق الخالق والرب، لأنه يعرف مخلوقاته وصلاحهم، فلا يجوز لغيره تعالى أن يقدم على ذلك، فالأنبياء والرسل نقلوا ما شرعه الله تعالى ولم يقدموا على التشريع إلا فيما أذن لهم الله تعالى وهو أيضا مستند إليه تعالى كما لا يخفى. ثم إن هذا القسم باعتبار يكون من أقسام التوحيد الأفعالي ولكن حيث كان موردا للاهتمام ذكرناه على حدة. 5 - التوحيد العبادي والإطاعي: والمراد به أنه تعالى مستحق للعبادة والإطاعة لا غير، وسبب ذلك هو التوحيد الذاتي والأفعالي فهو تعالى لكونه واحدا كاملا وخالقا وربا ولأن كل الأمور بيده، دون غيره استحق انحصار العبادة والإطاعة المطلقة. 6 - التوحيد الاستعاني: والمراد به هو أن لا يستعين العبد في أموره إلا منه تعالى وهو أثر الاعتقاد الكامل بالتوحيد الأفعالي، ولعل إليه الإشارة بقوله تعالى: " إياك نعبد وإياك نستعين ". 7 - التوحيد الحبي: والمراد منه أن من إعتقد بأن كل كمال وجمال منه تعالى أصالة فلا يليق المحبة منه أصالة إلا له تعالى. وهذه الأقسام من أقسام التوحيد العملي وإن أمكن إدراجها في التوحيد النظري أيضا باعتبار أنه تعالى مستحق لهذه الأنواع من التوحيد فلا تغفل.
54 ثم لا يخفى عليك أن بعض الأدلة الدالة على إثبات المبدأ المتعالي تكفي أيضا للدلالة على توحيده الذاتي، فإن دليل الفطرة مثلا يدل على أن القلب لا يتوجه إلا إلا حقيقة واحدة، كما يشهد له تعلق الرجاء عند تقطع الأسباب بقادر مطلق واحد لا بمتعدد. هذا مضافا إلى أن مقتضى برهان المحدودية هو اللاحدية اللازمة لصرفية المبدأ المتعال وهي لا تساعد مع التعدد، لأن كل واحد على فرض المتعدد محدود بحدود في قبال الآخر وخال عن وجود الآخر، لأنه في عرضه لا في طوله حتى يكون واجدا لمراتب وجوده بنحو الأعلى وإلا تم وهو خلف في صرفية المبدأ المتعال ولأحديته، بل يحتاج كل واحد منهما في تحديد وجوده إلى حاد آخر، ولذا اشتهر في ألسنة الإشراقيين والفلاسفة أن صرف الشئ لا يتثنى ولا يتكرر. قال الأستاذ الشهيد المطهري - قدس سره -: إن الحد الوسط في هذا البرهان قد يكون هو الصرفية وقد يكون هو عدم التناهي واللاحدية، فيمكن تقرير البرهان على الوجهين. أحدهما: أن الواجب تعالى هو لا يتناهى إذ لا ينتهى إلى زمان أو مكان أو شرط أو علة أو حيثية أو مرتبة ولا غير ذلك، وكل ما لا يتناهى من جميع الجهات لا يقبل التعدد. وثانيهما: أن وجود الواجب صرف الوجود، إذ لا فقد له حتى يشوبه العدم، بل هو كل الوجود وتمامه والصرف لا يقبل التعدد فالواجب واجد (1). قال المحقق الإصفهاني - قدس سره -: وليس صرف الشئ إلا واحدا * إذ لم يكن له بوجه فاقدا فهو لقدس ذاته وعزته * صرف وجوده دليل وحدته ومنه يستبين دفع ما اشتهر * عن ابن كمونة والحق ظهر ولعل إلى برهان الصرف يشير ما رواه في الكافي عن أبي عبد الله
(1) أصول فلسفه: ج 5 ص 152. 55 - عليه السلام - من أنه قال في الجواب عن زنديق: لا يخلو قولك أنهما اثنان من أن يكونا قديمين قويين أو يكونا ضعيفين أو يكون أحدهما قويا والآخر ضعيفا فإن كانا قويين (مطلقين غير متناهين) فلم لا يدفع كل واحد منهما صاحبه وينفرد بالتدبير وإن زعمت أن أحدهما قوي والآخر ضعيف يثبت أنه واحد كما نقول للعجز الظاهر في الثاني (1). بناء على أن المراد من قوله: " فان كانا قويين الخ "، كما في شرح الملا صالح المازندراني أن كونهما قويين على الإطلاق يقتضي جواز دفع كل واحد منهما صاحبه، لأن من شأن القوي المطلق أن يكون قاهرا على جميع ما سواه وجواز ذلك يوجب بالضرورة ضعف كل واحد منهما وعدم استقلاله، وعدم كماله في القدرة والقوة. هذا نقيض المفروض وكل ما يلزم من فرضه نقيضه فهو باطل (2). ويمكن أيضا الاستدلال له بنفي التركيب بدعوى أنه لو كان في الوجود واجب آخر، لزم تركيبهما، لاشتراكهما في كونهما واجبي الوجود، سواء كان وجوب الوجود تمام ذاتهما كما إذا كانا من نوع واحد، أو جزء ذاتهما كما إذا كانا من جنس واحد، فلابد من مائز، سواء كان ذاتيا كالفصل، أو غير ذاتي كالعوارض المشخصة، فيصيران مركبين من الجنس والفصل، أو من الحقيقة النوعية والمشخصات الخارجية، وكل مركب محتاج إلى أجزائه وهو يرجع إلى كونه ممكنا وهو خلف. ولكن الاستدلال بالصرفية أولى منه لشموله ما فرضه ابن كمونة دونه كما أشار إليه المحقق الإصفهاني في أشعاره. هذا كله بالنسبة إلى التوحيد الذاتي وسيأتي الكلام إن شاء الله في التوحيد الصفاتي وأما التوحيد الأفعالي فنقول: إذا عرفت أن ذات الواجب ولا مجال للتكثر والتعدد فيه ظهر أن
(1) الكافي: ج 1 ص 80. (2) شرح الأصول من الكافي: ج 3 ص 51. 56 غيره ليس إلا من الممكنات، وحيث إن الممكنات موجودة به تعالى فكلها في طول الله تعالى لا في عرضه، وعليه فلا يمكن للمعلول الذي يكون في الطول أن يعارض علته ويضادها، فليس له تعالى مضاد يضاده، إذ وجود كل معلول حدوثا وبقاء منه تعالى، لأنه في حال الحدوث والبقاء ممكن، محتاج وفقير في جميع أموره ويتلقى الوجود منه تعالى فكيف يمكن أن يصير مستقلا في وجوده ومضادا له تعالى، وقد انقدح بذلك أن الخالفية والربوبية أيضا واحدة، لأن غيره تعالى معلول في حدوثه وبقائه له تعالى، فكيف يمكن أن يخلق شيئا أو يربب نفسه أو غيره من دون أن ينتهي إلى علته؟ فكل أثر منه تعالى لا غير، كما اشتهر أنه لا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى، فتوحيد الذات يستلزم بالتقرير المذكور التوحيد الأفعالي ولعل عليه يدل قوله تعالى: " ذلكم الله ربكم خالق كل شئ " (1). كما أن التوحيد الأفعالي ومنها التوحيد في الخالقية والربوبية يستلزم التوحيد في العبودية، إذ العبادة لا تليق إلا لمن خلق وربب والمفروض أنه ليس إلا هو تعالى، وأما التوحيد التشريعي فهو أنه لما عرفنا من أن الخالق والرب ليس إلا هو فالجدير أن التشريع حقه، وينبغي أن لا نطيع إلا إياه، إذ الأمر والحكم شأن الخالق العالم بمصالح العباد وهو التوحيد التشريعي " ان الحكم إلا لله " (2) وينبغي أن لا نستعين ولا نطيع إلا منه، إذ الأمور كلها بيده تعالى وهو التوحيد الاستعاني، فالإطاعة لغيره من دون انتساب إليه تعالى باطلة كما أن الاستعانة من غيره من دون أن ينتهي إليه أوهن مما نسجته العنكبوت. وحيث علمنا بأن كل حسن وجمال يرجع إلى أصله فليكن الحب الأصيل مخصوصا به وهو التوحيد الحبي. ولعل إليه يؤول قول إبراهيم - عليه السلام - كما جاء في القرآن الكريم: " فلما أفل قال لا أحب الآفلين " (3).
(1) الانعام: 101. (2) يوسف: 40. (3) الانعام: 76. 57 ومن قال بالتشبيه في خلقه بأن صور له وجها ويدا وعينا، أو أنه ينزل إلى السماء الدنيا، أو أنه يظهر إلى أهل الجنة كالقمر، - أو نحو ذلك - فإنه بمنزلة الكافر به جاهل بحقيقة الخالق المنزه عن النقص (2)، بل كل ما ميزناه بأوهامنا في أدق معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلنا مردود إلينا - على حد تعبير الإمام الباقر عليه السلام (3) - وما أجله من تعبير حكيم! وما أبعده من مرمى علمي دقيق!.
(1) المحجة البيضاء: ج 1 ص 219. (2) بحار الأنوار: ج 4 ص 29. 58 تدركه الابصار أو يحيط به وهم أو يضبطه عقل " (1). وبالجملة أن الإبصار لا يمكن إلا إذا كان المبصر محدودا وفي جهة وهو لا يناسب الرب تعالى لأنه غير محدود ولا يتناهى وهكذا ما يتخيله الإنسان وإن كان مجردا عن المادة ولكنه متقدر بالأبعاد والأشكال، ومع التقدر المذكور يكون محدودا بحدود الأبعاد والأشكال، فكيف يمكن للإنسان أن يتخيل المبدأ المتعالي الذي لا يكون محدودا بحد أو بعد، فلذلك لا تناله يد البصر والوهم، بل العقل عاجز عن درك حقيقته وكنهه إذ لا ماهية ولا جنس ولا فصل له حتى يتعلقها ويعرفه بها ذاته وكنهه، بل يعرفه العقل بعون المفاهيم المنتزعة عن ذاته مع سلب مماثلة شئ به تعالى، ويقال عند توصيفه: أنه موجود وحي وعالم وقادر وليس كمثله شئ، أو أنه ليس بمحدود، أوليس بمتناه، فالعقل عاجز عن درك كنهه، ولكن له أن يعرفه بالمفاهيم المذكورة مع سلب خصائص الممكنات عنه (2). قال ابن ميثم البحراني: " إن ذات الله تعالى لما كان برية عن أنحاء التركيب، لم يكن معرفته ممكنة إلا بحسب رسوم ناقصة تتركب من سلوب وإضافات تلزم ذاته المقدسة لزوما عقليا " (3) فافهم. ومما ذكر يظهر المراد من قول مولانا أمير المؤمنين - عليه السلام - في نهج البلاغة: " لم يطلع العقول على تحديد صفته ولم يحجبها عن واجب معرفته " (4). ثم هنا سؤال وهو: أن الرؤية إذا كانت غير ممكنة فكيف روي عن علي - عليه السلام - أنه قال في جواب من قال له: هل رأيت ربك؟: " لم أكن
(1) بحار الأنوار: ج 3 ص 15. (2) راجع أصول فلسفة: ج 5 ص 144 - 145. (3) شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني: ج 1 ص 121. (4) الخطبة: 49. 59 وكذلك يلحق بالكافر من قال: إنه يتراءى لخلقه يوم القيامة، وإن نفى عنه التشبيه بالجسم لقلقة في اللسان (4)، فإن أمثال هؤلاء المدعين حمدوا على ظواهر الألفاظ في القرآن الكريم (5)
(1) بحار الأنوار: ج 4 ص 27. (2) راجع اللوامع الإلهية: ص 82. (3) البقرة: 46. (4) راجع اللوامع الإلهية: ص 98. 60 أو الحديث (6) وأنكروا عقولهم وتركوها وراء
(1) القيامة: 22. (2) الميزان: ج 20 ص 204. (3) راجع اللوامع الإلهية: ص 101. 61 ظهورهم (7) فلم يستطيعوا أن يتصرفوا بالظواهر حسبما يقتضيه النظر والدليل وقواعد الاستعارة والمجاز.
(1) مصابيح الأنوار: ج 1 ص 206. (2) راجع اللوامع الإلهية: ص 104. (3) إحقاق الحق: ج 4 ص 133. 62 3 - عقيدتنا في التوحيد ونعتقد بأنه يجب توحيد الله تعالى من جميع الجهات، فكما يجب توحيده في الذات ونعتقد بأنه واحد في ذاته ووجوب وجوده، كذلك يجب - ثانيا - توحيده في الصفات، وذلك بالاعتقاد بأن صفاته عين ذاته كما سيأتي بيان ذلك، وبالاعتقاد بأنه لا شبه له في صفاته الذاتية، فهو في العلم والقدرة لا نظير له وفي الخلق والرزق لا شريك له وفي كل كمال لا ند له (1).
63 ويكون مستقلا في أفعاله وذاته بخلاف غيره تعالى. ومن ذلك يعرف أن غيره المحدود بالحدود والقيود والمحتاج في وجوده وكماله لا يكون شبيها به تعالى، فإن غيره المتصف بهذه الصفات محدود ومحتاج، فكيف يكون شبيها بمن لا حد ولا حاجة له، بل هو صرف الكمال وعين الغنى فلا ند له ولا كفؤ، كما نص عليه القرآن الكريم بقوله: " ولم يكن له كفوا أحد "، " ليس كمثله شئ " (1)، بل لا غير إلا به، فكيف يمكن أن يكون الغير شبيها ونظيرا له في الصفات. ومما ذكر يظهر أن نفي النظير والشبيه لا يختص بذاته وصفاته الذاتية، بل لا نظير له في صفاته الفعلية كالخلق والرزق، فإن كل ما في الوجود منه تعالى وليس لغيره شئ إلا بإذنه، فلا خالق ولا رازق بالاستقلال إلا هو كما نص عليه بقوله عز وجل: " إن الله فالق الحب والنوى " (2)، " الله يبسط الرزق لمن يشاء " (3)، " ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين " (4)، " والله خلقكم وما تعملون " (5)، " ذلكم الله ربكم إله إلا هو خالق كل شئ " (6)، " بل لله الأمر جميعا " (7). ولا ينافيه إسناد تدبير الأمر إلى غيره في قوله تعالى: " فالمدبرات أمرا " (8)، ونحوه، لأن تدبيرها بإذنه وإرادته وينتهي إليه، فالنظام في عين كونه مبنيا على الأسباب والمسببات يقوم به تعالى في وجوده وفاعليته، فالملائكة مثلا لا يفعلون إلا بأمره وإرادته ويكونون رسلا منه، كما أشار إليه في قوله: " جاعل الملائكة
(1) الشورى: 11. (2) الأنعام: 95. (3) الرعد: 26. (4) الأعراف: 54. (5) الصافات: 96. (6) الأنعام: 101. (7) الرعد: 31. (8) النازعات: 5. 64 رسلا " (1)، وهكذا كل سبب آخر فالأمر أمره والفعل فعله وليس له معادل يعادله، بل كل منه وبه في وجوده وفاعليته، ما شاء الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. ثم إذا عرفت أن الفاعلية بتقدير منه ومنتهية إليه تعالى فلا مجال لتقسيم الأشياء إلى الشرور والخيرات وإسناد الأولى إلى غيره تعالى، بل كل شئ من الموجودات داخل في النظام الأحسن الذي يقوم به تعالى، والنظام الأحسن بجملته نظام يكون صدوره أرجح من تركه، فلذا يصدر من الحكيم المتعالي. ثم إن للشرك في الفاعلية مراتب بعضها يوجب خروج المعتقد به عن حوزة الإسلام وزمرة أهل التوحيد، كمن إعتقد بأن للعالم مؤثرين، النور وهو أزلي فاعل الخير ويسمى " يزدان " والظلمة وهي حادثة فاعلة للشر وتسمى " أهريمن " كما نسب إلى المجوس (2). وهذا من أنواع الشرك الجلي فإن المعتقد المذكور يعتقد استقلال الظلمة في الفاعلية، والاستقلال في التأثير والفاعلية شرك. وبعضها الآخر لا يوجب خروج المعتقد به عن زمرة أهل التوحيد كمن إعتقد بتأثير بعض الأمور كالمال والولد وغيرهما من دون توجه إلى أن مقتضى الإيمان بتوحيده تعالى في الأفعال هو أنه لا تأثير لشئ إلا بإذنه تعالى، وهذا من أنواع الشرك الخفي، والمعتقد به لا يعلم أنه ينافي التوحيد الأفعالي، وهو أمر يبتلى به أكثر المؤمنين كما أشار إليه في كتابه الكريم بقوله: " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " (3) أعاذنا الله تعالى من ذلك كله " (4).
(1) فاطر: 1. (2) راجع اللوامع الإلهية: ص 241. (3) يوسف: 106. (4) راجع جهان بيني: ج 2 ص 92، للأستاذ الشهيد المطهري قدس سره. 65 وكذلك يجب - ثالثا - توحيده في العبادة، فلا تجوز عبادة غيره بوجه من الوجوه (2)، وكذا اشراكه في العبادة في أي نوع من أنواع العبادة،
(1) الأنبياء: 66. (2) النمل: 64. (3) المائدة: 73. 66 واجبة أو غير واجبة، في الصلاة وغيرها من العبادات. ومن أشرك في العبادة غيره فهو مشرك كم يرائي في عبادته ويتقرب إلى غير الله تعالى، وحكمه حكم من يعبد الأصنام والأوثان، لا فرق بينهما (3).
(1) الزمر: 3. (2) يونس: 18. 67 يعمل عمل المشرك المعتقد بالتعدد في الفاعلية والربوبية، وتسميته كافرا أو مشركا في بعض الآثار (1) ليس إلا للتنزيل والتشبيه بالمشرك أو الكافر في العمل، نعم عليه أن يجتنب عنه اجتنابا كاملا حتى لا يصير محروما عن رحمته تعالى " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا " (2). كما يجب عليه الاجتناب عن سائر صنوف الشرك الخفي كإطاعة النفس والطاغوت والشيطان مما يشير إليه قوله تعالى: " أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا " (3)، " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " (4)، " ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم " (5). فالموحد الحقيقي هو الذي خص الله تعالى بالعبادة ولا يشرك غيره فيها ولا يرائي فيها، وخصه تعالى أيضا بالإطاعة فلا يطيع إلا إياه، ومن أمر الله بإطاعتهم، ويترك اتباع هوى نفسه وغيره، ويجتنب من عبادة الطاغوت، فليراقب المؤمن كمال المراقبة في الشرك الخفي فإن الابتلاء به كثير وتمييزه دقيق، وقد نص عليه الرسول الأعظم - صلى الله عليه وآله - في حديث: " الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء وأدناه أن يحب على شئ من الجور ويبغض على شئ من العدل وهل الدين إلا الحب والبغض في الله، قال الله تعالى: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله " (6). فالشرك في محبة الله من صنوف الشرك الخفي والموحد الحقيقي الكامل هو الذي لا يحب إلا إياه، وهكذا الشرك في الاستعانة من صنوف الشرك الخفي
(1) الوسائل: ج 1 ص 49 - 51. (2) الكهف: 110. (3) الفرقان: 43. (4) النحل: 36. (5) يس: 60 - 61. (6) آل عمران: 31 - راجع الميزان ج 3 ص 175. 68 أما زيارة القبور وإقامة المآتم فليست هي من نوع التقرب إلى غير الله تعالى في العبادة، كما توهمه بعض من يريد الطعن في طريقة الإمامية، غفلة عن حقيقة الحال فيها، بل هي من نوع التقرب إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة كالتقرب إليه بعيادة المريض وتشييع الجنائز وزيارة الإخوان في الدين ومواساة الفقير، فإن عيادة المريض - مثلا - في نفسها عمل صالح يتقرب به العبد إلى الله تعالى، وليس هو تقربا إلى المريض يوجب أن يجعل عمله عبادة لغير الله تعالى أو الشرك في عبادته، وكذلك باقي أمثال هذه الأعمال الصالحة التي منها زيارة القبور، وإقامة المآتم، وتشييع الجنائز، وزيارة الإخوان أما كون زيارة القبور وإقامة المآتم من الأعمال الصالحة الشرعية فذلك يثبت في علم الفقه وليس هنا موضع إثباته. والغرض أن إقامة هذه الأعمال ليست من نوع الشرك في العبادة كما يتوهمه البعض (4)، وليس المقصود منها عبادة الأئمة، وإنما المقصود منها إحياء أمرهم، وتجديد
69 الشرك الأكبر، مستدلا بأن العبادة تتحقق بالتعظيم والخضوع والمحبة (1) فحضور الزائر عند القبور أو إقامة المأتم أو التوسل أو الاستشفاع بهم تعظيم لغيره تعالى وهو شرك في العبادة، وفيه منع واضح، لأن العبادة المصطلحة التي عبر عنها في اللغة العربية بالتأله وفي اللغة الفارسية ب " پرستش " لا تتحقق بمطلق التعظيم والخضوع والمحبة، ولذا لا يكون التعظيم والخضوع للنبي الأكرم - صلى الله عليه وآله - أو أوصيائه المكرمين - عليهم الصلاة والسلام - في زمان حياتهم عبادة، بل لا تكون تلك الأمور بالنسبة إلى غيرهم كالأب والام والمعلم ممن يلزم تعظيمهم عبادة، إذ العبادة هي التعظيم والخضوع في مقابل الغير بعنوان أنه رب يستحق العبادة، والزائر ومقيم المأتم وهكذا المتوسل بالنبي أو الأئمة والمستشفع بهم لا ينوي ذلك أبدا، بل يعتقد أن مثل النبي والأئمة - عليهم الصلاة والسلام - مخلوقون مربوبون والأمر بيد الله تعالى، وإنما زارهم لمجرد التعظيم والتبرك والتوسل اقتفاء بأئمة الدين والأصحاب والتابعين. قال في كشف الارتياب: " ليس المراد من العبادة التي لا تصلح لغير الله وتوجب الشرك والكفر إذا وقعت لغيره مطلق التعظيم والخضوع بل عبادة خاصة لم يصدر شئ منها من أحد من المسلمين " (2) وهذا هو الفارق بين التوسل والاستشفاع بالرسول والأئمة - عليهم السلام - وبين عبادة المشركين لأصنامهم، فإنهم يعبدونها عبادة لا تليق إلا للرب تعالى، بخلاف من توسل إليهم واستشفع بهم فإنه تبرك بهم وجعلهم وسيلة للتقرب لما عرف من أنهم من المقربين عنده تعالى، وأين هذا من عبادة المشركين، والتفصيل يطلب من محله (3).
(1) كما حكاه في كتاب فتح المجيد عن القرطبي وابن القيم راجع: ص 17 وص 32. (2) كشف الارتياب: ص 167، للسيد محسن الأمين. (3) كشف الارتياب: ص 168. 70 ذكرهم، وتعظيم شعائر الله فيهم " ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب " - الحج: 32. فكل هذه أعمال صالحة ثبت من الشرع استحبابها، فإذا جاء الإنسان متقربا بها إلى الله تعالى طالبا مرضاته، استحق الثواب منه ونال جزاءه (5).
71 إلى أحاديث كثيرة تكاد تبلغ حد التواتر عن أئمة أهل البيت الطاهرين رواها عنهم أصحابهم وثقاتهم بالأسانيد المتصلة الصحيحة الموجودة في مظانها (1). هذا مضافا إلى عمل أهل البيت - عليهم السلام - من زيارة قبر النبي - صلى الله عليه وآله - والتبرك به، والالتزاق به، والدعاء عنده، والوصية بحمل جسدهم إلى قبر النبي لتجديد العهد به وغير ذلك، بل هو سيرة الأئمة اللاحقين بالنسبة إلى الأئمة الماضيين المطهرين - عليهم الصلوات والسلام - كزيارة قبر مولانا أمير المؤمنين - عليه السلام - وزيارة قبر سيد الشهداء - عليه السلام -. ولقد رويت أخبار ذلك في المزار من الأحاديث ككتاب كامل الزيارات وغير ذلك، بل سيرة السلف عليه، ولقد أفاد وأجاد بعد نقل جملة من الأخبار في كتاب التبرك حيث قال: " هذه أحاديث متواترة إجمالا أو معنى تدل على أن الصحابة - رضي الله عنهم - والتابعين لهم بإحسان، كانوا يتبركون برسول الله - صلى الله عليه وآله - وآثاره، يتبركون بقبره ويحترمونه ويعظمونه، وأن التبرك والاحترام والتعظيم لم يكن شركا عندهم، بل لم يكن يخطر ذلك في بالهم، بل يرون أن ذلك من شؤون الإيمان ومظاهره وأن تعظيمه تعظيم وإجلال لله سبحانه " (2). وهكذا إقامة المآتم سيما لسيد الشهداء الإمام الحسين بن علي - عليهما السلام - من المسنونات المسلمة التي يدل على مشروعيتها الأخبار، وعمل النبي - صلى الله عليه وآله - وأهل البيت - عليهم السلام - وسيرة السلف الصالح - رضي الله عنهم - كما ورد عن النبي - صلى الله عليه وآله - الحث على البكاء على حمزة وعلى جعفر - عليهما السلام -. هذا مضافا إلى بكائه في موت عمه
(1) راجع الوسائل والمستدرك وكامل الزيارات وكتاب التبرك وغير ذلك. (2) كتاب التبرك: ص 173. 72 أبي طالب، وعمه الحمزة، وابن عمه جعفر، والحسين بن علي - عليهما السلام - بعد إخبار جبرئيل بقتله وشهادته، وهكذا سيرة الأئمة - عليهم السلام - على ذلك ولقد أفاد وأجاد والعلامة السيد عبد الحسين شرف الدين في المجالس الفاخرة حيث قال: " وقد استمرت سيرة الأئمة على الندب والعويل وأمروا أولياءهم بإقامة مآتم الحزن على الحسين - عليه السلام - جيلا بعد جيل " (1).
(1) راجع المجالس الفاخرة في مأتم العترة الطاهرة: ص 19. 73 3 - عقيدتنا في صفاته تعالى ونعتقد أن من صفاته تعالى الثبوتية الحقيقية الكمالية التي تسمى بصفات " الجمال والكمال "، كالعلم والقدرة والغنى والإرادة و الحياة، هي كلها عين ذاته ليست هي صفات زائدة عليها، وليس وجودها إلا وجود الذات، فقدرته من حيث الوجود حياته، وحياته قدرته، بل هو قادر من حيث هو حي، وحي من حيث هو قادر، لا اثنينية في صفاته ووجودها، وهكذا الحال في سائر صفاته الكمالية. نعم هي مختلفة في معانيها ومفاهيمها، لا في حقائقها ووجوداتها، لأنه لو كانت مختلفة في الوجود وهي بحسب الفرض قديمة وواجبة كالذات للزم تعدد واجب الوجود ولا نثلمت الوحدة الحقيقية، وهذا ما ينافي عقيدة التوحيد (1).
74 نوع من المجاز بدعوى أن اتصاف ذاته في الكتاب بالعلم والحياة ونحوهما من باب أن نوع فعله تعالى يشبه فعل ذات له علم وحياة. وفي مقابل هؤلاء عدة أخرى من المتكلمين ذهبوا إلى أن ذاته تعالى متصف ببعض الصفات والنعوت، وصفاته زائدة على ذاته، بحكم مغايرة كل صفة مع الموصوف بها، وحيث أن الموصوف بها قديم وكان هذا الاتصاف من القديم فهذه الصفات كالموصوف واجبات وقدماء، ولذا اعتقدوا بالقدماء الثمانية في ناحية الذات وصفاته (1). وكلا الفريقين في خطأ واضح، فإن لازم القول الأول هو خلو الذات في مرتبته عن الأوصاف الكمالية وهو عين الحد والنقص عليه، ولا يناسب مع إطلاقه وكونه غير محدود بحد ونهاية، هذا مضافا إلى ما في حمل الاستعمالات الحقيقية القرآنية على المجاز، ومضافا إلى التصريح بخلافه في قوله تعالى: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى " (2)، " ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها " (3). إذ تعليل شئ بشئ اخر ظاهر بل صريح في كون العلة امرا واقعيا على أن نفي الاضداد يرجع إلى اثبات الأوصاف فيما إذا كانت الاضداد مما لا ثالث لها فان نفي كل ضد يلازم وجود الاخر لعدم امكان ارتفاع الضدين اللذين لا ثالث لهما كما لا يمكن اجتماعهما فإذا نفينا عنه الجهل مثلا لزم ان نثبت له تعالى العلم بل الامر كذلك ان قلنا بان التقابل بين العلم والجهل أو القدرة والعجز تقابل السلب والايجاب إذ لا يمكن ارتفاع النقيضين فإذا نفينا الجهل لزم ان نثبت العلم له تعالى لا محالة.
(1) أحدها الذات وباقيها هي الحياة والقدرة والعلم والسمع والبصر والإرادة والكلام النفسي راجع شرح التجريد وشرح الباب الحادي عشر والبداية والنهاية وغيرها. (2) الاسراء: 110. (3) الأعراف: 180. 75 كما أن لازم القول الثاني هو تعدد الواجب وانثلام الوحدة الذاتية كما أشار إليه المصنف في المتن، وتبطله أدلة وحدانية الواجب وبساطته، هذا مضافا إلى أن لازمه افتقار الذات إلى الصفات الزائدة، وهو خلف في كونه غنيا مطلقا ومضافا إلى لزوم النقص ومحدودية الذات، لأنه حينئذ خال عن الصفات في مرتبة الذات، وهو أيضا خلف في كونه كمالا مطلقا وغير محدود بحد ونهاية. فالحق هو ما صرح به في المتن من كون صفاته عين ذاته تعالى، وهو الذي نسب إلى الحكماء وجملة من المتلكمين، وهو الذي يقتضيه الجمع بين الآيات والروايات. ففي عين كون صدق العالم والحي والقادر ونحوها عليه تعالى حقيقيا لا مجازيا، وبالعناية لا يكون مصداق الصفات إلا ذاتا واحدا بسيطا (1). هذا كله من باب إثبات المقصود من ناحية ذكر التوالي الفاسد للقولين المذكورين، ولكن يمكن الاستدلال على وجود الصفات وعينيتها مع الذات من طريق آخر، وهو أن ذلك مقتضى كون الواجب مطلق الكمال وصرفه، إذ كمال المطلق لا يشذ عنه كمال من الكمالات، ولا حاجة له إلى غيره، وإلا فهو خلف في كونه مطلق وكل الكمال وصرفه، ولذا صرح العلامة الطباطبائي - قدس سره - بأن الحاجة والقيد لما كانا منفيين عن الله تعالى فلا بد من أن يكون كل كمال له، عين ذاته لا خارجا عنه، إذ الكمال الخارجي لا يمكن تصويره إلا بحاجة الذات إليه، وبكونه مقيدا لا مطلقا (2). ولعل إليه يشير ما ذكره العلامة الحلي - قدس سره - في شرح التجريد حيث قال في تعليل استحالة اتصاف الذات تعالى بالصفات الزائدة: " لأن وجوب
(1) گوهر مراد: ص 172. (2) أصول فلسفه: ج 5 ص 180، وعبارته باللغة الفارسية هكذا: چون احتياج وقيد از خدا منفى است ناچار هر صفت كمالى كه دارد عين ذاتش خواهد بود نه خارج از أو زيرا كمال خارج از ذات بي احتياج وقيد صورت نمى گيرد. 76 الوجود يقتضي الاستغناء عن كل شئ فلا يفتقر في كونه قادرا إلى صفة القدرة ولا في كونه عالما إلى صفة العلم ولا غير ذلك من المعاني والأحوال " (1). ثم إنه لا استيحاش في صدق المفاهيم المختلفة على مصداق واحد بسيط من جميع الجهات فإن هذا الصدق لا يختص بهذا المورد، بل عندنا أمور لا تكثر فيها، بل هي بسيطة، ومع ذلك يطلق عليها المفاهيم المختلفة كإطلاق المعلوم والمقدور والموجود على المتصورات الذهنية، مع أنه لا تكثر فيها، بل هي بذاتها معلومة ومقدورة وموجودة لنا، فيمكن أن يكون البسيط مصداقا للمفاهيم المختلفة فذاته تعالى من حيث أنه وجود، موجود، ومن حيث أنه مبدأ للانكشاف عليه، علم، ولما كان مبدأ الانكشاف عين ذاته، فهو عالم بذاته، وكذلك الحال في القدرة وغيرها من الصفات الذاتية الثبوتية. روى هشام بن الحكم أن الزنديق سأل أبا عبد الله - عليه السلام - أتقول: إنه سميع بصير فقال أبو عبد الله - عليه السلام -: هو سميع بصير، سميع بغير جارحة وبصير بغير آلة، بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسه، وليس قولي: إنه يسمع بنفسه أنه شئ والنفس شئ آخر، ولكنني أردت عبارة عن نفسي إذ كنت مسؤولا وإفهاما لك إذ كنت سائلا فأقول: يسمع بكله لا أن كله له بعض ولكني أردت إفهامك والتعبير عن نفسي وليس مرجعي في ذلك إلا إلى أنه السميع البصير العالم الخبير بلا اختلاف الذات ولا اختلاف معنى (2). وعن الإمام الكاظم - عليه السلام - علم الله لا يوصف منه بأين، ولا يوصف العلم من الله بكيف، ولا يفرد العلم من الله ولا يبان الله منه وليس بين الله وبين علمه حد (3).
(1) شرح التجريد: ص 182. (2) بحار الأنوار: ج 4 ص 69. (3) توحيد الصدوق: 138. 77 وأما الصفات الثبوتية الإضافية كالخالقية والرازقية والتقدم والعلية فهي ترجع في حقيقتها إلى صفة واحدة حقيقية وهي القيومية لمخلوقاته وهي صفة واحدة تنتزع منها عدة صفات باعتبار اختلاف الآثار والملاحظات (2).
(1) جهان بيني: ص 92 - 93. 78 كان شئ آخر أم لا، وهو قادر في نفسه سواء كان شئ آخر أم لا وهكذا، وهذه الصفات هي الصفات الحقيقية الثبوتية التي عرفت عينيتها مع الذات، والإضافية المحضة هي التي يكون مفهومها مفهوما إضافيا ويتوقف انتزاعها على وجود شئ آخر مضايف، وراء الذات كالرازقية والخالقية والتقدم والعلية والجواد، لتقومها بالطرفين من الخالق والمخلوق والرازق والمرزوق وهكذا البواقي. فهذه الصفات معان اعتبارية انتزاعية لا حقايق عينية، إذ ليس في الخارج إلا وجود الواجب وتعلق وجود المخلوق المحتاج في وجوده وبقائه واستكماله إليه، وهو الذي عبر عنه المصنف بالقيومية لمخلوقاته، كما عبر عنه صدر المتألهين بالإضافة الواحدة المتأخرة عن الذات وعبر عنه المحقق اللاهيجي بالمبدئية حيث قال: " فكما أن ذاته تعالى علم باعتبار، وقدرة باعتبار، وإرادة باعتبار، كذلك تكون مبدئيته للأشياء خالقية باعتبار، ورازقية باعتبار، ورحيمية باعتبار، ورحمانية باعتبار، إلى غير ذلك من سائر الإضافات ولا اختلاف إلا بحسب الاعتبار، فجميع الإضافات والاعتبارات ينتهي إلى المبدئية المذكورة (1). ثم إن المراد من القيومية هو التقويم الوجودي، لا مبالغة القيام الوجودي فإن الثاني من صفات الذات ومرادف مع وجوب وجوده والتقويم الوجودي كما أوضحه العلامة الطباطبائي - قدس سره - في تعليقته على الأسفار هو كونه بحيث يقوم به غيره من وجود أو حيثية وجودية، فإن الخلق والرزق والحياة والبدء والعود والعزة والهداية إلى غير ذلك حيثيات وجودية في موضوعاتها من الوجودات الإمكانية، وهي جميعا قائمة به تعالى مفاضة من عنده (2). ثم إن الظاهر من كلام المصنف " فهي ترجع في حقيقتها إلى صفة واحدة حقيقية وهي القيومية لمخلوقاته وهي صفة واحدة تنتزع منها عدة صفات.
(1) راجع گوهر مراد: ص 177 وغير ذلك من الكتب. (2) الاسفار: ج 6 ص 120. 79 وأما الصفات السلبية التي تسمى بصفات " الجلال " فهي ترجع جميعها إلى سلب واحد وهو سلب الإمكان عنه، فإن سلب الإمكان لازمه، بل معناه سلب الجسمية والصورة والحركة والسكون والثقل والخفة وما إلى ذلك، بل سلب كل نقص (3). ثم إن مرجع سلب الإمكان في الحقيقة إلى وجوب الوجود، ووجوب الوجود من الصفات
(1) راجع گوهر مراد للمحقق اللاهيجي: ص 177 وغيره. 80 لزم الخلف في وجوب وجوده، فالواجب مقتض لسلب الإمكان عنه وهذا السلب الوحيد مساوق لجميع سلوب النقائص عنه، لأن كل نقص من ناحية الإمكان لا الوجوب، فإذا لم يكن للإمكان فيه تعالى سبيل في أي جهة من الجهات فكل نقص مسلوب عنه تعالى بسلب الإمكان عنه، فكماله الوجودي الذي لا يكون له نهاية وحد يصحح سلب جميع النقائص عنه تعالى (1). ثم إن سلب الجسمية والصورة والحركة والسكون والثقل والخفة ونحوها بسلب الإمكان عنه واضح. لأن هذه المذكورات من خواص التركيب وعوارضه، إذ المادة والصورة والجنس والفصل لا تكون بدون التركيب، كما أن الحركة والسكون والثقل والخفة من أحوال المحدود والجسم وعوارضه، وحيث عرفت أن الواجب تعالى غير محدود بقيد وحد وشئ من الأشياء، وغير محتاج إلى شئ، بل هو صرف الوجود والكمال والغنى، فلا يكون مركبا من الأجزاء الخارجية المعبر عنها بالمادة والصورة، ولا من الأجزاء الذهنية المعبر عنها بالجنس والفصل، وإلا لزم الخلف في صرفيته ووجوبه، ولزم الحاجة إلى الأجزاء، ولزم توقف الواجب في وجوده على أجزائه ضرورة تقدم الجزء على الكل في الوجود، وهو مع وجوب وجوده وضرورته له محال. فهذه الصفات أمور لا تمكن إلا في المهيات الممكنة فإذا سلب الإمكان عنه تعالى سلبت هذه الصفات عنه تعالى بالضرورة، إما لأن هذه الأمور من لوازم بعض أصناف المهيات الممكنة بداهة انتفاء الأخص بانتفاء الأعم، أو لأن كل نقص من النقائص المذكورة عين المهيات الإمكانية، فطبيعي الممكن متحد مع هذه النقائص فإذا تعلق السلب به كان معناه سلب جميع أفراده ومنها هذه النواقص لا أنها منتفية بالملازمة كما أشار إليه المصنف بالإضراب حيث
(1) راجع الاسفار: ج 6 ص 122. 81 الثبوتية الكمالية (4)، فترجع الصفات الجلالية " السلبية " آخر الأمر إلى الصفات الكمالية " الثبوتية ". والله تعالى واحد من جميع الجهات لا تكثر في ذاته المقدسة ولا تركيب في حقيقته الواحد الصمد (5).
(1) بداية الحكمة: ص 137 - 138. 82 التي هي عين الذات، وقوله: " الله الصمد " يصفه بانتهاء كل شئ إليه وهو من صفات الفعل، - إذ الصمد هو السيد المصمود إليه، أي المقصود في الحوائج على الإطلاق - والآيتان الكريمتان الاخريان أعني: " لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " تنفيان عنه تعالى أن يلد شيئا بتجزيه في نفسه، فينفصل عنه شئ من سنخه بأي معنى أريد من الانفصال والاشتقاق، كما يقول به النصارى في المسيح - عليه السلام -: إنه ابن الله، وكما يقول الوثنية في بعض آلهتهم: إنهم أبناء الله سبحانه، وتنفيان عنه أن يكون متولدا من شئ آخر ومشتقا منه بأي معنى أريد من الاشتقاق كما يقول الوثنية. ففي آلهتهم من هو إله أبو إله، ومن هو آلهة أم إله، ومن هو إله ابن إله، وتنفيان، أن يكون له كفوء يعدله في ذاته أو في فعله وهو الايجاد والتدبير (1). ولقد زاد أيضا بأن الذي بينه القرآن الكريم من معنى التوحيد أول خطوة خطيت في تعليم هذه الحقيقة من المعرفة، غير أن أهل التفسير والمتعاطين لعلوم القرآن من الصحابة والتابعين ثم الذين يلونهم، أهملوا هذا البحث الشريف. فهذه جوامع الحديث وكتب التفسير المأثورة منهم لا ترى فيها أثرا من هذه الحقيقة لا ببيان شارح ولا بسلوك استدلالي، ولم نجد ما يكشف عنها غطاءها إلا ما ورد في كلام الإمام علي بن أبي طالب - عليه أفضل الصلاة والسلام - خاصة، فإن كلامه هو الفاتح لبابها والرافع لسترها وحجابها على أهدى سبيل وأوضح طريق من البرهان، ثم ما وقع في كلام الفلاسفة الإسلاميين بعد الألف الهجري، وقد صرحوا بأنهم استفادوه من كلامه (2). ويشهد لما ذكره ما رواه في " نور الثقلين " عن الكافي عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن عاصم بن
(1) الميزان: ج 20 ص 545. (2) الميزان: ج 6 ص 109. 83 ولا ينقضي العجب من قول من يذهب إلى رجوع الصفات الثبوتية إلى الصفات السلبية لما عز عليه أن يفهم كيف أن صفاته عين ذاته فتخيل أن الصفات الثبوتية ترجع إلى السلب ليطمئن إلى القول بوحدة الذات وعدم تكثرها، فوقع بما هو أسوأ إذ جعل الذات التي هي عين الوجود ومحض الوجود والفاقدة لكل نقص، وجهة إمكان جعلها عين العدم ومحض السلب - أعاذنا الله من شطحات الأوهام وزلات الأقلام - (6).
(1) نور الثقلين: ج 5 ص 706 ح 46. 84 كما لا ينقضي العجب من قول من يذهب إلى أن صفاته الثبوتية زائدة على ذاته فقال بتعدد القدماء ووجود الشركاء الواجب الوجود، أو قال بتركيبه تعالى عن ذلك، قال مولانا أمير المؤمنين وسيد الموحدين عليه السلام: " وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله. " نهج البلاغة، الخطبة الأولى (7).
(1) راجع النهاية: ص 243 - 244 وتعليقتها: ص 438. 85 نفس الموصوف. وأما قوله: " فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه " فهو ظاهر، لأنه لما قرر كون الصفة مغايرة للموصوف لزم أن تكون زائدة على الذات، غير منفكة عنها، فلزم من وصفه بها أن تكون مقارنة لها، وإن كانت تلك المقارنة على وجه لا يستدعي زمانا ولا مكانا. وأما قوله: " ومن قرنه فقد ثناه " فلأن من قرنه بشئ من الصفات فقد اعتبر في مفهومه أمرين: " أحدهما الذات، والآخر الصفة. فكان واجب الوجود عبارة عن شيئين أو أشياء، فكانت فيه كثرة، وحينئذ ينتج هذا التركيب: إن من وصف الله سبحانه فقد ثناه. وأما قوله: " ومن ثناه فقد جزأه " فظاهر. أنه إذا كانت الذات عبارة عن مجموع أمور كانت تلك الأمور أجزاء لتلك الكثرة من حيث أنها تلك الكثرة وهي مبادئ لها، وضم هذه المقدمة إلى نتيجة التركيب الأول ينتج أن من وصف الله سبحانه فقد جزأه. وأما قوله: " ومن جزأه فقد جهله " فلأن كل ذي جزء فهو يفتقر إلى جزء، وجزئه غيره، فكل ذي جزء فهو مفتقر إلى غيره، والمفتقر إلى الغير ممكن فالمتصور في الحقيقة لأمر هو ممكن الوجود لا واجب الوجود بذاته، فيكون إذن جاهلا به. وضم هذه المقدمة إلى نتيجة ما قبلها ينتج أن من وصف الله سبحانه فقد جهله، وحينئذ يتبين المطلوب وهو أن كمال الاخلاص له نفي الصفات عنه، إذ الاخلاص له والجهل به مما لا يجتمعان، وإذا كان الاخلاص منافيا للجهل به الذي هو لازم لإثبات الصفة له، كان إذن منافيا لإثبات الصفة له، لأن معاندة اللازم تستلزم معاندة الملزوم وإذ بطل أن يكون الاخلاص في إثبات الصفة له، تثبت أنه في نفي الصفة عنه، إلى أن قال: وذلك هو التوحيد المطلق والاخلاص المحقق الذي هو نهاية العرفان وغاية سعي العارف من كل حركة حسية وعقلية (1).
(1) شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني: ج 1 ص 123. 86 ثم إن هاهنا سؤالا وهو أن مقتضى كلام الإمام علي بن أبي طالب - عليه السلام - هو أنه تعالى لا يوصف بشئ من الصفات فكيف يجتمع هذا مع توصيفه بالأوصاف المشهورة كالعلم والقدرة والحياة والسمع والبصر وغيرها؟ يمكن الجواب عنه بأن مقتضى الجمع بين قوله المذكور وبين قوله - عليه السلام - في صدر هذه الخطبة في توصيفه تعالى: " الذي ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود ولا وقت معدود ولا اجل محدود " هو أن له صفة غير محدود وحيث أن غير المحدود لا يتكرر ولا يتثنى، فصفته متحدة مع ذاته التي تكون غير محدود، وعليه يرجع إثبات الصفة إلى الصفة المتحدة مع الذات، كما أن النفي يرجع إلى الصفات المحدودة الزائدة على الذات فلا منافاة (1). كما ارتفعت المنافاة بين ذيل تلك الخطبة وتوصيفه تعالى في الكتب الإلهية والسنن القطعية بالأوصاف المشهورة ولابن ميثم هنا جواب آخر أغمضنا عنه وأحلناه إلى مقام آخر فراجع. دفع شبهات إن الماديين ذهبوا إلى مقالة سخيفة وهي إنكار المبدأ المتعال معه أن هذه المقالة لا يساعدها دليل عقلي ولا دليل عقلائي، بل يدلان على خلافها ولا بأس بالإشارة إليها والجواب عنها هنا (2). ولا يخفى عليك أنهم ذهبوا إلى ما ذهبوا، إما فرارا من التكليف فإن الاعتقاد بالمبدأ والمعاد يحدد الحرية الحمقاء، مع أن التحديد الإلهي يوجب
(1) راجع جهان بيني: ص 56. (2) راجع كتاب " فلسفتنا "، وكتاب " آموزش عقائد " وغيره من الكتب. 87 الحرية الحقيقية ولكنهم يطلبون الراحة وعدم المسؤولية وإشباع الأهواء والميول النفسانية، ويزعمون أن الحرية في إطلاق النفس في هذه الأمور. وإما اشمئزازا من عمل بعض الداعين إلى الدين كأرباب الكنيسة في عهد رنسانس، مع أن العمل سيما عن بعض الداعين لا يلزم بطلان الدعوى. وأما من جهة أوهام وشبهات، مع أنهم لو رجعوا فيها إلى علماء الدين لما بقي لهم فيها شبهة، ولكنهم لم يرجعوا عنادا أو غرورا، أو رجعوا إلى من لم يكن أهلا لذلك " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " (1). وكيف كان فمن جملة شبهاتهم: أنهم يقولون كيف يمكن أن نعتقد بما لا يكون قابلا للادراك الحسي، مع أنه لا دليل على حصر الوجود في المحسوس بالادراكات الحسية كالسمع والبصر والشامة والذائقة واللامسة، لوجود أشياء من الماديات فضلا عن المجردات لا تدرك بتلك الادراكات، كبعض الأصوات التي لا تدرك إلا بآثارها، مثل الأمواج فوق الصوتية أو دونها التي لا نقدر على سماعها، والأنوار التي لا تحس إلا بآثارها كالأشعة غير المرئية مما يكون قبل اللون الأحمر ودونه، أو بعد البنفسجي وفوقه، هذا مضافا إلى النفس وأفعالها من الادراك والتصور وصفاتها وأحوالها من الخوف والرجاء والمحبة والعداوة والإرادة والترديد واليقين والظن والحزن والفرح والاقبال والادبار وغير ذلك مما نجدها في أنفسنا، ولا يمكن ادراكها بالادراكات الحسية ولا نعلم بها في غير أنفسنا إلا بآثارها. ومما يشهد على وجود النفس وراء البدن هو إحضار الأرواح وإرسالها وتجريدها والمنافاة الصادقة وغيرها، وبالجملة فالله تعالى حقيقة غير محسوسة بالحواس، سئل مولانا علي بن موسى الرضا - عليهما السلام - " كيف هو وأين
(1) النحل: 43. 88 هو؟ قال: ويلك، إن الذي ذهبت إليه غلط هو أين الأين وكيف الكيف بلا كيف، فلا يعرف بالكيفوفية ولا بأينونية ولا يدرك بحاسة ولا يقاس بشئ فقال السائل الملحد: فإذا أنه لا شئ إذا لم يدرك بحاسة من الحواس. فقال أبو الحسن - عليه السلام -: ويلك لما عجزت حواسك عن ادراكه أنكرت ربوبيته ونحن إذا عجزت حواسنا عن إدراكه أيقنا أنه ربنا بخلاف شئ من الأشياء " (1) ومن جملة شبهاتهم: أنهم يقولون: أن الاعتقاد بالمبدأ ناش عن الوهم لا البرهان، فإن الموحدين لما رأوا بعض الحوادث ولم يعرفوا عللها الطبيعية اعتقدوا بأنها من ناحية الله، ولذا كلما كشفت العلل الطبيعية صار هذا الاعتقاد ضعيفا. مع أنه فاسد، لأن كثيرا من المعتقدين عبر التاريخ لا سيما في عصرنا هذا، من العالمين بأسرار الطبيعة في الجملة، و مع ذلك اعتقدوا بالمبدأ المتعال، وازدادوا في الايمان والاعتقاد بازدياد كشف العلل المذكورة. فالاعتقاد بالمبدأ ليس ناشيا عن الجهل بالأسباب والعوامل، بل ناش عن النظم المشاهد في العالم أو الإمكان الذي لا يشذ عنه شئ مما سوى الله، سواء عرفت الأسباب أو لم تعرف، بل كلما ازدادت المعرفة بها زادتهم ايمانا، ولا وجه لنسبة استناد الايمان إلى الوهم في جميع المعتقدين والموحدين، ولو سلم ذلك في شرذمة من المعتقدين فلا يضر بصحة الاعتقاد بالمبدأ بعد كونه مبتنيا على أصول أصلية عقلية، أو عقلائية في جلهم. ومن جملة شبهاتهم: أنهم يقولون: إن مقتضى كلية أصل العلية هو أن يكون للمبدأ أيضا علة أخرى، مع أن المعتقدين بالمبدأ يجعلونه العلة الأولى وينقضون بقولهم ذلك كلية الأصل المذكور، لتوقف العلية عندهم على المبدأ، ومع عدم
(1) الأصول من الكافي: ج 1 ص 78. 89 كلية الأصل المذكور لا مجال للالتزام بانتهاء العلل والمعلولات إلى الواجب، لجواز توقف العلية على غيره أيضا بعد عدم كلية الأصل المذكور. ولكنهم لم يتأملوا فيما ذكره الموحدون، وإلا لم يقعوا في هذه الشبهة، فإن الموحدين لا يقولون: بأن كل شئ يحتاج إلى علة حتى يلزم ذلك، بل يقولون: إن كل معلول يحتاج إلى علة. ومن المعلوم ان المبدأ الواجب الوجود ليس بمعلول فهو غير مشمول للأصل المذكور، فلا يلزم من القول بكون المبدأ المتعال هو العلة الأولى للأشياء، نقض، للأصل المذكور كما لا يخفى. ومن جملة شبهاتهم: أنهم يقولون: إن ما تنتهي إليه الكشفيات الجديدة في العلم الكيمياوي أن مقدار المادة ووزنها ثابتة ولا يزاد عليه في التبدلات والتحولات ولا ينقص، فلا يوجد شئ من العدم ولا يعدم شئ رأسا بعد وجوده. وعليه فلا حاجة إلى سبب خارجي مع أن الموحدين اعتقدوا بأن الأشياء مخلوقة من العدم. وأجيب عنه: بأن قانون بقاء المادة على فرض صحته (1) أصل علمي وتجربي، فلا يعم بالنسبة إلى غير مورد التجربة من السابق واللاحق، فلا يمكن به حل مسألة فلسفية، وهي أن المادة هل تكون أزلية وأبدية أم لا؟ بل يحتاج فيه إلى العلوم العقلية، هذا مضافا إلى أن ثبات مقدار المادة والطاقة في التحولات والتغييرات لا يستلزم غناءها عن العلة بعد وجود ملاك الحاجة فيها وهو الإمكان وافتقارها الوجودي وهو أمر يدوم بدوامها، فالمادة مخلوقة وباقية بإذنه تعالى فهي محتاجة إليه تعالى في حدوثها وبقائها. هذا مضافا إلى تجدد الحياة والشعور ونحوهما في كل لحظة مع أنها ليست من قبيل المادة والطاقة حتى ينافي ازديادها أو نقصانها مع أصل بقاء المادة والطاقة.
(1) راجع دروس في أصول الدين: ص 33 - 37. 90 ثم إن الخلق باعتقاد الموحدين ليس ناشئا عن العدم، إذ العدم فقد، والفاقد لا يعطي شيئا، بل هو ناش من إيجاده تعالى وهو عين الوجود. ومن جملة شبهاتهم: أنهم يقولون على قاعدة تطور الأنواع وخروج بعضها من بعض: إن كل نوع متولد من نوع آخر، فالإنسان متولد من الحيوان كما تشهد الآثار الحفرية على أنه متولد من القردة، مع أن الإلهيين اعتقدوا بأن الله خلق كل واحد من الأنواع على حدة. وأجيب عنه: بأن فرضية التطور على فرض صحتها في مورد، لا دليل على عمومها وشمولها: لأن التجربة لا تقدر على إثبات القاعدة والقانون من دون ضميمة البراهين والعلوم العقلية، فدعوى تطور كل نوع من نوع آخر بمجرد تجربة تولد نوع من نوع، لا دليل عليها. هذا مضافا إلى أن المكشوف بالآثار الحفرية هو التكامل والتطور في ناحية من النواحي كالأعضاء أو الصفات في نوع، لا تولد نوع من نوع، ولذلك قال العلامة الطباطبائي - قدس سره -: " ولم يعثر هذا الفحص والبحث على غزارته وطول زمانه على فرد نوع كامل متولد من فرد نوع آخر على أن يقف على نفس التولد دون الفرد والفرد وما وجد منها شاهدا على التغيير التدريجي فإنما هو تغيير في نوع واحد بالانتقال من صفة لها إلى صفة أخرى لا يخرج بذلك عن نوعيته والمدعى خلاف ذلك " (1). وقال في موضع آخر: " إن التجارب لم يتناول فردا من أفراد هذه الأنواع تحول إلى فرد من نوع آخر كقردة إلى إنسان، وإنما يتناول بعض هذه الأنواع من حيث خواصها ولوازمها وإعراضها - إلى أن قال -: فالحقيقة التي يشير إليها القرآن الكريم من كون الإنسان نوعا مفصولا عن سائر الأنواع غير معارضة
(1) الميزان: ج 16 ص 272. 91 بشئ علمي " (1). والأضعف منه هو دعوى منافاة قاعدة تطور الأنواع للاعتقاد بالمبدأ المتعال، فإن التطور والتكامل على فرض صحته في الأنواع يكون بنفسه آية لوجود المبدأ المتعال، لأنه يحتوي نظما وانسجاما خاصا لا يمكن أن يتحقق بدون وجود ناظم حكيم ذي شعور. هذا مضافا إلى أن النظام المتطور أيضا من الممكنات التي يستحيل أن تكون موجودة بدون الانتهاء إلى الواجب المتعال، ويشهد له أن كثيرا من المعتقدين بفرضية تطور الأنواع كانوا من المعتقدين بالله تعالى. ومن جملة شبهاتهم: أنهم يقولون: بأن المادة أزلية وأبدية وباصطلاح الموحدين هي واجب الوجود. فلا حاجة إلى سبب وعلة خارجية. وأجيب عن ذلك: أولا: بأن الدليل التجربي الذي لا يحكي إلا عن موارد التجربة لا يقدر على حل المسألة الفلسفية وهي أن المادة هل تكون أزلية وأبدية أم لا، لأن السابق واللاحق خارجان عن دائرة التجربة وحيطتها. وثانيا: أن الثابت في العلوم الطبيعية هو إمكان تبديل العناصر الأولية البسيطة باصطلاح القوم بعضها إلى بعض كتحويل اليورانيوم إلى عنصر الراديوم ومنه إلى الرصاص، أو تبديل المادة إلى الطاقة والطاقة إلى المادة، وثبت أيضا أن من الممكن أن يتحول بعض أجزاء الذرة إلى جزء آخر كتحويل بروتون أثناء عملية الذرة إلى نيوترون وبالعكس (2) وهو أحسن شاهد على أن العناصر، بل المادة والطاقة بما هي عناصر ومادة وطاقة لا تكون ذاتية، وإلا فلم تتخلف. فهذه بالنسبة إلى المادة عوارض وحيث أن لكل صفة عارضة، علة
(1) الميزان: ج 4 ص 154. (2) راجع فلسفتنا: ص 320. 92 خارجية، فلهذه العناصر والمادة والطاقة علة خارجية، فبان أن ذات المادة في كونها عناصر أو مادة أو طاقة تحتاج إلى سبب خارجي، فحديث غنى المادة عن العلة كذب محض (1). وثالثا: أن خواص واجب الوجود من كونه عين الفعلية، فلا سبيل للقوة والاستعداد والإمكان إليه، ومن كونه بسيطا مطلقا فلا مجال لتوهم الأجزاء الخارجية والذهنية كالجنس والفصل له، ومن كونه غير مشوب بالعدم فلذا لا يمكن فرض عدمه لا في السابق ولا في اللاحق، وغير ذلك من خواصه لا توجد في المادة حتى تكون باصطلاح الموحدين واجب الوجود، فإن المادة إمكانات لا فعليات. ومن شواهده هو التبدل والتحول الدائم فيها فهي قبل التحول إلى شئ تكون بالنسبة إليه إمكانا استعداديا، ولا تكون هي بالفعل، وإنما صارت هي بعد اجتماع الشرائط والأسباب، وحيث إن القوة هي فقدان الفعلية فلا تجتمع قوة الشئ مع فعليته في آن واحد، فالمادة التي تكون قابلة للتحول لا تخلو عن القوة والاستعداد في حال من الأحوال. وهكذا أن المادة مركبة، سواء كانت العناصر الأولية أربعة كما عن الأقدمين من اليونانيين: الماء والهواء والتراب والنار، أو سبعة بإضافة: الكبريت والزئبق والملح كما عن بعض آخر غيرهم، أو أزيد إلى أن بلغت إلى اثنين وتسعين ذرة - أتم - كما انتهت إليه الفيزياء الحديثة في اليورانيوم وهو أثقل العناصر المستكشفة إلى الآن، فرقمه الذري (92) بمعنى أن نواته المركزية تشتمل على (92) وحدة، من وحدات الشحنة الموجبة، ويحيط بها ما يماثل هذا العدد من الألكترونات، أي من وحدات الشحنة السالبة (2). هذا مضافا إلى أن نفس الذرة - أتم - أيضا مركب، لأنها لا تخلو عن الجهات
(1) راجع فلسفتنا: ص 100. (2) راجع فلسفتنا: ص 317 - 319. 93 الست، وما لا يخلو عن الجهات الست، ذو أبعاد ومركب، وإن لم يمكن تجزئتها بالآلات والأدوات المتعارفة، وتسميتها بالجزء البسيط الذي لا يتجزأ، أو الجوهر الفرد، مسامحة في الحقيقة ولعلها باعتبار الأدوات الميسورة. فالمادة أيما صغرت لا تخلو عن التركيب مطلقا، ومن المعلوم أن كل مركب محتاج إلى أجزائه وإلى مؤلف تلك الأجزاء، والواجب غني غن كل حاجة. على أن كل جزء من أجزاء المركب مقدم عليه في الوجود، إذ المركب يتوقف على أجزائه في الوجود توقف الكل عليها، فالمركب يوجد بعد وجود أجزائه وليس له قبل وجود تلك الأجزاء وجود، مع أن الواجب تعالى ليس بمركب ولا مسبوق بالعدم، كما أنه ليس بمحدود. وبالجملة أوصاف المادة تتغاير مع أوصاف الواجب فلا تليق بأن تسمى واجب الوجود. ورابعا: بأن المادة إذا كانت استعدادا لقبول التطورات وليست بفعليات، فسبب صيرورة القوة إلى الفعلية: إما عدم - وهو كما ترى - إذ العدم الذي هو لا شئ لا يصلح للتأثير. وإما هو نفسها، وهو أيضا فاسد، لأنها في حال كونها قوة فاقدة الفعليات، إذ يستحيل أن تجتمع قوة الأشياء مع فعليتها في حال واحد، فانحصر الأمر إلى أن السبب هو غير المادة وهو الله تعالى. وخامسا: أن ملاك الحاجة إلى العلة موجود في المادة أيضا، فإنها ممكنة الزوال، إذ لا يلزم من فرض عدمها محال، وكل ما لا يلزم من فرض عدمه محال فهو ممكن الزوال، ومن المعلوم أن الشئ الذي يمكن زواله ليس بواجب، بل هو ممكن من الممكنات التي تحتاج في وجودها إلى الواجب تعالى. " ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شئ فاعبدوه وهو على كل شئ وكيل " (1).
(1) الانعام: 102. 94 ومما ذكر يظهر أيضا سخافة ما ذهبت إليه الماركسية، فإن فرضياتهم مبتنية على أصول مخدوشة مر ضعف بعضها، كأزلية المادة. ولقد أفاد وأجاد في بيان وهن تلك الأصول، الشهيد الصدر - قدس سره - في فلسفتنا (2)، فلا دليل للماديين إلا الوهم والخرص، كما نص عليه في قوله عز وجل: " وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون " (3).
(1) راجع أيضا إلى كتاب: نقدي فشرده بر أصول ماركسيسم، وكتاب: پاسدارى از سنگرهاى ايدئولوژيك، وغير ذلك. (2) الجاثية: 24. 95 4 - عقيدتنا بالعدل ونعتقد أن من صفاته تعالى الثبوتية الكمالية أنه عادل غير ظالم، فلا يجور في قضائه، ولا يحيف في حكمه، يثيب المطيعين، وله أن يجازي العاصين ولا يكلف عباده ما لا يطيقون، ولا يعاقبهم زيادة على ما يستحقون، ونعتقد انه سبحانه لا يترك الحسن عند عدم المزاحمة، ولا يفعل القبيح، لأنه تعالى قادر على فعل الحسن وترك القبيح، مع فرض علمه بحسن الحسن، وقبح القبيح، وغناه عن ترك الحسن وعن فعل القبيح، فلا الحسن يتضرر بفعله حتى يحتاج إلى تركه، ولا القبيح يفتقر إليه حتى يفعله. وهو مع كل ذلك حكيم، لا بد أن يكون فعله مطابقا للحكمة، وعلى حسب النظام الأكمل، فلو كان يفعل الظلم والقبح - تعالى عن ذلك - فإن الأمر في ذلك لا يخلو عن أربع صور: 1 - أن يكون جاهلا بالأمر فلا يدري أنه قبيح. 2 - أن يكون عالما به، ولكنه مجبور على فعله وعاجز عن تركه. 3 - أن يكون عالما به وغير مجبور عليه، ولكنه محتاج إلى فعله.
96 4 - أن يكون عالما به وغير مجبور عليه، ولا يحتاج إليه، فينحصر في أن يكون فعله له تشهيا وعبثا ولهوا، وكل هذه الصور محال على الله تعالى، وتستلزم النقص فيه، وهو محض الكمال فيجب أن نحكم أنه منزه عن الظلم وفعل ما هو قبيح (1).
(1) شرح الباب الحادي عشر: مبحث العدل. ص 28. 97 تعالى بفعله حسن وجميل، وتنزيهه عن الظلم والقبيح، وبالجملة فكما أن التوحيد كمال الواجب في ذاته وصفاته، كذلك العدل كمال الواجب في أفعاله (1). ومما ذكر في العدل من أنه صفة فعله لا صفة ذاته تعالى، يظهر أن الحكمة بناء على أنها بمعنى إتقان الفعل واستحكامه، أيضا من صفات الفعل، باعتبار اشتماله على المصلحة، فهو تعالى حكيم في أفعاله. نعم أنها من صفات الذات بناء على أن المراد منها هو العلم والمعرفة بالأشياء ومواضعها اللائقة بها (2). الثاني: في استحقاق المثوبة والعقاب: ولا يخفى أن الظاهر من المصنف هو أن الإثابة على الطاعات مقتضى العدل، والإخلال بها ظلم، بخلاف مجازاة العاصين فإنه عبر فيه بقوله: وله أن يجازي العاصين، وذلك لما هو المسلم عندهم من أن ترك عقاب العاصي جائز، لأنه من حق المعاقب والمجازي. وفيه أولا: أن الإثابة على الطاعات من باب التفضل دون الاستحقاق، إذ العبد وعمله كان لمولاه، فلا يملك شيئا حتى يستحق به الثواب عليه تعالى، هذا مضافا إلى أن حق المولى على عبده أن ينقاد له في أوامره ونواهيه، فلا معنى لاستحقاق العبد عليه عوضا. اللهم إلا أن يقال: بأن الله سبحانه وتعالى، اعتبر من باب الفضل عمل العباد ملكا لهم، ثم بعد فرض مالكيتهم لعملهم، جعل ما يثيبهم في مقابل عملهم، أجرا له، والقرآن ملئ من تعبير الأجر على ما أعطاه الله تعالى في مقابل الأعمال الصالحة، وقد قال الله تعالى: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة " (3)، فبعد التفضل المذكور واعتبار مالكيتهم يستحقون الثواب بالإطاعة، وبقية الكلام في محله (4).
(1) سرمايه ايمان: ص 57 - 59. (2) راجع أنوار الهدى: ص 112 - شرح التجريد: ص 185. (3) التوبة: 111. (4) راجع تعليقة المحقق الأصفهاني على الكفاية: ج 1 ص 331. 98 وثانيا: أن ترك عقاب العاصين في الجملة لا كلام فيه، لأنه من باب الفضل والعفو، وأما بالجملة فلا، لاستلزامه لغوية التشريع والتقنين، وترتيب الجزاء على العمل (1)، ولتضييع حقوق الناس بعضهم على بعض، فتأمل. الثالث: في معنى العدل: ولا يخفى عليك أن العدل في الأمور - كما في المصباح المنير - هو القصد فيها وهو خلاف الجور، ويقرب منه معناه المعروف من أن العدل هو إعطاء كل ذي حق حقه، وظاهره هو اختصاصه بما إذا كان في البين حق، والا فلا مورد له، فإعطاء الفضل والنعم، مع تفضيل بعض على بعض، لا ينافي العدالة ولا يكون ظلما، إذ الذين أنعم عليهم لا حق لهم في التسوية حتى يكون التبعيض بينهم منافيا للعدالة، نعم لا بد أن يكون التفضيل والتبعيض لحكمة ومصلحة، وهو أمر آخر، فإذا كان ذلك لمصلحة فلا ينافي الحكمة أيضا، فالتسوية بين الناس من دون استحقاق التسوية ليست بعدل، كما أن التسوية في خلقة الموجودات، من دون اشتمالها على المصلحة ليست بحكمة، وبالجملة فالعدل هو إعطاء كل ذي حق حقه، والحكمة هو وضع الشئ في محله، والنسبة بينهما هو العموم والخصوص مطلقا، فإن الحكمة بالمعنى المذكور صادقة على كل مورد من موارد صدق العدل بخلاف العكس. إذ الموارد التي ليس فيها حق في البين ومع ذلك تشتمل على المصلحة، تكون من موارد صدق الحكمة دون صدق العدل. نعم قد يستعمل العدل بمعنى الحكمة فيكون مرادفا لها ولعل منه قوله مولانا أمير المؤمنين - عليه السلام -: " ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه " (2). الرابع: في مرجع العدل والحكمة ولا يذهب عليك أن مرجع العدل والحكمة
(1) راجع تفسير الميزان: ج 15 ص 356. (2) نهج البلاغة لفيض الاسلام، خطبة / 207. 99 إلى أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يترك الحسن. إذ تقبيح الحق وعدم إعطاء كل ذي حق حقه ظلم وقبيح، كما أن وضع الشئ في غير محله عبث وقبيح، فمن لا يفعل القبيح ولا يترك الحسن، يعدل في حقوق الناس، ويكون حكيما في جميع أفعاله. ثم الدليل على أنه لا يفعل القبيح ولا يترك الحسن، هو ما أشار إليه المصنف - قدس سره - من أنه تعالى محض الكمال وتمامه، وحاصله أن القبيح لا يناسبه ولا يليق به، وقاعدة السنخية بين العلة والمعلول، تقتضي أن لا يصدر منه تعالى إلا ما يناسب ذاته الكامل والجميل، وإلا لزم الخلف في كونه محض الكمال وهو محال، وأيضا تحقق القبيح والظلم من دون داع وعلة محال، لأن الداعي إلى فعل القبيح، إما الحاجة أو الإجبار عليه والعجز عن تركه أو الجهل، بالقبح، أو العبث، وكلها منتفية في ذاته تعالى، بعد وضوح كونه كمالا مطلقا، وغنيا عن كل شئ، وقادرا على كل شئ، وغير مريد إلا المصلحة، فتحقق القبيح بعد عدم وجود الداعي والعلة يرجع إلى وجود المعلول بدون العلة، وهو واضح الاستحالة. وعليه فلا حاجة في إثبات العدل والحكمة إلى قاعدة التحسين والتقبيح وإن كانت تلك القاعدة صحيحة محكمة، ويترتب عليها المسائل المهمة الكلامية: كوجوب معرفة المنعم وشكره، ولزوم البعثة، وحسن الهداية وقبح الإضلال. والمسائل الأصولية: كقبح العقاب بلا بيان، وقبح عقاب القاصرين، وقبح تكليف ما لا يطاق وغير ذلك. ولكن ذهب أكثر علماء الإمامية والمعتزلة إلى الاستدلال بتلك القاعدة لإثبات العدل، وسيأتي - إن شاء الله - تقريبها وما قيل أو يقال حولها. وكيف كان فالاستدلال بما أشار إليه المصنف أولى من الاستدلال بتلك القاعدة، للاختصار، ولكونه أبعد عن الإشكال والنقض والإبرام، هذا مضافا
100 غير أن بعض المسلمين (2) جوز عليه تعالى فعل القبيح تقدست أسماؤه فجوز أن يعاقب المطيعين، ويدخل الجنة العاصين بل الكافرين،
(1) كتاب عدل إلهي: ص 10. (2) شرح الأسماء الحسنى: ص 107. 101 التحسين والتقبيح العقليين فإن الطائفة الأولى ذهبوا إلى نفي التحسين والتقبيح العقليين، وتبعوا في تلك المسألة وغيرها عن شيخهم علي بن إسماعيل الأشعري، ومن ثم سموا بالأشاعرة، وينتهي نسب علي بن إسماعيل إلى أبي موسى الأشعري، وكان علي بن إسماعيل من تلامذة أبي علي الجبائي المعتزلي، وتوفي ببغداد حوالي سنة 324 وقيل غيرها (1). ولكن الإمامية والمعتزلة ذهبوا إلى إثبات تلك القاعدة، وكيف كان حيث إن هذه المسألة تكون من أهم المسائل الكلامية ويبتني عليها المسائل الكلامية وغيرها فالأولى هو ملاحظة المسألة في كلمات الأعاظم والأكابر من القدماء والمتأخرين، حتى يتضح مراد المثبت والنافي وأدلتهم. كلمات الأكابر حول مسألة التحسين والتقبيح ألف: قال الشيخ المفيد - قدس سره -: أقول: إن الله عز وجل عدل كريم، خلق الخلق لعبادته وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته وعمهم بهدايته، بدأهم بالنعم وتفضل عليهم بالإحسان، لم يكلف أحدا إلا دون الطاقة ولم يأمره إلا بما جعل له عليه الاستطاعة، لا عبث في صنعه، ولا تفاوت في خلقه، ولا قبيح في فعله، جل عن مشاركة عباده في الأفعال، وتعالى عن اضطرارهم إلى الأعمال، لا يعذب أحدا إلا على ذنب فعله، ولا يلوم عبدا إلى علي قبيح صنعه، لا يظلم مثقال ذرة، فإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما، وعلى هذا القول جمهور أهل الإمامة وبه تواترت الآثار عن آل محمد صلى الله عليه وآله.
(1) إحقاق الحق: ج 1 ص 78 وص 118. 102 وإليه يذهب المعتزلة بأسرها إلا ضرارا منها وأتباعه، وهو قول كثير من المرجئة (1)، وجماعة من الزيدية والمحكمة (2)، ونفر من أصحاب الحديث، وخالف فيه جمهور العامة وبقايا ممن عددناه، وزعموا أن الله تعالى خلق أكثر خلقه لمعصيته وخص بعض عباده بعبادته، ولم يعمهم بنعمه، وكلف أكثرهم ما لا يطيقون من طاعته وخلق أفعال جميع بريته وعذب العصاة على ما فعله فيهم من معصيته، وأمر بما لم يرد ونهى عما أراد وقضى بظلم العباد وأحب الفساد وكره من أكثر عباده الرشاد، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا (3). ب: قال المحقق نصير الدين الطوسي - قدس سره - في قواعد العقائد، في مقام تبيين ما ذهب إليه العدلية من الحسن والقبح العقليين: " فصل - الأفعال تنقسم إلى حسن وقبيح، وللحسن والقبح معان مختلفة: فمنها أن يوصف الفعل الملايم أو الشئ الملايم بالحسن وغير الملايم بالقبح، ومنها أن يوصف الفعل أو الشئ الكامل بالحسن والناقص بالقبح، وليس المراد هنا هذين المعنيين. بل المراد بالحسن في الأفعال ما لا يستحق فاعله بسببه ذما أو عقابا، وبالقبح ما يستحقها بسببه. وعند أهل السنة ليس شئ من الأفعال عند العقل بحسن ولا بقبيح، وإنما يكون حسنا أو قبيحا بحكم الشرع فقط. وعند المعتزلة أن بديهة العقل تحكم
(1) الذين يعتقدون بأن مع الإيمان لا تضر المعصية، وسموا بالمرجئة لاعتقادهم بأن الله أرجى تعذيبهم إي اخره عنهم وبعده أو لاعتقادهم بأن أهل القبلة كلهم مؤمنون بإقرارهم الظاهر بالايمان، مع رجاء المغفرة لجميعهم (راجع كتاب مولى علي الرازي ص 45 المطبوع في أواخر كتاب منتهى المقال وكتاب فرق الشيعة، ص 27 طبع النجف). (2) وفي الملل والنحل للشهرستاني: هم الذين خرجوا على أمير المؤمنين علي - عليه السلام -. ج 1 ص 115. (3) أوائل المقالات: ص 24 - 25. 103 بحسن بعض الأفعال، كالصدق النافع والعدل، وقبح بعضها كالظلم والكذب الضار، والشرع أيضا يحكم بهما في بعض الأفعال، والحسن العقلي ما لا يستحق فاعل الفعل الموصوف به الذم، والقبيح العقلي ما يستحق به الذم، والحسن الشرعي ما لا يستحق به العقاب، والقبيح ما يستحق به، وبإزاء القبح، الوجوب، وهو ما يستحق تارك الفعل الموصوف به الذم والعقاب، ويقولون: إن الله تعالى لا يخل بالواجب العقلي، ولا يفعل القبيح العقلي البتة، وإنما يخل بالواجب ويرتكب القبيح جاهل أو محتاج، واحتج عليهم أهل السنة بأن الفعل القبيح كالكذب مثلا، قد يزول عند اشتماله على مصلحة كلية عامة، والأحكام البديهية ككون الكل أعظم من الجزء لا يمكن أن يزول بسبب أصلا " (1). ج: قال العلامة الحلي - قدس سره - في شرحه عليها، المسمى بكشف الفوائد: " فعند الأشاعرة أنه لا حسن ولا قبح عند العقل، بل الحسن ما أسقط الشارع العقاب عليه، والقبيح ما علق الشارع العقاب بفعله، وليس للفعل صفة باعتبارها يكون حسنا أو قبيحا، وإنما الحسن والقبيح بجعل الشارع، فكل ما أمر به فهو حسن، وكل ما نهى عنه فهو قبيح. وقالت المعتزلة: إن من الأشياء ما هو حسن في نفسه، لا باعتبار حكم الشارع، ومنه ما هو قبيح في نفسه لا بحكم الشارع، والفعل الحسن يشتمل على صفة تقتضي حسنه، وكذا القبيح، وبعضهم عللهما بذوات الأفعال لا بصفاتها، وجعلوا الشرع كاشفا عما خفي منها، لا سببا فيهما، فمن الأشياء ما يعلم بضرورة العقل حسنه أو قبحه، كحسن الصدق النافع، وقبح الكذب الضار، وحسن الاحسان وقبح الظلم، ومنها ما يعلم حسنه وقبحه عقلا بالنظر والاستدلال،
(1) كشف الفوائد في شرح قواعد العقائد: ص 64. 104 كقبح الصدق الضار، وحسن الكذب النافع، ومنها ما لا يستقل العقل به فيحتاج إلى الشرع ليكشف عنه كحسن الشرايع وقبح تركها، والأولان حسنهما وقبحهما عقلي، والأخير شرعي، بمعني أنه كاشف. والحسن العقلي ما لا يستحق فاعل الفعل الموصوف به ذما، ويدخل تحته الواجب العقلي، والمندوب، والمباح، والمكروه، والقبيح العقلي ما يستحق فاعله به الذم وهو الحرام لا غير، والحسن الشرعي ما لا يستحق به العقاب، والقبيح ما يستحق به، وبإزاء القبح الوجوب وهو ما يستحق تارك الفعل الموصوف به الذم والعقاب، فالأول عقلي والأخير شرعي، واحتجوا بأن الضرورة قاضية بقبح الظلم وحسن العدل، ولأنهما لو كانا شرعيين، لجاز إظهار المعجزة على يد الكذاب، فينتفي الفرق بين النبي والمتنبي، ولأنهما لو كانا شرعيين لما قبح من الله شئ فجاز الخلف في وعده ووعيده، وانتفت فائدة التكليف، ولأنهما لو كانا شرعيين لم تجب المعرفة ولا النظر عقلا، فيلزم إفحام الأنبياء، قالوا: ويمتنع من الله تعالى أن يفعل قبيحا أو يخل بواجب، لأن حكمته تنافي ذلك فإن فاعل القبيح والمخل بالواجب، إما أن يفعل ذلك مع علمه أو لا، والثاني جهل، والله تعالى منزه عنه، والأول يلزمه منه إما الحاجة أو السفه، وهما منتفيان عنه تعالى. اعترضت الأشاعرة بأن القبيح لو كان عقليا، لما اختلف حكمه، ولما جاز زواله، والتالي باطل فالمقدم مثله، بيان الشرطية: إن الأحكام الضرورية لا يمكن تغيرها، وأن كون الكل أعظم من الجزء لا يمكن زوال الحكم به بسبب أصلا، وبيان انتفاء التالي، أن الكذب قد يستحسن إذا اشتمل على مصلحة عامة، ولو كان قبحه بديهيا لما زال. والجواب المنع من زواله فإن هذا الكذب حسن، لا باعتبار كونه كذبا، بل باعتبار اشتماله على المصلحة، وقبحه من حيث هو كذب لا يزول. ويتعين ارتكاب الحسن الكثير، وإن اشتمل على قبح يسير، كما أن من توسط أرضا
105 مغصوبة يجب عليه الخروج عنها، وإن كان غصبا، لاشتماله على أقل الضررين - إلى أن حكى جواب الحكماء عن ذلك، وقال: - قال الحكماء: للنفس الناطقة قوة نظرية، وهي تعقل ما لا يكون من أفعالنا واختيارنا، وقوة عملية، وهي تعقل ما يكون من أفعالنا واختيارنا، والعقل النظري الذي يحكم بالبديهيات من كون الكل أعظم من الجزء، لا يحكم بحسن شئ من الأفعال ولا بقبحه، وإنما يحكم بذلك العقل العملي الذي يدبر مصالح نوع الإنسان وأشخاصه، ولذلك ربما يحكم بحسن فعل وقبحه بحسب مصلحتين، كما يقولون في الكذب المشتمل على المصحلة العامة. لا إذا خلا عنها، ويسمون ما يقضيه العقل العملي من الأحكام المذكورة، إذا لم يكن مذكورا في شريعة من الشرايع بأحكام الشرايع غير المكتوبة وهي الأحكام الثابتة في كل الشرايع، كالحكم بأن الانصاف والاحسان حسن، ويسمون ما ينطق به شريعة من الشرايع - وهي الأحكام المختصة بشريعة دون أخرى - بأحكام الشرايع المكتوبة " (1). د: قال في التجريد: " وهما عقليان، للعلم بحسن الإحسان وقبح الظلم، من غير شرع، ولانتفائهما مطلقا لو ثبتا شرعا، ولجاز التعاكس، قال الشارح العلامة - قدس سره - في توضيحه: وتقرير الأول بأنهما لو ثبتا شرعا لم يثبتا لا شرعا ولا عقلا، والتالي باطل إجماعا، فالمقدم مثله. بيان الشرطية: إنه لو لم نعلم حسن الأشياء وقبحها عقلا، لم نحكم بقبح الكذب، فجاز وقوعه من الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا، فإذا أخبرنا في شئ أنه قبيح لم نجزم بقبحه، وإذا أخبرنا في شئ أنه حسن لم نجزم بحسنه، لتجويز الكذب، وتقرير الثاني بأنه يجوز أن يكون أمم عظيمة يعتقدون حسن مدح من أساء إليهم، وذم من أحسن إليهم، كما حصل لنا اعتقاد عكس ذلك " (2).
(1) كشف الفوائد في شرح قواعد العقائد: ص 64 - 65. (2) شرح التجريد: ص 186. 106 ويستفاد من كلماتهم أمور: 1 - إن محل النزاع في الحسن والقبح العقليين بين العدلية والأشاعرة وغيرهم من أهل الخلاف هو حكم العقل باستحقاق فاعل العدل للمدح، وباستحقاق فاعل الظلم للذم، كما صرح به الخواجة نصير الدين الطوسي، والعلامة الحلي - قدس سرهما -، فالعدلية والمعتزلة أثبتوه، بخلاف الأشاعرة وأما حسن الملائم وقبح المنافر، أو حسن الكامل وقبح الناقص، من معاني الحسن والقبح، فلا خلاف فيه، بل كلهم اتفقوا على حكم العقل بهما، ومما ذكر يظهر ما في دلائل الصدق، من أن هذا التفصيل مما أحدثه المتأخرون من الأشاعرة تقليلا للشناعة (1)، لأن عبارة المحقق الطوسي والعلامة كافية لإثبات التفصيل المذكور. 2 - ذهب الإمامية والمعتزلة على ما في كشف الفوائد، إلى أن حكم العقل في ذلك بديهي في بعض الأفعال كحسن الصدق النافع، والإحسان والعدل، وقبح الكذب الضار والإساءة والظلم، ونظري في بعض آخر كقبح الصدق الضار، أو حسن الكذب النافع، كما أنه لا حكم له في قسم ثالث من الأفعال كالعباديات والمخترعات الشرعية، بل يحتاج في تشخيص حسنها أو قبحها إلى الشرع الكاشف عنهما، فدعوى الحسن والقبح العقليين بلا واسطة الشرع في بعض الأفعال لا جميعها. 3 - استدل الإمامية والمعتزلة بأمور: منها بداهة حكم العقل بهما، ومنها أنه لو لم يكونا عقليين لزم التوالي الفاسدة، من انتفاء الفرق بين النبي والمتنبي: ومن عدم قبح صدور شئ منه تعالى، ومن افحام الأنبياء، ومن عدمهما رأسا مع أن
(1) دلائل الصدق: ج 1 ص 181. 107 الخصم لا يلتزم بهذه اللوازم الفاسدة. 4 - استدل الأشاعرة على نفي الحكم العقلي في التحسين والتقبيح بأن الأحكام الضرورية لا تتغير ولا تتبدل، كحكم العقل بأن الكل أعظم من الجزء وليس الحكم بحسن الصدق وقبح الكذب كذلك، لأن الكذب قد يستحسن، كما إذا اشتمل على مصلحة عامة والصدق قد يستقبح، كما إذا اشتمل على مفسدة عامة. هذا مضافا إلى استدلالهم بالدليل السمعي كما سيأتي. أجيب عن استدلال الأشاعرة على نفي الحكم العقلي بأجوبة: (أحدها): ما عن المتكلمين وحاصله هو منع التبدل والتغير، حيث إن للكذب النافع حيثيتين يكون الكذب باعتبار أحدهما حسنا، وهو اشتماله على المصلحة، وبالاعتبار الآخر قبيحا، وهو كونه خلاف الواقع وكذبا، وحيث كان جانب الحسن غالبا على جانب القبح، فاللازم هو ارتكاب الكذب النافع، وإن اشتمل على قبح يسير فقبحه لا يزول ولا يتغير، بل يزاحمه مصلحة غالبة. وفي هذا الجواب نظر، لأن قبح الكذب بعد اشتماله على المصلحة الغالبة، لا يبقى على الفعلية، وكفى ذلك في التبدل والتغير، هذا مضافا إلى أن الحسن والقبح ليسا ذاتيين لعنوان الصدق والكذب، لأنهما من الأمور التي تختلف بالوجوه والاعتبارات، فلا يحمل الحسن والقبح عليهما إلا بتوسيط عنوان ذاتي آخر، فالحسن والقبح ذاتي لذلك العنوان، وعرضي لعنوان الصدق والكذب، والعنوان الذاتي كالعدل في القول، لا يصدق بالفعل على الصدق، إلا إذا كان خاليا عن جهة المفسدة الفعلية، أو كالظلم في القول لا يصدق بالفعل على الكذب إلا إذا كان خاليا عن جهة المصلحة الفعلية، فإذا اشتمل الصدق على جهة المفسدة الفعلية لا يصدق عليه بالفعل إلا عنوان الظلم فلا يكون إلا قبيحا
108 ومذموما، كما أنه إذا اشتمل الكذب على جهة المصلحة الفعلية لا يصدق عليه بالفعل إلا عنوان العدل فلا يكون إلا حسنا وممدوحا، لأن الصدق والكذب من الأمور التي تختلف بالوجوه والاعتبارات، وليس الحسن والقبح ذاتيين لهما والمفروض أن العنوان الذاتي واحد وليس بمتعدد إذ الصدق مثلا اما عدل أو ظلم، فأين اجتماع الحسن والقبح، حتى يلتزم ببقائهما وعدم زوالهما. (وثانيها): ما ذهب إليه بعض الأعاظم، كالمحقق اللاهيجي (1) والمحقق السبزواري من منع التغير في ناحية الحكم العقل ومن انحصار الاختلاف والزوال في ناحية الموضوع، وتقريبه أن عناوين الأفعال بالنسبة إلى الحسن والقبح على ثلاثة أقسام: الأول: ما هو علة للحسن والقبح، كالعدل والظلم، فإنهما في حد نفسهما محكومان بهما من دون حاجة إلى اندراجهما تحت عنوان آخر، فالحسن والقبح ذاتيان لهما، لا يقال: لا مصداق لهما، لأن جميع الأفعال الخارجية تتغير بالوجوه والاعتبارات، لأنا نقول ليس كذلك، لأن مثل إطاعة الله تعالى أو شكر المنعم أو دفع الضرر المحتمل أو تصديق النبي والولي لا تنفك عن الحسن، كما أن مثل مخالفة الله تعالى في أوامره ونواهيه أو كفران نعمته لا تنفك عن القبح. وليس ذلك إلا لعدم اختلافها بالوجوه والاعتبارات، فهذه الأمور من مصاديق العدل أو الظلم في جميع الأحوال، ولذا لا تنفك عن الحسن أو القبح فتدبر جيدا. الثاني: ما هو مقتض لهما كالصدق والكذب، فإنهما لو خليا وطبعهما مندرجان تحت عنوان العدل والظلم، وباعتبارهما يتصفان بالحسن والقبح، وحيث إن توصيفهما بهما من جهة اندراجهما تحت العناوين الحسنة والقبيحة يسمى الحسن والقبح فيهما بالعرضيين.
(1) سرمايه ايمان: ص 59. 109 الثالث: ما لا علية ولا اقتضاء له بالنسبة إلى الحسن والقبح كالضرب فهو لا يتصف بهما ما لم يترتب عليه مصلحة أو مفسدة، فإذا ترتب عليه مصلحة التأديب كان حسنا باعتبار اندراجه تحت عنوان العدل، وإذا ترتب عليه مفسدة، كالتشفي والتجاوز كان قبيحا باعتبار اندراجه تحت عنوان الظلم وإذا لم يترتب عليه شئ كضرب الساهي أو النائم فلا يتصف بهما. فإذا عرفت ذلك، فاعلم أن حسن الأشياء وقبحها على أنحاء، فما كان ذاتيا لا يقع فيه اختلاف فإن العدل بما هو عدل لا يكون قبيحا أبدا. وكذلك الظلم بما هو ظلم لا يكون حسنا أبدا، أي أنه ما دام عنوان العدل صادقا فهو ممدوح، وما دام عنوان الظلم صادقا، فهو مذموم. وأما ما كان عرضيا، سواء كان مقتضيا لهما أم لا فإنه يختلف بالوجوه والاعتبارات، فمثلا الصدق أو الضرب، إن دخل تحت عنوان العدل كان ممدوحا، وإن دخل تحت عنوان الظلم كان قبيحا، ولكن الاختلاف في ناحية الموضوع لا في ناحية الحكم، بعد ما عرفت من أن اتصاف الأفعال بهما، فيما إذا لم تكن علة لهما باعتبار اندراجهما في العناوين الحسنة أو القبيحة الذاتية، وأما الحكم بحسن العدل وقبح الظلم فهو ثابت، ولا تغير فيه، فالتغير في الموضوعات فإنهما قد تكون مصداق العدل فيتصف بالحسن وقد تكون مصداق الظلم فتتصف بالقبح فلا تغفل. (وثالثها): ما أفاده بعض المحققين من أن الموضوع في قولنا الصدق حسن، ليس مطلق الصدق، بل الصدق المفيد بقيد المفيد، وحمل الحسن على مطلق الصدق من المشهورات التي لا تكون برهانا، بل لا يفيد إلا ظنا، لأن الحسن ليس محمولا على الصدق ذاتا بما هو صدق، بل يحتاج إلى حد وسط، وهو كونه مفيدا بحال المجتمع، فهذا التعليل يعمم ويخصص، فكل شئ يفيد بحال المجتمع ولو كان هو الكذب حسن، وكل شئ يضر بحال المجتمع ولو كان هو الصدق قبيح، فالموضوع الأصلي للحسن أو القبح هو المفيد أو المضر للمجتمع
110 والحكم في مثلهما ثابت ولا تبديل ولا تغير فيه، وبه يظهر أن الأصول الأخلاقية أو المحسنات والمقبحات العقلية أصول ثابتة، لا تتغير ولا تتبدل، وتوهم نسبية هذه الأصول كما ذهبت إليه الماركسية سخيف جدا وبالجملة لا تغيير في ناحية التحسين والتقبيح الذاتيين. ولكن الجواب الثاني أولى من هذا الجواب فإن ظاهره هو اختصاص الحكم العقلي بالتحسين والتقبيح الذاتيين دون العرضيين، مع أن قضية الصدق حسن، ما لم تنضم إليها جهة القبح صحيحة بحكم العقل، لكونه عدلا في القول، حيث إن حق السامع والمخاطب، هو إلقاء الكلام المطابق للواقع له، فإلقاء الكلام الصدق عدل في القول، ولو لم يكن مفيدا للمجتمع، نعم يعتبر في صدق العدل عليه عدم انضمام جهة القبح إليه فالصدق ما لم ينضم إليه جهة القبح مقتض للحسن، لصدق العدل عليه، والعدل يكفي للتوسيط، ولا حاجة إلى قيد الإفادة، كما أنه إذا انضم إليه جهة القبح صار ظلما، والكذب بالعكس، فالتحسين والتقبيح في مثل الصدق والكذب يكونان عرضيين ويختلفان باختلاف الوجوه والاعتبارات، فلا وجه لانحصار الحكم العقلي في التحسين والتقبيح الذاتيين، لأن الصدق ولو لم يكن مفيدا حسن عقلا، لكونه مصداقا للعدل، والكذب ولو لم يكن مضرا قبيح عقلا، لكونه خلاف الواقع فلا حاجة في تحسين الصدق وتقبيح الكذب إلى قيد الإفادة أو الاضرار، نعم يحتاج إليهما في التحسين والتقبيح الذاتيين بناء على مدخليتهما في الموضوع الأصلي والعنوان الذاتي. ثم إن الموضوع الأصلي للحسن والقبح كما عرفت هو عنوان العدل والظلم اللذين هما من العناوين الذاتية الحسنة والقبيحة، ولذا لا يتغير حكمهما وأما الصدق المفيد والكذب المضر فهما باعتبار كونهما مصداقين للعدل والظلم مشمولان للحسن والقبح، وليسا من العناوين الذاتية، ولذا يمكن أن يكون
111 صدق مفيدا بحال مجتمع، ومع ذلك لا يكون عدلا، لكونهم محاربين مع الإسلام والمسلمين مثلا. ثم إن ثبات الأصول الأخلاقية وعدم نسبيتهما يكفيه التحسين والتقبيح الذاتيين في العناوين الذاتية الحسنة والقبيحة، كقولنا: العدل حسن والظلم قبيح. (ورابعها): ما عن أكثر الحكماء من أن قضية الحسن والقبح من أحكام العقل العملي التي تتغير بحسب تغير المصالح والمفاسد والوجوه والاعتبارات، ولا ضير فيه، وإنما الثابت هو حكم العقل النظري فالتغير في مثل الصدق حسن والكذب قبيح لا ينافي عقلية الأحكام، لعدم اختصاص الأحكام العقلية بالضروريات التي يدركها العقل النظري، ولا تتغير ولا تبديل فيها. فقد أشار إليه العلامة - قدس سره - تبعا للخواجة نصير الدين الطوسي - قدس سره - وأوضحه المصنف - قدس سره - في كتاب منطقه حيث قال في المنطق عند عد أقسام المشهورات: " 2 - التأديبات الصلاحية وتسمى المحمودات والآراء المحمودة، وهي ما تطابقت عليها الآراء من أجل قضاء المصلحة العامة للحكم بها، باعتبار أن بها حفظ النظام، وبقاء النوع، كقضية حسن العدل، وقبح الظلم ومعنى حسن العدل أن فاعله ممدوح لدى العقلاء ومعنى قبح الظلم أن فاعله مذموم لديهم، وهذا يحتاج إلى التوضيح والبيان فنقول: إن الانسان إذا أحسن إليه أحد بفعل يلائم مصلحته الشخصية، فإنه يثير في نفسه الرضا عنه، فيدعوه ذلك إلى جزائه وأقل مراتبه المدح على فعله، وإذا أساء إليه أحد بفعل لا يلائم مصلحته الشخصية، فإنه يثير في نفسه السخط عليه فيدعوه ذلك إلى التشفي منه والانتقام، وأقل مراتبه ذمه على فعله، وكذلك الإنسان يصنع إذا أحسن أحد بفعل يلائم المصلحة العامة من حفظ النظام الاجتماعي، وبقاء النوع الانساني فإنه يدعوه ذلك إلى جزائه وعلى الأقل
112 يمدحه، ويثني عليه، وإن لم يكن ذلك الفعل يعود بالنفع لشخص المادح، وإنما ذلك الجزاء لغاية حصول تلك المصلحة العامة التي تناله بوجه (وهكذا في طرف الإساءة) إلى أن قال: وكل عاقل يحصل له هذا الداعي للمدح والذم، لغرض تحصيل تلك الغاية العامة، وهذه القضايا التي تطابقت عليها آراء العقلاء من المدح والذم. لأجل تحصيل المصلحة العامة، تسمى الآراء المحمودة والتأديبات الصلاحية، وهي لا واقع لها وراء تطابق آراء العقلاء وسبب تطابق آرائهم شعورهم جميعا بما في ذلك من مصلحة عامة. وهذا هو معنى التحسين والتقبيح العقليين اللذين وقع الخلاف في اثباتهما بين الأشاعرة والعدلية فنفتهما الفرقة الأولى، وأثبتهما الثانية، فإذ يقول العدلية بالحسن والقبح العقليين، يريدون أن الحسن والقبح من الآراء المحمودة والقضايا المشهورة، التي تطابقت عليها الآراء، لما فيها من التأديبات الصلاحية، وليس لها واقع وراء تطابق الآراء. والمراد من العقل إذ يقولون أن العقل يحكم بحسن الشئ أو قبحه، هو " العقل العلمي "، ويقابله " العقل النظري ". والتفاوت بينهما إنما هو بتفاوت المدركات، فإن كان المدرك مما ينبغي أن يعلم مثل قولهم: " الكل أعظم من الجزء " الذي لا علاقة له بالعمل يسمى ادراكه " عقلا نظريا " وإن كان المدرك مما ينبغي أن يفعل ويؤتى به، أو لا يفعل، مثل حسن العدل وقبح الظلم، يسمى ادراكه " عقلا عمليا ". ومن هذا التقرير يظهر كيف اشتبه الأمر على من نفى الحسن والقبح، في استدلالهم على ذلك بأنه لو كان الحسن والقبح عقليين لما وقع التفاوت بين هذا الحكم وحكم العقل بأن الكل أعظم من الجزء، لأن العلوم الضرورية لا تتفاوت، ولكن لا شك بوقوع التفاوت بين الحكمين عند العقل. وقد غفلوا في استدلالهم، إذ قاسوا قضية الحسن والقبح، على مثل قضية
113 الكل أعظم من الجزء، وكأنهم ظنوا أن كل ما حكم به العقل فهو من الضروريات مع أن قضية الحسن والقبح من المشهورات بالمعنى الأخص، ومن قسم المحمودات خاصة، والحاكم بها هو العقل العملي، وقضية الكل أعظم من الجزء من الضروريات الأولية، والحاكم بها هو العقل النظري، وقد تقدم الفرق بين العقلين، كما تقدم الفرق بين المشهورات والضروريات، فكان قياسهم قياسا مع الفارق العظيم، والتفاوت واقع بينهما لا محالة، ولا يضر هذا في كون الحسن والقبح عقليين، فإنه اختلط عليهم معنى العقل الحاكم في مثل هذه القضايا، فظنوه شيئا واحدا كما لم يفرقوا بين المشهورات واليقينيات، فحسبوهما شيئا واحدا مع أنهما قسمان متقابلان (1). وزاد في الأصول بأن الفارق بين المشهورات والأوليات من وجوه ثلاثة: الأول - أن الحاكم في قضايا التأديبات، العقل العملي، والحاكم في الأوليات العقل النظري. الثاني - أن القضية التأديبية لا واقع لها إلا تطابق آراء العقلاء، والأوليات لها واقع خارجي. الثالث - أن القضية التأديبية لا يجب أن يحكم بها كل عاقل لو خلي ونفسه، ولم يتأدب بقبولها والاعتراف بها، كما قال الشيخ الرئيس على ما نقلناه من عبارته فيما سبق في الأمر الثاني، وليس كذلك القضية الأولية التي يكفي تصور طرفيها في الحكم، فإنه لا بد أن لا يشذ عاقل في الحكم بها لأول وهلة (2). وحاصل مختارهم أنهم التزموا بالتغير والتبدل، في ناحية الحكم ولكن
(1) كتاب المنطق: ص 329 - 331. (2) كتاب أصول الفقه: ج 1 و 2 ص 231 - 232 وراجع تعليقة المحقق الأصفهاني قدس سره على الكفاية في مبحث حجية الظن: ج 2 ص 124. 114 قالوا: إن ذلك لا يخرج الحكم على الأحكام العقلية كما توهمه الأشاعرة، فإن العقل العملي يدبر مصالح نوع الإنسان، فإذا كان شئ كالصدق ذا مصلحة أدرك حسنه وجعل فاعله مستحقا للمدح، وإذا اقترن بالمفسدة الملزمة الاجتماعية أدرك قبحه وجعل فاعله مستحقا للذم، فحكم العقل العملي يتغير بحسب تغير المصالح والمفاسد، ولا يقاس بالعقل النظري الذي لا تغير فيه، فالعقلاء يحكمون بالعقل العملي، بحسن العدل وقبح الظلم باعتبار المصالح والمفاسد النوعية، لا بما هو عدل أو ظلم، فالتغير لا يخرج الحكم عن الحكم العقلي. وفيه أن الأظهر أن الإنسان لو خلي وعقله المجرد، يقضي بالبداهة بحسن العدل وقبح الظلم، لكون العدل كمالا لفاعله وملائمه، للغرض من خلقته والظلم نقصا ومنافرا، ولا يتوقف حكمه المذكور على تحقق الاجتماع البشري، وتطابق آرائهم فإن لقضية الحسن والقبح واقعا في نفس الأمر، وهو كمال العدل وملائمته ونقصان الظلم ومنافرته، سواء كان اجتماع أم لا، وسواء أطبقوا على حسنه أم لا، وهذا الكمال أو النقص هو الذي يدعو الانسان إلى المدح أو الذم، كما قاله المحقق اللاهيجي (1)، ولذا نقول: إن التحسين والتقبيح الذاتيين جاريان في حق الإنسان الأولي ولو كان واحدا، فإنه يجب عليه بحكم قاعدة الحسن والقبح معرفة الباري تعالي، لقبح تضييع حق المولى، وحسن شكر المنعم، ويحكم بعقله على وجوب إرسال النبي، لاهتدائه إلى وظائفه، وعلى قبح العقاب بلا بيان، وغير ذلك من الأحكام العقلية البديهية، وهذه الأحكام لا تتوقف على وجود الاجتماع، فضلا عن تطابق آرائهم عليه، ولها واقع وراء الاجتماع البشري، وآرائهم، وليس ذاك إلا كمال العدل وملائمته
(1) گوهر مراد: ص 246. 115 ونقص الظلم ومنافرته. نعم إذا تكثر أفراد الإنسان وحصل الاجتماع وتطابق آرائهم على الحسن والقبح لحفظ المجتمع ومراعاتهم، يصلح هذا التطابق لتأييد ما حكم به العقل. نعم لا مانع من ادراج الأحكام البديهية العقلية في المشهورات بالمعنى الأعم، كما عرفت، وأما ادراجها في خصوص المشهورات بالمعنى الأخص، التي لا واقع لها إلا تطابق الآراء، ففيه منع، لما مر من وجود التحسين والتقبيح العقليين ولو لم يكن اجتماع وتطابق، وبالجملة قضية العدل حسن، والظلم قبيح، من القضايا الضرورية التي أدركها العقل النظري بالبداهة لو خلي وطبعه، من دون حاجة إلى الاجتماع وآرائهم، ولها واقع خارجي. وصرح بذلك جماعة من المحققين كالمحقق اللاهيجي (1) والمحقق السبزواري - قدس الله أرواحهم - ولقد أفاد وأجاد المحقق السبزواري في شرح الأسماء الحسنى، حيث قال: وقد يستشكل دعوى الضرورة في القضية القائلة بأن العدل حسن والظلم قبيح، بأن الحكماء جعلوهما من المقبولات العامة، التي هي مادة الجدل، وجعلهما من الضروريات، التي هي مادة البرهان، غير مسموع. والجواب: إن ضرورة هذه الأحكام بمرتبة لا يقبل الانكار، بل الحكم ببداهتها أيضا بديهي، غاية الأمر أن هذه الأحكام من العقل النظري بإعانة العقل العملي، بناء على أن فيها مصالح العامة ومفاسدها، وجعل الحكماء إياها من المقبولات العامة ليس الغرض منه إلا التمثيل للمصلحة أو المفسدة العامتين المعتبر فيه قبول عموم الناس لا طائفة مخصوصين وهذا غير مناف لبداهتها، إذ القضية الواحدة يمكن أن تدخل في اليقينيات والمقبولات من جهتين، فيمكن
(1) سرمايه ايمان: ص 60 - 62 وراجع أيضا آموزش فلسفه: ج 1 ص 231 - 235. 116 اعتبارها في البرهان والجدل باعتبارين (1). وهذا في غاية القوة وإن استغربه المحقق الإصفهاني، وذهب إلى أن حسن العدل وقبح الظلم من المشهورات بالمعنى الخاص (2) وعليه فالجواب عن شبهة الأشاعرة هو ما عرفت في الجواب الثاني، من أن التحسين والتقبيح قد يكونان ذاتيين كحسن العدل وقبح الظلم، فهما ليسا إلا من العقل البديهي ولا يختلفان ولا يتغيران، كسائر الأحكام البديهية العقلية، فالظلم باعتبار اشتماله على النقص والمنافرة وتضييع حقوق الآخرين، محكوم بالقبح، وهكذا العدل باعتبار اشتماله على الكمال والملايمة ومراعاة حقوقهم محكوم بالحسن، ولا تبدل ولا تغير في هذا الحكم، لأن العدل والظلم من العناوين التي تكون محسنة أو مقبحة ذاتا وإليه يؤول قول الشيخ الأعظم الأنصاري - قدس سره - من أن الظلم علة تامة للقبح (3). نعم ربما لا يكون بعض العناوين من العناوين المحسنة، أو المقبحة ذاتا، فحينئذ يكون الحكم بالحسن أو القبح في مثله عرضيا كاتصاف الصدق بالحسن والكذب بالقبح، لأن الاتصاف المذكور ليس ذاتيا له، بل باعتبار انطباق عنوان آخر عليه، وهذا الحكم العرضي يختلف بالوجوه والاعتبارات العارضة، ولكن التغير في ناحية المنطبق عليه العنوان لا نفس الحكم العقلي الكلي إذا المتغير في الحقيقة هو المنطبق عليه العدل لا حكم العدل، فالتغير من باب تبدل الموضوع - كالمسافر والحاضر - فإن الصدق ما لم تنضم إليه جهة القبح يقتضي الحسن، لكونه مصداقا للعدل في القول، فإذا انضم إليه جهة القبح
(1) شرح الأسماء الحسنى: ص 107. (2) نهاية الدراية في شرح الكفاية: ج 2 مبحث الظن ص 125 - 126. (3) فرائد الأصول: ص 6. 117 يصير مصداقا للظلم، وأما حسن العدل وقبح الظلم فلا تغير ولا تبدل فيهما أصلا. ثم لا يخفى عليك أن المصنف أجاب عن هذه الشبهة في الأصول بما يشبه الجواب الثاني وقال في آخر العبارة والخلاصة: إن العدلية لا يقولون بأن جميع الأشياء لابد أن تتصف بالحسن أبدا أو بالقبح أبدا حتى يلزم ما ذكر من الإشكال. ولكن امعان النظر في كلامه يقضي بأن مراده من هذا الكلام ليس هو الجواب الثاني، بل مراده هو الجواب الرابع الذي أوضحه في كتاب منطقه فحكم العقل بحسن العدل والاحسان أو قبح الظلم والإساءة عنده من باب الآراء المحمودة، وكونه ملائما لمصلحة النوع الإنساني لا من باب العقل النظري فتأمل. وكيف كان فإلى التحسين والتقبيح العقليين أشير في بعض الآيات الكريمة كقوله تعالى: " هل جزاء الاحسان الا الاحسان " (1). وقوله تعالى: " أم نجعل الذين امنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار " (2). ثم إن المراد من الحسن هو استحقاق المدح ومن القبح هو استحقاق الذم، وملاك الحسن في حسن العدل هو ادراك كمال العدل أو موافقته وملائمته للغرض كما أن ملاك القبح في قبح الظلم هو ادراك نقص الظلم وعدم موافقته وملائمته للغرض، كما صرح به المحقق اللاهيجي وغيره (3). هذا تمام الكلام في الحسن والقبح العقليين، وقد عرفت أن الإمامية أثبتوا العدل لله تعالى والاجتناب عن القبائح من طرق مختلفة، ومن جملتها قاعدة
(1) الرحمن: 60. (2) ص: 28. (3) گوهر مراد ص 246 وراجع كتاب إحقاق الحق: ج 1 ص 339 - 421 وغير ذلك. 118 وجوز أن يكلف العباد فوق طاقتهم وما لا يقدرون عليه، ومع ذلك يعاقبهم على تركه، وجوز أن يصدر منه الظلم والجور والكذب والخداع، وأن يفعل الفعل بلا حكمة وغرض ولا مصلحة وفائدة، بحجة أنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون (3). فرب أمثال هؤلاء الذين صوروه على عقيدتهم الفاسدة، ظالم، جائر، سفيه، لاعب، كاذب، مخادع يفعل القبيح، ويترك الحسن الجميل، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
119 كان ظلما أو خلاف الحكمة بنظرنا فالضابطة هو ما يريد ويفعل، ولعله لذلك قال القرطبي: إن هذه الآية قاصمة للقدرية وغيرهم، ومراده من القدرية هم المعتزلة الذين يقولون بالتحسين والتقبيح العقليين، ومراده من غيرهم الإمامية. وكيف كان فهذا الاستدلال ضعيف في غاية الضعف، لأن في الآية احتمالات أخر فلو لم تكن الآية ظاهرة في غير ما توهمه الأشاعرة فلا أقل من أنه لا دلالة لها فيما ذهب إليه الأشاعرة. ومن الاحتمالات ما ذهب إليه جماعة من المفسرين، من أن المراد أن الله سبحانه لما كان حكيما على الاطلاق كما وصف به نفسه في مواضع من كلامه، والحكيم هو الذي لا يفعل فعلا إلا لمصلحة مرجحة، فلا جرم لم يكن معنى للسؤال عن فعله، بخلاف غيره، فإن من الممكن في حقهم أن يفعلوا الحق والباطل، وأن يقارن فعلهم المصلحة والمفسدة، فجاز في حقهم السؤال، حتى يؤاخذوا بالذم العقلي، أو العقاب المولوي، إن لم يقارن الفعل المصلحة (1) وهو المروي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر - عليه السلام - حيث قال جابر: قلت له: يا بن رسول الله، وكيف لا يسأل عما يفعل؟ قال: لأنه لا يفعل إلا ما كان حكمة وصوابا، وهو المتكبر الجبار والواحد القهار. فمن وجد في نفسه حرجا في شئ مما قضى كفر، ومن أنكر شيئا من أفعاله جحد (2) ويؤيده أيضا ما روي في الأدعية المأثورة: اللهم إن وضعتني فمن ذا الذي يرفعني وإن رفعتني فمن ذا الذي يضعني وإن أهلكتني فمن ذا الذي يعرض لك في عبدك أو يسألك عن أمره وقد علمت أنه ليس في حكمك ظلم ولا في نقمتك عجلة وانما يعجل من يخاف الفوت، وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف، وقد تعاليت يا إلهي عن ذلك
(1) راجع الميزان: ج 14 ص 292. (2) تفسير نور الثقلين: ج 3 ص 419 وهناك رواية أخرى التي سيأتي ذكرها في ص 138 من هذه الرسالة. 120 علوا كبيرا (1). ومنها ما ذهب إليه العلامة الطباطبائي - قدس سره - من أن الله سبحانه ملك ومالك للكل، والكل مملوكون له محضا، فله أن يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وليس لغيره ذلك، وله أن يسألهم عما يفعلون وليس لغيره أن يسألوه عما يفعل. إلى أن قال: ومن ألطف الآيات دلالة على هذا الذي ذكرنا قوله حكاية عن عيسى بن مريم: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " (2) حيث يوجه عذابهم بأنهم مملوكون له ويوجه مغفرتهم بكونه حكيما إلى أن قال: وأنت خبير أن توجيه الآية، بالملك دون الحكمة، كما قدمناه يكشف عن اتصال الآية بما قبلها، من قوله: " فسبحان الله رب العرش عما يصفون " (3). فالعرش كناية عن الملك، فتتصل الآيتان، ويكون قوله: " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " بالحقيقة برهانا على ملكه تعالى، كما أن ملكه وعدم مسؤوليته برهان على ربوبيته، وبرهان على مملوكيتهم، كما أن مملوكيتهم ومسؤوليتهم، برهان على عدم ربوبيتهم، فإن الفاعل الذي ليس بمسؤول عن فعله بوجه، هو الذي يملك الفعل مطلقا (4) لا محالة، والفاعل الذي هو مسؤول
(1) مفاتيح الجنان في اعمال ليلة الجمعة. (2) المائدة: 118. (3) الأنبياء: 22. (4) ولعل وجه ملكيته للفعل على وجه الاطلاق هو أن أفعاله تعالى ليس لها غاية دون ذاته، هذا بخلاف غيره تعالى فإن غاية فعلهم هو المصالح وعليه فالباعث نحو الفعل في الله تعالى هو كمال ذاته لا الغير فالفعل الناشئ عن ذاته لا يكون إلا صوابا فلا مورد للسؤال عنه بخلاف غيره تعالى، فللسؤال عنهم مجال لتقيد فعلهم بالمصالح. 121 عن فعله هو الذي لا يملك الفعل، إلا إذا كان ذا مصلحة والمصلحة هي التي تملكه وترفع المؤاخذة عنه، ورب العالم أو جزء من أجزائه هو الذي يملك تدبيره باستقلال من ذاته أي لذاته، لا بإعطاء من غيره، فالله سبحانه هو رب العرش وغيره مربوبون له. انتهى وحاصله أنه غير مسؤول عن فعله وذلك شاهد كونه مالك للفعل على الاطلاق وهو ليس الا الرب الذي لا يفعل إلا لكمال ذاته وعليه فالفعل الصادر عن كمال ذاته لا يكون الا صوابا فلا مورد للسؤال عنه. وقال أيضا في ضمن عبائره: ولا دلالة في لفظ الآية على التقييد بالحكمة، فكان عليهم أن يقيموا عليه دليلا (1). وفيه أن الآية مناسبة مع الحكمة أيضا وهي تكفي، لجواز حملها عليها، ويؤيده المروي كما عرفت. ومنها ما ذهب إليه بعض المحققين، من أن المراد من الآية الكريمة، أنه ليس لأحد حق لمؤاخذته، بل له أن يؤاخذ غيره، وذلك واضح، لأن كل موجود ليس له من الوجود إلا منه تعالى، فإذا كان كذلك فلا يكون لهم حقا عليه تعالى، وأيضا أن الله تعالى غني عن خلقه فلا يصل إليه من مخلوقه نفع، حتى ثبت لغيره حق عليه، ويسأل عنه (2) وحاصله أن السؤال فرع الحق عليه. وحيث إنه لا حق لغيره عليه فلا مورد للسؤال عنه تعالى، هذا ويمكن أن يقال: إن السؤال لا يقطع بذلك إذ لو لم يأخذ الله تعالى حق كل ذي حق عمن ظلمه في الآخرة لكان للسؤال مجال، وأيضا لو أدخل المطيعين في النار والمسيئين في الجنة أو قدم المفضول على الفاضل لكان للسؤال مجال، مع أنه لا حق لهم عليه تعالى، فلعل المقصود مما ذكر أن الله تعالى كامل من جميع الجهات وليس
(1) تفسير الميزان: ج 14 ص 294 - 295. (2) مجموعة معارف القرآن: ج 1 خداشناسى ص 233. 122 فيه نقص وحاجة، وعليه فلا مجال للسؤال عن أفعاله الناشئة عن كمال ذاته فإن ما نشأ عن كمال ذاته لا قبح فيه حتى يسأل عنه، ولكنه غير مساعد مع كلماته فافهم. ومن المعلوم أن مع هذه الاحتمالات لا مجال لدعوى ظهور الآية في مرادهم، ولو سلم دلالتها وظهورها فيما ذكروه، فليحمل على ما لا ينافي قاعدة التحسين والتقبيح، فإن الأصل عند منافاة ظواهر الآيات مع الأصول العقلية البديهية الوجدانية هو توجيهها على نحو يرفع المنافاة بينهما فلا تغفل. هذا مضافا إلى أن المستدلين بالآية المذكورة غفلوا عن الآيات المتعددة الكثيرة، الدالة على ثبوت التحسين والتقبيح العقليين. منها: الآيات الدالة على ارتكاز القبح والحسن في العقول، مع قطع النظر عن الأدلة الشرعية كقوله تعالى: " أفحسبتم انما خلقناكم عبثا " (1) فإنه يدل على أن العبث قبيح، وقبحه مستقر في العقول، ولذا أنكر عليهم إنكار منبه ليرجعوا إلى عقولهم، ومثله قوله تعالى: " أيحسب الإنسان أن يترك سدى " (2). ونحوه قوله تعالى: " أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار " (3) وهذا أيضا يدل على أن قبح ذلك مرتكز في العقول. ومنها: الآيات الدالة على تخطئة من حكم على خلاف ما اقتضته العقول السليمة، كقوله تعالى: " أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون " (4) فإنه لم ينكر أصل حكم العقل، بل أنكر هذا الحكم السيئ إنكار منبه ليرجعوا إلى
(1) المؤمنون: 115. (2) القيامة: 36. (3) ص: 28. (4) الجاثية: 21. 123 وهذا هو الكفر بعينه (4) وقد قال الله تعالى في محكم كتابه: " وما الله يريد ظلما للعباد " غافر: 31، وقال: " والله لا يحب الفساد " البقرة: 206، وقال: " وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين " الدخان: 38 وقال: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " الذاريات: 56 إلى غير ذلك من الآيات الكريمة. سبحانك ما خلقت هذا باطلا.
(1) الأعراف: 28 - 29. (2) راجع إحقاق الحق: ج 1 ص 348. 124 إلى الاعتقاد بغير المبدأ تعالى والجهل بالمبدأ الحقيقي هو كفر به كما لا يخفى. بحث حول الشرور والاختلافات: هنا سؤال وهو أن مقتضى ما مر من قاعدة التحسين والتقبيح وإطلاق كمال ذات المبدأ المتعال، أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يترك الحسن، فإذا كان الأمر كذلك فالشرور كالزلازل، والسيل والطوفان والبلايا والآلام والأوجاع والموت ونحوها، والاختلافات كالسواد والبياض والبلادة والذكاوة والذكورية والأنوثية وغير ذلك، لماذا وقعت؟ أليس هذه الأمور قبيحة؟ أجيب عن السؤال المذكور بجوابين: أحدهما إجمالي، والثاني تفصيلي. أما الأول: فهو في الحقيقة جواب لمي، وتقريبه أنه لا مجال لرفع اليد عما ينتهي إليه بالبراهين القطعية من أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يترك الحسن بمثل هذه الأمور، بل اللازم بحكم العقل هو حمل هذه الأمور على ما لا ينافي البراهين القطعية، إذ موارد النقض لا تفيد القطع بالخلاف، بل غايتها هو عدم العلم بوجهها، فيمكن رفع إبهامها بما ثبت من أنه لا يفعل القبيح، لكونه حكيما على الاطلاق، فنحكم بملاحظة ذلك أن هذه الأمور لا تخلو عن الحكمة والمصلحة، وإلا لم تصدر من الحكيم المتعال، إذ ليس فيه عوامل صدور القبيح كالجهل أو العجز أو غير ذلك مما يكون نقصا ولا يليق بجنابه تعالى، فكل ما فعله الله وصدر منه يبتني على الحكمة والصلاح وغالبية الخير. قال العلامة الطباطبائي - قدس سره -: " الأمور - بالإضافة إلى الغير - على خمسة أقسام: ما هو خير محض، وما هو خيره أكثر من شره، وما يتساوى خيره وشره، وما شره أكثر من خيره، وما هو شر محض. ولا يوجد شئ من الثلاثة الأخيرة، لاستلزامه الترجيح من غير مرجح، أو ترجيح المرجوح على الراجح، ومن الواجب بالنظر إلى الحكمة الإلهية المنبعثة عن القدرة والعلم الواجبين،
125 والجود الذي لا يخالطه بخل، أن يفيض ما هو الأصلح في النظام الأتم، وأن يوجد ما هو خير محض، وما هو خيره أكثر من شره، لأن في ترك الأول شرا محضا، وفي ترك الثاني شرا كثيرا، فما يوجد من الشر، نادر قليل بالنسبة إلى ما يوجد من الخير، وإنما وجد الشر القليل بتبع الخير الكثير " (1) فالنظام الموجود هو النظام الأتم والأحسن الذي علمه تعالى وأوجده على وفق علمه كما قال الشيخ أبو علي ابن سينا في الإشارات: " إشارة: فالعناية هي إحاطة علم الأول بالكل، وبالواجب أن يكون عليه الكل حتى يكون على أحسن النظام، وبأن ذلك واجب عنه وعن إحاطته به فيكون الموجود وفق المعلوم على أحسن النظام من غير انبعاث قصد وطلب من الأول الحق، فعلم الأول بكيفية الصواب في ترتيب وجود الكل منبع لفيضان الخير في الكل " (2). وأما الجواب التفصيلي فمتعدد: الأول: هو ما ذهب إليه جل الفلاسفة وبعض الفحول من المتكلمين، وحاصله أن الشرور لا تطلق حقيقة إلا على عدم الوجود مما له شأن الوجود، كموت زيد بعد وجوده، أو عدم الشجر بعد وجوده، أو على عدم كمال الوجود ممن له شأنية ذلك الكمال، كعدم الثمر من الشجر القابل له، أو عدم العلم عمن له شأنية العلم، ولذلك قال في شرح الإشارات: " الشر يطلق على أمور عدمية من حيث هي غير مؤثرة كفقدان كل شئ ما من شأنه أن يكون له مثل الموت والفقر والجهل " (3) وأما عدم شئ مأخوذ بالنسبة إلى ماهيته كعدم زيد فلا
(1) تفسير الميزان: ج 13 ص 201. (2) الإشارات والتنبيهات: ج 3 ص 318. والمراد من الأول هو الله تعالى وحاصله أن علمه تعالى بثلاثة منشأ للخلقة الأول علمه بالكل الثاني علمه بما يليق كل شئ ان يقع عليه الثالث علمه بان ذلك واجب الصدور منه. (3) راجع رشحات البحار والانسان والفطرة: ص 135، والشوارق: ج 1 ص 53، وشرح تجريد = 126 يكون شرا، لأنه اعتبار عقلي ليس من وقوع الشر في شئ، هذا مضافا إلى أنه لا اقتضاء للماهية بالنسبة إلى الوجود والعدم بخلاف عدم زيد بعد وجوده فإنه شر كما مر، وهكذا لا يكون شرا عدم شئ مأخوذ بالنسبة إلى شئ آخر، كفقدان الماهيات الإمكانية كمال الوجود الواجبي، وكفقدان كل ماهية وجود الماهية الأخرى الخاص بها مثل فقدان النبات وجود الحيوان، وفقدان البقر وجود الفرس، لأن هذا النوع من العدم من لوازم الماهية وهي اعتبارية غير مجعولة (1). وحيث ظهر أن كل فقدان ليس بشر، بل فقدان ما من شأنه أن يكون له، ففقدان كل مجرد تام موجود بالنسبة إلى مجرد أعلى منه أو بالنسبة إلى مجرد آخر يكون في عرضه أو فقدان كل موجود بالنسبة إلى مرتبة أخرى ليست من شأنه لا يكون شرا أيضا إذ ليس له شأنية ذلك الوجود حتى يكون فقدانه شرا (2). هذا كله بالنسبة إلى الاعدام والفقدان. وأما وجود كل شئ وكماله فهو خير له، فإنه فعلية ما له شأنيته وقابليته والخير الحقيقي للشئ الذي يعبر عنه بالخير النفسي هو وجوده في نفسه وكمال وجوده بما هو وجوده، فكل وجود فهو خير بذاته لان حيثيته حيثية طرد العلم ورفع القوة والوجود نقل موجود عين المطلوبية والمحبوبية. ثم إعلم أنه لا يطلق الشر على الوجود إلا باعتبار أدائه إلى عدم الوجود مما له شأن الوجود، أو لعدم الكمال الوجود، مما له شأنية ذلك كالبرودة المفرطة والحرارة الشديدة المفسدتين للشجر أو ثمره أو كالقتل الموجب لفناء موجود ذي حياة وهذا الاعتبار إضافي وليس بحقيقي، لأن الشر بالذات هو فقدان الوجود أو
= الاعتقاد: ص 29 و 300 الطبع الجديد، ونهاية الحكمة: ص 272. (1) شرح الإشارات والتنبيهات: ج 3 ص 320. (2) راجع آموزش فلسفة: ج 2 ص 424. 127 كماله مما له شأنية، واطلاقه على ما يؤدي إليه بالعرض لتأديتها إلى ذلك (1). وإليه يؤول قول المحقق الطوسي - قدس سره - في شرح الإشارات حيث قال: " ويطلق الشر. على أمور وجودية كذلك كوجود ما يقتضي منع المتوجه إلى كمال عن الوصول إليه، مثل البرد المفسد للثمار والسحاب الذي يمنع القصار عن فعله - إلى أن قال: فانا إذا تأملنا في ذلك وجدنا البرد في نفسه من حيث هو كيفية ما أو بالقياس إلى علته الموجبة له ليس بشر بل هو كمال من الكمالات، إنما هو شر بالقياس إلى الثمار لافساده أمزجتها، فالشر بالذات هو فقدان الثمار كمالاتها اللائقة بها، والبرد انما صار شرا بالعرض لاقتضائه ذلك وكذلك السحاب - إلى أن قال: - فالشر بالذات هو فقدان تلك الأشياء كماله، وانما أطلق على أسبابه بالعرض لتأديتها إلى ذلك - إلى أن قال: - فاذن قد حصل من ذلك أن الشر في ماهيته عدم وجود أو عدم كمال لموجود من حيث أن ذلك العدم غير لائق به أو غير مؤثر عنده وأن الموجودات ليست من حيث هي موجودات بشرور انما هي شرور بالقياس إلى الأشياء العادمة كمالاتها لا لذواتها، بل لكونها مؤدية إلى تلك الاعدام، فالشرور أمور إضافية مقيسة إلى افراد أشخاص معينة، واما في نفسها وبالقياس إلى الكل فلا شر أصلا - إلى أن قال: - ان الفلاسفة انما يبحثون عن كيفية صدور الشر عما هو خير بالذات، فينبهون على أن الصادر عنه ليس بشر، فان صدور الخيرات الكلية الملاصقة للشرور الجزئية ليس بشر " (2). وعن المحقق الدواني في حاشيته على الشرح الجديد من التجريد أنه قال: " ويمكن أن يستدل على أن الوجود خير والشر عدم أو عدمي بأنا إذا فرضنا
(1) راجع درر الفوائد: ج 1 ص 454 - 457 شرح الإشارات: ج 3 ص 320 - 323. (2) شرح الإشارات والتنبيهات: ج 3 ص 320 - 323. 128 وجود شئ وفرضنا أنه لم يحصل بسببه نقص في شئ من الأشياء أصلا فلا شك في أن وجوده خير فإنه خير بالنسبة إلى نفسه وليس فيه شر بالنسبة إلى شئ من الأشياء، فعلم من ذلك أن الشر بالذات هو العدم والوجود انما يصير شرا باعتبار استلزامه له " (1). فعلم مما ذكر أن الشر على قسمين: أحدهما: هو الشر بالذات وبالحقيقة، وهو ليس إلا الأمور العدمية التي لها شأنية الوجود، ولكن اختلت علتها بمفادة علة أقوى معها بحيث يمنعها عن التأثير فهذه الأمور معدومة بعدم علتها، وثانيهما: هو الشر بالعرض وبالإضافة، وهو ليس إلا ما يؤدي إلى العدم، وعليه فليس بين الموجودات شر مطلق، وإنما الموجود هو الشر بالعرض وهو ما يؤدي إلى الشر بالذات، والشر بالذات ليس بمجعول، لأنه معدوم بعدم علته، نعم هو مجعول مجازا بجعل الشر بالعرض، إذ الشر بالعرض أمر وجودي مجعول ملازم للشر الذي يكون أمرا عدميا. ثم إن المراد من الأداء والسببية الذي قد يعبر عنه ب " الشر بالعرض " هو المقارنة لا السببية الاصطلاحية، لأنه مع الوجود الذي يؤدي إلى الشر، تختل علة الخير بوجود المانع، فإن العلة علة ما لم يكن مانع عن تأثيرها، فإذا وجد المانع عنه فلا تأثير لها، بل سقطت عن تمامية العلية، ومع عدم تأثيرها لا وجود للمعلول أو لا وجود لكماله، فعدم وجود المعلول أو عدم كماله مستند إلى اختلال علته، وهو من جهة عروض المانع. مثلا صحة الإنسان معلولة لاعتدال مزاجه، فإذا وجدت الميكروبات إختل الاعتدال بوجود المانع وفقدت الصحة باختلال الاعتدال، فعدم صحة البدن مستند إلى عدم علتها لا إلى الميكروبات إلا بالعرض والمجاز، وباعتبار أن اختلال علة الصحة بوجود الميكروبات، ومن
(1) درر الفوائد: ج 1 ص 457. 129 المعلوم أن للميكروبات اقتضاء وجوديا لا عدميا، وعدم الصحة بسبب اختلال المزاج من جهة وجود المانع عن تأثير اقتضاء المزاج، فالشر بالذات هو عدم الوجود أو عدم كمال الوجود مما من شأنه أن يكون له، والسموم والميكروبات شر بالعرض للمقارنة، إذ المانع يقارن مع عدم المعلوم بعدم علته، لا أنه علة لعدم المعلول كما أن المانع يقارن أيضا مع عدم العلة المذكورة، لأن كل ضد يقارن عدم الضد الآخر، والمفروض أن المانع ضد للعلة التي اشترط تأثيرها، لعدم وجوده فلا تغفل. وإليه يؤول ما قاله العلامة الطباطبائي - قدس سره - من: " أن الذي تعلقت به حكمة الإيجاد والإرادة الإلهية وشمله القضاء بالذات في الأمور التي يقارنها شئ من الشر، إنما هو القدر الذي تلبس به من الوجود حسب استعداده ومقدار قابليته، واما العدم الذي يقارنه فليس إلا مستندا إلى عدم قابليته وقصور استعداده، نعم ينسب إليه الجعل والإفاضة بالعرض لمكان نوع من الاتحاد بينه وبين الوجود الذي يقارنه هذا " (1). ومما ذكر يظهر أن الشرور إعدام فلا حاجة إلى استنادها إلى الخالق، فلا وجه لتوهم الثنوية أن خالق الشرور والاعدام غير خالق الخيرات (2) كما أن ايجاده تعالى لا يتعلق بالشرور حقيقة، وإن تعلق بها بالعرض والمجاز لمقارنتها مع الوجودات. ثم إن الشرور الإضافية المؤدية إلى الشرور الحقيقية حيث كانت جهة شريتها الإضافية قليلة في جنب خيريتها بملاحظتها مع النظام الكلي من العالم لا تعد شرورا كما صرح به المحقق الطوسي - قدس سره - حيث قال: " فالشرور أمور
(1) الميزان: ج 13 ص 201. (2) راجع نهاية الحكمة: ص 272، تعليقة النهاية: ص 425، بداية الحكمة: ص 136، عدل الهي: ص 102. 130 إضافية مقيسة إلى أفراد أشخاص معينة وأما في نفسها وبالقياس إلى الكل فلا شر أصلا، فاللازم في حكمته هو ايجادها مع كونها خيرا غالبا " (1) إذ ترك ايجاده حينئذ مرجوح، ثم لا يخفى عليك أنه ذهب بعض إلى أن الشر أمر وجودي مستشهدا بقوله تعالى: " كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون " (2) وبما ورد عن الإمام الصادق - عليه السلام - في بعض الأدعية ليوم العرفة: " وأنت الله لا إله إلا أنت خالق الخير والشر " وبما ورد عنه - عليه السلام - في دعاء آخر وبيدك مقادير الخير والشر وغير ذلك، لأن الذوق والابتلاء والخلق والتقدير لا تناسب الاعدام، اللهم إلا أن يقال في الجواب: بأن المراد من الشر في أمثال ما ذكر هو الشر القياسي والإضافي لا الشر الحقيقي ومن المعلوم أن الشر القياسي أمر وجودي مقارن للشر الحقيقي الذي هو العدم، والوجود يحتاج إلى الخلق والتقدير وقابل للابتلاء، به ونحوه، فلا ينافي الآية الكريمة والأدعية، لما ذكر من عدمية الشر الحقيقي فافهم. لا يقال: " إن الإشكال لو كان في خلقة الشرور الحقيقية، لكان الجواب عنه بأنها عدمية، فلا حاجة لها إلى العلة صحيحا، أما إن كان الإشكال في أن الله تعالى لم لم يخلق العالم بحيث يكون مكان الفقدانات وجودات وكمالات، ومكان الشرور خيرات، حتى لا يكون للشرور الإضافية وجود، فالإشكال بالنسبة إلى الشرور الإضافية باق، ولا يكون الجواب المذكور مقنعا عنه. لأنه يجاب عن ذلك بأن: هذا وهم، إذ لا مجال لوجود العالم المادي بدون التضاد والتزاحم، إذ لازم الطبيعة المادية هو وجود سلسلة من النقصانات والفقدانات والتضاد والتزاحم، لعدم قابلية المادة لكل صورة في جميع الأحوال والشرائط، فالأمر يدور بين أن يوجد العالم المادي المقرون بتلك النقصانات، أو
(1) شرح الإشارات: ج 3 ص 320 - 323. (2) الأنبياء: 35. 131 أن لا يوجد، ومن المعلوم أن الحكمة تقضي أن لا يترك الخير الغالب (1). ولكن هذا الجواب يفيد فيما يكون من لوازم الطبيعة المادية، وأما ما لا يكون كذلك كالشرور الناشئة من النفوس الإنسانية أو الأجنة كالشياطين فلا يفيد، لأنها سميت من اللوازم، بل تقع عن اختيارهم، فاللازم أن يقال: إن التكامل الاختياري الذي يقتضيه النظام الأحسن يتقوم بالاختيار، إذ بدونه لا يتحقق التكامل الاختياري، ومعه ربما يقع الإنسان أو الجن في الشرور بسوء اختياره. فالأمر يدور بين أن يوجد مقتضيات التكامل الاختياري أم لا توجد والحكمة تقتضي الوجود أن خيرات الاختيار أكثر بمراتب من شروره ومن خيرات الاختيار تكامل المؤمنين والأولياء والشهداء والصديقين والأنبياء والأوصياء والمقربين، والتكامل الاختياري من النظام الأتم الأحسن فيجب أن يوجد قضاء للحكمة، كما لا يخفى. الثاني: لو سلمنا أن الشرور الحقيقية وجودية فنقول فيها بمثل ما قلنا في الشرور الإضافية في الإشكال الأخير، حاصله أن الشرور الوجودية الحقيقية من لوازم العالم المادي أو النظام الأحسن الأتم كما ذكر فالأمر يدور بين أن يترك العالم المادي مع أن فيه خيرا غالبا أو يوجد والثاني هو المتعين. ولعل إلى بعض ما ذكر يؤول ما حكي عن أرسطو من أن الشرور الموجودة في العالم المادي لازمة للطبايع المادية بمالها من التضاد والتزاحم، فلا سبيل إلى دفعها إلا بترك ايجاد هذا العالم، وفي ذلك منع لخيراته الغالبة على شروره وهو خلاف حكمته وجوده سبحانه (2). ومما ذكر يظهر أن الجواب في المسألة ليس موقوفا على عدمية الشرور، بل لو كانت الشرور الحقيقية وجودية لامكن الجواب عنه بالمذكور. ثم إن خلقة
(1) راجع أصول فلسفه: ج 5 ص 68. (2) راجع تعليقة النهاية: ص 473. 132 الشرور بناء على وجوديتها تكون مقصودة بالتبع، إذ خلقة العالم المادي أو النظام الأتم الأحسن لا تمكن بدونها، وأما بناء على كون الشرور عدمية فليس لها وجود حقيقة حتى يتعلق بها قصد حقيقي ولو بالتبع، نعم يتعلق بها بالعرض والمجاز باعتبار تعلقه بالمقارنات المتلازمة للاعدام والشرور (1). الثالث: أن للشرور الحقيقية على فرض كونها وجودية منافع وفوائد كثيرة مهمة بحيث يمكن سلب الشرية عن الشرور بملاحظتها، ولذا حكي عن أرسطو المعلم الأول أن كثيرا من هذه الشرور مقدمة لحصول خيرات وكمالات جديدة، فبموت بعض الأفراد تستعد المادة لحياة الآخرين، وباحساس الألم يندفع المتألم إلى علاج الأمراض والآفات وإبقاء حياته، إلى غير ذلك من المصالح التي تترتب على الشرور (2). وإليه يؤول ما ذكره الأستاذ الشهيد المطهري - قدس سره - من أن الموت والشيبة يلازمان لتكامل الروح وانتقاله من نشأة إلى نشأة أخرى، كما أنه لولا التزاحم والتضاد لا تقبل المادة لصورة أخرى، بل اللازم أن يكون لها في جميع الأحوال والأزمان صورة واحدة، وهو كاف للمانعية عن بسط تكامل نظام الوجود، إذ بسبب التزاحم والتضاد وبطلان وانهدام الصور الموجودة، تصل النوبة إلى الصور اللاحقة ويبسط الوجود ويتكامل، ولذا اشتهر في ألسنة الحكماء " لولا التضاد ما صح دوام الفيض عن المبدأ الجواد " هذا مضافا إلى تأثير الشرور في التكامل والتسابق الحضاري والثقافي ألا ترى أنه لولا العداوة والرقابة، لما كانت المسابقة والتحرك، ولولا الحرب لما كانت الحضارة والتقدم، وهكذا. فمع التوجه إلى أن العالم الطبيعي عالم تدرج وتكامل وحركة من القوة إلى الفعل ومن النقص إلى الكمال، وتلك الحركة والتدرج من
(1) راجع تعليقة النهاية: ص 474. (2) راجع تعليقة النهاية: ص 473. 133 ذاتيات الطبيعة المادية، وإلى أن حركة العالم المادي وسوقه نحو الكمال، لا تحصل بدون التزاحم والتضاد وبطلان وانهدام، بل، تكون موقوفة على تلك الأمور التي تسمى شرورا، تظهر فائدة الشرور ومصلحتها. وبذلك ينقدح أن شرية ما سمي شرا بلحاظ إضافته إلى جزئي وشئ خاص لا بلحاظ أوسع وإلا فهو خير وليس بشر (1). وهذه الفوائد وإن أمكن المناقشة في بعضها كفائدة موت بعض الأفراد لاستعداد المادة لحياة الآخرين، لإمكان أن يقال: توسعة المادة ليست بمحال، فمع التوسعة المذكورة لا موجب لموت بعض الأفراد، ولكن جملة الفوائد تكفي لإثبات كون شرية الأمور المذكورة إضافية جزئية وأما بلحاظ الكل فهي خير وليست بشر. الرابع: أن البلايا والآفات والعاهات، كثيرا ما تصلح لإعداد الكمالات المعنوية والأخلاقية وهو السر في الابتلاء والامتحان بها، وهذه الكمالات كالتوجه إلى الله والانقطاع إليه والتخلق بالأخلاق الفاضلة، بحيث لو لم تكن تلك الأمور لا يمكن النيل إلى هذه الكمالات المعنوية. مثلا من أصابه مرض وأقدم على العلاج، وصبر فيه، ودعا وتضرع إلى الله تعالى، ورضي بما قدره له من الشفاء أو عدمه، والصحة أو السقم، حصل له من القرب إلى الله تعالى والتخلق بالأخلاق الحسنة ما لم يكن له قبل ابتلائه به، فالمرض أعد له هذا التعالى والتكامل. وهكذا من صار فقيرا من دون تفريط في الكسب وقنع بما في يده ورضي بما قدر له ولم يخضع لغني طمعا بماله حصل له ملكة المناعة وعزة النفس ونحوهما من الملكات الفاضلة، وهكذا غير ذلك من البلايا والآفات، فإنها تصلح
(1) أصول فلسفه: ج 5 ص 69. 134 للاعداد نحو الكمال بحسب مقتضيات الأحوال وهذا هو السر في الابتلاءات والمصيبات والحوادث، ولكن يختلف حظوظ الناس منها لاختلاف معارفهم، وعباد الرحمان أكثر حظا من غيرهم فيما ولذلك يرون تلك البلايا والحوادث جميلة، ويحمدونه على كل حال، لأنهم لا يرون منه إلا ما يستحق الحمد عليه وإن عميت أعيان الناس عن رؤية جمال تلك الأمور، نعم يظهر حقيقة كل ما صدر عنه تعالى لكل أحد في يوم القيامة كما قال عز وجل: " يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا " (1). إذ نسب الحمد المطلق إلى جميع المبعوثين من القبر وليس ذلك الا لرؤية جمال افعاله تعالى كما لا يخفى واليه يؤول ما ورد عن الإمام زين العابدين - عليه السلام - من أنه قال: من اتكل على حسن اختيار الله تعالى لم يتمن انه في غير الحال التي اختارها الله تعالى (له) (2). فهذه الأمور في الحقيقة ليست شرورا بالنسبة إلى من يجعلها وسيلة لاستكمال نفسه وتخلقه بالأخلاق الحسنة، وإنما هي شرور بالنسبة إلى من لا يستفيد منها في طريق الاستكمال، وعليه فشريتها ليست من نفسها، بل من نفس من لا يستفيد منها. فالعمدة هي كيفية الاستفادة من الأشياء سواء كانت بلايا وآفات أو غيرها من النعم، فالآفات والعاهات والبلايا كالنعم والغنى والثروة والسلامة كلها من معدات الكمال. فإيجاد البلايا والشرور ليست منافية للعدالة والحكمة، بل هي عين ما اقتضته الحكمة والعدالة في ابتلاء الناس وامتحانهم واستكمالهم كما نص عليه في كتابه الكريم: " ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص من الأموال
(1) الإسراء: 52. (2) الدرة الباهرة للشهيد الأول: ص 26. 135 والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون " (1). الخامس: أن الاختلافات من جهة الأنواع والأصناف والأوصاف كالسواد والبياض أو البلادة والذكاوة أو النقص والتمام أو الرجولية والأنوثية أو الإنسانية والحيوانية وغير ذلك، لا تنافي العدل، لأن العدل كما عرفت هو إعطاء كل ذي حق حقه، ومن المعلوم أنه لا حق للشئ قبل خلقته، فكل ما أعطاه الله تعالى للأشياء، هو فضل لا حق، وحيث ثبت أن كل ما أعطاه الله فضل، فالاختلاف فيه لا يكون ظلما، وإليه يرشد ما روي عن جابر بن يزيد الجعفي حيث قال: " قلت لأبي جعفر محمد بن علي الباقر - عليهما السلام -: يا ابن رسول الله إنا نرى الأطفال منهم من يولد ميتا ومنهم من يسقط غير تام، ومنهم من يولد أعمى، وأخرس وأصم، ومنهم من يموت من ساعته إذا سقط إلى الأرض، ومنهم من يبقى إلى الاحتلام، ومنهم من يعمر حتى يصير شيخا، فكيف ذلك، وما وجهه؟ فقال - عليه السلام -: إن الله تبارك وتعالى أولى بما يدبره من أمر خلقه منهم، وهو الخالق والمالك لهم، فمن منعه التعمير، فإنما منعه ما ليس له، ومن عمره فإنما أعطاه ما ليس له، فهو المتفضل بما أعطى، وعادل فيما منع، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون " (2). وبالجملة فالاختلاف والتبعيض لا ينافي العدل، نعم لقائل أن يسأل عن حكمة ذلك، ولكن الجواب عنه واضح، لأنه لولا الاختلافات لما وجد العالم المادي، والنظام الاجتماعي، مع أن خلقة العالم المادي، والنظام الاجتماعي مقصود، لكونه راجحا، إذ لو كان المعيار هو التساوي المطلق لزم أن لا يوجد إلا شئ واحد، وهو لغو، وليس بمقصود ولا يصدر منه، كما أنه لو كان المعيار
(1) البقرة: 155 - 157. (2) نور الثقلين: ج 3 ص 419. 136 هو التساوي في النوع لزم أن لا يوجد إلا الإنسان مثلا: فلا يمكن له أن يعيش، إذ لا شئ آخر، حتى يتغذى به أو يأوي إليه، أو يتلبس به. وأيضا لو كان جميع أفراد الإنسان ذكورا أو إناثا فقط، لانقرض نسل الإنسان، لعدم إمكان التوالد والتناسل، ولو كان الناس في الفكر والذوق والاستعداد متساوين، لاختلت الأمور التي لا يوافق مذاقهم ولو كان الناس في الأشكال والألوان وجميع الخصوصيات متحدين لما تعارفوا. فالاختلافات من مقومات العالم المادي، والنظام الاجتماعي. لا يقال: نعم، ولكن بقي السؤال لأفراد النساء مثلا، بأن الله تعالى لم جعلني من الإناث، ولم يجعلني من الرجال، لأنا نقول: لو عكس الله تعالى يعني جعلها من الرجال وجعل غيرها من النساء لما ارتفع السؤال: لان لمن جعله من النساء أن يكرر ذلك السؤال، فلا فائدة في التبديل كما لا يخفى. السادس: أن علة النقص في المعلولين، قد تكون من جهة تزاحم الأسباب في عالم المادة وقد مر أن بعض الشرور من لوازم العالم المادي، ولعل إليه أشار الإمام الصادق - عليه السلام - في توحيد المفضل حيث قال: وأنت يا مفضل ترى أصناف الحيوان أن يجري أكثر ذلك على مثال ومنهاج واحد كالانسان يولد وله يدان ورجلان وخمس أصابع، كما عليه الجمهور من الناس فأما ما يولد على خلاف ذلك فإنه لعلة تكون في الرحم أو في المادة التي ينشأ منها الجنين، كما يعرض في الصناعات حين يتعمد الصانع الصواب في صنعته فيعوق دون ذلك عائق في الأداة أو في الآلة التي يعمل فيها الشئ فقد يحدث مثل ذلك في أولاد الحيوان للأسباب التي وصفنا فيأتي الولد زائدا أو ناقصا أو مشوها ويسلم أكثرها فيأتي سويا لا علة فيه (1).
(1) بحار الأنوار: ج 3 ص 150. 137 وبالجملة فهذه النواقص الحاصلة من ناحية تزاحم الأسباب من لوازم عالم المادة، وحيث كانت خيرية عالم المادة غالبة، فالراجح هو ايجاده بما هو عليه، كما لا يخفى، وقد تكون من جهة ظلم الظالمين المتجاوزين المختارين في أعمالهم، أو من جهة جهل الآباء والأمهات بآداب النكاح وسننه، وشرائط التوالد والتناسل، وكيفية التغذية وحفظ الصحة، أو من جهة سوء أفعالهم، أو غير ذلك من المؤثرات الاختيارية. ومن المعلوم أن الله تعالى برئ عن ظلم الظالمين ونهاهم عنه وأكده، وفرض منعهم على كافة الناس ويعاقبهم في الآخرة، وهكذا أرشد الآباء والأمهات، بتشريع الأحكام والسنن، والآداب الشرعية، وأيضا حذر الناس عن العصيان وارتكاب المعاصي، والأعمال السيئة لتطيب أولادهم وأحفادهم. فما ينبغي أن يفعله الله لم يتركه، بل أتى به حق الاتيان، وإنما التقصير والقصور من ناحية الناس وعالم المادة كما لا يخفى. لا يقال: إن المعلولين لا يتمكنون من الاستكمال، لأنهم لعلتهم عاجزون عن اتيان الأعمال الصالحة، بمثل ما أتي به غيرهم فلا وجه لخلقهم. لأنا نقول: إن التكليف ليس إلا بمقدار طاقتهم، فإذا أتوا بالأعمال بهذا المقدار، تمكنوا من الاستكمال بما أتوا به والله تعالى رؤوف بالعباد. هذا مضافا إلى أن لهم أن يقصدوا جميع الخيرات التي اتي بها غيرهم ممن ليس فيهم نقصهم فلهم ثواب تلك الأعمال إن كانوا صادقين في قصدهم، لأن الأعمال بالنيات على أن الصبر على العلة والنقص يوجب ازدياد الكمال والثواب والحسنات فقد روي في الكافي عن أبي عبد الله - عليه السلام - أنه قال: " من ابتلى من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له مثل أجر ألف شهيد " (1).
(1) الأصول من الكافي: ج 2 ص 92. 138 وكم من معلول نال المقامات العالية والشامخة، لعلو همته ونشاطه، فعلى المعلولين أن لا يتركوا السعي نحو الكمال بمقدار الطاقة، وعلى الناس أن يساعدوهم في هذا المجال، ولا يهملوهم، فإنهم إخوانهم والمسلم يهتم بأمور المسلمين. السابع: أنه قد يكون بعض الشرور لمكافأة الكفار وعذابهم، كما نص عليه في حق الهالكين من الأمم السابقة بقوله: " وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون " (1) " ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين " (2) بل يدل بعض الآيات الكريمة على أن المصيبات كالقحط والغلاء والشدائد ونحوها تعرض الأقوام والأفراد ولو لم يكونوا كافرين من جهة سوء اختيارهم، والتغيرات السيئة في أنفسهم، كقوله تعالى: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " (3) وقوله تعالى: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير " (4) فمثل هذه الآية خطاب إلى الاجتماع أو الأفراد، وتدل على أن بين المصائب، كالقحط والغلاء والوباء والزلازل والمرض والضيق وغير ذلك، من المصيبات والشدائد، وبين أعمال الإنسان ارتباط خاص، فلو جرى الإنسان أو المجتمع الإنساني على ما تقتضيه الفطرة من الاعتقاد والعمل، نزلت عليهم الخيرات، وفتحت عليهم البركات، ولو أفسدوا افسد عليهم، وهذه سنة إلهية، إلا أن ترد عليها سنة التكامل الأعلى كابتلاءات الأولياء، مع أن أعمالهم كلها حسنات، أو ترد سنة الاستدراج مع أن أعمالهم سيئات، فينقلب الأمر كما قال تعالى:
(1) القصص: 59. (2) الانعام: 6. (3) الرعد: 11. (4) الشورى: 30. 139 " ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون " (1) قوله: " حتى عفوا " أي كثروا عدة أو عدة وأصله الترك، أي تركوا حتى كثروا، ومنه إعفاء اللحى. وكيف كان فالمكافأة والعذاب والتنبيه من علل وجود المصيبات، كما هو صريح الآيات المذكورة وغيرها، بل الروايات منها: صحيحة فضيل بن يسار عن أبي جعفر - عليه السلام - قال: " ما من نكبة تصيب العبد إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر " (2). وصحيحة هشام بن سالم عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: أما أنه ليس من عرق يضرب ولا نكبة ولا صداع ولا مرض إلا بذنب، وذلك قول الله عز وجل في كتابه: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير " قال: ثم قال: " وما يعفو الله أكثر مما يؤاخذ به " (3). ومن المعلوم أن هذه المكافأة توجب كثيرا ما التنبه والاتعاظ والرجوع. ولعل إلى ذلك أشار الإمام الصادق - عليه السلام - حيث قال في توحيد المفضل: " ويلذع (أي يوجع ويؤلم) أحيانا بهذه الآفات اليسيرة لتأديب الناس وتقويمهم، ثم لا تدوم هذه الآفات، بل تكشف عنهم عند القنوط منهم فيكون وقوعها بهم موعظة وكشفها عنهم رحمة - إلى أن قال - ولو كان هكذا (أي عيش الإنسان في هذه الدنيا صافيا من كل كدر) كان الإنسان سيخرج من الأشر والعتو إلى ما لا يصلح في دين ودنيا - إلى أن قال - فإذا عضته المكاره ووجد مضضها اتعظ وأبصر كثيرا مما كان جهله وغفل عنه ورجع إلى كثير مما كان يجب عليه (4)، وقال - عليه السلام - أيضا: إن هذه الآفات وإن كانت تنال الصالح
(1) الأعراف: 95. (2) نور الثقلين: ج 4 ص 582. (3) نور الثقلين: ج 4 ص 581. (4) بحار الأنوار ج 3 ص 138. 140 والطالح جميعا فإن الله (تعالى) جعل ذلك صلاحا للصنفين كليهما، أما الصالحون فإن الذي يصبهم من هذا يردهم (يذكرهم) نعم ربهم في سالف أيامهم فيحدوهم ذلك على الشكر والصبر، وأما الطالحون فإن مثل هذا إذا نالهم كسر شرتهم وردعهم عن المعاصي والفواحش. الحديث (1). ثم لا يخفى عليك أن البلايا في حق الأنبياء والأئمة المعصومين والأولياء، ليست مكافأة، بل لارتفاع شأنهم، كما نص عليه في صحيحة علي بن رئاب، قال: " سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن قول الله عز وجل: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " أرأيت ما أصاب عليا وأهل بيته - عليهم السلام - من بعده، أهو بما كسبت أيديهم، وهم أهل بيت طهارة معصومون؟ فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وآله - كان يتوب إلى الله ويستغفر في كل يوم وليلة مائة مرة من غير ذنب، إن الله يخص أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب " (2). وفي المروي عن عبد الرحمان بن الحجاج، قال: " ذكر عند أبي عبد الله - عليه السلام - البلاء وما يخص الله به المؤمن، فقال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وآله - من أشد الناس بلاء في الدنيا؟ فقال: النبيون ثم الأمثل فالأمثل، ويبتلى المؤمن بعد على قدر ايمانه وحسن أعماله، فمن صح ايمانه وحسن عمله اشتد بلاؤه ومن سخف ايمانه وضعف عمله قل بلاؤه " (3). فابتلاء الأولياء بالشدائد والمصيبات كثير جدا وكلما اشتد ايمان المؤمن كثر بلاؤه كما ورد في الحديث " إن الله عز وجل إذا أحب عبدا غثه بالبلاء غثا " (4) والسر فيه أن المكافأة تنشأ من غضبه تعالى، وابتلاء الأولياء ينشأ من رحمته،
(1) بحار الأنوار ج 3 ص 140. (2) نور الثقلين: ج 4 ص 581. (3) تفسير الميزان: ج 5 ص 13. (4) تفسير الميزان: ج 5 ص 13 نقلا عن الكافي. 141 لأن يتدارجوا المدارج العالية وأعلاها ورحمته غلبت غضبه، فلا تغفل، فالأنبياء والأولياء ممن ليس لهم اكتساب سوء، كانوا خارجين عن قوله: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم " تخصصا، إذ الآية المباركة أثبتت المصيبة بسبب الذنوب واكتساب السوء، فلا تشمل من لم يصدر عنه الذنوب وليس له اكتساب سوء كما لا يخفى. فلا مكافأة ولا عذاب لهم، وإنما ما ورد عليهم لإعلاء شأنهم وقربهم إليه تعالى. ثم لا يخفى أن من ابتلى بالمصيبات من جهة ذنوبه وصبر عليها من غير شكاية عنها أعطاه الله من باب فضله ولطفه مضافا إلى تطهير ذنوبه ارتفاع المقام والأجر والثواب. كما يدل عليه ما روي عن الصادق - عليه السلام - عن آبائه عن علي - عليه السلام - " إنه عاد سلمان الفارسي فقال له يا سلمان ما من أحد من شيعتنا يصيبه وجع إلا بذنب قد سبق منه وذلك الوجع تطهير له، قال سلمان: فليس لنا في شئ من ذلك أجر خلا التطهير، قال علي - عليه السلام -: يا سلمان لكم الأجر بالصبر عليه والتضرع إلى الله والدعاء له بهما تكتب لكم الحسنات وترفع لكم الدرجات، فأما الوجع خاصة فهو تطهير وكفارة " (1). ويدل عليه أيضا ما روي عن الصادق - عليه السلام - أنه قال: " من مرض ليلة فقبلها بقبولها كتب الله عز وجل له عبادة ستين سنة (قال الراوي) قلت: ما معنى قبولها؟ قال: لا يشكو ما أصابه فيها إلى أحد " (2).
(1) جامع الأحاديث: ج 3 ص 91 - 92. (2) جامع الأحاديث: ج 3 ص 99. 142 5 - عقيدتنا في التكليف نعتقد أنه تعالى لا يكلف عباده إلا بعد إقامة الحجة عليهم، ولا يكلفهم إلا ما يسعهم، وما يقدرون عليه، وما يطيقونه، وما يعلمون، لأنه من الظلم تكليف العاجز والجاهل غير المقصر في التعليم (1).
143 الفقه (1). ثم إن المصنف لم يذكر بقية الشرائط العامة للمكلف من البلوغ والعقل، كما لم يذكر شرائط نفس التكليف من انتفاء المفسدة فيه، وتقدمه على وقت الفعل. نعم سيأتي (في 8 - عقيدتنا في أحكام الدين) بعض شرائط التكليف كلزوم كونه مطابقا لما في الأفعال من المصالح والمفاسد، وأيضا لم يذكر شرائط المكلف (بكسر اللام) من لزوم كونه عالما بصفات الفعل، من كونه حسنا أو قبيحا، ومن لزوم كونه قادرا على ايصال الأجر اللائق إلى العاملين، وغير ذلك كما لم يذكر شرائط المكلف به من كونه ممكنا أو مشتملا على المصالح أو المفاسد. ولعل كل ذلك لوضوح بعضها ولعدم دخل البعض الآخر في البحث من أنه لا يفعل القبيح ولا يترك الحسن كما لا يخفى. ثم إن التكليف سمي تكليفا بلحاظ إحداث الكلفة، وايقاع المكلف فيها، ولعله لذا عرفه العلامة الحلي - قدس سره - بأنه بعث من يجب طاعته على ما فيه مشقة (2) ومن المعلوم أن مراده من المشقة ليس العسر الذي يوجب نفي الحكم، بل هو ما يوجب الزحمة ويحتاج فعله إلى المؤونة. وكيف كان فقد احترز بقيد المشقة، عما لا مشقة فيه، كأكل المستلذات، والظاهر من كلامه أنه جعل الكلفة في متعلق التكليف، ولذا احترز عن مثل أكل المستلذات، وأما إن أريد من الكلفة هو جعل المكلف في قيد التكليف، فلا يلزم أن يكون في متعلقه مشقة، بل في مثل المذكور أيضا يحدث الكلفة، بصيرورته مقيدا بفعله مع أنه في فسحة قبل التكليف بالنسبة إلى ترك أكل المستلذات فافهم. ثم إن التكليف من العناوين المنتزعة من صيغة الأمر وما شابهها، إذا
(1) أصول الفقه: ج 1 ص 88. (2) الباب الحادي عشر. 144 أما الجاهل المقصر في معرفة الأحكام والتكاليف فهو مسؤول عند الله تعالى ومعاقب على تقصيره، إذ يجب على كل إنسان أن يتعلم ما يحتاج إليه من الأحكام الشرعية (2).
(1) نهاية الدراية: ج 1 ص 151. 145 الثالث: ما دل على مؤاخذة الجهال والذم بفعل المعاصي المجهولة المستلزم لوجوب تحصيل العلم، لحكم القل بوجوب التحرز عن مضرة العقاب. مثل قوله - صلى الله عليه وآله - في من غسل مجدورا (1) أصابته جنابة فكر (2) فمات -: " قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا؟ ألا يمموه؟ " وقوله - لمن أطال الجلوس في بيت الخلاء لاستماع الغناء -: " ما كان أسوء حالك لومت على هذه الحالة " ثم أمره بالتوبة، وغسلها، وما ورد في تفسير قوله تعالى: " فلله الحجة البالغة " من أنه يقال للعبد يوم القيامة: هل علمت؟ فإن قال: نعم، قيل: فهلا عملت؟ وإن قال: لا، قيل له: هلا تعلمت حتى تعمل؟ - إلى أن قال الشيخ الأعظم -. الرابع: أن العقل لا يعذر الجاهل القادر على الاستعلام - إلى أن قال: - كما لا يعذر الجاهل بالمكلف به العالم به إجمالا، ومناط عدم المعذورية في المقامين هو عدم قبح مؤاخذة الجاهل فيهما، فاحتمال الضرر بارتكاب الشبهة غير مندفع بما يؤمن معه من ترتب الضرر. ألا ترى أنهم حكموا باستقلال العقل بوجوب النظر في معجزة مدعي النبوة وعدم معذوريته في تركه، مستندين في ذلك إلى وجوب دفع الضرر المحتمل، لا إلى أنه شك في المكلف به، هذا كله مع أن في الوجه الأول وهو الاجماع القطعي كفاية " (3). وحاصله أن الجاهل المقصر سواء علم بأصل التكليف، وشك في المكلف به، وجهل به، كما هو كذلك نوعا إذ المكلف إذا التفت إلى أنه لم يخلق مهملا ولم يترك سدى، فضلا عن أن آمن بالإسلام وتدين به، علم اجمالا بتكاليف كثيرة فعلية، أو لم يعلم بشئ، لم يكن معذورا، فإن عليه أن يفحص، ولا مجال
(1) المجدور: من به الجدري وهو مرض يسبب بثورا حمرا بيض الرؤوس تنتشر في البدن وتتقيح سريعا وهو شديد العدوي أي الفساد والسراية. (2) أي أصابه الكزاز وهو داء أو رعدة من شدة البرد. (3) فرائد الأصول: ص 300 - 301. 146 ونعتقد أنه تعالى لابد أن يكلف عباده، ويسن لهم الشرايع، وما فيه صلاحهم وخيرهم، ليدلهم على طرق الخير والسعادة الدائمة، ويرشدهم إلى ما فيه الصلاح، ويزجرهم عما فيه الفساد والضرر عليهم وسوء
(1) فرائد الأصول: ص 303. 147 عاقبتهم، وان علم، أنهم لا يطيعونه، لان ذلك لطف ورحمة بعباده، وهم يجهلون أكثر مصالحهم، وطرقها في الدنيا والآخرة، ويجهلون الكثير مما يعود عليهم بالضرر والخسران. والله تعالى هو الرحمن الرحيم بنفس ذاته، وهو من كماله المطلق، الذي هو عين ذاته، ويستحيل أن ينفك عنه (3).
148 بينا أن القبح عقلي لا سمعي (1) فالظاهر أن المراد منه هو الحكم العقلي بوجوب الصدور منه، وهو بظاهره لا يرفع إشكال بعض أهل السنة وغيرهم، من أنه لا يجب على الله تعالى شئ (2). اللهم إلا أن يقال: إن المراد من الحكم العقلي هو ادراك ضرورة صدوره منه، وعليه فيرجع ما ذهب إليه العلامة، إلى ما ذهب إليه الحكماء، كما أشار إليه المصنف. قال المحقق اللاهيجي: " إن تشنيع المخالفين في وجوب شئ على الله واستبعادهم، ناش عن قلة تدبرهم في مراد القوم من وجوب شئ بحكم العقل عليه تعالى، فإن مرادهم منه أن كل فعل من شأنه استحقاق مذمة فاعله لا يفعله الله ولا يصدر منه تعالى، وهكذا كل فعل حسن لو أخل به غيره استحق المذمة فهو تعالى منزه عن الإخلال به، وأما منع تصور الذم بالنسبة إليه تعالى فهو مجرد تهويل، لأن الذم مقابل المدح، والمدح مرادف أو مساو للحمد، وهو واقع في حقه، فما لا يعقل هو استحقاق الذم بالنسبة إليه تعالى لا تصور الذم " (3). ويظهر مما ذكره المحقق اللاهيجي - قدس سره - في تصوير وجوب شئ عليه تعالى، أن الحكم العقلي ليس بمعنى أمر العقل حتى يستبعد في حقه تعالى، ويقال: كيف يمكن أن يكون هو تعالى منقادا لأمر العقل مع أنه مخلوق من مخلوقاته، فلو إنقاد لأمر العقل ونهيه لزم حاكمية العقل المخلوق، على خالقه، بل معناه ادراك ضرورة صدوره عنه وكونه منزها عن الإخلال به، هذا. ثم إنه أجيب عن الاشكال أيضا، بما حاصله أن المراد من العقل ليس هو عقل الانسان، بل عقله تعالى، فالله تعالى هو الذي عقل الكل، وعقله يحكم بذاك، فلا يلزم حاكمية العقل المخلوق عليه، ورده بعض المحققين بأن الجواب
(1) كشف الفوائد: ص 68. (2) كما نسب إليهم ا لمحقق الطوسي في قواعد العقائد. راجع كشف الفوائد: ص 68. (3) گوهر مراد: ص 248. 149 المذكور جواب يصلح لاقناع العامة، ولكن الإشكال فيه أن التعدد في ذاته تعالى غير متصور، فليس فيه قوة باسم العقل، وقوة أخرى منقادة لحكم العقل، فالجواب يؤول في الواقع إلى تشبيهه تعالى بخلقه في نسبة العقل إليه، مضافا إلى أن شأن العقل هو درك المفاهيم، والمفاهيم من قبيل العلوم الحصولية، فلا تناسب علمه تعالى، فإن علمه من قبيل العلم الحضوري، كما أن شأن العقل ليس هو الأمر والنهي، فلا يتصور حاكمية عقله تعالى وآمريته. وفي الجواب والرد كليهما نظر، أما الرد فبأن التعدد الاعتباري يكفي في تصوير الحاكم والمحكوم، كما أنه يكفي في تصوير العالم والمعلوم، مع اتحادهما في ذاته تعالى، ومما ذكر يظهر أنه لا تشبيه ولا تنظير في صفاته بمخلوقاته بعد كون صفاته عين ذاته، والتعدد بالاعتبار، هذا مضافا إلى أن حمل " عاقل " كحمل " عالم " عليه تعالى في الحاجة إلى تجريده عما يشوبه من خصوصيات الممكنات، من الحاجة إلى المبادئ والمقدمات، ومن كونه كيفا أو فعلا حادثا للنفس وغيرهما من الأمور التي تكون من خصوصية مصاديقهما فهو تعالى عالم بالعلم الحضوري وعاقل ومدرك بالعلم الحضوري. وأما الجواب فبأن مرادهم من العقل هو مطلق العقل لا خصوص عقله تعالى، فاختصاص العقل به أجنبي عن مرادهم، هذا مضافا إلى ما أشير إليه في الرد المذكور من أن شأن العقل هو الدرك، لا الأمر والنهي. وكيف كان فذاته الكامل لا يقتضي إلا النظام الأحسن، ومن المعلوم أن القبيح لا يناسب ذاته الكامل، والمناسبة والسنخية من أحكام العلية، فيمتنع صدور القبيح أو ترك الحسن منه تعالى، من جهة اقتضاء ذاته وصفاته، لا من جهة تأثير العوامل الخارجية فيه تعالى، من حكم عقلي، أو عقلائي بوجوب صدور الحسن، وترك القبيح، مع أنه لا ينفعل من شئ. وعليه فمقتضى كمال ذاته هو لزوم إفاضة اللطف منه للعباد، ومنه
150 التكليف، إذ عدم التكليف إما من جهة الجهل أو من جهة النقص في الجود والكرم، أو من جهة العجز، أو من جهة البخل، أو من جهة عدم المحبة بالكمال والنظام الأحسن، وكل هذه مفقودة في ذاته تعالى، وإلا لزم الخلف في كونه صرفا في العلم والكمال والقدرة وفي كونه عالما بنفسه وبكماله وآثاره ومحبا له، فلا سبب لترك التكليف، وفرض ترك التكليف حينئذ يستلزم ترجيح المرجوح وهو محال، لرجوعه إلى ترجح من غير مرجح. ثم لا يذهب عليك أن الطريق الذي سلكه المصنف في إثبات اللطف والرحمة، أولى مما سلكه أهل الكلام من أن كل مقرب إلى الطاعة، ومبعد عن المعصية لطف، وهو واجب في حكمته، لأن الإهمال به نقض للغرض، وهو قبيح كمن دعا غيره إلى مجلس للطعام، وهو يعلم أنه مع كونه مكلفا بالإجابة، ومتمكنا من الامتثال، لا يجيبه إلا أن يستعمل معه نوعا من التأدب، فالتأدب المذكور يقرب المكلف إلى الامتثال ويبعده عن المخالفة، فإذا كان للداعي غرض صحيح في دعوته، يجب عليه استعمال التأدب المذكور، تحصيلا لغرضه، وإلا نقض غرضه الصحيح وهو قبيح عن الحكيم. وإنما قلنا طريق المصنف أولى من طريق أهل الكلام، لأن محصل الطريق المختار، هو امتناع انفكاك اللطف و التكليف، لا وجوب صدور التكليف عليه تعالى، ومن المعلوم أن مع تعبير امتناع انفكاك اللطف والتكليف لا يأتي فيه الاشكال المذكور، من أنه محيط على كل شئ، فكيف يقع تحت حكم عقلي أو عقلائي، ويتأثر منه، وإن أمكن الجواب عن الاشكال مع تعبير الوجوب أيضا، بما عرفت من أن المراد من الوجوب العقلي، هو أدراك الضرورة وامتناع التكليف أيضا. هذا مضافا إلى أن حاصل الطريق المختار، أن الإنسان لا يتمكن من معرفة مصالحه ومفاسده، وكيفية سلوكه نحو الكمال إلا باللطف والتكليف، وهو أولى
151 ولا يرفع هذا اللطف وهذه الرحمة أن يكون العباد متمردين على طاعته، غير منقادين إلى أوامره ونواهيه (4).
152 6 - عقيدتنا في القضاء والقدر ذهب قوم، وهم المجبرة، إلى أنه تعالى هو الفاعل لأفعال المخلوقين فيكون قد أجبر الناس على فعل المعاصي، وهو مع ذلك يعذبهم عليها، وأجبرهم على فعل الطاعات ومع ذلك يثيبهم عليها، لأنهم يقولون: إن أفعالهم في الحقيقة أفعاله، وإنما تنسب إليهم على سبيل التجوز، لأنهم محلها، ومرجع ذلك إلى إنكار السببية الطبيعية بين الأشياء، وأنه تعالى هو السبب الحقيقي لا سبب سواه. وقد أنكروا السببية الطبيعية بين الأشياء، إذ ظنوا أن ذلك هو مقتضى كونه تعالى هو الخالق الذي لا شريك له، ومن يقول بهذه المقالة فقد نسب الظلم إليه، تعالى عن ذلك (1).
153 الإرادة وهو الفارق عندهم بين الفعل الاختياري والاضطراري. والذي أوجب هذا الزعم الفاسد فيهم، هو عدم درك معنى التوحيد الأفعالي، وتخيلوا أنه لا يمكن الجمع بين التوحيد الافعالي وسببية الأشياء. وفيه أولا: أن انكار السببية والعلية خلاف الوجدان، فإنا نرى أنفسنا علة ايجادية بالنسبة إلى التصورات والتفكرات الذهنية ونحوها من أفعال النفس، لأن هذه الأمور مترشحة عن النفس ومتوقفة عليها من دون العكس، وليس معنى السببية إلا ذلك، و الوجدان أدل دليل على ثبوت السببية والعلية فلا مجال لانكارها. وثانيا: أن التزاحم المشاهد بين الماديات مما يشهد على وجود رابطة العلية والتأثير و التأثر بالمعنى الأعم فيها، وإلا فلا مجال لذلك، إذ المفروض أنه لا تأثير لها، وإرادته تعالى لا تكون متزاحمة، لعدم التكثر في ذاته، والمفروض أنه لا دخل لغيره تعالى في السببية، فالتزاحم ليس إلا لتأثير الماديات بعضها في بعض. وثالثا: بأن النصوص الشرعية تدل على وجود الرابطة السببية، كقوله تعالى: " فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا * قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا * قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا " (1) حيث نسب التمثل وهكذا هبة الغلام إلى الروح. وكقوله عز وجل: " قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم " (2) إذ أسند عذاب الكفار إلى أيدي المؤمنين وغير ذلك من الآيات، فلا وجه لإنكار السببية. وأما توهم المنافاة بينها وبين التوحيد الأفعالي فهو مندفع، بأن السببية المذكورة ليست مستقلة حتى تنافيه، بل هي السببية الطولية، وهي منتهية إليه
(1) مريم: 17 - 19. (2) التوبة: 14. 154 تعالى في عين كونها حقيقية، نعم يختص بالله تعالى السببية الاستقلالية، وهو المراد من قولهم: لا مؤثر في الوجود إلا الله تعالى. وبالجملة فكما أن وجود المخلوقين لا يتنافى مع التوحيد الذاتي، لأن وجودهم منه تعالى وفي طول وجوده، كذلك تأثيرهم في الأشياء لا ينافي حصر المؤثر الاستقلالي فيه تعالى، كما يقتضيه التوحيد الأفعالي، لأن تأثيرهم بإذنه تعالى وينتهي إليه، ولذلك قال العلامة الطباطبائي - قدس سره -: انتساب الفعل إلى الواجب تعالى بالايجاد لا ينافي انتسابه إلى غيره من الوسائط، والانتساب طولي لا عرضي (1). فالعباد هم المباشرون للأفعال وكانت الأفعال أفعالا اختيارية لهم، لقدرتهم على تركها وتمكنهم من خلافها، والأفعال مستندة إليهم بالحقيقة، ومع ذلك لا يكونون مستقلين في الوجود والفاعلية، بل متقومون به تعالى، وليس هذا إلا لكونهم في طول وجود الرب المتعال، ومنه ينقدح فساد ما استدلوا به على مختارهم، من أن التأثير مستند إلى قدرة الله تعالى دون العباد، وإلا لزم اجتماع قادرين على مقدور واحد، والتالي باطل، فالمقدم مثله بيان الشرطية أنه تعالى قادر على كل مقدور، فلو كان العبد قادرا على شئ، لاجتمعت قدرته وقدرة الله تعالى عليه، وأما بطلان التالي، فلأنه لو أراد الله ايجاده وأراد العبد اعدامه، فإن وقع المرادان أو عدما لزم اجتماع النقيضين، وإن وقع مراد أحدهما دون الآخر لزم الترجيح من غير مرجح (2). وذلك لما عرفت من أن قدرة العبد في طول قدرة الرب وبإذنه وارادته، ومن المعلوم أن ما يكون كالظل للشئ وطورا له، لا يمكن أن يعارض ذا
(1) نهاية الحكمة: ص 267. (2) راجع شرح تجريد الاعتقاد: ص 309 الطبعة الحديثة، كشف الفوائد: ص 60، قواعد المرام: ص 109. 155 الظل، وعليه فلو أراد الله تعالى فعلا تكوينا لوقع بإرادته ولو لم يرده العبد، لقوة قدرته وارادته دون العكس، ولعل إليه يؤول ما أشار إليه المحقق الطوسي - قدس سره - في متن تجريد الاعتقاد حيث قال: " ومع الاجتماع يقع مراده تعالى ". إن قلت: ربما يقع الفعل عن العبد على خلاف ارادته تعالى، ككفر الكفار وعصيان العصاة، مع أنه تعالى لا يريد الكفر والعصيان. قلت: إنه تعالى في مثل ما ذكر لا يريد تكوينا إلا ما اختاره العباد ولو بالإرادة التبعية، فما وقع عن العباد لا يخرج عن ارادته وإن منعهم وزجرهم عنه تشريعا، لأنه أراد أن يفعل الإنسان ما يشاء بقدرته واختياره، حتى يتمكن من النيل إلى الكمال الاختياري، فمقتضى كونه مختارا في أفعاله هو أن يتمكن من السعادة والشقاوة كليهما، فلا معنى لأن يكون مختارا ومع ذلك لا يكون متمكنا من الشقاوة فاللازم هو التمكن بالنسبة إلى كل واحد من السعادة والشقاوة، وهذا التمكن أعطي للإنسان من ناحية الله تعالى مع منعه إياهم عن سلوك مسلك الشقاوة ففي نظائر ما ذكر لا يغلب إرادة الكفار والعصاة على ارادته تعالى، بل هو المريد لفعل العبد عن اختياره وارادته لا جبرا وبدون الاختيار، ولعل إليه يرجع قوله عز وجل: " وما تشاؤون إلا أن يشاء الله " (1). إذ الآية المباركة في عين كونها في مقام إثبات المشيئة له تعالى، أثبت المشيئة للإنسان أيضا، وليس هذا إلا الطولية المذكورة، ويؤيدها ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وآله - " إن الله يقول: يا بن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء، وبارادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد " (2).
(1) الدهر: 30. (2) بحار الأنوار: ج 5 ص 94. 156 فالقول بمعارضة إرادة العباد مع إرادة الله تعالى، لا يوافق الطولية، بل مناسب مع الإرادة الاستقلالية، وهي ممنوعة عندنا. ورابعا: أن دعوى الجبر وعدم الاختيار لا يساعدها الوجدان، ضرورة أنا ندرك بالعلم الحضوري قدرتنا على ايجاد الأفعال مع التمكن من الخلاف، نحن نقدر على التكلم مثلا ونتمكن من تركه، وهكذا، والوجدان أدل دليل على وجود الاختيار فينا، إذ لا خطأ في العلم الحضوري. لا يقال: إن الإرادة ليست باختيارية، لانبعاثها عن الأميال الباطنية التي ليست تحت اختيارنا، بل تكون متأثرة عن العوامل الطبيعية الخارجية، فلا مجال لاختيارية الافعال، لأنا نقول: إن هذه الأميال معدة لا علة، فالإرادة مستندة إلى الاختيار، ويشهد لذلك إمكان المخالفة للأميال المذكورة، كترك الأكل والشرب، لغرض إلهي في شهر رمضان، مع أن الأميال موجودة، وليس ذلك إلا لوجود الاختيار، هذا مضافا إلى أن حصول الترديد والشك عند بعض الأميال، بالنسبة إلى الفعل أو الترك في بعض الأوقات، بحيث يحتاج الترجيح إلى التأمل والاختيار، شاهد آخر على أن الأميال ليست سالبة للاختيار. ومما ذكر يظهر ما في توهم أن المؤثر التام في الإرادة هو الوراثة، أو عوامل المحيط الاجتماعي، ولا مجال للاختيار، وذلك لما عرفت من أن تلك الأمور لا تزيد على الاعداد، ولا توجب أن تترتب عليها الإرادة، ترتب المعلول على العلة، بل غايتها هو الاقتصاء، بل الإرادة تحتاج إلى ملاحظة الإنسان، الشئ الذي تقتضيه العوامل المحيطية، أو الوراثة، وفائدتها وضررها، ثم تزاحمهما مع سائر الأميال والموجبات، ثم الترجيح بينها، فالإرادة مترتبة على اختيار الانسان (1). فالمؤثر في الأفعال إرادتنا باختيارنا، فمن أنكر الإرادة والاختيار، أنكر ما
(1) راجع أصول فلسفه: ج 3 ص 154 - 173، وآموزش عقائد: ج 1 ص 175. 157 يقتضيه الوجدان، قال أبو الهذيل: " حمار بشر أعقل من بشر " (1) ولعله لأن الحمار عند رؤية الحفرة لا يدخل فيها، بل يمشي مع الاختيار، فكيف يكون الإنسان في أفعاله بلا اختيار؟ وقد يتخيل الجبر بتوهم أن الجبر مقتضي علمه تعالى بالأمور من الأزل، وغاية تقريبه أن الله تعالى علم بكل شئ من الأزل، فحيث لا تبديل ولا تغيير في علمه الذاتي، فما تعلق العلم به في الأزل يقع في الخارج، طبقا لما علمه من دون اختيار، وإلا فلا يكون علمه علما، فمن كان في علمه تعالى عاصيا لا يمكن أن يصير مطيعا. ولكن الجواب عنه واضح، حيث أن العلم الذاتي لا يسلب الاختيار عن المختار، فمن كان في علمه عاصيا بالاختيار يصير كذلك بالاختيار، وإلا لزم أن يكون علمه جهلا وهو محال. ثم إنه يظهر من بعض كلمات المتكلمين من الأشاعرة، أن مجرد مقارنة الإرادة في أفعالنا مع الفعل الصادر عن الله تعالى، يكفي في تسمية الفعل بالمكسوب، مع أنه كما ترى، إذ لا أثر للإرادة على المفروض في الفعل، ولذا قال في قواعد المرام: " فأما حديث الكسب فهو اسم بلا مسمى " (3). وخامسا: أن التوالي الفاسدة لهذا القول كثيرة، منها امتناع التكليف، لأن الناس غير قادرين، والتكليف بما لا يطاق قبيح، ومنها لغوية ارسال الرسل والأنبياء، لأن اتباعهم ليس تحت قدرتهم، ومنها عدم الفائدة في الوعد والوعيد، لأن المفروض عدم دخالة الناس في الأفعال، ومنها أنه لا معنى للمدح والذم بالنسبة إلى أفعال العباد، لعدم دخالتهم فيها أصلا. كما حكي عن مولانا أمير المؤمنين - عليه السلام - أنه قال في الجواب عن
(1) اللوامع الإلهية: ص 35. (2) قواعد المرام: ص 110. 158 السؤال عن الجبر: " لو كان كذلك، لبطل الثواب والعقاب، والأمر والنهي والزجر، ولسقط معنى الوعد والوعيد، ولم تكن على مسئ لائمة، ولا لمحسن محمدة، الحديث " (1). وقد روي عن أبي الحسن موسى بن جعفر - عليهما السلام - " أنه سأل عنه أبو حنيفة عن أفعال العباد ممن هي؟ فقال: إن أفعال العباد لا تخلو من ثلاثة منازل، إما أن تكون من الله تعالى خاصة، أو منه ومن العبد على وجه الاشتراك فيها، أو من البعد خاصة، فلو كانت من الله تعالى خاصة، لكان أولى بالحمد على حسنها، والذم على قبحها، ولم يتعلق بغيره حمد ولا لوم فيها، ولو كانت من الله ومن العبد لكان الحمد لهما معا فيها، والذم عليهما جميعا فيها - لأن المفروض أنهما مستقلان فيها - وإذا بطل هذان الوجهان، ثبت أنها من الخلق، فإن عاقبهم الله تعالى على جنايتهم بها فله ذلك، وإن عفا عنهم فهو أهل التقوى وأهل المغفرة " (2). وظاهره أن مباشرة الأفعال من الإنسان وهو لا يمكن إلا بالاختيار، وهو المصحح للعقاب والعفو كما لا يخفى. ثم إن إثبات كون الأفعال صادرة من الخلق لا ينافي استنادها إليه تعالى بالطولية وبواسطتهم، كما سيأتي تصريح الأدلة به، وإنما المنافي هو استنادها إليه تعالى في عرض صدورها من الخلق فلا تغفل. هذا كله مضافا إلى أن الفكر الجبري يؤدي إلى رفض المسؤولية كلها، لأنه لا يرى لنفسه تأثيرا في شئ من الأشياء فلذا ينظلم، ولا يسعى في التخلق بالأخلاق الحسنة، وإصلاح الاجتماع، ودفع الظلم والجور، ولعله لذلك كان ترويج عقيدة الجبر من أهداف الحكومات الظالمة، لأن الناس إذا كان ذلك اعتقادهم خضعوا لسلطة الظلمة ولم يروهم مقصرين فيما يفعلون.
(1) بحار الأنوار: ج 5 ص 4. (2) كتاب تصحيح الاعتقاد: ص 13. 159 وذهب قوم آخرون وهم " المفوضة " إلى أنه تعالى فوض الأفعال إلى المخلوقين ورفع قدرته وقضاءه وتقديره عنها، باعتبار أن نسبة الافعال إليه تعالى تستلزم نسبة النقص إليه وإن للموجودات أسبابها الخاصة وان انتهت كلها إلى مسبب الأسباب والسبب الأول وهو الله تعالى. ومن يقول بهذه المقالة فقد اخرج الله تعالى من سلطانه وأشرك غيره معه في الخلق (2).
(1) كتاب إنسان وسرنوشت. (2) النجم: 39 - 40. 160 " فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم " (1)، وقوله تعالى: " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " (2)، وقوله تعالى: " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله " (3) إلى غير ذلك من الآيات. وفيه أولا: أن لازم ما ذكر أن الانسان لا يحتاج في مقام الفاعلية إليه تعالى، بل هو مستقل في ذلك، وهو ينافي التوحيد الأفعالي وانحصار المؤثرية الاستقلالية فيه تعالى. وثانيا: أن الفعل والفاعل وكل شأن من شؤونه من الممكنات، والممكن ما لم يجب لم يوجد، فإن استند الفعل إلى الواجب المتعال ولو بوساطة المختارين في الأفعال، صار واجبا بالغير ووجد، وإلا فلا يمكن وجوده وإن استند إلى جميع الممكنات. فكما أن الفاعل يستند إلى مسبب الأسباب بالآخرة كذلك فعله مع الاختيار، فلا وجه للتفكيك بينهما مع أنهما كليهما من الممكنات. وثالثا: أن قبح استناد القبايح إليه تعالى، فيما إذا لم يكن واسطة في البين، وأما مع وساطة المختارين والقادرين، فلا مانع منه ولا قبح فيه، لأن معناه حينئذ هو أن الله تعالى خلق العباد قادرين ومختارين لأن يختاروا ما يشاؤون ويصلوا إلى الكمال الاختياري، والخلق المذكور عين لطف وحكمة، لأن التكامل الاختياري الذي هو من أفضل أنواع الكمالات، لا يحصل بدون اختيار العباد فيما يشاؤون. فما هو القبيح من الاستناد بدون وساطة المختارين لا وقوع له، وما وقع لا قبح فيه، وعليه يحمل ما ورد عن أبي الحسن الثالث - عليه السلام - من أنه سئل عن أفعال العباد أهي مخلوقة لله تعالى، فقال: " لو كان خالقا لها - أي بدون وساطة المختارين والقادرين - لما تبرأ منها، وقد قال سبحانه: " إن الله برئ من المشركين " ولم يرد البراءة من خلق ذواتهم وإنما
(1) البقرة: 78. (2) الرعد: 11. (3) التوبة: 105. 161 تبرأ من شركهم وقبائحهم " (1). ورابعا: أن المدح والذم يصحان فيما إذا كان الفعل صادرا بالقدرة والاختيار، للتمكن من الخلاف، ولا يشترط فيهما الاستقلال، إذ ملاك المدح والذم هو القدرة والاختيار في الفعل والترك، وهو موجود في أفعالنا، ولذا يكتفى في المحاكم القضائية عند العقلاء بذلك للمجازاة والمثوبات. وخامسا: أن التفويض لا تساعده الآيات الدالة على أنه ما من شئ إلا ويكون بإرادته وإذنه وقدرته، كقوله تعالى: " وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين " (2)، وقوله عز وجل: " والله خلقكم وما تعملون " (3)، وقوله تعالى: " وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله " (4). وهذه الآيات ونحوها صريحة في أن التفويض لا واقع له، بل كل الافعال سواء كانت قلبية أو خارجية، غير خارجة عن دائرة قدرته ومشيئته وارادته وإذنه، ومقتضى الجمع بين هذه الآيات وما تمسك به المفوضة من الآيات، هو أن المراد من استناد الأفعال إلى العباد ليس هو التفويض، بل يكفي في الاستناد كون مباشرة الأفعال باختيارهم وقدرتهم وتمكنهم من الخلاف، وإن كان قدرتهم تحت قدرته وإذنه ومشيئته تعالى، فالمباشرة منهم بالاختيار لا يستلزم التفويض فلا تغفل، هذا. مضافا إلى نفي التفويض في الأخبار الكثيرة. منها: ما روي عن الصادق - عليه السلام - قال: " الناس في القدر على ثلاثة أوجه: رجل زعم أن الله عز وجل أجبر الناس على المعاصي، فهذا قد ظلم الله عز وجل في حكمه وهو كافر، ورجل يزعم أن الأمر مفوض إليهم، فهذا وهن
(1) بحار الأنوار: ج 5 ص 20. (2) التكوير: 29. (3) الصافات: 96. (4) يونس: 100. 162 الله في سلطانه فهو كافر، ورجل يقول إن الله عز وجل كلف العباد ما يطيقون، ولم يكلفهم ما لا يطيقون، فإذا أحسن حمد الله وإذا أساء استغفر الله فهذا مسلم بالغ " (1). ومنها: ما روي عن الوشاء عن أبي الحسن الرضا - عليه السلام - قال: " سألته فقلت: الله فوض الأمر إلى العباد؟ قال: الله أعز من ذلك، قلت: فأجبرهم على المعاصي؟ فقال: الله أعدل وأحكم من ذلك " (2). لا يقال: إن القبائح لو كانت مستندة إليه تعالى لما حكم سبحانه بحسن جميع ما خلق، مع أنه قال عز وجل: " الذي أحسن كل شئ خلقه " (3)، لأنا نقول: نعم، هذا لو كان الاستناد من دون وساطة الاختيار للعباد وأما مع الوساطة المذكورة فلا قبح فيه، بل هو حسن، لأن مرجعه إلى خلقة العباد مختارين وقادرين وغير مجبورين في الأفعال، بحيث يتمكنون من الإطاعة والعصيان، حتى يمكن لهم أن يصلوا إلى اختيار الكمال مع وجود المزاحمات، وهو أفضل أنواع الكمالات، فخلقة الاختيار في الإنسان - ولو اختار بعض الناس الكفر والعصيان بسوء اختيارهم - خلقة حسنة، بملاحظة أن الكمال الاختياري، المتقوم بالمزاحمات الداخلية والخارجية لا يمكن وجوده إلا بخلقة الاختيار في العباد، والمفروض أن الكمال المذكور من أحسن الأمور في النظام، فمراعاته حسنة والاخلال به لا يساعده الحكمة واللطف كما لا يخفى. ثم إن الظاهر من عبارة الشيخ المفيد - قدس سره - أن التفويض هو القول برفع الحظر عن الخلق في الأفعال، والإباحة لهم ما شاؤوا من الأعمال ونسبه إلى بعض الزنادقة وأصحاب الإباحات (4).
(1) بحار الأنوار: ج 5 ص 10. (2) بحار الأنوار: ج 5 ص 16. (3) السجدة: 7. (4) تصحيح الاعتقاد: ص 14. 163 وأنت خبير بأن المعروف من التفويض، هو ما نسب إلى أكثر المعتزلة، وهو المبحوث عنه في المقام، لأنه ينافي التوحيد الأفعالي، وأما ما نسبه إلى بعض الزنادقة، فهو لا يناسب المقام، بل ينافي لزوم التكليف وعدم جواز إهمال الناس، وقد مر في البحث عن التكليف أنا نعتقد أنه تعالى لا بد أن يكلف عباده ويسن لهم الشرايع وما فيه صلاحهم وخيرهم فراجع. ثم ينقدح مما ذكرنا في نفي الجبر والتفويض، واستناد الأفعال إليه تعالى بوساطة المباشرين، ما في عبارة شيخنا الصدوق - رحمه الله - حيث قال على المحكي: " أفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين، ومعنى ذلك أنه لم يزل عالما بمقاديرها. انتهى " (1). وذلك لأن لازم كلامه أن الأفعال بحسب التكوين مفوضة إلى العباد، وليس هذا إلا قول المفوضة. هذا مضافا إلى ما أورد عليه الشيخ المفيد - قدس سرهما - من أنه ليس يعرف في لغة العرب أن العلم بالشئ هو خلق له، فخلق تقدير لا معنى له (2). ثم لا يخفى عليك ما في يتراءى من التجريد وشرحه، حيث قال في التجريد: " والقضاء والقدر إن أريد بهما خلق الفعل، لزم المحال "، وقال العلامة - قدس سره - في شرحه: " فنقول للأشعري: ما تعني بقولك أنه تعالى قضى أعمال العباد وقدرها؟ إن أردت به الخلق والايجاد فقد بينا بطلانه، وأن الافعال مستندة إلينا " (3). لما عرفت من أن انتهاء خلق الأفعال إليه تعالى بواسطة خلق القدرة واختيار العباد لا مانع منه، بل هو مقتضى التوحيد الأفعالي، ويمكن ارادتهما
(1) تصحيح الاعتقاد: ص 11. (2) تصحيح الاعتقاد: ص 12. (3) شرح تجريد الاعتقاد: ص 315 - 316، الطبعة الحديثة في قم المشرفة. 164 واعتقادنا في ذلك تبع لما جاء عن أئمتنا الأطهار - عليهم السلام - من الأمر بين الأمرين والطريق الوسط بين القولين الذي كان يعجز عن فهمه أمثال أولئك المجادلين من أهل الكلام ففرط منهم قوم وأفرط آخرون ولم يكتشفه العلم والفلسفة إلا بعد عدة قرون (3) وليس من الغريب ممن لم يطلع على حكمة الأئمة - عليهم السلام - وأقوالهم أن يحسب أن هذا القول وهو الأمر بين الأمرين من مكتشفات بعض فلاسفة الغرب المتأخرين، وقد سبقه إليه أئمتنا قبل عشرة قرون.
(1) أصول فلسفه: ج 3 ص 169. 165 فقد قال إمامنا الصادق - عليه السلام - لبيان الطريق الوسط كلمته المشهورة: " لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين الأمرين " (4).
(1) انسان وسرنوشت: ص 102. (2) الأصول من الكافي: ج 1 ص 160. 166 المالك لما ملكهم والقادر على ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صادا ولا منها مانعا وإن ائتمروا بمعصيته فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل، وإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه، ثم قال - عليه السلام -: من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه " (1). ولا يخفى عليك أن قوله: " هو المالك لما ملكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه " يدل على أن قدرة المخلوقين وتمكنهم من الفعل أو الترك تحت قدرته وملكه تعالى، وليس ذلك إلا الملكية الطولية، إذ مع إسناد الملك والقدرة إليهم أسندهما إلى نفسه أيضا، كما إن قوله - عليه السلام - في الذيل: " فليس هو الذي أدخلهم فيه " يدل على أن الفعل واقع بمباشرتهم واختيارهم فالمحصل أن الأفعال مع كونها صادرة عن العباد بالاختيار، تكون تحت قدرة الخالق وملكيته تعالى. ومنها: ما رواه الطبرسي - عليه الرحمة - عن أبي حمزة الثمالي - أنه قال: قال أبو جعفر - عليه السلام - للحسن البصري: " إياك أن تقول بالتفويض، فإن الله عز وجل لم يفوض الأمر إلى خلقه وهنا منه وضعفا ولا أجبرهم على معاصيه ظلما. الحديث " (2). ومنها ما رواه الطبرسي - عليه الرحمة - أيضا عن هشام بن الحكم، قال: " سأل الزنديق أبا عبد الله - عليه السلام - فقال: أخبرني عن الله عز وجل كيف لم يخلق الخلق كلهم مطيعين موحدين وكان على ذلك قادرا؟ قال - عليه السلام -: لو خلقهم مطيعين لم يكن لهم ثواب، لأن الطاعة إذا ما كانت فعلهم لم تكن جنة ولا نار، ولكن خلق خلقه فأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته واحتج عليهم برسله وقطع عذرهم بكتبه، ليكونوا هم الذين
(1) بحار الأنوار: ج 5 ص 16، نقلا عن التوحيد وعيون الأخبار. (2) بحار الأنوار: ج 5 ص 17، نقلا عن الاحتجاج. 167 يطيعون ويعصون ويستوجبون بطاعتهم له الثواب وبمعصيتهم إياه العقاب، قال: فالعمل الصالح من العبد هو فعله والعمل الشر من العبد هو فعله؟ قال: العمل الصالح، العبد يفعله والله به أمره، والعمل الشر العبد يفعله والله عنه نهاه. قال: أليس فعله بالآلة التي ركبها فيه؟ قال: نعم، ولكن بالآلة التي عمل بها الخير قدر بها على الشر الذي نهاه عنه. قال: فإلى العبد من الأمر شئ؟ قال: ما نهاه الله عن شئ إلا وقد علم أنه يطيق تركه، ولا أمره بشئ إلا وقد علم أنه يستطيع فعله، لأنه ليس من صفته الجور والعبث والظلم وتكليف العباد ما لا يطيقون. الحديث " (1). ومنها: ما رواه في البحار عن أمير المؤمنين - عليه السلام - حين سأله عباية الأسدي عن الاستطاعة أنه قال - عليه السلام - في جوابه: " تملكها من دون الله أو مع الله؟ فسكت الأسدي، فقال له: قل يا عباية، قال: وما أقول؟ قال: إن قلت تملكها مع الله قتلتك، وإن قلت تملكها من دون الله قتلتك، قال: وما أقول يا أمير المؤمنين؟ قال: تقول: تملكها بالله الذي يملكها من دونك، فإن ملككها كان ذلك من عطائه، وإن سلبكها كان ذلك من بلائه، وهو المالك لما ملكك، والمالك لما عليه أقدرك، أما سمعت الناس يسألون الحول والقوة حيث يقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله؟ فقال الرجل: وما تأويلها يا أمير المؤمنين؟ قال: لا حول لنا عن معاصي الله إلا بعصمة الله، ولا قوة لنا على طاعة الله إلا بعون الله، قال: فوثب الرجل وقبل يديه ورجليه " (2). ومنها: ما رواه في الإحتجاج عن موسى بن جعفر - عليهما السلام - قال: إن الله خلق الخلق فعلم ما هم إليه صائرون، فأمرهم ونهاهم فما أمرهم به من
(1) بحار الأنوار: ج 5 ص 18 نقلا عن الاحتجاج ولعل كلمة واو سقطت قبل قوله: لم تكن جنة ولا نار. (2) بحار الأنوار: ج 5 ص 24. 168 شئ فقد جعل لهم السبيل إلى الأخذ به وما نهاهم عنه من شئ، فقد جعل لهم السبيل إلى تركه، ولا يكونون آخذين ولا تاركين إلا بإذنه، وما جبر الله أحدا من خلقه على معصيته، بل اختبرهم بالبلوى، كما قال تعالى: " ليبلوكم أيكم أحسن عملا " (1). ومنها: ما رواه في الخصال وغيره عن الحسين بن علي - عليهما السلام - قال: " سمعت أبي علي بن أبي طالب - عليه السلام - يقول: الأعمال على ثلاثة أحوال: فرائض وفضائل ومعاصي، فأما الفرائض فبأمر الله تعالى وبرضى الله وبقضائه وتقديره ومشيته وعلمه، وأما الفضائل فليست بأمر الله - أي الأمر الوجوبي - ولكن يرضى الله وبقضاء الله وبقدر الله وبمشية الله وبعلم الله، وأما المعاصي فليست بأمر الله ولكن بقضاء الله وبقدر الله وبمشية الله وبعلمه ثم يعاقب عليها " (2) ودلالته على أن كل شئ حتى المعاصي تحت قضائه وقدره ومشيته واضحة. ومنها: ما رواه في الكافي عن حمزة بن حمران قال: " سألت أبا عبد الله - عليه السلام - عن الاستطاعة، فلم يجبني، فدخلت عليه دخلة أخرى فقلت: أصلحك الله، إنه قد وقع في قلبي منها شئ لا يخرجه إلا شئ أسمعه منك، قال: فإنه لا يضرك ما كان في قلبك، قلت: أصلحك الله، إني أقول: إن الله تبارك وتعالى لم يكلف العباد ما لا يستطيعون ولم يكلفهم الا ما يطيقون، وانهم لا يصنعون شيئا من ذلك إلا بإرادة الله ومشيته وقضائه وقدره، قال: فقال هذا دين الله الذي أنا عليه وآبائي. الحديث " (3) حمله الصدوق - رحمه الله - على أن
(1) بحار الأنوار: ج 5 ص 26. (2) بحار الأنوار: ج 5 ص 29، نقلا عن التوحيد والخصال وعيون الأخبار. (3) الأصول من الكافي: ج 1 ص 162 بحار الأنوار: ج 5 ص 36 مع تفاوت والأصح هو ما رواه في الكافي. 169 مشية الله وارادته في الطاعات، الأمر بها، وفي المعاصي النهي عنها والمنع منها بالزجر والتحذير، ولكنه بلا موجب فافهم. ومنها: ما رواه في التوحيد عن أمير المؤمنين - عليه السلام - أنه مر بجماعة بالكوفة وهم يختصمون بالقدر - في القدر - فقال لمتكلمهم: " أبا الله تستطيع، أم مع الله، أم من دون الله تستطيع؟ فلم يدر ما يرد عليه، فقال أمير المؤمنين - عليه السلام -: إن زعمت أنك بالله تستطيع فليس إليك من الأمر شئ، وإن زعمت أنك مع الله تستطيع، فقد زعمت أنك شريك معه في ملكه، وإن زعمت أنك من دون الله تستطيع، فقد ادعيت الربوبية من دون الله تعالى. فقال: يا أمير المؤمنين، لا، بل بالله أستطيع، فقال: أما انك لو قلت غير هذا لضربت عنقك " (1) ولا يخفى عليك أن قوله: " إن زعمت أنك بالله تستطيع، الخ " بيان صورة الجبر جمعا بينه وبين قوله في الذيل، كما يشهد له قوله بعده: " فليس إليك من الأمر شئ " فإنه لا يساعد إلا مع الجبر. ومنها: ما رواه في الخصال عن أبي الحسن الأول - عليه السلام - قال: " لا يكون شئ في السماوات والأرض الا بسبعة بقضاء وقدر وإرادة ومشية وكتاب وأجل واذن، فمن قال غير هذا فقد كذب على الله أو رد على الله عز وجل " (2). ومنها: ما رواه في التوحيد " جاء رجل إلى أمير المؤمنين - عليه السلام - فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن القدر، فقال: بحر عميق فلا تلجه، فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن القدر، قال: طريق مظلم فلا تسلكه، قال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن القدر، قال: سر الله فلا تتكلفه، قال: يا أمير المؤمنين، أخبرني عن القدر، قال: فقال أمير المؤمنين - عليه السلام -: أما إذا أبيت فاني
(1) بحار الأنوار: ج 5 ص 39. (2) بحار الأنوار: ج 5 ص 88. 170 سائلك، أخبرني أكانت رحمة الله للعباد قبل أعمال العباد أم كانت أعمال العباد قبل رحمة الله؟ قال: فقال له الرجل: بل كانت رحمة الله للعباد قبل أعمال العباد. فقال أمير المؤمنين - عليه السلام -: قوموا فسلموا على أخيكم، فقد أسلم وقد كان كافرا. قال: وانطلق الرجل غير بعيد، ثم انصرف إليه، فقال له: يا أمير المؤمنين، أبا لمشية الأولى نقوم ونقعد ونقبض ونبسط؟ فقال له أمير المؤمنين - عليه السلام -: وإنك لبعيد في المشية، أما إني سائلك عن ثلاث لا يجعل الله لك في شئ منها مخرجا. أخبرني أخلق الله العبا كما شاء أو كما شاؤوا؟ فقال: كما شاء، قال: فخلق الله العباد لما شاء أو لما شاؤوا؟ فقال: لما شاء، قال: يأتونه يوم القيامة كما شاء أو كما شاؤوا؟ قال: يأتونه كما شاء، قال: قم فليس إليك من المشية شئ " (1). قال العلامة الطباطبائي - قدس سره - في ضمن ما قاله في توضيح الرواية: " والأشياء إنما ترتبط به تعالى من جهة صفاته الفعلية التي بها ينعم عليها ويقيم صلبها ويدبر أمرها كالرحمة والرزق والهداية والإحياء والحفظ والخلق وغيرها وما يقابلها، فلله سبحانه من جهة صفات فعله دخل في كل شئ مخلوق وما يتعلق به من أثر وفعل، إذ لا معنى لإثبات صفة فيه تعالى متعلقة بالأشياء وهي لا تتعلق بها. ولذلك فإنه - عليه السلام - سأل الرجل عن تقدم صفة الرحمة على الاعمال، ولا معنى لتقدمها مع عدم ارتباطها بها وتأثيرها فيها، فقد نظم الله الوجود بحيث تجري فيه الرحمة والهداية والمثوبة والمغفرة وكذا ما يقابلها، ولا يوجب ذلك بطلان الاختيار في الأفعال، فإن تحقق الاختيار نفسه مقدمة من مقدمات
(1) بحار الأنوار: ج 5 ص 111. 171 تحقق الأمر المقدر، إذ لولا الاختيار لم يتحقق طاعة ولا معصية، فلم يتحقق ثواب ولا عقاب ولا أمر ولا نهي، ولا بعث ولا تبليغ، ومن هنا يظهر وجه تمسك الإمام - عليه السلام - بسبق صفة الرحمة على العمل، ثم بيانه - عليه السلام - أن لله مشية في كل شئ وأنها لا تغلو ولا تغلبه مشية العبد، فالفعل لا يخطئ مشيته تعالى، ولا يوجب ذلك بطلان تأثير مشية العبد، فإن مشية العبد إحدى مقدمات تحقق ما تعلقت به مشيته تعالى، فإن شاء الفعل الذي يوجد بمشية العبد فلا بد لمشية العبد من التحقق والتأثير، فافهم ذلك. وهذه الرواية الشريفة على ارتفاع مكانتها ولطف مضمونها يتضح بها جميع ما ورد في الباب من مختلف الروايات وكذا الآيات المختلفة من غير حاجة إلى أخذ بعض وتأويل بعض آخر " (1). ومنها: ما رواه في المحاسن عن حمران، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: كنت أنا والطيار جالسين فجاء أبو بصير فأفرجنا له، فجلس بيني وبين الطيار، فقال: في أي شئ أنتم؟ فقلنا: كنا في الإرادة والمشية والمحبة. فقال أبو بصير: قلت لأبي عبد الله - عليه السلام -: شاء لهم الكفر وأراده؟ فقال: نعم، قلت: فأحب ذلك ورضيه؟ فقال: لا، قلت: شاء وأراد ما لم يحب ولم يرض؟ قال: هكذا خرج إلينا (اخرج إلينا، في المصدر) (2). وتقريب الرواية بأن يقال: إن ارادته تعالى أصالة تعلقت نحو إمكان التكامل الاختياري للإنسان، وكل ما يلزم في هذا الطريق أعده تعالى من المعد الخارجي والداخلي، فلذا أرسل رسله بالهدى لإرشادهم وجهز الناس بالعقل والاختيار، فالله تعالى خلق الناس على نحو يمكن لهم أن يصلحوا ويتكاملوا، وأراده ورضي به، ولكن مقتضى جعل المشية والاختيار في الناس لأن يتمكنوا
(1) راجع تعليقه ص 111 من ج 5 من بحار الأنوار. (2) بحار الأنوار: ج 5 ص 121. 172 من التكامل الاختياري، هو إمكان جهة المخالف أيضا، فالتنزل والسقوط والعصيان والكفر ناش من سوء اختيارهم ولازم كونهم مختارين، وإلا فلا يحصل التكامل الاختياري، فالكفر أو العصيان الناشئ من سوء اختيارهم أيضا مراد تبعا لله تعالى، لأنه تعالى جعلهم مختارين، وإن لم يرض به لهم، بل المرضي هو أن يستفيدوا من الاختيار ويسلكوا مسلك الكمال والصلاح، فلا يخرج شئ في التكوين، عن ارادته ومشيته، غايته أن بعض الأمور مراد أصالة وبعضها مراد تبعا، وهذا التفصيل المستفاد من الرواية يصلح للجواب عن قبح استناد القبائح كالكفر والعصيان أو الشرور إليه ولو بواسطة الإنسان المختار فافهم واغتنم. ويقرب منه ما رواه في الكافي عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله -: " من زعم أن الله يأمر بالسوء والفحشاء فقد كذب على الله، ومن زعم أن الخير والشر بغير مشيئة الله، فقد أخرج الله من سلطانه، ومن زعم أن المعاصي بغير قوة الله، فقد كذب على الله، ومن كذب على الله أدخله الله النار " (1). وبالجملة هذه عمدة الأخبار الواردة في حقيقة الأمر بين الأمرين، ومعناها بعد حمل بعضها على بعض واضح، وكلها متفقة على أنه لا جبر بحيث لا يكون للعباد قدرة واختيار وعلى أنه تفويض بحيث خرج عمل العاملين عن سلطانه، بل خلق الناس مع القدرة والاختيار، فالخلق يستطيعون من الطاعات والمعاصي بالقدرة والاختيار المفاضة من ناحيته تعالى لأن يستفيدوا منها للاستكمال الاختياري، وهو الذي ذهب إليه المصنف كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى، فلا يكون شئ في عالم التكوين خارجا عن إرادته تعالى، وإنما
(1) الأصول من الكافي: ج 1 ص 158 ح 6 وروي نحوه عن العياشي في بحار الأنوار: ج 5 ص 127. 173 ما أجل هذا المغزى وما أدق معناه وخلاصته أن أفعالنا من جهة هي أفعالنا حقيقة، ونحن أسبابها الطبيعية وهي تحت قدرتنا واختيارنا، ومن جهة أخرى هي مقدورة لله تعالى وداخلة في سلطانه، لأنه هو مفيض الوجود ومعطيه، فلم يجبرنا على أفعالنا حتى يكون قد ظلمنا في عقابنا على المعاصي، لأن لنا القدرة والاختيار فيما نفعل، ولم يفوض إلينا خلق أفعالنا حتى يكون قد أخرجها عن سلطانه، بل له الخلق والحكم والأمر وهو قادر على كل شئ ومحيط بالعباد (5).
174 بل هي ملكية تكوينية وهي لا تنفك عن مالكها وإلا فلا وجود لها. ألا ترى أنك بالنسبة إلى ما تصورت في ذهنك من الصور الذهنية، مفيض الوجود إليها بالإفاضة التكوينية، وهذه الإفاضة لا يمكن تفويضها إلى الصور المذكورة، بل هي موجودة بتصورك، فما دام تكون أنت مصورا لها فلها الوجود، وإذا أعرضت عنها فلا وجود لها، فلا استقلال لها في الوجود، فالملكية التكوينية لا تجتمع مع التفويض، وعليه فلا يكون شئ من الموجودات، خارجا عن ملكه وسلطانه، بل كل شئ موجود بوجوده وقدرته وسلطانه. فالأعمال الاختيارية كسائر الموجودات، داخلة في قضائه وقدره، ولا تخرج عنهما، وإنما الفرق بينهما هو وساطة الاختيار في الأعمال دون غيرها. فالأعمال ليست مستندة إليه تعالى فقط، بحيث لا مباشرة للإنسان ولا تأثير له، كما يقوله الجبري، كما ليست مستندة إلى الإنسان فقط، بحيث يخرج عن سلطانه وقدرته، كما يقوله التفويضي، بل الأفعال في عين كونها مستندة إلى الإنسان بالحقيقة، لصدورها عنه بالاختيار، مستندة إليه تعالى، لأنه معطي الوجود والقدرة، فالاستناد إليه تعالى طولي وملكيته ملكية طولية، كما أشير إليه في الروايات من أنه " هو المالك لما ملكهم، والقادر على ما أقدرهم عليه " (1) وهذا هو معنى الأمر بين الأمرين، وذهب إليه المحققون من علماء الإمامية على ما نسب إليهم المحقق اللاهيجي - قدس سره - (2) واختاره المحقق الطوسي في شرح رسالة العلم على المحكي (3) وقال المحقق الإصفهاني - قدس سره - بعد الرد على الجبرية والمفوضة: " والتنزيه الوجيه ما تضمنته هذه الكلمة الإلهية المأثورة في الأخبار المتكاثرة عن العترة الطاهرة - عليهم صلوات الله المتواترة - أعني قولهم
(1) بحار الأنوار: ج 5 ص 16 - وراجع كتاب انسان وسرنوشت: ص 101. (2) گوهر مراد: ص 235. (3) گوهر مراد: ص 235. 175 عليهم السلام: " لا جبر ولا تفويض، بل أمر بين الأمرين " ثم قال: وتقريب هذا الكلمة المباركة بوجهين: أحدهما: أن العلة الفاعلية ذات المباشر بإرادته، وهي العلة القريبة، ووجوده وقدرته وعلمه وإرادته لها دخل في فاعلية الفاعل، ومعطي هذه الأمور هو الواجب المتعال، فهو الفاعل البعيد، فمن قصر النظر على الأول حكم بالتفويض، ومن قصر النظر على الثاني حكم بالجبر، والناقد البصير ينبغي أن يكون ذا عينين، فيرى الأول - أي فاعلية ذات المباشر - فلا يحكم بالجبر ويرى الثاني - أي كون معطي هذه الأمور هو الواجب المتعال - فلا يحكم بالتفويض ، الخ (1). وكيف كان، فقد اعترف العلامة المجلسي - رحمه الله - بأن المعنى المذكور، أي الملكية الطولية، ظاهر بعض الأخبار، ولكن مع ذلك ذهب إلى أن معنى الأمر بين الأمرين، هو أن لتوفيقاته وهداياته تعالى مدخلية في أفعال العباد، ونسبه إلى ظاهر الأخبار، وأيده بما رواه في الكافي عن أبي عبد الله - عليه السلام - أنه سأله رجل: " أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال: لا، فقال: ففوض إليهم الأمر؟ قال: لا، قال فماذا؟ قال: لطف من ربك بين ذلك " (2). وفيه أولا: منع كون ما ذكر ظاهر الأخبار، فإن الأخبار كما عرفت ظاهرة في أن المراد من الأمر بين الأمرين، هو عدم استقلال العبد فيما ملكه الله تعالى وأقدره عليه، كما نص عليه الإمام علي بن موسى الرضا - عليه السلام - في قوله: ". هو المالك لما ملكهم والقادر على ما أقدرهم عليه " (3) والإمام علي بن أبي طالب - عليه السلام - في جواب الأسدي، حيث قال: " وما أقول يا أمير
(1) نهاية الدراية في شرح الكفاية: ج 1 ص 174 - 175. (2) بحار الأنوار: ج 5 ص 83. (3) بحار الأنوار: ج 5 ص 16. 176 المؤمنين؟ قال: تقول تملكها بالله الذي يملكها من دونك، فإن ملككها كان ذلك من عطائه، وإن سلبكها كان ذلك من بلائه، وهو المالك لما ملكك والمالك لما عليه أقدرك " (1) وقرر ذلك أيضا الإمام الصادق - عليه السلام - عند قول حمزة بن حمران: " إن الله تبارك وتعالى لم يكلف العباد ما لا يستطيعون، ولم يكلفهم إلا ما لا يطيقون، وإنهم لا يصنعون شيئا من ذلك إلا بإرادة الله ومشيته وقضائه وقدره " بقوله: " هذا دين الله الذي أنا عليه وآبائي " (2) وأيضا صرح الإمام أبو الحسن الأول - عليه السلام - بذلك في قوله : " لا يكون شئ في السماوات والأرض إلا بسبعة: بقضاء، وقدر، وإرادة، ومشية، وكتاب، وأجل، وإذن، فمن قال غير هذا فقد كذب على الله أو رد على الله عز وجل " (3) وكلام مولانا أمير المؤمنين - عليه السلام - هو الملخص في ذلك وهو بأن يقول الإنسان: " بالله أستطيع " (4)، لا مع الله، ولا من دون الله وغير ذلك من الأخبار، وهذه الأخبار الصريحة تصلح للجمع بين الأخبار، لو كانت منافاة بينها، مع أنه لا منافاة بين الأخبار كما لا يخفى. وثانيا: إن التوفيق والهداية لا نزاع فيهما، وإنما النزاع في استقلال العبد في الأفعال، كما ذهب إليه المفوضة، فاللازم هو الجواب عن محل النزاع، والاكتفاء بالتوفيق والهداية مشعر بالالتزام بما ذهب إليه المفوضة، مع أن الإمام الصادق - عليه السلام - قال: " ورجل يزعم أن الأمر مفوض إليهم فهذا وهن الله في سلطانه فهو كافر " (5).
(1) بحار الأنوار: ج 5 ص 24. (2) بحار الأنوار: ج 5 ص 36، الأصول من الكافي: ج 1 ص 162. (3) بحار الأنوار: ج 5 ص 88. (4) بحار الأنوار: ج 5 ص 39. (5) راجع بحار الأنوار: ج 5 ص 10. 177 وثالثا: إن ما استدل به ليس بظاهر في مدعاه، بل لعله اجمال للتفصيل المذكور في سائر الأخبار، ولذلك أورد عليه العلامة الطباطبائي - قدس سره - بأن مرجع الخبر المذكور، مع الخبر الذي اعترف بظهوره في المعنى المختار واحد، وهو الذي يشاهده كل إنسان من نفسه عيانا، وهو أنه مع قطع النظر عن سائر الأسباب من الموجبات والموانع، يملك اختيار الفعل والترك، فله أن يفعل وله أن يترك، وأما كونه مالكا للاختيار فإنما ملكه إياه ره سبحانه، كما في الأخبار، ومن أحسن الأمثلة لذلك مثالى المولى إذا ملك عبده ما يحتاج إليه في حياته، من مال يتصرف فيه، وزوجة يأنس إليها، ودار يسكنها وأثاث ومتاع، فإن قلنا: إن هذا التمليك يبطل ملك المولى كان قولا بالتفويض، وإن قلنا: إن ذلك لا يوجب للعبد ملكا والمولى باق على مالكيته كما كان، كان قولا بالجبر، وإن قلنا إن العبد يملك بذلك، والمولى مالك لجميع ما يملكه في عين ملكه، وأنه من كمال ملك المولى كان قولا بالأمر بين الأمرين (1). ثم لا يخفى أن صاحب البحار حكى عن بعض، أنه ذهب إلى أن المراد من الأمر بين الأمرين، هو أن الأسباب القريبة للفعل يرجع إلى قدرة العبد، والأسباب البعيدة كالآلات والأسباب والأعضاء والجوارح والقوى إلى قدرة الرب تعالى فقد حصل الفعل بمجموع القدرتين (2). وفيه أولا: أنه غير واضح المراد، فإن الآلات والأسباب والأعضاء والجوارح والقوى، إذا رجعت إلى قدرة الرب المتعال، فأي شئ يبقى حتى يرجع إلى قدرة العبد، اللهم إلا أن يريد من الأسباب القريبة، إرادة الفاعل. هذا مضافا إلى ما في جعل الأعضاء والجوارح والقوى من الأسباب البعيدة. وثانيا: أن التفويض بهذا المعنى عين ما ورد النصوص على خلافه، فإن
(1) بحار الأنوار: ج 5 ذيل ص 83. (2) بحار الأنوار: ج 5 ص 84 نقلا عن بعض. 178 حاصله أن العبد يكون بملاحظة الأسباب القريبة مستقلا، وإذا كان مستقلا يصير شريكا مع الله، مع أنك عرفت قول مولانا أمير المؤمنين - عليه السلام -: " وإن زعمت أنك مع الله تستطيع، فقد زعمت أنك شريك معه في ملكه ". وثالثا: أن هذا التفسير يرجع إلى الجمع بين الجبر والتفويض في الأفعال، باختلاف الأسباب في القرب والبعد، مع أن الظاهر من قوله: " ولكن أمر بين الأمرين " أن المراد من الأمر الوسط هو أمر آخر وراءهما لا مجموعهما. ومما ذكر يظهر الجواب أيضا عن تفسير آخر، وهو أن المراد من قوله: " أمر بين الأمرين " هو كون بعض الأشياء باختيار العباد وهي الأفعال التكليفية، وكون بعضها بغير اختياره كالصحة والمرض والنوم واليقظة والذكر والنسيان وأشباه ذلك (1). وفيه: أن مرجع هذا الجواب إلى التفويض بالنسبة إلى الأفعال التكليفية، فإنه أراد بهذا، الجمع بين التفويض والجبر، فاختص الجبر بالأحوال العارضة، وهو كما ترى، إذ التفويض في الأفعال التكليفية مردود بما عرفت من الأدلة العقلية والسمعية. هذا مضافا إلى خروج الأحوال العارضة عن محل النزاع، على أنك عرفت أن المراد من قوله: " أمر بين الأمرين " ليس مجموعهما، بل أمر وراءهما، فكل حمل يؤول إلى الجمع بينهما مردود جدا. ثم لا يخفى عليك أن الأستاذ الشهيد المطهري - قدس سره - بعد ذهابه إلى ما ذكرناه، جعله معنى كلاميا لقوله: " أمر بين الأمرين " وقال ما حاصله: " ليست أفعال الإنسان مستندة إليه تعالى، بحيث يكون الإنسان منعزلا عن الفاعلية والتأثير، كما ليست مستندة إلى نفس الإنسان بحيث ينقطع رابطة الفعل مع ذاته تعالى، بل الأفعال في عين كونها مستندة إلى الانسان بالحقيقة
(1) بحار الأنوار: ج 5 ص 84 نقلا عن بعض. 179 وعلى كل حال فعقيدتنا أن القضاء والقدر سر من أسرار الله تعالى، فمن استطاع أن يفهمه على الوجه اللائق بلا افراط ولا تفريط فذاك، وإلا فلا يجب عليه أن يتكلف فهمه والتدقيق فيه، لئلا يضل وتفسد عليه عقيدته، لأنه من دقائق الأمور، بل من أدق مباحث الفلسفة التي لا يدركها إلا الأوحدي من الناس، ولذا زلت به أقدام كثير من المتكلمين (6). فالتكليف به تكليف بما هو فوق مستوى مقدور الرجل العادي.
(1) أصول فلسفه: ج 3 ص 164. 180 قولا أو فعلا وهو يحصل بالاتمام والانجاز كما يشهد له قوله تعالى: " فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشد ذكرا " (1). والقدر بمعنى التقدير وهو تقدير الأشياء بحسب الزمان والمقدار والكيفيات والأسباب والشرائط ونحوها. وقال الراغب في المفردات: " القضاء هو فصل الأمر، قولا كان ذلك أو فعلا. ثم جعل جميع موارد استعمال القضاء من هذا الباب - إلى أن قال -: والقضاء من الله تعالى أخص من القدر، لأنه الفصل بين التقدير. فالقدر هو التقدير والقضاء هو الفصل والقطع، انتهى " ويظهر من المسالك اختيار المعنى المذكور للقضاء حيث قال: " سمي القضاء الفقهي قضاء، لأن القاضي يتم الأمر بالفصل ويمضيه ويفرغ عنه " (2). ثم لا يخفى عليك أن القضاء بالمعنى المذكور ليس إلا واحدا، لأن الانجاز والا تمام لا يتعدد، فالقضاء واحد وهو حتم، هذا بخلاف التقدير، فإنه يختلف بحسب المقادير والأزمنة والكيفيات ونحوها، فالعمر مثلا يمكن أن يقدر لزيد ستين سنة إن لم يصل رحمه، وتسعين سنة إن وصلهم وهكذا. نعم اختص الأستاذ الشهيد المطهري - قدس سره - التقديرات المتغيرة بالماديات، معللا بأن المجردات لا تقع تحت تأثير العوامل المختلفة (3) فافهم، وكيف كان فالقضاء حتم والتقدير حتم وغير حتم. ومما ذكر يظهر أن القضاء متأخر عن القدر، فإن انجاز جميع التقديرات المختلفة لا يمكن بعد تنافيها، فالواقع منها ليس إلا واحدا بحسب تعينه وفقا للشرائط والأسباب، وهو القضاء، فمرتبة القضاء بعد مرتبة التقدير ومسبوق به.
(1) البقرة: 200. (2) مسالك الأفهام: ج 2 كتاب القضاء. (3) انسان وسرنوشت: ص 52. 181 هذا كله بالنسبة إلى المعنى الحقيقي فيهما، ولكن قد يطلق القضاء بمعنى القدر، والقدر بمعنى القضاء أو كليهما، وبهذا المعنى لا مانع من تقسيم القضاء إلى الحتم وغير الحتم، ولعله من هذا الباب ما روي عن ابن نباتة قال: " إن أمير المؤمنين - عليه السلام - عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر، فقيل له: يا أمير المؤمنين: تفر من قضاء الله؟ قال: أفر من قضاء الله إلى قدر الله عز وجل " (1). الثاني: في أنواع القضاء والقدر. فاعلم أنهما يستعملان تارة ويراد منهما القضاء والقدر العلميان، بمعنى أنه تعالى قدر الأشياء قبل خلقتها، وأنجز أمرها وقضاها، والقضاء والقدر بهذا المعنى هو مساوق لعلمه الذاتي، ومن المعلوم أن القضاء والقدر بالمعنى المذكور من صفاته الذاتية، فضرورة الوجود لكل موجود وتقديره، ينتهي إلى علمه الذاتي، ولعل إليه يؤول ما روي عن علي - عليه السلام - في القدر حيث قال: " سابق في علم الله " (2). وأخرى يستعملان ويراد منهما العلمي في مرحلة الفعل، لا في مرحلة الذات، بأن يطلق التقدير ويراد منه لوح المحو والاثبات، ويطلق القضاء ويراد منه اللوح المحفوظ، ومن المعلوم أنهما معنى كانا، فعلان من أفعاله تعالى. وأخرى يستعملان ويراد منهما القضاء والقدر الفعليان، ومن المعلوم أنهما بهذا المعنى والمعنى السابق من صفاته الفعلية، لأنهما منتزعان عن مقام الفعل، لأن كل فعل مقدر بالمقادير، ومستند إلى علته التامة الموجبة له، ولعل قوله تعالى: " إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " (3) يشير إلى الأخير. قال العلامة الطباطبائي - قدس سره -: " لا ريب أن قانون العلية والمعلولية ثابت، وأن الموجود الممكن معلول له سبحانه، إما بلا واسطة أو معها، وأن المعلول إذا نسب إلى علته التامة كان له منها الضرورة والوجوب، إذ ما لم يجب
(1) تفسير الميزان: ج 13 ص 78. (2) بحار الأنوار: ج 5 ص 97. (3) آل عمران: 47. 182 لم يوجد، وإذا لم ينسب إليها كان له الامكان، سواء اخذ في نفسه ولم ينسب إلى شئ، كالماهية الممكنة في ذاتها، أو نسب إلى بعض أجزاء علته التامة، فإنه لو أوجب ضرورته ووجوبه كان علة له تامة، والمفروض خلافه. ولما كانت الضرورة هي تعين أحد الطرفين، وخروج الشئ عن الابهام، كانت الضرورة المنبسطة على سلسلة الممكنات، من حيث انتسابها إلى الواجب تعالى الموجب لكل منها في ظرفه الذي يخصه، قضاء عاما منه تعالى، كما أن الضرورة الخاصة بكل واحد منها، قضاء خاص به منه، إذا لا نعني بالقضاء إلا فصل الأمر، وتعينه عن الابهام والتردد، ومن هنا يظهر أن القضاء من صفاته الفعلية وهو منتزع من الفعل، من جهة نسبته إلى علته التامة الموجبة له " (1) فالشئ قبل وقوعه له تقديرات مختلفة، ثم يتعين منها واحد ووقع عليه وقضى أمره لو لم يمنع عنه مانع، فكل شئ واقع في الخارج مقدر وقضاء إلهي، فمثل النطفة تقديرها أن تتكامل إلى الإنسانية أو أن تتساقط قبل تكاملها إن حدث مانع وعائق، فكل واحد من التقديرات إذا تعين، وقع عليه وقضى أمره، وهكذا. ثم المستفاد من ذكر القضاء والقدر هنا أنه عند المصنف من الصفات الفعلية، ومن ذلك ما روي عن جميل عن أبي عبد الله - عليه السلام - أنه قال: " سألته عن القضاء والقدر، فقال: هما خلقان من خلق الله والله يزيد في الخلق ما يشاء " (2) ومن المعلوم أن ما يقبل الزيادة هو الفعل لا العلم الذاتي كما لا يخفى. الثالث: أن القضاء والقدر سواء كان من الصفات الذاتية أو الصفات الفعلية، يعم أفعال العباد، كما عرفت في البحث عن الجبر والتفويض، ولا
(1) الميزان: ج 13 ص 76. (2) بحار الأنوار: ج 5 ص 120. 183 محذور فيه لوساطة القدرة والاختيار، فيجمع بين القضاء الحتم واختيارية الأفعال، بكون القضاء الحتم متعلقا بوجود القدرة والاختيار في العباد، فالعبد المختار مع وجوده وكونه مختارا، ممكن معلول محتاج إليه تعالى، ولو كان العبد مضطرا ومجبورا، تخلف قضاؤه الحتم في وجود العبد المختار كما لا يخفى. الرابع: في تأكيد الايمان بالقضاء والقدر، وقد ورد في ذلك روايات: منها: ما عن الخصال عن رسول الله - صلى الله عليه وآله -: " أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، عاق ومنان ومكذب بالقدر ومدمن خمر " (1). ومنها ما في البحار عن العالم - عليه السلام - أنه قال: " لا يكون المؤمن مؤمنا حقا حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه " (2). ومنها: ما عن تحف العقول عن أبي محمد الحسن بن علي - عليهما السلام - " أما بعد، فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره، أن الله يعلمه فقد كفر، الحديث " (3). ومنها: ما عن الخصال بطرق مختلفة عن رسول الله - صلى الله عليه وآله - من أن المكذب بقدر الله ممن لعنهم الله وكل نبي مجاب (4). وبالجملة الإيمان بالقضاء والقدر من مقتضيات الايمان بصفاته الذاتي وتوحيده الأفعالي، وعليه فلا بد من الايمان به. ثم إن الايمان بالقضاء والقدر يوجب أن ينظر الإنسان إلى كل ما قدره الله وقضاه، بنظر الحكمة والمصلحة، إذ القدر والقضاء من أفعاله، ولا يصدر منه شئ إلا بالحكمة والمصلحة، وإن لم يظهر وجهها لأحد، فإذا أراد الله الصحة لأحد كانت هي مصلحته، وإذا أراد لآخر المرض كان هو مصلحته، وهكذا
(1) بحار الأنوار: ج 5 ص 87. (2) بحار الأنوار: ج 5 ص 54. (3) بحار الأنوار: ج 5 ص 40. (4) بحار الأنوار: ج 5 ص 88. 184 سائر الأمور من الشدة والرخاء، والفقر والغنى، وغيرها، ويستتبع هذا النظر تحمل الشدائد والمصائب، للعلم بأن وراءها مصلحة وحكمة، بل ينتهي إلى مقام الرضا بما اختاره الله تعالى في أمره، وهو مقام عال لا يناله إلا الأوحدي من الناس، ومن ناله فلا حرص ولا طمع له بالنسبة إلى الدنيا الدنية، للعلم بأن ما قدره الله تعالى وقضاه هو خيره ويصل إليه، ولذا لا يضطرب من رقابة الآخرين أو حسادتهم، كما أنه لا حسد له بالنسبة إلى ذوي العطايا، لعلمه بأن المقسم حكيم وعادل ورؤوف. فالمؤمن الراضي بالقضاء والقدر لا يزيده قضاؤه وقدره إلا ايمانا وتصديقا وفضيلة وعلوا، ولذا سئل هذا المقام في الأدعية والزيارات ومن جملتها ما ورد في زيارة أمين الله حيث قال: " اللهم اجعل نفسي مطمئنة بقدرك، راضية بقضائك " وما ورد في دعاء أبي حمزة الثمالي من قوله: " اللهم إني أسألك ايمانا تباشر به قلبي ويقينا حتى أعلم انه لن يصيبني الا ما كتبت لي ورضني من العيش بما قسمت لي يا ارحم الراحمين " (1). الخامس: فيما ورد من النهي عن الغور في القضاء والقدر، وقد روي في ذلك روايات: منها: ما عن عبد الملك بن عنترة الشيباني، عن أبيه، عن جده، قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين - عليه السلام - فقال: " يا أمير المؤمنين! أخبرني عن القدر، فقال: بحر عميق فلا تلجه. فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر، قال: طريق مظلم فلا تسلكه. قال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر، فقال: سر الله فلا تتكلفه، الحديث " (2). ومنها ما روي عنه - عليه السلام - أنه قال في القدر: " ألا إن القدر سر من سر الله، وحرز من حرز الله، مرفوع في حجاب الله، مطوي عن خلق الله، مختوم
(1) مصباح المتهجد: 540. (2) بحار الأنوار: ج 5 ص 110. 185 بخاتم الله، سابق في علم الله، وضع الله عن العباد علمه، ورفعه فوق شهاداتهم، لأنهم لا ينالونه بحقيقة الربانية، ولا بقدرة الصمدانية، ولا بعظمة النورانية، ولا بعزة الوحدانية، لأن ه بحر زاخر مواج، خالص الله عز وجل، عمقه ما بين السماء والأرض، عرضه ما بين المشرق والمغرب، أسود كالليل الدامس، كثير الحيات والحيتان، تعلو مرة وتسفل أخرى، في قعره شمس تضئ، لا ينبغي أن يطلع عليها إلا الواحد الفرد، فمن تطلع (يطلع) عليها فقد ضاد الله في حكمه، ونازعه في سلطانه، وكشف عن سره وستره، وباء بغضب من الله، ومأواه جهنم، وبئس المصير " (1) والمحصل من الخبر ان التقديرات الإلهية ليست واضحة للخلق وان كانت حكمها عن حكمة ومصلحة ولكنه لا يعلمها الا الله تعالى ولذا نهى عن الغور فيها لعدم تمكنهم من واقعها. ومنها: ما رواه السيوطي عن النبي - صلى الله عليه وآله - أنه قال: " إذا ذكر القدر فأمسكوا " (2). ومنها ما روي عن علي - عليه السلام - أيضا أنه سئل عن القدر، فقيل له: " أنبئنا عن القدر، يا أمير المؤمنين فقال: سر الله فلا تفتشوه، فقيل له الثاني: أنبئنا عن القدر يا أمير المؤمنين قال: بحر عميق فلا تلحقوه (فلا تلجوه - خ ل) " (3). ولتلك الأخبار ذهب الصدوق - رحمه الله - في الاعتقادات إلى أن الكلام في القدر منهي عنه. والجواب عن تلك الأخبار. أولا: بضعف السند، لذلك قال الشيخ المفيد - قدس سره -: " إن الشيخ
(1) بحار الأنوار: ج 5 ص 97. (2) راجع يازده رسالة فارسي ص 449، نقلا عن الجامع الصغير للسيوطي وعن الطبراني. (3) بحار الأنوار: ج 5 ص 123. 186 أبا جعفر عمل في هذا الباب على أحاديث شواذ، لها وجوه يعرفها العلماء متى صحت وثبتت أسنادها، ولم يقل فيه قولا محصلا " (1) نعم رواه السيد في نهج البلاغة أيضا أنه قال - وقد سئل عن القدر -: " طريق مظلم فلا تسلكوه، وبحر عميق فلا تلجوه، وسر الله فلا تتكلفوه " (2) فافهم. وثانيا: بأن دلالتها على الحرمة التكليفية غير واضحة، لأن لحن جملة منها هو لحن الارشاد كالنهي عن التكليف، والأخبار بأن القضاء والقدر واد مظلم وبحر عميق. هذا، مضافا إلى شهادة ذيل الرواية الثانية على أن المنهي عنه هو السعي للاطلاق على كنه المقدرات والاشراف عليها، ومن المعلوم أنه أمر لا يناله الإنسان نيلا كاملا، ولا مصلحة فيه، بل لا يخلو عن المفسدة كما لا يخفى فكما أن التأمل حول كنه ذاته تعالى ممنوع، كذلك التأمل حول كنه المقدرات ممنوع، لأنه فوق مستوى مقدور البشر ولا يزيده إلا الحيرة والفساد، وأما فهم معنى القضاء والقدر فلا يكون موردا للنهي فيها. وثالثا: بأن الغور في معنى القضاء والقدر لو كان حراما، لما أجاب الأئمة - عليهم السلام - عن السؤال فيه، مع أنهم أجابوا السائلين وأوضحوا المراد منهما، بل قد يكون الجواب في ذيل النهي المذكور، بعد اصرار السائل عن فهم معناه، كما في الرواية الأولى، حيث قال السائل في المرتبة الرابعة: " يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر، قال: فقال أمير المؤمنين - عليه السلام -: أما إذا أبيت فإني سائلك: أخبرني أكانت رحمة الله للعباد قبل أعمال العباد أم كانت أعمال العباد قبل رحمة الله؟ قال: فقال له الرجل: بل كانت رحمة الله للعباد قبل أعمال العباد " (3) إلى أخر ما قال - عليه السلام - في توضيح المراد منهما فراجع.
(1) تصحيح الاعتقاد: ص 19. (2) بحار الأنوار: ج 4 ص 124. (3) بحار الأنوار: ج 5 ص 111. 187 ويكفى أن يعتقد به الإنسان على الاجمال اتباعا لقول الأئمة الأطهار - عليهم السلام - من أنه أمر بين الأمرين ليس فيه جبر ولا تفويض. وليس هو من الأصول الاعتقادية حتى يجب تحصيل الاعتقاد به على كل حال على نحو التفصيل والتدقيق (7).
(1) تصحيح الاعتقاد: ص 20 - 21. 188 إلى أن مقتضى التعليل الثاني هو عدم وجوب الاعتقاد بذلك مطلقا لا تفصيلا ولا اجمالا، فالتفصيل بين الاعتقاد الاجمالي والاعتقاد التفصيلي لا وجه له. والتحقيق أن القضاء والقدر بالمعنى الأول من تفصيلات العلم وصفة ذاته تعالى، وبالمعنى الأخير من تفصيلات التوحيد الأفعالي وتفصيلات الاعتقادات ليست بواجبة كما لا يخفى.
189 7 - عقيدتنا في البداء البداء في الإنسان أن يبدو له رأي في الشئ لم يكن له ذلك الرأي سابقا، بأن يتبدل عزمه في العمل الذي كان يريد أن يصنعه، إذ يحدث عنده ما يغير رأيه وعلمه به، فيبدو له تركه بعد أن كان يريد فعله، وذلك عن جهل بالمصالح وندامة على ما سبق منه (1).
(1) الزمر: 47. 190 له فيه، ومعنى ظهر فيه أي ظهر منه " (1). وعليه فظهور الرأي بالخصوص على خلاف الرأي السابق وتبدله، ليس داخلا في حاق لفظ البداء، لإمكان أن يتصور البداء لنفس الشئ، بأن يظهر نفسه بعد خفائه، كما أن المراد من الآية التي استدل بها في المفردات هو كذلك، فإن ما بدا لهم هو نفس ما لم يكونوا يحتسبون، كما يمكن أن يتصور البداء بظهور الشئ بعد عدمه، كظهور الموت بعد الحياة وبالعكس، ومرجع الظهور في الفرضين إلى الظهور منه تعالى للناس مطلقا سواء كان موتا أو حياة أو أجرا أو غير ذلك، فالبداء لا يختص بتبدل الرأي وظهوره على خلاف الرأي السابق مع اقترانه بالندامة كما هو المصطلح عند العامة، بل هو مصداق من مصاديق الظهور فالبداء أعم من تبدل الرأي، لما عرفت من أنه هو الظهور كما اختاره الشيخان - قدس سرهما - وصرح به المصباح المنير والمفردات، ومما ذكر يظهر ما في البحار حيث قال: " اعلم أنه لما كان البداء - ممدودا - في اللغة بمعنى ظهور رأي لم يكن، يقال: بدا الامر بدوا: ظهر، وبدا له في هذا الأمر بداء، أي نشأ له فيه رأي، كما ذكره الجوهري، فلذلك يشكل القول بذلك في جناب الحق تعالى، انتهى موضع الحاجة منه ". لما عرفت من أن البداء في اللغة لا يختص بتلك الصورة، وقول الجوهري لا ينافي سائر أقوال اللغويين، لأنه فسره بأحد مصايقه، مع أن الآخرين صرحوا بأعمية البداء من ذلك، ولم يشترطوا فيه تبدل الرأي والندامة، هذا مضافا إلى أن كلا المعنيين مذكوران في عبارته كما لا يخفى، وعلى ما ذكر فإن أراد المصنف بقوله: " البداء في الانسان - الخ " تفسير البداء بذلك واختصاصه به، ففيه ما عرفت من عدم اختصاصه به، وإن أراد بذلك ذكر مصداق من مصاديقه
(1) راجع بحار الأنوار: ج 4 ص 125 - 126 ذيل الصفحات. 191 والبداء بهذا المعنى يستحيل على الله تعالى، لأنه من الجهل والنقص، وذلك محال عليه تعالى، ولا تقول به الإمامية. قال الصادق - عليه السلام -: " من زعم أن الله تعالى بدا له في شئ بداء ندامة فهو عندنا كافر بالله العظيم " وقال أيضا: " من زعم أن الله بدا له في شئ ولم يعلمه أمس فأبرأ منه " (2).
192 يمرض، أبدا له في ذلك؟ أليس يحيي ويميت، أبدا له في كل واحد من ذلك؟ فقالوا: لا، قال: فكذلك الله تعبد نبيه محمدا بالصلاة إلى الكعبة، بعد أن تعبده بالصلاة إلى بيت المقدس، وما بدا له في الأول - الحديث الشريف " (1). وحاصله أن البداء التشريعي كالبداء التكويني، فكما أن في البداء التكويني ما بدا شئ له تعالى، لأنه العالم بالعواقب، بل بدا منه لغيره، كذلك في البداء التشريعي. وأما البداء بمعناه الآخر من ظهور الشئ منه تعالى للغير، على خلاف ما تقتضيه المقتضيات الغير التامة والمعدات، فلا استحالة فيه، لأنه لا ينافي علمه به وإرادته به من الأزل، وهو أمر واقع في النظام العالمي المادي الذي لا يخلو عن التزاحم بين المقتضيات، ومن المعلوم أن الواقع لا يقع إلا لكونه ممكنا، فلا مجال لدعوى استحالته بعد الوقوع. قال العلامة الطباطبائي - قدس سره - في ذيل قوله تعالى: " يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " ما حاصله: " إنما البداء هو ظهور أمر منه تعالى ثانيا، بعد ما كان الظاهر منه خلافا أولا، فهو محو الأول وإثبات الثاني، والله سبحانه عالم بهما جميعا، وهذا مما لا يسع لذي لب إنكاره، فإن للأمور والحوادث وجودا بحسب ما تقتضيه أسباها الناقصة، من علة أو شرط أو مانع ربما تخلف عنه، ووجودا بحسب ما تقتضيه، أسبابها وعللها التامة، وهو ثابت غير موقوف ولا متخلف - إلى أن قال: - وعلى أي حال ظهور أمر أو إرادة منه تعالى، بعد ما كان الظاهر خلافه واضح لا ينبغي الشك فيه، والذي أحسب أن النزاع في ثبوت البداء، كما يظهر من أحاديث أئمة أهل البيت - عليهم السلام - ونفيه كما يظهر من غيرهم، نزاع لفظي، ولهذا لم نعقد لهذا البحث فصلا مستقلا على ما
(1) بحار الأنوار: ج 4 ص 106. 193 غير أنه وردت عن أئمتنا الأطهار - عليهم السلام - روايات توهم القول بصحة البداء بالمعنى المتقدم، كما ورد عن الصادق - عليه السلام - " ما بدا لله في شئ كما بدا له في إسماعيل ابني " ولذلك نسب بعض المؤلفين في الفرق الإسلامية، إلى الطائفة الإمامية، القول بالبداء، طعنا في المذهب وطريق آل البيت، وجعلوا ذلك من جملة التشنيعات على الشيعة.
(1) تفسير الميزان: ج 11 ص 420. 194 و الصحيح في ذلك أن نقول كما قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد: " يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " ومعنى ذلك أنه تعالى قد يظهر شيئا على لسان نبيه، أو وليه، أو في ظاهر الحال لمصلحة تقتضي ذلك الإظهار، ثم يمحوه فيكون غير ما قد ظهر أولا، مع سبق علمه تعالى بذلك، كما في قصة إسماعيل لما رأى أبوه إبراهيم أنه يذبحه. فيكون معنى قول الإمام - عليه السلام - أنه ما ظهر لله سبحانه أمر في شئ كما ظهر له في إسماعيل ولده، إذ اخترمه قبله، ليعلم الناس أنه ليس بإمام وقد كان ظاهر الحال أنه الإمام بعده، لأنه أكبر ولده (3).
(1) الأصول من الكافي: ج 1 ص 147. (2) الأصول من الكافي: ج 1 ص 148. (3) الأصول من الكافي: ج 1 ص 148. 195 المقصود منها أن الأمر بيده تعالى، فيمكن أن يقدم وأن يؤخر رغما لأنف اليهود الذين قالوا يد الله مغلولة كما أشير إليه في الرواية الأولى، فالثابت هو البداء في مقام الفعل لا في مقام الذات، والمنفي هو البداء في مقام الذات كما صرح به في بعض الأخبار السابقة. هذا مضافا إلى تصريح بعض الأخبار بأن البداء عند الإمامية ليس مقرونا بالجهل كما رواه في الكافي بسند صحيح عن أبي عبد الله - عليه السلام - أنه قال: " ما بدا لله في شئ إلا كان في علمه قبل أن يبدو له " (1) ومن المعلوم أن البداء الذي لا يستلزم الجهل في مرتبة الذات، لا تشمله الأدلة النافية ولا تنافيه الأدلة العقلية، لأنه ليس إلا كمال القدرة في مقام الفعل، فإن تبديل ما تقتضيه المقتضيات العادية والمعدات، يحكي عن تمامية قدرة الرب المتعال، واستقلاله في الفاعلية، حيث يمكن له التغيير والتبديل في الأمور، إذا أراد وشاء، فهو تعالى في كل آن في شأن، ومن المعلوم أن هذا الاعتقاد يوجب التوكل التام عليه في الأمور، والرجاء به، لأن الأمر بيده، ولم يتم الأمر ولم يفرغ عن الأمر قبل وقوعه، فكل شئ ما دام لم يقع فله مجال التغيير والتبديل، وهذا الفكر يؤدي إلى سعة المجال أمام الإنسان للسعي والاستكمال، بحيث لا يتوقف ولا يبأس من النيل إلى الكمال في أي حال يكون، كما أن هذا الاعتقاد يمنع الانسان من أن يغتر بوضعه الموجود، المقتضي للسعادة، فإن التغيير والتبديل بسبب الذنب أو الغفلة أمر ممكن، فليخفف وليحذر عن الذنوب والغفلات لئلا يسقط ويهلك. وكيف كان، فهذا البداء من كمال الايمان ولذلك أخذ الله الاقرار به عن الأنبياء كما عرفت، بل أوصى الايمان به لغيرهم، كقول الصادق - عليه السلام - " ما عظم الله عز وجل بمثل البداء " (2) وقوله الآخر أيضا: " لو
(1) الأصول من الكافي: ج 1 ص 148. (2) بحار الأنوار: ج 4 ص 107. 196 علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا عن الكلام فيه " (1). نعم أشار المصنف إلى ورود روايات توهم المنافاة لنفي البداء المستحيل، ولم أجد منها إلا ما رواه في البحار عن كتاب زيد النرسي عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: " ما بدا لله بداء أعظم من بداء بدا له في إسماعيل ابني " (2). وهذا خبر واحد ولا يصلح للمعارضة مع الأخبار الكثيرة السابقة، ولا يفيد العلم، مع أن اللازم في الاعتقادات هو العلم. هذا مضافا إلى نقله عن كتاب مختلف فيه، ولم يثبت اعتباره، بل فيه أمور تنكره الإمامية كنزوله تعالى إلى السماء الدنيا وغير ذلك (3). على أن قوله - عليه السلام - في الصحيحة المتقدمة: " ما بدا لله في شئ إلا كان في علمه قبل أن ببدو له " حاكم على مثله، فليحمل على المعنى الذي لا ينافي تلك الأخبار، إما بحمله على ما في المتن أو على ما حكي عن الشيخ المفيد من أن المراد منه ما ظهر منه تعالى من دفاع القتل عنه وقد كان مخوفا عليه من ذلك، مظنونا به وقد دفع الله عنه كما روي عن الصادق - عليه السلام - أنه قال: " إن القتل قد كتب على إسماعيل مرتين فسألت الله في دفعه عنه فدفعه " (4) أو على ما أشار إليه المحقق الأصفهاني من أن المراد من الظهور هو الظهور في علمه الفعلي بعد ما كان المقتضي على خلافه لا في علمه الذاتي (5) ولكنه لا يخلو عن تكلف. ولعل مقصود المصنف من الروايات، هو الإشارة إلى
(1) الأصول من الكافي: ج 1 ص 148. (2) بحار الأنوار: ج 4 ص 122. (3) راجع قاموس الرجال: ج 4 ص 248. (4) بحار الأنوار: ج 4 ص 127 ذيل الصفحة. (5) راجع نهاية الدراية في شرح الكفاية: ج 2 ص 212. 197 ما نسب إلى بعض الأنبياء والأولياء من أنهم ربما أخبروا بوقوع شئ ثم انكشف الخلاف، ولكن هذه الأخبار معارضة مع قاعدة اللطف، فإن الإخبار الجزمي مع انكشاف الخلاف، يوجب سلب الاعتماد، هذا مضافا إلى معارضتها مع الأخبار الأخر أيضا، كما روي عن أبي جعفر - عليه السلام - يقول: " العلم علمان: علم عند الله مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه، وعلم علمه ملائكته ورسله، فأما ما علم ملائكته ورسله، فإنه سيكون، لا يكذب نفسه، ولا ملائكته ولا رسله، وعلم عنده مخزون يقدم فيه ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويثبت ما يشاء " (1). وما روى عن أبي عبد الله - عليه السلام -: " إن الله علمين: علم مكنون مخزون، لا يعلمه إلا هو، من ذلك يكون البداء، وعلم علمه ملائكته ورسله وأنبياءه فنحن نعلمه " (2). فليحمل تلك الأخبار على أن أخبار الأنبياء ليس على الجزم والبت، كما حكي عن الشيخ الطوسي، وجعله الفاضل الشعراني حاسما لمادة الاشكال (3)، إذ الإخبار إذا لم يكن عن جزم، بل على ما تقتضيه المقتضيات، فتخلفه لا يوجب سلب الاعتماد، خصوصا إذا كان الإخبار وانكشاف الخلاف مقرونا بتبيين وجه أوجب تغيير المقتضيات، وأما التفصيل بين الوحي والالهام بوقوع البداء في الثاني دون الأول، كما في البحار، أو القول بوقوع البداء في كلام الأنبياء نادرا، كما في البحار أيضا (4) ففيه أنه ينافي أيضا قاعدة
(1) بحار الأنوار: ج 4 ص 113. (2) الأصول من الكافي: ج 1 ص 147. (3) شرح الأصول من الكافي للمولى صالح المازندراني: ج 4 ص 331. (4) بحار الأنوار: ج 4 ص 133، وشرح الأصول من الكافي ج 4 للمولى صالح المازندراني ذيل الصفحة 330 - 331. 198 اللطف، ويوجب سلب الاعتماد عنهم، ولو وقع نادرا، فإن تطرق احتمال الخطأ إلى الوحي والالهام يرفع الاعتماد عن جميع أقوال الأنبياء - عليهم صلوات الله - كما لا يخفى. ومما ذكر يظهر ما في اطلاق عبارة المصنف، من " أن الوجه الصحيح هو أنه تعالى قد يظهر شيئا على لسان نبيه أو وليه - الخ " لما عرفت من أن الإظهار الجزمي لا يوافق العصمة، ويوجب سلب الاعتماد، بخلاف ما إذا لم يكن الإظهار والإخبار عن جزم، بل على ما تقتضيه المتضيات من دون جزم، بحيث لو انكشف الخلاف لا يوجب سلب الاعتماد، وأيضا يظهر مما ذكر ما في قوله: " إن معنى قول الإمام أنه ما ظهر لله سبحانه أمر في شئ كما ظهر له في إسماعيل ولده - الخ " لأن المناسب أن يقول: ما ظهر منه تعالى أمر في شئ، كما ظهر منه في إسماعيل، كما فسره الشيخ المفيد - قدس سره - لأنه بعد كون البداء بمعناه المصطلح عند العامة محالا ومنفيا في الأخبار الواردة عن الأئمة - عليهم السلام - فالمراد من الظهور، هو الظهور منه لا الظهور له. ثم لا يخفى عليك أن امكان التغيير بإذنه ومشيته في المقدرات، أمر ثابت لا يمنع عنه إمضاء المقدر وإبرامه في ليالي القدر، لأن الامر بيده، يفعل ما يشاء، ولذا ورد في بعض أخبار ليالي القدر بعد تقدير الأمور وابرامها وامضائها، أن لله المشية. ثم لا يذهب عليك أن مقتضى ما عرفت هو أن البداء في التقديرات لا في القضاء، لأن قضاء الشئ وقوعه، ومع وقوعه لا ينقلب عما هو عليه، ولذا حكي عن السيد الداماد - قدس سره - أنه قال: " لا بداء في القضاء، وإنما البداء في القدر " (1).
(1) بحار الأنوار: ج 4 ص 126. 199 وقريب من البداء في هذا المعنى نسخ أحكام الشرايع السابقة، بشريعة نبينا - صلى الله عليه وآله - بل نسخ بعض الأحكام التي جاء بها نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - (4).
200 المقتضيات السابقة. وإن كان المقتضي في البداء هو المقتضي الثبوتي، والمقتضي في النسخ هو المقتضي الا ثباتي. وكيف كان فظهور شئ منه تعالى للغير موجود في كليهما وهو الذي عبر عنه في لسان بعض الفحول بالإبداء أو الإظهار فلا تغفل.
201 8 - عقيدتنا في أحكام الدين نعتقد أنه تعالى جعل أحكامه من الواجبات والمحرمات وغيرهما طبقا لمصالح العباد في نفس أفعالهم، فما فيه المصلحة الملزمة جعله واجبا، وما فيه المفسدة البالغة، نهى عنه، وما فيه مصلحة راجحة ندبنا إليه، وهكذا في باقي الأحكام وهذا من عدله ولطفه بعباده ولا بد أن يكون له في كل واقعة حكم، ولا يخلو شئ من الأشياء من حكم واقعي لله فيه، وإن انسد علينا طريق علمه. ونقول أيضا: إنه من القبيح أن يأمر بما فيه المفسدة أو ينهى عما فيه المصلحة، غير أن بعض الفرق من المسلمين يقولون: إن القبيح ما نهى الله تعالى عنه، والحسن ما أمر به، فليس في نفس الأفعال مصالح أو مفاسد ذاتية، ولا حسن أو قبيح ذاتيان، وهذا قول مخالف للضرورة العقلية، كما أنهم جوزوا أن يفعل الله تعالى القبيح فيأمر بمات فيه المفسدة، وينهى عما فيه المصلحة، وقد تقدم أن هذا القول فيه مجازفة عظيمة، وذلك لاستلزامه نسبة الجهل أو العجز اليه سبحانه تعالى علوا كبيرا (1).
202 والخلاصة أن الصحيح في الاعتقاد أن نقول: إنه تعالى لا مصلحة له ولا منفعة في تكليفنا بالواجبات ونهينا عن فعل ما حرمه، بل المصلحة والمنفعة ترجع لنا في جميع التكاليف. ولا معنى لنفي المصالح والمفاسد في الأفعال المأمور بها والمنهي عنها، فإنه تعالى لا يأمر عبثا ولا ينهى جزافا وهو الغني عن عباده (2).
203 لأنه غني مطلق. ثم إنه لا يلزم أن تكون المصالح في الأفعال المأمور بها، بل يكفي وجودها في نفس التكاليف ضرورة كفاية وجودها في التكاليف، لحسنها ورفع العبث والجزاف. بقي شئ، وهو أن أفعاله تعالى سواء كانت تكوينية أو تشريعية ناشئة عن كماله المطلق، وليست لاستكمال ذاته تعالى، لأنه غني مطلق، ولا يحتاج إلى شئ، ولذلك ذهبوا إلى أن العلة الغائية متحدة مع العلة الفاعلية فيه تعالى، إذ لا غاية وراء ذاته تعالى، ولا ينافي ذلك أن للأفعال غاية أو غايات متوسطة ونهائية، لأنها غاية الفعل لا غاية الفاعل. قال العلامة الطباطبائي - قدس سره -: " وبالجملة فعلمه تعالى في ذاته بنظام الخير غاية لفاعليته التي هي عين الذات " (1). وينقدح مما ذكر ما في كلام الأشاعرة من أن أفعاله تعالى يستحيل تعليلها بالاغراض والمقاصد، فإن كل فاعل لغرض وقصد، فإنه ناقص بذاته، مستكمل بذلك الغرض والله تعالى يستحيل عليه النقصان (2) وذلك لما عرفت من أن الغاية في فاعليته تعالى، ليست إلا ذاته وصفاته، فذاته لذاته منشأ للإفاضة، ومن المعلوم أن تعليل أفعاله بذاته، لا يستلزم النقصان، حتى يستحيل، بل هو حاك عن كمال ذاته، ولعل إليه يؤول ما قاله العلامة الطباطبائي - قدس سره -: من أنه ليس من لوازم وجود الغاية حاجة الفاعل إليها: لجواز كونها عين الفاعل (3). وينقدح أيضا مما ذكر ضعف ما ذهب إليه المعتزلة وبعض المتكلمين من
(1) راجع نهاية الحكمة: ص 163 - 164. (2) شرح تجريد الاعتقاد: ص 306 الطبعة الحديثة. (3) راجع نهاية الحكمة: ص 163. 204 الإمامية، من أن غاية أفعاله هي انتفاع الخلق، فإنه وإن لم يستلزم استكمال الذات بالغايات المترتبة على الأفعال، ولكن ذلك يوجب أن يكون لغير ذاته تأثير في فاعليته مع أنه تام الفاعلية ولا يتوقف في فاعليته على شئ (1). فالصحيح هو أن يقال: إن انتفاع الخلق هو غاية الفعل لا غاية فاعلية الفاعل، إذ لا حاجة له تعالى إلى شئ من الأشياء، ولا يتأثر من شئ (2). نعم ذهب بعض المحققين إلى إمكان الجمع بين الأقوال، بأن يقال: إن من حصر الغاية في ذاته تعالى أراد الغاية الأصلية والذاتية، ومن نفى الغاية في أفعاله أراد نفي داع زائد على ذاته في فاعليته، ومن جعل العلة الغائية انتفاع الخلق أراد بيان الغاية الفرعية والتبعية. انتهى (3) إلا أن هذا التوجيه وإن كان حسنا في نفسه ولكن لا يساعده عبائر القوم فراجع، ولله الحمد.
(1) راجع نهاية الحكمة: ص 163. (2) راجع شرح منظومة: ج 2 ص 62 للأستاذ الشهيد المطهري - قدس سره -. (3) آموزش فلسفه: ج 2 ص 402. 205 الفصل الثاني النبوة 1 - عقيدتنا في النبوة 2 - النبوة لطف 3 - عقيدتنا في معجزة الأنبياء 4 - عقيدتنا في عصمة الأنبياء 5 - عقيدتنا في صفات النبي 6 - عقيدتنا في الأنبياء وكتبهم 7 - عقيدتنا في الإسلام 8 - عقيدتنا في مشرع الاسلام 9 - عقيدتنا في القرآن الكريم 10 - طريقة اثبات الإسلام والشرايع السابقة
207 1 - عقيدتنا في النبوة نعتقد أن النبوة وظيفة إلهية وسفارة ربانية يجعلها الله تعالى لمن ينتجبه ويختاره من عباده الصالحين وأوليائه الكاملين في انسانيتهم. فيرسلهم إلى سائر الناس لغاية ارشادهم إلى ما فيه منافعهم ومصالحهم في الدنيا والآخرة، ولغرض تنزيههم وتزكيتهم من درن مساوئ الأخلاق ومفاسد العادات وتعليمهم الحكمة والمعرفة، وبيان طرق السعادة والخير لتبلغ الإنسانية كمالها اللائق بها، فترتفع إلى درجاتها الرفيعة في الدارين، دار الدنيا ودار الآخرة. ونعتقد أن قاعدة اللطف - على ما سيأتي معناها - توجب أن يبعث الخالق اللطيف بعباده رسله لهداية البشر وأداء الرسالة الاصلاحية وليكونوا سفراء الله وخلفاءه. كما نعتقد أنه تعالى لم يجعل للناس حق تعيين النبي أو ترشيحه أو انتخابه وليس لهم الخيرة في ذلك، بل أمر كل ذلك بيده تعالى، لأنه " أعلم حيث يجعل رسالته " وليس لهم أن يتحكموا فيمن يرسله هاديا
209 ومبشرا ونذيرا، ولا أن يتحكموا فيما جاء به من أحكام وسنن وشريعة (1).
210 اختاره القاموس والمصباح المنير من أن النبي مهموز الأصل. قال العلامة الطباطبائي - قدس سره - " والنبي على وزن فعيل مأخود من النبأ، سمي به النبي، لأنه عنده نبأ الغيب، بوحي من الله، وقيل: هو مأخوذ من النبوة بمعنى الرفعة سمي به لرفعة قدره " (1). ثانيها: في معناه الاصطلاحي، عرفه أهل الكلام بأنه الإنسان المخبر عن الله تعالى بغير واسطة أحد من البشر. قال في شرح الباب الحادي عشر: " فبقيد الإنسان يخرج الملك، وبقيد المخبر عن الله يخرج المخبر عن غيره، وبقيد عدم واسطة بشر يخرج الإمام والعالم فإنهما مخبران عن الله تعالى بواسطة النبي " (2). وفيه أن التعريف المذكور يشمل الإمام المعصوم الذي قد يخبر عن الله تعالى بسبب إلهام وكونه محدثا، بل يشمل سيدتنا فاطمة - سلام الله عليها - فإنها أخبرت بما أحست من أخبار جبرئيل بعد موت النبي - صلى الله عليه وآله - وكتبه مولانا أمير المؤمنين - عليه الصلاة والسلام - وسمي بمصحف فاطمة - سلام الله عليها - وكيف كان فالأولى أن يقال في تعريف النبي بحسب الاصطلاح: هو إنسان كامل مخبر عن الله تعالى بالوحي، إذ الوحي مختص بالأنبياء، وهو نوع رابطة وقعت بينه وبين أنبيائه. ولم تكن هذه الرابطة مشابهة للروابط المعمولة للتفهيم والتفهم من التعقل والتفكر والحدس ونحو ذلك، بل هي أمر وراء تلك الأمور المتعارفة البشرية ومع ذلك لا يمكن لنا إدراك الفرق بين الوحي والالهام، وكيف كان فالأول مختص بالأنبياء دون الثاني. قال العلامة الطباطبائي - قدس سره -: إن الوحي نوع تكليم إلهي تتوقف عليه النبوة قال تعالى: " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من
(1) تفسير الميزان: ج 14 ص 58. (2) راجع شرح الباب الحادي عشر ص 34 الطبعة الحديثة - قواعد المرام: ص 122. 211 بعده " (1). وقال - أيضا في ذيل قوله تعالى: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم " (2) -: والمعنى ما كان لبشر أن يكلمه الله نوعا من أنواع التكليم، إلا هذه الأنواع الثلاثة: أن يوحي وحيا، أو يكون من وراء حجاب، أو أن يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء. ثم إن ظاهر الترديد في الآية ب " أو " هو التقسيم على مغايرة بين الأقسام، وقد قيد القسمان الأخيران بقيد كالحجاب والرسول الذي يوحي إلى النبي، ولم يقيد القسم الأول بشئ، فظاهر المقابلة يفيد أن المراد به التكليم الخفي من دون أن يتوسط واسطة بينه تعالى وبين النبي أصلا، وأما القسمان الآخران ففيهما قيد زائد، وهو الحجاب أو الرسول الموحي وكل منهما واسطة، غير أن الفارق أن الواسطة الذي هو الرسول يوحي إلى النبي بنفسه، والحجاب واسطة ليس بموح، وإنما الوحي من ورائه - إلى أن قال -: ولما كان للوحي في جميع هذه الأقسام نسبة إليه تعالى على اختلافها، صح إسناد مطلق الوحي إليه بأي قسم من الأقسام تحقق، وبهذه العناية أسند جميع الوحي إليه في كلامه، كما قال: " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " (3) والحاصل أن الوحي بجميع أقسامه مختص بالنبي، وعليه أجمعت الأمة الإسلامية. نعم قد يطلق الوحي على الهداية التكوينية كقوله تعالى: " وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا " (4) ولكنه بالعناية والمجاز لظهور الوحي في عرف المتدينين بالأديان الإلهية من بدو مجئ الأنبياء والرسل فيما ذكر من أنه نوع رابطة أو كلام خفي بين الله تعالى وبينهم بواسطة أو بدونها فلا تغفل.
(1) النساء: 162، راجع تفسير الميزان: ج 2 ص 147. (2) الشورى: 51. (3) تفسير الميزان: ج 18 ص 76. (4) النحل: 68. 212 ثم إن الفرق بين النبي والرسول كما في تفسير الميزان هو أن النبي، هو الذي ببين للناس صلاح معاشهم ومعادهم من أصول الدين وفروعه، على ما اقتضته عناية الله من هداية الناس إلى سعادتهم، والرسول هو الحامل لرسالة خاصة مشتملة على إتمام الحجة، يستتبع مخالفته هلاكة أو عذابا أو نحو ذلك (1). فالنسبة بين النبي والرسول هي العموم والخصوص المطلق موردا إذ كل رسول نبي دون العكس، لجواز أن يكون النبي غير رسول كما لا يخفى. وعليه فمقام النبوة غير مقام الرسالة وإن كان بحسب المورد تقع الرسالة إلا في مورد النبوة فتحصل أن المفهومين متغايران وفي ذلك يكون النسبة بينهما من العموم والخصوص المطلق موردا ومما ذكر يظهر الجواب عن وجه تقديم عنوان الرسول على عنوان النبي في الآية الكريمة " وكان رسولا نبيا " (2) إذ لو كان مفهوم النبوة أعم من الرسالة لزم أن يكون متقدما عليها في الذكر كما لا يخفى، وسيجئ بقية الكلام إن شاء الله في بحث الخاتمية (3). ثم إن الرسل يختلفون في الفضل والمرتبة، وساداتهم هم أولو العزم منهم، وهم أصحاب الجد والثبات على العهود والميثاق في حد أعلى، وهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ونبينا محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وعليهم أجمعين -، كما قال تعالى: " وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا " (4) وهم أصحاب الكتب والشرايع، كما قال الله تعالى: " شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا
(1) تفسير الميزان: ج 2 ص 145. (2) مريم: 51. (3) تفسير الميزان: ج 14 ص 429، أصول عقائد (2) راهنما شناسى: ص 13 - 18 وص 268. (4) الأحزاب: 7. 213 تتفرقوا فيه " (1). ثالثها: في إمكان النبوة، ولا يخفى أنها ممكنة ذاتا، لأن في تكليمه تعالى مع الإنسان الكامل بواسطة أو بدونها، لا يلزم أحد من المحالات كاجتماع النقيضين أو الضدين أو المثلين، إذ تكليمه ليس إلا ايجاد الكلام ونحوه، ومن المعلوم أنه لا يستلزم المحدودية كالجسمية، حتى يناقض مع صرفيته ولا حديته، فلا ريب في إمكانها ذاتا، وإنما الكلام في إمكانها وقوعا، فإن البراهمة (2) زعموا أنها لا فائدة فيها، فلا تصدر عن الحكيم أمرين: أما أن يكون معقولا وإما أن لا يكون معقولا، فإن كان معقولا فقد كفانا العقل التام بادراكه والوصول إليه، فأي حاجة لنا إلى الرسول؟ وإن لم يكن معقولا فلا يكون مقبولا، إذ قبول ما ليس بمعقول خروج عن حد الإنسانية، ودخول في حريم البهيمية (3). وأجيب عن ذلك بأنه لا ريب في فائدة النبوة، فإن النبي إذا أتى بما تدركه العقول أيدها وأكدها وفائدة التأكيد أوضح من أن يخفى، وإن أتى بما لا تدركه العقول من غير طريق الشرع ففائدتها هي الارشاد والهداية، وأي فائدة أعظم من تلك الفائدة؟ ولعل البراهمة زعموا أن العقول حاكمة بثبوت الفائدة في بعض الأفعال وبعدمها في بعض آخر، مع أنها حاكمة في بعضها وليس لها الحكم في الآخر، فلا منافاة بين العقول التي لا حكم لها ومع الشرع الحاكم، إذ لا مناقضة بين اللااقتضاء والاقتضاء كما لا يخفى، ولذلك قال المحقق الطوسي - قدس سره - في تجريد الاعتقاد: " البعثة حسنة لاشتمالها على فوائد،
(1) الشورى: 23. (2) البراهمة قوم انتسبوا إلى رجل يقال له: براهم وقد مهد لهم نفي النبوات أصلا وهم كما في المنجد خدمة إله الهنود. (3) راجع الملل والنحل: ج 2 ص 251. 214 كمعاضدة العقل فيما يدل عليه، واستفادة الحكم فيما لا يدل " (1). هذا مضافا إلى فوائد اخر كرفع الشك عن الشبهات الموضوعية للعدل والظلم اللذين كانت العقول مستقلة فيهما. ألا ترى أن الناس اختلفوا في اليوم في القيمة الزائدة الحاصلة من عمل الأجير على المواد الطبيعة كالخشب أنها لصاحب المواد أو للأجير أو لهما، وكل قوم يدعي أن العدل هو ما ذهب إليه والظلم خلافه، وليس هذا الاختلاف إلا في موضوع حكم العقل الكلي، إذ لا اختلاف في قبح الظلم وحسن العدل بينهم، وفي مثل هذا يحتاج إلى الشرع حتى يزول الشك. وكرفع الغفلة عما حكم به العقل، إذ كثيرا ما تصير الأحكام العقلية مغفولة عنها، فالشرع يرشد الناس إلى عقولهم، وينبؤهم بحيث تذكروا ما نسوه، خصوصا إذا بشروهم وأنذروهم بالآثار التي للأعمال بالنسبة إلى البرزخ والقيامة والآخرة. وأضعف مما ذكر من الشبهة حول إمكان النبوة وقوعا، هو ما حكي عنهم أيضا من أنه دال العقل على أن للعالم صانعا حكيما، والحكيم لا يتعبد الخلق بما يقبح في عقولهم، وقد وردت أصحاب الشرايع بمستقبحات من حيث العقل من التوجه إلى بيت مخصوص في العبادة والطواف حوله، والسعي ورمي الجمار، والاحرام والتلبية، وتقبيل الحجر الأصم، وكذلك ذبح الحيوان - إلى أن قال -: وكل هذه الأمور مخالفة لقضايا العقول (2). وذلك لأن الموضوع للقبح العقلي هو ما علم خلوه عن المصالح، أو ما علم اشتماله على المفاسد، والأمور المذكورة ليست كذلك، بل الأمر فيها بالعكس،
(1) شرح تجريد الاعتقاد: ص 346 الطبعة الحديثة. (2) الملل والنحل للشهرستاني: ج 2 ص 251. 215 لما علم من الفوائد المهمة والأسرار العظيمة فيها، وهذا التوهم ناش من قلة التدبر حول العبادات، وعدم التوجه إلى حقيقتها وأسرارها، وتأثيرها في استكمال الروح الإنساني للتقرب والتهذيب، فمثل رمي الجمار يوجب تذكار رمي آدم - على نبينا وآله وعليه السلام - لعدوه الشيطان، وتبريه منه، وهذا التذكار يوجب أن يعرف الإنسان عدوه ويقتدي بأبيه في رميه، والتبري منه، وهل هذا إلا غرض صحيح، فكيف يكون مثل هذا مخالفا للعقل؟ وهكذا الطواف والسعي بين الصفا والمروة وغيرها اشتمل على أسرار وحكم عظيمة، يكون شطر منها مدونا تحت فلسفة الحج فراجع. وبالجملة فكل أمر صدر عن الحكيم المتعالي وجاء به الأنبياء مشتمل على الفوائد والمصالح، وإن لم نعلمها بالتفصيل، لأنهم أخبروا عن الحكيم المتعال الذي لا يصدر منه القبيح، فليس في الأوامر الشرعية التي جاءت به الرسل والأنبياء مفسدة يمكن للعقل أن يعرفها، غايته عدم العلم بوجه المصلحة وهو لا يضر، فلا موجب لقول البراهمة من استحالة وقوع النبوة كما لا يخفى. رابعها: في فوائد البعثة وغاياتها، ولا يخفى عليك أنها متعددة. منها: الإرشاد إلى ما فيه منافعهم ومصالحهم في الدنيا والآخرة، وهذه الغاية لا تقع كاملة إلا بالشرع، فإن بديهيات العقل محدودة، فلا تكفي للارشاد إلى جميع المنافع والمصالح، كما أن التجربيات الحاصلة للبشر في طول التاريخ لا يكون وافية بذلك، هذا مضافا إلى أن حاجات الإنسان لا تنحصر بالعالم المادي المشهود، وأن ما وراء العالم المادي لا يكشف عادة بالعقل، ولا يكون في حيطة الحس والتجربة، فليس لكل واحد من العقل والحس، منفردا أو منضما إلى الآخر، أن يحقق حوله لكشف الروابط بين ذلك العالم وبين أفعالنا وعقائدنا حتى ينتظم البرنامج الصالح لسير الإنسان نحو ما ينفعه من سعادته في الدنيا والآخرة.
216 لا يقال: إن الوجدان والفطرة يكفي لذلك، لأنا نقول: إن الادراك الفطري إجمالي يحتاج إلى التفصيل، بل مستور في صميم ذات الإنسان، بحيث يحتاج إلى الكشف والإثارة والتنبيه بوساطة الأنبياء والرسل، ولولا ذلك لما نال إلى كثير مما يحتاج إليه كما قال تبارك وتعالى: " كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلوا عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون " (1). فلو أهمل الإنسان مع ماله من العقل والوجدان والتجربة، ولم يرسل الأنبياء لهم لكان لهم العذر والحجة على الله، لعدم تمكنهم من النيل إلى السعادة بدون وساطة الأنبياء، ولكن ارسال الرسل يقطع عذرهم ويكون الحجة لله عليهم، وإليه يشير قوله عز وجل: " رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما " (2). فالغاية من بعثهم وإرسالهم هو إرشاد الناس نحو مصالحهم ومفاسدهم، ليتمكنوا من اتخاذ السعادة التي خلقوا لأجلها، ولئلا يكون للعصاة والكفار حجة على الله، وغاية إرشاد الناس إلى مصالحهم ومفاسدهم ملازمة مع غاية اتمام الحجة، ولا تنفك عنها، ولعله لذا اكتفى المصنف بذكر الملزوم ولم يشر إلى اللازم، كما أن بعض المحققين، اكتفى بذكر اللازم ولم يذكر الملزوم، وكيف كان فكلاهما من الغايات كما لا يخفى. ومنها: التنزيه والتزكية، ومن المعلوم أن الغرض من إرسال الرسل ليس منحصرا في مجرد التعليم، بل التزكية من الأغراض، ولإنجاز ذلك اختار الله تعالى النبوة والرسالة من بين الناس عباده الصالحين وأولياءه الكاملين، بحيث يكونون أسوة كاملة بين أبناء البشر، ويسوقون الناس نحو السعادة والكمال
(1) البقرة: 151. (2) النساء: 17. 217 بأعمالهم، وغير خفي أن هذا الغرض لا يحصل بمجرد نزول ما يحتاج إليه من السماء بصورة كتاب سماوي فقط، أو بنزول ذلك على عباده المتوسطين، أو بنزول ذلك على غير جنسهم كالملائكة، لأن الناس في هذه الصورة إما أن لا يجدوا الأسوة، وإما أن يزعموا أن الطهارة والتزكية من خصائص الجنس الآخر ولا يمكن للإنسان أن ينال إلى ذلك. ولمثل هذا جعل المرسلون من جنس الإنسان، كما قال عز وجل: " لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين " (1) وجعلهم مصطفين من الأخيار كما نص عليه في الكتاب العزيز: " واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولى الأيدي والأبصار * إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار * وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار * واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار " (2). ومنها: تعليم الحكمة والمعرفة، ولا يذهب عليك، أن ظاهر المصنف أن تعليم الحكمة غير الإرشاد إلى ما فيه منافعهم ومصالحهم، كما أن ظاهر قوله تعالى : " ويعلمهم الكتاب والحكمة " هو المغايرة بين تعليم الكتاب وتعليم الحكمة، فلعل مراد المصنف من الإرشاد إلى ما فيه منافعهم ومصالحهم، هو بيان الأحكام والمقررات والتعبديات والتشريعيات المتعلقة بالأعمال والمعاملات، والمراد من الحكمة المعارف الحقة المطابقة للواقع، التي توجب بصيرة في الأمور والدين وازديادا في معرفة الله تعالى وما يؤدي إليها كمعرفة الإمام، كما هو المستفاد من الآيات والأخبار كقوله عز وجل: " ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد " (3).
(1) آل عمران: 164. (2) ص: 45 - 48. (3) لقمان: 12. 218 وقوله تبارك وتعالى: " يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب " (1). وكما روي عن الصادق - عليه السلام -: " الحكمة ضياء المعرفة، وميزان التقوى وثمرة الصدق " (2) وعنه - عليه السلام -: " الحكمة المعرفة والتفقه في الدين " (3) وعن النبي - صلى الله عليه وآله -: " رأس الحكمة مخافة الله " (4) وعن الصادق - عليه السلام -: " طاعة الله ومعرفة الإمام " (5) فالحكمة هي المعارف الإلهية التي تشتمل العقائد الحقة والأخلاق الكاملة والمعارف الحقيقية ويمكن أن يشير إليه ما ذكره العلامة الطباطبائي - قدس سره - بقوله: " الحكمة هي القضايا الحقة المطابقة للواقع، من حيث اشتمالها بنحو على سعادة الإنسان، كالمعارف الحقة الإلهية في المبدأ والمعاد، والمعارف التي تشرح حقايق العالم الطبيعي من جهة مساسها بسعادة الإنسان، كالحقايق الفطرية التي هي أساس التشريعيات الدينية " (6) وما ذكره السيد عبد الله شبر - قدس سره - حيث قال: " الحكمة العلم النافع، أو تحقيق العلم واتقان العمل " انتهى. وكيف كان فهي أمر وراء ظواهر الأحكام والمقررات الشرعية، كما لا يخفى، كما أن النسبة بين الحكمة والكتاب عموم من وجه، لامكان أن يكون حكمة غير مذكورة في الكتاب، كبعض تفاصيل المعارف الحقة، كما يجوز أن يكون شئ مذكورا في الكتاب وليس مصداقا للحكمة كالاجتناب عن النساء في المحيض ونحوه، كما يمكن أن يكون في الكتاب أمور كانت من مصاديق الحكمة. وأما استعمال الحكمة في الفلسفة فهو اصطلاح خاص حادث، فلا يحمل عليه
(1) البقرة: 269. (2) تفسير آلاء الرحمن: ص 237. (3) تفسير نور الثقلين: ج 1 ص 287. (4) تفسير نور الثقلين: ج 1 ص 287. (5) تفسير نور الثقلين: ج 1 ص 287. (6) تفسير الميزان: ج 2 ص 418. 219 الاستعمالات القرآنية، وعلى كل تقدير فهذه المعارف الحقة الأصلية الإلهية مما لا يمكن النيل إليها بدون إرسال الرسل وبعث الأنبياء، كما هو واضح لمن عرفها وقاسها مع المعارف البشرية. ومنها: أداء الرسالة الاصلاحية، وأنت خبير بأن المفاسد الاجتماعية من الظلم والفحشاء والمنكرات ونحوها، ربما تكون بحيث يحتاج ازالتها والمقابلة معها إلى رسول إلهي، حتى يدعو الناس نحو الاصلاح وإقامة العدل، ويدافع عن المظلومين والمحرومين، لأن مجرد نزول الكتاب وتعليم الأحكام والتربية والتزكية بدون المجاهدة والقيام في مقابل المفاسد الاجتماعية، غير كاف لدفعها ورفعها، إذ بعض النفوس الشريرة كالمترفين والمفسدين لن يتوجهوا إلى ذلك كله، ويظلمون ويصدون عن سبيل الله ويفسدون النسل والحرث، كما نشاهد ذلك في يومنا هذا في الممالك الغريبة والشرقية، التي نبذ فيها الكتب السماوية فاللازم في أمثال ذلك هو إرسال الرسل أو الرجال الإلهية للقيام للاصلاح، وهذه الغاية من مهمات الغايات. قال الفاضل الشعراني - قدس سره -: " ليس في طبيعة الانسان شئ أعظم قيمة وقدرا من الاستقلال والحرية وإقامة العدل وحفظ الحقوق ودفع الظلم والتجاوز، ولذا لم ينس الناس حق الرسل الإلهية في إقامة العدل والاستقلال والحرية وان نسوا كل شئ من الخدمات المدنية والمادية عن الآخرين " (1). " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب أن الله قوي عزيز " (2). كما يظهر من بعض الآيات أن كل أمة من الأمم الماضية، لم تخل عن
(1) راجع كتاب " راه سعادت ": ص 61. (2) الحديد: 25. 220 ارسال رسول إلهي لاصلاحها، حيث قال تبارك وتعالى: " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت " (1). ومن تلك الرسل موسى بن عمران - على نبينا وآله وعليه السلام - حيث أرسله الله تعالى لنجاة بني إسرائيل من أيدي فرعون وأتباعه، وقال عز وجل: " وقال موسى يا فرعون اني رسول من رب العالمين * حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل " (2). ويلحق بالرسالة الاصلاحية مجئ الرسل لرفع الاختلافات الدينية والتحريفات اللفظية والمعنوية بين الأمة بعد مجئ نبي ونزول كتاب وشريعة معه، فإن أمة الأنبياء كثيرا ما كانوا يختلفون فيما جاءهم بحيث يحتاج إلى ارسال رسول لإصلاح الأمور الدينية، وإبانة الحق من الباطل، وكيف كان فأداء الرسالة الاصلاحية من الفوائد والغايات البينة لإرسال الرسل الإلهية التي لا يجوز أن تهمل وتترك، وهذه جملة من الغايات والفوائد للبعثة والرسالة. خامسها: في نتيجة الغايات، ولقد أفاد وأجاد المصنف - قدس سره - في تبيين الغايات لإرسال الرسل وبعث الأنبياء، فإنه جعل غاية الغايات هو إمكان النيل إلى الكمال اللائق بالإنسانية والسعادة في الدارين، وهذه أحسن من تعليل إرسال الرسل باعداد السعادة الدنيوية الاجتماعية كتنظيم البلاد والأمور الاجتماعية، لأن الانسان المحتاج إلى نبي ورسول لا ينحصر في الإنسان المدني الاجتماعي، بل كل فرد من أفراد الانسان يحتاج إلى البعثة والرسالة، ولو كان وحيدا فريدا، حتى ينال إلى كماله اللائق به في الدنيا والآخرة، ولذا نقول بأن اللازم هو كون أول فرد من أفراد الإنسان نبيا أو مصاحبا للنبي ولا حاجة في لزوم البعثة إلى تحقق الاجتماع والتغالب كما يظهر من بعض، اللهم
(1) النحل: 26. (2) الأعراف: 104 - 105. 221 إلا أن يكون مقصودهم بيان أحد موارد لزوم البعثة وإرسال الرسل، لا اختصاص مورد البعثة وإرسال الرسل بما إذا كان الاجتماع محققا، وبمثل ذلك يوجه ما في الشفاء حيث اكتفى في إثبات النبوة بحفظ النوع الإنساني، حيث قال: " فصل في إثبات النبوة وكيفية دعوة النبي إلى الله تعالى والمعاد إليه، ونقول الآن: من المعلوم أن الإنسان يفارق سائر الحيوانات بأنه لا يحسن معيشته لو انفرد وحده شخصا واحدا، يتولى تدبيره أمره من غير شريك يعاونه على ضروريات حاجاته، وأنه لابد من أن يكون الإنسان مكفيا بآخر من نوعه، يكون ذلك الامر (الاخر) أيضا مكفيا به وبنظيره، فيكون هذا ثملا يبقل لذلك، وذاك يخبز لهذا، وهذا مخيط للآخر، والآخر يتخذ الإبرة لهذا، حتى إذا اجتمعوا كان أمرهم مكفيا، ولهذا ما اضطروا إلى عقد المدن والاجتماعات - إلى أن قال -: فإذا كان هذا ظاهرا، فلا بد من وجود الإنسان وبقائه من مشاركة، ولا يتم المشاركة إلا بمعاملة، كما لا بد في ذلك من سائر الأسباب التي تكون له، ولا بد من المعاملة من سنة وعدل، ولا بد للسنة والعدل من سان ومعدل، ولا بد من أن يكون هذا بحيث يجوز أن يخاطب الناس ويلزمهم السنة ولا بد من أن يكون هذا إنسانا، ولا يجوز أن يترك الناس وآراءهم في ذلك، فيختلفون ويرى كل منهم ماله عدلا وما عليه ظلما، فالحاجة إلى هذا الإنسان في أن يبقى نوع الناس ويتحصل وجوده أشد من الحاجة إلى إنبات الشعر على الأشفار وعلى الحاجبين، وتقعير الأخمص من القدمين، وأشياء أخرى من المنافع التي لا ضرر فيها في البقاء، بل أكثر مالها أنها تنفع في البقاء ووجود الإنسان الصالح لأن يسن ويعدل ممكن، كما سلف منا ذكره، فلا يجوز أن يكون العناية الأولى تقتضي تلك المنافع ولا تقتضي هذه التي هي اسها " (1).
(1) الإلهيات من كتاب الشفاء: ص 556، وص 242 و 441 من طبع مصر. 222 إذ الاكتفاء بذلك في تعليل الرسالة في قوة حصر لزوم الرسالة والبعثة في الإنسان الاجتماعي، مع أنه محتاج إليها قبل صيرورته اجتماعيا كما عرفت، على أنه إهمال لأمر آخرته، لأن تمام الكلام عليه في بقاء النوع الإنساني في الدنيا، بحيث يصل حق كل ذي حق إليه، ولا توجه فيه إلى سعادته الأخروية، هذا مضافا إلى أن النبوة والرسالة مقام عظيم تكون الحكومة وإقامة العدل شأنا من شؤونه، فلا ينبغي حصرها فيها كما لا يخفى، ولذا قال في " العقائد الحقة " بعد نقل الطريق المذكور عن الحكماء: " والعجب قصر النظر في هذا البيان إلى اصلاح معاش الناس، وعدم التوجه إلى الآخرة، مع أن الدنيا دار المجاز والآخرة دار القرار " (1). نعم ربما يقال: إن البحث عن النبوة حيث كان قبل اثبات المعاد ومقدما عليه فلا مجال في مقام اثبات النبوة لمراعات سعادة الانسان في المعاد، وعليه فالأحسن هو طريقة الشيخ وغيره من الفلاسفة في اثبات النبوة، ولكن الجواب عنه بكفاية احتمال وجود الآخرة في جواز ملاحظة السعادة الأخروية في الدليل الذي أقيم لإثبات النبوة بأن يقال مثلا: إن الإنسان الذي يحتمل أن يكون له وجود أبدي وله معاد أخروي والسعادة الأبدية كيف يمكن أن يهتدي بنفسه إلى طريق السلوك، بل يحتاج إلى تعليمات سماوية هذا مضافا إلى إمكان جعل شئ متأخر أصلا موضوعيا في البحث المتقدم كما لا يخفى. سادسها: في أمر تعيين النبي والرسول، قد صرح المصنف بكونه بيد الله تعالى حيث قال: " كما نعتقد أنه تعالى لم يجعل للناس حق تعيين النبي أو ترشيحه أو انتخابه، وليس لهم الخيرة في ذلك، بل أمر كل ذلك بيده تعالى، لأنه أعلم حيث يجعل رسالته " وهو واضح، لأن التعيين أو الانتخاب فرع علم
(1) العقائد الحقة: ص 11 - 12. 223 المعين بوجود من يصلح للنبوة والرسالة، مع أنه لا علم لاحد بذلك إلا بتعيين الله تعالى، مع إقامة البينات والمعجزات، كما أنه لا مجال لتربيته، لأن تأديب شخص للنبوة لا يتأتى عن الناس، الذين لا يعلمون بموقع النبوة والرسالة، فالنبوة والرسالة سفارة إلهية تتعين من ناحيته تعالى، ولا سبيل للعلم بها إلا من جانبه تعالى. وأيضا بعد تعيين الله تعالى لا خيرة لغيره فيما اختاره الله عز وجل: لأنه أعلم بمن يكون قابلا لذلك المقام، فعلى الناس الطاعة والتبعية. وبالجملة إن النبوة سفارة، والنبي سفير، وأمر السفير لا يكون إلا بيد من أرسله ولا خيرة لأحد فيه. قال الصادق - عليه السلام - في جواب زنديق سأله من أين أثبت الأنبياء والرسل؟ قال: " إنا لما أثبتنا أن لنا خالقا صانعا متعاليا عنا، وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيما متعاليا لم يجز أن يشاهده خلقه، ولا يلامسوه، فيباشرهم ويباشروه، ويحاجهم ويحاجوه، ثبت أن له سفراء في خلقه، يعبرون عنه إلى خلقه وعباده ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم، وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه، والمعبرون عنه جل وعز، وهم الأنبياء - عليهم السلام - وصفوته من خلقه، حكماء مؤدبين بالحكمة، مبعوثين بها، غير مشاركين للناس - على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب - في شئ من أحوالهم، مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة، ثم ثبت ذلك في كل دهر وزمام مما أتت به الرسل والأنبياء من الدلائل والبراهين، لكي لا تخلو أرض الله من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقالته، وجواز عدالته " (1).
(1) الأصول من الكافي: ج 1 ص 168. 224 قال المحقق اللاهيجي في ذيل الرواية: " فليعلم أن هذا الكلام الشريف مع وجازته واختصاره، يحتوي خلاصة الآراء والأنظار من الحكماء السابقين والعلماء اللاحقين، بل فيه إشارات إلى حقائق لم يصل إليها منتهى نظر أكثر المتكلمين، ولو سمعها الفلاسفة الأقدمون لأقروا بإعجاز هذا الكلام الإلهي " (1).
(1) راجع گوهر مراد: ص 253. 225 النبوة لطف إن الإنسان مخلوق غريب الأطوار، معقد التركيب في تكوينه وفي طبيعته وفي نفسيته وفي عقله، بل في شخصيته كل فرد من افراده، وقد اجتمعت فيه نوازع الفساد من جهة، وبواعث الخير والصلاح من جهة أخرى، فمن جهة قد جبل على العواطف والغرائز، من حب النفس والهوى والأثرة وإطاعة الشهوات، وفطر على حب التغلب والاستطالة والاستيلاء على ما سواه، والتكالب على الحياة الدنيا وزخارفها ومتاعها كما قال تعالى: " إن الإنسان لفي خسر " و " إن الإنسان ليطغى. إن رآه استغنى " و " إن النفس لأمارة بالسوء " إلى غير ذلك من الآيات المصرحة والمشيرة إلى ما جبلت عليه النفس الإنسانية من العواطف والشهوات. ومن الجهة الثانية خلق الله تعالى فيه عقلا هاديا يرشده إلى الصلاح ومواطن الخير وضميرا وازعا يردعه عن المنكرات والظلم ويؤنبه على فعل ما هو قبيح ومذموم. ولا يزال الخصام الداخلي في النفس الإنسانية مستمرا بين العاطفة
226 والعقل، فمن يتغلب عقله على عاطفته كان من الأعلين مقاما، والراشدين في انسانيتهم والكاملين في روحانيتهم. ومن تقهره عاطفته كان من الأخسرين منزلة والمتردين إنسانية، والمنحدرين إلى رتبة البهائم. وأشد هذين المتخاصمين مراسا على النفس هي العاطفة وجنودها. فلذلك تجد أكثر الناس منغمسين في الضلالة ومبتعدين عن الهداية بإطاعة الشهوات، وتلبية نداء العواطف " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ". على أن الإنسان لقصوره وعدم اطلاعه على جميع الحقائق وأسرار الأشياء المحيطة به، والمنبعثة من نفسه، لا يستطيع أن يعرف بنفسه كل ما يضره وينفعه، ولا كل ما يسعده ويشقيه، لا فيما يتعلق بخاصة نفسه ولا فيما يتعلق بالنوع الإنساني ومجتمعه ومحيطه، بل لا يزال جاهلا بنفسه، ويزيد جهلا أو ادراكا لجهله بنفسه كلما تقدم العلم عنده بالأشياء الطبيعية والكائنات المادية. وعلى هذا فالإنسان في أشد الحاجة ليبلغ درجات السعادة، إلى من ينصب له الطريق اللاحب، والنهج الواضح إلى الرشاد واتباع الهدى، لتقوى بذلك جنود العقل حتى يتمكن من التغلب على خصمه اللدود اللجوج عندما يهئ الانسان نفسه لدخول المعركة الفاصلة بين العقل والعاطفة وأكثر ما يشتد حاجته إلى من يأخذ بيده إلى الخير والصلاح عندما تخادعه العاطفة وتراوغه، - وكثيرا ما تفعل - فتزين له أعماله وتحسن لنفسه انحرافاتها، إذ تريه ما هو حسن قبيحا، أو ما هو قبيح حسنا،
227 وتلبس على العقل طريقه إلى الصلاح والسعادة والنعيم، في وقت ليس له تلك المعرفة التي تميز له كل ما هو حسن ونافع، وكل ما هو قبيح وضار، وكل واحد منا صريع لهذه المعركة من حيث يدري ولا يدري إلا من عصمه الله. ولأجل هذا يعسر على الإنسان المتمدن المثقف، فضلا عن الوحشي الجاهل، أن يصل بنفسه إلى جميع طرق الخير والصلاح ومعرفة جميع ما ينفعه ويضره في دنياه وآخرته، فيما يتعلق بخاصة نفسه أو بمجتمعه ومحيطه، مهما تعاضد مع غيره من أبناء نوعه، ممن هو على شاكلته وتكاشف معهم، ومهما أقام بالاشتراك معهم المؤتمرات والمجالس والاستشارات فوجب أن يبعث الله تعالى في الناس رحمة لهم ولطفا بهم " رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة " وينذرهم عما فيه فسادهم، ويبشرهم بما فيه صلاحهم وسعادتهم. إنما كان اللطف من الله تعالى واجبا فلأن اللطف بالعباد من كماله المطلق، وهو اللطيف بعباده والجواد الكريم، فإذا كان المحل قابلا ومستعدا لفيض الوجود واللطف، فإنه تعالى لابد أن يفيض لطفه، إذ لا بخل في ساحة رحمته، ولا نقص في جوده وكرمه. وليس معنى الوجوب هنا أن أحدا يأمر بذلك فيجب عليه أن يطيع - تعالى عن ذلك -، بل معنى الوجوب في ذلك هو كمعنى الوجوب في قولك: إنه واجب الوجود (أي اللزوم واستحالة الانفكاك) (1).
228 جهات مختلفة، وقد عرفت الإشارة والتنبيه عليها، وحيث أراد المصنف إثبات لزوم اللطف في المقام، قال ما حاصله: إن النبوة لطف، واللطف لازم كماله وصفاته، فالنبوة لازمة. ثم أعاد الكلام في تبيين حاجة الإنسان إلى الرسل والأنبياء، لأن يتضح صغرى القياس، وحيث كان غاية الغايات من إرسال الرسل عنده، هو بلوغ الإنسان إلى درجات السعادة، لاحظ سبيل تزكية الإنسان، وشرع من أن الإنسان مركب من نوازع مختلفة، نوازع خير ونوازع فساد، وبين تلك النوازع منازعة، ولا يزال تخادع الأميال والأهواء مع دواع الخير، من دون مساواة بينهما، فإن الأولى فعلية بفعلية أسبابها كدعوة الشيطان ومن تبعه نحو الفساد، بخلاف الثانية فإنه لا سبب لفعليتها نوعا لو لم يكن نبي أو رسول أو إمام ومن تبعهم، ومن المعلوم ان وجود النبي أو الرسول أو الإمام في تلك المنازعة الغير المتساوية من أوضح الألطاف، فإنهم يزيدون في معرفة الناس بالله والمعاد والمعارف الحقة، إلى أن تصير دواعي الخير والصلاح، قبال نوازع الفساد فعلية متعادلة، ويؤكدون ذلك بالتبشير والتنذير، والوعد والوعيد، ويثيرون الفطرة والعقول من القوة إلى الفعلية، إلى أن لا يسلك سبيل الفساد والضلالة إلا الشقي. قال مولانا أمير المؤمنين - عليه السلام -: " فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم آيات المقدرة من سقف فوقهم مرفوع ومهاد تحتهم موضوع " (1). هذا مضافا إلى أن وجود الأنبياء والرسل أسوة في الكمالات الإنسانية، وله
(1) نهج البلاغة، صبحي صالح، الخطبة 1، ص 43. 229 سهم كبير في فعلية دواعي الخير في نفوس الناس وجذبهم نحو السير والسعي نحو الكمال، كما لا يخفى. هذا كله تمام الكلام في الصغرى، وأما الكبرى فسيأتي الكلام فيها إن شاء الله تعالى. الثاني: في معنى كون البعث وإرسال الرسل رحمة ولطفا في حق العباد. فاعلم أن المراد من كون ذلك لطفا ليس إلا ما يتمكن به الإنسان، من سلوك اختياري في طريق السعادة، إذ بدون هذا اللطف لا يعلم الطريق حتى يسلكه، ويجتنب عن طريق الضلالة، فالبعث وإرسال الرسل هو اللطف الممكن الذي لا يستغني عنه الإنسان أصلا، لا ما اصطلح في علم الكلام، فإن المراد منه هو اللطف المقرب لا الممكن، ولذا عرفوه بأنه ما يقرب العبد إلى الطاعة، و يبعده عن المعصية، ولاحظ له في التمكين، ولا بليغ الالجاء، ومثلوا له بمن دعا غيره إلى طعام وهو يعلم أنه مع كونه مكلفا بالإجابة، ومتمكنا من الامتثال لا يجيبه إلا أن يستعمل معه نوعا من التأدب فالتأدب المذكور يقرب المكلف إلى الامتثال ويبعده عن المخالفة، فإذا كان للداعي غرض صحيح في دعوته، يجب عليه التأدب المذكور تحصيلا لغرضه، وإلا نقض غرضه الصحيح وهو قبيح عن الحكيم. ومن المعلوم ان الإنسان بالنسبة إلى سلوك طريق السعادة والاجتناب عن طريق الضلالة، ليس كالمدعو الذي ذكر في المثال متمكنا عن الإجابة والامتثال، فإن الإنسان لا يعلم بجميع ما يصلح له وما يضره إلا بالبعثة وإرسال الرسل، فجعل البعث وإرسال الرسل لطفا بالمعنى المذكور في الكلام، تنازل عن درجة الحاجة إلى البعثة بلا وجه، إذ حاجة الإنسان إليها أشد وأزيد من ذلك. وعليه فلا مورد لتعبير المصنف حيث قال في بيان الحاجة إلى البعثة:
230 " ولأجل هذا يعسر على الإنسان المتمدن المثقف، فضلا عن الوحشي الجاهل، أن يصل بنفسه إلى جميع طرق الخير والصلاح، الخ " فإنه مع عدم العلم بالطريق لا يتمكن من الوصول، لا أنه يتمكن ولكن يعسر عليه فلا تغفل. الثالث: في وجوب اللطف ولزومه، وهو كبرى القياس، ولا يخفى عليك أن الأدلة الدالة على وجوبه متعددة. منها: ما أشار إليه في المتن من برهان الخلف، فإن اللطف مقتضي كونه تعالى كمالا مطلقا، فإذا كان المحل قابلا ومستعدا لذلك الفيض، كما هو المفروض، فإنه تعالى لا بد أن يفيض لطفه، إذ لا بخل في ساحة رحمته، ولا نقص في جوده وكرمه، ولا مصلحة في منعه، وإلا لزم الخلف في كونه كمالا مطلقا، أو عدم حاجة الإنسان إلى البعثة وكلاهما ممنوعان. وبعبارة أخرى: إن حاجة الإنسان إلى البعثة كما عرفت، أشد من الحاجة إلى كل شئ آخر، كانبات الشعر على الأشفار وعلى الحاجبين وتقعير الأخمص من القدمين، وغير ذلك، فإن الإنسان بدون البعثة لا يتمكن من السلوك نحو الكمال اللائق به، والنيل إلى السعادة في الدارين. فحينئذ نقول كما قال الشيخ أبو علي بن سينا: فلا يجوز أن يكون العناية الأولى وعلمه تعالى بنظام الخير، تقتضي تلك المنافع، ولا تقتضي هذه التي هي اسها، مع أنه لا مانع من وجود الأنبياء والرسل، لتعليم الناس ما يصلحهم وما يضرهم ولتزكيتهم وسوقهم نحو سعادتهم في الدنيا والآخرة، بل مقتضى كماله وعلمه و قابلية المحل وعدم وجود المانع، هو الاقتضاء المذكور والإفاضة، وإلا لزم الخلف في كونه عالما بنظام الخير وكمالا مطلقا، هذا مضافا إلى لزوم تكليف الناس بما لا يطيقون، من السلوك نحو السعادة والكمال في الدارين، من دون ايجاد شرطه، وإلى نقض الغرض من خلقة الإنسان للاستكمال والنيل إلى السعادة، مع عدم اعداد مقدماته، ومن المعلوم أنهما لا يصدران عن الكمال
231 المطلق، وإلا لزم الخلف في كونه كمالا مطلقا. ومنها: ما استدل به في علم الكلام من نقض الغرض وتحصيله. قال المحقق الطوسي - قدس سره -: " واللطف واجب لتحصيل الغرض به ". قال العلامة الحلي - قدس سره - في شرحه: " والدليل على وجوبه أنه يحصل غرض المكلف، فيكون واجبا، وإلا لزم نقض الغرض. بيان الملازمة: أن المكلف إذا علم أن المكلف لا يطيع إلا باللطف، فلو كلفه من دونه، كان ناقصا لغرضه، كمن دعا غيره إلى طعام وهو يعلم أنه لا يجيبه إلا إذا فعل معه نوعا من التأدب، فإذا لم يفعل الداعي ذلك النوع من التأدب، كان ناقضا لغرضه، فوجوب اللطف يستلزم تحصيل الغرض " (1). قال المحقق اللاهيجي في تقريبه: " إن ترك اللطف نقض الغرض، ونقض الغرض قبيح، فترك اللطيف قبيح " (2) وهو تعالى لا يفعل القبيح. ثم لا يخفى عليك أن مبنى الدليل المذكور هو الحسن والقبح العقليين، كما أن مبنى الدليل الذي ذكره المصنف هو برهان الخلف. ومنها: ما استدل به المحقق اللاهيجي - قدس سره - من وجوب الأصلح فيما إذا لم يكن منافيا لمصلحة كل النظام، لأن علمه تعالى يقتضي وقوع النظام على أتم وجوهه، لأنه مبدأ كل خير ولا مانع منه (3). وتقريب ذلك الدليل بأن يقال: إن اللطف على الأقل أصلح، فيما إذا لم يكن منافيا لمصلحة كل النظام، كما هو المفروض في البعثة وارسال الرسل، والأصلح مما يقتضيه علمه تعالى، لأنه مبدأ كل خير، ولا مانع منه، فاللطف مما يقتضيه، ولا بد من وقوعه، وإلا لزم الخلف في كون علمه تعالى يقتضي وقوع النظام على أتم وجوهه، وهذا التقريب يقرب من التقريب الأول الذي أشار
(1) شرح تجريد الاعتقاد: ص 324 - 325 الطبعة الحديثة. (2) سرمايه ايمان: ص 79 الطبعة الحديثة. (3) گوهر مراد، ص 250. 232 إليه المصنف كما لا يخفى. وهنا تقريب آخر عن المحقق اللاهيجي أيضا وهو: أنه إذا لم يكن للأصلح مانع مع وجود داعية، لكان الإمساك عن الأصلح وإفاضة غير الأصلح قبيحا، لأن ترك الأصلح وأخذ غير الأصلح مذموم عقلا، فنقول بطريق القياس الاستثنائي: إذا كان ترك الأصلح قبيحا، كان وجود الأصلح واجبا، ولكن ترك الأصلح قبيح فيكون وجود الأصلح واجبا (1). بل هنا تقريب خامس وهو: أنه إذا لم يكن للأصلح مانع مع وجود داعيه، لكان الامساك عن الأصلح وإفاضة غير الأصلح ممتنعا، لأنه ترجيح للمرجوح، وهو ممتنع، لأنه يرجع إلى ترجح من غير مرجح، وإليه أشار المحقق اللاهيجي في ضمن التقريب السابق فراجع (2). ولا يخفى أن الصغرى ليس كل أصلح ولو كان مقرونا بالمانع، بل الأصلح الخاص، وهو الذي لا يكون مقرونا بالمانع مع وجود داعيه، وبهذا التقييد المذكور لا يرد عليه شئ من الايرادات، وبقية الكلام في محله (3). وإرسال الرسل سواء كان ممكنا كما قلنا أو مقربا أو أصلح، واجب بالتقريبات المذكورة فتدبر جيدا. الرابع: في عمومية مقتضى البرهان، إذ برهان اللطف سواء كان بمعناه الفلسفي أو الكلامي، يقتضي لزوم اتمام الحجة على الناس وارشادهم وتزكيتهم في جميع الأدوار والأمكنة، ولذا نعلم بأن ذلك لا يختص بمناطق الحجاز والشامات والعراق وإيران ونظائرها، إذ التكليف أو الغرض، وهو نيل الإنسان إلى كماله اللائق به والسعادة في الدارين، لا يختص بقوم دون قوم، بل كل مكلفون ومنذرون، كما نص عليه في قوله عز وجل: " إنا أرسلناك بالحق بشيرا
(1) سرمايه ايمان: ص 81. (2) سرمايه ايمان: ص 81. (3) سرمايه ايمان: ص 81. 233 ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير " (1). حيث أفادت الآية الكريمة أن لكل جامعة من الجوامع البشرية نذيرا. نعم، القدر المتيقن منها، هي الجامعة التي لا يمكن لهم الارتباط بالجامعة الأخرى، بحيث لو اكتفى بارسال الرسول في غيرها لا يبلغهم دعوة النبي المرسل، ولا يمكنهم الاطلاع من دعوته. وعليه فنعلم بشمول دعوة الرسل لجميع أقطار الأرض وأدوار التأريخ، وإن لم نعلم تفصيل ذلك فانقدح مما ذكر أن دعوى عدم شمولها لبعض القارات كقارة أمريكا مجازفة. ولقد أفاد وأجاد الإمام البلاغي - قدس سره - في الجواب عمن أنكر شمول دعوة الأنبياء لبعض القارات بقوله: " ما كنت أظن أحدا يقدم على هذه الدعوى النافية بالكلية إلا أن يستند فيها إلى إخبار نبوي، أو يدعي النبوة، أو أنه إله متجسد، فإن دعوى العلم بمثل هذا النفي، لا يكفي فيها الجهل، فما هي الحجة القاطعة على هذه الدعوى الكبيرة؟ ولا يحسن التشبث لها بخلو التوراة الرائجة من ذكر أمريكا ونبواتها، وذلك لجواز أن لا تكون أمريكا مسكونة في زمان موسى، بل اتفق العبور إليها من جزائر اليابان أو من بوغاز بيرين أو غير ذلك، كما ذكر عبور جماعة من " ايسلاند " إلى " كرينلاند " من أمريكا في القرن الثامن أو التاسع للمسيح، أو لأن ذكر أمريكا ونبواتها لم يدخل في حكمة التوراة الأصلية - إلى أن قال -: ولا يمكن التشبث بخلو القرآن الكريم من ذلك، فإن التصريح بذكر أمريكا ونبواتها مما ينافي حكمة القرآن الكريم ومداراته لجهل الناس، ولكنه بعد أن ذكر الرسل قال في سورة النساء المدنية الآية 162: " ورسلا قد قصصناهم من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك " كما قال في سورة المؤمن المكية الآية 78: " ولقد
(1) فاطر: 24. 234 أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك " فالقرآن صريح بأنه لم يستوعب ذكر الرسل. ألا وأن المؤمن الذي يعترف لله بعموم الرحمة وقيام الحجة، لا بد له من أن يذعن اجمالا بعموم الرحمة وقيام الحجة على أهل أمريكا وإن لم يعرف وجه ذلك تفصيلا، وأن التاريخ يذكر عن قارة أمريكا بنوعها وأقطارها قبل انكشافها شيئا من التدين بالإلهية والعبادة والصلاة والصوم والمعمودية، والاعتماد على المخلص والتخليص من الجحيم، واغواء الشيطان وبقاء النفس بعد الموت، وغير ذلك من التقاليد كما في المكسيك والبيرو والبرازيل وكندا ومايانوا كاتلن والاير وكويسبين وأديسيوا والاحبوايو ونوع أمريكا، وهذ يقوي الظن بأن مادة هذه التعاليم والديانات إنما هي من دعوة نبوية رسولية نشأت في قارتهم أو بلغتهم من قارة أخرى، ولكن الأهواء شوهت صورتها بتلويث التوحيد بالتثليث والعبادة الأصنامية، وتأليه البشر، ويلزم من هذه الأهواء تبديل الشريعة كما هي العادة الأهوائية، وابتلاء الأديان بعواصفها الوبئية - إلى أن قال -: ثم إن كان نظر الكلام إلى بلوغ دعوة الإسلام إلى أمريكا، فلم يعلم تأخره إلى حين اكتشافها، ومن الممكن بلوغ الدعوة حينما ارتبطت " كرينلاند " بحماية تزوج وكثرة تردد أهل الشمال اليهما كما يقال، ولا يلزم في بلوغ الدعوة وصول مبشريها، بل يكفي في بلوغها وقيام الحجة في لزوم النظر في أمرها مجرد وصول خبرها، وإن كان من جاحديها، ولو قلنا بتأخر بلوغها إلى أمريكا إلى حين اكتشافها، لم يلزم من ذلك إلا كون الفترة عندهم، أكثر من الفترة في أقطار القارات الاخر حسبما اقتضته حكمة الله في الإرسال، وسير الدعوة بالمسرى الطبيعي العادي في الأقطار " (1) وهو حسن، ولكن كلامه الأخير لا يخلو عن
(1) أنوار الهدى: ص 124. 235 التأمل والاشكال، فإن الفترة بدون حجة الله ممنوعة. نعم هنا احتمالات أخر: أحدها: أن يكون من سكن فيها من نسل من خرج عن دار الإيمان إلى دار الكفر، ثم اتفق عبوره إليها وسكن فيها بالاختيار أو الاضطرار، فإنه عصى بخروجه عن دار الإسلام التي يمكن إقامة شعائر الايمان فيها، ومن خرج عمدا عنها إلى دار الكفر التي لا يمكن له إقامة شعائر الايمان فيها، لا يستحق بعصيانه أن يأتيه دعوة الأنبياء، وهذا الحرمان أمر يتحقق من نفسه في حق نفسه وفي حق نفسه، فهو ظالم لنفسه ولنسله في هذا الحرمان. وثانيها: أنه كانت هذه القارة متصلة بقارة أخرى التي جاءتهم دعوة النبي، ثم انفصلت عنها، كما احتمل ذلك في علم الجغرافية على المحكي، فتأمل. وثالثها: أنه جاءهم الأنبياء والحجج، ولكن قتلوهم ولم يقبلوهم، وكيف ما كان، فلا مجال لدعوى نقض البرهان بمثل هذا، فإن غايته أنه مجمل ولا يرفع اليد عن المعلوم بالمجمل، بل يحمل المجمل على المبين.
236 3 - عقيدتنا في معجزة الأنبياء نعتقد أنه تعالى إذ ينصب لخلقه هاديا ورسولا، لابد أن يعرفهم بشخصه ويرشدهم إليه بالخصوص على وجه التعيين، وذلك منحصر بأن ينصب على رسالته دليلا وحجة يقيمها لهم، إتماما للطف واستكمالا للرحمة. وذلك الدليل لابد أن يكون من نوع لا يصدر إلا من خالق الكائنات ومدبر الموجودات (أي فوق مستوى مقدور البشر) فيجريه على يدي ذلك الرسول الهادي، ليكون معرفا به ومرشدا إليه. وذلك الدليل هو المسمى ب " المعجز أو المعجزة " لأنه يكون على وجه يعجز البشر عن مجاراته والإتيان بمثله. وكما أنه لابد للنبي من معجزة يظهر بها للناس لإقامة الحجة عليهم، فلابد أن تكون تلك المعجزة ظاهرة الإعجاز بين الناس، على وجه يعجز عنها العلماء وأهل الفن في وقته، فضلا عن غيرهم من سائر الناس، مع اقتران تلك المعجزة بدعوى النبوة منه، لتكون دليلا على مدعاه وحجة بين يديه، فإذا عجز عنها أمثال أولئك علم أنها فوق مقدور البشر وخارقة
237 للعادة، فيعلم أن صاحبها فوق مستوى البشر بما له من ذلك الاتصال الروحي بمدبر الكائنات. وإذا تم ذلك لشخص من ظهور المعجز الخارق للعادة، وادعى مع ذلك النبوة والرسالة، يكون حينئذ موضعا لتصديق الناس بدعواه، والايمان برسالته، والخضوع لقوله وأمره، فيؤمن به من يؤمن ويكفر به من يكفر. ولأجل هذا وجدنا أن معجزة كل نبي تناسب ما يشتهر في عصره من العلوم والفنون، فكانت معجزة موسى - عليه السلام - هي العصا التي تلقف السحر وما يأفكون، إذ كان السحر في عصره فنا شائعا، فلما جاءت العصا بطل ما كانوا يعملون، وعلموا أنه فوق مقدورهم، وأعلى من فنهم، وأنها مما يعجز عن مثله البشر ويتضاءل عندها الفن والعلم، وكذلك كانت معجزة عيسى - عليه السلام - وهي ابراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، إذ جاءت في وقت كان في الطب هو السائد بين الناس، وفيه علماء وأطباء لهم المكانة العليا فعجز علمهم عن مجاراة ما جاء به عيسى عليه السلام. ومعجزة نبينا الخالدة هي القرآن الكريم، المعجز ببلاغته وفصاحته في وقت كان فن البلاغة معروفا، وكان البلغاء هم المقدمون عند الناس، بحسن بيانهم وسمو فصاحتهم فجاء القرآن كالصاعقة، أذلهم وأدهشهم وأفحمهم، إنهم لا قبل لهم به فخنعوا له مهطعين عندما عجزوا عن مجاراته وقصروا عن اللحاق بغباره ويدل على عجزهم أنه تحداهم باتيان عشر سور مثله، فلم يقدروا، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله
238 فنكصوا، ولما علمنا عجزهم عن مجاراته مع تحديه لهم، وعلمنا لجوءهم إلى المقاومة بالسنان دون اللسان علمنا أن القرآن من نوع المعجز، وقد جاء به محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وآله - مقرونا بدعوى الرسالة فعلمنا أنه رسول الله جاء به بالحق وصدق به صلى الله عليه وآله (1).
(1) راجع تجريد الاعتقاد: ص 350 الطبعة الحديثة. (2) ترجمة وشرح تجريد الاعتقاد: ص 448. 239 التحدي، كما أنه ان كانت الدعوى متحققة، ولكن خارق العادة لا يكون مطابقا لما ادعاه، فلا اعجاز، لأنه حينئذ يكون شاهد كذب المدعى، كما حكي في المسيلمة الكذاب، حيث إنه أراد ازدياد ماء البئر ليكون معجزا على دعواه، فتقل فيه فصار ماؤه غائرا. ثم إن المراد من اشتراط التحدي، هو أن يكون المعجز عقيب دعوى النبي ومطالبته للمقابلة، أو الجاري مجرى ذلك، ونعني بالجاري مجرى ذلك هو أن يظهر دعوة النبي بحيث لا يحتاج إلى اعادتها، بل يكتفى فيه بقرائن الأحوال كما صرح به العلامة المجلسي - رحمه الله - حيث قال: " ومن جملة الشرائط هو أن يكون مقرونا بالتحدي ولا يشترط التصريح، بل يكفي قرائن الأحوال ". ثم علم مما ذكر، خروج ما يظهر من السحرة، من حقيقة الاعجاز، فإن تلك الأمور ليست بخارقة للعادات، فإن لها أسبابا خاصة خفية يمكن تعلمها وسلوكها بحسب العادة، كما يشهد له وجود السحرة وأهل الشعبدة في كل عصر وزمان كما لا يخفى. وهكذا خرج عن التعريف ما قد يرى من الكهنة أو المرتاضين فإن تحصيل ذلك بالرياضة ونحوها ممكن عادة، ولذا يكون معارضتهم في كل عصر وزمان ممكنة. فهذه الأمور خارجة بنفسها عن التعريف، فلا حاجة إلى إضافة قيد آخر للاحتراز عنها كما زعمه بعض المحققين، وزاد في التعريف قيودا أخرى لا يحتاج إليها، حيث قال: " إن المعجزة هو فعل على خلاف مجاري العادة والطبيعة، متكئا على قدرته تعالى، وطريق معرفتها هو العلم بأنه لا يكون صادرا من جهة التعلم والتعليم، ولا يصير مغلوبا عن ناحية أخرى " فإنه بعد تحقق العلم بكون ما يظهر منه خارقا للعادة، لا حاجة إلى القيد الأخير في كلامه " وطريق معرفتها هو العلم بأنه لا يكون صادرا من جهة التعلم، الخ " إذ هو بالعلم بكونه خارق
240 العادة حاصل. وأما قيد الاتكاء على قدرته تعالى، فهو أيضا حاصل بقاعدة اللطف، بعد ظهور ما يعجز عنه الناس بيد مدعي النبوة إذ لو كان كاذبا وجب عليه تعالى تكذيبه، وإلا لزم الاغراء إلى الضلالة، وهو قبيح عنه تعالى، بل محال فمجرد إظهار المعجزة في يد مدعي النبوة مع التحدي، يكفي لحصول العلم بأنه من ناحية الله تعالى فلا تغفل. وأما عدم المغلوبية فهو لازم كون ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - خارق العادة فلا حاجة إلى أخذه في التعريف أيضا. ثم لا يخفى عليك أن العلامة الحلي - قدس سره - زاد شروطا اخر لتمامية الاعجاز وقال: لابد في المعجز من شروط (1). الأول: أن يعجز عن مثله أو عما يقاربه الأمة المبعوث إليها، ولكن أورد عليه الفاضل الشعراني بأن فعل ما يقاربه إن كان معتادا، فلا يكون خرقا للعادة، فالقدرة عليه لا تكون دليلا على القدرة على المعجز، فلا يكون العجز عن فعل المقارب شرطا. الثاني: أن يكون المعجز من قبل الله تعالى أو بأمره، ولكن أورد عليه الفاضل الشعراني - قدس سره - بقوله: " إني لم أعلم المقصود من هذا الشرط، لأن كل شئ بإذنه وأمره، فإن أراد منه أن المعجز هو الذي ليس له سبب ظاهر، ففيه منع الاشتراط، لجواز أن يكون المعجز مما له سبب ظاهر، كدعاء النبي على معاند فسلط الله عليه أسدا أكله " إنتهى. وإن أراد منه أن اللازم في صدق الاعجاز هو العلم بكونه من ناحيته تعالى فهو أمر تدل عليه قاعدة اللطف كما مر، ولا دخل له في صدق الاعجاز وخارق العادة. الثالث: أن يكون صدور المعجز في زمان التكليف، لأن العادة تخرق عند
(1) كشف المراد: ص 350 الطبع الجديد. 241 أشراط الساعة، ويمكن أن يقال: إن العادة وإن انتقضت عند أشراط الساعة، ولكن المعجز لا يصير عاديا للإنسان في ذلك الحين كما لا يخفى، نعم لو أفاد ذلك وعلله بأن صدور المعجز في ذلك الحين بعد رفع التكليف لا فائدة فيه، لانقضاء وقت الايمان كان صحيحا. الرابع: أن يحدث عقيب دعوى المدعي للنبوة أو جاريا مجرى ذلك، ونعني بالجاري مجرى ذلك أن يظهر دعوى النبي في زمانه، وأنه لا مدعي للنبوة غيره، ثم يظهر المعجز بعد أن ظهر معجز آخر عقيب دعواه، فيكون ظهور الثاني كالمتعقب لدعواه، لأنه يعلم تعلقه بدعواه، وأنه لأجله ظهر كالذي ظهر عقيب دعواه. وفيه أن ذلك يفهم من قول المصنف حيث قال: ومطابقة الدعوى، لأنه يدل على أمرين: أحدهما: وجود الدعوى وثانيهما: مطابقة المعجز لدعواه بحيث يكون شاهد صدق له، فلا حاجة إلى اشتراطه. الخامس: أن يكون المعجز خارقا للعادة، وفيه أن الشرط الخامس من مقومات المشروط، إذ المعجز لا يتحقق بدون خرق العادة، فكيف يمكن أن يجعل من شرائطه، مع أن صريح كلامه - قدس سره - هكذا " ولا بد في المعجزة من شروط أحدها - إلى أن قال -: الخامس: أن يكون خارقا للعادة ". ثانيها: أن الفرق بين المعجزة وبين السحر والشعبذة ونحوها واضح، بعد ما عرفت أن لتلك الأمور أسبابا خاصة عادية، ولو كانت خفية، حيث يمكن تعلمها وتعليمها، بخلاف المعجزة، فإنها ليست إلا من ناحيته تعالى، ولذلك أتى النبي بالمعجز، فيما إذا كانت الحاجة إلى إقامته بما يريده الناس، بخلاف السحرة ونحوهم، فإنهم لا يتمكنون من إقامة ما يريده الناس، بل أتوا بما تعلموه وهو محصور في أمور خاصة يمكن تعلمها (1)، ولإمكان تعلم السحر أمكنت المعارضة
(1) راجع أنيس الموحدين: ص 184 الطبعة الحديثة. 242 مع السحرة بخلاف الاعجاز فإنه لا يمكن فيه المعارضة. لا يقال: إن مثل الارتباط مع الأجنة ربما يتفق لبعض النفوس من دون سلوك طريق أو رياضة فليس له أسباب عادية حتى يمكن سلوكها أو معارضتها، لأنا نقول: إن أمثال ما ذكر لا يكون خرقا للعادة، بل من نوادر الأمور وهي ليست من خارق العادات فاتفاق ذلك الأمر لبعض النفوس في بعض الأحيان شاهد كونه من النوادر مع أن الذي يكون خرق العادة هو الذي لا يقع عادة ولا نادرا. ثالثها: أن الإعجاز لا يكون خارجا عن أصل العلية، فإن العلل المعنوية أيضا من العلل، ومشمولة لتلك القاعدة، كما أن العلل الطبيعية لا تنحصر في العلل الموجودة المكشوفة، لامكان اكتشاف علل طبيعية أخرى في الآتي، وعليه فالاعجاز معلول من المعاليل، وله علة معنوية، وهذه العلة المعنوية قد تستخدم في الاعجاز الأسباب الطبيعية، كما دعا النبي - صلى الله عليه وآله - في حق معاند فسلط الله عليه سبعا فأكله، وقد يكتفي بالعلل المعنوية كإحياء الموتى أو انبات شجر مثمر في دقائق قليلة، وكيف كان، فالنظام الاعجازي يقدم على النظام الجاري بإرادته تعالى، ومشيته، فليس المعجزة بلا سبب وعلة، حتى يقال: بأنه نقض لأصل العلية ومما ذكر يظهر ما في مزعمة الماديين حول الاعجاز حيث تخيلوا أنه ينافي أصل العلية. رابعها: أنه لا يلزم تكرار المعجزة للتصديق بالنبي، لأن اللازم هو حصول العلم بصدق النبي وهو يحصل بمعجزة واحدة، بل لا يلزم رؤية المعجزة، لأن نقلها متواترا يوجب العلم بوقوع المعجزة، وكونها شاهدة لصدق النبي، وأما وقوع المعجزات المتكررة عن بعض الأنبياء، فلعله لبقاء الحاجة إليها لصيرورة نقلها متواترا للغائبين وغير الموجودين، حتى يحصل لهم العلم بوقوعها كالشاهدين، ومن ذلك ينقدح أن المعجزات المتكررة لا تخرج عن عنوان المعجزة لو وقعت بعد
243 العلم بنبوة النبي، بدعوى أنها مجرد كرامة وليست واقعة لحصول العلم بالنبوة بعد دعوة النبوة والتحدي، لأن هذه المعجزات المتكررة موجبة لحصول العلم للغائبين وغير الموجودين من النسل الآتي، فليست مجرد كرامة. وكيف كان فقد أفاد وأجاد الامام البلاغي - قدس سره - حيث قال: " إن الذي يحتاج إليه في تصديق الرسالة ومنقولها هو العلم بالمعجز لا خصوص مشاهدته ولا تكراره " (1). ومما ذكر يظهر أيضا وجه عدم إجابة الأنبياء لبعض الاقتراحات الواردة من المنكرين لخروجها عن كونها إتماما للحجة، هذا مع ما في طلبهم من المحالات كمجئ الله سبحانه وتعالى، مع أنه محيط على كل شئ " وقالوا لن نؤمن لك حتى. تأتي بالله. قبيلا " (2). خامسها: أن المعجزة ليست طريقة منحصرة لتعريف النبي أو الإمام، لإمكان تعريفه بسبب تعريف نبي آخر بالبشارة عليه إن لم يكن موجودا حال التعريف، كما وردت بشارات متعددة عن الأنبياء السالفة في حق نبينا محمد - صلى الله عليه وآله - كما قال تعالى: " وإذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين " (3). أو بالنص عليه إن كان موجودا حاله، كتنصيص بعض الأنبياء على بعض آخر، فلا وجه لحصر تعريف النبي أو الإمام في المعجزة، كما يظهر من عبارة المصنف، حيث قال: " نعتقد أنه تعالى إذ ينصب لخلقه هاديا ورسولا، لا بد أن يعرفهم بشخصه ويرشدهم إليه بالخصوص على وجه التعيين، وذلك منحصر بأن ينصب على رسالته دليلا وحجة يقيمها لهم اتماما للطف واستكمالا للرحمة - إلى أن قال -: وذلك الدليل هو المسمى بالمعجز أو المعجزة "، انتهى.
(1) أنوار الهدى: ص 116. (2) الاسراء: 90 - 92. (3) الصف: 6. 244 ثم إن لزوم التعريف بالمعجزة أو البشارة أو التنصيص فيما إذا لم يكن حال النبي وصدقه وأمانته موجبا للعلم بنبوته، وإلا فهو فضل في حق من عرف، ولكن حيث لم يعرف أكثر الناس بهم إلا بالتعريف، فاللازم هو التعريف بأحد الوجوه المذكورة حتى يتم الحجة على كل أحد، ولا يبقى عذر لأحد من الناس. سادسها: إن المعجزة لزم أن تكون ظاهرة الاعجاز بين الناس، على وجه يعجز عنها جميع الناس مع اقتران المعجزة بدعوى النبوة والتحدي، لتكون دليلا على مدعاه، وهذا ظاهر لا كلام فيه، ولكن الكلام فيه دعوى المصنف حيث قال: " ولاجل هذا وجدنا أن معجزة كل نبي تناسب ما يشتهر في عصره من العلوم والفنون، الخ ". فإن فيه أولا: إنا لا نعلم بوجود المعجزة لكل نبي، لاحتمال أن يكون التعريف في بعض الأنبياء بالبشارة أو التنصيص كما عرفت جواز الاكتفاء بهما. لا يقال: إن مقتضى قوله تعالى: " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات " (1) إن لكل رسول معجزة، لأنا نقول: إن البينات أعم من المعجزة. وثانيا: إنه لو سلمنا وجود المعجزة لكل نبي فالمناسبة لما يشتهر في عصره غير معلومة، وإنما اللازم هو كون المعجزة ظاهرة الاعجاز. سابعها: أن معجزة القرآن ليست منحصرة في بلاغته وفصاحته كما سيأتي التصريح بذلك عن المصنف أيضا حيث قال: " 9 - عقيدتنا في القرآن الكريم، نعتقد أن القرآن هو الوحي الإلهي المنزل من الله تعالى على لسان نبيه الأكرم، فيه تبيان كل شئ، وهو معجزته الخالدة التي أعجزت البشر عن مجاراتها في
(1) الحديد: 25. 245 البلاغة والفصاحة، وفيما احتوى من حقائق ومعارف عالية لا يعتريه التبديل والتغيير والتحريف، الخ " فلعل الاكتفاء بهما في المقام، لكونه في مقام بيان المعجزة المناسبة لما اشتهر في عصره من العلوم والفنون فلا تغفل. ثامنها: أن الدليل على لزوم إقامة المعجز وتعريف النبي والرسول، هو الدليل على لزوم إرسال الرسل، إذ لو لم يقم المعجز لا يتم الحجة، ولما تمكن الناس من معرفة ما يحتاجون إليه من المصالح والمفاسد، مع أنه لازم أو واجب في عنايته الأولى وحكمته الكبرى. ولعل إليه أشار المصنف لقوله اتماما للطف واستكمالا للرحمة. تاسعها: أن طريق الاستدلال بالمعجز هو أن يقال: إن ظهور المعجز على يد النبي أو الإمام شاهد صدقه إذ لو كان كاذبا وجب على الحكيم المتعالي تكذيبه وإلا لزم الاغراء إلى الضلالة وهو لا يصدر منه تعالى. عاشرها: أن الوظيفة في الموارد التي شك في اعجازيتها هو التفحص عن حالها والرجوع إلى القرائن والشواهد دفعا للضرر ربما يقال في مثل هذه الموارد: ينظر إلى مدعي المعجزة هل يدعو إلى الحق أو الباطل أو إن كلماته تخالف مسلمات الأديان أو واضحات العقول أم لا ولكنه لا يخلو عن النظر إذ من الممكن أن يدعو إلى الحق ولا يخالف قوله مع مسلمات الأديان وواضحات العقول، ومع ذلك لا يكون في دعواه صادقا. نعم لو كان قوله مخالفا لواضحات العقول ومسلمات الأديان كان ذلك من أوضح الشواهد على كذبه ثم بناء على لزوم الرجوع إلى القرائن والشواهد فإن ظهر الصدق فهو وإلا فلا تكليف، لعدم قيام الحجة عليه.
246 4 - عقيدتنا في عصمة الأنبياء ونعتقد أن الأنبياء معصومون قاطبة، وكذلك الأئمة - عليهم جميعا التحيات الزاكيات - وخالفنا في ذلك بعض المسلمين فلم يوجبوا العصمة في الأنبياء فضلا عن الأئمة. والعصمة هي التنزه عن الذنوب والمعاصي صغائرها وكبائرها وعن الخطأ والنسيان وإن لم يمتنع عقلا على النبي أن يصدر منه ذلك، بل يجب أن يكون منزها حتى عما ينافي المروة كالتبذل بين الناس من أكل في الطريق أوضحك عال وكل عمل يستهجن فعله عند العرف العام. والدليل على وجوب العصمة أنه لو جاز أن يفعل النبي المعصية أو يخطأ وينسى وصدر منه شئ من هذا القبيل، فإما أن يجب اتباعه في فعله الصادر منه عصيانا أو خطأ أو لا يجب، فإن وجب اتباعه فقد جوزنا فعل المعاصي برخصة من الله تعالى، بل أوجبنا ذلك وهذا باطل بضرورة الدين والعقل، وإن لم يجب اتباعه فذلك ينافي النبوة التي لابد أن تقترن بوجوب الطاعة أبدا. على أن كل شئ يقع منه من فعل أو قول فنحن نحتمل فيه المعصية
247 أو الخطأ، فلا يجب اتباعه في شئ من الأشياء، فتذهب فائدة البعثة، بل يصبح النبي كسائر الناس ليس لكلامهم ولا لعملهم تلك القيمة العالية التي يعتمد عليها دائما، كما لا تبقى طاعة حتمية لأوامره ولا ثقة مطلقة بأقواله وأفعاله. وهذا الدليل على العصمة يجري عينا في الإمام، لأن المفروض فيه أنه منصوب من الله تعالى لهداية البشر خليفة للنبي على ما سيأتي في فصل الإمامة (1).
(1) سرمايه ايمان: 90. 248 وفيه أن هذا التعريف أخص، لاختصاصه بالعصمة عن الذنوب، مع أن العصمة كما عرفت على أقسام وأنواع. ثم إن القدرة على الخلاف صحيحة في بعض أقسامها، كالمعاصي والذنوب، فإن هذه الموهبة لا تسلب عنهم الاختيار بالنسبة إليها، وأما العصمة عن الخطأ والسهو والنسيان في تلقي الوحي وإبلاغه، والتفسير والتبيين وغيره، فهي أمر لا يقع باختيارهم، بل يقع بإذنه تعالى بدون وساطة اختيارهم، فلا يعد من أفعالهم. فالأولى في التعريف أن يقال: إنها موهبة إلهية يمتنع معها ظهور الخطأ والنسيان عنهم، كما يمتنع صدور الذنوب والمعاصي، أو اتخاذ العقائد الفاسدة والآراء الباطلة منهم مع قدرتهم عليهما. وكيف كان، فقد ظهر مما ذكرناه أن تعريف المصنف - قدس سره - بأن العصمة هي التنزه عن الذنوب والمعاصي صغائرها وكبائرها، وعن الخطأ والنسيان، وإن لم يمتنع عقلا على النبي أن يصدر منه ذلك، من باب تعريفها باللازم والأثر. ثم إن العصمة على ما عرفت اختيارية وغير اختيارية، والأولى فضيلة لهم، لأنهم هم الذين يتركون داعية الذنوب فضلا عن نفسها بالاختيار، وكفى به فضلا، والثانية ليست بنفسها فضيلة لعدم مدخلية اختيارهم فيها، ولكن اختصاص هذه الموهبة بهم يكشف عن لياقتهم لا يهاب هذا اللطف العظيم في علم الله الحكيم وهي فضيلة غاية الفضيلة، لأن لياقتهم حاصلة بحسن انقيادهم في علمه تعالى ومن المعلوم أن حسن الانقياد فعل اختياري لهم، فالعصمة فضيلة اختيارية باعتبارها أو باعتبار مكشوفها من حسن الانقياد. ثم إن ترك داعية الذنوب فضلا عن نفسها بالاختيار، إما ناش عن ايمانهم بالله واليوم الآخر وقوة ارادتهم مع علمهم بالحقائق وتأثير المعاصي في الدنيا والآخرة علما بينا لا سترة فيه، أو حبهم بالله تعالى خالصا لا يخلطه شئ آخر.
249 الثاني: في مختار الإمامية، ولا يذهب عليك أن مذهبهم في عصمة الأنبياء هو عدم جواز صدور الذنب منهم مطلقا، سواء كان الذنب صغيرة أو كبيرة، عمدا كان أو سهوا، قبل البعثة كان أو بعدها، كما أنه لا يجوز عندهم أن يصدر منهم الخطأ والنسيان في تلقي الوحي وإبلاغه وفي تفسيره وتبيينه ونحو ذلك (1). قال العلامة - قدس سره -: " ذهبت الإمامية كافة إلى أن الأنبياء معصومون عن الصغائر والكبائر، منزهون عن المعاصي، قبل النبوة وبعدها، على سبيل العمد والنسيان، وعن كل رذيلة ومنقصة، وما يدل على الخسة والضعة، وخالفت أهل السنة كافة في ذلك وجوزوا عليهم المعاصي وبعضهم جوزوا الكفر عليهم قبل النبوة وبعدها وجوزوا عليهم السهو والغلط، الخ " (2). الثالث: أن الدليل على العصمة لا يمكن أن يكون شرعيا محضا، لأنه قبل إثبات العصمة لا يجدي الدليل الشرعي لاحتمال السهو والخطأ في نفس الدليل القائم على العصمة، ولا دافع لذلك الاحتمال، إذ المفروض في هذا الحال عدم ثبوت العصمة، فاللازم هو أن يكون دليل العصمة دليلا عقليا محضا، أو دليلا مركبا من الدليل العقلي الدال على عصمتهم في مقام التبليغ، ومن الدليل الشرعي الدال على عصمتهم في سائر المقامات. الرابع: في ذكر الأدلة الدالة على العصمة، وقد استدلوا بوجوه متعددة، وهذه الوجوه مختلفة في إفادة تمام المراد وعدمها. فاللازم أن ننظر فيها، وإن كانت دلالة جملة منها على العصمة بلا كلام، ولذا نشير هنا إلى عمدة الوجوه. منها: نقص الغرض، وهو أن النبي لو لم يكن معصوما لزم نقض الغرض.
(1) راجع گوهر مراد: ص 299 - 301، سرمايه ايمان: ص 91 وغير ذلك. (2) دلائل الصدق: ج 1 ص 368. 250 بيان ذلك: أن المقصود من إرسال الرسل وبعث الأنبياء كما عرفت، هو إرشاد الناس نحو المصالح والمفاسد الواقعية، وإعداد مقدمات معها يمكن تربيتهم وتزكيتهم على ما هو الكمال اللائق بمقام الإنسانية وسعادة الدارين، وهو لا يحصل بدون العصمة، إذ مع الخطأ والنسيان أو العصيان لا يقع الإرشاد إلى المصالح والمفاسد الواقعية، كما لا يمكن تربية الناس وتزكيتهم على ما تقتضيه السعادة الواقعية والكمال اللائق بهم. ومن المعلوم أن تصديق الخاطي والعاصي نقض للغرض من إرسال الرسل وهو خلاف الحكمة، فلا يصدر منه تعالى. وعليه فيكون رسله وأنبياؤه معصومين عن الخطأ والنسيان والعصيان لئلا يلزم نقض الغرض. وهذا دليل تام، ولكنه أخص من المذهب المختار، لأنه لا يشمل قبل البعثة، فيحتاج في إفادة تمام المراد إلى ضميمة الأدلة الأخرى، كالأدلة السمعية الدالة على أن النبوة شأن المخلصين من العباد، والمصطفين من الأخيار ممن لا سلطة للشيطان عليهم بقوله تعالى: " واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب اولي الأيدي والأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكل من الأخيار " (1). وهنا تقريب آخر يظهر من تجريد الاعتقاد وشرحه وهو كما في الثاني " أن المبعوث إليهم لو جوزوا الكذب على الأنبياء والمعصية، جوزوا في أمرهم ونهيهم وأفعالهم التي أمروهم باتباعهم فيها ذلك، وحينئذ لا ينقادون إلى امتثال أوامرهم، وذلك نقض للغرض من البعثة " انتهى. وفيه أنه لا يفيد إلا العصمة عن المعصية، وأما العصمة عن الخطأ والنسيان
(1) ص: 45. 251 فلا تعرض له، هذا مضافا إلى إمكان التفكيك بأن يقال: إن الوثوق بالصدق في أوامرهم ونواهيهم يحصل بسبب قيام الدليل العقلي على عصمتهم في تلك الأوامر والنواهي بعد قيام المعجزات والبينات الدالة على صدقهم في دعوى النبوة فلا يجوزون الكذب في أمرهم ونهيهم وأفعالهم التي أمروهم باتباعهم فيها، وإن جوزوا الكذب والمعصية على الأنبياء في غير أمرهم ونهيهم وأفعالهم، ولعل المقصود من قول المحقق الطوسي - قدس سره -: " ويجب في النبي العصمة، ليحصل الوثوق فيحصل الغرض " هو ما ذكره السيد المرتضى - قدس سره - كما سيأتي إن شاء الله، فافهم. ومنها: أصلحية العصمة، وبيان ذلك: أن العصمة بمالها من المعنى الاصطلاحي المختار عند الإمامية أحسن وأصلح وأرجح وأدخل في تحقق الغرض، وحيث لا مانع منها مع إمكانها، يجب في حكمته تعالى تحققها، وإلا لقبح، لأنه ترجيح المرجوح من دون وجود مانع عن الراجح أو استحيل تركها، لأنه يرجع إلى ترجح المرجوح بدون وجود الداعي له كما لا يخفى. قال المحقق اللاهيجي - قدس سره -: " لا شك في أن العصمة بمعناها التي هي مذهب الإمامية، أدخل في اللطف، وأدعى في اتباع الناس، وعدم تنفرهم، والمفروض أنها ممكنة، ولا مانع منها، فالحق مذهب الإمامية في كلا المقامين، أعني وجوب العصمة في تمام العمر، وفي جميع الأمور من الأفعال والآراء والأحكام والأقوال " (1). لا يقال: إن ذلك فرع العلم بعدم وجود المانع، وهو غير حاصل، لأنا نقول: إن وجوه المفسدة منحصرة وليس شئ منها في مراعاة العصمة، فالعلم بعدم المانع حاصل، ومعه فلا إشكال في وجوب العصمة، لأنها أصلح (2).
(1) راجع گوهر مراد: ص 301. (2) راجع سرمايه ايمان: ص 81. 252 ومنها: ما أشار إليه في أنيس الموحدين ونسبه إلى الحكماء، وهو أنه من المعلوم أنه لا يصلح للنبوة إلا من أطاع جميع قواه من الطبيعية والحيوانية والنفسانية لعقله وانقادت له، فمن يكون جميع قواه كذلك، يستحيل صدور المعصية منه، لأن جميع المعاصي عند العقل قبيحة، ومن صدر عنه معصية غلب أحد قواه المذكورة كالغضب أو الشهوة على عقله، ثم استحسنه وقال: إنه في كمال القوة والمتانة (1). وفيه أنه أخص من المدعى، لأنه لا يثبت إلا العصمة عن الذنوب، ولا تعرض له بالنسبة إلى العصمة عن الخطأ والنسيان فتدبر جيدا. ومنها: ما يظهر من " تنزيه الأنبياء " وحاصله أن عصيان النبي سواء كان حال نبوته أو قبلها يوجب تنفر الناس عن قبول قوله واستماع وعظه، فلا يسكن نفوس الناس إلى العاصي ومن يجوز صدور العصيان والقبائح عنه، كسكون نفوسهم إلى من لم يصدر عنه عصيان، ولا يجوز عليه صدوره، مع أن اللطف واجب (2) وإليه يشير ما حكى عن العلامة - قدس سره - في ضمن ما يلزم من إنكار العصمة " ومنها سقوط محله ورتبته عند العوام، فلا ينقادون إلى طاعته فتنتفي فائدة البعثة " (3). وفيه: أولا: إنه هذا البرهان لا يثبت عصمة النبي عن المعصية في الخلوات ولا عن السهو والنسيان والخطأ والاشتباه، إذ الأول مستور، اللهم إلا أن يقال: اثار المعاصي في الخلوات تظهر في الجلوات ومعه يحصل التنفر العمومي والثاني لا يكون قبيحا عندهم، ولا يوجب التنفر إلا إذا صدر السهو والنسيان ونحوهما كثيرا، بحيث يسلب الاعتماد عنهم، فهذا الدليل وإن عم قبل النبوة
(1) أنيس الموحدين: ص 99 الطبعة الحديثة. (2) تنزيه الأنبياء: ص 5 - 6. (3) دلائل الصدق: ج 1 ص 427. 253 لكنه أخص من المختار. وثانيا: إن الغرض في إرسال الرسل هو إرشاد الناس إلى ما يصلح للداعوية والزاجرية، وهو يحصل بمجئ النبي الصادق، فيما جاء به، وإن كان عاصيا في إعماله وأفعاله الشخصية، لأن المفروض هو العلم بنبوته وصدقه في دعوى النبوة مع إظهار المعجزة، فمع قيام المعجزة وثبوت عصمته في تلقي الوحي وإبلاغه بالدليل العقلي تسكن النفوس إليهم، كما تسكن النفوس نحو ما يرشد إليه الأطباء الحاذقون، وإن كانوا مرتكبين للمعاصي والفجور، ولا يقاس النبي بالواعظ الغير العامل المرتكب للمعاصي، لظهور الفرق بينهما، وهو وجود الشاهد على صدقه في الأنبياء دون الوعاظ والعلماء الغير العاملين، فالدليل المذكور لا يثبت عصمتهم في أفعالهم الشخصية، ولكن الانصاف أن الصلاحية المذكورة ذات مراتب مختلفة، والمرتبة العالية منها التي يمكن معها سوق عموم الناس إلى الإطاعة والانقياد، لا تحصل عادة بدون العصمة في أفعالهم الشخصية، هذا مضافا إلى أن الغرض من البعثة وإرسال الرسل لا ينحصر في الإرشاد، لما عرفت سابقا من أن الغرض أمور متعددة منها: التربية والتزكية ومن المعلوم أنها لا تحصل بدون كون الأنبياء والمرسلين أسوة في الفضيلة والطاعة كما لا يخفى. فالأنبياء معصومون ولو في افعالهم الشخصية، سواء كانت قبل البعثة أو بعدها، وإلا فلا يحصل مقتضى الانقياد العام ولا التربية ولا التزكية للعموم. ومنها ما في متن " تجريد الاعتقاد " من لزوم اجتماع الضدين لو لم يكن الأنبياء معصومين، حيث قال: " ويجب في النبي العصمة ولوجوب متابعته وضدها ". قال الشارح العلامة - قدس سره - في توضيحه: " إن النبي - صلى الله عليه وآله - يجب متابعته، فإذا فعل معصية فإما أن يجب متابعته أو لا والثاني باطل، لانتفاء فائدة البعثة، والأول باطل، لأن المعصية لا يجوز فعلها. ثم قال: وأشار
254 بقوله: " ولوجوب متابعته وضدها " إلى هذا الدليل، لأنه بالنظر إلى كونه نبيا يجب متابعته، وبالنظر إلى كون الفعل معصية لا يجوز اتباعه " (1). وفيه: أولا: أنه أخص مما ذهب إليه الإمامية، لاختصاصه بالعصمة عن الذنوب حال النبوة. وثانيا: أن التضاد بين الأحكام على فرض صحته (2) لا يوجب استحالة الاجتماع، إلا إذا كان الموضوع واحدا، وفي المقام ليس كذلك. فإن موضوع الحرمة هو فعل الذنوب والمعصية وموضوع الوجوب هو الاتباع عن النبي، ومن المعلوم أنهما متعددان ومتغايران، فيجوز اجتماعهما بناء على جواز اجتماع الأمر والنهي، كما قرر في محله. نعم يلزم من فعلية الحكمين التكليف بالمحال، لعدم تمكن المكلف من امتثالهما، فلو أبدل الدليل وقيل: يجب العصمة وإلا لزم التكليف بالمحال لو بقي الحكمان على الفعلية لتم كما لا يخفى. ومنه ما في متن " تجريد الاعتقاد " أيضا من لزوم الإنكار على النبي لو لم يكن معصوما وهو حرام لحرمة ايذائه حيث قال: " ويجب في النبي العصمة. ولوجوب الإنكار عليه " قال العلامة - قدس سره - في شرحه: " إنه إذا فعل معصية وجب الإنكار عليه لعموم وجوب النهي عن المنكر، وذلك يستلزم ايذائه وهو منهي عنه " (3). وفيه: أولا: أنه أخص من المدعى، لاختصاصه بالعصمة عن الذنوب حال نبوته.
(1) شرح تجريد الاعتقاد: ص 217. (2) لإمكان أن يقال: لا تضاد بين الأحكام بما هي هي بجميع مراتبها، فإن اقتضاء المصلحة أو المفسدة للحكم وفقهما ذاتي لا شرعي ولا استحالة فيه بعد تعددهما، كما أن الانشاء خفيف المؤنة فلا مانع من اجتماع الحكمين الانشائين وأيضا لا مانع من اجتماع الإرادة والكراهة من الجهات المختلفة نعم لو بقيتا على الفعلية في شئ واحد لزم التكليف بغير المقدور. (3) شرح تجريد الاعتقاد: ص 217. 255 وثانيا: أن حرمة الايذاء لا تختص بالنبي، بل ايذاء المؤمن أيضا حرام، فلو كانت حرمة الايذاء مانعة عن النهي عن المنكر في النبي، لزم أن يكون كذلك في غيره وهو كما ترى، وليس ذلك إلا لحكومة أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أدلة حرمة الايذاء اللهم إلا أن يقال بأن اطلاق فعلية حرمة الايذاء في النبي من دون استثناء، يكشف عن عدم صدور الذنب منه أصلا وإلا فلا مورد لذلك الاطلاق الساري. ومنها ما في المتن من أنه مع جواز صدور المعصية عمدا أو خطأ ونسيانا، فإما يجب اتباعه فيما صدر منه، أو لا يجب، فإن وجب لزم الترخيص في فعل المعاصي، بل ايجابه للزوم المتابعة، وذلك باطل بضرورة الدين والعقل، وإن لم يجب اتباعه كان ذلك منافيا للنبوة التي لابد أن تقترن بوجوب الإطاعة أبدا هذا فيما إذا علم أن الصادر معصية، وأما إذا لم يعلم واحتمل فلا يجب اتباعه لاحتمال كونه معصية أو خطأ فتذهب فائدة البعثة. وفيه أولا: أنه أخص مما ذهب إليه الإمامية، لاختصاصه بالعصمة عن الذنوب حال النبوة. وثانيا: أنه لا يثبت العصمة لارتفاع المحذور باثبات العدالة، إذ مع العدالة لا يكون اتباعه باطلا، ولو كان في الواقع خاطئا، كالاتباع عن الفقهاء والحكام والعدول، مع احتمال الخطأ فيهم، والترخيص في اتباعهم، ولو كان خلاف الواقع، لا مانع منه إذا كان مصلحة الاتباع راجحة، كما هو كذلك في حجية الفتاوى والأحكام وشهادة العدول، اللهم إلا أن يقال: إن اتباع الأنبياء لدرك المصالح الواقعية، والبعد عن المفاسد الواقعية، وهو لا يحصل بالعدالة، ولكنه دليل آخر الذي أشرنا إليه كالدليل الأول، وكيف كان ففي ما ذكر من بعض البراهين المذكورة منفردا أو بعد ضم بعضها إلى بعض غنى وكفاية لإثبات مذهب الإمامية.
256 الخامس: في أن للذنب مراحل ومراتب متعددة، فإن الذنب قد يكون للتخلف عن القوانين، ومن المعلوم أن التخلف عنها إذا كانت من الشارع أو مما أمضاه الشارع، حرام، والنبي والإمام معصومان عنه لما مر من الأدلة. وقد يكون الذنب ذنبا أخلاقيا، ومن المعلوم أن ارتفاع شأن النبي والإمام لا يناسبه، فلذا كانت الأنبياء والرسل والأئمة الطاهرون متخلقين بأحسن خلق ومكرمة أخلاقية، كما نص عليه في قوله تعالى: " وإنك لعلى خلق عظيم " (1)، " وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار " (2)، " وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وايتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين " (3). هذا مضافا إلى اقتضاء كونهم مبعوثين للتزكية، أن يكونوا متصفين بمكارم الأخلاق وأعلاها، إذ هذه الغاية التي أوجبت في حكمته تعالى أن يرسل الرسل والأنبياء، لا يمكن حصولها عادة إلا بكون الرسل والأنبياء والأئمة، أئمة في الاتصاف بالأخلاق الحسنة. " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " (4). وقد يكون الذنب ذنبا عند المقربين والمحبين، وهذا الذنب ليس تخلفا عن القوانين ولا يكون أثر الأخلاق السيئة والرذيلة، بل هو قصور أو تقصير في بذل تمام التوجه نحو المحبوب، فالغفلة عنه تعالى عندهم ولو لفعل مباح ذنب، وهذا الذنب أمر لا تنافيه الأدلة الدالة على العصمة عن الذنوب ولا يضر بشئ مما مر من الغايات، من إرشاد الناس وتزكيتهم وغيرهما، ولكن مقتضى الأدلة السمعية هو أنهم على حسب مراتبهم في المعرفة أرادوا ترك هذا، ومع ذلك إذا ابتلوا به رأوا أنفسهم قاصرين ومقصرين في مقام عبوديته ومحبته تعالى، وكثيرا ما عبروا عن هذا القصور والتقصير بالعصيان والذنب، وبكوا عليه بكاء شديدا
(1) القلم: 4. (2) ص: 47. (3) الأنبياء: 73. (4) الأحزاب: 21. 257 ومستمرا وخافوا عنه جدا في الخلوات والجلوات، والشاهد عليه ما نراه من سيرة رسولنا محمد - صلى الله عليه وآله - وأئمتنا الأطهار - عليهم السلام - في أدعيتهم ومناجاتهم وبكائهم وعباداتهم وخوفهم من البعد عن الله تعالى، وتعبير هم عن أنفسهم بالمذنبين والقاصرين والمقصرين، وقد يعبر عنه بترك الأولى ولا بأس به. نعم قد يراد من ترك الأولى هو فعل المكروه أو عمل مرجوح، وهو وإن لم يكن معصية وتخلفا عن القوانين، ولا يكون رذيلة من الرذائل الأخلاقية، ولكن لا يناسب صدوره عن عظمائهم كرسولنا وأئمتنا - عليهم السلام والصلوات - إلا لجهة من الجهات كبيان الأحكام ونحوه، وكيف كان فيمكن أن يشير إليه قولهم: " حسنات الأبرار سيئات المقربين ". ومما ذكر ينقدح وجه الجواب عما استدل به المنكرون للعصمة من الآيات والروايات المعبرة بصدور العصيان أو الذنب والاستغفار والتوبة ونحوها عن الأنبياء والأئمة - عليهم السلام - وعليك بالمراجعة إلى المطولات (1).
(1) راجع گوهر مراد: ص 302، معارف قرآن: جلسه 66 0 69، تنزيه الأنبياء، البحار، الميزان وغير ذلك. 258 5 - عقيدتنا في صفات النبي صلى الله عليه وآله ونعتقد أن النبي كما يجب أن يكون معصوما، يجب أن يكون متصفا بأكمل الصفات الخلقية والعقلية وأفضلها، من نحو الشجاعة والسياسة والتدبير والصبر والفطنة والذكاء، حتى لا يدانيه بشر سواه فيها (1)، لأنه
(1) شرح تجريد الاعتقاد: ص 349 الطبعة الحديثة في قم المشرفة. (2) گوهر مراد: ص 301. 259 المنفرات، ولا اشكال ولا خلاف فيه عدا ما يتراءى من قواعد المرام حيث قال: " ينبغي أن يكون منزها عن كل أمر تنفر عن قبوله إما في خلقه كالرذائل النفسانية من الحقد والبخل والحسد والحرص ونحوها، أو في خلقه كالجذام والبرص، أو في نسبه كالزنا ودناءة الآباء " ولكن التأمل في كلامه، يقضي بأن مراده من كلمة " ينبغي " ليس مطلق الرجحان، لأنه علل بما يقتضي الوجوب، حيث قال: " لأن جميع هذه الأمور صارف عن قبول قوله، والنظر في معجزته، فكانت طهارته عنها من الألطاف التي فيها تقريب الخلق إلى طاعته، واستمالة قلوبهم إليه " (1). ثم إن الظاهر من عبارة المصنف هو وجوب اتصافهم بالأكمل من الصفات الخلقية والعقلية وأفضلها، من نحو: الشجاعة والسياسة والتدبير والصبر والفطنة والذكاء وغير ذلك، وهذا هو صريح كلام المحقق القمي - قدس سره - أيضا حيث قال في مقام شرائط النبوة: " الشرط الثاني: هو أن يكون النبي أفضل وأعلم من جميع الأمة لقبح تبعية الأفضل من غيره الذي يكون بالنسبة إليه مفضولا، بل يكون وجوب تبعية المساوي عن مثله أيضا قبيحا، لكونه ترجيحا من غير مرجح، فلا بد من أن يكون أعلى مرتبة من غيره، حتى يحسن الأمر فيه تعالى باتباعه، وهكذا في جميع الصفات الحسنة لزم أن يكون أفضلهم وأعلاهم (2) ونحوه في اللوامع الإلهية (3) وشرح الباب الحادي عشر (4) وهو كذلك لما أشير إليه في كلام المحقق القمي وغيره، وسيأتي توضيحه في ذكر الأدلة إن شاء الله تعالى.
(1) قواعد المرام: ص 127. (2) أصول دين: ص 26 منشور چهلستون مسجد جامع بطهران. (3) اللوامع الإلهية: ص 211. (4) شرح الباب الحادي عشر: ص 38 الطبعة الحديثة. 260 لولا ذلك لما صح أن تكون له الرئاسة العامة على جميع الخلق، ولا قوة إدارة العالم كله (2).
261 في الكل قبيحا، يكون كذلك بالنسبة إلى بعض النفوس، إذ جميع النفوس مستعدة للاستكمال، فاللازم هو بعث النبي الذي فاق الآخرين في الصفات المذكورة حتى يتمكن من هدايتهم وتربيتهم في أي درجة ومرتبة كانوا. ولقد أفاد وأجاد في توضيح المراد حيث قال: " إعلم أن الانسان من حيث الكمال لا يقف على حد، بل في كل حد منه كان له إمكان أن يجوز إلى حد بعده، إن اجتمعت الشرائط، فمقتضى لطفه وجوده تعالى أن يكون بين الناس من يتيسر له تزكية الناس، وتكميل كل أحد وترقيته من أي حد إلى ما فوقه، بتقريب الشرائط، وهو النبي أو مثله ممن يقوم مقامه، فلابد أن يكون هو في حد كامل بحيث يتيسر منه ذلك في جميع المراتب، وتنقاد الأمة للتعلم عنده والخضوع لديه " (1) ولعل من اقتصر على أصل الصفات لا الأكملية زعم أن النبي مخبر عن الله تعالى، ولم يلتفت إلى أن التزكية والتربية أيضا من شؤونه، فيجب أن يكون في الصفات أعلى مرتبة. وقد يستدل على اتصاف النبي بأفضل الصفات الخلقية والعقلية، بأنه يجب أن يكون أفضل أهل زمانه، لقبح تقديم المفضول على الفاضل عقلا وسمعا. قال الله تعالى: " أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون " (2). ثم لا يخفى عليك أن من اشترط اتصاف الأنبياء بكمال العقل والذكاء والفطنة ولم يشترط الأكملية فيها، استدل له بأنه لولاه لكان منفرا، كما قال العلامة الحلي - قدس سره - في شرح تجريد الاعتقاد: " ويجب أن يكون النبي في غاية الذكاء والفطنة وقوة الرأي، بحيث لا يكون ضعيف الرأي، مترددا في
(1) توضيح المراد: ج 2 ص 650. (2) يونس: 35 راجع أيضا شرح الباب الحادي عشر ص 38 الطبعة الحديثة في طهران، اللوامع الإلهية ص 211. 262 كما يجب أن يكون طاهر المولد أمينا صادقا منزها عن الرذائل قبل بعثته أيضا، لكي تطمئن إليه القلوب وتركن إليه النفوس بل لكي يستحق هذا المقام الإلهي العظيم (3).
(1) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: ص 349 الطبعة الحديثة. (2) گوهر مراد: ص 301. 263 صرح المحقق الطوسي - رحمه الله - في ضمن كلامه بوجوب تنزه النبي عن كل ما ينفر عنه (1) وصرح العلامة - قدس سره - في الباب الحادي عشر بأنه يجب أن يكون منزها عن دناءة الآباء وعهر الأمهات وعن الرذائل الخلقية والعيوب الخلقية، لما في ذلك من النقص، فيسقط محله من القلوب والمطلوب خلافه (2). وقال الشيخ الطوسي - قدس سره -: " ودليل التنفير الذي اعتمدناه ينفي عنهم جميع القبائح في حال النبوة وقبلها، وكبائر الذنوب وصغائرها، لأن النفوس إلى من لا يعهد منه قط في حال من الأحوال قبيح لا صغير ولا كبير، أسكن وأميل ممن كان بخلاف ذلك، فوجب بذلك نفي الجميع عنهم في كل حال (3) وعليه فلا وجه لاقتصار المصنف - رحمه الله - في المذكورات، بل كان عليه أن يذكر تنزه النبي عن الأمراض المنفرة والعيوب الخلقية (بكسر الخاء)، وكل ما ينفر عنه، ولو كان هو السهو والنسيان في أموره الشخصية، لعمومية الدليل. هذا مضافا إلى أن ذكر الأمانة والصدق لا يناسب المقام، لأن عدم الأمانة خيانة وعدم الصدق كذب، وهما من المعاصي التي قد فرغنا عن عصمتهم فيها، فلا وجه لتكرارهما عند ذكر اتصافهم بالكمالات وتنزههم عن المنقصات الخلقية والخلقية. اللهم الا أن يقال: إن المصنف لم يذكر سابقا إلا العصمة عن الذنوب وعن الخطأ والنسيان بعد البعثة فذكر العصمة عن الخيانة والكذب قبل البعثة لا يكون تكرارا، ولكن عليه أن لا يقتصر عليها، بل يذكر جميع المعاصي والذنوب. هذا مضافا إلى أن ظاهر ذكر عنوان عقيدتنا في صفات النبي هو الفراغ عن بحث العصمة فلا تغفل.
(1) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: ص 349 الطبعة الحديثة في قم المشرفة. (2) شرح الباب الحادي عشر: ص 39 الطبعة الحديثة في طهران. (3) كتاب تمهيد الأصول في علم الكلام: ص 321. 264 ثم إن هذا الدليل يرجع إلى إثبات تنزههم عن المذكورات من جهة سكونة الناس واعتمادهم وجلبهم نحوه ليحصل الغرض من البعث والإرسال على الوجه الأتم، وأما من جهة اقتضاء نفس مقام النبوة وتلقي الوحي فهو ساكت، ولذا أشار إليه المصنف بالدليل الثاني. وثانيهما: أن مقام النبوة مقام لا تناله أيدي الناس، وإلا لأوحي إليهم، ولا حاجة إلى إرسال سفير إليهم، بل هو مقام شامخ لا نصيب فيه إلا للمقربين، ومن المعلوم أن المقربين يكونون منزهين عن الرذائل الأخلاقية كالجهل والجبن والحقد والحسد والخشونة والبخل والحرص وأشباهها، فاستحقاق مقام النبوة موقوف على تنزههم عن الأمور التي تنافيه وهو كذلك، ولكن هذا الدليل أخص من المدعى، فإن بعض الأمور التي تكون من المنفرات لا تكون من المنقصات المعنوية، فيمكن أن يكون الناس متنفرين من بعض الأمراض أو بعض العيوب الخلقية (بكسر الخاء) ولكنها لا تكون من المنقصات المعنوية كما لا يخفى.
265 6 - عقيدتنا في الأنبياء وكتبهم نؤمن على الإجمال بأن جميع الأنبياء والمرسلين على حق، كما نؤمن بعصمتهم وطهارتهم وأما إنكار نبوتهم أو سبهم أو الاستهزاء بهم فهو من الكفر والزندقة، لان ذلك يستلزم انكار نبينا الذي اخبر عنهم وصدقهم (1). أما المعروفة أسماؤهم وشرائعهم كآدم ونوح وإبراهيم وداود
(1) راجع المكاسب المحرمة للشيخ الأعظم الأنصاري: 26. 266 وسليمان وموسى وعيسى وسائر من ذكرهم القرآن الكريم بأعيانهم، فيجب الإيمان بهم على الخصوص ومن أنكر واحدا منهم فقد أنكر الجميع وأنكر نبوة نبينا بالخصوص (2). وكذلك يجب الايمان بكتبهم وما نزل عليهم، وأما التوراة والإنجيل الموجودان الآن بين أيدي الناس، فقد ثبت أنهما محرفان عما أنزلا، بسبب ما حدث فيهما من التغيير والتبديل والزيادات والإضافات، بعد زماني موسى وعيسى - عليهما السلام - بتلاعب ذوي الأهواء والأطماع، بل الموجود منهما أكثره أو كله موضوع بعد زمانهما من الأتباع والأشياع (3).
(1) البقرة: 285. 267 يشهد له الاختلافات والاشتباهات والموهونات الموجودة فيهما، وعليك بما الف في ذلك من المحققين، ومن أحسنه هو " الهدى إلى دين المصطفى " و " الرحلة المدرسية " أثران للعلامة آية الله الشيخ محمد جواد البلاغي - رحمه الله - (1) ولكن الكلام فيما ادعاه المصنف - قدس سره - من احتمال أن كله موضوع، وهو مشكل، لإمكان دعوى العلم بوجود فقرات من الإنجيل أو التوراة الأصليين، اللهم إلا أن يقال: " نعم ولكن حيث لا تكون تلك الكلمات مشخصة فيهما، فلا حجية لها وإن كانت مأخوذة من الإنجيل أو التوراة الأصليين.
(1) راجع أيضا كتاب راه سعادت للفاضل الشعراني: ص 136 - 160. 268 7 - عقيدتنا في الإسلام نعتقد أن الدين عند الله الإسلام وهو الشريعة الإلهية الحقة التي هي خاتمة الشرايع وأكملها وأوفقها في سعادة البشر، وأجمعها لمصالحهم في دنياهم وآخرتهم وصالحة للبقاء مدى الدهور والعصور، لا تتغير، ولا تتبدل، وجامعة لجميع ما يحتاجه البشر من النظم الفردية والاجتماعية والسياسية، ولما كانت خاتمة الشرايع ولا تترقب شريعة أخرى تصلح هذا البشر المنغمس بالظلم والفساد، فلا بد أن يأتي يوم يقوى فيه الدين الإسلامي فيشمل المعمورة بعدله وقوانينه (1).
269 قال الفاضل الشعراني - قدس سره: " ليس فقه الإسلام ناقصا، بل لنا كليات يمكن استخراج حكم المسائل المستحدثة منها في كل عصر وزمان، وهذا أمر رائج من زمان الشيخ الطوسي إلى زماننا هذا، ولعل مسائل تحرير العلامة تقرب من أربعين ألفا، وهي تستخرج من ألفين أو ثلاثة آلاف من المنصوصات " (1). وأيضا الأخلاق الإسلامية فاق الأخلاق اليونانية وغيره، لأنه مضافا إلى كونه مبينا للوظائف الاجتماعية والفردية والتخلق بالأخلاق الحسنة والاعتدال فيها، يوجه الإنسان نحو الغاية القصوى، وهو القرب إلى الله تعالى، وبالجملة كلما زاد عمر الاسلام، ازداد نورا وظهورا، ومن نظر في محتوى القرآن والأصول الإسلامية الواصلة إلينا من طريق أهل البيت - عليهم السلام - اعترف بعظمته وخضع في ساحته، إلا أن يكون معاندا، إذ ليس مكتب من المكاتب بمثل مكتب الإسلام في الغنى والاحتواء لجميع ما يحتاج الناس إليه وفي الأقومية والإتقان. هذا حقيقة واضحة بل ضرورية لكل من اطلع على محتوى الإسلام، ولإرشاد الناس إلى هذه الحقيقة وردت الآثار والرويات الكثيرة المتواترة، ومن جملتها: ما رواه محمد بن يعقوب عن أبي الحسن موسى - عليه السلام - حديثا وفيه: قال سماعة: " فقلت: أصلحك الله! أتى رسول الله الناس بما يكتفون به في عهده؟ قال: نعم وما يحتاجون إليه إلى يوم القيامية، فقلت: فضاع من ذلك شئ؟ فقال: لا، هو عند أهله " (2) فالإسلام هو الدين الجامع الذي يقدر لرفع احتياج الناس وإدارة الأمور وسوق الناس نحو سعادتهم الدنيوية والأخروية، وستأتي إن شاء الله حاكمية هذا الدين على جميع أقطار الأرض بظهور ولي الله الأعظم مولانا المهدي الحجة بن الحسن أرواحنا فداه، ولعل نظر المصنف في قوله: فلا بد أن يأتي يقوى فيه الخ إلى ذلك فتدبر جيدا.
(1) راجع كتاب راه سعادت: ص 214. (2) الأصول من الكافي: ج 1 ص 57. 270 ولو طبقت الشريعة الإسلامية بقوانينها في الأرض تطبيقا كاملا صحيحا لعم السلام بين البشر وتمت السعادة لهم، وبلغوا أقصى ما يحلم به الإنسان من الرفاه والعزة والسعة والدعة والخلق الفاضل، ولا نقشع الظلم من الدنيا، وسادت المحبة والإخاء يبن الناس أجمعين، ولا نمحى الفقر والفاقة من صفحة الوجود. وإذا كنا نشاهد اليوم الحالة المخجلة والمزرية عند الذين يسمون أنفسهم بالمسلمين، فلأن الدين الإسلامي في الحقيقة لم يطبق بنصه وروحه ابتداء من القرن الأول من عهودهم، واستمرت الحال بنا - نحن الذين سمينا أنفسنا بالمسلمين - من سيئ إلى أسوأ، إلى يومنا هذا، فلم يكن التمسك بالدين الإسلامي هو الذي جر على المسلمين هذا التأخر المشين، بل بالعكس، إن تمردهم على تعاليمه واستهانتهم بقوانينه وانتشار الظلم والعدوان فيهم من ملوكهم إلى صعاليكهم، ومن خاصتهم إلى عامتهم، هو الذي شل حركة تقدمهم، وأضعف قوتهم وحطم معنوياتهم، وجلب عليهم الويل والثبور فأهلكهم الله تعالى بذنوبهم. " ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " تلك سنة الله في خلقه " إنه لا يفلح المجرمون "، " وما كان ربك ليهلك القرى بظلمهم وأهلها مصلحون "، " وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة أن أخذه أليم شديد ". وكيف ينتظر من الدين أن ينتشل الأمة من وهدتها وهو عندها حبر على ورق لا يعمل بأقل القليل من تعاليمه. من الإيمان والأمانة والصدق والاخلاص وحسن المعاملة والايثار وأن يحب المسلم لأخيه ما يحب
271 لنفسه وأشباهها من أول أسس دين الإسلام، والمسلمون قد ودعوها من قديم أيامهم إلى حيث نحن الآن، وكلما تقدم بهم الزمن وجدناهم أشتاتا وأحزابا وفرقا يتكالبون على الدنيا ويتطاحنون على الخيال ويكفر بعضهم بعضا بالآراء غير المفهومة، أو الأمور التي لا تعنيهم، فانشغلوا عن جوهر الدين وعن مصالحهم ومصالح مجتمعهم بأمثال النزاع في خلق القرآن، والقول بالوعيد والرجعة وأن الجنة والنار مخلوقتان أو سيخلقان ونحو هذه النزاعات التي أخذت منهم بالخناق وكفر بها بعضهم بعضا، وهي وإن دلت على شئ فإنما تدل على انحرافهم عن سنن الجادة المعبدة لهم إلى حيث الهلاك والفناء، وزاد الانحراف فيهم بتطاول الزمان حتى شلهم الجهل والضلال وانشغلوا بالتوافه والقشور وبالأتعاب والخرافات والأوهام وبالحروب والمجادلات والمباهاة، فوقعوا بالأخير في هاوية لا قعر لها يوم تمكن الغرب المتيقظ العدو اللدود للإسلام من أن يستعمر هذه البقاع المنتسبة إلى الإسلام وهي في غفلتها وغفوتها، فيرمى بها في هذه الهوة السحيقة ولا يعلم إلا الله تعالى مداها ومنتهاها " وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ". ولا سبيل للمسلمين اليوم وبعد اليوم إلا أن يرجعوا إلى أنفسهم فيحاسبوها على تفريطهم، وينهضوا إلى تهذيب أنفسهم والأجيال الآتية بتعاليم دينهم القويمة، ليمحوا الظلم والجور من بينهم، وبذلك يتمكنون من أن ينجوا بأنفسهم من هذه الطامة العظمى، ولابد بعد ذلك أن يملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا، كما وعدهم الله تعالى ورسوله، وكما هو المترقب من دينهم الذي هو خاتمة الأديان ولا رجاء في
272 صلاح الدنيا واصلاحها بدونه، ولا بد من إمام ينفي عن الإسلام ما علق فيه من أوهام وألصق فيه من بدع وضلالات، وينقذ البشر وينجيهم مما بلغوا إليه من فساد شامل وظلم دائم وعدوان مستمر واستهانة بالقيم الأخلاقية والأرواح البشرية - عجل الله فرجه وسهل مخرجه -.
273 8 - عقيدتنا في مشرع الاسلام نعتقد أن صاحب الرسالة الإسلامية هو محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وآله - وهو خاتم النبيين وسيد المرسلين وأفضلهم على الاطلاق، كما أنه سيد البشر جميعا، لا يوازيه فاضل في فضل ولا يدانيه أحد في مكرمة، ولا يقاربه عاقل في عقل ولا يشبهه شخص في خلق، وأنه لعلى خلق عظيم، ذلك من أول نشأة البشر إلى يوم القيامة (1).
(1) الفتح: 29. (2) الأعراف: 158. (3) الانعام: 19. 274 الشرقية والغربية وأيضا خاتمية النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من شواهد كون رسالته عالمية باقية. أما أنه خاتم النبيين فهو أيضا ضروري يعلمه كل مسلم ولا خلاف فيه ويدل عليه الآيات والروايات المتواترة، ومن جملة الآيات قوله تعالى: " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين " (1)، لأن المراد من الخاتم في التركيب المذكور هو ما يختم به، باعتبار كون الخاتم كثيرا ما يكون منقوشا باسم صاحبه ويختم به الكتب بعنوان إتمام الكتاب، الطابع (بفتح الباء) بمعنى ما يطبع به، فهو يدل بهذا الاعتبار على أن محمدا - صلى الله عليه وآله - بالنسبة إلى الأنبياء ما يختم به، بمعنى أن به يتم باب النبوة وبه يصدق نبوتهم، كما صدقهم النبي - صلى الله عليه وآله - ولولاه لما حصل العلم بنبوة أكثرهم أو جلهم، مع اختلاف التواريخ والتحريف والتبديل، ويشهد لما ذكر، استعمال " خاتم النبيين " في الروايات والأدعية والخطب الواردة عن الأئمة المعصومين - عليهم السلام - بمعنى آخر النبيين (2) فإنه دليل على أن المقصود منه هو آخر النبيين. لا يقال: الخاتم (بالفتح) هو حلقة تدخل في الإصبع للزينة، فالمقصود أن محمدا - صلى الله عليه وآله - زينة الأنبياء، لأنا نقول: إن استعمال الخاتم لإفادة الزينة ليس بشايع، بل لا يناسب مقام النبي مع كونه أفضل من جميع الأنبياء أن يشبه بحلقة في أيدي الأنبياء، ولعل التعبير الشايع هو أن النبي - صلى الله عليه وآله - مثلا تاج الأنبياء (3). هذا كله بناء على قراءة عاصم الموجودة في القرآن، وأما بناء على قراءة بقية القراء السبعة، فالأمر أوضح، لأن الخاتم (بكسر التاء) هو اسم فاعل من ختم
(1) الأحزاب: 40. (2) راجع كتاب خاتميت آخرين پيامبر: تأليف مظفرى، ص 15 طبع قم المشرفة. (3) راجع معارف قرآن: جلسه 79 ص 792. 275 يختم، ومعناه أن محمدا - صلى الله عليه وآله - أتمهم بوجوده، فلا نبي بعده. فعلى كل تقدير يكون مفاد الآية الشريفة أنه خاتم النبيين وآخرهم، ثم لا يخفى عليك ان النبي أعم من المرسل ولو بحسب المورد لما ذهب إليه بعض المحققين من أنهما من حيث المفهوم متباينان كتباين مفهوم العالم ومفهوم العادل ولكنهما بملاحظة الروايات والأدلة الشرعية أعم وأخص موردا، إذ المستفاد من الروايات أن كل رسول من أفراد الأنبياء، فكما أن مفهوم العالم والعادل متباينان ومع ذلك يكون النسبة بينهما عموم من وجه بحسب المورد كذلك في المقام فإن مفهوم النبوة غير مفهوم الرسالة ومع ذلك تكون النسبة بينهما عموم وخصوص مطلق بحسب المورد، إذ المستفاد من الأخبار أن كل رسول من أفراد الأنبياء، ومما ذكر يظهر الجواب عن وجه تقديم الرسول على النبي في الآية الكريمة " وكان رسولا نبيا " (1) مع أن مقتضى العلوم الأدبية هو تقديم الأعم على الأخص، لما عرفت من أن بين المفهومين مغايرة ومباينة فلا يتقدم عنوان أخص على الأعم وكيف كان فمع أعمية النبوة بحسب المورد، فإذا كان محمد - صلى الله عليه وآله - خاتم النبيين كان أيضا خاتم المرسلين فلا رسول بعده أيضا. ومن جملة الآيات هو قوله تعالى: " هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون " (2) سواء كان المراد من الظهور هو الغلبة في الحجة أو الغلبة الخارجية، فإن مفاد الآية أن الإسلام ودين الحق يغلب على الدين كله، فلو فرض مجئ دين آخر بعد الإسلام، كان ناسخا له وغالبا عليه، فهو يتنافى مع صريح الآية فلا يجئ دين آخر بعد هذا الدين القويم، فتبقى نبوة نبينا إلى يوم القيامة، وفرض النبي الحافظ مع وجود الإمام
(1) مريم: 51. (2) التوبة: 33. 276 الحافظ لغو ولا يجتمع الحافظان في وقت واحد، إلى غير ذلك من الآيات (1). ومن جملة الروايات الحدث المروي بطرق كثيرة من العامة والخاصة عن النبي - صلى الله عليه وآله - أنه قال لعلي - عليه السلام -: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " والنكرة في سياق النفي تفيد العموم وحيث كان النبي أعم من المرسل فنفي النبي يلازم نفي المرسل أيضا كما لا يخفى. ومن جملة الروايات الحديث الصحيح المروي في من لا يحضره الفقيه عن أبي جعفر - عليه السلام - قال في حديث: " قال النبي - صلى الله عليه وآله - والمسلمون حوله مجتمعون: أيها الناس إنه لا نبي بعدي، ولا سنة بعد سنتي، فمن ادعى بعد ذلك، فدعواه وبدعته في النار، فاقتلوه، ومن اتبعه فإنه في النار " (2). ومن جملة الروايات أيضا ما عن عبد العظيم الحسني قال: " دخلت على سيدي علي بن محمد - عليهما السلام - فلما بصر بي قال لي: مرحبا بك يا أبا القاسم أنت ولينا حقا، قال: فقلت له: يا ابن رسول الله إني أريد أن أعرض عليك ديني، فإن كان مرضيا ثبت عليه حتى ألقى الله عز وجل فقال: هات يا أبا القاسم، فقلت: إني أقول: إن الله تبارك وتعالى واحد ليس كمثله شئ - إلى أن قال -: وأن محمدا عبده ورسوله خاتم النبيين فلا نبي بعده إلى يوم القيامة، وأن شريعته خاتمة الشرايع، فلا شريعة بعدها إلى يوم القيامة - إلى أن قال -: فقال علي بن محمد - عليهما السلام - يا أبا القاسم، هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده، فاثبت عليه، ثبتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة " (3). ومن جملتها ما في نهج البلاغة قال علي - عليه السلام - حين يلي غسل
(1) راجع كتاب خاتميت آخرين پيامبر وغيره من الكتب. (2) من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 121، ح 421، ط النجف. (3) كمال الدين: ج 2 ص 379. 277 رسول الله - صلى الله عليه وآله - وتجهيزه: " بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة " (1). ومن جملتها ما روي في الصحاح الستة من أن رسول الله - صلى الله عليه وآله - قال: " فضلت على الأنبياء بست: أعطيت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا، وأرسلت إلى الخلق كافة وختم بي النبيون " (2). ومن جملتها ما رواه في الوسائل عن أبي عبد الله - عليه السلام - أنه قال: " إن الله بعث محمدا - صلى الله عليه وآله - فختم به الأنبياء، فلا نبي بعده، وأنزل عليه كتابا فختم به الكتب فلا كتاب بعده " (3) إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة المتواترة الدالة عليه، أورد منها في كتاب " خاتميت آخرين پيامبر " أزيد من المائتين فراجع. وهنا سؤالات: منها: أن المستفاد من بعض الآيات أن باب النبوة ليس منسدا، فكيف يكون محمد - صلى الله عليه وآله - آخر النبيين، ومن الآيات قوله عز وجل: " يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون " (4) ويمكن الجواب عنه بأن الآية حاكية عن خطابه تعالى لبني آدم بعد هبوط آدم وحواء، حيث قاله بعد الآية 24: " قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين * قال فيه تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون * يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير - إلى أن قال -: يا بني
(1) نهج البلاغة صبحي الصالح: خطبة 235 ص 355. (2) فضائل الخمسة من الصحاح الستة: ج 1، ص 45. (3) الوسائل: ج 18 الباب 13، ح 62. ص 147. (4) الأعراف: 35. 278 آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة - إلى أن قال عز وجل -: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد - إلى أن قال تبارك وتعالى -: يا بني آدم أما يأتينكم رسل منكم. " (1) فالآية في سياق خطاباته لبني آدم بعد الهبوط، ولا نظر لها بالنسبة إلى ما بعد النبي، نظير قوله: " قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا يحزنون " (2) ولذا قال العلامة الطباطبائي في ذيل قوله: " يا بني آدم إما يأتينكم رسل ": " والآية إحدى الخطابات العامة المستخرجة من قصة الجنة المذكورة هاهنا وهي رابعها وآخرها يبين للناس التشريع الإلهي العام للدين باتباع الرسالة وطريق الوحي، والأصل المستخرج عنه هو مثل قوله في سورة طه: " قال اهبطوا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى. " فبين أن اتيان الهدى منه إنما يكون بطريق الرسالة " (3) فلا يمكن رفع اليد عن الضرورة والأدلة المتواترة بمثل هذه الآية التي لا تنافيها، وغايتها أنها مطلقة فيرفع اليد عن اطلاقها بالأدلة المتواترة وبضرورة الخاتمية. نعم لو كان مختصا بزمان بعد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لصار منافيا، ولكنه ليس كذلك كما هو الواضح. ومنها: ما الحكمة في تعطيل النبوة مع أن استكمال البشر لا توقف له، ألم يحسن أن تدوم النبوة مع دوام استكمال البشر؟ والجواب عنه أن حكمة ذلك عند الله تعالى، لأنه أعلم بالأمور، ولكن يظهر للمتأمل بعض المقربات، لأن علل تجديد النبوة فيما مضى من الزمان أمور كلها منفية بعد ظهور الإسلام، لأن من العلل تحريف ما نزل من الله إلى الناس، فيحتاج إلى بعث النبي الجديد ليرفع التحريف، ويهدي الناس إلى الواقع مما نزل، ومنها أن البرامج المذكورة في الشرايع السابقة كثيرا ما ربما تكون عصريا ومختصا بزمان خاص، وليست
(1) الأعراف: 24 - 35. (2) البقرة: 38. (3) الميزان 8: 86. 279 بصورة الكليات، لعدم امكان تحملهم لها، كما يشهد لذلك وقوع النسخ في الشرايع السابقة، فإنه حاك عن كون المنسوخ مختص ببعض الأزمنة، ولذا إذا تغيرت الأمور، واحتاجت إلى البرامج الجديدة، يحتاج إلى بعث النبي الجديد لتغيير البرامج طبق الاحتياجات، ومنها أن تفاصيل الوحي النازل يحتاج إلى تبيين وتطبيق، فيحتاج إلى بعث النبي الجديد لذلك، وليس في الإسلام والقرآن شئ من هذه الأمور، لأن القرآن الكريم مصون عن التحريف بحفظه تعالى، كما نص عليه " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " (1). وهكذا لا نقص ولا فقد في الإسلام بالنسبة إلى ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة، فلا حاجة إلى ظهور شرع جديد لبيان حاجاتهم، كما نص عليه في قوله تبارك وتعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " (2) فإنه يحكي عن جامعية الإسلام وكماله بنزول القرآن ونصب الإمام المبين يوم غدير خم. وهكذا وردت روايات كثيرة دالة على أن كل ما يحتاجه الناس، بينه الله للنبي - صلى الله عليه وآله - وهو بينه للناس ولو بواسطة أهل البيت - عليهم السلام - ومن جملتها: ما روي عن أبي جعفر - عليه السلام - أنه قال: " إن الله لم يدع شيئا يحتاج إليه الأمة إلى يوم القيامة إلا أنزله في كتابه وبينه لرسوله " (3). ومنها أيضا: ما روي عن أبي جعفر - عليه السلام - قال: سئل علي - عليه السلام - عن علم النبي - صلى الله عليه وآله -: فقال " علم النبي علم جميع النبيين، وعلم ما كان وما هو كائن إلى قيام الساعة، ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأعلم علم النبي - صلى الله عليه وآله - وعلم ما كان وما هو
(1) الحجر: 9. (2) المائدة: 3. (3) بصائر الدرجات: ص 6. 280 كائن فيما بيني وبين قيام الساعة " (1). ثم لا يذهب عليك أن الأصول والقواعد الكلية المبينة في الإسلام ثابتة، بحيث لا تحتاج إلى التغيير والتبديل، لكليتها ووفقها مع الحاجات التي تقتضيها الفطرة كالزواج والمعاملات والأخلاقيات والروابط الداخلية والروابط الخارجية والدفاع وغير ذلك، والتغير إنما هو في ناحية الموضوعات كالأمتعة، فإنها تتغير بتغير الزمان، ولكن أحكام المعاملة لا تتغير، وكالأسلحة فإنها تتغير بمرور الزمان، ولكن أحكام الدفاع بالسلاح لا تتغير، وهكذا. وأيضا من الأصول الكلية التي لا تتغير فيها هو أصل نفي الضرر والضرار، وأصل نفي العسر والحرج ونحوهما، مما لهما الدخل التام في حل المشاكل العصرية والمشاكل الفردية. هذا مضافا إلى الأحكام الموقتة السلطانية، ومما ذكر يظهر أن موجبات تجديد النبوة لا تكون موجودة بعد ظهور الإسلام وجامعيته، نعم يبقى الحاجة إلى البيان والتفسير والتطبيق، ولكنها محولة إلى الأئمة - عليهم السلام - فمع وجودهم لا حاجة إلى النبي الجديد أصلا، ولعله لذا ختم النبوة (2). ومنها: أن لازم ختم النبوة هو قطع ارتباط الأمة مع المبدأ الاعلى، وفيه أن الارتباط بالمبدأ الأعلى لا ينحصر في النبوة إذ الارتباط بواسطة الأئمة - عليهم السلام - ميسور وممكن، بل واجب، إذ الإمامة غير منقطعة إلى يوم القيامة، والإمام محدث والملائكة تتنزل إليهم ويخبرهم بما يكون في السنة من التقدير والقضاء والحوادث، وبأعمال العباد وغير ذلك، لتواتر الروايات الدالة على ذلك، ومن جملتها ما روي عن الباقر - عليه السلام -: " إن أوصياء محمد - عليه وعليهم السلام - محدثون " (3).
(1) بصائر الدرجات: ص 127. (2) راجع معارف قرآن: جلسه 79 ص 794. (3) الأصول من الكافي: ج 1 ص 270، راجع كتاب نبوت: ص 179 - 180. 281 وأما النبي - صلى الله عليه وآله - سيد المرسلين وأفضلهم على الاطلاق فيكفيه رسالته العامة الدائمة إلى يوم القيامة، فإنها لم تكن لأحد من الأنبياء وهكذا القرآن النازل إليه، فإنه لم يشبهه كتاب من الكتب النازلة، وصحيفة من الصحف النازلة، ومن المعلوم أن الأمرين المذكورين يدلان على عظمة النبي وشأنيته لتلك الرسالة العظمى، ولمعرفة القرآن الكريم الذي لا نهاية له، كما ورد: " إنما يعرف القرآن من خوطب به " فهو عارف بحقائق لم يعرفها الأنبياء سابقا، ومرسل إلى أمة لا سابقة له في الماضين. هذا مضافا إلى تخلقه بالأخلاق الفاضلة والآداب والسنن، وقد أشار المصنف بقوله: " وإنه لعلى خلق عظيم " إلى الآية الشريفة: " وإنك لعلى خلق عظيم " (1) الدالة على تخلقه بالخلق العظيم، وقد أورد العلامة الطباطبائي - قدس سره - في المجلد السادس من تفسير الميزان جملة من روايات سننه، التي فيها مجامع أخلاقه التي تلوح إلى أدبه الإلهي الجميل، مع كونها مؤيدة بالآيات الشريفة القرآنية، وهذه الروايات الدالة على أخلاقه وسننه وآدابه تقرب مائة وثمانين (2) فراجعه وغيره من الجوامع، وكيف كان يكفي في عظمة أخلاقه توصيف الله إياه بأنه عظيم، مع أنه لم يوصف نبي بأن خلقه عظيم. وهكذا الروايات الدالة على أن النبي - صلى الله عليه وآله - سيد المرسلين وأفضلهم كثيرة. منهم ما روي في عيون أخبار الرضا - عليه السلام - من المأمون، سأل علي بن موسى الرضا - عليه السلام - أن يكتب له محض الإسلام على الايجاز والاختصار. فكتب - عليه السلام - له: " ومن جملته، وأن محمدا عبده ورسوله وأمينه وصفيه وصفوته من خلقه، وسيد المرسلين وخاتم النبيين، وأفضل العالمين، لا نبي بعده، ولا تبديل لملته، ولا تغيير لشريعته وأن جميع ما جاء به
(1) القلم: 4. (2) الميزان: ج 6 ص 321 - 357. 282 محمد بن عبد الله هو الحق المبين " (1). وأيضا الروايات الدالة على أن كل ما للأنبياء، فهو لنبينا محمد صلى الله عليه وآله - تدل على أفضليته منهم، لأن له ما لجميعهم وأزيد، ومن جملتها ما رواه في الكافي عن أبي بصير، عن أبي عبد الله - عليه السلام - قال: " قال لي: يا أبا محمد إن الله عز وجل لم يعط الأنبياء شيئا إلا وقد أعطاه محمدا - صلى الله عليه وآله -، قال: وقد أعطى محمدا جميع ما أعطى الأنبياء، وعندنا الصحف التي قال الله عز وجل: صحف إبراهيم وموسى. قلت: جعلت فداك، هي الألواح؟ قال: نعم " (2). ومن جملتها أيضا: ما رواه في الكافي عن أبي الحسن الأول - عليه السلام - " قال: قلت له: جعلت فداك، أخبرني عن النبي - صلى الله عليه وآله - ورث النبيين كلهم؟ قال: نعم، قلت: من لدن آدم حتى انتهى إلى نفسه؟ قال: ما بعث الله نبيا إلا ومحمد - صلى الله عليه وآله - أعلم منه. قال: قلت: إن عيسى بن مريم كان يحيي الموتى بإذن الله، قال: صدقت، وسليمان بن داود كان يفهم منطق الطير، وكان رسول الله - صلى الله عليه وآله - يقدر على هذه المنازل، الحديث " (3). وأيضا تدل على ذلك الروايات الدالة على تقدم خلقة روح النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على غيره، ومنها ما رواه في الكافي عن جابر بن يزيد قال: قال لي أبو جعفر - عليه السلام -: " يا جابر إن الله أول ما خلق، خلق محمدا - صلى الله عليه وآله - وعترته الهداة المهتدين فكانوا أشباح نور بين يدي الله، الحديث " (4).
(1) عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 120 - 125. (2) الأصول من الكافي: ج 1 ص 225. (3) الأصول من الكافي: ج 1 ص 226. (4) الأصول من الكافي: ج 1 ص 442. 283 ومنها: ما رواه في الكافي عن أبي عبد الله - عليه السلام - " إن بعض قريش قال لرسول الله - صلى الله عليه وآله -: بأي شئ سبقت الأنبياء وأنت بعثت آخرهم وخاتمهم؟ قال: إني كنت أول من آمن بربي، وأول من أجاب حين أخذ الله ميثاق النبيين وأشهدهم على أنفسهم، ألست بربكم؟ قالوا: بلى، فكنت أنا أول نبي قال بلى، فسبقتهم بالاقرار بالله " (1) إلى غير ذلك من الأدلة والشواهد الكثيرة، وكيف كان، فسيادة النبي على المرسلين وأفضليته منهم من المسلمات لا مجال للتأمل فيها، فإذا كان أفضل من الأنبياء فهو أفضل من غيرهم بطريق أولى والأفضلية مقام يناسبه.
(1) الأصول من الكافي: ج 1 ص 441. 284 9 - عقيدتنا في القرآن الكريم نعتقد أن القرآن الكريم هو الوحي الإلهي المنزل من الله تعالى على لسان نبيه الأكرم، فيه تبيان كل شئ وهو معجزته الخالدة التي أعجزت البشر عن مجاراتها في البلاغة والفصاحة، وفيما احتوى من حقائق ومعارف عالية (1) لا يعتريه التبديل والتغيير والتحريف، وهذا الذي
(1) الميزان: ج 1 ص 58. 285 الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " (1). لا يقال: إن التحدي بالنسبة إلى العرب بالمباشرة وبالنسبة إلى غيرهم بالتسبيب، فالآية لا تنافي انحصار وجوه الإعجاز في الفصاحة والبلاغة، لأنا نقول: إن ظاهر الآية هو التحدي بالنسبة إلى جميع أفراد البشر والجن على نحو واحد، لأن الخطاب فيها على نحو القضية الحقيقية فيشمل الحاضرين والغائبين، بل المعدومين في ظرف وجودهم من دون فرق بينهم، فالتفصيل بين الأفراد بالمباشرة والتسبيب خلاف الظاهر. هذا مضافا إلى شهادة العيان بعجز البشر عن الاتيان بمثله في جميع الجهات، من الفصاحة والبلاغة والمعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة والأحكام التشريعية والأخبار المغيبة وأسرار الخلقة وغير ذلك، واعترف بذلك أهل الإنصاف من فحول العلوم، وإليه أشار العلامة آية الله الشيخ محمد جواد البلاغي - قدس سره - حيث قال: " إن إعجاز القرآن الكريم لم يكن بمجرد الفصاحة والبلاغة، وإن كفى ذلك في الإعجاز والحجة على دعوى الرسالة على أتم الوجوه في المعجز وأعمها، فأين أنت عن عرفانه العظيم الذي هو لباب المعقول وصفوة الحكمة، وأين أنت عن أخلاقه التي هي روح الحياة الأدبية والاجتماعية، وأين أنت عن قوانينه الفاضلة وشرائعه العادلة، ومحلها من العدل والمدنية، وأين أنت عن إنبائه بالغيب التي ظهر مصداقها في المستقبل وهلم النظر إلى أقصر سور القرآن وما عرفناه من عجائبها الباهرة انظر إلى سورة التوحيد وأنوار عرفانها الحقيقي في ذلك العصر المظلم، وانظر إلى سورة تبت وإنبائها بهلكة أبي لهب وامرأته بدخول النار، وظهور مصداق ذلك بموتهما على الكفر، وحرمانهما من
(1) الاسراء: 90. 286 سعادة الإسلام الذي يجب ما قبله، وانظر إلى سورة النصر وإنبائها بغيب النصر والفتح، كما ظهر مصداقه بعد ذلك - إلى أن قال -: وأين أنت عن جامعيته واستقامته في جميع ذلك من دون أن تعترضه زلة اختلاف أو عثرة خطأ أو كبوة تناقض، فإن في ذلك أعظم اعجاز يعرفه الفيلسوف والاجتماعي والسياسي المدني. " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " (1). فهل يكون كل ذلك من إنسان لم يقرأ ولم يكتب ولم يترب في البلاد الراقية، وإنما كان بدويا من البلاد المنحطة في كل أدب، المدرسة الابتدائية في موطنه إنما هي بساطة أعراب البادية وخلوهم عن المعارف، والمدرسة الكلية تنظم تعاليمها من الوثنية الأهوائية وخشونة الوحشية والجبروت الاستبدادي والعدوان وعوائد الضلال والجور، والشرائع القاسية، ولئن سمعت الاحتجاج بإعجاز القرآن في فصاحته وبلاغته، فإنما هو لأجل عموم هذا الإعجاز وأنه هو الذي يذعن في فصاحته وبلاغته، فإنما هو لأجل عموم هذا الإعجاز وأنه هو الذي يذعن به العرب الذين ابتدأهم الدعوة، وتناله معرفتهم حسب ما عندهم من الأدب، الراقين فيه، فتقوم الحجة عليهم وعلى غيرهم وتبقى سائر وجوه الإعجاز للفيلسوف والاجتماعي والسياسي المدني يأخذ منها كل منهم بمقدار حظه من الرقي " (2). وعليه فكان الأولى هو أن يشير المصنف إلى هذه النكتة، فإنه لا ريب ولا إشكال في كون اتيان القرآن ممن لم يتعلم ولم يكتب ولم يقرأ في مدرسة من المدارس، إعجازا ظاهرا بينا، كما أشار إليه في قوله عز وجل: " فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون " (3) وقوله تعالى: " وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون " (4).
(1) النساء: 84. (2) أنوار الهدى: ص 133 - 135. (3) يونس: 16. (4) العنكبوت: 48. 287 ومما ذكر يظهر أن نفس القرآن بفصاحته وبلاغته ومحتواه معجزة وبعبارة أخرى، إعجازه داخلي بمعنى أنه على كيفية يعجز عنه الآخرون من الجن والإنس، وعليه فما نقل عن النظام والسيد المرتضى، واحتمله المحقق الطوسي - قدس سره - في متن تجريد الاعتقاد، والعلامة الحلي في شرحه من الصرفة بمعنى أن الله تعالى صرف العرب ومنعهم عن المعارضة، وإلا فالعرب كانوا قادرين على الألفاظ المفردة وعلى التركيب، وإنما منعوا عن الاتيان بمثله تعجيزا لهم عما كانوا قادرين عليه، في غاية الضعف، فإن كثيرا ممن تصدوا لمعارضة القرآن ولم يستطيعوا، اعترفوا بأن القرآن في درجة، عجز عن مثله البشر، فإن لم يكن القرآن معجزا بنفسه، لزم أن يعترف العاجز بمجرد العجز عن الاتيان بمثله، وقد روى قاضي عياض في إعجاز القرآن أنه ذكر أبو عبيد أن اعرابيا سمع رجلا يقرأ " فاصدع بما تؤمر واعرض عن المشركين " (1) فسجد، وقال: سجدت لفصاحته، وحكى الأصمعي أنه سمع كلام جارية، فقال لها: قاتلك الله ما أفصحك! فقالت: أو يعد هذا فصاحة بعد قول الله تعالى: " وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين " (2) فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين. وسمع آخر رجلا يقرأ " فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا " (3) فقال: أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام، ولذلك أيضا لما سمع الوليد بن المغيرة من النبي - صلى الله عليه وآله - " إن الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " (4) قال: والله إن
(1) الحجر: 94. (2) القصص: 7. (3) يوسف: 80. (4) النحل: 90. 288 له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة (حسن وبهجة) وإن أسفله لمغدق (من أغدق: اتسع وكثر فيه الخير) وإن أعلاه لمثمر، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، وما يقول هذا بشر. ولعله لذاك أيضا لما سمع كلام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الوليد بن المغيرة، وقرأ عليه القرآن رق فجاءه أبو جهل منكرا عليه، قال: والله ما منكم أحد أعلم بالأشعار مني، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا (1). وبالجملة كل هذا ونظائره مما يشهد على أن نفس القرآن، كلام يعجز عن اتيانه البشر والجن. هذا مضافا إلى ما في " البيان " من أنه لو كان إعجاز القرآن بالصرفة، لوجد في كلام العرب السابقين مثله، قبل أن يتحدى النبي البشر ويطالبهم بالاتيان بمثل القرآن، ولو وجد ذلك لنقل وتواتر، لتكثر الدواعي إلى نقله، وإذ لم يوجد ولم ينقل كشف ذلك عن كون القرآن بنفسه اعجازا إلهيا وخارجا عن طاقة البشر (2). هذا بحسب الشواهد التاريخية الدالة على أن إعجاز القرآن من جهة محتواه لا من جهة المنع والصرف الخارجي. وزاد عليه العلامة الطباطبائي - قدس سره - بما في تفسيره من أن هذا قول فاسد، لا ينطبق على ما تدل عليه آيات التحدي بظاهرها، كقوله تعالى: " قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما انزل بعلم الله " (3) فإن الجملة الأخيرة ظاهرة في أن الاستدلال بالتحدي إنما هو على كون القرآن نازلا، لا كلاما تقوله رسول الله - صلى الله عليه وآله - وأن نزوله إنما هو بعلم الله، لا بإنزال الشياطين كما قال تعالى: " أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين " (4) وقوله: " وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون *
(1) راجع تفسير البيان في تفسير القرآن: 42 نقلا عن تفسير الطبري وتفسير القرطبي. (2) البيان في تفسير القرآن: 61. (3) هود: 13 - 14. (4) الطور: 33 - 34. 289 إنهم عن السمع لمعزولون " (1) والصرف الذي يقولون به، إنما يدل على صدق الرسالة بوجود آية هي الصرف، لا على كون القرآن كلاما لله، نازلا من عنده، ونظير هذه الآية، الآية الأخرى وهي قوله تعالى: " أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله أن كنتم صادقين * بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله " (2) فإنها ظاهرة في أن الذي يوجب استحالة اتيان البشر بمثل هذا القرآن، وضعف قواهم وقوى كل من يعينهم على ذلك من تحمل هذا الشأن، هو أن للقرآن تأويلا لم يحيطوا بعلمه، فكذبوه ولا يحيط به علما إلا الله، فهو الذي يمنع المعارض عن أن يعارضه لا أن الله سبحانه يصرفهم عن ذلك مع تمكنهم منه لولا الصرف بإرادة من الله تعالى، وكذا قوله تعالى: " أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجودا فيه اختلافا كثيرا " (3) فإنه ظاهر في أن الذي يعجز الناس عن الاتيان بمثل القرآن، إنما هو كونه في نفسه على صفة عدم الاختلاف لفظا ومعنى، ولا يسع لمخلوق أن يأتي بكلام غير مشتمل على الاختلاف، لا أن الله صرفهم عن مناقضته بإظهار الاختلاف الذي فيه. هذا، فما ذكروه من أن إعجاز القرآن بالصرف كلام لا ينبغي الركون إليه (4) وأضف إلى ذلك أن صدور العلم القرآني مع ما فيه من التعالي والعظمة من الذي يكون أميا لم يقرأ ولم يكتب ولم يدرس عند أحد إعجاز وخارج عن القدرة والعادة، والصرفة فيما يمكن عادة لا فيما لا يمكن عادة فلا تغفل. ثم لا يذهب عليك أن دعوى الرسالة من النبي كما هي صريح بعض الآيات، كقوله تعالى: " قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا " (5) مع ظهور المعجز في يده وهو القرآن الكريم، كما عرفت، يكفي لإثبات نبوته
(1) الشعراء: 210 - 212. (2) يونس: 38 - 39. (3) النساء: 81. (4) تفسير الميزان: 1: 68. (5) الأعراف: 158. 290 ورسالته، إذ لو كان كاذبا لزم الإغراء بالجهل، وهو ممتنع الصدور عنه تعالى، لعدم مناسبته مع اطلاق كماله وحكمته، ولكن مع ذلك أكد وتنازل وسلك مسلك الإنصاف والمماشاة وتحدى الناس وناداهم باتيان عشر سور " أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا فاعلموا أنما انزل بعلم الله " (1) ثم تنازل عنه لتثبيت العجز، وتحداهم وناداهم باتيان سورة واحدة " أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله أن كنتم صادقين " (2). ثم لم يكتف بذلك بل دعاهم بالاتيان والمعارضة والاستمداد من كل من حضر " وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين " (3). ثم أكد التأكيدات بالإخبار الإعجازي بأن السعي في طريق المعارضة لا نتيجة له إلا الخسارة والافتضاح ولو اجتمع الجن والإنس واستظهر بعضهم ببعض لا يمكن أن يأتوا بمثله إلى الأبد. كما نص عليه " فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار " (4)، " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " (5). وهذا هو السبب لتسمية القرآن بالمعجزة الخالدة إذ لا يختص إعجازه بعصر ولا زمان، بل هو معجزة إلى الأبد، كما أخبر عنه في قوله: " ولن تفعلوا " وفي قوله: " ولا يأتون ". قال العلامة آية الله الشيخ محمد جواد البلاغي - قدس سره -: " وقد مضت
(1) هود: 13 - 14. (2) يونس: 38. (3) البقرة: 23. (4) البقرة: 24. (5) الاسراء: 88. 291 بين أيدينا نتلوه هو نفس القرآن المنزل على النبي، ومن أدعى فيه غير ذلك فهو مخترق كاذب، أو مغالط، أو مشتبه وكلهم على غير هدى، فإنه كلام الله الذي " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " (2) ومن
(1) أنوار الهدى: ص 133. 292 دلائل اعجازه أنه كلما تقدم الزمن وتقدمت العلوم والفنون فهو باق على طراوته وحلاوته، وعلى سمو مقاصده وأفكاره، ولا يظهر فيه خطأ في نظرية علمية ثابتة، ولا يتحمل نقض حقيقة فلسفية يقينية، على العكس من كتب العلماء وأعاظم الفلاسفة مهما بلغوا في منزلتهم العلمية ومراتبهم الفكرية، فإنه يبدو بعض منها على الأقل تافها، أو نابيا، أو مغلوطا، كلما تقدمت الأبحاث العلمية، وتقدمت العلوم بالنظريات المستحدثة، حتى من مثل أعاظم فلاسفة اليونان كسقراط وأفلاطون وأرسطو الذين اعترف لهم جميع من جاء بعدهم بالأبوة العلمية والتفوق الفكري. ونعتقد أيضا بوجوب احترام القرآن الكريم، وتعظيمه بالقول والعمل، فلا يجوز تنجيس كلماته حتى الكلمة الواحدة المعتبرة جزءا منه، على وجه يقصد أنها جزء منه، كما لا يجوز لمن كان على غير طهارة أن يمس كلماته أو حروفه " لا يمسه إلا المطهرون " سواء كان محدثا بالحدث الأكبر كالجنابة والحيض والنفاس، وشبهها أو محدثا بالحدث الأصغر حتى النوم، إلا إذا اغتسل أو توضأ على التفاصيل التي تذكر في الكتب الفقهية. كما أنه لا يجوز احراقه ولا يجوز توهينه بأي ضرب من ضروب التوهين الذي يعد في عرف الناس توهينا مثل رميه أو تقذيره أو سحقه بالرجل، أو وضعه في مكان مستحقر، فلو تعمد شخص توهينه وتحقيره بفعل واحد من هذه الأمور وشبهها فهو معدود من المنكرين للإسلام وقدسيته المحكوم عليهم بالمروق عن الدين والكفر برب العالمين.
293 أحدها: الآيات الدالة على أن الله سبحانه ضمن حفظه كقوله: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " (1) فإنه يدل على أن حفظ القرآن بيد من نزله والتنزيل وإن كان أمرا حادثا ماضيا ولكن الحفظ امر يدوم من دون امد ومدة قضاء للجملة الإسمية المؤكدة بالتأكيدات المتعددة. لا يقال: إن الآية الكريمة لا تدل على ذلك إلا إذا ثبت عدم كونها من الزيادات لأنا نقول عدم الزيادة في القرآن الكريم من الضروريات والاتفاقيات بين المسلمين فلا مجال لاحتمال الزيادة في القرآن الكريم وعليه فالآية تدل على مصونية القرآن الكريم من النقصان والزيادة والتحريف. ثانيها: أن المستفاد من الآيات الدالة على التحدي بالقرآن الموجود بينهم هو أنه معجزة خالدة، ومقتضاه هو بقاؤه على ما هو عليه، حتى يكون معجزة خالدة، وإلا فالمزيد فيه ممكن المعارضة، فلا يكون بتمامه معجزة خالدة فيتنافى مع آيات التحدي الدالة على أن القرآن الكريم معجزة خالدة بنفسها وآياتها كما لا يخفى. ثالثها: أن الأئمة - عليهم السلام - استشهدوا بالآيات القرآنية وأرجعوا الأصحاب إلى الاستشهاد بها بما هي من كتاب الله وهو دليل على حجية الكتاب، فلو كان فيه احتمال التغيير والتبديل، لم يكن حجة كما هو ظاهر. رابعها: أن النبي - صلى الله عليه وآله - صرح بترك الثقلين بين الناس إلى يوم القيامة، والتأكيد على أن التمسك بهما لا يوجب الضلالة، حيث قال: " إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبدا " فهو دليل على مصونية ما ترك بينهم عن التبديل والتغيير، وإلا فالتمسك به لا يخلو عن الضلالة.
(1) الحجر: 9. 294 خامسها: الروايات الدالة على المراجعة إلى القرآن والاستضاءة بنوره، إذ مع التغيير والتبديل لا مجال لذلك كما لا يخفى. سادسها: الروايات الدالة على أن الروايات المخالفة للقرآن باطل وزخرف، فإنه مع التغيير والتبديل لا مجال للحكم بكون المخالف باطلا أو زخرفا، فالمعلوم من هذه الروايات أن القرآن معيار تشخيص الحجة عن اللا حجة، فما لم يكن بنفسه حجة لا يصلح لذلك. سابعها: الروايات الدالة على أن الموافقة للكتاب من المرجحات في الروايات المتعارضات، مع أنه لو لم يكن في نفسه حجة يصلح لذلك. ثامنها: أن القرآن الكريم متواتر بتمام اجزائه من عهد النزول إلى زماننا هذا وبعده لأنه كان من عهد النبي موردا للاهتمام والتوجه، بحيث لا مجال للتغير والتبديل فيه، وكان النبي - صلى الله عليه وآله - هو الأكثر توجها بذلك، كيف لا يكون كذلك، مع أنه أصل وأساس للإسلام. فالعقل يشهد بأن اهتمامه به كثير في زمان حياته، ولذا ذهب الأصحاب إلى حفظه وقراءته ومقارأته بحيث صار الكتاب محفوظا ومنشورا في عصره قال الفاضل الشعراني: " قال النبي - صلى الله عليه وآله -: " ليؤمكم أقرأكم " فرغب الناس إلى حفظ القرآن وكتابته (بمثل هذا البيان) إلى أن حفظ عدد غير محصور من المسلمين في أقطار الحجاز، كل واحد من السور القرآنية بالتحفظ الذهني أو الكتبي. مثلا حفظ عشرة آلاف نفر سورة يس وعشرون ألفا سورة الرحمن وهكذا، ولم تكن سورة لا يحفظها جمع كثير. عدة منهم حفظوا عشر سور، وعدة أخرى حفظوا خمسين سورة، وعدة منهم حفظوا كل ما نزل كعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وأمير المؤمنين - عليه السلام -. ثم إن تركيب سور القرآن من الآيات وعددها وموضع الآية النازلة بالنسبة إلى أي سورة، عينه النبي - صلى الله عليه وآله - من ناحية الله تعالى، ولكل
295 سورة اسم مخصوص معروفة به في زمانه - صلى الله عليه وآله - بحيث إذا قال النبي - صلى الله عليه وآله - سورة طه، أو سورة مريم، أو سورة هود علمه الناس وفهموه. مثلا لما قال النبي - صلى الله عليه وآله -: " شيبتني سورة هود، علمه الناس لأن الوفا منهم حفظوها أو كتبوها. كل ذلك معلوم بالتواتر ولا شك فيه - إلى أن قال ما محصله -: فهم حفظوا القرآن الكريم بتمام الدقة حرفا بحرف، وكلمة بكلمة إلى عهدنا هذا، والله تعالى حتم على نفسه حفظه كما قال: " إن علينا جمعه وقرآنه " (1) وأنجز الله تعالى هذا الوعد، والمسلمون راعوا ضبط القرآن مع كمال المواظبة، وسلكوا مسلك الاحتياط إلى أنه لو كتب في الصدر الأول رسم الخط القديم على خلاف القواعد المعمولة، حفظوه بتلك الصورة ولم يجوزوا تغييره مثلا بعد واو الجمع لزوم ذكر الألف طبقا للقواعد المعمولة في رسم الخط، وهذه القاعدة كانت مرعية في القرآنات التي كتب في عهد الصحابة إلا في كلمة " جاؤ " و " فاؤ " و " باؤ " و " سعو في آياتنا " في سورة سبأ و " عتو عتوا " في الفرقان و " الذين تبوؤ الدار " في الحشر، فإن الألف في الموارد المذكورة لم يكتب في تلك القرآنات، وتبعهم المتأخرون في ترك الألف في الموارد المذكورة، ولم يجوزوا زيادتها حتى نعلم أنهم حفظوا وضبطوا القرآن بأمانة ودقة، ولم يكن سبيل للتحريف والتغيير فيه - إلى أن قال -: نعم في عهدنا لم يلتفت بعض الناشرين في إيران إلى النكتة المذكورة، ولم يراعوا ذلك وزادوا الألف في المواضع التي تركه الصحابة، وهذا موجب للأسف من جهة عدم توجه الناشرين إلى هذه النكتة المهمة، مع أن المسلمين في الممالك الاخر راعوا ذلك كمال الرعاية " (2). والمحصل أن القرآن الموجود بين أيدينا مستند إلى التواتر القطعي سلفا عن
(1) القيامة: 18. (2) كتاب راه سعادت: ص 133 - 135. 296 سلف إلى زمان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. وقال في البيان: " وقد أطلق لفظ الكتاب على القرآن في كثير من آياته الكريمة، وفي قول النبي - صلى الله عليه وآله -: " إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي " وفي هذا دلالة على أنه كان مكتوبا مجموعا، لأنه لا يصح اطلاق الكتاب عليه وهو في الصدور، بل ولا على ما كتب في اللخاف (الحجارة البيض الرقاق) والعسب (الجرائد) والأكتاف إلا على نحو المجاز والعناية، والمجاز لا يحمل اللفظ عليه من غير قرينة، فإن لفظ الكتاب ظاهر فيما كان له وجود واحد جمعي، ولا يطلق على المكتوب إذا كان مجزءا غير مجتمع، فضلا عما إذا لم يكتب وكان محفوظا في الصدور فقط " (1). ولا يضر استعمال الكتاب في بعض الآيات مجازا في أن لفظ الكتاب من دون قرينة على الخلاف ظاهر في معناه الحقيقي. وقال في موضع آخر: " إن اسناد جمع القرآن إلى الخلفاء أمر موهوم مخالف للكتاب والسنة والإجماع والعقل، فلا يمكن للقائل بالتحريف أن يستدل به على دعواه، ولو سلمنا أن جامع القرآن هو أبو بكر في أيام خلافته، فلا ينبغي الشك في أن كيفية الجمع المذكورة في الروايات المتقدمة مكذوبة، وأن جمع القرآن كان مستندا إلى التواتر بين المسلمين، غاية الأمر أن الجامع قد دون في المصحف ما كان محفوظا في الصدور على نحو التواتر، نعم لا شك أن عثمان قد جمع القرآن في زمانه، لا بمعنى أنه جمع الآيات والسور في مصحف، بل بمعنى أنه جمع المسلمين على قراءة إمام واحد، وأحرق المصاحف الأخرى التي تخالف ذلك المصحف، وكتب إلى البلدان أن يحرقوا ما عندهم منها، ونهى المسلمين عن الاختلاف في القراءة، وقد صرح بهذا كثير من أعلام أهل السنة. قال الحارث المحاسبي: " المشهور عند الناس أن جامع القرآن عثمان، وليس
(1) البيان في تفسير القرآن: ص 167. 297 كذلك، إنما حمل عثمان الناس على القراءة بوجه واحد، على اختيار وقع بينه وبين من شهده من المهاجرين والأنصار، لما خشي الفتنة عند اختلاف أهل العراق والشام في حروف القراءات، فأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي انزل بها القرآن " (1) أقول: أما عثمان جمع المسلمين على قراءة واحدة، وهي القراءة التي كانت متعارفة بين المسلمين والتي تلقوها بالتواتر عن النبي - صلى الله عليه وآله - وأنه منع عن القراءات الأخرى المبتنية على أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف، التي تقدم توضيح بطلانها، أما هذا العمل من عثمان، فلم ينتقده عليه أحد من المسلمين، وذلك لأن الاختلاف في القراءة كان يؤدي. إلى تكفير بعضهم بعضا - إلى أن قال -: ولكن الأمر الذي أنتقد عليه هو احراقه لبقية المصاحف، وأمره أهالي الأمصار باحراق ما عندهم من المصاحف، وقد اعترض على عثمان في ذلك جماعة من المسلمين، حتى سموه بحراق المصاحف " (2). تاسعها: أنك قد عرفت أن مقتضي الأدلة القطعية المذكورة، هو أن الموجود بأيدينا هو جميع القرآن المنزل على النبي الأعظم، وهو الذي أيده الله في عصرنا هذا، فإن عندنا في إيران رجلا من أهل تويسركان أشرقه الله بنور القرآن، وهو مع كونه عاميا وغير قادر على قراءة اللغة العربية والفارسية، حفظ باشراقه تعالى دفعة واحدة في لحظة واحدة جميع القرآن، وامتحنه بعض الأفاضل من الحوزة العلمية بقم، بامتحانات دقيقة ظريفة وظهر صدقه واشتهر أمره، وكان القرآن الذي حفظه عين الموجود بأيدينا من دون فرق. بقي شئ وهو أن هنا روايات قد يستدل بها للتحريف ولكنها على
(1) الاتقان: النوع 18 ج 1 ص 103. (2) البيان في تفسير القرآن: ص 171 - 172. 298 طوائف: منها مربوطة بالقراءات، ومنها بيان المصاديق للعناوين الكلية في الآيات، ومنها بيان التحريف المعنوي عن المبطلين، لا التحريف الاصطلاحي، ومنها بيان التأويل، ومنها ضعيفة السند لا يعتنى بها، ولو سلم تمامية بعضها من جهة السند والدلالة، فلا شك في كونها مردودة بالأدلة المذكورة لأنها مخالفة للكتاب والسنة والأخبار المتواترة فلا تغفل ومما ذكر يظهر قوة ما قاله شيخ المحدثين الصدوق طاب ثراه المتوفى سنة 381 ه - ق: من أن اعتقادنا أن القرآن الذي أنزله الله على نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم - هو ما بين الدفتين وما في أيدي الناس - إلى أن قال -: ومن نسب إلينا أنا نقول أنه أكثر من ذلك فهو كاذب (1) وبه ينقدح أن الإمامية لا يقولون بالتحريف وإلا لما صح ذلك عن مثل الصدوق، وعليه فما أشنع نسب التحريف إلى الإمامية أو مجرد وجود بعض الروايات في كتب الأحاديث أو مجرد بعض الأقوال النادرة لا يجوز تلك النية وإلا فالعامة أولى بها مع اشتمال صحاحهم على الروايات ووجود بعض الأقوال في ذلك (2).
(1) كتاب الاعتقادات باب الاعتقاد في مبلغ القرآن. (2) حقائق هامة: ص 11 - 35. 299 10 - طريقة اثبات الإسلام والشرايع السابقة لو خاصمنا أحد في صحة الدين الاسلامي نستطيع أن نخصمه بإثبات المعجزة الخالدة له، وهي القرآن الكريم على ما تقدم من وجه إعجازه، وكذلك هو طريقنا لإقناع نفوسنا عند ابتداء الشك والتساؤل اللذين لا بد أن يمرا على الإنسان الحر في تفكيره عند تكوين عقيدته أو تثبيتها (1).
(1) وفي نسخة كغور ماء، ولعلها أصح بناء على أن قوله بالكلية قيد للغور، فيكون كغور الماء بالكلية. 300 اليمامة ذلك، فسألوا مسيلمة لما قل ماء بئرهم ذلك، فتفل فيها فذهب الماء أجمع، ولما نزل قوله تعالى: " وأنذر عشيرتك الأقربين " قال لعلي - عليه السلام -: شق فخذ شاة، وجئني بعس من لبن، وادع لي من بني أبيك بني هاشم، ففعل علي - عليه السلام - ذلك، ودعاهم. وكانوا أربعين رجلا فأكلوا حتى شبعوا، ما يرى فيه إلا أثر أصابعهم، وشربوا من العس حتى اكتفوا واللبن على حاله، فلما أراد أن يدعوهم إلى الإسلام، قال أبو لهب: كاد ما سحركم محمد، فقاموا قبل أن يدعوهم إلى الله تعالى، فقال لعلي - عليه السلام -: افعل مثل ما فعلت، ففعل في اليوم الثاني كالأول، فلما أراد أن يدعوهم عاد أبو لهب إلى كلامه، فقال لعلي - عليه السلام -: افعل مثل ما فعلت، ففعل مثله في اليوم الثالث، فبايع عليا - عليه السلام - على الخلافة بعده ومتابعته. وذبح له جابر بن عبد الله عناقا يوم الخندق، وخبز له صاع شعير، ثم دعاه - عليه السلام - فقال: أنا وأصحابي؟ فقال: نعم، ثم جاء إلى امرأته وأخبرها بذلك، فقالت له: أأنت قلت امض وأصحابك؟ فقال: لا، بل هو لما قال: أن وأصحابي قلت: نعم، فقالت: هو أعرف بما قال، فلما جاء - عليه السلام - قال: ما عندكم؟ قال جابر: ما عندنا إلا عناق في التنور وصاع من شعير خبزناه، فقال - عليه السلام -: أقعد أصحابي عشرة عشرة، ففعل فأكلوا كلهم. وسبح الحصا في يده - عليه السلام - وشهد الذئب له بالرسالة، فإن اهبان ابن أوس (1) كان يرعى غنما له فجاء ذئب فأخذ شاة منها فسعى نحوه، فقال له الذئب: أتعجب من أخذي شاة، هذا محمد يدعو إلى الحق فلا تجيبونه فجاء إلى النبي وأسلم، وكان يدعى مكلم الذئب. وتفل في عين علي - صلى الله عليه وآله - لما رمدت فلم ترمد بعد ذلك أبدا،
(1) وفي نسخة رهبان بن أوس وفي شرح الفاضل الشعراني وهبان بن أوس. 301 ودعا له بأن يصرف الله تعالى عنه الحر والبرد، فكان لباسه في الصيف والشتاء واحدا، وانشق له القمر، ودعا الشجرة فأجابته وجاءته تخذ الأرض من غير جاذب ولا دافع، ثم رجعت إلى مكانها، وكان يخطب عند الجذع فاتخذ له منبرا فانتقل إليه فحن الجذع إليه حنين الناقة إلى ولدها فالتزمه فسكن. وأخبر بالغيوب في مواضع كثيرة، كما أخبر بقتل الحسين - عليه السلام - وموضع الفتك به (1) فقتل في ذلك الموضع، وأخبر بقتل ثابت بن قيس بن الشماس فقتل بعده - عليه السلام - وأخبر بفتح مصر وأوصاهم بالقبط خيرا فإن لهم ذمة ورحما، وأخبرهم بادعاء مسيلمة النبوة باليمامة، وادعاء العنسي (2) النبوة بصنعاء، وأنهما سيقتلان، فقتل فيروز الديلمي العنسي قرب وفاة النبي - صلى الله عليه وآله - وقتل خالد بن الوليد مسيلمة. وأخبر عليا - عليه السلام - بخبر ذي الثدية وسيأتي، ودعا على عتبة بن أبي لهب لما تلا - عليه السلام - " والنجم " فقال عتبة: كفرت برب النجم، بتسليط كلب الله عليه، فخرج عتبة إلى الشام فخرج الأسد، فارتعدت فرائصه فقال له أصحابه: من أي شئ ترتعد؟ فقال: إن محمدا دعا علي فوالله ما أظلت السماء على ذي لهجة أصدق من محمد، فأحاط ألقم بأنفسهم ومتاعهم عليه، فجاء الأسد فلحس رؤوسهم واحدا واحدا (3) حتى انتهى إليه، فضغمه ضغمة (4)، ففزع منه ومات، وأخبر بموت النجاشي، وقتل زيد بن حارثة بمؤتة، فأخبر - عليه السلام - بقتله في المدينة وأن جعفرا أخذ الراية، ثم قال: قتل جعفر،
(1) أي القتل على غفلة، وفي بعض النسخ: وموضع القتل به. (2) وفي نسخة: العبسي. (3) وفي نسخة: فجاء الأسد يهمش رؤوسهم واحدا واحدا، وكيف كان لحس، أي لعق. وهمش، أي عض. (4) ضغمه، أي عضه بملء ء فمه. 302 ثم توقف وقفة، ثم قال: وأخذ الراية عبد الله بن رواحة، ثم قال: وقتل عبد الله بن رواحة وقام - عليه السلام - إلى بيت جعفر واستخرج ولده، ودمعت عيناه ونعى جعفرا إلى أهله، ثم ظهر الأمر كما أخبر - عليه السلام - وقال لعمار: تقتلك الفئة الباغية، فقتله أصحاب معاوية، ولاشتهار هذا الخبر لم يتمكن معاوية من دفعه، واحتال على العوام، فقال: قتله من جاء به، فعارضه ابن عباس وقال: لم يقتل الكفار إذن حمزة، وإنما قتله رسول الله - صلى الله عليه وآله - لأنه هو الذي جاء به إليهم حتى قتلوه. وقال لعلي - عليه السلام -: ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين، فالناكثون طلحة والزبير، لأنهما بايعاه ونكثا، والقاسطون هم الظالمون وهم معاوية وأصحابه، لأنهم ظلمة بغاة، والمارقون هم الخارجون عن الملة وهم الخوارج، ثم قال العلامة الحلي - قدس سره -: " وهذه المعجزات بعض ما نقل واقتصرنا على هذا القدر لكثرتها وبلوغ الغرض بهذه، وقد أوردنا معجزات أخرى منقولة في كتاب نهاية المرام " (1). وأيضا أشار إلى بعض المعجزات آية الله الشيخ محمد جواد البلاغي وأنا أذكر منها ما لم ينقله العلامة الحلي - قدس سره - قال: " فمنها تظليل الغمامة له في مسيره، والتصاق الحجر بكف أبي جهل لما أراد أن يرميه به، ونسج العنكبوت، وتفريخ الحمامة في ساعة على باب الغار، ونزول قوائم مهر سراقة بن مالك بن جشعم المدلجي في الأرض وخروجها بدعائه لما تبعه، ومسحه على ضرع العنز الحائل، حتى در لبنها وارتووا منه، وكذا شاة أم معبد وغيرها، ورده لعين قتادة بن النعمان إلى موضعها بعد ما قلعت فصارت أحسن عينيه، وإبرائه المجذوم من جهينة بمسحه بالماء الذي تفل فيه، وإبرائه رجل عمرو بن معاذ يوم
(1) كشف المراد ص 355 - 357 الطبعة الحديثة بقم المشرفة. 303 قطعت إذ تفل عليها، ويد معاذ بن عفراء في بدر، وإخباره في القرآن الكريم بأن الله كفاه المستهزئين، وبظهوره على الدين كله، وبدخول المسلمين المسجد الحرام آمنين محلقين ومقصرين، وبغلبة الروم في بضع سنين، وإخباره وهو محصور في الشعب بشأن صحيفة قريش القاطعة، وإخباره بفتح المسلمين مصر والشام والعراق، وبموت كسرى في يومه، وبأن فاطمة ابنته أول أهله لحوقا به، وبأن أبا ذر يموت وحده، ويسعد بدفنه جماعة من أهل العراق، وأن إحدى نسائه تنبحها كلاب الحوأب، وبقتل علي - عليه السلام - في شهر رمضان، وأن كريمته الشريفة تخضب من دم رأسه، وأن ولده الحسين - عليه السلام - يقتل بكربلاء إلى غير ذلك، ومن معجزاته استجابة دعائه، وسقيا المطر باستقائه في موارد كثيرة جدا، وقد أنهت كتب الحديث والتاريخ موارد معجزاته - صلى الله عليه وآله - وكراماته من نحو ما ذكرناه وغيره إلى أكثر من ثلاثة آلاف، وأن الكثير منها في عصره وما بعده هو قسم المستفيض أو المشهور أو المتواتر، ولكن عادة المصنفين على الاقتصار على سند المشيخة فكسته هذه العادة في الظاهر ثوب رواية الآحاد، لكن الإعجاز المشترك بينها، الشاهد على الرسالة يزيد على حد التواتر ويبلغ درجة الضروريات وهاهي كتب الحديث والتاريخ " (1). وهذا مضافا إلى البشارات التي صدرت من الأنبياء الماضين في حق نبوة نبينا محمد - صلى الله عليه وآله - وأوصافه، وهذه البشارات كانت واضحة بحيث لا مجال لإنكار نبوته كما نص عليه في القرآن الكريم بقوله عز وجل: " الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وأن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون " (2)، وصرح بأن موسى وعيسى - على نبينا وآله وعليهما السلام - بشرا به حيث قال تعالى: " الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي
(1) أنوار الهدى: ص 135 - 137. (2) البقرة: 146. 304 وأما الشرائع السابقة كاليهودية والنصرانية، فنحن قبل التصديق بالقرآن الكريم أو عند تجريد أنفسنا عن العقيدة الإسلامية، لا حجة لنا لإقناع نفوسنا بصحتها، ولا لإقناع المشكك المتسائل، إذ لا معجزة باقية لها كالكتاب العزيز، وما ينقله أتباعها من الخوارق والمعاجز للأنبياء السابقين، فهم متهمون في نقلهم لها أو حكمهم عليها. وليس في الكتب الموجودة بين أيدينا المنسوبة إلى الأنبياء كالتوراة والإنجيل، ما يصلح أن يكون معجزة خالدة تصح أن تكون حجة قاطعة،
(1) الأعراف: 157. (2) الصف: 6. (3) تفسير البيان: ص 90. (4) راجع الهدى إلى دين المصطفى، الرحلة المدرسية، أنيس الاعلام، بشارات العهدين، كتاب راه سعادت: ص 168 - 190. 305 ودليلا مقنعا في نفسها قبل تصديق الإسلام لها. وإنما صح لنا نحن المسلمين أن نقر ونصدق بنبوة أهل الشرائع السابقة، فلأنا بعد تصديقنا بالدين الإسلامي، كان علينا أن نصدق بكل ما جاء به وصدقه، ومن جملة ما جاء به وصدقه، نبوة جملة من الأنبياء السابقين على نحو ما مر ذكره. وعلى هذا فالمسلم في غنى عن البحث والفحص عن صحة الشريعة النصرانية وما قبلها من الشرائع السابقة، بعد اعتناقه الإسلام، لأن التصديق به تصديق بها، والايمان به ايمان بالرسل السابقين، والأنبياء المتقدمين، فلا يجب على المسلم أن يبحث عنها ويفحص عن صدق معجزات أنبيائها، لأن المفروض أنه مسلم قد آمن بها بايمانه بالإسلام وكفى. نعم لو بحث الشخص عن صحة الدين الإسلامي، فلم تثبت له صحته وجب عليه عقلا - بمقتضى وجوب المعرفة والنظر - أن يبحث عن صحة دين النصرانية، لأنه هو آخر الأديان السابقة على الإسلام، فإن فحص ولم يحصل له اليقين به أيضا، وجب عليه أن ينتقل فيفحص عن آخر الأديان السابقة عليه، وهو دين اليهودية حسب الفرض. وهكذا ينتقل في الفحص، حتى يتم له اليقين بصحة دين من الأديان أو يرفضها جميعا (2).
306 وعلى العكس فيمن نشأ على اليهودية أو النصرانية، فإن اليهودي لا يغنيه اعتقاده بدينه عن البحث عن صحة النصرانية والدين الإسلامي، بل يجب عليه النظر والمعرفة بمقتضى حكم العقل، وكذلك النصراني ليس له أن يكتفي بايمانه بالمسيح - عليه السلام - بل يجب أن يبحث ويفحص عن الإسلام وصحته، ولا يعذر في القناعة بدينه من دون بحث وفحص، لأن اليهودية وكذا النصرانية لا تنفي وجود شريعة لاحقة لها، ناسخة لأحكامها، ولم يقل موسى ولا المسيح - عليهما السلام - أنه لا نبي بعدي. فكيف يجوز لهؤلاء النصارى واليهود أن يطمئنوا إلى عقيدتهم، ويركنوا إلى دينهم قبل أن يفحصوا عن صحة الشريعة اللاحقة لشريعتهم، كالشريعة النصرانية بالنسبة إلى اليهود، والشريعة الإسلامية بالنسبة إلى اليهود والنصارى، بل يجب بحسب فطرة العقول أن يفحصوا
307 عن صحة هذه الدعوى اللاحقة، فإن ثبتت لهما صحتها انتقلوا في دينهم إليها، وإلا صح لهم في شريعة العقل حينئذ البقاء على دينهم القديم والركون إليه. أما المسلم كما قلنا، فإنه إذا اعتقد بالإسلام لا يجب عليه الفحص، لا عن الأديان السابقة على دينه، ولا عن اللاحقة التي تدعي. أما السابقة فلأن المفروض أنه مصدق بها، فلماذا يطلب الدليل عليها، وإنما فقط قد حكم بأنها منسوخة بالشريعة الاسلامية فلا يجب عليه العمل بأحكامها ولا بكتبها، وأما اللاحقة فلأن نبي الإسلام محمد - صلى الله عليه وآله - قال: " لا نبي بعدي " وهو الصادق الأمين كما هو المفروض " لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " فلماذا يطلب الدليل على صحة دعوى النبوة المتأخرة إن ادعاها مدع. نعم على المسلم بعد تباعد الزمان عن صاحب الرسالة واختلاف المذاهب والآراء، وتشعب الفرق والنحل أن يسلك الطريق الذي يثق فيه أنه يوصله إلى معرفة الأحكام المنزلة على محمد صاحب الرسالة، لأن المسلم مكلف بالعمل بجميع الأحكام المنزلة في الشريعة كما أنزلت، ولكن كيف يعرف أنها الأحكام المنزلة كما أنزلت، والمسلمون مختلفون والطوايف متفرقة، فلا الصلاة واحدة ولا العبادات متفقة، ولا الأعمال في جميع المعاملات على وتيرة واحدة. فماذا يصنع؟ بأية طريقة من الصلاة - إذن يصلي؟ وبأية شاكلة من الآراء يعمل في عباداته ومعاملاته كالنكاح والطلاق والميراث والبيع والشراء وإقامة الحدود والديات وما إلى ذلك؟
308 ولا يجوز أن يقلد الآباء، ويستكين إلى ما عليه أهله وأصحابه، بل لابد أن يتيقن بينه وبين نفسه، وبينه وبين الله تعالى، فإنه لا مجاملة هنا ولا مداهنة ولا تحيز ولا تعصب، نعم لا بد أن يتيقن بأنه قد أخذ بأمثل الطرق التي يعتقد فيها بفراغ ذمته بينه وبين الله من التكاليف المفروضة عليه منه تعالى، ويعتقد أنه لا عقاب عليه ولا عتاب منه تعالى باتباعها، وأخذ الأحكام منها، ولا يجوز أن تأخذه في الله لومة لائم " أيحسب الإنسان أن يترك سدى "، " بل الإنسان على نفسه بصيرة "، " أن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا " وأول ما يقع التساؤل فيما بينه وبين نفسه أنه هل يأخذ بطريقة آل البيت أو يأخذ بطريقة غيرهم. وإذا أخذ بطريقة آل البيت فهل الطريقة الصحيحة طريقة الإمامية الاثني عشرية أو طريقة من سواهم من الفرق الأخرى (3). ثم إذا أخذ بطريقة أهل السنة فمن يقلد من المذاهب الأربعة أو من غيرهم من المذاهب المندرسة؟ هكذا يقع التساؤل لمن أعطى الحرية في التفكير والاختيار حتى يلتجئ من الحق إلى ركن وثيق. ولأجل هذا وجب علينا بعد هذا أن نبحث عن الإمامة وأن نبحث عما يتبعها في عقيدة الإمامية الاثني عشرية.
309 تكون عند الله مقبولة إلا بالاعتقاد بالإمامة، وأنه لا يكفي في الاعتقاد بالإمامة مجرد الرجوع إليهم في أخذ الأحكام، فإن غايته أنهم كالرواة الثقات، وأين هذا من مقام الإمامة الشامخة، والمصنف ذكر لزوم الرجوع إليهم في أخذ الأحكام من باب المماشاة والحد الأقل من الرجوع إليهم مع اخواننا العامة، فإنهم لا يرجعون في القضاء والفتاوى إلى جوامع أحاديثنا، مع أن أصولنا أصح سندا وأتقن متنا، إذ كلها صادرة من أهل البيت الذين هم معصومون عن الخطأ والاشتباه، بنص قوله النبي - صلى الله عليه وآله - كما سيأتي إن شاء الله بيانه، والنقلة عنهم هم الموثقون، فلا حجة لهم في الإعراض عن جوامع أحاديثنا، بل الحجة عليهم. ذهب السيد آية الله العظمى البروجردي - قدس سره - بعد نقل الأدلة الكثيرة الدالة على وجوب الرجوع إلى الأئمة الطاهرين - عليهم السلام - إلى استظهار أمور. الأول: أن رسول الله - صلى الله عليه وآله - لم يترك الأمة بعده سدى، مهملة بلا إمام هاد، وبيان شاف، بل عين لهم أئمة هداة دعاة سادة قادة حفاظا وبين لهم المعارف الإلهية، والفرائض الدينية والسنن والآداب والحلال والحرام والحكم والآثار، وجميع ما يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة، حتى أرش الخدش، ولم يأذن - صلى الله عليه وآله - لأحد أن يحكم أو يفتي بالرأي والنظر والقياس، لعدم كون موضوع من الموضوعات أو أمر من الأمور خاليا عن الحكم الثابت له من قبل الله الحكيم العليم، بل أملى - صلى الله عليه وآله - جميع الشرائع والأحكام على الإمام علي بن أبي طالب - عليه السلام - وأمره بكتابته وحفظه ورده إلى الأئمة من ولده - عليهم السلام - فكتبه - عليه السلام - بخطه وأداه إلى أهله. والثاني: أنه - صلى الله عليه وآله - أملى هذا العلم على علي بن أبي طالب
310 - عليه السلام - فقط، ولم يطلع عليه في عصره - صلى الله عليه وآله - غيره أحد، وأوصى إليه أن يكون هذا الكتاب بعده عند الأئمة الأحد عشر فيجب على الأمة كلهم أن يأخذوا علم الحلال والحرام وجميع ما يحتاجون إليه في أمر دينهم بعد رسول الله - صلى الله عليه وآله - من علي بن أبي طالب والأئمة من ولده - عليهم السلام - فإنهم موضع سر النبي - صلى الله عليه وآله - وخزان علمه، وحفاظ دينه. الخ (1) وسيأتي إن شاء الله تحقيق ذلك والحمد لله.